فِقْهُ نَهْجُ البَلاغة عَلَی المَذاهِبِ السَّبعَةِ المجلد 3

هوية الکتاب

فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي - الشافعي - الحنبلي - الإباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الأحاديث

ISBN 9789933582470 رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية ببغداد 3984 لسنة 2019 م مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP193.1.A2 H3 2020 LC المؤلف الشخصي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مؤلف. العنوان: فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة: الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي - الشافعي - الحنبلي - الإباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الأحاديث: دراسة بينية / بيان المسؤولية: تأليف السيد نبيل الحسني الكربلائي. بيانات الطبع: الطبعة الأولى. بيانات النشر:

كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة 2020 / 1441 للهجرة.

الوصف المادي: 12 مجلد؛ 24 سم. سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة: 697). سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة: 176) سلسلة النشر: (سلسلة الدراسات والبحوث العلمية، وحدة الدراسات الفقهية: 18). تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية. تبصرة محتويات: الجزء 1: اثرالمدرسة الامامية في نشوء الفقه وتطوره - الجزء 2: نشوء المذاهب الفقهية وتطورها - الجزء 3: مقدمة العبادات - الجزء 4: الطهارات - الجزء 5: الصلاة - الجزء 6: الزكاة - الجزء 7: الصيام والحج والامر بالمعروف والنهي عن المنكر - الجزء 8: الجهاد - الجزء 9: التجارة والشركة - الجزء 10: الوقف والقصاص - الجزء 11: القضاء والشهادات - الجزء 12: الفهارس.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - حديث. موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. مصطلح موضوعي: الفقه الاسلامي - مذاهب. مصطلح موضوعي: المذاهب الدينية - تاریخ. مصطلح موضوعي: العبادات (فقه اسلامي). مصطلح موضوعي: المعاملات (فقه اسلامي). اسم شخص اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

ISBN 9789933582470 رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية ببغداد 3984 لسنة 2019 م مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP193.1.A2 H3 2020 LC المؤلف الشخصي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مؤلف. العنوان: فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة: الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي - الشافعي - الحنبلي - الإباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الأحاديث: دراسة بينية / بيان المسؤولية: تأليف السيد نبيل الحسني الكربلائي. بيانات الطبع: الطبعة الأولى. بيانات النشر:

كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة 2020 / 1441 للهجرة.

الوصف المادي: 12 مجلد؛ 24 سم. سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة: 697). سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة: 176) سلسلة النشر: (سلسلة الدراسات والبحوث العلمية، وحدة الدراسات الفقهية: 18). تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية. تبصرة محتويات: الجزء 1: اثرالمدرسة الامامية في نشوء الفقه وتطوره - الجزء 2: نشوء المذاهب الفقهية وتطورها - الجزء 3: مقدمة العبادات - الجزء 4: الطهارات - الجزء 5: الصلاة - الجزء 6: الزكاة - الجزء 7: الصيام والحج والامر بالمعروف والنهي عن المنكر - الجزء 8: الجهاد - الجزء 9: التجارة والشركة - الجزء 10: الوقف والقصاص - الجزء 11: القضاء والشهادات - الجزء 12: الفهارس.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - حديث. موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. مصطلح موضوعي: الفقه الاسلامي - مذاهب. مصطلح موضوعي: المذاهب الدينية - تاریخ. مصطلح موضوعي: العبادات (فقه اسلامي). مصطلح موضوعي: المعاملات (فقه اسلامي). اسم شخص اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة الدراسات والبحوث العلمية وحدة الدراسات الفقهية (18) فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي - الشافعي - الحنبلي - الإباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الأحاديث الجزء الثالث مقدمة العبادات تألیف السید نبیل الحسني الکربلائي إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسینیة المقدسة (176)

ص: 3

للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1441 ه/ 2020 م العراق: کربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة www.inahj.org Email: inahj.org@gmail.com موبایل : 07815016633 - 07728243600

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) صدق الله العلي العظيم

ص: 5

ص: 6

الباب الأول «مقدمة العبادات»

ص: 7

ص: 8

يتضمن الباب:

الفصل الأول: في معنى العبادة وما يجوز قصده من غايات النيّة.

• المبحث الأول: العبادة في اللغة والاصطلاح و عند الفقهاء.

* المسألة الأولى: معنى العبادة في اللغة والفرق بينها وبين الطاعة.

* المسألة الثانية: معنى العبادة عند الفقهاء.

• المبحث الثاني: ما يجوز قصده من غابات النية، وما يستحب اختياره منها.

* المسألة الأولى: معنى النية في اللغة وعند الفقهاء.

* المسألة الثانية: النية بين القلب واللسان.

* المسألة الثالثة: القصد الى عبادة الله وأثره في اختلاف مراتب العبادة.

* المسألة الرابعة: قاعدة فقهية: (تبعية العمل للنية).

* المسألة الخامسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

الفصل الثاني: قصد الرياء والسمعة والعجب وضميمته إلى النيّة.

• المبحث الأول: ضميمة الرياء إلى العبادة.

* المسألة الأولى: معنى الرياء في اللغة والاصطلاح.

* المسألة الثانية: أقوال الفقهاء في ضميمة الرياء الى النية.

* المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

ص: 9

• المبحث الثاني: ضميمة السمعة إلى العبادة.

* المسألة الأولى: معنى السمعة في اللغة.

* المسألة الثانية: أقوال الفقهاء في ضميمة السمعة الى النية.

* المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

• المبحث الثالث: مدار الرياء حول الحرمة والقربة والإخلاص.

* المسألة الأولى: أثر الرياء في هدم العمل في مدار قاعدة (تبعية العمل للنية).

* المسألة الثانية: تنبيه السيد محسن الحكيم (قدس) حول الإبقاء على الإخلاص ومواضع حرمة الرياء.

* المسألة الثالثة: مبحث الإخلاص في تعليقات الشيخ محمد تقي الآملي في (قدس) على العروة الوثقی.

* المسألة الرابعة: حقيقة الرياء والسمعة عند علماء الأخلاق.

* المسألة الخامسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

• المبحث الرابع: ضميمة العجب إلى العبادة.

* المسألة الأولى: العجب في اللغة.

* المسألة الثانية: العجب في مباحث الفقهاء وأثره في العبادة.

* المسألة الثالثة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

ص: 10

الفصل الأول : «في معنى العبادة و ما يجوز قصده من غايات النيّة»

اشارة

ص: 11

ص: 12

المبحث الأول: العبادة في اللغة والاصطلاح وعند الفقهاء

المسألة الأولى: معنى العبادة في اللغة والفرق بينها وبين الطاعة.

أولاً - العبادة لغة.

جاءت مفردة العبادة في اللغة بمعنى الطاعة مع الخضوع، ومنه طريق معبد إذا كان مذللاً بكثرة الوطئ(1).

ومنه أخذ العبد لذلته لمولاه، والعبادة والخضوع والتذلل والاستكانة قرائب في المعاني.

يقال تَعَبّ فلان لفلان: إذا تذلل له وكل خضوع ليس فوقه خضوع فهو عبادة، طاعة كان للمعبود أو غير طاعة(2).

ثانياً - الفرق بين العبادة والطاعة.

إن العبادة غاية الخضوع ولا تستحق إلا بغاية الأحكام ولهذا لا يجوز أن يعبد غير الله تعالى ولا تكون العبادة إلا مع المعرفة بالمعبود؛ والطاعة الفعل الواقع على حسب ما أراده المريد، متى كان المرید أعلى رتبة ممن يفعل ذلك وتكون للخالق والمخلوق، والعبادة لا تكون إلا للخالق والطاعة في مجاز اللغة

ص: 13


1- لسان العرب، فصل العين المهملة: ج 3، ص 273
2- المخصص لابن سيدة: ج 4 ص 96

تكون أتباع المدعو الداعي إلى ما دعاه إليه وإن لم يقصد أن يطيعه ولكن أتبع دعائه وإرادته(1).

المسألة الثانية: معنى العبادة عند الفقهاء.

أولاً - معنى العبادة وأنواعها عند الفقهاء.

العبادة: الخضوع، والطاعة مع الخضوع والتذلل، وهو جنس من الخضوع لا يستحقه إلا الله تعالى، ما يثاب عليه من الأفعال، إذا كان بنية التعبد والتقرب إلى الله تعالى(2).

وعند الحنفية: فعل للمكلف على خلاف هوى نفسه وهو تعظيماً لربه، وما يثاب على فعله ويتوقف على نيته.

* عند الشافعية: فعل يكلّفه الله تعالى عباده، مخالفاً لما يميل إليه الطبع على سبيل الابتلاء، وهي الطاعة لله.

* عند المالكية وابن رشد: نوعان:

1- عبادة محضة، وهي غير معقولة المعنى، وإنما يقصد بها القبلة فقط، كالصلاة وغيرها.

2- عبادة معقولة المعني كغسل النجاسة.

والعبادة الصحيحة عند الشافعية ما أسقط القضاء(3).

ص: 14


1- الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري: ص 349
2- معجم الفاظ الفقه الجعفري: د. أحمد فتح الله، ص 284
3- القاموس الفقهي، الدكتور سعدي أبو حبيب: ص 240

* العبادة في اصطلاح الفقهاء: بكسر العين وفتح الدال مصدر عبد، التصرفات المشروعة التي تجمع كمال المحبة والخوف والخضوع لله تعالى(1).

* العبادات: الأمور التي أمر الله سبحانه وتعالى بها وشرط فيها على المكلف أن يأتي بها من أجله سبحانه وتعالى، أي نية القربة، فلا تقع صحيحة إلا بها كالصلاة والصيام والاعتكاف والحج والعمرة والزكاة ويقابل العبادات والتوصيات.

وقد ورد في ألفاظ الفقهاء بعض أنواع العبادات، منها:

العبادة البدنية: التي يبذل الإنسان فيها جهداً جسدياً، كالصلاة.

عبادة تمرينية: التي يمثل فيها ولي أمر الصبي بتمرينه على الصوم والصلاة، فلا توصف بصحة أو فساد.

عبادة شرعية: وهي التي تستند إلى أمر الشارع فيستحق عليها الثواب.

العبادة المالية: التي يبذل الإنسان فيها من ماله كالزكاة، والخمس.

العبادة المركبة: ما جمعت العبادتين البدنية والمالية كالحج حيث يبذل الحاج فيه جهداً جسدياً وينفق أموالاً بالسفر إليه.

العبادة المكروهة: التي يكون لها فضل، لكن بطريق آخر أفضل كالصلاة في مواضع التي يُكره الصلاة فيها مثل الحمام(2).

العبادة المستحبة أو المندوبة: أي التي ليست فرضاً أو واجب ويرغب الإنسان إلى أدائها طلباً للعربية وحسن الجزاء.

ص: 15


1- المصطلحات - مركز المعجم الفقهي: ص 1693
2- معجم الفاظ الفقه الجعفري: ص 284

ثانياً - أقسام العبادة.

وقد عرّفها الفقيه العالم يحي بن سعيد الحلي(1) (رحمه الله) (ت: 689 ه) بقوله (العبادات كل فعل مشروع لا يجزي إلا بنية التعظيم والتذلل لله سبحانه وتعالى)(2).

ونقل أقوال بعض العلماء في تعريفها أيضاً ثم قسّمها إلى خمس وأربعين قسماً فقال:

(وحدّها الشيخ محمود بن عمر الخوارزمي(3) في كتاب الحدود بأنها: (نهاية التعظيم والتذلل لمن يستحق ذلك بأفعال ورد بها الشرع على وجوه مخصوصة أو ما يجري مجراها على وجوه مخصوصة) ومعنى قوله: (وما يجري

ص: 16


1- يحيى بن س-عيد الحلي (601 - 689)، عرّفه ابن داود في رجاله بقوله: يحيى بن أحمد بن سعید، شيخنا الإمام الورع القدوة، كان جامعاً لفنون العلم الأدبية والفقهية والأُصولية، وكان أورع الفضلاء وأزهدهم، له تصانيف جامعة للفوائد، منها: كتاب (الجامع للشرائع) في الفقه، كتاب (المدخل) في أُصول الفقه، وغير ذلك، مات (سنة 689 ه). وقال الأفندي التبريزي في كتابه القيم (رياض العلماء): كان (قدس سره) مجمعاً على فضله وعلمه بين الشيعة وعظاء أهل السنّة. قال السيوطي في (بغية الوعاة) في طبقات اللغويين والنحاة نقلاً عن الذهبي انّه قال: لغوي، أديب، حافظ للآثار، بصير باللغة والأدب، من كبار الرافضة. ومن لطائف آثاره كتابه (نزهة لناظر في الجمع بين الأشباه والنظائر) وقد غفل عن ذكره ابن داود في (رجاله) وهو كتاب شيق في الفقه يذكر لمسألة واحدة نظائرها وأشباهها. وقد طبع من آثاره: (الجامع للشرائع) و (نزهة الناظر). (ينظر: موسوعة طبقات الفقهاء (المقدمة)، الشيخ السبحاني، ج 2، ص 315)
2- نزهة الناظر في الجمع بين الأشباه والنظائر، تأليف يحيى بن سعيد الحلي: ص 5
3- أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الشهير ب (الزمخشري) صاحب المؤلفات الشهيرة والمصنفات المفيدة أمثال الكشاف في تفسير القرآن والفائق في تفسير الحديث وغيرهما، وكان معتزلياً متظاهراً به، ولد في يوم الأربعاء السابع والعشرين من شهر رجب سنة 467 بزمخشر وتوفي ليلة عرفة سنة 538 بجرجانية خوارزم. (ينظر: وفيات الأعيان: ج 4، ص 254 - 260)

مجراها) الإخلال بالقبائح، وهذا الحد الذي ذكره شامل له.

وأما الشيوخ أصحاب أبي هاشم(1) فإنهم حدوها بأنها: (نهاية الخضوع والتذلل للغير بأفعال ورد بها الشرع موضوعة لها) وهذا الحد الذي ذكره الشيوخ ينتقض بعبادات مخالفي الإسلام، فإنها لا تسمى عبادة في شرعنا وإن اختصت بما ذكروه.

وقد فصل شیخنا السعيد أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي(2) (قدس الله روحه): عبادات الشرع خمس: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج والجهاد(3).

وقال الشيخ أبو جعفر محمد بن علي الطوسي المتأخر(4) (رضي الله عنه) في الوسيلة:

(عبادات الشرع عشر أصناف، أضاف إلى هذه الخمس غسل الجنابة والحيض، والخمس، والاعتکاف، والعمرة، والرباط.

ص: 17


1- عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي، من شيوخ الاعتزال، له آراء تفرد بها، وتبعته فرقة سميت (البهشمية) نسبة إلى كنيته أبي هاشم، له مصنف في الاعتزال، ولد سنة 247 وتوفي سنة 321 ه ببغداد. (ينظر: الأعلام: ج 4، ص 130)
2- شیخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي صاحب التصانيف التي طبقت الآفاق شهرتها أمثال الاستبصار والتهذيب والفهرست والرجال والتبيان في تفسير القرآن وغيرهما، تلمذ على الشيخ المفيد والسيد المرتضى وغيرهما، وكان فضلاء تلامذته الذين كانوا مجتهدين يزيدون على ثلاثمائة من الخاصة والعامة، ولد في شهر رمضان سنة 385 وتوفي في ليلة الثاني والعشرين من شهر محرم سنة 460 ه في النجف الأشرف ودفن في داره هناك. (ينظر: الكنى والألقاب، الشيخ عباس القمي: ج 2، ص 357 - 359)
3- الجمل والعقود: ص 3
4- الشيخ عماد الدين أبو جعفر محمد بن علي بن حمزة الطوسي المشهدي، المشهور ب (ابن حمزة) المدفون بكربلاء، (ت: 560 ه) له كتاب الوسيلة، وكتاب الواسطة، وكتاب الرائع في الشرائع، وكتاب ثاقب المناقب، وغيرها. (ينظر: أمل الآمل، ج 2، ص 285؛ الذريعة: ج 11، ص 66

وقال الشيخ أبو يعلى سلار(1) العبادات ست، أسقط الجهاد من الخمس الأول وأضاف إليها الطهارة والاعتكاف)(2).

وقسم الشهيد الأول (عليه الرحمة والرضوان) (ت: 786 ه) الأحكام الشرعية إلى أقطاب أربعة فكان القطب الأول: العبادات فقال:

(وهو فعل وشبهه مشروط بالقربة، وللجهاد ونحوه غايتان، فمن حيث الامتثال المقتضي للثواب عبادة، ومن حيث الاعزاز وكف الضرار لا يشترط فيه التقرب، وما اشتمل عليه باقي الأقطاب من مسمى العبادة من هذا القبيل.

وأما الكفارات والنذور فمن قبيل العبادات، ودخولها في غيرها تغليباً أو تبعاً للأسباب)(3).

ثالثاً - ما هو تكليف المسلم بالعلم بأجزاء العبادات وشرائطها وموانعها؟

تناول فقهاء الإمامية (عليهم الرحمة والرضوان) مسألة تكليف المسلم بالعلم بأجزاء العبادات وشرائطها وموانعها ومقدماتها، فكانت كالآتي:

1- قال السيد اليزدي (ت: 1337 ه):

ص: 18


1- أبو يعلى سلار بن عبد العزيز الديلمي، ثقة جليل القدر عظيم الشأن فقيه من تلامذة الشيخ المفيد والسيد المرتضى، من تصانيفه المقنع في المذهب؛ والتقريب في أصول الفقه؛ والمراسم في الفقه؛ وغيرها، توفي في شهر صفر (سنة 448 ه) وقيل لست خلون من شهر رمضان (سنة 463 ه). (ينظر: أمل الأمل: ج 2، ص 127)
2- نزهة الناظر في الجمع بين الأشباه والنظائر، تأليف يحيى بن سعيد الحلي: ص 5 - 7
3- ذكرى الشيعة للشهيد الأول: ج 1، ص 58

(يجب على المكلف العلم بأجزاء العبادات وشرائطها وموانعها ومقدماتها، ولو لم يعلمها لكن علم إجمالاً، أن عمله واجد لجميع الأجزاء والشرائط وفاقد للموانع صح وإن لم يعملها تفصيلاً)(1).

ص: 19


1- العروة الوثقی: ج 1، ص 27، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي

2- وقد بسط القول في المسألة شرحاً وبياناً السيد شهاب الدين المرعشي النجفي (ت: 1411 ه:

في تعليقه على قول السيد اليزدي (عليهما الرحمة والرضوان) في العروة الوثقى، في قوله: (يجب على المكلف العلم بأجزاء العبادات وشرائطها وموانعها...)، فقال:

(بوجوب عقلي تعييني حيث لم يتمكن من الاحتياط، أو تخييري حيث تمكن منه من غير فرق بين دخول الوقت وكون التكليف فعلياً أو قبله حيث يعلم الشخص عدم تمكنه من تعلمها بعد دخول الوقت.

وفي قوله (صح) قال:

(بناءً على ما هو المختار من جواز مثل هذا الامتثال مع التمكن من الامتثال التفصيلي وعدم اعتبار غير قصد القرية المتمشي منه من قصد الوجه ونحوه، وكفاية كون العمل منتسباً إلى الباري تعالى شأنه.

إلا أنه أشكل أن التعرف على الواجب اجمالاً أو تفصيلاً بشرائطه وأجزائه وموانعه من المقدمات العلمية للواجب وليست من المقدمات الوجودية له، إذ تجب السنخية بين الشيء ومقدماته الوجودية، ولا سنخية بين العلم ووجود الشيء، فكلّ جاهل غير متمكَّن من الإتيان بشيء فعلًا كان أو قولًا

ص: 20

إلَّا بعد معرفته به، وهذا معنى المقدّمة العلميّة.

ثمّ ممّا يوجب حصول العلم بامتثال واجب هو معرفته بأجزائه وشرائطه وموانعه إمّا تفصيلًا أو إجمالًا، كمن يأتي بالواجب واجداً لجميع ما يعتبر فيه من شرط وجزء وفاقداً لجميع ما يضرّ به، مع عدم معرفة الأجزاء والشرائط والموانع تفصيلاً.

ويصحّ الامتثال الإجمالي إذا كان العمل يستند إلى الله سبحانه، كما يصدق هذا في العمل بالاحتياط فيما يتمكَّن منه.

فالذي يحكم به العقل بوجوبه هو العلم التفصيلي أو الإجمالي.

وإذا كان الواجب مشروطاً أو موقّتاً، وفي وقته وعند تحقّق شرطه لا يتمکَّن لمّا سئل الإمام الصادق فقال (عليه السلام):

«إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال نعم قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال كنت جاهلًا قال له: أفلا تعلَّمت حتّى تعمل؟ فيخصم فتلك الحجّة البالغة»(1).

فيري المجيب أنّ التعلَّم بالخصوص لیس کسائر المقدّمات المفوّتة، فإنّه أمر واجب قبل الوقت في الموقتات و قبل حصول الشرط في الواجبات المشروطة، وذلك لإطلاق الأدلَّة القائمة على وجوبه، و لدلالتها على أنّ ترك الواجب إذا استند إلى ترك التعلَّم استحقّ المكلَّف العقاب عليه سواء أكان ترکه قبل دخول الوقت أو حصول الشرط أم بعدهما، فدلَّنا ذلك على أنّ التعلَّم مأمور به مطلقاً وإن لم يدخل وقت الواجب ولا تحقّق شرطه.. فوجوب التعلَّم طريقي.

ص: 21


1- تفسير البرهان، عن أمالي الشيخ بسند لا بأس به: ج 1، ص 560، البحار: ج 2، ص 29

ثمّ لا فرق في وجوب التعلَّم مقدّمةً بين من يعلم أنّه سيبتلى بالواجب بعد حصول وقته أو شرطه، وبين من يحتمل الابتلاء به في ظرفه، لعدم جریان البراءة العقلية المبنية على (قبح العقاب بلا بیان) بأنّ الشارع تصدّى لبيان أحكامه وجعلها في مورد لو فحص عنها المكلَّف لظفر بها وانتهت وظيفة المولى)(1).

3- قال الشيخ جواد التبريزي (ت: 1427ه):

وممن بسط القول في المسألة من العلماء الشيخ التبريزي (عليه الرحمة والرضوان)، لاسيما في وجوب علم المكلف بأجزاء العبادات وشرائطها و موانعها ومقدماتها، فقال: (ولعل ذکر مقدمات العبادات عطف تفسيري للشرائط والموانع، وإلا فلا نعرف مقدمة تتوقف عليها صحة العمل ولم يكن من الشرائط والموانع الداخل

ص: 22


1- القول الرشيد في الاجتهاد والتقليد، المرعشي: ج 2، ص 128 - 130

فيها عدم القاطع، وكيف كان بما أن المكلف في موارد التكليف بالعبادة عليه الامتثال فلا يفرّق بين الامتثال التفصيلي الحاصل ولو باتباع طريق معتبر في معرفتها وإحراز الإتيان بها والامتثال الإجمالي الحاصل بالاحتياط ولو لم يعلم تفصیلاً أجزاءها وشرائطها وموانعها المعتبرة فيها.

والحاصل إذا أمكن للمكلف الإتيان بالواجب الواقعي بتمام ما يعتبر فيه من غير علمه تفصیلاً بأجزائه وشرائطه وموانعه يكون الامتثال مجزياً كما تقدم في مسألة جواز الاحتياط مع التمكن من الاجتهاد الفعلي أو التقليد بلا فرق بين موارد استلزام الاحتياط التكرار، كما في مورد دوران الصلاة بين القصر والتمام، أم لا، كما في دوران الصلاة بين الأقل کالاكتفاء بقراءة الحمد خاصة في الركعتين الأوليتين، أو الأكثر كلزوم قراءة السورة بعد قراءتها، هذا كله في صورة احراز الامتثال بالإتيان بالواجب الواقعي إما بالتفصيل أو بالإجمال.

وأما تعلم أجزاء العبادة وشرائطها و موانعها فيما لو لم يتعلمها لم يتمكن من الامتثال أو لم يتمكن من إحراز الامتثال فيفرض أحكام في الواجب المشروط والموقت، وإن المكلف لو لم يتعلم الواجب قبل حصول شرط الوجوب أو ادخال الوقت يمكن له التعلم بعد حصول الوجوب بحصول شرطه أو دخول وقته، کما هو الحال فعلاً في واجبات الحج وشرائطه وموانعه، ففي هذا الفرض حيث المكلف يتمكن من المعرفة والامتثال في ظرف التكليف فلا موجب لوجوب التعلم عليه قبل فعله التكليف وقبل حصول الاستطاعة.

وأخرى لو لم يتعلم أجزاء العمل وشرائطه وموانعه لم يتمكن من إحراز الامتثال في ظرف التكليف أو لا يمكن الامتثال له أصلا، كما في الصلاة

ص: 23

حيث لم يكن من أهل اللسان لو لم يتعلم كيفية الصلاة والقراءة وغير ذلك مما يعتبر فيها، قبل دخول وقتها لا يتمكن من الصلاة في وقتها أو لا يتمكن من احراز الامتثال، وفي هاتين الصورتين عليه التعلّم قبل حصول شرط الوجوب ودخول الوقت، وذلك فإن الأخبار الواردة في وجوب التعلّم، وإن الجهل لا يكون عذراً مسوّغاً لترك الواجب وإن المكلف يؤخذ به ولو فيما إذا كان منشؤه ترك التعلّم قبل حصول الشرط ودخول الوقت، بل لا ينحصر وجوب التعلّم فيما إذا كان العلم بابتلائه بذلك الواجب فيما بعد، ويجري فيما إذا احتمل الابتلاء ولم يتمكن بعده من التعلّم وإنه لا يكون جهله في ترکه عذراً فيما إذا انجرّ ترك تعلمه إلى مخالفة التكليف باتفاق الابتلاء. فإنه يقال المستفاد من اخبار وجوب التعلّم إن القدرة على الاتيان بالواجب من ناحية التعلّم شرط لاستيفاء الملاك الملزم، ولا يكون تركه حتى مع عدم القدرة عليه وعدم التكليف به خطاباً بعد حصول شرط وجوبه عذراً إذا كان العجز ناشئاً من ترك التعلم سواء كان ترکه محرزاً أو محتملاً، وأنّه لا مجال للأُصول النافية في هذه الموارد أو دعوى جواز الاكتفاء بالموافقة الاحتماليّة فيما إذا كان بعد حصول شرط الوجوب لم يتمكّن إلاّ منها.

لا مجال للاستصحاب لإحراز عدم الابتلاء بالواقعة التي ترك تعلّم حكمها لا يقال:

إذا لم يجب على المكلّف التعلّم بالإضافة إلى الوقائع التي يعلم بعدم ابتلائه بها ولو مستقبلاً فيمكن له إحراز عدم الابتلاء عند الشك بالاستصحاب، حيث يتمسّك به ويحرز عدم ابتلائه ولو مستقبلاً فينتفي الموضوع لوجوب التعلم، والاستصحاب کما يجري في أمر يكون نفس ذلك الأمر موضوع

ص: 24

الحكم أو نفيه كذلك يجري فيما إذا كان إحراز ذلك الأمر هو الموضوع للحكم، فيثبت أو ينفى على ما تقدّم من قيام الاستصحاب مقام العلم المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقيّة والكشف لا بنحو الوصف والصفتية، وأيضاً تقدّم في بحث الاستصحاب أنّه كما يجري في الأُمور الماضيّة كذلك يجري في الأُمور الاستقباليّة، فلا وجه لما يقال بعدم جریان الاستصحاب في الابتلاء وعدمه لعدم كونه حكماً ولا موضوعاً له.

فإنّه يقال:

قد تقدّم أنّ وجوب التعلّم حكم طريقي قد جعل لإسقاط الجهل بالحكم التكليفي والوضعي وغيره من العذريّة في مخالفة التكليف - سواء كان للجهل بالحكم أو المتعلّق - وعليه فعدم وجوب التعلّم في موارد العلم الوجدانيّ بعدم الابتلاء لكون التعلّم الواجب النفسيّ الطريقّ على كلّ مکلّف لغواً بالإضافة إلى موارد علمه بعدم الابتلاء، لا لأنّ لخطابات وجوب التعلّم الطريقّ ورد تقیید خارجيّ بعدم وجوبه في موارد عدم ابتلائه، ليتوهّم أنّ الاستصحاب في عدم الابتلاء مستقبلاً عند الشكّ محرز لذلك القيد، والاستصحاب بعدم الابتلاء مستقبلاً لا يثبت اللغويّة مع إطلاق خطابات وجوب التعلّم وشمولها لموارد إحراز الابتلاء واحتماله.

وعلى الجملة بمجرّد الاحتمال يحرز موضوع وجوب التعلّم، والاستصحاب إنما یکون تعبّداً بالعلم فيما إذا لم يعلم الحكم الواقعيّ في الواقعة ولو كان المعلوم حکماً طريقيّاً واقعيّاً)(1).

ص: 25


1- تنقیح مباني العروة كتاب الاجتهاد والتقليد، للميرزا جواد التبريزي: ص 75 - 78

ص: 26

المبحث الثاني: ما يجوز قصده من غايات النية وما يستحب اختياره منها

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام):

«إِنَّ قَوماً عَبَدُوا الله رَغبَةً فَتِلكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ، وإِنَّ قَوماً عَبَدُوا الله رَهبَةً فَتِلكَ عِبَادَةُ العَبِيدِ، وإِنَّ قَوماً عَبَدُوا الله شُكراً فَتِلكَ عِبَادَةُ الأَحرَارِ»(1).

يشغل عنوان (النيّة) حيزاً كبيراً في كتب الفقهاء في المدارس الإسلامية الفقهية وذلك لارتباطه في القصدية من جهة، ومن جهة اخرى لدخوله في كثير من المسائل الشرعية.

وعليه: احتاج العنوان؛ أي النية، إلى البسط في الدراسة وعلى النحو الآتي:

المسألة الأولى: معنى النية في اللغة وعند الفقهاء.

أولاً - النية لغة:

جاءت مفردة النية في كتب أهل اللغة مشتقة من (نوی) (وهي: النُّية، ومعناها القصد لبلدٍ غير البلد الذي انت فيه مقيم.

وفلان يَنوي وجه كذا أي يقصده من سفر أو عمل.

ص: 27


1- نهج البلاغة، الحكمة (228) بتحقيق الشيخ قيس العطار، ص 754 طبع العتبة العلوية المقدسة؛ وبتحقيق صبحي الصالح: الحكمة 237، ص 510

والنوى: الوجه الذي تقصده)(1).

وقيل: (النوى: التحول من دار إلى دار اخرى، كما كانوا ينتؤون منزلاً بعد منزل.

والفعل: الانتواء، والمصدر: النية.

والنية: ما ينوي الإنسان بقلبه من خير او شر، والنوى والنية واحد وهي النية مخففة ومعناها: القصد)(2).

ثانياً - معنى النية عند الفقهاء:

ألف - معنى النية عند فقهاء المذهب الامامي.

1- قال الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) (ت: 381 ه):

ص: 28


1- لسان العرب لابن منظور: ج 15، ص 348
2- العين للفراهيدي: ج 8، ص 394

(كل عمل من الطاعات إذا عمله العبد لم يرد به إلا الله عز وجل فهو عمل بنية، وكل عمل عمله العبد من الطاعات إذا یرید به غير الله فهو عمل بغير نية وهو غير مقبول)(1).

2- قال الشيخ الطبرسي (عليه الرحمة والرضوان) (ت: 548 ه):

ص: 29


1- الهداية: ص 65

(النية هي الإرادة التي تؤثر على وقوع الفعل على وجه دون وجه وبها يقع الفعل عادة وإنما سميت نية لمقارنتها الفعل وحلولها في القلب)(1).

3- قال السيد اليزدي (عليه الرحمة والرضوان في العروة:

(النية هي القصد إلى الفعل، مع كون الداعي أمر الله تعالى، أما لأنه تعالى أهل للطاعة وهو أعلى الوجوه، أو لدخول الجنة والفرار من النار وهو أدناها، وما بينهما متوسطات)(2).

4- وقد علّق السيد محسن الحكيم(3) (عليه الرحمة والرضوان) على هذا

ص: 30


1- المؤتلف من المختلف بين أئمة السلف: ج 1، ص 101
2- العروة الوثقی: ج 1، ص 428
3- السيد محسن الحكيم ابن العلّامة السيّد مهدي الحكيم، ولد في سنة 1306 ه ق، درس عند اساتذة كبار کالسیّد محمّد کاظم اليزدي، الملّا محمّد کاظم الخراساني، السيّد أبو تراب الخوانساري، الميرزا حسين النائيني وآقا ضیاء الدين العراقي، وقد أصبح السيد الحكيم من مراجع الشيعة المشهورين بعد وفاة آية الله العظمى السيد البروجردي، وتوفي في 27 ربيع الاوّل من سنة 1390 ه ق، وخلّف 25 كتاباً في الفقه والأُصول، وأهمها كتاب (مستمسك العروة الوثقى)، أما عن خصوصياته وسماته الأخلاقية فقد ذكروا: (كان السيد في غاية اللطافة والأدب في مجلسه حيث كان يتحدث مع الناس بمنتهى المحبّ واللطف وفي نفس الوقت كان يتمتع بهيبة خاصة، وكذلك كان يسعى دائماً أن تكون حركاته وسكناته وأعماله وفقاً للآداب والتعليم الإسلامية، ولهذا كان يتحلى بروح كبيرة وأخلاق طيبة وملكات فاضلة. ومع هذه الروح الكبيرة والشخصية القوية التي كان يتمتع بها فإنّه كان في نفس الوقت متواضعاً جدّاً بحيث لم يشاهد على حركاته أي أثر للكبر والتكبر بل كانت ترتسم على فمه ابتسامة جميلة دائماً). (من سيرة آية الله العظمى الحكيم، ص 40)

النص بعدّة من التوضيحات والبيان فقال:

أ - معنى القصد: الإرادة.

(المراد من القصد الإرادة، كما فسرت النية بها في أكثر محكي عبارات الاصحاب، بل في محكي رسالة الفخر: أنه عرفها المتكلمون بانها إرادة من الفاعل للفعل، وعرفها الفقهاء بأنها إرادة اتحاد الفعل المطلوب شرعاً على وجهه ونحوه ما عن التنقيح، وفي محكي حواشي الشهيد: أنها عند المتكلمين إرادة بالقلب يقصد بها إلى الفعل، وعند الفقهاء إرادة الفعل، وعن شرح المفاتيح إنها الباعثة على العمل المنبعثة عن العلم.

لفظ ونحوه ما عن العلامة الطباطبائي (رحمه الله) وإن كان الظاهر من القصد أنه غير الإرادة، وأنه السعي نحو الشيء.

ولذا يتعلق بالإيمان الخارجية، فنقول: قصدت زيداً، ولا نقول أردت زيداً، إلا على معنى أردت الوصول إليه بنحو من العناية.

لكن من المعلوم أن المراد منه في المقام هو الإرادة كما يستعمل فيها عرفاً كثيراً)(1).

ص: 31


1- مستمسك العروة: السيد محسن الحكيم: ج 2، هامش ص 461

ب - إن الداعي إلى الفعل هو أمر الله تعالى:

(بمعنى أنه لا يترتب عليه الأثر إلا إذا جاء به العبد بعنوان العبادة، ولا ينبغي التأمل في أنه يعتبر في تحقق العنوان المذكور كون الاتيان بالفعل عن داعي أمر المولى، بمعنى كون أمر المولى هو الموجب لترجيح وجود الفعل على عدمه في نظر العبد، الموجب ذلك لتعلق إرادته به.

هذا ولأجل أن مجرد كون الفعل مأمورا به لا يوجب رجحانه في نظر العبد ذاتا، وإنما يوجب رجحانه عرضا بلحاظ عناوين أخر، تعرض المصنف (رحمه الله) كغيره لتلك العناوين (فمنها): كون الفعل حقا من حقوق المولى، فيفعله أداء لحقه (ومنها): كونه شكرا له على نعمه (ومنها) كونه موجبا للرفعة عنده والقرب منه. وظاهر بعض رجوعه إلى ما بعده، فيشكل الاكتفاء به عند من استشكل في الاكتفاء بما بعده.

لكنه غير ظاهر (ومنها): كونه موجبا للتقصي عن البعد عنه (ومنها): كونه موجبا لحصول الثواب الأخروي (ومنها): كونه موجبا للأمن من العقاب كذلك. (ومنها): كونه موجبا للثواب الدنيوي (ومنها): كونه موجبا للأمن من العقاب كذلك.

هذا وظاهر غير واحد كون الدواعي المذكورة في عرض قصد الامتثال، لأنهم ذكروا للقربة المعتبرة في العبادة معاني، أحدها، قصد الامتثال، والباقي الدواعي المذكورة، فتكون ملحوظة للفاعل دواعي له على فعله، في قبال قصد الامتثال وفي عرضه. ولكنه في غير محله، إذ الظاهر أن تلك الدواعي إنما تلحظ في طول قصد الامتثال ودواعي إليه - كما ذكر في المتن - لأنها إنما تترتب عليه، ولا تترتب على ذات الفعل.

ص: 32

نعم لو ثبت أن من الأفعال ما هو عبادة بذاته أمكن أن تكون الأمور المذكورة دواعي إليه من دون توسط قصد الامتثال. لكن المحقق في محله هو العدم.

ثم إن هناك دواعي أخر ذكرها بعض الأصحاب، ويمكن تصور غيرها مما لم يذكر، وتختلف داعويتها باختلاف النفوس في رغباتها وملاذها فتدبر. ثم إن تسمية الدواعي المذكورة في كلماتهم بالغايات لا تخلو من مسامحة في بعضها، حيث أنه لا يترتب على الفعل العبادي، وإنما هو عنوان فيه مرغب إليه. فتأمل جيدا)(1).

باء - معنى النية عند فقهاء المذاهب الأخرى.

ل - المذهب الزيدي:

وقال فقهاء الزيدية في تعريف النية:

(هي القصد والارادة الموجودان في قلب المكلف)(2).

ب - المذهب الشافعي:

وعرفها الشافعي: (عزم القلب على عمل فرض أو غيره)(3).

ج - المذهب الإباضي:

عرفها فقهاء المذهب الإباضي، بقوله:

(هي قصد شيء مقترن بفعله، فإذا قصد وتراخى عنه عزم.

ص: 33


1- مستمسك العروة: السيد محسن الحكيم: ج 2، هامش ص 461 - 462
2- شرح الازهار لأحمد المرتضى: ج 1، ص 82
3- المجموع النووي: ج 1، ص 3

وشرعت النية لتمييز العبادات من العادات كالجلوس يكون للاعتكاف تارة وللاستراحة أخرى، ولتمييز مراتب العبادات كالصلاة تكون للفرض تارة وللنفل أخرى)(1).

المسألة الثانية: النية بين القلب واللسان.

تناول الفقهاء علاقة القلب واللسان بالنية، وأثر النية في العبادة واشتراط القرب في الامتثال والعمل، لا سيما في الأوامر العبادية بنحو خاص، وتباين بعض الآراء في المدارس الفقهية الإسلامية.

أولاً - أقوال فقهاء الإمامية:

تزخر كتب علماء الإمامية الفقهية في عنوان (النية) وبما ارتبط بها من احکام ومسائل، وقد أوردنا جزءً يسيراً مما ورد في كتبهم (أعلى الله مقامهم) وبما أختص بعنوان المسألة، فكان منها:

1- قال الشيخ الطوسي (عليه الرحمة والرضوان) (ت: 460 ه):

(محل النية القلب دون اللسان، ولا يستحب الجمع بينهما)(2).

2- المحقق الحلى (عليه الرحمة والرضوان) (ت: 676 ه):

ص: 34


1- کتاب الایضاح للشاخي: ج 1، ص 50
2- الخلاف: ج 1، ص 309

قال (رحمه الله) (في وجوب النية في الصلاة مستدلاً بذلك لقوله تعالى:

«وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ..»(1).

ولا يتحقق الإخلاص من دون النية، ولأنها يمكن أن تقع على وجه غير مراده لا يختص بمراد الشارع إلا بالنية، وما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

«إنما الأعمال بالنيات»(2).

وما روي عن الرضا (عليه السلام)، أنه قال:

«لا عمل إلا بالنية»(3).

ص: 35


1- البينة: 5
2- الوسائل: ج 4، أبواب النية، باب 1، ح 4
3- المصدر السابق نفسه، أبواب النية، باب 1، ح 1

والإخلاص هو نية التقرب، ومحلها القلب، ولا اعتبار فيها باللسان، ولا يحتاج إلى تكلفها لفظاً أصلاً)(1).

وعرّفها (رحمه الله) في الشرائع فقال:

(النية: وهي إرادة تفعل بالقلب، وكيفيتها أن ينوي الوجوب أو الندب، والقربة)(2).

3- قال الشهيد الأول (عليه الرحمة والرضوان) (ت: 786 ه) في الذكرى:

(محل النية القلب، لأنها إرادة ولا يستحب الجمع عندنا بينه وبين القول للأصل، ولعدم ذكر السلف إياه؛ وصار إليه بعض الأصحاب، لأن اللفظ أشد عوناً على اخلاص القصد، وفيه منع ظاهر)(3).

4- قال السيد اليزدي (عليه الرحمة والرضوان) (ت: 1337 ه):

(ولا يلزم التلفظ بالنية، بل ولا إخطارها بالبال، بل يكفي وجود الداعي القلب بحيث لو سُئِل عن شغله يقول أتوضأ مثلاً، وأما لو كان غافلاً

ص: 36


1- المعتبر: ج 2، ص 149
2- شرائع الإسلام: ج 1، ص 15
3- ذكرى الشيعة، الشهيد الأول: ج 2، ص 106

بحيث لو سُئِل بقي متحيراً فلا يكفي، وإن كان مسبوقاً بالعزم، والقصد حين المقدمات)(1).

ه- قال السيد محسن الحكيم (عليه الرحمة والرضوان) (ت: 1290 ه) في تعليقته على العروة الوثقى:

(ولا يلزم التلفظ بالنية إتفاقاً، بل ولا يستحب، كما هو صريح جماعة، بل ظاهر محكي الذكرى الاجماع عليه، لعدم الدليل عليه والشرع خال منه.

وعن التبيان في الصلاة: الاقرب أنه مكروه؛ وفيه نظر كما عن المقداد.

بل ولا اخطارها بالبال كما نسب إلى المشهور، حيث حكي عنهم أن النية المعتبرة في العبادات هي الإرادة التفصيلية المتعلقة المخطرة؛ ولا دليل لهم ظاهراً عليه، إذ الثابت بالإجماع كون الوضوء عبادة، ومن المعلوم من بناء العقلاء أنه يكفي في تحقق العبادة كون الفعل اختيارياً صادراً عن إرادة الفاعل بداعي تعلق الأمر به، وهذا كما يكون بالإرادة التفصيلية القائمة بالصورة المخطرة يكون بالإرادة الارتكازية أيضاً؛ ويشهد به اكتفاؤهم بمقارنة الإرادة التفصيلية المذكورة لأول الفعل وإن زالت في الأثناء إذا حصلت الإرادة الارتكازية وبقيت إلى آخره، مع أن من المعلوم ان عنوان العبادة كما يكون لأول الفعل يكون لآخره، فإذا كان يكفي في عبادية الأخير العبادة الارتكازية التي ذكرناها فلم لا تكفي لأوله؟

ومن ذلك يظهر أن المراد من أخطار النية في عبارة المتن: أخطار المنوي تفصيلاً، فالعبارة لا تخلو من مساحة.

ص: 37


1- العروة الوثقى، السيد اليزدي: ج 1، ص 429

بل يكفي وجود الداعي في القلب، يعني: تلك الإرادة الارتكازية الباقية ببقاء الداعي الارتكازي التي كان حدوثها ناشئاً عن خطور الداعي.

بحيث هو سُئِل عن شغله يقول: أتوضأ مثلاً؛ وأما لو كان غافلاً بحيث لو سُئِل بقي متحيراً فلا يكفي؛ لأن ذلك كاشف عن الإرادة المذكورة، ولو كانت موجودة امتنع الجهل بها، لأنها من الأمور الوجدانية التي يعلم بها بمجرد الالتفات إليها، نعم لو كان التحير ناشئاً عن قسر النفس عن الالتفات إلى ما فيها لبعض العوارض - كما قد يتفق - لم يكن ذلك قادحاً في صحة الوضوء إذا أحرز الفاعل بعد تحقق الالتفات منه كون فعله لأجل الداعي الصحيح)(1).

ثانياً - أقوال فقهاء المذاهب الأخرى.

أ - المذهب الزيدي.

وقد ذهب فقهائهم إلى أنها: (القصد والإرادة الموجودات في قلب المكلف، لا مجرد اللفظ، ولا مجرد الاعتقاد والعلم)(2).

ب - المذهب الإباضي.

قال الشماخي(3):

ص: 38


1- مستمسك العروة الوثقی: ج 2، ص 464 - 465
2- شرح الازهار لأحمد المرتضى: ج 1، ص 82
3- أبو ساكن عامر بن علي بن عامر بن سيفاو الشماخي من أعلام القرن السابع الهجري في المغرب العربي والإسلامي، وكلمة (سيفاو) كلمة بربرية، ومعناها: المنير أو المضيء. وكلمة (الشماخي) نسبة الى جبل شماخ، وهو ربوة مرتفعة تقع في أرض الريانية وكان الشماخي الفتوى والراي في جبل نفوسة، وكان الناس في كافة الجبل يرجعون إليه ويعتبرونه بمقام الإمام؛ ويعد كتابه (الإيضاح) من أمهات الكتب الفقهية عند الإباضية في المغرب الاسلامي من ليبيا الى مراكش ويرونه أهم المراجع، ويعطيه كثير من علمائهم الدرجة الثانية بعد ديوان الأشياخ. أما في عمان وزنجبار سابقاً فرغم كثرة الكتب المؤلفة في مادته عندهم فإنهم يضعونه في المرتبة الاولى من كتب المغرب الاسلامي؛ ينظر (كتاب الايضاح، المقدمة الطبعة الخامسة 2005 م عمان

(النية: هي القصد للشيء المأمور به باعتقاد من القلب والعزيمة عليه بالجوارح، ويلزمها تميز العبادة عن غيرها، ومحلها القلب عند أكثر المتشرعة، وأقل الفلاسفة لأنه محل الفعل والعلم والإرادة والميل والاعتقاد(1).

ج - المذهب الحنفي والمالكي والحنبلي.

وأتفق فقهاء المذاهب الثلاثة (الحنفي والمالكي والحنبلي) على أن محل النية (القلب دون اللسان) ولم يقع خلاف بينهم في ذلك سوى المذهب الشافعي، فقد أضافوا اللفظ إلى النية استحباباً؛ وفي قول آخر قالوا: بالوجوب.

وفي ذلك يقول الشيخ الطوسي (قدس سره):

(قال أكثر اصحاب الشافعي: أن محلها القلب، ويستحب أن يضاف الى ذلك اللفظ، وقال بعض أصحابه: يجب التلفظ بها، وخطّأه أكثر اصحابه)(2).

في حين حاول ابن تيمية أن يرفع وقوع الخلاف في المسألة فادعى خاطئاً ودون دراية في الفقه، الاجماع في المسألة، فقال:

(محل النية القلب دون اللسان، باتفاق ائمة المسلمين في جميع العبادات: الصلاة والطهارة والزكاة والحج والصيام والعتق والجهاد وغير ذلك)(3).

ص: 39


1- کتاب الایضاح: ج 1، ص 51
2- الخلاف للطوسي: ج 1، ص 308
3- الفتاوى الكبرى: ج 2، ص 87

في حين أقر علماء الشافعية بخلاف ذلك، فقد ذهب الحافظ النووي، والخطيب الشربيني، إلى استحباب إقران القلب باللسان في النية، بل

ص: 40

بوجوب التلفظ بالنية على قول، وهذا نص قولهما:

قال الحافظ النووي (ت: 676 ه) نقلاً عن أبي عبد الله الزبيري:

أنه لا يجزئه حتى يجمع بين نية القلب وتلفظ اللسان لأن الشافعي قال في الحج: (إذا نوى حجاً أو عمرة أجزأ، وإن لم يتلفظ وليس كالصلاة لا تصح إلا بالنطق) قال أصحابنا غلط هذا القائل وليس مراد الشافعي بالنطق في الصلاة هذا بل مراده التكبير)(1).

أقول:

من أين علم النووي أن هذا مراد الشافعي مع عدم وجود قرينة تدل على ذلك.

ص: 41


1- المجموع: ج 3، ص 277

وعليه:

فقد أراد بذلك رفع الخطأ في الحكم عن الشافعي فنسبه إلى أبي عبد الله الزبيري(1)، ومما يدل عليه قول الحافظ الشربيني (ت: 977 ه) في مغني المحتاج قائلاً:

(ويندب النطق بالمنوي قبل التكبير ليساعد اللسان القلب ولأنه أبعد عن الوسواس، قال الأذرعي(2): لا دليل للندب، وهو ممنوع؛ بل قيل بوجوب

ص: 42


1- الزبير بن أحمد بن سليمان بن عبد الله القرشي الاسديّ، أبو عبد الله الزبيريّ، البصري، الفقيه الشافعي. قدم بغداد، وحدّث بها عن: داود بن سليمان المؤدّب، و محمد بن سنان القزّاز، وإبراهيم بن الوليد الجشّاش، ونحوهم. روى عنه: محمد بن الحسن بن زياد النقّاش وتلا عليه القرآن، وعمر بن بشران السكري، وعلي بن هارون السمسار، ومحمد بن عبد الله بن بخيت الدقّاق وغيرهم. وكان عارفاً بالأدب و الأَنساب والقراءات تفقّه به طائفة؛ وصنّف كتباً في الفقه وغيره، منها: الكافي، المُسکِت، النيّة، ستر العورة، الهداية، الإمارة، وغير ذلك. ومن اختياراته في الفقه أنّه: لا فرق في عدم اعتباره إقراراً ممّن ادعي عليه بدراهم، بين قوله: (أتَزِنُ؟) وبين قوله: (أَتَزِنُها؟). توفّي سنة - سبع عشرة وثلاثمائة، وقيل: - عشرين، وصلَّى عليه ابنه أبو عاصم. (ينظر: موسوعات طبقات الفقهاء: ج 4، ص 199)
2- ابن عطاء عبد الله بن محمد بن عطاء بن حسن، شمس الدين أبو محمد الاذرعي، قاضي قضاة دمشق ولد سنة خمس وتسعين وخمسمائة وسمع من ابن طَبَرزَد وغيره، وتفقّه على مذهب أبي حنيفة وحدّث، ودرَّس بالمدرسة المرشدية، وأفتى سمع منه: شمس الدين الحريري، وابن جماعة، وأجاز للبرزالي وتولَّى القضاء نيابة عن قاضي القضاة أحمد بن سني الدولة الشافعي، ثم استقلّ بالقضاء. قيل: وهو أوّل من ولي قضاء الحنفية مستقلًا بدمشق توفّي سنة ثلاث وسبعين وستمائة (ينظر: موسوعة طبقات الفقهاء، اللجنة العلمية في مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)، ج 7 ص 143)

التلفظ بالنية في كل عبادة)(1).

وبه يتضح زیف قول ابن تيمية في اتفاق ائمة المذاهب في المسألة.

أما الصحيح في المسألة ما أفاد به الشيخ الطوسي رضوان الله عليه في أن محل النية القلب دون اللسان، ولا يستحب الجمع بينهما، أي بين القلب واللسان وقد أورد الدليل بذلك فقال:

(دليلنا: هو أن النية هي الإرادة التي تؤثر في وقوع الفعل على وجه دون وجه، وبها يقع الفعل عبادة وواقعاً موقع الوجوب أو الندب وإنما سميت نية لمقارنتها للفعل وحلولها في القلب، ولأجل ذلك سميت إرادة الله نية لأنها لا تحل في القلب.

وإذا ثبت ما قلناه فمن أوجب التلفظ بها، أو استحب ذلك فعليه الدليل، والشرع خال من ذلك)(2).

المسألة الثالثة: القصد إلى عبادة الله وأثره في اختلاف مراتب العبادة.

إن تتبع الروايات الشريفة وما ورد فيها من شروحات وبيان لدى العلماء والمفكرين يكشف عن أن القصد هو السبب الأساس الذي كان وراء اختلاف مراتب العبادة لله تعالى.

والحديث الشريف المروي في نهج البلاغة - موضع البحث والدراسة - يرشد إلى بيان أثر القصد، أي الداعي إلى عبادة الله في اختلاف مراتب عبادته عز وجل عند الناس، فكان القصد أو الداعي على النحو الآتي:

ص: 43


1- مغني المحتاج: ج 1، ص 150
2- الخلاف للشيخ الطوسي: ج 1، ص 308

أولاً - لأنه تعالى أهل للعبادة:

1- قال الشيخ مرتضى الأنصاري (عليه الرحمة والرضوان) (ت: 1281 ه).

في بيانه لمراتب العبادة وأثر القصد فيها فجعل (القربة) في المرتبة الأولى، فقال:

(هي أعلى الغايات وأشرفها لمن يطع الله لتحصيل الفوائد والغايات، وإلَّا فالإنسان الكامل لا يقصد بطاعته القربة من حيث إنّها فائدة عائدة إليه، بل الباعث له أهلية المطاع للإطاعة، فيريد التقرّب إليه لأنّه محبوب عنده، فلا داعي له على الفعل إلَّا القيام بما يستحقّه المطاع من حيث ذاته لا من حيث إحسانه إليه.

ص: 44

ودونه: من يقصد بطاعته أداء بعض ما يستحقّه الله عليه من الشكر، ولا

ص: 45

يقصد بها عود فائدة إليه، ولو أراد من شكره مزيد النعم أو دوام الموجود خرج عن غاية الشكر.

ودونه: من يقصد مجرّد الرفعة والتقرّب عنده فلا شيء أحبّ إليه منه، وهذا أوّل مراتب الطالبين بإطاعتهم تحصيل الفوائد لأنفسهم.

ودونه: من يطلب بطاعته التفضي عن البعد من الله.

وهاتان الفائدتان حاصلتان من الإعراض عن الجزاء.

ودونهما: من يطلب ما يبذل على العمل)(1).

2- قال السيد محسن الحكيم (عليه الرحمة والرضوان):

في المستمسك في كون الداعي أنه أهلاً للعبادة:

(لخلوه عن الطمع فيما يرجع نفعه إليه، کما حكي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال:

«ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك».

لكن في نهج البلاغة أنه (عليه السلام) قال:

«إن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار».

وفي رواية هارون بن خارجة:

ص: 46


1- كتاب الطهارة، مرتضى الأنصاري: ج 2، ص 44 - 45

«العبادة ثلاثة، قوم عبدوا الله عز وجل خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء، وقوماً عبدوا الله عز وجل حباً له فتلك عبادة الاحرار».

والظاهر أن العبادة للحب أعلى من العبادة لكونه أهلاً.

ولعل ما حكي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) راجع إليه، على أنه غير مروي في طرقنا، نعم رواه جماعة من المتأخرين - ومنهم الشهيد في الذكرى - وكأنه من روايات العامة، كما ذكر الحر العاملي (رحمه الله) في حاشية الوسائل والامر سهل )(1).

ثانياً - (رجاء للثواب وخوفاً من العقاب) وحكم من جاء بالعبادة على هذه النية.

ذهب علماء الإمامية (أعلى الله مقامهم) إلى فساد العبادة بقصد الثواب والعقاب وانحصار النية فيهما وقد جاءت اقوالهم في ذلك على النحو الآتي:

1- قال العلامة الحلي (عليه الرحمة والرضوان) (ت: 726 ه):

في جوابه للسائل عن سبب حکمه ببطلان العبادة بهذه النية فقال:

(اتفقت العدلية على أن من فعل فعلاً لطلب الثواب أو لخوف العقاب فإنه لا يستحق بذلك ثواباً والاصل فيه أن من فعل فعلاً ليجلب نفعاً أو يدفع عنه ضرراً به فإنه لا يستحق به المدح على ذلك ولا يسمى من أفاد غيره شيئاً ليستعيض عن فعله جواداً، فكذا فاعل الطاعة لأجل الثواب أو الدفع العقاب.

ص: 47


1- مستمسك العروة الوثقی: ج 2، ص 462

والآيتان لا ينفيان لما قلناه، لأن قوله تعالى:

«لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ» لا يتقضى أن يكون غرضهم بفعلهم مثل هذا، وكذا فيقوله تعالى: «فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ»، لعدم دلالتهما عليها)(1).

2- قال الشهيد الأول(2) (عليه الرحمة والرضوان) (ت: 786 ه):

وسیمر کلامه مفصلاً في المسألة القادمة: (وأما غاية الثواب والعقاب فقد قطع الأصحاب بكون العبادة فاسدة بقصدها)(3).

3- قال الشيخ مرتضى الأنصاري (عليه الرحمة والرضوان) (ت: 1281 ه):

في بيان مراتب العبادة فجعل هذه النية هي أدنى المراتب قائلاً:

(ما يقصد بها التقرب لدخول الجنة: لأن في تركها البعد الموجب لدخول النار، وحيث أن التقرب في الصورتين الأخيرتين غير مقصود لذاته بل لأجل التوصل إلى الملاذ النفسانية، أو دفع المنافرات، قيل بعدم صحة العبادة فيهما)(4).

ص: 48


1- اجوبة المسائل المهنائية: ص 89
2- محمد بن مکی بن أحمد بن حامد العاملي، الجزيني، الشيعي (الشهيد السعيد، شمس الدين، أبو عبد الله). فقيه، أصولي، مجتهد، مشارك في العلوم العقلية والنقلية. سکن جزين بلبنان، ورحل إلى العراق والحجاز ومصر ودمشق وفلسطين، وأخذ عن علمائها، واتهم في أيام السلطان برقوق بانحلال العقيدة، فسجن في قلعة دمشق، ثم ضربت عنقه في 9 جمادى الأولى فلقب بالشهيد الأول. من تصانيفه: جامع العين من فوائد الشرحين أي شروح تهذیب الاصول، البيان في الفقه، كتاب القواعد، الدروس الشرعية في فقه الامامية، وغاية المراد في شرح نكت الارشاد. (معجم المؤلفين: ج 12 ص 48)
3- القواعد والفوائد: ج 1 ص 77
4- كتاب الطهارة: ج 2 ص 44

4- قال السيد عبد الأعلى السبزواري(1) (عليه الرحمة والرضوان)

في بيان قول أمير المؤمنين (عليه السلام):

«إن قوماً عبدوا الله رغبة تلك عبادة التجار..».

ص: 49


1- من أكابر علماء الشيعة الإمامية في النجف الأشرف. ولادته: ولد قدّس سرّه في مدينة سبزوار من أعمال خراسان، وترعرع في بيت العلم والتقى، ودرس فيها علوم الحوزة المعروفة بالمقدمات، ثم انتقل منها إلى مشهد الامام الرضا عليه السلام ودرس بها السطوح، ثم هاجر إلى النجف الأشرف وتخرج فيها على أعلام الفقه والأصول، كان قدّس سرّه يرى أنّ في علم الأصول من البحوث النظرية ما يشوّش على طالب العلم معرفة النتيجة، فاقتصر في دروسه على البحوث التي لها تطبيق مباشر في الفقه، وكان قدّس سرّه يواظب على أوقات الدرس بدقة متناهية، وكان يحاضر في مسجد قريب من مسكنه، وكان يعتمد في أسلوب التدريس على الإيجاز ويبتعد عن التفصيل والتطويل ويستخدم الألفاظ السهلة، انتقلت إليه المرجعية بعد وفاة السيد الخوئي قدّس سرّه. وبعد أن خدم العلم وأهله طول حياته مثابرا لا تأخذه في الله لومة لائم. وفاته: لبّى نداء ربه في يوم السبت الخامس والعشرين من شهر صفر 1414 ه، وأودع جثمانه الشريف في جوار جده أمير المؤمنين عليه السلام بالنجف الأشرف. آثاره: 1- تهذيب الأصول: طبع في مجلدين في بيروت، سنة 1406 ه - 1985 م. 2- جامع الأحكام الشرعية: وهي رسالة عملية فتوائيّة لعمل مقلَّدیه، تحتوي على جميع أبواب الفقه، طبعت في بيروت سنة 1413 ه - 1992 م. 3- الصلاة من المحجة العظمی (شرح العروة): وهو تقریرات دروسه في الفقه طبع في مطبعة النعمان - النجف، سنة 1382 ه. 4- مهذّب الأحكام في بيان الحلال والحرام: وهو دورة استدلالية كاملة تشتمل على جميع أبواب الفقه، طبع في النجف الأشرف سنة 1395 ه وخرج منه 28 مجلدا. 5- مواهب الرحمن في تفسير القرآن: طبع منه سبع مجلدات في النجف الأشرف، سنة (1404 ه - 1982 م). (ينظر: فهرس التراث / محمد حسين الحسيني الجلالي / ج 2 ص 666)

أنه قال:

(ومقتضى سهولة الشريعة المقدسة في هذا الأمر العام البلوى لسواد الناس هو الوجوه أو لدخول الجنة، والفرار من النار - وهو أدناها وما، وقوله تعالى:

«وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ»(1).

وقوله (صلَّى الله عليه وآله):

«إنّما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى»(2).

وقوله (صلَّى الله عليه وآله):

«لا عمل إلا بالنية»(3).

والكل مردود:

أما الآية الأولى، فلأنّ الإطاعة أعم من العبادة، كما هو معلوم، وأما الثانية فلأنّها في مقام البعث إلى توحيد المعبود ونفي الشرك في العبادة، ولا ربط لها بأنّ كل واجب تعبدي.

وأما الخبر الأول فإنّما هو في مقام بيان أنّ من نوى في عمله القربة يثاب عليه، ومن نوى غيرها فله ما نوي.

راجع بقية الخبر في الوسائل(4). وأما الخبر الأخير ونحوه من الأخبار فهو في مقام بيان أنّ حسن الجزاء يدور مدار حسن النية، لا أنّ قصد التقرب

ص: 50


1- البينة: 5
2- الوسائل باب: 5 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 10
3- الوسائل باب: 5 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 9
4- الوسائل باب: 5 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 10

معتبر في كل واجب.

وإلا لزم تخصيص الأكثر، كما هو معلوم.

لخلوّه عن شوائب التعويض، وهو من عبادة أولياء الله المقرّبين، وعبّر عنه في الحديث بعبادة الكرام تارة، والأحرار أخرى(1).

5- قال السيد اليزدي (عليه الرحمة والرضوان):

قال في العروة الوثقى وقد حدد العبادة بخمسة أوجه فقال: (أحدها وهو اعلاها أن يقصد امتثال أمر الله لأنه تعالى أهل للعبادة والطاعة وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام):

«إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك».

الثاني: أن يقصد شکر نعمه التي لا تحصى.

الثالث: أن يقصد به تحصیل رضاه والفرار من سخطه.

الرابع: أن يقصد به حصول القربة إليه

الخامس: أن يقصد به الثواب ورفع العقاب، بأن یکون الداعي إلى امتثال أمره رجاء ثوابه وتخليصه من النار، وأما إذا كان قصده ذلك على وجه المعاوضة من دون أن يكون برجاء اثباته تعالى فيشكل صحته وما ورد من صلاة الاستسقاء وصلاة الحاجة إنما يصح إذا كان على الوجه الأول)(2).

ص: 51


1- مهذب الاحکام في بيان الحلال والحرام: ج 2، ص 437 - 440
2- العروة الوثقی: ج 2، ص 436

أقول: إن ما يخص موضع البحث في كلامه (قدس سره) هو الوجه الخامس: أي أن تكون نية المسلم في عبادة الله تعالى حصول الثواب ورفع العقاب ونجاته من النار، وهي بهذه النية تكون العبادة صحيحة، أما إذا كان قصده في العبادة أن يكون الثواب عوضاً عنها ففي صحتها إشكال.

أما إذا صلى المسلم صلاة الاستقساء وصلاة الحاجة كأن تكون لقضاء الدين أو الاستخارة أو دفع البلاء وغيرها بقصد الامتثال لأمر الله تعالى لما ورد في النصوص الشريفة الكاشفة عن كيفية هذه الصلوات وما يترتب عليه من حصول المنفعة ودفع المضرة التي هي بيد الله تعالى لأنه سبحانه أهلاً للعبادة والطاعة، فهي بهذه النية تكون العبادة صحيحة.

وقد أوضح بعض العلماء عليهم الرحمة والرضوان في تعليقاتهم على العروة فيما يخص موضع البحث مايلي:

6- قال الشيخ كاشف الغطاء(1) (عليه الرحمة والرضوان):

ص: 52


1- من الفقهاء العظام الذين عاشوا في القرن الثالث عشر من الهجرة النبوية على مهاجرها (صلَّى الله عليه وآله) آلاف التحيّة والثناء أية الله والمرجع الديني الكبير، الشيخ جعفر ابن الشيخ خضر بن يحيى بن مطر بن سيف الدين المالكي القناقي الجناحي النجفي. والمالكي نسبة إلى بني مالك، وهم المعروفون اليوم في العراق بال عليّ، ويقال إنّ نسبهم يرجع إلى مالك الأشتر النخعي من حواريّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام كما قال السيد صادق الفحّام في رثاء الشيخ حسين أخي المترجم: یا مُنتَمِي فَخراً إلى مالِكِ *** ما مالِكِي إلاك في المعنَيَين والجناجي، نسبة إلى جناجية أو جناجيا قرية من أعمال الحلَّة، أصلهم من آل عليّ المقيمين فيها، وأصل اسمها قناتيا ويلفظها العرب جناجياً على قاعدتهم في إبدال القاف جیماً. ولقب الشيخ المعروف: «کاشف الغطاء» وصار هذا لقباً للعائلة، نسبة إلى كتابه: کشف الغطاء عن مبهات الشريعة الغرّاء

(ولا ينبغي أن يدعيها أحد بعده إلا معصوم مثله؛ [أي قول أمير المؤمنين

ص: 53

(عليه السلام): «إلهي ما عبدتك خوفا من نارك..»].

والمراد أن الباعث بالذات إلى عبادتك هو استحقاقك للعبادة بذاتك الا أنه يخاف العقاب ولا يرجو الثواب کما هو واضح؛ وقصد التقرب إليه يؤكد هذا المعنى ولا ينافيه، بل هو اعلى الغايات وأشرفها، وهي آخر منازل السالكين وغاية آمال العارفين) (1).

أما بخصوص الوجه الخامس الذي أورده السيد اليزدي (قدس سره) فقد علّق الشيخ کاشف الغطاء قائلاً:

(«أن يقصد به الثواب»: أي الأجر الأخروي، وأدنى منه قصد الأجر

ص: 54

الدنيوي وهو ايضاً يتفاوت في المرتبة فتارة يكون لمصلحة عامة وحب الخير لنوع الإنسان، بل والحيوان مثل صلاة الاستسقاء والدعاء للمؤمنين بالمغفرة ونحوها، وأخرى لمصلحة خاصة به أو بغيره مثل طلب الشفاء للمريض أو صلاة الليل للرزق وهي أنزل الدرجات، فإن صاحبها كالجائع الذي لا يطلب من السلطان إلا فضل طعامه لیسد قوته، لا لأن طعام السلطان شرف وكرامة له بحيث لا فرق عنده بين طعام السلطان وغیره)(1).

وفي تعليقه على قول السيد اليزدي (قدس سره):

(إذا كان قصده ذلك على وجه المعاوضة من دون أن يكون برجاء أثابته تعالى فيشكل صحته..) قال:

(العبارة مجملة، ولعل المراد أن الأغراض الدنيوية كالاستسقاء والشفاء إذا كانت باعثة على العمل أولاً وبالذات من دون توسيط الطاعة والعبودية لم تصح العبادة، وإذا كان المقصود القيام بالعبودية والداعي على القيام بها طلب الشفاء والاستسقاء على نحو داعي الداعي صحت، ويمكن أن يكون طلب المقاصد الدنيوية مع الاعتقاد والالتفات إلى أنها منوطة بمشيئته ولا تحصل إلا بإرادته أيضاً غير مناف للطاعة والعبودية ولا تقدح في صحة العبادة، وإلا لما صحت عبادة أكثر الناس.

غايته أن العبادة والطاعة مراتب على حسب اختلاف درجات الإيمان والمؤمنين في المعرفة واليقين)(2).

ص: 55


1- العروة الوثقى للسيد كاظم اليزدي (قدس سرة): ج 2، ص 435
2- المصدر السابق

باء - قال السيد الخوئي (عليه الرحمة والرضوان):

ص: 56

(ومجمل القول حول هذه الدرجات [التي أوردها السيد اليزدي (قدس

ص: 57

سره)]: أن العبادة بما أنها عمل اختیاري صادر من عاقل مختار كل ما كان كذلك لا بدّ فيه من وجود غاية باعثة على ارتكاب العمل، فهذه الغاية في المقام إما أنّها ملحوظة في جانب العامل العابد، أو في ناحية المعبود.

والثاني، إما أنّه لحاظ کماله الذاتي وأهليته للعبادة، وهو أرقى المراتب، أو من أجل حبّه الناشئ من نعمه وإحسانه.

ص: 58

والأوّل إمّا أنّه تحصیل رضاه، أو التقرّب منه، أو طمع في ثوابه، أو خشية من عقابه.

من الواضح جدّاً أنّ المراد بالقرب ليس هو القرب المكاني الحقيقي، بل ولا الادعائي التنزيلي، لوضوح أنّ القرب بين شيئين يتضمن التضايف بحيث أنّ أحدهما إذا كان قريباً كان الآخر أيضاً كذلك واقعاً أو تنزيلًا.

ومن البيِّن أنّه سبحانه قريب من جميع البشر، بل هو أقرب إلينا من حبل الوريد، وكل شيء حاضر عنده حضوراً ذاتياً، بيد أنّ البعض منّا بعيد عنه لكونه غريقاً في الذنوب والخطايا المستوجب لعدم توجهه و التفاته إليه، فهو قريب من عباده تنزيلًا، وهم بعيدون عنه.

بل المراد من القرب الذي يتوخّاه العبد في عبادته هو طلب الحضور بين يدي الرب والشهود عنده بحيث كأنه يراه ويشاهده شهوداً قلبياً لا بصرياً.

ويستفاد من كثير من الأدعية والروايات أنّ الغاية القصوى من العبادات هو لقاء الله تعالى، والوصول إلى هذه المرتبة التي هي أرقى المراتب التي يمكن أن يصل إليها الإنسان، وربما يتفق الوصول إليها بعد التدريب ومجاهدة النفس والتضلَّع في العبادة المستتبعة بعد إزالة الملكات الخبيثة لصفاء القلب وقابليته لمشاهدة الرب والسير إليه، فيروم العابد بعبادته النيل إلى هذه المرتبة التي هي المراد من التقرب منه تعالى.

بل لا ينبغي التأمل في البطلان، ضرورة أنّ الثواب أو دفع العقاب لا يترتّبان على ذات العمل لكي تصح المعاوضة والمبادلة بينهما، بل على العمل المتصف بالعبادية والصادر بقصد الامتثال والطاعة، فلو صلى ليدخل الجنة بطلت، إذ ليس

ص: 59

لذات العمل هذا الأثر، بل المأتي به مضافاً إلى المولى. ومجرد قصد دخول الجنة لا يحقِّق الإضافة كما هو واضح، وإنما يتجه لو كان على سبيل الداعي على الداعي.

وهكذا ما ورد في صلاة الاستسقاء أو الحاجة أو صلاة الليل، من الخواص والآثار من طلب الرزق ونحوه، فإنّها لا تترتب على ذات الصلاة، بل المأتي بها بصفة العبادة، فلا يصح قصدها إلَّا على النحو الذي عرفت.

وبالجملة: الغايات المتقدمة من الثواب أو دفع العقاب أو شكر النعمة كلها غايات للامتثال ومن قبيل الداعي على الداعي، لا يكاد يترتّب شيء منها إلَّا بعد أنصاف العمل بالعبادية، والإتيان به بهذا العنوان، فبدونه ولو كان بنيّة صالحة كالتعليم فضلًا عن الرياء لا أثر له بوجه، فلو صلى أحد لا لكماله الذاتي، ولا لحبّه الناشئ من نعمه، ولا بداعي التقرب وإدراكه لذة الأنس، بل لأمر آخر دنيوي أو أُخروي، لم يترتب عليه أيّ أثر، بل لا بدّ وأن تكون ثمّة واسطة بين العمل وبين تلك الغاية، وهي الإضافة إلى المولى على سبیل العبودية حسبما عرفت)(1).

وبناءً عليه فقد أسس الفقهاء قاعدة فقهية تنص على تبعية العمل للنية، وهو ما سنتناوله في المسألة القادمة.

المسألة الرابعة: قاعدة فقهية: (تبعية العمل للنية).

بالنظر إلى أن مدارك الأحكام أربعة(2) عند علماء المذهب الإمامي (أعلى الله مقامهم) فقد وضعوا قواعد خمس استنبطوها من هذه المدارك الاربعة

ص: 60


1- شرح العروة الوثقی - کتاب الصلاة (موسوعة الإمام الخوئي) - تقرير بحث السيد الخوئي للبروجردي: ج 1، ص 9 - 11
2- وهي: الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل

کي يمكن رد الأحكام إليها وبيان علتها ومنها أي من هذه القواعد الخمس، قاعدة (تبعية العمل للنية).

قال الشهيد الأول (قدس سره):

(ومأخذها من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»(1).

أي صحة الأعمال واعتبارها بحسب النية؛ ويعلم منه أن من لم ينو، لم يصح عمله، ولم يكن معتبراً في صحة الشرع، ويدل عليه - مع دلالة الحصر - الجملة الثانية فإنها صريحة في ذلك أيضاً(2).

المسألة الخامسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

تناول شرّاح کتاب نهج البلاغة هذا الحديث بالبيان والتوضيح، فنورد بعضاً منها بغية تقديم صورة معرفية أخلاقية حول هذا الحديث الشريف، ه وهي كالآتي:

أولاً - ابن أبي الحديد المعتزلي (ت: 656 ه).

ص: 61


1- الوسائل: ج 4، أبواب النية، باب 1، ح 4
2- القواعد والفوائد للشهيد الأول: ج 1، ص 75

أشار ابن أبي الحديد المعتزلي إلى بعض البيان حول الحديث الشريف فكان كالآتي: (هذا مقام جليل تتقاصر عنه قوى أكثر البشر، وقد شرحناه فيما تقدم، وقلنا:

إن العبادة لرجاء الثواب تجارة ومعاوضة، وإن العبادة لخوف العقاب المنزلة من يستجدي لسلطان قاهر يخاف سطوته.

وهذا معنى قوله: (عبادة العبيد)، أي خوف السوط والعصا، وتلك ليس عبادة نافعة، وهي من يعتذر إلى إنسان خوف أذاه ونقمته، لا لأن ما يعتذر منه قبيح لا ينبغي له فعله، فأما العبادة لله تعالی شکرا لأنعمه فهي عبادة نافعة، لأن العبادة شكر مخصوص، فإذا أوقعها على هذا الوجه فقد أوقعها الموقع الذي وضعت عليه.

فأما أصحابنا المتكلمون فيقولون: ينبغي أن يفعل الانسان الواجب لوجه وجوبه، ويترك القبيح لوجه قبحه، وربما قالوا: يفعل الواجب لأنه واجب،

ص: 62

ويترك القبيح لأنه قبيح، والكلام في هذا الباب مشروح مبسوط في الكتب الكلامية)(1).

ثانياً - الشيخ ابن میثم البحراني (ت 679 ه).

قال (رحمه الله) في بيانه وشرحه للحديث:

(قسّم (عليه السلام) عبادة العابدين بحسب أغراضها إلى ثلاثة وهي عبادة الرغبة، وعبادة الرهبة، وعبادة الشكر، وجعل الأولى عبادة التجّار

ص: 63


1- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: ج 19، ص 69

باعتبار أنّهم يستعيضون عنها ثواب الآخرة ويطلبونه بها، فهم في حكم التجّار المكتسبين للأرباح، والثانية عبادة العبيد في الدنيا لأنّ خدمتهم لساداتهم أكثر ما تكون رهبة، والثالثة عبادة الشاکرین وهم الذين يعبدون الله لله لا لرغبة ولا لرهبة بل لأنّه هو مستحق العبادة وهي عبادة العارفين، وأشار (عليه السلام) إليها في موضع آخر فقال (عليه السلام):

«مَا عَبَدْتُكَ خَوْفاً مِنْ عِقَابِكَ، وَ لاَ طَمَعاً فِی ثَوَابِكَ، وَ لَکِنْ وَجَدْتُكَ أَهْلاً لِلْعِبَادَةِ فَعَبَدْتُكَ»(1).

ثالثاً - الشيخ حبيب الله الخوئي (ت: 1324 ه).

قال (رحمه الله) في منهاج البراعة في بيان معنى الحديث: (العبادة تستلزم المعرفة والايمان بالله، وإلَّا فتكون صورة بلا معنی، ودرجات المعرفة متفاوتة، وقد نبّه (عليه السلام) على مراتبها في هذا الكلام وبين لها ثلاث درجات: معرفة الراغبين، ومعرفة الراهبين، ومعرفة الأحرار المتقين.

ص: 64


1- شرح نهج البلاغة، ابن میثم البحراني: ج 5، ص 360

وقد ناقش السيد حبيب الله الخوئي (رحمه الله) كلام المعتزلي في كونها، أي العبادة لرجاء الثواب تجارة و معاوضة إلخ.

فقال:

(أقول: قوله: معاوضة، لا يستقيم لأنّه إن عبد على وجه المعاوضة لا يتحقق قصد القربة ولا الاخلاص فتبطل العبادة رأسا، وقوله (عليه السلام):

(فتلك عبادة التجّار معناه قصد الاسترباح بالعمل لا معاوضة العمل مع الثواب)(1).

رابعاً - الشيخ محمد جواد مغنية (ت: 1427 ه).

ص: 65


1- منهاج البراعة، الخوئي: ج 21، ص 306 - 307

يضيف الشيخ مغنية (رحمه الله) بیاناً آخر للحديث فيقول:

(لكل شيء داعية وسبب، والسبب الذي يدفع الانسان لعبادة الله لا بدّ أن يكون واحدا من ثلاثة:

الأول الخوف من العقاب تماما كالعبد الأسير، ومع هذا يقبل الله من الخائف ويؤمنه ويزيده من فضله، لأنه مقرّ بالله ووحدانيته وبحسابه وعقابه، وبرسله وكتبه.

السبب الثاني: الطمع بالأجر والثواب تماما كالذي يعاملك على أساس الربح، وأيضا هذا مقبول و مأجور للغاية نفسها.

والسبب الثالث: الشكر لله على أفضاله وإنعامه، والتعظيم لكماله وتمامه بلا قصد لدفع مضرة أو جلب مصلحة، بل لله وحده لا شريك له، وهذه هي العبادة الحقة الخالصة التي تنطق وتدل على مدى علم العابد ويقينه بالله)(1).

خامساً - العلامة الطباطبائي (ت: 1402 ه).

ص: 66


1- في ظلال نهج البلاغة: ج 4، ص 308

قال السيد الطبطبائي (رحمه الله) في تفسيره بعد أن أورد بعض الاحاديث

ص: 67

في بحثه الروائي حول قوله تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ»، ومنها قول أمير المؤمنين

ص: 68

(عليه السلام)، موضع البحث، أنه قال:

(وقد تبين معنى الروايات ما مر من البيان، وتوصيفهم عليهم السلام عبادة

ص: 69

الأحرار تارة بالشكر وتارة بالحب، لكون مرجعهما واحدا، فان الشكر وضع الشيء المنعم به في محله، والعبادة شكرها أن تكون لله الذي يستحقها لذاته، فيعبد الله لأنه الله، أي لأنه مستجمع لجميع صفات الجمال والجلال بذاته، فهو الجميل بذاته المحبوب لذاته، فليس الحب إلا الميل إلى الجمال والانجذاب نحوه، فقولنا فيه تعالى هو معبود لأنه هو، وهو معبود لأنه جميل محبوب، وهو معبود لأنه منعم مشكور بالعبادة يرجع جميعها إلى معنى واحد.

وروي بطريق عامي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى:

«إِيَّاكَ نَعْبُدُ» الآية، يعني: لا نريد منك غيرك ولا نعبدك بالعوض والبدل: کما یعبدك الجاهلون بك المغيبون عنك.

أقول: والرواية تشير إلى ما تقدم، من استلزام معنى العبادة للحضور وللإخلاص الذي ينافي قصد البدل)(1).

ص: 70


1- تفسير الميزان: ج 1، ص 38

الفصل الثاني : «قصد الرياء والسمعة والعجب وضميمته إلى النية»

اشارة

ص: 71

ص: 72

المبحث الأول: ضميمة الرياء إلى العبادة

قال أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام):

«وَاعمَلُوا فِي غَيرِ ريَاءٍ وَلاسُمعَةٍ فَانَّهُ مَن يَعمَل لِغَيرِ اللَّهِ يَكِلهُ اللَّهُ لِمَن عَمِلَ لَه»(1).

المسألة الأولى: معنى الرياء في اللغة والاصطلاح.

أولاً - معنى الرياء في اللغة:

جاءت مفردة (الرياء) في كتب اللغة من (الرؤية بالعين؛ وفلان مراء وقوم مراؤون، والاسم رياء. يقال:

(فعل ذلك رياء وسمعة).

ويقال أيضاً:

قوم رئاء، أي يقابل بعضهم بعضاً، وكذلك بيوتهم رئاء؛ وتراءى الجمعان؛ رأي بعضهم بعضاً.

وتقول:

ص: 73


1- نهج البلاغة، الخطبة: 23، (في تهذيب الفقراء)، ص 109 بتحقيق الشيخ قيس العطار، طبع العتبة العلوية المقدسة؛ وبتحقيق صبحي الصالح: ص 65

(فلان يتراءى، أي ينظر إلى وجهه في المرأة أو في السيف)(1).

(وتقول في الرياء:

يستر أي فلان، کما تقول: يستحمق ويستعقل، ويقال: راءى فلان الناس یرائیهم مراآة، وراياهم مراياة، على القلب بمعنی، وراعيته مراآة ورياءً قابلته فتر أيته، وكذلك تراءيته)(2).

والرأي: (الاعتقاد اسم لا مصدر، والجمع آراء؛ قال سيبويه: لم یکسر على غير ذلك وحكى اللحياني في جمعه أرءٍ: مثل أرعٍ ورُئي ورِئيَّ.

ويقال: فلان يتراء برأي فلان إذا كان يرى رأيه ويميل إليه وتعتدي به)(3).

والمرأة): ما تراعيت فيه، وقد أريته إياها، ورأيته ترئية عرضتها عليه أو حبستها له ينظر نفسه وتراعيت فيها وترأيت؛ وقد جاء في الحديث:

«لا يتمر أى أحدكم في الماء لا ينظر وجهه فيه»)(4).

ثانياً - معنى الرياء في الاصطلاح.

جاء معنى الرياء في الاصطلاح هو: (اظهار العمل للناس ليروه، ويظنوا به خيراً، وهو عدم الاخلاص في النية بملاحظة غير الله فيها)(5).

ص: 74


1- الصحاح للجواهري: ج 6، ص 2348
2- لسان العرب: ج 14، ص 296
3- لسان العرب: ج 14، ص 296
4- المصدر نفسه
5- المصطلحات: إعداد مركز المعجم الفقهي: ص 126

وفي قول الجرجاني: (ترك الاخلاص في العمل بملاحظة غير الله فيه)(1).

والمرائي: بضم الميم، من رائي، وهو المتصف بالرياء، ويفعل رياءً (أي الذي يرى الناس أنه يفعل)(2).

المسألة الثانية: أقوال الفقهاء في ضميمة الرياء إلى النية.

أولاً - أقوال فقهاء الإمامية.

تناول فقهاء الإمامية (أعلى الله مقامهم) ضميمة الرياء إلى النية وما يترتب عليه من حكم في كتبهم ومباحثهم فكثر فيها البيان وذلك لمدخلية الرياء في هدم العمل وما يترتب عليه من آثار عدّة كان على رأسها الاخلاص، ولذا: تقتصر هنا على بعض منها بغية التيمن بما ورد في هذا الحديث الشريف من بحوث كثيرة، فكان منها:

1- قال الشيخ الجواهري (عليه الرحمة والرضوان):

(وأما إذا كانت الضمیمة رياءً فلا، وأما إذا كانت الضمیمة رياء فلا ثواب عليها إجماعا، وغير مجزية على المشهور، بل لا أعلم فيه خلافا سوی ما عساه يظهر من المرتضى (رحمه الله) في الانتصار من القول بالأجزاء وإن كان لا ثواب عليها، وربما مال إليه بعض متأخري المتأخرين، وفي جامع المقاصد أنه لو ضم الرياء بطل قولا واحدا، ويحكي عن المرتضى (رحمه الله) خلاف ذلك، وليس بشيء، قلت:

ص: 75


1- القاموس الفقهي للدكتور سعدي حبيب: ص 141
2- المصطلحات: ص 2428

وبالأولى يعرف النزاع منه فيما تقدم.

وكيف كان فلا ريب في ضعفه حيث يكون الضم على وجه ينافي الاخلاص، ويدل على اشتراطه في الصحة - بعد الشهرة التي كادت تكون إجماعا بل هي كذلك، لعدم قدح خلاف المرتضى فيه، على أن عبارته في الانتصار غير صريحة في ذلك - الكتاب، كقوله تعالى:

«وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ»(1).

إذ الحصر قاض بأن فاقدة الاخلاص لا أمر بها، فلا تكون صحيحة، ولا فرق في ذلك بين أن تكون اللام للتعليل وبين جعلها بمعنى الباء، بل هي على الأول أدل، وكون الآية خطابا لأهل الكتاب غير قادح بعد قوله تعالى: «وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ»(2) لكون المراد به المستمرة على نهج الصواب، واحتمال أن يراد الاخلاص من عبادة الأوثان يدفعه ظهور کون المراد به أعم من ذلك، بل في القاموس والصحاح أنه ترك الرياء، ويدل عليه أيضا قوله تعالى:

«فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ»(3).

وقوله تعالى: «فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا»(4).

وغير ذلك من الآيات المتضمنة للأمر بالعبادة حال الاخلاص الدالة على عدم الأمر بها في غير هذا الحال إن قلنا بحجية نحو هذا المفهوم، وإلا

ص: 76


1- البينة: 5
2- البينة: 5
3- غافر: 14
4- الزمر: 2

كان الخصم محتاجا إلى الدليل في صحة فاقدة الاخلاص، والتمسك بإطلاقات الصلاة والوضوء ونحوهما موقوف على صدق الاسم بعد فقده، وإن سلَّم فالظاهر مما سمعت من الآيات اشتراط صحة العبادة بالإخلاص كقوله:

«صل مستترا أو مستقبلا أو متوضي»(1).

وبه يقيد سائر المطلقات، على أنه وإن سلمنا صحة اسم الوضوء والصلاة على فاقدة الاخلاص لكنا نمنع إطلاق اسم العبادة عليه.

وحيث لا يكون عبادة لا يجتزئ به، لقوله تعالى: «وَمَا أُمِرُوا»(2) فتأمل. وقد يشعر بذلك ما رواه أبو بصير عن الصادق (عليه السلام) قال:

سألته عن حد العبادة التي إذا فعلها فاعلها كان مؤدیا؟

قال (عليه السلام):

«حسن النية بالطاعة»(3).

ويدل أيضا السُنة، (منها) الأخبار التي كادت تكون متواترة الدالة على أنه متى كان العمل لله ولغيره کان لغيره وأنه وكله الله إليه؛ وفي خبر هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام) قال:

«يقول الله عز وجل أنا خير شريك فمن عمل لي ولغيري فهو لمن عمله اله غيري»(4).

ص: 77


1- جواهر الكلام: ج 2، ص 97
2- التوبة: 31
3- الكافي: ج 2، ص 85؛ الايمان والكفر ب 43 ح؛ الوسائل: ج1 ، ص 49 أبواب مقدمة العبادات ب 6 ح 2
4- جواهر الكلام: ج 2، ص 98

و (منها) ما دل على كون المرائي مشركا، وأنه المراد بقوله تعالى:

«وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا»(1).

وقد تحقق في محله ظهور کون النهي فيها يقتضي الفساد وإن كان عن أمر خارج عنها لكنه فيها كالتكفير في الصلاة، مع أن النهي هنا عن الأعمال على وجه الریاء کما يستفاد من النظر في رواياته، وهذا لا ينافي القول يكون الرياء محرما في نفسه سواء كان في عبادة أو غيرها، على أنه في غاية الاشكال بالنسبة إلى غير العبادات، بل لعل الأقوى عدمه، للأصل السالم عن المعارض، كما أن الأقوى الحرمة في العبادة لا مجرد الفساد کما يظهر من تتبع الأخبار، ويلحق بها في ذلك الأفعال التي تقع عبادة وغيرها إذا أوقعها بعنوان العبادة مرائيا بها.

و (منها) ما دل على عدم قبول عمل المرائي كقول أبي جعفر (عليه السلام) في رواية أبي الجارود على ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره:

أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «لا يقبل الله عمل مراء»(2).

وقول الصادق (عليه السلام) في خبر السكوني:

قال النبي (صلى الله عليه وآله):

«إن الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجا به فإذا صعد بحسناته يقول الله عز وجل اجعلوها في سجين أنه ليس إياي أراد بها»(3).

ص: 78


1- الكهف: 110
2- جواهر الكلام: ج 2، ص 98
3- الوافي: ج 5، ص 856

وقوله (عليه السلام) أيضا في خبر عقبة:

«إن ما كان لله فهو لله وما كان للناس فلا يصعد إلى الله»(1).

وقوله (عليه السلام) أيضا في خبر ابن أسباط:

«قال الله تعالى أنا أغنى الأغنياء عن الشريك، فمن أشرك معي غيري لم أقبله إلا ما كان خالصا لي»(2).

إلى غير ذلك من الأخبار، ودعوى أن القبول أعم من الصحة بقرينة قوله تعالى:

«إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ»(3).

ونحوه لا شاهد عليها، مع مخالفتها الظاهر والمتبادر، والآية محمولة على ضرب من المجاز حتى عنده، لعدم اشتراطه التقوى في القبول وقد يستدل عليه أيضا بأخبار النية كقوله (صلى الله عليه وآله):

«إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى فمن كان هجرته»(4) الحديث.

فإنه وإن قلنا بكون النية حقيقة في القصد لكن يراد منها ولو مجازا في مثل هذه الخطابات النية الخاصة، وبأن عدم الاخلاص ينافي نية القرية الثابت اشتراطها بالإجماع المنقول والمحصل، والمراد بها على ما تقدم فعل المكلف المأمور به بعنوان أمر الله به خاصة.

ص: 79


1- الكافي: ج 1، ص 166
2- جواهر الكلام: ج 2، ص 98
3- المائدة: 27
4- الخلاف، الشيخ الطوسي: ج 4، ص 458

وما يقال: إنه قد يظهر من المرتضى النزاع في أصل اشتراطها وإن قال بوجوبها إلا أنه تعبدي لا شرطي لذكره العبادة المقصود بها الرياء وهو ظاهر في غير ضمیمة الرياء فلا يجتمع مع القرية يدفعه - مع بعده وعدم معروفية نزاعه في ذلك - أنه غير قادح في الاجماع المدعي، على أنه في غير الاجماع مما دل على اشتراطها غنية، كل ذا فيما نافي الاخلاص من الرياء، أما ما لا ينافيه کما إذا أخذ الرياء ضميمة تابعة أو كان كل من القرية والرياء باعثا مستقلا إن قلنا به فيما سبق فلعل الظاهر الفساد أيضا كما هو قضية إطلاق الأصحاب، خلافا لما يظهر من بعض محققي المتأخرين.

ويدل عليه - مضافا إلى ما ورد في عدة روايات أن كل ریاء شرك، وإياك والرياء فإنه الشرك بالله، وما ورد من التحذير عنه وأنه أخفى من دبيب النملة السوداء في الليل المظلم مما يدل على مبغوضية أصل طبيعة الرياء في الأعمال على أي حال وقع - خبر زرارة وحمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

«لو أن عبدا عمل عملا يطلب به وجه الله والدار الآخرة وأدخل فيه رضا أحد من الناس كان مشرکا»(1).

لشمول الادخال ما نحن فيه فتأمل، بل قد يستدل على الصورة الثانية بدخولها تحت ما دل على أن من عمل لله ولغير الله وقع لغير الله، إذ هو أعم من الاشتراك بالعلية أو الاستقلال، بل لعله في الثاني أظهر كما هو قضية العطف، لكن ينبغي إدخال هذه الصورة حينئذ فيما نافي الاخلاص، لمكان

ص: 80


1- الوسائل الباب - 11 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث - 11

ظهور هذه الأدلة أن من عمل كذلك لم يكن مخلصا کما يشعر به خبر ابن أسباط المتقدم وغيره. ومنه ينقدح حينئذ قوة الاشكال السابق في صحة ضمیمة غير الرياء إذا كانت كذلك كما أشرنا سابقا، والظاهر أنه لا عبرة بما تجري على خاطر الانسان من الخطرات التي هي غير مقصودة ولا عزم عليها كما يتفق كثيرا لأغلب الناس)(1).

أقول: وبهذا يتضح للقارئ العلّة في تحريم الرياء في العبادة من الناحية الشرعية وسيمر لاحقاً آثاره في الأخلاق والنفس، وبه يتضح أثره السيء في السلوك والعاقبة.

2- قال السيد اليزدي في مباحث الوضوء من العروة الوثقى وكذا الحال في مباحث الصلاة:

(الخلوص؛ فلو ضم إليه(2) الرياء بطل، سواء كانت القرية مستقلة والرياء تبعاً أو بالعكس، أو كان كلاهما مستقلاً وسواء كان الرياء في أصل العمل أو في كيفياته أو في أجزائه، بل ولو كان جزءً مستحباً على الأقوى، وسواء نوى الرياء من أول العمل، أو نوى في الأثناء، وسواء تاب منه أم لا، فالرياء في العمل بأي وجه كان مبطل له، لقوله تعالى على ما في الأخبار:

«أنا خير شريك، من عمل لي ولغيري تركته لغيري»(3).

هذا ولكن إبطاله إنما هو إذا كان جزءا من الداعي على العمل، ولو على وجه التبعية، وأما إذا لم يكن كذلك بل كان مجرد خطور في القلب من دون أن

ص: 81


1- جواهر الكلام، الشيخ الجواهري: ج 2، ص 99 - 100
2- أي الى الوضوء
3- العروة الوثقی: ج 1، ص 423

يكون جزءا من الداعي فلا يكون مبطلا، وإذا شك حين العمل في أن داعيه محض القربة أو مركب منها ومن الرياء فالعمل باطل، لعدم الخلوص الذي هو الشرط في الصحة)(1).

وقال (قدس سره) في المسألة الثامنة من كتاب الصلاة في مباحث النية: يشترط في نية الصلاة؛ بل مطلق العبادات الخلوص عن الرياء، فلو نوی بها الرياء بطلت، بل هو من المعاصي الكبيرة، لأنه شرك بالله تعالى، ثم أن دخول الرياء في العمل على وجوه:

أحدها: أن يأتي بالعمل لمجرد إراءة الناس من دون أن يقصد به امتثال أمر الله تعالى، وهذا باطل بلا اشکال، لأنه فاقد لقصد القربة أيضا.

الثاني: أن يكون داعيه ومحرکه على العمل القربة وامتثال الأمر والرياء معا، وهذا أيضا باطل، سواء كانا مستقلين أو كان أحدهما تبعا والآخر مستقلا، أو كانا معا ومنضما محرکا وداعيا.

الثالث: أن يقصد ببعض الأجزاء الواجبة الرياء، وهذا أيضا باطل وإن كان محل التدارك باقيا. نعم في مثل الأعمال التي لا يرتبط بعضها ببعض أو لا ينا فيها الزيادة في الأثناء كقراءة القرآن والأذان والإقامة إذا أتى ببعض الآيات أو الفصول من الأذان اختص البطلان به، فلو تدارك بالإعادة صح.

الرابع: أن يقصد ببعض الأجزاء المستحبة الرياء، كالقنوت في الصلاة، وهذا أيضا باطل على الأقوى.

الخامس: أن يكون أصل العمل لله، لكن أتی به في مكان وقصد بإتيانه

ص: 82


1- المصدر نفسه: ج 1، ص 432 - 433

في ذلك المكان الرياء کما إذا أتی به في المسجد أو بعض المشاهد رياء، وهذا أيضا باطل على الأقوى وكذا إذا كان وقوفه في الصف الأول من الجماعة، أو في الطرف الأيمن رياء.

السادس: أن يكون الرياء من حيث الزمان كالصلاة في أول الوقت ریاء، وهذا أيضا باطل على الأقوى.

السابع: أن يكون الرياء من حيث أوصاف العمل كالإتيان بالصلاة جماعة أو القراءة بالتأني أو بالخشوع أو نحو ذلك، وهذا أيضا باطل على الأقوى.

الثامن: أن يكون في مقدمات العمل، كما إذا كان الرياء في مشيه إلى المسجد لا في إتيانه في المسجد، والظاهر عدم البطلان في هذه الصورة.

التاسع: أن يكون في بعض الأعمال الخارجة عن الصلاة، كالتحنك حال الصلاة. وهذا لا يكون مبطلا إلا إذا رجع إلى الرياء في الصلاة متحنکا.

العاشر: أن يكون العمل خالصا لله، لكن كان بحيث يعجبه أن يراه الناس، والظاهر عدم بطلانه أيضا كما أن الخطور القلبي لا يضر، خصوصا إذا كان بحيث يتأذى بهذا الخطور، وكذا لا يضر الرياء بترك الأضداد)(1).

ثانياً - أقوال فقهاء المذاهب الأخرى:

أجمع فقهاء المذاهب الاسلامية الستة على بطلان العبادة المتسرب إليها داء الرياء، وذلك لاقتران القصدية فيها بغير الله تعالى، ومن هذه الأقوال ما يلي:

ص: 83


1- العروة الوثقی: ج 2، ص 441 - 444

ألف - المذهب المالكي.

1- قال الخطاب الرعيني المالكي (ت: 954 ه):

(أعلم أن الرياء شرك وتشريك مع الله تعالى في طاعته وهو موجب للمعصية والاثم والبطلان في تلك العبادات کما نص عليه المحاسبي وغيره، ويعضده ما في الحديث الصحيح خرج مسلم وغيره أن الله تعالى يقول:

((أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته اله أو تركته لشريكي)).

ص: 84

هذا ظاهر في عدم الاعتداد بذلك العمل عند الله تعالى وكذلك قوله تعالى:

«وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ»(1).

يدل على أن غير المخلص لله تعالى غير مأمور به وما هو غير مأمور لا يجزئ عن المأمور به فلا يعتد بهذه العبادة وهو المطلوب.

وتحقيق هذه القاعدة وسرها و ضابطها أن يعمل العمل المأمور به المتقرب به إلى الله تعالى ويقصد به وجه الله تعالى وأن يعظمه الناس أو بعضهم فيصل إليه نفعهم أو يندفع به ضررهم، فهذا هو قاعدة أحد مسمي الرياء.

والقسم الآخر أن يعمل العمل لا يريد به وجه الله البتة بل الناس فقط ويسمى هذا القسم رياء الاخلاص، والأول رياء الشرك)(2).

2- قال الآبي الأزهري المالكي (ت: 1330 ه):

ص: 85


1- البينة: 5
2- مواهب الجليل للحطاب الرعيني: ج 3، ص 505

(وفرض على كل مؤمن أن يريد بكل قول وعمل من البر وجه الله الكريم) أي ذات الله الكريم لا رياء ولا سمعة، فدخل مرتبتان الكاملة بأن لا يقصد جنة ولا نارا.

والناقصة بأن يقصد دخول الجنة والبعد عن النار (ومن أراد بذلك) القول أو العمل (غير) وجه (الله) الكريم (لم يقبل عمله) ولا قوله. (والرياء) هو أن یرید بعمله أي مما كان قربة.

وقوله:

غير الله بأن أراد الناس فلا يتأتى في غير القربة كالتجمل باللباس (الشرك الأصغر) لما رواه أحمد من قوله عليه الصلاة والسلام:

«إن أخوف ما أخاف علیکم الشرك الأصغر». قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال: «الرياء»(1).

باء - المذهب الشافعي.

1- قال إمام المذهب الشافعي في بيان أثر الرياء على الإخلاص في العبادة:

(لا يعرف الرياء إلا مخلص)(2).

بمعنى أن المخلص الذي يسعى إلى تهذیب نفسه وقلبه من الشوائب لا بدله أن يعرف الرياء كي يستطيع أن يخلص منه.

2- قال الحافظ السبكي الشافعي(3) (ت 756 ه): وقد سُئل عن الجمع

ص: 86


1- الثمر الداني: ص 678، باب: حمل من الفرائص والسنن الواجبة
2- المجموع للنووي: ج 1، ص 13
3- عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي ولد بالقاهرة وسمع من علمائها ثمّ رحل إلى دمشق مع والده واشتغل بالقضاء سنة 756 ه. تتلمذ على والده علي بن عبد الكافي والحافظ المزي والذهبي. ومن تأليفه المعروفة طبقات الفقهاء الكبرى التي طبعت في عشرة أجزاء. ومن تأليفه في الأُصول شرح مختصر ابن الحاجب في مجلدين سمّاه «رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب» وشرح منهاج البيضاوي في الأُصول، وجمع الجوامع في أُصول الفقه وشرحه باسم «منع الموانع» (موسوعة طبقات الفقهاء (المقدمة) / الشيخ السبحاني ج 1 ص 465)

بين نية اتيان الصلاة بقصد الرياء والسمعة لغرض دفع الكسل، فقال:

(فالذي أراه في كلتا الحالتين الجل، وعدم التحريم، وان لا يترك العمل خوف الرياء أصلاً، لأنه تترك مصلحة محققة لمفسدة موهومة وكثير من الاعمال تكون مشبوهة ثم توب، بل أكثر الأشياء هكذا كل من خاض بأمر لا بد له ان يختلط فيه الغث بالسمين ثم ينتقي ويتصفى إلى أن يصفو..)(1).

أقول: وهذه شبهة وذلك أن المقدمة لهذا العمل فاسدة، وهي الرياء؛ ومن ثم فإن اتيان العبادة بقصد الرياء موهومة وهي دفع الكسل لا يعود على الإنسان بثمرة وهي القرب لله تعالى لأن المرائي قصد بعمله غير الله عز وجل، بل الواجب هنا تهذيب النفس على الاخلاص وترويضها على الانقياد والامتثال لأمر الله تعالى رجاء قربه ورضاه، لا رضا غيره وقربه ومدحه ومن ثم ليصل لإرضاء هوى نفسه وشهوته في المدح والثناء فیکون هو المقصد الحقيقي ساعياً إليه بالأوهام ومنها دفع الكسل والجلوس عن العبادة كما يقول السائل.

ص: 87


1- فتاوي السبكي: ج 1، ص 162

جيم - المذهب الحنفي.

1- قال ابن نجم المصري الحنفي (ت: 970 ه):

وقد نقل مسألة سئل فيها إمام المذهب الحنفي أبو حنيفة النعمان فيما يختص بأثر الرياء في تأخر إمام الجماعة في الركوع كي يتمكن الداخل إلى الجماعة من اللحوق وهي على النحو الآتي:

(ولو أطال الركوع لإدراك الجائي لا تقرباً لله تعالى فهو مكروه، وفي الذخيرة والبدائع وغيرهما قال أبو يوسف سألت ابا حنيفة عن ذلك فقال: (أخشى عليه أمراً عظيماً، يعني: الشرك).

وقد وهم بعضهم في فهم كلام الإمام فاعتقد منه أن يصير المنتظر مشرکا يباح دمه، فأفتى بإباحة دمه!!

وهكذا ظن صاحب منية المصلي فقال:

يخشى عليه الكفر، ولا يكفر وكل منهما غلط ولم يرده الإمام، بل أراد أنه يخاف عليه الشرك في عمله الذي هو الرياء وإنما لم يقطع بالرياء في عمله

ص: 88

لما أنه غير مقطوع به لوجود الاختلاف، فإنه نقل عن الشعبي أنه لا بأس به، وهو قول الشافعي في القديم، وقد نهى الله عن الاشراك في العمل بقوله تعالى: «فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ»(1).

وأعجب منه ما نقله في المجتبى عن البلخي أنه تفسد صلاته ويكفر(2).

2- قال ابن عابدين الحنفي (ت: 1252 ه) في بيان أثر الرياء في هدم

ص: 89


1- الكهف: 110
2- البحر الرائق: ج 1، ص 552

العبادة.

(أعلم إنّ أخلاص العبادة لله تعالى واجب، والرياء وهو أن يريد بها غير وجه الله تعالى حراماً بالإجماع للنصوص القطعية، وقد سمی - صلى الله عليه و آله - الرياء «الشرك الأصغر»(1).

دال - المذهب الزيدي.

قال إمام المذهب الزيدي في القرن الثامن الهجري أحمد المرتضی:

ص: 90


1- حاشية رد المختار: ج 6، ص 747

(فأما لو نوي بصلاته الرياء والسمعة لم تجزه ولزمته التوبة)(1).

هاء - المذهب الحنبلي.

قال البهوتي الحنبلي (ت: 1051 ه) في شروط الصلاة، ومنها: (شرط النية)، وهو شرعاً:

(عزم القلب على فعل العبادة تقرباً إلى لله تعالى، بأن يقصد بعملة الله تعالى دون شيء آخر من تصنع لمخلوق، أو اکتساب محمدة عند الناس، أو محبة مدح منهم أو نحوه. وهذا هو الاخلاص.

وقال بعضهم:

(هو تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين).

ص: 91


1- شرح الأزهار: ج 1، ص 227

وقال آخر:

(هو التوقي عن ملاحظة الاشخاص وهو قريب من الذي قبله).

وقال آخر:

هو أن يأتي بالفعل لداعية واحدة، ولا يكون لغيرها من الدواعي تأثير في الدعاء إلى ذلك الفعل، وفي الخبر:

الإخلاص سر من سري استودعته قلب من أحببته من عبادي ودرجات الإخلاص ثلاثة:

عليا، وهي أن يعمل العبد لله وحده امتثالا لأمره، وقياما بحق عبوديته.

ووسطی، وهي أن يعمل لثواب الآخرة.

ودنيا، وهي أن يعمل للإكرام في الدنيا والسلامة من آفاتها، وما عدا الثلاث من الرياء، وإن تفاوتت أفراده)(1).

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء للذاهب في المسألة.

إنّ الملاحظ في أقوال فقهاء المذاهب الستة أنها تجمع على أن الرياء والسمعة هي شرك في القصد الذي يقوم به العامل.

إلا أن الفارق فيما بينهم ما ذهب إلية إمام المذهب الحنفي في حكمه على إمام الجماعة (لو أطال الركوع لإدراك الجائي) (فيخشى عليه الشرك) فأفتی بعض فقهاء المذهب الحنفي بإباحة دم إمام الجماعة لصيرورته مشركاً، في حين ذهب غيرهم إلى كفره.

ص: 92


1- كشاف القناع للبهوتي: ج 1، ص 375

وهو مخالف لأصل الحكم عند المذاهب الستة في أن أصل الرياء هو شرك في قصد العمل وبه يبطل لفساد النية؛ وليس المراد هو شرك الاعتقاد في الله عز وجل، وهو ما دلّ عليه لفظ (الرياء) ومعناه في اللغة والاصطلاح، وما كشف عنه مصداقه في حب الانسان ان يمدح ويرى عمله فيكون هو القصد في العمل وليس القرب الى الله تعالى.

وجميع هذه الاقوال كما يتضح تجمع على حرمة الرياء والسمعة في العبادة وهدمها للثواب والبعد عن الله تعالى، ولكن هل هناك فرق في الحرمة أو الآثار بين الرياء والسمعة أم أن آثرهما واحد، وحكمهما واحد؟

هذا ما سنعرض له في المبحث القادم.

ص: 93

ص: 94

المبحث الثاني: ضميمة السمعة إلى العبادة

قال (عليه الصلاة والسلام):

«وَاعمَلُوا فِي غَيرِ ريَاءٍ وَلاسُمعَةٍ فَانَّهُ مَن يَعمَل لِغَيرِ اللَّهِ يَكِلهُ اللَّهُ لِمَن عَمِلَ لَه»(1).

تضمنت كتب الفقهاء ومباحثهم حول الرياء: هو ملازمته للسمعة؛ فمنهم من خصهما معاً في الحكم والاثر المترتب عليهما، ومنهم من أفرد له بحثاً مستقلاً؛ وللوقوف على هذه المباحث نورد أولا معنى السمعة وما المقصود بها عند اهل اللغة.

المسألة الأولى: معنى السمعة في اللغة.

إن أصل المفردة يعود إلى (سمع)؛ والسمعة بمعنى التسمیع کالسخرة بمعنى التسخير(2). (والسمعة بضم أوله وسكون ثانيه، الصيت، الذكر؛ إيراد القول الحسن كقراءة القرآن وقراءة الحديث وانشاء الشعر ونحو ذلك للفت انظار الناس إلى القائل.

ص: 95


1- نهج البلاغة، الخطبة: 23، (في تهذیب الفقراء)، ص 109 بتحقيق الشيخ قيس العطار، طبع العتبة العلوية المقدسة؛ وبتحقيق صبحي الصالح: ص 65
2- الفايق في غريب الحديث للزمخشري: ج 2، ص 660

والفرق بين السمعة والرياء ان السمعة تكون في الأقوال والرياء في الأفعال)(1).

أقول: لعلّ ما ذهب اليه القلعجي يرتكز على مناط السمعة بحاسة السمع فحصرها في الأقوال وحصر الرياء في الأفعال فجعل ذلك فرقاً بينهما وهذا الارتكاز للمعنى غير دقيق، وذلك أن المرائي يبتغي في النهاية من إيراده الفعل ان يتحدث عنه بالذكر الحسن ومن ثم فالثمرة في الأقوال والأفعال واحدة.

أما الفارق الحقيقي بينهما فهو في القصدية وذلك إنَّ نية المسامع هو الشهرة فيعمل ويقول كي يشتهر ذكره بين الناس ولذا يرغب في الاعلان والاعلام ويسعى خلف وسائله.

اما المرائي فنيته الناظر اليه لكسب اهتمامه أو دفع ضرره أو الوصول الى غایة أرضاء نفسه وشهوته، وهو ما سنعرض له في شرح الحديث وما تعلق به في المبحث الاخلاقي.

المسألة الثانية: أقوال الفقهاء في ضميمة السمعة الى النية.

أولاً - أقوال فقهاء الإمامية:

جاءت المدرسة الفقهية للطائفة الإمامية (أعلى الله شأنها) بمباحث كثيرة حول ضميمة السمعة إلى النية في العبادات، وقد اخترنا بعضاً منها بما يتناسب مع البحث، فكانت كالآتي:

ص: 96


1- معجم لغة الفقهاء لمحمد قلعجي: ص 250

1- المحقق النراقي (عليه الرحمة والرضوان) (ت 1244 ه).

ص: 97

وقد جمع حکم الرياء والسمعة في بطلان العمل.

قال (قدس سره) في المستند في (اعتبار الخلوص في النية) في المسألة السابعة مايلي:

(قد ظهر من وجوب نية القرية وعدم حصول الامتثال بدونها، أنه لو نوى غيرها منفرداً بطل العمل. ولو ضمه معها، فلو كان رياء - وهو العمل بمرأى لاراءته لا لغرض شرعي - ومنه السمعة - وهو العلم بمسمع احد لإسماعه كذلك - بطل مطلقاً سواء كل منها مقصوداً ذاتاً، أو كلاهما معاً، أو احدهما خاصة وقصد الآخر بالعرض بالإجماع من غير السيد(1) الغير القادح في تحققه، وهو الحجة.

مضافا إلى خبري علي بن سالم وعقبة المتقدمين(2) الدالين على عدم قبول ما لم یکن خالصا لله، والرياء بجميع أقسامه ينافيه، مع تصريح الأول بعدم قبول ما أشرك فيه غير الله معه، وفي رواية ابن عيينة السالفة(3) ما يصرح بذلك أيضا.

وإلى النهي عن الرياء كله إجماعا وكتابا وسنة:

ص: 98


1- الانتصار للشريف المرتضى (رحمه الله): ص 17
2- مستند الشيعة: ج 2، ص 46
3- أوردها المحقق في ص: 49، عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قول الله (عز وجل): «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا»، قال: ((ليس يعني أكثر عملاً ولكن أصوبکم عملاً، وانما الاصابة خشية الله، والنية الصادقة والحسنة)) ثم قال: ((الابقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز وجل والنية أفضل من العمل، ألا وإن النية هي العمل، ثم على قوله عز وجل: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ»، والرواية أخرجها الشيخ الكليني في الكافي: ج 2، ص 16 برقم 4

أثبت الله سبحانه في كتابه الكريم «الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ»(1) وقال أيضا في مقام الذم: «براءون النَّاسَ»(2).

وفي الخبر: «كل رياء شرك»(3).

وفي آخر: «إياك والرياء، فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى من عمل له»(4).

وفي ثالث: «اعملوا الله في غير رياء وسمعة»(5).

وفي رواية داود: «من أظهر للناس ما يحب الله وبارز الله بما كرهه لقي الله وهو ماقت له»(6).

ولا شك أن المرائي جامع للوصفين! إذ نفس الاظهار للناس من غير غرض صحيح مما يكرهه الله.

وفي صحيحة زرارة. عن الرجل يعمل الشيء من الخير فيراه إنسان فيسره ذلك، فقال:

ص: 99


1- الماعون: 6
2- النساء: 142
3- الكافي: ج 2، ص 293 الايمان والكفر ب 116 ح 3، الوسائل: ج 1، ص 70 أبواب مقدمة العبادات ب 21، ح 4
4- الكافي: ج 2، ص 293 الايمان والكفر ب 116 ح 1، الوسائل 1: 56 أبواب مقدمة العبادات ب 11، ح 6
5- الكافي: ج 2، ص 297 الايمان والكفر ب 116 ح 17، الوسائل 1: 66 أبواب مقدمة العبادات ب 11، ح 10
6- الكافي: ج 2، ص 295 الايمان والكفر ب 116، ح 10، الوسائل: ج 1، ص 64 أبواب مقدمة العبادات ب 11، ح 3

«لا بأس، ما من أحد إلا وهو يحب أن يظهر الله له في الناس الخير إذا لم يكن صنع ذلك لذلك»(1).

دل بمفهوم الشرط على ثبوت البأس - الذي هو العذاب - إذا صنع ذلك.

لذلك.

هذا، مع أن العمل رياء بأقسامه متابعة للهوى، وهو منهي عنه في الكتاب والسنة، والنهي في العبادة يوجب الفساد.

ومنه يظهر البطلان مطلقا لو كانت الضميمة محرما آخر غير الرياء.

ولا فرق فيها بين ما إذا كان الضم في تمام العبادة أو جزئها الواجب أو وصفها اللازم، وبالجملة كل ما يبطل العمل بانتفائه.

وكذا بين ما إذا كان في ماهية التمام أو الجزء أو الوصف، أو في أحد أفراد واحد منها الذي يوجد به المأمور به، لعدم اجتماع الوجوب والحرمة في واحد شخصي ولو من جهتين بينهما عموم و خصوص مطلقان أو من وجه. فيبطل الوضوء لو توضأ بالماء البارد، والصلاة لو صلى في المسجد، رياء أو بقصد محرم آخر، أي: إذا كان كونه في المسجد كذا وإن لم يكن في نفس صلاته رياء! لأن الكون جزء الصلاة، كما في الصلاة في الدار المغصوبة. أو صلى في أول الوقت ریاء! لأن هذه الصلاة أحد أفراد المخير، فيتعلق به النهي، ومحمل الرياء هو الصلاة في أول الوقت.

ص: 100


1- الكافي: ج 2، ص 297 الايمان والكفر ب 116، ح 18، الوسائل: ج 1، ص 75 أبواب مقدمة العبادات ب 15، ح 1

وكذا لو قرأ سورة معينة رياء، أو أحسن القراءة، أو أجهر فيها، أو تأنی فيها، أو صلى جماعة لذلك.

وبالجملة: كل ما يتأدی به الواجب تبطل الصلاة بقصد الرياء، أو محرم آخر فيه وأما في غير ذلك فلا ولو كان وصفا قائما بواجب! لعدم تعلق النهي عن الوصف بموصوفه، فلا يبطل الوضوء بالرياء في الاستقبال فيه، ولا الغسل بالرياء في الخروج من الماء في الارتماس، ولا الصلاة بالرياء في التخشع فيه، كإطراق الرأس، وغمض العين، وضم اليدين إلى الفخذين، ومد العنق في الركوع، و التطويل في السجود بعد التقرب في القدر الواجب، ونحو ذلك.

خلافا للسيد(1)، فلم يبطل العمل بقصد الرياء مطلقا وإن قال بعدم استحقاقه الثواب، وهو مبني على أصله من عدم توقف الاجزاء على القبول، ورده في الأصول.

وقوى ما ذكره بعض متأخري المتأخرين، فقال: الواجب أمران: فعل المأمور به، والاخلاص في نيته، ولا يوجب الاخلال بالأخير الاخلال بالأول وإن أوجب الإثم(2).

ولا يخفى أن ما ذكره إنما كان صحيحا لو كان المأمور به هو قصد التقرب والخلوص، والمنهي عنه هو إرادة إراءة الناس دون العمل المرائي فيه. وليس كذلك، بل المأمور به - کما هو مدلول الأخبار السابقة - العمل الخالص

ص: 101


1- أي الشريف المرتضى (رحمه الله) في الانتصار: 17
2- کشف اللثام: ج 1، ص 64

والعمل لله، فما لم يكن كذلك لم يكن مأمورا به، والمنهي عنه هو العمل لغير الله، وهو الذي أثبت فيه البأس في رواية زرارة، وفيه متابعة الهوى.

مع أنه قد صرح فيما مر بعدم قبول ما أشرك فيه غير الله، وما لم يكن خالصا، ولازمه عدم كونه مأمورا به فيفسد قطعا.

وأيضا: لا بد في صحة العمل من كونه بحيث يصدق معه الامتثال، وهو لا يتحقق إلا بما فعل بقصد الإطاعة)(1).

2- الشيخ مرتضى الانصاري (عليه الرحمة والرضوان) (ت: 1281 ه).

تناول الشيخ مرتضى الانصاري (قدس سره) (السمعة) في كتاب الطهارة ضمن مبحث (أصالة اعتبار النية في جميع الاعمال ومناقشتها) فناقش (عليه الرحمة والرضوان) قول الشهيد الأول في قواعده، عند قوله (عليه الرحمة والرضوان) (ويتحقق الرياء بقصد مدح الرائي والانتفاع به أو دفع ضرره)، فقال (عليه الرحمة والرضوان):

(وقوله: (أو دفع ضرره) عطف إما على الانتفاع فيكون كلاهما غاية للمدح، وإما على المدح فيكون غاية مستقلة.

وعلى هذا فمطلق الرياء ليس محرماً؛ لأنّ التوصّل إلى دفع الضرر ولو بطلب المنزلة عند الناس وطلب مدحهم له لا دليل على تحريمه بل قد يجب، وظاهر الأخبار حرمة الرياء بقول مطلق، فالأجود تخصيص حقيقة الرياء بما هو ظاهر التعريف الأوّل من طلب المنزلة بتحصيل ما لم يكن حاصلا من المنافع المحرّمة أو المباحة، فدفع الضرر من الضمائم الغير المحرّمة وحكمه

ص: 102


1- مستند الشيعة للمحقق النراقي: ج 2، ص 66 - 69

يعلم منها، فما ذكره (قدس سره) في القواعد يحتاج إلى تأمّل.

نعم، يبقى على ما ذكرنا طلب المنزلة عند الناس لتحصيل غاية راجحة كترويج الحقّ وإماتة الباطل بكلمته المسموعة، فالظاهر عدم دخوله في الرياء؛ لأنّ مرجعه إلى طلب المنزلة عند الله، ولو نوقش في الصدق منعنا حرمته؛ لأنّ عموم حرمة الرياء معارض بعموم رجحان تلك الغاية.

ثمّ إنّ السمعة - وهي أن يقصد بالعمل سماع الناس به فيعظم رتبته عندهم - من أفراد الرياء، وأمّا حبّ استماع الناس لعمله من دون أن يفعله لذلك فهو كحبّ رؤية الغير لعمله وسروره بذلك من دون أن يعمل لذلك ممّا ورد عدم البأس به:

ففي حسنة زرارة: ((سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يعمل العمل من الخير فيراه إنسان فيسره ذلك، فقال:

«لا بأس ما من أحد إلَّا وهو يحبّ أن يظهر له في الناس الخير إذا لم يكن يصنع ذلك لذلك»، قوله:

((ما من أحد)) محمول على إرادة ذلك من حيث الفطرة والجبلَّة، أو على أنّ أكثر أفراد الإنسان لا يخلو عن ذلك، غاية الأمر أنّ المخلصين إنّما يحبّون ذلك لأغراض راجحة شرعا كما سيجيئ، وغيرهم يحبّه لقلَّة الوثوق باطلاع المعبود تعالى عليه، وهو خلق ذميم يفضي إلى الرياء؛ لأنّ من أحبّ شيئا مال إلى تحصيله، لكنّه لا يفسد العمل؛ لأنّه خارج عنه وغير قادح في لا غرض العامل.

ص: 103

وعن بعض الكتب:

(أنّه قال رجل لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): أستر العمل لا أحبّ أن يطَّلع عليه أحد فيطَّلع عليه أحد فيسرّني، فقال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):

«لك أجران أجر السرّ وأجر العلانية».

والمراد بأجر العلانية إمّا ما حصل له من حبّ الناس له باطلاعهم على حسن باطنه، فيكون قد حصل له ثواب الآخرة بإخلاصه، وكراهة اطَّلاع الغير على ما بينه وبين الله، وثواب الدنيا بحسن ذكره بين الناس، وإمّا ما حصل له بسروره على اطَّلاع الغير عليه من حيث صيرورته سببا لاقتداء الغير به من أجر من أعلن بالعمل إرادة لاقتداء الناس به في الخير.

ثمّ إنّ الكلام في الضمیمة المحرّمة غير الرياء والسمعة يعلم ممّا تقدّم فيهما، فإنّ الضميمة إن كانت من قبيل العنوان فلا إشكال في كون قصده مبطلا لصيرورة الفعل الواحد عنوانا لواجب و محرّم فیکون حراما، وإن كانت من قبيل الغاية كان قصدها منافيا للإخلاص، مع أنّ الفعل لأجل الغاية المحرّمة محرّم ولو مقدّمة، فيلزم اجتماع الواجب والحرام.

ومنه يعلم أنّه لا فرق بين كون الحرام غاية لأجل العمل أو لترجيح بعض خصوصیاته على بعض)(1).

3- السيد الخوئي (عليه الرحمة والرضوان) (ت: 1413 ه).

تناول زعيم الطائفة في زمانه السيد (أبو قاسم الخوئي (عليه الرحمة

ص: 104


1- كتاب الطهارة للشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سره): ج 2، ص 105 - 107

والرضوان) موضوع السمعة في تعليقاته على العروة الوثقى فبين حكمها وأثرها على العمل ومدخليتها في ضميمة النية وفرقها عن ضميمة الرياء أو اشتراكها معه في الحكم، بعد أن أورد قول السيد اليزدي (عليه الرحمة والرضوان):

(أما السمعة فإن كنت داعية على العمل أو كانت جزءاً من الداعي بطل، وإلا فلا، كما في الرياء، فإذا كان الداعي له على العمل هو القرية إلا أنه يفرح إذا أطلع عليه الناس من غير أن يكون داخلا في قصده لا يكون باطلا، لكن ينبغي للإنسان أن يكون ملتفتاً فإن الشيطان غرور وعدو مبين)(1).

فأعقبه السيد الخوئي بقوله: (فلإن قلنا إنها مغايرة للرياء بحسب الموضوع والمعنى، لأنه من الرؤية وهي غير السماع فلا أشكال في دخولها فيه بحسب حكمه، وذلك لأن ما دلّ من الاخبار المعتبرة على حرمة الرياء وابطاله العبادة بعينه تدل على ابطال السمعة لها.

کما ورد: (إن من عمل لي ولغيري فقد جعلته لغيري)، (أو هو كمن عمل لغيري)، أو ما يشبهه من الألفاظ على ما تقدم من رواية البرقي، هذا مضافاً الى ورود السمعة في روايتين معطوفة على الرياء:

(أحداهما): رواية محمد بن عرفة قال: قال لي الرضا (عليه السلام):

«ويحك يا ابن عرفة اعملوا لغير رياء ولا سمعة فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل، ويحك ما عمل أحد عملاً إلا رده الله به إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً».

ص: 105


1- العروة الوثقی: ج 1، ص 433

لكن هذه الرواية ضعيفة.

(ثانيتهما):

معتبرة ابن القداح، عن أبي عبد الله، عن أبيه (عليهما السلام)، قال:

قال علي (عليه السلام):

«أخشوا الله خشية ليست بتعذير، واعملوا الله في غير رياء ولا سمعة، فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى عمله يوم القيامة».

فالمتحصل: أن السمعة كالرياء موجبة لبطلان العبادة)(1).

ثانيا - أقوال فقهاء المذاهب الإخرى.

لم يرد لدى فقهاء المذاهب الستة تفصيلاً مستقلاً عن السمعة - بحسب ما توفر لدي من مصادر - كما كان لدى فقهاء الإمامية (أعلى الله مقامهم).

وقد جاءت اقوالهم مختصرة في بعض المسائل الفقهية المتفرقة، فكانت كالاتي:

ألف - المذهب المالكي.

1- الآبي الأزهري (ت: 1330 ه).

قال في كتاب الصيام:

(ومن قام رمضان إيماناً) أي تصديقاً بالأجر الموعود عليه (إحتساباً) أي: محتسباً أجرة على الله تعالى يدخره له في الاخرة ولا يفعل ذلك رياء ولا سمعة (غفر له ما تقدم من ذنبه)(2).

ص: 106


1- کتاب الطهارة للسيد الخوئي: ج 5، ص 53
2- الثمر الداني: ص 311

2- الحطّاب الرعيني المالكي (ت: 954 ه).

أورده في كتاب الحج، باب: في أحكام الحج، نقلاً عن ابن جماعة في كتاب الحج من الاحياء قوله:

(وليجعل عزمه خالصاً لوجه الله عز وجل بعيداً عن شوائب الرياء والسمعة، وليتحقق أنه لا يقبل من قصده وعمله إلا الاخلاص.

فإن من أفحش الفواحش أن يقصد بیت الملك و حرمته والمقصود غيره فليصحح مع نفسه العزم وتصحيحه بإخلاصه وإخلاصه بإجتناب كل ما فيه رياء أو سمعة، وليحذر أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير)(1).

باء - المذهب الشافعي.

قال محمد الشربيني (ت: 977 ه) في معنى المحتاج في صدقة التطوع:

(ودفعها سراً) أفضل من دفعها جهراً، الآية:

«إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا»(2).

ولما في الصحيحين في خبر السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه من قوله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم):

«ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا ترى شماله ما أنفقت يمينه».

نعم، إن كان ممن يقتدى به، واظهرها ليقتدي به من غير رياء ولا سمعة فهو أفضل)(3).

ص: 107


1- مواهب الجليل: ج 3، ص 502
2- البقرة: 271
3- مغني المحتاج: ج 3، ص 121

جيم - المذهب الحنبلي.

قال البهوتي في كشاف القناع في شرح دعاء النبي (صلى الله عليه واله وسلم) للخروج الى المسجد:

«ولا رياء ولا سمعة».

فقال: (الرياء: إظهار العمل للناس لیروه ويظنوا به خيراً؛ والسمعة: إظهار العمل ليسمعه الناس)(1).

فضلاً عن ذلك فقد أفرد البخاري في صحيحة باباً للرياء والسمعة(2) وتناولها ابن حجر العسقلاني(3) والعييني(4) في شرحها على الصحيح.

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

1- ذهب فقهاء الامامية (أعلى الله مقامهم) الى أن السمعة كالرياء موجبة لبطلان العبادة وان كان معنى كلاً منهما مختلفاً ومجال عملهما الخارجي مختلف أيضاً الا أنها من حيث القصدية واحدة، فهما يفسدان العمل أن كانا مقدمة له ومرتكزاً لنية العامل.

2- ويظهر في أقوال فقهاء المذاهب الاسلامية الأخرى أن ما يلزم الرياء يلزم السمعة أيضاً في الحكم بأنهما شرك في عمل العامل؛ ومن ثم فما يلحق الرياء عندهم من حكم يلحق السمعة ايضاً.

ص: 108


1- کشاف القناع: ج 1، ص 388
2- صحيح البخاري، كتاب الرقاق: ج 7، ص 189
3- فتح الباري: ج 11، ص 287
4- عمدة القاري: ج 8، ص 266

المبحث الثالث: مدار الرياء حول الحرمة والقربة والإخلاص

لقد أفرد الفقهاء وعلماء الاخلاق لموضوع الرياء والسمعة بحثاً موسعاً تناولوا فيه أصل نشوء هذه الرذيلة ونسبتها إلى القوى الأربعة وأثارها وكيفية التخلص منها وذلك من خلال العمل بالضد من الفضائل، أي الإخلاص.

ولذا:

كان الإخلاص محور حديث كثير من الفقهاء في المذهب الإمامي (أعلى الله شأنهم) في موضوع النية، ومنها ما ذكره الشهيد الأول (عليه الرحمة والرضوان) في القواعد والفوائد.

وعليه:

فقد أستلزم البحث الإشارة إلى هذه المباحث وهي كالآتي:

المسألة الأولى: أثر الرياء في هدم العمل في مدار قاعدة: (تبعية العمل للنية).

يورد الشهيد الأول (أبو عبد الله محمد بن مكي العاملي) (ت 786 ه) (عليه الرحمة والرضوان) على هذه القاعدة مجموعة من الفوائد بلغت احدى وثلاثون فائدة وقد اقتبسنا منها ثلاثة فوائد مرتبطة بعنوان الرياء وأثرها في هدم العمل ومحاربته للإخلاص، فكانت كالآتي:

ص: 109

الفائدة الأولى:

يعتبر في النية التقرب إلى الله تعالى، ودل عليه الكتاب والسنة.

أما الكتاب: فقوله تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ»(1). أي: وما أمر أهل الكتابين بما فيهما ألا لأجل أن يعبدوا الله على هذه الصفة، فيجب علينا ذلك، لقوله تعالى: «وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ»(2).

وقال تعالى: «وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى»(3).

أي: لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه، إذ هو منصوب على الاستثناء المنفصل وكلاهما يعطيان أن ذلك معتبر في العبادة، لأنه تعالى مدح فاعله عليه.

وأما السنة: ففيما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) في الحديث القدسي:

«من عمل لي عملا أشرك فيه غيري تركته لشريكي»(4).

الفائدة الثانية:

معنى الاخلاص: فعل الطاعة خالصة لله وحده وهنا غايات ثمان:

الأولى: الرياء، ولا ريب في أنه يخل بالإخلاص. ويتحقق الرياء بقصد مدح الرائي، أو الانتفاع به، أو دفع ضرره(5).

ص: 110


1- البينة: 5
2- البينة: 5
3- الليل: 19 - 20
4- رواه أحمد بلفظ: (أنا خير الشركاء من عمل لي عملا فأشرك فيه غيري فانا منه برئ وهو للذي أشرك) مسند أحمد: ج 2، ص 301 - 432. وانظر أيضا: القرافي، الفروق: ج 3، ص 22 (باختلاف بسيط)
5- أوردنا في المسألة السابقة في اقوال فقهاء المذهب الإمامي، قول الشيخ مرتضى الأنصاري (عليه الرحمة والرضوان) وقد ناقش قول الشهيد الأول: (ويتحقق الرياء بقصد مدح الرياء)

فإن قلت: فما تقول في العبادات المشوبة بالتقية؟

قلت: أصل العبادة واقع على وجه الاخلاص، وما فعل منها تقية فان له اعتبارین: بالنظر إلى أصله: وهو قربة، وبالنظر إلى ما طرأ من استدفاع الضرر، وهو لازم لذلك، فلا يقدح في اعتباره. أما لو فرض إحداثه صلاة - مثلا - تقية فإنها من باب الرياء.

الثانية: قصد الثواب، أو الخلاص من العقاب، أو قصدهما معا.

الثالثة: فعلها شكرا لنعم الله واستجلابا لمزيده.

الرابعة: فعلها حياء من الله تعالى.

الخامسة: فعلها حبا لله تعالى.

السادسة: فعلها تعظيما لله تعالى ومهابة وانقيادا وإجابة.

السابعة: فعلها موافقة لإرادته، وطاعة لأمره.

الثامنة: فعلها لكونه أهلا للعبادة. وهذه الغاية مجمع على كون العبادة تقع بها معتبرة، وهي أكمل مراتب الاخلاص، وإليه أشار الإمام الحق أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) بقوله:

«ما عبدتك طمعا في جنتك، ولا خوفا من نارك، ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك»(1).

ص: 111


1- هذا الحديث مشهور في نسبه لأمير المؤمنين (عليه السلام) وقد رواه الشهيد الاول هنا مرسلاً وبعد بذاك أقدم مصدرٍ هذا الحديث، - بحسب ما توفر لدينا من مصادر - وقد رواه أيضاً بهذا اللفظ: المقداد السيروري في نضد القواعد الفقهية: ص 170 والشهيد الثاني في روض الجنان: ج 1، ص 87؛ والمحقق الأردبيلي في زبدة البيان: ص 696

وأما غاية الثواب والعقاب فقد قطع الأصحاب(1) بكون العبادة فاسدة بقصدها. وكذا ينبغي أن تكون غاية الحياء والشكر وباقي الغايات.

والظاهر أن قصدها مجز، لان الغرض بها في الجملة، ولا يقدح كون تلك الغايات باعثا على العبادة، أعني: الطمع، والرجاء، والشكر والحياء، لان الكتاب والسنة مشتملتان على المرهبات: من الحدود، والتعزيرات، والذم، والايعاد بالعقوبات، وعلى المرغبات: من المدح والثناء في العاجل، والجنة ونعيمها في الآجل.

وأما الحياء فغرض مقصود، وقد جاء في الخبر عن النبي (صلى الله عليه وآله):

«استحيوا من الله حق الحياء»(2).

و «أعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»(3).

فإنه إذا تخيل الرؤية انبعث على الحياء والتعظيم والمهابة.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) - وقد قال له ذعلب اليماني - بالذال المعجمة المكسورة، والعين المهملة الساكنة، واللام المكسورة -:

(هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال: (عليه السلام):

«أفأعبد ما لا أرى»؟

فقال: وكيف تراه؟ فقال:

ص: 112


1- انظر: العلامة الحلى / المسائل المهنائية: ورقة 29 ب، و 32 - 23 (مخطوط بمكتبة السيد الحكيم العامة في النجف، ضمن مجموع برقم 1107)
2- انظر: صحيح الترمذي: ج 9، ص 281
3- انظر: المتقي الهندي / کنز العمال: ج 2، ص 6، حدیث: 124

«لا تدركه العيون بشاهدة الأعيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الایمان، قريب من الأشياء غير ملامس بعيد منها غير مباین، متکلم بلا روية، مرید لا بهمة، صانع لا بجارحة، لطيف لا يوصف بالخفاء، كبير لا يوصف بالجفاء بصير لا يوصف بالحاسة، رحیم لا يوصف بالرقة، تعنو الوجوه لعظمته، وتوجل القلوب من مخافته»(1).

وقد اشتمل هذا الكلام الشريف على أصول صفات الجلال والاكرام التي عليه مدار علم الكلام، وأفاد أن العبادة تابعة للرؤية، وتفسير معنی الرؤية، وأفاد الإشارة إلى أن قصد التعظيم بالعبادة حسن وإن لم یکن تمام الغاية. وكذلك الخوف منه تعالى.

الفائدة الثالثة:

لما كان الركن الأعظم في النية هو الاخلاص، وكان انضمام تلك الأربعة غير قادح فيه، فحقيق أن نذكر ضمائم أخرى، وهي أقسام:

الأول: (ما یکون منافيا) له، كضم الرياء، وتوصف بسببه العبادة بالبطلان، بمعنی عدم استحقاق الثواب.

وهل يقع مجزئا بمعنی سقوط التعبد به، والخلاص من العقاب؟ الأصح أنه لا يقع مجزئا، ولم أعلم فيه خلافا إلا من السيد الإمام المرتضی(2) (قدس

ص: 113


1- انظر: نهج البلاغة: 2/ 120 - 121 (شرح محمد عبده) مطبعة الاستقامة بمصر
2- علم الهدى السيد أبو القاسم علي بن الحسين المعروف ب (الشريف المرتضى) طيب الله رمسه من أعلام القرنين الرابع والخامس الهجري. وفضله أشهر من أن يذكر فهو الفقيه المحقق والأصولي المجدد والكلامي المتضلع والأديب الماهر والمفسر المتبحر، صاحب التأليف الكثيرة والتصانيف العديدة في أنواع الفنون ومختلف العلوم

ص: 114

الله سره)، فان ظاهره الحكم بالأجزاء في العبادة المنوي بها الرياء.

الثاني: ما يكون من الضمائم لازما للفعل، كضم التبرد أو (التسخن أو التنظف) إلى نية القرية. وفيه وجهان ينظران: إلى عدم تحقق معنى الاخلاص، فلا يكون الفعل مجزئا، وإلى أنه حاصل لا محالة، فنيته كتحصيل الحاصل الذي لا فائدة فيه. وهذا الوجه ظاهر أكثر الأصحاب. والأول أشبه، ولا يلزم من (حصوله نية) حصوله.

ويحتمل أن يقال: إن كان الباعث الأصلي هو القربة ثم طرأ التبرد عند الابتداء في الفعل، لم يضر، وإن كان الباعث الأصلي هو التبرد فلما أراده ضم القربة، لم يجز. وكذا إذا كان الباعث مجموع الأمرين، لأنه لا أولوية حينئذ فتدافعا، فتساقطا، فكأنه غير ناو.

ومن هذا الباب ضم نية الحمية إلى نية القرية في الصوم، وضم ملازمة الغريم إلى القرية في الطواف والسعي والوقوف بالمشعرين.

الثالث: ضم ما ليس بمناف ولا لازم، کما لو ضم إرادة دخول السوق مع نية التقرب في الطهارة، أو إرادة الاكل، ولم يرد بذلك الكون على طهارة في هذه الأشياء، فإنه لو أراد الكون على طهارة كان مؤكدا غير مناف، وهذه الأشياء إن لم يستحب لها الطهارة بخصوصها إلا أنها داخلة فيما يستحب بعمومه. وفي هذه الضميمة وجهان مرتبان على القسم الثاني، وأولى بالبطلان، الان ذلك تشاغل عما يحتاج إليه بما لا يحتاج إليه)(1).

ص: 115


1- القواعد والفوائد: ج 1، ص 70 - 80

المسألة الثانية: تنبيه السيد محسن الحكيم (رضوان الله عليه) حول الابقاء على الاخلاص ومواضع حرمة الرياء.

قال (قدس سره) في المستمسك في المسألة الحادية عشر، (غير الرياء من الضمائم إما حرام أو مباح أو راجح) تنبيه فيه امران:

الاول: إن الرياء - على ما ذكره غير واحد من علماء الاخلاق - (طلب المنزلة في قلوب الناس باراءتهم خصال الخير)(1)، وعليه: فلو كان المقصود من العبادة دفع الذم عن نفسه أو ضرر غير ذلك لم يكن رياء، ويشهد له خبر سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث:

«الابقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز وجل»(2).

وخبر السكوني(3): قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ثلاث علامات للمرائي ينشط إذا رأى الناس ويکسل إذا كان وحده ويحب أن يحمد في جميع أموره»(4).

ص: 116


1- وهذه المقولة وردت عن الغزالي وعن العلامة النراقي في جامع السعادات کما سیمر بیانه
2- الوسائل باب: 15 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 1
3- هو إسماعيل بن مسلم أبي زياد السكوني الشعيري، قاضي الموصل، روى عن الصادق (عليه السلام)، ذكره ابن حجر في تقريب التهذيب، وترجمة الشيخ الطوسي في كتابيه الرجال والفهرست، و ترجمه النجاشي وابن شهر آشوب في كتابيهما، واختلف فيه فقيل انّه عامي، وذهب إلى ذلك جماعة منهم المصنف في ميراث المجوس؛ وقال آخرون انّه إمامي، وأياً ما كان فقد نقل الإجماع على تصديقه والعمل بروايته كما في العدّة للشيخ الطوسي وغيرها. (شرح مشيخة الفقيه: ص 55)
4- الوسائل باب: 14 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 2

وخبر جراح المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل:

«فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا»(1) قال (عليه السلام):

«الرجل يعمل شيئا من الثواب لا يطلب به وجه الله إنما يطلب تزكية الناس يشتهي أن يسمع به الناس فهذا الذي أشرك بعبادة ربه»(2).

وفي رواية العلاء المروية عن تفسير العياشي في تفسير الآية الشريفة المذكورة قال (عليه السلام):

«من صلى أو صام أو أعتق أو حج یرید محمدة الناس فقد أشرك في عمله»(3) ويشير إليه ما في مصحح زرارة وحمران السابق: من قوله (عليه السلام):

«وأدخل فيه رضا أحد من الناس»(4).

وما تضمن أمر المرائي يوم القيامة أن يأخذ أجره من عمل له. وما تضمن الأمر بحفظ الانسان نفسه من أن يكون في معرض الذم والاغتياب وظهور إطباق الفقهاء على أن الأسرار في الصدقة المستحبة أفضل، إلا مع التهمة فالإعلان أفضل.

ومن ذلك يظهر ضعف ما عن الشهيد في القواعد: (من أن الرياء يتحقق بقصد مدح المرائي أو الانتفاع به أو دفع ضرره.

ص: 117


1- الكهف: 110
2- روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقیه، محمد تقي المجلسي (الأول): ص 141
3- تفسير العياشي: ج 2، ص 352
4- كتاب الطهارة، الشيخ الأنصاري: ج 2، ص 99

فإن قلت: فما تقول في العبادة المشوبة بالتقية قلت: أصل العبادة واقع على وجه الاخلاص وما فعل منها تقية فإن له اعتبارین بالنظر إلى أصله وهو قربة، وبالنظر إلى ما طرأ من استدفاع الضرر وهو لازم لذلك فلا يقدح في اعتباره، أما لو فرض إحداثه صلاة مثلا تقية فإنها من باب الرياء).

الثاني: الرياء - کما ذکره غير واحد - إنما يكون في خصال الخير القائمة بالبدن تارة، وبالزي أخرى، وبالعمل ثالثة، وبالقول رابعة، و بالاتباع والأمور الخارجة عن المرائي خامسة، والمستفاد من النصوص المتضمنة لحرمته أن موضوع الحرمة هو العمل الذي يري الناس أنه متقرب به إلى الله تعالى، فتكون المنزلة في نفوسهم المقصودة له بتوسط اعتقادهم أنه ذو منزلة عند الله تعالى، وعليه فلو عمل عملا من أحد الأنحاء الخمسة السابقة بقصد أن يكون له منزلة في قلوبهم بالعمل نفسه لا بعنوان كونه عبادة لله تعالى لم يكن محرما، فلو عاشر السلطان بقصد أن يكون له منزلة في قلوب الرعية لم يكن ریاء محرما، ولو عاشر الفقراء بقصد أن يرى الناس أنه يتقرب إلى الله تعالى بمعاشرتهم فتكون له منزلة في قلوب من يراه من الناس كان رياء محرما، وهكذا الحال في بقية أمثلة الأنواع)(1).

المسألة الثالثة: مبحث الاخلاص في تعليقات الشيخ محمد تقي الأملي (عليه الرحمة والرضوان) على العروة الوثقی:

ص: 118


1- مستمسك العروة: ج 6، ص 29

تناول الشيخ محمد تقي الآملي (قدس سره) (ت: 1391 ه) في شرحه على العروة في الشرط الثاني عشر من شروط الوضوء، وهو (النية) وذكر:

(أن حال الرياء في أبطال الوضوء كحال الحدث) وقد فرّع - من متن السيد اليزدي (قدس سره) في العروة في ضميمة الرياء والسمعة وابطالهما للعمل - أمور عدة نكتفي منها: أمر الخلوص في العمل، فقال:

(في هذه المتن امور: الأول، لا إشكال في اعتبار الإخلاص في العبادات في الجملة، للإجماع على اعتباره، بل يدل على اعتباره ارسالهم له إرسال المسلمات الكاشف عن كونه بديهيا عندهم فضلا عن كونه إجماعيا، ولتوقف صدق الإطاعة عليه، وعدم حصول التقرب الا به في بعض مراتبه - على ما سيظهر.

وقد يستدل له بقوله تعالى:

«وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ»(1).

ص: 119


1- البينة:5

وقوله تعالى:

«وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا»(1) وفي خبر ابن مسکان عن الصادق (عليه السلام) في قول الله :

«حَنِيفاً مُسْلِماً»(2) قال:

«خالصا مخلصا لا يشوبه شيء»(3).

وعنه (عليه السلام) قال:

«قال الله عزّ وجل: انا خير شريك من أشرك معي في عملي غيري لم أقبله إلا ما كان خالصا».

وعنه (عليه السلام) قال:

«و كل عمل تعمله لله فليكن نقيا من الدنس» وغير ذلك من الاخبار، لكن في دلالة الآيات على شرطية الإخلاص في صحة العبادات تأمل، وكيف كان ففي الإجماع غنی و كفاية.

والإخلاص مأخوذ من الخلوص بمعنی جعل العمل خالصا، وإتيانه بداع واحد لابداع متعددة - كما في الدرهم الخالص إذا كان خالصا عن العيار متمحضا في الفضة، ويصح إطلاقه عليه إذا كان خالصاعن الفضة وكان متمحضا في العيار، لكن الاصطلاح انعقد على تسمية الأول بالخالص - وكذا العمل قد یکون خالصا لله متمحضاله تعالى، وقد يكون خالصا

ص: 120


1- التوبة: 31
2- آل عمران: 67
3- الوسائل: الباب 8 من أبواب مقدمة العبادات، ح 9، والباب 12، ح 11

عنه متمحضا لغيره، وبالمعنى اللغوي يصدق الخالص على کليهما، لكن الاصطلاح انما هو في تسمية الأول بالخالص ولا يطلق الخالص على الخالص عنه تعالى:

ثم المراد بكون العمل خالصا لله تعالى ليس تصور کونه له على نحو حديث النفس والخطور بالبال، بل المقصود منه کون محرکه نحو الفعل وداعيه إلى فعله لا يكون الا الله تعالى وابتغاء وجهه الكريم - کما ان العطشان تحرکه نحو الماء يكون بداعي سقيه، والعلة التامة في تحريکه نحوه هو السقي، وهو علة غائية لفعله التي هي علة فاعلية الفاعل بحسب التصور، والترتب على الفعل بحسب الخارج، والخلوص في العمل هو كون محرکه نحوه التقرب إلى الله تعالى المتقدم على الفعل بحسب الذهن المتأخر عنه بحسب العين.

الأمر الثاني: المشهور على بطلان العبادة رياء، خلافا للمحكي عن السيد من أنه صحيح بمعنى أنه مسقط للإعادة والقضاء، ولكنه مردود غير مقبول عند الله، لأن الصحة أعم من القبول، والحق ما عليه المشهور، لظهور الأخبار الواردة في اعتبار الخلوص عن الرياء في الصحة، ففي المروي عن الصادق (عليه السلام) قال: قال النبي صلَّى الله عليه وآله:

«إنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجا به، فإذا صعد بحسناته يقول الله عز وجل اجعلوها في سجين فإنه ليس إياي أراد بها».

ولا يخفى ان كون العمل الذي لم يرد به الله سبحانه في سجين - الذي هو کتاب الفجار - موجب لحرمته، إذ لو لم يكن حراما لم يكن في سجين.

ص: 121

وعنه (عليه السلام) قال:

«يجاء بالعبد يوم القيامة وقد صلى، فقال: یا رب! صليت ابتغاء وجهك، فيقال: بل صليت ليقال ما أحسن صلاة فلان، اذهبوا به إلى النار».

وعنه (عليه السلام) في حديث قال:

«فاتقوا الله في الرياء فإنه الشرك بالله، ان المرائي يدعى بأربعة أسماء: یا فاجر یا کافر یا غادر یا حاسر حبط عملك وبطل أجرك فلا خلاص لك اليوم فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له».

وعن الكاظم (عليه السلام) قال:

«یؤمر برجال إلى النار - إلى أن قال - فيقول لهم خازن النار يا أشقياء ما كان حالكم؟ قالوا كنا نعمل لغير الله». وغير ذلك من الاخبار التي سیمر عليك بعضها في المباحث الآتية، والمتفاهم منها بطلان العمل المرائي وحرمته.

وليعلم ان المحتملات في الرياء أمور:

منها ان يكون أمرا جانحيا وهو القصد إلى الإيراء بلا سراية منه إلى العمل الخارجي، وعليه ينطبق تعريفه في الأخلاق بأنه طلب المنزلة في قلوب الناس بإيراء الاعمال الخير.

ومنها ان يكون العمل الخارجي أيضا مما ينطبق عليه مفهوم الرياء، ویسری قبحه إليه ويصير حراما.

ومنها ان يكون العمل الخارجي ملازما للرياء، لا أنه بنفسه هو العمل، ولا أن يكون معلولا للعمل.

ص: 122

فعلى الأول:

يكون العمل الخارجي علة لحصول الرياء، حيث يطلب به الرياء فيصير حراما لكونه علة للرياء المحرم، وعلى الثاني:

يصير بنفسه الرياء المحرم، وعلى الثالث:

يصير العمل ملازما للرياء المحرم فيدخل في باب اجتماع الأمر والنهي، بناء على جواز الاجتماع بتعدد الجهة واجدائه في الجواز، وأبعد الاحتمالات هي الأخير، والمستظهر من الاخبار المتقدمة وغيرها هو الاحتمال الثاني وكون العمل بنفسه ریاء محرما، كما لا يخفى على المتدبر فيها، وبها يضعف المحكي عما استدل للمرتضى (قدس سره) لما ذهب إليه من صحة عمل المرائي وعدم قبوله، بمعنی عدم ترتب الثواب عليه، وهو وجوه:

منها: ان المنفي في الاخبار عن عمله هو القبول، ونفيه لا يستلزم البطلان، لأن إطلاق عدم القبول في الآيات والأخبار بمعنی عدم ترتب الثواب مع صحته.

العمل - بمعنی سقوط الأمر بإتيانه وعدم الحاجة إلى الإعادة والقضاء - كثير، كما في قوله تعالى:

«إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ».

مع عدم اعتبار التقوى في صحة العبادات بلا کلام، وما ورد في صلاة شارب الخمر من أنها لا تقبل أربعين يوما، مع القطع بعدم اشتراط ترك شربها في صحتها كما لا يخفی.

ومنها: إن الرياء ایراء الغير في العمل، فالنهي عنه لا يتعلق بالعمل نفسه، ومنها أن حرمة الرياء في العمل لا يقتضي بطلان العمل، لجواز اجتماع الأمر والنهي.

ص: 123

والكل مندفع، أما الأول فلان نفى القبول بمعنی نفی ترتب الثواب في بعض الموارد مع صحة العمل - کما في مورد الآية والرواية - لا ينافي ظهور الأخبار المتقدمة في البطلان ونفى الصحة ظهورا عرفيا بلا قيام قرينة على صرفها عن ظهورها وحملها على نفی ترتب الثواب، وهذا لعله ظاهر، وأما التشكيك في التفكيك بين الصحة والقبول. وإن ما كان صحيحا بمعنی کون فعله مسقطا للإعادة والقضاء وموجبا لسقوط الأمر، ولا محالة يجب ان يكون مقبولا مرضيا، وما لا يكون مرضيا فلا يكون مسقطا للأمر به کما في مصباح الفقيه، ولذا حمل الآية المباركة وما ورد من عدم قبول صلاة شارب الخمر أربعين يوما على القبول الكامل - فلعله في غير محله، بل لعل التفكيك بينهما غير خفي، والتفصيل موکول إلى محله وهو علم الأخلاق)(1).

أقول: وقد تناول علماء الاخلاق عنوان الرياء في كتبهم بشكل موسع وذلك القبح صفته وسوء عاقبة فاعله وشدة توغله في النفس وتجذره في القلب والعياذ بالله.

وممن سبق في بحثه والتوسع فيه هو الغزالي(2) (ت: 505 ه) ثم تتبعه في

ص: 124


1- مصباح الهدى في شرح العروة الوثقى للشيخ محمد تقي الآملي: ج 3 ص 452 - 455
2- أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الشافعي (450 - 505 ه)، تلمذ عند إمام الحرمین، ثمّ ولاه نظام الملك التدريس في مدرسة بغداد، وخرج له أصحاب وصنف التصانيف، وتوفي في الرابع عشر من جمادى الآخرة في الطابران قصبة بلاد الطوس وله 55 سنة. ومن تأليفه كتاب «المستصفى» في أُصول الفقه وهو رصين التعبير، واضح البيان، يطلق عنان القلم حتى يبلغ الغاية مما یرید، طبع في مصر في جزئيين، وكتاب «المنخول من تعليقات الأُصول»، طبع بتحقيق الدكتور محمد حسن هيتو عام 1980 م وكتاب «شفاء الغليل في بيان مسالك التعليل» طبع بتحقيق الدكتور حمد عبيد الكبيسي عام 1390 ه. (موسوعة طبقات الفقهاء، الشيخ السبحاني: ج 1، ص 454)

ذلك بعض العلماء من اهتموا في هذا الحقل المعرفي لا سيما الشيخ الأجل العارف الحكيم محمد بن المرتضى المدعو بالمولى الفيض الكاشاني(1) (قدس سره) (ت: 1091 ه) فقد بذل جهداً مباركاً في تنقيح ما جاء به الغزالي في (احياء علوم الدين)(2)، ثم تبعه في هذا النهج القويم الشيخ المتبحّر المتخلّق بعلوم آل العصمة عليهم السلام الشيخ محمد مهدي الراقي(3) (قدس سره) (ت: 1209 ه) في جامعه للسعادات الأخروية والدنيوية.

ولذا نورد ما تيسر لنا من البيان لكلام هذين العلمين وبما يتناسب مع منهج البحث.

المسألة الرابعة: حقيقة الرياء والسمعة عند علماء الاخلاق وكيفية علاجه بما يضده وهو الاخلاص:

أولاً - معنى الإخلاص عند الفقهاء.

لا شك في أن المقصود في محاربة الرياء وتهذيب النفس منه هو غاية الفقهاء والعرفاء وعلماء الاخلاق وان الوصول إلى هذه الغاية لا يكون الا بالإخلاص، وقد اصطلح الفقهاء (الاخلاص) في كتبهم فعرفوه بقولهم:

(الاخلاص لغة ترك الرياء في الطاعة، وهي من خلص خلوصاً وخلاصاً، أي صفا وزال شوبة؛ ويقال: خلص من ورطته، أي سلم منها ونجا، وخلص من القوم: اعتزلهم وانفصل عنهم.

ص: 125


1- سیمر بیان ترجمته لاحقاً
2- احياء علوم الدين للغزالي: ج 1 ص 1110 - 133
3- سیمر بیان ترجمته لاحقاً

وفي التنزيل:

«فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا»(1).

وعرفاً: تخليص القلب من كل شوب یکدر صفائه، وكل ما يصور أن يشوب غيره، فإذا صفا عن شوبة وخلص منه سمي الفعل المخلص اخلاصاً قال تعالى:

«مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا»(2).

فإنما خلوص اللبن ألا يكون فيه شوب من الفرث والدم.

قال الفضيل بن عياض(3): ترك العمل لأجل الناس ریاء والعمل لأجلهم شرك، والإخلاص: الخلاص من هذين.

والإخلاص: ألا تطلب لعملك شاهدا غير الله - عزّ وجلّ.

وقيل الإخلاص: تصفية الأعمال من الكدورات، وقيل: ستر بين العبد وبين الله تعالى لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله.

ص: 126


1- يوسف: 80
2- النحل: 66
3- أبو علي الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي الطالقاني الأصل الفنديني الزاهد المشهور أحد رجال الطريقة كان في أول أمره شاطرا يقطع الطريق بين أبيورد و سرخس وكان سبب توبته أنه عشق جارية فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع تاليا يتلو (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) (الحدید: 16) فقال يا رب قد آن فرجع و آواه الليل إلى خربة فإذا فيها رفقة فقال بعضهم نرتحل وقال بعضهم حتى نصبح فإن فضيلا على الطريق يقطع علينا فتاب الفضيل وآمنهم. (ينظر: وفیات الاعیان، ابن خلکان: ج 4، ص 47 - 50)

فائدة:

الفرق بين الإخلاص والصّدق: أنّ الصّدق أصل، وهو الأول، والإخلاص فرع، وهو تابع.

وفرق آخر: الإخلاص لا يكون إلَّا بعد الدخول في العمل)(1).

ثانياً - حقيقة الرياء والسمعة عند علماء الأخلاق.

ذكر الشيخ الفيض الكاشاني(2) (رحمه الله) في المحجة بيان حقيقة الرياء وما يراءی به فقال:

(أعلم أنّ الرياء مشتقّ من الرؤية، والسمعة مشتقّة من السماع وإنّما الرّياء أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير إلا أنّ الجاه والمنزلة تطلب في القلب بأعمال سوق العبادات وتطلب بالعبادات واسم الرّياء مخصوص بحكم العادة بطلب المنزلة في القلب بالعبادات وإظهارها، فحدّ الرّياء هو إرادة المنزلة بطاعة الله تعالى فالمرائي هو العابد والمرائي هو الناس المطلوب رؤيتهم لطلب المنزلة في قلوبهم والمرائي به هي الخصال الَّتي قصد المرائي إظهارها والرّياء هو قصده إظهار ذلك والمرائي به كثيرة و تجمعها خمسة أقسام وهي مجامع ما يتزيّن به العبد للنّاس فهو البدن والزيّ والقول

ص: 127


1- معجم المصطلحات الفقهية لمحمد عبد الرحمن : ج 1، ص 108
2- الفيض الكاشاني محمد بن مرتضى، رجل عارف فاضل أديب عالم حکیم متکلم محدث محقق مدقق، له كتب كثيرة في مختلف فنون العلوم الإسلامية، من كتبه «المحجة البيضاء في إحياء الإحياء «مقامه العلمي أسمى من أن يذكر في هذا المختصر، توفي سنة 1091 ه عن 84 عاما في مدينة كاشان، وفيها قبره وهو مزار معروف. (سنن النبي (ص) - السيد الطباطبائي، ص 29)

والعمل والأتباع والأشياء الخارجة وكذلك أهل الدّنيا براؤن بهذه الأسباب الخمسة إلا أنّ طلب الجاه وقصد الرّياء بأعمال ليست من جملة الطاعات أهون من الرّياء بالطاعات.

القسم الأوّل:

الرّياء في الدّين من جهة البدن وذلك بإظهار النحول والصفار ليوهم و بذلك شدّة الاجتهاد وعظم الحزن على أمر الدّين وغلبة خوف الآخرة وليدلّ و بالنحول على قلَّة الأكل وبالصفار على سهر اللَّيل وكثرة الاجتهاد وعظم الحزن على الدّين وكذلك يرائي بتشعيث الشعر ليدلّ به على استغراق الهمّ بالدّين وعدم التفرّغ لتسريح الشعر، وهذه الأسباب مهما ظهرت استدلّ الناس بها على هذه الأمور فارتاحت النفس لمعرفتهم فلذلك تدعو النفس إلى إظهارها لنيل تلك الراحة ويقرب من هذا خفض الصوت وإغارة العينين وذبول الشفتين ليستدلّ بذلك على أنّه مواظب على الصوم وأنّ وقار الشرع هو الَّذي خفض من صوته أو ضعف الجوع هو الَّذي ضعف قوّته وعن هذا قال عيسى (عليه السلام):

«إذا صام أحدكم فليدهّن رأسه ویرجّل شعره ويكحل عينيه وذلك كله لما يخاف عليه من نزغ الشيطان بالرّياء»، ولذلك قال ابن مسعود:

أصبحوا صياما مدهّنين، فهذه مرايات أهل الدّين في البدن وأما أهل الدّنيا فيزاؤون بإظهار السمن وصفاء اللَّون واعتدال القامة وحسن الوجه ونظافة البدن وقوّة الأعضاء وتناسبها.

ص: 128

القسم الثاني:

الرّياء بالزيّ والهيئة أمّا الهيئة فبتشعيث شعر الرّأس وحلق الشارب وإطراق الرأس في المشي والهدوء في الحركة وإبقاء أثر السجود على الوجه وغلظ الثياب ولبس الصوف وتشميرها إلى قريب من نصف الساق وتقصير الأكمام وترك تنظيف الثوب وتركه محرقا، كلّ ذلك يرائي به ليظهر من نفسه أنّه متّبع للسنّة فيه ومقتد فيه بعباد الله الصالحين، ومنه لبس المرقّع والصلاة على السجّادة ولبس الثياب الزرق تشبّها بالصوفيّة مع الإفلاس عن حقائق التصوّف في الباطن.

ومنه التقنّع بالإزار فوق العمامة ليري به أنّه انتهى تقشّفه إلى الحذر من غبار الطريق ولتنصرف إليه الأعين بسبب تميّزه بتلك العلامة ومنه الدّراعة والطيلسان يلبسه وهو خال من العلم ليوهم أنّه من أهل العلم.

والمراؤون بالزّي على طبقات منهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلاح بإظهار الزّهد فيلبس الثياب المخرقة الوسخة القصيرة الغليظة ليرائي بغلظها وقصرها ووسخها و تخرّقها، ولو كلَّف أن يلبس ثوبا وسطا نظيفا ممّا كان السلف يلبسه لكان عنده بمنزلة الذّبح وذلك لخوفه أن يقول الناس:

قد بدا له في الزّهد ورجع عن تلك الطريقة ورغب في الدّنيا.

وطبقة أخرى يطلبون القبول عند أهل الصلاح وعند أهل الدّنيا من الملوك والتجّار، ولو لبسوا الثياب الفاخرة ردّهم القرّاء ولو لبسوا الثياب المخرقة النازلة ازدرتهم أعين الملوك والأغنياء، فهم يريدون الجمع بين قبول أهل الدّين والدّنيا فلذلك يطلبون الأصواف الدّقيقة والأكيسة الرّقيقة

ص: 129

والمرقّعات المصبوغة والفوط الرّفيعة فيلبسونها، ولعلّ قيمة أثوابهم قيمة ثياب الأغنياء، وهيئته ولونه لون ثياب الصلحاء، فيلتمسون القبول عند الفريقين، وهؤلاء لو كلَّفوا لبس ثوب خشن أو وسخ لكان عندهم كالذّبح خوفا من السقوط من أعين الملوك والأغنياء، ولو كلَّفوا لبس ثوب الدّيبقي والكتّان الرقيق الأبيض أو المقصّب المعلَّم وإن كانت قيمته دون قيمة ثيابهم لعظم عليهم خوفا من أن يقول أهل الصلاح: قد رغبوا في زيّ أهل الدّنيا وكلّ طبقة منهم رأی منزلته في زيّ مخصوص فيثقل عليه الانتقال إلى ما دونه أو ما فوقه وإن كان مباحا خيفة من المذمّة.

وأمّا أهل الدّنيا فمراءاتهم بالثياب النفيسة والمراكب الرّفيعة وأنواع التوسّع والتجمّل في الملبس والمسكن وأثاث البيت وفره الخيل وبالثياب المصبغة والطيالسة النفيسة وذلك ظاهر بين الناس، فإنّهم يلبسون في بيوتهم الثياب الخشنة ويشتدّ عليهم لوبرزوا للنّاس على تلك الثياب مالم يبالغوا في الزّينة.

الثالث:

الرّياء بالقول ورياء أهل الدّين بالوعظ والتذكير والنطق بالحكمة وحفظ الأخبار والآثار لأجل الاستعمال في المحاورة إظهارا لغزارة العلم ودلالة على شدّة العناية بأحوال السلف الصّالحين وتحريك الشفتين بالذّكر في محضر الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمشهد الخلق وإظهار الغضب للمنكرات، وإظهار الأسف على مقارفة الناس بالمعاصي، وتضعيف الصوت في الكلام وترقيق الصوت بقراءة القرآن ليدلّ بذلك على الحزن والخوف، وادّعاء حفظ الحديث ولقاء الشيوخ والدّقّ على من يروي الحديث ببيان

ص: 130

خلل في لفظه ليعرف أنّه بصير بالأحاديث والمبادرة إلى أنّ الحديث صحيح أو غير صحيح لإظهار الفضل فيه والمجادلة على قصد إفحام الخصم ليظهر للناس قوّته في علم الدّين، والرياء بالقول كثير وأنواعه لا تنحصر، وأمّا أهل الدّنيا فمراءاتهم بالقول بحفظ الأشعار والأمثال والتفاصح في العبارات وحفظ النحو الغريب للإغراب على أهل الفضل وإظهار التودّد إلى الناس لاستمالة القلوب.

الرابع:

الرّياء بالعمل کمراءاة المصلَّي بطول القيام ومدّ الظهر وتطويل السجود والرّكوع وإطراق الرأس وترك الالتفات وإظهار الهدوء والسكون وتسوية القدمين واليدين، وكذلك بالصوم والغزو والحجّ وبالصدقة وبإطعام الطعام وبالأخبات في المشي عند اللَّقاء كإرخاء الجفون وتنكيس الرأس والوقار في الكلام حتّى أنّ المرائي قد يسرع في المشي إلى حاجته فإذا اطَّلع عليه أحد من أهل الدّين رجع إلى الوقار، وإطراق الرأس خوفا من أن ينسبه إلى العجلة وقلَّة الوقار، فان غاب الرّجل عاد إلى عجلته فإذا رآه عاد إلى خشوعه ولم يحضره ذكر الله حتّى يكون يجدّد الخشوع له بل هو لاطَّلاع إنسان عليه يخشى أن لا يعتقد فيه أنّه من العبّاد والصلحاء.

ومنهم من إذا سمع هذا استحيي من أن تخالف مشيته في الخلوة مشيته بمرأى من الناس فيكلَّف نفسه المشية الحسنة في الخلوة حتّى إذا رآه الناس لم يفتقر إلى التغيير ويظنّ أنّه يتخلَّص به عن الرّياء وقد تضاعف به ریاؤه فإنّه صار في خلوته أيضا مرائيا فإنّه إنّما يحسن مشيته في الخلوة ليكون كذلك

ص: 131

في الملأ لا لخوف من الله وحياء منه، وأمّا أهل الدّنيا فمراءاتهم بالتبختر والاختيال وتحريك اليدين وتقريب الحظا والأخذ بأطراف الذّيل وإدارة العطفين ليدلَّوا بذلك على الجاه والحشمة.

الخامس:

المراءاة بالأصحاب والزائرين والمخالطين كالَّذي يتكلَّف أن يستزیر عالما من العلماء ليقال: إنّ فلانا قد زار فلانا، أو عابدا من العباد ليقال: إنّ أهل الدّين يتبرّكون بزيارته ويتردّدون إليه، أو ملكا من الملوك أو عاملا من عمّال السلطان ليقال: إنّهم يتبرّكون به لعظم رتبته في الدّين، وكالَّذي يكثر ذکر الشيوخ ليري أنّه لقي شيوخا كثيرة واستفاد منهم، فيباهي بشيوخه ومباهاته و مراءاته تترشّح منه عند مخاصمته، فيقول لغيره: ومن لقيت من الشيوخ؟ وأنا قد لقيت فلانا وفلانا ودرت البلاد و خدمت الشيوخ، وما يجري مجراه، فهذه مجامع ما يرائي به المراؤون وكلهم يطلبون به الجاه والمنزلة في قلوب العباد، ومنهم من يقنع بحسن الاعتقادات فيه، فكم من راهب انزوى إلى دیره سنين كثيرة وكم من عابد اعتزل إلى قلَّة جبل مدّة مديدة وإنّما خبأته من حيث علمه بقيام جاهه في قلوب الخلق ولو عرف أنّهم نسبوه إلى جريمة في ديره أو صومعته لتشوّش قلبه ولم يقنع بعلم الله ببراءة ساحته بل يشتدّ لذلك غمّه ويسعى بكلّ حيلة في إزالة ذلك من قلوبهم مع أنّه قطع طمعه من أموالهم ولكنّه يحبّ مجرّد الجاه فإنّه لذیذ کما ذکرناه في أسبابه فإنّه نوع قدرة واستيلاء وکمال في الحال وإن كان سريع الزّوال لا يغترّ به إلا الجهّال ولكن أكثر الناس جهّال، ومن المرائين من لا يقنع بقيام منزلته بل يلتمس مع ذلك إطلاق اللَّسان بالثناء والحمد، ومنهم من يريد انتشار الصيت في

ص: 132

البلاد لتكثر الرّحلة إليه، ومنهم من يريد الاشتهار عند الملوك لتقبل شفاعته وتنجز الحوائج على يديه فيقوم له به جاه عند العامّة، ومنهم من يقصد التوصّل بذلك إلى جمع حطام وكسب مال ولو من الأوقاف وأموال اليتامی وغير ذلك من الحرام وهؤلاء شرّ طبقات المرائين الَّذين يراؤون بالأسباب الَّتي ذكرناها. فهذه حقيقة الرّياء وما به يقع الرّياء)(1).

ثالثاً - كيفية علاجه بمايضده وهو الاخلاص:

تناول الشيخ الملا محمد مهدي النراقي(2) (رحمه الله) (ت: 1209 ه) في جامعه للسعادات الدنيوية والاخروية كيفية النجاة والتخلص من الرياء وذلك باتباع منهج التضاد بالفضائل، فذکر علاج الرياء بأسلوب علمي دقیق و منشئه في النفس، فسهل على القارئ والباحث تقديم العلاج، فابتداء أولا بحقيقة الاخلاص، فقال:

(هو تجريد القصد من الشوائب كلها. فمن عمل طاعة رياء فهو مراء

ص: 133


1- المحجة البيضاء في تهذیب الاحياء للفيض الكاشاني: ج 6، ص 148 - 152
2- محمد مهدي بن محمد مهدي النراقي (1209 - 1286 ه) المقلب ب (آقا بزرگ). سمي باسم والده لأنه ولده بعد وفاته في سنة (1209 ه). وصفة الأقا المولى حبيب الله شريف الكاشاني بقوله: (كان عيلوما مفضالا وفقيها نبيها و مجتهدا جوادا بذالا، جامع لشرائط الفتوى والاجتهاد، حاویا لمراتب حسن الأخلاق والسداد...)، كان يعرف أولا - لكونه أصغر ولد المحقق النراقي - ب (آقا کوچك) ثم لقبه السلطان ب (آقا بزرگ) وله إجازة مفصلة عن أستاذه وأخيه، كتبها في أواخر شهر ذي الحجة الحرام سنة 1244 ه. وله مؤلفات في الفقه والأصول، منها كتاب: (تنقیح الأصول) في مجلدين، و (شرح الإرشاد) المعنون ب (المقاصد العلية). (عوائد الأيام: المحقق النراقي: ص مقدمة التحقيق 43)

مطلق، ومن عملها وانضم إلى قصد القربة، غرض دنیوي انضماما غير مستقل فعله مشوب غير خالص، كقصد الانتفاع بالحمية من الصوم، وقصد التخلص من مؤنة العبد أو سوء خلقه من عتقه، وقصد صحة المزاح أو التخلص من بعض الشرور والأحزان من الحج، وقصد العزة بين الناس أو سهولة طلب المال من تعلم العلم، وقصد النظافة والتبرد وطيب الرائحة من الوضوء والغسل، والتخلص عن إبرام السائل من التصدق عليه، وهكذا. فمتی کان باعث الطاعة هو التقرب ولكن انضافت إليه خطرة من هذه الخطرات، خرج عمله من الإخلاص.

فالإخلاص تخليص العمل عن هذه الشوائب كلها، كثيرها وقليلها. والمخلص من يكون عمله المحض التقرب إلى الله سبحانه، من دون قصد شيء آخر أصلا.

ثم أعلى مراتب الإخلاص. وهو الإخلاص المطلق وإخلاص الصديقين إرادة محض وجه الله سبحانه عن العمل، دون توقع غرض في الدارين.

ولا يتحقق إلا لمحب لله تعالى مستهترابه، مستغرق الهم بعظمته وجلاله، بحيث لم یکن ملتفتا إلى الدنيا مطلقا. وأدناها - وهو الإخلاص الإضافي - قصد الثواب والاستخلاص من العذاب، وقد أشار سيد الرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى حقيقة الإخلاص بقوله:

«هو أن تقول ربي الله ثم تستقم كما أمرت(1) تعمل لله، لا تحب أن تحمد عليه! أي لا تعبد هواك ونفسك، ولا تعبد إلا ربك، وتستقيم في عبادتك كما أمرت»(2).

ص: 134


1- إشارة إلى قوله تعالى مخاطبا لنبيه (صلى الله علیه و آله): «فاستقم كما أمرت»
2- جامع السعادات، ملا محمد مهدي النراقي: ج 2، ص 311

وهذا إشارة إلى قطع ما سوى الله سبحانه عن مجرى النظر، وهو الإخلاص حقا. ويتوقف تحصيله على كسر حظوظ النفس وقطع الطمع عن الدنيا والتجرد في الآخرة، بحيث ما يغلب ذلك على القلب والتفكر في صفات الله تعالى وأفعاله والاشتغال بمناجاته حتى يغلب على قلبه نور جلاله وعظمته، ويستولي عليه حبه وأنسه، وكم من أعمال يتعب الإنسان فيها ويظن أنها خالصة لوجه الله تعالى، ويكون فيها مغرورا لعدم عثوره على وجه الآفة فيها، کما حكي عن بعضهم أنه قال:

((قضيت صلاة ثلاثين سنة كنت صليتها في المسجد جماعة في الصف الأول، لأني تأخرت يوما لعذر وصليت في الصف الثاني، فاعترتني خجلة من الناس حيث رأوني في الصف الثاني فعرفت أن نظر الناس إلي في الصف الأول كان يسرني، وكان سبب استراحة قلبي من ذلك من حيث لا أشعر)).

وهذا دقيق غامض، وقلما تسلم الأعمال من أمثاله، وقل من يتنبه له، والغافلون عنه يرون حسناتهم في الآخرة كلها سيئات، وهم المرادون بقوله تعالى: «وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا»(1).

«وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ»(2).

وبقوله: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»(3).

ص: 135


1- الجاثية: 33
2- الزمر: 47
3- الكهف: 103 - 104

1- مدح الإخلاص:

الإخلاص منزل من منازل الدين، ومقام من مقامات الموقنين. وهو الكبريت الأحمر، وتوفيق الوصول إليه من الله الأكبر، ولذا ورد في فضيلته ما ورد من الآيات والأخبار، قال الله تعالى:

«وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ»(1).

وقال:

«أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ»(2).

وقال:

«إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ»(3).

وقال:

«فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا»(4).

نزل فيمن يعمل لله ويحب أن يحمد عليه.

وفي الخبر القدسي:

«الإخلاص سر من أسراري، استودعته قلب من أحببت من عبادي».

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

ص: 136


1- البينة: 5
2- الزمر: 3
3- النساء: 146
4- الكهف: 110

«أخلص العمل يجزيك منه القليل».

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):

«ما من عبد يخلص العمل الله تعالى أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه».

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):

«ثلاث لا يغل عليهن»، وعد (منها قلب رجل مسلم أخلص العمل لله (عز وجل)).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام):

«لا تهتموا لقلة العمل واهتموا للقبول».

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام):

«طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء، ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه، ولم ينس ذكر الله بما تسمع أذناه، ولم يحزن صدره بما أعطى غيره!».

وقال الباقر (عليه السلام):

«ما أخلص عبد الإيمان بالله أربعين يوما - أو قال: ما أجمل عبد ذکر الله أربعين يوما - إلا زهده الله تعالى في الدنيا وبصره داءها ودواءها، وأثبت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه».

وقال الصادق (علية السلام) في قول الله عز وجل:

«لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا»(1).

ص: 137


1- هود: 7

فقال: «ليس يعني أكثر کم عملا، ولكن أصوبکم عملا. وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة».

ثم قال: «الايفاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز وجل، والنية أفضل من العمل، ألا وإن النية هي العمل».

ثم تلا قوله عز وجل:

«قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ»: يعني على نيته.

وقال الصادق (عليه السلام):

«الإخلاص يجمع فواضل الأعمال، وهو معنی مفتاحه القبول وتوفيقه الرضا، فمن تقبل الله منه ورضي عنه فهو المخلص وإن قل عمله، ومن لا يتقبل الله منه فليس بمخلص وإن كثر عمله، واعتبارا بآدم (عليه السلام) وإبليس. وعلامة القبول وجود الاستقامة يبذل كل المحاب مع إصابة علم كل حركة وسكون، والمخلص ذائب روحه باذل مهجته في تقویم ما به العلم والأعمال والعامل والمعمول بالعمل، لأنه إذا أدرك ذلك فقد أدرك ذلك الكل، وإذا فاته ذلك فاته الكل، وهو تصفية معاني التنزيه في التوحيد كما قال الأول: هلك العاملون إلا العابدون، وهلك العابدون إلا العالمون وهلك العالمون إلا الصادقون، وهلك الصادقون إلا المخلصون، وهلك المخلصون إلا المتقون، وهلك المتقون إلا الموقنون، وإن الموقنين لعلى خطر عظيم! قال الله لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): اعبد ربك حتى يأتيك اليقين. وأدنى حد الإخلاص بذل العبد طاقته، ثم لا يجعل لعمله عند الله قدرا فيوجب به على ربه مكافأة بعمله، لعمله أنه لو طالبه بوفاء حق العبودية لعجز، وأدنى مقام المخلص في

ص: 138

الدنيا السلامة في جميع الآثام، وفي الآخرة النجاة من النار والفوز بالجنة»(1).

ومن تأمل هذه الأخبار وفي غيرها مما لم يذكر، يعلم أن الإخلاص رأس الفضائل ورئيسها، وهو المناط في قبول الأعمال وصحتها، ولا عبرة بعمل لا إخلاص معه، ولا خلاص من الشيطان إلا بالإخلاص، لقوله:

«إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ»(2).

وما ورد في الإسرائيليات من حكاية العابد والشيطان والشجرة مشهور وفي الكتب مسطور(3).

2- آفات الإخلاص.

الآفات التي تكدر الإخلاص وتشوشه لها درجات في الظهور والخفاء أجلاها الرياء الظاهر. ثم تحسين العبادة والسعي في الخشوع فيها في الملأ دون الخلوة ليتأسی به الناس، ولو كان عمله هذا خالصا لله لم يتركه في الخلوة، إذ من يرى الخشوع وحسن العبادة خيرا لا يرتضي لغيره ترکه، فكيف يرتضي ذلك لنفسه في الخلوة؟ ثم تحسينها في الخلوة أيضا بقصد التسوية بين الخلوة والملأ، وهذا من الرياء الغامض، لأنه حسن عبادته في الخلوة ليحسنها في الملأ، فلا يكون فرق بينهما في التفاته فيهما إلى الخلق، إذ الإخلاص الواقعي أن تكون مشاهدة الحلق لعبادته كمشاهدة البهائم لها، من دون تفاوت أصلا، فكأن نفسه لا تسمع بإساءة العبادة بين أظهر الناس، ثم يستحي من نفسه أن يكون في

ص: 139


1- صححنا الرواية على «مصباح الشريعة»: الباب 77 وعلى (البحار): مج 15، ج 2، ص 86 باب الإخلاص عن «مصباح الشريعة)
2- الحجر: 40
3- راجع «إحياء العلوم»: ج 4، ص 322

صورة المرائين، ويظن أن ذلك يزول باستواء عبادته في الخلوة والملأ، وليس کما ظنه، إذ زوال ذلك موقوف على عدم التفاته إلى الخلق في الملأ والخلوة کما لا يلتفت إلى الجادات فيهما مع أنه مشغول الهم بالخلق فيهما جميعا. وأخفاها أن يقول له الشيطان - وهو في العبادة في الملأ بعد يأسه عن المكائد السابقة -:

(أنت واقف بين يدي الله سبحانه، فتفكر في جلاله وعظمته، واستحی من أن ينظر إلى قلبك وهو غافل عنه! فيحضر بذلك قلبه وتخشع جوارحه).

وهذا أخفى مكائد الشيطان وخداعه، ولو كانت هذه الخطرة ناشئة عن الإخلاص لما انفكت عنه في الخلوة ولم يخص خطورها بحالة حضور غيره، وعلامة الأمن من هذه الآفة: أن يكون هذا الخاطر مما يألفه في الخلوة كما يألفه في الملأ، ولا يكون حضور الغير سببا لحضوره، كما لا يكون حضور بهيمة سببا له، فما دام العبد يفرق في أحواله وأعماله بين مشاهدة إنسان و مشاهدة بهيمة، فهو بعد خارج عن صفو الإخلاص مدنس الباطن بالشرك الخفي من الرياء، وهذا الشكر أخفى في قلب ابن آدم من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، كما ورد به الخبر ولا يسلم منه إلا من عصمه الله يخفي لطفه، إذ الشيطان ملازم للمتشمرين لعبادة الله، لا يغفل عنهم لحظة ليحملهم على الرياء في كل واحد من أفعالهم وأعمالهم(1).

المسألة الخامسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

تناول شراح کتاب نهج البلاغة هذا الحديث - موضع البحث - في كتبهم فوجدت أن اورد بعضاً من هذه الشروح بحسب تنوعها الفكري وذلك ص: 140


1- جامع السعادات للنراقي: ج 2، ص 311 - 315

اعماماً للفائدة ورجاء للمطلوبية في بلوغ الاجر في اكمال متعلقات الحديث الشريف، فكانت هذه روح على النحو الآتي:

أولاً - ابن ابي الحديد المعتزلي (ت: 656 ه) والرؤية الاعتزالية في حقيقة الرياء وأثره في العمل.

يورد ابن ابي الحديد في شرحه للحديث الشريف وتحت عنوان:

(في الرياء والنهي عنه) الرؤية الاعتزالية في حقيقة الرياء وأثره في العمل قائلاً:

(وأصحابنا المتكلمون يقولون: ينبغي أن يعمل المكلف الواجب لأنه واجب ويجتنب القبيح لأنه قبيح، ولا يفعل الطاعة ويترك المعصية رغبة في الثواب، وخوفا من العقاب، فإن ذلك يخرج عمله من أن يكون طريقا إلى الثواب، وشبهوه بالاعتذار في الشيء، فإن من يعتذر إليك من ذنب خوفا أن تعاقبه على ذلك الذنب، لا ندما على القبيح الذي سبق منه، لا يكون عذره مقبولا، ولا ذنبه عندك مغفورا.

وهذا مقام جليل لا يصل إليه إلا الافراد من ألوف الألوف.

وقد جاء في الآثار من النهى عن الرياء والسمعة كثير، روى عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:

«يؤتى في يوم القيامة بالرجل قد عمل اعمال الخير كالجبال - أو قال: كجبال تهامة - وله خطيئة واحدة، فيقال إنما عملتها ليقال عنك، فقد قيل، وذاك ثوابك وهذه خطيئتك، أدخلوه بها إلى جهنم»(1).

ص: 141


1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ج 1، ص 325

وقال (عليه السلام):

«ليست الصلاة قيامك وقعودك، إنما الصلاة إخلاصك، وأن تريد بها الله وحده»(1).

وقال حبيب الفارسي(2):

لو أن الله تعالى أقامني يوم القيامة وقال: هل تعد سجدة سجدت ليس للشيطان فيها نصيب؟ لم أقدر على ذلك.

توصل عبد الله بن الزبير إلى امرأة عبد الله بن عمر - وهي أخت المختار بن أبي عبيد الثقفي - في أن تكلم بعلها عبد الله بن عمر أن يبايعه. فكلمته في ذلك، وذكرت صلاته وقيامه وصيامه، فقال لها: أما رأيت البغلات الشهب التي كنا نراها تحت معاوية بالحجر إذا قدم مكة؟ قالت: بلى، قال:

فإياها يطلب ابن الزبير بصومه وصلاته!

وفي الخبر المرفوع:

(إن أخوف ما أخاف على أمتي الرياء في العمل، ألا وإن الرياء في العمل

ص: 142


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 1، ص 325
2- حبيب أبو محمد الفارسي من ساكني البصرة كان صاحب المكرمات مجاب الدعوات وكان سبب إقباله على الآجلة وانتقاله عن العاجلة حضوره مجلس الحسن بن أبي الحسن فوقعت موعظته من قلبه فخرج عما كان يتصرف فيه ثقة بالله ومكتفيا بضمانه فاشترى نفسه من الله عز وجل وتصدق بأربعين ألفا في أربع دفعات تصدق بعشرة آلاف في أول النهار فقال يا رب اشتريت نفسي منك بهذا ثم أتبعه بعشرة آلاف أخرى فقال يا رب هذه شكرا لما وفقتني له ثم أخرج عشرة آلاف أخرى فقال رب إن لم تقبل مني الأولى والثانية فاقبل هذه ثم تصدق بعشرة آلاف أخرى فقال رب إن قبلت مني الثالثة فهذه شكرا لها). (ينظر: حلية الأولياء للأصبهاني: ج 6، ص 149)

هو الشرك الخفي:

صلى وصام لأمر كان يطلبه *** حتى حواه فلا صلى ولا صاما)(1)

ثانياً - ابن ميثم البحراني (ت: 769 ه) في بيانه للمقارنة بين حرث الدنيا وحرث الاخرة.

إنّ مما ركز عليه ابن ميثم البحراني (رحمه الله) في شرحه للحديث الشريف

ص: 143


1- شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد: ج 1، ص 325

هو المقارنة بين حرث الدنيا والاخرة مستوحياً ذلك من قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته التي القاها لتأديب الفقراء بترك الحسد، والاغنياء بالشفقة على الفقراء ومؤاساتهم فكان منها قوله (عليه السلام) - موضع البحث والدراسة في هذا المبحث - قال ابن ميثم:

(قوله (عليه السلام):

«إن المال والبنين حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الاخرة، وقد يجمعها الله لأقوام فاحذروا من الله ما حذر كم من نفسه، واخشوه خشية ليست بتعذير، واعملوا في غير رياء ولا سمعة فإنه من يعمل لغير الله يكله الله لمن عمل له، نسأل الله منازل الشهداء ومعايشة السعداء، ومرافقة الأنبياء».

أقول - والكلام لابن ميثم-:

(لمّا بيّن فيما سبق من التشبيه وغيره أنّ تارك الرذائل المذكورة ونحوها المنتظر للحسنى من الله فائز؛ أردف ذلك بالتنبيه على تحقير المغشيات الَّتی ينشأ منها التنافس، ومنها الرذائل المذكورة. فذكر أعظمها وأهمّها عند الناس وهو المال والبنون.

فإنّهما أعظم الأسباب الموجبة لصلاح الحال في الحياة الدنيا وأشرف القينات الحاضرة.

كما قال الله تعالى: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»(1).

ونبّه على تحقيرهما بالنسبة إلى العمل بكونهما من حرث الدنيا والعمل الصالح حرث الآخرة.

ص: 144


1- الكهف: 46

والمقدّمة الأولى من هذا الاحتجاج صغرى كبراه ضمير تقديرها وحرث الدنيا حقير عند حرث الآخرة. فينتج أنّ المال والبنين حقيران بالنسبة إلى حرث الآخرة.

وقد ثبت في المقدّمة الثانية أنّ حرث الآخرة هو العمل الصالح. فإذن المال والبنون حقيران بالنسبة إلى العمل الصالح.

أمّا المقدّمة الأولى فظاهرة إذ لا حصول للمال والبنين في غير الدنيا.

وأمّا بيان الثانية فمن وجهين:

أحدهما:

قوله تعالى:

«فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ»(1).

وظاهر أنّه لا يريد قلّة الكميّة، بل المراد حقارته بالنسبة إلى مناع الآخرة ولذتها.

الثاني:

أنّ حرث الدنيا من الأمور الفانية، وحرث الآخرة من الأمور الباقية الموجبة للسعادة الأبديّة، والفانيات الصالحات ظاهرة الحقارة بالنسبة إلى الباقيات الصالحات کما قال تعالى:

«وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا»(2).

ثمّ نبّه السامعين بقوله: وقد يجمعهما الله لأقوام. على وجوب الالتفات

ص: 145


1- التوبة: 38
2- الكهف: 46

إلى الله تعالى والتوكَّل عليه. وذلك أنّ الجمع بين حرث الدنيا والآخرة لمّا كان في طباع كلّ عاقل طلب تحصيله، وكان حصوله إنّما هو من الله دون غيره لمن يشاء من عباده.

ذكر (عليه السلام) ذلك ليفرغ الطالبون للسعادة إلى جهة تحصيلها وهو التقرّب إلى الله بوجوه الوسائل، والإعراض عمّا لا يجدي طائلا من الحسد ونحوه، ثمّ أكَّد ذلك الجذب بالتحذير ممّا حذّره الله من نفسه، والأمر بالخشية الصادقة البريئة من التعذير المستلزمة لترك محارمه، ولزوم حدوده الجاذبة إلى الزهد الحقيقي، ثمّ أردف ذلك بالأمر بالعمل لله البريء من الرياء والسمعة وهو إشارة إلى العبادة الخالصة لله، والمستلزم لتطويع النفس الأمّارة بالسوء للنفس المطمئنّة، وقد ثبت في علم السلوك إلى الله تعالى أنّ الزهد والعبادة كيف يوصلان إلى السعادة التامّة الأبديّة.

وقوله:

(فإنّه من يعمل لغير الله يكله الله لمن عمل له).

تعليل لوجوب ترك الرياء والسمعة في العمل. فإنّ العامل للرياء والسمعة قاصد أن يراه الناس ويسمعوا بحاله ليعود إليه منهم ما يتوّقعه من مال أو جاه ونحوه من الأغراض الباطلة والأعراض الزائلة. وقد علمت أنّ التفات النفس إلى شيء من ذلك شاغل لها عن تلقّى رحمة الله والاستعداد لها، محجوبة به عن قبول فضله. ولمّا كان هو مسبّب الأسباب ومنتهى سلسلة الممكنات لا جرم كانت المطالب منه لا من غيره فجرى منه التحديد بالوكول إلى من سواه ممّن عمل له العاملون لاستلزامه الخيبة والحرمان.

ص: 146

وخسر العاملون إلَّا له، وخ-اب المتوكَّلون إلَّا عليه. وقد سبق منّا بيان معنى كون العامل لغير الله موكولا إلى نفسه وإلى من عمل له في الفصل الَّذي ذمّ فيه (عليه السلام) من يتصدّى للحكم بين الأمّة وليس من أهله.

قوله: نسأل الله منازل الشهداء ومعايشة السعداء ومرافقة الأنبياء.

لمّا كانت همّته (عليه السلام) مقصورة على طلب السعادة الأخرويّة طلب لا هذه المراتب الثلاث. وفي ذلك جذب للسامعين إلى الاقتداء به في طلبها والعمل بها. وبدء (عليه السلام) بطلب أسهل المراتب الثلاث للإنسان، وختم بأعظمها. فإنّ من حكم له بالشهادة غايته أن يكون سعيدا، والسعيد غايته أن يكون في زمرة الأنبياء رفيقا لهم. وهذا هو الترتيب اللايق من المؤدّب الحاذق. فإنّ المرتبة العالية لا تنال دفعة دون نيل ما هو أدون منها)(1).

ثالثاً - خلاصة القول فيما ورد في مباحث علماء الاخلاق وشراح الحديث.

ترشد هذه المباحث الى قضية مهمة، وهي:

(الملازمة بين نزول الأمر الإلهي وعمل العامل ودورانه بين حد الاخلاص والرياء):

إنّ هذا الحديث الشريف الذي كان موضع المبحث والدراسة، أي: (تحريم قصد الرياء والسمعة بالعبادة) والذي جاء ضمن خطبته (عليه السلام) التي مر ذكرها آنفاً يكشف عن سنة إلهية مرتبطة بما يقسم الله تعالى للإنسان من رزق دنيوي وآخروي وأن هذا الأمر الإلهي متلازم مع ما يقوم به الانسان من عمل دائرة في الحرمان والعطاء.

ص: 147


1- شرح نهج البلاغة لابن ميثم: ج 2، ص 8 - 9

بمعنى:

إنّ مدار هذا العمل يكون بين حد الاخلاص والرياء، فكم من محروم سلبه الرياء التوفيق لنيل حرث الدنيا من المال والبنين، وحرث الآخرة من الباقيات الصالحات.

وكم من مخلص أحرز بفضل الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) الحرثين معاً فكان من اهل المال والبنين والعافية وموارد البر وشعبها.

وعليه: نبَّه أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس وحذرهم من الالتفات الى الحرثين دون تحصيل مقدماتهما من (حفظ حدود الله تعالى) فحذر منها؛ (ومن خشيته عز وجل) فرّغب إليها لترتقي بالإنسان الى مرتبة أعلى وهي، أي المرتبة الثانية ترك الشبهات التي سنامها الخشية من الله تعالى، ثم الارتقاء الى رتبة الإخلاص في العمل الله عز وجل، والمناط بها القلب؛ فبه أي: الاخلاص يتحقق الغرض في سلامته، كما قال سبحانه:

«يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»(1).

ولذا: يسأل الله تعالى وهو مولى الموحدين (منازل الشهداء) وهم: المغفور لهم وأصحاب الصحائف البيضاء، (ومعايشة السعداء) وهم: المخلصين أي: محمد واله الطاهرين.

ص: 148


1- الشعراء: 88 - 89

المبحث الرابع: ضميمة العجب إلى العبادة

قال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام):

«سَیِّئَةٌ تَسُوؤُكَ، خَیْرٌ مِنْ حَسَنَةٍ تُعْجِبُكَ»(1).

يرشد الحديث الشريف الى أثار العجب في عمل الإنسان سواء ما كان منه مرتبط بالفرائض أو سواء ما كان مرتبط بتهذيب النفس وتقويم السلوك، ولبيان هذه المعطيات الفكرية يلزم إيراد بعض المسائل، وهي كالاتي:

المسألة الأولى: العجب في اللغة.

العُجبُ والعَجَبُ: إنكار ما يرد عليك لقلة اعتياده؛ وجمع العجب: أعجاب قال:

يا عجباً للدهر ذي الأعاجب *** الأحدب البرغوث ذي الأنياب

وقد عجب منه يعجب عجباً، وتعجب واستعجب.

والاستعجاب: شدة التعجب

ص: 149


1- نهج البلاغة، الحكمة 41، ص 713، بتحقيق الشيخ قيس العطار، طبع العتبة العلوية المقدسة؛ وبتحقيق صبحي الصالح، الحكمة 46، ص 477

قال الزجاج:

أصل العجب في اللغة، أن الانسان إذا رأى ما ينكره ويقل مثله، قال عجبت من كذا.

والتعجب: أن ترى الشيء يعجب، تظن إنك لم تر مثله.

وأعجبه الأمر: سره.

والعُجبُ: الزُّهُوُّ.

ورجل مُعجبَ: مَزهُوُّ بما يكون منه حسناً أو قبيحاً)(1).

وقال الفيروز آبادي:

(العَجَب، بالفتح أصل الذنب ومؤخرة كل شيء، وبالضم: الزهو والكبر)(2).

وقال الراغب: وبعضهم خص التعجب بالحسن فقط، وقال بعض أهل اللغة يقال اعجب فلان برأيه فهو معجب بها، والاسم: العَجَبُ، ولا يكون إلا في المستحسن)(3).

والذي يدار مدار البحث هو استحسان الإنسان لعمله واستعظامه له سواء وافق ذلك الواقع فكان حسناً عند العقلاء والمتشرعة أو خالفهم، وهو أقل مراتب العجب وأما أعلاها الإدلال كما سيمر بيانه في البحث عند إيراد ما ذكره علماء الاخلاق.

ص: 150


1- لسان العرب: ج 1، ص 581 - 583
2- القاموس المحيط: ج 1، ص 101
3- تاج العروس للزبيدي: ج 2، ص 207

أما الفقهاء فلهم مباحثهم التي ارتبطت بآثار العجب على العمل وما يترتب عليه من بطلان وتحديد مواضع هدم العمل أو التسامح في بعضها الأخر، کما سیمر في المسألة القادمة.

المسألة الثانية: العجب في مباحث الفقهاء وأثره في العبادة.

تناول الفقهاء مسألة (العجب) في مقدمة العبادات وما أرتبط بباب النية وما يؤثر فيها وانعكاسه على العمل من حيث البطلان أو الصحة أو إسقاط الثواب وقد وجدت أن المسألة لم تكن ضمن اهتمام المذاهب الأخرى؛ إذ لم أعثر على أراءهم - بحسب ما توفر لدي من مصادر - على اعتماد عنوان العجب في العبادة والعمل؛ سوى ما ورد عن الحافظين السبكي وابن حجر في المسألة.

ولذا:

أقتصر البيان والبحث على ما جادت به کتب فقهاء الإمامية (أعلى الله مقامهم) والذي آثرنا فيه ما جاء في العروة الوثقى وبعض من شروحها وتعليقاتها، فكانت كالآتي:

أولاً - حكم العجب المقرن للعمل يختلف عن المتأخر عنه عند السيد اليزدي.

تناول السيد اليزدي (قدس سره) (العجب) في موضعين من العروة الوثقی، الاول في أحكام النية، من کتاب الوضوء، فقال: (وأما العجب فالمتأخر منه لا يبطل العمل، وكذا المقارن، وان كان الأحوط فيه الاعادة)(1).

ص: 151


1- العروة الوثقی: ج 1، ص 433

والموضع الثاني في كتاب الصلاة في ركن النية، المسألة العاشرة، فقال (قدس سره):

(العجب المتأخر لا يكون مبطلاً، بخلاف المقارن، فإنه مبطل على الأحوط، وإن كان الاقوى خلافه)(1).

أقول: وليس هناك اختلاف في الحكم عنده (عليه الرحمة والرضوان) کما هو معروف عند أهل الاختصاص إذ العجب المقارن للعمل غير مبطل له على الاحوط سواء كان في نية الوضوء أو الصلاة، ولذا:

قال (قدس سره) في حكم نية الصلاة: (وان كان الاقوى خلافه) أي: إنه غير مبطل للعمل وقد ورد على هذا القول جملة من الشروحات التي أظهرت بشكل واسع أثر العجب في العبادة ومراحل دخوله العمل، أي في حال مجيئه متأخرا على العبادة أو كان مقروناً لها؛ وقد أستدل الفقهاء في هذه الشروح بجملة من الروايات الشريفة فكانت أقوالهم على النحو الآتي:

ألف - مناقشة السيد محسن الحكيم لقول السيد اليزدي (عليهما الرحمة والرضوان).

يُرجع السيد الحكيم (قدس سره) فيما ذهب إليه السيد اليزدي (قدس سره) في كون (العجب المتأخر لا يكون مبطلاً)(2) إلى (ظاهر الأصحاب حيث أهملوا ذكره في المبطلات، وهو الذي يقتضيه الأصل بعد عدم الدليل على البطلان به.

ص: 152


1- العروة الوثقی: ج 2، ص 444
2- العروة الوثقى، الرياء واقسامه، المسألة (10): ج 2، ص 445

وما في جملة من النصوص: من أنه من المهلکات، وأنه مانع من صعود العمل إلى الله تعالى ومانع من قبوله، لا يقتضي البطلان فإنه أعم، وكذا ما يظهر من كثير منها: من أنه محرم، فإنه لا ينطبق على العمل ليوجب امتناع التقرب به کما لا يخفي. نعم في خبر علي بن سويد عن أبي الحسن (عليه السلام):

«سألته عن العجب الذي يفسد العمل، فقال (عليه السلام):

«أول العمل العجب درجات: منها أن يزين للعبد سوء عمله فيراه حسنا فيعجبه ويحسب أنه يحسن صنعا، ومنها أن يؤمن العبد بربه فيمن على الله عز وجل ولله عليه فيه المن»(1).

لكن الظاهر أن المراد من الفساد فيه عدم القبول، إذ الأول مجرد ارتکاب السيئات، والثاني محله مما لا يقبل الصحة والفساد. مضافا إلى خبر یونس ابن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(قيل له وأنا حاضر: الرجل يكون في صلاته خاليا فيدخله العجب؟ فقال (عليه السلام):

«إذا كان أول صلاته بنية يريد بها ربه فلا يضره ما دخله بعد ذلك، فليمض في صلاته وليخسأ الشيطان»(2).

ومن ذلك تعرف حكم العجب المقارن وأنه غير مبطل، والاحتياط المذكور في إبطاله من أجل ما في الجواهر عن بعض مشايخه: من القول بأبطاله. فلاحظ)(3).

ص: 153


1- الوسائل: ج 1، ص 100، الكافي: ج 2، ص 268
2- الوسائل: ج 1، ص 107
3- مستمسك العروة الوثقی: ج 6، ص 29 - 30

باء - مناقشة السيد الخوئي لقول السيد اليزدي (عليهما الرحمة والرضوان).

وقد ناقش السيد الخوئي (قدس سره) القول الأول للسيد اليزدي الوارد في نية الوضوء فعرض العجب واحكامه ضمن جهات خمسة فكانت كالآتي:

الأولى: في بيان مفهوم العجب لغة.

الثانية: في بيان منشأه وسببه.

الثالثة: في حكمه الشرعي من الحرمة والاباحة.

الرابعة: في أن العجب يوجب بطلان العبادة أو لا.

الخامسة: في بطلان العبادة بالعجب المقارن وعدمه.

وهذه هي جهات البحث يترتب بعضها على بعض.

أما (الجهة الأولى):

فالعجب على ما يظهر من أهل اللغة معناه، اعظام العمل و اعتقاد أنه عظيم.

أما لكيفيته كما إذا كانت صلاته مع البكاء من أولها إلى آخرها.

وأما لكمیته کما إذا أطال في صلاته، أو سجدته ونحوهما، کما حكي بعض مشايخنا (قدس الله أسرارهم) عن بعضهم أنه سجد بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، ولأجل هذا وذلك اعتقد أن عمله عظيم وأما من جهة عمله وكونه صادرا منه وأنه عظيم إذا صدر منه دون ما إذا صدر من غيره، کما إذا كان ملكا من الملوك فسجد و تخضع وتذلل حيث إن الخضوع من الملك عظيم، لأن فعل العظيم عظيم فبري أنه على عظمته يصلي ويصوم ولا يصلي من دونه بمراحل، فلذا يعظم عمله ويعتقده عظيما. هذا كله في مفهوم العجب.

ص: 154

ا(وأما الجهة الثانية):

فالعجب إنما ينشأ عن انضمام أمر صحيح مباح إلى أمر باطل غير صحيح، لأنه ينشأ عن ملاحظة عمله وعبادته حيث وعد الله سبحانه لها الجنة والحور والثواب، وإن فاعلها ولي من أولياء الله سبحانه، وإن نوره يظهر لأهل السماء كما يظهر نور الكواكب لأهل الأرض، إلى غير ذلك من الآثار التي نطقت بها الأخبار والآيات، وهذا في نفسه أمر صحيح مباح.

فإذا انضم إليه الجهل والغفلة عن عظمة الله سبحانه ونعمه. فيحصل له العجب ويعظم عمله وعبادته، لأنه لو كان عالما بعظمة الله جلت آلاؤه، وبنعمته التي أنعمها عليه، ليرى أن عبادته هذه لا تسوى ولا تقابل بجزء من ملايين جزء من تلك النعم، وأنها هي بجنب عظمته تعالى کالعدم.

فإذا زاد عليه علمه بأن العبادة التي تعجبها لم تصدر منه باستقلاله وإنما صدرت عنه بتوفيق الله وإفاضته لم يبق له عجب في عمله بوجه ومن هنا نرى أن العباد والزهاد يتخضعون في عباداتهم بأكثر ممن يتخضع لله غيرهم لالتفاتهم إلى صغر عملهم بجنب آلائه وعظمته، وعلمهم بأن العمل إنما يصدر منهم بإفاضة الله تعالى، لا باستقلالهم ومعه لا يرون عملا يعجب به. حيث لیست نسبة أعمالهم إلى نعمه تعالی کنسبة ما يبذله الفقير بالإضافة إلى ما يعطيه الملك مثلا يبذل ألف دينار، والفقير يعطى باقة من الكراث، فيقابل ما أعطاه الفقير لما أعطاه الملك بنسبة الواحد أو الأقل إلى ألف أو الأكثر حيث يصدر العمل من كل منهما باستقلاله.

ص: 155

وهذا بخلاف عمل العبيد بالإضافة إلى نعمه جلت عظمته، حيث أن عملهم لا يصدر منهم باستقلالهم حتى يقابل بتلك النعم ولو بنسبة الواحد إلى الملايين وإنما يصدر عنهم بإفاضته، ومن هنا ورد في بعض الأخبار أني أولى بحسناتك منك.

فالمتحصل: أن المنشأ للعجب إنما هو الجهل، بل قد يبلغ مرتبة يرى أن الله لا يستحق ما أتی به من العبادة ولذا بمن بها عليه (نعوذ بالله منه ومن أمثاله) وذلك لأنه لا يعلم بأنعمه ويرى أن نعمته تعالى لا تقضى إلا الاتیان بالفرائض فحسب ولم يعط ما يستحق به أكثر من الفرائض فيأتي بصلاة الليل، ويمن بها على الله لاعتقاده عدم استحقاقه تعالى لها، وأنها تفضل من العبد المسكين في حق الله جلت عظمته.

فقد يتعجب عن عدم قضاء حاجته مع أنه أتی بما فوق ما يستحقه الله تعالى على عقيدته، وهذا يسمى بالإدلال وهو أعظم من المرتبة المتقدمة من العجب. وعن بعض علماء الأخلاق أن العجب نبات حبه الكفر. فلو أبدل الكفر بالجهل لكان أصح. ويؤيد ما ذكرناه مايأني من الكلام المحكي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) فانتظره.

(الجهة الثالثة):

قد اتضح مما ذكرناه في المقام أن العجب من الأوصاف النفسانية الخبيثة کالحسد وغيره من الأوصاف النفسانية التي تترتب عليها أفعال قبيحة وهي خارجة عن الأفعال التي تصدر عن المكلفين فلا حكم لها بوجه، فهي غير محرمة ولا مباحة كالحسد ونحوه، وما يعقل أن يتعلق به حکم شرعي أحد أمرين.

ص: 156

(أحدهما): أن يجب شرعا أعمال عمل يمنع عن حدوث تلك الصفة في النفس وهو التفكر في عظمة الله ونعمه، وفيما يصدر منه من العمل، وأنه لا يصدر منه باستقلاله.

(وثانيهما): أن يجب أعمال عمل يزيل تلك الصفة على تقدير حصولها في النفس، کما إذا كبر وبلغ وهو معجب بعمله، فيجب عليه أن يتفكر فيما ذكرناه حتى يزيل عن نفسه هذه الصفة، وهذان قابلان للوجوب شرعا.

إلا أن الأخبار الواردة في المقام مما لا يستفاد منه وجوب التفكر في الشريعة المقدسة قبل حصول هذه الصفة، أو بعده ليمنع عن حدوثها، أو يزيلها بعد تحققها. ويؤيد ما ذكرناه ما حكي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة:

«من أن اعجاب المرء بعمله أو بنفسه دليل على ضعف عقله»(1).

فهو أمر حاصل في النفس من قلة العقل والجهل، وغير قابل لأن يتعلق به حکم شرعي بوجه.

هذه هي (الجهة الرابعة) من الكلام في العجب: وحاصلها أن العجب المتأخر هل يوجب بطلان العمل؟ وإن قلنا بعدم حرمته، وذلك لا مكان أن يكون حدوث هذا الأمر والصفة موجبا لبطلان العمل شرعا أو لا يوجبه وإن أوجب حبط ثوابها؟ وهي التي تعرض لها الماتن (قدس سره) و حکم بعدم بطلان العمل بالعجب المتأخر وهذا هو المشهور بين الأصحاب (قدس الله أسرارهم) بل ادعى عليه الاجماع.

إلا أن المحقق الهمداني (قدس سره) نقل عن السيد المعاصر (قدس سره)

ص: 157


1- الوافي: ج 1، ص 122

والظاهر أنه السيد علي في كتابه (البرهان ببطلان العبادة بالعجب المتأخر فضلا عن مقارنه) مستدلا عليه بظواهر الأخبار الواردة في الباب، وقد أورد عليه باستحالة الشرط المتأخر وأن العمل بعد ما وقع مطابقا للأمر وبعدما حكم الشارع عليه بالصحة يستحيل أن ينقلب عما وقع عليه بحدوث ذلك الأمر المتأخر، وأما الإجازة في البيع الفضولي فلا نلتزم بكونها شرطا متأخرا وإنما نلتزم هناك بالكشف الحكمي.

هذا ولكنا ذكرنا في محله، أن الشرط المتأخر مما لا استحالة فيه ولا مانع من اشتراط العمل بأمر متأخر، لأن مرجعه إلى تقيد العمل بأن يأتي بعده بأمر كذا، فالواجب هو الحصة الخاصة من العمل وهو الذي يتعقب بالشرط، فإذا أتى بالعبادة ولم يتحقق بعدها ذلك الشرط کشف هذا عن أن ما تحقق لم تكن هي الحصة الخاصة المأمور بها فلا محالة يقع باطلة، فالشرط المتأخر أمر ممكن.

وإنما الكلام في دلالة الدليل عليه في مقام الاثبات، والصحيح أنه لا دليل على اشتراط العبادة بعدم العجب المتأخر، لأن أكثر الأخبار الواردة في المقام کما تأتي في (الجهة الخامسة): (انشاء الله تعالی) ضعيفة سندا، على أنها قاصرة الدلالة على بطلان العبادة بالعجب، فلا يمكن الاعتماد عليها في الأحكام الشرعية.

على أنا لو فرضناها صحيحة من حيث الدلالة والسند أيضا لم نكن نلتزم ببطلان العبادة بالعجب المتأخر، وذلك للقطع بعدم كونه مبطلا لها فلا مناص من تأويل تلك الأخبار وحملها على نفي الثواب، وذلك لأن

ص: 158

العجب ليس بأعظم من الكفر المتأخر، فلو أن المكلف کفر ثم أسلم لم تجب عليه إعادة أعماله السابقة فضلا عن قضائها. لأنه لا يوجب بطلان الأعمال المتقدمة فكيف بالعجب المتأخر، ولا نحتمل أن يجب على من عمره سبعون سنة - مثلا - وقد أتاه العجب في ذلك السن قضاء جميع أعماله السابقة شرعا، فلا بد من تأويل ما دل على بطلانها بالعجب لو فرضنا دلالة الأخبار الآتية عليه وتماميتها سندا ودلالة.

وأما ما ورد من أنك «سَیِّئَةٌ تَسُوؤُكَ، خَیْرٌ مِنْ حَسَنَةٍ تُعْجِبُكَ»(1) فمعناه أن السيئة بعد الندم عليها الذي هو المراد من قوله تسووك تتبدل بالحسنة، لأن التائب من ذنب كمن لا ذنب له، والتوبة عبادة موجبة للتقرب من الله تعالى، وأظن أن قوله تعالى:

«فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ»(2).

إنما فسرت بالتوبة بعد المعصية لأنها عبادة ونتيجتها حسنة. وهذا بخلاف العبادة التي توجب العجب، لأنه يذهب بثواب العبادة فلا يبقى فيها حسنة کما يبقى في التوبة بعد السيئة، ولا يستلزم کون السيئة المتعقبة بالندم خيرا من العبادة المتعقبة بالعجب، بطلان تلك العبادة بوجه، فالمتحصل أن العجب المتأخر لا يقلب العبادة الواقعة مطابقة للأمر عما وقعت عليه من الصحة.

وهذا بناءً على ما سلكناه في محله - من أن الأجر والثواب ليسا من جهة استحقاق المكلف أو الأجرة، وإنما هما من باب التفضل. لأن الامتثال

ص: 159


1- الوسائل: ج 1، ص 105 / أبواب مقدّمة العبادات ب 23، ح 22، وبمضمونها روایات أخرى في نفس الباب
2- الفرقان: 70

والطاعة التي أتى بها المكلف من وظائف العبودية والآتیان بوظيفة العبودية لا يوجب الثواب لأنه عبد عمل بوظيفته فالثواب تفضل منه سبحانه، وقد قال عز من قائل:

«وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا»(1).

أمر ظاهر لأن التفضل بالثواب إنما هو فيما إذا لم يتعقب العمل بالعجب الذي هو من الملكات القبيحة والأخلاق السيئة وإن لم يكن محرما تکليفا.

(2)هذه هي (الجهة الخامسة من الكلام في العجب): وأن العبادة هل تبطل بالعجب المقارن؟ وحاصل الكلام فيها:

أنه كالعجب المتأخر غير موجب لبطلان العبادة، وإن نقل المحقق الهمداني عن السيد المعاصر (قدس سره) بطلانها بكل من العجب المقارن والمتأخر، إلا أن المشهور عدم البطلان مطلقا وهو الصحيح، وذلك لعدم دلالة الدليل على البطلان بالعجب.

نعم العجب يوجب بطلان العبادة في مقام اعطاء الثواب - فلا يثاب بها عاملها - لا في مقام الامتثال حتى تجب إعادتها فضلا عن قضائها، والأخبار الواردة في المقام أيضا لا دلالة لها على بطلان العبادة بالعجب المقارن فضلا من المتأخر. وهي جملة من الأخبار.

(منها): ما عن الخصال: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

«قال إبليس إذا استمکنت من ابن آدم في ثلاث لم أبال ما عمل، فإنه غير

ص: 160


1- النور: 21 - 24
2- محاضرات في أصول الفقه: ج 2، ص 395

مقبول منه إذا استكثر عمله، ونسي ذنبه، ودخله العجب»(1).

والرواية لا بأس بها سندا، لأن والد البرقي وهو محمد ابن خالد وإن كان فيه كلام. إلا أنا قدمنا وثاقته، ولكن موردها هو العجب المقارن دون المتأخر لأن إبليس إنما لا يبالي بما عمله ابن آدم بعد استمكانه منه لا قبله، فالأعمال المتقدمة منه السابقة على استمكان اللعين مما يبالي بها لصحتها وعدم بطلانها بالعجب المتأخر، وإنما لا يبالي بما عمله بعد استمكانه بتحقق أحد الأمور المذكورة في الحديث، فموردها العجب المقارن لا محالة. ولكنها لا دلالة لها على بطلان العمل بالعجب المقارن، لأن عدم المبالاة إنما يصح إطلاقه في العمل المقتضي للمبالاة في نفسه، فقوله لا أبالي يدل على صحة العمل المقارن بالعجب، وإلا فلو كانت العبادة باطلة به لما صح إطلاق عدم المبالاة حينئذ، لأنها مما يسر الشيطان حيث إنها إذا كانت بطالة فالإتيان بها يكون محرما للتشريع وحيث أن همه ادخال العباد في الجحيم وابعادهم عن الله جلت عظمته فيفرح بارتكابهم للمحرم المبعد عنه سبحانه، ولا معنى لعدم المبالاة إلا في العمل الصحيح إلا أنه لا يعتنى به، ولا يتوحش لطرو العجب المزيل لثوابه، والمانع عن حصول التقرب به وإن كان صحيحا في مقام الامتثال.

و (منها): ما عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم، قال الله تعالى:

«إن من عبادي المؤمنين لم يجتهد في عبادتي فيقوم من رقاده ولذيذ وساده، فيجتهد لي الليالي فيتعب نفسه في عبادتي، فأضر به بالنعاس الليلة والليلتين

ص: 161


1- الوسائل: ج 1، ص 73، ب 22 من أبواب مقدمة العبادات، ح 7

نظرا مني له وإبقاءا عليه فينام حتى يصبح فيقوم وهو ماقت زارئ لنفسه عليها، ولو أخلي بينه وبين ما يريد من عبادتي لدخله للعجب من ذلك، فيصيره للعجب إلى الفتنة بأعماله فيأتيه من ذلك ما فيه هلاكه لعجبه بأعماله ورضاء عن نفسه حتى يظن أنه قد فاق العابدین، وجاز في عبادته حد التقصير فيتباعد مني عند ذلك، وهو يظن أنه يتقرب إلي» الحديث(1).

وهي أيضا مما لا بأس بسندها، وقد وردت مؤكدة لأحد التفسیرین الواردين في قوله تعالى:

«كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ»(2).

حيث فسر تارة بكل جزء من أجزاء الليلة الواحدة والمعنى أنه قليل من كل ليلة من الليالي ما يهجعون ويستريحون، لأنهم يشتغلون في أكثر ساعات الليلة بالعبادة وصلاة الليل ولا ينامون إلا قليلا، وأخرى بكل فرد من أفراد الليل بمعنى أنهم في بعض أفراد الليل أي في بعض الليالي ينامون ويهجعون ولا يشغلونها بالعبادة والصلاة، والرواية مؤكدة للتفسير الثاني كما عرفت.

إلا أنها كسابقتها في عدم الدلالة على بطلان العبادة بالعجب، وغاية ما هناك دلالتها على أن العجب من المهلكات والأوصاف القبيحة وقد ينتهي به الأمر إلى أنه يرى نفسه أول العابدين، وبه يناله الحرمان عما يصله لولاه وهذا مما لا كلام فيه لما مر من أن منشأ العجب الجهل، وهو قد يبلغ بالإنسان مرتبة يمن بعمله على الله سبحانه حيث لا يرى استحقاقه في العبادة إلا بمقدار الاتيان بالفرائض، ويعتقد أن المستحبات التي يأتي بها كلها زائدة

ص: 162


1- الوسائل: ج 1، ص 73، ب 23 من أبواب مقدمة العبادات، ح 1
2- الذاریات: 17

عن حد استحقاقه تعالى فيمن بها عليه، بل قد يفضل نفسه عليه أكثر العباد والمقربين وقد حكى عن بعضهم أنه كان يفضل نفسه على العباس (سلام الله عليه) لجهله، وحسبان أنه قد أشغل سنه بالعبادة والبحث وأتعب نفسه خمسين سنة أو أقل أو أكثر في سبيل رضا الله سبحانه، وهو سلام الله عليه إنما اشتغل بالحرب ساعتين أو أكثر فيفضل نفسه عليه (عليه السلام)، وبذلك قد يناله الحرمان عن شفاعة الأئمة الأطهار فيتباعد عن الله سبحانه إلا أن العجب يوجب بطلان العبادة فهو مما لا يستفاد من الرواية بوجه.

و (منها): ما عن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يعمل العمل وهو خائف مشفق ثم يعمل شيئا من البر فيدخله شبه العجب به؟ فقال:

«هو في حاله الأولى وهو خائف أحسن حالا منه في حال عجبه»(1).

وربما يتوهم أن في سند الرواية إشكالا، لأن فيه محمد بن عيسى، عن يونس، وقد تكلم بعضهم فيما رواها محمد هذا عن يونس وهو توهم فاسد، وقد ذكرنا في محله أن الرجل في نفسه مما لا كلام عليه، كما أن روايته عن يونس كذلك فليراجع.

وأما دلالتها فهي أيضا قاصرة حيث لم يقل (عليه السلام): «أن عمله الأول».

أي القبيح الذي يستكشف بقرينة المقابلة أحسن من عبادته التي فيها عجب، بل قال إن حالته في ذلك العمل أعني الخوف الذي هو عبادة أخرى

ص: 163


1- معجم رجال الحديث: ج 18، ص 119 / 11536

عند الندم والتوبة لأن حقيقتها الخوف والندم أحسن من حالته الثانية وهي العجب، وهو مما لا كلام فيه، وإنا البحث في بطلان العبادة بالعجب وهو لا يكاد يستفاد من الحديث.

و (منها): ما عن يونس، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث، قال موسى بن عمران (عليه السلام) لإبليس:

«أخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه؟ قال: إذا أعجبته نفسه، واستكثر عمله، وصغر في عينه ذنبه، وقال: قال الله عز وجل لداود: يا داود: بشر المذنبين وأنذر الصديقين، قال كيف أبشر المذنبين، وأنذر الصديقين؟ قال: يا داود بشر المذنبين إني أقبل التوبة، وأعفو عن الذنب، وأنذر الصديقين أن لا يعجبوا بأعمالهم فإنه ليس عبد أنصبه للحساب إلا هلك»(1).

وهي ضعيفة السند بالأرسال، وعادمة الدلالة على بطلان العمل بالأعجاب، لأن البشارة إنما هي لقبول التوبة بعد الذنب، لا للذنب في مقابل العبادة التي فيها عجب، والرواية إنما تدل على ما قدمناه من أن الثواب والأجر تفضل منه سبحانه وليس باستحقاق منهم للثواب، كيف وقال سبحانه (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا، لأنه إذا أعجبته عبادته فحاسبه الله سبحانه على أعماله لم يخلص أحد من حسابه جلت عظمته وهلك.

فإن الاعجاب قد يبلغ بالإنسان إلى تلك المرتبة فيمن بعمله على الله ويحاسبه الله سبحانه على ما عمل وتصبح نتيجته الخسران والهلاكة.

ص: 164


1- الوافي: ج 5، ص 881

و (منها): ما عن سعد الإسكاف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

«ثلاث قاصمات الظهر رجل استكثر عمله ونسي ذنوبه، وأعجب برأيه»(1).

وهي على تقدير تمامية سندها أجنبية عما نحن بصدده رأسا، لأن الكلام في أعجاب المرء بعمله، وأما الاعجاب برأيه وعقله وحسبان أنه أعقل الناس فهو أمر آخر لا كلام لنا فيه، ولا إشكال في أنه من المهلكات لأنه إذا رأى نفسه أعقل الناس وترك مشاورتهم واستقل في أعماله برأيه فلا محالة يقع في المهلكة والخسران.

ثم على تقدير إرادة العمل من الرأي لا دلالة لها على بطلان العبادة بالعجب، لأنها إنما دلت على أن العجب قاصم للظهر لما يترتب عليه من المفاسد والمخاطر من تحقير عمل غيره والغرور والكبر، بل وتحقير الله سبحانه بالمن بعبادته وأما إنه يوجب بطلان العمل المقارن به أيضا فلا يستفاد منها بوجه.

و (منها): ما عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

«إن الرجل ليذنب الذنب فيندم عليه ويعمل العمل فيسره ذلك فيتراخی عن حاله تلك فلأن يكون على حاله تلك خير له مما دخل فيه»(2).

ولا بأس بها سندا، وأما من حيث الدلالة فلا يستفاد منها بطلان العبادة بالعجب، وأما كون حالة التندم خيرا من حالة العجب والسرور

ص: 165


1- الوسائل: ج 1، ص 97/ أبواب مقدمة العبادات ب 22، ح 6
2- الكافي: ج 2، ص 313

فهو من جهة أنه بالتندم تتبدل السيئة حسنة، حيث وردت الآية المباركة: «فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ»، في حق التائبين من الذنوب، وهذا بخلاف العجب بالعبادة لأنه يذهب بثوابها كما مر غير مرة.

و (منها): ما عن علي بن سويد، عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: (سألته عن العجب الذي يفسد العمل؟ فقال:

«العجب درجات منها أن يزين للعبد سوء عمله فيراه حسنا»(1)) - کما يتفق ذلك بكثير فيفتخر العامل بعمله القبيح، وإني شربت الخمر أو ضربت فلانا أو سببته، أو أهنته حيث يرى عمله القبيح حسنا ويفتخر به - فيعجبه ويحسب أنه يحسن صنعا.

«ومنها أن يؤمن العبد بربه فيمن على الله عز وجل ولله عليه فيه المن»(2).

حيث دلت على أن فساد العمل بالعجب كان مفروغا عنه عنده، وقد سأله عن أنه أي شيء. وفي سندها علي بن سويد، وقد يتوهم أنه مردد بين الموثق وغيره فلا يمكن الاعتماد على روايته، والصحيح أنه هو علي بن سويد السائي الذي هو من أصحاب الرضا (عليه السلام) ويروي عنه أحمد بن عمر الحلال وهو ثقة، وقد نقل في جامع الروايات أيضا هذه الرواية منه، ولكن دلالتها قاصرة، لأن إفساد العبادة بالعجب وكونه مبطلا لها أن لوحظ بالإضافة إلى نفس ذلك العمل السوء الذي يحسبه حسنا، ففيه أن المفروض فساد العمل بنفسه ولا معنى لفساده بالعجب المقارن له، وإن لوحظ بالإضافة إلى الأعمال المتقدمة فقد عرفت أن مجرد العجب المتأخر لا

ص: 166


1- الوسائل: ج 1، ص 75 / أبواب مقدمات العبادات ب 23، ح 5
2- الوسائل: ج 1، ص 100 / أبواب مقدمة العبادات ب 23، ح 5، الكافي: ج 2، ص 313 / 3

يوجب انقلاب الأعمال المتقدمة عما وقعت عليه من الصحة والتمام، كما أن العجب في ايمانه لا معنى لكونه مبطلا للإيمان:

حيث إن الإيمان غیر قابل للإنصاف بالصحة والفساد، فلا بد من توجيه الرواية بأن للعجب درجات، والدرجة الكاملة منه وهي التي توجب حسبان العمل السوء حسنا أو ما يقتضي الامتنان على الله تعالى مع أنه له سبحانه المنة عليه، كما ورد في الآية المباركة:

«قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ»(1).

يوجب فساد الأعمال المتقدمة والالتزام بذلك مما لا يضرنا فيما نحن بصدده، لأنه أخص من المدعى وهو بطلان العمل بمطلق العجب. على أن الافساد يمكن أن يكون بمعنى اذهاب الثواب، لا بمعنى جعل العمل باطلا يجب إعادته أو قضاؤه.

و (منها ما عن ميمون بن علي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

«اعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله»(2).

هي مضافا إلى ضعف سندها أجنبية عن بطلان العبادة بالعجب، وإنما تدل على أن المعجب قليل العقل.

و (منها): ما عن علي بن أسباط، عن رجل يرفعه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

ص: 167


1- الحجرات: 17
2- الوسائل: ج 1، ص 100 / أبواب مقدمة العبادات ب 23، ح 6

«إن الله علم أن الذنب خير للمؤمن من العجب ولولا ذلك ما ابتلي مؤمن بذنب أبدا»(1).

وهي مرفوعة كالمرسلة من حيث السند ولا دلالة لها على المدعى أيضا، لأنها لو دلت فإنما تدل على أن العجب محرم من حيث مقدمته، أو من حيث إزالته كالذنب، وأما بطلان العمل به فلا يستفاد منه بوجه على أنها لا تدل على حرمته أيضا، وإلا لم يكن لجعله في مقابل الذنب وجها، بل لا بد أن يقول إن هذا الذنب خير من ذلك الذنب.

ومع الاغماض عن جميع ذلك أيضا لا دلالة لها على البطلان، لأن وجه کون الذنب خيرا أن المكلف غالبا يدور أمره بين العجب بعمله، كما إذا عمل طبلة حياته بأعمال حسنة ولم يصدر منه ذنب لأنه حينئذ يعجب بنفسه حيث يرى صدور المعاصي عن غيره وهو لم يعمل إلا خيرا، وبين أن يذنب ذنبا ويعقبه الندم لأن مفروض كلامه (عليه السلام) هو المؤمن.

ومن الظاهر أن الذنب المتعقب بالندامة والتوبة خير من العبادة الموجبة للعجب، لأن العجب يذهب بآثار العبادة بل قد يبلغ الإنسان مرتبة يمقتها الرب الجيل المنته على الله سبحانه وتحقيره.

وأما الذنب المتعقب بالندامة فهو يتبدل إلى الحسنة، لأن النائب عن ذنب كمن لا ذنب له، وقد عرفت أن الآية المباركة واردة في حق التائبين، وأما أن العبادة مع العجب باطلة فهو ما لا يستفاد منها بوجه.

ص: 168


1- الوسائل: ج 1، ص 100 / أبواب مقدمة العبادات ب 23، ح 7

و (منها): ما عن أبي عامر، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من دخله العجب هلك»(1).

وهي مضافا إلى إرسالها لا تدل على بطلان العبادة بالعجب وكونه موجبا للهلاك، من جهة أنه قد يستلزم الكفر وتحقير الله سبحانه والمنة عليه وغير ذلك من المهالك.

و (منها): ما عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

«أتى عالم عابدا فقال له: كيف صلاتك؟ فقال: مثلي يسأل عن صلاته؟ وأنا أعبد الله منذ كذا وكذا قال: فكيف بكاؤك؟ فقال أبكي حتى تجري دموعي.

فقال له العالم فإن ضحكك وأنت خائف أفضل من بكاؤك وأنت مدل، إن المدل لا يصعد من عمله شيء»(2).

وهي ضعيفة سندا بوجهين: من جهة محمد بن سنان، لعدم ثبوت وثاقته. ومن جهة نظر بن قرواش لأنه مجهول، وكذلك دلالة لأن عدم صعود العمل أعم من البطلان، وإلا للزم الحكم ببطلان عبادة عاق الوالدين، وآكل الربا ونحوهما مما ورد أن العمل معه لا يصعد.

و (منها): ما عن أحمد ابن أبي داود، عن بعض أصحابنا، عن أحدهما (عليه السلام) قال:

«دخل رجلا المسجد أحدهما عابد والآخر فاسق، فخرجا من المسجد والفاسق صديق، والعابد فاسق، وذلك أنه يدخل العابد المسجد مدلا

ص: 169


1- الوسائل: ج 1، ص 101 / باب مقدمة العبادات ب 23، 242
2- الكافي ج 2، ص 313

بعبادته يدل بها فتكون فكرته في ذلك، وتكون فكرة الفاسق في التندم على فسقه ويستغفر الله عز وجل ما صنع من الذنوب».

وضعف سندها بالإرسال ظاهر. وأما دلالتها فهي أيضا كذلك، لأن صيرورة العابد فاسقا من جهة العجب لا دلالة له على ابطاله لأعماله، وإنما وجهه أن العجب قد يبلغ بالإنسان مرتبة يمن بعمله على الله ويحقره، أو يعتقد أنه في مرتبة الإمامة والنبوة وينتظر نزول جبرائيل: وقد يبكي ويتعجب من تأخير نزوله وغير ذلك مما يوجب فسقه بل كفره. وأما صيرورة الفاسق صديقا فهو من جهة لندمه وتوبته، وقد عرفت أن بالتوبة تتبدل السيئة حسنة.

و (منها): ما رواه البرقي، في المحاسن عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

«إن الله فوض الأمر إلى ملك من الملائكة فخلق سبع سماوات و أرضين، فلما أن رأى أن الأشياء قد انقادت له قال: من مثلي؟ فأرسل الله إليه نويرة من النار، قلت وما النويرة قال نار مثل الأنملة فاستقبلها بجميع ما خلق، فتخيل لذلك حتى وصلت إلى نفسه لما دخله العجب»(1).

وهي ضعيفة من جهة جهالة خالد الصيقل الواقع في سندها، بل بابن سنان أيضا، لأنه وإن ذكر في سندها مطلقا إلا أن رواية الصدوق مثلها في عقاب الأعمال: عن محمد بن سنان، عن العلاء، عن أبي خالد الصيقل قرينة، على أن المراد به هو محمد بن سنان، دون عبد الله بن سنان. على أنه لا دلالة لها على بطلان العمل بالعجب، بل تدل على أن العجب صفة مذمومة موجبة للهلاكة.

ص: 170


1- الوسائل: ج 1، ص 102 / أبواب مقدمة العبادات ب 23، 11. المحاسن 1: 214 / 391

و (منها): ما عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي عبد الله، أو علي بن الحسين (علیهما السلام) قال:

«قال رسول الله صلى الله عليه وآله في حديث: ثلاث مهلکات، شح مطاع، وهوى متبع، واعجاب المرء بنفسه»(1).

وقد عرفت في نظائرها أن إهلاك العجب بمعنی استلزامه لمثل التحقير لعبادة الغير، أو التكبر، أو تحقير الله سبحانه أو غيرها ولا دلالة لها على ابطاله العمل والعبادة ومثلها رواية سعد بن طريف، عن أبي جعفر (عليه السلام) مضافا إلى ضعف سندها بأبي جميلة مفضل بن صالح.

و (منها): ما عن السري بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) قال:

«لا مال أعود من العقل، ولا وحدة أوحش من العجب»(2).

وهي مضافا إلى ضعف سندها أجنبية عن المدعي، والوجه في كون العجب أو حش من الوحدة أن المعجب بنفسه أو بعمله يوجب تحقير الناس، أو التكبر ونحوهما مما يوجب الرغبة عنه فيبقى وحيدا.

و (منها): ماعن أنس بن محمد، عن أبيه، جميعا عن جعفر ابن محمد عن آبائه (عليهم السلام) في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) قال:

«يا علي ثلاث مهلكات شح مطاع، وهوى متبع، واعجاب المرء بنفسه»(3).

ص: 171


1- الوسائل: ج 1، ص 102/ أبواب مقدّمة العبادات ب 23، ح 12
2- الوسائل: ج 1، ص 103/ أبواب مقدمة العبادات ب 23، ح 14
3- الوسائل: ج 1، ص 103 / أبواب مقدّمة العبادات ب 23، ح 15. والسند في الوسائل هكذا: بإسناده عن حماد بن عمرو وأنس بن محمد عن أبيه جميعاً

وهي مضافا إلى ضعف سندها قد تقدم الكلام في نظيرها فليراجع.

و (منها): ماعن أبان بن عثمان، عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: «وإن كان الممر على الصراط حقا فالعجب لماذا؟»(1).

ولا دلالة لها على بطلان العمل بالعجب ولا على حرمته بوجه لأنها نظير ما ورد من أن الموت إذا كان حقا فالحرص على جمع المال لماذا؟ أو ما هو بمضمونه، وظاهر أن الحرص على جمع المال لا حرمة فيه وإنما تدل على أن الحساب إذا كان حقا ووصول كل أحد إلى ما عمله وقدمه حقا فالعجب أي أثر له؟.

و (منها): ما عن العلل: عن النبي (صلى الله عليه وآله) - عن جبرئیل - في حديث قال: قال الله تبارك وتعالى «ما يتقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، وإن من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفه عنه لئلا يدخله العجب فيفسده»(2).

ولا دلالة لها على بطلان العمل بالعجب، لأنه أسند الافساد إلى نفس العامل بمعنى هلاكه لا إلى العمل والعبادة. مضافا إلى أنها مروية عن النبي (صلى الله عليه وآله) بطريق لا يمكن الاعتماد عليه.

و (منها): ما عن عبد العظيم الحسني، عن علي بن محمد الهادي، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

«من دخله العجب هلك»(3).

ص: 172


1- الوسائل: ج 1، ص 103/ أبواب مقدمة العبادات ب 23، ح 16
2- الوسائل: ج 1، ص 105/ أبواب مقدمة العبادات ب 23، ح 21
3- الوسائل: ج 1، ص 104/ أبواب مقدمة العبادات ب 23، ح 18

وقصورها من حيث الدلالة نظير ما تقدمها، حيث أسند الهلاك إلى المعجب من حيث تعقبه بمثل الكبر والتحقير والكفر ونحوها، مضافا إلى ضعف سندها بمحمد بن هارون، وعلي بن أحمد بن موسی.

و (منها): ما عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«لولا أن الذنب خير للمؤمن من العجب ما خلا الله بين عبده المؤمن وبين ذنب أبدا»(1). وقد تقدم الكلام في نظيرها(2) فلا نعيد.

و (منها): ما عن الثمالي عن أحدهما (عليه السلام)، قال: «إن الله تعالى يقول إن من عبادي لمن يسألني الشيء من طاعتي لأحبه، فانصرف ذلك عنه کیلا يعجبه عمله»(3).

وقد مر الكلام في نظائرها فليراجع.

و (منها): ما عن الثمالي أيضا، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«ثلاث منجيات خوف الله في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الغني والفقر، وثلاث مهلكات هوى متبع، وشح مطاع، واعجاب المرء بنفسه»(4)، وقد عرفت الحال في نظائرها.

ص: 173


1- في ص 22
2- الوسائل 1: 105 / أبواب مقدّمة العبادات ب 23، ح 23. نهج البلاغة 500/ 167
3- الوسائل 1: 105 / أبواب مقدّمة العبادات ب 23، ح 24. نهج البلاغة: 507/ 212
4- الوسائل: ج 1، ص 103 / أبواب مقدّمة العبادات ب 23، ح 15. والسند في الوسائل هكذا: بإسناده عن حماد بن عمرو وأنس بن محمد عن أبيه جميعاً

و (منها): ما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة قال:

«سَیِّئَةٌ تَسُوؤُكَ خَیْرٌ مِنْ حَسَنَةٍ تُعْجِبُكَ»(1).

وقد أسلفنا الكلام فيها، وقلنا إن خيرية السيئة المتعقبة بالتوبة من جهة تبدلها إلى الحسنة بخلاف العبادة مع العجب، لأنه يذهب بثوابها ولا تتبدل إلى حسنة، ولا دلالة لها على إبطال العجب للعمل.

و (منها): ما عنه (عليه السلام) في النهج:

«اَلْإِعْجَابُ یَمْنَعُ اَلاِزْدِیَادَ»(2).

لأن المعجب لا يرى حاجة إلى تكثير العبادة والعمل.

و (منها): ما عنه (عليه السلام) أيضا:

«عُجْبُ اَلْمَرْءِ بِنَفْسِهِ أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ»(3).

ولا دلالة في شيء منها على حرمة العجب ولا على إبطاله العبادة.

و (منها): ما عن داود بن سليمان، عن الرضا عن آبائه (عليهما السلام)، عن علي (عليه السلام):

«المُلوكُ حُکّامٌ عَلَی النّاسِ وَالعِلمُ حاکِمٌ عَلَیهِم، وحَسبُكَ مِنَ العِلمِ أن تَخشَی اللّهَ، وحَسبُكَ مِنَ الجَهلِ أن تُعجَبَ بِعِلمِكَ»(4).

وهي مضافة إلى ضعف سندها لا دلالة لها على فساد العمل بالعجب، وإنما تدل على أنه ناش عن الجهل کما مر، فالمتحصل أنه لا دلالة في شيء من

ص: 174


1- الوسائل 1: 105 / أبواب مقدّمة العبادات ب 23، ح 22. نهج البلاغة: 477/ 46
2- الوسائل 1: 105 / أبواب مقدّمة العبادات ب 23، ح 23. نهج البلاغة 500/ 167
3- الوسائل 1: 105 / أبواب مقدمة العبادات ب 23، ح 24. نهج البلاغة: 507/ 212
4- الوسائل 1: 105 / أبواب مقدمة العبادات ب 23، ح 25

تلك الأخبار على حرمة العجب بالمعنى المتقدم من حيث مقدمته أو إزالته، ولا على بطلان العمل به مقارنا كان أو متأخرا، وإنما تدل على أنه من الصفات الخبيثة المهلكة البالغة بالإنسان إلى ما لا يرضى به الله سبحانه کما أسلفنا.

بقي من الأخبار رواية واحدة، وهي ما رواه یونس بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قيل له وأنا حاضر: الرجل يكون في صلاته خاليا فيدخله العجب؟ فقال:

«إذا كان أول صلاته بنية يريد بها ربه فلا يضره ما دخله بعد ذلك فليمض في صلاته وليخسأ الشيطان»(1).

حيث قد يتوهم دلالتها على بطلان العبادة بالعجب المقارن إذا كان في أولها لقوله (عليه السلام) إذا كان أول صلاته. إلا أنها كسابقتها قاصرة الدلالة.

أما من حيث سندها فربما يتوهم أن علي بن إبراهيم إنما يروي عن محمد بن عيسى بواسطة أبيه إبراهيم ابن هاشم كما في جامع الرواة وغيره ولم تثبت روايته عن محمد بن عیسی بلا واسطة، والواسطة لم يذكر في السند مضافا إلى أن في نفس محمد بن عیسی کلاما، وفي روايته عن يونس كلاما آخر، على أنها ضعيفة بيونس بن عمار لعدم توثيقه في الرجال.

ويدفعه ما قررناه في محله، من رواية علي بن إبراهيم عن الرجل بلا واسطة وأن محمد بن عيسى في نفسه قابل للاعتماد عليه، كما لا بأس بروایاته عن يونس فلاحظ؛ نعم: يونس بن عمار لم توثق في الرجال ولكنه حيث وقع في أسانید کامل الزيارات فلا بد من الحكم بوثاقته.

ص: 175


1- الوسائل 1: 107/ أبواب مقدمة العبادات ب 24، ح 3

وأما من حيث دلالتها فلأنه لا بد من حمل الرواية على معنى آخر لعدم إمكان حملها على ظاهرها من جهة القرينة العقلية واللفظية: أما العقلية فللقطع بأن العجب لو كان مبطلا للعمل فلا يفرق فيه بين تحققه أول العبادة وبين حدوثه في أثنائها أو في آخرها.

وأما القرينة اللفظية فهي قوله (عليه السلام) وليمض في صلاته وليخسأ الشيطان حيث إن العجب إذا تحقق وقلنا بكونه مبطلا للعمل فلا معنی للمضي فيه لأحساء الشيطان لأنه باطل على الفرض.

وعليه: فلا بد من حملها على الوسوسة الطارئة على الانسان بعد دخوله في العبادة، لأن الشيطان عدو عجيب للإنسان فقد يجيئ من قبل الوسوسة في أن العمل مقرون بالعجب فهو باطل، أو لا ثواب له وقد أمر (عليه السلام) بالمضي في العمل وعدم الاعتناء به ليخسأ الشيطان، هذا كله في العجب)(1).

ثانياً - ما ورد في المذاهب الاسلامية حول حكم العجب في العبادة أو العمل.

الف - قول الحافظ السبكي (ت: 756 ه) في احتمال العجب مع العمل واحتماله مع الرياء.

ص: 176


1- كتاب الطهارة: ج 5، ص 29 - 51

بعد البحث فيما توفر لدي من مصادر - لفقهاء المذاهب الاسلامية الستة - لم أعثر على مبحث للعجب وأثره في العمل كما كان لدى فقهاء الإمامية (أعلى الله مقامهم) سواء أكان متأخراً عن العمل أم مقارناً له، سوی ما عثرت عليه عند الحافظ السبكي الشافعي في فتاويه، وقد نقل سؤالاً قد سأل به الشيخ شهاب الدين السهروردي فكان السؤال:

ص: 177

البطالة؟ قال: الجواب لا يترك الأعمال ويداوي العجب بأن يعلم أن ظهوره عن النفس وكلما ألم ببطانه خاطر العجب يستغفر الله ويكره الخاطر فإنه يصير ذلك كفارة خاطر العجب وهذا لا يدع العمل راساً.

وهذا الذي قال شهاب الدين يشبه ما قلناه من وجه دون وجه؛ أما شبهه إياه فمن جهة أن العجب يفسده کالریاء ولم يسمح له بترك العمل کما قلناه؛ وأما عدم شبهه فإن العجب لا يضاد النية كما يضادها الرياء لو أنفرد؛ فمن هذه الجهة لا يلزم من احتمال العمل مع العجب احتماله مع الرياء)(1).

أقول: إنّ أفراد العجب عن العمل ليس له معنی واقع في العمل، ومن ثم

ص: 178


1- فتاوي السبكي: ج 1، ص 165

لا يمكن أن يبنى عليه حكم إذ يتحول المقام الى النفس دون العمل، والبحث هنا في أثر العجب على العمل متأخرا عليه أو مقروناً به؛ لا أصل وجوده في النفس.

وفي هذه الحالة يكون مبحثه في الحقل الاخلاقي، وليس الحقل الفقهي الذي يعني بالعناوين وأحكامها.

باء - قول ابن حجر في مواضع متفرقة من شرحه لصحيح البخاري لبيان إثر العجب في بعض الأعمال دون غيرها.

في بيان معنى قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي رواه عثمان بن عفان في الوضوء واتباعه بصلاة ركعتين (لا يحدث فيهما نفسه) فقال: نقلاً عن بعض الشراح قولهم: (يحتمل ان يكون المراد بذلك الاخلاص أو ترك العجب بان لا يرى لنفسه ميزة خشية أن يتغير فيتكبر فيهلك)(1).

في بيان معنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«ليس من البر الصيام في السفر»(2)؛ قائلاً:

(من خاف على نفسه العجب أو الرياء اذا صام في السفر فقد يكون الفطر

ص: 179


1- فتح الباري: ج 1، ص 233
2- فتح الباري: ج 1، ص 159

افضل له)(1).

المسألة الثالثة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

تناول العلماء في كتب الاخلاق موضوع العجب واولوه عناية كبيرة لما له من آثار سلبية على النفس والسلوك، وممن أهتم بهذا الجانب العلامة محمد مهدي النراقي (رحمه الله) حيث توسع في البحث والدراسة وتتبع الروايات الشريفة في علاج النفس من العجب والتخلص منه.

ولذلك: نورد ما تيسر من البحث كي لا يخرج الكتاب عن عنوانه ومنهجه فضلاً عن القصد في اعام الفائدة للباحثين وطلاب المعرفة.

أولاً - تعريف العجب وفرقه عن الكبر والإدلال عند علماء الأخلاق.

إنّ (العجب وهو استعظام - الإنسان - نفسه لأجل ما يرى لها من صفة کمال، سواء كانت له تلك الصفة في الواقع أم لا. وسواء كانت صفة كال في نفس الأمر أم لا، وقيل: «هو إعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم) وهو قريب مما ذكر، ولا يعتبر في مفهومه رؤية نفسه فوق الغير في هذا الكمال وهذه النعمة، وبذلك يمتاز عن الكبر، إذ الكبر هو أن يرى لنفسه مزية على غيره في صفة كمال، وبعبارة أخرى هو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه، فالكبر يستدعي متكبر عليه ومتكبرا به.

والعجب لا يستدعي غير المعجب، بل لو لم يخلق الإنسان إلا وحده تصور أن يكون معجبا، ولا يتصور أن يكون متکبرا، إلا أن يكون مع غيره

ص: 180


1- فتح الباري: ج 4، ص 160

وهو يرى نفسه فوق ذلك الغير في صفة الكمال، ولا يكفي أن يستعظم نفسه ليكون متكبرا، فإنه قد يستعظم نفسه، ولكن يرى في غيره أعظم من نفسه أو مثل نفسه، فلا يتكبر عليه، فهو معجب وليس متكبرا. ولا يكفي أن يستحقر غيره، فإنه مع ذلك لو رأى نفسه أحقر أو رأي غيره مثل نفسه لم يكن متکبرا، بل المتكبر هو أن يرى لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة، ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره.

والحاصل: أن العجب مجرد إعظام النفس لأجل كمال أو نعمة، وإعظام نفس الكمال والنعمة مع الركون ونسيان إضافتهما إلى الله، فإن لم يكن معه رکون وكان خائفا على زوال النعمة مشفقا على تكدرها أو سلبها بالمرة، أو كان فرحه بها من حيث أنها من الله من دون إضافتها إلى نفسه لم يكن معجبا، فالمعجب ألا يكون خائفا عليها، بل يكون فرحابها مطمئنا إليها، فيكون فرحه بها من حيث أنها صفة کمال منسوبة إليه، لا من حيث أنها عطية منسوبة إلى الله تعالى. ومهما غلب على قلبه أنها نعمة من الله مهما شاء سلبها: زال العجب.

ثم لو انضاف العجب - أي غلب على نفس المعجب - أن له عند الله حقا، وإنه منه بمكان، واستبعد أن يجري عليه مكروه، وكان متوقعا منه كرامة العمله، سمي ذلك (إدلالا) بالعمل، فكأنه يرى لنفسه على الله دالة فهو وراء العجب وفوقه إذ كل مدل معجب، ورب معجب لا يكون مدلا، إذ العجب مجرد الاستعظام ونسيان الإضافة إلى الله من دون توقع جزاء على عمله، والإدلال يعتبر فيه توقع الجزاء بعمله، إذ المدل يتوقع إجابة دعوته ويستنكر ردها بباطنه ويتعجب منه، فالإدلال عجب مع شيء زائد. وعلى هذا، فمن

ص: 181

أعطى غيره شيئا، فإن استعظمه ومن عليه كان معجبا وإن استخدمه مع ذلك أو اقترح عليه الاقتراحات واستبعد تخلفه عن قضاء حقوقه كان مدلا عليه. وكما إن العجب قد يكون مما يراه صفة كمال وليس كذلك العجب بالعمل قد يكون بعمل هو مخطئ فيه ويراه حسنا، كما قال سبحانه:

«أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا».

وقال أبو الحسن عليهما السلام: «العجب درجات: ومنها أن يزين للعبد سوء عمله فيراه حسنا، فيعجبه ويحسب أنه يحسن صنعا. ومنها أن يؤمن العبد بربه، فيمن على الله - عز وجل - ولله عليه فيه المن»)(1).

ثانياً - الآفات التي يحدثها العجب في النفس:

لقد ورد الكثير من الأحاديث الشريفة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته (صلوات الله عليهم) في ذم العجب و بيان قبحه، وقد أورد سماحة السيد الخوئي (قدس سره) جملة منها في المسالة السابقة ضمن الفقرة باء؛ ولذا أقتضى المنهج عدم أيراد هذه الروايات بغية منع وقوع التكرار.

ولكن نورد هنا الآفات التي يحدثها العجب في النفس بغية التنبيه الى أضراره الكبيرة، فكانت على النحو الآتي:

الآفة الأولى: الكبر.

وهو العزة الموجبة لرؤية النفس فوق الغير، وهو من الرذائل التي تصيب الباطن والتي تقتضي العمل في الظاهر فتسمى هذه الاعمال (تكبراً).

ص: 182


1- جامع السعادات: ج 1، ص 280 - 284

والكبر هو أحد أسباب العجب بالنفس وواحد من ثمراته التي إن لم تتعالج تتعاظم في النفس فتوقع الإنسان في رذائل أعظم أثر في التسافل والانحدار.

الافة الثانية: نسيان الذنوب وإهمالها.

إنّ العجب يدعو الى نسيان الذنوب وإهمالها فلا يتذكر منها شيئاً، وإن تذكر بعضاً منها يستصغرها ولا يستعظمها، فلا يجتهد في تدارکها وتلافيها، بل يظن انها تغفر له.

الآفة الثالثة: استعظام العبادة والمن بها على الله تعالى.

ومن الآفات التي يبتلي بها الانسان المصاب برذيلة العجب أنه يستعظم العبادة حين يؤديها وبعد أدائهایمن بها على الله وينسی نعمة الله تعالى عليه بالتوفيق والتمكين منها وادائها.

الآفة الرابعة: الأمن من مكر الله تعالى.

إنّ انشغال الإنسان المعجب بنفسه فيرى أعماله مقبولة؛ فلا يحرك نفسه للبحث عن شوائب هذه الأعمال لانشغاله بالعجب مما يؤدي به الى الأمن من مكر الله تعالى الذي يستدرجه من خلال هذه الآفة، فيوقعه بسبب هذه الرذيلة أما بحرمانه من العبادة أو يطيل عليه المدة في الانجرار وراء هذه الآفة مما يقوده إلى الهلاك والعياذ بالله فلا تدرکه رحمه الله وفضله فيكون من الغافلين الهالكين فيبقي ظاناً أن له مكاناً عند الله تعالى بما يقوم به من عبادة؛ هي من الأساس قد سرى اليها العجب کما مرّ بيانه في المسألة السابقة.

ص: 183

الآفة الخامسة: الاستبداد بالرأي والاستنكاف من السؤال والتعلم.

يندفع المعجب الى تزكية نفسه والثناء عليه؛ مما يرى في رأيه وعقله الصواب ومن ثم لا بد له أن يستبد برأيه فلا يعيل إلى أراء الأخرين ولا يأخذ بها.

بل انه ليستنكف أن يسأل من أحدٍ كي يتعلم أو ينظر في صحة رأيه وذلك أنه يرى لنفسه ميزة على الاخرين فيبقى بذلك في دائرة الجهل الذي يقوده الى اخطار كبيرة أن لم يؤدي به الحال الى الهلاك كما هو الحال في المسائل العقدية التي يناط بها نجاة الانسان في الاخرة وصلاحه في الدنيا.

الآفة السادسة: الفتور في السعي لتحصيل الأمن.

يظن المعجب أنه ليس بحاجة الى تحسين حاله سواء في المستوى المعيشي، أو التعليمي أو الاجتماعي وذلك لرؤيته نفسه بأنها غنية عن الآخر بسبب عجبه بها ومن ثم لا يتحرك الى تحسين حاله والسعي بجد للتغير نحو الأحسن.

ثالثاً - علاج العجب على نحو الاجمال لا التفصيل:

يخصص العلامة النراقي (رحمه الله) فصلاً في جامعه للسعادات للعلاج من العجب بنحو الإجمال والتفصيل، وقد وجدنا أن إتمام المنفعة في الموضع تقتضي أن نورد علاج العجب بنحو الاجمال وترك التفصيل، وذلك لفسح المجال لمن رغب المزيد في المعرفة فليعود الى الكتاب فجزى الله مصنفه كل خير.

قال (رحمه الله): (اعلم أن للعجب علاجين: إجماليا وتفصيليا:

ص: 184

أما العلاج الإجمالي، فهو أن يعرف ربه، وأنه لا تليق العظمة والعزة إلا به، وأن يعرف نفسه حق المعرفة، ليعلم أنه بذاته أذل من كل ذليل وأقل من كل قليل، ولا تليق به إلا الذلة والمهانة والمسكنة، فما له والعجب واستعظام نفسه، فإنه لا ريب في كونه ممكنا، وكل ممكن في ذاته صرف العدم ومحض اللاشيء، كما ثبت في الحكمة المتعالية، ووجوده و تحققه وكماله وآثاره جميعا من الواجب الحق، فالعظمة والكبرياء إنما تليق بمفيض وجوده وكمالاته، لا لذاته التي هي صرف العدم ومحض الليس، فإن شاء أن يستعظم شيئا ويفتخر به فليستعظم ربه وبه افتخر، ويستحقر نفسه غاية الاستحقار وحتى يراها صرف العدم ومحض اللاشيء. وهذا المعنى يشترك فيه كل ممکن کائنا من كان.

وأما المهانة والذلة التي تخص هذا المعجب وبني نوعه، فكون أوله نطفة قذرة وآخره جيفة عفنة، وكونه ما بين ذلك حمال نجاسات منتنة، وقد مر على ممر البول ثلاث مرات. وتكفيه آية واحدة من كتاب الله تعالى لو كان له بصيرة، وهي قوله تعالى: «قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ»(1).

فقد أشارت الآية إلى أنه كان أولا في كتم العدم غير المتناهي، ثم خلقه من أقذر الأشياء الذي هو نطفة مهينة، ثم أماته وجعله جيفة منتنة خبيثة.

وأي شيء أخس وأرذل من بدايته محض العدم، وخلقته من أنتن الأشياء وأقذرها، ونهايته الفناء وصيرورته جيفة خبيثة. وهو ما بين المبدأ

ص: 185


1- عبس: 17 - 22

والمنتهی عاجز ذليل، لم يفرض إليه أمره، ولم يقدر على شيء لنفسه ولا لغيره، إذ سلطت عليه الأمراض الهائلة، والأسقام العظيمة، والآفات المختلفة والطبائع المتضادة، من المرة والدم والريح والبلغم، فيهدم بعض أجزائه بعضا، شاء أم أبی، رضي أم سخط، فيجوع کرها، ويعطش کرها، ويمرض کرها، ويموت کرها، لا يملك لنفسه نفعا وضرا ولا خيرا وشرا، يريد أن يعلم الشيء فيجهله، ويريد أن يذكر الشيء فينساه، ويريد أن ينسى الشيء فلا ينساه، ويريد أن ينصرف قلبه إلى ما يهمه فيجول في أودية الوساوس والأفكار بالاضطرار. فلا يملك قلبه قلبه، ولا نفسه نفسه.

يشتهي وفيه هلاکه، ويكره الشيء وفيه حياته، يستلذ ما یهلکه ویردیه، ويستبشع ما ينفعه وينجيه، ولا يأمن في لحظة من ليله أو نهاره أن يسلب سمعه وبصره وعلمه وقدرته، وتفلج أعضاؤه، ويختلس عقله، وتخطف روحه، ويسلب جميع ما يهواه في دنياه، وهو مضطر ذليل إن ترك فني، وإن خلي ما بقي، عبد مملوك، لا يقدر على شيء من نفسه ولا من غيره. فأي شيء أذل منه لو عرف نفسه؟ وأنى يليق العجب به لولا جهله؟ وهذا وسط أحواله.

وأما آخره، فهو الموت - کما عرفت - فيصير جيفة منتنة قذرة، ثم تضمحل صورته، وتبلى أعضاؤه، وتنخر عظامه، وتتفتت أجزاؤه، فيصير رمیما رفاتا، ثم يصير روثا في أجواف الديدان، يهرب منه الحيوان، ويستقذره كل إنسان، وأحسن أحواله أن يعود إلى ما كان، فيصير ترابا تعمل منه الكيزان، ويعمر منه البنيان، فما أحسنه لو ترك ترابا، بل يحیی بعد طول البلى ليقاسي شدائد البلاء، فيخرج من قبره بعد جمع أجزائه المتفرقة، ويساق إلى عرصات القيامة، فيرى سماء مشققة، وأرضا مبدلة، وجبالا مسيرة،

ص: 186

ونجوما منكدرة، وشمسا منکسفة، وجحيما مسعرة، وجنة مزينة، وموازين منصوبة، وصحائف منشورة، فإذا هو في معرض المؤاخذة والحساب عليه ملائكة غلاظ شداد، فيعطى كتابه إما بيمينه أو شماله، فيرى فيه جميع أعماله وأفعاله، من قليل وكثير ونقير وقطمير. فإن غلبت سيئاته على حسناته وكان مستحقا للعذاب والنار، تمنى أن يكون كلبا أو خنزیرا، لصير مع البهائم ترابا ولا يلقى عقابا ولا عذابا. ولا ريب في أن الكلب والخنزير أحسن وأطيب ممن عصى ربه القهار ويعذب في النار، إذ أولهما وآخرهما التراب، وهو بمعزل عن العقاب والعذاب، والكلب والخنزير لا يهرب منهما الخلق، ولو رأي أهل الدنيا من يعذب في النار لصعقوا من وحشة خلقته وقبح صورته. ولو وجدوا ريحه لماتوا من نتنة، ولو وقعت قطرة من شرابه الذي يسقاه في بحار الدنيا صارت أنتن من الجيفة المنتنة.

فما لمن هذه حاله والعجب واستعظام نفسه! وما أغفله من التدبر في أحوال يومه وأمسه! ولو لم يدركه العذاب ولم يؤمر به النار فإنما ذلك للعفو، لأنه ما من عبد إلا وقد أذنب ذنبا، وكل من أذنب ذنبا استحق عقوبة، فلو لم يعاقب فإنما ذلك للعفو. ولا ريب في أن العفو ليس يقينا بل هو مشكوك فيه، فمن استحق عقوبة ولا يدري أيعفى عنها أم لا، يجب أن يكون أبدا محزونا خائفا ذليلا، فكيف يستعظم نفسه ويلحقه العجب، ألا ترى أن من جنى على بعض الملوك بما استحق به ألف سوط مثلا، فأخذ وحبس في السجن. وهو منتظر أن يخرج إلى العرض وتقام عليه العقوبة على ملأ من الخلق، وليس يدري أيعفى عنه أم لا، كيف يكون ذله في السجن؟ أفتری إنه مع هذه الحالة يكون معجبا بنفسه؟! ولا أظنك أن تظن ذلك. فما من

ص: 187

عبد مذنب، ولو أذنب ذنبا واحدا، إلا وقد استحق عقوبة من الله، والدنيا سجنه، ولا يدري كيف يكون أمره، فيكفيه ذلك خوفا ومهانة وذلة. فلا يجوز له أن يعجب ويستعظم نفسه. هذا هو العلاج الإجمالي للعجب)(1).

رابعاً - ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة:

تناول شراح کتاب نهج البلاغة قوله (صلوات الله وسلامه عليه):

«سيّئةُ تَسُوءُكَ خَيْرٌ عِندَ اللهِ مِنْ حَسَنَةٍ تُعجِبُك».

في كتبهم على اختلاف مشاربهم العقدية والفكرية، وقد أوردنا بعضاً يسيراً منها، فكانت كالآتي:

ألف - ابن میثم البحراني (ت: 679 ه):

قال في بيانه للحديث:

(أراد بالسيئة التي تسوؤه كذنب يصدر عنه فيندم عليه ويحزن لفعله، وبالحسنة الَّتي تعجبه كصلاة أو صدقه يحصل بها إعجاب. فأمّا أنّ تلك السيّئة خير عند الله من هذه الحسنة فلأنّ الندم المعاقب للسيّئة ماح لها والحسنة المستعقبة للعجب مع إحباطها به یكون لها أثر هو سيّئة ورذيلة تسوّد لوح النفس فكانت السيئة أهون فكانت خيرا عند الله)(2).

باء - ابن أبي الحديد المعتزلي (ت: 656 ه).

قال في شرحه للحديث:

ص: 188


1- جامع السعادات: ج 1، ص 287 - 289
2- شرح نهج البلاغة: ج 5، ص 267

(هذا حق، لأن الإنسان إذا وقع منه القبيح ثم ساءه ذلك وندم عليه وتاب حقيقة التوبة، كفّرت توبته معصيته، فسقط ما كان يستحقه من العقاب، وحصل له ثواب التوبة، وأما من فعل واجبا واستحق به ثوابا ثم خامره الإعجاب بنفسه والإدلال على الله تعالى بعلمه، والتيه على الناس بعبادته واجتهاده، فإنه يكون قد أحبط ثواب عبادته بما شفعها من القبيح الذي أتاه، وهو العجب والتيه والإدلال على الله تعالى، فيعود لا مثابا ولا معاقبا، لأنه يتكافأ الاستحقاقان.

ولا ريب أن من حصل له ثواب التوبة وسقط عنه عقاب المعصية، خير ممن خرج من الأمرين كفافا لا عليه ولا له)(1).

جیم - حبيب الله الهاشمي الخوئي (ت: 1342ه).

قال (رحمه الله) في شرح الحديث:

(كلّ عمل يصدر من الفاعل المختار يبدأ من شعور قلبي يدعو إليه، ويتعقّب بوجدان باطني يترتّب عليه، وإنّما يوزن هذا العمل بهذا الشّعور الَّذي دعا إليه وبهذا الوجدان الَّذي ترتّب عليه، فمن استشعر تعظیم رجل فعمل عليه یعدّ فعله تعظيما وإن أخطأ في أداء الصنيعة أو كيفيّة الصنيعة، ومن أهان رجلا ثمّ ندم وأعذر بجبران هذا التأثر الوجداني سوء عمله، فمن ارتكب سيئة بداعي شهوته أو طمعه ثمّ تأثر من عمل نفسه واستاء به فكأنه ندم وطلب العذر والعفو فتدارك سوء فعله ومن دخله العجب من حسنة أتي بها ورأى فيها نفسه فقد أزال إخلاصه وعمله لله تعالى فكأنّه

ص: 189


1- شرح نهج البلاغة: ج 18، ص 174

استرجع عمله من الله وحوّله إلى نفسه الشيطانية وأبطله)(1).

أقول: إن الغاية التي تجمع الفقهاء والمفكرين والتربويين الذين اتخذوا من كلامه (صلوات الله وسلامه عليه) مداراً لبحثهم وعنواناً لحكمهم، هو خلوص العمل وإحراز القربة لله تعالى، فالإنسان بهذا القصد يبني نفسه ويصلحها، ومن أصلح نفسه أصلح دنياه ونجي في آخرته؛ وللوصول إلى هذه الغاية لا بد من الركون إلى الفقهاء وعلماء الأخلاق وأهل الفكر القويم.

تم بحمد الله وسابق لطفه وفضله رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويليه كتاب الطهارات.

ص: 190


1- منهاج البراعة: ج21 ، ص 85

المحتويات

الفصل الأول في معنى العبادة وما يجوز قصده من غايات النيّة

المبحث الأول: العبادة في اللغة والاصطلاح وعند الفقهاء...13

المسألة الأولى: معنى العبادة في اللغة والفرق بينها وبين الطاعة...13

أولاً - العبادة لغة...13

ثانياً - الفرق بين العبادة والطاعة...13

المسألة الثانية: معنى العبادة عند الفقهاء...14

أولاً - معنى العبادة وأنواعها عند الفقهاء...14

ثانياً - أقسام العبادة...16

ثالثاً - ما هو تكليف المسلم بالعلم بأجزاء العبادات و شرائطها و موانعها؟...18

المبحث الثاني: ما يجوز قصده من غايات النية وما يستحب اختياره منها...27

المسألة الأولى: معنى النية في اللغة وعند الفقهاء...27

أولاً - النية لغة...27

ص: 191

ثانياً - معنى النية عند الفقهاء:...28

ألف - معنى النية عند فقهاء المذهب الامامي...28

باء - معنى النية عند فقهاء المذاهب الأخرى...33

المسألة الثانية: النية بين القلب واللسان...34

أولاً - أقوال فقهاء الإمامية...34

ثانياً - أقوال فقهاء المذاهب الأخرى...38

أ - المذهب الزيدي...38

ب - المذهب الإباضي...38

ج - المذهب الحنفي والمالكي والحنبلي...39

المسألة الثالثة: القصد إلى عبادة الله وأثره في اختلاف مراتب العبادة...43

أولاً - لأنه تعالى أهل للعبادة:...44

ثانياً - (رجاءً للثواب وخوفاً من العقاب) وحكم من جاء بالعبادة على هذه النية...47

المسألة الرابعة: قاعدة فقهية: (تبعية العمل للنية)...60

المسألة الخامسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...61

أولاً - ابن أبي الحديد المعتزلي...61

ثانياً - الشيخ ابن میثم البحراني...63

ثالثاً - الشيخ حبيب الله الخوئي...63

رابعاً - الشيخ محمد جواد مغنية...65

خامساً - العلامة الطباطبائي...66

ص: 192

الفصل الثاني قصد الرياء والسمعة والعجب وضميمته إلى النية

المبحث الأول: ضميمة الرياء إلى العبادة...73

المسألة الأولى: معنى الرياء في اللغة والاصطلاح...73

أولاً - معنى الرياء في اللغة...73

ثانياً - معنى الرياء في الاصطلاح...74

المسألة الثانية: أقوال الفقهاء في ضميمة الرياء إلى النية...75

أولاً - أقوال فقهاء الإمامية...75

ثانياً - أقوال فقهاء المذاهب الأخرى:...83

الف - المذهب المالكي...84

باء - المذهب الشافعي...86

جيم - المذهب الحنفي...88

دال - المذهب الزيدي...90

هاء - المذهب الحنبلي...91

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...92

المبحث الثاني: ضميمة السمعة إلى العبادة...95

المسألة الأولى: معنى السمعة في اللغة...95

ص: 193

المسألة الثانية: أقوال الفقهاء في ضميمة السمعة إلى النية...96

أولاً - أقوال فقهاء الإمامية...96

ثانيا - أقوال فقهاء المذاهب الإخری...106

ألف - المذهب المالكي...106

باء - المذهب الشافعي...107

جيم - المذهب الحنبلي...108

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...108

المبحث الثالث: مدار الرياء حول الحرمة والقربة والإخلاص...109

المسألة الأولى: أثر الرياء في هدم العمل في مدار قاعدة: (تبعية العمل للنية)...109

المسألة الثانية: تنبيه السيد محسن الحكيم (قدس سره) حول الإبقاء على الاخلاص...116 المسألة الثالثة: مبحث الإخلاص في تعليقات الشيخ محمد تقي الآملي (قدس سره)...116 المسألة الرابعة: حقيقة الرياء والسمعة عند علماء الاخلاق و كيفية علاجه...125

أولاً - معنى الإخلاص عند الفقهاء...125

ثانياً - حقيقة الرياء والسمعة عند علماء الأخلاق...127

ثالثاً - كيفية علاجه بما يضده وهو الاخلاص...133

المسألة الخامسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...140

أولاً - ابن ابي الحديد المعتزلي والرؤية الاعتزالية في حقيقة الرياء وأثره في العمل...141

ثانياً - ابن میثم البحراني في بيانه للمقارنة بين حرث الدنيا وحرث الاخرة...143

ص: 194

ثالثاً - خلاصة القول فيما ورد في مباحث علماء الاخلاق وشراح الحديث...147

المبحث الرابع: ضميمة العجب إلى العبادة...149

المسألة الأولى: العجب في اللغة...149

المسألة الثانية: العجب في مباحث الفقهاء وأثره في العبادة...151

أولاً - حكم العجب المقارن للعمل يختلف عن المتأخر عنه عند السيد اليزدي...151

ألف - مناقشة السيد محسن الحكيم لقول السيد اليزدي...152

باء - مناقشة السيد الخوئي لقول السيد اليزدي (عليهما الرحمة والرضوان)...154

ثانياً - ما ورد في المذاهب الاسلامية حول حكم العجب في العبادة أو العمل...176

الف - قول الحافظ السبكي في احتال العجب مع العمل واحتاله مع الرياء...176

باء - قول ابن حجر في مواضع متفرقة من شرحه لصحيح البخاري...179

المسألة الثالثة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...180

أولاً - تعريف العجب و فرقه عن الكبر والإدلال عند علماء الأخلاق...180

ثانياً - الآفات التي يحدثها العجب في النفس...182

ثالثاً - علاج العجب على نحو الاجمال لا التفصيل...184

رابعاً - ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...188

ألف - ابن میثم البحراني...188

باء - ابن أبي الحديد المعتزلي...188

جیم - حبيب الله الهاشمي الخوئي...189

ص: 195

ص: 196

ص: 197

ص: 198

ص: 199

ص: 200

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.