فِقْهُ نَهْجُ البَلاغة عَلَی المَذاهِبِ السَّبعَةِ المجلد 4

هوية الکتاب

فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي - الشافعي - الحنبلي - الأباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الاحاديث

ISBN 9789933582470 رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية ببغداد 3585 لسنة 2019 م مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP193.1.A2 H3 2020 :LC المؤلف الشخصي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مؤلف. العنوان: فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة: الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي - الشافعي - الحنبلي - الأباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الاحاديث: دراسة بينية / بيان المسؤولية: تأليف السيد نبيل الحسني الكربلائي. بيانات الطبع: الطبعة الاولى. بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة 2020 / 1441 للهجرة.

الوصف المادي: 12 مجلد؛ 24 سم. سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة: 697). سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة: 176) سلسلة النشر: (سلسلة الدراسات والبحوث العلمية، وحدة الدراسات الفقهية: 18). تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية. تبصرة محتويات: الجزء 1:اثر المدرسة الامامية في نشوء الفقه وتطوره - الجزء 2: نشوء المذاهب الفقهية وتطورها - الجزء 3: مقدمة العبادات - الجزء 4: الطهارات - الجزء 5: الصلاة - الجزء 6: الزكاة - الجزء 7: الصيام والحج والامر بالمعروف والنهي عن المنكر - الجزء 8: الجهاد - الجزء 9: التجارة والشركة - الجزء 10: الوقف والقصاص - الجزء 11: القضاء والشهادات - الجزء 12: الفهارس.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - حديث. موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359-406 للهجرة - نهج البلاغة. مصطلح موضوعي: الفقه الاسلامي - مذاهب. مصطلح موضوعي: المذاهب الدينية - تاریخ. مصطلح موضوعي: العبادات (فقه اسلامي). مصطلح موضوعي: المعاملات (فقه اسلامي). اسم شخص اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359-406 للهجرة - نهج البلاغة. اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

ISBN 9789933582470 رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية ببغداد 3585 لسنة 2019 م مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP193.1.A2 H3 2020 :LC المؤلف الشخصي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مؤلف. العنوان: فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة: الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي - الشافعي - الحنبلي - الأباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الاحاديث: دراسة بينية / بيان المسؤولية: تأليف السيد نبيل الحسني الكربلائي. بيانات الطبع: الطبعة الاولى. بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة 2020 / 1441 للهجرة.

الوصف المادي: 12 مجلد؛ 24 سم. سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة: 697). سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة: 176) سلسلة النشر: (سلسلة الدراسات والبحوث العلمية، وحدة الدراسات الفقهية: 18). تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية. تبصرة محتويات: الجزء 1:اثر المدرسة الامامية في نشوء الفقه وتطوره - الجزء 2: نشوء المذاهب الفقهية وتطورها - الجزء 3: مقدمة العبادات - الجزء 4: الطهارات - الجزء 5: الصلاة - الجزء 6: الزكاة - الجزء 7: الصيام والحج والامر بالمعروف والنهي عن المنكر - الجزء 8: الجهاد - الجزء 9: التجارة والشركة - الجزء 10: الوقف والقصاص - الجزء 11: القضاء والشهادات - الجزء 12: الفهارس.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - حديث. موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359-406 للهجرة - نهج البلاغة. مصطلح موضوعي: الفقه الاسلامي - مذاهب. مصطلح موضوعي: المذاهب الدينية - تاریخ. مصطلح موضوعي: العبادات (فقه اسلامي). مصطلح موضوعي: المعاملات (فقه اسلامي). اسم شخص اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359-406 للهجرة - نهج البلاغة. اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة الدراسات والبحوث العلمية (18) وحدة الدراسات الفقهية فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي - الشافعي - الحنبلي - الأباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الاحاديث دراسة بينية الجزء الرابع الطهارات تألیف السید نبیل الحسني الکربلائي إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1441 ه/ 2020 م العراق: کربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة www.inahj.org Email: inahj.org@gmail.com موبایل: 07815016633 - 07728243600

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) صدق الله العلي العظيم

ص: 5

ص: 6

الباب الثاني «كتاب الطهارات»

ص: 7

ص: 8

يتضمن الباب:

الفصل الأول: مباحث الطهارة.

• المبحث الأول: معنى الطهارة في اللغة وعند الفقهاء.

* المسألة الأولى: معنى الطهارة لغة.

* المسألة الثانية: معنى الطهارة عند فقهاء المذهب الإمامي.

* المسألة الثالثة: معنى الطهارة عند فقهاء المذاهب الأخرى.

* المسألة الرابعة: خلاصة القول فيها أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

• المبحث الثاني: قعود المرأة عن الصلاة والصيام وما يحرم عليها فعله وما يستحب لها في أيام الحيض.

* المسألة الأولى: أقل الحيض وأكثره الذي يلزم المرأة القعود عن الصلاة والصيام.

* المسألة الثانية: خلاصة القول في المسألة والدليل على صحة أن أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام.

* المسألة الثالثة: ما يحرم على المرأة الحائض فعله وما يستحب لها أثناء الحيض.

* المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

• المبحث الثالث: آداب الحمام والتنظيف والزينة والخضاب.

* المسألة الأولى: معنى الخضاب لغة.

* المسألة الثانية: أحكام الخضاب عند فقهاء المذهب الإمامي.

المسألة الثالثة: أحكام الخضاب عند فقهاء المذاهب الأخرى.

* المسألة الرابعة: خلاصة القول في المسألة والدليل في استحباب الخضاب بالسواد وغيره للرجال والنساء.

* المسألة الخامسة: مدخلية الزمان والمكان في عنوان الحكم وصدور الفتوى لدى المجتهد.

* المسألة السادسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

ص: 9

الفصل الثاني: أحكام الأموات.

• المبحث الأول: استحباب ذكر الموت والاستعداد له.

* المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي في استحباب ذكر الموت والاستعداد له.

* المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى في استحباب ذكر الموت والاستعداد له.

* المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

* المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

• المبحث الثاني: استحباب الاتعاظ بالمرض و كتمانه والصبر عليه وآداب المريض واستحباب عيادته وآدابها.

* المسألة الأولى: استحباب كتم الشكوى عند فقهاء المذهب الإمامي.

* المسألة الثانية: آداب المريض في المذهب الإمامي.

* المسألة الثالثة: آداب عيادة المريض واستحبابها في المذهب الإمامي.

* المسألة الرابعة: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى في استحباب الصبر على المرض، واستحباب عيادة المريض وآدابها.

* المسألة الخامسة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

* المسألة السادسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

• المبحث الثالث: في استحباب التعزية والدعاء لأهل الميت.

* المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي في استحباب التعزية والدعاء لأهل الميت.

* المسالة الثانية: استحباب التعزية عند فقهاء المذاهب الأخرى.

* المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

* المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

ص: 10

• المبحث الرابع: استحباب التفكر في الموت للمشيع .

* المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي في استحباب التفكر في الموت للمشيع.

* المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى.

* المسألة الثالثة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

• المبحث الخامس: کراهة الضحك بين القبور وعلى الجنازة.

* المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامی.

* المسألة الثانية: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

* المسألة الثالثة: تضعيف علماء أبناء العامة نسبة الحديث إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

• المبحث السادس: كراهة ضرب صاحب المصيبة يده على فخذه.

* المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي.

* المسألة الثانية: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

• المبحث السابع: النهي عن البكاء والجزع على الميت واستحبابه على فقد رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم).

* المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي.

* المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى.

* المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

* المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

* المسألة الخامسة: خلاصة القول فيما أورده شراح نهج البلاغة واختلافهم في دلالة حزنه (عليه السلام).

ص: 11

الفصل الثالث: أحكام صلاة الجنازة.

• المبحث الأول: جواز الزيادة في صلاة الجنازة، وكراهة ذلك إلّا إذا كان الميت من لا أهل العلم والتقوی.

* المسألة الأولى: معنى الجنازة لغة.

* المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذهب الإمامي.

* المسألة الثالثة: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى.

* المسألة الرابعة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

• المبحث الثاني: حكم الصلاة على الشهيد.

* المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي.

* المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى.

* المسألة الثالثة: خلاصة القول في فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

• المبحث الثالث: في عدد تكبيرات صلاة الجنازة والاختلاف بين الأربعة والخمسة والعلّة في ذلك.

* المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي.

* المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى.

* المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة وبيان العلة في اختلاف عدد التكبيرات.

• المبحث الرابع: حكم الصلاة على حمزة (علیه السلام) واختلاف المذاهب في عدد التكبيرات عليه.

* المسألة الأولى: عدد التكبيرات على حمزة (علیه السلام) عند فقهاء المذهب الإمامي.

* المسألة الثانية: عدد التكبيرات على حمزة (علیه السلام) في المذاهب الأخرى.

ص: 12

* المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة ومناقشة قول الشافعي ومالك في نفي تكبير النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) على حمزة (علسه السلام).

* المسألة الرابعة: ما جمعه ابن حجر العسقلاني (ت: 852 ه) في رد الأحاديث القائلة بنفي الصلاة على و شهداء أُحد.

* المسألة الخامسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

ص: 13

ص: 14

الفصل الأول : «مباحث الطهارة»

اشارة

ص: 15

ص: 16

توطئة:

ورد لفظ الطهارة في كتب الفقهاء في موارد عدة وخصصوا له - بحسب المنهج المتبع عندهم - كتاباً أسموه کتاب الطهارة، احتوى على جميع ما أرتبط بالطهارة ونقيضها، اي النجاسة وقسموا الكتاب الى مجموعة من الأبواب فرّعت الى مسائل عدة.

ولأن كتاب نهج البلاغة لم يكن بالأصل مجموع هذا الحقل المعرفي، أي مسائل الفقه وما يبحثه الفقهاء من مسائل ارتبطت بهذا العلم الشريف ومطالبه المتعددة، فقد اقتصرت مباحث الطهارة في هذا الفصل، على بعض المسائل، والتي سنوردها وما ارتبط بها بحسب ما جاء من تسلسل في كتب الفقهاء مع إيراد ما يناسب الأحاديث الشريفة من شروح لكتاب نهج البلاغة وبشكل موجز، وذلك طلباً للأجر واعماماً للفائدة، فكانت المباحث وتفرعاتها في الطهارة على النحو الآتي:

ص: 17

ص: 18

المبحث الأول معنى الطهارة في اللغة وعند الفقهاء

نتناول في هذا المبحث ما ورد في اللغة من بيان للفظ الطهارة وجذرها ومشتقاتها، ثم نتبعه بما ورد في كتب الفقهاء في المذاهب الإسلامية من معنى اللفظ الطهارة؛ وهي كالآتي:

المسألة الأولى: معنى الطهارة لغة.

بالنظر على سعة المباحث والمسائل في أحكام الطهارة فقد أستلزم السعة في بيان معناها عند اللغويين؛ ونبدأ بجذر المفردة إذ يعود اللفظ الى جذره، وهو (طهر)، والطهر في اللغة هو (نقيض الحَيض).

والطُّهر: نقيض النجاسة، والجمع أَطهار.

وقد طَهَر يَطهُرَ وطَهُرَ طُهراً وطَهارةً؛ المصدرانِ عن سيبويه.

وفي الصحاح: طَهَر وطَهُر، بالضم، طَهارةً فيهما، وطَهَّرته أَنا تطهيراً وتطَهَّرت بالماء، ورجل طاهِر وطَهِرٌ؛ عن ابن الأَعرابي: وأَنشد:

أَضَعتُ المالَ للأَحساب، حتى *** خَرجت مُبَرّاً طَهِر الثِّيَابِ

قال ابن جني: جاء طاهِرٌ على طَهُر کما جاء شاعرٌ على شَعُر، ثم استغنَوا بفاعل عن فَعِيل، وهو في أَنفسهم وعلى بال من تصورهم، يَدُلُّك

ص: 19

على ذلك تسکیرُهم شاعراً على شُعَراء، لما كان فاعلٌ هنا واقعاً موقع فَعِيل کُسِّر تكسِيرَه ليكون ذلك أَمارةً ودليلاً على إِرادته وأَنه مُغنٍ عنه وبَدَلٌ منه؛ قال ابن سيده: قال أَبو الحسن: لیس کما ذكر لأَن طَهِيراً قد جاء في شعر أَبي ذؤيب؛ قال:

فإِن بني، لِحيان إِمَّا ذكرتهم *** نَثاهُم، إِذا أَختَى اللِّنامُ، طَهِيرُ

قال: كذا رواه الأَصمعي بالطاء ويروى ظهير بالظاء المعجمة، وسيُذكر في موضعه، وجمع الطاهِر أَطهار و طَهَارَی؛ الأَخيرة نادرة، وثيابٌ طَهارَی على غير قياس، كأَنهم جمعوا طَهرانَ؛ قال امرؤ القيس:

ثِيابُ بني عَوفٍ طَهارَی نَقِيَّهٌ *** وأَوجهُهم، عند المَشَاهِد، غُرّانُ

وجمع الطَّهِر طهِرُنَو ولا يُكسّر.

والطُّهر: نقيض الحيض، والمرأَة طاهِرٌ من الحيض وطاهِرةٌ من النجاسة ومن العُيوبِ، ورجلٌ طاهِرٌ ورجال طاهِرُون ونساءٌ طاهِراتٌ.

ابن سيده: طَهَرت المرأَة وطهُرت و طَهِرت اغتسلت من الحيض وغيرِه، والفتح أَكثر عند ثعلب، واسمُ أَيام طُهرها(1)... وطَهُرت المرأَة، وهي طاهرُ: انقطع عنها الدمُ ورأَت الطُّهر، فإِذا اغتسلت قيل: تَطَهَّرَت واطَّهَّرت؛ قال الله عز وجل: «وإِن كنتم جُنُباً فاطَّهَّروا».

ص: 20


1- هنا بياض في الأَصل وبإزائه بالهامش لعله الأَطهار

وروى الأَزهري عن أَبي العباس أَنه قال في قوله عز وجل: «وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ»، وقرى: «حتى يَطهُرن».

قال أَبو العباس: والقراءة يطَّهَّرن لأَن من قرأَ يَطهُرن أَراد انقطاع الدم، فإِذا تَطَهَّرن اغتسلن، فصَيَّر معناهما مختلفاً، والوجه أَن تكون الكلمتان بمعنى واحد، يُريد بهما جميعاً الغسل ولا يَحِلُّ المَسِيسُ إِلا بالاغتسال، ويُصَدِّق ذلك قراءةُ ابن مسعود: حتى يَتَطَهَّرن.

وقال ابن الأَعرابي: طَهَرت المرأَةُ، هو الكلام، قال: ويجوز طَهُرت، فإِذا تَطَهَّرن اغتسلنَ، وقد تَطَهَّرت المرأَةُ واطَّهّرت، فإِذا انقطع عنها الدم قيل: طَهُرت تَطهُر، فهي طاهرٌ، بلا هاء، وذلك إِذا طَهُرَت من المَحِيض.

وأَما قوله تعالى: «فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا»

فإِن معناه الاستنجاء بالماء، نزلت في الأَنصار وكانوا إِذا أَحدَثوا أَتبَعُوا الحجارة بالماء فأَثنَى الله تعالى عليهم بذلك.

وقوله عز وجل: «هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ»، أَي أَحَلُّ لكم.

وقوله تعالى: «وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ».

يعني من الحيض والبول والغائط؛ قال أَبو إِسحق: معناه أَنهنّ لا يَحتَجنَ إِلى ما يَحتاجُ إِليه نِساءُ أَهل الدنيا بعد الأَكل والشرب، ولا يَحِضن ولا يَحتَجنَ إِلى ما يُتَطَهَّرُ به، وهُنَّ مع ذلك طاهراتٌ طَهارَةَ الأَخلاقِ والعِفَّة، فمُطَهَّرة تَجمع الطهارةَ كلها لأَن مُطَهَّرة أَبلغ في الكلام من طاهرة.

وقوله عز وجل: «أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ».

ص: 21

قال أَبو إِسحق: معناه طَهِّراه من تعليق الأَصنام عليه؛ الأَزهري في قوله تعالى: «أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ»، يعني من المعاصي والأَفعال المُحَرَّمة.

وقوله تعالى: «یَتلُو صُحُفاً مُطَهّرة»، من الأَدناس والباطل.

و واستعمل اللحياني الطُّهرَ في الشاة فقال: إِن الشاة تَقذَى عَشراً ثم تَطهُر؛ قال ابن سيده: وهذا طَريفٌ جِدّاً، لا أدرِي عن العرب حكاه أَم هو أَقدَمَ عليه.

وتَطَهَّرت المرأَة: اغتسلت.

وطَهَّره بالماء: غَسَلَه، واسمُ الماء الطَّهُور.

وكلُّ ماء نظيف: طَهُورٌ، وماء طَهُور أَي يُتَطَهَّرُ به، وكلُّ طَهورٍ طاهرٌ، وليس كلٌّ طاهرٍ طَهوراً.

قال الأَزهري: وكل ما قيل في قوله عز وجل: «وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا»؛ فإِن الطَّهُورَ في اللغة هو الطاهرُ المُطَهِّرُ، لأَنه لا يكون طَهوراً إِلا وهو يُتَطهّر به، كالوَضُوء هو الماء الذي يُتَوضَّأُ به، والنَّشُوق ما يُستَنشق به، والفَطُور ما يُفطَر عليه من شراب أَو طعام.

وسُئِل رسول الله، صلى الله عليه [وآله] وسلم، عن ماء البحر فقال:

«هو الطَّهُور ماؤه الحِلُّ مَيتَتُه»؛ أَي المُطَهِّر، أَراد أَنه طاهرُ يُطَهِّر.

وفي الحديث: «لا يَقبَلُ الله صلاةً بغير طُهُورٍ».

قال ابن الأَثير: الطُّهور، بالضم، التطهُّرُ، وبالفتح: الماءُ الذي يُتَّطَهَّرُ به كالوَضُوء.

والوُضوء والسَّحُور والسُّحُور؛ وقال سيبويه: الطَّهور، بالفتح، يقع

ص: 22

على الماء والمَصدر معاً، قال: فعلى هذا يجوز أَن يكون الحديث بفتح الطاء وضمها، والمراد بهما التطهر.

والماء الطَّهُور، بالفتح: هو الذي يَرفَعُ الحدَث ويُزِيل النَجَسَ لأَن فَعُولاً من أَبنية المُبالَغة فكأَنه تَنَاهى في الطهارة.

والماءُ الطاهر غير الطَّهُور، وهو الذي لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس كالمُستَعمَل في الوُضوء والغُسل.

والمِطهَرةُ: الإِناءُ الذي يُتَوَضَّأُ به ويُتَطَهَّر به.

والمِطهَرةُ: الإِداوةُ، على التشبيه بذلك، والجمع المَطَاهِرُ؛ قال الكميت يصف القطا:

يَحمِلنَ قُدَّامَ الجَاجِي *** في أَساقٍ كالمَطاهِر

وكلُّ إِناء يُتَطَهَّر منه مثل سَطل أَو رَكوة، فهو مِطهَرةٌ.

الجوهري: والمَطهَرَةُ والمِطهَرة الإِداوةُ، والفتح أَعلى.

والمِطهَرَةُ: البيت الذي يُتَطَهّر فيه.

والطَّهارةُ، اسمٌ يقوم مقام التطهّر بالماء: الاستنجاءُ والوُضوءُ.

والطُّهارةُ: فَضلُ ما تَطَهَّرت به.

والتَّطَهُّرُ: التنزُّه والكَفُّ عن الإِثم وما لا يَجمُل.

ورجل طاهرُ الثياب أَي مُنَزَّه؛ ومنه قول الله عز وجل في ذكر قوم لوط وقَولِهم في مُؤمِني قومِ لُوطٍ: «إِنَّهم أُناسٌ يَتَطَهَّرُون»؛ أَي يتنزَّهُون عن إِتيان

ص: 23

الذكور، وقيل: يتنزّهون عن أَدبار الرجال والنساء؛ قاله قوم لوط تهكُّماً.

والتطَّهُّر: التنزُّه عما لا يَحِلُّ؛ وهم قوم يَتَطَهَّرون أَي يتنزَّهُون من الأَدناسِ. وفي الحديث: «السِّواكُ مَطهرةٌ للفم».

ورجل طَهِرُ الخُلُقِ وطاهرُه، والأُنثى طاهرة، وإِنه لَطاهرُ الثيابِ أَي ليس بذي دَنَسٍ في الأَخلاق.

ويقال: فلان طاهر الثِّياب إِذا لم يكن دَنِسَ الأَخلاق؛ قال امرؤ القيس:

(ثِیابُ بني عَوفٍ طَهَارَي نَقِيّةٌ)

وقوله تعالى: «وثِيابَك فَطَهِّر»، معناه وقَلبَك فَطهِّر؛ وعليه قول عنترة:

فَشَكَكتُ بالرُّمحِ الأَصمِّ ثيابَه *** ليس الكَريمُ على القَنا بِمُحَرَّمِ

أَي قَلبَه، وقيل: معنى وثيابك فطهر، أَي نَفسَك؛ وقيل: معناه لا تَكُن غادِراً فتُدَنِّسَ ثيابَك فإِن الغادر دَنِسُ الثِّياب.

قال ابن سيده: ويقال للغادر دَنِسُ الثياب، وقيل: معناه وثيابك فقَصِّر فإِن تقصير الثياب طُهرٌ لأَن الثوب إِذا انجرَّ على الأَرض لم يُؤمَن أَن تصيبَه نجاسةٌ، وقِصَرُه يُبعِدُه من النجاسة؛ والتَّوبةُ التي تكون بإِقامة الحدّ كالرَّجمِ وغيره: طَهُورٌ للمُذنِب؛ وقيل معنى قوله: وثيابك فطهِّر، يقول: عَمَلك فأَصلِح؛ وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله: وثيابك فطهّر، يقول: لا تَلبَس ثِيابَك على معصية ولا على فجُورٍ وكُفرٍ؛ وأَنشد قول غيلان:

إِني بِحَمد الله، لا ثوبَ غادِرٍ *** لَبِستُ، ولا مِن خِزيةٍ أَتَقَنَّع

ص: 24

الليث: والتوبةُ التي تكون بإِقامة الحُدود نحو الرَّجم وغيره طَهُورٌ للمُذنب تُطَهِّرُه تَطهيراً، وقد طَهّرَه الحدُّ وقوله تعالى: «لا يَمسُّه إلا المُطهَّرون»، يعني به الكِتَابَ لا يمسّه إِلا المطهرون عنى به الملائكة، وكلُّه على المَثَل، وقيل: لا يمسُّه في اللوح المحفوظ إِلا الملائكة.

وقوله عز وجل: «أُولئك الذين لم يُرِد الله أَن يُطَهِّرَ قُلوبَهم»، أَي أَن يَهدِيَهم.

وأَما قوله: طَهَرَه إِذا أَبعَدَه، فالهاء فيه بدل من الحاء في طحره؛ كما قالوا مدَهَه في معنى مَدَحَه.

وطهَّر فلانٌ ولَدَه إِذا أَقام سُنَّةَ خِتانه، وإِنما سمّاه المسلمون تطهيراً لأَن النصارى لما تركوا سُنَّةَ الخِتانِ غَمَسُوا أَولادَهم في ماء صُبِغَ بِصُفرةٍ يُصَفّرُ لونَ المولود وقالوا: هذه طُهرَةُ أَولادِنا التي أُمِرنا بها، فأَنزل الله تعالى: «صِبغةَ الله ومَن أَحسَنُ مِن الله صِبغةً»، أَي اتَّبِعُوا دِينَ الله وفِطرَتَه وأَمرَه لا صِبغَةَ النصارى، فالخِتانُ هو التطهِيرُ لا ما أَحدَثَه النصارى من صِبغَةِ الأَولادِ)(1).

المسألة الثانية: معنى الطهارة عند فقهاء المذهب الإمامي.

تناول فقهاء المذهب الإمامي (أعلى الله شأنهم) معنى الطهارة في كتبهم الفقهية، ومن ثم فالمسألة موضع اهتمام كبير لدى الفقهاء لما أرتبط بها من احكام.

ونورد هنا أربعة أقوال بحسب التسلسل الزمني لإصحابها (عليهم الرحمة والرضوان) ليتضح بذاك غزارة هذه البحوث وسعة معارف أصحابها.

ص: 25


1- لسان العرب: ج 4، ص 504 - 507

1- الشيخ الطوسي (ت: 460 ه).

قال (عليه الرحمة والرضوان)، وتحت عنوان:

(في ذكر حقيقة الطهارة وبيان افعالها).

الطهارة في الشرع: عبارة عن ايقاع افعال مخصوصة على وجه مخصوص في البدن يستباح به الدخول في الصلاة.

وهو على ضربين: طهارة بالماء، وطهارة بالتراب، فالطهارة بالماء هي الأصل، وإنما يعدل الى التراب عند عدم الماء أو تعذر استعماله.

وهي على ضربين: أحدهما وضوء والآخر غسل)(1).

وفي معنى آخر، قال: (معنى الطهور، عندنا: أن الطهور هو المطهر المزيل للحدث والنجاسة)(2).

وفي بيان آخر يحدد فيه مدار الطهارة فقال: (الطهارة في الشريعة اسم لما يستباح به الدخول في الصلاة وهي - أي الطهارة - تنقسم الى قسمين وضوء وتيمم ومدارهما على أربعة اشياء:

أحدها وجوب الطهارة، وثانيها ما به تكون الطهارة، وثالثها كيفية الطهارة، ورابعها ما ينقض الطهارة.

فأما العلم بوجوبها فحاصل لكل أحد خالط أهل الشرع ولا يرتاب أحد منهم فيه.

ص: 26


1- الاقتصاد: ص 240، المبسوط: ج 1، ص 4
2- الخلاف: ج 1، ص 47

والعلم بما فيه تكون الطهارة، فينقسم قسمين: أحدهما العلم بالمياه وأحكامها وما يجوز الطهارة به منها وما لا يجوز، والثاني العلم بما يجوز التيمم به وما لا يجوز.

وأما العلم بكيفية الطهارة فينقسم قسمين: أحدهما العلم بالطهارة الصغرى وكيفيتها، والثاني العلم بالطهارة الكبرى من الأغسال وأحكامها.

وأما القسم الرابع وهو ما ينقض الطهارة فهو أيضا على ضربين: أحدهما ينقض الطهارة الصغرى ولا يوجب الكبرى، والثاني ينقضها ويوجب الطهارة الكبرى. والذي يتبع الطهارة مما يحتاج إلى العلم به، للدخول في الصلاة وإن لم يقع عليه اسم الطهارة، العلم بإزالة النجاسات من البدن والثياب، ولأنه لا يجوز الدخول في الصلاة مع نجاسة على البدن أو الثوب كما لا يجوز الدخول في الصلاة مع عدم الطهارة ونحن نرتب ذلك على حسب ما تقتضيه الحاجة إليه، إن شاء الله)(1).

ثم يمضي (عليه الرحمة والرضوان) في بيان هذه المدارات التي عليها الطهارة في مضانه فمن اراد الاطلاع فعليه الرجوع الى المصدر.

2- ابن إدريس الحلي (ت: 598 ه):

قال (رحمه الله) في تتبع قول الشيخ الطوسي (رحمه الله) في بيان معنى الطهارة: (الطهارة في اللغة هي النظافة فأما في عرف الشرع فهي عبارة عن

ص: 27


1- النهاية في مجرد الفقه والفتاوى، الشيخ الطوسي: ص 2

إيقاع أفعال في البدن مخصوصة على وجه مخصوص.

وبعضهم يحدها بأنها في الشريعة: اسم لما يستباح به الدخول في الصلاة.

وهذا ينتقض بإزالة النجاسة عن ثوب المصلي وبدنه، لأنه لا يجوز له أن يستبيح الصلاة إلا بعد إزالة النجاسة التي لم يعف عنها الشرع، وإزالة النجاسة ليست بطهارة في عرف الشرع.

وأيضا قوله: اسم لما يستباح به الدخول في الصلاة يلوح بهذا القيد، أن کل طهارة لا يستباح بها الصلاة لا يسمى طهارة.

وهذا ينتقض بوضوء الحائض لجلوسها في مصلاها، وهي طهارة شرعية وإن لم يجز لها أن تستبيح بها الصلاة.

وقد تحرز بعض أصحابنا في كتاب له مختصر وقال: الطهارة في الشريعة اسم لما يستباح به الدخول في الصلاة، ولم يكن ملبوسا أو ما يجري مجراه وهذا قريب من الصواب.

فإن قيل: فما معنى قولكم في حدكم إيقاع أفعال في البدن مخصوصة؟

قلنا: (في البدن) احتراز من الثياب وإزالة النجاسات العينية من البدن على ما مضى القول فيه.

وقولنا: (مخصوصة) أردنا الأفعال الواقعة في البدن، لا أبعاض البدن، ومواضع منه مخصوصة، لأن الغسل الأكبر يعم البدن، فلو أردنا بمخصوصة بعض مواضع البدن، أو مكانا منه مخصوصا، لا ينتقض ذلك، بل بمخصوصة راجعة إلى الأفعال الحالة الواقعة في البدن لا المحال وقولنا: (على وجه مخصوص) كونها على وجه القربة إلى الله سبحانه دون الرياء والسمعة،

ص: 28

وما بنا حاجة إلى ما يستباح بها الصلاة، لما بيناه على ما ذهب إليه بعض المصنفين)(1).

3- الشهيد الأول محمد بن جمال الدين مكي العاملي (ت: 786 ه).

قال (رحمه الله) في اللمعة(2) (الطهارة، لغة: النظافة، وشرعاً: استعمال طهور مشروط بالنية، والطهور هو الماء والتراب، قال الله تعالى:

«وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا»(3).

وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

«جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً».

فالماء مطهر من الحدث والخبث، وينجس بالتغير بالنجاسة، ويطهر بزواله إن كان جارياً او لاقى كراً قدره الف ومائتا رطل بالعراقي)(4).

ثم يمضي في بيان احكام تطهير البشر إذا تنجس مائه عند سقوط أحد الحيوانات فيه فنفقت.

وقال (رحمه الله) في البيان في تعريف الطهارة وبما أستقر عليه علماء الإمامية من تعريفها:

(وهي تطلق على النزاهة من الادناس وعلى رفع الخبث، وعلى كل واحد من الوضوء والغسل، والتيمم، إذا أثر في استباحة الصلاة، وهو المعنى الذي

ص: 29


1- السرائر لابن ادريس الحلي: ج 1، ص 57
2- اللمعة الدمشقية للشهيد الاول: ص 15
3- الفرقان: 48
4- اللمعة الدمشقية: ص 15

استقر عليه علماء الخاصة)(1).

4- الشيخ الجواهري (ت: 1266 ه).

قال (رحمه الله) في جواهره وقد جمع في بيانه لمعنى الطهارة أقول علماء المذهب؛ فضلاً عن اللغة والعرف، وحدد مواضعها، وعيَّن أحكامها، وناقش أقوال الخاصة والعامة في ذلك، فيقول:

و (الطهارة) مصدر طُهرَ بضم الطاء وفتحها، والاسم الطُهر لغة: النظافة والنزاهة يقال: ثياب طاهرة، أي من القذر والوسخ، وهو المناسب للاستعارة للذنوب والحيض وسوء الخلق، ولذا استدل على ذلك، بقوله تعالى:

«وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»، «وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ».

أي من الحيض وسوء الخلق. ولعله ظاهرا من باب استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، أو في القدر المشترك، وهو أولى و «إنَّ الله اصطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ»، أي: نزهك و «أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ»، أي: يتنزهون.

وفي القاموس: إن الطهارة نقيض النجاسة، وعن الطراز: طُهر طُهرا بالضم وطَهارة بالفتح، نظف ونقي من النجس والدنس. وهما يرجعان إلى ما تقدم.

وعرفا على ما هو المعروف كما قيل، بل عن آخر أنه عليه أكثر علمائنا:

(اسم للوضوء أو الغسل أو التيمم على وجه له تأثير في استباحة الصلاة)، فيخرج وضوء الحائض، والتجديدي، والأغسال المندوبة، ووضوء الجنب،

ص: 30


1- البيان للشهيد الأول: 35

والتيمم للنوم ونحو ذلك.

أو أنها لها مع التأثير في العبادة إباحة أو کمالا، فيدخل فيها بعض ما تقدم، وإن خرج منها أيضا الأغسال للأوقات والغسل بعد التوبة فهي أعم من الأول.

أو أنها لها مطلقا، فيدخل فيها جميع ما ذكرنا؛ أو أنها لها على أحد الوجوه الثلاثة مع إزالة الخبث الشرعي. فتكون حينئذ الاحتمالات ستة. لكن الظاهر مراعاة الصحة في السابقين:

إما لأن لفظ الطهارة خارج من بين أسماء العبادات فلا يجري فيه النزاع أنها للأعم أو للصحيح. بعد اعتبار الاستباحة فعلا في مفهومها على وجه لا يكون الفاسد طهارة، أو يكون المعرف إنما هو الصحيح.

وكيف كان فهل هي عبارة عن نفس الأفعال، أو الحالة الحاصلة بعدها من الإباحة، أو ما يجده الانسان من القرب الروحاني في الثلاثة الأول، أو الأعم؟

احتمالات، وتكثر بملاحظة الضرب مع المتقدمة. إلا أن الأقوى الأول هنا، لتبادره.

كما أن الأقوى الأول أيضا بالنسبة للستة، لعدم ثبوت غيره، ولأنه المعروف بين المتشرعة كمعروفية البحث فيه عنه، ولقوله (عليه السلام) في الحائض:

«أما الطهر فلا».

ولإغناء المعنى اللغوي في إزالة النجاسة فلا يتكلف مؤنة النقل لكن

ص: 31

قد يستدل على شمولها لإزالة النجاسة بالتبادر، وبكثرة إطلاقها في الكتاب والسنة ولسان المتشرعة، وباستبعاد جعل البحث عنها بالعرض.

كما أنه قد يستدل على شمولها لغير المبيح بتقسيم الطهارة إلى واجبة ومندوبة، وتقسيم الثانية إلى المبيح وغيره، وبأن ما تفعله الحائض وضوء وكل وضوء طهارة.

وفيه أن التبادر المدعی ممنوع، ولاستعمال في الكتاب والسنة في الغالب مع المعنى اللغوي وبدونه مع القرينة، واستعمالها في لسان المتشرعة قد عرفت أن المعروف ما قلنا، کما صرح به الشهيد على ما ستسمع، والاستبعاد يهون أمره أنه ليس عرضا بحتا بل له تعلق بالطهارة الحدثية، والتقسيم المشهور إنما هو تقسيم الثلاثة وهو لا ينافي كونها اسما للمبيح منه، وإن وقع في كلام بعضهم تقسيمها فلا بد من التزام کون المقسم أعم من المعرف للتصريح الأول والظاهر لا يعارضه.

والقول بأن كل وضوء طهارة مصادرة محضة. نعم يحتمل القول باختصاص لفظ (الطهارة) في ذلك بخلاف باقي المشتقات كطهر وطهور وطاهر، ويؤيده أنه وجه الجمع بين نصهم هنا على كونها اسما للمبيح، وبين استدلالهم بمثل هذه الألفاظ على إزالة النجاسات كلفظ الطهور ونحوه.

قال الشيخ في الخلاف: (الطهور عندنا هو المطهر المزيل للحدث والنجاسة)؛ وعن التبيان وفقه القرآن ومجمع البيان وغيرها:

(طهورا، أي طاهرا مطهرا مزيلا للأحداث والنجاسات) إلى غير ذلك.

ولعله أولى من التزام الوضع حتى في لفظ الطهارة للقدر المشترك

ص: 32

الشامل لإزالة النجاسة، دفعا لمحذور الاشتراك أو المجاز والتحكم لازم من التخصيص، مع شيوع استعمالها في الأعم في كل من نوعيه بحيث لا يقصر بعضها عن بعض.

ويحمل التعريف حينئذ على خصوص الطهارات التي هي نوع من العبادات، فتخرج الإزالة وتدخل في الخطابات الشرعية، ويزول الاشكال عن التفسير والاستدلال، بل يرتفع الخلاف بين القول بدخولها وخروجها، واختاره العلامة الطباطبائي، وهو لا يخلو من قوة.

إلا أن الأقوى خلافه، لما فيه من التجشم في تأويل ما لا يقبل التأويل من التصريح الواقع من بعضهم وغيره، مع أن دعوی شیوع استعمال لفظ الطهارة في ذلك في حيز المنع، فلعل ما ذكرنا من الفرق بينها وبين غيرها من التصرفات أولى، ولا يلزم من نقل المشتقات نقل المصدر، بل هو منقول لمعنى آخر، ولا يشترط وجود المشتق منه معها بل يكفي اقتطاعها منه بذلك المعنى، فليتأمل.

لا يقال: إن النزاع في نحو ذلك ما هو إلا اختلاف اصطلاح، لأنا نقول إنه نزاع في إثبات المعنى المتشرعي الذي هو ضابطة للحقيقة الشرعية ما لم يعلم الحدوث، كما يظهر من تحرير محل النزاع فيها، وقد وقع تعريفها على لسان كثير من علمائنا (رحمهم الله)، فعن الشيخ في النهاية:

(إن الطهارة في الشريعة اسم لما يستباح به الدخول في الصلاة).

وعن القاضي ابن البراج في الروضة كذلك بزيادة:

(ولم يكن ملبوسا أو ما يجري مجراه).

ص: 33

وعن المهذب والموجز:

(إنها استعمال الماء والصعيد على وجه يستباح به الصلاة أو تكون عبادة تختص بغيرها).

وعن الشيخ في المبسوط والاقتصاد:

(الطهارة عبارة عن إيقاع أفعال في البدن مخصوصة على وجه مخصوص يستباح به الصلاة).

وعن ابن إدريس أنه ارتضاه، وعن قطب الدين الراوندي:

(إن الاحتراز التام أن الطهارة الشرعية هي استعمال الماء أو الصعيد نظافة على وجه يستباح به الصلاة وأكثر العبادات).

وعن نجیب الدين محمد بن أبي غالب في المنهج الأقصد:

(الطهارة الشرعية هي إزالة حدث أو حكم لتؤثر في صحة ما هي شرط فيه).

وعن المصنف في المعتبر:

(أنها اسم لما يرفع حكم الحدث).

وعن المسائل المصرية:

(أنها استعمال أحد الطهورين لإزالة الحدث أو لتأكيد الإزالة.

وعن العلامة في التحرير والتلخیص:

(الطهارة شرعامالها صلاحية التأثير في استباحة الصلاة من الوضوء والغسل والتيمم).

ص: 34

وعن بعض كتبه هي:

(وضوء أو غسل أو تیمم يستباح به عبادة شرعية).

وفي القواعد:

(الطهارة غسل بالماء أو مسح بالتراب متعلق بالبدن على وجه له صلاحية التأثير في العبادة).

وعن علي بن محمد القاشي:

(إنها إذا أخذت صحيحة استعمال طهور مشروط بالنية).

وعن الشيخ أبي علي في شرح النهاية:

(إنها التطهير من النجاسات ورفع الأحداث).

ولعله وافق بذلك بعض العامة، وإلا فالمعروف بين أصحابنا كما أشرنا إليه سابقا أن إزالة الأخباث ليست من الطهارة.

ومن هنا قال الشهيد في نكت الرشاد:

(إن إدخال إزالة الخبث فيها ليس من اصطلاحنا).

وفي كنز العرفان:

(وقد تطلق مجازا بالاتفاق على إزالة الخبث عن الثوب والبدن).

وعن بعضهم:

(إنها وضع الطهور مواضعه).

وعن الجرجاني تعريفها:

(بماله صلاحية رفع الحدث أو استباحة الصلاة مع بقائه).

ص: 35

قلت: وهل اختلاف هذه التعاريف هو بعد الاتفاق على معنی ولكنهم يختلفون في التعبير عنه إما لتسامح أو غيره، أو أن هذا الاختلاف لاختلاف في المعنى لكون الطهارة اسما لصحيح أو للأعم؛ أو أنها لما تشمل إزالة الأخباث مثلا أو لا، أو أنها تشمل وضوء الحائض أو لا، أو أنها تشمل الأغسال المندوبة أو لا، أو أنها تشمل الوضوء التجديدي أو لا إلى غير ذلك؟

الذي يظهر في النظر أن كثيرا من الاختلاف، لاختلاف في المعنى، فلا وجه حينئذ للإيراد على البعض مثلا بخروج وضوء الحائض، وعلى آخر بدخوله، إذ قد يقول الأول أنه ليس طهارة والآخر طهارة، فكل يعرف على مذهبه، ويرجع النزاع حينئذ معنويا.

وهذا الذي ينبغي أن يلحظ بالنسبة للاستقراء والتتبع، وإلا فكثير من الايرادات - حتى نقل إنه اعترض على تعريف العلامة في القواعد بتسعة عشر اعتراضا - لا ثمرة فيها، فمما رجح منها إلى ما ذكرنا كان للفقيه أن يتعرض له، إذ لعله تترتب عليه فوائد بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية، فاستقرئ وتتبع وتأمل جيدا.

وإن أردت النقض في كثير من هذه التعاريف والابرام، فانظر ما كتبه الشهيد في غاية المراد في نكت الإرشاد، فإنه قد حاول الإحاطة لذلك.

ولعل قيد (الاستباحة) في عبارة المشهور، مع إرادة ما يقابل الحرمة التشريعية منه، يقتضي عدم حصول الطهارة من المميز.

إما لأن عبادته تمرينية، وإما لأن شرعية الوضوء منه أعم من كونه طهارة، کشرعية وضوء الحائض، مع احتمال حصول الطهارة به على أن يكون المراد

ص: 36

من الاستباحة الصحة فتأمل جيدا.

(وكل أحد منها) أي الثلاثة المتقدمة (ينقسم إلى واجب وندب) دون باقي الأحكام، وإطلاق الكراهة في بعض المقامات على ضرب من التأويل)(1).

ثم يمضي (عليه الرحمة والرضوان) في بيان هذه التفريعات واحکامها.

المسألة الثالثة: معنى الطهارة عند فقهاء المذاهب الأخرى.

1- المذهب الزيدي.

إنّ معنى الطهارة عند فقهاء المذاهب الأخرى، يكاد يكون على بيان واحد، ما خلا المذهب الحنفي، فقد خالف أبو حنيفة معنى الطهارة والطهور في فتاويه والتي سنوردها بعد ذكر أقوال فقهاء المذاهب، ونبدأها بالمذهب الزيدي:

قال الشيخ أحمد المرتضى (ت: 840 ه):

(الطهارة، هي في اللغة النظافة والبعد عن النجاسات بدليل قوله تعالى:

«وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ»(2).

أي ينظفن من الأذى ولها في الاصطلاح حدود كثيرة أجودها استعمال المطهرين أو أحدهما أو ما في حكمهما على الصفة المشروعة، والدليل على وجوبها قوله تعالى: «وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ».

قال في الكشاف: أمر بطهارة ثيابه من النجاسة، وهو في الصلاة واجب، ومستحب في غيرها، ومن السنة ما روي أنه (صلى الله عليه وآله) مر بعمار بن

ص: 37


1- جواهر الكلام، الشيخ الجواهري، ج 1، ص 4 - 8
2- البقرة: 222

یاسر و هو يغسل ثوبه من النخامة؛ فقال: «مانخامتك ودمع عينيك الا بمنزلة الماء الذي في ركوتك إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والقيء والدم والمني»(1).

2- المذهب المالكي.

قال الخطاب الرعيني (ت 954 ه):

(وهي بالفتح، لغة: النزاهة والنظافة من الأدناس والأوساخ، وتستعمل مجازا في التنزيه عن العيوب، وتطلق في الشرع على معنيين: أحدهما الصفة

ص: 38


1- شرح الازهار: ج 1، ص 33

الحكمية القائمة بالأعيان التي توجب لموصوفها استباحة الصلاة به أو فيه أو له کما يقال: هذا الشئ طاهر، وتلك الصفة الحكمية التي هي الطهارة الشرعية هي كون الشيء تباح ملابسته في الطهارة والغذاء.

والمعنى الثاني: رفع الحدث وإزالة النجاسة كما في قولهم: الطهارة واجبة. وفي كلام القرافي أن المعنى الأول: حقيقة، والثاني: مجاز.

فلذلك عرفها ابن عرفة بقوله: صفة حكمية توجب لموصوفها جواز استباحة الصلاة به أو فيه أو له. فالأوليان من خبث، والأخيرة من حدث)(1).

3- المذهب الشافعي.

قال الحافظ النووي (ت 676 ه):

(الطهارة في اللغة: النظافة والنزاهة عن الأدناس ويقال: طَهَرَ الشيء بفتح الهاء وطَهُرَ بضمها، والفتح أفصح يَطهُر بالضم فيهما طهارة، والاسم

ص: 39


1- مواهب الجليل: ج 1، ص 60 - 61

الطَهر؛ والطَهُور بفتح الطاء: اسم لما يتطهر به، وبالضم اسم للفعل؛ هذه اللغة المشهورة التي عليها الأكثرون من أهل اللغة.

واللغة الثانية: بالفتح فيهما، واقتصر عليها جماعات من كبار أهل اللغة، وحكي صاحب مطالع الأنوار الضم فيهما وهو غريب شاذ ضعيف وقد أو ضحت هذا كله مضافا في تهذيب الأسماء واللغات.

وأما الطهارة في اصطلاح الفقهاء: فهي رفع حدث أو إزالة نجس أو ما في معناهما وعلى صورتهما، وقولنا في معناهما: أردنا به التيمم والأغسال المسنونة کالجمعة وتجديد الوضوء والغسلة الثانية والثالثة في الحدث والنجس أو مسح الاذن والمضمضة ونحوها من نوافل الطهارة، وطهارة المستحاضة

ص: 40

وسلس البول فهذه كلها طهارات ولا ترفع حدثا ولا نجسا وفي المستحاضة والسلس والمتيمم وجه ضعيف أنها ترفع.

وأما المياه فجمع ماء وهو جمع كثرة وجمعه في القلة: أمواه، وجمع القلة عشرة فما دونها والكثرة فوقها وأصل ماء: موه وهو أصل مرفوض والهمزة في ماء بدل من الماء إبدال لازم عند بعض النحويين.

وقد ذكر صاحب المحكم لغة أخرى فيه أن يقال ماه على الأصل وهذا يبطل دعوی لزوم الابدال، وإن ما قال المصنف مياه وأتي يجمع الكثرة لان أنواع الماء زائدة على العشرة فإنه طاهر وطهور ونجس؛ والطهور ينقسم إلى ماء السماء وماء الأرض، وماء السماء ينقسم إلى مطر وذوب ثلج وبرد، وماء الأرض إلى ماء أنهار وبحار وآبار ومشمس ومسخن ومتغير بالمكث وبما لا يمكن ضوئه منه وبالتراب وغير ذلك من أنواعه، وينقسم الطاهر والنجس أقساما معروفة)(1).

4- المذهب الحنفي.

قال أبو بكر الكاشاني (ت: 587 ه):

(الطهارة، لغة وشرعاً هي النظافة، والتطهير: التنظيف، وهي اثبات النظافة في المحل، وهي صفة تحدث ساعة، فساعة، وإنما يمتنع حدوثها بوجود ضدها وهو القذر؛ فإذا زال القذر وامتنع حدوثه بازالة العين القذرة تحدث النظافة فكان زوال القذر من باب زوال المانع من حدوث الطهارة لا أن يكون طهارة، وإنما سمي طهارة توسعاً لحدوث الطهارة عند زواله)(2).

ص: 41


1- المجموع: ج 1، ص 79 - 80
2- بدائع الصنائع لأبي بكر الكاشاني: ج 1، ص 3

5- المذهب الحنبلي.

قال ابن قدامة المقدسي (ت: 620 ه):

(الطهارة لغة: النزاهة عن الأقذار؛ وفي الشرع: رفع ما يمنع الصلاة

ص: 42

من حدث أو نجاسة بالماء أو رفع حكمه بالتراب فعند إطلاق لفظ الطهارة في لفظ الشارع أو كلام الفقهاء ينصرف إلى الموضوع الشرعي دون اللغوي، وكذلك كل ماله موضوع شرعي ولغوي إنما ينصرف المطلق منه إلى الموضوع الشرعي کالوضوء والصلاة والصوم والزكاة والحج ونحوه لأن الظاهر من صاحب الشرع التكلم بموضوعاته، والطهور بضم الطاء المصدر، قاله اليزيدي.

والطهور بالفتح من الأسماء المتعدية، وهو الذي يطهر غيره، مثل الغسول الذي يغسل به.

وقال بعض الحنفية: هو من الأسماء اللازمة بمعنى الطاهر سواء لأن العرب لا تفرق بين الفاعل والمفعول في التعدي واللزوم فما كان فاعله لازما كان فعوله لازما، بدليل قاعد وقعود، ونائم ونؤوم، وضارب وضروب. وهذا غير صحيح فإن الله تعالى قال: (ليطهركم به)، وروی جابر أن النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم، قال:

«أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا».

متفق عليه ولو أراد به الطاهر لم يكن فيه مزية لأنه طاهر في حق كل أحد.

وسُئل النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم عن التوضؤ بهاء البحر فقال:

«هو الطهور ماؤه، الحل ميتته».

ولو لم يكن الطهور متعديا لم يكن ذلك جوابا للقوم حيث سألوه عن التعدي إذ ليس كل طاهر مطهرا.

ص: 43

وما ذكروه لا يستقيم لأن العرب فرقت بين الفاعل والمفعول، فقالت: قاعد لمن وجد منه القعود، و قعود لمن يتكرر منه ذلك فينبغي أن يفرق بينهما هاهنا وليس الا من حيث التعدي واللزوم)(1).

6- المذهب الإباضي.

قال الشماخي (ت: القرن السابع ه) في كتاب الايضاح في باب: الاستنجاء، وفي قوله تعالى:

«وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً»؛ قال:

(والطهور هو الفعل للطهارة، وهو التطهر في نفسه، والمطهر لغيره، والشيء لاسيما فعولا الا اذا كثر منه ذلك، كقولهم لكثر الاكل: أكول، ولكثير الشرب: شروب على (المبالغة)(2).

وجاء في حاشية الكتاب للشيخ أبو ستة القصبي في باب التيمم، قول الشماخي: (في معرفة الطهارة)؛ قال القصبي: (قوله: في معرفة الطهارة: إنَّ الطهارة بأسرها إنما تجب بسبعة شروط، وهي البلوغ، والعقل، والإسلام، ودخول وقت الفريضة، وكون المكلف غير ساه، ولا نائم، وعدم الاكراه، وارتفاع موانع الحيض والنفاس)(3).

المسألة الرابعة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

1- يتضح من خلال قراءة الأقوال في معنى الطهارة شرعاً: إنها الوسيلة

ص: 44


1- المغني لابن قدامة : ج 1، ص 6
2- الايضاح: ج 1، ص 31
3- المصدر نفسه: ج 1، ص 264

التي قيدت بالماء والتراب، والتي تمكّن المسلم من أداء ما فرض عليه من العبادة التي يتوقف أدائها على الطهارة؛ ومن ثم تكون داخلة في قصدية القرب لله تعالى کما مرّ في مبحث النية، وفي غير الفرائض الشرعية تطلب الطهارة استحباباً على قصدية القربة الى الله تعالی کا مَرّ بيانه في أقوال علماء الإمامية أعلى الله مقامهم.

2- ذكر الشيخ المفيد (عليه الرحمة والرضوان) مخالفة إمام المذهب الحنفي لمعنى الطهارة شرعاً وحكماً كما جاء في النبيذ والمسكر، وهو مخالفة صريحة لقول الله تعالى: «وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً»(1).

(فاخبر أن الذي جعله طهوراً للعباد من الانجاس والأدناس لأداء الصلوات، وإقامة العبادات في الطهارات هو الماء المنزل من السماء، دون ما سواه مع الاختيار، فزعم ابو حنيفة أن الطهور قد يكون بالنبيذ المسكر(2)؛ والموجب على شاربه الحد في ملة الإسلام، النجس العين بحكم القرآن، حيث يقول الله جل اسمه: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(3).

فحكم على الخمر بالنجاسة، نصا لا يختل فهم معناه على ذوي الألباب، وكل مسکر خمر بحکم اللغة التي نزل بها القرآن والسنة الثابتة عن النبي (صلى الله عليه وآله) حيث يقول: «كل مسکر خمر، وكل خمر حرام».

فقصد النعمان إلى ما أمر الله باجتنابه لرجاسته، وسوء عاقبته، فدعا إلى القرب به إليه من الطهارات، وإقامة الصلوات والعبادات، وكان بذلك

ص: 45


1- الفرقان: 48
2- المبسوط للسرخسي: ج 1، ص 88؛ بدائع الصنائع لأبي بكر الكاشاني: ج 1، ص 15
3- المائدة: 90

مناقضا لحكم القرآن، وخارجا بما قال فيه عن شريعة الإسلام، وشاذا به عن إجماع العلماء)(1).

3- ذكر الشيخ الطوسي (عليه الرحمة والرضوان) هذه المخالفة في معنی الطهارة عند المذهب الحنفي وأردف الدليل على صحة ما ذهب اليه علماء المذهب الإمامي (اعلى الله مقامهم)، فقال:

(الطهور عندنا: إن الطهور، هو: المطهر المزيل للحدث والنجاسة؛ وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة والأصم(2): الطهور والطاهر بمعنى واحد.

دليلنا: هو أن هذه اللفظة وضعت للمبالغة، والمبالغة لا تكون إلا فيما يتكرر فيه الشيء الذي اشتق الاسم منه. ألا ترى إنهم يقولون: فلان ضارب إذا ضرب ضربة واحدة، ولا يقال: ضروب إلا بعد أن يتكرر منه الضرب.

وإذا كان كونه طاهرا مما لا يتكرر، ولا يتزايد، فينبغي أن يكون كونه طهورا لما يتزايد. والذي يتصور التزايد فيه، أن يكون مع كونه طاهرا مطهرا مزيلا للحدث والنجاسة، وهو الذي نريده.

وأيضا وجدنا العرب تقول: ماء طهور، وتراب طهور. ولا تقول: ثوب طهور، ولا خل طهور. لأن التطهير غير موجود في شيء من ذلك. فثبت أن الطهور هو المطهر على ما قلناه)(3).

ص: 46


1- المسائل الصاغانية للشيخ المفيد: ص 114
2- أبو بكر، عقبة بن عبد الله الأصم الرفاعي، العبدي، البصري، النيسابوري، روي عن ابيه، وعطاء بن أبي رباح، وحميد بن هلال، وغيرهم؛ وروى عنه: معقل بن مالك الباهلي، وابو قبيصة وغيرهم؛ مات سنة 200 ه. (ينظر: تهذيب التهذيب: ج 7، ص 744؛ والفهرست الابن النديم: ص 214)
3- الخلاف للشيخ الطوسي: ج 1، ص 50

4- وممن ذهب إلى بيان مخالفة الحنفية لإجماع الأمة في معنى الطهور والطهارة كلاً من ابن العربي، والقربي، فقالا:

(وأجمعت الأمة لغة وشريعة على أن وصف طهور يختص بالماء ولا يتعدى إلى سائر المائعات وهي طاهرة، فكان اقتصارهم بذلك على الماء أدل دليل على أن الطهور هو المطهر، وقد يأتي فعول لوجه آخر ليس من هذا اكله وهو العبارة به (الآلة للفعل) لا عن (الفعل) كقولنا: وقود وسحور بفتح الفاء، فإنها عبارة عن الحطب والطعام المتسحر به.

فوصف الماء بأنه طهور (بفتح الطاء) أيضاً يكون خبراً عن الآلة التي يتطهر بها؛ فإذا ضُمت الفاء فثبت بهذا أن اسم المفعول (بفتح الفاء) يكون بناء للمبالغة ويكون خبراً عن الآلة، وهو الذي خطر ببال الحنفية؛ ولكن قصرت أشداقها عن لوكه وبعد هذا يقف البيان به عن المبالغة أو عن الآلة على الدليل مثاله قوله تعالى «وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا» وقوله جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ويحتمل العبارة به عن الآلة فلا حجة فيه لعلمائنا لكن يبقى قوله «لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ» نصاً في أن فعله متعد إلى غيره))(1).

ص: 47


1- أحكام القرآن لابن العربي: ج 3، ص 436؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ج 13، ص 41

ص: 48

المبحث الثاني قعود المرأة عن الصلاة والصيام وما يحرم عليها فعله وما يستحب لها في أيام الحيض

قال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام):

«مَعَاشِرَ اَلنَّاسِ إِنَّ اَلنِّسَاءَ نَوَاقِصُ اَلْإِیمَانِ، نَوَاقِصُ اَلْحُظُوظِ نَوَاقِصُ اَلْعُقُولِ، فَأَمَّا نُقْصَانُ إِیمَانِهِنَّ، فَقُعُودُهُنَّ عَنِ اَلصَّلاَةِ وَ اَلصِّیَامِ فِی أَیَّامِ حَیْضِهِنَّ، وَ أَمَّا نُقْصَانُ عُقُولِهِنِّ، فَشَهَادَةُ إِمْرَأَتَیْنِ کَشَهَادَةِ اَلرَّجُلِ اَلْوَاحِدِ، وَ أَمَّا نُقْصَانُ حُظُوظِهِنَّ، فَمَوَارِیثُهُنَّ عَلَی اَلْأَنْصَافِ مِنْ مَوَارِیثِ اَلرِّجَالِ، فَاتَّقُوا شِرَارَ اَلنِّسَاءِ وَ کُونُوا مِنْ خِیَارِهِنَّ عَلَی حَذَرٍ، وَ لاَ تُطِیعُوهُنَّ فِی اَلْمَعْرُوفِ حَتَّی لاَ یَطْمَعْنَ فِی اَلْمُنْکَرِ»(1).

لا يخفى على طلبة العلم ما يحتويه موضوع الحيض من مسائل كثيرة؛ ولأن الكتاب مخصص لما ورد في نهج البلاغة تحديداً من عناوین فقهية، فقد الزم بنا التقيد بما ورد في الكتاب كي لا نخرج عن المسار الذي ينبغي اتباعه في هذا الحقل المعرفي.

ص: 49


1- نهج البلاغة، الخطبة 79، ص 177، بتحقيق الشيخ قيس العطار، ط العتبة العلوية المقدسة، وبتحقيق صبحي الصالح: الخطبة 80، ص 106، ط لسنة 1967 م

ولذا: فإن بیان آراء المذاهب الفقهية الأخرى بما اختص بهذا الموضوع ستقتصر على حرمة اتيان المرأة للصلاة والصيام أثناء انقطاع طهرها بعارض الحيض.

وما يستلزمه ذلك من تحديد أقل الحيض وأكثره.

أما بقية مسائله فقد تجاذب الفقهاء الحديث فيها وباختلاف مدارسهم ومذاهبهم الفقهية، ابتداءً من معنى المحيض في اللغة وما يترتب عليه من اعتزال الرجال للنساء فيحرم وطئهن؛ وانتهاءً بأحكام الاستحاضة والنفاس وما ارتبط بهما.

وعليه: نشير هنا الى مسألتين فقط، الأولى: أقل الحيض وأكثره أي؛ کم ستقعد المرأة عن الصلاة والصيام؛ والثانية: ما يحرم على المرأة أثناء الحيض، وذلك لتحديد النص الشريف عنه (عليه السلام) في بيان نقصان إيمانهن بهذا القعود عن الصلاة والصيام؛ وهو كالآتي:

المسألة الأولى: أقل الحيض وأكثره الذي يلزم المرأة القعود عن الصلاة والصيام.

لم يكن عنوان الحيض وأحكامه ومسائله بمعزلٍ عن اختلاف فقهاء المذاهب الإسلامية فقد جرى فيه الخلاف کما في غيره من العناوين والمسائل فكانت كالآتي:

أولاً - أقوال فقهاء المذهب الإمامي في أقل الحيض وأكثره.

أجمع فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) على أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام؛ جاء ذلك في بيان مسائل الحيض في جملة أقوال الفقهاء، وهي كالآتي:

ص: 50

1- الشيخ الطوسي (ت 460 ه).

قال (عليه الرحمة والرضوان): (أقل الحيض عندنا ثلاثة أيام؛ وأكثر الحيض عشرة أيام، وأقل الطهر عشرة أيام وأكثره لاحد له)(1).

2- المحقق الحلي (ت 676 ه).

قال (عليه الرحمة والرضوان) في غسل الحيض، والنظر في الحيض وأحكامه فيبدأ (رحمه الله) بالتسمية، فيقول: (سمي حيضاً من قولهم: (حاض السيل) إذا أندفع، فكأنه لمكان قوته وشدة خروجه، وفي غالب أحواله أختص بهذا الاسم، قال الشاعر:

أجالت حصاهن الضواري وحيضت *** عليهن حيضات السيول الطواصم

ويجوز أن يكون من رؤية الدم، كما يقال حاضت الأرنب، إذا رأت الدم.

وحاضت الشجرة، إذا خرج منها الصمغ الأحمر.

و (الحيض) في الأغلب أسود أو أحمر غليظ حار، له دفع، وإنما اقتصر على هذا التعريف لأنه تميز به من غيره من الدماء عند الاشتباه.

وقد روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال:

«دم الحيض حار عبيط أسود»(2).

وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام):

ص: 51


1- الخلاف: ج 1، ص 236 - 238
2- وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 2 أبواب الحیض، باب 3، ج 2، ص 537

«إذا رأت الدم البحراني فلندع الصلاة»(1).

والعبيط هو الطري؛ قال الشاعر:

تقحم الآني العبيط كما *** تقحم دلوا لمحالة الجمل

والبحراني: الأحمر الشديد الحمرة والسواد، يقال ماء جری و بحراني.

وأقل الحيض: (ثلاثة أيام) وأكثره (عشرة أيام)، هذا مذهب فقهاء أهل البيت عليهم السلام)(2).

3- الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي (ت 965 ه).

قال (عليه الرحمة والرضوان) في بيان الحيض وما يتعلق به وقد رتب ذلك في مجموعة أمور، وهي:

(الأول: فالحيض هو الدم الذي له تعلق بانقضاء العدة، ولقليله حد، وفي الأغلب یکون أسودا غليظا حارا يخرج بحرقة، وقد يشتبه بدم العذرة،

ص: 52


1- وسائل الشيعة : ج 2 باب 101، ج 4، ص 554
2- المعتبر للمحقق الحلي: ج 1، ص 200 - 201

فيعتبر بالقطنة، فإن خرجت مطوقة فهو العذرة، وكل ما تراه الصبية قبل بلوغها تسعاً فليس بحيض.

وكذا قيل: فيما يخرج من الجانب الأيمن. وأقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة، وكذا أقل الطهر.

وهل يشترط التوالي في الثلاثة أم يكفي كونها في جملة عشرة؟ الأظهر الأول.

وما تراه المرأة بعد يأسها لا يكون حيضا. وتيأس المرأة ببلوغ ستين، وقيل: في غير القرشية والنبطية ببلوغ خمسين سنة.

وكل دم رأته المرأة دون الثلاثة فليس بحیض، مبتدئة كانت أو ذات عادة.

وما تراه من الثلاثة إلى العشرة، فما يمكن أن يكون حيضا فهو حيض سواء تجانس أو اختلف. وتصير المرأة ذات عادة بأن ترى الدم دفعة، ثم ينقطع على أقل الطهر فصاعدا، ثم تراه ثانيا بمثل تلك العدة. ولا عبرة باختلاف لون الدم. مسائل خمس:

الأولى: ذات العادة تترك الصلاة والصوم برؤية الدم إجماعا، وفي المبتدئة تردد، الأظهر أنها تحتاط للعبادة حتى تمضي لها ثلاثة أيام.

الثانية: لو رأت الدم ثلاثة أيام ثم انقطع، ورأت قبل العاشر، كان الكل حیضا. ولو تجاوز العشرة، رجعت إلى التفصيل الذي نذكره ولو تأخر بمقدار عشرة أيام ثم رأته، كان الأول حيضا منفردا، والثاني يمكن أن يكون حیضا مستأنفا.

الثالثة: لو انقطع لدون عشرة، فعليها الاستبراء بالقطنة، فإن خرجت نقية اغتسلت، وإن كانت متلطخة صبرت المبتدئة حتی تنقی أو تمضي لها

ص: 53

عشرة أيام. وذات العادة تغتسل بعد يوم أو يومين من عادتها، فإن استمر إلى العاشر وانقطع قضت ما فعلته من صوم. وإن تجاوز كان ما أتت به مجزيا.

الرابعة: إذا طهرت، جاز لزوجها وطؤها، بل الغسل على كراهية.

الخامسة: إذا دخل وقت الصلاة فحاضت، وقد مضى مقدار الطهارة والصلاة، وجب عليها القضاء. وإن كان قبل ذلك لم يجب. وإن طهرت قبل آخر الوقت بمقدار الطهارة وأداء ركعة، وجب عليها الأداء ومع الإخلال القضاء)(1).

ثانياً - أقوال فقهاء المذاهب الأخرى في أقل الحيض وأكثره.

1- المذهب الزيدي:

أ- قال يحیی بن الحسين (ت: 298 ه):

ص: 54


1- مسالك الأفهام: ج 1، ص 55 - 62

(أقل ما يكون وقت الحيض ثلاث ليال، وأكثر ما يكون الحيض عشر ليال، فما كان أقل من ثلاث ليال في وقت الحيض، فهو فساد من الحيض ويجب على المرأة ترك الصلاة فيه، حتی تنقی فإذا نقيت اغتسلت وصلت وصامت، ومن كان منه في غير وقت الحيض فليس بحيض، وهو عارض من مرض، لا يجوز ترك الصلاة لها فيه.

وكذلك فقد يكون الحيض أربعاً وخمساً وستاً وسبعاً وثمانياً وتسعاً وعشراً على قدر ما تعلم النساء من أنفسهن، وما جربنه من حيضهن، فأما إذ جاوز العشر وطال بقاء الدم بهن فهن مستحاضات يفعلن ما تفعل المستحاضة، تقف عن الصلاة في وقت طمثها الذي تعرفه من نفسها، وتغتسل في وقت طهرها الذي تعرفه من نفسها، وتصلي وتصوم، ويأتيها زوجها، ولا تترك الصلاة إلا عشراً، والعشر فهو أكثر الحيض، وما زاد فهو استحاضة لا حيض)(1).

ب- قال أحمد المرتضی (ت: 840 ه):

(وأقله ثلاث، يعني أن مدة الحيض ثلاثة أيام کوامل بلياليها هذا مذهبنا وأكثره عشراً)(2).

ص: 55


1- کتاب الأحکام: ج 1، ص 72
2- شرح الأزهار لأحمد المرتضى: ج 1، ص 152

2- المذهب الشافعي.

للشافعي رأي مخالف لما عليه بعض المذاهب الأخرى في أقل الحيض وأكثره؛ فمما جاء عنه في أقل الحيض وقد صرح بمخالفته لأقوال الناس:

(وخالفنا بعض الناس في شيء من الحيض والاستحاضة) إلى أن يقول (قد رأيت امرأة أثبت لي عنها أنها لم تزل تحيض يوماً ولا تزيد عليه؛ وأثبت لي عن نساء أنهن ولم يزلن يحضن أقل من ثلاث؛ وعن نساء أنهن لم يزلن يحضن خمسة عشر يوماً)(1).

وبهذا يكون قوله في أقل الحيض على ثلاثة أقوال:

أ- أنه يوم وليلة.

ب- يوم بلا ليلة.

ج- أقل من ثلاثة أيام، فقد يكون يومان وليلتين أو ثلاثة ليلي ويومان أو يومان وليلة واحدة، وهذا كله داخل ضمن مدلول ثلاثة أيام، أي: اثنان وسبعون ساعة.

د- أن أكثره خمسة عشر يوماً.

3- المذهب الحنبلي.

قال ابن قدامة المقدسي (ت 620 ه):

وأقل الحيض يوم وليلة؛ وأكثره خمسة عشر يوماً هذا الصحيح من مذهب أبي عبد الله؛ وقال الخلال: مذهب أبي عبد الله لا اختلاف فيه أن أقل

ص: 56


1- كتاب الأم: ج 1، ص 82

الحيض يوم، وأكثره خمسة عشر يوماً، وقيل عنه أكثره سبعة عشر يوماً)(1).

4- المذهب الحنفي.

قال ابن نجیم المصري (ت 920 ه):

(وأقله ثلاثة أيام وأكثره عشرة) والمراد:

إن أقل مدته قدر ثلاثة أيام بلياليها، وأكثره قدر عشرة أيام بلياليها كما صرح به في الوافي)(2).

5- المذهب المالكي.

قال الخطاب الرعيني (ت 950 ه):

(إنّ أقل الحيض غير محدد، فالدفعة حيض وإن أكثره نصف شهر )(3).

6- المذهب الإباضي.

أ- قال الشماخي (ت القرن السابع ه) في الإيضاح:

(إن أقل الحيض عند أكثر أصحابنا ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام، وما دون الثلاثة أيام ليس بحيض عندهم ولا حكم له في ترك الصلاة والصوم ولا في العدة، وكذلك ما بعد العشرة لا حكم له عندهم، وحجتهم في ذلك قوله (عليه السلام) - صلى الله عليه وآله سلم-:

«دعي الصلاة أيام إقرائك».

ص: 57


1- المغني: ج 1، ص 318، باب الحيض
2- البحر الرائق: ج 1، ص 333
3- مواهب الجليل: ج 1، ص 540

والأيام لا تتهيأ إلا من ثلاثة إلى عشرة لأنها من أوزان أقل الجمع، لأنك تقول ثلاثة أيام، وأربعة أيام إلى العشرة، ولا تقول أحد عشر أيام، واستدلوا بحديث النبي (عليه السلام) - صلى الله عليه وآله وسلم -:

(«أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام»(1))(2).

وعند جماعة من أصحابنا أكثر الحيض خمسة عشر يوماً، واختلفوا في أقله، فقال بعضهم ثلاثة أيام، وقال آخرون: يومان)(3).

ب- وقال محمد أطفيش (ت: 1332 ه):

(أقله ثلاثة وأكثره عشر، وعند الثميني خمسة عشر يوماً)(4).

المسألة الثانية: خلاصة القول في المسألة والدليل على صحة أن أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام.

أولاً - في أقل الحيض.

1- ذهب فقهاء الإمامية إلى القول وأجمعوا على ذلك: بإنّ أقل الحيض ثلاثة أيام.

2- وقال الزيدية: أقله ثلاثة ليالٍ.

3- وقال المالكية: إن أقل الحيض غير مناط بالزمن، إذ المناط عندهم دفعة واحدة؛ فقد يكون ساعة أو أقل.

ص: 58


1- شرح كتاب النيل للثميني: ج 1، ص 171، وص 213
2- رواه أبو داود
3- الإيضاح للشاخي: ج 1، ص 192 - 193
4- شرح كتاب النيل لمحمد أطفيش: ج 1، ص 171، وص 213

4- وأختلف فقهاء الشافعية: إن أقله على ثلاثة أقوال:

أ- إنه يوم وليلة، أي (24) ساعة.

ب- إنه يوم بلا ليلة، أي (12) ساعة.

ج- أقل من ثلاثة أيام، فقد يكون يومان وثلاثة ليالٍ، أو يومان وليلتين، أو يومان وليلة واحدة، او يوم واحد وليلتين، أو يوم وليلة؛ وهذا كله داخل ضمن دلالة قولهم: (أقل من ثلاثة أيام).

5- وقال الحنفية: أقل الحيض ثلاثة أيام بلياليها.

6- وقال الحنابلة: يوم وليلة.

7- وعند بعض فقهاء الإباضية يومان.

وقيل: ثلاثة أيام وهو قول أكثر فقهائهم.

ثانياً - في صفة الحيض.

ذهب أكثر فقهاء المذاهب بأن لا مجال للتمييز بين صفاته، أي: بين الصفرة في الدم أو الحمرة.

وقال فقهاء الإمامية في صفته: أسود، أو أحمر، غلیظ، حار، له دافع وهو ما يميزه عن غيره من الدماء، وذلك بحسب النصوص الشريفة الواردة عن أئمة العترة النبوية (عليهم السلام).

ثالثاً - أكثر الحيض.

أما أكثر الحيض فقد اختلفوا فيه أيضاً:

فهو عند الشافعية والمالكية والإباضية على قول خمسة عشر يوماً.

ص: 59

وعند الحنابلة سبعة عشر يوماً.

وعند الإمامية والزيدية والحنفية وعند أكثر فقهاء الإباضية عشرة أيام.

رابعاً - بيان الصحة من هذه الأقوال.

إنَّ بيان الصحة في أقل الحيض وأكثره والذي أقرَّته السُنَّة الشريفة يستلزم الرجوع الى فقه الخلاف وهو ما بيَّنه الشيخ الطوسي (عليه الرحمة والرضوان)، فقال:

(دليلنا إجماع الفرقة فإنهم لا يختلفون في ذلك؛ وروى أحمد بن محمد بن أبي نصير قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن أدنی ما یکون من الحيض؟

فقال (أدناه ثلاثة أيام، وأكثره عشرة)(1).

وروى صفوان بن يحيى(2)، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن أدنى ما يكون من الحيض؟

فقال: «أدنى الحيض ثلاثة وأقصاه عشرة»(3).

ص: 60


1- الكافي للكليني: ج 3، ص 75 حدیث 1
2- صفوان بن يحيى الجبلي، مولاهم أبو محمد، بياع السابري، عده الشيخ الطوسي من اصحاب الإمام الكاظم والإمام الرضا، والإمام الجواد علیهم السلام، وكان من أوثق أهل زمانه عند أصحاب الحديث، وأعبدهم، روى عن أربعين رجلاً من اصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) وقال النجاشي في ترجمته: كوفي ثقة عين؛ وكانت له عند الإمام الرضا (عليه السلام) منزلة شريفة؛ له من التصانیف ما يقرب من الثالثين؛ (مات سنة 210 ه). (ينظر: رجال النجاشي: ص 148
3- الكافي: ج 3، ص 75 حدیث 3

وفي أكثر الحيض الذي اعتمده أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فهو عشرة أيام والذي عُدَّ هو الأساس والضابطة في التفريق بين الحيض وغيره، وفي صحة هذا الحد والدليل عليه قال الشيخ الطوسي (رحمه الله):

(دليلنا: إجماع الفرقة، فإنهم لا يختلفون في ذلك؛ وأيضاً قد ثبت أن الذمة مرتهنة بوجوب العبادات من الصلاة والصيام وغيرها فلا يجوز أن نسقطها إلا بأمر معلوم، والعشرة أيام لا خلاف أنها حيض، وما زاد عليها ليس عليه دليل فوجب نفيه).

المسألة الثالثة: ما يحرم على المرأة الحائض فعله وما يستحب لها أثناء الحيض.

قال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام):

«فَأَمَّا نُقصَانُ إِيمَانِهِنَّ فَقُعُودُهُنَّ عَنِ الصَّلَاةِ والصِّيَامِ فِي أَيَّامِ حَيضِهِنَّ»(1).

نكتفي في هذه المسألة بما بحثه العلامة الحلّي الحسن بن يوسف بن المطهر (المتوفى سنة 726 ه) (عليه الرحمة والرضوان) في التذكرة بما يحرم على المرأة أثناء حيضها، وما يستحب لها، وما يجب عليها، وذكر في ذلك الآراء والمذاهب التي اعتمدها أبناء العامة وفقهائهم، فقد كفانا المؤنة في بحث هذه المسألة، فجزاه الله خيراً، وقد فرّع هذه المسألة بحسب تلك العنوانات إلى عشرة أمور، نورد بعضاً منها وتركنا البعض الآخر: كالجماع في فترة الحيض، والطلاق وذلك لتشعب مسائلها، أما بقية الفروع الثمانية التي تناولها العلّامة الحلي (عليه الرحمة والرضوان) فكانت كالآتي:

ص: 61


1- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: ص 106 الخطبة برقم (80)

الأول:

يحرم عليها ما يفتقر إلى الطهارة كالصلاة فرضا ونفلا، والطواف كذلك، ومس كتابة القرآن، ويكره لها حمل المصحف، ولمس هامشه، وقد تقدم البحث فيه.

ولو تطهرت لم يرتفع حدثها، نعم يستحب لها الوضوء عند كل صلاة، والجلوس في مصلاها ذاكرة الله تعالى، بقدر زمان صلاتها، لقول الصادق (عليه السلام):

«ينبغي للحائض أن تتوضأ عند وقت كل صلاة، ثم تستقبل القبلة فتذكر الله سبحانه بقدر ما كانت تصلي»(1).

ولا يرفع هذا الوضوء حدثا، ولا يبيح ما شرطه الطهارة.

وهل يشترط في الفضيلة عدم الناقض غير الحيض إلى الفراغ؟ إشكال.

الثاني:

يحرم عليها قراءة العزائم وأبعاضها حتى البسملة إذا نوت أنها منها دون غيرها، بل يكره لها ما عداها، لأنها عبادة ذات سجود، فاشترطت لها الطهارة من الحدث الأكبر كالصلاة، وقول الباقر (عليه السلام) وقد سئل الحائض والجنب يقرآن شيئا؟ قال: «نعم ما شاءا إلا السجدة»(2).

وقال الشافعي: تحرم قراءة القرآن مطلقا، وله قول آخر : أنه مكروه، وكره علي (عليه السلام) لها قراءة القرآن، وبه قال الحسن البصري،

ص: 62


1- الكافي: ج3 ، ص 101
2- التهذيب: ج 1، ص 129/ 352، الاستبصار: ج 1، ص 115/ 384

والنخعي، والزهري، وقتادة، ولم يفرقوا بين العزائم وغيرها، وسوغ لها القراءة مطلقا سعيد بن المسيب، وداود، وابن المنذر، ومالك، وقد تقدم.

فروع:

أ- لا يكره لها شيء من الأذكار، لقول الباقر (عليه السلام):

«ويذكران الله على كل حال»(1).

ب- يكره لها قراءة المنسوخ حكمه خاصة دون المنسوخ تلاوته، وكذا يحرم المس.

ج- لو نذرت قراءة العزائم في وقت، فاتفق حيضها فيه لم يجز لها قراءتها، وفي وجوب القضاء إشكال، ينشأ من أنها عبادة موقتة، فلا تجب في غيره كقضاء الصلاة، ومن استلزام نذر المعين المطلق.

الثالث:

الصوم، فلا يصح منها فرضا ولا نفلا، فهو مانع من صحته دون وجوبه، والتحقيق المنع منه، والقضاء تابع لثبوت سببه دونه.

وفي الصلاة تمنع منهما بلا خلاف بين العلماء، لقول النبي صلى الله عليه وآله: «أليست إحداكن إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي»(2).

ومن طريق الخاصة، قول الصادق (عليه السلام) وقد سئل عن امرأة طمثت في شهر رمضان قبل أن تغيب الشمس: «تفطر»(3).

ص: 63


1- التهذيب: ج 1، ص 129/ 352، الاستبصار: ج 1، ص 115/ 384، علل الشرائع: ص 288 باب 210
2- صحیح البخاري: ج 1، ص 83، سنن البيهقي: ج 1، ص 308
3- التهذيب: ج 1، ص 393 / 1215، الاستبصار: ج 1، ص 145/ 498

الرابع:

الاستيطان في المساجد، ذهب إليه علماؤنا، ولا أعرف فيه مخالفا، لأن النبي صلى الله عليه وآله قال:

«لا أحل المسجد لحائض ولا جنب»(1).

ومن طريق الخاصة قول الباقر (عليه السلام):

«إذا كان الرجل نائما في المسجد الحرام أو مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) فأصابته جنابة، فليتيمم، ولا يمر في المسجد إلا متيمما، حتى يخرج منه ويغتسل، وكذلك الحائض تفعل كذلك، ولا بأس أن يمرا في سائر المساجد، ولا يجلسان فيها»(2).

فروع:

أ- يكره الاجتياز في المساجد مع أمن التلويث، وهو أحد وجهی الشافعي، والآخر: التحريم، إلا المسجدين فإنه يحرم کما قلنا في الجنابة.

ب- لا بأس لها أن تأخذ شيئا من المساجد، ويحرم عليها الوضع، لأن حدثها أعظم من الجنابة، وسأل زرارة الباقر (عليه السلام): كيف صارت الحائض تأخذ ما في المسجد ولا تضع فيه؟ فقال:

«إنَّ الحائض تستطيع أن تضع ما في يدها في غيره، ولا تستطيع أن تأخذ ما فيه إلا منه»(3).

ص: 64


1- سنن أبي داود: ج 1، ص 60 / 232، سنن ابن ماجة: ج 1: ص 212/ 645
2- الكافي: ج 3، ص 73 / 14
3- الكافي: ج 3، ص 106/ 1، التهذيب: ج 1، ص 397/ 1233

ج- لو حاضت في أحد المسجدين ففي افتقارها إلى التيمم في خروجها منه إشكال، وأوجبه ابن الجنيد، وبه رواية مرسلة سلفت.

الخامس:

يجب عليها الغسل عند الانقطاع لتأدية العبادات المشروطة بالطهارة بإجماع علماء الأمصار، وهو شرط في صحة الصلاة إجماعا، وفي الطواف عندنا خلافا لأبي حنيفة(1).

وهل هو شرط في صحة الصوم، بحيث لو أخلت به ليلا حتى أصبحت بطل صومها؟ الأقرب ذلك لعدم قصوره عن الجنابة.

ولقول الصادق (عليه السلام):

«إن طهرت بليل من حيضها ثم توانت أن تغتسل في رمضان حتى أصبحت عليها قضاء ذلك اليوم»(2).

وبدن الحائض طاهر عند علمائنا كبدن الجنب، وهو قول أكثر الجمهور(3)، لقوله (عليه السلام):

«لیست حيضتك في يدك»(4).

ص: 65


1- المغني: ج 3، ص 397، الشرح الكبير: ج 3، ص 409
2- التهذيب: ج 1، ص 293/ 1213
3- المجموع: ج 2، ص 150، المغني: ج 1، ص 244، الشرح الكبير: ج 1، ص 260
4- صحيح مسلم: ج 1، ص 245 / 299، سنن ابن ماجة: ج 1، ص 207/ 632، سنن أبي داوود، ص 68/ 161، سنن النسائي: ج 1، ص 146 و 192، سنن الترمذي: ج 1، 241 - 242 / 134، سنن الدارمي: ج 1، ص 248، مسند أحمد: ج 2، ص 70، سنن البيهقي: ج 1، ص 189، معرفة السنن والآثار: ج 1، ص 441

وقال أبو يوسف: بدن الحائض والجنب نجس(1).

السادس:

يجب عليها قضاء الصوم دون الصلاة بالإجماع، وقالت عائشة: كنا نحيض على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة(2).

ومن طريق الخاصة قول الباقر (عليه السلام) في الحائض:

«ليس عليها أن تقضي الصلاة وعليها أن تقضي صوم شهر رمضان»(3).

ولأن الصلاة متكررة فيلزم الحرج بقضائها دون الصوم.

السابع:

يحرم عليها سجود التلاوة لو سمعت العزائم عند الشيخ(4) - وبه قال الشافعي، ومالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وأكثر الجمهور(5)- لقوله (عليه السلام): «لا يقبل الله صلاة بغير طهور»(6) فيدخل في عمومه السجود، ولأنه

ص: 66


1- صحيح مسلم: ج 1، ص 265 / 69، سنن أبي داود: 68/ 262 و 69 / 263، سنن الترمذي: ج 1، ص234/ 130
2- صحيح مسلم: ج 1، ص 265 / 69، سنن أبي داود: 68 / 262 و 69 / 263، سنن الترمذي: ج 1، ص 234/ 130
3- الكافي 3: 104 / 3، التهذيب 1: 160 / 459
4- الشيخ الطوسي في النهاية: ص 25
5- المجموع: ج2 ، ص 367، مغني المحتاج: ج 1، ص 217، المبسوط للسرخسي: ج 2، ص 132، شرح فتح القدير: ج 1، ص 468، المغني: ج 1، ص 685، الشرح الكبير: ج 1، ص 813
6- صحیح مسلم: ج1 ، ص 204 / 224، سنن النسائي: ج 1، ص 87 - 88، سنن ابن ماجة: ج 1، ص 100/ 271 - 274، سنن الدارمي: ج 1، ص 175، مسند أحمد: ج 2، ص 20 و 51 و 73

سجود فيشترط فيه الطهارة كسجود السهو.

وسجود الصلاة ليس كسجود التلاوة، سلمنا، لكن لا يلزم من الوجوب في الصلاة الوجوب في أجزائها، والفرق بينه وبين سجود السهو كون المأتي جزءا من الصلاة إن سلمنا الحكم فيه.

وقال بعض علمائنا بجوازه(1) وهو المعتمد، لإطلاق الأمر بالسجود، واشتراط الطهارة ينافيه، ولقول الصادق (عليه السلام):

«إذا قرئ شيء من العزائم الأربع وسمعتها فاسجد وإن كنت على غير وضوء وإن كنت جنبا وإن كانت المرأة لا تصلي، وسائر القرآن أنت فيه بالخيار إن شئت سجدت وإن شئت لم تسجد»(2).

إذا ثبت هذا فإن السجود هنا واجب إذا تلت أو استمعت، إذ جوازه يستلزم وجوبه، أما السامع ففي الإيجاب عليه نظر، أقربه العدم، لأن الصادق (عليه السلام) سئل عن رجل سمع السجدة؟ قال:

«لا يسجد إلا أن يكون منصتا لقراءته مستمعا»(3).

ومراده إسقاط الوجوب لا استحباب السجود، بل يستحب سواء كان من العزائم أو لا. وهل يمنع منه الحائض والجنب؟ روايتان: المنع اختاره في النهاية(4)، لأن أبا عبد الله (عليه السلام) سئل عن الحائض تقرأ القرآن وتسجد السجدة، إذا سمعت السجدة؟ فقال:

ص: 67


1- هو المحقق في المعتبر: ص 60
2- الكافي: ج 3، ص 318 / 2، التهذيب: ج 2، ص 291 / 1171
3- الكافي: ج 3، ص 318 / 3، التهذيب: ج 2، ص 291 / 1169
4- النهاية: ص 25

«تقرأ ولا تسجد»(1).

والجواز اختاره في المبسوط(2) لما تقدم في الرواية(3).

وقال عثمان بن عفان في الحائض تسمع السجدة: تومئ برأسها، وبه قال سعيد بن المسيب(4)، وعن الشعبي: يسجد حيث كان وجهه(5).

تذنيب: لو سمع السجود وهو على غير طهارة لم يلزمه الوضوء ولا التيمم - وبه قال أحمد(6)- لأنا قد بينا أن الطهارة ليست شرطا.

واحتج أحمد بأنها تتعلق بسبب فإذا فات لم يسجد، كا لو قرأ سجدة في الصلاة فلم يسجد لم يسجد بعدها.

وقال النخعي: يتيمم ويسجد، وعنه: يتوضأ ويسجد، وبه قال الثوري وإسحاق وأصحاب الرأي(7).

قال أحمد: فإذا توضأ لم يسجد لأنه فات سببها(8).

ولا يتيمم لها مع وجود الماء، لأن شرطه فقدان الماء، وإن كان عادما للماء فتيمم فله أن يسجد إذا لم يل، لأنه لم يفت سببها ولم يفت محلها بخلاف الوضوء.

ص: 68


1- التهذيب: ج 2، ص 292 / 1172، الاستبصار: ج 1، ص 320/ 1193
2- المبسوط للطوسي: ج 1، ص 114
3- الكافي: ج 3: ص 318 / 2، التهذيب: ج 2، ص 291 / 1171
4- المغني: ج 1: ص 685، الشرح الكبير: ج 1، ص 813
5- المغني: ج 1: ص 685، الشرح الكبير: ج 1، ص 813
6- المغني: ج 1، ص 686، الشرح الكبير: ج 1، ص 813
7- المبسوط للسرخسي: ص 2: 4، المغني: ج 1، ص 686، الشرح الكبير: ج 1، ص 813
8- المغني: ج 1، ص 686، الشرح الكبير: ج 1، ص 814

الثامن:

يكره لها الخضاب، ذهب إليه علماؤنا أجمع لقول الصادق (عليه السلام):

«لا تختضب الحائض ولا الجنب»(1).

وليس للتحريم، لأن أبا إبراهيم (عليه السلام) سئل تختضب المرأة وهي طامث؟ فقال: «نعم»(2).

ولا بأس أن تكون مختضبة ثم يجيئها الحيض، بأن تختضب قبل عادتها)(3).

أما ما أرتبط بالحديث من جوانب اخلاقية وسلوكية وشورح نتناوله في المسألة القادمة.

المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

أولاً - ماجاء من بيان للحديث عند مصنف نهج البلاغة وجامعه.

قال الشريف المرتضى (رحمه الله) (ت 436 ه) في بيان معنى كونهم ناقصات الدين، وغير ذلك مما ورد في حديثه (عليه السلام)، وقد ورد إليه سؤال مفاده:

(ما معنى ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) وهو مشير إلى النساء لما أرادوا إلى نقص عقل ودين أصلب اللب الحكيم منهنّ؟ الجواب: قد قيل:

ص: 69


1- التهذيب: ج 1، ص 182/ 521؛ الاستبصار: ج 1، ص 116/ 388
2- الكافي: ج 3، ص 109/ 2؛ التهذيب: ج 1، ص 182/ 523
3- تذكرة الفقهاء: العلامة الحلي: ج 1، ص 261 - 273

إن معنى نسب النساء إلى نقصان الدين: أنهن يقعدن من الصلاة والصيام أيام حيضهن الذي هو على الأكثر كل شهر، فيحر من ثواب هاتين العبادتين الجليلتين، وهذا لا يوجد في الرجال. وأما نقصان العقل، فمعلوم أن النساء أندر عقولا من الرجال، وأن النجابة والليانة إنما يوجدان فيهن في النادر الشاذ، وعقلاء النساء وذوات الحزم والفطنة منهن معدودات، ومن بهذه الصفة من الرجال لا تحصى كثرة. وقد يمكن أيضا أن يقال في نقصان الدين مثل هذا الوجه، فإنه لما كان الأغلب عليهن ضعف الدين وقلة البصيرة فيه، نسب إليهن ذلك على الأكثر الأغلب.

ولا يطعن على هذا الوجه من علمناه على غاية العقل في الدين والكمال فيما يعود إليه، مثل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وعليها، وخديجة بنت خويلد، ومريم بنت عمران. لأن كلامنا على الأغلب الأكثر، ومن عرفناه بالفضل في الدين من النساء قليل العد عسر الوجود.

وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال بعد فراغه من حرب الجمل في ذم النساء:

«معاشر الناس، النساء نواقص الإيمان، نواقص الحظوظ، نواقص العقول، فأما نقصان إيمانهن فقعودهن عن الصلاة والصيام في أيام حيضهن، وأما نقصان عقولهن فشهادة الإمرأتين كشهادة الرجل الواحد، وأما نقصان حظوظهن فمواريثهن على الأنصاف من مواريث الرجال. فاتقوا شرار النساء، وكونوا من خيارهن على حذر، ولا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر»(1).

ص: 70


1- رسائل الشريف المرتضى: ج 3، ص 123 - 124

ثانياً - ما جاء من شروح للحديث لدي شرّاح نهج البلاغة.

1- قال ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه) في شرحه للحديث الشريف:

جعل (عليه السلام) نقصان الصلاة نقصاناً في الإيمان، وهذا هو قول أصحابنا: إن الأعمال من الإيمان، وإن المقرّ بالتوحيد والنبوّة وهو تارك للعمل ليس بمؤمن.

وقوله (عليه السلام):

«ولا تطيعوهن في المعروف».

ليس بنهي عن فعل المعروف، وإنما هو نهی عن طاعتهن، أي لا تفعلوه لأجل أمرهن لكم به، بل افعلوه لأنه معروف، والكلام ينحو نحو المثل المشهور: لا تعط العبد كراعا فيأخذ ذراعا.

وهذا الفصل كله رمز إلى عائشة، ولا يختلف أصحابنا في أنها أخطأت فيما فعلت ثم تابت وماتت تائبة، وأنها من أهل الجنة.

قال كل من صنف في السير والاخبار: إن عائشة كانت من أشد الناس على عثمان، حتى إنها أخرجت ثوبا من ثياب رسول الله صلى الله عليه وآله، فنصبته في منزلها، وكانت تقول للداخلين إليها: هذا ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبل، وعثمان قد أبلى سنته.

قالوا: أول من سمى عثمان (نعثلا) عائشة، والنعثل: الكثير شعر اللحية والجسد، وكانت تقول: اقتلوا نعثلا، قتل الله نعثلا!

وروى المدائني في كتاب الجمل، قال:

ص: 71

(لما قتل عثمان، كانت عائشة بمكة، وبلغ قتله إليها وهي بشراف، فلم تشك في أن طلحة هو صاحب الامر، وقالت: بعدا لنعثل وسحقا! إيه ذا الإصبع! إيه أبا شبل! إيه ابن عم! لكأني أنظر إلى إصبعه وهو يبايع له: حثوا الإبل ودعدعوها.

قال: وقد كان طلحة حين قتل عثمان أخذ مفاتیح بیت المال، وأخذ نجائب كانت لعثمان في داره، ثم فسد أمره، فدفعها إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام))(1).

2- قال ابن میثم البحراني (رحمه الله) (ت: 679 ه) في شرحه للحديث:

(لما كانت واقعة الجمل وما اشتملت عليه من هلاك جمع عظیم من المسلمين منسوبا إلى رأى امرأة أراد أن ينبّه على وجوه نقصان النساء وأسبابه فذكر نقصانهنّ من وجوه ثلاثة:

أحدها: کونهنّ نواقص الایمان وأشار إلى جهة النقص فيه بقعود إحداهنّ عن الصلاة والصوم أيّام الحيض، ولمّا كان الصوم والصلاة من كمال الإيمان ومتمّمات الرياضة كان قعودهنّ عن الارتياض بالصوم والصلاة في تلك الأيّام نقصانا لإيمانهن، وإنّما رفعت الشريعة التكليف عنهنّ بالعبادتين المذكورتين لكونهنّ في حال مستقذرة لا يتأهّل صاحبها للوقوف بين يدي الملك الجبّار، ويعقل للصوم وجه آخر وهو أنّه يزيد الحائض إلى ضعفها ضعفا بخروج الدم. وأسرار الشريعة أدقّ وأجلّ أن يطَّلع عليها عقول سائر الخلق.

الثاني: كونهنّ نواقص حظَّ، وأشار إلى جهة نقصانه بأنّ ميراثهنّ على النصف من ميراث الرجال كما قال تعالى:

ص: 72


1- شرح نهج البلاغة، المعتزلي: ج 6، ص 214 - 215

«يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ»(1).

والَّذي يلوح من سرّ ذلك كثرة المئونة على الرجل وهو أهل التصرّف وكون المرأة من شأنها أن تكون مكفولة محتاجة إلى قيّم هولها كالخادم.

الثالث: کونهنّ نواقص عقول ولذلك سبب من داخل وهو نقصان استعداد أمزجتهنّ، وقصورهنّ عن قبول تصرّف العقل کما يقبله مزاج الرجل کما نبّه تعالى عليه بقوله:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ»(2).

فإنّه نبّه على ضعف القوّة الذاكرة فيهنّ، ولذلك جعل شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد، وله أيضا سبب عارض من خارج وهو قلَّة معاشرتهنّ لأهل العقل والتصرّفات وقلَّة رياضتهنّ لقواهنّ الحيوانيّة بلزوم القوانين العقليّة في تدبير أمر المعاش والمعاد ولذلك كانت أحكام القوى الحيوانيّة فيهنّ أعلب على أحكام عقولهنّ فكانت المرأة أرق وأبكي وأحسد وألجّ وأبغي وأجزع وأوقح وأكذب وأمكر وأقبل للمكر وأذكر لمحقّرات الأمور ولكونها بهذه الصفة اقتضت الحكمة الإلهيّة أن يكون عليها حاکم ومدبّر تعيش بتدبيره وهو الرجل فقال تعالى:

«الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ»(3).

ص: 73


1- النساء: 11
2- البقرة: 282
3- النساء: 34

ولشدّة قبولها للمكر وقلَّة طاعتها للعقل مع كونها مشتركة وداعية إلى نفسها اقتضت أيضا أن يسنّ في حقّها التستّر والتخدّر.

وقوله: «فاتّقوا شرار النساء وكونوا من خيارهنّ على حذر».

لمّا نبّه على جهة نقصانهنّ، وقد علمت أنّ النقصان يستلزم الشرّ لا جرم نفّر عنهنّ فأمر أوّلا بالخشية من شرارهنّ وهو يستلزم الأمر بالهرب منهنّ وعدم مقاربتهنّ فأمّا خيارهنّ فإنّه أمر بالكون منهنّ على حذر. ويفهم من ذلك أنّه لا بدّ من مقاربتهنّ، وكان الإنسان إنّما يختار مقاربة الخيرة منهنّ فينبغي أن يكون معها على تحرّز وتثبّت في سياستها وسياسة نفسه معها إذ لم تكن الخيرة منهنّ خيرة إلَّا بالقياس إلى الشريرة.

ثمّ نهی عن طاعتهنّ بالمعروف کیلا يطمعن في المنكر، وأشار به إلى طاعتهنّ فيما يشرن به ويأمرن مطلقا وإن كان معروفا صوابا، وفيما يطلبنه من زيادة المعروف والإحسان إليهنّ وإكرامهنّ بالزينة ونحوها فإنّ طاعة امرائهنّ فيما یشرون من معروف تدعوهنّ إلى الشور بما لا ينبغي، والتسلَّط على الأمر به فإن فعل فليفعل لأنّه معروف لا لأنّه مقتضى رأيهنّ.

وزيادة إكرامهنّ من مقوّیات دواعي الشهوة والشرّ فيه حتّى ينتهي بهنّ الطمع إلى الاقتراح وطلب الخروج إلى المواضع الَّتي يرى فيها زينتهنّ ونحو ذلك إذ العقل مغلوب فيهنّ بدواعي الشهوات.

وفي المثل المشهور: لا تعط عبدك كراعا فيأخذ ذراعا.

وروى: أنّ رسول (صلى الله عليه وآله وسلَّم) كان يخطب يوم عيد فالتفت إلى صفوف النساء فقال:

ص: 74

«معاشر النساء تصدّقن فإنّي رأيتكن أكثر أهل النار عددا».

فقالت واحدة منهنّ: ولم يا رسول الله ؟ فقال (صلى الله عليه و آله وسلم):

«لأنكنّ تكثرن اللعن، وتكفّرن العشير، وتمكث إحداكنّ شطر عمرها لا تصوم ولا تصلَّي»(1).

ثالثاً - خلاصة القول فيما جاء في شروح نهج البلاغة.

أتفق شراح نهج البلاغة على أن المقصود من بيان أمر النساء والركون إلى رأيهن هي عائشة.

1- إنَّ قول ابن أبي الحديد في توبة عائشة بعد خروجها لحرب الإمام علي (عليه السلام) فمردود بالنص والعقل، فإما بالنص فإن من ناصب لعلي العداء والحرب فقد حارب الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بدلیل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأهل بيته:

«إني سلم لمن سالمکم وحرب لمن حاربکم»(2).

أما العقل فلا دليل قطعي على حدوث التوبة وهو برتبة الدليل الظني وما يغني الظن من الحق شيئاً.

فهب أنها تابة بعد حربها لله ورسوله (صلى الله عليه وآله) بهذا الخروج الى الجمل فأمر القبول لهذه التوبة هو بيد الله وحده ومن ثم، من أين علم ابن أبي الحديد وغيره بأنها ستدخل الجنة فأمرها إلى الله تعالى.

ص: 75


1- شرح نهج البلاغة: البحراني، ج 2، ص 223 - 225
2- مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي: ص 774؛ المهذب، القاضي ابن البراج: ج 1، ص 290

1- أتفق شراح نهج البلاغة أيضاً على أن المقصود من نصان إيمانهم وعقولهن وحظوظهن، هو جلوسهن في فترة الحيض على الصلاة والصيام وقل ما يستلزم الطهر فرضاً ونقلاً.

2- أما تحذيره (عليه السلام) من شرار النساء لميول طبعهن إلى هوى النفس والركون إلى غرائزها واحتياج الرجال لهن بما تفرضه الحاجة الغريزية الذكورية فيهم فيقادون الى رغبات النساء واملاءاتهن.

3- أما التحذير من خيار النساء فكي لا يطمعن في نيل المزيد من الرغبات فيقعن في المنكر فيجر الرجل إلى ذلك.

ص: 76

المبحث الثالث: آداب الحمام والتنظيف والزينة والخضاب

في هذا المبحث الذي حمل عنوان (آداب الحمام والتنظيف) فقد اعتمدنا فيه على المنهج المتبع في كتب الفقه في تخصیصه ضمن كتاب الطهارة و حيث أننا ملتزمون فيما ورد في كتاب نهج البلاغة حصراً دون بقية الأحاديث العلوية الشريفة فقد ورد في هذا المبحث عنوان واحد وهو ال (الخضاب)، فقد سُئِلَ (عليه الصلاة والسلام) عن قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«غَيِّرُوا الشَّيْبَ، وَ لاتَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ»(1)، فقال (عليه السلام):

«إِنَّمَا قَالَ (صلى الله عليه و آله وسلم) ذَلِكَ وَ الدِّينُ قُلٌّ، فَأَمَّا الْآنَ وَ قَدِ اتَّسَعَ نِطَاقُهُ وَ ضَرَبَ بِجِرَانِهِ، فَامْرُؤٌ وَ مَا اخْتَارَ»(2).

وقيل له (عليه السلام): (لو غیرت شیبك يا أمير المؤمنين؟ فقال (عليه الصلاة والسلام):

«اَلْخِضَابُ زِینَةٌ وَ نَحْنُ قَوْمٌ فِی مُصِیبَةٍ».

یرید وفاة رسول الله (صلى الله علیه و آله)(3).

ص: 77


1- الخصال للشيخ الصدوق: ص 498؛ مسند أحمد: ج 1، ص 165
2- نهج البلاغة: الحكمة 14، ص 705، بتحقيق الشيخ قيس العطار، ط العتبة العلوية؛ وبتحقيق صبحي الصالح: ص 5؛ وسائل الشيعة ال البيت عليهم اسلام: ج 2، ص 87
3- نهج البلاغة تحقيق صبح الصالح: ص 558

والحديثان يقودان إلى دراسة جملة من المسائل منها:

المسألة الأولى: معنى الخضاب لغة.

قال ابن منظور:

(الخِضابُ: ما يُخضَبُ به مِن حِنَّاءٍ، وكَتَمٍ ونحوه.

وفي الصحاحِ: الخِضابُ ما يُختَضَبُ به.

واختَضَب بالحنَّاءِ ونحوه، وخَضَبَ الشيءَ يَخضِبُه خَضباً، و خَضَّبَه: غيَّر لونَه بحُمرَةٍ، أَو صُفرةٍ، أَو غيرِهما.

قال الأَعشى:

أرى رجلا، منكم، أسيفاً، كأنما *** يُضم إلى كشحيه، كفا مخضباً

ذَکَّر على إرادة العُضوِ، أَو على قوله:

فلا مُزنةٌ ودَقَت وَدقَها *** ولا أَرضَ أَبقَلَ إنقالَها

ويجوز أن يكون صفةً لرجلٍ، أَو حالاً من المضمَر في يَضُمَّ، أَو المخفوضِ في کَشحَيه، وخَضَبَ الرَّجلُ شَيبَه بالحِنَّاءِ يَخضِبُه؛ والخِضابُ: الاسم.

قال السهيلي: عبدُ المطَّلب أَوّلُ مَن خَضَبَ بالسَّوادِ من العرب.

ويقال: اختَضَبَ الرَّجلُ واختَضَبَتِ المرأَةُ، من غير ذكر الشَّعَرِ.

وكلُّ ما غُيِّرَ لَونه، فهو مَخضُوبٌ، وخَضِيبٌ، وكذلك الأَنثى، يقال: کَفٌّ خَضِيبٌ، وامرأَةٌ خَضِيبٌ، الأَخيرة عن اللِّحياني، والجمع خُضُبٌ.

ص: 78

التهذيب: كلُّ لونٍ غَيَّر لونَه حُمرةٌ، فهو مَخضُوبٌ.

وفي الحديث: بَکَی حَتی خَضَبَ دَمْعُهُ الحَصَی؛ قال ابنُ الأَثِیر:ِ أَی بَلَّهَا، مِنْ طَرِیقِ الاسْتِعَارَةِ؛ قال: و الأَشْبَهُ أَن یکونَ أَرادَ المبالغةَ فی البُکَاءِ، حتی احْمَرَّ دَمعُه، فخَضَبَ الحَصَی.

والكَفُّ الخَضِیبُ: نَجمٌ على التَّشبِيه بذلك، وقد اختَضَبَ بالحِنَّاءِ ونحوه وتَخَضَّبَ، واسمُ ما یُخضَبُ به: الخِضابُ، والخُضَبةُ، مثال الهُمَزِة: المرأَةُ الكثيرةُ الاختِضابِ، وبنانٌ خَضيب مُخَضَّبٌ، شُدِّد للمبالغةِ)(1).

المسألة الثانية: أحكام الخضاب عند فقاء المذهب الإمامي.

تناول فقهاء الامامية (اعلى الله مقامهم) الخضاب في مصنفاتهم الفقهية، فكان منها:

1- العلامة الحلي رحمه الله) (ت 726 ه):

في تحرير الاحکام، فقال في الفصل الرابع من كتاب الطهارة وتحت عنوان: (آداب الحمام وغيره):

التاسع: يستحب الخضاب.

قال رسول الله (صلى الله علیه و آله):

«من أطلى واختضب بالحناء، آمنه الله عز وجل من ثلاث خصال: الجذام والبرص والأكلة إلى طلية مثلها»(2).

ص: 79


1- لسان العرب لابن منظور: ج 1، ص 358
2- وسائل الشيعة، باب: 35 من أبواب آداب الحمام، الحديث 7

وقال الصادق (عليه السلام):

«الخضاب بالسواد أنس للنساء، ومهابة للعدو»(1).

وقال (عليه السلام): في قوله تعالى «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ»:

«منه الخضاب بالسواد، وقتل الحسين بن عليّ (عليه السلام) وهو مخضوب بالوسمة».

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام):

«يا علي درهم في الخضاب أفضل من ألف درهم في غيره في سبيل الله، وفيه أربع عشرة خصلة:

يطرد الرّيح من الأُذنين، ويجلو البصر، ويلين الخياشيم، ويطيب النكهة، ويشدّ اللّثة، ويذهب بالصّفار، ويقلّ وسوسة الشيطان، وتفرح به الملائكة ويستبشر به المؤمن، ويغيظ به الكافر، وهو زينة وطيب، ويستحي منه منکر ونكير، وهو براءة له في قبره»(2).

2- المحقق البحراني (رحمه الله) (ت 1186 ه):

ص: 80


1- نفس المصدر السابق: الباب: 46، الحديث 3
2- تحرير الأحكام: ج 1، ص 73

قال في الحدائق الناضرة في مسألة الاستدلال بالأخبار الواردة في الحمام، فقال:

(روي في الكافي والفقيه عن الحسن بن الجهم، قال:

دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) وقد اختضب بالسواد فقلت أراك اختضبت بالسواد؟ فقال:

«إن في الخضاب أجراً، والخضاب والتهيئة مما يزيد الله به في عفة النساء، ولقد ترك النساء العفة بترك أزواجهن لهن التهيئة».

قال، قلت له: بلغنا أن الحناء يزيد في الشيب؟

فقال: «أي شيء يزيد في الشيب، الشيب يزيد في كل يوم».

ص: 81

وعن مسكين أبي الحكم عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:

جاء رجل الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنظر الى الشيب في لحيته، فقال النبي (صلى الله عليه وآله):

«نور».

ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

«من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيام».

قال: فخضب الرجل بالحناء ثم جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما رأى الخضاب، قال:

«نور واسلام».

فخضب الرجل بالسواد فقال النبي (صلى الله عليه وآله):

«نور واسلام وايمان ورغبة إلى نسائكم، ورهبة في قلوب عدوكم».

وعن العباس بن موسى الوراق عن أبي الحسن (عليه السلام)(1) قال: دخل قوم على أبي جعفر (عليه السلام) فرأوه مختضبا بالسواد فسألوه فقال:

«إني رجل أحب النساء وأنا أتصنع لهن»(2).

وعن خالد الزيدي عن أبي جعفر (عليه السلام)(3) قال:

«دخل قوم على الحسين بن علي (عليه السلام) فرأوه مختضبا بالسواد فسألوه عن ذلك فمد يده إلى لحيته ثم قال:

ص: 82


1- رواه في الوسائل في الباب 41 من آداب الحمام
2- الكافي للشيخ الكليني: ج 6، ص 480
3- رواه في الوسائل في الباب 46 من آداب الحمام

«أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) في غزاة غزاها أن يختضبوا بالسواد ليقووا به على المشركين».

وعن إبراهيم بن عبد الحميد في الصحيح أو الحسن عن أبي الحسن (عليه السلام) قال:

«في الخضاب ثلاث خصال: مهيبة في الحرب، ومحبة إلى النساء، ويزيد في الباه».

وعن محمد بن عبد الله بن مهران عن أبيه رفعه قال:

قال النبي (صلى الله عليه وآله):

«نفقة درهم في الخضاب أفضل من نفقة مائة درهم في سبيل الله أن فيه أربع عشرة خصلة:

يطرد الريح من الأذنين ويجلو الغشاء من البصر ويلين الخياشيم ويطيب النكهة ويشد اللثة ويذهب بالغشيان ويقل وسوسة الشيطان وتفرح به الملائكة ويستبشر به المؤمن ويغيظ به الكفر وهو زينة وطيب وبراءة في قبره ويستحيى منه منكر ونكير».

وروى في الفقيه مرسلا قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام):

«یا علي درهم في الخضاب أفضل من ألف درهم في غيره في سبيل الله، وفيه أربع عشرة خصلة.. الحديث» وقال بدل (الغشيان) (الضنى) وفي بعض النسخ (الصفار).

بيان: والغشيان خبث النفس وألا تطيب، والضنى الهزال، والصفار كغراب الماء الأصفر يجتمع في البطن.

ص: 83

وروى في الكافي عن الحلبي في الصحيح، قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن خضاب الشعر؟ فقال:

«قد خضب النبي (صلى الله عليه وآله) والحسين بن علي وأبو جعفر (عليه السلام) بالكتم».

قيل: الكتم محركة نبات يخلط بالوسمة يختضب به.

وعن معاوية بن عمار في الصحيح أو الحسن قال:

(رأيت أبا جعفر (عليه السلام) مخضوبا بالحناء).

بيان: ظاهر هذا الخبر مطلق في خضاب لحيته أو يديه ورجليه كما تقدمت الإشارة إليه.

وعن معاوية بن عمار في الصحيح قال: (رأيت أبا جعفر (عليه السلام) يختضب بالحناء خضابا قانيا). أقول: وهذا كذلك.

وعن حفص الأعور قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن خضاب اللحية والرأس أمن السنة؟

فقال: «نعم». قلت: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يختضب، فقال:

«إنما منعه قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّ هذه ستخضب من هذه».

وعن عبد الله بن سنان في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:

«خضب النبي (صلى الله عليه وآله) ولم يمنع عليا (عليه السلام) إلا قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «تخضب هذه من هذه»، وقد خضب الحسين وأبو جعفر (عليهما السلام)».

ص: 84

بيان: الظاهر أن المراد من هذين الخبرين المذكورين أنه لما أخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن لحيته ستخضب من دم رأسه وخضابها بذلك، حقيقة لا يكون إلا مع بياضها، ثم احمرارها بالدم، وإلا فلو كانت سوداء ثم جرى عليها الدم لم يصدق الخضاب إلا بنوع من التجوز ترك (عليه السلام) الخضاب وجعلها بيضاء انتظارا لما وعده به، ليقع كلامه (صلى الله عليه وآله على وجه الحقيقة لا المجاز، لعن الله الفاعل لذلك والراضي به لعنا يستعيذ منه أهل النار في النار(1).

ويعضد ما ذكرناه ما رواه في كتاب العلل بسنده فيه عن الأصبغ بن نباتة قال:

قلت لأمير المؤمنين (عليه السلام): ما يمنعك من الخضاب وقد اختضب رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال:

«انتظر أشقاها أن يخضب لحيتي من دم رأسي بعهد معهود أخبرني به يبي رسول الله (صلى الله عليه وآله)».

والأخبار في هذا الباب كثيرة يقف عليها من يرجع إليها)(2).

3- الشيخ جعفر كاشف الغطاء (رحمه الله) (ت 1228 ه):

قال في كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة في باب المندوبات في الحمام:

(ثانيها: خضاب اللحية خصوصاً يتأكد الخضاب للنساء، وللقاء الأعداء، وأدناه الصفرة، وأوسطه الحمرة، وأفضله السواد؛ والظاهر أن الكتم وحده أو

ص: 85


1- اللهم آمين
2- الحدائق الناضرة: ج 5، ص 550 - 553

مع الحناء له مزيد رجحان، واستحبابه للمرأة في الكفين لا كلام فيه، ويوقي رجحانه للرجال للتزين للنساء)(1).

وفي هذه الأقوال كفاية في بيان استحباب الخضاب لما ارتبط به من آثار نفسية وصحية واخلاقية وأسرية كما في العلاقة الزوجية.

أما ما جاء في المدارس الفقهية الأخرى فكان على النحو الآتي في المسألة القادمة.

المسألة الثالثة: أحكام الخضاب عند فقهاء المذاهب الأخرى.

تباينت الأحكام في المدارس الإسلامية الفقهية في أحكام الخضاب بين الحرمة بقصد الزينة للرجال، وبين الحرمة في اللون وهو السواد، أو إرجاع الجواز إلى الحاجة في استخدامه؛ وبين الكراهة والاستحباب؛ وهو ما سنعرض له في التفريعات الآتية:

1- المذهب الزيدي:

قال أحمد المرتضى في شرح الأزهار (ت 840 ه):

(من خضب غير الشيب فأما الشيب فيجوز، وتركه أفضل لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأما الشيب نور فمن شاء أن يطفيه فليطفئه).

وحاصل الكلام في خضاب اليدين والرجلين من الذكر المكلف أن نقول لا يخلوا اما أن يفعله لحاجة إليه من منفعة أو دفع مضرة أولا ان فعله لحاجة فلا خلاف في جوازه وان فعله لمجرد الزينة فالمذهب تحريمه لأنه مختص بالنساء.

ص: 86


1- کشف الغطاء: ج 2، ص 413

وقيل:

أنه يجوز للرجال لغير حاجة.

وهل يمنع الصغير من الحناء عندنا؟ مفهوم كلام الفقيه في تذكرته لا يمنع قال مولانا: وظاهر كلام أهل المذهب خلافه وهي أنه يمنع الصغير منه كالحلي)(1).

2- المذهب الشافعي: تحريم الخضاب بالسواد، وجوازه للمجاهد.

يرى فقهاء المذهب الشافعي ان الحرمة تدور مدار اللون فهو محرم أي الخاضب إذا كان الخضاب قد استخدم في خضابه اللون الأسود ويحل هذا اللون للمجاهد، وفي ذلك يقول الحافظ النووي (ت: 176 ه):

(اتفقوا على ذم خضاب الرأس واللحية بالسواد؛ وقال الغزالي في الأحياء والبغوي في التهذيب وآخرون من الأصحاب هو مكروه، وظاهر عباراتهم أنه كراهة تنزيه؛ والصحيح بل الصواب أنه حرام وممن صرح بتحريمه صاحب الحاوي في باب الصلاة بالنجاسة:

قال إلا أن يكون في الجهاد: وقال في آخر كتابه الأحكام السلطانية يمنع المحتسب الناس من خضاب الشيب بالسواد الا المجاهد: ودليل تحريمه حديث جابر قال أتي بأبي قحافة والد أبي بكر الصديق يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضا فقال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] و وسلم):

«غيروا هذا واجتنبوا السواد»؛ رواه مسلم في صحيحه، والثغامة بفتح الثاء المثلثة وتخفيف الغين المعجمة: نبات له ثمر أبيض.

ص: 87


1- شرح الأزهار، الإمام أحمد المرتضى: ج 4، ص 113

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم):

«يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة رواه أبو داود والنسائي وغيرهما ولا فرق في المنع من الخضاب بالسواد بين الرجل والمرأة: هذا مذهبنا: وحكي عن إسحاق بن راهويه انه رخص فيه للمرأة تتزين به لزوجها والله أعلم».

(فرع) أما خضاب اليدين والرجلين بالحناء فمستحب للمتزوجة من النساء: للأحاديث المشهورة فيه وهو حرام على الرجال الا لحاجة التداوي ونحوه، ومن الدلائل على تحريمه قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث الصحيح:

«لعن الله المتشبهين بالنساء من الرجال».

ويدل عليه الحديث الصحيح عن أنس: ((أن النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) نهى أن يتزعفر الرجل)). رواه البخاري ومسلم، وما ذاك الا للونه لا لريحه؛ فان ريح الطيب للرجال محبوب والحناء في هذا كالزعفران.

وفي كتاب الأدب من سنن أبي داود عن أبي هريرة: ((إن النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) أتي بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء فقال:

ما بال هذا؟ فقيل: يا رسول الله يتشبه بالنساء؛ فأمر به فنفى إلى النقيع؛ فقالوا: يا رسول الله ألا نقتله؟ فقال:

إني نهيت عن قتل المصلين)).

ص: 88

لكن اسناده فيه مجهول والنقيع بالنون، وسيأتي هذا الحديث في أول كتاب الصلاة حيث ذكره المصنف إن شاء الله تعالى.

وقد أوضح الامام الحافظ أبو موسى الأصبهاني هذه المسألة وبسطها بالأدلة المتظاهرة في كتابه الاستغناء في معرفة استعمال الحناء)(1).

3- المذهب الحنفي.

إما فقهاء المهذب الحنفي فقد ذهبوا إلى الاستحباب في خضاب الرجل لرأسه ولحيته دون اللون الأسود فهو مكروه له؛ وفي ذلك قال الحصفكي (ت: 1088ه):

(يستحب للرجل خضاب شعره ولحيته ولو في غير حرب في الأص، والأصح أنه (عليه الصلاة والسلام) لم يفعله، ويكره بالسواد، وقيل لا)(2). وقال الشيخ الطوري القادري (ت 1138 ه) بالاستحباب مطلقاً دون تحديد اللون فيمكن أن يخضب الرجل شعره ولحيته بالحناء والوسمة ويكره للرجال خضاب اليد والرجل، وهذا قوله:

(ولا بأس بخضاب اليد والرجل ما لم يكن خضاب فيه تماثيل، ويكره للرجال والصبيان لأن ذلك تزين وهو مباح للنساء دون الرجال، ولا بأس بخضاب الرأس واللحية بالحناء والوسمة للرجال والنساء لأن ذلك س سبب لزيادة الرغبة والمحبة بين الزوجين)(3).

ص: 89


1- المجموع للنووي: ج 1، ص 294 - 295
2- الدر المختار: ج 6، ص 743
3- تكملة البحر الرائق للشيخ محمد الطوري القادري: ج 2، ص 336

4- المذهب المالكي: توقف المالكي في صبغ الشعر ونفيه أن يكون النبي (صلى الله عليه وسلم) قد صبغ.

وقد جاء ذلك في الموطأ في باب ما جاء في صبغ الشعر فقد جاء فيه عن يحيى قال: سمعت مالكاً يقول (في صبغ الشعر بالسواد لم أسمع في ذلك شيئاً معلوماً؛ وغير ذلك من الصبغ أحب إلي.

قال: وترك الصبغ كله واسع ان شاء الله ليس على الناس فيه ضيق.

قال: وسمعت مالكاً يقول:

(في هذا الحديث بيان أن رسول الله (صلى الله عليه [وآله]) لم يصبغ؛ ولو صبغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأرسلت عائشة الى عبد الرحمن بن الأسود)(1).

5- المذهب الحنبلي.

قال ابن قدامة المقدسي (ت 620 ه):

(ويستحب خضاب الشيب بغير السواد قال احمد: إني لأرى الشيخ المخضوب فأفرح به؛ وذاكر رجلاً فقال: لم لا تختضب؟ فقال استحي.

قال سبحان الله سنة رسول الله (صلى الله عليه [وآله]). قال المروذي قلت يحكي عن بشر بن الحارث أنه قال: قال لي ابن داود خضبت قلت أنا لا أتفرغ لغسلها فكيف أتفرغ لخضابها؟

ص: 90


1- الموطأ: ج 2، ص 950

فقال أنا أنكر أن يكون بشر كشف عمله لابن داود ثم قال قال النبي صلى الله عليه - واله - وسلم «غيروا الشيب» وأبو بكر وعمر خضبا والمهاجرون فهؤلاء لم يتفرغوا لغسلها النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالخضاب فمن لم يكن على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس من الدين في شيء وحديث أبي ذر وحديث أبي هريرة وحديث أبي رمثة وحديث أم سلمة.

ويستحب الخضاب بالحناء والكتم لما روى الخلال وابن ماجة بإسنادهما عن قيم بن عبد الله ابن موهب قال: دخلت على أم سلمة فأخرجت إلينا شعرا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم مخضوبا بالحناء والكتم - وخضب أبو بكر بالحناء والكتم)(1).

وقال أيضاً في الشرح الكبير: (ويكره الخضاب بالسواد؛ قيل لأبي عبد الله: تكره الخضاب بالسواد؟

قال: أي والله، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«جنبوه السواد».

في حديث ابي بكر، ولما روي ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة».

ورخص فيه اسحاق بن راهوي للمرأة تتزين به لزوجها، والله أعلم)(2).

ص: 91


1- المغني لابن قدامة: ج 1، ص 76
2- الشرح الكبير لان قدامة: ج 1، ص 108

المسألة الرابعة: خلاصة القول في المسألة والدليل في استحباب الخضاب بالسواد وغيره للرجال والنساء.

1- في القول في جوازه واستحبابه مطلقاً سواء كان باللون الأسود أو غيره للرجال والنساء. وبه قالت الإمامية فقط.

2- في جواز الخضاب بغير الأسود وبه قالت الحنفية والحنبلية.

3- ذهب الزيدية إلى حرمة الخضاب للرجال بقصد الزينة، ويمنع منه الصغير.

4- وقال الشافعية: بحرمة الخضاب بالأسود للرجال ويحل للمجاهد؛ ويحرم استخدام الحناء للرجال.

5- يكره استخدام الخضاب الأسود للرجال وبه قالت الحنفية على خلاف بينهم، وقال مالك: الخضاب بغير السواد أحب إليَّ، وقال الحنابلة بكراهة السواد.

6- في استخدام الخضاب لليد والرجل عند الرجال:

قال الشافعية: بالحرمة إلا للتداوي، والحنفية: بالكراهة، والإمامية: بالجواز.

الدليل على استحباب الخضاب للرجال والنساء بالسواد أو غيره.

إن الدليل على استحباب الخضاب بالسواد والحناء وغيره للرجال والنساء هم الأئمة من آل البيت (عليهم السلام)، أي: الحسن والحسين وأبيهما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهم السلام) فهؤلاء هم الأعلم بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد تضافرت النصوص في خضاب الإمام الحسين (عليه السلام) بالسواد.

ص: 92

أما إمتناع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الخضاب مطلقاً سواء بالسواد أو غيره فذلك امتثالاً لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أخباره بأن لحيته ستخضب من دم رأسه؛ فضلاً عن بيانه عن السبب الآخر الذي منعه من الخضاب: وهو حزنه الدائم على مصيبة البضعة النبوية التي قضت شهيدة بين الباب والحائط وماتت كمداً وحزناً لما انتهكه القوم من حقوقها وهو القائل (عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ومخاطباً إياه عند دفنه فاطمة الزهراء (عليها السلام):

«أَمَّا حُزْنِی فَسَرْمَدٌ وَ أَمَّا لَیْلِی فَمُسَهَّدٌ وَ هَمٌّ لَا یَبْرَحُ مِنْ قَلْبِی أَوْ یَخْتَارَ اللَّهُ لِی دَارَكَ الَّتِی أَنْتَ فِیهَا مُقِیمٌ کَمَدٌ مُقَیِّحٌ وَ هَمٌّ مُهَیِّجٌ سَرْعَانَ مَا فَرَّقَ بَیْنَنَا وَ إِلَی اللَّهِ أَشْکُو وَ سَتُنْبِئُكَ ابْنَتُكَ بِتَظَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَی هَضْمِهَا فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ وَ اسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ فَکَمْ مِنْ غَلِیلٍ مُعْتَلِجٍ بِصَدْرِهَا لَمْ تَجِدْ إِلَی بَثِّهِ سَبِیلًا وَ سَتَقُولُ وَیَحْکُمُ اللَّهُ وَ هُوَ خَیْرُ الْحاکِمِینَ»(1).

وقد سار ائمة العترة على هدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذه المسألة فكانوا يخضبون رؤوسهم، ولحاهم بالسواد، والحناء، كما مرَّ ذكره في الروايات الشريفة آنفاً.

ومن ثمَّ: فإن ما جاء من اختلافات في مسألة الخضاب بحدِّ ذاته أو صفة اللون فهو اجتهادات مقابل سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته أهل بيته (عليهم السلام).

ص: 93


1- الكافي: ج 1، ص 459؛ دلائل الإمامة للطبري: ص 138؛ الامالي للمفيد: ص 282؛ الامالي للطوسي: ص 109؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 10، ص 265

المسألة الخامسة: مدخلية الزمان والمكان في عنوان الحكم وصدور الفتوى لدى المجتهد.

إنَّ من الأُمور التي بحثها الفقهاء في كتبهم لا سيما المعاصرون منهم، مدخلية الزمان والمكان في صدور الحكم والفتوى والاجتهاد، وقد ورد ذلك في بعض المصنفات الفقهية التي تناولت حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) - موضع البحث - في الاستدلال على تغيير الأحكام وإمكانية المجتهد في النظر الى أثر الزمان والمكان في صدور الحكم والفتوى، ومن هذه المباحث مايلي:

1- قال السيد شهاب الدين المرعشي (عليه رحمة الله ورضوانه) (ت: 1411 ه):

(ربما أول من أشار إلى مدخلية الزمان والمكان من أصحابنا هو المحقق الأردبيلي (قدس سره) حيث قال:

(ولا يمكن القول بكلية شيء بل تختلف الأحكام باعتبار الخصوصيّات والأحوال والأزمان والأمكنة والأشخاص وهو ظاهر، وباستخراج هذه الاختلافات والانطباق على الجزئيات المأخوذة من الشرع الشريف امتياز).

وهناك كلمة مأثورة عن الإمام السيّد الخميني (قدس سره) حيث قال: (إنّي على اعتقاد بالفقه الدارج السنّتي القديم) بين فقهائنا، وبالاجتهاد على النهج الجواهري أي جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام وهذا الأمر لا بدّ منه، لكن لا يعني ذلك أنّ الفقه الإسلامي لا يواكب حاجات العصر، بل إنّ لعنصري الزمان والمكان تأثيراً في الاجتهاد، فقد يكون لواقعة حكم

ص: 94

لكنّها تتّخذ حكماً آخر على ضوء الأُصول الحاكمة على المجتمع وسياسته واقتصاده).

هذا والمحافظة على كرامة الأحكام الأوّلية المنصوصة في الشريعة الإسلامية ممّا اتّفق عليه أتباع مدرسة السنّة أيضاً، فإنّه عندهم إنّما يقبل التغيير الأحكام الاجتهادية لا المنصوصة وذلك من خلال القياس وغيره.

قال مصطفى أحمد الزرقاء:

(وقد اتّفقت كلمة فقهاء المذاهب على أنّ الأحكام التي تتبدّل بتبدّل الزمان وأخلاق الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحيّة، أي التي قرّرها الاجتهاد بناء على القياس أو على دواعي المصلحة، وهي المقصودة من القاعدة المقرّرة (تغيير الأحكام بتغيّر الزمان).

أمّا الأحكام الأساسيّة التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها.

فلا بدّ عند القول بتأثير العنصرين في الاجتهاد أن يحافظ على الأصلين المتقدّمين فنحترز عن تشريع الحكم وجعله فإنّه مختصّ بالله سبحانه، کما نقدّس ونؤيّد الأحكام الأوليّة، ومن ثمّ يقال للزمان والمكان تأثير في استنباط الأحكام الشرعيّة والأحكام الحكومية، كما تعرّض إلى تفصيل ذلك بعض الأعلام.

فالأوضاع والأحوال الزمنية لها تأثير خاصّ وكبير في استنباط الحكم الشرعي، وهذا التأثير تارة باعتبار الموضوع وأُخرى باعتبار الحكم.

توضيح ذلك: لمّا كانت القضيّة مركَّبة من موضوع ومحمول فتأثير العنصرين تارة يرجع إلى ناحية الموضوع وأُخرى إلى الحكم باعتبار الملاك أو كيفية تنفيذ الحكم.

ص: 95

والأوّل: قد يراد من تبدّله انقلابه إلى موضوع آخر كصيرورة الخمر خلَّا، هذا خارج عمّا نحن فيه، وقد يصدق الموضوع على مورد في زمان ومكان ونفس الموضوع لا يصدق على ذلك المورد في زمان ومكان آخر لمدخلية الظروف الخاصّة.

هذا ولا بدّ في تأثير عنصري الزمان والمكان في الأحكام الشرعيّة ألا يؤثّر في كرامة حصر التشريع في الله سبحانه، ولا يمسّ بقداسة الكبريات والأُصول الثابتة الشرعيّة، وهذا من الفقه الحيّ الذي يتماشى مع كلّ عصر ومصر، وهذا إنّما يتحقّق في فقه المذهب الإمامي الذي يعتقد بحياة إمامه المعصوم (عليه السلام).

ولا يحقّ لنا أن نفسّر التأثير بتفسير خاطئ ومردود، بأنّه بمعنى تغيير الأحكام الشرعيّة حسب المصالح الزمنية، حتّى يبرّر بذلك مخالفة بعض الخلفاء.

وإبطال الشريعة أمر محرّم لا يستباح بأيّ عنوان، فلا يصحّ لنا تغيير الشريعة بالمعايير الاجتماعية من الصلاح والفساد.

ثمّ ما ذكناه من تأثير عنصري الزمان والمكان في الأحكام الشرعيّة وتغييرها بالمعنى الصحيح إنّما كان باعتبار مقام الإفتاء، وكذلك الأمر في الأحكام الحكومتيّة، حيث إنّه يقسّم الحكم إلى الحكم الشرعي والحكم الحكومتي، والأوّل إلى الأوّلى والثانوي أي الأحكام الواقعيّة والأحكام الظاهريّة، وعند التعارض بين الأحكام الأوّلية والثانوية تقدّم الثانية من باب الحكومة أو من باب التوفيق العرفي، كتقدّم قاعدة لا حرج على الأحكام

ص: 96

الضررية، كالميتة يحرم أكلها إلَّا من اظطرّ غير باغ، ويرجع هذا إلى مقام الإفتاء والاستنباط.

وربما يكون التزاحم بين نفس الأحكام الواقعيّة، فلو لم يرفع التزاحم لحصلت مفاسد، فالفقيه الحاكم الجامع للشرائط المتصدّي لمنصب الولاء يقوم بتقديم بعض الأحكام الواقعيّة على بعض بتعيّن المورد من صغريات أيّ الكبرتين الواقعتين، ولا يحكم الحاكم إلَّا بعد ملاحظة الظروف الزمانية والمكانية ومشاورة للكتاب والسنة بأن الحاكم له الأخذ بالمصالح وتفسير الأحكام على ضوئها، كما فعله (الثاني) في وقوع الطلاق ثلاثاً من دون التخلل والرجوع، فقال:

(إنَّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو امضيناه عليهم) فأمضاه عليهم)(1).

2- وقال الشيخ السبحاني:

(إن لتغير الأوضاع والاحوال الزمنية تأثيراً كبيراً في استنباط الأحكام الشرعية والتأثير يرجع تارة إلى ناحية الموضوع، وأخرى الى جانب الحكم)(2).

3- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي:

قال في تبدل الأحكام يتبدل الموضوعات ما يلي:

(ورد في بعض الكلمات القصار لأمير المؤمنين (عليه السلام) بعد أن سئل عن قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

ص: 97


1- القول الرشيد في الاجتهاد والتقليد: ج 1، ص 127 - 134
2- موسعة طبقات الفقهاء (المقدمة): ج 1، ص 322

«غيروا الشيب ولا تتشبهوا باليهود»، قال:

إنما قال (صلى الله عليه وآله وسلم):

«والدين قُلٌّ، فأما الآن فقد اتسع نطاقه وضرب جيرانه فامرؤٌ وما اختار».

وللكلام صلة، ولا ينحصر الكلام بهذه المسائل الخمس بل المراد توضيح أن المفتاح الأصلي الوحيد لحلّ قسم كبير من المسائل المستحدثة هو هذا المعنى أي تبدّل الحكم بتبدّل الموضوعات عرفاً.

وعصارة الكلام: أنّ الأحكام المأخوذة من الشارع المقدّس ثابتة لا تتغيّر مدى القرون والأعصار ولا تتبدّل بحسب اختلاف الأمكنة والأمصار، فالحلال حلال دائماً والحرام حرام كذلك، ولكن الموضوعات العرفية متغيرة دائماً، فكلَّما تغيّر الموضوع تغيّر الحكم، حيث إنّ الموضوع كثيراً ما يكون متأثراً بالزمان والمكان، فإذا تغيّر الزمان والمكان تغيّر الموضوع فيتغيّر الحكم تبعاً له.

وتغيّر الموضوع على أقسام مختلفة:

تارة يكون بتبدّل الماهية كما في الكلب الواقع في المملحة، وأخرى بتبدّل أوصافه الخارجية كتبدّل الدم من جسم الإنسان إلى البقّ، وثالثة بتبدّل الأمور الاعتبارية كتبدّل المالية. وهذا هو المراد من تأثير الزمان والمكان في الاجتهاد.

ثالثها: هو أنّ تبدّل الزمان والمكان قد يكون سبباً لتنبّه الفقيه إلى مسائل جديدة وانشراح فكره وصدره، فيلتفت إلى أمور لم يكن متنبهاً لها في السابق، سيّما بعد قيام الحكومة الإسلامية، ولكن لا بمعنى أنّه إذا كان خارجاً عن هذه الدائرة كانت له أفكار خاصّة وإذا دخل تبدّلت أفكاره، بل بمعنى التفاته إلى حاجات ومصالح النظام والأمة.

ص: 98

فمثلاً يتنبه إلى أنّ تحصيل العلم - الأعمّ من كونه دينياً أو دنيوياً - الذي كان يعدّه في الماضي من الواجبات الكفائية، يعدّه الآن من الواجبات العينية لما يشعر من حاة المسلمين الماسّة إلى ذلك في تدبير أمور الدين والدنيا، فإنّ الجماعة الجاهلة تصبح متأخّرة جدّاً وضعيفة إلى النهاية، ولا يرضى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) والأئمّة الهداة (عليهم السلام) هذا التأخر والضعف للمسلمين، ولذا يفتي الفقيه بوجوب الجهاد لمحاربة الجهل وبوجوب تحصيل العلم عينياً على جميع المسلمين كلّ حسب استعداده)(1).

المسألة السادسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

تناول شراح نهج البلاغة هذا النص الشريف بجملة من الشروحات والتعليقات، نورد بعضاً منها:

أولاً - ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه).

قال ابن أبي الحديد في شرح الحديث وقد مازجه بالشعر وبعض النصوص:

(اليهود لا تخضب، وكان النبي (صلى الله عليه وآله أمر أصحابه بالخضاب ليكونوا في مرأى العين شباباً فيجبن المشركون عنهم حال الحرب، فإن الشيخ مظنة الضعف.

قال عليُّ (عليه السلام):

«كان ذلك والاسلام قل»، أي قليل، «وأما الآن وقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه».

ص: 99


1- بحوث فقهية مهمة: ص 253 - 254

فقد سقط ذلك الامر وصار الخضاب مباحا غير مندوب.

والنطاق: ثوب تلبسه المرأة لبسة مخصوصة أو ليس بصدارة ولا سراويل، وسميت أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين لأنها قطعت من ثوبها ذلك قطعة شدت بها سفرة لها حملها أبو بكر معه حين خرج من مكة مع النبي (صلى الله عليه وآله) يوم الهجرة، فقال النبي (صلى الله عليه وآله):

«لقد أبدلها الله بها نطاقين في الجنة»، وكان نفر من الشام ينادون عبد الله ابنها حين حصره الحجاج بمكة يشتمونه کما زعموا: يا بن ذات النطاقين، فيضحك عبد الله منهم، وقال لابن أبي عتيق: ألا تسمع! يظنونه ذما ثم يقول:

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها(1)

واستعار أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه اللفظة لسعة رقعة الاسلام، كذلك استعار قوله: «وضرب بجرانه»، أي أقام وثبت، وذلك لان البعير إذا ضرب بجرانه الأرض - وجرانه مقدم عنقه - فقد استناخ وبرك.

«وامرؤ» مبتدأ وإن كان نكرة، كقولهم: «شر أهر ذا ناب»، لحصول الفائدة، والواو بمعنى (مع)، وهي وما بعدها الخبر، وما مصدرية، أي امرؤ مع اختياره.

نبذ مما قيل في الشيب والخضاب.

فأما القول في الخضاب، فقد روى قوم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بدا شيب يسير في لحيته، فغيره بالخضاب، خضب بالحناء والكتم، وقال قوم: لم يشب أصلا.

ص: 100


1- من قصيدة في ديوانه: ص 109- 116 يذكر فيها مناقب الإمام علي (عليه السلام) وما منی به من أعدائه

وروى أن عائشة قالت: ما كان الله ليشينه بالشيب، فقيل: أو شين هو يا أم المؤمنين! قالت: كلكم يكرهه. وأما أبو بكر فصح الخبر عنه بذلك، وكذلك أمير المؤمنين، وقيل: إنه لم يخضب. وقتل الحسين (عليه السلام) يوم الطف وهو مخضوب. وفي الحديث المرفوع رواه عقبة بن عامر:

«عليكم بالحناء، فإنه خضاب الإسلام إنه يصفى البصر ويذهب بالصداع، ويزيد في الباه، وإیاکم والسواد، فإنه من سود، سود الله وجهه يوم القيامة».

وعنه (صلى الله عليه وآله):

«عليكم بالخضاب، فإنه أهيب لعدوكم وأعجب إلى نسائكم».

ويقال في أبواب الكناية للمختضب، هو يسود وجه النذير، لان النذير الشيب، قيل في قوله تعالى: «وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ»(1): إنه الشيب.

وكان عبد الرحمن بن الأسود أبيض الرأس واللحية فأصبح ذات يوم وقد حمرهما، وقال: إن عائشة أرسلت إلىّ البارحة جاريتها فأقسمت عليَّ لأغيرن، وقالت: إن أبا بكر كان يصبغ.

وروى قيس بن أبي حازم قال: كان أبو بكر يخرج إلينا وكأن لحيته ضرام عرفج.

وعن أبي عامر الأنصاري: رأيت أبا بكر يغير بالحناء والكتم، ورأيت عمر لا يغير شيئا من شيبه، وقال: إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:

ص: 101


1- فاطر: 37

«من شاب شيبة في الاسلام كانت له نورا يوم القيامة»، ولا أحب أن أغير نوري.

وكان انس بن مالك يخضب وينشد:

نسود أعلاها وتأبی أصولها *** وليس إلى رد الشباب سبيل

وروى أن عبد المطلب وفد على سيف بن ذي يزن، فقال له: لو خضبت! فلما عاد إلى مكة خضب، فقالت له امرأته نثيلة أم العباس وضرار: ما أحسن هذا: الخضاب لو دام! فقال:

فلو دام لي هذا الخضاب حمدته ** وكان بديلا من خليل قد انصرم

تمتعت منه والحياة قصيرة *** ولابد من موت - نثيلة - أوهرم

وموت جهیز عاجل لا شوی له *** أحب إلينا من مقالكم حكم

قال: يعني أنه صار شيخا، فصار حكما بين الناس، من قوله:

لا تغبط المرء أن يقال له *** أضحى فلان لسنه حكما

وقال أسماء بن خارجة لجاريته: أخضبيني، فقالت حتى متى أرقعك! فقال:

عيرتني خلقا أبليت جدته *** وهل رأيت جديدا لم يعد خلقا

وأما من يروى أن علياً (عليه السلام) ما خضب، فيحتج بقوله، وقد قيل له:

ص: 102

لو غیرت شیبك يا أمير المؤمنين؟ فقال:

«الخضاب زينة، ونحن في مصيبة» - يعني برسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم).

وسئل الحسن (عليه السلام) عن الخضاب، فقال : هو جزع قبيح.

وقال محمود الوراق:

یا خاضب الشيب الذي *** في كل ثالثة يعود

إن الخضاب إذا مضی *** فكأنه شیب جدید

فدع المشيب وما یرید *** فلن تعود كما ترید

وقد روى قوم عن النبي (صلى الله عليه وآله) كراهية الخضاب، وأنه قال:

«لو استقبلتم الشيب بالتواضع لكان خيرا لكم».

قال الشاعر:

وصبغت ما صبغ الزمان فلم يدم *** صبغي ودامت صبغة الأيام

وقال آخر:

يا أيها الرجل المغير *** شیبه كيما تعد به من الشبان

أقصر فلو سودت كل حمامة *** بيضاء ما عدت من الغربان

ص: 103

ويقولون في ديوان عرض الجيش ببغداد لمن يخضب إذا ذكروا حليته: مستعار، وهي كناية لطيفة. وأنا أستحسن قول البحتري: خضبت بالمقراض: كناية عن قص الشعر الأبيض، فجعل ذلك خضابه عوضا عن الصبغ، والأبيات هذه:

لابس من شبيبة أم ناض *** ومليح من شيبه أم راض(1)

وإذا ما امتعضت من ولع الشيب *** برأسي لم يثن ذاك امتعاضي

ليس يرضى عن الزمان امرؤ فيه *** إلا عن غفلة أو تغاضى

والبواقي من الليالي وإن خالفن *** شینا شبيهة بالمواضي(2)

وأبت تركي الغديات والا *** صال حتى خضبت بالمقراض

ودواء المشيب كالبخص في *** عيني فقل فيه في العيون المراض

طال حزني على الشباب وما *** بيض من لون صبغه الفضفاض

فهل الحادثات یا بن عويف *** تاركاتي ولبس هذا البياض(3)

ثانياً - ابن هیثم البحراني (ت: 679 ه).

قال ابن میثم البحراني (رحمه الله) في شرح الحديث مختصراً ذلك ببعض البيان:

ص: 104


1- دیوانه: ج 2، ص 72، من قصيد يمدح فيها ابن الفياض
2- دیوانه: ج 2، ص 72، من قصيد يمدح فيها ابن الفياض
3- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 18، ص 122 - 126

(كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أول الإسلام يأمر أهل الشيب من المسلمين بتغيير شيبهم ويبدأهم إليه، وكان ينفّرهم عن ترکه بكونه تشبّها باليهود لأنّ اليهود لم يكونوا يفعلون ذلك، فكانوا يخضبون بالسواد.

وقيل: بالحنّاء؛ والغرض أن ينظر إليهم الكفّار بعين القوّة والشبيبة فينفعلون عنهم ولا يطمعون فيهم. فسئل (عليه السلام) عن ذلك في زمن خلافته فجعله من المباح دون المندوب، وأشار إلى أنّ تلك السنة إنّما كانت حيث كان المسلمون قليلين فأمّا الآن وقد كثروا وضعف الكفّار فهو مباح، وکنّی عن ذلك بقوله: «فأمرء وما اختار». واستعار لفظ النطاق لمعظمه وما انتشر منه. ولفظ الضرب بالجران لثباته واستقراره وملاحظة لشبههه بالبعير البارك.

وقوله: «فأمرؤ» مبتدأ وما اختار عطف عليه، وما مصدريّة وخبر المبتدأ محذوف تقديره مقرونان كقولهم كلّ أمرؤ وضيعته)(1).

ثالثاً - السيد حبيب الله الهاشمي الخوئي (ت: 1324 ه).

قال السيد حبيب الله الخوئي (عليه الرحمة والرضوان):

(أَمرهُ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بتغيير الشيب بالسّواد أو الحناء، ظاهره الوجوب لحكمة ذكرها (عليه السلام) فقوله: «فأمرؤ وما اختار»، إعلام لنسخه فإنه قد ينسخ السّنة کما ینسخ القرآن، والظاهر أنه على وجه الاستحباب.

ص: 105


1- شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 5، ص 247

فقوله: «فأمرؤ وما اختار» ترخيص لتركه فانّ الاستحباب مرکب من الأمر وترخيص الترك ولا ينافي بقاء الحكم الاستحبابي زوال الحكمة التشريعيّة كما في وجوب أو استحباب غسل الجمعة المشرّعة لإزالة عفونة الإبط من الأعراب، ويشمل البريئين منها.

فقول ابن میثم في الشرح: إنّه (عليه السلام) جعله من المباح، مورد تأمّل فانّ الأخبار الواردة في فضل الخضاب واستحبابه مطلقا غير قابلة للردّ والانكار)(1).

وفي هذا القدر من البيان والشرح كفاية ولمن رغب بالمزيد فعليه ببقية الشروحات.

ص: 106


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ج 21، ص 33

الفصل الثاني : «أحكام الأموات»

اشارة

ص: 107

ص: 108

المبحث الأول: استحباب ذكر الموت والاستعداد له

ترشد الروايات الشريفة عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وعترته أهل بيته (عليهم السلام) الخاصة بما يتعلق بالإنسان حينما يتوفاه الله تعالى ويقبضه إليه عن اهتمام الشريعة الإسلامية بالإنسان حياً وميتاً، وهذا من أهم الأمور التي تعمل على بناء العلاقة الروحية والإيمانية بين عالم الملك وعالم الملكوت، وعالم الأمر وعالم الشهادة.

ومن ثم، فإن هذه الروايات تعمل على بناء الجانب الغيبي في المنظومة الفكرية للمسلم، أي: إنه ضمن رحلة طويلة بدأها الإنسان من عالم الملك حيث موطنه الأصلي، لينزل إلى عالم الملكوت عالم الدنيا، ثم ليعود إلى عالم الملك مرة أخرى؛ وقد احتمل معه أعماله ليصل بها الى الموضع الأخير، فإما سعيداً و منعماً، وإما شقياً و معذباً بعد أن يسأله الله تعالى عن كل شيء، صغيراً كان الأمر أو كبيراً.

من هنا:

جاءت أحكام الأموات لتذكير الإنسان بحق الله تعالى في خلقه، فهذا أي الإنسان الذي كرمه الله (عز وجل) وفضله على كثير مما خلق، فقال تعالى:

«وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ

ص: 109

وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا»(1).

لابد له أن يعود الى بارئه وخالقه وهو محاط بجملة من الأمور التي يحتاج اليها في الخروج من الدنيا والانتقال الى الأخرة.

ولذلك نجد كتب الفقهاء لا سيما فقهاء المذهب الإمامي (أعلى الله شأنهم) قد اهتموا كثيراً بهذه الأحكام، وذلك لرصيدها الكبير من الروايات الشريفة التي وردت عن أئمة العترة النبوية (عليهم السلام) وهو ما يحقق حافزاً كبيراً لأتباعهم وشيعتهم في بناء العلاقة الروحية والإيمانية بالله واليوم الآخر، والذي يجمعه الإيمان بالغيب.

قال تعالى: «الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(2).

وتكشف الآيات المباركة أن المتقين الذين كانوا على هدى من ربهم إنّ أول صفاتهم الإيمان بالغيب، وآخر صفاتهم اليقين بالآخرة.

وعليه: يصبح الاهتمام بأحكام الأموات والاستعداد له وبمقدماته أمراً بديهاً لمن آمن بالله تعالى واليوم الآخر، فكان من جلمة هذه الأحكام بعض المسائل في كتاب نهج البلاغة والتي حددها علماء الإمامية في مصنفاتهم

ص: 110


1- الاسراء: 70
2- البقرة: 1 - 5

الفقهية، أي: أحكام الأموات بخمسة عناوين تتفرع إلى مجموعة من الأحكام، وهي: (الاحتضار، التغسيل، التكفين، المواريث في الأرض، اللواحق)(1).

وهي أربعة: (حكم نبش القبر، حکم الصبي والمجنون، حکم الشهيد، حکم موت الحامل أو ولدها)(2).

من هنا:

فمما جاء في كتاب نهج البلاغة فيما يتعلق بالموت والقبر والبرزخ لكثير جداً، إلا أننا وبحسب عنوان الكتاب ومنهجه أوردنا ما له علاقة بمباحث الفقهاء وأحكام الأموات، فكان منها هذا المبحث وما يليه ضمن مسائل عدة:

قال (عليه الصلاة والسلام) في وصيته لولده الإمام الحسن (عليه السلام):

«يَا بُنَىَّ أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَ ذِكْرِ مَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ، وَ تُفْضِي بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَيْهِ، حَتّى يَأْتِيَكَ وَ قَدْ أَخَذْتَ مِنْهُ حِذْرَكَ، وَ شَدَدْتَ لَهُ أَزْرَكَ، وَ لايَأْتِيَكَ بَغْتَةً فَيَبْهَرَكَ»(3).

وقال (عليه الصلاة والسلام):

«أَحْیِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ وَ أَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ، وَ قَوِّةِ بِالْیَقِینِ ونُوِّره بِالحِکمَةِ، وَ ذَلِّلْهُ بِذِکْرِ اَلْمَوْتِ»(4).

ص: 111


1- شرائع الإسلام للعلامة الحلي: ج 1، ص 29؛ اللمعة الدمشقية: ص 20؛ مسالك الأفهام للشهيد الثاني: ج 1، ص 78
2- شرائع الاسلام للعلامة الحي: ج 1، ص 36
3- نهج البلاغة: تحقیق صبحي الصالح، ص 400؛ وسائل الشيعة: ج 2، ص 99
4- نهج البلاغة: تحقیق صبحي الصالح، ص 400؛ وسائل الشيعة: ج 2، ص 99

وهذه النصوص الشريفة ترشد الى استحباب ذكر الموت، وقد تناوله، أي هذا الحكم، الفقهاء في كتبهم، فكانت على النحو الآتي:

المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي في استحباب ذكر الموت والاستعداد له.

وقد جاءت أقوالهم مستفيضة منذ القرن السابع للهجرة النبوية مدونة في الموسوعات الفقهية لعلماء المذهب، أما ما خلا هذا القرن ومضى عنه، فقد كانت الكتب تشتمل على الاختصار في الألفاظ وضغط العبارات والانشغال بالأحكام الرئيسة في هذه العنوانات دون التفريعات منها، كاستحباب ذكر الموت، ومن هؤلاء العلماء الفقهاء:

أولاً - العلامة ابن المطهر الحلي (ت: 726 ه).

قال (عليه رحمة الله ورضوانه) في التحرير، في غسل الأموات، في المطلب الأول: الاحتضار: وفيه أربعة مباحث، الأول (يستحب الإكثار من ذكر الموت، والاستعداد له وأن لا يبيت إلا ووصيته تحت رأسه)(1).

وقال في التذكرة: (وينبغي الاستعداد بذكر الموت كل وقت، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«أكثروا من ذكر هادم اللذات، فما ذكر في كثير إلا قلله ولا في قليل إلا كثره».

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):

ص: 112


1- تحرير الأحكام: ج 1، ص 113

«استحيوا من الله حق الحياء»؟ فقيل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكيف نستحي من الله حق الحياء؟ قال (صلى الله عليه وآله):

«من حفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعي، وترك زينة الحياة الدنيا، وذكر الموت والبلى، فقد استحيي من الله حق الحياء».

وقال الصادق (عليه السلام):

«من عد غدا من أجله فقد أساء صحبة الموت».

وينبغي أن يحسن ظنه بربه، فقد روي: أن الله تعالى يقول:

«أنا عند ظن عبدي بي».

ولا ينبغي أن يتمنى الموت وإن اشتد مرضه، لقوله (عليه السلام):

«لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، ولكن ليقولن: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي».

وينبغي التوبة لأنها مسقط للعقاب، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، في آخر خطبة خطبها:

«من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه، ثم قال: وإن السنة لكثير، ومن تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه، ثم قال: وإن الشهر لكثير، ومن تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه، ثم قال: وإن اليوم لكثير ومن تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه، ثم قال: وإن الساعة لكثير، من تاب وقد بلغت نفسه هذه - وأومئ بيده إلى حلقه - تاب الله عليه»)(1).

ص: 113


1- تذكرة الفقهاء: ج 1، ص 37

ثانياً - الشهيد الأول محمد بن جمال الدين مكي العاملي (ت 786 ه).

قال (عليه رحمة الله ورضوانه) في ذكرى الشيعة، وقد قدم العنوان أحكام الأموات مبتدأً بالاحتضار مجموعة من المقدمات التي لها علاقة وثيقة بالموت وما يلازمه من ألفات الانتباه والاستعداد له فأورد مجموعة من الأحاديث الشريفة التي تبين للإنسان خطورة ما سيُقبل عليه حتماً وحقاً.

فكان من جلمة ما أورد في هذه المقدمات، فقال:

(إن ابن آدم إذا كان في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة مثل له ماله وولده وعمله، فيلتفت إلى ماله فيقول: والله إني كنت عليك لحريصا شحيحا فما لي عندك؟ فيقول: خذ مني كفنك، ويلتفت إلى ولده، فيقول: والله إني كنت لكم محبا وإني كنت عليكم لمحاميا، فاذا عندكم؟

فيقولون: نؤدي إلى حفرتك نواريك فيها، فيلتفت إلى عمله فيقول: والله إني كنت فيك لزاهد وإن كنت علي لثقيلا، فما عندك؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك ويوم نشرك حتى أعرض أنا وأنت على ربك.

فإن كان لله عز وجل وليا، أتاه أطيب الناس ريحا وأحسنهم منظرا وأحسنهم ریاشا، فقال: أبشر بروح وريحان وجنة نعيم، ومقدمك خير مقدم، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، ارتحل من الدنيا إلى الجنة، وإنه ليعرف غاسله ويناشد حامله ان يعجله.

فإذا أدخل قبره أتاه ملكا القبر يجران أشعارهما ويخدان الأرض بأنيابهما، أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف! فيقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ وما نبيك؟ فيقول الله ربي، وديني الإسلام، ونبيي محمد

ص: 114

(صلى الله عليه وآله). فيقولان: ثبتك الله فيما تحب وترضى، وهو قول الله عز وجل «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» ثم يفسحان له في قبره مد بصره، ثم يفتحان له بابا إلى الجنة، ثم يقولان له: نم قرير العين نوم الشاب الناعم).

فإذا كان لربه عدوا فإنه يأتيه أقبح من خلق الله زيا وأنتنه ريحا، فيقول له: أبشر بنزل من حميم وتصلية جحيم، وإنه ليعرف غاسله ويناشد حملته أن يحبسوه. فإذا ادخل القبر أتاه ممتحنا القبر فألقيا أكفانه ثم يقولان، من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: لا أدري، فيقولان له: لا دريت، ولا هديت، فيضربان يافوخه بمرزبة معهما ضربة ما خلق الله عز وجل من دابة إلا تذعر لها ما خلا الثقلين، ثم يفتح له باب إلى النار، ويسلط الله عليه حيات الأرض وعقاربها وهوامها فتنهشه حتى يبعثه الله من قبره).

وعن الباقر (عليه السلام): «يسألون عن الحجة القائمة بين أظهرهم».

وعن الكاظم (عليه السلام): «يقال للمؤمن في قبره: من ربك؟ فيقول: الله، ويقال: ما دينك؟ فيقول: الإسلام، ويقال: من نبيك؟ فيقول: محمد، فيقال، من إمامك؟ فيقول: فلان» وكذا في خبر أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) السؤال عن الإمام).

وعنه (عليه السلام): «يسأل الميت في قبره عن خمس: صلاته، زكاته، وحجه وصيامه، وولايته إيانا أهل البيت. فتقول الولاية من جانب القبر للأربع: ما دخل فيكن من نقص فعلي تمامه».

قلت: المراد مع وقوع هذه الأفعال من المكلف، وإلا لم يسأل عنها. والمراد بالنقص ما وقع على سبيل سهو أو غلط أو لعذر.

ص: 115

فصل: عن الصادق (عليه السلام): «جاء جبرئيل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: (يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه».

عن الباقر (عليه السلام)، قال: «سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله): أي المؤمنين أكيس؟ فقال: أكثرهم ذكرا للموت، وأشدهم له استعدادا».

وعن علي (عليه السلام):

«ما أنزل الموت حق منزلته من عد غدا من أجله».

وعنه (عليه السلام): «ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل».

قلت: المراد بالاستعداد له التوبة ورد المظالم وإصلاح العمل، فربما أتاه فجأة وهو للمريض آكد. وقصر الأمل معين على ذلك، كما أن طوله مظنة إساءة العمل، لتسويف النفس بالتوبة رجاء الاستدراك.

وعن الباقر (عليه السلام): «أكثر ذكر الموت، فإنه لم يكثر ذكر الموت الشاب ألا زهد في الدنيا».

وعنه (عليه السلام):

«ينادي مناد كل يوم: ابن آدم لد للموت، واجمع للفناء، وابن للخراب».

وعنه قال:

«قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

(الموت الموت، إلا ولا بد من الموت، جاء الموت بما فيه، جاء بالروح والراحة والكرامة المباركة إلى الجنة العالية لأهل دار الخلود، كانوا لها سعيهم وفيها رغبتهم. وجاء الموت بما فيه من الشقوة والندامة بالكرة الخاسرة، إلى

ص: 116

نار حامية لأهل دار الغرور، الذين كانوا لها سعيهم وفيها رغبتهم)».

قال الصادق (عليه السلام): «إذا أعد الرجل كفنه فهو مأجور إذا نظر إليه».

قال زيد الشحام للصادق (عليه السلام):

(في ملك الموت: الأرض بين يديه كالقصعة يمد يده فيها حيث يشاء؟ فقال: (نعم).

وعن الصادق (عليه السلام):

«تنزل عليه صكاك من السماء اقبض نفس فلان بن فلان».

وروى الصدوق عن الصادق (عليه السلام):

«إن الله جعل الملك الموت أعوانا من الملائكة يقبضون الأرواح، فتتوفاهم الملائكة ويتوفاهم ملك الموت منهم مع ما يقبض هو، ويتوفاها الله تعالى من ملك الموت»(1).

ثالثاً - السيد اليزدي (ت: 1337 ه).

قال في العروة، في باب أحكام الأموات:

(ويستحب ذكر الموت كثيراً، ويجوز الفرار من الوباء والطاعون، وما في بعض الأخبار من أن الفرار من الطاعون کالفرار من الجهاد مختص بمن كان في ثغر من الثغور لحفظه. نعم لو كان في المسجد ووقع الطاعون في اهله يكره الفرار منه)(2).

ص: 117


1- ذكرى الشيعة: ج 1، ص 287 - 290
2- العروة الوثقی: ج 2، ص 22

ونلاحظ أن الأحاديث الشريفة في هذا الخصوص كثيرة وهي في الواقع في مضانها من مصادر الحديث لأكثر مما أورده الفقهاء واستشهدوا به في كتبهم الفقهية فكان من السمات التي اتسمت بها المصنفات الفقهية في المدرسة الإمامية.

أما المذاهب الأخرى فقد اقتصر الأمر على بيان الاستحباب ايضاً دون الإشارة الى الأحاديث النبوية في هذا الخصوص في حين اعرض البعض الآخر منها عن الحكم فلم يورد في كتبه ما يتعلق بذكر الموت أو عده من لوازم الأحكام الخاصة بالأموات، فكانت هذه الفوارق على النحو الآتي، كما في ثانياً.

المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى في استحباب ذكر الموت والاستعداد له.

أولاً - المذهب الزيدي.

(اختصاص استجاب ذكر الموت للمريض).

قال الشيخ أحمد المرتضى (ت 840 ه):

(ويستحب للمريض ذكر الموت، وأن يحب لقاء الله، وأن يصبر على الألم، وأن يتداوى)(1).

ويرشد القول إلى أن الاستحباب في ذكر الموت خاص بالمريض وهذا بخلاف المعطيات الفكرية التي شملتها النصوص الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته (عليهم السلام) كما في أولاً، حيث يستحب ذكر الموت للإنسان في كل حال، وليس في حال المرض فقط .

ص: 118


1- شرح الأزهار: ج 1، ص 400

ثانياً - المذهب الشافعي.

(استحباب ذكر الموت لكل أحد).

قال الحافظ النووي (ت 676 ه):

(المستحب لكل أحد أن يكثر ذكر الموت لما روى عبد الله بن مسعود: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأصحابه:

«استحيوا من الله حق الحياء»، قالوا:

إنا نستحي يا نبي الله والحمد لله.

قال: «ليس كذلك، ولكن من استحي من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعي، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، ومن فعل ذلك فقد استحيي من الله حق الحياء».

ينبغي أن يستعد للموت بالخروج من المظالم، والاقلاع عن المعاصي والاقبال على الطاعات، لما روى البراء بن عازب:

(أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أبصر جماعة يحفرون قبرا، فبكي حتى بل الثرى بدموعه وقال:

«إخواني لمثل هذا فأعدوا».(1)

ثالثاً - المذهب الحنبلي.

(استحباب ذكر الموت لكل إنسان).

قال ابن قدامة المقدسي (ت 620 ه):

ص: 119


1- المجموع: ج 5، ص 105

(يستحب للإنسان ذكر الموت والاستعداد له، فإنه روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال:

«اكثروا من ذكر هادم للذات فما ذكر في كثير إلا قلَّله ولا قليل إلا كثره»(1).

المسألة الثالة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

شهدت هذه المسألة تبايناً ملحوظاً في الاهتمام بها وإظهار آثارها السلوكية والبنائية للنفس بين المذهب الإمامي وبقية المذاهب الإسلامية الأخرى، فقد أحثت أقوال فقهاء المذهب الإمامي (أعلى الله شأنهم) على الاستحباب المؤكد الذكر الموت في جميع الأحوال؛ في حين أعرض فقهاء بعض المذاهب المالكي والحنفي والاباضي عن تخصيص جانب لهذه المسألة.

هي حين ذهب الشافعي والحنبلي إلى الاستحباب في ذكر الموت، وهو عند الزيدية مستحب في حال المرض.

المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

تناول شراح الحديث في كتبهم بالبيان والتوضيح لما أكتنزه الحديث من موعظة ودلالات تأخذ بالإنسان الى الغاية التي من أجلها بعث الله الأنبياء (عليهم السلام) وهي الهداية والاصلاح.

أولاً - في بيان قوله (عليه السلام) «یا بني أكثر من ذكر الموت...».

جاءت أقوال شراح نهج البلاغة في خصوص وصيته لولده الإمام الحسن عليها السلام):

ص: 120


1- المغني لابن قدامة: ج 2، ص 302

«يا بني أكثر من ذكر الموت وذكر ما تهجم عليه وتقضي بعد الموت إليه، حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك، ولا يأتيك بغتة فيبهرك».

على النحو الآتي:

1- ابن ميثم البحراني (رحمه الله) (ت 679 ه):

قال البحراني (رحمه الله) في شرح الحديث:

(أمره بالإكثار من ذكر الموت وما یهجم عليه فإن ذلك يستلزم العبرة والإنزجار والأخذ في الأهبة والاستعداد له ولما بعده، ولذلك قال:

«حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك وشددت له قوتك».

أي: بالكمالات التي استعددت بها ولا يأتيك بغتة فيتبعك، وقوله: «ولا يأتيك» عطف على قوله: «حتى يأتيك»، والواو في قوله: «وقد» للحال. وكذلك «بغتة» حال، «ويبهرك» منصوب بإضمار أن بعد الفاء في جواب النفي)(1).

2- قال ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه) بعد أن أورد الحديث:

يقول: (هذا منزل قلعة، بضم القاف وسكون اللام، أي ليس بمستوطن، ويقال:

هذا مجلس قلعة، إذا كان صاحبة هذا منزل قلعة، بضم القاف وسكون اللام، أي ليس بمستوطن، ويقال:

هذا مجلس قلعة، إذا كان صاحبه يحتاج إلى أن يقوم مرة بعد مرة. ويقال أيضا:

ص: 121


1- شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني: ج 5، ص 39

هم على قلعة أي على رحلة، والقلعة أيضا هو المال العارية، وفى الحديث: بئس المال القلعة، وكله يرجع إلى معنى واحد.

قوله: «ودار بلغة»، والبلغة: ما يتبلغ به من العيش.

له: «سروح عاهة»، والسروح: جمع سرح، وهو المال السارح. والعاهة: الآفة، أعاه القوم أصابت ماشيتهم العاهة.

وواد وعث: لا يثبت الحافر والخف فيه، بل يغيب فيه، ويشق على من يمشى فيه.

وأوعث القوم: وقعوا في الوعث.

ومسيم يسيمها: راع يرعاها.

قوله: رويدا يسفر الظلام... إلى آخر الفصل، ثلاثة أمثال محركة لمن عنده استعداد. واستقر أني أبو الفرج محمد بن عباد (رحمه الله) وأنا يومئذ حدث هذه الوصية فقرأتها عليه من حفظي، فلما وصلت إلى هذا الموضع صاح صيحة شديدة، وسقط - وكان جبار اقاسي القلب.

[أقوال حكيمة في وصف الدنيا وفناء الخلق]

واعلم أنا قدمنا في وصف الدنيا والفناء والموت من محاسن كلام الصالحين والحكماء ما فيه الشفاء، ونذكر الآن أشياء أخر.

فمن كلام الحسن البصري:

یا بن آدم إنا أنت أيام مجموعة، فإذا مضى يوم مضى بعضك.

عن بعض الحكماء:

ص: 122

رحم الله امرأ لا يغره ما يرى من كثرة الناس، فإنه يموت وحده، ويقبر وحده، ويحاسب وحده.

وقال بعضهم:

لا وجه لمقاساة الهموم لأجل الدنيا ولا الاعتداد بشيء من متاعها، ولا التخلي منها، أما ترك الاهتمام لها، فمن جهة أنه لا سبيل إلى دفع الكائن من مقدورها، وأما ترك الاعتداد بها، فإن مرجع كل أحد إلى تركها، وأما ترك التخلي عنها فإن الآخرة لا تدرك إلا بها.

ومن كلام بعض الحكماء:

أفضل اختيار الانسان ما توجه به إلى الآخرة، وأعرض به عن الدنيا، وقد تقدمت الحجة وأذنا بالرحيل، ولنا من الدنيا على الدنيا دليل، وإنما أحدنا في مدة بقائه صريع لمرض، أو مكتئب بهم، أو مطروق بمصيبة، أو مترقب لمخوف، لا يأمن المرء أصناف لذته من المطعوم والمشروب أن يكون موته فيه، ولا يأمن مملوكه وجاريته أن يقتلاه بحديد أو سم، وهو مع ذلك عاجز عن استدامة سلامة عقله من زوال، وسمعه من صمم، وبصره من عمى، ولسانه من خرس، وسائر جوارحه من زمانة، ونفسه من تلف، وماله من بوار، وحبيبه من فراق، وكل ذلك يشهد شهادة قطعية أنه فقير إلى ربه، ذليل في قبضته، محتاج إليه. لا يزال المرء بخير ما حاسب نفسه، وعمر آخرته بتخريب دنياه، وإذا اعترضته بحار المكاره، جعل معابرها الصبر والتأسي، ولم يغتر بتتابع النعم، وإبطاء حلول النقم، وأدام صحبة التقى، وفطم النفس عن الهوى، فإنما حياته كبضاعة ينفق من رأس المال منها، ولا يمكنه أن يزيد فيها، ومثل ذلك يوشك فناؤه وسرعة زواله.

ص: 123

وقال أبو العتاهية في ذكر الموت:

ستباشر الترباء خدك *** وسيضحك الباكون بعدك

ولينز لن بك البلى *** ولیخلفن الموت عهدك

وليفنينك مثل ما *** أفني أباك بلى وجدك

لوقد رحلت عن القصور*** وطيبها وسكنت لحدك

لم تنتفع إلا بفعل *** صالح قد كان عندك

وترى الذين قسمت ما *** لك بينهم حصصا وكدك

يتلذذون بما جمعته *** لهم ولا يجدون فقدك)(1)

ثانياً - في بيان قوله (عليه السلام): «أحيي قلبك بالموعظة..».

جاءت أقوال شراح نهج البلاغة في بيان قوله (عليه السلام):

«أحيي قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة، وقوه باليقين، ونوره بالحكمة، وذلله بذكر الموت»؛ على النحو الآتي:

1- قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح هذه الكلمات:

(ثم أتى بلفظتين متقابلتين، وذلك من لطيف الصنعة، فقال:

«أحيي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة».

والمراد: إحياء دواعيه الطاعة وإماتة الشهوات عنه. قوله (عليه السلام):

ص: 124


1- شرح نهج البلاغة: ج 16، ص 90 - 93

«واعرض عليه اخبار الماضين» معنى: قد تداوله الناس، قال الشاعر:

سل عن الماضين أن نطقت *** عنهم الاجداث والترك(1)

2- قال الشيخ محمد جواد مغنية (1400 ه):

«أحيي قلبك بالموعظة»: ليس المراد بالموعظة الوصايا العشر وامثالها، بل المراد الاتعاظ بالعبر والانتفاع بالتجارب.

«وأمته بالزهادة»، اي: الإعراض عن الحرام، كما قال في مكان أخر زهد كالزهد في الحرام، «قوه باليقين»، وهو: أن تعبد الله كأنك تراه، وتؤمن بالأخرة كأنك فيها، وأول ما ينشأ هذا اليقين من التفكير في خلق السماوات والأرض أو من التربية والبيئة، هم ينمو ويقوي بالعمل على مقتضاه.

«ونوره بالحكمة» فإنها ضالة المؤمن.

«وذلله بذكر الموت، وقرره بالبقاء»:

لأن نسيان الموت والفناء يؤدي الى العمى والطغيان؛ بل أدى ببعض الغافلين الى ادعاء الربوبية كالذي قال لإبراهيم الخليل (عليه السلام): «أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ»(2) وذهل أنه عما قريب مُنزل الى قبره جثة هامدة).(3)

ص: 125


1- شرح نهج البلاغة: ج 16، ص 63
2- البقرة: 258
3- في ظلال نهج البلاغة: ج 3، ص 488

ثالثاً - في خصوص قوله (عليه السلام): «من أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير».

قال ابن ميثم البحراني في شرح الحديث مختصراً ونكتفي به لما ورد في هذا الخصوص، قوله (عليه السلام):

«ومن أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير»:

لأنّ الغرض من طلب الكثير منها الاستمتاع والالتذاذ به، وذكر الموت كاسر لذلك الالتذاذ ومبغض له)(1).

رابعاً - الخلاصة فيما أورده شراح نهج البلاغة في الحديث.

إنّ المتتبع لهذه الأحاديث الشريفة يجد الكثير من الشرح والبيان في كتب الاخلاق والآداب والسنن؛ فضلاً عن العرفان والفلسفة وغيرها؛ فقد شغل الموت حيزاً كبيراً في منظومة الفكر الاسلامي وغيرها من المنظومات الفكرية ومن ثم نكتفي بهذا القدر من الشرح والبيان لهذه الأحاديث.

ص: 126


1- شرح نهج البلاغة: ج 5، ص 414

المبحث الثاني: استحباب الاتعاظ بالمرض وكتمانه والصبر عليه وآداب المريض واستحباب عيادته وأدابها

قال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) لبعض أصحابه في علة أعتلها:

«جَعَلَ اَللَّهُ مَا کَانَ مِنْ شَکْوَاكَ حَطّاً لِسَیِّئَاتِكَ فَإِنَّ اَلْمَرَضَ لاَ أَجْرَ فِیهِ وَ لَکِنَّهُ یَحُطُّ اَلسَّیِّئَاتِ وَ یَحُتُّهَا حَتَّ اَلْأَوْرَاقِ وَ إِنَّمَا اَلْأَجْرُ فِی اَلْقَوْلِ بِاللِّسَانِ وَ اَلْعَمَلِ بِالْأَیْدِی وَ اَلْأَقْدَامِ وَ إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ یُدْخِلُ بِصِدْقِ اَلنِّیَّةِ وَ اَلسَّرِیرَةِ اَلصَّالِحَةِ مَنْ یَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ اَلْجَنَّةَ»(1).

وقال (عليه السلام) في موضع آخر:

«امشِ بِدَائِكَ مَا مَشَى بِكَ»(2).

يرشد الحديث الشريف إلى جملة من الأمور منها ما أرتبط باستحباب الاتعاظ بالمرض واستذكار نعمة العافية والصبر على الآلام والأوجاع؛ فضلاً عن ذلك يبين الإمام (عليه السلام) أثر المرض على صحيفة الأعمال، وأنه يحط الذنوب حطاً، ومن ثم يظهر الفرق بين مقتضيات حصول الأجر وبين مقتضيات كفارة الذنوب.

ص: 127


1- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: ص 476، سلوة الحزين لقطب الدين الراوندي: ص 223، ربيع الأبرار للزمخشري: ج 5، ص 71، تاريخ الطبري: ج 4، ص 44، الكامل في التاريخ لابن الاثير: ج 3، ص 323
2- نهج البلاغة، الحكمة (27)، ص 472

ثم ليتوج هذه الفوارق والسنن الإلهية بسنة أخرى، وهي: صدق النية، وصلاح السريرة التي تكون سبباً موجباً لرحمة الله عزَّ وجل وشمول صاحبها فيدخله الله تعالى الجنة.

وللوقوف على أقوال الفقهاء في هذا المبحث في استحباب الصبر على المرض، وآداب المريض، واستحباب عيادته، كما هو الظاهر في سبب صدور النص الشريف، وذلك لعيادته (عليه السلام) لأحد أصحابه وكان مريضاً؛ فسيكون على النحو الاتي:

والذي امتازت فيه أقوال فقهاء المذهب الإمامي (رضوان الله تعالى عليهم) بالغزارة في إيراد الروايات الشريفة عن أئمة العترة النبوية (عليهم الصلاة والسلام) مما أقتضى تقسيم المسألة الى مسائل ثلاثة، وهي كالآتي:

المسألة الأولى: استحباب كتم الشكوى عند فقهاء المذهب الإمامي.

في هذه المسألة نكتفي بإيراد ما تناوله علمين من أعلام المذهب، وهما ابن ادريس الحلي (ت: 598 ه)، والعلامة ابن المطهر الحلي (ت: 726 ه) (عليهما الرحمة والرضوان)، وهو كالاتي:

أولا - ابن ادريس الحلي (عليه الرحمة والرضوان) (ت: 598 ه).

قال في كتاب السرائر في باب غسل الأموات وما يتقدم من ذلك:

(الأَولى بالمريض والأفضل له أن يكتم مرضه ولا يشكوه، وقد روي في حد الشكاية للمرض عن الصادق (عليه السلام):

ص: 128

«إنّ الرجل يقول حممت اليوم، وسهرت البارحة، وقد صدق وليس هذا شكاية، إنما الشكاية أن يقول: ابتليت بما لم يبتل به أحد، وأصابني مالم يصب أحد»(1).

وفي العيادة للمؤمنين فضل كثير وثواب جميل والرواية بذلك متظاهرة، ويحتسب للمريض أن يأذن للعائدين حتى يدخلوا عليه، فربما كانت لأحدهم دعوة مستجابة)(2).

ثانياً - العلامة ابن المطهر الحلي (عليه الرحمة والرضوان) (ت: 726 ه).

ص: 129


1- وسائل الشيعة للحر العاملي: الباب 5 من ابواب الاحتضار، ح 1
2- السرائر: ج 1، ص 158 نهج البلاغة الحكمة (27)، ص 472

قال (عليه الرحمة والرض-وان) في منتهى المطلب في المقصد العاشر من كتاب الأموات:

(ويستحب للمريض: الصبر والدعاء بطلب العافية ألا يشكو المرض إلى أحد إلَّا مع الحاجة، كالطبيب.

روى زيد الشحّام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

«أمر الناس بخصلتين فضيّعو هما فصاروا منهما على غير شيء، الصبر والكتمان»(1).

وروی یعقوب بن يزيد بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

«عودوا مرضاكم وسلوهم الدعاء، فإنّه يعدل دعاء الملائكة»(2).

«ومن مرض ليلة فقبلها بقبولها كتب الله له عبادة ستّين سنة».

قلت: ما معنى قبولها؟ قال:

«لا يشكو ما أصابه فيها إلى أحد»(3).

ص: 130


1- المحاسن: ص 255 الحديث 285، الكافي: ج 2، ص 222 الحديث 2، الوسائل: ج 11، ص 484 الباب 32 من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحديث 3
2- الوسائل: ج 2، ص 638 الباب 12 من أبواب الاحتضار الحديث 5
3- الكافي: ج 3، ص 115 الحديث 4، الوسائل: ج 2، ص 627 الباب 3 من أبواب الاحتضار الحديث 5

وعن معمّر بن خلَّاد، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال:

«رأي عليّ بن الحسين (عليهما السلام) رجلا يطوف بالكعبة وهو يقول: اللهمّ إنّي أسألك الصبر، فقال:

«يا هذا، أتدري ما تقول؟ إنّما تسأل ربّك البلاء، قل: (اللهمّ إنّي أسألك العافية وشكر العافية»)(1).

والاشتکاء هو أن يقول: ابتليت بما لم يبتل به أحد، أو: أصابني مالم يصب أحدا. فأمّا أن يقول: حميت البارحة - مثلا - فلا)(2).

المسألة الثانية: آداب المريض في المذهب الإمامي.

نكتفي في هذه المسألة بعلمين من أعلام المذهب (عليهما الرحمة والرضوان) وهما كالاتي:

أولاً - السيد اليزدي (عليه الرحمة والرضوان) (ت: 1337 ه).

قال في العروة الوثقى في آداب المريض وما يستحب عليه، أمور وهي:

(الأول): الصبر والشكر لله تعالى.

(الثاني): عدم الشكاية من مرضه الى غير المؤمن، وحد الشكاية أن يقول: ابتليت بما لم يبتل به أحدا، وأصابني مالم يصب أحدا. وأما إذا قال: سهرت البارحة، أو كنت محموما، فلا بأس به.

ص: 131


1- الدعوات للراوندي: ص 114 الحديث 261، مشكاة الأنوار: ص 258. بتفاوت فيه، البحار: ج 95، ص 285 الحديث 1
2- منتهى المطلب: ج 7، ص 129

(الثالث): أن يخفي مرضه إلى ثلاثة أيام.

(الرابع): أن يجدد التوبة.

(الخامس): أن يوصي بالخيرات للفقراء من أرحامه وغيرهم

(السادس): أن يعلم المؤمنين بمرضه بعد ثلاثة أيام:

(السابع): الإذن لهم في عيادته.

(الثامن): عدم التعجيل في شرب الدواء ومراجعة الطبيب إلا مع اليأس مع البرء بدونهما:

(التاسع): أن يجتنب ما يحتمل الضرر.

(العاشر): أن يتصدق هو وأقربائه بشيء، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((داووا مرضاكم بالصدقة)).

(الحادي عشر): أن يقر - عند حضور المؤمنين - بالتوحيد، والنبوة، والإمامة، والمعاد، وسائر العقائد الحقة.

(الثاني عشر): أن ينصب قيما أمينا على صغاره، ويجعل عليه ناظرا.

(الثالث عشر): أن يوصي بثلث ماله إن كان موسرا.

(الرابع عشر): أن يهيئ كفنه. ومن أهم الأمور: إحكام أمر وصيته، وتوضيحه، وإعلام الوصي والناظر بها.

(الخامس عشر): حسن الظن بالله عند موته، بل قيل بوجوبه في جميع الأحوال، ويستفاد من بعض الأخبار وجوبه حال النزع).(1)

ص: 132


1- العروة الوثقى للسيد اليزدي (قدس): ج 2، ص 16

ثانياً - الشيخ محمد تقي الآملي (عليه الرحمة والرضوان) (ت: 1391 ه).

قال في شرحه لمطالب العروة الوثقى وقد بيَّن مباني هذه الآداب فأوردناه لهذا الغرض، قال (رحمه الله):

(في آداب المريض وما يستحب عليه، أمور:

الأول: الصبر والشكر لله تعالى.

فعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

«يقول الله عز وجل: إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيمة أن أنصب له میزانا أو أنشر له دیوانا».

وعنه (صلَّى الله عليه وآله):

«یکتب أنين المريض فإذا كان صابرا كتب حسنات وإن كان جازعا کتب هلوعا لا أجر له».

وعنهم (عليهم السلام):

«إنّ البدن إذا صح أشر وبطر فإذا أعتل ذهب ذلك عنه فان صبر جعل ذلك كفارة لما قد أذنب وإن لم يصبر جعله وبالا عليه». وغير ذلك من الأخبار الواردة في الصبر على المرض.

(ويدل على استحباب الحمد) المروي عن الصادق (عليه السلام):

«إنّ من اشتكى ليلة فقبلها بقبولها وادي إلى الله شکرها كانت كعبادة ستين سنة».

ص: 133

قال له الراوي ما قبولها؟ فقال (عليه السلام):

«يصبر عليها ولا يخبر بما كان فيها فإذا أصبح حمد الله على ما كان».

وقد عد الفقهاء الصبر والاحتساب من آداب المريض وأفتوا باستحبابهما.

الثاني: عدم الشكاية من مرضه إلى غير المؤمن وحد الشكاية أن يقول: ابتليت بما لم يبتل به أحد وأصابني مالم يصب أحدا وأما إذا قال سهرت البارحة أو كنت محموما فلا بأس.

اعلم أن في الشكاية عن المرض وردت طوائف من الأخبار (منها):

ما بظاهره يدل على رجحان ترك الشكاية على نحو الإطلاق کالخبر الأخير المروي عن الصادق (عليه السلام) في الأمر الأول، وكالمروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) إنه قال:

«أربعة من كنوز الجنة كتمان الحاجة، وكتمان الصدقة، وكتمان المرض، وكتمان المصيبة»، وغير ذلك من الاخبار.

(ومنها) ما يدل على استحباب کتمان المرض ثلاثة أيام، کالمروي عن الصادق (عليه السلام):

«قال الله عز وجلّ أيما عبد أبتليته ببلية فكتم ذلك عواده ثلاثا أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه وبشرا خيرا من بشره»، (الحدیث).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام):

«من كتم وجعا أصابته ثلاثة أيام من الناس وشکى إلى الله عز وجل كان حقا على الله أن يعافيه عنه».

(أو ليلة) كالمروي عن النبي (صلَّى الله عليه وآله):

ص: 134

«إنّ من اشتكي ليلة فقبلها بقبولها». (الحديث) وقد تقدم في الأمر الأول (أو يوما وليلة) كالمروي عنه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إنه قال:

«من مرض يوما وليلة فلم يشك إلى عواده بعثه الله يوم القيمة مع إبراهيم خلیل الرحمن (عليه السلام) حتى يجوز الصراط كالبرق اللامع».

(ومنها) ما يدل على مرجوحية الشوکی، کالمروي عن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):

«إنّ من شکی مصيبة نزلت به فإنما يشكو ربه».

وعنه (صلَّى الله عليه وآله):

«أوحى الله إلى عزیر (عليه السلام) یا عزير إذا نزلت إليك بليلة فلا تشك إلى خلقي كما لا أشكوك إلى ملائكتي عند صعود مساوِئِك وفضائِحِك».

(ومنها) ما يدل على اختصاص منع الشكوى بما كان إلى الكافر أو إلى مخالف في الدين؛ ففي خبر یونس بن عمار قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:

«أيما مؤمن شکی حاجته أو ضره إلى کافر أو إلى من يخالف دينه فإنما شکی الله عز وجلّ إلى عدو من أعداء الله، وأيما رجل شکی حاجته وضره إلى مؤمن مثله كانت شكواه إلى الله عز وجل».

وفي خبر أخر قال (عليه السلام) للحسن بن راشد:

«یا حسن إذا نزلت بك نازلة فلا تشکها إلى أحد من أهل الخلاف ولكن اذكرها لبعض إخوانك فإنك لن تعد خصلة من خصال أربع» (الحديث).

ثم أن هذه الأخبار کما تری مطلقة لا تحدد فيها الشكوى، ولازمها ترتب

ص: 135

الحكم على مايصدق عليه الشكاية، ولكن ورد التحديد في أخبار أخرى، ومقتضاها عدم كون مجرد الاخبار بالمرض شکوی.

(ففي صحيح جميل) عن الصادق (عليه السلام) قال:

«سألته عن حد الشكاة للمريض قال (عليه السلام): «أن الرجل يقول حممت اليوم وسهرت البارحة وقد صدق، وليس هذا شكاة، وإنما الشكوى أن يقول لقد ابتليت بما لم يبتل به أحد، أو يقول لقد أصابني مالم يصب أحدا».

والجمع بين هذه الاخبار عندي بإبقاء الطائفة الأولى على حالها من الإطلاق والقول باستحباب کتمان المرض مطلقا بمرتبة من الاستحباب وتأكيدها في ثلاثة أيام والأكد منها في اليوم والليلة والآكد منها في الليلة الواحدة، هذا في الاخبار التي بظاهرها تدل على استحباب الكتمان وكذا الأخبار الدالة على المنع عن الشكاية فيبقى المطلقة منها على ما هو الظاهر منها من مرجوحية الشكاية مطلقا، ولا منافاة بين استحباب الكتمان وكراهة الإظهار، حيث يمكن أن يكون شيء مرجوحالحزازة في فعله وكان ترکه راجحا لمصلحة في تركه وإن كان الأغلب عدم کراهة ترك المستحب ولا استحباب ترك المكروه.

وأما الأخبار المانعة عن الشكوى إلى الكافر أو إلى المخالف في الدين، فلعل الظاهر منها هو المنع عن الاستنصار منهم، لا مجرد إظهار البلاء عندهم، مع أنها ليست في مورد المرض، بل هي في مورد الحاجة والضر، کما ان الأخبار المحددة للشكاية ظاهرة في تحديد الشكاية المحرمة وهي المشتملة

ص: 136

على الكذب وتمييزها عن غير المحرمة وهي التي لا تشتمل عليه، كما يدل عليه قوله (عليه السلام) أن الرجل يقول حممت اليوم وسهرت البارحة وقد صدق، ولا منافاة بين نفی حرمتها لكونها صدقا وبين مرجوحيتها وحزازتها لكونها جزعا وشكاية عن الله سبحانه، - ويدل على ما ذكرنا - قوله (عليه السلام):

«وإنما الشكوى أن يقول لقد أبتليت بما لم يبتل به أحد»، بعد مقابلته مع ما سلب عنه الشكاية لكونه صدقا المعلوم من أنّ المناط في كون ما يقابله كذبا مع بداهة كذب الاخبار بالابتلاء بما لم يبتل به أحد فمن أين أحرز عدم ابتلاء أحد بما ابتلاء به حتى يخبر بذلك - هذا ما عندي في هذا الأمر -.

-ومما ذكرنا يظهر - ما في المتن من اختصاص الاستحباب بكتمان المرض عن غير المؤمن، إذ قد عرفت عدمه وإنه ينبغي کتمانه مطلقا وإن كان استحباب الكتمان عن غير المؤمن آكد، وكذا في نفي البأس المطلق عن القول بأني سهرت البارحة، أو كنت محموما، بل الحق هو کراهته واستحباب ترکه، وإن ما أفاده من تحديد الشكاية وهو القول بأني ابتليت بما لم يبتل به أحد أو أصابني ما لم يصب أحدا ليس على ما ينبغي بل هذا القسم من الشكاية حرام، ومما ذكر في هذا الأمر ظهر الأمر:

الثالث: وهو استحباب كتمان المرض إلى ثلاثة أيام. الرابع: أن يجدد التوبة.

لم أر من عدَّ استحباب تجديد التوبة من آداب المريض، وأما أصل تجديدها ولو في غير حال المرض فقد تقدم في الأمر الحادي عشر الاختلاف في وجوبه

ص: 137

على قولين، وإن الحق منهما هو عدم الوجوب، إلّا أن في تكرار إجراء صيغة الاستغفار لا محالة أثر مخصوص، ولذلك رغب الإتيان بها في كل صباح ومساء سبعين مرة، ويشير إليه قوله تعالى: «إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً».

الخامس: أن يوصى بالخيرات للفقراء من أرحامه وغيرهم.

ويدل عليه قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ»، وفسر حضور الموت بظهور أماراته التي منها المرض، وفسر الخير بالمال الكثير، والمعروف بالشيء الذي يعرفه العقل، ولا يكون فيه جور ولا حيف مثل الثلث وما دونه.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال:

«من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية».

وقول المصنف في المتن (وغيرهم) يمكن أن يكون معطوفاعلى قوله (للفقراء) ويمكن أن يكون معطوفا على قوله (من أرحامه) فعلى الأول يصير معنى الوصية للفقراء وغير الفقراء من الأرحام، وعلى الثاني فيصير المعنى للفقراء من أرحامه وغير أرحامه، والآية تدل على الأول، وللثاني أيضا وجه يمكن ان يستدل له بما يأتي، مما يدل على رجحان الوصية مطلقا.

السادس: أن يعلم المؤمنين بمرضه بعد ثلاثة أيام.

وعن الصادق (عليه السلام):

«ينبغي للمريض منكم ان يؤذن إخوانه بمرضه فيعودونه فيؤجر فيهم

ص: 138

ويؤجرون فيه»، فقيل له نعم فهم يؤجرون فيه بممشاهم إليه فكيف يؤجر فيهم؟

قال (عليه السلام):

«باکتسابه لهم الحسنات فيؤجر فيهم فيكتب له بذلك عشر حسنات ويرفع له عشر درجات ويمحى بها عشر سيئات».

وتقييد المصنف (قدس سره) بما بعد ثلاثة أيام لعله من جهة الجمع بين هذا الخبر وبين ما تقدم، مما يدل على استحباب كتمان المرض بحمل هذا الخبر على ما بعد ثلاثة أيام، وحمل ما تقدم على ما قبلها بشهادة ما في الأخبار المتقدمة من رجحان الكتمان إلى ثلاثة أيام، ويمكن حمل الأخبار المتقدمة على ترك الإظهار على نحو الشكاية بما فسر في بعض تلك الأخبار أو يراد بها کتمان شدة المرض لا أصله، أو كتمان ما يمكن كتمانه كبعض الأمراض الخفية، وعليه فلا تقیید لاستحباب الاعلام بما بعد الثلاثة، ولا بأس به.

السابع: الإذن لهم في عيادته.

وعن الكاظم (عليه السلام):

«إذا مرض أحدكم فليأذن للناس يدخلون عليه فإنه ليس من أحد الأولى دعوة مستجابة».

الثامن: عدم التعجيل في شرب الدواء ومراجعة الطبيب إلا مع اليأس من البرء بدونها.

وعن الصادق (عليه السلام):

ص: 139

«إن من ظهرت صحته على سقمه فيعالج نفسه بشيء فمات فأنا إلى الله منه بريء».

وعن الكاظم (عليه السلام):

«ليس من دواء إلا ويهيج داء، وليس شيء أنفع للبدن من إمساك اليد لا عمّا يحتاج إليه».

وعنه (عليه السلام):

«ادفعوا معالجة الأطباء ما اندفع الداء عنكم، فإنه بمنزلة البناء قليله يجر إلى كثيره».

وعنه (عليه السلام):

«تجنب الدواء ما احتمل بذلك الداء، فإذا لم يحتمل الداء فالدواء».

ويدل على رجحان الرجوع إلى الطبيب وشرب الدواء المروي عن علي (عليه السلام):

«لا يتداوى المسلم حتى يغلب مرضه على صحته».

وعليه يحمل المروي عن الصادق (عليه السلام):

«إن نبيا من الأنبياء مرض فقال: (لا أتداوى حتى يكون الذي أمرضني هو يشفيني)، فأوحى الله إليه: لا أشفيك حتى تتداوی، فان الشفاء مني».

(أقول) وهذا الأمر كأنه معلوم بالتجربة وقد اتفقت كلمة الأطباء في هذه الإعصار على ترك المعالجة في شرب الأدوية مهما أمكن.

والمروي عن حارث بن كلدة إنه قال: دافع بالدواء ما وجدت مدفعا ولا تشربه إلا عن ضرورة، فإنه لا يصلح شيئا إلا أفسد مثله.

ص: 140

التاسع: أن يجتنب ما يحتمل الضرر.

لا ينبغي أن يعد اجتناب ما يحتمل ضرره من آداب المريض إذ هو ثابت في جميع الأحوال، ثم الحكم باستحباب الاجتناب عما يحتمل الضرر على نحو الكلية ليس مما ينبغي، بل هو مختلف بحسب اختلاف الموارد احتمالا ومحتملا، فرب ضرر يجب الاجتناب عند احتماله ولو كان احتاله ضعيفا، ورب احتمال یلزم الجري عليه ولو لم يكن المحتمل شديدا، ثم الحكم برجحان اتباعه عقلي کالحكم بحسن الطاعة لا يستتبع حكما شرعيا حتى يعد الاجتناب عما يحتمل ضرره مستحبا شرعيا ثم على تقدير استتباعه للحكم الشرعي بدعوی کون الحكم برجحانه في مرتبة علل الحكم الشرعي لا معالیله؛ فالحكم الشرعي المستكشف منه مولوي طريقي کالحكم برجحان الاحتياط لو قيل به شرعا (وكيف كان) فعد استحباب الاجتناب عما يحتمل ضرره من آداب المريض ليس على ما ينبغي.

العاشر: أن يتصدق هو وأقربائه بشيء.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«داووا مرضاكم بالصدقة».

وعن الباقر (عليه السلام) عن آبائه عن النبي (صلَّى الله عليه وآله) قال:

«الصدقة تدفع البلاء المبرم فداووا مرضاكم بالصدقة».

وعن الكاظم (عليه السلام):

«إن رجلا شكى إليه إنني في عشرة نفر من العيال كلهم مريض فقال (عليه السلام) له داوهم بالصدقة فليس شيء أسرع إجابة من الصدقة ولا

ص: 141

أجدى منفعة للمريض من الصدقة».

وهذا الأخير بذيله يدل على استحباب إعطاء الصدقة من المريض نفسه، ويدل عليه أيضا المروي عن الباقر (عليه السلام) عن النبي (صلَّى الله عليه وآله):

«الصدقة تدفع ميتة السوء عن صاحبها».

الحادي عشر: ان يقر عند حضور المؤمنين بالتوحيد والنبوة والإمامة والمعاد وسائر العقائد الحقة.

وعن النبي (صلَّى الله عليه وآله) في كيفية الوصية إنه (صلّى الله عليه وآله) قال:

«إذا حضرته وفاته واجتمع إليه الناس قال: (اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم اللهم إني أعهد إليك في دار الدنيا إني اشهد ان لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وإن محمّدا عبدك ورسولك وإن الجنة حق وإن النار حق وإن البعث حق والحساب حق وإن الایمان حق وإن الدین کما وصفت وإن الإسلام کما شرعت وإن القول کما قلت وإن القرآن کما أنزلت وإنك أنت الله الحق المبين وإني أعهد إليك في دار الدنيا إني رضيت بك ربا وبالإسلام دينا وبمحمد (صلَّی الله عليه وآله) نبياً وبعلي ولياً وبالقرآن كتابا وإن أهل بیت نبيك (عليه وعليهم السّلام) أئمتي...» (إلى أخر الحديث) وفي ذيله:

قال النبي صلَّى الله عليه وآله لعلي (عليه السلام):

«تعلمها أنت وعلمها أهل بيتك وشيعتك فقد علمنيها جبرئیل».

ص: 142

الثاني عشر: أن ينصب قيما أمينا على صغاره ويجعل عليه ناظرا.

قد تقدم في ذيل المسألة الرابعة وجوب نصب القيم الأمين على صغاره لو كان ترك النصب تضييعا لهم أو لأموالهم الذي لا يرضى الله سبحانه به وعدم وجوبه فيما لم يكن كذلك، وأما استحبابه شرعا واستحباب جعل الناظر عليه فلم أر له دليلا يدل عليه، ولا يخفى مساعدته مع الاعتبار الا أنه لا يمكن الفتوى به.

الثالث عشر: أن يوصى بثلث ماله ان كان موسرا.

ويدل على استحباب أصل الوصية المروي عن الصادق (عليه السلام):

«ما من میت تحضره الوفاة إلا رد الله تعالى عليه من سمعه وبصره وعقله للوصية»، أخذ الوصية أو ترك، وهي الراحة التي يقال لها راحة الموت.

(وعن أبي حمزة) عن بعض الأئمة قال:

«إن الله تبارك وتعالى يقول: (يا بن آدم تطولت عليك بثلاث (إلى ان قال) وجعلت لك نظرة عند موتك في ثلثك فلم تقدم خیرا».

ويدل على استحباب الوصية بالثلث ما روي عن الصادق (عليه السلام) قال:

«قال عليّ (عليه السلام): من أوصى فلم يجحف ولم يضار كان كمن تصدق به في حياته».

وقال علي (عليه السلام): «يلحق المؤمن بعد وفاته ولد يستغفر له (إلى ان قال) وصدقة يجريها».

ويدل على استحباب الوصية على الموسر ما في خبر مسعدة بن صدقة

ص: 143

المروي عن الصادق (عليه السلام) في حديث طويل (إلى أن قال «.. وكان نهي الله تبارك الله وتعالى رحمة للمؤمنين لكيلا يضروا بأنفسهم وعیالاتهم منهم الضعفة الصغار والوالدان والشيخ الفاني والعجوز الكبيرة الذين لا يصبرون على الجوع فان تصدقت رغيفي ولا رغيف لي غيره ضاعوا وهلكوا جوعا».

فمن ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«خمسة تمرات أو خمس قرص أو دنانير أو دراهم يملكها الإنسان وهو يريد أن يمضيها فأفضلها ما أنفقها الإنسان على والديه ثم الثانية على نفسه وعياله ثم الثالثة على قرابته الفقراء ثم الرابعة على جيرانه ثم الخامسة في سبيل الله وهو أحسنها أجراً».

قال: وقال (صلَّى الله عليه وآله) للأنصاري حين أعتق عند موته خمسة أو ستة من الرقيق ولم يملك غيرهم وله أولاد صغار: «لو أعلمتموني أمره ما ترکتکم تدفنونه بين المسلمين، ترك صبية صغارا يتكففون الناس».

ثم قال حدثني أبي أن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قال:

«ابدأ بمن تعول الأدنى فالأدني».

الرابع عشر: أن يهيأ كفنه ومن أهم الأمور أحكام أمر وصيته وتوضيحه واعلام الوصي والناظر به.

قال في الوسائل والأحاديث في أن الأئمة عليهم السّلام و خواص شيعتهم كانوا يعدون أكفانهم.

ويدل عليه المروي في الكافي عن السكوني عن الصادق (عليه السلام) قال:

«إذا أعد الرجل كفنه فهو مأجور كلما نظر إليه».

ص: 144

وفي خبر محمّد بن سنان عنه (عليه السلام):

«من كان كفنه في بيته لم يكتب من الغافلين وكان مأجورا كلما نظر إليه».

والاهتمام بأحكام أمر الوصية وتوضيحه واعلام الوصي والناظر به واضح لا يحتاج إلى البيان لا سيما في الأمور الواجبة وخصوصا في حقوق الناس منها.

الخامس عشر: حسن الظن بالله عند موته بل قيل بوجوبه في جميع الأحوال ويستفاد من بعض الاخبار وجوبه حال النزع.

لا إشكال في استحباب حسن الظن بالله سبحانه في جميع الأحوال، وفي الكافي عن الرضا (عليه السلام) إنه قال:

«أحسن الظن بالله فان الله عز وجل يقول: أنا عند ظن عبدي المؤمن، إن خيراً فخيراً وإن شرا فشرا».

وفي حديث آخر عنه (عليه السلام) قال:

«فأحسن الظن بالله فإن أبا عبد الله (عليه السلام) كان يقول: من حسن ظنه بالله كان الله عند ظنه به، ومن رضي بالقليل من الرزق قبل منه اليسير من العمل».

ولا ينبغي الإشكال في حرمة القنوط من رحمة الله واليأس من روحه وإنه من الكبائر بل هو أشد من القتل، قال سبحانه حكاية عن يعقوب (عليه السلام):

«إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ»(1).

ص: 145


1- يوسف: 87

ويمكن ان يستأنس لوجوبه في جميع الأحوال المروي عن الباقر (عليه السلام)، قال: (وجدنا في كتاب عليّ (عليه السلام) إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال على منبره:

«والذي لا إله الا هو لا يعذب الله مؤمنا بعد التوبة والاستغفار الا بسوء ظنه بالله وتقصير من رجائه له وسوء خلقه واغتياب المؤمنين».

ويدل على استحبابه حال الاحتضار ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه عاد رجلا من الأنصار فوافقه وهو في الموت فقال: «كيف تجدك؟» قال: أجدني أرجو رحمة ربي، وأتخوف من ذنوبي، فقال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):

«ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله رجاه وأمنه خوفه».

(ويمكن) استفادة وجوبه في حال النزع من المروي عنه (صلَّى الله عليه وآله) قال:

«لا يموتن أحدكم حتى يحسن ظنه بالله عز وجل فان حسن الظن بالله ثمن الجنة»(1).

أقول:

وبعد هذا البيان لما أورده السيد اليزدي في العروة الوثقى جاء الشرح على لسان الشيخ الآملي (طيب الله ثراه) مسهباً في إيراد الروايات الشريفة لينعطف كذلك في بيان ما أورده السيد اليزدي في آداب عيادة المريض ولذا:

ص: 146


1- مصباح الهدى في شرح العروة الوثقی: ص 334 - 343

سنورد أيضاً ما جاء في كتاب العروة الوثقى في آداب عيادة المريض ثم نردفه بما جاء حوله من الشروحات والتي سنكتفي بواحد من هذه الشروحات والتعليقات على العروة الوثقی بعدان نورد اقوال بعض فقهاء الطائفة في المسألة.

المسألة الثالثة: آداب عيادة المريض واستحبابها في المذهب الإمامي.

تناول فقهاء الامامية (رضوان الله عليهم) مسألة استحباب عيادة المريض في كثير من مصنفاتهم الفقهية وسنورد ثلاثة أقوال لأعلام المذهب (عليهم رحمة الله ورضوانه) وهي كالاتي:

أولاً - يحيى بن سعيد (عليه الحمة والرضوان) (ت 689 ه).

قال (عليه رحمة الله ورضوانه) في الجامع للشرایع في باب أحكام الأموات:

(يشتمل هذا الباب على الغسل، والتكفين، والصلاة، والدفن، وتتقدم على ذلك من السنن عيادة المرض المسلمين وإقلال اللبث عندهم إلا أن يؤثروا ذلك وأن يدعوا له وتمنى البقاء والعافية ويعاد بتحفة يتحف بها ولو بتفاحة او سفرجلة أو مشموم، ويدعو العوادة)(1).

ثانياً - العلامة ابن المطهر الحلي (عليه الرحمة والرضوان) (ت: 726 ه).

قال (عليه رحمة الله ورضوانه) في منتهى المطلب:

(ويستحب عيادة المريض بالإجماع، روى الجمهور عن البراء، قال:

(امرنا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): باتباع الجنائز وعيادة المريض).

ص: 147


1- الجامع للشرایع: ص 48

وعن عليّ (عليه السلام) ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

«ما من رجل يعود مریضاً مساءاً إلا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يمسي».

ومن طريق الخاصة ما رواه ابن بابویه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

«ضمنت لستة: الجنة رجل خرج بصدقة فمات فله الجنة، ورجل خرج يعود مريضا فمات فله الجنة، ورجل خرج مجاهدا في سبيل الله فمات فله الجنة، ورجل خرج حاجا فمات فله الجنة، ورجل خرج إلى الجمعة فمات فله الجنة، ورجل خرج في جنازة مسلم فمات فله الجنة».

وعن الباقر (عليه السلام) قال:

«كان فيما ناجی به موسی بن عمران ربه أن قال: يارب ما يبلغ من عيادة المريض من الاجر فقال الله تعالى أو كل به ملكا يعوده في قبره إلى يوم محشره».

ويستحب له أن يدعو للمريض، روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:

«إذا دخلتم على المريض فيشفعوا له في الأجل فإنه لا يرد من قضاء الله شيئا، وأنه يطلب نفس المريض».

ويستحب للمريض أن يأذن للعايدين فربما كان فيهم من هو مستجاب الدعوة، ولا عیادة في وجع العين، ويستحب تخفيف العيادة وتعجيل القيام، إلا أن يكون المريض يحب الإطالة، ويكره عيادة أهل الذمة لمنافاتهم للدين،

ص: 148

ولأنه أمرنا بإهانتهم بالمعروف)(1).

ثالثاً - السيد اليزدي (عليه الرحمة والرضوان) (ت: 1337 ه).

قال (عليه رحمة الله ورضوانه) في العروة الوثقی:

(عيادة المريض من المستحبات المؤكدة، وفي بعض الأخبار: أن عيادته عيادة الله تعالى، فإنه حاضر عند المريض المؤمن).

ولا تتأكد في وجع العين، والضرس، والدمل، وكذا من اشتد مرضه أو طال. ولا فرق بين أن تكون في الليل أو في النهار بل يستحب في الصباح والمساء ولا يشترط فيها الجلوس، بل ولا السؤال عن حاله، ولها آداب:

(أحدها) أن يجلس، ولكن لا يطيل الجلوس، إلا إذا كان المريض طالبا.

(الثاني): أن يضع العائد إحدى يديه على الأخرى، أو على جبهته حال الجلوس عند المريض.

(الثالث): أن يضع يده على ذراع المريض عند الدعاء له، أو مطلقا.

(الرابع): أن يدعو له بالشفاء. والأولى أن يقول: (اللهم اشفعه بشفائك، وداوه بدوائك، وعافه من بلائك).

(الخامس): أن يستصحب هدية له من فاكهة أو نحوها مما يفرحه ويريحه.

(السادس): أن يقرأ عليه فاتحة الكتاب سبعين، أو أربعين مرة، أو سبع مرات، أو مرة واحدة، فعن أبي عبد الله (عليه السلام):

«لو قرئت الحمد على میت سبعين مرة ثم ردت فيه الروح ما كان ذلك عجبا».

ص: 149


1- منتهى المطلب: ج 7، ص 130

وفي الحديث: «ما قرئت الحمد على وجع سبعين مرة إلا سكن بإذن الله، وإن شئتم فجربوا ولا تشكوا».

وقال الصادق (عليه السلام):

«من نالته علة فليقرأ في جيبه الحمد سبع مرات، وينبغي أن ينفض لباسه بعد قراءة الحمد عليه».

(السابع): ألا يأكل عنده ما يضره ويشتهيه.

(الثامن): ألا يفعل عنده ما يغيظه، أو يضيق خلقه.

(التاسع): أن يلتمس منه الدعاء، فإنه ممن يستجاب دعاؤه؛ فعن الصادق (صلوات الله علیه):

«ثلاثة يستجاب دعاؤهم: الحاج، والغازي، والمريض»(1).

المسألة الرابعة: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى في استحباب الصبر على المرض، واستحباب عيادة المريض وآدابها.

أولاً - المذهب الشافعي: في استحباب الصبر على المرض وعيادة المريض.

قال الحافظ النووي (ت 676 ه) في مجموع الفتوى وشرحها ونكتفي بقوله اذ لا خلاف بينهم في المسالة:

(ومن مرض استحب له ان يصبر، لما روي أن امرأة جاءت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول الله أُدعُ الله أن يشفيني، فقال:

«إن شئت دعوتُ الله فشفاكِ وإن شئتِ فاصبري ولا حساب عليكِ».

ص: 150


1- العروة الوثقی: ج 2، ص 17-18

قالت: أصبر ولا حساب عليَّ)(1).

(في استحباب عيادة المريض)

وتستحب عيادة المريض، لما روي البراء بن عازب، قال أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) باتباع الجنائز وعيادة المريض فان رجال دعاله؛ والمستحب أن يقول:

(أسال الله العظيم رب العرش العظيم ان يشفيك) سبع مرات لما روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

«من عاد مريضاً لم يحضره أجله، فقال عنده سبع مرات: (أسال الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك) عافاه الله من ذلك المرض، وإن رآه منزولا به فالمستحب أن يلقنه قول: (لا إله إلا الله)»، لما روى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«القنوا موتاكم لا إله إلا الله».

وروی معاذ أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:

«من كان آخر كلامه لا إله إلا الله وجبت له الجنة».

ويستحب أن يقرأ عنده سورة يس لما روى معقل بن يسار أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

«اقرؤا على موتاكم»، يعني يس، ويستحب أن يضطجع على جنبه الأيمن مستقبل القبلة لماروت سلمي أم ولد رافع قالت: قالت فاطمة - عليها السلام - بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم - وعليها السلام -):

ص: 151


1- المجموع: ج 5، ص 106

ضعي فراشي هاهنا واستقبلي بي القبلة».

ثم قامت فاغتسلت كأحسن ما يغتسل، ولبست ثيابا جددا ثم قالت:

«تعلمين اني مقبوضة الان»، ثم استقبلت القبلة وتوسدت يمينها).(1)

ثانياً - المذهب المالكي: في استحباب الصبر على المرض واستحباب عيادة المريض وبيان أجره.

قال إمام المذهب مالك بن انس في الموطأ، باب: ما جاء في أجر المريض:

(حدثني عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يساره إنّ رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

«إذا مرض العبد بعث الله تعالى اليه ملكين، فقال: انظروا ماذا يقول العواده، فإن هو إذا جاؤه حمد الله وأثنى عليه. رفعاً ذلك الى الله عز وجل وهو اعلم، فيقول: لعبدي علي ان توفيته ان ادخله الجنة، وان انا شافيته ان ابدل له لحماً خيراً من لحمه ودماً خيراً من دمه وان اكفر عنه سيئاته»(2).

وقال في باب: عيادة المريض.

(حدثني عن مالك انه بلغه عن جابر بن عبد الله: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

«إذا عاد الرجل المريض خاض الرحمة حتى اذا قعد عنده قرت فيه»)(3).

ص: 152


1- المجموع للنووي: ج 5، ص 110
2- الموطأ: ج 2، ص 940
3- الموطأ: ج 2، ص 940

ثالثاً - المذهب الزيدي: في استحباب الصبر على المرض وعيادة المريض.

قال الشيخ أحمد المرتضى الزيدي في شرح الأزهار من كتاب الجنائز:

(ويستحب للمريض ذكر الموت وان يحب لقاء الله، وأن يصبر على الألم، وان يتداوى؛ ويستحب للزائر ان يطيب نفسه ويبشره بالعافية)(1).

رابعاً - المذهب الحنبلي: في استحباب عيادة المريض ورقيه.

ورد ذلك في المغنى لابن قدامة المقدسي في كتاب الجنائز، انه قال:

(يستحب عيادة المريض:

قال البراء: (أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) باتباع الجنائز وعيادة المريض).

رواه البخاري ومسلم؛ وعن عليّ - (عليه السلام) -: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

«ما من رجل يعود مريضا ممسيا إلا فرح معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح، كان له خريف في الجنة؛ ومن أناه مصبحاً فرح معه سبعون ملك يستغفرون له حتى يمسي، وكان له خريف في الجنة».

قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب وإذا دخل على مريض دعا له ورقاه. قال ثابت لأنس يا أبا حمزة اشتكيت، قال أنس أفلا أرقيك برقية رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال بلى، قال:

«اللهم رب الناس، مذهب الباس، أشف أنت الشافي، شفاء لا يغادر سقما».

ص: 153


1- شرح الازهار: ج 1، ص 400

وروى أبو سعيد قال: (أتي جبريل النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) فقال: يا محمد اشتكيت؟ قال: «نعم».

قال: (بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس وعين حاسدة، الله يشفيك).

وقال أبو زرعة: كلا هذين الحديثين صحيح.

وروي أن النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قال:

«إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل فإنه لا يرد من قضاء الله شيئا، وإنه يطيب نفس المريض»(1).

المسألة الخامسة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

أتفق فقهاء المذهب على استحباب الصبر على المرض وكتم الشكوى واستحباب عيادة المريض، في حين ذهب فقهاء الإمامية الى ترك عيادة المريض في وجع العين والدمامل وخالفهم في ذاك الشافعية فذهبوا الى (استحباب العيادة من وجع العين، برمد أو غيره لحديث زيد بن أرقم:

(عادني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من وجع كان بعيني)(2).

والحديث لا يصلح أن يكون سُنّة وذلك لأمور:

1- أنه من الآحاد وليس له ما یعاضده في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ص: 154


1- المغني لابن قدامة : ج 2، ص 303
2- المجموع للنووي: ج 5، ص 112

2- بل ثبت العكس وهو أن من كان به وجع في عينه أو أنه أصيب بالرمد فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقم بعيادته کما هو ثابت في غزوة خيبر حينما سأل عن علي (عليه السلام) فقيل له أنه يشتكي عينه فبعث إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يطلبه فجيء به إليه وهو لا يبصر موضع قدمه فسقاه من ريقه (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو ما يدل على أن لا عيادة في وجع العين.

وقد أخرج أحمد، وابن ماجة، والنسائي، وابن أبي شيبة الكوفي، عن عبد (155) الرحمن ابن أبي ليلى قال:

كان أبي يسمر مع علي (عليه السلام) وكان علي يلبس ثياب الصيف في الشتاء، وثياب الشتاء في الصيف، فقيل له: لو سألته، فسأله، فقال:

«إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث إلي وأنا أرمد العين يوم خیبر، فقلت: يا رسول الله إني أرمد العين، قال:

فتفل في عيني، وقال: «اللهم أذهب عنه الحر والبرد، فما وجدت حراً ولا برداً منذ يومئذ.

وقال:

«لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله ليس بفرّار».

فتشرف لها اصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأعطانيها»(1).

فضلاً عن ذلك فلم يتناول بعض المذاهب الستة كالحنفي والإباضي

ص: 155


1- مسند أحمد: ج 1، ص 99؛ سنن ابن ماجة: ج 1، ص 43؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 122؛ المصنف لابن أبي شيبة: ج 8، ص 523؛ السنن الکبری للنسائي: ج 5، ص 109

آداب زيارة المريض وعيادته، كما لم يتناولوا استحباب الاتعاظ بالمرض وآداب المريض حال مرضه كما أسهب في بحثها فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم).

المسألة السادسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

تناول شراح نهج البلاغة الحديث بالبيان الآتي:

1- قال ابن ميثم البحراني (ت 679 ه):

(قال الرضي (رحمه الله): وأقول صدق (عليه السلام)؛ إن المرض لا أجر فيه، لأنه قبيل ما يستحق عليه العوض لان العوض يستحق على ما كان في مقابلة فعل الله تعالى بالعبد من الآلام والأمراض وما يجرى مجرى ذلك، والأجر والثواب يستحقان على ما كان في مقابلة فعل العبد، فبينهما فرق قد بينه (عليه السلام) كما يقتضيه علمه الثاقب ورأيه الصائب.

وأقول: دعا (عليه السلام) لصاحبه بما هو ممكن وهو حطَّ السيّئات بسبب المرض ولم يدع له بالأجر عليه معلَّلا ذلك بقوله: فإنّ المرض لا أجر لا فيه.

والسرّ فيه أنّ الأجر والثواب إنّما يستحقّ بالأفعال المعدّة له كما أشار إليه بقوله: وإنّما الأجر في القول. إلى قوله: الأقدام: وكنّى بالأقدام عن القيام بالعبادة وكذلك ما يكون كالفعل من عدمات الملكات كالصوم ونحوه على ما بيّناه قبل فأمّا المرض فليس هو بفعل العبد ولا عدم فعل من شأنه أن يفعله فأمّا حطَّه للسيّئات فباعتبار أمرين.

أحدهما: أنّ المريض تنكسر شهوته وغضبه اللذين هما مبدئ للذنوب والمعاصي ومادّتها.

ص: 156

والثاني: أنّ من شأن المرض أن يرجع الإنسان فيه إلى ربّه بالتوبة والندم على المعصية والعزم على ترك مثلها كما قال تعالى:

«وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا» الآية.

فما كان من السيّئات حالات غير متمكَّنة من جوهر النفس فإنّه يسرع زوالها منها وما صار ملكة فربّما يزول على طول المرض ودوام الإنابة إلى الله تعالى، واستعار لزوالها لفظ الحطَّ وشبّهه في قوّة الزوال والمفارقة بحطَّ الأوراق.

ثمّ نبّه (عليه السلام) بقوله: «وإنّ الله ..» إلى آخره على أنّ العبد إذا احتسب المشقّة في مرضه لله بصدق نیّته مع صلاح سريرته فقد يكون ذلك معدّا لإفاضة الأجر والثواب عليه ودخوله الجنّة. ويدخل ذلك في أعدام الملكات المقرونة بنيّة القربة إلى الله. وكلام السيّد - (رحمه الله) - مقتضى مذهب المعتزله)(1).

2- قال المعتزلي في شرحه للنهج:

(ينبغي أن يحمل کلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا الفصل على تأويل يطابق ما تدل عليه العقول، وألا يحمل على ظاهرة؛ وذلك لأن المرض إذا استحق عليه الانسان العوض لم يجز أن يقال: إن العوض يحط السيئات بنفسه، لا على قول أصحابنا، ولا على قول الإمامية، أما الإمامية فإنهم مرجئة، لا يذهبون إلى التحابط، وأما أصحابنا فإنهم لا تحابط عندهم إلا في الثواب والعقاب.

ص: 157


1- شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 5، ص 265

فأما العقاب، والعوض فلا تحابط بينهما، لان التحابط بين الثواب والعقاب، إنما كان باعتبار التنافي بينهما من حيث كان أحدهما يتضمن الاجلال والاعظام، والاخر يتضمن الاستخفاف والإهانة، ومحال أن يكون الانسان الواحد مهانا معظما في حال واحدة ولما كان العوض لا يتضمن إجلالا وإعظاما، وإنما هو نفع خالص فقط، لم يكن منافيا للعقاب، وجاز أن يجتمع للإنسان الواحد في الوقت الواحد كونه مستحقا للعقاب والعوض، أما بأن يوفر العوض عليه في دار الدنيا، وإما بأن يوصل إليه في الآخرة قبل عقابه إن لم يمنع الإجماع من ذلك في حق الكافر.

وأما أن يخفف عليه بعض عقابه، ويجعل ذلك بدلا من العرض الذي كان سبيله أن يوصل إليه، وإذا ثبت ذلك وجب أن يجعل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) على تأویل صحيح، وهو الذي أراده (عليه السلام)، لأنه كان أعرف الناس بهذه المعاني، ومنه تعلم المتكلمون علم الكلام، وهو أن المرض والألم يحط الله تعالى عن الانسان المبتلى به ما يستحقه من العقاب على معاصيه السالفة تفضلا منه سبحانه.

فلما كان إسقاط العقاب متعقبا للمرض، وواقعا بعدة بلا فصل، جاز أن يطلق اللفظ بأن المرض يحط السيئات ويحتها حت الورق، کما جاز أن يطلق اللفظ بأن الجماع يحبل المرأة، وبان سقى البذر الماء ينبته، إن كان الولد والزرع عند المتكلمين وقعا من الله تعالى على سبيل الاختيار، لا على الايجاب، ولكنه أجرى العادة، وأن يفعل ذلك عقيب الجماع وعقيب سقى البذر الماء.

فإن قلت: أيجوز أن يقال: إن الله تعالى يمرض الإنسان المستحق للعقاب، ويكون إنما أمرضه ليسقط عنة العقاب لا غير؟

ص: 158

قلت: لا، لأنه قادر على أن يسقط عنة العقاب ابتداء، ولا يجوز إنزال الألم إلا حيث لا يمكن اقتناص العوض المجزي به إليه إلا بطريق الألم، وإلا كان فعل الألم عبثا، ألا ترى أنه لا يجوز أن يستحق زيد على عمر و ألف درهم فيضر به ويقول: إنما أضربه لأجعل ما يناله من ألم الضرب مسقطا لما أستحقه من الدراهم عليه؟ وتذمه العقلاء ويسفهونه، ويقولون له فهلا وهبتها له، وأسقطتها عنه من غير حاجة إلى أن تضربه وتؤلمه!

والبحث المستقصى في هذه المسائل مذكور في كتبي الكلامية، فليرجع إليها. وأيضا فإن الآلام قد تنزل بالأنبياء وليسوا ذوي ذنوب ومعاص ليقال: إنها تحطها عنهم.

فأما قوله (عليه السلام):

«وإنما الاجر في القول...» إلى آخر الفصل، فإنه (عليه السلام) قسم أسباب الثواب أقساما، فقال:

«لما كان المرض لا يقتضي الثواب لأنه أو ليس فعل المكلف - وإنما يستحق المكلف الثواب على ما كان من فعله - وجب أن يبين ما الذي يستحق به المكلف الثواب، والذي يستحق المكلف به ذلك أن يفعل فعلا إما من أفعال الجوارح، وإما من أفعال القلوب، فأفعال الجوارح إما قول باللسان أو عمل ببعض الجوارح وعبر عن سائر الجوارح - عد اللسان - بالأيدي والأقدام، لان أكثر ما يفعل بها، وإن كان قد يفعل بغيرها نحو مجامعة الرجل زوجته إذا قصد به تحصينها وتحصينه عن الزنا، ونحو أن ينحى حجرا ثقيلا برأسه عن صدر إنسان قد يقتله، وغير ذلك، وأما أفعال القلوب فهي العزوم والإرادات والنظر والعلوم والظنون والندم، فعبر (عليه السلام) عن جميع

ص: 159

ذلك بقوله: بصدق النية والسريرة الصالحة، واكتفى بذلك عن تعدد هذه الأجناس.

فإن قلت: فإن الإنسان قد يستحق الثواب على ألا يفعل القبيح، وهذا يخرم الحصر الذي حصره أمير المؤمنين؟

قلت: يجوز أن يكون يذهب مذهب أبي على في أن القادر بقدرة لا يخلو عن الاخذ والترك).(1)

3- قال حبيب الله الخوئي (ت 1324 ه):

(المعنى في كلامه (عليه السلام) نکات مهمات من مهمات علم الكلام):

منها: استحقاق الاجر على العمل.

ومنها: إن الثواب بالاستحقاق أو بالتفضل.

ويظهر من كلامه هذا أن ترتب الثواب على العمل بالاستحقاق لا بالفضل لوجهين:

1- أنه (عليه السلام) عبرّ عن الثواب بالأجر، والأجر مايستحقه الأجير في مقابل عمله، ولا يطلق على مايتفضل به.

2- أنه (عليه السلام) حصر الأجر في العمل الاختياري الصادر المكلف سواء كان قولاً باللسان، أو بالأركان، أونيهّ بالجنان فانّ النوايا الحسنة أفعال قلبية اختيارية للإنسان، وقد عبرّ عنها (عليه السلام) بصدق النيّة والسريرة الصالحة، والمقصود بالسريرة الصالحة القصد نحو عمل الخير، وليست النيّة والسريرة من قبيل الغرائز والميول الغير الاختياريّة، ويؤيّده الحديث المعروف:

ص: 160


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 18، ص 170

نيّة المؤمن خير من عمله ونيّة الكافر شر من عمله، والحديث المستفيض عن الرّسول (صلَّى الله عليه وآله): (لكلّ امرء مانوی)، بناء على أنّ لفظة ما مصدرية والمقصود لكلّ امرء نيّته إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ.

ومنها مسألة الاحباط والتكفير، ومحصّله أنّ السيئة تقبل السّقوط بغير توبة بوسيلة عمل الخير أو غيره، والحسنة تسقط بوسيلة ارتکاب سيئة كالغيبة مثلا أم لا وظاهر كلامه (عليه السلام) ثبوت التكفير للسيّئات، ولذا دعا لهذا المريض وطلب من الله العزيز أن يجعله مرضه حطا لسيئاته، ويظهر منه أنّ تأثير المرض في تكفير السيئة وحطَّها ليس ذاتيا، بل المرض مقتضي لذلك ولا بدّ من تقويته بالابتهال إلى الله أو بحسن النيّة والسريرة كما أشار إليه (عليه السلام) في آخر كلامه.

ولكلّ من هذه المسائل الكلاميّة المندرجة في طيّ كلامه (عليه السلام) على ايجازه مباحث مفصّلة في الكتب الكلاميّة لا مجال لاستيفاء البحث حولها في هذا الشرح الوجيز، فمن أراد الاطلاع عليها فليطلبها من مظانّها.

وممّا ينبغي التوجه إليه هنا أنّ الأجر والثّواب مترادفان أم بينهما فرق فقد استعمل الأجر في جزاء الأعمال الصالحة في آيات من القرآن المجيد أشهرها قوله تعالى:

«إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا»(1).

«إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ»(2).

ص: 161


1- الكهف: 30
2- التوبة: 120

كما أستعمل لفظ الثّواب في هذا المعنى في قوله تعالى:

«ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ»(1).

ولكن لا يستعمل كلمة الثواب بمعنى الأجرة في العرف، فكأنّ الثواب يختصّ بالأمور المعنوية والاخرويّة)(2).

ص: 162


1- آل عمران: 195
2- منهاج البراعة: ج 21، ص 79 - 80

المبحث الثالث استحباب التعزية والدعاء لأهل الميت

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقد عزی قوماً عن میت مات لهم:

«إِنَّ هَذَا الأَمرَ لَيسَ لَكُم بَدَأَ، ولَا إِلَیکُم انتَهَى، وقَد كَانَ صَاحِبُکُم هَذَا یُسَافِرُ فَعُدُّوه فِي بَعضِ أَسفَارِه، فَإِن قَدِمَ عَلَيکُم وإِلَّا قَدِمتُم عَلَيه»(1).

وقال (عليه الصلاة والسلام) للأشعث بن قیس معزياً عن ابن له:

«إِن صَبَرتَ صَبرَ الأَكَارِمِ، وإِلَّا سَلَوتَ سُلُوَّ البَهَائِمِ»(2).

يرتبط الحديثان الشريفان بمسالة التعزية لأهل الميت و تسليتهم ووعظهم من خلال التذكير بالأخرة وما أعد الله للصابرين من الأجر والثواب عند حول المصيبة.

وقد أجمع علماء المسلمين على استحباب التعزية، إلا أنهم اختلفوا في وقتها أتكون بعد دفن الميت أم قبل دفنه، وسنورد أو ما جاء عن فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) في المسالة ثم نعطفه بأقوال فقهاء بقية المذاهب الإسلامية.

ص: 163


1- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: ص 537 في قصار الحكم برقم 357، وجاءت برقم 346 بتحقيق الشيخ قيس العطار: ص 784 ط العتبة العلوية المقدسة
2- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: ص 584 برقم 414

المسألة الأولى: أقوال فقهاء للذهب الإمامي في استحباب التعزية والدعاء لأهل الميت.

ونكتفي في بيان ما زخرت به مصنفات فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) في استحباب التعزية والدعاء لأهل الميت بثلاثة أعلام، وهم كالاتي:

أولاً - العلّامة الحلي (ت 726 ه):

قال (رحمه الله) في النهاية: (يستحب تعزية أهل الميت إجماعاً، لقوله (عليه السلام):

«من عزی مصابا فله مثل أجره».

وقال (عليه السلام):

«من عزی حزینا کسی في الموقف حلة يجبر بها».

وقال (عليه السلام):

«التعزية تورث الجنة».

والمراد منها تسلية أهل المصيبة، وقضاء حقوقهم، والتقرب إليهم، وإطفاء نار الحزن عنهم، وتسليتهم بمن سبق من الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، ويذكرّهم الثواب على الصبر واللحاق بالميت.

ويجوز قبل الدفن وبعده، قال هشام بن الحكم:

رأيت الكاظم (عليه السلام) يعزي قبل الدفن وبعده.

ويستحب تعزية جميع أهل المصيبة من الكبار والصغار، خصوصا من ضعف منهم عن تحمل المصيبة. ولا فرق بين الرجل والمرأة، لقوله (عليه السلام):

ص: 164

«من عزی ثکلی کسي بردا في الجنة».

ويجوز تعزية الكفار، فيقول له:

أخلف الله عليك. وفي تعزية المسلم بالكافر: أعظم الله أجرك وأخلف عليك.

وليس في التعزية شيء موظف، قال زين العابدین (عليه السلام):

«لما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجاءت التعزية سمعوا قائلا يقول: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودر کا من كل ما فات، فبالله فثقوا وإياه فأرجو فإن المصاب من حرم الثواب».

ويكفي في التعزية أن يراه صاحب المصيبة. وقال الصادق (عليه السلام):

«كفاك من التعزية أن يراك صاحب المصيبة».

قال الشيخ(1): يكره الجلوس للتعزية يومين أو ثلاثة. وأنكره ابن إدریس، لأنه تزاور مستحب.

ولا يجوز أن يتميز صاحب المصيبة عن غيره بإرسال طرف العمامة، وأخذ ميزر فوقها.

قال الشيخ: إلا على الأب والأخ لا غيرهما. والوجه عندي الجواز، لأن الصادق (عليه السلام) لما مات إسماعيل تقدم السرير بغير رداء ولا حذاء.

وقال (عليه السلام): «ينبغي لصاحب المصيبة أن يضع ردائه حتى يعلم الناس أنه صاحب المصيبة». وقد نهي من وضع الرداء عن مصيبة الغير)(2).

ص: 165


1- الشيخ الطوسي
2- نهاية الاحکام: ج 2، ص 290

ثانياً - الشيخ الجواهري (ت 266 ه):

قال (عليه الرحمة والرضوان) في الجواهر (والتعزية مستحبة بلا خلاف بين المسلمين، بل لعله من ضروريات الدين، وقد فعلها سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك الأئمة الطاهرون (عليهم السلام)، بل والملائكة المقربون يوم موت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيها أجر عظیم وفضل جسیم حتی ورد أنها تورث الجنة.

كما في خبر السكوني وفي خبر وهب عن الصادق (عليه السلام):

«إنّ من عزی مصابا كان له مثل أجره».

وفي غيره من الأخبار «إنّ من عزی حزينا کسي يوم الموقف حلة يجبر بها».

وربما اختلفت باعتبار العوارض من جهة شدة المصاب وعدمه وغير ذلك.

ومن هنا قد ورد: «إنّ من عزى الثكلى أظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله».

والمراد بها على الظاهر المرأة التي فقدت ولدها أو حميمها، وكأنه لعظم مصابها باعتبار ضعف عقول النساء، واحتمال إرادة الطائفة الثكلى أعم من الرجال والنساء بعيد، وكيف كان فلا حاجة للتعرض لأصل استحبابها ورجحانها، كما أنه لا حاجة إلى التعرض لذكر معناها لكفاية العرف فيه، ولا ريب في حصولها بطلب تسلي المصاب والتصبر عن الحزن والاكتئاب بإسناد الأمر إلى الله عز وجل ونسبته إلى عدله وحكمته، وذكر لقاء الله ووعده على

ص: 166

الصبر مع الدعاء للميت والمصاب لتسليته عن مصيبة ونحو ذلك، وهي تتبع المقامات لا تتوقف على كيفية خاصة أو عبارة خاصة، واحتمال الوقوف عما ما كتبه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) أو قالوه في هذا المنوال خاصة لا وجه له، بل دعوی رجحانيه خصوصية له لا تخلو من إشكال ظاهر.

(وهي جائزة) مشروعة (قبل الدفن وبعده) إجماعا محصلا ومنقولا مستفيضا إن لم يكن متواترا منا، بل وعن غيرنا عدى الثوري، فكرهها بعد الدفن، لأنه خاتمة أمر الميت، وفيه أنه خاتمة أمره لا خاتمة أمر أهله، وما حكاه في الذكرى عن ظاهر ابن البراج منا مما يقرب من المحكي عن الثوري، ولا ريب في ضعفه، إذ النصوص وما وقع من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) من التعزية بعد الدفن لأصحابهم شاهدة بخلافه، فضلا عن ظاهر الاجماعات المحكية بل صريحه إن لم يدع تحصيله، بل هي بعد الدفن أفضل منه قبله وفاقا لصريح الشيخ والمصنف والعلامة وغيرهم وظاهر الشهيد والمحقق الثاني، بل في المدارك أنه مذهب الأكثر بشهادة الاعتبار من حيث غيبوبة شخص المتوفي وانقطاع العلقة في ذلك الوقت مع اشتغالهم قبل الدفن بتجهيزه، ولقول الصادق (عليه السلام) في مرسل ابن أبي عمي: «التعزية لأهل المصيبة بعد ما يدفن».

وفي مرسل خالد الآخر وغيره عنه (عليه السلام) أيضا:

«التعزية الواجبة بعد الدفن».

وقول الصادق (عليه السلام) في خبر إسحاق بن عمار:

ص: 167

«ليس التعزية إلا عند القبر، ثم ينصرفون لا يحدث في الميت حدث فيسمعون الصوت».

مع أنه لا صراحة فيه، بل ولا ظهور بما قبل الدفن، بل لعله فيما بعده أظهر، فيحمل حينئذ على تفاوت مراتب الفضل فيما بعده، فأفضله عند القبر لاشتداد الحاجة إليها في ذلك الوقت - محمول على ضرب من التأويل، منه ما ذكره في الذكرى من الحمل على تعزية خاصة، كأقل التعزية كما قال (عليه السلام):

«كفاك من التعزية أن يراك صاحب المصيبة».

فيكون المراد حينئذ أنه لا تحتاج هذه التعزية إلى اجتماع آخر غير الاجتماع الأول، بل ينبغي حينئذ الانصراف ولا يقيموا بعد الدفن عند القبر لأجل التعزية خوف أن يحدث حدث بالميت، فيسمعوه ويفزعوا من ذلك ويكرهوه، أو غير ذلك.

ثم إنه لا حد لها شرعا لإطلاق الأدلة، لكن قد يقال برجوع تحديدها إلى العرف، کما لو طالت المدة وانقضى المصاب بحيث يستنكر التعزية عليه، وربما اختلف باختلاف الميت جلالة وضعه ونحوهما، ولعله يومي إلى ذلك ما في الذكرى حيث قال:

ولا حد لزمانها عملا بالعموم، نعم لو أدت التعزية إلى تجديد حزن قد نسي كان تركها أولى انتهى.

وليس في مرسل الصدوق، والحسن کالصحيح عن أبي جعفر (عليه السلام):

ص: 168

«يصنع للميت مأتم ثلاثة أيام من يوم مات» ولا فيما دل من الأمر بصنع الطعام ثلاثا لأهل الميت من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة (عليها السلام) یوم قتل جعفر أن تفعل ذلك لأسماء بنت عمیس، وأن تمضي إليها هي ونسائها كذلك، وغيره من الأخبار، وقول الصادق (عليه السلام) أيضا: «ليس لأحد أن يحد أكثر من ثلاثة أيام إلا المرأة على زوجها حتى تنقضي عدتها».

دلالة على التحديد بالثلاثة، لعدم التلازم بينها وبين المأتم، ولعل ماعن التقي من السنة تعزية أهله ثلاثة أيام وحمل الطعام إليهم لا يريد به تحديدها بذلك، بل يريد إما التأكد أو التعزية تمام الثلاثة كما فعلته فاطمة (عليها السلام)، أو التكرير ولو من الشخص الواحد، أو نحو ذلك.

نعم قد يشعر ذكر المأتم ثلاثة فيها كغيرها من الحسن کالصحيح قال:

(أوصى أبو جعفر (عليه السلام) بثمان مائة درهم لمأتمه، وكان يرى ذلك من السنة، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «اتخذوا لآل جعفر طعاما فقد شغلوا بعدم کراهة الجلوس والاجتماع للتعزية».

کما عساه يشعر به أيضا إطعام الطعام عنه، كقول أبي جعفر (عليه السلام):

«ينبغي لجيران صاحب المصيبة أن يطعموا عنه الطعام ثلاثة أيام».

ونحوه من حيث ظهور المأتم والاطعام عنه بحصول الاجتماع مضافا إلى إطلاق الأمر بالتعزي والتزاور وغيرهما، كما في المبسوط من أنه يكره الجلوس للتعزية إجماعا وتبعه ابن حمزة والمصنف في ظاهر المعتبر کما عن العلامة في المتخلف لا يخلو من ضعف، مع أنا لم نعرف أحدا ممن تقدم نص

ص: 169

على الكراهة، ولا أشير إليها في رواية.

وما يقال من أن في ذلك منافاة للرضا بقضاء الله والصبر ونحوهما کما تری لا وجه له، ولا اقتضاء فيه، بل ربما كان الأمر بالعكس، وأوامر المأتم تشهد بعدمه أيضا.

وروى الصدوق: «أنه أوصى أبو جعفر (عليه السلام) أن يندب في المواسم عشر سنين».

وفي خبر الكاهلي عن أبي الحسن (عليه السلام): «كان أبي يبعث أمي وأم فروة تقضیان حقوق أهل المدينة». إلى غير ذلك)(1).

3- قال السيد اليزدي (عليه الرحمة والرضوان) (ت 1337 ه) في العروة في إيراده لمستحبات الدفن وما قبله وحينه وبعده:

(الثامن والعشرون: تعزية المصاب وتسليته قبل الدفن وبعده، والثاني أفضل، والمرجع فيها العرف، ويكفي في ثوابها رؤية المصاب إياه، ولا حد لزمانها، ولو أدت إلى تجديد حزن قد نسي كان تركها أولى.

ويجوز الجلوس للتعزية، ولا حد له أيضا، وحده بعضهم بيومين أو ثلاث، وبعضهم على أن الأزيد من يوم مكروه، ولكن إن كان الجلوس بقصد قراءة القرآن والدعاء لا يبعد رجحانه.

التاسع والعشرون: إرسال الطعام إلى أهل الميت ثلاثة أيام، ويكره الأكل عندهم، وفي خبر انه عمل أهل الجاهلية)(2).

ص: 170


1- جواهر الكلام: ج 4، ص 325-328
2- العروة الوثقی: ج 2، ص 125

المسالة الثانية: استحباب التعزية عند فقهاء المذاهب الأخرى.

أولاً - المذهب الزيدي.

قال إمام الزيدية أحمد المرتضى (ت 840 ه) في شرح الأزهار:

(وندبت التعزية لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«من عزی مصاباً كان له مثل أجره».

وينبغي أن يعزي لكل بما يليق به فيقول إذا عزى المسلم في مسلم: عظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك، فإن كان الميت فاسقا أو كافرا لم يقل: وغفر لميتك فإن كان الميت مؤمنا والمعزي إليه فاسقا أو كافرا قال: غفر الله لميتك وأحسن عزاءك فإن كانا كافرين أو فاسقين قال: اصبر فإنا لله وإنا إليه راجعون.

قال في مهذب: يستحب أن يعزی بتعزية الخضر لأهل البيت في الرسول (صلى الله عليه وآله) وهي: «إنَّ في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب».

قال مولانا (عليه السلام) وهذا النقل يحتاج إلى تصحيح لأنه لا طريق إلى أنه الخضر الا الوحي وقد انقطع بموته (صلى الله عليه وآله).

(وهي) يعني التعزية (بعد الدفن أفضل) وذلك لان الحزن يعظم بمفارقته؛ وقيل: إنها قبل الدفن أفضل (و) ندب (تكرار الحضور مع أهل) الميت (المسلم) إذا كان أهله من (المسلمين) ولا تكرر التعزية وإن كرر الحضور لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «التعزية مرة».

ص: 171

وقيل: فإن كان الميت وأقاربه الجميع فساقا فلا ينبغي ذلك الا لمصلحة)(1).

ثانياً - المذهب الشافعي.

قال إمام الشافعية محمد بن إدريس الشافعي (ت: 204 ه) في مسالة التعزية ووقتها، وفيما يقال فيها في كتاب الأم:

(والتعزية من حيث موت الميت إن المنزل، والمسجد، وطريق القبور، وبعد الدفن ومتی عزی فحسن؛ فإذا شهد الجنازة أحببت أن تؤخر التعزية إلى أن يدفن الميت إلا أن يرى جزعا من المصاب فيعزيه عند جزعه ويعزى الصغير والكبير والمرأة إلا أن تكون امرأة شابة ولا أحب مخاطبتها إلا لذي محرم وأحب لجيران الميت أو ذي قرابته أن يعملوا لأهل الميت في يوم يموت وليلته طعاما يشبعهم فإن ذلك سنة وذکر کریم وهو من فعل أهل الخير قبلنا وبعدنا لأنه لما جاء نعی جعفر قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم):

«اجعلوا لآل جعفر طعاما، فإنه قد جاءهم أمر يشغلهم».

أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا ابن عيينة عن جعفر عن أبيه عن عبد الله بن جعفر قال: جاء نعی جعفر فقال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم):

«اجعلوا لآل جعفر طعاما، فإنه قد جاءهم أمر يشغلهم أو ما يشغلهم» (شك سفيان).

قال الشافعي: وأحب لقيم أهل الميت عند المصيبة أن يتعاهد أضعفهم

ص: 172


1- شرح الازهار: ج 1، ص 445-447

عن احتالها بالتعزية بما يظن من الكلام والفعل أنه يسليه ويكف من حزنه وأحب لولى الميت الابتداء بأولى من قضاء دينه فإن كان ذلك يستأخر سأل غرماءه أن يحللوه ويحتالوا به عليه وأرضاهم منه بأي وجه كان، أخبرنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عمر بن أبي سلمة، أظنه عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) قال:

«نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه».

(قال) وأحب إن أوصي بشيء أن يعجل الصدقة عنه ويجعل ذلك في أقاربه وجيرانه وسبيل الخير، وأحب مسح رأس اليتيم ودهنه وإكرامه وأن لا ينهر ولا يقهر فإن الله عز وجل قد أوصى به)(1).

ثالثاً - المذهب المالكي.

قال الدسوقي (ت: 1230 ه) في حاشيته:

(إن كان الميت مسلم فلا يعزى المسلم بقريبه الكافر، کما هو قول مالك، اختار ابن رشد تعزية المسلم أبيه الكافر مخالف لمالك، انظر المواق اه بن اي: يقول كان عظم الله أجرك، وأحسن عزائك وغفر لميتك، وليس في اللفاظ التعزية حد معين.

قوله: (إلا محشيه الفتنة والصبي) أي: فإنها لا يعزيان، قوله (والأفضل كونها بعد الدفن وفي بيت المصاب) أي: وأما كونها عند القبر بعد تسوية التراب كما هو شائع الآن خلاف الأفضل)(2).

ص: 173


1- كتاب الأم: ج 1، ص 317 - 318
2- حاشية الدسوقي: ج 1، ص 419

رابعاً - المذهب الحنفي.

قال ابن نجم المصري (ت 970 ه) في البحر الرائق:

(والتعزية للمصاب سنة، للحديث:

«من عزی مصاباً فله مثل أجره».

قال البالقي: لا بأس بالجلوس في العزاء ثلاثة أيام في بيت او مسجد وقد جلس رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) لما قُتِل جعفر وزید بن حارثة والناس يأتون ويعزونه. والتعزية في اليوم الأول أفضل والجلوس في المسجد ثلاثة أيام للتعزية مكروه وفي غيره جاءت الرخصة ثلاثة أيام للرجال وترکه أحسن ويكره للمعزي أن يعزي ثانيا.

وهي كما في التبين أن يقول: أعظم الله أجرك وأحسن عزاك وغفر لميتك. ولا بأس بالجلوس إليها ثلاثا من غير ارتکاب محظور من فرش البسط والأطعمة من أهل البيت لأنها تتخذ عند السرور ولا بأس بأن يتخذ لأهل الميت طعام.

وفي الخانية: وإن اتخذ ولي الميت طعاما للفقراء کان حسنا إذا كانوا بالغين، وإن كان في الورثة صغير لم يتخذ ذلك من التركة.

وفي الظهيرية: ويكره الجلوس على باب الدار للتعزية لأنه عمل أهل الجاهلية وقد نهي عنه، وما يصنع في بلاد العجم من فرش البسط والقيام على قوارع الطرق من أقبح القبائح.

وفي التجنيس: ويكره الافراط في مدح الميت عند جنازته لأن الجاهلية كانوا يذكرون في ذلك ما هو شبه المحال، وفيه قال (عليه الصلاة والسلام):

ص: 174

«من تعزی بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا».

وفي القنية عن شداد: أكره التعزية عند القبر ذكره في المجرد)(1).

خامساً - المذهب الحنبلي.

قال ابن قدامة المقدسي (ت 620 ه) في المغني:

(ويستحب تعزية جميع أهل المصيبة كبارهم وصغارهم، ويخص خيارهم والمنظور إليه من بينهم ليستن به غيره، وذا الضعف منهم عن تحمل المصيبة الحاجته إليها، ولا يعزي الرجل الأجنبي شواب النساء مخافة الفتنة.

(فصل) ولا نعلم في التعزية شيئا محدودا، إلا أنه يروى أن النبي (صلى الله عليه - وآله - وسلم) عزی رجلا فقال: (رحمك الله وآجرك). رواه الإمام أحمد.

وعزى أحمد أبا طالب فوقف على باب المسجد فقال: أعظم الله أجركم وأحسن عزاءكم. وقال بعض أصحابنا إذا عزی مسلما بمسلم قال: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاك، ورحم ميتك.

واستحب بعض أهل العلم أن يقول ما روی جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: لما توفي رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) وجاءت التعزية سمعوا قائلا يقول: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل ما فات، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب. رواه الشافعي في مسنده.

وان عزی مسلا بکافر قال: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك (فصل) وتوقف أحمد رحمه الله عن تعزية أهل الذمة وهي تخرج على عيادتهم وفيها

ص: 175


1- کتاب البحر الرائق: ج 2، ص 337

روايتان إحداهما لا نعودهم فكذلك لا نعزيهم لقول النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم):

«لا تبدؤوهم بالسلام» وهذا في معناه.

والثانية نعودهم لأن النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) أتی غلاما من اليهود كان مرض يعوده فقعد عند رأسه فقال له: «أسلم»، فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه فقال له أطع أبا القاسم، فأسلم، فقام النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه بي من النار» رواه البخاري فعلى هذا نعزيهم فنقول في تعزيتهم بمسلم، أحسن الله عزاءك وغفر لميتك، وعن کافر، أخلف الله عليك ولا نقص عددك، ويقصد زيادة عددهم لتكثر جزيتهم، وقال أبو عبد الله بن بطة يقول، أعطاك الله على مصيبتك أفضل ما أعطى أحدا من أهل دينك.

فأما الرد من المعزی فبلغنا عن أحمد بن الحسين قال، سمعت أبا عبد الله وهو يعزي في عبثر ابن عمه، وهو يقول: استجاب الله دعاك ورحمنا وإياك.

(فصل) قال أبو الخطاب يكره الجلوس للتعزية، وقال ابن عقیل یکره بعد خروج الروح لأن فيه تهيیجا للحزن وقال أحمد أكره التعزية عند القبر إلا لمن لم يعز فيعزي إذا دفن الميت، أو قبل أن يدفن وقال إن شئت أخذت بيد الرجل في التعزية وإن شئت لم تأخذ، وإذا رأى الرجل قد شق ثوبه على المصيبة عزاه ولم يترك حقا لباطل، وإن نهاه فحسن)(1).

ص: 176


1- المغني: ج 2، ص 409-410

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

أجمع فقهاء المذاهب الاسلامية على استحباب التعزية لأهل الميت وتسليتهم لكنهم اختلفوا في الوقت الذي تقدم فيه التعزية لأهل الميت، وهي كالآتي:

1- ذهب فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) إلى القول بالاستحباب في تعزية أهل الميت سواء كانت التعزية قبل الدفن أم بعده، ولكنها - أي: التعزية - بعد الدفن أفضل لتفرغ أهل المصاب لاستقبال المعزين وعدم انشغالهم بالميت وتجهيزه، فضلاً عن السياق العرفي في وقت التعزية.

ويكفي في حصول الأجر للمعزي هو أن يراه أهل الميت، مع مراعاة عدم تجديد الحزن على أهل الميت.

أما ما يخص وقت الجلوس للتعزية بيومين أو ثلاثة أو أزيد فمرده إليهم ولكن من الارجح أن يكون القصد في إقامة العزاء لأكثر من يوم هو قراءة القراء والدعاء.

2- وذهب الزيدية والشافعية والمالكية والحنفية والحنبلية إلى القول باستحباب التعزية؛ ويفضل أن يكون ذلك بعد الدفن.

3- وفي مدتها ومكان أقامتها، قال الحنفية بثلاثة أيام ويكره في الدار، ويكره عند الحنابلة الجلوس للتعزية؛ وعند المالكية تكون التعزية في الدار، وعند الشافعية في أي مكان كان في الدار أو الطريق أو المسجد فهو حسن.

4- واختلفوا في كيفية التعزية وماذا يقال فيها لأهل الميت إذا كان

ص: 177

من المسلمين، أو من أهل الذمة، أو من الكافرين کما مرّ بيانه في عرض أقوالهم.

المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

أولاً: بيان معنى قوله (عليه السلام): «إن هذا الأمر ليس لكم بدأ،...».

ونورد هنا أولاً ما جاء عن ابن میثم البحراني (رحمه الله) في بيانه للحديث الأول ثم نورد بعده قول ابن أبي الحديد، وإن كان هو أقدم منه في الوفاة إلا أننا نقدم العلامة البحراني تبعاً للمنهج في بيان أقوال علماء المذهب الإمامي أعلى الله مقامهم).

1- قال أبن میثم البحراني (ت: 679 ه):

(وعزى قوماً عن ميت مات لهم فقال (عليه السلام):

«إِنَّ هَذا الأَمرَ لَیسَ بِکُم بَدَأَ ولَا إِلَيکُمُ انتَهَى وقَد كَانَ صَاحِبُكُم هَذَا یُسَافِرُ فَعُدُّوهُ فِي بَعضِ أَسفَارِهِ فَإِن قَدِمَ عَلَیکُم وإِلَّا قَدِمتُم عَلَيهِ».

فعدوه: أي افترضوا أنه كذلك، والتعزية فصيحة العبارة جزيلة المعنى مفيدة للإقناع والسلو)(1).

2- قال ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه):

(قد ألم ابراهيم بن المهدي ببعض هذا في شعره الذي رثی به ولده فقال:

ص: 178


1- شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 5، ص 416

يؤوب الى أوطانه كل غانب *** وأحمد في الغياب ليس يؤوب

تبدل داراً غیرداري وجيرة *** سواي وإحداث الزمان تنوب

أقام بها مستوطناً غير أنه *** على طول امام المقام غریب

واني وان قدمت قبلي لعالم *** باني وان ابطات عنك قريب

وان صباحاً فلتقي في مسائله *** صباح الى قلبي القداة حبيب)(1).

ثانياً: بيان معنى قوله (عليه السلام): «إن صبرت صبر الاكارم، والا سلوت سلوى البهائم».

وجاء كلام الشراح في الحديث الثاني الذي قاله (عليه السلام) في تعزية الأشعث بن قيس، مايلي:

1- قال ابن میثم البحراني:

(وجذب الى فضيلة الصبر في المصائب بإضافته إلى الأحرار والأكارم، وبما يلزم عدمه من الغاية وهي السلق المشبه لسلوّ الغافلين أو البهائم؛ وأصل إلا: إن لا، أي وأن لا تصبر)(2).

2- قال المعتزلي:

(أخذ هذا المعنى أبو تمام، بل حکاه فقال:

ص: 179


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 19، ص 274
2- شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 5، ص 442

وقال علي في التعازي لأشعث *** وخاف عليه بعض تلك المأتم

اتصبر للبلوى عزاء وحسية *** فتؤجر أم تسلو سلو البهائم(1)

3- قال حبيب الله الخوئي:

(المعنى: الصبر صفة نفسانية حسنه تدعو الى تحمل المصيبة والبلاء بالنظر الى انها من الله تعالى وبالنظر الى ما يترتب عليها من اجر عند الله فيسهل البلاء كما قال الله تعالى: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»(2))(3).

ص: 180


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 20، ص 500
2- البقرة: 155 - 156
3- منهاج البراعة: ج 21، ص 491

المبحث الرابع استحباب التفكر في الموت للمشيع

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام):

«فَكَفَی وَاعِظاً بِموَتَی عَایَنتِمُوهُم حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِم غَيرَ رَاكِبينَ وأُنزِلُوا فِيهَا غَيرَ نَازِلينَ فَكَأَنَّهُم لَم يَكُونُوا لِلدُّنيَا عُمَّاراً و کَأَنَّ الآخِرَةَ لَم تَزَل لَهُم دَاراً».

والحديث الشريف يرشد الى استحباب التفكر بالموت حين تشيع الجنازة، أو حين النظر الى الميت، أو الى القبور، إلا أن النص يخص بوضوح المشيعين الذين حملوا موتاهم الى قبورهم.

فضلاً عن ذلك فالإمام عليّ (عليه السلام) يدفع الإنسان من خلال التفكر عند النظر الى الموتى يشير بإثارة الذهن بنقاط محددة: كنقلهم دون مرکب، ونزولهم بقبورهم رغماً عنهم، وكأنهم لم يكونوا للدنيا عماراً وهي صيغة للمبالغة في انهماك الإنسان في عمارة الحياة الدنيا، وانتقاله إلى محل العمارة الحقيقة، ومحل النزول والبقاء وهي الأخرة.

وعليه:

فقد تناول بعض فقهاء المذاهب الإسلامية هذه المسالة في مصنفاتهم الفقهية وسكت بعضهم الأخر عنها، فكانت كالاتي:

ص: 181

المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي.

ونكتفي بايراد ثلاثة أقوال الإعلام المذهب (عليهم الرحمة والرضوان) وهم كالاتي:

أولاً - العلامة الحلي (ت: 726 ه).

قال (عليه الرحمة والرضوان في المنتهی:

(يستحب للمشيع التفكر في الموت، والتخشع، وذكر الله تعالى، والاستغفار من الذنوب، والاتعاظ بما يصير إليه الموت ولا يضحك ولا يتحدث بشيء من امور الدنيا، ولا يهتم بها لقوله (عليه السلام):

«وإنها تذكرة الأخرة»)(1).

ثانياً - الشيخ الجواهري (ت: 1266 ه).

قال (رحمه الله) في جواهره:

(ثم أنه يستحب للمشيع التفكير في ماله والاتعاظ بالموت والتخشع، لخبر عجلان أبي صالح، قال: قال لي الصادق (عليه السلام):

«يا أبا صالح إذا أنت حملت جنازة فأذكر كأنك المحمول، وكأنك سألت الرجوع الى الدنيا فافعل، فانظر ماذا تستأنف؟ قال، ثم قال:

عجيب لقوم حبس أولهم عن أخرهم، ثم نودي فيهم بالرحيل وهم يلعبون»(2).

ص: 182


1- منتهى المطلب للعلامة الحلي: ج 1، ص 445
2- جواهر الكلام: ج 4، ص 269-270

ثالثاً - السيد اليزدي.

قال السيد في العروة في آداب التشييع في الفقرة سادساً:

(إن يكون المشيع خاشعاً، متفکراً، متصوراً أنه هو المحمول، ويسال الرجوع الى الدنيا فأجيب)(1).

المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى.

لم يتناول فقهاء المذاهب الستّة - بحسب ما توفر لدي من مصادر - مسألة استحباب الاتعاظ بحال الميت والتفكر بالموت للمشيع وإنما تناولوا ما يرتبط بالمشي أمام الجنازة أو خلفها، واختلفوا في ذلك واجمعوا على استحباب التشييع للجنازة.

المسألة الثالثة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

واتباعاً للمنهج الذي سرنا عليه في الكتاب، نورد أولاً ما جاء عن علماء الإمامية (اعلى الله مقامهم) فأوردنا بیان این میثم البحراني (رحمه الله)، ثم أتبعناه بقول المعتزلي، ومن ثم السيد حبيب الله الخوئي، وهو كالاتي:

1- قال ابن میثم البحراني (رحمه الله) (ت 679 ه):

مما أوصاهم به ذكر الموت وإقلال الغفلة عنه وذلك لما يستلزم ذكره من الانزجار عن المعاصي، وذكر المعاد إلى الله سبحانه و وعده و وعیده، والرغبة عن الدنيا وتنقیص لذّاتها، كما قال الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):

«أكثروا من ذكر هادم اللذّات».

ص: 183


1- العروة الوثقی: ج 2، ص 86؛ مستمسك العروة للسيد محسن الحكيم: ج 4، ص 208

وإنّما استلزم ذكره ذلك لكونه ممّا يساعد العقل فيه الوهم على ضرورة وقوعه مع مساعدته على ما فيه من المشقّة الشاقّة. ثمّ استفهمهم عن غفلتهم عنه وطمعهم فيه مع كونه لا يغفلهم ولا يمهلهم استفهام توبيخ على ذلك. ولأجل ما فيه من شدّة الاعتبار قال: فكفی واعظا بموتي عاينتموهم. إلى قوله: فصرعتهم. وفي هذا القول زيادة موعظة على ذكر الموت وهي شرح أحوال من عاينوه من الموتى. وذكر منها أحوالا:

أحدها: كيفيّة حملهم إلى قبورهم غير راكبين مع كونهم في صورة ركوب منفور عنه.

الثانية: إنزالهم إلى القبور على غير عادة النزول المتعارف المقصود فكأنّهم في تلك الحال مع طول مددهم في الدنيا وعمارتهم لها وركونهم إليها لم يكونوا لها عمّارا وكان الآخرة لم تزل دارا.

ووجه التشبيه الأوّل انقطاعهم عنها بالكلَّيّة وعدم خيرهم فيها فأشبهوا لذلك من لم يكن فيها.

ووجه الثاني كون الآخرة هي مستقرهم الدائم الثابت الَّذي لا معدل عنه فأشبهت في ذلك المنزل الَّذي لم يزل له دارا.

الثالثة: المحاشهم ما كانوا يوطنون من منازل الدنيا ومسالكها.

الرابعة: ابطانهم ما كانوا يوحشون من القبور الَّتي هي أوّل منازل الآخرة.

الخامسة: اشتغالهم بما فارقوا. وذلك أنّ النفوس الراكنة إلى الدنيا العاشقة لها المقبلة على الاشتغال بلذّاتها يتمکَّن في جواهرها ذلك العشق لها وتصير محبّتها ملكة وخلقا فيحصل لها بعد المفارقة لما أحبّته من العذاب به والشقا الأشقی

ص: 184

بالنزوع إليه وعدم التمكَّن من الحصول عليه أعظم شغل وأقوى شاغل وأصعب بلاء هايل بل تذهل فيه كلّ مرضعة عمّا أرضعت وتضع فيه كلّ ذات حمل حملها وترى الناس سكاری و ما هم بسکاری ولكنّ عذاب الله شديد.

السادسة: إضاعتهم ما إليه انتقلوا وهي دار الآخرة.

ومعنى إضاعتهم لها تركهم الأسباب الموصلة إلى ثوابها والمبعّدة من عقابها. السابعة: كونهم لا يستطيعون الانتقال عمّا حصلوا عليه من الأفعال القبيحة الَّتي ألزمتهم العذاب وأكسبت نفوسهم ملكات السوء. وذلك ظاهر. إذا لانتقال عن ذلك لا يمكن إلَّا في دار العمل وهي الدنيا)(1).

2- قال ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه):

(أعورتم؛ أي انكشفتم وبدت عوراتكم، وهي المقاتل، تقول أعور الفارس، إذا بدت مقاتله، وأعورك الصيد إذا أمكنك منه.

قوله (عليه السلام):

«أو حشوا ما كانوا يوطنون»، اي: أوطنوا قبورهم التي كانوا يو حشونها؛ قوله (عليه السلام):

«واشتغلوا بما فارقوا».

أي: اشتغلوا وهم في القبور بما فارقوا من الأموال والقينات، لأنها أذى وعقاب عليهم في قبورهم، ولولاها لكانوا في راحة. ويجوز أن يكون حكاية حالهم وهم بعد في الدنيا، أي اشتغلوا أيام حياتهم من الأموال والمنازل بما فارقوه، وأضاعوا من أمر آخرتهم ما انتقلوا إليه.

ص: 185


1- شرح نهج البلاغة لابن میثم: ج 4، ص 189 - 190

ثم ذكر انهم لا يستطيعون فعل حسنة، ولا توبة من قبيح، لان التكليف سقط، والمنازل التي أمروا بعمارتها، والمقابر، وعمارتها الأعمال الصالحة.

وقوله (عليه السلام): «إن غدا من اليوم قریب» كلام يجري مجرى المثل، قال *غد ما غد ما أقرب اليوم من غد*.

والأصل فيه قول الله تعالى: «إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ»(1).

وقوله (عليه السلام): «ما أسرع الساعات في اليوم...» إلى آخر الفصل، کلام شريف وجيز بالغ في معناه والفصل کانه نادر لا نظير له).(2)

3- حبيب الله الخوئي (رحمه الله) (ت 1324 ه):

تناول الشيخ حبيب الله الخوئي هذا الحديث ضمن مجموع بیانه لا صل الخطبة الشريفة التي ورد فيها النص فأخذنا منها موضع الحاجة تجنباً للإطالة أو الخروج عن منهج الكتاب، قال (رحمه الله):

(ولأجل شدة الاعتبار والاتعاظ اتبعه بقوله:

«فکفی واعظاً بموتي عانيتُموهُم».

كيف انتقلوا من ذروة القصور الى خطة القبور، ومن العزّ والمتعة الى الذل والمحنة:

«حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِم غَيرَ رَاکِبینَ وأُنزِلُوا فِيهَا غَيرَ نَازِلينَ».

لما كان المتعارف على الركوب والنزول ما كان عن قصد واختيار وشعور، وإرادة وعلى مثل الخيل والبغال، وكان يحمل موتى على الأسرة والجنائز

ص: 186


1- هود: 81
2- شرح نهج البلاغة المعتزلي: ج 13، ص 101

وأعواد المنايا وانزالهم منها لا عن شعور وإدراك، لاجرم نفي عنهم وصفي الرّكوب والنزول.

وبعبارة أخرى الركوب والنّزول من الأفعال الاختياريّة للإنسان فبعد الموت وانقطاع الحسّ والحياة وارتفاع الادراك والاختيار يكون مثل جماد محمول، فكما لا يوصف الجماد بالركوب فهكذا الميّت.

وهذه الفقرة مثل قوله (عليه السلام) في الخطبة المائة والعاشرة:

«حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِم فَلَا يُدعَونَ رُکبَاناً وَأُنزِلُوا الأَجدَاثَ فَلاَ يُدعَونَ ضِيفَاناً».

«فَكَأَنَّهُم لَم يَکُونُوا لِلدُّنيَا عُمَّاراً وَكَأَّنَّ اَلآخِرَةَ لَم تَزَل لَهُم دَاراً» يعني أنهم لظعنهم عن الدّنيا وتركهم لها بكلَّيتها كأنّهم لم يكونوا ساكنين فيها وعامرين لها.

وأنهم لارتحالهم إلى الآخرة واستمرارهم فيها أبد الآباد كأنها كانت لهم منزلاً ومقيلاً)(1).

ص: 187


1- منهاج البراعة: ج 11، ص 155

ص: 188

المبحث الخامس كراهة الضحك بين القبور وعلى الجنازة

عن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، وقد تبع جنازة فسمع رجلاً يضحك، فقال:

«كَأَنَّ المَوتَ فِيهَا عَلَى غَيرِنَا کُتِبَ وَ كَأَنَّ الحَقَّ فِيهَا عَلَى غَيرِنَا وَجَبَ وَ كَأَنَّ اَلَّذِي نَرَي مِنَ اَلأَموَاتِ سَفرٌ عَمَّا قَلِيلٍ إِلَينَا رَاجِعُونَ نُبَوِّئُهُم أَجدَاثُهُم وَنَأكُلُ تُرَاثَهُم كَأَنَّا مُخَلَّدُونَ بَعدَهُم ثُمَّ قَد نَسِينَا کُلَّ وَاعِظٍ وَ وَاعِظَةٍ وَ رُمِینَا بِکُلِّ فَادِحٍ وَ جَائِحَةٍ»(1).

لم يتناول فقهاء المذاهب الإسلامية مسألة كراهة الضحك بين القبور أو في اتباع الجنازة وتشيعها في كتبهم سوى فقهاء المذهب الإمامي لما ورد فيه من أحاديث عديدة عن أئمة العترة (عليهم السلام).

المسألة الأولى: أقوال فقهاء للذهب الإمامي.

ونورد هنا ما جاء عن الشهيد الأول، والمحقق البحراني، والشيخ الجواهري (عليهما رحمة الله ورضوانه).

أولاً - الشهيد الأول (ت: 786 ه):

ص: 189


1- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح ص490 برقم 122؛ وجاءت بتحقيق الشيخ قيس العطار برقم 116، ص 731، طبع العتبة العلوية المقدسة

قال (رحمه الله) في الذكرى:

(ويكره له الضحك وللهو، لما روي أن النبي أو علياً (صلى الله علیهما) شيع جنازة فسمع رجلاً يضحك، فقال:

«كَأَنَّ المَوتَ فِيهَا عَلَى غَيرِنَا کُتِبَ وَ كَأَنَّ الحَقَّ فِيهَا عَلَى غَيرِنَا وَجَبَ...الى اخر الحديث»(1).

ثانياً - المحقق البحراني (ت: 1186 ه).

قال (عليه الرحمة والرضوان) في الحدائق:

ويكره له الضحك واللهو لما روي: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو علياً (عليه السلام) شیع جنازة فسمع رجلاً يضحك فقال:

«كَأَنَّ المَوتَ فِيهَا عَلَى غَيرِنَا کُتِبَ وَ كَأَنَّ الحَقَّ فِيهَا عَلَى غَيرِنَا وَجَبَ وَ كَأَنَّ اَلَّذِي نَرَي مِنَ اَلأَموَاتِ سَفرٌ عَمَّا قَلِيلٍ إِلَينَا رَاجِعُونَ نُبَوِّئُهُم أَجدَاثُهُم وَنَأكُلُ تُرَاثَهُم كَأَنَّا مُخَلَّدُونَ بَعدَهُم ثُمَّ قَد نَسِينَا کُلَّ وَاعِظٍ وَ وَاعِظَةٍ وَ رُمِینَا بِکُلِّ فَادِحٍ وَ جَائِحَةٍ».

وقال (عليه رحمة الله ورضوانه):

هذا الكلام قد ذكره أمير المؤمنين (عليه السلام) کما نقله السيد الرضي في كتاب نهج البلاغة، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد تبع جنازة فسمع رجلاً يضحك فقال:

«كَأَنَّ المَوتَ فِيهَا عَلَى غَيرِنَا کُتِبَ وَ كَأَنَّ الحَقَّ فِيهَا عَلَى غَيرِنَا».

ص: 190


1- ذكرى الشيعة للشهيد الأول: ج 1، ص 392

وساق الكلام، ثم قال السيد: ومن الناس من ينسب هذا الكلام الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ أقول:

ورواه الكراكجي في كنز الفوائد من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

ثالثاً - الشيخ الجواهري (ت: 1266 ه):

قال (عليه الرحمة والرضوان) في الجواهر وتحت عنوان: (كراهة الضحك واللعب واللهو للمشيع) وقد أورد فيه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد تبع جنازة فسمع رجلاً فيها يضحك فقال:

«كَأَنَّ المَوتَ فِيهَا عَلَى غَيرِنَا کُتِبَ وَ كَأَنَّ الحَقَّ فِيهَا عَلَى غَيرِنَا وَجَبَ وَ كَأَنَّ اَلَّذِي نَرَي مِنَ اَلأَموَاتِ سَفرٌ عَمَّا قَلِيلٍ إِلَينَا رَاجِعُونَ نُبَوِّئُهُم أَجدَاثُهُم وَنَأكُلُ تُرَاثَهُم كَأَنَّا مُخَلَّدُونَ بَعدَهُم ثُمَّ قَد نَسِينَا کُلَّ وَاعِظٍ وَ وَاعِظَةٍ وَ رُمِینَا بِکُلِّ فَادِحٍ وَ جَائِحَةٍ».

أقول: وفي هذه الاقوال كفاية لبيان الحكم في المسألة ونورد بعدها ما تناوله بعض شراح النهج لهذا القول الشريف ونكتفي بثلاثة اقوال في ذلك کما سيأتي في المسألة الثانية.

المسألة الثانية: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

أولاً - ابن میثم البحراني:

قال (قدس سره):

ص: 191


1- الحدائق الناضرة: ج 4، ص 75

(وتبع جنازة فسمع رجلاً يضحك، فقال (عليه السلام):

«كَأَنَّ المَوتَ فِيهَا عَلَى غَيرِنَا کُتِبَ، وَ كَأَنَّ الحَقَّ فِيهَا عَلَى غَيرِنَا وَجَبَ، وَ كَأَنَّ اَلَّذِي نَرَي مِنَ اَلأَموَاتِ سَفرٌ عَمَّا قَلِيلٍ إِلَينَا رَاجِعُونَ، نُبَوِّئُهُم أَجدَاثُهُم وَنَأكُلُ تُرَاثَهُم كَأَنَّا مُخَلَّدُونَ بَعدَهُم، ثُمَّ قَد نَسِينَا کُلَّ وَاعِظٍ وَ وَاعِظَةٍ وَ رُمِینَا بِکُلِّ جَائِحَةٍ طُوبَی لِمَنذَلَّ فِي نَفسِهِ وطَابَ کَسبُهُ، وصَلَحَت سَرِيرَتُهُ وحَسُنَت خَلِيقَتُهُ، وأَنفَقَ الفَضلَ مِن مَالِهِ وأَمسَكَ الفَضلَ مِن لِسَانِهُ، ووَسِعَتهُ السُّنَّةُ ولَم يُنسُب إِلَی بِدعَةٍ».

قال الرضي: أقول: ومن الناس من ينسب هذا الكلام إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله).

الأجداث: القبور. والجائحة: الداهية المستأصلة.

وغرض الفصل التنفير عن وضع الضحك في غير موضعه والتذكير بأمر الآخرة.

وذكر تشبیهات ثلاث: أحدها: تشبيه الموت بالمكتوب على غير الإنسان.

والثاني: تشبيه الحقّ الواجب عليه بما وجب على غيره دونه.

والثالث: تشبيه ما يشاهد من الأموات بالمسافرين الَّذين يقدمون عن قریب.

ووجه الشبه في الثلاثة قلَّة اهتمام الناس بالموت والتفاتهم إلى أداء واجب حقّ الله عليهم وعدم اعتبارهم بمن يموت.

وقوله: نبوّئهم. إلى قوله: جائحة. من تمام وجه التشبيه فإنّ الفاعل مثل

ص: 192

هذا الفعل بالأموات كأنّه لقساوة قلبه وعدم اتّعاظه لم يكتب عليه ما كتب عليهم من الموت.

وقوله طوبی. إلى آخره. ترغيب في اقتناء الفضائل المذكورة بأنّ له طوبی وهي في الحقيقة الحالة الشريفة الَّتي لأولياء الله في الآخرة من طيب الحال واللّذة الباقية. وذكر ثمان فضائل:

إحداها: ذلَّة النفس لله عن ملاحظة حاجتها وفقرها إليه، ونظرها إلى معادها.

الثانية: طيب الكسب بأخذه من وجوهه الَّتي ينبغي.

الثالثة: صلاح السريرة لله وإخلاص الباطن من فساد النيّات في المعاملات مع الخلق.

الرابعة: حسن الخلق واقتناء فضائله.

الخامسة: إنفاق الفاضل عن الحاجة من المال فيما ينبغي من وجوه القربات إلى الله وهي فضيلة السخاء.

السادسة: إمساك الفضل من المقال أي ما زاد منه ممّا لا ينبغي وهو السكوت في موضعه.

السابعة: عزل الشرّ عن الناس وهو العدل أو لازمه.

الثامنة: لزوم سنة الله ورسوله وعدم الخروج عنها إلى ما يبتدع في الدين ولا يبتغي)(1).

ص: 193


1- جواهر الكلام: ج 4 ص 270

ثانيًا - حبیب الله الهاشمي الخوئي.

قال الشيخ (عليه رحمة الله ورضوانه):

(الضّحك خاصّة لنوع الانسان، وينشأ عن سرور صاعد على القلب من تأثّر ناش عن نيل محبوب، أو تعجّب بالغ عن مشاهدة مناظر طيّبة، ويعرض هذه الحالة للأطفال والمجانين أكثر من غيرهما، حتّى عدّ كثرة الضّحك نوعا من الجنون، لأنّه يدل على غفلة واغترار، تغلب على التفكر والاعتبار، والتوجّه إلى المبدأ والمعاد.

ومشاهدة مظاهر الموت من أوعظ المناظر وأهمّها للعبرة والتفكر في العواقب، وبهذا الاعتبار كان كثرة الضحك مكروها و ممقوتا عند الشرع والعقلاء الحكماء وخصوصا في موارد تعدّ للتوجه إلى المبدأ أو المعاد، کالمساجد، والمقابر وعند الجنائز، وفي تشييع الأموات.

مضافا إلى أنّ الضّحك خلف الجنازة نوع هتك للميّت وقلَّة مبالاة بصاحب المصيبة وأولياء الميّت المقروحي الأكباد، والمحروقي القلوب.

وهذا الرجل قد بالغ في ضحكه حتّى أسمعه أمير المؤمنين (عليه السلام) فشرع في إرشاده و موعظته بهذه الجمل العاتبة القارعة، ونبّهه على سوء عمله، كأنه لا يعتقد بالموت ولا يعترف بالحقّ، وكأنّ الميّت مسافر يودّع أحبّاءه ثمّ يرجع إليهم عن قريب.

ثمّ بيّن كيف ينبغي أن يكون المسلم السعيد الناظر لما بعد موته، وعدّ له سبع صفات أخلاقيّة وإيمانيّة:

1- أن يذلّ نفسه الأمّارة الشريرة.

ص: 194

2- أن يكون كسبه الَّذي يعيش في ظلَّه طيّبا و حلالا، ولا يأكل من حرام.

3- أن تكون سريرته صالحة نقيّة داعية إلى عمل الخير والصلاح.

4- أن تكون فطرته حسنة مائلة إلى اعتناق الحسنات، وكارهة لارتكاب السيّئات.

5- أن يكون سخيّا ينفق فضل ماله ولا يكون بخيلا يجمع الأموال ويدّخرها للوراث.

6- أن يكون صموتا يحفظ لسانه عن فضول الكلام، والنطق بما لا يعنيه لدى الأنام.

7- أن يكون عاملا بالسنّة، وتاركا للبدعة)(1).

ثالثاً - محمد جواد مغنية.

قال الشيخ (عليه رحمة الله ورضوانه):

(السفر بفتح السين وسكون الفاء - المسافرون جمع مسافر، كصحب جمع صاحب، والجائحة: البلية والتهلكة.

وقوله (عليه الصلاة والسلام):

«وكأن الحق على غيرنا وجب».

هذا كناية وتوبيخ لعدم الشعور بالمسئولية، ومعنى الكلام بجملته: مالك أيها الضاحك الجاهل وأنت ترى الموت و جنازته أنسيت أنك مسؤول عن واجبات كثيرة أمام الله وأمام ضميرك ومجتمعك وأن عليك أن تبصر وتعرف

ص: 195


1- شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 5، ص 307 - 308

ما هو مطلوب منك، وتنهض به على خير وجه ممکن بلا تقصیر وتفریط، وأنك إذا قصّرت وتهاونت فمصيرك إلى الهلاك وسوء العذاب.

(ثم قد نسينا كل واعظ وواعظة) حتی عظة الموت الذي نحسه ونؤمن به، وسبق مع الشرح في الخطبة 186 قوله «کفی واعظا بموتی عاينتموهم حملوا إلى قبورهم غير راكبين، وأنزلوا فيها غير نازلين». ف (ورمینا بکل جائحة) ومنها نسيان الموت الذي يرد عنا ذكره وتذكره (196) عن الاعتداء والأسواء)(1).

المسألة الثالثة: تضعیف علماء أبناء العامة نسبة الحديث إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

نسب هذا الحديث کما مرَّ بیانه الى علي (عليه السلام) والى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد ذهب بعض علماء ابناء العامة الى تضعيف نسبة الحديث الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وبذلك تصبح نسبته الى الامام علي (عليه السلام) هي الراجحة لا سميا وأن علي بن ابراهيم القمي (من أعلام القرن الثالث والرابع الهجري) (المتوفي سنة) قد نسبه الى امير المؤمنين (عليه السلام))(2).

أما ما جاء في اقوال بعض علماء العامة فهو كالاتي:

أولاً - قال ابن حبان (ت: 354ه) في مسند الحديث:

(النضر بن محرز بن بعيث من أهل البثينة من الشام، يروي عن محمد

ص: 196


1- منهاج البراعة: ج 21، ص 188
2- تفسير علي بن ابراهيم القمي: ج 2، ص 70

بن المنكدر، عن اهل الشام، منکر الحديث جداً، لا يجوز الاحتجاج به، وهو الذي يروي عن محمد بن المنكدر، عن انس بن مالك قال:

خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ناقته العضباء فقال:

«ايها الناس كأن الموت فيها على غيرنا کتب وكأن الحق فيها على غيرنا وجب وكأن الذي نرى من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون نبوئهم أجداثهم وناكل تراثهم كأنا مخلدون بعدهم ثم قد نسينا كل واعظٍ وواعظة ورمينا بكل فادح وجائحة»(1).

ثانياً - ابن عدي (ت: 365 ه) قال:

(الوليد بن مهلب من أهل الاردن احادیثه فيها بعض النكرة، ثم ساق الحديث كأن الموت فيها على غيرنا کتب وكان الحق فيها على غيرنا وجب وكأن الذي نرى من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون نبوئهم أجداثهم وناكل تراثهم كأنا مخلدون بعدم ثم نسينا كل واعظٍ وواعظة ورمينا بكل فادح وجائحة)(2).

ثالثاً - شمس الدين الذهبي (ت: 748 ه) قال في سنده الذي اخرجه عصمة بن محمد، عن هاشم بن عروة:

(قال أبو حاتم: ليس بقوي، وقال يحيى: كذاب، يضع الحديث، وقال العقيلي: حدث بالبواطيل عن الثقات، وقال الدار قطني وغيره: متروك).(3)

ص: 197


1- المجروحين: ج 3، ص 49
2- الكامل في الضعفاء: ج 7، ص 81
3- میزان الاعتدال: ج 3، ص 68

وعليه:

1- (لا صحة لنسبة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك أن الرواة سمعوه من الإمام علي (عليه السلام) فنسبوه الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

2- لا فرق من حيث حكم الحديث في كراهة الضحك واللعب واللهو في تشيع الجنازة بين القبور سواء كان ذلك صادراً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عن الإمام علي (عليه السلام) إلا أننا أوردنا أقوال علماء العامة في نسبة الحديث الى رسول الله (صلى الله عليه آله وسلم) لبيان رجحان نسبة الى الإمام علي (عليه السلام) حيث خرجه الشريف الرضي (عليه الرحمة والرضوان).

ص: 198

المبحث السادس كراهة ضرب صاحب المصيبة يده على فخذه

وعن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام):

«یَنزِلُ الصَّبرُ عَلَى قَدرِ المُصِيبَةِ ومَن ضَرَبَ يَدَه عَلَى فَخِذِه عِندَ مُصِيبَتِه حَبِطَ عَمَلُه»(1).

هذا الحديث الشريف اخرجه الشيخ الكليني عن السکوني عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)؛ يرفعه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

وأورده الشريف الرضي في نهج البلاغة عن الإمام علي (عليه السلام)، وبناءً على تخريج الشريف ونسبة الى الإمام علي (عليه السلام) أوردنا في الكتاب فضلاً عن ذلك فإن الحديث لم يرد في كتب فقهاء المذاهب الاسلامية، ولذا:

نكتفي بإيراد بعض اقوال فقهاء المذهب الإمامي (أعلى الله شأنهم) ثم نورد ما جاء في الحديث من شروحات لدى بعض شراح نهج البلاغة وهو كالاتي:

ص: 199


1- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: ص 495 برقم 144
2- الكافي للكليني: باب الصبر والجزع: ج 3، ص 224

المسألة الأولى: أقوال فقهاء للذهب الإمامي.

أولاً- ابن بابوية (ت 329 ه).

أخرج ابن بابوية في فقه الرضا (عليه السلام) في باب غسل الميت وتكفينه، عنه (عليه السلام) أنه قال:

«ثم احمله على سريره، وأياك أن تقول:

أرفقوا به وترحموا عليه، أو تضرب يدك على فخذك، فإنه يحبط اجرك عند المصيبة»(1).

ثانياً - الشهيد الأول (ت: 786 ه).

قال (رحمه الله) في الذكرى وقد أورده ضمن المبحث الثالث و تحت عنوان: (البكاء وتوابعه)، فقال:

(وهو جائز اجماعاً قبل خروج الروح وبعده، لما روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل عثمان بن مظعون وهو ميت، ورفع رأسه وعيناه تهرقان.

ثم ساق (عليه الرحمة والرضوان) مجموعة من الأحاديث في هذا الخصوص الى أن يصل الى ذكر هذا الحديث وقد اتبعه بحديث للأمام موسی الكاظم (عليه السلام) فقال:

«ضرب الرجل يده على فخذه إحباط أجره»(2).

ص: 200


1- فقه الإمام الرضا (عليه السلام): ص 168
2- ذكرى الشيعة: ج 2، ص 54

ثالثاً - الشيخ الجواهري (ت: 1266 ه).

قال (رحمه الله) في جواهره:

(وحكى المصنف (رحمه الله) في المعتبر(1)، عن علي بن بابوية القمي في رسالته أنه قال: اياك أن تقول أرفقوا به أو ترحموا عليه أو تضرب يدك على فخذك فيحبط أجرك وبعينه حكاه في الحدائق عن الفقه الرضوي ولعله هو المستند له، وفي خبر السكوني عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«ثلاثة ما أدري أيهم أعظم جرما: الذي يمشي مع الجنازة بغير رداء، والذي يقول قفوا، والذي يقول استغفروا له غفر الله لكم».

وعن الخصال بسنده عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، عن الصادق (عليه السلام):

«أيضا ثلاثة لا أدري أيهم أعظم جرما الذي يمشي خلف جنازة في مصيبة بغير رداء، والذي يضرب يده على فخذه عند المصيبة، والذي يقول ارفقوا به وترحموا عليه يرحمكم الله تعالى».

ولعل ما في خبر السكوني من قوله (عليه السلام):

«قفوا»، مصحف ارفقوا أو لأنه مناف للتعجيل، أو لأن المراد قفوا به لإنشاد المراثي وذکر أحوال الميت كما هو الشائع على ما قيل، فينا في التعزي والتصبر، وكان الوجه في كراهة قول: «ترحموا» و نحوه ما فيه من الاشعار

ص: 201


1- المعتبر للمحقق الحلي (عليه الرحمة والرضوان): ج 1، ص 294

بذنب الميت وتحقيره. وكيف كان فلا ريب أن الاحتياط في ترك ذلك كله تجنبا من الوقوع في المكروه، وإن كان الوجه في بعضها لا يخلو من غموض)(1).

المسألة الثانية: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

أولاً - قال علي بن زید البيهقي (رحمه الله) (ت: 565 ه) في بيان معنی الحديث:

(قال، لان ذلك من شدة الجزع عند المصيبة، وهذا إنما يأتي من ترك الرضا بقضاء الله تعالى، وذلك يحبط الثواب لا محالة، لان الرضا بقضاء الله ركن من اركان الایمان)(2).

ثانياً - قال ابن میثم البحراني (رحمه الله) (ت 679 ه) في بيان معنی الحدیث:

(إن الله سبحانه جعل للإنسان قوّة استعداد لأن يصبر بمقدار مصیبته فمن تمّ استعداده أفيض عليه ذلك المقدار من الصبر ومن قصر في الاستعداد لحصول هذه الفضيلة وارتكب ضدّها وهو الجزع حبط أجره وهو ثوابه على الصبر، وكنّى عن الجزع بما يلزمه في العادة من ضرب اليدين على الفخذين. وقيل: بل يحبط ثوابه السابق لأنّ شدّة الجزع يستلزم كراهيّة قضاء الله وسخطه وعدم الالتفات إلى ما وعد به من ثواب الصابرين وهو معدّ لمحو الحسنات من لوح النفس وسقوط ما يلزمها من ثواب الآخر)(3)

ص: 202


1- جواهر الكلام: ج 4، ص 271
2- معارج نهج البلاغة: ص 28 برقم (2059)
3- شرح نهج البلاغة: ج 5، ص 319

ثالثاً - قال بن ابي الحديد المعتزلي في شرحه للنهج:

(قد مضى لنا کلام شاف في الصبر، وكان الحسن يقول في قصصه: الحمد لله الذي كلفناما لو كلفنا غيره لصرنا فيه إلى معصيته، و آجرنا على ما لا بد لنا منه، يقول كلفنا الصبر، ولو كلفنا الجزع لم يمكنا أن نقيم عليه، وآجرنا على الصبر ولابد لنا من الرجوع إليه.

ومن كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، كان يقول عند التعزية:

«عليكم بالصبر، فإن به يأخذ الحازم، ويعود إليه الجازع».

وقال أبو خراش الهذلي يذكر أخاه عروة:

تقول أراه بعدعروة لاهيا *** وذلك رزء لوعلمت جليل

فلا تحسبي أنی تناسيت عهده *** ولكن صبري يا أميم جميل

وقال عمرو بن معدیکرب:

كم من أخ لي صالح *** بوأته بيدي لحدا

ألبسته أكفانه *** وخلقت يوم خلقت جلدا

وكان يقال: من حدث نفسه بالبقاء، ولم يوطنها على المصائب، فهو عاجز الرأي.

وكان يقال: كفى باليأس معزيا، وبانقطاع الطمع زاجرا!

ص: 203

وقال الشاعر: أيا عمرو لم أصبر ولي فيك حيلة ولكن دعاني اليأس منك الى الصبر تصبرت مغلوبان واني لموجع کما صبر القطان في البلد الفقر)(1).

ص: 204


1- شرح نهج البلاغة: ج 18، ص 343

المبحث السابع النهي عن البكاء والجزع على الميت واستحبابه على فقد رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم)

قال أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) على قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ساعة دفنه:

«اَلصَّبْرَ لَجَمِیلٌ إِلاَّ عَنْكَ وَ إِنَّ اَلْجَزَعَ لَقَبِیحٌ إِلاَّ عَلَیْكَ وَ إِنَّ اَلْمُصَابَ بِی عَلَیْكَ لَجَلِیلٌ وَ إِنَّهُ قَبْلَكَ وَ بَعْدَكَ لَجَلَلٌ»(1).

وقال (عليه السلام):

«وَ لَوْ لاَ أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ وَ نَهَیْتَ عَنِ اَلْجَزَعِ لَأَنْفَدْنَا عَلَیْكَ مَاءَ اَلشُّؤُونِ»(2).

وقال (عليه الصلاة والسلام) بعد مواراته فاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) الثرى مخاطباً رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك والسريعة اللَّحاق بك، قلّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري، ورقّ عنها تجلَّدي، ألا وإنّ في التأسي بعظیم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعزّ، فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك، إنّا لله وإنا إليه

ص: 205


1- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: ص 527 برقم 292
2- المصدر نفسه ص 355 برقم 235

راجعون، لقد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة، أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهّد، إلى أن يختار لي الله دارك التي أنت فيها مقيم، وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها؛ فأحفها السؤال واستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد، ولم يخل من الذكر، والسلام عليکما سلام مودع لا قال ولا سئم؛ فإن أنصرف فلا عن ملالة. وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرین»(1).

وهذه المسالة من المسائل التي اختلف فيها أئمه المذاهب و فقهائها ما بين الحرمة والكراهة في مورد النهي عن الجزع بشكل عام؛ وأما ما يخص الجزع على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد تفرد في استحبابه أئمه العترة النبوية (عليهم السلام) وبه التزم فقهاء الأمامية (رضوان الله تعالى عليهم).

وتفصيل المسألة على النحو الآتي:

المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي.

أولاً - العلامة الحلي (ت: 726 ه).

قال (عليه الرحمة والرضوان في باب (كراهة الجلوس للتعزية يومين وثلاثة) وقد تناول اقوال فقهاء المذهب الذين سبقوه، فقال:

(مسألة: قال الشيخ في المبسوط: يكره الجلوس للتعزية يومين وثلاثة اجماعاً؛ ومنع ابن إدريس ذلك وقال: إنه من فروع الخالفين إجماعا.

ومنع ابن إدريس ذلك وقال: إنه من فروع المخالفين، ولم يذهب إليه أحد من أصحابنا، ولا وضعه في كتابه، قال وأي كراهة في جلوس الإنسان في

ص: 206


1- نهج البلاغة، الخطبة (202)، ج 2، ص 419 بتحقيق الشيخ قيس العطار، ط العتبة العلوية المقدسة؛ وبتحقيق صبحي الصالح: ص 320

داره للقاء إخوانه، والدعاء لهم، والتسليم عليهم، واستجلاب الثواب لهم في لقائه وعزائه. والوجه ما قاله الشيخ - (رحمه الله) -.

لنا: إن ذلك منافيا للصبر والرضا بقضاء الله تعالى وترك إظهار الجزع والمصيبة. وقد روى ابن بابویه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله) -:

«إذا قبض ولد المؤمن والله أعلم بما قال العبد فيسأل الملائكة: قبضتم ولد فلان المؤمن؟ فيقولون: نعم ربنا، يقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك ربنا واسترجع، فيقول (عز وجل): ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بیت الحمد».

واستحباب التعزية لا يستلزم استحباب الجلوس لها لتغاير محل الفعلين)(1).

ثانياً - المحقق البحراني (ت: 1186 ه).

قال (رضوان الله عليه) في باب جواز البكاء على الميت:

(الظاهر أنه لا خلاف نصاً وفتوى في جواز البكاء على الميت قبل الدفن وبعده، ويدل على ذلك الأخبار المستفيضة، ومنها:

ما رواه الصدوق في الخصال والمجالس بسنديه فيهما إلى محمد بن سهل البحراني، يرفعه إلى الصادق (عليه السلام)، قال:

«البكاءون خمسة: آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي بن الحسين، أما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الأودية، وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره، وحتى قيل له:

ص: 207


1- مختلف الشيعة: ج 2، ص 320-321

تفتؤ تذکر یوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين، وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذي به أهل السجن فقالوا:

إما أن تبكي الليل وتسكت بالنهار، وإما أن تبكي النهار وتسكت بالليل، فصالحهم على واحد منهما، وأما فاطمة فبكت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى تأذي بها أهل المدينة فقالوا لها:

قد آذيتنا بكثرة بكائك، و كانت تخرج إلى المقابر، مقابر الشهداء فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف، وأما علي بن الحسين فبكي على الحسين عشرين سنة، أو أربعين سنة، ما وضع بين يديه طعام إلا بکی، حتى قاله له مولى له:

إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال:

إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون إني لم أذكر مصرع بني فاطمة (عليهما السلام) إلا خنقتني لذلك عبرة».

وروى في الكافي عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) قال:

«لما ماتت رقية بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«الحقي بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون وأصحابه، قال وفاطمة (عليها السلام) على شفير القبر تنحدر دموعها في القبر». الحديث.

وعن محمد بن منصور الصيقل عن أبيه قال:

(شكوت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) وجدا، وجدته على ابن لي هلك، حتى خفت على عقلي، فقال:

ص: 208

«إذا أصابك من هذا شيء فأفض من دموعك فإنه يسكن عنك».

وعن ابن القداح عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال:

(لما مات إبراهيم بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هملت عين رسول الله بالدموع، ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

«تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب وإنا بك يا إبراهيم المحزونون»).

وروى الصدوق في الفقيه مرسلا قال: قال الصادق (عليه السلام):

«لما مات إبراهيم بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال رسول الله:

حزنا عليك يا إبراهيم وإنا لصابرون، يحزن القلب وتدمع العين ولا نقول ما يسخط الرب».

قال: وقال (عليه السلام):

«من خاف على نفسه من وجد بمصيبة فليفض من دموعه فإنه يسكن عنه».

قال: وقال (عليه السلام):

«إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين جاءته وفاة جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة كان إذا دخل بيته كثر بكاؤه عليها، جدا ويقول: كانا يحدثاني ويؤنساني فذهبا جميعا».

وفي التهذيب بسنده إلى محمد بن الحسن الواسطي، عن الصادق (عليه السلام):

«أن إبراهيم خليل الرحمن سأل ربه أن يرزقه ابنة تبكيه بعد موته».

ص: 209

والأخبار في هذا الباب كثيرة، بل ورد بكاء الملائكة، وبقاع الأرض على المؤمن، کما رواه في الكافي في الصحيح، أو الحسن عن علي بن رئاب قال: سمعت أبا الحسن الأول (عليه السلام) يقول:

«إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد الله تعالى عليها وأبواب السماء التي كان يصعد أعماله فيها، وثلم ثلمة في الاسلام لا يسدها شيء لأن المؤمنین حصون الاسلام كحصون سور المدينة لها».

وأما رواية الحسن بن الشيخ الطوسي في أماليه عن معاوية بن وهب عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال:

«كل الجزع والبكاء مكروه ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين (عليه السلام)».

فالظاهر أن المراد بالكراهة هنا عدم ترتب الثواب والأجر عليه مجازا، لا الكراهة الموجبة للذم، وذلك فإنه ليس في شيء من أفراد البكاء ما يوجب الثواب الجزيل والأجر الجميل مثل البكاء عليه والبكاء على آبائه وأبنائه (عليهم السلام) وقصارى البكاء على غيرهم أن سبيله سبيل المباحات.

وأما ما روي من أن الميت يعذب ببكاء أهله فهو من روايات العامة، قال شيخنا في الذكرى:

الثالثة - لا يعذب الميت بالبكاء عليه سواء كان بكاء مباحا أو محرما کالمشتمل على المحرم، لقوله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى. وما في البخاري ومسلم في خبر عبد الله بن عمر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

«إن الميت ليعذب ببكاء أهله».

ص: 210

ويروى أن حفصة بكت على عمر، فقال مهلا: (يا بنية ألم تعلمي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه؟) مأول، قيل وأحسنه أن الجاهلية، ثم أطال في بيان أجوبة ذكروها وقد أوضح فسادها ولا حاجة بنا إلى التطویل بنقلها.

وبالجملة فإنه لا اشکال ولا خلاف عندنا في جواز البكاء کما صرح به الأصحاب، إنما الخلاف نصاً وفتوى في جواز النوح فالمشهور بين الأصحاب هو القول بالجواز مالم يستلزم امرا أخر قدمنا ذكره)(1).

3- قال السيد اليزدي (رحمه الله) في العروة في مکروهات الدفن.

(مسألة 1: يجوز البكاء على الميت ولو كان مع الصوت، بل قد يكون راجحاً، كما كان مسكنا للحزن وحرقة القلب بشرط ألا يكون منافياً للرضا بقضاء الله تعالى، ولا فرق بين الرحم وغيرة؛ بل قد مرَّ استحباب البكاء على المؤمن؛ بل يستفاد من بعض الاخبار جواز البكاء على الاليف الضال.

والخبر الذي ينقل من أن الميت يعذب ببكاء أهله ضعيف مناف لقوله تعالى:

«وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى».

وأما البكاء المشتمل على الجزع وعدم الصبر فجائز مالم یکن مقروناً بعدم الرضا بقضاء الله، نعم يوجب حبط الاجر ولا يبعد کراهته)(2).

ص: 211


1- الحدائق الناظرة. المحقق البحراني: ج 4، ص 162-169
2- العروة الوثقی: ج 2، ص 132

المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى.

أولاً - المذهب المالكي.

قال الشيخ ابو البركات (ت: 1302 ه) في الشرح الكبير:

(و کره صياح خلفها - اي الجنازة - لما فيه من اظهار الجزع وعدم الرضا بالقضاء).(1)

ثانياً - المذهب الشافعي.

1. قال الحافظ النووي (ت 176 ه):

(لا أجد للتعزية بل يبقى بعد ثلاثة أيام وأن طال الزمن؛ لان الغرض الدعاء والحمل على الصبر والنهي عن الجزع وذلك يحصل مع طول الزمن)(2).

2. قال الشيخ الشربيني (ت 977 ه):

(ويحرم الجزع بضرب صدره و نحوه کضرب خده، ومن ذلك ايضاً تغيير الزي ولبس غير ما جرت به العادة؛ والضابط: كل فعل يتضمن اظهار جزع ينافي الانقياد والاستسلام لقضاء الله تعالى)(3).

ثالثاً - المذهب الحنبلي.

قال الشافعي الصغير (ت 1004 ه):

ص: 212


1- الشرح الكبير: ج 1، ص 423
2- المجموع: ج 5، ص 306
3- الاقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: ج 1، ص 193

(ويحرم الجزع بضرب الصدر ونحوه کشق جيب ونشر شعر وتسويد وجه، والقاء الرماد على الرأس ورفع الصوت بأفراط في البكاء، وكذا تغير الزي ولبس غير ما جرت العادة به)(1).

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

اختلف فقهاء المذاهب الإسلامية في مسألة البكاء والجزع على الميت بين الجواز والحرامة والكراهة والاستحباب.

1- فقد اجمع فقهاء الإمامية على استحباب البكاء والجزع على فقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة العترة (عليهم السلام) وما جرى عليهم من المصائب.

أما البكاء على الميت وإن تخلله رفع الصوت وتلبس بمظهر الجزع فهو جائز ولكنه مقيد بالرضا بقضاء الله تعالى.

وهو مكروه ومحبط للأجر فيما لو فقد هذا الشرط.

2- وذهب المالكية إلى كراهة الصياح خلف الجنازة لكونه لظهر الجزع وعدم الرضا بقضاء الله تعالى.

3- وقال الشافعية بحرمة الجزع بجميع مظاهره وهو منافٍ للانقياد القضاء الله تعالى.

4- وقال الحنابلة بحرمة الجزع ايضاً كضرب الصدر وشق الجيب ونشر الشعر ورفع الصوت في البكاء ولبس السواد أو تغيير الزي بنحو عام في فقد الإنسان بالوفاة وغيرها.

ص: 213


1- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: ج 2، ص 435

المسألة الرابعة: ما جاء في الحديث من شروح نهج البلاغة.

أولاً - ابن میثم البحراني، (ت: 679 ه):

قال (رحمه الله) وتحت الرقم 276 من النهج الشريف، قال (عليه السلام) على قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ساعة دفن:

«إن الصبر الجميل إلا عنك، وان الجزع القبيح إلا عليك وان المصاب بك الجليل وانه قبلك وبعدك لجلل».

(الجلل، الأمر الهين والأمر العظيم وهو من الاضداد، وإنّما كان الصبر غير جميل في المصيبة به (صلَّى الله عليه وآله)، والجزع عليه غير قبيح لأنّه صلَّى الله عليه وآله أصل الدين والقدوة فيه فالجزع في المصيبة به يستلزم دوام تذکَّره المستلزم لدوام ذكر أخلاقه وسننه وسيرته فكان غير قبيح من هذا الوجه، أو لأنّ المصيبة به مصيبة عظيمة وهو أعظم فائت فيستحسن الجزع عليه، وأمّا الصبر فإنه يؤول إلى سلوانه والغفلة عنه فكان غير جميل من هذا الوجه. وقد تعرّض لفضيلة القبح من بعض الاعتبارات ولرذيلة الحسن من وجه، وظاهر أنّ المصاب به أعظم مصاب بأحد من الناس وأنّ كلّ مصاب بأحد من قبله أو بعده فهو سهل هيّن بالنسبة إليه. وقيل: أراد أنّ المصاب به قبله عظيم على المسلمين لحذرهم منه، وبعده كذلك لاختلال أمرهم، وأمر الدين يفقده، والأول أظهر).(1)

ثانياً - ابن أبي الحديد المعتزلي (ت: 656 ه):

ص: 214


1- شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 2، ص 393

قال المعتزلي: (قد أخذت هذا المعنى الشعراء؛ فقال بعضهم:

أسست بجفني الدموع كلوم *** جزنا عليك وفي الخدود رسوم

والصبر يحمد في المواطن كلها *** إلا عليك فانه مذموم

وقال أبو تمام:

قد كان يدعي لابس الصبر حازما *** فقد صار يدعی حازما حين يجزع

ساند وقال أبو الطيب:

أجد الجفاء على سواك مروءة *** والصبر إلا في نواك جميلا

وقال أبو تمام أيضا:

الصبر أجمل غير أن تلذذا *** في الحب أولى أن يكون جميلا

وقالت خنساء أخت عمرو بن الشريد:

ألايا صخرإن أبكيت عيني *** لقد أضحكتني دهرا طويلا

بكيتك في نساء معولات *** وكنت أحق من أبدى العويلا

دفعت بك الجليل وأنت حي *** فمن ذا يدفع الخطب الجليلا

إذا قبح البكاء على قتیل *** رأيت باك الحسن الجميلا

ومثل قوله (عليه السلام):

ص: 215

«وإنه بعدك لقليل»

یعنی المصاب، أي: لا مبالاة بالمصائب بعد المصيبة بك، قول بعضهم:

قد قلت للموت حين نازله *** والموت مقدامة على البهم

إذهب من شنت إذ ظفرت به *** ما بعد يحيى للموت من ألم

وقال الشمردل اليربوعي يرثي أخاه:

إذا ما أتي يوم من الدهر بيننا *** فحياك عناشرقه وأصائله

أبي الصبر إن العين بعدك لم تزل *** يحالف جفنيها قذى ما تزايله

وكنت أعير الدمع قبلك من بكى *** فأنت على من مات بعدك شاغله

عيني إذ أبكاكما الدهرفابكيا *** لمن نصره قد بان عنا ونائله

وكنت به أغشي القتال فعزني *** عليه من المقدار من لا أقاتله

لعمرك إن الموت منا لمولع *** بمن كان يرجی نفعه وفواضله

قوله:

(فأنت على من مات بعدك شاغله) هو المعنى الذي نحن فيه، وذكرنا سائر الأبيات لأنها فائقة بعيدة النظير.

وقال آخر يرثي رجلا اسمه جارية:

ص: 216

أجاري ما أزداد إلا صبابة *** عليك وماتزداد إلا تنانیا

أجاري لو نفس فدت نفس میت *** فديتك مسرورا بنفسي وماليا

وقد كنت أرجو أن أراك حقيقة *** فحال قضاء الله دون قضائيا

ألا فليمت من شاء بعدك إنما *** عليك من الاقدارکان حذاريا

ومن الشعر المنسوب إلى علي (عليه السلام)، ويقال: إنه قاله يوم مات رسول الله (صلى الله عليه وآله):

كُنت السواد لناظري *** فبكى عليك الناظر

من شاء بعدك فليمت *** فعليك كنت أحاذر

ومن شعر الحماسة:

سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض *** فحسبك منی ما تجن الجوانح

كان لم يمت حي سواك ولم تقم *** على أحد إلا عليك النوائح

لنن حسنت فيك المراثي بوصفها *** لقد حسنت من قبل فيك المدائح

فما أنا من رزء وان جاع *** ولا بسرور بعد موتك فارح(1).

ص: 217


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 1، ص 195-197

ثالثاً - حبیب الله الخوئي (ت: 1324 ه).

قال الشيخ الخوئي (عليه الرحمة والرضوان):

(كلامه عليه السلام، في هذا المقام خرج مخرج الكناية لبيان عظم المصيبة وشدة التألم من فقده صلوات الله عليه وليس معناه أن الصبر على فقده ومصابه ليس جميلاً حقيقة، وأن الجزع عليه ليس قبیحاً حقيقة فيما ذكره ابن میثم من التعليل على أن الصبر في مصابه غير جميل وان الجزع عليه غير قبيح ليس بصحيح)(1).

رابعاً - محمد جواد مغنية (ت: 1400 ه).

قال الشيخ (رحمه الله):

(المراد بالجلل: الهين ويصح اطلاقه على العظيم وليس من قصد الإمام أن يقسّم كلا من الصبر والجزع إلى جميل وغير جمیل کما فهم الشارحون.. کلا، وانما قصد الإمام أن فقد الرسول (صلى الله عليه آله) أحدث فراغا لا يسده شيء، وان أهل البيت من بعده تتراكم عليهم هموم وأحزان لا يقوى عليها إلا من بلغ الغاية والنهاية في صبره وایمانه ورضاه بما يرضي الله .. وكل ما وقع وحدث لآل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بعده دلیل صدق، وشاهد عدل على ذلك)(2).

ص: 218


1- منهاج البراعة: ج 21، ص 384
2- من ظلال نهج البلاغة: ج 4، ص 394

المسألة الخامسة: خلاصة القول فيما أورده شراح نهج البلاغة واختلافهم في دلالة حزنه (عليه السلام).

أختلف شراح نهج البلاغة في معنی صبره وجزعه على رسول الله (صلى الله عليه و آله) إلى ثلاثة أقوال:

1- قال ابن میثم البحراني: وإنما كان الصبر غير جميل في المصيبة به (صلى الله عليه وآله)، والجزع عليه غير قبيح لأنه (صلى الله عليه وآله) أصل الدين والقدوة فيه، فالجزع في المصيبة به يستلزم دوام تذکره.

2- وذهب السيد حبيب الله الخوئي إلى أن كلامه (عليه الصلاة والسلام) قد خرج مخرج الكناية لبيان عظم المصيبة وشدة التألم من فقده (صلى الله عليه وآله) ثم نفي صحة قول ابن میثم البحراني.

3- وقارب هذا الرأي الشيخ مغنية، فقد نفى أن يكون الإمام قد قسم الصبر والجزع الى جميل وغير جميل، ويرى أن قصد الإمام (عليه الصلاة والسلام) هو: أن فقده (صلى الله عليه وآله) أحدث فراغاً لا يسده شيء.

أقول:

4 - إن ما ذهب إليه ابن میثم البحراني (رحمه الله) هو الأقرب لقصدية أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن ثم لا ممانعة من تقسيم الجزع والصبر والحزن إلى قسمين:

الأول: مصاب يستلزم إظهار الجزع وفقدان الصبر والتأوه والتألم والصراخ وهو مخصوص بفقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

ص: 219

خاصته، وعترته أهل بيته عامة، وقد ذهب فقهاء الإمامية الى رجحان هذا الأمر وتضافر النصوص في ثواب البكاء عليهم (عليهم الصلاة والسلام)، يلحق به بکاء المؤمن لفقد عزیز کما مرَّ.

وأما القسم الثاني: فهو الجزع المنهي عنه المصحوب بعدم الرضا بقضاء الله والتسليم له وهذا قطعاً لا يصدر عن المشرع (عليه الصلاة والسلام) بل هو في غاية البداهة.

5- قد ورد عنه (عليه الصلاة والسلام) في شكواه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد أن دفن البضعة النبوية (عليها الصلاة والسلام) قائلا:

«آه، آه لولا غلبة المستولين علينا لجعلت المقام عند قبرك لزاماً...»

فهنا ينتقل (عليه الصلاة والسلام) بعد شحن عواطف المتلقي في تأوهه وتصبره على المصيبة لاسيما وان الآهات هي صوت يخرجه المتألم يقصد فيه جمع مشاعر السامع وشد انتباهه الى أمر في غاية الاهمية ويدفعه للسؤال عن سبب هذه الآهات ولان المعصوم (عليه السلام) يدور کلامه مدار أثر النص القرآني في كونهما ثقلين يتعاضدان في نجاة الامة وهداية الناس الى شريعة الله تعالى، كان لهذه الآهات من الآثار النفسية في تحريك عقل السامع وحواسه تأثير الحروف في أوائل بعض السّوَر القرآنية وما صحب بعض هذه الحروف من أحكام للمد أو القلقلة وغيرها بغية شد ذهن السامع وجوارحه لما سيتبع هذه الحروف في المصحف الشريف أو ما يخرج من الآهات من فم المعصوم (عليه الصلاة والسلام).

ص: 220

وعليه:

سیستجیب ذهن المتلقي وجوارحه الى ما بعد هذا الافتتاح من الآهات وهي إيراده لجملة من الافعال المرتبطة بقضيته الاساس وهي ظلامة البضعة النبوية وطرق الاستعانة على تحمل هذه المصيبة وبيان حجم الجريمة التي اقترفها الجناة بلحاظ النظر الى منزلة الضحية وشأنيتها عند الله تعالى وعند رسوله (صلى الله عليه وآله) فكانت المقاربة من القصدية للنص الشريف في الجعل المرتضوي (عليه السلام) في الثلاث القاسمة لظهر المباني العقدية التي ( أستند عليها العدو فكانت:

1- الملازمة لقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله).

2- التليث بقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والاعتكاف عنده.

3- البكاء والعويل عند قبر رسول الله (صلى الله علیه و آله).

وهذه الثلاثة ترتكز على تصبير النفس للمصيبة العظمى وهي فقد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومنها كان منطلقة (عليه السلام) في التعامل مع مصیبته بفقد الزهراء (عليها الصلاة والسلام) وما جرى عليها من الظلم.

وقد ارشدت الأحاديث النبوية عنه (صلى الله عليه وآله) بهذه السنّة للاستعانة على المصائب التي تحل بالإنسان، فكان من هذه الأحاديث ما يلي:

أ- روى الحر العاملي (رحمه الله) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنه قال في مرضه الذي توفي فيه:

ص: 221

«أيها الناس، أيما عبد من أمتي أصيب بمصيبة من بعدي فليَتَعَزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بعدي فإن أحداً من امتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي»(1).

ب- أخرج الدارمي (ت 255 ه) في سننه عن مكحول(2)، والبيهقي (ت: 458 ه) عن ابن عباس، أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال:

«إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب»(3).

ج- وأخرج أيضا عطاء قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي فإنها من أعظم المصائب»(4).

د- وأخرج ابن عبد البر (ت 463 ه) عن عبد الرحمن بن باسط، قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إذا أصابت أحدکم مصيبة فليذكر مصابه بي وليعزه ذلك من مصيبته»(5).

ه- وأخرج الشيخ الكليني (رحمه الله) عن عبد الله بن الوليد بإسناده قال:

(لما أصيب أمير المؤمنين (عليه السلام) تعز الحسن الى الحسين (عليه السلام) وهو في المدائن، فلما قرأ الكتاب قال:

ص: 222


1- وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 3، ص 268
2- سنن الدارمي: ج 1، ص 40
3- شعب الایمان: ج 7، ص 239
4- سنن الدارمي: ج 1، ص 40
5- الاستذکار: ج 3، ص 80

(يا لها من مصيبة ما أعظمها مع أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:

«من أصيب منكم بمصيبة فليذكر مصابه بي فإنه لن يصاب بمصيبة أعظم منها»، صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله)(1).

وهذه النصوص الشريفة تكشف عن حجم الألم الذي كان يشعر به الإمام علي (عليه السلام) والمصيبة التي أحلت به لفقد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأن هذه المصيبة هي مما هون على منتج النص (عليه السلام) مصیبته بفقد الزهراء (عليها السلام) من جهة، ومانزل عليها من جهة اخری، کما بين النص الشريف في ذكره وبيانه للظلم الذي أصابها من (دفنها سراً، وهضم حقها قهرا، ومنع ارثها جهرا) فمصيبة فقد رسول الله أعظم مما جرى ولذا قال:

«فإلى الله یا رسول الله المشتکی وفيك أحسن العزاء».

فكان عزائه برسول الله هوّن عليه عزائه بفقد فاطمة (عليه السلام) وما جرى عليها وهذا من اصدق الدلالات على درجة حبه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) و ایمانه بالله تعالى.

وهو أمر وجداني لا يحتاج الى تدليل کي نثبت العلاقة بين الحب والایمان ويكفي بذلك شاهداً، قوله (صلى الله عليه وآله):

«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين»(2).

ص: 223


1- الكافي: ج 3 ص 220
2- صحيح البخاري، کتاب الایمان: ج 1، ص 9

وقوله (صلى الله عليه وآله):

«ثلاث من كن فيك وجد حلاوة الإيمان، أنّ يكون الله ورسوله احب اليه مما سواهما، وأن يحب المرء الا وان يكره ان يعود في الكفر کما یکره ان يقذف في النار»(1).

فكيف إذا كان عليّ (عليه السلام) وهو ربيب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخيه وابو سبطيه الحسن والحسين (عليهما السلام).

ولذلك:

كان يناشد اصحاب رسول الله (صلى الله عليه و آله) ويحتج عليهم بجملة من المزايا والخصائص التي حظي بها ولم ينالها غيره من بينهم وهو يكشف بذلك عن نوع العلاقة التي كانت بينه وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيقول:

«وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وانا ولد، يضمني الى صدره ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل»(2).

وعليه:

يكون الجعل في المقام عند قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتلبث والاعوال يرتكز على أمرين أساسيين، وهما:

ص: 224


1- صحيح البخاري، کتاب الایمان: ج 1، ص 9
2- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: ص 300

1- إيمانه بالله تعالى.

2- حبه لرسول الله (صلى الله عليه وآله).

وهذان الأمران يسيران بالتوازي في المسيرة الحياتية لكل انسان)(1).

ص: 225


1- فاطمة في نهج البلاغة، للمؤلف: ج 3، ص 69 - 73

ص: 226

الفصل الثالث «أحكام صلاة الجنازة»

ص: 227

ص: 228

توطئة:

قال (عليه الصلاة والسلام):

«إِنَّ قَوْماً اُسْتُشْهِدُوا فِی سَبِیلِ اَللَّهِ مِنَ اَلْمُهَاجِرِینَ والأَنصَارِ، وَ لِکُلٍّ فَضْلٌ، حَتَّی إِذَا اُسْتُشْهِدَ شَهِیدُنَا قِیلَ سَیِّدُ اَلشُّهَدَاءِ، وَ خَصَّهُ رَسُولُ اَللَّهُ [صلی الله علیه و آله وسلم] بِسَبْعِینَ تَکْبِیرَةً عِنْدَ صَلاَتِهِ عَلَیْهِ»(1).

وردت في النهج الشريف بعض المسائل المتعلقة بأحكام صلاة الجنازة وما ارتبط بها من عدد التكبيرات، والصلاة على الشهيد واختصاص حمزة (عليه السلام) بسبعين تكبيرة واختلاف المذاهب في هذه الأحكام وغيرها من المسائل التي سنعرض لها؛ ولا شك أننا لن ندرك جميع ما جاء في نهج البلاغة من أحكام، فنسأل الله التوفيق لما يحب ويرضا.

ص: 229


1- نهج البلاغة، كتبه (عليه السلام)، الكتاب 28، ص 586 بتحقيق الشيخ قيس العطار طبع العتبة العلوية

ص: 230

المبحث الأول جواز الزيادة في صلاة الجنازة، وكراهة ذلك، إلّا إذا كان الميت من أهل العلم والتقوى

المسألة الأولى: معنى الجنازة لغة.

قال ابن منظور (ت: 711 ه) في موسوعته المعجمية في مادة، (جَنَزَ): وَجَنَزَ الشيء يجنزه جنزاً: بشره.

وذكروا أن النوار لما احتضرت أوصت أن يصلى عليها الحسن، فقيل له في ذلك، فقال «إذا جنزتموها فأذنوني».

والجِنَازَة والجَنَازة: الميت.

قال ابن درید: زعم قوم أَن اشتقاقه من ذلك. قال ابن سيده: ولا أَدري ما صحته، وقد قيل: هو نَبَطِيّ.

والجِنازة: واحدة الجَنائز، والعامة تقول الجَنازة، بالفتح، والمعنى الميّت على السرير، فإِذا لم يكن عليه الميت فهو سرير ونَعش.

وفي الحديث: أَن رجلاً كان له امرأَتان فَرُمِیَت إِحداهما في جنازتها أَي ماتت.

تقول العرب إِذا أَخبَرَت عن موت إِنسان: (رُمِيَ في جِنازته) لأَن الجِنازَة تصير مَرمِیًّا فيها، والمراد بالرمي الحَمل والوَضع.

والجِنازة، بالكسر: الميت بِسَرِيرِه، وقيل: بالكسر السّرِير، بالفتح الميت.

ص: 231

ورُمِيَ في جَنَازته أَي مات، وطُعِن في جِنازته أَي مات.

قال الفارسي: لا يسمی جِنَازة حتى يكون عليه ميت، وإِلا فهو سرير أَو نعش؛ وأَنشد الشماخ:

إِذا أَنبَضَ الرَّامون فيها تَرَنَّمَت *** تَرَنُّمَ ثَكلى أَوجَعَتها الجَنائِزُ

وإذا ثقل على القوم أَمر أَو اغتَمُّوا به، فهو جِنَازة عليهم؛ قال:

وما كنتُ أَخشى أَن أَكُون جِنازَةً *** عليك، ومَن يَغتَرُّ بالحَدَثان؟

وقال عبد الله بن الحسن: سميت الجِنَازة لأَن الثياب تُجمع والرجلُ على السرير، قال: وجُنِزوا أَي جُمِعوا.

ابن شميل: ضُرِب الرجُل حتى تُرِك جِنازةً.

قال الكميت(1) يذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيّاً وميتاً:

ص: 232


1- ابن خنیس الأسدي، أبو المستهل الكوفي، أحد أشعر الشعراء في عصره، وصاحب القصائد الهاشميات. قال أبو الفرج الأصفهاني: شاعر مقدّم عالم بلغات العرب، خبير بأيّامها. وكان فقيهاً، حافظاً للقرآن، لسناً، فصيحاً، سريع البديهة، حاضر الجواب، جدلًا، راسخ العقيدة، قويّ الإِيمان، شجاعاً. كان في الكميت عشر خصال لم تكن في شاعر: كان خطيبَ أسد، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، وثبت الجنان، وكان كاتباً حسن الخط، وكان نسابة، وكان جدلًا. وكان محباً لاَهل البيت - عليهم السّلام -، مخلصاً لهم، منقطعاً لمدحهم، معتقداً فيهم أنّهم وسائله إلى الله سبحانه، وأنّ مودتهم أجر الرسالة الكبرى. وقد تحمل في سبيلهم الأذي وقاسى الخوف والاختفاء وكان يأبى أن يتقبّل منهم الصلات، ويقول: «ما أردتُ بمدحي إياكم إلَّا الله ورسوله». والکمیت شاعر شيعي، عميق التشيع، عقلي الشعر، قوي الحجة، متين الجدل. وهو أوّل شاعر رصد أكثر شعره لخدمة فكرة عقائدية معينة في العهد الأُموي. والهاشميات عبارة عن مجموعة ضخمة من الحجج والأدلة سواء كانت من العقل أو من القرآن الكريم. ونحن نجد الكميت دائماً يقيم المعادلات ويقدم المقارنات بين جور الأُمويين وعدل الهاشميين، فأئمة الشيعة يحكمون بالكتاب والسنّة، أمّا الأُمويون فهم أصحاب جور وبدع وضلالات. أنّ الكميت قدم المدينة فأتی أبا جعفر محمد [الباقر] بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم فأذن له ليلاً وأنشده، فلما بلغ من الميمية قوله: وقتيلٌ بالطفِّ غودر منهم *** بين غوغاءِ أُمّة وطغام بکی أبو جعفر، ثم قال: يا کميت لو كان عندنا مال لَاعطيناك، ولكن لك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لحسان بن ثابت: لا زلت مؤيداً بروح القُدُس ما ذببتَ عنّا أهل البيت. ورُوي أنّ أبا عبد الله الصادق - عليه السّلام لما أنشده الكميت أبياتاً رفع يديه وقال: اللَّهمّ اغفر للكميت. قال ابن عساکر: بلغني أنّ مبلغ شعر الكميت خمسة آلاف ومائتان وتسعة وثمانون بیتاً. أمّا الهاشميات فتقدر بخمسمائة وثمانية وسبعين بيتاً وقد شرحها محمد محمود الرافعي المصري، وقال فيها: هي من مختار الكلام، ومن رائق الشعر وشيّقه، وجيّد القول وطريفه أحسن فيه كل الإحسان، وأجاد كلَّ الإجادة. وشرحها أيضاً محمد شاكر الخيّاط النابلسي. توفي الكميت سنة ست وعشرين ومائة، وكان مولده سنة ستين. (ينظر: موسوعة طبقات الفقهاء: ج 2، ص 465-467)

ص: 233

(كانَ مَیتاً جِنازَةً خير مَیتٍ غَيَّبَته حَفائِرُ الأَقوام).(1)

المسألة الثانية: أقوال فقهاء الإمامية في جواز الزيادة في صلاة الجنازة.

تناول علماء الإمامية (أعلى الله مقامهم) مسألة جواز الزيادة في صلاة الجنازة وكراهة التكرار في أداء الصلاة على الميت باستثناء الصلاة على الميت إذا كان من أهل العلم والشرف والتقوى.

ولبيان هذه الاقوال نورد قول صاحب الحدائق الناظرة المحقق البحراني (عليه رحمة الله ورضوانه)، فقد أورد أقوال علماء الطائفة (رضوان الله عليهم)، ثم نتبعه بقول السيد محمد کاظم اليزدي (عليه رحمة الله ورضوانه) لنضع بين يدي الباحث منهج الإجمال في البحث والإيجاز وهي طريقة امتازت بها مدرسة الإمامية في الفقه وغيرها.

أولاً - قال المحقق البحراني (ت: 1186 ه):

قال (رحمه الله) (اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في تكرار الصلاة على الميت، فالمشهور الكراهة؛ وقال ابن أبي عقيل: (لا بأس بالصلاة على من صلى عليه مرة، فقد صلى أمير المؤمنين (عليه السلام) على سهل بن حنیف خمس مرات).

وقال ابن ادریس: (تكره الجماعة وتجوز فرادى لتكرار الصحابة الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)).

وقال الشيخ في الخلاف: (من صلى على جنازة يكره له أن يصلي عليها

ص: 234


1- لسان العرب: ج 5، ص 324-325

ثانيا). وهو مشعر باختصاص الكراهة بالمصلى المتحد.

وقال الشهيد في الذكرى: (ظاهرهم اختصاص الكراهة بمن صلى على الميت لما تلوناه عنهم من جواز الصلاة ممن فاتته على القبر أو يريدون بالكراهة قبل الدفن حتى ينتظم الکلام).

واحتمل الشيخ في الاستبصار استحباب التكرار من المصلي الواحد وغيره.

وللعلامة قول بكراهة تكرار الصلاة إذا خاف على الميت، وله أيضا قول: بكراهة التكرار عند الخوف عليه أو مع منافاته التعجيل.

وقيد شيخنا الشهيد الثاني: الكراهة بكون التكرار من المصلي الواحد أو يكون منافيا للتعجيل.

هذا ما وقفت عليه من أقوال الأصحاب المتعلقة بهذه المسألة.

وأما الأخبار فهي مختلفة في ذلك، ومنها نشأ الاختلاف بين الأصحاب في هذا الباب؛ وها أنا أسوق ما وقفت عليه منها، مذيلا لها بما رزقني الله سبحانه فهمه منها:

فمنها - ما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن أبي مريم الأنصاري عن أبي جعفر (عليه السلام):

(أنه سأله: كيف صلى على النبي صلى الله عليه وآله؟)، قال:

«سجى بثوب وجعل وسط البيت فإذا دخل قوم داروا به وصلوا عليه ودعوا له ثم يخرجون ويدخل آخرون ثم دخل علي (عليه السلام) القبر... الحديث».

وما رواه في الكافي عن أبي مريم الأنصاري، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال:

ص: 235

(قلت له كيف كانت الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله)؟ قال:

«لما غسله أمير المؤمنين (عليه السلام)، و كفنه، سجاه، ثم أدخل عليه عشرة فداروا حوله، ثم وقف أمير المؤمنين (عليه السلام) في وسطهم، فقال: «إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِکتَهُ یصَلُّونَ عَلَى النَّبِی [صلی الله علیه و آله] یا أَیهَا الَّذِینَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَیهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِیماً»، فيقول القوم كما يقول حتى صلى عليه أهل المدينة وأهل العوالي».

وما رواه في الكافي عن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:

«أتى العباس أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: ياعلي إن الناس قد اجتمعوا أن يدفنوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بقيع المصلى، وأن يؤمهم رجل منهم؛ فخرج أميرا المؤمنين (عليه السلام) إلى الناس فقال:

«يا أيها الناس إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إمام حيا وميتا، وقال إني أدفن في البقعة التي أقبض فيها».

ثم قام على الباب فصلى عليه ثم أمر الناس عشرة عشرة يصلون عليه ثم يخرجون».

وما رواه في الكتاب المذكور عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال:

«لما قبض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صلت عليه الملائكة والمهاجرون والأنصار فوجا فوجا».

قال: وقال أمير المؤمنين (عليه السلام):

«سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في صحته وسلامته:

ص: 236

إنما أنزلت هذه الآية على في الصلاة على بعد قبض الله لي: «إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِکتَهُ یصَلُّونَ عَلَى النَّبِی یا أَیهَا الَّذِینَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَیهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِیماً».

وما رواه الثقة الجليل أحمد بن أبي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن سليم بن قيس، عن سلمان الفارسي في حديث يصف فيه تغسيل عليّ (عليه السلام) له (صلى الله عليه وآله وسلم) قال فيه:

(فلما غسله وكفنه أدخلني وأدخل أبا ذر والمقداد وفاطمة وحسنا وحسينا (عليهم السلام) فتقدم وصففنا خلفه فصلى عليه ثم أدخل عشرة من المهاجرين وعشرة من الأنصار فیصلون ويخرجون حتى لم يبق أحد من المهاجرين والأنصار إلا صلي عليه).

وأنت خبير بأنه ربما ظهر من التأمل في هذه الأخبار الواردة في صلاة الناس على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فوجا فوجا إنما هو بمعنی الدعاء خاصة وأنه لم يصل عليه الصلاة المعهودة إلا عليّ (عليه السلام) مع هؤلاء النفر الذين تضمنهم حديث الاحتجاج، وإليه تشير أيضا صحيحة الحلبي أو حسنته وقوله فيها: (ثم قام علي (عليه السلام) على الباب فصلى عليه ثم أمر الناس... إلى آخره) فإن ظاهر صحيح أبي مريم الأول.

وقوله فيه (فإذا دخل قوم داروا به وصلوا ودعوا له أنهم يحيطون به من جميع الجهات ويدعون له وهكذا من يدخل بعدهم.

وكذا قوله في حديثه الثاني (ثم أدخل عليه عشرة فداروا حوله - يعني بعد ما صلى عليه أمير المؤمنين (عليه السلام) کما دل عليه خبر الاحتجاج - ثم وقف أمير المؤمنين (عليه السلام) في وسطهم فقال... الحديث) فإنه

ص: 237

ظاهر في أن الصلاة كانت بهذه الكيفية كما يدل عليه قوله (فيقول القوم کما يقول) وإليه يشير قوله في حديث جابر (إنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في حال صحته أن هذه الآية نزلت عليه في الصلاة عليه بعد الموت ولا ريب أن الصلاة في الآية إنما هي بمعنى الدعاء.

ولم أقف على من تنبه لهذا الاحتمال الذي ذكرناه إلا الفاضل محمد تقي المجلسي في حواشي التهذيب حيث على كتب على حديث أبي مريم الأنصاري الأول منهما ما صورته: يمكن أن يكون المراد طافوا به احتراما له (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم صلوا عليه بعد أو أنهم جعلوه قبلة وتوجهوا إليه من كل جانب عند الصلاة عليه. ويحتمل أن يكون المراد بالصلاة هنا الدعاء وكان صلاة الناس عليه هكذا وإنما صلى عليه الصلاة المخصوصة أمير المؤمنين (عليه السلام) و خواصه کما دلَّ عليه خبر أورده في كتاب الاحتجاج. انتهى.

أقول: وما احتمله (عليه الرحمة والرضوان) غير بعيد للتقريب الذي قدمناه في جملة من أخبار الصلاة عليه (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين) وعلى هذا يسقط الاستدلال بهذه الأخبار على جواز التكرار.

ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

«كبَّر أمير المؤمنين (عليه السلام) على سهل بن حنیف و کان بدريا خمس تكبيرات، ثم مشى ساعة ثم وضعه وكبر عليه خمسة أخرى، فصنع ذلك حتی کبر عليه خمسا وعشرين تكبيرة».

وعن عمرو بن شمر قال: (قلت لجعفر بن محمد (عليهما السلام):

ص: 238

جُعِلت فداك، إنا نتحدث بالعراق أن عليا (عليه السلام) صلى على سهل بن حنيف فكبَّر عليه ستاً، ثم التفت إلى من كان خلفه فقال: «إنه كان بدریا»؟ قال: فقال جعفر (عليه السلام):

«إنه لم يكن كذا، ولكنه صلى عليه خمسا، ثم رفعه ومشی به ساعة، ثم وضعه فكبر عليه خمسا، ففعل ذلك خمس مرات حتى كبر عليه خمسا وعشرين تكبيرة»).

وعن عقبة قال: (سُئِل جعفر (عليه السلام) عن التكبير على الجنائز، فقال:

«ذاك إلى أهل الميت ما شاءوا کبروا». فقيل إنهم يكبرون أربعا؟ فقال: ذاك إليهم»، ثم قال: «أما بلغكم أن رجلا صلى عليه علي (عليه السلام) فکبَّر عليه خسما حتی صلى عليه خمس صلوات، یکبر في كل صلاة خمس تكبيرات؟ قال: ثم قال: «إنه بدري عقبي أحدي وكان من النقباء الذين اختارهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الاثني عشر نقيبا و كانت له خمس مناقب فصلى عليه لكل منقبة صلاة».

أقول: والمذكور في الخبر في تعداد المناقب إنما هو أربع مناقب مع قوله (عليه السلام) إن له خمس مناقب، وإن تعداد الصلاة خمسا كان بإزاء المناقب الخمس، ولعل المنقبة الخامسة هو إخلاص الرجل في التشيع والولاء لأمير المؤمنين وأهل بيته (عليهم السلام)، وإنه كان من السابقين الذين رجعوا إليه بعد ارتداد الناس.

وأما ما تضمنه الخبر من عدم التحديد في التكبير وإن ذلك إلى أهل الميت یکبرون ما شاءوا فترده الأخبار المستفيضة المتقدمة في الموضع التاسع وقد مرَّ نظير هذا الخبر في عدم التوقيت في التكبير، وحمل الجميع على التقية متعين.

ص: 239

قال في المنتهي: وهي خمس تكبيرات بينها أربعة أدعية، وعليه علماؤنا أجمع، وبه قال زيد بن أرقم، وحذيفة بن اليمان، وقال الشافعي: يكبر أربعاً، وبه قال الأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، ومالك، وداود، وأبو ثور.

وقال محمد بن سیرین وأبو السقيا جابر بن زید یکبر ثلاثا، ورواه الجمهور عن ابن عباس، وقال عبد الله بن مسعود یکبر ما کبّر الإمام أربعا وخمسا وسبعا وتسعا.

وعن أحمد روایات إحداها یکبر أربعاً، والأخرى يتابع الإمام إلى خمس، والأخرى يتابعه إلى سبع، وبذلك يظهر أنه لم يوافق الإمامية في هذه المسألة إلا زيد بن أرقم وحذيفة بن اليمان من الصحابة وأما علماؤهم فكما عرفت من الاختلاف.

وبالجملة فإن كلمة الأصحاب قديما وحديثا متفقة على الخمس في المؤمن، وقد عضدها الأخبار المستفيضة المتقدم كثير منها في الموضع المشار إليه وأقوال العامة کما تری، وحينئذ فلا وجه لما دل على خلاف ما قلناه إلا التقية)(1).

ثانياً - السيد اليزدي (ت: 1337 ه).

قال (عليه الرحمة والرضوان) في العروة جامعاً للأمر في مفردات معدودة داكاً للحكم في الجواز والكراهة واستثنائها كما جاء في المسالة (16)، وهي کالاتي:

(يجوز تكرار الصلاة على الميت سواء أتحد المصلي أو تعدد، لكنه مكروه إلا إذا كان الميت من أهل العلم والشرف والتقوى)(2).

ص: 240


1- الحدائق الناظرة: ج 10، ص 449 - 454
2- العروة الوثقی: ج 2، ص 107

المسألة الثالثة: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى في جواز الزيادة في صلاة الجنازة.

تناول فقهاء المذاهب الاسلامية مسالة تكرار الصلاة على الجنازة في كتبهم الفقهية وقد اشتهر بينهم القول بكراهة إعادة الصلاة على الجنازة، وهي على النحو الآتي:

أولاً - المذهب المالكي.

قال الخطاب الرعيني (ت 954 ه):

(الكراهة: إنّما هو إذا صلى عليها جماعة، واما اذا صلى عليها واحد فالإعادة مطلوبة، إما وجوباً على قول ابن رشد القائل باشتراط الجماعة فيها، وإما استحباباً على طريق اللخمي)(1).

ثانياً - المذهب الحنفي.

قال أبو بكر الكاشاني (ت 587 ه):

في احکام غسل الشهيد لو تعرض الى قطع الجسد إلى نصفين فيصلى على النصف الموجود فقط، فقال:

(ولو وجد نصفه مشقوقاً لا يغسل لما قلنا، ولأنه لو غسل الأقل أو النصف يصلى عليه لان الغسل لأجل الصلاة ولو صلى عليه لا يؤمن ان يوجد الباقي فيصلى عليه فيؤدي الى تكرار الصلاة على ميت واحد وذلك

ص: 241


1- مواهب الجليل: ج 3، ص 54

مكروه عندنا).(1)

ثالثاً - المذهب الحنبلي.

قال الشيخ عبد الكريم الرافعي (ت 623 ه):

(إذا أقيمت جماعة صلاة الجنازة ثم حضر آخرون فلهم ان يصلوا عليها أفرادا أو في جماعة اخرى وتكون صلاتهم فرضاً في حقهم كما أنها فرض في حق الأولين بخلاف من صلاها مرة لا تستحب له إعادتها فان المعادة تكون تطوعاً وهذه الصلاة لا تطوع بها فإن كان قد صلي مرة واراد إعادتها في جماعة لم يستحب ايضاً في أظهر الوجهين)(2).

رابعاً - المذهب الشافعي.

قال الشافعي:

(ولا بأس أن يصلي على القبر بعدما يدفن الميت، بل نستحبه)(3).

المسألة الرابعة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في زيادة صلاة الجنازة.

اختلف فقهاء المذاهب الإسلامية في مسألة: (تكرار الصلاة على الميت) بين الجواز وعدمه والكراهة والاستحباب، فكانت كالآتي:

1- قال الإمامية: بجواز تكرار الصلاة على الميت سواء كان الإمام

ص: 242


1- بدائع الصنائع: ج 1، ص 302
2- فتح العزيز: ج 5، ص 192؛ المجموع للنووي: ج 5، ص 244
3- كتاب الأم للشافعي: ج 1، ص 309

واحداً أو أكثر وكذا حال المصلين فيما لو طالبوا الإمام بتكرار الصلاة لمن فاته ذلك، إلا أنه مکروه؟ وترفع الكراهة في تكرار الصلاة إذا كان الميت من أهل العلم والورع والتقوى.

2- وذهب المالكية إلى أن التكرار جائز، وقيده الكراهة في تكرار الصلاة جماعة.

وذهب ابن رشد إلى الاستحباب بالتكرار إذا كان المصلي واحداً.

3- وذهب الحنفية إلى الكراهة واشترطوا وجوب الصلاة بالغسل؛ فلذا لا يصلون على جسم الشهيد لو كان مشقوقاً نصفين ذلك لمنع تكرار الغسل ولزوم تكرار الصلاة.

4- وقال الحنابلة: بجواز التكرار، وعدم استحباب الإعادة في الصلاة، وإنها فرض في حق من حضر الجنازة، والعلة في عدم استحباب الإعادة هي احتسابها من التطوع بعد ادائها ممن حضر.

5- وقال الشافعية: بالاستحباب في إعادة الصلاة ولو بعد الدفن لمن فاتته الصلاة.

وهو مخالف لجميع المذاهب.

أما ما تعلق بمسألة الصلاة على حمزة بن عبد المطلب (عليه السلام) وهي الشطر الثاني من حديث أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) - مورد البحث.

فقد أنكرها بعض أئمة المذاهب الاسلامية كالشافعي، على الرغم من وضوح النص الشريف في ذلك.

ص: 243

وهذا ما سنتناوله في المبحث الرابع وذلك بعد أن نتناول حكم الصلاة على الشهيد وحكم عدد التكبيرات في صلاة الجنازة بين الاربعة والخمس والاختلاف في ذلك بين المذاهب الاسلامية.

ص: 244

المبحث الثاني حكم الصلاة على الشهيد

اختلف أئمة المذاهب في الصلاة على الشهيد وكانت الاقوال متباينة في الحكم وهي كالاتي:

المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي في حكم الصلاة على الشهيد

أولاً - المحقق الحلي (ت: 676 ه).

قال الحالي في المعتبر: (الشهيد إذا مات في المعركة لا يغسل ولا يكفن وهو أجماع أهل العلم خلا سعيد بن المسيب، والحسن البصري؛ فإنهما أوجبا غسله، قالا:

(لأن الميت لا يموت حتى يجنب) ولا عبرة بخلافهما. لنا قوله (عليه السلام):

«رملوهم بدمائهم فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً»(1)

ويؤيده من الأصحاب ما رواه أبان بن تغلب(2)، قال:

ص: 245


1- مسند أحمد: ج 5، ص 431
2- أبان بن تغلب بن رباح يكنى أبا سعيد البكري کندي کوفي، ثقة جلیل القدر عظیم المنزلة، كان مقدماً في كل فن من العلم كالفقه والحديث والقراءة والأدب واللغة، من سادة التابعين وأصحاب الأئمة السجاد والباقر والصادق (وروی عنهم، ولقد روي عن الإمام الصادق (وحده ثلاثين ألف حديث، وله مصنفات في غريب القرآن و معاني القرآن والقراءات وأخبار صفّين وغير ذلك، وله قراءة مشهورة باسمه، توفي سنة 121، وترحّم عليه الإمام الصادق. (موسوعة ابن إدريس الحلي: هامش ص 71)

سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:

«الذي يقتل في سبيل الله يدفن في ثيابه ولا يغسل، إلا أن يدرك المسلمون وبه رمق ثم يموت بعد، فإنه يغسل ويكفن ويحنط أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كفن حمزة في ثيابه ولم يغسله ولكنه صلى عليه».

وتجب الصلاة على الشهيد)(1).

ثانياً - حبیب الله الخوئي (ت: 1413 ه):

ص: 246


1- المعتبر للمحقق الحلي: ج 1 ص 309

قال السيد (عليه رحمة الله ورضوانه):

(ورد في بعض الأخبار ما ظاهره أن الشهيد لا تجب الصلاة عليه، كما لا يجب له التغسيل والتكفين والتحنيط، وهي رواية عمار إن علياً (عليه السلام) لم يغسل عمار بن یاسر، ولا هاشم بن عتبة المرقال، ودفنهما في ثيابهما ولم يصل عليهما.

ص: 247

وأولّها صاحب الوسائل (عليه الرحمة والرضوان): بان علياً لم يصل عليهما، ولعله كان صلى عليهما غيره، فلا دلالة لها على عدم وجوب الصلاة على الشهيد.

وذكر بعضهم أنها من مفتريات العامة على علي (عليه السلام)، لأنه كيف ترك الصلاة عليهما مع أنها واجبة على الشهيد؟ والإنصاف أن ظاهر الرواية يدل على عدم وجوب الصلاة على الشهيد لبعد أن تكون واردة لبيان القصة ولمجرد التاريخ فحسب، وأن علياً (عليه السلام) لم يصل عليهما.

إلا أنها ضعيفة سنداً، وأن رویت بعدة طرق، إلا أن جميعها في سندها مسعدة بن صدقة) وهو ضعيف، فلا يمكن الاعتماد عليها. قد ورد في بعض الأخبار أن الشهيد يصلى عليه، وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى على حمزة فليراجع)(1).

ثالثاً - محمد تقي التستري (ت: 1416 ه).

قال الشيخ (عليه رحمة الله):

(لا خلاف في وجوب الصلاة على الشهيد كغيره؛ وأما ما رواه في التهذيب مما مرّ عن عمار عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام):

«أن علياً (عليه السلام) لم يغسل عمار بن یاسر، ولا هاشم بن عتبة المرقال ودفنهما في ثيابهما ولم يصل عليهما فحمله على وهم الراوي)(2).

ص: 248


1- كتاب الطهارة السيد الخوئي (عليه الرحمة والرضوان): ج 9، ص 13
2- النجعة في شرح اللمعة: ج 1، ص 334

المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى في حكم الصلاة على الشهيد.

1- المذهب الشافعي.

قال البكري الدمياطي (ت 1310 ه):

(وتحرم الصلاة على الشهيد لما صح أنه - صلى الله عليه وآله وسلم) - أمر في قتلى أحد بدفنهم بدمائهم، ولم يغسلهم، ولم يصلى عليهم.

وأما خبر انه - (صلى الله عليه وآله وسلم) - خرج فصلى قتلى أحد صلاته على الميت زاد البخاري بعد ثمان سنين، فالمراد - کما في المجموع - دعا لهم کدعائه للميت، الاجماع يدل عليه)(1).

2- المذهب الحنفي.

قال السمرقندي (ت 539 ه):

(فإما الصلاة على الشهيد: فواجبة عندنا، خلافاً للشافعي.

والصحيح قولنا لان النبي - (صلى الله عليه وآله وسلم) - صلى على شهداء أحد، ولأن الشهيد إن أعتبر بمن عظمت درجته، يجب أن يصلى عليه، كالأنبياء (عليهم السلام) وإن أعتبر بسائر الناس الذين لم يوجد منهم ما هو سبب سقوط الموالاة، يجب أن يصلى عليه لأن شهادته أن لم توجب زيادة كرامة فلا توجب نقصاناً، بخلاف البغاة وقطاع الطريق، لانهم حرب

ص: 249


1- اعانة الطالبين: ج 2، ص 154

للمسلمين، ولا مولاة بينهم فلم يستحقا الصلاة التي شرعت، قضاء لهم بسبب الموالاة، والله اعلم)(1).

3- المذهب الزيدي.

قال يحیی بن الحسين (ت: 298 ه):

(الشهيد إذا مات في المعركة دفن في ثيابه التي مات فيها، إلا أن يكون خفا أو منطقة أو فروا، فإنه يقلع عنه أو سراويل فإن ذلك يقلع عنه، إلا أن يصيبه دمه فيدفن معه، ولا يغسل إذا مات في المعركة وإن حول من المعركة التي أصيب فيها وفيه شيء من الحياة فعل به كما يفعل بالموتی وغسل وکفن وصلي عليه ودفن، وكذلك يصلى عليه إذا مات في المعركة لإن الشهيد أحق بالصلاة والتزكية، وأهل بالاستغفار والبركة)(2).

4- المذهب المالكي.

قال الآبي الأزهري (ت: 1330 ه):

(لا يغسل ولا يصلى عليه (يدفن بثيابه) مصحوبة بخف وقلنسوة ومنطقة قل ثمنها وأن تكون مباحة وخاتم قل ثمن فصه إلا الدرع والسلاح فيجردان عنه ولا يزاد عليها شيء)(3).

ص: 250


1- تحفة الفقهاء للسمرقندي: ج 1، ص 260
2- الأحكام ليحیی بن الحسين: ج 1، ص 152-153
3- الثمر الداني: ص 272

المسألة الثالثة: خلاصة القول في المسألة فيما أورده فقهاء المذاهب في حكم الصلاة على الشهيد.

تباينت أقوال فقهاء المذاهب الإسلامية في حكم الصلاة على الشهيد؛ فقد ذهب فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) الى الوجوب، وقال فقهاء الحنفية بالوجوب أيضاً، وقال فقهاء الزيدية بالصلاة على الشهيد ألا أنهم سكتوا عن بيان رتبة الحكم، وقال فقهاء المالكية بعدم الصلاة على الشهيد؛ و سکت عنه فقهاء الإباضية، وخالف الشافعية بقية المذاهب بالقول بحرمة الصلاة على الشهيد.

ص: 251

ص: 252

المبحث الثالث في عدد تكبيرات صلاة الجنازة والاختلاف بين الأربعة والخمسة والعلة في ذلك

المسألة الاولى: أقوال فقهاء للذهب الإمامي في عدد تكبيرات صلاة الجنازة.

ذهب فقهاء الإمامية الى أن عدد التكبيرات في صلاة الجنازة هي خمسة تكبيرات؛ وقد أخذنا من أقوالهم مايلي:

أولاً - العلامة الحلي (ت: 726).

قال (رحمه الله) في التذكرة:

(لا ينبغي الزيادة على الخمس لأنها منوطة بقانون الشرع ولم تنقل الزيادة وما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أنه كبر على حمزة سبعين تكبيرة(1)، وعن علي (عليه السلام) أنه كبر على سهل بن حنيف خمسة وعشرين تكبيرة(2) إنما كان في صلوات متعددة.

قال الإمام الباقر (عليه السلام):

«كان إذا أدركه الناس قالوا: يا أمير المؤمنين لم ندرك الصلاة على سهل

ص: 253


1- الكافي للكليني: ج 3، ص 186؛ من لا يحضره الفقيه للصدوق: ج 1، ص 101؛ التهذيب للطوسي ج 3، ص 455
2- الكافي: ج 3، ص 186؛ من لا يحضره الفقيه للصدوق: ج 1، ص 101؛ التهذيب للطوسي: ج 3، ص 455

بن حنیف، فيضعه فيكبر عليه خمساً حتى انتهى إلى قبره خمس مرات»(1).

ثانياً - المحقق البحراني (ت: 1186 ه).

قال (عليه رحة الله) في الحدائق:

(لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أن الواجب في الصلاة على الميت المؤمن خمس تكبيرات وبه استفاضت الاخبار عنهم (عليه السلام) وقد مرَّ جملة منها في المباحث المتقدمة ولا سيما الأخبار المتضمنة لعلة الخمس المذكورة ومنها: ما رواه الصدوق، والشيخ في الصحيح، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال:

«لما مات آدم فبلغ إلى الصلاة عليه. فقال هبة الله لجبرئيل تقدم یا رسول الله فصلى على نبي الله.

فقال جبرئیل: إنّ الله أمرنا بالسجود لأبيك فلسنا نتقدم أبرار ولده، وأنت من أبرهم، فتقدم فكبّر عليه خمسا عدة الصلوات التي فرضها الله على أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي من السنة الجارية في ولده إلى يوم القيامة».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:

«التكبير على الميت خمس تكبيرات».

وعن إسماعيل بن سعد الأشعري في الصحيح عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال:

ص: 254


1- تذكرة الفقهاء: ج 2، ص 70

سألته عن الصلاة على الميت؟، فقال:

«أما المؤمن فخمس تكبيرات، وأما المنافق فأربع، ولا سلام فيها».

وعن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

«كبَّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسا».

وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

«التكبير على الميت خمس تكبيرات».

وما رواه في الكافي، عن أبي بكر الحضرمي، قال:

(قال أبو جعفر (عليه السلام): «یا أبا بكر، هل تدري كم الصلاة على الميت؟ قلت لا. قال: خمس تكبيرات. فتدري من أين أخذت الخمس؟ قلت لا. قال: «أخذت الخمس تكبيرات من الخمس صلوات، من كل صلاة تكبيرة»).

وعن سليمان بن جعفر الجعفري، عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:

(قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«إن الله فرض الصلاة خمسا، وجعل للميت من كل صلاة تكبيرة»).

وما رواه الشيخ عن قدامة بن زائدة قال: (سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول:

«إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى على ابنه إبراهيم فكبر عليه خمسا»؛ إلى غير ذلك من الأخبار.

ص: 255

ومقتضى ذلك أنه لا يجوز الزيادة على ذلك بقصد أنها من الصلاة لأنه تشریع محض. وهل تبطل الصلاة بالزيادة؟ قيل: لا، لخروجه بالخامسة من الصلاة. ولا يجوز النقيصة عن ذلك إلا مع إمكان التدارك.

وأما ما يدل على خلاف ذلك - مثل ما رواه الشيخ عن جابر قال:

(سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن التكبير على الجنازة هل فيه شيء مؤقت؟ فقال: «لا، کبَّر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحد عشر، وتسعا، وسبعا، وخمسا، وستا، وأربعا»).

فقد أجاب الشيخ عنه فقال: ما تضمن هذا الخبر من زيادة التكبير على الخمس مرات متروك بالأجماع، ويجوز أن يكون (عليه السلام) أخبر عن فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك لأنه كان يكبر على جنازة واحدة أو اثنتين فكان يجاء بجنازة أخرى فيبتدئ من حيث انتهى خمس تكبيرات، فإذا أضيف إلى ما كان كبر زاد على الخمس تكبيرات، وذلك جائز على ما سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وأما ما يتضمن من الأربع تكبيرات فمحمول على التقية، لأنه مذهب المخالفين، أو يكون أخبر عن فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع المخالفين والمتهمين بالإسلام لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كذا كان يفعل. انتهى.

وربما حمله بعض الأصحاب على الاستحباب إذا التمس أهل الميت ذلك وفي بعض الأخبار إشارة إليه. وبالجملة فالمفهوم من الأخبار هو وجوب الخمس في الصلاة على المؤمن وأما المنافق والمخالف فالأربع کیا تقدم. والله العالم)(1).

ص: 256


1- الحدائق الناضرة: ج 10، ص 42-422

المسألة الثانية: أقوال فقهاء للذاهب الأخرى في عدد تكبيرات صلاة الجنازة.

تباينت أقوال فقهاء المذاهب الستة في عدد التكبيرات على الجنائز بين الاربعة والخمسة، وهي كالآتي:

1- المذهب اليزدي.

ذهب الزيدية الى القول بأن الصلاة على الجنازة خمس التكبيرات وأنهم اجمعوا في ذلك، فقد قال إمامهم یحیی بن الحسين (ت 298 ه):

(أجمع آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أن التكبير على الجنايز خمساً)(1).

وقال أحمد المرتضى (ت 840 ه):

(أجمع آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على: الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والقنوت بالقرآن، والتكبير على الجنائز خمسا، وعلى سل الميت من قبل رجليه، وعلى تربيع القبر، وعلى تفضيل علي بن أبي طالب بعد النبي (صلى الله عليه وآله))(2).

2- المذهب المالكي.

أجمع فقهاء المالكية على أن صلاة الجنازة تكون بأربع تكبيرات.

قال الخطاب الرعيني (ت 954 ه) في كيفية صلاة الجنازة:

ص: 257


1- كتاب الأحكام: ج 1، ص 158
2- شرح الأزهار: ج 1، ص 429

(وركنها النية، وأربع تكبيرات، والأولى منهم تكبيرة الإحرام...).

وذكر أن القول بأربع تكبيرات هو قول: ابي حنيفة والشافعي والحنبلي وجمهور العلماء وهو مروي عن جماعة من التابعيين)(1).

3- المذهب الحنفي.

اتفق فقهاء المذهب الحنفي على أن صلاة الجنازة أربع تكبيرات، وفي من ذلك يقول السرخسي (ت 483 ه):

(والصلاة على الجنازة أربع تكبيرات)(2).

4- المذهب الحنبلي.

ولم يختلف الحنابلة عن بقية المذاهب في حكم صلاة الجنازة بأنها أربع رکعات، قال الشافعي الصغير (ت 1004 ه):

(الثاني من الأركان: أربع تكبيرات، لما رواه الشيخان عن ابن عباس، أنه صلى الله عليه [وآله] وسلم صلى على قبر بعدما دفن فكبر عليه أربعاً؛ فإن خمّس ولو عمدا لم تبطل صلاته في الأصح للاتباع، رواه مسلم، ولأنها لا تخل بالصلاة ولونوی بتكبيرة الركنية خلافا لجمع متأخرين، ومقتضى العلة وكلام جمع، منهم الروياني، عدم البطلان بما زاد على الخمس أيضا، وهو كذلك لكن الأربع أولى لتقرر الأمر عليها)(3).

ص: 258


1- مواهب الجليل: ج 3، ص 12
2- المبسوط للسرخسي: ج 2، ص 63
3- نهاية المحتاج: ج 2، ص 469؛ الشرح الكبير لابن قدامة : ج 2، ص 350

5- المذهب الشافعي.

ذهب الشافعية إلى أنّ صلاة الجنازة أربع تكبيرات كبقية المذاهب الأخرى، وفي ذلك يقول النووي (ت: 676 ه):

(إذا أراد الصلاة نوى الصلاة على الميت وذلك فرض لأنها صلاة فوجب لها النية كسائر الصلوات ثم يكبّر أربعاً لما روی جابر: أن النبي (صلى الله عليه وآله) کبّر على الميت أربعاً وقرأ بعد التكبيرة بأم القرآن، والتكبيرات الأربعة واجبة)(1).

6- المذهب الإباضي.

ذهب الإباضية إلى أن حكم صلاة الجنازة أربع ركعات، قال الشاخي (ت: في القرن التاسع للهجرة) وكذا قال ضياء الدين الثميني(2) (وقيل: كانوا يكبرون ستاً وأربعاً وخمساً فلما ولي عمر بن الخطاب جمع أصحابه وقال: إن اجتمعتم أجتمع بعدكم، وإن اختلفتم أختلف من بعدکم فاجتمع رأيهم على أربع تكبيرات)(3).

(وقيل: إن جابر بن زيد أجاز ثلاث تكبيرات إذا ضاق الوقت)(4).

ص: 259


1- المجموع للنووي: ج 5 ص 229
2- شرح كتاب النيل لمحمد أطفيش: ج 2، ص 636
3- الإيضاح: ج 1، ص 760
4- المصدر نفسه: ج 1، ص 760

المسألة الثالثة: خلاصة القول في المسألة وبيان العلة في اختلاف التكبيرات في صلاة الجماعة بين الامامية وبقية المذاهب الاسلامية.

أختلف الإمامية عن بقية المذاهب في التكبيرات على الجنازة، فذهبوا الى انها خمسة ووافقهم في ذلك الزيدية، وخالفهم الحنفية، والمالكية، والشافعية، والإباضية، وذهب الحنابلة الى القول بأفضلية الأربعة، وإن كان الثابت عندهم خمس تكبيرات. والعلة في ذلك تعود إلى أمور، منها:

أولاً - إنّ الإمامية ذهبوا في هذا العدد في الصلاة على الميت إلى أصل تشريعها.

فقد وردت الروايات الشريفة عن أئمة العترة (عليهم السلام) مظهرة للمسلمين هذا العدد مع بيان العلة في تشريعه وهو بعدد الفرائض الخمسة والتي تظهر العلة في مخالفة المذاهب الأخرى المذهب العترة النبوية (عليهم السلام)، ومن هذه الروايات:

أ- روى الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) بسنده عن الحسن بن النضر، قال: قال الإمام الرضا (عليه السلام):

«ما العلة في التكبير على الميت خمس تكبيرات»؟

قلت: رووا أنها اشتقت من خمس صلوات.

فقال: «هذا ظاهر الحديث، فأما في وجه آخر، فإن الله فرض على العباد خمس فرائض: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والولاية، فجعل للميت من كل فريضة تكبيرة واحدة، فمن قَبِلَ الولاية كبّر خمساً، ومن لم يَقبَل الولاية

ص: 260

كبّر أربعاً، فمن أجل ذلك تكبرون خمسا ومن خالفكم يکبر اربعاً»(1).

ب- وروى الصدوق أيضاً، بسنده عن أبي بصير، قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): لأي علة تكبر على الميت خمس تكبيرات، ويكبر مخالفونا أربع تكبيرات؟

قال: «لأنَّ الدعائم التي بني عليها الاسلام خمس: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والولاية لنا أهل البيت، فجعل الله للميت من كل دعامة تكبيرة، وانكم أقررتم بالخمس كلها، وأقر مخالفوكم بأربع، وانكروا واحدة، فمن ذلك يكبرون على موتاهم أربع تكبيرات، وتكبرون خمساً»(2).

ثانياً - إنَّ العلّة في ترك المذاهب الأخرى للتكبيرة الخامسة لكونها علما للتشيع.

لقد تتبع العلامة الحلي (ت 726 ه) والمحقق البحراني (ت 1186 ه) (عليها الرحمة والرضوان) سبب اعراض ابناء العامة من التكبيرة الخامسة في صلاة الجنازة، وهو لكونها تعد عَلَمًا للتشيع وإن كانت السنة الشريفة تثبتها وهذا قولهما:

1- قال العلّامة الحلّي (رضوان الله تعالى عليه) في معرض بيان ما ارتكبه أهل السنة والجماعة في باب علم الكلام: (أشياء مخالفة للعقل) وبيَّن (عليه الرحمة والرضوان) أن السبب في اعتقاد هذه الجهالات في علم الكلام وفي غيره كالفقه، فعمدوا الى تغيير شرع الله تعالى (غرضاً و تعصبا على قوم مؤمنين

ص: 261


1- عیون اخبار الرضا (عليه السلام): ج 2، ص 89
2- الحدائق الناضرة: ج 1، ص 417

باعتبار محبتهم لأهل بیت رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فإن الغزالي مع عظيم قدره و وفور علمه على مذهب الشافعي قال: إن السنة تسطيح القبور لكن لما فعلته الرافضة تركناه وقلنا بالتسنیم.

وكذا في حج التمتع أنه أفضل من القران والإفراد، لكن لما استعملته الرافضة تركوه.

وقال أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المغربي المالك في كتابه الموسوم بالمعلم بفواید مسلم المحدث في حديث مسلم أن زيد أكبر خمساً على جنازة، وقال:

كان رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يكبرها، وقد قال به بعض الناس، وهذا المذهب الآن متروك لأن ذلك صار علماً على القول بالرفض.

وقال الزمخشري، وهو من أئمة الحنفية اعتراضاً على نفسه في تفسير قوله تعالى:

«هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ».

هل يجوز أن يصلي على آحاد المسلمين بمقتضى هذه الآية؟

فأجاب بنعم، إلا أن جماعة الشيعة لما اتخذوا أئمة وصلوا عليهم منعنا ذلك.

فانظر إلى هؤلاء القوم وأقض العجب من آرائهم ومذاهبهم ونسبة المتحققين إلى الجهل)(1).

ثم يختم المسألة بقوله (عليه الرحمة والرضوان):

ص: 262


1- تذكرة الفقهاء (ط.ق): ج 2، ص 472 (حكم الوصية للفقراء)

(فالحمد لله الذي هدانا لطرق الرشاد ومنعنا من ارتكاب الخطاء والخلل والعناد). ونقول: اللهم آمين.

2- أما المحقق البحراني (عليه الرحمة والرضوان) فقد بيّن سبب أعراض أبناء العامة عن التكبيرة الخامسة، فقال:

(المعنى في هذين الخبرين: إنّ العلة في فرض الله سبحانه خمس تكبيرات في الصلاة على الميت والمؤمن هو فرض هذه الفرائض الخمس عليه في حال الحياة، فجعل له بعد الموت من کله فريضة تكبيرة، ولما كانت الشيعة الإمامية ممن وفق في الحياة للقيام بالفرائض الخمس المذكورة كان الواجب عندهم في التكبير على الميت هذا العدد فحصل لهم التوفيق بالفرضين حياة وموتا، والمخالف لما سلب التوفيق للقيام بالفريضة الخامسة وهي الولاية في الحياة، سلب التوفيق لتكبيرها بعد الموت، فحصل لهم من الشبهة في الحالين الناشئة عن الخذلان وسلب التوفيق ما أوجب لهم ترك الولاية في الحياة وترك التكبير بعد الموت.

ولعل الشبهة الموجبة لتركهم(1) التكبير الخامس ما ورد في بعض الأخبار عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان يكبر أربعا على بعض الأموات ولم يتفقهوا إلى أن ذلك إنما هو في ما إذا كان الميت منافقا، کما صرحت به أخبار أهل البيت (عليهم السلام) من أنه (صلى الله عليه وآله) كان يصلي على بعض خمس تكبيرات، وعلى أناس أربعا، وأنه إذا كبر أربع تكبيرات أُتّهم بالنفاق.

ص: 263


1- أي: المخالفين للإمامية في الفريضة الخامسة: وهي ولاية الإمام علي (عليه السلام) والأئمة الحد عشر من بعده (سلام الله عليهم اجمعين)

وربما أكد ذلك عندهم أصرار الشيعة على الخمس حيث إنهم يتعمدون مخالفتهم وإن اعترفوا بأن السنة النبوية فيما عليه الشيعة، بل قد صرح بهذا الوجه بعض شراح صحيح مسلم على ما نقله بعض أصحابنا (رضوان الله عليهم):

قال شيخنا الشهيد في الذكرى(1):

(يجب فيها خمس تكبيرات لخبر زيد بن أرقم أنه كبر على جنازة خمسا وقال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكبرها، أورده مسلم وأكثر المسانید، ولفظ (كان) يشعر بالدوام، والأربع وإن رویت فالإثبات مقدم على النفي وجاز أن يكون راوي الأربع لم يسمع الخامسة أو نسيها، قال بعض العامة:

الزيادة ثابتة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والاختلافات المنقولة في العدد من جملة الاختلاف في المباح والكل شائع. وفي كلام بعض شراح مسلم إنما ترك القول بالخمس لأنه صار علما للقول بالتشيع وهذا عجيب). انتهى.

هذا، وأما الأخبار الدالة على أنه (صلى الله عليه وآله) كان يكبر على المنافقين أربعا فإنه لا منافاة فيها لهذه العلة المذكورة في هذين الخبرين، لأن هذه العلة إنما ذكرت بالنسبة إلى من دخل في الإسلام وصدق به ودان به من الأنام دون من لم يصدق به من المنافقين في زمنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وحينئذ فصلاته عليهم أربعا الظاهر أنها إنما وقعت للتمييز بينهم وبين المؤمنين واظهار بغضهم ونفاقهم بين العالمين، والمخالفون لخذلانهم وسلب توفيقهم للولاية قد دخلوا في زمرتهم والتحقوا بهم؛ والله العالم)(2).

ص: 264


1- ذكرى الشيعة للشهيد الأول: ج 1، ص 429
2- الحدائق الناضرة: ج 10، ص 418 - 419

ثالثاً - إن العمل بالتكبيرة الرابعة أثبته عمر بن الخطاب وألزم الصحابة به.

إن الرجوع إلى الروايات وتتبعها یکشف إن الثابت في السنة النبوية الشريفة إن الصلاة على الجنازة كانت خمس وأربع تكبيرات.

وأن العلّة في هذا الفارق هو: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى على البعض خمساً والبعض الآخر اربعاً وذلك لبيان حال المؤمن من المنافق؛ ضمن من كان من أهل الإيمان مقراً بولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) صلى عليه خمسين ومن كان مبغضاً منافقاً صلى عليه أربعاً وذلك أن التكبيرة الرابعة هي مخصوصة للدعاء للميت والخامسة يكون فيها الانصراف من الصلاة.

ولما كان النبي (صلى الله عليه وآله) مأموراً بالدعاء للمؤمنين لقوله عزَّ وجل:

«..وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ..»(1).

و ممنوع من الدعاء للمنافقين والاستغفار لهم، لقوله تعالى :

«وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ»(2).

وبناءً عليه:

كان يتوقف من الدعاء في التكبيرة الرابعة فيجعلها للانصراف من الصلاة ثبت في السنة النبوية أنه كان يصلي على الجنازة أربعاً وخمساً بحسب حال

ص: 265


1- التوبة: 103
2- التوبة: 86

الميت في الإيمان والنفاق إلى آخر حياته (صلى الله عليه وآله)؛ فلما جاء زمن عمر بن الخطاب جمع الصحابة وألزمهم بترك التكبيرة الخامسة ليكون حال الناس واحد فلا يعرف المنافق من المؤمن وحرم بذلك الناس من معرفة أثر الفريضة الخامسة في الدنيا والآخرة وكي لا يلتفتوا من بعده إلى أهمية ولاية العترة النبوية وخطورة الإيمان بها.

وعليه:

نجد أئمة المذاهب متمسكين بسنّة عمر بن الخطاب وترکوا سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) تعصباً للباطل فأفتى بعضهم بترك الصلاة إذا كبّر الإمام في الخامسة.

قال ابن قدامة المقدسي الحنبلي وقد نقل تعجّب أحمد بن حنبل من فعل الكوفيين وسفيان الثوري في ترك الصلاة في التكبيرة الخامسة وهو مذهب الحنفية:

(قال الثوري وأبو حنيفة:

ينصرف کما لو قام الإمام الى الخامسة فارقه ولم ينتظر تسليمه.

قال أبو عبد الله:

ما أعجب حال الكوفيين، سفيان ينصرف إذا كبّر الرابعة، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كبّر خمساً، وفعله زيد بن أرقم وحذيفة)(1).

ولم يكن الأمر منحصراً بزيد بن أرقم وحذيفة بن اليمان وإنما صلى بالتكبيرات الخمس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والإمام الحسن والحسين

ص: 266


1- المغني: ج 2، ص 393

(عليهما السلام) وجميع أئمة أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم).

وكذا صلى معاذ بن جبل، فإن (علقمة روي أن أصحاب عبد الله بن مسعود قالوا له: إن اصحاب معاذ يكبّرون على الجنائز خمساً)(1).

ولذا:

فإن ترك هذه السنة والشريعة أراده عمر بن الخطاب، حيث جمع صحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لهم:

(إن اجتمعتم أجتمع من بعدكم، وإن اختلفتم أختلف من بعدكم، فاجتمع رأيهم على أربع تكبيرات)(2).

وروى الخلّال بإسناده عن عمر بن الخطاب قال: (كل ذلك قد كان اربعة وخمسة، وأمر الناس بأربع(3).

وتركوا العمل بسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كي لا يتم التعرّف على المنافقين حينما يتم التكبير على جنائزهم بأربع تكبيرات، وينسی الناس ما فرض الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) بالولاية لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

ص: 267


1- المغني: ج 2، ص 393
2- الإيضاح للشاخي: ج 1، ص 760
3- المغني لابن قدامة: ج 2، ص 392

ص: 268

المبحث الرابع حكم الصلاة على حمزة (علیه السلام) واختلاف المذاهب في عدد التكبيرات عليه

المسألة الاولى: عدد التكبيرات على حمزة عند فقهاء المذهب الإمامي

أجمع فقهاء الإمامية (أعلى الله مقامهم) على أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) كبّر على حمزة (عليه السلام) سبعين تكبيرة.

وقد استندوا في ذلك إلى جملة من الروايات الشريفة الواردة عن أئمة العترة (عليهم السلام)؛ والتي تتبعها غير واحد من الفقهاء، ومنهم:

المحقق البحراني (عليه الرحمة والرضوان) فكان منها:

(ما رواه في الكافي عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

«کبّر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على حمزة سبعين تكبيرة، وكبّر علي (عليه السلام) عندكم(1) على سهل بن حنيف خمسا وعشرين تكبيرة».

قال: «كبر خسا خمساً، كلما أدركه الناس قالوا: يا أمير المؤمنين لم ندرك الصلاة على سهل، فيضعه فيکبر عليه خمساً حتى انتهى إلى قبره خمس مرات».

وعن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

ص: 269


1- أي في الكوفة

«صلى الله عليه وآله على حمزة سبعين صلاة».

ومنها: قول أمير المؤمنين (عليه السلام) على ما نقله في كتاب نهج البلاغة:

«أن قوما استشهدوا في سبيل الله من المهاجرين ولكل فضل حتى إذا استشهد شهيدنا قيل سيد الشهداء، وخصه رسول الله صلى الله عليه وآله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه».

ونحوه ما نقله شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) في كتاب البحار عن كتاب الهداية للحسين بن حمدان الحصيني بسنده عن سيدنا أبي محمد العسكري (عليه السلام) في حديث طويل يتضمن قتل حمزة (عليه السلام) وحزن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) له قال فيه:

«وأمره الله أن يكبر عليه سبعين تكبيرة ويستغفر له ما بين كل تكبيرتين منها فأوحى الله تعالى إليه أني قد فضلت عم حمزة بسبعين تكبيرة لعظمته عندي وكرامته على... الحديث».

وما رواه الصدوق في كتاب عيون الأخبار، عن الرضاعن آبائه، عن الحسین ابن علي (عليهم السلام)، قال:

«رأيت النبي (صلى الله عليه وآله) کبر على حمزة خمس تكبيرات، وكبر على الشهداء بعد حمزة خمس تكبيرات، فلحق حمزة سبعون تكبيرة».

ورواه في صحيفة الرضا (عليه السلام) بأسناده إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:

«رأيت النبي (صلى الله عليه وآله) کبر على عمه حمزة خمس تكبيرات،

ص: 270

وكبر على الشهداء بعد حمزة خمس تكبيرات، فلحق حمزة بسبعين تكبيرة ووضع يده اليمنى على اليسرى».

أقول: ومن هذين الخبرين يظهر أن السبعين تكبيرة على حمزة وقعت في صلوات متعددة كل صلاة منها خمس تكبيرات، ويعضده الاتفاق کما عرفت، وعليه دلت النصوص المستفيضة أن صلاة الميت لا تزيد على خمس تكبيرات وحينئذ تكون هذه السبعون عبارة عن أربع عشرة صلاة.

ويمكن أن يكون الوجد في ذلك هو أنه لما صلى على حمزة بخمس تكبيرات جيء بجماعة بعد جماعة فكان يصلي على كل جماعة بخمس تكبيرات وكان يشركهم في الصلاة وحمزة مع كل جماعة حتى إذا انتهت الصلاة عليهم صارت الصلوات أربع عشرة صلاة ولحق حمزة من الجميع سبعون تكبيرة.

إلا أن ظاهر کلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتاب النهج وكذا ظاهر خبر الحصيني يدل على وقوع ذلك في صلاة واحدة وأن ذلك فضيلة ومزية اختص بها حمزة (رضي الله عنه) دون غيره، فلا منافاة فيه للأخبار التي وقع الاتفاق عليها من أن صلاة الميت لا تزيد على خمس تكبيرات.

ومنها ما رواه في التهذيب عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قلت له: أرأيت إن فأتتني تكبيرة أو أكثر؟ قال: «تقضي ما فاتك»، قلت أستقبل القبلة؟ قال: «بلى وأنت تتبع الجنازة، فإن رسول صلى الله عليه وآله خرج إلى جنازة امرأة من بني النجار فصلى عليها فوجد الحفرة لم يمكنوا فوضعوا الجنازة فلم يجئ قوم إلا قال لهم صلوا عليها»).

وعن عمار بن موسى في الموثق عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

ص: 271

«الميت يصلى عليه ما لم يوار بالتراب وإن كان قد صلى عليه».

وعن يونس بن يعقوب في الموثق عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن الجنازة لم أدركها حتى بلغت القبر أصلي عليها؟ قال:

«إن أدركتها قبل أن تدفن فإن شئت فصل عليها».

أقول: هذه جملة ما وقفت عليه من الأخبار الدالة على جواز التكرار.

وأما الأخبار الدالة على العدم فمنها ما رواه الشيخ عن وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام):

(إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلى على جنازة فلما فرغ جاءه أناس، فقالوا: يا رسول الله، لم ندرك الصلاة عليها، فقال:

«لا يصلي على جنازة مرتين، ولكن ادعوا لها»).

وعن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

(إن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى على جنازة فلما فرغ جاء قوم فقالوا: فاتتنا الصلاة عليها، فقال:

«إن الجنازة لا يصلى عليها مرتين، أدعوا له وقولوا خيرا»).

وما رواه في كتاب قرب الإسناد عن الحسين بن ظريف عن الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام):

(أن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى على جنازة، فلما فرغ جاء قوم لم يكونوا أدركوها، فكلموا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يعيد الصلاة عليها، فقال لهم:

«قد قضيت الصلاة عليها ولكن ادعوا لها»).

ص: 272

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ما ورد في الأخبار من التعدد في الصلاة على سهل ابن حنيف فهو محمول على خصوصية الرجل المذكور لما صرحت به رواية عقبة المتقدمة، وبه يظهر ضعف ما ذكره في المدارك من تخصيصه استحباب الإعادة بمن لم يصل للتأسي وانتفاء ما ينهض حجة على اختصاص الحكم بذلك الشخص.

وهو غفلة منه عن هذه الرواية حيث إنه إنما أورد حسنة الحلبي وما ورد من الأخبار بالنسبة إلى حمزة (سلام الله عليه) فإن حملنا السبعين على كونها في صلاة واحدة كما هو الظاهر من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتاب نهج البلاغة وخبر الحصيني المتقدم لم تكن هذه الأخبار من محل البحث في شيء، لأن الكلام في تعداد الصلاة و تكررها، وهذه صلاة واحدة، غاية الأمر أنه زيد في تكبيراتها الموظفة لمزية هذا الشخص واظهار فضله کما صرح به خبر الحصيني.

وإن حملنا السبعين على كونها في صلوات متعددة كما هو ظاهر خبر کتاب عيون الأخبار وخبر الصحيفة الرضوية فالظاهر حمل التكرار هنا أيضا على المزية والفضيلة.

وأما أخبار الصلاة على الرسول (صلى الله عليه وآله) فأظهر في الفضيلة والمزية، وإن حملناها على الاحتمال الذي قدمنا ذكره خرجت عن محل البحث.

وبالجملة: فإن حمل الأخبار في هذه المواضع الثلاثة على الاختصاص المزيد الفضيلة مما لا يمكن انکاره سیما خبر سهل بن حنیف الصريح في أن كل صلاة بإزاء منقبة من مناقبه وحدیث حمزة، وحينئذ فلا يمكن الاستناد إليها في عموم الحكم وشموله لجميع الأموات.

ص: 273

بقي الكلام في الأخبار والجمع بينها وهو ممكن بأحد وجهين:

(الأول): حمل الأخبار الدالة على التكرار على أن الصلاة فيها بمعنى الدعاء لا الصلاة المعهودة، ويؤيده ما يأتي إن شاء الله تعالى في مسألة الصلاة على القبر.

و (الثاني): حمل الأخبار الدالة على النهي عن التكرار على التقية فإن العلامة في المنتهی نقل القول بالكراهة عن ابن عمر، وعائشة، وأبي موسى، والأوزاعي، وأحمد، والشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وأسنده أيضا إلى علي (عليه السلام) ولعله الأقرب ويعضده أن أكثر روایات النهي من العامة.

ومما ذكرنا يظهر ضعف الأقوال المتقدمة، أما القول بالكراهة مطلقا کما هو المشهور عملا بالأخبار الدالة على النهي فينافيه ظاهر أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بالصلاة لمن أتى في رواية جابر وكذلك التزام أمير المؤمنين (عليه السلام) في الصلاة على سهل بن حنیف بالأمر المكروه خمس مرات، وأظهر منه صلاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على عمه (رضي الله عنه)، ومثله صلاة الناس على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وأما ما ذكره ابن إدريس من كراهة الصلاة جماعة فترده أخبار سهل بن حنيف وتكرار أمير المؤمنين (عليه السلام) الصلاة عليه جماعة خمس مرات، وكذا أخبار حمزة (سلام الله عليه).

وأما تخصيص الكراهة بالمصلى نفسه كما نقل عن الشيخ في الخلاف فينا فيه مورد الأخبار الثلاثة الدالة على النهي، فإن موردها من لم يصل. وأما تخصيص الكراهة بما خيف على الميت أو بضم منافاة التعجيل فلم نقف له على مستند، وربما كان المستند حمل أخبار النهي على ذلك، وأنت خبير بأنه لا اشعار في شيء منها بذلك فضلا عن التصريح به أو ظهوره فيه.

ص: 274

وبالجملة فالظاهر عندي من أخبار المسألة هو ما ذكرته. والله العالم)(1).

المسألة الثانية: في عدد التكبيرات على حمزة (علیه السلام) في المذاهب الأخرى.

1- المذهب الزيدي.

قال یحیی بن الحسين (ت 298 ه):

حدثني أبي عن أبيه أنه سئل عن الشهيد هل يغسل؟ فقال:

(الشهيد إذا مات في المعركة لم يغسل وأن نقل وفيه حياة ثم مات غسل وعمل به كما يعمل بالأموات، حدثني أبي عن أبيه أنه سئل عن الشهيد هل يصلى عليه أم لا يصلى عليه؟

فقال: الشهيد يصلى عليه لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على عمه حمزة رضي الله عنه وكبر عليه سبعين تكبيرة يرفع قوم ويوضع آخرون وحمزة موضوع مكانه یکبر عليه وعلى من استشهد يوم أحد. ومن لم ير الصلاة على الشهيد كان مبتدعا ضالا، ومن أحق بالصلاة والترحم عليه من الشهيد)(2).

2- قول إمام المذهب الشافعي في الصلاة على الشهيد وذمه للقائلين بالصلاة على حمزة بن عبد المطلب (علیه السلام).

قال إمام المذهب الشافعي (ت 204 ه) في كتاب الأم في حكم الصلاة على الشهيد لاسيما شهداء أحد (رضوان الله عليهم):

(قال بعض الناس: يصلى عليهم ولا يغسلون، واحتج بان الشعبي روی

ص: 275


1- الحدائق الناظرة: ج 10، ص 449-458
2- الأحكام الامام یحیی بن الحسين: ج 1، ص 152-153

أن حمزة صلى عليه سبعون صلاة، وكان يؤتى بتسعة من القتلى حمزة عاشرهم ويصلى عليهم، ثم يرفعون وحمزة مكانه، ثم يؤتى بآخرين فيصلى عليهم وحمزة مكانه، حتى صلى عليه سبعون صلاة.

(قال) وشهداء أحد اثنان وسبعون شهيدا فإذا كان قد صلى عليهم عشرة عشرة في قول الشعبي، فالصلاة لا تكون أكثر من سبع صلوات أو ثمان فنجعله على أكثرها على أنه صلى على اثنين صلاة وعلى حمزة صلاة فهذه تسع صلوات، فمن أين جاءت سبعون صلاة؟ وإن كان عنى سبعين تكبيرة فنحن وهم نزعم أن التكبير على الجنائز أربع، فهي إذا كانت تسع صلوات، ست وثلاثون تكبيرة، فمن أين جاءت أربع وثلاثون؟

فينبغي لمن روى هذا الحديث أن يستحيي على نفسه، وقد كان ينبغي له أن يعارض بهذه الأحاديث كلها عينان فقد جاءت من وجوه متواترة بأن النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) لم يصل عليهم؛ وقال:

«زملوهم بكلومهم».

ولو قال قائل: يغسلون ولا يصلى عليهم؛ ما كانت الحجة عليه، إلا أن يقال له: تركت بعض الحديث، وأخذت ببعض.

(قال) ولعل ترك الغسل والصلاة على من قتله جماعة المشركين إرادة أن يلقوا الله عز وجل بکلومهم لما جاء فيه عن النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم):

«أن ريح الكلم ريح المسك، واللون لون الدم»(1).

واستغنوا بكرامة الله عز وجل لهم عن الصلاة لهم مع التخفيف على

ص: 276


1- صحيح البخاري: کتاب الجهاد: ج 3، ص 204

من بقي من المسلمين لما يكون فيمن قاتل بالزحف من المشركين من الجراح وخوف عودة العدو ورجاء طلبهم وهمهم بأهليهم وهم أهلهم هم.

(قال) وكان مما يدل على هذا أن رؤساء المسلمين غسلوا عمر وصلوا عليه وهو شهيد، ولكنه إنما صار إلى الشهادة في غير حرب، وغسلوا المبطون والحريق والغريق وصاحب الهدم وكلهم شهداء، وذلك أنه ليس فيمن معهم من الأحياء معنى أهل الحرب؛ فأما من قتل في المعركة وكذلك عندي لو عاش مدة ينقطع فيها الحرب ويكون الأمان وإن لم يطعم، أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر: إنّ عمر بن الخطاب غسل و کفن وصلى عليه)(1).

3- قول إمام المذهب المالكي في الصلاة على الشهيد والتكبير على حمزة.

قال الآبي الأزهري (ت 1133 ه):

(وانما لم يغسل الشهيد لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«زملوهم بثيابهم، اللون لون الدم، والريح ريح المسك».

ومعنى زملوهم: اي لفوهم، وقوله «ولريح ريح المسك»: اي ورائحة دم الشهيد عند الله تعالى بمنزله ريح المسك في الرضا فلا بل ذلك لا يغسل ولا يزال عند الدم.

وأنما لم يصل عليه؛ لما قيل لمالك:

ابلغك أن النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) صلى على حمزة فكبر سبعين تكبيرة؟ قال: لا؛ ولا أنه صلى على أحلي من الشهداء.

ص: 277


1- كتاب الأم: ج 1، ص 305

قال في الموطأ: إن النبي (صلى الله عليه [واله] وسلم) صلى الناس عليه إفذاذاً لا يومهم أحد.

قال الحافظ جلال الدين (رحمه الله): هذا أمر مجمع عليه واختلف في تعقيله فقيل: هو من باب التعبد الذي يعسر تعقل معناه.

وعلى هذا فالصلاة عليه حقيقية وهو الصواب؛ فقد قال عياض:

الصحيح الذي عليه الجمهور أن الصلاة على النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) کانت صلاة حقيقية لا مجرد الدعاء فقط؛ وقيل: المراد بالصلاة عليه مجرد الدعاء فقط.

قال الباجي: ووجهه أنه (صلى الله عليه [وآله] وسلم) أفضل من كل شهيد، والشهيد يغنيه فضله عن الصلاة عليه فهو (صلى الله عليه [وآله] وسلم) أولى وإنما فارق الشهيد في الغسل لان الشهيد منع من تغسيله إزالة الدم عنه، وهو مطلوب بقاؤه لطيبه ولأنه عنوان شهادته في الآخرة وليس على النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) ما تكره إزالته)(1).

4- المذهب الحنبلي.

قال ابن قدامة (ت 620 ه):

(ولا خلاف بين أهل العلم في جواز الصلاة على الجنائز دفعة واحدة، وإنَّ إفراد كل جنازة بصلاة جائز؛ وقد روي عن النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) أنه صلى على حمزة مع غيره)(2).

ص: 278


1- الثمر الداني لأبي الأزهري: ص 273
2- المغني لابن قدامة: ج 2، ص 422

5- المذهب الحنفي.

ذهب فقهاء المذهب الحنفي إلى القول بالصلاة على الشهيد لاسيما حمزة عبد المطلب فقد خصه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بسبعين صلاة.

قال السرخسي (ت 483 ه) في الاعتراض على نفي الشافعي حديث الصلاة على حمزة وشهداء أُحد:

(ولنا ما روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى على شهداء أُحد صلاة الجنازة حتى روي أنه صلى على حمزة رضي الله تعالى عنه بسبعين صلاة؛ وتأويله أنه كان موضعاً بين يديه فيؤتي على حمزة في كل مرة سبعين صلاة)(1).

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة ومناقشة قول الشافعي ومالك في نفي تكبير النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) على حمزة (علیه السلام).

أولاً - خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب.

1- أجمع فقهاء المذهب الإمامي على أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) قد صلى على عمه حمزة فكبّر بسبعين تكبيرة، وكذلك قال بهذا فقهاء المذهب الزيدي وكذا قال فقهاء المذهب الحنفي.

2- أما فقهاء المذهب الحنبلي فقد ذكروا أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد صلى على حمزة مع غيره دون الإشارة على عدد التكبيرات.

3- أما إمام المذهب المالكي فقد نفي وقوع الصلاة على حمزة، بل أنه

ص: 279


1- المبسوط: ج 2، ص 50

نفى أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد صلى على أحدٍ من الشهداء مطلقاً.

4- وأما فقهاء المذهب الاباضي فلم يتعرضوا للمسألة مطلقاً - بحسب ما توفر لديّ من مصادر -.

إن من الثابت عند الإمامية والزيدية أن النبي (صلى الله عليه واله سلم) قد کبّر علی حمزة وبن عبد المطلب (عليه السلام) سبعين تكبيرة کما کبّر الإمام علي (عليه السلام) على سهل بن حنيفاً خمساً وعشرين تكبيرة.

في حين رأينا أن إمام الشافعية يعرّض بالقائلين بهذه التكبيرات ويذمهم فقال:

(فينبغي لمن روى هذا الحديث أن يستحي على نفسه وقد كان ينبغي له أن يعارض بهذه الاحاديث كلها عينان فقد جاءت من وجوه متواترة بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يصل عليهم)(1).

ثانياً - مناقشة قول امام المذهب الشافعي في ذم القائلين بوقوع الصلاة على حمزة (علیه السلام).

1- ليس هناك عاقل يعتقد أن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لم يكن حاضراً في معركة أحد، ومن ثم لم ولن يكون هناك احدُ اعرف منه بأحداث هذه المعركة فضلاً عن افعال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

2- إن الامام علي (عليه السلام) لا يمكن أن يحتج على خصمه اللدود معاوية بن ابي سفيان بإمر ليس له وجود، ومن ثم فإن فعل ذلك يكون قد

ص: 280


1- كتاب الأم: ج 1، ص 305

قدم هدية لخصمه کي يطبل بها ويزمر ويتخذها مغرماً للتعريض به وهذا ما لم يكن ليفعله الامام علي (عليه السلام).

3- إن قوله هذا الذي حاجج به معاوية لم يكن بمعزل عن مسمع المسلمين والصحابة وفيهم من البدريين الذين كانوا يقاتلون معه وتحت رايته الفئة الباغية معاوية وجنده وقد افرح الحاكم في المستدرك قائلاً:

(شهد مع علي صفين ثمانون بدرياً وخمسون ومئتان من بايعوا تحت 281 الشجرة)(1).

وهؤلاء البدريون والشجريون قد سمعوا هذا القول من علي (عليه السلام) و حاشاه أن يكذب على الله ورسوله (صلى الله عليه واله سلم) وعلى صحابته والمسلمين جميعاً فينسب فعلاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يفعله، ومن ثم كان ينبغي بالناكر للصلاة على حمزة والتكبير عليه سبعين تكبيره (أن يستحي على نفسه) وهو يعارض حديث أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام)!

(وقد كان ينبغي له أن يعارض) بهؤلاء، أي أهل بدر، ومن بايع تحت الشجرة الذين سمعوا من علي (عليه السلام) ولم ينكروا عليه قوله وأن لهم ذلك وهم الثابتون في الإيمان والعارفون بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنون بما انزل الله تعالى على نبيه من فرض والولاية.

4- أما احتجاجه بتغسيل عمر بن الخطاب واحتسابه شهيداً وان الشهادة غیر مانعة لعمر من تغسيله والصلاة عليه.

ص: 281


1- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 180

فأقول:

وهذا يقتضي ايضاً بقية الخلفاء جميعاً فأبي بكر مات مسموماً وعثمان قتل في داره و غيرهم من خلفاء بني امية وبني العباس والعثمانيين، فكل من مات بالسم أو بالسيف فهو بحسب هذه القاعدة التي جاء بها الشافعي يكون شهيداً، وان الشهادة وما لها من الأجر والفضل عند الله تعالى غير مانعة من التغسيل والصلاة عليهم، ومن ثم ما خصوصية عمر بن الخطاب في احتسابه شهيدا دون أن تعارض هذه الشهادة حكم الغسل والصلاة عليه، وكيف تكون الشهادة لأهل أحد مانعة عن الغسل والصلاة عليهم، وهي غیر مانعة لعمر بن الخطاب؟!

ومن باب أولى أن يحتسب ذلك لعثمان بن عفان الذي قتله الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة!

ثالثاً - مناقشة قول السيوطي في شرحه لقول إمام المالكية في نفيه وقوع الصلاة على حمزة (علیه السلام) أوعلى أحد من الشهداء.

أما ما جاء عن إمام المالكية قوله حينما سُئل عن الصلاة على حمزة (عليه السلام) وأن النبي (صلى الله عليه وآله) كبّر عليه سبعين تكبيره؟

فقال: (لا)؟!! ولا أنه صلى على أحد من شهداء أحد؟!! وتعارضه مع صلاة المسلمين على رسول الله (إفذاذا لا يؤمهم أحد) بلحاظ أن المانع من أقامة الصلاة متحقق وهو الشهادة، وإن الشهيد لا حاجة له بالصلاة، فكيف يصلى على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أشرف ما خلق الله وأشرف من الشهداء، فلماذا صلى عليه المسلمون أفذاذا؟ فقال السيوطي:

ص: 282

(هذا أمر مجمع عليه، وأختلف في تعقيلة)!!! فقيل:

(هو من باب التعبد الذي يعسر تعقل معناه)!!!

أقول:

وإن هذه العلة قائمة ايضاً في صلاته (صلى الله عليه وآله وسلم) على حمزة وتكبيره عليه سبعين تكبيرة فهو (من باب التعبد الذي يعسر تعقل معناه) فلماذا هنا ينكر وقوعه وهناك يقر وقوعه، سبحان الله.

المسألة الرابعة: ما جمعه ابن حجر العسقلاني (ت: 852 ه) في رد الأحاديث القائلة بنفي الصلاة على شهداء أحد.

إن مما رد به ابن حجر على الروايات القائلة: بعدم الصلاة على شهداء أحد؛ یشکل جواباً جيداً لما اراد تتبع المسألة ومناقشتها وقد اوردت جمعه لهذه الروايات اعماماً لاكتمال المسألة والبحث فيها؛ فقال بعد ایراده للروایات النافية:

(ورد ما يعارض ما تقدم من نفي الصلاة على الشهداء في عدة أحادیث، منها:

حديث جابر، قال:

فقد رسول الله - (صلى الله عليه وآله وسلم) - حمزة حين جاء الناس من القتال فقال:

«رجل رأيته عند تلك الشجيرات»، فجاء نحوه فلما رآه ورأى ما مثل به شهق وبكى، فقام رجل من الأنصار فرمی علیه بثوب ثم جيء بحمزة فصلى عليه؛ الحديث ورواه الحاكم وفي اسناده أبو حماد الحنفي وهو متروك.

ص: 283

وعن شداد بن الهاد رواه النسائي بلفظ إن رجلا من الاعراب جاء إلى النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) فآمن به واتبعه وفي الحديث انه استشهد فصلى عليه النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) فحفظ من دعائه له:

((اللهم ان هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك))؛ فقتل في سبيلك وحمل البيهقي هذا على أنه لم يمت في المعركة.

وعن عقبة بن عامر في البخاري وغيره: انه صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين، وحمل على الدعاء، لأنها لو كان المراد بها صلاة الجنازة لما اخرها ويعكر على هذا التأويل قوله صلاة على الميت وأجيب: بان التشبيه لا يستلزم التسوية من كل وجه فالمراد في الدعاء فقط.

وقال أبو نعيم الأصفهاني: يحتمل أن يكون هذا الحديث ناسخا لحديث جابر في قوله ولم يصلى عليهم فان هذا الآخر من فعله، انتهى.

وفي رواية ابن حبان ثم دخل بيته فلم يخرج حتى قبضته الله.

وأطال الشافعي القول في الرد على من أثبت انه (صلى الله عليه [وآله] وسلم) صلى عليهم ونقله البيهقي في المعرفة وقال ابن حزم هو باطل بلا شك يعني الصلاة عليهم وأجاب بعضهم بان ذلك من الخصائص بدلیل أنه أخر الصلاة عليهم هذه المدة الطويلة ثم إن الذين أجازوا الصلاة على الشهيد من الحنفية وغيرهم لا يجيزون تأخيرها بعد ثلاثة أيام فلا حجة لهم: وفي الباب أيضا حديث ابن عباس رواه ابن إسحاق

قال حدثني من لا أتهم عن مقسم مولى ابن عباس عن ابن عباس قال أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحمزة فسجي ببردة ثم صلى

ص: 284

عليه وكبر سبع تكبيرات ثم أتي بالقتلى فيوضعون إلى حمزة فيصلى عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة قال السهيلي إن كان الذي أيهمه ابن إسحاق هو الحسن بن عمارة فهو ضعيف والا فمجهول لا حجة فيه انتهى: (قلت) والحامل للسهيلي على ذلك ما وقع في مقدمة مسلم عن شعبة أن الحسن بن عمارة حدثه عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس:

ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى على قتلى أحد، فسألت الحكم، فقال: لم يصل عليهم انتهى لكن حديث ابن عباس روی من طريق أخرى منها ما أخرجه الحاكم وابن ماجة والطبراني والبيهقي من طريق بريد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس مثله وأتم منه ويزيد فيه ضعف يسير: وفي الباب أيضا عن أبي مالك الغفاري أخرجه أبو داود في المراسيل من طريقه وهو تابعي اسمه غزوان ولفظه انه (صلى الله عليه [وآله] وسلم) صلى على قتل أحد عشرة عشرة في كل عشرة حمزة، حتى صلى عليه عشرة عشرة، يكون قد صلى سبع صلوات فكيف يكون سبعين؟! قال وان أراد التكبير، فيكون ثمانيا وعشرين تكبيرة لا سبعين وأجيب): أن المراد انه صلي على سبعين نفسا وحمزة معهم كلهم فكأنه صلى عليه سبعين صلاة)(1).

أقول:

وقد فات ابن حجر قول الإمام علي (عليه السلام) الصريح في الصلاة على شهداء أحد والتكبير على حمزة (عليه السلام) سبعين تكبيرة، ولعله لم

ص: 285


1- تلخيص الحبير: ج 5، ص 153-154

يفته الحديث ألا انه سار على منهج اسلافه وشيوخه في الأعراض عن السنة النبوية الصحيحة نكاية بالشيعة وأئمتهم الثقل الأصغر وعدل القرآن الكريم اللذان يردان على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند الحوض.

المسألة الخامسة: ما ورد في الحديث من شروح وبيان لدى شراح نهج البلاغة.

تناول شراح نهج البلاغة هذه الخطبة الشريفة في شروحاتهم، فكان موضع الشاهد في المسألة قد جاء في هذه الشروح على النحو الاتي:

أولاً - أبن ميثم البحراني (رحمه الله) (679 ه):

قال ابن میثم (رحمه الله) في شرحه للنهج وفي معرض بيانه لقوله (عليه السلام):

«أَنَّ قَوماً استُشهِدُوا فِي سَبِيلِ الله تَعَالَى مِنَ المُهَاجِرِينَ والأَنصَارِ، ولِكُلٍّ فَضلٌ، حَتَّى إِذَا اشتُشهِدَ شَهِيدُنَا قِيلَ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ، وَ خَصَّه رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) بِسَعِينَ تَكبِيرَةً عِندَ صَلَاتِه عَلَيه».

قال ابن میثم في النكتة الرابعة من نكته على الخطبة في هذا الموضع:

(الرابعة: قوله: وإنّك لذّهاب في التيه: أي كثير الذهاب والتوغَّل في الضلال عن معرفة الحقّ، كثير العدول عن العدل والصراط المستقيم في حقّنا وعن الفرق بيننا وبينكم ومعرفة فضائلنا ورذائلكم. ثمّ نبّهه على وجه الفرق بينهم وبين من عداهم من المهاجرين والأنصار بذكر أفضليّة بيته الَّتي انفردوا بها دونهم في الحياة وبعد الممات بعد أن قرّر أنّ لكلّ من الصحابة فضلا لتثبت الأفضليّة لبيته بالقياس إليهم، وذلك قوله: ألا ترى. إلى قوله:

ص: 286

الجناحين. فمن ذلك أفضليّتهم في الشهادة. وشهیدهم الَّذي أشار إليه عمّه حمزة بن عبد المطَّلب - رضي الله عنه - وأشار إلى وجه أفضليّته بالنسبة إلى ساير الشهداء من وجهين:

أحدهما: قولّي وهو تسميته الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم سيّد الشهداء.

والثاني: فعليّ وهو أنّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خصّه بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه في أربع عشرة صلاة، وذلك أنّه كان كلَّما كبّر عليه خمسا حضرت جماعة أخرى من الملائكة فصلَّى بهم عليه أيضا، وذلك من خصائص حمزة -رضي الله عنه - وشرف بني هاشم في حياتهم وموتهم، ومنه أفضليّتهم لما فعل ببعضهم من التمثيل به کما فعل بأخيه جعفر بن أبي طالب من قطع یدیه فسمّاه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بذلك الاعتبار ذا الجناحين والطيّار في الجنّة. ومن المنقول عن عليّ عليه السّلام من الشعر فيه والفخر إلى معاوية:

وجعفر الَّذي يضحي ويمسي *** يطير مع الملائكة ابن أُمّي

وقد ذكرنا مقتلها وقاتلهما من قبل. ثمّ أشار إلى أنّ له فضائل جمّة تعرفها فيه قلوب المؤمنين ولا تمجّها آذانهم، وإنّما ترك تعدیدها وذكرها في معرض الفخر بها لنهى الله سبحانه عن تزكيته لنفسه، والذاكر یعنی نفسه. وإنّما نکَّره ولم يأت بالألف واللام ولم ينسبه إلى نفسه لأنّ في ذلك صريح الدلالة على تزكيته لنفسه. واستعار لفظ المجّ لكراهيّة النفس لبعض ما تكرّر سماعه

ص: 287

وإعراضها عنه فإنّها تصير كالقاذف له من الأُذن کما یقذف الماج الماء)(1).

ثانياً - ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه).

قال في بيانه لقوله (عليه السلام) موضع البحث:

«أَنَّ قَوماً استُشهِدُوا فِي سَبِيلِ الله»:

(المراد ها هنا سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه، وينبغي أن يحمل قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه أنه سيد الشهداء على انه سيد الشهداء في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لان عليا (عليه السلام) مات شهيداً ولا يجوز أن يقال: حمزة سیده، بل هو سيد المسلمين كلهم، ولا خلاف بين أصحابنا (رحمهم الله) أنه أفضل من حمزة وجعفر (رضي الله عنهما)، وقد تقدم ذكر التكبير الذي كبره رسول الله صلى الله عليه وآله على حمزة في قصة أحد.

قوله (عليه السلام):

«ولكل فضل»، أي: ولكل واحد من هؤلاء فضل لا يجحد.

قوله: «أولا ترى أن قوما قطعت أيديهم»، هذا إشارة إلى جعفر، وقد تقدم ذلك في قصة مؤته)(2).

نكتفي بهذين الشرحين لهذا النص الشريف ففيهما الكفاية، وبهذه المسالة نكون قد انتهينا من مباحث الفصل الثاني والثالث والذي تم تخصيصهما لكتاب الطهارة، بحمد الله تعالى ونشرع بعونه وسابق لطفه وفضله وفضل

ص: 288


1- شرح نهج البلاغة لابن میثم: ج 4 ص 439
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 15 ص 193

رسوله (صلى الله عليه وآله) في الفصل الرابع الذي سنخصصه لمباحث الصلاة بالتي وردت في كتاب نهج البلاغة وبيان ما جاء حولها في المذاهب الإسلامية السبعة.

ص: 289

ص: 290

المحتويات

توطئه...17

المبحث الأول: معنى الطهارة في اللغة وعند الفقهاء...19

المسألة الأولى: معنى الطهارة لغة...19

المسألة الثانية: معنى الطهارة عند فقهاء المذهب الإمامي...25

1- الشيخ الطوسي...26

2- ابن إدريس الحلي...27

3- الشهيد الأول محمد بن جمال الدين مكي العاملي...29

4- الشيخ الجواهري...30

المسألة الثالثة: معنى الطهارة عند فقهاء المذاهب الأخرى...37

1- المذهب الزيدي...37

ص: 291

2- المذهب المالكي...38

3- المذهب الشافعي...39

4- المذهب الحنفي...41

5- المذهب الحنبلي...42

6- المذهب الإباضي...44

المسألة الرابعة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...44

المبحث الثاني: قعود المرأة عن الصلاة والصيام وما يحرف عليها فعله وما يستحب لها في أيام الحيض...49

المسألة الأولى: أقل الحيض وأكثره الذي يلزم المرأة القعود عن الصلاة والصيام...50

أولاً - أقوال فقهاء المذهب الإمامي في أقل الحيض وأكثره...50

1- الشيخ الطوسي...51

2- المحقق الحلى...51

3- الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي...52

ثانياً - أقوال فقهاء المذاهب الأخرى في أقل الحيض وأكثره...54

1- المذهب الزيدي:...54

2- المذهب الشافعي...56

3- المذهب الحنبلي...56

ص: 292

4- المذهب الحنفي...57

5- المذهب المالكي...57

6- المذهب الإباضي...57

المسألة الثانية: خلاصة القول في المسألة والدليل على صحة أن أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام...58

أولاً - في أقل الحيض...58

ثانياً - في صفة الحيض...59

ثالثاً - أكثر الحيض...59

رابعاً - بیان الصحة من هذه الأقوال...60

المسألة الثالثة: ما يحرم على المرأة الحائض فعله وما يستحب لها أثناء الحيض...61

المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...69

أولاً - ما جاء من بيان للحديث عند مصنف نهج البلاغة وجامعه...69

ثانياً - ما جاء من شروح للحديث لدي شراح نهج البلاغة...71

ثالثاً - خلاصة القول فيما جاء في شروح نهج البلاغة...75

المبحث الثالث: آداب الحمام والتنظيف والزينة والخضاب...77

المسألة الأولى: معنى الخضاب لغة...78

المسألة الثانية: أحكام الخضاب عند فقاء المذهب الإمامي...79

ص: 293

1- العلامة الحلي (رحمه الله)...79

2- المحقق البحراني (رحمه الله)...80

المسألة الثالثة: أحكام الخضاب عند فقهاء المذاهب الأخرى...86

1- المذهب الزيدي:...86

2- المذهب الشافعي: تحريم الخضاب بالسواد، وجوازه للمجاهد...87

3- المذهب الحنفي...89

4- المذهب المالكي: توقف المالكي في صبغ الشعر ونفيه أن يكون...90

5- المذهب الحنبلي...90

المسألة الرابعة: خلاصة القول في المسألة والدليل في استحباب الخضاب بالسواد...92

المسألة الخامسة: مدخلية الزمان والمكان في عنوان الحكم وصدور الفتوى...94

المسألة السادسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...99

أولاً - ابن أبي الحديد المعتزلي...99

ثانياً - ابن هیثم البحراني...104

ثالثاً - السيد حبيب الله الهاشمي الخوئي...105

ص: 294

الفصل الثاني أحكام الأموات

المبحث الثاني: استحباب ذكر الموت والاستعداد له...109

المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي في استحباب ذكر الموت...112

أولاً - العلامة ابن المطهر الحلي...12

ثانياً - الشهيد الأول محمد بن جمال الدين مكي العاملي...114

ثالثاً - السيد اليزدي...117

المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى في استحباب ذكر الموت...118

أولاً - المذهب الزيدي...118

ثانياً - المذهب الشافعي...119

ثالثاً - المذهب الحنبلي...119

المسألة الثالة: خلاصة القول فيها أورده فقهاء المذاهب في المسألة...120

المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...120

أولاً - في بيان قوله (عليه السلام) «یا بني أكثر من ذكر الموت...:...120

ثانياً - في بيان قوله (عليه السلام): «أحيي قلبك بالموعظة..»...124

ثالثاً - في خصوص قوله (علیه السلام): «من أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير»...126

ص: 295

رابعاً - الخلاصة فيما أورده شراح نهج البلاغة في الحديث...126

المبحث الثاني: استحباب الاتعاظ بالمرض وكتانه والصبر عليه وآداب المريض واستحباب عيادته وآدابها...127

المسألة الأولى: استحباب كتم الشكوى عند فقهاء المذهب الإمامي...128

أولا - ابن ادريس الحلي (عليه الرحمة والرضوان)...128

ثانياً - العلامة ابن المطهر الحلي (عليه الرحمة والرضوان)...129

المسألة الثانية: آداب المريض في المذهب الإمامي...131

أولاً - السيد اليزدي (عليه الرحمة والرضوان)...131

ثانياً - الشيخ محمد تقي الآملي (عليه الرحمة والرضوان)...133

المسألة الثالثة: آداب عيادة المريض واستحبابها في المذهب الإمامي...147

أولاً - يحیی بن سعید (عليه رالحمة والرضوان)...147

ثانياً - العلامة ابن المطهر الحلي (عليه الرحمة والرضوان)...147

ثالثاً - السيد اليزدي (عليه الرحمة والرضوان)...149

المسألة الرابعة: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى في استحباب الصبر على المرض...150

أولاً - المذهب الشافعي: في استحباب الصبر على المرض وعيادة المريض...150

ثانياً - المذهب المالكي: في استحباب الصبر على المرض واستحباب عيادة المريض...152

ثالثاً - المذهب الزيدي: في استحباب الصبر على المرض وعيادة المريض...153

ص: 296

رابعاً - المذهب الحنبلي: في استحباب عيادة المريض ورقيه...153

المسألة الخامسة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...154

المسألة السادسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...156

المبحث الثالث: استحباب التعزية والدعاء لاهل الميت...163

المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي في استحباب التعزية والدعاء...164

أولاً - العلّامة الحلي...164

ثانياً - الشيخ الجواهري...166

المسالة الثانية: استحباب التعزية عند فقهاء المذاهب الأخرى...171

أولاً - المذهب الزيدي...171

ثانياً - المذهب الشافعي...172

ثالثاً - المذهب المالكي...173

رابعاً - المذهب الحنفي...174

خامساً - المذهب الحنبلي...175

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...177

المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...178

أولاً: بیان معنى قوله (عليه السلام): «إن هذا الأمر ليس لكم بدأ،...»...178

ثانياً: بيان معنى قوله (علیه السلام): «إن صبرت صبر الاكارم، والا سلوت....»...179

ص: 297

المبحث الرابع: استحباب التفكر في الموت للمشيع...181

المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي...182

أولاً - العلامة الحلي...182

ثانياً - الشيخ الجواهري...182

ثالثاً - السيد اليزدي...183

المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى

المسألة الثالثة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...183

المبحث الخامس: کراهة الضحك بين القبور وعلى الجنازة...189

المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي...189

أولاً - الشهيد الأول (ت: 786 ه)...189

ثانياً - المحقق البحراني (ت: 1186 ه)...190

ثالثاً - الشيخ الجواهري (ت: 1266 ه)...191

المسألة الثانية: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...191

أولاً - ابن میثم البحراني:...191

ثانياً - حبيب الله الهاشمي الخوئي...194

ثالثاً - محمد جواد مغنية...195

المسألة الثالثة: تضعيف علماء أبناء العامة نسبة الحديث إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم)...196

ص: 298

المبحث السادس: كراهة ضرب صاحب المصيبة يده على فخذه...199

المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي...200

أولاً - ابن بابوية...200

ثانياً - الشهيد الأول...200

ثالثاً - الشيخ الجواهري...201

المسألة الثانية: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...202

المبحث السابع: النهي عن البكاء والجزع على الميت واستحبابه على فقد رسول الله...205

المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي...206

أولاً - العلامة الحلي...206

ثانياً - المحقق البحراني...207

المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى...212

أولاً - المذهب المالكي...212

ثانياً - المذهب الشافعي...212

ثالثاً - المذهب الحنبلي...212

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...213

المسألة الرابعة: ما جاء في الحديث من شروح نهج البلاغة...214

أولاً - ابن میثم البحراني، (ت: 679 ه):...214

ص: 299

ثانياً - ابن أبي الحديد المعتزلي (ت: 656 ه):...214

ثالثاً - حبيب الله الخوئي (ت: 1324 ه)...218

رابعاً - محمد جواد مغنية (ت: 1400 ه)...218

المسألة الخامسة: خلاصة القول فيما أورده شراح نهج البلاغة واختلافهم...219

الفصل الثالث أحكام صلاة الجنازة

المبحث الأول: جواز الزيادة في صلاة الجنازة وكراهة ذلك إلا إذا كان الميت من أهل العلم والتقوى...231

المسألة الأولى: معنى الجنازة لغة...231

المسألة الثانية: أقوال فقهاء الإمامية في جواز الزيادة في صلاة الجنازة...234

أولاً - قال المحقق البحراني...234

ثانياً - السيد اليزدي...240

المسألة الثالثة: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى في جواز الزيادة في صلاة الجنازة...241

أولاً - المذهب المالكي...241

ثانياً - المذهب الحنفي...241

ثالثاً - المذهب الحنبلي...242

رابعاً - المذهب الشافعي...242

ص: 300

المسألة الرابعة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في زيادة صلاة الجنازة...242

المبحث الثاني: حكم الصلاة على الشهيد...245

المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي في حكم الصلاة على الشهيد...245

أولاً - المحقق الحلي...245

ثانياً - حبيب الله الخوئي...246

ثالثاً - محمد تقي التستري...248

المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى في حكم الصلاة على الشهيد...249

1- المذهب الشافعي...249

2- المذهب الحنفي...249

3- المذهب الزيدي...250

4- المذهب المالكي...250

المسألة الثالثة: خلاصة القول في المسألة فيما أورده فقهاء المذاهب في حكم الصلاة على الشهيد...251

المبحث الثالث: في عدد تكبيرات صلاة الجنازة والاختلاف بين الأربعة والخمسة والعلة في ذلك...253

المسألة الاولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي في عدد تكبيرات صلاة الجنازة...253

أولاً - العلامة الحلي...253

ص: 301

ثانياً - المحقق البحراني...254

المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى في عدد تكبيرات صلاة الجنازة...257

1- المذهب اليزدي...257

2- المذهب المالكي...257

3- المذهب الحنفي...258

4- المذهب الحنبلي...258

5- المذهب الشافعي...259

6- المذهب الإباضي...259

المسألة الثالثة: خلاصة القول في المسألة وبيان العلة في اختلاف التكبيرات...260

أولاً - إنّ الإمامية ذهبوا في هذا العدد في الصلاة على الميت إلى أصل تشريعها...260

ثانياً - إنَّ العلّة في ترك المذاهب الأخرى للتكبيرة الخامسة لكونها علما للتشيع...261

ثالثاً - إن العمل بالتكبيرة الرابعة أثبته عمر بن الخطاب وألزم الصحابة به...265

المبحث الرابع: حكم الصلاة على حمزة (عليه السلام) واختلاف المذاهب في عدد التكبيرات عليه...269

المسألة الأولى: عدد التكبيرات على حمزة عند فقهاء المذهب الإمامي...269

المسألة الثانية: في عدد التكبيرات على حمزة (علیه السلام) في المذاهب الأخرى...275

1- المذهب الزيدي...275

ص: 302

2- قول إمام المذهب الشافعي في الصلاة على الشهيد وذمه للقائلين بالصلاة على حمزة بن عبد المطلب (علیه السلام)...275

3- قول إمام المذهب المالكي في الصلاة على الشهيد والتكبير على حمزة...277

4- المذهب الحنبلي...278

5- المذهب الحنفي...279

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة ومناقشة...279

أولاً - خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب...279

ثانياً - مناقشة قول إمام المذهب الشافعي في ذم القائلين بوقوع الصلاة على حمزة...280

ثالثاً - مناقشة قول السيوطي في شرحه لقول إمام المالكية في نفيه وقوع الصلاة على حمزة (علیه السلام) أو على أحدٍ من الشهداء...282

المسألة الرابعة: ما جمعه ابن حجر العسقلاني في رد الأحاديث القائلة...283

المسألة الخامسة: ما ورد في الحديث من شروح وبيان لدى شراح نهج البلاغة...286

أولاً - أبن ميثم البحراني (رحمه الله)...286

ثانياً - ابن أبي الحديد المعتزلي...288

ص: 303

ص: 304

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.