الوصائل الى الرسائل المجلد 15

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

9-----------------.

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

9-----------------.

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

9-----------------.

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

الوصائل الى الرسائل

تتمة التعادل والتراجيح

ص: 4

ولاريبَ أنّ مقتضى القاعدة المنعُ عمّا لم يعلم جواز العلم به من الأمارات ، وهي ليست مختصّة بما إذا شكّ في أصل الحجيّة ابتداءا ، بل تشمل ما إذا شكّ في الحجيّة الفعليّة مع إحراز الحجيّة الشأنية .

فإنّ المرجوح وإن كان حجّة في نفسه إلاّ أنّ حجيّته فعلاً مع معارضة الراجح ،

-----------------

وبعبارة أخرى : إنّ ما نحن فيه من مسئلة تعارض الخبرين هي من المسائل الأصولية ، لدوران أمر الأمارات فيه بين التعيين والتخيير ، فهي ، خارجة عن مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير بالنسبة إلى خصال الكفارة التي هي من المسائل الفرعية ( ولاريب أنّ مقتضى القاعدة ) أي : مقتضى أصالة العدم الجارية في المقام هو : ( المنع عمّا لم يُعلم جواز العمل به من الأمارات ) لأنّه يرجع إلى الشك في حجيّة تلك الأمارة ، والشك في الحجية مسرح عدم الحجية .

وعليه : فإنّ هذه القاعدة ( وهي ) قاعدة أصالة العدم التي ذكرناها هنا وقلنا بأنّها تقتضي المنع عما لم يُعلم جواز العمل به من الأمارات ( ليست مختصّة بما إذا شكّ في أصل الحجيّة ابتداءاً ) كالشك في حجيّة الشهرة ، أو الاجماع المنقول ، أو ما أشبة ذلك ( بل تشمل ما إذا شكّ في الحجيّة الفعليّة مع إحراز الحجيّة الشأنية ) فإنّ الخبرين المتعارضين لاشكّ أنّهما حجّة شأناً ، وإنّما نشك في أن المرجوح هل هو حجّة فعلاً أم لا ؟ ( فإنّ المرجوح وإن كان حجّة في نفسه ) شأناً في ظرف عدم التعارض ، وذلك لأنه جامع لشرائط الحجية ( إلاّ أن حجيّته فعلاً ) مشكوكة ( مع معارضة الراجح ) له لفرض أن الراجح والمرجوح متعارضان وإذا كانت حجيّته مشكوكة فالأصل عدم حجية .

ص: 5

بمعنى جواز العمل به فعلاً غيرُ معلوم ، فالأخذُ به والفتوى بمؤدّاه ، تشريعٌ محرّمٌ بالأدلّة الأربعة .

هذا ، والتحقيقُ : إنّا إن قلنا بأنّ العملَ بأحد المتعارضين - في الجملة - مستفادٌ من حكم الشارع به بدليل الاجماع والأخبار العلاجيّة ،

-----------------

هذا ، والمقصود من حجيّة المرجوح فعلاً هو ( بمعنى : جواز العمل به ) أي : بالمرجوح ( فعلاً ) أي : عند ابتلائه بالمعارض الذي هو أرجح منه ، والجواز هنا ( غير معلوم ) لأنا لانعلم هل أن الشارع جعله في هذه الحال حجّة أم لا ؟ ومعه ( فالأخذ به ) أي : بالمرجوح ( والفتوى بمؤدّاه ، تشريعٌ محرّمٌ بالأدلّة الأربعة ) التي ذكرناها في باب التشريع من الكتاب والسنة والاجماع والعقل .

( هذا ) هو تمام الكلام في جواب من أشكل بأن قلت ( والتحقيق ) في أنه هل يجوز العمل بالمرجوح تخييراً بينه وبين الراجح ، أو لايجوز العمل بالمرجوح بل يلزم العمل بالراجح ؟ مبني على ثلاثة احتمالات :

الأوّل : استفادة وجوب العمل بالراجح أو عدم وجوبه من أخبار العلاج .

الثاني : استفادته من مطلق الأخبار بناءاً على الطريقية .

الثالث : استفادته من مطلق الأخبار بناءاً على السببية ، وعلى كل واحد من هذه المباني ، يختلف القول بالترجيح أو بالتخيير ، وسيأتي انشاء الله تعالى كلام المصنّف في كل منها .

أمّا الاحتمال الأوّل : فهو ما أشار إليه المصنِّف بقوله ( إنّا إن قلنا بأنّ العمل بأحد المتعارضين - في الجملة - ) من غير نظر الى التعيين والتخيير ( مستفادٌ من حكم الشارع به ) أي : بالعمل بأحد المتعارضين ( بدليل الاجماع والأخبار العلاجيّة ) أي : أنه لولا الاجماع والأخبار العلاجية على عدم تساقط الخبرين المتعارضين ،

ص: 6

كان الّلازمُ الالتزامَ بالراجح وطرحَ المرجوح ، وإن قلنا بأصالة البراءة عند دوران الأمر في المكلّف به بين التعيين والتخيير ، لما عرفت من أنّ الشكّ في جواز العمل بالمرجوح فعلاً ، ولا ينفع وجوبُ العمل به عيناً في نفسه ، مع قطع النظر عن المعارض ،

-----------------

كان اللازم الحكم بالتساقط ، لكن بعد قيام الاجماع والأخبار العلاجية على عدم التساقط ووجوب العمل بأحدهما في الجملة إما تخييراً وإما تعييناً ( كان اللازم الالتزام بالراجح وطرح المرجوح ) .

وإنّما كان اللازم الأخذ بالراجح دون المرجوح ، لأنه وإن كان في الاجماع والأخبار العلاجية الدّالة على ذلك إجمال من حيث الدلالة ، فليست هي صريحة في اعتبار المزية حتى يجب العمل بالراجح فقط ، ولا في عدم اعتبار المزية حتى يكون المكلّف مخيّراً بينهما ، إلاّ أنّه يلزم العمل بالراجح لأنّه مبرئللذمة حتى ( وإن قلنا : بأصالة البرائة ) من التعيين ، لا الاحتياط بالأخذ بالمعيّن ( عند دوران الأمر في المكلّف به بين التعيين والتخيير ) وذلك ( لما عرفت : من أنّ الشّك ) كائن ( في جواز العمل بالمرجوح فعلاً ) وإن جاز العمل به شأناً ، فهو فعلاً مشكوك الحجية والأصل عدم حجيته .

لا يقال : أنّ المرجوح كان سابقاً قبل التعارض يجب العمل به عيناً في نفسه ، فإذا ابتلي بالمعارض الراجح نشك في سقوط وجوب العمل به ، فنستصحب بقاءه .

لأنّه يقال : ( ولا ينفع ) استصحاب ما كان سابقاً من ( وجوب العمل به ) أي : بالمرجوح ( عيناً في نفسه ، مع قطع النظر عن المعارض ) وذلك لأنّه عندما ابتلي بالمعارض الراجح ، صار مشكوك الحجية فعلاً ، وإذا صار فعلاً مشكوك الحجية

ص: 7

فهو كأمارة لم تثبت حجيّتها أصلاً .

وإن لم نقل بذلك ، بل قلنا باستفادة العمل بأحد المتعارضين من نفس أدلّة العمل بالأخبار ، فإن قلنا بما اخترناه من أنّ الأصل التوقفُ ، بناءا على اعتبار الأخبار من باب الطريقيّة والكشف الغالبي عن الواقع ، فلا دليل على وجوب الترجيح بمجرّد قوّة في أحد الخبرين ، لأنّ كلاًّ منهما جامع لشرائط الطريقية .

-----------------

( فهو كأمارة لم تثبت حجيّتها أصلاً ) لما عرفت : من أن الشك في الحجية الفعلية يوجب سقوطها عن الحجية ، كالشك في أصل الحجية ، ولا يكفينا الحجية الشأنية بعد شكنا في أنه حجّة فعلاً أم لا .

هذا إن قلنا بأن العمل بأحد المتعارضين مستفاد من الاجماع والأخبار العلاجية ( وإن لم نقل بذلك ، بل قلنا باستفادة العمل بأحد المتعارضين من نفس أدلة العمل بالأخبار ) مثل : آية النبأ وغيرها ، فالدليل ليس هو الاجماع والأخبار العلاجية كما كان في الاحتمال الأوّل ، بل هو مطلق الأدلة الدالة على العمل بالخبر الواحد وبناءاً على أن الدليل هو مطلق الأدلة المذكورة يتفرّع منه الاحتمال الثاني ، والاحتمال الثالث ، الذي سبق الاشارة إليهما إجمالاً ، وإليك تفصيلها :

وأمّا الاحتمال الثاني : فهو ما أشار إليه المصنّف بقوله : ( فإن قلنا ) على هذا الاحتمال ( بما اخترناه : من أنّ الأصل التوقّف ، بناءاً على اعتبار الأخبار من باب الطريقية ، و ) هو : ( الكشف الغالبيّ عن الواقع ) لا السببية ، فإنّه إذا بنينا عليه ( فلا دليل ) معه ( على وجوب الترجيح بمجرّد قوّة ) حاصلة من وجود مزية ( في أحد الخبرين ) وذلك ( لأنّ كلاً منهما جامع لشرائط الطريقية ) فيكون ذلك سبب شمول أدلة حجيّة الأخبار لكل من الراجح والمرجوح معاً .

ص: 8

والتمانع يحصل بمجرّد ذلك ، فيجب الرجوعُ إلى الاُصول الموجودة في تلك المسألة إذا لم يخالف كلا المتعارضين .

فرفعُ اليد عن مقتضى الأصل المحكّم في كلّ مالم يكن طريقٌ فعليّ على خلافه

-----------------

إن قلت : مجرّد وجود قوة في أحد الخبرين يخرجهما عن مورد التعادل إلى مورد الترجيح ممّا يوجب العمل بالراجح دون المرجوح .

قلت : ( والتمانع ) أي : التعارض المؤدّي للتوقف ( يحصل بمجرّد ذلك ) أي : بمجرّد كون كل واحد منهما جامعاً لشرائط الطريقية ، فإنّه بمجرّد ذلك يشملهما أدلة حجية الأخبار ، فيتعارضان ويتساقطان عن الطريقية في خصوص مؤدّاهما حتى وإن كان في أحدهما قوة بسبب وجود مزية فيه مزّية لم يثبت اعتبارها .

وعليه : ( فيجب الرجوع إلى الأصول الموجودة في تلك المسألة إذا لم يخالف ) الأصل الموجود في تلك المسألة ( كلا المتعارضين ) ومخالفة الأصل لكلا المتعارضين مثل : ما دلّ على وجوب الجمعة ، وعلى وجوب الظهر ، حيث أن الأصل يخالف كليهما ، بخلاف ما إذا لم يخالف الأصل كليهما مثل : دليل وجوب غسل الجمعة ودليل ندبه ، حيث أن أصل البرائة يوافق دليل الندب فيجب الرجوع إليه .

إذن : ( فرفع اليد عن مقتضى الأصل ) كأصل البرائة في مثال غسل الجمعة ( المحكّم ) هذا الأصل ( في كلّ ما لم يكن طريقٌ فعليّ على خلافه ) أي : على خلاف ذلك الأصل ، وإن كان طريقاً شأناً ، فإنّ الشأنية لا تكفي لرفع اليد عن مقتضى الأصل ، وذلك لأنّه يجب إتباع الأصل إلى أن يقول طريق فعليّ

ص: 9

بمجرّد مزيّة لم يعلم اعتبارها ، لاوجهَ له .

لأنّ المعارض المخالف بمجرّده ليس طريقاً فعليّاً لابتلائه بالمعارض الموافق للأصل ،

-----------------

على خلافه ، فمادام لم يقم طريق فعليّ على خلاف الأصل فرفع اليد عن مقتضاه ( بمجرّد مزيّة ) في أحد الخبرين المتعارضين ( لم يُعلم اعتبارها ) أي : اعتبار تلك المزية ( لا وجه له ) .

وإنّما لاوجه لرفع اليد عن مقتضى الأصل بمجرّد وجود مزية في الخبر الآخر لأن المفروض أن كل واحد من الخبرين هو حجّة ، والمزيّة حسب الفرض لم يثبت اعتبارها ، فكيف يرفع اليد عن أحد الحجّتين بمجرّد وجود مزيّة غير ثابتة الاعتبار في الحجّة الأخرى ؟ فإنّه من قبيل أنقذ الغريق ، الشامل لوجوب انقاذ زيد وعمرو، اللذين غرقا معاً ، غير أنّه يقال له : يجب إنقاذ زيد خاصة غير مخيّر بينه وبين عمرو، وذلك لأن زيداً - مثلاً - جارٍ لنا أو ابن صديقنا أو ما أشبه ذلك من المزايا ، التي لاتوجب تعيين زيد للانقاذ دون عمرو، فكما أنّه لايجب التعيين هنا بهذه المزية ، فكذلك فيما نحن فيه .

والحاصل : أنه يجب الرجوع إلى الأصل الموجود في تلك المسألة إذا لم يخالف الأصل كلا المتعارضين ، ولاوجه لرفع اليد عن مقتضى الأصل في أحدهما لوجود مزيّة في الآخر المخالف للأصل ، وذلك ( لأنّ المعارض المخالف ) للأصل ( بمجرّده ) أي : مع قطع النظر عن رجحانه بمزيّة لم يثبت اعتبارها ( ليس طريقاً فعليّاً ) وإن كان طريقاً شأناً ، إلاّ أنه لايجدي فعلاً ( لابتلائه بالمعارض الموافق للأصل ) .

إن قلت : وجود المزية في الآخر يؤثر في رفع المعارض الذي لا مزية له ،

ص: 10

والمزيّة الموجودة لم يثبت تأثيرها في رفع المعارض .

وتوهّمُ : « استقلال العقل بوجوب العمل بأقرب الطريقين إلى الواقع ، وهو الراجح » مدفوعٌ : بأنّ ذلك إنّما هو فيما كان بنفسه طريقاً ، كالأمارات المعتبرة لمجرّد إفادة الظنّ ، وأمّا الطرقُ المعتبرةُ شرعاً من حيث إفادة نوعها الظنّ ، وليس اعتبارها

-----------------

فيرتفع ويبقى ذوالمزية فقط ، فيجب العمل به .

قلت : ( والمزيّة الموجودة لم يَثبت تأثيرها في رفع المعارض ) حتى يرتفع ويبقى ذوالمزية فقط ، وذلك لما عرفت : من أن المزيّة لم يثبت اعتبارها كما هو المفروض فلا تستطيع من رفع المعارض .

( و ) إن قلت : أن اللازم هو العمل بالخبر الراجح لأنه أقرب الى الواقع من الخبر المرجوح ، فلا تعارض بينهما حتى يتساقطان عن الطريقية في خصوص مؤدّاهما ويكون المرجع الأصل .

قلت : ( توهّم استقلال العقل بوجوب العمل بأقرب الطريقين إلى الواقع ، وهو ) أي : ذلك الطريق الأقرب للواقع ( الراجح ، مدفوعٌ : بأنّ ذلك ) أي : استقلال العقل بالحكم المذكور ( إنّما هو فيما كان بنفسه طريقاً ) أي : في الدليل الذي كان منوطاً بالظن الشخصي ( كالأمارات المعتبرة ) اعتباراً مطلقاً ( لمجرّد إفادة الظنّ ) الشخصي ، فإذا كان هناك طريقان ظنيان في أنفسهما ، لكن المكلّف يظّن بأن هذا الطريق أقرب إلى الواقع من ذاك الآخر ، فإنّه يعمل بظنه الشخصي دون الوهم .

( وأمّا الطرق ) والأمارات ( المعتبرة شرعاً ) اعتباراً خاصاً ( من حيث إفادة نوعها الظنّ ، و ) ذلك مثل الخبر الواحد وسائر الأمارات التي ( ليس اعتبارها

ص: 11

منوطاً بالظنّ ، فالمتعارضان المفيدان - بالنوع - للظنّ في نظر الشارع سواءٌ .

وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ المفروض أنّ المعارض المرجوح لم يسقط من الحجيّة الشأنيّة كما يخرج الأمارة المعتبرة بوصف الظنّ عن الحجيّة ، إذا كان معارضها أقوى .

-----------------

منوطاً بالظنّ ) الشخصي ، حتى يقال : بأن هذا المظنون يجب العمل به دون طرفه الآخر الموهوم ، ومعه ( فالمتعارضان المفيدان - بالنوع - للظنّ في نظر الشارع سواءٌ ) فلا ترجيح لأحدهما على الآخر ، وحيث لاترجيح فهما يتعارضان ويتساقطان عن الطريقية في خصوص مؤدّاهما ويكون المرجع : الأصل الموافق لأحدهما .

وعليه : فقد تبيّن أن رفع اليد عن مقتضى الأصل ، المحكّم هذا الأصل في كل ما لم يكن طريق فعليّ على خلافه ، يكون رفع اليد عنه بمجرّد وجود مزية في أحد الخبرين دون الآخر ممّا لاوجه له ، وذلك لما عرفت : من أنه لم يثبت اعتبار هذه المزية فكيف تكون المزية غير المعتبرة مرجّحة لطريق على طريق ؟ .

( وما نحن فيه ) هو تعارض الخبرين ( من هذا القبيل ) أي : من قبيل تعارض دليلين معتبرين من باب الظنّ النوعي ، فإنّهما بنظر الشارع سواء ، حتى وإن كان أحدهما ذا مزية ، وذلك ( لأنّ المفروض : أنّ المعارض المرجوح لم يسقط من الحجية الشأنية ) لفرض أنه جامع لشرائط الحجيّة ، إلاّ أنه مبتلى بالمعارض ، فلا يخرج معه عن الحجية ( كما يخرج الأمارة المعتبرة بوصف الظنّ ) الشخصي ، أو بوصف عدم الظنّ على الخلاف ( عن الحجّية ، إذا كان معارضها أقوى ) وذلك لأنّ في هذا المعارض ظن شخصي وفي المعارض الآخر لايوجد ظن شخصي ، وما فيه ظن شخصي هو الأقوى إذا فرض أنّ الظنّ الشخصي هو المعيار ،

ص: 12

وبالجملة : فاعتبارُ قوّة الظنّ في الترجيح في تعارض مالم ينط اعتباره بإفادة الظنّ أو بعدم الظنّ على الخلاف لادليلَ عليه .

وإن قلنا بالتخيير ، بناءا على اعتبار الأخبار من باب السببيّة والموضوعيّة ، فالمستفادُ بحكم العقل من دليل وجوب

-----------------

لوضوح : أن هذا المظنون هو الحجة دون غيره ، لأنّ غيره يكون موهوماً .

والحاصل : أنّ ما كان حجيّته من باب الظنّ النوعي ، كان المتعارضان بلا فرق بين الراجح والمرجوح منهما بنظر الشارع على حدٍّ سواء ، بينما ما كان حجيته من باب الظنّ الشخصي كان المظنون للمكلّف مقدّماً على طرفه الذي هو موهوم له ، كما قال : ( وبالجملة : فاعتبار قوّة الظنّ في الترجيح ) لذي المزية ( في تعارض مالم يُنط اعتباره بإفادة الظنّ ) الشخصي ( أو ) لم يُنط اعتباره ( بعدم الظنّ على الخلاف ، لادليل عليه ) فإنّه إذا كان مناط الحجية الظنّ الشخصي بالوفاق ، أو كان مناط الحجية عدم الظنّ الشخصي على الخلاف ، فاللازم الأخذ بما يظن به شخصياً من المتعارضين ، أو بما لايظن شخصياً على خلافه ، لكن الخبرين المتعارضين ليس مناط حجيتهما الظنّ بالوفاق أو عدم الظنّ بالخلاف ، ولذلك يتعارضان ويتساقطان عن الطريقية في خصوص مؤدّاهما ، ويكون المرجع الأصل العملي ، بعد فرض عدم اعتبار المزية التي في أحدهما حتى يُرجّح بها خبراً على خبر .

وأمّا الاحتمال الثالث : فهو ما أشار إليه المصنّف بقوله : ( وإن قلنا بالتخيير ) لكن لا بناءاً على إعتبار الأخبار من باب الطريقية والكشف الغالبي ، بل ( بناءاً على اعتبار الأخبار من باب السببيّة والموضوعيّة ) أي : بأن يكون الخبران المتعارضان من قبيل إنقاذ الغريقين متزاحمين ( فالمستفاد بحكم العقل من دليل وجوب

ص: 13

العمل بكلّ من المتعارضين مع الامكان ، كونُ وجوب العمل بكلّ منهما عيناً مانعاً عن وجوب العمل بالآخر كذلك .

ولا تفاوتَ بين الوجوبين في المانعيّة قطعاً ، ومجرّدُ مزيّة أحدهما على الآخر بما يرجع إلى أقربيّته إلى الواقع ، لايوجبُ كونَ وجوب العمل بالراجح مانعاً عن العمل بالمرجوح ، دون العكس ،

-----------------

العمل بكلّ من المتعارضين ) بعينه علماً بأن الخبر إذا كان ممّا يجب العمل به بعينه وجب العمل به ( مع الامكان ) بمعنى : أنّه مع التعارض لايمكن العمل بكل منهما بعينه ، لأن ( كون وجوب العمل بكلّ منهما عيناً ) بخصوصه وشخصه ( مانعاً عن وجوب العمل بالآخر كذلك ) أي : عيناً بخصوصه وشخصه ( و ) من المعلوم : أنّه ( لا تفاوت بين الوجوبين في المانعيّة قطعاً ) حتى وإن كان أحدهما ذا مزية ، وذلك لأنّ كلاً منهما بمجرّد وجوب العمل به يكون مانعاً عن العمل بالآخر ، من دون مدخلية للمزية فيه ، فلا يتمكن المكلّف من العمل بهذا بعينه ، وبذلك بعينه ، فيحصل التكافؤ بينهما الذي ينتج بالأخرة التخيير .

( و ) إن قلت : إنّ وجود المزية في أحدهما يجعله أقرب إلى الواقع من الآخر ، فيلزم ترجيح ذي المزية على ما لامزيّة فيه .

قلت : ملاك الترجيح في الخبرين المتعارضين على السببية حيث يكونان من المتزاحمين هو : الأهمية ، لا كل مزية ، ولذا فإنّ ( مجرّد مزيّة أحدهما على الآخر بما ) أي : بمزيّة لا ترجع إلى الأهمية ، بل ( يرجع إلى أقربيّته إلى الواقع ، لايوجب كون وجوب العمل بالراجح مانعاً عن العمل بالمرجوح ، دون العكس ) فإنّ العكس أيضاً تام ، وهو : كون وجوب العمل بالمرجوح مانعاً عن العمل بالراجح ، لفرض أن مزية الأقربية في أحدهما - على السببية - لا توجب إسقاط الآخر

ص: 14

لأنّ المانع بحكم العقل هو مجرّد الوجوب ، والمفروض وجوده في المرجوح وليس في هذا الحكم العقلي إهمالٌ وإجمال وواقع مجهول حتى يحتمل تعيين الراجح ووجوب طرح المرجوح .

-----------------

عن الحجية ، فهما باقيان على الحجية ، حالهما حال الصلاة خلف نفرين كل منهما عادل ، لكن لأحدهما مزيّة العلم دون الآخر ، فإن مزية العلم في أحدهما لاتوجب تعيّن الصلاة خلفه دون الآخر ، لفرض وجود الملاك في كل منهما .

وإنّما لا توجب المزيّة أن يكون وجوب العمل بالراجح مانعاً عن العمل بالمرجوح دون العكس ( لأنّ المانع ) عن العمل بكل من الراجح والمرجوح عيناً ( بحكم العقل هو ) التكافؤ الحاصل من ( مجرّد الوجوب ) بلا مدخلية للمزية ، فإن مجرّد وجوب العمل بكل منهما عيناً مانع عقلاً ( والمفروض وجوده ) أي : وجود هذا الوجوب ( في المرجوح ) أيضاً كما هو موجود في الراجح ، يعني : أن العقل إنّما يحكم بالتمانع ، فيما إذا كان ملاك الحجية في كل واحد منهما موجوداً ، والمفروض أن هذا الملاك موجود فيهما معاً .

( و ) إن قلت : إنّ حكم العقل بالتخيير إنّما هو في صورة التعادل ، وأما مع وجود مزية في أحدهما فإنّ العقل يتوقّف ، فيكون في حكمه بالتخيير إهمال وإجمال من حيث العمل بأحدهما تخييراً ، أو بذي المزية تعييناً ، فاللاّزم الأخذ بالراجح من باب أنّه المتيقن .

قلت : ( ليس في هذا الحكم العقلي ) بالتخيير هنا ( إهمالٌ وإجمال وواقع مجهول ) بحيث يشك العقل ولا يعلم بأنه هل في هذه الحال يحكم بالتخيير ، أو يحكم بتعيين ذي المزية ؟ ( حتى يحتمل تعيين الراجح ووجوب طرح المرجوح ) وذلك لأنّ العقل يستقل بالتخيير مع رجحان أحدهما بسبب المزية

ص: 15

وبالجملة : فحكمُ العقل بالتخيير نتيجةُ وجوب العمل بكلّ منهما في حدّ ذاته .

وهذا الكلام مطّرد في كلّ واجبين متزاحمين .

نعم ، لو كان الوجوبُ في أحدهما آكد ، والمطلوبيّة فيه أشدّ ،

-----------------

الموجودة فيه رجحاناً لايوجب تقديمه على الآخر تقديماً تعيينياً .

( وبالجملة : فحكمٌ العقل بالتخيير نتيجة وجوب العمل بكلّ منهما في حدّ ذاته ) أي : أن كل واحد منهما حيث كان جامعاً لشرائط السببية وجب العمل به لولا التعارض ، فيجتمع هنا سببان متعارضان ، والمزية لاتكون بحدّ توجب تعيين ذي المزية على مالا مزية فيه ، فيحكم العقل فيهما بالتخيير على ما عرفت .

( وهذا الكلام ) الذي قلناه في حكم العقل بالتخيير ، من دون تعيين الراجح على المرجوح ، إذا لم يكن الرجحان بحيث يوجب التعيين ( مطّرد في كلّ واجبين متزاحمين ) مثل : إنقاذ الغريقين بالنسبة إلى من لايتمكن إلاّ من إنقاذ أحدهما ، أوخلاص من يريد الظالم قتلهما وهو لايقدر إلاّ على خلاص أحدهما ، أو إطعام جائعين مشرفين على الموت وهو لايقدر إلاّ على إطعام أحدهما ، أو إنقاذ إمرأتين ممّن يريد هتك عرضهما وهو لايتمكن إلاّ من إنقاذ إحداهما ، وهكذا حفظ مالين كثيرين مشرفين على التلف وهو لايتمكن إلاّ من حفظ أحدهما ، وغير ذلك ممّا يدّل على أن العقل يحكم بالتخيير في الواجبين المتزاحمين بلا فرق فيهما بين الأموال والأعراض والنفوس .

( نعم ، لو كان الوجوب في أحدهما آكد ، والمطلوبيّة فيه أشدّ ) بحيث يكون أحدهما أهم من الآخر ، فالأهمية لو كان على نحو المنع عن النقيض ، كأنقاذ عالم أو جاهل غرقاً معاً أوأراد العدوقتلهما ، أو ما أشبه ذلك من المتزاحمين أمثلة

ص: 16

استقلّ العقلُ عند التزاحم بوجوب ترك غيره وكون وجوب الأهمّ مزاحماً لوجوب غيره من دون عكس .

وكذا لو احتمل الأهمية في أحدهما دون الآخر .

وما نحن فيه ليس كذلك قطعاً ، فإنّ وجوبَ العمل بالراجح من الخبرين ليس آكد من وجوب العمل بغيره .

هذا ، وقد عرفت فيما تقدّم أنّا لانقولُ بأصالة التخيير في تعارض

-----------------

( استقلّ العقل عند التزاحم بوجوب ترك غيره ) أي : غير الأهم ( وكون وجوب الأهمّ ) حينئذٍ ( مزاحماً لوجوب غيره ) الذي ليس بأهم ( من دون عكس ) فليس المهّم مزاحماً للأهم حتى يتساويان ويتخيّر المكلّف بينهما ، بل الأهم مزاحم للمهّم ، فاللازم تقديم الأهم .

( وكذا لو احتمل الأهمية في أحدهما دون الآخر ) فيما إذا كان الاحتمال كافياً في الترجيح اللزومي ، وذلك كما إذا غرق اثنان يحتمل أن يكون من في طرف يمينه هو العالم ، دون من في طرف يساره ، فإنّه يلزم عليه انقاذ من في طرف اليمين لا اليسار ، لأنّ الاحتمال كان بحيث يوجب تقديم المحتمل على غيره عقلاً .

هذا ( و ) لكن ( ما نحن فيه ) من تعارض الخبرين بناءاً على السببية ( ليس كذلك قطعاً ، فإنّ وجوب العمل بالراجح من الخبرين ليس آكد ) ولاأهم إلى حدّ المنع عن النقيض ( من وجوب العمل بغيره ) الذي هو المرجوح ، وذلك لفرض أن الأدلة الدالة على وجوب العمل بالخبر يشمل كلاً من الراجح والمرجوح على حدٍ سواء .

( هذا ، وقد عرفت فيما تقدّم أنّا لانقول بأصالة التخيير في تعارض

ص: 17

الأخبار ، بل ولا غيرها من الأدلّة ، بناءا على أنّ الظاهرَ من أدلّتها وأدلّة حكم تعارضها كونُها من باب الطريقيّة ، ولازمهُ التوقفُ ، والرجوعُ إلى الأصل المطابق لأحدهما ، أو أحدهما المطابق للأصل .

إلاّ أنّ الدليل الشرعيّ دلّ على وجوب

-----------------

الأخبار ، بل ولا غيرها ) أي : غير الأخبار ( من الأدلّة ) والأمارات ، وذلك لما مرّ : من أن الأخبار وسائر الأمارات حجّة من باب الطريقية والكاشفية ، لامن باب الموضوعية والسببية ، والتخيير إنّما هو في باب السببية والموضوعية ، وأما الأخبار التي حجيّتها من باب الطريقية والكاشفية فإنها إذا تعارض بعضها مع بعض تساقطت عن الطريقية في خصوص مؤدّاها ، ولزم الرجوع إلى الأصل في المسألة .

وعليه : فإنّ حجية الأخبار ( بناءاً على أنّ الظاهر من أدلّتها ) أي : من أدلة حجية الأخبار ( وأدلّة حكم تعارضها ) في باب العلاج ( كونها ) أي : كون حجية الأخبار ( من باب الطريقيّة ) البحتة ( ولازمه ) أي : لازم كونها حجّة من باب الطريقية هو :

( التوقف ، والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما ) بناءاً على أن يكون الأصل مرجعاً ( أو أحدهما المطابق للأصل ) بناءاً على أن يكون الأصل مرجّحاً ، وقد عرفت : أنّه على فرض مخالفة الأصل لهما ، كما في وجوب الجمعة ووجوب الظهر ، يتخيّر عقلاً بين الاحتمالين بعد نفي الخبرين الثالث ، فإذا لم يكن الثالث يتخيّر عقلاً بين أن يأخذ بهذا أوبذاك .

هذا هو الأصل الأوّلي في تعارض الخبرين بناءاً على الطريقية ( إلاّ أنّ الدليل الشرعيّ ) الوارد في الأخبار العلاجية بعنوان الأصل الثانوي ( دلّ على وجوب

ص: 18

العمل بأحد المتعارضين في الجملة ، وحيث كان ذلك بحكم الشرع فالمتيقنُ من التخيير هو صورةُ تكافؤ الخبرين .

أمّا مع مزيّة أحدهما على الآخر من بعض الجهات ، فالمتيقّنُ هو جواز العمل بالراجح .

وأمّا العملُ بالمرجوح فلم يثبت ، فلا يجوز الالتزام ،

-----------------

العمل بأحد المتعارضين في الجملة ) تخييراً مع عدم المرجّح ، وتعييناً مع وجود المرجّح ممّا يكون معنى ذلك عدم التوقف في العمل .

هذا ، ( وحيث كان ذلك ) الدليل الدالّ على العمل بأحد المتعارضين في الجملة ( بحكم الشرع ) لأنّ الشارع هو الذي أوجب ذلك حسب أخبار العلاج ، إذ قد عرفت : أن الأصل الأوّلي في تعارض الخبرين بناءاً على الطريقية هو : التوقف والرجوع إلى الأصل ، ولكن بعد قيام الأصل الثانوي على التخيير في الجملة ، لزم الأخذ بالتخيير في القدر المتيقن ، وهو : ما لم يكن في أحدهما مزية كما قال : ( فالمتيقن من التخيير هو : صورة تكافؤ الخبرين ) من جميع الحيثيات حتى من حيث وجود المزية وعدمها ، وذلك لأنّ حكم الشرع كان على وجوب العمل بالمتعارضين في الجملة وهو : مجمل ، فاللازم أن يؤخذ بالقدر المتيقن منه .

( أمّا مع مزيّة أحدهما على الآخر من بعض الجهات ) سواء كانت المزية منصوصة في الروايات ، أوالأعم ممّا في الروايات من سائر المزايا إذا استفدنا من الروايات الملاك ، كما سيأتي الكلام فيه إنشاء الله تعالى ( فالمتيقّن هو جواز العمل بالراجح ) منهما ( وأمّا العمل بالمرجوح فلم يثبت ) جوازه ( فلا يجوز الالتزام ) به ، وذلك لأنّه يُكون مشكوك الحجية ، وما كان مشكوك الحجية

ص: 19

فصار الأصلُ وجوبَ العمل بالمرجّح ، وهو أصل ثانوي ، بل الأصلُ فيما يحتمل كونه مرجّحاً الترجيحُ به ، إلاّ أن يرد عليه إطلاقاتُ التخيير ، بناءا على وجوب الاقتصار في تقييدها على ما علم كونه مرجّحاً .

-----------------

كان الأصل عدم حجيته .

وعليه : ( فصار الأصل ) أي : للقاعدة حينئذ هو ( وجوب العمل بالمرجّح ) إذا كان مرجع في أحد الخبرين فيجب تقديم الخبر الراجح على المرجوح ( وهو ) أي : وجوب العمل بالمرجّح إذا كان مرّجح في أحد الخبرين ( أصل ثانوي ) لأنّ الأصل الأولي هو التوقف والرجوع إلى الأصل الموافق بناءاً على الطريقية كما عرفت .

( بل الأصل فيما ) لم يحرز كونه مرجّحاً ، وإنّما ( يحتمل كونه مرجّحاً ) كموافقة الأصل ، أوموافقه المشهور ، أو ما أشبه ذلك هو ( الترجيح به ) أي : بذلك المرجّح أيضاً احتياطاً من باب أن ذلك الذي يحتمل ترجيحهُ مقطوع العمل به ، بخلاف الطرف الآخر الذي لايحتمل ترجيحه ، فالأصل العملي هنا وهو الاحتياط يكون على الأخذ بمحتمل الراجحية .

( إلاّ أن يرد عليه ) أي : على ما ذكرناه من الاحتياط بقولنا : « بل الأصل فيما يحتمل كونه مرجّحاً الترجيح به » الذي هو أصل عملي فيرد عليه أصل لفظي ، وهو : ( إطلاقات التخيير ) فإنّ اطلاقات التخيير تدل على التخيير بين الخبرين المتعارضين ، إلاّ إذا كان أحدهما ذا مزية مقطوع بها ، فالمزية المحتملة لاتوجب رفع اليد عن إطلاقات التخيير ( بناءاً على وجوب الاقتصار في تقييدها ) أي : تقييد إطلاقات التخيير ( على ما علم كونه مرجّحاً ) لا ما احتمل رجحانه .

والحاصل : إنّ الأصل الأوّلي على الطريقية هو : التوقف والرجوع إلى الأصل

ص: 20

وقد يستدلّ على وجوب الترجيح : بأنّه لولا ذلك لاختلت نظم الاجتهاد .

بل نظام الفقه ، من حيث لزوم التخيير بين الخاصّ والعامّ ، والمطلق والمقيّد ، وغيرهما من الظاهر والنصّ ، المتعارضين .

-----------------

الموافق إن كان ، وإلاّ فالى أصل التخيير ، بينما الاصل الثانوي على الطريقية هو : العمل بالراجح فيما إن كان هناك راجح ، وإلاّ فالتخيير بين الخبرين ، والرجحان قد يكون بالمزية القطعية ، وهذا لاشكّ في ترجيحه على الآخر ، وقد يكون بالمزية الاحتمالية وهذا لايوجب الترجيح ، بل يؤخذ فيه باطلاقات التخيير .

هذا ( وقد يستدلّ على وجوب الترجيح ) لا التخيير ( بأنّه لولا ذلك ) الترجيح (ولاختلّت نظم الاجتهاد ) فإنّ الاجتهاد عبارة عن معرفة العام والخاص ، والمطلق والمقيّد ، والمجمل والمبيّن ، والمنطوق والمفهوم ، وما أشبه ذلك ممّا يؤثر معرفته في معرفة الراجح من المرجوح وتقديم بعضها على بعض ، ومن المعلوم : أنّه لولا معرفة ذلك لاستلزم الخلل في الاجتهاد حيث أنه يعمل بالخاص مرّة ، وبالعام أخرى ، وبالمطلق تارة ، وبالمقيّد أخرى ، وهكذا من دون نظم وإتزان .

( بل ) لاختل ( نظام الفقه ) حيث يستلزم فقه جديد ، لا هذا الفقه الذي تلّقاه الفقهاء من المعصومين عليهم السلام .

وإنّما يستلزم ذلك اختلال الفقه والاجتهاد ( من حيث لزوم التخيير بين الخاصّ والعامّ ، والمطلق والمقيّد ، وغيرهما من الظاهر والنصّ ، المتعارضين ) والظاهر والأظهر ، وإلى غير ذلك ممّا يلزم فيه ترجيح بعض على بعض وتقديم أحدهما على الآخر ، فإذا لم يؤخذ بالترجيح اعتماداً على التخيير فيها ، أدّى ذلك إلى اختلال نظام الاجتهاد ونظام الفقه ، ومعلوم أن إختلال نظامهما هو خلاف السيرة المستمرة المتصلة بزمان المعصومين عليهم السلام فيجب حينئذٍ الترجيح لا التخيير .

ص: 21

وفيه : إنّ الظاهرَ خروجُ مثل هذه المعارضات عن محلّ النزاع فإنّ الظاهر لايعدّ معارضاً للنصّ ، إمّا لأنّ العمل به لأصالة عدم الصارف المندفعة بوجود النصّ ، وإمّا لأنّ ذلك لايعدّ تعارضاً في العرف ، ومحلّ النزاع في غير ذلك .

وكيف كان : فقد ظهر ضعفُ القول المزبور وضعفُ دليله المذكور له ،

-----------------

( وفيه : إنّ الظاهر خروج مثل هذه المعارضات ) الحاصلة بين الخاص والعام ، والمطلق والمقيّد ، والنص والظاهر ( عن محلّ النزاع ) الذي هو التعارض بين الخبرين ( فإنّ الظاهر لايُعدّ معارضاً للنصّ ) عرفاً ، وذلك لأحد أمرين :

الأوّل : ( إمّا لأنّ العمل به ) أي : بالظاهر إنّما يكون ( لأصالة عدم الصارف ) أي:

إنّما يُعمل بالظاهر لأصالة الحقيقة فيما لم يكن هناك قرينة صارفة عن ظهور الظاهر ( المندفعة ) هذه الأصالة ( بوجود النصّ ) فإنّ حجيّة الظواهر تناط بعدم القرينة على الخلاف ، والنص قرينة على الخلاف فلا تعارض بينهما ، وكذلك الحال بين الظاهر والأظهر .

الثاني : ( وإمّا لأنّ ذلك ) أي : التعارض الذي يبدوللنظر بين النص والظاهر - مثلاً - ( لايعدّ تعارضاً في العرف و) ذلك لأنّ العرف يرى الجمع بينهما ، مع أن ( محلّ النزاع في غير ذلك ) أي : في الذي لايعدّه العرف تعارضاً ، فإنّ بحثنا في باب التعادل والترجيح إنّما هو فيما يراه العرف تعارضاً ، كالعموم من وجه في مورد الاجتماع ، كالتباين ، والتضاد ، والتناقض .

( وكيف كان ) : فإنّه سواء تمّ هذا الوجه الذي ذكره المستدل بقوله : « وقد يُستدل على وجوب الترجيح » أولم يتمّ ( فقد ظهر ضعف القول المزبور ) أي : القول بعدم وجوب الترجيح بين الخبرين المتعارضين (وضعف دليله المذكور له،

ص: 22

وهو عدم الدليل على الترجيح بقوّة الظنّ .

وأضعفُ من ذلك ما حكي عن النهاية : « من احتجاجه بأنّه لو وجب الترجيح بين الأمارات في الأحكام لوجب عند تعارض البيّنات ، والتالي باطل ، لعدم تقديم شهادة الأربعة على الاثنين » .

-----------------

وهو ) أي : الدليل الذي ذكر له : ( عدم الدليل على الترجيح بقوّة الظنّ ) فإنّ هذا الدليل ضعيف لوجود دليل الاجماع القولي والعملي عليه ، ومعه فاللاّزم أن يقال بالترجيح بقوة الظنّ إذا كان أحدهما أرجح من الآخر ، بواحد من المرجحات غير المنصوصة ، أو حتى المرحجات غير المنصوصة فيما إذا فهمنا الملاك من أخبار العلاج .

( وأضعف من ذلك ) أي : من الدليل السابق الذي استدل على وجوب الترجيح : بأنّه لولا ذلك لاختل نظم الاجتهاد بل نظام الفقه ، هو ( ما حكي عن النهاية ) للعلامة ( من احتجاجه ) واستدلاله على عدم الترجيح بين الأخبار المتعارضة حيث قال : ( بأنّه لو وجب الترجيح بين الأمارات في الأحكام ) سواء كانت أخباراً متعارضة ، أم إجماعات منقولة متعارضة ، أو غير ذلك ( لوجب ) الترجيح ( عند تعارض البيّنات ) في الموضوعات أيضاً ، لأنه حيث كان مناط الترجيح الأقوائية ، فالأقوائية كما توجد بين الأمارات ، كذلك توجد في البيّنات ، ثم قال ( والتالي ) وهو الترجيح عند تعارض البينات ( باطل ، لعدم تقديم شهادة الأربعة على الاثنين ) في الموضوعات ، بل يرجعون في مثل الماليات إلى قاعدة العدل ، وفي مثل النسب إلى القرعة ، فالمقدّم وهو : الترجيح عند تعارض الأمارات في الأحكام باطل مثله .

ص: 23

وأجاب عنه في محكيّ النهاية والمنية : بمنع بطلان التالي وأنّه يقدّم شهادة الأربعة على الاثنين ، سلّمنا ، لكن عدم الترجيح في الشهادة ربّما كان مذهب أكثر الصحابة ، والترجيح هنا مذهب الجميع ، انتهى .

ومرجع الأخير إلى أنّه لولا الاجماع حكمنا بالترجيح في البيّنات أيضاً ، ويظهر ما فيه ممّا ذكرنا سابقاً ،

-----------------

( وأجاب عنه في محكيّ النهاية ) للعلامة ( والمنية ) لعميد الدين ( بمنع بطلان التالي ) أي : ليس الترجيح في البيّنات باطلاً ( و ) لذا قال جماعة من الفقهاء : ( أنّه يقدّم شهادة الأربعة على الاثنين ) كما قال جماعة منهم : بأنّه يقدّم شهادة الأعدل على العادل وإلى غير ذلك ، ثم قال : ( سلّمنا ) بطلان الترجيح في البيّنات ( لكن ) لا لفقد المقتضي ، بل لوجود المانع ، فإنّ ( عدم الترجيح في الشهادة ربّما كان مذهب أكثر الصحابة ، والترجيح هنا ) في باب الأخبار المتعارضة ( مذهب الجميع (1) ، انتهى ) محكيّ كلامهما رفع مقامهما .

( ومرجع ) الجواب ( الأخير ) وهو : « سلّمنا لكن عدم الترجيح في الشهادة ربما كان مذهب الأكثر » ، مرجعه ( إلى أنّه لولا الاجماع حكمنا بالترجيح في البيّنات أيضاً ) أي : أنّ مقتضى القاعدة حسب الجواب هو : وجوب الترجيح في كلا المقامين ، سواء في باب البيّنتين المتعارضتين ، أم في باب الخبرين المتعارضين ، إلاّ أنّ الدليل الخارجي الذي هو مخالفة الأكثر منع عن الترجيح في البيّنات ، ولولا هذا الدليل الخارجي المانع عن الترجيح لقلنا بالترجيح في البينات أيضاً لوجود المقتضي فيها .

( ويظهر ما فيه ممّا ذكرنا سابقاً ) حيث قلنا : بأنّ مقتضى القاعدة هو : تساقط

ص: 24


1- - النهاية : مخطوط .

فإنّا لو بنينا على حجيّة البيّنة من باب الطريقيّة ، فالّلازم مع التعارض التوقفُ والرجوعُ إلى ما يقتضيه الاُصول في ذلك المورد من التحالف أو القرعة أو غير ذلك .

ولو بني على حجيّتها من باب السببيّة والموضوعيّة ، فقد ذكرنا أنّه لا وجه للترجيح بمجرّد أقربيّة أحدهما إلى الواقع ، لعدم تفاوت الراجح والمرجوح في الدخول فيما

-----------------

الطرق المتعارضة في خصوص مؤدّاها ، سواء كان التعارض في الأخبار ، أو البيّنات ، أو سائر الأمارات ، وذلك لأنه لامقتضي للترجيح فيها ، لا أن المقتضي موجود وإنّما مخالفة الأكثر مانع عن الترجيح فيها .

وعليه : ( فإنّا لو بنينا على حجّية البيّنة من باب الطريقيّة ) لا الموضوعية حيث أنّ المشهور قالوا : بأن البينة حجّة من جهة أنها طريق ( فاللازم مع التعارض التوقف والرجوع إلى ما يقتضيه الاُصول في ذلك المورد : من التحالف ) أي : بأن يحلف كل واحد من المتخاصمين لتبطل المعاملة - مثلاً - أو لينصّف المال المتنازع عليه ( أو القرعة ) إمّا مطلقاً ، أو في الموارد التي لايمكن التنصيف فيها كالنسب وما أشبه ( أو غير ذلك ) كالتصالح القهري بينهما فيما يمكن التصالح ، وذلك على ما ذكر في كتب القضاء من تفصيل ما هو المرجع عند التعارض في البيّنات .

( ولو بني على حجيّتها ) أي : حجيّة البيّنة ( من باب السببيّة والموضوعيّة ) لا الطريقيّة والكاشفيّة ، ووذلك بأن يكون قيام البينة علّة للحكم ( فقد ذكرنا : أنّه لا وجه للترجيح بمجرّد أقربيّة أحدهما إلى الواقع ، لعدم تفاوت الراجح والمرجوح ) من البيّنات بمجرّد الأقربية ( في الدخول فيما ) أي : في دليل حجية

ص: 25

دلّ على كون البيّنة سبباً للحكم على طبقها ، وتمانعهُما مستندٌ إلى مجرّد سببيّة كلّ منهما ، كما هو المفروض ، فجعلُ أحدهما مانعاً دون الآخر ، لا يحتمله العقل .

ثمّ إنّه يظهر من السيّد الصدر الشارح للوافية : الرجوعُ في المتعارضين من الأخبار إلى التخيير ، أو التوقف والاحتياط

-----------------

البينة الذي ( دلّ على كون البيّنة سبباً ) فإنّ البيّنة على هذا القول - تكون - سبباً لجعل مؤدّاها حكماً ظاهرياً ، أو سبباً ( للحكم على طبقها ) فالحاكم يحكم على طبق البيّنة ويكون حال المقام حال الغريقين ، حيث أنّ المرجّحات التي لم تصل إلى درجة الأهم والمهّم ، ممّا يمنع الأهم عن المهم لا توجب سقوط التخيير .

ان قلت : وجود المزيّة في إحدى البيّنتين يخرجهما عن التمانع إلى الترجيح بذي المزية فيجب الترجيح لا التخيير .

قلت : ( وتمانعهما ) أي : تمانع البيّنتان بناءاً على السببية ( مستندٌ إلى مجرّد سببيّة كلّ منهما ، كما هو المفروض ) فإنّ المفروض كون كل من البيّنتين جامعاً لشرائط الحجية والسببية ، فيشملهما أدلّة حجية البيّنة ممّا يوجب العمل بكل منهما تعييناً مع الامكان ، فاذا لم يمكن العمل بهما كذلك للتعارض تخيّر المكلّف بين العمل بهذه أو بتلك ، علماً بأنّ بعض المرجّحات التي لا تبلغ حدّ المنع عن النقيض ، لاتوجب تقديم ذي المرجّح على المرجوح ، وإذا كان كذلك ( فجعل أحدهما ) وهو الراجح ( مانعاً دون الآخر ، لايحتمله العقل ) لأنه يراهما متساويان من حيث جواز الأخذ بهذه أو بتلك .

( ثمّ أنّه يظهر من السيّد الصدر الشارح للوافية : الرّجوع في المتعارضين من الأخبار إلى التخيير ، أو التوقف والاحتياط ) فالفقيه بنظر السيد مخيّر بين الأمرين :

ص: 26

وحمل أخبار الترجيح على الاستحباب ، حيث قال بعد إيراد إشكالات على العمل بظاهر الأخبار : « إنّ الجوابَ عن الكلّ ما أشرنا إليه ، من أنّ الأصل التوقفُ في الفتوى والتخييرُ في العمل إن لم يحصل من دليل آخر العلمُ بمطابقة أحد الخبرين للواقع ، وأنّ الترجيح هو الأفضلُ والأولى » .

-----------------

بين التخيير ، أو التوقف والاحتياط ، ولايلزم عليه أن يرجّح بعض الأخبار على بعض حتى وإن كان هناك راجح ومرجوح ( و) من أجل ذلك ( حمل أخبار الترجيح على الاستحباب ) لا الوجوب الذي عليه المشهور ، فإنّ المشهور يقولون بوجوب ترجيح الراجح على المرجوح .

وإنّما يظهر من السيد ذلك ( حيث قال بعد إيراد الاشكالات على العمل بظاهر الأخبار ) العلاجية قال : ( إنّ الجواب عن الكلّ ما أشرنا إليه : من أنّ الأصل ) والقاعدة الكلية في باب الخبرين المتعارضين هو : ( التوقف في الفتوى ) فلا يفتي الفقيه بهذا ولا بذاك من جهة الفتوى ، ومن جهة العمل ، فكما قال : ( والتخيير في العمل ) فإذا ورد - مثلاً - خبران : أحدهما على وجوب الجمعة والآخر على وجوب الظهر ، فالمفتي من حيث الفتوى لا يفتي بأحدهما من حيث العمل فهو مخيّر بين أن يصلي الجمعة أو يصلي الظهر .

هذا ( إن لم يحصل من دليل آخر ) للفقيه كموافقة المشهور - مثلاً - ( العلم بمطابقة أحد الخبرين للواقع ) فإذا علم بمطابقة أحد الخبرين للواقع لزم الأخذ بذلك الخبر الذي علم بمطابقته للواقع ثم قال ( وأنّ الترجيح ) بين الأخبار بسبب المرجّحات المذكورة في الروايات ( هو الفضل والأولى (1) ) لا أن الترجيح بها يكون معيّناً .

ص: 27


1- - شرح الوافية : مخطوط

ولا يخفى بُعده عن مدلول أخبار الترجيح ، وكيف يحمل الأمرُ بالأخذ بمخالف العامّة وطرح ما وافقهم على الاستحباب ، خصوصاً مع التعليل بأنّ الرشد في خلافهم ، وأنّ قولهم في المسائل مبنيّ على مخالفة أمير المؤمنين عليه السلام فيما يسمعونه منه ، وكذا الأمرُ بطرح الشاذّ النادر ،

-----------------

( ولايخفى بعده ) أي : بُعد الاستحباب الذي ذكره السيد الصدر ( عن مدلول أخبار الترجيح ) الظاهر الدلالة في الوجوب ، فلا يمكن أن تحمل أخبار الترجيح على الاستحباب ( وكيف يحمل الأمر بالأخذ بمخالف العامّة وطرح ما وافقهم على الاستحباب ؟ ) مع أن الظاهر من عبارة هذه الروايات هو أن مخالف العامة موافق للواقع ، وموافق العامة مخالف للواقع ( خصوصاً مع التعليل ) المذكور في تلك الروايات عند ذكر العامة ( بأن الرشد في خلافهم (1) ، وأنّ قولهم في المسائل مبنيّ على مخالفة أمير المؤمنين عليه السلام فيما يسمعونه منه ) فإنّ أمثال هذه العبارات في الروايات العلاجية ، نص في أنّ الموافق للعامة باطل ، وانّ المخالف لهم حق ، وهل بعد ذلك يخيّر الإمام بين الأخذ بالحق وبالباطل ؟ .

( وكذا الأمر ) الوارد في روايات العلاج ( بطرح الشاذّ النادر (2) ) أي : ما كان في قِبال المشهور يلزم طرحه ، كما أنّه يلزم الأخذ بالمشهور ، ومن المعلوم : أنّ العرف يستفيد من مثل هذه العبارات : أنّ الشاذ باطل وأنه لايطابق الواقع ، وأنّ المشهور حق وأنّه المطابق للواقع ، خصوصاً مع قوله عليه السلام : « فإنّ المجمع عليه

ص: 28


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح3334 .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

وبعدم الاعتناء والالتفات إلى حكم غير الأعدل والأفقه من الحكمين ، مع أنّ في سياق تلك الاخبار موافقة الكتاب والسنّة ومخالفتهما ، ولا يمكن حمله على الاستحباب ،

-----------------

لاريب فيه » (1) ، فهل يمكن مع ذلك التخيير بين ما لاريب فيه وما فيه الريب ؟ .

( و ) كذا الأمر الوارد في روايات العلاج ( بعدم الاعتناء والالتفات إلى حكم غير الأعدل والأفقه من الحَكَمين ) في قِبال الأخذ بالأعدل والأفقه .

هذا أوّلاً : حيث أنّ ظاهر هذه الروايات هو : وجوب الترجيح لا استحبابه ، لعلّ الروايات أحد الخبرين المتعارضين حقاً ، والآخر باطلاً ، ولا يمكن التخيير بين الحق والباطل .

( مع أنّ ) هنا دليلاً ثانياً على عدم كون الترجيح من باب الاستحباب بل من باب الوجوب وهو : أن ( في سياق تلك الأخبار ) العلاجية ( موافقة الكتاب والسنّة ) المقطوع بها ( ومخالفتهما ) فقد قال عليه السلام : « ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف الكتاب والسنّة ووافق العامّة » (2) والمراد بالسنة : السنة المعلومة الواردة عن النبي والائمة عليهم السلام فإذا كان هناك خبران : أحدهما موافق للكتاب والسنة والآخر مخالف للكتاب والسنة ؛ فإنّه يؤخذ بالموافق ويترك المخالف .

( و ) إن قلت : أنّ الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة ( لايمكن حمله على الاستحباب ) إذ كيف يمكن أن يقال : أنّ موافق الكتاب والسنّة يستحب الأخذ

ص: 29


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

فلو حمل غيره عليه لزم التفكيك ، فتأمّل .

وكيف كان : فلا شكّ أنّ التفصّي من الاشكالات الداعية له إلى ذلك أهونُ من هذا الحمل ، لما عرفت من عدم جواز حمله

-----------------

به في قِبال الخبر المخالف للكتاب والسنّة ؟ وأنّه يتخير بينهما ؟ ولذلك نقول بوجوب الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة المعلومة الواردة عنهم عليهم السلام ونحمل غير ذلك من سائر المرجّحات على الاستحباب .

قلت : ( فلو حمل غيره ) أي : غير موافق للكتاب والسنّة من سائر المرجّحات ( عليه ) أي : على الاستحباب ، وحملنا موافقة الكتاب والسنة على الوجوب ( لزم التفكيك ) بين المرجّحات المتحدة من حيث السياق الواردة في أخبار العلاج ، فإنّه كيف يمكن أن يقال في الخبر الذي يأمر في سياق واحد الترجيح موافق الكتاب والسنّة ، وغير ذلك من سائر المرجّحات ، بالتفكيك بين فقراته مع اتحاد سياقه ، وذلك بحمل فقرة منه على الوجوب وفقرة منه على الاستحباب ؟ .

( فتأمّل ) ولعله إشارة إلى أنّه بعد الاضطراب الموجود في المرجّحات الواردة في الأخبار ، لابدّ من حمل الترجيح بها على الاستحباب ، إلاّ فيما إذا عُلم بأنّ الترجيح واجب ، مثل : موافقة الكتاب والسنة المعلومة ، ومخالفة العامة فيما إذا كانت المخالفة قطعية ، وذلك كما إذا كانت طريقة العامة على الأخذ بشئمعيّن من طرفي الروايات المتعارضة .

( وكيف كان : فلا شكّ أنّ التفصّي ) والتخلّص ( من الاشكالات الداعية له ) أي : للسيد الصدر ( إلى ذلك ) أي : الى حمل الترجيح في الأخبار العلاجية على الاستحباب ( أهونُ من هذا الحمل ) أي : من الحمل على الاستحباب ، وذلك ( لما عرفت : من عدم جواز حمله ) أي : عدم جواز حمل الترجيح في أخبار

ص: 30

على الاستحباب .

ثمّ لو سلّمنا دوران الأمر بين تقييد أخبار التخيير وبين حمل أخبار الترجيح على الاستحباب ، فلو لم يكن الأوّل أقوى وجب التوقفُ ، فيجب العمل بالترجيح ، لما عرفت : من أنّ حكم الشارع بأحد المتعارضين إذا كان مردّداً بين التخيير والتعيين ، وجب التزامُ ما احتُمل تعيينه .

-----------------

العلاج ( على الاستحباب ) بل اللازم القول بوجوب الترجيع ودفع تلك الاشكالات الداعية للسيد الصدر إلى القول من أجلها بالاستحباب .

( ثمّ ) ان قلت : أن السيد الصدر إنّما حمل أخبار الترجيح على الاستحباب ، لأنه رأى الأمر دائر بين تقييد أخبار التخيير بعدم وجود مرجّع في أحدهما ، وبين حمل أخبار الترجيح على الاستحباب ، فاختار الثاني .

قلت : ( لو سلّمنا دوران الأمر بين ) حمل أخبار الترجيح على الوجوب ، كما اختاره المشهور ليتّم ( تقييد أخبار التخيير ) بما لم يكن مرجّح هناك في أحد الخبرين المتعارضين ( وبين ) الأخذ بإطلاق أخبار التخيير ، سواء كان هناك في أحدهما مرجح أو لم يكن ، ليتمّ ( حمل أخبار الترجيح على الاستحباب ) كما اختاره السيد الصدر ، فإذا سلّمنا ذلك ( فلو لم يكن الأوّل ) يعني : تقييد أخبار التخيير ، لشيوع التقييد في الأخبار ( أقوى وجب التوقف ) لا اختيار الثاني وحمل أخبار الترجيح على الاستحباب الذي فعله السيد الصدر .

وعليه : فإذا قلنا بأنّه يجب التوقف هنا ( فيجب العمل بالترجيح ) من باب الاحتياط ، وذلك ( لما عرفت : من أنّ حكم الشارع بأحد المتعارضين إذا كان مردّداً بين التخيير والتعيين ، وجب التزام ما احتُمل تعيينه ) لأنّا إذا عملنا بالمرجّحات كان كافياً قطعاً ، سواء كان حكم المتعارضين في الواقع هو التخيير

ص: 31

المقام الثاني : في ذكر الأخبار الواردة في أحكام المتعارضين

وهي أخبار :

الأوّل : ما رواه المشايخُ الثلاثةُ بإسنادهم الى عمر بن حنظلة ، قال : سَألتُ أبا عَبدِ اللّه عليه السلام عن رجُلين من أصحابنا ، يكون بينهما منازعةٌ في دَين أو ميراث ،

-----------------

أو الترجيح ، بينما لو عملنا بالتخيير لم نعلم بكفايته قطعاً ، والعقل إذا تردّد بين الكافي قطعاً ، وبين غير الكافي على بعض الاحتمالات ، يرى تقديم الكافي قطعاً على غيره .

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل ، وقد كان في وجوب الترجيح بالمزية الموجودة في أحد الخبرين المتعارضين .

( المقام الثاني : في ذكر الأخبار الواردة في أحكام المتعارضين وهي أخبار ) متعدّدة تدعى بالأخبار العلاجية وهي كما يلي :

( الأوّل : ما رواه المشايخ الثلاثة ) وهم الشيخ الكليني ، والشيخ الصدوق ، والشيخ الطوسي قدس سرهم ( باسنادهم إلى عمر بن حنظلة ) علماً بأن وجود الخبر في الكافي أو في الفقيه كافٍ في حجيته ، لضمان صاحبهما ذلك في أوّل الكتاب حتى وإن كان الراوي مجهولاً أو غير ثقة ، وذلك على تفصيل ذكرناه في الرِّجال .

( قال : سألتُ أبا عَبدِاللّه عليه السلام عن رَجُلين من أصحابنا ، يَكُونُ بينَهما منازَعةٌ في دَين أو مِيراث ) ومن الواضح ، أن ذكر الرجلين من باب المثال ، وإلاّ فلو كان التنازع بين رجل وإمرأة ، أو إمرأة وإمرأة ، أوكان بين رجلين من غير أصحابنا ، حيث أن الجميع مكلّفون بالفروع كتكليفهم بالأصول ، كان كذلك أيضاً ، علماً بأنّ

ص: 32

فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة ، أيحلُّ ذلك ؟ .

قال عليه السلام : من تحاكمَ إليهم في حقّ أو باطل ، فإنّما تَحاكمَ إلى الطّاغُوت ، وما يُحكمُ له فإنّما يأخُذُه سُحتاً وإن كان حَقّه ثابتاً ، لأنّه أخَذَ بحكم الطاغوت ، وإنّما أمرَ اللّه أن يُكفر به ،

-----------------

المنازعة قد تكون من الشبهة الموضوعية كما لو قال أحدهما بالنسبة إلى الدَّين - مثلاً - اقترضت مائة دينار ، وقال الآخر : بل ألف درهم ، مع فرض التفاوت بينهما في القوة الشرائية ، وقد تكون في الشبهة الحكمية كما لو قال الولد الاكبر بالنسبة إلى الميراث - مثلاً - أن له حبوة الخاتم لأنّه هو الأكبر ، وقال سائر الورثة : ليس له الحبوة من جهة أنّ أصابعه مقطوعة وهو إنّما يرث الحبوة فيما إذا لم تكن أصابعة مقطوعة .

ثمّ قال : ( فَتَحا كَما إلى السلطان ) من سلاطين الجور ( أو إلى القضاة ) المنصوبين بأمر ذلك الجائر (أيَحِلُّ ذلك) الترافع إلى هذا السلطان أو إلى هؤلاء القضاة؟.

( قال عليه السلام : من تحاكم إليهم في حَقّ أو باطل ، فإنّما تحاكمَ إلى الطّاغُوت ) إشارة إلى نهي اللّه تعالى عنه في كتابه الكريم حيث يذمّ تعالى الذين يزعمون الايمان ويتحاكمون إلى غير اللّه ورسوله والأئمة الطاهرين عليهم السلام بقوله : « يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ، وقد أمروا أن يكفروا به ، ويريد الشيطان أن يضلّهم ضلالاً بعيداً » (1) ، ثم قال عليه السلام : ( وما يحكم له ) ذلك السلطان الجائر ، أو قاضي السوء ، من المال ، أو الحق ( فإنّما يأخذه سُحتاً ) أي : حراماً حتى ( وإن كان حقّه ثابتاً ) واقعاً ، وذلك ( لأنّه أخذ بحكم الطاغوت ، وإنّما أمر اللُّه أن يكفر به ) أي : أن يجّحد بالطاغوت ويبرء منه ، ومعنى الجحود به والتبرّي منه : انكاره وعدم

ص: 33


1- - سورة النساء : الآية 60 .

قال الله تعالى : « ويتحاكمون إلى الطاغوت وقد أمِروا أن يَكفُروا به » قلت : فكيف يَصنعان ؟ قال : ينظران إلى مَن كان مِنكُم ممّن قد روى حَديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحُكمنا

-----------------

مراجعته في شئمن أمور الدين والدنيا من قضاء وحكم وغير ذلك ، كما ان معناه عدم إعانته والركون إليه .

ثم قال عليه السلام : ( قال اللّه تعالى : « ويتحاكمون إلى الطاغوت وقد اُمروا أن يكفُرُوا به » ) ولعل مراد الإمام عليه السلام من قوله : « قال اللّه تعالى ...» نقل الآية بالمعنى (1) ، أو نقل كلام اللّه سبحانه في حديث قدسي ، لا نقل الآية بالنصّ ، فإنه عليه السلام استدل بذلك على أن التحاكم إلى غير اللّه ورسوله والأئمة الطاهرين عليهم السلام تحاكم إلى الطاغوت ، وأنّ ما يأخذه بحكم الطاغوت هو سُحت .

قال الراوي ( قلت : فكيفَ يَصنَعان ) هذان المتنازعان ؟ .

( قال : ينظُران الى مَن كان منكُم ) أي : يتحاكمان إلى رجل من الشيعة ( ممّن قد روى حديثنا ) بأن يكون مجتهداً لا مقلداً ( ونظر في حلالنا وحرامنا ) بأن يكون له قوة الاستنباط الفعلي ( وعرف أحكامَنا ) بأن يكون له فعليّة المعرفة بالحكم ، فإنّه قد يكون المجتهد مستنبطاً فعلياً له قوة الاستنباط ، لكنّه لايستحضر المسألة التي ترافَع فيها المنازعان إليه ، فإذا وجدا من هو جامع لهذه الشرائط ( فليرضُوا به حَكَماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ) وهذا يدل على أنّ إختيار القاضي في الرجوع إليه يكون بيد المترافعين .

ثم قال عليه السلام ( فإذا حكَم بحُكمنا ) فإنّ القاضي قد يقول : إني أرى أن تتصالحوا

ص: 34


1- - وهي الآية 60 من سورة النساء : « أن يتحاكموا» .

فلم يقبل منه ، فإنّما بحكم الله استخف وعلينا قد رُدّ ، والراد علينا الرادُّ على الله ، وهو على حدّ الشرك باللّه .

قلتُ : فإن كان كلُّ رجل يختارُ رجلاً من أصحابنا ، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما ، فاختلفا في ما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم ؟ .

-----------------

فيما بينكم - مثلاً - .

من دون أن يحكم بينهما بحكم خاص مستنبط من الكتاب والسنة والاجماع والعقل ، ففي مثل هذا للمترافعين رفضه أو قبوله ، ولكنّ ليس كذلك لو حكم بينهما بحكم مستنبط شرعي فإنه إذا حكم بينهما بحكم الشرع ( فلم يُقبل منه ، فإنّما بحكم اللّه استُخفَّ ، وعلينا قد رُدَّ ، والرادُّ علينا الرادُّ على اللّه ، وهو على حدّ الشرك باللّه ) فإنّ الردّ عليه إنّما يكون على حدّ الشرك باللّه ، لأنه يطلب بذلك حكماً من غير حكم اللّه ، كالمشرك الذي يزعم أنّ له الهين ، يرجع إلى هذا تارة ، وإلى ذاك اُخرى .

قال الراوي ( قلت : فإنّ كان كلُّ رجل يختار رجلاً من أصحابنا ، فرضيا ) أي : المترافعان ( أن يكونا ) أي : الحاكمان ( الناظرين في حقهما ) وهذا يدلّ على جواز الرجوع إلى القضاة المتعدّدين في قضية واحدة وفي عرض واحد ، فإذا كان القضاة ثلاثة أو ما أشبه ، فالحكم يكون لأكثرهم ، من باب أدلة الشورى ، وذلك على ما ذكرناه في كتاب القضاء ، وغيره ، فإذا نظر الحاكمان في أمرهما ( فاختلفا فيما حكما وكلاهما إختلفا في حديثكم ) فهذا يستند إلى حديث مروي عنكم ، وذلك يستند إلى حديث آخر ، مروي عنكم أيضاً ، ولكن كانا من الأحاديث المتعارضة .

ص: 35

قال : الحكمُ ما حَكَمَ به أعدلُهما وأفقهُهما ، وأصدقهما في الحديث وأورعُهما ، ولا يلتفتُ إلى ما يحكم به الآخر .

قلت : فإنهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا ، لا يَفضُلُ واحدٌ منهما على الآخر ؟ .

قال : ينظرُ إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به ، المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمهما ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وانّما الاُمور ثلاثة ،

-----------------

( قال : الحكمُ ما حكم به أعدلُهما وأفقههما ، وأصدقهما في الحديث وأروعهما ) عن المحارم ، علماً بأن الفقاهة في الفهم ، والصدق في الكلام ، والعدالة في كل الشؤون ، والورع شئفوق العدالة وأما بالنسبة إلى الآخر فإنّه قال عليه السلام ( ولا يُلتفت إلى ما يحكم به الآخر ) ممّن ليس فيه هذه المزايا .

قال الرواي ( قلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا ، لايفضُلَ واحدٌ منهما على الآخر ) بشئمن هذه الصفات والمزايا المذكورة .

( قال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك ) المورد المتنازع فيه ( الذي حكما به ) طبق المروي عنّا ( المُجمع عليه بين أصحابك ) أي : المشهور بين الأصحاب كما سيأتي إنشاء الله تعالى أنه بمعنى الشهرة لا الاجماع ، فإذا كان أحدهما مجمعاً عليه ( فيؤخذ به من حكمهما ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المُجمع عليه لارَيب فيه ) فإنّ الإمام عليه السلام رجّح أوّلاً أحد القاضيين على القاضي الآخر بالصفات المذكورة ، ثم رجّح رواية أحدهما على الرواية الاُخرى بقوله : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا » ، ثم استدل للزوم ترجيح خبر على خبر بقوله : ( وإنّما الاُمور ثلاثة ) على النحو التالي :

ص: 36

أمرٌ بينٌ رشدُه فيتبعُ ، وأمرٌ بيّن غيّه فيُجتنبُ ، وأمرٌ مشكل يُردُّ حكمه إلى اللّه .

قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : حلالٌ بيّن ، وحرامٌ بيّن ، وشُبهاتٌ بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لايعلم .

قال قلتُ : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثّقاتُ عنكم ؟ .

-----------------

الأوّل : ( أمرٌ بيّن رشده ) كالمجمع عليه ( فيُتَّبع ) ويُعمل به .

الثاني : ( وأمرٌ بيّن غيّه ) كالذي نعلم أنّه ليس بحكمهم عليهم السلام ( فيُجَتَنب ) .

الثالث : ( وأمرٌ مشكل ) كالشاذ ، لاحتمالنا أنه حكمهم عليهم السلام لكنّ المشهور على خلافة ، فإنّ مثل هذا ( يُردّ حكمه إلى اللّه ) يعني : يجب أن يفحص عنه ، في القرآن والسنة المتواترة ، ليُعلم منهما أن هذا الأمر المشكل أيّ جانب منه صحيح ، وأيّ جانب منه غير صحيح ؟ .

ثم استدل عليه السلام لما ذكره بقوله ( قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : حلالٌ بيّن ، وحرامٌ بيّن ، وشبهاتٌ بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لايعلم ) .

ولا يخفى : أنّ المراد بالحلال البيّن أحكام ثلاثة هي : الاستحباب والكراهة والاباحة ، والمراد بالحرام البيّن حكمان : الوجوب والتحريم ، وإنّما كان الوجوب داخلاً في الحرام البيّن ، لأنّ ترك الواجب حرام بيّن ، والأحكام الوضعية داخلة في الأحكام التكليفية على ما ذكره المصنّف وتقدّم الكلام فيه ، فالحديث إذن شامل لكل الأحكام الوضعية والتكليفية .

( قال ) الراوي : ( قُلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقاة عنكم )

ص: 37

قال : يُنظر ما وافق حُكمُه حكم الكتاب والسنّه وخالف العامّة فيؤخذُ به ، ويترك ما خالف الكتاب والسنة ووافق العامّة .

قلتُ : جُعلتُ فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ، فوجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخر مخالفاً ،

-----------------

بأن كان كل واحد من الخبرين في كل الكتب الأربعة فرضاً فمإذا يصنع المتنازعان ؟ .

( قال : يُنظَر ما وافق حُكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويُتَرك ما خالف الكتاب والسنّة ووافق العامّة ) .

ولا يخفى : أنّ العامّة في تلك العصور كانوا يعتمدون الكذب الصريح على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وعلى عليّ عليه السلام وعلى غيرهما ، كما لايخفى على من راجع التاريخ ، حتى أن البخاري جمع كتابه من بين ستمائة ألف حديث تقريباً ، ولم يدرجها جميعاً في كتابه ، لأنه لم يعتمد عليها ، بالإضافة إلى أنهم كانوا يأخذون بالقياس والرأي والاستحسان وما أشبه ذلك ، ممّا كان يجعل فقههم غالباً على خلاف الواقع ، ولذا جعل الأئمة عليهم السلام الرشد في خلافهم .

قال الرواي ( قلت : جُعلتُ فِداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمهُ ) أي : الحكم الذي حكم به كل منهما ، بأن كان ( من الكتاب والسنّة ، فوجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخر مخالفاً ) فهل نأخذ بالموافق أو بالمخالف ؟ ومعنى أنهما عرفا حكمه من الكتاب والسنة هو أن يدّعي كل واحد من الفقيهين : إنّ مايحكم به يوافق الكتاب ، كما نجد مثل ذلك في باب المعاطاة - مثلاً - حيث أن بعض الفقهاء يقولون : أن « أوفوا بالعقود » (1) يشمل المعاطاة ، وبعض الفقهاء ،

ص: 38


1- - سورة المائدة : الآية 1 .

بأيّ الخبرين يؤخذ ؟ .

قال : ما خالف العامّه ففيه الرشادُ فقلت : جعلتُ فداك ، فإن وافقها الخبران جميعاً ؟ .

قال : ينظر إلى ما هم أميلُ إليه حُكّامُهُم وقضاتُهم ، فيترك ويؤخذ بالآخر.

قلتُ : فإن وافق حُكامُهم الخبرين جميعاً ؟ قال : إذا كان ذلك ، فَارجه حتى تلقى إمامك ،

-----------------

يقولون : أنه لايشمل المعاطاة ، وهكذا غيره ، ففي مثل ذلك ( بأيّ الخبرين يؤخذ ) حينئذ .

( قال : ما خالف العامّة ففيه الرّشاد ) ومعناه : أنّه خذ بما خالف العامة .

قال الراوي : ( فقلت : جُعِلتُ فِداك ، فإن وافقها ) أي : وافق العامة ( الخبران جميعاً ) وذلك بأن يكون بين العامة خلاف - مثلاً - كأن يقول جماعة منهم : صلاة الجمعة واجبة ، ويقول آخرون : صلاة الجمعة مستحبة ، فهل نأخذ بالوجوب أو بالاستحباب مع أنّ كل واحد من العملين يوافق جماعة من العامة ؟ .

( قال : يُنظرُ إلى ما هم أميل إليه حكّامُهم ) أي : سلاطينهم ( وقضاتُهم ، فيترك ) ما هم إليه أميل ( ويؤخذ بالآخر ) فإذا كان أحد الخبرين موافقاً لميل السلطان الجائر ، ولميل المنصوب بأمر الجائر من الولاة والقضاة السّوء ، والآخر أبعد من ميلهم ، فيؤخذ بالأبعد من ميلهم .

قال الراوي ( قلت : فإن وافق حُكامُهم الخبرين جميعاً ) بأن كان ميلهم مع كل منهما .

( قال : إذا كان ذلك ، فأرجه ) أي : أخّر أمرك ، ولاتحكم طبق أحد الخبرين ، ولا بأحد قولّي القاضيين ( حتى تلقى إمامك ) فتسأله عن الحكم ، ثم علّل عليه السلام

ص: 39

فإنّ الوقوف عند الشبهات خيرٌ من الاقتحام في الهلكات .

وهذه الرواية الشريفة وإن لم تخلُ عن الاشكال ، بل الاشكالات ،

-----------------

هذا الارجاء والتوقف بقوله ( فإنّ الوقوف عند الشبهات خيرٌ من الاقتحام ) والدخول بلا رويّة ( في الهلكات ) (1) فإنّ الانسان إذا أخذ بشئمن دون دليل شرعي عليه ، فقد عرّض نفسه للهلاك ، انتهت الرواية .

قال المصنِّف ( وهذه الرواية الشريفة وإن لم تخل عن الاشكال ، بل الاشكالات ) المتعدّدة وليس إشكالاً واحداً ، وذلك على ما يلي :

الاشكال الأوّل : إنّ ظاهر الرواية هو : التحكيم ومراجعة الخصمين إلى القاضي لفصل الخصومة بينهما ، وليس في استعلام حكم المسألة ، ويرد عليه حينئذٍ خمسة أمور كما سيأتي ، من المصنّف بيانها انشاء الله تعالى .

الاشكال الثاني : إنّ ظاهر الرواية هو : تقديم الترجيح بالصفات على الترجيح بالشهرة وهذا خلاف السيرة المستمرة بين الفقهاء ، حيث أنّهم يقدّمون الترجيح بالشهرة على الترجيح بذي الصفات ، فإذا كانت إحدى الروايتين مشهورة ، والاُخرى غير مشهورة يأخذون بالمشهورة ، وإن كان الراوي للمشهورة أقل صفة من صفات الراوي للرواية غير المشهورة .

الاشكال الثالث : إنّ ظاهر الرواية هو : انّ مجموع الصفات من الأعدلية ، والأفقهية ، والأصدقية ، والأورعية المذكورة في الرواية مرجّح واحد ، فيلزم اجتماعها حتى يرجّح به ، مع أن الفقهاء اجمعوا على كفاية كل واحد من تلك الصفات في الترجيح به من دون لزوم اجتماعها .

ص: 40


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

من حيث ظهور صدرها في التحكيم لأجل فصل الخصومة وقطع المنازعة .

فلا يناسبها التعدّدُ

-----------------

هذا ، وقد أجاب المصنّف عن الاشكالين الأخيرين ، ولم يجب عن الاشكال الأوّل الذي أورده على المقبولة بخمسة أمور ، لكن الاشكال الأوّل بفروعه الخمسة أيضاً غير وارد كما سنتكلم حوله إنشاء الله تعالى .

وعليه : فالرواية فيها إشكالات ( من حيث ظهور صدرها في التحكيم لأجل فصل الخصومة وقطع المنازعة ) حيث قال الراوي في صدرها : « سألت أبا عبداللّه عليه السلام : عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دَين أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة ، أيحّل ذلك » وهذا يرد عليه إشكالات تالية :

أولاً : ( فلا يناسبها التعدّد ) أي : تعدّد القضاة ، وذلك لأنّ المتعارف هو أن : الحاكم والقاضي دائماً يكون واحداً لامتعدداً ، ولكن يرد عليه ما ذكرناه سابقاً : من أنّ تعدّد القضاة كان متعارفاً في الزمان السابق قبل الاسلام ، وبعد الاسلام ، وفي الزمان الحاضر أيضاً .

أمّا قبل الاسلام : فلأنه ورد في التواريخ ذلك ، حتى أنّهم نقلوا : انّ القضاة الذين اجتمعوا في بابل للحكم على النبي ابراهيم الخليل عليه السلام في قضيته المعروفة من تحطيم الأصنام التي كانت « الهتهم » بزعمهم ، كانوا ثلاثمائة قاضياً .

وإمّا في الزمان الحاضر فهو المتعارف عند الدول المتقدِّمة ، وذلك بحسب القوانين الدولية في معالجة القضايا المهمة .

وأمّا في الاسلام : فلأن النبي صلى الله عليه و آله وسلم والأعرابي الذي ادّعى أنّه لم يستلم ثمن الناقة التي باعها منه مع أنه صلى الله عليه و آله وسلم كان قد دفعه إليه ، تقاضيا إلى جملة من القضاة طولاً بضميمة أنّه لافرق بين الطولي والعرضي ، وقد ذكرنا كيفية حكمهم إذا كانوا

ص: 41

ولا غفلةُ الحَكَمين عن المعارض الواضح لمدرك حكمه ، ولا اجتهاد المترافعين وتحرّيهما في ترجيح مستند أحد الحكمين على الآخر ، ولا جواز الحكم من أحدهما بعد حكم الآخر .

-----------------

متعدّدين ، مظافاً إلى شمول إطلاق الأدلة - كما عرفت - لتعدّد القضاة ، فهو كما إذا قلّد فقهاء متعدّدين طولاً أو عرضاً .

ثانياً : ( ولا ) يُناسب الرواية ( غفلة الحَكَمين عن المعارض الواضح لمدرك حكمه ) لفرض أن الحَكمَين حكما حسب روايتين ، فكيف غفل كل واحد من الحَكمَين عن الرواية الاُخرى التي هي مدرك الحاكم الآخر ؟ .

ويرد عليه : أنّه من الممكن أن يكون كل منهما عالماً بالرواية الاُخرى ، لكنّه لايراها كافية للاستناد إليها كما أنه يمكن عدم إطلاع كل منهما على الرواية الاخرى ، وذلك لأنّ الأخبار في أيامهم عليهم السلام لم تكن مجموعة بهذا الشكل الذي هو عليه اليوم حتى يطلّع عليها كل أحد ، وإنّما جمعت الأخبار بعد ذلك كما هو واضح .

ثالثاً : ( ولا ) يناسب الرواية ( اجتهاد المترافعين وتحرّيهما ) أي : فحصهما ( في ترجيح مستند أحد الحَكَمين على الآخر ) وذلك لأنّ وظيفة المترافعين اتّباع حكم الحاكم ، وليس من شأنهما الفحص عن مدرك حكم الحاكم والبحث عن ترجيح أحد المدركين على المدرك الآخر عند التعارض ، فكيف حكم الإمام عليه السلام معه برجوعهما إلى وجوه الترجيح ؟ ويرد عليه : أنّه لامانع من ذلك ، فإنّ كثيراً من المترافعين يكونون علماء أيضاً ، كما نجده اليوم في زماننا ، حيث نرى المترافعين يعلمان القوانين ويناقشان الحكام في مدرك حكمهم .

رابعاً : ( ولا ) يناسب الرواية ( جواز الحكم من أحدهما بعد حكم الآخر )

ص: 42

مع بُعد فرض وقوعهما دفعةً ، مع أنّ الظاهرَ - حينئذٍ - تساقُطهما ، والحاجةُ إلى حكم ثالث ظاهرةٌ ، بل صريحةٌ في وجوب الترجيح بهذه المرجّحات

-----------------

وذلك لأنّ صحة تعدّد القضاة مستلزمة لنفوذ حكم الآخر بعد حكم الأوّل ، والحال أنّ الفقهاء لايقولون بذلك بل يقولون : بأنّه إذا حكم أحدهما بحكم ينفّذ حكمه ويجب متابعته ، فيلغو حكم الآخر ، ولا يبقى مجال لملاحظة التراجيح فيه .

ويرد عليه : انّا نقول بوقوع الحكم منهما دفعة واحدة عرفية ، مضافاً إلى أن قصة ترافع النبي صلى الله عليه و آله وسلم والاعرابي تدّل على أنّ للمترافعين مراجعة حاكم ثان ، وحاكم ثالث ، كما هو المتعارف الآن في محاكم الاستئناف والتمييز ثانياً وثالثاً .

ويؤيده : ماذكره الفقهاء من أنّ القاضي إذا خلف القاضي الآخر في بلد ، كان عليه أن يراجع السجون حتى يطلق سراح بعض السجناء وما أشبه ذلك ، مع أنهم سجنوا بحكم القاضي السابق .

خامساً : ( مع بُعد فرض وقوعهما دفعةً ) واحدة ( مع أن الظاهر حينئذ ) أي : حين وقوع الحكم من الحَكَمين معاً دفعة واحدة (تساقطهما، والحاجة الى حَكَم ثالث).

ويردّ عليه : أنه لامانع من جعل حكم ثانوي في الطريقين المتعارضين بعد أن كان الحكم الأوّلي فيهما التساقط ، والأصل الثانوي هو : الرجوع إلى مدرك الحكم وملاحظة المرجّحات إن كانت ، بالنسبة إلى من كان له أهلية الرجوع إلى ذلك من المترافعين .

وعلى أيّ حال : فهذه الرواية وإن لم تخل عن اشكالات حسب نظر المصنّف إلاّ أنها بنظره ( ظاهرةٌ : بل صريحةٌ في وجوب الترجيح بهذه المرجّحات

ص: 43

بين الاخبار المتعارضة ، فإنّ تلك الاشكالات لاتدفع الظهور ، بل الصراحة .

نعم ، يرد عليه بعضُ الاشكالات في ترتّب المرجّحات ، فإنّ ظاهر الرواية تقديم الترجيح من حيث

-----------------

بين الأخبار المتعارضة ) فتكون دليلاً على الترجيح الذي يقول به المشهور .

أمّا أنها ظاهرة : فلوجود الأمر الظاهر في الوجوب خصوصاً إذا كان بلفظ الخبر مثل : « يُؤخذ » و« يُترك » و« يُنظر » وما أشبه ذلك .

وأمّا أنها صريحة : فبقرينة الحصر الموجود في قوله : « الحُكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولايلتفت إلى ما يحكم به الآخر » (1) وبقرينة تماسك الفقرات بعضها مع بعض ، وبقرينة استقصاء الرواية ذكر المرجّحات .

وعليه : ( فإنّ تلك الاشكالات لاتدفع الظهور ، بل الصراحة ) الموجودة بوجوب الترجيح في الرواية ، وذلك لأنّ الاشكالات منصبّة على التحكيم المستفاد من صدر الرواية ، بينما وجوب الترجيح مستفاد من الفقرات الآمرة بالترجيح بين الخبرين ، ولا ربط بين المقامين ، إذ من الممكن أن يكون هناك خبر فيه مواضيع متعدّدة فيعمل ببعضها دون بعضها الآخر ، فيكون حال الفقرات المتعدّدة حال روايتين مختلفتين من جهّة الاجمال والتبيين ، حيث يعمل بأحداهما ولا يعمل بالأخرى .

الثاني : من الاشكالات التي أو ردها المصنّف على الرواية المقبولة ما ذكره بقوله : ( نعم ، يرد عليه بعض الاشكالات في ترتّب المرجّحات ) حيث أن هذا الترتيب خلاف المشهور كما قال : ( فإنّ ظاهر الرواية : تقديم الترجيح من حيث

ص: 44


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

صفات الراوي ، على الترجيح بالشهرة والشذوذ .

مع أنّ عمل العلماء قديماً وحديثاً على العكس على ما يدلّ عليه المرفوعة الآتية ، فإنّ العلماء لاينظرون عند تعارض المشهور والشاذّ إلى صفات الراوي ، اللّهمّ إلاّ أن يمنع ذلك .

فإنّ الراوي إذا فرض كونه أفقه وأصدق وأورع ، لم يبعد ترجيحُ روايته وإن انفرد بها على الرواية المشهورة بين الرواة ،

-----------------

صفات الرّاوي ، على الترجيح بالشهرة والشذوذ ) فقد ذكرت الرواية أو لاً صفات الراوي ثم ذكرت ثانياً الترجيح بالشهرة ( مع أنّ عمل العلماء قديماً وحديثاً على العكس ) من ترتيب هذه الرواية ، فإنّهم يقدّمون الترجيح بالشهرة على الترجيح بالصفات ، وذلك ( على ما يدلّ عليه المرفوعة الآتية ) حيث انّ الإمام عليه السلام قدّم الشهرة فيها ، ثم ذكر سائر المرجّحات المتربطة بصفات الراوي .

وعليه : ( فإنّ العلماء لاينظرون عند تعارض المشهور والشاذّ إلى صفات الرّاوي ) بل يأخذون بالمشهور وإن كان صفات راوي الشاذ أرفع من صفات راوي المشهور .

( اللّهمّ إلاّ أن يُمنع ذلك ) أي : يُمنع إطلاق تقديم الترجيح بالشهرة على الترجيح بصفات الراوي ، وذلك بأن نقول : إنّه ربما يُقدّم الترجيح بالشهرة ، وربّما يُقدّم الترجيح بصفات الراوي ( فإنّ الراوي إذا فرض كونه أفقه وأصدق وأورع ) من الراوي للرواية الاُخرى ( لم يبعد ترجيح روايته ) أي : رواية هذا الذي كان أفقه وأصدق وأورع ( وإن انفرد بها ) بأن كانت هذه الرواية رواية شاذةً ، فأنه مع ذلك قد نرجّح أحياناً هذه الرواية الشاذة ( على الرواية المشهورة بين الرواة ) .

ص: 45

لكشف اختياره إيّاها مع فهمه وورعه ، عن اطّلاعه على قدح في الرواية المشهورة ، مثل صدورها تقيّة ، أو تأويل لم يطّلع عليه غيره ، لكمال فقاهته وتنبّهه لدقائق الاُمور وجهات الصدور ، نعم ، مجرّد أصدقيّة الراوي وأورعيّته لايوجب ذلك ، ما لم ينضمّ إليه الأفقهيّة .

هذا ، ولكنّ الرواية مطلقة ، فيشمل الخبر المشهور روايته

-----------------

وإنّما نرجّح هذه الشاذّة أحياناً على تلك المشهورة ( لكشف اختياره ) أي : اختيار هذا الراوي الأصدق الأعدل الأفقه ( ايّاها ) أي : لهذه الرواية الشاذة ، يكشف ( مع فقهه وورعه ، عن اطّلاعه على قدحٍ في الرواية المشهورة ، مثل صدورها تقيّة ، أو تأويلٍ لم يطّلع عليه غيره ) وقد اطّلع هو على ذلك ( لكمال فقاهته وتنبّهه لدقائق الاُمور وجهات الصدور ) فإنّ تنبّهه لذلك كان داعياً له لنقل الرواية الشاذة دون الرواية المشهورة .

( نعم ، مجرّد أصدقّية الراوي وأورعيّته لايوجب ذلك ) أي : لايوجب الترجيح الشاذ على المشهور ، وذلك لأنّ الصدق والورع لايرتبطان بالفهم ( مالم ينضمّ إليه الأفقهيّة ) حيث أن الأفقهية مرتبطة بفهم دقائق الاُمور وتحقيق حال الروايات .

( هذا ، ولكنّ الرواية ) وهي : مقبولة عمر بن حنظلة ( مطلقة ) أي : ليست مختصة بالفرض الأخير الذي صحّح فيه المصنّف تقديم الترجيح بالصفات على الترجيح بالشهرة ، ليرفع به إشكال ترتّب المرجّحات التي أو ردها على المقبولة ، فإنّ إشكال ترتّب المرجّحات باق ، لشمول المقبولة صورتين اُخريين مخالفتين للترتّب المذكور فيها ، والصورتان هما كالتالي :

الصورة الاُولى : ما أشار إليه المصنِّف بقوله : ( فيشمل الخبر المشهور روايته

ص: 46

بين الأصحاب ، حتى بين من هو أفقه من هذا المنفرد برواية الشاذّ ، وإن كان هو أفقه من صاحبه لمرضي بحكومته ، مع أنّ أفقهيّة الحاكم بإحدى الروايتين لايستلزم أفقهيّة جميع رواتها ، فقد يكون مَن عداه مفضولاً بالنسبة إلى رواة الاُخرى .

-----------------

بين الأصحاب ، حتى بين من هو أفقه من هذا ) الأوّل ( المنفرد برواية الشاذّ ، وإن كان ) هذا الأوّل الراوي للشاذ ( هو أفقه من صاحبه ) أي : الثاني الناقل للمشهور ( لمرضيّ بحكومته ) يعني : لو روى - مثلاً - زرارة الأفقه ، عن المعصوم مباشرة وبلا واسطة رواية الشاذ ، وروى محمد بن مسلم وهو غير الأفقه عن المعصوم مع الواسطة رواية المشهور ، لكن كان في جملة وسائط رواية المشهور من هو أفقه من زرارة فإنّه على إطلاق رواية المقبولة في الترجيح بالصفة أوّلاً يلزم تقديم رواية زرارة لأنه افقه ، وهو ترجيح بالصفة ، مع أن الفقهاء ، يقدّمون هنا رواية المشهور ، لأنّها مشتملة له على الصفة والشهرة معاً ، فهذه هي الصورة الأولى .

الصورة الثانية : ( مع أنّ أفقهيّة الحاكم بإحدى الروايتين ) اللتين هما مدرك الحاكمين ( لايستلزم أفقهيّة جميع رواتها ، فقد يكون مَن عداه مفضولاً بالنسبة إلى رواة ) الرواية ( الاُخرى ) يعني : لو روى - مثلاً - زرارة الأفقه لكن لامباشرة ، بل بواسطة بُريد عن المعصوم رواية الشاذ ، وروى محمد بن مسلم غير الأفقه بواسطة فُضيل الذي هو أفقه من زرارة رواية المشهور ، فكيف يقدّم ما رواه زرارة على الرواية الاُخرى لأجل إطلاق المقبولة ، مع أن الفقهاء يقدّمون الرواية الاُخرى التي اجتمع فيها الصفة وهو الافقه والشهرة معاً ؟ وهذه هي الصورة الثانية ممّا أورده المصنّف على إطلاق المقبولة من حيث ترتيب المرجّحات فيها .

ص: 47

إلاّ أن ينزّل الرواية على غير هاتين الصورتين .

وبالجملة : فهذا الاشكالُ أيضاً لايقدحُ في ظهور الرواية ، بل صراحتها في وجوب الترجيح بصفات الراوي ، وبالشهرة من حيث الرواية وبموافقة الكتاب ومخالفة العامّة .

نعم ، المذكور في الرواية الترجيحُ باجتماع صفات

-----------------

( إلاّ أن ينزّل الرواية ) وهي المقبولة ( على غير هاتين الصورتين ) الأخيرتين أيضاً ، كما نزّلها على غير ما أشكله أوّلاً على ترتيب المرجّحات المذكورة في المقبولة ، حيث منع هناك من تقديم الفقهاء الترجيح بالشهرة على الترجيح بالصفة على نحو مطلق وإن أطلقوا القول بتقديم الشهرة ، وبذلك صحّ مورد الاشكال ، فهنا كذلك نصحّح به الاشكال ونقول : إنّه من الممكن إطلاق الترجيح بالشهرة ضرباً للقاعدة ، وإن لم يكن في بعض الأفراد العلّة التي سبّبت تقديم رواية الأفقه وهي الترجيح بالصفة على التريجح بالشهرة .

( وبالجملة : فهذا الاشكال أيضاً ) بصورتيه لو فرضنا تماميته ( لايقدح في ظهور الرواية ، بل صراحتها في وجوب الترجيح ) وذلك لما تقدّم : من أن المقبولة ظاهرة ، بل صريحة في الأخذ بالمرجّحات لا التخيير مطلقاً ، فهذه الرواية تدلّ على الترجيح ( بصفات الراوي ، وبالشهرة من حيث الرواية ) أي : الشهرة الروائية في مقابل الشهرة الفتوائية ( وبموافقة الكتاب ومخالفة العامّة ) فتكون المقبولة دليلاً للمشهور الذين يقولون بترجيح بعض الروايات على بعضها الآخر ، فيما إذا تعارضت الروايات ، لا التخيير بينها كما ذكره بعض .

الثالث من الاشكالات التي أوردها المصنّف على الرواية المقبولة ما ذكره بقوله : ( نعم ، المذكور في الرواية ) المقبولة هو : ( الترجيح باجتماع صفات

ص: 48

الراوي من العدالة والفقاهة والصداقة والورع ، لكنّ الظاهر إرادة بيان جواز الترجيح بكلّ منها .

ولذا لم يسأل الراوي عن صورة وجود بعض الصفات دون بعض أو تعارض الصفات بعضها مع بعض ، بل ذكر في السؤال أنّهما عدلان مرضيّان لايَفضُل أحدُهما على صاحبه .

-----------------

الراوي من العدالة والفقاهة والصداقة والورع ) حيث أن ظاهر المقبولة كون مجموع هذه الصفات مرجّحاً واحداً ، وهذا مالايقول به الفقهاء ، بل أنهم يكتفون في الترجيح بالأعدليّة فقط ، أو الأفقهية فقط ، أو الأصدقيّة فقط ، أو الأورعية فقط.

هذا ( لكنّ الظاهر ) بالنظر التحقيقي ( إرادة ) الرواية ( بيان جواز الترجيح بكلّ منها ) أي : بكل واحد من هذه الصفات لا ان المراد مجموع الصفات من حيث المجموع ( ولذا ) أي : لأجل ان الرواية ظاهرة في جواز الترجيح بكلّ من هذه الصفات ( لم يسأل الراوي ) الذي سأل من الإمام عليه السلام في المقبولة ( عن صورة وجود بعض الصفات دون بعض ) فإنّ عدم سؤاله عن ذلك ، دليل على أنه فهم كفاية البعض ، كما إذا كان أحدهما أفقه ( أو ) أصدق - مثلاً - مع التساوي في العدل والورع ، وإلى غير ذلك ، فإنّه لو فهم من الرواية لزوم أن يكون الراوي جامعاً لكل هذه الصفات الأربع لزم عليه أن يسأل بعد ذلك عن انه إذا كان في الراوي بعض الصفات دون بعض فهل تقدّم روايته أم لا ؟ .

وكذا لم يسأل الراوي عن ( تعارض الصفات بعضها مع بعض ) كما إذا كان في أحدهما الأفقهية ، وفي أحدهما الأعدلية ، وإلى غير ذلك ، فإنّه قد فهم انه حينئذ لا ترجيح بين الروايتين ، ولذا لم يسأل عنها .

(بل ذكر في السؤال) بعد ذلك (أنّهما عدلان مرضيّان لايفضل أحدهما على صاحبه).

ص: 49

فقد فهم أنّ الترجيح بمطلق التفاضل ، وكذا يوجّه الجمعُ بين موافقة الكتاب والسنّه ومخالفة العامّة مع كفاية واحدة منها إجماعاً .

الثاني : ما رواه ابن أبي جمهور الأحسائي في غوالي اللئالي ، عن العلاّمة ، مرفوعاً إلى زرارة : قال : سألت أبا جعفر عليه السلام ، فقلتُ : جعلت فِداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان ، فبأيّهما آخُذُ ؟

-----------------

ممّا يؤيد ما ذكرناه ( فقد فهم أنّ الترجيح ) كائن ( بمطلق التفاضل ) بينهما ، وليس باجتماع الصفات في احدهما دون الآخر .

( وكذا يوجّه الجمع بين موافقة الكتاب والسنّة ومخالفة العامّة ) التي ذكرها الإمام عليه السلام مجتمعة ( مع ) وضوح ( كفاية واحدة منها إجماعاً ) فإنّه قد قام الاجماع على أنه يكفي كل واحد من : موافقة الكتاب ، وموافقة السنة ، كما يكفي مخالفة العامة بوحده ، وغير ذلك من التوجيهات الكاشفة عن ان الاشكالات المذكورة على المقبولة غير واردة ، وعلى فرض كونها واردة لاتقدح في تمامية الاستدلال بها على وجوب الترجيح ، بالمرجّحات المذكورة فيها ، علماً بأنها خمسة أمور بترتيب : الصفات ، ثم الشهرة ، ثم موافقة الكتاب ، ثم مخالفة العامة ، وأخيراً : الارجاء .

( الثاني ) من روايات العلاج هو : ( ما رواه ابن ابي جمهور الأحسائي في غوالي اللئالي ، عن العلاّمة ، مرفوعاً ) أي : انه لم يذكر السند ، وإنّما رفع الرواية إلى زرارة ، وهو السائل عن الإمام الباقر عليه السلام فسقطت الواسطة بين زرارة وبين العلامة ، فالرواية مرفوعة إذن ( إلى زرارة ، قال : سألتُ أبا جعفر عليه السلام فقلتُ : جُعِلتُ فِداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان ، فبأيّهما آخُذُ ؟ ) ولعل الفرق بين الحديث والخبر هو : أن الخبر ما ينقله الإمام عن آبائه عن رسول

ص: 50

فقال عليه السلام : يا زرارة ، خُذ بما اشتهر بَينَ اصحابك ودع الشاذّ النادر .

فقلت : يا سيّدي ، إنّهما معاً مشهوران مأثوران عنكم ، فقال : خُذ بما يقول أعدلُهما عندك وأوثقُهُما في نفسك ، فقلت : إنّهما معاً عدلان مرضيّان موثّقان ، فقال : انظر ما وافق منهما العامّة فاتركه وخُذ بما خالف ، فإنّ الحقّ فيما خالفهم .

قلتُ : ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين ، فكيف أصنَعُ ؟ .

-----------------

الله صلى الله عليه و آله وسلم ، والحديث ما كان جديداً منقولاً من نفس الإمام عليه السلام .

( فقال عليه السلام : يا زرارة ، خُذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذَّ النادر ) ولعل الشاذ هو : ما كان مضمونه بعيداً عن ذهن المتشرّعة ، بينما النادر هو : ما كان فريداً في ذاته وإن لم يكن بعيداً ، قال زرارة ( فقلت : يا سيّدي ، إنّهما معاً مشهوران مأثوران عنكم ) كما إذا وُجدت روايتان متعارضتان في كثير من كتب الأصحاب .

( فقال : خُذ بما يقول أعدلُهما عندك وأوثقُهُما في نفسك ) أي : بمن تطمئن في نفسك إلى ان عدالته ووثاقته يفوقان عدالة الآخر ووثاقته .

قال زرارة ( فقلت : إنّهما معاً عدلان مرضيّان موثّقان ) اشارة الى أنّه من الممكن أن يكون عادلاً ، إلاّ أنه لم يكن مرضياً عند الناس ، وذلك لسوء في خلقه ، أو قلة من آدابه ، ولكن لابدرجة تسقطه عن العدالة ، كما يمكن أن يكون عادلاً لكن غير ثقة ، وذلك لكثرة نسيانه أو ما أشبه ذلك .

( فقال : انظر ما وافقَ منهُما العامّة فاتركه وخُذ بما خالف ) العامة منهما ( فإنّ الحقّ فيما خالفهم ) كما تقدّم وجه ذلك .

قال زُرارة : ( قلت : ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين ، فكيف أصنع ) معهما ؟ .

ص: 51

قال : إذن فَخُذ بما فيه الحائطةُ لدينك ، واترك الآخر ، قلتُ : إنّهما معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان له ، فيكف أصنع ؟ فقال : إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به ، ودع الآخر .

الثالث : ما رواه الصدوق بإسناده عن أبي الحسن الرضا عليه السلام ، في حديث طويل ، قال فيه : فما ورد عليكم من حديثين مختلفين

-----------------

( قال : إذن فَخُذ بما فيه الحائطة لدينك ، واترُك الآخر ) فلو كان أحد الخبرين - مثلاً - يقول : غسل الجمعة واجب ، ويقول الآخر : غسل الجمعة مستحب ، فإن الأخذ بالوجوب أحوط .

قال زرارة : ( قلت : إنّهما معاً موافقان للاحتياط ) كما إذا كان أحدهما يدلّ على الوجوب ، والآخر يدلّ على الحرمة ، أو كان أحدهما يدلّ على وجوب الظهر ، والآخر يدلّ على وجوب الجمعة - مثلاً - ( أو مخالفان له ) أي : بأن كان الخبران معاً مخالفين للاحتياط كما لو دلّ أحدهما : على الندب والآخر على الكراهة ، قال : إذا كان الخبران معاً كذلك ( فكيف أصنع ) معهما ؟ .

( فقال : إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به ، ودع الآخر ) (1) وهذا الجواب جاء بصيغة الأمر ، ومعلوم : أن ظاهر الأمر هو : الوجوب كما هو واضح ، ولا يخفى أن الترجيح فيها بخمسة أمور بترتيب : الشهرة ، ثم الصفات ، ثم مخالفة العامة ، ثم الاحتياط ، ثم التخيير .

( الثالث ) من روايات العلاج ( ما رواه الصدوق بإسناده عن أبي الحسن الرضا عليه السلام ، في حديث طويل ، قال فيه : فما ورد عليكم من حديثين مختلفين )

ص: 52


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

فَاعرضوهما عَلى كتاب اللّه ، فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حراماً ، فاتبعُوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوهما على سنن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ، فما كان في السنّة موجوداً منهيّاً عنه ، نهي حرام أو مأموراً به عن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم أمر إلزام ، فاتّبعُوا ما وافق نهي النبي صلى الله عليه و آله وسلم وأمره ، فما كان في السنّه نهي إعافةٍ أو كراهةٍ

-----------------

متعارضين ( فاعرضوهما على كتاب اللّه ، فما كان في كتاب اللّه موجوداً حلالاً أو حراماً ) بأن كان الحديث يدلّ على الحلّية وكتاب اللّه يدلّ على الحلّية أيضاً ، أو الحديث يدلّ على الحرمة وكتاب اللّه أيضاً كذلك ، علماً بأنّ الحلال كما تقدّم يشمل الأحكام الثلاثة ، والحرام يشمل حكمين ، فإذا كان حكمه موجوداً فيه ( فاتّبعُوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب ) بأن لم يوجد حكمه في كتاب اللّه ( فاعرضوهما على سُنن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ) المتواترة عنه ، حيث إنّ سنن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كانت على الأغلب متداولة في المسلمين ومعروفة بينهم .

ثم قال عليه السلام بعد أن أمر بعرض الخبرين على السنّة : ( فما كان في السنّة موجوداً منهيّاً عنه ، نهي حرام ) لانهي كراهة ( أو مأموراً به عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أمر إلزام ) لا أمر ندب ، فإنّ في الكراهة والندب يجوز للانسان الأخذ والترك ، بينما المراد هنا من الأخذ والترك هو الواجب منهما ، فإذا كان موجوداً في السنة ( فاتّبعوا ما وافق نهي النبي صلى الله عليه و آله وسلم وأمره ) الالزاميّين .

ثم قال عليه السلام : ( فما كان في السنّة نهي إعافةٍ أو كراهةٍ ) ولعل الفرق بين الاعافة والكراهة هو : انّ الانسان قد يترك شيئاً مع أنه مباح لأنه يضرّه - مثلاً - وقد يتركه لا لأنه يضرّه، بل لأنه مكروه شرعاً ، فالنبي صلى الله عليه و آله وسلم - مثلاً - ما كان يجمع بين ادامين على مائدة واحدة ، وكذلك كان الإمام علي عليه السلام ، أو ان النبي صلى الله عليه و آله وسلم لم يأكل

ص: 53

ثمّ كان الخبر خِلافه ، فذلك رُخصةٌ في ما عافهُ رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ، أو كرههُ ولم يُحرِّمه ، وذلك الذي يسعُ الأخذُ بهما جميعاً وبأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتباع والردّ إلى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ، وما لم تجدوه في شئمن هذه الوجوه فرُدُّوا إلينا عِلمَهُ ، فنحنُ أولى بذلك ، ولاتقولوا فيها بآرائكم ، وعليكم بالكفِّ والتثبّتِ والوقوف ،

-----------------

الفالوذج وهو نوع من الحلوى في حياته ، وكذلك عليّ عليه السلام لم يأكل الفالوذج في حياته تأسّياً برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وعدم أكلهم هذه الألوان من الطعام لا لأنه مكروه ، بل الترك ترك اعافة ، وعافة بمعنى : تركه .

وعليه : فإن كان الخبر الدالّ على عدم الالزام موافقاً للسنّة ( ثمّ كان الخبر ) الآخر الدال على الالزام ( خلافه ) أي : خلاف ما ورد في السنّة ( فذلك رخصةٌ فيما عافه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أوكرهه ولم يحرِّمه ) فإنّ النهي إذا كان نهي كراهة وإعافة دلّ على الرخصة ( وذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً ) فإنّه إذا كان النهي نهي نزاهة جاز للانسان الترك وجاز للانسان الفعل ( وبأيّهما شئت وسعَك الاختيار ) أي : يجوز لك أن تختار هذا أو تختار ذاك ( من باب التسليم ) لحكم اللّه سبحانه وتعالى ( والاتباع ) لسنة الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ( والرّد ) أي : ارجاع الأمر ( الى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ) ثم قال عليه السلام : ( وما لم تجدوه في شئمن هذه الوجوه) أي : لم تجدوا حكمه في السنة ، لا بوجه نهي تحريم ، ولا نهي عافة وكراهة - مثلاً- ( فردّوا إلينا علمه ، فنحن أولى بذلك ) أي : بردّ العلم ، ومعنى : « فردّوا الينا علمه » هو : ما فسّره الإمام عليه السلام بقوله بعد ذلك ( ولا تقولوا فيها ) أي : في هذه الوجوه التي لم يَرد عنهم عليهم السلام الخبر بها ( بآرائكم ) واستحساناتكم العقلية (وعليكم بالكفّ) عن القول بالرأي ( والتثبّت ) في الأمر بالفحص والتحقيق ( والوقوف )

ص: 54

وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيانُ من عِندِنا .

الرابع : ما عن رسالة القطب الراوندي ، بسنده الصحيح عن الصادق عليه السلام : إذا وَرَدَ عليكمُ حَديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فذرُوه ، فان لم تجدوه في كتاب الله ، فاعرضوهما على أخبار العامة ، فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهُم فخذُوه .

-----------------

عن الفتوى ( وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا (1) ) علماً بأن البحث والتحقيق قد يصل أحياناً إلى النتيجة ، وذلك بأن يعلم الانسان أنّ هذه الصغرى المبتلى بها داخلة في تلك الكبرى التي ذكرها الإمام عليه السلام ، كما في مسألة الجارية التي لم يكن على ركبها شعر ، حيث ادخل الراوي هذه الصغرى في تلك الكبرى التي سمعها عن الإمام عليه السلام وهو يقول : « كلما زاد أونقص من الخلقة الأصلية فهو عيب » ولا يخفى أن الترجيح فيها بأمور أربعة بترتيب : موافقة الكتاب ، ثم موافقة السنة ، ثم التخيير ، ثم الارجاء .

( الرابع ) من روايات العلاج : ( ما عن رسالة القطب الرّاوندي ، بسنده الصحيح عن الصادق عليه السلام : اذا ورد عليكم حديثان مختلفان ) أي : اختلافاً بالتباين وذلك حسب ما يستفاد منه عرفاً ، لابالعموم المطلق أو ما أشبه ذلك ( فاعرضُوهُما على كتاب اللّه ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فذروه ، فإن لم تجدوه ) أي : لم تجدوا شيئاً من الوفاق والخلاف ( في كتاب اللّه ، فاعرضوهما على أخبار العامة ، فما وافق أخبارهم فذرُوه ، وما خالف أخبارهم فخُذُوه ) (2)

ص: 55


1- - عيون اخبار الرضا : ج2 ص21 ح45 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33354.
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص118 ب9 ح33362 ، بحار الانوار : ج2 ص235 ب29 ح20 .

الخامسُ : ما بسنده أيضاً عن الحسين بن السري ، قال أبو عبد الله عليه السلام : إذا ورد عليكمُ حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم .

السادس : ما بسنده أيضاً عن الحسن بن الجهم في حديث ، قلتُ له - يعني : العبد الصالح عليه السلام - : يُروى عن أبي عبد الله عليه السلام شيء ،

-----------------

علماً بأنّ المراد من العرض مايشمل العرض على أخبار العامة ، وعلى فتاواهم ، وذلك لأنّ في بعض المسائل لاتوجد لهم أخبار ، أو أن فتاواهم تخالف أخبارهم ، فماذكر في هذه الرواية من باب المثال وملاكه أعم ، والترجيح فيها بأمرين بترتيب : موافقة الكتاب ، ثم مخالفة العامة .

( الخامس ) من روايات العلاج : ( ما بسنده ) أي : بسند القطب الراوندي ( أيضاً عن الحسين بن السّري ، قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخُذُوا بما خالفَ القوم ) (1) ولا يخفى : انّ هذه الرواية وغيرها من الروايات الاُخرى التي تعرّضت لذكر بعض المرجّحات فقط ، ولم تذكر جميعها ، فهي : إمّا لأنّ التراجيح من باب الاستحباب - كما قاله بعض - أو لأن الإمام عليه السلام ذكر المرجّحات التي كانت محل إبتلاء الراوي فقط ، أو لأنّ الراوي ذكر بعض المرجّحات التي ذكرها الإمام وأسقط بعضها في النقل ، وإلى غير ذلك من المحتملات ، علماً بأن الترجيح فيها بأمر واحد وهو : مخالفة العامة .

( السادس ) من روايات العلاج : ( ما بسنده ) أي : بسند القطب الراوندي (أيضاً عن الحسن بن الجهم في حديث ، قلت له - يعني : العبد الصالح عليه السلام - ) وهو من ألقاب الإمام موسى_'feبن جعفر عليه السلام أنه: (يُروى عن أبي عبد اللّه عليه السلام شيء،

ص: 56


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص118 ب9 ح33363 ، بحار الانوار : ج2 ص235 ب29 ح17 .

ويُروى عنه أيضاً خِلافُ ذلك ، فبأيّهما نأخذُ ؟ قال : خُذ ما خالف القوم ، وما وافق القوم فاجتنبُه .

السابع : ما بسنده أيضاً عن محمد بن عبد الله : قال : قلت للرّضا عليه السلام : كيف نصنع بالخبرين المختلفين ؟ قال : إذا ورد عليكم خبران مختلفان ، فانظروا ما خالف منهما العامّة فخذوه ، وانظروا ما يُوافق أخبارهم فذروهُ .

الثامن : ما عن الاحتجاج بسنده عن سماعة بن مهران :

-----------------

ويُروى عنه أيضاً خلاف ذلك ، فبأيّهما نأخُذ ) من الروايتين المتعارضتين ؟ .

( قال : خُذ ما خالف القوم ، وما وافق القوم فاجتنبه ) (1) والظاهر : أن المقصود من « القوم » هم : العامة ، أو الأعم منهم ومن الزيدية ومن أشبههم ، فيما إذا كان الراوي يعيش بين الزيدية ونحوهم ، لكن الأوّل هو الذي فهمه الأصحاب ، والترجيح في هذه الرواية بأمر واحد وهو : مخالفة العامة .

( السابع ) من روايات العلاج ( ما بسنده ) أي : بسند القطب الراوندي ( أيضاً عن محمد بن عبد اللّه قال : قلت للرّضا عليه السلام : كيف نصنَعُ بالخبرين المختلفَين ) إذا وردا علينا ؟ .

( قال : إذا ورد عليكم خبران مختلفان ، فانظرُوا ما خالفَ منهما العامّة فخُذُوه ، وانظروا ما يوُافِقُ أخبارَهُم فذَرُوهُ ) (2) إذ لعل أحد الخبرين الموافق لأخبارهم صدر تقية ، فاللاّزم أن يعرف الذي هو مخالف لهم منهما حتى يأخذ به ، والترجيح في هذه الرواية أيضاً بأمر واحد وهو : مخالفة العامة .

( الثامن ) من روايات العلاج ( ما عن الاحتجاج بسنده عن سماعة بن مهران :

ص: 57


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص118 ب9 ح33364 ، بحار الانوار : ج2 ص235 ب29 ح18 .
2- - وسائل الشيعة: ج27 ص119 ب9 ح33367 بالمعنى، بحار الانوار : ج2 ص235 ب29 ح19.

قال : قُلتُ لأبي عبد الله عليه السلام : يَرد علينا حديثان ، واحدٌ يأمرنا بالأخذ به والآخرُ ينهانا .

قال : لا تعمل بواحدٍ منهما حتى تلقى صاحِبك فتسأل ، قلتُ : لابدَّ أن نعمل بواحد منهما ، قال : خذ بما خالف العامة .

التاسع : ما عن الكافي بسنده عن المعلّي بن خُنيس : قال : قُلتُ لأبي عبداللّه عليه السلام : إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديثٌ عن آخركم ،

-----------------

قال : قُلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام : يرد علينا حديثان ، واحدٌ يأمرنا بالأخذ به ) أي : يدل على الوجوب ( والآخرُ ينهانا ) أي : يدلّ على الحرمة ، وذلك كما في المثال السابق من حديث يدل على وجوب الجمعة ، وآخر يدل على حرمتها .

( قال : لاتعمَل بواحدٍ منهما حتى تلقى صاحبك ) أي : الإمام عليه السلام ( فتسأل ) منه عنهما ؟ .

( قلتُ : لابدَّ أن نعمل بواحد منهما ) لأن الحادثة لاتتحمل التأخير ، وذلك كما مثّلنا له سابقاً بالميت الذي لانعرف كيف نغسّله ؟ أو كيف نصلي عليه ؟ أو كيف ندفنه ؟ إلى غير ذلك .

( قال : خذ بما خالف العامّة ) (1) وقد تقدّم وجه تخصيص بعض الروايات الترجيح ببعض المرجحات ، علماً بأنها في هذه الرواية أمران بترتيب : الارجاء ، ثم مخالفة العامة .

( التاسع ) من روايات الترجيح : ( ما عن الكافي بسنده عن المعلّي بن خُنيس قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديثٌ عن آخركم ،

ص: 58


1- - الاحتجاج : ص357 ، وسائل الشيعة : ج27 ص122 ب9 ح33375 ، بحار الانوار : ج2 ص224 ب29 ح1 .

بأيّهما نأخذ ؟ .

قال : خذوا به حتى يبلغكم عن الحيّ ، فإن بلغكم عن الحيّ فخذوا بقوله .

قال : ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السلام : إنّا واللّه لانُدخلكم إلاّ فيما يسعكم .

العاشر : ما عنه بسنده إلى الحسين بن المختار ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال : أرأيتك لو حدّثتك بحديث العام ، ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه ، بأيّهما كنت تأخذ ؟ قال : كنت أخذ بالأخير ،

-----------------

بأيّهما نأخذ ) بالأوّل أو بالأخير ؟ .

( قال : خُذوا به ) أي : بما جاءكم عن الأوّل الذي لا معارض له بعد ( حتى يبلُغَكُم عن الحيّ ) شئيخالف ذلك ( فإن بلغكم عن الحيّ فخُذوُا بقوله ) أي : بقول الحيّ .

( قال ) الرّاوي : ( ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السلام : إنّا والله لاندخُلَكم إلاّ فيما يسعُكُم (1) ) اشارة الى قوله تعالى : « يريدُ اللّهُ بِكُم اليُسر ولايريدُ بِكُم العُسر » (2) ومن السعة واليُسر أن يكون الحديث من الأوّل قد صَدر تقية ، ومن الثاني موافقاً للواقع ، أو بالعكس ، وذلك حتى لايصاب الراوي بأذى - مثلاً - وهذه الرواية ذكرت ترجيحاً واحداً وهو : الأحدثية والأقدميّة .

( العاشر : ما عنه ) أي : عن الكافي أيضاً ( بسنده إلى الحسين بن المختار ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال : أرأيتك لوحدّثتك بحديث العام ) السابق ( ثمّ جئتني من قابل ) أي : في العام الثاني ( فحدّثتك بخلافه ، بأيّهما كنت تأخذ ) بالقديم أو بالجديد ؟ .

( قال : كنت آخذ بالأخير ) منهما .

ص: 59


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص109 ب9 ح33341 .
2- - سورة البقرة : الآية 185 .

فقال لي : رحمك الله تعالى .

الحادي عشر : ما بسنده الصحيح ظاهراً عن أبي عمرو الكناني ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : يا أبا عمرو أرأيت لو حدثتك بحديث أو افتيتك بفتيا ، ثمّ جئت بعد ذلك تسألني عنه ، فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك ، بأيّهما كنت تأخذ ؟ قلت : بأحدثهما ، وأدعُ الآخر .

-----------------

( فقال لي : رحمك اللّه تعالى ) (1) وفيه دلالة على تقريره عليه السلام له على أخذه بالأخير ، فإنّه إنّما يؤخذ بالأخير ، لأنه إن كان الأوّل تقية فقد ارتفعت التقية ، فيلزم أن يأخذ بالثاني المطابق للواقع ، وإن كان الأوّل مطابقاً للواقع فقد حدثت التقية ، فعليه أن يأخذ بما يقتضي التقية ، وهذه الرواية كسابقتها ذكرت الترجيح بأمر واحد وهو : الأحدثية والأقدمية .

( الحادي عشر ) من روايات العلاج ( ما بسنده الصحيح ) أي : بسند الكافي سنداً صحيحاً ( ظاهراً ) أي : أنه صحيح في الظاهر ، لاحتمال عدم صحته ( عن أبي عمروالكناني ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : يا أبا عمروأرأيت لو حدّثتُك بحديث ) بأن نقلت لك حديثاً عن واحد من آبائي عليهم السلام ( أوأفتيتُك بفُتيا ) أي : برواية أخبرتك بها عنّي ( ثمّ جئت بعد ذلك ) في وقت آخر ( تسألني عنه ) أي: عن ذلك الحكم الذي سألتني عنه أوّلاً فأفتيتك أوأجبتك بحديث فيه ( فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك ) أوّلاً ( أوأفتيتك بخلاف ذلك ، بأيّهما كُنتَ تأخُذ ) بالسابق أو باللاحق ؟ .

( قلت : بأحدَثهما ، وأدَع الآخرَ ) أي : قال : إني اترك ما سبق وآخذ بما لحق ، وهذه الرواية أيضاً ترجيح بأمر واحد وهو : الأحدثية والأقدمية .

ص: 60


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح8 ، وسائل الشيعة : ج27 ص109 ب9 ح33340 .

قال : قد أصبت يا أبا عمرو ، أبى اللّه إلاّ أن يُعبد سراً ، أما واللّه ، لئن فعلتم ذلك ، إنّه لخيرٌ لي ولكم ، أبى الله لنا في دينه إلاّ التقيّة .

الثاني عشر : ما عنه بسنده الموثّق عن محمّد بن مسلم قال : قُلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام : ما بالُ أقوام يروون عَن فلان ، عَن فلان ، عَن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لايتّهمون بالكذب ، فيجيء منكم خلافه ، قال : الحديث يُنسخُ كما يُنسخ القرآن .

-----------------

( قال : قد أصبت يا أبا عمرو، أبى اللّهُ إلاّ أن يُعبدَ سّراً ) لوضوح : أن الحق والباطل ما داما موجودين في العالم ، تكون التقية قائمة في بعض أجزاء العالم ، والتقية تلازم سرّية الحق .

ثم أضاف : ( أما واللّه ، لئن فعلتُم ذلك ) أي : العمل بالتقية ( إنّه لخيرٌ لي ولكم ) لأنّهم إذا لم يعملوا بالتقية اُخذوا بعملهم ، كما كان الإمام عليه السلام يُتهم أيضاً بمخالفة السلطة ومناهضتها ، ثم قال : ( أبى اللّه لنا في دينه إلاّ التقيّة ) (1) والمراد من « لنا » سلسلة الأئمة عليهم السلام واتباعهم قبل ظهور المهدي عليه السلام .

( الثاني عشر ) من روايات العلاج ( ما عنه ) أي : عن الكافي أيضاً ( بسنده الموثّق عن محمّد بن مسلم قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : ما بالُ أقوام يروون عن فلان ، عن فلان ، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لا يتّهمون بالكذب ) ؟ أي : إنّ الوسائط لايتّهمون بأنهم يكذبون على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ( فيجيء منكم خلافه ) أي : خلاف ماجاءنا منهم ، فكيف يكون الحديث منكم على خلاف حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ؟ .

( قال : الحديث يُنسخ كما يُنسخ القرآن ) (2) ولعل المراد منه : أنّه كما أن النسخ

ص: 61


1- - الكافي اصول : ج2 ص218 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص112 ب9 ح33350 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص64 ح2 ، وسائل الشيعة : ج27 ص108 ب9 ح33337 و ص208 ب14 ح33615 .

الثالث عشر : ما بسنده الحسن عن أبي حَيّون مولى الرضا عليه السلام : إنّ في أخبارنا مُحكماً كمحكم القرآن ، ومتشابهاً كمتشابه القرآن ،فردّوا متشابهها إلى محكمها ولا تتّبعوا مُتشابهها دون مُحكمها فتضلّوا .

-----------------

يكون لانتهاء أمد المنسوخ ، فكذلك بالنسبة إلى الأحاديث ، فإنّ بعض الأحاديث تكون مؤقتة ، فيأتي الحديث الثاني ناسخاً ومعلناً عن انتهاء وقت الحديث الأوّل ، ومبيّناً لكون التكليف في الحال الحاضر هو العمل بالحديث الثاني ، الناسخ للحديث الأوّل ، فإنّ النسخ معناه : انتهاء الأمد ، وذلك كما يروى عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أنه قال : « لعن اللّه من تخلّف عن جيش أسامة » (1) فإذا ورد بعده حديث عن علي عليه السلام فرضاً بعدم اتباع أسامة ، كان الحديث الثاني ناسخاً للحديث الأوّل ، ومبيّناً لانتهاء أمد أمارة زيد بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم والترجيح في هذا الحديث بأمر واحد أيضاً وهو : الأحدثية والأقدمية .

( الثالث عشر ) من روايات العلاج ( ما ) عن الكافي أيضاً ( بسنده الحسن عن أبي حيّون مولى الرضا عليه السلام انّ في أخبارنا محكماً كمحكم القُرآن ، ومتشابهاً كمتشابه القرآن ، فردّوا ) أي : عند التعارض بينهما ( متشابهها إلى محكمها ) كما هو شأن ردّ كل ضعيف الدلالة على قوي الدلالة ، فيؤخذ بقوي الدلالة ويَتَصرّف بذلك في ظاهر الحديث الذي هو ضعيف الدلالة ، ثم قال : ( ولا تتبّعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا ) (2) وذلك لأنّ المتشابه لايعرف أن المراد به هل هو هذا أو ذاك ؟ فإذا اتبع الانسان المتشابه يقع في خلاف الواقع ، بخلاف ما إذا اتّبع

ص: 62


1- - اثبات الهداة : ج2 ص383 ، الملل والنحل للشهرستاني : ص6 ، دعائم الإسلام : ج1 ص41 .
2- - عيون اخبار الرضا : ج1 ص290 ح39 ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33355 .

الرابع عشر : ما عن معاني الأخبار بسنده عن داود بن فرقد قال : سَمِعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : أنتم أفقه الناس اذا عرفتم معاني كلامنا ، إنّ الكلمة لتنصرف على وجوه ، فلو شاء انسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب .

وفي هاتين الروايتين الأخيرتين دلالةٌ على وجوب الترجيح بحسب قوّة الدلالة ،

-----------------

المحكم ، وهذه الرواية تأمر بشئواحد وهو : ردّ المتشابه إلى المحكم .

( الرابع عشر ) من روايات العلاج : ( ما عن معاني الأخبار بسنده عن داود بن فرقد قال : سَمِعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : أنتم أفقه الناس اذا عرفتُم معاني كلامنا ) وإنّما كانوا أفقه الناس لأنهم أكثر إستيعاباً لكلامهم عليهم السلام من غيرهم ؛ علماً بأن كلامهم عليهم السلام نور ، إذ هم يقولون عن جدّهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عن جبرائيل عن اللّه تبارك وتعالى ، وقد قال تعالى : « ومَن أصدق من اللّه قيلا » (1) ثم فسّر عليه السلام معنى « عرفتم معاني كلامنا » بقوله : ( إنّ الكلمة لتنصرفُ على وجوه ) فلو قال مثلاً : اغتسل للجمعة تمكن أن يصرفه إلى الوجوب أو إلى الندب ؟ كما قال : ( فلو شاء إنسان لصرفَ كلامهُ كيف شاء ولا يكذبُ ) (2) لأن الكلام ترجمان القلب ، والقلب قد يقصد بالكلام هذا الوجه وقد يقصد به ذلك الوجه ، وهذه الرواية كسابقتها تأمر بشئواحد وهو : ردّ المتشابه إلى المحكم .

هذا ( وفي هاتين الروايتين الأخيرتين دلالة على وجوب الترجيح بحسب قوّة الدلالة ) وذلك لقول الإمام عليه السلام في احداهما : « ردّوا متشابهها إلى محكمها » (3)

ص: 63


1- - سورة النساء : الآية 122 .
2- - معاني الاخبار : ج1 ص1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص117 ب9 ح33360 .
3- - عيون اخبار الرضا : ج1 ص290 ح39 ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33355 .

هذا ما وقفنا عليه من الأخبار الدالّة على التراجيح .

-----------------

ومن المعلوم : أن المحكم والمتشابه من الدلالة ، ولقوله عليه السلام في الثانية ، « أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا » (1) ممّا يدل على أن الكلام يتصرّف في دلالته ، وهذا هو معنى الجمع العرفي بين الخبرين المتعارضين الذي مرّ الكلام حوله ، فالروايتان الأخيرتان ليستا في الترجيح إلاّ بحسب الدلالة ، بخلاف الروايات السابقة المتقدّمة عليهما ، فإنّها ظاهرة في الترجيح بحسب السند وما أشبه ذلك .

ثم لايخفى : إنّ كل هذه الأحاديث العلاجية مطابق لبناء العقلاء في العالم لكن مع فارق وهو : أن مورد العلاج بهذه الأحاديث عندنا نحن المسلمين الأحكام المستفادة من كتاب الله وسنة رسوله وأهل بيته ، بينما عند غير المسلمين هو : الأحكام المستفاده من القوانين الوضعية ، الذي ابتلي بها المسلمون اليوم فخسروا دنياهم وآخرتهم ، وحيث أن ذلك واضح فلا حاجة إلى التفصيل (2) ، نسأل اللّه تعالى أن يوفّقنا لإعادة أحكامه وتطبيقها انشاء اللّه تعالى ، فالأحاديث العلاجية في الجملة يدل عليها : العقل ؛ والعقلاء ، واضافة إلى السنّة بل إذا ضممنا إليه قوله سبحانه : « منه آيات مُحكَمات هُنَّ اُم الكتاب واُخر متشابهات ... » (3) دلّ عليها الكتاب أيضاً ، فالأدلة الأربعة دالة على الترجيح .

قال المصنّف : ( هذا ما وقفنا عليه من الأخبار الدالّة على التراجيح ) لكن لايخفى : أن في المقام روايات اُخرى دالّة على الترجيح أيضاً ممّا لاحاجة

ص: 64


1- - معاني الاخبار : ج1 ص1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص117 ب9 ح33360 .
2- - وقد أسهب الإمام الشارح في الحديث عن القوانين الوضعية التي ابتلي المسلمون فيها في كتاب «لماذا تأخّر المسلمون ؟» وكتاب «سقوط بعد سقوط» وكتاب «الرجوع الى سنن الله تعالى» .
3- - سورة آل عمران : الآية 7 .

إذا عرفت ما تلوناه عليك ، فلا يخفى عليك أنّ ظواهرها متعارضة ، فلابدّ من علاج ذلك ، والكلامُ في ذلك

-----------------

إلى ذكرها لأنها بنفس مضامين هذه الروايات .

( إذا عرفت ما تلوناه عليك ، فلا يخفى عليك ) ما فيها ، فإنّ هذه الروايات وإن كانت متفقة الدلالة على وجوب الترجيح كما يقوله المشهور ، إلاّ ( أن ظواهرها متعارضة ) من بعض الجهات ، فقد ذكرت المقبولة - كما عرفت - الترجيح أو لاً بصفات الراوي ، بينما ذكرت المرفوعة الترجيح أو لاً بشهرة الرواية ، وذكرت المقبولة في الأخير الارجاء ، بينما ذكرت المرفوعة التخيير ، وغير ذلك من جهات التعارض التي سنذكرها انشاء اللّه تعالى ( فلا بدّ من علاج ذلك ) التعارض الموجود فيما بينها .

لايقال : إنّ هذه الأحاديث إذا كانت قد وردت لعلاج تعارض الأخبار ، فكيف وقع التعارض فيما بينها ؟ .

لأنّه يقال : لامنافاة بين كونها لعلاج التعارض وبين وقوع التعارض فيما بينها ، خصوصاً إذا لاحظنا ظروف التقية الشديدة التي ابتلي بها أهل البيت عليهم السلام وأصحابهم ، حتى نقل عن الإمام الصادق عليه السلام ما مضمونه : « انا خالفت بينهم » (1) اضافة إلى أن طبيعة الأمر - حسب تناسب الزمان والمكان ، ووجود القرينة والمقام - تقتضي ذلك ، فإنّ أجوبة العقلاء عمّا يُسألون تكون مختلفة بحسب الزمان والمكان ، وسائر الخصوصيات والملابسات ، ومن راجع القوانين والمحاكم ، والشروح والتفاسير للقوانين يلمس ما ذكرناه .

( و ) كيف كان : فإنّ ( الكلام في ذلك ) أي : في علاج التعارض الموجود

ص: 65


1- - عدة الاصول : ج1 ص130 .

يقعُ في مواضع :

الأوّل : في علاج تعارض مقبولة ابن حنظلة ، ومرفوعة زرارة ، حيث إنّ الاُولى صريحة في تقديم الترجيح بصفات الراوي ، على الترجيح بالشهرة ، والثانية : بالعكس ، وهي وإن كانت ضعيفة السند إلاّ أنّها موافقة لسيرة العلماء في باب الترجيح ، فإنّ طريقتهم مستمرّة على تقديم المشهور على الشاذّ ، والمقبولة وإن كانت مشهورة بين العلماء حتى سُمِّيت مقبولةً ،

-----------------

بين ظاهر هذه الروايات العلاجية ( يقع في مواضع ) كالتالي :

( الأوّل : في علاج تعارض مقبولة ابن حنظلة (1) ، ومرفوعة زرارة (2) ، حيث أنّ الاُولى صريحة في تقديم الترجيح بصفات الراوي ، على الترجيح بالشهرة ) يعني : إذا كان راوي الشاذ أعدل لزم الأخذ بالشاذ لا بالمشهور ( والثانية : بالعكس) يعني: أن المرفوعة تلزم في المثال المذكور الأخذ بالمشهور لا بالأعدل .

هذا من حيث الدلالة ، وأمّا من حيث الصدور : فالثانية ( وهي ) مرفوعة زرارة فإنّها ( وإن كانت ضعيفة السند ) لأنها مرفوعة ولا يُعرف سندها ( إلاّ أنّها موافقة لسيرة العلماء في باب الترجيح ، فإنّ طريقتهم مستمرّة على تقديم المشهور على الشاذّ ) حتى وإن كان الشاذ راجحاً من جهة صفات الراوي ، ولعل وجه ذلك هو التعليل : « بأن المجمع عليه لاريب فيه » ، وعلى ذلك جرت سيرة العقلاء كافة ( والمقبولة وإن كانت مشهورة بين العلماء حتى سميّت مقبولة ) بمعنى : قبول

ص: 66


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

إلاّ أنّ عملهم على طبق المرفوعة وإن كانت شاذّة من حيث الرواية ، حيث لم توجد مرويّة في شيء من جوامع الأخبار المعروفة ، ولم يحكها إلاّ ابن أبي جمهور عن العلاّمة مرفوعاً إلى زرارة ، إلاّ أن يقال : إنّ المرفوعة تدلّ على تقديم المشهور روايةً ، على غيره ، وهي هنا المقبولة ، ولا دليل على الترجيح بالشهرة العمليّة .

-----------------

العلماء لها وذلك يكفي في حجّيتها ( إلاّ أنّ عملهم ) كائن ( على طبق المرفوعة وإن كانت شاذّة من حيث الرواية ) فإن المرفوعة إنّما تعدّ شاذة ( حيث لم توجد مرويّة في شئمن جوامع الأخبار المعروفة ، ولم يحكها إلاّابن أبي جمهور عن العلامّة مرفوعاً إلى زرارة ) .

إذن : فالمقبولة والمرفوعة يتكافئان من حيث الصدور فيتعارضان ، ويكون نتيجة التعارض التخيير ، فيتخير المكلّف بين تقديم الترجيح بالشهرة العملية التي عليها سيرة العلماء ، وبين تقديم الترجيح بصفات الراوي .

( إلاّ أن يقال : إنّ المرفوعة تدلّ على تقديم المشهور رواية ، على غيره ) أي : غير المشهور رواية ( وهي ) أي : المشهورة من حيث الرواية في باب العلاج ( هنا المقبولة ) حيث قال عليه السلام في المرفوعة على ما مرّ : « خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشّاذ النادر » (1) فنفس المرفوعة تحكم بتقديم المقبولة عليها ، لأنها تدل على الترجيح بشهرة الرواية ، والشهرة الروائية حاصلة في المقبولة ( ولا دليل على الترجيح بالشهرة العمليّة ) الحاصلة في المرفوعة ، فيلزم ترجيح المقبولة على المرفوعة ، وذلك لأنّ المرفوعة مشهورة من حيث العمل ، والمقبولة مشهورة

ص: 67


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

مع أنّا نمنع أنّ عمل المشهور على تقديم الخبر المشهور روايةً على غيره إذا كان الغيرُ أصح منه من حيث صفات الراوي ، خصوصاً صفة الأفقهيّة .

و يمكن أن يقال : إنّ السؤال لمّا كان عن الحَكَمين ،

-----------------

من حيث الرواية ، والمرجّح بمقتضى النصوص هو : الشهرة الروائية ، وهي حاصلة في المقبولة دون المرفوعة فيجب تقديم المقبولة .

هذا أوّلاً ( مع أنّا نمنع ) ثانيا من ( أنّ عمل المشهور ) كائن ( على تقديم الخبر المشهور رواية على غيره ) أي : على غير المشهور رواية وهو : الشاذّ حتّى فيما ( إذا كان الغير ) وهو الشاذّ ( أصحّ منه ) أي : من المشهور ( من حيث صفات الراوي ) فانّ المشهور إنّما يقدّمون المشهور على غيره مع تساويهما في الصفات ، وأمّا إذا كان في أحدهما الشهرة ، وفي الآخر - وهو الشاذّ - صفات الراوي ، فالمشهور لا يقدّمون المشهور على الشاذّ الذي صفات راويه أرفع ( خصوصا صفة الأفقهيّة ) إذا كانت في الخبر الشاذّ ، وذلك لكشف إختيار الأفقه لتلك الرواية الشاذّة ، كشفا عن إطّلاعه على قدح في الرواية المشهورة ، فاللازم علينا أيضا أن نأخذ بالرواية الشاذّة التي رواها الأفقه .

( ويمكن أن يقال : ) انّه لا تعارض بين ما ذكر فيه الترجيح بالصفات لأنّه لترجيح حاكم على حاكم ، وبين ما ذكر فيه الترجيح بالشهرة لأنّه لترجيح حديث على حديث ، ومعه فلا تنافي بين المقبولة والمرفوعة ، وذلك لأنّ المقبولة الدالّة على الترجيح بالصفات إنمّا هي في تعارض الحاكمين ، والمرفوعة الدالّة على الترجيح بالشهرة إنّما هي في تعارض الروايتين .

وأمّا توضيح ذلك فهو : ( إنّ السؤال ) من الإمام عليه السلام ( لمّا كان عن الحَكمين ،

ص: 68

كان الترجيحُ فيهما من حيث الصفات ، فقال عليه السلام : الحكمُ ما حَكمَ به أعدلُهما ، مع أنّ السائل ذكر : « أنّهما اختلفا في حديثكم » .

و من هنا اتّفق الفقهاءُ على عدم الترجيح بين الحكّام إلاّ بالفقاهة و الورع .

فالمقبولة نظير رواية داود بن الحصين ، الواردة في اختلاف الحكمين من دون تعرّض الراوي ، لكون منشأ اختلافهما لاختلاف في الروايات ، حيث

-----------------

كان الترجيح فيهما ) أي : في تقديم حاكم على حاكم ( من حيث الصفات ) لا من حيث الشهرة ( فقال عليه السلام : الحكمُ ما حكمَ به أعدلُهما ) (1) إلى آخره ( مع أنّ السائل ذكر : انّهما إختلفا في حديثكم ) لكن حيث لم يكن الإمام عليه السلام في مقام الترجيح في الخبرين بل كان بعد في مقام الترجيح بين الحاكمين لم يذكر الشهرة .

( ومن هنا ) أي : من حيث انّ الإمام عليه السلام لاحظ تعارض الحاكمين ، ولذا ذكر الترجيح بالصفات ( اتّفق الفقهاء على عدم الترجيح بين الحكّام إلاّ بالفقاهة والورع ) لا بالشهرة ، ومخالفة العامّة ، وما أشبه ذلك .

إذن : ( فالمقبولة ) التي أمرت بتقديم الترجيح بالصفات هي في خصوص هذه الفقرات ( نظير رواية داود بن الحصين ، الواردة في اختلاف الحَكمين ) أي : الحاكمين ( من دون تعرّض الراوي ، لكون منشأ اختلافهما ) أي : إختلاف الحاكمين هو : ( لاختلاف في الروايات ) أو غير ذلك ( حيث ) سأل الراوي من الإمام عليه السلام عن حُكم رجلين تنازعا فاتّفقا على عدلين جعلاهما حَكما بينهما

ص: 69


1- - الكافي اصول : : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

قال عليه السلام : ينظر إلى أفقههما و أعلمهما و أورعهما ، فينفذ حكمه ، وحينئذٍ فيكون الصفات من مرجّحات الحكمين .

نعم ، لمّا فرض الراوي تساويهما أرجعه الامامُ عليه السلام إلى ملاحظة الترجيح في مستنديهما وأمره بالاجتهاد والعمل في الواقعة على طبق الراجح من الخبرين ، مع إلغاء حكومة الحكمين كلاهما .

-----------------

في رفع إختلافهما ، فإختلف العدلان بينهما ، فعن قول أيّهما يمضي الحكم ؟ .

( قال عليه السلام : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما وأورعهما ، فينفّذ حكمه ) (1) ولم يذكر الإمام عليه السلام الشهرة وغيرها من مرجّحات الخبرين ( وحينئذٍ ) أي : حينما كان السؤال عن الحَكمين خاصّة ، والجواب عن الترجيح بصفات الحاكمين خاصّة ( فيكون الصفات من مرجّحات الحَكمين ) خاصّة ، لا الراويين ، فإذا كان هناك - مثلاً - حاكمان يحكمان بحكمين مختلفين ، لزم تقديم أحدهما على الآخر بصفاته التي هي أفضل من صفات الآخر .

( نعم ، لمّا فرض الراوي ) في المقبولة ( تساويهما ) أي : تساوي الحاكمين من حيث الصفات ( أرجعه الإمام عليه السلام إلى ملاحظة الترجيح في مستنديهما وأمره بالاجتهاد ) والفحص عن الراجح من مستنديهما ، وهما الخبران اللّذان استندا في الحكم إليهما ( والعمل في الواقعة على طبق الراجح من الخبرين ) والراجح من الخبرين هو الذي رواه المشهور ( مع إلغاء ) أي : إسقاط ( حكومة الحَكمين كلاهما ) حيث إنتقل الراوي من الكلام في الحاكمين إلى الكلام في الخبرين .

ص: 70


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص301 ب22 ح50 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3232 ، وسائل الشيعة : ج27 ص113 ب9 ح33353 .

فأوّل المرجّحات الخبرية هي الشهرة بين الأصحاب فينطبق على المرفوعة .

نعم ، قد يورد على هذا الوجه : أنّ الّلازم على قواعد الفقهاء الرجوعُ مع تساوي الحاكمين إلى اختيار المدّعي .

ويمكن التفصّي عنه بمنع جريان هذا الحكم في قاضي التحكيم .

-----------------

إذن : ( فأوّل المرجّحات الخبريّة هي الشهرة بين الأصحاب ) فيؤخذ بالخبر المشهور ، ويترك الخبر الشاذّ النادر ، وحينئذ ( فينطبق ) ترتيب الترجيح بالمرجّحات في المقبولة ( على المرفوعة ) ولا يكون بينهما تعارض من حيث ترتيب المرجّحات .

( نعم ، قد يورد على هذا الوجه ) وهو تخصيص الترجيح بالصفات في المقبولة بالحاكمين دون الراويين ، وتقديم الحاكم الذي فيه الصفات على الذي لا صفات فيه عند التعارض ، يرد عليه : ( انّ اللازم على قواعد الفقهاء ) في باب القضاء هو : ( الرجوع مع تساوي الحاكمين إلى إختيار المدّعي ) لا إلى ملاحظة الترجيح في مستنديهما ، فانّ الفقهاء قالوا : انّ إختيار الحاكم بيد المدّعي ، الذي عليه إقامة البيّنة وإثبات الدعوى ، لا المنكر ، فانّ المنكر مضطرّ إلى قبول الحاكم الذي يختاره المدّعي ، ومعه يقع التنافي بين هذه الرواية وبين فتوى الفقهاء ، ممّا يكشف عن عدم صحّة تخصيص الترجيح بالصفات في المقبولة بالحَكمين ، فلا يقع التعارض بينها وبين المرفوعة .

( و ) الجواب : انّه ( يمكن التفصّي عنه ) أي : عن هذا الاشكال ، وذلك ( بمنع جريان هذا الحكم ) وهو : لزوم الأخذ بحاكم المدّعي - عند تساوي الحاكمين - وترك حاكم المنكر ، فانّ هذا ممنوع ( في قاضي التحكيم ) والظاهر من الرواية

ص: 71

وكيف كان : فهذا التوجيه غير بعيد .

الثاني :

-----------------

كونها في قاضي التحكيم ، لا القاضي المصطلح ، لمكان قوله في المقبولة : « فان كان كلّ رجل يختار رجلاً من أصحابنا ، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما » ممّا يكشف عن كونهما من قضاة التحكيم ، لا من قضاة المحاكم ، والذي حكم به الفقهاء من كون المرجع عند تساوي الحاكمين هو من إختاره المدّعي لا المنكر ، إنّما هو في الحاكم المنصوب ، لا في قاضي التحكيم ، أمّا قاضي التحكيم فهو الذي لم ينصبه الإمام ، لكن رضي به المترافعان .

( وكيف كان : فهذا التوجيه غير بعيد ) بنظر المصنّف ، ولكن الذي استظهرناه في بعض مباحث الفقه هو : انّ الدولة الاسلامية لو كانت قائمة ، كما في زمان علي عليه السلام ، ونصب جملة من الفقهاء للقضاء ، فللمتنازعين الحقّ في أن يختارا قاضٍ جامع للشرائط مشمول لإطلاق أدلّة القضاء كالفقيه العادل وان لم يعيّنه الإمام بخصوصه ، فانّه كما يحقّ للمتنازعين مراجعة القاضي الخاصّ ، فكذلك يحقّ لهما مراجعة القاضي العامّ ، وإذا راجعا كلاًّ منهما وحكم في حقّهما بحكم ، نفذ حكمه فيهما وإن كان يجوز الاستئناف والتمييز بعد ذلك عند قاضٍ آخر ، سواء من الخاص إلى العام ، أو من العام إلى الخاص ، وهذا مقتضى الجمع بين الأدلّة ، لكن للفقهاء في قاضي التحكيم والقاضي المصطلح ، إصطلاح آخر يعرفه من راجع الفقه .

هذا هو تمام الكلام في الوضع الأوّل ، وقد كان في معالجة تعارض المقبولة مع المرفوعة .

الموضع ( الثاني ) في معالجة تعارض رواية الاحتجاج وهي الرواية الثامنة

ص: 72

إنّ الحديث الثامن - و هو رواية الاحتجاج عن سماعة - يدلّ على وجوب التوقف أوّلاً ، ثمّ مع عدم إمكانه يرجع إلى الترجيح بموافقة العامّة و مخالفتهم ، وأخبارُ التوقف

-----------------

الآمرة بالارجاء أوّلاً ، ثمّ الترجيح بمخالفة العامّة ، مع سائر الروايات الآمرة بالترجيح أوّلاً ثمّ الارجاء ، فانّ رواية الاحتجاج تقول : بأنّ الرجوع إلى المرجّحات إنّما يكون إذا لم يُتمكّن من مراجعة الإمام ، بينما سائر الروايات تقول بالرجوع إلى المرجّحات وان تمكّن من مراجعة الإمام ، فكيف يمكن الجمع بين هاتين الطائفتين من روايات العلاج ؟ .

قال المصنّف : ( إنّ الحديث الثامن - وهو رواية الاحتجاج عن سماعة - ) حيث يقول فيها سماعة : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : « يرد علينا حديثان : واحد يأمرنا بالأخذ به ، والآخر ينهانا ؟ قال عليه السلام : لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقى صاحبك فتسأل ، قلت : لابدّ أن نعمل بواحد منهما ؟ قال : خذ بما خالف العامّة » (1) ممّا ( يدلّ على وجوب التوقّف أوّلاً ) وعدم الأخذ بأحد من الخبرين المتعارضين ، حتّى يلقى الإمام فيسأل عنه بأيّهما يأخذ ؟ ( ثمّ مع عدم إمكانه ) أي : عدم إمكان التوقّف ، كما إذا كانت الواقعة محلّ الابتلاء الفوري - مثلاً - ولا يتمكّن من الوصول إلى الإمام ، فانّه ( يرجع إلى الترجيح بموافقة العامّة ومخالفتهم ، و ) ذلك بأن يأخذ بما خالف العامّة ويترك ما وافق العامّة .

إذن : فهذه الرواية التي تأمر بالتوقّف أوّلاً ، وتقدّمه على الترجيح ، وكذلك ( أخبار التوقّف ) كلّها ، سواء الوارد منها في باب علاج المتعارضين هنا ، أم الوارد

ص: 73


1- - الاحتجاج : ص357 ، وسائل الشيعة : ج27 ص122 ب9 ح33375 ، بحار الانوار : ج2 ص224 ب29 ح1 .

- على ما عرفت وستعرف - محمولةٌ على صورة التمكّن من العلم .

فتدلّ الروايةُ على أنّ الترجيح بمخالفة العامّة ، بل غيرها من المرجّحات إنّما يُرجَعُ إليها بعد العجز عن تحصيل العلم في الواقعة بالرجوع إلى الإمام ، كما ذهب إليه بعضٌ .

وهذا خلاف ظاهر الأخبار الآمرة بالرجوع إلى المرجّحات ابتداءً بقول مطلق ، بل بعضها صريح في ذلك حتى مع التمكّن من العلم ، كالمقبولة الآمرة بالرجوع إلى المرجّحات ، ثمّ بالإرجاء حتى يلقى الإمام ، فيكون وجوبُ الرجوع إلى الإمام بعد فقد المرجّحات .

-----------------

منها في باب الاشتغال ( على ما عرفت ) هناك ( وستعرف ) أيضا في المستقبل ان شاء اللّه تعالى هي كلّها ( محمولةٌ على صورة التمكّن من العلم ) بل بعضها كرواية الاحتجاج صريحة في ذلك ( فتدلّ الرواية على أنّ الترجيح بمخالفة العامّة ، بل غيرها من المرجّحات ) المذكورة في سائر الروايات ( إنّما يُرجَعُ إليها بعد العجز عن تحصيل العلم في الواقعة ) تحصيلاً ( بالرجوع إلى الإمام ) عليه السلام ( كما ذهب إليه بعضٌ ) من الفقهاء .

( وهذا خلاف ظاهر الأخبار الآمرة بالرجوع إلى المرجّحات ابتداءا بقول مطلق ) أي : سواء تمكّن من العلم أو لم يتمكّن ( بل بعضها صريح في ذلك ) أي : في جواز الرجوع إلى المرجّحات إبتداءا ، ( حتّى مع التمكّن من العلم ) بالرجوع إلى الإمام عليه السلام ( كالمقبولة الآمرة بالرجوع إلى المرجّحات ، ثمّ بالإرجاء ) أي : الآمرة بالتوقّف والتأخير ( حتّى يلقى الإمام ، فيكون وجوب الرجوع إلى الإمام بعد فقد المرجّحات ) .

والحاصل : إنّ ظاهر رواية الاحتجاج وهي الرواية الثامنة هنا هو : تقدّم تحصيل

ص: 74

والظاهر لزومُ طرحها ، لمعارضتها بالمقبولة الراجحة عليها ، فيبقى إطلاقاتُ الترجيح سليمةً .

الثالث : إنّ مقتضى القاعدة ، تقييدُ إطلاقات ما اقتصر

-----------------

العلم مع التمكّن منه على الترجيح بالمرجّحات ، فان عجز عنه ولم يتمكّن منه ، وذلك إمّا لأنّه لا يتمكّن من الوصول إلى الإمام إطلاقا ، وامّا لأنّ الواقعة لا تتحمّل التأخير ، وجب الرجوع إلى المرجّحات ، بينما ظاهر سائر الأخبار وصريح المقبولة هو : جواز الرجوع إلى المرجّحات إبتداءا وان تمكّن من تحصيل العلم بالرجوع إلى الإمام عليه السلام .

( والظاهر لزوم طرحها ) أي : طرح رواية الاحتجاج الآمرة بالتوقّف إبتداءا ( لمعارضتها ) أي : معارضة رواية الاحتجاج ( بالمقبولة الراجحة عليها ) أي : على رواية الاحتجاج ، وذلك لأنّ رواية الاحتجاج ليست نصّا في وجوب تقديم تحصيل العلم ، بل هي ظاهرة فيه ، لاحتمال أن يكون تقديم ذلك من باب الأولى لا من باب التعيين ، بينما المقبولة هي نصّ في جواز الرجوع إلى المرجّحات وان تمكّن من تحصيل العلم ، فيحمل رواية الاحتجاج على الأولى وهو معنى قول المصنّف : « والظاهر لزوم طرحها » وإذا حملنا رواية الاحتجاج على الأولى ( فيبقى إطلاقات الترجيح ) الآمرة بتقديم ذي المزيّة على غيره سواء تمكّن من الرجوع إلى الإمام أو لم يتمكّن ( سليمة ) عن التقييد بسبب رواية الاحتجاج .

( الثالث : ) في بيان علاج التعارض بين المقبولة التي تعرّضت لمرجّحات أكثر ممّا تعرّضت له بقيّة روايات العلاج ، وبين بقيّة روايات العلاج ، التي دلّت على التخيير إبتداءا أو تعرّضت لبعض المرجّحات دون جميع المرجّحات ، قال المصنّف ( إنّ مقتضى القاعدة : تقييد إطلاقات ما ) أي : الروايات التي ( إقتصر

ص: 75

فيها على بعض المرجّحات بالمقبولة ، إلاّ أنّه قد يستبعد ذلك لورود تلك المطلقات في مقام الحاجة .

فلابدّ من جعل المقبولة كاشفة عن قرينة متصلة فَهِمَ منها الامامُ عليه السلام ، أنّ مراد الراوي تساوي الروايتين من سائر الجهات ،

-----------------

فيها على بعض المرجّحات بالمقبولة ) التي تعرّضت لمرجّحات أكثر ، وكذلك تقييد المقبولة بغيرها من بقيّة الروايات ممّا لم يوجد في المقبولة .

( إلاّ انّه قد يُستبعد ذلك ) أي : يستبعد تقييد إطلاقات بقيّة روايات العلاج بما ورد في المقبولة ، وذلك ( لورود تلك المطلقات في مقام الحاجة ) وإذا كان ورودها في مقام الحاجة لزم بيان كلّ المرجّحات لو كان الترجيح بها واجبا ، فكيف لم يبيّن الإمام فيها المرجّحات كلّها ؟ إذ هي بين ما لم يبيّن الإمام المرجّح فيها إطلاقا وإنّما أمر بالتخيير فقط ، وبين ما بيّن بعض المرجّحات فيها ، مع انّ من المعروف عند الاُصوليين هو : انّ تأخير البيان عن وقت الحاجة غير صحيح .

وعليه : ( فلابدّ من جعل المقبولة ) المتعرّضة لأكثر المرجّحات ، الظاهرة في وجوب الترجيح بها ( كاشفة عن قرينة متّصلة ) بموارد تلك الروايات التي ذكرت بعض المرجّحات ، أو لم تذكر مرجّحا إطلاقا وإنّما حكمت بالتخيير إبتداءا ، بحيث ( فهم منها ) أي : من إتّصال القرينة بتلك الموارد ( الإمام عليه السلام : انّ مراد الرّاوي تساوي الروايتين من سائر الجهات ) أي : ليس ذكر الإمام لبعض المرجّحات من باب انّ سائر المرجّحات لا يجب الترجيح بها ، بل من جهة انّه كان يعلم انّ الخبرين متساويان في نظر هذا السائل من سائر الجهات ، ولذا ذكر الجهة التي جهلها السائل ، وهذا هو المتعارف بالنسبة إلى البلغاء .

مثلاً : إذا سأل أحد من الفقيه عمّن يُقلّد ؟ أجابه الفقيه : بأن يقلّد الأعلم

ص: 76

كما يحمل إطلاق أخبار التخيير على ذلك .

الرابع : إنّ الحديث الثاني عشر الدالّ على نسخ الحديث بالحديث ، على تقدير شموله للروايات الاماميّة ، بناءا على القول بكشفهم عليهم السلام عن الناسخ الذي

-----------------

من دون يذكر صفة الرجوليّة وغيرها من الصفات ، حيث يعلم أنّ السائل يعلم كلّ ذلك ، وإنّما سؤاله عن الأعلم وغير الأعلم ، وإذا سأله ثانٍ وهو لا يعلم خصوصيّة الرجولية ، أجابه : قلّد الرجل الأعلم ، وإذا سأله ثالث وهو لا يعلم إشتراط طهارة المولد ، أجابه : قلّد الرجل الأعلم الطاهر المولد ، وهكذا ، وربّما أجابه بكلّ الصفات بالنسبة إلى من يعلم انّه لا يعرف شيئا من صفات المرجع .

هذا هو وجه حمل إطلاق الروايات التي ذكرت بعض المرجّحات فقط ( كما يحمل إطلاق أخبار التخيير على ذلك ) أيضا ، يعني : على انّ الإمام عليه السلام كان يعلم بأنّ الخبرين متساويان في نظر السائل من جميع الجهات ولذلك أطلق التخيير ولم يقيّده بأنّه إذا لم يكن مرجّح في أحد الخبرين .

( الرابع : ) في بيان علاج التعارض بين ما دلّ على الترجيح أوّلاً وقبل كلّ شيء بالأحدثية دون الأقدمية للنسخ ، وبين ما دلّ على الترجيح بسائر المرجّحات ، قال : ( إنّ الحديث الثاني عشر الدالّ على نسخ الحديث بالحديث ) لقوله عليه السلام :

« انّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن » (1) ( على تقدير شموله للروايات الاماميّة ) أيضا وعدم إختصاصه بالأحاديث النبويّة ، يعني : انّ حديث الإمام اللاحق بنسخ حديث الإمام السابق ، أو انّ الإمام الواحد ينسخ بعض أحاديثه المتأخّرة بعض أحاديثه المتقدّمة ، وذلك ( بناءا على القول بكشفهم عليهم السلام عن الناسخ الذي

ص: 77


1- - الكافي اصول : ج1 ص64 ح2 ، وسائل الشيعة : ج27 ص108 ب9 ح33337 .

أودعه رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم عندهم ، هل هو مقدّم على باقي الترجيحات ، أو مؤخّر ؟ وجهان : من أنّ النسخ من جهات التصرّف في الظاهر ، لأنّه من تخصيص الأزمان ، ولذا ذكروه في تعارض الأحوال ،

-----------------

أودعه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم عندهم ) لا أنّهم ينسخون من عند أنفسهم ، بل انّهم يُظهرون ما استودعهم جدّهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم لأنّهم كانوا موضع علم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، فيعلمون انّ وقت هذا الحديث إلى زمان كذا ، ثمّ يأتي وقت زمان حديث آخر ، كما ورد في الأحاديث : بأنّ الإمام الحجّة صلوات اللّه عليه يُظهر بعد ظهوره بعض الأحكام التي لم تكن في الزمن السابق .

وعلى أي حال : فانّ الترجيح بالأحدثيّة للنسخ (هل هو مقدّم على باقي الترجيحات ، أو مؤخّر) عنها ؟ يعني : هل يحمل الحديث اللاحق على نسخ الحديث السابق إبتداءا ، أو انّه يحمل على النسخ بعد فقد سائر المرجّحات ؟ ( وجهان ) :

الوجه الأوّل : ( من أنّ النسخ ) هو وجهة ( من جهات التصرّف في الظاهر ، لأنّه من تخصيص الأزمان ) فانّه قد يكون التخصيص في الأفراد ، كما إذا قال : أكرم العلماء إلاّ زيدا ، وقد يكون التخصيص في الأزمان ، كما إذا قال : أكرم العلماء إلاّ يوم الجمعة - مثلاً - فالتخصيص إذن كما يكون في الأفراد يكون في الأزمان أيضا .

( ولذا ) أي : لأجل انّ النسخ جهة من جهات التصرّف في ظاهر الكلام ممّا يعدّ تخصيصا في الزمان ، كما انّ تخصيص العموم يكون تخصيصا في الأفراد ( ذكروه في تعارض الأحوال ) فقد قالوا هناك : بأنّه إذا دار حال اللفظ بين هذه الحال أو تلك ، فأيّهما المقدّم هذه أو تلك ؟ وذلك فيما إذا كان كلاهما خلاف الظاهر الابتدائي ، علما بأنّ الأحوال المذكورة هي عبارة عن النسخ والتخصيص ، والنقل

ص: 78

وقد مرّ و سيجيء تقديمُ الجمع بهذا النحو على الترجيحات الاُخر ، ومن أنّ النسخ على فرض ثبوته في غاية القلّة ، فلا يعتنى به في مقام الجمع ولا يحكم به العرفُ ، فلابدّ من الرجوع إلى المرجّحات الاُخر ، كما إذا امتنع الجمع ، و سيجئبعضُ الكلام في ذلك .

الخامس : إنّ الروايتين الأخيرتين ظاهرتان في وجوب الجمع بين

-----------------

والاضمار ، والمجاز والاشتراك ، كما ذكره القوانين وغير القوانين في بحث خاصّ ( وقد مرّ وسيجيء ) إن شاء اللّه تعالى ( تقديم الجمع بهذا النحو ) من التصرّف الدلالي بسبب النسخ الذي هو ترجيح بالأحدثيّة ( على الترجيحات الاُخر ) المذكورة في بقيّة روايات العلاج .

هذا هو الوجه الأوّل ، وهو كما عرفت يقتضي تقديم النسخ .

الوجه الثاني ( ومن أنّ النسخ على فرض ثبوته ) في الروايات وتسليم وقوعه بمعنى : بيان إنتهاء أمد الأوّل بمجيء الثاني ، هو ( في غاية القلّة ، فلا يعتنى به ) أي : بالنسخ ( في مقام الجمع ) بين الخبرين المتعارضين ، كما انّ العرف لا يحكم بالنسخ عند التعارض ، وذلك كما قال: (ولا يحكم به العرف) وحينئذٍ (فلابدّ من الرجوع إلى المرجّحات الاُخر ، كما إذا إمتنع الجمع ) الدلالي بكلّ أنواعه من التقييد والتخصيص والتعيين ونحو ذلك ( وسيجيء بعضُ الكلام في ذلك ) إن شاء اللّه تعالى .

( الخامس : ) في بيان علاج التعارض بين ما دلّ على الجمع بين الخبرين ، وبين ما دلّ على الترجيح بالمرجّحات بينهما ، قال : ( إنّ الروايتين الأخيرتين ) : الثالثة عشرة (1) ، والرابعة عشرة (2) ( ظاهرتان في وجوب الجمع بين

ص: 79


1- - عيون اخبار الرضا : ج1 ص290 ح39 ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33355 .
2- - معاني الاخبار : ج1 ص1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص117 ب9 ح33360 .

الأقوال الصادرة عن الأئمّة صلوات اللّه عليهم ، بردّ المتشابه إلى المحكم .

والمراد بالمتشابه بقرينة قوله : ولا تتّبعوا متشابهها فتضلّوا هو : الظاهر الذي اُريد منه خلافه ،

-----------------

الأقوال الصادرة عن الأئمّة صلوات الله عليهم ، بردّ المتشابه إلى المحكم ) ومن المعلوم : انّ هذا يناقض أدلّة الترجيح ، لأنّ معنى أدلّة الترجيح : الطرح ، وهذا معناه : الجمع .

والجواب : إنّ هاتين الروايتين ليستا من روايات العلاج ، بل هما من قبيل ما دلّ على الجمع بين المطلق والمقيّد ، والعامّ والخاص ، والمجمل والمبيّن ، وقد ورد في جملة من الروايات الالماع إلى هذا النحو من الجمع ، علما بأنّ هاتين الروايتين هما في علاج المجمل والمبيّن ، كما قال المصنّف : ( والمراد بالمتشابه بقرينة قوله : « ولا تتّبعوا متشابهها ... فتضلّوا » (1) هو : الظاهر الذي اُريد منه خلافه) أي خلاف ذلك الظاهر ، وكذا اللفظ الذي لا ظاهر له إبتداءا لتردّده بين معنيين أو أكثر ، فيكون من المتشابه أيضا .

مثلاً : قول اللّه سبحانه : « منه آيات محكمات هنّ اُمّ الكتاب واُخر متشابهات ، فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله» (2) فالذي في قلبه زيغ يأتي إلى المتشابه ويفسّره حسب هواه ، وذلك إبتغاءا منه للفتنة ، فيفسّر - مثلاً - الجهاد في قوله تعالى : « ياأيّها النبي جاهد الكفّار والمنافقين» (3) بقتال المنافقين ، مع انّه يحتمل القتال ويحتمل فضحهم وتحذير الناس منهم ، بينما الذي في قلبه زيغ وإنحراف يفسّره بالقتال ، لأنّه يريد الفتنة بين المسلمين

ص: 80


1- - عيون أخبار ارضا : ج1 ص290 ح39 ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33355 .
2- - سورة آل عمران : الآية 7 .
3- - سورة التوبة : الآيه 73 .

إذ المتشابهُ إمّا المجملُ و إمّا المؤوّل ، ولا معنى للنهي عن اتّباع المجمل .

-----------------

- مثلاً - ويدعم تفسيره هذا بقرينة السياق الموجود فيالآية « جاهد الكفّار والمنافقين» (1) مع انّ عمل الرسول صلى الله عليه و آله وسلم هو التفسير للآية ، وهو لم يحارب المنافقين ، وإنّما فضحهم وحذّر المسلمين منهم ، وهذا من ردّ المتشابه إلى المحكم ، فانّ عمل الرسول محكم ، وهذه الآية المباركة متشابهة .

ومنه يعلم : إنّ كلاًّ من المجمل والمأوّل داخل في المتشابه ، فيقال له : مجمل ، لأنّ المتكلّم أجمل فيه ، وهو من الجمال ، كأنّه نوع من جمال الكلام ، ويطلق على اللفظ الذي له نسبة متساوية إلى كلّ معانيه ، مثل لفظ العين إلى معانيها ، ومأوّل :

لأنّه يؤوّل إلى ما أراده المتكلّم ، ولذا قال سبحانه : « وابتغاء تأويله » ويطلق على اللفظ الذي له قوّة في أحد معانيه ، مثل إحتمال إرادة الوجوب من ينبغي في « ينبغي غسل الجمعة » بقرينة الأظهر « اغتسل للجمعة » .

وعلى هذا : فالظاهر من قولهم عليهم السلام بردّ المتشابه إلى المحكم هو : الظاهر الذي اُريد منه خلافه أو اللفظ الذي لا دلالة له إبتداءا من نوع : الظاهر ، والأظهر ، والنصّ ، فيردّ إلى واحد من هذه الثلاثة ، فيشمل المتشابه ما لا إحتمال له إبتداءا لتردّده بين إحتمالين وأكثر ، سواء كان متساوي النسبة إلى كلّ الاحتمالات ، أم كان له قوّة في أحدها ، كما ويشمل المتشابه أيضا الظاهر الذي اُريد منه خلافه ، وذلك كما قال : ( إذ المتشابه إمّا المجمل وإمّا المؤوّل ) وقد عرفت معناهما ، لكنّ المراد هنا من المتشابه هو : المجمل ( ولا معنى للنهي ) بقوله عليه السلام : « ولا تتّبعوا متشابهها » (2) ( عن اتّباع المجمل ) لأنّ المتشابه الذي هو بمعنى المجمل لا يعقل

ص: 81


1- - سورة التحريم : الآية 9 .
2- - عيون أخبار الرضا : ج1 ص290 ح39 ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33355 .

فالمراد إرجاع الظاهر إلى النصّ أو إلى الأظهر .

وهذا المعنى لمّا كان مركوزاً في أذهان أهل اللسان ، ولم يحتج إلى البيان في الكلام المعلوم الصدور عنهم ، فلا يبعدُ إرادةُ ما يقع من ذلك في الكلمات المحكيّة عنهم بإسناد الثقاة ، التي تنزّل منزلة المعلوم الصدور ،

-----------------

متابعته ، بخلاف المتشابه الذي هو بمعنى المأوّل فانّه يعقل متابعته .

وعلى هذا ( فالمراد ) من ردّ المتشابه إلى المحكم على تفسير المصنّف هو : ( إرجاع الظاهر إلى النصّ ) مثل : أكرم العلماء ولا تكرم زيدا ، حيث انّ شمول العلماء لزيد ظاهر ، وشمول لا تكرم لزيد نصّ ، ولذا يخصّص أكرم العلماء بلا تكرم زيدا ( أو ) إرجاع الظاهر ( إلى الأظهر ) مثل ينبغي غسل الجمعة ويجب غسل الجمعة ، حيث أن ينبغي ظاهر ويجب أظهر ، فاللازم أن يقال : انّ المراد من ينبغي هو الوجوب .

( وهذا المعنى ) المذكور : من إرجاع الظاهر إلى النصّ ، أو إلى الأظهر ( لمّا كان مركوزا في أذهان أهل اللسان ، ولم يحتج إلى البيان في الكلام المعلوم الصدور عنهم ) عليهم السلام ، يعني : إنّه لمّا كان الحديثان المتعارضان ، المقطوعان الصدور ، معروفا عند أهل المحاورة بلزوم إرجاع الظاهر منهما إلى الأظهر ، أو إلى النصّ ، فلا يمكن أن يقصده الإمام في الروايتين المتقدّمتين ، لأنّه لم يكن محتاجا إلى البيان ، وإذا لم يكن في المقطوعي الصدور محتاجا إلى البيان ( فلا يبعدُ إرادةُ ما يقع من ذلك ) التعارض بين الظاهر والأظهر أو بين الظاهر والنصّ ، ومعالجته ( في الكلمات المحكيّة عنهم ) عليهم السلام ، المرويّة ( باسناد الثقاة ، التي تنزّل منزلة المعلوم الصدور ) فيكون مقصود الإمام من الروايتين الأخيرتين معالجة تعارض الروايات الظنّية الصدور المنزّلة منزلة المعلوم الصدور ، فانّ أدلّة حجيّة الخبر

ص: 82

فالمراد أنّه لايجوز المبادرة إلى طرح الخبر المنافي لخبر آخر ، ولو كان الآخر أرجح منه ، فإذا أمكن ردّ متشابه أحدهما إلى محكم الآخر ، وأنّ الفقيه من تأمّل في أطراف الكلمات المحكيّة عنهم ولم يبادر إلى طرحها ، لمعارضتها بما هو أرجح منها .

والغرضُ من الروايتين الحثُّ

-----------------

الواحد قد نزّلت الظنّي الصدور منزلة القطعي الصدور .

إذن : ( فالمراد ) من قولهم عليهم السلام « بردّ المتشابه إلى المحكم » ( انّه لا يجوز المبادرة إلى طرح الخبر المنافي لخبر آخر ، ولو كان الآخر أرجح منه ) وذلك بأن نأخذ بالخبر الراجح ونطرح الخبر المرجوح ، فانّه لا يجوز ، ومعه ( فإذا أمكن ) للفقيه الجمع بين ذينك الخبرين الظنّيين ( رُدّ متشابه أحدهما إلى محكم الآخر ) وان لم يمكن ذلك رجع إلى التخيير بينهما .

والحاصل : انّ المصنّف يرى انّ ردّ المتشابه إلى المحكم يراد به : ردّ الظاهر إلى النصّ أو إلى الأظهر في الحديثين الظنيّين ، ولكن لا يخفى ما في هذا الذي ذكره المصنّف من البعد ، ولذا لعلّ الأقرب منه ما ذكره الشيخ البهائي في الزبدة فانّه قال : اللفظ إن لم يحتمل غير ما يفهم منه لغة فنصّ ، وإلاّ فالراجح ظاهر ، والمرجوح مأوّل ، والمتساوي مجمل ، والمشترك بين الأوّلين محكم ، وبين الأخيرين متشابه .

( و ) على ما ذكره المصنّف يكون المراد بالروايتين الأخيرتين هو : ( انّ الفقيه من تأمّل في أطراف الكلمات المحكيّة عنهم ) عليهم السلام ( ولم يبادر إلى طرحها لمعارضتها بما هو أرجح منها ) بل يجمع بينها بحمل الظاهر على الأظهر أو النصّ ، كما ( و ) يكون ( الغرض من الروايتين ) الأخيرتين هو : ( الحثّ

ص: 83

على الاجتهاد و استفراغٌ الوسع في معاني الروايات ، و عدم المبادرة إلى طرح الخبر بمجرّد مرجّح لغيره عليه .

المقام الثالث : في عدم جواز الاقتصار على المرجّحات المنصوصة

فنقول : اعلم أنّ حاصل ما يستفاد من مجموع الأخبار - بعد الفراغ عن تقديم الجمع المقبول على الطرح .

وبعد ما ذكرنا من أنّ الترجيح بالأعدليّة و أخواتها إنّما هو بين الحكمين مع قطع النظر عن ملاحظة مستندهما -

-----------------

على الاجتهاد وإستفراغ الوسع في معاني الروايات ، وعدم المبادرة إلى طرح الخبر بمجرّد مرجّح لغيره عليه ) وعلى هذا فالروايتان الأخيرتان ليستا من روايات الترجيح لدلالتهما على الجمع العرفي .

( المقام الثالث : في عدم جواز الاقتصار على المرجّحات المنصوصة ) في ترجيح خبر على خبر عند التعارض ، بل انّ كلّ مرجّح عقلائي يجب الترجيح به ممّا يوجب تقديم خبر على خبر في المتعارضين ( فنقول : اعلم أنّ حاصل مايستفاد من مجموع الأخبار ) العلاجية ( بعد الفراغ عن تقديم الجمع المقبول ) عرفا ( على الطّرح ) والجمع العرفي المقبول عبارة عن حمل الظاهر على الأظهر ، والظاهر على النصّ ، وتقديمه مفروغ عنه ، لأنّ مورده لا يعدّ عرفا من المتعارضين ( وبعد ما ذكرنا : من أنّ الترجيح بالأعدليّة وأخواتها ) من الأفقهيّة والأصدقيّة والأورعيّة التي ذكرتها المقبولة أوّل المرجّحات ( إنّما هو بين الحَكمين ) أي : القاضيين ، وذلك ( مع قطع النظر عن ملاحظة مستندهما ) فانّ

ص: 84

هو أنّ الترجيح أوّلاً بالشهرة و الشذوذ ، ثمّ بالأعدليّة و الأوثقية ، ثم بمخالفة العامّة ، ثمّ بمخالفة ميل الحكّام .

-----------------

حاصل ما يستفاد من الأخبار العلاجية بعد ذلك ( هو انّ الترجيح ) في الروايات يكون مرتّبا بالترتيب التالي :

( أوّلاً : بالشهرة والشذوذ ) فإذا كان أحد المتعارضين مشهورا دون الآخر ، بمعنى كون الآخر شاذّا ، فانّه يؤخذ بالمشهور ، ويترك الشاذّ .

ثانيا : ( ثمّ بالأعدليّة والأوثقية ) إذا كان كلاهما شاذّا ، أو كلاهما مشهورا ، وإنّما يكون الترجيح بهاتين الصفتين لأنّهما جعلتا في المرفوعة من مرجّحات المتعارضين بعد الشهرة .

ثالثا : ( ثمّ بمخالفة العامّة ) فإذا كان أحدهما مخالفا للعامّة والآخر موافقا لهم ، فانّه يؤخذ بالمخالف ويترك الموافق لهم ، وأمّا إذا كان كلاهما موافقا للعامّة ، أو كلاهما مخالفا للعامّة ، فانّه يأتي دور المرجّح الرابع ، وهو ما ذكره المصنّف بعده .

رابعا : ( ثمّ بمخالفة ميل الحكّام ) ومعنى ميل الحكّام هو : انّهم وان لم يكونوا يقولون به إلاّ انّهم مائلون إليه ، فإذا كان هناك - مثلاً - خبران : أحدهما يقول : ليس في مال التجارة زكاة ، والآخر يقول : بأنّ فيه الزكاة ، وفرضنا انّ العامّة لا يقولون بالزكاة في مال التجارة - مثلاً - لكنّ حكّامهم مائلون إليه لكون الزكاة في مال التجارة يوجب تمكّنهم من المزيد من أخذ أموال الناس بالباطل ، فإذا تعارضت روايتان عندنا في هذا الباب ، فاللازم أن نأخذ بالرواية التي تقول انّه لا زكاة في مال التجارة .

وأمّا الترجيح بالأحدثيّة والأقدميّة ووجوب التقديم بالأحدثيّة دون الأقدميّة ، فلم يذكره المصنّف لأنّ التقديم بسببه لعلّه من جهة التقيّة وغير التقيّة الراجعتين

ص: 85

وأما الترجيح بموافقة الكتاب و السنّة فهو من باب اعتضاد أحد الخبرين بدليل قطعي الصدور ، ولا إشكال في وجوب الأخذ به .

و كذا الترجيح بموافقة الأصل ، ولأجل ما ذكر لم يذكر ثقة الاسلام رضوان اللّه عليه ، في مقام الترجيح ، في ديباجة الكافي سوى ما ذكر ، فقال :

« اعلم يا أخي

-----------------

إلى جهة الصدور ، وليس الكلام في مثل ذلك كما سبق الالماع إليه .

( وأمّا الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة ) ومخالفتهما ( فهو ) ليس من باب الترجيح ، بل ( من باب إعتضاد أحد الخبرين بدليل قطعيّ الصدور ) ممّا ليس في الخبر الآخر المعارض له ( ولا إشكال في وجوب الأخذ به ) أي : بما كان معتضدا بالكتاب والسنّة ، وليس ذلك من باب أخبار العلاج بل من باب الأخذ بالحجّة في قِبال ما ليس بحجّة .

( وكذا الترجيح بموافقة الأصل ) فانّه على تقدير القول به ليس من باب الترجيح ، وإنّما من باب المرجع بعد تساقط الخبرين المتعارضين في خصوص مؤدّاهما ، وذلك لما ذكرناه سابقا : من انّ افُق الأصل وافُق الرواية مختلفان فلم يكونا في مرتبة واحدة .

( ولأجل ما ذكر ) في حصيلة أخبار العلاج : من إستفادة الترجيح بالنحو المتقدّم مرتّبا بتقديم الشهرة ، ثمّ الأعدليّة والأوثقيّة . ثمّ مخالفة العامّة ، ثمّ مخالفة ميول حكّام العامّة ( لم يذكر ثقة الاسلام ) الكليني ( رضوان اللّه عليه ، في مقام الترجيح ) بين الأخبار ( في ديباجة الكافي سوى ما ذكر ) هنا من المرجّحات وترتيبها .

ثمّ ذكر المصنّف بعض ما جاء في الديباجة بقوله: (فقال : اعلم يا أخي

ص: 86

أرشدك اللّه ، أنّه لايَسَعُ أحداً تمييزُ شئممّا اختلفت الرواية فيه من العلماء عليهم السلام ، برأيه إلاّ على ما أطلقه عليه السلام ، بقوله : « أعرِضُوهما على كتاب اللّه ، فما وافق كتاب اللّه عزّوجلّ فخذوه ، و ما خالف كتاب اللّه عزّوجلّ فذروه » ، وقوله عليه السلام : « دعوا ما وافق القوم ، فإنّ الرشد في خلافهم » وقوله عليه السلام : « خذوا بالمجمع عليه ، فإنّ المجمع عليه لاريب فيه » ، ولانعرف من جميع ذلك إلاّ أقلّه ،

-----------------

أرشدك اللّه ،انّه لا يسعُ أحدا تمييز شيء ) أي فرز أحد الخبرين المتعارضين وترجيحه على الآخر ( ممّا إختلفت الرواية فيه من العلماء عليهم السلام ) أي : من الأئمّة الطاهرين صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين ، فقد ورد في الحديث : « نحن العلماء ، وشيعتنا المتعلّمون » فانّه لا يجوز فرز شيء وترجيحه ( برأيه ) من دون ملاحظة أخبار الترجيح ( إلاّ على ما ) أي : على النحو الذي ( أطلقه عليه السلام بقوله : « اعرضُوهما على كتاب اللّه فما وافق كتاب اللّه عزّوجلّ فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه عزّوجلّ فذروه » وقوله عليه السلام : « دعوا ما وافق القوم ، فانّ الرشد في خلافهم » وقوله عليه السلام : « خذوا بالمجمع عليه ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » ) .

ولا يخفى : انّ ما ذكره الشيخ الكليني هو المستفاد من الروايات التي عرفتها .

ثمّ قال الشيخ الكليني : ( ولا نعرف من جميع ذلك إلاّ أقلّه ) والظاهر انّ المراد من ذلك هو : ما وافق الكتاب أو خالفه ، أو وافق العامّة أو خالفهم ، أو وافق المجمع عليه أو خالفه ، فانّه إنّما لا نعرف من ذلك إلاّ أقلّه ، إذ لم نجد في الأخبار على الأغلب خبرا معارضا للكتاب ، أو موافقا للعامّة ، أو مخالفا للمشهور ،

ص: 87

ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه السلام ، وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله : « بأيّهما أخذتُم من باب التسليم وسعكم » ، انتهى .

ولعلّه ترك الترجيح بالأعدليّة و الأوثقيّة ، لأنّ الترجيح بذلك مركوز في أذهان الناس غير محتاج إلى التوقيف .

-----------------

إلاّ ويكون له جمع دلالي ، ممّا يوجب عدم بقاء مجال للترجيح بالمرجّحات المذكورة ، فانّ الغالب في الخبرين المتعارضين انّ لهما جمع دلالي .

هذا ( ولا نجد شيئا ) في مورد التعارض ولا طريقا ( أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه السلام ) فانّه هو الذي يعلم أنّ أيّا من الخبرين المتعارضين يطابق الواقع فيلزم العمل به ، ولذلك يلزم ردّ علمه إليه ( وقبول ما وسّع من الأمر فيه ) أي : في مورد التعارض ، وهو التخيير ، فانّ التخيير هو الأمر الموسّع لنا فيه ، على ما ورد عن الإمام الرضا عليه السلام في رواية الحسن بن الجهم (1) ، وعن الإمام الحجّة عليه السلام (2) ( بقوله : «بأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم» (3) ، انتهى ) كلام الشيخ الكليني .

ثمّ قال المصنّف : ( ولعلّه ترك الترجيح بالأعدليّة والأوثقيّة ) مع إنّهما وردا في المرفوعة في عِداد التراجيح ، فانّ الشيخ الكليني إنّما تركهما ( لأنّ الترجيح بذلك ) نظير الجمع العرفي المقبول ( مركوز في أذهان الناس غير محتاج إلى التوقيف ) بأن يرد من الشارع فيه إذن أو تصريح .

ص: 88


1- - انظر الاحتجاج : ص357 ، وسائل الشيعة : ج27 ص121 ب9 ح33373 .
2- - انظر الاحتجاج : ص483 ، الغيبة للطوسي : ص378 ، وسائل الشيعة : ج27 ص121 ب9 ح33372 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص8 ، وسائل الشيعة : ج27 ص112 ب9 ح33352 .

وحكي عن بعض الأخباريّين : إنّ وجه إهمال هذا المرجّح كونُ أخبار كتابه كلّها صحيحة و قوله : « و لا نعلم من ذلك إلاّ أقلّه » إشارة إلى أنّ العلم بمخالفة الرواية للعامّة في زمن صدورها أو كونها مجمعاً عليها قليل ،

-----------------

ولا يخفى : انّ هذا تأويل بعيد لكلام الشيخ الكليني ، لكن المصنّف رحمه الله لتأدّبه الكثير في قِبال العلماء كتأدّبه في قِبال الروايات ، يلتجئإلى توجيه ذلك بما لايكون منافيا للقواعد والأدلّة .

هذا ( وحكي عن بعض الاخباريين ) انّه قال : ( انّ وجه إهمال ) الشيخ الكليني ( هذا المرجّح ) الوصفي يعني : الأعدليّة والأوثقيّة هو : ( كون أخبار كتابه كلّها صحيحة ) ومن المعلوم : إنّ الصحّة توجب الجمع ، لا طرح أحد الروايتين لأجل الاُخرى ، ومعه فلا داعي للترجيح .

ثمّ قال المصنّف : ( وقوله ) أي : قول الشيخ الكليني ( « ولا نعلم من ذلك إلاّ أقلّه » ) هو : ( إشارة إلى أنّ العلم بمخالفة الرواية للعامّة في زمن صدورها ) أي : انّ إحتمال التقيّة في الخبر الموافق للعامّة إنّما يكون معتبرا إذا كانت التقيّة في زمن الصدور ، لا انّه إذا كانت التقيّة قبل ذلك أو بعد ذلك ( أو كونها مجمعا عليها ) زمن الصدور أيضا ، وذلك ( قليل ) جدّا على ما عرفت .

هذا ، وحيث إنّ المصنّف لم يفهم من كلام الشيخ الكليني قلّة مخالفة الكتاب ، لذلك لم يتعرّض لذكره ، مع انّ الظاهر من قوله : « ولا نعرف من جميع ذلك إلاّ أقلّه » يشمل كلّ الثلاثة يعني : جهة مخالفة الكتاب ، وجهة مخالفة العامّة ، وجهة الشهرة وكونها مجمعا عليها معا .

ص: 89

والتعويل على الظنّ بذلك عار عن الدليل .

وقوله : « لانجد شيئاً أحوط ولا أوسع ... إلى آخره » ، أمّا أوسعيّة التخيير فواضح ، وأمّا وجهُ كونه أحوط ، مع أنّ الأحوط التوقف و الاحتياط في العمل ، فلا يبعدُ أن يكون من جهة أنّ في ذلك ترك العمل بالظنون التي

-----------------

( و ) ان قلت : انّا كثيرا ما نظنّ الآن بأنّ الخبر الفلاني مخالف للكتاب ، أو موافق للعامّة ، أو مخالف للمجمع عليه ، فيلزم طرحه والأخذ بالخبر المقابل له ، لأنّه أصبح كثيرا ولم يبق على قلّته ، وذلك ظنّا منّا بأنّ زمن الصدور كان كذلك أيضا .

قلت : ( التعويل على الظنّ بذلك عارٍ عن الدليل ) فلا دليل على جواز الاعتماد والتعويل على الظنّ الحاصل من مخالفة الخبر الفلاني الآن للكتاب ، أو للمجمع عليه ، أو موافقته للعامّة ، ظنّا بانّه كان في زمن الصدور أيضا كذلك ، وحيث لا دليل على حجيّة هذا الظنّ ، فلا يجوز التعويل عليه .

هذا ( وقوله : «لا نجد شيئا أحوط ولا أوسع ... إلى آخره» ) فانّ مقصود الشيخ الكليني من الأحوط والأوسع هو كما يلي :

( امّا أوسعيّة التخيير فواضح ) لأنّ التخيير يعطي للإنسان حريّة الاختيار في أن يعمل بهذا الخبر أو بذاك الخبر ، بينما التعيين نوع تضييق على الانسان وتقييد له .

( وأمّا وجه كونه ) أي كون التخيير ( أحوط ، مع انّ الأحوط التوقّف والاحتياط في العمل ) لا أن يكون مخيّرا بين أن يعمل بهذا أو بذاك ( فلا يبعد أن يكون من جهة أنّ في ذلك ) أي : في التخيير ( ترك العمل بالظنون التي ) توجب ترجيح خبر على خبر ، فيما لم يكن المرجّح منصوصا ، فانّ تلك الظنون غير المنصوصة

ص: 90

لم يثبت الترجيح بها ، والافتاء بكون مضمونها هو حكم اللّه لا غير ، وتقييد إطلاقات التخيير والتوسعة من دون نصّ مقيّد .

ولذا طعن غيرُ واحد من الأخباريّين على رؤساء المذهب - مثل المحقّق والعلاّمة - بأنّهم يعتمدون في الترجيحات على اُمور اعتمدها العامّه في كتبهم ممّا ليس في النصوص منه عين ولا أثر .

قال المحدّث البحراني قدس سره في هذا المقام من مقدّمات

-----------------

( لم يثبت الترجيح بها ، و ) كذا لم يثبت ( الافتاء بكون مضمونها هو حكم اللّه لا غير ) بل إنّ مثل هذا الافتاء يكون من الافتاء بغير علم .

( و ) من المعلوم : انّ ( تقييد إطلاقات التخيير والتوسعة ) بالترجيح بمرجّحات غير منصوصة ، وذلك كما قال : ( من دون نصّ مقيّد ) لهذه الاطلاقات هو خلاف مقتضى الوقوف على كلماتهم عليهم السلام ، فيكون الترجيح بغير المنصوص خلاف الاحتياط ، بينما يكون التخيير حسب إطلاقات أخبار التخيير وفق الاحتياط .

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه : من انّ الرجوع إلى المرجّحات غيرُ المنصوصة تقييد لإطلاقات التخيير من دون دليل ظاهر يقيّد تلك الاطلاقات ، وهو خلاف الاحتياط ، نرى انّه قال ( طعن غير واحد من الاخباريين على رؤساء المذهب ) الاُصوليين ( مثل المحقّق والعلاّمة : بأنّهم يعتمدون في الترجيحات على اُمور إعتمدها العامّة في كتبهم ممّا ليس في النصوص منه عين ولا أثر ) وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في كلام المصنّف الترجيح ببعض الاُمور غير المنصوصة .

هذا ، ويدلّ على طعن الاخباريين على رؤساء المذهب مراجعة كلماتهم فقد ( قال المحدّث البحراني ) صاحب الحدائق ( قدس سره في هذا المقام من مقدّمات

ص: 91

الحدائق : « إنّه قد ذكر علماء الاُصول من الترجيحات في هذا المقام ما لايرجع أكثرها إلى محصول ، والمعتمدُ عندنا ما ورد من أهل بيت الرسول صلى الله عليه و آله وسلم من الأخبار المشتملة على وجوه الترجيحات » ، انتهى .

أقول : قد عرفت أنّ الأصل بعد ورود التكليف الشرعي بالعمل بأحد المتعارضين هو العمل بما يحتمل أن يكون مرجّحاً في نظر الشارع ، لأنّ جواز العمل بالمرجوح مشكوك حينئذٍ .

نعم ، لو كان المرجعُ بعد التكافؤ

-----------------

الحدائق : انّه قد ذكر علماء الاُصول من الترجيحات في هذا المقام ) أي : في مقام ترجيح بعض الروايات على بعض في مقام تعارضهما ( ما لا يرجع أكثرها إلى محصول ) إذ لا دليل عليها من الشرع ، بينما ( والمعتمد عندنا ما ورد من أهل بيت الرسول صلى الله عليه و آله وسلم من الأخبار المشتملة على وجوه الترجيحات ) (1) المنصوصة ( انتهى ) كلام المحدّث البحراني .

( أقول ) : في ردّ كلمات هؤلاء المحدّثين انّه : ( قد عرفت ) سابقا ( أنّ الأصل بعد ورود التكليف الشرعي بالعمل بأحد المتعارضين ) بناءا على الطريقيّة لا الموضوعيّة ، فقد رجّحنا الطريقيّة هناك ( هو العمل بما يحتمل أن يكون مرجّحا في نظر الشارع ) لا التخيير بينهما ، وذلك ( لأنّ جواز العمل بالمرجوح مشكوك حينئذ ) أي : حين وجود رجحان في أحد الخبرين المتعارضين ، فيكون الخبر الآخر المرجوح مشكوكا ، والشكّ فيه مسرح عدم الحجيّة ، فيكون المتيقّن من التخيير هو صورة إنتفاء الترجيح رأسا .

( نعم ، لو كان المرجّح بعد التكافؤ ) والتعادل من جميع الجهات وعدم

ص: 92


1- - الحدائق الناظرة : ج1 ص90 .

هو التوقف و الاحتياط كان الأصلُ عدمَ الترجيح إلاّ بما علم كونه مرجّحاً .

لكن عرفت أنّ المختار مع التكافؤ هو التخيير ، فالأصلُ هو العمل بالراجح ، إلاّ أن يقال : إنّ إطلاقات التخيير حاكمة على هذا الأصل ، فلا بدّ للمتعدّي من المرجّحات الخاصّة المنصوصة من أحد أمرين :

-----------------

رجحان أحدهما على الآخر ( هو التوقّف ) عن الافتاء وعدم الفتوى بالتمسّك بهذا الخبر بعينه ولا بذلك الخبر بعينه ( والاحتياط ) في العمل كما سبق ( كان الأصل ) الثانوي ( عدم الترجيح إلاّ بما عُلم كونه مرجّحا ) منصوصا عليه في الروايات ، وذلك لأنّ الأصل الثانوي الذي دلّت عليه الروايات هو التخيير فيما إذا لم يكن هناك مرجّح منصوص عليه في أحد الجانبين .

( لكن عرفت : انّ المختار مع التكافؤ ) والتعادل على ما إستفدناه من الأخبار بعنوان الأصل الثانوي ( هو التخيير ) في صورة التكافؤ ، وامّا مع مزيّة أحدهما ولو مزيّة محتملة ( فالأصل ) العملي في محتمل المزيّة والرجحان ( هو العمل بالراجح ) .

وان شئت قلت : انّ العقل يدلّ على الترجيح في محتمل الراجحيّة ، لأنّه من دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، إلاّ إذا لم يكن ترجيح إطلاقا ، فالأصل الأوّلي إذن في المتعارضين بمقتضى الطريقيّة هو التوقّف لكن بحسب الأخبار وهو أصل ثانوي يكون التخيير .

( إلاّ أن يقال : إنّ ) الأصل اللفظي وهو هنا ( إطلاقات التخيير ) في الروايات ( حاكمة على هذا الأصل ) العملي وهو أصل الاحتياط في العمل بالراجح .

وعليه : ( فلابدّ للمتعدّي من المرجّحات الخاصّة المنصوصة ) إلى غير المنصوصة عامّة ، وهم المجتهدون دون الاخباريين ( من أحد أمرين ) كالتالي :

ص: 93

إمّا أن يستنبط من النصوص ولو بمعونة الفتاوى وجوبَ العمل بكلّ مزيّة يوجب أقربيّة ذيّها إلى الواقع ، وإمّا أن يستظهر من إطلاقات التخيير الاختصاصَ بصورة التكافؤ من جميع الوجوه .

و الحقّ : إنّ تدقيق النظر في أخبار الترجيح يقتضي التزام الأوّل .

كما أنّ التأمّل الصادق في أخبار التخيير يقتضي التزام الثاني ،

-----------------

الأوّل : ( إمّا أن يستنبط من النصوص ) أي : من أخبار العلاج التي نصّت على بعض المرجّحات ( ولو ) إستنباطا ( بمعونة الفتاوى ) حيث انّ العلماء هم الذين اُلقي إليهم الكلام ، ففتاواهم تدلّ على انّهم أيضا فهموا من الروايات ( وجوب العمل بكلّ مزيّة يوجب أقربيّة ذيها ) أي : ذي المزيّة ( إلى الواقع ) وحينئذ فيتعدّى من المرجّحات المنصوصة إلى غيرها ، وهذا ما جرى عليه المجتهدون .

الثاني : ( وإمّا ان يستظهر من إطلاقات التخيير الاختصاص ) أي : إختصاص التخيير ( بصورة التكافؤ من جميع الوجوه ) بحيث لا يكون هناك في أحد المتعارضين مزيّة منصوصة ، ولا غير منصوصة ، فانّه إنّما يستظهر من إطلاقات التخيير إختصاصه بصورة التكافؤ من جميع الوجوه ، لأنّ إطلاقات التخيير منصرفة إلى صورة فقد المرجّح .

( والحقّ : إنّ تدقيق النظر في أخبار الترجيح يقتضي إلتزام الأوّل ) أي : وجوب العمل بكلّ مزيّة منصوصة وغير منصوصة ، وذلك كما سيذكره المصنّف قريبا إن شاء اللّه تعالى .

( كما أنّ التأمّل الصادق في أخبار التخيير يقتضي إلتزام الثاني ) أي : إختصاص التخيير بصورة التكافؤ من جميع الوجوه بحيث لا يكون في جانب من المتعارضين مزيّة منصوصة ولا غير منصوصة .

ص: 94

ولذا ذهب جمهورُ المجتهدين إلى عدم الاقتصار على المرجّحات الخاصّة ، بل ادّعى بعضهم ظهور الاجماع و عدم ظهور الخلاف على وجوب العمل بالراجح من الدليلين ، بعد أن حكي الاجماع عليه عن جماعة .

وكيف كان : فما يمكن استفادة هذا المطلب منه ، فقراتٌ من الروايات :

-----------------

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه : من انّ تدقيق النظر والتأمّل الصادق يقتضي إلتزام الأمرين المذكورين ( ذهب جمهورُ المجتهدين إلى عدم الاقتصار على المرجّحات الخاصّة ) المذكورة في الروايات ( بل ادّعى بعضهم ظهور الاجماع وعدم ظهور الخلاف ) من أحد ( على وجوب العمل بالراجح من الدليلين ) سواء كان رجحانا منصوصا أو رجحانا غير منصوص ، وذلك ( بعد أن حكي الاجماع عليه عن جماعة ) فانّ بعض المجتهدين بعد ما نسب إلى جماعة دعوى الاجماع ، ادّعى هو أيضا الاجماع ، ففي المسألة إجماع منقول ، وإجماع محصّل ، وشهرة محقّقة لذهاب جمهور المجتهدين إليه .

( وكيف كان ) : سواء صحّ دعوى الاجماع أم لم يصحّ ( فما يمكن إستفادة هذا المطلب ) أي : لزوم الترجيح بكلّ مرجّح ولو غير منصوص ( منه ، فقرات من الروايات ) أي : من روايات الترجيح يأتي بيانها إن شاء اللّه تعالى .

وعليه : فالروايات العلاجية تدل على أمرين :

الأمر الأوّل : المرجّحات المنصوصة .

الأمر الثاني : الترجيح بكلّ مرجّح ولو لم يكن منصوصا ممّا يراه العرف مرجّحا .

وامّا الفقرات الدالّة على ذلك فهي ما أشار إليها المصنّف بقوله :

ص: 95

منها : الترجيحُ بالأصدقيّة في المقبولة ، أو بالأوثقية في المرفوعة ، فإنّ اعتبار هاتين الصفتين ليس إلاّ لترجيح الأقرب إلى مطابقة الواقع في نظر الناظر في المتعارضين ، من حيث إنّه أقربُ ، من غير مدخليّة خصوصيّة سبب ، وليستا كالأعدليّة والأفقهيّة يحتملان لاعتبار الأقربيّة الحاصلة من السبب الخاصّ .

-----------------

( منها : الترجيح بالأصدقيّة في المقبولة ، أو بالأوثقيّة في المرفوعة ، فانّ إعتبار هاتين الصفتين ليس إلاّ لترجيح الأقرب ) من المتعارضين إلى الواقع ، فلا خصوصيّة للأصدقيّة والأوثقيّة ، بل كلّ مرجّح يوجب الأقربية إلى الواقع وان لم يكن منصوصا يكون مرجّحا لأحد النصّين على الآخر ، إذ المفروض من هاتين الصفتين ترجيح الأقرب ( إلى مطابقة الواقع في نظر الناظر في المتعارضين ) من الأخبار ( من حيث إنّه أقرب ، من غير مدخليّة خصوصيّة سبب ) من الأصدقيّة والأوثقيّة .

هذا ( وليستا ) أي : الأصدقية والأوثقية ( كالأعدليّة والأفقهيّة يحتملان لاعتبار الأقربيّة الحاصلة من السبب الخاص ) إذ الأصدقية والأوثقية طريقان إلى كشف الواقع ، بخلاف الأعدليّة والأفقهية فإنّهما قد يعتبران من باب الموضوعيّة ، كما نجد ذلك في باب الشهادة ، فانّ العدالة قد إعتبرها الشارع في الشهادة من باب الموضوعيّة ، وكذلك الفقاهة قد إعتبرها الشارع في التقليد من باب الموضوعيّة ، ولذلك لا يبعد أن يكون الشارع قد إعتبر الأعدليّة والأفقهيّة في الترجيح من باب الموضوعيّة أيضا ، ومعه لا مدخلية لهما في الأقربية إلى الواقع ، بخلاف الأصدقية والأوثقية .

أقول : لا يخفى انّه من المحتمل إعتبار الأعدليّة والأفقهية من باب الأقربية

ص: 96

وحينئذٍ فنقول : إذا كان أحدُ الروايين أضبط من الآخر ، أو أعرف بنقل الحديث بالمعنى ، أو شبه ذلك ، فيكون أصدق و أوثق من الراوي الآخر ، و يتعدّى من صفات الراوي المرجّحة إلى صفات الرواية الموجبة لأقربيّة صدورها ، لأنّ أصدقيّة الراوي وأوثقيّته لم يعتبر في الراوي إلاّ من حيث حصول صفة الصدق والوثاقة في الرواية ،

-----------------

أيضا ، كما انّه من المحتمل إعتبار الأصدقية والأوثقية من باب الموضوعية أيضا ، وتفصيل ذلك ممّا لا يسعه الشرح هنا .

وكيف كان : فقد قال المصنّف : ( وحينئذ ) أي : حين كان إعتبار الأصدقية والأوثقية من باب الأقربية إلى الواقع ، بحيث يفيدان كبرى كليّة : يقول بوجوب الترجيح بكلّ ما يوجب الأقربية إلى الواقع ( فنقول : إذا كان أحدُ الراويين أضبط من الآخر ، أو أعرف بنقل الحديث بالمعنى ، أو شبه ذلك ) ككونه أكثر إستيعابا للقرائن والخصوصيات عند تكلّم المتكلّم ( فيكون أصدق وأوثق من الراوي الآخر ) وذلك لأنّ مثل هذه الصفات غير المذكورة في الروايات تؤول بالأخرة إلى الأصدقية والأوثقية من حيث المناط ، أو لأنّها من أفراد الأصدق والأوثق .

ثمّ انّه لمّا كان الترجيح بالأصدقية والأوثقية وما يؤول إليهما لأجل انّ اتّصاف الراوي بهما يؤثّر في صدق الرواية ، وجب الترجيح بكلّ مرجّح موجود في نفس الرواية يؤثّر في صدقها ، وذلك كما قال : ( ويتعدّى من صفات الراوي المرجّحة ) للرواية ( إلى صفات الرواية الموجبة لأقربية صدورها ) قربا إلى الواقع ، وذلك ( لأنّ أصدقية الراوي وأوثقيته لم يعتبر في الراوي إلاّ من حيث حصول صفة الصدق والوثاقة في الرواية ) فانّ ترجيح أحد الخبرين على الآخر بأصدقيّة الراوي وأوثقيته إنّما هو من جهة انّ اتّصاف الراوي بالأصدقية والأوثقية يوجب صفة

ص: 97

فإذا كان أحدُ الخبرين منقولاً باللفظ والآخر منقولاً بالمعنى كان الأوّل أقرب إلى الصدق وأولى بالوثوق .

ويؤيّد ما ذكرنا : أنّ الراوي بعد سماع الترجيح بمجموع الصفات لم يسأل عن صورة وجود بعضها و تخالفها في الروايتين ،

-----------------

الصدق والوثاقة في الرواية ، وحينئذٍ فلا فرق بين أن يكون نفس الراوي أصدق وأوثق ، أو كان في الرواية صفة تورث الصدق والوثاقة ، فانّه يجب الترجيح بسبب هاتين الصفتين في الراوي أو في الرواية .

وعليه : ( فإذا كان أحدُ الخبرين منقولاً باللفظ والآخر منقولاً بالمعنى ) فمن الواضح : انّه ( كان الأوّل أقرب إلى الصدق ) وإلى مطابقة الواقع ( وأولى بالوثوق ) أي : بوثوق السامع بأنّه كلام الإمام عليه السلام من الثاني ، لإحتمال إشتباه الذي نقل بالمعنى في تفسير كلام الإمام في الثاني .

( ويؤيّد ما ذكرنا ) من وجوب الترجيح بكلّ مزيّة تفيد الأقربية إلى الواقع ، لإستفادة كبرى كليّة من الأصدقية والأوثقية المذكورتين في الرواية تفيد ذلك ، هو : ( انّ الراوي بعد سماع الترجيح لمجموع الصفات ) الأربع ( لم يسأل ) من الإمام ( عن صورة وجود بعضها ) دون بعض وانّه هل في وجود البعض كفاية أو ليس فيه كفاية ؟ .

( و ) كذا لم يسأل من الإمام عن صورة ( تخالفها ) أي : تعارض الصفات ( في الروايتين ) فلم يسأل الإمام عن انّه لو كان أحدهما أصدق والآخر أوثق ، أو كان أحدهما أعدل والآخر أفقه كيف يعمل معهما ؟ وعدم سؤاله عن ذلك يكشف عن انّه فهم انّه لو أفاد أحد الحديثين ظنّا أقوى من الظنّ الذي يفيده الحديث الآخر وجب الأخذ به ، فيكون المعيار هو الأقوائية ، سواء من حيث الرواية ،

ص: 98

وإنّما سأل عن حكم صورة تساوي الراويين في الصفات المذكورة وغيرها حتى قال : « لا يفضّلُ أحدُهما على صاحبه » ، يعني : بمزيّة من المزايا أصلاً ، فلولا

-----------------

أو من حيث الراوي ، وسواء بسبب الصفات المنصوصة من الأصدقية والأوثقية والأعدلية والأفقهية ، أو بسبب أمثال هذه الصفات .

وعليه : فانّ الراوي لم يسأل عن حكم تلك الصورتين ( وإنّما سأل عن حكم صورة تساوي الراويين في الصفات المذكورة وغيرها ) فانّه لمّا قال له الإمام عليه السلام : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، قال الراوي : قلت : فانّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضّل واحد منهما على الآخر » (1) حيث انّ ظاهر « لا يفضّل » هو : انّه لا يفضّل على الآخر بأي شيء من الصفات ، سواء الصفات التي ذكرتم ، أو الصفات التي لم تذكروا ، وذلك كما قال المصنّف : ( حتّى قال : لا يفضّل أحدهما على صاحبه يعني : بمزيّة من المزايا أصلاً ) لا مزيّة مذكورة ، ولا مزيّة غير مذكورة ، كالأضبطيّة والأكمليّة والنقل باللفظ ، وما أشبه ذلك .

إذن : ( فلولا ) إنّ الراوي فهم من هذه الرواية كبرى كليّة تفيد وجوب الترجيح بكلّ واحد من الصفات المذكورة في الرواية وغير المذكورة فيها ممّا يوجب الأقربية إلى الواقع ، لم يناسبه السؤال عمّا لو لم يكن في الراويين مرجّح مطلقا ،

ص: 99


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

فهمُهُ أنّ كلّ واحد من هذه الصفات وما يشبهها مزيّة مستقلّة ، لم يكن وقعٌ للسؤال عن صورة عدم المزيّة فيها رأساً ، بل ناسبه السؤال عن حكم عدم اجتماع الصفات ، فافهم .

ومنها : تعليله عليه السلام ، الأخذ بالمشهور بقوله : « فإنّ المجمع عليه لاريب فيه » .

-----------------

فانّ سؤاله ذلك يكشف عن انّه فهم من الرواية كبرى كليّة كما قال المصنّف : فانّه لولا ( فهمه أنّ كلّ واحد من هذه الصفات ) المنصوصة ( وما يشبهها ) من سائر الصفات غير المنصوصة ، سواء كانت صفات الراوي أو صفات الرواية ، فانّه لو لم يفهم انّ كلّ واحد منها ( مزيّة مستقلّة ، لم يكن وقعٌ ) أي : محلّ ومناسبة ( للسؤال عن صورة عدم المزيّة فيهما رأسا ) كما فعله الراوي .

( بل ناسبه السؤال عن حكم عدم إجتماع الصفات ) وعن حكم التخالف بين الصفات ، كما لو كان في أحدهما الأعدليّة وفي الآخر الأصدقيّة - مثلاً - وإلى غير ذلك ، فانّ الراوي حيث لم يسأل عن حكم عدم إجتماع الصفات الأربع ، ولا عن حكم تخالف الصفات ، وسأل عن حكم عدم وجود مزيّة في المخبرين ، أو تساوي المزيّة فيهما، فانّ ذلك يكشف عن فهم الراوي لما ادّعيناه من الكبرى الكليّة.

( فافهم ) ولعلّه إشارة إلى انّ فهم الملاك والكبرى الكليّة من هذه الرواية خلاف ظاهرها ، الذي هو جعل المعيار ما نصّ فيه ، بدون أن يعرف انّ الملاك هو الأقربية ، فلا قوّة في تقييد إطلاقات التخيير بمثل الملاك .

(ومنها: تعليله عليه السلام، الأخذ بالمشهور بقوله: «فانّ المجمع عليه لا ريب فيه»)(1)

ص: 100


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

توضيح ذلك : إنّ معنى كون الرواية مشهورة كونُها معروفة عند الكلّ ، كما يدلّ عليه فرضُ السائل كليهما مشهورين ، و المراد بالشاذّ ما لايعرفه إلاّ القليل .

ولاريب أنّ المشهور بهذا المعنى

-----------------

فإنّه يستفاد منه كبرى كليّة أيضا تدلّ على لزوم الأخذ بكلّ ما لا ريب فيه ، وحيث انّ لا ريب فيه بمعنى : عدم الريب النسبيّ ، فكلّ خبر فيه ريب نسبيّ بالنسبة إلى ما لا ريب نسبيّ فيه ، يؤخذ بما لا ريب نسبيّ فيه ، فإذا كان خبران أحدهما : نقل باللفظ ، والآخر : نقل بالمعنى ، فلا ريب في المنقول باللفظ ، بالنسبة إلى الرّيب المحتمل في المنقول بالمعنى ، وهكذا .

( توضيح ذلك ) أي : توضيح انّه كيف يستفاد من هذا التعليل كبرى كليّة ؟ بحيث يمكن أن يتعدّى منها إلى كلّ مزية غير منصوصة هو : (ءانّ معنى كون الرواية مشهورة : كونها معروفة عند الكلّ ) أو الجلّ ، يعني : بل تكون الشهرة روائية لا فتوائية ، وذلك ( كما يدلّ عليه ) أي : على هذا المعنى للشهرة ( فرض السائل كليهما مشهورين ) فانّه لا يمكن فرضهما مشهورين معا إلاّ بالنسبة إلى الشهرة في الرواية ، وأمّا بالنسبة إلى الشهرة في الفتوى فلا يمكن فرض ذلك فيهما معا ، إذ لا يعقل أن يكون الافتاء بوجوب صلاة الجمعة مشهورا بين الفقهاء ، والافتاء بحرمتها أيضا مشهورا بين الفقهاء ، بعد ظهور المشهور في الأكثرية .

إذن : فالمراد بالمشهور : ما عرفه الأكثر ( والمراد بالشاذّ : ما لا يعرفه إلاّ القليل ) وذلك بأن يكون أحد الخبرين مرويّا في غالب كتب الأصحاب - مثلاً - بينما الخبر الآخر يكون مرويّا في كتب بعضهم فقط .

( ولا ريب أنّ المشهور بهذا المعنى ) المذكور هو معرفة الكلّ أو الجلّ

ص: 101

ليس قطعيا من جميع الجهات قطعي المتن و الدلالة ، حتى يصير ممّا لاريب فيه ، وإلاّ لم يمكن فرضُهما مشهورين ولا الرجوعُ إلى صفات الراوي قبل ملاحظة الشهرة ،

-----------------

( ليس قطعيّا من جميع الجهات ) يعني : انّه لا يلزم أن يكون الخبر المشهور ( قطعيّ المتن والدلالة ) أيضا بالإضافة إلى شهرته ( حتّى يصير ) هذا الخبر المشهور ( ممّا لا ريب فيه ، وإلاّ ) بأن لزم أن يكون الخبر المشهور قطعي السند والدلالة والجهة أيضا ، لزم منه المحاذير التالية :

أوّلاً : ( لم يمكن فرضُهما مشهورين ) معا كما فرضهما الراوي ، وذلك لأنّه لو كان المشهور عبارة عمّا لا ريب في صحّته سندا ودلالة وجهة ، فانّه كيف يمكن تعارض خبرين لا ريب في صحّتهما معا سندا وجهة ودلالة ؟ ففرضهما كذلك دليل على عدم لزوم كونهما مقطوعي الصحّة .

ثانيا : ( ولا ) أي : وكذا لم يمكن ( الرجوع إلى صفات الراوي قبل ملاحظة الشهرة ) فانّه لو كان المشهور قطعيّا ولا ريب في صحّته سندا ودلالة وجهة ، لوجب أوّلاً تقديمه على الشاذّ بهذه الصفة لا بغيرها من الصفات ، فكيف ذكر الإمام عليه السلام تقديم خبر ذي الصفات على صفة الشهرة ؟ كما نجد ذلك في المقبولة ، حيث قال عليه السلام فيها أوّلاً : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ثمّ قال عليه السلام : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به ، المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمهما ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فانّ المجمع عليه لا ريب فيه » (1) فقدّم الإمام صفات الراوي على الشهرة مع انّه لو كان المراد بالمشهور :

ص: 102


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره = = الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

ولا الحكم بالرجوع مع شهرتهما إلى المرجّحات الاُخر .

فالمرادُ بنفي الريب نفيهُ بالإضافة إلى الشاذّ ، و معناه : أنّ الريب المحتمل في الشاذّ غير محتمل فيه .

فيصير حاصل التعليل ، ترجيح المشهور على الشاذّ ، بأنّ في الشاذّ

-----------------

القطعي السند والدلالة والجهة ، كان اللازم تقديم الشهرة أوّلاً ، ثمّ ذكر الصفات .

ثالثا : ( ولا ) أي : وكذا لم يمكن ( الحكم بالرجوع مع شهرتهما إلى المرجّحات الاُخر ) فانّه لو كان المشهور قطعيّا صحّته سندا ودلالة وجهة ، كان الخبران المشهوران كلاهما قطعيي الصحّة سندا ودلالة وجهة ، ومعه فلا معنى للرجوع إلى بقيّة المرجّحات وتقديم الراجح على المرجوح ، بل كان اللازم الحكم بإجمال الروايتين والرجوع إلى القواعد الاُخر ، فحكم الإمام بالرجوع إلى المرجّحات بعد كونهما مشهورين ، يدلّ على انّه ليس المراد بالمشهور المقطوع الصحّة ، بل المراد : احتواؤه على ما يجعله أقرب إلى مطابقة الواقع ، وإذا إستفيدت هذه الكبرى الكليّة من هذه الرواية ، بهذه القرائن الثلاث التي مرّ ذكرها من المصنّف ، ظهر أنّ كلّ مزيّة توجب الأقربية يجب الترجيح بها ، وان لم تكن منصوصة .

إذن : ( فالمرادُ بنفي الريب ) الذي جاء في كلام الإمام عليه السلام في المقبولة ، ليس نفيه مطلقا ، بل ( نفيه بالإضافة إلى الشاذّ ) أي : النفي النسبي ( ومعناه : انّ الريب المحتمل في الشاذّ غير محتمل فيه ) أي : في المشهور .

وعليه : ( فيصير حاصل التعليل ) الوارد في كلام الإمام عليه السلام في المقبولة هو : ( ترجيح المشهور على الشاذّ ) ترجيحا معلّلاً ( بأنّ في الشاذّ

ص: 103

احتمالاً لايوجد في المشهور ، و مقتضى التعدّي عن مورد النصّ في العلّة وجوبُ الترجيح بكلّ ما يوجوب كون أحد الخبرين ، أقلّ احتمالاً لمخالفة الواقع .

ومنها : تعليلهم عليهم السلام ، لتقديم الخبر المخالف للعامّة ، بأنّ الحقّ « والرشد في خلافهم » ، وأنّ ما وافقهم فيه التقيّة ، فإنّ هذه كلّها قضايا غالبيّة لادائميّة ، فيدلّ بحكم التعليل على وجوب ترجيح كلّ ما كان معه أمارةُ الحقّ و الرشد و ترك ما فيه مظنّةُ خلاف الحقّ والصواب .

-----------------

إحتمالاً ) يقرّبه إلى مخالفة الواقع ( لا يوجد في المشهور ، و ) إذا إستفدنا هذه الكبرى الكليّة من الرواية ، فانّ ( مقتضى التعدّي عن مورد النصّ في العلّة ) المنصوصة هو : ( وجوب الترجيح بكلّ ما يوجب كون أحد الخبرين ، أقلّ إحتمالاً لمخالفة الواقع ) مثل : موافقته للشهرة العملية ، أو الشهرة الفتوائية ، أو السيرة ، أو إرتكاز المتشرّعة ، أو غير ذلك .

( ومنها : تعليلهم عليهم السلام ، لتقديم الخبر المخالف للعامّة : بأنّ الحقّ والرشد في خلافهم ، وأنّ ما وافقهم فيه التقيّة ، فانّ هذه كلّها قضايا غالبية لا دائمية ) أي : ظنّية وليست قطعيّة ، وذلك لوضوح : انّه ليس كلّ مخالف لهم رشد ، ولا كلّ موافق لهم تقيّة ، بل المراد وجود الأمارة الظنّية بالمطابقة للواقع وغلبة الحقّ والرشد في المخالف لهم ، وبالعكس في الموافق لهم .

وعليه : ( فيدلّ بحكم التعليل على وجوب ترجيح كلّ ما كان معه أمارة الحقّ والرشد ) مثل : موافقة الشهرة العمليّة ، أو الشهرة الفتوائية ، أو السيرة ، أو ما أشبه ذلك - على ما تقدّم - ( وترك ما فيه مظنّة خلاف الحقّ والصواب ) كما لو كان أحد

ص: 104

بل الانصافُ : انّ مقتضى هذا التعليل - كسابقه - وجوبُ الترجيح بما هو أبعدُ عن الباطل من الآخر ، و إن لم يكن عليه أمارةُ المطابقة ، كما يدلّ عليه قوله عليه السلام : « ما جاءكم عنّا من حديثين مختلفين ، فقسهما على كتاب اللّه و أحاديثنا ، فإنّ أشبههما فهو حقّ ،

-----------------

الخبرين على خلاف المشهور فتوىً ، أو عملاً ، أو سيرة ، أو مرتكزا في أذهان المتشرّعة على ما عرفت .

( بل الانصاف : إنّ مقتضى هذا التعليل ) : « فانّ الرشد في خلافهم » (1) هو ( كسابقه ) أي : كمقتضى ذلك التعليل : « فانّ المجمع عليه لا ريب فيه » (2) حيث يقتضي ( وجوب الترجيح بما هو أبعد عن الباطل من الآخر ، وان لم يكن عليه أمارة المطابقة ) للواقع ، يعني : انّ هذا التعليل هنا بقوله عليه السلام : « فانّ الرشد في خلافهم » يفيد لزوم الترجيح بكلّ ما يوجب الأبعدية عن الباطل وان لم يُفد الظنّ بمطابقة الواقع ، وذلك التعليل هناك بقوله عليه السلامكما مرّ : « فانّ المجمع عليه لا ريب فيه » يفيد أيضا لزوم الترجيح بكلّ ما يوجب الأبعديّة عن الريب وان لم يفد الظنّ بمطابقة الواقع ، فتوافق التعليلان في إفادة لزوم الترجيح بمجرّد الأبعدية عن الريب والباطل ، وان لم يُظن بأقربيّته للواقع .

( كما يدلّ عليه ) أي : على وجوب الترجيح بمجرّد الأبعديّة عن الرّيب والباطل ، وان لم يكن أقرب إلى الحقّ في الظنّ ( قوله عليه السلام : ما جائكم عنّا من حديثين مختلفين ، فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا ، فإنّ أشبههما فهو حقّ )

ص: 105


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

وإن لم يشبههما فهو باطل » فإنّه لاتوجيه لهاتين القضيّتين ، إلاّ ما ذكرنا : من إرادة الأبعديّة عن الباطل و الأقربيّة إليه .

-----------------

حيث جعل الإمام عليه السلام معيار الأخذ مجرّد كون أحدهما أبعد عن الباطل لأنّه أشبه بهما من الآخر ، ثمّ قال : ( وإن لم يشبههما فهو باطل ) (1) وحيث جعل الإمام عليه السلام معيار عدم الأخذ مجرّد كون أحدهما أقرب إلى الباطل لأنّه لم يشبه الكتاب والسنّة .

والمراد من الشباهة بالكتاب والسنّة هو : انّ الروح العامّ المستفاد منهما يشبهه هذا الحديث ، أو يشبهه ذلك الحديث ، فالروح العامّ المستفاد من قوله سبحانه : « ولا تجسّسوا » (2) - مثلاً - هو : عدم تدخّل الانسان في شؤون الآخرين حيث يكرهون ذلك التدخّل ، فإذا ورد حديثان أحدهما يقول : لا بأس بتدقيق النظر في متاع الغير الذي يريد نقله من السوق إلى البيت ، ممّا يكرهه ذلك الغير ، ويقول الحديث الآخر : فيه بأس ، فالحديث الثاني أشبه بالكتاب والسنّة من الحديث الأوّل ، وهذا المعنى أيضا مستفاد من قولهم عليهم السلام : « ينظر إلى ما هم أميل إليه حكّامهم وقضاتهم » (3) كما تقدّم تفسيره .

وعليه : ( فإنّه لا توجيه لهاتين القضيّتين ) وهما قضيّة : « فان أشبههما فهو حقّ » و قضيّة : « وان لم يشبههما فهو باطل » ( إلاّ ما ذكرنا : من إرادة الأبعديّة عن الباطل ) فيؤخذ به ( والأقربيّة إليه ) أي : إلى الباطل فيطرح .

ص: 106


1- - تفسير العياشي : ج1 ص9 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص123 ب9 ح33381 .
2- - سورة الحجرات : الآية 12 .
3- - الكافي ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

ومنها : قوله عليه السلام : « دع ما يريبك إلى مالا يريبك » دلّ على أنّه إذا دار الأمرُ بين أمرين في أحدهما ريبٌ ، ليس في الآخر ذلك الريبُ يجب الأخذُ به ، و ليس المراد : نفي مطلق الريب ، كما لايخفى .

وحينئذٍ : فإذا فرض أحدُ المتعارضين منقولاً بلفظه ، و الآخر منقولاً بالمعنى ، وجب الأخذُ بالأوّل ، لأن احتمال الخطأ في النقل بالمعنى منفي

-----------------

( ومنها : قوله عليه السلام : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ) (1) والرّيب عبارة عمّا يختلج في الذهن ، وذلك قبل أن يصير شكّا ، ولذا قال عليه السلام : « لا ترتابوا فتشكّوا ، ولاتشكّوا فتكفروا » (2) فانّه ( دلّ على أنّه إذا دار الأمر بين الأمرين ) وكان ( في أحدهما ريب ) نسبي ( ليس في الآخر ذلك الرّيب ) النسبي ، فانّه ( يجب الأخذ به ) أي : بما لا ريب نسبي فيه .

هذا ( وليس المراد : نفي مطلق الريب ، كما لا يخفى ) وذلك لوضوح : انّه لو كان أحد الأمرين لا ريب فيه إطلاقا ، لم يكن الآخر معارضا له ، لأنّ معناه حينئذٍ : انّ الأمر الآخر لا ريب في بطلانه ، فاللازم أن يكون المراد من الريب في قوله عليه السلام : « دع ما يربيك إلى ما لا يريبك » هو : الريب النسبي .

( وحينئذٍ ) أي : حين كان مراد الحديث هو : الريب النسبي ( فإذا فرض أحد المتعارضين منقولاً بلفظه ، والآخر منقولاً بالمعنى ، وجب الأخذ بالأوّل ) الذي هو منقول بلفظ الإمام عليه السلام ( لأنّ إحتمال الخطأ في النقل بالمعنى منفيّ

ص: 107


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 ، المعجم الكبير : ج22 ص147 ح399 ، كنز الفوائد : ج1 ص351 ، الغارات : ص135 ، الذكرى : ص138 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب82 ح33506 و ص170 ب12 ح33517 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص45 ح6 و ج2 ص399 ح2 ، بحار الانوار : ج2 ص39 ب9 ح69 .

فيه ، و كذا إذا كان أحدُهما أعلى سنداً لقلّة الوسائط ، إلى غير ذلك من المرجّحات النافية للاحتمال غير المنفي في طرف المرجوح .

المقام الرابع : في بيان المرجّحات

و هي على قسمين :

أحدُهما : ما يكون داخليّاً ، و هي كلّ مزيّة غير مستقلّة في نفسه ،

-----------------

فيه ) أي : في هذا الذي هو منقول عن الإمام عليه السلام باللفظ .

( وكذا إذا كان أحدهما أعلى سندا لقلّة الوسائط ) والآخر أنزل سندا لكثرة الوسائط و ( إلى غير ذلك ) كما إذا كان راوي أحد الحديثين أشحذ ذهنا ، وأكثر فهما بالقرائن الداخليّة والخارجيّة ، وأحسن التفاتا إلى لحن الكلام من راوي الحديث الآخر ، فانّ رواية الشخص الأوّل لا ريب نسبي فيه ، بالنسبة إلى رواية الشخص الثاني ، فيلاحظ كلّ ما أشبه ذلك ( من المرجّحات النافية للاحتمال ) في طرف الراجح ( غير المنفيّ في طرف المرجوح ) ككون إحدى الروايتين مرفوعة ، أو مضمرة ، أو مقطوعة ، أو ما أشبه ذلك ، بخلاف الرواية الثانية ، مع كون كليهما حجّة بسبب كونهما مرويّين في الكافي ، أو في الفقيه ، أو ما أشبه ذلك ، فانّه يؤخذ بما لا ريب فيه .

( المقام الرابع ) من مقامات بحث تعارض الأخبار ( في بيان المرجّحات ) لأحد الخبرين على الآخر ( وهي على قسمين ) كما يلي :

( أحدُهما : ما يكون داخليّا ، وهي كلّ مزيّة غير مستقلّة ) بالدلالة ( في نفسه ،

ص: 108

بل متقوّمة بما فيه .

وثانيهما : ما يكون خارجيّاً ، بأن يكون أمراً مستقلاً بنفسه ولو لم يكن هناك خبر ، سواء كان معتبراً كالأصل ، والكتاب ،

-----------------

بل متقوّمة بما فيه ) أي : متقوّمة بالحديث الذي وردت تلك المزيّة في ذلك الحديث ، وذلك مثل الأعدليّة من حيث الراوي ، ومثل علوّ السند من حيث الرواية ، فإنّ الأعدليّة وعلوّ السند مزيّتان ليستا مستقلّتين ، بل متقوّمتان بالحديث الذي هما فيه .

( وثانيهما : ما يكون خارجيّا ، بأن يكون أمرا مستقلاًّ بنفسه ) أي : غير متقوّم بالحديث ذي المزيّة ، وذلك بأن يوجد المرجّح حتّى ( ولو لم يكن هناك خبر ) أصلاً ( سواء كان ) ذلك المرجّح المستقل ( معتبرا كالأصل ، والكتاب ) أم غير معتبر كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى .

أمّا كون الأصل مرجّحا فهو بناءا على إعتبار الأصل من حيث الظنّ ، وإلاّ بأن كان معتبرا من حيث الروايات ، فقد عرفت : إنّ اُفق الأصل غير اُفق الروايات ، فلا يكون أحدهما مؤيّدا ومرجّحا للآخر ، فانّه بناءا على ذلك لو تعارض خبران في وجوب شيء وعدم وجوبه ، أو حرمة شيء وعدم حرمته ، فأصل البرائة يكون مرجّحا للخبر القائل بعدم الالزام ، ومن المعلوم : إنّ أصل البرائة مزيّة خارجيّة ، مستقل بنفسه ، معتبر في حدّ ذاته ، بحيث انّه لولا المتعارضان لكان مرجعا معتبرا في نفسه .

وأمّا إنّ الكتاب مرجّح : فانّه مزيّة خارجيّة ، معتبر في حدّ ذاته ، مستقل بنفسه حتّى ولو لم يكن هناك خبر ، ولذا فإنّه إذا تعارض خبران وكان أحدهما موافقا للكتاب ، يكون الكتاب مرجّحا للخبر الموافق له ، وذلك كما إذا دلّ دليل

ص: 109

وغير معتبر في نفسه كالشهرة ونحوها .

ثمّ المستقل إمّا أن يكون مؤثّراً في أقربيّة أحد الخبرين إلى الواقع كالكتاب ، والأصل ، بناءا على إفادة الظنّ .

-----------------

على حرمة العصير العنبي إذا غلى وذهب ثلثاه بسبب الهواء - مثلاً - ودلّ دليل آخر على عدم حرمته ، فانّ قوله سبحانه : « خلق لكم ما في الأرض جميعا» (1) يكون مؤيّدا ومرجّحا للخبر القائل بالحليّة .

هذا إذا كان المرجّح المستقل معتبرا ، وأمّا إذا لم يكن معتبرا فهو كما قال : ( وغير معتبر في نفسه كالشهرة ) الفتوائية بناءا على قول المشهور حيث انّهم يذكرون أنّ الشهرة الفتوائية ليست بحجّة ، وإن قال بعضهم بالحجيّة للتعليل الذي جاء في المقبولة بقوله عليه السلام : « فانّ المجمع عليه لا ريب فيه » (2) ( ونحوها ) أي : نحو الشهرة الفتوائية كالإجماع المنقول ، فإذا وافق أحد الخبرين مزيّة خارجية مستقلّة غير معتبرة في نفسها كالشهرة الفتوائية ، أو الاجماع المنقول ، يكون ذلك الخبر ذا مزيّة بحيث يوجب وجود هذه المزية فيه ترجيحه على الخبر المخالف للشهرة أو الاجماع المنقول .

( ثمّ ) انّ المرجّح ( المستقل إمّا أن يكون مؤثّرا في أقربيّة أحد الخبرين إلى الواقع ) بأن يكون كاشفا عنه ( كالكتاب ، و ) كذلك الشهرة وهكذا الاجماع المنقول ، وما أشبه ذلك ، فإنّ كلّ هذه الاُمور تحكي عن الواقع ، وكذلك ( الأصل ، بناءا على إفادته الظنّ ) أمّا الأصل بناءا على حجّيته من باب الأخبار ، فقد عرفت

ص: 110


1- - سورة البقرة : الآية 29 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

أو غير موثّر ، ككون الحرمة أولى بالأخذ من الوجوب والأصل ، بناءا على كونه من باب التعبّد الظاهري ، وجعل المستقلّ مطلقا ، خصوصاً ما لا يؤثّر في الخبر من المرجّحات لايخلو عن مسامحة .

-----------------

انّه ليس بكاشف .

( أو غير مؤثّر ) في أقربيّة أحد الخبرين إلى الواقع ( ككون الحرمة أولى بالأخذ من الوجوب ) على ما هو مذهب جماعة من العلماء فيما إذا دار الأمر بين الحرمة والوجوب ، وذلك كما إذا حلف - مثلاً - على الوطي أو الترك ، ثمّ نسي انّه على أيّهما كان قد حلف ؟ فقد ذهب جمع من الفقهاء إلى تقديم الحرمة ، بدليل : انّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، فانّ هذه المزيّة على القول بالترجيح بها لا تؤثّر في أقربية أحد الخبرين إلى الواقع ، فيما إذا كان خبران أحدهما يدلّ على الحرمة ، والآخر يدلّ على الوجوب - مثلاً - .

( والأصل ) كذلك أيضا ، لكن ( بناءا على كونه من باب التعبّد الظاهري ) لا من باب إفادته الظنّ ، فقد عرفت : انّ الأصل لو كان حجّة من باب الأخبار تعبّدا ، فانّه لا يكون طريقا إلى الواقع ولا كاشفا عنه ، بل هو تكليف حين العمل للشاكّ وليس أكثر ، وهذا الأصل لو رجّحنا به أحد الخبرين المتعارضين لم يكن مؤثّرا في أقربيته إلى الواقع .

هذا ( وجعل ) المرجّح ( المستقل مطلقا ) أي : بكلّ أقسامه سواء كان معتبرا أم لا ، مؤثّرا أم لا ؟ ( خصوصا ما لا يؤثّر في الخبر من المرجّحات ) كالأصل من باب التعبّد ، فانّه ( لا يخلو عن مسامحة ) في التعبير ، وذلك لأنّ المتبادر من لفظ المرجّح هو : أن يؤثّر مزيّة وقوّة في الخبر من دون إستقلاله بإفادة الحكم ، ومعه يكون إطلاق المرجّح على اُمور مستقلّة في إفادة الحكم مثل الكتاب مسامحة ،

ص: 111

أمّا الداخلي : فهو على أقسام لأنّه إمّا أن يكون راجعاً إلى الصدور ، فيفيد المرجّح كون الخبر أقرب إلى الصدور و أبعد عن الكذب ، سواء كان راجعاً إلى سنده كصفات الراوي ، أو إلى متنه كالأفصحيّة ، و هذا لايكون إلاّ في أخبار الآحاد ،

-----------------

لوضوح : إستقلال الكتاب في نفسه بإفادة الحكم ، فانّه يفيد الحكم سواء كان هناك خبر أو لم يكن ، وكذا إطلاق المرجّح على غير الكتاب من الاُمور المستقلّة في نفسها بإفادة الحكم ، مثل الأصل على المبنيين : التعبّد والظنّ ، ومثل أولويّة الحرمة على الوجوب لو قلنا بها ، فانّها مسامحة أيضا .

هذا بالنسبة إلى المرجّح الخارجي ، ( أمّا ) بالنسبة إلى المرجّح ( الداخلي : فهو على أقسام ) ثلاثة : لأنّه إمّا مرجّح من حيث السند ، أو من حيث الدلالة ، أو من حيث جهة الصدور .

القسم الأوّل : كما ذكره المصنّف بقوله : ( لأنّه إمّا أن يكون راجعا إلى الصدور ، فيفيد المرجّح كون الخبر أقرب إلى الصدور ) من الإمام عليه السلام ( وأبعد عن الكذب ) والافتراء على الإمام عليه السلام ( سواء كان راجعا إلى سنده كصفات الراوي ) مثل الأعدليّة والأصدقيّة ، وما أشبه ذلك ( أو إلى متنه كالأفصحيّة ) وعدم الركاكة - مثلاً - فإذا كان هناك خبران أحدهما أفصح من الآخر ، أو أحدهما فصيح والآخر ركيك ، فالفصيح أو الأفصح أقرب إلى الواقع ، وذلك لأنّ الإمام عليه السلام الذي هو بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم أفصح من نطق بالضادّ ، لا يقول الكلام الركيك ، وكذا الكلام الفصيح في مقابل الأفصح .

( وهذا ) القسم من المرجّح الداخل وهو مرجّح الصدور ( لا يكون إلاّ في أخبار الآحاد ) سواء كانت مرويّة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم أو الإمام عليه السلام ، وأمّا الأخبار

ص: 112

وإمّا أن يكون راجعاً إلى وجه الصدور ، ككون أحدهما مخالفاً للعامّة ، أو لعمل سلطان الجور ، أو قاضي الجور ، بناءا على احتمال أن مثل هذا الخبر صادراً لأجل التقيّة .

و إمّا أن يكون راجعاً إلى مضمونه ، كالمنقول باللفظ بالنسبة إلى المنقول بالمعنى ، إذ يحتمل الاشتباه في التعبير ،

-----------------

المتواترة فصدورها قطعي ولا يأتي فيها هذا الكلام ، فإذا كان هناك خبران متواتران متعارضان ، فلا يمكن الترجيح بينهما من حيث الصدور .

القسم الثاني : ما أشار إليه المصنّف بقوله : ( وإمّا أن يكون راجعا إلى وجه الصدور ) وانّه هل صدر تقيّة أو لبيان الحكم الواقعي ؟ ( ككون أحدهما مخالفا للعامّة ، أو لعمل سلطان الجور ، أو قاضي الجور ) فانّهم جميعا يميلون إلى الباطل ، والمراد بالسلطان ما يشمل السلطان والوالي والحاكم ، فانّ مخالفة العامّة إنّما يكون مرجّحا ( بناءا على إحتمال انّ مثل هذا الخبر ) الموافق لهم ( صادراً لأجل التقيّة ) فإذا دلّ خبر على انّ المغرب الذي يكون مجوّزا للدخول في صلاة المغرب وللإفطار هو : إستتار القرص ، ودلّ خبر آخر على انّه ذهاب الحمرة المشرقية ، فهما متعارضان ، وحيث انّ الخبر الأوّل موافق للعامّة يكون أقرب إلى التقيّة ، فالخبر الثاني يكون ذا مزيّة عليه .

القسم الثالث : وهو ما ذكره المصنّف بقوله : ( وإمّا أن يكون راجعا إلى مضمونه ) أي : مضمون الخبر ومعناه ( كالمنقول باللفظ بالنسبة إلى المنقول بالمعنى ) فانّ المنقول باللفظ أقرب وأرجح من المنقول بالمعنى ( إذ يحتمل الاشتباه ) من الراوي ( في التعبير ) عن لفظ الإمام بمعنى ليس مطابقا لذلك اللفظ

ص: 113

فيكون مضمون المنقول باللفظ أقربَ إلى الواقع ، وكالترجيح بشهرة الرواية و نحوها .

و هذه الأنواع الثلاثة كلّها متأخّرة عن الترجيح باعتبار قوّة الدلالة ، فإنّ الأقوى دلالةً مقدّمٌ على ما كان أصحّ سنداً ، وموافقاً للكتاب ، ومشهور الرواية بين الأصحاب ،

-----------------

الذي قاله الإمام ( فيكون مضمون المنقول باللفظ أقرب إلى الواقع ) من المنقول بالمعنى .

( وكالترجيح بشهرة الرواية ) فانّ الشهرة كما ترجّح صدور الرواية بملاحظة كثرة ناقليها ، فكذلك ترجّح المضمون بملاحظة كثرة العاملين بها ( ونحوها ) أي : نحو الشهرة كالإجماعات المنقولة على مضمون أحد الخبرين - مثلاً - وكأضبطيّة راوي أحدهما بالنسبة إلى الراوي الآخر ، لوضوح : انّ الأضبط بعيد عن الاشتباه بالقدر الذي يقرب من الاشتباه غير الأضبط .

( وهذه الأنواع الثلاثة ) من المرجّحات الداخلية ، الراجعة إلى الجهة ، والصدور ، والمضمون ( كلّها متأخّرة عن الترجيح بإعتبار قوّة الدلالة ) والجمع العرفي ، فانّه إذا أمكن الجمع الدلالي العرفي بين الخبرين ، كالعام والخاص ، والظاهر والأظهر ، وما أشبه ذلك قدّم على الترجيح بسائر المرجّحات .

وعليه : ( فانّ الأقوى دلالةً مقدّم على ما كان أصحّ سندا ، و ) مقدّم على ما كان ( موافقا للكتاب ، و ) مقدّم على ما كان ( مشهور الرواية بين الأصحاب ) ومقدّم أيضا على ما كان خلاف التقيّة ، فإذا كان - مثلاً - العام مخالفا للتقيّة ، والخاص موافقا للتقيّة ، فانّ الخاص يخصّص العام ولا يلاحظ جهة الصدور ، وكذلك إذا كان العام موافقا للكتاب والخاص مخالفا ، أو كان العام أصحّ سندا من الخاص

ص: 114

لأن صفات الرواية لايزيده على المتواتر ، وموافقة الكتاب لايجعله أعلى من الكتاب ، وقد تقرّر في محلّه تخصيصُ الكتاب والمتواتر بأخبار الآحاد ، فكلُّ ما يرجع التعارضُ إلى تعارض الظاهر والأظهر ، فلا ينبغي الارتياب في عدم ملاحظة المرجّحات الاُخر .

-----------------

الذي ليس بتلك الصحّة من السند ، وإلى غير ذلك .

والحاصل : إنّ الجمع الدلالي إذا أمكن لا ينظر معه إلى المرجّحات ، سواء المرجّحات الصدورية ، أو المرجّحات المضمونية ، أو المرجّحات المرتبطة بالجهة ، وذلك ( لأنّ صفات الرواية لا يزيده ) أي : لا يزيد الخبر ( على المتواتر ، و ) كذلك ( موافقة الكتاب لا يجعله أعلى من الكتاب ، وقد تقرّر في محلّه ) وذلك في بحث الألفاظ ( تخصيص الكتاب و ) الخبر ( المتواتر بأخبار الآحاد ) المرويّة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام باسناد معتبرة ، وكذلك بالنسبة إلى المطلق والمقيّد ، والمجمل والمبيّن .

وعليه : ( فكلّما يرجع التعارض إلى تعارض الظاهر والأظهر ) أو النصّ والظاهر ، فاللازم الجمع بينهما بحمل الظاهر على الأظهر ، والظاهر على النصّ ، ولا يلاحظ الترجيح بينهما كما قال : ( فلا ينبغي الارتياب في عدم ملاحظة المرجّحات الاُخر ) بعد وجود الترجيح بقوّة الدلالة والجمع العرفي المقبول ، فإذا ورد - مثلاً - خبر يقول : اكرم العلماء ، وخبر آخر يقول : لا تكرم زيدا ، فانّ الخاص يقدّم على العام ، ولا يلاحظ انّ العام موافق للكتاب ، أو مخالف للعامّة ، أو انّ سنده أقوى ، أو ما أشبه ذلك من المرجّحات التي يجب الترجيح بها إذا كان شيء منها موجودا في أحد الخبرين المتعارضين ، وذلك لوضوح : أن لا تكرم زيدا ، وليس معارضا لأكرم العلماء ، كما هو شأن كلّ ظاهر وأظهر ، ونصّ وظاهر ،

ص: 115

والسرُّ في ذلك ، ما أشرنا إليه سابقا من أنّ مصبّ الترجيح بها هو ما إذا لم يمكن الجمعُ بوجه عرفي يجري في كلامين مقطوعي الصدور على غير جهة التقيّة ، بل في جزئي كلام واحد لمتكلّم واحد .

-----------------

حيث إنّ النصّ والأظهر لا يعارضهما الظاهر .

( والسرّ في ذلك ) أي : فيما ذكرناه : من تقديم الترجيح بإعتبار قوّة الدلالة على سائر المرجّحات الاُخر ( ما أشرنا إليه سابقا ) في بحث أولوية الجمع من الطرح ( من أنّ مصبّ الترجيح بها ) أي : إنّ مورد الترجيح بسائر المرجّحات ( هو: ما إذا لم يمكن الجمع بوجه عرفيّ ) وأمّا لو أمكن ذلك ، بأن رأى العرف انّ المراد من الكلامين حمل أحدهما على الآخر ، مثل الظاهر والأظهر ، والنصّ والظاهر ، فانّه لا يتأمّل في حمله عليه ، لأنّه يرى أنّ ذلك ( يجري في كلامين مقطوعي الصدور على غير جهة التقيّة ) .

مثلاً : إذا قطع العرف بأنّ المولى قال : أكرم العلماء ، وقطع أيضا بأنّه قال أيضا :

لا تكرم زيدا ، فانّهم يرون بلا تأمّل أن « لا تكرم زيدا » يخصّص « أكرم العلماء » ، نعم ، إذا علموا بأنّ قول المولى : « لا تكرم زيدا » ، صادر على وجه التقيّة ، لا يجمعون بمثل هذا الجمع ، بل يقولون بوجوب إكرام كلّ عالم حتّى زيد .

( بل ) وكذلك الحال ( في جزئي كلام واحد لمتكلّم واحد ) فانّهم يحملون الظاهر على الأظهر ، والظاهر على النصّ ، فإذا سمعوا أحدا يقول - مثلاً - : رأيت أسدا يرمي ، فانّهم يحملون أسد على الرجل الشجاع ، وذلك لأنّ الأسد وان كان ظاهرا في معنى الحيوان المفترس ، إلاّ أنّ يرمي أظهر منه في رمي النبل ، ولذا يحملون الظاهر الذي هو الأسد على الأظهر الذي هو يرمي ، فيقولون : بأنّ المتكلّم أراد من الأسد انّه رأى رجلاً شجاعا يرمي النبل .

ص: 116

وبتقرير آخر : إذا أمكن فرض صدور الكلامين على غير جهة التقيّة وصيرورتهما ، كالكلام الواحد على ما هو مقتضى دليل وجوب التعبّد بصدور الخبرين .

فيدخل في قوله عليه السلام : « أنتُم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا » إلى آخر الرواية المتقدّمة ،

-----------------

( وبتقرير آخر ) لبيان إثبات وجوب تقديم الترجيح الدلالي على سائر المرجّحات ، وانّه إذا أمكن الجمع العرفي لا تصل النوبة إلى الترجيح بالمرجّحات الاُخر نقول : انّه ( إذا أمكن فرض صدور الكلامين على غير جهة التقيّة ) بل على جهة بيان الواقع ( و ) أمكن فرض ( صيرورتهما ، كالكلام الواحد ) وذلك بحمل الظاهر على الأظهر ، والظاهر على النصّ ( على ما هو ) أي : على انّ فرض صدور الكلامين منهم عليهم السلام لبيان الواقع هو : ( مقتضى دليل وجوب التعبّد بصدور الخبرين ) الذين هما حجّة ، فانّ المفروض هو انّ أدلّة حجيّة الخبر تشمل كلاً من الخبرين ، وانّ المفروض أيضا إمكان الجمع بينهما جمعا عرفيّا ، فيقتضي ذلك فرض صدورهما ، والجمع بينهما بحمل الظاهر على الأظهر ، أو الظاهر على النصّ.

وعليه : فانّه إذا أمكن مثل ذلك الجمع في النظر العرفي ( فيدخل في قوله عليه السلام : «أنتمُ أفقهُ النّاس إذا عرفتم معاني كلامنا» (1) ، إلى آخر الرواية المتقدّمة ) .

لا يقال : انّ الجمع العرفي شأن كلّ إنسان ، فأيّة خصوصيّة لقوله عليه السلام : « أنتم » الظاهر في إرادة خصوص الشيعة منه ؟ .

لأنّه يقال : إنّ الخصوصيّة لأجل أنّ التقيّة كانت كثيرة في كلماتهم عليهم السلام ، وغير

ص: 117


1- - معاني الاخبار : ج1 ص1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص117 ب9 ح33360 .

وقوله عليه السلام : « إنّ في كلامنا محكماً ومتشابهاً ، فرُدُّوا متشابهها إلى مُحكمها » .

ولا يدخل ذلك في مورد السؤال عن علاج المتعارضين ، بل مورد السؤال عن العلاج مختصُّ بما إذا كان المتعارضان لو فرض صدورهما ، بل اقترانهما ، تحيّر السائلُ فيهما ، ولم يظهر المرادُ منهما إلاّ ببيان آخر لأحدهما ، أو لكليهما .

-----------------

الشيعة ما كانوا يفهمون التقيّة عن غير التقيّة ، ولذا كان الرواة يقولون أحيانا : أعطاه من جراب النورة ، ويقصدون بذلك انّ الإمام عليه السلام أجابه بما فيه التقيّة ، ولعلّ المصنّف أراد هنا من قوله : « فيدخل في قوله عليه السلام : أنتم أفقه الناس » انّ الجمع بين الظاهر والأظهر أو النصّ ، داخل في ملاك هذا الحديث ، وإلاّ فظاهر هذا الحديث هو الجمع بين ما صدر عنهم لبيان الواقع ، وما صدر عنهم لبيان جهة التقيّة كما عرفت .

( و ) لكان يدخل أيضا في ( قوله عليه السلام : إنّ في كلامنا محكما ومتشابها ، فردّوا متشابهها إلى محكمها ) (1) وهذا أيضا من باب الملاك ، وإلاّ فالعام ونحوه ليس من المتشابه كما ألمعنا إلى ذلك سابقا.

هذا ( ولا يدخل ذلك ) أي : ما أمكن فيه الجمع العرفي ( في مورد السؤال عن علاج المتعارضين ، بل مورد السؤال عن العلاج مختص بما إذا كان المتعارضان لو فرض صدورهما ، بل إقترانهما ) في كلام واحد ( تحيّر السائل فيهما ، و ) لم يعرف كيف يعمل معهما ، هل يعمل بهذا الخبر ، أو يعمل بذاك ؟ حيث انّه ( لم يظهر ) له ( المراد منهما إلاّ ببيان آخر لأحدهما ، أو لكليهما ) معا .

ص: 118


1- - عيون اخبار الرضا : ج1 ص290 ح39 ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33355 .

نعم ، قد يقع الكلام في ترجيح بعض الظواهر على بعض ، وتعيين الأظهر ،

-----------------

أمّا مثال ظهور المراد من المتعارضين ببيان آخر لأحدهما فقط ، فهو كما لو قال : « اغتسل للجمعة » ، ثمّ قال : « ينبغي غسل الجمعة » ، حيث يحتاج إلى بيان الإمام عليه السلام لأحدهما فقط ، وذلك بأن يقول - مثلاً - المراد من : «ينبغي» الوجوب ، أو المراد من : «اغتسل» الاستحباب ، وهو بيان آخر من الإمام لأحد المتعارضين فقط.

وأمّا مثال ظهور المراد من المتعارضين للسائل ببيان آخر لكلّ من المتعارضين معا ، فهو على ما تقدّم من مثال : « ثمن العذرة سحت » (1) مع « لا بأس ببيع العذرة » (2) فانّ السائل لا يعلم هل يعمل بهذا أو بذاك ؟ فيحتاج إلى أن يأتي بيان من إجماع وغيره فيهما معا ، وذلك بحمل عدم البأس على الطاهر منها - مثلاً - ووجود البأس على غير الطاهر منها ، وغير ذلك من بيان الاحتمالات الاُخرى في كلتا الروايتين معا.

( نعم ، قد يقع الكلام في ترجيح بعض الظواهر على بعض ، وتعيين الأظهر ) من الظاهر ، فانّ الكبرى يعني : وجوب الجمع العرفي وعدم الرجوع إلى أخبار العلاج فيما لو أمكن الجمع العرفي ، مسلّمة ، إلاّ انّه قد يقع الكلام أحيانا في الصغريات مثل : « إغتسل للجمعة » و « ينبغي غسل الجمعة » فيختلف في انّه هل « اغتسل » أظهر في الوجوب حتّى يحمل « ينبغي » عليه ، أو « ينبغي » أظهر في الاستحباب حتّى يُحمل « اغتسل » عليه ؟ .

ص: 119


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب20 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب2 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1و3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

وهذا خارجٌ عمّا نحن فيه .

وما ذكرناه ممّا لاخلاف فيه ، كما استظهره بعضُ مشايخنا المعاصرين ويشهد له ما يظهر من مذاهبهم في الاُصول وطريقتهم في الفروع .

نعم ، قد يظهر من عبارة الشيخ قدس سره ، في الاستبصار خلافُ ذلك ، بل يظهر منه أنّ الترجيح بالمرجّحات يلاحظ بين النصّ والظاهر ، فضلاً من الظاهر و الأظهر .

-----------------

( وهذا ) أي : وقوع الكلام في ترجيح بعض الظواهر على بعض ( خارج عمّا نحن فيه ) من الكبرى المسلّمة ( وما ذكرناه ) من تقديم الجمع العرفي على إعمال المرجّحات ( ممّا لا خلاف فيه ) أي : إنّ عليه الاجماع ( كما إستظهره ) أي : إستظهر الاجماع ونفي الخلاف ( بعض مشايخنا المعاصرين ) فالترجيح بقوّة الدلالة مقدّم على سائر وجوه التراجيح بلا خلاف .

( ويشهد له ) أي : لما ذكرنا من إختصاص أخبار العلاج بمورد لا يمكن فيه الجمع العرفي ( ما يظهر من مذاهبهم في الاُصول وطريقتهم في الفروع ) حيث نراهم يجمعون بين الأخبار بمثل هذا الجمع العرفي ، ولا يُعملون المرجّحات فيها .

( نعم ، قد يظهر من عبارة الشيخ قدس سره ، في الاستبصار خلاف ذلك ) الذي ذكرناه ، حيث انّه يظهر منه إعمال التراجيح بين العامّ والخاص ، وغير ذلك ( بل يظهر منه : إنّ الترجيح بالمرجّحات يلاحظ بين النصّ والظاهر ، فضلاً من الظاهر والأظهر ) يعني : إذا ورد - مثلاً - أكرم العلماء ، وورد أيضا لا تكرم زيدا ، فالأوّل : ظاهر ، والثاني : نصّ ، فانّه أعمل بينهما التراجيح ، لا انّه جمع بينهما بحمل العام على الخاصّ ، وإذا كان ذلك منه بالنسبة إلى الظاهر والنصّ ، فيكون ذلك منه

ص: 120

فإنّه قدس سره بعد ذكر حكم الخبر الخالي عمّا يعارضه قال : « و إن كان هناك ما يعارضه ، فينبغي أن ينظر في المتعارضين ، فيعمل على أعدل الرواة في الطريق .

وإن كانا سواءً في العدالة ، عمل بأكثر الرواة عدداً ، وإن كانا متساويين في العدالة والعدد ، وكانا عاريين عن القرائن التي ذكرناها ، ينظرُ .

فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العملُ بالآخر على بعض الوجوه ،

-----------------

بطريق أولى بالنسبة إلى الظاهر والأظهر ، مثل : اغتسل للجمعة ، وينبغي غسل الجمعة ، حيث انّ ينبغي أظهر في الاستحباب من اغتسل في الوجوب.

وعليه : ( فانّه قدس سره بعد ذكر حكم الخبر الخالي عمّا يعارضه قال : وإن كان هناك ما يعارضه ، فينبغي ) اُمور :

أوّلاً : ( أن ينظر في المتعارضين ) من حيث صفات الرواة ( فيعمل على أعدل الرواة في الطريق ) أي : الرواة الذين هم في طريق الرواية ، فإذا كان أحد الخبرين أعدل راويا من الخبر الآخر ، أخذ بالخبر الذي راويه أعدل.

ثانيا : ( وان كانا سواء في العدالة ) قال : نظر إلى أنه أيّهما مشهورا وأيّهما شاذّا ؟ ثمّ ( عمل بأكثر الرواة عددا ) أي : أخذ بالمشهور شهرة روائية وترك الشاذّ النادر .

ثالثا : ( وان كانا متساويين في العدالة والعدد ، وكانا عاريين عن القرائن التي ذكرناها ) من الموافقة للكتاب والسنّة والاجماع والعقل ، قال : ( ينظر ) إلى المرجّحات الدلالية وعدمها ، وحينئذ يأتي فيها الأقسام التالية :

القسم الأوّل : ( فان كان متى عمل بأحد الخبرين ) الذي هو نصّ ، أو أظهر - مثلاً - ( أمكن العمل بالآخر ) الذي هو ظاهر - مثلاً - وذلك (على بعض الوجوه)

ص: 121

وضرب من التأويل ، كان العملُ به أولى من العمل بالآخر الذي يحتاج العمل به إلى طرح الخبر الآخر ، لأنه يكون العامل به عاملاً بالخبرين معاً .

-----------------

كحمل الأمر على الاستحباب ، والعامّ على الخاص ، والمطلق على المقيّد ( وضرب من التأويل ) أي : بأن يؤول أمر الجمع بينهما إلى تخصيص العامّ ، أو تقييد المطلق ، أو ما أشبه ، فانّه إذا أمكن ذلك ( كان العمل به ) أي : بأحد الخبرين النصّ ، أو الأظهر ( أولى من العمل بالآخر ) أي : بالخبر الظاهر ( الذي يحتاج العمل به ) أي : بالخبر الظاهر ( إلى طرح الخبر الآخر ) الذي هو نصّ أو أظهر ، فانّه إذا عملنا - مثلاً - بأكرم كلّ عالم الذي هو ظاهر يجب أن نطرح لا تكرم زيدا الذي هو نصّ.

وإنّما يكون العمل بالنصّ أو الأظهر أولى ( لأنّه يكون العامل به عاملاً بالخبرين معا ) بينما العامل بالظاهر يكون عاملاً به فقط ، لأنّ العمل بالظاهر مستلزم لطرح النصّ أو الأظهر.

وعليه : فانّ المصنّف قد إستظهر من كلام الشيخ انّه يرى الجمع بين العامّ والخاص ، وما أشبه ذلك بحاجة إلى الرجوع إلى أخبار العلاج ، وذلك لأنّه قال قبل أسطر : « وان كان هناك ما يعارضه . . . » إلى آخر كلامه ممّا يظهر منه انّه أدرج الظاهر والأظهر ، وكذا النصّ والظاهر في المتعارضين ، ولكن يبدو إنّ إشكال المصنّف على الشيخ غير وارد ، وذلك لأنّ من يرى كلامه هذا وكلامه الذي يأتي بعده ، ممّا جعل المصنّف التناقض بينهما ، يرى انّ كلامه هذا في الأعمّ من التعارض الحقيقي ، ممّا يشمل التعارض البدوي الموجود بين الظاهر والأظهر ، أو الظاهر والنصّ - مثلاً - بينما كلامه الثاني الذي يأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى هو في خصوص التعارض الحقيقي فقط ، فلا تهافت إذن بين كلاميه .

ص: 122

وإن كان الخبران يمكنُ العملُ بكلّ منهما ، كما في العموم من وجه ، وحملُ الآخر على بعض الوجوه من التأويل ، وكان لأحد التأويلين خبر يعضده أو يشهد به على بعض الوجوه صريحاً أو تلويحا لفظاً أو منطوقا

-----------------

القسم الثاني من التقسيم الثالث لكلام الشيخ هو ما أشار إليه بقوله : ( وإن كان الخبران ) المتعارضان ( يمكن العمل بكلّ منهما ، كما في العموم من وجه ، و ) أيضا بعد إنتخاب العمل بأحدهما يمكن ( حمل الآخر على بعض الوجوه من التأويل ) كما إذا ورد - مثلاً - « أكرم العلماء » ، وورد أيضا « لا تكرم الفسّاق » ، فانّ في مورد الاجتماع وهو : العالم الفاسق ، يمكن إكرامه لورود أكرم العلماء ، وحمل لا تكرم الفسّاق على الفاسق الجاهل ، ويمكن عدم إكرامه لورود لا تكرم الفسّاق وحمل أكرم العلماء على العالم العادل ، فبأي منهما عملنا ، حملنا الآخر على وجه من التأويل.

( و ) إنّما نحمل الآخر على بعض الوجوه إن ( كان لأحد التأويلين خبر يعضده ) كما لو ورد هناك خبر ثالث يقول : بأنّ إكرام العلماء العدول واجب ، ممّا يظهر منه انّه لا يريد إكرام العالم الفاسق ، أو يقول : بأنّ العالم مهما كان يجب إكرامه ، ممّا يظهر منه انّه يريد إكرام العالم الفاسق.

هذا ان كان هناك خبر يعضد أحدهما (أو يشهد به على بعض الوجوه) وبعض الوجوه قد يكون ( صريحا ) كما إذا ورد : لا تكرم العالم الطالب للرئاسة لأنّه فاسق ، فانّه شاهد صريح على إرادة إكرام العالم العادل فقط ، دون العالم الفاسق .

( أو تلويحا ) وفي قِبال التصريح ، ويكون التلويح غالبا بالدلالة الالتزامية سواء كان ( لفظا ) كما إذا ورد : انّ المؤمن يكرم العالم العادل ، حيث انّه يشهد بالملازمة على انّ العالم الفاسق لا يكرم ( أو منطوقا ) والظاهر انّه أراد به المفهوم

ص: 123

أو دليل الخطاب ، وكان الآخر عارياً عن ذلك ، كان العملُ به أولى من العمل بما لا شاهد له شيء من الأخبار .

وإذا لم يشهد لأحد التأويلين شاهد آخر ، وكانا متحاذيين ، كان مخيّراً في العمل بأيّهما » ، انتهى موضع الحاجة .

وقال في العدّة :

-----------------

الموافق ، كما إذا ورد : العالم الذي لا يراعي المروّة لا يكرم حيث انّه يشهد بالأولوية على إرادة عدم اكرام العالم الفاسق ( أو دليل الخطاب ) والظاهر انّه أراد به المفهوم المخالف ، كما إذا ورد : « إنّ حرمة العالم بتقواه ، وإلاّ فهو وإبليس سواء» ، حيث انّه يدلّ على انّه لا حرمة للعالم الفاسق ممّا يشهد على انّ الفاسق لا يكرم .

وعليه : فإذا كان لأحدهما خبر يعضده ، أو يشهد له ( وكان الآخر عاريا عن ذلك ) أي : عن الشاهد والمعاضد ( كان العمل به ) أي : بما له شاهد أو معاضد ( أولى من العمل بما لا شاهد له شيء من الأخبار ) والمراد بالأولوية هنا الأولوية التعيينيّة ، لا الأولوية التفضيليّة كما هو واضح.

القسم الثالث من التقسيم الثالث للشيخ هو ما أشار إليه بقوله : ( وإذا لم يشهد لأحد التأويلين ) في كلّ من الخبرين كما لو أعطينا العالم الفاسق في المثال أكرم العلماء ، أو أعطيناه للا تكرم الفسّاق ( شاهد آخر ، و ) لا خبر آخر يعضده ، بل ( كانا متحاذيين ) ومتكافئين ( كان ) المكلّف حينئذ ( مخيّرا في العمل بأيّهما ) شاء ( انتهى موضع الحاجة ) من كلام شيخ الطائفة في الاستبصار .

( وقال ) شيخ الطائفة أيضا ( في العدّة ) ما يدلّ على انّه يرى التعارض بين مثل

ص: 124

« وأمّا الأخبار إذا تعارضت و تقابلت ، فإنّه يحتاج في العمل ببعضها إلى ترجيح ، والترجيحُ يكون بأشياء منها : أن يكون أحدُ الخبرين موافقاً للكتاب أو السنّة المقطوع بها ، والآخر مخالفاً ، فإنّه يجب العملُ بما وافقهما وترك ما يخالفهما ، وكذلك إن وافق أحدُهما إجماعُ الفرقة المحقّة ، والآخر يخالفه ، وجب العملُ بما يوافقه وترك ما يخالفهم .

-----------------

العام والخاص وما أشبه ذلك أيضا ، فيكون كلامه في العدّة موافقا لكلامه في الاستبصار قال : ( وأمّا الأخبارُ إذا تعارضت وتقابلت ، فانّه يحتاج في العمل ببعضها إلى ترجيح ) له على الطرف الآخر ، فيؤخذ بالراجح ويترك المرجوح ( والترجيح يكون بأشياء ) على النحو التالي :

أوّلاً : ( منها : أن يكون أحد الخبرين موافقا للكتاب أو السنّة المقطوع بها ) أي :

موافقا أوّلاً للكتاب ، ثمّ موافقا لما ثبت انّه من سنّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، أو الأئمّة الطاهرين صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين ، وذلك لأنّ سنّته وسنّتهم واحدة ( والآخر مخالفا ) أي : للكتاب والسنّة ( فانّه يجب العمل بما وافقهما وترك ما يخالفهما ) أي : ما يخالف الكتاب والسنّة .

( وكذلك إن وافق أحدهما إجماع الفرقة المحقّة ) أي : الشيعة ، وذلك لأنّهم أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام ، ومن أولى برسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وسنّته من أهل بيته عليهم السلام وأولى بالاتّباع منهم عليهم السلام ؟ فإذا كان أحدهما موافقا ( والآخر يخالفه ) أي : يخالف هذا الاجماع ، ( وجب العمل بما يوافقه ) أي : يوافق هذا الاجماع ( وترك ما يخالفهم ) وهنا لم يذكر شيخ الطائفة ما يوافق العقل وما يخالفه وهو الدليل الرابع ، لأنّه لا يمكن أن يكون هناك خبران معتبران أحدهما ما يخالف العقل مخالفة صريحة ، إذ لم يوجد في الأخبار المعتبرة مثل هذا الشيء .

ص: 125

فإن لم يكن مع أحد الخبرين شيء من ذلك وكانت فتيا الطائفة مختلفة ، نظر في حال رواتهما فإن كان رواته عدلاً وجب العمل به ، وترك غير العدل ، وسنبيّن القول في العدالة المرعيّة في هذا الباب .

فإن كان رواتهما جميعاً عدلين ، نظر في أكثرهما رواة ، وعمل به ، وترك العمل بقليل الرواة ، فإنّ كان رواتُهما متساويين في العدد والعدالة ، عُمل بأبعدهما من قول العامّة ، وترك العمل بما يوافقهم .

-----------------

ثانيا : ( فإنّ لم يكن مع أحد الخبرين شيء من ذلك ) من موافقة الكتاب ، أو السنّة ، أو الاجماع ( وكانت فتيا الطائفة مختلفة ، نظر في حال رواتهما ) أي : رواة الروايتين ( فإن كان ) فقط واحد من ( رواتهما عدلاً ) والظاهر انّ المراد بالعدل : أعمّ من الثقة لقوله عليه السلام : « لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا » (1) ( وجب العمل به ، وترك غير العدل ، وسنبيّن ) إن شاء اللّه تعالى ( القول في العدالة المرعيّة في هذا الباب ) أي : في باب حجيّة الخبر ، فانّ العدالة المرعيّة فيه أعمّ من العدالة المعتبرة في القاضي ، أو المرجع ، أو الشاهد ، وذلك لأنّها فيه أعمّ من العدالة والوثاقة على ما عرفت.

ثالثا : ( فان كان رواتهما جميعا عدلين ، نظر في أكثرهما رواة ) أي : ما كان مشهورا شهرة روائية ( وعمل به ، وترك العمل بقليل الرواة ) أي : بما كان شاذّا نادرا.

رابعا : ( فإن كان رواتُهما متساويين في العدد والعدالة ، عُمِلَ بأبعدهما من قول العامّة ، وتَركُ العملُ بما يوافقهم ) والظاهر : إنّ مراده من قوله : « بما يوافقهم »

ص: 126


1- - رجال الكشي : ص536 ، وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج27 ص150 ب11 ح33455 ، بحار الانوار : ج50 ص318 ب4 ح15 .

وإن كان الخبران موافقين للعامّة ، أو مخالفين لهم ، نُظِر في حالهما .

فإن كان متى عمل بأحد الخبرين ، أمكن العمل بالآخر على وجه من الوجوه و ضرب من التأويل ، وإذا عمل بالخبر الآخر لايمكن العملُ بهذا الخبر الاخر ، وجب العملُ بالخبر الذي يمكن مع العمل به ، العملُ بالخبر الآخر ، لأنّ الخبرين جميعاً منقولان مُجمعٌ على نقلهما ،

-----------------

ما هو أعمّ من الموافقة الحقيقيّة ، والموافقة الميليّة ، وذلك لما تقدّم في بعض الأخبار من قولهم عليهم السلام : « ينظر إلى ما هم أميل إليه حكّامهم وقضاتهم فيترك » (1).

خامسا : ( وإن كان الخبران موافقين للعامّة ، أو مخالفين لهم ، نُظِرَ في حالهما ) أي : في حال الخبرين من حيث وجود المرجّح الدلالي وعدمه ، وهذا هو محلّ شاهد المصنّف من نقل هذا الكلام ، حيث جعل الشيخ الترجيح بالدلالة آخر الترجيحات وقال : ( فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على وجه من الوجوه وضرب من التأويل ، و ) قد تقدّم : إنّ معنى التأويل هنا ما يؤول إليه الجمع بين الكلامين من تخصيص العام ، وتقييد المطلق ، وما أشبه ذلك ، بينما ( إذا عمل بالخبر الآخر ) وهو العام - مثلاً - ( لا يمكن العمل بهذا الخبر الآخر ) وهو الخاص - مثلاً - وذلك لأنّا لو عملنا بالعام كان معناه : طرح الخاصّ ، إذا كان كذلك قال : ( وجب العملُ بالخبر الذي يمكن مع العملُ به ، العمل بالخبر الآخر ) فنعمل بالخاص في مورد الخصوصيّة ، وبالعام في مورد العموم ، وهكذا .

وإنّما يجب العمل بما يجمع بين الخبرين ( لأنّ الخبرين جميعا منقولان مُجمعٌ على نقلهما ) أي : انّه لا شكّ في نقلهما ، فالسند معتمد عليه ، وإنّما يكون

ص: 127


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

وليس هنا قرينة يدلّ على صحّة أحدهما ولا ما يرجّح أحدُهما على الآخر ، فينبغي أن يعمل بهما إذا أمكن ولايعمل بالخبر الذي إذا عمل به وجب اطراح العمل بالآخر ، وإن لم يمكن العملُ بهما جميعاً لتضادّهما ، و تنافيهما أو أمكن حملُ كلّ واحد منهما على ما يوافق الآخر على وجه كان الانسانُ

-----------------

التعارض في الدلالة ( وليس هنا قرينة يدلّ على صحّة أحدهما ) وبطلان الآخر حتّى يؤخذ بالصحيح ويترك الباطل ( ولا ما يرجّح أحدهما على الآخر ) لأنّ المفروض عدم المرجّح من كتاب أو سنّة أو إجماع أو مخالفة عامّة ( فينبغي أن يعملُ بهما إذا أمكن ) العمل بهما جميعا ، وذلك على ما عرفت ( ولا يعمل بالخبر الذي إذا عمل به وجب إطراح العمل بالآخر ) وذلك لأنّ معناه طرح الخبر الذي هو حجّة من دون مبرّر للطرح .

هذا ، إن أمكن العمل بالخبرين جميعا بالجمع الدلالي ( وإن لم يمكن العمل بهما جميعا ) لعدم الجمع الدلالي العرفي بينهما ، وذلك ( لتضادّهما ، وتنافيهما ) أي تباينهما ، كما في مثال : « ثمن العذرة سحت » (1) و « لا بأس ببيع العذرة » (2) ( أو أمكن حمل كلّ واحد منهما على ما يوافق الآخر على وجه ) من التأويل ، وذلك كما في مثال العامّين من وجه في مورد الاجتماع منهما ، حيث يمكن أن نعطي العالم الفاسق لأكرم العلماء ، أو نعطيه للا تكرم الفسّاق ، ومعه ( كان الانسان

ص: 128


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1و3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

مخيّراً في العمل بأيّهما شاء » ، انتهى .

وهذا كلّه - كما ترى - يشملُ حتى تعارض العامّ والخاص مع الاتفاق فيه على الأخذ بالنصّ ، وقد صرّح في العدّة في باب بناء العامّ على الخاصّ : بأنّ الرجوع إلى الترجيح والتخيير إنّما هو في تعارض العامّين دون العامّ والخاصّ ، بل لم يجعلهما من المتعارضين أصلاً ، واستدلّ على العمل بالخاصّ ، بما حاصله :

-----------------

مخيّرا في العمل بأيّهما شاء ) (1) فإذا شاء أكرم العالم الفاسق ، وإذا شاء لم يكرمه ( إنتهى ) كلام الشيخ في العدّة .

قال المصنّف : ( وهذا كلّه ) الذي ذكرناه من كلام شيخ الطائفة في الاستبصار والعدّة ( - كما ترى - يشمل حتّى تعارض العام والخاص ) والمطلق والمقيّد ( مع الاتّفاق فيه على الأخذ بالنصّ ) والأظهر في قِبال الظاهر ، وذلك لما عرفت : من أنّ هذا هو المستفاد من الكلام عرفا.

هذا ( وقد صرّح في العدّة ) الشيخ أيضا لكن لا في باب التعادل والتراجيح ، بل ( في باب بناء العامّ على الخاص ) من مباحث الألفاظ قائلاً : ( بأنّ الرجوع إلى الترجيح والتخيير إنّما هو في تعارض العامّين ) من وجه ( دون العامّ والخاصّ ) المطلقين ( بل لم يجعلهما ) أي : العام والخاص ( من المتعارضين أصلاً ) وهذا الكلام من شيخ الطائفة بنظر المصنّف يتنافى مع كلامه في باب التعادل والتراجيح من الاستبصار والعدّة.

ثمّ قال المصنّف عن الشيخ : ( واستدلّ على العمل بالخاص ، بما حاصله :

ص: 129


1- - عدة الاصول : ص60 .

إنّ العمل بالخاصّ ليس طرحاً للعامّ ، بل حمله على ما يمكن أن يريده الحكيمُ ، وأنّ العمل بالترجيح و التخيير فرعُ للتعارض الذي لا يجري فيه الجمع .

وهو مناقض صريح لما ذكره هنا من أنّ الجمع من جهة عدم ما يرجّح أحدهما على الآخر .

وقد يظهر ما في العدّة من كلام بعض

-----------------

إنّ العمل بالخاص ليس طرحا للعامّ ، بل حمله على ما يمكن أن يريده الحكيم ) إذ قد يريد الحكيم من مثل : أكرم العلماء ، إكرام جميعهم ما عدا الفاسق منهم ، وذلك صحيح فيما إذا قال : أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق منهم ، بينما العمل بالترجيح ، أو التخيير ، فيهما ليس كذلك ، كما قال : ( وانّ العمل بالترجيح والتخيير فرعُ للتعارض الذي لا يجري فيه الجمع ) الدلالي العرفي.

ثمّ انّ المصنّف عقّب كلام الشيخ بقوله : ( وهو ) أي : كلام شيخ الطائفة في باب بناء العام على الخاص من العدّة ( مناقض صريح لما ذكره هنا ) في باب التعادل والتراجيح لكتابي : الاستبصار والعدّة ( من ) قوله فيهما : ( انّ الجمع ) الدلالي العرفي إنّما يكون ( من جهة عدم ) وجود ( ما يرجّح أحدهما على الآخر ) يعني : مع وجوده لا تصل النوبة إلى الترجيح بالدلالة ، ولكنّك قد عرفت : انّه لا تناقض بين الكلامين ، فانّ كلام الشيخ في باب التعادل والتراجيح من كتابي الاستبصار والعدّة كان في عموم المعارضة ، سواء كانت بدويّة أو حقيقيّة ، بينما كلامه في باب بناء العام على الخاص من كتاب العدّة إنّما هو في خصوص المعارضة الحقيقيّة .

هذا ( وقد يظهر ما ) أي : المعنى الذي ذكره الشيخ ( في العدّة من كلام بعض

ص: 130

المحدّثين ، أنكر حمل الخبر الظاهر في الوجوب أو التحريم على الاستحباب أو الكراهة ، لمعارضته خبر الرخصة ، زاعماً أنّه طريقُ جمع لا إشارة إليه في أخبار الباب ، بل ظاهرُها تعيّن الرجوع إلى المرجّحات المقرّرة .

-----------------

المحدّثين ) أيضا ، حيث انّ هذا المحدّث جعل العامّ والخاص ، والمطلق والمقيّد ، وما أشبه ذلك ، من المعارضة المحتاجة إلى المرجّحات المذكورة في الروايات ، ولذا ( أنكر حمل الخبر الظاهر في الوجوب أو التحريم على الاستحباب أو الكراهة لمعارضته خبر الرخصة ) فلم يقدّم خبر الرخصة على الوجوب حين تعارضهما ، مع انّهما من الجمع الدلالي الذي يراه العرف بلا توقّف ، وذلك لأنّ الرخصة والجواز نصّ ، بينما الوجوب والتحريم ظاهر ، وكثيرا ما يطلق في الروايات الوجوب على الاستحباب الأكيد مثل ما ورد : « من انّ زيارة الإمام الحسين عليه السلام واجبة » ، وكثيرا ما يطلق التحريم في الروايات على الكراهة الأكيدة مثل ما ورد : « من انّ لحم الحمار حرام » .

وإنّما لم يحمل هذا المحدّث الظاهر على النصّ أو الأظهر ( زاعما انّه ) أي : الجمع بين الظاهر والأظهر ، أو النصّ والظاهر ، هو ( طريقُ جمع لا إشارة إليه في أخبار الباب ، بل ظاهرُها ) أي : ظاهر أخبار الباب بزعمه : ( تعيّن الرجوع إلى المرجّحات المقرّرة ) فيها من موافقة الكتاب ، أو السنّة القطعيّة ، أو مخالفة العامّة ، أو الأصدقيّة ، أو ما أشبه ذلك ممّا لا ربط له بالجمع الدلالي العرفي ، بينما قد عرفت انّه لا تعارض حقيقة بين العام والخاص ، والظاهر والأظهر ، والنصّ والظاهر ، فلا وجه للعمل بأخبار الترجيح في هذا النوع من التعارض البدوي الذي له جمع دلالي عرفي ، بل قد ذكرنا سابقا : إنّ في الروايات إشارة إلى مثل هذا

ص: 131

وربّما يلوح هذا أيضاً من كلام المحقّق القمّي ، في باب بناء العامّ على الخاصّ ، فإنّه بعدما حكم بوجوب البناء ، قال : « وقد يستشكل بأنّ الأخبار قد وردت في تقديم ما هو مخالف للعامّة ، أو موافق للكتاب ، أو نحو ذلك .

وهو يقتضي تقديم العامّ لو كان هو الموافق للكتاب ، أو المخالف للعامّة ، أو نحو ذلك .

وفيه :

-----------------

الجمع أيضا ، حيث انّه ورد في الروايات بالنسبة إلى القرآن الحكيم وكذلك السنّة القطعيّة : بأنّ فيهما عامّا وخاصّا ، ومطلقا ومقيّدا ، ومجملاً ومبيّنا ، ومحكما ومتشابها ، وغير ذلك ممّا يكشف عن أنّ ما ذكره هذا المحدّث غير تامّ.

( وربّما يلوح هذا ) المعنى الذي ذكره الشيخ : من تقديم سائر المرجّحات على الجمع الدلالي ( أيضا من كلام المحقّق القمّي ) وذلك ( في باب بناء العام على الخاص ) حيث انّه يجب الجمع بينهما بحمل العام على الخاص ، وإخراج الفرد الخاص عن حكم العام والعمل بالعام في سائر أفراده ( فانّه بعد ما حكم بوجوب البناء ) أي : بناء العام على الخاص ( قال : وقد يستشكل بأنّ الأخبار قد وردت في تقديم ما هو مخالف للعامّة ، أو موافق للكتاب ، أو نحو ذلك ) كالموافقة للشهرة ، أو السنّة القطعيّة ، أو ما أشبه ذلك ( وهو يقتضي تقديم العام لو كان ) العام - مثلاً - ( هو الموافق للكتاب ، أو المخالف للعامّة ، أو نحو ذلك ) لا تقديم الخاص ، ومعه فكيف تقولون بتقديم الخاص على العام دائما ؟ مع انّ اللازم ملاحظة انّ أيّا من العام والخاص يوافق الكتاب أو السنّة ، فيؤخذ به ، وهكذا بالنسبة إلى سائر المرجّحات .

ثمّ إنّ المحقّق المذكور أجاب عمّا أورده على نفسه من الاشكال بقوله : ( وفيه:

ص: 132

إنّ البحث منعقد لملاحظة العامّ و الخاصّ من حيث العموم و الخصوص ، لا بالنظر إلى المرجّحات الخارجيّة ، إذن قد يصير التجوّز في الخاصّ أولى من التخصيص في العامّ من جهة مرجّح خارجي وهو خارج عن المتنازع » ، انتهى .

-----------------

إنّ البحث منعقد لملاحظة العام والخاص من حيث العموم والخصوص ، لا بالنظر إلى المرجّحات الخارجيّة ) يعني : إنّ العام والخاص يلاحظ فيهما ملاحظتان : فقد يلاحظ جهة العموم والخصوص وبهذه الملاحظة يكون الخاص مقدّما على العام بالجمع الدلالي ، وقد يلاحظ جهة وجود المرجّحات الخارجية في العام أو في الخاص ، وبهذا اللحاظ نأخذ بالعام تارةً ونطرح الخاص ، ونأخذ بالخاص تارةً ونطرح العام ، بالنسبة إلى هذا الفرد الخاص ، ومن تقريره لهذا اللحاظ يظهر تقديمه المرجّحات على المرجّح الدلالي لقوله : ( إذن ) بالنظر إلى المرجّحات الخارجيّة ( قد يصير التجوّز في الخاص أولى من التخصيص في العامّ ) أولوية ( من جهة مرجّح خارجي ) .

مثلاً : لو قال المولى : لا بأس باكرام العالم ، وقال أيضا : لا تكرم زيدا ، وكان هناك دليل خارجي على انّ لا تكرم محمول على الكراهة ، لا التحريم الذي هو ظاهره ، فلا يكون لا تكرم تخصيصا ، وإنّما يتصرّف في الخاص بالمجازية ، ويكون لا بأس هو المحكّم حتّى في زيد ، فيكون إكرام زيد لا بأس به ( وهو ) أي: البحث في العام والخاص باللحاظ الثاني يعني بالنظر إلى المرجّحات الخارجيّة ، لا الداخلية ( خارج عن المتنازع (1) ) فيه ، إذ محلّ النزاع هو اللحاظ الأوّل ، لا اللحاظ الثاني ( انتهى ) كلام المحقّق القمّي .

ص: 133


1- - القوانين المحكمة : ج1 ص315 .

والتحقيقُ : إنّ هذا كلّه خلافُ ما يقتضيه الدليل ؛ لأن الأصل في الخبرين الصدقُ و الحكم بصدورهما فيفرضان كالمتواترين ، ولامانع عن فرض صدورهما حتى يحصل التعارضُ ، ولهذا لايطرح الخبر الواحد الخاصّ بمعارضة العامّ المتواتر .

-----------------

قال المصنّف : ( والتحقيق ، إنّ هذا ) الذي يظهر من الشيخ ، والمحدّث ، والقمّي : من عدم تقديم الجمع الدلالي على الجمع الترجيحي بسبب أخبار العلاج ( كلّه خلاف ما يقتضيه الدليل ) الدالّ على حجيّة الخبرين ، وذلك ( لأنّ الأصل في الخبرين ) علما بأنّ المراد من الاصل هنا هو : مقتضى شمول أدلّة الحجيّة لكلّ من الخبرين : العام والخاص ، والمطلق والمقيّد ، وما أشبه ذلك ، فانّ مقتضاه هو : ( الصدق والحكم بصدورهما ) من المولى ( فيُفرضان كالمتواترين ) في وجوب الجمع الدلالي بينهما مع الامكان .

إن قلت : إنّ الخبرين المتعارضين إذا لم يمكن جمعهما جمعا عرفيّا ، لا يمكن فرض صدورهما ، لأنّه يستلزم صدور المتنافيين من الشارع الحكيم وهو محال .

قلت : لا تعارض بين النصّ والأظهر مع الظاهر حتّى يكون مانعا عن فرض صدورهما كما قال : ( ولا مانع عن فرض صدورهما حتّى يحصل التعارضُ ) بينهما ، وذلك لإمكان الجمع العرفي بينهما ، بحمل العام على الخاص ، والمطلق على المقيّد ، والمجمل على المبيّن ، والمتشابه على المحكم.

( ولهذا ) أي : لأجل انّه لا مانع من فرض صدورهما لإمكان الجمع الدلالي بينهما وتقدّمه على إعمال المرجّحات ( لا يطرح الخبر الواحد الخاص بمعارضة العامّ المتواتر ) فانّ التواتر لا يوجب ترجيح العام على الخاص ، حتّى يُطرح الخاص ويؤخذ بالعام المتواتر ، بل يُجمع بينهما ، فيخصّص العام المتواتر بسبب

ص: 134

وإن شئت قلت : إنّ مرجع التعارض بين النصّ والظاهر إلى التعارض بين أصالة الحقيقة في الظاهر ودليل حجيّة النصّ ، ومن المعلوم ارتفاعُ الأصل بالدليل .

-----------------

الخبر الخاص الذي هو حجّة وإن كان خبرا واحدا.

( وإن شئت قلت ) في بيان تقدّم الجمع الدلالي على جمع التعارض والعلاج : ( إنّ مرجع التعارض بين النصّ والظاهر ) مثل « أكرم العلماء » ، و « لا تكرم زيدا »، حيث إنّ « أكرم العلماء » ظاهر في زيد ، و « لا تكرم زيدا » نصّ في زيد ( إلى التعارض بين أصالة الحقيقة في الظاهر ) حيث إنّ أصالة الحقيقة تقتضي شمول «أكرم العلماء» لكلّ العلماء حتّى زيد ( ودليل حجيّة النصّ ) فانّ الدليل الذي يدلّ على حجيّة لا تكرم زيدا يقول : بأنّه يجب أن لا يُكرم زيد ، فيتعارضان.

( ومن المعلوم ) ثبوت ( إرتفاع الأصل ) اللفظي وهو أصالة الحقيقة ( بالدليل ) الدالّ على حجيّة النصّ ، فانّ أصالة الحقيقة بالنسبة إلى أكرم العلماء ترتفع بسبب ما دلّ على حجيّة النصّ ، فلا يُكرم زيد ويُكرم سائر العلماء .

وإنّما يرتفع الأصل بالدليل ، لأنّ الأمر هنا يدور بين التعبّد بظهور الظاهر ، الذي هو : اكرام كلّ عالم حتّى زيد ، وطرح سند النصّ الذي هو : لا تكرم زيدا ، وبين العكس يعني : التعبّد بسند النص وطرح ظهور الظاهر ، لكن حيث انّ التعبّد بظهور الظاهر مشروط بعدم القرينة الصارفة ، فإذا إرتفع الشرط بوجود ما يصلح قرينة صارفة عن ظهور الظاهر وهو : النصّ إرتفع المشروط وهو : التعبّد بالظهور ، فيكون دليل التعبّد بسند النصّ حاكما على دليل التعبّد بظهور الظاهر ، وهذا معنى ما ذكره المصنّف : من إرتفاع الأصل بالدليل ، فيؤخذ بسند كليهما ويجمع بينهما بحمل الظاهر على النصّ ، ويقال : بأنّ المراد من العلماء هو غير زيد .

ص: 135

وكذا الكلام في الظاهر والأظهر ، فإنّ دليل حجيّة الأظهر يجعله قرينةً صارفةً عن إرادة الظاهر ، ولا يمكن طرحهُ لأجل أصالة الظهور ولا طرحُ ظهوره لظهور الظاهر .

فتعيّن العملُ به وتأويل الظاهر به ، وقد تقدّم في إبطال الجمع بين الدليلين ما يوضّح ذلك .

-----------------

هذا هو الكلام في الظاهر والنصّ ( وكذا ) يكون ( الكلام في الظاهر والأظهر ) وذلك على ما تقدّم مثاله من ورود : « يجب غسل الجمعة » و « ينبغي غسل الجمعة » ، فانّه يمكن التصرّف في « يجب » بأن يراد به الاستحباب ، ويمكن التصرّف في « ينبغي » بأن يراد به الوجوب ، لكن « ينبغي » أظهر في مفاده الاستحبابي من « يجب » في مفاده اللزومي ، ولذا يُجمع بينهما ويُقال : باستحباب غسل الجمعة كما قال : ( فإنّ دليل حجيّة الأظهر ) الذي هو « ينبغي » في المثال ( يجعله قرينةً صارفةً عن إرادة الظاهر ) الذي هو « يجب » ( ولا يمكن طرحه ) أي : الأظهر ( لأجل أصالة الظهور ) في « يجب » ( ولا طرح ظهوره ) أي : ظهور الأظهر ( لظهور الظاهر ) .

إذن : فظهور قوله : « يجب » لا يطرح سند « ينبغي » ولا دلالته ، فأمّا انّه لا يطرح سنده فلأنّ سنده حجّة حسب الفرض ، وأمّا انّه لا يطرح دلالته فلأنّ دلالة «ينبغي» أظهر من دلالة « يجب » فيتصرّف في الظاهر الذي هو « يجب » بسبب الأظهر الذي هو « ينبغي » ممّا تكون النتيجة إستحباب غسل الجمعة.

وعلى هذا ( فتعيّن العمل به ) أي : بالأظهر ( وتأويل الظاهر به ) أي : بالأظهر ( وقد تقدّم في إبطال ) الكليّة التي ذكرها بعض حيث قال : بأنّ ( الجمع بين الدليلين ) مهما أمكن أولى من الطرح ( ما يوضّح ذلك ) الذي ذكرناه هنا : من انّ

ص: 136

نعم ، يبقى الاشكال في الظاهرين اللّذين يمكن التصرّف في كلّ واحد منهما بما يرفع منافاته لظاهر الآخر ، فيدور الأمر بين الترجيح من حيث السند وطرح المرجوح ، وبين الحكم بصدورهما وإرادة خلاف الظاهر في أحدهما ،

-----------------

الجمع إنّما يكون بين الظاهر والأظهر والنصّ والظاهر ، لا مطلق الجمع حتّى ولو كان جمعا تبرّعيا .

هذا هو تمام الكلام في الجمع الدلالي بين الظاهر والأظهر ، والظاهر والنصّ .

( نعم ، يبقى الاشكال في الظاهرين اللّذين يمكن التصرّف في كلّ واحد منهما بما ) أي : بتصرّف ( يرفع منافاته لظاهر الآخر ) وذلك بأن كانا ظاهرين متساويين بحيث لم يكن بينهما نصّ ولا أظهر ، وإنّما كانا من قبيل العامّين من وجه ، مثل : أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق ، في مورد الاجتماع الذي هو العالم الفاسق ، حيث يمكن أن يُعطى لأكرم العلماء ، كما يمكن أن يُعطى للا تكرم الفسّاق ويأوّل الآخر .

وعليه : ( فيدور الأمر ) فيهما ( بين الترجيح ) والأخذ بالراجح ( من حيث السند ) أي : التعبّد بسند الراجح من المتعارضين فقط ( وطرح المرجوح ) .

ومن الواضح : انّه إذا طرحنا سند أحدهما فلا يبقى مجال للدلالة ، وإنّما يكون الحكم بالنتيجة لأحد الظاهرين ( وبين الحكم بصدورهما ) أي : التعبّد بسندهما معا ( وإرادة خلاف الظاهر في أحدهما ) وذلك بأن يُقال : إنّ أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق ، كلاهما صادران عن المولى ، لكن في مورد الاجتماع وهو العالم الفاسق حيث لا يُعلم هل انّه يجب اكرامه أو يحرم إكرامه ، للعلم الاجمالي بانتفاء أحد الحكمين بالنسبة اليه ، يقال انّه مع التعبّد بالسندين يلزم الحكم بإرادة

ص: 137

فعلى ما ذكرنا - من أنّ دليل حجيّة المعارض ، لايجوز طرحُه لأجل أصالة الظهور في صاحبه ، بل الأمر بالعكس ، لأنّ الأصل لايزاحم الدليل - فيجبُ الحكمُ في المقام بالاجمال ، لتكافؤ أصالتي الحقيقة في كلّ منهما ، مع العلم إجمالاً بإرادة خلاف الظاهر من أحدهما ، فيتساقط الظهوران من الطرفين ، فيصيران مجملين بالنسبة إلى مورد التعارض ،

-----------------

خلاف الظاهر في إحدى الدلالتين .

( فعلى ما ذكرنا : من أنّ دليل حجيّة ) سند الخبر ( المعارض ، لا يجوز طرحه ) أي : طرح المعارض ، وذلك لأنّ دليل حجيّة الخبر الواحد يشمل كلاًّ من السندين ، ومعه فلا يجوز طرح المعارض ( لأجل أصالة الظهور في صاحبه ) أي : المعارض الآخر ( بل الأمر بالعكس ) وهو أن يؤخذ بسند المعارض الآخر أيضا ويطرح الظهور ، وذلك ( لأنّ الأصل ) أي : أصل الظهور ( لا يزاحم الدليل ) القائم على حجيّة السند ( فيجب الحكم في المقام ) أي : مقام تساوي ظهور الخبرين المتعارضين ( بالاجمال ) بمعنى : عدم العلم بأنّه هل يجب إكرام العالم الفاسق أو يحرم إكرامه ؟ .

وإنّما يحكم فيه بالاجمال ( لتكافؤ أصالتي الحقيقة في كلّ منهما ، مع العلم إجمالاً بإرادة خلاف الظاهر من أحدهما ) فانّا نعلم إجمالاً بإنتفاء أحدهما ، فامّا أنّ « لا تكرم الفسّاق » لا يشمل العالم الفاسق ، وإمّا انّ « أكرم العلماء » لا يشمل العالم الفاسق .

وعليه : ( فيتساقط الظهوران من الطرفين ) ظهور أكرم العلماء في العالم الفاسق ، وظهور لا تكرم الفسّاق في العالم الفاسق ، وإذا تساقطا ( فيصيران ) أي : الظهورين من الطرفين ( مجملين بالنسبة إلى مورد التعارض ) الذي هو العالم

ص: 138

فهما كظاهري مقطوعي الصدور ، أو ككلام واحد تصادم فيه ظاهران .

ويشكل بصدق التعارض بينهما عرفاً و دخولهما في الأخبار العلاجيّة ،

-----------------

الفاسق ( فهما ) أي : الظاهرانّ المذكوران يكونان حينئذ : ( كظاهري مقطوعي الصدور ) حيث إنّ السند فيهما قطعي ، فلا يمكن طرح السند ، وإنّما يوجب الاجمال في الدلالة ، كما إذا قطعنا بصدور : « أكرم العلماء » وصدور « لا تكرم الفسّاق » فانّه لا مجال لطرح السند ، وإنّما يحصل الاجمال في العالم الفاسق ، فلا يُعلم بأنّه هل المراد وجوب إكرامه حتّى لا يدخل إكرامه في لا تكرم الفساق ، أو المراد حرمة اكرامه حتى لا يدخل في أكرم العلماء .

( أو ) يكون الظاهران المذكوران حينئذ ( ككلام واحد تصادم فيه ظاهران ) : ظاهر أحدهما الوجوب ، وظاهر أحدهما الحرمة ، ولم يكن أحدهما قرينة على الآخر ، وذلك كما لو ورد - مثلاً - : « الجمعة لا يصلّيها إلاّ المعصوم أو من أذن له » حيث لا يُعلم أنّ في زمن الغيبة الذي نحن فيه هل تجب الجمعة ، لأنّ الفقيه الجامع للشرائط هو من أذن له بالإذن العامّ ، أو تحرم ، لأنّ ظاهر الاذن هنا هو الاذن الخاص لا العامّ ، ففي مثله نحكم بصدور الخبر وإجمال ظاهره .

لكن ( ويشكل ) ما ادّعيناه : من وجوب الجمع بين العامّين من وجه - مثلاً - والحكم بالاجمال في مورد الاجتماع الذي هو العالم الفاسق ، إشكالاً ( ب- ) سبب ( صِدق التعارض بينهما عرفا ) فإنّ العرف يرى انّ أحدهما معارض للآخر ( و ) لذا يرى العرف ( دخولهما في الأخبار العلاجيّة ) والحكم بلزوم طرح أحدهما والأخذ بالآخر .

وإنّما يرى العرف دخولهما في أخبار العلاج لأمرين :

ص: 139

إذ تخصيصُها بخصوص المتعارضين ، اللذين لايمكن الجمعُ بينهما إلاّ بإخراج كليهما عن ظاهريهما خلاف الظاهر ، مع أنّه لامحصّل للحكم بصدور الخبرين و التعبّد بكليهما ، لأجل أن يكون كلّ منهما سبباً لإجمال الآخر ، ويتوقف في العمل بهما ، فيرجع إلى الأصل ، إذ لا يترتّب - حينئذٍ - ثمرةٌ على الأمر بالعمل بهما .

-----------------

أوّلاً : ( إذ تخصيصها ) أي : أخبار العلاج ( بخصوص المتعارضين ، اللذين لا يمكن الجمع بينهما إلاّ بإخراج كليهما عن ظاهريهما ) كما في مثل : « ثمن العذرة سحت » (1) و « لا بأس ببيع العذرة » (2) ( خلاف الظاهر ) وذلك لأنّ الأخبار العلاجية عامّة ، فتشمل الجمع.

ثانيا : ( مع أنّه ) نقض للغرض ، إذ ( لا محصّل ) ولا معنى ( للحكم بصدور الخبرين والتعبّد بكليهما ) شرعا ( لأجل أن يكون كلّ منهما سببا لإجمال الآخر ) فأيّ فائدة من مثل هذا التعبّد ؟ إذ هو مثل أن يقول المولى : تعبّد بوجوب اكرام زيد العالم الفاسق ، وحرمة اكرام زيد العالم الفاسق ( و ) إذا صارا مجملين كما هو المفروض ، فيلزم ان ( يتوقّف في العمل بهما ، فيرجع إلى الأصل ) وذلك على ما مرّ تفصيله سابقا .

وإنّما لا فائدة في مثل هذا التعبّد ( إذ لا يترتّب - حينئذ - ثمرة على الأمر بالعمل بهما ) لأنّه يكون الحاصل من التعبّد بسندهما معا طرح التعبّد بالسند والدلالة فيهما جميعا .

ص: 140


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1و3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

نعم ، كلاهما دليل واحد على نفي الثالث كما في المتباينين - وهذا هو المتعيّن - ولذا استقرّت طريقة العلماء على ملاحظة المرجّحات السنديّة في مثل ذلك ، إلاّ أنّ اللازم من ذلك وجوبُ التخيير بينهما عند فقد المرجّحات ، كما هو ظاهر آخر عبارتي العدّة والاستبصار المتقدّمتين ،

-----------------

( نعم ، كلاهما دليل واحد على نفي الثالث ) فلا يكون إكرام العالم الفاسق - الدائر بين الوجوب والحرمة - مستحبّا ، ولا مكروها ، ولا مباحا ، وذلك ( كما في المتباينين ) حيث انّه لا يمكن التعبّد بصدورهما معا والحكم بإجمالهما حتّى وإن صار كلاهما دليلاً واحدا على نفي الثالث ، فانّهما وإن دلاّ حينئذ على نفي الثالث ، لا أنّ نفي الثالث فقط غيرُ كافٍ من جعل الشارع الحجيّة للخبر ، ومعه فلابدّ من ترك التعبّد بكليهما والرجوع فيهما إلى الأخبار العلاجية.

( وهذا ) أي : الرجوع في الظاهرين المتساويين إلى الأخبار العلاجية ، ووجوب ملاحظة قوّة السند ، أو الدلالة ، أو جهة الصدور ، أو ما أشبه ذلك فيهما ( هو المتعيّن ، ولذا استقرّت طريقة العلماء على ملاحظة المرجّحات السنديّة في مثل ذلك ) أي : في مثل تعارض الظاهرين المتساويين الذي ذكرناه .

( إلاّ أنّ اللازم من ذلك ) أي : من إرجاع مثل هذين الظاهرين إلى أخبار العلاج هو : ( وجوب التخيير بينهما ) ففي مثل : العالم الفاسق ، نحن مخيّرون بين أن نكرمه على سبيل الوجوب ، أو لا نكرمه على سبيل التحريم ، وذلك ( عند فقد المرجّحات ) المنصوصة في الأخبار ، فانّه لو كان هناك مرجّح في أحد الجانبين وجب تقديم ذي المزيّة على المرجوح ، فإذا لم يكن ترجيح في أحد الجانبين أو كان هناك ترجيحان متعارضان ، فاللازم القول بالتخيير ( كما هو ظاهر آخر عبارتي العدّة والاستبصار المتقدّمتين ) حيث قال الشيخ في الكتابين بالترجيح

ص: 141

كما أنّ اللاّزم على الأوّل التوقّفُ من أوّل الأمر والرجوعُ إلى الأصل ، إن لم يكن مخالفاً لهما ، وإلاّ فالتخييرُ من جهة العقل بناءا على القول به في دوران الأمر بين احتمالين مخالفين للأصل ، كالوجوب والحرمة .

وقد أشرنا سابقاً إلى أنّه قد يفصّل

-----------------

وبعد فقد المرجّحات قال : « كان الانسان مخيّرا في العمل بأيّهما شاء » .

( كما أنّ اللاّزم على الأوّل ) أي : على التعبّد بالسندين وإجمال الدلالة فيهما هو ( التوقّف من أوّل الأمر ) لا الرجوع إلى المرجّحات بمعنى : انّه يلزم التوقّف من حيث الفتوى ( والرجوعُ إلى الأصل ) من حيث العمل فيما ( إن لم يكن ) الأصل ( مخالفا لهما ) أي : للخبرين ، وذلك بأن لم يكونا من قبيل الوجوب والحرمة ، وإنّما كانا من قبيل الوجوب والاستحباب - مثلاً - كما في مثال : « اغتسل للجمعة » و « ينبغي غسل الجمعة » حيث يكون أصل البرائة موافقا لينبغي الظاهر في الاستحباب .

( وإلاّ ) بأن كان الأصل مخالفا لهما ( فالتخيير ) بينهما ، لكن تخييرا ( من جهة العقل ) فانّ العقل هنا يحكم بالتخيير ، وذلك ( بناءا على القول به ) أي : على القول بالتخيير ، لا على القول بالبرائة ( في دوران الأمر بين إحتمالين مخالفين للأصل ، كالوجوب والحرمة ) كما في مورد الاجتماع من مثال : أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق ، فانّ في هذا المورد يدور الأمر بين المحذورين ، لأنّا لا نعلم هل يجب إكرام العالم الفاسق ، أو يحرم إكرامه ؟ ومن المعلوم : انّ البرائة مخالفة لكل من الوجوب والحرمة ، فيرجع فيه إلى التخيير بين الاحتمالين تخييرا عقليّا ، لا تخييرا خبريّا شرعيّا .

هذا ( وقد أشرنا سابقا ) في بحث أولويّة الجمع من الطرح ( إلى أنّه قد يفصّل

ص: 142

في المسألة بين ما إذا كان لكلّ من المتعارضين موردٌ سليمٌ عن التعارض ، كما في العامّين من وجه ، حيث إنّ الرجوع إلى المرجّحات السنديّة فيهما على الاطلاق يوجب طرح الخبر المرجوح في مادّة الافتراق ، ولا وجه له ، والاقتصار في الترجيح بها في خصوص مادة الاجتماع ، التي هي محل المعارضة ، وطرح المرجوح بالنسبة إليهما مع العمل به في مادّة الافتراق

-----------------

في المسألة ) التي نحن فيها من تعارض الخبرين ولا جمع دلالي بينهما ولا ترجيح لأحدهما على الآخر ، وهذا ما يؤيّد الجمع في بعض الصور دون بعض ، وذلك بالتفصيل ( بين ما إذا كان لكلّ من المتعارضين موردٌ سليمٌ عن التعارض كما في العامين من وجه ، حيث إنّ ) العالم العادل مورد أكرم العلماء قطعا ، والفاسق الجاهل مورد لا تكرم الفسّاق قطعا ، ولا معارضة في هذين الموردين الذين هما مادّتي الافتراق ، وإنّما التعارض في مادّة الاجتماع فقط ومعه فلو بنينا على ( الرجوع إلى المرجّحات السندية فيهما ) أي : في مادّتي الافتراق ومادّة الاجتماع جميعا ( على الاطلاق ) أي : بلا تفصيل بين مادّتي الافتراق والاجتماع ، فانّ البناء على ذلك ( يوجب طرح الخبر المرجوح في مادّة الافتراق ، ولا وجه له ) لأنّ مادّتي الافتراق لا تعارض بينهما ، بينما ظاهر روايات الترجيح أنّ الطرح إنّما يكون في صورة المعارضة .

هذا إن بنينا على الرجوع إلى المرجّحات السندية في مادّتي الافتراق ومادّة الاجتماع جميعا ( و ) لو بنينا على ( الاقتصار في الترجيح بها ) أي بالمرجّحات ( في خصوص مادّة الاجتماع ، التي هي محل المعارضة ) والعمل بالراجح من أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق ( وطرح المرجوح بالنسبة إليهما ) أي : إلى مادّة الاجتماع فقط ( مع العمل به ) أي : بالمرجوح ( في مادّة الافتراق ) فانّ الاقتصار

ص: 143

بعيدٌ عن ظاهر الأخبار العلاجيّة .

وبين ما إذا لم يكن لهما مورد سليم ، مثل قوله : اغتسل للجمعة ، الظاهر في الوجوب ، و قوله : ينبغي غسل الجمعة ، الظاهر في الاستحباب ، فيطرح الخبرُ المرجوحُ رأساً ، لأجل بعض المرجّحات .

لكنّ الاستبعاد

-----------------

على بعض دون بعض ، الموجب للتبعيض في التعبّد بمضمون الخبر ( بعيد عن ظاهر الأخبار العلاجية ) إذ ظاهر أخبار العلاج هو : إمّا تقديم هذا الخبر ، أو تقديم ذلك الخبر ، لا أنّ نأخذ ببعض الخبر ونترك بعض الخبر .

والحاصل : انّه لو بنينا على الرجوع فيما كان لكلّ من المتعارضين مورد سليم عن التعارض كالعامين من وجه ، إلى المرجّحات السندية في مادّتي الافتراق ومادّة الاجتماع جميعا لم يكن له وجه كما عرفت ، ولو بيننا على الاقتصار في الترجيح بالمرجّحات في مادّة الاجتماع فقط كان بعيدا عن ظاهر أخبار العلاج على ما عرفت ، وإذا كان كذلك ، فاللازم هو الجمع لا الرجوع إلى المرجّحات .

إذن : فالتفصيل هو بين ما كان لكلّ من المتعارضين مورد سليم عن التعارض ، وقد عرفت حكمه ( وبين ما إذا لم يكن لهما مورد سليم ، مثل قوله : « اغتسل للجمعة » الظاهر في الوجوب ، وقوله : « ينبغي غسل الجمعة » الظاهر في الاستحباب ) فانّه يرجع في مثل ذلك إلى أخبار العلاج ( فيطرح الخبر المرجوح رأسا ) أي : مطلقا سندا ودلالة ، فلا يُعمل بسنده ولا بدلالته ، وذلك ( لأجل بعض المرجّحات ) التي ترجّح خبرا على خبر .

( لكن ) الذي يستظهر من الأخبار هو : الرجوع إلى أخبار العلاج في كِلا الفرضين : سواء كان هناك مورد سليم ، أو لم يكن مورد سليم ، لأنّ ( الاستبعاد

ص: 144

المذكور في الأخبار العلاجيّة إنّما هو من جهة أنّ بناء العرف في العمل بأخبارهم من حيث الظنّ بالصدور ، فلايمكن التبعّض في صدور العامّين من وجه ، من حيث مادة الافتراق و مادّة الاجتماع ، كما أشرنا سابقاً إلى أنّ الخبرين المتعارضين من هذا القبيل .

-----------------

المذكور في الأخبار العلاجيّة ) إستبعادا من المصنّف لأجل وقوع التبعيض في مضمون الخبر ، وذلك على ما ذكره المصنّف قبل قليل ، فانّ إستبعاده ذلك ( إنّما هو من جهة أنّ بناء العرف في العمل بأخبارهم ) العرفية كائن ( من حيث الظنّ بالصدور ) بمعنى : إنّ ملاك العمل بالخبر عند العرف هو الظنّ بصدق النسبة الخبرية ، ومعه ( فلا يمكن التبعّض في صدور العامّين من وجه ، من حيث مادّة الافتراق ومادّة الاجتماع ) .

وإنّما لا يمكن التّبعيض على المبنى العدمي ، لأنّ النسبة أمر إعتباري بسيط لا يقبل التبعيض بالصدق والكذب ، فاللازم أن يكون كلا الجزئين وهما : العالم الفاسق ، والجاهل الفاسق ، من لا تكرم الفسّاق صادقا أو كلاهما كاذبا ( كما أشرنا سابقا ) في الجمع بين البيّنات ( إلى أنّ الخبرين المتعارضين ) بالعموم من وجه على المبنى العرفي ( من هذا القبيل ) أي : من قبيل ما لا يمكن فيه التبعيض ، وذلك لأنّ الخبر بناءا على الطريقة العرفيّة ، امّا أن يكون طريقا أو لا يكون طريقا ، لا أن يكون نصفه طريقا ونصفه غير طريق .

والحاصل : إنّ إستبعاد طرح الخبر في جزء منه والأخذ بجزئه الآخر ، لا يمكن بالنسبة إلى الواقع ، لأنّه إمّا صادق أو كاذب واقعا ، فالتبعيض في مضمون الخبر إذن غير ممكن عرفا .

ص: 145

وأمّا إذا تعبّدنا الشارع بصدور الخبر الجامع للشرائط ، فلا مانع من تعبّده ببعض مضمون الخبر دون بعض .

وكيف كان ، فترك التفصيل أوجهُ منه ، وهو أوجهُ من إطلاق إهمال المرجّحات .

-----------------

هذا لو كان ملاك العمل بالخبر : الظنّ بالصدور الذي عليه بناء العرف ( وأمّا إذا تعبّدنا الشارع بصدور الخبر الجامع للشرائط ، فلا مانع من تعبّده ببعض مضمون الخبر دون بعض ) أي : لا مانع من أن يقول الشارع اعمل بالنسبة إلى : لا تكرم الفسّاق ، في مادّة الافتراق ولا تعمل به في مادّة الاجتماع ، وأن يقول : اعمل بالنسبة إلى : أكرم العلماء ، في مادّة الافتراق ، ولا تعمل به في مادّة الاجتماع ، فإذا تعارضا لزم الرجوع إلى الأخبار العلاجية وطرح المرجوح منهما والأخذ بالراجح .

( وكيف كان ) : فانّه سواء كان الاستبعاد الذي ذكره المصنّف هنا في محلّه أو لم يكن في محلّه ( فترك التفصيل ) بين مثال العامّين من وجه : أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق ، ومثال الظاهر والأظهر : اغتسل للجمعة ، وينبغي غسل الجمعة ، يكون ( أوجَهُ منه ) أي : من التفصيل بينهما ، لما تقدّم : من انّه لا معنى للتعبّد بهما والحكم بإجمالهما ثمّ الرجوع إلى الأصل ، إذ لا مانع من إعمال المرجّحات فيهما وإن أدّى إلى التبعيض في العامّين من وجه على ما عرفت .

ثمّ إنّه حيث تبيّن لك ذلك قلنا : ( وهو ) أي : التفصيل بين العامّين من وجه بعدم إعمال المرجّحات فيهما ، وبين الظاهر والأظهر بإعمال المرجّحات فيهما يكون ( أوجه من إطلاق إهمال المرجّحات ) إهمالاً كليّا ، وذلك لأنّ إعمال المرجّحات في العامّين من وجه قد يتوهّم بُعده على ما عرفت من المصنّف ،

ص: 146

وأمّا ما ذكرنا في وجهه ، من عدم جواز طرح دليل حجّية أحد الخبرين لأصالة ظهور الآخر ، فهو إنّما يحسنُ إذا كان ذلك الخبرُ بنفسه قرينة على خلاف الظاهر في الآخر ، و أمّا إذا كان محتاجاً إلى دليل ثالث

-----------------

بخلاف المرجّحات في الظاهر والأظهر مثل : « اغتسل الجمعة » و « ينبغي غسل الجمعة » .

( وأمّا ما ذكرنا في وجهه ) أي : في وجه إطلاق إهمال المرجّحات واللجوء إلى الجمع في مثال العامّين من وجه بالنسبة إلى مادّة الاجتماع منهما ، ومثال الظاهر والأظهر ، كما في : « اغتسل » و « ينبغي » المؤدّي إلى الاجمال في كلا الموردين الموجب للرجوع إلى الأصل ان كان هناك أصل يوافق أحدهما ، وإلاّ فإلى التخيير العقلي لا التخيير العلاجي السببي ، فانّ ما ذكر في وجهه : ( من عدم جواز طرح دليل حجيّة أحد الخبرين لأصالة ظهور الآخر ) وذلك لأنّ دليل حجيّة سند كلّ منهما مزاحم لدليل حجيّة ظاهر الآخر ، فإنّ معنى حجيّة سنديهما أن لا يؤخذ بظاهريهما المتعارضين ، ومعه فيحصل الاجمال في دلالتهما من غير فرق بين مثال الظاهر والأظهر ، وبين مثال مادّة الاجتماع في العامّين من وجه ، فانّ هذا الوجه لا يحسن في كلّ مكان .

وعليه : ( فهو ) أي : ما ذكر في وجه إهمال المرجّحات ووجوب الجمع ( إنّما يحسن إذا كان ذلك الخبر بنفسه قرينة على خلاف الظاهر في الآخر ) كما في النصّ والظاهر ، حيث إنّ الخبر النصّ بنفسه يكون قرينة على إرادة خلاف الظاهر من الخبر الآخر ، ففي هذه الصورة فقط يحسن إهمال المرجّحات واللجوء إلى الجمع الدلالي بينهما.

( وأمّا إذا كان ) الجمع بينهما والتصرّف في أحدهما ( محتاجا إلى دليل ثالث )

ص: 147

يوجب صرف أحدهما ، فحكمهما حكم الظاهرين المحتاجين في الجمع بينهما إلى شاهدين في أنّ العمل بكليهما مع تعارض ظاهريهما يُعَدُّ غير ممكن ،

-----------------

خارج من المتعارضين ، وذلك الدليل الثالث هو الذي ( يوجب صرف أحدهما ) عن ظاهره ، فانّه إذا كان كذلك ( فحكمهما حكم الظاهرين المحتاجين في الجمع بينهما إلى شاهدين ) أي : تصرفّين : تصرّف في هذا الظاهر ، وتصرّف في الظاهر الآخر ، وذلك كما لو دلّ الدليل الخارجي من إجماع ونحوه على جواز بيع العذرة الطاهرة ، وحرمة بيع العذرة النجسة في قوله : « ثمن العذرة سحت » (1) وقوله : « لابأس ببيع العذرة » (2) فانّه يكون حكمهما حينئذ حكم الظاهرين المتساويين ( في أنّ العمل بكليهما مع تعارض ظاهريهما يُعَدُّ غير ممكن ) فيلزم الرجوع في مثلها إلى المرجّحات رأسا.

والحاصل : إنّ سند كلّ من المتعارضين مزاحم لدلالة الآخر ، ومعه فان كان أحدهما المعيّن قرينة واضحة لصرف ظاهر الآخر ، كما في تعارض النصّ والظاهر - مثلاً - كان دليل حجيّة سند النصّ حاكما على دليل حجيّة ظهور الظاهر ، فيسقط ظهور الظاهر بسبب سند النصّ ، وأمّا إذا كان كلّ منهما يصلح لصرف الآخر عن ظاهره ، كما في تعارض العامّين من وجه بالنسبة إلى مادّة الاجتماع - مثلاً - فانّه حيث يحتاج تعيّن أحدهما للقرينيّة إلى دليل ثالث ، لا يكون دليل التعبّد بالسند في شيء منهما حاكما على دليل التعبّد بالظاهر في الآخر ،

ص: 148


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1و3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

فلابدّ من طرح أحدهما معيّناً للترجيح أو غير معيّن للتخيير ، ولايقاس حالهما على حال مقطوعي الصدور في الالتجاء إلى الجمع بينهما ، كما أشرنا إلى دفع ذلك عند الكلام في أولويّة الجمع على الطرح ،

-----------------

وإذا لم يكن شيء منهما حاكما على الآخر ( فلابدّ من ) الرجوع فيهما إلى أخبار العلاج المؤدّي إلى ( طرح أحدهما معيّنا للترجيح ) فيما إذا كان هناك مرجّح لأحدهما ( أو غير معيّن ) فيما إذا لم يكن ترجيح ، وإنّما ( للتخيير ) فيكون المكلّف مخيّرا بين أن يكرم العالم الفاسق أو لا يكرمه ، بمعنى : تخييره بين الوجوب والحرمة.

إن قلت : دليل حجيّة السند في كلّ من المتعارضين يجعل المتعارضين الظنيّين كمقطوعي الصدور حيث يجد الجمع بينهما ، لا طرح أحدهما .

قلت : ( ولا يُقاس حالهما ) أي : حال المتعارضين الظنّيين كما في مادّة الاجتماع من الخبرين الواحدين الذين دلّ أحدهما على أكرم العلماء ، والآخر على لا تكرم الفسّاق - مثلاً - ( على حال مقطوعي الصدور في الالتجاء إلى الجمع بينهما ) فانّه لو كان صدورهما مقطوعا فلابدّ فيهما من الجمع بين الظاهرين والحكم بالاجمال والرجوع إلى الأصل إذا كان هناك أصل موافق لأحدهما ، وإذا لم يكن هناك أصل موافق فالرجوع إلى التخيير العقلي ، وهذا بخلاف ما إذا لم يكن صدورهما مقطوعا ، بل مظنونا لأجل التعبّد بصدورهما كما هو مفروض بحثنا ، فانّه لاإضطرار فيه إلى الجمع ، وإنّما اللازم الرجوع إلى أخبار العلاج .

( كما أشرنا إلى دفع ذلك ) أي : إلى دفع التساوي بين مقطوعي الصدور ومظنوني الصدور ، وعدم صحّة قياس أحدهما على الآخر ( عند الكلام في أولويّة الجمع على الطرح ) فانّه قد تقدّم هناك : بأنّ القطع بالصدور في الخبرين

ص: 149

والمسألة محلّ إشكال .

وقد تلخّص ممّا ذكرنا : إنّ تقديم النصّ على الظاهر خارج عن مسألة الترجيح بحسب الدلالة إذ الظاهرُ لايعارضُ النصّ حتى يرجّح النصّ عليه .

نعم ، النصّ الظنّي السند يعارضُ دليل سنده لدليل حجيّة الظهور ، لكنّه حاكم على دليل اعتبار الظاهر ،

-----------------

قرينة على إرادة خلاف الظاهر منهما ، وأما فيما نحن فيه ، حيث لا قطع بالصدور ، فيكون التعبّد بالظاهر مزاحما للتعبّد بالسند ، فاللازم حينئذٍ مراجعة أخبار العلاج فيهما ، ( والمسألة ) بعدُ ( محلّ الاشكال ) فتحتاج إلى تأمّل وتحقيق .

هذا ( وقد تلخّص ممّا ذكرنا : إنّ تقديم النصّ على الظاهر خارج عن مسألة الترجيح بحسب الدلالة ) فلا ترجيح دلالي بينهما ( إذ الظاهر لا يعارض النصّ حتّى يرجّح النصّ عليه ) فانّ النصّ لا يحتمل الخلاف حتّى يقال بأنّه يرجّح أحدهما على الآخر.

( نعم ، النصّ الظنّي السند يعارض دليل سنده لدليل حجيّة الظهور ) فسند لا تكرم زيدا يعارض ظهور أكرم العلماء ( لكنّه ) أي : دليل سند النصّ في : لا تكرم زيدا ( حاكم على دليل إعتبار الظاهر ) في : أكرم العلماء ، وذلك لأنّ دليل سند الخاص يكون قرينة على صرف ظاهر العام عن ظهوره .

وبعبارة اُخرى : إنّ دليل حجيّة الظهور في العام معلّق على عدم العلم بالخلاف ، ودليل حجيّة سند النص في الخاص يجعل نصّ الخاص الصالح بنفسه للقرينيّة بمنزلة معلوم الصدور ، فيكون نصّ الخاص علما بالخلاف ، فيقدّم على ظهور العام بعنوان الحكومة.

ص: 150

فينحصر الترجيح بحسب الدلالة في تعارض الظاهر والأظهر ، نظراً إلى احتمال خلاف الظاهر في كلّ منهما بملاحظة نفسه ، غاية الأمر ترجيح الأظهر .

ولا فرق في الظاهر و النصّ بين العامّ و الخاصّ المطلقين ، إذا فرض عدم احتمال في الخاصّ يبقى معه ظهور

-----------------

إذن : ( فينحصر الترجيح بحسب الدلالة في تعارض الظاهر والأظهر ) فقط ، وذلك ( نظرا إلى إحتمال خلاف الظاهر في كلّ منهما بملاحظة نفسه ) أي : مع غضّ النظر عن ترجيح العرف للأظهر على الظاهر ، فان « ينبغي » يحتمل الوجوب ، كما انّ « اغتسل » يحتمل الاستحباب ( غاية الأمر ترجيح الأظهر ) على الظاهر بحسب الفهم العرفي ، فيقدّم « ينبغي » الأظهر في الاستحباب على « إغتسل » الظاهر في الوجوب ، وذلك لأنّ دليل حجيّة السند يجعل الأظهر الصالح للقرينيّة بسبب ترجيح العرف بمنزلة العلم بالخلاف ، فيكون حاكما على الظاهر ، كما ذكروا مثل ذلك في : رأيت أسدا يرمي ، حيث أن يرمي في مفاده أظهر من الأسد في مفاده ، فيكون يرمي الأظهر في رمي النبل ، قرينة على أنّ المراد من الأسد الرجل الشجاع لا العكس .

هذا ( ولا فرق في الظاهر والنصّ ) الظنّييّ السند بمعنى : العام والخاص اللذين يتمّ الجمع بينهما بالتصرّف في أحدهما لأجل الآخر بين أقسامه الثلاثة التالية :

القسم الأوّل : أن يكون العام ظاهرا والخاص نصّا ، كما قال المصنّف انّه لا فرق في الظاهر والنصّ ( بين العامّ والخاص المطلقين ) مثل : أكرم العلماء ، ولا تكرم زيدا ( إذا فرض عدم إحتمال في الخاص يبقى معه ظهور

ص: 151

العامّ ، ويدخل في تعارض الظاهرين ، أو تعارض الظاهر والأظهر .

وبين ما يكون التوجيهُ فيه قريباً ، وبين ما يكون التوجيه فيه بعيداً ،

-----------------

العامّ ، و ) ذلك لئلاّ ( يدخل في تعارض الظاهرين ، أو تعارض الظاهر والأظهر ) فانّ القسم الأوّل إذن من تعارض العام والخاص هو على ما عرفت أن يكون : العام ظاهرا ، والخاص نصبا ، كالمثال المتقدّم ، حيث يقدّم الخاص على العام قطعا .

القسم الثاني : أن يكون العام ظاهرا ، والخاص أظهر ، وذلك على ما أشار إليه المصنّف من أنّه لافرق في الظاهر و النص بين ما يكون العام فيه ظاهراً و الخاص نصا غير قابل للاحتمال والتوجيه رأسا على ما عرفت ( وبين ما يكون ) قابلاً للاحتمال والتوجيه ، لكن كان ( التوجيه فيه قريبا ) مثل : أكرم العلماء العدول ولا جناح في إكرام فسّاقهم ، حيث أنّ « لا جناح » الذي هو خاص ، أظهر من « أكرم » الذي هو عام ، فيتقدّم الخاص على العام ، ممّا يكون نتيجته : وجوب إكرام العلماء العدول ، وإستحباب إكرام العلماء الفسّاق ، وفرق هذا مع الأوّل الذي كان العام فيه ظاهرا ، والخاص نصّا هو : انّ النصّ لا يقبل الاحتمال والتوجيه ، بينما « لا جناح » هنا قابل للاحتمال والتوجيه إذ يمكن حمله على الوجوب وتوجيهه به ، كما في قوله تعالى : « فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة » (1) ، مع انّ قصر الصلاة واجب على المسافر ، وهذا التوجيه بنظر العرف توجيه قريب لأنّه يؤدّي إلى تخصيص العام وهو متعارف حتّى قيل : ما من عام إلاّ وقد خصّ .

القسم الثالث : أن يكون العام نصّا أو أظهر ، والخاص ظاهرا ، وذلك على ما أشار إليه المصنّف : من انّه لا فرق في الظاهر والنص بين ما يكون التوجيه فيه قريبا ، وهذا قد مضى مثاله وحكمه ( وبين ما يكون التوجيه فيه بعيدا

ص: 152


1- - سورة النساء : الآية 101 .

مثل صيغة الوجوب مع دليل نفي البأس عن الترك ، لأنّ العبرة بوجود احتمال في أحد الدليلين لايحتمل ذلك في الآخر ، وإن كان ذلك الاحتمال بعيداً في الغاية ، لأنّ مقتضى الجمع بين العامّ والخاصّ بعينه موجود فيه .

-----------------

مثل : صيغة الوجوب مع دليل نفي البأس عن الترك ) كما إذا قال : يجب إكرام العلماء ، وقال : لا بأس بترك إكرام الفاسق ، فانّ « يجب » نصّ أو أظهر في الوجوب ، من « لا بأس » في الجواز ، فيتقدّم النصّ أو الأظهر وهو العام على الظاهر وهو الخاص ، ممّا يكون نتيجته : وجوب إكرام العالم الفاسق أيضا ، وفرق هذا مع الثاني الذي كان التوجيه فيه قريبا على ما عرفت هو : إنّ التوجيه في هذا بعيد ، وذلك لأنّ المتعارف هو تقديم الخاص على العام ، وهنا ثمّ تقديم العام على الخاص وهو بنظر العرف توجيه بعيد.

وإنّما لم يكن هناك فرق بين الاقسام الثلاثة ( لأنّ العبرة ) في الترجيح بحسب الدلالة في المتعارضين إنّما هو ( بوجود إحتمال في أحد الدليلين ) بحيث ( لا يحتمل ذلك في الآخر ) حتّى ( وإن كان ذلك الاحتمال بعيدا في الغاية ) فانّ البعد غير الامتناع ، وذلك ( لأنّ مقتضى الجمع بين العامّ والخاص ) وهو : وجود إحتمال في أحدهما لم يكن موجودا في الآخر ، فانّ هذا المقتضي ( بعينه موجود فيه ) أي : في كلّ واحد من الأقسام الثلاثة حتّى القريب والبعيد .

وعليه : فمناط العام والخاص المطلقين وهو الأوّل الذي ذكره المصنّف بقوله : « لا فرق في الظاهر والنصّ بين العام والخاص المطلقين » موجود بعينه في الاحتمالين الأخيرين اللّذين ذكرهما المصنّف بقوله : « وبين ما يكون التوجيه فيه قريبا وبين ما يكون التوجيه فيه بعيدا » أيضا.

ص: 153

وقد يظهر خلافُ ما ذكرنا في حكم النصّ و الظاهر من بعض الأصحاب في كتبهم الاستدلاليّة ، مثل حمل الخاصّ المطلق على التقيّة ، لموافقته لمذهب العامّة .

منها : ما يظهر من الشيخ رحمه الله ، في مسألة : « من زاد في صلاته ركعة » ، حيث حمل ما ورد في صحّة صلاة من جلس في الرابعة بقدر التشهد ، على التقيّة و عمل على عمومات إبطال الزيادة ، و تبعه بعضُ متأخّري المتأخّرين .

-----------------

هذا ( وقد يظهر خلافُ ما ذكرنا في حكم النصّ والظاهر : من ) الترجيح بحسب الدلالة دون الترجيح بالمرجّحات الاُخر عن ( بعض الأصحاب في كتبهم الاستدلالية ، مثل حمل الخاص المطلق على التقيّة ، لموافقته ) أي : موافقة ذلك الخاص ( لمذهب العامّة ) فلا يجمعون بين المطلق والمقيّد بحمل المطلق على المقيّد ، وإنّما يعملون بالمطلق فحسب ، وذلك في مواضع كالتالي :

( منها : ما يظهر من الشيخ رحمه الله في مسألة : «من زاد في صلاته ركعة» ، حيث ) أنّ هناك مطلق ومقيّد ، فقد ورد : بطلان الصلاة بزيادة الركعة سهوا ، وهذا مطلق ، وورد أيضا : صحّتها لو اتّفق الجلوس بعد الركعة الرابعة بقدر التشهّد ، وهذا مقيّد ، فمقتضى القاعدة : تقييد الأوّل بالثاني تقديما للنصّ على الظاهر ، إلاّ انّ الشيخ لم يفعل ذلك ، بل ( حمل ما ورد في صحّة صلاة من جلس في الرابعة بقدر التشهّد ، على التقيّة ) ومعنى ذلك : انّه أسقط هذا الخبر المقيّد ( وعمل على عمومات إبطال الزيادة ) فأخذ بالترجيح للمطلق على المقيّد ( وتبعه بعضُ متأخّري المتأخّرين ) على ذلك .

هذا ، ومن الممكن جعل بعض الأعذار للشيخ دون بعض المتأخّرين ،

ص: 154

لكنّ الشيخ رحمه الله ، كأنّه بنى على ما تقدّم في العدّة والاستبصار ، من ملاحظة المرجّحات قبل حمل أحد الخبرين على الآخر ، أو على استفادة التقيّة من قرائن اُخر غير موافقة مذهب العامّة .

ومنها : ما تقدّم من بعض المحدّثين ، من مؤاخذة حمل الأمر و النهي

-----------------

ولذا قال المصنّف : ( لكن الشيخ رحمه الله كأنّه بنى على ما تقدّم في العدّة والاستبصار : من ملاحظة المرجّحات قبل حمل أحد الخبرين على الآخر ) فكلام الشيخ مبنيّ على ذلك المبنى ، والمصنّف وإن إستشكل عليه في المبنى ، لكنّه قال هنا : على تقدير صحّة ذلك المبنى يصحّ هذا البناء ، بينما بعض متأخّري المتأخّرين الذين لا يجعلون مبناهم ذلك ، لا يصحّ منهم كلامهم هذا .

أقول : لكن يمكن أن لا يستشكل على بعض متأخّري المتأخّرين ، وذلك لأنّه قد يكون قوّة التقيّة بحيث يوجب طرح الخاص والمقيّد ، فيتمّ كلام الشيخ أيضا لا على مبناه في العدّة والاستبصار ، بل لأنّ قوّة التقيّة توجب إنتفاء أصالة عدم التقيّة المستلزم لطرح الخاص والمقيّد ، والعمل بالعام والمطلق .

وكيف كان : فشيخ الطائفة قال بذلك إمّا على مبناه المتقدّم ( أو على إستفادة التقيّة من قرائن اُخر غير موافقة مذهب العامّة ) ومخالفتهم ، فليس ترجيحه رحمه الله عموم « خبر من زاد » ، على خصوص « خبر الجلوس » ، بمجرّد مخالفة العامة وموافقتهم حتّى يكون كلامه مبني على تقديم سائر التراجيح على الترجيح بالدلالة ، بل إستفاد من دليل آخر من إجماع ونحوه كون خبر الجلوس للتقيّة وإلاّ كان مقتضى القاعدة أن يجمع بين المطلق والمقيّد ، وذلك بحمل المطلق على المقيّد كما هو مقتضى الجمع الدلالي .

( ومنها : ما تقدّم من بعض المحدّثين : من مؤاخذة ) ومنع ( حمل الأمر والنهي

ص: 155

على الاستحباب والكراهة .

وقد يظهر من بعضٍ ، الفرقُ بين العامّ و الخاصّ ، والظاهر في الوجوب والنصّ في الاستحباب وما يتلوهما في قرب التوجيه وبين غيرهما ممّا كان تأويلُ الظاهر فيه بعيداً ، حيث قال ، بعد نفي الاشكال عن الجمع بين العامّ و الخاصّ ، و الظاهر في الوجوب ، والنص في الاستحباب :

-----------------

على الاستحباب والكراهة ) فيما إذا كان هناك خبر يدلّ على الاستحباب نصّا وخبر آخر ظاهره الوجوب ، أو كان هناك خبر يدلّ على الكراهة نصّا وخبر آخر ظاهره التحريم ، فانّه يجب أن يحمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب ، وما ظاهره التحريم على الكراهة ، فإذا قال - مثلاً - : أكرم زيدا ، وقال : لا بأس بترك إكرام زيد ، فانّ لا بأس بترك اكرام زيد نصّ في الجواز ، فيوجب حمل اكرام زيدا الظاهر في الوجوب عليه فيكون اكرامه مستحبّا ، وكذلك إذا قال : لا تكرم زيدا ، وقال : لا بأس باكرامه ، فانّ لا بأس باكرامه نصّ في الجواز ، فيوجب حمل لا تكرم زيدا الظاهر في الحرمة عليه ، فيكون إكرامه مكروها ، لكن بعض المحدّثين قال : إنّ أمثال هذا الجمع غير صحيح ، لأنّ لم يرد في النصوص التصريح به .

( و ) منها : ما ( قد يظهر من بعض : الفرق بين العام والخاص ، والظاهر في الوجوب ) أو الحرمة ( والنصّ في الاستحباب ) أو الكراهة ( وما يتلوهما في قرب التوجيه) بالجمع بينهما مثل: «اغتسل للجمعة» و «ينبغي غسل الجمعة» (وبين غيرهما ممّا كان تأويل الظاهر فيه بعيدا ) فأقرّ بصحّة الجمع الدلالي فيما عدا الأخير الذي يكون التأويل بعيدا فيه (حيث قال ، بعد نفي الاشكال عن الجمع بين العامّ والخاصّ ، والظاهر في الوجوب ، والنصّ في الاستحباب ) أو الظاهر

ص: 156

« استشكل الجمع في مثل ما إذا دلّ الدليل على أنّ القُبلة أو مسّ باطن الفرج لاينقض الوضوء ، ودلّ دليل آخر على أنّ الوضوء يعاد منهما .

وقال : بأنّ الحكم بعدم وجوب الوضوء في المقام مستندٌ إلى النصّ المذكور ، و أمّا الحكمُ باستحباب الوضوء فليس له مستند ظاهر ؛ لأن تأويل كلامهم لم يثبت حجيّته ، إلاّ إذا فهم من الخارج إرادته ، والفتوى والعملُ به محتاج إلى مستند شرعي ، و مجرّد أولويّة الجمع غير صالح » .

أقول : - بعدما

-----------------

في الحرمة والنصّ في الكراهة ( إستشكل الجمع في مثل ما إذا دلّ الدليل على أنّ القُبلة أو مسّ باطن الفرج لا ينقض الوضوء ، ودلّ دليل آخر على أنّ الوضوء يعاد منهما ) فانّ مقتضى الجمع الدلالي الحكم باستحباب إعادة الوضوء على ما عرفت .

لكن هذا البعض أشكل في هذا الاستحباب ( وقال : بأنّ الحكم بعدم وجوب الوضوء في المقام مستندٌ إلى النصّ المذكور ) وهو أنّ القُبلة ومسّ باطن الفرج لا ينقض الوضوء ( وأمّا الحكم باستحباب الوضوء فليس له مستند ظاهر ) قال : ( لأنّ تأويل كلامهم ) أي : كلام المعصومين عليهم السلام بالاستحباب فيما ظاهره الوجوب ( لم يثبت حجيّته ، إلاّ إذا فهم من الخارج ) من إجماع أو سيرة أو نحوهما ( إرادته ) أي : إرادة ذلك التأويل وهو الاستحباب هنا ( و ) من المعلوم أنّ ( الفتوى والعمل به ) أي : بذلك التأويل الذي هو الاستحباب ( محتاج إلى مستند شرعي ، ومجرّد أولوية الجمع ) بين الدليلين ( غير صالح ) للاستناد .

( أقول ) : لا مجال لهذا الكلام ، وذلك لأنّ له مستندا ظاهرا خصوصا ( بعدما

ص: 157

ذكرنا - من أنّ الدليل الدالّ على وجوب الجمع بين العامّ و الخاصّ و شبهه ، بعينه جار في ما نحن فيه ، و ليس الوجه في الجمع شيوع التخصيص ، بل المدار على احتمال موجود في أحد الدليلين مفقود في الآخر ، مع أنّ حمل الظاهر وجوب إعادة الوضوء على الاستحباب أيضاً شائع على ما اعترف به سابقاً .

-----------------

ذكرنا : من أنّ الدليل الدالّ على وجوب الجمع بين العامّ والخاص وشبهه ) من موارد النصّ والظاهر هو ( بعينه جارٍ فيما نحن فيه ) أي : فيما كان الجمع الدلالي فيه بحاجة إلى تأويل بعيد ، فانّه وإن كان التأويل بعيدا إلاّ أنّ العرف يرى هذا الجمع صحيحا ، وذلك لأنّ المعصومين عليهم السلام إنّما تكلّموا بحسب العرف ، والعرف لا يفرّق فيما يصحّ فيه الجمع الدلالي بين العام والخاص المطلقين ، وبين ما يحتاج إلى تأويل قريب ، وبين ما يحتاج إلى تأويل بعيد.

هذا ( وليس الوجه في الجمع ) أي : ليس ملاك الجمع بحسب الدلالة هو : ( شيوع التخصيص ) أو شيوع التقييد - مثلاً - حتّى ينحصر الجمع بباب العام والخاص ، أو ينحصر بباب المطلق والمقيّد ، بل وجه الجمع هو حمل الظاهر على النصّ أو على الأظهر ، ومثل ذلك لا يختّص بالعامّ والخاص ، والمطلق والمقيّد ، وإنّما يجري فيما يرى العرف الجمع بينهما سائغا كما قال : ( بل المدار على إحتمال موجود في أحد الدليلين مفقود في الآخر ) كما فصّلناه سابقا ، وهذا هو الجواب الأوّل عن المستشكل ، وكان في مناقشة الكبرى.

ثمّ إنّ المصنّف بدأ بمناقشة الصغرى ، فقال : ( مع أنّ حمل ظاهر وجوب إعادة الوضوء على الاستحباب أيضا شايع على ما إعترف به سابقا ) وهذا هو جواب ثانٍ عن ذلك المستشكل وهو : انّه قد إعترف فيما سبق : بأنّه كما انّ تخصيص

ص: 158

وليت شعري : ما الذي أراد بقوله : « وتأويل كلامهم لم يثبت حجيّته إلاّ إذا فهم من الخارج إرادته » ؟ .

فإن بنى على طرح ما دلّ على وجوب إعادة الوضوء ، وعدم البناء على أنّه كلامهم ، فأين كلامُهم حتى يمنع من تأويله إلاّ بدليل ، وهل هو إلاّ طرح السند لأجل الفرار عن تأويله ، وهو غير معقول ؟ ! .

-----------------

العام شايع ، فكذلك حمل اللفظ الظاهر في الوجوب أو الحرمة ، على الاستحباب أو الكراهة شايع أيضا ، وهذا إعتراف منه بتحقّق الصغرى وهو : وقوع الجمع بين الظاهر في الوجوب ، والنص في الاستحباب.

ثمّ قال : ( وليت شعري ) أي : ليتني كنت أشعر وأعلم ( ما الذي أراد ) هذا البعض ( بقوله : وتأويل كلامهم ) عليهم السلام ( لم يثبت حجيّته إلاّ إذا فهم من الخارج إرادته ) أي : إرادة ذلك التأويل ؟ ثمّ أشكل عليه المصنّف : بأنّه لو لم يقل هذا البعض بتأويل كلامهم عليهم السلام يعني : لم يحمل ظاهر الوجوب على أظهريّة الاستحباب فما يصنع به ؟ هل يطرح الظاهر ، أو يحمله على التقيّة ؟ وكلاهما محل نظر .

وعليه : ( فإن بنى ) هذا البعض ( على طرح ما دلّ على وجوب إعادة الوضوء ، و ) معنى طرحه هو : ( عدم البناء على أنّه كلامهم ) عليهم السلام ، وإذا كان معنى طرحه هو ذلك ( فأين كلامهُم ) عليهم السلام ؟ إذ لم يبق للأئمّة عليهم السلام كلام بعد طرح الظاهر في الوجوب ( حتّى يمنع من تأويله إلاّ بدليل ) كما قاله هذا البعض ( وهل هو ) أي : طرح الظاهر في الوجوب ( إلاّ طرح السند لأجل الفرار عن تأويله ، وهو غير معقول ؟ ) فانّ العقل لا يوافق على الطرح فيما إذا كان العرف يرى الجمع ، وذلك لأنّ كلامهم عليهم السلام ملقى إلى العرف .

ص: 159

وإن بني على عدم طرحه ، وعلى التعبّد بصدوره ، ثمّ حمله على التقيّة ، فهذا أيضاً قريبٌ من الأوّل ، إذ لا دليل على وجوب التعبّد بخبر يتعيّن حمله على التقيّة على تقدير الصدور ، بل لا معنى لوجوب التعبّد به ، إذ لا أثر في العمل يترتّب عليه .

وبالجملة : إنّ الخبر الظنّي إذا دار الأمرُ بين طرح سنده و حمله و تأويله فلا شكّ في أنّ المتعيّن تأويله و وجوب العمل على طبق التأويل ،

-----------------

هذا ، إن بني هذا البعض على طرح الظاهر ، وقد عرفت ما فيه ( وإن بنى على عدم طرحه ، وعلى التعبّد بصدوره ، ثمّ حمله على التقيّة ، فهذا أيضا قريبٌ من الأوّل ) أي : كما إنّ بناءه الأوّل كان معناه : طرح كلامهم عليهم السلام فهذا الثاني يكون أيضا كذلك .

وإنّما يكون هذا قريبا من الأوّل ( إذ لا دليل على وجوب التعبّد بخبر يتعيّن حمله على التقيّة على تقدير الصدور ) فأيّة فائدة في أن يقول الشارع : تعبّد بهذا الخبر ؟ ولما نسأل الشارع عن فائدة هذا التعبّد ؟ يقول : فائدته الحمل على التقيّة الذي معناه عدم العمل بذلك الخبر ( بل لا معنى لوجوب التعبّد به ) أي : بالخبر المحمول على التقيّة ( إذ لا أثر في العمل يترتّب عليه ) أي : على هذا الخبر الذي يحمل على التقيّة ، فيكون التعبّد بسنده من غير فائدة .

( وبالجملة : إنّ الخبر الظنّي ) الذي ليس بمقطوع السند ( إذا دار الأمر بين طرح سنده و ) ذلك بمعنى ( حمله ) على التقيّة ( و ) بين ( تأويله ) وذلك بمعنى حمل الظاهر فيه على الأظهر أو على النصّ ( فلا شكّ في أنّ المتعيّن ) هنا هو : ( تأويله ووجوب العمل على طبق التأويل ) وذلك لأنّه هو الذي يراه العرف لقاعدة حمل الظاهر على الأظهر ، وقاعدة حمل الظاهر

ص: 160

ولا معنى لطرحه أو الحكم بصدوره تقيّةً ، فراراً عن تأويله .

وسيجيء زيادة توضيح ذلك إن شاء اللّه تعالى ، فلنرجع إلى ما كنّا فيه من بيان المرجّحات في الدلالة ، ومرجعها إلى ترجيح الأظهر على الظاهر .

والأظهريّةُ قد تكونُ بملاحظة خصوص المتعارضين من جهة القرائن الشخصيّة .

-----------------

على النصّ ( ولا معنى لطرحه ) أي : طرح سند الخبر الظاهر ( أو الحكم بصدوره تقيّة ، فرارا عن تأويله ) لأنّ الحمل على التقيّة أيضا عبارة اُخرى عن الطرح .

هذا ، ( وسيجيء زيادة توضيح ) على ( ذلك إن شاء اللّه تعالى ) في محلّه ، وذلك بعد أن تبيّن أنّ اللازم في التعارض البدوي من العامّ والخاص ، والظاهر والأظهر والنصّ ، هو الجمع الدلالي العرفي بينهما ، لا طرح الظاهر ، أو حمله على التقيّة .

وعليه : ( فلنرجع إلى ما كنّا فيه من بيان المرجّحات في الدلالة ، ومرجعها إلى ترجيح الأظهر على الظاهر ) كما يرجّح النصّ على الظاهر ( و ) لا يخفى انّ ( الأظهريّة ) على أقسام كالتالي :

الأوّل : إنّ الأظهرية في أحد المتعارضين ( قد تكون بملاحظة خصوص المتعارضين من جهة القرائن الشخصيّة ) الخارجية ، سواء كانت قرائن حالية أو قرائن مقالية ، فالقرينة الحالية : كما إذا ورد عالم فاسق في مجلس المولى فلم يقم له ولم يكرمه ، ثمّ قال لعبده : أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق ، فانّ عمل المولى قرينة حالية ، على أنّ العالم الفاسق داخل في لا تكرم الفسّاق ، وليس داخلاً في أكرم العلماء لتلك القرينة العملية ، والقرينة المقالية : كما لو قال المولى : الأب مهما كان فانّه محترم ، وبعد مدّة قال : أكرم الأرحام ولا تكرم الفسّاق ، فانّ الأب

ص: 161

وهذا لايدخل تحت ضابطة ، وقد يكونُ بملاحظة نوع المتعارضين .

كأن يكون أحدُهما ظاهراً في العموم ، والآخر جملة شرطيّة ظاهرة في المفهوم ، فيتعارضان ، فيقع الكلامُ

-----------------

الفاسق داخل في أكرم بتلك القرينة اللفظيّة.

( وهذا ) القسم الذي يحتاج إلى القرائن العملية أو اللفظية في جعل أحد المتعارضين أظهر ( لا يدخل تحت ضابطة ) بل منوط بإستظهار الفقيه القرائن الخارجية والداخلية ، فربّما يستظهر فقيه القرينة لإعطاء مادّة الاجتماع للموجبة ، وربّما يستظهر فقيه آخر القرينة لإعطائها للسالبة .

الثاني : ( وقد يكون ) أي : الأظهريّة ( بملاحظة نوع المتعارضين ) لا خصوص المتعارضين ، الذي كان في القسم الأوّل ، وقد عقد الاُصوليون للقرائن الداخلة تحت هذه الضابطة باب تعارض الأحوال التي هي عبارة عن المجاز والاضمار ، والنسخ والتخصيص ، والنقل والاشتراك ، فيما إذا دار لفظ بين حالين من هذه الأحوال ، فهل يقدّم هذا على ذاك ، أو يقدّم ذاك على هذا ؟ وقد ذكر هذا المبحث في القوانين وغيره مفصّلاً ، وذلك ( كأن يكون أحدهما ظاهرا في العموم ، والآخر جملة شرطيّة ظاهرة في المفهوم ، فيتعارضان ) .

مثلاً : إذا قال : « الماء كلّه طاهر » (1) ، وقال : « الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (2) ، فانّ مفهوم الشرط هو : تنجّس الماء القليل بملاقاة النجاسة ، بينما منطوق الكليّة عبارة عن : طهارة الماء القليل حتّى ولو لاقى النجاسة ( فيقع الكلامُ

ص: 162


1- - الامالي للصدوق : ص645 ، الكافي فروع : ج3 ص1 ح2و3 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص215 ب10 ح2 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص2 ح1 و ح2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص150 ب6 ح118 ، الاستبصار : ج1 ص6 ب1 ح1 ، وسائل الشيعة : ج1 ص158 ب9 ح391 .

في ترجيح المفهوم على العموم ، وكتعارض التخصيص والنسخ في بعض أفراد العامّ والخاصّ ، والتخصيص والتقييد ، وقد يكونُ باعتبار الصنف ، كترجيح

-----------------

في ترجيح المفهوم على العموم ) فهل يرجّح المفهوم لأنّه خاص ، فتكون نتيجته : نجاسة الماء القليل بالملاقاة ، أو يرجّح العموم لأنّ دلالته بالمنطوق ، فتكون نتيجته : طهارة الماء القليل حتّى ولو لاقى النجاسة ؟ لكن العرف يقدّمون المفهوم على العموم ، ولذا يحكمون بنجاسة الماء القليل بملاقاة النجاسة .

( وكتعارض التخصيص والنسخ في بعض أفراد العامّ والخاصّ ) كما إذا قال أوّلاً : « لا تكرم فسّاق العلماء » ، ثمّ قال بعد ذلك : « أكرم العلماء » ، فهل الخاص المتقدّم زمانا يخصّص العام المتأخّر لأنّه الشايع دون النسخ ، فتكون النتيجة : عدم جواز إكرام الفسّاق من العلماء ، أو انّ أكرم العلماء المتأخّر ينسخ لا تكرم فسّاق العلماء المتقدّم زمانا ، لأنّه مقتضى تأخير العام على الخاص ، فتكون النتيجة : وجوب إكرام العالم الفاسق ؟ فأيّهما يكون المقدّم ؟ .

( و ) ك- ( التخصيص والتقييد ) وذلك كما إذا قال : اعط الفقير ، وقال : كلّ غصب حرام ، وإستلزم إعطاء الفقير دخول أرض الغير ، فيتعارضان حينئذٍ ، فهل يقدّم عموم حرمة الغصب لأنّ دلالته بالوضع فيقيّد إطلاق إعطاء الفقير ، فتكون النتيجة حرمة الاعطاء ، أو يقدّم إطلاق إعطاء الفقير لأنّه خاص فيخصّص عموم حرمة الغصب ، فتكون النتيجة وجوب إعطاء الفقير ، فانّ أمثال هذه الاُمور هي باعتبار القرائن النوعيّة .

الثالث : ( وقد يكون ) أي : الأظهرية ( باعتبار الصنف ) أي : صنف المتعارضين وهو النوع مع إضافة قيد إليه كالانسان العالم - مثلاً - وذلك ( كترجيح

ص: 163

أحد العامّين أو المطلقين على الآخر ، لبعد التخصيص أو التقييد فيه .

ولنشر إلى جملة من هذه المرجّحات النوعيّة لظاهر أحد المتعارضين في مسائل :

الاولى : لا إشكال

-----------------

أحد العامّين أو المطلقين على الآخر ، لبُعد التخصيص أو التقييد فيه ) أي : في ذلك العام أو في ذلك المطلق ، فلو كان أحد العامّين - مثلاً - أقلّ أفرادا من العام الآخر ، أو أحد المطلقين أقل أفرادا من المطلق الآخر ، فيكون العام الأقل أفرادا مخصّصا للعام الأكثر افرادا ، والمطلق الأقل أفرادا مقيّدا للمطلق الأكثر أفرادا ، فإذا ورد : أكرم العلماء المتّقين ، وكان له ألف فرد ، وورد : لا تكرم الناس المرائين ، وكان له ثلاثة أفراد فقط ، إثنان من غير العلماء وعالم واحد مرائيا ، فإذا اُعطي هذا العالم الواحد لأكرم العلماء ، بقي لا تكرم المرائين له فردان فقط ، بينما إذا اُعطي للا تكرم المرائين ، بقي لأكرم العلماء ألف فرد إلاّ فردا واحدا ، فانّ العرف يرى اعطاءه للا تكرم المرائين ، لأنّ اعطاءه لأكرم العلماء يراه بعيدا ، وكذلك في المطلقين .

( ولنشر ) الآن بعد وضوح المرجّحات الشخصيّة في القسم الأوّل ، وقبل ذكر المرجّحات الصنفيّة في القسم الثالث ( إلى جملة من هذه المرجّحات النوعيّة ) في القسم الثاني من أقسام مرجّحات الدلالة التي تكون تلك المرجّحات مرجّحا ( لظاهر أحد المتعارضين ) على ظاهر الآخر ( في مسائل ) وذلك للتمرين ، وشحذ الذهن ، وذكر النموذج والمثال .

المسألة ( الاُولى : ) إذا تعارض النسخ وهو قطع الاستمرار الزماني ، مع التخصيص وهو قطع الاستمرار الافرادي ، فأيّهما يقدّم ؟ قال : ( لا إشكال

ص: 164

في تقديم ظهور الحكم الملقى من الشارع في مقام التشريع في استمراره باستمرار الشريعة على ظهور العامّ في العموم الأفرادي ، و يعبّر عن ذلك بأنّ التخصيص أولى من النسخ ، من غير فرق بين أن يكون احتمال المنسوخيّة في العامّ

-----------------

في تقديم ظهور الحكم الملقى من الشارع في مقام التشريع ) أي : في مقام إنشاء الحكم الشرعي الأعمّ من التكليفي والوضعي ( في إستمراره ) أي : إستمرار ذلك الحكم زمانا ( باستمرار الشريعة ) وهذا معنى ظهور العام في العموم الأزماني ، وذلك لأنّه قد قامت الأدلّة الأربعة على أنّ الشريعة مستمرة ، ومعنى إستمرار الشريعة : إستمرار أحكامها ، فيقدّم ظهور العام في العموم الأزماني ( على ظهور العام في العموم الأفرادي ) .

وعليه : فانّ كلّ حكم شرعي عام له عمومان : عموم أزماني وعموم أفرادي ، فإذا انثلم العموم الأزماني كان معناه : النسخ ، وإذا إنثلم العموم الأفرادي كان معناه : التخصيص ، والتخصيص مقدّم على النسخ ، فينثلم العموم الأفرادي دون الأزماني .

هذا ( ويعبّر عن ذلك : بأنّ التخصيص أولى من النسخ ، من غير فرق بين أن يكون إحتمال المنسوخية في العام ) كما إذا قال المولى أوّلاً : أكرم العلماء ، وقال ثانيا : لا تكرم فسّاقهم ، وإحتملنا أنّ قوله لا تكرم فسّاقهم جاء بعد وقت العمل بالعام حتّى يكون ناسخا ، أو قبل وقت العمل به حتّى يكون مخصّصا ، قدّم التخصيص على النسخ ، فيقال : ظهور العام في الاستمرار والعموم الأزماني المستلزم لكون الخاص مخصّصا ، أقوى من ظهوره في العموم الأفرادي المستلزم لكون الخاص ناسخا ، فيؤخذ عمومه الأزماني لا عمومه الأفرادي ،

ص: 165

أو في الخاصّ ، والمعروفُ تعليلُ ذلك

-----------------

ممّا نتيجته : أن يكون الخاص مخصّصا لا ناسخا .

( أو ) يكون إحتمال المنسوخية ( في الخاص ) كما إذا قال المولى أوّلاً : لا تكرم الفسّاق من العلماء ، ثمّ قال بعد ذلك : أكرم العلماء ، فلم نعلم هل صدر العام بعد وقت العمل بالخاص حتّى يكون العام ناسخا للخاص ، أو قبل وقت العمل بالخاص حتّى يكون الخاص مخصّصا للعام فيستمرّ حرمة إكرام الفسّاق ؟ فانّ التخصيص هنا مقدّم على النسخ ، وذلك بأن يقال : ظهور الخاص في الاستمرار والعموم الأزماني المستلزم لكونه مخصّصا للعام ، أقوى من ظهور العام في العموم الأفرادي المستلزم لكونه ناسخا للخاص ، فيحكم بالتخصيص .

ثمّ أنّ الثمرة التي يمكن أن تترتّب على كون الشيء مخصّصا لا ناسخا هو : انّه لا يلزم القضاء بالنسبة إلى الأعمال الواجبة بين ورود الخطاب الأوّل وورود الخطاب الثاني ، بينما لو كان ناسخا لزم قضاء الأعمال الواجبة بين الورودين ، فإذا قال المولى في يوم الجمعة - مثلاً - : اعط لكلّ عالم في كلّ يوم درهما ، ثمّ قال يوم الأحد : لا تعط زيدا كلّ يوم درهما ، فانّه لو كان تخصيصا لا يلزم اعطاء زيد درهما في يوم الجمعة ، ولا في يوم السبت ، وذلك لأنّه قد خرج زيد عن وجوب الاعطاء من أوّل حكم العام ، وأمّا إذا كان نسخا فقد وجب اعطاؤه الدرهمين : درهما ليوم الجمعة ودرهما ليوم السبت ، وذلك لأنّه إنّما نسخ وجوب اعطائه من يوم الاحد .

هذا ( والمعروف تعليلُ ذلك ) أي : تعليل تقديم التخصيص على النسخ

ص: 166

بشيوع التخصيص وندرة النسخ ، وقد وقع الخلاف في بعض الصور .

وتمام ذلك في بحث العامّ والخاصّ من مباحث الألفاظ .

وكيف كان : فلا إشكال في أنّ احتمال التخصيص مشروط بعدم ورود الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، كما أنّ احتمال النسخ مشروط بورود الناسخ بعد الحضور ، فالخاصّ الوارد بعد حضور وقت العمل بالعامّ يتعيّن فيه النسخ .

-----------------

( بشيوع التخصيص وندرة النسخ ، و) من المعلوم : أنّ العرف لا يحمل كلام المولى على النادر ، بل يحمله على الشايع ، ولكن مع ذلك ( قد وقع الخلاف في بعض الصور ) مثل ما لو تقدّم الخاص ثمّ جاء العام ، فقد إختُلف في أنّه هل العام ناسخ للخاص أو الخاص مخصّص للعام؟ ( وتمام ذلك ) البحث يكون ( في بحث العام والخاص من مباحث الألفاظ ) ولذا لا نعيده هنا .

( وكيف كان : ) فانّه سواء قدّمنا التخصيص في جميع الصور كما هو مذهب جمع ، أو قلنا بتقديم النسخ على التخصيص في بعض الصور ( فلا إشكال ) بنظر المصنّف ( في أنّ إحتمال التخصيص مشروط بعدم ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام ) وإلاّ كان ناسخا ، وذلك لأنّه قد عمل بهذا الفرد من العام ثمّ رفع العمل بذلك الفرد ، وليس النسخ إلاّ ما عمل به في مدّة ثمّ إرتفع .

( كما أنّ إحتمال النسخ مشروط بورود الناسخ بعد الحضور ) أي : بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ ، وإلاّ تعيّن التخصيص ، فانّ التخصيص عبارة عن إخراج بعض الأفراد من حكم العام من أوّل الأمر ، وقبل حضور وقت العمل بالعام .

وعليه : ( فالخاص الوارد بعد حضور وقت العمل بالعام يتعيّن فيه النسخ ) بنظر المصنّف ، وذلك لأنّ المفروض أنّ هذا الفرد من العام قد عمل به مدّة

ص: 167

وأمّا ارتكابُ كون الخاصّ كاشفاً عن قرينة كانت مع العامّ واختفت ، فهو خلافُ الأصل ، والكلام في علاج المتعارضين ، من دون التزام وجود شئ زائد عليهما .

نعم ، لو كان هناك دليلٌ على امتناع النسخ

-----------------

ثمّ إرتفع العمل به ، وليس معنى النسخ إلاّ هذا .

لا يقال : كيف قلتم أيّها المصنّف : « فالخاص الوارد بعد حضور وقت العمل بالعام يتعيّن فيه النسخ » مع انّه في هذه الصورة قد يقال : بأنّه لا يتعيّن فيه النسخ ، بل يحتمل فيه التخصيص أيضا ، وذلك لإندفاع قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة بإحتمال ورود العام مقارنا لقرينة التخصيص ، لكن قد إختفت تلك القرينة ، فجاء هذا الخاص المتأخّر ليكون كاشفا عن ذلك الخاص المتقدّم الذي إختفى ؟ .

لأنّه يقال : ( وأمّا إرتكاب كون الخاص كاشفا عن قرينة كانت مع العام وإختفت ) فيكون الخاص المتأخّر تخصيصا لا ناسخا ، فانّ فيه ما يلي :

أوّلاً : ( فهو خلاف الأصل ، و) ذلك لأنّا إذا شككنا في وجود القرينة وعدمها فالأصل عدم القرينة .

ثانيا : مع انّ ( الكلام ) هنا إنّما هو ( في علاج المتعارضين ، من دون التزام وجود شيء ) آخر ، كالقرينة التي يحتمل إختفاؤها ( زائد عليهما ) أي : على المتعارضين ، فانّ كلامنا فيما لم يكن هناك قرينة في البين ، وحينئذٍ يكون الخاص المتأخّر ناسخا لا مخصّصا .

( نعم ) قد يتعيّن النسخ في هذا القسم لو لم يكن النسخ ممنوعا ، وإلاّ ( لو كان هناك دليل على إمتناع النسخ ) كما ربّما يقال بإمتناعه بعد إنقطاع الوحي

ص: 168

وجب المصيرُ إلى التخصيص مع التزام اختفاء القرينة حين العمل أو جواز إرادة خلاف الظاهر من المخاطبين واقعاً ، مع مخاطبتهم بالظاهر الموجبة لعملهم بظهوره .

وبعبارة أخرى : تكليفهم ظاهراً هو العملُ بالعموم .

-----------------

عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، فلا نسخ في زمن الأئمّة عليهم السلام ، وإذا كان كذلك ( وجب المصيرُ إلى التخصيص مع التزام إختفاء القرينة حين العمل ) بالعام ، وذلك بأن يقال - مثلاً - : انّ العام الصادر عن الإمام الصادق عليه السلام كان مقرونا بقرينة قطعا ، لكن اختفت ، فلمّا ذكر الإمام الكاظم عليه السلام الخاص كان هذا الخاص مخصّصا لا انّه ناسخا ، وذلك لأنّ النسخ حسب الفرض ممتنع ، فيكون هذا الخاص قرينة على أنّ العام الذي ذكره الإمام الصادق عليه السلام كان مقرونا بقرينة التخصيص ، لكن إختفت تلك القرينة علينا .

إذن : فالخاص المتأخّر عن وقت العمل بالعام يكون مخصّصا لو كان هناك ما يدلّ على إمتناع النسخ ( أو ) ما يدلّ على ( جواز إرادة خلاف الظاهر من المخاطبين ) يعني : بأنّ ذكر الإمام الصادق عليه السلام - مثلاً - العام بدون قرينة على التخصيص ، مع انّه أراد ( واقعا ) لأجل مصلحة أهمّ خلاف ظاهر العام ، فانّ الواقع كان مخصّصا ، لأنّ الإمام أراد ذلك الواقع المخصّص لكن من دون بيانه ، بل ( مع مخاطبتهم ) أي : المخاطبين ( بالظاهر ) بمثل أكرم العلماء ( الموجبة ) تلك المخاطبة ( لعملهم بظهوره ) أي : بظهور ذلك العام ، فانّه إن جاز ذلك ، كان الخاص المتأخّر مخصّصا أيضا ، لا ناسخا .

( وبعبارة اُخرى : تكليفهم ) واقعا ، كائن باكرام من عدا زيد من العلماء . لكن تكليفهم الآن ( ظاهرا هو العمل بالعموم ) وإنّما اُخّر التخصيص لمصلحة أهمّ في ذلك .

ص: 169

ومن هنا يقع الاشكال في تخصيص العمومات المتقدّمة في كلام النبي أو الوصي ، أو بعض الأئمّة عليهم السلام ، بالمخصّصات الواردة بعد ذلك بمدّة عن باقي الأئمّة ، فإنّه لابدّ أن يرتكب فيه النسخُ .

أو كشفُ الخاصّ عن قرينة مع العامّ مختفية ، أو كونُ المخاطبين بالعام تكليفُهم - ظاهراً - العملُ بالعموم ، المراد به الخصوصُ واقعاً .

-----------------

( ومن هنا ) أي : من أجل ما ذكره المصنّف : من انّه لا يمكن التخصيص بعد وقت العمل إلاّ مع أحد الشرطين : إمتناع النسخ ، أو جواز إرادة خلاف الظاهر ( يقع الاشكالُ في تخصيص العمومات المتقدّمة في كلام ) اللّه سبحانه وتعالى ، وفيما روي عن ( النبي ) صلى الله عليه و آله وسلم ( أو الوصي ، أو بعض الأئمّة عليهم السلام ) تخصيصا ( بالمخصّصات الواردة بعد ذلك ) العام المتقدّم ( بمدّة ) من حضور وقت العمل بالعام ، وقد وردت تلك التخصيصات ( عن باقي الأئمّة ) عليهم السلام ( فانّه لابدّ أن يرتكب فيه ) أحد إحتمالات ثلاثة كالتالي :

الأوّل : ( النسخُ ) وذلك بالمعنى الذي يأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى من المصنّف عند قوله : « أمّا النسخ فبعد توجيه وقوعه بعد النبي صلى الله عليه و آله وسلم ...» .

الثاني : ( أو كشف الخاص عن قرينة مع العام مختفية ) حتّى يكون تخصيصا من الأوّل .

الثالث : ( أو ) القول بجواز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأجل مصلحة أهمّ ، وذلك بمعنى : ( كونُ المخاطبين ، بالعام ) كان ( تكليفهم ) عند ذكر الإمام العام ( - ظاهرا - العمل بالعموم ، المراد به الخصوص واقعا ) إلى زمان بيان الإمام عليه السلام الخاص .

وهذا الاحتمال الثالث هو المختار ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى من المصنّف بيان

ص: 170

أمّا النسخُ - فبعد توجيه وقوعه بعد النبي صلى الله عليه و آله وسلم بارادة كشف ما بيّنه النبي صلى الله عليه و آله وسلم للوصي ، عن غاية الحكم الأوّل وابتداء الحكم الثاني - مدفوعٌ : بأنّ غلبة هذا النحو من التخصيصات يأبى عن حملها على ذلك ،

-----------------

وجهه : من أنّ المصلحة هي تدريجيّة بيان الأحكام ، وذلك على ما هو عليه دأب عقلاء العالم ، والمعصومون عليهم السلام الذين هم سادة العقلاء كانوا يسيرون على ذلك المنهج علما بأنّ خلافه يوجب العُسر الأكيد والحَرج الشديد ، بل هو متعذَّر في أحيان كثيرة ، فهل كان الوضع - مثلاً - يسمح لواحد من الأئمّة عليهم السلام نظرا لتلك الظروف العصيبة والأيّام الصعبة أن ينشر بين الناس مليون حكم في وقت واحد إذا فرضنا انّ مجموع الأحكام مليون حكم؟ فانّه كما لا يمكن ذلك بالنسبة إلى كلّ فرد فرد من الأحكام من الطهارة إلى الديّات ، فكذلك لا يمكن ذلك بالنسبة إلى كلّ فرد فرد من التخصيصات للعمومات والتقييدات للمطلقات وإذا تبيّن ذلك فلنرجع إلى تفصيل ما أجملناه من الاحتمالات الثلاثة :

( أمّا ) تفصيل الاحتمال الأوّل وهو : ( النسخُ ، فبعد توجيه وقوعه بعد النبي صلى الله عليه و آله وسلم ) وذلك علما بأنّ النسخ لا يمكن أن يقع بعد النبي صلى الله عليه و آله وسلم وإنقطاع الوحي ، فإذا وقع شيء من ذلك في زمان أوصيائه وأهل بيته من الأئمّة المعصومين عليهم السلام وجب أن يوجّه ( بإرادة كشف ما بيّنه النبي صلى الله عليه و آله وسلم للوصي ، عن غاية الحكم الأوّل وإبتداء الحكم الثاني ) يعني : انّه صلى الله عليه و آله وسلم بيّن مواضع النسخ لخلفائه وأودعها عندهم ليبيّنوها للناس في مواطنها ، ولذا ورد انّ الإمام المهدي عجّل اللّه تعالى فرجه إذا قام أظهر بعض الأحكام التي لم تكن معمولة قبله .

وكيف كان : فانّ النسخ حتّى مع توجيهه ( مدفوعٌ ) تحقّقه بما يلي :

أوّلاً : ( بأنّ غلبة هذا النحو من التخصيصات يأبى عن حملها على ذلك ) أي :

ص: 171

مع أنّ الحمل على النسخ يوجب طرح ظهور كلا الخبرين في كون مضمونهما حكماً مستمرّاً من أوّل الشريعة إلى آخرها .

-----------------

على كونه من باب النسخ ، وذلك لبُعد إبتلاء العمومات في الشريعة بهذا المقدار الكبير من النواسخ ، فانّ النسخ في زمن الرسول صلى الله عليه و آله وسلم على فرض تحقّقه كان قليلاً جدّا .

ثانيا : ( مع أنّ الحمل على النسخ ) في المخصّصات والمقيّدات التي أتت بعد مدّة من العمل بالعمومات والمطلقات ( يوجب طرح ظهور كلا الخبرين ) العام والخاص ، والمطلق والمقيّد ( في كون مضمونهما حكما مستمرّا من أوّل الشريعة إلى آخرها ) بينما الحمل على التخصيص أوالتقييد لا يوجب ذلك .

مثلاً : لو أمر النبي صلى الله عليه و آله وسلم باكرام العلماء ، ونهى الإمام الصادق عليه السلام عن إكرام الفسّاق من العلماء ، كان كلّ من العام والخاص ظاهرا في إستمرار حكمه من أوّل الشريعة إلى آخرها ، وهذا الظهور إنّما يكون لو حملنا النهي عن إكرام الفسّاق من العلماء على التخصيص ، بمعنى أنّ الحكم كان من الأوّل إكرام العلماء إلاّ الفسّاق منهم ، بينما لو حملناه على النسخ فلا يكون للحكم الأوّل الذي هو العموم إستمرار إلى آخر الشريعة ، وهو خلاف ظاهر أكرم العلماء ، كما لا يكون للحكم الثاني الذي هو حرمة اكرام الفسّاق من العلماء إستمرار من أوّل الشريعة ، بل من زمان الإمام الصادق عليه السلام حسب الفرض ، وهو خلاف ظاهر لا تكرم الفسّاق من العلماء ، ومعه فيلزم على النسخ التصرّف في ظهور كلّ من العام والخاص والمطلق والمقيّد ، مع انّ هذا القسم من التصرّف في الأمرين المتعارضين يُعدّ من أسوء أنحاء التصرّف لأنّه خلاف المتفاهم عرفا .

ص: 172

إلاّ أن يفرض المتقدّم ظاهراً في الاستمرار والمتأخّر غير ظاهر بالنسبة إلى ما قبل الصدور ، فحينئذٍ يوجب طرح ظهور المتقدّم لا المتأخر - كما لايخفى - وهذا لايحصلُ في كثير من الموارد بل أكثرها .

وأمّا اختفاء المخصّصات ، فيبعده - بل ويحيله عادةً - عمومُ البلوى بها من حيث العلم والعمل ،

-----------------

( إلاّ أن يُفرض المتقدّم ظاهرا في الاستمرار ) كقوله : أكرم العلماء ، حيث يكون ظاهرا في إستمرار اكرام العلماء إلى آخر الشريعة ( والمتأخّر ) الذي هو الخاص ( غير ظاهر بالنسبة إلى ما قبل الصدور ) فلا يكون لا تكرم الفسّاق من العلماء ، ظاهرا في كونه حكما من أوّل الشريعة ، بل ظاهرا في انّه من زمان الإمام الصادق عليه السلام الذي قال هذا الخاص ( فحينئذ يوجب طرح ظهور المتقدّم لا المتأخّر - كما لا يخفى - ) فتكون النتيجة من الحمل على النسخ حينئذ وجوب طرح ظهور العام فقط ( وهذا لا يحصلُ في كثير من الموارد بل أكثرها ) لأنّ الخاص ظاهر أيضا في انّه من أوّل الشريعة ، لا انّه حكم حدث من زمان الإمام الصادق عليه السلام ، ومع هذا الاشكال إذن لم يبق وجه للاحتمال الأوّل .

( وأمّا ) تفصيل الاحتمال الثاني وهو إلتزام إقتران العمومات بقرائن التخصيص في زمان ورود العمومات ، أو إقتران المطلقات بقرائن التقييد من أوّل ورود المطلقات ، ثمّ ( إختفاء المخصّصات ) والمقيّدات المتقارنة ، وهذه المخصّصات والمقيّدات المتأخّرة كاشفة عن تلك التي كانت مقترنة بالعمومات والمطلقات ( فيبعده ، بل ويحيله ) أي : يجعله مستحيلاً ( عادةً ) لا عقلاً ما يلي :

أوّلاً : ( عموم البلوى بها من حيث العلم والعمل ) فانّ ادّعاء كون هذه المخصّصات والمقيّدات كانت مقترنة بالعمومات والمطلقات من أوّل ورود

ص: 173

مع إمكان دعوى العلم بعدم علم أهل العصر المتقدّم وعملهم بها ، بل المعلومُ جهلهُم بها ، فالأوجهُ هو الاحتمال الثالث .

فكما أنّ رفع مقتضى البراءة العقليّة ببيان التكليف كان على التدريج ، كما يظهر من الأخبار والآثار ، مع اشتراك الكلّ في الأحكام الواقعيّة ،

-----------------

العموم والاطلاق ، وقد علم بتلك القرائن المتقدّمون وعملوا بها لعموم إبتلائهم بالنسبة إليها ، ثمّ خفيت تلك القرائن ممّا احتاجت مرّة ثانية إلى ذكر الإمام الصادق عليه السلام لها في غاية البعدُ ، وذلك لأنّه إن علم المتقدّمون بها وعملوا عليها ، جرت السيرة منهم على ذلك ولم تختف بعد مدّة حتّى تحتاج إلى ذكرها مرّة ثانية ، وعلى فرض تحقّق مثل هذا الشيء فهو يكون نادرا جدّا ، بينما نرى أنّ المخصّصات والمقيّدات ليست نادرة بل هي أكثر من أن تحصى .

ثانيا : ( مع إمكان دعوى العلم ) البديهي منّا ( بعدم علم أهل العصر المتقدّم وعملهم بها ) أي : بهذه المخصّصات والمقيّدات ( بل المعلومُ ) تاريخيّا ( جهلهم ) وعدم إطّلاع أهل العصر المتقدّم ( بها ) أي : بهذه المخصّصات والمقيّدات ، وذلك لقلّة الكتب ، وشدّة الظروف ، وصعوبة الأيّام ، ومع هذا الاشكال إذن لم يبق وجه للاحتمال الثاني أيضا .

إذن : ( فالأوجهُ هو الاحتمال الثالث ) وهو : إلتزام تأخير البيان عن وقت الحاجة لأجل مصلحة أهم ( فكما أنّ رفع مقتضى البرائة العقليّة ببيان التكليف ) من قبل الشارع الحكيم ( كان على التدريج ، كما يظهر من الأخبار ) المرويّة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ( والآثار ) التاريخيّة من سيرة النبي صلى الله عليه و آله وسلم ( مع إشتراك الكلّ في الأحكام الواقعيّة ) من أوّل الاسلام ونزول القرآن

ص: 174

فكذلك ورودُ التقييد والتخصيص للعمومات والمطلقات .

فيجوز أن يكون الحكمُ الظاهري للسابقين ، الترخيص في ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرّمات الذي يقتضيه العملُ بالعمومات ، وإن كان المراد منها

-----------------

( فكذلك ورود التقييد والتخصيص للعمومات والمطلقات ) الرافع لمقتضى البرائة الشرعيّة يكون على التدريج أيضا.

وعليه : فحال هذه التخصيصات والتقييدات المتأخّرة عن العمومات والاطلاقات حال البيان المتأخّر عن وقت الحاجة ، فكما جاز أوّل الاسلام تأخير بيان التكاليف الواقعيّة ، الرافعة للبرائة العقليّة ، وهي : قبح العقاب بلا بيان ، الثابتة قبل الشرع ، لأجل مصلحة أهمّ ، فكذلك يجوز تأخير بيان المخصّصات والمقيّدات - مثلاً - لأجل مصلحة أهمّ ، علما بأنّ الجامع بين تأخير البيان وتأخير التخصيص والتقييد ، هو : تدريجيّة الأحكام حسب المتعارف كما ذكرناه في أوّل البحث .

وعلى هذا : ( فيجوز أن يكون الحكمُ الظاهري للسابقين ، الترخيص في ترك بعض الواجبات ) مثل ترك إكرام الفقهاء فيما إذا قال الإمام الصادق عليه السلام في زمانه : أكرم الفقهاء ، ولم يكن الحكم باكرام الفقهاء صادرا قبل ذلك ( و) الترخيص في ( فعل بعض المحرّمات ) مثل : اكرام الفسّاق من العلماء ، حيث لم يكن للسابقين محرّما حتّى أظهره الإمام الصادق عليه السلام وهذا الترخيص هو ( الذي يقتضيه العملُ بالعمومات ، و ) ذلك لأنّ العمل بعموم أكرام العلماء يقتضي إكرام الفسّاق منهم ، فيما إذا فرض ذكر العام أوّلاً وذكر التخصيص بعد مدّة من الزمان ، فانّ العمل بهذا المحرّم مرخّص لهم فيه لمصلحة أهمّ ( إن كان المراد منها ) أي : من العمومات

ص: 175

الخصوص الذي هو الحكم المشترك .

ودعوى : « الفرق بين إخفاء التكليف الفعلي ، وإبقاء المكلّف على ما كان عليه من الفعل والترك بمقتضى البراءة العقليّة ، وبين إنشاء الرخصة في فعل الحرام وترك الواجب » ممنوعةٌ .

غاية الأمر : إنّ الأوّل من قبيل عدم البيان ، والثاني من قبيل بيان العدم ،

-----------------

( الخصوص الذي هو الحكم المشترك ) بين السابقين واللاحقين .

( و ) إن قلت : هناك فرق بين إخفاء التكليف الفعلي من فعل الواجب وترك الحرام ، وبين إعلان الرخصة في فعل الحرام وترك الواجب ، فالأوّل قبيح بخلاف الثاني .

قلت : إنّ ( دعوى : الفرق بين ) المقيس والمقيس عليه ، يعني : بين ما تستدعي فيه مصلحة التدريج إلى ( إخفاء التكليف الفعلي ، و) ذلك أوائل الاسلام المؤدّي إلى ( إبقاء المكلّف على ما كان عليه ) قبل الاسلام ( من الفعل والترك بمقتضى البرائة العقليّة ، وبين ) ما نحن فيه الذي هو ( إنشاء الرخصة ) له ( في فعل الحرام وترك الواجب ) فانّ دعوى الفرق بينهما ( ممنوعة ) لوجود مصلحة التدريج في كليهما معا .

( غايةُ الأمر : إنّ الأوّل ) أي : إخفاء التكليف الفعلي من فعل الواجب وترك الحرام على المكلّف لمصلحة التدريج كان ( من قبيل عدم البيان ) حيث لم يبيّن الحكم رأسا ( والثاني ) وهو إنشاء الرخصة في فعل الحرام وترك الواجب بذكر العام والمطلق فقط ، يكون ( من قبيل بيان العدم ) وذلك لأنّه حيث بيّن العام والمطلق فقط ممّا معناه : انّه لا تخصيص ولا تقييد أبدا ، فقد بيّن عدم الوجوب

ص: 176

ولا قبح فيه بعد فرض المصلحة ، مع أنّ بيان العدم قد يدّعى وجوده في الكلّ ، بمثل قوله صلى الله عليه و آله وسلم في خطبة الغدير في حجّة الوداع : « معاشر الناس ما من شئيُقرّبكم إلى الجنّة الاّ وقد أمرتكم به ، وما من شيء يُباعدكم عن النار إلاّ وقد نهيتكم عنه » .

-----------------

وعدم الحرمة ( ولا قبح فيه ) أي : في تأخير أصل الحكم رأسا ، أو تأخير التخصيص والتقييد في الحكم ( بعد فرض المصلحة ) لذلك التأخير فيهما جميعا .

( مع أنّ بيان العدم قد يُدّعى وجوده في الكلّ ) : الأوّل والثاني ، وذلك ( بمثل قوله صلى الله عليه و آله وسلم في خطبة الغدير في حجّة الوداع : « مَعاشِرَ النّاس ما مِن شَيء يُقرّبُكمُ إلى الجنّة اِءلاّ وقَد أمرَتُكمُ بِه ، وَمَا مِن شَيءٍ يُباعِدُكُم عن النّار إلاّ وقد نهيتُكُم عنه » (1) ) فانّ معنى هاتين الجملتين هو : بيان عدم وجود حكم من واجبات ومحرّمات غير التي بيّنها صلى الله عليه و آله وسلم ، مع وضوح : إنّ هناك واجبات ومحرّمات لم يبيّنهما ، ولعلّ مراده من بيانهما هو : الايداع عند الأئمّة الطاهرين صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين حيث هم يبيّنون تلك الأحكام التي لم يبيّنها صلى الله عليه و آله وسلم .

ثمّ إنّ لفظ الخطبة إن كان كما نقله المصنّف : « وَما من شَيءٍ يُباعِدكُمُ عن النار » أي : يباعدكم عن النار إجتنابه ، فانّ إجتناب الحرام يُبعد عن النار ، ولكن في بعض النسخ جاء بهذا النحو : « مَعاشِرَ الناس! ما مِن شيء يُقرّبُكُم إلى الجنّة ويُباعدُكُم عَنِ النّار إلاّ وقَدَ أمرَتُكُم بِهِ ، وَمَا مِن شيءٍ يُباعِدُكُم مِنَ الجنّةِ ويقرّبُكُم

ص: 177


1- - وقريب من هذا النص ورد في الكافي اصول : ج2 ص74 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص45 ب12 ح21939 ، بحار الانوار : ج70 ص96 ب47 ح3 .

بل يجوز أن يكون مضمون العموم والاطلاق وهو الحكم الالزامي واخفاء القرينة المتضمنة لنفي الالتزام ، فيكون التكليفُ حينئذٍ لمصلحة فيه ، لا في المكلّف به .

-----------------

إلى النار إلاّ وقَدَ نهيتُكُم عَنهُ » (1) .

وكيف كان : فانّ بيان العدم قد يدّعى في الكلّ ( بل يجوز أن يكون مضمون العموم ) في مثل أكرم العلماء ( والاطلاق ) في مثل أكرم العالم ( وهو : الحكم الالزامي ) الظاهر من العام ( و) المطلق ، مع ( إخفاء القرينة ) المخصّصة أو المقيّدة في مثل لا تكرم زيدا ( المتضمنّة لنفي الالزام ) يعني : إنّ الفرض قد تعلّق بالحكم الالزامي وإخفاء القرينة معا ( فيكون التكليف حينئذ لمصلحة فيه ) أي : في التكليف نفسه ( لا في المكلّف به ) فالشارع إنّما ألزم اكرام زيد في قوله : أكرم العلماء ، أو أكرم العالم ، ولم يبيّن تخصيصه ، أو تقييده ، لمصلحة موجودة في نفس التكليف بهذا العموم أو الاطلاق ، وأمّا المكلّف به فلو عمل العامل به واتّفق وجود مفسدة فيه ، فلابدّ من أن يتدارك له .

هذا ، ولا يخفى : إنّ المصنّف قد ادّعى إلى هنا في مسألة تأخير بيان أصل الحكم ، أو تأخير بيان التخصيص والتقييد مطالب متدرّجة كالتالي :

أوّلاً : انّه لا فرق بينهما ، بل كلاهما من نسق واحد ، حتّى وإن كان يبدوأنّ الأوّل من قبيل عدم البيان والثاني من قبيل بيان العدم .

ثانيا : إنّ كليهما من قبيل بيان العدم ، لأنّه لمّا سكت عن بيان أصل الحكم . أو سكت عن بيان التخصيص والتقييد ، فكأنّه بيّن بسكوته عدم وجود حكم ، أو عدم وجود تخصيص وتقييد .

ص: 178


1- - مستدرك الوسائل : ج13 ص27 ب10 ح14643 .

فالحاصل : إنّ المستفاد من التتبّع في الأخبار ، والظاهر من خلو العمومات والمطلقات عن القرينة أنّ النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، جعل الوصي عليه السلام مبيّناً لجميع ما أطلقه وأطلق في كتاب الله ، وأودعه علم ذلك وغيره ، وكذلك الوصي بالنسبة إلى من بعده من الأوصياء صلوات اللّه عليهم أجميعن ، فبيّنوا ما رأوا فيه المصلحة وأخفوا ما رأوا المصلحة في إخفائه .

-----------------

ثالثا : إنّ الفرض - في صورة تأخير بيان التخصيص والتقييد - متعلّق بالحكم الالزامي وإخفاء القرينة معا ، بحيث يكون المصلحة في نفس التكليف ، فلو اتّفق في المكلّف به عند العمل به مفسدة للعامل تدارك له .

( فالحاصل : إنّ المستفاد من التتبّع في الأخبار ) التي وردت بكثرة في زمن الأئمّة الطاهرين عليهم السلام في تخصيص العمومات وتقييد المطلقات ممّا تأبى تلك التخصيصات والتقييدات من الحمل على النسخ ( و ) كذا ( الظاهر من خلوّ العمومات والمطلقات عن القرينة ) لا أنّ القرينة كانت واختفت عن اللاحقين هو : ( أنّ النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، جعل الوصي ) عليّا أمير المؤمنين ( عليه السلام مبيّنا لجميع ما أطلقه وأطلق في كتاب اللّه ، وأودعه ) أي : أودع النبي عليا عليه السلام ( علم ذلك و ) علم ( غيره ) من الأحكام التي لم بيّنها إطلاقا ممّا لزم على علي عليه السلام بيانها ، لأنّه يأتي وقت تلك الأحكام بعد ذلك .

( وكذلك الوصي بالنسبة إلى من بَعَدهُ من الأوصياء صلوات اللّه عليهم أجمعين ، فبيّنوا ما رأوا فيه المصلحة وأخفوا ما رأوا المصلحة في اخفائه ) سواء كان ما رأوا المصلحة في بيانه تقييدا أو تخصيصا لما سبق بيانه من العمومات والمطلقات ، أو بيان أصل الحكم ممّا لم يسبق بيانه في زمن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، وهكذا بالنسبة إلى كلّ إمام إمام .

ص: 179

فان قلت : اللازمُ من ذلك عدمُ جواز التمسّك بأصالة عدم التخصيص في العمومات ، بناءا على اختصاص الخطاب بالمشافهين ، أو فرض الخطاب في غير الكتاب .

إذ لا يلزم من عدم المخصّص لها في الواقع إرادةُ العموم ،

-----------------

( فان قلت : اللازمُ من ذلك ) الذي ذكرتم : من جواز الخطاب بعمومات ومطلقات لا يراد منها العموم والاطلاق ، لمصلحة في ذلك الخطاب هو : ( عدمُ جواز التمسّك بأصالة عدم التخصيص في العمومات ) وأصالة عدم التقييد في المطلقات ، يعني : انّه إذا جاز تأخير البيان لمصلحة في التأخير ، جاز إرادة خلاف الظاهر من دون نصب قرينة ، فعدم نصب القرينة لا يدلّ على إرادة العموم والاطلاق ، ومعه فلا نفع في أصالة عدم التخصيص وأصالة عدم التقييد ، ويكون الخطاب مجملاً ، فكيف تقولون بجواز التمسّك بأصالة عدم التخصيص وأصالة عدم التقييد ؟ .

وبعبارة اُخرى : انّه إذا جاز تأخير البيان ، فمن أين يُعلم أنّ العام اُريد به العموم ، والمطلق اُريد به الاطلاق ، وحينئذ يكون العام والمطلق مجملاً ، فلا يمكن التمسّك بهما ، لأنّه لا يمكن التمسّك بأصالة عدم التخصيص وعدم التقييد فيهما ، وهذا ( بناءا على إختصاص الخطاب بالمشافهين ، أو فرض الخطاب في غير الكتاب ) أي : في الأخبار حيث انّه خاص بالمشافهين أيضا ، فانّه بناءا على ذلك لا بناءا على شمول الخطاب لنا أيضا ، ليس لنا التمسّك بأصالة العموم ، أو أصالة الاطلاق ، الجارية في حقّ المشافهين والحكم بإشتراكنا معهم في العموم والاطلاق ، وذلك لأنّه كما قال : ( إذ لا يلزم من عدم المخصّص لها ) أي : لتلك العمومات والاطلاقات ( في الواقع إرادة العموم ) والاطلاق .

ص: 180

لأن المفروض حينئذٍ جواز تأخير المخصّص عن وقت العمل بالخطاب .

قلت : المستندُ في إثبات أصالة الحقيقة بأصالة عدم القرينة قبحُ الخطاب بالظاهر المجرّد وإرادة خلافه ، بضميمة أنّ الأصل الذي استقرت

-----------------

وإنّما لا يلزم من عدم المخصّص والمقيّد إرادة العموم والاطلاق ( لأنّ المفروض حينئذ ) أي : حين بنينا على إختصاص الخطاب بالمشافهين ( جواز تأخير المخصّص ) والمقيّد ( عن وقت العمل بالخطاب ) لمصلحة في ذلك التأخير ، ومعه فمن أين لنا انّه اُريد من العام أو المطلق ظاهره إذ من الممكن انّه لم يرد عمومه أو إطلاقه حين الخطاب ، وإنّما خصّص أو قيّد بعد ذلك بما لم يصل التخصيص أو التقييد إلينا ، فأصالة عدم المخصّص أو عدم المقيّد لا تجري في هذه الحال بالنسبة إلينا .

( قلت : ) أصالة عدم القرينة محكّمة إلاّ إذا رأينا تخصيصا أو تقييدا ، فإذا لم نر تخصيصا أو تقييدا كان اللازم الحكم على طبق أصالة عدم القرينة ، وحيث أنّ التكليف مشترك بين المشافهين وغيرهم نقول : بأنّ التكليف بالعام والمطلق شامل لنا أيضا .

وإنّما نقول بذلك لأنّ إعتبار أصالة عدم القرينة مستند إلى قبح الخطاب بالظاهر المجرّد عن القرينة وإرادة خلافه ، وليس مستندا إلى قبح تأخير البيان عن وقت العمل حتّى لو قلنا بجواز التأخير تسقط أصالة عدم القرينة عن الاعتبار ، وذلك كما قال : فانّ ( المستندُ في إثبات ) أي : إعتبار ( أصالة الحقيقة ) الموجبة لظهور العام والمطلق في العموم والاطلاق ( بأصالة عدم القرينة ) على المجاز هو : ( قبح الخطاب بالظاهر المجرّد ) عن القرينة ( وإرادة خلافه ) كأن يخاطب بالعام أو المطلق ويريد الخاص أو المقيّد ( بضميمة أنّ الأصل الذي استقرّت

ص: 181

عليه طريقة التخاطب هو أنّ المتكلّم لا يُلقي الكلام إلاّ لأجل إرادة تفهيم معناه الحقيقي أو المجازي .

فإذا لم ينصب قرينةً على إرادة تفهيم المجاز ، تعيّن إرادة الحقيقة فعلاً .

وحينئذٍ : فإن اطّلعنا على التخصيص المتأخّر ، كان هذا كاشفاً عن مخالفة المتكلّم لهذا الأصل لنكتة .

وأمّا إذا لم نطّلع ونفيناه بالأصل فالّلازم الحكمُ بإرادة تفهيم الظاهر فعلاً من المخاطبين ، فيشترك الغائبون معهم .

-----------------

عليه طريقة التخاطب هو : إنّ المتكلّم لا يلقي الكلام إلاّ لأجل إرادة تفهيم معناه الحقيقي ) فيما إذا لم ينصب قرينة ( أو المجازي ) فيما إذا نصب قرينة ( فإذا لم ينصب قرينة على إرادة تفهيم المجاز ، تعيّن إرادة الحقيقة فعلاً ) أي : ما دام لم ينكشف خلافه .

( وحينئذٍ : ) أي : حين لم ينصب قرينة على إرادة تفهيم المجاز عند الخطاب ( فإن اطّلعنا على التخصيص المتأخّر ) أو التقييد المتأخّر ، كما قد اطّلعنا عليه في كثير من الموارد ( كان هذا ) التخصيص أو التقييد المتأخّر ( كاشفا عن مخالفة المتكلّم لهذا الأصل ) أي : لأصالة الحقيقة وذلك ( لنكتة ) أي : لمصلحة كائنة في عمل المتكلّم على خلاف أصالة الحقيقة ، كمصلحة التدريج - مثلاً - .

( وأمّا إذا لم نطّلع ) على التخصيص أو التقييد المتأخّر كما هو مفروض بحثنا ، حيث نرى عامّا أو مطلقا ، ولا نرى تخصيصا أو تقييدا ( ونفيناه ) أي : نفينا التخصيص أو التقييد المتأخر ( بالأصل ) المزبور الذي هو عبارة عن أصالة الحقيقة ( فاللازم الحكم باراده تفهيم الظاهر فعلاً ) أي : حين القاء الخطاب ( من المخاطبين ، فيشترك الغائبون معهم ) في التكليف ، ومعه فلم يتمّ قول

ص: 182

ومنها : تعارضُ الاطلاق والعموم ، فيتعارض تقييدُ المطلق وتخصيصُ العامّ ، ولا إشكال في ترجيح التقييد على ما حقّقه سلطان العلماء : من كونه حقيقةً ، لأن الحكم بالاطلاق من حيث عدم البيان ، والعامّ بيان ،

-----------------

المستشكل : بأنّ اللازم من ذلك عدم جواز التمسّك بأصالة عدم التخصيص في العمومات .

( ومنها ) : أي ، من جملة المرجّحات الدلالية النوعية ( تعارضُ الاطلاق والعموم ) مثل : ما لو قال : أكرم عالما ، ثمّ قال : لا تكرم الفسّاق ( فيتعارض تقييد المطلق وتخصيصُ العام ) ومعه فهل يصحّ إكرام عالم فاسق حتّى يكون المطلق مقدّما على العام ، أو لا يصحّ حتّى يكون العام مقدّما على المطلق؟ قال المصنّف : ( ولا إشكال في ترجيح التقييد ) عرفا ، وأمّا صناعة فهو ( على ما حقّقه سلطان العلماء : من كونه ) أي : كون المطلق المقيّد ( حقيقةً ) وليس بمجاز ، فإذا استعمل المطلق في المقيّد لا يضرّ بكونه حقيقة ، إذ معنى المطلق عند السلطان هو الحقيقة المهملة ، بمعنى : انّه لا بشرط الاطلاق ولا عدمه ، ولا بشط إنضمام التشخّصات الفردية ولا عدمه ، فالإطلاق عنده ليس جزءا من مفهوم المطلق ، وإنّما يستفاد من دليل الحكمة وهو : عدم بيان القيد .

وعليه : فتقييد المطلق لا يوجب مجازية المطلق ، فإذا تعارض العام والمطلق يكون العام مقيِّدا للمطلق ( لأنّ الحكم بالاطلاق من حيث عدم البيان ، والعام بيان ) ففي المثال أنّ قوله : أكرم عالما إنّما يحكم بإطلاقه إذا لم يبيّن حرمة اكرام الفسّاق ، فإذا بيّن حرمة اكرام الفسّاق كان هذا العام بيانا للمطلق ، فيكون المراد بالعالم هو العالم غير الفاسق .

ص: 183

فعدمُ البيان للتقييد جزءٌ من مقتضي الاطلاق ، والبيان للتخصيص مانع عن اقتضاء العامّ للعموم .

فإذا دفعنا المانع عن العموم بالأصل ، والمفروض وجود المقتضي له ، ثبت بيانُ التقييد وارتفع المقتضي للاطلاق .

-----------------

إذن : ( فعدمُ البيان للتقييد ) أي : عدم بيان تقييد المطلق في أكرم عالما - مثلاً - عند سلطان العلماء هو : ( جزء من مقتضي الاطلاق ) فالذي يحقّق الاطلاق بنظره جزءان : جزء اللفظ ، وجزء عدم بيان التقييد ( و) ليس كذلك العموم ، إذ ( البيان للتخصيص ) أي : بيان تخصيص العام في لا تكرم الفسّاق - مثلاً - ( مانع عن إقتضاء العام للعموم ) ففرق بين تقييد المطلق وبين تخصيص العام ، فانّ لفظة « عالما » المطلق لا يقتضي بوحدة الاطلاق ، بل إنّما يقتضي الاطلاق بإنضمام عدم بيان القيد ، وذلك بخلاف العام ، فانّه بوحده مقتضٍ للعموم ، فإذا ثبت التخصيص كان مانعا .

وعليه : ( فإذا دفعنا المانع عن العموم ) في مثل : أكرم عالما ، ولا تكرم الفسّاق دفعا ( بالأصل ) أي : بأصالة عدم التخصيص ( والمفروض : وجود المقتضي له ) أي : للعموم ، لأنّ لفظه يقتضي العموم بالوضع ( ثبت بيان التقييد ) للمطلق أكرم عالما ( وإرتفع المقتضي للاطلاق ) ببيان التقييد الواصل في لا تكرم الفسّاق .

والحاصل : إنّه إذا كان هناك عام ومطلق متنافيان ، كما في أكرم عالما ، ولا تكرم الفسّاق ، فحيث انّ عموم العام تنجيزي لأنّه بالوضع ، وإطلاق المطلق تعليقي لأنّه بمقدّمات الحكمة ، نحكم بعدم المخصّص للعام لأصالة العموم ، فإذا ثبت العموم يكون هذا العام مقيّدا للمطلق ، لأنّ إطلاق المطلق متوقّف على عدم البيان ومعلّق عليه ، والعموم بيان .

ص: 184

فإنّ العمل بالتعليقي موقوفٌ على طرح التنجيزي ، لتوقّف موضوعه على عدمه ، فلو كان طرح التنجيزي متوقفاً على العمل بالتعليقي ومسبّباً عنه ، لزم الدورُ ، بل هو يتوقف على حجّة اُخرى راجحة عليه ، فالمطلق دليل تعليقي والعامّ دليل تنجيزي .

-----------------

وعليه : ( فانّ العمل بالتعليقي ) الذي هو الاطلاق حيث إنّ إطلاق المطلق : أكرم عالما معلّق على عدم البيان ، فالعمل به ( موقوف على طرح التنجيزي ) الذي هو العموم ( لتوقّف موضوعه ) أي : موضوع التعليقي وهو الاطلاق ( على عدمه ) أي : على عدم بيان التنجيزي الذي هو العموم ، وحينئذ ( فلو كان طرح التنجيزي متوقّفا على العمل بالتعليقي ومسبّبا عنه ، لزم الدور ) وذلك لأنّ المعلّق يرتفع بالمنجّز ، أمّا المنجّز فلا يرتفع بالمعلّق ، وإلاّ لزم الدور ، وإن شئت قلت : إنّ الاطلاق هنا موقوف على عدم العموم لأنّ العموم مقيّد للاطلاق ، فلو كان عدم العموم موقوفا على الاطلاق كان الاطلاق موقوفا على الاطلاق وهو دورٌ صريح .

إذن : فلا يتوقّف طرح التنجيزي وهو العموم على العمل بالتعليقي وهو الاطلاق ، حتّى يكون دورا ( بل هو ) أي : طرح التنجيزي ( يتوقّف على حجّة اُخرى راجحة عليه ) أي : على التنجيزي كأن يقول : لا تكرم الفسّاق إلاّ العالم منهم - مثلاً - ( فالمطلق دليل تعليقي ) لما عرفت ( والعام دليل تنجيزي ) لأنّه يكون بالوضع ، لكن لا يخفى : أنّ العرف يتحيّر في انّه هل يقدّم العام على المطلق ، أو يقدّم المطلق على العام ؟ فالتعليل الذي ذكره المصنّف إنّما هو دقّي عقلي وليس تسامحيّا عرفيّا ، فلا ينفع في إفادة الظهور كما هو الشأن في مباحث تعارض الأحوال ، ولذا تركه المتأخّرون .

هذا كلّه على تقدير كون المطلق المقيّد حقيقة على ما ذكره سلطان العلماء

ص: 185

وأمّا على القول بكونه مجازاً ، فالمعروفُ في وجه تقديم التقييد كونُه أغلب من التخصيص ، وفيه تأمّلٌ .

نعم ، إذا استفيد العموم الشمولي من دليل الحكمة كانت الافادة غير مستند إلى الوضع ، كمذهب السلطان في العموم البدلي .

-----------------

لا مجازا ( وأمّا على القول بكونه ) أي : المطلق المقيّد ( مجازا ) لا حقيقة ، فيكون نظير العام المخصّص على ما هو المشهور بين علماء البلاغة والاُصول ( فالمعروف في وجه تقديم التقييد ) أي : تقييد المطلق بالعام ، لا تخصيص العام بالمطلق ( كونُهُ أغلب من التخصيص ) والغلبة توجب الحاق الشيء بالأعمّ الأغلب .

( وفيه تأمّل ) لمنع كونه أغلب ، بالاضافة إلى انّه لو فرض كونه أغلب ، فإنّ الغلبة لا تكون سببا للظهور الذي هو محلّ الكلام في مباحث الألفاظ .

( نعم ، إذا استفيد العموم الشمولي ) وهو في قِبال العموم البدلي ، فانّ العموم قد يكون شموليّا كالمفرد المحلّى باللام ، مثل : أكرم العالم ، حيث يريد إكرام كلّ العلماء ، وقد يكون بدليّا بأن يريد اكرام فرد واحد من الطبيعة على البدل ، مثل : أكرم عالما ، فانّه لو استفيد العموم الشمولي ( من دليل الحكمة ) أي : من مقدّمات الحكمة ، وذلك بأن كان المولى في مقام البيان ، ولم ينصب قرينة على الخلاف ولم يكن هناك قدر متيقّن ، كما في مثال : أكرم العالم ( كانت الافادة ) أي : إفادة اللفظ للعموم ( غير مستند إلى الوضع ) وإنّما هو مستند إلى دليل الحكمة كما عرفت ، فيكون ( كمذهب السلطان في ) المطلق ، أي : ( العموم البدلي ) حيث إنّ إطلاق المطلق مثل : أكرم عالما ، عنده ليس مستندا إلى الوضع ، بل إلى مقدّمات الحكمة ، فإذا تعارض مع ما كان مستندا إلى مقدّمات الحكمة أيضا كما ادّعي

ص: 186

وممّا ذكرنا يظهر حال التقييد مع سائر المجازات .

ومنها : تعارضُ العموم مع غير الاطلاق من الظواهر ، والظاهر المعروف تقديم التخصيص لغلبة شيوعه .

وقد يتأمّل في بعضها ، مثل ظهور الصيغة

-----------------

في العام الشمولي مثل : لا تكرم الفاسق ، لم يكن أحدهما مقدّما على الآخر ، لأنّ كلّ واحد منهما يصلح أن يكون قرينة للآخر ولا أولوية .

( وممّا ذكرنا ) في وجه تقديم العام على المطلق ( يظهر حال التقييد مع سائر المجازات ) فانّ التقييد مقدّم على التخصيص ، كما إنّ التخصيص مقدّم على سائر المجازات ، والمقدّم على المقدّم مقدّم ، فيكون التقييد مقدّما على سائر المجازات ، فلو قال - مثلاً - : اعتق رقبة ، ثمّ قال : اعتق رقبة مؤمنة ، فانّه إمّا من تقييد الرقبة في الأوّل بالمؤمنة ، وإمّا من حمل اعتق في الثاني على الندب وهو مجاز ، والتقييد أولى ، لكن لا يخفى : إنّ هذا أيضا مبني على الدقّة التي لا تكون موجبة للظهور ، بينما اللازم في مباحث الألفاظ الظهور العرفي .

( ومنها ) : أي : من جملة المرجّحات الدلالية النوعية ( تعارضُ العموم مع غير الاطلاق من الظواهر ، و ) ذلك كما إذا قال : أكرم العلماء ، الظاهر في شموله لزيد ، وقال : لا تكرم زيدا ، الظاهر في التحريم ، فهل يشمل العلماء زيدا ويحمل لا تكرم على غير ظاهره من الكراهة ، فيكون إكرام زيد واجبا مكروها ، مثل الصلاة الواجبة في الحمام ، حيث انّها واجبة مكروهة ، أو يحمل النهي على ظاهره من التحريم ويخصّص به أكرم العلماء حتّى يكون اكرام زيد محرّما ؟ (الظاهر المعروف تقديم التخصيص لغلبة شيوعه) ممّا معناه : حرمة إكرام زيد .

( وقد يتأمّل في بعضها ) أي : في بعض الظواهر ( مثل ظهور الصيغة

ص: 187

في الوجوب ، فإنّ استعمالها في الاستحباب شائع أيضاً ، بل قيل بكونه مجازاً مشهوراً ، ولم يقل ذلك في العامّ المخصّص ، فتأمّل .

ومنها : تعارضُ ظهور بعض

-----------------

في الوجوب ) كما إذا قال : لا يجب إكرام العلماء ، ثمّ قال : أكرم زيدا ، فأيّهما يحمل على الآخر ، وذلك لأنّه يدور أمرُ : أكرم زيدا ، بين الأخذ بظهوره والحكم بوجوب إكرام زيد ، ممّا معناه : حمل العام على الخاص ، وبين حمله على الاستحباب والحكم بإستحباب اكرام زيد ، ممّا معناه : حمل الخاص على العام ، فأيّهما يكون المقدّم ؟ .

وإنّما يتأمّل في ظهور الصيغة في الوجوب لأنّه كما قال : ( فانّ إستعمالها ) أي : إستعمال صيغة الأمر ( في الاستحباب شايع أيضا ) كشيوع تخصيص العامّ ، فعند تعارضهما لا يُعلم أيّهما يقدّم على الآخر ( بل قيل بكونه ) أي : إستعمال الأمر في الندب ( مجازا مشهورا ، و ) من المعلوم : إنّ المجاز المشهور يعادل الحقيقة على ما ذكره جمع ، بينما ( لم يقل ذلك في العام المخصّص ) فانّه لم يقل أحد بأنّ العام المخصّص مجاز مشهور ، ومعه يقدّم حمل صيغة الأمر على الندب ، على تخصيص العام ، ممّا تكون نتيجته عدم وجوب إكرام زيد ، وإنّما يكون اكرامه مستحبّا .

( فتأمّل ) ولعلّه إشارة إلى ما ذكرناه : من أنّ أمثال هذه الاُمور لا تكون سببا للظهور الذي هو المعيار في الجمع العرفي بين الأدلّة ، فاللازم الرجوع فيها إلى القرائن الخارجية العقليّة أو النقليّة ، فإن كانت ، وإلاّ فالمرجع الاُصول العمليّة .

( ومنها ) أي : من جملة المرجّحات الدلالية النوعية ( تعارضُ ظهور بعض

ص: 188

ذوات المفهوم من الجمل مع بعض .

والظاهر تقديم الجملة الغائيّة على الشرطيّة ، والشرطيّة على الوصفيّة .

ومنها : تعارضُ ظهور الكلام في استمرار الحكم مع غيره من الظهورات ، فيدور الأمرُ بين النسخ

-----------------

ذوات المفهوم من الجمل مع بعض ، و) ذلك بأن يكون هناك مفهومان متعارضان كمفهوم الغاية ، ومفهوم الشرط ، فهل يقدّم هذا المفهوم على ذاك ، أو ذاك على هذا ؟ ( الظاهر ) عند المصنّف ( تقديم الجملة الغائيّة على الشرطيّة ) وذلك ، لأنّ مفهوم الغاية في نظر المصنّف أظهر من مفهوم الشرط ، فيكون من الجمع بين الأظهر والظاهر حيث يقدّم الأظهر على الظاهر .

( و ) الظاهر أيضا عند المصنّف تقديم الجملة ( الشرطيّة على الوصفيّة ) للملاك المزبور ، فإذا قال - مثلاً - في جملة شرطيّة : يحرم اكرام الفاسق إن كان جاهلاً ، وقال في جملة وصفيّة : يجوز إكرام العالم العادل ، وقال في جملة غائية : يجوز إكرام العادل ما دام عادلاً ، فإنّ مفهوم الشرط في الأوّل هو : جواز إكرام العالم الفاسق ، ومفهوم الوصف في الثاني ، وكذلك الغاية في الثالث هو : عدم جوازه ، لكن لا يخفى : إنّ إستظهار المصنّف يأتي فيه المحذور الآنف الذكر : من أنّه مبني على الدقّة ، ومجال الظواهر العرف .

( ومنها ) أي : من جملة المرجّحات الدلالية النوعية هو : تعارض النسخ والتخصيص الذي تقدّم بعض مصاديقه ، وهنا ذكره المصنّف بعنوان كبرى كليّة ، وهو ما إذا ( تعارضُ ظهور الكلام في إستمرار الحكم ) أي : العموم الأزماني ( مع غيره من الظهورات ) كالعموم الافرادي ، وحينئذٍ ( فيدور الأمر بين النسخ

ص: 189

وارتكاب خلاف ظاهر آخر ، والمعروف ترجيح الكلّ على النسخ ، لغلبتها بالنسبة إليه .

وقد يُستدلُّ على ذلك بقولهم عليهم السلام : « حلال محمد صلى الله عليه و آله وسلم حلالٌ إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة » .

-----------------

وإرتكاب خلاف ظاهر آخر ) كما إذا قال : لا تنم بين الطلوعين ، ممّا ظاهره التحريم ، وبعد حضور وقت العمل قال : لا يحرم النوم بين الطلوعين ، فان كان الثاني نسخا كان معناه ، تقديم ظاهر لا تنم الذي هو التحريم ، وان لم يكن نسخا كان معناه : تقديم إرتكاب خلاف الظاهر في لا تنم حيث حملناه على الكراهة .

هذا ( والمعروف ترجيح الكل ) أي : كلّ المخالفات للظاهر ( على النسخ ) وذلك ( لغلبتها ) أي : غلبة الكل ( بالنسبة إليه ) أي : بالنسبة إلى النسخ ، فانّ النسخ قليل جدّا ، بينما خلاف الظاهر فهو أكثر من أن يحصى ، فظهور الحكم في الاستمرار الذي ينافي النسخ ، أقوى من سائر الظواهر وأظهر منها ، والظاهر يحمل على الأظهر ، ولذا يلزم عند تعارضهما مخالفة سائر الظواهر وتقديم الأظهر عليها ، وذلك بأن يحمل الأمر على الاستحباب ، والنهي على الكراهة ، وما أشبه ذلك تجنّبا عن الوقوع في النسخ .

( وقد يُستَدلُّ على ذلك ) أي : على ما هو المعروف من ترجيح الكلّ على النسخ ( بقولهم عليهم السلام : « حَلالُ محمّدٍ صلى الله عليه و آله وسلم حَلالٌ إلى يومِ القيامَةِ ، وحَرامُه حرام إلى يوم القيامة » (1) ) حيث قد ذكرنا سابقا : إنّ المراد بالحلال هو الأحكام الثلاثة اللا إقتضائية ، والمراد بالحرام هو ما يشمل الواجب والحرام ، فإذا دار الأمر بين النسخ وبين إرتكاب خلاف الظاهر ، فعموم « حلال محمّد صلى الله عليه و آله وسلم » يوجب

ص: 190


1- - بصائر الدرجات : ص148 ، الكافي اصول : ج1 ص58 ح19 .

وفيه : إنّ الظاهر سوقُهُ لبيان استمرار أحكام محمّد صلى الله عليه و آله وسلم ، نوعاً من قبل اللّه جلّ ذكره ، إلى يوم القيامة في مقابل نسخها بدين آخر ، لابيان استمرار أحكامه الشخصيّة إلاّ ما خرج بالدليل ، فالمرادُ : انّ حلاله صلى الله عليه و آله وسلم حلالٌ من قبل اللّه جلّ ذكره إلى يوم القيامة ، لا أنّ الحلال من قبله صلى الله عليه و آله وسلم حلالٌ من قبله إلى يوم القيامة ، ليكون المرادُ استمرار حلّيّته .

-----------------

تقوية ظهور الحكم في الاستمرار ، فيكون عدم النسخ مقدّما على تلك الظواهر ، فنحمل تلك الظواهر على المجاز وإرادة خلاف الظاهر منها .

( وفيه : إنّ الظاهر ) من هذا الحديث الشريف ( سوقُهُ لبيان إستمرار أحكام محمّد صلى الله عليه و آله وسلم ، نوعا من قبل اللّه جلّ ذكره ، إلى يوم القيامة ) والمقصود من إستمرارها نوعا إنّما هو ( في مقابل نسخها بدين آخر ) فدين النبي محمّد صلى الله عليه و آله وسلم لا ينسخ بخلاف دين سائر الأنبياء عليهم السلام ( لا بيان إستمرار أحكامه الشخصيّة ) الجزئيّة ، حتّى إذا كان شيء واجبا في أوّل الشريعة يبقى واجبا إلى الأبد ، وإذا كان حراما في الشريعة يبقى حراما إلى الأبد ، وهكذا بقيّة الأحكام الجزئيّة ( إلاّ ما خرج بالدليل ) فانّه ليس المعنى أنّ أفراد أحكام هذه الشريعة لا ينسخ بعضها بعضا ، إلاّ ما ثبت بدليل خاص من النسخ ، كما قالوا بذلك بالنسبة إلى عدّة المتوفّى عنها زوجها ، حيث كان في أوّل الشريعة عاما ، ثمّ نسخ إلى أربعة أشهر وعشرا.

إذن : ( فالمراد : إنّ حلاله صلى الله عليه و آله وسلم ) هو : ( حلال من قِبل اللّه جلّ ذكره إلى يوم القيامة ) أي : إنّ دينه باقٍ إلى الأبد ( لا أنّ الحلال من قِبله صلى الله عليه و آله وسلم حلالٌ من قبله ) هو صلى الله عليه و آله وسلم ( إلى يوم القيامة ، ليكون المراد ) من حكمه صلى الله عليه و آله وسلم بحلّية لحم الغنم - مثلاً - أن يكون هذا الحكم الجزئي حلالاً إلى يوم القيامة ، بمعنى ( إستمرار حليّته ) وعدم نسخ الحلّية بحكم آخر كالحرمة .

ص: 191

وأضعف من ذلك التمسّكُ باستصحاب عدم النسخ في المقام ؛ لأن الكلام في قوّة أحد الظاهرين وضعف الآخر ، فلا وجه لملاحظة الاُصول العمليّة في هذا المقام ، مع أنّا إذا فرضنا عامّاً متقدّماً وخاصّاً متأخرّاً ، فالشكّ في تكليف المتقدّمين بالعامّ وعدم تكليفهم .

-----------------

هذا ، ولكن الظاهر من هذا الحديث الشريف هو : ظهور المعنيين منه ، فلا خصوصيّة للمعنى الأوّل ، ولذا نرى إنّ العلماء كافّة ومن جميع المذاهب ، قد أجمعوا على أنّ كلّ شيء كان قد أحلّه الشارع أو حرّمه ، أو جعل له حكما آخر في أوّل الشريعة ، فهو باقٍ إلى أن يثبت الناسخ .

( وأضعفُ من ذلك ) أي : من التمسّك بالأصل اللفظي وهو عموم « حلال محمّد صلى الله عليه و آله وسلم » لترجيح خلاف الظاهر على النسخ هو التمسّك لأجله بالأصل العملي ، أعني : ( التمسّكُ باستصحاب عدم النسخ في المقام ) وذلك بتقريب : انّا نشكّ في النسخ وعدم النسخ ، فنستصحب عدم النسخ .

وإنّما كان هذا أضعف من ذاك لما يلي :

أوّلاً : ( لأنّ الكلام في ) الاُصول اللفظيّة أي : في ( قوّة أحد الظاهرين وضعف الآخر ) وأنّه هل يقدّم النسخ على خلاف ظاهر الآخر ، أو يقدّم خلاف الظاهر في مقابل النسخ؟ ومعه ( فلا وجه لملاحظة الاُصول العمليّة في هذا المقام ) لأنّ الأصل العملي لا يوجب قوّة أحد الظاهرين على الآخر ، لإختلاف رتبتهما كما هو واضح .

ثانيا : ( مع أنّا إذا فرضنا عامّا متقدّما وخاصّا متأخّرا ) كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال بعد وقت حضور العمل : لا تكرم العالم الفاسق ( فالشكّ ) كائن ( في تكليف المتقدّمين بالعام ) على عمومه ( وعدم تكليفهم ) به على عمومه ، وذلك

ص: 192

فاستصحابُ الحكم السابق لامعنى له فيبقى ظهورُ الكلام في عدم النسخ معارضاً بظهوره في العموم ، ثمّ إنّ هذا التعارض إنّما هو مع عدم ظهور الخاصّ في ثبوت حكمه في الشريعة ابتداءً ، وإلاّ تعيّن التخصيص .

نعم ، لايجري في مثل العامّ المتأخّر عن الخاصّ .

-----------------

لأنّ العام المتقدّم مردّدا عندنا بالنسبة إليهم بين النسخ وبين التخصيص ، فلا نعلم هل أنّ اكرام العلماء وجب عليهم أوّلاً على سبيل العموم ، ثمّ نسخ بالنسبة إلى العلماء الفاسقين حتّى يكون منسوخا ، أو انّ أكرام العلماء الفاسقين لم يكن واجبا عليهم من الأوّل حتّى يكون مخصّصا؟ ومعه يكون وجوب إكرام الفاسقين على المتقدّمين غير متيقّن لنا ، وإذا لم يكن متيقّنا فلا تتمّ أركان الاستصحاب .

وعليه : ( فإستصحابُ الحكم السابق لا معنى له ) لعدم اليقين به وبذلك تبيّن انّه لا معنى لإستصحاب عدم النسخ ، وإذا كان كذلك ( فيبقى ظهورُ الكلام ) وهو العام ( في عدم النسخ ) والعموم الأزماني ( معارضا بظهوره في العموم ) الافرادي ، فيتساوى الظهوران من دون أن يكون مع أحدهما الاستصحاب .

( ثمّ إنّ هذا التعارض ) المتكافى ء بين إحتمال النسخ وإحتمال عدم إرادة الظاهر من الكلام الآخر ( إنّما هو مع عدم ظهور الخاص في ثبوت حكمه في الشريعة إبتداءا ، وإلاّ ) بأن كان ظاهر الخاص ثبوت حكمه من أوّل الشريعة إلى آخر الشريعة ، كما إذا قال : يحرم إكرام الفاسق في كلّ زمان ومكان ( تعيّن التخصيص ) وقدّم على النسخ قطعا .

( نعم ، لا يجري ) لنا ما جرى من الشكّ هناك بالنسبة إلى تكليف المتقدّمين بالعام فيما إذا فرضنا عاما متقدّما وخاصا متأخّرا ( في مثل العام المتأخّر عن الخاص ) وذلك لليقين بتكليفهم هنا بالخاص المتقدّم ، فإذا قال - مثلاً - أكرم

ص: 193

ومنها : ظهورُ اللفظ في المعنى الحقيقي ، مع ظهوره مع القرينة في المعنى المجازي ، وعبّروا عنه بتقديم الحقيقة على المجاز ورجّحوها عليه ، فإن أرادوا أنّه إذا دار الأمرُ بين طرح الوضع اللفظي بإرادة المعنى المجازي ، وبين طرح مقتضى القرينة

-----------------

الفقهاء ، ثمّ قال بعد حضور وقت العمل ، لا تكرم العلماء ، فانّه في هذه الحال يتوهّم جريان إستصحاب عدم النسخ لتماميّة أركان الاستصحاب ، غير انّه أصل عملي فلا يكون في مرتبة الأصل اللفظي حتّى يمكن الاستناد إليه ، مع انّه قد عرفت سابقا : إنّ هذه التعليلات لا تفي بإفادة الظهور العرفي الذي هو الميزان في الجمع بين الكلامين ، نعم قلّة النسخ توجب عدم الاعتناء به عند العقلاء .

( ومنها ) أي : من جملة المرجّحات الدلالية النوعية : تعارض ( ظهورُ اللفظ في المعنى الحقيقي ، مع ظهوره مع القرينة في المعنى المجازي ، و ) ذلك كما إذا قال مرّة : رأيت أسدا ، وقال اُخرى : رأيت أسدا يرمي ، فهل يتصرّف في الأسد بقرينة يرمي حتّى يكون المراد من رأيت أسدا هو الرجل الشجاع ، أو يتصرّف في يرمي بقرينة رأيت أسدا حتّى يكون المراد من يرمي هو رمي الحجر؟ فانّهم قد ( عبّروا عنه بتقديم الحقيقة على المجاز ) ليكون المراد من رأيت أسدا هو الحيوان المفترس ، وبذلك يتصرّف في يرمي ( ورجّحوها ) أي : الحقيقة ( عليه ) أي : على المجاز .

قال المصنّف في تعقيب كلامهم : ( فإن أرادوا أنّه إذا دار الأمرُ بين طرح الوضع اللفظي بإرادة المعنى المجازي ) وذلك بأن نحمل الأسد في الكلام الأوّل الذي هو رأيت أسدا أيضا على الرجل الشجاع ، ونطرح ظهوره في الحيوان المفترس الناشئ من الوضع لقرينة يرمي في المثال الثاني ( وبين طرح مقتضى القرينة

ص: 194

في الظهور المجازي بإرادة المعنى الحقيقي ، فلا عرف له وجهاً ؛ لأن ظهور اللفظ في المعنى المجازي إن كان مستنداً إلى قرينة لفظيّة ، فظهورهُ مستندٌ إلى الوضع ، وإن استند إلى حال أو قرينة منفصلة قطعية

-----------------

في الظهور المجازي بإرادة المعنى الحقيقي ) وذلك بأن نحمل الأسد في الكلام الثاني الذي هو رأيت أسدا يرمي أيضا على المفترس ونطرح ظهوره في الرجل الشجاع الناشئهذا الظهور عن القرينة وهو يرمي ، ذلك ونحمل يرمي على غير معناه المتعارف من رمي النبل بل نحمله على رمي الحجر .

قال المصنّف : انّهم إن أرادوا ذلك ( فلا عرف له وجها ) إذ لا دليل على أنّ أسد أظهر في معناه الحقيقي ، من يرمي في معناه الحقيقي ، وذلك ( لأنّ ظهور اللفظ في المعنى المجازي ) قد يستند إلى اُمور تالية :

أوّلاً : ( إن كان مستندا إلى قرينة لفظيّة ) كما في مثال رأيت أسدا يرمي ( فظهوره مستندٌ إلى الوضع ) أيضا ، لأنّه كما وضع أسد على الحيوان المفترس ، فكذلك وضع يرمي على رمي النبل .

ثانيا : ( وان إستند ) أي : ظهور اللفظ في المعنى المجازي ( إلى حال ) بأن لم يكن هنالك لفظ يدلّ على المعنى المجازي وإنّما الحال يدلّ عليه ، كما إذا قال : « اغتسل للجمعة » في عداد ذكر مستحبّات يوم الجمعة من دعاء وثناء ، وصلاة وزيارة ، فانّ « اغتسل للجمعة » وحده ظاهر في الوجوب بالوضع ، لكنّه مع قرينة السياق وهي قرينة حالية ظاهر في الاستحباب ، حيث انّه جاء في سياق ذكر مستحبّات يوم الجمعة ، والقرينة الحالية أيضا كالوضع في قوّة الظهور .

ثالثا : ( أو ) استند ظهور اللفظ في المجاز إلى ( قرينة منفصلة قطعيّة ) من إجماع أو عقل أو ما أشبه ذلك كما إذا قال مرّة : « اغتسل للجمعة » فقط ، ثمّ قال

ص: 195

فلا تقصُر عن الوضع .

وإن كان ظنّاً معتبراً فينبغي تقديمُه على الظهور اللفظي المعارض ، كما يقدّم على ظهور اللفظ المقرون به ، إلاّ أن يفرض ظهوره ضعيفاً يقوى عليه بخلاف ظهور

-----------------

في وقت آخر أيضا : « اغتسل للجمعة » لكن في عِداد ذكر اُمور مستحبّة قام الاجماع على إستحبابها ، فانّ القول الأوّل : ظاهر في الوجوب بالوضع ، والقول الثاني : ظاهر في الاستحباب ، بقرينة الاجماع على إستحباب ما ذكر في عِداد غسل الجمعة ، وإذا كانت القرينة كتلك ( فلا تقصر عن الوضع ) فانّ القرينة القطعيّة من حال أو إجماع أو ما إليهما لا يكون أضعف من الظهور المستند إلى الوضع ، ومعه فلا وجه لتقديم الحقيقة على المجاز .

رابعا : ( وإن كان ) مستند الظهور المجازي ( ظنّا معتبرا ) لا قطعا ، كما إذا قال مرّة : « اغتسل للجمعة » ثمّ قال مرّة اُخرى : « اغتسل للجمعة » مع ذكر جملة من الاُمور التي قامت الشهرة على إستحبابها ، ممّا يكون قرينة السياق على إستحباب غسل الجمعة أيضا ، وإذا كان كذلك ( فينبغي تقديمُه ) أي : تقديم ظهور الظنّ المعتبر ( على الظهور اللفظي المعارض ) وحده ( كما يقدّم على ظهور اللفظ المقرون به ) وهو قوله : « اغتسل للجمعة » في عِداد اُمور قامت الشهرة على إستحبابها ، فكما إنّ الشهرة تتصرّف في ظاهر « اغتسل » إذا كان وحده ، فكذلك تتصرّف في ظاهر « اغتسل » إذا كان مقرونا بذكر اُمور اُخرى .

( إلاّ أن يفرض ظهوره ) أي : ظهور الظنّ المعتبر الصالح لأن يكون قرينة على المجاز ( ضعيفا يُقوى عليه ) أي : بأن يقع مغلوبا لا غالبا ، وذلك ( بخلاف ظهور

ص: 196

الدليل المعارض ، فيدور الأمر بين ظاهرين أحدهما أقوى من الآخر .

وإن أرادوا به معنى آخر ، فلابدّ من التأمّل فيه ، هذا بعضُ الكلام في تعارض النوعين المختلفين من الظهور .

وأمّا الصنفان المختلفان من نوع واحد ، فالمجاز الراجح الشائع

-----------------

الدليل المعارض ) الظاهر في المعنى الحقيقي حيث لم يكن بذلك الضعف ، فيقدّم المعنى الحقيقي على المعنى المجازي .

مثلاً : إذا قال مرّة : « اغتسل للجمعة » ثمّ قال في وقت آخر : « اغتسل للجنابة والجمعة والعيد والاحرام » - مثلاً - فانّه حيث قرن بغسل الجمعة هنا اُمورا بعضها واجب وأكثرها مستحبّ يظنّ بقرينة غلبة السياق إرادة الاستحباب منه ، إلاّ أنّ ظهور المعارض الذي هو : « اغتسل للجمعة » في كلامه الأوّل في إفادة الوجوب أقوى من هذا الظهور الثاني ( فيدور الأمر بين ظاهرين أحدهما أقوى من الآخر ) فيقدّم الأقوى ظهورا بعنوان انّه أقوى ، لا بعنوان قوّة الظهور العرفي ، لكن هذا ليس بملاك كلّي ، إذ قد يكون المعنى المجازي أظهر من المعنى الحقيقي ، فانّ الملاك الكلّي هو الأظهرية العرفية .

هذا إن أرادوا من تقديم الحقيقة على المجاز المعنى المذكور آنفا ( وإن أرادوا به معنى آخر ) غير المعنى الذي ذكرناه ( فلابدّ من التأمّل فيه ) حتّى نرى هل هو دليل يُعتمد عليه ، أو ليس بدليل يمكن الاعتماد عليه ؟ .

ثمّ قال المصنّف : ( هذا بعضُ الكلام في تعارض النوعين المختلفين من الظهور ) كظهور النسخ وظهور التخصيص ، وما أشبه ذلك ممّا تقدّم الكلام حوله حيث بحث في انّه هل يقدّم هذا الظاهر على ذاك أو بالعكس ؟ .

( وأمّا الصنفان المختلفان من نوع واحد ) من الظهور ( فالمجاز الراجح الشايع

ص: 197

مقدّم على غيره ، ولهذا يحمل الأسد في « أسدٌ يرمي » على الرجل الشجاع ، دون الرجل الأبخر ، ويحمل الأمر المصروف عن الوجوب على الاستحباب دون الاباحة .

وأمّا تقديمُ بعض أفراد التخصيص على بعض ،

-----------------

مقدّم على غيره ) فإذا دار الأمر بين هذا المجاز أو ذاك المجاز ، وكان أحدهما شايعا بحيث ينصرف اللفظ إليه كان مقدّما على المجاز الآخر الذي ليس بشايع ( ولهذا يُحمل الأسد في « أسد يرمي » على الرجل الشجاع ، دون الرجل الأبخر ) فانّ سلطان الحيوانات : الأسد يشبّه به من حيث الشجاعة ، ويشبّه به أيضا من حيث الأبخرية ، إلاّ انّ التشبيه من حيث الشجاعة شايع ، بخلاف التشبيه من حيث بخر الفم ، فإذا قال : رأيت أسدا في الحمام ، ولم نعلم هل انّه أراد الرجل الشجاع ، أو الرجل الأبخر الفم ؟ حملنا كلامه على إرادة المعنى الأوّل .

( و ) لهذا أيضا ( يُحمل الأمرُ المصروف عن الوجوب ) كما إذا قال : « صلّ الظهر » ، ثمّ قال : ولا حرج من ترك الظهر في الجمعة - مثلاً - حيث نعلم بأنّ « صلّ الظهر » هنا ليس للوجوب ، لكنّه دائر بين الاستحباب والاباحة ، فانّه يُحمل ( على الاستحباب دون الاباحة ) لأنّ إستعمال صيغة الأمر في الاستحباب شايع دون الاباحة ، إلاّ إذا كان هناك قرينة على الاباحة مثل قوله سبحانه : « وإذا حللتم فاصطادوا » (1) .

( و ) هكذا الحال إذا دار الأمر بين تخصيصين ، لكن كان أحد التخصيصين أقوى من التخصيص الآخر ، حيث يقدّم التخصيص الأقوى على التخصيص الآخر ، وإليه أشار بقوله : ( أمّا تقديم بعض أفراد التخصيص على بعض ،

ص: 198


1- - سورة المائدة : الآية 2 .

فقد يكون بقوّة عموم أحد العامّين على الآخر ، إمّا لنفسه ، كتقديم الجمع المحلّى بالّلام على المفرد المعرّف ونحو ذلك ، وإمّا بملاحظة المقام ، فإنّ العامّ المسوق لبيان الضابط أقوى من غيره

-----------------

فقد يكون بقوّة عموم أحد العامّين على الآخر ) قوّة ( إمّا لنفسه ، كتقديم الجمع المحلّى باللاّم ) في مثال : أكرم الفقهاء ( على المفرد المعرّف ) باللام في مثال :

ينبغي اكرام الخطيب ( ونحو ذلك ) كتقديم العام المسوّر بكلّ في مثال : أكرم كلّ فقيه ، على المفرد المعرّف باللام في مثال : ينبغي اكرام الخطيب ، حيث يدور الأمر هنا بين : تخصيص الفقهاء بالخطيب ، فيجب إكرام كلّ فقيه غير خطيب ويستحبّ اكرام الفقيه الخطيب ، وبين : تخصيص الخطيب بغير الفقيه ، فيجب إكرام كلّ فقيه خطيبا كان أو غير خطيب ، وإنّما يستحبّ إكرام الخطيب ، الذي ليس بفقيه .

والحاصل : هل نعطي الفقيه الخطيب لأكرم الفقهاء حتّى يجب اكرامه ، أو نعطيه لينبغي اكرام الخطيب حتّى يستحبّ اكرامه؟ لكن على قول المصنّف يجب أن نعطيه للجمع المحلّى باللام ، لا للمفرد المعرّف ، غير إنّك قد عرفت سابقا بأنّ هذه الموازين ليست ممّا يؤخذ بها في بيان الظاهر .

هذا إذا كان تقديم بعض أفراد التخصيص على بعض بملاحظة قوّة أحد العامّين في نفسه ( وإمّا بملاحظة المقام ، فانّ العام المسوق لبيان الضابط أقوى من غيره ) أي : إنّ العامّ الذي يراد به ضرب قاعدة عامّة وبيان ضابطة مطّردة ، يكون أقوى لامتيازه بعناية خاصّة ليست موجودة في العامّ الآخر ، ولذا يقدّم على العامّ الآخر ، وذلك مثل قوله : « من أتلف شيئا ضمنه » حيث انّه في مقام بيان الضابط ، وقوله : « المستعير لا يضمن

ص: 199

ونحو ذلك ، وقد يكون لقرب أحد المخصّصين وبعد الآخر ، كما يقال : إنّ الأقلّ أفراداً مقدّم على غيره ، فإنّ العرف يقدّم عموم « يجوز أكل كل رمّان » على عموم النهي عن أكل كلّ حامض ؛ لأنه

-----------------

ما استعاره » (1) ، فانّ الأوّل : حيث كان في مقام الضابط يقدّم على الثاني الذي هو ليس كذلك ، بل هو في مقام بيان حكم فرعي من الأحكام الفرعيّة ، فيحمل عدم ضمان المستعير على التلف لا الاتلاف ، إلاّ أن يكون الثاني أظهر دلالة ، بأن يكون كالخاص بالنسبة إلى العام .

( ونحو ذلك ) كما في العام المسوق للامتنان ، فانّه يقدّم على ما لم يكن كذلك ، مثل قوله سبحانه : « ما جَعَلَ عَليكُم في الدّين مِن حَرَج » (2) فانّه يقدّم على قوله تعالى : « كُتِبَ عَلَيكُم الصّيام » (3) فيما إذا كان الصيام حرجيّا ، ولذا لا يجب الصوم لحمل وجوبه على ما إذا لم يكن حرجيّا .

( وقد يكون لقرب أحد المخصّصين وبُعد الآخر ) قربا وبُعدا إلى أذهان العرف ( كما يقال : إنّ الأقلّ أفرادا مقدّم على غيره ) فيما إذا تعارض عامّان : أحدهما له عشرة أفراد - مثلاً - كالخطباء في مثال : لا تكرم الخطباء ، والآخر له ثلاثة أفراد كالفقهاء في مثال : أكرم الفقهاء ، ففي الفرد الذي هو مجمع بينهما وهو الفقيه الخطيب ، نعطيه للأقل أفرادا لا للأكثر أفرادا فنكرمه ، وذلك للفهم العرفي كما قال : (فانّ العرف يقدّم عموم : «يجوز أكل كلّ رمان» ) الشامل لحلوه وحامضه ومرّه (على عموم : النهي عن أكل كلّ حامض ، لأنّه) أي : عموم الرمّان وإن لوحظ كلّ أفراده حلوا وحامضا ومزّه على عموم النهي عن أكل كل حامض لأنّه

ص: 200


1- - القواعد الفقهيّة للبجنوردي : ج7 ص13 قاعدة لا ضمان على المستعير .
2- - سورة الحج : الآية 78 .
3- - سورة البقرة : الآية 183 .

أقلّ فرداً ، فيكون أشبه بالنصّ ، وكما إذا كان التخصيصُ في أحدهما تخصيصاً لكثير من الأفراد ، بخلاف الآخر .

بقي في المقام شيء

وهو أنّ ما ذكرنا من حكم التعارض - من أنّ النصّ يحكمُ على الظاهر ، والأظهر على الظاهر - لا إشكال في تحصيله في المتعارضين .

وأمّا اذا كان التعارض

-----------------

أي : عموم الرمان وان لوحظ كل افراده حلوا وحامضا ومزّا ، لكنّه ( أقلّ فردا ) من عموم الحامض ( فيكون ) عموم يجوز أكل كلّ رمّان من جهة انّ افراده أقل ( أشبه بالنصّ ) فيقدّم على عموم النهي عن أكل كلّ حامض ، فيحكم بجواز أكل الرمّان الحامض ، لأنّ شمول كلّ رمّان له أقوى من شمول كلّ حامض له ، لأنّه أقل فردا منه ، وإن كان بينهما عموم من وجه في مورد التعارض .

( وكما إذا كان التخصيصُ في أحدهما تخصيصا لكثير من الأفراد ، بخلاف الآخر ) فانّه يقدّم الأقل تخصيصا على الأكثر تخصيصا ، وذلك لأنّ التخصيص خلاف الأصل ، وكلّما كان المخالف للأصل أقل كان أفضل ، إضافةً إلى أنّ كثرة التخصيص مستهجن عرفا .

هذا ، وقد ( بقي في المقام شيء ، وهو : ) ما يسمّى ببحث إنقلاب النسبة ، وذلك فيما إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين ، كما قال المصنّف : ( انّ ما ذكرنا من حكم التعارض : من أنّ النصّ يحكم على الظاهر ، والأظهر على الظاهر ) فيما إذا كان أحدهما نصّا أو أظهر ، والآخر ظاهرا ، فانّ هذا المعنى ( لا إشكال في تحصيله في المتعارضين ) إذ لا يتصوّر فيهما إنقلاب النسبة ، بينما يتصوّر ذلك بالنسبة إلى التعارض بين أزيد من دليلين ، ولذلك قال : ( وأمّا إذا كان التعارض

ص: 201

بين أزيد من دليلين ، فقد يصعب تحصيل ذلك ، إذ قد يختلف حال التعارض بين اثنين منها بملاحظة أحدهما مع الثالث ، مثلاً : قد يكون النسبة بين الاثنين العموم والخصوص من وجه ، وينقلب بعد تلك الملاحظة إلى العموم المطلق

-----------------

بين أزيد من دليلين ) كثلاثة وأربعة - مثلاً - ( فقد يصعب تحصيل ذلك ) أي : يصعب تحصيل النصّ من بينها أو الأظهر ، حتّى يحمل الظاهر منها عليه .

وإنّما يصعب تحصيله ( إذ يختلف حال التعارض بين إثنين منها بملاحظة أحدهما مع الثالث ) فانّ التعارض بين إثنين من الأدلّة الثلاثة يحقّق نوعا من التعارض ، لكن بعد ملاحظة أحدهما مع الدليل الثالث ينقلب نوع التعارض الذي تحقّق أوّلاً إلى نوع آخر ممّا يوجب الحيرة وعدم معرفة أنّ أيّهما أظهر وأيّهما ظاهر ، أو أيّهما نصّ وأيّهما ظاهر ؟ .

( مثلاً : قد يكون النسبة بين الاثنين ) من الأدلّة المتعارضة ( العموم والخصوص من وجه ، وينقلب بعد تلك الملاحظة ) أي : تنقلب النسبة بعد ملاحظة أحدهما مع الثالث ( إلى العموم المطلق ) فإذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : يستحبّ إكرام العدول ، كانت النسبة بين الدليلين العموم من وجه ، ومادّة الاجتماع هو : العالم العادل ، حيث أنّ دليل : أكرم العلماء ، يقول بوجوب اكرامه ، ودليل : يستحبّ اكرام العدول ، يقول باستحباب اكرامه ، ولكن إذا قال ثالثا : لا تكرم فسّاق العلماء ، فانّ هذا الدليل الثالث بعد إخراجه من الدليل الأوّل : أكرم العلماء ، ينتج : أكرم العلماء العدول ، فتنقلب نسبته مع الدليل الثاني يستحبّ اكرام العدول من العموم من وجه ، إلى العموم المطلق ، لأنّ العدول أعمّ مطلقا من العلماء العدول .

ص: 202

أو بالعكس ، أو إلى التباين .

-----------------

وعليه : فانّ الدليلين الأوّلين من حيث انّ تعارضهما كان قبل الانقلاب بالعموم من وجه ، لا رجحان لأحدهما على الآخر ، ومن حيث انّ تعارضهما أصبح بعد الانقلاب بالعموم المطلق ، لزم ترجيح الخاص وهو : أكرم العلماء العدول ، على العام وهو : يستحبّ اكرام العدول ، وبذلك تحصل الحيرة في انّه هل النسبة بين « أكرم » و« يستحبّ » عموم مطلق أو عموم من وجه ؟ .

( أو بالعكس ) بأن كانت النسبة أوّلاً عموما مطلقا ، ثمّ تنقلب إلى عموم من وجه ، كما لو قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم فسّاق الخطباء ، ثمّ قال : لا تكرم فسّاق العلماء ، فانّ نسبة أكرم العلماء ، مع لا تكرم فسّاق العلماء ، عموم مطلق ، وأمّا بعد لحاظ خروج فسّاق الخطباء عن العلماء ينقلب إلى العموم من وجه ، فمادّة الافتراق في الأوّل هو العالم العادل ، ومادّة الافتراق في الثاني هو الخطيب الفاسق ، ويتعارضان في الفاسق غير الخطيب ، فهل هنا يؤخذ بالعموم من وجه أو بالعموم المطلق ؟ وهذا موجب للتحيّر .

( أو ) تنقلب النسبة ( إلى التباين ) وذلك كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم الفسّاق ، ثمّ قال أيضا : لا تكرم عدول العلماء ، فانّ تعارض الأوّل والثالث بالعموم المطلق ، لأنّ العلماء ، أعمّ مطلقا من العدول ، فإذا خصّصنا العلماء بالفسّاق لفرض أكثرية أفراد العلماء من أفراد الفسّاق ، أنتج : أكرم العلماء العدول ، فتنقلب نسبته مع الثالث من العموم المطلق إلى التباين لأنّه يكون حينئذٍ : أكرم عدول العلماء ، ولا تكرم عدول العلماء ، ممّا يوجب تحيّر الفقيه في انّه بأيّهما يأخذ ؟ هل يأخذ بالتباين ، أو بالعموم المطلق ؟ .

ص: 203

وقد وقع التوهم في بعض المقامات .

فنقول توضيحاً لذلك : إنّ النسبة بين المتعارضات المذكورة إن كانت نسبة واحدة ، فحكمها حكم المتعارضين ، فإن كانت النسبة العموم من وجه ، وجب الرجوع إلى المرجّحات ، مثل قوله : يجب إكرام العلماء ، ويحرم إكرام الفسّاق ، ويستحبّ إكرام الشعراء ، فيتعارض الكلّ في مادّة الاجتماع .

-----------------

هذا ( وقد وقع التوهّم في بعض المقامات ) بين النسبة الاُولى والنسبة الثانية ، فبدل الأخذ بالنسبة الاُولى أخذ بالنسبة الثانية ، كما سيأتي ذلك من المحقّق النراقي قريبا إن شاء اللّه تعالى ، وهذا ممّا يدعونا إلى زيادة توضيح لكيفيّة النسبة فيما لو تعارض أكثر من دليلين ( فنقول توضيحا لذلك ) الذي أجملناه : ( إنّ النسبة بين المتعارضات المذكورة ) على نوعين : متحدة ، ومختلفة .

أوّلاً : أن تكون النسبة متّحدة كما قال : إنّ النسبة بين المتعارضات ( إن كانت نسبة واحدة ، فحكمها حكم المتعارضين ) بلا تفاوت على ما قد تقدّم بيانه ، وحينئذٍ ( فان كانت النسبة : العموم من وجه ، وجب الرجوع إلى المرجّحات ) في مادّة الاجتماع ( مثل قوله : يجب اكرام العلماء ، ويحرم اكرام الفسّاق ، ويستحبّ إكرام الشعراء ، فيتعارض الكلّ في مادّة الاجتماع ) الذي هو : العالم الفاسق الشاعر ، حيث يجب اكرامه بحسب دليل : أكرم العلماء ، ويحرم اكرامه بحسب دليل : لا تكرم الفسّاق ، ويستحبّ اكرامه بحسب دليل : أكرم الشعراء ، وهنا إذا كانت قرائن داخلية أو خارجية تُقدّم بعضها على بعض ، فالمحكّم هو تلك القرائن ، وإلاّ فالتعارض موجب لتساقط كلّ منها في خصوص المؤدّى والرجوع إلى الأصل الموافق ، وذلك على ما تقدّم من المصنّف ، أو موجب لإعمال التراجيح إذا قلنا بأنّ التراجيح جارية في العموم من وجه .

ص: 204

وإن كانت النسبة عموماً مطلقاً ، فإن لم يلزم محذور من تخصيص العامّ بهما خُصِّص بهما ، مثل : المثال الآتي ، وإن لزم محذور نحو قوله : يجب إكرام العلماء ، ويحرم إكرام فسّاق العلماء ، وورد : يكره إكرام عدول العلماء ، فإنّ الّلازم من تخصيص العامّ بهما بقاؤه بلا مورد فحكم ذلك كالمتباينين ، لأن مجموع الخاصّين مباين للعامّ .

-----------------

هذا إن كانت النسبة بينها العموم من وجه ( وإن كانت النسبة عموما مطلقا ) كما في تعارض عام وخاصّين ( فإن لم يلزم محذور من تخصيص العامّ بهما خُصّص بهما ) لوضوح : إنّ العام يخصّص بالخاص ، سواء كان خاصّا واحدا أو أكثر من خاصّ واحد ، فيما إذا لم يلزم محذور ، كما سيأتي بيان المحذور في بعض المواضع إن شاء اللّه تعالى ، وذلك ( مثل : المثال الآتي ) في قول المصنّف : « فإذا ورد أكرم العلماء ...» .

( وإن لزم محذور ) وذلك كما إذا خصّصنا العام بهما لم يبق للعام فرد ، أو بقي فرد قليل يستهجن إستعمال العموم فيه ( نحو قوله : يجب إكرام العلماء ، ويحرم اكرام فسّاق العلماء ، وورد ) أيضا ( يكره إكرام عدول العلماء ، فانّ اللازم من تخصيص العام ) الذي هو يجب اكرام العلماء ( بهما ) أي : بالخاصّين الذين هما : يحرم اكرام الفسّاق من العلماء ، ويكره إكرام عدول العلماء ( بقاؤه ) أي : بقاء العام ( بلا مورد ) وذلك لأنّ العلماء ينقسمون إلى : عدول وفسّاق ، والمفروض : انّه يحرم إكرام الفسّاق منهم ، ويكره إكرام عدولهم ، فلا يبقى معه للعام : أكرم العلماء ، مورد ، وهو مستهجن .

وعليه : ( فحكم ذلك كالمتباينين ، لأنّ مجموع الخاصّين مباين للعام ) فيكون من قبيل ما لو قال : أكرم العلماء ، ولا تكرم العلماء ، حيث يلزم بعد عدم امكان

ص: 205

وقد توهّم بعض من عاصرناه ، فلاحظ العامّ بعد تخصيصه ببعض الأفراد بإجماع ونحوه مع الخاصّ المطلق الآخر .

فإذا ورد أكرم العلماء ، ودلّ من الخارج دليل على عدم وجوب إكرام فسّاق العلماء ، وورد

-----------------

الجمع العرفي بينهما بالتخصيص وما أشبه ذلك ، معالجتهما بالتراجيح المؤدّية إلى تقديم الراجح منهما ، وإذا لم يكن هناك مرجّح لأحدهما فالتخيير بينهما .

وهكذا الحال فيما إذا بقي للعام أفراد قليلة يستهجن إستعمال العام فيها ، وذلك كما لو فرضنا إنقسام العلماء إلى : فقهاء ، واُدباء ، وأطباء ، وكان الأطباء فردين فقط ، فقال : يستحبّ أكرم العلماء ، ويجب اكرام الفقهاء ، ويحرم اكرام الاُدباء ، فانّه لا يبقى للعامّ : يستحبّ إكرام العلماء ، إلاّ فردان هما الطبيبان فقط ، وهذا إستعمال مستهجن .

هذا إن لزم من تخصيص العامّ بالخاصّين محذور ، وإن لم يلزم منه محذور لزم تخصيص العام بهما معا على ما تقدّم ( و ) لكن ( قد توهّم بعض من عاصرناه ) وهو المحقّق النراقي في كتابه : العوائد بالنسبة إلى تعارض الأدلّة ( فلاحظ العامّ بعد تخصيصه ببعض الافراد بإجماع ونحوه ) أي : نحو الاجماع من الأدلّة اللبّية ، كما إذا كان المخصّص هو : العقل أو السيرة - مثلاً - فلاحظ ذلك ( مع الخاص المطلق الآخر ) فانّه خصّص العام أوّلاً بالمخصّص اللبّي ، ثمّ لاحظ النسبة بين هذا العام المخصّص ، والخاص الآخر اللفظي ممّا أوجب إنقلاب النسبة ، بينما كان عليه تخصيص العام بمجموع الخاصّين معا .

وأمّا مثال ذلك فهو ما أشار إليه المصنّف بقوله : ( فإذا ورد أكرم العلماء ، ودلّ من الخارج دليل ) لبّي كالاجماع ( على عدم وجوب إكرام فسّاق العلماء ، وورد

ص: 206

أيضاً : لاتكرم النحويين ، كانت النسبة على هذا بينه وبين العامّ - بعد إخراج الفسّاق - عموماً من وجه .

ولا أظنّ يلتزم بذلك فيما إذا كان الخاصّان دليلين لفظيين ، إذ لا وجه لسبق ملاحظة العامّ مع أحدهما على ملاحظته مع الآخر ، وإنّما يتوهّم ذلك في العامّ المخصّص بالاجماع أو العقل ، لزعم أنّ المخصّص المذكور يكون كالمتّصل ،

-----------------

أيضا ) دليل لفظي آخر يقول : ( لا تكرم النحويين ، كانت النسبة على هذا ) أي : على رأي المحقّق النراقي ( بينه ) أي : بين الخاص اللفظي الذي هو : لا تكرم النحويين ( وبين العام ) الذي هو : أكرم العلماء ( بعد إخراج الفسّاق ) من أكرم العلماء ( عموما من وجه ) أي : يكون هكذا : أكرم العلماء العدول ، ولا تكرم النحويين ، فمادّة الافتراق من جانب أكرم العلماء العدول ، هو : العالم العادل غير النحوي ، ومن جهة لا تكرم النحويين ، هو : النحوي الفاسق ، فيجتمعان في النحوي العادل .

قال المصنّف : ( ولا أظنّ ) إنّ المحقّق النراقي ( يلتزم بذلك ) أي : بما يؤدّي إلى إنقلاب النسبة ( فيما إذا كان الخاصّان دليلين لفظيين ) لا أن يكون أحدهما دليلاً لبّيا والآخر دليلاً لفظيا ( إذ لا وجه لسبق ملاحظة العام مع أحدهما ) أي : مع أحد الخاصّين ( على ملاحظته مع ) الخاصّ ( الآخر ، وإنّما يتوهّم ذلك ) الذي يؤدّي إلى إنقلاب النسبة ( في العام المخصّص بالاجماع أو العقل ) ممّا يكون المخصّص دليلاً لبّيا فقط .

وإنّما كان توهّمه ذلك في الدليل اللبّي فقط ( لزعم أنّ المخصّص المذكور ) وهو الخاص اللبّي ( يكون كالمتّصل ) أي : كالخاص المتّصل بالعام ، وإذا كان

ص: 207

فكأن العامّ استعمل فيما عدا ذلك الفرد المخرج ، والتعارض إنّما يلاحظ بين ما استعمل فيه لفظ كلّ من الدليلين ، لا بين ما وضع اللفظ له ، وإن علم عدم استعماله ، فكأن المراد بالعلماء في المثال المذكور عدولهم ، والنسبة بينه وبين النحويين عموم من وجه .

ويندفع : بأنّ التنافي في المتعارضين إنّما يكون بين ظاهري

-----------------

كذلك ( فكأنّ العام ) معه قد ( إستعمل فيما عدا ذلك الفرد المخرج ) من عمومه ، يعني : بأن استعمل في الباقي فقط ، وذلك لأنّ الخاص المتّصل لا يدع مجالاً لأن ينعقد للعام ظهورا لا في الباقي ، بخلاف الخاص المنفصل فانّه ليس كذلك ، وإذا كان الخاص اللبّي كالخاص المتّصل ، فانّه يجعل العام مستعملاً في الباقي ، لا في الموضوع له كما قال : ( والتعارض إنّما يلاحظ بين ما استعمل فيه لفظ كلٍّ من الدليلين ) فلفظ : أكرم العلماء ، يكون قد استعمل في العلماء العدول ، لأنّه هو مراد المتكلّم من الجملتين ( لا بين ما وضع اللفظ له ) كالعلماء عدولاً أو فسّاقا ، حتّى ( وإن علم عدم إستعماله ) أي : عدم إستعمال العام فيما وضع له ، وذلك بأن لم يُرد المتكلّم من أكرم العلماء إلاّ عدولهم .

وعليه : ( فكأنّ المراد بالعلماء في المثال المذكور ) الذي قال : أكرم العلماء ، وقد دلّ الاجماع على : عدم إكرام الفسّاق ، هو : إرادة إكرام ( عدولهم ) فقط ( والنسبة بينه ) أي : بين العلماء العدول ( وبين النحويين عموم من وجه ) وإذا كان كذلك فيكون التعارض بينهما من باب العموم من وجه ، حيث يلزم الرجوع إلى علاج التعارض في مادّة إجتماعه .

( ويندفع ) هذا التوهّم ( بأنّ التنافي في المتعارضين إنّما يكون بين ظاهري

ص: 208

الدليلين ، وظهور الظاهر إمّا أن يستند إلى وضعه وإمّا أن يستند إلى قرينة المراد ، وكيف كان ، فلابدّ من إحرازه حين التعارض وقبل علاجه ، إذ العلاج راجع إلى دفع المانع ، لا إلى إحراز المقتضي .

والعامّ المذكور بعد ملاحظة تخصيصه بذلك الدليل العقلي إن لوحظ بالنسبة إلى وضعه للعموم مع قطع النظر عن تخصيصه بذلك الدليل ، فالدليل المذكور ، والمخصّص اللفظي

-----------------

الدليلين ، و ) ذلك بأن كان لهما ظهوران متعارضان ، بلا فرق بين أن يكون تعارضهما بسبب الوضع ، أو بسبب الاستعمال ، إذ ( ظهور الظاهر إمّا أن يستند إلى وضعه ) مثل ظهور : أكرام العلماء ، في العموم ، سواء كانوا عدولاً أم فسّاقا ( وإمّا أن يستند إلى قرينة المراد ) مثل ظهور : أكرم العلماء إلاّ الفسّاق ، في إرادة المتكلّم اكرام العلماء العدول فقط .

( وكيف كان ) : فانّه سواء كان الظهور بسبب الوضع أم بسبب القرينة ( فلابدّ من إحرازه ) أي : إحراز ذلك الظهور ( حين التعارض وقبل علاجه ) أي : قبل علاج التعارض بالترجيح لوضوح : إنّ العلاج فرع الظاهرين المتعارضين ، كما قال : ( إذ العلاج راجع إلى دفع المانع ) عن الظهور (لا إلى إحراز المقتضي) للظهور يعني : إنّ علاج المتعارضين ليس سببا لإحراز الظهور ، بل هو سبب لدفع مانع التعارض عن الظهور المحرز .

هذا ( والعامّ المذكور ) في مثال : أكرم العلماء ( بعد ملاحظة تخصيصه بذلك الدليل العقلي ) أي : اللبّي الذي يقول : يحرم إكرام الفسّاق من العلماء ( إن لوحظ بالنسبة إلى وضعه ) أي : وضع أكرم العلماء ( للعموم مع قطع النظر عن تخصيصه بذلك الدليل ) اللبّي ( فالدليل ) اللبّي ( المذكور ، و ) كذلك ( المخصّص اللفظي )

ص: 209

سواء في المانعيّة عن ظهوره في العموم ، فيرفع اليد عن الموضوع له بهما ، وإن لوحظ بالنسبة إلى المراد منه بعد التخصيص بذلك الدليل ، فلا ظهور له في إرادة العموم باستثناء ما خرج بذلك الدليل إلاّ بعد إثبات كونه تمام المراد ، وهو غير معلوم إلاّ بعد نفي احتمال مخصّص آخر ، ولو بأصالة عدمه ، وإلاّ فهو مجمل مردّد بين تمام المراد

-----------------

المذكور بعده ، يكونان ( سواء في المانعيّة عن ظهوره ) أي : عن ظهور : أكرم العلماء ( في العموم ) وذلك لأنّهما في مرتبة واحدة بالنسبة إلى أكرم العلماء ، ومعه ( فيرفع اليد عن الموضوع له ) وهو عموم : أكرم العلماء ( بهما ) أي : بالمخصّصين : اللفظي واللبّي معا ، حيث انّه لا أولوية لتقديم اللبّي على اللفظي .

هذا ، إن لوحظ العام بالنسبة إلى وضعه ( وإن لوحظ ) العامّ ( بالنسبة إلى المراد منه ) أي : من أكرم العلماء ( بعد التخصيص بذلك الدليل ) اللبّي القائل بحرمة اكرام فسّاق العلماء ( فلا ظهور له في إرادة العموم باستثناء ما ) أي : الفاسق الذي ( خرج بذلك الدليل ) اللبّي ، لأنّ المراد شيء ، والظهور شيء آخر ، فإذا إنثلم عموم أكرم العلماء بالدليل اللبّي لم يبق ظهور لأكرم العلماء في اكرام العلماء العدول ( إلاّ بعد إثبات كونه ) أي : أكرام العلماء العدول هو ( تمام المراد ) من أكرم العلماء ( وهو غير معلوم إلاّ بعد نفي إحتمال مخصّص آخر ، ولو ) كان نفي إحتمال وجود مخصّص آخر ( بأصالة عدمه ) أي : عدم المخصّص الآخر ، فالمخصّص اللبّي وأصالة العدم مجموعا يفيدان : إنّ المراد من أكرم العلماء هو : إكرام العلماء العدول .

( وإلاّ ) بأن لم ننفِ إحتمال وجود مخصّص آخر بأصالة العدم ونحوها ( فهو ) أي : العام الذي قد خصّص باللبّي حينئذٍ ( مجمل مردّد بين تمام المراد )

ص: 210

وبعضه ؛ لأنّ الدليل المذكور قرينة صارفة عن العموم لا معيّنة لتمام الباقي .

وأصالة عدم المخصّص الآخر في المقام ، غير جارية مع وجود

-----------------

وهو اكرام تمام العلماء العدول حتّى النحويين - مثلاً - وذلك لأنّه لمّا إنثلم عموم أكرم العلماء بالمخصّص اللبّي ، لم يبق له ظهور ، فيكون مجملاً لتردّده بين تمام المراد وهو : وجوب إكرام العلماء العدول حتّى النحويين منهم ( و ) بين ( بعضه ) أي : بعض المراد ، وهو : وجوب إكرام العلماء العدول ، دون النحويين ، وذلك لإحتمال أن يكون هناك للعامّ المنثلم : أكرم العلماء ، مخصّص آخر غير المخصّص اللبّي ، كما لو إحتملنا بأنّه لا يريد إكرام العلماء العدول الذين يصرفون عمرهم في النحو - مثلاً - حتّى تكون النتيجة : أكرم العلماء العدول غير النحويّين فإنّ هذا الاحتمال موجود هنا ، فيلزم نفيه ولو بأصالة العدم .

وإنّما يلزم أن ننفي بأصالة العدم إحتمال مخصّص آخر غير المخصّص اللبّي الذي تمّ إنثلام عموم أكرم العلماء به ( لأنّ الدليل المذكور ) وهو : المخصّص اللبّي إنّما هو ( قرينة صارفة عن العموم ) أي : صارفة لعموم أكرم العلماء عن أن يشمل الفسّاق أيضا ( لا معيّنة لتمام الباقي ) بأن يكون قرينة على نفي وجود مخصّص آخر ، حتّى يتعيّن إرادة تمام الباقي وهو : إكرام العلماء العدول مطلقا ، سواء كانوا نحويّين أم غير نحويّين .

إن قلت : إحتمال وجود مخصّص آخر بعد المخصّص اللبّي منفيّ باجراء أصالة العدم ، فيتعيّن تمام الباقي .

قلت : ( وأصالة عدم المخصّص الآخر في المقام ، غير جارية مع وجود

ص: 211

المخصّص اللفظي ، فلا ظهور له في تمام الباقي حتى يكون النسبة بينه وبين المخصّص اللفظي العموم من وجه .

وبعبارة أوضح : تعارض العلماء بعد إخراج فسّاقهم مع النحويين ، إن كان قبل علاج دليل النحويين ورفع مانعيّته ، فلا ظهور له حتى يلاحظ النسبة بين ظاهرين ،

-----------------

المخصّص اللفظي ) المذكور بعده ، وهو الدليل الثالث القائل : لا تكرم النحويّين كما في مثال المصنّف .

والحاصل : إنّ ظهور العامّ في الباقي موقوف على أمرين : على الدليل اللبّي وهو كما في مثال المصنّف : الاجماع القائم على عدم وجوب إكرام فسّاق العلماء ، وعلى الدليل اللفظي وهو بحسب مثال المصنّف : لا تكرم النحويّين ، وكلاهما في مرتبة واحدة ، فلا وجه لتقديم الدليل اللبّي على الدليل اللفظي ، وتخصيص العام : أكرم العلماء به فقط ، وعلى فرض تخصّصه به فقط ( فلا ظهور له ) أي : للعام : أكرم العلماء ( في تمام الباقي ) من العلماء العدول مطلقا نحويّين وغير نحويّين ( حتّى يكون ) أي : حتى يتمّ إنعقاد ( النسبة بينه وبين المخصّص اللفظي ) المؤدّي إلى إنقلابها من العموم المطلق إلى ( العموم من وجه ) .

( وبعبارة أوضح ) في بيان أنّ المخصّص اللبّي واللفظي في مرتبة واحدة نقول : إنّ ( تعارض العلماء بعد إخراج فسّاقهم ) بالمخصّص اللبّي ( مع النحويين ) الذي هو المخصّص اللفظي وفي عرض المخصّص اللبّي ( إن كان قبل علاج دليل النحويين ورفع مانعيّته ) أي : مانعيّة دليل النحويين عن ظهور العام : أكرم العلماء ، في عمومه ( فلا ظهور له ) أي : لا ظهور للعامّ : أكرم العلماء حينئذ ( حتّى يلاحظ النسبة بين ظاهرين ) أي : ظاهر : أكرم العلماء ، وظاهر

ص: 212

لأن ظهوره يتوقف على علاجه ورفع تخصيصه ب« أكرم النحويين » ، وإن كان بعد علاجه ودفعه ، فلا دافع له ، بل هو كالدليل الخارجي المذكور دافع من مقتضى وضع العموم .

نعم ، لو كان المخصّص متّصلاً بالعامّ من قبيل الصفة ، أو الشرط ، أو بدل البعض ، كما في « أكرم العلماء العدول ، أو إن كانوا

-----------------

لا تكرم النحويين ، وذلك ( لأنّ ظهوره ) أي : ظهور العلماء بعد تخصيصه بالفسّاق من العلماء ( يتوقّف على علاجه ورفع تخصيصه بأكرم النحويين ) أيضا ، فاللازم أن نعالج العام : أكرم العلماء بعد معالجته بدليل : لا تكرم فسّاق العلماء ، بدليل لا تكرم النحويين أيضا ، حتّى ينعقد للعامّ : أكرم العلماء ، ظهور بعد إنثلام ظهوره سبب المخصّص الأوّل .

هذا إن كان التعارض قبل علاج دليل النحويّين ودفع مانعيّته ( وإن كان بعد علاجه ودفعه ، فلا دافع له ) أي : لدليل النحويين ( بل هو ) أي : دليل النحويين ( كالدليل الخارجيّ المذكور ) وهو الدليل اللبّي القائل بعدم إكرام الفسّاق من العلماء ، في أنّه ( دافع من مقتضى وضع العموم ) فكما إنّ المخصّص اللبّي يدفع العامّ عمّا وضع له من العموم ، فكذلك المخصّص اللفظي ، ممّا يكشف عن انّ رتبة المخصّص اللبّي ، والمخصّص اللفظي ، مع العام نسبة واحدة ، وإذا كان المخصّصان في مرتبة واحدة ، فلماذا تقدّمون الدليل اللبّي حتّى تنقلب نسبة العام مع الدليل اللفظي إنقلابا من العموم المطلق إلى العموم من وجه ؟ .

( نعم ، لو كان المخصّص متّصلاً بالعام من قبيل الصفة ، أو الشرط ، أو بدل البعض ) أو من قبيل الاستثناء ، - مثلاً - ( كما في أكرم العلماء العدول ، أو إن كانوا

ص: 213

عدولاً ، أو عدولهم » صحّت ملاحظة النسبة بين هذا التركيب الظاهر في تمام الباقي ، وبين المخصّص اللفظي المذكور ، وإن قلنا بكون العامّ المخصّص بالمتّصل مجازاً ، إلاّ أنّه يصير حينئذ من قبيل « أسدٌ يرمي » ، فلو ورد مخصّص منفصل آخر كان مانعاً لهذا الظهور .

وهذا بخلاف العامّ المخصّص المنفصل ، فإنّه

-----------------

عدولاً ، أو عدولهم ) أو إلاّ فسّاقهم ، أو ما أشبه ذلك ( صحّت ملاحظة النسبة بين هذا التركيب ) أكرم العلماء العدول - مثلاً - ( الظاهر في تمام الباقي ، وبين المخصّص اللفظي المذكور ) الذي هو لا تكرم النحويين ، وذلك لأنّه ليس هنا ثلاثة أدلّة : عام ومخصّصان ، بل دليلان فقط : عام هو : أكرم العلماء العدول ، ومخصّص هو : لا تكرم النحويين ، فتصبح ملاحظة النسبة بينه وبين المخصّص اللفظي حتّى ( وإن قلنا بكون العام المخصّص بالمتّصل مجازا ، إلاّ انّه يصير حينئذ ) أي : حين يكون مجازا ( من قبيل «أسدٌ يرمي» ) .

وإنّما يكون من هذا القبيل ، لأنّ لفظ الأسد مع كونه مجازا مستعملاً في الرجل الشجاع في هذا التركيب ، لكنّه ظاهر في الرجل الشجاع في هذا الكلام بقرينة يرمي المتّصل به ، وهكذا يكون حكم العام المخصّص بالمتّصل ، ومعه ( فلو ورد مخصّص منفصل آخر ) غير المخصّص المتّصل به ( كان ) ذلك المخصّص المنفصل ( مانعا لهذا الظهور ) أي : لظهور العامّ المخصّص بالمتّصل ، فيلزم معالجته بملاحظة النسبة بينه وبين المخصّص المنفصل .

( وهذا بخلاف العامّ المخصّص بالمنفصل ) كالدليل اللبّي فيما نحن فيه ( فانّه

ص: 214

لا يحكم - بمجرّد وجدان مخصّص منفصل - بظهوره في تمام الباقي ، إلاّ بعد إحراز عدم مخصّص آخر ، فالعامّ المخصّص بالمنفصل لا ظهور له في المراد منه ، بل هو قبل إحراز جميع المخصّصات مجمل مردّد بين تمام الباقي وبعضه ، وبعده يتعيّن إرادة الباقي بعد جميع ما ورد عليه من التخصيص .

-----------------

لا يحكم - بمجرّد وجدان ) الدليل اللبّي الذي هو ( مخصّص منفصل - بظهوره ) أي : بظهور العام بعد تخصيصه به ( في تمام الباقي ، إلاّ بعد إحراز عدم مخصّص آخر ) غير اللبّي ، مثل دليل : لا تكرم النحويين فيما نحن فيه ، ولذا لم ينعقد الظهور لهذا العام المخصّص بالمنفصل إلاّ بعد مجيء المخصّص الآخر ، فإذا جاء فلا يلاحظ النسبة بين ظهور هذا العام المخصّص بالمنفصل ، وبين المخصّص الآخر ، بل المخصّص الآخر حاله حال المخصّص اللبّي في كون كليهما في مرتبة واحدة ، فإذا اُخرجا عن العام معا إنعقد للعام ظهور حينئذ .

وعليه : ( فالعامّ المخصّص بالمنفصل ) اللبّي كما فيما نحن فيه ( لا ظهور له في المراد منه ) أي : في المراد من هذا العام بعد إنثلام عمومه بالمخصّص اللبّي المنفصل ( بل هو ) أي : هذا العام ( قبل إحراز جميع المخصّصات ) اللبّية واللفظية ( مجمل ) لأنّه لا ظهور له بعد إنثلام عمومه بالمخصّص اللبّي المنفصل ، فهو بعده ( مردّد بين تمام الباقي ) من العلماء العدول نحويّا كانوا أم غير نحويّين ( و ) بين ( بعضه ) أي : بعض الباقي ، وذلك بأن يخرج النحويون أيضا كما خرج الفسّاق بسبب الدليل اللبّي ( و ) لكن ( بعده ) أي : بعد إحراز جميع المخصّصات ( يتعيّن إرادة الباقي بعد جميع ما ورد عليه من التخصيص ) اللبّي واللفظي معا .

ص: 215

أمّا المخصّص بالمتصل ، فلمّا كان ظهورُهُ مستنداً إلى وضع الكلام التركيبي على القول بكونه حقيقة أو بوضع لفظ القرينة ، بناءا على كون لفظ العامّ مجازاً ، صحّ اتصاف الكلام بالظهور ، لاحتمال إرادة خلاف ما وضع له التركيب أو لفظ القرينة .

-----------------

هذا هو بالنسبة إلى المخصّص بالمنفصل ، و ( أمّا المخصّص بالمتّصل ) كما ذكرنا في مثل : أكرم العلماء العدول ، أو ان كانوا عدولاً ، أو غير ذلك من أمثلة المخصّصات المتّصلة ( فلمّا كان ظهورُهُ مستندا إلى وضع الكلام التركيبي على القول بكونه حقيقة ) فإنّ جماعة قالوا : بأنّ ذا القرينة والقرينة معا لهما وضع تركيبي في المراد ، فرأيت أسدا يرمي - مثلاً - له وضع تركيبي في الرجل الشجاع ، وهكذا غيره من الأمثلة ( أو ) كان ظهوره مستندا إلى القرينة المتّصلة يعني : ( بوضع لفظ القرينة ، بناءا على كون لفظ العام مجازا ) حيث قال جماعة آخرون : بأنّه لا وضع تركيبي لأسد يرمي في الرجل الشجاع ، وإنّما يفهم الرجل الشجاع منه بسبب تعدّد الدالّ والمدلول .

وبالجملة : فانّ المخصّص بالمتّصل لما كان له ظهور في الباقي على التقديرين المذكورين ( صحّ اتّصاف الكلام بالظهور ) في الباقي ، ومعه فيلاحظ النسبة بينه وبين الخاص الآخر ، فإذا قال - مثلاً - : أكرم العلماء العدول ، ثمّ قال : ولا تكرم النحويين ، يلاحظ النسبة بين العلماء العدول ، وبين النحويين ، والنسبة بينهما هي العموم من وجه .

وإنّما قال : يصحّ اتّصاف الكلام بالظهور في الباقي ، ولم يقل : نصّا في الباقي ( لإحتمال إرادة خلاف ما وضع له التركيب ) أي : الكلام التركيبي على القول بكونه حقيقة ( أو ) خلاف وضع ( لفظ القرينة ) بناءا على كونه مجازا ، فانّه

ص: 216

والظاهر أنّ التخصيص بالاستثناء من قبيل المتصل ؛ لأن مجموع الكلام ظاهر في تمام الباقي ، ولذا يفيد الحصر ، فإذا قال :« لا تكرم العلماء إلاّ العدول » ثمّ قال : « أكرم النحويين » ، فالنسبة عموم من وجه ؛ لأن إخراج غير العادل من النحويين مخالف لظاهر الكلام الأوّل ،

-----------------

كما يُحتمل أن يكون قوله : لا تكرم النحويّين ، مخصّصا للعلماء ، فكذلك يحتمل حمله على فسّاق النحويين ، فقد عرفت نزاعهما في مادّة الاجتماع الذي هو : العالم النحوي الفاسق .

هذا ( والظاهر أنّ التخصيص بالاستثناء من قبيل المتّصل ) لا المنفصل ، فإذا قال - مثلاً - : أكرم العلماء إلاّ الفسّاق ، كان بمنزلة أن يقول : أكرم العلماء العدول ، وذلك ( لأنّ مجموع الكلام ظاهر في تمام الباقي ) الذي هو العلماء العدول على ما في المثال ( ولذا ) أي : لأجل ظهور مجموع الكلام في تمام الباقي نراه ( يفيد الحصر ) أي : يفيد حصر الحكم في تمام الباقي مثل وجوب الاكرام لغير الفاسق من العلماء في مثالنا .

وعليه : ( فإذا قال : «لا تكرم العلماء إلاّ العدول» ، ثمّ قال : «أكرم النحويين» ، فالنسبة ) بينهما ( عموم من وجه ) وذلك لأنّه يكون بمنزلة قوله : أكرم العلماء العدول ، وأكرم النحويين ، ففي العالم النحوي الفاسق ، يقول الدليل الأوّل : لا تكرمه لفسقه ، ويقول الدليل الثاني : أكرمه لنحوه ، وهذا التعارض كاشف عن نسبة العموم من وجه ، وذلك ( لأنّ إخراج غير العادل ) أي : الفاسق ( من النحويين ) والحكم بوجوب إكرامه ( مخالف لظاهر الكلام الأوّل ) الذي قال : لا تكرم العلماء إلاّ العدول ، وهذه المخالفة لا تكون لو كانت النسبة بينهما عموما مطلقا ، لأنّ الخاص يكون قرينة على المراد من العام بلا مخالفة ؟ .

ص: 217

ومن هنا يصحّ أنّ يقال : النسبة بين قوله : « ليس في العاريّة ضمان إلاّ الدينار أو الدرهم » ، وبين ما دلّ على ضمان الذهب والفضّة : عموم من وجه ، كما قوّاه غيرُ واحد من متأخّري المتأخّرين .

-----------------

( ومن هنا ) أي : من جهة إنّ التخصيص بالاستثناء من قبيل المخصّص المتّصل ، وليس من قبيل المنفصل ، والمستثنى منه يكون ظاهرا في تمام الباقي ( يصحّ أن يقال : النسبة بين قوله : «ليس في العارية ضمان إلاّ الدينار أو الدرهم» (1) ، وبين ما دلّ على ضمان الذهب والفضّة (2) : عموم من وجه ، كما قوّاه غير واحد ) من الفقهاء أمثال المحقّق السبزواري ، وصاحب الرياض ، ومَن إليهما ( من متأخّري المتأخّرين ) .

هذا ، ولا يخفى : إنّ في المقام خمس طوائف من الروايات :

الاُولى : روايات تنفي الضمان مطلقا ، مثل الرواية الصحيحة : «ليس على مستعير عارية ضمان ، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن» (3) .

الثانية : روايات تستثني صورة إشتراط الضمان .

الثالثة : روايات تستثني الذهب والفضّة ، مثل الموثّقة : «العارية ليس على مستعيرها ضمان إلاّ ما كان من ذهب أو فضّة فانّهما مضمونان إشترطا أو لم يشترطا» (4) .

ص: 218


1- - الكافي فروع : ج5 ص238 ح2 ، الاستبصار : ج3 ص126 ب83 ح8 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص183 ب22 ح7 ، وسائل الشيعة : ج19 ص97 ب3 ح24238 و ح24236 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص238 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص176 ب22 ح34 .
3- - تهذيب الاحكام : ج7 ص182 ب22 ح117 ، الاستبصار : ج3 ص124 ب83 ح1 ، وسائل الشيعة : ج19 ص93 ب1 ح24228 .
4- - من لايحضره الفقيه : ج3 ص302 ب2 ح4083 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص183 ب22 ح10 ، وسائل الشيعة : ج19 ص97 ب3 ح24239 .

...

-----------------

الرابعة : روايات تستثني الدنانير فقط ، مثل الرواية الصحيحة : « لا يضمن العارية ، إلاّ أن يكون قد اشترط فيها ضمانا ، إلاّ الدنانير فانّها مضمونة ، وإن لم يشترط فيها ضمانا» (1) .

الخامسة : روايات تستثني الدراهم فقط ، مثل : الحسن كالصحيح : «ليس على صاحب العارية ضمان ، إلاّ أن يشترط صاحبها ، إلاّ الدراهم ، فانّها مضمونة إشترط صاحبها أو لم يشترط » (2) .

هذا ، وحيث انّه لا كلام في الاشتراط وعدم الاشتراط ، وذلك لأنّ الاشتراط يوجب الضمان قطعا ، كما انّه لا كلام في أنّ النقدين لهما حكم واحد ، فروايتاهما كرواية واحدة ، ولذا يكون الكلام في ثلاث طوائف من هذه الأخبار فقط ، علما بأنّ المقطوع به هو : عدم الضمان في الأشياء مطلقا إلاّ في الدرهم والدينار ، وإنّ المختلف فيه هو : الذهب والفضّة كالحُلي ، فهل فيهما ضمان كما ذهب إليه المحقّق والشهيد الثانيان ، أو ليس فيهما ضمان كما ذهب إليه المشهور ؟ فَمن قال : فيهما ضمان ، فقد جمع بين روايات النقدين وروايات الذهبين ، واستثنى الجميع من العام الذي يقول بعدم الضمان في العارية ، فتكون النتيجة : انّه لاضمان في العارية إلاّ إذا كان ذهبا أو فضّة سواء كان مسكوكا أو لا ، ومن قال : لا ضمان في الذهبين ، فقد خَصَّصَ بروايات النقدين روايات الذهبين ، لأنّ بينهما عموما

ص: 219


1- - الكافي فروع : ج5 ص238 ح2 ، الاستبصار : ج3 ص126 ب83 ح8 ، وسائل الشيعة : ج19 ص96 ب3 ح24236 كتاب العارية .
2- - تهذيب الاحكام : ج7 ص184 ب22 ح11 ، وسائل الشيعة : ج19 ص97 ب3 ح24238 كتاب العارية .

فيرجّح الأوّل ؛ لأن دلالته بالعموم ، ودلالة الثاني بالاطلاق ، أو يُرجعُ إلى نفي الضمان ، خلافاً لما ذكره بعضهم ،

-----------------

مطلقا وإستثنى النقدين من الدليل العام الذي يقول بعدم الضمان في العارية ، فتكون النتيجة : انّه لا ضمان في العارية إلاّ في النقدين فقط .

ومجمل الكلام في هذا الاختلاف هو : إنّ روايات النقدين والذهبين هل تُقيّد إحداهما الاُخرى أم لا ؟ لكن المصنّف وجماعة جعلوا النسبة بينهما العموم من وجه ، فقالوا : إنّ الشارع قال مرّة : ليس في العارية ضمان إلاّ الدينار والدرهم ، ومعناه : انّه ليس في غير النقدين ضمان ، وقال مرّة اُخرى : في الذهب والفضّة ضمان ، ومعناه : إنّ الذهب والفضّة يضمنان ، فمادّتا الافتراق هما : النقدان فانّ فيهما الضمان ، والكتاب - مثلاً - فانّه لا ضمان فيه ، ومادّة الاجتماع هو : غير المسكوك من الذهبين ، فالدليل الأوّل يقول بعدم ضمانه ، والثاني يقول بضمانه ( فيرجّح الأوّل ) أي : قوله : ليس في العارية ضمان إلاّ الدينار والدرهم ( لأنّ دلالته بالعموم ، ودلالة الثاني ) أي : قوله : في الذهب والفضّة ضمان ( بالاطلاق ) وقد سبق : انّه إذا تعارض العموم والاطلاق في مادّة الاجتماع ، فانّه يقدّم العموم على الاطلاق .

( أو ) يقال في وجه ترجيح الدليل الأوّل القائل بعدم الضمان إلاّ في النقدين على الثاني القائل بالضمان في الذهبين : إنّهما لمّا تعارضا في الذهبين غير المسكوكين تساقطا في خصوص مؤدّاهما ، وبعده ( يُرجَعُ إلى ) عمومات ( نفي الضمان ) وهذا هو المشهور بين الأصحاب ، فيكون الضمان خاصّا بالنقدين ، ولا ضمان في الذهبين غير المسكوكين كالحُلي وما أشبه ذلك .

( خلافا لما ذكره بعضهم ) وهو المحقّق الثاني المشهور بالكركي :

ص: 220

من أنّ تخصيص العموم بالدرهم أو الدينار لاينافي تخصيصهُ أيضاً بمطلق الذهب والفضة .

وذكره صاحب المسالك وأطال الكلام في توضيح ذلك ، فقال ما لفظه : « لا خلاف في ضمانهما - يعني : الدراهم والدنانير - وإنّما الخلاف في غيرهما من الذهب والفضة ، كالحلي المصوغة ، فإنّ مقتضى الخبر الأوّل ونحوه دخولها ، ومقتضى تخصيص الثاني بالدراهم والدنانير خروجها ،

-----------------

( من أنّ تخصيص العموم بالدرهم أو الدينار لا ينافي تخصيصه أيضا بمطلق الذهب والفضّة ) فالعام الذي يقول : لا ضمان ، خصّص مرّتين : مرّة بالدينار والدرهم ، ومرّة بالذهب والفضّة ، ففي الجميع وهو : النقدان والذهبان ضمان .

هذا ( وذكره ) أي : ذكر مثل كلام المحقّق الثاني ( صاحب المسالك ) الشهيد الثاني أيضا ( وأطال الكلام في توضيح ذلك ) الذي ذكرناه : من تخصيص العامّ : لا ضمان ، بمخصّصين هما : النقدان والذهبان ( فقال ما لفظه : لا خلاف ) بين الأصحاب ( في ضمانهما ، يعني : الدراهم والدنانير ) فانّ تخصيصهما للعام الدالّ على عدم الضمان في العارية متيقّن ( وإنّما الخلاف في غيرهما ) أي : غير النقدين ( من الذهب والفضّة ، كالحُلي المصوغة ) وكسبائك الذهب والفضّة غير المصوغين إطلاقا .

إذن : فالخلاف في مثل الحُلي للخلاف الموجود في الأخبار ( فانّ مقتضى الخبر الأوّل ونحوه ) من الأخبار الدالّة على إستثناء مطلق الذهب والفضّة وإنّهما يضمنان ( دخولها ) أي : دخول مثل الحُلي فيما يضمن ( ومقتضى تخصيص الثاني ) ونحوه من الأخبار المطلقة ( بالدراهم والدنانير ) وإنّ الذي فيه الضمان هو فقط الدرهم والدينار ( خروجها ) أي : خروج مثل الحُلي عمّا يضمن .

ص: 221

ومن الأصحاب من نظر إلى أنّ الذهب والفضة مخصّصان من عدم الضمان مطلقاً ولامنافاة بينهما وبين الدراهم والدنانير ؛ لأنّهما بعض أفرادهما ، ويستثنى الجميع ويثبت الضمان في مطلق الجنسين .

ومنهم من التفت إلى أنّ الذهب والفضة مطلقان أو عامّان بحسب إفادة الجنس المعرّف العموم وعدمهُ ، والدراهم والدنانير مقيّدان أو مخصّصان ،

-----------------

( و ) عليه : فنظرا إلى هذا الاختلاف نرى إنّ ( من الأصحاب ) كالمحقّق الثاني ( من نظر إلى أنّ الذهب والفضّة مخصّصان من عدم الضمان مطلقا ) أي : إنّ عدم ضمان العارية قد خصّص بالذهب والفضّة ، ففي الذهب والفضّة ضمان ، سواء كانا مسكوكين أو لم يكونا مسكوكين ( و ) أضاف المحقّق الثاني قائلاً : بأنّه ( لا منافاة بينهما ) أي : بين الذهب والفضّة ( وبين الدراهم والدنانير ) في كون الجميع خارجا عن عدم الضمان ( لأنّهما ) أي : النقدين ( بعض أفرادهما ) أي : بعض أفراد الذهبين ( و ) حينئذ ( يستثنى الجميع ) وهو : الذهبان والنقدان من عموم : لا ضمان ( ويثبت الضمان في مطلق الجنسين ) أي : الذهبين سواء كانا مسكوكين أم لا .

( ومنهم ) كفخر المحقّقين ( من التفت إلى انّ الذهب والفضّة ) جنسان معرّفان باللام فهما إمّا ( مطلقان أو عامّان بحسب إفادة الجنس المعرّف العموم وعدمه ) أي : عدم إفادة العموم ، بل إفادة الاطلاق ، لأنّهم اختلفوا في أنّ مثل «العالم» هل هو عام أو مطلق ؟ ( والدراهم والدنانير مقيّدان أو مخصّصان ) لذينك المطلقين أو العامّين ، وذلك لأنّ الذهب والفضّة لهما قسمان : مسكوك وغير مسكوك ، فالمسكوك يقيّد الذهب والفضّة .

ص: 222

فيُجمعُ بين النصوص بحمل المطلق على المقيّد أو العامّ على الخاصّ .

والتحقيق في ذلك أن نقول : إنّ هنا نصوصاً على ثلاثة أضرُب :

أحدها : عامّ في عدم الضمان من غير تقييد ، كصحيحة الحلبي عن الصادق عليه السلام : « ليس على مستعير عارية ضمانٌ ، وصاحبُ العارية والوديعة مؤتمنٌ » ، وقريب منها صحيحةُ محمّد بن مسلم عن الباقر عليه السلام .

-----------------

وعليه : ( فيُجمَعُ بين النصوص ) المتعارضة التي ذكر بعضها الذهبين ، وذكر بعضها الآخر النقدين وذلك ( بحمل المطلق ) الذهب والفضّة ( على المقيّد ) الدرهم والدينار إن قلنا بأنّ الذهب والفضّة الجنس المعرّف باللام مطلق ، وإن قلنا بأنّه عامّ حملنا العامّ على الخاص كما قال : ( أو العام على الخاص ) فما ذكر من إثبات الضمان في الذهبين نقيّده بالمسكوكين فقط ، فيكون غير المسكوكين من الذهب والفضّة داخلاً في العام القائل بعدم الضمان .

ثمّ قال صاحب المسالك الشهيد الثاني بعد هذا الكلام : ( والتحقيق في ذلك ) أي : في هذا البحث تأييدا لكلام المحقّق الثاني الذي قال بوجود الضمان في كلّ من الذهبين والنقدين ، دون كلام فخر المحقّقين الذي خصّص الضمان بالنقدين فقط هو : ( أن نقول : إنّ هنا نصوصا على ثلاثة أضرب ) أي : على ثلاثة أقسام :

( أحدها : عام ، في عدم الضمان من غير تقييد ، كصحيحة الحلبي عن الصادق عليه السلام : «ليس على مستعير عارية ضمان ، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن» (1) وقريب منها : صحيحة (2) محمّد بن مسلم عن الباقر عليه السلام ) ومعنى

ص: 223


1- - تهذيب الاحكام : ج7 ص182 ب22 ح117 ، الاستبصار : ج3 ص124 ب83 ح1 ، وسائل الشيعة : ج19 ص93 ب1 ح24228 .
2- - تهذيب الاحكام : ج7 ص182 ب22 ح2 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص302 ب2 ح4084 ، وسائل الشيعة : ج19 ص93 ب1 ح24229 .

وثانيها : بحكمها ، إلاّ أنّه استثنى مطلق الذهب والفضة .

وثالثها : بحكمها ، إلاّ أنّه استثنى الدنانير والدراهم ، فلابدّ من الجمع ، فإخراج الدراهم والدنانير لازم لخروجهما على الوجهين الآخرين .

فإذا خرجا من العموم بقي فيما عداهما

-----------------

كونه مؤتمنا : انّه لا يحتاج إلى إثبات التلف وإقامة البيّنة عليه فيما إذا تلفت العارية عنده ، فإذا ادّعى تلفها كفاه الحلف وذلك على ما اشتهر من انّه «ليس على الأمين إلاّ اليمين» ، وهذا القسم يدلّ على عدم الضمان في العارية .

( وثانيها : بحكمها ) أي : بحكم الاُولى في نفي الضمان عن العارية ( إلاّ أنّه إستثنى مطلق الذهب والفضّة ) ممّا يدل على أنّ في مطلق الذهب والفضّة ضمان ، سواء كانا مسكوكين أم لا .

( وثالثها : بحكمها ) أي : بحكم الاُولى في نفي الضمان عن العارية ( إلاّ انّه استثنى الدنانير والدراهم ) فقط ، ممّا يدلّ على عدم الضمان في غير المسكوك من الحُلي ونحو الحُلي .

وعليه : ( فلابدّ من الجمع ) بين هذه الطوائف الثلاث ، وذلك بالجمع الخاصّين وهما : وجود الضمان في النقدين ، ووجود الضمان في الذهبين ، مع العام القائل بعدم الضمان في العارية ( فإخراج الدراهم والدنانير ) من العام : لا ضمان ( لازم لخروجهما على الوجهين الآخرين ) أي : سواء إستثني الجنسين : الذهب والفضّة مطلقا ، أو استثني النقدين : الدرهم والدينار فقط ، فالنقدان خارجان عن العام : لا ضمان ، ففيهما الضمان ( فإذا خرجا ) أي : خرج النقدان ( من العموم ) أي : من عموم العام : لا ضمان ( بقي ) عموم العام ( فيما عداهما )

ص: 224

بحاله ، وقد عارضه التخصيص بمطلق الجنسين ، فلابدّ من الجمع بينهما بحمل العامّ على الخاصّ ، فإن قيل : لمّا كانت الدراهم والدنانير أخصّ من الذهب والفضة وجب تخصيصهما بهما عملاً بالقاعدة ، فلا تبقى المعارضة بين العامّ الأوّل والخاصّ الآخر .

-----------------

أي : فيما عدا النقدين سالما ( بحاله ) فيشمل الذهبين وتكون النتيجة : انّه لاضمان في الذهبين .

هذا ( و ) لكن حيث ( قد عارضه ) أي عارض العام الذي يقول بعدم الضمان مطلقا ( التخصيص بمطلق الجنسين ) الدالّ على خروج الذهبين منه ، ( فلابدّ من الجمع بينهما ) أي بين العام الذي يقول بعدم الضمان ، وبين الخاص الذي يقول بالضمان في مطلق الجنسين ، وذلك ( بحمل العام على الخاص ) فنقول : لا ضمان إلاّ في الجنسين ، كما قلنا سابقا : لا ضمان إلاّ في النقدين ، فيكون الخارج من : «لا ضمان» ، الذهبان والنقدان معا ، كما قال بذلك المحقّق الثاني .

( فان قيل ) من جانب فخر المحقّقين ومن تبعه من الذين يقولون بعدم الضمان في الجنسين : بأنّه ( لمّا كانت الدراهم والدنانير أخصّ من الذهب والفضّة وجب تخصيصهما ) أي : تخصيص الذهب والفضّة ( بهما ) أي : بالدراهم والدنانير ، وذلك ( عملاً بالقاعدة ) أي : قاعدة حمل العام على الخاص العرفية ، فنحمل العام الذي هو الذهب والفضّة ، على الخاص الذي هو الدراهم والدنانير ، وحينئذ ( فلا تبقى المعارضة بين العام الأوّل ) القائل بعدم الضمان في العارية ( والخاص الآخر ) الدالّ على وجود الضمان في الجنسين ، لأنّ الجنسين منصرفان إلى النقدين فقط ، فيكون هنا خاص واحد وهو : النقدان ، فيخرج النقدان فقط من العام : «لا ضمان» .

ص: 225

قلنا : لا شكّ أنّ كلاً منهما مخصّص لذلك العامّ ؛ لأنّ كلاً منهما مستثنى ، وليس هنا إلاّ أنّ أحد المخصّصين أعمّ من الآخر مطلقاً ، وذلك غير مانع ، فيخصّص العامّ الأوّل بكلّ منهما أو يقيّد مطلقه ، لا أنّ أحدهما يخصّص بالآخر ، لعدم المنافاة بين إخراج الذهب والفضة في لفظٍ ،

-----------------

( قلنا : لا شكّ انّ كلاًّ منهما ) أي : من النقدين والذهبين ( مخصّص لذلك العام ) الأوّل القائل بعدم الضمان ، وذلك ( لأنّ كلاً منهما ) أي : من النقدين والذهبين ( مستثنى ) من ذلك العام القائل بعدم الضمان ( وليس هنا ) ما يمنع من تخصيص العام بالنقدين وبالذهبين معا ( إلاّ أنّ أحد المخصّصين أعمّ من الآخر مطلقا ) فانّه قد عرفت : إنّ الذهبين أعمّ من النقدين ( وذلك ) أي : كون أحد المخصّصين أعمّ من الآخر ( غير مانع ) عن التخصيص بهما معا ، فهو كما إذا قال : لا تكرم الفسّاق ، ثمّ قال : أكرم العالم الفاسق ، ثمّ قال أيضا : أكرم النحوي الفاسق ، فانّه كما يخصّص هذا العامّ بالخاصّين معا ، فكذلك فيما نحن فيه .

وعليه : فإذا لم يكن هناك مانع من التخصيص بهما معا ( فيخصّص العامّ الأوّل ) القائل بعدم الضمان ( بكلّ منهما ) أي : بكلّ ممّا دلّ على الضمان في النقدين ، وما دلّ على الضمان في الذهبين ( أو يقيّد مطلقه ) بهما حيث قد عرفت أنّ في المعرّف باللام خلاف ، فقد إختلف في انّه هل هو عام أو مطلق ، فإذا قلنا : انّه عام ، خصّصناه بهما ، وإذا قلنا : انّه مطلق ، قيدناه بهما ؟ .

إذن : فانّا نخصّص العامّ بكلّ من الخاصين ( لا أنّ أحدهما ) أي : أحد الخاصّين وهو : الذهبان ( يخصّص بالآخر ) وهو النقدان حتّى يكون الخارج النقدين فقط ، وذلك ( لعدم المنافاة بين إخراج الذهب والفضّة في لفظ ،

ص: 226

والدراهم والدنانير في لفظٍ ، حتى يوجب الجمع بينهما بالتخصيص والتقييد .

وأيضاً : فإنّ العمل بالخبرين الأخصّين لايمكن ؛ لأن أحدهما لم يخصّ إلاّ الدنانير واُبقي الباقي على حكم عدم الضمان صريحاً ، والآخر لم يستثن إلاّ الدراهم واُبقي الباقي على حكم عدم الضمان كذلك .

فدلالتهما قاصرة ، والعمل بظاهر كلّ منهما لم يقل به أحد ،

-----------------

والدراهم والدنانير في لفظ ) آخر ، فانّه لا منافاة في ذلك ( حتّى يوجب ) هذا التنافي ( الجمع بينهما ) أي : بين الذهبين والنقدين ، وذلك ( بالتخصيص والتقييد ) أي : بتخصيص الذهبين بالنقدين ، أو تقييده به .

هذا هو تمام الكلام في الوجه الأوّل ، لبيان انّه لا يخصّص الذهبان بالنقدين ، وهناك وجه ثانٍ لبيان ذلك أشار إليه المصنّف بقوله : ( وأيضا : فانّ العمل بالخبرين الأخصّين ) وهما : ما استثني فيه الدراهم فقط ، وما استثني فيه الدنانير فقط ، اللذين عدّهما الفقهاء بمنزلة خبر واحد ، فانّه ( لا يمكن ) أي : أنّ العمل بهذين الخبرين الأخصّين غير ممكن ، وذلك ( لأنّ أحدهما لم يخصّ إلاّ الدنانير ) فقط ( وأبقى الباقي على حكم عدم الضمان صريحا ، والآخر لم يستثن إلاّ الدراهم ) فقط ( وأبقي الباقي على حكم عدم الضمان كذلك ) أي : صريحا ، فصريح كلّ منهما حصر الاستثناء فيه خاصّة دون الآخر ، وهذا ممّا يؤدّي إلى قصور في دلالتهما بحيث لا يمكن العمل بهما .

وعليه : ( فدلالتهما ) أي : دلالة هذين الخبرين الأخصّين ( قاصرة ) عن صلاحيّة الاستثناء عن العام الذي يقول بعدم الضمان ، وذلك لتعارض الحصر في أحدهما مع الحصر في الآخر ( والعمل بظاهر كلّ منهما لم يقل به أحد ) أي :

ص: 227

بخلاف الخبر المخصّص بالذهب والفضة .

فإن قيل : التخصيص إنّما جعلناه بهما معاً ، ولا بكلّ واحد منهما ، فلا يضرُّ عدم دلالة أحدهما على الحكم المطلوب منه .

قلنا : هذا - أيضاً - لايمنع قصور كلّ واحد من الدلالة ؛ لأن كلّ واحد

-----------------

إنّ ظاهر كلّ واحد من الأخصّين الذي هو : إختصاص الضمان بأحدهما فقط دون الآخر لم يكن هناك قائل يقول به ، فالخبران الأخّصان إذن يتساقطان في خصوص مؤدّاهما ( بخلاف الخبر المخصّص بالذهب والفضّة ) فلا قصور في دلالته ، فيكون هو المخصّص للعام : لا ضمان ، فتكون النتيجة : انّه لا ضمان إلاّ في الذهبين ، سواء كان الذهبان نقدين أو غير نقدين .

( فإن قيل ) في ردّ الوجه الثاني الكائن لبيان عدم تخصيص الذهبين بالنقدين الذي ذكرناه بقولنا : «وأيضا فانّ العمل بالخبرين الأخصّين لا يمكن» إن قيل : انّ ( التخصيص إنّما جعلناه بهما معا ) أي : انّا جعلنا التخصيص بكلا الخبرين الأخصّين جميعا ، وذلك بعد جعلهما بمنزلة خبر واحد حيث جمعنا بينهما برفع اليد عن ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر ، وإذا صارا بمنزلة خبر واحد أمكن العمل بهما لتخصيص الذهبين ( ولا بكلّ واحد منهما ) منفردا حتّى يرد عليه إشكال قصور دلالته عن إفادة المطلوب من تخصيص الذهبين ، ومعه ( فلا يضرُّ عدم دلالة أحدهما على الحكم المطلوب منه ) علما بأنّ الحكم المطلوب فيما نحن فيه هو : تخصيص الذهبين بالنقدين .

( قلنا : هذا ) الذي ذكرتم بقولكم : «التخصيص إنّما جعلناه بهما معا» ( أيضا لا يمنع قصور كلّ واحد من الدلالة ) على المطلوب وهو : تخصيص الذهبين بالنقدين ، وذلك ( لأنّ كلّ واحد ) من الخبرين الأخصّين في نفسه ، أي :

ص: 228

مع قطع النظر عن صاحبه قاصر ، وقد وقعا في وقتين في حالتين مختلفتين .

فظهر أنّ إرادة الحصر من كلّ منهما غير مقصود .

وإنّما المستثنى فيهما من جملة الأفراد المستثناة ،

-----------------

( مع قطع النظر عن صاحبه قاصر ) عن الدلالة على المطلوب وهو : تخصيص الذهبين لهما ، وإذا كان كلّ واحد منهما قاصرا في نفسه ، فمجرّد الجمع بينهما وعلاج تعارضهما في مقام العمل لا يجدي في رفع القصور المذكور ، إذ الجمع بين الخبرين الأخصّين لا يجعلهما خبرا واحدا حقيقة ، حتّى يتمكّن هذا الخبر الواحد من تخصيص ما دلّ على إستثناء الذهبين .

كيف ( وقد وقعا ) أي : وقع الخبران الأخصّان : خبر الدنانير ، وخبر الدراهم ( في وقتين في حالتين مختلفتين ) وهذا الترتّب في الوقت والاختلاف في الأحوال هو لازم التعدّد ، فإنّ معنى كون خبر الدنانير غير خبر الدراهم : انّهما وقعا في زمانين ، وصدرا في كلامين عن الإمام عليه السلام : فليس هناك خبر واحد حقيقة .

إذن : ( فظهر أنّ إرادة الحصر من كلّ منهما ) أي : من كلّ من الخبرين الأخصّين المرتبطين بالدنانير والدراهم ( غير مقصود ) إذ لا حصر للدنانير ، كما لا حصر للدراهم ( وإنّما المستثنى فيهما ) أي : في الخبرين الأخصّين من الدنانير والدراهم كائنان ( من جملة الأفراد المستثناة ) فلا حصر حقيقي ليكون له مفهوم ، وذلك لأنّ مفاد الخبرين الأخصّين بعد إلغاء الحصر هو : مجرّد إستثناء الدراهم ، وإستثناء الدنانير ، من دون نظر إلى عدم إستثناء شيء آخر ، فمن الممكن إستثناء شيء آخر ، كما ورد في خبر ثالث إستثناء الذهبين ، ومعه فاللازم أن نقول : انّه لا ضمان في العارية إلاّ في النقدين ، وإلاّ في الذهبين .

ص: 229

وعلى تقدير الجمع بينهما بجعل المستثنى مجموع ما استفيد منهما لايخرجان عن القصور في الدلالة على المطلوب ، إذ لايعلم منهما ، إلاّ أنّ الاستثناء ليس مقصوراً على ما ذكر في كلّ واحد .

فإن قيل : إخراجُ الدراهم والدنانير خاصّةٌ ينافي إخراج جملة الذهب والفضة ، فلابدّ من الجمع بينهما بحمل الذهب

-----------------

هذا ( و ) قد عرفت : انّه ( على تقدير الجمع بينهما ) أي : بين خبر الدنانير ، وخبر الدراهم ، وذلك ( بجعل المستثنى ) من العام القائل بعدم الضمان هو : ( مجموع ما ) أي : الدينار والدرهم الذي ( استفيد منهما ) أي : من الخبرين الأخصّين ، فانّه حتّى على تقدير الجمع بينهما ( لا يخرجان ) أي : لا يخرج هذان الخبران الأخصّان ( عن القصور في الدلالة على المطلوب ) الذي هو تخصيص الذهبين بالنقدين .

وإنّما لا يخرج الخبران الأخصّان - القاصران في الدلالة بسبب تعارض الحصر فيهما - عن القصور ، بالجمع بينهما ( إذ لا يعلم منهما ، إلاّ أنّ الاستثناء ليس مقصورا على ما ذكر في كلّ واحد ) منهما ، لإحتمال أن يكون هناك إستثناء غيرهما كاستثناء الذهبين ، وغير ذلك ممّا يوجب القصور في دلالة الخبرين الأخصّين ، ومع هذا القصور في الدلالة كيف يمكن أن يقال : بأنّه أخصّ من دلالة الذهبين حتّى يصحّ تقييد الذهبين بالنقدين ؟ .

( فإن قيل ) في ردّ بيان عدم تخصيص الذهبين بالنقدين أيضا : إنّ ( إخراج الدراهم والدنانير خاصّة ) من عموم : لا ضمان ( ينافي إخراج جملة الذهب والفضّة ) وعمومها منه ، لوضوح : إنّ إخراج الخاص معارَض بإخراج العام ، وإذا كان كذلك ( فلابدّ من الجمع بينهما ) أي : بين الاخراجين ، وذلك ( بحمل الذهب

ص: 230

والفضة على الدراهم والدنانير ، كما يجب الجمع بين عدم الضمان لمطلق العارية والضمان لهذين النوعين لتحقّق المنافاة بين الأمرين .

قلنا : نمنع المنافاة ، فإنّ استثناء الدراهم والدنانير اقتضى بقاء العموم في حكم عدم الضمان في ما عداهما ، وقد عارضه الاستثناء الآخر ، فوجب تخصيصُهُ به أيضاً ، فلا وجه لتخصيص أحد المخصّصين بالآخر .

-----------------

والفضّة على الدراهم والدنانير ) فتكون النتيجة : ثبوت الضمان في الدراهم والدنانير خاصّة .

وإنّما يجب الجمع بين خصوص الدراهم والدنانير وبين عموم الذهب والفضّة ( كما يجب الجمع بين عدم الضمان لمطلق العارية ) الذي هو العام المدلول عليه بقولهم : «لا ضمان في العارية» ( و) بين ( الضمان لهذين النوعين ) من النقدين خاصة ، وذلك ( لتحقّق المنافاة بين الأمرين ) أي : بين عدم الضمان لمطلق العارية ، وبين الضمان للنقدين .

( قلنا : نمنع المنافاة ) بين إخراج النقدين وإخراج الذهبين ( فانّ إستثناء الدراهم والدنانير ) من العامّ القائل بعدم الضمان في العارية ( إقتضى بقاء العموم ) أي : بقاء عموم هذا العام بالنسبة إلى غير النقدين ( في حكم عدم الضمان فيما عداهما ) أي : فيما عدا النقدين ( و) لكن حيث ( قد عارضه ) أي : عارض هذا العموم ( الاستثناء الآخر ) وهو إستثناء الذهبين من عدم الضمان أيضا ( فوجب تخصيصه ) أي : تخصيص عموم عدم الضمان في العارية ( به ) أي : بالاستثناء الآخر الذي هو إستثناء الذهبين ( أيضا ) .

وعليه : فكما يجب تخصيص العام بالنقدين ، فكذلك يجب تخصيصه بالذهبين ، ومعه ( فلا وجه لتخصيص أحد المخصّصين ) وهو الذهبين ( بالآخر )

ص: 231

وأيضاً : فإنّ حمل العامّ على الخاصّ استعمال مجازي ، وإبقاؤه على عمومه حقيقة ، ولا يجوز العدول إلى المجاز مع إمكان الاستعمال على وجه الحقيقة ، وهو هذا ممكن في عموم الذهب والفضة فيتعيّن ، وإنّما صرنا إلى التخصيص في الأوّل لتعيّنه على كلّ تقدير .

فإن قيل : إذا كان التخصيص يوجب المجاز

-----------------

أي : بالنقدين ، حتّى يكون المخرج من عموم العام النقدين فقط ، وتكون النتيجة : عدم الضمان في الذهبين .

( وأيضا ) نقول لبيان عدم تخصيص الذهب والفضّة بالنقدين : ( فانّ حمل العام على الخاص إستعمال مجازي ، وإبقاؤه ) أي : إبقاء العام ( على عمومه حقيقة ، ولا يجوز العدول إلى المجاز مع إمكان الاستعمال على وجه الحقيقة ، وهو ) أي : الابقاء على الحقيقة بإبقاء عموم الذهبين على عمومه ( هذا ) وعدم تخصيصه بالنقدين ( ممكن في عموم الذهب والفضّة ) ومعه فنبقي عموم الذهب والفضّة على عمومه ، ولا نخصّصه بالنقدين حتّى يصبح مجازا ، وإذا أمكن ذلك ( فيتعيّن ) أي : يتعيّن إبقاء عموم الذهب والفضّة على عمومه .

إن قلت : إن كان الأمر كما تقولون ، فلماذا ؟ صرتُم إلى التخصيص في العموم الأوّل ؟ .

قلت : ( وإنّما صرنا إلى التخصيص في الأوّل ) أي : في عموم عدم الضمان حيث خصّصناه بالنقدين ( لتعيّنه ) أي : لتعيّن تخصيصه بالنقدين ، فانّ تخصيص عموم عدم الضمان بالنقدين متعيّن ( على كلّ تقدير ) أي : سواء قلنا بأنّ الخارج من عدم الضمان النقدان فقط ، أو قلنا بأنّ الخارج هو النقدان والذهبان معا .

( فان قيل : إذا كان التخصيص يوجب المجاز ) في إستعمال العام

ص: 232

وجب تقليله ما أمكن ؛ لأن كلّ فرد يخرج يوجب زيادة المجاز في الاستعمال ، حيث كان حقّه أن يطلق على جميع الأفراد .

وحينئذ فنقول : قد تعارض هنا مجازان :

أحدهما : في تخصيص الذهب والفضة بالدنانير والدراهم .

والثاني : في زيادة تخصيص العامّ الأوّل بمطلق الذهب والفضة ، على تقدير عدم تخصيصهما بالدنانير والدراهم ،

-----------------

على ما ذكرتم ( وجب تقليله ) أي : تقليل التخصيص ( ما أمكن ، لأنّ كلّ فرد يخرج يوجب زيادة المجاز في الاستعمال ) أي : في إستعمال العام مجازا ، فإذا قال : أكرم العلماء ، وكان له عشرة أفراد وقد خرج زيد ولم نعلم بخروج عمروأيضا ، وجب أن نقول : إنّ عمروا داخل في العام ، لأنّ خروجه يوجب زيادة المجاز في الاستعمال ( حيث كان حقّه ) أي : حقّ العام ( أن يطلق على جميع الأفراد ) بلا إستثناء .

( وحينئذٍ ) أي : حين وجب تقليل التخصيص لدفع زيادة المجاز ( فنقول : قد تعارض هنا مجازان ) على النحو التالي :

( أحدهما : في تخصيص الذهب والفضّة بالدنانير والدراهم ) ممّا يكون معناه : انّه لا ضمان في عارية الذهب والفضّة ، إلاّ إذا كان دينارا أو درهما .

( والثاني : في زيادة تخصيص العام الأوّل ) القائل بلا ضمان في العارية ( بمطلق الذهب والفضّة ، على تقدير عدم تخصيصهما ) أي : عدم تخصيص الذهب والفضّة ( بالدنانير والدراهم ) فإذا لم نخصّص الذهبين بالنقدين كان معناه : زيادة تخصيص العام : لا ضمان ، وهو خُلف .

وعليه : فالأمر دائر بين أحد مجازين : مجاز خروج الذهب والفضّة عن عموم :

ص: 233

فترجيحُ أحد المجازين على الآخر ترجيحٌ من غير مرجّح ، بل يمكن ترجيحُ تخصيص الذهب والفضة ؛ لأن فيه مراعاة قوانين التعارض بينه وبين ما هو أخصّ منه .

قلنا : لا نسلّم التعارض بين الأمرين ؛ لأن استعمال العامّ الأوّل على وجه المجاز حاصل على كلّ تقدير إجماعاً ،

-----------------

لا ضمان ، ومجاز تخصيص عموم الذهب والفضّة بالنقدين ، وإذا كان كذلك ( فترجيحُ أحد المجازين ) وهو : تخصيص الذهب والفضّة لعموم : لا ضمان ( على الآخر ) وهو : تخصيص النقدين للذهب والفضّة ( ترجيح من غير مرجّح ) لتساويهما ، ومعه فلا نعلم بأيّ المجازين نأخذ ؟ فكيف ترجّحون إخراج الذهبين عن عموم : لا ضمان ؟ .

( بل يمكن ترجيح تخصيص الذهب والفضّة ) بالدنانير والدراهم ، وإخراج النقدين عن عموم : لا ضمان ، على تخصيص الذهبين للعموم ( لأنّ فيه ) أي : في هذا الترجيح ( مراعاة قوانين التعارض بينه ) أي : بين عموم الذهبين ( وبين ما ) أي : بين خصوص النقدين الذي ( هو أخصّ منه ) أي : من الذهبين ، فانّ النقدين أخصّ من الذهبين والأخصّ يخصّص الأعمّ .

( قلنا : لا نسلّم التعارض بين الأمرين ) أي : بين زيادة المجاز في العامّ الأوّل الذي هو : عدم الضمان ، وبين إحداث المجاز في العام الثاني الذي هو : ثبوت الضمان في الذهبين ، وذلك ( لأنّ استعمال العامّ الأوّل على وجه المجاز حاصل على كلّ تقدير إجماعا ) لوضوح : انّ العامّ الأوّل ، إمّا مخصّص بخصوص النقدين ، أو مخصّص بمطلق الذهبين .

ص: 234

وزيادة التجوّز في الاستعمال لايعارض به أصل التجوّز في المعنى الآخر ، فإنّ إبقاء الذهب والفضة على عمومهما استعمال حقيقي ، فكيف يكافؤه مجرّد تقليل التجوّز مع ثبوت أصله ؟ وبذلك يظهر بطلان الترجيح بغير مرجّح ؛ لأنّ المرجّح حاصل في جانب الحقيقة .

-----------------

هذا ( و ) قولكم بوقوع التعارض بين تخصيص الذهبين بالنقدين ، وبين زيادة التخصيص في العام الأوّل ، وترجيح أحد هذين المجازين ترجيح بلا مرجّح فيه : انّ ( زيادة التجوّز في الاستعمال ) أي : في إستعمال العامّ الأوّل ( لا يعارض به أصل التجوّز ) أي : احداث التجوّز ( في المعنى الآخر ) الذي هو تخصيص الذهبين بالنقدين وإذا كانت الزيادة لا تعارض الاحداث ( فإنّ إبقاء الذهب والفضّة على عمومهما إستعمال حقيقي ) وبه يخصّص عموم : لا ضمان ( فكيف يكافؤه ) أي : كيف يساويه ( مجرّد تقليل التجوّز ) في العام الأوّل الذي هو : عدم الضمان في العارية ( مع ثبوت أصله ) أي : أصل التجوّز فيه ، فانّه لا تكافؤ حتّى نوقع التعارض بينهما ، وذلك لأنّ التعارض هو فرع التكافؤ ، ولا تكافؤ هنا على ما عرفت ؟ .

( وبذلك ) الذي ذكرنا : من انّه ليس الأمر من تعارض المجازين كما قلتم ، بل الأمر دائر بين أصل المجاز ، وزيادة المجاز ، وزيادة المجاز أو لى من أصل المجاز ، فانّ منه ( يظهر بطلان الترجيح بغير مرجّح ) أي : بطلان ما ادّعوتموه هنا : من أنّ ترجيح أحد المجازين : كترجيح التخصيص في العام الأوّل على التخصيص في عموم الذهب والفضّة ، أو العكس ، يكون بلا مرجّح ، فانّه ليس بلا مرجّح ، وذلك ( لأنّ المرجّح حاصل في جانب الحقيقة ) أي : جعل عموم الذهبين حقيقة بأن لا نخصّصه بالنقدين .

ص: 235

هذا ما يقتضيه الحال من الكلام في هذين الوجهين ، وبقي فيه مواضع تحتاج إلى تنقيح » ، إنتهى .

أقول : الذي يقتضيه النظر : أنّ النسبة بين روايتي الدرهم والدينار ، بعد جعلهما كرواية واحدة ، وبين ما دلّ على استثناء الذهب والفضة من قبيل العموم من وجه ،

-----------------

( هذا ما يقتضيه الحال من الكلام في هذين الوجهين ) اللذين هما عبارة عن : تخصيص العام الأوّل بكلا الخاصّين كما إختاره المحقّق الثاني وإخترناه ، وتخصيص العامّ الثاني بالثالث ممّا تكون النتيجة : إستثناء النقدين فقط كما إختاره المشهور وتبعهم فخر المحقّقين .

( وبقي فيه مواضع تحتاج إلى تنقيح (1) ) كدعوى عدم قوّة أخبار النقدين بحيث يمكنها تخصيص أخبار الذهبين ، ودعوى إقتضاء القاعدة الضمان مطلقا ، سواء في النقدين أم الذهبين ، وذلك لدليل : «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» ودليل : «على اليد ما أخذته حتّى تؤدّيه» وما أشبه ذلك ، ودعوى إنقلاب النسبة فيما لو خصّصنا أخبار الذهبين بأخبار النقدين ، وقد عرفت - على ما سبق - إنّ إنقلاب النسبة غير تامّ ( انتهى ) كلام المسالك .

( أقول : الذي يقتضيه النظر : انّ النسبة بين روايتي الدرهم والدينار ، بعد جعلهما كرواية واحدة ) على ما عرفت ( وبين ما دلّ على إستثناء الذهب والفضّة ) تكون ( من قبيل العموم من وجه ) لا من قبيل العموم المطلق ، لأنّ أحد العامين يقول بعدم الضمان في غير النقدين ، وثاني العامّين يقول بوجود الضمان في الذهبين ، وبين هذين العامين عموم من وجه ، فالقلم والكتاب وما أشبه ذلك

ص: 236


1- - مسالك الافهام : ج1 ص317 كتاب العارية .

لأنّ التعارض بين العقد السلبي من الاُولى والعقد الايجابي في الثانية .

إلاّ أنّ الأوّل عامّ والثاني مطلق ، والتقييد أولى من التخصيص .

وبعبارة اُخرى : يدور الامر بين رفع اليد عن ظاهر الحصر في الدرهم والدينار ، ورفع اليد من إطلاق الذهب والفضة ، وتقييدهما أولى ،

-----------------

مورد الافتراق من جهة عموم عدم الضمان في غير النقدين ، والنقدان مورد الافتراق من جهة وجود الضمان في الذهبين ، فيجتمعان في الذهبين غير المسكوكين ، فانّ الذهبين غير المسكوكين هما مادّة الاجتماع من العامين .

وإنّما تكون النسبة بينهما من قبيل العموم من وجه ( لأنّ التعارض ) كائن ( بين العقد السلبي من الاُولى ) وهو : عدم الضمان في غير النقدين ( والعقد الايجابي في الثانية ) وهو : وجود الضمان في النقدين ( إلاّ انّ الأوّل : عامّ ) لكونه سلبيّا والسلب له عموم ( والثاني : مطلق ) لكونه ثبوتيّا ، والثبوتي له إطلاق ( والتقييد ) للثاني المطلق ( أولى من التخصيص ) للأوّل العام ، كما ذكرنا ذلك فيما مضى مفصّلاً .

( وبعبارة اُخرى : يدور الأمر بين رفع اليد عن ) العموم الذي هو ( ظاهر الحصر في الدرهم والدينار ، و ) بين ( رفع اليد من إطلاق الذهب والفضّة ، و ) إذا دار الأمر بين رفع اليد عن أحدهما كان ( تقييدهما ) أي : تقييد الذهب والفضّة وهو : رفع اليد عن إطلاقهما ( أولى ) من رفع اليد عن ظاهر الحصر في النقدين ، ممّا تكون النتيجة : إختصاص الضمان بالنقدين ، وعدم الضمان في مطلق الذهب والفضّة من الحُلي ونحو ذلك .

ص: 237

إلاّ أن يقال : إنّ الحصر في كلّ من روايتي الدرهم والدينار موهون من حيث اختصاصهما بأحدهما ، فيجب إخراج الآخر عن عمومه .

فإنّ ذلك يوجب الوهن في الحصر وإن لم يكن الأمر كذلك في مطلق العامّ ، ويؤيّد ذلك أنّ تقييد الذهب والفضة بالنقدين ، مع غلبة استعارة المصبوغ

-----------------

( إلاّ أن يقال : إنّ الحصر في كلّ من روايتي الدرهم والدينار موهون من حيث إختصاصهما بأحدهما ) أي : من حيث إختصاص كلّ من الروايتين بذكر أحد النقدين فقط دون ذكرهما معا ، فرواية تقول : لا ضمان إلاّ في الدرهم ، ورواية تقول : لا ضمان إلاّ في الدينار ، ومعه ( فيجب إخراج الآخر عن عمومه ) أي : عن العموم المستفاد من الحصر في الأوّل ، بمعنى : انّه يجب تخصيص الحصر في رواية الدرهم بالدينار ، وتخصيص الحصر في رواية الدينار بالدرهم ، وهذا التخصيص والاخراج موهن للحصر كما قال : ( فانّ ذلك يوجب الوهن في الحصر ) الموجود في كلّ من الروايتين الأخصّين .

إذن : فوجوب إخراج الآخر عن عموم الأوّل ، ولزوم تخصيص الحصر في كلّ من الروايتين ، موهن للعموم المستفاد من الحصر ( وإن لم يكن الأمر كذلك في مطلق العام ) فانّ مطلق العامّ وسائر صيغ العموم لا يوهنها التخصيص ، بينما العموم المستفاد من الحصر يوهنه التخصيص ، وذلك لأنّ الحصر نصّ في العموم بحيث يأبى عن التخصيص ، والعام الآبي عن التخصيص يوهن بالتخصيص .

( ويؤيّد ذلك ) أي : يؤيّد وهن العموم المستفاد من الحصر ( أنّ تقييد الذهب والفضّة بالنقدين ) والحكم بكون الضمان في خصوص النقدين ( مع غلبة إستعارة المصبوغ ) عند الناس وندرة إستعارة المسكوك عندهم ، فانّ الناس كثيرا ما يستعيرون الحُلي المصوغة من الذهب والفضّة للتزيين وما أشبه ذلك ،

ص: 238

بعيدٌ جداً .

وممّا ذكرنا يظهر النظر في مواضع ممّا ذكره صاحب المسالك في تحرير وجهي المسألة .

-----------------

فانّ تقييدها بالنقدين مع هذه الغلبة ( بعيد جدّا ) ولذا يلزم الذهاب إلى ما إختاره المحقّق الثاني واخترناه : من تخصيص العام بالخاصّين ، والحكم بضمان مطلق الذهبين مسكوكين كانا أم غير مسكوكين .

( وممّا ذكرنا ) في مناقشة كلام المسالك فيما يخصّ النسبة بين الخبرين الخاصّين ( يظهر النظر في مواضع ممّا ذكره صاحب المسالك في تحرير وجهي المسألة ) وجه الضمان في خصوص النقدين ، ووجه الضمان في مطلق الذهب والفضّة الشامل للنقدين أيضا ، فانّ المسالك قال في وجه خروج مطلق الذهب والفضّة : بأنّه لا تنافي بين ورود المخصّصين معا على عموم عدم الضمان ، معلّلاً ذلك بأنّ الدراهم والدنانير بعض أفراد الذهب والفضّة ، وقال في وجه خروج خصوص النقدين : بأنّ الذهب والفضّة مطلقان أو عامان فيجب تقييدهما أو تخصيصهما بالدراهم والدنانير ، مع إنّك قد عرفت : إنّ النسبة بين روايات الذهبين والنقدين هو : العموم من وجه ، بالبيان الذي ذكرناه ، لا العموم المطلق ، أو الاطلاق والتقييد ، الذي ذكره المسالك .

أقول : بعد لزوم رفع اليد عن هذه المداقّات العقليّة ، يظهر إنّ قول المحقّق الثاني ، وصاحب المسالك ، أقرب إلى الواقع ، وذلك لأنّ العرف يرون عامّا وخاصّين ، ولا وجه لعدم تخصيص العامّ بالخاصّين معا .

ثمّ إنّ السرّ في ورود ثلاث طوائف من أخبار التخصيص قد يكون لأجل انّ النقد الذهبي - مثلاً - كان قد راج في بعض الأزمنة ، بحيث كان هو النقد

ص: 239

وإن كانت النسبة بين المتعارضات مختلفة ، فإن كان فيها ما يقدّم على بعض آخر منها إمّا لأجل الدلالة كما في النصّ ، والظاهر ، أو الظاهر

-----------------

الذي يتعامل به فقط ، ثمّ راج في بعض الأزمنة الاُخرى النقد الفضّي بحيث كان هو النقد الذي يتعامل به ، فقط - كما يظهر ذلك من التواريخ - وفي كلّ زمان جعل الإمام عليه السلام كلامه حسب النقد الرائح في ذلك الزمان .

هذا بالنسبة إلى ذكر الدينار مرّة ، والدرهم اُخرى وأمّا بالنسبة إلى النقدين والذهبين : فيمكن أن يكون الوجه في ذكر النقدين مرّة ، وذكر الذهبين اُخرى ، هو : إنّ الإمام عليه السلام أجاب السائل الذي كان - حسب القرائن - مبتلى بالنقدين بثبوت الضمان فيهما ، وأجاب السائل الذي كان - حسب القرائن - مبتلى بالحُلي ونحوها بثبوت الضمان في الذهب والفضّة ، ولا نريد بذلك الجمع التبرّعي ، وإنّما بعد ما ذكرناه : من إنّ العرف يرى هذا الجمع بين الطوائف الأربع ، نريد بيان ما يمكن أن يكون حكمة لإختلاف الطوائف ، وذلك مثل جواب الإمام عليه السلام للكوفي : بأنّ الكرّ ألف ومائتا رطل ، وللمدني : بأنّه ستمائة رطل .

هذا كلّه فيما لو كانت النسبة بين المتعارضات متحدّة ، وقد عرفت حكمها .

ثانيا : ( وإن كانت النسبة بين المتعارضات مختلفة ) وهذا هو الشقّ الثاني من النسبة بين المتعارضات فقد تقدّم إنّ النسبة بينها إمّا متّحدة أو مختلفة ، وعلى كونها مختلفة فلابدّ من تقديم ما من حقّه التقديم حتّى وإن ترتّب عليه إنقلاب النسبة .

وعليه : ( فإن كان فيها ) أي : في تلك النسبة المختلفة ( ما يقدّم على بعض آخر منها ) وذلك التقديم ( إمّا لأجل الدلالة كما في النصّ ، والظاهر ، أو الظاهر

ص: 240

والأظهر ، وإما لأجل مرجّح آخر ، قُدّم ما حقّه التقديم ، ثمّ لوحظ النسبة مع باقي المعارضات ، فقد تنقلب النسبة وقد يحدث الترجيح ، كما إذا ورد : « اكرم العلماء ، ولاتكرم فسّاقهم ، ويستحب إكرام العدول » ، فإنّه إذا خصّ العلماء بعدولهم

-----------------

والأظهر ) حيث يقدّم النص والأظهر على الظاهر ( وإمّا لأجل مرجّح آخر ) غير جهة الدلالة ، كالترجيح بإعتبار الصدور أو جهة الصدور ، فانّه إذا كان كذلك ( قُدِّمَ ما حقّه التقديم ، ثمّ لوحظ النسبة مع باقي المعارضات ) لمعرفة هل انّ النسبة هي التباين ، أو العموم المطلق ، أو العموم من وجه ؟ .

ثمّ انّه إذا قدّم ما حقّه التقديم ( فقد ) لا تنقلب النسبة بعده ، بل تبقى على ماكانت عليه ، وقد ( تنقلب النسبة ) عمّا كانت عليه ، كما إذا كانت في السابق على كيفيّة فانقلبت بعد التقديم على كيفيّة اُخرى (و) مع إنقلاب النسبة : فقد لا يحدث بسبب الانقلاب ترجيح دلالي بعده ، و ( قد يحدث الترجيح ) الدلالي بعده .

أمّا مثال إنقلاب النسبة وحدوث الترجيح الدلالي بعده ، فهو : ( كما إذا ورد أكرم العلماء ، ولا تكرم فسّاقهم ، ويستحبّ إكرام العدول ) فإنّ نسبة أكرم العلماء ، ولا تكرم فسّاقهم هو : العموم المطلق ، ونسبة أكرم العلماء ، ويستحبّ إكرام العدول ، هو : العموم من وجه ، حيث يكون مورد الافتراق من جانب الأوّل هو : العالم الفاسق ، ومن جانب الثاني هو : العادل غير العالم ، ويجتمعان في العالم العادل ، حيث يقول أكرم : بوجوب اكرامه ، ويقول يستحبّ : باستحباب اكرامه ، فانّ النسبة إذن بين هذه المتعارضات كما عرفت مختلفة وبعد تقديم ما من حقّة التقديم تنقلب النسبة ويحدث الترجيح الدلالي أيضا .

وعليه : ( فانّه إذا خصّ العلماء بعدولهم ) بسبب دليل لا تكرم فسّاقهم ، تنقلب

ص: 241

يصير أخصّ مطلقاً من العدول ، فيخصّص العدول بغير علمائهم ، والسرّ في ذلك واضح ، إذ لولا الترتيب في العلاج لزم إلغاء النصّ أو طرح الظاهر المنافي له رأساً ، وكلاهما باطل .

-----------------

النسبة بينهما ، يعني : ( يصير ) العلماء ( أخصّ مطلقا من العدول ) فيكون كأنّه قال : أكرم العلماء العدول ، ويستحبّ إكرام العدول ، ومن المعلوم : إنّ العدول في يستحبّ اكرام العدول أعمّ مطلقا من العلماء ، فيحدث الترجيح الدلالي بينهما ( فيخصّص العدول بغير علمائهم ) لأنّ العلماء العدول لما دخلوا في وجوب الاكرام ، بقي لقوله : يستحبّ اكرام العدول بعده ، العدول الذين ليسوا بعلماء فقط.

( والسرّ في ذلك ) أي : في تقديم ما من حقّه التقديم ، ثمّ ملاحظة النسبة بين الباقي بعده ( واضح ، إذ لولا الترتيب في العلاج ) على النحو الذي ذكرناه ( لزم الغاء النصّ ) وإبطاله ( أو طرح الظاهر المنافي له ) أي : للنصّ ( رأسا ) وذلك لأنّ الظاهر وهو العامّ هنا يبقى لولا العلاج المذكور بلا مورد ، وبقاؤه بلا مورد في حكم طرحه ، فانّه إذا ورد - مثلاً - أكرم العلماء ، وورد : لا تكرم فسّاقهم ، وورد :

يستحبّ أكرام العدول ، فان أعطينا العلماء العدول ل«يستحبّ» ، وأعطينا العلماء الفسّاق ل«لا تكرم» ، لم يبق فرد لأكرم العلماء ( وكلاهما باطل ) أمّا بطلان إلغاء النصّ ، فلأنّ النصّ قرينة على طرح الظاهر ، ومعه فلا يعقل طرح النصّ لأجل الظاهر ، وأمّا بطلان طرح الظاهر المنافي للنصّ رأسا ، فلأنّ صدور عامّ لا مورد له قبيح ، ولذلك يلزم تقديم ما من حقّه التقديم ، ثمّ ملاحظة النسبة .

أقول : لا يخفى إنّ ما ذكره المصنّف من وجه التقديم هنا هو وجه إعتباري ، وليس هو من مراعاة الظهور الذي هو المعيار في دلالة الألفاظ ، وذلك لأنّ هذه الجمل الثلاث يتحيّر العرف في انّه ماذا يفعل بها بعد كونها في مرتبة واحدة

ص: 242

وقد ينقلب النسبة فيحدث الترجيح في المتعارضات بنسبة واحدة ، كما لو ورد : « أكرم العلماء ، ولا تكرم الفساق ، ويستحب إكرام الشعراء » .

فإذا فرضنا أنّ الفساق أكثر فرداً من العلماء ، خصّ بغير العلماء ، فيخرج العالم الفاسق عن الحرمة ،

-----------------

من دون رجحان لبعضها على بعض ، ومعه فإذا كانت هناك قرينة تعيّن أحد الأطراف فهو ، وإلاّ كان اللازم الرجوع إلى الاُصول العملية .

هذا ( وقد ينقلب النسبة فيحدث الترجيح ) الدلالي بعد إنقلاب النسبة ( في المتعارضات ) التي كانت قبل ذلك ( بنسبة واحدة ، كما لو ورد : «أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق ، ويستحبّ إكرام الشعراء» ) فانّ نسبة كلّ منها مع الآخرين هو : العموم من وجه ، كما إنّ النسبة بين العلماء والفسّاق أيضا عموم من وجه ، وكذلك بين العلماء والشعراء ، وهكذا بين الفسّاق والشعراء ، فالنسبة إذن بين الجميع هي نسبة واحدة ، ولكن حيث انّ الكلام الآن في المتعارضات بنسبة مختلفة ، نفرض قلّة أفراد بعضها عن البعض الآخر ، فإذا فرضنا ذلك ، كان الأقل فردا بالنسبة إلى الأكثر فردا بمنزلة الخاص إلى العام ، فتنقلب النسبة من العموم من وجه إلى العموم المطلق ، ويكون المثال حينئذٍ مثالاً للمتعارضات بنسبة مختلفة .

وعليه : ( فإذا فرضنا أنّ الفسّاق أكثر فردا من العلماء ، خصّ ) حرمة إكرام الفسّاق ( بغير العلماء ، فيخرج العالم الفاسق عن الحرمة ) أي : عن حرمة الاكرام فيجب اكرامه .

وإنّما يخرج العالم الفاسق عن حرمة الاكرام لأنّه قد مرّ سابقا : إنّ العامّين من وجه ، لو كان أحدهما أكثر أفرادا والآخر أقلّ أفرادا ، أعطينا مادّة الاجتماع للأقل

ص: 243

ويبقى الفرد الشاعر من العلماء الفساق مردّداً بين الوجوب والاستحباب .

ثمّ إذا فرض أنّ الفساق بعد إخراج العلماء أقلّ فرداً من الشعراء ، خصّ الشعراء به ، فالفاسق الشاعر غير مستحب الاكرام ، فإذا فرض صيرورة الشعراء بعد التخصيص بالفساق أقلّ مورداً من العلماء ، خصّ دليل العلماء بدليله ، فيحكم بأنّ مادّة الاجتماع بين الكلّ أعني : العالم الشاعر الفاسق مستحب الاكرام .

-----------------

أفرادا ، لأنّ الأقل أفرادا يكون بمنزلة الخاص المطلق بالنسبة إلى الأكثر أفرادا ، فيلزم تخصيص الأكثر بالأقل ، وأيضا حتّى لا يستلزم التخصيص المستهجن ( و ) حينئذٍ ( يبقى الفرد الشاعر من العلماء الفسّاق ) الذي هو مادّة إجتماع الكل حيث يكون مجمعا للعمومات الثلاثة : عالما فاسقا شاعرا ، يبقى ( مردّدا بين الوجوب والاستحباب ) .

هذا إذا فرض انّ الفسّاق أكثر أفرادا من العلماء ، فإذا فرض إنقلاب النسبة بعد تخصيص الفسّاق بالعلماء لصيرورة الفسّاق أقل فردا من الشعراء ، فكما قال : ( ثمّ إذا فرض أنّ الفسّاق بعد إخراج العلماء أقل فردا من الشعراء ، خصّ الشعراء به ) أي : بحرمة إكرام الفسّاق ( فالفاسق الشاعر غير مستحبّ الاكرام ) وتبقى مادّة إجتماع الكلّ مردّدا بين الوجوب والاستحباب .

ثمّ إذا فرض إنقلاب النسبة بعد تخصيص الشعراء بالفسّاق ، لصيرورة الشعراء أقل فردا من العلماء ، فهو كما قال المصنّف : ( فإذا فرض صيرورة الشعراء بعد التخصيص بالفسّاق أقلّ موردا من العلماء ، خصّ دليل العلماء بدليله ) أي : بدليل الشعراء ( فيحكم بأنّ مادّة الاجتماع بين الكلّ أعني : العالم الشاعر الفاسق مستحبّ الاكرام ) .

ص: 244

وقس على ما ذكرنا ، صورة وجود المرجّح من غير جهة الدلالة لبعضها على بعض .

والغرض من إطالة الكلام في ذلك التنبيهُ على وجوب التأمّل في علاج الدلالة عند التعارض ؛ لأنّا قد عثرنا في كتب الاستدلال على بعض الزلاّت ، واللّه مقيل العثرات .

-----------------

أقول : لكنّا ذكرنا سابقا : بأنّ أمثال هذه التعليلات لا توجب الترجيح ولا إنقلاب النسبة بين المتعارضات ، وذلك لعدم حصول الظهور منها ، كما أنّه لا وجه لتقديم بعضها على بعض حتّى يوجب إنقلاب النسبة ، فإذا لم تكن قرائن توجب الظهور عرفا كان المرجع حينئذ الاُصول العمليّة .

هذا ( وقس على ما ذكرنا ) في بحث إنقلاب النسبة في : من لزوم رعاية الترتيب لعلاج المتعارضات في صورة وجود المرجّح من جهة الدلالة ( صورة وجود المرجّح من غير جهة الدلالة لبعضها على بعض ) كما إذا كان المرجّح قوّة سند أحدهما دون الآخر ، أو كان جهة الصدور في أحدهما مشهورا بالتقيّة دون الآخر ، أو ما أشبه ذلك .

( و ) كيف كان : فانّ ( الغرض من إطالة الكلام في ذلك ) الذي مرّ من الترجيح النوعي ، والترجيح الصنفي ، وبحث إنقلاب النسبة هو : ( التنبيه على وجوب التأمّل في علاج الدلالة عند التعارض ) بين الروايات ، وذلك ( لأنّا قد عثرنا في كتب الاستدلال على بعض الزلاّت ) العلميّة من بعض ، كما عرفت في مسألة العارية وانّها هل هي مضمونة في النقدين فقط ، أو في مطلق الذهب والفضّة ؟ ( واللّه مقيل العثرات ) وغافر الخطيئات والزلاّت .

ص: 245

مرجّحات الرواية من الجهات الاُخر

وحيث فرغنا عن بعض الكلام في المرجّحات من حيث الدلالة التي هي مقدّمة على غيرها ، فلنشرع في مرجّحات الرواية من الجهات الاُخر ، فنقول ومن اللّه التوفيق للاهتداء : قد عرفت : « أنّ الترجيح : إمّا من حيث الصدور ، بمعنى جعل صدور أحد الخبرين أقرب من صدور غيره ، بحيث لو دار الأمرُ بين الحكم بصدوره وصدور غيره لحكمنا بصدوره ، وموردُ هذا المرجّح قد يكون في السند ، كأعدليّة الراوي ، وقد يكون في المتن ، ككونه أفصح .

-----------------

هذا ( وحيث فرغنا عن بعض الكلام في المرجّحات من حيث الدلالة التي هي مقدّمة ) في الرتبة ( على غيرها ) أي : على المرجّحات من حيث الصدور والسند ( فلنشرع في مرجّحات الرواية من الجهات الاُخر ، فنقول ومن اللّه التوفيق للاهتداء ) إلى سواء الطريق : ( قد عرفت : أنّ الترجيح ) غير الدلالي يتمّ عبر حيثيّات ثلاث :

أوّلاً : ( إمّا من حيث الصدور ) لكن لا بمعنى أنّ الراجح صادق والمرجوح كاذب ، لأنّه لو كان من هذا الباب لم يكن المرجوح حجّة ، بل ( بمعنى جعل صدور أحد الخبرين أقرب من صدور غيره ) المعارض له ( بحيث لو دار الأمر بين الحكم بصدوره ) أي : صدور هذا الراجح ( وصدور غيره ) المعارض له ( لحكمنا بصدوره ) أي : صدور هذا الراجح وعدم صدور معارضه ( وموردُ هذا المرجّح قد يكون في السند ، كأعدليّة الراوي ) فانّ سند هذا الراجح مقدّم على سند المرجوح ( وقد يكون في المتن ، ككونه أفصح ) وذلك لما ذكرناه سابقا : من أنّ كلام الأئمّة عليه السلام أفصح الكلام وأبلغه .

ص: 246

وإمّا أن يكون من حيث جهة الصدور ، فإنّ صدور الرواية قد يكون لجهة بيان الحكم الواقعي وقد يكون لبيان خلافه ، لتقيّة أو غيرها من مصالح إظهار خلاف الواقع ، فيكون أحدهما بحسب المرجّح اقرب إلى الصدور لأجل بيان الواقع .

وإمّا أن يكون من حيث المضمون ، بأن يكون مضمون أحدهما أقرب في النظر إلى الواقع .

-----------------

ثانيا : ( وإمّا أن يكون من حيث جهة الصدور ) أي : انّه لماذا صدر من الإمام عليه السلام هذا الكلام ( فإنّ صدور الرواية قد يكون لجهة بيان الحكم الواقعي ) كما هو الأصل ( وقد يكون لبيان خلافه ، لتقيّة ) والتقيّة قد تكون بالنسبة إلى نفس الإمام عليه السلام ، أو السامع ، أو الثالث الذي يأخذ الخبر عن الراوي ( أو غيرها ) أي : غير التقيّة ( من مصالح إظهار خلاف الواقع ) مثل ما جاء عن الإمام عليه السلام في جواب مَن سأله عن انّه رأى أصحاب الإمام يختلفون ؟ فقال عليه السلام : « أنا خالفت بينهم » (1) ، والسبب في ذلك هو : أنّ لا يُعرف الشيعة على وتيرة واحدة ، فيكونوا مورد مؤاخذة سلاطين الجور ( فيكون أحدهما بحسب المرجّح ) المذكور والذي مورده المتن فقط ( أقرب إلى الصدور لأجل بيان الواقع ) بخلاف الخبر المعارض له الذي هو أبعد عن بيان الحكم الواقعي .

ثالثا : ( وإمّا أن يكون من حيث المضمون ) علما بأنّ المضمون غير المتن ، لأنّ المصنّف قد مثّل للمتن بالأفصحيّة ، فالمراد بالمضمون المعنى ، وذلك ( بأن يكون مضمون أحدهما أقرب في النظر ) أي : في نظر الفقيه ( إلى الواقع ) ولذا إذا كان أحد الخبرين أفصح ، والخبر الآخر أقرب مضمونا إلى الواقع ، يحصل

ص: 247


1- - عدة الاصول : ج1 ص130 .

وأمّا تقسيم الاُصوليين المرجّحات إلى السنديّة والمتنيّة ، فهو باعتبار مورد المرجّح ، لا باعتبار مورد الرجحان .

ولذا يذكرون في المرجّحات المتنيّة : مثل الفصيح والأفصح والنقل باللفظ والمعنى ،

-----------------

التعارض بين الرجحان في هذا والرجحان في ذاك .

( وأمّا تقسيم الاُصوليين المرجّحات ) الدلالية وغير الدلالية ( إلى السنديّة والمتنيّة ) فقط ، دون سائر أقسام المرجّحات التي ذكرناها ( فهو بإعتبار مورد المرجّح ) علما بأنّ مورد المرجّح ومحلّه هو : إمّا السند ، وإمّا المتن ، ولا ثالث ، فإذا كان هو السند دخل فيه العدالة وغيرها ممّا يرتبط بالسند ، وإذا كان هو المتن دخل فيه الأفصحية وغيرها ممّا يرتبط بالمتن .

إذن : فالتقسيم الثنائي هو باعتبار مورد المرجّح ومحلّه ( لا باعتبار مورد الرجحان ) ومحلّه ، فانّ المورد الذي ينزل فيه الرجحان هو : إمّا متن أو سند ولا ثالث ، بينما المورد الذي يخرج منه الرّجحان ليصل إلى المتن أو إلى السند هو : أعمّ من المتن والسند ، إذ قد يكون الرجحان بسبب الكتاب أو السنّة أو الشهرة أو الاجماع أو ما أشبه ذلك ، وهذه كلّها خارجة عن السند والمتن ، فالاُصوليون إذن لاحظوا مورد المرجّح ، والمصنّف لاحظ مورد الرجحان .

( ولذا يذكرون في المرجّحات المتنيّة : مثل الفصيح والأفصح ) فانّ مورد هذين من حيث المرجّح هو : المتن بينما موردهما من حيث الرّجحان هو : الصدور ، والاُصوليون بالاعتبار عدّوهما من المرجّحات المتنيّة .

( و ) هكذا ( النقل باللفظ والمعنى ) فانّ موردهما من حيث المرجّح هو : المتن ، لكن من حيث الرجحان هو : المضمون .

ص: 248

بل يذكرون المنطوق والمفهوم ، والخصوص والعموم ، وأشباه ذلك .

ونحن نذكر إن شاء اللّه تعالى نبذاً من القسمين ؛ لأن استيفاء الجميع تطويلٌ لاحاجة إليه بعد معرفة أنّ المناط : كون أحدهما أقرب من حيث الصدور عن الإمام عليه السلام ، لبيان الحكم الواقعي .

أمّا الترجيح بالسند ، فباُمور :

منها : كون أحد الراويين عدلاً ، والآخر غير عدل ، مع كونه مقبول الرواية من حيث كونه متحرّزاً عن الكذب .

-----------------

( بل يذكرون المنطوق والمفهوم ، والخصوص والعموم ، وأشباه ذلك ) من الاطلاق والتقييد - مثلاً - في المرجّحات المتنية مع انّها من المرجّحات الدلالية وخارجة عن التعارض لكونها من موارد الجمع العرفي ، فهي إذن باعتبار المرجّح موردها هو : المتن ، وباعتبار الرّجحان موردها هو : الدلالة .

( ونحن نذكر إن شاء اللّه تعالى نُبذا ) أي : شيئا يسيرا ( من القسمين ) أي : من المرجّحات السندية والمتنية حتّى تكون اُنموذجا لسائر أشباههما ، وذلك ( لأنّ إستيفاء الجميع تطويلٌ لا حاجة إليه بعد معرفة أنّ المناط : كون أحدهما أقرب من حيث الصدور عن الإمام عليه السلام لبيان الحكم الواقعي ) من معارضه ، سواء كانت الأقربية من حيث الصدور ، أو من حيث المضمون ، أو من حيث جهة الصدور ، ككون الحكم تقيّة ، أو ليس تقيّة - مثلاً - .

( أمّا الترجيح بالسند ، فباُمور ) كالتالي :

( منها : كون أحد الراويين عدلاً ، والآخر غير عدل ، مع كونه مقبول الرواية من حيث كونه ) ثقة بمعنى كونه ( متحرّزا عن الكذب ) فقد قال الإمام عليه السلام : «لا عُذر

ص: 249

ومنها : كونه أعدل ، وتعرف الأعدليّة إمّا بالنصّ عليها ، وإمّا بذكر فضائل فيه لم يذكر في الآخر .

ومنها : كونه أصدق مع عدالة كليهما ، ويدخل في ذلك كونه أضبط .

-----------------

لأحدٍ من مَوالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا» (1) بل قال بعضهم : بل مفهوم آية النبأ هو أيضا الوثاقة لأنّ قوله سبحانه : « ان جائكم فاسق » (2) يراد به الفاسق الكلامي ، لأنّه المناسب للخبر ، وأمّا الفاسق الجوارحي الذي هو ثقة في كلامه ، فلا يتعلّل ترك خبره بقوله : « ان تصيبوا قوما بجهالة » (3) ولذا فلو كان كلّ من الخبرين مقبولاً ، لكن كان راوي أحدهما عدلاً والآخر ثقة ، فالعدل مقدّم على الثقة .

( ومنها : كونه أعدل ) والآخر عادل ( وتعرف الأعدليّة إمّا بالنصّ ) من علماء الرجال ( عليها ) أي : على الأعدليّة ، كما لو قالوا : بأنّ فلانا أعدل من فلان ( وإمّا بذكر فضائل فيه لم يذكر في الآخر ) كما لو قالوا في زيد - مثلاً - : انّه عدل ورع تقي يجتنب الشبهات ، ولم يقولوا في الآخر بمثل ذلك ، ولا يخفى انّ الاستقامة التي هي أصل العدالة قد تكون بلا ميل أصلاً وهذا هو الأعدل ، وقد تكون مع شيء يسير من الميل وهذا هو العادل .

( ومنها : كونه أصدق مع عدالة كليهما ) والمراد بأصدقيّة الراوي - مع إنّ كلا الراويين صادقان - هو : أن يكون خبره أقرب إلى مطابقة الواقع من خبر الآخر ( ويدخل في ذلك ) أي : في الأصدق ( كونه أضبط ) لوضوح انّ الأضبط أقرب

ص: 250


1- - رجال الكشي : ص536 ، وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 وج27 ص150 ب11 ح33455 ، بحار الانوار : ج50 ص318 ب4 ح15 .
2- - سورة الحجرات : الآية 6 .
3- - سورة الحجرات : الآية 6 .

وفي حكم الترجيح بهذه الاُمور : أن يكون طريق ثبوت مناط القبول في أحدهما أو ضح من الآخر ، وأقرب إلى الواقع من جهة تعدّد المزكّي أو رجحان أحد المزكّيين على الآخر ، ويلحق بذلك التباس إسم المزكّى بغيره من المجروحين ، وضعف ما يميّز المشترك به .

-----------------

إلى الصدق من غير الأضبط .

( وفي حكم الترجيح بهذه الاُمور ) المذكورة ( أن يكون طريق ثبوت مناط القبول ) من العدالة والوثاقة وغير ذلك ( في أحدهما أو ضح من الآخر ، وأقرب إلى الواقع ) فانّ مناط القبول من العدالة والوثاقة والصداقة وما أشبه ذلك قد يعلم الانسان بها في الراوي ، وقد يصل الانسان إليها عن طريق معتبر ، كاخبار علماء الرجال ، وحيث انّ الطريق بالنسبة إلى أحد الخبرين يكون أرجح من طريق الخبر الآخر ، يكون الخبر نفسه أرجح من الخبر الآخر أيضا .

ثمّ إنّ أرجحية الطريق ربّما يكون ( من جهة تعدّد المزكّي ) كما لو زكّى أحد الراويين الذين كلاهما حجّة مزكّيان - مثلاً - وزكّى الراوي الآخر شخص واحد إذا قلنا بكفاية الشخص الواحد ، أو زكّى أحدهما نفران وزكّى الآخر ثلاثة أشخاص ( أو ) يكون أرجحيّة الطريق من جهة ( رجحان أحد المزكّيين على الآخر ) كما لو كان المزكّي لأحدهما النجاشي ، ومزكّي الآخر ابن الغضائري ، والنجاشي أضبط من ابن الغضائري - مثلاً - .

( ويلحق بذلك إلتباس إسم المزكّى ) أي : الراوي الذي زكّاه علماء الرجال ( بغيره من المجروحين ، وضعف ما يميّز المشترك به ) فأبو بصير - مثلاً - مشترك بين من هو ثقة ، وبين من هو غير ثقة ، فإذا لم نعلم بأنّ أبا بصير الذي جاء في سند هذه الرواية هو الثقة أو غير الثقة ، ولم يكن هناك ما يميّز أحدهما عن الآخر

ص: 251

ومنها : علو الاسناد ؛ لأنه كلّما قلّت الواسطة كان احتمال الكذب أقلّ ، وقد يعارض في بعض الموارد بندرة ذلك واستبعاد الاسناد لتباعد أزمنة الرواة ، فيكون مظنّة الارسال

-----------------

تمييزا قويّا حتّى نعرف انّه الثقة ، وإنّما نحتمل لقرائن ضعيفة أنّه الثقة ، ففي هذه الصورة يُقدّم الخبر المعارض على هذا الخبر الذي فيه أبو بصير المشترك ، لرجحان ذاك على هذا .

( ومنها : علوّ الاسناد ) وهو الخبر الذي يكون الوسائط فيه بين المعصوم وبين المنقول إليه قليلة ، مقابل الخبر الآخر المعارض له الذي يكون الوسائط فيه بين الإمام وبين المنقول إليه كثيرة ، ومن الواضح : إنّ الخبر الواصل بواسطة راويين أرجح من الخبر الواصل بواسطة خمسة رواة ، وذلك ( لأنّه كلّما قلّت الواسطة كان إحتمال الكذب أقلّ ) وحتّى إذا لم نحتمل الكذب ، فانّ إحتمال طروّ الخلل : من الاشتباه والغفلة والسهو والنسيان يكون في الخبر ذي الوسائط الكثيرة أكثر .

هذا ( وقد يعارض ) علوّ الأسناد ( في بعض الموارد ) بأحد أمرين : ( بنُدرة ذلك ) في رواياتنا ، فانّ أغلب رواياتنا كثيرة الوسائط ( وإستبعاد الاسناد لتباعد أزمنة الرواة ) فإذا كان هناك روايتان - مثلاً - رواهما شيخ الطائفة عن الإمام العسكري عليه السلام ، وكانت الوسائط في إحداهما إثنين ، وفي الاُخرى خمسة ، فانّ إستبعاد أن يكون الواسطة بين الشيخ والإمام العسكري عليه السلام إثنين فقط ، يوجب إحتمال الارسال في هذه الرواية دون رواية الخمسة ، فتكون رواية الخمسة مع كثرة الوسائط فيها أقرب إلى الواقع من رواية الاثنين .

وعليه : ( فيكون ) في رواية الاثنين ( مظنّة الارسال ) لإحتمال سقوط بعض الرواة بين الشيخ وبين الإمام العسكري عليه السلام من سند الرواية ، ومعه يتعارض جهة

ص: 252

والحوالة على نظر المجتهد .

ومنها : أن يرسل أحدُ الراويين فيحذف الواسطة ويسند الآخر روايته ، فإنّ المحذوف يحتمل أن يكون توثيق المرسِل له معارضاً بجرح جارح ،

-----------------

عُلو الأسناد مع جهة الظنّ بالارسال ، وفي الحقيقة يكون من تعارض المرجّحات حيث يكون هنا مرجّح وهناك مرجّح آخر ( و ) في مثل هذه الاُمور تكون ( الحوالة على نظر المجتهد ) فانّ ترجيح علو السند على إحتمال الارسال ، أو العكس ، موكول إلى نظر المجتهد ، فهو الذي يرى تقديم هذا المرجّح على ذاك ، أو ذاك على هذا ؟ وكذلك في كلّ مرجّحين متعارضين ، كما إذا كان أحدهما أعدل والآخر أفصح .

( ومنها : أن يرسل أحدُ الراويين ) روايته ولا يذكر الواسطة فيها بينه وبين الإمام عليه السلام يعني : ( فيحذف الواسطة ) بينما ( ويسند الآخر روايته ) وذلك كما لو قال ابن أبي عُمير : سمعت عمّن سمع الصادق عليه السلام ، وقال محمّد بن مسلم : سمعت فضيل انّه سمع الصادق عليه السلام ( فانّ ) الخبر المسند أرجح من الخبر المرسَل ، لأنّ الراوي ( المحذوف يحتمل أن يكون توثيق المرسِل ) الذي أرسل الخبر ( له ) أي : لذلك الراوي المحذوف في غير محلّه ، بأن كان توثيقه له ( معارضا بجرح جارح ) وحيث انّه محذوف يخفى علينا ذلك .

مثلاً : ابن أبي عُمير قد يروي الرواية عن زيد ، ثمّ لم يذكر اسم زيد ، وإنّما يرسل الرواية عنه إعتمادا منه عليه لأنّه يرى زيدا ثقة ، لكن قد نراه نحن مجروحا لو كان قد ذكر اسمه ، بينما ليست الرواية الثانية التي ذكر فيها اسم الواسطة كذلك ، لأنّا نعرف الاسم فنعرف انّه ممدوح وليس بمجروح ، ولذا تكون الرواية المسندة

ص: 253

وهذا الاحتمال منفي في الآخر ، وهذا إذا كان المرسِل ممّن تقبل مراسيله ، وإلاّ فلا يعارض المسند رأساً ، وظاهر الشيخ في العدّة تكافؤ المرسل المقبول والمسند ، ولم يعلم وجهه .

ومنها : أن يكون الراوي لإحدى الروايتين متعدّداً وراوي الاُخرى واحداً ، أو يكون رواة إحداهما أكثر ،

-----------------

أقوى من الرواية المرسلة كما قال : ( وهذا الاحتمال ) أي : إحتمال أن يكون الواسطة مجروحا بجرح جارح ( منفي في الآخر ، و ) ذلك لذكر اسم الوسائط فيه ، ونحن نفحص عنهم فلم نجدهم - مثلاً - مجروحين .

( هذا إذا كان المرسِل ) الذي أرسل الخبر ( ممّن تقبل مراسيله ) وذلك بأن نعلم انّه لا يروي ولا يرسل إلاّ عن ثقة ، كما ذكروا ذلك بالنسبة إلى ابن أبي عمير ( وإلاّ فلا يعارض ) الخبر المرسَل بالخبر ( المسند رأسا ) لأنّ الخبر المرسل في نفسه غير معتبر ، وغير المعتبر لا يكافئ المعتبر حتّى يعارضه ، فلا يقع إذن التعارض بين الروايتين ، بل يلزم الأخذ بالمسند وترك المرسل ، فإذا تبيّن ذلك قلنا : ( وظاهر الشيخ في العُدّة تكافؤ المرسل المقبول والمسند ) عنده ، لأنّه يرى أنّ كليهما حجّة ، والمعيار في الأخذ بالخبر الحجيّة ( ولم يُعلم وجهه ) لأنّا قد ذكرنا : أنّ المسند أقرب إلى الواقع من المرسل .

( ومنها : أن يكون الراوي لإحدى الروايتين متعدّدا ) كما لو روى الرواية مرّة زرارة واُخرى محمّد بن مسلم ( وراوي الاُخرى واحدا ) فقط كما لو روى الرواية زرارة فقط ( أو يكون رواة إحداهما أكثر ) من الاُخرى ، كما لو روى إحدى الروايتين ثلاثة : زرارة ومحمّد بن مسلم وفضيل ، بينما روى الرواية الثانية إثنان : زرارة وفضيل فقط ، والفرق بين القسمين هو : أنّ الأوّل في التعدّد والوحدة ،

ص: 254

فإن المتعدّد يرجّح على الواحد والأكثر على الأقلّ ، كما هو واضح .

وحكي عن بعض العامّة عدم الترجيح قياساً على الشهادة والفتوى ، ولازم هذا القول عدم الترجيح بسائر المرجّحات أيضاً ، وهو ضعيف .

ومنها : أن يكون طريق تحمّل أحد الراويين أعلى من طريق تحّمل الآخر ،

-----------------

والثاني في الكثرة والقلّة .

وكيف كان : ( فانّ المتعدّد يرجّح على الواحد ) لفرض أنّ في جانب روايتان - مثلاً - وفي جانب آخر رواية واحدة فقط ( والأكثر ) رواة يرجّح أيضا ( على الأقل ) رواة لفرض انّ إحدى الروايات رواها ثلاثة رواة ، بينما الرواية الثانية رواها إثنان من الرواة فقط ( كما هو واضح ) فانّ العرف يرون مثل هذا الترجيح .

( وحكي عن بعض العامّة عدم الترجيح ) بالسببين المذكورين وهما : التعدّد والوحدة ، والكثرة والقلّة ، وذلك ( قياسا على الشهادة والفتوى ) فانّهم قالوا : كما إنّ شهادة الأربع لا تقدّم على شهادة الاثنين ، وفتوى المجتهدين لا تقدّم على فتوى المجتهد الواحد ، فكذلك في باب الرواية .

( و ) لكن يرد عليه : إنّ ( لازم هذا القول عدم الترجيح بسائر المرجّحات أيضا ) فيما إذا جرى القياس المذكور فيها ، فانّه يشملها جميعا ( وهو ضعيف ) لأنّ العرف يرون الاقوائية في المتعدّد راويا ، أو الأكثر رواة ، وأمّا الشهادة والفتوى ، فان قلنا بعدم الترجيح فيهما بسبب التعدّد أو الكثرة - مع إحتمال الترجيح فيهما بسببهما - فلأنّ عدم الترجيح فيهما بسببهما إنّما هو لأجل دليل خارجي كالاجماع ونحوه .

( ومنها : أن يكون طريق تحمّل أحد الراويين أعلى من طريق تحمّل الآخر ) أي : بأن يكون تحمّل أحدهما الرواية بكيفيّة هي أعلى من كيفية تحمّل الراوي

ص: 255

كأن يكون أحدهما بقراءته على الشيخ والآخر بقراءة الشيخ عليه .

وهكذا غيرهما من أنحاء التحمّل .

هذه نُبذة من المرجّحات السندية التي توجب القوّة من حيث الصدور ، وعرفت أنّ معنى القوّة كون أحدهما أقرب إلى الواقع من حيث اشتماله على مزيّة غير موجودة في الآخر ، بحيث لو فرضنا العلم بكذب أحدهما ومخالفته للواقع كان احتمال مطابقة ذي المزيّة للواقع أرجح

-----------------

الآخر ، وذلك ( كأن يكون أحدهما ) أي : أحد التحمّلين ( بقرائته ) أي : بقراءة الراوي الرواية ( على الشيخ ) أي : على اُستاذه ( والآخر بقراءة الشيخ عليه ) فانّ من المعلوم : انّ قراءة الشيخ على الراوي ، أو ثق من قراءة الراوي على الشيخ ، لأنّ القارئيكون التفاته أكثر من التفات السامع ، إذ يحتمل أن يكون السامع قد ذهل في موضع ، أو غفل عنه ، بخلاف القارئ ، فانّ هذا الاحتمال فيه ضعيف جدّا .

( وهكذا غيرهما ) أي : غير القراءة على الشيخ ، وقراءة الشيخ على الراوي ( من أنحاء التحمّل ) وذلك كما لو كان أحدهما قد تحمّل الرواية بالاجازة ، والآخر قد تحمّل الرواية بالوجادة - مثلاً - وغير ذلك .

( هذه نُبذَة من المرجّحات السندية التي توجب القوّة من حيث الصدور ) أي : لا من حيث جهة الصدور ، ولا من حيث المضمون ، ( وعرفت أنّ معنى القوّة ) من حيث الصدور هو : ( كون أحدهما ) أي : أحد الخبرين ( أقرب إلى الواقع من حيث إشتماله على مزيّة غير موجودة في الآخر ) وذلك بأن يرى العرف الذي يُلقى إليه الكلام مزيّة لهذا الخبر على الخبر المعارض له ( بحيث لو فرضنا العلم بكذب أحدهما ومخالفته للواقع كان إحتمال مطابقة ذي المزيّة للواقع أرجح

ص: 256

وأقوى من مطابقة الآخر وإلاّ فقد لايوجب المرجّح الظنّ بكذب الخبر المرجوح ، من جهة احتمال صدق كلا الخبرين ، فإنّ الخبرين المتعارضين لايُعلم غالباً كذب أحدهما .

وإنّما التجأنا إلى طرح أحدهما ، بناءا على تنافي ظاهريهما وعدم إمكان الجمع بينهما لعدم الشاهد ،

-----------------

وأقوى من مطابقة الآخر ) الذي هو أقرب إلى الكذب ، فمعنى الأقوائية إذن الشأنية لا الفعليّة .

( وإلاّ ) بأن كان معنى الأقوائية : الفعليّة لا الشأنية ، يعني : بأن يحصل من المرجّح الظنّ الفعلي بصدق الراجح وكذب المرجوح ، فانّه إذا كان بهذا المعنى ورد عليه قوله : ( فقد لا يوجب المرجّح الظنّ بكذب الخبر المرجوح ) وإنّما لا يوجبه ( من جهة إحتمال صدق كلا الخبرين ) إذ من المحتمل أن يكون كلا الخبرين صادقين ، لكن أحدهما أقرب للواقع من الآخر ، وهذا هو معنى الظنّ الشأني الحاصل من المرجّح لأحد الخبرين المتعارضين ، ولذلك قال : ( فانّ الخبرين المتعارضين لا يعلم غالبا كذب أحدهما ) حتّى يكون من إشتباه الحجّة باللا حجّة ، إذ لو علم كذب أحدهما لخرج من تعارض الحجّتين ، ولزم اتّباع الظنّ الفعلي القائم على صدق الآخر .

إن قلت : إن كان الغالب هو : إحتمالنا صدق كليهما ، فكيف نأخذ بالراجح فقط ونطرح المرجوح منهما ؟ مع انّ الطرح مساوٍ لكونه كاذبا .

قلت : (وإنّما التجأنا إلى طرح أحدهما، بناءا على تنافي ظاهريهما وعدم إمكان الجمع بينهما ) عندنا ( لعدم الشاهد ) على الجمع من قرينة حالية أو مقالية تدلّ على انّه لماذا صدر هذان الخبران المتعارضان عن الإمام عليه السلام ؟ أو تدلّ على كيفيّة

ص: 257

فيصيران في حكم ما لو وجب طرح أحدهما لكونه كاذباً ، فيؤخذ بما هو أقرب إلى الصدق من الآخر .

والغرض من إطالة الكلام هنا أنّ بعضهم تخيّل : إنّ المرجّحات المذكورة في كلماتهم للخبر ، من حيث السند أو المتن ، بعضها يفيد الظنّ

-----------------

الجمع بينهما ( فيصيران في حكم ما لو وجب طرح أحدهما لكونه كاذبا ) أي : يصير هذان الخبران المتعارضان في حكم الخبرين المعلوم كذب أحدهما - فرضا - ( فيؤخذ بما هو أقرب إلى الصدق من الآخر ) .

والحاصل : إنّ إحتمال الصدق وعدم التعارض في الواقع ، موجود في كلا المتعارضين كما لو ورد - مثلاً - في رواية : السمك فيه الرّبا ، وورد في رواية اُخرى : السمك لا ربا فيه ، فانّه يحتمل أن يكون قوله : السمك فيه الربا ، قد صدر باعتبار أنّ مدينة الراوي كان يباع السمك فيه بالوزن - مثلاً - ويكون قوله : السمك لا ربا فيه ، قد صدر باعتبار أنّ مدينة الراوي كان يباع السمك فيه بالعدد ، وحيث أنّه لا ربا في المعدود ، فلا ربا فيه ، إلاّ انّه لما لم نتمكّن نحن من الجمع بينهما لفقد مثل هذه القرائن الدالّة على كيفيّة الجمع بين الروايتين ، ننزّلهما منزلة ما لو علم بكذب أحدهما في انّه يلزم أن نأخذ بالأقرب في نظرنا إلى الواقع ونطرح الآخر .

هذا ( والغرض من إطالة الكلام هنا ) عن كون المرجّحات توجب الظنّ الشأني بأقربيّة الراجح إلى الواقع ، لا الظنّ الفعلي هو : ( أنّ بعضهم ) وهو السيّد محمّد المجاهد في كتابه مفاتيح الاُصول ( تخيّل : إنّ المرجّحات المذكورة في كلماتهم للخبر ، من حيث السند ) كالأعدليّة ( أو المتن ) كالأفصحيّة ، تفيد الظنّ الفعلي - لا الظنّ الشأني - ولذلك قسّمها إلى أقسام ، فقال : ( بعضها يفيد الظنّ

ص: 258

القوي ، وبعضها يفيد الظنّ الضعيف ، وبعضها لايفيد الظنّ أصلاً ، فحكم بحجيّة الأوّلين واستشكل في الثالث ، من حيث إنّ الأحوط الأخذ بما فيه المرجّح ، ومن إطلاق أدلّه التخيير ، قوّى ذلك

-----------------

القوي ) بمطابقة الراجح للواقع ( وبعضها يفيد الظنّ الضعيف ) بالمطابقة ( وبعضها لا يفيد الظنّ أصلاً ) وعدم حصول الظنّ هو أيضا حالة تقع في النفس من جهة ملابسات ومزايا ، وخصوصيات وقرائن تفسد تلك الحالة وتكون النسبة بينها وبين المرجّحات في الأخبار والآثار ، عموم من وجه ، فلا تلازم بينهما .

وكيف كان : فإنّ السيّد المجاهد لمّا تخيّل أنّ المرجّحات تفيد الظنّ الفعلي بصدق أحد المتعارضين أو كذبه قسّمها من هذا الحيث إلى أقسام ثلاثة ( فحكم بحجيّة الأوّلين ) وهما : ما يوجب ظنّا قويّا ، أو يوجب ظنّا ضعيفا ( وإستشكل في ) مرجّحية ( الثالث ) الذي لا يفيد الظنّ أصلاً .

وإنّما استشكل في الثالث ( من حيث انّ الأحوط الأخذ بما فيه المرجّح ) وإن لم يفد الظنّ أصلاً ، وذلك جواز الأخذ به متيقّن ، فيكون فيه الكفاية قطعا ، سواء كان تخييرا أو تعيينا ، وهذا هو وجه جواز الأخذ به .

( ومن إطلاق أدلّة التخيير ) فانّ أدلّة التخيير يشمل إطلاقها مثل هذا المرجّح الذي لا يفيد الظنّ أصلاً ، لأنّ المتيقّن من عدم شمول أدلّة التخيير له هو : ما إذا كان المرجّح مفيدا للظنّ ، والمفروض أنّ هذا المرجّح لا يفيد الظنّ ، فيشمله إطلاقها ، فلا يكون هذا المرجّح مقيدا لإطلاق أدلّة التخيير ، وهذا هو وجه عدم جواز الأخذ به .

وعليه : فإذا تعارضت هاتان الحيثيّتان : حيثيّة إحتياط الأخذ بالراجح ، وحيثيّة إطلاق أدلّة التخيير ، تساقطتا ، وإذا تساقطتا لم يبق هناك دليل على الترجيح بهذا المرجّح ، ولذا نرى السيّد المجاهد ( قوّى ذلك ) أي : قوّى إطلاق أدلّة التخيير

ص: 259

بناءا على أنّه لا دليل على الترجيح بالاُمور التعبّديّة في مقابل إطلاقات التخيير .

وأنت خبيرٌ بأنّ جميع المرجّحات المذكورة مفيدة للظنّ الشأني بالمعنى الذي ذكرنا ، وهو أنّه لو فرض القطع بكذب أحد الخبرين كان احتمال كذب المرجوح أرجح من صدقه ،

-----------------

( بناءا على انّه لا دليل على الترجيح بالاُمور التعبّدية ) التي لا تفيد الظنّ ( في مقابل إطلاقات التخيير ) فانّ إطلاقات أدلّة التخيير بنظره هي المحكّمة ، إلاّ إذا كانت هناك مرجّحات مفيدة للظنّ ، سواء كانت مفيدة للظنّ القوي ، أم للظنّ الضعيف ، وهذا الكلام منه صريح في انّه يرى المناط في إعتبار المرجّحات هو : إفادتها الظنّ الفعلي بصدق الراجح من المتعارضين وكذب المرجوح منها .

( وأنت خبيرٌ بأنّ ) هذا الكلام من السيّد المجاهد محلّ تأمّل ، وذلك لما يلي :

أوّلاً : إنّ هذه المرجّحات التي يُعالج بها تعارض الأخبار لا تفيد الظنّ الفعلي ، بل الشأني فقط .

ثانيا : ولو فرضنا انّها تفيد الظنّ الفعلي ، لم تفد الترجيح حينئذٍ ، فتسقط عن كونها مرجّحات .

أشار المصنّف إلى الأوّل بقوله : انّ ( جميع المرجّحات المذكورة ) في الروايات أو المستنبطة منها بالملاك سواء كانت مرجّحات سندية أم متنية ( مفيدة للظنّ الشأني ) النوعي ، وذلك ( بالمعنى الذي ذكرنا ، و ) ليست مفيدة للظنّ الفعلي الشخصي كما تخيّله السيّد المجاهد ، ومعنى الظنّ الشأني ( هو : انّه لو فرض القطع بكذب أحد الخبرين كان إحتمال كذب المرجوح ) سندا أو دلالة ( أرجح من صدقه ) كما انّ إحتمال صدق الراجح أرجح من كذبه .

ص: 260

وإذا لم يفرض العلم بكذب أحد الخبرين فليس في المرجّحات المذكورة ما يوجب الظنّ بكذب أحد الخبرين .

ولو فرض شيئاً منها كان في نفسه موجباً للظنّ بكذب الخبر كان مسقطاً للخبر عن درجة الحجيّة ، ومخرجاً للمسألة عن التعارض ،

-----------------

هذا هو معنى الظنّ الشأني فيما لو فرض العلم بكذب أحد الخبرين المتعارضين ( وإذا لم يفرض العلم بكذب أحد الخبرين ) وذلك على ما ذكرنا : من أنّ الغالب في المتعارضين إحتمال صدقهما ، وإنّما خفيت علينا القرائن التي توجب الجمع بينهما ( فليس في المرجّحات المذكورة ) حين لم يفرض العلم بكذب أحد الخبرين ( ما يوجب الظنّ ) الفعلي ( بكذب أحد الخبرين ) وهذا هو معنى الظنّ الشأني .

ثمّ أشار المصنّف إلى الثاني بقوله : ( ولو فرض شيئا منها ) أي : من المرجّحات المذكورة ( كان في نفسه ) أي : بغضّ النظر عن العلم الاجمالي الحاصل من التعارض ( موجبا للظنّ ) الفعلي ( بكذب الخبر ) كما لو فرضنا انّ موافقة الخبر للعامّة موجب للظنّ الفعلي بكذب هذا الخبر الموافق لهم ، فكون الخبر موافقا للعامة - في نفسه وبغضّ النظر عن التعارض - يوجب الظنّ الفعلي بكذبه ، فإذا فرض ذلك في خبر مّا ( كان مسقطا للخبر ) أي : لذلك الخبر ( عن درجة الحجيّة ، و) سقوطه عن الحجيّة يكون ( مخرجا للمسألة عن التعارض ) لأنّ التعارض فرع التكافؤ في الحجيّة .

وعليه : فإذا أفادت المرجّحات الظنّ الفعلي بكذب الخبر - مثلاً - سقط ذلك الخبر عن الحجيّة ، وسقوطه ليس من جهة التعارض ، ولذا قيّد المصنّف الكلام بقوله : «في نفسه» بل من جهة نفسه وبغض النظر عن التعارض واذا كان كذلك

ص: 261

فيعدّ ذلك الشيء موهناً لا مرجّحاً ، اذ فرقٌ واضح عند التأمل بين ما يوجب في نفسه مرجوحية الخبر وبين ما يوجب مرجوحيّته بملاحظة التعارض وفرض عدم الاجتماع .

وأمّا ما يرجع إلى المتن فهو اُمور :

منها : الفصاحة ، فيقدّم الفصيح على غيره ؛ لأن الركيك أبعد من كلام

-----------------

( فيعدّ ذلك الشيء ) الذي كان في وقت مرجّحا ( موهنا ) الآن ومسقطا للخبر المرجوح عن الحجيّة ( لا مرجّحا ) للراجح على المرجوح .

وإنّما يعدّ ذلك المرجّح حينئذٍ موهنا لا مرجّحا ( إذ فرق واضح عند التأمّل بين ما يوجب في نفسه ) وبغضّ النظر عن العلم الاجمالي الحاصل من التعارض ( مرجوحية الخبر ) كما ذكرنا في مثال موافقة الخبر للعامّة ، فانّه يوجب الظنّ الفعلي بكذبه ، فيسقط عن الحجيّة وإن لم يكن هنالك معارض له ( وبين ما يوجب مرجوحيّته بملاحظة التعارض وفرض عدم الاجتماع ) أي : عدم الجمع العرفي بين الخبرين المتعارضين ، فانّ الموهن إنّما يوهن الخبر الواحد الذي لا معارض له، وأمّا المرجّح فهو يوجب طرح المرجوح لمكان التعارض مع الراجح .

إذن : فتحصّل من جوابنا : انّ ما تخيّله السيّد المجاهد من انّ المرجّحات تفيد الظنّ الفعلي بصدق أحد المتعارضين أو كذبه ، فقسّمها من هذا الحيث إلى أقسام ثلاثة : حكم بحجيّة إثنين منها وأشكل في ثالثها ، غير تامّ .

( وأمّا ما يرجع إلى المتن ) من المرجّحات ( فهو اُمور ) أيضا كالتالي :

( منها : الفصاحة ، فيقدّم الفصيح على غيره ) أي : على غير الفصيح فيما إذا كان أحد الخبرين فصيحا والآخر غير فصيح ، وذلك ( لأنّ الركيك أبعد من كلام

ص: 262

المعصوم عليه السلام ، إلاّ أن يكون منقولاً بالمعنى .

ومنها : الأفصحيّة ، ذكره جماعة ، خلافا لاُخرى .

وفيه تأمّل ، لعدم كون الفصيح بعيدا عن كلام المعصوم ، ولا الأفصح أقرب اليه في مقام بيان الاحكام الشرعيّة .

ومنها : اضطراب المتن ، كما في بعض روايات عمّار .

-----------------

المعصوم عليه السلام ، إلاّ أن يكون منقولاً بالمعنى ) فلا يكون حينئذ ترجيح للفصيح على غير الفصيح ، لإمكان أن يكون الإمام قال ذلك الكلام فصيحا ، غير انّ الراوي لمّا نقله بالمعنى صار غير فصيح .

( ومنها : الأفصحيّة ) وذلك بأن يقدّم الأفصح على الفصيح ( ذكره جماعة ، خلافا لاُخرى ) أي : لجماعة اُخرى حيث لم يذكروا الأفصحيّة .

( وفيه ) أي : في كون الأفصحيّة مرجّحا ( تأمّل ، لعدم كون الفصيح بعيدا عن كلام المعصوم الإمام ) عليه السلام ( ولا الأفصح أقرب إليه ) أي : إلى كلام الإمام عليه السلام إذا كان ( في مقام بيان الأحكام الشرعيّة ) وذلك لأنّ الأئمّة عليهم السلام فصحاء ويتكلّمونالفصيح ، لا انّهم يتكلّمون الأفصح ، إلاّ إذا كانوا في مقام إظهار البلاغة والفصاحة ، والتحدّي والاعجاز ، ونحو ذلك ، ومعه فلا دليل على أنّ الأفصح أقرب وغير الأفصح أبعد ، حتّى تكون الأفصحية من المرجّحات .

( ومنها : إضطراب المتن ) وذلك بأن يروي الراوي متن الرواية مختلفا ، فتارةً يرويه بشكل ، واُخرى بشكل آخر ( كما في بعض روايات عمّار ) مثل خبر تمييز دم الحيض عن القُرحة ، ففي نسخة : انّه إن خرج من جانب الأيمن فحيض ، وفي نسخة اُخرى : انّه ان خرج من الأيسر فحيض ، ومن المعلوم : انّ هذا الاختلاف يوجب تشويشا في الرواية ، ممّا لا يمكن أن يؤخذ بها في قِبال الرواية التي

ص: 263

ومرجع الترجيح بهذه إلى كون متن أحد الخبرين أقرب صدوراً من متن الآخر ، وعلّل بعض المعاصرين الترجيح بمرجّحات المتن - بعد أن عدّ هذه منها - بأنّ مرجع ذلك إلى الظنّ بالدلالة ، وهو ممّا لم يختلف فيه علماء الاسلام

-----------------

لا إضطراب في متنها ، سواء كان الاضطراب من الراوي الذي يروي عن الإمام عليه السلام ، أو من الراوي الذي يروي بواسطة راوٍ آخر .

( ومرجع الترجيح بهذه ) المرجّحات المتنيّة ( إلى كون متن أحد الخبرين أقرب صدورا من متن الآخر ) وليس مرجعه إلى قوّة الدلالة ، فيكون حينئذٍ نظير الترجيح بالمرجّحات السندية حيث كان مرجعه - على ما عرفت - إلى أنّ صدور أحد الخبرين أقرب من صدور الآخر .

هذا ولا يخفى : إنّ تقديم غير المضطرب على المضطرب ، إنّما هو فيما إذا لم يكن الاضطراب بحيث يُسقط المضطرب عن الحجيّة ، وإلاّ كان المضطرب غير حجّة ، لا انّه مرجوح بالنسبة إلى معارضه ، ففي المثال المتقدّم - مثلاً - لو رجّحنا خبر الطرف الأيسر ، ثمّ صار التعارض بينه وبين ما دلّ على أنّ الحيض لا طرف له إطلاقا ، فانّ ما دلّ على أنّ الحيض لا طرف له يقدّم على الخبر الذي يقول بأنّه الخارج من الطرف الأيسر .

هذا ( وعلّل بعض المعاصرين الترجيح بمرجّحات المتن بعد أن عدّ هذه ) المرجّحات المذكورة من الفصاحة والأفصحيّة وعدم إضطراب المتن ( منها ) أي: من مرجّحات المتن ، علّله بدليل مركّب من صغرى وكبرى ، فالصغرى تقول : ( بأنّ مرجع ذلك ) الترجيح المتني ( إلى الظنّ بالدلالة ) أي : الجمع الدلالي ( و ) كبرى تقول : بأنّ المرجّح الدلالي ( هو ممّا لم يختلف فيه علماء الاسلام )

ص: 264

وليس مبنيّاً على حجيّة مطلق الظنّ المختلف فيه .

ثمّ ذكر في مرجّحات المتن : النقل باللفظ والفصاحة والركاكة ، والمسموع من الشيخ بالنسبة إلى المقروء عليه ، والجزم بالسماع من المعصوم عليه السلام على غيره ،

-----------------

والنتيجة : أنّ الترجيح المتني ممّا لم يختلف فيه أحد .

إذن : فالترجيح المتني - بنظر بعض المعاصرين - مبني على حجيّة الظنّ بالدلالة المتّفق عليه ( وليس مبنيّا على حجيّة مطلق الظنّ ) أي : مطلق المرجّحات من الدلالة والسند والمتن ( المختلف فيه ) يعني : إنّ بعض المعاصرين لمّا رأى أنّ مورد المرجّحات الدلالية هو المتن ، تصوّر أنّ كلّ مرجّح متني هو مرجح دلالي ، والترجيح بالدلالة متّفق عليه ، فهو بنظره مبني على ما هو متّفق عليه ، وليس مبنيّا على مطلق المرجّحات الظنّية حتّى يكون مختلفا فيه ، مع أنّه ليس الأمر كذلك ، إذ ليس كلّ مرجّح متني هو مرجّح دلالي ، بل منه مرجّح لجهة الصدور كموافقة العامّة ومخالفتهم ، ومنه مرجّح للصدور كالفصاحة والأفصحيّة ، ومنه مرجّح للمضمون كالنقل باللفظ والمعنى .

( ثمّ ذكر ) بعض المعاصرين ( في مرجّحات المتن : النقل باللفظ ) في قِبال النقل بالمعنى ، مع انّه مرجّح للمضمون ( والفصاحة والركاكة ) حيث إنّ الفصيح مقدّم على الركيك ، مع أنّه مرجّح للصدور ( والمسموع من الشيخ بالنسبة إلى المقروء عليه ) والمسموع مقدّم ، مع انّه مرجّح للصدور ( والجزم بالسماع من المعصوم عليه السلام على غيره ) بأن يكون أحد الخبرين مسموعا قطعا من المعصوم عليه السلام ، لأنّ الراوي كان في زمان المعصوم عليه السلام ، وقد تمكّن من الحضور عنده ، وتقديمه على الخبر الآخر الذي يحتمل فيه بأنّ راويه لم يكن في زمان

ص: 265

وكثيراً من أقسام مرجّحات الدلالة ، كالمنطوق والمفهوم ، والخصوص والعموم ، ونحو ذلك .

وأنت خبيرٌ بأنّ مرجع الترجيح بالفصاحة والنقل باللفظ إلى رجحان صدور أحد المتنين بالنسبة إلى الآخر ، فالدليل عليه هو الدليل على اعتبار رجحان الصدور وليس راجعاً إلى الظنّ في الدلالة المتّفق عليه بين علماء الاسلام .

-----------------

المعصوم عليه السلام ، بل روى عنه بواسطة ، أو كان في زمان المعصوم عليه السلام ، لكنّه لم يتمكّن من الحضور عنده ، مع انّه مرجّح للصدور .

( و ) هكذا ذكر بعض المعاصرين ( كثيرا من أقسام مرجّحات الدلالة ، كالمنطوق والمفهوم ، والخصوص والعموم ، ونحو ذلك ) كالتقييد والاطلاق - مثلاً - حيث يلزم فيها تقديم المنطوق على المفهوم ، والخصوص على العموم ، والتقييد على الاطلاق ، وعدّها مرجّحات متنية مع انّها مرجّحات دلالية .

( وأنت خبير بأنّ ) بعض المعاصرين هذا قد جمع بين المرجّحات الدلالية وبين سائر المرجّحات المتنية وعدّها كلّها دلالية ، بينما مرجّحات الدلالة غير مرجّحات المتن ، إذ ( مرجع الترجيح بالفصاحة ) والأفصحيّة ( والنقل باللفظ ) والمسموع من الشيخ ، والمقطوع بسماعه عن المعصوم عليه السلام هو : ( إلى رجحان صدور أحد المتنين بالنسبة إلى الآخر ، فالدليل عليه ) أي : على الترجيح بهذه الاُمور ( هو الدليل على إعتبار رجحان الصدور ) .

وعليه : فاللازم أن يعدّ الترجيح بالفصاحة وما إليها من هذه المرجّحات المتنية راجعا إلى الظنّ بالصدور المختلف فيه ( وليس راجعا إلى الظنّ في الدلالة المتّفق عليه بين علماء الاسلام ) فقول المعاصر : بأنّه ممّا لم يختلف فيه علماء الاسلام

ص: 266

وأمّا مرجّحات الدلالة ، فهي من هذا الظنّ المتّفق عليه ، وقد عدّها من مرجّحات المتن جماعة ، كصاحب الزبدة وغيره ، والأولى ما عرفت ، من أنّ هذه من قبيل النصّ والظاهر ، والظاهر والأظهر ، ولا تعارض بينهما ولا ترجيح في الحقيقة ، بل هي من موارد الجمع المقبول ، فراجع .

-----------------

محلّ نظر ، وذلك لأنّ الذي لم يختلفوا فيه هو : المرجّح الدلالي كما قال : ( وأمّا مرجّحات الدلالة ، فهي من هذا الظنّ المتّفق عليه ) بين علماء الاسلام .

هذا هو التوهّم الأوّل ، وهناك توهّم ثانٍ بعكس الأوّل وهو : عدّ المرجّحات الدلالية من مرجّحات المتن ، بمعنى جعل كلّ مرجّح دلاليّ مرجّحا متنيّا بلا تفكيك بينهما كما قال : ( وقد عدّها ) أي : عدّ المرجّحات الدلالية ( من مرجّحات المتن جماعة ، كصاحب الزبدة وغيره ) أي : غير صاحب الزبدة مثل صاحب الفصول والمناهج والقوانين ونحوهم ، وهذا التوهّم كالتوهّم الأوّل غير تامّ .

( و ) إنّما لم يكن تامّا لأنّه كما قال : بأنّ ( الأولى ما عرفت ) من انّه لا ينبغي عدّ مطلق المرجّحات المتنيّة من المرجّحات الدلالية على ما توهّمه المعاصر كما لا ينبغي عدّ المرجّحات الدلالية من المرجّحات المتنية على ما توهّمه صاحب الزبدة ، بل يلزم أن لا نُعدّ المرجّحات الدلالية من باب المرجّحات رأسا ، وذلك لما سبق : ( من أنّ هذه من قبيل النصّ والظاهر ، والظاهر والأظهر ، ولا تعارض بينهما ولا ترجيح في الحقيقة ) لأنّ العرف لا يرى بينهما تعارضا حتّى يعالجها بالترجيح وما أشبه ذلك ( بل هي من موارد الجمع المقبول ) نظير القرينة وذي القرينة ( فراجع ) كلامنا السابق في ذلك ، فانّا وان كنّا قد نقلنا سابقا عن القوانين وغيره : من انّهم جعلوا الجمع الدلالي أيضا من المرجّحات ، لكنّه مخدوش فيه كما أشرنا إليه .

ص: 267

وأمّا الترجيح من حيث وجه الصدور :

بأن يكون أحد الخبرين مقروناً بشيء يحتمل من أجله أن يكون الخبر صادراً على وجه المصلحة المقتضية لبيان خلاف حكم اللّه الواقعي : من تقيّة ، أو نحوها من المصالح ، وهي وإن كانت غير محصورة في الواقع إلاّ أنّ الذي بأيدينا أمارة التقيّة ، وهي مطابقة ظاهر الخبر

-----------------

( وأمّا الترجيح من حيث وجه الصدور ) مقابل الترجيح من حيث الصدور ، ومن حيث المضمون ، فهو : ( بأن يكون أحد الخبرين مقرونا بشيء ) من القرائن الداخليّة أو الخارجيّة ( يحتمل من أجله ) أي : من أجل ذلك الشيء ( أن يكون الخبر صادرا على وجه المصلحة المقتضية لبيان خلاف حكم اللّه الواقعي : من تقيّة ، أو نحوها من المصالح ) فإنّ الحكم الصادر عنهم عليهم السلام سواء كان تقيّة أو غير تقيّة فهو حكم اللّه ، لكن فرق بين أن يكون حكم اللّه أوّليّا ، أوحكم اللّه ثانويّا ، فانّ التقيّة حكم اللّه الثانوي الذي يعمل به الانسان في حال الضرورة ، سواء كانت الضرورة من باب موافقة العامّة ، أم من باب القاء الخلاف بين الشيعة ، لئلاّ يُعرفوا فيؤخذ برقابهم ، كما ذكر ذلك في بعض الروايات .

( وهي ) أي : المصالح ( وان كانت غير محصورة في الواقع ) لأنّ المصلحة الثانوية قد تكون لأجل التقيّة ، أو لأجل القاء الخلاف بين الشيعة ، أو لأجل أنّ السائل كان وسواسيّا فأجابه الإمام عليه السلام بالحكم الثانوي لرفع وسواسه ، أو لأجل انّه كان مضطرا ، فبيّن له الإمام عليه السلام حكما إضطراريّا لدفع إضطراره ، أو لأجل انّه كان من مذهب آخر فأظهر له الإمام عليه السلام حكم مذهبه من باب الالزام ، لدليل الزموهم بما التزموا به ، وإلى غير ذلك من المصالح الكثيرة .

( إلاّ أنّ الذي بأيدينا ) غالبا هو ( أمارة التقيّة ) فقط ( وهي : مطابقة ظاهر الخبر

ص: 268

لمذهب أهل الخلاف ، فيحتمل صدور الخبر تقيّةً عنهم احتمالاً غير موجود في الخبر الآخر .

قال في العدّة : « إذا كان رواةُ الخبرين متساويين في العدد عُمل بأبعدهما من قول العامّة ، وتُرك العمل بما يوافقه » ، انتهى .

وقال المحقّق في المعارج ، بعد نقل العبارة المتقدّمة عن الشيخ : « والظاهر أنّ احتجاجه في ذلك برواية رويت عن الصادق عليه السلام ،

-----------------

لمذهب أهل الخلاف ) سواء كان مطابقا لعامة أهل الخلاف ، أو لبعض أهل الخلاف ، ممّن كان الإمام عليه السلام يخشى منهم على نفسه ، أو على السائل ، أو على شخص ثالث ( فيحتمل صدور الخبر تقيّة عنهم ) أي : عن أهل الخلاف للأمن من ضررهم ( إحتمالاً غير موجود في الخبر الآخر ) المعارض له ، فيؤخذ بذلك الخبر الآخر .

ويدلّ على ما ذكرناه قول جماعة من العلماء بذلك ، فقد ( قال ) الشيخ ( في العدّة : «إذا كان رواة الخبرين متساويين في العدد ) وسائر الجهات المرجّحة ( عُمل بأبعدهما من قول العامّة ، وترك العمل بما يوافقه» (1) ) أي : يوافق قول العامّة ( انتهى ) كلام شيخ الطائفة .

( وقال المحقّق في المعارج ، بعد نقل العبارة المتقدّمة عن الشيخ ) الدالّة على الترجيح بمخالفة العامّة ، ولزوم أن يؤخذ بالمخالف ويترك الموافق ، قال : ( والظاهر أنّ إحتجاجه في ذلك ) أي : إحتجاج الشيخ في الترجيح بمخالفة العامّة إنّما هو ( برواية رويت عن الصادق عليه السلام ) تدلّ على الأخذ بمخالف العامّة ، قال :

ص: 269


1- - عدّة الاصول : ص60 .

وهو إثبات مسألة علميّة بخبر الواحد ، ولايخفى عليك ما فيه ، مع أنّه قد طعن فيه فضلاء من الشيعة كالمفيد وغيره .

فإن احتجّ بأنّ الأبعد لايحتمل إلاّ الفتوى والموافق للعامّة يحتمل التقيّة ،

-----------------

( و ) لكنّه غير تامّ لما يلي :

أوّلاً : إذ ( هو إثبات مسألة علميّة ) اُصوليّة ( بخبر الواحد ) الظنّي وهو غير صحيح ، كما قال : ( ولا يخفى عليك ما فيه ) أي : ما في هذا الاثبات ، إذ مسألة حجيّة الخبر المخالف للعامّة في المتعارضين ، هي مسألة اُصولية ، وإثباتها يحتاج إلى العلم ، فاثباتها تعبّدا بالخبر الواحد الظنّي غير صحيح ، وهذا بناءا على أصل اشتهر عند بعض الفقهاء يقول : بأنّ المسائل الاُصولية يجب إثباتها بالأدلّة العلميّة ، ولا يمكن إثباتها بالأدلّة الظنّية كالخبر الواحد .

ثانيا : ( مع أنّه قد طعن فيه ) أي : في المراد من هذا الخبر الظاهر في الدلالة على الترجيح بمخالفة العامّة ( فضلاء من الشيعة كالمفيد وغيره ) فكيف يمكن أن نأخذ بأمرٍ طعنَ فيه فضلاء الشيعة ؟ فانّ جماعة منهم قالوا : إنّ الأخذ بالخبر المخالف للعامّة يراد به ما يرتبط بالمسائل العقائدية من التولّي والتبرّي بالنسبة إلى الخلفاء ، لا ما يرتبط بالمسائل الاُصولية من إثبات الترجيح بمخالفة العامّة ، علما بأنّ بعض المحشّين قال : إنّ مراد المحقّق من الطعن هنا هو : إنّ حجيّة خبر الواحد مطلقا ، سواء كان في الاُصول أم في الفروع مسألة مطعون فيها ، حيث أنّ خبر الواحد عند جماعة ليس بحجّة مطلقا .

ثمّ قال المحقّق : ( فان احتجّ ) الشيخ الطوسي لمذهبه الذي ذهب إليه من ترجيح مخالف التقيّة على موافقها ( بأنّ الأبعد ) عن التقيّة ( لا يحتمل ) فيه ( إلاّ الفتوى ) بالحقّ ( والموافق للعامّة يحتمل التقيّة ) فيه ، وحيث كان كذلك

ص: 270

فوجب الرجوع إلى مالا يحتمل .

قلنا : لانسلّم أنّه لايحتمل إلاّ الفتوى ؛ لأنه كما جاز الفتوى لمصلحة يراها الإمام عليه السلام ، كذلك يجوز الفتوى بما يحتمل التأويل لمصلحة يعلمها الإمام عليه السلام ، وإن كنّا لانعلم ذلك .

فإن قال : إنّ ذلك يسدّ باب العمل بالحديث ،

-----------------

( فوجب الرجوع إلى ما لا يحتمل ) التقيّة فيه .

إذا احتجّ الشيخ بذلك ( قلنا : لا نسلم أنّه لا يحتمل ) في الخبر الأبعد عن التقيّة ( إلاّ الفتوى ) بالحقّ ، وذلك ( لأنّه كما جاز الفتوى ) فيه بالحقّ ( لمصلحة يراها الإمام عليه السلام ) أي : بأن أفتى الإمام عليه السلام فيه بالحقّ وأراد منه ظاهر ما قاله ( كذلك يجوز الفتوى ) فيه ( بما يحتمل التأويل لمصلحة يعلمها الإمام عليه السلام وإن كنّا لا نعلم ذلك ) أي : لا نعلم تلك المصلحة التي أرادها الإمام عليه السلام من الافتاء بما لم يرد ظاهره ، وإنّما أراد تأويله .

والحاصل : إنّ الشيخ قال : الموافق للتقيّة يحتمل فيه التقيّة ، ونحن نقول : المخالف للتقيّة يحتمل فيه التأويل ، فيتعارض الاحتمالان ويتساقطان ، فإذا تساقط الاحتمالان كان الخبران متساويين ، فلا ترجيح لأحدهما على الآخر ، فلو قال الإمام عليه عليه السلام - مثلاً - مرّة : المغرب هو : سقوط القرص ، وقال اُخرى : المغرب هو : ذهاب الحمرة ، فكما نحتمل في الأوّل التقيّة نحتمل في الثاني إستحباب التأخير إلى ذهاب الحمرة .

( فإن قال ) شيخ الطائفة : في جواب ما احتملناه من التأويل ( انّ ذلك ) الذي احتملتموه من التأويل هو خلاف الظاهر ، لأنّه ( يسدّ باب العمل بالحديث ) لأنّا نحتمل في كلّ حديث انّه اُريد به التأويل لا ظاهره فيكون مجملاً ولا يمكن العمل به.

ص: 271

قلنا : إنّما نصير إلى ذلك على تقدير التعارض وحصول مانع يمنع عن العمل لامطلقاً ، فلا يلزم سد باب العمل ، انتهى كلامه رفع مقامه .

أقول : توضيح المرام في هذا المقام : أنّ ترجيح أحد الخبرين بمخالفة العامّة يمكن أن يكون بوجوه :

أحدها : مجرّدُ التعبّد ،

-----------------

( قلنا : إنّما نصير إلى ذلك ) الذي قلناه : من إحتمال إرادة خلاف الظاهر في الخبر الأبعد عن التقيّة ( على تقدير التعارض ) بين الخبرين ( وحصول مانع يمنع عن العمل ) به ( لا مطلقا ) في كلّ حديث ، ومعه ( فلا يلزم سدّ باب العمل (1) ) إذ لا كلام لأحد في العمل بظاهر الخبر الذي لا معارض له ( انتهى كلامه ) أي : كلام المحقّق ( رفع مقامه ) ممّا يظهر منه : إنّ التقيّة وعدم التقيّة ليست من المرجّحات حتّى نرجّح بها الخبر الذي لا يوافق التقيّة على الذي وافقها .

( أقول ) : إشكال المحقّق على الشيخ غير وارد ، لأنّ إحتمال التقيّة في الموافق للعامّة ليس معارضا باحتمال التأويل في المخالف للعامّة ، و ( توضيح المرام في هذا المقام ) هو : ( أنّ ترجيح أحد الخبرين بمخالفة العامّة يمكن أن يكون بوجوه ) أربعة ، والاشارة إلى الفرق بين هذه الوجوه يأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى ، والوجوه الأربعة هي كالتالي :

( أحدها : مجرّد التعبّد ) بدون قصد مطابقة الواقع وعدم مطابقة الواقع ، وذلك بمعنى : إنّ الشارع أراد ترجيح الخبر المخالف للعامّة تعبّدا فقط ، بلا ان يلاحظ أقربيّته إلى الحقّ ، أو عدم إحتمال التقيّة فيه ، ومعه فيكون مخالفة العامة مرجّحا تعبّديا ، ويكون نظير : منع الشارع عن تقليد المجتهد الفاسق جوارحيا وجوانحيا،

ص: 272


1- - معارج الاصول : ص156 .

كما هو ظاهر كثير من أخباره ، ويظهر من المحقّق استظهاره من الشيخ .

الثاني : كون الرشد في خلافهم ، كما صرّح به في غير واحد من الأخبار المتقدّمة ، ورواية علي بن أسباط ، قال : قلت للرضا عليه السلام : يَحدثُ الأمر ،

-----------------

وان كان مساويا للمجتهد العادل من حيث الاجتهاد وصدق لهجة ولسانا ، وذلك لأنّ الشارع أراد سدّ باب الفسقة تعبّدا ، لا من جهة مطابقا الواقع وعدم مطابقة الواقع .

( كما هو ) أي : التعبّد بترجيح الخبر المخالف للعامّة ( ظاهر كثير من أخباره ) أي : أخبار ترجيح المخالف للعامّة ، فانّ تلك الأخبار لم تتعرّض لبيان علّته وانّه هل هو لأقربيّته إلى الواقع أو لشيء آخر ؟ فيظهر انّه مجرّد تعبّد .

هذا ( ويظهر من المحقّق إستظهاره ) أي : إستظهار التعبّد ( من الشيخ ) أيضا حيث نقل المحقّق عن الشيخ قوله : « والظاهر انّ احتجاجه في ذلك برواية رويت عن الصادق عليه السلام . . . » ومن المعلوم : إنّ الرواية توجب التعبّد لا الأقربية والأبعدية عن الحقّ والواقع .

الوجه ( الثاني : كون الرشد في خلافهم ) أي : في خلاف العامّة ، فيكون وجه الترجيح لمخالفة العامّة هو : كون المخالف أقرب إلى الواقع ( كما صرّح به ) أي : بكون الرشد بمخالفتهم ( في غير واحد من الأخبار ) العلاجيّة ( المتقدّمة ، و ) قد صرّح به أيضا في ( رواية علي بن أسباط ) فانّها وان لم تكن من روايات العلاج إلاّ انّها ترشد إلى هذه الجهة التي نحن بصددها .

( قال ) أي : علي بن أسباط : ( قلت للرضا عليه السلام : يَحدثُ الأَمر ) أي : يحدث

ص: 273

لا أجدُ بدّاً من معرفته وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك ، فقال : أئت فقيه البلد واستفته في أمرك ، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه ، فإنّ الحقّ فيه .

وأصرَح من ذلك كلّه خبرُ أبي اسحاق الأرجائي قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام: أتدري لم امرتم بالأخذ بخلاف ما يقوله العامّة ؟ فقلت : لا أدري ، فقال : إن عليّاً صلوات اللّه عليه لم يكن يدين

-----------------

لي حادث جديد إحتاج إلى حكمه بحيث ( لا أجدُ بدّا من معرفته ) لابتلائي به في عملي ( وليس في البلد الذي أنا فيه أحد استفتيه من مواليك ) الرواة فماذا أصنع ؟ .

( فقال : أئت فقيه البلد ) وكان فقيه البلد في تلك الأيّام من علماء العامّة ( واستفته في أمرك ، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه ، فانّ الحقّ فيه (1) ) أي : في خلاف ما أفتى به فقيه البلد ، وذلك فيما لو تردّد السائل بين أمرين ، لا أكثر من أمرين ، كالشكّ في انّ أرث الاُمّ - مثلاً - هل هو السدس أو الثلث ؟ فإذا أتاه وسأله عنه فأفتاه بالسدس ، عمل بالثلث ، وإذا أفتاه بالثلث ، عمل بالسدس ، وهكذا غيرها من المسائل التي لها وجهان وقد تردّد السائل بين ذينك الوجهين .

( وأصرح من ذلك كلّه ) في الدلالة على كون الحقّ في خلافهم ، وإنّ كلامهم مخالف للواقع ، فخلافهم مطابق للواقع ممّا يشمل صورة التعارض أيضا ( خبرُ أبي إسحاق الأرجائي قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام : أتدري لِمَ اُمِرتم بالأخذ بخلاف ما يقوله العامّة ؟ فقلت : لا أدري ، فقال : إنّ عليا صلوات اللّه عليه لم يكن يدين

ص: 274


1- - عيون اخبار الرضا : ج1 ص275 ح10 ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33356 ، علل الشرائع: ص531 ح4 ، تهذيب الاحكام: ج6 ص294 ب22 ح27 ، بحار الانوار: ج2 ص233 ب29 ح14.

اللّه بشيء إلاّ خالف عليه العامّة ، إرادة لإبطال أمره ، وكانوا يسألونه ، صلوات اللّه عليه ، عن الشيء الذي لايعلمونه فإذا أفتاهم بشيء جعلوا له ضدّاً من عندهم ، ليلبُسوا على الناس .

الثالث : حسنُ مجرّد المخالفة لهم ، فمرجع هذا المرجّح ليس الأقربيّة إلى الواقع ، بل هو نظير ترجيح دليل الحرمة على الوجوب ،

-----------------

اللّه بشيء ) من الأحكام ( إلاّ خالف عليه العامّة ، إرادة لإبطال أمره ) وان لا يكون له رأي يُعرف بين الآراء ( وكانوا يسألونه صلوات اللّه عليه عن الشيء الذي لا يعلمونه ) أي : عن حكم المسألة التي لا يعلمون حكمها ( فإذا أفتاهم بشيء جعلوا له ضدّا من عندهم ) وعملوا بذلك الضدّ ( ليلبسوا ) الحقّ بالباطل ( على الناس ) (1) .

ولا يخفى : إنّ مثل هذا شايع في الحكومات المتناحرة ، والحكّام الغاصبين ، والخلفاء الجائرين ، حتّى ورد انّ بني العباس لمّا جاؤوا إلى الحكم غيّروا كلّ شيء كان في عهد بني اُمّيّة ، من أحكام وقوانين ، وبقايا وآثار ، حتّى انّ علامات الفراسخ التي نصبها بنو اُميّة في الطريق ، قلعوها عن مواضعها وجعلوها في أماكن اُخر وبأشكال اُخر ، فلا تعجب في أن يكون اُولئك الذين عارضوا عليا عليه السلام في الحكم ، وغصبوا حقّه في الخلافة ، أن يعارضوه في كلّ شيء .

الوجه ( الثالث : حُسنُ مجرّد المخالفة لهم ) أي : للعامّة ، وذلك للتحرّز - مثلاً - من الذوبان فيهم ، والانخراط في سلكهم ، ومعه ( فمرجع هذا المرجّح ) وهو مخالفة العامة على الوجه الثالث ( ليس الأقربية إلى الواقع ، بل هو ) مرجّح خارجي ( نظير ترجيح دليل الحرمة على الوجوب ) في كلام بعضهم ، وذلك فيما

ص: 275


1- - علل الشرائع : ص531 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص116 ب9 ح33357 .

ودليل الحكم الأسهل على غيره .

ويشهد لهذا الاحتمال بعض الروايات ، مثل قوله عليه السلام في مرسلة داود بن الحصين : إنّ من وافقنا ، خالف عدوّنا ، ومن وافق عدوّنا في قول أو عمل ، فليس منّا ولا نحنُ منه ، ورواية الحسين بن خالد : شيعتنا المسلّمون لأمرنا ،

-----------------

إذا دار الأمر بين الحرمة والوجوب ، فانّهم يرجّحون الحرمة على الوجوب ، لكن لا لجهة كونه أقرب إلى الواقع ، بل لجهة اُخرى ، مثل : إنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، أو غير ذلك .

( و ) نظير ترجيح ( دليل الحكم الأسهل على غيره ) أي : غير الأسهل ، فانّه إذا كان هناك حكمان ، أحدهما أسهل من الآخر ، فانّه يؤخذ بالأسهل ، لكن لا لجهة انّه أقرب إلى الواقع ، بل لقوله سبحانه : « ما جعل عليكم في الدين من حرج » (1) ولقوله تعالى : « يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر » (2) وإلى غير ذلك .

( و ) هذا الاحتمال الذي ادّعيناه في الوجه الثالث وان لم يكن به تصريح في أخبار العلاج ، إلاّ انّه ( يشهد لهذا الاحتمال بعض الروايات ) الواردة في باب التولّي والتبرّي ممّا يشمل المتعارضين أيضا ( مثل قوله عليه السلام في مرسلة داود بن الحصين : انّ من وافقنا ، خالف عدوّنا ) فانّ ظاهره المخالفة لهم في كلّ شيء ( ومن وافق عدوّنا في قول أو عمل ، فليس منّا ولا نحن منه ) (3) يعني : إنّ بيننا وبينه بُعدا شاسعا .

( و ) يشهد له أيضا ( رواية الحسين بن خالد : شيعتنا المسلّمون لأمرنا ،

ص: 276


1- - سورة الحج : الآية 78 .
2- - سورة البقرة : الآية 185 .
3- - وسائل الشيعة : ج27 ص119 ب9 ح33366 .

الآخذون بقولنا ، المخالفون لأعدائنا ، فمن لم يكن كذلك فليس منّا ، فيكون حالهم حال اليهود الوارد فيهم قوله صلى الله عليه و آله وسلم : خالفوهم ما استطعتم .

الرابع : الحكم بصدور الموافق تقيّة ، ويدّل عليه قوله عليه السلام في رواية :

ما سمعته منّي يُشبِه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعته منّي لايُشبه قول الناس فلا تقيّة فيه ، بناءا على أنّ المحكي

-----------------

الآخذون بقولنا ، المخالفون لأعدائنا ) أي : في كلّ شيء ( فمن لم يكن كذلك ) أي : ليست فيه هذه الصفات الثلاث ( فليس منّا ) (1) إنتهت هذه الرواية .

وعلى هذا : ( فيكون حالهم ) أي : حال أعداء الأئمّة الناصبين لهم ( حال اليهود الوارد فيهم قوله صلى الله عليه و آله وسلم : خالفوهم ما استطعتم (2) ) فانّه ليس لأجل الأقربية إلى الواقع ، وإنّما لأجل عدم المشابهة بهم - مثلاً - .

الوجه ( الرابع : الحكم بصدور الموافق تقيّة ) دون المخالف ، فيكون المعيار هو الطريقيّة لا التعبّدية ( و ) هذا الوجه وان كان كالوجه الثالث في عدم تصريح أخبار العلاج به ، إلاّ انّه ( يدلّ عليه قوله عليه السلام في رواية : ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعته منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه (3) ) فانّ المراد بالناس هنا هم العامّة ، لأنّهم محلّ الابتلاء في أمثال هذه الأخبار كما هو واضح .

لكن دلالة هذا الخبر على الوجه الرابع إنّما هو ( بناءا على أنّ المحكي

ص: 277


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص117 ب9 ح33358 ، بحار الانوار : ج68 ص167 ب19 ح24 .
2- - السنن الكبرى : ج2 ص605 ، المعجم الكبير : ج7 ص290 ، وفيه صلوا في نعالكم ، خالفوا اليهود .
3- - تهذيب الاحكام : ج8 ص98 ب36 ح3 ، الاستبصار : ج3 ص318 ب183 ح10 ، وسائل الشيعة: ج27 ص123 ب9 ح33379 .

عنه عليه السلام ، مع عدالة الحاكي كالمسموع منه ، وأنّ الرواية مسوقة لحكم المتعارضين ، وأنّ القضيّة غالبيّة ، لكذب الدائمة .

-----------------

عنه عليه السلام مع عدالة الحاكي كالمسموع منه ) أي : كالمسموع من الإمام عليه السلام ، إذ لا خصوصية للسماع من الإمام ، لأنّ ملاك السماع من الإمام موجود أيضا في الرواية المحكيّة عن الإمام بواسطة زرارة - مثلاً - أو بواسطة محمّد بن مسلم ، ومن إلى ذلك من الثقاة العدول .

( و ) بناءا على ( أنّ الرواية مسوقة لحكم المتعارضين ) ومعالجتهما ، حتّى لا يدّعى بأنّ المراد من الشباهة بقول الناس هنا ، هو التفرّع على قواعد العامّة من القياس ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، وما أشبه ذلك .

( و ) إن قلت : انّه من الواضح عدم كليّة ما ذكر في هذه الرواية خارجا ، وذلك لوضوح انّه ليس كلّ ما يوافق العامّة من المتعارضين في الخارج صدر من باب التقيّة فيتنافى مع ظهور الرواية الظاهر في الكليّة .

قلت : ( أنّ القضيّة غالبيّة ، لكذب الدائمة ) فانّ أكثر القضايا العرفيّة محمولة على الغالب دون الدائم ، حتّى إشتهر بينهم انّ القضايا العرفية من باب المقتضيات لا العلل التامّة ، ومعه فلا تنافي .

وكيف كان : فقد ظهر ممّا تقدّم : انّ الفرق بين الوجوه الأربعة هو على ما يلي :

أوّلاً : أن يكون الأخذ بمخالف العامّة كما في الوجه الأوّل من باب التعبّد ، لا من باب الطريقيّة والكشف عن الواقع ، لكن هذا الأخذ لا يكون في كلّ مخالف للعامّة ، بل في خصوص الخبرين اللذين يكون أحدهما مخالفا للعامّة والآخر موافقا لهم .

ثانيا : أن يكون الأخذ بمخالف العامّة كما في الوجه الثاني من باب الطريقيّة

ص: 278

أمّا الوجهُ الأوّلُ : فمع بعده عن مقام ترجيح أحد الخبرين المبنيّ اعتبارهما على الكشف النوعي ،

-----------------

والكشف عن الواقع ، لا من باب التعبّد ، لكن هذا الأخذ ليس في خصوص الخبرين المتعارضين ، بل يعمّ كلّ شيء حتّى لو لم يكن خبر أصلاً .

ثالثا : أن يكون الأخذ بمخالف العامّة كما في الوجه الثالث من باب التعبّد كالوجه الأوّل لا من باب الطريقيّة والكشف عن الواقع كالوجه الثاني ، لكن هذا الأخذ هنا ليس كالوجه الأوّل خاصا بالخبرين المتعارضين بل يعمّ كلّ شيء حتّى وان لم يكن خبر أصلاً ، فإذا سلك المخالفون مسلكا في أي شيء كان ، لزم مخالفتهم فيه ، وحينئذ يكون الوجه الثالث أعمّ من الوجه الأوّل .

رابعا : أن يكون الأخذ بمخالف العامّة كما في الوجه الرابع كالوجه الثاني من باب الطريقيّة والكشف عن الواقع ، لا من باب التعبّد كالوجه الأوّل والثالث ، لكن هذا الأخذ هنا ليس كالوجه الثاني يعمّ كلّ شيء ، بل هو خاص بالخبرين المتعارضين ، لأنّا بنينا على كون الرواية مسوقة لحكم المتعارضين ، وحينئذ يكون الوجه الرابع أخصّ من الوجه الثاني .

ثمّ انّ تقرير الحصر في الوجوه الأربعة يكون على النحو التالي : الأخذ بمخالف العامّة إمّا تعبّدي أو طريقي ، وكلّ واحد منهما ، امّا أعمّ من مورد الخبرين ، أو خاص بمورد الخبرين ، فالوجوه أربعة .

إذن : فترجيح أحد الخبرين بمخالفة العامّة - حسب توضيح المصنّف - يكون بأحد هذه الوجوه الأربعة فلننظر أيّها يكون المتعيّن هنا ؟ .

( أمّا الوجه الأوّل : فمع بُعدِه عن مقام ترجيح أحد الخبرين المبنيّ إعتبارهما على الكشف النوعي ) أي : انّ إعتبار الأخبار إنّما هو من باب الطريقيّة والكشف

ص: 279

ينافي التعليل المذكور في الاخبار المستفيضة المتقدّمة .

ومنه يظهر : ضعف الوجه الثالث مضافاً إلى صريح رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : ما أنتم والله على شيء ممّا هم فيه ، ولا هم على شئممّا أنتم فيه ، فخالفوهم ، فإنهم ليسوا

-----------------

عن الواقع ، فاللازم معه أن يكون كلّ ما يدور حول الخبر ، حتّى الترجيح بين الخبرين ملحوظا فيه الطريقيّة والأقربيّة إلى الواقع أيضا ، بينما مجرّد التعبّد ، أو حسن المخالفة ، لا كشف فيه ، وحينئذ فالوجه الأوّل مع بُعده ( ينافي التعليل المذكور في الأخبار المستفيضة المتقدّمة ) أيضا ، فانّ أكثر الأخبار علّلت مخالفة العامّة بكون الرشد في خلافهم ، ممّا يكون معناه : الطريقيّة والكشف عن الواقع ، فنحمل الأخبار الخالية عن هذا التعليل عليها ، وبذلك يتبيّن : انّه لا يلاحظ التعبّد في الأخذ بمخالف العامّة وإنّما الطريقيّة والكشف عن الواقع .

( ومنه يظهر : ضعف الوجه الثالث ) أيضا ، لأنّك قد عرفت انّ الوجه الثالث هو أيضا كالوجه الأوّل مبني على التعبّد في مخالفة العامّة ، فيكون الاشكالان الواردان من المصنّف على الوجه الأوّل بقوله : « فمع بُعده » وقوله : « ينافي التعليل » واردين أيضا على الوجه الثالث .

( مضافا إلى ) إشكال ثالث يرد على هذين الوجهين : الأوّل والثالث ، وهو : ( صريح رواية أبي بصير عن أبي عبداللّه عليه السلام ) الدالّة على انّ الأخذ بمخالفة العامّة إنّما هو من باب الطريقيّة والكشف عن الواقع ، لا من باب التعبّد ، فانّه ( قال : ما أنتم واللّه على شيء ممّا هم فيه ) أي : من العقائد والأحكام ( ولا هم على شيء ممّا أنتم فيه ) أي : من عقائدكم وأحكامكم ( فخالفوهم ، فانّهم ليسوا

ص: 280

من الحنفية على شيء فقد فرّع الأمر بمخالفتهم على مخالفة أحكامهم للواقع ، لامجرّد حسن المخالفة ، فتعّين الوجه الثاني ؛ لكثرة ما يدلّ عليه

-----------------

من الحنفية على شيء (1) ) أي : ليسوا على الدين الحنيف .

وإنّما لم يكونوا من الحنفية على شيء ، لوضوح أنّ الخلفاء ومن إليهم من الحكّام ، والقضاة ، وفقهاء البلاط ، ومراجع النظام ، التابعين لهم ، كانوا من المنحرفين عقيدة ، لأنّهم كانوا يقولون في اللّه تبارك وتعالى بالتجسيم والتشبيه ، والجبر والتفويض ، وما أشبه ذلك ، تعالى اللّه عنها علوّا كبيرا ، ويقولون في الرسول صلى الله عليه و آله وسلم بأنّه والعياذ باللّه يخطأ ، وانّه كان ضالاًّ قبل نزول الوحي عليه ، وغير ذلك ، وكانوا من المنحرفين عملاً أيضا ، لأنّ أعمالهم كانت مبنية على الأخبار المكذوبة ، والقياسات الباطلة ، والاستحسانات الشخصيّة ، والمصالح المرسلة ، وقد روى بعضهم : إنّ الأخبار المكذوبة التي رووها عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم يبلغ عددها ثمانمائة وخمسون ألف حديث .

وكيف كان : ( فقد فرّع ) الإمام عليه السلام في هذه الرواية الأخيرة المروية عن أبي بصير (الأمر بمخالفتهم على مخالفة أحكامهم للواقع ، لا مجرّد حسن المخالفة ) تعبّدا ، فتكون هذه الرواية الظاهرة والصريحة في كون حُسن المخالفة من جهة الطريقيّة والكشف عن بطلان أحكامهم ، مفسّرة لما دلّ من الروايات على انّ حسن المخالفة من جهة التعبّد فقط .

وعلى هذا : ( فتعيّن الوجه الثاني ) من الوجوه الأربعة ، وهو : الدالّ على أنّ الأخذ بمخالف العامّة إنّما هو من باب الطريقية ، لمظنّة مطابقته للواقع دون الموافق لهم ، وانّا إنّما نقول بتعيّنه ( لكثرة ما يدلّ عليه ) أي : على هذا الوجه

ص: 281


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص119 ب9 ح33365 .

من الأخبار ، والوجه الرابع للخبر المذكور وذهاب المشهور .

إلاّ أنّه يشكل الوجه الثاني ، بأنّ التعليل المذكور في الأخبار بظاهره غير مستقيم ؛ لأنّ خلافهم ليس حكماً واحداً حتى يكون هو الحقّ .

-----------------

الثاني ( من الأخبار ) الواردة في ترجيح خبر على خبر ، مثل رواية علي بن أسباط (1) المتقدّمة .

( و ) كذا يتعيّن أيضا ( الوجه الرابع ) والأخير من الوجوه الأربعة ، وهو الدالّ على أنّ الأخذ بمخالف العامّة إنّما هو من باب الطريقية لعدم إحتمال التقيّة فيه ، وذلك ( للخبر المذكور ) المتقدّم من قوله عليه السلام : « ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة ...» (2) ( وذهاب المشهور ) إليه أيضا .

( إلاّ انّه يشكل الوجه الثاني ) الذي قال المصنّف بتعيّنه هنا من بين الوجوه الأربعة ، والاشكال هو كما قال : ( بأنّ التعليل المذكور في الأخبار ) المصرّحة بأنّ الرشد في خلافهم ( بظاهره ) أي : بما يستظهر من التعليل عرفا مع غضّ النظر عن التوجيهين الآتيين من المصنّف له : حيث يقول : ويمكن دفع الاشكال ( غير مستقيم ) ، وإنّما لم يكن التعليل بظاهره مستقيما ( لأنّ خلافهم ليس حكما واحدا حتّى يكون هو الحقّ ) فانّ كون الرشد والحقّ في خلافهم إنّما يستقيم لو إنحصر خلافهم في الخبر المخالف لهم ، وهذا يكون فيما إذا دار الأمر في المسألة بين وجهين فقط ، وذلك كما إذا قال الخبر الموافق للعامّة بجواز قول آمين بعد الحمد ، وقال الخبر المخالف للعامة بعدم جواز قول آمين بعد الحمد ، فانّ الرشد

ص: 282


1- - عيون اخبار الرضا : ج1 ص275 ح10 ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33356 ، علل الشرائع: ص531 ح4 ، تهذيب الاحكام: ج6 ص294 ب22 ح27 ، بحار الانوار: ج2 ص233 ب29 ح14.
2- - تهذيب الاحكام : ج8 ص98 ب36 ح9 ، الاستبصار : ج3 ص318 ب183 ح10 ، وسائل الشيعة : ج27 ص123 ب9 ح33379 .

وكون الحقّ والرشد فيه بمعنى وجوده في محتملاته لاينفع في الكشف عن الحقّ .

نعم ، ينفع في الأبعديّة عن الباطل لو علم أو احتمل

-----------------

يكون في عدم جوازه لإنحصار خلافهم فيه ، أمّا إذا دار الأمر بين أكثر من وجهين في المسألة ، كما لو تردّد قول آمين بعد الحمد بين الأحكام الخمسة ، فلا يستقيم التعليل ، لأنّه لم ينحصر خلافهم في حكم معيّن من بقيّة الأحكام الخمسة ، ومعه فلا يُعلم انّ أيّ واحد من بقيّة الأحكام الخمسة التي هي مخالفة لهم يكون رشدا ، فيكون الدليل أخصّ من المدّعى .

( و ) ان قلت : يكفي انّا نعلم انّ الرشد بين بقيّة هذه الأحكام الخمسة التي هي مخالفة للقول الذي ذهب إليه العامّة وان لم نعلمه بخصوصه .

قلت : ( كون الحقّ والرشد فيه ) أي في خلاف العامّة لو كان ( بمعنى وجوده في محتملاته ) أي بمعنى وجود الحقّ في محتملات الخلاف المردّدة بين بقيّة الأحكام الخمسة ، بحيث لا نعلم انّ أيّها هو الرشد والحقّ ؟ فانّه ان كان بهذا المعنى فهو ( لا ينفع في الكشف عن الحقّ ) لأنّه يكون من باب العلم الاجمالي ، وليس من باب العلم التفصيلي بكون الحقّ في هذا الشيء الخاص ، والعلم الاجمالي لا ينتج التعيين .

( نعم ) كون الرشد موجودا في محتملات خلاف العامّة ( ينفع في الأبعديّة عن الباطل ) المعيّن ، وهو الموافق للعامّة ، فانّا نعلم انّ بقيّة الأحكام الخمسة التي هي على خلاف العامّة أبعد عن الباطل من الموافق لهم ، لكن أيّها هو الرشد فغير متعيّن ؟ وهذا المقدار من معنى الرشد ينفع للترجيح به فيما ( لو علم أو إحتمل

ص: 283

غلبة الباطل على أحكامهم ، وكون الحقّ فيها نادراً ، ولكنّه خلاف الوجدان .

ورواية أبي بصير المتقدّمة وإن تأكّد مضمونها بالحلف ،

-----------------

غلبة الباطل على أحكامهم ، وكون الحقّ فيها نادرا ، ولكنّه ) أي : هذا العلم أو الاحتمال ( خلاف الوجدان ) الخارجي ، فهو ممنوع .

وبعبارة اُخرى : الاستدلال لترجيح مخالف العامّة بتعليل كون الرشد في خلافهم أخصّ من المدّعى في فرض ، وممنوع في فرض آخر ، وذلك لأنّه ان كان كثير من أحكام العامة باطلاً وكثير منها صحيحا ، فالخبر الموافق لهم لا يكون قريبا إلى الحقّ ، إلاّ إذا كان خلافهم منحصرا في الخبر المخالف لهم ، فيكون الخبر المخالف لهم حينئذ لتعيّنه أقرب إلى الحقّ ، وإلاّ فلا يكون الخبر المخالف لهم المتردّد بين عدّة محتملات أقرب إلى الحقّ ولا أبعد عن الباطل ، وفي هذا الفرض يكون الدليل أخصّ من المدّعى ، وان كان أكثر أحكام العامّة باطلاً ، ونادر منها صحيحا ، كان الخبر الموافق لهم أقرب إلى الباطل ، والخبر المخالف لهم أبعد عن الباطل ، سواء إنحصر خلافهم فيه أم لا ، ولكن هذا الفرض ممنوع ، ومعه فلا يستقيم التعليل بكون الرشد في خلافهم على التقديرين .

( و ) إن قلت : كيف تقولون انّه خلاف الوجدان والحال إنّ ( رواية أبي بصير المتقدّمة ) ظاهرة في بطلان أحكامهم مطلقا ، فتدلّ على الفرض المذكور : من ندرة الحقّ وغلبة الباطل على أحكامهم ؟ .

قلت : رواية أبي بصير ( وان تأكّد مضمونهابالحلف ) حيث قال الإمام عليه السلام :

« ما أنتم واللّه على شيء ممّا هم فيه ، ولا هم على شيء ممّا أنتم فيه ، فخالفوهم

ص: 284

لكن لابدّ من توجيهها ، فيرجع الأمر إلى التعبّد بعلّة الحكم ، وهو أبعدُ من التعبّد بنفس الحكم .

-----------------

فانّهم ليسوا من الحنفيّة على شيء » (1) ( لكن لابدّ من توجيهها ) بإرادة تباين المذهبين : مذهب العامّة ، ومذهب الامامية في الخطوط العامّة ، وذلك لأنّهم يأخذون مذهبهم من اُناس لم يؤيّدهم اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله وسلم لا صريحا ولا تلويحا ، بينما الشيعة يأخذون مذهبهم من أهل البيت عليهم السلام الذين أنزل اللّه تعالى فيهم : « إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا » (2) وقال فيهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : « انّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي ، ما ان تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا » (3) .

وإنّما لابدّ من توجيه رواية أبي بصير بهذا توجيه - مثلاً - لأنّا نجد انّ كثيرا من أحكام العامّة موافقا ، لأحكامنا من أوّل الطهارة إلى آخر الديّات ، وذلك يستدعي توجيهها .

وعليه : فانّه حيث تبيّن إنّ التعليل بالرشد لا يستقيم ، سواء اُريد منه الأقربية إلى الحقّ ، أو الأبعديّة عن الباطل ، لم يبق إلاّ حمل العلّة في قوله عليه السلام : « فانّ الرشد في خلافهم » (4) على التعبّد ، وذلك بأن يراد : كون الرشد في خلافهم تعبّدا ، وحينئذٍ ( فيرجع الأمر إلى التعبّد بعلّة الحكم ) لا بنفس الحكم ( وهو ) أي : التعبّد بعلّة الحكم ( أبعد من التعبّد بنفس الحكم ) أي : إنّ التعليل بكون الرشد

ص: 285


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص119 ب9 ح33365 .
2- - سورة الاحزاب : الآية 33 .
3- - معاني الاخبار : ص91 ، كمال الدين : ص247 ، المسائل الجارودية : ص42 ، ارشاد القلوب : ص340 ، بحار الانوار : ج5 ص68 ب2 ح1 وج23 ص147 ب7 ح111 ، الارشاد : ج1 ص180 ، كشف الغمّة : ج1 ص43 ، متشابه القرآن : ج2 ص45 ، المناقب : ج2 ص41 ، عيون أخبار الرضا : ص62 .
4- - الكافي اصول : ج1 ص8 وص67 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

والوجه الرابع : بأنّ دلالة الخبر المذكور عليه لايخلو عن خفاء ، لاحتمال أن يكون المراد من شباهة أحد الخبرين بقول الناس كونه متفرّعاً على قواعدهم الباطلة ،

-----------------

في خلاف العامّة تعبّدا ، أبعد من الأمر بأخذ المخالف للعامّة تعبّدا .

إذن : فالحكم بأخذ المخالف للعامّة تعبّدا بعيد ، كما تقدّم بيان بُعده في الاشكال على الوجه الأوّل والثالث ، ولكنّ التعليل بالرشد تعبّدا أبعد منه ، وذلك لأنّ التعليل يجب أن يكون بأمر متناسب عرفا مع المطلب الذي جيء بالتعليل له ، والذي يناسب الأمر بمخالفة العامّة هو : الأقربية إلى الحقّ والأبعدية عن الباطل ، لا أن يتعبّد بكون الرشد في مخالفتهم ، فهو مثل أن يقول : إغتسل للجنابة ، لأنّ الغسل يوجب سعة الرزق ، فانّ مثل هذه العلّة لا تتناسب مع الغسل ، وليس من البلاغة التعليل بما لا يتناسب عرفا ، بل اللازم أن يقول مثلاً : إغتسل للجنابة لأنّه يوجب النظافة .

هذا هو تمام الاشكال على الوجه الثاني القائل بترجيح المخالف للعامّة لأجل مظنّة مطابقته للحقّ والواقع ( و ) امّا الاشكال على ( الوجه الرابع ) القائل بترجيح الخبر المخالف للعامّة لأجل عدم إحتمال التقيّة فيه ، فهو : ( بانّ دلالة الخبر المذكور ) في قوله عليه السلام : « ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعته منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه » (1) فانّ دلالة هذا الخبر ( عليه ) أي : على الوجه الرابع ( لا يخلو عن خفاء ) .

وإنّما لا يخلو عن خفاء ( لإحتمال أن يكون المراد من شباهة أحد الخبرين بقول الناس كونه متفرّعا ) ومبتنيا ( على قواعدهم الباطلة ) في الاُصول والاُمور

ص: 286


1- - تهذيب الاحكام : ج8 ص98 ب36 ح9 ، الاستبصار : ج3 ص318 ب183 ح10 ، وسائل الشيعة: ج27 ص123 ب9 ح33379 .

مثل تجويز الخطأ على المعصومين من الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، عمداً وسهواً أو الجبر والتفويض ونحو ذلك .

-----------------

الاعتقادية ( مثل : تجويز الخطأ على المعصومين من الأنبياء والأئمّة عليهم السلام عمدا وسهوا ) حيث انّ العامّة يذهبون إلى تجويز الخطأ عليهم ، سواء الخطأ عمدا أو الخطأ سهوا والعياذ باللّه ( أو ) تجويز ( الجبر والتفويض ) على اللّه تبارك وتعالى ، حيث يقولون بأنّ اللّه أجبر العباد على أعمالهم ، أو انّ اللّه فوّض الأمر إليهم ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا ( ونحو ذلك ) ممّا قالوا لتجويزه على اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله وسلم ممّا لا يليق بعظمة اللّه وقدسه ، وطهارة رسوله صلى الله عليه و آله وسلم وعصمته ، وعصمة الأئمّة الطاهرين من أهل بيته عليهم السلام .

وعليه : فإذا اُريد من شباهة أحد الخبرين بقول الناس : كونه متفرّعا على قواعدهم ، لا كونه مشابها لأقوالهم ، خرج هذا الخبر عن أن يكون دليلاً على الترجيح به في باب التعارض ، وذلك لأنّ التعارض إنّما هو في صورة إنطباق كلا الخبرين المتعارضين على اُصول المذهب وقواعده ، وكان قول العامّة مطابقا لأحدهما ومشابها له ، ففي هذه الصورة يصحّ الاستدلال بهذا الخبر للترجيح به ، وإلاّ فلا مطابقاً لأحدهما ومتشابهاً له .

والحاصل : إنّ الخبر المذكور إن اُريد به كون الحكم متفرّعا على قواعد الأئمّة عليهم السلام لكنّه كان يشبه أقوال العامّة ، كان هذا الخبر دليلاً على الوجه الرابع ، وإن اُريد به كون الحكم الذي يشبه قول العامّة ، متفرّعا على قواعدهم الباطلة ، فلا يكون هذا الخبر دليلاً على الوجه الرابع .

ص: 287

وقد أطلق الشباهةُ على هذا المعنى في بعض أخبار العرض على الكتاب والسنّة ، حيث قال : فإن اشبههما فهو حقّ ، وإن لم يُشبههما فهو باطل ، وهذا الحمل أولى من حمل القضيّة

-----------------

( و ) ان قلت : إنّ الشباهة تطلق بمعنى الشبيه والنظير ، لا بمعنى التفريع والتشقيق ، فمن أين قلتم بأنّها بمعنى التفريع والتشقيق ؟ .

قلت : ( قد اُطلق الشباهة على هذا المعنى ) أي : التفريع والتشقيق ( في بعض أخبار العرض على الكتاب والسنّة ) فيكون ذلك قرينة على هذا المعنى للشباهة في مقامنا أيضا ( حيث قال ) عليه السلام : إذا ورد عليكم الحديث فأعرضوه على الكتاب والسنّة ( فان أشبههما فهو حقّ ، وان لم يشبههما فهو باطل ) (1) فانّ معنى الشباهة بالكتاب والسنّة هنا هو : أن يكون الحكم متفرّعا عليهما ، لا ان يكون الحكم نظيرا لهما ، فلو ورد - مثلاً - خبران : أحدهما يقول بجواز التصفيق ، والآخر بحرمته ، فحيث انّ التصفيق فرع اللهو ، وقد حرّم الكتاب والسنّة اللهو ، قدّم الخبر القائل بالتحريم ، لأنّه هو الذي يشبه الكتاب والسنّة دون الآخر ، فقد قال اللّه سبحانه : « ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل اللّه » (2) .

( وهذا الحمل ) الذي ذكرناه للشباهة في قوله عليه السلام : « ما سمعته منّي يشبه قول الناس ...» على معنى التفريع على قواعد العامّة الباطلة ليخرج عن باب التعارض ( أولى من حمل القضيّة ) أي : حمل الشباهة في « ما سمعته منّي يشبه قول الناس ...» (3) على معنى الشبيه والنظير ليدخل في باب التعارض .

وإنّما يكون حمله على التفريع أولى من حمله على التنظير ، لأنّ كلامه عليه السلام

ص: 288


1- - تفسير العياشي : ج1 ص9 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص123 ب9 ح33381 .
2- - سورة لقمان : الآية 6 .
3- - تهذيب الاحكام : ج8 ص98 ب36 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص123 ب9 ح33379 .

على الغلبة لا الدوام بعد تسليم الغلبة .

ويمكن دفع الاشكال في الوجه الثاني عن التعليل في الأخبار : بوروده على الغالب : من انحصار الفتوى في المسألة في الوجهين .

لأن الغالب أنّ الوجوه في المسألة إذا كثرت كانت العامّة مختلفين ، ومع اتفاقهم لايكون في المسألة وجوه متعدّدة .

-----------------

المزبور لا ظهور له في التنظير - على ما بيّناه بالإضافة إلى توقّف صحّة حمله على التنظير على الحمل ( على الغلبة لا الدوام ) لما عرفت من غلبة بطلان أحكامهم لادوام بطلانها ، وذلك ( بعد تسليم الغلبة ) أيضا حيث انّا لا نسلّم هذه الغلبة ، لأنّا ذكرنا سابقا : بأنّ كثيرا من أحكامهم باطل ، وكثيرا منها أيضا صحيح .

إذن : فلا غلبة أوّلاً ، وعلى تقدير الغلبة فلا دوام ثانيا ، وعلى تقدير الدوام فالخبر ليس ظاهرا في المتعارضين ثالثا .

هذا ( ويمكن دفع الاشكال في الوجه الثاني عن التعليل ) الموجود ( في الأخبار ) المصرّحة بكون الرشد في خلافهم ، على النحو التالي وهو أن نقول ( بوروده ) أي : نقول : بأنّ ورود التعليل فيها يكون منزّلاً ( على الغالب : من انحصار الفتوى في المسألة في الوجهين ) لا فيما لو تردّدت أحيانا بين أو جه متعدّدة ، وذلك ( لأنّ الغالب أنّ الوجوه في المسألة إذا كثرت كانت العامة مختلفين ) في تلك المسألة المتعدّدة الوجوه ، فلا يتعيّن خلافهم في شيء من تلك الوجوه حتّى يكون ذلك أقرب إلى الحقّ ( ومع اتّفاقهم لا يكون في المسألة وجوه متعدّدة ) بل وجهان فقط ، فيتعيّن خلافهم في أحدهما .

وبعبارة اُخرى : لقد أورد المصنّف على الاستدلال لترجيح أحد الخبرين بالتعليل الموجود في الأخبار ، المصرّحة بأنّ الرشد في خلافهم بإشكالين قال

ص: 289

ويمكن - أيضاً - الالتزام بما ذكرنا سابقاً ، من غلبة الباطل في أقوالهم ،

-----------------

في أوّلهما : بأنّ الاستدلال بالتعليل أخصّ من المدّعى ، وذلك لأنّه ان اُريد من الرشد : الأقربية إلى الحقّ ، فهو يتمّ في بعض الموارد لا في كلّ الموارد ، فيكون التعليل أخصّ من المدّعى ، فأجاب المصنّف عن هذا الاشكال : بأنّه ليس أخصّ من المدّعى ، وذلك لأنّ التعليل بالرشد إن كان بمعنى الأقربية إلى الحقّ فهو منزّل على الغالب ، ومعلوم : إنّ الغالب إنحصار حكم المسألة في وجهين ، ومعه ينحصر خلاف العامّة في الخبر المخالف لهم ، فيصحّ التعليل بأنّه أقرب إلى الحقّ ، وليس منزّلاً على النادر وهو : تردّد حكم المسألة في وجوه متعدّدة ، فانّه مع تعدّد الوجوه كما يحصل الاختلاف بين الشيعة في الأقوال ، فكذلك يحصل الاختلاف بين العامّة ، وحينئذ فلا يصحّ التعليل بأقربية المخالف للحقّ ، لعدم تعيّن المخالف لهم بين الوجوه المتعدّدة ، فالتعليل بالرشد إذن منزّل على الغالب ، ومعه فيندفع الاشكال .

هذا هو الاشكال الأوّل الذي أو رده المصنّف على الاستدلال بالتعليل وجوابه عنه ، وامّا الاشكال الثاني على التعليل فهو : إنّ الاستدلال بالتعليل متوقّف على غلبة بطلان أحكام العامّة ، والغلبة ممنوعة ، وذلك لأنّه ان اُريد من الرشد : الأبعدية عن الباطل ، فهو متوقّف على غلبة بطلان أحكامهم وندرة الحقّ فيها ، ولكن ذلك ممنوع خارجا ، فأجاب المصنّف عن هذا الاشكال قائلاً : (ويمكن - أيضا - الالتزام بما ذكرنا سابقا : من غلبة الباطل في أقوالهم) وأحكامهم ، وذلك لأنّ التأمّل في القرائن المؤيّدة لدعوى هذه الغلبة المستبعدة خارجا يرفع الاستبعاد المذكور ، ومعه فيصحّ أن يقال : بأنّ الموافق لهم أقرب إلى الباطل لغلبة الباطل في أحكامهم ، والخبر المخالف لهم أبعد عن الباطل ، لندرة الحقّ في أحكامهم .

ص: 290

على ما صرّح به في رواية الأرجائي المتقدّمة ، وأصرَحُ منها ما حكي عن أبي حنيفة من قوله : خالفتُ جعفراً في كلّ ما يقول ، إلاّ أنّي لا أدري أنّه يغمض عينيه في الركوع والسجود أو يفتحهما ،

-----------------

وعليه : فالتأمّل في القرائن يرفع إستبعاد غلبة الباطل على أحكامهم وأقوالهم ويؤيّد ندرة الحقّ فيها ، ومن تلك القرائن الدالّة على ذلك هو : ما تقدّم في بعض الروايات التي سبقت ، وقد أشار المصنّف إلى ذلك بقوله : ( على ما صرّح به في رواية الارجائي (1) المتقدّمة ) التي ذكرت مخالفة العامّة لعلي عليه السلام في كلّ ما كان يفتيهم به .

( وأصرحُ منها ما حكي عن أبي حنيفة من قوله : خالفت جعفرا في كلّ ما يقول ، إلاّ انّي لا أدري انّه يغمض عينيه في الركوع أو السجود أو يفتحهما ) (2) ولذلك كان - على ما قيل - : يفتح إحدى عينه ويغمض الاُخرى فيهما ، حتّى يكون قد خالفه على كلّ حال ، وهذا ممّا يدلّ على كثرة مخالفتهم للحقّ ، وغلبة الباطل على أحكامهم وأقوالهم .

لا يقال : انّا لا نجد اليوم في كتبهم غلبة المخالفة لنا .

لأنّه يقال : هناك فرق بين ذلك الزمان ، الذي لم يكن ينقّح فيه مذهبهم الفقهي ، بسبب الجمع بين المتفرّقات وإخراج جملة من الخرافات منها ، وبين هذا الزمان الذي تمّ فيه كلّ ذلك ، كما لا يخفى على من راجع كتبهم السابقة واللاحقة ، حيث يرى انّ علماءهم المتأخّرين عن زمن أئمّة أهل البيت عليهم السلام قد أخرجوا كثيرا من الأقوال الباطلة ، كما انّ علماء حديثهم قد أخرجوا كثيرا من الروايات الخرافية

ص: 291


1- - علل الشرائع : ص531 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص116 ب9 ح33357 .
2- - مفتاح الكرامة : ج3 ص393 .

وحينئذ فيكون خلافهم أبعد من الباطل .

ويمكن توجيه الوجه الرابع : بعدم انحصار دليله في الرواية المذكورة .

بل الوجه فيه هو ما تقرّر في باب التراجيح واستفيد من النصوص والفتاوى من حصول الترجيح بكلّ مزيّة في أحد الخبرين يوجب كونه أقلّ أو أبعد احتمالاً لمخالفة الواقع من الخبر الآخر .

-----------------

عن كتبهم ، ولذا جمع البخاري كتابه من بين ستمائة ألف حديث كان يرى بطلان باقيها .

( وحينئذ ) أي : حين كان الباطل غالبا على أحكامهم وأقوالهم ( فيكون خلافهم أبعد من الباطل ) حتى وإن تردّد ذلك بين وجوه متعدّدة .

هذا كلّه في توجيه الوجه الثاني القائل بترجيح مخالف العامّة لمظنّة مطابقته للحقّ ( ويمكن توجيه الوجه الرابع ) أيضا القائل بترجيح مخالف العامّة لعدم إحتمال التقيّة فيه ( بعدم إنحصار دليله في الرواية المذكورة ) أي : في رواية : « ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة » حيث ذكرنا أنّ هذه الرواية لا تكون دليلاً على هذا الوجه .

إذن : فالوجه فيه ليست هذه الرواية ( بل الوجه فيه ) أي : في الوجه الرابع المذكور ( هو ما تقرّر في باب التراجيح واستفيد من النصوص والفتاوى ) على ما فصّلناه سابقا ( من حصول الترجيح ) لأحد الخبرين على الخبر الآخر ( بكلّ مزيّة في أحد الخبرين يوجب كونه أقلّ ) إحتمالاً لمخالفة الواقع ( أو أبعد احتمالاً لمخالفة الواقع من الخبر الآخر ) علما بأنّ الفرق بين الأقل والأبعد هو : إنّ الأقل في الكمّ ، والأبعد في الكيف ، فإذا كان في أحد الخبرين إحتمالان للبطلان - مثلاً - وفي الآخر إحتمال واحد ، كان الثاني أقل إحتمالاً فيقدّم ، وإذا كان في كلّ واحد

ص: 292

ومعلوم : أنّ الخبر المخالف لايحتمل فيه التقيّة ، كما يحتمل في الموافق، على ما تحقّق من المحقّق قدس سره .

فمراد المشهور من حمل الخبر الموافق على التقيّة : ليس كون الموافقة أمارة على صدور الخبر تقيّه ، بل المراد أنّ الخبرين لما اشتركا في جميع الجهات المحتملة لخلاف الواقع عدا احتمال الصدور تقيّة ، المختصّ بالخبر الموافق تعيّن العمل بالمخالف وانحصر محمل الخبر الموافق المطروح

-----------------

منهما إحتمال واحد للبطلان ، لكن كان أحد الاحتمالين أقرب إلى الباطل ، كان من مصاديق ما ذكره المصنّف بقوله : أبعد احتمالاً فيقدّم أيضا .

( ومعلوم : أنّ الخبر المخالف ) للعامّة ( لا يحتمل فيه التقيّة ، كما يحتمل في الموافق ) لهم وذلك ( على ما تحقّق من المحقّق قدس سره ) فيما مضى من كلامه حيث إعترف باحتمال التقيّة في الخبر الموافق للعامّة ، ولكنّه مع ذلك لم يحكم بطرح محتمل التقيّة ، لأنّه رأى ذلك معارضا بإحتمال التأويل في الخبر المخالف .

وعلى هذا : ( فمراد المشهور من حمل الخبر الموافق على التقيّة : ليس كون الموافقة ) للعامّة ( أمارة على صدور الخبر تقيّة ) وإنّما معناه : طرح الموافق لإحتمال التقيّة فيه ، وذلك كما قال : ( بل المراد انّ الخبرين لما اشتركا في جميع الجهات المحتملة لخلاف الواقع ) من إحتمال عدم صحّة السند ، وإحتمال عدم الصدور من الإمام عليه السلام ، وإحتمال التأويل فيهما معا ، وذلك بأن تساويا في كلّ هذه الاُمور ( عدا إحتمال الصدور تقيّة ، المختصّ بالخبر الموافق ) للعامّة فقط ( تعيّن العمل بالمخالف ) للعامّة لعدم وجود مثل هذا الاحتمال في المخالف ( وإنحصر مَحمل الخبر الموافق ) للعامّة ( المطروح ) لمرجوحيّته بسبب إنحصار

ص: 293

في التقيّة .

وأمّا معارضة احتمال التقيّة في الموافق باحتمال الفتوى على التأويل ففيه : إنّ الكلام فيما إذا اشترك الخبران في جميع الاحتمالات المتطرّقة في السند والمتن والدلالة .

-----------------

محمله ( في التقيّة ) فقط دون الآخر .

والحاصل : إنّه إذا تساوى الخبران في كلّ جهة من الجهات ، حتّى إحتمال التأويل في هذا الخبر وفي ذلك الخبر ، لزم الأخذ بالخبر المخالف للعامّة ، وذلك لأنّ عدم إحتمال التقيّة مزيّة وقد حصل في الخبر المخالف للعامّة ولم يحصل في الخبر الموافق لهم ، وقد ذكرنا : انّه يلزم الأخذ في الخبرين المتعارضين بالخبر الذي فيه مزيّة لا توجد تلك المزيّة في الخبر الآخر .

( وأمّا ) الاشكال الذي أورده المحقّق على الترجيح بمخالفة العامّة : من ( معارضة إحتمال التقيّة في الموافق ) للعامّة ( باحتمال الفتوى على التأويل ) أي : باحتمال إرادة خلاف الظاهر بالنسبة إلى الخبر المخالف للعامة ( ففيه : إنّ الكلام فيما إذا إشترك الخبران في جميع الاحتمالات المتطرّقة في السند ) من ضعف وقوّة ( والمتن ) من حيث النقل باللفظ والمعنى ( والدلالة ) من جهة إحتمال التأويل وعدمه ، كما في مثال :« ثمن العذرة سحت » (1) و« لا بأس ببيع العذرة » (2)، فالخبران مشتركان في كلّ ذلك وإنّما إختلفا في التقيّة وعدم التقيّة فقط ، يعني : بأن احتملنا التقيّة في الموافق للعامّة ، ولم نحتملها في المخالف لهم .

ص: 294


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و ح3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

فاحتمال الفتوى على التأويل مشترك ، كيف ولو فرض اختصاص الخبر المخالف باحتمال التأويل وعدم تطرقه في الخبر الموافق ، كان الّلازم ارتكاب التأويل في الخبر المخالف ، لما عرفت من أنّ النصّ والظاهر لايرجع فيهما إلى المرجّحات .

وأمّا ما أجاب به صاحب المعالم عن الايراد بأنّ احتمال

-----------------

وعلى هذا ( فإحتمال الفتوى ) من الأئمّة عليهم السلام في هذا الخبر ، وفي ذلك الخبر أيضا ، فتوى ( على التأويل مشترك ) بينهما ، فلم يبق من المزايا إلاّ مزيّة التقية ( كيف ولو فرض إختصاص الخبر المخالف ) للعامّة ( باحتمال التأويل ) بأن كان عاما - مثلاً - ( وعدم تطرّقه ) أي : عدم تطرّق إحتمال التأويل ( في الخبر الموافق ) بأن كان نصّا - مثلاً - ( كان اللازم إرتكاب التأويل في الخبر المخالف ) للعامّة ، وذلك لأنّه من الجمع بين النصّ والظاهر ، أو الظاهر والأظهر ، ومعه فلا إعتداد بإحتمال التقيّة في الموافق أصلاً ، لأنّه لا يتمكّن من أن يعارض إحتمال التأويل .

والحاصل : انّه إذا كان في أحد الخبرين إحتمال التأويل ، وفي الخبر الآخر إحتمال التقيّة ، لا تصل النوبة إلى مسألة التقيّة ، والترجيح بها ، وإنّما الواجبة بل كلّ شيء هو التأويل ، لأنّه من الجمع الدلالي ، وذلك ( لما عرفت : من انّ النصّ والظاهر ) أو الأظهر والظاهر ( لا يرجع فيهما إلى المرجّحات ) ومن المعلوم : انّ إحتمال التقيّة من المرجّحات ، فما دام يمكن الجمع بين الخبرين بالتأويل في أحدهما تأويلاً عرفيّا لا تصل النوبة إلى التراجيح .

( وأمّا ما أجاب به صاحب المعالم عن الايراد ) الذي ذكره المحقّق : من انّ في أحدهما إحتمال التأويل ، وفي الآخر إحتمال التقيّة ، أجاب قائلاً : ( بأنّ إحتمال

ص: 295

التقيّة في كلامهم أقربُ وأغلبُ ، ففيه : مع إشعاره بتسليم ما ذكره المحقّق من معارضة احتمال التقيّة في الموافق باحتمال التأويل ، مع ما عرفت من خروج ذلك عن محلّ الكلام ، منعُ أغلبيّة التقيّة في الأخبار من التأويل .

ومن هنا يظهر :

-----------------

التقيّة في كلامهم أقرب وأغلب ) ولذا قدّم صاحب المعالم مسألة التقيّة على مسألة التأويل ، فانّ قوله : وأمّا جواب المعالم عن إشكال المحقّق ( ففيه ) ما يلي :

أوّلاً : ( مع إشعاره ) أي : إشعار هذا الجواب من صاحب المعالم ( بتسليم ما ذكره المحقّق : من معارضة إحتمال التقيّة في ) الخبر ( الموافق ) للعامّة ( بإحتمال التأويل ) في الخبر المخالف لهم ( مع ) انّ تسليم المعالم لإشكال المحقّق غير تامّ ، وذلك لأجل ( ما عرفت من خروج ذلك عن محلّ الكلام ) لوجوب الجمع العرفي بينهما حينئذ ، فقد سبق : انّ إحتمال التأويل المعتبر في أحد الخبرين يوجب عدم بقاء إحتمال التقيّة في الخبر الآخر ، وحينئذ يلزم ان نجمع بينهما جمعا دلاليا ، لا ان نرجّح أحدهما على الآخر بسبب التراجيح المذكورة في أخبار التراجيح .

ثانيا : ( منع أغلبيّة التقيّة في الأخبار من التأويل ) إذ التأويل أيضا غالب في الأخبار ، وذلك على ما ستطّلع إن شاء اللّه تعالى بعد عدة صفحات من الكتاب على نماذج منها عند قول المصنّف : « ويؤيّد ما ذكرنا : من انّ عمدة تنافي الأخبار ليس لأجل التقيّة ، ما ورد مستفيضا : من عدم جواز ردّ الخبر وان كان ممّا ينكر ظاهره » .

( ومن هنا ) أي : من أجل انّه لا مجال للترجيح بالتقيّة ، فيما إذا كان هناك جمع دلالي بين الخبرين ، بأن كان أحدهما أظهر أو كان أحدهما نصّ ( يظهر :

ص: 296

إنّ ما ذكرنا من الوجه في رجحان الخبر المخالف مختصّ بالمتباينين .

وأمّا في ما كان من قبيل العامّين من وجه ، بأن كان لكلّ واحد منهما ظاهرٌ يمكن الجمع بينهما ، بصرفه عن ظاهره دون الآخر ، فيدور الأمر بين حمل الموافق منهما على التقيّة ، والحكم بتأويل أحدهما ليجتمع مع الآخر ،

-----------------

إنّ ما ذكرنا من الوجه في رجحان الخبر المخالف ) للعامّة على الموافق لهم ، وكان وجه رجحانه : إنتفاء إحتمال التقيّة فيه فيما إذا كان كلا الخبرين متساويين من كلّ جهة عدا جهة التقيّة ، فيظهر منه أنّ هذا الوجه ( مختص بالمتباينين ) دون العموم والخصوص المطلقين ، وقد مثّلنا للمتباينين بمثال : « ثمن العذرة سحت » (1) و « لا بأس ببيع العذرة » (2) .

( وأمّا فيما كان ) التعارض ( من قبيل العامّين من وجه ، بأن كان لكلّ واحد منهما ظاهرٌ يمكن الجمع بينهما ، بصرفه عن ظاهره دون الآخر ) من قبيل : أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق ، حيث انّ مورد الاجتماع وهو : العالم الفاسق ، يتعارض فيه الدليلان ( فيدور الأمر بين حمل الموافق منهما على التقيّة ، و ) بين ( الحكم بتأويل أحدهما ليجتمع مع الآخر ) يعني : بأن نحمل : لا تكرم الفسّاق - في المثال - على التقيّة ، أو نحكم بتأويل : لا تكرم الفسّاق : ليكون معناه الكراهة ، فيجتمع مع : أكرم العلماء ، فيكون اكرام العالم الفاسق واجبا ، لكنّه مكروه ، نظير الصلاة في الحمام .

ص: 297


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 وح3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

مثلاً : إذا ورد الأمر بغسل الثوب من أبوال ما لايؤكل لحمه ، وورد : كلّ شيء يطير لابأس بخرئه وبوله ، فدار الأمر بين حمل الثاني على التقيّة وبين الحكم بتخصيص أحدهما لابعينه .

فلا وجه لترجيح التقيّة ؛ لكونها في كلام الائمة عليهم السلام أغلب من التخصيص ،

-----------------

ثمّ مثّل المصنّف لذلك بقوله : ( مثلاً : إذا ورد الأمر بغَسل الثوب من أبوال ما لا يؤكل لحمه ، وورد : كلّ شيء يطير لا بأس بخرئه ) أي : فضلته ( وبوله ) فانّ النسبة بين هذين العامّين هو : العموم من وجه ، امّا العامّ الأوّل فمقتضاه : نجاسة بول غير المأكول طيرا كان كالغراب ، أو غيره كالهرّة ، وأمّا العامّ الثاني فمقتضاه : طهارة بول الطير مأكولاً كان كالحمام ، أو غير مأكول كالصقر ، ومعه فيتعارضان في مادّة الاجتماع وهو : بول الطير الذي ليس بمأكول كالصقر ، فلا بأس يقول بطهارته ، والأمر بالغسل منه يقول بنجاسته ، والمفروض : موافقة لا بأس للعامّة ، لأنّهم يحكمون - مثلاً - بطهارة بول الطير مطلقا .

وعليه : فيدور حكم المسألة بين أمرين ، كما قال : ( فدار الأمر بين حمل الثاني ) لا بأس في مورد الاجتماع ( على التقيّة ) فنطرحه رأسا لموافقته للعامّة ( وبين ) الجمع الدلالي ، يعني ( الحكم بتخصيص أحدهما لا بعينه ) وذلك بأن نخصّص الأمر بغسل الثوب من أبوال ما لا يؤكل لحمه ، بما إذا لم يكن طيرا ، أو نخصّص كلّ شيء يطير لا بأس بخرئه وبوله ، بما إذا كان طيرا حلال اللحم وإذا دار حكم المسألة بين هذين الأمرين ( فلا وجه لترجيح التقيّة ) حيث انّ من رجّح التقيّة إستدلّ ( لكونها في كلام الأئمّة عليهم السلام أغلب من التخصيص ) والتأويل ، مع انّه قد سبق : انّ هذه الأغلبية ممنوعة فلا تكون سببا للترجيح .

ص: 298

فالعمدة في الترجيح بمخالفة العامّة ، بناءا على ما تقدم من جريان هذا المرجّح وشبهه في هذا القسم من المتعارضين هو ما تقدّم من وجوب الترجيح ؛ لكون مزيّة في أحد المتعارضين ، وهذا موجود في ما نحن فيه ؛ لأن احتمال مخالفة الظاهر قائم في كلّ منهما ، والمخالف للعامّة مختصّ بمزيّة مفقودة في الآخر ، وهو عدم احتمال الصدور .

فتلخّص ممّا ذكرنا :

-----------------

إذن : ( فالعمدة في الترجيح بمخالفة العامّة ، بناءا على ما تقدّم : من جريان هذا المرجّح ) المربوط بجهة الصدور ، ( وشبهه ) من سائر المرجّحات المربوطة بالصدور ، والمضمون ( في هذا القسم من المتعارضين ) الذي بينهما عموم من وجه ( هو ما تقدّم : من وجوب الترجيح ؛ لكون ) أي : لوجود ( مزيّة في أحد المتعارضين ) فقط دون الآخر ، فانّ هنا في أحدهما فقط ومزيّة كونه ليس موافقا للعامّة كما قال : ( وهذا ) أي : وجود مزيّة في أحدهما فقط ( موجود فيما نحن فيه ) من مثال : الأمر بغَسل الثوب من أبوال ما لا يؤكل لحمه ، وكلّ شيء يطير لا بأس بخرئه وبوله ، وهو : التقيّة ، لفرض موافقة الخبر الثاني : لا بأس ، للعامة .

وإنّما توجّه مزيّة التقيّة في أحدهما فقط ( لأنّ ) التأويل الذي هو ( إحتمال مخالفة الظاهر قائم في كلّ منهما ، و ) ذلك لإحتمال تخصيص كلّ عامّ بالآخر على ما عرفت ، فالتأويل مشترك بينهما ، بينما ( المخالف للعامّة مختصّ بمزيّة ) موجودة في أحدهما فقط ( مفقودة في الآخر ، وهو ) أي : فقد المزيّة في الآخر الموافق للعامّة عبارة عن ( عدم إحتمال الصدور ) فيه ، لأنّه تقيّة ، ومعلوم : إنّ الصادر تقيّة مساوٍ لعدم الصدور .

( فتلخّص ممّا ذكرنا ) في بيان الوجوه الأربعة لترجيح أحد الخبرين بمخالفة

ص: 299

إنّ الترجيح بالمخالفة من أحد وجهين ، على ما يظهر من الأخبار :

أحدهما : كونه أبعد من الباطل وأقرب إلى الواقع ، فيكون مخالفة الجمهور نظير موافقة المشهور من المرجّحات المضمونيّة ، على ما يظهر من أكثر أخبار هذا الباب .

والثاني : من جهة كون المخالف ذا مزيّة ؛ لعدم احتمال التقيّة ، ويدلّ عليه ما دلّ على الترجيح بشهرة الرواية

-----------------

العامّة وما هو الصحيح منها تلخّص ( انّ الترجيح بالمخالفة ) للعامّة يكون ( من أحد وجهين ، على ما يظهر من الأخبار ) التي نقلناها ، وذلك على النحو التالي :

( أحدهما : كونه أبعد من الباطل وأقرب إلى الواقع ، فيكون مخالفة الجمهور ) أي : جمهور العامّة ( نظير موافقة المشهور ) أي : مشهور الأصحاب وهي : الشهرة الروائية حيث تكون ( من المرجّحات المضمونيّة ) والمرجّح المضموني يوجب أقربيّة مضمون الخبر إلى الحقّ مع قطع النظر عن الصدور ، وذلك ( على ما يظهر من أكثر أخبار هذا الباب ) فليس الترجيح إذن بمخالفة العامّة من باب التعبّد ، بل هو من باب الطريقيّة والكشف عن الواقع .

( والثاني : من جهة كون المخالف ) للعامّة ( ذا مزيّة ) ومزيّته كما عرفت من حيث جهة الصدور ، وذلك ( لعدم إحتمال التقيّة ) فيه ، وإذا كان الخبر المخالف للعامّة ذا مزيّة ، صار صغرى لكبرى : وجوب الترجيح بكلّ مزيّة ، فيجب ترجيح المخالف للعامّة على الموافق لهم ، وهذا الترجيح ليس أيضا من باب التعبّد ، بل هو من باب الطريقيّة والكشف عن الواقع .

( ويدلّ عليه ) أي : على وجوب الترجيح بكلّ مزيّة جملة من الأخبار المتقدّمة ، كالمتضمّنة لبيان ( ما دلّ على الترجيح بشهرة الرواية ) في قوله عليه السلام :

ص: 300

معلّلاً بأنّه لاريب فيه بالتقريب المتقدّم سابقاً ، ولعلّ الثمرة بين هذين الوجهين يظهر لك في ما يأتي إن شاء اللّه تعالى .

بقي في هذا المقام اُمور :

الأوّل :

إنّ الخبر الصادر تقيّة ، يحتمل أن يراد به ظاهره ، فيكون من الكذب المجوّز لمصلحة ، ويحتمل أن يراد منه تأويل مختفٍ على المخاطب ،

-----------------

« خذ بما إشتهر بين أصحابك » (1) ( معلّلاً بأنّه لا ريب فيه ) وذلك ( بالتقريب المتقدّم سابقا ) حيث قلنا : بأنّ نفي الريب لا يراد به نفي الريب مطلقا ، وإنّما نفي الريب النسبي ، فكلّ ما كان الريب النسبي فيه أقل من الريب النسبي في الآخر لزم الأخذ بما يكون فيه الريب النسبي أقل .

هذا ( ولعلّ الثمرة بين هذين الوجهين ) اللذين ذكرهما المصنّف للترجيح بمخالفة العامّة سوف ( يظهر لك فيما يأتي ) عند بيان الأمر الخامس ( إن شاء اللّه تعالى ) .

ثمّ انّه قد ( بقي في هذا المقام اُمور ) كالتالي :

الأمر ( الأوّل : إنّ الخبر الصادر تقيّة ) كالخبر القائل - مثلاً - الفقّاع حلال ، فانّه محتمل لأمرين كما يلي :

أوّلاً : ( يحتمل أن يراد به ظاهره ، فيكون من الكذب المجوّز لمصلحة ) أهمّ ، فلا يكون هذا الخبر صادرا لبيان الحكم الواقعي ، وذلك لأنّ الحكم الواقعي هو حرمة الفقّاع لا حلّيته .

ثانيا : ( ويحتمل أن يراد منه تأويل مختفٍ على المخاطب ) كما لو أراد خلاف

ص: 301


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

فيكون من قبيل التورية ، وهذا أليق بالإمام عليه السلام ، بل هو اللائق ، إذا قلنا بحرمة الكذب مع التمكّن من التورية .

الثاني :

إنّ بعض المحدّثين ، كصاحب الحدائق ، وإن لم يشترط

-----------------

الظاهر من الخبر القائل : الفقّاع حلال ، وذلك بأن أراد منه : انّه حلال للمضطر ( فيكون من قبيل التورية ) ويكون الخبر المذكور صادرا لبيان الحكم الواقعي ، لكن ذلك الحكم الواقعي إنّما يكون في حال دون حال ، كحال الاضطرار - مثلاً - في مثالنا .

( وهذا ) أي : الاحتمال الثاني المذكور في توجيه الخبر الصادر تقيّة هو عند المصنّف ( أليق بالإمام عليه السلام ) وذلك لأنّ الإمام عليه السلام يكون أبعد عن الكذب حتّى الكذب الجائز شرعا ( بل ) الاحتمال الثاني ( هو اللائق ، إذا قلنا بحرمة الكذب مع التمكّن من التورية ) وفي هذا إشارة إلى الاختلاف الموجود في انّه هل يجوز الكذب مع التمكّن من التورية ، حتّى يكون الخبر المزبور من الكذب الجائز لمصلحة أهمّ ، أو لا يجوز إلاّ إذا لم يتمكّن من التورية ، فيكون الخبر المزبور صادرا على التأويل وخلاف الظاهر ؟ وحيث انّ الإمام عليه السلام قادر على التورية ، فاللازم أن يُحمل كلامه على التورية .

هذا ، ولكن لا يخفى : إنّ الخبر الصادر عن الإمام عليه السلام تقيّة ، كالخبر القائل : الفقاع حلال ، جائز حتّى من دون تأويل وتورية ، وذلك لأنّ اللّه سبحانه وتعالى أمر بالتقيّة الكلامية فتكون جائزة بلا حاجة إلى تورية سواء كان قادرا عليها أم لا ، ومعه فلم يعلم وجه قول المصنّف بانّ الاحتمال الثاني أليق .

الأمر ( الثاني : إنّ بعض المحدّثين ، كصاحب الحدائق ) رحمه الله ( وان لم يشترط

ص: 302

في التقيّة موافقة الخبر لمذهب العامّة ، لأخبار تخيّلها دالّة على مدّعاه ، سليمة عمّا هو صريح في خلاف ما ادّعاه ،

-----------------

في التقيّة موافقة الخبر لمذهب العامّة ) لأنّه قسّم التقيّة إلى ما كان الخبر موافقا للعامّة ، وإلى ما كان من أجل القاء الاختلاف بين الشيعة حتّى لا يُعرفوا على طريقة واحدة فيؤخذوا ، وذلك ( لأخبار تخيّلها دالّة على مدّعاه ) ومن جملة تلك الأخبار هو الخبر التالي : عن زرارة قال : « سألت عن أبي جعفر عليه السلام عن مسألة فأجابني - فيها - ، ثمّ جاء رجل - آخر - فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ، ثمّ جاء آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي ، فلمّا خرج الرجلان قلت : يابن رسول اللّه : رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان ، فأجبت كلّ واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه ؟ فقال : يازرارة انّ هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم ، فلو إجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم الناس علينا ، ولكان أقلّ لبقائنا وبقائكم ...» (1) وهذا ظاهر في انّ أخبار التقيّة لم يكن جهة صدورها خاصّا بموافقة العامّة ، بل قد يكون لأجل القاء الخلاف بين الشيعة حفاظا على حياتهم ، ومعلوم : إنّ ما يصدر لأجل القاء الخلاف قد يكون موافقا للعامّة وقد يكون مخالفا لهم ، وإذا كان مخالفا لهم فلا يكون مرجّحا .

وكيف كان : فانّ صاحب الحدائق لم يشترط في صدور الخبر تقيّة موافقته للعامّة ، وذلك لظاهر الخبر المزبور وغيره من الأخبار التي تصوّرها ( سليمة عمّا ) أي : عن الخبر المعارض الذي ( هو صريح في خلاف ما ادّعاه ) فانّ في أخبار العلاج ما هو صريح في إشتراط موافقة العامّة في الصادر تقيّة ، وهو خلاف ما ادّعاه صاحب الحدائق من عدم الاشتراط ، فالأخبار ليست إذن كما تخيّلها دالّة

ص: 303


1- - الكافي اصول : ج1 ص65 ح5 ، علل الشرائع : ص395 ح16 .

إلاّ أنّ الحمل على التقيّة في مقام الترجيح لايكون إلاّ مع موافقة أحدهما ، إذ لايعقل حمل أحدهما بالخصوص على التقيّة وإن كانا مخالفين لهم ،

-----------------

على ما ادّعاه سليمة عن المعارض .

وإنّما تصوّر صاحب الحدائق مثل خبر زرارة سليما عن المعارض ، لأنّ ما دلّ على حمل الخبر الموافق للعامّة في المتعارضين على التقيّة ، لا يُنافي وجود التقيّة فيما كان الخبران معا مخالفين لهم ، فانّ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه ، فالتقيّة ، كما تكون في الخبر الموافق للعامّة ، فكذلك تكون في الخبر المخالف لهم ، الملقى لأجل إختلاف كلمة الشيعة .

وعليه : فإنّ صاحب الحدائق لم يشترط في التقيّة موافقة الخبر للعامّة فصار محلاً للإعتراض عليه بأنّ التقيّة من المرجّحات ، فإذا كان الخبران معا مخالفان للعامّة ، فكيف نحمل أحدهما على التقيّة ؟ فأجاب المصنّف بالفرق بين مقام التقيّة ، وبين مقام الترجيح ، فانّ التقيّة تكون في الموافق والمخالف ، بينما الترجيح مختص بالأوّل كما قال : فانّه وان لم يشترط في مقام التقيّة الموافقة ( إلاّ انّ الحمل على التقيّة في مقام الترجيح لا يكون إلاّ مع موافقة أحدهما ) للعامّة ومخالفة الآخر لهم ( إذ لا يعقل حمل أحدهما بالخصوص على التقيّة ) حتّى ( وان كانا مخالفين لهم ) أي : حتّى وإن كان الخبران المتعارضان مخالفين معا للعامّة .

إذن : فصاحب الحدائق إنّما يحمل الخبر على التقيّة إذا كان أحد المتعارضين موافقا للعامّة ، لا ما إذا كان كلا المتعارضين مخالفين للعامّة ، فانّ في صورة مخالفة الخبرين معا للعامّة يتساويان في إحتمال التقيّة ، فلا يعقل حمل أحدهما المعيّن على التقيّة ، كما لا يعقل حمل أحدهما المردّد على التقيّة .

ص: 304

فمراد المحدّث المذكور : ليس الحمل على التقيّة مع عدم الموافقة في مقام الترجيح ، كما أو رده بعض الأساطين في جملة المطاعن على ما ذهب إليه من عدم اشتراط الموافقة في الحمل على التقيّة ، بل المحدّث المذكور لمّا أثبت في المقدّمة الاُولى من مقدّمات الحدائق خلوّ الأخبار عن الأخبار المكذوبة ، لتنقيحها وتصحيحها في الأزمنة

-----------------

وعليه : ( فمراد المحدّث المذكور ) وهو صاحب الحدائق من عدم إشتراط موافقة العامّة في الخبر الصادر التقيّة هو : مقام التقيّة ، لا مقام الترجيح ، إذ ( ليس ) مراده هو ( الحمل على التقيّة مع عدم الموافقة في مقام الترجيح ) حتّى يرد عليه الاشكال القائل : بأنّه إذا كان كلا الخبرين مخالفا للعامّة فكيف نحمل أحدهما على التقيّة ؟ وذلك ( كما أو رده ) أي : أو رد هذا الاشكال عليه ( بعض الأساطين ) وهو الوحيد البهبهاني ( في جملة المطاعن ) التي أو ردها ( على ما ذهب إليه ) صاحب الحدائق ( من عدم إشتراط الموافقة في الحمل على التقيّة ) معلّلاً صاحب الحدائق ذلك بأنّه قد يكون مخالفا ومع ذلك يكون تقيّة .

وإنّما ذهب صاحب الحدائق إلى هذا القول ، لأنّه أراد بذلك توجيه التعارض الموجود بين كثير من الروايات المنقولة في الكتب الأربعة ، وذلك بعد أن ثبت صدورها وخلوّها عن الكذب . فانّها إذا كانت خالية عن الدسّ والكذب ، فلماذا إذن هذا التعارض الموجود في كثير منها ، فأجاب عن هذا الاشكال بذلك .

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف بقوله : ( بل المحدّث المذكور لمّا أثبت في المقدّمة الاُولى من مقدّمات الحدائق خلوّ الأخبار ) الواصلة إلينا في الكتب الأربعة ونحوها ( عن الأخبار المكذوبة ) على رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وعلى أهل بيته الطاهرين صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين ( لتنقيحها وتصحيحها في الأزمنة

ص: 305

المتأخّرة ، بعد أن كانت مغشوشة مدسوسة ، صحّ لقائل أن يقول : فما بال هذه الأخبار المتعارضة التي لاتكاد تجتمع ؟ ، فبيّن في المقدّمة الثانية دفع هذا السؤال بأنّ معظم الاختلاف من جهة اختلاف كلمات الأئمة عليهم السلام ، مع المخاطبين ، وأنّ الاختلاف انّما هو منهم عليهم السلام ، واستشهد على ذلك بأخبار زعمها دالّة على أنّ التقيّة كما تحصل ببيان ما يوافق العامّة ،

-----------------

المتأخّرة ) كأزمنة المحمّدين الثلاثة أصحاب الكتب الأربعة : الكافي ، والتهذيب ، والاستبصار ، والفقيه ( بعد ان كانت مغشوشة مدسوسة ) بعض الأخبار المكذوبة فيها ( صحّ لقائل أن يقول ) : لو كانت هذه الأخبار منقّحة عن الكذب - كما زعمت - لزم أن لا يكون بينها هذا التعارض ( فما بال هذه الأخبار ) التي بأيدينا ( المتعارضة التي لا تكاد تجتمع ؟ ) .

ثمّ إنّ صاحب الحدائق تصدّى في المقدّمة الثانية للجواب عن هذا الاشكال الذي طرحه في المقدّمة الاُولى ( فبيّن في المقدّمة الثانية دفع هذا السؤال بأنّ ) سبب هذا التعارض الذي نراه في كثير من هذه الأخبار ليس هو وجود الأخبار المكذوبة بينها لأنّها منقّحة منها ، بل هو لأنّ ( معظم الاختلاف ) حاصل ( من جهة إختلاف كلمات الأئمّة عليهم السلام ، مع المخاطبين ، و) معه فليس أحد الخبرين كذبا والآخر صدقا ، بل كلاهما صادران عن الأئمّة عليهم السلام ، غير ( انّ الاختلاف ) الذي نشاهده بينها ( إنّما هو منهم عليهم السلام ) لأجل إلقاء الخلاف بين شيعتهم على ما عرفت .

( وإستشهد ) صاحب الحدائق ( على ذلك بأخبار ) متعدّدة كالتي نقلناها فيما سبق عن زرارة ، وقد ( زعمها دالّة على أنّ التقيّة كما تحصل ببيان ما يوافق العامّة ) فيما إذا كان الإمام عليه السلام ، أو الراوي ، أو الثالث ، إذا قال الحقّ ، أو عمل به وقع

ص: 306

كذلك تحصل بمجرّد إلقاء الخلاف بين الشيعة كي لايُعرَفُوا فيؤخذ برقابهم .

وهذا الكلام ضعيف ؛ لأن الغالب اندفاع الخوف بإظهار الموافقة مع الأعداء ، وأمّا الاندفاع بمجرّد رؤية الشيعة مختلفين مع اتّفاقهم على مخالفتهم فهو وإن أمكن حصوله أحياناً ، لكنّه نادر جداً ، فلا يصار إليه في جلّ الأخبار المختلفة .

-----------------

في أذاهم ( كذلك تحصل بمجرّد القاء الخلاف بين الشيعة كي لا يعرفوا فيؤخذ برقابهم ) ومن هذا السؤال والجواب والاستشهاد عليه تبيّن انّ صاحب الحدائق إنّما هو في صدد بيان مقام التقيّة - على ما عرفت - وليس في صدر بيان مقام الترجيح ، فانّه يرى في مقام الترجيح كالبقيّة وجوب كون أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم .

هذا ( و ) لكن المصنّف حيث انّه لم يرتض هذا الكلام من الحدائق - مع انّه تامّ بنظرنا - قال : انّ ( هذا الكلام ضعيف ، لأنّ الغالب ) إنّما يكون ( اندفاع الخوف بإظهار الموافقة مع الأعداء ) ممّا يتطلّب أن يكون الخبر موافقا لهم ، لا ان يكون هناك خبران كلاهما مخالفين لهم ( وأمّا الاندفاع ) أي : إندفاع الخوف ( بمجرّد رؤية الشيعة مختلفين مع اتّفاقهم على مخالفتهم ) أي : مخالفة العامّة ( فهو وإن أمكن حصوله أحيانا ، لكنّه نادر جدّا ، فلا يصار إليه في جلّ الأخبار المختلفة ) والمتعارضة .

لكن قد عرفت : إنّ صاحب الحدائق لا يريد حلّ التعارض الموجود بين كثير من الأخبار المختلفة بسبب هذا النوع من التقيّة ، وإنّما يريد أن يقول : انّ إختلاف الأخبار قد يكون لأجل التقيّة ، وقد يكون لأجل القاء الخلاف بين الشيعة ،

ص: 307

مضافاً إلى مخالفته لظاهر قوله عليه السلام ، في الرواية المتقدّمة : ما سمعت منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعت منّي لايشبه قول الناس فلا تقيّة فيه .

فالذي يقتضيه النظر

-----------------

فانّ تعليل الإمام عليه السلام القاء الخلاف بين شيعته للحفاظ على حياتهم هو طريق العقلاء في حفظ حياتهم وحياة أتباعهم ، كما نشاهد مثل ذلك فيما تفعله الأحزاب الحرّة ، المخالفة للحكّام المستبدّين والأنظمة الديكتاتورية في هذا اليوم ، حيث لا يظهرون بمظهر واحد ، ولذا يشتبه الأمر على الحكومة ، فلا تتمكّن من أخذهم وإستقصائهم ، وان تمكّنت من بعض فلا تتمكّن من بعض آخر .

ومن هذا الجواب الذي دفعنا به إشكال المصنّف على كلام صاحب الحدائق أوّلاً ، يظهر التأمّل في إشكال المصنّف عليه ثانيا ، فانّه بعد أن ضعّف كلام صاحب الحدائق قال : ( مضافا إلى مخالفته لظاهر قوله عليه السلام ، في الرواية المتقدّمة : ما سمعت منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعت منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه (1) ) فانّ ظاهر هذه الرواية - بنظر المصنّف - هو : حصر طريق التقيّة من العامّة في إظهار الموافقة معهم فقط ، بينما هو ليس كذلك لأنّ ما ذكره الإمام عليه السلام في هذه الرواية هو الغالب ، فلا ينافي أن يكون هناك قسم آخر من التقيّة نادر ، كما يرى هذا الجمع بين الطائفتين من أخبار التقيّة كلّ من رآهما وجمع بعضهما مع بعض .

إذن : ( فالذي يقتضيه النظر ) عند المصنّف في الجواب عن إشكال إختلاف

ص: 308


1- - تهذيب الاحكام : ج8 ص98 ب36 ح9 ، الاستبصار : ج3 ص318 ب183 ح10 ، وسائل الشيعة: ج27 ص123 ب9 ح33379 .

- على تقدير القطع بصدور جميع الأخبار التي بأيدينا على ما توهّمه بعض الأخباريين ، والظنّ بصدور جميعها إلاّ قليل في غاية القلّة ، كما يقتضيه الانصاف ممّن إطّلع على كيفية تنقيح الأخبار وضبطها في الكتب - هو أن يُقال : إنّ عمدة الاختلاف إنّما هي كثرة إرادة خلاف الظواهر في الأخبار ؛ إمّا بقرائن متصلة اختفِيَت علينا من جهة تقطيع الأخبار

-----------------

الأخبار وتعارضها على تقدير القطع بصدورها ، ليس هو جواب صاحب الحدائق القائل بأنّه من جهة قوله عليه السلام : « أنا خالفت بينهم » (1) ، بل الجواب عنه ( على تقدير القطع بصدور جميع الأخبار التي بأيدينا على ما توهّمه بعض الأخباريين ) حيث قال : بأنّ الأخبار التي بأيدينا مقطوع بها ( والظنّ بصدور جميعها ) ظنّا معتبرا ( إلاّ قليل ) منها ( في غاية القلّة ) أي : إنّ التي لا نظنّ بصدورها قليل جدّا ، وذلك ( كما يقتضيه الانصاف ممّن إطّلع على كيفيّة تنقيح الأخبار وضبطها في الكتب ) .

وعليه : فانّ الاطلاع على ذلك يوجب الظنّ المعتبر بصدور أغلب الأخبار التي بأيدينا ، وعلى هذا التقدير ، فالذي ينبغي في الجواب عن إختلاف الأخبار ( هو أن يُقال : إنّ عمدة الاختلاف إنّما هي كثرة إرادة خلاف الظواهر في الأخبار ) فانّهم عليهم السلام كثيرا ما أرادوا خلاف الظاهر ، وإختفت القرائن المنصوبة على خلاف تلك الظواهر عنّا ، فانّ إرادتهم خلاف الظاهر كان ( إمّا بقرائن متّصلة إختفيت علينا من جهة تقطيع الأخبار ) حيث أنّ تقطيع الأخبار أوجب إختفاء القرائن ، وذلك كما في قول الإمام عليه السلام : إغتسل للزيارة ، وللجمعة ، وللعيد - مثلاً - فكان حشر الجمعة بين هذه المستحبّات قرينة على انّ غسل الجمعة مستحبّ ، بينما

ص: 309


1- - عدة الاصول : ج1 ص130 .

أو نقلها بالمعنى ، أو منفصلة مختفية من جهة كونها حاليّة معلومة للمخاطبين ،

-----------------

بعد التقطيع صار : إغتسل للجمعة ، ثمّ إختفت القرينة ممّا سبب ظهوره في الوجوب ، وبذلك صار إغتسل للجمعة بعدها معارضا لقوله عليه السلام : ينبغي غسل الجمعة - مثلاً - .

( أو ) إختفت علينا تلك القرائن المتّصلة من جهة ( نقلها بالمعنى ) أي : نقل الأخبار لا باللفظ ، بل بالمعنى ، ومعلوم : إنّ النقل بالمعنى يسبّب خفاء القرائن المحفوفة بالكلام فيما لو كان الكلام ينقل بلفظه ، فانّه يستفاد من نقل الكلام بلفظه معنىً لا يستفاد من نقل معناه ، وذلك كما في قوله سبحانه : « وحرام على قرية أهلكناها انّهم لا يرجعون » (1) فانّ نقله بلفظه يفيد السامع بأنّ المراد من : « وحرام » يعني : انّه ممتنع ، بينما لو نقل بمعناه فانّه قد لا يفيد السامع هذا المعنى ، كما نرى من نقل البعض له مترجما : بأنّهم إذا لم يرجعوا عاقبناهم ، فانّه بنقله ترجمة الآية قد فوّت على السامع معنى الآية ، لفوات القرائن المحفوفة باللفظ .

( أو ) كان إرادة خلاف الظاهر من كلامهم عليهم السلام بقرائن ( منفصلة مختفية من جهة كونها حاليّة ) بانّه كانت تلك القرينة المختفية علينا قرينة حالية ( معلومة للمخاطبين ) فانّه حيث إنتفى الحال إنتفت القرينة أيضا ، وذلك كما إذا اعتقد المخاطب - مثلاً - وجوب فعل من الأفعال ، فقال له الإمام عليه السلام : اُتركه ، فانّ قوله : اُتركه ، في هذه الحال قرينة على جواز الترك ، لا على وجوب الترك ، فإذا فاتت هذه القرينة الحالية ووصل بأيدينا : اُتركه ، استفدنا منه الحرمة .

ص: 310


1- - سورة الانبياء : الآية 95 .

أو مقاليّة اختفِيَت بالإنطماس .

وإمّا بغير القرينة لمصلحة يراها الإمام عليه السلام ، من تقيّة ، على ما اخترناه : من أنّ التقيّة على وجه التورية أو غير التقيّة من المصالح الاُخر .

وإلى ما ذكرنا ينظر ما فعله الشيخ في الاستبصار ، من إظهارإمكان

-----------------

( أو ) كان الكلام محفوفا بقرائن ( مقالية إختفيت بالإنطماس ) أي : بسبب إنمحاء تلك القرينة المقالية ، كما إذا قال الإمام عليه السلام : الشيء الفلاني واجب على اُولي الألباب ، فسقط منه : على اُولي الألباب ، وبقي : الشيء الفلاني واجب ، ممّا ظاهره حرمة الترك ، بينما إذا كانت قرينة اُولي الألباب منضمّة إليه كان معناه : الاستحباب المؤكّد ، أو ما أشبه ذلك .

إذن : فعمدة إختلاف الأخبار وتعارضها ناشئمن إرادة خلاف ظاهر الكلام ، وذلك إمّا مع القرينة وقد اختفت علينا ( وإمّا بغير القرينة لمصلحة يراها الإمام عليه السلام ) أهمّ من نصب القرينة على مراده من الكلام ، وذلك ( من تقيّة ، على ما إخترناه : من انّ التقيّة على وجه التورية ) أي : من باب إرادة الإمام خلاف الظاهر وإخفاء القرينة ، لا من باب الكذب الجائز لمصلحة ( أو غير التقيّة من المصالح الاُخر ) كما لو أراد المريض التدخين فيقول له : انّه محرّم عليك ، وهو يريد : انّه ما دام ضارّا ، وحيث انّه لم يذكر هذه القرينة لمصلحة يفيد الكلام التحريم المطلق فيتعارض مع دليل الجواز .

( وإلى ما ذكرنا ) من انّه كثيرا ما يكون إختلاف الأخبار وتعارضها من جهة إرادة الأئمّة عليهم السلام في كلامهم خلاف الظاهر منه ، بقرينة حالية أو مقالية ، متّصلة أو منفصلة ، ثمّ إختفت تلك القرينة علينا ، أو بغير قرينة لمصلحة التقيّة ، أو ما أشبه ذلك ( ينظر ما فعله الشيخ في الاستبصار ، من إظهار إمكان

ص: 311

الجمع بين متعارضات الأخبار بإخراج أحد المتعارضين أو كليهما عن ظاهره إلى معنى بعيد .

وربّما يظهر من الأخبار محامل وتأويلات أبعد بمراتب ممّا ذكره الشيخ ،

-----------------

الجمع بين متعارضات الأخبار ) فانّ ما فعله الشيخ هناك أراد به رفع ما يترائى من التناقض بين الأخبار ، وإثبات كونها قابلة للجمع ، وبيان انّ الاختلاف فيها لم يكن ناشئا عن دسّ أخبار مكذوبة بينها ، بل لإرادة خلاف الظاهر منها وإختفاء القرينة علينا .

وعليه : فقد جمع الشيخ - دفعا للشبهة - بين الأخبار المتعارضة ( بإخراج أحد المتعارضين أو كليهما عن ظاهره ) امّا اخراج أحد المتعارضين فقط عن ظاهره فهو كما في مثال : اغتسل للجمعة ، وينبغي غسل الجمعة ، حيث انّ الجمع بينهما يخرج غتسل فقط عن الوجوب ، وامّا اخراج كلا المتعارضين معا عن ظاهرهما فهو كما في مثال : « ثمن العذرة سحت » (1) ، و« لا بأس ببيع العذرة » (2) ، حيث انّ الجمع بينهما يخرج كلا المتعارضين معا عن ظاهرهما ، وذلك كما لو حمل الأوّل على العذرة النجسة ، والثاني على العذرة الطاهرة - مثلاً - وحينئذٍ فقد أخرج الشيخ للجمع بين الأخبار ، أحد الروايتين أو كلتيهما (إلى معنى بعيد) بل ربّما إلى معنى قريب .

هذا ( وربّما يظهر من ) نفس ( الأخبار محامل وتأويلات أبعد بمراتب ممّا ذكره الشيخ ) في الاستبصار ، ومعه فلا يستشكل على الشيخ ، بأنّ هذا النحو

ص: 312


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار ج3 ص56 ب31 ح1و3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

تشهدُ بأنّ ما ذكره الشيخ من المحامل غير بعيد عن مراد الإمام عليه السلام ، وإن بعدت عن ظاهر الكلام إن لم يظهر فيه قرينة عليها :

فمنها : ما روي عن بعضهم صلوات اللّه عليهم : لمّا سأله بعض أهل العراق وقال : كم آية تقرأ في صلاه الزوال ؟ فقال عليه السلام : ثمانون ، ولم يعد السائل ، فقال عليه السلام : هذا يظنّ أنّه من أهل الادراك ، فقيل له عليه السلام : ما أردت بذلك وما هذه الآيات ؟ فقال : أردت منها ما يقرأ في نافلة الزوال ، فإنّ الحمد والتوحيد لايزيد على عشر آيات ، ونافلة الزوال ثمان ركعات .

-----------------

من الجمع غير مألوف عرفا ، إذ تلك الأخبار ( تشهد بأنّ ما ذكره الشيخ من المحامل غير بعيد عن مراد الإمام عليه السلام ، وإن بعدت عن ظاهر الكلام ان لم يظهر فيه ) أي : في الكلام ( قرينة عليها ) أي : على تلك المحامل ، ولكن من المعلوم : انّ هذه المحامل مع بُعدها عن ظاهر الكلام متعارفة عند العقلاء إذا وقعوا في التقيّة الشديدة وخافوا على أنفسهم من القتل والتنكيل .

ثمّ ذكر المصنّف نماذج من تلك المحامل والتأويلات بقوله : ( فمنها : ما روي عن بعضهم صلوات اللّه عليهم ) أجمعين : من انّه ( لمّا سأله بعض أهل العراق وقال : كم آية تقرأ في صلاة الزوال ؟ فقال عليه السلام : ثمانون ، ولم يعد السائل ) سؤاله ليعرف ما المراد من الثمانين ، بل اكتفى بذلك وإنصرف ( فقال عليه السلام ) لمن كان عنده بعد ان إنصرف ذلك السائل : ( هذا يظنّ انّه من أهل الادراك ) بينما هو لم يفهم كلامي ( فقيل له عليه السلام : ما أردت بذلك وما هذه الآيات ؟ ) الثمانون ؟ ( فقال : أردت منها ما يُقرأ في نافلة الزوال ، فانّ الحمد والتوحيد لا يزيد على عشر آيات ، ونافلة الزوال ثمان ركعات ) (1) فإذا ضرب الثمان في العشر صارت النتيجة

ص: 313


1- - الكافي فروع : ج3 ص314 ح14 ، وسائل الشيعة : ج6 ص64 ب13 ح7355 .

ومنها : ما روي من : « أنّ الوتر واجب » ، فلمّا فرغ السائل واستقر ، قال عليه السلام : إنّما عنيتُ وجوبها على النبي صلى الله عليه و آله وسلم » .

ومنها : تفسير قولهم عليهم السلام : « لايعيد الصلاة فقيه » بخصوص الشكّ بين الثلاث والأربع .

-----------------

ثمانين ، وهذا الجواب لولا تفسير الإمام عليه السلام له كان ظاهرا بحسب السؤال في صلاة الظهر ، فكان لو وصلنا بلا تفسير ، يتعارض مع بقيّة الروايات الواردة في باب القراءة .

( ومنها : ما روي من : «أنّ الوتر واجب» ، فلمّا فرغ السائل واستقرّ ) وفي بعض النسخ : « واستفسر » ( قال عليه السلام : إنّما عنيتُ وجوبها على النبي صلى الله عليه و آله وسلم ) (1) فانّ في هذا التفسير تأويل بعيد عن ظاهر الرواية ، ولكن الإمام عليه السلام مع ذلك تكلّم بهذا الكلام لمصلحة .

( ومنها : تفسير قولهم عليهم السلام : «لا يعيد الصلاة فقيه» ) أي : لا يعيدها من كان عالما بمسائل الصلاة وأحكامها ، فانّه كلّي يشمل كلّ شكّ في ركعات الصلاة ، لكن الإمام عليه السلام فسّره بعد ذلك ( بخصوص الشكّ بين الثلاث والأربع (2) ) مع انّ تفسير ذلك الكلّي بهذا الجزئي وحصره فيمن شكّ بين الثلاث والأربع وانّه يبني على الأربع ، ثمّ بعد الصلاة يأتي بركعة اُخرى من باب الاحتياط تأويل بعيد لظاهر الرواية .

ص: 314


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص242 ب12 ح28 ، وسائل الشيعة : ج4 ص68 ب16 ح4533 ، بحار الانوار : ج16 ص377 ح86 وفي الجميع بالمعنى .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص193 ب23 ح61 ، المقنع : ص9 ، الاستبصار : ج1 ص375 ب218 ح2 ، وسائل الشيعة : ج8 ص215 ب9 ح10459 .

ومثله : تفسير وقت الفريضة في قولهم عليهم السلام : « لاتطوّع في وقت الفريضة» بزمان قول المؤذن : قد قامت الصلاة ، إلى غير ذلك ممّا يطّلع عليه المتتبّع .

ويؤيّد ما ذكرنا : من أنّ عمدة تنافي الأخبار ليس لأجل التقيّة ،

-----------------

( ومثله : تفسير وقت الفريضة في قولهم عليهم السلام : « لا تطوّع في وقت الفريضة » (1) ) الظاهر في حرمة النافلة عند دخول الوقت قبل إتيان الفريضة ، فانّه فسّره ( بزمان قول المؤذّن ) المعلن عن إنعقاد الجماعة : ( قد قامت الصلاة ) فانّ تفسير وقت الفريضة بهذا المعنى تأويل بعيد عن ما يظهر من الرواية المزبورة القائلة : « لا تطوّع في وقت الفريضة » التي جعلتها بعض النسخ من متن الرسائل .

( إلى غير ذلك ممّا يطّلع عليه المتتبع ) في الأخبار ، مثل تفسيره عليه السلام حرمة عورة المؤمن على المؤمن بإذاعة سرّه ، وهو وان كان تأويل بعيد لظاهر الرواية ، إلاّ انّ الإمام عليه السلام أراد أن يُلفت نظر السامع إلى انّ إذاعة سرّ المؤمن أهمّ حرمة من رؤية عورته الجسدية ، حيث إنّ إذاعة السرّ قد توجب في بعض الأحيان إراقة الدماء ، وهتك الأعراض ، وغصب الأموال ، وغيرها من المحرّمات الشديدة ، وهناك في كتاب : « تعارض الأدلّة » مجموعة من توجيهات إختلاف الأخبار .

( ويؤيّد ما ذكرنا : من أنّ عمدة تنافي الأخبار ليس لأجل التقيّة ) الذي ذكره

ص: 315


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص247 ب13 ح18 و ص250 ب13 ح28 و ج3 ص283 ب13 ح161 ، الاستبصار : ج1 ص252 ب147 ح32 و ص255 ب147 ح41 ، وسائل الشيعة : ج4 ص228 ب35 ح4992 و 4993 .

ما ورد مستفيضاً من عدم جواز ردّ الخبر وإن كان ممّا ينكر ظاهره ، حتى إذا قال للنهار إنّه ليل ، وللّيل إنّه نهار ، معلّلاً ذلك بأنّه يمكن أن يكون له محمل لم يتفطّن السامع له فينكره ، فيكفر من حيث لايشعر ، فلو كان عمدة التنافي من جهة صدور الأخبار المنافية بظاهرها لما في أيدينا من الأدلّة تقيّة ، لم يكن في إنكار كونها من الإمام عليه السلام مفسدة ، فضلاً عن كفر الرادّ .

-----------------

صاحب الحدائِق ، بل لإرادة خلاف الظاهر منها هو : ( ما ورد مستفيضا : من عدم جواز ردّ الخبر وان كان ممّا ينكر ظاهره ، حتّى إذا قال ) الخبر ( للنهار : انّه ليل ، وللّيل : إنّه نهار ) فاللازم - بحسب سيرة العقلاء الجارية على التدقيق في كلام العظماء حتّى يظهر لهم المراد - ان لا يُردّ ، وإنّما يلتمس له التأويل بعد حجيّة سنده ، أو يرجع في معناه إليهم ان لم يفهم المراد منه ، لا ان ينكره ( معلّلاً ذلك ) أي : عدم جواز ردّ الخبر وان كان ممّا ينكر ظاهره : ( بأنّه يمكن أن يكون له محمل لم يتفطّن السامع له ) أي : لذلك المحمل ( فينكره ، فيكفر من حيث لا يشعر ) ومن المعلوم : إنّ الانكار إنّما يوجب الكفر فيما إذا كان الخبر في اُصول الدين أو كان يرجع إليه بنحو من الأنحاء .

وعليه : ( فلو كان عمدة التنافي من جهة صدور الأخبار المنافية بظاهرها لما في أيدينا من الأدلّة ) أي : لو كان التنافي من جهة صدور تلك الأخبار ( تقيّة ، لم يكن في إنكار كونها من الإمام عليه السلام مفسدة ، فضلاً عن كفر الرادّ ) أي : إنّ جواب صاحب الحدائق لو كان تامّا ، بأن كان تعارض الأخبار بسبب التقيّة ، لم يستلزم ردّها مفسدة فكيف بالكفر؟ وذلك لأنّ الخبر الصادر تقيّة في حكم عدم الصدور ، ممّا لم يكن بأس في ردّه وطرحه ، فتكون الروايات الموجبة كفر من ردّها مؤيّدة لتماميّة جوابنا .

ص: 316

الثالث :

إنّ التقيّة قد تكون من فتوى العامّة ، وهو الظاهر من إطلاق موافقة العامّه في الأخبار ، واُخرى من حيث أخبارهم التي رووها ، وهو المصرّح به في بعض الأخبار ، لكنّ الظاهر أنّ ذلك

-----------------

الأمر ( الثالث : إنّ التقيّة ) تكون على أقسام تالية :

أوّلاً : ( قد تكون ) التقيّة ( من فتوى العامّة ، وهو الظاهر من إطلاق موافقة العامّة في الأخبار ) العلاجية ، التي أمرت بطرح ما وافق العامّة من الخبرين المتعارضين ، كما انّه ورد في بعض الروايات : انّ الإمام عليه السلام لم يكن يتمكّن لشدّة التقيّة ، من الفتوى علنا على خلاف ابن أبي ليلى ، الذي كان قاضيا في المدينة من قبيل الخليفة ، حتّى نُقل عنه عليه السلام انّه قال : امّا قول ابن أبي ليلى فلا أستطيع من ردّه (1) .

( واُخرى ) : قد تكون التقيّة ( من حيث أخبارهم التي رووها ) لوضوح : انّ فتاواهم لم تكن مستندة إلى رواياتهم ، فربّما كانت فتوى بدون رواية ، وربّما كانت رواية بدون فتوى ، وقد يجتمعان ( وهو المصرّح به في بعض الأخبار ) العلاجية ، مثل ما تقدّم عن محمّد بن عبداللّه قال : « قلت للرضا عليه السلام : كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ قال : إذا ورد عليكم خبران مختلفان ، فانظروا ما خالف منهما العامّة فخذوه ، وانظروا ما يوافق أخبارهم فذروه » (2) .

( لكن الظاهر أنّ ذلك ) أي : الوجه الثاني الذي ذكرناه بقولنا : « واُخرى :

ص: 317


1- - الكافي فروع : ج7 ص61 ح16 ، من لا يحضره الفقيه : ج4 ص228 ب2 ح5539 ، تهذيب الاحكام : ج9 ص236 ب4 ح12 ، وسائل الشيعة : ج19 ص428 ب92 ح44886 .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص119 ب9 ح33367 ، بحار الانوار : ج2 ص235 ب29 ح19 .

محمول على الغالب من كون الخبر مستنداً للفتوى .

وثالثةً من حيث عملهم ، ويشير اليه قوله عليه السلام ، في المقبولة المتقدّمة : « ما هُم إليه أميل قضاتهم وحكّامهم » .

ورابعةً : بكونه أشبه بقواعدهم واُصول دينهم

-----------------

من حيث أخبارهم التي رووها » ( محمول على الغالب من كون الخبر مستندا للفتوى ) إذ لو كان هناك خبر متروك ولم يكن مستندا للفتوى ، لم يكن الإمام عليه السلام يتّقي منه بما هو خبر غير مفتى به .

( وثالثة ) : قد تكون التقيّة ( من حيث عملهم ) فانّه ربّما لم يكن هناك خبر ولا فتوى ، وإنّما كان عمل الخلفاء وأتباعهم على شيء ، بحيث انّه إذا قال الإمام عليه السلام على خلاف ذلك الشيء كان سببا لأذاه أو أذى الشيعة ( ويشير إليه قوله عليه السلام ، في المقبولة المتقدّمة ) المرويّة عن عمر بن حنظلة : ( ما هم إليه أميل قضاتهم وحكّامهم (1) ) فمجرّد العمل منهم على شيء ولو لم تكن رواية أو فتوى يوجب تقيّة الإمام عليه السلام ، وقد ذكرنا معنى قوله عليه السلام : أميل في شرح رواية ابن حنظلة .

( ورابعة ) : قد تكون التقيّة ( بكونه ) أي : كون أحد الخبرين المتعارضين ( أشبه بقواعدهم ) الاُصولية مثل : قاعدة القياس ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، وما أشبه ذلك ( واُصول دينهم ) أي : أشبه باُصول دينهم ، ومن اُصول دينهم بالنسبة إلى اللّه تعالى هو : الجبر والتفويض ، والتجسيم والتشبيه ، تعالى اللّه عنها علوّا كبيرا ، وبالنسبة إلى المعصومين هو : تجويز السهو والخطأ عليهم ،

ص: 318


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

وفروعه ، كما يدلّ عليه الخبر المتقدّم .

وعرفت سابقاً قوّة احتمال التفرّع على قواعدهم الفاسدة .

ويخرج الخبر حينئذ عن الحجّية ولو مع عدم المعارض ، كما يدلّ عليه عموم الموصول .

-----------------

مع أنّ القرآن صرّح بعصمتهم حيث يقول : « إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا » (1) ( وفروعه ) أي : أشبه بفروع دينهم المبتنية على قواعدهم الباطلة ، فانّه إذا كان هناك خبران دلّ أحدهما - مثلاً - على حرمة ذبيحة أهل الكتاب والآخر على حليته ، فانّه يلزم الأخذ بالحرمة ، لأنّ الحلية أشبه بفروع دين العامّة .

( كما يدلّ عليه ) أي : على هذا القسم الرابع من أقسام التقيّة ( الخبر المتقدّم ) وهو قوله عليه السلام : « ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة » (2) ( وعرفت سابقا : قوّة إحتمال ) كون الشباهة في الخبر بمعنى : ( التفرّع على قواعدهم الفاسدة ) لا مجرّد الشباهة ، لكنّا ذكرنا هناك أنّ من المحتمل كفاية مجرّد الشباهة أيضا ، إذ يكفي في ترجيح أحد الخبرين المتعارضين على الآخر مجرّد شباهة أحدهما بالعامّة .

( و ) كيف كان : فانّه ( يخرج الخبر حينئذ ) أي : حين كان متفرّعا على قواعد العامّة ( عن الحجيّة ولو مع عدم المعارض ) وذلك ( كما يدلّ عليه عموم الموصول ) في قوله عليه السلام : « ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة »

ص: 319


1- - سورة الاحزاب : الآية 23 .
2- - تهذيب الاحكام : ج8 ص98 ب36 ح9 ، الاستبصار : ج3 ص318 ب183 ح10 ، وسائل الشيعة: ج27 ص123 ب9 ح33379 .

الرابع :

إنّ ظاهر الأخبار كون المرجّح موافقة جميع الموجودين في زمان الصدور أو معظمهم على وجه يصدق الاستغراق العرفي ، فلو وافق بعضهم بلا مخالفة الباقين ، فالترجيح به مستندة إلى الكليّة المستفادة من الأخبار من الترجيح بكلّ مزيّة .

وربّما يستفاد من قول السائل في المقبولة :

-----------------

فانّ لفظة : « ما » شاملة لصورة وجود الخبر المعارض ، وعدم وجود الخبر المعارض ، وذلك لأنّ تفرّع الخبر على قواعد العامّة في نفسه يوهن الخبر حتّى وان لم يكن له معارض .

الأمر ( الرابع : إنّ ظاهر الأخبار ) العلاجية الآمرة بأخذ الخبر المخالف للعامّة ، وترك ما وافقهم ( كون المرجّح ) في الأخذ والترك هو : ( موافقة جميع ) العامّة ( الموجودين في زمان الصدور ) أي : في زمان صدور الرواية ( أو معظمهم ) أي : معظم العامّة ( على وجه يصدق الاستغراق العرفي ) فاللازم أن يكون الخبر المتروك موافقا لجميع العامّة أو لمعظمهم ، والخبر المأخوذ به مخالفا لجميعهم أو لمعظمهم أيضا .

وعليه : ( فلو وافق بعضهم بلا مخالفة الباقين ) بأن كان الباقون ساكتين عن الفتوى - مثلاً - في تلك المسألة ( فالترجيح به ) أي : بسبب مخالفة بعض العامّة ( مستندة إلى الكليّة المستفادة من الأخبار ) العلاجية المتقدّمة ( من الترجيح بكلّ مزيّة ) لا أنّ الترجيح يكون بمخالفة العامّة ، لفرض أنّ هذا الخبر ليس مخالفا لكلّ العامّة ، بل إنّما هو مخالف لبعضهم ، وأمّا بعضهم الآخر فهم ساكتون عن حكم المسألة - مثلاً - فيكون من باب الترجيح بكلّ مزيّة .

هذا ( وربّما يستفاد من قول السائل في المقبولة ) المرويّة عن عمر بن حنظلة

ص: 320

« قلت : يا سيدي ! هما معاً موافقان للعامّة » ، أنّ المراد بما وافق العامّة أو خالفهم في المرجّح السابق يعمّ ما وافق البعض أو خالفه .

ويردّه أنّ ظهور الفقرة الاُولى في اعتبار الكلّ أقوى من ظهور هذه الفقرة في كفاية موافقة البعض ،

-----------------

حيث يقول فيها ما مضمونه : ( قلت : ياسيّدي هما معا موافقان للعامّة (1) ) فانّه يستفاد منه : ( انّ المراد بما وافق العامّة أو خالفهم في المرجّح السابق ) المتقدّم ذكره على سؤال السائل ( يعمّ ما وافق البعض أو خالفه ) فيكفي حينئذ موافقة البعض ومخالفة البعض ، ولا يحتاج إلى ما ذكرناه من لزوم مخالفة الكلّ أو موافقة الكلّ .

والنتيجة : إنّ مخالفة البعض كافية في كون الترجيح من جهة مخالفة العامّة ، ولا يحتاج إلى مخالفة كلّ العامّة ، حتّى يخرج الترجيح من جهة مخالفة العامّة إلى الترجيح بالكليّة المستفادة من الأخبار التي ترجّح بكلّ مزيّة على ما ذكره المصنّف .

( ويردّه ) أي : يردّ كون المرجّح هو ما يعمّ موافقة البعض أو مخالفتهم : ( أنّ ظهور الفقرة الاُولى ) من المقبولة ، الآمرة بطرح الموافق للعامّة وأخذ المخالف لهم ، يكون ( في إعتبار الكلّ أقوى من ظهور هذه الفقرة ) الثانية المعبّرة عن قول السائل : « هما معا موافقان » ظهورا ( في كفاية موافقة البعض ) وإذا كان ظهور الفقرة الاُولى في الكلّ أقوى من الثانية في كفاية البعض ، قدّم ظهور الاُولى لأنّه يكون قرينة على المراد من الثانية ، فيكون المرجّح حينئذ : موافقة جميع العامّة أو معظمهم ، لا بعضهم فقط .

ص: 321


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

فيحمل على إرادة صورة عدم وجود هذا المرجّح في شيء منهما وتساويهما من هذه الجهة ، لاصورة وجود هذا المرجّح في كليهما ، وتكافؤهما من هذه الجهة .

-----------------

وإنّما كانت الفقرة الاُولى في الكلّ أقوى ظهورا من الثانية في كفاية البعض ، لأنّ لفظ « العامّة » في الفقرة الاُولى : جنس معرّف باللام فيكون ظاهرا في الجميع ، بينما لفظ « هما معا موافقان » ليس كذلك ، لوجود إحتمالين فيه : إذ يحتمل أنّ السائل قد فهم من الفقرة الاُولى موافقة جميع العامّة ، فسأل عمّا يصنع لو كان الخبران فاقدين لهذا المرجّح معا ، بأن لم يكن شيء منهما موافقا لهم جميعا ؟ ويحتمل أنّ السائل قد فَهم من الفقرة الاُولى موافقة بعض العامّة ، فسأل عمّا يصنع لو كان الخبران واجدين لهذا المرجّح معا ، بأن كان كلّ منهما موافقا لبعضهم دون بعض ؟ وحيث انّ الفقرة الاُولى أقوى ظهورا تكون قرينة على المراد من الثانية .

وعليه : فإذا كانت الفقرة الاُولى وهي : موافقة جميع العامّة ، قرينة على المراد من الثانية ( فيحمل ) قول السائل : « هما معا موافقان » ( على إرادة صورة عدم وجود هذا المرجّح ) وهو موافقة جميع العامّة ( في شيء منهما ) أي : من الخبرين المتعارضين ( وتساويهما من هذه الجهة ) أي : من جهة عدم وجود المرجّح يعني : عدم موافقة شيء منهما لجميع العامّة أو لمعظمهم ( لا صورة وجود هذا المرجّح في كليهما ) أي : في كلا الخبرين المتعارضين ( وتكافؤهما من هذه الجهة ) أي : من جهة وجود المرجّح يعني : موافقة الخبرين معا لجميع العامّة أو لمعظمهم ، وإذا كان كذلك فيكون الترجيح بموافقة جميع العامّة لهذا الدليل ، وبموافقة بعضهم لدليل المزيّة وليس لهذا الدليل - وذلك على ما عرفت - .

ص: 322

وكيف كان ، ولو كان كلّ واحد موافقاً لبعضهم مخالفاً لآخرين منهم وجب الرجوع إلى ما يرجّح في النظر ملاحظة التقيّة منه .

وربّما يستفاد ذلك من أشهريّة فتوى أحد البعضين في زمان الصدور ويعلم ذلك بمراجعة أهل النقل والتاريخ ، فقد حكي عن تواريخهم : « إنّ عامّة أهل الكوفة كان عملهم على فتاوى أبي حنيفة

-----------------

( وكيف كان ) الأمر فقد عرفت حكم الترجيح بالموافق لجميع العامّة ، والموافق لبعضهم بلا مخالفة الباقين ( و ) لكن ( لو كان كلّ واحد ) من الخبرين المتعارضين ( موافقا لبعضهم مخالفا لآخرين منهم ) أي : بأن كان لكلّ واحد من الخبرين المتعارضين جهة رجحان ، وجهة مرجوحية ، فانّه إذا كان كذلك ( وجب الرجوع إلى ما يرجّح في النظر ) أي : في نظر الفقيه ( ملاحظة التقيّة منه ) بمعنى : انّه لابدّ للفقيه أن يتأمّل حتّى يدرك انّ أيّ الخبرين أنسب بالحمل على التقيّة ، فيأخذ بما لا تقيّة فيه منهما حسب نظره وتشخيصه .

( وربّما يستفاد ذلك ) أي : يستفاد رجحان لحاظ التقيّة في أحد الخبرين نظره وتشخيصه على الآخر وان كان الخبران معا موافقَين لبعض العامّة ومخالفين لبعضهم الآخر ( من أشهريّة فتوى أحد البعضين في زمان الصدور ) أي : في زمان صدور الخبرين المتعارضين ، فانّ الخبر الموافق لأشهر الفتويين عند العامّة زمن صدور الخبرين ، يكون هو الأقرب إلى التقيّة من الآخر ، فيُطرح ويؤخذ بالآخر .

هذا ( و ) من المعلوم : إنّ أشهرية الفتوى كانت آنذاك مختلفة بحسب إختلاف الأزمنة والأمكنة ، فيلزم أن ( يعلم ذلك ) أي : الأشهرية في مكان كذا ، أو زمان كذا ( بمراجعة أهل النقل والتاريخ ، فقد حكي عن تواريخهم ) ما يلي :

أوّلاً : ( انّ عامّة أهل الكوفة كان عملهم على فتوى أبي حنيفة ) الذي كان

ص: 323

وسفيان الثوري ورجل آخر .

وأهل مكة على فتاوى ابن أبي جريح ، وأهل المدينة على فتاوى مالك ، وأهل البصرة على فتاوى عثمان وسوادة ، وأهل الشام على فتاوى الأوزاعي والوليد ، وأهل مصر على فتاوى الليث بن سعيد ، وأهل خراسان على فتاوى عبد اللّه بن المبارك الزهري ، وكان فيهم أهل الفتاوى من غير هؤلاء كسعيد

-----------------

يصرّح بمخالفته للإمام الصادق عليه السلام في كلّ شيء ( وسفيان الثوري ) الذي كان من شرطة هشام بن عبدالملك ، وإشترك في قتل زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام كما في التاريخ ( ورجل آخر ) من علماء العامّة ، فإذا كان فتوى أبي حنيفة - مثلاً - أشهر من الباقي ووافقه أحد الخبرين المتعارضين ، فالموافق له أقرب للتقيّة ، فيُطرح ويؤخذ بالآخر .

ثانيا : ( وأهل مكّة على فتاوى ابن أبي جريح ) .

ثالثا : ( وأهل المدينة على فتوى مالك ) الذي عيّنه الخليفة مفتيا عامّا لأهل المدينة .

رابعا : ( وأهل البصرة على فتاوى عثمان وسوادة ) .

خامسا : ( وأهل الشام على فتاوى الأوزاعي والوليد ) .

سادسا : ( وأهل مصر على فتاوى الليث بن سعيد ) .

سابعا : ( وأهل خراسان على فتاوى عبداللّه بن المبارك الزهري ) وقد كان لكلّ واحد من هؤلاء المفتين مذهب خاص يختلف عن مذهب الآخرين ، ومن إختلافهم إختلفت العامّة جميعا .

ثامنا : ( وكان فيهم أهل الفتاوى من غير هؤلاء ) الذين ذكرناهم ( كسعيد

ص: 324

بن المسيّب ، وعكرمة ، وربيعة الرأي ، ومحمد بن شهاب الزهري ، إلى أن استقرّ رأيهم بحصر المذاهب في الأربعة سنة خمس وستين وثلاثمائة » ، كما حكي .

وقد يستفاد ذلك من الأمارات الخاصّة ، مثل قول الصادق عليه السلام ، حين حكي له فتوى ابن أبي ليلى في بعض مسائل الوصيّة :

-----------------

بن المسيّب ، وعكرمة ، وربيعة الرأي ، ومحمّد بن شهاب الزهري ) إلى غيرهم من علمائهم في البلدان المختلفة ، وفي الأزمنة المختلفة والمذاهب المختلفة .

ثمّ استمرّ بهم الأمر على ذلك ( إلى ان استقرّ رأيهم بحصر المذاهب في الأربعة ) وذلك ( سنة خمس وستّين وثلاثمائة ) في زمان برقوق ( كما حكي (1) ) حيث انّهم رأو ا انّ كلّ شخص يفتي بما يرى ممّا سبّب ذلك الانتقاد الشديد عليهم من سائر الأديان والمذاهب ، ولذا حصر الحاكم المذاهب في الأربعة ، كما قال السيّد محمّد باقر الطباطبائي في قصيدته المعروفة «النجم الثاقب» بقوله :

حتّى رأيتم بلغ السيل الزبى *** جعلتم التقليد فيه مذهبا

قلّدتم النعمان أو محمّدا *** أو مالك بن أنس أو أحمدا

فهل أتى الذكر به أو أوصى *** به النبي أو وجدتم نصّا ؟

هذا ( وقد يستفاد ذلك ) أي يستفاد رجحان لحاظ التقيّة في أحد الخبرين الموافقين لبعض العامّة والمخالفين لبعضهم الآخر ( من الأمارات الخاصّة ) أي : لا من أشهريّة فتوى أحد البعضين - كما كان في الفرض السابق - وذلك من ( مثل قول الصادق عليه السلام ، حين حكي له فتوى ابن أبي ليلى في بعض مسائل الوصيّة ) علما بأنّ ابن أبي ليلى كان قاضيا في المدينة من قبل الخليفة مدّة ثلاثة وثلاثين

ص: 325


1- - الفوائد القديمة : ص121 .

« أمّا قول ابن أبي ليلى فلا استطيع ردّه » ، وقد يستفاد من ملاحظة أخبارهم المرويّة في كتبهم .

ولذا أُنيط الحكم في بعض الروايات بموافقة أخبارهم .

الخامس :

قد عرفت أن الرجحان بحسب الدلالة لايزاحمه الرجحان بحسب الصدور ، وكذا لايزاحمه هذا الرجحان ، أي : الرجحان من حيث جهة

-----------------

عاما ، فلمّا حكي له عليه السلام فتواه قال : ( امّا قول ابن أبي ليلى فلا أستطيع ردّه (1) ) ممّا يظهر منه انّ الإمام عليه السلام إنّما وافقه تقيّة .

( وقد يستفاد ) أيضا رجحان لحاظ التقيّة في أحد الخبرين على الآخر ( من ملاحظة أخبارهم المرويّة في كتبهم ) حتّى وان لم نطلع على فتواهم كي نعلم بمطابقتها لأخبارهم وعدم مطابقتها ( ولذا اُنيط الحكم في بعض الروايات بموافقة أخبارهم ) ولم تذكر موافقة فتاواهم ، وقد تقدّم انّ بين أخبارهم وبين فتاواهم عموما من وجه .

الأمر ( الخامس : قد عرفت ) في المقام الرابع الذي عقدناه لبيان المرجّحات الداخلية والخارجية وذكر أقسامها ( أنّ الرجحان بحسب الدلالة لا يزاحمه الرجحان بحسب الصدور ) فانّ الراجح بحسب الدلالة مقدّم على المرجوح الدلالي حتّى وان كان راجحا بحسب الصدور ، لأنّ بتقديم الراجح دلالة يتمّ الجمع بين الخبرين ، ومعه لا تصل النوبة إلى الرجحان من حيث الصدور .

( وكذا لا يزاحمه ) أي : لا يزاحم الرجحان بحسب الدلالة أيضا ( هذا الرجحان ، أي : ) الرجحان الذي نحن فيه وهو : ( الرجحان من حيث جهة

ص: 326


1- - الكافي فروع : ج7 ص61 ح16 ، من لايحضره الفقيه : ج4 ص228 ب2 ح5539 ، تهذيب الاحكام : ج9 ص236 ب4 ح12 ، وسائل الشيعة : ج19 ص428 ب92 ح44886 .

الصدور ، فإذا كان الخبر الأقوى دلالة موافقاً للعامّة ، قدّم على الأضعف المخالف ، لما عرفت من أنّ الترجيح بقوّة الدلالة من الجمع المقبول الذي هو مقدّم على الطرح ، أمّا لو زاحم الترجيح بالصدور ، الترجيح من حيث جهة الصدور بأن كان الأرجح صدوراً موافقاً للعامّة ،

-----------------

الصدور ) أي : من حيث التقيّة وعدم التقيّة ، فانّه لا يزاحم الدلالي أيضا .

وعليه : ( فإذا كان الخبر الأقوى دلالة ) كالخبر الخاص المخصّص لعموم العامّ أو المقيّد لإطلاق المطلق ( موافقا للعامّة ، قدّم على الأضعف ) دلالة وهو : العامّ أو المطلق ( المخالف ) للعامّة ، إذ قد سبق انّه لا مسرح لسائر المرجّحات الموجودة في أخبار العلاج بعد وجود المرجّح الدلالي وإمكان الجمع بين الخبرين ، وذلك ( لما عرفت من انّ الترجيح بقوّة الدلالة من الجمع المقبول ) عرفا ، والعرف هو المعيار في تعيين طريق الاطاعة والمعصية ، فالترجيح الدلالي يكون حينئذ من الجمع ( الذي هو مقدّم على الطرح ) أي : طرح أحد الخبرين الناتج من الترجيح بغير الدلالة من سائر المرجّحات .

إذن : فلا مزاحمة بين الترجيح الدلالي وبين الترجيح بالصدور ، أو الترجيح بجهة الصدور ، لتقدّم الترجيح الدلالي عليهما ( امّا لو زاحم الترجيح بالصدور ، الترجيح من حيث جهة الصدور ) أي : من حيث التقيّة وعدم التقيّة ، وذلك كما لو كان أحد الخبرين المتعارضين أعدل راويا ، والخبر الآخر أبعد من التقيّة ، أي : ( بأن كان الأرجح صدورا ) وهو خبر الأعدل على ما في المثال ( موافقا للعامّة ) والآخر الأبعد من التقيّة مخالفا للعامّة ، وحينئذ فهل يقدّم الصدور أو جهة الصدور ؟ يعني : هل يقدّم الأرجح صدورا ، أو الأبعد عن التقيّة ؟ .

ص: 327

فالظاهر تقديمه على غيره وإن كان مخالفاً للعامّة .

بناءا على تعليل الترجيح بمخالفة العامّة باحتمال التقيّة في الموافق ؛ لأن هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعاً ، كالمتواترين ، أو تعبّداً كما في الخبرين بعد عدم إمكان التعبّد بصدور أحدهما وترك

-----------------

قال المصنّف : ( فالظاهر تقديمه ) أي : تقديم الأرجح صدورا ( على غيره وان كان ) ذلك الغير الأبعد من التقيّة ( مخالفا للعامّة ) فانّه لا يؤخذ بمخالف العامّة مع كونه أبعد من التقيّة ، وإنّما يؤخذ بموافقهم الذي هو أرجح صدورا ، وذلك ( بناءا على ) انّ ( تعليل الترجيح : بمخالفة العامّة ) ليس بإحتمال أقربيته للواقع حتّى يكون مرجّحا مضمونيا ، بل بإحتمال عدم التقيّة فيه هو ، أي : ( باحتمال التقيّة في الموافق ) ليكون مرجّحا من جهة الصدور .

وإنّما يقدّم الأرجح صدورا على الأبعد من التقيّة ( لأنّ هذا الترجيح ) للأبعد من التقيّة الكائن من حيث جهة الصدور هو فرع الصدور أي : ( ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما ) معا إمّا صدورا ( قطعا ، كالمتواترين ) فانّا حيث نقطع في المتواترين بصدور كلا الخبرين نرجّح بعد ذلك بجهة الصدور ، يعني : لو تعارض الخبران - مثلاً - بعد القطع بصدورهما ، فحينئذ لابدّ لنا من ترجيح أحدهما على الآخر ، فإذا كان أحدهما موافقا للعامّة والآخر مخالفا نرجّح المخالف على الموافق .

( أو ) بعد فرض صدور الخبرين المتعارضين ( تعبّدا ) وذلك فيما لو لم نكن نقطع بالصدور بل نتعبّد بصدورهما ( كما في الخبرين ) الظنيّين المعتبرين من جهة حجيّة خبر الواحد ، وذلك ( بعد عدم إمكان التعبّد بصدور أحدهما وترك

ص: 328

التعبّد بصدور الآخر ، وفي ما نحن فيه يمكن ذلك بمقتضى أدلّة الترجيح من حيث الصدور .

فإن قلت :

-----------------

التعبّد بصدور الآخر ) علما بأنّه إنّما لا يمكن ذلك لفرض انّ الخبرين متكافئان في الصدور ، وحيث انّه لا مرجّح صدوري تصل النوبة إلى الترجيح بجهة الصدور ، فنرجّح الخبر المخالف للعامّة ونأخذ به ، ونطرح الخبر الموافق لهم لإحتمال التقيّة فيه .

لكن لو لم يكن الخبران الظنّيان متكافئين في الصدور ، أمكن التعبّد بصدور أحدهما وترك التعبّد بصدور الآخر للدليل ، وذلك كما قال : ( وفيما نحن فيه ) الذي هو عدم تكافؤ الخبرين الظنيّين ، لفرض وجود المرجّح الصدوري في أحد الخبرين دون الآخر ، وهو : كون أحدهما أعدل راويا من الآخر ، فانّ فيه ( يمكن ذلك ) أي : يمكن التعبّد بصدور أحدهما وهو الراجح صدورا وان كان موافقا للعامّة ، وطرح الآخر وهو المرجوح صدورا وان كان مخالفا للعامّة ، وذلك ( بمقتضى أدلّة الترجيح من حيث الصدور ) ومقتضى تلك الأدلّة هو : الترجيح بالمرجّح الصدوري وأخذ الراجح وطرح المرجوح ممّا معناه : التعبّد بصدور أحدهما وهو الأرجح صدورا فقط ، دون الآخر .

والحاصل : انّه إذا قطعنا بصدور الخبرين المتعارضين معا ، أو تعبّدنا الشارع بصدورهما معا ، تصل النوبة إلى الترجيح بجهة الصدور ، امّا إذا لم يكن قطع ولا تعبّد بصدورهما معا ، فلا يكون حينئذ مجال لهذا المرجّح بل يكون المجال للترجيح بالصدور .

( فان قلت ) : انّ لحاظ الجهة كلحاظ الدلالة ، كلاهما متفرّع على الفراغ

ص: 329

إنّ الأصل في الخبرين الصدور ، فإذا تعبّدنا بصدورهما اقتضى ذلك الحكم بصدور الموافق تقيّةً ، كما يقتضي ذلك الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما دلالة ، فيكون هذا المرجّح نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدّماً على الترجيح بحسب الصدور .

-----------------

عن لحاظ الصدور ، يعني : إذا كان الصدور مقطوعا به ، أو كان معتبرا من جهة حجيّة خبر الواحد ، أو ما أشبه ذلك ، لزم عندها الجمع الدلالي أو الجمع من جهة الصدور ، وحينئذ فكما انّه عند وجود الرجحان الدلالي في الخبرين المتعارضين ، الذين هما من قبيل العام والخاص ، أو المطلق والمقيّد ، يلزم التعبّد بصدور الخبرين المتعارضين معا ، ثمّ يجمع بينهما ولا يرجع إلى المرجّح الصدوري كالأعدلية وما أشبه ذلك ، فكذلك عند وجود الرجحان من جهة الصدور في الخبرين المتعارضين ، الذين هما من قبيل الموافق والمخالف للعامّة يلزم أن نقول بصدورهما معا ، ثم حمل الموافق للعامة على التقيّة ، لا الرجوع إلى المرجّح الصدوري كالأعدلية وما أشبه ذلك للأخذ بالراجح وطرح المرجوح صدورا .

والحاصل : ( انّ الأصل في الخبرين الصدور ) لأنّ أدلّة حجيّة الخبر يشمل كلا الخبرين ، فنكون متعبّدين بصدورهما ( فإذا تعبّدنا بصدورهما اقتضى ذلك ) أي : اقتضى التعبّد بصدورهما ( الحكم بصدور الموافق ) للعامّة ( تقيّة ، كما يقتضي ذلك ) أي : يقتضي التعبّد بصدورهما ( الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما دلالة ) حيث انّه يلزم حينئذ الجمع الدلالي بينهما بحمل العام على الخاص ، والمطلق على المقيّد ، والظاهر على الأظهر أو على النصّ ( فيكون هذا المرجّح ) أي : مرجّح جهة الصدور وهو التقيّة ( نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدّما على الترجيح بحسب الصدور ) فلا تصل النوبة معه إلى الترجيح

ص: 330

قلتُ : لامعنى للتعبّد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعيّن على التقيّة ؛ لأنه الغاء لأحدهما في الحقيقة .

ولذا لو تعيّن حمل خبر غير معارض على التقيّة على تقدير الصدور ، لم تشمله أدلّة التعبّد بخبر العادل .

-----------------

بحسب الصدور .

( قلت : لا معنى للتعبّد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعيّن ) الذي هو الموافق للعامة ( على التقيّة ) فانّه إنّما لا معنى له ( لأنّه ) أي : الحمل على التقية ( الغاء لأحدهما في الحقيقة ) وإذا كان كذلك فلا معنى لأن يقول الشارع : تعبّد بهذا الخبر وأحمله على التقيّة ، إذ التعبّد يلزم أن يكون له أثر ، والحمل على التقيّة معناه : انّه لا أثر له ، بخلاف التعبّد بالخبر لوجود المرجّح الدلالي ، فانّ له أثرا وهو الجمع بين الخبرين .

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرنا : من انّه لا معنى للتعبّد بالصدور والحمل على التقيّة ، لأنّ معنى حمل الخبر على التقيّة هو : عدم العمل به ، فيكون التعبّد بصدوره لغوا ، نرى انّه ( لو تعيّن حمل خبر غير معارض ) بخبر آخر ، على التقيّة ، فحملناه ( على التقيّة على تقدير الصدور ، لم يشمله أدلّة التعبّد بخبر العادل ) لا انّها تشمله ويُحمل على التقيّة ، فلو كان - مثلاً - هناك خبر واحد قد علمنا من جهة قيام الاجماع - مثلاً - على انّه لا يعمل به ، فلا معنى لأن يقول الشارع : تعبّد بهذا الخبر ، وذلك لأنّه لا فائدة في مثل هذا التعبّد فيكون لغوا ، فلا يشمله أدلّة العمل بخبر العادل مثل : « ان جائكم فاسق بنبأٍ فتبيّنوا » (1) ومثل :

ص: 331


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

نعم ، لو علم بصدور خبرين لم يكن بدّ من حمل الموافق على التقيّة وإلغائه .

وإذا لم يعلم بصدورهما ، كما في ما نحن فيه من المتعارضين ، فيجب الرجوع إلى المرجّحات الصدوريّة ، فإن أمكن ترجيح أحدهما وتعيّنه من حيث التعبّد بالصدور دون الآخر تعيّن ، وإن قصرت اليد عن هذا الترجيح كان عدم احتمال التقيّة في أحدهما مرجّحاً ،

-----------------

« لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا » (1) وغير ذلك .

( نعم ، لو علم بصدور الخبرين ) كما إذا سمعناهما من الإمام عليه السلام ( لم يكن بدّ من حمل الموافق على التقيّة وإلغائه ) وذلك لأنّه ليس هذا من التعبّد بالصدور حتّى يكون لغوا، بل هو ممّا نعلم بصدوره، فلا علاج إلاّ بحمله على التقيّة وإلغائه.

( و ) امّا (إذا لم يعلم بصدورهما ، كما فيما نحن فيه من المتعارضين) الظنيّين .

فانّا لا نعلم بصدورهما لفرض عدم كونهما خبرين متواترين ( فيجب الرجوع ) عند تعارضهما ( إلى المرجّحات الصدورية ) كالأعدلية والأصدقية وما أشبه ذلك ( فان أمكن ترجيح أحدهما ) أي : أحد الخبرين على الآخر ( وتعيّنه من حيث التعبّد بالصدور دون الآخر تعيّن ) الترجيح به والتعبّد بصدور الراجح وطرح المرجوح ( وان قصرت اليد عن هذا الترجيح ) أي : الترجيح الصدوري ، وذلك بأن كانا متكافئين في الصدور ( كان عدم إحتمال التقيّة في أحدهما مرجّحا ) حينئذ ، بمعنى : إنّ الترجيح بالتقيّة واللاتقيّة يكون مرتبته بعد الترجيح الصدوري ، فيؤخذ بالمخالف ويترك الموافق لإحتمال التقيّة في الموافق للعامّة .

ص: 332


1- - رجال الكشي : ص536 ، وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 وج27 ص150 ب11 ح33455 ، بحار الانوار : ج5 ص318 ب4 ح15 .

فمورد هذا المرجّح تساوي الخبرين من حيث الصدور ، إمّا علماً كما في المتواترين ، أو تعبّداً كما في المتكافئين من الآحاد .

وأمّا ما وجب فيه التعبّد بصدور أحدهما المعيّن دون الآخر ، فلا وجه لإعمال هذا المرجّح فيه ؛ لأنّ جهة الصدور متفرّع على أصل الصدور .

والفرق بين هذا

-----------------

وعلى هذا ( فمورد هذا المرجّح ) الذي نحن فيه وهو الترجيح من حيث جهة الصدور يعني : في كونه صدر تقيّة ولا تقيّة هو : ( تساوي الخبرين ) وتكافؤهما ( من حيث الصدور ، إمّا عِلما كما في المتواترين ) المتعارضين فانّه حيث لا نتمكّن من ترجيح صدور أحدهما على الآخر ، يلزم أن نحمل موافق العامّة على التقيّة ونعمل بمخالف العامّة ( أو تعبّدا كما في المتكافئين ) الظنيّين تكافؤا من حيث الصدور ( من الآحاد ) أي : من الخبر الواحد الظنّي الصدور الذي هو حجّة ، فيطرح الموافق لأجل إحتمال التقيّة فيه ، لا انّه يتعبّد بصدوره ثمّ يحمل على التقيّة إذ قد عرفت انّه لغو لا أثر له .

( وأمّا ما وجب فيه التعبّد بصدور أحدهما المعيّن ) وجوبا من أجل وجود المرجّح الصدوري في هذا المعيّن ( دون الآخر ) المعارض له ( فلا وجه لاعمال هذا المرجّح فيه ) أي : أعمال مرجّح جهة الصدور في الخبر الذي فيه مرجّح من حيث الصدور ، وذلك ( لأنّ جهة الصدور متفرّع على أصل الصدور ) فإذا ثبت الصدور وصلت النوبة بعده إلى جهة الصدور ، لكن لو إقتضى المرجّح طرح السند وإنتفاء الصدور ، فيكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، حيث لا يبقى معه مجال للحاظ جهة التقيّة أو اللاتقيّة فيه .

( والفرق بين هذا ) أي : بين الترجيح في جهة الصدور المتأخّر عن الترجيح

ص: 333

والترجيح في الدلالة المتقدّم على الترجيح بالسند ، أنّ التعبّد بصدور الخبرين على أن يعمل بظاهر أحدهما ، وبتأول الآخر بقرينة ذلك الظاهر ممكن غير موجب لطرح دليل أو أصل ، بخلاف التعبّد بصدورهما ، ثمّ حمل أحدهما على التقيّة ، الذي هو في معنى إلغائه وترك التعبد به .

هذا كلّه على تقدير توجيه الترجيح بالمخالفة باحتمال التقيّة ،

-----------------

بالسند ( والترجيح في الدلالة المتقدّم على الترجيح بالسند ) أي : الفرق بين الترجيح بالتقيّة الذي جعلناه متأخّرا عن الترجيح بالسند ، وبين الترجيح بالدلالة الذي جعلناه متقدّما على الترجيح بالسند هو : ( انّ التعبّد بصدور الخبرين على ان يعمل بظاهر أحدهما ، و ) ذلك كالعمل بظاهر المخصّص والمقيّد ، وعلى أن يعمل ( بتأويل الآخر ) كتأويل العام والمطلق وهذا التأويل في الآخر ( بقرينة ذلك الظاهر ) أي : ظاهر الخبر المخصّص أو ظاهر الخبر المقيّد ( ممكن غير موجب لطرح دليل أو أصل ) لأنّ المفروض انّه يجمع بينهما بحمل الظاهر على النصّ أو الظاهر على الأظهر .

( بخلاف التعبّد بصدورهما ، ثمّ حمل أحدهما على التقيّة ، الذي هو ) أي : الحمل على التقيّة ( في معنى إلغائه وترك التعبّد به ) ممّا يكون نتيجة التعبّد به عدم التعبّد به ، ومعه فلو سأل أحد عن انّه ما فائدة التعبّد بهذا الخبر الذي يجب الغاؤه بسبب انّه موافق للتقيّة ، ممّا معناه : عدم التعبّد به؟ لم يكن له جواب ، والمفروض انّ الشارع حكيم ، فلا يتعبّد بشيء لا يريد العمل به ، لأنّه أمر إعتباطي .

( هذا كلّه ) الذي ذكرناه من تقديم حيث الصدور على جهة الصدور إنّما هو ( على تقدير توجيه الترجيح بالمخالفة ) للعامّة كائن ( بإحتمال التقيّة ) لا بإحتمال

ص: 334

أمّا لو قلنا بأنّ الوجه في ذلك كون المخالف أقرب إلى الحقّ ، وأبعد من الباطل ، كما يدل عليه جملة من الأخبار ، فهي من المرجّحات المضمونيّة ، وسيجيء حالها مع غيرها .

المقام الثالث : في المرجّحات الخارجيّة

وقد أشرنا إلى أنّها على قسمين :

-----------------

كون المخالف للعامّة أقرب إلى الحقّ ، وأبعد من الباطل ، و ( امّا لو قلنا بأنّ الوجه في ذلك ) أي : في الترجيح بمخالفة العامّة هو : ( كون المخالف أقرب إلى الحقّ ، وأبعد من الباطل ، كما يدلّ عليه جملة من الأخبار ، فهي ) أي : المخالفة للعامّة حينئذ ( من المرجّحات المضمونية ) والمرجّح المضموني مقدّم على المرجّح الصدوري لا على جهة الصدور ( وسيجيء حالها ) أي : حال المرجّحات المضمونية ( مع غيرها ) من المرجّحات الصدورية ، وجهة الصدور ، ان شاء اللّه تعالى .

وحيث قد عرفت ترتيب المرجّحات من تقدّم الدلالية ، ثمّ الصدورية ، ثمّ جهة الصدور ، نشرع في الكلام في ( المقام الثالث ) الذي هو ( في المرجّحات الخارجية ) وذلك بعد أن كان المقام الأوّل في المرجّحات الدلالية ، والمقام الثاني في المرجّحات الداخلية لكن من حيث الصدور وجهة الصدور فقط وقد بحث المصنّف المقامين بلا ترتيب وعنوان ، وبقي الكلام في المرجّحات الداخلية من حيث المضمون مثل : النقل باللفظ ، والفصاحة ، وما أشبه ذلك ، فانّه يعرف حالها من البحث هنا في المقام الثالث المعدّ لبحث المرجّح الخارجي الذي هو مرجّح مضموني أيضا ( وقد أشرنا إلى أنّها ) أي : المرجّحات الخارجية ( على قسمين )

ص: 335

الأوّل : ما يكون غير معتبر بنفسه .

والثاني : ما يعتبر بنفسه ، بحيث لو لم يكن هناك دليل كان هو المرجع .

فمن الأوّل : شهرة أحد الخبرين ، إمّا من حيث رواته ، بأن اشتهرت روايته بين الرواة ، بناءا على كشفها عن شهرة العمل أو اشتهار الفتوى به ولو مع العلم بعدم استناد المفتين إليه .

-----------------

كالتالي :

( الأوّل : ما يكون غير معتبر بنفسه ) بحيث لولا وجود الخبر لا ينفع ذلك المرجّح لإثبات حكم شرعي بوحده .

( والثاني : ما يعتبر بنفسه ، بحيث لو لم يكن هناك دليل كان هو المرجع ) وامّا مع وجود الدليل وهو أحد الخبرين المتعارضين ، فيلزم التوافق بين هذا المرجّح المعتبر بنفسه وبين ذلك الخبر على ما سيأتي بحثه إن شاء اللّه تعالى .

( فمن الأوّل : شهرة أحد الخبرين ، إمّا من حيث رواته ، بأن اشتهرت روايته بين الرواة ) كما لو رواها جمع من أصحاب الصادق عليه السلام - مثلاً - وذلك ( بناءا على كشفها ) أي : كشف شهرة الرواية ( عن شهرة العمل ) وقيّد هنا شهرة الرواية بالكشف عن شهرة العمل ، لأنّ شهرة الرواية لو لم تقيّد بالكشف عن شهرة العمل كانت من المرجّحات الصدورية ، بينما إذا قيّدت بالكشف عن شهرة العمل كانت من المرجّحات المضمونية حينئذ . والمرجّح المضموني إذا كان مثل الشهرة العملية ، أو الشهرة الفتوائية كان من المرجّحات الخارجية .

( أو ) كان شهرة أحد الخبرين من حيث ( إشتهار الفتوى به ) بين الأصحاب ( ولو مع العلم بعدم إستناد المفتين إليه ) أي : إلى الخبر ، ومن الواضح : إنّ الشهرة الفتوائية بنفسها مرجّح خارجي للخبر .

ص: 336

ومنه كون الراوي له أفقه من راوي الآخر في جميع الطبقات ، أو في بعضها ، بناءا على أنّ الظاهر عمل الأفقه به .

-----------------

وعليه : فقد تبيّن من ذلك انّ الشهرة على ثلاثة أقسام :

الأوّل : مجرّد شهرة الرواية ، وذلك بأن إشتهر روايتها على ألسنة الرواة ، أو نقلها في كتب الحديث ، من دون إشتهار إستناد الأصحاب إليها ، أو كون فتواهم على طبقها ، وقد عرفت : انّ شهرة الرواية مرجّح صدوري داخلي ان لم تقيّد بالكشف عن شهرة العمل ، وإلاّ بأن قيّدت بالكشف عن شهرة العمل فهي مرجّح خارجي .

الثاني : شهرة العمل بأن إشتهر إستناد الأصحاب إلى هذه الرواية .

الثالث : شهرة الفتوى بأن تكون فتوى المشهور موافقة لهذه الرواية من دون إستنادهم إليها .

( ومنه ) أي : من الأوّل الذي ليس بمعتبر في نفسه ( كون الراوي له ) أي : للخبر ( أفقه من راوي الآخر في جميع الطبقات ، أو في بعضها ، بناءا على انّ الظاهر عمل الأفقه به ) أي : بالخبر الذي رواه ، وذلك لوضوح : انّ مجرّد نقل الأفقه للخبر مع قطع النظر عن العمل به من قبله هو ، مرجّح داخلي صدوري كالأعدلية ، وليس بحثنا فيه الآن ، لأنّ بحثنا في المرجّحات الخارجية ، ولذا قيّده المصنّف بقوله : « بناءا على انّ الظاهر عمل الأفقه به » فانّ عمل الأفقه بالخبر مع فقهه أمارة على مزيّة في هذا الخبر ليس في الخبر المعارض له ، علما بأنّ المراد من عمل الأفقه به : عمله به تعيينا لا تخييرا ، وإلاّ لم يكن مرجّحا .

هذا ، ولا يخفى إنّ معنى الأفقه هو : الأكثر إطّلاعا بالنسبة إلى الأحكام ، والأجود فهما للإخبار ، والأدقّ نظرا بالنسبة إلى الأشباه والنظائر ، والاعرف

ص: 337

ومنه مخالفة أحد الخبرين للعامّه ، بناءا على ظاهر الأخبار المستفيضة الواردة في وجه الترجيح بها ، ومنه كلّ أمارة مستقلة غير معتبرة وافقت مضمون أحد الخبرين إذا كان عدم اعتبارها لعدم الدليل ، لالوجود الدليل على العدم ، كالقياس .

ثمّ الدليل على الترجيح بهذا النحو من المرجّح

-----------------

بمناسبات الأحكام والمسائل ، وذلك على ما ذكروه مفصّلاً في بحث التقليد (1) .

( ومنه ) أي : من الأوّل أيضا ( مخالفة أحد الخبرين للعامّة ، بناءا على ظاهر الأخبار المستفيضة الواردة في وجه الترجيح بها ) أي : الترجيح بمخالفة العامّة .

ووجهه هو : كون الخبر المخالف للعامّة أقرب إلى الحقّ وأبعد عن الباطل ، فانّه على ذلك يكون مرجّحا خارجيا راجعا إلى المضمون ، ويكون محلّ بحثنا هنا ، بينما إذا كان الترجيح بمخالفة العامّة لعدم إحتمال التقيّة فيه ، كان مرجّحا داخليا راجعا إلى جهة الصدور وقد مضى بحثه هناك في المرجّحات الداخلية .

( ومنه ) أي : من الأوّل أيضا ( كلّ أمارة مستقلّة ) أي : خارجية ( غير معتبرة ) شرعا ( وافقت مضمون أحد الخبرين ) كما إذا كان الاجماع المنقول موافقا لمضمون أحد المتعارضين ، فيما ( إذا كان عدم إعتبارها لعدم الدليل ) على الاعتبار ، كما هو المشهور بين المتأخّرين : من عدم إعتبار الاجماع المنقول - مثلاً - ( لا لوجود الدليل على العدم ، كالقياس ) والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، وما أشبه ذلك ، فانّها لا تصلح مرجّحا كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى .

( ثمّ الدليل على الترجيح بهذا النحو من المرجّح ) الخارجي مع انّه لم ينصّ عليه في الأخبار العلاجية السابقة نصّ ، هو اُمور ثلاثة على ما يلي :

ص: 338


1- - راجع موسوعة الفقه : ج1 كتاب الاجتهاد والتقليد ، للشارح .

ما يستفاد من الأخبار من الترجيح بكلّ ما يوجب أقربيّة أحدهما إلى الواقع وإن كان خارجاً عن الخبرين ، بل يرجع هذا النوع إلى المرجّح الداخلي ، فإنّ أحد الخبرين إذا طابق أمارة ظنّيّة فلازمه الظنّ بوجود خلل في الآخر ، إمّا من حيث الصدور ، أو من حيث جهة الصدور ، فيدخل الراجح فيما لاريب فيه والمرجوح فيما فيه الريب .

-----------------

الأوّل : ( ما يستفاد من الأخبار ) العلاجية نفسها ( من ) كبرى كليّة تشير على ( الترجيح بكلّ ما يوجب أقربيّة أحدهما ) أي : أحد الخبرين قربا نسبيا ( إلى الواقع ) بلا فرق بين أن يكون ذلك من حيث الصدور ، أو جهة الصدور ، أو المضمون ، أو حتّى ( وإن كان ) ذلك الذي يوجب الأقربية إلى الواقع ( خارجا عن الخبرين ) .

وعليه : فلا حاجة إلى أن يكون المرجّح مذكورا بالنصّ في الروايات العلاجية وانّما يُستفاد منها كبرى كليّة تشمل كلّ ما يوجب أقربية أحد الخبرين إلى الواقع ، كما انّه لا حاجة إلى ان يكون المرجّح داخليا وإنّما يكفي حتّى الخارجي .

الثاني : ( بل يرجع هذا النوع ) من المرجّح الخارجي ( إلى المرجّح الداخلي ، فانّ أحد الخبرين إذا طابق أمارة ظنّية ) ظنّا نوعيا كالشهرة ( فلازمه الظنّ بوجود خَلَلٍ في ) الخبر ( الآخر ) خللاً داخليا في نفس الخبر ، وذلك ( امّا من حيث الصدور ، أو من حيث جهة الصدور ) فيكون المظنون ظنّا نوعيا بالخلل مرجوحا، والمظنون ظنّا نوعيا بالسلامة من الخلل راجحا ، وإذا كان كذلك ( فيدخل الراجح فيما لا ريب فيه والمرجوح فيما فيه الريب ) فيطرح لقوله عليه السلام : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » (1) وقوله عليه السلام أيضا : « فانّ المجمع عليه

ص: 339


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33506 و ص170 ب12 ح33517 ، كنز الفوائد : ج1 ص351 ، الذكرى : ص138 ، الغارات : ص135 ، المعجم الكبير : ج22 ص147 ح399 .

وقد عرفت : أنّ المزيّة الداخليّة قد تكون موجبة لانتفاء احتمال في ذيها موجود في الآخر ، كقلّة الوسائط ومخالفة العامّة ، بناءا على الوجه السابق ، وقد توجب

-----------------

لا ريب فيه » (1) إلى غيرهما ممّا ألمعنا إليه سابقا .

هذا ( وقد عرفت : انّ المزيّة الداخلية قد تكون موجبة لانتفاء إحتمال في ذيها ) أي : في ذي المزيّة ، بينما ذلك الاحتمال ( موجود في الآخر ) مثاله : ( كقلّة الوسائط ) فالخبر القليل الواسطة أقوى من كثير الوسائط ، فإذا كان - مثلاً - أحد الخبرين بواسطة واحدة والآخر بواسطتين ، فاحتمال الكذب - مثلاً - في الخبر الأوّل إحتمال واحد ، بينما في الخبر الثاني إحتمالان ، ممّا يكون معناه : إنتفاء إحتمال الكذب في الأوّل بمقدار قلّة الوسائط فيه ، وهكذا في بقيّة الأمثلة ، فانّه بمقدار قلّة الواسطة يكون ذي القلّة أقوى .

ولكن لا يخفى : انّ العرف لا يرون هذا الفرق فيما إذا كان كلاهما كثير الواسطة بفرق شخص واحد - مثلاً - وذلك كما إذا كان لأحدهما عشر وسائط وللآخر تسع .

( و ) مثاله الآخر : ( مخالفة العامّة ، بناءا على الوجه السابق ) أي : الوجه الذي مرّ ذكره في المرجّحات الداخلية وهو : كون الترجيح بمخالفة العامّة من جهة عدم إحتمال التقيّة فيه ، مقابل الموافق للعامّة الذي يحتمل فيه التقيّة لا من جهة أقربيته إلى الواقع الذي هو مرجّح مضموني خارجي .

هذا ان أو جبت المزيّة إنتفاء إحتمال في ذمّها موجود في الآخر ( وقد توجب )

ص: 340


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

بُعد الاحتمال الموجود في ذيها بالنسبة إلى الاحتمال الموجود في الآخر ، كالأعدلية والأوثقيّة ، والمرجّح الخارجي من هذا القبيل ، غاية الأمر عدم العلم تفصيلاً بالاحتمال القريب في أحدهما ، البعيد في الآخر .

-----------------

المزيّة ( بُعد الاحتمال الموجود في ذيها ) أي : في الخبر ذي المزيّة ( بالنسبة إلى الاحتمال الموجود في ) الخبر ( الآخر ، كالأعدلية والأوثقيّة ) فان إحتمال الكذب في خبر الأعدل أبعد من إحتماله في خبر العادل ، وكذلك بالنسبة إلى الأوثق والثقة ، والفرق بينهما واضح ، فانّ الأعدل والعادل من لا يعصي اللّه سبحانه وتعالى بحيث صارت العدالة له ملكة راسخة ، بينما الأوثق والثقة من يمكن أن يكون فاسد العقيدة أو العمل ، لكنّه ثقة من حيث الصدق في اللهجة واللسان .

( و ) كيف كان : فانّ ( المرجّح الخارجي من هذا القبيل ) أي : من قبيل المرجّح الداخلي في انّه يوجب كون إحتمال الخلل في الراجح منتفيا ، أو أبعد بالنسبة إلى إحتمال الخلل منه في المرجوح ، فيدخل الخبر الراجح فيما لا ريب نسبي فيه من باب شمول الكلي له ، لا من باب تنقيح المناط .

إذن : فالمرجّح الخارجي رجع إلى المرجّح الداخلي ، ويكون من قبيله ، بلا فرق بينهما إلاّ في كون إحتمال الخلل في المرجّح الداخلي معلوما تفصيلاً ، بينما في المرجّح الخارجي معلوما ذلك إجمالاً ، كما قال ( غاية الأمر ) انّ هناك فرقا بين المرجّح الخارجي كالشهرة والندرة ، الذي كلامنا فيه ، وبين المرجّح الداخلي كالتقيّة واللاتقيّة ، من حيث انّ إحتمال الخلل معلوم تفصيلاً في المرجّح الداخلي ، بينما إحتمال الخلل في المرجّح الخارجي معلوم إجمالاً بمعنى : ( عدم العلم تفصيلاً بالإحتمال القريب في أحدهما ، البعيد ) ذلك الاحتمال نفسه ( في الآخر ) .

ص: 341

بل ذوالمزيّة داخل في الأوثق المنصوص عليه في الأخبار .

ومن هنا يمكن أن يستدلّ على المطلب

-----------------

مثلاً : في التقيّة واللا تقيّة المعدودة من المرجّحات الداخلية ، يُعلم تفصيلاً بأنّ إحتمال الخلل القريب في المرجوح ، والبعيد في الراجح ، هو الموافقة واللا موافقة للعامّة ، بينما في مثل الشهرة والندرة ، لا يُعلم تفصيلاً بأنّ إحتمال الخلل القريب في النادر المرجوح ، والبعيد في المشهور الراجح ، هل هو : الأقربيّة وعدم الأقربية إلى الواقع ، أو هو التقيّة وعدم التقيّة - مثلاً -؟ فالخلل في المرجّح الخارجي غير معلوم تفصيلاً وإنّما هو معلوم إجمالاً - على ما عرفت - .

الثالث : ( بل ذو المزيّة ) حتّى وان كانت المزيّة بسبب المرجّح الخارجي فهو ( داخل في الأوثق المنصوص عليه في الأخبار ) وذلك كما في مرفوعة زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه السلام حيث جاء فيها : « خذ بما يقول أعدلهما عندك ، وأو ثقهما في نفسك » (1) ومن المعلوم : إنّ الخبر الراجح وان كان بسبب مرجّح خارجي يكون أوثق في النفس من الخبر المرجوح ، وإذا كان أوثق صار منصوصا عليه لأنّ الأوثقية من المرجّحات المنصوصة ، فالمرجّح الخارجي إذن ليس مرجعه فقط إلى المرجّح الداخلي ، بل مرجعه إلى المرجّحات المنصوصة أيضا .

( ومن هنا ) أي : ممّا ذكرنا : من انّ المرجّح الخارجي يرجع إلى المرجّح الداخلي ، بل إلى المنصوص عليه في الأخبار العلاجية ، فيكون الخبر الراجح ذا مزيّة فيدخل في الاوثق المنصوص عليه ، مقابل الخبر المرجوح الفاقد للمزيّة ، فانّ منه ( يمكن أن يستدلّ على المطلب ) وهو الترجيح بالمرجّحات الخارجية

ص: 342


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

بالإجماع المدّعى في كلام جماعة على وجوب العمل بأقوى الدليلين ، بناءا على عدم شمولها للمقام .

من حيث إنّ الظاهر من الاقوى أقواهما في نفسه ، ومن حيث هو ، لامجرّد كون مضمونه أقرب إلى الواقع لموافقة أمارة خارجيّة .

فيقال في تقريب الاستدلال : إنّ الأمارة موجبة لظنّ خلل في المرجوح ، مفقود في الراجح ، فيكون الراجح أقوى إجمالاً من حيث نفسه .

-----------------

( بالإجماع المدّعى في كلام جماعة على وجوب العمل بأقوى الدليلين ) فانّ أقوى الدليلين كما يكون بالمرجّح الداخلي يكون بالمرجّح الخارجي أيضا ، فيكون الاجماع المدّعى شاملاً للمقام بلا حاجة إلى إرجاع المرجّح الخارجي إلى المرجّح الداخلي ، وذلك حتّى ( بناءا على عدم شمولها ) أي : عدم شمول دعوى الاجماع ( للمقام ) أي : للمرجّح الخارجي بما هو هو .

وإنّما قال : بناءا على عدم شمول دعوى الاجماع للمرجّح الخارجي بما هو ، لأنّه ( من حيث انّ الظاهر من الأقوى ) أي : من أقوى الدليلين الذي ادّعى الاجماع على وجوب العمل به هو : ( أقواهما في نفسه ، ومن حيث هو ) أي : بأن يكون المرجّح مرجّحا داخليا ( لا مجرّد كون مضمونه أقرب إلى الواقع ) حتّى ولو كان المرجّح مرجّحا خارجيا كما لو كان ( لموافقة أمارة خارجية ) فانّه حتّى بناءا على ذلك يمكن الاستدلال به للمقام ، وذلك بحسب التقريب الذي بيّنه المصنّف بقوله التالي ( فيقال في تقريب الاستدلال ) على شمول الاجماع المدّعى لما نحن فيه من الترجيح بالمرجّحات الخارجية : ( انّ الأمارة ) الخارجية كالشهرة ( موجبة لظنّ خلل ) أي : نقص وعيب ( في المرجوح ، مفقود ) ذلك الخلل والعيب ( في الراجح ، فيكون الراجح أقوى إجمالاً من حيث نفسه ) وإذا كان أقوى في نفسه

ص: 343

فإن قلت : إنّ المتيقّن من النصّ ومعاقد الاجماع اعتبار المزيّة الداخليّة القائمة بنفس الدليل ، وأمّا الحاصلة من الأمارة الخارجية التي دلّ الدليل على عدم العبرة به من حيث دخوله في مالا يعلم ، فلا اعتبار بكشفها عن الخلل في المرجوح ، ولا فرق بينه وبين القياس في عدم العبرة به في مقام الترجيح ، كمقام الحجّيّة .

-----------------

ولو إجمالاً - لا تفصيلاً على ما ألمعنا إلى جهة الاجمال والتفصيل سابقا - فيشمله حينئذ الاجماع المدّعى .

( فإن قلت ) في ردّ هذا الاستدلال : ( انّ المتيقّن من النصّ ومعاقد الاجماع إعتبار المزيّة الداخلية القائمة بنفس الدليل ) لا من خارجه ، فيكون الترجيح بالمرجّح الداخلي فقط ( وامّا ) المزيّة ( الحاصلة من الأمارة الخارجية التي ) هي كالشهرة ، والاجماع المنقول ، وما أشبه ذلك ، ممّا ( دلّ الدليل على عدم العبرة به ) علما بأنّ الدليل إنّما دلّ هنا على عدم العبرة به ( من حيث دخوله ) أي : دخول مثل الشهرة من الأمارات الخارجية ( فيما لا يُعلم ) وجود دليل عليه يعني : لا فيما يُعلم وجود الدليل على عدمه .

وعليه : فإذا كانت الأمارة الخارجية ممّا لا يُعلم وجود دليل عليه ( فلا إعتبار بكشفها ) أي : بكشف تلك الأمارة الخارجية كالشهرة - مثلاً - ( عن الخلل في المرجوح ، و ) ذلك لأنّ الشارع لم يعتبر مثل هذا المرجّح ، وإذا لم يعتبره مرجّحا فلا يصحّ الترجيح به ، ومعه يكون ( لا فرق بينه وبين القياس في عدم العبرة به في مقام الترجيح ، كمقام الحجيّة ) فكما انّ القياس الذي قال الشارع بعدم حجيّته لا يكون مرجّحا ، فكذلك الاجماع المنقول الذي لم يقل الشارع بأنّه حجّة لا يكون مرجّحا أيضا، وحينئذ يكون ما لم يُعلم العبرة به ، كما عُلم عدم العبرة به.

ص: 344

هذا ، مع أنّه لامعنى لكشف الأمارة عن الخلل في المرجوح ؛ لأن الخلل في الدليل من حيث إنّه دليل قصور في طريقيّته ، والمفروض تساويهما في جميع ماله مدخل في الطريقيّة .

ومجرّد الظنّ بمخالفة خبر للواقع لايوجب خللاً في ذلك ؛ لأن الطريقيّة ليست منوطة بمطابقة الواقع .

-----------------

( هذا ) كلّه أوّلاً ، وثانيا : ( مع انّه لا معنى لكشف الأمارة ) الخارجية ( عن الخلل في المرجوح ، لأنّ الخلل في الدليل من حيث انّه دليل ) إنّما هو بمعنى وجود ( قصور في طريقيّته ، والمفروض تساويهما ) أي : تساوي الخبرين المتعارضين في الظاهر ، فلا قصور في طريقيّة المرجوح ، ومعه فيتساوى المرجوح مع الراجح ( في جميع ما له مدخل في الطريقيّة ) وإذا كان كذلك فلا وجه لتقديم الراجح بسبب أمارة خارجية على المرجوح ، لأنّ الظنّ بمخالفة مضمون أحد الخبرين للواقع إذا كان حاصلاً من أمارة خارجيّة كالشهرة - مثلاً - لا يكون مسقطا له ، وإنّما المسقط له هو أن يكون خلل في سنده أو دلالته أو جهة صدوره .

( و ) عليه : فانّ ( مجرّد الظنّ بمخالفة خبر للواقع ) حتّى ولو كان ذلك الظنّ آتيا من الشهرة - مثلاً - ( لا يوجب خللاً في ذلك ) التساوي المفروض للخبرين من حيث الطريقيّة ، وذلك ( لأنّ الطريقيّة ليست منوطة بمطابقة الواقع ) بل هي منوطة بإفادة الظنّ النوعي ، ومن الواضح : انّ الظنّ النوعي كما يحصل من الراجح ، فكذلك يحصل من المرجوح ، ومعه فلا وجه للترجيح بالمرجّحات الخارجية .

ص: 345

قلتُ : أمّا النصّ ، فلا ريب في عموم التعليل في قوله عليه السلام : « لأن المجمع عليه لاريب فيه » وقوله : « دع ما يريبك إلى ما لايريبك » لما نحن فيه ، بل قوله : « فإنّ الرشد فيما خالفهم » ، وكذا التعليل في رواية الأرجائي : « لِمَ أُمرتم بالأخذ بخلاف ما عليه

-----------------

( قلت ) في جواب هذا القائل : بأنّ المتيقّن من النصّ ومعاقد الاجماع هو : إعتبار المزيّة الداخلية فقط ، انّه ليس بتامّ ، وذلك لأنّه ( أمّا النصّ فلا ريب في عموم التعليل في قوله عليه السلام : لأنّ المجمع عليه لا ريب فيه ) (1) علما بأنّ المراد من المجمع عليه - على ما عرفت سابقا - هو : الخبر المشهور ، المقابل للشاذّ النادر .

( و ) كذا عموم التعليل في ( قوله : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) (2) فانّ التعليل فيهما شامل ( لما نحن فيه ) من المرجّحات الخارجية ، وذلك على ما عرفت : من إنّ المرجّح الخارجي أيضا يوجب كون الراجح ممّا لا ريب فيه ، بالنسبة إلى المرجوح الذي فيه الريب النسبي .

( بل قوله ) عليه السلام : ( فانّ الرشد فيما خالفهم ) (3) أيضا شامل لما نحن فيه من المرجّحات الخارجية ، إذ لا شكّ في انّ المرجّح الخارجي يوجب في الخبر الراجح رشدا ، هو مفقود في الخبر المرجوح .

( وكذا التعليل في رواية الأرجائي : لِمَ اُمرتم بالأخذ بخلاف ما عليه

ص: 346


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب22 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 ، المعجم الكبير : ج22 ص147 ح399 ، الغارات : ص135 ، كنز الفوائد : ج1 ص351 ، الذكرى : ص138 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33506 و ص170 ب12 ح33517 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص8 ، ديباجة الكافي .

العامّة » وارد في المرجّح الخارجي ؛ لأن مخالفة العامّة نظير موافقة المشهور .

وأمّا معقد الاجماعات ، فالظاهر أنّ المراد منه : الأقرب إلى الواقع والأرجح مدلولاً ، ولو بقرينة ما يظهر من العلماء قديماً وحديثاً من إناطة الترجيح بمجرّد الأقربيّة إلى الواقع .

-----------------

العامّة ؟ (1) ) إلى آخره ، فانّه ( وارد في المرجّح الخارجي ) لا المرجّح الداخلي ، وذلك ( لأنّ مخالفة العامّة نظير موافقة المشهور ) في كونها مرجّحا خارجيا ، وإنّما تكون مرجّحا خارجيا ، لأنّ المرجّح هنا هو : وجود حكم من العامّة - خارجا - مخالف للخبر ، وليس هو عنوان المخالفة القائم بنفس الخبر ، وإذا دلّ خبر الأرجائي وغيره على الترجيح بمخالفة العامّة وهو مرجّح خارجي ، تعدّينا منه إلى الترجيح بكلّ ما هو مرجّح خارجي .

هذا بالنسبة إلى النصّ ( وأمّا معقد الاجماعات ) أي : معقد المدّعى كونه على وجوب العمل بأقوى الدليلين ( فالظاهر : إنّ المراد منه ) أي : من أقوى الدليلين هو : ( الأقرب إلى الواقع والأرجح مدلولاً ، ولو ) كان التوصّل إلى معرفة هذا المراد من أقوى الدليلين يتمّ ( بقرينة ما يظهر من العلماء قديما وحديثا : من إناطة الترجيح بمجرّد الأقربية إلى الواقع ) ومعلوم : انّ أقوى الدليلين أقرب إلى الواقع سواء حصلت القوّة من المرجّح الداخلي أم من المرجّح الخارجي ، فانّ العلماء قد فهموا من الأدلّة هذا الملاك ، وجعلوه مناطا للترجيح ، وفهمهم حيث انّهم من العرف الذين اُلقي إليهم الكلام ، يكون دليلاً على ما ذكرناه من كفاية الترجيح بالمرجّحات الخارجية غير المنصوصة أيضا .

ص: 347


1- - علل الشرائع : ص531 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص116 ب9 ح33357 .

كاستدلالهم على الترجيحات بمجرّد الأقربيّة إلى الواقع ، مثل ما سيجيء من كلماتهم في الترجيح بالقياس ، ومثل الاستدلال على الترجيح بموافقة الأصل بأنّ الظنّ في الخبر الموافق له أقوى ، وعلى الترجيح بمخالفة الأصل بأنّ الغالب تعرّض الشارع لبيان ما يحتاج إلى البيان .

-----------------

ثمّ انّ المصنّف أخذ يبيّن تلك القرينة الظاهرة من العلماء بقوله : ( كاستدلالهم على الترجيحات بمجرّد الأقربية إلى الواقع ، مثل ما سيجيء ) ان شاء اللّه تعالى ( من كلماتهم في الترجيح بالقياس ) فانّ بعض العلماء جعل القياس من المرجّحات أيضا ، مستدلاً له : بأنّه يوجب قوّة في الخبر الموافق للقياس بما لا يوجد مثله في الخبر الآخر المعارض له .

( ومثل : الاستدلال على الترجيح بموافقة الأصل ) حيث انّ الخبرين المتعارضين إذا وافق أحدهما الأصل ، جعل بعض العلماء ذلك الأصل الموافق ، المسمّى بالمقرّر مرجّحا للخبر الذي وافق الأصل ، مستدلاً لذلك : ( بأنّ الظنّ ) النوعي ( في الخبر الموافق له ) أي : الموافق للأصل ( أقوى ) من الظنّ النوعي في الخبر غير الموافق للأصل .

( و ) مثل الاستدلال من بعض العلماء ( على الترجيح بمخالفة الأصل ) مستدلاً على ذلك ( بأنّ الغالب تعرّض الشارع لبيان ما يحتاج إلى البيان ) والذي يحتاج إلى البيان هنا هو المخالف للأصل المسمّى بالناقل ، لا الموافق للأصل المسمّى بالمقرّر ، فإذا تعارض خبران أحدهما يدلّ على إباحة شيء ، والآخر على حرمته ، قدّم هؤلاء الفقهاء الحرمة على الاباحة ، لأنّ الحرمة تأسيس ، بينما الحلّ تأكيد ، ممّا ظاهره انّ في الترجيح بالأصل قولين : قول بأنّ الأصل يوجب أن يكون نفس

ص: 348

واستدلال المحقّق على ترجيح أحد المتعارضين بعمل أكثر الطائفة بأنّ الكثرة أمارة الرجحان والعمل بالراجح واجب ، وغير ذلك ممّا يجده المتتبّع في كلماتهم ، مع أنّه يمكن دعوى حكم العقل بوجوب العمل بالأقرب إلى الواقع في ما كان حجّيّتهما من حيث الطريقيّة ، فتأمّل .

-----------------

الخبر الموافق له راجحا ، وقول بأنّ الأصل يوجب أن يكون طرفه الآخر المخالف له راجحا .

( و ) مثل ( إستدلال المحقّق على ترجيح أحد المتعارضين بعمل أكثر الطائفة ) أي : الشهرة العملية ، مستدلاً لذلك ( بأنّ الكثرة أمارة الرجحان ) لأنّه يوجب الظنّ النوعي ( والعمل بالراجح واجب ) على ما عرفت ذلك من الأدلّة .

( وغير ذلك ممّا يجده المتتبّع في كلماتهم ) ممّا يدلّ على انّ المرجّحات الخارجية غير المنصوصة أيضا توجب تقديم الراجح على غيره .

هذا ( مع انّه يمكن ) مضافا إلى ما ذكر من النصّ ومعاقد الاجماع ( دعوى حكم العقل بوجوب العمل بالأقرب إلى الواقع فيما كان حجّيتهما ) أي : حجيّة الخبرين المتعارضين ( من حيث الطريقيّة ) لا السببيّة ، فانّه إذا قلنا بحجيّة الأخبار من باب الطريقيّة والكشف عن الواقع ، لا من باب السببيّة والموضوعيّة ، أمكن دعوى إستقلال العقل بوجوب أخذ أقرب الطريقين إلى الواقع ، إضافة إلى ما مرّ من التمسّك بالنصّ ومعاقد الاجماع ، بل ربّما يؤيّد ذلك دلالة الآيات عليه أيضا ، كقوله سبحانه : « أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أمّن لا يَهدي إلاّ أن يُهدى » (1) ؟ ممّا يدلّ على انّ اللازم اتّباع الأحقّ .

( فتأمّل ) فانّ حصر اخبار العلاج ، المزايا التي يصحّ الترجيح بها في اُمور

ص: 349


1- - سورة يونس : الآية 35 .

بقي في المقام أمران :

أحدهما :

إنّ الأمارة التي قام الدليل على المنع عنها بالخصوص ، كالقياس ، هل هي من المرجّحات أم لا ؟ ظاهر المعظم العدم ، كما يظهر من طريقتهم في كتبهم الاستدلاليّه في الفقه ، وحكي عن المحقّق في المعارج عن بعض القول بكون القياس مرجّحاً ، قال : « ذهب ذاهب إلى أنّ الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقاً لما تضمنه أحدهما ، كان ذلك

-----------------

خاصّة ، ثمّ الأمر بعدها بالتخيير ، يدلّ على انّه لا مرجّح غير هذه المرجّحات المنصوصة ، فمع عدمها يكون الأصل هو التخيير ، ومعه فلا وجه لترجيح خبر على خبر بمرجّح غير منصوص .

( بقى في المقام ) أي : مقام المرجّحات الخارجية ( أمران ) كالتالي :

( أحدهما : إنّ الأمارة التي قام الدليل على المنع عنها بالخصوص - كالقياس - هل هي من المرجّحات أم لا ؟) فإذا كان هناك خبران متساويان من جميع الحيثيّات ، إلاّ انّ أحدهما يوافق القياس ، والآخر يخالف القياس ، فهل نقول بلزوم الأخذ بموافق القياس أم لا ، بل اللازم القول بالتخيير بينهما ؟ .

( ظاهر المعظم : العدم ) فانّ القياس لا يكون مرجّحا ( كما يظهر من طريقتهم في كتبهم الاستدلالية في الفقه ) حيث انّا لم نجد في الفقهاء من الشيخ الطوسي إلى صاحب الجواهر أحدا يرجّح بعض الأخبار على بعضها بسبب القياس .

هذا ( و ) لكن ( حكي عن المحقّق في المعارج عن بعض : القول بكون القياس مرجّحا ) لخبر على خبر آخر ، فانّ المحقّق ( قال : ذهب ذاهب إلى انّ الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمّنه أحدهما ، كان ذلك ) أي :

ص: 350

وجهاً يقتضي ترجيح ذلك الخبر .

ويمكن أن يحتجّ لذلك بأنّ الحقّ في أحد الخبرين .

فلا يمكن العمل بهما ولا طرحهما ، فتعيّن العمل باحدهما ، وإذا كان التقدير تقدير التعارض ، فلابدّ في العمل بأحدهما من مرجّح ، والقياس يصلح أن يكون مرجّحاً لحصول الظنّ به ، فتعيّن العمل بما طابقه .

لايقال : أجمعنا على أن القياس مطروح في الشريعة .

لأنّا نقول : بمعنى أنّه ليس بدليل ،

-----------------

توافق القياس مع الخبر ( وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر ) الموافق للقياس على الخبر الذي لا يوافق القياس .

( ويمكن أن يحتجّ لذلك : بأنّ الحقّ في أحد الخبرين ) إذ من المعلوم : انّ الحقّ واحد غير متعدّد وان كان الباطل كثيرا متعدّدا ، ومعه ( فلا يمكن العمل بهما ) أي : بالخبرين معا لتعارضهما ( ولا طرحهما ) معا ، لأنّ دليل الحجيّة يشمل أحدهما ( فتعيّن العمل بأحدهما ، وإذا كان التقدير : تقدير التعارض ) لفرض انّ الخبرين متعارضان ( فلابدّ في العمل بأحدهما من مرجّح ) داخلي أو خارجي ( والقياس يصلح ان يكون مرجّحا لحصول الظنّ به ) ظنّا نوعيا ( فتعيّن العمل بما طابقه ) أي : طابق القياس من الخبرين ، لأنّ الظنّ النوعي فيه أقوى من الظنّ النوعي في الخبر المرجوح الذي لا يوافق القياس .

( لا يقال : أجمعنا على أنّ القياس مطروح في الشريعة ) فكيف تجعلون مع ذلك القياس مرجّحا ؟ .

( لأنّا نقول ) : انّ طرح القياس والردع عنه في الشريعة إنّما هو ( بمعنى : انّه ليس بدليل ) مستقل ، كالكتاب والسنّة والاجماع والعقل ، كما يجعله العامّة دليلاً

ص: 351

لابمعنى أنّه لايكون مرجّحاً لأحد الخبرين ، وهذا لأنّ فائدة كونه مرجّحاً ، كونه رافعاً للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض ، فيكون العمل به لابذلك القياس ، وفيه نظر » ، انتهى .

ومال إلى ذلك بعض سادة مشايخنا المعاصرين .

-----------------

مستقلاً ( لا بمعنى : انّه لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين ) على الآخر .

( و ) عليه : فانّ ( هذا ) الذي جوّزناه من الترجيح بالقياس إنّما هو ( لأنّ فائدة كونه ) أي : القياس ( مرجّحا ، كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح ) المعارض للخبر المطابق للقياس بمعنى : كون القياس رافعا للمانع لا انّه مقتضٍ للحكم ، ومعه ( فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض ، فيكون العمل به ) أي : بالخبر السليم نتيجةً ، وذلك مشمول لأدلّة حجيّة الخبر ( لا بذلك القياس ) حتّى يكون من إدخال القياس في الشريعة .

( وفيه نظر (1) ) لما سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى : من انّ هذا نوع من إدخال القياس في الشريعة ، وذلك لأنّ الشارع قال بعد تساوي الخبرين من جميع الجهات : « إذن : فتخيّر » (2) بينما أنتم تريدون ترجيح خبر على خبر بسبب القياس ( انتهى ) كلام المعارج .

( ومال إلى ذلك ) أي : إلى كلام المعارج ( بعض سادة مشايخنا المعاصرين ) ويقصد من بعض السادة : السيّد محمّد المجاهد صاحب المناهل والمفاتيح ، كما ويقصد بمشايخه المعاصرين : شريف العلماء ، فانّ السيّد المجاهد الذي

ص: 352


1- - معارج الاصول : ص186 .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

والحق خلافه ؛ لأنّ رفع الخبر المرجوح بالقياس عمل به حقيقة ، كرفع العمل بالخبر السليم عن المعارض ، والرجوع معه إلى الاُصول ، وأيّ فرق بين رفع القياس لوجوب العمل بالخبر السليم عن المعارض وجعله

-----------------

هو استاذ استاذه مال إلى كلام المعارج ، لكن المصنّف حيث لم يرتض ذلك قال : ( والحق خلافه ) فانّه لا يكون القياس مرجّحا .

وإنّما لا يكون القياس مرجّحا ( لأنّ رفع الخبر المرجوح بالقياس ) أي : إسقاط ذلك الخبر المرجوح بسبب القياس الموافق للراجح هو ( عمل به ) أي : عمل بالقياس ( حقيقة ) لأنّ القياس حينئذ يقلب التخيير بين الخبرين إلى تعيين أحد الخبرين ، فيكون حينئذ ( كرفع ) القياس ( العمل بالخبر السليم عن المعارض ، والرجوع معه ) أي : مع وجود ذلك الخبر الذي لا معارض له ( إلى الاُصول ) العمليّة لفرض سقوط الخبر بمخالفة القياس ، وكما انّ طرح الخبر الذي لامعارض له بسبب مخالفته للقياس يكون طرحا للخبر بلا سبب شرعي ، فكذلك طرح الخبر المخالف للقياس في مورد تعارض الخبرين يكون طرحا للخبر بلا سبب شرعي .

إن قلت : هناك فرق بين طرح الخبر المخالف للقياس في مورد انفراد الخبر وعدم التعارض ، وبين طرح الخبر المخالف للقياس في مورد تعارض الخبرين .

قلت : ( وأيّ فرق بين رفع القياس لوجوب العمل ) وجوبا تعيينيا ( بالخبر السليم عن المعارض ) إذا كان ذلك الخبر مخالفا للقياس ( وجعله ) أي : جعل

ص: 353

كالمعدوم حتى يرجع إلى الأصل وبين رفعه لجواز العمل بالخبر للتكافؤ لخبر آخر وجعله كالمعدوم حتى يتعيّن العمل بالخبر الآخر .

ثمّ إنّ الممنوع هو الاعتناء بالقياس مطلقاً ، ولذا استقرّت طريقة أصحابنا على هجره في باب الترجيح ، ولم نجد منهم موضعاً يرجّحونه به ، ولولا ذلك لوجب تدوين شروط القياس في الاُصول

-----------------

الخبر المخالف للقياس ( كالمعدوم حتّى ) كأن لم يكن خبر رأسا ، وإذا لم يكن في مورد خبر ، يلزم أن ( يرجع إلى الأصل ) فانّه لا فرق بينه ( وبين رفعه ) أي : رفع القياس ( لجواز العمل بالخبر ) المخالف للقياس جوازا تخييريّا ( للتكافؤ لخبر آخر ) موافق للقياس ( وجعله ) أي : جعل ذلك الخبر المخالف للقياس ( كالمعدوم حتّى يتعيّن العمل بالخبر الآخر ) الموافق للقياس ، فانّه لافرق بينهما من حيث انّهما معا إدخال للقياس في الدين .

والحاصل : انّ القياس ، كما لا يسقط الخبر المنفرد الذي لا معارض له ، فكذلك لا يسقط الخبر الذي له معارض .

( ثمّ ) انّه لو سلّمنا انّ الترجيح بسبب القياس ليس عملاً بالقياس ، بل هو عمل بالخبر الراجح ، إلاّ ( انّ الممنوع ) في الشريعة بحسب الأدلّة ، ليس هو خصوص العمل بالقياس ، بل ( هو الاعتناء بالقياس مطلقا ) سواء جُعل مستندا ، أو مرجّحا ، أو موهنا .

( ولذا ) أي : لأجل ما قلناه : من انّ القياس ممنوع في الشريعة مطلقا ( استقرّت طريقة أصحابنا على هجره في باب الترجيح ) كما ذكرناه سابقا ( ولم نجد منهم موضعا يرجّحونه ) أي : يرجّحون الخبر ( به ) أي : بالقياس ( ولولا ذلك ) الهجر المطلق ( لوجب تدوين شروط القياس في الاُصول ) كما التزموا

ص: 354

ليرجّح به في الفروع .

الثاني :

اشارة

في مرتبة هذا المرجّح بالنسبة إلى المرجّحات السابقة .

فنقول أمّا الرجحان من حيث الدلالة ، فقد عرفت غير مرّة تقدّمهُ على جميع المرجّحات .

نعم ، لو بلغ المرجّح الخارجي إلى حيث يوهن الأرجح دلالة .

فهو يسقطه عن الحجّيّة ويخرج الفرض عن تعارض الدليلين .

-----------------

بتدوين شروط سائر المرجّحات ( ليرجّح به ) أي : بالقياس ( في الفروع ) كما يرجّحون فيه بسائر المرجّحات ، وذلك على غرار ما فعله العامّة بالنسبة إلى القياس .

( الثاني : في مرتبة هذا المرجّح ) الخارجي ( بالنسبة إلى المرجّحات السابقة ) من المرجّح الدلالي ، والمرجّح الصدوري ، والمرجّح من جهة الصدور ( فنقول : أمّا الرجحان من حيث الدلالة ) كالجمع بين العامّ والخاص ، والمطلق والمقيّد ، والظاهر والأظهر ، أو الظاهر والنصّ ( فقد عرفت غير مرّة تقدّمه على جميع المرجّحات ) السندية وجهة الصدور وغيرهما .

( نعم ، لو بلغ المرجّح الخارجي إلى حيث يوهن الأرجح دلالة ) كما إذا كان هناك عام وخاص ، أو مطلق ومقيّد ، فالخاص الذي هو أرجح دلالة يخصّص العامّ ، وكذلك المقيّد يقيّد المطلق ، لكن لو كان المشهور قد عملوا بالعام والمطلق من غير إعتناء بالخاص والمقيّد ، ممّا يرى الفقيه انّ عملهم موهن لهذا الخاص والمقيّد ( فهو ) أي : هذا المرجّح الخارجي حينئذ ( يسقطه ) أي : يسقط الأرجح دلالة ( عن الحجيّة ويخرج الفرض عن تعارض الدليلين ) .

وإنّما يسقط هذا المرجّح الخارجي الأرجح دلالة كالخاص والمقيّد

ص: 355

ومن هنا قد يقدّم العامّ المشهور والمعتضد بالاُمور الخارجيّة الاُخر على الخاصّ .

وأمّا الترجيح من حيث السند ، فظاهرُ مقبولة ابن حنظلة تقديمه على المرجّح الخارجي ، لكنّ الظاهر أنّ الأمر بالعكس ؛

-----------------

عن الحجيّة لأنّ الخاص والمقيّد الذي لم يعمل بهما المشهور لا يكون معارضا للعامّ والمطلق الذي عمل بهما المشهور ، فالعام والمطلق حجّة والخاص والمقيّد ليس بحجّة .

( ومن هنا ) أي : من انّ المرجّح الخارجي ربّما يكون موهنا للأرجح دلالة ومسقطا له عن الحجيّة ( قد يقدّم العام المشهور والمعتضد بالاُمور الخارجية الاُخر على الخاص ) ولذا أخذ المشهور بعموم : « فانكحوهنّ باذن أهلهنّ » (1) وطرحوا الخاص الذي يدلّ على جواز التمتّع بأمة المرأة من دون إذن سيّدتها .

( وأمّا ) مرتبة المرجّح الخارجي الذي نحن فيه مع ( الترجيح من حيث السند ) الذي هو مرجّح صدوري داخلي ، وذلك كما لو كان سند أحدهما أرجح من سند الآخر ، ولكن كان المرجوح سندا أوفق للشهرة ( فظاهر مقبولة ابن حنظلة (2) تقديمه على المرجّح الخارجي ) أي : تقديم الأرجح صدورا على الأوفق للشهرة ، حيث انّ المقبولة قدّمت الترجيح بصفات الراوي التي هي من المرجّحات الداخلية ، على الترجيح بالشهرة التي هي من المرجّحات الخارجية .

( لكن الظاهر ) من القواعد ( انّ الأمر بالعكس ) أي : تقديم المرجّح

ص: 356


1- - سورة النساء : الآية 25 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

لأن رجحان السند إنّما اعتبر لتحصيل الأقرب إلى الواقع ، فإنّ الأعدل اقرب إلى الصدق من غيره .

بمعنى أنّه لو فرض العلم بكذب أحد الخبرين كان المظنون صدّق الأعدل وكذّب العادل ، فإذا فُرض كون خبر العادل مظنون المطابقة للواقع وخبر الأعدل مظنون المخالفة ، فلا وجه لترجيحه بالأعدليّة ، وكذا الكلام في الترجيح بمخالفة العامّة ،

-----------------

الخارجي على المرجّح السندي ، وذلك ( لأنّ رجحان السند إنّما اعتبر لتحصيل الأقرب إلى الواقع ) ممّا يظهر منه انّ ملاك الترجيح هو : الأقربية إلى الواقع ، ومعه فكلّما وجد هذا الملاك في أحد المتعارضين رُجّح به .

وعليه : فإذا كان الملاك هو الأقرب إلى الصدق والواقع ( فانّ الأعدل أقرب إلى الصدق من غيره ) أي : من غير الأعدل وهو : العادل هنا لكن لا فعلاً ، بل شأنا ( بمعنى : انّه لو فرض العلم بكذب أحد الخبرين كان المظنون ) ظنّا نوعيا ( صدّق الأعدل وكذّب العادل ) وعلى هذا الملاك ( فإذا فرض كون خبر العادل مظنون المطابقة للواقع ) ظنّا نوعيا - فعلاً - لوجود المرجّح الخارجي كالشهرة ( وخبر الأعدل مظنون المخالفة ) للواقع ( فلا وجه لترجيحه بالأعدلية ) بل يؤخذ بالأشهر العادل لأنّه مظنون فعلاً ، ويترك النادر الأعدل لأنّه مظنون شأنا ، والفعلي أقرب للواقع من الشأني .

( وكذا الكلام في الترجيح بمخالفة العامّة ) الذي هو ترجيح بجهة الصدور فانّ الترجيح به كالترجيح الصدوري إنّما اعتبر لتحصيل الأقرب إلى الواقع قربا شأنيا لا فعليّا ، فإذا فرض وجود الظنّ النوعي الفعلي على انّ الخبر الموافق للعامّة مطابق للواقع بسبب المرجّح الخارجي ، كان المظنون بالفعل أقرب إلى الواقع

ص: 357

بناءا على أنّ الوجه فيه هو نفي احتمال التقيّة .

وأمّا القسم الثاني ، وهو ما كان مستقلاً بالاعتبار ، ولو خُلّي المورد عن الخبرين ، فقد أشرنا إلى أنّها على قسمين :

الأوّل : ما يكون معاضداً لمضمون أحد الخبرين .

والثاني : مالا يكون كذلك .

-----------------

من المظنون شأنا ، ومعه فلا وجه لترجيح الخبر المخالف للعامّة بسبب المخالفة لهم لأنّه مظنون المخالفة للواقع .

وعليه : فكما يقدّم المرجّح الخارجي على المرجّح الصدوري ، فكذلك يقدّم المرجّح الخارجي على المرجّح باعتبار جهة الصدور ، وذلك ( بناءا على انّ الوجه فيه ) أي : في الترجيح بمخالفة العامّة ( هو نفي إحتمال التقيّة ) وامّا بناءا على انّ الوجه فيه هو كون الخبر المخالف أقرب إلى الواقع ، فهو أيضا من المرجّحات الخارجية حيث تتساوى مرتبتهما ، وحينئذ يكون ترجيح أحدهما منوطا بنظر الفقيه ، فهو الذي يرى تقديم أحدهما على الآخر ، كما هو الحكم في كلّ ما دار بين فردين من صنف من أصناف المرجّحات ، وذلك على ما ألمعنا إليه فيما سبق .

( وأمّا القسم الثاني ) : من المرجّح الخارجي ( وهو : ما كان مستقلاً بالاعتبار ، ولو خلّي المورد عن الخبرين ) أي : بأن يكون هو بنفسه حجّة وان لم يكن هناك خبر أصلاً ( فقد أشرنا إلى انّها على قسمين ) أيضا كالتالي :

( الأوّل : ما يكون معاضدا لمضمون أحد الخبرين ) فيفيد الظنّ النوعي بكون الخبر المعتضد مضمونه بذلك المرجّح الخارجي هو أقرب إلى الواقع .

( والثاني : ما لا يكون كذلك ) أي : بأن لا يكون المرجّح معاضدا لمضمون

ص: 358

فمن الأوّل :

الكتاب والسنة : والترجيح بموافقتهما ممّا تواتر به الأخبار ، واستدلّ في المعارج على ذلك بوجهين :

أحدهما : إنّ الكتاب دليل مستقل ، فيكون دليلاً على صدق مضمون الخبر .

ثانيهما : إنّ الخبر المنافي لايعمل به لو انفرد عن المعارض ، فما ظنّك به معه » ، انتهى .

-----------------

أحد الخبرين ، بل يكون مؤيّدا له تأييدا تعبّديا ، مثل : تأييد الأصل لأحد الخبرين ، فانّه إذا كان الأصل موافقا لأحد الخبرين ، فليس معناه : انّ مضمون ذلك الخبر أقرب إلى الواقع ، بل لو قلنا بأنّ الأصل يؤيّده كان معناه : انّه يؤيّده تأييدا تعبّديا .

( فمن الأوّل : الكتاب والسنّة ) الثابتة ، سواء كانت سنّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ، أو سنّة الأئمّة من أهل بيته عليهم السلام الثابتة ( والترجيح بموافقتهما ممّا تواتر به الأخبار ، و ) قد ذكرنا سابقا جملة من تلك الأخبار المرجّحة بموافقتهما ، علما بأنّه قد ( استدلّ في المعارج على ذلك ) أي : على الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة ( بوجهين ) كما يلي :

( أحدهما : انّ الكتاب دليل مستقل ) في نفسه ( فيكون دليلاً على صدق مضمون الخبر ) الذي يوافق الكتاب .

( ثانيهما : انّ الخبر المنافي ) للكتاب أو السنّة ( لا يعمل به لو إنفرد عن المعارض ، فما ظنّك به ) أي : بالخبر المنافي للكتاب أو السنّة ( معه ) (1) أي : مع وجود المعارض ؟ ( انتهى ) كلام المعارج .

ص: 359


1- - معارج الاصول : ص145 .

وغرضه الاستدلال على طرح الخبر المنافي ، سواء قلنا بحجّيته مع معارضته بظاهر الكتاب ، أم قلنا بعدم حجّيّته ، فلا يتوهّم التنافي بين دليليه .

ثمّ إنّ توضيح الأمر في هذا المقام يحتاج إلى تفصيل أقسام ظاهر الكتاب أو السنة المطابق لأحد المتعارضين .

-----------------

لا يقال : انّ الدليل الأوّل من دليليّ المعارج يقتضي أن يكون الخبر المخالف للكتاب أو السنّة حجّة في نفسه لكن قد عارضه الخبر الموافق ، فيكون الكتاب أو السنّة حينئذ مرجّحا للموافق على المخالف ، بينما دليله الثاني يقتضي أن يكون الخبر المخالف ليس بحجّة أصلاً ، وذلك يوجب تنافيا بين دليليه .

لأنّه يقال : ( وغرضه ) أي : غرض المعارج من الدليلين انّه على تقديرين بمعنى : ( الاستدلال على طرح الخبر المنافي ) للكتاب أو السنّة ( سواء قلنا بحجيّته مع معارضته بظاهر الكتاب ) أو السنّة ، كما هو مقتضى دليله الأوّل ( أم قلنا بعدم حجيّته ) لمعارضته الكتاب أو السنّة ، كما هو مقتضى دليله الثاني ( فلا يتوهّم التنافي بين دليليه ) .

ولكن لا يخفى : إنّ الخبر المنافي للكتاب إذا لم يحتمل تأويل فيه لم يكن حجّة أصلاً ، لأنّه يكون حينئذ من الزخرف والباطل وممّا يجب ضربه على الحائط .

( ثمّ انّ توضيح الأمر في هذا المقام ) أي : مقام منافاة الخبر للكتاب أو السنّة ( يحتاج إلى تفصيل أقسام ظاهر الكتاب أو السنّة المطابق لأحد المتعارضين ) حتّى يعرف انّ أيّ الأخبار منافٍ لظاهرهما ، وأيّ الأخبار ليس منافٍ لظاهرهما ؟

ص: 360

فنقول : إنّ ظاهر الكتاب إذا لوحظ مع الخبر المخالف فلا يخلو عن صور ثلاث :

الاُولى : أن يكون على وجه لو خُلّي الخبر المخالف له عن معارضة المطابق له كان مقدّماً عليه ، لكونه نصّاً بالنسبة إليه ، لكونه أخصّ منه أو غير ذلك ، بناءا على تخصيص الكتاب

-----------------

( فنقول : إنّ ظاهر الكتاب إذا لوحظ مع الخبر المخالف ) لهذا الظاهر ( فلا يخلو عن صور ثلاث ) كالتالي :

الصورة ( الاُولى : أن يكون ) ظاهر الكتاب ( على وجه لو خلّي الخبر المخالف له ) أي : لظاهر الكتاب ( عن معارضة ) الخبر ( المطابق له ) أي : لظاهر الكتاب ، وذلك بأن إنفرد الخبر المخالف لظاهر الكتاب ( كان ) ذلك الخبر المخالف لظاهر الكتاب ( مقدّما عليه ) أي : على ظاهر الكتاب ، وذلك كما لو كان ظاهر الكتاب عامّا أو مطلقا ، والخبر خاصّا أو مقيّدا فانّ هذه الصورة من المخالفة ليست من مورد التباين الكلّي حتّى يُطرح الخبر ، بل من مورد الجمع المقبول فيجمع بينهما .

وإنّما يكون الخبر المخالف لظاهر الكتاب لو إنفرد مقدّما على ظاهر الكتاب ( لكونه ) أي : الخبر المخالف لظاهر الكتاب ( نصّا ) أو أظهر ( بالنسبة إليه ) أي : إلى ظاهر الكتاب ، وإذا كان كذلك قدّم الخبر المخالف لظاهر الكتاب ( لكونه ) أي : الخبر المخالف لظاهر الكتاب ( أخصّ منه ) أي : من ظاهر الكتاب فيقدّم عليه .

( أو غير ذلك ) من موارد الجمع المقبول عرفا ، مثل كون الخبر مقيّدا بالنسبة إلى مطلق الكتاب ، وذلك ( بناءا على ) جواز ( تخصيص الكتاب

ص: 361

بخبر الواحد .

فالمانع عن التخصيص حينئذٍ ، ابتلاء الخاصّ بمعارضة مثله ، كما إذا تعارض أكرم زيداً العالم ، ولا تكرم زيداً العالم ، وكان في الكتاب عموم يدلّ على وجوب اكرام العلماء .

ومقتضى القاعدة في هذا المقام أن يلاحظ أولاً جميع ما يمكن أن يرجّح به الخبر

-----------------

بخبر الواحد ) حيث قد ذكروا في بحث العام والخاص وغيره من مباحث الاُصول جواز تخصيص عموم الكتاب وتقييد مطلقه بالخبر الواحد .

وعليه : ( فالمانع عن التخصيص حينئذ ) أي : حين كان ظاهر الكتاب عاما أو مطلقا ، والخبر خاصّا أو مقيّدا - مثلاً - ليس هو من جهة تخصيص الكتاب ، بل هو من جهة ( إبتلاء الخاص ) المخالف لظاهر الكتاب ( بمعارضة مثله ) وهو الموافق للكتاب ، وذلك بأن كان هناك خبران متعارضان ، أحدهما يوافق الكتاب والآخر يخالف الكتاب ، لكن هذا المخالف للكتاب من قبيل المخصّص أو المقيّد ، لا من قبيل المباين الكلّي ، وذلك ( كما إذا تعارض : أكرم زيدا العالم ، ولا تكرم زيدا العالم ) فهنا خبران متعارضان ( وكان في الكتاب عموم يدلّ على وجوب اكرام العلماء ) فان لا تكرم زيدا العالم ، مخالف للكتاب ، لكن مخالفة الخاص مع العام ، فيكون مخصّصا للكتاب لو كان منفردا وبلا معارض - فرضا - .

هذا ، لو فرضنا الخبر المخالف لظاهر الكتاب منفردا وبلا معارض ( و ) ما مع وجود المعارض له ، فانّ ( مقتضى القاعدة في هذا المقام ) أي : مقام تعارض خبرين : أحدهما مطابق لظاهر الكتاب ، والآخر مخالف لظاهر الكتاب هو : ( ان يلاحظ أوّلاً جميع ما يمكن أن يرجّح به الخبر ) المطابق للكتاب على المخالف

ص: 362

المخالف للكتاب على المطابق له ، فإن وجد شيء منها رجّح المخالف به وخصّص به الكتاب ؛ لأن المفروض انحصار المانع عن تخصيصه في ابتلائه بمزاحمة الخبر المطابق للكتاب ؛ لأنه مع الكتاب من قبيل النصّ والظاهر .

-----------------

له أو ( المخالف للكتاب على المطابق له ) فنقارن بين الخبرين ونرى انّه لولا الكتاب أيّهما كان يلزم تقديمه على الآخر من جهة المرجّحات السندية أو جهة الصدور أو ما أشبه ذلك فنقدّمه .

وعليه : ( فان وجد شيء منها ) أي : من تلك المرجّحات في الخبر المخالف للكتاب كما لو كان راوي الخبر المخالف أعدل - مثلاً - وراوي الخبر الموافق عادلاً ( رجّح المخالف ) الذي كان راويه أعدل على ما في المثال ( به ) أي : بذلك المرجّح ، وحينئذ يطرح الخبر الموافق للكتاب فكأنّه ليس في المقام إلاّ خبر مخالف للكتاب ( وخصّص به الكتاب ) .

وإنّما يقدّم الخبر المخالف للكتاب على الخبر الموافق له ويخصّص به الكتاب ( لأنّ المفروض إنحصار المانع عن تخصيصه ) أي : عن تخصيص الكتاب بهذا الخبر المخالف للكتاب ( في ابتلائه بمزاحمة الخبر المطابق للكتاب ) فإذا ذهب هذا المزاحم بدليل كون الخبر المخالف للكتاب أرجح من الخبر المطابق للكتاب ، لم يكن مانع عن تخصيص الكتاب بهذا الخبر المخالف ، وذلك ( لأنّه ) أي : الخبر المخالف للكتاب كان ( مع الكتاب من قبيل النصّ والظاهر ) فالكتاب ظاهر والخبر نصّ ، لفرض كون الخبر أخصّ مطلقا من عموم الكتاب أو مقيّدا بالنسبة إلى مطلق الكتاب .

ص: 363

وقد عرفت أنّ العمل بالنصّ ليس من باب الترجيح ، بل من باب العمل بالدليل ، والقرينة في مقابلة أصالة الحقيقة حتى لو قلنا بكونها من باب الظهور النوعي ، فإذا عولجت المزاحمة بالترجيح صار المخالف كالسليم عن المعارض ، فيصرف ظاهر الكتاب بقرينة الخبر

-----------------

هذا ( وقد عرفت ) فيما سبق ( انّ العمل بالنصّ ليس من باب الترجيح ) لأحد المتعارضين على الآخر بالمرجّحات المذكورة في الروايات ا لعلاجية ( بل من باب العمل بالدليل ، والقرينة في مقابلة أصالة الحقيقة ) فأصالة الحقيقة تقتضي بقاء ظاهر الكتاب على ظاهره ، لكنّ الخبر الخاصّ يكون قرينة على رفع اليد عن هذا الظاهر المستدلّ عليه بأصالة الحقيقة ، فنرفع اليد عن أصالة الحقيقة ( حتّى لو قلنا بكونها ) أي : أصالة الحقيقة ( من باب الظهور النوعي ) لا من باب التعبّد وأنّه وظيفة الشاكّ في مقام العمل تعبّدا .

والحاصل : انّ النصّ الذي هو أقوى دلالة من الظاهر ، يكون قرينة صارفة عن الظاهر المستدلّ عليه بأصالة الحقيقة ، سواء كان إعتبار أصالة الحقيقة عند العقلاء من باب التعبّد العقلائي ، أو من باب الظنّ الظهوري ، فإنّها على كلّ تقدير متّبعة ما لم توجد قرينة على الخلاف ، فإذا وجدت قرينة على الخلاف صرفت الظاهر عن ظهوره ، والنصّ الموجود هنا قرينة على خلاف الظاهر الموجود في الكتاب، فنرفع اليد عن الظاهر بسبب النصّ، لأنّه من الجمع الدلالي المقبول عرفا.

وكيف كان : فإنّ المانع لمّا كان منحصرا في الخبر المزاحم لهذا الخبر ( فإذا عولجت المزاحمة بالترجيح ) للخبر المخالف الراجح ، على الخبر الموافق المرجوح ، وسقط الخبر الموافق لمرجوحيّته ( صار المخالف كالسليم عن المعارض ) وإذا صار سليما عن المعارض ( فيصرف ظاهر الكتاب بقرينة الخبر

ص: 364

السليم ، ولو لم يكن هناك مرجّح .

فإن حكمنا في الخبرين المتكافئين بالتخيير إمّا لأنه الأصل ، في المتعارضين ، وإمّا لورود الأخبار بالتخيير كان الّلازم التخيير ، وأنّ له أن يأخذ بالمطابق وأن يأخذ بالمخالف ، فيخصّص به عموم الكتاب ، لما سيجيء من أنّ موافقة أحد الخبرين للأصل

-----------------

السليم ) حيث نخصّص به حينئذ عموم الكتاب ونقيّد به إطلاقه - مثلاً - .

هذا فيما لو كان لأحد الخبرين مرجّح على الآخر ( ولو لم يكن هناك مرجّح ) لأحد الخبرين على الآخر لتكافئهما من كلّ الجهات ، فالحكم فيهما يتّبع حينئذ أحد القولين في المتكافئين :

الأوّل : ( فان حكمنا في الخبرين المتكافئين بالتخيير ) بينهما ، وذلك ( إمّا لأنّه ) أي : التخيير هو ( الأصل ) الأوّلي ( في المتعارضين ) كما يقول بذلك من يقول بسبيّة الخبرين لا بطريقيّتهما ( وإمّا ) لأنّ التخيير ليس هو الأصل الأوّلي ، لأنّ الأصل الأوّلي على الطريقية هو التساقط ، فيكون التخيير هو الأصل الثانوي ( لورود الأخبار بالتخيير ) وحينئذ ( كان اللازم ) في تعارض الخبرين الذين أحدهما مطابق للكتاب والآخر مخالف له ( التخيير ) بينهما ( و ) ذلك بمعنى : ( انّ له أن يأخذ بالمطابق ) للكتاب ويطرح الخبر المخالف ( وان يأخذ بالمخالف ) ويطرح الخبر الموافق .

وعليه : فإذا طرح الخبر الموافق ، وأخذ بالخبر المخالف ( فيخصّص به عموم الكتاب ، لما سيجيء ) إن شاء اللّه تعالى ( من انّ موافقة أحد الخبرين ) المتكافئين ( للأصل ) أي : لأصالة الحقيقة الجارية في ظاهر الكتاب

ص: 365

لايوجب رفع التخيير ، وإن قلنا بالتساقط أو التوقف كان المرجع هو ظاهر الكتاب ، فتلخّص أنّ الترجيح بظاهر الكتاب لايتحقّق بمقتضى القاعدة في شيء من فروض هذه الصورة .

الثانية : أن يكون على وجه لو خُلّي الخبر

-----------------

( لا يوجب رفع التخيير ) الذي هو مقتضى : « إذن : فتخيّر » (1) الموجود بين الخبرين فإنّ الخبر الموافق للكتاب وإن كان موافقا لأصالة الحقيقة ، إلاّ إنّ اعتضاده بأصالة الحقيقة لا يرفع التخيير حتّى يتعيّن الأخذ بالموافق ، وذلك لأنّ التخيير - كالترجيح - يجعل مؤدّى الخبر المختار حكما واقعيا يترتّب عليه الآثار ، فإذا إختار الخبر المخالف كان من آثاره تخصيص ظاهر الكتاب .

الثاني : ( وان قلنا ) في الخبرين المتكافئين : ( بالتساقط ) للخبرين حتّى كأنّه لا خبر رأسا ( أو التوقّف ) فيهما وقد مرّ الفرق بين التساقط والتوقّف سابقا ( كان المرجع هو ظاهر الكتاب ) لأنّه مع التساقط لا خبر ، ومع التوقّف لا مرجع في الحكم ، فيكون الكتاب هو المرجع .

إذن : ( فتلخّص أنّ الترجيح بظاهر الكتاب ) وذلك بأن يكون ظاهر الكتاب المستدلّ عليه بأصالة الحقيقيّة مرجّحا للخبر الموافق ، حتّى يلزم الأخذ به ، ويطرح المرجوح وهو الخبر المخالف ( لا يتحقّق بمقتضى القاعدة ) أي : قاعدة تقديم الأرجح دلالة على المرجوح الدلالي ( في شيء من فروض هذه الصورة ) أي : الصورة الاُولى وذلك على ما عرفت مفصلاً .

الصورة ( الثانية : أن يكون ) ظاهر الكتاب ( على وجه لو خلّي الخبر

ص: 366


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

المخالف له عن معارضه لكان مطروحاً ، كما إذا تباين مضمونهما كلّيّة ، كما لو كان ظاهر الكتاب في المثال المتقدّم وجوب إكرام زيد العالم ، والّلازم في هذه الصورة خروج الخبر المخالف عن الحجّيّة رأساً ، لتواتر الأخبار ببطلان الخبر المخالف للكتاب ، والمتيقّن من المخالفة هذا الفرد .

-----------------

المخالف له ) أي : لظاهر الكتاب ( عن معارضه ) أي : عن الخبر الموافق للكتاب ( لكان ) الخبر المخالف للكتاب معه ( مطروحا ، كما إذا تباين مضمونهما ) أي : تباين مضمون الكتاب مع مضمون الخبر ( كليّة ) بأن كانا من المتباينين كليّا ، وذلك ( كما لو كان ظاهر الكتاب في المثال المتقدّم : وجوب اكرام زيد العالم ) فانّ في المثال المتقدّم كان خبران : أحدهما يقول : أكرم زيدا العالم ، والآخر يقول : لا تكرم زيدا العالم ، فإذا كان الكتاب يقول : أكرم زيدا العالم ، كان أكرم زيدا العالم في الكتاب ، مباينا للا تكرم زيدا العالم في الخبر تباينا كليّا .

( واللازم في هذه الصورة ) أي : الصورة الثانية ( خروج الخبر المخالف عن الحجيّة رأسا ) بمعنى : سقوطه عن الحجيّة فلا حجيّة فيه ، بل يكون حاله حال القياس ونحوه ، وذلك ( لتواتر الأخبار ببطلان الخبر المخالف للكتاب ، و ) أنّه زخرف (1) وباطل (2) ، ولم يقله الإمام (3) ، وأنّه يجب أن يضرب به عرض الحائط (4) ، وما أشبه ذلك ، علما بأنّ ( المتيقّن من المخالفة ) الواردة في هذه الروايات ، الموجبة لطرح الخبر (هذا الفرد) الذي هو المخالف على وجه التباين .

ص: 367


1- - الكافي اصول ج1 ص69 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص111 ب9 ح33347 .
2- - تفسير العياشي : ج1 ص20 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص123 ب9 ح33381 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص69 ح5 ، وسائل الشيعة : ج27 ص111 ب9 ح33348 تفسير العياشي : ج1 ص69 ، قرب الاسناد : ص44 .
4- - التبيان في تفسير القرآن : ج1 ص5 ، مجمع البيان : ج1 ص13 .

فيخرج الفرض عن تعارض الخبرين ، فلا مورد للترجيح في هذه الصورة أيضاً ؛ لأنّ المراد به تقديم أحد الخبرين لمزيّة فيه ، لا لما يسقط الآخر عن الحجّيّة ، وهذه الصورة عديمة المورد فيما بأيدينا من الأخبار المتعارضة .

-----------------

وعليه : ( فيخرج ) هذا ( الفرض ) وهو فرض تباين الخبر للكتاب تباينا كليّا ( عن تعارض الخبرين ) لما عرفت من انّ المخالف للكتاب مخالفة تباينيّا ليس بحجّة أصلاً .

إذن : ( فلا مورد للترجيح ) أي : لترجيح أحد الخبرين ، الذين أحدهما مخالف والآخر موافق للكتاب ( في هذه الصورة أيضا ) كالصورة السابقة ( لأنّ المراد به ) أي : بالترجيح هو : ( تقديم أحد الخبرين لمزيّة فيه ) أي : في ذلك الخبر ، مفقود في الخبر الآخر ( لا ) تقديم أحد الخبرين الموافق ( لما ) أي : لظاهر الكتاب الذي يكون سببا لأن ( يسقط الآخر ) المخالف للكتاب ( عن الحجيّة ) رأسا ، فالكتاب إذن مسقط للمخالف ، لا أنّه مرجّح للموافق بعد كون المخالف حجّة أيضا .

( وهذه الصورة عديمة المورد فيما بأيدينا من الأخبار المتعارضة ) فانّه ليس في أخبارنا المدوّنة في كتب الحديث أو الفقه اليوم خبر يخالف الكتاب مخالفة تباين ، وان كان في زمن الأوّلين أخبار مباينة لنصّ القرآن ، حيث أنّ خلفاء الجور وعلماء البلاط كانوا يضعون تلك الأخبار لتوطيد سلطانهم ، أو كان يضعها المخالفون للإسلام والمناوؤن له وينسبونها إلى الرسول أو الأئمّة عليهم السلام لترويجها عند المسلمين ، كما وضعوا في اُصول الدين أخبارا من هذا القبيل مثل : أنّ اللّه سبحانه وتعالى يُرى ، مع أنّه مخالف خلافا تباينيّا كليّا لقوله سبحانه :

ص: 368

الثالثة : أن يكون على وجه لو خلّي المخالف له عن المعارض لخالف الكتاب ، لكن لا على وجه التباين الكلّي ، بل يمكن الجمع بينهما بصرف أحدهما عن ظاهره .

وحينئذ : فإن قلنا بسقوط الخبر المخالف بهذه المخالفة عن الحجّيّة

-----------------

« لا تدركه الأبصار » (1) أو ما أشبه ذلك .

( الثالثة : أن يكون ) ظاهر الكتاب ( على وجه لو خلّي المخالف له ) أي : الخبر المخالف للكتاب ( عن المعارض لخالف الكتاب ، لكن لا على وجه التباين الكلّي ، بل ) على وجه ( يمكن الجمع بينهما ) أي : بين ظاهر الكتاب والخبر المخالف له ( بصرف أحدهما عن ظاهره ) وذلك كما في العموم من وجه ، فإذا ورد في الكتاب - مثلاً - أكرم العلماء ، وورد في الخبر أيضا خبران في أحد الخبرين : لا تكرم الفسّاق ، وفي الخبر الآخر : أكرم العلماء ، حيث يكون بين الخبرين عموم من وجه ، كما يكون أحد الخبرين موافقا للكتاب وهو : أكرم العلماء ، والخبر الآخر وهو : لا تكرم الفسّاق مخالفا للكتاب مخالفة العموم من وجه أيضا .

( وحينئذ ) أي : حين كانت النسبة بين ظاهر الكتاب وبين الخبر المخالف له هو العموم من وجه ، كان الحكم فيهما تابعا لأحد القولين التاليين :

الأوّل : ( فإن قلنا بسقوط الخبر المخالف بهذه المخالفة ) النسبيّة في مادّة الاجتماع ( عن الحجيّة ) أيضا ، كما قلنا بسقوط الخبر المخالف لظاهر الكتاب مخالفة كليّة ، وذلك لأنّ أخبار العرض على الكتاب الآمرة بإسقاط المخالف

ص: 369


1- - سورة الانعام : الآية 103 .

كان حكمها حكم الصورة الثانية ، وإلاّ كان الكتاب مع الخبر المطابق بمنزلة دليل واحد عارض الخبر المخالف والترجيح حينئذٍ بالتعاضد ، وقطعيّة سند الكتاب ، فالترجيح بموافقة الكتاب منحصر في هذه الصورة الأخيرة ، لكنّ هذا الترجيح مقدّم على الترجيح بالسند ؛ لأن أعدليّة الراوي في الخبر المخالف لاتقاوم قطعيّة سند الكتاب الموافق للخبر الآخر ،

-----------------

للكتاب تشمل الصورتين معا ( كان حكمها ) أي : حكم هذه الصورة الثالثة نفس ( حكم الصورة الثانية ) فيطرح الخبر المخالف لظاهر الكتاب ، وإن كان أقوى دلالة من معارضه ، وذلك لأنّ المرجوح ليس بحجّة إطلاقا ، فيبقى ظاهر الكتاب مع الخبر الموافق له فقط .

الثاني : ( وإلاّ ) أي : بأن لم نقل بسقوط الخبر المخالف للكتاب بهذا النحو من المخالفة ( كان الكتاب ) الذي يقول : أكرم العلماء - مثلاً - ( مع الخبر المطابق ) للكتاب الذي يقول : أكرم العلماء ، أيضا ( بمنزلة دليل واحد عارض الخبر المخالف ) للكتاب الذي يقول : لا تكرم الفسّاق في المثال ( والترجيح حينئذ ) للخبر الموافق للكتاب إنّما هو ( بالتعاضد ، وقطعيّة سند الكتاب ) .

إذن : ( فالترجيح بموافقة الكتاب منحصر في هذه الصورة الأخيرة ) وهي صورة التعارض بالعموم من وجه في مادّة الاجتماع .

( لكن هذا الترجيح ) بموافقة الكتاب الذي ذكرناه في الصورة الثالثة ( مقدّم على الترجيح بالسند ) فلا يلحظ الأرجح من الخبرين سندا ( لأنّ أعدليّة الراوي في الخبر المخالف ) للكتاب مخالفة بالعموم من وجه مثل : لا تكرم الفسّاق ، في المثال ( لا تقاوم قطعيّة سند الكتاب ) الذي يقول : أكرم العلماء ( الموافق ) هذا الظاهر من الكتاب ( للخبر الآخر ) الذي يقول : أكرم العلماء .

ص: 370

وعلى الترجيح بمخالفة العامّة ؛ لأن التقيّة غير متصورة في الكتاب الموافق للخبر الموافق للعامّة ، وعلى المرجّحات الخارجيّة ؛ لأن الأمارة المستقلّة المطابقة للخبر غير المعتبرة لاتقاوم الكتاب المقطوع الاعتبار .

-----------------

وإنّما لا تقاوم أعدليّة الراوي في الخبر المخالف ، قطعيّة السند في الكتاب لوضوح : انّ الأعدليّة إنّما توجب الظنّ الشأني بالصدق بمعنى : أنّه إذا دار الأمر بين الأعدل والعادل يكون الأعدل مقدّما ، لأنّه أقرب إلى الصدق من العادل ، بينما يكون الكتاب فعليّ الصدق ، ومعه فلا يبقى مجال للترجيح بما هو شأني الصدق مثل : الأعدلية والأوثقية والأصدقية إذا كانت موجودة في الخبر المخالف للكتاب .

( و ) كذلك يكون الترجيح بموافقة الكتاب هنا مقدّما ( على الترجيح بمخالفة العامّة ) كما لو كان الخبر المخالف للكتاب مخالفا للعامّة أيضا ، فانّه يرجّح بموافقة الكتاب الخبر الموافق ، ويطرح الخبر المخالف وإن كان المخالف أبعد من التقيّة ، وذلك ( لأنّ التقيّة غير متصوّرة في الكتاب ) فالكتاب الذي يقول - فرضا - : أكرم العلماء ، يرجّح به الخبر الموافق الذي يقول : أكرم العلماء أيضا ، فيؤخذ به وإن كان موافقا للعامّة ، ويترك الخبر المرجوح الذي يقول : لا تكرم الفسّاق وان كان مخالفا للعامّة ، فانّ الكتاب إذن ( الموافق للخبر الموافق للعامّة ) هو الذي يلزم أن يؤخذ به ، والمخالف للكتاب وان كان مخالفا للعامّة هو الذي يلزم تركه وطرحه .

( و ) كذلك يكون الترجيح بموافقة الكتاب هنا مقدّما أيضا ( على المرجّحات الخارجية ) كالشهرة - مثلاً - وذلك ( لأنّ الأمارة المستقلّة المطابقة للخبر ) كالشهرة إذا طابقت أحد الخبرين المتعارضين ، فإنّ هذه الأمارة ( غير المعتبرة ) شرعا وهي الشهرة - مثلاً - ( لا تقاوم الكتاب المقطوع الاعتبار ) فيرجّح

ص: 371

ولو فرضنا الأمارة المذكورة مسقطة لدلالة الخبر والكتاب المخالفين لها عن الحجّيّة ، لأجل القول بتقييد اعتبار الظواهر بصورة عدم قيام الظنّ الشخصي على خلافها ، خرج المورد عن فرض التعارض .

-----------------

بموافقة الكتاب وتكون النتيجة : لزوم الأخذ بالخبر الموافق للكتاب ، وطرح الخبر المخالف للكتاب وان كان ذلك الخبر المخالف للكتاب موافقا لأمارة غير معتبرة كالشهرة - مثلاً - .

هذا ( و ) لكن ( لو فرضنا الأمارة المذكورة ) كالشهرة - مثلاً - ( مسقطة لدلالة الخبر والكتاب المخالفَين لها ) أي : المخالفين لتلك الأمارة ( عن الحجيّة ) وذلك كما لو كان الخبر الذي يقول : لا تكرم الفسّاق ، وهو الخبر المخالف لأكرم العلماء ، الذي يقول به الكتاب ، مؤيّدا بالشهرة ، وفرضنا ان الشهرة توهن ظاهري : الكتاب والخبر ، وتسقطهما عن الحجيّة ( لأجل القول بتقييد إعتبار الظواهر بصورة عدم قيام الظنّ الشخصي على خلافها ) أي : خلاف تلك الظواهر ، والمفروض هنا قيام الظنّ الشخصي على خلاف تلك الظواهر بسبب الشهرة المؤيّدة للخبر المخالف ، فيسقط بذلك - كما قال - دلالة الخبر والكتاب المخالفين للشهرة عن الحجيّة ، ويبقى الخبر المعتضد بالشهرة منفردا وبلا معارض ، فيلزم الأخذ به .

إذن : فالشهرة وإن لم تكن بنفسها معتبرة ، إلاّ انّها تفيد الظنّ الفعلي ، والظنّ الفعلي يمنع إنعقاد الظهور لظاهري : الكتاب ، والخبر الموافق للكتاب ، المخالفين لهذه الشهرة ، وذلك لفرض إنّ حجيّة الظواهر ومنها ظاهر الكتاب مقيّدة بعدم الظنّ الفعلي على خلافها ، وإذا فرضنا ذلك ( خرج المورد عن فرض التعارض ) فيلزم الأخذ بالخبر المخالف المعتضد بالشهرة لإنتفاء المعارض .

ص: 372

ولعلّ ما ذكرنا هو الداعي للشيخ قدس سره ، في تقديم الترجيح بهذا المرجّح على جميع ما سواه من المرجّحات ، وذكر الترجيح بها بعد فقد هذا المرجّح .

إذا عرفت ما ذكرنا علمت توجّه الاشكال فيما دلّ من الأخبار العلاجيّة على تقديم

-----------------

والحاصل : انّه بناءا على انّ الأمارة الخارجية كالشهرة - مثلاً - تسقط دلالة الخبر والكتاب المخالفين لها عن الحجيّة فرضا ، فإنّه بناءا على ذلك لو فرضنا قيام الشهرة على عدم اكرام الفسّاق ، ففي مورد الاجتماع وهو : العالم الفاسق ، يلزم أن لا نكرمه ، لأنّ ظاهر الكتاب وان كان وجوب اكرامه ، إلاّ انّ اللازم أن نقول : بأنّ المراد من أكرم العلماء في الكتاب هو : العالم العادل لأنّا فرضنا انّ الشهرة لا تدع مجالاً لإنعقاد الظهور لظاهري : الكتاب والخبر الموافق له ، وإذا لم ينعقد لهما ظهور ، صار الخبر المخالف لهما وكأنّه لا معارض له رأسا ، فيلزم العمل به وتخصيص الكتاب بسببه .

( ولعلّ ما ذكرنا ) من انّ الترجيح بموافقة الكتاب في هذه الصور مقدّم رتبة على جميع المرجّحات الداخلية - غير الدلالية - وكذلك الخارجية غير المعتبرة كالشهرة - مثلاً - كان ( هو الداعي للشيخ قدس سره ، في تقديم الترجيح بهذا المرجّح ) الذي هو موافقة الكتاب ( على جميع ما سواه من المرجّحات ، و ) كان أيضا هو الداعي له من ( ذكر الترجيح بها ) أي : بسائر المرجّحات غير الدلالية من داخلية وخارجية ( بعد فقد هذا المرجّح ) الذي هو موافقة الكتاب .

( إذا عرفت ما ذكرنا ) آنفا : من تقدّم الترجيح بموافقة الكتاب على كلّ مرجّح ( علمت توجّه الاشكال فيما دلّ من الأخبار العلاجية على تقديم

ص: 373

بعض المرجّحات على موافقة الكتاب ، كمقبولة ابن حنظلة .

بل وفي غيرها ممّا أُطلق فيها الترجيح بموافقة الكتاب والسنة ، من حيث إنّ الصورة الثالثة قليلة الوجود في الأخبار المتعارضة ، والصورة الثانية أقلّ وجوداً ، بل معدومة ،

-----------------

بعض المرجّحات على موافقة الكتاب ) وتأخير هذا المرجّح عن بعض تلك المرجّحات ، وذلك ( كمقبولة ابن حنظلة ) (1) التي قيّدت الترجيح بموافقة الكتاب بإنتفاء الترجيح بصفات الراوي ، وشهرة الرواية ، فإذا وجد شيء منها قدّم على هذا المرجّح ، مع انّك عرفت تقديم هذا عليها .

( بل ) يرد إشكال آخر في المقبولة ( وفي غيرها ) أي : غير المقبولة ( ممّا ) أي: من سائر أخبار العلاج التي ( أُطلق فيها الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة ) فانّ تلك الأخبار وان أطلقت الترجيح بموافقة الكتاب ولم تقيّده كالمقبولة بصفات الراوي وشهرة الرواية ، إلاّ أنّها كالمقبولة تشترك في كون الترجيح بموافقة الكتاب منحصر في الصورة الأخيرة من الصور الثلاث فقط ، وهي نادرة الوجود ، ومن البعيد أن تكون هذه الأخبار الكثيرة ناظرة إليها ، ولذلك قال المصنّف بورود هذا الاشكال عليها ( من حيث انّ الصورة الثالثة قليلة الوجود في الأخبار المتعارضة) .

لا يقال : أنّ أخبار الترجيح بموافقة الكتاب ليست منحصرة بالصورة الثالثة ، بل هي شاملة للصورة الثانية أيضا ، ومعه فلا يشكل عليها بقلّة الوجود .

لأنّه يقال : ( والصورة الثانية أقلّ وجودا ، بل معدومة ) الوجود ، إذ قد عرفت : أنّه ليس لنا في الكتب الحديثيّة والفقهيّة أخبار تعارض الكتاب معارضة

ص: 374


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

فلا يتوهّم حمل تلك الأخبار عليها وإن لم تكن من باب ترجيح أحد المتعارضين لسقوط المخالف عن الحجّيّة مع قطع النظر عن التعارض .

-----------------

التباين ( فلا يتوهّم حمل تلك الأخبار ) الكثيرة الدالّة على الترجيح بموافقة الكتاب ( عليها ) أي : على الصورة الثانية حتّى ( وان لم تكن ) الصورة الثانية ( من باب ترجيح أحد المتعارضين ) على الآخر ، فانّ تلك الأخبار إنّما لا تُحمل على هذه الصورة ( لسقوط المخالف ) المباين للكتاب ( عن الحجيّة مع قطع النظر عن التعارض ) فانّ المخالف يسقط بمجرّد عرضه على الكتاب وان إنفرد ولم يكن له معارض .

والحاصل : إنّ الخبر المخالف للكتاب ساقط عن الحجيّة ، وان لم يكن هناك تعارض بين هذا الخبر المخالف للكتاب وبين خبر آخر موافق له ، ومعه فلا تكون أخبار العلاج ناظرة إلى شيء من الصورتين : لا إلى الصورة الثالثة لأنّها نادرة الوجود ، ولا إلى الصورة الثانية لأنّها معدومة الوجود .

أقول : لكنّك قد عرفت فيما سبق : أنّ خلفاء الجور ، وعلماء البلاط ، وأعداء الاسلام في زمن الأئمّة عليهم السلام كانوا قد دسّوا في كتب الأخبار والفقه أخبارا موضوعة ، مخالفة للكتاب والسنّة ، غير انّها اُخرجت بعد ذلك ، ولذا لا نجد من تلك الأخبار المخالفة في الأخبار عينا ولا أثرا في الحال الحاضر ، ومن راجع التاريخ في أخبار القصّاصين وجد أبشع من ذلك ، ويؤيّده ما وضعه علماء رجال العامّة من الكتب الخاصّة بالوضّاعين والكذّابين ، فإنّ القصّاصين كانوا على الأغلب جهّالاً وليس لهم هدف من قصصهم سوى إمرار معاشهم ، ولذلك كانوا يقولون ما يوجب رضا العامّة من غير فرق بين ما يخالف الكتاب أو ما يوافقه .

ص: 375

ويمكن التزام دخول الصورة الاُولى في الأخبار التي أُطلق فيها الترجيح بموافقة الكتاب ،

-----------------

هذا ( ويمكن ) دفع إشكال قلّة الوجود ، بل عدم الوجود ، المشترك الورود على المقبولة (1) وغيرها ، بسبب ( التزام دخول الصورة الاُولى ) في المطلقات التي أطلقت الترجيح بموافقة الكتاب ، لا في المقيّدات التي قيّدت ترجيح موافقة الكتاب بالرتبة الثالثة كما في المقبولة ، علما بأنّ الصورة الاُولى من صور ملاحظة ظاهر الكتاب مع الخبر المخالف للكتاب من الخبرين المتعارضين ، هي ما أشار إليه المصنّف بقوله آنفا : « الاُولى : أن يكون ظاهر الكتاب على وجه لو خلّي الخبر المخالف للكتاب عن معارضة المطابق للكتاب ، كان المخالف مقدّما عليه لكونه نصّا بالنسبة إلى الكتاب » وذلك كما لو كان الكتاب عاما ، والخبر خاصّا ، فيقدّم هذا الخبر الخاص ان لم يكن له معارض على ظاهر الكتاب ، للجمع الدلالي بين العامّ والخاص .

لكن حيث أنّ هذا الخبر الخاص المخالف لظاهر الكتاب ، معارض بخبر آخر موافق لظاهر الكتاب ، فلا يمكن تخصيص الكتاب به ، كما لا يمكن ترجيح الخبر الآخر الموافق لظاهر الكتاب بموافقة الكتاب أيضا ، لأنّ المقبولة جعلت الترجيح بموافقة الكتاب في الرتبة الثالثة ، فيلزم حينئذ إعمال التراجيح بينهما ، فان كان مرجّح لأحدهما فهو ، وإلاّ فالتوقّف ، أو التخيير بينهما ، ومعه لم يكن مجال للترجيح بموافقة الكتاب ، ولكن لو التزمنا بدخول هذه الصورة ( في الأخبار التي أُطلق فيها الترجيح بموافقة الكتاب ) مقابل المقبولة التي قيّدت

ص: 376


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

فلا يقلّ موردها ، وما ذكر من ملاحظة الترجيح بين الخبرين ، المخصّص أحدهما لظاهر الكتاب ، ممنوع .

بل نقول : ظاهر تلك الأخبار

-----------------

الترجيح بموافقة الكتاب بالرتبة الثالثة ، وقدّمنا الترجيح بموافقة الكتاب في هذه الصورة على سائر المرجّحات ( فلا يقلّ موردها ) حينئذ ، ومعه فيندفع الاشكال .

وإنّما لا يقلّ حينئذ مورد أخبار العلاج الآمرة بالترجيح بموافقة الكتاب والسنّة ، لأنّه سيكون الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة شاملاً للصورة الاُولى أيضا ، فإذا كان هناك خبران - مثلاً - أحدهما يقول : أكرم زيدا العالم ، والآخر يقول : لا تكرم زيدا العالم ، وفرض انّه كان في الكتاب عام يقول : أكرم العلماء ، اُسقط الخبر الذي يقول : لا تكرم زيدا العالم ، من أجل انّ عموم الكتاب موافق للخبر الذي يقول : أكرم زيدا العالم ، وبذلك يكثر مورد الترجيح بموافقة الكتاب ، ويندفع به الاشكال .

( و ) على هذا : فانّ ( ما ذكر : من ملاحظة الترجيح ) بسائر المرجّحات أوّلاً دون الترجيح بموافقة الكتاب ( بين الخبرين ، المخصّص أحدهما لظاهر الكتاب ، ممنوع ) وإنّما يلزم الترجيح بموافقة الكتاب أوّلاً يعني : انّه بمجرّد ان كان هناك خبران أحدهما موافق للكتاب والآخر مخالف للكتاب ، يطرح الخبر المخالف للكتاب حتّى وان كان هذا الخبر المخالف للكتاب أرجح من الخبر الموافق للكتاب .

( بل نقول ) في دفع إشكال قلّة الوجود ، بل عدم الوجود ، المشترك الورود على المقبولة وغيرها : بأنّ ( ظاهر تلك الأخبار ) العلاجية التي تأمر بالترجيح

ص: 377

- ولو بقرينة لزوم قلّة المورد ، بل عدمه ، وبقرينة بعض الروايات الدالّة على ردّ بعض ما ورد في الجبر والتفويض بمخالفة الكتاب ، مع كونه ظاهراً في نفيهما - أنّ الخبر المعتضد بظاهر الكتاب لايعارضه خبر آخر ، وإن كان لو انفرد رفع اليد به عن ظاهر الكتاب .

-----------------

بموافقة الكتاب ( ولو بقرينة لزوم قلّة المورد ، بل عدمه ) أي : عدم المورد ان لم نقل بشمولها للصورة الاُولى أيضا هو : تقدّم الخبر المعتضد بظاهر الكتاب على غيره .

( و ) كذا يكون ذلك هو الظاهر من تلك الأخبار ( بقرينة بعض الروايات الدالّة على ردّ بعض ما ورد ) من النصوص الصريحة ( في الجبر والتفويض ) ردّا وطرحا لها ( بمخالفة الكتاب ، مع كونه ) أي : الكتاب ( ظاهرا في نفيهما ) أي : في نفي الجبر والتفويض ، وليس نصّا في نفيهما ، بينما تلك الروايات نصّا في إثباتهما .

وعليه : فإنّ الظاهر من أخبار الترجيح بموافقة الكتاب ولو بمعونة هذه القرائن المذكورة ينتج : (انّ الخبر المعتضد بظاهر الكتاب لا يعارضه خبر آخر ، وان كان) ذلك الخبر الآخر أقوى دلالة من الكتاب ، بحيث ( لو إنفرد ) ذلك الخبر الآخر ولم يكن له هذا المعارض ( رُفِع اليد به ) أي : بسببه ( عن ظاهر الكتاب ) لفرض انّ ذلك الخبر الآخر نصّ والكتاب ظاهر .

والحاصل : انّه لو كان الخبر نصّا في شيء ، والكتاب ظاهر في ذلك الشيء ، لزم رفع اليد عن ظاهر الكتاب لذلك النصّ ، بينما لو كان خبران نصّان متعارضان ، وكان الكتاب موافقا لأحدهما ومخالفا للآخر ، أسقطنا ذلك النصّ المخالف للكتاب وأخذنا بالموافق له ، وذلك لأمرين :

ص: 378

وأمّا الاشكال المختصّ بالمقبولة : من حيث تقديم بعض المرجّحات على موافقة الكتاب ،

-----------------

الأوّل : انّه لو إنحصر مورد الأخبار العلاجية ، الآمرة بالترجيح بموافقة الكتاب في الصورة الثالثة فقط ، فهي نادرة الوجود ، ولو أضفنا إليها الصورة الثانية فغير مفيد أيضا لأنّها معدومة الوجود ، فلابدّ من شمول تلك الأخبار للصورة الاُولى أيضا ممّا ينتج : إسقاط النصّ بسبب ظاهر الكتاب فيما إذا كان لذلك النصّ معارض كما هو فيما نحن فيه من تعارض الخبرين .

الثاني : انّه لمّا سئل من الإمام عليه السلام عن أخبار دالّة بالنصّ على انّ الانسان مجبور في أعماله ، سواء صلّى وصام ، أو انّه شرب الخمر - والعياذ باللّه - أو دالّة بالنصّ على انّ الانسان مفوّض إليه الأمر تفويضا تامّا بلا مدخليّة للّه سبحانه وتعالى في ذلك إطلاقا ؟ أجاب عليه السلام : بأنّ أخبار الجبر والتفويض مردودة لأنّها مخالفة لكتاب اللّه عزّوجلّ ، ومن المعلوم : انّ هذه الأخبار كما عرفت نصّ في الجبر والتفويض ، بينما الكتاب ظاهر في عدم الجبر والتفويض ، فذلك الردّ من الإمام عليه السلام يدلّ على أنّ النصّ الخبري ساقط بظهور الكتاب .

وعليه : فانّ هاتين القرينتين ، وهما : قرينة قلّة المورد أو عدمه ، وقرينة روايات الجبر أو التفويض ، تدلاّن على إسقاط النصّ الخبري بسبب الكتاب الظاهر في خلاف ذلك الخبر .

هذا تمام الكلام في دفع الاشكال المشترك الورود على المقبولة وغيرها من أخبار العلاج ، التي تقول بلزوم الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة .

( وامّا الاشكال المختص بالمقبولة : من حيث تقديم بعض المرجّحات على موافقة الكتاب ) الذي أورده المصنّف آنفا بقوله : « إذا عرفت ما ذكرنا ،

ص: 379

فيندفع بما أشرنا إليه سابقاً من أنّ الترجيح بصفات الراوي فيها من حيث كونه حاكماً ، وأوّل المرجّحات الخبريّة فيه هي شهرة إحدى الروايتين وشذوذ الاُخرى ، ولا بُعد في تقديمه على موافقة الكتاب .

ثمّ إنّ حكم الدليل المستقل المعاضد لأحد الخبرين حكمه حكم الكتاب والسنة في الصورة الاُولى ،

-----------------

علمت توجّه الاشكال فيما دلّ من الأخبار العلاجية على تقديم بعض المرجّحات على موافقة الكتاب كمقبولة ابن حنظلة » ( فيندفع بما أشرنا إليه سابقا : من انّ الترجيح بصفات الراوي فيها ) أي : في المقبولة ( من حيث كونه ) أي : كون الراوي ( حاكما ، و ) ليس من حيث كونه راويا .

وعليه : فانّه إذا كان الترجيح بصفات الراوي في المقبولة من حيث كون الراوي حاكما وقاضيا ، كان ( أوّل المرجّحات الخبرية فيه ) أي : في خبر المقبولة الذي تعرّضت له بالنسبة إلى الحاكم ( هي شهرة إحدى الروايتين وشذوذ الاُخرى ) المعارضة لها ( ولا بُعد في تقديمه ) أي : تقديم موافق الشهرة ( على موافقة الكتاب ) للتعليل الوارد في المقبولة نفسها :« بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه » (1) .

( ثمّ إنّ حكم الدليل المستقل ) غير الكتاب والسنّة كالإجماع - مثلاً - ( المعاضد لأحد الخبرين ) المتعارضين ( حكمه حكم الكتاب والسنّة في الصورة الاُولى ) من الصور الثلاث المذكورة في ملاحظة ظاهر الكتاب مع الخبر المخالف ، وهي هنا عبارة عن : كون الخبر المخالف لمعقد الاجماع - مثلاً -

ص: 380


1- - الكافي اصول :ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

وأمّا في الصورتين الأخيرتين فالخبر المخالف له يعارض مجموع الخبر الآخر والدليل المطابق له ، والترجيح هنا بالتعاضد لا غير .

وأمّا القسم الثاني :

وهو مالا يكون معاضداً لأحد الخبرين ،

-----------------

لو خلّي عن معارضة الخبر المطابق للإجماع ، لقدّم على الاجماع ، لكون الخبر المخالف نصّا بالنسبة إلى ظاهر معقد الاجماع ومعلوم : انّ النصّ مقدّم على الظاهر ، والأظهر أيضا مقدّم على الظاهر ، وذلك لما عرفت : من لزوم الترجيح الدلالي وتقديمه على التراجيح العلاجية .

( وأمّا في الصورتين الأخيرتين ) أي : الثانية والثالثة ، وهما : صورة التباين ، وصورة العموم من وجه بالنسبة إلى مادّة الاجتماع ( فالخبر المخالف له ) أي : للدليل المستقل كالإجماع - مثلاً - ( يعارض مجموع الخبر الآخر والدليل ) المستقل ( المطابق له ) أي : للخبر الآخر معا ( والترجيح هنا بالتعاضد لا غير ) أي : إنّ الاجماع - مثلاً - يعضد الخبر الموافق له ، لا انّه يسقط الخبر المخالف له ، وذلك لأنّ الدليل الذي دلّ على طرح المخالف إنّما دلّ على طرح الخبر المخالف للكتاب ، والفرض انّ هذا الدليل الخارجي الموافق لأحدهما المخالف للآخر ليس بكتاب حتّى يطرح مخالفه به .

هذا كلّه تمام الكلام في القسم الأوّل من قسمي المرجّحات الخارجية المستقلّة بالإعتبار وهو : ما كان المرجّح معاضدا لمضمون أحد الخبرين المتعارضين .

( وامّا القسم الثاني ) من المرجّحات الخارجية المستقلّة بالإعتبار ( وهو ما لايكون معاضدا لأحد الخبرين ) المتعارضين بمعنى : انّه لا يفيد الظنّ بصحّة مضمون الخبر الموافق له وان كان المرجّح في نفسه معتبرا ، وذلك لأنّ هذا

ص: 381

فهي عدّة اُمور :

منها : الأصل ، بناءا على كون مضمونه حكم اللّه الظاهري ، إذ لو بني على إفادة الظنّ بحكم اللّه الواقعي كان من القسم الأوّل ، ولا فرق في ذلك بين الاُصول الثلاثة ، أعني : أصالة البرائة ، والاحتياط ، والاستصحاب .

-----------------

المرجّح ليس في اُفق الأخبار ( فهي عدّة اُمور ) وقد تعرّض المصنّف لبيان جملة منها في مسائل ثلاث على النحو التالي :

المسألة الاُولى : في موافقة الأصل ، قال المصنّف : ( منها : الأصل ) أي : من تلك الامور المرتبطة بالقسم الثاني من المرحجات الخارجية التي لا تكون معاضدة لاحد الخبرين هو : الأصل العملي ، كما لو كان أحد الخبرين المتعارضين موافقا لأصل البرائة ، أو لأصل الاحتياط ، أو للإستصحاب ، والمعارض الآخر مخالفا لها ، وذلك ( بناءا على كون مضمونه ) أي : مضمون الأصل العملي ( حكم اللّه الظاهري ) بعد أن كان مضمون الأخبار هو حكم اللّه الواقعي .

وإنّما قال : بناءا على كون مضمون الأصل العملي هو حكم اللّه الظاهري ، لا الواقعي ( إذ لو بُني على إفادة ) الأصل العملي ( الظنّ بحكم اللّه الواقعي ) كما ذهب إليه بعض الاُصوليين حسب ما سبق في مباحث الاُصول ( كان من القسم الأوّل ) أي : كان من الأمارات والاُصول اللفظية لا الاُصول العملية التي هي محلّ بحثنا ، يعني : أصبح مثل موافقة الكتاب والسنّة وما أشبههما من المرجّحات الخارجية التي تكون معتبرةً من باب الظنّ النوعي ، لا من باب الأصل العملي .

هذا ( ولا فرق في ذلك ) أي : في كون الترجيح بهذا القسم من المرجّح الخارجي الذي لا يكون معاضدا لأحد الخبرين المتعارضين ( بين الاُصول الثلاثة أعني : أصالة البرائة ، والاحتياط ، والاستصحاب ) وامّا الأصل الرابع وهو :

ص: 382

لكن يشكل الترجيح بها ، من حيث إنّ مورد الاُصول ما إذا فقد الدليل الاجتهادي المطابق أو المخالف ، فلا مورد لها إلاّ بعد فرض تساقط المتعارضين لأجل التكافؤ ، والمفروض أنّ الأخبار المستفيضة دلّت على التخيير مع فقد المرجّح ، فلا مورد للأصل في تعارض الخبرين رأساً ، فلابدّ من التزام عدم الترجيح بها ،

-----------------

التخيير ، فلا يكون موافقته لأحد الخبرين من المرجّحات ، فإذا كان هناك خبران دلّ أحدهما - مثلاً - على وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة ، والآخر على وجوب صلاة الجمعة فيها وقلنا بالتخيير ، لا يكون التخيير مرجّحا لهذا ولا لذاك .

( لكن يُشكل الترجيح بها ) أي : بالاُصول الثلاثة المذكورة ( من حيث انّ مورد الاُصول ) العمليّة هو : ( ما إذا فقد الدليل الاجتهادي المطابق ) للأصل ( أو المخالف ) له ، وذلك على ما عرفت سابقا : من انّ الدليل حاكم على الاُصول العمليّة ، فإذا وجد الدليل سواء مخالفا أو موافقا ( فلا مورد لها ) أي : للاُصول العمليّة ( إلاّ بعد فرض تساقط المتعارضين لأجل التكافؤ ) أي : التساوي بين الخبرين المتعارضين من كلّ جهة ، فانّه بناءا على التساقط عند التكافؤ يكون الأصل حينئذ مرجعا لا مرجّحا .

هذا ( والمفروض ) انّا لا نقبل التساقط ، إذ ( انّ الأخبار المستفيضة دلّت على التخيير مع ) تكافؤ الخبرين و ( فقد المرجّح ) ومعه ( فلا مورد للأصل في تعارض الخبرين رأسا ) أي : مطلقا : لا بنحو المرجعيّة ، ولا بنحو المرجّحية ، امّا انّه لا يكون مرجّحا ، فلأنّ الأصل لم يكن في اُفق الخبرين ، حتّى يكون مرجّحا لأحدهما على الآخر ، وامّا انّه لا يكون مرجعا ، فلأنّا نقول في المتكافئين بالتساقط أو بالتخيير وحينئذ ( فلابدّ من التزام عدم الترجيح بها ) أي :

ص: 383

وأنّ الفقهاء إنّما رجّحوا بأصالة البرائة والاستصحاب في الكتب الاستدلالية ، من حيث بنائهم على حصول الظنّ النوعي بمطابقة الأصل ، وأمّا الاحتياط ،

-----------------

بالاُصول الثلاثة .

( و ) ان قلت : فلماذا نرى الفقهاء يرجّحون بالأصول ويجعلونه في عداد المرجّحات لأحد الخبرين المتعارضين على الآخر ؟ .

قلت : ( انّ الفقهاء إنّما رجّحوا بأصالة البرائة والاستصحاب في الكتب الاستدلاليّة ، من حيث بنائهم على حصول الظنّ النوعي بمطابقة الأصل ) للواقع : فإذا طابق أصل الاستصحاب أحد الخبرين حصل الظنّ النوعي بكونه موافقا للواقع ، من باب : انّه لو ثبت لدام ، وإذا طابق أصل البرائة حصل الظنّ النوعي بكونه موافقا للواقع من باب : انّه لو كان لبان ، فيكون الأصل حينئذ حجّة من باب الظنّ النوعي .

وعليه : فإذا كان الأصل حجّة من باب الظنّ النوعي ، فانّه يكون حينئذ في اُفق الأخبار ، وإذا كان في اُفق الأخبار جاز ان يكون مرجّحا أو مرجعا ، وعلى كون الأصل حجّة من باب الظنّ النوعي بنى الفقهاء الترجيح به ، أو الرجوح إليه عند التكافؤ ، امّا إذا كان حجّة من باب التعبّد ، فلا يكون مرجّحا ولا مرجعا ، لإختلاف اُفق الأصل مع اُفق الأخبار حينئذ .

هذا هو ملخّص الكلام بالنسبة إلى ترجيح الفقهاء بأصالة البرائة والاستصحاب .

( وأمّا الاحتياط ) أي : ترجيح الفقهاء بأصل الاحتياط ، فحيث انّه لا يحصل من الاحتياط الظنّ النوعي بل ولا الظنّ الشخصي بكون الخبر المطابق للأصل

ص: 384

فلم يعلم منهم الاعتماد عليه ، إلاّ في مقام الاستناد لا في مقام الترجيح ، وقد يتوهّم أنّ ما دلّ على ترجيح التخيير مع تكافؤ الخبرين معارض بما دلّ على الاُصول الثلاثة ، فإنّ مورد الاستصحاب عدم اليقين ، بخلاف الحالة السابقة ،

-----------------

هو الموافق للواقع ( فلم يُعلم منهم الاعتماد عليه ، إلاّ في مقام الاستناد ) والمرجعية ( لا في مقام الترجيح ) فانّهم لا يرجّحون بالإحتياط أحد الخبرين على الآخر ، فيما إذا كان أحدهما موافقا للإحتياط والآخر على خلاف الاحتياط ، فإذا كان هناك - مثلاً - خبران : أحدهما يدلّ على حرمة التتن ، والآخر على حلّيته ، فانّهم لا يتمسّكون بالإحتياط ترجيحا لخبر الحرمة على خبر الحليّة ، بل يقولون بالتوقّف والرجوع إلى الاحتياط سواء وافق أحد الخبرين أم لا ؟ .

( وقد يتوهّم انّ ما دلّ على ترجيح التخيير ) من الأخبار العلاجية ( مع تكافؤ الخبرين ) من جميع الحيثيات ( معارض بما دلّ على الاُصول الثلاثة ) أي : انّ الدليل الدالّ على التخيير عند تعارض الخبرين وتكافئهما يقول بالتخيير ، والدليل الدالّ على الاُصول الثلاثة عند الشكّ يقول باجراء الأصل ، فيتعارضان فيما نحن فيه .

وإنّما يتعارضان فيما نحن فيه ، لأنّ الانسان عند تعارض الخبرين وتكافئهما يصبح شاكّا أيضا ، والشاكّ يلزم عليه أن يرجع إلى الحالة السابقة ان كانت ، وإلاّ فإلى البرائة أن كان الشكّ في التكليف ، أو الاحتياط ان كان الشكّ في المكلّف به ، وذلك كما قال : ( فانّ مورد الاستصحاب ) هو الشكّ ، أي : ( عدم اليقين ، بخلاف الحالة السابقة ) فيما ان كانت حالة سابقة ، وإلاّ فالبرائة أو الاحتياط ان كان الشكّ في التكليف أو المكلّف به ولم تكن حالة سابقة .

ص: 385

وهو حاصل مع تكافؤ الخبرين .

ويندفع : بأنّ ما دلّ على التخيير حاكم على الأصل ، فإنّ مؤدّاه جواز العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة ، والالتزام بارتفاعها .

-----------------

ثمّ قال المصنّف : ( وهو ) أي : الشكّ وعدم اليقين بخلاف الحالة السابقة فيما ان كانت حالة سابقة ، وان لم تكن فالشكّ في التكليف ، أو الشكّ في المكلّف به ( حاصل مع تكافؤ الخبرين ) أيضا إذ من جهة التكافؤ يقول الدليل بالتخيير ، ومن جهة الشكّ يقول الدليل باجراء الأصل ، فتتعارض أدلّة التخيير مع أدلّة الاُصول الثلاثة .

( ويندفع ) هذا الاشكال المتوهّم بوجوه ثلاثة كالتالي :

الوجه الأوّل لدفع إشكال التعارض المتوهّم قوله : ( بأنّ ما دلّ على التخيير حاكم على الأصل ) وذلك لأنّ أصل التخيير في المسألة الاُصولية أصل سببي ، والاُصول الثلاثة الاُخرى في المسألة الفرعيّة أصل مسبّبي ، والسببي مقدّم على المسبّبي وحاكم عليه ، إذ بجريان السببي يرتفع الشكّ الذي هو موضوع المسبّبي ، ومعه فلا يبقى شكّ حتّى يجري شيء من الاُصول الاُخرى ، علما بأنّ معنى التخيير ليس هو مجرّد جواز العمل على طبق أحد الخبرين فقط ، بل معناه : تنزيل الخبر الذي وقع عليه التخيير منزلة الخبر السليم عن المعارض ، وكما انّ الخبر السليم عن المعارض دليل إجتهادي يرفع موضوع الاُصول العملية فكذلك المنزّل منزلته .

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف حيث قال : ( فانّ مؤدّاه ) أي : مؤدّى ما دلّ على التخيير هو : ( جواز العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة ، و ) جواز ( الالتزام بارتفاعها ) أي : بارتفاع الحالة السابقة ، وذلك فيما لو إختار الخبر

ص: 386

فكما أنّ ما دلّ على تعيين العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة مع سلامته عن المعارض حاكم على دليل الاستصحاب ، كذلك يكون الدليل الدالّ على جواز العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة المكافيء لمعارضه حاكماً أيضا من غير فرق أصلاً ، مع أنّه لو فرض

-----------------

المخالف للحالة السابقة دون الموافق لها ، فانّه مع إختيار الخبر المخالف للحالة السابقة ، لم يبق مجال للإستصحاب ، لإرتفاع موضوع الاستصحاب الذي هو الشكّ بواسطة أدلّة التخيير ، لأنّه لا يكون هناك شكّ بعد ان أجاز الشارع العمل على خلاف الحالة السابقة .

وعليه : ( فكما انّ ما دلّ على تعيين العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة مع سلامته عن المعارض ) أي : في حالة إنفراد الدليل في موردٍ مّا ، فهذا الدليل ( حاكم على دليل الاستصحاب ) فلا يكون مجال للإستصحاب فيما لو ورد من الشارع في مورد مّا خبر بلا معارض يأمر بالعمل على خلاف الحالة السابقة ، فانّه ( كذلك يكون الدليل الدالّ على جواز العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة المكافيء لمعارضه ) أي : في حالة تعارض الخبرين فانّه يكون ( حاكما أيضا ) على دليل الاستصحاب .

وإنّما يكون هذا الدليل المذكور حاكما على الاستصحاب في الصورتين ، لأنّه لا فرق بين أن يقول الشارع في مورد سالم عن التعارض : اعمل على خلاف الحالة السابقة ، أو يقول في مورد التعارض : أنت مخيّر في أن تعمل على خلاف الحالة السابقة، فانّه في كلا الموردين لا يبقى مجال للإستصحاب ، وذلك (من غير فرق أصلاً ) بينهما .

الوجه الثاني لدفع إشكال التعارض المتوهّم قوله : ( مع انّه لو فرض

ص: 387

التعارض المتوهّم كانت أخبار التخيير اولى بالترجيح وإن كانت النسبة عموماً من وجه ؛ لأنها أقلّ مورداً ، فتعيّن تخصيص أدلّة الاُصول ، مع أنّ التخصيص في أخبار التخيير يوجب إخراج كثير من مواردها ، بل أكثرها ،

-----------------

التعارض المتوهّم ) بين ما دلّ على التخيير وبين ما دلّ على الاُصول الثلاثة ، حيث انّ أحدهما يقول - مثلاً - : خذ بالحالة السابقة ، والآخر يقول : أنت مخيّر في الأخذ وعدم الأخذ ، فانّه على فرض التعارض بينهما ( كانت أخبار التخيير أولى بالترجيح ) من أخبار الاُصول ( وان كانت النسبة ) بينهما ( عموما من وجه ) اذ على العموم من وجه وفي مادّة الاجتماع منه وهو : مورد موافقة أحد الخبرين للأصل ، يتعارض جريان التخيير مع جريان الأصل ، علما بأنّ مادّة الافتراق من جهة الأصل هو : مورد فقد النصّ ، وإجماله والشبهات الموضوعية ، بينما مادّة الافتراق من جهة أخبار التخيير هو : مورد تعارض الخبرين وتكافئهما فقط .

وإنّما كانت أخبار التخيير أولى بالترجيح من أخبار الاُصول على فرض التعارض بينهما ، ولو في مادّة الاجتماع بالنسبة إلى العموم من وجه ( لأنّها ) أي : اخبار التخيير ( أقلّ موردا ) من اخبار الاُصول ، إذ قد عرفت انّ مورد الأصل هو فقد النصّ ، واجماله ، والشبهات الموضوعيّة ، بينما مورد التخيير هو تعارض الخبرين المتكافئين فقط ، وهو أقلّ موردا ، وإذا كان أقلّ موردا ( فتعيّن تخصيص أدلّة الاُصول ) باخبار التخيير .

هذا ( مع انّ التخصيص في أخبار التخيير ) بأدلّة الاُصول ( يوجب اخراج كثير من مواردها ، بل أكثرها ) لوضوح : انّ في أكثر موارد المتكافئين يكون أحدهما مطابقا لأحد الاُصول العملية ، فإذا أردنا تخصيص اخبار التخيير بأدلّة

ص: 388

بخلاف تخصيص أدلّة الاُصول ، مع أنّ بعض أخبار التخيير ورد في مورد جريان الاُصول ، مثل مكاتبة عبد اللّه بن محمد الواردة في فعل ركعتي الفجر في المحمل .

ومكاتبة الحِميري المرويّة في الاحتجاج

-----------------

الاُصول كان تخصيصا للأكثر ( بخلاف ) ما إذا أردنا ( تخصيص أدلّة الاُصول ) باخبار التخيير فهو تخصيص للأقل ، وقد تقرّر في مبحث التخصيص انّه إذا دار الأمر بين تخصيصين أحدهما أكثر ، والآخر أقلّ ، قدّم الأقل .

والحاصل : انّ قلّة المورد من جهة ، ولزوم إخراج الأكثر من جهة اُخرى ، يوجب أرجحية تقديم أخبار التخيير على أدلّة الاُصول ، فإذا دار الأمر بينهما قدّمنا أخبار التخيير على أدلّة الاُصول .

الوجه الثالث لدفع إشكال التعارض المتوهّم قوله : ( مع أنّ بعض أخبار التخيير ورد في مورد جريان الاُصول ) ممّا يدلّ على حكومة أخبار التخيير على أدلّة الاُصول ، وذلك ( مثل : مكاتبة عبداللّه بن محمّد الواردة في فعل ركعتي الفجر في المحمل ) فانّه كتب إلى الإمام موسى بن جعفر عليه السلام يسأله عن إختلاف الأصحاب في رواياتهم عن الإمام الصادق عليه السلام في ركعتي الصبح في السفر حيث روى بعضهم : أن صلّهما في المحمل ، وروى بعضهم : أن لا تصلّهما إلاّ على الأرض ؟ فوقّع عليه السلام : « موسّع عليك بأيّه عملت » (1) فانّ الإمام عليه السلام طرح أصل الاحتياط الذي يقتضي صلاتهما على الأرض ، وقدّم التخيير عليه .

( و ) مثل ( مكاتبة الحِميري المرويّة في الاحتجاج ) الكتاب المعروف

ص: 389


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص122 ب9 ح33377 ، تهذيب الاحكام : ج3 ص228 ب13 ح90و91 ، بحار الانوار : ج2 ص235 ب29 ح16 .

الواردة في التكبير في كلّ انتقال من حال إلى حال من أحوال الصلاة .

وممّا ذكرنا ظهر فساد ما ذكره بعض من عاصرناه في تقديم الموافق للأصل على المخالف ، من أنّ العمل بالموافق موجب للتخصيص فيما دلّ على حجيّة المخالف ، والعمل بالمخالف

-----------------

للشيخ الطبرسي رحمه الله ( الواردة في التكبير في كلّ إنتقال من حال إلى حال من أحوال الصلاة ) فانّه كتب إلى الإمام المنتظر صاحب العصر والزمان عجّل اللّه تعالى فرجه يسأله عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة ، هل يجب عليه أن يكبّر أو يجوز أن يقول بحول اللّه وقوّته أقوم وأقعد ؟ فخرج الجواب : « انّ فيه حديثين : أمّا أحدهما : فانّه إذا إنتقل من حالة إلى اُخرى فعليه التكبير ، وأمّا الآخر : فانّه روي : انّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية فكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك في التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيّهما أخذت من جهة التسليم كان صوابا » (1) فانّ الإمام عليه السلام خيّر بين الأمرين ، مع انّ المورد من موارد جريان أصل الاحتياط .

( وممّا ذكرنا ) في وجه عدم كون شيء من الاُصول العمليّة مرجّحا ، ولا مرجعا في المتكافئين ( ظهر فساد ما ذكره بعض من عاصرناه ) من العلماء ( في تقديم الموافق للأصل على المخالف ، من ) الخبرين المتكافئين حيث ( انّ العمل بالموافق ) أي : بالخبر الموافق للأصل ( موجب للتخصيص فيما دلّ على حجّية المخالف ) للأصل فقط ، فيكون هنا تخصيص واحد .

هذا ( و ) لكن ليس كذلك ( العمل بالمخالف ) للأصل ، فانّ العمل

ص: 390


1- - الاحتجاج : ص483 ، وسائل الشيعة : ج27 ص121 ب9 ح33372 ، الغيبة للطوسي : ص378 .

مستلزم للتخصيص فيما دلّ على حجّيّة الموافق ، وتخصيص الآخر فيما دلّ على حجّيّة الاصول .

وأنّ الخبر الموافق يفيد ظنّاً بالحكم الواقعي ، والعمل بالأصل يفيد الظنّ بالحكم الظاهري ، فيتقوّى به

-----------------

به ( مستلزم للتخصيص فيما دلّ على حجيّة الموافق ، وتخصيص الآخر فيما دلّ على حجيّة الاُصول ) فهنا تخصيصان ، والتخصيص الواحد خير من التخصيصين .

مثلاً : لو عمل بالخبر الذي يقول بحلّيّة التتن وهو الموافق للأصل ، فانّه يخصّص به دليل حجيّة الخبر المخالف للأصل الذي يقول بحرمة التتن فقط ، بينما لو عمل بالخبر الذي يقول بحرمة التتن ، فانّه يخصّص به دليل حجيّة الخبر الذي يقول بحلّية التتن ، ودليل حجيّة الأخبار التي تقول بأصالة الحلّ والبرائة ، ومن المعلوم : انّ قلّة التخصيص أولى ، فيلزم تقديم الموافق للأصل والعمل به .

وإنّما ظهر فساد هذا الوجه الذي ذكره بعض المعاصرين في تقديم الخبر الموافق للأصل لما ذكرناه : من انّ الأصل ليس في اُفق الأخبار ، وإذا لم يكونا في اُفق واحد ، فدليل حجيّة الأصل لا يشمل مورد وجود الخبر حتّى يلزم تخصيصها به ، فيكون هنا تخصيص واحد فقط على كلّ تقدير ، لا تخصيص واحد في قِبال تخصيصين ، حتّى يقدّم التخصّص الواحد على التخصيصين .

كما ظهر أيضا فساد غيره ممّا أشار إليه المصنّف في كلامه السابق عند قوله : «وامّا معقد الاجماعات » ( و ) هو : ( انّ الخبر الموافق ) للأصل كخبر الحلّ - مثلاً - ( يفيد ظنّا بالحكم الواقعي ، والعمل بالأصل ) مثل أصل الحلّ والبرائة ( يفيد الظنّ بالحكم الظاهري ، فيتقوّى به ) أي يتقوّى بسبب الظنّ بالحكم

ص: 391

الخبر الموافق ، وأنّ الخبرين يتعارضان ويتساقطان ، فيبقى الأصل سليماً عن المعارض .

بقي هنا شيء : وهو أنّهم اختلفوا في تقديم المقرّر وهو الموافق للأصل ، على الناقل وهو الخبر المخالف له .

-----------------

الظاهري ( الخبر الموافق ) للأصل الدالّ على الحكم الواقعي ، فانّ هذا الاستدلال فاسد أيضا ، لما عرفت من إختلاف الاُفق ، فلا يكون الدليل الواقعي مرجّحا للدليل الظاهري ، ولا الدليل الظاهري مرجّحا للدليل الواقعي .

( و ) كذلك ظهر أيضا فساد ما مرّ ذكره : من ( انّ الخبرين يتعارضان ويتساقطان ، فيبقى الأصل سليما عن المعارض ) ممّا يكون هذا مرجّحا للخبر الموافق للأصل ، ووجه فساده هو ما سبق : من انّ أخبار التخيير تقول في صورة تكافؤ الخبرين بالتخيير لا بالتساقط ، وعلى تقدير التساقط يكون الأصل مرجعا لا مرجّحا .

المسألة الثانية في الناقل والمقرّر ، قال المصنّف : ( بقي هنا شيء : وهو ) البحث في الناقل والمقرّر ، فانّه قد يتوهّم إختلاف كلمات العلماء بالنسبة إليهما ، إذ ربّما قالوا بتقديم الناقل على المقرّر ، ومعناه : الأخذ بخلاف الأصل ، وربّما قالوا بتقديم المقرّر على الناقل ومعناه : الأخذ بموافق الأصل ، وذلك حيث انّهم - مثلاً - حكموا تارةً في الاُصول بتقديم الناقل ، وحكموا اُخرى في الفقه بتقديم المقرّر ، وهو تهافت بين الكلامين ، فأراد المصنّف في هذا البحث رفع الاشكال عنهم بالجمع بين كلماتهم فقال ما يلي :

( انّهم اختلفوا في تقديم المقرّر وهو الموافق للأصل ، على الناقل وهو الخبر المخالف له ) أي : للأصل ، فإذا كان هناك خبران متعارضان دلّ أحدهما

ص: 392

والأكثر من الاُصوليين ، منهم العلاّمة قدس سره ، وغيره ، على تقديم الناقل ، بل حكي هذا القول عن جمهور الاُصوليين ، معلّلين ذلك بأنّ الغالب فيما يصدر من الشارع الحكم بما يحتاج إلى البيان ولايستغني عنه بحكم العقل ، مع أنّ الذي عثرنا عليه في الكتب الاستدلاليّة الفرعيّة الترجيح بالاعتضاد بالأصل .

-----------------

على حرمة التتن - مثلاً - والآخر على حلّيته ، فأيّهما يقدّم ؟ علما بأنّ الأصل : الحلّية ، فهل يقدّم الموافق للأصل وهو المقرّر ، أو يقدّم المخالف للأصل وهو الناقل ؟ إختلفوا في ذلك ، فقال بتقديم المقرّر الموافق للأصل بعض الاُصوليين ( والأكثر من الاُصوليين ، منهم العلاّمة قدس سره ، وغيره ، على تقديم الناقل ) وهو المخالف للأصل ، فيلزم في مثالنا تقديم التحريم وعدم التدخين .

( بل حكي هذا القول ) الذي هو تقديم الناقل على المقرّر ( عن جمهور الاُصوليين ، معلّلين ذلك ) أي : علّلوا وجه تقديم الناقل على المقرّر : ( بأنّ الغالب فيما يصدر من الشارع : الحكم بما يحتاج إلى البيان ولا يستغني عنه بحكم العقل ) ومن المعلوم : انّ المحتاج إلى البيان في الشبهة الوجوبية هو الوجوب ، وفي الشبهة التحريميّة هو التحريم ، امّا ما يقرّر الأصل من عدم الوجوب وعدم التحريم ، فلا يحتاج إلى بيان الشارع ، لأنّ العقل يدلّ على البرائة فيما لا بيان فيه .

هذا هو ما حكي عن جمهور الاُصوليين في الكتب الاُصولية ، ثمّ أشكل المصنّف عليه بقوله : ( مع أنّ الذي عثرنا عليه في الكتب ) الفقهيّة أي : ( الاستدلالية الفرعيّة : الترجيح بالإعتضاد بالأصل ) وذلك بتقديم المقرّر على الناقل ، وهذا من التدافع بين اُصولهم وفقههم ، حيث انّه أسّسوا في الاُصول تقديم الناقل على المقرّر ، وفي الفقه قدّموا المقرّر على الناقل .

ص: 393

لكن لايحضرني الآن مورد لما نحن فيه ، أعني : المتعارضين الموافق أحدهما للأصل العقلي ، فلابدّ من التتبّع .

ومن ذلك كون أحد الخبرين متضمناً للإباحة ، والآخر مفيداً للحظر ، فإنّ المشهور تقديم الحاظر على المبيح ، بل يظهر من المحكي عن بعضهم عدم الخلاف فيه ، وذكروا في وجهه مالا يبلغ حدّ الوجوب ،

-----------------

ثمّ قال المصنّف : ( لكن لا يحضرني الآن مورد لما نحن فيه ، أعني : المتعارضين الموافق أحدهما للأصل العقلي ) أي : للبرائة العقليّة - مثلاً - ( فلابدّ من التتبّع ) للعثور على موارده ، فانّ موارده ما يكون الشكّ في الوجوب أو الحرمة ناشئا فيها من باب تعارض النصّين ، لا من باب فقد النصّ ، أو إجمال النصّ ، فانّ الأغلب كونه من هذا الباب ، ونادرا ما يكون من باب تعارض النصّين ، ولذا يكون مثاله نادرا ، كما انّ أغلب موارد التعارض هو في باب الشرائط والأجزاء والموانع والقواطع وما أشبه ذلك ، ونادرا ما يكون في باب الوجوب أو الحرمة .

( ومن ذلك ) أي : من موارد تقديم الناقل على المقرّر كمثال كلّي للمشهور هو: ( كون أحد الخبرين متضمّنا للإباحة ، والآخر مفيدا للحَظر ) حيث إنّ خبر الاباحة موافق للمقرّر ، وخبر الحظر موافق للناقل ( فانّ المشهور تقديم الحاظر على المبيح ) وذلك لأنّ المشهور يرون كلّ حاظر ناقل ، وكلّ مبيح مقرّر ، وهو أيضا ما تقدّم : من انّ عليه أكثر الاُصوليين ، ومنهم العلاّمة وغيره ( بل يظهر من المحكي عن بعضهم ) كالفاضل الجواد ( عدم الخلاف فيه ) أي : في تقديم الحاظر على المبيح .

هذا ( وذكروا في وجهه ) أي : في وجه تقديم الحاظر على المبيح دليلاً غير إلزامي وهو : ( ما لا يبلغ حدّ الوجوب ) بل ما يستحسن معه تقديم الحاظر

ص: 394

ككونه متيقّناً في العمل ، استناداً إلى قوله صلى الله عليه و آله وسلم : « دع ما يُريبُك إلى مالا يُريبك » ، وقوله : « ما اجتمع الحلال والحرام إلاّ غلب الحرامُ الحلال » .

وفيه : أنّه لو تمّ هذا الترجيح لزم الحكم بأصالة الحرمة عند دوران الأمر بينها وبين الاباحة ؛

-----------------

على المبيح ( ككونه متيقّنا في العمل ) من باب انّه إذا أخذ بدليل الحرمة كان إحتياطا ، بينما إذا أخذ بدليل الاباحة كان إقداما على ما ربّما لا يحمد عقباه .

وإنّما قدّموا الحاظر على المبيح ( إستنادا إلى قوله صلى الله عليه و آله وسلم : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » (1) ) حيث انّ الأخذ بالإحتياط وترك الأمر المشكوك لا يريب الانسان ، لأنّ منتهى الأمر انّه كان مباحا وقد تركه ، بينما إذا أخذ بالإباحة يكون مريبا للإنسان ، لأنّ من المحتمل أن يكون حراما وقد إرتكبه .

( و ) كذا إستنادا إلى ( قوله ) عليه السلام : ( « ما إجتمع الحلال والحرام إلاّ غلب الحرامُ الحلالَ » (2) ) وذلك بناءا على تعدّي هذه الجملة إلى ما نحن فيه من تعارض الخبرين ، إذ ظاهر هذه الرواية هو أن يكون هناك شيئان : أحدهما حلال ، والآخر حرام ، وقد اشتبها في شبهة محصورة .

( وفيه : ) انّ إطلاق ترجيح الحرام على الحلال ، لأنّه - كما إستدللتم عليه - المتيقّن في العمل بحسب الروايتين ، غير تامّ ، إذ مضافا إلى انّهما إرشاديان لا يفيدان الوجوب ( انّه لو تمّ هذا الترجيح ) وهو : ترجيح الحرام على الحلال على إطلاقه ( لزم الحكم بأصالة الحرمة عند دوران الأمر بينها وبين الاباحة )

ص: 395


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 ، المعجم الكبير : ج22 ص147 ح399 ، وسائل الشيعة : ج27 ب12 ص167 ح33506 ، كنز الفوائد : ج1 ص351 ، الذكرى : ص138 ، الغارات : ص135 .
2- - غوالي اللئالي : ج2 ص132 ح358 و ج3 ص466 ح17 ، السنن الكبرى : ج7 ص275 ، مستدرك الوسائل : ج13 ص68 ب4 ح14768 .

لأن وجود الخبرين لامدخل له في هذا الترجيح .

فإنّه من مرجّحات أحد الاحتمالين ، مع أنّ المشهور تقديم الاباحة على الحظر .

فالمتّجه ما ذكره الشيخ قدس سره في العدّة : من ابتناء المسألة على أنّ الأصل في الأشياء الاباحة ، أو الحظر ، أو التوقف .

-----------------

مطلقا ، سواء كان من تعارض النصّين ، أم من إجمال النصّ ، أم من فقد النصّ .

وإنّما يلزم من إطلاق هذا الترجيح الحكم بأصالة الحرمة في الأشياء ( لأنّ وجود الخبرين لا مدخل له في هذا الترجيح ) أي : ترجيح الحرام على الحلال ( فانّه ) أي : الوجه المذكور : من انّه المتيقّن في العمل ، المستفاد من الروايتين الآنفتين حسب إستدلالكم على تقديم الحضر ، يشمل التعارض وغير التعارض ، لأنّه ( من مرجّحات أحد الاحتمالين ) مطلقا سواء وُجد دليل معارض أم لم يوجد ( مع انّ المشهور ) في غير المتعارضين من صورة فقد النصّ ، وصورة إجمال النصّ هو : ( تقديم الاباحة على الحظر ) .

وعليه : فانّه لو كان ترجيح الحظر واجبا ، لزم ترجيح إحتمال الحرمة مطلقا في جميع الموارد ، ومن الواضح : انّ التالي وهو : لزوم ترجيح إحتمال الحرمة في جميع الموارد ، حتّى في مورد إجمال النصّ وفقده باطل ، لأنّ المشهور في صورة إجمال النصّ وفقده يقولون بالبرائة ، فالمقدّم وهو عبارة عن لزوم تقديم الحظر على الاباحة باطل مثله .

إذن : ( فالمتّجه ) في صورة دوران الأمر بين الحظر والاباحة هو : ( ما ذكره الشيخ قدس سره في العدّة : من إبتناء المسألة على انّ الأصل في الأشياء الاباحة ، أو الحظر ، أو التوقّف ) أي : انّ المسألة تختلف بإختلاف المبنى ، فمن كان مبناه

ص: 396

حيث قال : « وأمّا ترجيح أحد الخبرين على الآخر من حيث إنّ أحدهما يتضمن الحظر ، والآخر الاباحة ، والأخذ بما يقتضي الحظر أو الاباحة ، فلا يمكن الاعتماد عليه على ما نذهب إليه من الوقف ؛ لأن الحظر والاباحة جميعا عندنا مستفادان من الشرع ،

-----------------

في الشبهة التحريميّة : أصالة الاباحة عقلاً قال بترجيح المبيح ، ومن كان مبناه : أصالة الحظر قال بترجيح الحاظر ، ومن كان مبناه في تلك المسألة : التوقّف لا يقول بترجيح أحدهما ، بل يتوقّف ويحتاط أو يتخيّر بين الفعل والترك .

هذا ، ومن المعلوم : انّ المصنّف إنّما أراد أن يتعرّض لذكر كلام الشيخ هنا لأنّه يريد من ذكر كلام الشيخ أن يردّ به على ما حكي من قول المشهور بتقديم الحاظر، فانّ شيخ الطائفة تعرّض لهم في كتابه العدّة ( حيث قال : وامّا ترجيح أحد الخبرين على الآخر من حيث انّ أحدهما يتضمّن الحظر ، والآخر الاباحة ، و ) ما يستلزم هذا الترجيح من ( الأخذ بما يقتضي الحظر ) وهو تقديم الناقل ( أو الاباحة ) وهو تقديم المقرّر ، فانّه إنّما يمكن المصير إليه على مبنى أصالة الحظر ، أو أصالة الاباحة ، لا على مبنى التوقّف في فرض دوران المسألة بين الحظر والاباحة .

إذن : ( فلا يمكن الاعتماد عليه ) أي : على ترجيح الناقل أو المقرّر ( على ما نذهب إليه من الوقف ) عقلاً الذي هو أمر ثالث ليس بحظر ولا إباحة ، وذلك ( لأنّ الحظر والاباحة جميعا ) بالنسبة إلى موردي فقد النصّ وإجمال النصّ دون تعارض النصّين ( عندنا مستفادان من الشرع ) فالشرع هو الحاكم بإباحة المباحات وحظر المحرّمات عند فقد النصّ أو إجماله ، بينما عند تعارض النصّين

ص: 397

ولا ترجيح بذلك ، وينبغي لنا الوقف بينهما جميعاً أو يكون الانسان مخيّراً في العمل بأيّهما شاء » ، انتهى .

ويمكن الاستدلال لترجيح الحظر بما دلّ على وجوب الأخذ بالاحتياط من الخبرين

-----------------

لا يستفاد حكم بترجيح الحاظر أو المبيح من الشرع ( و ) حيث انّه لا يستفاد من الشرع حكم بترجيح الحاظر أو المبيح بالنسبة إلى الخبرين المتعارضين وان تضمّن أحد الخبرين الحظر ، والآخر الاباحة ( لا ترجيح بذلك ) أي : لا ترجيح لأحد الخبرين على الآخر بمجرّد تضمّن أحدهما الحظر ، والآخر الاباحة ، فانّ مجرّد تضمّنهما ذلك لا يكون مسوّغا لأن نأخذ بالإباحة أو بالحظر إستنادا إلى الشرع .

( و ) عليه : فانّه ( ينبغي لنا ) عند تعارض النصّين وتكافئهما من كلّ جهة أحد أمرين : امّا ( الوقف بينهما ) أي : بين الخبرين ( جميعا ) والعمل بالاحتياط ، حيث انّ الوقف مقتضٍ للإحتياط ، وامّا التخيير بينهما كما قال : ( أو يكون الانسان مخيّرا في العمل بأيّهما شاء ) (1) من الخبرين ، فيعمل بخبر الحظر أو بخبر الاباحة ، وذلك للروايات العلاجية الدالّة على التخيير .

( انتهى ) كلام شيخ الطائفة ممّا يدلّ على انّه ليس في المسألة وجهان فقط : حظر وإباحة ، بل هناك وجه ثالث أيضا وهو : التوقّف أو التخيير .

ثمّ قال المصنّف : ( ويمكن الاستدلال ) هنا ( لترجيح الحظر ) على الاباحة ( بما دلّ ) من روايات العلاج ( على وجوب الأخذ بالإحتياط من الخبرين ) وذلك كما في مرفوعة زرُارة حيث قال فيها عليه السلام : « خذ بما وافق منهما

ص: 398


1- - عدة الاصول : ص62 .

وإرجاع ما ذكروه من الدليل الى ذلك .

فالاحتياط وإن لم يجب الأخذ به في الاحتمالين المجرّدين عن الخبر ، إلاّ أنّه يجب الترجيح به عند تعارض الخبرين .

وما ذكره الشيخ

-----------------

الاحتياط » (1) ولعلّ وجه تعبير المصنّف هنا : « ويمكن » هو التأدّب أمام المشهور وأمام الشيخ ، أو انّه في مقابل قول صاحب الحدائق الذي طعن في سند الرواية بالضعف .

( و ) كيف كان : فانّه إذا استدللنا - للمشهور - على ترجيح الحظر بروايات العلاج ، أمكن عندها ( إرجاع ما ذكروه من الدليل ) على تقديم الحاظر وهو : كون الحظر متيقّنا في العمل ( إلى ذلك ) أي : إلى ما ذكرناه وهو : انّ الحظر مطابق للاحتياط ، ومطابقة الاحتياط من المرجّحات المنصوصة في فرض دوران الأمر بين المتعارضين ، وذلك على ما قد عرفت : من انّ المرفوعة أمرت بالأخذ بما يوافق الاحتياط .

إذن : ( فالإحتياط وان لم يجب الأخذ به في الاحتمالين المجرّدين عن الخبر ) في موردي فقد النصّ وإجماله ، لأنّ مقتضى القاعدة فيهما جريان البرائة ( إلاّ انّه يجب الترجيح به ) أي : بالاحتياط ( عند تعارض الخبرين ) وذلك لمرفوعة زرارة ، امّا في صورة فقد النصّ ، أو إجمال النصّ ، فالمرجع البرائة .

هذا ( وما ذكره الشيخ ) الطوسي قدس سره : من عدم إمكان الاعتماد على ترجيح المبيح وهو المقرّر ، أو الحاظر وهو الناقل ، على ما يذهب إليه هو من الوقف

ص: 399


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

إنّما يتمّ لو أراد الترجيح بما يقتضيه الأصل ، لا بما ورد التعبّد به من الأخذ بأحوط الخبرين ، مع أنّ ما ذكره : من استفادة الحظر أو الاباحة من الشرع لاينافي ترجيح أحد الخبرين بما دلّ من الشرع على أصالة الاباحة ، مثل قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهيٌ » ،

-----------------

عقلاً ، فغير تامّ لوجوه ثلاثة كالتالي :

الأوّل : إنّ عدم إمكان الاعتماد على ترجيح أحدهما ( إنّما يتمّ لو أراد الترجيح بما يقتضيه الأصل ) فحيث انّه لا أصل هنا بنظره حتّى يعيّن الاباحة أو الحظر ، فلا يمكن الاعتماد عليه ( لا بما ورد التعبّد به من الأخذ بأحوط الخبرين ) كما في مرفوعة زرارة القائلة : « خذ بما وافق منهما الاحتياط » (1) فانّه وان لم يمكن للشيخ الاعتماد على أصل يعيّن الحاظر أو المبيح ، لكن يمكنه ترجيح الحاظر على المبيح لمكان مرفوعة زرارة .

الثاني : ( مع انّ ما ذكره : من إستفادة الحظر أو الاباحة من الشرع ) في موردي : فقد النصّ ، وإجمال النصّ ( لا ينافي ترجيح أحد الخبرين بما دلّ من الشرع ) من الروايات ( على ) البرائة الشرعيّة ليكون الأصل الشرعي - لا العقلي - مبنى ( أصالة الاباحة ، مثل قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهيٌ » (2) ) أو قوله عليه السلام : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (3) أو ما أشبه ذلك من أدلّة البرائة الشرعيّة .

ص: 400


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .
2- - من لايحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .
3- - التوحيد : ص413 ح9 ، الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .

أو على أصالة الحظر مثل قوله : « دع ما يريبك إلى ما لايريبك » ، مع أنّ مقتضى التوقف على ما اختاره لمّا كان وجوب

-----------------

( أو ) بما دلّ من الشرع من الروايات ( على ) الاحتياط الشرعي ليكون الأصل الشرعي - لا العقلي - مبنى (أصالة الحظر مثل قوله : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)(1) ومثل : « ما إجتمع الحلال والحرام إلاّ غلب الحرام الحلال » (2) إلى غيرهما من أدلّة الاحتياط الشرعي .

وعليه : فيكون ترجيح أحد الخبرين المتكافئين على الآخر بالدليل الشرعي ، وهو يتوافق مع فرض التوقّف عقلاً وإنتظار وصول البيان من الشارع ، وذلك لأنّ الشارع قد يُصدر بيانه على نحو الحكم الواقعي ، كما إذا قال - مثلاً - : الماء مباح ، والفقاع حرام ، وقد يُصدر بيانه على نحو الحكم الظاهري مثل قوله : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (3) وقوله : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » فإذا تعارض دليلا الاباحة والحرمة الواقعيين في شيء ، فمن كان مبناه أصالة الاباحة الشرعيّة رجّح الخبر المبيح ، ومن كان مبناه أصالة الحظر شرعا رجّح خبر الحرمة ، ولا مانع من ذلك ، فلا تصل النوبة إلى التوقّف .

الثالث : ( مع انّ مقتضى التوقّف على ما اختاره ) الشيخ ( لمّا كان وجوب

ص: 401


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 ، المعجم الكبير : ج22 ص147 ح399 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33506 و ص170 ب12 ح33517 ، كنز الفوائد : ج1 ص351 ،الذكرى : ص138 ، الغارات : 135 .
2- - غوالي اللئالي : ج2 ص132 ح358 و ج3 ص466 ح17 ، مستدرك الوسائل : ج13 ص68 ب4 ح14768 ، السنن الكبرى : ج1 ص275 .
3- - من لايحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص166 ح60 و ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

الكفّ عن الفعل ، على ما صرّح هو به وغيره ، كان الّلازم - بناءا على التوقف - العمل بما يقتضيه الحظر .

ولو ادّعي ورود أخبار التخيير على ما يقتضيه التوقف جرى مثله على القول بأصالة الحظر ،

-----------------

الكفّ عن الفعل ) بأن يترك - مثلاً - الشيء المحتمل الحرمة تركا إحتياطيا ( على ما صرّح ) الشيخ ( هو به وغيره ، كان اللازم - بناءا على التوقّف - : العمل بما يقتضيه الحظر ) من الاجتناب ؛ فالتوقّف الذي ذهب إليه الشيخ ، وأصالة الحظر ، إذن متحدان في النتيجة ، إذ نتيجة كلّ منهما : إجتناب الشيء المشكوك الحرمة ، وإنّما الفارق هو : انّ أصالة الحظر تفيد الحرمة ، وأصالة التوقّف تفيد الاحتياط ، فقول الشيخ : « وينبغي لنا الوقف بينهما جميعا » لا ينافي أصالة الحظر .

إن قلت : انّ للشيخ أن يقول : إنّما يتوقّف العقل ويحكم بالإحتياط فيما لم يكن دليل من الشرع على الاباحة ، وأدلّة التخيير بين المتعارضين تقول بأنّ الخبر المختار دليل ، ومعه لا إحتياط عقلي ليرجّح به الحظر .

قلت : ( ولو ادّعي ) الشيخ ( ورود أخبار التخيير على ما يقتضيه التوقّف ) ليرفع بادّعائه هذا حكم العقل بالإحتياط ، فلا إحتياط عقلي حتّى يرجّح به الحظر، نقضنا عليه : بانّه ( جرى مثله ) أي : جرى مثل ذلك الادّعاء وهو : ورود أخبار التخيير على ما يقتضيه الحظر ( على القول بأصالة الحظر ) أيضا .

وعليه : فانّه كما يرد اخبار التخيير على الاحتياط فينفي الاحتياط حسب ادّعائكم ، فكذلك يرد اخبار التخيير على أصالة الحظر فينفي الحظر ، فكيف بنيتم أيّها الشيخ مسألة تقديم الناقل أو المقرّر في المتعارضين على قول من يذهب إلى انّ الأصل في الأشياء الاباحة أو الحظر ، لا على ما تذهبون إليه أيّها الشيخ

ص: 402

ثمّ إنه يشكل الفرق بين ما ذكروه من الخلاف في تقدّم المقرّر على الناقل و إن حكي عن الأكثر تقدّم الناقل و عدم ظهور الخلاف في تقدّم الحاظر على المبيح .

ويمكن الفرق بتخصيص المسألة الاُولى بدوران الأمر بين الوجوب وعدمه ، ولذا

-----------------

من الاحتياط نتيجة القول بالوقف ؟ فانّ ما تقولونه هناك نقول به هنا .

( ثمّ إنّه يشكل الفرق بين ما ذكروه من الخلاف في تقديم المقرر على الناقل ) أو تقدّم الناقل على المقرّر ( وإن حكي عن الأكثر تقدّم الناقل و ) رجحانه على المقرّر ، وبين ( عدم ظهور الخلاف في تقدّم الحاظر على المبيح ) مع انّ مسألة المقرّر والناقل هي بعينها مسألة الحاظر والمبيح ، فالناقل هو الحاظر ، والمقرّر هو المبيح ، ومعه فكيف يعقل ان يكون في إحدى المسألتين المتحدتين وفاق ، وفي المسألة الاُخرى خلاف ؟ فلابدّ أن يكون أحد النقلين خلاف الواقع ، أمّا نقل الخلاف في المسألة الاُولى : المقرّر والناقل ، وامّا نقل عدم الخلاف في المسألة الثانية : المبيح والحاظر .

هذا ( ويمكن الفرق بتخصيص المسألة الاُولى ) وهي : مسألة الناقل والمقرّر ( بدوران الأمر بين الوجوب وعدمه ) دون دوران الأمر بين الحرمة وعدمها ، ومعه فليس مسألة الناقل والمقرّر عامّة للشبهة الوجوبية والتحريميّة معا، بل هي مختّصة بالشبهة الوجوبية ، وتكون مسألة المبيح والحاظر حينئذ مختصة بالشبهة التحريميّة ، وحيث انّهم اختلفوا في حكم الشبهتين نتج من خلافهم فيهما الخلاف في المسألتين .

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه من إمكان الفرق بتخصيص مسألة الناقل

ص: 403

يرجّح بعضهم الوجوب على الاباحة و الندب لأجل الاحتياط .

لكنّ فيه مع جريان بعض أدلّة تقدّم الحظر فيها إطلاقُ كلامهم فيها وعدم ظهور التخصيص في كلماتهم ،

-----------------

والمقرّر بدوران الأمر بين الوجوب وعدمه دون الحرمة وعدمها ، نرى انّه ( يرجّح بعضهم ) كصاحب الحدائق ( الوجوب على الاباحة والندب ) معا ، فإذا دار الأمر في غسل الجمعة بين كونه واجبا أو مندوبا رجّح هذا البعض وجوبه ( لأجل الاحتياط ) المستفاد من الأمر بالتوقّف في مطلق الشبهة ، وحينئذ فيخرج دوران الأمر بين الحظر والاباحة من مسألة الناقل والمقرّر .

( لكنّ فيه ) أي : في الفرق المذكور : انّه ( مع جريان بعض أدلّة تقدّم الحظر فيها ) أي : جريان أدلّة المسألة الثانية في المسألة الاُولى التي هي مسألة الناقل والمقرّر أيضا ، مثل : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » (1) وغيره ، انّه يرد عليه أيضا : ( إطلاق كلامهم فيها وعدم ظهور التخصيص في كلماتهم ) فانّ كلماتهم غير ظاهرة في تخصيص مسألة الناقل والمقرّر بالشبهة الوجوبية ، بل إطلاق كلامهم يعمّ المسألتين معا ، ممّا يدلّ على انّهما متحدتان .

والحاصل : انّ هذا الفرق مخدوش من وجهين :

الوجه الأوّل : انّ ظاهر إطلاق كلام المشهور في مسألة المقرّر والناقل يعمّ الشبهتين : الوجوبية والتحريميّة .

الوجه الثاني : انّ إشتراك أكثر أدلّة المسألتين المفيدة لإعتبارهما ظاهر في

ص: 404


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 ، المعجم الكبير : ج22 ص147 ح399 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33506 و ص170 ب12 ح33517 ، كنز الفوائد : ج1 ص351 ،الذكرى : ص138 ، الغارات : 135 .

ولذا اختار بعض سادة مشايخنا المعاصرين تقديم الاباحة على الحظر ؛ لرجوعه إلى تقديم المقرّر على الناقل ، الذي اختاره في تلك المسألة .

هذا ، مع أنّ دعوى الاتفاق على تقديم الحظر غير ثابت ، و إن ادّعاه بعضهم .

والتحقيق هو ذهاب الأكثر ،

-----------------

شمول كلّ منهما للشبهتين معا ، ممّا لا يدّع مجالاً للقول بالفرق المذكور بينهما .

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه : من بطلان الفرق ، وظهور وحدة المسألتين ( إختار بعض سادة مشايخنا المعاصرين ) وهو : السيّد محمّد المجاهد صاحب المناهل والمفاتيح ( تقديم الاباحة على الحظر ) وذلك ( لرجوعه ) أي : رجوع تقديم الاباحة على الحظر ( إلى تقديم المقرّر على الناقل ، الذي إختاره في تلك المسألة ) أي : مسألة تقديم المقرّر على الناقل ، فانّه اختارها كمبنى له ، فالسيّد المجاهد إذن قد إختار تقديم المقرّر على الناقل مبنى له ، ثمّ بنى وفرّع عليه تقديم المبيح على الحاظر ، ممّا يدلّ على وحدة المسألتين .

( هذا ، مع أنّ دعوى الاتّفاق على تقديم الحظر ) وترجيحه على الاباحة التي هي المسألة الثانية ، حيث نقلنا حكاية عدم الخلاف فيها ( غير ثابت ، وإن ادّعاه بعضهم ) فانّ هذه الدعوى من البعض إذن غير تامّة ، وهو ما أشرنا إليه آنفا عند قول المصنّف : « ثمّ انّه يشكل الفرق . . . » حيث قلنا هناك : بأنّ أحد النقلين خلاف الواقع ، امّا نقل الخلاف في المسألة الاُولى : المقرّر والناقل ، وامّا نقل عدم الخلاف في المسألة الثانية : المبيح والحاظر ، فإذا كان نقل عدم الخلاف في المسألة الثانية غير تامّ ، توافق النقلان وتأيّد بهما وحدة المسألتين .

( و ) كيف كان : فانّ ( التحقيق هو ذهاب الأكثر ) إلى تقديم الحظر

ص: 405

وقد ذهبوا إلى تقدّم الناقل أيضاً في المسألة الاُولى .

بل حُكي عن بعضهم تفريع تقديم الحاظر على تقديم الناقل .

ومن جملة هذه المرجّحات تقديم دليل الحرمة على دليل الوجوب عند تعارضهما ، واستدلّوا عليه بما ذكرناه مفصلاً في مسألة أصالة البرائة عند تعارض احتماليّ

-----------------

على الاباحة في المسألة الثانية ، كما ( وقد ذهبوا ) أي : ذهب الأكثر ( إلى تقدّم الناقل ) على المقرّر ( أيضا في المسألة الاُولى ) ممّا ينبيء عن انّ المسألتين متحدتان ، وحكمهما أيضا متحد ، وإنّما حدث الاختلاف من التعبير في العبارة ، فبعضهم عبّر بالناقل والمقرّر ، وبعضهم عبّر بالحظر والاباحة .

( بل حكي عن بعضهم ) عكس ما حكيناه عن بعض سادة مشايخنا من تفريع تقديم المبيح على تقديم المقرّر ، وعكسه يعني : ( تفريع تقديم الحاظر على تقديم الناقل ) فانّ هذا البعض قال في مسألة الناقل والمقرّر بتقديم الناقل كمبنى له ، ثمّ بنى وفرّع عليه في مسألة الحظر والاباحة تقديم الحاظر ، وما هذا التعاكس في المبنيين إلاّ لوحدة المسألتين على ما عرفت .

المسألة الثالثة : في تقديم دليل الحرمة ، قال المصنّف : ( ومن جملة هذه المرجّحات ) أي : من جملة المرجّحات الخارجية المرتبطة بالقسم الثاني ، وهي التي لا تعضد أحد الخبرين مع كونها مستقلّة بالإعتبار حتّى ولو لم يكن في المورد خبر ، هو : ( تقديم دليل الحرمة على دليل الوجوب عند تعارضهما ) كما إذا ورد خبر يقول بوجوب صلاة الجمعة ، وخبر آخر يقول بحرمتها .

( واستدلّوا عليه ) أي : على تقديم دليل الحرمة ( بما ذكرناه مفصّلاً في مسألة أصالة البرائة عند ) الدوران بين المحذورين ، أي : عند ( تعارض إحتماليّ :

ص: 406

الوجوب والتحريم .

والحقّ هنا التخيير ، وإن لم نقل به في الاحتمالين ؛ لأن المستفاد من الروايات الواردة في تعارض الأخبار - على وجه لايرتاب فيه - هو لزوم التخيير مع تكافؤ الخبرين وتساويهما من جميع الوجوه التي لها مدخل في رجحان أحد الخبرين ، خصوصاً مع عدم التمكّن

-----------------

الوجوب والتحريم ) فانّ المصنّف ذكر هناك أدلّتهم بوجوهها الخمسة : مثل غلبة تقديم الشارع جانب الحرمة ، ومثل أولوية دفع المفسدة ، وما أشبه ذلك ، وأجاب عنها جميعا هناك ، ثمّ قال : ( والحقّ هنا ) في باب تعارض الخبرين إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة هو : ( التخيير ، وان لم نقل به ) أي : بالتخيير ( في الاحتمالين ) المجرّدين عن الخبر كما في موردي : فقد النصّ ، وإجماله .

وإنّما نقول هنا بالتخيير ( لأنّ المستفاد من الروايات الواردة في تعارض الأخبار ) إستفادة ( على وجه لا يُرتاب فيه ) أبدا ( هو : لزوم التخيير مع تكافؤ الخبرين وتساويهما من جميع الوجوه ) وجه الدلالة ، ووجه الصدور ، ووجه جهة الصدور ( التي لها مدخل في رجحان أحد الخبرين ) لا التي لا مدخل لها في رجحان أحدهما ، فانّ الخبرين إذا تساويا معا وتكافئا من جميع الوجوه بحيث لم ينفرد أحدهما بوجود مرجّح فيه مفقود في الآخر ، وجب التخيير بينهما .

إذن : فالواجب عند تعارض الخبرين وتكافئهما هو التخيير ، من دون أن يعارضه اخبار التوقّف ، لأنّ اخبار التوقّف إضافةً إلى انّها مورودة لاخبار التخيير - على ما عرفت - محمولة على صورة التمكّن من الرجوع إلى الإمام ، والتخيير على صورة عدم التمكّن من ذلك ، فالتخيير إذن لازم ( خصوصا مع عدم التمكّن

ص: 407

من الرجوع إلى الإمام عليه السلام ، الذي يحمل عليه أخبار التوقف والارجاء ، بل لو بنينا على طرح أخبار التخيير في هذا المقام أيضاً بعد الترجيح بموافقة الأصل لم يبق لها مورد يصلح لحمل الأخبار الكثيرة الدالّة على التخيير عليه ، كما لايخفى على المتأمّل .

-----------------

من الرجوع إلى الإمام عليه السلام ) لأنّ الإمام - مثلاً - في زمان الغيبة كزماننا هذا ، أو ما أشبه ذلك ، ممّا لم يمكن معه من الرجوع إلى الإمام ، فانّه مع التمكّن من الرجوع إلى الإمام هو ( الذي يُحمل عليه ) أي : على التمكّن من الرجوع إلى الإمام ( أخبار التوقّف والارجاء ) ومعه فيكون أخبار التوقّف والارجاء خاصا بزمان الحضور للمتمكّن من الرجوع إلى الإمام ، وأخبار التخيير لمن لا يتمكّن من الرجوع إليه عليه السلام .

( بل لو بنينا على طرح أخبار التخيير في هذا المقام ) وذلك بأن قلنا بتقديم دليل الحرمة في هذه المسألة ، وهي المسألة الثالثة التي يدور الأمر فيها بين الوجوب والحرمة ( أيضا ) أي : كما طرحنا اخبار التخيير في المسألة الثانية وهي التي كان يدور الأمر فيها بين مسألتي : المقرّر و الناقل ، والحاظر والمبيح - على ما عرفت - وذلك ( بعد الترجيح بموافقة الأصل ) الذي كان موضوع البحث في المسألة الاُولى أيضا ، فانّه بعد ذلك كلّه ( لم يبق لها ) أي : لأخبار التخيير ( مورد يصلح لحمل الأخبار الكثيرة الدالّة على التخيير عليه ) أي : على ذلك المورد ، وهو يتنافى مع حكمة تشريع التخيير ( كما لا يخفى على المتأمّل ) .

وعليه : فانّا لو طرحنا أخبار التخيير في كلّ المسائل الثلاث ، حتّى في مسألة الدوران بين المحذورين عند تعارض خبرين يقول أحدهما بالوجوب والآخر بالحرمة ، وقلنا فيها بتقديم دليل الحرمة ، لم يبق هناك مورد للتخيير سوى مثل

ص: 408

فالمعتمد وجوب الحكم بالتخيير إذا تساوى الخبران من حيث القوّة ولم يرجّح أحدهما بما يوجب أقربيته إلى الواقع .

ولا يلتفت إلى المرجّحات الثلاثة الأخيرة الراجعة إلى ترجيح مضمون أحد الخبرين ، مع قطع النظر عن كونه مدلولاً له ،

-----------------

دوران الأمر بين الوجوبين كالظهر والجمعة ، وهو قليل جدّا لا يناسبه مثل هذه الأخبار الكثيرة الآمرة بالتخيير .

إذن : ( فالمعتمد ) عندنا هو : ( وجوب الحكم بالتخيير إذا تساوى الخبران ) وتكافئا من كلّ جهة حتّى ( من حيث القوّة و ) المزيّة المضمونية ، وذلك بمعنى انّه ( لم يرجّح أحدهما بما يوجب أقربيّته إلى الواقع ) أي : بأن لم يكن هناك ما يرجّح أحد الخبرين شيء من المرجّحات الداخلية والخارجية الموجبة لأقربيته إلى الواقع ، سواء كانت تلك المرجّحات معتبرة في نفسها أم لا ، فإذا تساوى الخبران من حيث الدلالة ، والصدور ، وجهة الصدور ، وحتّى المضمون فلم يكن هناك مرجّح خارجي أيضا ، فيلزم القول بالتخيير بين الخبرين .

وعليه : فانّه إذا تساوى الخبران من كلّ جهة حتّى من جهة المضمون أيضا ، لزم الحكم بالتخيير ( ولا يلتفت إلى المرجّحات الثلاثة الأخيرة ) وهي : موافقة الأصل ، ومسألة الناقل والمقرّر ، ومسألة تقديم الحرمة على الوجوب ( الراجعة ) تلك المرجّحات الثلاثة الأخيرة ( إلى ترجيح مضمون أحد الخبرين ) أي : أحد المحتملين وذلك بقرينة قوله : ( مع قطع النظر عن كونه ) أي : كون الحكم ( مدلولاً له ) أي : للخبر ، وإنّما هو مؤدّى إحتمالين كما في التتن الذي هو من موارد فقد النصّ أو إجمال النص - مثلاً - .

ص: 409

لحكومة أخبار التخيير على جميعها ، وإن قلنا بها في تكافؤ الاحتمالين .

نعم ، يجب الرجوع إليها في تعارض غير الخبرين من الأدلّة الظّنيّة إذا قلنا بحجّيتها من حيث الطريقيّة المستلزمة للتوقف عند التعارض ، لكن ليس هذا من الترجيح في شيء .

نعم ، لو قلنا بالتخيير في تعارضها

-----------------

وإنّما لا يلتفت إلى شيء من المرجّحات الثلاثة في تكافؤ الخبرين ( لحكومة أخبار التخيير على جميعها ) أي : جميع تلك المرجّحات الثلاثة الأخيرة في مورد تعارض النصّين وتكافؤهما ، حتّى ( وان قلنا بها ) أي : بالمرجّحات الثلاثة المذكورة ( في تكافؤ الاحتمالين ) أي : فيما لم يكن هناك تعارض نصّين ، بل مجرّد إحتمالين كما في موردي : فقد النصّ وإجمال النصّ .

( نعم ، يجب الرجوع إليها ) أي : إلى المرجّحات الثلاثة الأخيرة على فرض إعتبارها في نفسها ، وذلك ( في تعارض غير الخبرين من الأدلّة الظنّية ) كتعارض إجماعين منقولين - مثلاً - ( إذا قلنا بحجّيتها ) أي : بحجيّة تلك الأدلّة الظنّية ( من حيث الطريقيّة ) لا السببيّة ( المستلزمة للتوقّف عند التعارض ) فانّه إذا كان هناك طريقان ظنّيان تعارضا ، فانّه يلزم التوقّف أوّلاً وبالذات ، لأنّ الطريقين المتعارضين لا يمكن العمل بأيّ منهما ، ولكن إذا قلنا باعتبار هذه المرجّحات الثلاثة الأخيرة ، فاللازم إعمالها هنا حتّى نرجّح طريقا على طريق .

( لكن ليس هذا من الترجيح في شيء ) بل هو من باب المرجعيّة ، وذلك بأن يكون كلّ من المرجّحات الثلاثة الأخيرة ، التي هي عبارة عن موافقة الأصل ، والناقل والمقرّر ، والدليل الدالّ على الحرمة مرجعا لا مرجّحا .

( نعم ، لو قلنا بالتخيير في تعارضها ) أي : في تعارض الأدلّة الظنّية

ص: 410

من باب تنقيح المناط كان حكمها حكم الخبرين .

لكنّ فيه تأمّل ، كما في إجراء التراجيح المتقدّمة في تعارض الأخبار وإن كان الظاهر من بعضهم عدم التأمّل في جريان جميع أحكام الخبرين من الترجيح فيها بأقسام المرجّحات مستظهراً عدم الخلاف في ذلك .

-----------------

غير الخبرين ، كالإجماعين المنقولين - مثلاً - وذلك التخيير فيها ( من باب تنقيح المناط ) الموجود في الأخبار ، ثمّ التعدّي من الأخبار إلى غير الأخبار من الأدلّة الظنّية المتعارضة ، فلو قلنا بذلك ( كان حكمها ) أي : حكم تلك الأدلّة الظنيّة المتعارضة ( حكم الخبرين ) المتعارضين في إعمال التراجيح المذكورة في الأخبار ، وعند عدم وجود شيء من تلك التراجيح المذكورة يكون الحكم فيها هو : التخيير .

( لكنّ فيه ) أي : في تعدّي حكم التخيير من تعارض الأخبار إلى سائر الأدلّة الظنّية المتعارضة واجرائه فيها ( تأمّل ) وذلك للشكّ في المناط ، إذ قد يكون للأخبار خصوصية ( كما ) أي : كالتأمّل الموجود لبعض ( في إجراء التراجيح المتقدّمة في تعارض الأخبار ) وتعديتها إلى سائر الأدلّة الظنّية عند تعارضها .

إذن : فتعدية حكم التخيير والترجيح مورد تأمّل لدى بعض ( وان كان الظاهر من بعضهم عدم التأمّل في جريان جميع أحكام الخبرين من الترجيح فيها ) أي : في الأدلّة الظنّية ( بأقسام المرجّحات ) الدلالية والسندية والصدورية والمضمونية ، فانّها كما تجري في الخبرين المتعارضين ، تجري في سائر الأدلّة الظنّية إذا تعارضت أيضا ( مستظهرا عدم الخلاف في ذلك ) أي : مستظهرا اتّفاقهم وإجماعهم على جريانها في سائر الأدلّة الظنّية المتعارضة أيضا .

ص: 411

فإن ثبت الاجماع على ذلك أو أجرينا ذلك في الاجماع المنقول من حيث إنّه خبر ، فيشمله حكمه فهو ، وإلاّ ففيه تأمّل ، لكنّ التكلّم في ذلك قليل الفائدة ؛ لأن الطرق الظّنيّة غير الخبر ليس فيها

-----------------

وعليه : ( فان ثبت الاجماع على ذلك ) أي : على جريان جميع أحكام تعارض الخبرين في تعارض الأدلّة الظنّية الطريقيّة أيضا كما ادّعاه هذا البعض ( أو أجرينا ذلك ) أي : أجرينا الترجيح والتخيير الذَين نجريهما في الخبرين المتعارضين ( في الاجماع المنقول ) فقط فيما إذا تعارض إجماعان منقولان ، وذلك ( من حيث انّه ) أي : الاجماع المنقول ( خبر ، فيشمله حكمه ) أي : حكم الخبر ، كما ادّعاه بعضهم وذكرناه سابقا في مبحث الاجماع ، فانه لو أجرينا الترجيح والتخيير في الاجماع المنقول من حيث انّه خبر ( فهو ) أي : فأحكام الخبرين جارٍ بلا كلام في الاجماعين المنقولين أيضا .

( وإلاّ ) بأن لم نقل إنّ الاجماع المنقول خبر ( ففيه ) أي : في جريان أحكام تعارض الخبرين وتعديته إلى تعارض الاجماعين المنقولين ( تأمّل ) لأنّا لو لم نقل بأنّ الاجماع المنقول خبر ، فلا يشمله حكم الخبر ، وإذ لم يشمله حكم الخبر فلابدّ لنا إذا أردنا أن يشمل تعارض الاجماعين المنقولين أحكام تعارض الخبرين من تنقيح المناط ، وحيث انّ المناط هنا ظنّي وليس قطعيّا ، لإحتمال خصوصيّة في الخبرين ، لا يكون تنقيح المناط تامّا ، فلا يأتي مناط الخبرين في الاجماعين المنقولين ، كما لا يأتي المناط في سائر الأدلّة الظنّية المتعارضة أيضا .

( لكن التكلّم في ذلك ) أي : في جريان أحكام تعارض الخبرين في غير الخبرين ( قليل الفائدة ، لأنّ الطرق الظنّية غير الخبر ليس فيها ) أي : في تلك

ص: 412

ما يصحّ للفقيه دعوى حجّيته ، من حيث إنّه ظنّ مخصوص ، سوى الاجماع المنقول بخبر الواحد .

فإن قيل بحجّيّتها ، فإنّما هي من باب مطلق الظنّ ،

-----------------

الطرق الظنّية غير الخبر ( ما يصحّ للفقيه دعوى حجّيته ، من حيث انّه ظنّ مخصوص ) أي : من باب الظنّ الخاصّ ، لا من باب مطلق الظنّ ، فانّه بالإضافة إلى انّا لا نقول بحجيّة غير الخبر من باب الظنّ الخاص ، ولسنا إنسداديّين حتّى نقول بحجيّتها من باب مطلق الظنّ ، لا نقول أيضا بالقياس ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، وما أشبه ذلك ، ممّا يقول به العامّة حتّى نتكلّم في تعارض بعضها مع بعض ، أو بعضها مع نفسها ونحتاج إلى العلاج ، وحينئذ فيكون التكلّم في جريان أحكام تعارض الخبرين إلى غير الخبرين قليل الفائدة .

إذن : فالفائدة قليلة لأنّا لا نقول بحجيّة غير الخبر من باب الظنّ الخاص ( سوى الاجماع المنقول بخبر الواحد ) كما يظهر ذلك من المعالم وغيره حيث انّهم قالوا بحجّيته من باب الظنّ الخاص ، ولذا فانّهم يجرون حكم تعارض الأخبار في تعارض نقلي الاجماع أيضا ، وكذلك حال الشهرة ، والغلبة والأولوية الاعتبارية ، والاستقراء الظنّي ، ونحوها ان قلنا بحجّيتها من باب الظنّ الخاص ، كما قال به بعض ، وامّا ان قلنا بحجّيتها من باب مطلق الظنّ ، فسيأتي حكمها قريبا ان شاء اللّه تعالى .

وعليه : ( فان قيل بحجيّتها ) أي : قيل بحجيّة الشهرة ، والغلبة ، والأولوية ، والاستقراء ، وما أشبه ذلك ( فانّما هي من باب مطلق الظنّ ) لا من باب الظنّ

ص: 413

ولا ريب أنّ المرجع في تعارض الأمارات المعتبرة على هذا الوجه إلى تساقط المتعارضين إن ارتفع الظنّ من كليهما أو سقوط أحدهما عن الحجيّة و بقاء الآخر بلا معارض إن ارتفع الظنّ عنه .

و أمّا الاجماع المنقول ، فالترجيح بحسب الدلالة من حيث الظهور والنصوصيّة جارٍ فيه لا محالة .

-----------------

الخاص ( و ) على فرض انّا قلنا بحجيّة مطلق الظنّ من باب الانسداد حتّى صارت تلك الاُمور كالشهرة ، والغلبة ، والأولوية ، والاستقراء ، وما أشبه ذلك حجّة ، فحينئذ ( لا ريب انّ المرجع في تعارض الأمارات المعتبرة على هذا الوجه ) الانسدادي ومن باب مطلق الظنّ يكون إلى أحد أمرين كالتالي :

أوّلاً : انّ مرجعه يكون ( إلى تساقط المتعارضين ان إرتفع الظنّ من كليهما ) وذلك لأنّ حجيّة هذه الاُمور من باب الظنّ الانسدادي ، فإذا لم يكن ظنّ لم يكن حجّة .

ثانيا : ( أو ) انّ مرجعه يكون إلى ( سقوط أحدهما عن الحجيّة وبقاء الآخر بلا معارض ان إرتفع الظنّ عنه ) أي : عن أحدهما ، ومعه فلا يبقى مجال لتعارض الظنّين الانسداديين حتّى يقال بترجيح هذا على ذاك أو العكس ، وإذا لم يكن ترجيح فالتخيير .

( وأمّا الاجماع المنقول ) الذي قال المعالم وغيره بحجّيته من باب الظنّ الخاص فيما إذا تعارض مع إجماع منقول آخر مثله ( فالترجيح بحسب الدلالة من حيث الظهور والنصوصية جارٍ فيه لا محالة ) وذلك لأنّه مقتضى الجمع الدلالي بين دليلين متعارضين بلا فرق بين الخبر وغيره - كما هو المفروض - فإذا كان أحد الاجماعين نصّا والآخر ظاهرا جمع بينهما حسب الاطلاق والتقييد والعموم

ص: 414

وأمّا الترجيح من حيث الصدور أو جهة الصدور فالظاهر أنّه كذلك ، وإن قلنا بخروجه عن الخبر عرفاً ، فلا يشمله أخبار علاج تعارض الأخبار

-----------------

والخصوص ، كما يجمع بين الخبرين المتعارضين بالعموم والخصوص المطلق - مثلاً - .

( وأمّا الترجيح من حيث الصدور ) أي : صدور الاجماع عن ناقله ، وذلك فيما لو كان أحد ناقلَي الاجماع أفقه ، أو أضبط ، أو أقل خطأً في حدسه من الآخر ، وما أشبه ذلك ( أو ) الترجيح من حيث ( جهة الصدور ) أي : من حيث التقيّة وعدم التقيّة ، وذلك فيما لو كان أحد الاجماعين المنقولين على وفق العامّة ، والآخر على خلاف العامّة ، فانّه على القول بالإجماع الدخولي يمكن إجماع علماء عصرٍ بينهم الإمام عليه السلام على حكم ، ثمّ إجماع علماء عصر آخر فيهم الإمام عليه السلام أيضا على حكم آخر ، فيكون أحد هذين الاجماعين لبيان الحكم واقعا ، والآخر لبيان الحكم تقيّة ، فانّ الترجيح من حيث الصدور وجهة الصدور يجري في الاجماعين المنقولين إذا تعارضا ، كما يجري في الخبرين عند التعارض .

وعليه : ( فالظاهر انّه ) أي : الترجيح من حيث الصدور أو جهة الصدور في الاجماعين المنقولين إذا تعارضا يكون ( كذلك ) أي : كالخبرين المتعارضين ، فكما يلزم الترجيح بالصدور وجهة الصدور في الخبر إذا تعارض مع خبر آخر ، فكذلك يلزم الترجيح بهما في الاجماع المنقول إذا تعارض بمثله ، حتّى ( وان قلنا بخروجه ) أي : خروج الاجماع المنقول ( عن الخبر عرفا ) .

ومن المعلوم : انّه إذا قلنا فيه ذلك ( فلا يشمله أخبار علاج تعارض الأخبار ) لفرض انّ الاجماع ليس بخبر حتّى يكون مشمولاً لأخبار العلاج

ص: 415

وإن شمله لفظ النبأ في آية النبأ ، لعموم التعليل المستفاد من قوله : « فإنّ المجمع عليه لاريب فيه » ، وقوله : « لأن الرشد في خلافهم » .

لأن خصوص المورد لايخصّصه ، ومن هنا يصحّ إجراء جميع

-----------------

( وان شمله لفظ النبأ في آية النبأ ) لأنّ الاجماع نبأ من الأنباء ، ولذا قد يستدلّ بآية النبأ على حجيّة الاجماع المنقول .

وإنّما قلنا بالترجيح في الاجماع المنقول بالصدور وجهة الصدور إذا تعارض بمثله ، حتّى وان قلنا بخروجه عن الخبر ( لعموم التعليل المستفاد من قوله ) عليه السلام : ( « فانّ المجمع عليه لا ريب فيه » (1) وقوله ) عليه السلام : ( « لأنّ الرشد في خلافهم»(2)) حيث انّه يستفاد منهما كبرى كليّة تقول : انّ كلّ ما لا ريب فيه بالنسبة إلى غيره ممّا فيه الريب النسبي يجب تقديمه عليه ، وانّ كلّ ما فيه رشد بالنسبة إلى غيره ممّا لا رشد فيه أو رشده أقل يكون مقدّما عليه ، فينطبق على ما نحن فيه من الاجماع المنقول أيضا ، وذلك ( لأنّ خصوص المورد ) أي : خصوص مورد هاتين الروايتين وهو الخبر ( لا يخصّصه ) أي : لا يخصّص الوارد وهو الحكم ، فلا يختصّ حكم الروايتين بالخبر ، وإنّما يشمل الاجماع المنقول أيضا ، كما لا يختّص قوله : لا تأكل الرمّان لأنّه حامض ، بالرمّان فقط ، بل يشمل النهي كلّ حامض أيضا .

( ومن هنا ) أي : من أجل ما ذكرنا : من عموم التعليل في الأخبار ، وشموله للإجماعين المنقولين إذا تعارضا ( يصحّ إجراء جميع

ص: 416


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ص3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 .

التراجيح المقرّرة في الخبرين في الاجماعين المنقولين ، بل غيرهما من الأمارات التي يفرض حجّيّتها من باب الظنّ الخاصّ ، وممّا ذكرنا يظهر حال الخبر مع الاجماع المنقول ، أو غيره من الظنون الخاصّة لو وجد .

والحمد للّه على ما تيسّر لنا من تحرير ما استفدناه بالفهم القاصر

-----------------

التراجيح المقرّرة في الخبرين ) اجراءا ( في الاجماعين المنقولين ، بل غيرهما ) أي : غير الاجماعين المنقولين ( من الأمارات التي يفرض حجّيتها من باب الظنّ الخاص ) وذلك كما إذا قيل بحجيّة الشهرة ، أو الغلبة ، أو الاستقراء الظنّي ، أو الأولويّة الاعتبارية ، أو ما أشبه ذلك ، من باب الظنّ الخاص أيضا .

( وممّا ذكرنا ) في حكم الاجماع المنقول إذا تعارض مع إجماع منقول مثله ( يظهر حال الخبر ) إذا تعارض ( مع الاجماع المنقول ) وذلك كما لو كان الخبر يقول بوجوب الجمعة ، والاجماع المنقول يقول بحرمتها - مثلاً - فانّه يلزم ملاحظة التراجيح بينهما ، وإذا لم يكن شيء من التراجيح فالقول بالتخيير .

( أو ) تعارض الخبر مع ( غيره ) أي : مع غير الاجماع المنقول ( من الظنون الخاصّة لو وُجد ) هناك أمر آخر غير الاجماع المنقول ، يقال بحجّيته ، من باب الظنّ الخاص ، وذلك كما إذا قلنا بحجيّة الاستقراء الظنّي من باب الظنّ الخاص ، وكان الاستقراء الظنّي في طرف والاجماع المنقول في طرف آخر ، أو الاستقراء الظنّي في طرف والخبر في طرف آخر ، فانّه يجري بينهما التراجيح ، ثمّ التخيير أيضا .

ثمّ انّ الشيخ المصنّف قدّس اللّه نفسه ، وطيّب رمسه ، لمّا وصل إلى هنا ختم كتابه وكلامه بقوله : ( والحمد للّه ) ربّ العالمين ( على ما تيسّر لنا ) وتوفّقنا له ( من تحرير ) وكتابة ( ما استفدناه بالفهم القاصر ) عن درك حقائق ما وصلنا

ص: 417

من الأخبار ، وكلمات علمائنا الأبرار في باب التراجيح .

رجّح اللّه ما نرجوا التوفيق له من الحسنات على ما مضى من السيئات ، بجاه محمد وآله السّادات ، عليهم أفضل الصلاة ، وأكمل التحيّات ، وعلى أعدائهم أشدّ اللعنات ، وأسوء العقوبات ، آمين آمين آمين .

-----------------

عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ( من الأخبار ، و ) ما استظهرناه من ( كلمات علمائنا الأبرار ) قدّس اللّه أسرارهم ( في باب التراجيح ) بين الأخبار المتعارضة وغير الأخبار ( رجّح اللّه ) لنا بسببه ( ما نرجوا التوفيق له من الحسنات ) والدرجات ( على ما مضى ) منّا ( من السيّئات ) والخطيئات ( بجاه محمّد وآله ) سادة ( السادات ، عليهم ) من اللّه تعالى وملائكته ورسله وجميع خلقه ومنّا ( أفضل الصلاة ، وأكمل التحيّات ) إلى أبد الآباد ( وعلى أعدائهم ) أعداء اللّه ، من اللّه وملائكته ورسله وجميع خلقه ومنّا ( أشدّ اللعنات ، وأسوء العقوبات ) عليهم في أسفل دركات الجحيم ( آمين آمين آمين ) ياربّ العالمين .

هذا ، وقد حصل لنا الفراغ بحمد اللّه ومنّه ، من هذا الشرح الوجيز ، المسمّى ب- : « الوصائل إلى الرسائل » في عصر يوم الأحد ثاني ربيع الأوّل سنة ألف وأربعمائة واحدى عشرة من الهجرة المباركة على هاجرها وآله الميامين أفضل صلوات المصلّين ، وذلك في مدينة قم المقدّسة على يد مؤلّفه الفقير إلى رحمة ربّه : محمّد بن المهدي الحسيني الشيرازي عامله اللّه بلطفه ، وأرجوه سبحانه الثواب والفائدة ، كما أرجوه سبحانه حسن الخاتمة ، والحمد للّه أوّلاً وآخر ، وظاهرا وباطنا ، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين .

وسبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد للّه ربّ العالمين .

ص: 418

خاتمة الكتاب هذا ، وقد انتهى الكتاب ، وفي بلاد الاسلام أعظم كارثة ، لم يشهد مثلها تاريخ الاسلام الغابر ، فان أعظم كوارث المسلمين كان في أيام المغول الشرقيين ، وأيام الصليبيين الغربييّن ، لكن كل واحد من هذين الزلزالين كان خاصاً بنصف عالم الاسلام ، بينما الزلزال الحاضر يعمّ كل بلاد الاسلام ، مثلاً :

في لبنان الحرب قائمة على قدم وساق ، منذ خمس عشرة سنة ، يقتل الكل الكل ، الشيعة الشيعة ، والسنة السنة ، والمسيحي المسيحي ، وسائر الطوائف بعضهم بعضاً ، وكل طائفة طائفة اخرى .

والغريب في الأمر : أنّ كل شيء يشترى بالمال الاّ السلاح ، فإنّه بالمجّان لكل من يريد قتل أخيه ، كما أن غير القتل من ويلات الحرب أيضاً متوفر .

وفي افغانستان : الحرب منذ عشر سنوات بما لا تبقي ولا تذر ، بين الحكومة المزروعة من قبل الشرق الملحد وبين المسلمين ، وكذلك بين المسلمين بعضهم مع بعض.

وفي العراق وايران بعد انتهاء الحرب التي دامت ثمان سنوات ، بما قدّر خسائرها بعض الاحصاءات بأكثر من ثلاثة ملايين بين قتيل وجريح وأسير ، ولازالت الخرائب في البلدين على ما كانت ، والاُسراء على ما كانوا ، وقد قدّر عددهم بأكثر من مائة ألف .

وهكذا الحرب قائمة بين البلدان الأربع الاسلامية ، مصر وسوريا ولبنان والاردن من ناحية وبين اسرائيل الغاصبة لفلسطين من ناحية اخرى ، زهاء خمسة عقود من الزمن .

ص: 419

والانتفاضة الفلسطينية يمرّ عليها ثلاث سنوات في كل يوم قتلى وجرحى بأعداد قليلة أو كثيرة .

وفي العاشر من المحرّم من هذا العام اجتاح البعث العراقي الكويت ، وقد سبب فساداً غير مترقّب من القتل والغدر والسّلب والنّهب والتعدّي على النواميس ، وحرق الناس وهم أحياء وحرق البيوت وغيرها من الفجائع التي لا تعد ولا تحصى .

إنّ الغرب أرسل الى المنطقة تجهيزات كبيرة ، حتى قُدِّر عدد الجيش الذى نزل السعودية والخليج بأكثر من أربعمائة ألف جندي ، وذلك بكامل قواهم ومعدّاتهم العسكرية ، وقد قُدّر مصرفهم المأخوذ من البلاد الخليجية في كل شهر أكثر من مليار وربع من الدولارات ، والمنطقة مهيّئة للاشتعال الذي لا يعلم مدى أضراره المادّية والمعنوية سوى الله سبحانه وتعالى .

وفي كشمير : الحرب قائمة بين المسلمين والهندوس ، وفي باكستان اضطرابات بين الحكومة السابقة المعزولة بقوة الدبابات العسكرية وبين الحكومة الجديدة ، وكذلك الحرب بين شمال السودان وجنوبه ، وفي الفليبين بين المسلمين والكفار.

كما انّ السجون في بلاد الاسلام ممتلئة بالسجناء ، والغالب يعيشون تحت وطأة التعذيب ، ممّا يؤدي الى موت كثير منهم ، أو نقص في أعضائهم ، أو حدوث خلل في قواهم وعقولهم ، حتى ان في العراق وحده زهاء نصف مليون سجين وسجينة ، وقرى الاكراد تحرق بالالاف ، وبلا رحمة ، كما قتل البعث منهم بسبب الغازات السامة زهاء عشرة آلاف

ص: 420

انسان ، الى غيرها وغيرها من المآسي التي تحتاج الى مجلّدات .

والعلاج يكمن بالالتجاء الى الله سبحانه وتعالى ، أن يكشف هذه الغمّة عن هذه الامّة ، وأن يعجّل في فرج وليه المهدي عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، بعدما ملئت ظلماً وجوراً، ثم العمل الدائب ليل نهار ، بالتوعية ، والتنظيم ، وإرساء قواعد توزيع القدرة ، والسير الى تحقيق حكومة واحدة لكل المسلمين البالغ عددهم زهاء ألف وخمسمائة مليون مسلم ، وما ذلك على الله بعزيز .

اللّهم إنّا نرغبُ اليكَ في دولة كريمة تُعزّ بها الاسلام وأهله ، وتذلّ بها النفاق وأهله ، وتجعلنا فيها من الدعاة الى طاعتك ، والقادة الى سبيلك ، وترزقنا بها كرامة الدنيا والاخرة .

واللّه المسهّل والمسيّر ، الكاشف للضر ، وهو المستعان .

2 / ربيع الأوّل / 1411 ه- ق قم المقدسة محمد الشيرازي انتهى شرح الرسائل المسمّى بالوصائل وله الحمد أوّلاً وآخرا وظاهرا وباطنا والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمّد وعلى آل بيته الطيّبين الطاهرين

ص: 421

ص: 422

المحتويات

تتمّة المقام الأوّل : الترجيح بالمزايا ... 5

المقام الثاني : الأخبار الواردة في أحكام المتعارضين ... 32

المقام الثالث : عدم جواز الاقتصار على المرجّحات المنصوصة ... 84

المقام الرابع : بيان المرجّحات ... 108

التعارض بين أكثر من دليلين ... 201

مرجّحات الرواية من الجهات الأُخر ... 246

الترجيح بالسند ... 249

الترجيح بالمتن ... 262

الترجيح من حيث وجه الصدور ... 268

الأمر الأوّل ... 301

الأمر الثاني ... 302

الأمر الثالث ... 317

الأمر الرابع ... 320

الأمر الخامس ... 326

المرجّحات الخارجيّة

أقسام المرجّحات الخارجيّة ... 335

بقي في المقام أمران ... 350

المقام الأوّل ... 350

ص: 423

المقام الثاني ... 355

الأوّل : المرجّح الخارجي المعاضد لمضمون أحد الخبرين ... 359

الثاني : المرجّح الخارجي غير المعاضد لمضمون أحد الخبرين ... 381

خاتمة الكتاب ... 419

المحتويات ... 423

ص: 424

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.