الوصائل الى الرسائل المجلد 14

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

الوصائل الى الرسائل

تتمّة بحث الاستصحاب

ص: 4

لكنّ الذي يبعّده أنّ الظاهر من الغير - في صحيحة إسماعيل بن جابر : « إن شكّ في الركوع بعد ما سجد ، وإن شك في السجود بعد ما قام ، فليمضِ » بملاحظة مقام التحديد ومقام التوطئة للقاعدة المقرّرة بقوله ، بعد ذلك : « كلّ شيء شك فيه ، الخ » - ، كونُ السجود والقيام حدّا للغير ، الذي يعتبر الدخول فيه

-------------------

( لكنّ الذي يبعّده ) اي : يبعّد الاحتمال الأوّل ويقرّب الاحتمال الثاني وهو : اعتبار قيد الدخول في الغير وعدم كفاية مجردّ التجاوز هو : ( أنّ الظاهر من الغير في صحيحة إسماعيل بن جابر : « إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شك في السجود بعد ما قام ، فليمضِ » (1) ) فان الظاهر منه ( بملاحظة مقام التحديد ) اعتبار الدخول في الغير ، كما في المثالين المذكورين ( و ) كذا بملاحظة ( مقام التوطئة ) لان التحديد في المثالين المذكورين في الصدر تمهيد لبيان قاعدة كلية مذكورة في الذيل واذا كان التحديد في المثالين تمهيدا ( للقاعدة المقرّرة بقوله ، بعد ذلك ) أي : بعد المثالين : ( « كلّ شيء شك فيه ، الخ » ) فلا يجوز حمل الدخول في الغير على الغالب .

وعليه : فان ما يبعّد الاحتمال الأوّل ويقرّب الاحتمال الثاني في الصحيحة هو أمران :

الأوّل : ( كونُ السجود والقيام حدّا للغير ، الذي يعتبر الدخول فيه ) اي : في الغير حتى يصدق عليه التجاوز عنه ، واذا كان التحديد هذا في مقام يراد به التمهيد لبيان أمر كلّي - كما هو المراد هنا في الصحيحة - فلا يجوز حمله على الغالب حتى يقال : بانه لا يلزم الدخول في الغير .

ص: 5


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص153 ب23 ح60 ، وسائل الشيعة : ج6 ص318 ب13 ح8071 ، دعائم الاسلام : ج1 ص891 بالمعنى .

وأنّه ، لا غيرَ ، أقربُ من الأوّل بالنسبة الى الركوع ، ومن الثاني بالنسبة الى السجود ، اذ لو كان الهُوِيُّ للسجود كافيا عند الشك في الركوع ، والنهوض للقيام كافيا عند الشك في السجود ، قَبُحَ في مقام التوطئة للقاعدة الآتية التحديد بالسجود والقيام ولم يكن وجهٌ لجزم المشهور بوجوب الالتفات إذا شك قبل الاستواء قائما .

-------------------

الثاني : ( وأنّه لا غيرَ ، أقربُ من الأوّل ) اي : من السجود ( بالنسبة الى الركوع ، ومن الثاني ) اي : من القيام ( بالنسبة الى السجود ، اذ لو كان الهُوِيُّ للسجود كافيا عند الشك في الركوع ، والنهوض للقيام كافيا عند الشك في السجود ) حتى يكون تجاوزا ( قَبُحَ في مقام التوطئة ) والتمهيد ( للقاعدة الآتية ) وهي قوله عليه السلام : « كلّ شيء شك فيه ، الخ » (1) ( التحديد بالسجود والقيام ) وإنّما كان يلزم التحديد بالهويّ للسجود ، والنهوض للقيام ، وهكذا .

كما ( ولم يكن وجهٌ لجزم المشهور بوجوب الالتفات ) والاتيان بالمشكوك فيما ( إذا شك ) في السجود - مثلاً - حال النهوض ( قبل الاستواء قائما ) والاتيان بالركوع اذا شك فيه حال الهويّ وقبل السجود .

لكن فيه : ان السجود وكذا القيام في الصحيحة من باب المثال الظاهر ، والغالب انّ الانسان يأتي بالمثال الظاهر للقواعد الكلية وان كانت هناك أمثلة أخرى ، واذا كان كذلك فكون الرواية في مقام التحديد في المثال غير ظاهر ، خصوصا عند الجمع بين هذه الرواية والروايات السابقة ، الظاهرة في كفاية التجاوز وان لم يدخل في الغير .

ص: 6


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص153 ب23 ح60 ، وسائل الشيعة : ج60 ص318 ب13 ح8071 ، دعائم الاسلام : ج1 ص189 بالمعنى .

ومّما ذكرنا يظهر : أنّ ما ارتكب بعضُ مّمن تأخّر : من التزام عموم الغير وإخراج الشك في السجود قبل تمام القيام بمفهوم الرواية - ضعيفٌ جدا ، لأنّ الظاهر : أنّ القيد وارد في مقام التحديد .

والظاهر : أنّ التحديد بذلك توطئة للقاعدة ، وهي بمنزلة

-------------------

( و ) كيف كان : فانه ( مّما ذكرنا ) : من انّ الصدر ظاهر في التحديد ، وان التحديد ظاهر في مقام التمهيد للذيل ( يظهر : أنّ ما ارتكب بعضُ مّمن تأخّر : من التزام عموم الغير ) للتجاوز وان لم يدخل في غيره ، وكفاية التجاوز الى كل غير ، لقوله عليه السلام في بيان قاعدة كلية : «كل شيء شك فيه وقد جاوزه ودخل في غيره ، فليمض عليه » (1) ( وإخراج الشك في السجود قبل تمام القيام ) من عموم الغير ( بمفهوم الرواية ) اي : بمفهوم القيد المذكور في صحيحة اسماعيل حيث قال عليه السلام : «بعدما قام» عقيب قوله : «وان شك في السجود» فان الغير الذي يعتبر الدخول فيه يشمل بعمومه النهوض من السجود الى القيام ، ومفهوم القيد مخرج له من العموم ، فان هذا الذي توهّمه بعض من تأخر بنظر المصنِّف ( ضعيفٌ جدا ) .

وإنّما هو بنظر المصنِّف ضعيف جدا ( لأنّ الظاهر : أنّ القيد وارد في مقام التحديد ) .

( والظاهر : أنّ التحديد بذلك ) اي : «بالقيام» في مثال الشك في السجود ( توطئة للقاعدة ) اي : لقاعدة التجاوز المذكورة في آخر الصحيحة ( وهي بمنزلة

ص: 7


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص153 ب23 ح60 ، وسائل الشيعة : ج6 ص318 ب13 ح8071 ، دعائم الاسلام : ج1 ص189 بالمعنى .

ضابطة كلّية ، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في فهم الكلام .

فكيف يجعل فردا خارجا بمفهوم القيد عن عموم القاعدة ؟ .

فالأولى أن يُجعل هذا كاشفا عن خروج مقدّمات أفعال الصلاة عن عموم الغير ، فلا يكفي في الصلاة مجرّد الدّخول ولو في فعل غير أصلّي ، فضلاً عن كفاية مجرّد الفراغ .

-------------------

ضابطة كلّية ، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في فهم الكلام ) .

وعليه : ( فكيف يجعل ) هذا البعض الشك في السجود قبل القيام ( فردا خارجا بمفهوم القيد عن عموم القاعدة ؟ ) مع ان ظاهر الكلام هو : ان القاعدة المذكورة في آخر الصحيحة محدودة بالقيد المذكور في صدرها ، فيكون القيد توطئة لها كما ذكرناه ، وحينئذ فلا مجال لما فعله هذا البعض من حمل الصحيحة على الاطلاق واخراج المورد بمفهوم القيد ، لاستهجانه وبُعده .

هذا ، ولكنك قد عرفت : إنّا ذكرنا فيما سبق : ان المثالين الذين ذكرهما الإمام عليه السلام هما من باب أظهر المصاديق ، فلا يرد على المرتكب لذلك هذا الاشكال .

وعلى ايّ حال : ( فالأولى أن يُجعل هذا ) اي : يجعل القيد الوارد في مقام التحديد ، الظاهر في كونه تمهيدا لقاعدة التجاوز الكلية ( كاشفا عن خروج مقدّمات أفعال الصلاة عن عموم الغير ) وعلى هذا ( فلا يكفي في الصلاة مجرّد ) التجاوز ، ولا مجرّد ( الدّخول ولو في فعل غير أصلّي ) كالهوىّ للسجود ، أو الأخذ في النهوض للقيام ، أو الشروع في رفع اليدين لاجل القنوت ، أو ما أشبه ذلك ( فضلاً عن كفاية مجرّد الفراغ ) .

ص: 8

والأقوى اعتبار الدخول في الغير ، وعدم كفاية مجرّد الفراغ ، إلاّ أنّه قد يكون الفراغ عن الشيء ملازما للدخول في غيره ، كما لو فرغ عن الصلاة والوضوء ، فانّ حالة عدم الاشتغال بهما يعدُّ مغايرة لحالهما ، وإن لم يشتغل بفعل وجودي فهو دخولٌ في الغير بالنسبة اليهما .

وأمّا التفصيل بين الصلاة والوضوء ،

-------------------

لكن قد عرفت : ان ظاهر الروايات بعد ضمّها بعضا الى بعض هو : كفاية الفراغ ولو لم يدخل في الغير ولا في مقدماته .

هذا ، ولكن المصنِّف قال : ( والأقوى ) عندنا ( اعتبار الدخول في الغير ، وعدم كفاية مجرّد الفراغ ) وذلك لما عرفت : من تقييد المصنِّف اطلاق ما دل على كفاية مجرد الفراغ بما دل على الدخول في الغير .

( إلاّ أنّه قد يكون الفراغ عن الشيء ملازما للدخول في غيره ، كما لو فرغ عن الصلاة والوضوء ، فانّ حالة عدم الاشتغال بهما ) بعد ان كان فيهما قطعا ( يعدُّ مغايرة لحالهما ، وإن لم يشتغل بفعل وجودي ) كالأكل والمشي والدرس وما اشبه ذلك ( فهو ) اي : الفراغ حينئذ ( دخولٌ في الغير بالنسبة اليهما ) اي : الى الصلاة والوضوء ، وهكذا بالنسبة الى اعمال الحج .

وعليه : فهنا فرق بين الشك في أثناء العمل ، حيث ان الفراغ لا يتحقق الاّ بعد الدخول في الغير حقيقة ، وبين الشك بعد تمام العمل ، فانه شك بعد الدخول في الغير ، وان لم يشتغل بعمل آخر ، اذ مجرّد الفراغ دخول في الغير .

( وأمّا التفصيل بين الصلاة والوضوء ) وهو قول ثالث في المسألة ، لأنّ بعض الفقهاء قال : إنّ مناط عدم العبرة بالشك هو مجرد التجاوز عن المحل مطلقا ، من غير فرق بين الصلاة والوضوء وسائر الاعمال ، كأعمال الحج ونحوه .

ص: 9

بالتزام كفاية مجرّد الفراغ من الوضوء ولو مع الشك في الجزء الأخير منه ؛

-------------------

وبعض الفقهاء قال : ان المناط هو الدخول في الغير مطلقا ، وان الفراغ إنّما يتحقق مع الدخول في الغير - على ما مرّ الكلام فيهما - .

وقول ثالث هنا بالتفصيل بين الوضوء وغيره ، فقال في الوضوء : ان المناط فيه مجرد التجاوز حتى عند الشك في الجزء الأخير الذي هو مسح الرجل اليسرى ، وقال في غير الوضوء كالصلاة واعمال الحج ونحوهما : ان المناط فيها هو الدخول في الغير ، فهذا القائل فصّل بين الوضوء وغيره ( بالتزام كفاية مجرّد الفراغ من الوضوء ولو مع الشك في الجزء الأخير منه ) فانه مع ذلك حكم بصحة الوضوء وعدم الالتفات الى الشك فيه بمجرّد الفراغ منه ، بخلاف غير الوضوء حيث انه قيّد الصحة فيها بالدخول في الغير .

ثم استدل لكفاية مجرّد الفراغ في الوضوء بقوله عليه السلام فيمن شك في الوضوء بعد الفراغ : «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » (1) بتقريب ان اطلاق : «حين يشك» يشمل الدخول في الغير ، وعدم الدخول فيه ، وبقوله عليه السلام في مورد الشك في الوضوء بعد الفراغ : «إنّما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه » (2) بتقريب : انه اذا شك بعد الفراغ من الجزء الأخير كان شكا في شيء قد جازه .

واستدل لعدم كفاية مجرّد الفراغ في غير الوضوء بسائر الروايات الدالة على اعتبار الدخول في الغير ، فانه اذا لم يدخل في الغير لم يحكم بالصحة وعدم الالتفات الى الشك .

ص: 10


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح114 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1249 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .

فيردّه اتحاد الدليل في البابين ، لأنّ ما ورد من قوله عليه السلام فيمن شك في

الوضوء بعد ما فرغ من الوضوء : « هو حين يتوضّأ اذكَرُ منه حين يشكّ » عامٌّ بمقتضى التعليل لغير الوضوء أيضا .

ولذا استفيد منه حكم الغسل والصلاة أيضا .

وكذلك موثّقة ابن أبي يعفور المتقدّمة ، صدرُها دالّ على اعتبار الدخول في الغير في الوضوء ، وذيلها يدلّ على عدم العبرة بالشك بمجرّد التجاوز مطلقا من غير تقييد بالوضوء ،

-------------------

وعلى ايّ حال : ( فيردّه اتحاد الدليل في البابين ) فانا اذا اعتبرنا الدخول في الغير لم يختلف فيه الوضوء وغيره ، وان اكتفينا بالتجاوز لم يختلف فيه الوضوء عن غيره مطلقا ( لأنّ ما ورد من قوله عليه السلام فيمن شك في الوضوء بعد ما فرغ من الوضوء : « هو حين يتوضّأ اذكَرُ منه حين يشك » (1) عامٌّ بمقتضى التعليل لغير الوضوء أيضا ) وانه كالقاعدة الكلية ، وان الوضوء يكون موردا ، ممّا يظهر منه ان الشارع قدّم الظاهر على الأصل في مورد قاعدة الفراغ سواء في الوضوء وغيره .

( ولذا ) اي : لأجل ما ذكرناه : من انه يفهم منه المناط الشامل لغير الوضوء ايضا ( استفيد منه ) اي : استفاد العلماء من هذا الحديث ( حكم الغسل والصلاة أيضا ) وحكم اعمال الحج وغيره .

( وكذلك موثّقة ابن أبي يعفور المتقدّمة ، صدرُها دالّ على اعتبار الدخول في الغير في الوضوء ، وذيلها يدلّ على عدم العبرة بالشك بمجرّد التجاوز مطلقا ) ومعنى الاطلاق ما ذكره بقوله : ( من غير تقييد بالوضوء ) فلا مجال إذن للتفصيل

ص: 11


1- - تهذيب الأحكام : ج1 ص101 ب4 ح114 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1249 .

بل ظاهره يأبى عن التقييد .

وكذلك روايتا : زرارة وأبي بصير المتقدّمتان آبيتان عن التقييد .

وأصرح من جميع ذلك في الإباء عن التفصيل بين الوضوء والصلاة قولُه عليه السلام : في الرواية المتقدمة : « كلُّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرتَهُ تذكّرا فأمضه » .

-------------------

الذي ذكره هذا المفصل ، بالفرق بين الوضوء وسائر الاعمال .

( بل ظاهره ) حيث قال عليه السلام : «إنّما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه» (1) ( يأبى عن التقييد ) بكونه حكم الوضوء فقط ، لظهوره في انه قاعدة كلية شاملة للوضوء وغيره ، خصوصا مع كلمة « انّما » الدالة على الحصر .

( وكذلك روايتا : زرارة ) حيث قال عليه السلام فيها : «اذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكك ليس بشيء» (2) ( وأبي بصير ) وهي الموثقة التي قال عليه السلام فيها : «كل ما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو » (3) فهاتان الروايتان ( المتقدّمتان آبيتان عن التقييد ) بكونهما لبيان حكم وشك في غير الوضوء .

( وأصرح من جميع ذلك في الإباء عن التفصيل بين الوضوء والصلاة ) وبيان ان حكم الجميع واحد ( قولُه عليه السلام : في الرواية المتقدِّمة : « كلُّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرتَهُ تذكّرا فأمضه » (4) ) فانه قد جمع بين الطهارة والصلاة

ص: 12


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص352 ب13 ح47 ، وسائل الشيعة : ج8 ص237 ب23 ح10524 .
3- - تهذيب الاحكام : ج2 ص344 ب13 ح14 ، وسائل الشيعة : ج8 ص238 ب23 ح10526 .
4- - تهذيب الأحكام : ج1 ص364 ب16 ح34 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1248 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص580 ح6 .

الموضع الرابع :

قد خرج من الكلّية المذكورة أفعال الطهارات الثلاث ، فانّهم أجمعوا على أنّ الشاكّ في فعل من أفعال الوضوء قبل اتمام الوضوء ، يأتي به وإن دخل في فعل آخر .

وأمّا الغسل والتيمّم فقد صرّح بذلك فيهما بعضُهم على وجه يظهر منه كونه من المسلّمات ، وقد نصّ على الحكم في الغسل جمعٌ مّمن تأخر عن المحقق ، كالعلامة والشهيدين والمحقق الثاني ،

-------------------

في الحكم، فكيف يفرّق بينهما ؟ بل انه كما قلنا : يفهم من الرواية عرفا انهما من باب المثال ، والاّ فالأمر جار في الحج وفي غيره ايضا .

( الموضع الرابع ) : في المستثنيات من قاعدة التجاوز ، وهي كما قال : ( قد خرج من الكلّية المذكورة ) اي : كلية عدم العبرة بالشك بعد تجاوز المحل والدخول في الغير ( أفعال الطهارات الثلاث ) من الغسل والوضوء والتيمم ، والخروج إنّما هو بالاجماع لا بنص خاص ( فانّهم أجمعوا على أنّ الشاكّ في فعل من أفعال الوضوء قبل اتمام الوضوء ، يأتي به وإن دخل في فعل آخر ) فالشاك في غسل اليد اليمنى يأتي به وان كان شارعا في غسل اليسرى ، والشاك في مسح الرأس يأتي به وان كان شارعا في مسح الرجل .

( وأمّا الغسل والتيمّم فقد صرّح بذلك ) اي : بعدم اعتبار قاعدة التجاوز ( فيهما بعضُهم على وجه يظهر منه كونه من المسلّمات ) ولعل ذلك لتنقيح المناط الذي ذكروه في الوضوء .

( وقد نصّ على الحكم ) اي : الاتيان بالمشكوك وان دخل في فعل آخر ( في الغسل جمعٌ مّمن تأخر عن المحقق ، كالعلامة والشهيدين والمحقق الثاني ،

ص: 13

ونصّ غير واحد من هؤلاء على كون التيمم كذلك .

وكيف كان : فمستندُ الخروج قبل الاجماع : الاخبارُ الكثيرة المخصّصة للقاعدة المتقدّمة ،

-------------------

ونصّ غير واحد من هؤلاء على كون التيمم كذلك ) أي : كالغسل في الحكم ، لكن كلام بعضهم خاص بالوضوء مقتصرا على مورد النص ، ومعه فلا اجماع في الغسل والتيمم .

( وكيف كان : فمستندُ الخروج ) اي : خروج الوضوء عن قاعدة التجاوز ( قبل الاجماع : الاخبارُ الكثيرة المخصّصة للقاعدة المتقدّمة ) وإنّما قال : ان مستند الاستثناء هو الاجماع ، لأنّ الاخبار الدالة على الاستثناء متعارضة على تقدير الدلالة ، فبعد التساقط يكون المرجع كليات قاعدة التجاوز ، ومن تلك الاخبار الكثيرة المخصصة لقاعدة التجاوز ما رواه زرارة عن الباقر عليه السلام قال : «اذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك ام لا ؟ فأعد عليهما ، وعلى جميع ما شككت فيه انك لم تغسله أو تمسحه ممّا سمّى اللّه ، ما دمت في حال الوضوء ، فاذا قمت عن الوضوء وفرغت منه ، وقد صرت في حال أخرى ، في الصلاة أو في غيرها ، فشككت في بعض ما سمّى اللّه تعالى ممّا أوجب اللّه تعالى عليك فيه وضوءا فلا شيء عليك فيه » (1) الحديث .

أقول : لا يخفى انّ هنا مقابل هذا الحديث - على ضعف دلالته ايضا - جملة من الأحاديث ، ممّا لو فرضنا تكافؤهما يجب الجمع بينهما ، وذلك بحمل هذا الحديث على الاستحباب .

ص: 14


1- - الكافي فروع : ج3 ص33 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص100 ب4 ح110 ، وسائل الشيعة : ج1 ص469 ب42 ح1243 .

إلاّ أنّه يظهر من رواية ابن أبي يعفور المتقدّمة ، وهي قوله عليه السلام : « إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء ، إنّما الشكّ اذا كنت في شيء لم تجزه » ، أنّ حكم

-------------------

« فعن عبد اللّه بن ابي يعفور ، عن ابي عبد اللّه عليه السلام قال : اذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره ، فشكك ليس بشيء ، إنّما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه » (1) كذا رواه التهذيب ، كما في الوسائل ، ورواه ايضا آخر السرائر .

« وعن عبد اللّه بن بكير عن محمد بن مسلم قال : سمعت ابا عبد اللّه عليه السلام يقول : كل ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فأمضه كما هو ولا اعادة عليك فيه » (2) .

« وعن بكير بن أعين قال : قلت له : الرجل يشك بعدما يتوضأ ؟ قال : هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » (3) .

وعلى هذا ، فمقتضى القاعدة هو : ان يكون حال الطهارات الثلاث حال غيرها من الصلاة والحج وغيرهما .

وكيف كان : فقد قال المصنِّف: ( إلاّ أنّه يظهر من رواية ابن أبي يعفور المتقدّمة ، وهي قوله ) عليه السلام : ( « إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء ، إنّما الشكّ اذا كنت في شيء لم تجزه » (4) أنّ حكم

ص: 15


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص364 ب16 ح34 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1248 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص580 ح6 .
3- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح114 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1249 .
4- - تهذيب الأحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .

الوضوء من باب القاعدة لا خارج منها ، بناءا على عود ضمير « غيره » إلى الوضوء ، لئلا يخالف الاجماع على وجوب الالتفات اذا دخل في غير المشكوك من أفعال الوضوء .

-------------------

الوضوء من باب القاعدة لا خارج منها ) اي : ليس الوضوء خارجا عن القاعدة الكلية الدالة على عدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز ، وهذا المعنى يتم بارجاع الضمير في : «غيره» الى الشيء ، فيكون معناه حينئذ : اذا شككت في شيء من الوضوء كالشك في غسل اليد اليمنى ، وقد دخلت في غير ذلك الشيء كالشروع بغسل اليد اليسرى ، فشكك ليس بشيء بل احكم باتيانه ولا تلتفت اليه ، فحكم الوضوء على مقتضى القاعدة .

وأما ( بناءا على عود ضمير «غيره» ) في قوله عليه السلام : «اذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره» ( إلى الوضوء ) فيكون حكم الوضوء خارجا عن القاعدة ، ويجب الاعتناء بالشك واتيان الامر المشكوك ، اذ يكون معناه حينئذ : اذا شككت في شيء من الوضوء كالشك في غسل الوجه ، وقد دخلت في غير الوضوء كالدخول في الصلاة ، فشكك ليس بشيء ، ومفهومه : انك اذا كنت بعد في الوضوء فعليك الاعتناء بالشك واتيان الأمر المشكوك ، وهو خروج لحكم الوضوء عن القاعدة .

وإنّما قال المصنِّف : بناءا على ان الضمير في « غيره » عائد الى الوضوء لا الى « شيء » ( لئلا يخالف الاجماع ) القائم ( على وجوب الالتفات اذا دخل في غير المشكوك من أفعال الوضوء ) فقد قام الاجماع على انه اذا شك - مثلاً - في غسل الوجه وقد دخل في غسل اليد اليمنى ، أو شك في غسل اليد اليمنى وقد دخل

ص: 16

وحينئذ فقوله عليه السلام : « إنّما الشك » مسوقٌ لبيان قاعدة الشك المتعلّق بجزء من أجزاء عمل ، وأنّه إنّما يعتبر اذا كان مشتغلاً بذلك العمل غير متجاوز عنه .

هذا ، ولكن الاعتماد على ظاهر ذيل الرواية

-------------------

في غسل اليد اليسرى ، وغير ذلك ، فانه يجب عليه الاعتناء به واتيانه ، وحيث ان ظاهر هذا الحديث مخالف لهذا الاجماع ، فلابد من ارجاع ضمير غيره الى الوضوء ، لا الى ما هو ظاهر الحديث من الارجاع الى شيء .

( وحينئذ ) اي : حين كان الضمير عائدا الى الوضوء لا الى شيء من الوضوء ( فقوله ) عليه السلام : ( « إنّما الشك ) اذا كنت في شيء لم تجزه » (1) ( مسوقٌ لبيان قاعدة الشك المتعلّق بجزء من أجزاء عمل ) من اعمال الوضوء ( وأنّه ) أي : الشك ( إنّما يعتبر ) ويلتفت اليه ( اذا كان مشتغلاً بذلك العمل غير متجاوز عنه ) الى غيره ، فيكون حينئذ مراد المصنِّف من قوله : «ان حكم الوضوء من باب القاعدة لا خارج منها بناءا على عود ضمير غيره الى الوضوء» هو ما سيشير اليه : من ان الوضوء امر بسيط ولا يعقل فيه التجاوز الاّ بالفراغ منه .

( هذا ) تمام الكلام في معنى الرواية وعدم الاعتماد على ظاهرها بارجاع الضمير في «غيره» الى الوضوء حتى لا يخالف الاجماع .

( ولكن الاعتماد على ) ظاهرها وارجاع الضمير في «غيره» الى الشيء ، لدلالة ( ظاهر ذيل الرواية ) القائل : «إنّما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه» عليه

ص: 17


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .

مشكلٌ ، من جهة أنّه يقتضي بظاهر الحصر : أنّ الشك الواقع في غَسل اليد باعتبار جزء من أجزائه لا يُعتنى به اذا جاوز غسل اليد مضافا الى أنّه معارض للاخبار السابقة ، فيما اذا شك في جزء من الوضوء بعد الدخول في جزء من الوضوء بعد الدخول في جزء آخر قبل الفراغ منه ، لأنّه باعتبار أنّه شك في وجود شيء بعد تجاوز محلّه يدخل في الأخبار السابقة ،

-------------------

( مشكلٌ، من جهة أنّه يقتضي بظاهر الحصر : أنّ الشك الواقع في غَسل اليد باعتبار جزء من أجزائه لا يُعتنى به اذا جاوز غسل اليد ) وقد عرفت : انه مخالف للاجماع .

وإن شئت قلت : ان ضمير « غيره » ان عاد الى الشي كما هو ظاهر الرواية خالف الاجماع ووافق أخبار التجاوز ، وان عاد الى الوضوء وافق الاجماع وخالف اخبار التجاوز ، ولذلك قال : ( مضافا الى أنّه معارض للاخبار السابقة فيما اذا شك في جزء من الوضوء بعد الدخول في جزء من الوضوء بعد الدخول في جزء آخر قبل الفراغ منه ) وذلك كما اذا شك في غسل الوجه حال كونه يغسل اليد اليمنى ، ولم يفرغ بعد من الوضوء .

وإنّما يكون ذلك معارضا لأخبار التجاوز ( لأنّه باعتبار أنّه شك في وجود شيء بعد تجاوز محلّه يدخل في الأخبار السابقة ) الدالة على التجاوز ، حيث ان ظاهر تلك الاخبار هو : عدم الاعتناء بهذا الشك الذي قد تجاوزه ودخل في غيره .

هذا كله من جهة ، ومن جهة اخرى : ان الوضوء كلّه عمل واحد ، والتجاوز لا يعقل فيه الاّ بالفراغ منه ، فيكون مشمولاً للخبر القائل بالاعتناء بالشك واتيان

ص: 18

ومن حيث أنّه شك في أجزاء عمل قبل الفراغ منه يدخل في هذا الخبر .

ويمكن أن يقال لدفع جميع ما في الخبر من الاشكال : إنّ الوضوء بتمامه في نظر الشارع فعلٌ واحدٌ باعتبار وحدة مسبّبه ، وهي الطهارة ، فلا يلاحظ كلّ فعل منه بحاله حتى يكون موردا لتعارض هذا الخبر مع الأخبار السابقة ، ولا يلاحظ بعض أجزائه ، كغسل اليد - مثلاً - شيئا مستقلاً يشك في بعض أجزائه قبل تجاوزه أو بعده ،

-------------------

المشكوك ، كما قال : ( ومن حيث أنّه شك في أجزاء عمل ) واحد ( قبل الفراغ منه يدخل في هذا الخبر ) القائل بالاعتناء بالشك قبل الفراغ من العمل واتيان الأمر المشكوك .

( ويمكن أن يقال : لدفع جميع ما في الخبر من الاشكال ) من معارضة الاجماع من جهة ، ومعارضة الاخبار من جهة أخرى : ( إنّ الوضوء بتمامه في نظر الشارع فعلٌ واحدٌ ) بسيط وليست افعالاً متعددة ، وذلك ( باعتبار وحدة مسبّبه وهي الطهارة ) .

وعلى هذا ( فلا يلاحظ كلّ فعل منه ) اي : من الوضوء ( بحاله ) اي : شيئا مستقلاً برأسه كي يكون هناك ستة اعمال : غسل الوجه وغسل اليدين والمسح ثلاث مرات ( حتى يكون موردا لتعارض هذا الخبر مع الأخبار السابقة ، و ) هو : كون هذا الخبر دالاً على عدم الاعتناء بالشك والأخبار السابقة دالة على الاعتناء به .

كما ( لا يلاحظ بعض أجزائه ) اي : اجزاء الوضوء ( كغسل اليد - مثلاً - شيئا مستقلاً يشك في بعض أجزائه ) اي : اجزاء اليد من غسل الاصابع أو الكف أو الزند أو الذراع ، وذلك ( قبل تجاوزه ) اي : قبل تجاوز غسل اليد كاملاً ( أو بعده )

ص: 19

ليوجب ذلك الاشكال في الحصر المستفاد من الذيل .

-------------------

أي : بعد غسل تمام اليد .

وعليه : فانه لو لوحظ الوضوء أجزاءا ستة - مثلاً - كان معناه : انه اذا غسل اليد اليمنى وشك في غسل الوجه كان اللازم عدم الاعتناء به والحكم بانه قد غسل وجهه ، وكذلك اذا لوحظ اليد أجزاءا متعدّدة كان اللازم انه اذا شك في غسل الذراع وهو مشتغل بغسل الكف ان لا يعتني بغسل الذراع ويحكم بانه قد غسله ، بل يلاحظ الوضوء كله عملاً واحدا كما يلاحظ كل اليد شيئا واحدا ، واذا كان كذلك فلا يعقل التجاوز فيه الاّ بالفراغ منه ، ومعه لا يكون القول بالاعتناء بالشك في الوضوء مخالفا للاجماع ولا معارضا لاخبار التجاوز .

والحاصل : انا لا نقول بأن الوضوء أجزاء ، واليد أجزاء ( ليوجب ذلك الاشكال في الحصر المستفاد من الذيل ) اي : ذيل الرواية حيث قال عليه السلام فيه : « إنّما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه » (1) .

فان مفهوم هذا الحصر هنا هو : انه اذا شك في جزء من عمل واحد أو شيء واحد بعد تمامه لا يلتفت اليه ، فلا يلاحظ للوضوء اجزاء ، كما لا يلاحظ لليد اجزاء ، وإنّما يلاحظ الوضوء عملاً واحدا كما يلاحظ اليد شيئا واحدا ، فاذا شك في غسل الذراع وهو في الكف ، أو شك في غسل اليمنى وهو في اليسرى يلزم الاعتناء بهذا الشك لانه لم يجزه .

ص: 20


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .

وبالجملة : إذا فرض الوضوء فعلاً واحدا لم يلاحظ الشارع أجزاءه أفعالاً مستقلةً يجري فيها حكم الشك بعد تجاوز المحلّ ، لم يتوجّه شيء من الاشكالين في الاعتماد على الخبر ولم يكن حكم الوضوء مخالفا للقاعدة ، إذ الشك في أجزاء الوضوء قبل الفراغ ليس إلاّ شكّا واقعا في شيء قبل التجاوز عنه ، والقرينة على هذا الاعتبار جعل القاعدة ضابطة لحكم الشكّ في أجزاء الوضوء قبل الفراغ عنه أو بعده .

-------------------

( وبالجملة : إذا فرض الوضوء فعلاً واحدا ) وذلك بمعنى : انه ( لم يلاحظ الشارع أجزاءه أفعالاً مستقلةً ) كي ( يجري فيها حكم الشك بعد تجاوز المحلّ ، لم يتوجه شيء من الاشكالين في الاعتماد على الخبر ) من مخالفته للاجماع ، ومخالفته لقاعدة التجاوز .

( و ) على جعل الوضوء أمرا بسيطا ( لم يكن حكم الوضوء مخالفا للقاعدة ) اي : قاعدة التجاوز المستفادة من الأخبار ، بل تكون هذه الرواية ايضا على نفس معنى قاعدة التجاوز ، وإنّما يجب الاعتناء بالشك في أثناء الوضوء ، لاعتبار الشارع الوضوء أمرا بسيطا لا يعقل فيه التجاوز الاّ بالفراغ من تمام الوضوء ، كما أشار اليه المصنِّف بقوله : ( إذ الشك في أجزاء الوضوء قبل الفراغ ليس إلاّ شكّا واقعا في شيء قبل التجاوز عنه ) فيكون هذا الخبر حينئذ موافقا لسائر الأخبار .

( والقرينة على هذا الاعتبار ) اي : اعتبار الشارع الوضوء عملاً واحدا هو : ( جعل القاعدة ) الكلية للتجاوز في ذيل الرواية ( ضابطة لحكم الشكّ في أجزاء الوضوء ) وهو : عدم الالتفات للشك سواء كان ( قبل الفراغ عنه أو بعده ) وحينئذ فلا يكون المراد من هذه الضابطة : ان الشك قبل الفراغ يوجب الاتيان بالمشكوك وبعد الفراغ لا يوجبه ، وذلك لورود الاشكالين ، فاذا قلنا به للاجماع تبيّن

ص: 21

ثمّ إنّ فرض الوضوء فعلاً واحدا لا يلاحظ حكم الشك بالنسبة الى أجزائه ليس أمرا غريبا ، فقد ارتكب المشهور مثله في الأخبار السابقة بالنسبة الى افعال الصلاة ، حيث لم يُجروا حكم الشك بعد التجاوز في كلّ جزء من أجزاء القراءة حتى الكلمات والحروف ، بل الأظهر عندهم كون الفاتحة فعلاً واحدا

-------------------

انّ الشارع اعتبر الوضوء كله عملاً واحدا بسيطا .

هذا ، ولكن لا يخفى : إنّ الخبر بنظرنا ظاهر في معارضته للاجماع ، لا انه ظاهر في نفس المعنى المجمع عليه ، وحينئذ فلو أخذنا بالاجماع لزم طرح هذا الخبر والاّ لم نعمل بالاجماع المنقول ، ويكون حال الوضوء بالنسبة الى قاعدة التجاوز حال سائر الاعمال ، سواء قبل الفراغ منه ام بعده ، من جهة الغسلات والمسحات ، أم من جهة أجزاء الغسلات والمسحات .

( ثمّ إنّ فرض الوضوء فعلاً واحدا ) لا أفعالاً متعددة بحيث ( لا يلاحظ حكم الشك بالنسبة الى أجزائه ) وإنّما يلاحظ حكم الشك بالنسبة الى مجموعة من حيث هو مجموع ( ليس أمرا غريبا ) في الفقه ( فقد ارتكب المشهور مثله ) اي : مثل هذا الفرض ( في الأخبار السابقة ) الحاكمة بعدم اعتبار الشك بعد التجاوز ، وذلك ( بالنسبة الى افعال الصلاة ، حيث لم يُجروا حكم الشك بعد التجاوز في كلّ جزء من أجزاء القراءة حتى الكلمات والحروف ، بل الأظهر عندهم كون الفاتحة فعلاً واحدا ) فاذا شك في انه هل قرء الحمد أم لا وهو في آخرها ؟ لا يجرون قاعدة التجاوز ، فكيف بالشك في الكلمة الاولى وهو في الثانية ؟ أو الشك في الحرف الأوّل وقد بدأ بالحرف الثاني ؟ .

نعم ، قال المحقق الأردبيلي - كما حكي عنه - بجريان قاعدة التجاوز في هذه

ص: 22

بل جعل بعضهم القراءة فعلاً واحدا .

وقد عرفت النصّ في الروايات على عدم اعتبار الهويّ للسجود والنهوض للقيام .

ومّما يشهد لهذا التوجيه إلحاق المشهور الغسل والتيمّم بالوضوء في هذا الحكم إذ لا وجه له ظاهرا، إلاّ ملاحظة كون الوضوء امرا واحدا يُطلب منه أمرٌ واحدٌ غير قابل للتّبعيض ، أعني : الطهارة .

-------------------

الامور أيضا .

وكيف كان : فانه لم يكن الاظهر عند المشهور جعلُ الفاتحة عملاً واحدا فحسب ( بل جعل بعضهم ) كما يحكى عن الشيخ والشهيد الثاني كل ( القراءة فعلاً واحدا ) لا افعالاً متعدّدة .

هذا ( وقد عرفت النصّ في الروايات على عدم اعتبار الهويّ للسجود والنهوض للقيام ) لصريح : حتى يسجد وحتى يقوم ، والاّ لم يكن من قاعدة التجاوز اذا شك في السجود وهو في حال النهوض ، أو شك في الركوع وهو في حال الهويّ الى السجود ، فيظهر من ذلك كله انه لا بُعد في عدم اعتبار الدخول بجزء آخر من الوضوء ، ووجوب الاتيان بالمشكوك ما لم يحصل الفراغ من كل الوضوء ، فلا تجري إذن قاعدة الفراغ في أجزاء الوضوء ، كما لا تجري في أجزاء الوجه واليد .

( ومّما يشهد لهذا التوجيه ) وهو اعتبارهم الوضوء شيئا واحدا ، لا شيئا ذا أجزاء ( إلحاق المشهور الغسل والتيمّم بالوضوء في هذا الحكم ) فلا يجرون قاعدة الفراغ في الغسل والتيمم الاّ بعد الفراغ من الجميع .

وإنّما يشهد له هذا الالحاق (إذ لا وجه له) اي : للالحاق هنا وجها (ظاهرا، إلاّ ملاحظة كون الوضوء امرا واحدا يُطلب منه أمرٌ واحدٌ غير قابل للتّبعيض ، أعني : الطهارة)

ص: 23

الموضع الخامس :

ذكر بعض الأساطين : « أنّ الشك في الشروط بالنسبة الى الفراغ عن المشروط ، بل الدخول فيه ، بل الكون على هيئة الداخل ، حكمُ الأجزاء في عدم الالتفات .

-------------------

وبتنقيح المناط في الوضوء أجروا حكمه في الغسل والتيمم .

لكن لا يخفى : انّ كل ما ذكره المصنِّف قدس سره هو أشبه شيء بالاستيناس ، والاّ فاللازم العمل بالرواية ، والاجماع المدّعى لا يمكن الاستناد اليه الاّ من باب الاحتياط .

( الموضع الخامس : ) في انه هل يجري التجاوز والفراغ بالنسبة الى الشرط ايضا ، أو ان القاعدتين مختصتان بالجزء فقط ؟ .

( ذكر بعض الأساطين ) وهو الشيخ جعفر كاشف الغطاء : ( « أنّ الشك في الشروط بالنسبة الى الفراغ عن المشروط ) كما اذا شك بعد ان فرغ من الصلاة في انه كان متطهّرا ام لا ؟ ( بل الدخول فيه ) اي : في المشروط كما اذا شرع في الصلاة ثم شك في انه دخلها بطهارة ام لا ؟ ( بل الكون على هيئة الداخل ) في الصلاة كما اذا رأى نفسه مستقبل القبلة متهّيئا ، فشك في انه هل كبّر حتى يكون داخلاً في الصلاة أو لم يكبّر حتى لا يكون داخلاً فيها ؟ وفي نفس الوقت شك في انه متطهر أم لا ؟ ففي كل هذه الصُور من الشك في الشروط ، قال : بأن الحكم فيها ( حكمُ ) الشك في ( الأجزاء في عدم الالتفات ) اليها ايضا .

واستدل عليه : بأنّ الروايات لبيان اعتبار ظاهر حال العاقل ، حيث ان العاقل لا يُقدم على عمل وهو يريد ابراء ذمته الاّ بعد احراز ما يعتبر فيه ، وهذه قاعدة

ص: 24

فلا اعتبار بالشك في الوقت والقبلة واللباس والطهارة بأقسامها والاستقرار ونحوها بعد الدخول في الغاية ، و لا فرق بين الوضوء وغيره»، انتهى .

وتبعه بعض من تأخّر عنه ، واستقرب في مقام آخر : إجراء الغاء الشك في الشرط بالنسبة الى غير ما دخل فيه من الغايات .

وما أبعد ما بينه وبين ما ذكره بعض الأصحاب

-------------------

عقلية صدّقها الشارع ، وحينئذ ( فلا اعتبار بالشك في الوقت والقبلة واللباس والطهارة بأقسامها ) حدثية وخبثية ، والحدثية غسلاً كان ام وضوءا ام تيمما (والاستقرار) وهو الطمأنينة ( ونحوها ) من الشروط ( بعد الدخول في الغاية ، و ) هي هنا الصلاة علما بانه ( لا فرق بين الوضوء وغيره » ) من الشروط .

( انتهى ) كلام كاشف الغطاء ( وتبعه ) اي : تبع كاشف الغطاء في جعل حكم الشك في الشرط حكم الشك في الجزء من عدم الالتفات ( بعض من تأخّر عنه ) كما يحكى عن الشيخ مهدي النوري في حاشيته على كشف الغطاء .

( واستقرب ) الشيخ كاشف الغطاء ايضا ، ولكن ( في مقام آخر : إجراء الغاء الشك في الشرط ) حتى ( بالنسبة الى غير ما دخل فيه من الغايات ) كالصلاة ، فانه لا يلتفت الى الشك في شيء من شروطها حتى بالنسبة الى الصلاة والثانية ، فاذا شك - مثلاً - بعد صلاة الظهر في انه هل كان متوضئا ام لا ؟ أجرى قاعدة الفراغ وحكم بصحة صلاة الظهر وكان له ان يأتي بصلاة العصر بدون ان يجدّد الوضوء .

ثم قال المصنِّف : ( وما أبعد ما بينه ) اي : ما بين الشيخ كاشف الغطاء القائل بالغاء الشك في الشرط حتى للصلاة الثانية ( وبين ما ذكره بعض الأصحاب )

ص: 25

من اعتبار الشك في الشرط حتى بعد الفراغ عن المشروط ، فأوجب اعادة المشروط .

والأقوى التفصيل بين الفراغ عن المشروط ، فيلغوا الشك في الشرط بالنسبة اليه ، لعموم لغويّة الشك في الشيء بعد التجاوز عنه .

أمّا بالنسبة الى مشروط آخر لم يدخل فيه ، فلا ينبغي الاشكال في اعتبار الشك فيه ،

-------------------

مثل صاحب المدارك والفاضل الهندي ( من اعتبار الشك في الشرط حتى بعد الفراغ عن المشروط ، فأوجب اعادة المشروط ) وقال : بانّه اذا شك بعد ان صلّى الظهرين - مثلاً - في انه هل كان متوضئا أم لا ؟ فاللازم عليه ان يتوضأ ويعيد صلاة الظهرين .

ثم بعد أن ذكر المصنِّف القولين والبعد بينهما أبدى نظره قائلاً : ( والأقوى ) حسب المستفاد من الأدلة قول ثالث وهو : ( التفصيل بين الفراغ عن المشروط فيلغوا الشك في الشرط بالنسبة اليه ) فاذا فرغ من صلاة الظهر - مثلاً - ثم شك في انه هل كان متوضئا ام لا ؟ لغى شكه فيما فرغ منه وصح ظهره ، وذلك ( لعموم لغويّة الشك في الشيء بعد التجاوز عنه ) فان الغاء الشك الأمرة به روايات التجاوز يعمّ الشك في مثل هذا الشرط بعد الاتيان بالمشروط .

هذا بالنسبة الى المشروط الأوّل الذي فرغ منه ، و ( أمّا بالنسبة الى مشروط آخر ) الذي هو صلاة العصر - مثلاً - اذا ( لم يدخل فيه ) بعد ( فلا ينبغي الاشكال في اعتبار الشك فيه ) اي : الالتفات الى الشرط المشكوك والاتيان به ثم الدخول في المشروط ، بمعنى : انه اذا أراد أن يصلّي العصر لزم عليه ان يتوضأ لها .

ص: 26

لأنّ الشرط المذكور من حيث كونه شرطا لهذا المشروط لم يتجاوز عنه ، بل محلّه باقٍ ، فالشك في تحقّق شرط هذا المشروط شك في الشيء قبل تجاوز محلّه .

وربما بنى بعضهم ذلك على أنّ معنى عدم العبرة بالشك في الشيء بعد تجاوز المحلّ هو : البناءُ على الحصول

-------------------

وإنّما يعتبر الشك فيه ويلزم الاتيان به ( لأنّ الشرط المذكور ) اي : الطهارة ( من حيث كونه شرطا لهذا المشروط ) الذي هو صلاة العصر - في المثال - ( لم يتجاوز عنه ، بل محلّه ) اي : محل الشرط الذي هو الوضوء - في المثال - ( باقٍ ، فالشك في تحقّق شرط هذا المشروط ) الآخر ما دام لم يدخل فيه ولم يفرغ منه هو ( شك في الشيء قبل تجاوز محلّه ) فيلزم إذن ان يأتي بالشرط أولاً ثم يأتي بالمشروط .

لا يقال : كيف تقولون بصحة الظهر ولزوم الطهارة للعصر ، مع انه ان كان متوضئا حين أتى بالظهر صح اتيانه بالعصر بدون الطهارة ، وان لم يكن متوضئا بطل ظهره فلا يتمكن من الاتيان بالعصر حتى بعد التطهير لاشتراط الترتب بين العصر والظهر ؟ .

لأنّه يقال : التفكيك بين المتلازمين في الشرع غير عزيز كما تقدَّم أمثلة كثيرة لذلك ممّا لا حاجة الى اعادتها .

هذا ( وربّما بنى بعضهم ) اي : علّق بعض الفقهاء ( ذلك ) اي : القول بلغوية الشك وعدم لغويته بالنسبة الى سائر الغايات المستقبلة ( على أنّ معنى عدم العبرة بالشك في الشيء بعد تجاوز المحلّ ) هل ( هو : البناءُ على الحصول ) اي : حصول الشيء المشكوك وتحققه حتى يكون معنى قاعدة التجاوز فيما نحن فيه : انه ابنِ على حصول الطهارة ، وحينئذ تتساوى فيه الغايات السابقة واللاحقة .

ص: 27

أو يختص بالدخول .

أقول : لا اشكال في أنّ معناه البناء على حصول المشكوك فيه ، لكن بعنوانه الذي يتحقق معه تجاوز المحلّ لا مطلقا .

ولو شك في أثناء العصر في فعل

-------------------

( أو يختص بالدخول ) وفي بعض النسخ : «بالمدخول» وكلاهما . بمعنى واحد وهو : أو يختص عدم الاعتبار بالشك في الشيء الذي دخل فيه فقط ، دون مالم يدخل فيه ، حتى يكون معنى قاعدة التجاوز فيما نحن فيه : لا تلفت الى الشك في الطهارة بالنسبة الى الظهر الذي دخلت فيه ، دون العصر الذي لم تدخل فيه ، وحينئذ تختص الصحة بالظهر فقط ؟ .

( أقول : ) هذا الذي ذكره بعض الفقهاء غير تام ، اذ ( لا اشكال في أنّ معناه ) اي: معنى قاعدة التجاوز بحسب فهم العرف هو : ( البناء على حصول المشكوك فيه ) وهو الطهارة فيما نحن فيه ( لكن بعنوانه الذي يتحقق معه تجاوز المحلّ ) يعني : ان الوضوء المشكوك إنّما يكون محكوما بالحصول بعنوان شرطيته للظهر ، فان الوضوء بعنوان شرطيته للظهر قد تجاوز محله ( لا مطلقا ) اي : حتى بعنوان شرطيته للعصر ممّا لم يأت به بعدُ .

وبعبارة اخرى : ان الشارع من خلال قاعدة التجاوز كأنه قال : اني أقبل منك الظهر متطهرا ، وليس معنى ذلك انه يقبل منه العصر الذي لم يأت به بعد مع شكه الآن في انه متطهر أم لا ؟ .

( و ) عليه : فان هذا الذي ذكرناه من العنوانين في الطهارة ، هو نظير وجوب تحقق الظهر قبل العصر ، حيث ان له عنوانين : عنوان كونه واجبا في نفسه ، وعنوان كونه شرطا لصحة العصر ، وحينئذ ( لو شك في أثناء العصر في فعل

ص: 28

الظهر ، بنى على تحقق الظهر بعنوان أنّه شرط للعصر ، ولعدم وجوب العدول اليه لا على تحقّقه مطلقا حتى لايحتاج الى إعادتها بعد فعل العصر .

فالوضوء المشكوك فيما نحن فيه ، إنّما فات محلّه من حيث كونه شرطا للمشروط المتحقق ، لا من حيث كونه شرطا للمشروط المستقبل .

ومن هنا يظهر : أنّ الدخول في المشروط أيضا لا يكفي

-------------------

الظهر، بنى على تحقق الظهر ) وحصوله مقيّدا ( بعنوان أنّه شرط للعصر ، و ) انه شرط ايضا ( لعدم وجوب العدول اليه ) اي : الى الظهر ، لان الظهر مقيدا بهذا العنوان قد تحقق التجاوز عنه ( لا على تحقّقه مطلقا ) اي : تحقق الظهر وحصوله ، سواء بعنوان وجوبه المقدّمي ام بعنوان وجوبه النفسي ( حتى لا يحتاج الى إعادتها بعد فعل العصر ) .

والحاصل : انه اذا شك في أثناء العصر بأنه هل أتى بالظهر ام لا ؟ فحيث انه تجاوز محلها ، بنى على حصولها ، لكن لا مطلقا ، بل بعنوان وجوبها المقدّمي للعصر فقط ، لا حتى بعنوان وجوبها النفسي ، ولذلك لا يلزم عليه العدول الى الظهر ، بل يتم صلاته عصرا وبعد اتمام العصر يلزم ان يأتي بالظهر ، لانه لا يعلم هل انه أتى بالظهر ام لم يأت بها ؟ فالاصل الاشتغال .

وعلى هذا : ( فالوضوء المشكوك فيما نحن فيه ، إنّما فات محلّه من حيث كونه شرطا للمشروط المتحقق ، لا من حيث كونه شرطا للمشروط المستقبل ) فصح ظهره المتحقق وأتى بالوضوء للعصر المستقبل .

( ومن هنا ) اي : من انه يحكم بحصول المشكوك بعنوانه الذي يتحقق معه التجاوز ، لا بعنوانه المستقبلي ( يظهر : أنّ الدخول في المشروط أيضا لا يكفي

ص: 29

في الغاء الشك في الشرط ، بل لابد من الفراغ عنه ، لأنّ نسبة الشرط الى جميع أجزاء المشروط نسبة واحدة وتجاوز محلّه باعتبار كونه شرطا للأجزاء الماضية ، فلابدّ من إحرازه للأجزاء المستقبليّة .

نعم ، ربما يدّعى في مثل الوضوء أنّ محلّ إحرازه لجميع أجزاء الصلاة قبل الصلاة ، لا عند كلّ جزء .

ومن هنا : قد يفصّل بين ما كان من قبيل الوضوء، مّما يكون محلّ

-------------------

في الغاء الشك في الشرط ) فاذا شك في أثناء الظهر بانه هل توضأ للصلاة بعد ان كان محدثا أو لم يتوضأ ؟ لا يصح له اتمام الصلاة ( بل لابد من الفراغ عنه ) اي : عن المشروط مثل : ان يفرغ عن الظهر فيحكم بصحته وانه قد أتى به متطهرا لقاعدة الفراغ .

وإنّما يشترط الفراغ من المشروط ( لأنّ نسبة الشرط ) وهي الطهارة فيما نحن فيه ( الى جميع أجزاء المشروط ) وهي الصلاة في المثال ( نسبة واحدة ) وهي الشرطية ( وتجاوز محلّه ) اي : محل الشرط عند الشك في الاثناء إنّما هو ( باعتبار كونه شرطا للأجزاء الماضية ، فلابدّ من إحرازه للأجزاء المستقبليّة ) وحيث انه ليس بمحرز فلابد من ابطال الصلاة والتطهر للاتيان بها من أولها ثانية .

( نعم ) هنا قول آخر يقول بالتفصيل بين الشرط المتقدِّم والشرط المقارن وهو انه : ( ربما يدّعى في مثل الوضوء ) الذي هو شرط متقدّم للصلاة ( أنّ محلّ إحرازه لجميع أجزاء الصلاة قبل الصلاة ، لا عند كلّ جزء ) فاذا دخل في الصلاة فهو من الشك بعد تجاوز المحل ، فيبنى معه على الوضوء في بقية الصلاة .

( ومن هنا ) اي : من حيث تحقق التجاوز عن محل الشرط المتقدّم بسبب الدخول في الصلاة ( قد يفصّل بين ما كان من قبيل الوضوء، مّما يكون محلّ

ص: 30

إحرازه قبل الدخول في العبادة وبين غيره مّما ليس كذلك ، كالاستقبال والنيّة ، فانّ إحرازهما ممكن في كلّ جزء ، وليس المحلّ الموظّف لاحرازهما قبل الصلاة بالخصوص بخلاف الوضوء .

وحينئذ : فلو شك في أثناء الصلاة في الستر أو السائر وجب عليه احرازه في أثناء الصلاة للأجزاء المستقبلة .

والمسألة لا تخلو عن اشكال ،

-------------------

إحرازه قبل الدخول في العبادة ) لأنّه شرط متقدِّم لها ، صلاة كانت أو طوافا أو نحوهما ( وبين غيره ) من الشرائط ( مّما ليس كذلك ) اي : لم يكن شرطا متقدما ( كالاستقبال والنيّة ، فانّ إحرازهما ممكن في كلّ جزء ) من اجزاء الصلاة ( وليس المحلّ الموظّف لاحرازهما قبل الصلاة بالخصوص ) ولذا فاذا شك في النية أو الاستقبال في الأثناء لا يتمكن من اجراء قاعدة التجاوز ( بخلاف الوضوء ) والغسل والتيمم ، حيث ان محل هذا الشرط قبل الصلاة ومتقدّم على المشروط .

( وحينئذ ) اي : حين كان الاستقبال والنية من الشرط المقارن وليس كالوضوء من الشرط المتقدِّم ( فلو شك في أثناء الصلاة في الستر أو السائر ) وانه هل هو مستور العورة ام لا ؟ أو ان الساتر الذي عليه هل يجوز فيه الصلاة ام لا ؟ أو غير ذلك من الشرط المقارن ( وجب عليه احرازه في أثناء الصلاة للأجزاء المستقبلة ) ولا يكفي احرازه لها بقاعدة التجاوز ،لعدم تحقق التجاوز بالنسبة اليها من الأجزاء المستقبلة .

هذا ( والمسألة ) بعد ( لا تخلو عن اشكال ) وذلك من حيث ان الوضوء هل هو شرط متقدّم فقط حتى يصدق التجاوز اذا كان داخلاً في الصلاة وشك فيه ، فيصح له ان يأتي ببقية الصلاة ، أو هو شرط مقارن أيضا حتى يجب احرازه

ص: 31

إلاّ أنّه ربما يشهد لما ذكرنا من التفصيل : بين الشك في الوضوء في أثناء الصلاة ، وفيه بعده - صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال : « سألته عن الرجل يكونُ على وضوء ، ثمّ يشكّ على وضوء هو أم لا ؟ قال : إذا ذكرها وهو في صلاته إنصرف وأعادها ، وإن ذكر وقد فرغ من صلاته أجزءه ذلك » .

بناءا على أنّ مورد السؤال : الكون على الوضوء باعتقاده ثمّ شك في ذلك .

-------------------

للاجزاء الباقية ، فاللازم ان يرفع يده عن الصلاة ويتوضا ويستأنف ؟ .

( إلاّ أنّه ربما يشهد لما ذكرنا من التفصيل : بين الشك في الوضوء في أثناء الصلاة ) فيستأنف بعد ان يتوضا ( و ) بين الشك ( فيه ) : اي : في الوضوء ( بعده ) اي : بعد الفراغ من الصلاة فيبني على صحة الصلاة ( صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال : « سألته عن الرجل يكونُ على وضوء ، ثمّ يشكّ على وضوء هو أم لا ) فماذا يفعل ؟ ( قال : إذا ذكرها ) اي ذكر الطهارة فشك فيها ( وهو في ) أثناء ( صلاته إنصرف ) عن الصلاة فتطهّر ( وأعادها ، وإن ذكر وقد فرغ من صلاته أجزءه ذلك » ) (1) .

لكن دلالة هذه الرواية على ما نحن فيه إنّما هو ( بناءا على أنّ مورد السؤال : الكون على الوضوء باعتقاده ) أولاً ( ثمّ شك في ذلك ) الذي اعتقده أولاً ، وانه هل كان في محله صحيحا أم لا ؟ يعني : كان شكه من الشك الساري الراجع الى قاعدة اليقين ، لامن الشك الطاري الراجع الى الاستصحاب ، فانه بناءا على الشك الساري تكون الرواية مؤيدة لما ادعاه في مثل الطهارة من التفصيل : بين الشك في الأثناء فاللازم الاستيناف ، وبين الشك بعد الفراغ فلا يحتاج الى الاستيناف ،

ص: 32


1- - مسائل علي بن جعفر : ص206 ، وسائل الشيعة : ج1 ص473 ب44 ح1253 .

الموضع السادس :

انّ الشك في صحّة المأتي به حكمه حكم الشك في الاتيان ، بل هو هو ، لأنّ مرجعه الى الشك في وجود الشيء الصحيح .

-------------------

وذلك لمكان قاعدة الفراغ في الثاني دون الأوّل .

أقول : لكن من المحتمل ان تكون الرواية مؤيدة للقول بالتفصيل فيما نحن فيه حتى بناءا على كون الشك من الشك الطاري الراجع الى الاستصحاب ، وذلك بأن يكون الشخص قد دخل في الصلاة وهو متطهر قطعا ، ثم شك في أثناء الصلاة في بقاء طهارته ، فان مقتضى القاعدة والذي يؤيّده الفتوى هو استصحاب طهارته وصحة صلاته ، لكن الرواية تقول برفع اليد عن الصلاة والاستيناف من باب الاستحباب فتكون الرواية اذا حملت على الاستحباب مؤيدة للتفصيل المذكور ايضا .

( الموضع السادس : انّ الشك في صحة المأتي به ) بعد الفراغ من اصل وجوده : وذلك كما لو علم بأنه أتى بالشيء لكن لم يعلم هل انه أتى به صحيحا أم لا ؟ كالشك في صحة القرائة ، أو في مراعاة الترتيب بين الكلمات والآيات ، أو في رعاية الموالاة بين أفعال الصلاة ، أو غير ذلك ، فان ( حكمه حكم الشك في ) اصل ( الاتيان ) والوجود ، فكما انه لو شك ، وهو في حال الركوع بأنه هل قرء الحمد والسورة أو لم يقرءها ؟ تجري قاعدة التجاوز ، فكذلك اذا شك وهو في الركوع بانه هل قرأهما صحيحا ام لا ؟ .

( بل هو هو ) اي : ان الشك في الصحة هو عبارة أخرى عن الشك في اصل الاتيان والوجود ( لأنّ مرجعه ) اي : مرجع الشك في صحة الذي أتى به ( الى الشك في وجود الشيء الصحيح ) فقاعدة التجاوز إذن تشمل الشك في الصحة ،

ص: 33

ومحلّ الكلام ما لا يرجع فيه الشك الى الشك في ترك بعض ما يعتبر في الصحة ، كما لو شك في تحقق الموالاة المعتبرة في حروف الكلمة أو كلمات الآية .

لكنّ الانصاف : أنّ الالحاق لا يخلو عن اشكال ، لأنّ الظاهر من أخبار الشك في الشيء مختصّ بغير هذه الصورة ، إلاّ أن يدّعى تنقيح المناط ،

-------------------

لانه من أفراد الشك في الوجود ، اذ من المعلوم : ان الصلاة الباطلة وعدمها سيّان .

( ومحلّ الكلام ) في هذا البحث : ( ما لا يرجع فيه الشك الى الشك في ترك بعض ما يعتبر في الصحة ) فإن الشك قد يرجع الى انه هل جاء بالشيء كاملاً أو غير كامل ؟ كما لو شك بانه هل ترك البسملة أو لم يتركها ؟ وقد يعلم انه أتى به كاملاً لكن لا يعلم هل انه كان متصفا بوصف الصحة ام لا ؟ وذلك ( كما لو شك في تحقق الموالاة المعتبرة في حروف الكلمة أو كلمات الآية ) فانه يعلم بانه أتى بجميع الأجزاء ، لكن يشك في وصف الصحة ، والفرق بينهما : ان الشك في انه هل جاء بالبسملة ام لا هو شك في اصل وجود الشيء وعدم وجوده ؟ بينما الشك في مثل الترتيب والموالاة وغير ذلك ممّا لا يعدّ مغايرا للقراءة هو شك في وصف الصحة ، وهذا القسم الأخير هو محل الكلام هنا .

( لكنّ الانصاف أنّ الالحاق ) اي : الحاق الشك في الصحة بالشك في الوجود في كونه مجرى لقاعدة التجاوز ( لا يخلو عن اشكال ، لأنّ الظاهر من أخبار الشك في الشيء مختصّ بغير هذه الصورة ) لظهورها عند المصنِّف في الشك في الوجود والعدم ، لا في وصف الصحة وعدم وصف الصحة .

( إلاّ أن يدّعى تنقيح المناط ) فمناط عدم العبرة بالشك بعد تجاوز المحل في الوجود والعدم ، آتٍ في الشك بعد تجاوز المحل في الصحة وعدم الصحة ، فيعمّ

ص: 34

أو يستند فيه الى بعض ما يستفاد منه العموم ، مثل : موثّقة ابن أبي يعفور، أو يجعل أصالة الصحة في فعل الفاعل المريد للصحيح أصلاً برأسه ، ومدركهُ ظهورُ حال المسلم .

-------------------

أخبار التجاوز بالمناط الموردين : الشك في الوجود ، والشك في الصحة ، وهذا المناط هو الذي يستفيده العرف من أخبار التجاوز .

( أو يستند فيه ) اي : في الالحاق ( الى بعض ما يستفاد منه العموم مثل : موثّقة ابن أبي يعفور ) التي جاء فيها : «اذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكك ليس بشيء ، إنّما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه » (1) فالشيء في الموثقة كما يشمل الشرط والجزء ، كذلك يشمل وصف الموالاة والترتيب ونحوهما فيعم أخبار التجاوز لاجلها الموردين : الشك في الوجود وفي الصحة .

( أو يجعل أصالة الصحة في فعل الفاعل المريد للصحيح أصلاً برأسه ) وذلك من دون التمسك بقاعدة التجاوز المحتملة الاختصاص بالشك في الوجود ، وإنّما اذا شك في الترتيب والموالاة بعد تمام القراءة يتمسك بأصالة الصحة ( ومدركهُ ) اي : مدرك أصل الصحة ( ظهورُ حال المسلم ) في انه لا يأتي الاّ بالعمل الصحيح ، وقد ذكرنا فيما سبق : ان حال الكافر بالنسبة الى أعماله كذلك ، فانه أيضا يُبنى عمله على الصحيح في مثل المعاملات ، ولذا يرتّب المسلمون أثر الصحة على معاملات الكفار ، ويتعاملون معهم بالبيع والاجارة والرهن والمضاربة وغيرها .

هذا أو يؤيّد كون أصل الصحة أصلاً برأسه وانه غير قاعدة الفراغ كلام بعض

ص: 35


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .

قال فخر الدين في الايضاح في مسألة الشك في بعض أفعال الطهارة : « إنّ الأصل في فعل العاقل المكلّف الذي يقصد براءة ذمته بفعل صحيح وهو يعلم الكيفيّة والكميّة الصحّة » ، انتهى .

ويمكن استفادة اعتباره من عموم التعليل المتقدّم في قوله : « هو حين يتوضأ أذكَرُ منه حين يشكّ » فانّه بمنزلة صغرى لقوله ، فاذا كان أذكر فلا يترك مّما يعتبر في صحّة عمله الذي يريد براءة ذمته ، لأنّ الترك سهوا خلاف فرض الذكر ، وعمدا خلاف إرادة الابراء .

-------------------

الفقهاء في ذلك ، فقد ( قال فخر الدين في الايضاح في مسألة الشك في بعض أفعال الطهارة : « إنّ الأصل ) اي : ظاهر الحال ، لا الأصل بمعنى الاستصحاب ( في فعل العاقل المكلّف الذي يقصد برائة ذمته بفعل صحيح ) اي : لانه يعتقد انه لو فعل الشيء صحيحا برئت ذمته ، والاّ لم تبرء ذمته ( وهو يعلم الكيفيّة والكميّة ) ككمية ركعات الصلاة وكيفيتها هو : ( الصحّة » ) وهذا خبر قوله : «ان الاصل» ( انتهى ) كلام الايضاح .

هذا ( ويمكن استفادة اعتباره ) اي : اعتبار أصل الصحة في فعل الفاعد ( من عموم التعليل المتقدّم في قوله ) عليه السلام : ( « هو حين يتوضأ أذكَرُ منه حين يشكّ »(1) ) وإنّما يستفاد ذلك منه ، لانه كما قال : ( فانّه بمنزلة صغرى لقوله : فاذا كان أذكر فلا يترك مّما يعتبر في صحّة عمله الذي يريد براءة ذمته ) منه شيئا ( لأنّ الترك سهوا خلاف فرض الذكر ) الذي أشار اليه بقوله عليه السلام : « أذكر » ( وعمدا خلاف إرادة الابراء ) التي هي ظاهر حال كل عاقل ، فان ظاهر حال العاقل انه يريد

ص: 36


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح114 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1249 .

الموضع السابع :

الظاهر أنّ المراد بالشك في موضع هذا الاصل هو الشك الطاريء بسبب الغفلة عن صورة العمل ، فلو علم كيفية غَسل اليد وأنّه كان بارتماسها في الماء ، لكن شكّ في أنّ ما تحت خاتمه ينغسل بالارتماس أم لا ، ففي الحكم بعدم الالتفات ،

-------------------

ابراء ذمته ، لا اللعب والعبث وما أشبه ذلك ، فان الترك امّا عمدي واما سهوي ، وكلاهما ممنوع لما ذكرناه ، فالعمل يكون صحيحا .

( الموضع السابع ) : لو التفت الى وجود شيء في اعضائه وشك في مانعية الموجود ، وذلك حال الوضوء أو الغسل أو التيمم ، فلم يفحص عنه واتى بالعمل مع ذلك الشك ، فقاعدة الشك بعد الفراغ لا تشمله ، لان ظاهر الشك في القاعدة ان يكون العامل شاكا بعد العمل في انه هل غفل حال العمل ام لم يغفل ؟ لا ان يعلم انه كان ملتفتا حال العمل ، وإنّما كان شكه في مانعية الموجود ، وذلك لأن ( الظاهر أنّ المراد بالشك في موضع هذا الاصل ) أي : قاعدة الفراغ ( هو الشك الطاريء ) اي : الحادث ( بسبب الغفلة عن صورة العمل ) بأن شك بعد الوضوء - مثلاً - في انه هل غفل عند العمل فلم يأت بالوضوء صحيحا ، أو لم يأت بجزء أو شرط منه اصلاً ، أو انه لم يغفل حتى جاء بوضوء صحيح ؟ .

وعليه : ( فلو علم كيفية غَسل اليد وأنّه كان بارتماسها في الماء ، لكن شكّ في ) مانعية الموجود حين الغَسل لانه شك - مثلاً - في ( أنّ ما تحت خاتمه ينغسل بالارتماس أم لا ) أو ان شيئا كان على يده لكن لا يعلم هل ان له جرما حتى يبطل وضوءه ، أو ليس له جرم حتى يصح وضوءه ؟ ( ففي الحكم بعدم الالتفات ) الى الشك ، واجراء قاعدة الفراغ ، أو اللازم الالتفات الى الشك وعدم اجراء قاعدة

ص: 37

وجهان : من إطلاق بعض الأخبار ، ومن التعليل بقوله : « هو حين يتوضا أذكَر منه حين يشك » ؛ فانّ التعليل يدلّ على تخصيص الحكم بمورده مع عموم السؤال ، فدلّ على نفيه عن غير مورد العلّة .

-------------------

الفراغ ( وجهان ) كالتالي :

( من إطلاق بعض الأخبار ) مثل : قول الإمام الصادق عليه السلام : «اذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره ، فشكك ليس بشيء » (1) حيث ان اطلاق الشك يشمل القسمين من الشك فتجري قاعدة الفراغ فيه .

( ومن التعليل بقوله ) عليه السلام : ( « هو حين يتوضا أذكَر منه حين يشك » (2) ) فلا يشمل مثل هذا الشك ( فانّ التعليل يدلّ على تخصيص الحكم بمورده ) اي : بمورد التعليل الذي هو الأذكرية حتى ( مع عموم السؤال ) .

إذن : فالشك بعد الوضوء الذي هو مسئول عن حكمه من الإمام الصادق عليه السلام هنا وان كان يعم كل شك ، الاّ ان العلة في الجواب تضيّق دائرة السؤال ، وذلك لأن العلة مضيّقة وموسّعة حسب القرائن الخارجية ، فاذا قال - مثلاً - : لا تأكل الرمان لأنّه حامض ، وسّعت العلة دائرة الرمان الى كل حامض ، فيجب الاجتناب عن كل حامض ، كما انّ العلة نفسها تضيّق دائرة الرمان الى الرمان الحامض فقط ، فلا بأس بأكل الرمان الحلو ( فدلّ ) التعليل بالأذكرية في قاعدة الفراغ ( على نفيه ) اي: نفي حكم الفراغ ( عن غير مورد العلّة ) وهو مورد الشك في مانعية الموجود ، فلا تجري قاعدة الفراغ فيه .

ص: 38


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح114 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1249 .

نعم ، لا فرق بين أن يكون المحتمل ترك الجزء نسيانا ، أو تركَه تعمّدا ، والتعليل المذكور بضميمة الكبرى المتقدّمة يَدلّ على نفي الاحتمالين .

ولو كان الشك من جهة احتمال وجود الحائل على البدن ، ففي شمول الأخبار له الوجهان .

نعم ، قد يجري هنا أصالة عدم الحائل ، فيحكم بعدمه

-------------------

( نعم ، لا فرق ) في جريان قاعدة الفراغ ( بين أن يكون المحتمل ترك الجزء نسيانا ، أو تركَه تعمّدا ) وكذلك بالنسبة الى ترك الوصف ( و ) ذلك لأنّ ( التعليل المذكور ) في الرواية بالأذكرية ( بضميمة الكبرى المتقدّمة ) التي ذكرها المصنِّف آخر الموضع السادس بقوله : «فاذا كان أذكر ، فلا يترك ممّا يعتبر في صحة عمله الذي يريد براءة ذمته ، لأنّ الترك سهوا خلاف فرض الذكر ، وعمدا خلاف ارادة الابراء» ( يَدلّ على نفي الاحتمالين ) الترك نسيانا ، أو تركه تعمدا ، اذ مورد التعليل هو : من يريد الابراء وهو متذكر حال الوضوء وليس بغافل أو ساهٍ أو ناس أو مغمى عليه أو ما أشبه ذلك ، فهو اذا كان أذكر لا يترك شيئا عمدا ولا نسيانا - على ما عرفت - فتجري القاعدة فيهما معا .

هذا ( ولو كان الشك من جهة احتمال وجود الحائل على البدن ) لا مانعية الموجود ، كما اذا شك في انه هل يوجد على ظهره شيء لاصق به يوجب عدم وصول الماء الى البدن في الغُسل ام لا ؟ ( ففي شمول الأخبار له الوجهان ) اللذان تقدما في احتمال مانعية الموجود من جريان قاعدة الفراغ وعدم جريانها .

( نعم ، قد يجري هنا أصالة عدم الحائل فيحكم بعدمه ) من باب الاستصحاب ، لانه لم يكن قبل ان يتوضأ أو يغتسل حائل على اعضائه ، فاذا شك

ص: 39

حتى لو لم يفرغ عن الوضوء ، بل لم يشرع في غَسل موضع احتمال الحائل ، لكنّه من الاصول المثبتة ، وقد ذكرنا بعض الكلام في ذلك في بعض الامور المتقدّمة .

-------------------

في انه هل وُجد حائل ام لا ؟ يستصحب عدمه ، وذلك ( حتى لو لم يفرغ عن الوضوء ، بل ) حتى ولو ( لم يشرع في غَسل موضع احتمال الحائل ) فانه مع ذلك لا يلزم التحقيق والتدقيق ( لكنّه من الاصول المثبتة ) وهو غير حجة ، لوضوح : ان وصول الماء الى البشرة من اللوازم العادية لعدم الحائل .

وربّما يفصّل بين ما كان الشك في وجود الحائل عقلائيا ، كشك من يعمل في القير والصبغ وشبههما ، فلا تجري القاعدة ويلزم التحقيق عند ارادة الغسل ونحوه ، وبين ما كان الشك فيه غير عقلائي ، كشك من لا ربط له بالقير وما أشبه ، فلا يلزم التحقيق ، ولو شك بعد ذلك تجري القاعدة ، وحيث ان المسألة مفصلة في الفقه نكتفي بهذا المقدار من بيانها .

هذا ( وقد ذكرنا بعض الكلام في ذلك ) اي : في الاصل المثبت ، وذلك ( في بعض الامور المتقدّمة ) اي : في الأمر السادس من الامور التي قال المصنِّف فيها : «وينبغي التنبيه على امور» حيث تقدّم هناك أمثلة لهذا الاصل مثل : أصالة بقاء زيد في اللفاف المثبت للقتل ، وذلك فيما اذا ضرب عمرو بالسيف على اللفاف وشك في انه هل كان زيد باقيا فيه حتى يكون مقتولاً ام لا ؟ وقلنا : انه لا عتبار بالاصل المثبت بناءا على كون الاصل حجة من باب الاخبار ، بخلاف ما اذا كان حجة من باب الظن ، الاّ اذا اختفت الواسطة وذلك على التفصيل المتقدّم .

ص: 40

المسألة الثالثة : في أصالة الصحّة في فعل الغير

اشارة

وهي في الجملة من الاصول المجمع عليها فتوىً وعملاً بين المسلمين ، فلا عبرة في موردها بأصالة الفساد .

إلاّ أنّ معرفة مواردها ومقدار ما يترتّب عليها من الآثار ومعرفة حالها عند مقابلتها لما عدا أصالة الفساد من الاصول

-------------------

( المسألة الثالثة : في أصالة الصحّة في فعل الغير ) سواء كان عملاً من الاعمال أم قولاً من الاقوال ( وهي في الجملة من الاصول المجمع عليها فتوىً وعملاً بين المسلمين ) بل وبين غيرهم ، كما ان الامر كذلك اذا كان احد الطرفين مسلما والطرف الآخر غير مسلم ، وقول المصنِّف : «في الجملة» اشارة الى بعض الصور التي سيأتي الكلام حولها ان شاء اللّه تعالى .

وعليه : ( فلا عبرة في موردها ) اي : في كل مورد جرت أصالة الصحة فيه لا عبرة ( بأصالة الفساد ) في ذلك المورد ، لان الاستصحاب الموجود في مورد أصالة الصحة وان اقتضى عدم انعقاد المعاملة وفسادها ، لكن أصالة الصحة حاكمة على أصالة الفساد .

( إلاّ أنّ معرفة مواردها ) اي : موارد أصالة الصحة ، وهذا اشارة الى ما ذكره المصنِّف قبل سطر بقوله : «في الجملة» ( ومقدار ما يترتّب عليها من الآثار ) كما سيأتي الكلام حوله ان شاء اللّه تعالى في الأمر الخامس من المسألة الثالثة التي نحن فيها ( ومعرفة حالها عند مقابلتها لما عدا أصالة الفساد من الاصول ) مثل : أصالة عدم البلوغ فيما لو شك في بلوغ البايع أو المشتري أو الراهن أو المرتهن

ص: 41

يتوقّف على بيان مدركها من الأدلة الأربعة .

ولابدّ من تقديم ما فيه اشارةٌ الى هذه القاعدة في الجملة من الكتاب والسنّة .

أمّا الكتاب :

فمنه آيات :

منها : قوله تعالى : « وقُولُوا للنّاسِ حُسنا »

-------------------

أو ما أشبه ، فان معرفة كل ذلك ( يتوقّف على بيان مدركها من الأدلة الأربعة ) ليعرف ان اصل الصحة في ايّ مورد يجري حتى يسقط في ذلك المورد الاستصحاب ، لان هذا البحث هو بحث التعارض بين الاستصحاب وبين أصل الصحة .

( ولابدّ من تقديم ما فيه اشارة الى هذه القاعدة في الجملة من الكتاب والسنّة ) وقوله هنا : «في الجملة» اشارة الى ما سيأتي قريبا ان شاء اللّه تعالى : من ان مفاد الكتاب والسنة هو : حرمة سوء الظن بالمؤمن ، بمعنى : حرمة حمل فعله وقوله على الحرام وترتيب الاثر عليه ، لا وجوب حمل ما صدر منه من قول أو فعل على الحسن بمعنى : وجوب ترتيب آثار الصحة عليه ، حتى اذا شك في انه سلّم أو شتم وجب عليه أن يرد السلام ، الى غير ذلك ممّا سيأتي تفصيل الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى .

( أمّا الكتاب : فمنه آيات ، منها : قوله تعالى : « وقُولُوا للنّاسِ حُسنا » (1) ) والقول الحسن الذي امر به تعالى هنا ، له معنيان : معنى الكلمة والكلام الحسن ، ومعنى الظن والاعتقاد الحسن ، وهنا بناءا على المعنى الثاني كالأول ، وذلك

ص: 42


1- - سورة البقرة : الآية 83 .

بناءا على تفسيره بما في الكافي من قوله عليه السلام : « لاتقولوا إلاّ خيرا حتى تعلموا ما هو » ، ولعلّ مبناه على إرادة الظنّ والاعتقاد من القول .

ومنها : قوله تعالى : « اجتَنِبُوا كثيرا من الظنّ إنّ بعضَ الظنّ إثمٌ » ، فانّ ظنّ السوء إثم ،

-------------------

- كما قال - فان هذه الآية إنّما تكون دليلاً على أصالة الصحة في فعل الغير ( بناءا على تفسيره بما في الكافي من قوله عليه السلام : « لاتقولوا ) اي : لا تظنوا باحد ( إلاّ خيرا حتى تعلموا ما هو » (1) ) فيكون معنى الآية : انه اذا رأى الانسان من احد عملاً ، أو سمع منه قولاً لا يعلم انه خير أو شر ، حمله على الخير لا على الشر ، فاذا رآه يشرب مايعا مشبوها ولم يعلم هل انه يشرب الماء أو يشرب الخمر ؟ حمله على انه يشرب الماء ، وكذا اذا سمعه يقول له شيئا ولم يعلم هل انه يسبّه أو يسلّم عليه ؟ حمله على الصحيح الحسن .

والى هذا المعنى أشار المصنِّف حيث قال : ( ولعلّ مبناه ) اي : مبنى هذا التفسير ( على إرادة الظنّ والاعتقاد من القول ) وذلك بان يظن بالناس خيرا ، فالقول على ذلك يكون مرادا به خصوص الامر القلبي ، لكن الظاهر - وحسب بعض التفاسير - ان قوله تعالى : « وقولوا للناس حسنا » (2) يعني : عاملوهم بخُلق جميل ، فيكون المراد بالقول الأعم من القول والفعل .

( ومنها : قوله تعالى : « اجتَنِبُوا كثيرا من الظنّ إنّ بعضَ الظنّ إثمٌ » (3) فانّ ظنّ السوء إثم ) واذا كان ظن السوء اثما ، فالعمل بذلك الظن وترتيب الاثر عليه يكون إثما بطريق أولى ، وقد ذكرنا سابقا : ان هذه الآية تدل على وجوب الاجتناب

ص: 43


1- - الكافي اصول : ج2 ص164 ح9 ، وسائل الشيعة : ج16 ص341 ب21 ح21710 .
2- - سورة البقرة : الآية 83 .
3- - سورة الحجرات : الآية 12 .

وإلاّ لم يكن شيء من الظنّ اثما .

ومنها : قوله تعالى : « أوفوا بالعقود » بناءا على أنّ الخارج من عمومه ليس إلاّ ما علم فساده ، لأنّه المتيقّن .

وكذا قوله تعالى : « إلاّ أن تكونَ تِجارةً عن تراضٍ » .

-------------------

عن اطراف العلم الاجمالي ، فانه لمّا كان بعض الظن اثما حرّم الشارع كثيرا من الظن ، والمراد بالكثير في مقابل الظن القليل الذي يعلم بانه ليس باثم .

هذا ، ولا يخفى ان المراد من النهي عن ظن السوء هو النهي عن تحصيل مقدمات مثل هذا الظن وتنميته في النفس حتى يكون الشيء اختباريا للانسان ، فيترتب التكليف عليه ، وذلك لأنّ نفس الظن أمر قهري ولا يترتب عليه التكليف .

( وإلاّ ) بان لم يكن المراد من الظن المنهي عنه ظن السوء الذي هو اقبح الظنون ( لم يكن شيء من الظنّ اثما ) اي : لم يبق هناك موردٌ يكون مصداقا للظن الاثم حتى يتعلق به الأمر بالاجتناب عنه .

( ومنها : قوله تعالى : « أوفوا بالعقود » (1) بناءا على أنّ الخارج من عمومه ليس إلاّ ما علم فساده ، لأنّه المتيقّن ) اي : ان المتيقن الفساد هو الذي يكون خارجا قطعا من عموم : «أوفوا بالعقود» ، واما مشكوك الفساد ، فيحمل على الصحة ولا يكون خارجا من عموم : «أوفوا بالعقود» فالآية إذن تدل على لزوم الوفاء بالعقد اذا علم بصحته ، بل وحتى اذا شك في صحته وفساده ، فيكون معنى لزوم الوفاء بالعقد عند الشك في الصحة حمله على الصحيح .

( وكذا قوله تعالى : « إلاّ أن تكونَ تِجارةً عن تراضٍ » (2) ) وذلك بتقريب : ان المتيقن خروجه من الآية المباركة هو معلوم البطلان باحراز الكُره وعدم الرضا

ص: 44


1- - سورة المائدة : الآية 1 .
2- - سورة النساء : الآية 29 .

والاستدلال به يظهر من المحقق الثاني ، حيث تمسّك في مسألة بيع الراهن مدّعيا بسبق إذْن المرتهن ، وأنكر المرتهن السبق ؛ إنّ الاصل : صحّة البيع ولزومه ووجوب الوفاء بالعقد .

لكن لا يخفى ما فيه من الضعف .

وأضعف منه دعوى دلالة الآيتين الاُولتين .

-------------------

فيه ، اما مشكوكه فيحمل على الرضا والصحة ولا يكون خارجا من عموم : « تجارة عن تراض » فالآية تدل إذن على الحمل على الصحة بالتقريب المتقدِّم في الآية السابقة .

هذا ( والاستدلال به ) اي : بقوله تعالى : «أوفوا بالعقود» و«تجارة عن تراض» على أصالة الصحة ( يظهر من المحقق الثاني ) صاحب جامع المقاصد ايضا ( حيث تمسّك في مسألة بيع الراهن ) العين المرهونة ( مدّعيا ) ذلك الراهن ( بسبق إذن المرتهن ، وأنكر المرتهن السبق ) قائلاً : باني لم آذن لك في البيع قال المحقق ( إنّ الاصل : صحّة البيع ولزومه ووجوب الوفاء بالعقد ) فمع ان الاستصحاب مع المرتهن حكم للراهن لأن أصل الصحة مع الراهن .

( لكن لا يخفى ما فيه ) اي : في هذا الاستدلال ( من الضعف ) لان اثبات صحة هذا البيع بعموم : « أوفوا بالعقود » و « تجارة عن تراض » مع الشك في انه من مصاديق الخارج من تحت العام ، أو الباقي تحته ؟ من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، وقد ثبت في الاصول عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، مثل التمسك بعموم النهي عن الخمر في وجوب الاجتناب عن مشكوك المائية والخمرية .

( وأضعف منه دعوى دلالة الآيتين الاُولتين ) يعني قوله تعالى :

ص: 45

وأمّا السنّة :

فمنها : ما في الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام : « ضَع أمرَ أخيك على أحسَنِهِ حتى يأتيك ما يُقَلِّبُكَ عنهُ ، ولا تظُنّنَّ بكلمةٍ خرجَتْ مِن أخيكَ سُوءا وانتَ تجد لها في الخير سبيلاً » .

ومنها : قول الصادق عليه السلام لمحمّد بن الفضل : « يا محمّد كذِّب سمعَك وبصرَك عن أخيكَ ،

-------------------

« وقولوا للناس حسنا » (1) و « اجتنبوا كثيرا من الظن » (2) على اصالة الصحة ، وذلك لان غاية مدلولهما حرمة سوء الظن بالناس ممّا يظهر أثره العملي على لسانهم وفعلهم ، وهذا لا يُثبت دلالة الآيتين على أصالة الصحة المبحوث عنها حتى نرتّب على هذه الأصالة أثرها .

( وأمّا السنّة : فمنها : ما في الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام : « ضَع أمرَ أخيك على أحسنِهِ حتى يأتيك ما يُقَلِّبُكَ عنهُ ) يعني ؟ يَقلبك الى اليقين بالقبح ، ومن هذا المعنى يظهر ان المراد بالأحسن هنا هو : الحسن مثل قوله سبحانه : « اتبعوا احسن ما اُنزل اليكم » (3) وقوله تعالى : « وامر قومك يأخذوا بأحسنها » (4) ومنه ايضا يعلم معنى تتمة الحديث ( ولا تظُنّنَّ بكلمةٍ خرجَتْ مِن أخيكَ سُوءا وانتَ تجد لها في الخير سبيلاً » (5) ) فاللازم الحمل على الخير ، الاّ اذا تعذّر .

( ومنها : قول الصادق عليه السلام لمحمّد بن الفضل : « يا محمّد كذِّب سمعَك وبصرَك عن أخيكَ ) اي : خطّئهما فيما سمعا أو رأيا منه من سوء ، وقل :

ص: 46


1- - سورة البقرة : الآية 83 .
2- - سورة الحجرات : الآية 12 .
3- - سورة الزمر : الآية 55 .
4- - سورة الاعراف : الآية 145 .
5- - الكافي الاصول : ج2 ص362 ح3 (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج12 ص302 ب161 ح16361 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج12 ص10 .

فان شَهِدَ عندكَ خمسونَ قسامةً أنّه قال ، وقال : لم أقل فصدّقهُ وكَذِّبهُم » .

ومنها : ما ورد مستفيضا : « إنّ المؤمنَ لا يَتّهِمُ أخاه ، وأنّه إذا إتّهم أخاه

-------------------

انه لم يقل ولم يعمل سوءا ( فان شَهِدَ عندكَ خمسونَ قسامةً ) بفتح القاف والمراد منه : خمسون شخصا يحلفون على ( أنّه قال ) قولاً سيئا أو فعل فعلاً سيئا ( و ) لكنه ( قال : لم أقل ) أو لم افعل سوءا ( فصدّقهُ وكَذِّبهُم » (1) ) اي : لا ترتب اثرا على ما قالوا في اخيك من سوء ، وهذا من آداب الاسلام الاجتماعية ، واخلاق المعاشرة مع الناس ، حيث ان له تاثيرا كبيرا في نشر الثقة وحفظ الالفة والمحبة بين افراد المجتمع ، وهو ما يحثّ الاسلام عليه بقوله : « هل الدين الاّ الحبّ » (2) وغير ذلك .

ومعلوم ان هذا في غير مسئلة الدعاوي والمخاصمات ، كما انه ليس في مسئلة أخذ الحذر ممّن تناله الألسن بالسوء ، فان اخذ الحذر لازم كما في قصة اسماعيل بن الإمام الصادق عليه السلام ومضاربته مع من نالته الالسن بانه يشرب الخمر (3) ، وذلك لان اخذ الحذر مسئلة غير مسئلة حسن المعاشرة مع الناس ، وهو واضح .

( ومنها : ما ورد مستفيضا : « إنّ المؤمنَ لا يتّهِمُ أخاه ، وأنّه إذا إتّهم أخاه

ص: 47


1- - الكافي روضة : ج8 ص147 ح125 ، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال : ص295 ح1 ، وسائل الشيعة : ج12 ص295 ب157 ح16343 ، أعلام الدين : ص405 ، بحار الانوار : ج75 ص214 ب65 ح11 و ص255 ب66 ح40 .
2- - الكافي روضة : ج8 ص79 ح35 ، الخصال : ص21 ، دعائم الاسلام : ج1 ص71 و72 ، اعلام الدين : ص449 ، تفسير العياشي : ج1 ص167 ح27 ، المحاسن : ص262 ح327 ، مشكاة الانوار : ص120 .
3- - انظر الكافي فروع : ج5 ص299 ح1 ، وسائل الشيعة : ج19 ص83 ب6 ح24207 .

إنماثَ الايمانُ في قلبه ، كانمياث الملح في الماء ، وأنّ من اتّهم أخاه فلا حرمة بينهما ، وأنّ مَن اتّهم أخاه فهو ملعونٌ ملعونٌ » ، إلى غير ذلك من الأخبار المشتملة على هذه المضامين أو ما يقرب منها .

-------------------

إنماثَ ) اي : ذاب ( الايمانُ في قلبه كانمياث الملح في الماء ) (1) ومعنى ذلك :

لزوم اجتناب تهمة الاخ بحمل قوله وفعله على الصحيح .

( و ) منها : ما ورد من ( أنّ من اتّهم أخاه فلا حرمة بينهما ) (2) لانه بادر الى نقض حرمة اخيه باتهامه له ، ومعنى ذلك : لزوم الاجتناب عن اتهام الاخ بحمل قوله وفعله على الصحيح .

( و ) منها : ما ورد من ( أنّ مَن اتّهم أخاه فهو ملعونٌ ملعونٌ » (3) ) فاستحقاقه اللعنة إنّما هو لأجل الاتهام ، فيلزم عليه اجتنابا من اللعنة ان يحمل قول اخيه وفعله على الصحيح .

( إلى غير ذلك من الأخبار المشتملة على هذه المضامين ) مثل : تحريم إضمار السوء على الأخ المسلم ، فان حمل قول الاخ وفعله على الفاسد هو نوع من اضمار السوء له .

( أو ما يقرب منها ) اي : من هذه المضامين ، مثل مضمون قوله عليه السلام : « المؤمن وحده جماعة » (4) وكما ان خبر الجماعة يُحمل على الصدق ، فكذلك خبر

ص: 48


1- - انظر الكافي اصول : ج2 ص361 ح1 ، وسائل الشيعة : ج12 ص302 ب161 ح16359 ، مشكاة الانوار : ص319 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص361 ح2 ، وسائل الشيعة : ج12 ص302 ب161 ح16360 ، كشف الريبة : ص21 .
3- - وسائل الشيعة : ج12 ص231 ب13 ح16165 .
4- - الكافي ( فروع ) : ج3 ص371 ح2 ، وسائل الشيعة : ج8 ص297 ب4 ح10710 ، الخصال : ص584 ح10 وفيه (عن الرسول) ، دعائم الاسلام : ج1 ص154 .

هذا ، ولكنّ الانصاف : عدم دلالة هذه الأخبار إلاّ على أنّه لابدّ من أن يحمل ما يصدر من الفاعل على الوجه الحسن عند الفاعل ولا يحمل على الوجه القبيح عنده .

وهذا غير ما نحن بصدده ، فانّه إذا فرض دوران العقد الصادر منه بين كونه صحيحا أو فاسدا ، لا على وجه قبيح ،

-------------------

المؤمن الواحد ، فمضمون هذه الاخبار ايجابا وسلبا يدل على حمل فعل المسلم وقوله على الصحيح .

( هذا ) غاية مايستدل به من السنة على حمل فعل المسلم وقوله على الصحيح ( ولكنّ الانصاف ) بنظر المصنِّف ( عدم دلالة هذه الأخبار إلاّ على ) الحُسن الفاعلي ، بمعنى : ( أنّه لابد من أن يحمل ما يصدر من الفاعل ) قولاً وفعلاً ( على الوجه الحسن عند الفاعل ) وان كان ذلك القول أو الفعل الصادر غير حسن في نفسه ( ولا يحمل على الوجه القبيح عنده ) اي : عند الفاعل لقبح الصادر من قول أو فعل منه ( وهذا ) المعنى ( غير ما نحن بصدده ) من حمل فعل المسلم وقوله على الصحيح شرعا ، وترتيب الأثر عليه .

وإنّما كان هذا المعنى غير ما نحن بصدده لانه كما قال المصنِّف ( فانّه إذا فرض دوران العقد الصادر منه ) اي : من المسلم ( بين كونه صحيحا أو فاسدا ، لا على وجه قبيح ) فان بين الفساد والقبح عموما من وجه ، اذ قد يكون الشيُ فاسدا ، لكنه لا يكون قبيحا ، والروايات المتقدّمة تقول : لا تحمل فعل اخيك المسلم وقوله على القبيح ، ولا تقول : احمله على الصحيح ، فمن اين يستفاد من هذه الروايات حمل فعل المسلم وقوله على الصحيح مع ان بينهما عموما من وجه ؟ .

ص: 49

بل فرضنا الأمرين في حقّه مباحا ، كبيع الراهن بعد رجوع المرتهن عن الاذن واقعا أو قبله ، فانّ الحكم بأصالة عدم ترتّب الأثر على البيع - مثلاً - لا يُوجب خروجا عن الأخبار المتقدّمة الآمرة بحسن الظنّ بالمؤمن في المقام ، خصوصا إذا كان المشكوك فعل غير المؤمن أو فعل المؤمن الذي يعتقد بصحة ما هو الفاسد عند الحامل .

-------------------

( بل ) لو ( فرضنا الأمرين ) اي : فرضنا كلاً من الصحيح والفاسد ( في حقّه ) اي : في حق الفاعل كان ( مباحا ، كبيع الراهن بعد رجوع المرتهن عن الاذن ) وهو لا يعلم برجوعه ، فيكون البيع فاسدا ( واقعا ، أو قبله ) اي : قبل رجوعه ، حتى يكون البيع صحيحا واقعا ، لكن في الصورتين لا قبح ، لان بيعه كان مباحا ( فانّ الحكم ) في هذا البيع المباح بالفساد ، اي : ( بأصالة عدم ترتّب الأثر على البيع - مثلاً - لا يُوجب خروجا عن الأخبار المتقدّمة الآمرة بحسن الظنّ بالمؤمن في المقام ) لان البيع المذكور وان كان فاسدا واقعا الاّ انه مباح وحسن .

أقول : لكن الظاهر العرفي هو : التلازم بين الحسن والصحيح ، لأنّ المنصرف منهما الواقعيان ، لا عند الفاعل - كما قاله المصنِّف - ولذا فهم المشهور من تلك الاحاديث الحمل على الصحة .

وكيف كان : فانه لا يلزم من الحكم بالفساد مخالفة للروايات المتقدمة - على ما عرفت - ( خصوصا إذا كان المشكوك فعل غير المؤمن ) لانه ليس بأخ واقعا وان كان أخا ظاهرا ، والمنصرف من الأخ هو الأخ الواقعي ( أو فعل المؤمن الذي يعتقد بصحة ما ) يقوله ويفعله هو اجتهادا أو تقليدا ، لكن كان (هو الفاسد عند الحامل) اجتهادا أو تقليدا ، فالحكم بالفساد الذي هو عدم ترتيب الاثر في الصورتين الاخيرتين أوضح من غيرهما في عدم استلزامه مخالفة الروايات المتقدّمة .

ص: 50

ثمّ لو فرضنا أنّه يلزم من الحَسَن ترتيبُ الآثار ومن القبيح عدم الترتيب ، كالمعاملة المردّدة بين ربويّة وغيرها ، لم يلزم من الحمل على الحسن بمقتضى تلك الاخبار الحكمُ بترتّب الآثار ، لأنّ مفادها الحكم بصفة

-------------------

لكن الظاهر عدم تمامية هذا الوجه الذي ذكره المصنِّف بقوله : « خصوصا اذا كان المشكوك فعل غير المؤمن» لانه ، كما قد تقدّم : ان الحمل على الصحيح لا فرق فيه بين الاُخوّة الاسلامية والاُخوّة الايمانية ، بل يحمل فعل الكافر على الصحيح ايضا ، وذلك امّا باعتبار كونه أخا نوعيا ، كما قال عليه السلام : « أو نظيرٌ لك في الخَلق » (1) واما باعتبار كونه اخا اجتماعيا ، كما قال سبحانه : « واخوان لوط »(2) وقال سبحانه : « والى ثمود أخاهم صالحا » (3) وامّا باعتبار السيرة القائمة من زمان الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم الى هذا اليوم من التعامل مع الكفار .

( ثمّ لو فرضنا أنّه يلزم من الحَسَن ) الشرعي الذي جاء في قوله عليه السلام : « ضع أمر أخيك على احسنه » (4) ( ترتيبُ الآثار ) الشرعية على الاقوال والافعال ( ومن القبيح ) الذي هو خلاف الحسن ( عدم الترتيب ) للآثار الشرعية عليها ( كالمعاملة المردّدة بين ربويّة وغيرها ) فانه ( لم يلزم من الحمل على الحسن بمقتضى تلك الاخبار ) المتقدّمة ( الحكمُ بترتّب الآثار ) .

وإنّما لم يلزم منه ذلك ، لانه لا تلازم بين الحسن والصحة - على ما عرفت - وذلك ( لأنّ مفادها ) اي : مفاد تلك الأخبار ( الحكم بصفة

ص: 51


1- - تحف العقول : ص127 ، بحار الانوار : ج33 ص600 ب30 ح744 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج17 ص32 ح53 .
2- - سورة ق : الآية 13 .
3- - سورة الاعراف : الآية 73 ، سورة هود : الآية 61 ، سورة النمل : الآية 45 .
4- - الكافي اصول : ج2 ص362 ح3 ، وسائل الشيعة : ج12 ص302 ب161 ح16361 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج13 ص10 .

الحُسن في فعل المؤمن ، بمعنى : عدم الجرح في فعله ، لا ترتيب جميع آثار ذلك الفعل الحَسَن .

ألا ترى أنّه لو دار الأمر بين كون الكلام المسموع من مؤمن بعيدٍ سلاما أو تحيّة أو شتما ، لم يلزم من الحمل على الحسن وجوبُ ردّ السلام .

ومّما يؤيّد ما ذكرنا جمعُ الإمام عليه السلام ، في رواية محمد بن الفضل بين تكذيب خمسين

-------------------

الحُسن في فعل المؤمن ، بمعنى : عدم الجرح ) اي : عدم الطعن ( في فعله ، لا ترتيب جميع آثار ذلك الفعل الحَسَن ) عليه ، اذ ليس كل شيء حسن صحيح أيضا .

( ألا ترى أنّه لو دار الأمر بين كون الكلام المسموع من مؤمن بعيدٍ سلاما ) حتى يجب جوابه ( أو تحيّة ) وثناءا حتى يستحب جوابه ( أو شتما ) وسبّا حتى يكون لا جواب له ( لم يلزم من الحمل على الحسن وجوبُ ردّ السلام ) وكذلك لا يستحب ايضا لعدم ثبوت الموضوع فيه ، لكن لا يخفى : ان المنصرف من الحسن عرفا هو الصحيح شرعا ، فاذا شك في كونه سلّم أو شتم ، لزم حمله على السلام ، فيلزم جوابه ، فهو كما اذا لم يعلم المشتري بأن هذا البايع ، هل يبيع عليه بضاعة مغصوبة كان قد سرقها ، أو بضاعته التي امتلكها ملكا صحيحا ؟ فانه يلزم عليه اعطاؤه الثمن - لا انه يكون من مجهول المالك - وذلك لان معنى الصحة : ترتيب الآثار عرفا .

( ومّما يؤيّد ما ذكرنا ) من ان مراد الروايات المتقدّمة - بنظر المصنِّف - هو حمل فعل الاخ وقوله على الحسن صورة ، لا الحسن الواقعي حتى يرتّب عليه آثاره ( جمعُ الإمام عليه السلام في رواية محمد بن الفضل بين تكذيب خمسين

ص: 52

قسامة ، أعني : البيّنة العادلة ، وتصديق الأخ المؤمن فانّه مّما لا يمكن إلاّ بحمل تصديق المؤمن على الحكم بمطابقة الواقع ، المستلزم لتكذيب القَسامة ، بمعنى : المخالفة للواقع مع الحكم بصدقهم في اعتقادهم ، لأنّهم أولى بحسن الظنّ بهم من المؤمن الواحد .

فالمراد من تكذيب السمع والبصر : تكذيبُهما فيما يفهمان

-------------------

قسامة (1) ، أعني : البيّنة العادلة ، وتصديق الأخ المؤمن ) فيما اذا قال هو : ما قلت ، وقالوا : قال، أو قال هو : ما فعلت ، وقالوا : فعل ( فانّه ) اي : الجمع المذكور ( مّما لا يمكن إلاّ بحمل تصديق المؤمن على الحكم بمطابقة ) كلامه صورة مع ( الواقع ، المستلزم ) هذا التصديق الصوري ( لتكذيب القَسامة ، بمعنى : المخالفة ) اي : مخالفة كلامهم ( للواقع ) وعدم ترتيب الاثر عليه ، لكن ( مع الحكم بصدقهم في اعتقادهم ) وإنّما نحكم بصدقهم في اعتقادهم ( لأنّهم أولى بحسن الظنّ بهم من المؤمن الواحد ) .

ومن المعلوم : ان في هذا الكلام من رواية الفضل حكمة رفيعة ، فان الغالب على المجتمعات البشرية هو : ان الناس فيها - مالم يهذّبوا انفسهم - يلمز بعضهم البعض وينبزه ، وينتقص بعضهم بعضا ويتّهمه ، فلو أخذنا بذلك ورتّبنا عليه اثره، لزم تفكّك الاجتماع وتفسّخه ، ووقاية لسلامة المجتمع أمرتنا الرواية بتصديق الاخ ما لم تتم موازين الشهادة ، فاذا تمت موازين الشهادة لزم اجراء الحدود درءا للفساد وقمعا للمفسدين .

وعليه : ( فالمراد من تكذيب السمع والبصر : تكذيبهما فيما يفهمان

ص: 53


1- - انظر الكافي روضة : ج8 ص147 ح125 ، وسائل الشيعة : ج12 ص295 ب157 ح16343 ، بحار الانوار : ج75 ص214 ب65 ح11 ، ثواب الاعمال : ص295 ح1 ، اعلام الدين : ص405 .

من ظواهر بعض الافعال من القبح ، كما اذا ترى شخصا ظاهر الصحة يشرب الخمر في مجلس يظنّ أنّه مجلس الشرب .

وكيف كان : فعدم وفاء الأخبار بما نحن بصدده أوضح من أن يحتاج الى البيان حتى المرسل الأوّل ، بقرينة ذكر الأخ وقوله : « ولا تظنَّنَّ ، الخبر

» .

-------------------

من ظواهر بعض الافعال من القبح ) اي : تخطئتهما فيما سمعاه وما رأياه ، وذلك ( كما اذا ترى شخصا ظاهر الصحة يشرب ) ما يظن انه ( الخمر في مجلس يظنّ أنّه مجلس الشرب ) فتكذب بصرك عنه وتقول : انه يشرب السكنجبين لا الخمر ، وكذلك اذا سمعت شخصا يتكلم في مجلس يظن انه يغتاب فتكذّب سمعك عنه وتقول : انه لا يغتاب وإنّما ينقل القصة .

( وكيف كان : فعدم وفاء ) دلالة ( الأخبار بما نحن بصدده ) من اثبات الملازمة بين الحسن وبين ترتيب الآثار الشرعية ( أوضح من أن يحتاج الى البيان ) عند المصنِّف ، لظهورها بنظره في اكرام المؤمن وعدم اتهامه ( حتى المرسل الأوّل ) وهو : « ضع أمر أخيك على أحسنه » (1) لانه - بنظره - ليس بلازم وضعه على الأحسن ، حتى يقال : إنّ الأحسن هو : ما ترتّب عليه الاثر ، بل يكفي فيه عدم إتهامه ، وذلك ( بقرينة ذكر الأخ ) فان ذكره قرينة على ان الرواية تريد عدم اتّهامه حتى لا تنقطع الاُخوّة بينهما ( و ) بقرينة ( قوله : « ولا تظنَّنَّ ) بكلمة خرجت من أخيك سوءا ... » (2) الى آخر ( الخبر » ) فانه صريح بنظر المصنِّف في نفي ظن السوء عن الاخ وليس اكثر من ذلك .

ص: 54


1- - الكافي اصول : ج2 ص362 ح3 ، وسائل الشيعة : ج12 ص302 ب161 ح16361 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج12 ص10 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص362 ح3 ، وسائل الشيعة : ج12 ص302 ب161 ح16361 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج12 ص10 .

وممّا يؤيد ما ذكرنا أيضا ما ورد في غير واحد من الروايات : من عدم جواز الوثوق بالمؤمن كلّ الوثوق :

مثل : رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لا تثقنَّ بأخيك كلّ الثِّقة ، فانّ صرعَةَ الاسترسال لا تُستقالُ » .

-------------------

أقول : لكن لا يخفى : ان امثال هذه الشواهد لا تضر بدلالة الروايات على التلازم الذي فهمه المشهور منها .

( ومّما يؤيد ما ذكرنا أيضا ) من انه لا دلالة في هذه الروايات بنظر المصنِّف على التلازم المذكور ( ما ورد في غير واحد من الروايات : من عدم جواز الوثوق بالمؤمن كلّ الوثوق ) والاعتماد عليه كل الاعتماد ، بل يلزم على الانسان ان يكون حذرا تجاهه ويعمل متوسطا معه ، حتى اذا ظهر الخلاف بينهما لا يكون قد سقط في مشكلة لا خلاص له منها .

( مثل : رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « لا تثقنَّ بأخيك كلّ الثِّقة ، فانّ صرعَةَ الاسترسال لا تُستقالُ » (1) ) والاسترسال : هو الاستيناس والطمأنينة الى الانسان والثقة به فيما يحدّثه ، يعني : ان من يسترسل الى اخيه ويحدثه بكل اسراره وثوقا به ، قد يصرع احيانا - عند ظهور خلاف بينهما - صرعة لا يستطيع النهوض منها ، وذلك لان الصرعة - يعني : السقوط والهلالك - الناشئة من الاسترسال لا تتدارك .

أقول : لا يخفى ان حمل فعل المسلم وقوله على الصحيح غير الاسترسال اليه والثقة به كل الثقة ، وذلك لأن الاسترسال هو : ان يطمئن اليه ويحدثه بنقاط ضعفه

ص: 55


1- - وسائل الشيعة : ج12 ص147 ب102 ح15898 ، امالي الصدوق : ص669 ، مصادقة الاخوان : ص82 ح6 .

ومّما في نهج البلاغة عنه عليه السلام : « إذا استولى الصلاحُ على الزمان وأهله ، ثم أساء رجلٌ الظنّ برجلٍ لم يظهر منه خِزيةٌ فقد ظلم ، واذا استولى الفساد على الزمان وأهله ، ثم أحسنَ رجُلٌ الظنَّ برجل فقد غُرّر » .

وفي معناه : قول أبي الحسن عليه السلام في رواية محمّد بن هارون الجلاّب : « إذا كان الجورُ أغلبَ من الحق ، لا يحلُّ لاحدٍ أن يَظنَّ بأحد خيرا ، حتى يعرف ذلك

-------------------

وموارد اتهامه ، بحيث لو ظهر بينهما خلاف عرف الطرف بانه من اين يوجّه الضربة اليه ، وهذا المعنى لا ينافي حمل فعله على الصحيح ، فلا تعارض إذن بين هذه الرواية والروايات السابقة .

( ومّما في نهج البلاغة عنه عليه السلام : « إذا استولى الصلاحُ على الزمان وأهله ، ثم أساء رجلٌ الظنّ برجلٍ لم يظهر منه خِزيةٌ ) اي : قبيح ( فقد ظلم ) فاللازم ان يحسن الانسان الظن بالناس حتى لا يكون ظالما ( واذا استولى الفساد على الزمان وأهله ، ثم أحسنَ رجُلٌ الظنَّ برجل فقد غُرّر » (1) ) اي : صار مغرورا، ولعل الفرق بين الزمان وأهله هو : ان الزمان قد يكون زمان رخاءٍ ، فلا داعي للناس في السرقة - مثلاً - وقد يكون زمان قحط ، لكن أهل ذلك الزمان متخلّقون بالاخلاق الاسلامية فلا يسرقون ، وهذا الحديث ايضا لاينافي الحمل على الصحة ، اذ حسن الظن شيء ، والحمل على الصحيح شيء آخر ، وإن كانا قد يتصادقان .

( وفي معناه : قول أبي الحسن عليه السلام في رواية محمّد بن هارون الجلاّب : « إذا كان الجورُ أغلبَ من الحق ، لا يحلُّ لاحدٍ أن يَظنَّ بأحد خيرا حتى يعرف ذلك )

ص: 56


1- - نهج البلاغة : قصار الحكم 114 .

منه » ، الى غير ذلك مّما يجده المتتبّع ، فانّ الجمع بينهما وبين الاخبار المتقدّمة يحصل : بأن يراد من الاخبار : ترك ترتيب آثار التهمة ، والحمل على الوجه الحسن من حيث مجرّد الحسن ، والتوقّف فيه من حيث ترتيب سائر الآثار .

-------------------

الخير ( منه » (1) ) أي : من ذلك الذي يراد به ظن الخير ( الى غير ذلك مّما يجده المتتبّع ) في الروايات الواردة في هذا المجال .

وأمّا وجه التأييد : ( فانّ الجمع بينهما وبين الاخبار المتقدّمة ) الآمرة بحمل فعل الغير على الحسن ( يحصل : بأن يراد من ) مجموع هذه ( الاخبار : ترك ترتيب آثار التهمة ، والحمل على الوجه الحسن من حيث مجرّد الحسن ، و ) معنى مجرّد الحسن المستفاد - بنظر المصنِّف - من الجمع بين الطائفتين المذكورتين من الاخبار هو : ( التوقّف فيه من حيث ترتيب سائر الآثار ) فلا يرتب الأثر الشرعي عليه ، كوجوب ردّ السلام فيما لو شك في انه سلّم أو سبّ ، وإنّما لايتهمه بالشتم ليترتب عليه الفسق ، وسقوط العدالة ، وما أشبه ذلك .

أقول : الظاهر : ان وجه الجمع العرفي بين الطائفتين المذكورتين من الاخبار - على ما مرّ منّا - هو : حمل فعل الاخ وقوله على الحسن الملازم لحمله على الصحيح وترتيب الآثار الشرعية عليه ، وذلك في غير مجال الدعاوي والخصومات ، وفي غير مجال اخذ الحذر ممن تناله الالسن بسوء ، فان ترك الحذر منه والاعتماد عليه ويوقع الانسان في ندم ، وذلك كما لو اعطى ابنته بمجرد حسن الظن لخاطب تناله الالسن بانه خمّار ، أو اعطى سلعته نسيئة بلا استشهاد

ص: 57


1- - الكافي فروع : ج5 ص298 ح2 ، اعلام الدين : ص312 (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج19 ص87 ب9 ح24216 .

ويشهد له ماورد من: «أنّ المؤمنَ لايخلو عن ثلاثة: الظنّ والحسد والطيرة ، فاذا حسدت فلا تَبْغِ ، وإذا ظننتَ فلا تُحقّق ، وإذا تطيّرتَ فامْضِ » .

الثالث : الاجماع القولي والعملي

أمّا القولي : فهو مستفاد من تتبّع فتاوى الفقهاء في موارد كثيرة ،

-------------------

-

مثلاً - لشخص تناله الالسن بانه متقلّب ، أو غير ذلك من اشباههما .

( ويشهد له ) اي : لهذا الجمع الذي ذكره المصنِّف : ( ما ورد من : « أنّ المؤمنَ لا يخلو عن ثلاثة : الظنّ والحسد والطيرة ) ومن الواضح ان لفظ : «المؤمن» باعتبار انه هو محل الكلام ، والاّ فكل انسان الاّ ماندر لا يخلو عن هذه الثلاثة ( فاذا حسدت فلا تَبْغِ ) والبغي هو الظلم يعني : لا تظلم من حسدته باظهار أثره بيد أو لسان ( وإذا ظننتَ فلا تُحقّق ) يعني : لا تحسبه حقيقة حتى ترتب عليه اثر ، بل كذّب ظنك وخطّئه ( وإذا تطيّرتَ فامْضِ » (1) ) ولا تلتفت اليه حتى ترّتب عليه اثره وتتوقف عن العمل ، والشاهد في هذا الحديث هو : الردع عن ترتيب الاثر على هذه الامور الثلاثة ، فيكون مؤيدا لجمع المصنِّف بحسب نظره ، وقد ورد : ان « التوكل يذهب الطيرة » (2) ، كما في جملة من الأخبار ، وقد ذكرناها في كتاب الآداب والسنن (3) من الفقه .

(الثالث : الاجماع القولي والعملي) من الفقهاء على حمل فعل المسلم على الصحيح .

( أمّا القولي : فهو مستفاد من تتبّع فتاوى الفقهاء في موارد كثيرة ) خصوصا

ص: 58


1- - مجموعة ورام : ج1 ص127 بالمعنى ، بحار الانوار : ج58 ص320 ب11 ح9 (بالمعنى) ، النهاية لابن الاثير : ج3 ص153 .
2- - فقد ورد في الكافي روضة : ج8 ص198 ب8 ح236 ، وسائل الشيعة : ج22 ص404 ب35 ، بحار الانوار : ج55 ص322 (كفارة الطيرة التوكّل) .
3- - راجع موسوعة الفقه ج94 - 97 كتاب الآداب والسنن للشارح .

فانّهم لا يختلفون في أنّ قول مدّعي الصحة في الجملة مطابقٌ للاصل وإن اختلفوا في ترجيحه على سائر الاصول كما ستعرف .

وأمّا العملي : فلا يخفى على أحد : أنّ سيرة المسلمين في جميع الأعصار على حمل الأعمال على الصحيح وترتيب آثار الصحة في عباداتهم ومعاملاتهم ، ولا أظنّ أحدا ينكر ذلك إلاّ مكابرةً .

-------------------

في مسألة التداعي من كتاب القضاء ( فانّهم لا يختلفون في أنّ قول مدّعي الصحة في الجملة مطابقٌ للاصل ) اي : ان الاصل مع مدعي الصحة فهو الذي يلزم قبول قوله، أمّا مدعي الفساد ، فاللازم عليه ان يأتي بالدليل ، سواء في البيع أو الرهن أو الاجارة أو النكاح أو غيرها .

وإنّما قال المصنِّف : «في الجملة» ولم يقل : مطلقا ، لانه اراد ان يشير بذلك الى ما اختُلف فيه هنا بقوله : ( وإن اختلفوا في ترجيحه ) اي : ترجيح أصل الصحة ( على سائر الاصول ) اي : انهم وان لم يختلفوا في تقديم أصالة الصحة على أصل الفساد، لكنهم اختلفوا في ان أصل الصحة هل يقدّم على سائر الاصول ايضا عند التعارض ام لا ؟ كأصل البرائة فيما لو قال زيد : وهبني عمرو دينارا وانا قبضت منه الدينار ، وقال عمرو : لم أهبه حين وهبته وانا جامع للشرائط ، فان مع عمرو أصل البرائة ، ومع زيد أصل الصحة ، فهل يقدّم على البرائة ايضا أم لا ؟ ، (كما ستعرف) ذلك عن قريب ان شاء اللّه تعالى .

( وأمّا ) الاجماع ( العملي : فلا يخفى على أحد : أنّ سيرة المسلمين في جميع الأعصار ) والأمصار ( على حمل الأعمال على الصحيح وترتيب آثار الصحة في عباداتهم ومعاملاتهم ) الأعم من مثل الايقاعات كالطلاق والعتق وما اشبه ذلك ( ولا أظنّ أحدا ينكر ذلك إلاّ مكابرةً ) بل قد عرفت سابقا : إنّ الحمل

ص: 59

الرابع :

العقل المستقلّ الحاكم بأنّه لو لم يُبنَ على هذا الاصل لزم اختلالُ نظام المعاد والمعاش ،

-------------------

على الصحيح جار بين الكفار بعضهم مع بعض ، وبين المسلمين والكفار بعضهم مع بعض ، فهو أصل عقلائي يلتزم به الكل ، الاّ في مورد علم الخلاف أو قيام دليل عليه .

( الرابع : العقل المستقلّ الحاكم بأنّه لو لم يُبنَ على هذا الاصل لزم ) ما يلي :

أوّلاً : ( اختلالُ نظام المعاد ) وقال : «المستقل» لأنّ بعض أحكام العقل يتمّ بانضمام الحكم الشرعي ، بينما بعض احكام العقل يكون مستقلاً سواء كان شرعا أو لم يكن ، فأصالة الصحة إذن من المستقلات العقلية .

وقال : «اختلال نظام المعاد» لانه لولا اصل الصحة لم يتمكن احد من الصلاة في ثوب اشتراه من الغير ، لاحتمال كونه سرقة ، ولا في ثوب طهّره الغير ، لاحتمال كونه نجسا ، كما لم يتمكن احد من الاكتفاء باعمال الغير في الواجبات الكفائية ، لاحتمال عدم القيام بها صحيحا ، ولا أن يأخذ نائبا في قضاء العبادات عن ميّته ، ولا عن نفسه فيما يجوز له ذلك ، كاستنابته لرمي الجمار ، أو للذبح ، أو للطواف عنه ، أو ما أشبه ذلك اذا كان هو غير قادر عليها ، لاحتمال عدم اتيان النائب بها ، وهكذا .

ثانيا : ( والمعاش ) اي : يلزم من عدم البناء على الصحة اختلال نظام المعاش ايضا لأنه اذا لم نحمل فعل الغير على الصحيح ، يلزم ان لا نتمكن من المعاملة مع أكثر الناس ، للشك في صحة معاملاتهم ، فلعل ما يبيعونه سرقة أو غصب أو ما أشبه ذلك .

ص: 60

بل الاختلال الحاصل من ترك العمل بهذا الاصل أزيدُ من الاختلال الحاصل من ترك العمل بيد المسلم .

مع أنّ الإمام عليه السلام قال لحفص بن غياث - بعد الحكم بأنّ اليد دليلُ الملك ، ويجوز الشهادة بالملك بمجرّد اليد - : « أنّه لولا ذلك لما قام للمسلمين سوقٌ » ، فيدلّ بفحواه على اعتبار أصالة الصحة في أعمال المسلمين ، مضافا الى دلالته بظاهر اللفظ ،

-------------------

ثالثا : ( بل الاختلال الحاصل من ترك العمل بهذا الاصل ) في نظام المعاش والمعاد ( أزيدُ من الاختلال الحاصل من ترك العمل بيد المسلم ) وقد تقدّم : ان الشارع جعل يد المسلم حجة ، فاذا كان اليد حجة كان أصل الصحة حجة بطريق أولى .

رابعا : ( مع أنّ الإمام عليه السلام قال لحفص بن غياث - بعد الحكم بأنّ اليد دليلُ الملك ، ويجوز الشهادة بالملك بمجرّد اليد - ) يعني : اليد كافية لجواز الشهادة طبقها : فاذا كان - مثلاً - قلم بيد زيد وادعى زيد ان القلم ملكه ، تمكن عمرو من أن يَشهد عند الحاكم بأن هذا القلم ملك لزيد ، والإمام عليه السلام بعد ان بيّن ذلك قال : ( « أنّه لولا ذلك لما قام للمسلمين سوقٌ » (1) ، فيدلّ بفحواه ) اي : بمناطه القطعي ومفهوم الاولوية القطعية ( على اعتبار أصالة الصحة في أعمال المسلمين ) .

خامسا : ( مضافا الى دلالته بظاهر اللفظ ) اي : بالمنطوق ، فان التعليل ظاهر في العموم ، وانه كلّما يوجب عدم قيام السوق للمسلمين يكون باطلاً كما قال :

ص: 61


1- - الكافي فروع : ج7 ص387 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص51 ب2 ح3307 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص262 ب22 ح100 ، وسائل الشيعة : ج27 ص292 ب25 ح33780 .

حيث انّ الظاهر : أنّ كلّ ما لولاه لزم الاختلال ، فهو حقّ ، لأنّ الاختلال باطلٌ ، والمستلزم للباطل باطلٌ ، فنقيضه حقّ ، وهو اعتبار أصالة الصحة عند الشك في صحة ما صدر عن الغير .

ويشير إليه أيضا : ما ورد من نفي الحرج ، وتوسعة الدّين وذمّ مَن ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم .

-------------------

( حيث انّ الظاهر : أنّ كلّ ما لولاه لزم الاختلال ) بمعاش المسلمين ومعادهم ( فهو حقّ ) يدا كان أو سوق المسلمين أو أرض الاسلام أو اصالة الصحة أو غيرها ، وذلك ( لأنّ الاختلال باطلٌ ) قطعا ، لانه خلاف الغرض ( والمستلزم للباطل ) مثل: عدم اعتبار أصالة الصحة : أو اليد أو السوق أو ما أشبه ( باطلٌ فنقيضه حقّ ) .

وإنّما كان نقيضه حقا ، لعدم امكان الجمع بين النقيضين ( وهو ) اي : نقيضه : ( اعتبار أصالة الصحة عند الشك في صحة ما صدر عن الغير ) ومن الواضح : ان هذا دليل عقلي ، لا انه حكم العقل ، فان حكم العقل مثل استحالة اجتماع النقيضين ممّا لا يعقل خلافه ، امّا الدليل العقلي فمن الممكن خلافه ، الاّ انه خلاف موازين العقلاء ، كما سبق في بعض مباحث الكتاب الالماع اليه .

سادسا : ( ويشير إليه ) اي : الى بطلان ما كان موجبا لاختلال أمر المعاش والمعاد ( أيضا : ما ورد من نفي الحرج ، وتوسعة الدّين ) حيث قال سبحانه : « ماجعل عليكم في الدين من حرج » (1) وقال عليه السلام : « ان شيعتنا في أوسع ممّا بين ذه وذه » وأشار الى السماء والارض(2) (وذمّ مَن ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم) مثل:

ص: 62


1- - سورة الحج : الآية 78 .
2- - تأويل الآيات : ص176 وقريب منه في بحار الانوار : ج60 ص46 ب30 ح27 .

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل :

إنّ المحمول عليه فعل المسلم هل الصحة باعتقاد الفاعل أو الصحة الواقعيّة ؟ .

-------------------

قوله عليه السلام : « ان الخوارج ضيّقوا على انفسهم بجهالتهم » (1) أي : ان جهلهم بالاحكام - ومنها أصالة الصحة في فعل الغير ، وخاصّة في فعل علي عليه السلام مع عملهم بنص الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم عليه ، وقوله فيه : «علي مع الحق ، والحق مع علي يدور معه حيثما دار » (2) - سبّب الضيق عليهم ، كما ورد مثل ذلك بالنسبة لأهل الكتاب من قبلهم حيث قال سبحانه : « فبظلمٍ من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات أحلّت لهم »(3) .

ومن المعلوم: ان ترك العمل بأصل الصحة يوجب ضيقا وحرجا على الانسان .

( وينبغي التنبيه على أمور ) تالية :

( الأوّل : إنّ المحمول عليه فعل المسلم هل الصحة ) الاعتقادية ، وهو الصحيح ( باعتقاد الفاعل ) وتطابقه مع اعتقاد الحامل ( أو الصحة الواقعيّة ) الاعم من تطابق الاعتقادين ؟ احتمالان بل قولان .

مثلاً : لو كان زيد يرى تحريم عشر رضعات ، وعمرو لا يرى التحريم ، فتزوّج عمرو بالتي ارتضعت معه عشر رضعات ، وبعد موت عمرو جاء الورثة الى زيد

ص: 63


1- - قرب الاسناد : ص171 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص368 ب13 ح61 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص257 ح791 ، وسائل الشيعة : ج3 ص491 ب50 ح4262 و ج4 ص456 ب55 ح5701 .
2- - تاريخ ابن عساكر : ج42 ص449 ، ينابيع المودة : ج1 ص269 ، المعيار والموازنة : ص119 ، تاريخ بغداد : ج14 ص322 .
3- - سورة النساء : الآية 160 .

فلو علم أنّ معتقد الفاعل - اعتقادا يُعذَر فيه صحة البيع ، أو النكاح بالفارسي ،

-------------------

ليُقسّم الارث بينهم ، فان كان المعيار الصحة الاعتقادية بمعنى : تطابق الاعتقادين ، فزيد لا يتمكن ان يورّث زوجة عمرو من عمرو لانها باعتقاد زيد ليست زوجة عمرو ، واما اذا كان المعيار الصحة الواقعية الاعم من تطابق الاعتقادين ، فعلى زيد ان يورّث زوجة عمرو من عمرو ، لانها زوجة عمرو باعتقاد عمرو .

هذا ، وقبل الدخول في المطلب نقول : ان ما نراه هنا هو : ان اصالة الصحة جارية مطلقا ، سواء تطابق الاعتقادان للفاعل والحامل على الصحيح أو لا ، الاّ في صورة واحدة وهي : صورة تباين الاعتقادين ، وذلك بان علم الحامل بان اعتقاد الفاعل مخالف لاعتقاده وقطعي البطلان ، وعلم ايضا ان الفاعل يأتي به حسب اعتقاده هو ، في حين انه يرى ان الصحيح عند الفاعل لا يكفي ، فان هذه الصورة فقط يُقطع بخروجها عن السيرة وعن الاجماع وعن التعليل : « لما قام للمسلمين سوق » (1) وما أشبهها من الادلة ، وذلك : كما لو كان الإمام يرى وجوب الجهر في القراءة يوم الجمعة ، والمأموم يرى وجوب الاخفات ، مع قطعه ببطلان اعتقاد الإمام ، وعلم ايضا ان الإمام يأتي بالقرائة حسب اعتقاده هو ، في حين انه يرى ان الصحيح عند الإمام لا يكفي حتى يصح له الاقتداء به ، ففي هذه الصورة فقط لا تجري أصالة الصحة ، ولا يتمكن من الاقتداء به ، دون سائر الصور .

وكيف كان : ( فلو علم أنّ معتقد الفاعل - اعتقادا يُعذَر فيه ) لاجتهادٍ أو تقليدٍ أو قطعٍ - ( صحة البيع ، أو النكاح بالفارسي ) كما انه يصح عنده بالعربية ايضا

ص: 64


1- - الكافي فروع : ج7 ص387 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص51 ب2 ح3307 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص262 ب22 ح100 ، وسائل الشيعة : ج27 ص292 ب25 ح33780 .

فشك فيما صدر عنه مع اعتقاد الشاك اعتبار العربية ، فهل يحمل على كونه واقعا بالعربي ؟ حتى اذا ادّعي عليه أنّه أوقعه بالفارسي وادّعى هو أنّه أوقعه بالعربي ، فهل يحكم الحاكم المعتقد بفساد الفارسي بوقوعه بالعربي أم لا ؟ وجهان بل قولان .

ظاهرُ المشهور : الحملُ على الصحة الواقعية ، فاذا شك المأموم في أنّ الإمام المعتقد لعدم وجوب السورة قرأها أم لا ، جاز له الائتمام به وإن لم يكن له ذلك اذا علم بتركها .

-------------------

( فشك ) الحامل ( فيما صدر عنه ) أي : عن الفاعل من بيع أو نكاح في عربيته وفارسيته ( مع اعتقاد الشاك ) أي : الحامل ( اعتبار العربية ) في البيع والنكاح وبطلان الفارسية ( فهل يحمل ) عقد الفاعل نكاحا أو بيعا ( على كونه واقعا بالعربي ؟ حتى اذا ) حدث اختلافٌ وترافعٌ الى الحاكم الشرعي و ( ادّعي عليه أنّه أوقعه بالفارسي ) فعقده باطل ( وادّعى هو أنّه أوقعه بالعربي ) فعقده صحيح ( فهل يحكم الحاكم المعتقد بفساد الفارسي بوقوعه بالعربي ) لأصالة الصحة وهو معنى الصحة الواقعية ( أم لا ؟ ) لانه ليس هنا مجال الحمل على الصحيح وهو معنى الصحة الاعتقادية ؟ .

( وجهان ) في المسألة ( بل قولان ) للفقهاء فيها :

( ظاهرُ المشهور : الحملُ على الصحة الواقعية ، فاذا شك المأموم في أنّ الإمام المعتقد لعدم وجوب السورة قرأها أم لا ، جاز له الائتمام به ) أي : بهذا الإمام ، فان جواز الائتمام هنا من آثار الحمل على الصحة الواقعية ( وإن لم يكن له ) أي : للمأموم ( ذلك ) الائتمام ( اذا علم بتركها ) أي : علم بأن الإمام يترك السورة ، لان المفروض : ان المأموم يعتقد بلزوم السورة ، وكذلك نراهم في المخاصمات

ص: 65

ويظهر من بعض المتأخّرين خلافه .

قال في المدارك ، في شرح قول المحقق : « ولو اختلف الزوجان : فادّعى أحدهما وقوع العقد في حال الاحرام وأنكر الآخر ، فالقولُ ، قول مَن يدّعي الاحلال ، ترجيحا لجانب الصحة » ، قال : « إنّ : الحمل على الصحة ، إنّما يتمّ اذا كان المدّعي لوقوع الفعل في حال الاحرام عالما بفساد ذلك ، أمّا مع اعترافه بالجهل فلا وجه للحمل على الصحة » ،

-------------------

يحكمون بان الاصل الصحة ، فيما اذا اختلفا في ان العقد الذي أجرياه كان صحيحا أم لا ، ومعلوم : ان الحكم بصحة فعل الغير من دون تقيد بصورة تطابق الاعتقادين دليل على انهم يحملون فعل الغير على الصحة الواقعية .

( ويظهر من بعض المتأخّرين خلافه ) أي : خلاف الحمل على الصحة الواقعية بل الحمل على الصحة الاعتقادية ، فقد ( قال في المدارك ، في شرح قول المحقق ) في الشرايع : ( « ولو اختلف الزوجان : فادّعى أحدهما وقوع العقد في حال الاحرام ) حتى يكون العقد باطلاً ( وأنكر الآخر ) وقوعه في حال الاحرام وادّعى وقوعه حال الاحلال حتى يكون العقد صحيحا ، قال : ( فالقولُ ، قول من يدّعي الاحلال ، ترجيحا لجانب الصحة » ) وهذا هو معنى الصحة الواقعية .

لكن ( قال ) صاحب المدارك في شرح هذا الكلام : ( « إنّ : الحمل على الصحة، إنّما يتمّ اذا كان المدّعي لوقوع الفعل في حال الاحرام عالما بفساد ذلك ) أي : عالما بأن العقد في حال الاحرام باطل ، ومعلوم ان المسلم لا يفعل ما هو باطل مع علمه بالبطلان ، فيحمل على الصحة ويترتب عليه الاثر ( أمّا مع اعترافه ) أي : مع اعتراف المدعي لوقوع العَقد في حال الاحرام ( بالجهل ) وعدم العلم بأنّ العقد في حال الاحرام باطل ( فلا وجه للحمل على الصحة » ) حينئذ حتى يترتب

ص: 66

انتهى .

ويظهر ذلك من بعض من عاصرناه ، في اصوله وفروعه حيث تمسّك في الأصل بالغلبة ، بل ويمكن إسناد هذا القول الى كلّ من استند في هذا الاصل

-------------------

عليه الاثر ، بل اللازم التماس دليل آخر يؤيّد الصحة أو البطلان ، وهذا هو معنى الصحة الاعتقادية .

( انتهى ) كلام السيد محمد صاحب المدارك ، فانه يظهر من كلامه هذا : بأنّ الصحة عنده هي الصحة الاعتقادية دون الواقعية ، لوضوح : انه لو كان يحمل فعل الغير على الصحة الواقعية ، لم يفرّق في ترتيب الأثر بين صورة علم العاقد بفساد العقد ، وبين جهله بالفساد ، وإنّما كان يطلق الحكم بذلك كما اطلق المحقق .

( ويظهر ذلك ) أي : الحمل على الصحة الاعتقادية توافقا للمدارك على خلاف المشهور ( من بعض من عاصرناه في اصوله وفروعه ) وهو صاحب القوانين ( حيث تمسّك في الأصل ) أي : أصالة الصحة في فعل الغير ( بالغلبة ) فان الغالب على المسلمين هو : ان أحدهم يأتي بالعمل الصحيح بحسب اعتقاده ، لا بالعمل الصحيح في الواقع ، ومن المعلوم : ان الصحيح بحسب اعتقاده قد يكون باطلاً واقعا ، اذ بين الصحيح الاعتقادي والصحيح الواقعي عموم من وجه ، واذا كان العمل صحيحا في اعتقاد الفاعل غير صحيح في اعتقاد الحامل ، لا يصح للحامل ترتيب أثر الصحيح على فعل الفاعل ،فاللازم ان يقال إنّما يُحمل فعل الغير على الصحيح اذا تطابق الاعتقادان وهو معنى الحمل على الصحة الاعتقادية .

( بل ويمكن إسناد هذا القول ) وهو الحمل على الصحة الاعتقادية المطابق للمدارك والقوانين ( الى كلّ من استند في هذا الاصل ) أي : اصل الصحة

ص: 67

الى ظاهر حال المسلم ، كالعلاّمة وجماعة مّمن تأخر عنه ، فانّه لا يشمل صورة اعتقاد الصحة ، خصوصا اذا كان قد أمضاه الشارع لاجتهاد أو تقليد أو قيام بيّنة أو غير ذلك .

والمسألة محلّ اشكال ، من إطلاق الأصحاب

-------------------

( الى ظاهر حال المسلم ، كالعلاّمة وجماعة مّمن تأخر عنه ) فان ظاهر حال المسلم وان كان هو العمل حسب ما يصح في اعتقاده ، الاّ انه قد يكون اعتقاده باطلاً واقعا ، فلا يصح للحامل المختلف اعتقاده مع اعتقاد الفاعل ، ترتيب أثر الصحيح على فعل الفاعل ، الصحيح عنده فقط ( فانّه لا يشمل صورة اعتقاد الصحة ) من الفاعل فقط ، فكيف بصورة جهله بالمسألة ؟ وإنّما يلزم حمله على الصحيح في صورة تطابق الاعتقادين ، وهذا هو معنى الحمل على الصحة الاعتقادية .

( خصوصا اذا كان قد أمضاه ) أي : امضى اعتقاد الفاعل ( الشارع لاجتهاد أو تقليد ) في الاحكام ( أو قيام بيّنة أو غير ذلك ) من يدٍ وسوقٍ وأرضٍ وما اشبه ذلك في الموضوعات ، فانه بالاضافة الى عدم اقتضاء دليل حال المسلم اكثر من الحمل على الصحة الاعتقادية ، ان مع حجية اعتقاد الفاعل شرعا يبعد الحمل على الصحة الواقعية .

هذا ( والمسألة ) بعد ( محلّ اشكال ) وتأمل في انه ما هو المراد من الحمل على الصحة ؟ هو هو الحمل على الصحة الواقعية ، أو الصحة الاعتقادية ؟ وهذا الاشكال ناشيء ( من إطلاق الأصحاب ) القول بالحمل على الصحة ، وعدم تقييده بصورة تطابق الاعتقادين ممّا يكشف عن كون الحمل على الصحة عندهم هي الصحة الواقعية .

ص: 68

ومن عدم مساعدة أدلّتهم ، فانّ العمدة الاجماع ولزوم الاختلال .

والاجماع الفتوائي مع ما عرفت مشكل ، والعملي في مورد العلم باعتقاد الفاعل للصحة أيضا مشكلٌ .

والاختلال يندفع بالحمل على الصحة في غير المورد المذكور .

-------------------

( ومن عدم مساعدة أدلّتهم ) على الاطلاق ممّا يكشف عن ان الحمل على الصحة إنّما هي الصحة الاعتقادية أي : في صورة تطابق الاعتقادين وذلك كما قال: ( فانّ العمدة ) أي : عمدة أدلة الاصحاب هو : ( الاجماع ولزوم الاختلال ) وكلاهما قاصران عن الادلة على الاطلاق ، فلا يشملان الاّ صورة تطابق الاعتقادين .

أما الاجماع بقسميه : الفتوائي والعملي فلأنه كما قال : ( والاجماع الفتوائي مع ما عرفت ) من ظهور مخالفة صاحب المدارك وصاحب القوانين ، بل كل من استند في أصل الصحة الى الغلبة أو الى ظاهر حال المسلم ، فإنّه ( مشكل ) اذ لا اجماع في المسألة ، لان ظاهر فتاوى جماعة هو : مجرد الحمل على الصحة الاعتقادية ، لا ترتيب الآثار حتى في صورة عدم تطابق الاعتقادين .

هذا بالنسبة الى الاجماع الفتوائي ( و ) اما بالنسبة الى الاجماع ( العملي ) الذي هو عبارة أخرى عن السيرة ، فانها ( في مورد العلم باعتقاد الفاعل للصحة ايضا مشكلٌ ) اذ قد عرفت : ان المتسالم عليه هو : ترتيب آثار الصحة الواقعية في صورة تطابق الاعتقادين لا مطلقا .

( و ) أمّا دليلهم الثاني وهو : لزوم ( الاختلال ) في امر المعاد والمعاش ، فانه ( يندفع بالحمل على الصحة في غير المورد المذكور ) الذي يتخالف فيه الاعتقادان ، فانا اذا عملنا بأصل الصحة في صورة تطابق الاعتقادين لا يلزم

ص: 69

وتفصيل المسألة ان الشاكّ في الفعل الصادر من غيره ، إمّا أن يكون عالما بعلم الفاعل بصحيح الفعل وفاسده ، وإمّا أن يكون عالما بجهله ، وإمّا أن يكون جاهلاً بحاله .

فان عَلِمَ بعلمه بالصحيح والفاسد ، فامّا أن يعلم بمطابقة اعتقاده لاعتقاد الشاك ، أو يعلم مخالفته ، أو يجهل الحال ،

-------------------

منه الاختلال ، وحيث لا اجماع ولا اختلال ، فمن اين يثبت القول بحمل فعل الغير على الصحة مطلقا ، حتى يكون بمعنى الصحة الواقعيّة ؟.

هذا هواجمال المسألة ( و ) اما ( تفصيل المسألة ) فهو على ما ذكره المصنِّف ذو صور خمس ، اذ ( ان الشاكّ في الفعل الصادر من غيره إمّا أن يكون عالما بعلم الفاعل بصحيح الفعل وفاسده ) أي : يعلم الحامل بانّ الفاعل يعلم ان الصلاة بلا وضوء فاسدة ، وانها مع الوضوء صحيحة - مثلاً - علما بان هذه الصّورة مقسم لثلاث صور ( وإمّا أن يكون عالما بجهله ) أي : جهل الفاعل بالصحيح والفاسد وهذه صورة رابعة ( وإمّا أن يكون ) الحامل ( جاهلاً بحاله ) أي : جاهلاً بحال الفاعل وهذه هي الصورة الخامسة .

أما الصورة الاولى فقد اشار اليها المصنِّف بقوله : ( فان عَلِمَ بعلمه بالصحيح والفاسد ) أي : علم الحامل بأنّ الفاعل يعلم الصحيح والفاسد ، فهي على ثلاث صور :

الاُولى : ( فامّا أن يعلم بمطابقة اعتقاده لاعتقاد الشاك ) أي : يعلم بتطابق الاعتقادين .

الثانية : ( أو يعلم مخالفته ) أي : يعلم بتخالف الاعتقادين .

الثالثة : ( أو يجهل الحال ) من حيث تطابق الاعتقادين ، وعدم تطابقهما ،

ص: 70

لا اشكال في الحمل في الصورة الاولى .

وأمّا الثانية ، فانْ لم يتصادق اعتقادُهما بالصحة في فعل كأن اعتقد أحدُهما : وجوب الجهر بالقراءة يوم الجمعة ، والآخر : وجوب الاخفات ، فلا اشكال في وجوب الحمل على الصحيح باعتقاد الفاعل ؛ وإن تصادقا - كما في العقد بالعربي والفارسي -

-------------------

وهذا هو تصوير الصور الثلاث .

وأمّا أحكام هذه الصور الثلاث فهي كما قال : ( لا اشكال في الحمل ) على الصحة بترتيب الآثار على فعل الغير ( في الصورة الاولى ) وهي : صورة تطابق الاعتقادين .

( وأمّا الثانية ) وهي صورة تخالف الاعتقادين ( فانْ لم يتصادق اعتقادُهما بالصحة في فعل ) وذلك بأن كان اعتقادهما متباينين ( كأن اعتقد أحدُهما : وجوب الجهر بالقراءة يوم الجمعة ، والآخر : وجوب الاخفات ، فلا اشكال في وجوب الحمل على الصحيح باعتقاد الفاعل ) بأن يقال : ان المصلّي - بحسب اعتقاده الممضى شرعا لاجتهاد أو تقليد - صلاته صحيحة يقينا باعتقاده ، أمّا حمل فعله على الصحيح الواقعي، حتى يصح المخالفه في الاعتقاد ان يأتمّ به، فلا.

هذا اذا تخالفا بالتباين ، واما اذا تخالفا بالعموم المطلق ، فهو ما أشار اليه المصنِّف بقوله : ( وإن تصادقا ) بالصحة في فعل ( كما في العقد بالعربي والفارسي ) وذلك بان يعتقد الفاعل صحة النكاح بكل من العربي والفارسي ، ويعتقد الحامل صحته بالعربي فقط ، وأجرى الفاعل عقدا لم يعلم الحامل هل انه عقدا فارسيا حتى يبطل عقده ، أو عقدا عربيا حتى يصح عقده ؟ فإنّ لهذا احتمالين :

ص: 71

فان قلنا : إنّ العقد بالفارسي منه سببٌ لترتب الآثار عليه ، من كلّ أحد ، حتى المعتقد بفساده ، فلا ثمرة في الحمل على مُعتقَد الحامل أو الفاعل .

وإن قلنا بالعدم ، كما هو الأقوى ففيه الاشكال المتقدّم : من تعميم الاصحاب في فتاواهم وفي بعض معاقد إجماعاتهم على تقديم قول مدّعي الصحة ، ومن اختصاص الأدلة بغير هذه الصورة .

وإن جهل الحال ،

-------------------

( فان قلنا : إنّ العقد بالفارسي منه ) أي : من المعتقد بصحة العقد الفارسي ( سببٌ لترتب الآثار عليه ، من كلّ أحد ، حتى المعتقد بفساده ) بمعنى : ان الحكم الظاهري في حق أحد يكون نافذا في حق الآخر ايضا ( فلا ثمرة ) للخلاف بين الفاعل والحامل ( في الحمل على مُعتقَد الحامل أو الفاعل ) لانه حينئذ يحكم بترتيب الآثار عليه ويكون صورة التخالف بالعموم المطلق صورة التطابق الكلي من حيث الحكم ، وكذا يكون حال ما اذا كان التخالف بينهما على نحو العموم من وجه .

( وإن قلنا بالعدم ) أي : بعدم ترتيب الأثر عليه من كل احد حتى المعتقد بفساده ( كما هو الأقوى ) عند المصنِّف ( ففيه الاشكال المتقدّم : من تعميم الاصحاب في فتاواهم وفي بعض معاقد إجماعاتهم ) المنقولة عنهم ( على تقديم قول مدّعي الصحة ) الكاشف عن ان الحمل على الصحة عندهم هي الصحة الواقعية ( ومن اختصاص الأدلة بغير هذه الصورة ) أي : غير صورة الاطلاق الظاهر من الاصحاب، وذلك لانصرافها الى صورة تطابق الاعتقادين ممّا يكشف عن كون الحمل على الصحة هي الصحة الاعتقادية ، لا الصحة الواقعية .

الثالثة : ( وإن جهل ) الحامل ( الحال ) ولم يعلم بانّ اعتقاد الفاعل

ص: 72

فالظاهر الحمل لجريان الأدلّة بل يمكن جريان الحمل على الصحة في اعتقاده ، فيحمل على كونه مطابقا لاعتقاد الحامل ، لأنّه الصحيح .

وإن كان عالما بجهله بالحال وعدم علمه بالصحيح والفاسد ، ففيه ايضا الاشكال

-------------------

هل هو مطابق لاعتقاده أو مخالف له ؟ ( فالظاهر الحمل ) لفعل الفاعل في هذه الصورة على الصحة ، وذلك ( لجريان الأدلّة ) فان أدلة الحمل على الصحة تشمل هذه الصورة ، لان اغلب موارد الشك في الصحة من هذا القبيل ، فاذا لم يرتب الحامل الصحة في هذه الصورة على فعل الفاعل لزم منه اختلال النظام ، مضافا الى ان السيرة في هذه الصورة جارية على حمل فعل الفاعل على الصحة .

( بل يمكن جريان الحمل على الصحة ) هنا لا في فعل الفاعل فحسب ، بل ( في اعتقاده ) ايضا ، فكما ان فعل الفاعل الخارجي ، المشكوك الصحة والفساد يجري فيه الحمل على الصحة ، كذلك اعتقاده القلبي المشكوك الصحة والفساد ( فيحمل ) الحامل ( على كونه ) أي : اعتقاد الفاعل ( مطابقا لاعتقاد الحامل ، لأنّه الصحيح ) باعتقاد الحامل ، فيكون حاصل الصورة الثالثة هو : الحمل على الصحة فعلاً واعتقادا بمعنى ان يقول الحامل : ان فعل الفاعل واعتقاد الفاعل كلاهما مطابقان لاعتقادي .

وأمّا الصورة الرابعة وحكمها ، فهو ما اشار اليه المصنِّف بقوله : ( وإن كان ) أي: الحامل ( عالما بجهله بالحال ) أي : عالما بأن الفاعل جاهل بالمسئلة ( وعدم علمه ) أي : وعالما بعدم علم الفاعل ( بالصحيح والفاسد ) ومع ذلك عمل عملاً ، ولم نعلم هل انه اتى به صحيحا أو باطلاً ؟ كما اذا علمنا بانه لا يعلم بوجوب الوضوء عليه وصلّى ، فهل يصح لنا ان نأتم به ام لا ؟ ( ففيه ايضا الاشكال

ص: 73

المتقدّم ، خصوصا اذا كان جهله مجامعا لتكليفه بالاجتناب ، كما اذا علمنا أنّه أقدم على بيع أحد المشتبهين بالنجس ، إلاّ أنّه يحتمل أن يكون قد اتفق المبيع غير نجس .

وكذا إن كان جاهلاً بحاله .

إلاّ أنّ الاشكال في بعض هذه الصور أهون منه في بعض ،

-------------------

المتقدّم ) من الاطلاق من ناحية ، ومن عدم شمول الأدلة لمثله من ناحية ثانية .

( خصوصا اذا كان جهله مجامعا لتكليفه بالاجتناب ) عمّا وقع العقد عليه - مثلاً - لكونه طرفا للشبهة المحصورة ( كما اذا علمنا أنّه أقدم على بيع أحد المشتبهين بالنجس ) فانه اذا كان شيئان احدهما نجس ، لزم على المالك ان يجتنب عن بيعهما معا للعلم الاجمالي ( إلاّ أنّه ) مع علمنا بذلك ( يحتمل أن يكون قد اتفق المبيع غير نجس ) وانه كان ظاهرا واقعا ، فهل هذا الاحتمال مع علمنا ذلك يكون مبررا لحمل فعله على الصحيح أم لا ؟ يقول المصنِّف : انه مشكل خصوصا هذه الصورة ، وقال : خصوصا ، لاضافة اشكال الشبهة المحصورة فيها الى اشكال عدم شمول الأدلة لها .

وأمّا الصورة الخامسة وحكمها ، فقد اشار اليها المصنِّف بقوله : ( وكذا ) يجيء الاشكال المتقدِّم : من ان الأدلّة لا تشمل مثل هذه الصورة الخامسة ايضا ، وهي ( إن كان ) الحامل ( جاهلاً بحاله ) أي : بحال الفاعل ، وذلك بان لا يعلم الحامل هل إنّ الفاعل جاهل بالمسألة ، أو هو عالم بها ؟ .

ثمّ ان المصنِّف قال بعد اتمام كلامه في الصور الخمس وبيانه لاحكامها : ( إلاّ أنّ الاشكال في بعض هذه الصور أهون منه ) أي : من الاشكال ( في بعض )

ص: 74

فلابد من التتبع والتأمّل .

-------------------

الصور الأخرى ، مثلاً : الاشكال في قوله : « وان كان عالما بجهله بالحال وعدم علمه بالصحيح والفاسد » أهون من الاشكال في الصورة التي ذكرها بقوله بعد ذلك : « خصوصا اذا كان جهله مجامعا لتكليفه بالاجتناب » وهكذا .

وعليه : ( فلابد من التتبع والتأمّل ) في الصور كلها حتى يظهر : ان ايّ صورة منها يطابق الأدلة فيحمل على الصحيح ، وايّ صورة منها لا يطابق الادلة فلا يحمل على الصحيح ، علما بان صور المسألة - على البيان التالي - تكون ثمان صور :

الاُولى : التطابق بين الاعتقادين .

الثانية : كون اعتقاد الحامل أعم من اعتقاد الفاعل .

الثالثة : عكس ذلك .

الرابعة : كون العموم من وجه بين الاعتقادين .

الخامسة : تباين الاعتقادين .

السادسة : الجهل بالتطابق والتباين .

السابعة : كون الفاعل جاهلاً بالمسألة .

الثامنة : كون الفاعل مجهول الحال من حيث العلم والجهل بالمسألة .

هذا ، وقد عرفت - على ما سبق منا - إنّ مقتضى القاعدة هو : الحمل على الصحة في جميعها ، الاّ الصورة التي استثنيناها في أوّل التنبيه ، وهي صورة مقيدة بأربعة قيود .

ص: 75

الأمر الثاني :

إنّ الظاهر من المحقق الثاني أنّ أصالة الصحة إنّما تجري في العقود بعد استكمال العقد للأركان .

قال في جامع المقاصد : فيما لو اختلف الضامن والمضمون له ، فقال الضامن : ضمنتُ وأنا صبيّ - بعد ما رجّح تقديم قول الضامن -

-------------------

( الأمر الثاني : ) ان الشك في صحة العقد وفساده ، قد يكون من جهة احتمال فقد ركن مقوّم ، وهذا يسمّى : الشك في المقتضى ، وقد يكون من جهة احتمال طروّ مفسد ، وهذا يسمّى : الشك في وجود المانع ، والكلام هنا في هذا الأمر هو في انه هل يحمل على الصحة في كلا الشكّين أم لا ؟ .

الظاهر : الحمل في كليهما ، الاّ ما ذكرناه في التنبيه الاول ، خلافا لآخرين ، حيث فصّلوا في المسألة على ما ستعرفه منهم انشاء اللّه تعالى .

قال المصنِّف : ( إنّ الظاهر من المحقق الثاني ) وهو المحقق الكركي صاحب جامع المقاصد ( أنّ أصالة الصحة انّما تجري في العقود بعد استكمال العقد للأركان ) من جهة المتعاقدين والعوضين والعقد ، ومعناه : انه اذا كان الشك في وجود المانع جرت أصالة الصحة فيه ، واما اذا كان الشك في المقتضي فلا تجري أصالة الصحة فيه .

(قال في جامع المقاصد : فيما لو اختلف الضامن والمضمون له ، فقال الضامن: ضمنتُ وأنا صبيّ ) وأنكر الصباوة المضمون له وقال : بل ضمنتَ وانت كامل ، قال المحقق الكركي ذلك ( بعد ما رجّح تقديم قول الضامن ) الذي يدّعي الصباوة حال الضمان ، وإنّما رجّح تقديم قول الضامن لدليلين : لأصالة الفساد ، وبرائة ذمة

ص: 76

ما هذا لفظه : « فان قلت : للمضمون له أصالة الصحة في العقود ، و ظاهر حال البالغ أنّه لا يتصرّف باطلاً .

قلنا إنّ الأصل في العقود الصحة بعد استكمال أركانها ليتحقق وجود العقد ، أمّا قبله فلا وجود له ، فلو اختلفا في كون المعقود عليه هو الحرّ ، أو العبد ؟ حَلَفَ منكرُ وقوع العقد على العبد ،

-------------------

الضامن ، فانه قال بعد ذلك ( ما هذا لفظه : « فان قلت : للمضمون له ) دليلان :

أولاً : ( أصالة الصحة في العقود ، و ) أصل الصحة مقدّم على أصل الفساد .

ثانيا : ظهور حال المسلم في الصحة ، لان ( ظاهر حال البالغ أنّه لا يتصرّف باطلاً ) بل صحيحا ، فيلزم من هذين الدليلين الدالين على صحة العقد ، تقديم قول المضمون له ، الذي يدعي الصحة بكمال الضامن .

قال المحقق الكركي : إن قلتم ذلك ( قلنا ) في الجواب عن الدليل الاول : ( إنّ الأصل في العقود الصحة بعد استكمال أركانها ) أي : بعد تمام المقتضي ، وذلك ( ليتحقق وجود العقد ) ويكون الشك في وجود المانع ( أمّا قبله ) أي : قبل استكمال الاركان ( فلا وجود له ) أي : للعقد حتى نقول : بان الأصل الصحة ، ومعنى ذلك : انه اذا كان الشك في طروّ المفسد جرى أصل الصحة ، لأنّ الأصل بعد تحقق العقد هو : عدم طروّ المفسد عليه ، وامّا اذا كان الشك في وجود المقتضي فلا عقد حتى يجري فيه أصل الصحة .

وعليه : ( فلو اختلفا في كون ) المعوّض في باب البيع ( المعقود عليه ) بثمن خاص ( هو الحرّ ، أو العبد ؟ ) بان قال أحد المتبايعين : تبايعنا على العبد فالبيع صحيح ، وقال الآخر : تبايعنا على الحر فالبيع باطل قال : ( حَلَفَ منكرُ وقوع العقد على العبد ) وحكم ببطلان المعاملة ، تقديما لقول مدّعى الفساد على مدّعي

ص: 77

وكذا الظاهر إنّما يتمّ مع الاستكمال المذكور لا مطلقا » ، انتهى .

وقال في باب الاجارة ما هذا لفظه : « لا شك في أنّه اذا حصل الاتفاق على حصول جميع الامور المعتبرة في العقد ، من الايجاب والقبول من الكاملين وجريانهما على العوضين المعتبرين ووقع الاختلاف في شرط مفسد ، فالقول ، قول مدّعي الصحة بيمينه لأنّه الموافق للأصل ، لأنّ الأصل عدم ذلك المفسد

-------------------

الصحة ، وذلك لرجوع الاختلاف هنا الى الشك في العقد قبل استكمال اركانه : والعقد قبل استكمال اركانه لا وجود له حتى يجري فيه اصل الصحة .

( وكذا ) الجواب عن الدليل الثاني وهو ظاهر حال المسلم : فان ( الظاهر إنّما يتمّ مع الاستكمال المذكور ) أي : استكمال الاركان من جهة البلوغ والعقل ونحوهما ( لا مطلقا » ) سواء استكمل الاركان ام لم يَستكملها ( انتهى ) كلام المحقق الثاني في باب الضمان .

( وقال ) المحقق المذكور ( في باب الاجارة ) ايضا ( ما هذا لفظه : « لا شك في أنّه اذا حصل الاتفاق ) من طرفي المعاملة ( على حصول جميع الامور المعتبرة في العقد ، من الايجاب والقبول من الكاملين ) أي : البالغين العاقلين المختارين ( وجريانهما على العوضين المعتبرين ) بأن لا يكون احد العوضين خمرا ، أو خنزيرا ، أو وقفا ، أو ما أشبه ذلك ( ووقع الاختلاف في شرط مفسد ) كاشتراط عدم انتقال المبيع الى المشتري ( فالقول ، قول مدّعي الصحة بيمينه ) وذلك لدليلين :

أولاً : ( لأنّه الموافق للأصل ) أي : لأنّ قول مدّعي الصحة يوافق اصالة الصحة في العقود ، وذلك ( لأنّ الأصل عدم ذلك المفسد ) أي : عدم وجود المانع

ص: 78

والاصل في فعل المسلم : الصحيح .

أمّا اذا حصل الشك في الصحة والفساد في بعض الامور المعتبرة وعدمه ، فانّ الأصل لا يُثمِرُ هنا ، فانّ الأصل عدم السبب الناقل .

ومن ذلك ما لو ادّعى أنّي اشتريت العبد ، فقال : بعتك الحرّ » ، انتهى .

-------------------

بعد تمامية الاركان .

ثانيا : ( والاصل في فعل المسلم : الصحيح ) وعدم التصرف الباطل ، فاذا شككنا بسبب الاختلاف بينهما في انه هل فعل صحيحا أم لا ؟ نحمل فعله بعد تمامية الاركان على الصحة ونحكم له بيمينه .

هذا فيما لو حصل الشك في الصحة والفساد لوجود المانع من الشرط المفسد ( أمّا اذا حصل الشك في الصحة والفساد في ) وجود ( بعض الامور المعتبرة ، وعدمه ) أي : في أركان المعاملة ، كالشك في بلوغ احد المتعاملين - مثلاً - ( فانّ الأصل ) أي : أصل الصحة ( لا يُثمِرُ هنا ) لما عرفت : من انه من الشك في المقتضي ، ومعه لا عقد حتى يقال : بان الأصل الصحة ، فيقدّم قول مدعي الفساد مع يمينه ، وذلك لانه كما قال : ( فانّ الأصل عدم السبب الناقل ) عند الشك في تمامية السبب المقتضي للنقل ، فاللازم حينئذ تقديم قول مدعي الفساد مع يمينه والحكم بالبطلان .

( ومن ذلك ) أي : من موارد الحكم بالبطلان المسئلة السابقة وهي : ( ما لو ادّعى أنّي اشتريت العبد ، فقال : بعتك الحر » ) لان المملوكية من أركان المعاملة ( انتهى ) كلام المحقق الثاني .

ص: 79

ويظهر هذا من بعض كلمات العلامة ، قال في القواعد : « لا يصح ضمان الصبي ولو أذن له الوليّ ، فان اختلفا قدمّ قول الضامن ، لأصالة برائة الذمّة وعدم البلوغ ، وليس لمدّعي الصحة أصل يستند اليه ، ولا ظاهر يرجع اليه .

بخلاف ما لو ادّعى شرطا فاسدا ،

-------------------

( ويظهر هذا ) الذي ذهب اليه المحقق الثاني ( من بعض كلمات العلامة ) أيضا ( قال في القواعد : « لا يصح ضمان الصبي ولو أذن له الوليّ ) أي : حتى مع الاذن من وليه ( فان اختلفا ) بأن قال الضامن : ضمنتُ وانا صبي فالضمان باطل ، وأنكره المضمون له وقال : بل كامل فالضمان صحيح ( قدمّ قول الضامن ) المدّعي للفساد مع يمينه وذلك لدليلين :

أوّلاً : ( لأصالة برائة الذمّة ) أي : برائة ذمة الضامن ، لانه سابقا لم يكن مشغول الذمة ، فاذا شككنا في انه اشتغلت ذمته ام لا ؟ فالاصل عَدم اشتغال ذمته .

ثانيا : ( وعدم البلوغ ) أي : أصل عدم البلوغ لان البلوغ أمر طاريء ، واذا اثبت عدم بلوغه لم يثبت له ظهور حال المسلم في الصحة : ومعه يقدّم قوله بالفساد مع يمينه ويحكم ببطلان المعاملة .

ثم قال العلامة بعد ذلك : ( وليس لمدّعي الصحة ) هنا وهو المضمون له الذي يدّعي كمال الضامن ( أصل يستند اليه ، ولا ظاهر يرجع اليه ) وذلك لما عرفت : من ان أصل الصحة مختص بالشك في المانع وطروّ المفسد بعد تمامية اركان المعاملة ، وهذا ليس كذلك ، وهكذا ظهور حال المسلم فانه مختص بالبالغ ، اما من ليس ببالغ ، أو لا نعلم هل انه كان بالغا ام لا ؟ فليس له هذا الظهور .

ثم قال العلامة : ( بخلاف ما لو ادّعى شرطا فاسدا ) فانه حينئذ يقدّم قول

ص: 80

لأنّ الظاهر أنّهما لا يتصرفان باطلاً ، وكذا البحث فيمن عرف له حالة جنون » ، انتهى .

وقال في التذكرة : « لو ادّعى المضمون له : أنّ الضامن ضمن بعد البلوغ وقال الضامن : بل ضمنتُ لك قبله ، فان عيّنا له وقتا لا يحتمل بلوغه قدّم قول الصّبي

-------------------

مدّعي الصحة ، لأنّ الأركان تامة ، وإنّما الشك في المفسد والاصل عدمه ، فاصالة الصحة في العقود هنا هو الدليل ، وظاهر حال المسلم هو الدليل الثاني كما قال : ( لأنّ الظاهر أنّهما لا يتصرّفان باطلاً ) بل صحيحا ، فيلزم من هذين الدليلين تقديم قول مدَّعي الصحة .

( وكذا البحث فيمن عرف له حالة جنون » (1) ) ادواري ، فاختلفا في انه هل ضمن في حال جنونه الأدواري حتى يكون ضمانه باطلاً ، أو في حال افاقته حتى يكون ضمانه صحيحا ؟ فانّه يقدّم قول مدّعي الفساد ، لانه ليس لمدّعي الصحة هنا اصل يستند اليه بعد كون الشك في اركان العقد ، ولا ظاهر حال يرجع اليه بعد كون احدهما مجنونا ادواريا ، ( انتهى ) كلام العلاّمة في القواعد .

( وقال في التذكرة : « لو ادّعى المضمون له : أنّ الضامن ضمن بعد البلوغ ) فالضمان صحيح ( وقال الضامن : بل ضمنتُ لك قبله ) أي : قبل البلوغ ، فالضمان باطل ؟ قال : ( فان عيّنا له ) أي : للضمان ( وقتا ) بحيث ( لا يحتمل بلوغه ) أي : بلوغ الضامن فيه ( قدّم قول الصّبي ) وحكم بالبطلان ، لان ذلك يعيّن انه ضمن قبل بلوغه .

ص: 81


1- - قواعد الأحكام : ص177 .

- إلى أن قال : - وإن لم يعيّنا له وقتا ، فالقول قول الضامن بيمينه ، وبه قال الشافعي ، لأصالة عدم البلوغ .

وقال أحمد : القول قول المضمون له ، لأنّ الأصل صحة الفعل وسلامته ، كما لو اختلفا في شرط مبطل .

والفرق أنّ المختلفين في الشرط المفسد يقدّم فيه قول مدّعي الصحة لاتفاقهما على أهليّة التصرّف ، إذ من له أهليّة التصرّف لا يتصرّف إلاّ تصرّفا صحيحا ،

-------------------

( إلى أن قال : وإن لم يعيّنا له وقتا ) لنسيان أو غيره ( فالقول قول الضامن بيمينه ) وذلك تقديما لقول مدّعي الفساد ، اذ ليس لمدّعي الصحة هنا وهو المضمون له اصل يستند اليه ، ولا ظاهر حال - يعوّل عليه - على ما عرفت سابقا - ( وبه قال الشافعي ) ايضا ( لأصالة عدم البلوغ ) واذا اثبت عدم بلوغه لم يثبت له ظهور حال المسلم في الصحة ، فيقدّم قول مدعي الفساد مع يمينه ( وقال أحمد ) بن حنبل هنا : ( القول قول المضمون له ، لأنّ الأصل صحة الفعل وسلامته ، كما لو اختلفا في شرط مبطل ) فانه سوّى بين الشك الراجع الى اركان العقد ، والشك الراجع الى طروّ المفسد ، ولم يفرق كالمحقق والعلامة بينهما .

هذا ( و الفرق ) بين الشكيّن هو : ( أنّ المختلفين في الشرط المفسد ) إنّما ( يقدّم فيه قول مدّعي الصحة ) لدليلين :

أولاً : ( لاتفاقهما على أهليّة التصرّف ) بسبب تمامية أركان العقد ، ومع تمامية أركان العقد تجري أصالة الصحة في العقود .

ثانيا : ظهور حال من له أهليّة التصرّف في الصحة ( إذ من له أهليّة التصرّف لا يتصرّف إلاّ تصرّفا صحيحا ) واذا كان هذان الدليلان في فرض الاختلاف

ص: 82

فكان القولُ قول مدّعي الصحة ، لأنّه مدّعٍ للظاهر . وهنا اختلفا في أهليّة التصرّف ، فليس مع مَن يدّعي الأهليّة : ظاهر يستند اليه ، ولا أصل يرجع اليه .

وكذا لو ادّعى أنّه ضمن بعد البلوغ وقبل الرشد » ، انتهى موضع الحاجة .

لكن لم يعلم الفرق بين دعوى الضامن الصغر وبين دعوى

-------------------

في الشرط المفسد لمدّعي الصحة (فكان القولُ قول مدّعي الصحة، لأنّه مدّعٍ للظاهر ) اضافة الى اصالة الصحة في العقود بعد تسالمهما على تمامية اركانه كما عرفت .

هذا فيما لو اختلفا في الشروط : واما لو اختلفا في الاركان ، فليس لمدّعي الصحة الدليلان المذكوران كما قال : ( وهنا اختلفا في أهليّة التصرّف ) وهي من اركان العقد ، واذا كان الاختلاف في الاركان ( فليس مع مَن يدّعي الأهليّة : ظاهر يستند اليه ، ولا أصل يرجع اليه ) فيقدّم قول مدّعي الفساد مع يمينه ، ولهذا فرّق المحقق والعلاّمة بين الشكّين .

( وكذا لو ادّعى أنّه ضمن بعد البلوغ وقبل الرشد » (1) ) لوضوح : ان الرشد ركن في صحة المعاملات والعقود ، فقد قال سبحانه : « فان آنستم منهم رشدا فادفعوا اليهم أموالهم » (2) ومع الشك في الركن يقدّم قول مدّعي الفساد ( انتهى موضع الحاجة ) من كلام العلاّمة في التذكرة .

هذا هو الفرق بين الشكين ( لكن لم يعلم الفرق بين دعوى الضامن الصغر ) حيث حكم المحقق الثاني والعلامة بعدم جريان أصالة الصحة فيها ( وبين دعوى

ص: 83


1- - تذكرة الفقهاء : ج1 ص87 .
2- - سورة النساء : الآية 6 .

البايع إيّاه ، حيث صرّح المحقق الثاني والعلامة بجريان أصالة الصحة وإن اختلفا بين من عارضها بأصالة عدم البلوغ وبين من ضعّف هذه المعارضة .

وقد حُكِيَ عن قطب الدين أنّه اعترض على شيخه العلاّمة في مسألة الضمان

-------------------

البايع إيّاه ) أي : الصغر ( حيث صرّح المحقق الثاني والعلامة بجريان أصالة الصحة ) فيها ، مع انهما معا من الشك في المقتضي ، لاختلافهما في المثالين معا في الصغر الذي هو من اركان العقد ( وإن اختلفا ) أي : المحقق والعلامة ( بين من عارضها ) أي : عارض أصالة الصحة وهو العلامة ( بأصالة عدم البلوغ ) وقال : بتساقطهما ( وبين من ضعّف هذه المعارضة ) وقال بجريان أصالة الصحة وهو المحقق الثاني .

وكيف كان : فقد قال العلامة : « لو قال البائع : بعتك وانا صبي ، وقال المشتري : بعتني وانت بالغ ، احتمل تقديم قول المشتري ، لأصالة الصحة ، واحتمل تقديم قول البائع لأصالة عدم البلوغ ، فيتعارضان ويتساقطان ، فيرجع الى أصالة البرائة » أي : البرائة عن الزام احدهما الآخر ببطلان البيع ، لان المفروض ان العلامة يرى صحة البيع ، وقال المحقق الثاني : « ان أصالة عدم البلوغ ضعيفة ، لانهما قد أقرّا بالبيع ، فتجري أصالة الصحة ، فلا يبقى مجال الأصالة عدم البلوغ حتى يعارض » أي : يعارض بأصالة الصحة ويتساقطان ، فأشكل المصنِّف : بانه ما الفرق بين الموردين حتى استدعى الصحة هنا ، والفساد هناك ؟ .

هذا ( وقد حُكِيَ عن قطب الدين أنّه اعترض على شيخه العلاّمة ) القائل بأصالة الفساد عند الاختلاف في البلوغ وعدمه ( في مسألة الضمان ) اعتراضا

ص: 84

بأصالة الصحة فعارضها بأصالة عدم البلوغ ، وبقي أصالة البراءة سليمة عن المعارض .

أقول : والأقوى بالنظر الى الأدلّة السابقة من السيرة ولزوم الاختلال هو التعميم. ولذا لو شك المكلّف أنّ هذا الذي اشتراه هل اشتراه في حال صغره بنى على الصحة .

ولو قيل إنّ ذلك من حيث الشك في تمليك البايع البالغ، وأنّه كان في محلّه أم كان فاسدا ؟

-------------------

( بأصالة الصحة ) في العقود ، وذلك بأن قال لشيخه : ان الاصل في المعاملات الصحة لا الفساد ( فعارضها ) أي : عارض العلامة اصالة الصحة التي اعترض بها عليه تلميذه قطب الدين ( بأصالة عدم البلوغ ) واذا تعارضا تساقطا ( وبقي أصالة البرائة سليمة عن المعارض ) فتكون البرائة هي المحكّمة .

( أقول : والأقوى بالنظر الى الأدلّة السابقة من السيرة ولزوم الاختلال ) فيما اذا لم يُعمل بأصالة الصحة ( هو التعميم ) لأصالة الصحة في الشكين ، وكذلك عدم التفريق بين الموردين المذكورين ، وذلك باجراء اصالة الصحة فيهما ( ولذا لو شك المكلّف أنّ هذا الذي اشتراه ) هو بنفسه ( هل اشتراه في حال صغره ) حتى يكون باطلاً ، أو اشتراه في حال كبره حتى يكون صحيحا ؟ ( بنى على الصحة ) حسب قول المشهور ، فانهم عممّوا جريان أصالة الصحة فيها بلا فرق بين الشك بالنسبة الى نفسه أو الشك بالنسبة الى الغير .

هذا ( ولو قيل إنّ ذلك ) أي : البناء على الصحة في معاملة نفسه هو : ( من حيث الشك في تمليك البايع البالغ ، وأنّه كان في محلّه أم كان فاسدا ؟ ) بمعنى : ان القول بجريان أصل الصحة عند شك الانسان في عمل نفسه إنّما هو : لأن طرفه

ص: 85

جرى مثل ذلك في مسألة التداعي أيضا .

ثم إنّ ما ذكره جامع المقاصد : من أنّه لا وجود للعقد قبل استكمال أركانها إن أراد الوجود الشرعي فهو عين الصحة ، وإن أراد الوجود العرفي فهو متحقق

-------------------

كان عند البيع بالغ قطعا ، وأصالة الصحة في عمل طرفه يقتضي الصحة من طرف أيضا وان شك هو في نفسه بانه هل كان بالغا أم لا ؟ .

قلنا : ( جرى مثل ذلك في مسألة التداعي أيضا ) فان في مورد دعوى احد المتعاملين الصغر ، ايضا ينبغي رعاية حال الطرف الآخر والحكم بالصحة ، لان الطرف لما كان بالغا جرت أصالة الصحة في حقه ، وتتلازم الصحة في عمل احدهما مع الصحة في عمل الآخر ، لان العقد لا يمكن ان يكون بالنسبة الى احدهما صحيحا وبالنسبة الى الآخر باطلاً .

( ثم إنّ ما ذكره جامع المقاصد : من أنّه لا وجود للعقد قبل استكمال أركانها ) فلا تجري أصالة الصحة فيما اذا شك - مثلاً - في البلوغ وعدمه لانه من الاركان فما هو المراد من قوله : « لا وجود للعقد » ؟ فانه ( إن أراد الوجود الشرعي فهو ) أي : الوجود الشرعي ( عين الصحة ) ونفسها ، ولا اثنينية بينهما ، فيكون معنى كلام المحقق : انه حيث لا وجود شرعي للعقد قبل استكمال الأركان فلا صحة ، فاشكل عليه المصنِّف : بأنّ الصحة والوجود الشرعي ليس أمرين ، بل هما أمر واحد ، ومع احراز احدهما يحرز الآخر ، فلا يبقى شك ليجري فيه اصالة الصحة .

( وإن أراد الوجود العرفي ) وذلك بان يكون معنى كلام المحقق : انه حيث لا وجود عرفي للعقد فلا صحة شرعي ، فاشكل عليه المصنِّف بقوله : ( فهو ) أي : الوجود العرفي متحقق وان لم يكن صحيحا ، اذ الوجود العرفي ( متحقق

ص: 86

مع الشك ، بل مع القطع بالعدم .

وأمّا ما ذكره - من الاختلاف في كون المعقود عليه هو : الحرّ ، أو العبد ؟ - فهو داخل في المسألة المُعَنْوَنة في كلام القدماء والمتأخّرين ، وهي « ما لو قال : بعتك بعبد ، فقال : بل بحرّ » فراجع كتب الفاضلين والشهيدين .

وأمّا ما ذكره من أنّ الظاهر إنّما يتمّ مع الاستكمال

-------------------

مع الشك ) في بعض الأركان كالبلوغ والعقل وما أشبه ( بل مع القطع بالعدم ) أيضا ، فانا اذا قطعنا بعدم بلوغ البائع وأجرى مع ذلك العقد ، قطعنا بان البيع قد حصل له وجود عرفي ، ومعه لا شك حتى يجري فيه اصالة الصحة .

هذا ما ذكره المحقق الكركي : « من انه لا وجود للعقد قبل استكمال اركانه » ( وأمّا ما ذكره ) مثالاً لعدم جريان الصحة عند الشك في الاركان : ( من الاختلاف في كون المعقود عليه هو : الحرّ ، أو العبد ؟ ) فليس في محله .

وإنّما لم يكن في محله ، لانه قال بعده : « حلف منكر وقوع العقد على العبد » أي : يسلّم الحكم ببطلانه في حين اختلاف الاصحاب قديما وحديثا فيه ، ولذا اشكل عليه المصنِّف بقوله : ( فهو داخل في المسألة المُعَنْوَنة في كلام القدماء والمتأخّرين ، وهي « ما لو قال : بعتك بعبد ، فقال : بل بحرّ » ) حيث قال في الشرايع : « اذا قال : بعتك بعبد فقال : بل بحرّ ، فالقول قول من يدّعي صحة العقد مع يمينه » وقال في المسالك : « ويشكل ذلك مع التعيين ، بان قال : بعتك بهذا العبد ، فقال : بل بهذا الحرّ » . فانه يظهر من ذلك : الاختلاف في هذه المسألة ، فكيف جعل جامع المقاصد هذه المسألة مسلّمة وقاس عليها فيما اذا اختلفا في البلوغ ؟ واذا أردت الاطلاع الاكثر ( فراجع كتب الفاضلين والشهيدين ) وغيرهما .

( وأمّا ما ذكره ) المحقق الثاني : ( من أنّ الظاهر إنّما يتمّ مع الاستكمال

ص: 87

المذكور ، لا مطلقا ، فهو إنّما يتم اذا كان الشك من جهة بلوغ الفاعل ، ولم يكن هناك طرف آخر معلوم البلوغ يستلزم صحة فعله ، صحة فعل هذا الفاعل .

كما لو شك في أنّ الابراء أو الوصيّة ، هل صدر منه حال البلوغ أم قبله .

أمّا اذا كان الشك في ركن آخر من العقد ، كأحد العوضين ،

-------------------

المذكور ) فهو ليس بتامّ ايضا ، وذلك لان ظهور حال المسلم في الصحة على قول المحقق صار متوقفا على ما اذا استكمل العقد تمام المقتضي وكان الشك في الرافع والمانع والمفسد ( لا مطلقا ) فانه ليس هناك في مقام الشك في المقتضي ظهور ، فاشكل عليه المصنِّف بقوله : ( فهو ) أي : التوقف المذكور ( إنّما يتم اذا كان الشك من جهة بلوغ الفاعل ، ولم يكن هناك طرف آخر معلوم البلوغ ) بحيث ( يستلزم صحة فعله ، صحة فعل هذا الفاعل ) المشكوك البلوغ ، فانه كما سبق : ان الصحة في احد طرفي العقد يلازم الصحة في الطرف الآخر ايضا .

والحاصل : ان التوقف إنّما يتمّ اذا لم يكن احد الطرفين جامعا للشرائط ، فاذا كان جرت الصحة في الطرف الآخر ، سواء كان الشك في المقتضي والاركان ، أم في المانع وطروّ المفسد ، وسواء كان في الضمان ام البيع ام غير ذلك ؟ .

ثم مثّل المصنِّف لقوله : « ولم يكن هناك طرف آخر » مثالاً وهو : ( كما لو شك في أنّ الابراء ، أو الوصيّة ، هل صدر منه حال البلوغ ) حتى يكون صحيحا ( أم قبله ) أي : قبل البلوغ حتى يكون باطلاً ؟ فانه لا مورد هنا للتمسك بظهور حال المسلم البالغ ، اذ لا بالغ مقطوع به في المقام حتى يقال : بان ظاهر هذا الطرف الصحة ، فيتعدّى منه الى الصحة في الطرف الآخر المشكوك بلوغه - مثلاً - .

( أمّا اذا ) علم تمامية بعض اركان العقد وكمال طرف منه ، لكن ( كان الشك في ركن آخر من العقد ، كأحد العوضين ) بان اختلفا - مثلاً - في انه هل كان مملوكا

ص: 88

أو في أهليّة أحد طرفي العقد فيمكن أن يقال : إنّ الظاهر من الفاعل في الاول ومن الطرف الآخر في الثاني أنّه لا يتصرّف فاسدا .

نعم ، مسألة الضمان يمكن أن يكون من الأوّل إذا فرض وقوعه بغير إذن من المديون ولا قبول من الغريم ، فانّ الضامن حينئذ فعل واحد ، وشك في صدور من بالغ أو غيره وليس له طرف آخر ، فلا ظهور في عدم كون تصرفه فاسدا .

-------------------

حتى يصح البيع ، أو حرا حتى يبطل ؟ ( أو في أهليّة أحد طرفي العقد ) بان اختلفا - مثلاً - في بلوغه وعدم بلوغه ( فيمكن أن يقال : إنّ الظاهر من الفاعل في الاول ) أي : فيما كان الشك في احد العوضين ( ومن الطرف الآخر في الثاني ) أي : فيما كان الشك في أهلية أحد المتعاقدين هو : ( أنّه لا يتصرّف فاسدا ) بل صحيحا ، والصحة من طرف يستلزم الصحة من الطرف الآخر ، فيلزم منه ، ومن اصالة الصحة في العقود ، تقديم قول المدعي الصحة وان كان الشك في الاركان .

( نعم ، مسألة الضمان يمكن أن يكون من ) المثال ( الأوّل ) وهو : ما اذا كان له طرف واحد فقط، ثم حدث الشك في هذا الطرف الواحد بانه هل كان بالغا - مثلاً - أم لا ؟ وذلك فيما ( إذا فرض وقوعه ) أي : وقوع الضمان ( بغير إذن من المديون ) فلا المديون قد أذن له حتى يكون له طرفان : الضامن والمديون ( ولا قبول من الغريم ) وهو الدائن ، بل تبرّع الضامن هو من نفسه ( فانّ الضامن حينئذ فعل واحد ، و ) لا طرف آخر له ، فلو ( شك في صدور من بالغ أو غيره ) أي : غير بالغ - مثلاً - ( و ) الحال انه ( ليس له طرف آخر ) مقطوع البلوغ حتى يتعدّى منه الصحّة الى هذا الطرف المشكوك البلوغ ، ومعه ( فلا ظهور في عدم كون تصرفه فاسدا ) لانه حسب الفرض لا طرف له .

ص: 89

لكنّ الظاهر : أنّ المحقق لم يُرِد خصوص ما كان من هذا القبيل ، بل يشملُ كلامه الصورتين الأخيرتين فراجع .

نعم ، يحتمل ذلك في عبارة التذكرة .

ثمّ إنّ

-------------------

هذا ( لكنّ الظاهر ) المستفاد من العبارة هو : ( أنّ المحقق لم يُرِد خصوص ما كان من هذا القبيل ) الذي له طرف واحد ( بل يشملُ كلامه ) أي : كلام المحقق بعدم جريان اصل الصحة ( الصورتين الأخيرتين ) ايضا ، وهما : ما اذا كان الشك في ركن آخر من العقد كأحد العوضين ، وما اذا كان الشك في اهلية احد طرفي العقد ، وهاتان الصورتان يشتركان في كونهما ذا طرفين ، وفي انهما من الشك في الأركان ، وقد قال المحقق بعدم جريان أصل الصحة لو كان الشك في الاركان ( فراجع ) كلام المحقق لتعرف أنّه يشمل حتى هاتين الصورتين .

( نعم ، يحتمل ذلك ) أي : ارادة خصوص الصورة الاولى ذي الطرف الواحد فقط ( في عبارة التذكرة ) للعلامة ، فان عبارته المتقدمة صالحة للحمل على الصورة الاولى فحسب ، وهي : صورة دعوى الضامن الصغر - مثلاً - مع عدم إذن من المديون ، ولا قبول من الغريم ، دون الصورتين الاخيرتين ، وذلك لأنه رحمه اللّه لم يقيّد - كما قيد المحقق - ظهور حال المسلم في الصحة بصورة استكمال الاركان ، حتى تشمل عبارته الصورتين الاخيرتين ايضا .

( ثمّ إنّ ) تقييد المحقق ظهور حال المسلم بصورة استكمال الاركان ، وحصره تقديم قول مدعي الصحة بصورة الاختلاف والشك في الشرط المفسد ، يرجع الى ابطال أصالة الصحة رأسا ، وذلك لأنّ تقديم قول منكر الشرط المفسد وان كان نتيجته الصحة ، إلاّ انه ليس لأن الاصل الصحة ، بل لان الشرط صحيحا كان

ص: 90

تقديم قول منكر الشرط المفسد ليس تقديم قول مدّعي الصحة ، بل لأنّ القولُ قول منكر الشرط ، صحيحا كان أو فاسدا ، لأصالة عدم الاشتراط ، ولا دخل لهذا بحديث أصالة الصحة وإن كان مؤدّاه صحة العقد فيما كان الشرط المدّعى مفسدا .

هذا ، ولابدّ من التأمّل والتتبّع .

-------------------

أو فاسدا اذا شك في وجوده وعدمه ، كان الأصل عدمه .

وعليه : فان ( تقديم قول منكر الشرط المفسد ) للعقد ( ليس تقديم قول مدّعي الصحة ، بل ) أي تقديم قوله إنّما هو ( لأنّ القولُ قول منكر الشرط ، صحيحا كان ) ذلك الشرط كشرط الخيار - مثلاً - ( أو فاسدا ) كان ، كشرط عدم انتقال المبيع إلى المشتري - مثلاً - .

وإنّما القول هنا قول منكر الشرط ( لأصالة عدم الاشتراط ) فان الشرط أمر حادث ، فإذا شك فيه فالأصل عدمه ( ولا دخل لهذا ) أي : لأصل عدم الاشتراط ( بحديث أصالة الصحة ) إذ هو تمسك باستصحاب عدم الشرط ، لا بأصالة الصحة ( وإن كان مؤدّاه ) أي : مؤدّى استصحاب عدم الشرط هو : ( صحة العقد فيما كان الشرط المدّعى مفسدا ) للعقد ، وذلك بأن كان خلافا للكتاب والسنة ، أو خلافا لمقتضى العقد .

( هذا ) هو بعض الكلام في أصالة الصحة وانها هل تجري مطلقا ، سواء كان الشك في المقتضي ، أم في المانع ، أو لا تجري إلاّ في صورة الشك في المانع فقط ؟ ( ولابدّ من التأمّل والتتبّع ) لأقوال الفقهاء حتى يظهر انهم ماذا فهموا من السيرة وغيرها من الأدلة التي تقدمت دليلاً على أصالة الصحة ؟ .

ص: 91

الثالث :

إنّ هذا الأصل إنّما يُثبت صحة الفعل إذا وقع الشك في بعض الاُمور المعتبرة شرعا في صحته بمعنى : ترتّب الأثر المقصود منه عليه ، فصحّة كلّ شيء بحسبه .

مثلاً : صحة الايجاب عبارةٌ عن كونه بحيث لو تعقّبه قبول صحيح لحصل أثر العقد

-------------------

الأمر ( الثالث : إنّ ) الصحة في المقام يراد بها : ترتيب الأثر المطلوب من الفعل على ذلك الفعل ، لا ترتيب أثر شيء آخر عليه ، فإذا شك - مثلاً - في عقد الفضولي، رتّب عليه النقل والانتقال إذا لحقته الاجازة ، لأن النقل والانتقال من آثار صحة العقد ، وأما إذا شك في ان المالك هل أجاز أم لا؟ لم يرتّب على صحة العقد ان المالك أجاز ، لأن اجازة المالك ليست من آثار صحة العقد .

وعليه : فإنّ ( هذا الأصل ) أي : أصل الصحة ( إنّما يُثبت صحة الفعل إذا وقع الشك في بعض الاُمور المعتبرة شرعا في صحته ) كما إذا شك في انه هل عقد بالعربية أو بالفارسية ، أو كان حين العقد بالغا أو غير بالغ ، أو باع الحر أو العبد ، إلى غير ذلك ؟ ( بمعنى : ترتّب الأثر المقصود منه عليه ) أي : على ذلك الفعل ، لا ترتّب شيء آخر عليه ، وإذا كان كذلك ( فصحّة كلّ شيء بحسبه ) لأن الصحة كما عرفت هو ترتيب الأثر ، والأشياء مختلفة في ترتيب الآثار عليها ، فالأثر المترتّب على الايجاب وحده غير الأثر المترتب عليه مع القبول ، وهكذا .

( مثلاً : صحة الايجاب عبارةٌ عن كونه ) أي : كون الايجاب ( بحيث لو تعقّبه قبول صحيح لحصل أثر العقد ) فيما إذا كانا جامعين لكل الشرائط فاقدين لكل

ص: 92

في مقابل فاسده الذي لا يكون كذلك ، كالايجاب بالفارسي بناء على القول باعتبار العربية ، فلو تجرّد الايجاب عن القبول ، لم يوجب ذلك فساد الايجاب .

فإذا شك في تحقّق القبول من المشتري بعد العلم بصدور الايجاب من البائع ، فلا يقضي أصالة الصحة في الايجاب بوجود القبول ، لأنّ القبول معتبر في العقد لا في الايجاب .

وكذا لو شك في تحقّق القبض في الهبة ، أو في الصرف ، أو السلم بعد العلم بتحقّق الايجاب والقبول لم يحكم بتحققه ، من حيث أصالة صحة العقد .

-------------------

الموانع ، وذلك ( في مقابل فاسده ) أي : فاسد الايجاب ( الذي لا يكون كذلك ) يعني : انه لا يترتب عليه الأثر ( كالايجاب بالفارسي بناء على القول باعتبار العربية ) أو الايجاب بالعربية الدارجة إذا اشترطنا العربية الفصحى في الايجاب .

وعليه : ( فلو تجرّد الايجاب عن القبول ، لم يوجب ذلك فساد الايجاب ) بما هو هو ، لأن الايجاب قد عمل أثره المترقّب منه ، وهو الأهلية لأن يكون جزء السبب ، ومعه ( فإذا شك في تحقّق القبول من المشتري بعد العلم بصدور الايجاب من البائع ، فلا يقضي أصالة الصحة في الايجاب ) الحكم ( بوجود القبول ) من المشتري ، وذلك ( لأنّ القبول معتبر في العقد لا في الايجاب ) وحده.

( وكذا لو شك في تحقّق القبض في الهبة ، أو في الصرف ، أو السلم ) حيث ان كل ذلك مشروط صحته بالقبض كما ذكروه في الفقه ، وذلك ( بعد العلم بتحقّق الايجاب والقبول ) فانه لو شك فيه بعدهما ( لم يحكم بتحققه ) أي : تحقق القبض ( من حيث أصالة صحة العقد ) لأنّ أصالة صحة العقد - كما عرفت -

ص: 93

وكذا لو شك في إجازة المالك لبيع الفضولي لم يصح احرازها بأصالة

الصحة .

وأولى بعدم الجريان ما لو كان العقد في نفسه لو خُلِّي وطبعه مبنيّا على الفساد ، بحيث يكون المصحّح طاريا عليه ، كما لو ادّعى بايع الوقف وجود المصحّح له ، وكذا الراهن أو المشتري من الفضولي

-------------------

لايثمر القبض .

( وكذا لو شك في إجازة المالك لبيع الفضولي لم يصح احرازها ) أي احراز الاجازة ( بأصالة الصحة ) في العقد - وذلك لما عرفت أيضا - .

( وأولى بعدم الجريان ) أي : عدم جريان أصالة الصحة ( ما لو كان العقد في نفسه لو خُلِّي وطبعه ) أي : من دون عروض عارض مصحّح عليه ( مبنيّا على الفساد ، بحيث يكون المصحّح طاريا عليه ) كبيع الوقف ، فانه ما لم يطرأ عليه مسوّغات البيع لا يجوز بيعه ، فبيع الوقف مبني على الفساد .

وإنّما كان هذا أولى بعدم جريان الصحة ، لأن العقد ونفسه لا يوجب طروّ المصحّح عليه ، وذلك ( كما لو ادّعى بايع الوقف وجود المصحّح له ) أي : لبيع الوقف ، والمصحّح لبيع الوقف هو ما ذكروه في الفقه من المسوّغات العارضة على الوقف ، فإذا باع أحد الوقف ولم يُعلم هل له ما يسوّغ بيعه أم لا؟ لا يمكن القول بوجود المسوّغ من جهة اجراء أصالة الصحة في العقد .

( وكذا ) لو باع ( الراهن ) العين المرهونة ولم يُعلم هل البيع كان باجازة المرتهن أم لا ؟ ( أو ) اشترى ( المشتري من الفضولي ) ولم يُعلم هل أجاز المالك أم لا ؟ فان هذين العقدين لو خلّي وطبعهما من دون اجازة المرتهن والمالك ، اقتضى الفساد ، فأصالة الصحة في العقد لا يوجب في هذين العقدين احراز

ص: 94

إجازة المرتهن والمالك .

ومّما يتفرّع على ذلك أيضا أنّه لو اختلف المرتهن الآذن في بيع الرهن ، والراهن البايع له ، بعد اتفاقهما على رجوع المرتهن عن إذنه في تقديم الرجوع على البيع ، فيفسد أو تأخّره فيصح - فلا يمكن أن يقال ، كما قيل : من أنّ أصالة صحة الاذن يقضي بوقوع البيع صحيحا ، ولا أنّ أصالة صحة الرجوع يقضي بكون البيع فاسدا ، لأنّ الإذن والرجوع كلاهما قد فرض

-------------------

( إجازة المرتهن والمالك ) وإنّما يلزم احراز اجازتهما من الخارج ، وكذلك يلزم احراز صحة بيع الوقف من الخارج أيضا ، فالفساد في هذه العقود حاصل بالطبع ولا يرفعه أصالة صحة العقد .

( ومّما يتفرّع على ذلك أيضا ) أي : على الذي ذكرناه : من ان أصل الصحة لا يُثبت شيئا آخر غير ، أثر العقد ، وان صحة الجزء لا يثبت صحة الكل ( أنّه لو اختلف المرتهن الآذن في بيع الرهن ، والراهن البايع له ، بعد ) الاتفاق منهما على صدور الاذن ، وبعد ( اتفاقهما على رجوع المرتهن عن إذنه ) وإنّما اختلفا ( في تقديم الرجوع على البيع ، فيفسد ) البيع ، لأنه صدر بلا إذن ( أو تأخره ) أي : تأخر الرجوع عن البيع ( فيصح ) البيع ؟ .

وحينئذ : ( فلا يمكن أن يقال ، كما قيل : ) عن صاحب الجواهر : ( من أنّ أصالة صحة الاذن يقضي بوقوع البيع صحيحا ) وذلك بأن يقال : ان من مقتضيات صحة الاذن : وقوع البيع قبل رجوع الآذن عن اذنه فيكون صحيحا ( ولا أنّ أصالة صحة الرجوع يقضي بكون البيع فاسدا ) وذلك بأن يقال : ان من مقتضيات صحة رجوع الآذن : وقوع البيع بعد الرجوع عن الاذن ، فيكون فاسدا .

وإنّما قلنا : لا يمكن القول بذلك ( لأنّ الإذن والرجوع كلاهما قد فرض

ص: 95

وقوعهما على الوجه الصحيح ، وهو صدوره عمّن له أهليّة ذلك والتسلط عليه .

فمعنى ترتب الأثر عليهما أنّه لو وقع فعل المأذون عقيبَ الإذن ترتّب عليه الأثر ولو وقع فعله بعد الرجوع كان فاسدا .

أمّا لو لم يقع عقيب الأوّل فعل ، بل وقع في زمان ارتفاعه ، ففسادُ هذا الواقع لا يخلّ بصحة الإذن ، وكذا لو فرض عدم وقوع الفعل عقيب الرجوع فانعقد صحيحا ، فليس هذا من جهة فساد الرجوع ، كما لا يخفى .

-------------------

وقوعهما على الوجه الصحيح ، و ) معنى وقوعهما على الوجه الصحيح : ( هو صدوره عمّن له أهليّة ذلك ) الاذن والرجوع ( والتسلط عليه ) أي : بأن كان الآذن مسلطا على الاذن ، والراجع مسلّطا على الرجوع .

وعليه : ( فمعنى ترتب الأثر عليهما ) أي : على الاذن والرجوع هو : ( أنّه لو وقع فعل المأذون عقيبَ الإذن ترتّب عليه الأثر ) الذي هو صحة البيع ( ولو وقع فعله ) أي : فعل المأذون ( بعد الرجوع ) من الآذن في اذنه ( كان ) أثره وقوع البيع ( فاسدا ) ومن المعلوم : ان أصل الصحة بهذا المعنى موجود في الاذن وفي الرجوع .

( أمّا لو لم يقع عقيب الأوّل ) أي : عقيب الاذن ( فعل ) أي : فعل البيع ( بل وقع ) ذلك الفعل ( في زمان ارتفاعه ) أي : ارتفاع الاذن ، بأن رجَع الآذن عن اذنه ( ففسادُ هذا ) البيع ( الواقع ) بعد رجوع الآذن عن اذنه ( لا يخلّ بصحة الإذن ) كما هو واضح .

( وكذا لو فرض عدم وقوع الفعل عقيب الرجوع ) بأن كان البيع قبل الرجوع ( فانعقد ) البيع ( صحيحا ، فليس هذا من جهة فساد الرجوع ، كما لا يخفى )

ص: 96

نعم ، بقاء الاذن إلى أن يقع البيع ، قد يقضي بصحته ، وكذا أصالة عدم البيع قبل الرجوع ربما يقال : إنّها يقضي بفساده .

لكنّهما لو تمّا لم يكونا من أصالة صحة الإذن بناءا على ان عدم وقوع البيع بعده يوجب لغويّته ، ولا من أصالة صحة الرجوع التي تمسّك بهما بعض المعاصرين

-------------------

على من له تأمل في البحث .

وعليه : فقول صاحب الجواهر : ان أصالة الصحة في الاذن يقتضي وقوع البيع صحيحا ، وان أصالة الصحة في الرجوع يقتضي وقوع البيع فاسدا ، محلّ نظر .

( نعم ، بقاء الاذن ) من الآذن بالاستصحاب ( إلى أن يقع البيع ، قد يقضي بصحته ) أي : صحة البيع ( وكذا أصالة عدم البيع قبل الرجوع ) عن الاذن للاستصحاب ( ربما يقال : إنّها ) أي : أصالة عدم البيع على ما قاله صاحب الجواهر ( يقضي بفساده ) أي : فساد البيع أيضا .

( لكنّهما لو تمّا ) أي : تمّ هذان الأصلان : أصل بقاء الاذن ، وأصل عدم البيع قبل الرجوع فهما من الاستصحاب ، لا من أصالة الصحة ، وقال : « لو تمّا » لأنهما من الأصل المثبت ، والأصل المثبت ليس بحجة ، فانه على فرض تماميتهما ( لم يكونا من أصالة صحة الاذن ) وان انتج أصل بقاء الاذن صحة البيع .

وإنّما لم يكن أصل بقاء الاذن من أصالة الصحة وان انتج صحة البيع ( بناءا على ان عدم وقوع البيع بعده ) أي : بعد الاذن ( يوجب لغويّته ) أي : لغوية الاذن ، واحترازا من لغوية الاذن جعل صاحب الجواهر أصل بقاء الاذن من أصل الصحة ( ولا ) ان أصالة عدم البيع قبل الرجوع عن الاذن المقتضي لفساد البيع ( من أصالة صحة الرجوع التي تمسّك بهما بعض المعاصرين ) وهو صاحب الجواهر ، فانه

ص: 97

تبعا لبعض .

والحقّ في المسألة ما هو المشهور : من الحكم بفساد البيع وعدم جريان أصالة الصحة في المقام ، لا في البيع ، كما استظهره الكركي ولا في الإذن ، ولا في الرجوع .

-------------------

جعل أصالة عدم البيع من أصالة صحة الرجوع مع انه لم يكن منها ، احترازا من لغوية الرجوع لو لم يقع البيع بعده ، وذلك ( تبعا لبعض ) آخر من الفقهاء .

والحاصل : ان صاحب الجواهر تصور ان صحة الاذن عبارة عن وقوع البيع بعده ، حتى إذا لم يقع البيع بعده لم يكن الاذن صحيحا ، وكذلك صحة الرجوع عبارة عن تأخر البيع عنه ، فإذا لم يتأخر البيع عنه لم يكن الرجوع صحيحا ، لكن ما تصوّره صاحب الجواهر غير تام ، إذ قد عرفت : ان صحة الاذن عبارة عن كونه بحيث لو وقع البيع بعده لصحّ ، لا ان الصحة تقتضي وقوع البيع بعده فعلاً ، وكذلك صحة الرجوع معناها : كون الرجوع بحيث لو تأخر البيع عنه لفسد ، لا أنّه متأخر عنه فعلاً .

( والحقّ في المسألة ) أي : المسألة التي ذكرها صاحب الجواهر ( ما هو المشهور : من الحكم بفساد البيع ) فان البيع إنّما يصح إذا وقع قبل رجوع الآذن ، والمفروض : عدم العلم به ، فيحكم بفساده ( وعدم جريان أصالة الصحة في المقام ، لا في البيع ، كما استظهره الكركي ) أي : المحقق الثاني قدس سره ( ولا في الإذن ) بعد الاتفاق على صدوره ( ولا في الرجوع ) عن الاذن أيضا ، فانه لو علم برجوع الآذن ، لكن لم يُعلم هل ان رجوعه كان قبل البيع أو كان بعده ؟ حكم بفساد البيع لعدم جريان الصحة فيه .

ص: 98

أمّا في البيع ، فلأنّ الشك إنّما وقع في رضا من له الحق ، وهو المرتهن ، وقد تقدّم : أنّ صحة الايجاب والقبول لا يقضي بتحقق الرضا مّمن يعتبر رضاه ، سواء كان مالكا كما في البيع الفضولي ، أم كان له حقّ في المبيع كالمرتهن .

وأمّا في الإذن ، فيما عرفت من أنّ صحّته يقضي بصحة البيع إذا فرض وقوعه عقيبه لا بوقوعه عقيبه ، كما أنّ صحة الرجوع يقضي بفساد ما يفرض وقوعه بعده ، لا أنّ البيع وقع بعده .

-------------------

( أمّا ) عدم جريان أصالة الصحة ( في البيع ) نفسه ( فلأنّ الشك إنّما وقع في رضا من له الحق ، وهو المرتهن ) وإذا لم نعلم برضاه لم يتمكن من الحكم بصحة البيع ( وقد تقدّم : أنّ صحة الايجاب والقبول ) المقتضي لصحة العقد ( لا يقضي بتحقق الرضا مّمن يعتبر رضاه ) في صحة العقد ( سواء كان ) من يعتبر رضاه ( مالكا كما في البيع الفضولي ، أم كان له حقّ في المبيع كالمرتهن ) أو كالمتولي للوقف ، أو القيّم على أموال الأيتام ، أو ما أشبه ذلك ؟ .

( وأمّا ) عدم جريان أصالة الصحة ( في الإذن ، فيما عرفت ) أيضا : ( من أنّ صحّته يقضي بصحة البيع إذا فرض وقوعه عقيبه ) أي : وقوع البيع عقيب الاذن ( لا ) انه يقضي ( بوقوعه عقيبه ) فعلاً ، فان وقوع البيع عقيب الاذن إنّما يلزم أن يعرف من الخارج .

( كما أنّ صحة الرجوع يقضي بفساد ما يفرض وقوعه بعده ) أي : بعد الرجوع، لكنه ( لا ) يقضي ( أنّ البيع وقع بعده ) أي : بعد الرجوع فان ذلك يلزم أن يعرف من الخارج .

ص: 99

والمسألة بعد محتاجةٌ إلى التأمّل ، بعد التتبّع في كلمات الأصحاب .

الرابع :

إنّ مقتضى الأصل ترتيب الشاك جميع ما هو من آثار الفعل الصحيح عنده .

-------------------

( و ) كيف كان : فان ( المسألة بعد محتاجةٌ إلى التأمّل ، بعد التتبع في كلمات الأصحاب ) رضوان اللّه عليهم ، وهذا تأدّب من المصنّف امام صاحب الجواهر - كما لا يخفى - وإلاّ فالمطلب حسب القواعد على نحو ما ذكره المصنِّف .

الأمر ( الرابع : ) في البحث عن مطلبين وهما :

1 - ترتيب جميع الآثار على ما اُجري فيه أصالة الصحة .

2 - احراز العنوان على العمل المأتي به .

وعليه : فلو ان شخصا صلّى أو صام أو حج عن الميت أو حج عن الحي الذي لا يتمكن من الحج ، ثم شككنا في صحته وفساده ، فهل يشترط في جريان الصحة احراز العنوان على العمل المأتي به أم لا؟ وإذا أحرزنا العنوان فهل يحمل على الصحيح بأن لا يحتاج الوصي ولا الولي إلى اعطاء صلاة وصيام وحج عن الميت مرة اُخرى، وكذا لا يحتاج الحي إلى الاستنابة ثانيا ، أو لا يحمل على الصحيح؟ احتمالان .

قال المصنّف : ( إنّ مقتضى الأصل ) أي : أصل الصحة في عمل الغير هو : ( ترتيب الشاك جميع ما هو من آثار الفعل الصحيح عنده ) بحيث يسقط التكليف عن الشاك فيما إذا كان التكليف كفائيا ، ويستحق الفاعل الاجرة فيما إذا كان العمل جائز الاستنابة ، وكان أخذ الاجرة عليه جائزا .

ص: 100

فلو صلّى شخص على ميّت سقط عنه ، ولو غسل ثوبا بعنوان التطهير حكم بطهارته ، وإن شك في شروط الغسل : من اطلاق الماء ، ووروده على النجاسة لا إن علم بمجرّد غسله ، فانّ الغَسل من حيث هو ليس فيه صحيح وفاسد .

ولذا لو شوهد من يأتي بصورة عمل من صلاة ، أو طهارة ، أو نسك حج ولم يُعلم قصدُه تحقّق هذه العبادات لم يُحمل على ذلك .

-------------------

وعليه : ( فلو صلّى شخص على ميّت ) بعنوان صلاة الميّت ( سقط عنه ) أي : عن الشاك الذي يشك في ان هذه الصلاة من هذا المصلّي هل كانت صحيحة أم لا ؟ ( ولو غسل ثوبا بعنوان التطهير ) الشرعي ، لا مجرّد الغسل ( حكم بطهارته ) ورتّب الشاك آثار الطهارة على هذا الثوب ، واستحق الغاسل الاجرة ، حتى ( وإن شك في شروط الغسل : من اطلاق الماء ، ووروده ) أي : ورود الماء ( على النجاسة ) فيما إذا غسله بالقليل ، وغير ذلك .

( لا إن علم بمجرّد غسله ) بدون احراز عنوان التطهير من الغاسل ( فانّ ) ظاهر ( الغَسل من حيث هو ) أي : بلا لحاظ عنوان التطهير ( ليس فيه صحيح وفاسد ) لأنه فعل تكويني خارجي وقد تحقق خارجا ، سواء قصد أم لم يقصد ، وإنّما الشيء الذي يحتاج إلى القصد هو الغَسل الشرعي الذي يتعقبه الطهارة ، فانه ما لم يحرز العنوان لم يجر فيه أصالة الصحة حتى يترتب عليه الآثار .

وكذلك يكون حال الصلاة والصيام والحج عن الميت ، أو الحج عن العاجز ، أو غير ذلك من الامور القصدية ( ولذا لو شوهد من يأتي بصورة عمل من صلاة ، أو طهارة ، أو نسك حج ) من رمي ، أو ذبح ، أو ما أشبه ( ولم يُعلم ) هل كان ( قصدُه تحقّق هذه العبادات ) بعناوينها أم لا؟ ( لم يُحمل على ) انه قصد ( ذلك )

ص: 101

نعم ، لو أخبر بأنّه كان بعنوان تحقّقه أمكن قبول قوله ، من حيث أنّه مخبر عادل أو من حيثية اُخرى .

وقد يشكل الفرق بين ما ذكر :

-------------------

أي : قصد عنوان تحقق العبادة والعمل الشرعي .

( نعم ، لو أخبر بأنّه كان بعنوان تحقّقه ) أي : تحقق ذلك العمل ، كما لو أخبر بأنه قصد عنوان الطهارة ، أو الصلاة ، أو نسك الحج ، أو ما أشبه ذلك ( أمكن قبول قوله ، من حيث أنّه مخبر عادل ) وخبر العادل حجة في ما عدا المنازعات ، حيث ان في المنازعات يحتاج الأمر إلى عادلين ( أو من حيثية اُخرى ) كما لو كان المخبر ثقة ، فان خبر الثقة كافٍ لقوله عليه السلام : « والأشياء كلها على ذلك حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة » (1) ومن المعلوم : ان خبر الثقة استبانة ، أو كان المخبر ذا يد ، وقول ذي اليد معتبر ، أو كان الأمر ممّا لا يعلم إلاّ من قبله ، وقد ذكر الفقهاء : ان ما لا يعلم إلاّ من قبله يكون قول الشخص فيه حجة .

( و ) إن قلت : إذا كان الفعل القصدي من النائب والأجير ، لا يحمل على الصحيح ليُرتب عليه آثاره ما لم يحرز انه قصد عنوانه كما ذكرتم ، فلماذا قال الفقهاء في الواجبات الكفائية : انه - مثلاً - إذا غُسّل الميّت وصلّي عليه اكتفى الشاك بغسله وصلاته ، مع أنّهما عنوانان قصديّان يحتمل فيهما قصد تنظيف الميت لا غسله ، والدعاء للميت لا الصلاة عليه؟ فما هو الفرق بين الواجبات الكفائية والاُمور النيابية حتى استدعى التفريق بينهما ؟ .

وإلى هذا الاشكال أشار المصنّف بقوله : ( قد يشكل الفرق بين ما ذكر :

ص: 102


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الأحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

من الاكتفاء بصلاة الغير على الميت ، بحمله على الصحيح ، وبين الصلاة عن الميت تبرّعا أو بالإجارة ، فانّ المشهور عدم الاكتفاء بها ، إلاّ أن يكون عادلاً ، ولو فرّق بينهما بأنّا لا نعلم وقوع الصلاة من النائب في مقام ابراء الذمّة وإتيان الصلاة على أنّها صلاة ، لإحتمال تركه لها بالمرّة أو إتيانه بمجرّد الصورة ، لا بعنوان أنّها صلاة عنه ،

-------------------

من الاكتفاء بصلاة الغير على الميت ، بحمله ) أي : حمل الشاك تلك الصلاة التي هي من الواجبات الكفائية ( على الصحيح ، وبين الصلاة ) نيابة ( عن الميت تبرّعا أو بالإجارة ، فانّ المشهور عدم الاكتفاء بها ) أي : بهذه الصلاة التي هي من الاُمور النيابية ( إلاّ أن يكون ) النائب ( عادلاً ) ويُخبر بأنه قد صلّى صلاة صحيحة عن ميتهم .

وعليه : فلماذا هذا الفرق بين الموردين ، مع انه لا فارق بينهما؟ فاللازم امّا عدم حمل شيء من الموردين على الصحيح ، واما حملهما معا على الصحيح .

هذا ( ولو فرّق بينهما ) أي : بين الموردين : ( بأنّا لا نعلم وقوع الصلاة من النائب في مقام ابراء الذمّة ) أي : ابراء ذمة الميت ، إذ لا نعلم انه قصد بالصلاة عنوان الابراء أم لا ؟ ( و ) لا نعلم أيضا ( إتيان الصلاة على أنّها صلاة ) إذ لعله قصد مجرّد الدعاء ، وإنّما لا نعلم ذلك ( لإحتمال تركه لها بالمرّة ) بأن لم يأت بالصلاة إطلاقا ( أو إتيانه بمجرّد الصورة لا بعنوان أنّها صلاة عنه ) أي : عن الميت ، ولذا يشترط عدالته بينما الصلاة على الميت في الواجب الكفائي ليس كذلك لاحراز العنوان فيه غالبا والشك في صحته ، فلا يشترط فيه العدالة .

والحاصل : إن الفارق بين الموردين هو : ان الصلاة على الميت يُكتفى بها ، لفرض الفقهاء الكلام فيما إذا أحرز قصد عنوان صلاة الميت من المصلي وشك في الصحة كما هو الغالب ، حيث نرى ان بعض الناس يصلون على الأموات ،

ص: 103

اختصّ الاشكال بما إذا علم من حاله : كونُه في مقام الصلاة وابراء ذمّة الميّت ، إلاّ أنّه يُحتمل عدم مبالاته بما يخلّ بالصلاة ، كما يحتمل ذلك في الصلاة على الميّت ،

-------------------

لكن لا نعلم هل انهم يصلون صحيحا أم لا؟ فالحمل على الصحة يقتضي أن نحمل صلاتهم على الصحيح ، بينما الصلاة نيابة عن الميت لا يُكتفى بها ، لفرض الفقهاء الكلام فيما إذا لم يحرز قصد العنوان ، بل احتمل الترك رأسا ، أو الاتيان بالصورة بدون قصد الصلاة ، أو قصد النيابة ، ومن المعلوم : ان أصالة الصحة لا تنفع لاحراز قصد العنوان ، فلابدّ من اعتبار العدالة في النائب حتى إذا أخبر بأنه صلّى عن ميّتهم يُكتفى به .

ثم أشكل المصنّف على هذا الفرق : بأن الفقهاء يشترطون العدالة في النائب ، سواء عُلم بأنه قصد العنوان أم لا ، مع ان مقتضى ما ذكرتم من الفارق ، إنّما يوجب العدالة فيما إذا لم يُعلم بأنه قصد العنوان أم لا فقط ، دون ما لو علم بأنه قصد العنوان فيبقى الاشكال عليهم مختصا بصورة ما اذا علم بأنه قصد العنوان ليقال لهم : إذا عُلم عنوان صلاة الميت ، وعنوان صلاة النائب ، فلماذا تكتفون بصلاة الميت وان لم يكن المصلي عادلاً ، ولا تكتفون بالصلاة عن الميت إذا لم يكن المصلي عادلاً ؟ .

وإلى هذا الاشكال أشار المصنّف بقوله : ( اختصّ الاشكال ) أي : إشكال الفرق باشتراط العدالة في النائب دون غيره ( بما إذا علم من حاله : كونه ) أي : النائب ( في مقام الصلاة وابراء ذمّة الميّت ) في الصلاة نيابة عنه ( إلاّ أنّه يُحتمل عدم مبالاته بما يخلّ بالصلاة ) حتى يكون الشك لهذا الاحتمال في الصحة وعدم الصحة ( كما يحتمل ذلك ) أي : عدم المبالاة ( في الصلاة على الميّت ) أيضا ،

ص: 104

إلاّ أن يلتزم بالحمل على الصحة في هذه الصورة .

وقد حكم بعضهم باشتراط العدالة ، فيمن يوضّى ء العاجز عن الوضوء إذا لم يعلم العاجز بصدور الفعل عن الموضّى ء صحيحا .

ولعلّه لعدم احراز كونه في مقام إبراء ذمّة العاجز ، لا لمجرّد احتمال عدم مبالاته في الأجزاء والشرائط ، كما قد لا يبالي في وضوء نفسه .

-------------------

فيكون الموردان متساويين من هذه الجهة ، فلماذا فرّقوا بينهما من جهة الحمل على الصحة باشتراط العدالة في النائب دون غيره؟ ( إلاّ أن يلتزم بالحمل على الصحة في هذه الصورة ) التي ثبت انه صلّى عن الميت لكن شك فيها لاحتمال عدم مبالاته بما يخلّ بها ، فيلتزم فيها بالصحة بلا اشتراط العدالة فيه .

( و ) من ذلك الاشكال المتقدّم يظهر الاشكال فيما ( قد حكم بعضهم باشتراط العدالة ، فيمن يوضّى ء العاجز عن الوضوء ) حيث قالوا : ان فعل الموضّئ لا يحمل على الصحيح ، فان إطلاقه يشمل حتى صورة ما ( إذا لم يعلم العاجز بصدور الفعل عن الموضّى ء صحيحا ) أي : بأن شك العاجز في صحته وفساده بعد احرازه قصد العنوان .

( ولعلّه ) أي : لعلّ هذا الحكم على إطلاقه إنّما هو ( لعدم احراز كونه ) أي : الموضّئ( في مقام إبراء ذمّة العاجز ) وقد سبق ان احرازه شرط لاجراء الصحة ، فيحمل كلام المطلقين على هذه الصورة ، لا على صورة مجرّد الشك في الصحة واللاصحة كما قال : ( لا لمجرّد احتمال عدم مبالاته في الأجزاء والشرائط ، كما قد لا يبالي في وضوء نفسه ) أيضا ، فانه في هذه الصورة ، وهي صورة احراز العاجز من الموضّى قصد العنوان ، لكن شك في صحته لمجرّد احتمال عدم مبالاة الموضّى ، فانه كالشك في صحة وضوئه لمجرّد عدم مبالاته ، هو يكون من موارد

ص: 105

ويمكن أن يقال - فيما إذا كان الفعل الصادر عن المسلم على وجه النيابة عن الغير ،

-------------------

جريان أصالة الصحة .

أقول : حيث ان مستند أصل الصحة بناء العقلاء الذي أمضاه الشارع ، اختص بما يوجد فيه الدليل المذكور ، وهو : ما إذا تعارف الاعتماد على الغير ، سواء علم بالعمل أم لم يعلم به ، فإذا مات في جوار الانسان شخص - مثلاً - حمل الجار عمل أهل الميت على الصحيح ، مع انه لا يعلم هل انهم يغسلوه ويكفّنوه ويصلون عليه ويدفنونه حسب الموازين الشرعية أم لا؟ ولا يقال لوجود الاطمئنان ، إذ أن ذلك كافٍ حتى في الأرياف البعيدة والقرى المنقطعة ، بينما في مسائل النيابة لا يتعارف الاعتماد على الغير إلاّ على الثقة ، ولذا لا يكتفون فيها بغير الثقة ، وبعد كونه ثقة لا يحتاج إلى اخباره بأنه عمل أم لا ؟ .

( ويمكن أن يقال ) في توجيه الفرق بين الموردين ، يعني : بين اعتمادهم على المصلّي في الصلاة على الميت وان لم يكن عادلاً ، وعدم اعتمادهم على المصلي في الصلاة عن الميت إلاّ إذا كان عادلاً هو : ان أصل الصحة يجري في الأوّل ، دون الثاني ، وذلك لأن الثاني فيه حيثيتان : حيثية الصدور عن النائب ، وحيثية الوقوع عن المنوب عنه ، فمن حيث ان الصلاة فعل النائب يجري فيه اصل الصحة ، ومن حيث أنّها لاسقاط ما في ذمة المنوب عنه ، فلا دليل على الاسقاط ، فلا يجري فيه أصالة الصحة ، ولذا لا يكتفون بأصالة الصحة في الصلاة النيابية حتى ولو أحرز فيها العنوان ، إلاّ مع عدالة النائب .

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف حيث قال : ويمكن القول ( فيما إذا كان الفعل الصادر عن المسلم على وجه النيابة عن الغير ) أي : عن المنوب عنه ،

ص: 106

المكلّف بالعمل أوّلاً وبالذات ، كالعاجز عن الحج - : إنّ لفعل النائب عنوانين .

أحدُهما : من حيث أنّه فعلٌ من أفعال النائب ، ولذا يجب عليه مراعاة الأجزاء والشروط .

وبهذا الاعتبار يترتّب عليه جميع آثار صدور الفعل الصحيح منه ، مثل : استحقاق الأجرة وجواز استيجاره ثانيا ، بناءا على اشتراط فراغ ذمّة الأجير في صحة استيجاره ثانيا .

والثاني : من حيث أنّه فعل للمنوب عنه ، حيث انّه بمنزلة الفاعل بالتسبيب أو الآلة

-------------------

وهو ( المكلّف بالعمل أوّلاً وبالذات ، كالعاجز عن الحج ) فان التكليف أولاً وبالذات متوجه إلى العاجز ، وثانيا وبالعرض إلى النائب ، فالنائب يفعل فعل العاجز ، ولهذا فقد ظهر ( إنّ لفعل النائب عنوانين ) كالتالي :

( أحدهما : من حيث أنّه فعلٌ من أفعال النائب ، ولذا يجب عليه مراعاة ) كل ما يلزم رعايته في فعله الشخصي من ( الأجزاء والشروط ) وفقد الموانع والقواطع ( وبهذا الاعتبار يترتّب عليه جميع آثار صدور الفعل الصحيح منه ) أي : من النائب لجريان أصالة الصحة فيه ( مثل : استحقاق الاجرة وجواز استيجاره ثانيا ) لحج آخر ( بناءا على اشتراط فراغ ذمّة الأجير في صحة استيجاره ثانيا ) وإلى غير ذلك من آثار صدور الفعل الصحيح منه .

( والثاني : من حيث أنّه فعل للمنوب عنه ، حيث انّه ) أي : المنوب عنه ( بمنزلة الفاعل ) فانه إذا ناب إنسان عن إنسان كان كل واحد منهما بمنزلة الآخر ، وذلك ( بالتسبيب أو الآلة ) فان معنى كونه بمنزلة الفاعل : انه سبب لفعل النائب

ص: 107

وكان الفعل - بعد قصد النيابة والبدليّة - قائما بالمنوب عنه .

وبهذا الاعتبار يراعى فيه القصر والاتمام في الصلاة ، والتمتع والقِران في الحج ، والترتيب بالفوائت .

والصحة من الحيثية الاُولى لا يثبتُ الصحة من هذه الحيثية الثانية ،

-------------------

كما في الحج عن العاجز ، أو انه آلة للفعل كما في المُوضّئ للعاجز عن الوضوء ( و ) إذا كان كذلك ( كان الفعل - بعد قصد النيابة والبدليّة - قائما بالمنوب عنه ) لأنه لهذا الفعل يسقط التكليف عن ذمة المنوب عنه .

( وبهذا الاعتبار ) المذكور يلزم على النائب ان ( يراعى فيه ) أي : في العمل النيابي تكليف المنوب عنه من ( القصر والاتمام في الصلاة ) النيابية ، فلو كان النائب حاضرا فعليه أن يصلّي قصرا عن الميت الذي فاتته صلاة القصر ، وبالعكس ( و ) كذلك على النائب ان يراعي تكليف المنوب عنه من ( التمتع والقِران في الحج ) النيابي ، فإذا كان تكليف النائب نفسه القران ، لكنه حج عمّن كان تكليفه التمتع فعليه أن يأتي بالتمتع ، وبالعكس ( والترتيب بالفوائت ) النيابية ، فان النائب إذا لم ير الترتيب في الفوائت ، لكنه ناب عمّن يرى الترتيب فيها ، لزم عليه مراعاة الترتيب .

والحاصل : ان على النائب ان يأتي بتكليف المنوب عنه لا بتكليف نفسه ، ممّا يدلّ على ان لفعل النائب حيثيتين : صدورية ووقوعية ، وأصالة الصحة إنّما تجري فيما يأتي به النائب من حيث انه فعل النائب ، وهي الحيثية الصدورية ، لا من حيث انه فعل المنوب عنه التي هي الحيثية الوقوعية ( والصحة من الحيثية الاُولى ) أي : من حيث الصدور وكونه فعل النائب ( لا يثبتُ الصحة من هذه الحيثية الثانية ) أي : من حيث الوقوع وكونه فعل المنوب عنه .

ص: 108

بل لابدّ من إحراز صدور الفعل الصحيح عنه على وجه التسبيب .

وبعبارة اُخرى : إن كان فعلُ الغير يسقط التكليف عنه ، من حيث انّه فعل الغير ، كَفَت أصالة الصحة في السقوط ، كما في الصلاة على الميت .

-------------------

( بل لابدّ من ) ان يكون النائب عادلاً ، حتى إذا أخبر بأنه أتى بالعمل النيابي صحيحا يكون قوله حجة ، فيوجب قوله ذلك ( إحراز صدور الفعل الصحيح عنه على وجه التسبيب ) كما في مثال الحج عن العاجز ، وعن الميّت ، أو على وجه الآلية ، كما في مثال العاجز الذي يستعين بمن يوضّئه .

وعلى هذا : فما يأتي به النائب من فعل ، فمن حيث انه فعله وصادر عنه يحمل على الصحة ، ومن حيث وقوعه عن المنوب عنه أو عمن اتخذه آلة ، ليسقط ما في ذمتهما من التكليف فلا يجري فيه الصحة ، ولذا يلزم من هذه الحيثية أن يكون النائب عادلاً حتى يكون خبره حجّة يعتمد عليه لاسقاط ما في ذمة المنوب عنه من التكليف .

هذا ، ولا يخفى وجه النظر في هذا الكلام ، وذلك لأن التلازم بين اتيان النائب بالعمل صحيحا ، وبين كون عمله هذا مسقطا لما في ذمة المنوب عنه من التكليف ، هو ما يفهمه العرف ، فإذا كان أصل الصحة يدل على الأوّل فانه يدلّ على الثاني أيضا .

ثم إنّ المصنّف لخّص هنا توجيه الفرق بين الموردين بقوله : ( وبعبارة اُخرى : ) انّ الفرق بين الصلاة على الميت ، حيث تجري فيها الصحة ، وبين الصلاة عن الميت حيث لا تجري فيه الصحة ، هو : ( إن كان فعل الغير يسقط التكليف عنه ) أي : عن الآخر ( من حيث انّه فعل الغير ) أي : بلا قصد نيابة عن الآخر ( كفت أصالة الصحة في السقوط ) عن الآخر ( كما في الصلاة على الميت )

ص: 109

وإن كان إنّما يسقط التكليف عنه من حيث اعتبار كونه فعلاً له ولو على وجه التسبيب - كما إذا كلّف بتحصيل فعل بنفسه وببدن غيره ، كما في استنابة العاجز للحج - لم ينفع أصالة الصحة في سقوطه بل يجب التفكيك بين أثري الفعل من الحيثيّتين ، فيحكم باستحقاق الفاعل الأجرة

-------------------

فان المصلّي على الميت يؤدّي تكليف نفسه ، لكن اسقاط التكليف عن نفسه يوجب سقوط تكليف الباقين أيضا لفرض كون الواجب كفائيا ، ففي هذا الفرض يجري أصل الصحة .

( وإن كان إنّما يسقط التكليف عنه ) أي : عن الآخر ( من حيث اعتبار كونه فعلاً له ) أي : فعلاً للآخر ( ولو على وجه التسبيب ) أي : لا على وجه المباشرة ، فان المباشر هو النائب لكن الآخر هو السبب لفعل النائب ، وذلك ( كما إذا كلّف ) الآخر ( بتحصيل فعل ) كالحج - مثلاً - ( بنفسه ) لو كان متمكنا منه ( وببدن غيره ) أي : ببدن النائب لو كان عاجزا عنه ( كما في ) مثال ( استنابة العاجز للحج ) فان التكليف أولاً وبالذات متوجّه إلى الآخر ، لكنه لعجزه لزم عليه أن يأتي به ببدن الغير ، فحج الغير يسقط التكليف عن الآخر من حيث انه حج الآخر لكن مع الاحراز ، لا مع الشك ، فلو شك ( لم ينفع أصالة الصحة في سقوطه ) أي : سقوط التكليف عن الآخر ، لعدم الدليل على هذا السقوط حتى وان نفع أصل الصحة من حيث انه فعل الغير .

( بل يجب التفكيك بين أثري الفعل من الحيثيّتين ) : حيثيّة الصدور من الغير وهو النائب ، وحيثية الوقوع عن الآخر وهو المنوب عنه ( فيحكم باستحقاق الفاعل الأجرة ) من حيث الصدور ، لجريان أصل الصحة فيه وان لم يكن عادلاً

ص: 110

وعدم برائة ذمّة المنوب عنه من الفعل ، وكما في استئجار الوليّ للعمل عن الميت .

لكن يبقى الاشكال في استئجار الولي للعمل عن الميت ، اذ لا يعتبر فيه قصد النيابة عن الوليّ وبرائة ذمة الميت من آثار صحة فعل الغير من حيث هو فعله ، لا من حيث اعتباره فعلاً للوليّ .

-------------------

( وعدم برائة ذمة المنوب عنه من الفعل ) من حيث الوقوع ان لم يكن النائب عادلاً ، لعدم جريان أصل الصحة فيه .

( وكما في ) مثال ( استئجار الوليّ ) أي : ولي الميت نائبا ( للعمل عن الميت ) فانه إذا استأجر ولي الميت من يصلّي أو يصوم أو يحج عن الميت ، فيلزم على الولي اعطاء الأجير والنائب الأجرة ، لكن إنّما يسقط التكليف من مثل الصوم والصلاة والحج وما أشبه عن ميته إذا كان ذلك الأجير والنائب عادلاً ، وذلك على ما عرفت .

( لكن يبقى الاشكال ) هُنا يعني : ( في استئجار الولي للعمل عن الميت ، اذ ) فيه حيث واحد لا حيثيتان ، لانه يكفي فيه مجرد قصد اتيان ما على الميت ، و ( لا يعتبر فيه قصد النيابة عن الوليّ ) وذلك لأن المقصود منه ابراء ذمة الميّت عمّا عليه من التكليف ( وبرائة ذمة الميت من آثار صحة فعل الغير من حيث هو فعله ) أي فعل الغير فقط ( لا من حيث اعتباره فعلاً للوليّ ) أي : للآخر أيضا ، فالنيابة عن الميت لها حيثية واحدة لا حيثيتان ، وإذا كان كذلك فالتوجيه الذي ذكر لعدم اسقاط فعل النائب ، الحج عن ذمة العاجز الحي ، لا يأتي هنا في مسألة الاستنابة والاستيجار للعمل عن الميت .

ص: 111

فلابدّ من أن يكتفي باحراز اتيان صورة الفعل بقصد إبراء ذمّة الميت ، ويحمل على الصحيح من حيث الاحتمالات الاُخر .

ولابدّ من التأمّل في هذا المقام أيضا بعد التتبع التامّ في كلمات الأعلام .

-------------------

وعليه : فإذا كان في الاستيجار للعمل عن الميت حيث واحد ( فلابدّ من أن يكتفي باحراز اتيان ) النائب والأجير ( صورة الفعل بقصد ابراء ذمّة الميت ) فقط وليس أكثر ، يعني : لابدّ فيه من احراز حيث الصدور ، فإذا احرز ، فلا يشك فيه من حيث الوقوع عن الميت واسقاط ما في ذمته ، إلاّ من جهة احتمالات اُخرى : ككون النائب غير مبال بالاجزاء والشرائط - مثلاً - فلا يعتنى به ( ويحمل على الصحيح من حيث الاحتمالات الاُخر ) وذلك لجريان أصالة الصحة فيها .

أقول : لكن يمكن فرض الحيثيتين هنا أيضا ، لأن اسقاط النائب تكليف الوصي أو الولي باستيجاره للعمل عن ميته ، لا دليل عليه ، فلا تجري أصالة الصحة في عمل النائب والأجير من حيث الوقوع عن الميت حتى يسقط ما في ذمة الميّت ، وحينئذ فلا فرق بين استيجار الحي للعمل عن العاجز ، وبين استيجار الولي أو الوصي للعمل عن الميت من هذا الحيث .

هذا ( ولابدّ من التأمّل في هذا المقام أيضا بعد التتبع التام في كلمات الأعلام ) لكن قد عرفت سابقا : إنّ الأصح هو : جريان أصالة الصحة في الحيثيتين للتلازم بينهما .

ص: 112

الخامس :

إنّ الثابت من القاعدة المذكورة الحكم بوقوع الفعل بحيث يترتب عليه الآثار الشرعية المترتبة على العمل الصحيح .

إمّا ما يلازم الصحة من الأمور الخارجة عن حقيقة الصحيح ، فلا دليل على ترتّبها عليه ، فلو شك في أنّ الشراء الصادر من الغير كان بما لا يُملك ، كالخمر والخنزير ، أو بعينٍ من أعيان ماله ، فلا يحكم بخروج تلك العين

-------------------

( الخامس ) : إذا أجرى زيد بيعا - مثلاً - فلم نعلم هل انه باع خنزيره أو شاته؟ فهل أصل الصحة يُثبت انه باع شاته - الذي هو من الاُمور الخارجة عن حقيقة البيع الصحيح وليس من آثاره بل من لوازمه - حتى يكون معناه : انه إذا مات زيد كان وارثه مكلّفا باعطاء شاة زيد للمشتري ، أو ان اصل الصحة لايثبت الاّ ما هو من آثار العقد الصحيح ، وهذا ليس من آثاره ؟ .

قال المصنِّف : ( إنّ الثابت من القاعدة المذكورة ) أي : أصالة الصحة هو : ( الحكم بوقوع الفعل بحيث يترتب عليه الآثار الشرعية المترتبة على العمل الصحيح ) كالنقل والانتقال في البيع والاجرة في الاجارة ، وما أشبه ذلك ( إمّا ما يلازم الصحة من الأمور الخارجة عن حقيقة ) الفعل ( الصحيح ، فلا دليل على ترتّبها عليه ) أي : لا دليل على ترتب ما يلازم الصحة على العمل المشكوك الذي أجري فيه الصحة .

وعليه : ( فلو شك في أنّ الشراء الصادر من الغير ) كزيد الذي قد مات ، هل ( كان بما لا يُملك كالخمر والخنزير ) حتى تفسُد المعاملة ( أو بعينٍ من أعيان ماله ) الذي يصح اجراء المعاملة عليه كالماء والشاة حتى تصح المعاملة ؟ ( فلا يحكم بخروج تلك العين ) المعيّنة بجريان أصالة الصحة في المعاملة

ص: 113

من تركته ، بل يحكم بصحّة الشراء ، وعدم انتقال شيء من تركته إلى البائع ، لأصالة عدمه .

وهذا نظير ما ذكرنا سابقا من أنّه لو شك في صلاة العصر أنّه صلّى الظهر أم لا ، أنّه يحكم بفعل الظهر من حيث كونه شرطا لصلاة العصر ،

-------------------

( من تركته ) أي : من تركة زيد على ما في المثال ( بل يحكم بصحّة الشراء ، وعدم انتقال شيء من تركته ) أي : تركة زيد ( إلى البائع ، لأصالة عدمه ) أي : عدم الانتقال .

وإنّما يحكم هنا بالصحة ، وعدم الانتقال : لأن أصالة الصحة في العقود تقول بصحة المعاملة ، وأصالة عدم انتقال الشاة عند الشك في الانتقال وعدمه تقول بعدم انتقال الشاة ، وحينئذ فلابدّ من الصلح ، أو اقامة البينة ، أو ما أشبه ذلك من الاُمور التي هي المرجع في أمثال هذه المنازعات ، أو اجراء قاعدة العدل بتنصيف ما لكل من الوارث والبائع بينهما ، وذلك لأن البائع امّا له الشاة أو الثمن ، وكذلك الوارث امّا له هذا أو هذه ، فيُعطى كل واحد منهما نصف الشاة ونصف الثمن لقاعدة العدل ، أو تجري قاعدة القرعة ، لكنّا ذكرنا في مباحث مفصّلة في الفقه وغيره : إنّ قاعدة القرعة لا تجري مع جريان قاعدة العدل .

( وهذا ) الذي ذكرناه من الحكم بشيء لجهة أصالة الصحة وعدم الحكم بلازمه هو ( نظير ما ذكرنا سابقا ) في قاعدة التجاوز : ( من أنّه لو شك في صلاة العصر أنّه صلّى الظهر أم لا ) وهو في وسط الصلاة ؟ فان للظهر حيثيتين : حيثيّة نفسية لوجوبها النفسي ، وحيثيّة مقدّميّة ليصح بعدها العصر ، قلنا : ( أنّه يحكم بفعل الظهر من حيث كونه شرطا لصلاة العصر ) أي : من حيثيّته المقدّميّة ، فيكون الدخول في العصر موردا لأصالة الصحة ، بينما

ص: 114

لا فعل الظهر من حيث هو ، حتى لا يجب اتيانه ثانيا ، إلاّ أن يجري قاعدة الشك في الشيء بعد التجاوز عنه .

قال العلاّمة في القواعد ، في آخر كتاب الاجارة : « لو قال آجرتُك كلّ شهر بدرهم ، فقال بل سنةً بدينار ، ففي تقديم قول المستأجر نظرٌ ،

-------------------

( لا ) يُحكم بلازمه وهو : ( فعل الظهر من حيث هو ) أي : من حيثيّته النفسية لأن أصالة الصحة لا تثبت أكثر من صحة الدخول في العصر ، اما الظهر من حيث هو واجب نفسي فلا تثبت فعله ( حتى لا يجب اتيانه ثانيا ) بل عليه إذا أتمّ العصر أن يأتي بالظهر أيضا ( إلاّ أن يجري قاعدة الشك في الشيء بعد التجاوز عنه ) وحينئذ فلا يجب إتيان الظهر ثانيا ، وذلك لأن الدخول في العصر يعدّ تجاوزا عن الظهر ، فيشمل الظهر قاعدة التجاوز القائلة بعدم الاعتناء بالشك فيما تجاوز عنه ، وحينئذ فإذا أتم العصر لايلزمه الاتيان بالظهر ثانيا أيضا .

وهذا أيضا نظير ما ذكره العلاّمة في قواعده ( قال العلاّمة في القواعد ، في آخر كتاب الاجارة : « لو قال ) الموجر : ( آجرتُك كلّ شهر بدرهم ) فان مقتضى القاعدة بطلان هذه المعاملة ، لأنها غرريّة حيث لم يعيّن فيها عدد الأشهر - على ما هو المشهور - وان كنا نستظهر عدم البطلان ، حيث انه ليس بغرر ، ولا دليل خاص على بطلان مثله ، ولكن بناءا على المشهور ، لو قال الموجر ذلك لتكون المعاملة باطلة ( فقال ) المستأجر : ( بل سنةً بدينار ) لتكون المعاملة صحيحة لانتفاء الغرر حينئذ بتعيّن المدة ( ففي تقديم قول المستأجر ) تمسّكا بأصالة الصحة ( نظرٌ ) لأن أصالة الصحة تفيد ترتيب آثار العقد ، وليس اجارة سنة بدينار من آثار العقد ، بل هو لازم عقلي لتعيّن المدّة ، ولازم الشيء لا يثبت بأصالة الصحة ، فيقدّم قول مدّعي الفساد .

ص: 115

فان قدّمنا قول المالك ، فالأقوى صحّة العقد في الشهر الأوّل .

وكذا الاشكال في تقديم قول المستأجر لو ادّعى أجرة مدّة معلومة أو عوضا معيّنا ، وأنكر المالك التعيين فيهما ، والأقوى التقديم فيما لم يتضمّن دعوى » ، انتهى .

-------------------

ثم قال العلاّمة : ( فان قدّمنا قول المالك ) وهو الموجر الذي قال : « آجرتك كل شهر بدرهم » المدّعي لفساد المعاملة ( فالأقوى صحّة العقد في الشهر الأوّل ) فقط ، لأنه متفق عليه بينهما ، وإنّما المجهول ما زاد على الشهر ، فتكون الاجارة فاسدة بالنسبة إلى الأكثر من الشهر .

ثم أضاف العلامة بعد ذلك قائلاً : ( وكذا الاشكال في تقديم قول المستأجر لو ادّعى أجرة مدّة معلومة ) لتكون المعاملة صحيحة ، كسنة - مثلاً - بعد اتفاقهما على مقدار الاُجرة ( أو عوضا معيّنا ) كدينار - مثلاً - لتكون المعاملة صحيحة بعد اتفاقهما على مقدار المدة ( وأنكر المالك التعيين فيهما ) أي : في المدة بالنسبة للشق الأوّل ، والعوض بالنسبة للشق الثاني لتكون المعاملة باطلة ، فهل يؤخذ بأصل الصحة الذي هو مقتضى كلام المستأجر أم بأصل الفساد الذي هو كلام المالك ؟ .

قال العلامة : ( والأقوى التقديم فيما لم يتضمّن دعوى » (1) ) أي : يُقدّم قول مدّعي الصحة ما لم يتضمن دعواه إدّعاء شيء زائد على الصحة ، لازم له ، فان أصل الصحة - كما عرفت - إنّما يثبت ما هو أثر العقد ، ولا يثبت ما هو خارج عن حقيقة العقد وان كان لازما له ، كما في المثال الاول للعلامة ، فان المستأجر يقدّم قوله في الشهر الأوّل فقط ، لأنه لا يدعي زيادة على الصحة شيئا ، ولا يقدّم قوله في لازمه وهو: اجارة سنة بدينار ، لأنه يتضمن دعوى شيء زائد على الصحة (انتهى) كلام العلامة .

ص: 116


1- - قواعد الأحكام : ص236 .

السادس :

في بيان ورود هذا الأصل على الاستصحاب .

فنقول : أمّا تقديمه على استصحاب الفساد وما في معناه فواضحٌ ، لأنّ الشك في بقاء الحالة السابقة على الفعل المشكوك وارتفاعها ناشٍ عن الشك في سببيّة هذا الفعل وتأثيره ، فإذا حكم بتأثيره فلا حكم لذلك الشك ،

-------------------

( السادس : في بيان ورود هذا الأصل ) أي : أصل الصحة ( على الاستصحاب ) بقسميه : الحكمي وهو ما ذكره بقوله : « فنقول : إمّا تقديمه » والموضوعي وهو ما ذكره بعد أسطر بقوله : « وإمّا تقديمه على الاستصحابات الموضوعية » . فان أصل الصحة لا شك حاكم على الاستصحاب بقسميه ، لكن قد يخفى كيفية حكومته ، فيحتاج إلى بيان ( فنقول : أمّا تقديمه على استصحاب الفساد ) المفيد لعدم النقل والانتقال في المعاملات .

( وما في معناه ) أي : ما في معنى إستصحاب الفساد مثل : أصالة عدم وجوب اعطاء كل من المتعاملين ما عنده للآخر ( فواضحٌ ) .

وإنّما يكون هذا التقديم واضحا ( لأنّ الشك في بقاء الحالة السابقة ) كعدم النقل ، المتقدِّمة ( على الفعل المشكوك ) من البيع - مثلاً - ( وارتفاعها ) أي : ارتفاع تلك الحالة السابقة المتقدمة على البيع ( ناشٍ عن الشك في سببيّة هذا الفعل ) وهو البيع في المثال ( وتأثيره ) من حيث حصول النقل والانتقال ، فان الشك في ذلك مسبّب عن الشك في ان البيع - مثلاً - هل هو جامع لشرائط الصحة أم لا ؟ ( فإذا حكم بتأثيره ) أي : بتأثير هذا البيع لأصالة الصحة ( فلا حكم لذلك الشك ) لأنه إذا جرى الأصل السببي ، لا يبقى مجال لجريان الأصل المسبّبي ،

ص: 117

خصوصا إذا جعلنا هذا الأصل من الظواهر المعتبرة ، فيكون نظير حكم الشارع بكون الخارج قبل الاستبراء بولاً الحاكم على أصالة بقاء الطهارة .

-------------------

فان أصل الصحة القائل بأن البيع جامع للشرائط ، يكون حاكما على الأصل المسبّبي القائل بعدم تحقق البيع .

( خصوصا إذا جعلنا هذا الأصل ) أي : أصل الصحة ( من الظواهر المعتبرة ) أي : جعلنا حجيته من جهة الظهور النوعي بأن يكون أمارة عقلائية ، لا من جهة كونه أصلاً عمليا ، وذلك لما تقدّم : من احتمال ان يكون أصل الصحة مستندا إلى ظاهر حال المسلم ، أو غلبة الصحة في أفعال المسلمين ، وهذا الظهور العرفي حاكم على الأصل الذي هو الفساد .

وعليه : ( فيكون ) أصل الصحة ( نظير حكم الشارع بكون الخارج قبل الاستبراء بولاً ) وناقضا للطهارة ، فانه مع ان مقتضى الاستصحاب هو بقاء الطهارة، لكن يحكم بأن الخارج منه محدث للدليل ( الحاكم ) وهو حكم الشارع عليه بكونه بولاً ، فإنّه حاكم ( على أصالة بقاء الطهارة ) إذ حكم الشارع هذا ظاهر ، واستصحاب بقاء الطهارة أصل ، والظاهر مقدّم على الأصل .

والحاصل : إنّ من توضّأ بعد أن بال ولم يستبرئ ، ثم خرج منه بلل مشتبه يحتمل كونه بولاً ، ويحتمل كونه من الحبائل ، فإذا كان بولاً وجب عليه الوضوء ، وإذا كان من الحبائل لم يجب عليه الوضوء ، فان مقتضى الاستصحاب بقاء الطهارة ، لكن حكم الشارع بوجوب الوضوء بعد خروج البلل المشتبه يكشف عن ان الشارع قدّم هنا الظاهر على الأصل ، إذ الظاهر كون الرطوبة الخارجة قبل الاستبراء من بقايا البول التي بقيت في المجرى ، وحينئذ فلا مجال لاستصحاب الطهارة ، وكذا الحال لو قلنا بأن الشارع قدّم ظاهر حال المسلم المسمّى بأصل

ص: 118

وأمّا تقديمه على الاستصحابات الموضوعية المترتب عليها الفساد ، كأصالة عدم البلوغ ، وعدم اختبار المبيع بالرؤية ، أو الكيل أو الوزن ، فقد اضطرب فيه كلمات الأصحاب ، خصوصا العلامة وبعض من تأخّر عنه .

والتحقيق : أنّه إن جعلنا هذا الأصل من الظواهر ، كما هو ظاهر كلمات جماعة ، بل الأكثر فلا إشكال في تقديمه على ذلك الاستصحاب ،

-------------------

الصحة على استصحاب عدم النقل في المعاملات ، فإنّه حينئذ لا مجال لأصل الفساد فيها .

هذا في تقديم أصل الصحة على الاستصحاب الحكمي ( وأمّا تقديمه على الاستصحابات الموضوعية ) إذا كانت مخالفة لأصل الصحة ( المترتب عليها ) أي: على تلك الاستصحابات الموضوعية ( الفساد ، كأصالة عدم البلوغ ، وعدم اختبار المبيع بالرؤية ، أو ) عدم ضبطه بسبب ( الكيل أو الوزن ) أو عدم العقل فيما إذا كان أحد المتعاملين مجنونا ثم عقل ، أو غير ذلك من الاستصحابات الموضوعية المتعارض معها أصل الصحة ( فقد اضطرب فيه كلمات الأصحاب ، خصوصا العلامة وبعض من تأخّر عنه ) فتارة قدّموا الاستصحاب ، واُخرى قدّموا أصل الصحة .

( والتحقيق : أنّه إن جعلنا هذا الأصل ) أي : أصل الصحة ( من الظواهر ) بأن كان أمارة عقلائية ( كما هو ظاهر كلمات جماعة ، بل الأكثر ) وانّه ليس أصلاً عمليا ( فلا إشكال في تقديمه ) أي : تقديم أصل الصحة ( على ذلك الاستصحاب ) الموضوعي المقتضي للفساد ، وذلك لما عرفته سابقا : من حكومة الأمارة على الاُصول ، إذ مع وجود الأمارة يرتفع الشك الذي هو موضوع الأصل ، فلا موضوع للأصل رأسا .

ص: 119

وإن جعلناه من الاُصول ، ففي تقديمه على الاستصحاب الموضوعي نظر من أنّ أصالة عدم بلوغ البائع يُثبت كون الواقع في الخارج بيعا صادرا عن غير بالغ ، فيترتّب عليه الفساد ، كما في نظائره من القيود العدميّة المأخوذة في الموضوعات الوجوديّة ، وأصالة الحمل على الصحيح يثبت كون الواقع بيعا صادرا عن بالغ ، فيترتّب عليه الصحة ، فيتعارضان .

-------------------

( وإن جعلناه ) أي : أصل الصحة ( من الاُصول ، ففي تقديمه ) أي : تقديم أصل الصحة ( على الاستصحاب الموضوعي نظر ) ناشيء ( من أنّ أصالة عدم بلوغ البائع ) أو المشتري - مثلاً - ( يُثبت كون الواقع في الخارج بيعا صادرا عن غير بالغ ) وإذا ثبت ذلك بالإستصحاب ( فيترتّب عليه الفساد ، كما في نظائره من القيود العدميّة المأخوذة في الموضوعات الوجوديّة ) فان موضوع الفساد هنا هو : البيع الصادر عن غير البالغ ، فالبيع الصادر موضوع وجودي قد قيّد بقيد عدمي هو : عن غير البالغ ، والقيد العدمي المشكوك يحرز بالاستصحاب فيتمّ الموضوع، ويلزمه الحكم بالفساد .

لكن لا يخفى : ان العدم لا يمكن أن يكون قيدا ، كما سبق الالماع إليه في بعض المباحث السابقة ، فهو إذن نوع تسامح .

هذا هو وجه الفساد الذي قد يقال بحكومته على أصل الصحة ، وأمّا وجه الصحة فهو ما أشار إليه بقوله : ( وأصالة الحمل على الصحيح يثبت كون الواقع ) في الخارج ( بيعا صادرا عن بالغ ) لأن البيع لا يكون صحيحا إلاّ إذا كان صادرا عن البالغ ( فيترتّب عليه الصحة ) ومع ترتّبه والقول بعدم حكومة الفساد عليه - كما هو المشهور - يجتمع أصلان : أصل الفساد كما مرّ ، وأصل الصحة كما ذُكر هنا ( فيتعارضان ) حينئذ ويتساقطان ، ويكون المرجع أصل عدم البيع وفساده ،

ص: 120

لكن التحقيق : أنّ أصالة عدم البلوغ يوجب الفساد ، لا من حيث الحكم شرعا بصدور العقد من غير بالغ ، بل من حيث الحكم بعدم صدور عقد من بالغ ، فانّ بقاء الآثار السابقة للعوضين مستند إلى عدم السبب الشرعي .

-------------------

لا أصل الصحة ، ولهذا قال المصنّف : بأن في تقديمه نظر .

ثم إنّ المصنِّف رجع وقال : ( لكن التحقيق ) أن ما ذكرناه من قولنا : « ففي تقديمه على الاستصحاب الموضوعي نظر » غير تام ، بل اللازم القول بتقديم أصالة الصحة على أصالة الفساد ممّا يترتب عليه صحة مثل هذا العقد ، ووجه ذلك هو : ( أنّ أصالة عدم البلوغ يوجب الفساد ) لكن ( لا من حيث الحكم شرعا ) بوجود الضدّ ، يعني : الحكم ( بصدور العقد من غير بالغ ) فانه ليس هناك في الشريعة موضوعان : العقد الصادر عن البالغ وهو صحيح ، والعقد الصادر من غير البالغ وهو فاسد ، حتى يكون الصحة والفساد حكمين متضادّين ، بل هما حكمان متناقضان لموضوعين متناقضين ، فموضوع الصحة : صدور العقد من البالغ ، وموضوع الفساد : عدم صدوره منه ، كما قال : ( بل من حيث الحكم ) شرعا بنقيض : صدور العقد من البالغ وهو : الحكم ( بعدم صدور عقد من بالغ ) فان البلوغ شرط للمتعاقدين ، فإذا لم يكن أحد المتعاقدين بالغا لم يكن العقد مستجمعا للشرائط فلم يكن عقد من بالغ ، لا انه كان عقد من غير بالغ .

وعليه : ( فانّ ) الفساد الموجب ( بقاء الآثار السابقة للعوضين ) وذلك بأن يكون كل واحد من العوضين لمالكه السابق ، هذا الفساد ( مستند إلى ) نقيض السبب الشرعي يعني : ( عدم السبب الشرعي ) الذي هو : عدم صدور العقد من بالغ ، وليس مستندا إلى ضد السبب الشرعي الذي هو : صدور العقد من غير البالغ ، وإذا كان كذلك لم يكن الأصلان : الصحة والفساد في رتبة واحدة

ص: 121

فالحمل على الصحيح يقتضي كون الواقع البيع الصادر من بالغ ، وهو سبب شرعي في ارتفاع الحالة السابقة على العقد .

وأصالة عدم البلوغ لا يوجب بقاء الحالة السابقة من حيث احراز البيع الصادر عن غير بالغ بحكم الاستصحاب ، لأنّه لا يوجب الرجوع إلى الحالة

-------------------

حتى يتساقطان ، بل أحد الأصلين وهو أصل الصحة حاكم على أصل الفساد ، لأن أصل الصحة يُثبت ان هذا الموجود سبب للنقل ، بينما أصل الفساد يقول : لا سبب للنقل ، فهما من قبيل بيّنتين إحداهما تقول : لا أعلم عدالة زيد ، والاُخرى تقول : أعلم عدالته ، فمدّعي العلم مقدّم على مدّعي عدم العلم بالحكومة .

إذن : ( فالحمل على الصحيح ) في المعاملة الخارجية المشكوك كون أحد المتعاملين فيها بالغا أم لا ( يقتضي كون الواقع ) في الخارج هو ( البيع الصادر من بالغ ) فالعقد جامع للشرائط ( وهو سبب شرعي في ) صحة المعاملة وإفادة ( ارتفاع الحالة السابقة على العقد ) من كون كل من العوضين لمالكه السابق .

ان قلت : أصالة عدم البلوغ واستصحابه يوجب الفساد ، فيعارض أصل الصحة ويتساقطان ويكون المرجع عدم البيع .

قلت : أصالة عدم البلوغ إنّما يوجب الفساد من حيث احراز نقيضه وهو : عدم صدور العقد من بالغ ، لكنك قد عرفت : ان الفساد الذي هو نقيض الصحة متأخر رتبة عن الصحة ، فيكون أصل الصحة حاكما عليه ، وأمّا أصالة عدم البلوغ الذي يحرز الضد ، فلا يوجب الفساد كما قال : ( وأصالة عدم البلوغ لا يوجب بقاء الحالة السابقة ) أي : لا يوجب الفساد ( من حيث احراز ) ضده وهو : ( البيع الصادر عن غير بالغ ) احرازا ( بحكم الاستصحاب ) وذلك ( لأنّه ) أي : الضد وهو صدور البيع من غير البالغ ( لا يوجب ) الفساد أعني : ( الرجوع إلى الحالة

ص: 122

السابقة على هذا العقد ، فانّه ليس مّما يترتب عليه ، لأنّ عدم المسبّب من آثار عدم السبب ، لا من آثار ضدّه .

وإن فرضنا أنّه يترتب عليه آثار اُخر ، فنقول حينئذ : الأصل : عدم وجود السبب ما لم يدلّ دليل شرعي على وجوده .

وبالجملة : البقاء على الحالة السابقة على هذا البيع

-------------------

السابقة على هذا العقد ) من عدم النقل والانتقال وذلك لما عرفت : من ان الصحة الفساد ليسا ضدين بل هما نقيضان ، وإذا كانا كذلك ( فانّه ) أي : الفساد ( ليس مّما يترتب عليه ) أي : على الضد الذي هو صدور العقد من غير البالغ .

وإنّما لم يترتب الفساد على الضد ( لأنّ عدم المسبّب ) أي عدم صحة العقد ( من آثار ) نقيضه وهو : ( عدم السبب ، لا من آثار ضدّه ) وهو : الصدور من غير البالغ ، فعدم الصحة ليس من آثار الضد حتى ( وإن فرضنا أنّه يترتب عليه ) أي : على الضد ( آثار اُخر ) غير عدم الصحة ، كما لو نذر التصدق بدرهم عند وقوع العقد من غير بالغ ، فانه عند الشك فيه يستصحب عدم البلوغ ، فيثبت موضوع النذر ، فيلزمه الوفاء بنذره مع انه لم يثبت به الفساد .

وعليه : ( فنقول حينئذ : ) أي : حين عرفت ان الصحة والفساد متناقضان يعني : من باب الموضوع واللاموضوع ، لا من باب الموضوع والموضوع المضادّ، نقول: ان ( الأصل : عدم وجود السبب ) أي : عدم وجود عقد صحيح عند الشك فيه ( ما لم يدلّ دليل شرعي على وجوده ) أي : على وجود العقد الصحيح مثل أصل الصحة وقد دلّ هنا أصل الصحة على وجود العقد الصحيح فيترتب عليه آثاره .

( وبالجملة : البقاء على الحالة السابقة على هذا البيع ) من عدم النقل والانتقال

ص: 123

مستند إلى عدم السبب الشرعي ، فإذا شك فيه بني على البقاء وعدم وجود السبب ، ما لم يدلّ دليل على كون الموجود المردّد بين السبب وغيره ؛ هو السبب .

فإذن : لا منافاة بين الحكم بترتّب الآثار المترتّبة على البيع الصادر من غير بالغ ، وترتّب الآثار المترتّبة على البيع الصادر عن بالغ ، لأن الثاني يقتضي انتقال المال عن البائع ، والأوّل لا يقتضيه ، لا أنّه يقتضي عدمه .

-------------------

( مستند إلى عدم السبب الشرعي ) الذي هو النقيض ، لا الضدّ كما عرفت ( فإذا شك فيه ) أي : في البقاء على الحالة السابقة للشك في السبب الشرعي ( بني على البقاء وعدم وجود السبب ) الشرعي ( ما لم يدلّ دليل ) مثل أصل الصحة ( على كون الموجود ) وهو البيع الواقع خارجا ( المردّد بين السبب وغيره ، هو السبب ) فإذا دلّ أصل الصحة على انه الموجود سبب انتفى الشك وتحقق البيع .

( فإذن : لا منافاة بين الحكم بترتّب الآثار المترتّبة على ) الضد وهو : ( البيع الصادر من غير بالغ ) كالنذر على وقوع العقد من غير بالغ ( وترتّب الآثار المترتّبة على ) السبب وهو : ( البيع الصادر عن بالغ ) وذلك لأن أصل الصحة يُفيد صدور العقد من البالغ فيترتّب عليه آثار الصحة ، واستصحاب عدم البلوغ يُفيد صدور العقد من غير البالغ ، لكنه لا يوجب الفساد ، لأنه - كما عرفت - ضد وليس نقيضا ، فيترتب عليه أثر الضد وهو : وجوب الوفاء بالنذر بلا منافاة بين الحكمين .

وإنّما لا تنافي بين الحكمين ( لأن الثاني ) أي : الحكم بصدور البيع من البالغ لأجل أصالة الصحّة ( يقتضي انتقال المال عن البائع ) إلى المشتري ( و ) هو معنى الصحة ، بينما ( الأوّل ) وهو الحكم بصدور البيع من غير البالغ لأجل إستصحاب عدم البلوغ ( لا يقتضيه ) أي : لا يقتضي الانتقال ( لا أنّه يقتضي عدمه ) أي :

ص: 124

بقي الكلام : في أصالة الصحة في الأقوال والاعتقادات

أمّا الأقوال : فالصحة فيها يكون من وجهين : الأوّل : من حيث كونه حركةً من حركات المكلّف ، فيكون الشك من حيث كونه مباحا أو محرّما .

ولا إشكال في الحمل على الصحة من هذه الحيثيّة .

-------------------

عدم الانتقال حتى يحصل التعارض بينهما .

والحاصل : ان أصل الصحة يقتضي الانتقال ، وأصل عدم البلوغ لا يقتضي الانتقال ، فيقدّم الأوّل على الثاني ، لا ان أصل عدم البلوغ يقتضي عدم الانتقال ، حتى يتعارض مع أصل الصحة المقتضي للانتقال .

ثم انه لما انتهى المصنّف من الكلام في أصل الصحة ، سواء في فعل النفس أم في فعل الغير قال : ( بقي الكلام في أصالة الصحة في الأقوال والاعتقادات ) فإذا شككنا في ان قول زيد - مثلاً - صدق وصحيح أم لا ، أو ان اعتقاده حق وصحيح أم لا ، فهل يجري فيها أصل الصحة أم لا ؟ .

قال المصنّف : ( أمّا الأقوال : فالصحة فيها يكون من وجهين ) على ما يلي :

( الأوّل : من حيث كونه حركة من حركات المكلّف ، فيكون الشك ) في صحتها وفسادها ( من حيث كونه مباحا ) فهو صحيح ( أو محرّما ) فهو فاسد ، وذلك كما إذا كذب زيد فشككنا في انه هل هو كذب مباح لوجود المصلحة فيه كالإصلاح بين اثنين ، أو كذب محرم لعدم وجود المصلحة فيه ؟ .

( ولا إشكال في الحمل على الصحة من هذه الحيثية ) أي : من حيث كونه حركة من الحركات ، فإنّ الأدلّة العامة من الآيات والروايات والسيرة وبناء العقلاء

ص: 125

الثاني : من حيث كونه كاشفا عن مقصود المتكلم ، والشك من هذه الحيثية يكون من وجوه :

أحدها : من جهة أنّ المتكلّم بذلك القول قَصَدَ الكشف بذلك عن معنى ، أم لم يقصد ، بل تكلّم به من غير قصد لمعنى ؟ .

-------------------

وما أشبه ذلك، كلها شاملة للأقوال من هذا الحيث أيضا، ويؤيّده: انّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم: لم يحمل كلام المنافق الذي حلف أنّه لم ينمّ عليه على الكذب ، بل سكت صلى اللّه عليه و آله وسلم عنه ، حتى قال سبحانه يمدح نبيّه : «يؤمن باللّه ويؤمن للمؤمنين »(1) .

أقول : لكن لا يبعد أن يكون هناك فرق : بين ما لم نعلم صدقه وكذبه فنحمله على الصدق ، وبين ما نعلم كذبه لكن لا نعلم هل هو صادر عن مجوّز شرعي للكذب أم لا ؟ فانه لا يحمل على الصحة حتى يثبت ذلك ، وهذا كالفرق بين من نراه يشرب مايعا مردّدا بين الخمر والماء فحيث لا نعلم بأنه خمر نحمله على انه يشرب الماء ، وبين من نعلم انه يشرب الخمر لكن لا نعلم هل انه يشربه عن وجه صحيح أو فاسد ؟ فانه لا يحمل على الصحيح حتى يثبت ذلك .

( الثاني : من حيث كونه ) أي : الكلام ( كاشفا عن مقصود المتكلّم ، و ) لا يخفى : انّ هذا العنوان لا ينطبق على الوجه الثالث من وجوه هذا البحث الذي سيذكره المصنِّف إن شاء اللّه تعالى بعد قليل ، وكيف كان : فإنّ ( الشك من هذه الحيثية يكون من وجوه ) تالية :

( أحدها : من جهة ) القصد واللاقصد ، وهو : هل ( أنّ المتكلّم بذلك القول قصد الكشف بذلك عن معنى ، أم لم يقصد ، بل تكلّم به من غير قصد لمعنى ؟ ) أي : بأن تكلّم لغوا ، أو هزلاً ، أو نحو ذلك .

ص: 126


1- - سورة التوبة : الآية 61 .

ولا إشكال في أصالة الصحة من هذه الحيثية ، بحيث لو ادعى كون التكلّم لغوا أو غلطا لم يسمع منه .

الثاني : من جهة أنّ المتكلّم صادق في اعتقاده ، ومعتقد لمؤدّى مايقوله ، أم هو كاذب في هذا التكلّم في اعتقاده ؟ ، ولا إشكال في أصالة الصحة هنا.

فإذا أُخبِر بشيء جاز نسبة اعتقاد مضمون الخبر إليه ، ولا يُسمع دعوى أنّه غير معتقد لما يقوله .

-------------------

( ولا إشكال في أصالة الصحة من هذه الحيثيّة ) أي : حيثية القصد واللاقصد ، فإنّه يحمل على القصد وهو معنى الصحة وذلك ( بحيث لو ادعى ) المتكلِّم ( كون التكلّم لغوا ) ومن باب المزاح - مثلاً - ( أو غلطا ) ومن باب الاشتباه والسهو - مثلاً - ( لم يسمع منه ) في باب الاقرار ، وباب التداعي ، وما أشبههما ، وذلك لبناء العقلاء ، وإلاّ لملك كل متكلّم أن لا يلتزم بلوازم كلامه ، ويدّعي الغلط والهزل ونحوهما .

( الثاني : من جهة ) المطابقة وعدم المطابقة له وهو : هل ( أنّ المتكلّم صادق في اعتقاده ، و ) بتعبير أدق : هل ان ارادته الجدّية تطابق ارادته الاستعمالية أم لا ؟ يعني : هل هو ( معتقد لمؤدّى ما يقوله ، أم هو كاذب في هذا التكلّم في اعتقاده ؟ ) سواء في اخباراته كما إذا قال : جاء زيد ، أم في انشاءاته كما إذا قال : اُنصر زيدا؟

( ولا إشكال في أصالة الصحة هنا ) أي : بأن يُحمل على التطابق وهو معنى الصحة ، وذلك بأن يقال : انه كان يعتقد مجيء زيد ، ويريد نصرة زيد .

وعليه : ( فإذا أُخبِر بشيء جاز نسبة اعتقاد مضمون الخبر إليه ) كما إذا قال - مثلاً - أشهد أن محمّدا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فانه يجوز نسبة الإسلام إليه ( ولا يُسمع دعوى أنّه غير معتقد لما يقوله ) فيما إذا أنكره بعد ذلك وقال :

ص: 127

وكذا إذا قال : « إفعل كذا » جاز أن يسند إليه أنّه طالبه في الواقع ، لا أنّه مظهر للطلب صورة لمصلحة كالتوطين أو لمفسدة .

وهذان الأصلان مّما قامت عليهما السيرة القطعيّة مع إمكان اجراء ما سلف من أدلّة تنزيه فعل المسلم عن القبيح في المقام ، لكنّ المستند فيه ليس تلك الأدلّة .

-------------------

انّي قلت ذلك غير معتقد به ، إلاّ إذا أسقط صحة دعواه بشواهد وقرائن عرفية .

( وكذا إذا قال : « إفعل كذا » جاز أن يسند إليه أنّه طالبه في الواقع ، لا أنّه مظهر للطلب صورة ) وكذلك في باب النهي ، والدعاء ، والترجي ، والتمني ، وما أشبه ذلك ، فلا يقبل منه لو ادّعى ان كلامه صوري وانه قاله ( لمصلحة ) فلم يطابق إرادته الاستعمالية ارادته الجدية ( كالتوطين ) فيما لو ادعى انه أراد من الأمر : توطين المأمور نفسه على الامتثال ليؤجره عليه ( أو لمفسدة ) كالتشهير ، فيما لو ادعى انه أراد من الأمر : تشهير المأمور باظهار ما في باطنه من المخالفة ليعاقبه عليه ، فانه لا يقبل منه .

وإنّما لا يقبل ذلك منه ، لأصالة القصد ، وأصالة المطابقة ( وهذان الأصلان ) أي : أصالة القصد ، وأصالة المطابقة بين الارادتين : الجدّية والاستعمالية ( مّما قامت عليهما السيرة القطعيّة ) وبناء العقلاء كافة ، فإذا لم يعمل بهذين الأصلين لزم اختلال النظام وهدم الاجتماع .

هذا ( مع إمكان اجراء ما سلف من أدلّة تنزيه فعل المسلم عن القبيح في المقام ) أيضا ، وذلك لأن القول اللغو والقول الكذب قبيح ، والمسلم منزّه عن فعل القبيح ( لكنّ المستند ) الآن ( فيه ) أي : في تنزيه فعل المسلم من القبح المستلزم من مخالفة الأصلين المذكورين ( ليس تلك الأدلّة ) السابقة ، بل مستنده

ص: 128

الثالث : من جهة كونه صادقا في الواقع أو كاذبا ، وهذا معنى حجّية خبر المسلم لغيره ، فمعنى حجيّة خبره : صدقه .

والظاهر : عدم الدليل على وجوب الحمل على الصحيح بهذا المعنى .

والظاهر : عدم الخلاف في ذلك إذ لم يقل أحد بحجيّة كلّ خبر صدر من مسلم ، ولا دليل يفي بعمومه عليه حتى تُرتكب دعوى خروج ما خرج بالدليل من الداخل .

-------------------

في المقام السيرة القطعية واختلال النظام الناتج من مخالفة الأصلين .

( الثالث : من جهة ) المطابقة للواقع وعدم المطابقة له ، أي : في ( كونه صادقا في الواقع أو كاذبا ) يعني : صدقا أو كذبا خبريا لا مخبريا ، وبعبارة أدق : هل انّ خبره حجة ومطابق للواقع أم لا؟ ( وهذا معنى حجّية خبر المسلم لغيره ) إذ الغير إنّما يهمّه مطابقة الخبر وعدم مطابقته للواقع ( فمعنى حجيّة خبره : صدقه ) صدقا مطابقا للواقع ، وهذه المطابقة غير المطابقة للاعتقاد ، إذ ربما يقول الشخص ما يطابق اعتقاده ، لكن لا يطابق الواقع ، والناس يريدون مطابقة الخبر للواقع بعد مطابقته لاعتقاد المخبر ، لا مطابقته لاعتقاد المخبر وعدم مطابقته للواقع .

( والظاهر : عدم الدليل على وجوب الحمل على الصحيح . بهذا المعنى ) الأخير ، إذ ليس معنى : « احمل فعل أخيك على أحسنه » انه مطابق للواقع .

( و ) كذا ( الظاهر : عدم الخلاف في ذلك ) أي : انهم اتفقوا على انه لا دليل يوجب حجيّة خبر المسلم ومطابقته للواقع ( إذ لم يقل أحد بحجيّة كلّ خبر صدر من مسلم ، ولا دليل يفي بعمومه عليه ) أي : وليس هناك دليل عام يشمل هذا المعنى ( حتى تُرتكب دعوى خروج ما خرج بالدليل من الداخل ) تحت العموم ، يعني : انه لا عموم حتى يدّعي أحد وجود الدليل العام على حجية خبر المسلم

ص: 129

وربما يتوهّم وجود الدليل العام من مثل الأخبار المتقدّمة الآمرة بوجوب حمل أمر المسلم على أحسنه ، وما دلّ على وجوب تصديق المؤمن وعدم اتهامه عموما ، وخصوص قوله عليه السلام : « إذا شَهِدَ عندك المسلمونَ فصدِّقهُم » ، وغير ذلك مّما ذكرنا في بحث حجّية خبر الواحد ، وذكرنا عدم دلالتها .

-------------------

ومطابقته للواقع ، ثم يدّعي خروج مثل الأخبار الحدسية والشهادات والروايات من عموم ذلك الدليل ، فيقول - مثلاً - بخروج باب الشهادات لاحتياجها إلى نفرين ، وخروج باب الروايات لاحتياجها إلى عدالة الراوي ، وخروج الحدسيات الاجتهادية لاحتياجها إلى الفقاهة والعدالة ، وهكذا.

( وربما يتوهّم وجود الدليل العام ) الدال على حجيّة خبر المسلم ومطابقته للواقع ( من مثل الأخبار المتقدّمة الآمرة بوجوب حمل أمر المسلم على أحسنه ) (1) وذلك بتقريب أنّ الأمر أعمّ من القول والفعل ( و ) كذا مثل ( ما دلّ على وجوب تصديق المؤمن وعدم اتهامه عموما ) (2) أي : لا في قوله ولا في فعله معا .

( و ) مثل ( خصوص قوله عليه السلام : « إذا شَهِدَ عندك المسلمونَ فصدِّقهُم » (3) وغير ذلك مّما ذكرنا في بحث حجّية خبر الواحد ، وذكرنا ) هناك ( عدم دلالتها )

ص: 130


1- - انظر الكافي اصول : ج2 ص362 ح3 ، وسائل الشيعة : ج12 ص302 ب161 ح16361 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج2 ص10 .
2- - كرواية محمد بن الفضيل انظر الكافي روضة : ج8 ص147 ح125 ، ثواب الاعمال : ص595 ح1 ، أعلام الدين : ص405 ، وسائل الشيعة : ج12 ص295 ب157 ح86343 ، بحار الانوار : ج75 ص214 ب65 ح11 و ص255 ب66 ح40 ، وكرواية عمر اليماني انظر الكافي ( اصول ) : ج2 ص361 ح1 ، وسائل الشيعة : ج12 ص302 ب161 ح16359 ، مشكاة الانوار : ص319 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص299 ح1 .

مع أنّه لو فرض دليل عامٌ على حجيّة خبر كل مسلم ، كان الخارج منه أكثر من الداخل ، لقيام الاجماع على عدم اعتباره في الشهادات ، ولا في الروايات إلا مع شروط خاصة ، ولا في الحدسيات والنظريات إلاّ في موارد خاصة ، مثل : الفتوى وشبهها .

نعم ، يمكن أن يُدّعى أنّ الأصل في خبر العدل : الحجّية لجملة مّما ذكرناه في أخبار الآحاد وذكرنا ما يوجب تضعيف ذلك ، فراجع .

-------------------

على حجيّة خبر المسلم ولا مطابقتها للواقع ، وإنّما غاية دلالتهم من الأمر بحمل فعل المسلم وقوله على الصحيح هو : انه مطابق لاعتقاده لا انه حجة ومطابق للواقع .

هذا ( مع أنّه لو فرض دليل عام على حجيّة خبر كل مسلم ) ومطابقته للواقع ، أوجب تخصيص الأكثر وهو مستهجن ، إذ حينئذ ( كان الخارج منه أكثر من الداخل ) الباقي تحت العام ، وذلك ( لقيام الاجماع على عدم اعتباره ) أي : خبر المسلم ( في الشهادات ، ولا في الروايات إلاّ مع شروط خاصة ، ولا في الحدسيات والنظريات إلاّ في موارد خاصة ، مثل : الفتوى وشبهها ) أي : شبه الفتوى كخبر المقوّمين الذين يخبرون عن حدس ونظرية ، وإذا كان الخارج من العام أكثر من الداخل تحته لزم منه إضافة إلى الاستهجان ، سقوط الظهور حتى لا يمكن أن يُتمسّك بالعام .

( نعم ، يمكن أن يُدّعى أنّ الأصل في خبر العدل : الحجّية ) والمطابقة للواقع ( لجملة مّما ذكرناه في أخبار الآحاد ) كآية النبأ ، وآية النفر ، وآية الأذن ، وغيرها من الآيات والروايات ( و ) لكن ( ذكرنا ما يوجب تضعيف ذلك ، فراجع ) بحث الظن لترى ما تقدَّم من المصنّف هناك ، فانه قال - مثلاً - في تحقيق آية النبأ

ص: 131

أمّا الاعتقاداتُ ، فنقول :

إذا كان الشك في أنّ اعتقاده ناشٍ عن مدرك صحيح من دون تقصير عنه في مقدّماته ، أو من مدرك فاسد لتقصير منه في مقدماته ، فالظاهر : وجوب الحمل على الصحيح لظاهر بعض ما مرّ

-------------------

ما حاصله : ان الآية إنّما تنفي من العادل احتمال تعمّده الكذب والوضع ، وأمّا احتمال نسيانه وخطأه وما أشبه ذلك فلا تنفيه الآية ، فيكون الفرق بين خبر العادل وخبر الفاسق هو : ان العادل يُنفى عن خبره تعمّد الكذب ، بينما الفاسق لا يُنفى عن خبره ذلك ، وأين هذا المعنى من أصالة حجيّة خبر العدل حتى يقال بدلالة الأدلة عليه إلاّ ما خرج بالدليل ؟ .

هذا تمام الكلام في أصالة الصحة في الأقوال ، واما الكلام فيها بالنسبة إلى الاعتقادات فهو كما قال : ( أمّا الاعتقاداتُ ) وذلك كما إذا اعتقد - مثلاً - بأن قوله سبحانه : « لها سبعة أبواب » (1) يراد به الكثرة ، لأن سبعة تُستعمل للكثرة كالسبعين ، وليس من باب الدقة والتحديد ، فهنا إضافة إلى السؤال عن انه هل يلزم أن يقال : ان مدرك اعتقاده هذا صحيح لا تقصير منه في مقدماته؟ هل يلزم أيضا ان يقال : انه حجة ومطابق للواقع أم لا؟ جريان أصل الصحة في الاعتقادات يُلزم القول بالأول وهو ان مدرك اعتقاده صحيح : بلا تقصير منه في المقدمات ، دون الثاني .

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف بقوله : ( فنقول : إذا كان الشك في أنّ اعتقاده ) هذا هل هو ( ناشٍ عن مدرك صحيح من دون تقصير عنه في مقدّماته ، أو من مدرك فاسد لتقصير منه في مقدماته ) أي : في مقدّمات ذلك المدرك لذلك المعتقد ؟ ( فالظاهر : وجوب الحمل على الصحيح ) وذلك ( لظاهر بعض ما مرّ

ص: 132


1- - سورة الحجر : الآية 44 .

من وجوب حمل أمور المسلمين على الحَسَن دون القبيح .

وأمّا إذا شك في صحّته ، بمعنى المطابقة للواقع ، فلا دليل على وجوب الحمل على ذلك ، ولو ثبت ذلك أوجب حجّية كلّ خبر أخبر به المسلم ، لما عرفت : من أنّ الأصل في الخبر كونه كاشفا عن اعتقاد المخبر .

-------------------

من وجوب حمل أمور المسلمين على الحَسَن دون القبيح ) ومن المعلوم : ان التقصير في المقدمات ، أو الاعتقاد من دون مدرك صحيح ، قبيح يلزم تنزيه المسلم عنه ، وعلى هذا فلا يجوز رميه بانه تعمّد اعتقادا باطلاً أو قصّر في تحصيل مقدّماته .

( وأمّا إذا شك في صحته ، بمعنى المطابقة للواقع ، فلا دليل على وجوب الحمل على ذلك ) أي : على الصحة بمعنى : المطابقة للواقع ( ولو ثبت ذلك ) أي: ثبت وجوب الحمل على مطابقة اعتقاده للواقع ( أوجب حجّية كلّ خبر أخبر به المسلم ) ، وذلك ( لما عرفت : من أنّ الأصل في الخبر كونه كاشفا عن اعتقاد المخبر ) فلذا كان اعتقاد المخبر حجة ومطابقا للواقع ، كان قوله أيضا حجة ومطابقا للواقع ، لكنك قد عرفت ممّا مضى : انه لا دليل على حجية خبر المسلم ومطابقته للواقع ، فلا يكون اعتقاده أيضا مطابقا للواقع .

والحاصل : انّه ان قلنا بحجية اعتقاد المسلم كان لازمه حجيّة خبره أيضا ، لأن الأصل - كما مرّ - في الخبر مطابقته لاعتقاد المخبر ، فإذا كان الأصل أيضا مطابقة اعتقاد المخبر للواقع ، تشكّل قياس منطقي من صغرى وهي : الأصل ان الخبر مطابق لاعتقاد المخبر ، وكبرى وهي : والأصل ان كل مطابق لاعتقاد المخبر مطابق للواقع ، والنتيجة : فالخبر مطابق للواقع .

مع انّه قد مضى : ان هذه النتيجة وهي حجيّة خبر المسلم ومطابقته للواقع

ص: 133

أمّا لو ثبت حجّية خبره ، فقد يُعلم أنّ العبرة باعتقاده بالمخبَر به ، كما في المفتي ، وغيره مّمن يعتبر نظره في المطلب ، فيكون خبره كاشفا عن الحجة لا نفسها ، وقد يُعلم من الدليل حجيّة خصوص إخباره بالواقع ، حتى لا يقبل منه قوله : « اعتقد بكذا » ،

-------------------

لا دليل عليه إضافة إلى انه يستلزم التنافي في الواقع لوضوح كثرة التخالف في الاعتقادات ، بينما ليس كذلك في عكسه ، فلو قلنا بحجيّة خبر المسلم ومطابقته للواقع - فرضا - لم يكن تلازم بينه وبين حجيّة اعتقاده .

ثم إنّ المصنّف قال : ( أمّا لو ثبت حجّية خبره ) أي : حجيّة خبر المسلم ، فمناط حجيّته يمكن أن يكون أحد اُمور ثلاثة :

الأوّل : ما أشار إليه بقوله : ( فقد يُعلم أنّ العبرة باعتقاده ) أي : بسبب اعتقاد المخبر ( بالمخبَر به ، كما في المفتي ، وغيره ) أي : غير المفتي ( مّمن يعتبر نظره في المطلب ) كأهل الخبرة والمقوّمين ، فان اعتقادهم المستند إلى حدسهم حجة ، ويكون خبرهم كاشفا عن اعتقادهم الحجة ، فالحجة هي نفس اعتقاد المفتي أو الخبير والمقوّم بمطلب ، بأي طريق بكشف ، سواء انكشف بالإخبار أم بالكتابة أم بالاشارة أم بالظهور من قسمات الوجه ، كما ورد ان الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم كان يظهر على قسمات وجهه الكراهة من المحرّمات ، وإذا كان اعتقاده هو الحجة ( فيكون خبره كاشفا عن الحجة لا نفسها ) فإذا قال المفتي - مثلاً - : الماء القليل يتنجسّ بملاقاة النجاسة كشف ذلك عن اعتقاده به واعتقاده حجة ، فخبره إذن بما هو خبر ليس بحجة ، وإنّما حجيّته من جهة كشفه عن اعتقاده .

الثاني : ما أشار إليه بقوله : ( وقد يُعلم من الدليل حجيّة خصوص إخباره بالواقع ، حتى لا يقبل منه قوله : « اعتقد بكذا » ) كما في باب الروايات المروية

ص: 134

وقد يدلّ الدليل على حجّية خصوص شهادته المتحقّقة تارة بالإخبار عن الواقع ، واُخرى بالإخبار بعلمه به ، والمتّبع في كلّ مورد ، ما دلّ عليه الدليل ، وقد يشتبه مقدار دلالة الدليل .

ويترتّب على ما ذكرنا قبول تعديلات أهل الرجال المكتوبة في كتبهم ، وصحة التعويل في العدالة على اقتداء العدلين .

-------------------

عن الأئمة عليهم السلام ، فإذا قال أحد الرواة الثقات - مثلاً - : قال الصادق عليه السلام كذا ، كان حجة ، امّا إذا قال وهو يخبر عما في نفيه:اعتقد كذا ، فليس بحجة .

الثالث : ما أشار إليه بقوله : ( وقد يدلّ الدليل على حجّية خصوص شهادته المتحقّقة تارة بالإخبار عن الواقع ، واُخرى بالإخبار بعلمه به ) أي : بالواقع فان الشاهد كل من قوله واعتقاده حجّة ، فلا فرق بين ان يقول : ان هذه المرأة زوجة زيد ، أو يقول : اني أعلم بأن هذه المرأة زوجة زيد .

هذا ( والمتّبع في كلّ مورد ) من هذه الموارد الثلاثة هو : ( ما دلّ عليه الدليل ، و ) حينئذ فيجب مراجعة الدليل في كل من الموارد الثلاثة ليعلم هل انه يدلّ على حجيّة الاعتقاد ، أو الخبر ، أو أيّ منهما ، أم لا يدل؟ وذلك لانه ( قد يشتبه مقدار دلالة الدليل ) فلا يعلم ان الحجة هل هو اعتقاد الشخص أو إخباره ، كما في باب الجرح والتعديل بالنسبة إلى علم الرجال ، فان في المعدّل أو الجارح لا يعلم هل يكفي في حجيته لنا اعتقاده بالجرح أو التعديل بأي طريق انكشف لنا ولو بالكتابة ، أو لابدّ من اخباره بهما ؟ .

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف بقوله : ( ويترتّب على ما ذكرنا ) أخيرا ( قبول تعديلات أهل الرجال المكتوبة في كتبهم ، و ) جرحهم ، وكذلك ( صحة التعويل في العدالة ) بالنسبة إلى امام الجماعة ( على اقتداء العدلين ) به ، وغير ذلك .

ص: 135

المقام الثاني :

في بيان تعارض الاستصحاب مع القرعة .

وتفصيل القول فيها يحتاج إلى بسط لا يسعه الوقت ،

-------------------

قال الآشتياني : ويفرّع على كفاية مجرّد الاعتقاد : الحكم بعدالة الإمام بواسطة اقتداء العدلين ، والحكم بدخول الوقت من جهة صلاة عدلين معتقدين بدخول الوقت ، والحكم باعتبار تعديلات أهل الرجال في مكتوباتهم كالكشي والنجاشي والشيخ قدس سرّهم ، ثم قال : وقد يدّعى الاجماع على اعتبار هذه التعديلات من دون حاجة إلى ثبوت ان الأصل اعتبار الاعتقاد في مورد ثبوت اعتبار الخبر .

( المقام الثاني : في بيان تعارض الاستصحاب مع القرعة ) كما إذا قال زيد : هذه الدار ملكي ، وقال عمرو بل هي ملكي ، وكان كلاهما خارجا أو داخلاً ، وكان مع زيد الاستصحاب لأنها كانت ملكه سابقا ، وأقرعنا فخرجت القرعة باسم عمرو ، فهل يقدّم الاستصحاب على القرعة أو القرعة على الاستصحاب ؟ .

قال المصنِّف : ( وتفصيل القول فيها ) أي : في القرعة ( يحتاج إلى بسط لا يسعه الوقت ) لأن مسألة القرعة مسألة فقهية ، ونحن بصدد المبحث الاُصولي .

ثم انه لا يخفى : ان القرعة ممّا دلت عليه الأدلّة الأربعة : فمن الكتاب مثل قوله سبحانه : « يُلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم » (1) وقوله سبحانه : « فساهم فكان من المدحضين » (2) ومن السنّة مثل قوله عليه السلام : « القرعة لكل أمر مشكل » (3) وقول الصادق عليه السلام : « أيّ فقيه أعدل من القرعة إذا فوّض أمره إلى اللّه تعالى ؟ أليس اللّه

ص: 136


1- - سورة آل عمران : الآية 44 .
2- - سورة الصافات : الآية 141 .
3- - فتح الأبواب : ص292 ، غوالي اللئالي : ج2 ص112 و ص285 و ج3 ص512 ، بحار الانوار : ج91 ص234 ب2 ح7 ، تهذيب الاحكام : ج9 ص258 ب4 ح13 .

ومجمل القول فيها : أنّ ظاهر أخبارها أعمّ من جميع أدلّة الاستصحاب ، فلابدّ من تخصيصها بها ، فيختص القرعة بموارد لا يجري فيها الاستصحاب .

نعم ، القرعة واردة على أصالة التخيير

-------------------

يقول : « فساهم » (1) ؟ » (2) والاجماع قطعي فيها بين المسلمين كافة ، والعقل يدل عليها ، بل القرعة جارية إلى اليوم في المحافل الدولية والعالمية .

هذا ( ومجمل القول فيها : أنّ ظاهر أخبارها ) أي : أخبار القرعة ( أعمّ من جميع أدلّة الاستصحاب ) فتكون أدلة الاستصحاب أخص من أدلة القرعة ، وإذا كانت أخص ( فلابدّ من تخصيصها ) أي : تخصيص أدلة القرعة ( بها ) أي : بأخبار الاستصحاب ، إذ الأخص دائما يقدّم على الأعم ( فيختص القرعة بموارد لا يجري فيها الاستصحاب ) .

مثلاً ، قوله عليه السلام : « القرعة لكل أمر مشكل » (3) يبيّن انه : إذا كان الموضوع مشكلاً فالمجال للقرعة ، والاستصحاب يبيّن عدم مشكلية الموضوع ، وذلك لأن الشارع جعل له حلاً بالاستصحاب ، وكما لا مجال للقرعة مع وجود الخبر أو البينة أو السوق أو اليد أو الاجماع أو ما أشبه ذلك ، فكذلك لا مجال للقرعة مع وجود الاستصحاب .

( نعم ، القرعة واردة على أصالة التخيير ) وذلك لأن التخيير إنّما يكون

ص: 137


1- - سورة الصافات : الآية 141 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج3 ص92 ب2 ح3390 ، وسائل الشيعة : ج27 ص261 ب13 ح33722 ، بحار الانوار : ج104 ص325 ب6 ح5 .
3- - غوالي اللئالي : ج2 ص112 و ص285 و ج3 ص512 ، فتح الابواب : ص292 ، بحار الانوار : ج91 ص234 ب2 ح7 .

وأصالتي : الاباحة والاحتياط إذا كان مدركهما العقل ، وإن كان مدركهما تعبّد الشارع في مواردهما ،

-------------------

مع التحيّر ، والقرعة تزيل التحيّر ، فإذا حلف - مثلاً - على شيء ثم شك في انه هل كان حلفه على أن يذبح الشاة في النجف الأشرف أو في كربلاء المقدسة ، فحيث التحيّر لزمت القرعة ، فإذا أقرع وخرج أحدهما فلا تحيّر حتى يكون تخيير .

( و ) كذا القرعة واردة على ( أصالتي : الاباحة والاحتياط ) فإذا شك - مثلاً - في انه هل هذا المايع هو خلّ أو خمر ؟ أو شك في انه هل هذا الاناء الأبيض نجس أو ذاك الاناء الأحمر؟ فحيث ان الأصل في الأوّل الاباحة ، وفي الثاني الاحتياط ، تكون القرعة واردة عليهما ، وذلك لأنّا إذا أقرعنا وخرج ان المايع خمر ، أو ان الاناء الأبيض نجس ، فلا مجال لاجراء أصل الاباحة في المايع ، كما لا مجال لاجراء أصل الاحتياط بين الاناء الأبيض والأحمر ، وذلك فيما ( إذا كان مدركهما ) أي مدرك الاباحة والاحتياط هو ( العقل ) .

وإنّما تكون القرعة واردة على أصالة الاباحة العقلية وعلى أصالة الاحتياط العقلي ، لأن موضوع الاباحة العقلية هو : عدم البيان والقرعة بيان ، كما ان موضوع الاحتياط العقلي احتمال العقاب ، والقرعة تعيّن المكلّف به ، فلا يحتمل العقاب في الطرف الآخر ، حتى يجب الاجتناب عنه ، فالقرعة واردة عليهما ، وقد تقدّم سابقا : انّ معنى الورود هو : رفع أحد الدليلين موضوع الدليل الآخر ، والقرعة في مقامنا يرفع موضوع أصل التخيير ، وأصل الاباحة وأصل الاحتياط على ما عرفت ، فيما إذا كان مدرك الأصلين الأخيرين العقل .

( وإن كان مدركهما تعبّد الشارع في مواردهما ) أي : بأن جعلنا حجيّتهما لا للدليل العقلي ، بل للدليل الشرعي ، وذلك لأن الشارع قال : « كل شيء مطلق

ص: 138

فدليل القرعة حاكم عليهما ، كما لا يخفى .

-------------------

حتى يرد فيه نهي » (1) وقال : « أخوك دينك فاحتط لدينك » (2) ( فدليل القرعة ) لا يكون واردا عليهما ، بل هو حينئذ ( حاكم عليهما ، كما لا يخفى ) والحكومة على ما تقدَّم : عبارة عن تفسير أحد الدليلين للدليل الآخر بالتوسعة أو بالتضييق .

أمّا مثال التضييق فكما في رواية : « لا شك لكثير الشك » (3) ورواية : « إذا شككت فابن على الأكثر » (4) فان « لا شك لكثير الشك » يضيّق دائرة « ابن على الأكثر » ويقول : ان البناء على الأكثر إنّما يكون فيما إذا لم يكن كثير الشك .

وأمّا مثال التوسعة فكما في رواية : « لا صلاة إلاّ بطهور » (5) ورواية : « الطواف بالبيت صلاة » (6) حيث ان « الطواف بالبيت صلاة » يوسّع دائرة « لا صلاة إلاّ بطهور » يعني : ان الطواف أيضا محتاج إلى الطهور ، لأنه نوع من الصلاة .

وأمّا بيان انه لماذا يكون دليل القرعة حاكما على أصالتي : الاباحة والاحتياط الشرعيين ، فلأن موضوع الاباحة الشرعية هو : الشك في الحلّية ، وموضوع

ص: 139


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 ، غوالي اللئالي : ج3 ص166 ح60 و ص462 ح1 .
2- - الامالي للمفيد : ص383 المجلس الثالث والثلاثون ، الامالي للطوسي : ص110 ح168 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .
3- - من القواعد الفقهيّة المصطادة من الروايات ويدل عليها الكافي فروع : ج3 ص358 ح2 ، الاستبصار : ج1 ص374 ب217 ح5 ، وسائل الشيعة : ج8 ص228 ب16 ح10496 و 10497 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص153 و ص343 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص224 .
4- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص340 ح992 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10451 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص601 ح2 .
5- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص33 ح67 و ص58 ح129 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص49 ب3 ح83 و ص209 ب9 ح8 و ج2 ص140 ب23 ح3 و 4 ، الاستبصار : ج1 ص55 ب31 ح15 و 16 ، غوالي اللئالي : ج3 ص8 ح1 ، وسائل الشيعة : ج1 ص315 ب9 ح829 ، مفتاح الفلاح : ص202 .
6- - نهج الحق : ص472 ، غوالي اللئالي : ج1 ص214 و ج2 ص167 ح3 ، وسائل الشيعة : ج13 ص376 ب38 ح17997 ، مستدرك الوسائل : ج9 ص410 ب38 ح11203 .

لكن ذكر في محلّه أنّ أدلّة القرعة لا يُعمل بها بدون جبر عمومها بعمل الأصحاب أو جماعة منهم ، واللّه العالم .

-------------------

الاحتياط الشرعي هو : الشك في المكلّف به ، والشك في كل منهما وإن كان لا يزول بالقرعة وجدانا ، إلاّ ان دليل القرعة ناظر إليهما ومفسر لدليلهما ، بحيث لا يبقى معه شك فيهما تعبدا ، فيكون المراد من الشك غير الشك الموجود مع القرعة ، لأن الشك الموجود مع القرعة ليس بشك تعبدا .

ثم قال المصنّف بعد كلّ ذلك ( لكن ذكر في محلّه ) من الكتب الفقهية : ( أنّ أدلّة القرعة لا يُعمل بها بدون جبر عمومها بعمل الأصحاب أو ) على الأقل بعمل ( جماعة منهم ) أي : من الأصحاب ، فان كل ما ذكره المصنِّف : من كون القرعة واردة على الاُصول الثلاثة : الاستصحاب ، والاباحة ، والاحتياط ، أو حاكمة عليها، إنّما هو مع غض النظر عن عروض الوهن ودخول الضعف على عمومات القرعة بسبب كثرة التخصيص الداخلة عليها ، واما مع النظر إلى وهن عمومها فلا يصح العمل بها إلاّ في مورد انجبر وهن عمومها بعمل الأصحاب ، ولذا نراهم لا يعملون بها في موارد العلم الاجمالي الكثيرة المذكورة في الفقه والاُصول ، وفي كل مورد لم يعمل الأصحاب فيه بالقرعة ، سواء كان في المنازعات أم في غيرها ، يكون المرجع الاُصول العملية ، لأن الاُصول العملية سالمة حينئذ عن الوارد والحاكم بعد عدم العمل بالقرعة ، وعدم الحجيّة لها في هذه الموارد .

( واللّه العالم ) فان مبحث القرعة من المباحث المشكلة ، حيث نراهم تارة يعملون بها من دون عمل الأصحاب ، واُخرى لا يعملون بها بدليل ان الأصحاب لم يعملوا بها في المسألة الفلانية - مثلاً - .

ص: 140

المقام الثالث :

اشارة

في تعارض الاستصحاب مع ما عداه من الاُصول العمليّة أعني : البراءة والاشتغال والتخيير .

الأوّل : تعارض البرائة مع الاستصحاب

أمّا أصالة البراءة فلا يعارض الاستصحاب ولا غيره من الاُصول والأدلة ، سواء كان مدركه العقل أو النقل .

-------------------

( المقام الثالث : في تعارض الاستصحاب مع ما عداه من الاُصول العمليّة ) فانّه قد يتعارض الاستصحاب مع استصحاب آخر ، وقد يتعارض الاستصحاب مع سائر الاُصول الاُخرى ( أعني : البرائة والاشتغال والتخيير ) وذلك بأن يكون الاستصحاب في جانب ، والبرائة في جانب آخر ، أو الاستصحاب في جانب ، وفي الجانب الآخر اشتغال أو تخيير .

( أمّا أصالة البرائة فلا يعارض الاستصحاب ولا غيره من الاُصول ) أعني : الاحتياط والتخيير ، لأنها متباينة من حيث المورد ، فالاستصحاب وكذلك الاحتياط والتخيير كلها مقدّم على البرائة ( و ) هكذا ( الأدلة ) مقدّمة على البرائة ، فأصل البرائة لا يُعارض شيئا من الاُصول ولا من الأدلة ( سواء كان مدركه ) أي : مدرك أصل البرائة ( العقل ) مثل : قبح العقاب بلا بيان ( أو النقل ) مثل : « رفع ... ما لا يعلمون » (1) ونحوه .

ص: 141


1- - تحف العقول : ص50 ، الخصال : ص417 ح27 ، الاختصاص : ص31 ، التوحيد : ص353 ح24 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

أمّا العقل ، فواضحٌ ؛ لأنّ العقل لا يحكم بقبح العقاب إلاّ مع عدم الدليل على التكليف واقعا أو ظاهرا .

وأمّا النقل ، فما كان منه مساوقا لحكم العقل فقد اتضح

-------------------

( أمّا العقل ، فواضحٌ ) في ان دليل العقل القائم على البرائة لا يتمكن من ان يعارض الاستصحاب أو سائر الاُصول والأدلة ، وذلك ( لأنّ العقل لا يحكم بقبح العقاب إلاّ مع عدم الدليل على التكليف ) فإذا كان هناك دليل يدلّ على التكليف قدّم على البرائة ، سواء دلّ على التكليف ( واقعا ) كالخبر الدال على التكليف واقعا ( أو ظاهرا ) كالاستصحاب المثبت للتكليف ظاهرا ، فان الاستصحاب دليل ظاهري وهو كالدليل الواقعي يرفع موضوع البرائة ، لأن الشارع لما قال : «لا تنقض اليقين بالشك» (1) كان معناه : انه حكم على طبق اليقين السابق، وهذا هو بيان كما ان الدليل الواقعي بيان ، ومعه لا يجري « قبح العقاب بلا بيان » ، فيكون الاستصحاب كالخبر المعتبر واردا على أصل البرائة الذي مدركه العقل .

( وأمّا النقل ، فما كان منه مساوقا لحكم العقل ) ومشابها له ، وهو ما ينفي التكليف ، لأن العقل يحكم بنفي التكليف مع عدم البيان ، مثل قوله عليه السلام : « رفع ... ما لا يعلمون » (2) و « الناس في سعة ما لا يعلموا » (3) وما أشبههما ( فقد اتضح

ص: 142


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
2- - تحف العقول : ص50 ، الخصال : ص417 ح27 ، الاختصاص : ص31 ، التوحيد : ص353 ح24 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .
3- - مستدرك الوسائل : ج18 ص20 ب12 ح21886 ، غوالي اللئالي : ج1 ص424 ح109 وقريب منه في الكافي فروع : ج6 ص297 ح2 ، المحاسن : ص452 ح365 ، تهذيب الاحكام : ج9 ص99 ب4 ح167 ، وسائل الشيعة : ج3 ص493 ب50 ح4270 .

أمرُه ، والاستصحاب وارد عليه ، وأمّا مثل قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلقٌ حتى يرِد فيه نهيٌ » فقد يقال : إنّ مورد الاستصحاب خارج عنه لورود النهي في المستصحب ، ولو بالنسبة إلى الزمان السابق .

وفيه : أنّ الشيء المشكوك في بقاء

-------------------

أمرُه ، و) ذلك لأن ( الاستصحاب وارد عليه ) أي : على مثل هذا الدليل الشرعي الذي أخذ الجهل فيه أيضا ، كما كان واردا على الدليل العقلي الذي أخذ عدم البيان فيه ، وذلك لأن الاستصحاب هو ممّا يعلمون ، فلا يبقى موضوع لما لا يعلمون ، ومن المعلوم : أن « العلم » هنا هو أعم من العلم الظاهري أو العلم الواقعي .

( وأمّا مثل قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلقٌ حتى يرِد فيه نهيٌ » (1) ) ممّا لم يؤخذ الجهل فيه ( فقد يقال : ) بورود الاستصحاب عليه أيضا ، إذ ( إنّ مورد الاستصحاب خارج عنه ) أي : عن « كلّ شيء مطلق » وذلك ( لورود النهي في المستصحب ) أي : في الشيء الذي نهي عن فعله أو عن تركه ( ولو ) كان هذا النهي ثابتا ( بالنسبة إلى الزمان السابق ) كالنهي عن العصير العنبي لو غلا وذهب ثلثاه لكن لا بالنار بل بالهواء ، فكل شيء مطلق يقول بحلّية كل ما لم يرد فيه نهي ، وهذا العصير قد ورد فيه النهي سابقا ، فليس هو حينئذ بمطلق .

وعليه : فيكون معنى قول المصنِّف : « فقد يقال : ان مورد الاستصحاب خارج عنه » هو : ان النهي السابق كاف في عدم جريان البرائة حالاً ، فيكون خارجا عن « كل شيء مطلق » لكن أشكل عليه المصنّف نفسه : بأن النهي السابق لا يكفي هنا، وإنّما اللازم وجود النهي حالاً ، ولذا قال : ( وفيه : أنّ الشيء المشكوك في بقاء

ص: 143


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

حرمته لم يرد نهيٌ عن ارتكابه في هذا الزمان ، فلابدّ من أن يكون مرخّصا فيه .

فعصير العنب بعد ذهاب ثلثيه بالهواء لم يرد فيه نهي ، وورود النهي عن شربه قبل ذهاب الثلثين لا يوجب المنع عن بَعده ، كما أنّ وروده في مطلق العصير باعتبار وروده في بعض أفراده لو كفى في الدخول فيما بعد الغاية لدلّ على المنع عن كلّ كلّي ورد المنع عن بعض أفراده .

-------------------

حرمته ) الآن ، كالعصير العنبي الذي غلا ثم ذهب ثلثاه بالهواء ، فانه ( لم يرد نهيٌ عن ارتكابه في هذا الزمان ) اللاحق وهو زمان الشك ( فلابدّ من أن يكون مرخّصا فيه ) أي : حلالاً ، وذلك لأنه مشكوك الآن في انه هل هو حرام أو حلال؟ فيشمله دليل البرائة .

وعليه : ( فعصير العنب بعد ذهاب ثلثيه ) بالنار لا شك في حليّته ، امّا إذا ذهب ثلثاه ( بالهواء ) فيُشك في انّه حرام أو حلال وهو ممّا ( لم يرد فيه نهي ) بعد ذهاب ثلثيه بالهواء ( وورود النهي عن شربه قبل ذهاب الثلثين لا يوجب المنع ) أي : الحرمة ( عن بَعده ) أي : بعد ذهب ثلثيه .

هذا ( كما أنّ وروده ) أي : ورود النهي وتعميمه ( في مطلق العصير ) وكلّيه وذلك : ( باعتبار وروده في بعض أفراده ) كالنهي الوارد في العصير الذي غلا ولم يذهب ثلثاه ، فإن هذا ( لو كفى في الدخول ) أي : في إدخال مطلق العصير الذي هو من المغيّى المشمول لجملة : « كل شيء مطلق » وحلال ( فيما بعد الغاية ) أي : في جملة : « حتى يرد فيه نهي » وتحريم ، حتى يكون الآن حراما ، فانه لو كفى المنع عن ذلك الفرد في المنع عن مطلق العصير ( لدلّ على المنع عن كلّ كلّي ورد المنع عن بعض أفراده ) مع ان هذا ما لا يقول به أحد .

ص: 144

والفرق في الأفراد بين ما كانت تغيّرها بتبدّل الأحوال والزمان دون غيرها شططٌ من الكلام .

-------------------

والحاصل : ان العصير العنبي بعد ذهاب ثلثيه بالهواء فرد آخر غير الذي غلا ولم يذهب ثلثاه ، فلا يُسحب الحكم بالحرمة من الفرد السابق قبل ذهاب الثلثين ، إلى الفرد اللاحق بعد ذهاب الثلثين ، كما انه إذا نهي عن فرد من أفراد الكلي ، لا يتعدّى النهي من ذلك الفرد إلى كل أفراد الكلي ، لأنه من سحب الحكم من موضوع إلى موضوع آخر .

( و ) ان قلت : فرق بين فردين متغايرين بسبب تبدّل الأحوال والأزمان ، كما في مورد الاستصحاب ، فإن العصير قبل ذهاب ثلثيه ، والعصير بعد ذهاب ثلثيه فردان متغايران بسبب تبدّل الأحوال من ذهاب الثلثين وعدمه ، والأزمان قبل الذهاب وبعده ، وفيهما تكون الحرمة السابقة كافية في الحرمة اللاحقة ، وبين فردين متغايرين بأسباب اُخرى كفردين من كلي يحرم أحدهما ولا يحرم الآخر ، وفيهما لا يسحب الحكم من المحرّم إلى المحلل ، فقولكم : « لو كفى في الدخول فيما بعد الغاية لدلّ على المنع عن كلّ كلي ورد المنع عن بعض أفراده » لا يكون تاما .

قلت : ( الفرق في الأفراد بين ما كانت تغيّرها بتبدّل الأحوال والزمان ) كما في مورد الاستصحاب مثل تغاير العصير قبل ذهاب ثلثيه ، والعصير بعد ذهاب ثلثيه والقول بكفاية الحرمة السابقة فيه ( دون غيرها ) من الافراد التي يكون تغايرها بأسباب اُخرى غير تبدلّ الأحوال والأزمان ، مثل تغاير فردين من كلي يحرم أحدهما ولا يحرم الآخر والقول بعدم سحب الحكم من فرد إلى فرد ، فان هذا الفرق ( شططٌ من الكلام ) أي : بعيد عن الحق ولا يقول به فقيه ، لوضوح : انه

ص: 145

ولهذا لا إشكال في الرجوع إلى البراءة مع عدم القول باعتبار الاستصحاب .

ويتلوه في الضعف ما يقال : من أنّ النهي - الثابت بالاستصحاب - عن نقض اليقين ، نهيٌ وارد في دفع الرخصة .

-------------------

لا فرق في عدم انسحاب الحكم من فرد إلى فرد ، سواء كان تغاير الفردين بسبب تبدّل الأحوال والأزمان أم بغيره من الأسباب .

( ولهذا ) أي : لما ذكرناه : من عدم انسحاب الحكم من فرد إلى فرد سواء كانا متغايرين بتبدّل الأحوال والأزمان أم بغيرهما ( لا إشكال في الرجوع إلى البرائة ) في الفرد المتغيّر المشكوك ( مع عدم القول باعتبار الاستصحاب ) أي : مع انكاره ، فانّ المنكرين للاستصحاب يتمسّكون فيما نحن فيه من العصير المغلي الذي ذهب ثلثاه بالهواء بأصالة البرائة ، لا بدليل حرمة العصير إذا غلى ، وذلك لوضوح : ان العصير قبل ذهاب الثلثين فرد ، وبعد ذهاب الثلثين فرد آخر .

( ويتلوه في الضعف ) أي : يتلو ما ذكره المصنّف آنفا بقوله : « فقد يقال : ان مورد الاستصحاب خارج عنه » أي : عن « كل شيء مطلق » حيث كان خلاصته : ان النهي الأوّل مستمر إلى الزمان الثاني ، وخلاصة هذا القول : استصحاب النهي السابق والتعبد بالنهي في الزمان الثاني وهو ( ما يقال : من أنّ النهي - الثابت بالاستصحاب - عن نقض اليقين ، نهيٌ وارد في دفع الرخصة ) المستفادة من : « كل شيء مطلق » فمورد الاستصحاب وان لم يرد فيه نهي واقعي ، حيث لم يقل الشارع : لا تشرب العصير بعد إذهاب الهواء ثلثيه بالخصوص ، إلاّ انه ممّا ورد فيه

ص: 146

وجهُ الضعف : أنّ الظاهر من الرواية بيان الرخصة في الشيء الذي لم يرد فيه نهي من حيث عنوانه الخاص ، لا من حيث أنّه مشكوك الحكم ،

-------------------

النهي الظاهري بالعموم حيث قال الشارع : « لا تنقض اليقين بالشك » (1) والعصير الذي غلى ورد النهي فيه يقينا ، فإذا ذهب ثلثاه بالهواء نشك في خروجه عن النهي ودخوله في الرخصة « كل شيء مطلق » فاستصحاب النهي يدفع دخوله في الرخصة : « كل شيء مطلق » فلا مجال للبرائة فيه .

( وجهُ الضعف : أنّ الظاهر من الرواية ) : « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (2) ( بيان الرخصة في الشيء الذي لم يرد فيه نهي من حيث عنوانه الخاص ) أي : بما هو ، كالعصير الذي ذهب ثلثاه بالهواء فانه لم يرد فيه نهي بعنوانه الخاص ( لا ) انه لم يرد فيه نهي ( من حيث ) عنوانه العام أي : العصير بما ( أنّه مشكوك الحكم ) فالعصير المشكوك الحكم ، كالعصير الذي غلى وذهب ثلثاه لكن بالهواء ، ان جاء فيه نهي بعنوانه الخاص يعني : نهي واقعي بأن قال : لا تشرب العصير ان ذهب ثلثاه بالهواء ، دخل في المنهي عنه ، وإلاّ فمجيء النهي بعنوانه العام أي : نهي ظاهري بسبب الاستصحاب ، فانه لا يخرجه عن : « كل شيء مطلق » لأن ظاهر : « كل شيء مطلق » بيان الرخصة فيما لم ينه عنه بعنوانه الخاصّ ، فيكون مشمولاً للبرائة .

وعليه : فالنهي لا يشمل كلا العنوانين : النهي الخاص والعام أي : النهي الواقعي الحاصل من الدليل المعتبر كالخبر ، والنهي الظاهري الحاصل من الأصل العملي

ص: 147


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص166 ح60 و ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح 7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

وإلاّ فيمكن العكس ، بأن يقال : إنّ النهي عن النقض في مورد عدم ثبوت الرخصة بأصالة

-------------------

كالاستصحاب ، حتى يكون الاستصحاب واردا على « كل شيء مطلق » ( وإلاّ فيمكن العكس ) بأن يكون : « كل شيء مطلق » واردا على الاستصحاب ، وذلك بأن يشمل اليقين على خلاف الحالة السابقة كلا العنوانين أيضا : اليقين الخاص والعام أي : اليقين الواقعي الحاصل من : يجوز شرب العصير ان ذهب ثلثاه ولو بالهواء - على فرض وجوده - والظاهري الحاصل من : « كل شيء مطلق » فانه يقين ظاهري على خلاف الحالة السابقة للعصير المغلي الذي ذهب ثلثاه بالهواء ، فيخرجه من : « لا تنقض اليقين بالشك » ويدخله في : « بل انقضه بيقين آخر » (1) فيكون « كل شيء مطلق » واردا على الاستصحاب .

هذا ان لم نقل بالتعارض والتساقط فيها ، وذلك لأن العصير الذي ذهب ثلثاه بالهواء مشمول من جهةٍ للحرمة المستصحبة المتيقنة سابقا ، ومن جهةٍ للرخصة الظاهرة من « كل شيء مطلق » لأنه لم يرد فيه نهي خاص ، فيتعارضان ويتساقطان ويكون العصير مجرى للبرائة العقلية .

وكيف كان : فان من يقول : بأن « لا تنقض اليقين بالشك » محكّم في المقام فيقتضي الحرمة ، قيل له : « ان كل شيء مطلق » محكّم في المقام ممّا يوجب الحلية .

هذا ، وقد بيّن المصنّف العكس بقوله : ( بأن يقال : إنّ النهي عن النقض ) الذي هو مقتضى الاستصحاب إنّما يكون ( في مورد عدم ثبوت الرخصة ) في الشيء لكن العصير الذي ذهب ثلثاه بالهواء فانه قد ثبت فيه الرخصة ولو ( بأصالة

ص: 148


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

الاباحة ، فيختصّ الاستصحاب بما لا يجري فيه أصالة البراءة .

فالأولى في الجواب أن يقال : إنّ دليل الاستصحاب بمنزلة معمّم للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان اللاحق .

فقوله : « لا تنقض اليقين بالشك » يدلّ على أنّ النهي الوارد لابدّ من ابقائه ، وفرض عمومه للزمان اللاحق ، وفرض الشيء في الزمان اللاحق مّما ورد فيه النهي أيضا .

-------------------

الاباحة ) التي هي مفاد « كل شيء مطلق » فيكون واردا على الاستصحاب ، وحينئذ ( فيختصّ الاستصحاب بما لا يجري فيه أصالة البرائة ) التي هي مفاد « كل شيء مطلق » .

وعليه : فحين سقط الجوابان السابقان اللذان ذكرهما المصنِّف بقوله : « فقد يقال : أنّ مورد الاستصحاب خارج عنه » وبقوله : « ويتلوه في الضعف » ( فالأولى في الجواب ) الموجب للقول بحرمة العصير بعد ذهاب ثلثيه بالهواء ( أن يقال : ) بالحكومة لا بالورود ، وهو : ( إنّ دليل الاستصحاب بمنزلة معمّم للنهي السابق ) أي : قبل ذهاب الثلثين في المثال تعميما ( بالنسبة إلى الزمان اللاحق ) أي : بعد ذهاب الثلثين بالهواء ، فالعصير بعد غليانه وقبل ذهاب ثلثيه بالهواء كان محرّما ، والآن بعد الذهاب بالهواء يقول الاستصحاب ببقاء هذا التحريم .

وكيف كان : ( فقوله : « لا تنقض اليقين بالشك » يدلّ على أنّ النهي الوارد ) سابقا عن شرب العصير المغلي قبل ذهاب ثلثيه ( لابدّ من ابقائه ) أي : ابقاء ذلك النهي ( و ) كذا لابدّ من ( فرض عمومه ) أي : عموم النهي السابق قبل ذهاب الثلثين ( للزمان اللاحق ، و ) هو بعد ذهاب الثلثين بالهواء ، بمعنى : ( فرض الشيء في الزمان اللاحق مّما ورد فيه النهي أيضا ) لأنّ ذلك النهي عام شامل

ص: 149

فمجموع الرواية المذكورة ودليل الاستصحاب بمنزلة أن يقول : « كلُّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » ، وكلّ نهي ورد في شيء ، فلابدّ من تعميمه لجميع أزمنة احتماله ، فيكون الرخصة في الشيء واطلاقه مغيّى بورود النهي ، المحكوم عليه بالدوام وعموم الأزمان ، فكان مفاد الاستصحاب : نفي ما يقتضيه الأصل الآخر في مورد الشك لولا النهي ،

-------------------

للزمان اللاحق .

إذن : ( فمجموع الرواية المذكورة ) الدالة على الرخصة : « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (1) ( ودليل الاستصحاب ) : « لا تنقض اليقين بالشك » منضما أحدهما إلى الآخر يكونان ( بمنزلة أن يقول : « كلُّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » ) هذا من جهة الرواية ( وكلّ نهي ورد في شيء ، فلابدّ من تعميمه لجميع أزمنة احتماله ) أي : احتمال النهي وابقائه إلى الزمان الثاني ، وهذا من جهة دليل الاستصحاب ( فيكون الرخصة في الشيء واطلاقه ) أي : « كل شيء مطلق » و « كل شيء مرخّص فيه » ( مغيّى بورود النهي ، المحكوم عليه بالدوام ) لأن النهي بمقتضى الاستصحاب دائم إلى الحالة الثانية ( و ) ب ( عموم الأزمان ) الشامل للزمان الثاني أيضا .

وعليه : ( فكان مفاد الاستصحاب : نفي ما يقتضيه الأصل الآخر ) الذي هو البرائة ( في مورد الشك ) أي : بعد ذهاب ثلثيه بالهواء فيما نحن فيه ( لولا النهي ) أي : انه لولا النهي كان اللازم الأخذ بالأصل الآخر الذي هو البرائة ، لكن لما ورد النهي واستصحبناه إلى الحالة الثانية ، كان اللازم أن نقول بالتحريم ،

ص: 150


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص166 ح60 و ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

وهذا معنى الحكومة ، كما سيجيء في باب التعارض .

ولا فرق فيما ذكرنا بين الشبهة الحكميّة والموضوعية ، بل الآمرُ في الشبهة الموضوعية أوضح ، لأنّ الاستصحاب الجاري فيها جار في الموضوع ، فيدخل في الموضوع المعلوم الحرمة .

مثلاً : استصحاب عدم ذهاب ثلثي العصير عند الشك في بقاء حرمته لأجل

-------------------

فإنّ استصحاب الحرمة يفيد : أن هذا الشك ليس بشك ، وان قوله : « كل شيء مطلق » لا يعم هذا المورد ، فيكون الاستصحاب حاكما على البرائة ( وهذا ) هو ( معنى الحكومة ، كما سيجيء في باب التعارض ) إن شاء اللّه تعالى : من ان الحكومة هي : كون دليل موسّعا لدليل أو مضيّقا له .

هذا ( ولا فرق فيما ذكرنا ) من حكومة الاستصحاب ( بين الشبهة الحكميّة ) كما تقدَّم في مثال : الشكّ في حصول الطهارة والحلية بذهاب الثلثين بالهواء ، أو البقاء على الحرمة والنجاسة ( و ) بين الشبهة ( الموضوعية ) كما إذا شككنا في ذهاب الثلثين وعدم ذهابهما ، وذلك فيما إذا كان الموضوع العرفي باقيا ، فانه يستصحب عدم ذهاب الثلثين .

( بل الآمرُ ) أي : الحكومة ( في الشبهة الموضوعية أوضح ) من الشبهة الحكمية ( لأنّ الاستصحاب الجاري فيها ) أي : في الشبهة الموضوعية ( جار في الموضوع ) فيستصحب بقاء الموضوع السابق ( فيدخل في الموضوع المعلوم الحرمة ) وإذا دخل فيه ، فلا يبقى شك في الحكم حتى يقال : بجريان أصل الحل أو أصل البرائة .

( مثلاً : استصحاب عدم ذهاب ثلثي العصير عند الشك في بقاء حرمته لأجل

ص: 151

الشك في الذهاب ، يدخله في العصير قبل ذهاب ثلثيه المعلوم حرمتُه بالأدلة ، فيخرج عن قوله « كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام » .

نعم ، هنا إشكالٌ في بعض أخبار أصالة البراءة في الشبهة الموضوعية ،

-------------------

الشك في الذهاب ) أي : في ذهاب الثلثين ( يدخله ) أي يدخل هذا العصير المشكوك ( في العصير قبل ذهاب ثلثيه المعلوم حرمته ) أي : حرمة هذا العصير ( بالأدلة ) الدالة على ان كل عصير غلى ولم يذهب ثلثاه فهو حرام ( فيخرج عن قوله ) عليه السلام : ( « كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام » (1) ) الدال على البرائة ، لوضوح : ان جريان الأصل في الموضوع حاكم على جريان الأصل في الحكم ، فيُقدّم الأصل السببي على الأصل المسبّبي ، كما ألمعنا إليه سابقا .

( نعم ، هنا ) في حكومة الاستصحاب الموضوعي السببي على الأصل الحكمي المسبّبي ( إشكالٌ في بعض أخبار أصالة البرائة في الشبهة الموضوعية ) والاشكال هو ان الظاهر : كون الحلّية في الأمثلة المذكورة في هذا البعض من أخبار البرائة مستندة إلى الكلية المذكورة في صدرها ، وهي : « كل شيء حلال حتى تعلم انه حرام » مع ان هذه الأمثلة معارضة باستصحاب الحرمة فيها ، ممّا يظهر من الرواية حكومة البرائة على الاستصحاب في الشبهة الموضوعية ، لا حكومة الاستصحاب على البرائة ، لكن بعض العلماء حاول حلّ الاشكال المذكور ودفعه عن ظاهر الموثقة بجعل الأمثلة المذكورة في الرواية لمجرد الحلية المستندة إلى غير الكلية المذكورة ، كالاستناد إلى أصالة الصحة في الشراء

ص: 152


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ج22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

وهو قوله عليه السلام من الموثّقة : « كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعَهُ من قِبل نفسك ، وذلك مثل الثوب عليك ، ولعلّه سرقةٌ ، والمملوك عندك ، ولعلّه حرٌّ قد باع نفسه أو قُهِرَ فبِيع أو خُدِعَ فبِيع ، أو إمرأة تحتَك وهي أختُك أو رضيعتُك ، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غيره أو يقومَ به البيّنة » .

-------------------

من ذي اليد ، وعدم تحقّق النسب والرضاع في المرأة وغير ذلك .

( و ) هذا البعض من الأخبار ( هو قوله عليه السلام من الموثّقة : « كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب عليك ، ولعلّه سرقةٌ ) قد باعه السارق أو أهداه إليك وأنت لا تعلم انه سرقة ( والمملوك عندك ، ولعلّه حرٌّ قد باع نفسه ) حيث كان المسيحيون يبيعون أنفسهم ويهدون أثمانهم لدينهم ، وكذلك كان يفعل بعض الفقراء ، حيث كانوا يبيعون أنفسهم حتى يستريحوا عن كدّ المعاش ويكون معاشهم على مواليهم ( أو قُهِرَ فبِيع ) أي : هدّده الغاصبون بالقتل إذا لم يعترف بأنه عبد ثم باعوه ( أو خُدِعَ فبِيع ) وذلك بأن أوقعوا في ذهنه انه عبد فتصور صحة كونه عبدا ( أو إمرأة تحتَك وهي أختُك ) من النسب ( أو رضيعتُك ) أو أم زوجتك أو ما أشبه ذلك .

ثم أعطى عليه السلام قاعدة كلية فقال : ( والأشياء كلّها على هذا ) أي : على الحلية ( حتى يستبين لك غيره ) أي : غير الحلّ بسبب العلم والاطمينان وما أشبه ذلك ( أو يقومَ به البيّنة » (1) ) الشرعية كشاهدين عادلين - مثلاً - على غير ذلك .

ص: 153


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

فانّه قد استدلّ بها جماعة - كالعلامة في التذكرة ، وغيره - على أصالة الاباحة ، مع أن أصالة الاباحة هنا معارضةٌ باستصحاب حرمة التصرّف في الأشياء المذكورة في الرواية ، كأصالة عدم التملّك في الثوب ، والحريّة في المملوك ، وعدم تأثير العقد في الامرأة .

ولو اُريد من الحلّية في الرواية ما يترتّب على أصالة الصحة في شراء الثوب والمملوك ، وأصالة عدم تحقّق النسب والرضاع في المرأة

-------------------

وكيف كان : ( فانّه قد استدلّ بها ) أي : بهذه الرواية ( جماعة - كالعلامة في التذكرة ، وغيره - على أصالة الاباحة ، مع أن أصالة الاباحة ) التي هي أصل حكمي مسبّبي ( هنا ) في الأمثلة المذكورة ( معارضةٌ باستصحاب ) موضوعي سببي وهو استصحاب موضوع ( حرمة التصرّف في الأشياء المذكورة في الرواية ) وذلك ( كأصالة عدم التملّك في الثوب ، و ) أصالة ( الحريّة في المملوك ، و ) أصالة ( عدم تأثير العقد في الامرأة ) .

هذا ان أريد بأصل الحلّ البرائة ( ولو اُريد من الحلّية في الرواية ما ) ما ذكرناه :

من الحل الذي ( يترتّب على أصالة الصحة في شراء الثوب ) وقد تقدّم سابقا : ان أصالة الصحة مقدّمة على الاستصحاب ( و ) كذا أصالة الصحة في شراء ( المملوك ، وأصالة عدم تحقّق النسب والرضاع في المرأة ) التي هي زوجته ، وذلك بمعنى : انه لم يحكم بحلّية هذه الأشياء لأصل البرائة ، بل لاُصولٍ موضوعيّة اُخرى حاكمة على الاستصحاب الموضوعي الجاري في هذه الأمثلة ، فان الاستصحابين إذا تعارضا فقد يحكّم بعضهما على بعض ، وذلك كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى .

ص: 154

كان خروجا عن الاباحة الثابتة بأصالة الاباحة ، كما هو ظاهر الرواية .

وقد ذكرنا في مسألة أصالة البراءة بعض الكلام في هذه الرواية ، فراجع ، واللّه الهادي ، هذا كلّه قاعدة البراءة .

وأمّا استصحابها ،

-------------------

وعليه : فانه وان كان الحكم لذلك صحيحا ، لكنه ( كان خروجا عن الاباحة الثابتة بأصالة الاباحة ، كما هو ظاهر الرواية ) فان الاباحة الثابتة بالاُصول الموضوعية ، كأصالة الصحة ، وأصالة عدم تحقّق النسب والرضاع ، غير الاباحة الثابتة بأصالة الاباحة ، بينما ظاهر الرواية هو : ان الإمام استند إلى أصالة الاباحة ، لأنه قال عليه السلام في صدر هذه الرواية : « كل شيء حلال حتى تعلم انه حرام » وقال في ذيلها : « والأشياء كلها على هذا حتى تستبين أو تقوم به البينة » فيلزم من الرواية : امّا حكومة البرائة على الاستصحاب ، وامّا عدم انطباق الأمثلة على الكلية التي ذكرها الإمام عليه السلام ، وكلاهما خلاف الموازين الأوّلية .

هذا ( وقد ذكرنا في مسألة أصالة البرائة بعض الكلام في هذه الرواية ، فراجع ) هناك حتى يتبيّن لك امكان عدم الالتزام بأحد المحذورين ( واللّه الهادي ) إلى سواء السبيل .

كان ( هذا كلّه ) حال ( قاعدة البرائة ) المختصة بالشك في التكليف فيما لو تعارضت مع الاستصحاب ، وقد عرفت : حكومة الاستصحاب عليها .

( وأمّا استصحابها ) أي : استصحاب البرائة - المختص بالشك في بقاء البرائة الثابتة سابقا - على فرض جريانه في البرائة ، فانّا قد قلنا سابقا : ان استصحاب البرائة لا يجري بعد كون الأثر للشك لا للمشكوك ، كما إذا استصحبنا البرائة السابقة حال الصغر أو حال الجنون أو ما أشبه ، وذلك بأن نقول : إنّ التتن

ص: 155

فهو لا يجامع استصحاب التكليف ، لأن الحالة السابقة إمّا وجود التكليف أو عدمه إلاّ على ما عرفت سابقا من ذهاب بعض المعاصرين إلى امكان تعارض استصحابي : الوجود والعدم في موضوع واحد ، وتمثيله لذلك بمثل : « صم يوم الخميس » .

-------------------

حال الصغر وحال الجنون كان جلالاً ، لرفع القلم حالهما ، فإذا شككنا في حرمته بعد البلوغ والافاقة نستصحب حلّيته .

وكيف كان : فانه على فرض جريانه ( فهو لا يجامع استصحاب التكليف ) إذ ليس هناك مورد يتعارض فيه استصحاب التكليف مع استصحاب البرائة حتى يبحث عن تقدّم هذا على ذاك ، أو ذاك على هذا .

وإنّما لا يجامع استصحاب البرائة استصحاب التكليف ( لأن الحالة السابقة إمّا وجود التكليف ) كما تقدَّم من مثال الشك في حصول الحلّية بذهاب الثلثين بالهواء ، فإنّه يستصحب الحرمة ، لا البرائة ( أو عدمه ) أي : عدم وجود التكليف سابقا ، كالشك في حرمة التتن مع عدم التكليف ، فانه على كلا التقديرين لا اجتماع للاستصحابين .

إذن : فاستصحاب البرائة لا يجتمع مع استصحاب التكليف حتى يتعارضان ( إلاّ على ما عرفت سابقا من ذهاب بعض المعاصرين ) وهو النراقي ( إلى امكان تعارض استصحابي : الوجود والعدم في موضوع واحد ، وتمثيله لذلك بمثل : « صم يوم الخميس » ) فان في يوم الجمعة استصحابين : استصحاب وجوب الصوم المتصل بيوم الخميس ، واستصحاب عدم وجوب الصوم الذي كان قبل يوم الخميس ، لكنّا ذكرنا سابقا : عدم صحة مثل هذا الاستصحاب وقلنا :

ص: 156

الثاني : تعارض قاعدة الاشتغال مع الاستصحاب

ولا اشكال بعد التأمّل في ورود الاستصحاب عليها ، لأنّ المأخوذ في موردها بحكم العقل الشك في براءة الذمّة بدون الاحتياط .

فإذا قطع بها بحكم الاستصحاب ، فلا مورد للقاعدة ،

-------------------

ان الزمان لو كان مفرّدا كان الحكم بعد يوم الخميس عدم الوجوب ، وان كان الزمان ظرفا كان الحكم بعد يوم الخميس الوجوب ، لما كان في يوم الخميس من الصوم في المثال المذكور .

( الثاني : تعارض قاعدة الاشتغال مع الاستصحاب ) كما إذا سافر إلى محل يشك في انه هل هو ثمانية فراسخ أم لا؟ فان الاستصحاب يقول بعدم كونه ثمانية فراسخ فيجب عليه التمام ، والاشتغال يقول بانه مكلّف باحدى صلاتين : القصر أو التمام ولا يعلم أيّهما فيجب عليه الجمع بينهما ، فيتعارض الاستصحاب مع الاشتغال .

هذا ( ولا اشكال بعد التأمّل في ) هذين القاعدتين من ( ورود الاستصحاب عليها ) أي : على قاعدة الاشتغال ، وذلك ( لأنّ المأخوذ في موردها ) أي : في مورد قاعدة الاشتغال ( بحكم العقل ) هو ( الشك في برائة الذمّة بدون الاحتياط ) أي : انه إذا لم يحتط لم يقطع ببرائة ذمته ، فيحتاط بالجمع كما في المثال لإبراء ذمته عن التكليف الموجّه إليه ( فإذا قطع بها ) أي : بالبرائة ( بحكم الاستصحاب ) حيث يستصحب وجوب التمام ، أو يستصحب عدم الوصول إلى ثمانية فراسخ ( فلا مورد للقاعدة ) أي : لقاعدة الاشتغال ، فلا تعارض .

ص: 157

كما لو أجرينا استصحاب وجوب التمام أو القصر في بعض الموارد التي يقتضي الاحتياط : الجمعَ فيها بين القصر والتمام ، فانّ استصحاب وجوب أحدهما وعدم وجوب الآخر مبرءٌ قطعيٌ لذمّة المكلّف عند الاقتصار على مستصحب الوجود ، هذا حال القاعدة .

وأمّا استصحاب الاشتغال في مورد القاعدة

-------------------

وأمّا مثاله : فهو ( كما لو أجرينا استصحاب وجوب التمام أو القصر في بعض الموارد ، التي يقتضي الاحتياط : الجمعَ فيها ) أي : في تلك الموارد ( بين القصر والتمام ) كالمثال الذي ذكرناه آنفا ( فانّ استصحاب وجوب أحدهما ) كالتمام في مثالنا ( وعدم وجوب الآخر ) كالقصر ، لأنه لم يكن سابقا يجب عليه القصر ، فإذا شك في انه وجب عليه القصر أم لا؟ استصحب عدم وجوب القصر ( مبرءٌ قطعيٌ لذمة المكلّف عند الاقتصار على ) امتثال ( مستصحب الوجود ) أي : الذي كان سابقا موجودا موضوعا أو حكما .

نعم ، إذا كان استصحاب الموضوع ممكنا لا تصل النوبة إلى استصحاب الحكم ، لأنهما من قبيل الاستصحاب السببي والمسبّبي ، وقد سبق ان قلنا : انه ما دام يجري الاستصحاب السببي لا مجال للاستصحاب المسبّبي .

( هذا حال القاعدة ) أي : قاعدة الاشتغال مع الاستصحاب .

( وأمّا استصحاب الاشتغال في مورد القاعدة ) أي : في مورد قاعدة الاشتغال ، فقد ذكرنا : انه لا فائدة فيه ، لأنه تحصيل للحاصل ، إذ مورد جريان قاعدة الاشتغال هو : الشك في المكلّف به ، كما في مثال القصر والتمام ، فانه قبل الاتيان بأحدهما، وكذا بعد الاتيان بأحدهما ، مجرى لقاعدة الاشتغال ، ومع جريان قاعدة الاشتغال نستغني عن استصحاب الاشتغال .

ص: 158

على تقدير الاغماض عمّا ذكرنا سابقا : من أنّه غير مجدٍ في مورد القاعدة لاثبات ما يثبته القاعدة ، فسيأتي حكمها في تعارض الاستصحابين .

وحاصله : أنّ الاستصحاب الوارد على قاعدة الاشتغال حاكمٌ على استصحابه .

-------------------

لكن ( على تقدير الاغماض عمّا ذكرنا سابقا : من أنّه ) أي : استصحاب الاشتغال ( غير مجدٍ ) أي : غير مفيد ( في مورد القاعدة ) وإنّما لم يكن مفيدا في موردٍ تجري فيه قاعدة الاشتغال ( لاثبات ما يثبته القاعدة ) أي : لأن استصحاب الاشتغال لا يثبت شيئا سوى ما تثبته قاعدة الاشتغال ، فيكون مع جريانها مستغنىً عن جريانه ، لأنه تحصيل للحاصل .

وكيف كان : فإنّه على تقدير وجود فائدة لاستصحاب الاشتغال في مورد جريان قاعدة الاشتغال ، والاغماض عما ذكرناه سابقا من عدم الفائدة فيه ( فسيأتي حكمها في تعارض الاستصحابين ) عن قريب إن شاء اللّه تعالى .

( وحاصله : انّ الاستصحاب الوارد على قاعدة الاشتغال ) قبل أن يأتي المكلّف بأحد المحتملين كالتمام في المثال ( حاكمٌ على استصحابه ) أي : استصحاب الاشتغال بعد أن يأتي بأحدهما ، وذلك لوضوح ان الشك في بقاء الاشتغال مسبّب عن الشك في كون المكلّف به هو ما أتى به من التمام أو غيره من القصر في المثال ، فإذا جرى الأصل في الشك السببي وقال : انّ التكليف هو التمام للاستصحاب ، لم يبق مجال لاستصحاب الاشتغال حتى يعارض استصحاب التمام .

ص: 159

الثالث : التخيير

ولا يخفى ورود الاستصحاب عليه ، إذ لا يبقى معه التحيّر الموجب للتخيير ، فلا يحكم بالتخيير بين الصوم والافطار في اليوم المحتمل كونه من شوال مع استصحاب عدم الهلال .

-------------------

( الثالث ) : تعارض الاستصحاب مع ( التخيير ) كما إذا تردّد اليوم الثلاثون من شهر رمضان بين انه آخر شهر رمضان حتى يجب صومه ، أو أول شهر شوال حتى يحرم صومه ، فإنّه لا تعارض هنا بين الاستصحاب والتخيير ، لأنا إذا استصحبنا بقاء شهر رمضان ، كان الحكم : وجوب صيامه ، فلا تخيير في البين حتى يتعارض التخيير مع الاستصحاب ، وذلك لورود الاستصحاب على التخيير كما قال : ( ولا يخفى ورود الاستصحاب عليه ) أي : على التخيير .

وإنّما يكون واردا عليه ( إذ ) باستصحاب وجوب الصوم ، أو استصحاب كونه من شهر رمضان ( لا يبقى معه التحيّر الموجب للتخيير ) فان التخيير حكم المتحيّر ، ومع قول الشارع : « لا تنقض اليقين بالشك » (1) لا يبقى تحيّر .

وعليه : ( فلا يحكم بالتخيير بين الصوم والافطار في اليوم المحتمل كونه من شوال ) أي : في اليوم الثلاثين من شهر رمضان ، المحتمل لأن يكون أول شوال فيحرم صومه ، أو آخر شهر رمضان فيجب صومه ، فانه لا يحكم فيه بالتخيير ( مع استصحاب عدم الهلال ) فانه كان سابقا شهر رمضان ، ولم نعلم بانه هل دخل شهر شوال أو لم يدخل ؟ فنستصحب بقاء شهر رمضان فيجب صومه .

ص: 160


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

ولذا فرّع الإمام عليه السلام قوله : « صُم للرؤية وافطِر للرؤية » على قوله : «اليقين لا يدخله الشك » .

وأمّا الكلام في تعارض الاستصحابين

وهي المسألة المهمة في باب تعارض الاُصول ، التي اختلف فيها كلمات العلماء في الاُصول والفروع ، كما يظهر بالتتبّع .

فاعلم : أنّ الاستصحابين المتعارضين ينقسمان إلى أقسام كثيرة ،

-------------------

( ولذا ) أي : لورود الاستصحاب على التخيير ( فرّع الإمام عليه السلام قوله ) في جواب السائل عن حكم الشك : ( « صُم للرؤية وافطِر للرؤية » على قوله : « اليقين لا يدخله الشك » ) فان الرواية تقول : « اليقين لا يدخله الشك ، صم للرؤية وافطر للرؤية » (1) فالجملة الاولى منها تمهيد لقاعدة الاستصحاب والجملة الثانية تفريع عليها ، وهو انه إذا شك وكان في الثلاثين من شهر شعبان فليستصحب شعبان ، وإذا كان في الثلاثين من شهر رمضان فليستصحب شهر رمضان ، فالاستصحاب مقدّم على التخيير وان تردّد الأمر بادي النظر بين المحذورين .

( وأمّا الكلام في تعارض الاستصحابين ، وهي المسألة المهمة في باب تعارض الاُصول ، التي اختلف فيها كلمات العلماء في الاُصول والفروع ، كما يظهر بالتتبّع ) في كلماتهم ، حيث انهم تارة قدّموا هذا الاستصحاب ، وتارة قدّموا الاستصحاب الثاني عليه ، ممّا أوقعهم في التدافع بين كلامهم .

وكيف كان : ( فاعلم : أنّ الاستصحابين المتعارضين ينقسمان إلى أقسام كثيرة ،

ص: 161


1- - تهذيب الاحكام : ج4 ص159 ب1 ح17 ، الاستبصار : ج2 ص64 ب33 ح12 ، وسائل الشيعة : ج10 ص256 ب3 ح13351 .

من حيث كونهما موضوعيّين أو حكميّين أو مختلفين وجوديّين أو عدميّين أو مختلفين ، وكونهما في موضوع واحد أو موضوعين ،

-------------------

من حيث كونهما موضوعيّين ) كاستصحاب عدم موت زيد إلى حين موت عمرو ، واستصحاب عدم موت عمرو إلى حين موت زيد ، فيما إذا اشتبه تقدّم موت أحدهما على الآخر ( أو حكميّين ) كاستصحاب نجاسة الثوب المغسول فيما كان نجسا سابقا ، وبقاء طهارة الماء المغسول به فيما كان طاهرا سابقا ، لأنه كان كرا مثلاً ، فيشك الآن في كريّته ، فان الاستصحابين متعارضان في الظاهر ، لكن التعارض بينهما فيما نحن فيه ليس حقيقة التقابل ، ممّا يُتحيّر في انه هل يؤخذ بهذا أو بذاك ؟ بل مجرّد التقابل الصوري البدوي ولو بأن كان أحدهما سببيا والآخر مسبّبيا أو ما أشبه ذلك .

( أو مختلفين وجوديّين ) كاستصحاب كريّة الماء فيما كان كرّا سابقا ، واستصحاب نجاسة الثوب الواقع فيه فيما كان نجسا سابقا ، فان كرّية الماء من استصحاب الموضوع ونجاسة الثوب من استصحاب الحكم ، وهما وجوديّان ( أو عدميّين ) كاستصحاب عدم حصول ملاقاة النجاسة مع الماء إلى زمان الكرّية، واستصحاب عدم الكرّية إلى زمان الملاقاة .

( أو مختلفين ) كاستصحاب عدم التذكية عدما ، واستصحاب طهارة الجلد المطروح في الصحراء الثابتة حال الحياة وجودا .

( وكونهما في موضوع واحد ) كما تقدّم من كلام النراقي في مثال : « صم يوم الخميس » حيث استصحاب وجوب الصوم المتصل بيوم الخميس ، واستصحاب عدم وجوب الصوم الذي كان قبل يوم الخميس .

( أو ) في ( موضوعين ) كاستصحاب كرّية الماء ، واستصحاب نجاسة الثوب

ص: 162

وكون تعارضهما بأنفسهما أو بواسطة أمر خارج ، إلى غير ذلك .

إلاّ أنّ الظاهر : إنّ اختلاف هذه الأقسام لا يؤثّر في حكم المتعارضين إلاّ من جهة واحدة ، وهي أنّ الشك في أحد الاستصحابين إمّا أن يكون مسبّبا عن الشك في الآخر من غير عكس ، وإمّا أن يكون الشك فيهما مسبّبا عن ثالث ،

-------------------

الواقع فيه - مثلاً - .

( وكون تعارضهما بأنفسهما ) أي : لا بأمر خارج عنهما - على ما يأتي مثال الخارج - وذلك كجملة من الأمثلة السابقة .

( أو بواسطة أمر خارج ) عنهما كحصول العلم الاجمالي - بعد التوضّؤ بماء مشتبه بالنجس - بارتفاع أحد أمرين : إمّا ارتفاع الحدث ، أو ارتفاع طهارة البدن ، فان استصحاب طهارة البدن يعارضه استصحاب الحدث .

( إلى غير ذلك ) من التقسيمات ، مثل وجود المرجّح لأحد الاستصحابين ، وعدم وجود المرجّح للآخر ، ونحو ذلك .

( إلاّ أنّ الظاهر : إنّ اختلاف هذه الأقسام لا يؤثّر في حكم المتعارضين إلاّ من جهة واحدة ، وهي ) أي : تلك الجهة ( أنّ الشك في أحد الاستصحابين إمّا أن يكون مسبّبا عن الشك في الآخر من غير عكس ) أي : بأن لا يكون الآخر مسبّبا عنه ، لأنّ ذلك محال كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى ، فإنّ السببية والمسبّبية لا يمكن التقابل فيهما ، بل إذا كانت هناك سببية ومسبّبية كان أحدهما سببا والآخر مسبّبا .

( وإمّا أن يكون الشك فيهما مسبّبا عن ثالث ) كاستصحاب عدم حصول الكرية إلى زمان ملاقاة النجاسة مع الماء ، واستصحاب عدم حصول الملاقاة إلى زمان الكرية .

ص: 163

وأمّا كون الشك في كلّ منهما مسبّبا عن الشك في الآخر ، فغير معقول .

وما تُوهّم له : « من التمثيل بالعامّين من وجه وأنّ الشك في أصالة العموم في كلّ منهما مسبّب عن الشّك في أصالة العموم في الآخر مندفعٌ : بأنّ الشّك في الأصلين مسبّب عن العلم الاجمالي بتخصيص أحدهما .

وكيف كان : فالاستصحابان المتعارضان على قسمين :

-------------------

هذا ( وأمّا كون الشك في كلّ منهما مسبّبا عن الشك في الآخر ، فغير معقول ) لوضوح : ان السبب لشيء لا يكون مسبّبا عن نفس ذلك الشيء ، إذ لا يُعقل ان يكون هناك شيئان كل واحد منهما سببا للآخر ومسبّبا عنه .

( وما تُوهّم له : « من التمثيل بالعامّين من وجه ) كما إذا قال المولى : اكرم العلماء ، وقال : لا تكرم الفساق ، الذي يبدو انهما متعارضان في مادّة الاجتماع وهو : العالم الفاسق ، فان أحد العامين في مادة الاجتماع هذه إمّا أن يخصّص بالآخر لمرجّح ، أو يكون له حكم ثالث كالتخيير - مثلاً - ( و ) ذلك لاحتمال السببي والمسبّبي في كل واحد منهما بالنسبة إلى الآخر يعني : ( أنّ الشك في أصالة العموم في كلّ منهما مسبّب عن الشك في أصالة العموم في الآخر » ) وبعبارة اُخرى : ان الشك في بقاء عموم كل منهما مسبّب عن الشك في بقاء عموم الآخر .

وعلى كل حال : فإنّ هذا التوهّم ( مندفعٌ : بأنّ الشك في الأصلين مسبّب عن ) شيء ثالث وهو : ( العلم الاجمالي بتخصيص أحدهما ) بالآخر في مادة الاجتماع، ولذا فان كان مرجّح خصّصنا به أحدهما ، وإلاّ فالتخيير بينهما وهو حكم ثالث ، لا أنّ كل واحد منهما سبب للآخر ومسبّب عنه .

( وكيف كان : فالاستصحابان المتعارضان على قسمين ) كالتالي :

ص: 164

القسم الأوّل :

ما إذا كان الشك في أحدهما مسبّبا عن الشك في الآخر ، فاللازم تقديم الشك السببي واجراء الاستصحاب فيه ورفع اليد عن الحالة السابقة للمستصحب الآخر ، مثاله : استصحاب طهارة الماء المغسول به ثوب نجس ، فانّ الشك في بقاء نجاسة الثوب وارتفاعها مسبّبٌ عن الشك في بقاء طهارة الماء وارتفاعها ، فيُستصحَب طهارتُه ويُحكم بارتفاع نجاسة الثوب ، خلافا لجماعة .

-------------------

( القسم الأوّل : ما إذا كان الشك في أحدهما مسبّبا عن الشك في الآخر ) كالشك في بقاء نجاسة الثوب وارتفاع النجاسة ، المسبّب هذا الشك عن الشك في بقاء طهارة الماء المسبوق بالكرية وارتفاعها ( فاللازم تقديم الشك السببي واجراء الاستصحاب فيه ) أي : في الشك السببي ( ورفع اليد عن الحالة السابقة للمستصحب الآخر ) الذي هو الشك المسبّبي .

( مثاله : استصحاب طهارة الماء المغسول به ثوب نجس ) فيما إذا كان هناك ماء مسبوق بالكرّية ، ثم أُخذ منه مقدار يشك معه بقاء كرّيته ، ثم غُسل فيه ثوب نجس ، فشككنا بعده في انه هل طهر هذا الثوب أم لا؟ وهل تنجس ذلك الماء أم لا ؟ ( فانّ الشك في بقاء نجاسة الثوب وارتفاعها ) أي : ارتفاع نجاسة الثوب ( مسبّبٌ عن الشك في بقاء طهارة الماء ) المسبوق بالكرية ( وارتفاعها ) أي : ارتفاع طهارة الماء ( فيُستصحَب طهارتُه ) أي : طهارة الماء ، لأنه سببي ( ويُحكم بارتفاع نجاسة الثوب ) لأنه مسبّبي ، ومعه لا يبقى مجال لاجراء استصحاب النجاسة ، وذلك ( خلافا لجماعة ) من الفقهاء ، حيث قالوا بالتعارض بين الاستصحابين المذكورين .

ص: 165

لوجوه :

أحدها : الاجماع على ذلك في موارد لا تحصى ، فانّه لا يحتمل الخلاف في تقديم الاستصحاب في الملزومات الشرعية - كالطهارة من الحدث والخبث ، وكرّية الماء وإطلاقه ، وحياة المفقود ،

-------------------

وإنّما قلنا بلزوم تقديم الاستصحاب السببي على المسبّبي ( لوجوه ) أربعة ، كما في كلام المصنِّف ، علما بأن المصنِّف أيّد الوجه الأوّل بأمرين آخرين إضافة إلى الوجوه الأربعة ، وهما : السيرة وبناء العقلاء ، والوجوه الأربعة هي كما يلي :

( أحدها : ) أي : الوجه الأوّل من وجوه تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي هو : ( الاجماع على ) تقديم السببي على المسبّبي ، و ( ذلك في موارد لا تحصى ) من الفقه ( فانّه لا يحتمل الخلاف ) من أحد من الفقهاء ( في تقديم الاستصحاب في الملزومات الشرعية ) دون الاستصحاب في لوازمها والمصنّف يُشير إلى بعض من أمثلته :

( كالطهارة من الحدث والخبث ) فان الانسان إذا كان طاهرا من الحدث والخبث وشرع في الصلاة ، ثم شك في انه هل بقي على طهارته أم لا؟ فانه يستصحب الملزوم وهو هنا الطهارة ويحكم بصحة الصلاة ، ولا يستصحب اللازم وهو هنا عدم صحة الصلاة .

( وكرّية الماء واطلاقه ) فانه إذا شك في بقائهما يُستصحبان لأنهما ملزومان ، فيُحكم بطهارة الثوب النجس المغسول بهذا الماء ، ولا يستصحب نجاسة الثوب لأنه لازم .

( وحياة المفقود ) فيما إذا مات أبوه - مثلاً - وهو غائب ، فلم نعلم هل انه موجود حتى يرث من مورّثه الذي مات ، أو انه ميت حتى لا يرث منه ؟

ص: 166

وبراءة الذمّة من الحقوق المزاحمة للحج ونحو ذلك - على استصحاب عدم لوازمها الشرعيّة ، كما لا يخفى على الفطن المتتبّع .

نعم ، بعض العلماء في بعض المقامات يُعارِضُ أحدَهما بالآخر ، كما سيجيء ، ويؤيده السيرةُ المستمرّةُ بين الناس على ذلك

-------------------

فنستصحب الملزوم وهو هنا حياة المفقود ، فيرث من مورّثه ، ولا نستصحب اللازم وهو هنا عدم انتقال شيء من المال إليه .

( وبرائة الذمّة من الحقوق المزاحمة للحج ) فانه إذا شك من اشتغال ذمته بدين لا يتمكن مع هذا الدين من الحج لعدم استطاعته ، فانه يستصحب الملزوم وهو هنا عدم اشتغال ذمته بالدين ، فيجب عليه الحج ، ولا يستصحب اللازم وهو هنا عدم وجوب الحج عليه .

( ونحو ذلك ) كاستصحاب الزوجية فيما لو قال الزوج لزوجته : « أنت بتلة » ثم شك في بقاء الزوجيّة المستلزمة لوجوب النفقة فانه يستصحب بقاءها ، فتجب النفقة ، لا انه يستصحب اللازم وهو هنا عدم وجوب النفقة ، فان هذا الاستصحاب وغيره من أمثاله ، الجاري في الملزومات الشرعية مقدّم ( على استصحاب عدم لوازمها الشرعية ) بلا إشكال من أحد ( كما لا يخفى على الفطن المتتبّع ) لكلمات الفقهاء .

( نعم ، بعض العلماء في بعض المقامات ) من الفقه ( يُعارض أحدَهما ) أي : أحد هذين الاستصحابين ( بالآخر ، كما سيجيء ) إن شاء اللّه تعالى عند ذكر الأقوال في المسألة .

( ويؤيده ) أي : يؤيّد الاجماع القائم على تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي ( السيرةُ المستمرّةُ بين الناس على ذلك ) أي : على التقديم

ص: 167

بعد الاطّلاع على حجيّة الاستصحاب ، كما هو كذلك في الاستصحابات العرفيّة .

الثاني أنّ قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشك » باعتبار دلالته على جريان الاستصحاب في الشك السببي مانعٌ

-------------------

المذكور ، لكن ( بعد الاطلاع على حجيّة الاستصحاب ) فان سيرة المسلمين بعد اطلاعهم على اعتبار الاستصحاب يكون بتقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي .

( كما هو كذلك في الاستصحابات العرفيّة ) وديدن العقلاء ، فان بناء العقلاء أيضا على تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي ، فإذا غاب الزوج عن زوجته طويلاً - مثلاً - بحيث صارت المرأة تشك في انه هل مات زوجها أم لا ؟ تستصحب بقاء الزوج فلا تتزوج ، وإذا شكّوا في الموكّل هل مات حتى لا تصح أعمال الوكيل ، أو هو حي حتى تصحّ أعماله؟ يستصحبون حياته ، وإذا مات أحدهم عزلوا من تركته حصة الغائب من ورثته ، إلى غير ذلك .

( الثاني ) من وجوه تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي هو : ان الدليل الشرعي الدال على حجية الاستصحاب ، إنّما يختصّ بالأصل السببي فقط ، ولا يشمل الأصل المسبّبي لما قال : ( أنّ قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشك » (1) ) عام يشمل بلا إشكال ولا خلاف الشك السببي ، وذلك ( باعتبار ) دلالة : « لا تنقض اليقين بالشك » عليه ، فان ( دلالته على جريان الاستصحاب في الشك السببي ) لأنه فرد من أفراد هذا العام ( مانعٌ ) للعام :

ص: 168


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

عن قابلية شموله لجريان الاستصحاب في الشك المسبّبي .

يعني : أنّ نقض اليقين يصيرُ نقضا بالدليل لا بالشكّ ، فلا يشمله النهي في « لا تنقض » .

واللازمُ من شمول « لا تنقض » للشك المسبّبي نقضُ اليقين في مورد الشك السببي ، لا لدليل شرعي يدلّ على ارتفاع الحالة السابقة فيه ،

-------------------

«

لا تنقض » ( عن قابلية شموله لجريان الاستصحاب في الشك المسبّبي ) .

مثلاً : إذا شك في طهارة الماء الذي كان مسبوقا بالكرية والاطلاق ، بعد غسل ثوب نجس فيه ، فانه يستصحب الكرّية والاطلاق ويحكم بطهارته ، فيزول شكه في نجاسة الثوب المغسول به ، فلا يبقى معه مجال لاستصحاب نجاسة الثوب .

وبعبارة اُخرى : ( يعني : أنّ نقض اليقين ) بنجاسة الثوب حيث يُحكم بطهارته بعد غسله بذلك الماء المستصحب الكرية والاطلاق ( يصيرُ نقضا بالدليل لا بالشك ) وإذا كان نقضا بالدليل ( فلا يشمله النهي في « لا تنقض » ) حتى يقال : بأن نجاسة الثوب كانت متيقّنة ، فشككنا في طهارته بعد غسله بهذا الماء فنستصحب نجاسته ؟.

هذا ( و ) لا يمكن العكس ، بأن نستصحب نجاسة الثوب ، ونخرج استصحاب كرّية الماء وإطلاقه من دليل لا تنقض ، لأن ( اللازم من شمول « لا تنقض » للشك المسبّبي ) الذي هو نجاسة الثوب ( نقضُ اليقين في مورد الشك السببي ) الذي هو كرية الماء وإطلاقه وذلك ( لا لدليل شرعي يدلّ على ارتفاع الحالة السابقة فيه ) أي : في مورد الشك السببي ، والقول بلا دليل تحكّم .

والحاصل : انّ الشك السببي فرد للعام : « لا تنقض » فإذا شمله العام خرج الشك المسبّبي عن كونه فردا له ، لانتفاء موضوع الشك في المسبّبي ، امّا إذا قلنا

ص: 169

فيلزم من إهمال الاستصحاب في الشك السببي طرحُ عموم : « لا تنقض » من غير مخصّص ، وهو باطل .

واللازمُ من اهماله في الشك المسبّبي : عدم قابلية العموم لشمول المورد ، وهو غير منكر .

وتبيانُ ذلك أنّ معنى عدم نقض اليقين رفع اليد عن الاُمور السابقة المضادّة لآثار ذلك المتيقّن ،

-------------------

بشمول العام للمسبّبي ، فبماذا يخرج الشك السببي عن كونه فردا للعام ؟ .

وبعبارة اُخرى : ( فيلزم من إهمال الاستصحاب في الشك السببي ) واجراء الاستصحاب في الشك المسبّبي ( طرحُ عموم : « لا تنقض » ) بالنسبة إلى الشك السببي ( من غير مخصّص ، وهو باطل ) لأن العام إنّما يُخصّص لو كان هناك دليل مخصّص ( و ) هنا لا مخصّص للشك السببي .

بينما ( اللازمُ من ) اجراء الاستصحاب في الشك السببي ، و ( اهماله في الشك المسبّبي : عدم قابلية العموم ) أي : عموم « لا تنقض » ( لشمول المورد ) أي : مورد الشك المسبّبي ( وهو غير منكر ) عند أهل اللسان ، لأنه من باب الحكومة ، كما بيّنا ذلك سابقا ، فاستصحاب الشك السببي حاكم على استصحاب الشك المسبّبي .

( و ) أمّا ( تبيانُ ذلك ) أي : بيان وجه تقديم الاستصحاب السببي على المسبّبي فهو : ( أنّ معنى عدم نقض اليقين ) الوارد في الرواية هو : ( رفع اليد عن الاُمور السابقة المضادّة لآثار ذلك المتيقّن ) فالشارع منع عن رفع اليد حيث قال : « لا تنقض » فمعنى استصحاب إطلاق الماء وكريّته بمقتضى : « لا تنقض اليقين بالشك » هو : رفع اليد عن نجاسة الثوب المغسول بذلك الماء .

ص: 170

فعدم نقض طهارة الماء لا معنى له ، إلاّ رفعُ اليد عن النجاسة السابقة المعلومة في الثوب ، إذ الحكم بنجاسته نقضٌ لليقين بالطهارة المذكورة بلا حكم من الشارع بطروّ النجاسة ، وهو طرحٌ لعموم : « لا تنقض » من غير مخصّص .

أمّا الحكم بزوال النجاسة ، فليس نقضا لليقين بالنجاسة إلاّ بحكم

-------------------

وعليه : ( فعدم نقض طهارة الماء لا معنى له ، إلاّ رفعُ اليد عن النجاسة السابقة المعلومة في الثوب ) المغسول بهذا الماء ، وإلاّ فأيّ معنى لاستصحاب طهارة الماء ؟ ( إذ الحكم بنجاسته ) أي : نجاسة الثوب بعد غسله بهذا الماء المستصحب الطهارة ( نقضٌ لليقين بالطهارة المذكورة ) للماء ، وذلك ( بلا حكم من الشارع بطروّ النجاسة ) في الثوب ، لأن الشارع إذا حكم بنجاسة الثوب ، فامّا أن يحكم بالنجاسة السابقة ( وهو ) نقض لطهارة الماء بلا دليل ، وامّا أن يحكم بالنجاسة لأجل نجاسة جديدة بعد غسله بهذا الماء ، ومعلوم : انه لم يحكم الشارع بطروّ نجاسة على هذا الثوب .

إذن : فالحكم ببقاء نجاسة الثوب ( طرحٌ لعموم : « لا تنقض » ) اليقين بالشك ( من غير مخصّص ) وذلك لأنّا إذا لم نحكم بطهارة الماء الثابتة بالاستصحاب كنّا قد خصّصنا لا تنقض بلا مخصّص ، بينما إذا لم نحكم بنجاسة الثوب كنا قد خصّصنا لا تنقض بسبب مخصّص ، والمخصّص هو : خروج هذا الفرد المستصحب النجاسة عن عموم : « لا تنقض » خروجا بسبب بقاء طهارة الماء تحت عموم : « لا تنقض » .

ولذا قال المصنِّف : ( أمّا الحكم بزوال النجاسة ) عن الثوب المغسول بهذا الماء المستصحب الطهارة ( فليس نقضا لليقين بالنجاسة إلاّ بحكم

ص: 171

الشارع بطروّ الطهارة على الثوب .

والحاصل : أنّ مقتضى عموم : « لا تنقض » للشك السببي نقضُ الحالة السابقة لمورد الشك المسبّبي .

ودعوى « أنّ اليقين بالنجاسة أيضا من أفراد العامّ ، فلا وجه لطرحه وإدخال اليقين بطهارة الماء » ، مدفوعةٌ :

أولاً : بأنّ معنى عدم نقض يقين النجاسة

-------------------

الشارع ) الذي حكم ( بطروّ الطهارة على الثوب ) بسبب ان الماء طاهر ، فحكومة طهارة الماء على نجاسة الثوب حكومة شرعية .

( والحاصل : أنّ مقتضى عموم : « لا تنقض » للشك السببي ) حيث إنّ : «لا تنقض» يشمل الشك السببي ( نقضُ الحالة السابقة لمورد الشك المسبّبي ) لأنه بعد جريان « لا تنقض » في الشك السببي لا يبقى مورد للشك المسبّبي .

هذا ( ودعوى ) انه لا فرق بين الفردين السببي والمسبّبي في الدخول تحت العام ، فما وجه اخراج أحدهما دون الآخر؟ فإنّه كما قال : ( « أنّ اليقين بالنجاسة أيضا من أفراد العامّ ) الذي هو « لا تنقض » ( فلا وجه لطرحه ) أي : طرح هذا الفرد ( وإدخال اليقين بطهارة الماء » ) وهو الفرد الآخر في عموم « لا تنقض » .

هذه الدعوى ( مدفوعةٌ : ) بما عرفت : من حكومة الأصل السببي على الأصل المسبّبي ، دون العكس ، فليس الأصل المسببي حاكما على الأصل السببي حتى يكون المسبّبي مخرجا للسببي ، فالدعوى إذن مدفوعة بذلك حلاً ، وبغيره نقضا كما قال المصنّف :

( أولاً : ) نقضا ( بأنّ معنى عدم نقض يقين النجاسة ) في الثوب هو

ص: 172

أيضا : رفع اليد عن الاُمور السابقة المضادّة لآثار المستصحب ، كالطهارة السابقة الحاصلة لملاقيه وغيرها ، فيعود المحذور إلاّ أن نلتزم هنا أيضا ببقاء طهارة الملاقي ، وسيجيء فساده .

وثانيا : أنّ نقض يقين النجاسة بالدليل الدالّ على أنّ كلّ نجس غُسل بماء طاهر فقد طهُر ،

-------------------

( أيضا : رفع اليد عن الاُمور السابقة المضادّة لآثار المستصحب ، كالطهارة السابقة الحاصلة لملاقيه ) أي : ملاقي هذا الثوب ( وغيرها ) أي : غير الطهارة من الآثار الاُخرى ( فيعود المحذور ) الذي هو : تقديم الشك السببي على المسبّبي ، يعني : انّه إذا قلتم ببقاء نجاسة الثوب ، ثم لاقى الثوب ماءً قليلاً ، فانكم تقولون بنجاسة هذا الماء الملاقي للثوب ، مع انه من الأصل السببي والمسبّبي ، فيستشكل : بأنّه لماذا قلتم بنجاسة هذا الماء القليل ، الملاقي للثوب المستصحب النجاسة ، ولم تقولوا بجريان استصحاب الطهارة فيه ، مع انكم أجريتم استصحاب النجاسة في نفس الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة ؟ فالفرق لماذا مع انه لا فرق بينهما ؟ .

( إلاّ أن ) يقول المدّعي : ( نلتزم هنا أيضا ببقاء طهارة ) الماء القليل ( الملاقي ) للثوب المستصحب النجاسة ، وذلك بأن يقول : أي : المدّعي - إنّا كما نقول ببقاء نجاسة الثوب هناك وان غسل بذلك الماء المستصحب الطهارة ، فكذلك نقول هنا ببقاء طهارة هذا الماء القليل وان لاقاه الثوب المستصحب النجاسة ( و ) لكن ( سيجيء فساده ) أي : فساد هذا الالتزام فيما بعد إن شاء اللّه تعالى .

( وثانيا : ) حلاً بالحكومة ، وهو : ( أنّ نقض يقين النجاسة ) في الثوب إنّما هو ( بالدليل الدالّ على أنّ كلّ نجس غُسل بماء طاهر فقد طهُر )

ص: 173

وفائدةُ استصحاب الطهارة إثبات كون الماء طاهرا به بخلاف نقض يقين الطهارة ، بحكم الشارع بعدم نقض يقين النجاسة .

بيان ذلك : أنّه لو عملنا باستصحاب النجاسة كُنّا قد طرحنا اليقين بطهارة الماء من غير ورود دليل شرعي على نجاسته ، لأنّ بقاء النجاسة في الثوب لا يوجب زوال الطهارة عن الماء ، بخلاف ما لو عملنا باستصحاب طهارة الماء ، فانّه يوجب زوال نجاسة الثوب بالدليل

-------------------

هذه هي الكبرى ، وقد ثبتت بالدليل ، والصغرى وهي : ان هذا الماء طاهر يثبت بالأصل كما قال : ( وفائدةُ استصحاب الطهارة ) في الماء هو : ( إثبات كون الماء طاهرا به ) أي : بالأصل وهو الاستصحاب ، فإذا تشكلت صغرى تقول : هذا الماء طاهر ، وكبرى تقول : الماء الطاهر يُطهّر كل نجس يُغسل به مثل الثوب وغيره ، أنتج : هذا الثوب المغسول بهذا الماء قد طهر .

وإنّما نحكم بدخول هذا الفرد وهو الماء في المثال في دليل الاستصحاب ، دون الفرد الآخر وهو الثوب ، للحكومة ، فيكون التخصيص بدليل ( بخلاف نقض يقين الطهارة ، بحكم الشارع بعدم نقض يقين النجاسة ) أي : بخلاف ما إذا قلنا بأن الماء ليس بطاهر لأن الثوب نجس ، فانه لم يكن هناك دليل على عدم طهارة الماء ، فيكون التخصيص بلا دليل .

( بيان ذلك : أنّه لو عملنا باستصحاب النجاسة ) في الثوب ( كُنّا قد طرحنا اليقين بطهارة الماء ) الذي غُسل به هذا الثوب ( من غير ورود دليل شرعي على نجاسته ) أي : نجاسة الماء ، وذلك ( لأنّ بقاء النجاسة في الثوب لا يوجب زوال الطهارة عن الماء ) المستصحب كرّيته كما هو واضح ( بخلاف ما لو عملنا باستصحاب طهارة الماء ، فانه يوجب زوال نجاسة الثوب ) زوالاً ( بالدليل

ص: 174

الشرعي ، وهو ما دلّ على أنّ الثوب المغسول بالماء الطاهر يطهر ، فطرح اليقين بالنجاسة لقيام الدليل على طهارته .

هذا ، وقد يشكل بأنّ اليقين بطهارة الماء ، واليقين بنجاسة الثوب المغسول به كلّ منهما يقين سابق شُكّ في بقائه وارتفاعه ، وحكم الشارع بعدم النقض نسبته إليهما على حدٍّ سواء ،

-------------------

الشرعي ، وهو ) أي : ذلك الدليل الشرعي : ( ما دلّ على أنّ الثوب المغسول بالماء الطاهر ) طهارة واقعية ، أو طهارة استصحابية ( يطهر ) .

إذن : ( فطرح اليقين بالنجاسة ) في الثوب إنّما هو ( لقيام الدليل على طهارته ) أي : طهارة هذا الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة دون العكس .

( هذا ) هو جواب اشكال المدّعي الذي ذكره المصنّف بقوله : « ودعوى إنّ اليقين بالنجاسة أيضا من أفراد العام ... » .

( وقد يشكل ) باشكال ثان غير اشكال الدعوى ، وهو : انا نسلّم بأن اجراء الأصل في الشك السببي موجب لارتفاع الشك المسبّبي ، الباعث على أن يكون الشك السببي حاكما على الشك المسبّبي ، إلاّ انه لا وجه لاعتبار الاستصحاب أولاً في جانب السبب حتى يكون حاكما على المسبّب ، بل ينبغي اعتبار الاستصحابين : السببي والمسبّبي في عرض واحد دفعة واحدة ، فيتعارضان ويتساقطان ، ويكون المرجع شيء ثالث ، لا تقديم السببي .

إذن : فالاشكال يقول : ( بأنّ اليقين بطهارة الماء ، واليقين بنجاسة الثوب المغسول به ) أي : بذلك الماء ( كلّ منهما يقين سابق شُكّ في بقائه وارتفاعه ، وحكم الشارع بعدم النقض نسبته ) أي : نسبة هذا الحكم ( إليهما ) أي : إلى اليقين بطهارة الماء ، واليقين بنجاسة الثوب ( على حدٍّ سواء ) فلا يكون أحدهما مقدّما

ص: 175

لأنّ نسبة حكم العام إلى أفراده على سواء ، فكيف يلاحظ ثبوت هذا الحكم لليقين بالطهارة أولاً حتى يجب نقض اليقين بالنجاسة ، لأنّه مدلوله ومقتضاه .

والحاصل : أنّ جعل شمول الحكم العامّ لبعض الأفراد سببا لخروج بعض الأفراد عن الحكم أو عن الموضوع ، كما فيما نحن فيه ، فاسدٌ بعد فرض تساوي الفردين في الفرديّة مع قطع النظر عن ثبوت الحكم .

ويُدفع

-------------------

على الآخر ( لأنّ نسبة حكم العام إلى أفراده على ) حدٍ ( سواء ، فكيف يلاحظ ) كما تذكرون أنتم ( ثبوت هذا الحكم ) الاستصحابي ( لليقين بالطهارة أولاً ) ليكون حاكما على اليقين بنجاسة الثوب ( حتى يجب نقض اليقين بالنجاسة ) بسبب محكوميّته ، وذلك ( لأنّه ) أي : نقض اليقين بالنجاسة ( مدلوله ) أي : مدلول استصحاب طهارة الماء ( ومقتضاه ) حينئذ ؟ .

( والحاصل : أنّ جعل شمول الحكم العامّ ) « لا تنقض » ( لبعض الأفراد سببا لخروج بعض الأفراد عن الحكم ) ويسمّى تخصيصا ، وذلك كما إذا كان السببي والمسبّبي بين حكمين ( أو ) سببا لخروج بعض الأفراد ( عن الموضوع ) ويسمّى تخصّصا ، وذلك ( كما فيما نحن فيه ) أي : بأن كان السببي والمسبّبي بين موضوعين ( فاسدٌ بعد فرض تساوي الفردين في الفرديّة ) لذلك العام : « لا تنقض » فلا وجه لتقديم أحد الفردين على الفرد الآخر ، وذلك طبعا ( مع قطع النظر عن ثبوت الحكم ) وهو حرمة النقض لبعض الافراد الموجب لتخصيص الآخر ، أو تخصّصه .

( ويُدفع ) هذا الاشكال بوجهين على النحو التالي :

ص: 176

بأنّ فرديّة أحد الشيئين إذا توقف على خروج الآخر المفروض الفرديّة عن العموم ، وجب الحكم بعدم فرديّته ولم يجز رفع اليد عن العموم ، لأنّ رفع اليد حينئذ عنه يتوقّف على شمول العامّ لذلك الشيء المفروض توقف فرديّته على رفع اليد عن العموم ، وهو دور محال .

-------------------

الوجه الأوّل : ( بأنّ فرديّة أحد الشيئين ) للعام كالمسبّبي ( إذا توقف على خروج ) الفرد السببي ، وهو الفرد ( الآخر المفروض الفرديّة ) خروجا له ( عن العموم ، وجب الحكم بعدم فرديّته ) أي : فرديّة المسبّبي ( ولم يجز رفع اليد عن العموم ) في السببي .

وبعبارة اُخرى : إن فردية الشك المسبّبي لعموم « لا تنقض » يتوقف على خروج الشك السببي عن الفردية ، لأن مقتضى فردية الشك السببي لعموم « لا تنقض » وجريان الاستصحاب فيه هو : انتفاء الشك في جانب المسبّب ، فينتفي فردية المسبّبي ، وإذا كان الأمر كذلك لزم الحكم من الأوّل بعدم فردية الشك المسبّبي ، لا خروج الشك السببي عن الفردية ، إذ خروج الشك السببي عن الفردية بالاضافة إلى انه يكون بلا دليل مستلزم للدور كما يلي :

قال : وإنّما لم يجز رفع اليد في الشك السببي عن عموم : « لا تنقض » ( لأنّ رفع اليد حينئذ ) أي : حين توقف فردية الشك المسبّبي على خروج فردية الشك السببي ( عنه ) أي : عن عموم : « لا تنقض » مع فرض انه شامل له ( يتوقّف على شمول العامّ ) « لا تنقض » ( لذلك الشيء ) الذي هو الشك المسبّبي ( المفروض توقف فرديّته ) أي : الشك المسبّبي ( على رفع اليد عن العموم ) في الشك السببي ( وهو دور محال ) لأن دخول هذا متوقف على خروج ذاك ، وخروج ذاك متوقف على دخول هذا .

ص: 177

وإن شئت قلت : إنّ حكم العامّ من قبيل لازم الوجود للشك السببي ، كما هو شأن الحكم الشرعي وموضوعه ، فلا يوجد في الخارج إلاّ محكوما .

-------------------

وبعبارة اُخرى : انّ فردية الشك المسببي لعموم « لاتنقض » موقوف على عدم شمول هذا العموم للشك السببي ، وعدم شمول العموم للشك السببي موقوف على فردية الشك المسبّبي لهذا العموم ، وهو دور صريح ، لأن حاصله : انّ فردية الشك المسبّبي موقوف على فردية الشك المسبّبي .

الوجه الثاني : ( وإن شئت قلت : إنّ حكم العامّ ) في « لا تنقض » وهو : حرمة النقض لازم لموضوع العام الذي هو العموم ، فيكون الحكم متأخرا عن العام ، لأن المحمول متأخر عن الموضوع طبعا ، والشك المسبّبي أيضا لازم للشك السببي ، فيكون متأخرا عن الشك السببي ، فالشك السببي إذن ملزوم له لازمان ، وإذا كان كذلك ، كان اللازمان : الشك المسبّبي ، وحكم العام ، كلاهما في مرتبة واحدة متقارنين وحينئذ لا يمكن أن يكون حكم العام حكما للشك المسبّبي ، لأن الشيء الذي في مرتبة شيء آخر لا يكون حكما لذلك الشيء الآخر ، إذ مرتبة الحكم متأخرة ، ومرتبة الشيء المقارن مقارنة ، ولا يمكن أن يكون المقارن مؤخّرا .

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله : ان حكم العام الذي هو حرمة النقض ( من قبيل لازم الوجود للشك السببي ) وذلك لأنّ فردية الشك السببي للعام : « لا تنقض » لا يتوقف على شيء آخر ( كما ) لا تتوقف الزوجية اللازمة الوجود للأربعة على شيء آخر ، وهذا التلازم ( هو شأن الحكم الشرعي وموضوعه ) أي : موضوع الحكم الشرعي ، فإن الحكم دائما يكون متأخرا عن موضوعه ولازما له ، فإذا قلنا - مثلاً - : الماء مباح ، كانت الاباحة حكما للماء ولازما له ، وحينئذ ( فلا يوجد ) الشك السببي ( في الخارج إلاّ محكوما ) بحرمة النقض .

ص: 178

والمفروض أنّ الشك المسبّبي أيضا من لوازم وجود ذلك الشك ، فيكون حكم العامّ وهذا الشكّ لازمان لملزوم ثالث في مرتبة واحدة ، فلا يجوز أن يكون أحدهما موضوعا للآخر ، لتقدّم الموضوع طبعا .

الثالث :

-------------------

هذا ( والمفروض أنّ الشك المسبّبي أيضا من لوازم وجود ذلك الشك ) السببي ، وذلك لأنه لو لم يكن شك في طهارة الماء لم يكن شك في بقاء نجاسة الثوب ( فيكون حكم العامّ ) الذي هو حرمة النقض ( وهذا الشكّ ) المسبّبي ( لازمان لملزوم ثالث ) وهو العام ، فيكونان ( في مرتبة واحدة ) لأنهما لازمان ، واللازمان مرتبتهما واحدة مثل : ضوء الشمس وحرارتها ، حيث ان الضوء والحرارة في مرتبة واحدة ( فلا يجوز أن يكون أحدهما ) الذي هو الشك المسبّبي ( موضوعا للآخر ) يعني : لحرمة النقض حتى يكون الشك المسبّبي محرّم النقض ، كما لا يجوز أن يكون النور أو الحرارة أحدهما موضوعا للآخر ( لتقدّم الموضوع طبعا ) .

والحاصل : ان الشك المسبّبي في مرتبة الحكم للعام ، فكيف يكون الشك المسبّبي موضوعا لحكم العام ؟ .

( الثالث : ) من وجوه تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي هو : إدخال افراد أكثر في الاستصحاب ، وذلك لأنّ الاستصحاب يمكن تقسيمه إلى الأقسام التالية :

الأوّل : الاستصحاب الحكمي ، وهو أن نستصحب حكما تكليفيا ، مثل استصحاب وجوب الصوم في يوم الشك من آخر شهر رمضان .

الثاني : الاستصحاب الموضوعي ذو الأثر الشرعي الموافق ، وهو

ص: 179

أنّه لو لم يُبْنَ على تقديم الاستصحاب في الشك السببي كان الاستصحاب قليل

-------------------

ان نستصحب موضوعا لأثر شرعي ثابت سابقا ، فيراد باستصحاب الموضوع ترتيب ذلك الأثر ، ممّا يكون استصحاب الموضوع موافقا مع استصحاب ذلك الأثر ، مثل: استصحاب حياة الزوج الموافق لاستصحاب وجوب نفقة زوجته .

الثالث : الاستصحاب الموضوعي ذو الأثر الشرعي المخالف ، وهو ان نستصحب موضوعا لأثر شرعي حادث مسبوق بالعدم ، فيراد باستصحاب الموضوع ترتيب ذلك الأثر الحادث ، ممّا يكون استصحاب الموضوع معارضا مع استصحاب ذلك الأثر ، مثل استصحاب طهارة الماء لترتيب طهارة الثوب المغسول به ، المعارض لاستصحاب نجاسة الثوب ، وتعارضهما على نحو السببي والمسبّبي .

وعلى هذا : فان قلنا بتقديم السببي على المسبّبي ، كان للاستصحاب فردان : القسم الأوّل ، والقسم الثالث ، وأمّا القسم الثاني وهو الاستصحاب الموضوعي ذو الأثر الشرعي الموافق ، فهو مستغني عنه ، لأنّ استصحاب الحكم فيه يغني عن استصحاب الموضوع ، فيكون من القسم الأوّل .

هذا لو قلنا بتقديم السببي ، لكن لو قلنا بتعارض السببي والمسبّبي فانه لم يبق للاستصحاب إلاّ فرد واحد فقط وهو الاستصحاب الحكمي ، فلا يجري حينئذ الاستصحاب الموضوعي أصلاً ، ويكون الاستصحاب قليل الفائدة ، فحمل « لا تنقض » على ما تقل فائدته غير تامّ ، بعد امكان حمله على ما تكثر فائدته .

وإلى هذا أشار المصنِّف بقوله : ( أنّه لو لم يُبْنَ على تقديم الاستصحاب في الشك السببي ) على الاستصحاب في الشك المسبّبي ( كان الاستصحاب قليل

ص: 180

الفائدة جدا ، لأن المقصود من الاستصحاب غالبا ترتيب الآثار الثابتة للمستصحب ، وتلك الآثار إن كانت موجودة سابقا أغنى استصحابها عن استصحاب ملزومها .

فتنحصر الفائدة في الآثار التي كانت معدومة .

فإذا فرض معارضة الاستصحاب في الملزوم باستصحاب عدم تلك اللوازم

-------------------

الفائدة جدا ) لانحصار جريانه حينئذ في القسم الأوّل وهو الاستصحاب الحكمي فقط ، وهو قليل ، مثل استصحاب وجوب الصوم عند الشك في اليوم الثلاثين من شهر رمضان بأنّه عيد أو ليس بعيد ؟ فيكون الاستصحاب قليل الفائدة .

وإنّما يكون الاستصحاب حينئذ قليل الفائدة ( لأن المقصود من الاستصحاب غالبا ترتيب الآثار ) الشرعية ( الثابتة للمستصحب ) كما مثّلنا له بزوال نجاسة الثوب ، المترتّب زوالها على طهارة الماء ، ووجوب نفقة الزوجة المترتب وجوبها على حياة الزوج ( و ) هكذا ، فان ( تلك الآثار ) الشرعية التي يراد ابقاؤها بسبب استصحاب الموضوع ( إن كانت موجودة سابقا ) كوجوب نفقة الزوجة ( أغنى استصحابها عن استصحاب ملزومها ) أي : الموضوع ، فانه لا حاجة إلى أن نستصحب حياة الزوج لنحكم بوجوب النفقة، بل نستصحب وجوب النفقة رأسا.

وعليه : ( فتنحصر الفائدة ) أي : فائدة الاستصحاب حينئذ ( في الآثار التي كانت معدومة ) مثل : استصحاب طهارة الماء لاثبات حدوث الطهارة للثوب النجس المغسول به ( فإذا فرض معارضة الاستصحاب في الملزوم ) كما في استصحاب طهارة الماء في المثال ( باستصحاب عدم تلك اللوازم ) أي : مع استصحاب بقاء نجاسة الثوب وعدم زوالها بالتطهير بهذا الماء المستصحب

ص: 181

والمعاملة معها على ما يأتي في الاستصحابين المتعارضين ، لغى الاستصحاب في الملزوم وانحصرت الفائدة في استصحاب الأحكام التكليفيّة التي يراد بالاستصحاب إبقاء لنفسها في الزمان اللاحق .

ويرد عليه : منع عدم الحاجة إلى الاستصحاب في الآثار السابقة ، بناءا على أنّ إجراء الاستصحاب في نفس تلك الآثار موقوف على إحراز الموضوع

-------------------

الطهارة ( والمعاملة معها ) أي : مع هذه المعارضة ( على ما يأتي في الاستصحابين المتعارضين ) من التساقط ، فانه ان كان ذلك ( لغى الاستصحاب في الملزوم ) فلم يبق هناك حتى مورد واحد للاستصحاب الموضوعي ( وانحصرت الفائدة في استصحاب الأحكام التكليفيّة ) فقط وهو القسم الأوّل من أقسام الاستصحاب ، وهي ( التي يراد بالاستصحاب إبقاء لنفسها في الزمان اللاحق ) لا ترتيب آثارها ، لأن الأحكام التكليفية هي مستصحبة بأنفسها ، لا ان لها آثارا فوق المستصحب ، وهي قليلة المورد .

إذن : فيلزم أن نقول بصحة الاستصحاب في الملزوم ولا نعارضه باستصحاب عدم اللازم ، حتى يكون لقاعدة : « لا تنقض » موارد أكثر .

( و ) لكن هذا الذي ذكرناه : من عدم الحاجة إلى الاستصحاب الموضوعي ذي الأثر الشرعي الموافق ، لأن استصحاب الحكم فيه يغني عن استصحاب الموضوع ، ومعه لا يبقى استصحاب موضوعي أصلاً ، هذا الكلام غير تام ، لأنّه ( يرد عليه : منع عدم الحاجة إلى الاستصحاب في ) الموضوع لترتيب ( الآثار السابقة ) على المستصحب ، ووجه المنع هو : ( بناءا على أنّ إجراء الاستصحاب في نفس تلك الآثار ) كوجوب النفقة على الزوجة ( موقوف على إحراز الموضوع

ص: 182

لها ، وهو مشكوك فيه .

فلابدّ من استصحاب الموضوع ، إمّا ليترتّب عليه تلك الآثار ، فلا يحتاج إلى استصحاب أنفسها المتوقّفة على بقاء الموضوع يقينا ، كما حقّقنا سابقا في مسألة اشتراط بقاء الموضوع ؛ وإمّا لتحصيل شرط الاستصحاب في نفس تلك الآثار ، كما توهّمه بعضٌ فيما قدّمناه سابقا : من أنّ بعضهم تخيّل أنّ موضوع المستصحب يُحرز بالاستصحاب ،

-------------------

لها ، وهو ) أي : موضوع وجوب النفقة الذي هو حياة الزوج هنا ( مشكوك فيه ) لغيبة الزوج - مثلاً - طويلاً بحيث شك وكيله في حياته ، فانه لا يعقل هنا اثبات الحكم بدون احراز الموضوع .

وعليه : ( فلابدّ من استصحاب الموضوع ) الذي هو حياة الزوج ، وذلك ( إمّا ليترتّب عليه ) أي : على استصحاب الموضوع ( تلك الآثار ) الشرعية : من وجوب نفقة زوجته ، وحرمة تزوّجها بشخص آخر ، وحرمة تقسيم ماله بين ورثته ، وغير ذلك ترتّبا تلقائيا ، يعني : ( فلا يحتاج إلى استصحاب أنفسها ) أي : نفس تلك الآثار الشرعية ( المتوقّفة ) تلك الآثار ( على بقاء الموضوع يقينا ) ولو تعبديا ( كما حقّقنا سابقا في مسألة اشتراط بقاء الموضوع ) حيث قلنا : بأنّه يكفي استصحاب الموضوع في ترتيب الآثار عليه بلا حاجة إلى استصحاب كل أثر أثر .

( وإمّا لتحصيل شرط الاستصحاب في نفس تلك الآثار ) والشرط فيها هو بقاء الموضوع ، فلابدّ من احرازه ولو بالاستصحاب ، ثم الحمل عليه ، ففي المثال نستصحب حياة الزوج شرطا لاستصحاب وجوب النفقة ، وحرمة تزوج امرأته ، وحرمة تقسيم ماله بين ورثته ، وغير ذلك ( كما توهّمه بعضٌ فيما قدّمناه سابقا : من أنّ بعضهم تخيّل أنّ موضوع المستصحب يُحرز بالاستصحاب ،

ص: 183

فيستصحب .

والحاصل : أنّ الاستصحاب في الملزومات محتاج إليه على كلّ تقدير .

الرابع : أنّ المستفاد من الأخبار : عدم الاعتبار باليقين السابق في مورد الشك المسببّي .

بيان ذلك : أنّ الإمام عليه السلام علّل وجوب البناء على الوضوء السابق في صحيحة زرارة بمجرّد كونه متيقّنا سابقا غير متيقّن الارتفاع في اللاحق .

-------------------

فيستصحب ) الحكم بعده .

( والحاصل : أنّ ) استصحاب الموضوع لازم ، وذلك إمّا لأنه لا حاجة بعد ذلك إلى استصحاب الحكم كما نقوله نحن ، وإمّا لأن استصحاب الموضوع شرط لاستصحاب الحكم كما يقوله المتوهّم ، فان ( الاستصحاب في الملزومات ) كحياة الزوج ( محتاج إليه على كلّ تقدير ) سواء قلنا بأن استصحاب الموضوع يغني عن استصحاب الأثر ، أم قلنا : بأن استصحاب الموضوع شرط لاستصحاب الأثر ، فالوجه الثالث من وجوه تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي إذن غير تام .

( الرابع ) من وجوه تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي هو: ( أنّ المستفاد من الأخبار : عدم الاعتبار باليقين السابق في مورد الشك المسببّي ) وإنّما الاعتبار باليقين السابق في الشك السببي فقط ( بيان ذلك : ان الإمام عليه السلام علّل وجوب البناء على الوضوء السابق ) الذي شك فيه لاحقا بسبب الخفقة ، كما ( في صحيحة زرارة (1) ) علّله ( بمجرّد كونه متيقّنا سابقا ) من وضوئه ( غير متيقّن الارتفاع في ) الحال ( اللاحق ) فان حكمه عليه السلام بأن الخفقة

ص: 184


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

وبعبارة اُخرى : علّل بقاء الطهارة المستلزم لجواز الدخول في الصلاة بمجرّد الاستصحاب .

ومن المعلوم : أنّ مقتضى استصحاب الاشتغال بالصلاة عدمُ براءة الذمّة بهذه الصلاة ، حتى أنّ بعضهم جعل استصحاب الطهارة ، وهذا الاستصحاب من الاستصحابين المتعارضين .

-------------------

والخفقتين لا تضر ببقاء الوضوء للاستصحاب ، وعدم حكمه ببقاء اشتغال ذمته بالصلاة مع ان الاستصحاب يجري فيه أيضا ، غير ان الشك فيه مسبّب من الشك في بقاء الوضوء ، ممّا يدل على ان الاستصحاب السببي هو المحكَّم في المقام ، فلا مجال للاستصحاب المسبّبي .

( وبعبارة اُخرى : علّل ) الإمام عليه السلام ( بقاء الطهارة المستلزم ) بقاؤها ( لجواز الدخول في الصلاة ) تعليلاً ( بمجرّد الاستصحاب ) لوضوئه السابق ( ومن المعلوم : أنّ ) الاستصحاب يتصوّر في جانب المسبّب وهو الاشتغال أيضا ، فان ( مقتضى استصحاب الاشتغال بالصلاة ) التي وقعت مع الوضوء المشكوك ( عدمُ برائة الذمّة بهذه الصلاة ) فعدم تعرّض الإمام عليه السلام لاستصحاب الاشتغال هنا ممّا يدلّ على ان الاعتبار عند الإمام عليه السلام باستصحاب السبب فقط وهو الوضوء ، لا باستصحاب المسبّب الذي هو الاشتغال .

ويدل على تصوّر الاستصحاب في جانب المسبّب وهو الاشتغال بالصلاة هنا قول المصنّف : ( حتى أنّ بعضهم جعل استصحاب الطهارة ، وهذا الاستصحاب ) أي : استصحاب الاشتغال بالصلاة ( من الاستصحابين المتعارضين ) حيث رأوا انّهما في مرتبة واحدة ، بينما نرى إنّ الإمام عليه السلام قدّم استصحاب الطهارة

ص: 185

فلولا عدم جريان هذا الاستصحاب وانحصار الاستصحاب في المقا باستصحاب الطهارة ، لم يصحّ تعليل المضيّ على الطهارة بنفس الاستصحاب ، لأنّ تعليل تقديم أحد الشيئين على الآخر بأمر مشترك بينهما قبيح ، بل أقبح من الترجيح بلا مرجّح .

-------------------

على استصحاب الاشتغال ( فلولا عدم جريان هذا الاستصحاب ) المسبّبي بالاشتغال بالصلاة ( وانحصار الاستصحاب في المقام ) بالاستصحاب السببي ، يعني : ( باستصحاب الطهارة ) الموجب لرفع الاشتغال إذا صلّى مع هذه الطهارة ( لم يصحّ تعليل المضيّ على الطهارة بنفس الاستصحاب ) .

وإنّما لم يصح التعليل هنا : بنفس الاستصحاب ( لأنّ تعليل تقديم أحد الشيئين ) كبقاء الوضوء ( على الآخر ) على بقاء الاشتغال ( بأمر مشترك بينهما ) وهو الاستصحاب ( قبيح ) فانه كما لا يصح أن يقال : زيد العالم مقدّم على عمرو العالم ، لأن زيدا عالم ، فكذلك لا يصح ما نحن فيه ، وحينئذ فلو كان اعتبار الاستصحاب مشتركا بين السببي والمسبّبي يعني : بأن كان عموم : « لا تنقض » يشملهما على حدّ سواء ، كان تقديم جانب السبب بعلّة الاستصحاب قبيحا ، فيكون مفاد كلام الإمام عليه السلام وهو تقديم جانب السبب قبيحا وذلك ما لا يكون .

( بل أقبح من الترجيح بلا مرجّح ) لوضوح : ان قبح ترجيح ما ليس فيه مرجّح إنّما هو من جهة عدم وجود المقتضي للترجيح ، بينما قبح ما نحن فيه إنّما يكون من جهة الترجيح بما يقتضي عدم الترجيح ، وهو : العلة المشتركة بين السبب والمسبّب الذي هو الاستصحاب ، فالاستصحاب هنا لو كان معتبرا في الطرفين اقتضى عدم الترجيح به ، بينما نرى الإمام عليه السلام قد علّل بقاءه على الوضوء وهو

ص: 186

وبالجملة : فأرى المسألة غير محتاجة إلى إتعاب النظر ، ولذا لا يتأمّل العامّي بعد افتائه باستصحاب الطهارة في الماء المشكوك في رفع الحدث والخبث به وبيعه وشرائه وترتيب الآثار المسبوقة بالعدم عليه .

هذا كلّه إذا عملنا باستصحاب الطهارة من باب الاخبار .

أمّا لو عملنا به من باب الظنّ ،

-------------------

السبب المصحّح لجواز دخوله في الصلاة بعلة الاستصحاب ، ممّا يدل على عدم جريان الاستصحاب في الاشتغال بالصلاة الذي هو المسبّب ، إذ لو كان الاستصحاب جاريا في المسبّب وهو اشتغال ذمته بالصلاة أيضا ، لم يكن وجه لتقديم هذا الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي .

( وبالجملة : فأرى المسألة ) في تقديم السببي على المسبّبي ( غير محتاجة إلى إتعاب النظر ، ولذا لا يتأمّل العامّي بعد افتائه باستصحاب الطهارة في الماء المشكوك ) فيما لو سأل عن انه ماذا يصنع لو أصبح الماء مشكوك الطهارة والنجاسة بعد أن كان سابقا طاهرا؟ فانه إذا أفتاه المفتي بأنه يستصحب طهارته ، فلا نراه يتأمّل بعدها ( في رفع الحدث والخبث به ) أي : بهذا الماء المستصحب الطهارة ( و ) كما لا يتأمل في ( بيعه وشرائه وترتيب الآثار المسبوقة بالعدم عليه ) أي : على هذا الماء المشكوك الذي حكم بطهارته للاستصحاب ، كحصول الطهارة للصلاة بالتوضّؤ به - مثلاً - .

( هذا كلّه إذا عملنا باستصحاب الطهارة من باب الاخبار ) مثل « لا تنقض اليقين بالشك » (1) وما أشبه ذلك ، و ( أمّا لو عملنا به من باب الظنّ ) وبناء العقلاء

ص: 187


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

فلا ينبغي الارتياب فيما ذكرنا ، لأنّ الظنّ بعدم اللازم مع فرض الظنّ بالملزوم محالٌ عقلاً ، فإذا فرض حصول الظنّ بطهارة الماء عند الشك ، فيلزمه عقلاً الظنّ بزوال النجاسة عن الثوب والشك في طهارة الماء ونجاسة الثوب ، وإن كانا في زمان واحد ، إلاّ أنّ الأوّل لمّا كان سببا للثاني

-------------------

( فلا ينبغي الارتياب فيما ذكرنا ) أيضا وهو تقديم الأصل السببي على الأصل المسبّبي ، وذلك ( لأنّ الظنّ بعدم اللازم ) أي : الظن بعدم طهارة الثوب المغسول بماء مسبوق بالطهارة ( مع فرض الظنّ بالملزوم ) أي : بطهارة هذا الماء الذي قد غسل الثوب فيه ( محالٌ عقلاً ) إذ كما لا يمكن ان يظن الانسان بالأربعة ويظن بانه فرد ، أو يظن بطلوع الشمس ويظن ببقاء الليل كذلك لا يمكن أن يظن بالملزوم ويظن أيضا بعدم اللازم .

وعليه : ( فإذا فرض حصول الظنّ بطهارة الماء عند الشك ) في أنّه هل بقي على طهارته أو لم يبق على طهارته ؟ فانّه بعدما يستصحب البقاء من باب الظن ( فيلزمه عقلاً الظنّ بزوال النجاسة عن الثوب ) وجواز شربه وجواز بيعه وغير ذلك من الأحكام المترتّبة على الطهارة ، فالطهارة المظنونة إذن توجب الظن بهذه الآثار ، كما إنّ الطهارة المقطوعة توجب القطع بهذه الآثار .

( و ) ان قلت : نعكس المسألة ونقول : إنّ الظن ببقاء نجاسة الثوب يوجب الظن بعدم طهارة الماء ، فلماذا تقدّمون الظن السببي على الظن المسبّبي دون العكس ؟ .

قلت : ( الشك في طهارة الماء ونجاسة الثوب ، وان كانا في زمان واحد ، إلاّ أنّ الأوّل ) طهارة الماء ( لمّا كان سببا للثاني ) أي : لزوال نجاسة الثوب المغسول

ص: 188

كان حالُ الذهن في الثاني تابعا لحاله بالنسبة إلى الأوّل ، فلابدّ من حصول الظنّ بعدم النجاسة في المثال ، فاختص الاستصحاب المفيد للظنّ بما كان الشك فيه غير تابع لشكّ آخر يوجب الظنّ ، فافهم ، فإنّه لا يخلو عن دقّة .

ويشهد لما ذكرنا أنّ العقلاء البانين على الاستصحاب

-------------------

بهذا الماء ( كان حالُ الذهن في الثاني ) وهو الثوب سواء كان وهما ، أو شكا ، أو ظنا ، أو قطعا ، ( تابعا لحاله بالنسبة إلى الأوّل ) وهو طهارة الماء ، فان الظن في الملزوم مقدّم على الظن في اللازم ، ولذا لو ظننا بالأربعة ظننا بالزوجية ، وحينئذ ( فلابدّ من حصول الظنّ بعدم النجاسة في المثال ) أي : مثال استصحاب طهارة الماء ، واستصحاب نجاسة الثوب .

إذن : ( فاختص الاستصحاب المفيد للظنّ ) سواء كان ظنا شخصيا أو ظنا نوعيا ( بما كان الشك فيه ) مستقلاً كالسببي ، فانه ( غير تابع لشكّ آخر يوجب الظنّ ) كالمسبّبي ، فانه تابع للسببي ، وحكم التابع حكم المتبوع في الصفات النفسية الأربع : من وهم وشك وظن وقطع ، فإذا حصل الظن الاستصحابي بطهارة الماء حصل الظن بطهارة الثوب المغسول به ( فافهم ، فإنّه لا يخلو عن دقّة ) .

لا يقال : إذا ظنّ ببقاء النجاسة يظن بعدم طهارة الماء .

لأنّه يقال : لو توجّه أولاً إلى الثوب ظن بنجاسته ، لكنه بمجرّد التوجّه إلى استصحاب طهارة الماء ينقلب ظنه من النجاسة إلى الظن بالطهارة ، حاله حال الالتفات إلى كل معلول قبل الالتفات إلى علته ، فانه بمجرّد الالتفات إلى العلّة ينقلب ظنّه من المعلول إلى الظن بالعلة ، وفي مثالنا من النجاسة إلى الطهارة .

( ويشهد لما ذكرنا ) من ان الاستصحاب المعتبر عند العقلاء من باب الظن ، إنّما يجرونه في الشك السببي لا المسبّبي ( أنّ العقلاء البانين على الاستصحاب )

ص: 189

في اُمور معاشهم ، بل معادهم لا يلتفتون في تلك المقامات إلى هذا الاستصحاب أبدا .

ولو نبّههم أحد لم يعتنوا فيعزلون حصّة الغائب من الميراث ويصحّحون معاملة وكلائه ويؤدّون عنه فطرته إذا كان عيالهم ، إلى غير ذلك من موارد ترتيب الآثار الحادثة على المستصحب .

-------------------

من باب الظن النوعي أو الشخصي - مثلاً - تراهم ( في اُمور معاشهم ، بل معادهم لا يلتفتون في تلك المقامات ) أي : مقامات وجود الشك السببي والشك المسبّبي ( إلى هذا الاستصحاب ) المسبّبي ( أبدا ، و ) إنّما يجرون الاستصحاب في الشك السببي فقط ، حتى انه ( لو نبّههم أحد لم يعتنوا ) بالشك المسبّبي .

وأمّا مثاله : فكما قال : ( فيعزلون حصّة الغائب من الميراث ) لاستصحاب حياة ذلك الغائب ، ولا يعتنون باستصحاب عدم ارثه الذي كان قبل موت مورّثه ، فإنّ الغائب قبل موت مورّثه لم يكن وارثا ، فإذا مات المورّث شككنا في انه هل يرث أو لا يرث ؟ فلا يستصحبون انه لا يرث ، بل يقدّمون على هذا الاستصحاب المسبّبي استصحاب بقائه وهو الاستصحاب السببي .

( ويصحّحون معاملة وكلائه ) أي : وكلاء الغائب باستصحاب حياة الموكّل ، ويقدّمون هذا الاستصحاب السببي ، على استصحاب عدم صحة المعاملات المسبّبي .

( ويؤدّون عنه ) أي : عن الغائب ( فطرته إذا كان عيالهم ) وذلك استصحابا لبقائه ، ولا يستصحبون عدم وجوب الفطرة عليهم المسبّبي .

( إلى غير ذلك من موارد ترتيب الآثار الحادثة ) كطهارة الثوب المغسول بماء مستصحب الطهارة ، إضافة إلى ترتيب الآثار الثابتة ( على المستصحب ) كوجوب

ص: 190

ثم إنّه يظهر الخلاف في المسألة من جماعة ، منهم : الشيخ ، والمحقّق ، والعلاّمة في بعض أقواله ، وجماعة من متأخّري المتأخّرين .

فقد ذهب الشيخ في المبسوط إلى عدم وجوب فطرة العبد إذا لم يُعلم خبره .

واستحسنه المحقّق في المعتبر ، مجيبا عن الاستدلال للوجوب بأصالة البقاء بأنّها معارضة بأصالة عدم الوجوب ،

-------------------

نفقة الزوجة ، فانهم في الموردين يقدّمون الاستصحاب السببي على المسبّبي ، فلا يحكمون بأصالة عدم وجوب النفقة ، كما لا يحكمون بأصالة عدم الارث ، وأصالة عدم صحة المعاملات ، وأصالة عدم وجوب الفطرة عليهم .

( ثم إنّه يظهر الخلاف في المسألة ) وانه هل السببي مقدّم على المسبّبي أم لا ؟ ( من جماعة ) من الفقهاء ( منهم : الشيخ ، والمحقّق ، والعلاّمة في بعض أقواله ، وجماعة من متأخّري المتأخّرين ، فقد ذهب الشيخ في المبسوط إلى عدم وجوب فطرة العبد إذا لم يُعلم خبره ، و ) ذلك فيما إذا هرب ولم يعلم هل انه بعد في قيد الحياة أو قد مات ؟ .

هذا ، وقد ( استحسنه المحقّق في المعتبر ، مجيبا عن الاستدلال للوجوب ) أي : استدلال القائلين بوجوب فطرة العبد على المولى ( بأصالة البقاء ) أي : باستصحاب حياة العبد الذي قد غاب ولم يُعلم خبره ، ومعه لا يصح الحكم بعدم وجوب فطرته على المولى ، فأجاب المحقق : ( بأنّها معارضة بأصالة عدم الوجوب ) أي : قال بتعارض أصلين هنا : أصل عدم وجوب الفطرة مع أصل بقاء العبد ، فإذا تعارضا تساقطا ، وإذا تساقطا لم يجب فطرته على مولاه ، مع وضوح : انّ أصل البقاء حاكم على أصل عدم وجوب الفطرة .

ص: 191

وعن تنظير وجوب الفطرة عنه بجواز عتقه في الكفارة ، بالمنع عن الأصل تارة والفرق بينهما اُخرى .

وقد صرّح في اُصول المعتبر

-------------------

( و ) كذا أجاب المحقق ( عن تنظير ) المستدلين على ( وجوب الفطرة عنه ) أي : عن العبد الذي لم يُعلم خبره ( بجواز عتقه في الكفارة ) أي قالوا : ان استصحاب حياة العبد كما يصحّح عتقه عن الكفارة ، فكذلك يوجب فطرته أيضا ، فأجاب عنه المحقّق بجوابين :

أوّلاً : ( بالمنع عن الأصل تارة ) وذلك لأن أصل بقاء حياة العبد معارض - بنظر المحقق كما عرفت - بأصل عدم جواز عتقه ، ومع التعارض يتساقطان ، فلا يجوز عتقه لمولاه .

ثانيا : ( والفرق بينهما اُخرى ) أي : أجاب بعد تسليم جواز عتق العبد الذي لم يعلم خبره ، بالفرق بين وجوب الفطرة على مولاه وجواز عتقه له في الكفارة ، وذلك لأنّ العتق هو إسقاط ما في ذمة المولى من حق اللّه المبني على التخفيف ، فيكفي فيه عتق العبد الهارب الذي لم يُعلم خبره ، بينما الفطرة انتزاع مال على المولى ، فلا يجب ما دام لم يثبت سببه الذي هو حياة العبد .

لكن لا يخفى : ان كلا الجوابين غير تام ، أمّا الأوّل : فلما عرفت من حجيّة الاستصحاب وحكومة الأصل السببي على المسبّبي .

وأما الثاني : فلأنّ العبد إذا كان موجودا - ولو بالاستصحاب - صحّ العتق ووجبت الفطرة أيضا ، وإذا لم يكن موجودا حتى ولو بالاستصحاب ، فلا يصحّ العتق ، كما لا تجب فطرته على المولى أيضا .

هذا ( وقد صرّح ) المحقّق صاحب الشرائع ( في اُصول المعتبر ) علما بأنّ

ص: 192

بأنّ استصحاب الطهارة عند الشك في الحدث ، معارضٌ باستصحاب عدم براءة الذمّة بالصلاة بالطهارة المستصحبة .

وقد عرفت : أنّ المنصوص في صحيحة زرارة العملُ باستصحاب الطهارة على وجه يظهر منه خلوُّه عن المعارض ، وعدم جريان استصحاب الاشتغال .

وحكي عن العلامة في بعض كتبه : الحكم بطهارة الماء القليل الواقع

-------------------

« المعتبر » هو كتاب فقهي قد صدّره المحقق بشيء من الاُصول وقال فيه : ( بأنّ ) الأصل السببي الذي هو ( استصحاب الطهارة عند الشك في الحدث ، معارضٌ ) بالأصل المسبّبي يعني : ( باستصحاب عدم برائة الذمّة بالصلاة بالطهارة المستصحبة ) ومع تعارضهما يتساقطان ، فيرجع إلى قاعدة اشتغال ذمته بالصلاة ، فيجب عليه أداء الصلاة ثانية بطهارة قطعية .

وإنّما صرّح المحقق بالتساقط لأنه يرى المعارضة بين الاستصحابين : السببي والمسبّبي ( وقد عرفت : أنّ المنصوص في صحيحة زرارة (1) ) المتقدّمة ، الواردة فيمن توضأ ثم عرضت عليه الخفقة والخفقتان هو : ( العملُ باستصحاب الطهارة ) وصحة الصلاة ، وذلك ( على وجه يظهر منه خلوُّه ) أي : خلوّ استصحاب الطهارة السببي ( عن المعارض ، و ) هو استصحاب الاشتغال المسبّبي ، يعني : ( عدم جريان استصحاب الاشتغال ) فلا يجري استصحاب اشتغال ذمته بالصلاة التي صلاها بالطهارة المستصحبة لأنّه استصحاب مسبّبي .

هذا ( وحكي عن العلامة في بعض كتبه : الحكم بطهارة الماء القليل الواقع

ص: 193


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

فيه صيدٌ مرميّ لم يعلم استناد موته إلى الرّمي ، لكنّه اختار في غير واحد الحكم بنجاسة الماء .

وتبعه عليه الشهيدان ، وغيرهما ، وهو المختار ، بناءا على ما عرفت تحقيقه وأنّه إذا ثبت بأصالة عدم التذكية موت الصيد جرى عليه جميع أحكام الميتة ، التي منها : انفعال الماء الملاقي له .

-------------------

فيه صيد مرميّ لم يعلم استناد موته إلى الرّمي ) يعني : انه إذا رمى الصياد صيدا ، ثم وجده ميتا في ماء قليل ولم يعلم هل انه وقع في الماء القليل قبل موته ومات بسبب الماء حتى يكون حراما ويكون الماء نجسا ، أو انه مات بالرمي حتى يكون حلالاً ويكون الماء طاهرا ؟ فان العلامة حكم في هذه المسألة بطهارة الماء مع ان مقتضى استصحاب عدم التذكية الذي هو سببي : حرمة الحيوان ونجاسة الماء ، فالعلامة هنا حيث لم يقدّم الأصل السببي ، فهو ما قد عارض بين الأصل السببي والأصل المسبّبي ورجع بعد تساقطهما إلى قاعدة الطهارة ، وامّا جمع بين الأصل السببي والأصل المسبّبي ، وذلك باستصحاب عدم تذكية الصيد فهو حرام ونجس ، واستصحاب طهارة الماء فهو طاهر ومطهّر ، وسيأتي ان شاء اللّه تعالى بعض الكلام في ذلك .

( لكنّه ) أي : العلاّمة ( اختار في غير واحد ) من كتبه الفقهية ( الحكم بنجاسة الماء ) وذلك تقديما للأصل السببي على الأصل المسبّبي ( وتبعه عليه ) أي : على هذا الاختيار ( الشهيدان ، وغيرهما ، وهو المختار ) أي الحكم بنجاسة الماء هو مختار المصنّف أيضا وذلك ( بناءا على ما عرفت تحقيقه وأنّه إذا ثبت بأصالة عدم التذكية موت الصيد ) بلا تذكية ( جرى عليه ) أي : على هذا الصيد ( جميع أحكام الميتة ، التي منها : انفعال الماء الملاقي له ) وتنجّسه ، إضافة إلى حرمة الصيد

ص: 194

نعم ، ربما قيل : إنّ تحريم الصيد إن كان لعدم العلم بالتذكية ، فلا يوجب تنجّس الملاقي ، وإن كان للحكم عليه شرعا بعدمها اتجه الحكم بالتنجيس .

ومرجع الأوّل إلى كون حرمة الصيد مع الشك في التذكية للتعبّد من جهة الاخبار المعلّلة لحرمة أكل الميتة بعدم العلم بتذكيته .

-------------------

ونجاسته ، وغير ذلك ، فلا يجري استصحاب الطهارة في الماء .

( نعم ، ربما قيل : إنّ تحريم الصيد ) إنّما يكون نتيجة لأحد أمرين :

أولاً : ( إن كان لعدم العلم بالتذكية ) أي : بأن قال الشارع : ان كل ما لم يُعلم تذكيته فهو حرام تعبّدا بمعنى : أصالة الحرمة في اللحوم ، وهو غير أصالة عدم التذكية ، ومعه ( فلا يوجب تنجّس الملاقي ) لأن حكم الشارع إنّما كان على الحرمة فقط ، ولم يكن على انه غير مذكّى حتى يحكم بنجاسة ملاقيه .

ثانيا : ( وإن كان للحكم عليه شرعا بعدمها ) أي : وان كان تحريم الصيد المشكوك تذكيته إنّما هو من جهة حكم الشرع بعدم التذكية ، وذلك بأن قال الشارع : إنّ كل ما لم يُعلم تذكيته فهو غير مذكّى ، بمعنى : أصالة عدم التذكية ، وهو غير أصالة الحرمة ، ومعه فقد ( اتجه الحكم بالتنجيس ) لأن غير المذكّى حرام ونجس ، فيكون متنجّسا .

( ومرجع الأوّل ) أي : كون التحريم لعدم العلم بالتذكية الذي مرّ انه بمعنى أصالة الحرمة ( إلى كون حرمة الصيد مع الشك في التذكية ) إنّما هو ( للتعبّد من جهة الاخبار المعلّلة لحرمة أكل الميتة ) أي : المشكوك التذكية تعليلاً ( بعدم العلم بتذكيته ) أي : ان الاخبار تقول : ان كل ما لم يعلم تذكيته فهو حرام تعبّدا ، وهذا هو معنى أصالة الحرمة ، وهو غير أصالة عدم التذكية على ما عرفت - والحرمة

ص: 195

وهو حسنٌ لو لم يترتّب عليه من أحكام الميتة إلاّ حرمة الأكل ولا أظنّ أحدا يلتزمه ، مع أنّ المستفاد من حرمة الأكل كونها ميتة ، لا التحريم تعبّدا ، ولذا

-------------------

لا تستلزم النجاسة .

وبعبارة اُخرى : انّ الذين حكموا بحرمة ما شك في تذكيته تعبدا بالأخبار ، جعلوا أصالة الحرمة - وهي غير أصالة عدم التذكية - في اللحوم اصلاً برأسه ، فقالوا بالحرمة فقط ولم يقولوا بالنجاسة لأن الحرمة لا تلازم النجاسة ، كما نرى في التراب حيث انه حرام وليس بنجس ، فلا يتنجس الملاقي ، بينما الذين حكموا بحرمة ما شك في تذكيته لحكم الشارع عليه بانه غير مذكّى ، جعلوا أصالة عدم التذكية - وهي غير أصالة الحرمة - في اللحوم أصلاً برأسه ، فقالوا بحرمته وبنجاسته أيضا ، لأن غير المذكّى من آثاره الحرمة والنجاسة وعدم جواز استصحاب شيء منه في الصلاة وغير ذلك ، فيتنجس ملاقيه .

( وهو ) أي : الأوّل ( حسنٌ ) لكن لو تم ما يلي :

أولاً : ( لو لم يترتّب عليه من أحكام الميتة إلاّ حرمة الأكل ) أي : انّ الشارع إنّما تعبّدنا بعدم جواز أكله فقط دون سائر أحكام الميتة ، فيجوز استصحاب شيء منه في الصلاة ، ولا ينجس ملاقيه وهكذا ( ولا أظنّ أحدا يلتزمه ) فان الفقهاء حتى من يقول منهم بأن الحرمة تعبدية يقولون بملازمة الحرمة للنجاسة ، وعدم جواز الصلاة في شيء منه ، وتنجس ملاقيه ، وغير ذلك ، فلا قائل بالتفكيك .

ثانيا : ( مع أنّ المستفاد من حرمة الأكل ) الوارد في الأخبار هو : ( كونها ميتة ، لا التحريم تعبّدا ) أي : انّ الظاهر من الأخبار هو الحكم بالحرمة من جهة الحكم بكونها ميتة شرعا ، لا ان أصل الحرمة في اللحوم أمر قرره الشارع مجرّدا من دون ان يكون نجسا ولا منجّسا ( ولذا ) أي : لأن حرمة الأكل إنّما هو لكونه ميتة ،

ص: 196

استفيد بعض ما يعتبر في التذكية من النهي عن الأكل بدونه .

ثم إنّ بعض مَن يرى التعارض بين الاستصحابين في المقام صرّح بالجمع بينهما ، فحكم في مسألة الصيد بكونه ميتة والماء طاهرا .

ويرد عليه : أنّه لا معنى للجمع في مثل هذين الاستصحابين ،

-------------------

لا لمجرّد التعبد بتحريم الأكل فقط ( استفيد بعض ما يعتبر ) من الشروط ( في التذكية ) استفادة ( من النهي عن الأكل بدونه ) أي : بدون تلك الشروط كقوله سبحانه : « ولا تأكلوا مّما لم يذكر اسم اللّه عليه » (1) فإنّه يفيد كون الحيوان ميتة بدون التسمية ، لا انّه حرام الأكل تعبدا فقط .

وعليه : فإذا استفيد من الآية الكريمة وغيرها ان التسمية من شرائط التذكية ، كان معنى ذلك : انه إذا لم يذكر اسم اللّه عليه فهو غير مذكّى ، ومن المعلوم : ان غير المذكّى ميتة ، والميتة يلازمها حرمة الأكل والتنجيس والنجاسة وعدم جواز الصلاة في شيء منها ، وغير ذلك .

( ثم إنّ ) هنا بعد القول الأوّل بتقديم الاستصحاب السببي على المسبّبي ، وبعد القول الثاني بالتعارض بين الاستصحابين ، قولاً ثالثا يقول بالجمع بين الأصلين : السببي والمسبّبي ، وذلك لأن ( بعض مَن يرى التعارض بين الاستصحابين في المقام ) أي : في مقام توارد الأصلين : السببي والمسبّبي قد ( صرّح بالجمع بينهما ) أي : قال بأعمال كلٍ منهما في مورده ( فحكم في مسألة الصيد بكونه ميتة ) لا يجوز أكله ( و ) حكم على ( الماء ) القليل الملاقي له بكونه ( طاهرا ) فيجوز استعماله فيما يشترط فيه الطهارة .

( ويرد عليه : أنّه لا معنى للجمع في مثل هذين الاستصحابين ) السببي

ص: 197


1- - سورة الانعام : الآية 121 .

فانّ الحكم بطهارة الماء إن كان بمعنى ترتيب آثار الطهارة : من رفع الحدث والخبث به ، فلا ريب أنّ نسبة استصحاب بقاء الحدث والخبث إلى استصحاب طهارة الماء بعينها نسبةُ استصحاب طهارة الماء إلى استصحاب عدم التذكية .

وكذا الحكم بموت الصيد ، فانّه إن كان بمعنى انفعال الملاقي له بعد ذلك

-------------------

والمسبّبي .

وإنّما لا معنى للجمع بينهما لأنه كما قال : ( فانّ الحكم بطهارة الماء ) ان كان بمعنى جواز شربه فقط فهو ، ولكن ( إن كان بمعنى ترتيب ) كل ( آثار الطهارة : من رفع الحدث والخبث به ) لا جواز شربه فقط ( فلا ريب ) في انه يرد عليه : ( أنّ نسبة استصحاب بقاء الحدث والخبث ) بعد التطهّر بهذا الماء مسبّب ومستند ( إلى استصحاب طهارة الماء ) وهذه النسبة : مسبّبية والمسبّبية ( بعينها نسبةُ استصحاب طهارة الماء ) بعد وقوع الصيد فيه ( إلى استصحاب عدم التذكية ) وإذا كانت نسبتهما واحدة ، فلماذا التفريق بينهما ؟ .

وبعبارة اُخرى : انا لو أجرينا استصحاب طهارة الماء المسبّبي ولم نقدّم استصحاب عدم التذكية السببي عليه ، لزم أن نجري استصحاب الحدث والخبث المسبّبي بعد التطهّر بذلك الماء أيضا ولا نقدّم استصحاب طهارة الماء السببي عليه ، بينما لا تجرون استصحاب الحدث والخبث ، لأنكم - حسب الفرض - ترفعون الحدث والخبث بهذا الماء ، فلماذا التفريق بين الموردين مع ان نسبتهما واحدة ؟ .

( وكذا الحكم بموت الصيد ) وعدم التذكية ( فانّه إن كان بمعنى ) حرمة الأكل فقط فهو ، ولكن ان كان بمعنى ( انفعال الملاقي له بعد ذلك ) أي : تنجّس سائر

ص: 198

والمنع عن استصحابه في الصلاة ، فلا ريب أنّ استصحاب طهارة الملاقي ، واستصحاب جواز الصلاة معه قبل زهاق روحه ، نسبتُهما إليه كنسبة استصحاب طهارة الماء إليه .

ومّما ذكرنا يظهر النظر فيما ذكره في الايضاح تقريبا للجمع بين الأصلين في الصيد الواقع في الماء

-------------------

ما يلاقي هذا الصيد بعد الحكم بموته ( والمنع عن استصحابه ) أي : عن حمل شيء من الصيد معه ( في الصلاة ، فلا ريب ) في انه يرد عليه : ( أنّ استصحاب طهارة الملاقي ، واستصحاب جواز الصلاة معه قبل زهاق روحه ) المسبّب عن الشك في التذكية ( نسبتُهما إليه ) أي : نسبة طهارة سائر ما يلاقي الصيد ، وحمل شيء منه في الصلاة إلى الحكم بموت الصيد ( كنسبة استصحاب طهارة الماء إليه ) أي : إلى الحكم بموت الصيد : فانه مسبّب عن الشك في التذكية أيضا ، فلماذا التفكيك بينهما ؟ .

وبعبارة اُخرى : إنّا لو أجرينا استصحاب طهارة الماء ، ولم نقدّم استصحاب عدم التذكية عليه ، لزم أن نجري استصحاب طهارة سائر ما يلاقي الصيد ، وأن نجري أيضا استصحاب ما كان قبل زهاق روح الصّيد من جواز حمل المصلّي شيئا من أجزائه معه في الصلاة ، والمفروض انكم لا تجرونه فيهما : فإذا لم تجروا الاستصحابين الأخيرين لزم أن لا تجروا الاستصحاب الأوّل أيضا ، وذلك لأن نسبتهما ونسبته إليه واحدة ، فالتفريق بين الموردين لماذا ؟ .

( ومّما ذكرنا ) في ردّ القول الثالث : من انه لا معنى للجمع بين الاستصحابين : السببي والمسبّبي ( يظهر النظر فيما ذكره في الايضاح تقريبا للجمع بين الأصلين ) السببي والمسبّبي ، وذلك كما ( في الصيد الواقع ) ميّتا ( في الماء

ص: 199

القليل ، من : « أنّ لأصالة الطهارة حكمين : طهارة الماء وحلّ الصيد ، ولأصالة الموت حكمان : لحوق أحكام الميتة للصيد ونجاسة الماء ، فيعمل بكلّ من الأصلين في نفسه لأصالته دون الآخر

-------------------

القليل ) حيث لم نعلم هل انّ موته مستند إلى الماء ، أو انّ موته مستند إلى الرمي؟ فإن ما ذكره في الإيضاح ( من ) الجمع بين الأصلين هنا هو على ما يلي :

قال : ( « أنّ لأصالة الطهارة حكمين : طهارة الماء ) وهو أولاً وبالذات يعني بمدلوله المطابقي ( وحلّ الصيد ) وهو ثانيا وبالعرض يعني بمدلوله الالتزامي ، فان استصحاب طهارة الماء يقتضي بالأصالة والدلالة المطابقية طهارة الماء ، كما انه يقتضي بالعرض والدلالة الالتزامية حلّية الصيد ، فطهارة الماء متبوع وملزوم ، وحلّ الصيد تابع ولازم .

( ولأصالة الموت ) وعدم التذكية أيضا ( حكمان : لحوق أحكام الميتة ) وهو أوّلاً وبالذات وبالمدلول المطابقي ( للصيد ) المذكور ( ونجاسة الماء ) الملاقي لهذا الصيد وهو ثانيا وبالعرض وبالمدلول الالتزامي ، فان استصحاب عدم التذكية يقتضي بالأصالة والدلالة المطابقية كون الصيد ميتة ، كما انه يقتضي بالعرض والدلالة الالتزامية تنجّس الماء الملاقي له ، فعدم التذكية متبوع وملزوم ، وتنجس ملاقيه تابع ولازم .

قال : ( فيعمل بكلّ من الأصلين ) المتبوعين ( في نفسه ) أي : في مدلوله المطابقي ( لأصالته ) أي : لأن الحكم في كل من هذين الأصلين المتبوعين كان أولاً وبالذات ( دون الآخر ) أي : دون كل من الأصلين التّابعين ، اللذين كان الحكم في كل منهما بالمدلول الالتزامي ، فانه لا يعمل بكل من هذين الأصلين التابعين

ص: 200

لفرعيّته فيه » ، انتهى .

وليت شعري ! هل نجاسة الماء إلاّ من أحكام الميتة ؟ فأين الأصالة والفرعية ، وتبعه في ذلك بعض من عاصرناه ، فحكم في الجلد المطروح بأصالة الطهارة وحرمة الصلاة فيه .

ويظهر ضعفُ ذلك مّما تقدّم .

-------------------

( لفرعيّته فيه » (1) ) أي : لفرعية الحكم في كل منهما ، لأنه كان ثانيا وبالعرض ، فلا يجري الاستصحاب فيه .

وعليه : فيكون خلاصة قوله بالجمع هو : أن نعمل بأصالة الطهارة في الماء دون الصيد ، فلا نقول بحلّية الصيد ، وكذلك نعمل بأصالة عدم التذكية في الصيد دون الماء ، فلا نقول بنجاسة الماء ، وبذلك نكون قد جمعنا بين الأصلين : السببي والمسبّبي ( انتهى ) كلام الايضاح .

( وليت شعري ) أي : ليت علمي - كما في كتاب العين للخليل - ( هل نجاسة الماء إلاّ من أحكام الميتة ؟ فأين الأصالة والفرعية ) حتى نفكّك بينهما ؟ .

( وتبعه ) أي : تبع الايضاح ( في ذلك ) التقريب الذي قرّب به الجمع بين الأصلين : السببي والمسبّبي ( بعض من عاصرناه ) وهو صاحب القوانين المحقّق القمي رحمه اللّه ( فحكم في الجلد المطروح ) في أرض يشك معه في تذكية الجلد ( بأصالة الطهارة ) في ذلك الجلد ، فلا يتنجّس ملاقيه ( وحرمة الصلاة فيه ) أي : في ذلك الجلد ، وذلك لأصالة الاشتغال في الصلاة إلاّ ما إذا أحرز حلّية وطهارة لباس المصلي .

( ويظهر ضعفُ ذلك مّما تقدّم ) من انه لا تفكيك بين الأمرين ، لوضوح :

ص: 201


1- - إيضاح الفوائد في شرح القواعد : ج1 ص24 .

وأضعف من ذلك حكمه في الثوب الرطب المستصحب النجاسة المنشور على الأرض بطهارة الأرض ، إذ لا دليل على أنّ النجس بالاستصحاب منجّس .

وليت شعري ! إذا لم يكن النجس بالاستصحاب

-------------------

انّ الشك في تنجّس الملاقي لهذا الجلد ، وكذا الشك في جواز الصلاة مع هذا الجلد، كلاهما مسبّبان عن الشك في التذكية ، فان أجرينا استصحاب عدم التذكية يلزم القول بتنجّس الملاقي ، وبعدم جواز الصلاة فيه معا ، وإلاّ فلا ، وحينئذ لا معنى لترتب أحد الأثرين الذي هو حرمة الصلاة مع هذا الجلد ، دون الأثر الآخر الذي هو تنجس ملاقيه .

( وأضعف من ذلك حكمه ) أي حكم المحقق القمّي رحمه اللّه ( في الثوب الرطب المستصحب النجاسة المنشور على الأرض ) حكما ( بطهارة الأرض ) مع ان النجس الرطب يسري نجاسته إلى ما يلاقيه .

قال : ( إذ لا دليل على أنّ النجس بالاستصحاب منجّس ) ممّا يظهر منه ان المحقّق القمي يرى ان النجس ، المعلوم بالوجدان أو بالبينة منجّس لا غيره ، فإذا استصحبنا نجاسة الثوب فيما لو لم نعلم هل طهّره أحد أو لم يطهّره؟ لا يكون منجّسا .

هذا هو ما يراه المحقّق القمي هنا من الجمع بين الاستصحابين : استصحاب طهارة الأرض ، واستصحاب نجاسة الثوب ، وأمّا كون هذا أضعف من سابقه ، فلتعليله الجمع بين الأصلين : السببي والمسبّبي بعدم الدليل على انّ مستصحب النجاسة منجّس .

قال المصنّف في جوابه : ( وليت شعري إذا لم يكن النجس بالاستصحاب

ص: 202

منجّسا ، ولا الطاهر به مطهّرا ، فكان كلّ ما ثبت بالاستصحاب لا دليل على ترتيب آثار الشيء الواقعي عليه ، لأنّ الأصل عدم تلك الآثار ، فأيّ فائدة في الاستصحاب ؟ .

وقال في الوافية في شرائط الاستصحاب : « الخامس : أن لا يكون هناك استصحاب في أمر ملزوم له

-------------------

منجّسا ، ولا الطاهر به ) أي : بالاستصحاب كالماء المستصحب الطهارة ( مطهّرا ) على ما يظهر من كلام القمي .

إذن : ( فكان كلّ ما ثبت بالاستصحاب لا دليل على ترتيب آثار الشيء الواقعي عليه ) فلا يترتب على مستصحب النجاسة آثار النجس، كما لا يترتب على مستصحب الطهارة آثار الطاهر ، وهكذا .

وإنّما يستلزم هذا الجمع عدم ترتيب الآثار الشرعية لكل ما يثبت بالاستصحاب ( لأنّ الأصل عدم تلك الآثار ) الحادثة التي نريد ترتيبها بسبب الاستصحاب ، كترتيب الطهارة على الثوب النجس المغسول بماء مستصحب الطهارة ، وترتيب النجاسة على الأرض الطاهرة المنشور عليها الثوب الرطب المستصحب الطهارة ، وهكذا ، ومعه ( فأيّ فائدة في الاستصحاب ؟ ) علما بأنّ الاستصحاب إنّما هو لترتيب الآثار ، فإذا لم يفد ذلك لغى الاستصحاب بالمرّة ، وذلك ما لا يقول به أحد .

( وقال ) صاحب كتاب الوافية وهو الفاضل التوني ( في الوافية في شرائط الاستصحاب ) ما يؤيّد قول المصنّف في تقديم الأصل السببي على المسبّبي ، فانه قال : ( « الخامس : أن لا يكون هناك ) عند اجراء الاستصحاب في شيء كاستصحاب طهارة الأرض ( استصحاب في أمر ملزوم له ) أي : ملزوم لذلك

ص: 203

بخلاف ذلك المستصحب مثلاً : إذا ثبت في الشرع : أنّ الحكم بكون الشيء ميتةً يستلزم الحكم بنجاسة الماء القليل الواقع فيه ، فلا يجوز الحكم بطهارة الماء القليل ونجاسة الحيوان في مسألة الصيد المرميّ الواقع فيه وأنكر بعض الأصحاب ثبوت هذا التلازم وحكم بنجاسة الصيد وطهارة الماء » ، انتهى .

-------------------

الشيء كاستصحاب نجاسة الثوب الرطب المنشور على الأرض فيما لو كان ( بخلاف ذلك المستصحب ) وهو في مثالنا طهارة الأرض ، فان استصحاب طهارة الأرض يخالفه استصحاب نجاسة الثوب المنشور عليها .

قال : ( مثلاً : إذا ثبت في الشرع : أنّ الحكم بكون الشيء ميتةً ) كالصيد المشكوك ذكاته الواقع في الماء القليل ، فانه ( يستلزم الحكم بنجاسة الماء القليل الواقع فيه ) أي : الذي وقع فيه ذلك الصيد ( فلا يجوز ) الجمع بين الاستصحابين السببي والمسبّبي ، يعني : لا يجوز ( الحكم بطهارة الماء القليل ) لاستصحاب طهارته ( ونجاسة الحيوان ) لاستصحاب عدم التذكية ( في مسألة الصيد المرميّ الواقع فيه ) أي : في ذلك الماء ، فان الاستصحابين لا يجتمعان ، لأن الاستصحاب في الملزوم السببي يمنع من الاستصحاب في اللازم المسبّبي .

ثم قال : ( وأنكر بعض الأصحاب ثبوت هذا التلازم ) في ظاهر الشرع بين استصحاب عدم التذكية السببي ، وبين نجاسة الماء المسبّبي ، فلم يقل بتقديم الأصل السببي على المسبّبي ، بل جمع بين الأصلين على ما مرّ سابقا ( و ) لذلك ( حكم بنجاسة الصيد وطهارة الماء » (1) ، انتهى ) كلام الفاضل التوني ممّا يؤيّد

ص: 204


1- - الوافية : مخطوط .

ثمّ اعلم أنّه قد حكى بعض مشايخنا المعاصرين عن الشيخ علي في حاشية الروضة : « دعوى الاجماع على تقديم الاستصحاب الموضوعي على الحكمي » .

ولعلّها مستنبطةٌ حدسا من بناء العلماء واستمرار السيرة على ذلك ، إذ لا يعارض أحدٌ استصحاب كرّية الماء باستصحاب بقاء النجاسة فيما يغسل به ،

-------------------

ما ذكره المصنّف : من انه لا يمكن الجمع بين الأصلين المذكورين ، وإنّما يلزم تقديم الأصل السببي على الأصل المسبّبي .

( ثمّ اعلم أنّه قد حكى بعض مشايخنا المعاصرين ) ولعله أراد به استاذه شريف العلماء رحمه اللّه ( عن الشيخ علي ) حفيد الشهيد الثاني ( في حاشية الروضة : « دعوى الاجماع على تقديم الاستصحاب الموضوعي ) كاستصحاب عدم التذكية ( على الحكمي » ) كاستصحاب طهارة الماء ، فانه إذا كان هناك استصحاب موضوعي واستصحاب حكمي قدّم الاستصحاب الموضوعي على الاستصحاب الحكمي ، فيتقدّم استصحاب عدم التذكية على استصحاب طهارة الماء القليل الملاقي له .

( ولعلّها ) أي : لعل دعوى الاجماع هذه من الشيخ علي - حفيد الشهيد الثاني - تكون ( مستنبطةٌ حدسا من بناء العلماء واستمرار السيرة على ذلك ) لا حسا ، فكأن الشيخ علي تتبّع فتاوى العلماء في الجملة فوجد أنهم يقدّمون الأصل الموضوعي على الحكمي ، فظن انهم مجمعون على ذلك ، فادّعى الاجماع حدسا من فتاواهم ( إذ ) من المعلوم : انه ( لا يعارض أحدٌ استصحاب كرّية الماء ) الذي هو استصحاب موضوعي ( باستصحاب بقاء النجاسة فيما يغسل به )

ص: 205

ولا استصحاب القلّة باستصحاب طهارة الماء الملاقي للنجس ، ولا استصحاب حياة الموكّل باستصحاب فساد تصرّفات وكيله .

لكنّك قد عرفت فيما تقدّم من الشيخ والمحقّق خلاف ذلك ، هذا

-------------------

الذي هو استصحاب حكمي ، بل يقدّمون الاستصحاب الموضوعي على الحكمي ويحكمون بطهارة ما غسل به .

( ولا ) يعارض أحد ( استصحاب القلّة ) في الماء ، الذي هو استصحاب موضوعي ( باستصحاب طهارة الماء الملاقي للنجس ) الذي هو استصحاب حكمي ، بل يقدّمون الأوّل على الثاني ويحكمون بنجاسة الماء المتلاقي مع النجس .

( ولا ) يعارض أحد ( استصحاب حياة الموكّل ) الذي هو استصحاب موضوعي ( باستصحاب فساد تصرّفات وكيله ) الذي هو استصحاب حكمي ، بل انهم يستصحبون حياة الموكل الموضوعي ، ويحكمون بصحة تصرفاته الحكمي، وإلى غير ذلك من الموارد الاُخرى ، التي أفتى بها الفقهاء ، وحَدسَ الشيخ علي ، الاجماع منها .

( لكنّك قد عرفت ) انه لا اجماع في المسألة لوجهين :

الوجه الأوّل : انّه قد سبق ( فيما تقدّم من الشيخ ) الطوسي في المبسوط ( والمحقّق ) في المعتبر ( خلاف ذلك ) الذي ادّعاه الشيخ علي من الاجماع ، فان الشيخ الطوسي وكذلك العلاّمة والمحقق قالوا بتعارض استصحاب حياة العبد مع استصحاب عدم وجوب الفطرة عنه ، ولم يقدّموا ( هذا ) الأصل الموضوعي وهو هنا : استصحاب الحياة ، على الحكمي .

ص: 206

مع أنّ الاستصحاب في الشك السببي دائما من قبيل الموضوعي بالنسبة إلى الآخر ، لأنّ زوال المستصحب الآخر من أحكام بقاء المستصحب بالاستصحاب السببي ، فهو له من قبيل الموضوع للحكم ، فانّ طهارة الماء من أحكام الموضوع الذي حمل عليها زوال النجاسة عن المغسول به .

-------------------

الوجه الثاني : ( مع أنّ الاستصحاب في الشك السببي ) سواء كان مورده في الموضوع كالأمثلة المتقدمة ، أو في الحكم كاستصحاب الطهارة للماء الذي غسل به ثوب نجس ، يكون ( دائما من قبيل الموضوعي بالنسبة إلى الآخر ) أي : إلى الاستصحاب المسبّبي .

وذلك ( لأنّ زوال المستصحب الآخر ) المسبّب هو ( من أحكام بقاء المستصحب بالاستصحاب السببي ) كما ذكرناه في الأمثلة السابقة .

إذن : ( فهو ) أي : الاستصحاب السببي ( له ) أي : بالنسبة إلى_'feالاستصحاب المسبّبي ( من قبيل الموضوع للحكم ) أي : ان المستصحب السببي كالموضوع ، والمستصحب المسبّبي كالحكم ، وكلّما وجد الموضوع ترتَّب عليه الحكم .

وعليه : ( فانّ طهارة الماء ) الذي هو سببي ( من أحكام الموضوع الذي حمل عليها ) أي : على الطهارة المستصحبة ( زوال النجاسة عن المغسول به ) أي : عن الثوب المغسول بذلك الماء ، فبقاء طهارة الماء بمنزلة الموضوع ، وزوال نجاسة الثوب بمنزلة الحكم ، فيترتب عليه ، كما يترتب زوال نجاسة الثوب الذي هو بمنزلة الحكم ، على بقاء كرّية الماء الذي هو بمنزلة الموضوع ، بلا فرق بين الموردين : السببي الحكمي ، وهو طهارة الماء والسببي الموضوعي وهو كرّية

ص: 207

وأيّ فرق بين استصحاب طهارة الماء واستصحاب كرّيته .

هذا كلّه فيما إذا كان الشك في أحدهما مسبّبا عن الشك في الآخر .

-------------------

الماء ، ولذلك قال : ( وأيّ فرق بين استصحاب طهارة الماء ) الذي هو سببي حكمي لإثبات زوال نجاسة الثوب المغسول به ( واستصحاب كرّيته ) أي : كرّية الماء الذي هو سببي موضوعي لإثبات عدم تنجسّه وزوال نجاسة الثوب المغسول به ؟ فما الفرق بينهما حتى اختلفوا فيهما على ثلاثة أقوال : بين مقدّم للسببي على المسبّبي ، وبين معارض بينهما ، وبين جامع لهما ، مع ان جانب السبب مثل كل من الكرّية والطهارة في المثال موضوع دائما لطرف المسبّب ؟ .

والحاصل : إنّ المصنِّف أشكل على اجماع الشيخ علي باشكالين :

أحدهما : انّه ينافيه خلاف مثل الشيخ والمحقق والعلامة في مثال وجوب الفطرة عن العبد الغائب الذي لم يعلم بقاؤه وعدم بقائه ، وذلك على ما عرفت ، فليس هناك اجماع في المسألة .

الثاني : انّ الشك السببي والمسبّبي من قبيل الموضوع والحكم دائما ، ومع ذلك اختلفوا في تقديم الاستصحاب السببي على المسبّبي إلى ثلاثة أقوال : فقول بتقديم السببي ، وقول بتعارضهما وتساقطهما ، و قول بالجمع بينهما ، فكيف يمكن مع ذلك ادعاء الاجماع في المسألة .

( هذا كلّه فيما إذا كان الشك في أحدهما مسبّبا عن الشك في الآخر ) حيث يجري الاستصحاب في الشك السببي لا في الشك المسبّبي ، فلا تعارض بينهما .

ص: 208

وأمّا القسم الثاني

وهو ما إذا كان الشك في كليهما مسبّبا عن أمر ثالث ، فمورده : ما إذا علم ارتفاع أحد الحادثين لا بعينه وشك في تعيينه فامّا أن يكون العمل بالاستصحابين مستلزما لمخالفة قطعية عملية لذلك العلم الاجمالي ، كما لو علم اجمالاً بنجاسة أحد الطاهرين ، وإمّا ان لا يكون .

وعلى الثاني فامّا أن يقوم دليل من الخارج على عدم الجمع ،

-------------------

( وأمّا القسم الثاني ) من تعارض الاستصحابين ( وهو ما إذا كان الشك في كليهما مسبّبا عن أمر ثالث ) كالعلم الاجمالي الحاصل للمكلّف بأن أحد الاستصحابين غير صحيح ( فمورده : ما إذا علم ارتفاع أحد الحادثين لا بعينه وشك في تعيينه ) كما إذا علم بطهارة كلٍ من الانائين ، ثم علم بنجاسة أحدهما ، فإنّ أحد استصحابي الطهارة مرفوع قطعا ، لكن المكلّف لا يعلم هل ارتفع استصحاب الطهارة عن هذا الاناء الأبيض أو عن ذاك الاناء؟ وهذا على أقسام :

الأوّل : ( فامّا أن يكون العمل بالاستصحابين مستلزما لمخالفة قطعية عملية لذلك العلم الاجمالي ) بأن لم تكن المخالفة للعلم الاجمالي احتمالية بل قطعية ، كما انها ليست التزامية بل عملية ، وذلك ( كما لو علم اجمالاً بنجاسة أحد الطاهرين ) حيث انهما مستصحبا الطهارة ، فإذا شربهما - مثلاً - علم بأنّه قد شرب النجس ، وهو مخالفة عملية قطعية للعلم الاجمالي .

الثاني : ( وإمّا ان لا يكون ) العمل بالاستصحابين مستلزما لمخالفة قطعية عملية ( وعلى الثاني ) هذا ، وهو : ان لا يكون مستلزما لمخالفة قطعية عملية للعلم الاجمالي ( فامّا أن يقوم دليل من الخارج على عدم الجمع ) بين الاستصحابين

ص: 209

كما في الماء النجس المتمّم كرّا بماء طاهر ، حيث قام الاجماع على اتحاد حكم المائين أولاً .

وعلى الثاني إمّا أن يترتب أثر شرعي على كلّ من المستصحبين في الزمان اللاحق ، كما في استصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن في من توضأ غافلاً بمايع مردّد بين الماء والبول .

-------------------

( كما في الماء النجس المتمّم كرّا بماء طاهر ، حيث ) ان الماء النجس مستصحب النجاسة ، والماء الطاهر مستصحب الطهارة ، لكنّا نعلم من الخارج أنّه لا يمكن الجمع بينهما في كرّ واحد ، لأنّه - مثلاً - قد ( قام الاجماع على اتحاد حكم المائين ) بعد جعلهما ماءً واحدا في كرّ ، فلا يمكن أن نستصحب الطهارة في طرف من هذا الكر ، والنجاسة في طرف آخر منه .

الثالث : ( أولاً ) بأن لم يقم دليل من الخارج على عدم الجمع ( وعلى ) هذا الشق ( الثاني ) من القسم الثاني ، يعني : القسم الثالث من الأقسام وهو : بأن لم يقم دليل من الخارج على عدم الجمع ، فانّه ( إمّا أن يترتب أثر شرعي على كلّ من المستصحبين في الزمان اللاحق ، كما في استصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن ) كليهما ( في من توضأ غافلاً بمايع مردّد بين الماء والبول ) فانّه حيث لا اجماع على عدم الجمع ، إذ لم يستلزم الجمع بين الاستصحابين مخالفة عملية للعلم الاجمالي وان استلزم المخالفة الالتزامية ، يستصحب طهارة بدنه فيحكم بعدم وجوب التطهير ، كما ويستصحب عدم تطهّره فيحكم بوجوب الوضوء ، مع انّه يعلم اجمالاً بزوال إما طهارة البدن ، أو حدث النفس ، لأنّ المايع إن كان ماءً ذهب حدث نفسه ، وإن كان بولاً ذهبت طهارة بدنه .

ص: 210

ومثله استصحاب طهارة المحلّ من واجدي المني في الثوب المشترك؛ وإمّا أن يترتب الأثر على أحدهما دون الآخر ، كما في دعوى الموكّل التوكيل في شراء العبد ، ودعوى الوكيل التوكيل في شراء الجارية .

-------------------

( ومثله ) : أي : مثل المثال السابق في ترتب الأثر الشرعي على كل من المستصحبين في الزمان اللاحق ( استصحاب طهارة المحلّ من واجدي المني في الثوب المشترك ) فانّه إذا كان نفران لهما ثوب مشترك ، فوجدا فيه منيّا يعلمان بأنه من أحدهما قطعا ، لكن اجمالاً وليس تفصيلاً ، فان لكل واحد منهما ان يستصحب طهارة بدنه عن خبث المني ، وأثره : عدم وجوب تطهير المحل ، وعن حدث الجنابة وأثره : عدم وجوب الغُسل عليه ، وإنّما يجوز لكل منهما ذلك ، لأنّه لم يحصل من عمل كل منهما بالاستصحاب مخالفة عملية للعلم الاجمالي ، ولا دليل من الخارج يوجب على أحدهما أو كليهما أن يرتّب على هذا المني المحتمل أحكام المني من حدث وخبث .

الرابع : ( وإمّا أن يترتب الأثر على أحدهما دون الآخر ، كما في دعوى الموكّل التوكيل في شراء العبد ، ودعوى الوكيل التوكيل في شراء الجارية ) فان زيدا إذا وكّل عمرا في شراء شيء ، ثم اختلفا ، فقال زيد : ان التوكيل كان في شراء العبد ، وقال عمرو : ان التوكيل كان في شراء الجارية ، فان استصحاب عدم التوكيل في شراء الجارية معارض باستصحاب عدم التوكيل في شراء العبد ، غير ان الأثر لم يكن للاستصحابين معا ، بل لأحدهما فقط ، وهو : استصحاب عدم التوكيل في شراء الجارية ، للزومه استرجاع الجارية من جانب مالكها ، واسترجاع المال من جانب مالكه ، فيُعمل بهذا الاستصحاب ، لأنّه لم يستلزم مخالفة عملية للعلم الاجمالي ، كما انّه لا دليل من اجماع ونحوه على عدمه ، بينما لا يُعمل

ص: 211

فهناك صور أربع :

أمّا الاُوليان :

اشارة

فيُحكَم فيهما بالتساقط ، دون الترجيح والتخيير ، وهنا دعويان .

إحداهما :

عدم الترجيح بما يوجد مع أحدهما من المرجّحات

-------------------

باستصحاب عدم التوكيل في شراء العبد ، لأنّه لا أثر له إذ هو مثبت .

إذن : ( فهناك صور أربع ) للمسألة وهي كالتالي :

الصورة الأولى : ما ذكره بقوله : « فاما أن يكون العمل بالاستصحابين مستلزما لمخالفة قطعية » .

الصورة الثانية: ما ذكره بقوله : «فاما ان يقوم دليل من الخارج على عدم الجمع».

الصورة الثالثة : ما ذكره بقوله : « إمّا أن يترتب أثر شرعي على كل من المستصحبين في الزمان اللاحق » .

الصورة الرابعة : ما ذكره بقوله : «وإما أن يترتب الأثر على أحدهما دون الآخر» .

( أمّا الاُوّليان ) وهما ما ذكره بقوله : « فإمّا أن يكون العمل بالاستصحابين » مستلزما لمخالفة قطعية ، وقوله : «فإمّا أن يقوم دليل من الخارج على عدم الجمع» ( فيُحكم فيهما بالتساقط ) للتعارض بينهما ( دون الترجيح ) لأحدهما على الآخر ( و ) دون ( التخيير ) بينهما ، فلا يكون المكلّف مخيّرا بين هذا وبين ذاك .

( وهنا دعويان ) كالتالي :

( إحداهما : عدم الترجيح بما يوجد مع أحدهما من المرجّحات ) أي : بأن يكون هناك مرجح لأحدهما ، لكن لا نقول بالترجيح به ، وذلك كما إذا فرض

ص: 212

خلافا لجماعة .

قال في محكيّ تمهيد القواعد : « إذا تعارض أصلان ، عمل بالأرجح منهما ، لاعتضاده بما يرجّحه ، فان تساويا خرج في المسألة وجهان غالبا ،

-------------------

نصفي كرٍّ من الماء أحدهما نجس والآخر طاهر فتلاقيا ، حيث يستصحب نجاسة النجس وطهارة الطاهر فيتعارضان ويتساقطان ، لكن المشهور حكموا بنجاسته ، والشهرة هنا تكون مرجّحا لاستصحاب النجاسة ، إلاّ انّا ندّعي : ان مثل هذه الشهرة لا توجب تقديم استصحاب النجاسة على استصحاب الطهارة .

( خلافا لجماعة ) حيث رجّحوا أحد الاستصحابين المتعارضين بمرجّح خارجي ، فقد ( قال ) الشهيد الثاني رحمه اللّه ( في محكيّ تمهيد القواعد : « إذا تعارض أصلان ، عمل بالأرجح منهما ، لاعتضاده بما يرجّحه ) من دليل أو أصل ، ففي المثال السابق قدّم استصحاب النجاسة لاعتضاده بالشهرة وحكم بنجاسة الماء .

ثم قال : ( فان تساويا ) بأن لم يكن لأحدهما مرجّح يعضده ، كما إذا كان هناك ماءان طاهران فتنجّس أحدهما ، حيث يستصحب الطهارة فيهما بلا مرجّح لأحدهما على الآخر ، ففي مثال التساوي قال : ( خرج في المسألة وجهان غالبا ) أي : لا دائما ، والوجهان هما كما يلي :

الوجه الأوّل : تساقط الأصلين والرجوع : إلى أصل ثالث ، وذلك استنادا إلى التعارض الموجب للتساقط عند المشهور .

الوجه الثاني : العمل بالأصلين معا ، وذلك استنادا إلى قول الشارع : « حتى تعلم انّه حرام بعينه » (1) وحيث لا نعلم بأنّ أحد المائين حرام بعينه أو نجس

ص: 213


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

ثم مثّل له بأمثلة ، منها : مسألة الصيد الواقع في الماء » إلى آخر ما ذكره .

وصرّح بذلك

-------------------

بعينه ، نجري الأصلين معا فنحكم عليهما بالطهارة جميعا .

وإنّما قال المصنّف : « غالبا » ولم يقل : دائما ، ليشير - على ما قيل - إلى عدم خروج الوجهين في بعض الموارد ، بل خروج وجه واحد فقط ، وهو الحكم بالتساقط ، والرجوع إلى أصل ثالث ، وذلك كما في باب الدماء والاعراض - مثلاً - فان فيها يتساقط الأصلان ويرجع إلى أصل الاحتياط ، فإذا علم شخص بأن إحدى هاتين المرأتين اخته من الرضاعة ، فلا يجوز له اجراء الأصلين معا والحكم بجواز الزواج منهما ، أو علم الأب بأن أحد هذين الشخصين قتل ابنه عمدا ، فلا يجوز له قتلهما ، أو علم القاضي بأن أحدهما شرب الخمر ممّا يستحق الحدّ ، فانّه لا يجوز له الحكم بحدّهما ، إلى غير ذلك من الأمثلة .

( ثم مثّل ) الشهيد الثاني في محكي تمهيده ( له ) أي : لخروج الوجهين : من التساقط ، أو العمل بالأصلين معا ( بأمثلة ، منها : مسألة الصيد الواقع في الماء » ) القليل ، ورأى - مع ان المسألة من السببي والمسبّبي - التعارض في المقام بين استصحاب عدم التذكية مع استصحاب طهارة الماء ( إلى آخر ما ذكره (1) ) في محكي التمهيد من الوجهين في المسألة : التساقط والرجوع إلى أصل الحل والطهارة ، أو العمل بالاصلين معا .

ثم قال المصنّف : ( وصرّح بذلك ) الذي ذكره الشهيد الثاني في الأصلين المتعارضين : من التراجيح مع وجود المرجّح لأحد الأصلين ، وخروج الوجهين

ص: 214


1- - تمهيد القواعد : ص40 .

جماعة من متأخّري المتأخّرين .

والحقّ على المختار : من اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد هو : عدم الترجيح بالمرجّحات الاجتهادية ، لأنّ مؤدّى الاستصحاب هو الحكم الظاهري ، فالمرجّح الكاشف عن الحكم الواقعي لا يُجدي في تقوية الدليل الدالّ على الحكم الظاهري ، لعدم موافقة المرجّح لمدلوله حتى يوجب اعتضاده .

-------------------

مع عدم المرجّح ( جماعة من متأخّري المتأخّرين ) من العلماء .

هذا (والحقّ على المختار : من اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد) للروايات ، لا من باب الظن النوعي ، أو الظن الشخصي كما قال بهما بعض ( هو : عدم الترجيح بالمرجّحات الاجتهادية ) وبالدليل الاجتهادي ، وذلك ( لأنّ مؤدّى الاستصحاب هو الحكم الظاهري ) إذ قد عرفت سابقا : ان الاستصحاب موضوعه الشك المسبوق باليقين ، وكل ما أخذ في موضوعه الشك ، فهو حكم ظاهري لا واقعي ، وإذا كان كذلك ( فالمرجّح الكاشف عن الحكم الواقعي ) كالاجماع أو الشهرة ( لا يُجدي في تقوية الدليل الدالّ على الحكم الظاهري ) من الاستصحاب الذي نحن فيه .

وعليه : فإذا كان الاجماع أو الشهرة أو ما أشبه ذلك من الأدلة الدالة على الأحكام الواقعية مطابقا للاستصحاب ، فاللازم الأخذ بتلك الأدلة لا بالاستصحاب ، لأنّه لا مجال للأصل مع وجود الدليل ، فكما ان الأصل لا يعضد الدليل ، فكذلك الدليل لا يعضد الأصل ، لاختلاف مرتبتهما على ما عرفت ، فالمرجّح هذا إذن لايعضد الأصل ( لعدم موافقة المرجّح ) الاجتهادي ( لمدلوله ) أي : لمدلول الأصل ( حتى يوجب اعتضاده ) أي : اعتضاد الأصل بذلك المرجّح

ص: 215

وبالجملة ، فالمرجّحات الاجتهادية غير موافقة في المضمون للاُصول حتى يعاضدها .

وكذا الحال بالنسبة إلى الأدلة الاجتهادية ، فلا يرجّح بعضها على بعض ، لموافقة الاُصول التعبّدية .

نعم ، لو كان اعتبار الاستصحاب

-------------------

الاجتهادي .

( وبالجملة ، فالمرجّحات الاجتهادية غير موافقة في المضمون للاُصول ) لأن مضمون أحدهما الحكم الواقعي ، ومضمون الآخر الحكم الظاهري ، فالمرجح الاجتهادي لا يوافق مضمون الاُصول ( حتى يعاضدها ) أي : حتى يعاضد الاُصول ويكون مرجحا لها .

( وكذا الحال بالنسبة إلى الأدلة الاجتهادية ) فان الاُصول التعبدية العملية لا تعضد الأدلة الاجتهادية حتى تكون مرجحا لها ( فلا يرجّح بعضها ) أي : بعض الأدلة الاجتهادية المتعارضة ( على بعض ، لموافقة الاُصول التعبّدية ) العملية لها ، فإذا كان هناك دليلان اجتهاديان متعارضان - مثلاً - وكان الأصل مع أحدهما ، فإنّه لا يعضد الأصل ذلك الدليل الاجتهادي حتى يكون مرجحا له على الدليل الآخر .

وأمّا ما نراه من بعض الفقهاء المتأخرين حيث يذكرون في كتبهم الاستدلالية الأصل العملي إلى جانب الدليل الاجتهادي ، فهو لبيان انّه إذا لم يكن - بنظر المستدل - الدليل الاجتهادي نافعا في الدلالة على الفرع الفقهي المبحوث عنه ، يكون المجال للأصل العملي ، وبيان ان الأصل ماذا يكون في هذا المقام ؟ .

هذا كله على مختار المصنّف من اعتبار الاستصحاب تعبدا للروايات ، وامّا لو كان من باب الظن النوعي ، فهو كما قال : ( نعم ، لو كان اعتبار الاستصحاب

ص: 216

من باب الظنّ النوعي أمكن الترجيح بالمرجّحات الاجتهادية ، بناءا على ما يظهر : من عدم الخلاف في إعمال التراجيح بين الأدلّة الاجتهادية ، كما إدّعاه صريحا بعضهم .

لكنّك عرفت فيما مضى عدم الدليل على الاستصحاب من غير جهة الأخبار الدالّة على كونه حكما ظاهريا ،

-------------------

من باب الظنّ النوعي ) للدليل العقلي كما قال به جماعة من المتقدمين ( أمكن الترجيح ) أي : ترجيح أحد الاستصحابين المتعارضين ( بالمرجّحات الاجتهادية ) كالاجماع والشهرة ، فيكون الاستصحاب حينئذ مرجّحا للدليل الاجتهادي ، كما يكون الدليل الاجتهادي مرجّحا للاستصحاب أيضا ، وذلك لأنّ كليهما حينئذ في اُفق واحد .

وإنّما يمكن الترجيح حينئذ بالمرجحات الاجتهادية كالاجماع والشهرة ( بناءا على ما يظهر : من عدم الخلاف في إعمال التراجيح بين الأدلة الاجتهادية ) عند التعارض ، وعدم اختصاص اعمال التراجيح ، بالاخبار المتعارضة ( كما إدّعاه ) أي : ادعى نفي الخلاف في ذلك ( صريحا بعضهم ) أي : إنّما يكون الاستصحاب مرجّحا للدليل الاجتهادي وبالعكس ، لو لم نخصّص قانون الترجيح بالاخبار المتعارضة ، بل قلنا بجريانه في كل الأدلة ، فحينئذ نرجّح الاستصحاب المعتضد بالشهرة - كما في المثال - على الاستصحاب الآخر .

( لكنّك عرفت فيما مضى ) من المصنّف أول كتاب الاستصحاب ( عدم الدليل على الاستصحاب من غير جهة الأخبار الدالّة على كونه ) أي : الاستصحاب ( حكما ظاهريا ) فلا يكون الاستصحاب على ذلك في اُفق الأدلة الاجتهادية ،

ص: 217

فلا ينفع ولا يقدح فيه موافقة الأمارات الواقعية ومخالفتها .

هذا كلّه مع الاغماض عمّا سيجيء من عدم شمول « لا تنقض » للمتعارضين وفرض شمولها لهما من حيث الذاتية نظير شمول آية النبأ من حيث الذات للخبرين المتعارضين وإن لم يجب العمل بهما فعلاً ، لامتناع ذلك ، بناءا على المختار في اثبات الدعوى الثانية ،

-------------------

ومعه ( فلا ينفع ولا يقدح فيه ) أي : في الاستصحاب ( موافقة الأمارات الواقعية ومخالفتها ) له ، فلا يكون الاجماع أو الشهرة - مثلاً - عاضدا للاستصحاب ان كان موافقا له ، ولا موهنا للاستصحاب ان كان مخالفا له .

( هذا كلّه ) الذي ذكرناه : من عدم اعتضاد الأصل بالدليل الاجتهادي إنّما هو ( مع الاغماض عمّا سيجيء ) بعد قليل إن شاء اللّه تعالى نقلاً عن بعض المعاصرين : ( من عدم شمول « لا تنقض ) اليقين بالشك » ( للمتعارضين ) فان بعض المعاصرين قال : ان الاستصحابين المتعارضين لا يشملهما « لا تنقض اليقين بالشك » من حيث العمل ( و ) ذلك مع ( فرض شمولها لهما ) أي : شمول « لا تنقض » للمتعارضين ( من حيث الذاتية ) أي : مع قطع النظر عن العمل ، فيكون ( نظير شمول آية النبأ من حيث الذات للخبرين المتعارضين ) الذين أتى بهما عادلان ، حتى (وإن لم يجب العمل بهما) أي : بالخبرين المتعارضين ( فعلاً ، لامتناع ذلك ) بسبب التعارض بينهما .

وعليه : فان هذا كله كان بناءا على شمول : « لا تنقض » للخبرين المتعارضين ، وأمّا ( بناءا على المختار في اثبات الدعوى الثانية ) التي تأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى ، وقد أشار إليها المصنّف أخيرا بقوله : « مع الاغماض عمّا سيجيء من عدم شمول « لا تنقض » للمتعارضين » فإنّه بناءا على ما سينقله المصنّف في دعواه

ص: 218

فلا وجه لاعتبار المرجّح أصلاً ، لأنّه إنّما يكون مع التعارض ، وقابليّة المتعارضين في أنفسهما للعمل .

الدعوى الثانية

أنّه إذا لم يكن مرجّح ،

-------------------

الثانية عن بعض المعاصرين : من تساقط المتعارضين لعدم شمول « لا تنقض » لهما ( فلا وجه لاعتبار المرجّح أصلاً ، لأنّه ) أي : المرجّح ( إنّما يكون مع التعارض ، و ) المفروض : انهما قد تساقطا ، ومع ( قابليّة المتعارضين في أنفسهما للعمل ) والمفروض بعد عدم شمول « لا تنقض » لهما هو : عدم قابليتهما في أنفسهما للعمل والحجة .

والحاصل : انّ ترجيح أحد الاستصحابين المتعارضين بالمرجح الاجتهادي غير تام لوجهين :

الأوّل : انّ دليل « لا تنقض اليقين بالشك » لا يشملهما ، فينتفي قابليتهما في أنفسهما للعمل والحجيّة .

الثاني : انّه على تقدير شمول « لا تنقض اليقين بالشك » للاستصحابين المتعارضين كشمول آية النبأ للخبرين المتعارضين ، لا معنى لترجيح أحد الاستصحابين على الآخر بالمرجّحات الاجتهادية ، وذلك لما تقدّم : من اختلاف الرتبة بينهما ، فلا يكون الأصل العملي ولا الدليل الاجتهادي أحدهما مرجّحا للآخر .

هذا تمام الكلام في الدعوى الاولى التي ادّعاها المصنّف بقوله : « وهنا دعويان إحداهما : عدم الترجيح بما يوجد مع أحدهما من المرجّحات » وأمّا ( الدعوى الثانية ) للمصنّف فهي : ( أنّه إذا لم يكن مرجّح ) لأحد الاستصحابين على الآخر ،

ص: 219

فالحق التساقط دون التخيير - لا لما ذكره بعضُ المعاصرين : من « أنّ الأصل في تعارض الدليلين التساقط ، لعدم تناول دليل حجيّتهما لصورة التعارض ، لما تقرّر في باب التعارض : من أنّ الأصل في المتعارضين التخيير إذا كان اعتبارهما من باب التعبّد لا الطريقيّة » -

-------------------

وذلك على المختار : من انّ الاستصحاب حجّة من باب التعبّد بالاخبار ، لا من باب الظنّ ، فانّه حينئذ يمكن وجود استصحابين متعارضين ، فإذا وُجدا ( فالحق التساقط ) لكلا الاستصحابين ( دون التخيير ) بينهما ، فلا يكون المكلّف مخيّرا بين العمل بهذا الاستصحاب أو بذاك الاستصحاب عند التعارض ، كما كان مخيّرا في العمل بأحد الخبرين المتعارضين .

وإنّما يقول المصنّف بالتساقط ( لا لما ذكره بعضُ المعاصرين : من « أنّ الأصل في تعارض الدليلين ) مطلقا هو ( التساقط ) ثم استدل هذا البعض للتساقط بقوله : ( لعدم تناول دليل حجيّتهما لصورة التعارض ) فان بعض المعاصرين قال بتساقط مطلق المتعارضين ، سواء كانا خبرين ، أم أصلين أم مختلفين ، مستدلاً له بأن دليل الحجية لا يشمل المتعارضين ، فاعترض عليه المصنّف : بأن دليل الحجية لا يشمل المتعارضين إذا كانا أصلين ، ويشملهما إذا كانا من الأمارات الظنية ، غير انّه حيث لم يمكن الجمع بينهما للتعارض ، كان الحكم هو : التخيير بينهما ، وذلك على القول بالسببية لا الطريقية .

وعليه : فانّ المصنّف إنّما اعترض على هذا المعاصر بذلك ( لما تقرّر في باب التعارض : من أنّ الأصل في المتعارضين ) لو كانا من الأمارات الظنية - كالاستصحاب من باب الظن - هو : ( التخيير إذا كان اعتبارهما من باب التعبّد ) يعني : على السببية والموضوعية ( لا الطريقيّة » ) المحضة ، فإنّه على السببية

ص: 220

بل لأنّ العلم الاجمالي هنا بانتقاض أحد الضدّين يوجب خروجهما عن مدلول « لا تنقض » لأنّ قوله : « لا تنقُض اليقين بالشك ، ولكن تنقُضُه بيقين مثله » يدلّ على حرمة النقض بالشك ،

-------------------

يكون المتعارضان بمنزلة الغريقين حيث يوجد في انقاذ كل منهما مصلحة ، لكن لمّا لم يتمكن المكلّف من انقاذهما معا وجب انقاذ أحدهما تخييرا ، بينما الأصل بناء على الطريقية المحضة هو : التوقف ، بمعنى : ان أحدهما فقط دليل في مؤدّاه دون الآخر ، وحيث انّه لا سبيل لمعرفته ، ولا يتمكن منهما معا يتخيّر في العمل بأحدهما .

إذن : فالحق في الاستصحابين المتعارضين - إذا لم يكن مرجّح لأحدهما ، أو كان ولم نرجح به - بناءا على اعتبار الاستصحاب من باب التعبد بالاخبار هو : التساقط ، لكن ليس لأن دليل الحجية لا يشملهما كما استدل به بعض المعاصرين ( بل لأنّ العلم الاجمالي هنا بانتقاض أحد الضدّين ) في الاستصحابين المتعارضين ، كما إذا كان هناك انائان طاهران تنجّس أحدهما ، فإنّ الطهارة المستصحبة فيهما قد انتقضت إحداهما قطعا ، لكن اجمالاً ، وهذا العلم الاجمالي ( يوجب خروجهما عن مدلول « لا تنقض » ) اليقين بالشك » وذلك للزوم التناقض في أطراف نفس دليل « لا تنقض اليقين بالشك » .

وإنّما يوجب ذلك خروج المتعارضين عن مدلول الدليل ( لأنّ قوله ) عليه السلام : ( « لا تنقُض اليقين بالشك ، ولكن تنقُضُه بيقين مثله » (1) يدلّ على ) أمرين :

أولاً : ( حرمة النقض بالشك ) فلا يجوز نقض اليقين السابق بسبب الشك

ص: 221


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين ، فلا يجوز إبقاء كلّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك لأنّه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله ، ولا إبقاء أحدهما المعيّن لاشتراك الآخر معه في مناط الدخول من غير مرجّح .

-------------------

اللاحق الطاريء عليه .

ثانيا : نقض اليقين السابق باليقين اللاحق الذي هو على خلاف ذلك اليقين السابق .

وعليه : فانّ صدر الدليل يقول : « لا تنقض اليقين بالشك » وذيل الدليل يقول : « انقضه بيقين آخر » ( فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين ) كالعلم بنجاسة أحد الانائين الذين كانا طاهرين سابقا ( فلا يجوز إبقاء كلّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك ) وذلك ( لأنّه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله ) .

إذن : فلو كان هناك انائان طاهران تنجّس أحدهما ، فانّه يكون كل منهما في نفسه مشكوك الطهارة ، كما انّه يكون أحدهما المردّد معلوم النجاسة ، ومعه فلو اُبقي تحت عموم دليل الاستصحاب كلاًّ من الانائين ، وذلك بأن حكم في كليهما بقاعدة : « حرمة نقض اليقين بالشك » لأدّى إلى عدم العمل بقاعدة : « وجوب نقض اليقين باليقين » فيكون من التناقض في أطراف الدليل وهذا غير صحيح .

كما ( ولا ) يجوز أيضا ( إبقاء أحدهما المعيّن ) تحت عموم « لا تنقض » واخراج الآخر ، وذلك ( لاشتراك الآخر معه في مناط الدخول ) فيكون ابقاء المعيّن واخراج الآخر ترجيحا ( من غير مرجّح ) فكما انّه لا يجوز ابقاء كل من الاستصحابين المتعارضين تحت عموم : « لا تنقض » لأنّه من التناقض في أطراف

ص: 222

وأمّا أحدهما المخيّر ، فليس من أفراد العام ، إذ ليس فردا ثالثا غير الفردين المتشخّصين في الخارج ، فإذا خرجا ، لم يبق شيء .

وقد تقدّم نظير ذلك في الشبهة المحصورة ، و أنّ قوله عليه السلام : « كلّ شيء

حلال حتى تعرف أنّه حرام » ، لا يشمل شيئا من المشتبهين .

-------------------

الدليل ، فكذلك لا يجوز ابقاء أحدهما المعيّن لأنّه من الترجيح من غير مرجّح ، فلا يصحّ أن يقال بابقاء الانائين معا ، كما لا يصح أن يقال بابقاء هذا الاناء بالخصوص دون ذاك تحت عموم : « لا تنقض اليقين بالشك » .

( وأمّا ) القول بابقاء ( أحدهما المخيّر ، فليس ) أحدهما المخيّر الذي يراد ابقاؤه تحت عموم « لا تنقض » ( من أفراد العام ، إذ ليس ) الفرد المردّد ( فردا ثالثا غير الفردين المتشخّصين في الخارج ) فانّه على ما عرفت : ان العلم الاجمالي أوجب خروج المتعارضين من مدلول : « لا تنقض » فلا يجوز ابقاء كليهما معا ، ولا ابقاء واحدٍ منهما معيّنا ( فإذا خرجا ، لم يبق شيء ) ثالث يسمّى بالفرد المخيّر حتى يبقى تحت عموم : « لا تنقض » .

هذا ( وقد تقدّم نظير ذلك في الشبهة المحصورة ، و ) قلنا هناك : ( أنّ قوله عليه السلام : « كلّ شيء حلال حتى تعرف أنّه حرام » (1) لا يشمل شيئا من المشتبهين ) فان دليل أصل الحِل : « كل شيء حلال » لا يشمل كليهما لأنّه مخالفة قطعية للعلم الاجمالي بالحرمة ، ولا أحدهما المعيّن لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، ولا أحدهما المخيّر ، لأن الواحد المخيّر ليس فردا ثالثا غير المشتبهين ، وإنّما هو أمر منتزع من المشتبهين الذين قد عرفت عدم شمول الدليل لهما إطلاقا ، فزيد

ص: 223


1- - الكافي : ج5 ص313 ح40 بالمعنى وقريب منه ح39 والمحاسن : ص495 ح596 .

وربّما يُتوهّم أنّ عموم دليل الاستصحاب ، نظير قوله : أكرم العلماء ، وأنقذ كلّ غريق ، واعمل بكلّ خبر ، في أنّه إذا تعذّر العمل بالعام في فردين متنافيين لم يجز طرح كليهما ، بل لابدّ من العمل بالممكن وهو : أحدهما تخييرا ، وطرح الآخر ،

-------------------

في الخارج - مثلاً - شيء ، وعمرو في الخارج شيء آخر ، وليس هناك شيء ثالث في الخارج يكون عبارة عن الفرد المردّد بين زيد وعمرو .

( وربّما ) يقال : بأن الأصل عند التعارض وعدم التمكّن من العمل بالاستصحابين هو : التخيير ، ولذلك ( يُتوهّم أنّ عموم دليل الاستصحاب ) الشامل لكل فرد فرد من أفراد المشكوك يكون ( نظير قوله : أكرم العلماء ، وأنقذ كلّ غريق ، واعمل بكلّ خبر ) أي : نظيره ( في أنّه إذا تعذّر العمل بالعام في فردين متنافيين ) كما لو يتمكّن من اكرام العالمَين ، أو انقاذ الغريقين ، أو العمل بالخبرين، وإنّما يتمكن من أحدهما فقط ، فانّه ( لم يجز طرح كليهما ، بل لابدّ من العمل بالممكن وهو : أحدهما تخييرا ، وطرح الآخر ) .

وعليه : ففي مثال : انقاذ الغريقين ، يختار العمل بأحدهما ، فينقذ غريقا ويطرح انقاذ الغريق الآخر ، وفي مثال : اكرام العالمَين ، أيضا كذلك ، فانّه يكرم أحدهما ويطرح اكرام الآخر ، وهكذا في مثال الخبرين المتعارضين مثل : « ثمن العذرة سحت » (1) و « لا بأس ببيع العذرة » (2) فانّه يأخذ بأحد الخبرين ويترك الخبر

ص: 224


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و ح3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

لأنّ هذا غاية المقدور .

ولذا ذكرنا في باب التعارض أنّ الأصلَ في الدليلين المتعارضين مع فقد الترجيح : التخيير بالشرط المتقدّم لا التساقط ، والاستصحاب أيضا أحد الأدلّة ، فالواجب العمل باليقين السابق بقدر الامكان ، فإذا تعذّر العمل باليقين من جهة تنافيهما وجب العمل بأحدهما ، ولا يجوز طرحُهما .

-------------------

الآخر تخييرا ، وذلك فيما إذا لم يكن لأحدهما مرجّح ، أو كان ولكن لم نرجّح به ، لا انّه يطرحهما معا ، ويترك العمل بهما جميعا .

وإنّما يجب عليه أن يتخيّر هنا في العمل بأحدهما عند التعارض ( لأنّ هذا غاية المقدور ) للمكلّف ( ولذا ذكرنا في باب التعارض ) في الأخبار : ( أنّ الأصل في الدليلين المتعارضين مع فقد الترجيح : التخيير ) بين العمل بهذا الخبر أو بذاك، لكن ( بالشرط المتقدّم ) وهو بناءا على أنّ حجية المتعارضين من باب السببية ، لا من باب الطريقية ، فإنّ من قال بحجية الخبر من باب الطريقية ، يلزمه التوقف ، كما سيأتي تفصيله في باب التعادل والتراجيح إن شاء اللّه تعالى ، فالأصل إذن في المتعارضين على السببية هو : التخيير ( لا التساقط ) .

وعليه : فكما ان الحكم في عموم كل دليل قد تعارض فرداه ولم يكن مرجّح : التخيير ، فكذلك يكون الحكم في عموم الاستصحاب ( و ) ذلك لأن ( الاستصحاب أيضا أحد الأدلّة ، فالواجب العمل باليقين السابق بقدر الامكان ، فإذا تعذّر العمل باليقين من جهة تنافيهما ) بسبب العلم الاجمالي بارتفاع أحدهما، كما في الانائين الطاهرين الذين علم بتنجّس أحدهما ( وجب العمل بأحدهما ، ولا يجوز طرحُهما ) معا ، فيكون حال الاستصحابين المتعارضين حينئذ حال : اكرم العلماء ، وانقذ كل غريق ، واعمل بكل خبر ، فيما لو تعارض

ص: 225

ويندفع هذا التوهّم : بأنّ عدم التمكّن من العمل بكلا الفردين إن كان لعدم القدرة على ذلك مع قيام المقتضي للعمل فيهما ، فالخارج هو غير المقدور ، وهو العمل بكلّ منهما مجامعا مع العمل بالآخر ، وأمّا فعل أحدهما المنفرد عن الآخر فهو مقدورٌ فلا يجوز تركه .

وفي ما نحن فيه ليس كذلك ، إذ بعد العلم الاجمالي لا يكون المقتضي

-------------------

فردان منها وتعذر العمل بكليهما ، فانّه يجب أن يعمل بأحدهما ، ومعه كيف تقولون : بأنه يجب طرحهما معا لا العمل بأحدهما ؟ .

( ويندفع هذا التوهّم : بأنّ عدم التمكّن من العمل بكلا الفردين إن كان لعدم القدرة ) للمكلّف ( على ذلك ) أي : على العمل بكلا الفردين ، وذلك ( مع قيام المقتضي للعمل فيهما ) كالغريقين ، حيث ان المقتضي لإنقاذ كل منهما موجود ، وإنّما المكلّف لا يتمكَّن من إنقاذهما معا ( فالخارج ) من عموم الدليل ( هو غير المقدور ، وهو ) أي : غير المقدور ( العمل بكلّ منهما مجامعا مع العمل بالآخر ) فان المكلّف لا يتمكن من انقاذ زيد الغريق مجامعا مع انقاذ عمرو الغريق ( وأمّا فعل أحدهما المنفرد عن الآخر فهو مقدورٌ ) للمكلف ، إذ المفروض انّه يتمكّن من انقاذ أحد الغريقين ( فلا يجوز تركه ) أي : ترك المقدور مخيّرا بينهما .

هذا ( و ) لكن ( في ما نحن فيه ) من تعارض الاستصحابين ( ليس ) الأمر ( كذلك ) أي : ليس المانع فيهما هو : عدم قدرة المكلّف على العمل بهما مع وجود المقتضي والملاك للعمل في كليهما ، لا وإنّما لا وجود للمقتضي فيهما رأسا .

وإنّما لم يكن الأمر فيما نحن فيه - من تعارض الاستصحابين - كذلك ( إذ بعد العلم الاجمالي ) بارتفاع أحد الاستصحابين ( لا يكون المقتضي ) والملاك

ص: 226

لحرمة نقض كلا اليقينين موجودا منع عنهما عدمُ القدرة .

نعم ، مثال هذا في الاستصحاب أن يكون هناك استصحابان بشكّين مستقلّين امتنع شرعا أو عقلاً العمل بكليهما ، من دون علم اجمالي بانتقاض أحد المستصحبين بيقين الارتفاع ، فانّه يجب حينئذ العمل بأحدهما المخيّر وطرح الآخر ، فيكون الحكم الظاهري مؤدّى أحدهما .

وإنّما لم نذكر هذا القسم في أقسام تعارض

-------------------

( لحرمة نقض كلا اليقينين موجودا ) حينئذ حتى يكون قد ( منع عنهما ) أي : عن كليهما معا ( عدمُ القدرة ) من المكلّف على العمل بهما ، بل انّه لا مقتضي في البين رأسا ، بعد العلم الاجمالي بتنجّس أحد الانائين .

( نعم ، مثال هذا ) الذي يكون المقتضي والملاك للعمل بهما موجودا في الفردين ، لكن المكلّف لا قدرة له على العمل بكليهما فيما نحن فيه ، أي : ( في الاستصحاب ) هو : ( أن يكون هناك استصحابان بشكّين مستقلّين ) أي : بلا وجود علم اجمالي في البين مخالف لأحد الاستصحابين ، ولكن مع ذلك قد ( امتنع شرعا أو عقلاً العمل بكليهما ، من دون علم اجمالي بانتقاض أحد المستصحبين بيقين الارتفاع ) أي : بأن لا يكون كما في مثال اليقين بتنجّس أحد الانائين الطاهرين ( فانّه يجب حينئذ العمل بأحدهما المخيّر وطرح الآخر ) كما كان يجب في مثال : اكرام العالمَين ، وانقاذ الغريقين ، والأخذ بالخبرين ، حيث يعمل حينئذ بأحد الاستصحابين تخييرا ( فيكون الحكم الظاهري مؤدّى أحدهما ) فقط دون الآخر .

( وإنّما لم نذكر هذا القسم ) الأخير قسما خامسا ( في أقسام تعارض

ص: 227

الاستصحابين لعدم العثور على مصداق له ، فانّ الاستصحابات المتعارضة يكون التنافي بينها من جهة اليقين بارتفاع أحد المستصحبين ، وقد عرفت : أنّ عدمَ العمل بكلا الاستصحابين ليس مخالفة لدليل الاستصحاب سوّغها العجز ، لأنّه نقض اليقين باليقين ، فلم يخرج عن عموم : « لا تنقض » عنوانٌ

-------------------

الاستصحابين ) الأربعة السابقة ( لعدم العثور على مصداق ) خارجي ( له ) أي : لهذا القسم الأخير من التعارض بين الاستصحابين ( فانّ الاستصحابات المتعارضة يكون التنافي بينها من جهة اليقين بارتفاع أحد المستصحبين ) ولذا لا يمكن فيهما جريان الاستصحابين معا ، أو لا جريان أحدهما منفردا .

هذا ( وقد عرفت : أنّ عدم العمل ) بعموم : « انقذ كل غريق » - مثلاً - في انقاذ الغريقين مخالفة لدليل : « انقذ كل غريق » الشامل لهما ، لكن سوّغ هذه المخالفة عجز المكلّف عن انقاذهما معا فينقذ أحدهما ، بينما عدم العمل ( بكلا الاستصحابين ليس مخالفة لدليل الاستصحاب سوّغها ) أي : سوّغ تلك المخالفة ( العجز ) عن العمل بهما معا حتى يختار العمل بأحدهما كما في انقاذ الغريقين ، بل عدم العمل بهما هو امتثال لدليل الاستصحاب ، حيث قال في ذيله : « ولكن انقضه بيقين آخر » (1) فانّه لمّا علم بارتفاع أحد اليقينين علما اجماليا ، لزم منه عدم العمل بالاستصحابين السابقين ، وذلك ( لأنّه نقض اليقين باليقين ) الآخر وهو هنا العلم الاجمالي المخالف للاستصحابين السابقين .

إذن : ( فلم يخرج ) بنقض اليقين باليقين ( عن عموم : « لا تنقض » عنوان

ص: 228


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

ينطبق على الواحد التخييري .

وأيضا فليس المقام من قبيل ما كان الخارج من العام فردا معيّنا في الواقع غير معيّن عندنا ، ليكون الفرد الآخر غير المعيّن باقيا تحت العام ، كما إذا قال : اكرم العلماء ، وخرج فرد واحد غير معيّن عندنا ،

-------------------

ينطبق على الواحد التخييري ) كما كان يخرج - مثلاً - عن عموم : « انقذ كل غريق » حيث ان عمومه يشمل انقاذ الغريقين معا ، لكن عجز المكلّف أوجب مخالفته ، فخرج عن عمومه عنوان ينطبق ذلك العنوان على ما يكون معناه : وجوب العمل بانقاذ أحد الغريقين تخييرا ، فيختار أحدهما ، بينما ما نحن فيه ليس كذلك .

( و ) هنا توهم ثانٍ وهو : انّه يوجد في مورد تعارض الاستصحابين قبل طروّ العلم الاجمالي استصحابين ، لكن بعد طروّ العلم الاجمالي يزول أحدهما ويبقى الآخر المعيّن في الواقع المجهول عندنا ، فيكون من الدوران بين المحذورين : حرمة نقض أحد الاستصحابين للنهي : « لا تنقض » ووجوب نقض الآخر للرأي : « بل انقضه بيقين آخر » وحكمه التخيير ، فيعمل بأحد الاستصحابين تخييرا ، فانّ هذا الكلام الجديد غير تام ( أيضا ) كما لم يتم الكلام السابق .

وإنّما لم يتم هذا أيضا ، لأنّه كما قال : ( فليس المقام ) أي : مقام تعارض الاستصحابين ( من قبيل ما كان الخارج من العام فردا معيّنا في الواقع غير معيّن عندنا ، ليكون الفرد الآخر ) المعيّن في الواقع ( غير المعيّن ) عندنا ( باقيا تحت العام ، كما إذا قال : اكرم العلماء ، وخرج فرد واحد غير معيّن عندنا ) معيّن في الواقع ، وذلك كما لو قال بعد قوله « اكرم العلماء » : لا تكرم زيدا ، وتردّد زيد

ص: 229

فيمكن هنا أيضا الحكم بالتخيير العقلي في الأفراد ، إذ لا استصحاب في الواقع حتى يعلم بخروج فرد منه وبقاء فرد آخر ، لأنّ الواقع بقاء إحدى الحالتين وارتفاع الاُخرى .

نعم ، نظيره في الاستصحاب ما

-------------------

بين فردين : زيد بن بكر ، وزيد بن خالد ( ف ) انّه يدور الامر حينئذ بين محذورين : وجوب اكرام أحدهما لعموم : « اكرم العلماء » وحرمة اكرام الآخر لخصوص : « لا تكرم زيدا » فيتخيّر ، لكن ليس ما نحن فيه وهو تعارض الاستصحابين من قبيل هذا المثال حتى ( يمكن هنا أيضا ) كما كان يمكن في المثال المذكور ( الحكم بالتخيير العقلي في الأفراد ) .

وإنّما لم يمكن هنا في تعارض الاستصحابين الحكم بالتخيير كما كان يمكن هناك في المثال المذكور آنفا ( إذ لا استصحاب في الواقع ) في مقام تعارض الاستصحابين ( حتى يعلم بخروج فرد منه وبقاء فرد آخر ) كي يكون من قبيل العام وخروج زيد المردّد بين فردين ، الدائر بين محذورين وذلك ( لأنّ الواقع ) هنا لم يكن إلاّ ( بقاء إحدى الحالتين وارتفاع ) الحالة ( الاُخرى ) واقعا لا ظاهرا وبالاستصحاب ، فانّه إذا علم بتنجّس أحد الانائين ، لم يكن في الواقع انائان طاهران ، بل اناء طاهر واقعا ، والاناء الآخر ليس بطاهر واقعا ، فلا مجال هنا للاستصحاب رأسا ، ومعه لا يكون تعارض الاستصحابين نظير العام الذي خرج منه فرد غير معيّن وبقي الآخر حتى يحكم بالتخيير .

( نعم ، نظيره في الاستصحاب ما ) ذكره المصنّف قبل قليل بقوله : « نعم ، مثال هذا في الاستصحاب ان يكون هناك استصحابان بشكّين مستقلّين امتنع شرعا أو عقلاً العمل بكليهما من دون علم اجمالي بانتقاض أحد المستصحبين » وذلك

ص: 230

لو علمنا بوجوب العمل بأحد الاستصحابين المذكورين ووجوب طرح الآخر بأن حرم نقض أحد اليقينين بالشك ، ووجب نقض الآخر به .

ومعلومٌ : أنّ ما نحن فيه ليس كذلك ، لأنّ المعلوم اجمالاً فيما نحن فيه بقاء أحد المستصحبين لا بوصف زائد

-------------------

كما ( لو علمنا بوجوب العمل بأحد الاستصحابين المذكورين ) اللذين كانا بشكّين مستقلين ( ووجوب طرح الآخر ) يعني : ( بأن حرم نقض أحد اليقينين بالشك ، ووجب نقض الآخر به ) فيكون من الدوران بين المحذورين ، فيجب حينئذ العمل بأحدهما المخيّر وطرح الآخر ، كما كان يجب في مثال : « اكرم العلماء » الذي أخرج الدليل منه فردا غير معيّن بقوله : « لا تكرم زيدا » وبقي الآخر ، لتردّد زيد بين زيدين .

لكن ( ومعلومٌ : أنّ ما نحن فيه ) من تعارض الاستصحابين الناتج من العلم الاجمالي بارتفاع أحد المستصحبين ، كما في الانائين الذين تنجّس أحدهما ( ليس كذلك ) أي : ليس كما في مثال : « اكرم العلماء » و « لا تكرم زيدا » الذي تردّد فيه زيد بين فردين ، حتى يحكم فيه بالتخيير .

وإنّما لم يكن ما نحن فيه كذلك ( لأنّ المعلوم اجمالاً فيما نحن فيه ) من تعارض الاستصحابين هو : ( بقاء أحد المستصحبين ) طاهرا - في مثال الانائين - واقعا ، أي : ( لا بوصف زائد ) على الواقع ، الذي هو الاستصحاب ، علما بأن الاستصحاب حكم ظاهري ، إذ لا معنى للاستصحاب والحكم ببقاء الطهارة ظاهرا فيما هو طاهر واقعا .

إذن : فمراد المصنّف من قوله : « لا بوصف زائد » هو : الاستصحاب ، فيكون حاصل كلامه : ان أحد المستصحبين معلوم الطهارة من جهة الواقع ، لا من جهة

ص: 231

وارتفاع الآخر ، لا اعتبار الشارع لأحد المستصحبين ، وإلقاء الآخر .

فتبيّن أنّ الخارج من عموم : « لا تنقض » ليس واحدا من المتعارضين ، لا معيّنا ولا مخيّرا ،

-------------------

الاستصحاب ، إذ بعد العلم بنجاسة أحد الانائين ، يُعلم طهارة أحدهما واقعا ( وارتفاع الآخر ) عن طهارته بسبب تنجّسه واقعا .

وعليه : فالمعلوم اجمالاً في تعارض الاستصحابين هو : بقاء أحد المستصحبين واقعا ، وارتفاع الآخر واقعا ، يعني : بأن لا يكون المقام موردا لجريان شيء من الاستصحابين رأسا ( لا اعتبار الشارع لأحد المستصحبين ، وإلقاء الآخر ) يعني : بأن يكون الاستصحابان جاريين في المقام ، لكن الشارع ألغى استصحابا وأبقى استصحابا .

إذن : ( فتبيّن ) خروج الاستصحابين المتعارضين معا عن مدلول : « لا تنقض » ومعه ظهر ( أنّ الخارج من عموم : « لا تنقض » ليس واحدا من المتعارضين ، لا معيّنا ) عندنا معيّنا عند الشارع ، حتى يكون من قبيل : « اكرم العلماء » و« لا تكرم زيدا » حيث تردّد زيد الخارج من عموم : « الاكرام » بين زيدين ، فان عموم « الاكرام » كان يشملهما معا لولا اخراج أحدهما المعيّن عند اللّه المردّد عندنا .

( ولا ) كون الخارج من عموم : « لا تنقض » واحدا ( مخيّرا ) كما في انقاذ الغريقين ، فان عموم دليل الاستصحاب ليس من قبيل عموم : « انقذ كل غريق » حتى إذا غرق اثنان وعجز المكلّف من انقاذهما وجب عليه انقاذ أحدهما تخييرا .

والحاصل : ان الاستصحابين المتعارضين خرجا جميعا بسبب التعارض عن مدلول : « لا تنقض » بينما لم يخرج من عموم دليل : « اكرم العلماء » و « لا تكرم زيدا » إلاّ واحدا من الزيدين لا معيّنا ، كما لم يخرج من عموم : « انقذ كل غريق »

ص: 232

بل لمّا وجب نقض اليقين باليقين وجب ترتيب آثار الارتفاع على المرتفع الواقعي ، وترتيب آثار البقاء على الباقي الواقعي من دون ملاحظة الحالة السابقة فيهما ، فيرجع إلى قواعد اُخر ، غير الاستصحاب ، كما لو لم يكونا مسبوقين بحالة سابقة .

-------------------

إلاّ واحدا من الغريقين مخيّرا ، وان كان خروج أحد الزيدين بسبب العلم بعدم شمول العام له ، وخروج أحد الغريقين بسبب العجز عن امتثاله .

وعليه : فقد ظهر خروج الاستصحابين المتعارضين معا من عموم : « لا تنقض » لا خروج أحدهما لا معيّنا ، ولا أحدهما مخيّرا ( بل لمّا وجب نقض اليقين باليقين ) بحكم أخبار الاستصحاب ، المذيّلة بقوله : « بل انقضه بيقين آخر » ( وجب ترتيب آثار الارتفاع على المرتفع الواقعي ، وترتيب آثار البقاء على الباقي الواقعي ) فالذي هو طاهر من الانائين واقعا يترتب عليه آثار الطهارة ، والذي هو نجس من بين الانائين واقعا يترتب عليه آثار النجاسة ، ولا يبقى مجال للاستصحاب ، لأن الاستصحاب إنّما مجاله في الظاهر ، والطهارة والنجاسة هنا واقعيان لا ظاهريان كما قال : ( من دون ملاحظة الحالة السابقة فيهما ) أي : في المتعارضين ، فلا يكون شيء منهما موردا للاستصحاب : لا استصحاب النجاسة ، ولا استصحاب الطهارة .

هذا ، وحيث انّه قد خرج المتعارضان من دليل الاستصحاب ، وكان الباقي على طهارته واقعا ، وكذا المرتفع عن طهارته واقعا ، هو غير معيّن عندنا معيّن عند اللّه سبحانه وتعالى ( فيرجع إلى قواعد اُخر ، غير الاستصحاب ) مثل : قاعدة الاحتياط - مثلاً - ويحكم فيهما طبق قاعدة الاحتياط ( كما لو لم يكونا مسبوقين بحالة سابقة ) رأسا .

ص: 233

ولذا لا نفرّق في حكم الشبهة المحصورة بين كون الحالة السابقة في المشتبهين هي الطهارة أو النجاسة وبين عدم حالة سابقة معلومة ، فإنّ مقتضى الاحتياط فيهما ،

-------------------

مثلاً : إذا كان عندنا إناءان قد طرأ على كل و احد منهما حالات متعاقبة من النجاسة والطهارة بحيث لا نعلم الحالة السابقة لهذا الاناء ، ولا الحالة السابقة لذلك الاناء ، فانّه لا يجري استصحاب الطهارة ولا استصحاب النجاسة في أحدهما ، بل اللازم الرجوع فيهما إلى أصل آخر ، كأصل الاحتياط أو أصل الطهارة ، وكذا ما نحن فيه ، فانّه لمّا كان عندنا إناءان طاهران ، وتنجس أحدهما غير المعيّن ، لم يجر شيء من الاستصحاب فيهما ، أو في أحدهما ، بل يلزم الرجوع فيهما إلى أصل آخر ، كأصل الاحتياط أو أصل الطهارة .

( ولذا ) الذي ذكرناه : من انّه لا تلاحظ الحالة السابقة للمتعارضين في مورد العلم الاجمالي حتى تستصحب تلك الحالة ( لا نفرّق في حكم الشبهة المحصورة بين كون الحالة السابقة في المشتبهين هي الطهارة ) بأن كان انائان طاهران ثم تنجّس أحدهما ( أو النجاسة ) بأن كان انائان نجسان ثم تطهّر أحدهما ( وبين عدم حالة سابقة معلومة ) كما مثّلنا له بانائين طرء على كل منهما حالات متعاقبة من النجاسة والطهارة بحيث لم نعلم الحالة السابقة لهما .

وعليه : ( فإنّ ) هذه الصور الثلاث كلها ليست مجرى الاستصحاب ، بل ( مقتضى ) القاعدة بالنسبة للمتعارضين فيها ( الاحتياط فيهما ) أي : في المتعارضين منها ، وذلك لمكان العلم الاجمالي المانع من جريان الاستصحاب فيها - على ما عرفت - والمانع من قاعدة الطهارة أيضا ، إذ لا مجال لقاعدة الطهارة مع العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما .

ص: 234

وفيما تقدّم من مسألة الماء النجس والمتمّم كرّا الرجوع إلى قاعدة الطهارة ، وهكذا .

ومّما ذكرنا يظهر أنّه لا فرق في التساقط بين أن يكون في كلّ من الطرفين أصل واحد وبين أن يكون في أحدهما أزيد من أصل واحد .

فالترجيح بكثرة الاُصول بناءا على اعتبارها من باب التعبّد

-------------------

هذا ( و ) لكن مقتضى القاعدة ( فيما تقدّم من مسألة الماء النجس والمتمّم كرّا ) كما لو كان نصف كرّ طاهرا ونصف كرّ نجسا ، ثم اتصل أحدهما بالآخر ولم نعلم هل انّه تطهر كل الماء أو تنجس كل الماء بعد علمنا بأن الماء الواحد لا يكون له حكمان ؟ هو : ( الرجوع إلى قاعدة الطهارة ، وهكذا ) ففي كل مقام كان من قبيل الإنائين ، فالقاعدة : الاحتياط ، وفي كل مقام كان من قبيل نصفي الكرّ فالأصل الطهارة.

( ومّما ذكرنا ) في مثال الانائين الذين علم اجمالاً بارتفاع الحالة السابقة في أحدهما حيث قلنا بتساقط الاستصحابين فيهما ( يظهر أنّه لا فرق في التساقط بين أن يكون في كلّ من الطرفين أصل واحد ) كما مثّلنا له بالإنائين ( وبين أن يكون في أحدهما أزيد من أصل واحد ) كما إذا كان عندنا انائان : أحدهما طاهر قطعا ، والآخر مشكوك الطهارة والنجاسة ، ثم علم اجمالاً بتنجّس أحدهما ، فهنا يكون في الإناء الأوّل أصلان : أصل الطهارة والاستصحاب ، بينما لا يكون في الإناء الثاني إلاّ أصل الطهارة فقط : ففي هذا المثال أيضا كالمثال الأوّل يتساقط الأصلان المتعارضان ، ومع التساقط لا يبقى مجال للترجيح بالأصل الزائد .

إذن : ( فالترجيح بكثرة الاُصول بناءا على اعتبارها ) أي اعتبار : الاُصول ( من باب التعبّد ) أي : من باب ان حجيّة الاستصحاب من جهة الاخبار والروايات الشرعية ، لا من جهة الظن النوعي العقلائي أو الشخصي ، فانّه بناءا عليه

ص: 235

لا وجه له ، لأنّ المفروض : أنّ العلم الاجمالي يوجب خروج جميع مجاري الاُصول عن مدلول : « لا تنقض » على ما عرفت .

نعم ، يتّجه الترجيح بناءا على اعتبار الاُصول من باب الظنّ النوعي .

وأمّا الصورة الثالثة :

وهي ما يُعمل فيه بالاستصحابين ، فهو : ما كان العلم الاجمالي بارتفاع أحد المستصحبين فيه

-------------------

( لا وجه له ) أي : للترجيح بكثرة الاُصول .

وإنّما لا وجه له ( لأنّ المفروض : أنّ العلم الاجمالي يوجب خروج جميع مجاري الاُصول ) أي : جميع أطراف العلم الاجمالي ( عن مدلول : « لا تنقض » على ما عرفت ) آنفا : من انّه لا يجوز ابقاؤهما جميعا ، لأنّه يوجب التناقض في أطراف دليل : « لا تنقض » ولا إبقاء أحدهما معيّنا لأنّه ترجيح بلا مرجح ، ولا ابقاء أحدهما مخيّرا لأنّه لا خارجية له .

( نعم ، يتّجه الترجيح ) بكثرة الاُصول ( بناءا على اعتبار الاُصول من باب الظنّ النوعي ) العقلائي ، فانّه على ذلك يصبح دليل الاستصحاب مثل دليل الخبر ، فكما ان دليل حجية الخبر يشمل الخبرين المتعارضين وإنّما لا يعمل إلاّ بأحدهما للتعارض ، فكذلك دليل حجية الاستصحاب الذي هو الظن النوعي يشمل الاستصحابين المتعارضين وإنّما لا يعمل إلاّ بأحدهما من باب التعارض ، وذلك على ما تقدَّم بيانه .

( وأمّا الصورة الثالثة : وهي ما ) أي : المورد الذي ( يُعمل فيه بالاستصحابين ) معا ( فهو : ما كان العلم الاجمالي بارتفاع أحد المستصحبين فيه ) أي : في ذلك

ص: 236

غير مؤثّر شيئا ، فمخالفته لا يوجب مخالفة عملية لحكم شرعي ، كما لو توضّأ اشتباها بمايع مردّد بين البول والماء ، فانّه يحكم ببقاء الحدث وطهارة الأعضاء استصحابا لهما .

وليس العلم الاجمالي بزوال أحدهما مانعا من ذلك ، إذ الواحد المردّد بين الحدث وطهارة اليد ، لا يترتّب عليه حكم شرعي حتى يكون ترتيبُه مانعا

-------------------

المورد ( غير مؤثّر شيئا ) لعدم تنجّز خطاب تكليفي على المكلّف ( فمخالفته لا يوجب مخالفة عملية ) قطعية ( لحكم شرعي ، كما لو توضّأ اشتباها بمايع مردّد بين البول والماء ، فانّه ) حينئذ ( يحكم ببقاء الحدث ) فلا وضوء له ( وطهارة الأعضاء ) فلم تتنجّس أعضاؤه .

وإنّما قال المصنّف : « ولو توضأ اشتباها » ليشير إلى انّه لو توضأ بذلك عمدا ، فانّه لا يصح وضوءه ، لعدم تمشّي قصد القربة منه ، ولو فرض تمشّي قصد القربة منه كان الأمر موكولاً إلى الواقع في عالم الثبوت ، فان كان ماءً كان متوضّئا ، وإلاّ فلا ، وتظهر الثمرة فيما إذا انكشف كونه ماءً - مثلاً - وحينئذ فقول بعض المحشّين : فلو وقع عمدا كان بقاء الحدث مقطوعا به لا مشكوكا فيه وخرج عن تعارض الاستصحابين ، محل نظر .

وكيف كان : فان المتوضئبالمايع المردّد اشتباها يحكم ببقاء حدثه ، وطهارة أعضائه ، وذلك ( استصحابا لهما ) أي : للحدث والطهارة ( وليس العلم الاجمالي بزوال أحدهما مانعا من ذلك ) أي : من جريان الاستصحابين ( إذ الواحد المردّد ) الذي زال ولم نعلمه بعينه ، فانّه لتردّده ( بين الحدث وطهارة اليد ، لا يترتّب عليه حكم شرعي حتى يكون ترتيبه ) أي : ترتيب ذلك الحكم الشرعي ( مانعا

ص: 237

عن العمل بالاستصحابين ، ولا يلزم من الحكم بوجوب الوضوء ، وعدم غَسل الأعضاء ، مخالفة عمليّة لحكم شرعي أيضا .

نعم ، ربما يشكل ذلك في الشبهة الحكمية ،

-------------------

عن العمل بالاستصحابين ) بخلاف ما إذا كان هناك انائان طاهران فتنجّس أحدهما ، وتردّد النجس بين مستصحبي الطهارة ، فانّه يترتّب عليه حكم شرعي وهو : وجود الاجتناب عنه ، فيكون مانعا عن العمل بالاستصحابين ، إذ يلزم من العمل بهما مخالفة عملية قطعية .

هذا ( و ) من الواضح : انّه ( لا يلزم من الحكم بوجوب الوضوء ، وعدم غَسل الأعضاء ، مخالفة عمليّة لحكم شرعي أيضا ) أي : كما انّه لم يكن العلم الاجمالي هنا بالزائل المردّد بين كونه الحدث أو الطهارة مانعا ، لأنّ لم يلزم منه مخالفة عملية قطعية لحكم شرعي ، فكذلك لم يكن الحكم بوجوب الوضوء ، وعدم غَسل الأعضاء مانعا ، لأنّه لم يلزم منه مخالفة عملية قطعية لحكم شرعي ، فانّه لو لم يغسل أعضائه لا يقطع بالمخالفة ، كما انّه لو توضأ لا يقطع بالمخالفة إلاّ المخالفة الالتزامية المجرّدة ، وقد سبق من المصنّف انّه لا دليل على حرمة المخالفة الالتزامية مجرّدة .

( نعم ، ربما يشكل ذلك ) أي : العمل بالاستصحابين للزوم المخالفة العملية القطعية منه ( في الشبهة الحكمية ) التي تكون الوقائع فيها متعدّدة فتؤدّي إلى المخالفة العملية تدريجا ، وذلك كما إذا شك في أنّ صلاة الجمعة واجبة أو محرمة ، فأجرى استصحاب عدم الوجوب مرّة فتركها ، ثم أجرى استصحاب عدم الحرمة اُخرى ، فأتى بها ، فانّه يعلم حينئذ بأنّه خالف عملاً ، لأنّ صلاة الجمعة ان كانت واجبة فقد تركها ، وان كانت محرمة فقد فعلها ، وحينئذ يقطع

ص: 238

وقد ذكرنا ما عندنا في المسألة في مقدّمات حجّية الظنّ عند التكلّم في حجية العلم .

وأمّا الصورة الرابعة :

وهي ما يعمل فيه بأحد المستصحبين ، وهو : ما كان أحد المستصحبين المعلوم ارتفاع أحدِهما مّما يكون مورد الابتلاء للمكلّف ، دون الآخر ، بحيث لا يتوجه على المكلّف تكليف منجّز يترتب أثر شرعي عليه .

-------------------

بالمخالفة العملية ( وقد ذكرنا ما عندنا في المسألة ) أي : في حكم هذه المسألة التي توجب تدريجا العلم بالمخالفة العملية وذلك ( في مقدّمات حجّية الظنّ عند التكلّم في حجية العلم ) أوّل الكتاب فراجع هناك .

( وأمّا الصورة الرابعة : وهي ما يعمل فيه بأحد المستصحبين ) أي : بأن يكون أحدهما فقط حجة ، دون الآخر ( وهو : ما كان أحد المستصحبين المعلوم ارتفاع أحدِهما مّما يكون مورد الابتلاء للمكلّف ، دون الآخر ) أي : أنّ الآخر لم يكن محل ابتلائه ، فإنّه لا يجري في هذا الآخر الاستصحاب ، لأن الاستصحاب إنّما هو للعمل ، والمفروض انّه لم يكن محل الابتلاء ليعمل به ، ومعه يجري الاستصحاب في المبتلى به بلا معارض ، وذلك لأنّه لم يتوجه إلى المكلّف تكليف منجّز على أحد التقديرين ، وقد سبق أن قلنا : انّه إنّما لا يجري شيء من الاستصحابات في مورد العلم الاجمالي اذا كان التكليف فيه منجزا على كل تقدير ، لا على تقدير دون تقدير كما نحن فيه الذي هو ( بحيث لا يتوجه على المكلّف تكليف منجّز يترتب أثر شرعي عليه ) أي : على التقدير الآخر .

ص: 239

وفي الحقيقة هذا خارج عن تعارض الاستصحابين ، إذ قوله : « لا تنقض اليقين » لا يشمل اليقين الذي لا يترتب عليه في حقّ المكلّف أثر شرعي ، بحيث لا تعلّق له به أصلاً .

كما إذا علم اجمالاً بطروّ الجنابة عليه أو على غيره ، وقد تقدّم أمثلة ذلك .

-------------------

( و ) عليه : فقد اتضح انّه ( في الحقيقة هذا ) التصوير الذي صوّره المصنّف في الصورة الرابعة ( خارج عن تعارض الاستصحابين ، إذ ) الاستصحاب فيه يكون في طرف واحد لا في الطرفين ، فيخرج عن التعارض لأن ( قوله : « لا تنقض اليقين ) بالشك » ( لا يشمل اليقين الذي لا يترتب عليه ) أي : على ذلك اليقين ( في حقّ المكلّف أثر شرعي ) وذلك ( بحيث لا تعلّق له ) أي : لذلك الأثر الشرعي ( به ) أي : بالمكلف ( أصلاً ) لخروجه عن محل ابتلائه ، فيكون عدّ المصنّف هذه الصورة من موارد تعارض الاستصحابين إنّما هو لوجود العلم الاجمالي بارتفاع أحد المستصحبين ، لكن حيث ان هذا العلم ليس له أثر لخروج أحد طرفيه عن ابتلاء المكلّف ، فيجري الاستصحاب فيما هو محل ابتلائه بلا معارض .

وأمّا مثال ذلك فهو : ( كما إذا علم اجمالاً بطروّ الجنابة ) إما ( عليه ) حتى يتنجز

عليه وجوب الغسل ( أو على غيره ) حتى لا يكون عليه شيء من التكليف ( وقد تقدّم ) في مبحث البرائة في تنبيهات الشبهة المحصورة ( أمثلة ذلك ) ممّا يكون أحد طرفي العلم غير منجّزٍ ، لخروجه عن محل الابتلاء ، أو للاضطرار إليه ، أو لأنّه كان مكلّفا به سابقا ، كما إذا كان أحد الانائين المعيّن نجسا والآخر طاهرا ، فوقعت قطرة دم في أحدهما ولم يعرف هل أنّها وقعت في الطاهر أو في النجس؟ وإلى غير ذلك .

ص: 240

ونظير هذا كثيرٌ ، مثل أنّه علم اجمالاً بحصول التوكيل من الموكّل ، إلاّ أنّ الوكيل يدّعي وكالته في شيء ، والموكّل ينكر توكيله في ذلك الشيء ، فانّه لا خلاف في تقديم قول الموكّل لأصالة عدم توكيله فيما يدّعيه الوكيل ، ولم يعارضه أحد : بأنّ الأصل عدم توكيله فيما يدّعيه الموكّل أيضا .

وكذا لو تداعيا في كون النكاح دائما أو منقطعا ،

-------------------

( ونظير هذا كثيرٌ ، مثل أنّه علم اجمالاً بحصول التوكيل من الموكّل ، إلاّ أنّ الوكيل يدّعي وكالته في شيء ) كشراء الجارية التي قد اشتراها ( والموكّل ينكر توكيله في ذلك الشيء ) أي : في شراء الجارية المشتراة ويدّعي انعقد وكلّه - مثلاً - في شراء العبد الذي لم يشتره بعد ، فإذا اختلفا ( فانّه لا خلاف في تقديم قول الموكّل ) .

وإنّما يقدّم قوله ( لأصالة عدم توكيله ) أي : توكيل الموكّل ( فيما يدّعيه الوكيل ) هنا : من شراء الجارية ، وأثر هذا الأصل هو : ان الجارية لا تنتقل عن مالكها إلى الموكّل ، والثمن لا ينتقل من الموكّل إلى مالك الجارية ( و ) هذا الأصل سالم من المعارض حيث ( لم يعارضه أحد : بأنّ الأصل عدم توكيله فيما يدّعيه الموكّل أيضا ) أي : كما كان الأصل عدم توكيله فيما يدّعيه الوكيل ، وحيث لم يعارضه به أحد لا يتساقطان ، وذلك لأن ما يدّعيه الوكيل : من توكيله في شراء الجارية - مثلاً - هو محل الابتلاء ، لأنّه اشتراها للموكّل وهو ينكر توكيله فيه ، فيترتب عليه الأثر ، وأمّا ما يدّعيه الموكّل : من توكيله في شراء العبد ، فليس محل الابتلاء ، لأنّه لم يشتره بعد ، فلا يترتب عليه أثر سواء وقع التوكيل أم لم يقع التوكيل .

( وكذا لو تداعيا ) - مثلاً - الرجل وزوجته ( في كون النكاح دائما أو منقطعا ،

ص: 241

فانّ الأصل عدم النكاح الدائم من حيث أنّه سبب للارث ، ووجوب النفقة والقَسم .

ويتّضح ذلك بتتبّع كثير من فروع التنازع في أبواب الفقه .

-------------------

فانّ الأصل عدم النكاح الدائم من حيث أنّه سبب للارث ، ووجوب النفقة والقَسم ) ومعنى القسم : هو عبارة عن المبيت عندها ليلة من كل أربع ليال ، وغير ذلك من أحكام الدوام .

هذا ما يظهر من المصنّف ، لكن لا يبعد أن يقال : بأن الأصل عدم النكاح المنقطع ، حيث ان المنقطع يحتاج إلى قيد زائد ، وهو : الوقت ، فإذا شككنا في هذا القيد الزائد كان الأصل عدمه ، فيكون النكاح دائما ، كما ذكرنا تفصيل ذلك في كتاب النكاح من « الفقه » (1) .

( ويتّضح ذلك ) الذي صوّره المصنّف في الصورة الرابعة لتعارض الأصلين : من عدم التساقط لجريان أحد الأصلين فقط وهو الذي له أثر شرعي ، دون الآخر الذي ليس له أثر شرعي ، يتّضح ( بتتبّع كثير من فروع التنازع في أبواب الفقه ) كما قد تقدَّم من المصنّف أمثلة لذلك في التنبيهين : السادس والسابع من تنبيهات الاستصحاب ، والتي منها : ما لو ادّعى الجاني الذي جرح شخصا : ان المجني عليه قد شرب سما فمات به ، فلا دية عليه لموته وإنّما الذي عليه هو دية جرحه فقط ، وادعى الولي : انّه مات بسراية الجراحة ، فعلى الجاني الدية الكاملة لقتل النفس فانّه يقدّم قول مدّعي عدم السراية ، لأن الأثر وهو هنا عدم ضمان كامل الدية مختص بأصالة عدم السراية ، ولا أثر لأصالة عدم شرب السم ، فيجري الأصل

ص: 242


1- - راجع موسوعة الفقه : ج62 - 68 للشارح .

ولك أن تقول بتساقط الأصلين في هذه المقامات ، والرجوع إلى الاُصول الاُخر الجارية في لوازم المشتبهين .

إلاّ أنّ ذلك إنّما يتمشّى في استصحاب الاُمور الخارجيّة ،

-------------------

في الأوّل دون الثاني .

هذا ، ولا يخفى : ان مسألة التداعي إنّما نظر إليها المصنّف من زاوية جريان الاستصحاب وعدم جريان الاستصحاب فقط ، وإلاّ فالبحث فيها مفصّل مذكور في الأبواب الخاصة بها .

( ولك أن تقول بتساقط الأصلين في هذه المقامات ، و ) ذلك بناءا على اعتبار الأصل المثبت ، ثم ( الرجوع إلى الاُصول الاُخر الجارية في لوازم المشتبهين ) إذ بناءا على حجية الأصل المثبت يتعارض - مثلاً - أصل عدم النكاح الدائم ذي الأثر الشرعي وهو : عدم الارث ، مع أصل عدم النكاح المنقطع ذي الأثر العقلي وهو : كون النكاح دائما فالارث ، فيتساقط الأصلان ويرجع إلى عدم الارث ، علما بأن في مسألة التنازع الدائر بين كون النكاح دائما أو منقطعا ثلاثة أقوال :

الأوّل : انّه من قبيل التداعي ، فيحلف كل على نفي ما يدّعيه الآخر ويسقط عنه ما يدّعيه الآخر .

ثانيها : تقديم قول مدّعي الانقطاع باستصحاب عدم لوازم الدائم من النفقة والارث والقَسم وغيرها .

ثالثها : تقديم قول مدّعي الدوام ، لأن الأصل عدم تقييد العقد بالأجل ، ومن المعلوم : ان الأصل اللفظي مقدّم على الأصل العملي .

( إلاّ أنّ ذلك ) أي : التساقط بناءا على اعتبار الأصل المثبت على ما عرفت ( إنّما يتمشّى في استصحاب الاُمور الخارجية ) أي : في الموضوعات ، كالنكاح

ص: 243

أمّا مثل أصالة الطهارة في كلّ واجدي المنّي ، فانّه لا وجه للتساقط هنا .

-------------------

وعدمه ، والتوكيل وعدمه ، والسراية وعدمها ( أمّا ) في الأحكام الشرعية ( مثل أصالة الطهارة في كلّ ) واحد من ( واجدي المنّي ، فانّه لا وجه للتساقط هنا ) .

وعليه : فإنّ المستصحب إذا كان من الموضوعات الخارجية ، كعدم التوكيل ، وعدم النكاح ، وعدم السراية ، على ما سبق من الأمثلة التي ذكرناها آنفا ، فانّه يجوز الحكم بالتساقط ، وامّا إذا كان المستصحب من الأحكام الشرعية ، كطهارة كل واحد من واجدي المني فلا يصح الحكم بالتساقط ، والفارق بين الاُمور الخارجية والاُمور الشرعية هو : عدم اختلاف النتيجة في الاُمور الخارجية ، واختلافها في الاُمور الشرعية .

مثلاً : لو قلنا بتساقط الأصلين في الاُمور الشرعية ، كما لو قلنا به في مثال واجدي المني لزم الرجوع إلى قاعدة الاشتغال بالصلاة ، بينما لو عمل كل واحد منهما بما يخصّه من استصحاب طهارته ، فلا يجب عليه الغسل حتى تشتغل ذمته بالصلاة ، والمفروض هنا عدم لزوم مخالفة عملية من اجراء الأصل ، ومعه فلا داعي إلى التساقط ، فيعمل كل واحد منهما بأصله ويبني على عدم جنابته .

وأمّا بالنسبة إلى الاُمور الخارجية : فيجوز فيها التساقط ، لاتحاد نتيجة كل من التساقط ، والعمل بالأصل الذي له أثر شرعي منهما ، فانّه - مثلاً - لو حكم بجريان أصالة عدم النكاح الدائم فقط دون أصالة عدم النكاح المنقطع ، ترتب عليه أثره الشرعي : من عدم الارث والقَسم وما أشبه ذلك ، وكذلك يكون لو حكم بجريانهما وتساقطهما ، فان المرجع حينئذ يكون أيضا هو : أصالة عدم الارث والقَسم وما أشبه ذلك .

وإنّما قال بجواز التساقط في الاُمور الخارجية ، ولم يقل بوجوب التساقط فيها،

ص: 244

ثمّ لو فرض في هذه الأمثلة أثرٌ لذلك الاستصحاب الآخر ، دخل في القسم الأوّل ، إن كان الجمع بينه وبين الاستصحاب مستلزما لطرح علم اجمالي معتبر في العمل ،

-------------------

لأنّه لا يمكن المخالفة العملية للعلم الاجمالي في هذه الموارد ، فيجوز الاكتفاء فيها بالأصل الذي له أثر شرعي دون الآخر ، وقد ذكرنا تفصيل التداعي في « الفقه » بأن له صورا : لأنهما إمّا لهما شهود ، أو يحلفان ، أو لأحدهما شهود دون الآخر ، أو أحدهما يحلف دون الآخر ، أو لا شهود لأحدهما ولا حلف ، وحيث إنّ المسألة فقهية ندعها لموضعها .

( ثمّ لو فرض في هذه الأمثلة أثر لذلك الاستصحاب الآخر ) الذي فرض انّه لا أثر له لخروجه عن محل الابتلاء - مثلاً - ( دخل في القسم الأوّل ) المستلزم للمخالفة العملية القطعية ، المحكوم فيه بالتساقط ، وذلك فيما ( إن كان الجمع بينه ) أي : بين جريان الأصل في الآخر ( وبين الاستصحاب مستلزما لطرح علم اجمالي معتبر في العمل ) كما إذا أراد كل واحد من واجدي المني الاقتداء بالآخر ، أو أراد شخص ثالث الاقتداء بهما في صلاة واحدة أو في صلاتين ، وذلك بناءا على ان الطهارة عند الامام لا تكفي للمأموم ، وإنّما يلزم على المأموم احراز طهارة الامام ولو بالأصل ، فانّه حينئذ لو أجرى المأموم أصالة الطهارة في حق نفسه وفي حق إمامه معا في المثال الأوّل ، أو في حق إماميه معا في صلاة واحدة أو صلاتين في المثال الثاني ، لزم مخالفة خطاب : « لا تصلّ جنبا » أو خطاب : « لا تصل مع جنب » فيتساقط الأصلان حينئذ ويرجع إلى الاحتياط بترك الائتمام ، أو الاحتياط بالاغتسال معا .

هذا ، ولا يخفى ان ما ذكره المصنّف هنا : من انّه لا يجوز اجراء الأصل فيما إذا

ص: 245

ولا عبرة بغير المعتبر ، كما في الشبهة غير المحصورة ؛ وفي القسم الثاني إن لم يكن هناك مخالفة عمليّة لعلم إجمالي معتبر .

فعليك بالتأمّل في موارد اجتماع يقينين سابقين مع العلم الاجمالي من عقل أو شرع ، أو غيرهما

-------------------

ترتب الأثر على الاستصحاب الآخر أيضا ، بل حكم فيهما بالتساقط ، إنّما يتم في الشبهة المحصورة ، لا في الشبهة غير المحصورة ، وذلك لما تقدّم : من انّه لا عبرة بالعلم الاجمالي في غير المحصورة ، فلا يلزم الاجتناب عن أطرافها ، بل يجري الأصل في جميع الأطراف إمّا مطلقا ، أو في جميع الأطراف إلاّ بقدر ما يستلزم العلم بالمخالفة العملية ، وحيث ذكرنا سابقا تفصيله فلا حاجة إلى اعادته .

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف بقوله : ( ولا عبرة بغير المعتبر ) من العلم الاجمالي ، وذلك ( كما في الشبهة غير المحصورة ) فانّه يجري الأصل في كل أطرافها ، أو في غير ما يستلزم المخالفة القطعية من الأطراف لعدم اعتبار العلم الاجمالي فيها ( و ) أيضا كما ( في القسم الثاني ) ممّا يجري فيه الأصلان معا مع وجود العلم الاجمالي ، وهو ما جعله المصنّف الصورة الثالثة ، وذلك فيما ( إن لم يكن هناك مخالفة عمليّة لعلم إجمالي معتبر ) وإلاّ لم يجر فيه شيء من الاُصول ، لأن جريانها ينافي العلم الاجمالي المعتبر .

إذن : ( فعليك بالتأمّل في موارد اجتماع يقينين سابقين مع العلم الاجمالي ) المخالف لهما ، سواء كان هذا العلم الاجمالي بالمخالفة ناشئا ( من عقل ، أو شرع ، أو غيرهما ) أي : غير العقل والشرع كالحس - مثلاً - .

أمّا العقل : فهو كما في مسألة التوكيل واختلاف الموكّل مع الوكيل ، فإنّه يؤدّي إلى التناقض من التوكيل وعدمه في آن واحد ، والتناقض محال عقلاً فيكون المانع

ص: 246

بارتفاع أحدهما وبقاء الآخر .

والعلماء ، وإن كان ظاهرهم : الاتفاق على عدم وجوب الفحص في اجراء الاُصول في الشبهات الموضوعيّة ، ولازمه : جواز اجراء المقلّد لها

-------------------

من جريان الأصل هنا هو العقل .

وأمّا الشرع : فهو كما في مسألة الوضوء والكرّ المتمّم بماء طاهر ، فان الماء النجس المتمّم كرا بماء طاهر ، إذا توضّئفيه ، حصل الشك للعلم الاجمالي الناشئمن حكم الشارع بنجاسة الماء الأوّل وتنجيسه للماء الثاني الطاهر الذي تمّم به الكر ، فانّه لولا حكم الشارع هذا لجرى الاستصحابان : طهارة الماء الثاني ونجاسة الماء الأوّل ، فالمانع من جريان الأصل هنا هو : الشرع .

وأمّا الحس : فهو كما لو رأى - مثلاً - بعينيه وقوع نجاسة في أحد الانائين ، فإنّ المانع من جريان الأصل هنا هو : الحس .

وعليه : فالمانع من جريان الأصل هو العلم الاجمالي ( بارتفاع أحدهما ) أي : أحد الأصلين ( وبقاء الآخر ) ولكن بشرط أن يكون العلم الاجمالي منجّزا ومعتبرا على لما عرفت .

هذا ( والعلماء ، وإن كان ظاهرهم : الاتفاق على ) وجوب الفحص في اجراء الاُصول في الشبهات الحكمية ، وعلى ( عدم وجوب الفحص في اجراء الاُصول في الشبهات الموضوعيّة ) إلاّ انّه قد ذكرنا سابقا : بأن هذا الاتفاق غير تام في الشبهات الموضوعية ، لاختلاف الحكم فيها من حيث وجوب الفحص وعدمه حسب اختلاف الشبهات الموضوعية .

( و ) كيف كان : فانّه على فرض عدم وجوب الفحص في اجراء الاُصول في الشبهات الموضوعية يكون ( لازمه : جواز اجراء المقلّد لها ) أي : للاُصول

ص: 247

بعد أخذ فتوى جواز الأخذ بها من المجتهد ، إلاّ أنّ تشخيص سلامتها عند الاُصول الحاكمة عليها ليس وظيفة كلّ أحد .

فلابدّ إمّا من قدرة المقلّد على تشخيص الحاكم من الاُصول ، على غيره منها ، وإمّا من أخذ خصوصيّات الاُصول السليمة عن الحاكم من المجتهد ،

-------------------

العملية في الشبهات الموضوعية ، وذلك ( بعد أخذ فتوى جواز الأخذ بها ) أي : الأخذ بهذه الاُصول العملية ( من المجتهد ) فيجوز للمقلد حينئذ اجراء الاُصول في الشبهات الموضوعية على فرض عدم وجوب الفحص فيها ( إلاّ أنّ تشخيص سلامتها ) أي : سلامة هذه الاُصول ( عند الاُصول الحاكمة عليها ) ومعرفة الحاكم من المحكوم ، يجعل اجراء الأصل في الشبهات الموضوعية كالشبهات الحكمية التي يجب فيها الفحص خاصا بالمجتهد ، إذ الفحص ( ليس وظيفة كلّ أحد ) بل هو وظيفة المجتهد ، ولذلك لا يجوز للمقلد أن يجري الأصل في الشبهات الموضوعية كالحكمية ، مع احتمال ان يكون هناك أصل حاكم على هذا الأصل ، أو أصل معارض لهذا الأصل بصور التعارض الأربع ، وذلك لأنّه لا يعرف ماذا يصنع فيها ( فلابدّ ) حينئذ لاجراء المقلّد ، الأصل من أحد أمرين :

أولاً : ( إمّا من قدرة المقلّد على تشخيص ) الأصل ( الحاكم من الاُصول ، على غيره منها ) أي : من الاُصول الاُخرى ، حتى يتمكن من تشخيص انّه لا حاكم على هذا الأصل الذي يريد اجراءه .

ثانيا : ( وإمّا من أخذ خصوصيّات ) ومشخّصات ( الاُصول السليمة عن الحاكم ) عليها ( من المجتهد ) الذي يقلّده ، حتى لا يقع في المخالفة عند اجراء الاُصول العملية في الشبهات الموضوعية .

ص: 248

وإلاّ فربّما يلتفت إلى الاستصحاب المحكوم من دون التفات إلى استصحاب الحاكم .

وهذا يرجع في الحقيقة إلى تشخيص الحكم الشرعي ، نظير تشخيص حجيّة أصل الاستصحاب وعدمها .

عصمنا اللّه وإخواننا من الزلل في القول والعمل ، بجاه محمّد وآله المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين .

-------------------

( وإلاّ ) بأن لم يكن هو قادرا على التشخيص ، ولا آخذا للمشخّصات من المجتهد ( فربّما يلتفت إلى الاستصحاب المحكوم من دون التفات إلى استصحاب الحاكم ) وذلك كما إذا وقع ثوب مسبوق بالنجاسة في ماء قليل طاهر ، فانّه لو استصحب طهارة الماء هنا بلا التفات منه إلى استصحاب نجاسة الثوب الحاكم على استصحاب طهارة الماء وقع في المخالفة العملية .

( وهذا ) الذي ذكرنا انّه من وظائف المجتهد وان كان يبدو انّه من تشخيص الموضوع الخارجي ، إلاّ انّه ( يرجع في الحقيقة إلى تشخيص الحكم الشرعي ، نظير تشخيص حجيّة أصل الاستصحاب وعدمها ) أي : عدم حجيّته ، فكما انّه ليس من شأن المقلّد تشخيص الحكم الشرعي ، فكذلك ليس من شأنه تشخيص حجيّة أصل الاستصحاب ، ولا تعيين الأصل الحاكم من المحكوم ، فليس إذن أمثال هذه الاُمور من الاُمور الموضوعية الخارجة عن وظيفة المجتهد ( عصمنا اللّه وإخواننا من الزلل في القول والعمل ، بجاه محمّد وآله المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين ) و « سبحان ربّك ربّ العزة عمّا يصفون ، وسلام على المُرسلين، والحمْدُ للّه ربّ العالمين » .

ص: 249

ص: 250

الوصائل الى الرسائل

خاتمة : في التعادل والتراجيح

اشارة

ص: 251

ص: 252

خاتمة : في التعادل والترجيح

-------------------

( بسم اللّه الرحمن الرحيم )

( الحمد للّه ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين ) .

وبعد :

( خاتمةٌ : في التعادل والتراجيح ) .

إعلم أن المراد من التعادل هو : تساوي الدليلين ، وذلك بأن يكون كل منهما معادلاً للآخر يعني : بأن لايوجد في أحدهما مرجّح بحيث يوجب الأخذ به دون الآخر ، والمراد من التراجيح هو : بأن يوجد في أحدهما مرجّح بحيث يوجب الآخذ به وتقديمه على الآخر الذي لا مرجِّح فيه .

هذا ، وحيث أن التعادل لايكون الاّ واحداً ، والترجيح يكون بمرجّحات متعدّدة ، جاء المصنّف بلفظ الأوّل مفرداً ، فقال : « التعادل » وبلفظ الثاني جمعاً ، فقال : « التراجيح » .

وإنّما جاء بلفظ التعادل من باب التفاعل دون المفاعلة لانّ التفاعل اولاً وبالذات للدلالة على التساوي في الزمان ، بخلاف المفاعلة فانّه ليس كذلك ، فاذا قال - مثلاً - ضارب زيد عمرواً ، كأن معناه : أنه ضرب أحدهما اولاً ثم ضرب الثاني ، بينما التعادل إنّما يكون في زمان واحد لا في زمانين .

وإنّما جعل المصنّف مسئلة التعادل والتراجيح خاتمة مع أنها من المسائل الاصولية ، لأنه بها ختم المسائل ، لا لأنها خارج عن المسائل ، فقوله : « خاتمة » هنا ليس من قبيل قولهم في الكتاب : مقدمة ومسائل وخاتمة ، بل من قبيل :

ص: 253

وحيث إنّ موردهما الدليلان المتعارضان ، فلا بدّ من تعريف التعارض وبيانه .

وهو لغةً : من العرض ، بمعنى الاظهار وغلب في الاصطلاح على تنافي الدليلين وتمانعهما

-------------------

« ولكن رسول اللّه وخاتم النبيّن » (1) ، وقال : « خاتمة » مع تاء التأنيث باعتبار تقدير المسألة ، مثل قولهم الرهن واثقة الدين ، باعتبار لفظ العين المقدَّر في الكلام .

( وحيث إنّ موردهما ) أي مورد التعادل والتراجح ، ( الدليلان المتعارضان ) والمراد بالمتعارضين هو : أن يكون أحدهما باطلاً في الواقع ، لكن لانعلم بأن أيهما الباطل ؟ وهذا التعارض في قِبال التزاحم وهو : ان يكون كلاهما حقاً واقعاً لكن المكلّف لا يتمكن من أدائهما معاً ، كانقاذ الغريقين ، وحينئذٍ . ( فلا بدّ من تعريف التعارض وبيانه ) علماً بأن المراد من قوله : « وبيانه » إمّا عطف بيان ، وإمّا ان يراد به المصداق ، فيكون المراد بالتعريف في قوله : « تعريف التعارض » بيان حقيقة التعارض وماهيته .

( وهو ) أي التعارض لغويّ واصطلاحي ، فإنّه ( لغةً من العرض ) بمعناه الوصفي المصدري لا بمعناه الاسمي الذي هو مقابل الطول ، فيكون حينئذٍ ( بمعنى : الاظهار ) فكأنّ كل واحد من الدليلين يظهر نفسه على الآخر حتى يغلبه .

هذا هو معناه اللغويّ ، وأما معناه الاصطلاحي ، فكما قال : ( وغلب في الاصطلاح على تنافي الدليلين وتمانعهما ) .

ص: 254


1- - سورة الاحزاب : الآية 40 .

باعتبار مدلولهما .

ولذا ذكروا : إنّ التعارض تنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض أو التضادّ .

وكيف كان : فلا يتحقّق إلاّ بعد اتّحاد الموضوع ،

-------------------

من قبيل : « ثَمَنُ العَذَرَةِ سُحتٌ » (1) و « لا بأس بِبيع العَذَرَةِ » (2) فإن كل واحد منهما يمنع عن العمل بالآخر ، لأن مضمونه مخالف لمضمون الآخر .

وإنّما يكون التمانع بين الدليلين .

( باعتبار مدلولهما ) ومفهومهما ، لا باعتبار لفظهما ، لوضوح : أن لفظهما ليس يمتنع احدهما عن الآخر ويمنعة ، وبعبارة اخرى : التمانع بالعرض ، لا بالذات ( ولذا ) أي: لاجل ما ذكرناه : من أن التمانع باعتبار المدلولين وعرضيا وليس ذاتياً.

( ذكروا إنّ التعارض ) هو : ( تنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض ) بأن يكون أحدهما ايجابياً والآخر سلبياً ، كما لو قال : صلّ الجمعة ، ولا تصلّ الجمعة ، فانه يكون فيهما تناقض ( أو التضادّ ) بأن يكون أحدهما ضداً للآخر ، كما لو قال : صلّ الظهر ، ثم قال : صلّ الجمعة ، فيكون بينهما تضاد .

( وكيف كان : ) فانّه سواء عرّف التعارض بما ذكرناه أو بغيره ( فلا يتحقّق إلاّ بعد اتحاد الموضوع ) في المتعارضين ، وذلك كما إذا قال أحد الدليلين : أكرم العالم ، وقال الآخر : لا تكرم العالم ، أوقال أحد الدليلين : أكرم العالم ، وقال الآخر : أهن العالم .

ص: 255


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و ح3 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص372 ب22 ح202 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

وإلاّ لم يمتنع اجتماعُهُما .

ومنه يعلمُ أنّه لاتعارضَ بين الاُصول وما يحصّله المجتهد من الأدلّة الاجتهاديّة ، لأنّ موضوعَ الحكم في الاُصول ، الشيء بوصف أنّه مجهول الحكم ، فالحكم بحليّة العصير - مثلاً - من حيث انّه مجهول الحكم وموضوع الحكم الواقعي ، الفعل من حيث هو .

-------------------

( وإلاّ ) بأن لم يكن اتحاد الموضوع فيهما ( لم يمتنع اجتماعُهُما ) كما اذا قال : صلّ ولا تشرب الخمر .

( ومنه ) أي : ممّا ذكرناه : من لزوم اعتبار اتحاد الموضوع في المتعارضين ( يعلم أنّه لا تعارض بين الاُصول ) العملية ( و ) بين ( ما يحصّله المجتهد من الأدلة الاجتهاديّة ) وقد مرّ سابقاً بيان ذلك في أواخر بحث الاستصحاب .

وإنّما لا تعارض بينهما ( لأنّ موضوع الحكم في الاصول ) العملية هو : ( الشئ بوصف أنّه مجهول الحكم ، فالحكم بحلية العصير - مثلاً - ) إنّما هو (من حيث أنه مجهول الحكم ) أي : انّ موضوع العملية الشك ( و ) عدم العلم ، وقد قال الشارع : « لاتنقض اليقين بالشك » (1) وقال : « كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر » (2) و « كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام » (3) بينما ( موضوع الحكم الواقعي ) هو ( الفعل من حيث هو ) لا من حيث أنه مجهول الحكم ، فالعصير العنبي - مثلاً - قد يكون موضوعاً للحلّ فيما لو كان مشكوكاً ، فالحكم بما هو مشكوك حلال ، وقد يكون نفسه موضوعاً للحرمة فيما لو كان حرام واقعاً ، فالحكم بما هو عصير حرام

ص: 256


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الاحكام : ج1 ص190 ب4 ح318 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 (بالمعنى) وقريب منه ح39 والمحاسن : ص495 ح596 .

فاذا لم يطّلع عليه المجتهد ، كان موضوع الحكم في الاصول باقيا على حاله ، فيعمل على طبقه .

واذا اطّلع المجتهد على دليل يكشف عن الحكم الواقعي ، فان كان بنفسه يفيد العلم صار المحصّل له عالما بحكم العصير - مثلاً - فلا يقتضي الأصل حلّيته ، لأنّه إنّما اقتضى حليّة مجهول الحكم .

-------------------

من حيث هو ، ومعه لا تعارض .

وعليه : ( فاذا لم يطّلع عليه ) أي : على الحكم الواقعي ( المجتهد ) بأن شك في أن الحكم الواقعي للعصير - مثلاً - ما هو ؟ ( كان موضوع الحكم في الاصول ) العملية ، وهو كما في المثال : العصير من حيث أنه مجهول الحكم ( باقياً على حاله ، فيعمل على طبقه ) أي ؛ على طبق ذلك الحكم الثابت للاصول العملية من البرائة وغيرها .

هذا إذا لم يطّلع المجتهد على الحكم الواقعي ( وإذا اطّلع المجتهد على دليل يكشف عن الحكم الواقعي ) كما اذا ورد دليل يقول : العصير العنبي حرام - مثلاً - ( فإن كان ) ذلك الدليل الاجتهادي ( بنفسه ) أي لا بواسطة دليل آخر يدلّ على حجيّته ( يفيد العلم ) للمجتهد كالخبر المتواتر ، والخبر المحفوف بالقرائن القطعية ، والاجماع المحصّل ، وما أشبه ذلك ( صار ) ذلك المجتهد ( المحصّل له ) أي المحصّل للدليل الكاشف عن الحكم الواقعي للعصير ( عالماً بحكم العصير - مثلاً - ) ومعه ( فلا يقتضي الأصل حلّيته ، لأنّه ) أي : الاصل ( إنّما اقتضى حليّة مجهول الحكم ) وقد صار هذا معلوم الحكم ، فخرج بذلك عن موضوع الأصل لأن موضوع الأصل العملي - على ما عرفت - هو : بالشئالمجهول الحكم ، وهذا شئمعلوم الحكم .

ص: 257

فالحكم بالحرمة ليس طرحاً للأصل ، بل هو بنفسه غير جارٍ وغير مقتضٍ ، لأنّ موضوعه مجهولُ الحكم وإن كان بنفسه لا يفيد العلم ، بل هو محتمل الخلاف ، لكن ثبت اعتباره بدليل علميّ .

فإن كان الأصلُ ممّا كان مؤدّاه بحكم العقل ، كأصالة البراءة العقليّة والاحتياط والتخيير العقليين ،

-------------------

وعليه : ( فالحكم بالحرمة ليس طرحاً للاصل ، بل ) الأصل ( هو بنفسه غير جارٍ وغير مقتضٍ ) لأنه كما عرفت لاجهل ، والأصل إنّما يكون في مورد الجهل وذلك كما قال : ( لأنّ موضوعه ) أي : موضوع الأصل هو : ( مجهول الحكم ) ومن المعلوم : إنّ التواتر ، أو الاحتفاف بالقرينة القطعية ، أو الاجماع المحصّل المقطوع به ، معلوم الحكم ، وبذلك يرتفع موضوع الاصل .

هذا إن كان الدليل الاجتهادي بنفسه يفيد العلم ( وإن كان ) الدليل الاجتهادي ( بنفسه ) لولا دليل آخر يدلّ على حجيته ( لا يفيد العلم ، بل هو محتمل الخلاف ، لكن ثبت اعتباره بدليل علميّ ) كما في الخبر الواحد فأنه يحتمل كونه مخالفاً للواقع إلاّ أن الأدلة الدالة على حجيّته من الكتاب والسنة والاجماع والعقل جعلته حجة ، بحيث يكون معنى حجيته : ألغ احتمال الخلاف فيه .

وعليه : ( فإن كان الأصل ) المقابل لهذا الدليل الذي هو الخبر الواحد على مافي المثال ( ممّا كان مؤدّاه بحكم العقل ) فحسب ( كأصالة البرائة العقليّة ) المبتنية على « قبح العقاب بلا بيان » ، فإن البرائة هذه هو حكم العقل في مورد الشك في التكليف ( و ) كأصالتي ( الاحتياط والتخيير العقليين ) فإنّ الاحتياط هو حكم العقل في مورد الشك في المكلّف به ، كما أن التخيير هو حكم العقل فى مورد الشك الدائر بين المحذورين ، وذلك كما اذا شك في أنه هل حلف على ترك

ص: 258

فالدليلُ واردٌ عليه ورافعٌ لموضوعه ، لأنّ موضوعَ الأوّل عدمُ البيان ، وموضوعَ الثاني احتمالُ العقاب ، وموردَ الثالث عدمُ الترجيح لأحد طرفي التخيير ، وكلّ ذلك مرتفعٌ بالدليل الظني .

وإن كان مؤدّاه من المجعولات الشرعيّة ، كالاستصحاب ونحوه ، كان ذلك الدليلُ حاكماً على الأصل ، بمعنى أنّه يحكم عليه

-------------------

الوطي أو فعل الوطي ؟ ( فالدليل ) العلمي من الخبر الواحد ( وارد عليه ) أي : على هذا الأصل العقلي من البرائة أوالاحتياط ، أوالتخيير ( ورافعٌ لموضوعه ) فانّه مع الخبر لا موضوع لهذه الاصول الثلاثة العقلية ، وأن الموضوع لها ( لأنّ موضوع الأوّل ) أي : البرائة العقلية : ( عدم البيان ، وموضوع الثاني ) أي : الاحتياط العقلي : ( احتمال العقاب ) ، ( ومورد الثالث ) وهو التخيير العقلي : ( عدم الترجيح لأحد طرفي التخيير ، و ) من المعلوم : انّ ( كلّ ذلك مرتفع بالدليل الظني ) المعتبر ، فإنّ مؤدّى الخبر وإن كان ظناً لا قطعاً ، لكنه ظن معتبر وحجّة .

هذا إن كان مؤدّى الأصل بحكم العقل ( وإن كان مؤدّاه من المجعولات الشرعيّة : كالاستصحاب ونحوه ) ممّا يكون حجّة بحكم الشرع كالبرائة الشرعية المستندة الى : « رفع ... مالايعلمون » (1) وكالاحتياط الشرعي المستند الى : « احتط لدينك » (2) ( كان ذلك الدليل ) الظني المعتبر من الخبر الواحد ( حاكماً على الأصل ) الشرعي من هذه الاُصول المذكورة ، وحكومة الدليل هنا ( بمعنى أنه ) أي : الدليل الظني المعتبر ( يحكم عليه ) أي : على الاصل الشرعي المذكور

ص: 259


1- - وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 ، الخصال : ص417 ح27 ، تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الاختصاص : ص31 .
2- - الامالي للطوسي : ص110 ح168 ، الامالي للمفيد : ص283 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

بخروج مورده عن مجرى الأصل ، فالدليل العلمي المذكور وإن لم يرفع موضوعه ، أعني الشكّ ، إلاّ إنّه يرفع حكم الشكّ ، أعني الاستصحاب .

-------------------

( بخروج مورده ) أي : مورد ذلك الدليل المعتبر ( عن مجرى الأصل ) الشرعي ، فإن « الأصل الأصيل حيث لادليل » .

إذن : فمورد الدليل الظني المعتبر خارج عن مجرى الأصل الشرعي : من البرائة ، والاحتياط ، والاستصحاب ، وذلك لأنّ البرائة الشرعية تقول : « رفع ... ما لا يعلمون » (1) والخبر يقول : « هذا ممّا لايعلمون » .

ومن الواضح : إنّ العلم والعلمي في نظر العقل والشرع سواء من حيث رفعه : « لايعلمون » وكذا الاحتياط الشرعي فانّه يقول : « احتط لدينك » (2) فيما لو كان يحتمل الحكم ، والخبر يقول : لاحكم ، وهكذا الاستصحاب الذي هو أصل شرعي ، فانه يقول : « لاتنقض اليقين بالشك » (3) والخبر يقول :« لاشك » .

وعليه : ( فالدليل العلمي المذكور ) من الخبر الواحد على ما في المثال ( وإن لم يرفع موضوعه ) أي : وإن لم يكن كالخبر المتواتر المورث للعلم يرفع موضوع الأصل الشرعي ( أعني ) بموضوع الأصل الشرعي ( الشكّ ) لأن الشك في الحكم الواقعي مع الخبر الواحد المورث للظن باقٍ وجداناً ( إلاّ إنّه يرفع حكم الشك ، أعني : الاستصحاب ) وكذلك البرائة والاحتياط الشرعيين ، فإن الدليل الظني المعتبر من الخبر الواحد يرفع حكم الشك في الاُصول الشرعية المذكورة ،

ص: 260


1- - الاختصاص : ص31 ، الخصال : ص417 ح27 ، تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769
2- - الامالي للطوسي : ص110 ح168 ، الامالي للمفيد : ص283 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .
3- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

وضابط الحكومة : أن يكون أحدُ الدليلين بمدلوله اللفظي متعرّضاً لحال الدليل الآخَر ،

-------------------

فيخرج مورد الخبر الواحد من مجرى الأصل الشرعي ، فلا مجرى للأصل مع الخبر .

والحاصل : إنّ الاُصول العملية عقليّها وشرعيّها ستة ، فالعقلية ثلاثة : التخير ، وكذا البرائة والاحتياط العقليان ، والشرعية ثلاثة أيضاً : الاستصحاب ، وكذا البرائة والاحتياط الشرعيان ، وهذه الستة يقابلها إما علم قطعي كالخبر المتواتر أو علمي ظنّي كالخبر الواحد ، فتكون الأقسام اثني عشر قسماً : تسعة منها من باب الورود وهي : ما قابلها علم قطعي في الجميع ، وعلمي ظنّي في الثلاثة العقلية .

وثلاثة منها فقط من باب الحكومة ، وهي : ما قابلها علمي ظنّي في الثلاثة الشرعية فقط .

علماً بأنّ الورود هو : رفع الشك ، كالشك مع الدليل ، والحكومة هو : رفع حكم الشك وإن كان الشك باق وجداناً .

وبعبارة اخرى : الورود هو : رفع الموضوع ونسفه ، والحكومة هي : توسعة الموضوع أوتضييقه .

وبعبارة ثالثة : الورود هو : تخصّص في المعنى ، والحكومة هي : تخصيص في المعنى .

( وضابط الحكومة : أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي ) أي : لا بحكم العقل ، كما سيأتي بيانه انشاء اللّه تعالى في ضابط التخصيص ( متعرِّضاً لحال الدليل الآخر ) الذي ذكره الشارع ، فكلا الدليلين ذكرهما الشارع ، لكن أحد

ص: 261

ورافعاً للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه ، فيكون مبيّناً لمقدار مدلوله ، مسوقاً لبيان حاله متعرّضا عليه ،

-------------------

الدليلين ناظر الى الدليل الآخر نظر توسعة أوتضييق ، فقول الشارع - مثلاً - : « لاشك لكثير الشك » (1) يكون حاكماً على قوله : « اذا شككت فابن على الأكثر » (2) وهذا الحاكم مضيِّق للمحكوم . وقول الشارع - مثلاً - : « لاصلاة إلاّ بطهور » (3) يكون حاكماً على قوله : « الطواف بالبيت صلاة » (4) وهذا الحاكم موسّع للمحكوم ، يعني يوسّع دائرة الصلاة بحيث يشمل الطواف من جهة وجوب الطهور له .

هذا ، والمصنّف إنمّا تعرّض هنا الى القسم الاول من الحكومة فقط وهو : المضيّق للمحكوم ، ولهذا قال ؛ أن احد الدليلين يتعرّض للدليل الآخر ( و ) يكون ( رافعاً للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه ) أي : موضوع الدليل الآخر ( فيكون ) الدليل الحاكم ( مبيّناً لمقدار مدلوله ) أي : مدلول المحكوم ، و ( مسوقاً لبيان حاله ) أي : حال المحكوم ، و( متعرّضاً عليه ) أي : على المحكوم ، وذلك كما عرفت في مثل قول الشارع : « لاشك لكثير الشك »

ص: 262


1- - من القواعد الفقهية المصطادة من الروايات ، ويدل عليها : الكافي فروع : ج3 ص358 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص153 ص343 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص224 ، الاستبصار : ج1 ص374 ب217 ح5 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص340 ح992 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10451 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص602 .
3- - تهذيب الاحكام : ج1 ص49 ب3 ح83 و ص209 ب9 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص55 ب31 ح15 و ح16 ، وسائل الشيعة : ج1 ص315 ب9 ح829 ، مفتاح الفلاح : ص202 ، غوالي اللئالي : ج3 ص8 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص33 ح67 و ص58 ح129 .
4- - غوالي اللئالي : ج1 ص214 و ج2 ص167 ح3 ، نهج الحق : ص472 ، وسائل الشيعة : ج13 ص376 ب38 ح17997 ، مستدرك الوسائل : ج9 ص410 ب38 ح11203 .

نظير الدليل على أنّه لاحكم للشكّ في النافلة ، أو مع كثرة الشكّ أو مع حفظ الإمام أو المأموم ، أو بعد الفراغ من العمل ، فإنّه حاكم على الأدلّة المتكفّلة لأحكام المشكوك ، فلو فرض أنّه لم يرد من الشارع حكم المشكوك لاعموماً ولاخصوصاً ، لم يكن

-------------------

مع قوله : « اذا شككت فابن على الاكثر » (1) فان « لا شك لكثير الشك » يضيّق دائرة « اذا شككت فابن على الاكثر » حتى يكون المعنى ، إذا شككت فابن على الأكثر إلاّ إذا كنت كثير الشك .

وكذا ( نظير الدليل على أنّه لاحكم للشكّ في النافلة ، أو مع كثرة الشكّ ، أو مع حفظ الإمام أو المأموم ، أو بعد الفراغ من العمل ) أوبعد التجاوز ( فإنّه حاكم على الأدلّة المتكفّلة لأحكام المشكوك ) في الأمثلة المذكورة وما شابهها ، يعني : رافع لحكم الشك فيها حتى كأنه لاشك ، ومعه ، فلا اعتبار للبناء على الأكثر فيمن شك بين الأقل والأكثر وهو يصلّي النافلة وصار كثير الشك ، أو مع حفظ الإمام أو المأموم للأقل ، وهكذا بالنسبة الى الفراغ ، لو شك بعد العمل أو بعد التجاوز .

وعليه : ففي الحكومة لابدّ - مثلاً - أدلة متكفّلة لأحكام المشكوك حتى يكون الدليل الناظر اليها حاكماً عليها ، ولذا ( فلو فرض أنّه لم يرد من الشارع حكم المشكوك لاعموماً ) كما في قوله : « إذا شككت فابن على الأكثر » ( ولاخصوصاً ) كما في قوله : « اذا شككت بين الثلاث والأربع فابن على الأربع » (2) ( لم يكن

ص: 263


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص340 ح992 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10451 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص602 .
2- - وسائل الشيعة : ج8 ص216 ب10 ح10461 .

موردٌ للأدلّة النافية لحكم الشكّ في هذه الصور .

والفرقُ بينه وبين التخصيص : إنّ كونَ التخصيص بياناً للعامّ بحكم العقل الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع العمل بالخاص ، وهذا بيانٌ بلفظه للمراد ومفسّر للمراد من العامّ ،

-------------------

موردٌ للأدلّة ) الحاكمة ( النافية لحكم الشكّ في هذه الصور ) المذكورة ؛ فإنه إذا قال ابتداءاً : « لا شك لكثير الشك » يتساءل : ما معنى هذا الكلام ؟ ولكن إذا قال قبل ذلك : « إذا شككت فابن على الأكثر » علم أن قوله : « لاشك لكثير الشك » ناظر الى كلامه السابق ، ومفسّر له ، ومضيّق لدائرته .

( و ) إن قلت : أن الحاكم هنا في باب الحكومة هو كالمخصّص هناك في باب التخصيص ، فما هو الفرق بينهما حتى ذكرا على حدة ؟ .

قلت : ( الفرق بينه ) أي : بين الحاكم ( وبين التخصيص ) يكون بما يلي : الفرق الأوّل : ( انّ كون التخصيص بياناً للعامّ ) لا يتمّ بمدلوله اللفظي ، بل ( بحكم العقل ) فان العقل هو ( الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع العمل بالخاص ، و ) ذلك كما إذا قال الشارع - مثلاً - أكرم كل عالم ، ثم قال لاتكرم الفاسق من العلماء ، فالعقل هو الذي يجمع بينهما ثم يحكم بأنه أراد من العام غير الخاص ، بينما ( هذا ) الدليل الحاكم القائل - مثلاً - : « لا شك لكثير الشك » ( بيانٌ بلفظه للمراد ، ومفسّر للمراد من العامّ ) القائل : « إذا شككت فابن على الأكثر » يعني : لفظ « لاشك لكثير الشك » بنفسه يفسّر أن المراد من قوله :« إذا شككت فابن على الأكثر » هو غير كثير الشك .

والحاصل من الفرق الأوّل هو : أن التخصيص يكون بحكم العقل ، والحكومة

ص: 264

فهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير .

ثمّ الخاصُّ إن كان قطعيّاً تعيّن طرحُ العامّ ، وإن كان ظنّياً دار الأمرُ بين طرحه وطرح العموم .

ويصلح كلٌّ منهما لرفع اليد بمضمونه على تقدير مطابقته للواقع عن الآخر ، فلابدّ من الترجيح .

-------------------

تكون بحكم اللفظ ( فهو ) أي : الحاكم إذن ( تخصيص في المعنى ) عن العام المحكوم ولكن ( بعبارة التفسير ) والتوضيح ، فكأنه قال :« إذا شككت فابن على الأكثر » أي : في غير كثير الشك ، وفي غير الإمام والمأموم ، وهكذا .

الفرق الثاني :( ثمّ الخاصُّ إن كان قطعيّاً ) أي : من حيث الدلالة بأن كان نصاً ، كما إذا قال : يحرم إكرام الفساق ، ثم قال : يجب إكرام زيد الفاسق لأنّه أبوك ( تعيّن طرح العامّ ) لأنّ العام ظنّي والخاص قطعي .

هذا ، إن كان الخاص قطعياً ( وإن كان ) الخاص ( ظنّياً ) من حيث الدلالة ، يعنى بأن كان ظاهراً ف( دار الأمر بين طرحه وطرح العموم ، و) ذلك لأن كلاً منهما كان ظني الدلالة بحيث . ( يصلح كلٌّ منهما ) أي : من العام والخاص ( لرفع اليد بمضمونه على تقدير مطابقته للواقع عن الآخر ) أي : بأن يكون العام هو المعمول به لا الخاص ، أوالخاص هو المعمول به لا العام ، وحينئذ ( فلا بدّ من الترجيح ) بمرجّح داخلي أوخارجي ، يكون قرينة على تقديم أحد الظاهرين .

مثلاً : لو قال الشارع لاتجتنب عن غير النجاسات العشرة ، ثم قال في كلام آخر : اجتنب عن الحديد ، ممّا يمكن التصرّف في العام بتخصيصه بالحديد ، أو التصرّف في الخاص بحمله على الاستحباب ، فاللاّزم التماس ما يكون قرينة للتصرّف في الأوّل أوفي الثاني ، سواء كانت قرينة داخلية أو خارجية ، والقرينة

ص: 265

بخلاف الحاكم ، فإنّه يكتفى به في صرف المحكوم عن ظاهره ، ولا يكتفى بالمحكوم في صرف الحاكم عن ظاهره ، بل يحتاج إلى قرينة

-------------------

في المقام شرعية خارجية ، وهي : الاجماع على عدم نجاسة الحديد ، فتوجب التصرّف في الثاني بحمل اجتنب عن الحديد على الاستحباب .

هذا ، لا يخفى : أن القرينة على أربعة اقسام : وذلك لأنها أمّا داخلية أو خارجية ، وكل واحدة منهما أمّا شرعية أو عقلية ، فالمجموع أربعة أقسام ، فالقرينة العقلية الداخلية ما كانت من الوضوح بحيث يفهمها المخاطب من أمر شارع فلا تأمل ، بخلاف العقلية الخارجية حيث لا يفهمها المخاطب إلاّ بعد التأمّل .

فمن الأوّل مالو قال : يحرم جرح أيّ إنسان ، فانّه يفهم منه غير الكافر الحربي في حال الحرب .

ومن الثاني : مالو قال يجب ردّ السلام على المسلم فانه اذا لاحظ العقل أنه قد يكون محذور في ردّ السلام من جهة عدو يعرف موضع المسلم فيناله بأذى ، يرى أنه لايجب عليه الردّ في هذه الحالة .

إذن : فالفرق الثاني بين التخصيص والحكومة هو : أن الخاص لو كان نصاً قطعياً خصّص العالم ، لا أن كان ظاهراً ظنياً ، فانّه حينئذ لابّد من مرجّح ( بخلاف الحاكم ، فإنّه ) سواء كان نصّاً قطعياً أوظاهراً ظنيّاً ، فإنّه ( يكتفى به في صرف المحكوم عن ظاهره ، و) إن كان ظاهر المحكوم أقوى ، بينما ( لا يكتفى بالمحكوم في صرف الحاكم عن ظاهره ) وإن كان ظاهر الحاكم أضعف ، فالحكم حاكم سواء كان أضعف دلالة ، أوأقوى دلالة ، أومسا ودلالة بالنسبة إلى المحكوم ، ومعه فلا يصرف المحكوم الحاكم عن ظاهره بمجرّد ( بل يحتاج الى قرينة

ص: 266

اُخرى ، كما يتّضح ذلك بملاحظة الأمثلة المذكورة .

فالثمرةُ بين التخصيص والحكومة ، تظهرُ في الظاهرين حينئذٍ لايقدّم المحكوم ولو كان الحاكمُ أضعفَ منه ،

-------------------

اُخرى ) حتى يستطاع صرف الحاكم عن ظاهره ( كما يتّضح ذلك بملاحظة الأمثلة المذكورة ) .

مثلاً : قول الشارع : « إذا شككت فابن على الأكثر » (1) المحكوم ، لا يكون بمجرّده قرينة على التصرّف في قوله : « لاشك لكثير الشك » (2) الحاكم بل لابدّ من قرينة خارجية أخرى تقول - مثلاً - بان المراد من :« لاشك لكثير الشك » هو : أن كثير الشك قليل جداً في الخارج بحيث يكون موجوده كعدمه ، ومعه يكون المحكّم في كثير الشك أيضا البناء على الأكثر ، فيبقى عموم :« اذا شككت فابن على الأكثر » على حاله ، وذلك سواء في كثير الشك أو في غير كثير الشك ، فالتصرّف في الحاكم إذن ليس كالتصرف في الخاص كي يكون بمجرّد ضعف دلالته ، بل لابدّ فيه من قرينة خارجية تدل على أن المراد من :« لاشك لكثير الشك » الحاكم هو : أن هذا القسم من الشك قليل - مثلاً - أوما أشبه ذلك .

وعليه : ( فالثمرة بين التخصيص والحكومة ، تظهرُ في الظاهرين ) مثل : « إذا شككت فابن على الأكثر » مع « لاشك لكثير الشك » ( حينئذٍ لا يقدّم المحكوم ) على الحاكم حتى ( ولو كان الحاكمُ أضعفَ منه ) أي : من المحكوم في الظهور

ص: 267


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص340 ح992 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10451 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص602 .
2- - من القواعد الفقهية المصطادة من الروايات ، ويدل عليها : الكافي فروع : ج3 ص358 ح2، تهذيب الاحكام : ج2 ص153 و ص343 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص224 ، الاستبصار : ج1 ص374 ب217 ح5 .

لأنّ صرفه عن ظاهره لا يحسن بلا قرينة اُخرى مدفوعة بالأصل .

وأمّا الحكمُ بالتخصيص ، فيتوقّف على ترجيح ظهور الخاصّ ، وإلاّ أمكن رفع اليد عن ظهوره وإخراجه عن الخصوص بقرينة صاحبه .

فلنرجع إلى ما نحن بصدده من ترجيح حكومة الأدلّة الظنيّة على الاُصول ، فنقول : قد جعل الشارعُ للشيء المحتمل للحلّ والحرمة حكماً شرعيّاً أعني : الحلّ ،

-------------------

والدلالة ، وذلك ( لأنّ صرفه ) أي : صرف الدليل الحاكم ( عن ظاهره لايحسن بلا قرينة أُخرى ) كالقرينة التي ذكرناها في الدلالة على عدم الفرق بين كثير الشك وغير كثير الشك ، في مسئلة البناء على الأكثر عند الشك ، وحيث أن القرينة الاُخرى ( مدفوعة بالأصل ) فاللازم هو : تحكيم الحاكم على المحكوم ، لاجعل التعارض بينهما ، أو تحكيم المحكوم على الحاكم .

هذا في الحكومة ( وأمّا الحكم بالتخصيص ، فيتوقَّف على ترجيح ظهور الخاصّ ) بمرجّح داخلي أوخارجي ، عقلي أولفظي ( وإلاّ ) بأن لم يكن هناك مرجّح ( أمكن رفع اليد عن ظهوره ) أي : ظهور الخاص ( وإخراجه عن الخصوص بقرينة صاحبه ) الذي هو الظهور في العام .

إذا عرفت معنى الحكومة والتخصيص والفرق بينهما ( فلنرجع إلى ما نحن بصدده من ترجيح حكومة الأدلّة الظنّية ) كالخبر الواحد ( على الاُصول ) العملية ، من الاحتياط ، والبرائة ، وما أشبه ذلك ( فنقول : قد جعل الشارع للشئالمحتمل للحلّ والحرمة ) كالعصير العنبي ( حكماً شرعيّاً ) ظاهرياً ( أعني : الحلّ ) حيث قال : « كل شئلك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه » (1) فإذا شك في العصير

ص: 268


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 (بالمعنى) وقريب منه ح39 والمحاسن : ص495 ح596 .

ثمّ حكم بأنّ الأمارة الفلانيّة - كخبر العادل الدالّ على حرمة العصير - حجّة، بمعنى أنّه لايُعبأ باحتمال مخالفة مؤدّاه للواقع ، فاحتمال حلّية العصير المخالف للأمارة بمنزلة العدم لايترتّب عليه حكم شرعي كان يترتّب عليه لولا هذه الأمارة .

وهو ما ذكرنا من الحكم بالحلّية الظاهرية ، فمؤدّى الأمارات

-------------------

أنه حلال أوحرام ، فالشارع جعله حلالاً ( ثمّ حكم بأنّ الأمارة الفلانيّة - كخبر العادل الدالّ على حرمة العصير - ) إذا غلى ولم يذهب ثلثاه ( حجّة ) وجعله خبر العادل حجّة ( بمعنى : أنّه لا يُعبأ باحتمال مخالفة مؤدّاه ) أي : مؤدّى ذلك الخبر ( للواقع ) فإنّه إذا ورد الخبر بحرمة العصير ، فانه يحتمل مع ذلك أن الخبر اشتباه وأن العصير حلال في الواقع ، لكن الشارع لمّا قال : « صدّق العادل » كان معناه : ألغ احتمال الخلاف .

وعليه : ( فاحتمال حلّية العصير المخالف للأمارة ) التي هي هنا خبر العادل الدال على حرمة العصير بعد الغليان وقبل ذهاب الثلثين إنّما يكون ( بمنزلة العدم ) بمعنى : انّه ( لا يترتّب عليه ) أي على هذا الاحتمال المخالف للخبر ( حكم شرعي ) ظاهري بحيث لو كان هذا الاحتمال لوحده ( كان يترتّب عليه لولا هذه الأمارة ، وهو ) أي : ذلك الحكم الشرعي الظاهري ( ما ذكرنا : من الحكم بالحلّية الظاهرية ) للعصير ، فإنّه لولا هذا الخبر كان يترتّب على العصير حكم الحلّية الظاهريّة ، وذلك بمقتضى : « كل شئلك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه » (1) .

إذن : ( فمؤدّى الأمارات ) والأدلة الاجتهادية ، مثل مؤدّى خبر العادل

ص: 269


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 (بالمعنى) وقريب منه ح39 والمحاسن : ص495 ح596 .

بحكم الشارع كالمعلوم لايترتّب عليه الأحكام الشرعيّة المجعولة للمجهولات .

ثمّ إنّ ما ذكرنا من الورود والحكومة جارٍ في الاُصول اللفظيّة أيضاً .

فإنّ أصالة الحقيقة ، أو العموم معتبرةٌ إذا لم يعلم هناك قرينةٌ على المجاز .

-------------------

فيما نحن فيه الذي هو حرمة العصير ، يكون ( بحكم الشارع كالمعلوم ) لنا حرمته ، ومن الواضح أنه كما يجب الأخذ بالحرمة لو علمنا حرمة العصير علماً وجدانياً ، فكذلك لو علمنا بحرمته من خبر العادل ، ومعه ( لايترتّب عليه ) أي : على هذا المعلوم الحرمة ( الأحكام الشرعيّة المجعولة للمجهولات ) من البرائة والاحتياط وغير ذلك من الاُصول العملية والأدلّة الفقاهتية .

( ثمّ إنّ ما ذكرنا من الورود والحكومة ) في الاُصول العملية ( جارٍ في الاُصول اللفظيّة أيضاً ) فإنه ربّما يكون لفظ حاكماً على لفظ ، ولفظ وارداً على لفظ آخر ( فإنّ أصالة الحقيقة ، أوالعموم ) أوأصالة الاطلاق ، أوغير ذلك ( معتبرةٌ إذا لم يعلم هناك قرينةٌ على المجاز ) أوقرينة على التخصيص ، أوقرينة على التقييد ، وهكذا ، فإنّ الاُصول العملية كما هي معتبرة فيما إذا لم يقم على خلافها دليل اجتهادي معتبر ، فكذلك الاُصول اللفظية معتبرة فيما إذا لم يقم على خلافها قرينة معتبرة تدّل على سقوط هذه الاُصول اللفظية عندها .

إذن : فالأصول اللفظية كالأصول العملية ، تكون معرّضة للورود والحكومة ، يعني يكون ما يقابلها كما يقابل الاُصول العملية على قسمين : إما علم قطعي فيكون واردا عليها ، أوعلمي ظني : فيكون حاكماً عليها ، وذلك كما قال :

ص: 270

فإنّ كان المخصّص - مثلا - دليلاً علميّاً كان وارداً على الأصل المذكور ، فالعمل بالنّص القطعي في مقابل الظاهر كالعمل بالدليل العلمي في مقابل الأصل العملي .

وإنّ كان المخصّص ظنّياً معتبراً

-------------------

( فإنّ كان المخصّص - مثلاً - دليلاً علميّاً ) أي : بأن كان مورثاً للعلم القطعي كالمتواتر متناً وسنداً وجهةً ( كان وارداً على الأصل المذكور ) فإنّ أصل الحقيقة - مثلاً - معتبر مع عدم العلم بالخلاف ، والدليل المتواتر المورث للعلم القطعي رافع لهذا الموضوع ، فيرتفع اعتبار الأصل .

وعليه : ( فالعمل بالنّص القطعي ) أي : بالدليل المورث للعلم القطعي كالخبر المتواتر سنداً ، ومتناً ، وجهة ، بمعنى : عدم كونه تقية ، اذا قام على عدم إكرام زيد ، كان العمل به ( في مقابل الظاهر ) أي : الأصل اللفظي ( كالعمل بالدليل العلمي ) أي : المورث للعلم القطعي ( في مقابل الأصل العملي ) أي كما أن الخبر المتواتر الدال على حرمة العصير العنبي يكون وارداً على أصالة الحلّ لخروج العصير بسبب الخبر المتواتر عن كونه مشكوك الحكم إلى كونه معلوم الحكم ، فلا موضوع معه لأصالة الحل ، فكذلك في المقام فإنّ الخبر المتواتر على عدم إكرم زيد ، إذا كان نصّاً مبيّناً للواقع من غير جهة التقية ، يكون وارداً على أصالة العموم اللفظي في : أكرم العلماء ، وذلك لإرتفاع موضوع أصالة العموم بسبب العلم بالقرينة ، الحاصل من جهة الخبر المتواتر على عدم إكرام زيد .

هذا إن كان المخصّص دليلاً علمياً ، بمعنى العلم القطعي كالخبر المتواتر ( وإن كان المخصّص ظنّياً معتبراً ) بمعنى : العلمي الظني كالخبر الواحد إذا كان نصّاً - مثلاً - في عدم إكرام زيد ، فإنّ هذا الخبر الواحد الذي هو نص من جهة الدلالة

ص: 271

كان حاكماً على الأصل ، لأنّ معنى حجيّة الظنّ جعلُ احتمال مخالفة مؤدّاه للواقع بمنزلة العدم في عدم ترتّب ما كان يترتّب عليه من الأثر لولا حجيّة هذه الأمارة ، وهو وجوب العمل بالعموم ، عند احتمال وجود المخصّص وعدمه .

-------------------

على عدم إكرام زيد ، وإن كان ظنياً من جهة السند ، أومن جهة الصدور ، أومن كلا الجهتين ( كان حاكماً على الأصل ) اللفظي .

وإنّما يكون الدليل العلمي الظني حاكماً في هذه الصورة على الأصل اللفظي ( لأنّ معنى حجيّة الظنّ ) المخصّص كالخبر الواحد الخاص هو : ( جعل احتمال مخالفة مؤدّاة للواقع ) أي : جعل إحتمال خلاف مؤدّى هذا الخبر الواحد الخاص ( بمنزلة العدم في عدم ترتّب ما كان يترتّب عليه من الأثر لولا حجيّة هذه الأمارة ) الذي هو الخبر الواحد الخاص ( و ) ذلك الأثر الذي كان يترتب على الاصل اللفظي في أكرم العلماء ، لولا مجيئ خبر العادل بعدم إكرام زيد ( هو : وجوب العمل بالعموم ، عند احتمال وجود المخصّص وعدمه ) أي : عدم وجود المخصّص .

وعليه : فإذا قال الشارع : أكرم العلماء ، ثم احتمل وجود المخصّص لم يعتن بهذا الاحتمال ، بل لَعمِل بأصالة العموم ، وأمّا اذا جاء بعد ذلك عادل بخبر خاص عن الشارع يقول : لا تكرم زيداً ، كان الخاص : لاتكرم زيداً ، مخصّصاً لعموم : أكرم العلماء ، لانّه نص في الدلالة على التخصيص ، وإن كان ظناً معتبراً من حيث السند ، أومن حيث جهة الصدور ، ومعنى اعتباره : عدم الاعتناء باحتمال عدم التخصيص ، أي إلغاء أصالة العموم التي كانت تجري هذه الأصالة ، لولا هذا الخبر الظني الخاص .

ص: 272

فعدم العبرة باحتمال عدم التخصيص إلغاء للعمل بالعموم ، فثبت أنّ النصّ واردٌ على أصالة الحقيقة إذا كان قطعيّاً من جميع الجهات وحاكمٌ عليه إذا كان ظنّيّاً في الجملة ، كالخاصّ الظنّي السند - مثلاً - ويحتمل أن يكون الظنُّ - أيضاً - وارداً بناءاً على كون العمل بالظاهر - عرفاً وشرعاً - معلقاً على عدم التعبّد بالتخصيص ، فحالها حال الاُصول العقليّة ،

-------------------

إذن : ( فعدم العبرة باحتمال عدم التخصيص ) معناه : ( إلغاء للعمل بالعموم ، فثبت ) ومن ذلك كله انّه كما تكون الأمارة واردة على الاصول العملية تارة ، وحاكمة عليها أخرى ، فكذلك تكون بالنسبة الى الاُصول اللفظية إذ ( أنّ النصّ ) القطعي المتواتر ( واردٌ على أصالة الحقيقة إذا كان قطعيّاً من جميع الجهات ) أي : بأن كان متواتراً من حيث السند والجهة أيضاً ( وحاكمٌ عليه إذا كان ) النص ( ظنّيّاً في الجملة ، كالخاصّ الظنّي السند - مثلاً - ) أوظّني الجهة - مثلاً - أوهما معاً وإن كان نصاً من جهة الدلالة .

هذا ( ويحتمل أن يكون الظنّ أيضاً ) كالقطع ( وارداً ) على الاصل اللفظي لاحاكماً عليه ، وذلك ( بناءاً على كون العمل بالظاهر - عرفاً وشرعاً - ) أي : إمضاءاً منه للعرف ( معلّقاً على عدم ) القرينة المعتبرة على الخلاف ، أي : ( التعبّد بالتخصيص ) الأعم من العلم بالتخصيص ، وذلك لأن التخصيص من القرائن ، وحجية الظواهر معلّقة على عدم القرينة على الخلاف ، ومعه فإذا وجدت قرينة مخالفة ، كانت تلك القرينة واردة على الأصل اللفظي ورافعة لموضوعه ، بلا فرق بين العلم بالقرينة ، كالدّليل القطعي المتواتر ، وبين التعبّد بالقرينة ، كالدّليل الظني المعتبر ( فحالها ) أي : حال الظواهر والاُصول اللفظية حينئذ ( حال الاُصول العقليّة ) في كون الظن المعتبر وارداً عليها ، سواء كان علماً قطعياً أم علمياً ظنياً ،

ص: 273

فتأمّل .

هذا كلّه على تقدير كون أصالة الظهور من حيث أصالة عدم القرينة ، وأمّا إذا كان من جهة الظنّ النوعي ، الحاصل بإرادة الحقيقة الحاصل من الغلبة

-------------------

وذلك على ما مرّ آنفاً .

( فتأمّل ) إشارة إلى ما سيأتي قريباً انشاء اللّه تعالى من قول المصنّف : بأن هذا الكلام كلّه مبني على أن الظواهر حجّة من باب التعبّد العقلائي، لا من باب الظن النوعي ؛ فيأمر المصنّف بالتأمّل ليشير الى عدم تمامية هذا المبنى ، إذ كون الظواهر حجة من باب التعبّد العقلائي لامن باب الظن النوعي ، غير تام .

( هذا كلّه ) هو ما أمر المصنّف قبل قليل بالتأمل فيه ، وهو : أنّ كل ما ذكر : من أنّ النسبة بين الاُصول اللفظية والظنون المعتبرة الاخرى هي الورود إذا كان النصّ قطعياً من جميع الجهات كالخبر المتواتر الخاص ، أوكان النص ظنياً من بعض الجهات كالخبر الواحد الخاص ، لكن بناءاً على تقيّد موضوع الاُصول اللفظية بعدم القرينة المعتبرة ، بمعنى : التعبد بالتخصيص كما مرّ ، والحكومة إذا كان النص ظنياً من بعض الجهات كالخبر الواحد الخاص ، لكن بناءاً على تقيّد موضوع الاُصول اللفظية بعدم القرينة القطعية ، بمعنى : العلم بالقرينة ، فإنّ ذلك كله إنّما هو ( على تقدير كون أصالة الظهور ) حجة ( من حيث ) التعبّد العقلائي معلّقاً على ( أصالة عدم القرينة ) فإنّ هناك قولاً بأنّ بناء العقلاء على التعبّد بأصالة الظهور ، من غير أن يكون هناك ظن نوعي .

( وأمّا إذا كان ) أصالة الظهور حجة ( من جهة الظنّ النوعي ، الحاصل بإرادة الحقيقة الحاصل ) ذلك الظن النوعي ( من الغلبة ) في محاورات المتكلّمين ، فإنّ

ص: 274

أو من غيرها ، فالظاهرُ أنّ النصّ وارد عليه مطلقاً وإن كان النصّ ظنيّاً ، لأنّ الظاهر أنّ دليلَ حجيّة الظنّ الحاصل بإرادة الحقيقة الذي هو مستند اصالة الظهور مقيّد بصورة عدم وجود ظن معتبر على خلافه ، فإذا وجد ارتفع موضوع ذلك الدليل ، نظير ارتفاع موضوع الأصل بالدليل .

-------------------

المتكلّمين غالباً مّا ، يريدون الحقيقة في كلامهم ، ممّا يسبّب ذلك ظناً نوعياً للمخاطبين ( أومن غيرها ) أي : من غير الغلبة ، كالظن النوعي الحاصل للمخاطبين من أصالة عدم القرينة - مثلاً - فإنه إذا كان الاصل اللفظي حجة للظن النوعي ( فالظاهر : أنّ النّص وارد عليه ) أي : على الأصل اللفظي ( مطلقاً ) أي : حتى ( وإن كان النصّ ظنّياً ) من جهة السند .

والحاصل : أنهم اختلفوا في أن حجيّة الظواهر هل هي من باب التعبّد من العقلاء ؟ وعلى هذا : فالنص المخالف للظواهر يكون محكّماً عليها ، إمّا من باب الحكومة أومن باب الورود ، وذلك على ما مرّ من وجه الاحتمالين آنفاً ، أوإنّ حجيّة الظواهر من باب الظن النوعي ؟ وعلى هذا ، فالنص المخالف للظواهر يكون محكّماً عليها من باب الورود مطلقاً ، فلا حكومة معها .

وإنّما يكون النص وارداً على الاصل اللفظي لاحاكّماً إذا كان حجية الظواهر من باب الظنّ النوعي ( لأنّ الظاهر : أنّ دليل حجيّة الظنّ ) النوعي ( الحاصل بإرادة الحقيقة الذي هو مستند أصالة الظهور ) وملاك حجيّته إنّما هو ( مقيّد بصورة عدم وجود ظن معتبر على خلافه ) أي : على خلاف الظاهر ( فإذا وجد ) ظن معتبر على خلاف الظاهر ( ارتفع موضوع ذلك الدليل ) الدال على حجية الظن النوعي ( نظير ارتفاع موضوع الأصل ) العقلي ( بالدليل ) الشرعي ، فكما أنّه لاموضوع

ص: 275

ويكشف عمّا ذكرنا أنا لم أجد ولا نجد من أنفسنا مورداً يقدّم فيه العامّ - من حيث هو - على الخاصّ ، وإنّ فرض كونُه أضعفَ الظنون المعتبرة .

فلو كان حجيّة ظهور العامّ غيرَ معلّق على عدم الظنّ المعتبر على خلافه لَوُجِدَ موردٌ نَفرض فيه أضعفيّة مرتبة ظنّ الخاصّ من ظنّ العام حتى يقدّم عليه ،

-------------------

للأصل بعد قيام الدليل ، فكذلك لا موضوع للظاهر بعد ورود ظن معتبر على خلافه .

( ويكشف عمّا ذكرنا ) من أنّ حجية الظهور مقيّد بعدم ظن معتبر على خلافه ، فإذا جاء ظن معتبر على خلافه ، كان وارداً على الظاهر ( أنا لم أجد ) في كلام أحد من الفقهاء والاُصوليين وأهل اللسان ( ولا نجد من أنفسنا مورداً يقدّم فيه العامّ من حيث هو ) عام يعني : بغضّ النظر عن القرائن الخارجية ( على الخاصّ ، وإن فرض كونه ) أي : الخاص ( أضعف الظنون المعتبرة ) من حيث السند ، وذلك بأن كان العام ظناً قوياً والخاص ظناً ضعيفاً ، فإذا ورد دليل قوي يقول : أكرم العلماء ، ودليل آخر ليس بتلك القوة يقول : لاتكرم العالم الفاسق ، فإنه يقدّم هذا الخاص على ذلك العام حتى وإن كان العام قوياً جداً والخاص ليس بتلك القوة ، وهذا ممّا يدلّ على أن حجية ظهور العام مقيّد بعدم وجود ظن معتبر على الخلاف .

وعليه : ( فلو كان حجيّة ظهور العامّ غير معلّق على عدم الظنّ المعتبر على خلافه ) أي : خلاف ذلك العام حتى ولو كان اعتبار هذا الظن المخالف ليس بقوة ذلك العام ، فإنه لو لم يكن حجيته معلقاً ( لَوجِدَ موردٌ نفرض فيه أضعفيّة مرتبة ظنّ الخاصّ ) المخصّص للعام ( من ظنّ العام ) الذي يراد تخصيصه بهذا الخاص ( حتى يقدّم ) هذا العام لقوّته ( عليه ) أي : على ذلك الخاص لضعفه ، مع أنه لم يوجب .

ص: 276

أو مكافأته له حتى يتوقّف ، مع أنّا لم نسمع مورداً يتوقّف في مقابلة العامّ من حيث هو والخاصّ ، فضلاً عن أن يرجّح عليه .

نعم ، لو فرض الخاصّ ظاهراً خرج عن النصّ وصار من باب تعارض الظاهرين فربّما يقدّم العامّ .

وهذا

-------------------

( أو ) لوجد مورد نفرض فيه ( مكافئته له ) أي : بأن كان الظهور في العام والظهور في الخاص متكافئين ، بحيث لايعلم هل يقدّم العام ويؤوّل الخاص ، أو يقدّم الخاص ويخصّص العام ، فيتوقف على أثره كما قال : ( حتى يتوقّف ) في تقديم العام أوفي تقديم الخاص ؟ .

( مع إنّا لم نسمع مورداً يتوقّف في مقابلة العامّ من حيث هو ) عام ( والخاصّ ) من حيث هو خاص يعني : بغض النظر عن القرائن ( فضلاً عن أن يرجّح ) العام ( عليه ) أي : على الخاص .

لكن لا يخفى : إنّ تقديم الخاص على العام إنّما هو فيما إذا فرض العام ظاهراً والخاص نصّاً ، أوالعام ظاهراً والخاص أظهر ، وإما إذا تساويا في الظهور ، فانّهما يتعارضان ، كما قال : ( نعم ، لو فرض الخاصّ ظاهراً ) كالعام بأن يكون ظهورهما متساويين ( خرج ) الخاص ( عن النصّ ) والأظهرية ( وصار ) الخاص والعام ( من باب تعارض الظاهرين ) بفرض أن العام له ظاهر ، والخاص له ظاهر ، وظهورهما في مرتبة واحدة .

وحينئذ : ( فربّما يقدّم العامّ ) ويؤوَّل في الخاص ، وربما يقدّم الخاص ويخصّص به العام .

( وهذا ) مثل ما إذا قال أحد : رأيت أسداً في الحمام ، فإنّ « في الحمام » قرينة

ص: 277

نظير ظنّ الاستصحاب على القول به ، فأنّه لم يُسمع موردٌ يقدّم الاستصحاب على الأمارة المعتبرة المخالفة له ، فيكشف عن أنّ إفادته للظنّ أو اعتبار ظنّه النوعي مقيّد بعدم قيام ظنّ آخر على خلافه ،

-------------------

على إرادة الرجل الشجاع من الأسد ، إذ الحيوان المفترس لايدخل الحمام ، ومثل ما إذا قال : رأيت أسداً في أقفاص حديقة الحيوانات ، فإن « في أقفاص حديقة الحيوانات » قرينة على ارادة الحيوان المفترس ، إذ الرجل الشجاع لايدخل في أقفاص حديقة الحيوانات ، وأمّا إذا قال : رأيت أسداً فوق الجبل يرمي ، فإنّه يشك في أن « أسد » قرينة للتصرّف في « يرمي » أو« يرمي » قرينة للتصرّف في « أسد » ، إذ لم يعلم هل أراد المتكلّم الحيوان المفترس حتى يكون رميه عبارة عن رمي الحجر بيده ورجله ، أوأراد الرجل الشجاع حتى يكون رميه عبارة عن رمي السهم .

وكيف كان : فإنّ ما نحن فيه إنّما هو ( نظير ظنّ الاستصحاب على القول به ) أي : على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظن كالظواهر ، لا التعبّد بالروايات ( فإنّه لم يُسمع موردٌ يقدّم الاستصحاب على الأمارة المعتبرة المخالفة له ) أي : للإستصحاب ، بل الأمارة المعتبرة تقدّم على الاستصحاب حتى وإن كانت تلك الأمارة المعتبرة من أضعف الظنون وكان الاستصحاب من أقوى الظنون ، وذلك لانَّ الأمارة لا تدع موضوعاً للاستصحاب الذي هو الشك .

وعليه : فاذا كان الاستصحاب حجّة للظن ( فيكشف عن أنّ إفادته للظنّ ) أي : إفادة الاستصحاب للظن الشخصي عند من يرى أنّ الاستصحاب حجّة من باب الظنّ الشخصي ( أو اعتبار ظنّه النوعي ) أي : بأن كان الاستصحاب حجّة من باب الظنّ النوعي كما قاله المشهور ، إنّما هو ( مقيّد بعدم قيام ظنّ آخر على خلافه )

ص: 278

فافهم .

ثمّ إنّ التعارض على ما عرفت من تعريفه ، لايكون في الأدلّة القطعيّة ، لأنّ حجيّتها إنّما هي من حيث صفة القطع ، والقطع بالمتنافيين أو بأحدهما مع الظنّ بالآخر غيرُ ممكن ، ومنه يعلم عدمُ وقوع التعارض بين الدليلين يكون حجيّتهما باعتبار صفة الظنّ الفعلي .

-------------------

أي : أن حجيته تكون معلّقة على عدم وجود ظن الأمارة ، فإذا وجد ذلك لايدع مجالاً للإستصحاب ، حتى وإن كان الاستصحاب من أقوى الظنون والأمارة المعتبرة التي هي على خلافه من أضعف الظنون .

( فافهم ) ولعله إشارة إلى أنّ النص الخاص ، لاشك في تقدّمه على العام ، لكن هل التقدّم بعنوان الترجيح العقلائي ، أوبعنوان الورود ، أوبعنوان الحكومة ؛ قد يكون بكل العناوين ؟ .

( ثمّ إنّ التعارض على ما عرفت من تعريفه ) الذي هو عبارة عن تنافي مدلولي الدليلين كما إنّه لم يكن بين الأدلة والاُصول العملية واللفظية لاختلاف رتبتهما ، فكذلك أيضاً ( لا يكون في الأدلّة القطعيّة ، لأنّ حجيّتها ) أي : حجّية تلك الأدلة القطعية ( إنّما هي من حيث صفة القطع ) وانكشاف الواقع ، ( و ) من المعلوم : أن ( القطع بالمتنافيين أوبأحدهما مع الظنّ بالآخر ) أوالشك في الآخر ، أواحتمال الوهم في الآخر ( غير ممكن ) لأنّ القطع عبارة عن الانكشاف ، فإذا انكشف للانسان أن الوقت نهار ، فهل يمكن أن ينكشف له أن هذا الوقت ليل أيضاً ، أو يظن بأنه ليل ، أويشك بأنه ليل ، أويحتمل بأنه ليل ؟ .

( ومنه يعلم عدم وقوع التعارض بين الدليلين ) اللذين ( يكون حجيّتهما باعتبار صفة الظنّ الفعلي ) أي : الظن الشخصي ، وذلك كما لو ظنّ الشخص فعلاً

ص: 279

لأنّ اجتماع الظنّين بالمتنافيين محال ، فإذا تعارض سببان للظنّ الفعلي ، فإنّ بقي الظنّ في أحدهما فهو المعتبر ، وإلاّ تساقطا .

والمراد بقولهم : « إنّ التعارض لايكون إلاّ في الظنّين » يريدون به الدليلين المعتبرين من حيث إفادة نوعهما الظنّ ،

-------------------

بوجوب الجمعة ، وظن فعلاً أيضاً بعدم وجوبها ، فأنه لم يقع التعارّض بينهما بهذا الاعتبار ( لأنّ اجتماع الظنّين ) الشخصيين ( بالمتنافيين محال ) كاجتماع القطعين ، كما إن إجتماع الوهمين في طرفي النقيضين أو الضدين محال أيضاً .

وعليه : ( فإذا تعارض سببان للظن الفعلي ) كما لو تعارض استصحابان - على القول بأن حجيّة الاستصحاب للظن الشخصي - في الماء المكمّل كراً ، وذلك بأن كان نصف كرٍّ من الماء نجساً ، ونصف كرٍّ طاهراً ، فاجتمعا ممّا صارا ماءاً واحداً كرّاً ، فهل يعقل أن يظن الشخص فعلاً بأن هذا النصف نجس ، ويظن فعلاً أيضاً بأنّ ذاك النصف الآخر طاهر ، مع العلم بأنه لايكون للماء الواحد إلاّ حكم واحد ؟ .

ومعه ( فإنّ بقي الظنّ في أحدهما ) وسقط الظن في الآخر ( فهو المعتبر ) والحجة ، لفرض : أنّ الظن الذي : هو معتبر موجود في المقام بلا معارض ( وإلاّ تساقطا ) أي : تساقط الاستصحابان ، لاستحالة إجتماع ظنّين شخصيّين بمتنافيين ، وبعده يرجع إلى قاعدة أخرى مثل : « كل شيء لك طاهر » (1) أو ما أشبه ذلك .

هذا ( والمراد بقولهم : «إنّ التعارض لايكون إلاّ في الظنّين» ) لا يريدون ظنّين فعليّين شخصيّين ، بل ( يريدون به الدليلين المعتبرين من حيث إفادة نوعهما الظنّ ) كما إذا تعارض استصحابان وقلنا بأنّ الاستصحاب حجّة من باب الظن

ص: 280


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الاحكام : ج1 ص190 ب4 ح318 .

وإنّما أطلقوا القول في ذلك ، لأنّ أغلبَ الأمارات ، بل جميعها عند جلّ العلماء ، بل ما عدا جمع ممّن قارب عصره معتبرةٌ من هذه الحيثية ، لا لإفادة الظنّ الفعلي بحيث يناط الاعتبار به .

-------------------

النوعي ، فإنهم لم يقيّدوا الظنّين بالنوعيّين ( وإنّما أطلقوا القول في ذلك ) حيث قالوا : بأن التعارض يقع بين الظنّين ، ولم يقولوا : يقع بين الظنّين النوعيين ، ( لأنّ أغلب الأمارات ، بل جميعها ) عندما استقريناها رأيناها ( عند جلّ العلماء ، بل ما عدا جمع ممّن قارب عصره ) من عصرنا كالميرزا القمّي والوحيد البهباني ( معتبرةٌ من هذه الحيثية ) أي : من حيث إفادة الظن النوعي ( لا ) أن اعتبارها ( لافادة الظن الفعلي بحيث يناط الاعتبار به ) أي : بحيث يجعل مناط حجية الدليل وملاك اعتباره بالظن الفعلي .

نعم ، ربّما قيل بأنه يظهر من الميرزا القمي ومن الوحيد البهبهاني : اعتبار الظن الشخصي في جميع الأمارات للإنسداد ، وكذا قيل : بأنّه يظهر من صاحب الاشارات ومن صاحب المناهل أيضاً : اعتبار الظن الشخصي في الظواهر فقط ، ومعنى اعتبار الظن الشخصي في شئهو : أنّه إذا حصل للانسان الظن منه شخصاً كان حجّة ، وإذا لم يحصل له الظن منه شخصاً فإنّه وإن كان يفيد الظن نوعاً فليس بحجّة ، وكذا قيل : بأنه يظهر من الشيخ البهائي : إعتبار الظن الشخصي في الاستصحاب فقط ، كما ويظهر ذلك من المحقق الخوانساري في الاستصحاب أيضاً ، لكن بناءاً على القول بكون الاستصحاب من الأمارات ، كما تقدّم في بحث الاستصحاب ، علماً بأنّه كلّما اعتبر فيه الظن الشخصي لحق بالقطع في عدم وقوع التعارض فيه .

ص: 281

ومثلُ هذا في القطعيّات غير موجود ، إذ ليس هنا مايكون اعتباره من باب إفادة نوعه القطع ، لأنّ هذا يحتاج إلى جعل الشارع ، فيدخل - حينئذٍ - في الأدلّة الغير القطعيّة ، لأنّ الاعتبار في الأدلّة القطعيّة من حيث صفة القطع ، وهي في المقام منتفية فيدخل في الأدلّة غير القطعيّة .

-------------------

( ومثل هذا ) أي : اعتبار الحجيّة من جهة الظن النوعي ( في القطعيّات غير موجود ) ولذا يمكن وقوع التعارض بين الظنيّن النوعيّين ، ولايمكن وقوعه بين الظنيّن الشخصيّين ، ولا بين القطعيّين ( إذ ليس هنا ) في القطعيات ( ما يكون اعتباره من باب إفادة نوعه القطع ) فالقطع إمّا أن يكون وإما أن لا يكون ، وذلك ( لأنّ هذا ) أي اعتباره لافادته القطع النوعي ( يحتاج إلى جعل الشارع ، فيدخل - حينئذٍ - ) أي : حين جعل الشارع له ( في الأدلة غير القطعية ) لوضوح : أن القطع حجّة بنفسه ، وما جعله الشارع إمّا كونه قطعاً نوعياً فليس بقطع شخصي حتى يكون حجّة ، وإما ليس كونه قطعاً نوعياً فليس ممّا جعله الشارع حتى يكون حجة من باب الجعل الشرعي .

وإنّما يدخل ذلك بجعل الشارع في الأدلة غير القطعية ( لأنّ الاعتبار في الأدلّة القطعيّة من حيث صفة القطع ) أي : قيام القطع بذات القاطع ( و ) هذه الصفة النفسية ( هي في المقام ) أي : مقام الجعل الشرعي ( منتفية ) لما عرفت من أنّ حجية القطع ذاتية ، وحجيّة المجعول الشرعي عرضية ( فيدخل ) المجعول الشرعي حينئذ ( في الأدلّة غير القطعيّة ) .

والحاصل : إنّ وقوع التعارض بين القطعين الشخصيين لايعقل ، ووقوع التعارض بين القطعين النوعيّين وإن كان يعقل لكنّه خارج عن القطع الى المجعول شرعاً ، وقد عرفت إنّ المجعول الشرعي أجنبي عن القطع .

ص: 282

إذا عرفتَ ما ذكرنا ، فاعلم أنّ الكلام في أحكام التعارض يقع في مقامين ، لأنّ المتعارضين إمّا أن يكون لأحدهما مرجّح على الآخر ، وإمّا أن لايكون ، بل يكونان متعادلين متكافئين .

وقبل الشروع في بيان حكمها لابدّ من الكلام في القضيّة المشهورة ، وهي : أنّ الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح ، والمرادُ بالطرح على الظاهر المصرّح به في كلام بعضهم وفي معقد إجماع بعض آخر أعمُّ من طرح أحدهما

-------------------

( إذا عرفت ما ذكرنا ) من أن التعارض أين يكون وأين لايكون ، كما عرفت تعريف التعارض أيضاً ( فاعلم أنّ الكلام في أحكام التعارض يقع في مقامين ) وذلك ( لأنّ المتعارضين : إمّا أن يكون لأحدهما مرجّح على الآخر ) بأحد المرجّحات السندية ، أوالدلالية ، أوجهة الصدور ( وإمّا أن لا يكون ، بل يكونان متعادلين متكافئين ) أي : متساويين فلا ترجيح لأحدهما على الآخر .

هذا ( وقبل الشروع في بيان حكمها ) أي : حكم القسمين : ما يكون لأحدهما مرجّح على الآخر ، وما لايكون لأحدهما مرجّح على الآخر ( لابدّ من الكلام في القضية المشهورة ) على الألسن من القاعدة التي ادّعى البعض الاجماع عليها ( وهي : أنّ الجمع بين الدليلين مهما أمكن اولى من الطرح ، و) من الاسقاط ، علماً بانّ ( المراد بالطرح على الظاهر ) أي : حسب ما يستظهر من إطلاقهم لفظ الطرح ، وأحياناً ( المصرّح به ) أي : بهذا الظاهر ( في كلام بعضهم ) كابن أبي جمهور الاحسائي ، حيث يصرّح فيما يأتي : بأنّ المرجع بعد عدم إمكان الجمع إلى أخبار العلاج ، لاطرحهما أوطرح أحدهما ( و) كذا المصرّح به ( في معقد إجماع بعض آخر ) هو : ( أعمّ من طرح أحدهما ) المخيّر أوأحدهما المعيّن .

ص: 283

لمرجّح في الآخر ، فيكون الجمعُ مع التعادل أولى من التخيير ومع وجود المرجّح أولى من الترجيح .

قال الشيخ ابن أبي جمهور الاحسائي في غوالي اللئالي ،

-------------------

وإنّما يطرح أحدهما المخيّر ، لأنه حيث يكون المتعارضان متساويين ولا مرجّح لأحدهما بالنسبة الى الآخر ، فيتخيّر المكلّف في الآخذ بهذا أو بذاك .

وإنّما يطرح أحدهما المعيّن ( لمرجّح في الآخر ) فيكون ماله مرجّح هو المأخوذ به ، ومالامرجّح له هو المعرض عنه .

وعليه : ( فيكون الجمع ) الدلالي حسب هذه القاعدة ( مع التعادل ) والتكافؤ ( أولى من التخيير و) يكون الجمع ( مع وجود المرجّح أولى من الترجيح ) أي : مع التعادل بين الخبرين نجمع بينهما ، لا أن نقول بالتخيير بينهما ، ومع وجود الترجيح لأحدهما أيضاً نجمع بينهما ، لا أن نرجح الراجح على المرجوح .

هذا ، ولايخفى : أن الأولوية في قولهم :« الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح » هي : الأولوية التعيينيّة ، لا الأولوية الترجيحيّة الدالة على الأفضلية ، فهي إذن مثل قوله سبحانه : « اولى لك فأولى » (1) فإن النار متعيّنة للكافر ، لا أن النار أفضل للكافر من الجنة .

وكذلك مثل قوله سبحانه : « وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه » (2) فأولوا الأرحام متعيّن بالنسبة إلى رحمه ، لا أنه أولى بالأفضلية .

وكيف كان : فقد ( قال الشيخ ابن أبي جمهور الاحسائي ) وهو من كبار علماء الشيعة ( في ) كتابه : ( غوالياللئالي ) علماً بأن هذا الكتاب يصلح أن يكون مؤيداً ، والظاهر : أنه بالغين المعجمة ، لا بالعين المهملة وأن رجّحه الحاج النوري ، فإنه

ص: 284


1- - سورة القيامة : الآية 34 .
2- - سورة الاحزاب : الآية 6 .

على ما حكي عنه : « إن كلّ حديثين ظاهرُهما التعارض يجب عليك أوّلاً البحثُ عن معناهما وكيفيّة دلالة ألفاظهما ، فإن أمكنك التوفيق بينهما بالحمل على جهات التأويل والدلالات ، فاحرص عليه واجتهد في تحصيله ، فإنّ العملَ بالدليلين مهما أمكن خيرٌ من ترك أحدهما وتعطيله

-------------------

قال : ( على ما حكي عنه : إن كلّ حديثين ظاهرُهما التعارض يجب عليك أوّلاً البحث عن معناهما ) لتقف عليهما من حيث الاطلاق والتقييد ، والعموم والخصوص ، والاجمال والتبيين ، وغير ذلك ( وكيفيّة دلالة ألفاظهما ) لتعرف منهما الحقيقة والمجاز ، والظاهر والأظهر ، وغير ذلك .

وعليه : فإذا وقفت على كل ذلك في المتعارضين ( فإن أمكنك التوفيق ) والجمع العرفي ( بينهما بالحمل على جهات التأويل ) والمراد بالتأويل هنا ما يؤل اليه الكلام ، لا التأويل المصطلح ، فإنّ الجمع بين العام والخاص - مثلاً - يؤول الى تخصيص العام بالخاص ، وهكذا بالنسبة الى التقييد وغيره ( والدلالات ) مثل : جعل الأظهر قرينة على التصرّف في الظاهر - مثلاً - فإذا أمكنك ذلك ( فاحرص عليه واجتهد في تحصيله ) غاية الاجتهاد ، وذلك لأن تحصيل القرائن الداخلية والخارجية تساعد الانسان على فهم مراد المتكلم من الكلامين المتعارضين الواردين منه ، فيعرف كيف يجمع بينهما .

وإنّما قال بالحرص والاجتهاد في الجمع بين المتعارضين لأنّ قاعدة الجمع تقول ( فإنّ العمل بالدليلين مهما أمكن خيرٌ من ترك أحدهما وتعطيله ) أي : طرحه ، وذلك لفرض أنهما دليلان معتبران ، فاللازم الجمع بينهما وعدم طرح شئمنهما مهما أمكن ، وقوله : « خير » هنا ليس بمعنى التفضيل ، بل بمعنى « اللزوم » ، من قبيل قوله سبحانه : « أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم

ص: 285

بإجماع العلماء ، فإذا لم تتمكّن من ذلك ولم يظهر لك وجهُهُ ، فارجع الى العمل بهذا الحديث ، وأشار بهذا إلى مقبولة عمر بن حنظلة » انتهى .

واستدلّ عليه تارةً : بأنّ الأصلَ في الدليلين الاعمالُ ، فيجب الجمعُ بينهما مهما أمكن ، لاستحالة الترجيح من غير مرجّح .

-------------------

القيامة » (1) فالجمع إذن خير من تعطيل أحدهما وطرحه ، وذلك ( بإجماع العلماء ) .

وعليه : ( فإذا لم تتمكّن من ذلك ولم يظهر لك وجهه ) في الجمع بينهما ( فارجع الى العمل بهذا الحديث ، وأشار بهذا الى مقبولة عمر بن حنظلة ) (2) الدالة على الأخذ بالراجح من الحديثين المتعارضين وطرح المرجوح منهما ، فاذا لم يكن رجحان في البين يؤخذ بالتخيير ( انتهى ) كلام الشيخ الاحسائي .

هذا ( واستدلّ ) بصيغة المجهول ( عليه ) أي : على لزوم الجمع بين الدليلين مهما أمكن بوجوه سبعة كالتالي :

الأوّل : الاجماع ، وقد مضى ذكره في كلام ابن أبي جمهور الاحسائي .

الثاني : الأصل العقلائي المتّبع عند العقلاء ، وهو استدلال بما ذكره الشهيد الثاني قال : ( تارةً : بأنّ الأصل في الدليلين الاعمال ) والمراد بالأصل هنا : القاعدة المتبعّة عند العقلاء ، حيث يرون الدليلين كليهما حجّة من جهة المولى ، ومعه ( فيجب الجمع بينهما ) أي : بين الدليلين ( مهما أمكن ، لاستحالة الترجيح من غير مرجّح ) وذلك لأنّ الأمر دائر بين : العمل بهما وهو ما يكون بناء العقلاء عليه ،

ص: 286


1- - سورة فصلت : الآية 40 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح2233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

وأخرى بأنّ دلالة اللفظ على تمام معناه أصليّة ، وعلى جزئه تبعيّة ، وعلى تقدير الجمع يلزم إهمال دلالة تبعيّة ، وهو أولى ممّا يلزم على تقدير عدمه ، وهو إهمال دلالة أصليّة .

-------------------

أو تركهما وهو خلاف حجيّة الدليلين ، أو ترجيح أحدهما على الآخر وهو ترجيح من غير مرجّح ، كما أن المراد بالإستحالة هنا : الاستحالة العقلائية ، لا الاستحالة العقلية ، وذلك لأن الترجيح يمكن أن يكون اعتباطاً ، وإنّما المحال عقلاً هو الترجّح من غير مرجّح ، كما ذكروه في الكتب المعنيّة بالكلام والحكمة .

الثالث : الدلالة المطابقيّة والتضمنيّة ، وهو استدلال بما ذكره العلامة قال ( وأخرى بأنّ دلالة اللفظ على تمام معناه ) بالمطابقة ( أصليّة ، وعلى جزئه ) بالتضمن ( تبعيّة ) فإذا ورد - مثلاً - دليلان : أحدهما يقول : العصير إذا غلى ولم يذهب ثلثاه حرام ، والآخر يقول : العصير إذا غلى ولم يذهب ثلثاه حلال ، فإنّ العصير يدلّ بالمطابقة على العنبي وغيره ، وبالتضمن على خصوص أحدهما ، والجمع بين الدليلين يقتضي أن يقال : العصير الذي يحرم إذا غلى هو خصوص العنبي ، والذي لا يحرم إذا غلى هو خصوص غيره ، وبذلك فقد عمل بالدليلين غير أنه اُهمل في كل منهما دلالة تضمنية تبعية .

( وعلى ) هذا فقد عرفت : أنه على ( تقدير الجمع ) بين الدليلين ( يلزم إهمال دلالة تبعيّة ) تضمنية فقط وهي : إهمال دلالة العصير الحرام على عصير غير العنب ، وإهمال دلالة العصير الحلال على عصير العنب ( و ) من المعلوم : إنّ إهمال دلالة تبعيّة تضمنيّة ( هو أولى ممّا يلزم على تقدير عدمه ) أي : عدم الجمع ( هو إهمال دلالة أصليّة ) مطابقيّة ، فإنّه إذا ترك أحد المتعارضين ، فقد ترك كل معناه المطابقي كاملاً .

ص: 287

ولا يخفى : إنّ العملَ بهذه القضية على ظاهرها يوجبُ سدّ باب الترجيح

-------------------

الرابع : التعبّد بالصدور والظهور معاً ، وذلك بحكومة جهة صدور الدليلين على جهة ظهورهما ، وهذا الوجه من الاستدلال على قاعدة : « الجمع أولى من الطرح » إلى آخر الوجوه السبعة لم يذكرها المصنّف إلاّ في ضمن الرّد على هذه القاعدة ، فإن لكل من الدليلين المتعارضين جهة صدور ، وجهة ظهور ، وحجيّة الظهور فرع على حجية الصدور ومقيّد بعدم القرينة على الخلاف ، بينما حجية الصدور هذا قرينة على خلاف الظهور : فيؤخذ بالصدورين ، ويترك ظهورهما ، وهو لايكون إلاّ بالجمع بين الدليلين .

الخامس : التعبد بالصدور فقط ، فإنّ التعبّد بصدور كل من الخبرين المتعارضين يجعلهما بمنزلة قطعيّي الصدور ، والقطعيّين لا يعقل وقوع التعارض فيهما ، فيجب الجمع بينهما .

السادس : التقديم للنص على الظاهر ، فكما أنّ في مورد تعارض النص والظاهر نرفع اليد عن ظهور الظاهر فقط دون سند النصّ ، فكذلك هنا نرفع اليد عن الظهور فقط دون السند .

السابع : التقديم للإجماع على الظاهر ، فإنه إذا كان ظاهر خبر مخالفاً للإجماع تركنا ظاهر ذلك الخبر لا سنده ، ولهذا يُأوّل مثل هذا الخبر لا أن يطرحه ، وكذلك ما نحن فيه .

هذا ، وقد أجاب المصنِّف عن هذه الاستدلالات بقوله :( ولا يخفى : أنّ العملَ بهذه القضية ) وهي قاعدة :« الجمع مهما أمكن أولى من الطرح » ( على ظاهرها يوجب ) ما يلي :

أولاً : ( سدّ باب الترجيح ) في وجه المتعارضين مطلقاً ، إذ لو عمل

ص: 288

والهرج في الفقه - كما لايخفى - ولا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه من الاجماع والنصّ .

-------------------

بقاعدة : « الجمع أولى من الطرح » لم يبق موضع لترجيح خبر على خبر ، مع أن لزوم ترجيح خبر على خبر هو ممّا دل عليه أخبار العلاج وقام عليه إجماع العلماء .

ثانياً : ( والهرج في الفقه ) فإنّ العمل بقاعدة : « الجمع » يستلزم التناقض الكثير في الفقه ، وذلك لأنّه يكون لكل أحد الحق في توجيه مورد التعارض مع كثرته بحسب ما يؤدّي إليه نظر الفقيه في التوجيه ، فيجمع - مثلاً - بين قول الشارع : « ثَمنُ العَذَرَةِ سُحتٌ » (1) وبين قوله : « لا بأسَ ببيعِ العَذَرةِ » (2) تارة : بأنّ ما يحرم ثمنه هو : عذرة الانسان ، وإنّ ما يحلّ بيعه هو : عذرة غيره ، وأخرى : بأنّ الحرام هو ثمن عذرة غير مأكول اللحم وأن الحلال هو بيع عذرة مأكول اللحم ، وثالثة : بأنّ الحلال ما كان موضع الفائدة كالتسميد وأن الحرام مالم يكن موضع الفائدة ، ورابعة : بأنّ الحرام هو البيع للمسلم والحلال هو البيع للكافر ، وخامسة : بأنّ الحرام هو البيع في البلاد الحارّة حيث أنه يتعفّن كثيراً والحلال هو البيع في البلاد الباردة حيث أنه لا يتعفّن كثيراً ، وهكذا ( كما لا يخفى ) ذلك على من لاحظ الاحتمالات في المتعارضين .

ثالثاً : ( ولا دليل عليه ) أي : لادليل على العمل بهذه القاعدة التي تقول :« الجمع مهما أمكن أولى من الطرح » على إطلاقها ( بل الدليل على خلافه من الاجماع والنصّ )

ص: 289


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

أمّا عدمُ الدليل ، فلأنّ ما ذكر - من أنّ الأصل في الدليل الاعمال - مسلّمٌ لكنّ المفروضَ عدمُ إمكانه في المقام ، فإنّ العمل بقوله عليه السلام : « ثَمَنُ العَذَرَةِ سُحتٌ » وقوله عليه السلام : « لابَأسَ بِبَيعِ العَذَرَةِ » على ظاهرهما غيرُ ممكن ، وإلاّ لم يكونا متعارضين ،

-------------------

أمّا الاجماع فقد قام على العمل بالمرجّحات السنديّة ، وأما النصّ فقد عرفت : أنّ نصوص التراجيح تدل على لزوم ترجيح خبر على خبر ، لا على الجمع بقوله بينهما مهما أمكن .

ثم أن المصنّف أخذ يشرح ما قاله قبل قليل : من أنه لادليل على قاعدة « الجمع » بقوله : ( أمّا عدم الدليل ، فلأنّ ما ذكر ) عن الشيخ الاحسائي من الاجماع ، فالمتيقن منه هو الجمع العرفي لا التبرعي ، وأمّا ما ذكر عن العلامة : من أنّ إهمال دلالة تبعية أولى من إهمال دلالة أصلية ؛ ففيه : أن الدلالة فرع الصدور ، وما لم يثبت صدروه لم تثبت دلالته ، فلا دلالة حتى يصدق اهمالهما ، وأما ما ذكر عن الشهيد الثاني ( - من أنّ الأصل في الدليل الاعمال - مسلّم ) لاينكره أحد ، لأنه مقتضى شمول دليل الحجيّة للمتعارضين ، فإنّ كونه دليلاً معناه : العمل به ( لكن المفروض عدمُ إمكانه ) أي : أنه لايمكن إعمال الدليلين المتعارضين ( في المقام ) الذي هو مقام التعارض ( فإنّ العمل بقوله عليه السلام : « ثَمنُ العَذَرةِ سُحتٌ » (1) وقوله عليه السلام : « لابأسَ بِبيعِ العَذَرةِ » (2) على ظاهرهما غير ممكن ) لأنه موجب للتناقض أوتضاد ( وإلاّ ) بأن أمكن العمل بهما ( لم يكونا متعارضين )

ص: 290


1- - الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

وإخراجُهما عن ظاهرهما بحمل الأولى على عذرة غير مأكول اللحم ، والثاني على عذرة مأكول اللحم ليس عملاً بهما .

إذ كما يجبُ مراعاة السند في الرواية والتعبّد بصدورها إذا اجتمعت شرائط الحجيّة ، كذلك يجبُ التعبّد بإرادة المتكلّم ظاهرَ الكلامٌ المفروض وجوب التعبّد بصدوره اذا لم يكن هناك قرينة صارفة

-------------------

والفرض أنهما متعارضان .

وإن قلت : رعاية لجهة الصدور ، نتصرّف في جهة الظهور على ما قال به المستدل للجمع في الوجه الرابع : من الحكومة ، وذلك بإخراج الدليلين عن ظاهرهما الى مالا تعارض معه .

قلت : ( وإخراجهُما عن ظاهرهما بحمل الاُولى ) من دون قرينة : ( على عذرة غير مأكول اللحم ، والثاني : على عذرة مأكول اللحم ) أوما أشبه ذلك من الجمع التبرّعي ، كما تقدَّم بعض أقسامه ( ليس عملاً بهما ) أي : بالدليلين ، وذلك لانّ معنى العمل بالدليل هو : الأخذ بظاهره ، وهذا لم يؤخذ بظاهره لا في هذا ، ولا في ذاك .

وإنّما لم يكن إخراجهما عن ظاهرهما عملاً بهما ، لأنّه قال ( إذ كما يجب مراعاة السند في الرواية والتعبّد بصدورها إذا اجتمعت شرائط الحجيّة ) علماً بأنّ قوله : « والتعبّد » عطف بيان لقوله : « مراعاة السند » ( كذلك يجب التعبّد بإرادة المتكلّم ظاهر الكلام ، المفروض وجوب التعبّد بصدوره ) إذ أنّه كما يجب التعبّد بالصدور يجب العمل بالظاهر أيضاً فيما ( إذا لم يكن هناك قرينة صارفة ) عن الظاهر ، فإذا كانت قرينة صارفة عن الظاهر ويجب الأخذ بالظاهر من الأصل والقرينة معاً .

ص: 291

ولا ريب انّ التعبّد بصدور أحدهما المعيّن اذا كان هناك مرجّح والمتخيّر اذا لم يكن ثابت على تقدير الجمع وعدمه فالتعبّد بظاهره واجب ، كما أنّ التعبّد بصدور الآخر - أيضاً - واجب .

فيدور الأمر بين عدم التعبّد بصدور ما عدا الواحد المتّفق على التعبّد به ، وبين عدم التعبّد بظاهر الواحد المتّفق

-------------------

هذا ( ولا ريب أنّ التعبّد بصدور أحدهما المعيّن إذا كان هناك مرجّح ) لأحدهما على الآخر ( و) كذا التعبّد بصدور أحدهما ( المخيّر اذا لم يكن ) هناك مرجّح لأحدهما ( ثابت على تقدير الجمع وعدمه ) أي : سواء جمعنا بينهما أولم نجمع بينهما ، فنحن متعبّدون بصدور أحدهما المعيّن ، أواحدهما المخيّر ، وذلك لأنّا لو جمعنا بينهما ، فقد أخذنا بالسندين وطرحنا الظاهرين ، ولو أخذنا بأحدهما ، فقد أخذنا بظاهر واحدٍ وسند واحدٍ وطرحنا الآخر سنداً وظهوراً ، فنحن على كلا التقديرين : الجمع بينهما أوالطرح لأحدهما ، متعبّدون بالصدور والظهور في الجملة .

وعليه: (فالتعبّد بظاهره) أي : ظاهر أحدهما الذي تعبّدنا بصدوره (واجب) لأنّ حجيّة الظاهر فرع حجيّة الصدور (كما أنّ التعبّد بصدور الآخر - أيضاً - واجب) لأنّ دليل الحجيّة يشمله فإذا تعبّدنا بصدور الآخر تفرّع عليه التعبّد بظاهره أيضاً ، وظاهره متعارض مع ظاهر الأوّل ( فيدور الأمر بين ) وجهين : طرح أحد المتعارضين كاملاً صدورا وظهورا أي ( عدم التعبّد بصدور ما عدا الواحد المتّفق على التعبّد به ، وبين ) الجمع بينهما بالتعبّد بالصدورين دون الظهورين ، لأنّ جهة الصدور قرينة على ارادة خلاف الظهور أي : ( عدم التعبّد بظاهر الواحد المتّفق

ص: 292

على التعبّد به ، ولا أولويّة للثاني .

بل قد يتخيّل العكس فيه من حيث إنّ في الجمع تركَ التعبّد بظاهرين ، وفي طرح أحدهما ترك التعبّد ، بسند واحد ، لكنّه فاسد ، من حيث إنّ تركَ التعبّد بظاهر مالم يثبت التعبّد بصدوره ، ولم يحرز كونه صادراً عن المتكلّم ، وهو ما عدا الواحد المتيقّن العمل به ليس مخالفاً للأصل ، بل التعبّد غير معقول ،

-------------------

على التعبّد به ) صدوراً ( و ) من المعلوم : أنّه ( لا أولويّة للثاني ) وهو : الجمع بين

المتعارضين على الأوّل وهو : طرح أحد المتعارضين ، وحيث أنّه لا أولويّة للجمع ، ظهر عدم تمامية الاستدلال له بالحكومة .

( بل قد يتخيّل العكس فيه ) أي : عكس قاعدة الجمع التي تقول : « الجمع مهما أمكن أولى من الطرح » وعكسها يكون : « الطرح مهما أمكن أولى من الجمع » وذلك ( من حيث إنّ في الجمع : ترك التعبّد بظاهرين ، وفي طرح أحدهما : ترك التعبّد بسند واحد ) ومن المعلوم : أنّ ترك أمرين أبعد من ترك أمر واحد فيكون الطرح أولى .

( لكنّه ) أي : تخيّل العكس لأجل أنّ في الجمع ترك التعبّد بظاهرين وفي الطرح ترك التعبّد بسند واحد ، فالطرح أولى ( فاسد ، من حيث إنّ ترك التعبّد بظاهر ما ) أي : بظاهر الدليل الذي ( لم يثبت التعبّد بصدوره ، و ) بظاهر الدليل الذي ( لم يحرز كونه صادراً عن المتكلّم ، و) ذلك الدليل الذي لم يثبت التعبّد بصدوره ، ولم يحرز صدوره ( هو ما عدا الواحد المتيقّن العمل به ) معيّناً أومخيراً على ما عرفت ، فانّ ترك التعبّد بظاهر هذا الدليل ( ليس مخالفاً للأصل ، بل التعبّد غير معقول ) .

ص: 293

إذ لاظاهر حتى يتعبّد به ، وليس مخالفاً للأصل ، وتركاً للتعبّد بما يجب التعبّد به .

وممّا ذكرنا يظهر فساد توهم أنّه إذا عملنا بدليل حجّية الأمارة فيهما وقلنا : بأنَّ الخبرين معتبران سندا فيصيران كمقطوعي الصدور ، ولا اشكال ولا خلاف في أنّه إذا

-------------------

وإنّما لم يكن التعبّد بالظاهر هنا معقولاً ( إذ لاظاهر ) فيما لم يكن صدور ، علماً بأنّ الظهور فرع الصدور ، والمفروض : أنّه لاصدور ( حتى يتعبّد به ) أي : بذلك الظهور ، ( وليس ) ادعاء استحالة التعبّد بالظهور هنا فيما لم يكن صدور ( مخالفاً للأصل ، و) ذلك لأنّه لم يكن هذا الادّعاء هنا حسب الفرض ( تركاً للتعبّد بما يجب التعبّد به ) لأنّه إنّما يجب التعبّد بالظهور بعد الفراغ عن التعبّد بالصدور ، وهنا لاصدور حتى يجب التعبّد بظهوره ، وذلك لأنّ المسلّم صدوره هو أحد المتعارضين معيّناً أومخيراً ، فالواجب هو التعبّد بظاهره فقط ، فاذا جمعنا فقد خالفنا الأصل بالنسبة الى أحد الظاهرين ، وإذا طرحنا فقد خالفنا الأصل بالنسبة الى أحد السندين ، فلا أولوية حيث قلنا : بل قد يتخيّل العكس .

( وممّا ذكرنا ) من دوران الأمر بين طرح سندٍ واحد ، أوظاهرٍ واحد ( يظهرُ فساد) ما تقدّم في الوجه الخامس من الاستدلال للجمع : بأنّ التعبّد بالصدور يجعل الخبرين بمنزلة قطعيّي الصدور ، فيجب الجمع بينهما لا طرح أحدهما ، وذلك كما قال : فقد ( توهم أنّه إذا عملنا بدليل حجيّة الأمارة فيهما ) أي : في المتعارضين ( وقلنا : بأنّ الخبرين معتبران سنداً ) من حيث شمول دليل الاعتبار لهما ( فيصيران كمقطوعي الصدور ، ولا إشكال ولا خلاف ) من أحد ( في أنّه إذا

ص: 294

وقع التعارض بين ظاهري مقطوعي الصدور ، كآيتين أو متواترين وجب تأويلهما والعمل بخلاف ظاهرهما فيكون القطع بصدورهما عن المعصوم قرينةً صارفةً لتأويل كلّ من الظاهرين وتوضيح الفرق وفساد القياس ،

-------------------

وقع التعارض بين ظاهري مقطوعي الصدور ، كآيتين ) مثل : قرائتين على ما قيل في « يَطهُرن » و« يطَّهَّرن » ( أو) خبرين ( متواترين ) حيث أنّ الآيتين والخبرين المتواترين مقطوع صدورهما ، فاذا وقع التعارض بينهما ( وجب تأويلُهما والعمل بخلاف ظاهرهُما ) إذ لايعقل حذف السند ، فيلزم حذف دلالة هذا أو دلالة ذاك .

وعليه :( فيكون القطع بُصدورهما عن المعصوم ) عليه السلام عملاً بدليل حجيّة الأمارة في الخبرين المتعارضين ، حيث يكونان بذلك كمقطوعي الصدور ( قرينةً صارفةً ) تصرف عن الظاهر ، فنضطر عندها ( لتأويل كلّ من الظاهرين ) في الجمع بينهما ، فاذا قطعنا - مثلاً - بصدور : « ثَمَنُ العَذَرَةِ سُحتً » (1) و « لابأسَ بِبيعِ العَذَرَةِ » (2) وجب علينا تأويلهما ، وذلك بحمل كل واحد منهما على مالا ينافي الثاني ، مثل أن تحمل الحرمة على العذرة النجسة ، والحلّية على الطاهرة ، أوسائر المحامل الاُخر ، لانّا لانتمكن من طرح أحد السندين حتى نأخذ بظهور الثاني كاملاً .

هذا ( وتوضيح الفرق ) بين مقطوعي الصدور ، وبين معتبري الصدور ( وفساد القياس ) أي : قياس الخبرين المعتبرين صدوراً بما يكون مقطوعاً صدوراً ،

ص: 295


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص373 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

إنّ وجوب التعبّد بالظواهر لا يزاحم القطع بالصدور ، بل القطع بالصدور قرينةٌ على إرادة خلاف الظاهر ، وفيما نحن فيه يكون وجوب التعبّد بالظاهر مزاحما لوجوب التعبّد بالسند .

وبعبارة أخرى العمل بمقتضى أدلّة اعتبار السند والظاهر بمعنى الحكم بصدورهما وإرادة ظاهرهما ، غير ممكن ، والممكن من هذه الاُمور الأربعة اثنان لا غير ،

-------------------

كالخبرين المتواترين هو : ( إنّ وجوب التعبّد بالظواهر لايزاحمُ القطعَ بالصدور ) فإنّ الخبرين لو كانا مقطوعي الصدور لايصحّح العمل بظواهرهما ( بل القطعُ بالصدور قرينةٌ ) عقليّةٌ ( على إرادة خلاف الظاهر ) إمّا فيهما أوفي أحدهما بحيث لايتنافيان ( وفيما نحن فيه ) الذي هو معتبر الصدور ( يكون وجوب التعبّد بالظاهر مزاحماً لوجوب التعبّد بالسند ) لتساوي مرتبتي : التعبّد بالظاهر ، والتعبّد بالسند ، فلا يقدّم التعبّد في السند على التعبّد بالظاهر ، فيدور الأمر بسبب تنافي الظاهرين بين سقوط السند في أحدهما ، أو سقوط الدلالة في أحدهما أوفي كليهما .

( وبعبارة اُخرى ) نقول في بيان فساد القياس المذكور : أنّ ( العمل بمقتضى أدلّة اعتبار السند و) العمل بمقتضى أدلّة اعتبار ( الظاهر بمعنى الحكم بصدورهما وإرادة ظاهرهما ، غيرُ ممكن ) لأنّه يلزم التناقض أوالتضاد ( والممكن من هذه الاُمور الأربعة إثنان لا غير ) أوغير الممكن إثنان أيضاً ، وهما : الأخذ بالسندين والدلالتين معاً أو طرح السندين والدلالتين معا ، وقد عرفت : أنّ الأخذ بهما معاً غير معقول ، كما أنّ الطرح لهما معاً مناف لأدلّة حجيّة السند .

إذن : فيبقى اثنان من الاحتمالات الأربعة فقط ، وهما ما أشار اليه المصنّف

ص: 296

إمّا الأخذ بالسندين ، وإمّا الأخذ بظاهرٍ وسندٍ من أحدهما .

فالسند الواحد ، منهما متيقّن الأخذ به وطرح أحد الظاهرين ، وهو ظاهر الآخر غير المتيقّن الآخذ بسنده ، ليس مخالفا للأصل ، لأنّ المخالف للأصل: ارتكاب التأويل في الكلام بعد الفراغ عن التعبّد بصدوره ، فيدور الأمرُ بين مخالفة أحد أصلين : إمّا مخالفة دليل التعبّد بالصدور في

-------------------

بقوله ( إمّا الأخذُ بالسندين ) والتأويل في الظاهرين ، أوفي ظاهر واحد منهما بحيث يرتفع التنافي بينهما ( وإمّا الأخذُ بظاهرٍ وسندٍ من أحدهما ) وترك الظاهر والسند من الآخر .

وعليه : ( فالسندُ الواحد ، منهما ) أي : من المتعارضين معيّناً أومخيّراً ( متيقّن الأَخذ به ) عند الجميع ، سواء على تقدير الجمع أوعلى تقدير الطرح ( و ) قد تقدّم : أنّ ( طرح أحد الظاهرين ، وهو : ظاهر الآخر غير المتيقّن الآخذ بسنده ) أيضاً متيقّن عند الجميع ، و ( ليس مخالفاً للأصل ) وذلك ( لأنّ المخالف للأصل : ارتكاب التأويل ) بإسقاط الظهور ( في الكلام بعد الفراغ عن التعبّد بصدوره ) فإذا لم يكن تعبّد بالصدور لم يكن الظاهر حجّة ، والمفروض هنا : أنّ الآخر لم يتعبّد بصدوره فلم يكن ظاهره حجّة ، فترك التعبّد بظاهر ما لم يثبت التعبّد بصدوره ، ولم يحرز كونه صادراً عن المتكلّم ، وهو : ما عدا الواحد المتيقّن العمل به ، لا يكون مخالفاً للأصل .

وإن شئت قلت : أنّ سند الواحد منهما متيقّن الأخذ على التقديرين ؛ الجمع والطرح ، لانّه لايمكننا طرح السندين ، كما أنّ ظاهر الواحد منهما متيقن الطرح على التقديرين : الجمع والطرح أيضاً ، لأنّه لايمكننا العمل بالظاهرين ( فيدور الأمر بين مخالفة أحد أصلين : إمّا مخالفة دليل التعبّد بالصدور في ) أحدهما

ص: 297

غير المتيقّن التعبّد ، وإمّا مخالفة الظاهر في متيقّن التعبّد ، وأحدهما ليس حاكماً على الآخر ، لأنّ الشكّ فيهما مسبّب عن ثالث ، فيتعارضان .

ومنه يظهر فسادُ قياس ذلك بالنصّ الظنّي السند مع الظاهر ، حيث يوجب الجمع بينهما بطرح ظهور الظاهر ، لاسند النصّ .

توضيحه :

-------------------

وهو ( غير المتيقّن التعبّد ) وبذلك نكون قد طرحنا أحدهما ( وإمّا ) الجمع بينهما و( مخالفة الظاهر في متيقّن التعبّد ، و ) بذلك نكون قد جمعنا بينهما ، ومن المعلوم : أنّ ( أحدهما ) أي : أحد الأصلين من : أصالة اعتبار الظاهر ، أوأصالة اعتبار السند ( ليس حاكماً على الآخر ) حتى يقدّم أحدهما على الآخر .

وإنّما لم يكن أحدهما حاكماً على الآخر ( لأنّ الشكّ فيهما مسبّب عن ثالث ) وهو العلم الاجمالي بعدم إعمال أحد الأصلين ( فيتعارضان ) أي : يتعارض الأصلان : أصل التعبّد بالسندين ، مع أصل التعبّد بالظاهرين ، وذلك لحكم العقل هنا بعدم إمكان التعبّد بهما معاً ، ومعه فلا أولوية لأحد الأصلين على الآخر لتساويهما في الرتبة .

( ومنه ) أي : ممّا تقدّم من أن مظنوني السند ليسا كمقطوعي السند ( يظهر فساد ) ما تقدّم في الوجه السادس من الاستدلال للجمع بتقديم النص على الظاهر ، فكما أنّه في مورد تعارض النص والظاهر نرفع اليد عن ظهور الظاهر لاعن سند النص ، فكذلك في المقام ، فإنّ المستدل جعل ( قياس ذلك ) أي : التعارض بين النصين ( بالنصّ الظنّي السند مع الظاهر ، حيث يوجب ) التعارض فيهما ( الجمع بينهما بطرح ظهور الظاهر ، لا سند النص ) .

أمّا ( توضيحه ) أي : توضيح الفساد فهو أنّ قوله :« أكرم العلماء » الظاهر

ص: 298

إنّ سند الظاهر لايزاحم دلالته بديهية وسند النصّ ولا دلالته ، وأمّا سند النصّ ودلالته ، فإنّما يزاحمان ظاهره لا سنده .

وهما حاكمان على ظهوره ، لأنّ من آثار التعبّد به رفعَ اليد عن ذلك الظهور ، لأنّ الشكّ فيه مسبّب عن الشكّ في التعبّد بالنصّ .

-------------------

في أكرم زيد العالم ، وقوله : « لا تكرم زيداً » النص في عدم إكرام زيد ، يحدث التعارض بين ظاهر « اكرم العلماء » ونص « لا تكرم زيداً » ومن الواضح : ( انّ سند الظاهر ) في العام ( لا يزاحم دلالته بديهية ) لوضوح أنّ سند « أكرم العلماء » ودلالة « اكرم العلماء » لا يزاحم أحدهما الآخر ( و ) كذلك سند : الظاهر لايزاحم ( سند النص ولا دلالته ) أي : دلالة النص ، فإنّ سند : « أكرم العلماء » لايزاحم سند « لا تكرم زيداً » ولا نص « لا تكرم زيداً » .

إذن : فلا مزاحم من هذه الجهة ( وإمّا سند النصّ ودلالته ، فإنّما يزاحمان ظاهره لا سنده ) أي : يزاحمان ظاهر الظاهر في العام الذي هو « أكرم العلماء » لا سند « أكرم العلماء » فإنّ صدور « لا تكرم زيداً » ودلالة « لا تكرم زيداً » على حرمة إكرام زيد ، يمنعان عن ظهور « أكرم العلماء » في الجميع حتى يشمل زيداً أيضاً ، لكنهما لايمنعان عن صدور : « أكرم العلماء » ( وهما ) أي : سند النص ودلالته ( حاكمان على ظهوره ) أي : ظهور الظاهر في العام ( لأنّ من آثار التعبّد به ) أي : بالنص هو : ( رفع اليد عن ذلك الظهور ) الظاهر من العام : « أكرم العلماء » ( لأنّ الشكّ فيه ) أي : في ظاهر « أكرم العلماء » ( مسبّب عن الشكّ في التعبّد بالنصّ ) وحيث ثبت التعبّد بالنص ، فلا يبقى شك في أن ظهور « أكرم العلماء » لا يراد به ظاهره .

ص: 299

وأضعف ممّا ذكر توهّمُ قياس ذلك بما إذا كان خبرٌ بلا معارض لكن ظاهره مخالف للإجماع ، فإنّه يحكم بمقتضى اعتبار سنده بإرادة خلاف الظاهر من مدلوله .

-------------------

وإن شئت قلت : أنّ النص لكونه قطعي الدلالة يكون قرينة على صرف ظاهر « أكرم العلماء » عن العموم ، فيكون اللازم : إكرام العلماء الاّ زيداً ، وإنّما لايُكرم زيد ، لمقام النصّ في « لا تكرم زيداً » .

( وأضعفُ ممّا ذكر ) في الوجه السّادس ( توهّم ) وجه آخر هو سابع الوجوه ، وآخر ما استدل به للجمع ، وهو : تقديم الاجماع على الظاهر ، فإنّه إذا كان ظاهر خبر مخالفاً للاجماع ، تركنا ظاهر الخبر لا سنده ، فكذلك ما نحن فيه ، فجعل المستدِّل ( قياس ذلك ) الذي نحن فيه من تعارض النصين ( بما إذا كان خبرٌ بلا معارض ) من خبر آخر ، بل معارض بإجماع مخالف لظاهر الخبر كما قال : ( لكن ظاهره ) أي : ظاهر ذلك الخبر ( مخالف للاجماع ) كما إذا دلّ الاجماع على وجوب صلاة الجمعة والخبر على عدم وجوبها ( فإنّه ) حيث أنّ الاجماع قطعي ( يحكم بمقتضى اعتبار سنده ) أي : سند الخبر ( بإرادة خلاف الظاهر من مدلوله ) أي : من مدلول الخبر ، فنتصرّف في ظاهر الخبر لأجل الاجماع ، وذلك لأنّ الاجماع مقطوع به ، فلا يمكن التصرّف فيه ، كما لايمكن التصرّف في سند الخبر ، لأنه معتبر .

وأمّا وجه فساد هذا القياس فهو : أنّ سند الظاهر لايزاحم دلالة الظاهر كما لايزاحم الاجماع أيضاً ، وذلك لأنّ الاجماع دليل قطعي ، فيكون الاجماع قرينة لأرادة خلاف الظاهر من الخبر ، لا لطرح سند الخبر ، لأنّ الاجماع لايزاحم سند الخبر ، وإنّما يزاحم ظاهره بينما فيما نحن فيه يكون وجوب التعبّد بظاهر أحد

ص: 300

لكن لا دوران هناك بين طرح السند والعمل بالظاهر وبين العكس ، إذ لو طرحنا سند ذلك الخبر لم يبقَ مورد للعمل بظاهره ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّا إذا طرحنا سند أحد الخبرين

-------------------

المتعارضين المتفق عليه ، مزاحماً بوجوب التعبّد بسند الآخر من دون أولوية بينهما ، لأنهما كما عرفت سابقاً يكونان في مرتبة واحدة ، ولا حكومة لأحدهما على الآخر .

وإنّما قال المصنّف بأنّ هذا الوجه أضعف من سابقه ، لأنّ هناك في تعارض النص والظاهر ، يدور الأمر بين طرح الظهور وطرح السند ، منتهى الأمر كون الثاني حاكماً على الأوّل ، بينما هنا في تعارض ظاهر الخبر مع الاجماع ، لامعنى لدوران الأمر بين طرح الظهور وطرح السند ، لأنّ سند الاجماع قطعي ، وسند الخبر لو طرح لا يعقل التعبّد بظاهره ، فإنّ الشارع والعقلاء إنّما يتعبّدون بظاهر ما ثبت حجية سنده ، فاذا طرح السند لم يبق تعبّد بالظاهر .

هذا وجه كونه أضعف من سابقه ، وأما وجه بطلان قياسه بما نحن فيه من تعارض الخبرين فهو : أن هنا في تعارض الخبرين يدور الأمر بين طرح السند والعمل بالظاهر ، أوطرح الظاهر والعمل بالسند ، بينما هناك في تعارض ظاهر الخبر مع الاجماع ليس كذلك ، ولذا قال المصنّف :( لكن لا دوران هناك ) في تعارض ظاهر الخبر مع الاجماع ( بين طرح السند ) أي : طرح سند الخبر ( والعمل بالظاهر ) أي : بظاهر الخبر ( وبين العكس ) أي : طرح الظاهر والعمل بالسند ، بل الأمر منحصر هناك بطرح ظاهر الخبر فقط ( إذ لو طرحنا سند ذلك الخبر لم يبق مورد للعمل بظاهره ) فإنّ مالا سند له ، لايعمل بظاهره ( بخلاف ما نحن فيه ) هنا من الخبرين المتعارضين ( فإنّا إذا طرحنا سند أحد الخبرين )

ص: 301

أمكننا العملُ بظاهر الآخر ، ولا مرجّح لعكس ذلك .

بل الظاهر هو الطرح ، لأنّ المرجّحَ والمحكّم في الامكان الذي قيّد به وجوبُ العمل بالخبرين هو العرفُ .

ولا شكّ في حكم العرف وأهل اللسان بعدم إمكان العمل بقوله : أكرم العلماء ، ولاتكرم العلماء .

-------------------

وهو الآخر الذي لم نتعبّد بصدوره ( أمكننا العملُ بظاهر الآخر ) أي : الأوّل الذي تعبّدنا بصدوره ( ولا مرجّح لعكس ذلك ) أي : لطرح الظاهر والعمل بسند الآخر ، كما يدّعيه القائل بالجمع ، وهذا هو نفس ما ذكره المصنّف سابقاً من أنّه لا أولوية في الخبرين المتعارضين للجمع على الطرح .

ثم لا يخفى : أنّ المصنّف قال قبل صفحة تقريباً ما لفظه : « ولا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه من الاجماع والنص » وقد أجاب إلى هنا عن الوجوه السبعة التي استدّل بها للجمع بين الخبرين ، وحيث انتهى من الجواب على الوجوه السبعة شرع في بيان الدليل على وجوب الطرح بقوله :( بل الظاهر هو الطرح ) لا الجمع ، وذلك لوجوه تالية :

الوجه الأوّل : لوجوب الطرح هو قوله ( لأنّ المرجّح والمحكَّم في الامكان الذي قيّد به وجوب العمل بالخبرين ) حيث قالوا : العمل بالخبرين والجمع بينهما مهما أمكن أولى من الطرح ( هو العرف ) لا العقل ، فإنّ الامكان هنا يراد به الامكان العرفي عند أهل اللسان ، لا الامكان العقلي الدّقي عند أهل الحكمة ( ولا شكّ في حكم العرف وأهل اللسان بعدم إمكان العمل بقوله : أكرم العلماء ولا تكرم العلماء ) فيكف يمكن الجمع بينهما ؟ علماً بأنّ قوله - مثلاً - : أكرم

ص: 302

نعم ، لو فرض علمُهُم بصدور كليهما حملوا أمر الآمِر بالعمل بهما على إرادة ما يعمّ العمل بخلاف ما يقتضيانه بحسب اللغة والعرف ، ولأجل ما ذكرنا وقع من جماعة

-------------------

العلماء ولا تكرم العلماء ، يكون من قبيل « ثَمَنُ العَذَرَةِ سُحتٌ » (1) و « لاَ بأسَ بِبيعِ العَذَرَةِ » (2) .

( نعم ، لو فرض علمهُمُ بصدور كليهما ) كما اذا سُمع كلاهما عن المعصوم عليه السلام ، أودلّ عليها خبران متواتران ( حملوا أمر الآمر بالعمل بهما على إرادة ما يعمّ العمل بخلاف ما يقتضيانه بحسب اللغة والعرف ) والمراد بقوله « ما يعمّ العمل بخلاف ما يقتضيانه » يعني : ما يعمّ العمل بخلاف الظاهر ، فإمّا يُأوّلون كليهما أويأوّلون أحدهما لأجل الآخر فإذا ورد - مثلاً - زيارة الحسين عليه السلام واجبة ، وورد أيضاً زيارة الحسين عليه السلام ليست واجبة ، أوّل العرُف أحدهما ، وهو قوله « زيارة الحسين عليه السلام واجبة » الى تأكد الاستحباب ، وإذا ورد - مثلاً - « الكُرّ ألف ومائتا رطل » وورد أيضاً « الكُرّ ستمائة رطل » أوّل العرُف كليهما بحمل « الألف ومائتا رطل » على العراقي ، و« الستمائة رطل » على المدني ، وهذا مثال للتأويل في كليهما من باب التقريب .

الوجه الثاني لوجوب الطرح هو قوله : ( ولأجل ما ذكرنا ) من عدم إمكان العمل بالخبرين حيث كانا متنافيين بحسب العرف وأهل اللسان ( وقع من جماعة

ص: 303


1- - الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1و3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

من أجلاّء الرواة السؤالُ عن حكم الخبرين المتعارضين ، مع ما هو مركوز في ذهن كلّ واحد : من أنّ كلّ دليل شرعي يجب العملُ به مهما أمكن ، فلو لم يفهموا عدمَ الامكان في المتعارضين ، لم يبق وجهٌ للتحيّر الموجب للسؤال مع أنّه لم يقع الجوابُ في شيء من تلك الأخبار العلاجيّة بوجوب الجمع بتأويلهما معاً ،

-------------------

من أجلاء الرواة السؤال عن حكم الخبرين المتعارضين ) حيث سألوا المعصومين عليهم السلام عن العلاج في ذلك ( مع ما هو مركوز في ذهن كلّ واحد : من أنّ كلّ دليل شرعي يجب العملُ بِه مهما أمكن ) ممّا يكون سؤالهم دليلاً على ما ذكره المصنّف بقوله : ( فلو لم يفهموا عدم الامكان في المتعارضين ، لم يبق وجهٌ للتحيّر الموجب للسؤال ) عن المعصومين عليهم السلام .

والحاصل : أنّ وجوب العمل بالدليل الشرعي مهما أمكن إمكاناً عرفياً من أوّليان العقلاء ومرتكزاتهم ، ومع ذلك نرى أنّ أصحاب المعصومين عليهم السلام قد تحيّروا في المتعارضين ولم يعرفوا كيف يعملون بهما ، ولذا سألوهم عليهم السلام عن علاجهما ، ممّا يكشف ذلك عن أنّ المتعارضين خارجان عن دائرة إمكان العمل بهما إمكاناً عرفياً ، الذي هو المعيار في المقام ، لا إمكاناً عقلياً الذي لاربط له بمباحث الألفاظ .

الوجه الثالث لوجوب الطرح هو قوله : ( مع أنّه لم يقع الجواب في شئمن تلك الأخبار العلاجيّة ) التي ذكرها الإمام عليه السلام ( بوجوب الجمع بتأويلهما معاً ) أوتأويل أحدهما بسبب الآخر .

إن قلت : لعل سؤال الأجلاء من الرواة كان في مورد لا يتيّسر معه تأويل ظاهر الخبرين المتعارضين ، ولذلك كان الجواب مطابقاً له .

ص: 304

وحملُ مورد السؤال على صورة تعذّر تأويلهما ولو بعيداً ، تقييدٌ بفرد غير واقع في الأخبار المتعارضة .

وهذا دليلٌ آخَرُ على عدم كلّية هذه القاعدة ، هذا كلّه مضافاً إلى مخالفتها للإجماع ، فإنّ علماء الاسلام من زمن الصحابة إلى يومنا هذا لم يزالوا

-------------------

قلت : ( وحملُ مورد السؤال على صورة تعذّر تأويلهما ولو بعيداً ، تقييدٌ بفرد غير واقع في الأخبار المتعارضة ) وذلك لأنّ ما وقع في الأخبار المتعارضة إنّما كان قابلاً للتأويل ولو بتأويل بعيد ، وإطلاق السؤال ينصرف إليه .

وعليه : فلا يقال : أن المعصوم عليه السلام إنّما لم يتعرّض في الجواب عن وجوب التأويل في الخبرين أوفي أحد الخبرين ، لأنّ كلام السائلين كان فيما إذا تعارض الخبران ولم يمكن تأويلهما .

لأنه يقال : حمل ما سأله الرواة عن المعصوم عليه السلام على هذا المورد من التعارض ، حملٌ على فردٍ نادرٍ جداً ، وهو خلاف ظاهر كلام السائلين .

( و) عليه : فانّ ( هذا ) الذي ذكره المصنّف آنفاً من الوجه الثالث لوجوب الطرح وعدم الجمع هو ( دليلٌ آخر على عدم كليّة هذه القاعدة ) أي : قاعدة : « الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح » فلا تشمل الامكان العرفي والعقلي معاً بل لابدّ من تقييد إطلاقها وتأويل ظهور الامكان فيها الى الامكان العرفي كما في الجمع بالنص والظاهر ، أوالظاهر والأظهر .

الوجه الرابع لوجوب الطرح هو قوله :(هذا كلّه مضافاً الى مخالفتها) أي:مخالفة كليّة هذه القاعدة (للإجماع ، فإنّ علماء الاسلام من زمن الصحابة الى يومنا هذا) من غير فرق بين العامة والخاصة ، كما يجده الانسان في كتبهم وكتبنا (لم يزالوا

ص: 305

يستعملون المرجّحات في الأخبار المتعارضة بظواهرها ، ثمّ اختيار أحدهما وطرح الآخر ، من دون تأويلهما معاً ، لأجل الجمع .

وأمّا ما تقدّم من غوالي اللئالي ، فليس نصّاً بل ولا ظاهراً في دعوى تقديم الجمع بهذا النحو على الترجيح والتخيير ، فإنّ الظاهر من الامكان في قوله : « فإن أمكنك التوفيق بينهما » هو الامكان العرفي في مقابل الامتناع العرفي بحكم أهل اللسان ، فإنّ حمل اللفظ على خلاف ظاهره بلا قرينة ، غيرُ ممكن عند أهل اللسان ، بخلاف

-------------------

يستعملون المرجّحات في الأخبار المتعارضة بظواهرها ، ثمّ ) أنّه بعد الحصول على القرائن المرجّحة يتم منهم ( إختيار أحدهما وطرح الآخر ، من دون تأويلهما معاً ، لأجل الجمع ) فلا يأوّلون ظاهريّ الخبرين ، وإنّما يقدِّمون خبراً على خبر .

إن قلت : لقد ادّعى - على ما سبق - الشيخ الاحسائي الاجماع على الجمع لا على الطرح .

قلت : ( وأمّا ما تقدّم من غوالي اللئالي ، فليس نصّاً بل ولا ظاهراً في دعوى تقديم الجمع بهذا النحو ) الكلّي الشامل للإمكان العرضي والعقلي معاً ( على الترجيح ) إن كان مرجّح ( والتخيير ) إن لم يكن مرجّح ( فإنّ الظاهر من الامكان ) ظهوراً عرفياً ( في قوله : « فإن أمكنك التوفيق بينهما » ، هو : الامكان العرفي ) لا العقلي ، فيكون ( في مقابل الامتناع العرفي بحكم أهل اللسان ) علماً بأنّ أهل اللسان يرون في مكان امتناعاً وفي مكان إمكانا ، وإذا كان كذلك ( فإنّ حمل اللفظ على خلاف ظاهره بلا قرينة ، غير ممكن عند أهل اللسان ) من أي لغة كانوا ( بخلاف ) حمل الظاهر على الأظهر ، أوالظاهر على النص مثل :

ص: 306

حمل العامّ والمطلق على الخاصّ والمقيّد .

ويؤيده قوله أخيراً : « فإذا لم يتمكّن من ذلك ولم يظهر لك وجههُ فارجع إلى العمل بهذا الحديث » فإنّ مورد عدم التمكّن نادر جداً .

وبالجملة : فلا يظنّ بصاحب الغوالي ولا بمن هو دونه ، أن يقتصر في الترجيح على موارد لايمكن تأويل كليهما ، فضلاً عن دعواه الاجماعَ

-------------------

( حمل العامّ والمطلق على الخاصّ والمقيّد ) ومثل : حمل المجمل على المبيّن ، والى غير ذلك .

( ويؤيّده ) أي : يؤيّد ما ادّعياناه من أن مراد الغوالي من الامكان هو : الامكان العرفي لا العقلي ( قوله أخيراً : فاذا لم يتمكّن من ذلك ) أي : من الجمع ( ولم يظهر لك وجهه ) أي : وجه الجمع بين الخبرين ( فارجع الى العمل بهذا الحديث ) أي : إلى العمل بمقبولة عمر بن حنظلة التي هي من جملة الروايات العلاجية .

وإنّما يكون قوله الأخير مؤيداً لإرادة الامكان العرفي ، لأنّه كما قال المصنّف ( فإنّ مورد عدم التمكّن ) من الجمع عقلاً غير موجود اطلاقاً ، لأنّ الانسان يتمكّن من الجمع التبّرعي بين حديثين حتى ولو كانا من المتناقضين ، أوعلى الاقلّ ( نادر جداً ) بحيث لا يُعتنى به إطلاقاً . فلا يكون الكلام حوله لانصرافه عنه ، وبذلك لايمكننا أن نحمل قوله : « فاذا لم يتمكن من ذلك ، ولم يظهر لك وجهة ... » على هذا المعنى ، المحال عقلائياً ، أوالنادر جداً .

( وبالجملة : فلا يُظنّ بصاحب الغوالي ) العالم الكبير (ولا بمن هو دونه ، أن يقتصر في الترجيح على موارد لايمكن تأويل كليهما ) ولو تأويلاً بعيداً ، حيث قد عرفت أنّ هكذا مورد غير موجود رأساً ، أونادر جداً ( فضلاً عن دعواه الاجماع

ص: 307

على ذلك .

والتحقيقُ الذي عليه أهله : إنّ الجمعَ بين الخبرين المتنافيين بظاهرهما ، على أقسام ثلاثة :

أحدها : ما يكون متوقّفاً على تأويلهما معاً .

والثاني : ما يتوقّف على تأويل أحدهما المعيّن .

والثالث : ما يتوقّف على تأويل أحدهما لا بعينه .

-------------------

على ذلك ) وحينئذ لابدّ أن يكون مراد الغوالي من إدعائه الاجماع على وجوب « الجمع مهما أمكن » ، هو : وجوب الجمع في مورد إمكانه العرفي ، وأما في غير المورد العرفي فإنه يُرجع إلى المقبولة .

هذا ( والتحقيق الذي عليه أهله ) أي : أهل التحقيق من الفقهاء المحققين ، والاُصوليين المدققين هو : ( إنّ الجمع بين الخبرين المتنافيين بظاهرهما ، على أقسام ثلاثة ) الأوّل منهما جمع تبرّعي مردود ، والآخران منهما جمع عرفي مقبول ، وذلك على ما يلي :

( أحدها : ما يكون متوقّفاً على تأويلهما معاً ) كالمتباينين والمتضادين ، وذلك كما إذا قال : أكرم زيداً ولا تكرم زيداً ، أوقال : بيّض هذا الحائط وسوّده ، وإلى غير ذلك .

( والثاني : ما يتوقّف على تأويل أحدهما المعيّن ) كما في العموم والخصوص المطلق ، أو المطلق والمقيّد ، أو المجمل والمبيّن .

( والثالث : ما يتوقّف على تأويل أحدهما لابعينه ) كما في العموم من وجه حيث يمكن أن نعطي مورد الاجتماع لهذا الطرف ، أونعطيه لذلك الطرف ، فإذا قال - مثلاً - أكرم العلماء ولا تكرم الفساق ، فاالعالم الفاسق يمكن أن يعطى لأكرم

ص: 308

وأمّا الأوّل : فهو الذي تقدّم أنّه مخالف للدليل والنصّ والاجماع .

وأمّا الثاني : فهو تعارض النصّ والظاهر الذي تقدّم أنّه ليس بتعارض في الحقيقة .

وأمّا الثالث : فمن أمثلته العامّ والخاص من وجه ، حيث يحصل الجمعُ بتخصيص أحدهما مع بقاء الآخر على ظاهره .

ومثل قوله : « اغتسل يوم الجمعة » بناءا على أنّ ظاهر الصيغة الوجوبُ .

-------------------

العلماء فيجب إكرامه ، وأن يُعطى للا تكرم الفساق فيحرم إكرامه .

( وأمّا الأوّل : فهو الذي تقدّم أنّه مخالف للدليل والنصّ والاجماع ) حيث قد ذكرنا بطلان الوجوه السّبعة التي استدل بها للجمع بين الخبرين المتعارضين ، وذكرنا وجوهاً أربعة لوجوب طرح أحدهما وردّ علمه الى أهله ، وهذا هو : الجمع التبرّعي المردود .

( وأمّا الثاني : فهو تعارض النصّ ، والظاهر ) أوالظاهر والأظهر ( الذي تقدّم أنّه ليس بتعارض في الحقيقة ) وإنّما يكون تعارضاً في بادئالنظر ، وهذا مع الثالث الآتي هو : الجمع العرفي المقبول .

( وأمّا الثالث ) : وهو ما يتوقف على التأويل في أحدهما لابعينه ( فمن أمثلته : العامّ والخاصّ من وجه ) وذلك كما في مثال : أكرم العلماء ولاتكرم الفساق (حيث) أنهما يتعارضان في مادة الاجتماع وهو : العالم الفاسق وفي مثله ( يحصل الجمع بتخصيص أحدهما مع بقاء الآخر على ظاهره ) وذلك على ماعرفت آنفاً .

( و ) من أمثلته أيضاً : المتعارضان بالتباين ، وذلك ( مثل قوله : « اغتسل يوم الجمعة » بناءاً على أنّ ظاهر الصيغة الوجوب ) .

ص: 309

وقوله : « ينبغي غسل الجمعة » بناءا على ظهور هذه المادّة في الاستحباب فإنّ الجمع يحصل برفع اليد عن ظاهر أحدهما .

وحينئذٍ : فإن كان لأحد الظاهرين مزيّةٌ وقوةٌ على الآخر ، بحيث لو اجتمعا في كلام واحد ، نحو : رأيت أسداً يرمي ، أو اتّصلا في كلامين لمتكلّم واحد

-------------------

( وقوله : « ينبغي غسل الجمعة » بناءاً على ظهور هذه المادّة ) أي : مادّة ينبغي ( في الاستحباب ) وإن كان كل واحد من لفظي ينبغي ولا ينبغي يستعملان حتى في المحال أيضاً ، مثل قوله سبحانه : « وما ينبغي للرحمان أن يتخذ ولداً » (1) ، وفي خلاف المصلحة مثل قوله تعالى : « وما علّمناه الشعر وما ينبغي له » (2) .

وكيف كان : ( فإنّ الجمع ) في مثال المتعارضين بالتباين ( يحصل برفع اليد عن ظاهر أحدهما ) إمّا عن ظاهر « اغتسل » الظاهر في الوجوب ، وإمّا عن ظاهر « ينبغي » الظاهر في الاستحباب ( وحينئذٍ ) أي : حين كان اللازم رفع اليد عن أحد الظاهرين ( فان كان لأحد الظاهرين مزيّةٌ وقوةٌ ) في دلالته ( على الآخر ، بحيث لو اجتمعا في كلام واحد ) قدّم الأقوى ( نحو : رأيت أسداً يرمي ) فإنّ يرمي أقوى دلالة في رمي الانسان السهم إذا اجتمع مع الأسد ، من دلالة الأسد على الحيوان المفترس ، فيكون يرمي قرينة على رفع اليد عن ظاهر الأسد ، فنرفع اليد لظاهر يرمي عن ظاهر الأسد ونقول : بأنّ المراد من الأسد هو : الرجل الشجاع .

( أواتّصلا ) أي : اتصل الظاهران المتباينان ( في كلامين لمتكلّم واحد ) وذلك كما إذا قال : رأيت أسد ثم قال : وكان يرمي ، حيث أنّ الصدر والذيل كلامان متباينان لكن أحدهما وهو يرمي أقوى دلالة ، فيكون قرينة على الاخر ،

ص: 310


1- - سورة مريم : الآية 92 .
2- - سورة يس : الآية : 69 .

تعيّن العملُ بالأظهر وصرف الظاهر إلى ما لا يخالفه ، كان حكمُ هذا حكمَ القسم الثاني في أنّه إذا تعبّد بصدور الأظهر يصير قرينة صارفة للظاهر من دون عكس .

نعم ، الفرق بينه وبين القسم الثاني : إنّ التعبّد بصدور النصّ لايمكن إلاّ بكونه صارفاً

-------------------

وكالمتكلّم الواحد : المتكلّمان إذا كانا يتكلمان بأمر واحد ، وذلك كالائمة المعصومين « صلوات اللّه عليهم أجمعين » ، حيث أن كلامهم جميعاً كلام شخصي واحد عن جدّهم عن جبرئيل عن اللّه تبارك وتعالى .

وعليه : فإن كان أحد الظاهرين المتنافيين أقوى دلالة من الآخر ( تعيّن العمل بالأظهر وصرف الظاهر الى مالا يخالفه ) أي : مالا يخالف الأظهر ، وإذا كان المتعيّن ذلك ( كان حكم هذا ) أي : القسم الثالث ( حكم القسم الثاني ) أي : حكم تعارض النص والظاهر ، فكما كنّا هناك نتصرّف في الظاهر بسبب النص ، فكذلك هنا نتصرّف في الظاهر بسبب الأظهر .

والحاصل : أنّه يكون حال القسم الثالث الذي نحن فيه حال القسم الثاني ( في أنّه إذا تعبّد بصدور الأظهر ) كما هو المفروض ، حيث أنّ الشارع جعل السند حجة ( يصير ) الأظهر ( قرينة صارفة للظاهر ) فنحمل الظاهر على معنى الأظهر ( من دون عكس ) أي : فلا يكون الظاهر قرينة على التصرّف في الأظهر ، وذلك لأنّ الأظهر قرينة بحكم أهل اللسان لرفع اليد عن الظاهر ، لا أنّ الظاهر قرينة لرفع اليد عن الأظهر .

( نعم ، الفرق بينه ) أي : بين القسم الثالث وهو الظاهر والأظهر ( وبين القسم الثاني ) وهو النص والظاهر هو ( أنّ التعبّد بصدور النصّ لايمكن إلاّ بكونه صارفاً

ص: 311

عن الظاهر ، ولامعنى له غير ذلك ، ولذا ذكرنا دوران الأمر فيه بين طرح دلالة الظاهر ، وطرح سند النصّ ، وفي ما نحن فيه يمكن التعبّدُ بصدور الأظهر ، وإبقاء الظاهر على حاله وصرف الأظهر ، لأنّ كلاًّ من الظهورين مستند إلى أصالة الحقيقة .

إلاّ أنّ العرف يرجّحون أحدَ الظهورين على الآخر ، فالتعارضُ موجودٌ والترجيحُ بالعرف

-------------------

عن الظاهر ، ولا معنى له غير ذلك ) ومعه لايمكن أن يتصرّف في النص بسبب الظاهر ( ولذا ذكرنا دوران الأمر فيه ) أي : في القسم الثاني ( بين طرح دلالة الظاهر ، وطرح سند النصّ ) لانا إذا أخذنا بالظاهر لايبقى مجال للنص ، وحيث لامجال للنص ، فلا معنى للتعبّد بسند النص .

هذا ( و) لكن ليس الأمر كذلك ( فيما نحن فيه ) أي : في القسم الثالث وهو تعارض الظاهر والأظهر ، اذ فيه ( يمكن التعبّد بصدور الأظهر ، وإبقاء الظاهر على حاله وصرف الأظهر ) إلى معنى الظاهر ( لأنّ كلاً من الظهورين ) : الظاهر والأظهر ( مستند إلى أصالة الحقيقة ) وهو أصالة الظهور ، فيمكن أن يكون كل منهما دليلاً للتصرّف في الآخر ، وان كان الأظهر عند أهل اللسان هو الذي يكون قرينة للتصرّف في الظاهر ، لا أنّ الظاهر يكون قرينة للتصرّف في الأظهر ، وذلك كما قال : ( إلاّ أنّ العرف يرجّحون أحد الظهورين على الآخر ) فيصير الظاهر والأظهر بحكم الظاهر والنص .

وعليه : ( فالتعارض ) بين الأظهر والظاهر ( موجودٌ ، و) ذلك بالنظر البدوي ، فإنّ في بادئالنظر يُتصور التعارض بينهما بملاحظة أنّ كلاً منهما يصلح صارفاً للآخر ، غير أن ( الترجيح ) للأظهر على الظاهر يكون ( بالعرف ) الذين هم أهل

ص: 312

بخلاف النصّ والظاهر ، أمّا لو لم يكن لأحد الظاهرين مزيّةٌ على الآخر ، فالظاهرُ أنّ الدليل المتقدّم في الجمع ، وهو ترجيح التعبّد بالصدور على أصالة الظهور ، غيرُ جارٍ هنا .

إذ لو جمع بينهما وحكم باعتبار سندهما ،

-------------------

اللسان ، فيرتفع التعارض البدوي بينهما ( بخلاف النصّ والظاهر ) فإنّه ليس كذلك ، وذلك لأنّ الظاهر لايمكن أن يكون قرينة للتصرّف في النص ، لانّ النص قرينة عقلاً - وليس كالأظهر قرينة عرفاً - للتصرّف في الظاهر ، فيلزم فيه التصرّف في الظاهر بسبب النص .

هذا إذا كان لاحد الظاهرين مزية على الآخر و ( إمّا لو لم يكن لأحد الظاهرين مزيّةٌ على الآخر ) وذلك كما تقدّم من مثال العموم من وجه : « أكرم العلماء » و« لا تكرم الفساق » فإنّه في مورد الاجتماع وهو : العالم الفاسق ، لم يكن مزية للعالم على الفاسق ، ولا للفاسق على العالم ، حتى يقدّم هذا على ذلك ، أوذاك على هذا ، وكذا ما تقدّم من مثال المتباينين : « اغتسل الجمعة » الظاهر في الوجوب ، و« ينبغي غسل الجمعة » الظاهر في الاستحباب ، فإنّه لم يكن مزية للوجوب على الاستحباب ، ولا للاستحباب على الوجوب ، حتى يقدّم هذا على ذاك ، أوذاك على هذا ( فالظاهر ) عند أهل اللسان هنا ( أنّ الدليل المتقدّم في الجمع ) الآنف بالنسبة الى ما كان لأحد الظاهرين مزية على الآخر كالنص والظاهر ( وهو ) أي : ذلك الدليل ( ترجيح التعبّد بالصدور على أصالة الظهور ، غيرُ جارٍ هنا ) حتى نقول : أنّهما صادران ، فنرفع اليد عن ظهورهما .

وإنّما لم يجر الدليل المتقدّم في الجمع هنا ( إذ لو جمع بينهما ) أي : بين الظاهرين ( وحكم باعتبار سندهما ) والتعبّد بصدورهما بالتصرّف في ظهورهما

ص: 313

بأنّ أحدَهما لابعينه مؤوّلٌ لم يترتّب على ذلك أزيدُ من الأخذ بظاهر أحدهما .

إمّا من باب عروض الاجمال لهما بتساقط أصالتي الحقيقة في كلّ منهما لأجل التعارض ، فيعمل بالأصل الموافق لأحدهما .

-------------------

( بأنّ أحدهما لابعينه مؤوّل ) فأنّه حينئذ ( لم يترتّب على ذلك أزيد من الأخذ بظاهر أحدهما ) وطرح ظاهر الآخر ، لفرض أن الظاهرين لايجتمعان مع أن الأخذ بظاهر أحدهما وطرح ظاهر الآخر هنا ، حيث لامزيّة لأخذ الظاهرين على الآخر ، يحتاج الى دليل من الخارج ، فإن لم يكن هناك دليل على ترجيح هذا ، أوترجيح ذاك لزم أحد أمرين : إما طرح الظاهرين بالتعارض وإجمالهما ، وذلك بناءا على أنّ حجيّة الظواهر من باب الطريقيّة ، ومعه فلا يحكم في العالم الفاسق بوجوب الاكرام ولا بحرمة الاكرام ، بل يرجع إلى الأصل ، وأما طرح أحد الظاهرين والعمل بالآخر الموافق للأصل رأساً فيحكم باستحباب غسل الجمعة ، وذلك من باب التخيير بينهما بناءاً على السببية .

وعليه : فإنه سواء عُمل هنا بقاعدة الجمع ، ام الطرح ، فالنتيجة واحدة ، وهي : العمل بأحد الظاهرين فقط ، وذلك ( إمّا من باب عروض الاجمال لهما ) أي : للظاهرين ( بتساقط أصالتي الحقيقة ) أي : الظهور ( في كلّ منهما لأجل التعارض ) فانّه بناءاً على إعتبار الأمارات ، ومنها أصالة الظهور من باب الطريقيّة تتعارض أصالتي الظهور فيتساقطان ويحصل الاجمال ( فيعمل بالأصل الموافق لأحدهما ) أي : لأحد الظاهرين ، فيكون الأصل في مثل : « اغتسل للجمعة » و « ينبغي غسل الجمعة » موافقاً لينبغي ، وذلك لأنّ الأصل هو البرائة من التكليف .

ص: 314

وإمّا من باب التخيير في الأخذ بواحد من أصالتي الحقيقة على أضعف الوجهين ، في تعارض الأحوال إذا تكافأت .

-------------------

( وإمّا من باب التخيير في الأخذ بواحد من أصالتي الحقيقة ) والظهور وذلك بناءاً ( على أضعف الوجهين ، في ) اعتبار الأمارات ، ومنها أصالة الظهور من باب السببية عند ( تعارض الأحوال إذا تكافأت ) فيكون الأصل في مثل :« أكرم العلماء » و« لا تكرم الفساق » في مورد الاجتماع وهو « العالم الفاسق » التخيير عقلاً لدورانّه بين المحذورين : وجوب الاكرام وحرمته ، فإنّه حيث لم يمكن جمعهما يُتخيّر أحدهما .

ثم أنه قد ذكر في القوانين وغيره ، بحث تعارض الأحوال ، مثل تعارض للاشتراك والنقل والتخصيص والاضمار والمجاز وغير ذلك ، فإذا دار الأمر بين حالين من هذه الأحوال فهل يقدّم هذا أويقدّم ذاك ؟ ففي مثل قوله سبحانه : « واسأل القرية » (1) حيث أن القرية لا تُسأل فاللازم : إمّا الاضمار ، وإمّا المجاز ، فعلى الاضمار تكون الآية هكذا : واسأل أهل القرية ، وعلى المجاز تكون الآية قد ذكرت المحل وهي القرية ، مكان الحالّ وهي أهل القرية .

وعليه : فقول المصنِّف : « بناءاً على أضعف الوجهين » إنّما قصد بهما الوجهين في بحث تعارض الأحوال ، وهما : إعتبار الأمارات من باب السببية ، أومن باب الطريقية ، فأما بناءاً على كون الأمارات حجّة من باب السببية وهو أضعف الوجهين ، فاللازم اختيار أحد الظاهرين وأمّا بناءاً على أقوى الوجهين وهو كون الأمارات حجّة من باب الطريقة ، فأصالتي الظهور هنا يتعارضان ويتساقطان ويحصل الاجمال ، ومعه فاللازم الرجوع إلى الأصل العملي إن وافق أحدهما ،

ص: 315


1- - سورة يوسف : الآية 82 .

وعلى كلّ تقدير يجب طرحُ احدهما .

نعم ، تظهر الثمرة في إعمال المرجّحات السنديّة في هذا القسم ، إذ على إعمال قاعدة الجمع ، يجب أن يحكم بصدورهما وإجمالهما ، كمقطوعي الصدور ،

-------------------

كما مثّلنا في :« اغتسل للجمعة » و« ينبغي غسل الجمعة » وإن خالفهما كما في مثال : « أكرم العلماء » و« لا تكرم الفساق » حيث أن مورد الاجتماع وهو « العالم الفاسق » يدور الحكم فيه بين محذورين ، لأنّه إما واجب الاكرام وإمّا محرّم الاكرام ، ولا أصل يوافق أحدهما ، فيُخيّر بين هذا وذاك .

( وعلى كلّ تقدير ) أي : سواء كان الحكم مع التكافؤ هو : التساقط ، ثم الرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما ، أوالتخيير بينهما إن خالفهما الأصل رأساً ، فانّه على التقديرين ( يجب طرح أحدهما ) وذلك على ما عرفت ، فتكون النتيجة في هذا القسم من المتعارضين ، الذي لا مزية لأحدهما على الآخر هو : أنه يستوي فيه الجمع والطرح من حيث العمل ، لأنّه على كل تقدير يعمل بأحدهما دون الآخر ، فلا ثمرة عملية بين القولين : القول بالتخيير بين الأصلين والقول بتساقطهما .

( نعم ، تظهر الثمرة ) بين القولين لافي العمل ، بل ( في إعمال المرجّحات السنديّة ) وغير السنديّة ( في هذا القسم ) الذي لامزيّة لأحد الظاهرين فيه على الآخر ، ومن أمثلته : العموم من وجه ، ومن أمثلته : « اغتسل » و« ينبغي » فإنّه بناءاً على القول بالجمع يتساقط الظهوران ثم يرجع إلى الاصل ، وعلى القول بالطرح يرجع أوّلاً الى المرجّحات ثم الأصل ، كما قال : ( إذ على إعمال قاعدة الجمع ، يجب أن يحكم بصدورهما وإجمالهما ، كمقطوعي الصدور ) فإنه إذا كان الخبران مقطوعي الصدور ، أوتعبّدنا بصدورهما ، كنّا نقول فيهما بتساقط ظهورهما

ص: 316

بخلاف ما إذا ادرجناه ، فيما لايمكن الجمعُ ، فإنّه يرجع فيه حينئذٍ إلى المرجّحات .

وقد عرفت : أنّ هذا هو الأقوى ، وأنّه لا محصّل للعمل بهما على أن يكونا مجملين ، ويرجع إلى الأصل الموافق لأحدهما .

ويؤيّد ذلك ، بل يدلّ عليه : أنّ الظاهرَ من العرف

-------------------

بالتعارض وإجمالهما ، ثمّ الرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما إن كان ، وإلاّ فالى التخيير بينهما ، فكذلك في هذا القسم .

( بخلاف ما إذا ) قلنا بإعمال قاعدة الطرح في هذا القسم ، وذلك بأن ( أدرجناه ، فيما لايمكن الجمع ، فإنّه يرجع فيه حينئذٍ إلى المرجّحات ) السنديّة والمتنيّة وغيرهما من سائر المرجّحات أوّلاً ، ثم على تقدير تكافؤ المرجّحات أوعدمها يُتخييّر بينهما .

هذا ( وقد عرفت : أنّ هذا ) الذي ذكرناه من الطرح وهو الادراج فيما لايمكن جمعه والرجوع الى المرجّحات ( هو الأقوى ، و ) ذلك لما قد سبق من ( أنّه لامحصّل ) للجمع أي : ( للعمل بهما على أن يكونا مجملين ، ويرجع إلى الأصل الموافق لأحدهما ) إذ لايترتب على ذلك إلاّ مايترتب على الطرح من العمل بأحدهما ، فيكون التعبّد بالصدور لغواً ، لأنّ التعبّد بالصدور إنّما يصح فيما إذا كانت هناك فائدة تترتّب على هذا التعبّد ، فإذا لم تكن هناك فائدة تترتّب عليه لأنّ الدلالة مجملة ولايمكن العمل بها ، فأيّة فائدة في هذا التعبّد ؟ .

( ويؤيّد ذلك ) أي : الطرح والرجوع إلى المرجّحات الادراج ( بل يدلّ عليه : أنّ الظاهر من العرف ) الذين يتحيّرون في هذا القسم من المتعارضين الذي لامزيّة لأحد الظاهرين فيه ، ويعدّونه من قبيل ما لايمكن فيه الجمع ، وذلك لأنّه إذا قيل

ص: 317

دخولُ هذا القسم في الأخبار العلاجيّة الآمرة بالرجوع إلى المرجّحات .

لكن يوهنه : إنّ اللازمَ - حينئذٍ - بعد فقد المرجّحات ، التخيير بينهما ، كما هو صريح تلك الأخبار ، مع أنّ الظاهرَ من سيرة العلماء - عدا ما سيجيء من الشيخ رحمه اللّه في النهاية والاستبصار - في مقام الاستنباط التوقّف والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما ، إلاّ أن يقال : إنّ هذا من باب الترجيح بالأصل

-------------------

لهم : « أكرم العلماء » و« لاتكرم الفساق » تحيّروا في « العالم الفاسق » ولم يعرفوا هل أنّه يجب إكرامه أويحرم إكرامه ؟ فالظاهر منهم ( دخول هذا القسم في الأخبار العلاجيّة الآمرة بالرجوع إلى المرجّحات ) فيكون هذا القسم عند العرف ممّا لايمكن الجمع فيه ، وقد استقرت سيرة العلماء على ملاحظة المرجّحات فيمثله.

هذا ، و ( لكن يوهنه ) أي : يوهن الطرح الرجوع إلى المرجّحات ( إنّ اللازم حينئذٍ ) أي : حين إدراج هذا القسم في قاعدة الطرح ، وذلك بإعمال المرجّحات إن كانت ، وإلاّ بأن تكافأت أوفقدت ، فاللازم ( بعد فقد المرجّحات ، التخيير بينهما ، كما هو صريح تلك الأخبار ) العلاجية التي تأمر بإعمال المرجّحات أوّلاً ، ومع عدمها تأمر بالتخيير ، بينهما لم تكن سيرة العلماء بهذا الترتيب ، بل كما قال : ( مع أنّ الظاهر من سيرة العلماء - عدا ما سيجئمن الشيخ رحمه اللّه في النهاية والاستبصار - ) أنها كانت ( في مقام الاستنباط : التوقّف والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما ) لا التخيير بينهما ، وهذا ممّا يوهن إدراج هذا القسم من المتعارضين فيما لايمكن الجمع بينهما ، وذلك لأنّ سيرتهم جرت عند انتفاء المرجّح على الرجوع إلى الأصل لا الى التخيير .

( إلاّ أن يقال : إنّ هذا ) الطرح والرجوع إلى الأصل ( من باب الترجيح بالأصل )

ص: 318

يعملون بمطابق الأصل منهما ، لا بالأصل المطابق لأحدهما .

ومع مخالفتهما للأصل فاللازمُ التخييرُ على كلّ تقدير ، غاية الأمر أنّ التخيير شرعي إن قلنا بدخولهما في عموم الأخبار ، وعقليّ ان لم نقل .

وقد يُفَصَّل بين ما إذا كان لكلّ من الظاهرين

-------------------

لأحد الخبرين على الآخر ، فانّهم إنّما ( يعملون بمطابق الأصل منهما ، لا بالأصل المطابق لأحدهما ) فليس الأصل مرجعاً ، وإنّما يكون مرجّحاً .

هذا فيما لو كان أحدهما موافقاً للأصل ( ومع مخالفتهما للأصل ) كما في مثل : « أكرم العلماء » و« لاتكرم الفساق » حيث أنّ مورد الاجتماع مردد بين المحذورين : الوجوب والتحريم ، وكلاهما مخالف للأصل ، لأنّ الأصل هو البرائة ( فاللازم التخيير على كلّ تقدير ) سواء كان الأصل مرجّحاً لأحدهما على الآخر ، أم مرجعاً عند موافقة أحدهما له ، فكما لاتظهر ثمرة بين الجمع والطرح من حيث العمل ، فكذلك لاتظهر ثمرة بينهما فيما إذا فقد المرجّح .

( غاية الأمر : إنّ التخيير شرعي إن قلنا بدخولهما ) أي : دخول المتعارضين ( في عموم الأخبار ) العلاجية ، حيث أن الشارع أمر بالتخيير بقوله : « إذن فتخير » (1) ( وعقليّ ان لم نقل ) أي : لم نقل بدخول المتعارضين في الأخبار العلاجيّة ، بل من باب الدوران بين المحذورين ، حيث أن العقل يرى فيه التخيير بين الأخذ بهذا أوبذاك ، فيكون التخيير على هذا عقلياً ، لا شرعياً .

( وقد يُفصَّل ) في المسألة ( بين ما إذا كان لكلّ من الظاهرين ) المتعارضين

ص: 319


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

مورد سليم عن المعارض ، كالعامّين من وجه ، حيث إنّ مادّة الافتراق في كلّ منهما سليم عن المعارض ، وبين غيره ، كقوله : «إغتسل للجمعة» ، و «ينبغي غسل الجمعة» ، فرجّح الجمع على الطرح في الأوّل ، لوجوب العمل بكلّ منهما في الجملة ، فيستبعد الطرح في مادّة الاجتماع

-------------------

( مورد سليم عن المعارض ، كالعامّين من وجه ) مثل : « أكرم العلماء » و« لاتكرم الفساق » ( حيث إنّ ) العالم العادل داخل في « أكرم العلماء » والفاسق غير العالم داخل في « لاتكرم الفساق » وحينئذٍ فإنّ ( مادّة الافتراق في كلّ منهما سليم عن المعارض ) إذ « العالم العادل » لايعارضه « لا تكرم الفساق » و « الفاسق الجاهل » لايعارضه « أكرم العلماء » وإنّما التعارض في مادة الاجتماع وهو « العالم الفاسق » ( وبين غيره ) أي : غير ما كان من قبيل العامّين من وجه ، وذلك بأن كانا متباينين - مثلاً - ( كقوله : « اغتسل للجمعة » ) حيث أنّ ظاهره الوجوب ( و « ينبغي غسل الجمعة » ) حيث أن ظاهره الاستحباب .

وعليه : فالمفصّل قد فصّل بين ما كان من قبيل العاميّن من وجه ، وبين ما كان من قبيل المتباينين ( فرجّح الجمع على الطرح في الأوّل ) أي : في العامين من وجه الذي لكل منهما مورد سليم عن المعارض وهو : مادة الافتراق ، وذلك ( لوجوب العمل بكلّ منهما في الجملة ) أي : في مادة الافتراق ، ومعه ( فيستبعد الطرح في مادةّ الاجتماع ) لأنّه يستلزم أن يكون الخبر الواحد يؤخذ به في بعض ، ولا يؤخذ به في بعض ، وذلك بأن يكون - مثلاً - « أكرم العلماء » محكوماً بالصدق في « العالم العادل » ، وبالكذب في « العالم الفاسق » ، و« لا تكرم الفساق » محكوماً بالصدق في « الفاسق الجاهل » ، وبالكذب في « الفاسق العالم » وحتى لايستلزم ذلك ، قال المفصّل : يُجمع بين العاميّن من وجه بالعمل بهما في موردي

ص: 320

بخلاف الثاني ، وسيجيء تتمّة الكلام إنشاء اللّه تعالى .

بقي في المقام : إنّ شيخنا الشهيد الثاني رحمه اللّه فرّع في تمهيده « على قضيتة أولويّة الجمع ،

-------------------

الافتراق ، وفي مورد الاجتماع لو كان دليل لترجيح أحدهما على الآخر يؤخذ به ، وإن لم يكن دليل على ترجيح أحدهما على الآخر يُتخيير فيه أويرجع إلى الأصل .

( بخلاف الثاني ) الذي هو من قبيل المتباينين مثل : « اغتسل للجمعة » و« ينبغي غسل الجمعة » فإنّه حيث لامانع من الأخذ بأحدهما وطرح الآخر ، فلا مانع فيه من الرجوع الى أخبار العلاج ( وسيجئتتمّة الكلام إنشاء اللّه تعالى ) .

هذا ، ولكن ربّما يقال : أنّ أخبار العلاج تشمل المتعارضين من قبيل المتباينين كلاً ، والعامين من وجه في مادة الاجتماع منهما ، ولا محذور ، إذ أيّ مانع من أن يتعبّدنا الشارع بالعلاج أولاً ، ثم التخيير ، أوالرجوع إلى الأصل في مادة الاجتماع ؟ ثم أن من الكلام في العامّين من وجه يظهر الكلام في العموم المطلق أيضاً ؛ وذلك فيما إذا طرح العام في مادة الاجتماع .

( بقي في المقام ) أي : في مقام البحث عن قاعدة : « الجمع مهما أمكن أولى من الطرح » مورد آخر للجمع ، وهو ( إنّ شيخنا الشهيد الثاني رحمه اللّه فرّع في تمهيده على قضية أولويّة الجمع ) من الطرح مورداً ثالثاً للجمع وهو الجمع العملي ، اضافة الى الموردين اللذين سبقا : من الجمع العرفي والجمع التبرعي : فإنّ الجمع على ما عرفت قد يكون دلالياً كالظاهر والأظهر والنص والظاهر وهو الجمع العرفي المقبول ، وقد يكون تبرعيّاً كالجمع بما يرفع التناقض أوالتضاد

ص: 321

الحكمَ بتنصيف دار تداعياها وهي في يدهما، أو لايد لأحدهما، وأقاما بيّنة »

-------------------

بين الخبرين وإن لم يكن له شاهد عليه ، وهو الجمع التبرعي المردود .

مثلاً : حمل العذرة في : « لابأس ببيع العَذَرَةِ » (1) على عذرة حلال اللحم ، وفي « ثَمَنُ العَذَرَةِ سُحتٌ » (2) على حرام اللحم من الجمع التبرعي ، وقد صنعه الشيخ كثيراً للردّ على من قال : إنّ في الأخبار تناقضاً ، فأراد الشيخ بذلك بيان أنّه لاتناقض في كلام الحكيم ، وإنّه إذا رأينا في كلامه تهافتاً ، فلا بدّ من حمله على بعض وجوه الجمع ، وعلى أن صورة التهافت حصلت لاختلاف الأسئلة ، أو إختلاف الأفهام ، أوإختلاف عُرف الرواة مثل : « الكُرّ ألف ومائتا رطل » لكون الراوي عراقياً ، و« ستمائة رطل » لكون الراوي حجازياً ، وإلى غير ذلك ممّا يرفع صورة التهافت من كلام الحكيم ، وذلك لأنّ مَثل كلام الحكيم مَثَل ما إذا رأينا ساعة نعرف أن الخبير صنعها ، لكن لم نعرف فائدة بعض أجهزتها ، فإنّه يجب أن نحملها على عدم فهمنا لا على عدم الفائدة في هذا الجهاز المجهول عندنا .

وكيف كان : فهذان نوعان من الجمع بين الخبرين المتعارضين : عرفياً مقبولاً ، وتبرعياً مردوداً ، وقد أضاف إليهما الشهيد الثاني ثالثاً : جمعاً عملياً بين البيّنتين المتعارضتين : مثل ( الحكمَ بتنصيف دار تداعياها وهي في يدهما ، أولايد لأحدهما ، وأقاما بيّنة ) أولم يكن لأحدهما بيّنة ولكن حلفا ، أولم يحلف أحد منهما ، فإنّ الحكم بالتنصيف بينهما فيما إذا كانا متساويين من هذه الجهات وإلاّ بأن أقام أحدهما البينة فالدار له ، أوحلف أحدهما فالدار له أيضاً ، إمّا اذا لم يكن

ص: 322


1- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1و3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب4 ح22285 .
2- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .

انتهى المحكي عنه .

ولو خصّ المثال بالصورة الثانية لم يرد عليه ما ذكره المحقّق القمي رحمه اللّه ،

-------------------

لأحدٍ منهما بينة ولا حلف ، أو كان لكليهما بيّنة أوحلف فالدار تنصّف بينهما ، وقد جعله الشهيد من باب الجمع العملي بين البينتيّن المتعارضتين ( انتهى المحكي عنه ) أي : عن الشهيد الثاني رحمه اللّه .

ثم علّق عليه المصنّف بقوله : ( ولو خصّ المثال بالصورة الثانية ) أي : قوله : « لا يد لأحدهما » ( لم يرد عليه ما ذكره المحقّق القمي رحمه اللّه ) فإن المحقق القمي أورد على ما إذا كانت الدار في يدهما : بان الحكم بالتنصيف في صورة اليد إنّما هو من باب الترجيح لبينة الداخل أوبينة الخارج ، لامن باب أولوية الجمع على الطرح الذي ادّعاه الشهيد الثاني .

توضيح الايراد : أنه إذا ادعى اثنان داراً كانت في يد أحدهما ، وأقام كل منهما بيّنة - مثلاً - فإنّه ربّما يقال : بترجيح بيّنة الداخل ، وربّما يقال : بترجيح بيّنة الخارج ، فإنّ الذي حكم بترجيح بيّنته تكون كل الدار له ، وهذا هو المثال الثاني ولا كلام فيه ، وإنّما الكلام في المثال الأوّل وهو مالو فرض كون الدار في يدهما بأن كانا معاً في الدار ، فكلّ منهما بالنسبة إلى النصف داخل ، وبالنسبة إلى النصف الآخر خارج ، وهنا إمّا يرجّح بيّنة الداخل فيحكم لكل منهما بالنصف الذي في يده ، وإمّا يرجّح بيّنة الخارج فيحكم لكل منهما بالنصف الذي في يد الآخر وعلى التقديرين يكون التنصيف من أجل الترجيح ، لامن أجل الجمع بين البينتين ، وهذا الإيراد الخاص بالمثال الأوّل ، دون المثال الثاني ، فإنّ في المثال الثاني يمكن أن يكون حكمهم بالتنصيف لأجل الجمع بين البينتين ، لا لأجل

ص: 323

وإن كان ذلك - أيضاً - لايخلو عن مناقشة تظهر بالتأمّل .

وكيف كان : فالأولى التمثيلُ بها وبما أشبهها ، مثل حكمهم بوجوب العمل بالبيّنات في تقويم المعيب والصحيح ، وكيف كان ، فالكلامُ في مستند أولويّة الجمع بهذا النحو ، أعني : العمل بكلّ من الدليلين في بعض

-------------------

الداخل والخارج .

وهذا ( وإن كان ذلك ) أي : المثال الثاني ( - أيضاً - لايخلو عن مناقشة تظهر بالتأملّ ) فيه ، وذلك بتقريب : أن التنصيف فيما لايد لهما عليه لم يكن من أجل الجمع ، بل من أجل تساقط البينتين ، فيكون المرجع حينئذٍ التنصيف لقاعدة العدل ، أوللقرعة ، إذ هي لكل أمر مشكل ، لكنّا ذكرنا : أن قاعدة العدل مقدّمة على القرعة ، لأن قاعدة العدل ترفع الاشكال فلا يتحقق موضوع القرعة .

( وكيف كان : فالأولى التمثيل بها ) أي : بالصورة الثانية ( وبما أشبهها مثل : حكمهم بوجوب العمل بالبيّنات في تقويم المعيب والصحيح ) فإذا قوّم الصحيح أحد المقوّمين - مثلاً - بعشرة ، والمعيب بثمانية ممّا يكون معناه : لزوم إرجاع البايع دينارين إلى المشتري الذي اشتراه بعشرة بزعم الصحة ، وقوّم الصحيح المقوّم الآخر بأثني عشر ، والمعيب بثمانية ، حيث اللازم ارجاعه أربعة ، فنجمع بين الاثنين والأربعة ، ونحكم بلزوم إرجاع البايع ثلاثة دنانير إلى المشتري ، والثلاثة هو نصف التقويمين .

( وكيف كان ) : سواء تمّ كلام الشهيد في أنّ الدليل على الجمع في الأحكام والموضوعات هو أمر واحد ، أولم يكن كذلك ، وإنّما الدليل في باب الأخبار هو الأخبار العلاجية ، وفي باب الموضوعات هي القاعدة العقلائية ( فالكلامُ في مستند أولويّة الجمع بهذا النحو ، أعني : العمل بكلّ من الدليلين في بعض

ص: 324

مدلولهما المستلزم للمخالفة القطعيّة لمقتضى الدليلين لأنّ الدليل الواحد لايتبعّض في الصدق والكذب .

ومثلُ هذا غيرُ جارٍ في أدلّة الأحكام الشرعيّة .

والتحقيقُ : إنّ العملَ بالدليلين بمعنى الحركة والسكون على طبق مدلولهما غيرُ ممكن مطلقاً

-------------------

مدلولهما المستلزم ) هذه الكيفية من الجمع ( للمخالفة القطعيّة لمقتضى الدليلين ) لأنّه إذا أخذنا بنصف هذه البيّنة ، ونصف البيّنة الأخرى ، كان معنى ذلك : إنّا لم نأخذ بأيّ من البيّنتين ، بل خالفنا كل واحد منهما مخالفة قطعية .

وإنّما يستلزم هذا النحو من الجمع المخالفة القطعية للدليلين ( لأنّ الدليل الواحد لا يتبعّض في الصدق والكذب ) وذلك بأن تكون البيّنة التي تقول : أن الدار ربما لزيد صادقةً في نصفها وكاذبةً في نصفها ، وكذلك البيّنة التي تقول : ان الدار لعمرو ، فانّ البيّنة ان كانت صادقة فهي صادقة في تمامها ، وإن كانت كاذبة فهي كاذبة في تمامها ، لكن مقتضى قاعدة العدل ما ورد في الروايات وبنى عليها العقلاء ، وليس معنى ذلك : إنّ البيّنة صادقة وكاذبة ، بل معنى ذلك أن التعارض بينهما يستلزم التنصيف .

( و ) لكن ( مثل هذا ) الجمع العملي بين البينتين ( غير جارٍ في أدلّة الأحكام الشرعيّة ) فلا يصحّ الأخذ بنصف هذا الدليل ونصف ذاك الدليل ، بل اللازم إعمال المرجّحات أوّلاً ، فاذا لم تكن مرجّحات فالتخيير ، أوالتساقط والرجوع إلى الأصل .

هذا ( والتحقيق ) أنّ دليل الجمع في الموضوعات ، غير دليل الجمع في الأحكام ، واللازم أن نبيّن ذلك أوّلاً ، فنقول ( إنّ العمل بالدليلين بمعنى : الحركة والسكون على طبق مدلولهما ) معاً ، وهو ( غير ممكن مطلقاً ) لافي أدلة

ص: 325

فلابدّ - على القول بعموم القضيّة المشهورة - من العمل على وجه يكون فيه جمعٌ بينهما من جهة ، وإن كان طرحاً من جهة اُخرى في مقابل طرح أحدهما رأساً ، والجمع في أدلّة الأحكام عندهم بالعمل بهما من حيث الحكم بصدقهما ، وإن كان فيه طرحٌ لهما

-------------------

الموضوعات ، ولافي أدلة الأحكام ، لأنّ المفروض : وجود التعارض بينهما ، فكيف يمكن أن يعمل - مثلاً - ببيّنة زيد كاملاً ، وببيّنة عمروكاملاً ، أويعمل - مثلاً - بقوله : « اغتسل للجمعة » وقوله : « ينبغي غسل الجمعة » ؟ وإلى غير ذلك ممّا بينهما تباين أو عموم من وجه .

وعليه : ( فلا بدّ - على القول بعموم القضيّة المشهورة - من ) أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح ( العمل على وجه يكون فيه جمعٌ بينهما من جهة ، وإن كان طرحاً من جهة أخرى ) لفرض انّنا نعمل بكل بيّنة من البيّنتين في نصف مدّعاها ، وذلك ( في مقابل طرح أحدهما رأساً ) أي : بأن نطرح بيّنة زيد - مثلاً - ونأخذ ببيّنة عمرو ، أو العكس .

إذن : فالجمع في أدلة الموضوعات إنّما كان بالتبعيض في العمل لا التصرّف في الدلالة ، بينما الجمع في أدلة الأحكام يكون بالتصرف في الدلالة لا التبعيض في العمل كما قال : ( والجمع في أدلّة الأحكام عندهم بالعمل بهما ) أي : بالدليلين ( من حيث الحكم بصدقهما ) معاً من حيث السند ، فنقول : أن سند كل من « ثَمَنُ العَذَرَةِ سُحتٌ » (1) و« لا بأسَ ببيعِ العَذَرَةِ » (2) صادق ( وإن كان فيه طرحٌ لهما

ص: 326


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1و3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب4 ح22285 .

من حيث ظاهرهما ، وفي مثل تعارض البيّنات ، لمّا لم يكن ذلك ، لعدم تأتّي التأويل في ظاهر كلمات الشهود ، فهي بمنزلة النصّين المتعارضين ، انحصر وجهُ الجمع في التبعيض فيهما من حيث التصديق بأن يصدّق كلّ من المتعارضين في بعض ما يخير به .

فمن أخبر بأنّ هذا كلّه لزيد نصدّقه في نصف الدار ، وكذا من شهد

-------------------

من حيث ظاهرهما ) بالتصرّف في دلالتهما ، حيث أنّا لم نأخذ بظاهر الروايتين في كل مفادهما ، بل نحمل « لابأس ببيع العذرة » على عذرة حلال اللحم « وثمن العذرة سحت » على عذرة حرام اللحم - مثلاً - وهو أخذٌ ببعض مفاد الروايتين على ما عرفت .

هذا ( وفي مثل تعارض البيّنات ، لمّا لم يمكن ذلك ) أي : التصرّف الدلالي فيهما ( لعدم تأتّي التأويل في ظاهر كلمات الشهود ) لوضوح : أنّ الشهود يشهدون بالصراحة : بأنّ الدار لزيد ، وأن الدار لعمرو ، فلا يأتي التأويل في كلماتهما .

وحينئذٍ : ( فهي ) أي : البيّنات ( بمنزلة النصّين المتعارضين ) حيث لايمكن الجمع الدلالي بينهما فيما لو كانا متباينين صريحاً ، وإذا كان كذلك ( انحصر وجه الجمع ) بين البيّنتين المتعارضتين ( في التبعيض فيهما من حيث التصديق ) وذلك ( بأن يُصدّق كلّ من المتعارضين في بعض ما يخير به ) ، ولا يصدّق في البعض الآخر .

وعليه : ( فمن أخبر بأنّ هذا كلّه لزيد نصدّقه في نصف الدار ، وكذا من شهد

ص: 327

بأنّ قيمة هذا الشئصحيحاً كذا ومعيباً كذا ، نصدّقه في أنّ قيمةَ كلّ نصف منه منضمّاً إلى نصفه الآخر نصفُ القيمة ، وهذا النحو غير ممكن في الأخبار ، لأنّ مضمون خبر العادل ، أعني : صدور هذا القول الخاصّ من الإمام عليه السلام غير قابل للتبعيض .

-------------------

بأنّ قيمة هذا الشيء صحيحاً كذا ومعيباً كذا ، نصدّقه في أنّ قيمة كلّ نصف منه ) أي : من هذا الشيئ ( منضمّاً إلى نصفه الآخر نصف القيمة ) وذلك على ما عرفت في مثال تقويم الصحيح والمعيب بعشرة وثمانية ، واثني عشر وثمانية .

ثم أنه لايخفى : أنّ الكلام ليس خاصاً بالقولين كالبينتين والمقوّمين ، بل يأتي في الأقوال المتعدّدة أيضاً ، وذلك كما إذا قالت بينة : بان الدار لزيد ، وأخرى : بأنّها لعمرو ، وثالثة : بأنّها لبكر ، فإنّ الدار تثلّث بينهم ، وهكذا في باب التقويم ، فإنّه إذا قال مقوّم : بأنّ قيمة دار اليتيم التي يُراد بيعها ألف ، وقال مقوّم ثان : بأن قيمتها ألفان ، وقال مقوّم ثالث : بأنّ قيمتها ثلاثة آلاف ، ونحن نريد أن نشتريها أونبيعها ، فاللازم هو : الجَمع بين هذه الأقوال الثلاثة ، فيكون المجموع ستة ثم نقسّمه بعدد الأقوال وهي هنا ثلاثة ، فثلّثه ونشتري الدار أونبيعها بألفين ، وهكذا بالنسبة إلى الأقوال المتعدّدة في قيمة الصحيح والمعيب .

( و ) لكن ( هذا النحو ) من الجمع العملي في الموضوعات القابلة للتبعيض ( غير ممكن في الأخبار، لأنّ مضمون خبر العادل ، أعني: صدور هذا القول الخاصّ من الإمام عليه السلام غير قابل للتبعيض ) فلا يمكن أن يؤخذ ببعض قوله دون بعض قوله الآخر، لأنّ الراوي إن كان صادقاً لزم الأخذ بكل قوله ، وإن كان كاذباً لزم ترك كل قوله .

ص: 328

بل هو نظير تعارض البيّنات في الزوجيّة أو النسب .

نعم ، قد يتصوّر التبعيضُ في ترتيب الآثار على تصديق العادل ، إذا كان كلّ من الدليلين عامّاً ذا أفراد ، فيؤخذ بقوله في بعضها وبقول الآخر في بعضها ، فيكرم بعضَ العلماء ويهين بعضَهُم ، فيما إذا ورد : « أكرم العلماء» وورد أيضاً : «أهِن العلماء» سواء كانا نصّين بحيث لايمكن التجوّز في أحدهما ،

-------------------

( بل هو ) أي : مضمون خبر العادل ( نظير تعارض البيّنات في ) موضوع لا يمكن تبعيضه مثل : ( الزوجيّة ) إذا ادّعاها اثنان ، فإنّه لا يمكن تنصيف الزوجة نصفها لهذا ونصفها لذاك ( أو النسب ) كما إذا ادّعى الولد اثنان : زيد وعمرو، فلا يمكن أن يكون نصف الولد لزيد ونصفه لعمرو، وكذلك إذا نذر - مثلاً - أن يذبح شاة في مشهد معيّنٍ من المشاهد المشرّفة ، ثم نسى أنّ نذره كان لمشهد النجف الأشرف ، أولمشهد كربلاء المقدسة ، فإنّه لايمكن أن يذبح الشاة نصفها في النجف الاشرف ونصفها في كربلاء المقدسة ، والى غير ذلك ممّا لا يمكن التبعيض العملي فيهما إذا لوحظت حيثية الصدور .

( نعم ، قد يتصوّر التبعيض في ترتيب الآثار على تصديق العادل ، إذا كان كلّ من الدليلين عامّاً ذا أفراد ، فيؤخذ بقوله ) أي : قوله العادل ( في بعضها ) أي : في بعض تلك الآثار ( وبقول الآخر في بعضها ) الآخر ( فيكرم بعض العلماء ويهين بعضهم ، فيما اذا ورد : « أكرم العلماء » وورد أيضاً : « أهن العلماء » ) إذ من الممكن أن يهين خمسة ويكرم خمسة .

وعليه : فإنّ التبعيض العملي في الدليلين المذكورين ممكن إذا لوحظت حيثيّة ترتّب الآثار ، بلا فرق بين كونها نصين أوظاهرين كما قال : ( سواء كانا ) أي : الدليلان ( نصّين بحيث لايمكن التجوّز في أحدهما ) كما إذا قال : إذا اكرمت

ص: 329

أو ظاهرين ، فيمكن الجمعُ بينهما على وجه التجوّز وعلى طريق التبعيض .

إلاّ أنّ المخالفة القطعيّة في الأحكام الشرعيّة ، لايرتكب في واقعة واحدة ،

-------------------

العلماء عاقبتك عقاباً شديداً ، وقال أيضاً : إذا أهنت العلماء عاقبتك عقاباً شديداً ( أوظاهرين ) كما إذا قال : أكرم العلماء وقال أيضاً : لا تكرم العلماء ، حيث أن الأمر ظاهر في الوجوب والنهي ظاهر في التحريم ، لا إنهما نصّان في الوجوب والتحريم ( فيمكن الجمع بينهما على وجه التجوّز ) جمعاً دلالياً ( و ) ذلك بأن يحمل كل منهما على المجازية ، لا على الحقيقة حتى يتعارضان ، كما ويمكن الجمع بينهما ( على طريق التبعيض ) جمعاً عملياً أيضاً ، وذلك وعلى ما عرفت .

والحاصل : إنّ متعلّق خبر العادل وهو صدور القول الخاص عن الإمام عليه السلام لايقبل التبعيض من حيث الصدور ، فهو إمّا صادر أوليس بصادر ، وإمّا من حيث الأثر المترتِّب على تصديق خبره ، فربما يمكن فيه التبعيض ، وذلك بأن يكرم عالماً ويهين عالماً كما قد تقدّم ، غير أنّ هناك فرقاً بين ورود الدليلين القائلين أكرم العلماء ، وأهن العلماء ، وبين قيام البينتين القائلتين : أن الدار لزيد ولعمرو، فإن الحق في الدليلين الواردين من الشارع للّه وحده ، فلا يبعّضان بإكرام عالم واهانة عالم في واقعة وإن جاز ذلك بنظر - المصنِّف - في وقائع متدرِّجة ، بل يؤخذ فيهما أوّلاً بالمرجّحات ومع عدمها بالتخيير ، وإمّا الحق في البينتين القائمتين في الموضوعات فهو للناس ، فيلزم فيهما التبعيض ، حيث أنه حقان فيعطى لكل واحد منهما نصف الحق - مثلاً - .

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف بقوله ( إلاّ أنّ المخالفة القطعيّة ) لمقتضى الدليلين الواردين ( في الأحكام الشرعيّة ، لا يُرتكب في واقعة واحدة ) أي :

ص: 330

لأنّ الحقّ فيها للشارع ، ولا يرضى بالمعصية القطيّة مقدّمةً للعلم بالاطاعة ، فيجب اختيارُ أحدهما وطرحُ الآخر ، بخلاف حقوق الناس ، فإنّ الحقّ فيها لمتعدّدٍ ، فالعملُ بالبعض في كلّ منهما جمع بين الحقّين من غير ترجيح لأحدهما على الآخر بالدواعي النفسانيّة ،

-------------------

لاتجوز المخالفة القطعية لإكرام العلماء وأهن العلماء - مثلاً - دفعة ، وإن جازت بنظر المصنّف تدريجاً بأن يكرم يوماً ويهين يوماً .

وإنّما لا يجوز ارتكاب ذلك دفعة ( لأنّ الحقّ فيها ) أي : في الواقعة الشرعية الواحدة ( للشارع ، ولايرضى بالمعصية القطعيّة ) دفعة ( مقدّمةً للعلم بالاطاعة ) لما يقتضيه الدليلان ، وذلك لأنّه إذا اكرم عالماً وأهان عالماً ، فإنّه خالف قطعاً كما أنه وافق قطعاً ، لكن المخالفة والموافقة القطعيتين حصلتا في كل من الدليلين الشرعيين دفعة ، وحيث انّ الشارع لايرضى بذلك ( فيجب إختيار أحدهما ) أي : أحد الدليلين ( وطرح الآخر ) فيما إذا كان هناك مرجّح وإلاّ فالتخيير .

هذا كله في الجمع الحكمي ( بخلاف حقوق الناس ) الذي هو جمع موضوعي ( فإنّ الحقّ فيها ) أي : في حقوق الناس ( لمتعدّد ) من الأشخاص ( فالعمل بالبعض في كلّ منهما ) أي : في كل من البينتين إنّما هو ( جمع بين الحقّين من غير ترجيح لأحدهما على الآخر بالدواعي النفسانيّة ) علماً بأن الدواعي النفسانية هناك تخالف العدالة ، وذلك لأنّ العادل إذا كان من حقه أن يعطي لهذا ، أويعطي لذاك ، فقدّم أحدهما على الآخر لقرابة أو صداقة أوما أشبه ذلك لم يسقط عن عدالته .

ص: 331

فهو أولى من الاهمال الكلّي لأحدهما ، وتفويض تعيين ذلك إلى اختيار الحاكم ودواعيه النفسانيّة غير المنضبطة في الموارد .

ولأجل هذا يعدّ الجمعُ بهذا النحو مصالحةً بين الخصمين عند العرف ، وقد وقع التعبّدُ به في بعض النصوص أيضاً ، فظهر ممّا ذكرنا : أنّ الجمعَ في أدلّة الأحكام بالنحو المتقدّم من تأويل

-------------------

وكيف كان : ( فهو ) أي : الجمع العملي بين الحقين هنا ( أولى من الاهمال الكليّ لأحدهما ، و) ذلك بأن يعطي الحق كله لأحدهما ويحرم الآخر منه رأساً ، كما أن الجمع هنا أولى من ( تفويض تعيين ذلك ) أي : ترجيح أحدهما ( إلى إختيار الحاكم ودواعيه النفسانيّة غير المنضبطة في الموارد ) المختلفة فإنّه من المعلوم : إنّ الدواعي النفسانية لاتكون منضبطة لوضوح ؛ أنّه قد يرجّح أحدهما على الآخر لقرابة ، أوصداقة ، أوجوار ، أوطمع في مستقبل ، أوما أشبه ذلك ممّا هو كثير .

( و) عليه : فقال تبيّن أنه ( لأجل هذا ) الذي ذكره المصنّف : من أن الحق في حقوق الناس لمتعدّد ، فاللازم التنصيف بينهما - مثلاً - ( يعدّ الجمع بهذا النحو مصالحةً بين الخصمين عند العرف ، و) هذا هو مقتضى قاعدة العدل أيضاً ، حيث ينصّف الحق الذي يقبل التبعيض في المدعيين ، ويثلث في الثلاثة ، وهكذا ، إضافة إلى أنه ( قد وقع التعبّد به ) أي : بالتبعيض ( في بعض النصوص أيضاً ) وهي نصوص متعدّدة ذكر المصنّف واحدةً منها فقط ، وذكرنا ما بجملتها في موارد متعدّدة من « الفقه » .

إذن : ( فظهر ممّا ذكرنا : أن الجمع في أدلّة الأحكام بالنحو المتقدّم من تأويل

ص: 332

كليهما لا أولويّة له أصلاً على طرح أحدهما والأخذ بالآخر ، بل الأمر بالعكس ؛ وأمّا الجمعُ بين البيّنات في حقوق الناس ، فهو وإن كان لا أولويّة فيه على طرح أحدهما بحسب أدلّة حجيّة البيّنة ، لأنّها تدلّ على وجوب الأخذ بكلّ منهما في تمام مضمونه ، فلا فرقَ في مخالفتهما بين الأخذ لا بكلّ منهما، بل بأحدهما

-------------------

كليهما ) أي : كلا الظاهرين المتنافيين ، كما في « لابأسَ ببيع العَذَرَةِ » (1) و « ثمن العذرة سحت » (2) - مثلاً - وذلك تبعاً لقاعدة : « الجمع مهما أمكن أولى من الطرح » ( لا أولويّة له أصلاً على طرح أحدهما والأخذ بالآخر ) أي : لا أولوية للجمع الدلالي في الأحكام إذا كان مستلزماً لتأويل كلا الظاهرين معاً على الطرح ، كما أن الجمع العملي في الأحكام فيما يمكن التبعيض فيه ، كما في مثال « أكرم العلماء » و « أهن العلماء » لا أولوية له على الطرح أيضاً لعدم رضا الشارع به ( بل الأمر بالعكس ) أي : بأن اللازم الأخذ بأحدهما وطرح الآخر ، وذلك لأنّ هذا هو مقتضى روايات العلاج .

( وإمّا الجمعُ بين البيّنات في حقوق الناس ، فهو وإن كان لا أولوية فيه على طرح أحدهما بحسب أدلّة حجيّة البيّنة ) وإنّما لا أولوية للجمع فيه ( لأنّها ) أي : أدلة حجيّة البيّنة ( تدلّ على وجوب الأخذ بكلّ منهما ) أي : بكلٍ من البيّنتين ( في تمام مضمونه ) وإذا كان الواجب ذلك ( فلا فرق في مخالفتهما ) أي : في حصول المخالفة للبيّنتين في الجملة ( بين الأخذ لا بكلّ منهما ، بل بأحدهما ) فقط

ص: 333


1- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .
2- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .

أو بكلّ منهما ، لا في تمام مضمونه ، بل في بعضه .

إلاّ أنّ ما ذكره من الاعتبار لعلّه يكون مرجّحاً للثاني على الأوّل .

ويؤيّده ورود الأمر بالجمع بين الحقّين بهذا النحو في رواية السكوني المعمول بها ، في من أودعه رجلٌ درهمين وآخرُ درهماً ، فامتزجا بغير تفريط ، وتلف أحدهما .

-------------------

( أو بكلّ منهما ، لا في تمام مضمونه ، بل في بعضه ) أي : في بعض مضمونه ، فإنّه سواء عملنا بإحدى البيّنتين وطرحنا الأخرى ، أم عملنا ببعض مضمون كل منهما ، فقد خالفنا دليل حجيّة البيّنة ( إلاّ أنّ ما ذكره من الاعتبار ) العرفي في الجمع بين الحقين عند تعارض البيّنتين ، وذلك حسب قاعدة العدل ( لعلّه يكون مرجّحاً للثاني ) أي : للأخذ بكل منهما لافي تمام مضمونه بل في بعض مضمونه ( على الأوّل ) أي : على طرح إحدى البيّنتين والأخذ بالآخرى .

( ويؤيّده ) أي : يؤيد هذا النحو من الجمع بين البيّنتين ( ورود الأمر بالجمع بين الحقيّن بهذا النحو ) المذكور من التنصيف - مثلاً - لقاعدة العدل ( في رواية السكوني (1) المعمول بها ، فيمن أودعه رجلٌ درهمين وآخرُ درهماً ، فامتزجا بغير تفريط ، وتلف أحدهما ) أي : أحد الدراهم الثلاثة ، حيث أنه - بحسب الرواية - يلزم إعطاء صاحب الدرهمين درهماً وتنصيف الدرهم الآخر بينهما ، مع أن الدرهم الآخر إمّا لهذا وإمّا لذاك ، وهكذا حكم الإمام بتنصيف الناقة التي تداعاها اثنان ، وكان لكل منهما بيّنة ، وإلى غير ذلك من الموارد الواردة في الفقه حسب مقتضى قاعدة العدل .

ص: 334


1- - تهذيب الاحكام : ج7 ص181 ب22 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص37 ب2 ح3278 .

هذا ، ولكنّ الانصاف : إنّ الأصل في موارد تعارض البيّنات وشبهها هي القرعة .

نعم ، يبقى الكلام في كون القرعة مرجّحة للبيّنة المطابقة لها أو مرجعاً بعد تساقط البيّنتين .

-------------------

( هذا ) هو غاية ما يمكن أن يقال في الجمع بين الحقين عند تعارض البيّنات وشبه البيّنات ممّا هي في الموضوعات ( ولكنّ الإنصاف ) عند المصنّف ( إنّ الأصل في موارد تعارض البيّنات وشبهها ) أي : شبه البيّنات كتعارض أقوال المقومين - مثلاً - ( هي القرعة ) فيقرع بينهما ويُعطى الكل لمن خرجت القرعة باسمه ، وذلك لما ورد من قوله عليه السلام : « القرعة لكلّ أمر مشكل » (1) لكن قد عرفت : أن قاعدة العدل هي التي وردت بها روايات متعدّدة ، وقد عمل بها الفقهاء في غير مورد من الفقه ، وهي مقدَّمة على قاعدة القرعة - وذلك على ما تقدّم - فلا تصل النوبة إلى قاعدة القرعة خصوصاً وقد قالوا : « إنّ القرعة تحتاج إلى العمل والالّزم تأسيس فقه جديد » .

( نعم ، يبقى الكلام في كون القرعة مرجّحة للبيّنة المطابقة لها ) يعني : إذا كانت هنالك بيّنتان متعارضتان وأقرعنا ، فخرجت القرعة مطابقة لأحداهما ، فهل تكون القرعة مرجّحة : ( أو مرجعاً بعد تساقط البيّنتين ) بالتعارض وعدّهما كأن لم يكن عندنا بيّنة أصلاً ؟ فإنّ هناك من يقول : بأنّ القرعة مرجح هنا لاستفادة الملاك في الترجيح بكل مرجّح عقلائي من النصوص ، وعدم التوقف على المرجحات المنصوصة ، وهناك من يقول : بأنّ القرعة لا تصلح مرجّحاً ، لأن اُفق القرعة

ص: 335


1- - تهذيب الاحكام : ج9 ص258 ب4 ح13 ، فتح الابواب : ص292 ، غوالي اللئالي : ج2 ص112 و ص285 وج3 ص512 ، بحار الانوار : ج91 ص234 ب2 ح7 .

وكذا الكلام في عموم موارد القرعة أو اختصاصها بما لايكون هناك أصل عملي ، كأصالة الطهارة مع إحدى البيّنتين .

وللكلام موردٌ آخر ، فلنرجع إلى ما كنّا فيه ، فنقول : حيث تبيّن عدمُ تقدّم الجمع على الترجيح ولا على التخيير

-------------------

غير اُفق البيّنة ، فإنّ البيّنة أمارة ظنّية والقرعة أمر تعبّدي ، فلا يصلح أحدهما أن يكون مرجّحاً للآخر ، كما تقدّم في مثل الأصل والأمارة حيث قلنا : أنه لايمكن أن يكون أحدهما مرجّحاً للآخر .

( وكذا ) أي : يبقى أيضاً ( الكلام في عموم موارد القرعة ) أي : هل أنها عامة لكل مورد حتى فيما كان هناك أصل عملي أم لا ؟ كما قال : ( أواختصاصها بما لايكون هناك أصل عملي ، كأصالة الطهارة مع إحدى البيّنتين ) فإذا قامت بيّنتان على طهارة شئونجاسته - مثلاً - فإنّ الأصل العملي هنا على الطهارة ، فلا يكون معه مجال للقرعة ، لأن الشارع عيّن كونه ظاهراً ، فليس بمشكل حتى يدخل في عموم : « القرعة لكل أمر مشكل » (1) .

هذا ( وللكلام ) في خصوصيّات القرعة ( موردٌ آخر ) من الفقه ..، وأما الآن هنا ( فلنرجع إلى ما كنّا فيه ، فنقول : حيث تبيّن عدم تقدّم الجمع ) في أدلة الأحكام بين المتعارضين عدا ما يراه العرف من الجمع بين النص والظاهر ، والظاهر والأظهر ، فالجمع غير مقدّم إذن ( على الترجيح ) فيما إذا كان هناك لأحد الخبرين مرجّح ( ولا على التخيير ) فيما إذا تشابه الخبران ولم يكن هناك لأحدهما مرجّح على الآخر ، ممّا يكون حاصله : إنّه لا مجال للجمع إطلاقاً ، لأنّه إذا كان ترجيح ،

ص: 336


1- - تهذيب الاحكام : ج9 ص258 ب4 ح13 ، فتح الابواب : ص292 ، غوالي اللئالي : ج2 ص112 و ص285 وج3 ص512 ، بحار الانوار : ج91 ص234 ب2 ح7 .

فلا بدّ من الكلام في المقامين ، اللذين ذكرنا أنّ الكلام في أحكام التعارض يقع فيهما ، فنقول :

المقام الأوّل : في المتكافئين

والكلامُ فيه :

أوّلاً : في أنّ الأصل في المتكافئين التساقطُ وفرضُهما كأن لم يكونا أوّلاً ، ثمّ الّلازمُ - بعد عدم التساقط - الاحتياطُ

-------------------

فالعمل على المرجّح ، وإذا لم يكن ترجيح ، فالعمل على التخيير ومعه ( فلا بدّ من الكلام في المقامين ، اللذين ذكرنا أنّ الكلام في أحكام التعارض يقع فيهما ، فنقول ) في بيانهما مايلي :

( المقام الأوّل في المتكافئين ) من الأخبار وسائر الأدلة ( والكلام فيه ) يكون على النحو التالي :

( أوّلاً : في أنّ الأصل ) الأوّلي ( في المتكافئين ) ما هو ؟ هل هو ( التساقط وفرضُهما كأن لم يكونا ) وذلك لأنّ دليل الحجيّة لايشمل المتعارضين ، سواء كان الأصل موافقاً لأحدهما ، أم مخالفاً لهما ( أوّلاً ) بأن لم يكن الأصل الاّولي فيهما هو التساقط ؟ ( ثمّ ) أنّه على عدم التساقط ماهو اللازم تجاههما ؟ هل ( الّلازم - بعد عدم التساقط - ) إن قلنا به هو ( الاحتياط ) وذلك من جهة أدلة الاحتياط ، والتي منها : « أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت » (1) وما أشبه ذلك ؟ .

ص: 337


1- - الامالي للطوسي : ص110 ح168 ، الامالي للمفيد : ص283 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

أو التخييرُ ، أو التوقّفُ ، والرجوعُ إلى الأصل المطابق لأحدهما دون المخالف لهما ، لأنّه معنى تساقطهما ، فنقول وباللّه المستعان .

قد يقال ، بل قيل :

-------------------

( أوالتخيير ) لأن أدلة الحجيّة تشمل كلا المتعارضين ، وحيث لايمكن العمل بهماً معاً ، فلا بد من العلم بأحدهما ، أخذاً بالقدر الممكن ، فيكون ما نحن فيه من قبيل الغريقين الذين لا نتمكن من انقاذهما معاً ؟ .

( أو التوقّف ) كما عليه المصنّف ، ومعنى التوقف هو : تساقط المتعارضين بالنسبة الى خصوص مؤدّاهما ، وإمّا بالنسبة إلى نفي الثالث فهما حجّة ، وذلك كما إذا دلّ أحدهما على وجوب صلاة الجمعة ، والآخر على حرمة صلاة الجمعة ، فإنهما يتساقطان من حيث الوجوب والحرمة ، ويثبتان من حيث نفي كون صلاة الجمعة مستحبة - مثلاً - فإذا قلنا بالتوقف كالمصنّف ، فالتوقف ( والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما ) فيما إذا كان هناك أصل مطابق لأحدهما ( دون المخالف لهما ، لأنّه ) أي : الرجوع إلى الأصل المخالف هو ( معنى تساقطهما ) ؟ .

وعلى هذا : فالفرق بين التساقط والتوقّف هو : أن التساقط عبارة عن فرض الدليلين كأن لم يكونا ، فيرجع إلى الأصل سواء وافق أحدهما أوخالفهما ، وذلك لأنّ الأصل هو المرجع حيث لم يكن دليل ، والمفروض : أنه بالتساقط لم يبق في المقام دليل بينما التوقف عبارة عن تساقط الدليلين بالنسبة الى خصوص مؤدّاهما ، لا بالنسبة الى نفي الثالث ، فيرجع الى الأصل إن كان هناك أصل يوافق أحدهما ، وإلاّ فالى التخيير بين الاحتمالين .

إذا عرفت ذلك ( فنقول وباللّه المستعان : قد يقال ) أي : يمكن لقائل أن يقول ، ثم أضرب المصنّف عنه وقال : ( بل قيل ) أي : أنه ليس مجرّد احتمال

ص: 338

إنّ الأصلَ في المتعارضين عدمُ حجيّة أحدهما ، لأنّ دليل الحجيّة مختصّ بغير صورة التعارض .

أمّا إذا كان إجماعاً ، فلاختصاصه بغير المتعارضين وليس فيه عموم أو إطلاق لفظيّ يفيد العموم .

وأمّا إذا كان لفظاً ، فلعدم إمكان إرادة المتعارضين

-------------------

القول ، بل هناك بعض من قال : ( إنّ الأصل ) الأوّلي مع غض النظر عن ملاحظة أخبار العلاج ( في المتعارضين ) هو : ( عدم حجيّة أحدهما ) فاللازم إسقاطهما وفرضهما كأن لم يكونا أصلاً : وذلك ( لأنّ دليل الحجيّة مختص بغير صورة التعارض ) وأما صورة التعارض فلا يشملها أخبار الحجيّة ، فإذا قال المولى لعبده - مثلاً - إسأل أهل الخبرة عن طريق كربلاء ، فاختلفت أقوالهم ، فقال أحدهم : إنها باتجاه الشمال ، وقال ثانٍ : إنها باتجاه الجنوب ، لم يشمل دليل الرجوع الى أهل الخبرة قول هذين بل يتساقطان .

وإنّما يختص دليل الحجية بغير صورة التعارض ، لأنّ الدليل إما لفظي أولبّي ، وكلاهما لايشملان صورة التعارض ، أما اللبّي فلعدم وجود المقتضي ، وأما اللفظي فلوجود المانع كما قال ( أمّا إذا كان ) دليل الحجية ( إجماعاً ، فلاختصاصه بغير المتعارضين ) لأنّ المتيقن من الاجماع هو مالم يكن هناك تعارض في البين ، فإنّ الاجماع دليل لبّي ( و ) لا مقتضى له لشمول المتعارضين ، إذ ( ليس فيه عموم أو إطلاق لفظيّ يفيد العموم ) بحيث يشمل المتعارضين أيضاً .

هذا ، إذا كان دليل الحجيّة إجماعاً ( وأمّا إذا كان ) دليل الحجية ( لفظاً ) كآية النبأ وآية الأذن ، وغيرهما من الآيات والأخبار ( فلعدم إمكان إرادة المتعارضين

ص: 339

من عموم ذلك اللفظ ، لأنّه يدلّ على وجوب العمل عيناً بكلّ خبر - مثلاً - .

ولاريب أنّ وجوب العمل عيناً بكلّ من المتعارضين ممتنع ، والعملُ بكلّ منهما تخييراً فلا يدلّ الكلام عليه ، إذ لا يجوز إرادةُ الوجوب العيني بالنسبة إلى غير المتعارضين ، والتخييري بالنسبة إلى المتعارضين من لفظ واحد .

-------------------

من عموم ذلك اللفظ ) لوجود المانع ، وقد بيّن المصنّف المانع بقوله : ( لأنّه يدلّ على وجوب العمل عيناً بكلّ خبر - مثلاً - ) فإن ظاهر قوله : « صدِّق العادل » هو : أنه يجب العمل بعين كلّما أخبر به العادل : أي حتى وإن كانا متعارضين ، لكن المتعارضين بأنفسهما ممتنعان عن العمل بهما عيناً ، كما قال : ( ولاريب أنّ وجوب العمل عيناً بكلّ من المتعارضين ممتنع ) فلا يمكن إرادته لاستحالة الجمع بينهما ، سواء كانا نقيضين أم ضدّين .

إن قلت : في المتعارضين يكون العمل بكل منهما تخييراً كما أن في غير المتعارضين يكون العمل عيناً .

قلت : ( والعمل بكلّ منهما تخييراً ) بأن ينصبّ الوجوب على المصداق مخيّراً ( فلا يدّل الكلام عليه ) لأن ظاهر : « صدّق العادل » ليس ذلك ، إضافة إلى أنه مستلزم لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى كما قال : ( إذ لايجوز إرادة الوجوب العيني بالنسبة إلى غير المتعارضين ، والتخييري بالنسبة الى المتعارضين من لفظ واحد ) فإنّه إذا قال المولى : أكرم زيداً وعمرواً ، فلا يمكن أن يقال : أن المولى: يريد إكرامهما مع الامكان ، والتخيير بين إكرام هذا أو ذاك مع عدم إمكان الجمع ، لأنّه يكون من إستعمال اللفظ في معنيين ، وذلك : إما محال كما قاله بعض ، أو محتاج إلى قرينة - ولا قرينة - كما قاله بعض آخر .

ص: 340

وأمّا العمل بأحدهما الكلّي عيناً ، فليس من أفراد العامّ ، لأنّ أفراده هي المشخّصات الخارجيّة ، وليس الواحدُ على البدل فرداً آخر ، بل هو عنوان منتزع منها غير محكوم عليه بحكم نفس المشخّصات

-------------------

( و ) إن قلت : إنّا لانقول بأن معنى « صدّق العادل » هو : اعمل بالخبر الواحد عيناً مع الوحدة ، وبأحدهما تخييراً مع التعارض ، حتى يستلزم إستعمال اللفظ في أكثر من معنى ، بل نقول بأنّ معنى « صدّق العادل » هو : اعمل بالواحد الكلي ، فحيث كان واحد نعلم أنّه هو فنعمل به علناً ، وحيث كان اثنان متعارضان فنعمل بكل منهما تخييراً عقلياً بينهما .

قلت : ( أمّا العمل بأحدهما الكليّ عيناً ) يعني : بأن ينصبّ الوجوب العيني في « صدّق العادل » على المفهوم المردّد وحيث أن المفهوم المردّد ذهني لا خارج له ، فلا يكون فرداً للعام ، كما قال ( فليس من أفراد العامّ ) وذلك ( لأنّ أفراده ) أي : أفراد العام ( هي المشخّصات الخارجيّة ) التي رويت في كتب الروايات ، فإنّ هذه الأخبار المتشخّصة هي المشمولة لصدّق العادل .

إن قلت : أعني بالمفهوم المردّد : الواحد على البدل ، فينطبق هذا الكلي : « المفهوم المردّد » على أحد المتعارضين في الجملة .

قلت : ( وليس الواحد على البدل فرداً آخر ) متشخّصاً في الخارج في عداد سائر الأفراد المتشخّصة خارجاً : حتى يكون « صدّق العادل » يشمل ألف فرد ممّا ذكر في الكتب الأربعة - مثلاً - وفرداً آخر فوق ذلك الألف ، وهو : الواحد على البدل ، فإنّه ليس كذلك ( بل هو ) أي : الواحد على البدل ( عنوان منتزع منها ) أي : من تلك الأفراد الخارجية التي وقع التعارض بينها ، وذلك العنوان الانتزاعي ( غير محكوم عليه بحكم نفس المشخّصات ) الخارجية المتمّثلة بالأخبار الواردة

ص: 341

بعد الحكم بوجوب العمل بها عيناً .

هذا ، لكن ما ذكره - من الفرق بين الاجماع والدليل اللفظي - لامحصّلَ ولا ثمرةَ له في ما نحن فيه ،

-------------------

في الكتب الأربعة وغيرها ( بعد الحكم بوجوب العمل بها ) أي : بتلك الأفراد المتشخّصة في الخارج ( عيناً ) ففي كل مورد ثبت الحكم لنفس الأخبار المتشخِّصة في الخارج عيناً ، لا يثبت للمفهوم المردّد ، بمعنى : الواحد على البدل المنتزع من تلك الأفراد الخارجيّة تخييراً ، لوضوح : تغاير الوجوب العيني والتخييري ، وحينئذ فدليل الحجية شامل للمتشخّصات العينيّة ، ولايشمل الخبرين المتعارضين على نحو التشخّص البدلي .

( هذا ) هو غاية ما هنا من تقريب عدم شمول دليل الحجيّة للخبرين المتعارضين ؛ فإنه لايشملهما أدلة الحجيّة مطلقاً ، لا الاجماع لأنّه لبّي ولا مقتضي له ، ولا الأدلة اللفظية لأنّ شمول الأدلة اللفظية للمتعارضين يستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو مانع من شمولها لهما .

( لكن ما ذكره ) القائل هنا ( من الفرق بين الاجماع والدليل اللفظي لا محصّل ) له ( ولاثمرة له فيما نحن فيه ) فإنّ ما نحن فيه هو : القول بعدم شمول دليل حجية الخبر صورة التعارض سواء كان دليل الحجية إجماعاً أم لفظاً ، فإنّه لايشملهما .

وإنّما لم يكن الفرق بين الدليل اللبّي ، وبين الدليل اللفظي فارقاً هنا ، لأن الدليل اللبّي إنّما يُحمل على القدر المتيقن إذا لم يكن دليل على أن هذا الدليل اللبّي يشمل كل الأفراد ، بل كان الدليل اللبّي مجملاً له فرد معلوم وله فرد مشكوك ، فالدليل اللبّي حينئذ يشمل الفرد المعلوم ولايشمل الفرد المشكوك ، بينهما

ص: 342

لأنّ المفروض : قيام الاجماع على أنّ كّلاً منهما واجب العمل ، لولا المانع الشرعي ، وهو وجوب العمل بالآخر ، إذ لا نعني بالمتعارضين إلاّ ما كان كذلك .

وأمّا ماكان وجود أحدهما مانعاً عن وجوب العمل بالآخر ، فهو خارجٌ عن موضوع التعارض ، لأنّ الأمارة الممنوعة لا وجوبَ للعمل بها ، والأمارة المانعة إنّ كانت واجبة العمل تعيّن العملُ بها لسلامته عن معارضة

-------------------

الاجماع على حجية الخبر هنا ليس من هذا القبيل ، وذلك لأنّ المجمعين أرادوا حتى صورة تعارض الخبرين أيضاً .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف حيث قال ( لأنّ المفروض : قيام الاجماع على أنّ كلاً منهما ) أي : من الخبرين المتعارضين ( واجب العمل ، لولا المانع الشرعي وهو ) أي : المانع الشرعي ( وجوب العمل بالآخر ، إذ ) إن المجمعين قد أجمعوا على حجيّة كل خبر جامع للشرائط حتى المتعارضين ، غير أن المكلّف لايتمكّن من العمل بهما معاً ، لعدم قدرته على الجمع بينهما ، فهو غير قادر على أن يعمل في وقت واحد بوجوب الجمعة وبحرمة الجمعة - مثلاً - ونحن ( لانعني بالمتعارضين إلاّ ما كان كذلك ) أي : كان كل منهما مشمولاً لدليل الحجيّة ، وإنّما لايمكن العمل بهما معاً من حيث عجز المكلّف عن ذلك .

( وأمّا ما كان وجود أحدهما مانعاً عن وجوب العمل بالآخر ) كالدليل الحاكم والمحكوم حيث لا وجود الملاك في الدليل الممنوع ( فهو خارجٌ عن موضوع التعارض ) وذلك ( لأنّ الأمارة الممنوعة ) مثل : البناء على الاكثر عند الشك في الصلاة ( لا وجوب للعمل بها ، والأمارة المانعة ) مثل : لاشك لكثير الشك ( إن كانت واجبة العمل ) عليها كما في المثال ( تعيّن العمل بها لسلامته عن معارضة

ص: 343

الاُخرى ، فهي بوجودها تمنع وجوب العمل بتلك ، وتلك لا تمنع وجوب العمل بهذه ، لا بوجودها ولا بوجوبها فافهم .

والغرضُ من هذا التطويل حسمُ مادّة الشبهة التي توهّمها بعضُهُم ،

-------------------

الاُخرى ، فهي ) أي : الأمارة المانعة ( بوجودها تمنع وجوب العمل بتلك ) الأمارة الممنوعة ( وتلك ) الأمارة الممنوعة ( لا تمنع وجوب العمل بهذه ) الأمارة المانعة ( لا بوجودها ) الخارجي ( ولا بوجوبها ) الشرعي .

والحاصل : إنّ التعارض فرع شمول دليل الحجية ، فكيف تقولون : إنّ الاجماع لايشمل المتعارضين ، بمعنى : عدم حجيّة أحدهما ؟ فإنّ الاجماع إذا لم يشمل المتعارضين لايكونان متعارضين ، وبانتفاء الموضوع ينتفي الحكم ، نعم إذا كان بين الخبرين حاكم ومحكوم ، أووارد ومورد ، كان الحجّة في الحاكم والوارد فقط ، وهذا ليس من باب التعارض في شئ، كما أنّه لا يرتبط بكون الاجماع دليلاً لبياً ، حتى يقال : أنّ الدليل اللبي له قدر متيقن ، وقول المصنّف : « لا بوجودها » يعني : حتى يكون حاكماً أووارداً ، وقوله : « ولا بوجوبها » يعني : حتى يكون معارضاً .

( فافهم ) ولعله إشارة إلى أنّ الخبرين المتعارضين الذين هما حجّة في نفسهما لولا جهة المعارضة لا يكونان مشمولين لدليل الاجماع ، لأنّ الاجماع دليل لبّي ، فلا يَشمل الدليلين المتعارضين وذلك لأنّ للدليل اللبّي قدر متيقن ؛ والقدر المتيقن من الاجماع هنا هو الخبر الذي ليس له معارض ، كما أنهما لايكونان مشمولين للأدلة اللفظية أيضاً للزوم استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، ومعه فيعود المحذور ، ولذلك أمر المصنّف بالتفهّم .

( و ) كيف كان : فإنّ ( الغرض من هذا التطويل ) في دفع الاشكال الذي ذكره الفارق بين الاجماع والدليل اللفظي هو : ( حسم مادّة الشبهة التي توهّمها بعضُهم ،

ص: 344

من أنّ القدر المتيقّن من أدلّة الأمارات التي ليس لها عموم لفظي هو حجيّتها مع الخلوّ عن المعارض ، وحيث اتّضح عدمُ الفرق في المقام بين كون أدلّة الأمارات من العمومات ، أو من قبيل الاجماع .

فنقول : إنّ الحكمَ بوجوب الأخذ بأحد المتعارضين في الجملة وعدم تساقطهما ، ليس لأجل شمول العموم الفظي لأحدهما على البدل من حيث هذا المفهوم المنتزع ،

-------------------

من ) قولهم ( أنّ القدر المتيقّن من أدلّة الأمارات ) تلك الأدلة ( التي ليس لها عموم لفظي ) كالإجماع - مثلاً - ( هو : حجيتّها ) أي : حجيّة الأمارات من الخبر والبينة وغير ذلك ( مع الخلوّ عن المعارض ) وأما إذا كان لها معارض فلا يشملها دليل الاجماع ، فإنّ هذا التوهم وهو : أنّ الاجماع لايشمل الأخبار المتعارضة ، وإنّما يشمل الأخبار التي لا معارض لها توهم باطل .

هذا ( وحيث اتضّح عدم الفرق في المقام ) أي : مقام التعارض ( بين كون أدلّة الأمارات من العمومات ، أو من قبيل الاجماع ) وذلك لما ذكرناه : من أن الاجماع أيضاً كالدليل اللفظي يعمّ المتعارضين .

( فنقول : أن ) مقتضى القاعدة شمول الاجماع والأدلة اللفظية لكلا المتعارضين ، غير أنّ المكلّف حيث لا يتمكن من العمل بهما يكون مخيراً عقلاً في أن يعمل بهذا أوبذاك ، فإنّ ( الحكم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضين في الجملة ) أي : من باب التخيير ، أوالتوقف والرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما ( وعدم تساقطهما ) رأساً بالتعارض إنّما هو لعدم قدرة المكلّف بامتثالهما معاً ، فالأخذ بأحدهما في الجملة إذن ( ليس لأجل شمول العموم اللفظي لأحدهما على البدل من حيث هذا المفهوم ) الذهني ( المنتزع ) وهو الواحد على البدل فإنّه

ص: 345

لأنّ ذلك غير ممكن ، كما تقدّم وجهه في بيان الشبهة .

لكن ، لمّا كان امتثالُ التكليف بالعمل بكلّ واحد منهما كسائر التكاليف الشرعيّة والعرفيّة مشروطاً بالقدرة ، والمفروض أنّ كّلاً منهما مقدور في حال ترك الآخر وغير مقدور مع إيجاد الآخر ، فكلّ منهما مع ترك الآخر مقدور ، يحرم تركه ويتعيّن فعله ، ومع إيجاد الآخر يجوز تركه ولا يعاقب عليه .

-------------------

ليس لأجل ذلك ( لأنّ ذلك غير ممكن ، كما تقدّم وجهه في بيان الشبهة ) حيث قال المصنّف هناك : بأنّ التكليف متعلق بالأفراد الخارجية ، لا الذهنية .

إذن : فالدليل اللبّي ، كالدليل اللفظي شامل لكلا المتعارضين ( لكن ، لمّا كان امتثال التكليف بالعمل بكلّ واحد منهما كسائر التكاليف الشرعيّة والعرفيّة ) الفردية مثل : التكليف بوجوب صلاة الظهر ، والتكليف بحرمة شرب الخمر - مثلاً - ( مشروطاً بالقدرة ) لأن غير المقدور لايعقل التكليف به ( والمفروض : أنّ كلاً منهما ) ذوملاك ، وهو ( مقدور في حال ترك الآخر ) لأنّ القدرة تتعلق بواحد واحد على سبيل البدل ( وغير مقدور مع إيجاد الآخر ) لانهما لايجتمعان ، فلا يقدر المكلّف في وقت واحد بأن يكون فاعلاً لصلاة الجمعة وتاركاً لها فيما إذا كان خبران متعارضان يدل أحدهما على وجوب الجمعة والآخر على حرمتها .

وعليه : فلّما كان امتثال كل واحد من المتعارضين مشروطاً بالقدرة ( فكلّ منهما مع ترك الآخر مقدور ) وإذا كان مقدوراً ، فإنّه ( يحرم تركه ويتعيّن فعله ، ومع ايجاد الآخر يجوز تركه ولايعاقب عليه ) فيكون حال المقام مثل حال : أنقذ الغريق ، حيث أنه إذا كان غير قان ولم يستطع انقاذهما معاً ، فإنه إذا أنقذ أحدهما كان مطيعاً وكان تركه للآخر غير معاقب عليه ، أمّا إذا تركهما عوقب على

ص: 346

فوجوبُ الأخذ بأحدهما نتيجةُ أدلّة وجوب الامتثال ، والعمل بكلّ منهما بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة ، وهذا ممّا يحكم به بديهةُ العقل ، كما في كلّ واجبين اجتمعا على المكلّف ، ولا مانع من تعيين كلّ منهما على المكلّف بمقتضى دليله إلاّ تعيّن الآخر عليه كذلك .

-------------------

ترك المقدور .

إذن : ( فوجوب الأخذ بأحدهما ) أي : بأحد المتعارضين تخييراً ، لم يكن نتيجة لمجرّد دليل حجيّة الخبر لفظاً كان أم لبّاً ، لأنّ الدليل يدل على وجوب العمل بكل خبر عيناً لاتخييراً ، وذلك على ما عرفت بل هو ( نتيجة أدلّة وجوب الامتثال ، و) كذلك نتيجة أدلة وجوب ( العمل بكلّ منهما ) لكن ( بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة ) فاللفظ إذن لم يستعمل في أكثر من معنى : بل لأنّه حيث كان في كل من المتعارضين ملاك ، ولم يتمكن المكلّف من امتثالهما يرى العقل وجوب إمتثال أحدهما تخييراً ، وذلك كما قال ( وهذا ممّا يحكم به بديهة العقل ، كما في كلّ واجبين ) متزاحمين كأنقاذ غريقين ( اجتمعا على المكلّف ) وكان المكلّف لا يتمكن إلاّ من أحدهما .

إن قلت : كيف يحكم العقل بوجوب الأخذ بأحدهما تخييراً ، مع أن دليل حجيّة الخبر دل على تعيين كل منهما ؟ .

قلت : ( ولامانع من تعيين كلّ منهما على المكلّف بمقتضى دليله إلاّ ) عجز المكلّف عن جمعهما ، المانع من ( تعيّن الآخر عليه كذلك ) أي : بمقتضى دليله ، فإنّ كل منهما واجب على المكلّف بدليل حجيّته ومتعيّن عليه الاتيان به ، غير أنّ عجز المكلّف عن جمعهما والاتيان بهما معاً يمنع من تعيّن الآخر عليه ، وحيث يمنع العجز من الجمع بينهما يحكم العقل بوجوب الاتيان بأحدهما تخييراً .

ص: 347

والسرُّ في ذلك : إنّا لو حكمنا بسقوط كليهما مع إمكان أحدهما على البدل ، لم يكن وجوبُ كلٍّ منهما ثابتاً بمجرّد الامكان ، ولزم كون وجوب كلّ منهما مشروطاً بعدم انضمامه مع الآخر ، وهذا خلاف ما فرضنا من عدم تقييد كلّ منهما في مقام الامتثال بأزيد من الامكان ،

-------------------

( والسرُّ في ذلك ) الذي ذكرناه : من حكم العقل بوجوب الأخذ بأحدهما تخييراً هو : ( إنّا لو حكمنا بسقوط كليهما ) معاً ، وذلك ( مع إمكان أحدهما على البدل ) لأنّ المفروض : أن المكلّف قادر على أن يأخذ بأحدهما ، وإنّما عاجز عن الأخذ بكليهما ( لم يكن وجوب كلٍّ منهما ثابتاً بمجرّد الامكان ، و) وجود المقتضي ، بل ( لزم كون وجوب كلٍّ منهما مشروطاً بعدم انضمامه مع الآخر ، وهذا خلاف ما فرضنا : من ) السببية ووجود الملاك في كليهما المنتج : ( عدم تقييد كل منهما في مقام الامتثال ) والفعلية ( بأزيد من الامكان ) والقدرة على الاتيان بأحدهما .

هذا ، وقول المصنّف : « في مقام الامتثال » أراد به مقابل مقام الجعل ، حيث أنه لاتعارض في مقام الجعل ، فإنّ المولى يتمكن أن يقول : أنقذ الغريقين ، وإنّما الامتثال لايمكن لعجز المكلّف ، حتى أنه لو فرض بعدم عجزه وجب إنقاذ كليهما لتمامية الملاك فيهما ، فإنّ المولى قد يقول : أنقذ الغريق ، ومعنى ذلك مع الامكان ، فإذا كان غريقان وأمكنه إنقاذ أحدهما على البدل وجب ، وقد يقول ، أنقذ الغريق بعينه ، وهذا ليس معناه مع الامكان ، فإذا كان غريقان ولم يمكنه انقاذ غريق بعينه ، بل أمكنه إنقاذ غريق على البدل فلا يجب ، وظاهر : « صدّق العادل » هو الأوّل ، ولذا يجب في المتعارضين العمل بأحدهما على البدل ، لا الثاني حيث يسقط العمل فيه رأساً بسبب التعارض .

ص: 348

سواء كان وجوبُ كلّ منهما بأمر أو كان بأمر واحد يشمل واجبين ، وليس التخييرُ في القسم الأوّل لاستعمال الأمر في التخيير .

والحاصل : أنّه إذا أمر الشارع بشئواحد استقلّ العقل بوجوب إطاعته في ذلك الأمر ، بشرط عدم المانع العقلي والشرعي ، وإذا أمر بشيئين

-------------------

وعليه : فوجوب كل منهما مطلق ، لا أنه مشروط بعدم انضمامه مع الآخر ، وذلك ( سواء كان وجوب كل منهما بأمرٍ ) مستقل يعني بأن يكون هناك أمران أمر بهذا وأمر بذلك ، كما إذا قال : « فِ بدَينك » و« حُجّ » وكان الوقت ضيّقاً ( أوكان بأمر واحد يشمل واجبين ) كما إذا قال : « صدّق العادل » وكان هناك خبران متعاقبان وقال : أنقذ الغريق وكان هناك غريقان متزامنان ، وقال : أطعم الجائع وكان هناك جائعان ، أوما أشبه ذلك .

( و) من المعلوم : أنه ( ليس التخيير ) كائناً ( في القسم الأوّل ) وهو الذي كان لكل من الواجبين أمر مستقل ، وذلك ( لإستعمال الأمر في التخيير ) مع انّه ليس معنى الأمر هو التخيير ، وإنّما التخيير هو نتيجة وجوب الامتثال لكل منهما مقيّداً بالامكان ، فإذا أمكنه جمعهما بأن يفي دَينه ، ويحجّ ، وجب ، وإن لم يتمكن إلاّ من أحدهما وجب أحدهما عليه ، وكذلك في القسم الثاني ، فانّ « صدّق العادل » ليس معناه التخيير بين الخبرين المتنافيين ، وإنّما التخيير هو نتيجة إمكان الامتثال فحيث لايتمكن المكلّف من الجمع بينهما يتخيير .

( والحاصل : أنّه إذا أمر الشارع بشئواحد ) مثل :« فِ بدَينك » ( استقلّ العقل بوجوب إطاعته في ذلك الأمر ، بشرط عدم المانع العقلي ) كالعجز عنه ( والشرعي ) كالحيض في الصلاة ( وإذا أمر بشيئين ) وكان كلّ منهما بأمر مستقل كما في مثال : « فِ بدَينك » و« حجّ » أوكانا بأمر وأحد ، كما في « صدّق العادل »

ص: 349

واتفق امتناع إيجادهما في الخارج ، استقلّ العقل بوجوب إطاعته في أحدهما لابعينه ، لأنّها ممكنة ، فيقبح تركها .

لكن هذا كلّه على تقدير أن يكون العمل بالخبر من باب السببيّة .

بأن يكون قيامُ الخبر على وجوب شيء واقعاً سبباً شرعيّاً لوجوبه ظاهراً على المكلّف ،

-------------------

وقد جاء العادل بخبرين متنافيين ، وانقذ الغريق وكان هناك غريقان متزامنان ( واتفق امتناع إيجادهما في الخارج ) لضيق الوقت - مثلاً - كما في وفاء الدَين وأداء الحج أولعجز المكلّف كما في الغريقين وتعارض الخبرين ، ( استقلّ العقل بوجوب إطاعته في أحدهما لابعينه ) أي : يكون المكلّف مخيراً بين أن يأتي بهذا الفرد أوبذلك الفرد .

وإنّما يستقل العقل بالاطاعة التخييرية هنا ( لأنّها ) أي : الاطاعة التخييرية هنا بالنسبة الى أحد الفردين ( ممكنة ، فيقبح تركها ) أي : ترك هذه الاطاعة ويكون موجباً للعقاب .

( لكن هذا كلّه ) الذي ذكرناه : من وجوب العمل بأحدهما على سبيل البدل ( على تقدير أن يكون العمل بالخبر من باب السببيّة ) أي : الموضوعية ، فإنّ الخبر علّة للاطاعة ، سواء كان مؤدّاه مطابقاً للواقع أولم يكن مطابقاً للواقع ، وعلى التقديرين فإنّه أريد منا تطبيق العمل مع الخبر - لما في ذلك من المصلحة - فإنّ طابق مؤدّى الخبر الواقع فهو ، وإن لم يطابقه كان حكماً ظاهرياً في حقنا ، وذلك كما قال : ( بأن يكون قيام الخبر على وجوب شئ) - مثلاً - أوعلى حرمته ، أوما أشبه ذلك ( واقعاً ) لأن الخبر يحكي عن الواقع ، فيكون قيامه عليه ( سبباً شرعيّاً لوجوبه ظاهراً على المكلّف ) فيجب عليه أن يأتي به .

ص: 350

فيصير المتعارضان من قبيل السببين المتزاحمين ، فيلغى أحدُهما ، مع وجود وصف السببّية فيه لإعمال الآخر ، كما في كلّ واجبين متزاحمين .

أمّا لو جعلناه من باب الطريقيّة ، كما هو ظاهر أدلّة حجيّة الأخبار ،

-------------------

وعليه : ( فيصير ) الخبران ( المتعارضان من قبيل السببين المتزاحمين ) أي : من قبيل أنقذ زيداً الغريق وأنقذ عمرواً الغريق ، حيث أنّ في إنقاذ كل منهما مصلحة تامة ، غير أن المكلّف لايقدر على انقاذهما معاً ( فيُلغى أحدهما ، مع وجود وصف السببيّة فيه ) أي : في الملغى : فإنّه إنّما يلغى مع ذلك ( لإعمال الآخر ) فإنّ إلغاء أحدهما إنّما هو لأنّ المكلّف عاجز عن إمتثال كليهما ، وليس لأنّ الملاك غير موجود في أحدهما ، وذلك ( كما في كلّ واجبين متزاحمين ) مثل إطعام الجائعين الذين يشرفان على الموت ولم يكن عندنا طعام الاّ ما يكفي أحدهما ، ومثل أنقاذ الغريقين الذين يشرفان على الهلاك ولم نستطيع الاّ انقاذ أحدهما .

( أمّا لو جعلناه ) أي : جعلنا قضية العمل بالخبر ( من باب الطريقيّة ) وذلك على أن يكون الملحوظ في حجية الخبر مصلحة الواقع ، فالخبر طريق الى الواقع ، والشارع انّما يريد الخبر لانّه موصل الى الواقع ، فلا مصلحة في الخبر بنفسه ( كما هو ) أي : حجية الخبر من باب الطريقية لاالسببية ( ظاهر أدلّة حجيّة الأخبار ) حيث قال سبحانه : « ان جائكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة » (1) فالمعيار : اصابة القوم وعدم اصابتهم ، لاكون المعيار الخبر بما هو خبر ، وكذلك بالنسبة الى الروايات مثل قوله عليه السلام « لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك

ص: 351


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

بل غيرها من الأمارات ، بمعنى أن الشارع لاحظ الواقع وأمر بالتوصّل إليه من هذا الطريق ، لغلبة ايصاله إلى الواقع .

فالمتعارضان لا يصيران من قبيل الواجبين المتزاحمين ، للعلم بعدم إرادة الشارع سلوك الطريقين معاً ، لأنّ أحدهما مخالف للواقع قطعاً .

-------------------

فيما يرويه عنا ثقاتنا ، لانهم علموا انّا نفاوضهم أمرنا » (1) حيث ان ظاهر التعليل هو : ان وجوب الأخذ بالخبر لانّه طريق الى أمرهم عليهم السلام ، اضافة الى ما ورد في أخبار العلاج من الاصدقية والأوثقية والأعدلية وما أشبه ذلك .

( بل غيرها ) أي : غير الاخبار ( من الأمارات ) الظنية الاخرى الواردة في الشريعة مثل : اعتبار العدد والعدالة في باب الشاهد وما أشبه ذلك ، ممّا يدل على ان الشاهد بما هو هو ليس بحجة ، وانّما هو حجّة من باب الطريقية والوصول الى الواقع ( بمعنى : أنّ الشارع لاحظ الواقع وأمر بالتوصّل اليه من هذا الطريق ) أي : من طريق الخبر ، أوطريق الشهادة - مثلاً - فانّه انّما أمر الشارع بهذا الطريق ( لغلبة ايصاله الى الواقع ) ممّا يوجب حصول الظنّ النوعي بمطابقتها للواقع .

وعليه : ( فالمتعارضان ) على الطريقية « لا السببية » ( لا يصيران من قبيل الواجبين المتزاحمين ) أي : لا يصير الخبران المتعارضان بناءاً على الطريقية كالمتزاحمين مثل الغريقين واطعام الجائعين ، وذلك ( للعلم بعدم إرادة الشارع سلوك الطريقين معاً ) .

وانّما نعلم بأن الشارع لايريد سلوك كلا الطريقين ( لأنّ أحدهما مخالف للواقع قطعاً ) ومن المعلوم : ان الشارع لايريد الوصول الى خلاف الواقع

ص: 352


1- - رجال الكشي : ص536 ، وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 وج27 ص150 ب11 ح33455 ، بحار الانوار : ج5 ص318 ب4 ح15 .

فلا يكونان طريقين إلى الواقع ولو فرض محالاً إمكانُ العمل بهما ، كما يعلم إرادتُهُ لكلّ من المتزاحمين في نفسه على تقدير إمكان الجمع .

مثلاً : لو فرضنا أنّ الشارع لاحظ كون الخبر غالب الايصال إلى الواقع ، فأمر بالعمل به في جميع الموارد ،

-------------------

( فلا يكونان طريقين الى الواقع ) معاً ، وانّما أحدهما فقط طريق الى الواقع ، فيكونان من قبيل الطريق من النجف الاشرف الى كربلاء المقدسة - مثلاً - عند اختلاف قول الخبراء فيها ، بأن قال بعضهم أنها باتجاه الشمال ، وقال الآخر : أنها باتجاه الجنوب ، ومن الواضح انّه ليس كلاهما طريقاً الى الواقع لتضادهما ، والمتضادّان لايوصلان الى شئواحد .

هذا ( ولو فرض محالاً إمكان العمل بهما ) معاً ، فانّه لامقتضي في كليهما بناءاً على الطريقية ، بخلاف المتزاحمين ، فانّ المقتضي في كل منهما موجود وانّما لايتمكن المكلّف من امتثالهما ، وذلك ( كما يعلم إرادته ) أي : ارادة الشارع ( لكلّ من المتزاحمين في نفسه على تقدير إمكان الجمع ) بينهما ، فإنه لو فرض محالاً إمكان امتثالهما معاً ، فإنّه بناءاً على السببية لايرضى الشارع بأحدهما ، بل يريد إمتثال كل منهما بعينه ، فيجب المتزاحمات كلاهما لبقاء الملاك فيهما ، غير أنه يسقط أحدهما لعجز المكلّف ، بينما على الطريقية ينتفي الملاك عنهما ، فلا يجب امتثالهما حتى وإن تمكن المكلّف - فرضاً محالاً - من امتثالهما معاً .

( مثلاً : لو فرضنا أنّ الشارع لاحظ كون الخبر ) الجامع لشرائط الحجيّة ( غالب الايصال الى الواقع ) كما هو كذلك عند كافة العقلاء ، حيث أنهم يوصلون أوامرهم إلى التابعين لهم عن طريق الخبر ، وعندما لاحظ الشارع أن الخبر كذلك ( فأمر بالعمل به في جميع الموارد ) الموصلة للواقع وغير الموصلة للواقع فإنّه إنّما أمر

ص: 353

لعدم المائز بين الفرد الموصل منه وغيره .

فإذا تعارض خبران جامعان لشرائط الحجيّة لم يعقل بقاء تلك المصلحة في كلّ منهما بحيث لو أمكن الجمع بينهما ، أراد الشارع إدراك المصلحتين .

-------------------

الشارع بالعمل بالخبر في جميع الموارد الموصلة وغير الموصلة ( لعدم المائز بين الفرد الموصل منه ) أي : من الخبر ( وغيره ) أي : غير الموصل من الخبر ، وحيث أنه لامائز بين الفردين ، ولا طريق للوصول إلى الواقع أغلب أصابة من الخبر ، أمر الشارع بالعمل به في جميع الموارد .

وعليه : ( فإذا تعارض خبران جامعان لشرائط الحجيّة ) من العدالة والضبط ونحوهما ( لم يعقل بقاء تلك المصلحة ) وهي : مصلحة الايصال إلى الواقع ( في كلّ منهما ) لوضوح : أن أحدهما مخالف للواقع ، ومعلوم أن الواقع لايكون متضاداً ولامتناقضاً ، مع أن الخبرين المتعارضين متضادان أومتناقضان ، ومعه لايعقل بقاء المصلحة في كليهما ( بحيث لو أمكن ) فرضاً محالاً ( الجمع بينهما ، أراد الشارع إدراك المصلحتين ) فإنّ الشارع حتى على فرض امكان الجمع ، لايريد الجمع بناءاً على الطريقية . وذلك لأنّه ليست هذا مصلحتان ، وإنّما مصلحة واحدة اشتُبهت بين هذا الخبر وذاك الخبر .

والحاصل : إنّه بناءاً على أنّ العمل بالخبر من باب الطريقية لأدراك مصلحة الواقع ، لم تكن المصلحة موجودة في كلا الخبرين المتعارضين ، حتى تكون النتيجة : إنّه اذا لم يمكن العمل بهما فليعمل بأحدهما من باب القدر الممكن ، بل يكون الخبران المتعارضان على الطريقية من قبيل الطريق من النجف الأشرف إلى كربلاء المقدسة حيث كان هناك خبيران وقد اختلفا فقال أحدهما : أنها بطرف

ص: 354

بل وجود تلك المصلحة في كلّ منهما بخصوصه مقيّدٌ بعدم معارضته بمثله ، ومن هنا يتّجه الحكمُ حينئذٍ بالتوقف .

لا بمعنى أنّ أحدهما المعيّن واقعاً طريقٌ ولا نعلمه بعينه ،

-------------------

الشمال ، وقال الآخر : أنها بطرف الجنوب ، فإنّه لامصلحة في الطريقين ، ولا يتمكن المكلّف من العمل بهما ولا بأحدهما .

( بل وجود تلك المصلحة ) التي هي عبارة عن مصلحة الايصال إلى الواقع ( في كلّ منهما بخصوصه مقيّدٌ بعدم معارضته بمثله ) فإذا كان الخبر معارضاً بخبر مثله ، انتفت تلك المصلحة الموجودة في كل من الخبرين بالتعارض ، ممّا يكشف عن أن حجيّة الخبر - بناءاً على الطريقية - مشروط بعد القدرة على الامتثال ، بعدم معارضته الخبر بمثله ، فإذا تعارض بمثله لم يتمكن أن يعمل لا بهذا ولا بذلك ، كما قال ( ومن هنا يتّجه الحكم حينئذٍ ) أي : حين يتعارض الخبر بخبر مثله ( بالتوقف ) في المتعارضين ،وقد تقدّم الفرق بين التوقف والتساقط ، فليراجع .

وعليه : فقد اتضح أنه بناءاً على الطريقية لايُعقل بقاء مصلحة الايصال إلى الواقع في كل من المتعارضين وعدم بقائها في كل منهما ( لابمعنى أنّ أحدهما المعيّن ) عند اللّه ( واقعاً طريقٌ ولا نعلمه بعينه ) وحيث لا نعلمه بعينه فنأخذ بأحدهما تخييراً ، فإنّه ليس بهذا المعنى ، لأنّه ليس في الطريقين المتعارضين ملاك الطريقية حتى ولو طابق الواقع أحدهما ، وذلك لأنّ العرف لايرى الطريق المتعارض طريقاً ، فقول الخبير بالطرق الذي يقول : بأنّ طريق كربلاء المقدسة من النجف الأشرف باتجاه الشمال ، ليس بطريق ، كما أن قول الخبير الآخر المعارض له الذي يقول : بأن الطريق باتجاه الجنوب ليس بطريق أيضاً .

ص: 355

كما لو اشتبه خبر صحيح بين خبرين ، بل بمعنى : أنّ شيئاً منهما ليس طريقاً في مؤدّاه بخصوصه .

ومقتضاه

-------------------

إذن : فليس تعارض الخبرين ( كما لو اشتبه خبر صحيح بين خبرين ) حيث أن أحدهما طريق لكن لانعلمه نحن ، فيكون من باب اشتباه الحجة باللاحجة ، وذلك كما إذا كان خبر زيد بن بكر حجّة ، وخبر زيد بن خالد ليس بحجّة ، وجاءنا منهم خبران : أحدهما من هذا والآخر من ذاك ، لكنّا لم نعلم أنّ أيّ الخبرين من زيد بن بكر وأيّهما من زيد بن خالد ؟ فهو من اشتباه الحجّة باللاحجّة ، واللازم حينئذ الاحتياط لو تمكنّ المكلّف من جمعهما ، وإلاّ اختار أحدهما ، بينما في تعارض الطريقين كلاهما يسقطان عن الطريقية ، إذ بناء العقلاء على عدم طريقية شئمن المتعارضين ، وقد قرّر الشارع هذه الطريقة العقلائية وأمضاها .

وعليه : فعدم بقاء مصلحة الايصال في كل من المتعارضين لم يكن بمعنى أن أحدهما المعيّن واقعاً طريق ولا نعلمه نحن بعينه ( بل بمعنى : أنّ شيئاً منهما ليس طريقاً في مؤدّاه بخصوصه ) فإنّ كل واحد منهما لايؤخذ بمؤدّاه بالنسبة إلى المعنى المطابقي له ، وأما بالنسبة إلى معناهما الالتزامي وهو : نفي الثالث ، فملاك حجيتهما باق بحاله ، فيكونان دليلاً على عدم الثالث ، وذلك كما إذا دلّ أحد الخبرين على وجوب الجمعة ، والآخر على حرمة الجمعة ، فإنّه لايمكن العمل بهذا ولا بذاك في الوجوب أوفي الحرمة ، وإنّما يمكن العمل بهما في نفي الثالث الذي هو الاستحباب - مثلاً - .

إذن : فلو كان معنى انتفاء المصلحة في كل من المتعارضين هو عدم طريقية شئمنهما ، كان اللازم التوقف فيهما ( ومقتضاه ) أي : مقتضى التوقف فيهما

ص: 356

الرجوع إلى الاُصول العمليّة إن لم يرجّح بالأصل المطابق له ، وإن قلنا بأنّه مرجّح خرج عن مورد الكلام ، أعني : التكافؤ ، فلابدّ من فرض الكلام فيما لم يكن أصلٌ مع أحدهما ، فيتساقطان من حيث جواز العمل بكلّ منهما ، لعدم كونهما طريقين ،

-------------------

هو ( الرجوع إلى الأصول العمليّة ) فان طابق الأصل العملي أحدهما أخذ به وإن خالفهما أخذ بالتخيير ، فإذا ورد - مثلاً - خبران أحدهما على حرمة العصير العنبي إذا غلى ولم يذهب ثلثاه بسبب النار ، بل ذهب ثلثاه بسبب الهواء ، والآخر على كراهته ، عُمل بأصل البرائة الموافق للكراهة ، وأمّا إذا ورد خبران أحدهما على وجوب الجمعة ، والآخر على تحريمها ، فلا أصل عملي بالنسبة إلى أحدهما ، فاللازم الرجوع إلى التخيير .

هذا كله ( إن لم يرجّح بالأصل المطابق له ) أي : لأحد المتعارضين فيما إذا كان أحدهما مطابقاً للأصل ، والآخر مخالفاً له ( وإن قلنا بأنّه ) أي : بأنّ الأصل العملي المطابق لأحدهما ( مرجّح ) لأحد المتعارضين ( خرج عن مورد الكلام أعني : التكافؤ ) لأنّه لاتكافؤ حينئذٍ ، بل يؤخذ بما رجّح بواسطة الأصل العملي ، كما في مثال : العصير الذي ذهب ثلثاه بسبب الهواء .

إذن : ( فلابدّ من فرض الكلام فيما لم يكن أصلٌ مع أحدهما ) أوكان أصل مطابق لأحدهما لكن لم نقل بالترجيح به ، فإذا لم نقل بالترجيح بالأصل الموافق ، أو فرضنا أنه لا أصل يوافق أحدهما ( فيتساقطان من حيث ) مدلولهما المطابقي ، لامن حيث الحجية ، فإنّه قد ثبت بدليل حجيّة الأمارات ومنها الخبر ( جواز العمل بكلّ منهما ) أي : بكل من المتعارضين في نفسهما لولا تعارضهما .

وإنّما يتساقطان في مدلولهما المطابقي ( لعدم كونهما طريقين ) موصلين

ص: 357

كما أنّ التخيير مرجعة إلى التساقط من حيث وجوب العمل .

هذا ما تقتضيه القاعدة

-------------------

إلى الواقع ، وذلك على ما عرفت .

والحاصل : أنّه على تقدير كون الأصل مرجّحاً ، لا يتصور التكافؤ ، بين المتعارضين فيما لو وافق الأصل أحدهما ، لأنّ هذا يدخل في باب الترجيح ، فيلزم أن يؤخذ فيه بموافق الأصل ويترك المخالف للأصل ، وأما على تقدير أنه لايصلح الأصل مرجّحا ، بل مرجعاً بعد التساقط ، فإنه يحصل التكافؤ ، بين المتعارضين ويلزم التوقف ، سواء في مثال غسل الجمعة حيث دلّ دليل على وجوبه ودليل على استحبابه ، أم في مثال الظهر والجمعة ، حيث دلّ دليل على وجوب هذا ودليل على وجوب ذاك ، ففي مثال غسل الجمعة يكون المرجع البرائة ، وفي مثال الجمعة والظهر يكون المرجع التخيير .

( كما أنّ التخيير ) على ما ذكرنا : من أنه مقتضى القاعدة بناءاً على سببية الخبر لا على طريقيّته ( مرجعة إلى التساقط ) لا من حيث وجوب العمل بأحدهما على البدل ، لأنّه معنى التخيير ، وإنّما ( من حيث وجوب العمل ) بكل منهما متعيّناً ، إذ لا يتعيّن العمل بهذا ولا بذاك سواء وافق أحدهما الأصل أم لا ومعه فيعمل بأحدهما تخييراً كما في باب التزاحم غير أن في باب التزاحم إذا كان أحدهما أهم يؤخذ بالأهم ويترك المهم ، فيكون حاله حال الغريقين فيما إذا كان انقاذ أحدهما أهم من انقاذ الآخر ، لكن يجب أن تكون الأهمية بحيث تمنع عن النقيض ، لا الأهمية الاستحبابية على ما ذكر في محله .

( هذا ) كالذي ذكرناه من التساقط على القول بأنّ الخبرين حجة من باب الطريقية لا الموضوعية والسببية إنّما هو ( ما تقتضيه القاعدة ) والأصل الأوّلي

ص: 358

في مقتضى وجوب العمل بالأخبار من حيث الطريقيّة ، إلاّ أنّ الأخبار المستفيضة - بل المتواترة - قد دلّت على عدم التساقط مع فقد المرجّح .

وحينئذٍ : فهل يُحكمُ بالتخيير أو العمل بما طابق منهما الاحتياط ، أو بالاحتياط ، ولو كان مخالفاً لهما ،

-------------------

( في مقتضى وجوب العمل بالأخبار من حيث الطريقيّة ) وذلك على ما عرفت : من أنّ بناء العقلاء في أنّ الطريقين المتعارضين يتساقطان ، لا أنه يؤخذ بأحدهما .

وعليه : فالأصل الأوّلي - بناءا على الطريقية - وبغض النظر عن الأخبار هو التساقط في المتعارضين ( إلاّ أنّ الأخبار المستفيضة - بل المتواترة - قد دلّت على عدم التساقط مع فقد المرجّح ) .

( وحينئذ ) أي : حين بنينا على عدم التساقط ما يكون الحكم في المتعارضين ، فإنّه يتصور فيهما وجوه .

أولاً : ( فهل يُحكَم بالتخيير ) فيهما على ما هو مقتضى الأخبار العلاجية ؟ فيكون التخيير بين المتعارضين تخييراً شرعياً ، لأنّ الشارع هو الذي خيّرنا بينهما بقول : « إذن فتخير » (1) .

ثانياً : ( أوالعمل بما طابق منهما الاحتياط ) فيكون الاحتياط مرجّحاً ، وذلك فيما إذا كان أحد الخبرين المتعارضين مطابقاً للإحتياط ، كمثال غسل الجمعة ، حيث دلّ أحد الخبرين على الوجوب والآخر على الاستحباب ، فيؤخذ بالوجوب لأنّه يطابق الاحتياط .

ثالثاً : ( أو بالاحتياط ، ولو كان مخالفاً لهما ) أي : للخبرين المتعارضين ، فيكون

ص: 359


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

كالجمع بين الظهر والجمعة مع تصادم أدلّتهما ، وكذا بين القصر والاتمام ؟ وجوهٌ :

المشهور وهو الذي عليه جمهور المجتهدين الأوّل للأخبار المستفيضة، بل المتواترة الدالّة عليه ولا يعارضها عدا ما في مرفوعة زرارة الآتية ، المحكيّة عن غوالي اللئالي ، الدالّة على الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة .

-------------------

الاحتياط مرجعاً ، وذلك فيما يمكن الاحتياط فيه ، فيؤخذ بالاحتياط وإن لم يكن أحدهما موافقاً للاحتياط والآخر مخالفاً للاحتياط ( كالجمع بين الظهر والجمعة مع تصادم أدلّتهما ) حيث يدل أحد الدليلين على وجوب الظهر ، ويدل الدليل الآخر على وجوب الجمعة ، فاللازم على المكلّف أن يحتاط بالاتيان بهما ( وكذا ) الجمع ( بين القصر والاتمام ) بالنسبة إلى المسافر الذي يريد الرجوع في أثناء العشرة ، وقد سافر أربعة فراسخ ولم يعلم هل أنه يقصّر أو يتم ؟ فإنّه يحتاط بالجمع بينهما .

هذا مع إمكان الاحتياط والجمع بينهما ، وامّا مع عدم إمكان الاحتياط والجمع بينهما ، مثل : دوران الجمعة بين الوجوب والحرمة ، فالمرجع فيهما أخبار التخيير .

هذه ( وجوهٌ ) ثلاثة لكن ( المشهور وهو الذي عليه جمهور المجتهدين الأوّل ) وهو التخيير ، وذلك ( للأخبار المستفيضة ، بل المتواترة الدالّة عليه ) أي : على التخيير في صورة فقد المرجّح .

إن قلت : هناك من الأخبار ما يعارضها ، ومع التعارض كيف نستند اليها ؟ .

قلت : ( ولا يعارضها عدا ما في مرفوعة زرارة الآتية ، المحكيّة عن غوالي اللئالي ، الدالّة على الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة ) وهو العمل بما طابق منهما

ص: 360

وقد طَعَنَ في ذلك التأليف وفي مؤلفه المحدّثُ البحرانيّ قدس سره في مقدّمات

الحدائق .

وأمّا أخبارُ التوقف الدالّة على الوجه الثالث

-------------------

الاحتياط ، وذلك على أن يكون الاحتياط مرجّحاً ، فإنه جاء في المرفوعة المذكورة : « فقلت : أنهما معاً عدلان مرضيّان موثّقان ، فقال : انظر ما وافق منهما العامة فاتركهُ وخُذ بما خالف ، فإنّ الحق فيما خالفهم ، قلت : ربّما كانا موافقين لهم أومخالفين فكيف اصنع ؟ قال : إذن فخُذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر ، قلت : فانهما معاً موافقان للاحتياط أومخالفان له ، فكيف أصنع ؟ فقال : إذن فتخييّر أحدهما فتأخذ به ودع الآخر » .

( و ) لكن لا تصلح هذه الموفوعة لمعارضة أخبار التخيير ، وذلك لأنهما إذ لم يُذكر السند فيها الى زرارة ، كما هو دأب غوالي اللئالي ( قد طعن في ذلك التأليف ) أي : في كتاب الغوالي ( وفي مؤلفه ) وهو ابن ابي جمهور الاحسائي صاحب الحدائق : ( المحدّث البحراني قدس سره في مقدّمات الحدائق ) ونسبه فيها الى التساهل في نقل الأخبار ، لكن لايخفى : إن ابن أبي جمهور هو من كبار علمائنا ، غير أن رواياته لعدم ذكر السند لاتصلح مستنداً وإنّما تصلح مؤيّداً ، وقد جمع كتابه هذا من كتب معتبرة لعدّة من أعاظم العلماء ، كما لايخفى على من راجع أحوال الكتاب ومؤلّفه ، فطعن الحدايق إذن محل تأمل .

إن قلت : سلّمنا عدم معارضة مرفوعة زرارة الأخبار التخيير ، فما تقول في أخبار التوقف المستلزمة للاحتياط وهو الوجه الثالث ؟ .

قلت : ( وأمّا أخبار التوقف الدالّة على الوجه الثالث ) وهو الاحتياط ، فإنّها

ص: 361

من حيث إنّ التوقف في الفتوى يستلزم الاحتياط في العمل ، كما في مالا نصّ فيه ، فهي محمولةٌ على صورة التمكّن من الوصول إلى الإمام عليه السلام كما يظهر من بعضها .

فيظهر : إنّ المراد ترك العمل وإرجاءُ الواقعة إلى لقاء الإمام عليه السلام ، لا العملُ فيها بالاحتياط .

-------------------

إنّما تكون دالة على الاحتياط ( من حيث أنّ التوقف في الفتوى يستلزم الاحتياط في العمل ، كما في ما لانصّ فيه ) بناءاً على القول بالتوقف فيه ، فإنه إذا وصل الأمرّ إلى التوقف عن الافتاء في حكم من الأحكام ، فلا بدّ من الالتجاء الى الاحتياط في العمل ، لوضوح : أن كل واحد من الأحكام التكليفية حتى وجوب الاحتياط موقوف على الحكم والافتاء وإلاّ كان تشريعاً ، إلاّ العمل بالاحتياط فإنّه غير محتاج الى الافتاء .

وعليه : ( فهي ) أي : أخبار التوقف ( محمولةٌ على صورة التمكّن من الوصول الى الإمام عليه السلام ، كما يظهر من بعضها ) أي : بعض تلك الأخبار حيث جاء فيها : « أرجه حتى تلقى إمامك » (1) ( فيظهر : إنّ المراد ) من التوقف في هذه الأخبار ليس هو التوقف عن الفتوى المستلزم للاحتياط عملاً بل هو ( ترك العمل ) بالخبرين المتعارضين ( وإرجاء الواقعة ) أي تأخيرها ( إلى لقاء الإمام عليه السلام ) .

إذن : فالمراد بالتوقف في الواقعة التي تعارض فيها الخبران هو ترك العمل فيها بالخبرين ( لا العمل فيها بالاحتياط ) علماً بأنّه يجب أن يقيّد ذلك بما إذا كان الارجاء الى لقاء الإمام غير مفوّت للواقعة ، وإلاّ لم يمكن الارجاء ، وحينئذٍ

ص: 362


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

ثمّ إنّ حكمَ الشارع في تلك الأخبار بالتخيير في تكافؤ الخبرين ، لايدلُّ على كون حجيّة الأخبار من باب السببيّة .

وإلاّ وجب التوقف ، لقوّة احتمال أن يكون التخييرُ حكماً ظاهريّاً عمليّاً في مورد التوقف ، لاحكماً واقعيّاً ناشئاً من تزاحم الواجبين ،

-------------------

فالإرجاء لايكون إلاّ في زمان حضور الإمام عليه السلام ، كما أنه لايكون إلاّ فيما أمكن تأخير الواقعة ، وذلك بأن كان الأمر في دَين أوميراث أوما أشبههما ، ممّا يمكن تأخيره حتى يلقى الإمام عليه السلام ويأخذ منه الجواب ، وأمّا إذا كان في ميّت لايعرف هل يُيمّم أويُغسّل - مثلاً - ممّا لايمكن تأخيره حيث أن تأخيره يوجب فساده ، فالمرجع على المشهور هو : التخيير ، وعلى غير المشهور هو : الاحتياط أوالرجوع إلى أحدهما مطابقاً للأصل - مثلاً - .

( ثمّ إنّ حكم الشارع في تلك الأخبار ) العلاجية التي تأمر ( بالتخيير في تكافؤ الخبرين ، لايدلُّ على كون حجيّة الأخبار من باب السببيّة ) والموضوعية حتى يقال : أنّ من يقول بالتخيير يرى السببية ، ومن يقول بالتوقف يرى الطريقية ( وإلاّ ) أي : وإن لم يكن حجيّتها من باب السببية ، بل الطريقية ( وجب التوقف ) فإنّ حكم الأخبار بالتخيير هنا إنّما لايدّل على ذلك لما يلي :

أوّلاً : ( لقوّة احتمال أن يكون التخيير ) هنا بعد فقد المرجّحات ( حكماً ظاهريّاً عمليّاً ) أي : من حيث العمل ، وذلك ( في مورد التوقف ) بالنسبة إلى الحكم الواقعي ( لاحكماً واقعيّاً ناشئاً من تزاحم الواجبين ) فليس حال الخبرين المتعارضين حال الغريقين ، بل حال الطريقين حيث يقول أحد الخبراء : أنّ طريق كربلاء ذات اليمين ، ويقول الآخر : أنها ذات الشمال ، وحيث كان هذا الانسان الذي يريد السفر الى كربلاء متحيّراً اُمر بالأخذ بعد فقد المرجّحات بأحد

ص: 363

بل الأخبار المشتملة على الترجيحات وتعليلاتها أصدقُ شاهد على ما استظهرناه : من كون حجيّة الأخبار من باب الطريقيّة ، بل هو أمر واضح .

ومرادُ من جعلها من باب الأسباب عدمُ إناطتها

-------------------

الطريقين تخييراً حتى لايبقى متحيِّراً ، بينما على السببية يلزم الحكم بالتخيير ابتداءاً ، لا بعد فقد المرجّحات .

ثانياً : ( بل الأخبار المشتملة على الترجيحات وتعليلاتها ) أي : تعليلات تلك الترجيحات ( أصدقُ شاهد على ما استظهرناه : من كون حجيّة الأخبار من باب الطريقيّة ، بل هو أمر واضح ) لأنّ الإمام عليه السلام علّل الترجيح في تلك الأخبار بما يدل على كونه طريقاً ، مثل « فإنّ المُجمَعَ عليه لاريب فيه » (1) ومثل : « ما خالف العامة ففيه الرشد » (2) ومثل : « فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فذروه » (3) .

ومن الواضح : أن مخالف الكتاب ليس طريقاً الى الواقع ، ومثل : « وما لم يكن في الكتاب فاعرضوهما على سنن رسول اللّه » (4) الى غير ذلك ممّا يدّل على الطريقية .

هذا ( ومراد من جعلها ) أي : جعل الحجيّة ( من باب الأسباب ) ليس هو السببية المصطلحة التي هي مقابل الطريقية ، بل مراده من ذلك : ( عدم إناطتها )

ص: 364


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
3- - وسائل الشيعة : ج27 ص118 ب9 ح33362 ، بحار الانوار : ج2 ص235 ب29 ح20 .
4- - عيون أخبار الرضا : ج2 ص21 ح45 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج27 ص115 ب9 ح33354 .

بالظنّ الشخصي ، كما يظهر من صاحب المعالم رحمه اللّه في تقرير دليل الانسداد .

ثمّ المحكيّ عن جماعة ، بل قيل : إنّه ممّا لا خلاف فيه ، أنّ التعادلّ إن وقع للمجتهد كان مخيّراً في عمل نفسه ، وإن وقع للمفتي لأجل الافتاء فحكمه أن يخيّر المستفتي فيتخيّر في العمل كالمفتي .

-------------------

أي : إناطة الحجيّة ( بالظنّ الشخصي ، كما يظهر ) اناطتها بالظن الشخصي ( من صاحب المعالم رحمه اللّه في تقرير دليل الانسداد ) وذلك على ما تقدّم نقله عنه ، فإنّ اعتبار الأمارات إن كان منوطاً بالظن الشخصي يعني : بأن يحصل للمكلّف منها ظناً شخصياً بالواقع ، فهو مناسب للطريقية المحضة ، ولذا لم يعمل بها اذا لم تفد وظن الشخصية بينما إذا كان منوطاً بالظن النوعي احتمل الأمران : السببية والطريقية ، ولذا يعمل بها وإن لم تفد الظن الشخصي .

( ثمّ ) أنّه ينبغي التنبيه على أمور مهمة في المقام ، وهي كالتالي :

الأمر الأوّل : هل التخيير يسري إلى المقلّد ام وظيفة المجتهد فقط ؟ ( المحكيّ عن جماعة ) منهم العلامة رحمه اللّه ( بل قيل : إنّه ممّا لا خلاف فيه : إنّ التعادل إن وقع للمجتهد ) في استنباطه بأن لم يكن في نظره مرجّح لهذا الطرف ولا لذاك الطرف ( كان مخيّراً في عمل نفسه ) وذلك بأن يعمل بمضمون هذا الخبر ، أومضمون ذلك الخبر .

( وأن وقع ) التعادل ( للمفتي لأجل الافتاء ) وبيان حكم الواقعة التي جاء فيها خبران متعارضان بالنسبة إلى مقلديه ، وأنهم كيف يعملون فيها ؟ ( فحكمه : أن يخيّر المستفتي ) في المسئلة ( فيتخيّر ) المقلّد ( في العمل كالمفتي ) فكما أن المجتهد يتخيّر في أن يعمل بما دلّ على وجوب الظهر أوأن يعمل بما دلّ

ص: 365

ووجهُ الأوّل واضح ، وأمّا وجهُ الثاني ، فلأنّ نصبَ الشارع للأمارات وطريقيّتها يشمل المجتهد والمقلّد ، إلاّ أنّ المقلّد عاجز عن القيام بشروط العمل بالأدلّة من حيث تشخيص مقتضاها ودفع موانعها .

فإذا أثبت ذلك المجتهد جوازَ العمل لكلّ من الخبرين المتكافئين المشترك بين المقلّد والمجتهد ، تخيّر المقلّدُ كالمجتهد .

-------------------

على وجوب الجمعة ، فكذلك المستفتي يتخيّر في أن يعمل بأيّهما شاء .

( ووجه الأوّل ) وهو تخيّر المجتهد في عمل نفسه ، فإنّه ( واضح ) وذلك لأنّ المجتهد عندما يتعارض عنده الخبران في مسئلة يصير فيها متحيِّراً بينهما ، وقد تقدّم أن الأخبار العلاجية تدل على أن التخيير إنّما هو للشخص المتحيّر الذي لم يقم عنده ترجيح في أحد الخبرين على الآخر .

( وأمّا وجه الثاني ) وهو تخيّر المقلّد فلما يلي :

أولا ً ( فلأنّ نصب الشارع للأمارات وطريقيّتها يشمل المجتهد والمقلّد ) معاً ، فكما أن المجتهد يكون مخيّراً فكذلك المقلّد يكون مخيراً أيضاً ( إلاّ أن المقلّد عاجز عن القيام بشروط العمل بالأدلّة من حيث تشخيص مقتضاها ) ومعرفة أنه ماذا يراد من هذا الحديث ، وماذا يراد من الحديث الآخر ، وأن السند صحيح أم لا، وأنه صدر تقية أو غير تقية ؟ ( ودفع موانعها ) من الوارد والحاكم والمخصص وغير ذلك من موانع الأدلة ( فإذا أثبت ذلك المجتهد ) و « ذلك » اشارة الى المجتهد المتحيّر الذي حكم بالتخيير لنفسه ( جواز العمل لكلّ من الخبرين المتكافئين المشترك بين المقلِّد والمجتهد ) فإن الأحكام لا فرق فيها بين المجتهد والمقلِّد ( تخيّر المقلّد ) في العمل بأي الخبرين أيضاً ( كالمجتهد ) لاشتراك التكليف بينهما .

ص: 366

ولأنّ إيجابَ مضمون أحد الخبرين على المقلّد لم يقم عليه دليل ، فهو تشريعٌ ، ويحتمل أن يكون التخييرُ للمفتي ، فيفتي بما اختار ، لأنّه حكم للمتحيّر ، وهو المجتهد ، ولا يقاسُ هذا بالشكّ الحاصل للمجتهد في بقاء الحكم الشرعي ، مع أنّ حكمه - وهو البناء على الحالة السابقة -

-------------------

ثانياً : ( ولأنّ إيجاب مضمون أحد الخبرين على المقلّد ) وذلك بأن يفتي المجتهد - مثلاً - بوجوب الظهر لمقلّده ، أوبوجوب الجمعة عليه : فيما إذا دلّ خبران : أحدهما على وجوب الظهر ، والآخر على وجوب الجمعة ، فإنّ إيجابه هذا ممّا ( لم يقم عليه دليل ، فهو ) أي : ايجاب مضمون أحد الخبرين على المقلّد بلا دليل ( تشريع ) محرّم بالأدلة الأربعة .

هذا ( و ) لكن ( يحتمل أن يكون التخيير للمفتي ) فقط ، فهو يختار أحد المتعارضين ، فإذا اختار وجوب الظهر - مثلاً - ( فيفتي بما اختار ) لمقلّده ، وذلك ( لأنّه ) أي : التخيير ( حكم للمتحيّر ، وهو ) أي : المتحيّر ( المجتهد ) فقط لا المقلّد ، لأنّ المقلّد لا يعرف التعارض وغير ذلك حتى يتخيّر .

إن قلت : إن التخيير أصل كالاستصحاب ، وكما أن الاستصحاب مشترك بين المجتهد والمقلد ، فكذلك التخيير .

قلت : ( ولا يقاس هذا ) الذي نحن فيه من التخيير في باب الأخبار المتعارضة ( بالشكّ الحاصل للمجتهد في بقاء الحكم الشرعي ) فإنّه إذا شك المجتهد في زوال نجاسة الماء بزوال تغيره من نفسه - مثلاً - يستصحب الحالة السابقة في علمه ، ويفتي بذلك الاستصحاب لمقلّده أيضاً ، وذلك كما قال : ( مع أن حكمه ) أي : حكم الشك ( وهو البناء على الحالة السابقة ) المسمى بالاستصحاب

ص: 367

مشتركٌ بينه وبين المقلّد .

لأنّ الشكّ هناك في نفس الحكم الفرعي المشترك وله حكم مشترك .

والتخيّر هنا في الطريق إلى الحكم ، فعلاجه بالتخيير مختصّ بمن يتصدّى لتعيين الطريق ، كما أنّ العلاج بالترجيح مختصّ به ، فلو فرضنا أنّ راوي أحد الخبرين عند المقلّد أعدل وأوثق من الآخر ، لأنّه أخبر وأعرف به ، مع تساويهما

-------------------

( مشتركٌ بينه وبين المقلّد ) فكذلك يكون التخيير مشتركا بينهما أيضاً .

وإنّما لا يقاس ما نحن فيه بالاستصحاب ( لأنّ الشكّ هناك ) في مورد الاستصحاب ( في نفس الحكم الفرعي المشترك ) بين المجتهد والمقلّد فكما أن المجتهد يشك في زوال نجاسة الماء إذا زال تغيّره من نفسه - مثلاً - فكذلك المقلّد يشك فيه أيضاً ( و ) هذا الشك المشترك بين المجتهد والمقلّد ( له حكم مشترك ) بين المجتهد والمقلّد أيضاً وهو الاستصحاب .

( و ) لكن ( التخيّر هنا ) في باب تعارض الأدلة وأخبار العلاج ليس في نفس الحكم ، بل ( في الطريق إلى الحكم ) وما كان في طريق الحكم - وهو التحيّر - فهو مختص بالمجتهد ( فعلاجه ) أي : علاج التخيّر ( بالتخيير مختصّ بمن يتصدّى لتعيين الطريق ) الذي هو المجتهد أيضاً ، فيختار هو أحدهما ، ويفتي بما اختاره لمقلده ، لا أنه يفتي لمقلده بأنه مخيّر أن يعمل بهذا أوذاك .

( كما أنّ العلاج بالترجيح مختصّ به ) أي : بالمجتهد أيضاً ( فلو فرضنا أنّ راوي أحد الخبرين عند المقلّد أعدل وأوثق من الآخر ، لأنّه ) أي : المقلّد ( أخبر وأعرف به ) من المجتهد ، فلو عرّف المقلّد - مثلاً - بأن زيداً أعدل من عمرووقد روى زيد وعمروحديثين متعارضين عن الأئمة عليهم السلام ( مع تساويهما ) أي :

ص: 368

عند المجتهد ، أو انعكاس الأمر عنده ، فلا عبرةَ بنظر المقلّد .

وكذا لو فرضنا تكافؤ قول اللغويين في معنى لفظ الرواية .

فالعبرة بتخيّر المجتهد ، لا تخيّر المقلّد بين حكم يتفرّع على أحد القولين وآخر يتفرّع على الآخر ،

-------------------

تساوي هذين الراويين ( عند المجتهد ، أوانعكاس الأمر عنده ) بأن يرى المجتهد أن زيداً أعدل من عمرو، مع تساويهما عند المقلّد ( فلا عبرة بنظر المقلّد ) لأنّ المجتهد هو المأمور بالاجتهاد والأخذ بالأوثق والأعدل فيأخذ بالأعدل والأوثق عنده ويُفتي على طبقه ، ويجب على المقلّد إطاعته .

( وكذا لو فرضنا تكافؤ قول اللغويين في معنى لفظ الرواية ) ممّا يورث التخيّر للمجتهد وللمقلّد معاً ، كما لو قال لغوي : بأنّ الغناء هو الصوت المطرب ، وقال لغوي آخر بأنه الصوت المرجّع فيه ( فالعبرة بتخيّر المجتهد ، لا تخيّر المقلّد ) فإنّ المجتهد هو الذي يتخيّر ( بين حكم يتفرّع على أحد القولين ) مثل تفرّع حرمة الصوت المرجّع فيه ، على القول بأنّ الغناء هو الصوت المرجّع فيه ( و ) بين حكم ( آخر يتفرّع على ) القول ( الآخر ) مثل تفرّع حرمة الصوت المطرب على القول بأنّ الغناء هو الصوت المطرب .

وعليه : فإن الافتاء من شأن المجتهد ، وهو الذي يختار أحد القولين ويفتي بحسبه ، فيقول : إنّ الصوت الفلاني حرام ، وأنّ الصوت الفلاني ليس بحرام ، وليس من شأن المقلّد ذلك ، فلا يحّق له أن يتدخل ويقول : إني أرى عدم التساوي - مثلاً - بين قول اللغويين فأرى تقديم ما ذكره « المصباح المنير » على ماذكره صاحب « القاموس » ، وهكذا وحينئذٍ فإنّه حيث كان الأمر منوطاً باجتهاد المجتهد في هذين البابين ، فكذلك يكون الأمر منوطاً باجتهاد المجتهد

ص: 369

والمسألة محتاجةٌ إلى التأمل ، وإن كان وجه المشهور أقوى ، هذا حكم المفتي ، وأمّا الحاكم والقاضي ، فالظاهرُ - كما عن جماعة - أنّه يتخيّر أحدهما فيقضي به .

-------------------

في إختياره أحد الخبرين .

هذا ( و ) لكن ( المسألة محتاجةٌ الى التأمل ، وإن كان وجه المشهور ) هو : إفتاء المجتهد بتخيير المقلد كالتخيير لنفسه ، يكون ( أقوى ) وذلك لأنّ المجتهد نائب عن المقلّد ، فأنّ المقلّد لمّا لم يتمكن من الاستنباط استناب عنه المجتهد ، فرأي المجتهد يكون حجّة على المقلّد ولذا كان المجتهد مخيّراً ، فكذلك يكون المقلّد مخيّراً ، اضافة إلى أن الزام المجتهد ، المقلّد بأحد الخبرين لم يدل عليه دليل ؛ ولايخفى : أنه لايلزم على المقلّد في مورد التخيير أن يطابق المجتهد في العمل ، فإذا اختار المجتهد في عمله التخييري الجمعة تمكن المقلّد أن يختار الظهر ، كما أنه لايلزم أن يكون مورد التخيير ممّا عمل به المجتهد ، فإذا كان مورد التخيير - مثلاً - في مسألة من مسائل الحج ولم يستطع المجتهد للحج حتى يختار في تلك المسئلة ، فإنّه مع ذلك يجوز لكل مقلّد من مقلّديه أن يعمل بأحد طرفي التخيير .

( هذا حكم المفتي ، وأمّا الحاكم والقاضي ) علماً بأنهما من قبيل ما إذا افترقا اجتمعا ، وإذا اجتمعا افترقا ، ولعل الفرق بينهما إذا اجتمعا كما فيما نحن فيه هو : أن الحاكم مَن يحكم البلاد ، كمالك الأشتر في زمان الإمام علي عليه السلام فلا يطلق عليه القاضي ، بينما القاضي مَن كان يفصل بين المترافعين كشريح مثلاً في زمانه عليه السلام فلا يطلق عليه الحاكم إلاّ بنحو من التوسع .

وكيف كان :(فالظاهر - كما عن جماعة - ) من الفقهاء ( أنّه يتخيّر أحدهما ) أي : أحد الخبرين ( فيقضي به ) لا أنه يقول بالتخيير ، لانّ التخيير لا يرفع الخصومة ،

ص: 370

لأنّ القضاء والحكم عمل له لا لغيره ، فهو المخيّر ، ولما عن بعض : من أنّ تخيّر المتخاصمين لا يرفع معه الخصومة ، ولو حكم على طبق إحدى الأمارتين في واقعة ، فهل له الحكمُ على طبق الاُخرى في واقعة اُخرى ؟ .

-------------------

ولا يحسم المشكلة ، وذلك لما يلي :

أولاً : ( لأنّ القضاء ) بالنسبة الى القاضيبين الناس في الخصومات والمنازعات وما أشبه ذلك ( والحكم ) بالنسبة الى حاكم البلاد فيما إذا رأى مصلحة الأمة في أن يحكم بجهاد الأعداء أوبعدم الجهاد أوما أشبه ذلك ( عمل له ) أي : للحاكم والقاضي ( لا لغيره ) من المتنازعين ، والأمّة ، وحينئذ ( فهو المخيّر ) بين أن يأخذ بهذا الخبر أوبذاك الخبر ، دون غيره .

ثانياً : ( ولما عن بعض ) الفقهاء : ( من أنّ تخيّر المتخاصمين لا يرفع معه الخصومة ) كما أن تخيّر الأمّة في الجهاد ونحوه لايحسم المشكلة ، نعم إذا أمكن رفع الخصومة وحسم المشكلة بالتخيير ، جاز للقاضي والحاكم الأمر به ، فلو تنازع الى القاضي - مثلاً - اثنان وكلّ منهما يدّعي أنّه هو المتولّي للوقف المعيّن ؟ فإنّ له أن يخيّرهما في أن يتولاّه واحد منهما ، أويقول لهما بأن يختارا بينهما تولّي شئون الوقف كل واحد منهما ستة أشهر - مثلاً - أوما أشبه ذلك ( و ) هكذا في بقية المسائل المشابهة ، فانه لامجال هنا للتفصيل أكثر من ذلك .

الأمر الثاني : هل التخيير استمراري أوابتدائي فقط ؟ فإنه ( لو حكم ) المجتهد أوالقاضي أوالحاكم ( على طبق إحدى الأمارتين في واقعة ، فهل له الحكم على طبق ) الأمارة ( الآخرى في واقعة اخرى ) حتى يكون التخيير استمرارياً ، أويكون التخيير ابتدائياً ، فإذا حكم بحكم يجب عليه أن يحكم بمثل ذلك الحكم في الواقعة الثانية والثالثة وهكذا ؟ .

ص: 371

المحكيّ عن العّلامة رحمه اللّه وغيره : الجوازُ ، بل حكي نسبته إلى المحقّقين ، لما عن النهاية من : « أنّه ليس في العقل ما يدّل على خلاف ذلك » .

ولا يستبعد وقوعه ، كما لو تغيّر اجتهاده ، إلاّ أن يدلّ دليل شرعيّ خارج على عدم جوازه ، كما روي أنّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم قال لأبي بكر : « لا تَقضِ فِي الشئالواحدِ بحكمين مُختلفين » .

-------------------

( المحكي عن العلامة رحمه اللّه وغيره : الجواز ، بل حكي نسبته الى المحققين ، لما عن النهاية ) أي : نهاية الاحكام للعلامة وهو كتاب أصولي ( من أنه ليس في العقل ما يدلّ على خلاف ذلك ) وذلك لأنّ المقتضي موجود والمانع مفقود ، أمّا المقتضي : فللتخيير الوارد في الروايات ، وأمّا المانع : فلأنه لا يُتصور مانعاً إذا التزم المكلّف عند كل واقعة بحكم ظاهري ، كما أنه لم يقيّد الإمام عليه السلام التخيير بالابتدائي ، فيكون تخييراً استمرارياً .

هنا ( ولا يستبعد وقوعه ) بأن يكون تخييراً استمرارياً لوجود شبهه في الشريعة ، وذلك ( كما لو تغيّر اجتهاده ) أي : اجتهاد المجتهد ، فإنّه يعمل في الزمان الأوّل باجتهاده الأوّل ، وفي الزمان الثاني باجتهاده الثاني دون أن يقال فيه : أنه يقبح أحد الاجتهادين لأنه يخالف الواقع .

نعم ، (إلاّ أن يدلّ دليل شرعيّ خارج) عن أخبار العلاج - مثلاً - (على عدم جوازه، كما روي أنّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم قال لابي بكر: «لا تقض في الشئالواحد بحكمين مختلفين (1)») فإنّ هذه الرواية على تقدير صحتها سنداً غير وافية الدلالة على ما نحن فيه ، وذلك لأنّ ظاهرها : النهي عن القضاء في قضية واحدة شخصية بحكمين مختلفين ، مثل أن يقول مرة: هند زوجة زيد ، وأخرى : هند ليست

ص: 372


1- - النهاية : مخطوط .

أقول : يشكل الجوازُ لعدم الدليل عليه ، لأنّ دليل التخيير إن كان الأخبار الدالّة عليه ، فالظاهر أنّها مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر ، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى حال المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما .

وأمّا العقلُ الحاكمُ بعدم جواز طرح كليهما ، فهو ساكتٌ من هذه الجهة .

-------------------

زوجة زيد ، أوأن يقول تارة : أنّ هذا الوقف متوليه زيد ، ويقول أخرى أن متولّية عمرو .

( أقول : ) الظاهر : هو ما ذكره المشهور من كون التخيير استمرارياً ، لكن المصنّف رحمه اللّه لم يرتض ذلك ، بل يرى التخيير ابتدائياً ، ولذلك قال : ( يشكل الجوازُ لعدم الدليل عليه ) أي : على جواز التخيير الاستمراري ، وذلك ( لأنّ دليل التخيير إن كان ) هو : ( الأخبار الدالّة عليه ) أي : على التخيير ( فالظاهر أنّها مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر ، فلا إطلاق فيها ) أي : في هذه الأخبار ( بالنسبة الى حال المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما ) ولكن لا يخفى : أنه لو كان الأمر كذلك على ما يقوله المصنّف ، لكان اللازم على الإمام عليه السلام التنبيه عليه ، فعدم التنبيه دليل العدم ، فإنّ كون التخيير هو تكليف المتحيّر ابتداءاً لااستمراراً ، تقييد من غير مقيّد .

هذا إن كان دليل التخيير : الأخبّار ( وأمّا ) إن كان دليل التخيير : ( العقل الحاكمُ

بعدم جواز طرح كليهما ) لأنّ أحدهما مطابق للواقع ( فهو ساكتٌ من هذه الجهة ) أي : من جهة كون التخيير ابتدائياً أوإستمرارياً ، فإنّ العقل بعد إطلاعه على أن الحكم الواقعي ينحصر في هذين الخبرين ، يحكم بأنه لايجوز طرح كليهما ، وأما أنّه يجوز الأخذ بالثاني بعد أخذه بالأول أم لا في واقعة ثانية ، فلا دلالة للعقل عليه .

ص: 373

والأصلُ عدمُ حجيّة الآخر بعد الالتزام بأحدهما ، كما تقرّر في دليل عدم جواز العدول عن فتوى مجتهد إلى مثله .

نعم ، لو كان الحكمُ بالتخيير في المقام من باب تزاحم الواجبين كان الأقوى استمرارَهُ ، لأنّ المقتضي له في السابق موجودٌ بعينه .

بخلاف التخيير الظاهري في تعارض الطريقين ،

-------------------

( و ) إن قلت : إن المكلّف الذي أخذ بأحد الخبرين في الواقعة الاولى ، يشك في جواز أخذه بالآخر في واقعة ثانية ، فيكون أمره دائراً ما بين التعيين والتخيير ، وقد تقدّم : أن الأصل في دوران الأمر بينهما هو التخيير ، فيكون التخيير استمرارياً .

قلت : ( الأصل عدم حجيّة الآخر بعد الالتزام بأحدهما ، كما تقرّر في دليل عدم جواز العدول عن فتوى مجتهد الى مثله ) فانّ المشهور بين الفقهاء المتأخرين هو : عدم جواز استمرار التخيير في العدول من فتوى مجتهد الى مجتهد آخر ، وذلك لأنّهم يقولون بأصالة عدم حجيّة فتوى المجتهد الآخر بعد الأخذ بفتوى المجتهد الأوّل ومثل هذا الدليل جارٍ في المقام أيضاً .

( نعم ، لو كان الحكم بالتخيير في المقام ) أي : في مقام تعارض الخبرين ( من باب ) السببية كما في ( تزاحم الواجبين ) حيث يكون الملاك في كل منهما تاماً ، والتخيير بينهما تخييراً واقعياً ، كما في مورد انقاذ الغريقين ( كان الأقوى استمراره ) أي : استمرار التخيير ، وذلك ، ( لأنّ المقتضي له ) أي : للتخيير وهو تزاحم المصلحتين كان موجوداً ( في السابق ) أي : قبل الأخذ بأحدهما ، وهو الآن ( موجودٌ بعينه ) في اللاحق .

( بخلاف التخيير الظاهري في تعارض الطريقين ) كما فيما نحن فيه ،

ص: 374

فإنّ احتمال تعيين ما التزمه قائم ، بخلاف التخيير الواقعي ، فتأمّل .

واستصحابُ التخيير غيرُ جارٍ ، لأنّ الثابت سابقاً ثبوت الاختيار

-------------------

إذ قد عرفت : أن دليل التخيير هنا إما الأخبار وإما العقل ، وأيّ منهما لايدل على الاستمرار بنظر المصنّف ، إضافة إلى أنه بناءاً على الطريقية لايكون الطريق إلاّ أحدهما ، فإذا التزم أحدهما ( فإنّ احتمال تعيين ما التزمه قائم ) كما أن أصل عدم حجيّة الآخر بعد الأخذ بأحدهما مؤيد لهذا الاحتمال ، فيكون التخيير الظاهري تخييراً ابتدائياً فقط .

وهذا ( بخلاف التخيير الواقعي ) في باب تزاحم المصلحتين كما في إنقاذ الغريقين ، أوفي الخبرين المتعارضين بناءاً على السببية ، حيث يكون لكل منهما ملاك تام ، فلا فرق بين أن يلتزم بأحدهما أوّلاً ، ثم يلتزم بالآخر ثانياً ، إذ لايجري هنا أصل عدم حجيّة الآخر بعد الأخذ بالأوّل ، فإذا غرق زيد وعمرو- مثلاً - فأنقذ زيداً ، ثم غرقا مرة ثانية - فرضاً - كان له أن ينقذ عمرواً ، وذلك لوجود الملاك التام في كل منهما ، ومعه يكون التخيير الواقعي تخييراً استمرارياً أبداً .

( فتأمل ) فإنّه حتى بناءا على الطريقية يمكن القول بالاستمرار أيضاً ، وذلك لأنّ ملاك حكم العقل بالتخيير هو تعارض الطريقين ، وهذا موجود في كل واقعة أوّلاً ، وثانياً ، وثالثاً ، وهكذا ، ممّا يدل على استمرار التخيير حتى على الطريقية ، ولعل هذا هو الأقرب .

( و ) إن قلت : نستصحب التخيير عند الشك في الواقعة الثانية ، وذلك لأنّ التخيير كان سابقاً في الواقعة الاولى متيّقناً ، وعند الشك فيه في الواقعة الثانية نستصحبه .

قلت : ( استصحاب التخيير غيرُ جارٍ ، لأن الثابت سابقاً ثبوت الاختيار

ص: 375

لمن لم يتخيّر ، فإثباتُه لمن اختار والتزم ، إثباتٌ للحكم في غير موضعه الأوّل .

وبعض المعاصرين استجود هنا كلام العلامة ، مع أنّه منع من العدول عن أمارة إلى اُخرى وعن مجتهد إلى آخر ، فتدبّر .

-------------------

لمن لم يتخيّر ) والمفروض أنه قد تخيّر في الواقعة الاولى وخرج بذلك عن التخيّر ، فالموضوع متبدّل في الواقعة الثانية ، ومعه لااستصحاب كما قال : ( فإثباته ) أي : اثبات التخيير ( لمن اختار والتزم ) بأحد الطرفين ( إثباتٌ للحكم في غير موضعه الأوّل ، و) معه لا تتم أركان الاستصحاب ، ولذا لايصح استصحابه.

هذا ، ولكن ( بعض المعاصرين استجود هنا ) أي : في تعارض الخبرين ( كلام العلاّمة ) الظاهر في استمرار التخيير ، ولَعلَّ مستند كلامه هو : اطلاق أخبار التخيير ، حيث أنّ الاخبار غير مقيّدة للتخيير بالواقعة الأولى وغيرها ( مع أنّه منع من العدول عن أمارة الى أخرى ) في غير الخبرين ، كما اذا تعارض أهل الخبرة في التقويم وما أشبه ذلك ، فإنّه منع من العُدول الى الآخر بعد الأخذ بأحدهما ، كما ( و ) منع أيضاً من العدول ( عن مجتهد الى آخر ) بعد الأخذ بفتوى أحدهما وإن كانا متساويين من جميع الحيثيات ، وأشكل المصنّف على هذا المعاصر : بأنّهُ إن كان التخيير استمرارياً لزم أن يكون في كل الموارد الثلاثة ، فلماذا التفصيل بينها ؟ .

( فتدبّر ) ولعله اشارة الى أن مقتضى القاعدة هو : استمرار التخيير في كل الموارد الثلاثة ، إلاّ إذا كان دليل من الخارج على كون التخيير فيها جميعاً أوفي بعضها ابتدائياً ، وحينئذ فللمعاصر أن يقول : أن التخيير في الموردين الأخيرين ممّا دلّ الدليل من الخارج على عدم استمراريته ، وأما التخيير في باب

ص: 376

ثمّ إنّ حكم التعادل في الأمارات المنصوبة في غير الأحكام ، كما في أقوال أهل اللغة وأهل الرجال وجب التوقف .

-------------------

المتعارضين من الروايات فاطلاق أخبار التخيير محكّم ممّا يدل على استمراريته .

الأمر الثالث : هل حكم التعارض في الأخبار وهو التخيير يجري في بقيّة الأمارات المنصوبة في الأحكام كالاجماع وفي الأمارات المنصوبة في غير الأحكام كالبينة ؟ قال المصنّف ( ثمّ إنّ حكم التعادل ) المذكور في الاخبار وهو التخيير لايجري في بقية الأمارات المنصوبة في الأحكام كالاجماع ، ولا ( في الأمارات المنصوبة في غير الأحكام ) كالبينة إذا تعارضت - مثلاً - في الوقت أوالقبلة ، أوالهلال أوالطهارة ، أوفي موارد التنازع والتداعي أوالحدود والديات ، أوما أشبه ( كما في أقوال أهل اللغة وأهل الرجال ) بل التعادل فيها والتعارض بينها ( وجب التوقف ) فيها ، لأنه لادليل على إعمال التراجيح ولا على التخيير بينها ، لإختصاص الأخبار العلاجية بتعارض الأخبار ، دون تعارض الاجماعين أوالبينتين أوغير ذلك .

مثلاً : إذا قام أربعة شهود على أن الزاني زيد بن بكر ، وقام أربعة شهود اُخر على أن الزاني في نفس الوقت وبنفس الخصوصيات زيد بن خالد ، لم يقدِّم الحاكم احداهما على الاُخرى ، ببعض المرجّحات كالأصدقية والأوثقية والأعدلية ، ولا يتخيّر بينهما ، كما أن الأمر كذلك بالنسبة الى الوقت ، والقبلة ، والهلال أوغيرها ، وهذا فيما إذا كان كلاهما شهود اثبات ، لا أن يقول أحدهما : انّي أعرف عدالة زيد ، ويقول الآخر : انّي لا أعرف عدالته ، فإنّه إن رجع اختلافهما الى العلم وعدم العلم كان العلم مقدّماً على عدم العلم ، لكن إذا لم يرجع اختلافهما الى ذلك حصل التعارض بينهما ، كما لو كان اختلافهما بين العلم بهذا الضد

ص: 377

لأنّ الظاهرَ اعتبارُها من حيث الطريقيّة إلى الواقع ، لا السببيّة المحضة وإن لم يكن منوطاً بالظن الفعلي .

-------------------

والعلم بضده الآخر ، أوالعلم بهذا النقيض والعلم بنقيضه الآخر ، وكذلك الحال في قول أهل اللغة ، كما إذا قال المصباح - مثلاً - : إنّ الغناء هو الصوت المرجّع فيه ،

وقال القاموس : إن الغناء هو الصوت المطرب .

وإنّما قلنا بعدم الترجيح وكذلك عدم التخيير في بقية الأمارات المتعارضة غير الأخبار ( لأنّ الظاهر إعتبارُها ) أي : اعتبار سائر الأمارات ( من حيث الطريقيّة إلى الواقع ، لا السببيّة المحضة ) وقد سبق : أنّ بناء العقلاء في الطريقين المتعارضين إنّما هو على عدم العمل بهما وتساقطهما بالتعارض .

ثم لا يخفى : أن تقييد المصنّف السببيّة هنا ب- « المحضة » اشارة الى أن السببية على قسمين : إما محضة بأن يكون المقصود لادراك مصلحة العمل بالأمارة فقط ، وأما منضمة إلى الطريقية بأن يكون المقصود لأدراك مصلحة العمل بالأمارة والواقع معاً ، كما أن الطريقية كذلك أيضاً ، فإنّها إمّا أن تكون طريقاً محضاً بأن يكون المقصود : درك مصلحة الواقع فقط من غير مدخليّة للأمارة وإمّا أن يكون منضماً الى السببية ، بأن يكون المقصود : درك مصلحة الواقع مع مصلحة العمل بالأمارة .

وعليه : فالظاهر أن اعتبار سائر الأمارات - غير الخبر - إنّما هو من باب الطريقية حتى ( وإن لم يكن ) كل منها ( منوطاً بالظن الفعلي ) بل بالظنّ النوعي يعني : أنه لو كان اعتبار هذه الأمارات منوطاً بالظن الفعلي كان ذلك - على ما سبق - أظهر في كونها من باب الطريقية المحضة ، بمعنى كون المقصود منها درك مصلحة الواقع فقط ، غير أن حجيّة تلك الأمارات ، مع أنها لم تكن منوطة بالظن الفعلي بل منوطة

ص: 378

وقد عرفت : أنّ الّلازم في تعادل ما هو من هذا القبيل التوقّفُ والرجوعُ إلى ما يقتضيه الأصل في ذلك المقام .

إلاّ أنّه إن جعلنا الأصلَ من المرجّحات - كما هو المشهور ، وسيجيء - لم يتحقّق التعادلُ بين الأمارتين إلاّ بعد عدم موافقة شئمنها للأصل .

-------------------

بالظن النوعي المحتمل للطريقية والسببية لا السببية المحضة ، لو تعارضت أوجب التعارض فيها التساقط ، وإذا تساقطت الأمارتان وجب الرجوع إلى الأصل في المسألة .

هذا ( وقد عرفت : أنّ اللازم في تعادل ما هو من هذا القبيل ) أي : من قبيل المتعارضين الذين ليسا من باب التزاحم كالغريقين ، بل من باب الطريقية كقول اللغويَّين هو ( التوقّف والرجوع الى ما يقتضيه الأصل في ذلك المقام ) من استصحاب وغيره ، فلو ادعى أحد اللغويين : أنّ فعل الأمر - مثلاً - وضع للوجوب ، وادّعى الآخر : أنه مشترك بين الوجوب والندب ، كان الأصل عدم الاشتراك ، لأنه شئزائد ، وأمّا لو ادّعى أحدهما : أنّ فعل الأمر وضع للوجوب ، وادّعى الآخر : أنه وضع للندب ، فانهما يتعارضان ويتساقطان ، فإذا لم يكن أصل في المسألة الأصولية ، يُتمسك بالأصل في المسألة الفرعية ، يعني : أصالة عدم الوجوب .

( إلاّ أنّه إن جعلنا الأصل من المرجّحات - كما هو المشهور ، وسيجيء - ) انشاء اللّه تعالى الكلام في أن الأصل هو مرجّح ، أومرجع بعد التعارض والتساقط ؟ فإن كان مرجّحاً ( لم يتحقّق التعادل بين الأمارتين إلاّ بعد عدم موافقة شئمنها للأصل ) لفرض أنه لو وافق الأصل شيئاً منها ، لزم تقديم الأماراة الموافقة للأصل ،

ص: 379

والمفروضُ : عدمُ جواز الرجوع إلى الثالث ، لأنّه طرحٌ للأمارتين ، فالأصل الذي يُرجع إليه هو الأصل في المسألة المتفرّعة على مورد التعارض ، كما لو فرضنا تعادل أقوال أهل اللغة في معنى الغناء أو الصعيد أو الجذع من الشاة في الاُضحية ، فإنّه يُرجَعُ إلى الأصل في المسألة

-------------------

وهو خروج عن التعادل والتعارض .

إن قلت : على فرض التعادل وعدم موافقة الأصل لشئمنها ، نرجع الى الثالث ونحكم طبقه .

قلت : ( والمفروض : عدم جواز الرجوع الى الثالث ) لأنّ الأمارتين المتعارضتين ، وإن لم يمكن الأخذ بمضمون أحداهما لتعارضهما ، لكنّهما ينفيان الشئالثالث بالدلالة الالتزامية كما سبق .

وإنّما لايجوز الرجوع الى الثالث ( لأنّه طرحٌ للأمارتين ) في مدلولهما الالتزامي ، ومن الواضح : أن المدلول الالتزامي لاتعارض بينهما فيه .

وحينئذ : ( فالأصل الذي يُرجع إليه ) بعد التوقف ( هو الأصل في المسألة المتفرّعة على مورد التعارض ) لأنّه حيث لا أصل في المسألة الأصولية ، لذا يجب الرجوع إلى الأصل في المسألة الفرعية .

وأما مثال ذلك فهو ( كما لو فرضنا تعادل أقوال أهل اللغة في معنى الغناء ) بأن قال أحدهم أنه الصوت المطرب ، وقال الآخر : أنه الصوت المرجّع فيه ( أو الصعيد ) حيث قال أحدهم : هو مطلق وجه الأرض ، وقال الآخر ؛ هو خصوص التراب ( أو الجذع من الشاة في الاُضحية ) بأن قال أحدهم : هو ماله ستة أشهر ، وقال الآخر : هو ماله سبعة أشهر ، وهكذا ( فإنّه يُرجَعُ إلى الأصل في المسألة

ص: 380

الفرعيّة .

بقي هنا ما يجب التنبيهُ عليه خاتمةً للتخيير ومقدّمةً للترجيح ، وهو أنّ الرجوعَ إلى التخيير غير جارٍ ، إلاّ بعد الفحص التامّ عن المرجّحات .

لأنّ مأخذَ التخيير إن كان هو العقل الحاكم بأنّ عدمَ إمكان الجمع في العمل لايوجبُ إلاّ طرحَ البعض ، فهو لايستقلّ بالتخيير في المأخوذ والمطروح إلاّ بعد عدم مزيّة

-------------------

الفرعيّة ) فيرجع - مثلاً- إلى البرائة في الصوت غير الجامع للوصفين ، لأنّا لانعلم صدق الغناء عليه ، ويرجع الى الاحتياط فيغير التراب ، لانّا لانعلم صدق الصعيد عليه ، كما يرجع إلى الاحتياط فيما ليس له سبعة أشهر ، لأنّا لانعلم صدق الجذع عليه ، والكلام في المقام طويل نكتفي منه بما يوضح المتن ، كما هو دأب هذا الكتاب ، اللّهم إلاّ في نادر خرج من الأصل لجهة من الجهات .

الأمر الرابع : هل الرجوع الى التخيير مشروط بالفحص واليأس عن المرجحات أم لا ؟ قال المصنِّف ( بقي هنا ما يجب التنبيه عليه ) ليكون ( خاتمةً للتخيير ومقدّمةً للترجيح ، وهو : أنّ الرجوع الى التخيير غير جارٍ ، إلاّ بعد الفحص التامّ عن المرجّحات ) بحيث يطمئن الانسان الى أنه لا مرجح فلا يلزم القطع ، كما انه لايكتفى بما هو دون الاطمينان .

وإنّما لايجري التخيير إلاّ بعد الفحص واليأس ( لأنّ مأخذَ التخيير إن كان هو العقل الحاكم بأنّ عدم إمكان الجمع في العمل لايوجبُ إلاّ طرح البعض ) لا طرح كليهما ( فهو ) أي : العقل هنا ( لايستقلّ بالتخيير في المأخوذ والمطروح ) أي : في ما يُطرح من أحد المتعارضين وما يُؤخذ من أحد المتعارضين ( إلاّ بعد عدم مزيّة

ص: 381

في أحدهما اعتبر الشارعُ في العمل ، والحكمُ بعدمها لايمكنُ إلاّ بعد القطع بالعدم ، أو الظنّ المعتبر .

أو إجراء أصالة العدم التي لاتعبر فيما له دخلٌ في الأحكام الشرعيّة الكلّية إلاّ بعد الفحص التامّ ، مع أنّ أصالة العدم ، لايجدي في استقلال العقل بالتخيير ،

-------------------

في أحدهما ) على الآخر مزيّة ( اعتبر الشارع في العمل ) بالترجيح ، عدمها من شهرة وغيرها ( و ) من المعلوم : أن ( الحكم بعدمها ) أي : بعدم تلك المزية ( لايمكن إلاّ بعد ) فحص يوجب ( القطع بالعدم ، أو الظنّ المعتبر ) العقلائي وهو ما يبلغ درجة الاطمينان العرفي ، أمّا الظن الذي لم يبلغ مرتبة الاطمينان ، فليس بمعتبر لاشرعاً ولاعرفاً .

والحاصل : أنّ الشارع اعتبر في تعارض الخبرين مزايا ومرجّحات للعمل بأحدهما ، فلا يحكم بالتخيير إلاّ بعد احراز عدم المزية ، وانكشاف عدم المزية لايكون إلاّ بالقطع : أو بالظن المعتبر ( أوإجراء أصالة العدم ) لكن أصالة العدم لاتجري هنا لأنّها هي ( التي لا تعبّر فيما له دخلٌ في الأحكام الشرعيّة الكلّية ) كتعارض الخبرين ( إلاّ بعد الفحص التامّ ) ومعلوم : أن الفحص التام عن المرجّحات واليأس منها لايحصل إلاّ بالقطع بالعدم ، أوبالظن المعتبر بالعدم ، فلا يكتفى بأصالة العدم ، لأنّ أصل العدم لا يلازم القطع أوالظن المعتبر ، هذا أوّلاً .

( مع أنّ أصالة العدم ، لا يجدي في استقلال العقل بالتخيير ) ثانياً ، وذلك لأنّ العقل لايستقل بحكم الاّ بعد إحاطته الكاملة بجميع ماله دخل في ذلك الحكم ، كما تقدّم بيان ذلك في بعض مباحث الكتاب ، ومن المعلوم : أنّ حكم العقل بالتخيير هنا في المتعارضين ، إنّما هو فيما إذا حصل القطع ، أوالاطمينان بعدم

ص: 382

كما لايخفى .

وإن كان مأخذُه الأخبارَ ، فالمتراءى منها من حيث سكوت بعضها عن جميع المرجّحات وإن كان جوازَ الأخذ بالتخيير ابتداءً ، إلاّ أنّه يكفي في تقييدها

-------------------

المرجّح ، ولايحصل شئمنهما إلاّ بالفحص واليأس ، لا بأصالة العدم ، ومادام لم يحصل أحدهما ، لا يحكم العقل بالتخيير ( كما لايخفى ) ذلك بأقل تأمّل .

ثمّ إنّ هنا اشكالاً ثالثاً وهو : أنّ أصالة العدم هنا يكون مثبتاً ، وذلك لأنّا بأصالة العدم يزيد إثبات التكافؤ ، حتى يكون موضوعاً للتخيير ، وهو أثرٌ عقلي لا شرعي، فيكون مثبتاً ، والأصل المثبت غير حجه على ما سبق .

هذا إن كان مأخذ التخيير ومدركه هو العقل ( وإن كان مأخذه ) أي : مأخذ التخيير ومدركه هو ( الأخبار ) العلاجية ( فالمترائى منها من حيث سكوت بعضها عن جميع المرجّحات ) حيث أن بعض تلك الأخبار ساكتة عن المرجّحات ، وإنّما أمرت بالتخيير ابتداءاً ، مثل رواية الحسن بن الجهم عن الإمام الرضا عليه السلام قال : « فقلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين متنافيين ، فلا نعلم أيهما الحق ؟ فقال عليه السلام : إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيهما أخذت » (1) ومثل قول الإمام الحجّة صلوات اللّه عليه في حديث جاء فيه : «...وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صواباً » (2) .

وعليه : فانّ المترائي من أخبار العلاج ( وان كان جواز الأخذ بالتخيير ابتداءاً ) من دون ملاحظة المرجّحات ( إلاّ انّه يكفي في تقييدها ) أي : تقييد تلك الأخبار

ص: 383


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص121 ب9 ح33373 ، الاحتجاج : ص357 .
2- - الاحتجاج : ص483 ، الغيبة للطوسي : ص378 ، وسائل الشيعة : ج27 ص121 ب9 ح33372.

دلالةُ بعضها الآخر على وجوب الترجيح ببعض المرجّحات المذكورة فيها ، المتوقّف على الفحص عنها ، المتمّمة فيما لم يذكر فيها من المرجّحات المعتبرة بعدم القول بالفصل بينهما .

-------------------

المطلقة ( دلالة بعضها الآخر ) أي : بعض أخبار العلاج الدالّة ( على وجوب الترجيح ببعض المرجّحات المذكورة فيها ) كالترجيح بموافقة الكتاب ، ومخالفة العامة ، أوالأوثقية ، والأعدلية ، أوما أشبه ذلك ( المتوقّف ) ذلك الوجوب ( على الفحص عنها ) أي : عن المرجحات ، فإنّه بعد ما ألزم الشارع الترجيح بأمور مذكورة في الروايات ، لايتمكن الانسان أن يقول بالتخيير ، إلاّ بعد أن يفحص عن تلك المرجّحات ، فإن لم يجدها ، فانّه حينئذ يتمكنّ من التخيير بين المتعارضين، وبدون الفحص لايحصل الاطمينان بعدم وجود شئمن تلك المرجّحات .

إذن : فدلالة بعض أخبار العلاج على الترجيح ببعض المرجّحات المذكورة ، كافية لتقييد المطلقة منها ( المتمَّمة ) بصيغة المفعول وهي صفة لقوله : « دلالة بعضها الآخر » ( فيما لم يذكر فيها من المرجّحات المعتبرة ) تتميماً ( بعدم القول بالفصل بينهما ) أي : بين المرجّحات ، فإنّ من يقول بوجوب الترجيح يقول به في كلّ مرجّح معتبر ، سواء كان منصوصاً أم غير منصوص ، وذلك يستلزم الفحص عن المرجّحات المعتبرة مطلقاً ، المنصوصة وغيرها ، فإذا يئس عن وجود مرجّح في أيّ طرف من المتعارضين عمل بالتخيير ، وإنّ من لايقول بوجوب الترجيح لايقول به مطلقاً منصوصة كانت أم غير منصوصة ، فليس هناك من يقول بالفصل بين المرجّحات بقبول بعض دون بعض ، وحينئذ فمن أوجب الترجيح أوجب الفحص عن كل مرجّح مطلقاً ، ومن لم يوجب الترجيح

ص: 384

هذا ، مضافاً إلى لزوم الهرج والمرج ، نظيرُ ما يلزم من العمل بالاُصول العمليّة واللفظيّة قبل الفحص .

هذا ، مضافاً إلى الاجماع القطعي ، بل الضرورة ، من كلّ من يرى وجوب العمل بالراجح من الأمارتين ، فإنّ الخلاف وإن

-------------------

لم يوجب الفحص مطلقاً .

( هذا ) كله كان هو الدليل الأوّل على وجوب الفحص عن المرجّحات ، فإنّه بعد الفحص عنها واليأس منها يكون الحكم التخيير .

الدليل الثاني على وجوب الفحص واليأس هو قوله : ( مضافاً إلى لزوم الهرج والمرج ، نظيرُ ما يلزم من ) الهرج والمرج لو كان ( العمل بالأُصول العمليّة واللفظيّة قبل الفحص ) .

علماً بأنّ في الهرج والمرج إشارة إلى حدوث الاختلاف والفوضى ، والفتنة والفساد في أمور الفقه والدين ، فإنّه إنّما يلزم الهرج والمرج إذا لم يفحص عن المرجّح إلى حدّ القطع بالعدم ، أو الأطمينان بالعدم ، لأنه لو اقتصر على المرجّحات المعلومة ولم يبذل الجهد في الفحص الدقيق عنها إلى حد القطع ، أو الاطمينان بالعدم ، لزم إختلال أمر الاجتهاد بتعطيل أكثر المرجّحات ، والأخذ غالباً بالمرجوح بدل الأخذ بالراجح ، وإن يكون لكل مجتهدٍ فتوى في مقابل المجتهدٍ الآخر ، وغير ذلك .

الدليل الثالث: على وجوب الفحص عن المرجّحات حتى اليأس منها هو قوله: (هذا ، مضافاً إلى الاجماع القطعي) على وجوب الفحص (بل الضرورة ، من كلّ من يرى وجوب العمل بالرّاجح من الأمارتين) عند التعارض (فإنّ الخلاف وإن

ص: 385

وقع عن جماعة في وجوب العمل بالراجح من الأمارتين وعدم وجوبه ، لعدم اعتبار الظنّ في أحد الطرفين .

إلاّ أنّ من أوجبَ العملَ بالراجح أوجبَ الفحصَ عنه ولم يجعله واجباً مشروطاً بالاطّلاع عليه .

وحينئذٍ : فيجبُ على المجتهد الفحصُ التامّ عن وجود المرجّح لاحدى الأمارتين .

-------------------

وقع عن جماعة في وجوب العمل بالراجح من الأمارتين وعدم وجوبه ) وكان سبب إختلافهم أنّهم لايرون الظن - كالشهرة مثلاً - في أحد الطرفين موجباً لترجيح ذلك الطرف ، وذلك ( لعدم إعتبار الظنّ في أحد الطرفين ) عندهم ، فإنّ هؤلاء حيث لايرون الظنّ مرجّحاً قالوا بالتخيير ابتداءاً بدون الرجوع إلى المرجّحات لأنها ظنية .

( إلاّ أنّ من أوجب العمل بالراجح أوجب الفحص ) التام ( عنه ) أي : عن الراجح إلى حدّ القطع أوالاطمينان بالعدم ( ولم يجعله ) أي : العمل بالراجح ( واجباً مشروطاً بالاطّلاع عليه ) إتفاقاً ، حتى أنه لو اتفق له الاطلاع عليه عمل به ، وإلاّ لم يجب الفحص عنه .

( وحينئذ ) أي : حين قد عرفت أنّ العمل بالراجح لم يكن واجباً مشروطاً بالاطلاع عليه اتفاقاً ، بل هو واجب مطلق ، ولذلك قال : ( فيجب على المجتهد الفحص التامّ عن وجود المرجّح لاحدى الأمارتين ) فإن ظفر بالمرجّح عمل به ، وإن لم يظفر بالمرجّح أخذ بالتخيير .

هذا هو الكلام في المقام الأوّل يعني : في المتكافئين .

ص: 386

المقام الثاني : في التراجيح

اشارة

الترجيح تقديم احدى الأمارتين على الأخرى في العمل ، لمزيّة لها عليها بوجه من الوجوه ، وفيه مقامات :

الأوّل : في وجوب ترجيح أحد الخبرين بالمزية الداخليّة أو الخارجيّة الموجودة فيه .

الثاني : في ذكر المزايا المنصوصة والأخبار الواردة .

-------------------

( المقام الثاني : في التراجيح ) والترجيح إصطلاحاً : رجحان إحدى الأمارتين على الاخرى ، ولغة : ( الترجيح تقديم إحدى الأمارتين على الاُخرى في العمل ) لافي الحجيّة لأنّ المفروض تساويهما في الحجيّة ، فإنّ المتعارضين ، وإن كانا حجّة في أنفسهما ، إلاّ أنه إذا وجد في أحدهما ترجيح قُدّم ذو المرجّح ويعمل على طبقه .

وإنّما يُقدّم عملاً إحدى الأمارتين على الأخرى ( لمزيّة لها عليها ) أي : لمزّية في الأمارة ذات الترجيح ، على الأمارة التي لا ترجيح لها ، مزية ( بوجه من الوجوه ) الآتية المذكورة في الرّوايات وغيرها ( وفيه مقامات ) تالية :

المقام ( الأوّل : في وجوب ترجيح أحد الخبرين بالمزية الداخليّة ) من حيث السند - مثلاً - والدلالة ( أو الخارجيّة ) من حيث الموافقة للكتاب أو المخالفة للعامة - مثلاً - ( الموجودة فيه ) أي في ذي المزيّة من الخبرين .

المقام ( الثاني : في ذكر المزايا المنصوصة والأخبار الواردة ) في هذا الشأن .

ص: 387

الثالث : في وجوب الاقتصار عليها ، أو التعدّي إلى غيرها .

الرابع : في بيان المرجّحات من الداخليّة والخارجية .

أمّا المقام الأوّل :

فالمشهورُ فيه : وجوبُ الترجيح ، وحكي عن جماعة ، منهم الباقّلائي والجبّائيان ، عدمُ الاعتبار بالمزيّة وجريان حكم التعادل .

ويدلُّ على المشهور - مضافاً إلى الاجماع المحقّق

-------------------

المقام ( الثالث : في وجوب الاقتصار عليها ، أو التعدّي إلى غيرها ) لكشف الجامع المشترك بينها ، يعني : هل أنّه يجب الاقتصار على المزايا المنصوصة في الرّوايات ، أو يجوز أن يتعدّى منها إلى كل مزية وإن لم تكن مذكورة في الروايات ؟ .

المقام ( الرابع : في بيان المرجّحات من الداخليّة والخارجيّة ) الشاملة للمذكورة في الرّوايات وفي غيرها ، وذلك فيما إذا جاز أن يتعدّى منها الى سائر المزايا التي لم تذكر في الرّوايات بسبب الملاك وتنقيح المناط .

( أمّا المقام الأوّل ) وهو وجوب الترجيح بالمزيّة ( فالمشهور فيه : وجوبُ الترجيح ) بالمزيّة إذا كانت في أحد الطرفين ( وحكي عن جماعة ، منهم الباقلائي والجبّائيان : عدم الاعتبار بالمزيّة ) إطلاقاً ، وإنّما يؤخذ بأحد الخبرين تخييراً وإن كان أحدهما ذا مزية ، وهذا هو معنى : قولهم ( وجريان حكم التعادل ) في كل خبرين متعارضين يعني : التخيير بينهما مطلقاً .

( ويدلُّ على المشهور ) الذي هو وجوب الترجيح بالمزيّة ( مضافاً الى الاجماع المحقّق ) أي : المحصّل ، فإنّا قد حصلنا الاجماع في المسألة من تتبّع

ص: 388

والسيرة القطعيّة والمحكيّة عن الخلف والسلف .

وتواتر الأخبار بذلك - أنّ حكمَ المتعارضين من الأدلّة على ما عرفت بعد عدم جواز طرحهما معاً .

إمّا التخييرُ لو كانت الحجيّة من باب الموضوعيّة والسببيّة ، وإما التوقفُ لو كانت حجيّتها من باب الطريقية ، ومرجعُ التوقف أيضاً إلى التخيير

-------------------

الأقوال ( و ) مضافاً إلى ( السيرة القطعيّة ) أي : الاجماع العملي من المسلمين ، حيث أنّهم يرجّحون بالمزية بعض الروايات على بعضها ( و ) مضافاً إلى السيرة ( المحكيّة عن الخلف والسلف ) أي : سيرة المتأخرين من الفقهاء والمتقدمين منهم ، فإنّا تارة نجد السيرة بأنفسنا ، وتارة نحكي السيرة عن العلماء ، حيث أنهم نقلوا لنا وجود السيرة العملية على الترجيح ( و ) مضافاً إلى ( تواتر الأخبار بذلك ) أي : بوجوب الترجيح فإنّ الأخبار قد تواترت بترجيح بعض الروايات على بعض ، فإنّه مضافاً إلى ذلك كله يحكم العقل بالترجيح أيضاً .

وإنّما يحكم العقل بالترجيح أيضاً ، لأنه قال ويدل على المشهور مضافاً إلى كل ذلك ( أنّ حكم المتعارضين من الأدلّة على ما عرفت بعد عدم جواز طرحهما معاً ) يعني : بعد أن عرفت أنهما لايسقطان بسبب المعارضة هو : ( إمّا التخيير لو كانت الحجيّة من باب الموضوعية والسببيّة ) بأن يكون حال الخبرين حال الغريقين ( وإما التوقف لو كانت حجيتها من باب الطريقية ، و ) ذلك بأن يكون المقصود منها درك مصلحة الواقع فقط ، علماً بأن ( مرجع التوقف أيضاً ) كالسببية ( إلى التخيير ) وذلك لما عرفت : من أنّ الدلالة الالتزامية باقية بالنسبة إلى الخبرين ، فينفى بها الثالث ، ومعنى نفي الثالث : أنه يعمل بهذا أو بذاك تخييراً .

ص: 389

إذا لم يُجعل الأصل من المرجّحات .

أو فرض الكلام في مخالفي الأصل ، إذ على تقدير الترجيح بالأصل يخرج صورة مطابقة أحدهما عن مورد التعادل ، فالحكمُ بالتخيير على تقدير فقده .

-------------------

هذا ( إذا لم يُجعل الأصل من المرجّحات ) أي : أنّ مرجع التوقف إلى التخيير إنّما هو إذا لم نجعل الأصل مرجّحاً ، وأما اذا جعلنا الأصل مرجّحاً وكان أحدهما مطابقاً للأصل كما في مسئلة غسل الجمعة ، فهو من الراجح والمرجوح لا من المتساويين .

( أو فرض الكلام في مخالفي الأصل ) كمسألة الظهر والجمعة ، فإنّه حيث لا أصل بينهما حتى يرجّح أحدهما على الآخر ، يكون المكلّف مخيّراً بين مضموني الخبرين بعد نفي الخبرين الثالث ، وقد تقدّم أنّ دلالة الخبرين الالتزامية باقية لعدم التعارض في الدلالة الالتزامية .

وإنّما يرجع التوقف إلى التخيير على فرض عدم الترجيح بالأصل ( إذ على تقدير الترجيح بالأصل يخرج صورة مطابقة أحدهما ) للأصل ( عن مورد التعادل ) المنتج للتوقف والتخيير إلى مورد الترجيح ، لأنّ أحد الخبرين الذي معه الأصل يكون مرجَّحاً على الآخر الذي لا أصل معه وإذا كان كذلك ( فالحكم بالتخيير ) إنّما يكون ( على تقدير فقده ) أي : فقد الأصل ، بأن لم يكن مع جانب من الجانبين أصل ، بل يكون كلاهما مخالفاً للأصل ، مثل ما دلّ على وجوب الظهر ووجوب الجمعة ، أو دلتّ رواية على حرمة الجمعة ، ورواية أخرى على وجوبها .

ص: 390

أو كونه مرجعاً ، بناءاً على أنّ الحكم في المتعادلين مطلقاً التخييرُ ، لا الأصل المطابق لأحدهما .

والتخييرُ إمّا بالنقل وإمّا بالعقل .

أمّا النقلُ ، فقد قيّد فيه التخيير بفقد المرجّح ، وبه

-------------------

( أو ) على تقدير ( كونه ) أي : كون الأصل ( مرجعاً ) لا مرجّحاً ، وذلك ( بناءاً على أنّ الحكم في المتعادلين مطلقاً ) أي : سواء كان هناك أصل مطابق لأحدهما ، أو لم يكن هو ( التخيير ، لا ) الرجوع إلى ( الأصل المطابق لأحدهما ) .

والحاصل : إنّ التخيير يتم في صورتين : الاُولى : أن لايكون هناك أصل موافق لأحدهما ، كما في مسئلة وجوب الجمعة والظهر .

الثانية : أن يكون هناك أصل موافق لأحدهما ، وذلك كما في مسئلة غسل الجمعة لكن بناءاً على أنّ الأصل ليس بمرجّح، إذ لو كان الأصل مرجّحاً لم يبق مجال للتخيير.

وكيف كان : فإنّ حكم الخبرين المتكافئين بعد عدم التساقط هو : التخيير ( والتخيير : إمّا بالنقل ) أي : بسبب الأخبار العلاجية التي تقول بعد ذكر المرجّحات : « إذن فتخيّر » وما أشبه ذلك ( وإمّا بالعقل ) أي : بسبب حكم العقل ، وذلك فيما إذا قلنا بأنّ حجيّة الخبر من باب السببية لا من باب الطريقية حتى تتساقط عند التعارض .

( أمّا النقل ، فقد قيّد فيه التخيير بفقد المرجّح ) حيث قال عليه السلام في بعض الأخبار العلاجية بعد ذكر المرجّحات : « إذن فتخيّر » (1) ( وبه ) أي : بالمقيّد من الأخبار العلاجية الدّال على أنّ التخيير إنّما هو مع فقد المرجّحات

ص: 391


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

تقيّد ما اُطلقَ فيه التخيير .

وأمّا العقلُ ، فلا يدلّ على التخيير بعد احتمال اعتبار الشارع للمزيّة وتعيين العمل بذيها .

ولا يندفعُ هذا الاحتمال بإطلاق أدلّة العمل بالأخبار ، لأنّها

-------------------

( تقيّد ما ) أي : الأخبار العلاجية التي ( أطلق فيه التخيير ) فإنّ بعضاً من الأخبار العلاجية ذكرت التخيير بدون ذكر الترجيح ، لكن بعضها الآخر ذكرت الترجيح وذكرت التخيير ، لكن مقيّداً بكون التخيير بعد الترجيح .

( وأمّا العقل ) الدّال على التخيير ( فلا يدلّ على التخيير بعد إحتمال ) العقل ( إعتبار الشارع للمزيّة وتعيين العمل بذيها ) أي : بذي المزية والمرجّح ، فإنّ العقل إذا احتمل لزوم تقديم ذي المرجّح والمزية لايحكم بالتخيير ، إلاّ إذا لم يكن هنالك ترجيح ، وفيما كان هنالك ترجيح يحكم العقل بتقديم ذي المرجّح من باب أن العمل بذي المرجّح معلوم الجواز ، بينما العمل بما لامرجّح فيه من المتعارضين مشكوك الجواز ، فالأصل عدمه .

( و ) إن قلت : إنّ أخبار العلاج ظاهرة في تقديم ذي المزية ، إلاّ أنّ إطلاق أدلّة الأخذ بخبر الثقة مطلقاً يجعل هذه الأخبار الدالة على تقديم ذي المرجّح محمولاً على الاستحباب ، فإذا رأى العقل هاتين الطائفتين من الأخبار أعني : الطائفة المطلقة والطائفة المقيّدة بتقديم ذي المزية يحكم بالتخيير مطلقاً بدون الرجوع إلى المرجّحات .

قلت : ( لايندفع هذا الاحتمال ) أي : إحتمال العقل اعتبار الشارع للمزية وتعيين العمل بذي المزية ( ب- ) سبب ( إطلاق أدلّة العمل بالأخبار ) فإن إطلاق هذه الأدلة لاتدفع احتمال لزوم العمل بذي المرجّح ( لأنّها ) أي : تلك الأدلة

ص: 392

في مقام تعيين العمل بكلّ من المتعارضين مع الامكان ، لكنّ صورة التعارض ليست من صور إمكان العمل بكلّ منهما وإلاّ لتعيّن العملُ بكليهما ، والعقل إنّما يستفيد من ذلك الحكم المعلّق بالإمكان عدمَ جواز طرح كليهما ، لا التخيير بينهما ، وإنّما يحكم بالتخيير بضميمة أنّ تعيين أحدهما ترجيح بلا مرجّح ، فإن استقلّ بعدم المرجّح حكم بالتخيير، لأنّه

-------------------

ليست في مقام بيان حكم المتعارضين ، بل هي ( في مقام تعيين العمل بكلّ من المتعارضين مع الامكان ، لكنّ صورة التعارض ليست من صور إمكان العمل بكلّ منهما ) أي : بكل من المتعارضين ( وإلاّ ) بأن أمكن ذلك ( لتعيّن العمل بكليهما ) تعيّناً بحسب تلك الأدلة .

إذن : فهذه الأدلة في مقام تعيين العمل بكل من المتعارضين معلَّقاً بصورة الامكان ، وحيث لا إمكان فلا يرى العقل جواز العمل بالمتعارضين تخييراً ( و ) ذلك لأن ( العقل إنّما يستفيد من ذلك الحكم المعلّق بالإمكان ) الذي دلّت عليه تلك الأدلة يستفيد منها في المتعارضين ( عدم جواز طرح كليهما ، لا التخيير بينهما ) وفرق بين عدم جواز طرح كليهما ، وبين التخيير بينهما ، كما هو واضح .

إن قلت : فكيف اشتهر : بأن العقل يحكم في المتعارضين بالتخيير بينهما ؟ .

قلت : ( وإنّما يحكم بالتخيير بضميمة أنّ تعيين أحدهما ترجيح بلا مرجّح ) فإنّ العقل أوّلاً وبالذات يقول : لاتطرح الخبرين المتعارضين ، فإذا انضمّ إلى ذلك : عدم جواز الترجيح بلا مرجّح ، حكم العقل بالتخيير ، وهذا الانضمام لايكون إلاّ مع فقد المرجّح .

وعليه : ( فإن استقلّ ) العقل ( بعدم المرجّح حكم بالتخيير ، لأنّه ) أي : التخيير

ص: 393

نتيجة عدم إمكان الجمع وعدم جواز الطرح وعدم وجود المرجّح لأحدهما .

وإن لم يستقلّ بالمقدّمة الثالثة توقّف عن التخيير ، فيكون العملُ بالراجح معلومَ الجواز ، والعمل بالمرجوح مشكوكة .

فإن قلتَ : أولاً : إنّ كون الشئمرجّحاً ، مثل كون الشئدليلاً ، يحتاجُ إلى دليل ، لأن التعبّد بخصوص الراجح إذا لم يعلم من الشارع ، كان الأصل عدمه .

-------------------

( نتيجة عدم إمكان الجمع ) من ناحية ( وعدم جواز الطرح ) من ناحية أخرى ( وعدم وجود المرجّح لأحدهما ) من ناحية ثالثة ، فاللاّزم تمامية هذه المقدمات الثلاث حتى يحكم العقل بالتخيير .

( و ) لكن العقل ( إن لم يستقلّ بالمقدّمة الثالثة ) وذلك بأن احتمل وجود المرجّح في أحد الطرفين ( توقّف عن التخيير ) لما عرفت : من أن حكم العقل بالتخيير متوقّف على ثلاث مقدمات ، فإذا انتفى أحدها توقّف عن الحكم ، وإذا توقف عن الحكم بالتخيير ( فيكون العمل بالرّاجح معلوم الجواز ، والعمل بالمرجوح مشكوكة ) أي : مشكوك الجواز ، فلا يتمكن من العمل بالتخيير ، وإنّما يلزم العمل بالراجح .

( فإن قلت ) كيف تقدّمون العمل بالراجح من الخبرين مع أن كليهما حجّة ؟ فإنّ في تقديم الراجح ما يلي :

( أو لاً : إنّ كون الشيء مرجّحاً ، مثل كون الشئدليلاً ، يحتاج إلى دليل ) أي : أن الترجيح يجب أن يكون شرعياً ، كما يجب أن يكون الدليل شرعياً ، وذلك ( لأن التعبّد بخصوص الراجح ) وإسقاط المرجوح عن العمل ( إذا لم يعلم ) كونه ( من الشارع ، كان الأصل عدمه ) أي : عدم هذا التعبّد ، وذلك لأن الأخبار الدالة

ص: 394

بل العملُ به مع الشكّ يكون تشريعاً ، كالتعبّد بما لم يعلم حجيّته .

وثانياً : أنّه إذا دار الأمر بين وجوب أحدهما على التعيين ، وأحدهما على البدل ، فالأصل براءة الذمّة عن خصوص الواحد المعيّن ، كما هو مذهب جماعة في مسألة دوران التكليف بين التخيير والتعيين .

قلتُ : أولاً : كونُ الترجيح كالحجيّة أمراً يجبُ ورودُ التعبّد به من الشارع

-------------------

على حجية الخبر الواحد ، وغير الأخبار من أدلة حجيّة الخبر الواحد يشمل ، كلا الخبرين المتعارضين ومعه لم يُعلم التعبّد بالراجح ( بل العمل به ) أي : بالراجح فقط ( مع الشكّ ) في أن الشارع ألزم العمل به أو جعلهما متساويين ( يكون تشريعاً ، كالتعبّد بما لم يعلم حجيتّه ) وذلك لايجوز عقلاً ولا شرعاً .

( وثانياً : أنّه إذا دار الأمرين بين وجوب أحدهما على التعيين ) يعني : الأخذ بالراجح ( وأحدهما على البدل ) يعني : التخيير بينهما ( فالأصل : برائة الذمّة عن خصوص الواحد المعيّن ) أي : عن الأخذ بخصوص الراجح ، بل اللاّزم القول بالتخيير ( كما هو ) أي : كون الأصل البرائة عن التعيين ( مذهب جماعة في مسئلة دوران التكليف بين التخيير والتعيين ) وذلك لأنّ التعيين لم يعلم ، فالأدلة العامة تشمل التخيير ، فإذا شك - مثلاً - في أن الواجب خصوص العتق ، أو واحد من العتق والاطعام والصيام ، فاللاّزم إجراء أصالة البرائة عن تعيين خصوص العتق ، وحيث تجري البرائة يكون المكلّف مخيّراً بين الخصال الثلاثة .

( قلت : أو لاً : كون الترجيح كالحجيّة أمراً يجب ورود التعبّد به من الشارع )

ص: 395

مسلّمٌ ، إلاّ أنّ الالتزام بالعمل بما علم جواز العمل به من الشارع احتياط لايجري فيه ما تقرّر في وجه حرمة العمل بما وراء العلم ، فراجع ، نظير الاحتياط بالتزام ما دلّ أمارة غير معتبرة على وجوبه مع احتمال الحرمة ، أو العكس .

-------------------

كما ذكره المستشكل في إشكاله الأوّل ( مسلّمٌ ، إلاّ أنّ الالتزام بالعمل بما عُلم جواز العمل به ) وهو الخبر الراجح جوازاً ( من الشارع ) وذلك بلا استناد إلى إلزام الشارع به ، لايكون تشريعاً حتى يكون محرّماً ، بل هو ( احتياط ) والاحتياط لايحتاج إلى استناد ، فإنا لانريد أن نقول : لايجوز العمل بالمرجوح ، وإنّما نريد أن نقول ، بأن الاحتياط هو أن نعمل بهذا الراجح ، وليس عملنا بالراجح بعنوان أن الشارع تعبّدنا به وجعله بخصوصه حجية ، بل لاحتمالنا أن الشارع اعتبر المزية ، وبداعي أن العمل به متيقن الجواز ، ومعه فلو عملنا بهذا الراجح عملنا بالتكليف قطعاً ، بخلاف ما لو عملنا بالمرجوح .

وعليه : فإنا نعمل بالراجح من باب الاحتياط ، والعمل بالاحتياط ( لايجري فيه ما ) أي : التشريع الذي قد ( تُقرّر في وجه حرمة العمل بما وراء العلم ) إذ ليس هذا عملاً بغير علم حتى يكون من باب التشريع ، بل هو عمل بما عُلم جوازه فيكون من باب الاحتياط ( فراجع ) ما ذكرناه في باب الاحتياط سابقاً .

إذن : فالمقام ( نظير الاحتياط بالتزام ما ) أي : إلتزام عمل قد ( دلّ أمارة غير معتبرة على وجوبه مع إحتمال الحرمة ، أو العكس ) يعني : الاحتياط بالتزام ما دلّ أمارة غير معتبرة على حرمته مع احتمال الوجوب ، فإنّ الاحتمال لايضرّ بأن يحتاط الانسان بالاتيان في الأوّل ، والترك في الثاني ، إذ الدوران بين المحذورين :

ص: 396

وأمّا إدراجُ المسألة في مسألة دوران المكلّف به بين أحدهما المعيّن ، وأحدهما على البدل ، ففيه : أنّه لاينفع بعدما اخترنا في تلك المسألة وجوب الاحتياط وعدم جريان قاعدة البراءة .

والأولى منعُ إندراجها في تلك المسألة ، لأنّ مرجع الشكّ في المقام إلى الشكّ

-------------------

كالوجوب والحرمة ، من موارد التخيير العقلي ، فإذا كان أحد الطرفين فيه رجحان ، من باب الاحتياط لا من باب التشريع يجوز لنا أن نأتي بذلك الطرف الراجح .

( وأمّا ) ما أشكله ثانياً : في ( إدراج المسألة ) التي نحن فيها من تعارض الخبرين ( في مسألة دوران المكلّف به ) أي : الواجب ( بين أحدهما المعيّن ، وأحدهما على البدل ، ففيه : أنّه ) أي : يرد عليه أن هذا الادراج ( لاينفع ) المستشكل ( بعد ما اخترنا في تلك المسألة ) أي : مسألة الدوران بين التعيين والتخيير ( وجوب الاحتياط وعدم جريان قاعدة البرائة ) فقد قلنا هناك : بأن اللازم أن يأتي بالمعيّن لأنه مبرء للذمّة على كل تقدير ، بخلاف ما لو أتى بالطرف الآخر حيث أنّه لايعلم ببرائة ذمته ، فالشك فيه يكون من الشك في الامتثال ، لامن الشك في الاشتغال ، والشك في الامتثال مجرى الاحتياط لا مجرى البرائة فنزاعنا مع المستشكل مبنائي لا بنائي .

( و ) على هذا فإن ( الأولى منع إندراجها ) أي : إندراج مسألتنا التي هي في تعارض الخبرين ( في تلك المسألة ) أي : مسألة الدوران بين التعيين والتخيير ، وذلك ( لأنّ مرجع الشكّ في المقام ) أي : مقام تعارض الخبرين ( إلى الشكّ

ص: 397

في جواز العمل بالمرجوح .

-------------------

في جواز العمل بالمرجوح ) وعدم جواز العمل به ، فهو يرجع إلى أن المرجوح حجّة أو ليس بحجّة ، وكلّما شك في حجيّته فالأصل عدم حجيته ، فالمرجوح ليس بحجة ولا يجوز العمل به ، بل يجب العمل بالراجح .

بعونه تعالى

انتهى الجزء الرابع عشر

ويليه الجزء الخامس عشر في

تتمّة الكلام في التراجيح

وله الحمد على آلائه

ونعمائه

ص: 398

المحتويات

تتمّة الكلام في الموضع الثالث ... 5

الموضع الرابع : استثناءات قاعدة الفراغ ... 13

الموضع الخامس : أقسام الفراغ ... 24

الموضع السادس : في صحّة المأتي به بعد الفراغ ... 33

الموضع السابع : المراد بالشكّ ... 37

المسألة الثالثة ... 41

أدلّة الكتاب ... 42

أدلّة السنّة ... 46

الاجماع القولي والعملي ... 58

العقل ... 60

تنبيهات

التنبيه الأوّل ... 63

التنبيه الثاني ... 76

التنبيه الثالث ... 92

التنبيه الرابع ... 100

التنبيه الخامس ... 113

التنبيه السادس ... 117

أصالة الصحّة في الأقوال والأفعال ... 125

ص: 399

المقام الثاني ... 136

المقام الثالث ... 141

الأوّل : تعارض البرائة مع الاستصحاب ... 141

الثاني : تعارض الاشتغال مع الاستصحاب ... 157

الثالث : تعارض التخيير مع الاستصحاب ... 160

تعارض الاستصحابين ... 161

أقسام الاستصحابات المتعارضة

القسم الأوّل ... 165

القسم الثاني ... 209

صور في المسألة ... 212

الصورة الاُولى والثانية ... 212

الدعوى الاُولى ... 212

الدعوى الثانية ... 219

الصورة الثالثة ... 236

الصورة الرابعة ... 239

التعادل والتراجيح

خاتمة في التعادل والتراجيح ... 253

المقام الأوّل في المتكافئين ... 337

المقام الثاني في التراجيح ... 387

المقام الأوّل : الترجيح بالمزايا ... 388

المحتويات ... 399

ص: 400

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.