الوصائل الى الرسائل المجلد 13

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

الوصائل الى الرسائل

تتمّة المقصد الثالث : تتمّة بحث الاستصحاب

ص: 4

وأمّا موضوعه - كالضرر المشكوك بقاؤه في المثال المتقدّم ، فالذي ينبغي أن يقال فيه : أنّ الاستصحاب إن اعتبر من باب الظنّ عمل به هنا ، لأنّه يظنّ الضررُ بالاستصحاب ، فيحمل عليه الحكم العقليّ إن كان موضوعه أعمّ من القطع والظنّ ، كمثال الضرر ؛

-------------------

( وأمّا موضوعه ) أي : استصحاب موضوع الحكم العقلي ، وذلك بان شككنا في الحكم العقلي للشك في بقاء موضوعه لاشتباه خارجي ( - كالضرر المشكوك بقاؤه في المثال المتقدّم ) في شرب الماء المسموم ، فان الاستصحاب يجري فيه بشرطين : الشرط الأوّل ما أشار إليه بقوله :

( فالذي ينبغي أن يقال فيه : أنّ الاستصحاب إن اعتبر ) حجيته ( من باب الظنّ عمل به هنا ) .

وإنّما يعمل بالاستصحاب هنا ان اعتبر من باب الظن ( لأنّه يظنّ الضررُ بالاستصحاب ، فيحمل عليه الحكم العقليّ ) أي : يحمل على مظنون الضرر الحكم العقلي بوجوب الاجتناب .

هذا هو الشرط الأوّل للاستصحاب هنا والشرط الثاني هو : ( إن كان موضوعه ) أي : موضوع الحكم العقلي ( أعمّ من القطع ) بالضرر ( والظنّ ) به ( كمثال الضرر ) في شرب الماء المسموم فانه لا فرق عند العقل بين القطع بالضرر ، أو الظن به في وجوب الاجتناب عنه .

مثلاً : ان العقل يحكم بقبح شرب الماء المسموم ، فإذا شك في بقاء السم في الماء ، أو انه زال عنه لتغيّر حصل في الماء بزيادة الماء ، أو معالجة السم بمواد كيماوية ، فانه يستصحب الضرر ويثبت القبح العقلي المستتبع للحرمة الشرعية ، غير انّ جريان هذا الاستصحاب - على ما مر - مشروط بأمرين :

ص: 5

وإن إعتبر من باب التعبّد لأجل الأخبار فلا يجوز العمل به ، للقطع بانتفاء حكم العقل مع الشك في الموضوع الذي كان يحكم عليه مع القطع .

-------------------

الأمر الأوّل : ان يكون الاستصحاب حجة من باب الظن ، كما يقول به جمع من الاُصوليين ، لا من باب التعبد ، على ما سيأتي بقوله : وان اعتبر من باب التعبد ، وإلاّ فانه إذا كان الاستصحاب حجة من باب التعبد كان أصلاً مثبتا ، وقد عرفت : ان الأصل المثبت ليس بحجة .

الأمر الثاني : ان يكون موضوع حكم العقل أعم من مقطوع الضرر ومظنونه ، فانه لو كان للقطع مدخلية في موضوع حكم العقل بوجوب الاجتناب ، إرتفع الحكم بارتفاع القطع ، حيث ان الحكم لا يبقى بعد إرتفاع موضوعه .

لكن لا يخفى : ان موضوع حكم العقل هو : أعم من القطع والظن ، ومن الاحتمال الموهوم فيما لو كان الضرر كثيرا ، وذلك على ما تقدّم في بعض مباحث الكتاب ، فإذا كان - مثلاً - في كلٍ من عشر سيارات ، تنزلق سيارة واحدة فتسقط في الهوة ممّا يوجب هلاك ركابها ، فان الاحتمال يكون موهوما بالنسبة إلى كل سيارة سيارة ، لكن العقل يقول بلزوم الاجتناب .

هذا ( وإن إعتبر ) الاستصحاب ( من باب التعبّد لأجل الأخبار ) الدالة على الاستصحاب لا من باب الظن ( فلا يجوز العمل به ) أي : بهذا الاستصحاب ( للقطع بانتفاء حكم العقل مع الشك في الموضوع ) الضرري ( الذي كان يحكم عليه مع القطع ) به ، يعني : ان الاستصحاب يوجب الظن بالضرر لا القطع به ، والعقل يقول بلزوم الاجتناب عن الضرر المقطوع به ، فالاستصحاب لا يفيد ذلك الموضوع حتى يجب الاجتناب عنه .

ص: 6

مثلاً : إذا ثبت بقاء الضرر في السمّ في المثال المتقدّم بالاستصحاب ، فمعنى ذلك ترتيب الآثار الشرعيّة المجعولة للضرر على مورد الشك .

وأمّا الحكم العقلي بالقبح فلا يثبت بذلك .

نعم ، يثبت الحرمة الشرعية بمعنى : نهي الشارع ظاهرا لثبوتها سابقا ولو بواسطة الحكم العقلي ، ولا منافاة بين إنتفاء الحكم العقلي

-------------------

( مثلاً : إذا ثبت بقاء الضرر في السمّ في المثال المتقدّم بالاستصحاب ) بان كان سابقا سمّا ، ثم شككنا في انه هل زال بواسطة أمر عدمي كضعف مفعوله بسبب مرور الزمان عليه ، أو بواسطة أمر وجودي كاضافة الماء عليه أو معالجته بالمواد الكيماوية - مثلاً - ( فمعنى ذلك ) الاستصحاب هو : ( ترتيب الآثار الشرعيّة المجعولة للضرر على مورد الشك ) فيحكم بوجوب الاجتناب عنه .

( وأمّا الحكم العقلي بالقبح ) لشربه ( فلا يثبت بذلك ) الاستصحاب ، لعدم تحقق موضوع القبح وهو كونه مقطوع الضرر ، أو مظنونه ، لأن الحكم العقلي بالقبح كان مترتبا على أحدهما ، والاستصحاب من باب الاخبار لا يثبت شيئا منهما .

( نعم ، يثبت ) هذا الاستصحاب ( الحرمة الشرعية ) وذلك ( بمعنى : نهي الشارع ظاهرا ) وقال ظاهرا ، لأن الاستصحاب لا يفيد إلاّ النهي الظاهري .

وإنّما يثبت بالاستصحاب الحرمة ( لثبوتها ) أي : الحرمة ( سابقا ) فالشرب منهي عنه ( ولو بواسطة الحكم العقلي ) فانه حين كان هذا الماء مسموما ومضرّا كان العقل يحكم بقبح شربه لتحقق موضوع الحكم العقلي الذي هو القطع بالضرر أو الظن به فرضا ، ولأجل هذا الحكم العقلي حكم الشرع بالحرمة من باب كلما حكم به العقل حكم به الشرع ، امّا عند الشك فالشارع يتعبّدنا بابقاء الضرر ،

ص: 7

وثبوت الحكم الشرعي لأنّ عدم حكم العقل مع الشك ، إنّما هو لاشتباه الموضوع عنده ، وباشتباهه يشتبه الحكم الشرعي الواقعي أيضا ، إلاّ أنّ الشارع حكم على هذا المشتبه الحكم الواقعي بحكم ظاهريّ هي الحرمة .

وممّا ذكرنا : من عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي ، يظهر ما في تمسك بعضهم لاجزاء ما فعله الناسي لجزء من العبادة أو شرطها

-------------------

بينما لا يحكم العقل بالقبح .

( و ) ان قلت : انه إذا إرتفع الحكم العقلي الذي كان هو سبب الحكم الشرعي يلزم ان يرتفع الحكم الشرعي أيضا .

قلت : ( لا منافاة بين إنتفاء الحكم العقلي ) لعدم موضوعه في الآن الثاني ( وثبوت الحكم الشرعي ) بالاستصحاب .

وإنّما لا منافاة بينهما ( لأنّ عدم حكم العقل مع الشك ، إنّما هو لاشتباه الموضوع عنده ) أي : عند العقل ، فحيث لا يتم الموضوع عند العقل لا يحكم بالقبح ( وباشتباهه يشتبه الحكم الشرعي الواقعي أيضا ) لأن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية ، ومع إشتباه الموضوع يشك في ان الحكم الشرعي باق بعد إنتفاء القطع أو الظن بالضرر أو ليس بباق ؟ ( إلاّ أنّ الشارع حكم على هذا المشتبه الحكم الواقعي ) لاشتباه موضوعه ( بحكم ظاهريّ ) تعبدا بواسطة الاستصحاب و ( هي الحرمة ) المستصحبة .

( وممّا ذكرنا : من عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي ) بعد الشك في موضوعه ( يظهر ما في تمسك بعضهم لاجزاء ما فعله الناسي لجزء من العبادة أو شرطها ) كما إذا نسي جزءا كالحمد ، أو شرطا كالستر ، ثم بعد الصلاة تذكر ذلك ، فانه قال بكفاية هذه الصلاة وعدم إعادتها .

ص: 8

باستصحاب عدم التكليف الثابت حال النسيان ، وما في إعتراض بعض المعاصرين على من خصّ من القدماء والمتأخرين إستصحاب حال العقل باستصحاب العدم ، بانّه لا وجه للتخصيص ، فانّ حكم العقل المستصحب

-------------------

وإنّما قال هذا البعض ذلك ، تمسّكا منه ( باستصحاب عدم التكليف الثابت حال النسيان ) فانه كان في حال النسيان غير مكلف ، لقبح توجّه التكليف إلى العاجز عن الامتثال ، والناسي عاجز عن الامتثال ، ولذلك فانه إذا تذكر بعد ذلك قال : لا يجب عليه الاعادة ، لاستصحاب عدم التكليف الذي كان حال النسيان .

وإنّما ظهر ما في هذا الكلام ، لأن عدم التكليف حال النسيان كان حكما عقليا ، والحكم العقلي يرتفع بارتفاع موضوعه وهو النسيان ، فأدلة وجوب الصلاة مع السورة أو مع الستر تشمل هذا الشخص أيضا فيجب عليه الاعادة .

نعم ، إذا كان المنسي غير الاُمور الخمسة المرتفعة بالنص : من القبلة ، والطهور، والوقت ، والركوع ، والسجود ، فانه لا تجب فيه الاعادة للدليل الخاص لا للاستصحاب .

( و ) ظهر أيضا ( ما في إعتراض بعض المعاصرين ) وهو صاحب الفصول ( على من خصّ من القدماء والمتأخرين إستصحاب حال العقل باستصحاب العدم ) فان جماعة من المتأخرين وذلك تبعا لجماعة من المتقدمين قالوا : ان إستصحاب حال العقل خاص باستصحاب العدم فقط ، فاعترض عليهم الفصول قائلاً : ( بانّه لا وجه للتخصيص ) باستصحاب العدم فقط .

وإنّما لا وجه للتخصيص به لأنه كما قال : ( فانّ حكم العقل المستصحب

ص: 9

قد يكون وجوديّا تكليفيّا ، كاستصحاب تحريم التصرف في مال الغير ، ووجوب ردّ الأمانة إذا عرض هناك ما يحتمل معه زوالهما ، كالاضطرار والخوف ، أو وضعيا ، كشرطيّة العلم للتكليف إذا عرض ما يوجب الشك في بقائها .

-------------------

قد يكون وجوديا تكليفيا ، كاستصحاب تحريم التصرف في مال الغير ، و ) إستصحاب ( وجوب ردّ الأمانة إذا ) شك في بقاء التحريم أو الوجوب فيما إذا ( عرض هناك ما يحتمل معه زوالهما ) أي : زوال الوجوب والتحريم ( كالاضطرار ) إلى التصرف في مال الغير لأجل بقاء حياته كما في المخمصة ، أو بقاء حياة غيره كما في إنقاذ الغريق ( والخوف ) من السارق أو الغاصب في ردّ الأمانة .

( أو وضعيا ) وهذا عطف على قوله « تكليفيا » ( كشرطيّة العلم للتكليف إذا عرض ما يوجب الشك في بقائها ) أي : بقاء الشرطية ، فان صاحب الفصول قال : بأن الأحكام العقلية هي : وجودية وعدمية ، فلا وجه لانحصار إستصحاب حال العقل في إستصحاب العدم فقط ، ثم مثّل لاثبات قوله بهذه الأمثلة الثلاثة التي عرفتها في التكليفية والوضعية الوجودية .

وإنّما ظهر من كلام المصنِّف ما في إعتراض الفصول ، لأن الاستصحاب لا يجري في نفس حكم العقل إطلاقا ، وذلك لما عرفت : من ان الموضوع ان كان باقيا فالحكم باق ، وان لم يكن باقيا أو شك في بقائه وعدم بقائه فلا يجري الاستصحاب ، ومراد الأصحاب من إستصحاب حال العقل : إستصحاب الحال التي يحكم العقل على طبقها وهو : عدم التكليف ، لا الحال المستندة إلى العقل ، وذلك على ما ذكرناه مفصّلاً في أوائل بحث الاستصحاب .

ص: 10

ويظهر حال المثالين الأوّلين ممّا ذكرنا سابقا ، وأمّا المثال الثالث فلم يتصوّر فيه الشك في بقاء شرطية العلم للتكليف في زمان .

نعم ، ربما يستصحب التكليف فيما كان المكلّف به معلوما بالتفصيل

-------------------

وعليه : فاستصحاب العدم أيضا ليس إستصحابا عقليا بل هو إستصحاب يطابق العقل ، فان العقل إذا لم يجد الدليل يقول بعدم الحكم ، لا انه يستصحب العدم .

( و ) اما الأمثلة الثلاثة التي ذكرها الفصول فهي غير تامة ، إذ ( يظهر حال المثالين الأوّلين ) أي : تحريم التصرّف في مال الغير ، ووجوب ردّ الأمانة ( ممّا ذكرنا سابقا ) : من ان موضوع حكم العقل واضح ، فامّا ان يحكم بوجوب ردّ الامانة بشرط عدم الاضطرار والخوف ، فيرتفع وجوبه قطعا بعروض الاضطرار والخوف ، وامّا ان يحكم بوجوب ردّ الامانة مطلقا ، فيبقى الحكم قطعا بعد عروضهما ، فلا إستصحاب .

وكذلك الحال في التصرّف في ملك الغير ، فانه ان بقي موضوعه بقي ، وان شك في موضوعه إرتفع ، فلا مجال للاستصحاب .

( وأمّا المثال الثالث ) وهو الحكم الوضعي كشرطية العلم للتكليف فيما إذا عرض ما يوجب الشك في بقاء العلم شرطا للتكليف ( فلم يتصوّر فيه الشك في بقاء شرطية العلم للتكليف في زمان ) من الأزمنة ، لوضوح ان العلم شرط للتكليف في كل حال ، ويكفي وجود العلم آنا مّا في إشتغال الذمة بالتكليف يقينا ولزوم تحصيل البرائة اليقينية منه .

( نعم ، ربما يستصحب التكليف فيما كان المكلّف به معلوما بالتفصيل ) كما

ص: 11

ثم إشتبه وصار معلوما بالاجمال .

لكنّه خارج عمّا نحن فيه مع عدم جريان الاستصحاب فيه كما سننبّه عليه .

ويظهر أيضا فساد التمسك باستصحاب البرائة والاشتغال الثابتين بقاعدتي البرائة والاشتغال .

-------------------

إذا علم بوجوب الصلاة تفصيلاً إلى جهة القبلة ( ثم إشتبه وصار معلوما بالاجمال ) بأن جهل القبلة في أيّ طرف هي ، فانه إذا صلّى صلاة واحدة إلى جهة وشك في بقاء التكليف ، وجب عليه الاتيان بالصلاة إلى بقية الجهات أيضا للاستصحاب .

( لكنّه ) أي : هذا الاستصحاب ( خارج عمّا نحن فيه ) لأمرين :

أولاً : لأنه ليس من إستصحاب حكم العقل ، بل هو من إستصحاب وجود التكليف ، إذ بالاجمال لا يرتفع التكليف الذي قد تنجّز على المكلّف .

ثانيا : ( مع عدم جريان الاستصحاب فيه ) أيضا ، لأنه أصل مثبت ( كما سننبّه عليه ) أي : على انه أصل مثبت بعد أسطر من كلام المصنِّف حيث يقول : لكنه لا يقضي بوجوب الاتيان بالصلاة إلى الجهة الباقية ، بل يقضي بوجوب تحصيل البرائة من الواقع ، لكن مجرد ذلك لا يثبت وجوب الاتيان بما يقتضي اليقين بالبرائة إلاّ على القول المثبت .

( ويظهر أيضا ) أي : ممّا ذكرنا : من عدم إستصحاب حكم العقل يظهر ( فساد التمسك باستصحاب البرائة والاشتغال ، الثابتين بقاعدتي البرائة والاشتغال ) فانه لا تستصحب البرائة ، ولا يستصحب الاشتغال .

ص: 12

مثال الأوّل : ما إذا قطع بالبرائة عن وجوب غسل الجمعة والدعاء عند رؤية الهلال قبل الشرع أو العثور عليه .

فانّ مجرد الشك في حصول الاشتغال كاف في حكم العقل بالبرائة ، ولا حاجة إلى إبقاء البرائة السابقة والحكم بعدم إرتفاعها ظاهرا .

-------------------

( مثال الأوّل ) وهو إستصحاب البرائة : ( ما إذا قطع بالبرائة عن ) حرمة شرب التتن قبل الشرع ، فان قبل الشرع لم يكن شرب التتن حراما ، وعن ( وجوب غسل الجمعة والدعاء عند رؤية الهلال قبل الشرع ) فانه لم يكن الغسل والدعاء قبل الشرع واجبا ، إذ لم يكن قبل الشرع حكم وجوبي أو تحريمي إطلاقا .

( أو العثور عليه ) وهذا عطف على قبل الشرع يعني : انه إذا جاء الشرع وفحص المجتهد بالقدر اللازم عن حرمة شرب التتن ، وعن وجوب غسل الجمعة ، وعن وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، ولم يظفر بدليل ، فانه يجري البرائة في الأحكام الثلاثة ، وذلك لأن العقل كما كان يحكم بالبرائة قبل الشرع ، فكذلك يحكم بالبرائة بعد الشرع ما لم يظفر بدليله أيضا لبقاء موضوع حكمه الذي هو عدم البيان ، فلا شك في حكم العقل حتى نجري حكم العقل بسبب الاستصحاب .

وإنّما ظهر فساد ذلك لأنه كما قال : ( فانّ مجرد الشك في حصول الاشتغال ) بسبب مجيء الشرع ( كافٍ في حكم العقل بالبرائة ، ولا حاجة إلى إبقاء البرائة السابقة ) قبل الشرع ( و ) لا إلى ( الحكم بعدم إرتفاعها ) أي : إرتفاع البرائة ( ظاهرا ) بالاستصحاب ، إذ الاستصحاب يفيد الحكم الظاهري ولا حاجة لنا إلى مثل هذا الاستصحاب .

ص: 13

فلا فرق بين الحالة السابقة واللاحقة في إستقلال العقل بقبح التكليف فيهما ، لكون المناط في القبح عدم العلم .

نعم ، لو اُريد إثبات عدم الحكم أمكن إثباته باستصحاب عدمه ، لكنّ المقصود من إستصحابه ليس إلاّ ترتيب آثار عدم الحكم ، وليس إلاّ عدم الاشتغال الذي يحكم به العقل في زمان الشك ،

-------------------

إذن : ( فلا فرق بين الحالة السابقة ) قبل الشرع ( واللاحقة ) بعد الشرع ( في إستقلال العقل بقبح التكليف فيهما ) أي في الحالة السابقة وفي الحالة اللاحقة ، وذلك ( لكون المناط في القبح عدم العلم ) وهو حاصل في الحالتين معا : الحالة السابقة والحالة اللاحقة أيضا ، ومعه لا حاجة إلى الاستصحاب .

( نعم ، لو اُريد إثبات عدم الحكم ) لا عدم العلم بالحكم ( أمكن إثباته باستصحاب عدمه ) أي : أمكن إثبات عدم الحكم بالاستصحاب .

إذن : فبالنسبة إلى حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان ، فانه حاصل قبل الشرع وبعد الشرع على حد سواء ، فلا حاجة فيه إلى الاستصحاب ، وبالنسبة إلى انه لم يكن قبل الشرع حكم واُريد إثبات انه لم يكن بعد الشرع حكم أيضا فانه بحاجة إلى الاستصحاب .

( لكنّ ) هذا الاستصحاب أيضا نحن في غنى عنه ، لأن ( المقصود من إستصحابه ) أي : إستصحاب عدم الحكم ( ليس إلاّ ترتيب آثار عدم الحكم ، وليس ) آثار عدم الحكم ( إلاّ عدم الاشتغال الذي يحكم به ) أي : يحكم بعدم الاشتغال ( العقل في زمان الشك ) بمجرّد الشك ، فلا حاجة إلى الاستصحاب ، إذ لا نفع في هذا الاستصحاب ، فان أثر هذا الاستصحاب الذي هو نفي التكليف حاصل بحكم العقل المستقل بقبح العقاب ، بلا بيان .

ص: 14

فهو من آثار الشك ، لا المشكوك .

ومثال الثاني : إذا حكم العقل عند إشتباه المكلّف به بوجوب السورة في الصلاة ووجوب الصلاة إلى أربع جهات ووجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة ، ففعل ما يحتمل معه بقاء التكليف الواقعي وسقوطه ، كأن صلّى بلا سورة

-------------------

إذن : ( فهو ) أي : عدم الاشتغال ( من آثار الشك ، لا المشكوك ) فانه بمجرد الشك في التكليف يترتب عدم التكليف ، بلا حاجة إلى سحب الحالة السابقة أعني : بقاء عدم الاشتغال وهو المشكوك إلى الحال اللاحقة حتى يثبت بذلك عدم التكليف .

هذا كله بالنسبة إلى مثال الأوّل وهو : إستصحاب البرائة .

( و ) اما بالنسبة ( مثال الثاني ) وهو إستصحاب الاشتغال فهو : ما ( إذا حكم العقل عند إشتباه المكلّف به بوجوب السورة في الصلاة ) وذلك فيما إذا لم يعلم بأن السورة في الصلاة واجبة أيضا كالفاتحة ، أم لا ؟ .

( و ) كذا ما إذا حكم العقل على ( وجوب الصلاة إلى أربع جهات ) وذلك في صورة إشتباه القبلة إلى جهات أربع .

( و ) كذا ما إذا حكم العقل على ( وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة ) الجامعة للشرائط بأن كان أطرافها محل الابتلاء ، وما إلى ذلك من شرائط وجوب الاجتناب .

وعليه : فإذا حكم العقل عند إشتباه المكلّف به بالتكليف فعلاً أو تركا ( ففعل ما يحتمل معه بقاء التكليف الواقعي وسقوطه ، كأن صلّى بلا سورة ) فانه إذا كانت السورة واجبة لم يسقط التكليف ، وإذا لم تكن واجبة سقط التكليف .

ص: 15

أو إلى بعض الجهات أو إجتنب أحدهما ، فربما يتمسك حينئذ باستصحاب الاشتغال المتيقن سابقا .

وفيه : أنّ الحكم السابق لم يكن إلاّ بحكم العقل ، الحاكم بوجوب تحصيل اليقين بالبرائة عن التكليف المعلوم في زمان هو بعينه موجود في هذا الزمان .

نعم ، الفرق بين هذا الزمان والزمان السابق : حصول العلم

-------------------

( أو ) صلّى ( إلى بعض الجهات ) الأربع دون بعضها الآخر فكذلك .

( أو إجتنب أحدهما ) أي : أحد الانائين المشتبهين بالنجس دون الآخر ، فيشك حينئذ في انه هل بقي التكليف الوجوبي أو التحريمي أم لا ؟ .

( فربما يتمسك حينئذ ) أي : حين الشك في بقاء التكليف ( باستصحاب الاشتغال المتيقن سابقا ) إذ التكليف كان سابقا متيقنا ، فيشك في انه أتى به أم لا ، فيستصحب بقائه .

( وفيه : أنّ الحكم السابق لم يكن إلاّ بحكم العقل ، الحاكم بوجوب تحصيل اليقين بالبرائة عن التكليف المعلوم في زمان ) وهو الزمان الأوّل الذي لم يأت فيه بشيء من المحتملات ( هو ) أي : هذا الحكم العقلي ( بعينه موجود في هذا الزمان ) الثاني الذي أتى فيه ببعض المحتملات ، ومع وجوده لا حاجة إلى الاستصحاب .

وعليه : فان قاعدة الاشتغال الموجودة في الزمان السابق قبل الاتيان بشيء من المحتملات ، موجودة بنفسها في الزمان اللاحق بعد الاتيان ببعض المحتملات ، فاللازم الاتيان ببقية المحتملات لقاعدة الاشتغال لا للاستصحاب .

( نعم ، الفرق بين هذا الزمان ) وهو اللاحق ( والزمان السابق : حصول العلم

ص: 16

بوجود التكليف فعلاً بالواقع في السابق وعدم العلم به في هذا الزمان . وهذا لا يؤثر في حكم العقل المذكور ، إذ يكفي فيه العلم بالتكليف الواقعي آنا مّا .

نعم ، يجري إستصحاب عدم فعل الواجب الواقعي ، وعدم سقوطه عنه ، لكنّه لا يقضي بوجوب الاتيان بالصلاة مع السورة ، والصلاة إلى الجهة الباقية ، وإجتناب المشتبه الباقي ،

-------------------

بوجود التكليف فعلاً بالواقع في السابق ) لأنه قبل الاتيان بشيء من المحتملات يقطع بالتكليف ( وعدم العلم به ) أي : بوجود التكليف فعلاً بالواقع ( في هذا الزمان ) الثاني ، لاحتمال ان يكون الواجب هو ما أتى به ، وان يكون المحرّم هو ما تركه .

( و ) لكن ( هذا ) الفرق ( لا يؤثر في حكم العقل المذكور ) الذي يقول بوجوب تحصيل اليقين بالبراءة ، لأنه لم يحصل اليقين بالبرائة في الزمانين لا في الزمان السابق ولا في الزمان اللاحق .

وإنّما لا يؤثر الفرق المذكور في حكم العقل بالاشتغال في الزمانين ( إذ يكفي فيه ) أي : في حكم العقل بالاشتغال ( العلم بالتكليف الواقعي آنا مّا ) مع عدم علمه باتيان ذلك التكليف ، وهذا حاصل في الزمان السابق وفي الزمان اللاحق معا .

( نعم ، يجري إستصحاب عدم فعل الواجب الواقعي ، وعدم سقوطه عنه ) في الزمان الثاني ( لكنّه لا يقضي بوجوب الاتيان بالصلاة مع السورة ، والصلاة إلى الجهة الباقية ، وإجتناب المشتبه الباقي ) .

وإنّما لا يقضي الاستصحاب المذكور بذلك ، لانه من الأصل المثبت ، والأصل

ص: 17

بل يقضي بوجوب تحصيل البرائة من الواقع ، لكن مجرّد ذلك لا يثبت وجوب الاتيان بما يقتضي اليقين بالبرائة ، إلاّ على القول بالأصل المثبت أو بضميمة حكم العقل بوجوب تحصيل اليقين ، والأوّل لا نقول به ، والثاني

-------------------

المثبت ليس بحجة فلا ينفع مثل هذا الاستصحاب إلاّ لمن يرى حجية الاستصحاب المثبت أيضا .

( بل يقضي بوجوب تحصيل البرائة من الواقع ) فان إستصحاب عدم فعل الواجب الواقعي أثره الشرعي : بقاء الوجوب الواقعي ، فيحكم العقل بوجوب طاعته وتحصيل البرائة منه ، وليس أثره الشرعي : وجوب المحتمل الآخر ، لأن الملازمة بين عدم فعل الواجب الواقعي ، وبين وجوب المحتمل الآخر يكون عقليا لا شرعيا ، فإذا أردنا ان نثبت بالاستصحاب وجوب إتيان المحتمل الآخر كان من الأصل المثبت .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف حيث قال : ( لكن مجرّد ذلك ) أي : الاستصحاب المذكور ( لا يثبت وجوب الاتيان بما ) أي : بالمحتمل الآخر فعلاً أو تركا بحيث ( يقتضي اليقين بالبرائة ، إلاّ على ) أحد وجهين :

الوجه الأوّل : ( القول بالأصل المثبت ) والأصل المثبت ليس بحجة على ما عرفت .

الوجه الثاني : ( أو بضميمة حكم العقل بوجوب تحصيل اليقين ) أي : بضم قاعدة الاشتغال إلى الاستصحاب المذكور ، فيثبت بهاتين القاعدتين معا وجوب المحتمل الآخر .

هذا ( و ) لكن كلا الوجهين غير تامين لما يلي :

اما الوجه ( الأوّل ) : وهو الأصل المثبت فلأنا ( لا نقول به ، و ) لا بحجيته .

واما الوجه ( الثاني ) : وهو ضم الاشتغال إلى الاستصحاب المذكور ، فلأن

ص: 18

بعينه موجود في محلّ الشك من دون الاستصحاب .

الأمر الرابع :

قد يطلق على بعض الاستصحابات : الاستصحاب التقديري تارة والتعليقي اُخرى باعتبار كون القضية المستصحبة قضيةً تعليقيّةً حُكِمَ فيها

-------------------

الاشتغال ( بعينه موجود في محلّ الشك ) على ما عرفت ، فلا حاجة في ضمه إلى الاستصحاب ، إذ العقل يحكم بالاشتغال ( من دون ) حاجة إلى ( الاستصحاب ) فلا مجال إذن للاستصحاب في المقام .

( الأمر الرابع ) ممّا ينبغي التنبيه عليه في الاستصحاب هو : الكلام حول الاستصحاب التقديري أو التعليقي ، علما بان الاستصحاب على قسمين :

الأوّل : التنجيزي .

الثاني : التعليقي ، ويسمّى بالتقديري أيضا .

ذكر بعضهم : ان الاستصحاب التعليقي ليس بحجة ، فأراد المصنِّف هنا الاشارة إلى انه لا فرق بين قسمي الاستصحاب ، فقال : ( قد يطلق على بعض الاستصحابات : الاستصحاب التقديري تارة والتعليقي اُخرى ) وذلك كما إذا غلا الزبيب ، فانه هل يحرم كما كان يحرم إذا غلا العنب ولم يذهب ثلثاه ، أم لا يحرم ؟ .

وإنّما يسمّى تعليقيا ، لأنه يقال : لو كان عنبا وغلا لحرم ، ويسمّى تقديريا ، لأنه يقال : على تقدير انه كان عنبا وغلا لكان حراما .

إذن : فالتسمية ( باعتبار كون القضية المستصحبة قضية تعليقيّةً حُكِمَ فيها )

ص: 19

بوجود حكم على تقدير وجود آخر ، فربما يتوهّم لأجل ذلك الاشكال في إعتباره بل منعه والرجوع فيه إلى إستصحاب مخالف له .

توضيح ذلك : أنّ المستصحب قد يكون أمرا موجودا في السابق بالفعل ، كما إذا وجبت الصلاة فعلاً ، أو حرم العصير العنبي بالفعل في زمان ثم شك في بقائه وإرتفاعه ،

-------------------

أي : في تلك القضية ( بوجود حكم ) كالحرمة ( على تقدير وجود آخر ) أي : على تقدير كونه عنبا .

وعليه : ( فربما يتوهّم لأجل ذلك ) التعليق ( الاشكال في إعتباره ) أي : إعتبار الاستصحاب التعليقي ( بل منعه ) لأن الوجود التعليقي كالعدم ، فلم يكن له حالة سابقة حتى يستصحب ( والرجوع فيه ) فيما إذا غلا الزبيب - مثلاً - ( إلى إستصحاب مخالف له ) أي : للاستصحاب التعليقي مثل : إستصحاب الحلّية المتحققة قبل الغليان ، فان الزبيب قبل الغليان حلال ، فكذلك بعده .

( توضيح ذلك ) أي : توضيح الاستصحاب التعليقي حتى نرى انه يصح الاستصحاب فيه أو لا يصح ، فنقول : ( أنّ المستصحب قد يكون أمرا موجودا في السابق بالفعل ) أي : متحقق خارجا ( كما إذا وجبت الصلاة فعلاً ، أو حرم العصير العنبي بالفعل في زمان ) سابق ( ثم شك في بقائه وإرتفاعه ) .

مثلاً : صلاة الجمعة - كانت واجبة زمان الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم وأيام خلافة أمير المؤمنين عليه السلام الظاهرية ، فنشك هل انها بقيت على وجوبها زمان خروج الخلافة الظاهرية عن يد المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين كزماننا هذا ، أم لا ؟ أو انّ العصير العنبي كان حراما لأنه غلا في زمان سابق ولم يذهب ثلثاه ، ثم طبخناه بمقدار شككنا في هذا الزمان اللاحق بانه هل بقيت حرمته أم لا ؟ .

ص: 20

وهذا لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه .

وقد يكون أمرا موجودا على تقدير وجود أمر ، فالمستصحب هو وجوده التعليقي ، مثل : أنّ العنب كان حرمة مائه معلّقة على غليانه ، فالحرمة ثابتة على تقدير الغليان ، فإذا جفّ وصار زبيبا فهل يبقى بالاستصحاب حرمة مائه المعلّقة على الغليان ، فيحرم عند تحقّقه أم لا ، بل يستصحب الاباحة السابقة لماء الزبيب قبل الغليان .

-------------------

( وهذا ، لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه ) عند القائلين بالاستصحاب لا النّافين له ، وذلك لتمامية أركان الاستصحاب : من اليقين السابق ، والشك اللاحق .

( وقد يكون ) المستصحب ( أمرا موجودا على تقدير وجود أمر ) آخر ( فالمستصحب هو وجوده التعليقي ) لا الوجود الفعلي ( مثل : أنّ العنب كان حرمة مائه معلّقة على غليانه ) أي : ان الحرمة موجودة في ماء العنب لكن بوجود معلق لفرض انه لم يكن حرما فعليا ، إذ لم يغل بعد حتى يحرم .

إذن : ( فالحرمة ثابتة على تقدير الغليان ، فإذا جف وصار زبيبا ) شككنا في ان ماء الزبيب هل هو حرام معلقا على الغليان كما كان ماء العنب حراما معلقا على الغليان ، أو لا يحرم ماء الزبيب ، لأن الزبيب ليس هو عين العنب حتى يكون محكوما بحكمه لتبدّل موضوعه ؟ .

وعليه : ( فهل يبقى بالاستصحاب حرمة مائه المعلّقة ) تلك الحرمة ( على الغليان ، فيحرم عند تحقّقه ) أي : تحقق الغليان ( أم لا ) يحرم ( بل يستصحب الاباحة السابقة لماء الزبيب قبل الغليان ) لأن ماء الزبيب قبل الغليان كان حلالاً ، فنستصحب حلّيته بعد الغليان أيضا ؟ .

ص: 21

وظاهرُ سيّد مشايخنا في المناهل وفاقا لما حكاه عن والده قدس سره ، في «الدرس» : عدم إعتبار الاستصحاب الأوّل والرجوع إلى الاستصحاب الثاني .

قال في المناهل : في ردّ تمسك السيد العلامة الطباطبائي على حرمة العصير من الزبيب إذا غلا بالاستصحاب :

« ودعوى تقديمه على إستصحاب

-------------------

( وظاهرُ سيّد مشايخنا ) وهو السيد محمد المجاهد قدس سره ( في المناهل ) الذي هو كتاب فقهي لهذا السيد العظيم الشأن هو : عدم إعتبار الاستصحاب التعليقي على ما يأتي في كلامه إن شاء اللّه تعالى .

هذا ، ولا يخفى ان السيد محمد المجاهد إنّما لقّب بالمجاهد ، لأنه جاهد الروس ، حيث أرادوا الاستيلاء على إيران ، ولولا جهاده آنذاك لكانت إيران كلها بيد الروس في هذا اليوم ، كما ان من المحبّذ ان يعلم بان حكومة البعث في العراق هدّمت قبره الشريف الذي كان بين الحرمين الطاهرين ، والواجب على المسلمين إعادته بعد سقوط حكم البعث بإذن اللّه تعالى .

وكيف كان : فان ظاهر كلام السيد المجاهد ( وفاقا لما حكاه عن والده ) السيد علي صاحب الرياض ( قدس سره ، في «الدرس» : عدم إعتبار الاستصحاب الأوّل ) وهو : الاستصحاب التعليقي للحرمة المعلقة ( والرجوع إلى الاستصحاب الثاني ) وهو الاستصحاب التنجيزي للحلّية المنجزة قبل الغليان .

( قال في المناهل : في ردّ تمسك السيد العلامة الطباطبائي ) السيد مهدي بحر العلوم قدّس اللّه سره ( على حرمة العصير من الزبيب إذا غلا ) وذلك تمسكا منه ( بالاستصحاب ) التعليقي ( « و ) في ردّ ( دعوى تقديمه على إستصحاب

ص: 22

الاباحة أنّه يشترط في حجّية الاستصحاب ثبوت أمر أو حكم وضعي أو تكليفي في زمان من الأزمنة قطعا ، ثم يحصل الشك في إرتفاعه بسبب من الأسباب ، ولا يكفي قابليّة الثبوت باعتبار من الاعتبارات ، فالاستصحاب التقديري باطلٌ ، وقد صرّح بذلك الوالد العلامة في أثناء «الدرس» ، فلا وجه للتمسك باستصحاب التحريم في المسألة » ، إنتهى كلامه رفع مقامه .

-------------------

الاباحة ) الذي هو إستصحاب تنجيزي ، فان السيد المجاهد قال في ردّ السيد بحر العلوم ما يلي :

( أنّه يشترط في حجية الاستصحاب ثبوت أمر ) خارجي مثل : حياة زيد الذي غاب وطالت غيبته بحيث لم يعلم انه حي أم لا ( أو حكم وضعي ) كطهارة المتوضي إذا خرج منه شيء لم يعلم إنه بول أو مذي ( أو تكليفي ) كوجوب الصوم لمن تمرض في الأثناء بحيث لم يعلم انه يضره صومه أم لا ؟ ويلزم أن يكون ثبوت ذلك ( في زمان من الأزمنة قطعا ) لا تقديرا ( ثم يحصل الشك في إرتفاعه بسبب من الأسباب ) كما مثلنا لذلك بالأسباب المذكورة .

هذا ( ولا يكفي قابليّة الثبوت باعتبار من الاعتبارات ) كالغليان - مثلاً - فان ثبوت الحرمة لعصير الزبيب على تقدير الغليان لا يكفي في الاستصحاب ، وذلك لأن الوجود التقديري ليس وجودا خارجيا حتى يستصحب بل هو وجود فرضي .

إذن : ( فالاستصحاب التقديري باطلٌ ، وقد صرّح بذلك ) البطلان ( الوالد العلامة ) يعني به والده : صاحب الرياض قدس سره وذلك ( في أثناء «الدرس» ، فلا وجه للتمسك باستصحاب التحريم في المسألة » (1) ) التي نحن فيها من عصير الزبيب ( إنتهى كلامه رفع مقامه ) .

ص: 23


1- - المناهل : مخطوط .

أقول : لا إشكال في إعتبار تحقق المستصحب سابقا ، والشك في إرتفاع ذلك المحقق .

ولا إشكال أيضا في عدم إعتبار أزيد من ذلك .

ومن المعلوم : أنّ تحقق كل شيء بحسبه .

فاذا قلنا : العنبُ يحرم ماؤه إذا غلا ، أو بسبب الغليان ، فهناك لازم وملزوم وملازمة ، أمّا الملازمة ، وبعبارة اُخرى : سببيّة الغليان لتحريم ماء العصير ، فهي متحقّقة بالفعل من دون تعليق .

-------------------

( أقول ) : أركان الاستصحاب في الاستصحاب التعليقي متوفّرة ، فلماذا لا يستصحب ؟ .

بيان ذلك : انه ( لا إشكال في إعتبار تحقق المستصحب سابقا ) لأنه أحد أركان الاستصحاب ( والشك في إرتفاع ذلك المحقق ) سابقا وهو الركن الثاني من أركان الاستصحاب ( ولا إشكال أيضا في عدم إعتبار أزيد من ذلك ) أي : من الوجود السابق والشك اللاحق ، فمن أين شرط التنجيز الذي ذكره صاحب المناهل حيث قال : إنه يشترط في حجية الاستصحاب : الوجود السابق منجّزا .

هذا ( ومن المعلوم : أنّ تحقق كل شيء بحسبه ) فان الوجود التقديري ليس عدما محضا ، بل هو وجود بحسبه ، كما ان الوجود التحقيقي له وجود بحسبه .

وعليه : ( فاذا قلنا : العنبُ يحرم ماؤه إذا غلا ، أو بسبب الغليان ) كان كل من العبارتين تعبيرا عن الملازمة بين أمرين ( فهناك لازم ) هو الحرمة ( وملزوم ) هو الغليان ( وملازمة ) بين الغليان والحرمة .

( أمّا الملازمة ، وبعبارة اُخرى : سببيّة الغليان لتحريم ماء العصير ، فهي متحققة بالفعل ) لا تقديرا ، يعني : انها متحققة ( من دون تعليق ) إذ تحقق الملازمة

ص: 24

وأمّا اللازم وهي : الحرمة ، فله وجودٌ مقيّد بكونه على تقدير الملزوم ، وهذا الوجود التقديري أمرٌ متحقّق في نفسه في مقابل عدمه .

وحينئذ : فإذا شككنا في أنّ وصف العنبيّة له مدخل في تأثير الغليان في حرمة مائه ، فلا أثر للغليان في التحريم بعد جفاف العنب وصيرورته زبيبا ،

-------------------

لا يستلزم تحقق اللازم والملزوم .

وعليه : فالملازمة هنا بين غليان العنب وحرمته متحققة بالفعل وان لم يتحقق الغليان بالفعل ولم تحصل الحرمة بعد ، وهكذا الأمر في كل ملازمة ، فإذا قلنا مثلاً :

كلّما وجدت أربعة كانت منقسمة إلى متساويين ، كانت الملازمة بين هذين الأمرين متحققة بالفعل وان لم تتحقق أربعة بالفعل ولم توجد صلاحية الانقسام إلى المتساويين بعد .

هذا كله بالنسبة إلى الملازمة ( وأمّا اللازم وهي : الحرمة ، فله وجودٌ مقيّد بكونه على تقدير الملزوم ) الذي هو الغليان ( وهذا الوجود التقديري أمرٌ متحقّق في نفسه في مقابل عدمه ) أي : عدم تحققه ، كما في غير العنب من سائر الثمار ، فان هذا الوجود التقديري غير متحقق فيها ، فالعنب إذا غلا حرم ، بينما الرمان إذا غلا لم يحرم ، وهكذا .

( وحينئذ ) أي : حين كان لحرمة العنب وجود بنحو تقديري ( فإذا شككنا ) بعد جفاف العنب وصيرورته زبيبا ( في أنّ وصف العنبيّة له مدخل في تأثير الغليان في حرمة مائه ) أو ليس له مدخل فيه ؟ فان قلنا : ان مع هذا الشك لا يجري الاستصحاب كانت النتيجة : ( فلا أثر للغليان في التحريم بعد جفاف العنب وصيرورته زبيبا ) فانا إذا قلنا بذلك كنّا قد فرّقنا بين هذا الحكم وبين سائر

ص: 25

فأيُّ فرق بين هذا وبين سائر الأحكام الثابتة للعنب إذا شك في بقائها بعد صيرورته زبيبا .

نعم ، ربما يناقش الاستصحاب المذكور تارة : بانتفاء الموضوع وهو العنب واُخرى : بمعارضته باستصحاب الاباحة قبل الغليان ، بل ترجيحه عليه بمثل الشهرة

-------------------

الأحكام الثابتة للعنب عند الشك فيها مع انه لا فارق .

وإلى إستنكار هذا الفرق وعدم وجود دليل عليه أشار المصنِّف حيث قال : ( فأيُّ فرق بين هذا ) أي : حكم الحرمة ( وبين سائر الأحكام الثابتة للعنب إذا شك في بقائها ) ؟ أي : بقاء تلك الأحكام كالملكية وغيرها ( بعد صيرورته زبيبا ) حتى إستوجب التفريق بينهما ؟ .

وعليه : فكما ان الأحكام المنجزّة للعنب ثابتة بعد جفافه وصيرورته زبيبا مثل : كونه ملكا لزيد ، وضارّا للمرض الفلاني ، ونافعا لرفع الغم بالنسبة إلى العنب الأسود ، فكذلك الأحكام التعليقية الثابتة للعنب كالحرمة إذا غلا ولم يذهب ثلثاه ، وما أشبه ذلك .

( نعم ، ربما يناقش الاستصحاب المذكور ) أي : الاستصحاب التعليقي ( تارة : بانتفاء الموضوع ) السابق ( وهو العنب ) لأن الموضوع في السابق كان العنب ، والآن ليس هو بعنب .

( واُخرى : بمعارضته باستصحاب الاباحة قبل الغليان ، بل ترجيحه ) أي : ترجيح إستصحاب الاباحة ( عليه ) أي : على إستصحاب الحرمة ترجيحا ( بمثل الشهرة ) القائمة على عدم تنجّس الزبيب بالغليان ، ومع تعارض الاستصحابين يرجّح الاستصحاب التنجيزي القائل بالحلّ لموافقته للمشهور .

ص: 26

والعمومات لكنّ الأوّل : لا دخلَ له في الفرق بين الآثار الثابتة للعنب بالفعل والثابتة له على تقدير دون آخر ، والثاني

-------------------

( و ) كذا يرجّح بمثل ( العمومات ) الدالة على حلّ كل شيء مثل : قوله تعالى : « أحلّ لكم الطيّبات » (1) وقوله عليه السلام : « كل شيء لك حلال » (2) إلى غير ذلك .

( لكنّ ) مناقشة الاستصحاب التعليقي بهذين الاعتراضين فيه ما لا يخفى .

إذ ( الأوّل : لا دخل له في الفرق بين الآثار الثابتة للعنب بالفعل والثابتة له على تقدير دون آخر ) فاشكال عدم بقاء الموضوع لأنه لما صار زبيبا لم يكن عنبا لو كان مانعا عن الاستصحاب ، لمنع عن إستصحاب الأحكام المنجّزة للعنب أيضا ، كالملكية على فرض الشك .

وعليه : فلا فرق بين الأحكام المنجَّزة والأحكام المعلَّقة من حيث الاستصحاب ، فلماذا الفرق باستصحاب الأحكام المنجَّزة دون الأحكام المعلَّقة ؟ مع ان الموضوع ان كان باقيا لزم إستصحاب الحكمين ، وإن لم يكن باقيا لزم عدم إستصحاب الحكمين ، علما بما سيأتي من الكلام في ان هذا المقدار من تغيّر الموضوع ، ليس مضرّا بالاستصحاب لوحدة الموضوع عند العرف ، كما تقدّم الالماع إليه أيضا .

( والثاني ) : وهو : إستشكال معارضة الاستصحاب التعليقي القائل بالحرمة بالاستصحاب التنجيزي القائل بالاباحة وترجيح الثاني بالشهرة أو العمومات ،

ص: 27


1- - سورة المائدة : الآية 4 و 5 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

فاسد ، لحكومة إستصحاب الحرمة على تقدير الغليان على إستصحاب الاباحة قبل الغليان .

فالتحقيق : أنّه لا يعقل فرق في جريان الاستصحاب ولا في إعتباره من حيث الأخبار ، أو من حيث العقل بين أنحاء تحقّق المستصحب

-------------------

فانه ( فاسد ، لحكومة إستصحاب الحرمة على تقدير الغليان على إستصحاب الاباحة قبل الغليان ) ومع حكومة الأوّل على الثاني لا يبقى مجال لترجيح الثاني بسبب الشهرة ، أو العمومات أو ما أشبه ذلك .

وإنّما يكون الأوّل حاكما على الثاني لأنهما سببي ومسبّبي ، وقد سبق إن الاستصحاب السببي مقدّم على الاستصحاب المسبّبي ، والشك في الحلّ والحرمة على تقدير الغليان مسبّب عن الشك في بقاء الحرمة المقدّرة حال العنبية ، فيجري الأصل السببي أعني : إستصحاب الحرمة ، ولا يبقى مجال للأصل المسبّبي أعني : إستصحاب الحلّية .

وعليه : فقد أجاب المصنِّف إلى هنا عن الاشكالات الثلاثة التي اُوردت على الاستصحاب التعليقي : من إشتراط التنجيز على ما إدعاه صاحب المناهل ، ومن تبدّل الموضوع ، ومن تعارض الاستصحابين على ما إدعاهما غيره ، ثم قال في النتيجة ما يلي :

( فالتحقيق : أنّه لا يعقل فرق في جريان الاستصحاب ) لتمامية أركانه ( ولا في إعتباره من حيث الأخبار ، أو من حيث العقل ) وذلك بناءا على من قال بحجية الاستصحاب من جهة الأخبار ، أو قال بحجيته من باب دليل العقل فانه لا يعقل فرق ( بين أنحاء تحقّق المستصحب ) سواءً كان تنجيزيا أم تعليقيا .

ص: 28

فكلّ نحو من التحقّق ثبت للمستصحب وشك في إرتفاعه ، فالأصل بقاؤه .

مع أنّك عرفت : أنّ الملازمة وسببية الملزوم للاّزم موجود بالفعل ، وجد اللازم أم لم يوجد ، لأنّ صدق الشرطيّة لا يتوقف على صدق الشرط .

وهذا الاستصحاب غير متوقف على وجود الملزوم . نعم ، لو اُريد إثبات وجود الحكم فعلاً في الزمان الثاني

-------------------

وعليه : ( فكلّ نحو من التحقّق ثبت للمستصحب ) تنجيزيا كان أم تعليقيا ( وشك في إرتفاعه ، فالأصل بقاؤه ) لتمامية أركان الاستصحاب .

هذا كله حال إستصحاب اللازم وهو : الحرمة المعلقة وعلى الملزوم وهو : الغليان .

امّا إستصحاب الملازمة بين الغليان والحرمة فأمره واضح لا غبار عليه ، وإليه أشار المصنِّف بقوله : ( مع أنّك عرفت : أنّ الملازمة وسببية الملزوم ) الذي هو الغليان ( للاّزم ) الذي هو الحرمة ( موجود بالفعل ) حال العنبيّة ، فلا تعليق في الملازمة إطلاقا ، سواء ( وجد اللازم ) والملزوم بالفعل ( أم لم يوجد ، لأنّ صدق الشرطية لا يتوقف على صدق الشرط ) وذلك على ما ذكرناه في مثال : كلّما وجدت أربعة كانت منقسمة إلى متساويين ، حيث ان الملازمة فعلية والشرطية صادقة ، سواء وجدت أربعة بالفعل أم لم توجد ؟ .

( وهذا الاستصحاب ) وهو : إستصحاب الملازمة ، الثابتة بالفعل حال العنبية ( غير متوقف على وجود الملزوم ) الذي هو الغليان ، بل يجري قبل الغليان ويترتب عليه الحرمة المعلقة ، فالملازمة إذن موجودة سابقا ولاحقا .

( نعم ، لو اُريد إثبات وجود الحكم ) أي : الحرمة ( فعلاً في الزمان الثاني )

ص: 29

إعتبر إحرازُ الملزوم فيه ليترتّب عليه بحكم الاستصحاب لازمُه .

وقد يقع الشك في وجود الملزوم في الآن اللاحق، لعدم تعيّنه وإحتمال مدخليّة شيء في تأثير ما يترائى أنّه ملزوم .

الأمر الخامس

إنّه لا فرق في المستصحب بين أن يكون

-------------------

وذلك بأن يكون ماء الزبيب حراما فعليا ( إعتبر إحراز الملزوم فيه ) الذي هو الغليان ( ليترتب عليه بحكم الاستصحاب لازمه ) الذي هو الحرمة ، فباستصحاب الملازمة قبل الغليان تثبت الحرمة المعلقة التقديرية ، وبمحض الغليان تثبت الحرمة الفعلية المتحققة .

هذا ( وقد يقع الشك في وجود الملزوم في الآن اللاحق ، لعدم تعيّنه ، وإحتمال مدخليّة شيء في تأثير ما يترائى أنّه ملزوم ) كما إذا شككنا في مثال : حرمة العصير العنبي بالغليان بانه هل مطلق الغليان قبل ذهاب الثلثين يوجب الحرمة أو الغليان بالنار فقط ؟ ففي هذه الصورة إذا غلا بالشمس لا يحكم عليه بالحرمة ، وذلك لأن الملازمة غير متحققة ، ومع عدم تحققها لا يبقى مجال لاستصحابها، فان الملازمة إنّما تستصحب إذا كانت متحققة ثم طرء الغليان .

وإن شئت قلت : ان الزبيب إذا غلا بالشمس وإحتمل مدخلية كون الغليان بالنار ، فان إستصحاب الملازمة حينئذ لا يثبت اللازم الذي هو الحرمة ، لعدم إحراز الملزوم الذي هو الغليان ، لاحتمالنا خصوصية الحرمة في الغليان بالنار فقط لا ما يعم الشمس أيضا .

( الأمر الخامس ) ممّا ينبغي التنبيه عليه في الاستصحاب هو : بيان الاستصحاب في الشرائع السابقة قال : ( إنّه لا فرق في المستصحب بين أن يكون

ص: 30

حكما ثابتا في هذه الشريعة أم حكما من أحكام الشريعة السابقة ، إذ المقتضي موجود ، وهو : جريان دليل الاستصحاب وعدم ما يصلح مانعا ، عدا اُمور .

منها : ما ذكره بعض المعاصرين ، من « أنّ الحكم الثابت في حقّ جماعة لا يمكن إثباته في حق آخرين ، لتغاير الموضوع ،

-------------------

حكما ثابتا في هذه الشريعة ) وإحتملنا نسخة - مثلاً - وغير ذلك من موارد الاستصحاب ( أم حكما من أحكام الشريعة السابقة ) وقد ثبت وجوده فيها بالكتاب أو السنة أو الاجماع ، لا إستصحاب الاحكام التي هي بأيديهم ممّا قد حرّف كثيرا منها .

وإنّما لا فرق في ذلك من حيث الاستصحاب ( إذ المقتضي موجود ، وهو : جريان دليل الاستصحاب ) لأنه يقين سابق وشك لاحق ، فيشمله أخبار الاستصحاب عند من يرى حجية الاستصحاب من باب الأخبار ، كما يشمله الظن العقلائي عند من يرى حجية الاستصحاب من باب الظن العقلائي .

إذن : فالمقتضي للاستصحاب بالنسبة إلى الشرائع السابقة موجود ، وأما المانع فمفقود كما قال : ( وعدم ما يصلح مانعا ) عن جريان الاستصحاب بالنسبة إلى الشرائع السابقة ( عدا اُمور ) تالية :

( منها : ما ذكره بعض المعاصرين ) وهو صاحب الفصول : ( من « أنّ الحكم الثابت في حق جماعة ) من أهل الشريعة السابقة ( لا يمكن إثباته في حق آخرين ) من أهل هذه الشريعة ، وذلك ( لتغاير الموضوع ) فانه مثل : إستصحاب حكم زيد لبكر .

ص: 31

فانّ ما ثبت في حقّهم مثله لا نفسه .

ولذا يتمسك في تسرية الأحكام الثابتة للحاضرين أو الموجودين إلى الغائبين أو المعدومين بالاجماع ، والأخبار الدالّة على الشركة لا بالاستصحاب » .

وفيه :

-------------------

وعليه : ( فانّ ما ثبت في حقّهم ) أي : حق الآخرين هو ( مثله ) أي : مثل ما ثبت من الحكم في الشريعة السابقة ( لا نفسه ) فانه إذا ثبت حكم زيد لبكر ، كان حكم بكر مثل : حكم زيد لا نفس حكم زيد ، بينما الاستصحاب هو إثبات الحكم السابق لموضوع خاص في الزمان الثاني لنفس ذلك الموضوع .

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه من تغاير الموضوع بالنسبة إلى أهل شريعتين نرى انه ( يتمسك في تسرية الأحكام الثابتة للحاضرين أو الموجودين ) حال الخطاب ( إلى الغائبين أو المعدومين ) في زمان الخطاب تسرية ( بالاجماع ، والأخبار الدالّة على الشركة ) في الأحكام ( لا بالاستصحاب » (1) ) فلا يتمسكون لاثبات الأحكام بالنسبة إلى الغائبين والمعدومين في زمان الخطاب بالاستصحاب .

وعليه : فاذا كانت التسرية للأحكام بالنسبة إلى أهل شريعة واحدة بحاجة إلى الاجماع والأخبار ، فكيف يقال : بتسرية أحكام أهل الشريعة السابقة إلى أهل هذه الشريعة اللاحقة بالاستصحاب ؟ .

( وفيه ) أي : في هذا الاشكال الذي أورده على إستصحاب الشرائع السابقة ما يلي :

ص: 32


1- - مناهج الأحكام للنراقي .

أولاً : أنّا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين .

فاذا حرم في حقّه شيء سابقا وشك في بقاء الحرمة في الشريعة اللاحقة ، فلا مانع عن الاستصحاب أصلاً .

وفرضُ إنقراض جميع أهل الشريعة السابقة عند تجدّد

-------------------

( أولاً : أنّا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين ) فاذا كان شخص كذلك ، فلا إشكال في تمكنه من إستصحاب الشريعة السابقة بعد مجئهذه الشريعة لوحدة الموضوع ، وإذا ثبت بالاستصحاب ان الحكم بالنسبة إلى هذا المدرك للشريعتين هو نفس الحكم السابق ، تعدّى ذلك إلى سائر الأشخاص الموجودين في هذه الشريعة ، لأنه لا يعقل التفاوت في شريعة واحدة بين أفرادها .

مثلاً : كان أبو طالب عليه السلام مدركا للشريعتين فكان له حكم ضمان ما لم يجب للاستصحاب ، فيكون الذي لم يدرك الشريعة السابقة كجعفر الطيار إبنه له ذلك الحكم أيضا ، وذلك لأن أبا طالب وجعفر لهما حكم واحد في هذه الشريعة ، لا أن أبا طالب له حكم ضمان ما لم يجب ، وجعفر ليس له هذا الحكم .

وعليه : ( فاذا حرم في حقّه ) أي : في حق من أدرك الشريعتين ( شيء سابقا وشك في بقاء الحرمة في الشريعة اللاحقة ، فلا مانع عن الاستصحاب أصلاً ) لتمامية أركانه ، وكذلك إذا وجب في حقه شيء سابقا من الأحكام التكليفية أو الوضعية .

( و ) لا يقال : انا نفرض هلاك جميع أهل الشريعة السابقة ، فلا أحد حتى يصح الاستصحاب بالنسبة إليه ويتعدّى إلى الآخرين .

لأنه يقال : ( فرضُ إنقراض جميع أهل الشريعة السابقة عند تجدّد ) الشريعة

ص: 33

اللاحقة نادرٌ ، بل غير واقع .

وثانيا أنّ إختلاف الأشخاص لا يمنع عن الاستصحاب ، وإلاّ لم يجر إستصحاب عدم النسخ .

-------------------

( اللاحقة نادرٌ ، بل غير واقع ) أصلاً ، فقوم نوح - مثلاً - وان هلكوا بالطوفان ، إلاّ انه بقي منهم من كان في السفينة ممن آمن بنوح ، ولذا لم نر في التاريخ ما يدلّنا على ان قوما هلكوا بأجمعهم ثم جائت شريعة لاحقة بعد إنقراضهم .

( و ) فيه ( ثانيا ) نقضا بالنسخ : وذلك حتى على فرض إنقراض أهل الشريعة السابقة جميعا فانه إذا قلنا بعدم الاستصحاب لاختلاف الأشخاص ، كان لازم ذلك أن لا نقول بإستصحاب عدم النسخ أيضا ، لاختلاف الأشخاص مع انه لا أحد يشك في جريانه .

بيان ذلك : انه إذا شك الحاضرون والموجودون زمن الخطاب في نسخ حكم ، حكموا بعدم نسخه لاستصحاب عدم النسخ ، وكذلك إذا شك الغائبون والمعدومون في زمن الخطاب ، حكموا بعدم نسخه أيضا لاستصحاب عدم النسخ ، مع ان النسخ مختص بزمن الخطاب ولا نسخ بعده قطعا ، وواضح : ان أشخاص الغائبين والمعدومين في زمن الخطاب غير أشخاص الحاضرين والموجودين زمن الخطاب ، ولو كان ذلك مانعا لما جرى الاستصحاب .

وعليه : فظهر : ( أنّ إختلاف الأشخاص لا يمنع عن الاستصحاب ، وإلاّ لم يجر إستصحاب عدم النسخ ) أصلاً حتى في شريعة واحدة ، فكيف بشريعتين ؟ وحيث لم يكن إختلاف الأشخاص في شريعة واحدة مانعا عن إستصحاب عدم النسخ ، لم يكن مانعا أيضا في أهل شريعتين .

هذا هو الجواب النقضي عن الاشكال الذي اُورد على إستصحاب الشرائع السابقة .

ص: 34

وحلّه : أنّ المستصحب هو الحكمُ الكلّي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم فيه ، فانّ الشريعة اللاحقة لا تحدث عند إنقراض أهل الشريعة الاُولى ، إذ لو فرض وجود اللاحقين في السابق

-------------------

وأما الجواب الحلي عنه فهو ما أشار إليه المصنِّف بقوله :

( وحلّه : أنّ المستصحب ) - مثل : ضمان ما لم يجب إذا شك في نسخه - ليس هو الحكم الخاص بجماعة الحاضرين والموجودين ، حتى لم يجر بالنسبة إلى جماعة الغائبين والمعدومين ، بل المستصحب ( هو الحكم الكلّي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم فيه ) من الحاضرين والغائبين والموجودين والمعدومين من أهل شريعة واحدة أو شريعتين ، فيجري في حقهم جميعا .

إن قلت : كون المستصحب حكما كلّيا يشمل الحاضرين والغائبين ، والموجودين والمعدومين حتى من أهل شريعتين ، إنّما هو لو حدثت الشريعة الثانية مع وجود أهل الشريعة الاُولى ، دون ما إذا حدثت عند إنقراضهم جميعا ، فانه لا يجري في الشريعة الثانية حينئذ .

قلت : إن مجيء الشرائع كان دائما مع وجود بقايا من أهل الشرائع السابقة ، وذلك كما قال : ( فانّ الشريعة اللاحقة لا تحدث عند إنقراض أهل الشريعة الاُولى ) حتى لا يجري حكم الشريعة الاُولى مثل : ضمان ما لم يجب إذا شك في نسخه لأهل الشريعة الثانية ، فان من الواضح : وجود كثير من اُمة عيسى عليه السلام عند حدوث شريعة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وإذا كان كذلك جرى الحكم في الشريعة الثانية أيضا .

وإنّما يجري الحكم في الشريعة الثانية أيضا إذا كان كذلك ( إذ لو فرض وجود اللاحقين ) من أهل الشريعة الثانية مثل زماننا هذا ( في السابق ) أي : في زمان

ص: 35

عمّهم الحكم قطعا ، غايةُ الأمر إحتمال مدخليّة بعض أوصافهم المعتبرة في موضوع الحكم .

ومثل : هذا لو أثّر في الاستصحاب لقدح في أكثر الاستصحابات

-------------------

شريعة عيسى عليه السلام قبل مجيء محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ( عمّهم الحكم قطعا ) لضرورة إشتراك كل المكلّفين من أهل زمان واحد في شريعة واحدة .

وإلاّ بأن قلنا بعدم إشتراك أهل زمان واحد في شريعة واحدة لأن لاشخاص أهل كل شريعة - مثلاً - مدخلية في أحكامها ، لكان اللازم أوّلاً إنقراض أهل شريعة عيسى عليه السلام ثم حدوث شريعتنا أو وجود شريعتين في زمان واحد ، وكلاهما خلاف الأدلة .

والحاصل : ان الشك قد يكون من جهة الرافع ، كالشك في ان الأحكام السابقة نسخت بسبب الشريعة اللاحقة أم لا ؟ وقد عرفت جوابه .

وقد يكون الشك من جهة المقتضي كالشك في ان أحكام الشريعة السابقة كانت خاصة باُمة عيسى عليه السلام أم لا ؟ وإليه أشار المصنِّف بقوله : ( غايةُ الأمر إحتمال مدخليّة بعض أوصافهم المعتبرة ) ككونهم اُمة عيسى عليه السلام - مثلاً - ( في موضوع الحكم ) مثل الحكم بضمان ما لم يجب أو غيره من الأحكام التي نريد إستصحابها، ومعه لا يجري الاستصحاب .

لكن فيه : ان هذا الاحتمال أيضا لا يكون مانعا عن الاستصحاب ، لأن الاستصحاب إنّما يكون عند الشك في الموضوع من جهة تغيّر بعض خصوصياته، ولذا قال المصنِّف : ( ومثل : هذا لو أثّر في الاستصحاب لقدح في أكثر الاستصحابات ) لأنه لو لم يحصل في الزمان الثاني تغيّر في خصوصية من خصوصيات الموضوع السابق أصلاً ، لم يطرء شك لاحق أبدا .

ص: 36

بل في جميع موارد الشك من غير جهة الرافع .

وأمّا التمسّك في تسرية الحكم من الحاضرين إلى الغائبين فليس مجرى للاستصحاب حتى يتمسك به ،

-------------------

( بل ) لقدح ذلك ( في جميع موارد الشك من غير جهة الرافع ) أي : بأن لا يجري الاستصحاب إلاّ مع الشك في الرافع دون الشك في المقتضي ، وذلك لأن الشك في الرافع وحده لا يرجع إلى تغيّر في الموضوع ، بينما الشك في المقتضي فهو يرجع دائما إلى تغيّر ما في الموضوع .

وعليه : فاحتمال مدخلية كونهم من اُمة عيسى عليه السلام في موضوع الحكم لا يقدح في إستصحاب ذلك الحكم وإثباته في حق هذه الاُمة .

ثم إن صاحب الفصول على ما عرفت : جعل إختلاف الأشخاص في الشريعتين مانعا عن إستصحاب أحكام الاُمة السابقة إلى الاُمة اللاحقة ، لتغاير الموضوع وأيد ذلك بتمسك الأصحاب في تسرية حكم الحاضرين إلى الغائبين بالاجماع والأخبار الدالة على إشتراك التكليف ، لا بالاستصحاب ، فأجاب المصنِّف عنه بقوله : ( وأمّا التمسّك في تسرية الحكم من الحاضرين ) في مجلس الخطاب ( إلى الغائبين ) عن مجلس الخطاب بالاجماع والأخبار فهو لما يلي :

أولاً : لأن مع التمسك بالاجماع والأخبار لم يبق شك ، وإذا لم يبق شك ( فليس مجرى للاستصحاب حتى يتمسك به ) أي : بالاستصحاب لاثباته ، إذ شركة الجميع في الحكم ثابت بالاجماع والأخبار ومعه لا شك حتى يجري فيه الاستصحاب .

ثانيا : ان ما نحن فيه من تسرية حكم الحاضرين إلى الغائبين مع كونهما في زمان واحد لا ربط بمجرى الاستصحاب رأسا ، لوضوح : ان مجرى الاستصحاب

ص: 37

لأنّ تغاير الحاضرين المشافهين ، والغائبين ، ليس بالزمان ، ولعلّه سهو من قلمه قدس سره .

وأمّا التسريةُ من الموجودين إلى المعدومين فيمكن التمسك فيها بالاستصحاب بالتقريب المتقدّم أو باجرائه فيمن بقي من الموجودين إلى زمان وجود المعدومين

-------------------

هو ما كان المتيقن والمشكوك مختلفان من حيث الزمان ، بينما الحاضر في مجلس الخطاب والغائب عنه ليسا مختلفين من حيث الزمان لفرض إنهما من أهل زمان واحد ، وإنّما هما مختلفان من حيث الحضور والغيبة ، وذلك كما قال : ( لأنّ تغاير الحاضرين المشافهين ، والغائبين ، ليس بالزمان ) كما عرفت ( ولعلّه سهو من قلمه قدس سره ) وهو واضح .

هذا ( وأمّا التسرية من الموجودين ) في حال الخطاب ( إلى المعدومين ) حال الخطاب ( فيمكن التمسك فيها بالاستصحاب بالتقريب المتقدّم ) أي : انا إذا لم نقل بانه لا شك فلا حاجة للاستصحاب ، لأن الأحكام ثابتة للكل بالنص والاجماع والضرورة ، فانه يمكن أن نقول : على فرض الشك يجري الاستصحاب وذلك بأحد وجهين :

الأوّل : بأن يكون المستصحب - كما مرّ - هو الحكم الكلي الذي لا دخل لأشخاص الموجودين فيه ، فيتعدى الحكم من الموجودين إلى المعدومين بالاستصحاب .

والثاني : ( أو باجرائه ) أي : باجراء الاستصحاب ( فيمن بقي من الموجودين إلى زمان وجود المعدومين ) أي : بأن يدرك الجماعتين وذلك على تقريب مدرك الشريعتين .

ص: 38

ويتمّ الحكم في المعدومين بقيام الضرورة على إشتراك أهل الزمان الواحد في الشريعة الواحدة .

ومنها ما إشتهر : من أنّ هذه الشريعة ناسخة لغيرها من الشرائع فلا يجوز الحكم بالبقاء .

وفيه : أنّه إن اُريد نسخ كلّ حكم إلهي من أحكام الشريعة السابقة فهو ممنوع ،

-------------------

( و ) عليه : فاذا تم الحكم بالنسبة إلى مدرك الجماعتين : الموجودين والمعدومين ، فانه ( يتمّ الحكم في المعدومين ) ممن لم يدرك الجماعتين أيضا ، وذلك ( بقيام الضرورة على إشتراك أهل الزمان الواحد في الشريعة الواحدة ) فيكون حكم المعدومين حكم الموجودين بأمرين :

الأوّل : إثبات الحكم لمن أدرك الجماعتين : الموجودين والمعدومين بالاستصحاب .

الثاني : إثبات حكم من أدرك لمن لم يدرك ، لضرورة وحدة حكم المدرك وغير المدرك ، وان لم يكن إستصحاب في غير المدرك .

( ومنها ) : أي : من الاشكالات التي اُوردت على إستصحاب الشريعة السابقة ( ما إشتهر : من أنّ هذه الشريعة ناسخة لغيرها من الشرائع ) السابقة ( فلا يجوز الحكم بالبقاء ) بالنسبة إلى أي حكم من أحكام تلك الشرائع .

( وفيه : أنّه إن اُريد نسخ كلّ حكم إلهي من أحكام الشريعة السابقة فهو ممنوع ) لما نرى من بقاء كثير من أحكام الشرائع السابقة ، مثل : الصلاة والصوم والحج والزكاة وبرّ الوالدين ، وحرمة شرب الخمر ونكاح المحارم والزنا واللواط وما أشبه ذلك ممّا دل عليه الكتاب والسنة والاجماع ، بل العقل أحيانا .

ص: 39

وإن اُريد نسخ البعض فالمتيقن من المنسوخ ما علم بالدليل ، فيبقى غيره على ما كان عليه ولو بحكم الاستصحاب .

فان قلت : إنّا نعلم قطعا بنسخ كثير من الأحكام السابقة ، والمعلوم تفصيلاً منها قليل ، في الغاية ، فيعلم بوجود المنسوخ في غيره .

قلت :

-------------------

( وإن اُريد نسخ البعض ) من أحكام الشريعة السابقة ( فالمتيقن من المنسوخ ما علم بالدليل ) نسخه مثل : نسخ صوم الوصال ، وصوم الصمت ، وما أشبه ذلك ( فيبقى غيره على ما كان عليه ولو بحكم الاستصحاب ) فيما إذا فرض ان دليل تلك الأحكام في الشرائع السابقة ، لم يكن كافيا للبقاء حتى يشمل هذه الاُمة بنفسه .

( فان قلت ) : الاستصحاب يتنافى مع علمنا الاجمالي بنسخ شريعتنا لكثير من أحكام الشرائع السابقة ، وذلك لأن من الواضح ان الاستصحاب لا يجري في أطراف العلم الاجمالي ، كما لا يجري أصالة الطهارة في أطراف المشتبه بالنجس من الانائين ونحوهما .

إذن : ( إنّا نعلم قطعا بنسخ كثير من الأحكام السابقة ، والمعلوم تفصيلاً منها قليلٌ في الغاية ) فلا نعلم بالمنسوخ من الأحكام علما تفصيليا حتى نستصحب فيما عداه وإذا فقد العلم التفصيلي بأكثر المنسوخ ( فيعلم ) علما إجماليا ( بوجود المنسوخ في غيره ) أي : في غير علم بالتفصيل نسخه ، فيبقى العلم الاجمالي في الباقي فيمنع من جريان الاستصحاب في كل حكم يشك في بقائه وعدم بقائه للنسخ ، لأنه يكون حينئذ من أطراف العلم الاجمالي .

( قلت ) : أولاً : لا نسلم العلم الاجمالي بوجود المنسوخ في غير ما علم نسخه،

ص: 40

لو سلّم ذلك لم يقدح في إجراء أصالة عدم النسخ في المشكوكات ، لأنّ الأحكام المعلومة في شرعنا بالأدلّة واجبة العمل ، سواء كانت من موارد النسخ أم لا ، فأصالة عدم النسخ فيها غيرُ محتاج إليها ،

-------------------

لأن العلم الاجمالي بوجود المنسوخ في الشرائع السابقة إنحل بسبب علمنا بمجموعة من المنسوخات الخاصة ، فهو مثل : ما إذا علم إجمالاً بوجود موطوئات في القطيع ، ثم علم بوجود عشرة من الموطوئات ، فان الباقي حلال لأنه لا يعلم لا تفصيلاً ولا إجمالاً بوجود الموطوء في الباقي .

هذا أولاً ، وثانيا : ( لو سلّم ذلك ) العلم الاجمالي بوجود المنسوخ فانه ( لم يقدح ) هذا العلم ( في إجراء أصالة عدم النسخ في المشكوكات ) وذلك لأن المنسوخ وان لم ينحصر في المقدار الذي علمناه من موارد النسخ ، لكن يحتمل إنحصاره بين الأحكام المعلومة لنا في هذه الشريعة .

مثلاً : ان في هذه الشريعة ثبت بوجوب الصيام والزكاة وبرّ الوالدين وغير ذلك من الأحكام المعلومة لنا ، فنضمّ هذه الأحكام التي تكفينا عن الأحكام المشابهة لها من الشريعة السابقة مع ما علمنا بنسخه من أحكام الشريعة السابقة فيوجب إنحلال علمنا الاجمالي بالنسبة إلى الباقي ، فنجري أصالة عدم النسخ في الحكم المشكوك الذي نريد إستصحابه مثل : ضمان ما لم يجب .

وإنّما لم يقدح العلم الاجمالي على فرض وجوده في إجراء عدم النسخ في المشكوك نسخه ( لأنّ الأحكام المعلومة في شرعنا بالأدلّة واجبة العمل ) بها ( سواء كانت من موارد النسخ أم لا ، فأصالة عدم النسخ فيها ) أي في الأحكام المعلومة في شرعنا ( غيرُ محتاج إليها ) فانا لا نحتاج إلى أصالة عدم النسخ

ص: 41

فيبقى أصالة عدم النسخ في محلّ الحاجة سليمة عن المعارض ، لما تقرّر في الشبهة المحصورة : من أنّ الأصل في بعض أطراف الشبهة إذا لم يكن جاريا أو لم يحتج إليه ، فلا ضير في إجراء الأصل في البعض الآخر .

-------------------

فيها بعد العلم بها فلا يجري الاستصحاب بالنسبة إليها ، لأنها معلومة الحكم فلا شك ، فلا حاجة للاستصحاب .

وعليه : ( فيبقى أصالة عدم النسخ ) بعد ضم الأحكام المعلومة إلى ما علم نسخه ( في محلّ الحاجة ) وهو المورد المشكوك نسخه الذي نريد إستصحابه ( سليمة عن المعارض ) .

وإنّما يبقى الأصل سليما عن المعارض فيجري ( لما تقرّر في الشبهة المحصورة : من أنّ الأصل في بعض أطراف الشبهة إذا لم يكن جاريا ) لكونه خارجا عن محل الابتلاء ، أو مضطرا إليه ( أو لم يحتج إليه ) لأن الحكم معلوم لا شك فيه كما في الأحكام المعلومة في شرعنا ( فلا ضير في إجراء الأصل في البعض الآخر ) لعدم وجود المعارض فيه .

مثلاً : إذا كنا نملك قطيعا نعلم بأن بعضه موطوء فعثرنا على خمس شياه موطوئة وبقي العلم الاجمالي ، ثم قال المولى إجتنب هذه العشر شياه ، إنحل العلم الاجمالي ، لأنا لا نعلم بوجود شياه موطوئة في القطيع غير هذه الخمس عشرة شاة ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فانا حيث نعلم بالنسخ في جملة من أحكام الشريعة السابقة ، وعثرنا على خمسة أحكام منسوخة فيها ، ثم قال الشارع : إلتزم بهذه العشرة أحكام فعلاً أو تركا ، إنحل العلم الاجمالي لأنا لا نعلم بوجود أحكام منسوخة غير هذه الخمسة عشر حكما ، فيكون الباقي المشكوك نسخه مجرى للاستصحاب .

ص: 42

ولأجل ما ذكرنا إستمر بناء المسلمين في أوّل البعثة على الاستمرار على ما كانوا عليه حتى يطّلعوا على الخلاف .

إلاّ أن يقال : إنّ ذلك كان قبل إكمال شريعتنا . وأمّا بعده فقد جاء النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم بجميع ما يحتاج إليه الاُمة إلى يوم القيامة ، سواء خالف الشريعة السابقة أم وافقها ، فنحن مكلّفون بتحصيل ذلك الحكم موافقا أم مخالفا ، لأنّه مقتضى التديّن بهذا الدين .

-------------------

( ولأجل ما ذكرنا ) : من صحة إستصحاب أحكام الشريعة السابقة إذا لم نعلم بنسخ تلك الأحكام التي نريد إستصحابها نرى قد ( إستمر بناء المسلمين في أول البعثة ) النبوية للرسول الأكرم صلى اللّه عليه و آله وسلم ( على الاستمرار على ما كانوا عليه ) من أحكام الشرائع السابقة (حتى يطّلعوا على الخلاف) ويعلموا بنسخ تلك الأحكام .

( إلاّ أن يقال : إنّ ذلك ) الاستصحاب ( كان قبل إكمال شريعتنا ، وأمّا بعده فقد ) قال تعالى في كتابه الحكيم : « اليوم أكملت لكم دينكم » (1) وقد ( جاء النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم بجميع ما تحتاج إليه الاُمة إلى يوم القيامة ، سواء خالف الشريعة السابقة أم وافقها ) حتى قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : ما من شيء يقرّبكم من الجنة ويباعدكم من النار إلاّ وقد أمرتكم به، وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنة إلاّ وقد نهيتكم عنه (2) .

وعليه : ( فنحن ) بعد أن إكتمل الدين ( مكلّفون بتحصيل ذلك الحكم ) الذي قرّره الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ( موافقا أم مخالفا ) للشرائع السابقة ( لأنّه مقتضى التديّن بهذا الدين ) ومعه فلا مجال للاستصحاب .

ص: 43


1- - سورة المائدة : الآية 3 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص74 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص45 ب12 ، بحار الانوار : ج70 ص96 ب47 ح3 ونظيره في مستدرك الوسائل : ج13 ص27 ب10 ح14643 .

ولكن يدفعه : أنّ المفروض حصولُ الظنّ المعتبر من الاستصحاب ببقاء حكم اللّه السابق في هذه الشريعة ، فيظنّ بكونه ممّا جاء به النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ولو بنينا على الاستصحاب تعبّدا ، فالأمر أوضح ، لكونه

-------------------

وإنّما لا مجال للاستصحاب لأن الأحكام السابقة امّا قد قرّرتها شريعتنا وامّا قد رفضتها ، واللازم علينا ان نعلم ان الحكم الذي كان في الشريعة السابقة قرّر حتى نأخذ به ، أو رفض حتى نتركه ، لا ان نستصحب حكم الشريعة السابقة ، فالمقرّر من أحكام الشريعة السابقة إنّما نأخذ به لأن شرعنا قرّره ، وليس للاستصحاب ، فلا مجال إذن للاستصحاب .

( ولكن يدفعه : أنّ المفروض ) هو انا نستصحب نفس الحكم لا نستصحب ما جاء به عيسى عليه السلام ، ونفس الحكم ليس من مقوّماته مجئعيسى به ، فإذا إستصحبنا نفس الحكم حصل لنا الظن ببقاء حكم اللّه سبحانه وتعالى ، فان قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظن كان هذا الاستصحاب حجة .

وإنّما كان هذا الاستصحاب حجة ، لأن المفروض ( حصولُ الظنّ المعتبر من الاستصحاب ) ظنا ( ببقاء حكم اللّه السابق في هذه الشريعة ، فيظنّ بكونه ممّا جاء به النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ) وذلك لأن الظن بكونه حكم اللّه يوجب الظن بكونه ممّا جاء به النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم للتلازم بين الظنين .

هذا ( ولو بنينا على الاستصحاب تعبّدا ، فالأمر أوضح ) لأن الشارع قد أمر بابقاء ما كان ونحن نبقي حكم الشريعة السابقة إلى هذه الشريعة بأمر الشارع هذا ، فيثبت كون الحكم المستصحب من أحكام هذه الشريعة .

وإنّما يكون الأمر على الاستصحاب تعبدا أوضح ( لكونه ) أي : الاستصحاب

ص: 44

حكما كلّيا في شريعتنا بابقاء ما ثبت في السابق .

ومنها ما ذكره في القوانين : من : « أنّ جريان الاستصحاب مبني على القول بكون حسن الأشياء ذاتيا ، وهو ممنوع ، بل التحقيق أنّه بالوجوه والاعتبار » .

-------------------

حينئذ ( حكما كلّيا في شريعتنا بابقاء ما ثبت في السابق ) من شريعة عيسى عليه السلام - مثلاً - فنبقيه بحكم شريعتنا حكما لنا .

وإن شئت قلت : ان الشارع قال : أبق ما كان على ما كان ، وهذا الحكم كان ، فنبقيه حكما لنا بحكم شريعتنا ، وكذا العقل قال : اعمل بالظن ، وهذا المستصحب مظنون فنعمل به .

( ومنها ) : أي : من الاشكالات التي اُوردت على إستصحاب الشريعة السابقة ( ما ذكره في القوانين : من : « أنّ جريان الاستصحاب ) في الشرائع السابقة ( مبني على القول بكون حسن الأشياء ) وكذلك قبحها ( ذاتيا ، وهو ممنوع ، بل التحقيق أنّه بالوجوه والاعتبار » (1) ) أي : ان الاستصحاب في الشرائع السابقة يجري في صورة ، دون صورة اُخرى .

أما الصورة التي يجري فيها الاستصحاب فهو على القول بكون حسن الأشياء وقبحها ذاتيا ، فما كان في الشريعة السابقة حسنا أو قبيحا ، يكون في هذه الشريعة أيضا حسنا أو قبيحا ، فيستصحب حكم الشريعة السابقة ، فهذه هي الصورة التي يجري فيها الاستصحاب .

وأما الصورة التي لا يجري فيها الاستصحاب فهو على القول بكون حسن الأشياء وقبحها بالوجوه والاعتبارات فان ما كان في السابق حسنا ، فلعله لأنه كان

ص: 45


1- - القوانين المحكمة : ج2 ص53 .

وفيه : أنّه إن اُريد ب «الذاتي» : المعنى الذي ينافيه النسخ ، وهو الذي أبطلوه بوقوع النسخ ،

-------------------

في زمان موسى أو عيسى كان حسنا ، وكذلك بالنسبة إلى القبيح ، فلا يمكن ان نستصحب ما كان مأمورا به ولا ما كان منهيا عنه في السابق إلى الحال ، وذلك لاختلاف الفعل في الحسن والقبح ، باختلاف الأزمنة والأمكنة والشرائط والخصوصيات ، وهذه هي الصورة التي لا يجري فيها الاستصحاب .

هذا ، ولكن حيث ان القول بكون حسن الأشياء وقبحها ذاتيا يستلزم إمتناع النسخ ، بينما وقوع النسخ ضروري ، فاللازم هو القول : بأن الحسن والقبح بالوجوه والاعتبارات ، وإذا كان بالوجوه والاعتبارات ، فلا يجري إستصحاب أحكام الشريعة السابقة .

( وفيه : أنّه إن اُريد ب «الذاتي» : المعنى الذي ينافيه النسخ ) وهو ما كانت الطبيعة فيه علة تامة للحسن والقبح ، بحيث لا يتغيّر بزيادة أو نقيصة إطلاقا كالصدق النافع والكذب الضار ، فان مثل هذا الحسن والقبح ينافي النسخ ، لأنّ النسخ هو رفع الحكم بالحسن والقبح ، ولا يعقل رفع المعلول وهو الحكم بالحسن والقبح مع وجود علته التامة وهي طبيعة الصدق النافع وطبيعة الكذب الضار .

وعليه : فان اُريد بالذاتي هو هذا المعنى ، فانه يتنافى مع النسخ ، وحيث إنه يتنافى مع النسخ أبطلوه كما قال : ( وهو الذي أبطلوه بوقوع النسخ ) فانه حيث كان النسخ موجودا في الشريعة كان دليلاً على بطلان هذا المعنى .

ولكن بطلان هذا المعنى لا يستلزم بطلان الاستصحاب كما إدعاه صاحب القوانين ، بل صحته يستلزم بطلان الاستصحاب ، وذلك لأنه على هذا المعنى نقطع، بعدم النسخ، فلا شك فيه حتى نحتاج إلى إثبات عدم النسخ بالاستصحاب .

ص: 46

فهذا المعنى ليس مبنى الاستصحاب ، بل هو مانع عنه للقطع بعدم النسخ حينئذ ، فلا يحتمل الارتفاع .

وان اُريد غيره ، فلا فرق بين القول به والقول بالوجوه والاعتبارات ، فانّ القول بالوجوه لو كان مانعا عن الاستصحاب لم يجر الاستصحاب في هذه الشريعة .

-------------------

وعليه : ( فهذا المعنى ) للحسن والقبح ( ليس مبنى الاستصحاب ، بل هو مانع عنه ) أي : عن الاستصحاب ( للقطع بعدم النسخ حينئذ ، فلا يحتمل الارتفاع ) ونسخ الحكم حتى يحتاج إلى الاستصحاب .

( وان اُريد ) بالذاتي ( غيره ) أي : غير هذا المعنى الذي هو ما كانت الطبيعة فيه علة تامة للحسن والقبح ، بل اُريد به معنى آخر ، وهو كون الفعل مقتضيا للحسن والقبح ، كما في الصدق والكذب حيث أحيانا ينضم إلى الصدق ما يجعله قبيحا ، وإلى الكذب ما يجعله حسنا ، فان اُريد به هذا المعنى فهو كالقول بالوجوه والاعتبارات من حيث المعنى .

إذن : ( فلا فرق بين القول به والقول بالوجوه والاعتبارات ) من حيث المعنى ، وإذا كان كذلك لزم القول على ما يدعيه صاحب القوانين بعدم الاستصحاب لأنه كما كان القول بالوجوه مانعا عن الاستصحاب عنده ، كذلك القول بالذاتي يكون مانعا عن الاستصحاب ، فلا إستصحاب إذن مطلقا .

لكن يردّه : ان صاحب القوانين نفسه مع قوله بالوجوه والاعتبارات في باب حسن الأشياء وقبحها يقول بجريان الاستصحاب في هذه الشريعة ممّا يكشف عن عدم كونه مانعا ( فانّ القول بالوجوه لو كان مانعا عن الاستصحاب لم يجر الاستصحاب في هذه الشريعة ) إطلاقا ، بينما هو يقول بالاستصحاب ، فقوله

ص: 47

...

-------------------

بالاستصحاب دليل على عدم مانعيته له .

قال الأوثق في توضيح إشكال المصنِّف على القوانين : «ان الحسن الذاتي يطلق تارة على ما كانت الطبيعة فيه علة تامة له ، كحسن الصدق النافع ، وقبح الكذب المضرّ ، واُخرى على ما كانت الطبيعة فيه مقتضية له ، بأن كانت فعلية الحسن مشروطة بوجود شرط مفقود أو فقد مانع موجود ، والفرق بينه وبين القول بالوجوه والاعتبار : ان الحسن على الثاني قد ينشأه من إقتران الفعل ببعض الاُمور الخارجة وان لم تكن نفس الفعل من حيث هي مقتضية له .

وعلى الأوّل : لا معنى للاستصحاب لقطعه ببقاء الحكم حينئذ ، وعلى الثاني : لا وجه لمنع جريانه ، لفرض صلاحية حسن الفعل للبقاء والارتفاع ببعض الاُمور الخارجة ، وإذا قلنا بجريانه على الثاني : فلابد أن نقول بجريانه على الثالث أيضا ،

لاشتراك العلة ، وإذا قلنا بعدم جريانه على الثالث : لم يتحقق له مورد أصلاً ، لأن حسن المستصحب ان كان ذاتيا بالمعنى الأوّل ، فقد عرفت : عدم جريان الاستصحاب معه ، وان كان ذاتيا بالمعنى الثاني فقد عرفت : عدم الفرق بينه وبين القول بالوجوه من هذه الجهة ، وإذا كان القول بالوجوه مانعا منه فلابد أن يكون القول بالذاتية بالمعنى المذكور أيضا كذلك ، فلا يبقى مورد للاستصحاب أصلاً » (1) .

أقول : وربما يدفع إشكال صاحب القوانين بما ملخصه : بأن صاحب القوانين لو منع عن الاستصحاب في الشريعة السابقة لزم عليه منع الاستصحاب في هذه الشريعة أيضا ، لكنه حيث يقول بالاستصحاب في هذه الشريعة ، فاللازم عليه

ص: 48


1- - أوثق الوسائل : ص504 التنبيه الخامس فيما اذا كان المستصحب من أحكام الشريعة السابقة .

ثمّ إنّ جماعة رتّبوا على إبقاء الشرع السابق في مورد الشك تبعا لتمهيد القواعد ثمرات .

منها : إثبات وجوب نيّة الاخلاص في العبادة ، بقوله تعالى ، حكاية عن تكليف أهل الكتاب : « وما اُمِروا إلاّ ليعبُدوا اللّه َ مخلصينَ له الدينَ

-------------------

أن يقول به بالنسبة إلى الشريعة السابقة أيضا للتلازم بينهما .

( ثمّ إنّ جماعة رتّبوا على إبقاء الشرع السابق في مورد الشك ) في انه باق إلى شريعتنا أم لا ؟ رتبوا عليه ( تبعا لتمهيد القواعد ثمرات ) تالية :

( منها : إثبات وجوب نية الاخلاص في العبادة ) وذلك فيما إذا قلنا باستصحاب الشرائع السابقة لقول اللّه تعالى عنهم : « وما اُمروا إلاّ ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين حُنفاء » بخلاف ما إذا لم نقل باستصحاب الشرائع السابقة ، فإنه مع إنتفاء الاستصحاب لا يعتبر الاخلاص في العبادة ، بل تكفي العبادة حتى مع شوبها بالرياء والسمعة وما أشبه ذلك .

أقول : لا يخفى ان الاخلاص في العبادة لم يشترط في شريعتنا بسبب إستصحاب ما تفيده الآية المباركة : من إشتراطه في الاُمم السابقة ، بل الاخلاص مشروط في شريعتنا بسبب متواتر الروايات الدالة على ذلك ، فسواء قلنا باستصحاب الشريعة السابقة ، أم لم نقل به ، يجب علينا الاخلاص في العبادة .

وكيف كان : فقد جعلوا من ثمرات جريان الاستصحاب في الشرائع السابقة : لزوم الاخلاص في العبادة علينا ، إحتجاجا ( بقوله تعالى ، حكاية عن تكليف أهل الكتاب ) في اُممهم السابقة : ( « وما اُمِروا إلاّ ليعبُدوا اللّه َ مخلصينَ له الدينَ» ) أي: يجب عليهم أن يخلصوا الدين للّه تعالى ، فلا يشركوا معه غيره من الأوثان وسائر المعبودات .

ص: 49

حُنفاء ويقيمُوا الصلاة ويُؤتوا الزكاة وذلكَ دينُ القيّمة » .

ويرد عليه - بعد الاغماض عن عدم دلالة الآية على وجوب الاخلاص

-------------------

( « حُنفاء » ) وهذا حال عن الفاعل في ليعبدوا ، وهو جمع حنيف مثل : شرفاء جمع شريف ، والمراد بالحنيف المائل عن الشيء ، فان الكفار لما كانوا على طريقة منحرفة ، فالمائل عن تلك الطريقة المنحرفة يكون حنيفا ويستلزمه ان يكون مستقيما ، فيكون قوله : « حنفاء » تأكيدا لقوله : « ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين » ، لوضوح : ان من يعبد اللّه مخلصا يكون حنيفا أيضا .

( « ويقيمُوا الصلاة ويُؤتوا الزكاة وذلكَ دينُ » ) الملّة ( « القيّمة » (1) ) فان قوله : « القيّمة » صفة محذوف مثل : الملّة والطريقة وما أشبه ذلك على قول جماعة من المفسّرين ، فهو مثل قول الفقهاء : الرهن وثيقة الدَّين ، فان الوثيقة مؤنّثا لا يكون صفة للرهن وهو مذكّر ، بل الوثيقة صفة مؤنث محذوف هي العين ، يعني : ان الرهن عين وثيقة للدَّين .

وعلى أي حال : فقد إستدلوا بالآية الشريفة على حكمين :

الأوّل : ان جميع ما في الشرع هو تعبّدي لا توصلي إلاّ ما خرج بالدليل .

الثاني : انه يلزم فيها مضافا إلى قصد القربة خلوص النية عن الرياء ونحوه .

ثم انهم سحبوا هذين الحكمين من الشريعة السابقة بسبب الاستصحاب إلى شريعتنا وجعلوهما من ثمرات الاستصحاب .

( ويرد عليه ) أي : يرد على هذا الاستدلال إشكالات أربعة أشار إليها المصنّف على النحو الآتي : ( بعد الاغماض عن عدم دلالة الآية على وجوب الاخلاص

ص: 50


1- - سورة البيّنة : الآية 5 .

بمعنى : القربة في كلّ واجب ، وإنّما تدلّ على وجوب عبادة اللّه خالصة عن الشرك وبعبارة اُخرى وجوب التوحيد ، كما أوضحنا ذلك في باب النيّة من الفقه - أنّ الآية إنّما تدلّ على إعتبار الاخلاص ، في واجباتهم فان وجبت علينا ، وجب فيها الاخلاص

-------------------

بمعنى : القربة في كلّ واجب ) من فروع الدين حتى يكون الأصل في الواجبات الفرعية هو التعبّدية ( وإنّما تدلّ ) الآية ( على وجوب عبادة اللّه خالصة عن الشرك ) باللّه ، وهو معنى التوحيد ، فالآية إذن تدل على أصل من اُصول الدين وهو التوحيد في العبادة .

( وبعبارة اُخرى ) : الآية تدل على أحد أركان اُصول الدين فقط وهو ( وجوب التوحيد ، كما أوضحنا ذلك في باب النيّة من الفقه ) في كتاب الطهارة .

إذن : فليس معنى الآية المباركة هو : أصالة التعبّدية في كل واجب إلاّ ما خرج ، ولا وجوب الاخلاص في العبادات ، بل تدل الآية على معنى ثالث وهو : لزوم التوحيد ، فلا يستفاد الاستصحاب من الآية ، وذلك لأن المعنيين الأولين لا دلالة للآية عليهما ، والمعنى الثالث وهو عدم الشرك باللّه فانه ثابت بالنسبة إلينا ، فلا حاجة إلى الاستصحاب .

الثاني : سلّمنا ان الآية ليست بصدد المعنى الثالث ، لكن نقول : ترتيب المحمول وهو : الاخلاص فرع على إحراز الموضوع وهو : كون الواجب عبادة ، وذلك ( أنّ الآية إنّما تدلّ على إعتبار الاخلاص في واجباتهم ) العبادية ( فان وجبت ) تلك العبادات كالصلاة والصوم والحج والزكاة وما أشبه ذلك ( علينا ، وجب فيها الاخلاص ) علينا أيضا .

ص: 51

لا على وجوب الاخلاص عليهم في كلّ واجب .

وفرقٌ بين وجوب كلّ شيء عليهم لغاية الاخلاص وبين وجوب قصد الاخلاص عليهم في كلّ واجب .

وظاهر الآية هو الأوّل ، ومقتضاه : أنّ تشريع الواجبات لأجل تحقق العبادة على وجه الاخلاص ،

-------------------

هذا هو مدلول الآية ( لا ) ان الآية تدل ( على وجوب الاخلاص عليهم في كلّ واجب ) وان لم يكن عبادة حتى يكون دليلاً على ان الأصل في الواجبات هو التعبدية ، فالآية إذن لا تدل على أصالة التعبّدية في كل واجب ، وإنّما تدل على معنى آخر ، وهو : ان الاخلاص واجب عليهم في عبادتهم .

الثالث : بالفرق بين الحيثية التعليلية والحيثية التقييدية وذلك كما قال ( وفرقٌ بين وجوب كلّ شيء ) أي : كل واجب عبادة كان وغير عبادة ، فانه يجب ( عليهم لغاية الاخلاص ) وهو حيث تعليلي يعني : حتى يحصلوا نتيجة إتيانهم بهذه الواجبات على الاخلاص فيصبحوا مخلصين للّه تعالى وهذا هو مفاد الآية عند المصنِّف .

( وبين وجوب قصد الاخلاص عليهم في كلّ واجب ) وهو حيث تقييدي يعني : انهم إذا لم يقصدوا الاخلاص في الواجبات عبادة كانت أو غير عبادة لم يقبل ذلك الواجب منهم ، ممّا يدل على أصالة التعبدية في الواجبات ، وهذا هو المعنى الذي لم يرتضه المصنِّف ولذلك قال :

( وظاهر الآية هو الأوّل ) أي : وجوب كل شيء عليهم لغاية الاخلاص ( ومقتضاه : أنّ تشريع الواجبات ) على اُولئك الأقوام إنّما كان ( لأجل تحقق العبادة على وجه الاخلاص ) فانه إنّما أوجب اللّه عليهم الواجبات لأجل

ص: 52

ومرجع ذلك إلى كونها لطفا .

ولا ينافي ذلك كون بعضها بل كلّها توصّليّا لا يعتبر في سقوطه قصد القربة .

-------------------

حصولهم على الاخلاص للّه سبحانه وتعالى ، مثل : إيجاب التمرينات الرياضية على الناس لأجل حصولهم على القوة الجسدية - مثلاً - .

( ومرجع ذلك ) أي : ما ذكرناه من قولنا : ومقتضاه ان تشريع الواجبات لأجل تحقق العبادة على وجه الاخلاص ( إلى كونها ) أي : كون الواجبات ( لطفا ) من اللّه تبارك وتعالى على عباده ، وذلك حسب ما فهمه المصنِّف من هذه الآية المباركة .

وعليه : فان اللّه تعالى أراد أن يتقرّب إليه عبادة قربا معنويا ، وحيث ان ذلك القرب لا يحصل إلاّ بالاخلاص النفسي ، والاخلاص النفسي لا يحصل إلاّ بالعبادة ، أوجب عليهم العبادة لحصول الاخلاص ، وأراد الاخلاص لحصول القرب المعنوي إليه ، فهو كما إذا أراد الملك الغلبة على أعدائه ، والغلبة لا تحصل إلاّ بالقوة الجسدية لأفراد جيشه والقوة الجسدية لا تحصل فيهم إلاّ بالتمرينات الرياضية في كل يوم ، فيوجب عليهم الرياضة كل يوم ويقول : ما أمرتهم بالرياضة إلاّ لأجل الغلبة على الأعداء .

( و ) من المعلوم : انه ( لا ينافي ذلك ) الذي ذكرناه : من الواجبات لغاية الحصول على الاخلاص ( كون بعضها ) أي : بعض الواجبات ( بل كلّها توصّليّا ) كتطهير النجس - مثلاً - ممّا ( لا يعتبر في سقوطه قصد القربة ) فان القرب منه سبحانه يحصل بالاخلاص ، والاخلاص يحصل بالواجبات ، فمن أين يستدل بهذه الآية على وجوب قصد القربة في كل واجب حتى يقال بأصالة التعبّدية

ص: 53

ومقتضى الثاني كون الاخلاص واجبا شرطيّا في كلّ واجب ، وهو المطلوب .

هذا كلّه مع أنّه يكفي في ثبوت الحكم في شرعنا قوله تعالى : « وذلك دينُ القيّمة »

-------------------

في تلك الاُمم ، ثم تستصحب إلى اُمتنا ؟ .

هذا كله مقتضى المعنى الأوّل الذي أشار إليه المصنِّف بقوله : «فرق بين وجوب كل شيء عليهم لغاية الاخلاص» وهو الذي قد إرتضاه المصنِّف .

( و ) اما ( مقتضى الثاني ) الذي أشار إليه المصنِّف بقوله : « وبين وجوب قصد الاخلاص عليهم في كل واجب » ، فان مقتضاه الذي لم يرتضه المصنِّف هو : ( كون الاخلاص واجبا شرطيّا في كلّ واجب ) ممّا يدل على أصالة التعبدية في الواجبات ، فلا واجب توصلي حتى يسقط بدون قصد القربة إلاّ ما خرج بالدليل .

( و ) عليه : فيكون هذا المعنى الثاني ( هو المطلوب ) للمستدل ، حيث ان المستدل أراد أن يستدل بهذه الآية منضما إلى الاستصحاب بانه لا يسقط واجب من الواجبات في هذه الشريعة إلاّ بقصد القربة إلاّ ما خرج بالدليل ، فاذا شك في واجب انه تعبدي أو توصلي ، فالأصل هو التعبّدية ، ولكن هذا المعنى - كما أشرنا إليه - خلاف ظاهر الآية عند المصنِّف .

( هذا كلّه ) هو تمام الاشكالات الثلاثة على الاستدلال بالآية المباركة لاثبات أصالة التعبّدية ووجوب إخلاص النية في هذه الشريعة ، وأما رابع الاشكالات فهو ما أشار إليه بقوله : الرابع : إحتمال معنى الثابتة لكلمة : «القيّمة» كما قال : ( مع أنّه يكفي في ثبوت الحكم في شرعنا قوله تعالى : « وذلك دين القيّمة » (1) ) فإنه

ص: 54


1- - سورة البينة : الآية 5 .

بناءا على تفسيرها بالثابتة التي لا تنسخ .

-------------------

مع وجود هذه التتمة للآية المباركة لا نحتاج إلى الاستصحاب حتى نسحب ما في تلك الشريعة إلى شريعتنا .

وإنّما يكفي في ثبوت الحكم في هذه الشريعة تتمة الآية المباركة ( بناءا على تفسيرها ) أي : تفسير القيّمة ( بالثابتة التي لا تنسخ ) فإذا كان الثابت في الشريعة السابقة هو التعبدية في كل واجب والاخلاص في النية ، فهو ثابت علينا أيضا ، بقوله تعالى : « وذلك دين القيّمة » بلا حاجة إلى الاستصحاب ، لأن قوله سبحانه : « وذلك » إشارة إلى صدر الآية : « وما اُمروا إلاّ ليعبدوا اللّه مخصلين له الدين » .

والمتحصّل من إشكالات المصنِّف على القائلين بالاستصحاب ، لأجل إثبات ما أفادة الآية : من وجوب الاخلاص في نية العبادة وأصالة التعبدية في كل واجب هو : ان الآية المباركة لا تدل على ذلك ، وعلى فرض دلالتها فانها تدل على وجوب الاخلاص في العبادة فقط دون أصالة التعبدية في الواجبات ، وعلى تسليم دلالتها على وجوب الاخلاص عليهم في العبادات ، لا حاجة في إثباته علينا بالاستصحاب لأن معنى دين القيمة : الدين الذي لا ينسخ ، فعدم النسخ يدل على وجوب الاخلاص علينا بدون حاجة إلى الاستصحاب .

أقول : والظاهر من الآية المباركة هو : وجوب الاخلاص عليهم في عباداتهم لأنهم اُمروا بالعبادة عن اخلاص ، فتدل الآية على وجوب الاخلاص في العبادة فقط ، ولا تدل على أصالة التعبّدية في كل واجب ، غاية ما هناك ان الاشكال الأخير من المصنِّف وارد عليه ، إذ ظاهر قوله تعالى : « وذلك دين القيّمة » (1) انه الدين الذي لا محيد عنه ، ويفهم منه بقائه في كل الشرائع قديما وحديثا ، قبل أهل

ص: 55


1- - سورة البينة : الآية 5 .

ومنها : قوله تعالى ، حكايةً عن مؤذّن يوسف عليه السلام : « ولِمَن جاء به حِملُ بعيرٍ وأنا بهِ زعيمٌ » فدلّ على جواز الجهالة في مال الجعالة ، وعلى جواز ضمان ما لم يجب .

وفيه : أنّ حمل البعير لعلّه كان معلوم المقدار عندهم ،

-------------------

الكتاب ، وبعد أهل الكتاب ، فيكون ذلك ديننا أيضا .

( ومنها : قوله تعالى حكايةً عن مؤذّن يوسف عليه السلام ) كما هو مشهور حيث أعلن فيهم فقدان ما يكال به الأطعمة أعني : صواع الملك ثم قال ( « ولِمَن جاء

به » ) أي : بصواع الملك ( « حِملُ بعير » ) أي : ما يحمله البعير طعاما ( « وأنا به » ) أي : بوفاء ذلك ( « زعيمٌ » (1) ) أي : ضامن ، وهذا يدل على أمرين :

أولاً : ( فدلّ على جواز الجهالة في مال الجعالة ) بتقريب : ان حمل البعير مجهول قدرا وان كان معلوما جنسا حسب القرائن التي كانت في تلك الأزمنة ، لكن جهالة المقدار تتعدى إلى جهالة الجنس أيضا ، فيكون مال الجعالة مجهولاً نتيجة ، فيدل على جوازه عندهم ، ونثبت جوازه عندنا بالاستصحاب .

( و ) ثانيا : دل ( على جواز ضمان ما لم يجب ) بتقريب : ان مال الجعالة لم يجب على الجاعل ولم يستقر في ذمته قبل العمل ، فاذا ضمنه المؤذّن فقد ضمن ما لم يجب ، فكان من ضمان ما لم يجب ، فيدل على جوازه عندهم ونثبته علينا بالاستصحاب .

( وفيه ) أولاً : ( أنّ حمل البعير لعلّه كان معلوم المقدار عندهم ) بحسب القرائن المتعارفة في ذلك الزمان ومعه لا يكون دليلاً على جواز الجهالة في الجعالة .

ص: 56


1- - سورة يوسف : الآية 72 .

مع إحتمال كونه مجرّد وعدٍ ، لا جعالةً ، مع أنّه لا يثبت الشرعُ بمجرّد فعل المؤذّن ، لأنّه غير حجّة ، ولم يثبت إذنُ يوسف على نبينا وآله وعليه السلام في ذلك ، ولا تقريره .

ومنه يظهر : عدم ثبوت شرعيّة الضمان المذكور خصوصا مع كون كلّ من الجعالة والضمان صوريّا قصد بهما تلبيس الأمر على إخوة يوسف .

ولا بأس بذكر معاملة فاسدة

-------------------

وفيه ثانيا : ( مع إحتمال كونه ) أي : قول المؤذّن ( مجرّد وعدٍ لا جعالةً ) حتى يستدل بجواز الجهالة في مال الجعالة فلا يكون إذن دليلاً عليه .

وفيه ثالثا : ( مع أنّه لا يثبت الشرعُ بمجرّد فعل المؤذّن ) أو قوله ( لأنّه غير حجّة ) وإنّما الحجة ، هو قول الأنبياء والأئمة المعصومين عليهم السلام مع فعلهم وتقريرهم .

إن قلت : لعله حصل على إذن من يوسف عليه السلام ، وتقرير بعده .

قلت : ( ولم يثبت إذن ) قبلي من ( يوسف على نبينا وآله وعليه السلام في ذلك ، ولا تقريره ) بعده .

وفيه رابعا : انه يظهر من إشكال عدم ثبوت شرعية جعالة المؤذن عدم ثبوت شرعية ضمانه أيضا ، كما قال : ( ومنه يظهر : عدم ثبوت شرعيّة الضمان المذكور ) أي : ضمان ما لم يجب ، وإذا لم يثبت شرعيته فلا يكون دليلاً على جوازه .

وفيه خامسا : ( خصوصا مع كون كلّ من الجعالة والضمان ) في مورد الآية كان ( صوريّا ) لا حقيقيا واقعيا ، وذلك لأنه قد ( قصد بهما تلبيس الأمر على إخوة يوسف ) للتوصل عبره إلى إبقاء بنيامين عند يوسف ، وذلك حسب الاتفاق الذي تمّ بينهما ( و ) مع كون الأمر كلّه صوريا ( لا بأس بذكر معاملة فاسدة ) أي : صورية

ص: 57

يحصل به الغرض مع إحتمال إرادة أنّ الحمل من ماله وأنّه ملتزم به ، فانّ الزعيم هو الكفيل والضامن ، وهما لغةً : مطلق الالتزام ، ولم يثبت كونهما في ذلك الزمان حقيقة في الالتزام عن الغير ، فيكون الفقرة الثانية تأكيدا لظاهر الاُولى ، ودفعا لتوهّم كونه من الملك ، فيصعب تحصيله .

-------------------

أيضا من المؤذّن حتى ( يحصل به الغرض ) المتفق عليه ويتحقق عبره الأمر الصوري .

أقول : والظاهر من الآية المباركة هو : صحة ضمان ما لم يجب عندهم كما إستدل بها الفقهاء أيضا لذلك ، وقد ذكرنا في الفقه صحته عندنا ، وذلك لأنه معاملته عقلائية ، ولم يردع الشارع عنها ، وهو متعارف قديما وحديثا ، فاذا قال : أعطه قرضا وانا ضامن، أو آجره سيّارتك وأنا ضامن ، أو ما أشبه ذلك ، صار ضامنا .

وفيه سادسا : ( مع إحتمال إرادة أنّ الحمل من ماله ) أي : من مال المؤذن ( و ) قوله : «وانا به زعيم» تأكيد له ، فيكون معنى أنا به زعيم : ( أنّه ملتزم به ، فانّ الزعيم هو الكفيل والضامن ، وهما لغة : مطلق الالتزام ) بالشيء عن نفسه أو عن غيره ( و ) إذا كانا لغة يشملان النفس والغير ( لم يثبت كونهما في ذلك الزمان حقيقة في الالتزام عن الغير ) .

إذن : ( فيكون ) المعنى بالنسبة إلى ( الفقرة الثانية ) وهو : «أنا به زعيم» ( تأكيدا لظاهر ) الفقرة ( الاُولى ، ودفعا لتوهّم كونه ) أي : الحمل بعير» ( من الملك ، فيصعب تحصيله ) منه ، وحينئذ لا دلالة على كون الحمل من مال يوسف حتى يكون ضمان المؤذن ضمانا إصطلاحيا لما لم يجب ، لكن مرّ ان الظاهر من الآية هو : الضمان الاصطلاحي .

ص: 58

ومنها : قوله تعالى ، حكايةً عن يحيى عليه السلام : « وسيدا وحصورا ونبيّا من الصالحين » فانّ ظاهره يدلّ على مدح يحيى عليه السلام بكونه حصورا ، أي :

ممتنعا عن مباشرة النسوان . فيمكن أن يرجّح في شريعتنا التعفّف على التزويج .

وفيه : أنّ الآية لا تدلّ إلاّ على حسن هذه الصفة لما فيه من المصالح ، والتخلّص عمّا يترتّب عليه ، ولا دليل فيه على رجحان هذه الصفة على صفة اُخرى ، أعني : المباشرة لبعض المصالح الاُخروية ،

-------------------

( ومنها : قوله تعالى ، حكاية عن يحيى عليه السلام : « وسيدا وحصورا ونبيّا من الصالحين » (1) فان ظاهره ) أي : ظاهر السياق حيث مجئ«حصورا» بين «سيدا» وبين «نبيا» ( يدلّ على مدح يحيى عليه السلام بكونه حصورا ، أي : ممتنعا عن مباشرة النسوان ) .

ومنه يظهر : ان هذه الصفة في كونه حصورا صفة فاضلة ، فتدل الآية على فضيلة إتصاف الانسان بهذه الصفة وتستصحب إلى شريعتنا فتدل الآية على فضل ترك التزويج .

إذن : ( فيمكن أن يرجّح في شريعتنا التعفّف على التزويج ) ومباشرة النساء .

( وفيه : أنّ الآية لا تدلّ إلاّ على حسن هذه الصفة ) بما هي هي وذلك ( لما فيه من المصالح ، والتخلّص عمّا يترتّب عليه ) من الحقوق الاجتماعية والتكاليف الشرعية ( ولا دليل فيه على رجحان هذه الصفة على صفة اُخرى ، أعني : المباشرة ) وتزويج النساء .

وإنّما لا دليل فيه على الرجحان ( لبعض المصالح الاُخروية ) الثابتة

ص: 59


1- - سورة آل عمران : الآية 39 .

فانّ مدح زيد بكونه صائم النهار متهجّدا لا يدلّ على رجحان هاتين الصفتين على الافطار في النهار ، وترك التهجّد في الليل للاشتغال بما هو أهمّ منهما .

ومنها : قوله تعالى : « وخُذ بيدك ضِغثا

-------------------

في التزويج ، فقد ورد في الحديث : إنّ من تزوج فقد أحرز نصف دينه فليتق اللّه في النصف الآخر (1) ، وغير ذلك من الأحاديث الشريفة في هذا المجال (2) ، فالتزويج هو الأصل ، والتعفف هو العارض الذي يستحب إذا كان سببا لدفع مضار وجلب منافع ، كما في بعض الأنبياء عليهم السلام مثل عيسى ويحيى ، حيث لم تكن ظروفهم تتحمّل الجمع بين التبليغ وإدارة اُمور الزوجة .

وعليه : ( فانّ مدح زيد بكونه صائم النهار متهجّدا ) بالليل ( لا يدلّ على رجحان هاتين الصفتين على الافطار في النهار ، وترك التهجّد في الليل للاشتغال بما هو أهمّ منهما ) كالدراسة الدينية ، والكسب للعائلة ، وما أشبه ذلك .

أقول : والظاهر : انه لا مانع من ان نستصحب إستحباب الحصورية بالنسبة إلى شريعتنا لمن إبتلى بما هو أهم ، كالتبليغ الديني وما أشبه ذلك ، وإستطاع أن يحفظ نفسه ، وقد جاء في بعض الروايات : حلّية العزوبة في بعض الأزمنة .

( ومنها : قوله تعالى ) في بيان قصة أيوب عليه السلام حيث حلف على ان يضرب زوجته مائة ضربة ، ثم بدا له المحذور في مثل هذا الضرب فقال له تعالى : ( « وخُذ بيدك ضِغثا » ) وهو مجموعة من الأعواد الصغار كالشمراخ وما أشبه ذلك

ص: 60


1- - الكافي فروع : ج5 ص328 ح2 ، وسائل الشيعة : ج20 ص17 ب1 ح24908 .
2- - وقد تطرّق الامام الشارح الى ما يتعلّق بالزواج وأفضليته وما يتعلّق به من أحكام في موسوعة الفقه ، كتاب الفقه الاسرة وكتاب الفقه النكاح وكذا في كتاب العائلة .

فاضرب به » الآية ، إنّما دلّ على جواز برّ اليمين على ضرب المستحقّ مائة بالضرب بالضغث .

وفيه : ما لا يخفى .

ومنها : قوله تعالى : « أنّ النّفسَ بالنفس والعينَ بالعين » إلى آخر الآية ،

-------------------

(

« فاضرب به » (1) الآية ) .

وعليه : فان قوله تعالى في هذه الآية ( إنّما دلّ على جواز برّ اليمين على ضرب المستحقّ مائة ) وذلك برّا ليمينه ( بالضرب بالضغث ) فنستصحبه إلى شريعتنا ، فيجوز لمن حلف على ضرب المقصّر مائة ضربة أن يعمل بحلفه بطريق أسهل ، وذلك بأن يضربه بالضغث - مثلاً - .

( وفيه : ما لا يخفى ) لأن اليمين ان كان منعقدا لم يجز التخلف عنه وان لم يكن منعقدا لم يجز العمل به في ضرب الناس حتى ولو كان سوطا واحدا وأقل منه .

أقول : لا إشكال في كون ضربها كان جائزا ، ولذلك إنعقد يمينه عليه السلام ، لكن إنّما وجب عليه ضربها بالضغث للجمع بين الحقين ، لوجود محذور في ضربها بالسياط دون الضغث ، وهذا الحكم يستصحب في شريعتنا أيضا ، وقد ثبت مثل ذلك في حدّ المريض ، كما هو مذكور في كتاب الحدود من الفقه (2) .

( ومنها : قوله تعالى : « أنّ النَّفس بالنفس والعين بالعين » إلى آخر الآية (3)،

ص: 61


1- - سورة ص : الآية 44 .
2- - راجع موسوعة الفقه ج87 - 88 كتاب الحدود والتعزيرات ، للشارح .
3- - سورة المائدة : الآية 45 .

إستدلّ بها في حكم من قلع عين ذي العين الواحدة .

ومنها : قوله تعالى حكاية عن شعيب : « إنّي اُريد أن اُنكِحَكَ إحدَى ابنتيَّ هاتين على أن تأجُرَني ثمانيَ حِجَجٍ فان أتممتَ عشرا فمِن عندك » .

وفيه : أنّ حكم المسألة قد علم من العمومات والخصوصيات الواردة فيها فلا ثمرة في الاستصحاب .

-------------------

إستدل بها في حكم من قلع عين ذي العين الواحدة ) ولكن حيث ان في خصوص هذه المسألة تفصيلاً فقهيا ، نتركه لكتاب القصاص (1) .

أقول : والظاهر من الآية المباركة : ان القصاص كان حكم الاُمّة السابقة في شريعتهم ، وهو أيضا الحكم الجاري في شريعتنا وذلك للنصوص الخاصة عليه عندنا ، فلا حاجة فيه إلى الاستصحاب .

( ومنها : قوله تعالى حكاية عن شعيب ) عليه السلام ، حيث قال لموسى عليه السلام : ( « إنّي اُريد ان أنكِحَكَ إحدى ابنتيَّ هاتين على أن تأجُرني ثماني حِجَجٍ فان أتممتَ عشرا فمن عندك »» (2) ) وذلك بأن يعمل موسى لشعيب عليهماالسلام ثمان سنوات ، فان ظاهر الآية المباركة جواز جعل المنفعة صداقا في شريعتهم فنثبته في شريعتنا بالاستصحاب.

( وفيه : أنّ حكم المسألة قد علم من العمومات والخصوصيات الواردة فيها ) أي : في المسألة : من ان الصداق يجب ان يكون عينا وذلك على ما ذكره الفقهاء في كتاب النكاح ، وحينئذ ( فلا ثمرة في الاستصحاب ) فان الاستصحاب دليل حيث لا دليل ، فاذا وجد النص الخاص فلا مجال للاستصحاب .

ص: 62


1- - راجع موسوعة الفقه : ج89 كتاب القصاص ، للشارح .
2- - سورة القصص : الآية 27 .

نعم ، في بعض تلك الأخبار إشعارٌ بجواز العمل بالحكم الثابت في الشرع السابق لولا المنع عنه ، فراجع وتأمّل .

الأمر السادس :

قد عرفت أنّ معنى عدم نقض اليقين والمضيّ عليه هو ترتيب آثار اليقين السابق الثابتة بواسطته للمتيقّن

-------------------

( نعم ، في بعض تلك الأخبار ) الدالة على جواز جعل المنفعة صداقا للمرأة واستشهادها بقصة شعيب ( إشعارٌ بجواز العمل بالحكم الثابت في الشرع السابق لولا المنع عنه ) بسبب نسخه بمجيء شريعتنا ( فراجع وتأمّل ) .

والحاصل : ان الظاهر جواز إستصحاب الشرايع السابقة إذا ثبتت في شريعتنا بنص أو إجماع أو ما أشبه ذلك ، ولم يثبت نسخ تلك الشريعة في شريعتنا .

( الأمر السادس ) : في بيان عدم حجية ما إصطلحوا عليه بالأصل المثبت بمعنى : ان الاستصحاب إنّما ينفع في إثبات اللوازم الشرعية للمستصحب ، لا اللوازم العقلية والعادية والعرفية له كما قال :

( قد عرفت ) فيما سبق عند تقريب دلالة الأخبار على إختصاص الاستصحاب بالشك في الرافع ، وهكذا في موارد اُخر من المباحث السابقة : ( أنّ معنى عدم نقض اليقين والمضيّ عليه ) ليس هو عبارة عن إبقاء نفس اليقين ، لأن نفس اليقين أثر تكويني غير قابل للجعل الشرعي ، وقد إنتقض بسبب الشك ، وكذا ليس هو إبقاء المتيقن واقعا ، لخروجه عن اختيار المكلّف وعدم قبوله الجعل الشرعي وإنّما ( هو ترتيب آثار اليقين السابق ) أي : ترتيب تلك الآثار ( الثابتة بواسطته ) أي : بواسطة اليقين ( للمتيقّن ) فإذا كان - مثلاً - على يقين من الوضوء

ص: 63

ووجوب ترتيب تلك الآثار من جانب الشارع ، لا يعقل إلاّ في الآثار الشرعية المجعولة من الشارع لذلك الشيء ، لأنّها القابلة للجعل ، دون غيرها من الآثار العقليّة والعاديّة .

فالمعقول من حكم الشارع بحياة زيد ، وإيجابه

-------------------

وشك فيه ، رتب بالاستصحاب الآثار الثابتة لليقين بالوضوء .

( و ) من المعلوم : ان ( وجوب ترتيب تلك الآثار من جانب الشارع ، لا يعقل إلاّ في الآثار الشرعية المجعولة من الشارع لذلك الشيء ) كالآثار الشرعية المجعولة للوضوء - مثلاً - فإذا كان في الصباح على يقين من وضوئه ، ثم شك فيه ظهرا ، إستصحب بقاء وضوئه ، ومعنى إستصحاب وضوئه : ترتيب آثاره الشرعية عليه كجواز الدخول في الصلاة - مثلاً - وهذا إذا كان المستصحب حكما شرعيا ، وإذا كان موضوعا خارجيا كاستصحاب حياة الزوج وعدم موته فمعناه كذلك ترتيب آثاره الشرعية عليه كوجوب نفقة الزوجة - مثلاً - عليه ، وهكذا .

وإنّما لا يعقل ذلك إلاّ في الآثار الشرعية ( لأنّها ) أي : الآثار الشرعية المترتبة من قبل الشارع هي ( القابلة للجعل ، دون غيرها من الآثار العقليّة والعاديّة ) والعرفية .

مثلاً : ان لحياة زيد أثرا عقليا ، هو تنفسه وأثرا عاديا هو نبات لحيته ، وأثرا عرفيا هو توقفه عند الضوء الأحمر مثلاً ، وقد سبق بيان الفرق بين الأخيرين ، فالعادي : ما جرت العادة عليه ، والعرفي : ما لم يشترط فيه جريان العادة عليه؛ إذ قد يكون ما يتعارف عليه شيئا جديدا لم تجر العادة عليه ، كما إذا قرّرت الدولة توقف السيارات عند الضوء الأحمر من هذا اليوم ، فانه عرف وليس بعادة .

وكيف كان : ( فالمعقول من حكم الشارع بحياة زيد ، وإيجابه ) أي : والمعقول

ص: 64

ترتيب آثار الحياة في زمان الشك هو : حكمه بحرمة تزويج زوجته ، والتصرّف في ماله ، لا حكمه بنموّه ونبات لحيته ، لأنّ هذه غير قابلة لجعل الشارع .

نعم ، لو وقع نفس النموّ ونبات اللحية موردا للاستصحاب أو غيره من التنزيلات الشرعيّة

-------------------

من إيجاب الشارع وأمره ب- ( ترتيب آثار الحياة في زمان الشك ) في حياة زيد ( هو : حكمه بحرمة تزويج زوجته ، والتصرّف في ماله ) إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية التابعة لحياته .

( لا حكمه بنموّه ) الذي هو أثر عقلي لحياته ( ونبات لحيته ) الذي هو أثر عادي له ، وتوقفه عند الضوء الأحمر - مثلاً - الذي هو أثر عرفي له ، إلى غير ذلك من الآثار غير الشرعية التابعة لحياته .

وإنّما المعقول ترتيب الآثار الشرعية دون العقلية والعادية والعرفية ( لأنّ هذه ) أي : الآثار العقلية والعادية والعرفية ( غير قابلة لجعل الشارع ) بجعل تشريعي ، فان النمو ونبات اللحية وما أشبه ذلك من مجال التكوين ، وليس من مجال التشريع ، فانه وان كان بيد المولى الحقيقي جعل هذه الاُمور جعلاً تكوينيا ، إلاّ ان المقام في المجعولات التشريعية ، لا التكوينية .

( نعم ، لو وقع نفس ) الأثر غير الشرعي مثل : ( النموّ ونبات اللحية موردا للاستصحاب أو غيره ) أي : غير الاستصحاب ( من التنزيلات الشرعيّة ) الاُخرى، ترتب عليهما الأثر الشرعي أيضا فقط .

وإنّما قال : أو غير الاستصحاب من التنزيلات الشرعية ، لأن الاستصحاب هو أيضا تنزيل شرعي ، فقد نزّل الشارع فيه المشكوك بمنزلة المتيقن ، واما تنزيل

ص: 65

أفاد ذلك جعل آثارهما الشرعيّة دون العقليّة والعاديّة ، لكنّ المفروض ورود الحياة موردا للاستصحاب .

-------------------

النمو ونبات اللحية بتنزيل شرعي غير الاستصحاب فهو كما إذا نزّل الشارع النمو بمنزلة الولادة ، ونزّل نبات اللحية بمنزلة البلوغ - مثلاً - على غرار : المطلقة الرجعية زوجة .

أمّا مثال وقوع نفس النمو ونبات اللحية موردا للاستصحاب ، فهو بأن تتوفر شروط الاستصحاب فيهما : من يقين سابق بالنمو ، ونبات اللحية ، وشك لاحق فيهما مع ترتب أثر شرعي عليهما ، كما إذا نذر التصدق بدرهم في كل يوم لو إستمر نموّ ولده ، أو نبات لحيته ، فإذا شك فيهما إستصحبهما فيترتب عليه وجوب التصدق بدرهم في كل يوم .

وأمّا مثال تنزيل النمو ونبات اللحية بتنزيل شرعي غير الاستصحاب ، فهو كما إذا نزّل الشارع النموّ بمنزلة الولادة ، فانه يثبت للنمو ما ثبت للولادة من الآثار الشرعية لا غير الشرعية ، فاذا قال : يستحب العقيقة للولادة ، إستحب للنمو أيضا ، وكما إذا نزّل الشارع نبات اللحية منزلة البلوغ ، فانه يثبت لنبات اللحية ما ثبت للبلوغ من الآثار الشرعية دون غير الشرعية ، فإذا قال : تجب التكاليف على البالغ وجبت على من نبتت لحيته أيضا .

وعلى أي حال : فلو وقع نفس النمو ونبات اللحية موردا للاستصحاب أو وقعا موردا لتنزيل شرعي غير الاستصحاب ( أفاد ذلك جعل آثارهما الشرعيّة ) فقط ( دون العقليّة والعاديّة ، لكنّ المفروض ورود الحياة موردا للاستصحاب ) فيترتب على الحياة أثرها الشرعي لا ورود النمو ونبات اللحية مورد الاستصحاب حتى يترتب عليهما أثرهما الشرعي .

ص: 66

والحاصل : أنّ تنزيل الشارع المشكوك منزلة المتيقن كسائر التنزيلات إنّما يفيد ترتيب الأحكام والآثار الشرعية المحمولة على المتيقن السابق .

فلا دلالة فيها على جعل غيرها من الآثار العقليّة والعاديّة لعدم قابليتها للجعل ، ولا على جعل الآثار الشرعية المترتبة على تلك الآثار ، لأنّها ليست آثار نفس المتيقن

-------------------

( والحاصل : أنّ تنزيل الشارع المشكوك منزلة المتيقن كسائر التنزيلات ) الشرعية مثل : جعل الطواف بالبيت صلاة ، والفقاع خمر ، وما أشبه ذلك ( إنّما يفيد ترتيب الأحكام والآثار الشرعية ) فقط ( المحمولة على المتيقن السابق ) بلا واسطة ، فإذا كان المتيقن حياة زيد فغاب فشككنا في حياته ، فاستصحبنا حياته ، ترتّب عليه مثل : حرمة التصرّف في ماله ، ووجوب النفقة على زوجته ، وغير ذلك من الآثار الشرعية المحمولة على الحياة بلا واسطة فقط .

وعليه : ( فلا دلالة فيها ) أي : في التنزيلات الشرعية سواء الاستصحاب أم غير الاستصحاب ( على جعل غيرها ) أي : غير الآثار الشرعية ( من الآثار العقليّة والعاديّة ) والعرفية جعلاً شرعيا ، وذلك ( لعدم قابليتها للجعل ) الشرعي .

( و ) أيضا ( لا ) دلالة فيها ( على جعل الآثار الشرعية المترتبة على تلك الآثار ) العقلية والعادية والعرفية ، فإن إستصحاب حياة زيد لا يثبت أثره العقلي كالنمو ، ولا العادي كنبات لحيته ، ولا العرفي كتوقفه عند الوضوء الأحمر ، حتى يترتب على هذه الآثار غير الشرعية آثارها الشرعية من نذر وما أشبه ، وذلك : ( لأنّها ) أي : الآثار الشرعية المترتبة على الأثر العقلي أو العادي أو العرفي آثار مع الواسطة، فهي ( ليست آثار نفس المتيقن ) الذي هو الحياة ، حتى يترتب عليه وجوب الوفاء بالنذر مثلاً .

ص: 67

ولم يقع ذوها موردا لتنزيل الشارع حتى تترتّب هي عليه .

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ المستصحب ، إمّا أن يكون حكما من الأحكام الشرعية المجعولة كالوجوب والتحريم والإباحة وغيرها ،

-------------------

كما ( ولم يقع ذوها ) أي : ذو الآثار : من النمو ، ونبات اللحية ، والتوقف عند الوضوء الأحمر بنفسها ( موردا لتنزيل الشارع حتى تترتّب هي ) أي : تلك الآثار الشرعية من وجوب الوفاء بالنذر ( عليه ) أي : على ذي الأثر ، إذ المفروض : ان مورد التنزيل هو الحياة لا النمو ، ووجوب الوفاء بالنذر ليس أثر الحياة ، وإنّما هو أثر النمو ، والنمو لم يقع مورد التنزيل .

( إذا عرفت هذا ) أي : ما ذكرناه إجمالاً : من عدم إثبات الاستصحاب للآثار العقلية والعادية والعرفية ( فنقول ) في تفصيل ذلك ما يلي :

( إنّ المستصحب ، إمّا أن يكون حكما من الأحكام الشرعية المجعولة كالوجوب ) لصلاة الظهر - مثلاً - فإذا شك المكلّف في إتيانها والوقت لم يخرج بعد ، فانه يجب عليه الاتيان بها ، امّا إذا خرج الوقت فالوقت حائل والشك بعد الوقت لا يعتنى به .

( و ) اما ان يكون المستصحب ( التحريم ) كحرمة وطي الزوجة فيما إذا شك الزوج بعد نقائها وقبل الغسل في انه هل يجوز وطيها ، لأنّ المعيار النقاء من الدم ، أو لا يجوز ، لأن المعيار الغسل ؟ .

( و ) اما ان يكون المستصحب ( الإباحة ) كاباحة شرب التتن قبل الشرع فيما لو شك المكلّف في انه هل الشارع حرّم التتن أم لا ؟ .

( و ) اما ان يكون المستصحب ( غيرها ) أي : غير الوجوب والتحريم والاباحة ، وهو : الاستحباب والكراهة ، وتسمى هذه الخمسة بالأحكام

ص: 68

وإمّا أن يكون من غير المجعولات كالموضوعات الخارجية واللغوية .

فان كان من الأحكام الشرعية فالمجعول في زمان الشك حكم ظاهري مساوٍ للمتيقن السابق في جميع ما يترتب عليه ، لأنّه مفاد وجوب ترتيب آثار المتيقن السابق ووجوب المضي عليه والعمل به ، وإن كان من غيرها فالمجعول في زمان الشك هي : لوازمه الشرعية

-------------------

الشرعية التكليفية .

( وإمّا أن يكون من غير المجعولات ) الشرعية ( كالموضوعات الخارجية ) مثل حياة زيد ، وطلاق زوجته ، وما أشبه ذلك ( واللغوية ) مثل أصالة الحقيقة وأصالة عدم النقل ونحو ذلك .

وعليه : ( فان كان من الأحكام الشرعية ) أي : الخمسة التكليفية ( فالمجعول في زمان الشك حكم ظاهري مساوٍ للمتيقن السابق في جميع ما يترتب عليه ) لوضوح : انا سابقا كنّا نعلم بالوجوب والحال نشك في الوجوب ، فجعل لنا الشارع مثل ذلك الوجوب حكما ظاهريا جعلاً بسبب الاستصحاب .

وإنّما المجعول حكم ظاهري يساوي المتيقن السابق ( لأنّه مفاد وجوب ترتيب آثار المتيقن السابق ووجوب المضي عليه ) أي : على المتيقن السابق ( والعمل به ) أي : بذلك المتيقن ، فان الشارع لما قال : اعمل بالمتيقن السابق كان معناه : رتّب أثر المتيقن عند الشك فيه كما كنت ترتبه عليه عند اليقين به ، فانه كما كان يجوز له الدخول في الصلاة - مثلاً - عند يقينه بالوضوء فكذلك يجوز له عند شكه في بقاء وضوئه .

( وإن كان من غيرها ) أي : من غير الأحكام الشرعية كالاُمور الخارجية ( فالمجعول في زمان الشك هي : لوازمه الشرعية ) أي : لوازم الموضوع التي

ص: 69

دون العقليّة والعاديّة ، ودون ملزومه ، شرعيا كان أو غيره ، ودون ما هو ملازم معه لملزوم ثالث .

ولعل هذا

-------------------

هي شرعية ، فان اللوازم الشرعية للموضوعات هي القابلة للجعل فقط ، فإذا إستصحبنا حياة الزوج - مثلاً - وجبت النفقة لزوجته ، وحرم على زوجته الزواج بغيره ، إلى غير ذلك .

( دون العقليّة ) كنموه الملازم عقلاً لحياته ( والعاديّة ) كنبات لحيته الملازم عادة لحياته ، والعرفية كتوقفه عند الضوء الأحمر الملازم عرفا لحياته .

وإنّما لا تترتب اللوازم العقلية والعادية والعرفية على إستصحاب الموضوع ، لأن هذه اللوازم ليست قابلة للجعل الشرعي .

( ودون ملزومه ، شرعيا كان ) ذلك الملزوم كما إذا قال لزوجته أنت بتلة ، ثم شك في انها حرمت عليه أم لا ، فاستصحاب عدم حرمتها الذي هو اللازم لا يثبت الملزوم الذي هو عدم كون بتلة محرّما ( أو غيره ) بأن يكون الملزوم غير شرعي كاستصحاب نموّ زيد لاثبات الملزوم وهو حياة زيد - مثلاً - .

( ودون ما هو ملازم معه ) أي : مع المتيقن ( لملزوم ثالث ) كما إذا إستصحب نموّ زيد لاثبات ملازمه وهو نبات لحيته ، فان النمو ونبات اللحية مثلاً زمان ، إذ كلاهما لازمان لملزوم واحد هو : حياة زيد - مثلاً - .

والحاصل : ان الاستصحاب يثبت اللازم الشرعي فقط ، ولا يثبت اللازم العقلي والعادي والعرفي للمتيقن ، كما لا يثبت ملازم المتيقن ولا ملزومه سواء كان الملزوم شرعيا أم غير شرعي .

( ولعل هذا ) الذي ذكرناه : من عدم إثبات الاستصحاب الملزوم سواء كان

ص: 70

هو المراد بما إشتهر على ألسنة أهل العصر من نفي الاُصول المثبتة فيريدون به أنّ الأصل لا يثبت أمرا في الخارج حتى يترتّب عليه حكمه الشرعي ، بل مؤداه أمر الشارع بالعمل على طبق مجراه شرعا .

فان قلت :

-------------------

شرعيا أم غير شرعي ، ولا اللازم العرفي والعادي والعقلي ، وإنّما الشرعي فقط ( هو المراد بما إشتهر على ألسنة أهل العصر ) من علمائنا : ( من نفي الاُصول المثبتة ) .

وإنّما قال المصنِّف : لعل ، لأن ما ذكره أهل العصر ليس بهذا التفصيل الذي ذكره المصنِّف ، وإنّما ذكروا بعض ذلك ، فلعلهم بذكر البعض أرادوا كل ما ذكره المصنِّف وكان ذكرهم للبعض من باب المثال كما قال :

( فيريدون به ) أي بنفيهم للاُصول المثبتة ما خلاصته : ( أنّ الأصل لا يثبت أمرا في الخارج ) أي : انه لا يجعل له وجودا خارجيا ( حتى يترتّب عليه ) أي : على وجوده بعد تحققه في الخارج ( حكمه الشرعي ) وذلك على ما عرفت .

إذن : فليس مؤدّى الاستصحاب إثبات الاُمور التكوينية ( بل مؤداه ) إثبات الاُمور التشريعية فيكون مؤدّى الاستصحاب هو : ( أمر الشارع بالعمل على طبق مجراه شرعا ) وذلك بترتيب الآثار الشرعية فقط .

( فان قلت ) : نسلِّم ان أخبار الاستصحاب لا تدل على ترتيب اللوازم العقلية والعادية والعرفية ، لكن لماذا لا تدل عى ترتيب اللوازم الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية والعرفية والعادية ، مثل : وجوب الوفاء بنذره المترتب على نموّ زيد ، أو نبات لحيته ، أو توقفه عند الضوء الأحمر ، فان النمو والانبات والتوقف عند الضوء الأحمر وان لم تثبت باستصحاب بقاء الحياة ، لكن لازمها الشرعي ،

ص: 71

الظاهر من الأخبار وجوب أن يعمل الشاكّ عمل المتيقن ، بأن يفرض نفسه متيقنا ، ويعمل كلّ عمل ينشأ من تيقّنه بذلك المشكوك سواء كان ترتبه عليه بلا واسطة أو بواسطة أمر عادي أو عقلي مترتّب على ذلك المتيقن .

قلت : الواجب على الشاكّ عمل المتيقن بالمستصحب من حيث تيقّنه به،

-------------------

وهو وجوب الوفاء بالنذر لا مانع من ثبوته ، بسبب بقاء الحياة ، فاللازم الشرعي ثبت ، سواء كان بلا واسطة أم مع الواسطة .

وعليه : فيكون ( الظاهر من الأخبار وجوب أن يعمل الشاكّ عمل المتيقن ، بأن يفرض نفسه متيقنا ، ويعمل كلّ عمل ينشأ من تيقّنه بذلك المشكوك ) الذي يريد إستصحابه ( سواء كان ترتبه عليه بلا واسطة ) كمثال وجوب نفقة الزوجة في إستصحاب حياة الزوج ( أو بواسطة أمر عادي أو عقلي ) أو عرفي ( مترتّب على ذلك المتيقن ) كمثال وجوب الوفاء بالنذر المترتب على لازم غير شرعي لاستصحاب حياة زيد .

وإنّما الظاهر عدم الفرق بينهما لأن الأثر الشرعي مع الواسطة هو أثر شرعي أيضا ، فيكون حاله حال الأثر الشرعي بلا واسطة .

( قلت ) : إذا لم يثبت بسبب إستصحاب الحياة النمو ، أو نبات اللحية ، أو التوقف عند الضوء الأحمر ، فكيف يثبت ما هو لازم لها من وجوب الوفاء بالنذر ؟ .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف بقوله : فان ( الواجب على الشاكّ ) هو ان يعمل ( عمل المتيقن بالمستصحب من حيث تيقّنه به ) أي : بالمستصحب نفسه ، لا بلوازمه ، فانه إذا كان متيقنا بالمستصحب كيف كان يعمل ، كذلك يعمل مثل ذلك العمل إذا كان شاكا فيه وإستصحبه .

ص: 72

وأمّا ما يجب عليه من حيث تيقنه بأمر يلازم ذلك المتيقن عقلاً أو عادة ، فلا يجب عليه ، لأنّ وجوبها عليه يتوقف على وجود واقعي لذلك الأمر العقلي أو العادي أو وجودٍ جعليٍّ بأن يقع موردا لجعل الشارع

-------------------

( وأمّا ما يجب عليه من حيث تيقنه بأمر يلازم ذلك المتيقن عقلاً أو عادة ) أو عرفا مثل : الوفاء بالنذر المترتِّب عليه النمو ، أو نبات اللحية ، أو التوقف عند الضوء الأحمر الملازمة لبقاء حياة زيد - مثلاً - ( فلا يجب عليه ) أي : على الشاك ذلك .

وإنّما لا يجب عليه ذلك لأن دليل الاستصحاب لا يشمل مثل هذا الأثر الذي هو أثر بالواسطة ، فان وجوب الوفاء بالنذر مترتِّب على الحياة من حيث اليقين بلوازم الحياة غير الشرعية ، مثل النمو ، بينما أخبار الاستصحاب ظاهرة في الآثار بلا و اسطة ، لا الآثار المترتبة مع واسطة أمر عقلي أو عادي أو عرفي .

وعليه : فلا يجب على الشاك العمل بتلك الأحكام الشرعية المترتبة على ما يلازم المستصحب عقلاً أو عادة أو عرفا ، وذلك ( لأنّ وجوبها عليه ) أي : على الشاك ( يتوقف ) على أحد أمرين :

الأوّل : ( على وجود واقعي لذلك الأمر العقلي أو العادي ) أو العرفي ، يعني : بأن يعلم علما وجدانيا مثلاً بنمو زيد ، أو نبات لحيته ، أو توقفه عند الضوء الأحمر ، حتى يجب عليه الوفاء بنذره والمفروض : انه لا وجود واقعي لذلك .

الثاني : ( أو ) على ( وجودٍ جعليٍّ بأن يقع موردا لجعل الشارع ) أي : موردا للاستصحاب ، وذلك كما إذا توفرت شروط الاستصحاب : من يقين سابق بالنمو، أو بنبات اللحية - مثلاً - وشك لاحق فيه ، فيستصحب النمو أو نبات اللحية ويترتب عليه الحكم الشرعي وهو : وجوب الوفاء بالنذر ، والمفروض : انه

ص: 73

حتى يرجع جعله غير المعقول إلى جعل أحكامه الشرعية .

وحيث فرض عدم الوجود الواقعي والجعلي لذلك الأمر ، كان الأصل عدم وجوده وعدم ترتب آثاره .

وهذه المسألة نظير ما هو المشهور في باب الرضاع

-------------------

لا وجود جعلي لذلك ( حتى يرجع جعله ) الشرعي ( غير المعقول ) لما عرفت : من ان النمو أو نبات اللحية - مثلاً - غير قابل للجعل الشرعي وإنّما جعله يكون بالتكوين ، فإذا قال الشارع ، إستصحب النمو أو نبات اللحية ، رجع قول الشارع ( إلى جعل أحكامه الشرعية ) مثل : وجوب الوفاء بالنذر .

هذا ( وحيث فرض عدم الوجود الواقعي ) لأنا لا نعلم بوجود النمو أو نبات اللحية واقعا ( و ) عدم ( الجعلي ) أي : عدم الوجود الجعلي لأنا لا نستصحب النمو أو نبات اللحية ، وإنّما نستصحب الحياة ، فلا وجود واقعي ولا جعلي إذن ( لذلك الأمر ) أي : للنمو ، أو لنبات اللحية ، وحيث فرض ذلك ( كان الأصل عدم وجوده وعدم ترتب آثاره ) مثل : وجوب الوفاء بالنذر وعليه :

( وهذه المسألة ) التي ذكرناها : من انه لا يثبت بالاستصحاب اللوازم العقلية والعرفية والعادية تكون ( نظير ما هو المشهور في باب الرضاع ) فان الشارع قال : « الرضاع لحمة كلحمة النسب » (1) ، فاذا كان أخ واُخت رضاعيان ، فانه يحرم أحدهما على الآخر ، لكن إذا كان عنوان ملازم للأخ أو للاُخت مثل : أخ الأخ ، أو اُخت الاُخت ، فانه لا يحرم أحد الملازمين على أحد الرضاعيّين .

مثلاً : فاطمة وإبراهيم أخ واُخت من الرضاعة ، ولفاطمة اُخت تسمّى زينب ، فانها لا تصبح اُختا لابراهيم حتى تحرم على إبراهيم ، لأن المحرّم هو الاُخت

ص: 74


1- - جامع المقاصد : ح13 ص243 .

من : أنّه إذا ثبت بالرضاع عنوان ملازم لعنوان محرّم من المحرّمات لم يوجب التحريم ، لأنّ الحكم تابع لذلك العنوان الحاصل بالنسبة أو بالرضاع ، فلا يترتّب على غيره المتّحد معه وجودا .

ومن هنا ، يعلم أنّه لا فرق في الأمر العادي بين كونه متّحد الوجود مع المستصحب بحيث لا يتغايران إلاّ مفهوما

-------------------

من الرضاعة لا اُخت الاُخت ، وهكذا .

ولذا إشتهر بين الفقهاء : ( من أنّه إذا ثبت بالرضاع عنوان ملازم لعنوان محرّم من المحرّمات ) فان الاُخت من الرضاعة محرّم من المحرّمات ، واُخت الاُخت عنوان ملازم له ، لكنه ( لم يوجب التحريم ) له ، إذ الاُخت الرضاعية محرّمة ، لا اُخت الاُخت .

وإنّما لا يوجب التحريم للملازم ( لأنّ الحكم ) الذي هو التحريم بسبب الرضاع ( تابع لذلك العنوان ) أي : عنوان الاُختية ( الحاصل بالنسبة ، أو بالرضاع ، فلا يترتّب ) الحكم بالتحريم ( على غيره ) أي : الملازم لذلك العنوان ( المتّحد معه ) أي : مع ذلك العنوان ، فاُخت الاُخت ليست بمحرّم رضاعا ، وان كانت اُخت الاُخت متحدة مع عنوان الاُخت ( وجودا ) لوضوح : ان اُخت الاُخت اُخت لكن المحرّم بالرضاع هو الاُخت ، لا اُخت الاُخت .

( ومن هنا ) أي : مّما ذكرنا : من ان دليل الاستصحاب لا يقتضي ترتيب ما كان ثابتا على المستصحب عقلاً أو عادة أو عرفا ( يعلم ) ستة اُمور :

الأوّل : ( أنّه لا فرق في الأمر العادي ) الذي قلنا : بانه لا يثبت بالاستصحاب ( بين كونه متّحد الوجود مع المستصحب بحيث لا يتغايران إلاّ مفهوما ) أي : بأن يكون لهما إتحاد وجودي ومصداقي فقط ، ففي الخارج ليس إلاّ شيئا واحدا ،

ص: 75

كاستصحاب بقاء الكرّ في الحوض عند الشك في كرّية الماء الباقي فيه

-------------------

لكن مفهومهما شيئان متغايران وذلك : ( كاستصحاب بقاء الكرّ في الحوض عند الشك في كرّية الماء الباقي فيه ) فان وجود الكرّ في الحوض ، وكرية ماء الحوض، متحدان خارجا متغايران مفهوما .

اما إنهما متحدّان خارجا ، فلأنه ليس في الخارج إلاّ شيء واحد يصدق هذان المفهومان عليه .

وامّا انهما متغايران مفهوما : فلأنه فرق بين أن يقال ، وجد الكر ، أو يقال : الماء كر ، فان ماء الحوض لو كان كرا ، فقد وجد الكر في الحوض .

وعليه : ففي زمان القطع بوجود الكر يحكم بطهارة الثوب النجس المغسول به، وذلك لليقين بكرية ماء الحوض ، لا لليقين بوجود الكر ، ولذا في زمان الشك في بقاء الكرية لا ينفع إستصحاب وجود الكر في الحكم بطهارة الثوب ، لأن الحكم بطهارة الثوب لم يكن في السابق مترتبا على نفس المستصحب من حيث اليقين به ، بل من حيث اليقين بلازمه العادي المتحد معه وهو : كرية الماء .

إذن : فلو أجرينا الاستصحاب في وجود الكر لم ينفع في الحكم بطهارة الثوب، بينما لو أجرينا الاستصحاب في كريّة الماء وقلنا : بأن هذا الماء كان كرا فهو كر ، نفع في الحكم بطهارة الثوب ، وذلك فيما إذا كان الموضوع الفعلي هو الموضوع السابق عرفا ، بأن لم ينقص الماء نقصا فاحشا حتى يرى العرف ان هذا الماء هو غير الماء السابق .

وعليه : فلا فرق في عدم ثبوت الأمر العادي بالاستصحاب ، بين إتحاد وجوده مع المستصحب وقد عرفت مثاله وتفصيله في الأمر الأوّل وبين تغاير وجوده مع المستصحب وذلك على ما يأتي بيانه .

ص: 76

وبين تغايرهما في الوجود ، كما لو علم بوجود المقتضي لحادث على وجه لولا المانع حدث وشك في وجود المانع .

وكذا لا فرق بين أن يكون اللزوم بينها وبين المستصحب كلّيا لعلاقة وبين أن يكون إتفاقيا

-------------------

الثاني : ( وبين تغايرهما في الوجود ، كما لو علم بوجود المقتضي لحادث على وجه لولا المانع حدث ) ذلك الحادث ( وشك في وجود المانع ) .

مثلاً : لو أخذ خشب الغير وألقاه في النار فانه يقتضي الاحتراق لولا الرطوبة في الخشب ، وإحتراقه يوجب الضمان ، ومعلوم : ان الاحتراق وعدم الرطوبة كما يتغايران مفهوما يتغايران خارجا أيضا ، فإذا شك في الضمان للشك في الرطوبة ، فاستصحاب عدم الرطوبة لا ينفع في الحكم بالضمان ، لأن الحكم بالضمان لم يكن في السابق مترتبا على نفس المستصحب من حيث اليقين به ، بل من حيث اليقين بلازمه العادي المغاير له وهو : الاحتراق .

إذن : فلو أجرينا الاستصحاب في عدم الرطوبة لم ينفع الحكم بالضمان ، لأن الحكم بالضمان مع العلم بعدم الرطوبة كان قطعيا ، وذلك لليقين بالاحتراق لا لليقين بعدم الرطوبة حتى يثبت بالاستصحاب .

الثالث : ( وكذا لا فرق بين أن يكون اللزوم بينها ) أي : بين تلك اللوازم ( وبين المستصحب كلّيا لعلاقة ) كعلاقة الفرد والكلي كما تقدَّم من مثال وجود الكر في الحوض ، وكرية ماء الحوض ، فانه كلَّما وجد الكلي وجد الجزئي ، ولا يعقل ان يوجد أحدهما بدون الآخر .

الرابع : ( وبين أن يكون ) اللزوم بين اللوازم وبين المستصحب ( إتفاقيا

ص: 77

في قضية جزئية ، كما إذا علم لأجل العلم الاجمالي الحاصل بموت زيد أو عمرو : أنّ بقاء حياة زيد ملازم لموت عمرو ، وكذا بقاء حياة عمرو ، ففي الحقيقة عدم الانفكاك إتفاقي من دون ملازمة .

وكذا لا فرق بين أن يثبت بالمستصحب تمام ذلك الأثر العادي ، كالمثالين

-------------------

في قضية جزئية ، كما إذا علم لأجل العلم الاجمالي الحاصل بموت زيد أو عمرو : أنّ بقاء حياة زيد ملازم لموت عمرو ، وكذا بقاء حياة عمرو ) ملازم لموت زيد ، ومن الواضح : ان هذه الملازمة ليست لعلاقة الكلي وجزئية ، ولا غير ذلك ، بل الملازمة إتفاقية ناشئة عن العلم الاجمالي الخارجي .

وعليه : فان مراد المصنِّف من اللزوم الاتفاقي هو : المقارنة الاتفاقية ، فلا يستشكل عليه : بان اللزوم والاتفاق متقابلان لا يصدق أحدهما على الآخر ، وإذا كان مراده ذلك فلا تناقض في قوله المزبور وبين ان يكون اللزوم إتفاقيا ، في قضية جزئية .

ويؤكد إرادة المصنِّف المقارنة الاتفاقية من اللزوم الاتفاقي قوله : ( ففي الحقيقة عدم الانفكاك إتفاقي من دون ملازمة ) بينهما ، فإذا إستصحبنا حياة زيد في المثال، فانه لا يثبت ما إتفق عدم إنفكاكه عنه من موت عمرو ، وذلك لما عرفت : من ان الاستصحاب لا يثبت اللوازم العقلية والعرفية والعادية ناهيك عن المقارنات الاتفاقية .

الخامس : ( وكذا لا فرق بين أن يثبت بالمستصحب تمام ذلك الأثر العادي ، كالمثالين ) السابقين حيث كان المقصود في المثال الأوّل وهو إستصحاب عدم الرطوبة : إثبات الاحتراق وهو تمام الأثر العادي الموجب للضمان ، في المثال

ص: 78

أو قيد له عدمي أو وجودي ، كاستصحاب الحياة للمقطوع نصفين ، فيثبت القتل الذي هو إزهاق الحياة ، وكاستصحاب عدم الاستحاضة ، المثبت لكون الدم الموجود حيضا ، بناءا على أنّ كلّ دم ليس باستحاضةٍ ، حيضٌ شرعا ، وكاستصحاب عدم الفصل الطويل المثبت لاتصاف الأجزاء

-------------------

الثاني وهو إستصحاب حياة زيد : إثبات موت عمرو وهو تمام الأثر العقلي الاتفاقي الموجب لتقسيم ماله - مثلاً - .

السادس : ( أو ) يثبت بالمستصحب ( قيد له عدمي أو وجودي ، كاستصحاب الحياة للمقطوع نصفين ، فيثبت القتل الذي هو ) قيد وجودي أي : ( إزهاق الحياة ) .

مثلاً : إذا كان زيد ملفوفا بثوب ، فضربه عمرو ضربة بالسيف فقدّه نصفين ، ثم شككنا في انه هل كان ميتا قبل الضربة حتى لا يلزم على زيد دية القتل أو القصاص مثلاً ، أو انه قتل بتلك الضربة حتى يلزمه الدية أو القصاص ؟ فان الموت معلوم لكن قيده وهو : ان الموت مستند إلى ضربة عمرو أم لا ، فمشكوك ، والدية أو القصاص إنّما يترتبان على الموت بازهاق عمرو لروحه ، فيراد باستصحاب الحياة إثبات ذلك .

( وكاستصحاب عدم الاستحاضة ، المثبت لكون الدم الموجود حيضا ) لأن الدم موجود وجدانا وقيده العدمي وهو : عدم كونه إستحاضة مشكوك ، ويراد إثبات هذا العدم باستصحاب عدم وجود الاستحاضة سابقا وذلك ( بناءا على أنّ كلّ دم ليس باستحاضةٍ ، حيضٌ شرعا ) فيما إذا لم يكن دم بكارة أو جرح أو ما أشبه ذلك .

( وكاستصحاب عدم الفصل الطويل المثبت ) هذا العدم ( لاتصاف الأجزاء

ص: 79

المتفاصلة بما لا يعلم معه فوات الموالاة بالتوالي .

وقد إستدلّ بعضٌ تبعا لكاشف الغطاء ، على نفي الأصل المثبت بتعارض الأصل في جانب الثابت والمثبت ، فكما أنّ الأصل : بقاء الأوّل ، كذلك الأصل : عدم الثاني ،

-------------------

المتفاصلة بما لا يعلم معه فوات الموالاة ) لأن الفصل إذا كان طويلاً ، فاتت الموالاة وبطلت الصلاة ، بخلاف ما إذا لم يكن الفصل طويلاً فتتصف الأجزاء ( بالتوالي ) وتصح الصلاة .

إذن : فالأجزاء للصلاة - مثلاً - معلومة الوجود ، امّا قيدها الوجودي أعني التوالي مشكوك ، لفرض وجود مقدار فصل بين الأجزاء يحتمل مع هذا الفصل فوات الموالاة ، فيراد باستصحاب عدم حدوث الفصل الطويل إثبات الموالاة حتى تصح الصلاة ، فان الفصل لم يكن سابقا موجودا ، فاذا شككنا في انه وجد أم لا ، نستصحب عدمه .

هذا ، ولكن قد عرفت : انّ دليل إعتبار الاستصحاب لا يشمل أيا من هذه الأقسام المذكورة من أقسام الاستصحاب التي يراد بها إثبات أثر عقلي أو عرفي أو عادي ، وقد ذكرنا سابقا : إنّ بالاستصحاب يثبت الأثر الشرعي بدون واسطة فقط ، وهذا هو الذي نراه من عدم صحة مثبتات الاُصول ، وحاصله : عدم شمول الدليل له .

( وقد إستدلّ بعضٌ ) وهو صاحب الفصول وذلك ( تبعا لكاشف الغطاء ، على نفي الأصل المثبت ) بدليل آخر ، وهو ما ذكره بقوله : ( بتعارض الأصل في جانب الثابت والمثبت ، فكما أنّ الأصل : بقاء الأوّل ، كذلك الأصل : عدم الثاني ) فيتساقطان .

ص: 80

قال : « وليس في أخبار الباب ما يدلّ على حجيته بالنسبة إلى ذلك لأنّها مسوقة لتفريع الأحكام الشرعية دون العادية وإن إستتبعت أحكاما شرعية » ، إنتهى .

أقول :

-------------------

مثلاً : أصالة عدم الرطوبة لو أثبتت الاحتراق ، تكون معارضة بأصالة عدم الاحتراق ، وكذا أصالة عدم الاستحاضة لو أثبتت كون الدم حيضا ، تكون معارضة بأصالة عدم الحيض ، وهكذا أصالة حياة الملفوف لو أثبتت القتل تكون معارضة بأصالة عدم القتل ، فيكون أصلان متعارضان ويتساقطان بالتعارض .

( قال : « وليس في أخبار الباب ما يدلّ على حجيته ) أي : على حجية هذا الاستصحاب ( بالنسبة إلى ذلك ) الأمر الذي ليس بشرعي ممّا يكون عقليا أو عاديا أو عرفيا ( لأنّها ) أي : أخبار الباب ( مسوقة لتفريع الأحكام الشرعية ) على الاستصحاب ( دون العادية ) والعقلية والعرفية حتى ( وإن إستتبعت أحكاما شرعية » (1) ) .

مثلاً : إذا كان الحكم الشرعي مترتبا على أمر عادي ، والأمر العادي مترتبا على الاستصحاب ، فانه إذا أثبتنا باستصحاب الحياة القتل فانه يتبع القتل وجوب القصاص أو الدية ، لكنه في مثل هذه الصورة لا يكون الاستصحاب حجة لأنه مثبت ، وهكذا بالنسبة إلى سائر الأمثلة المتقدمة ( إنتهى ) كلام الفصول .

( أقول ) : ان ما ذكره كاشف الغطاء وصاحب الفصول مانعا من إجراء الاستصحاب في الأمثلة المذكورة غير تام ، وذلك لأن المانع فيها ان كان هو عدم شمول الأخبار لها كان ذلك كافيا لعدم حجيتها ، ومعه لا يبقى وجه للاستدلال

ص: 81


1- - الفصول الغروية : ص365 .

لا ريب في أنّه لو بُني على أنّ الأصل في الملزوم قابل لاثبات اللازم العادي لم يكن وجه لاجراء أصالة عدم اللازم ، لأنّه حاكم عليها .

فلا معنى للتعارض على ما هو الحق ، وإعترف به هذا المستدلّ من حكومة الأصل في الملزوم على الأصل في اللازم ،

-------------------

بتعارض الأصلين ، لأنه - بالاضافة إلى عدم صحة التعارض هنا - لو فرض شمول الأخبار لها لم يبق فيها مانع من جهة التعارض وذلك لأن التعارض لا يتحقق أصلاً، فان الأصل السببي كأصالة عدم الرطوبة ، وأصالة الحياة إلى زمان القدّ ، وأصالة عدم وجود الاستحاضة ، تكون حاكمة على الأصل المسبّبي الذي هو أصل عدم الاحتراق ، وعدم القتل ، وعدم وجود الحيض كما قال :

( لا ريب في أنّه لو بُني على أنّ الأصل ) المثبت ( في الملزوم ) الذي هو الحياة إلى زمان القدّ ، ولازم الحياة إلى زمان القدّ هو القتل ، فيكون الحياة ملزوما والقتل لازما ، فإذا بنينا على انه الأصل في الملزوم ( قابل لاثبات اللازم العادي ) الذي هو القتل في المثال ( لم يكن وجه لاجراء أصالة عدم اللازم ، لأنّه ) أي : الأصل في الملزوم ( حاكم عليها ) أي : على أصالة عدم اللازم .

وعليه : ( فلا معنى للتعارض ) بين الأصلين ( على ما هو الحق ، وإعترف به هذا المستدلّ ) أيضا وهو صاحب الفصول : ( من حكومة الأصل في الملزوم على الأصل في اللازم ) لأن الأصل بينهما سببي ومسببّي ، وكلّما جرى الأصل السببي لم يجر الأصل المسببّي ، فإذا جرى - مثلاً - أصالة الحياة إلى زمان القدّ ثبت القتل ، فلا يجري حينئذ أصالة عدم القتل حتى يكون معارضا لأصالة الحياة إلى زمان القدّ .

وعلى هذا : فإذا شككنا في ان هذا اللحم من المذكّى أو من الميتة أجرينا أصالة

ص: 82

فلا تعارض أصالة الطهارة لأصالة عدم التذكية .

فلو بُني على المعارضة لم يكن فرق بين اللوازم الشرعية والعادية ، لأنّ الكلّ أحكام للمستصحب مسبوقة بالعدم .

-------------------

عدم التذكية ، فيكون اللحم محكوما بالنجاسة ، ولا يعارض هذا الأصل أصالة طهارة اللحم ، لأن أصل عدم التذكية سببي فيكون حاكما ، وأصل طهارة اللحم مسبّبي فيكون محكوما ، ولذلك قال المصنِّف : ( فلا تعارض أصالة الطهارة لأصالة عدم التذكية ) بل تتقدّم أصالة عدم التذكية على أصالة الطهارة من باب السببية والمسببية .

هذا إذا بني على ان الأصل في الملزوم حاكم على الأصل في اللازم لما بينهما من السببية والمسببية وليس كذلك لو بُني على المعارضة بينهما كما قال : ( فلو بني على المعارضة ) بينهما ، وذلك على ما قاله صاحب الفصول وكاشف الغطاء ، فحينئذٍ ( لم يكن فرق بين اللوازم الشرعية والعادية ) في تعارضهما وتساقطهما .

وإنّما قال : لم يكن فرق في ذلك ( لأنّ الكلّ أحكام للمستصحب مسبوقة بالعدم ) أي : ان اللوازم غير الشرعية مثل الاحتراق الذي هو من أحكام عدم الرطوبة ومسبوق بالعدم ، كاللوازم الشرعية مثل النجاسة التي هي من أحكام عدم التذكية ومسبوقة بالعدم ، فإنهما متساويان في كونهما أحكاما للمستصحب ، ومسبوقان بالعدم ، فإذا قيل بتعارض الأصلين في اللوازم غير الشرعية ، لزم القول به في الشرعية أيضا ، بينما لا يقول صاحب الفصول بتعارض الأصلين في اللوازم الشرعية مثل أصل الطهارة مع أصل عدم التذكية ، فاللازم عليه أن لا يقول أيضا بتعارض الأصلين في اللوازم غير الشرعية ، مثل : أصل عدم الاحتراق مع أصل عدم الرطوبة .

ص: 83

وأمّا قوله : « ليس في أخبار الباب ، الخ » إن أراد بذلك عدم دلالة الأخبار على ترتّب اللوازم غير الشرعية ، فهو مناف لما ذكره من التعارض إذ يبقى حينئذٍ أصالة عدم الملزوم غير الشرعي سليما عن المعارض .

وإن أراد تتميم الدليل الأوّل بأن يقال : إنّ دليل الاستصحاب إن كان غير الأخبار فالأصل يتعارض من الجانبين وإن كانت الأخبار فلا دلالة فيها ،

-------------------

( وأمّا قوله ) أي : قول صاحب الفصول : ( « ليس في أخبار الباب ، الخ » ) فيرد عليه : انه ما هو مراده منه ، فانه يمكن ان يراد منه أحد أمرين :

الأوّل : بناءا على وحدة المبنى ، فانه ( إن أراد بذلك ) أي : بقوله : ليس في أخبار الباب : ( عدم دلالة الأخبار على ترتّب اللوازم غير الشرعية ، فهو مناف لما ذكره من التعارض ) لأنه إذا لم يترتب اللازم العادي على الاستصحاب ، فكيف يتعارض الأصلان ؟ ( إذ يبقى حينئذ أصالة عدم الملزوم غير الشرعي سليما عن المعارض ) .

وعليه : فانه إذا لم يكن أصل عدم الرطوبة حجة لكونه أصلاً مثبتا ، جرى أصل عدم القتل بلا معارض ، فذيل كلام الفصول بأن الأخبار لا تدل على إعتبار الأصل المثبت ، مناف لصدر كلامه الذي قال بتعارض الأصلين .

الثاني : بناءا على تعدّد المبنى كما قال : ( وإن أراد ) صاحب الفصول من أول كلامه الذي حكم بالتعارض : كون حجية الاستصحاب من باب الظن ، وأراد من آخر كلامه الذي حكم بعدم إعتبار الأصل المثبت : كون حجية الاستصحاب من باب الأخبار ، يعني : قصد ( تتميم الدليل الأوّل ) الذي هو في أول كلامه ، وذلك ( بأن يقال : إنّ دليل الاستصحاب إن كان غير الأخبار ) وهو الظن ( فالأصل يتعارض من الجانبين ) الحاكم والمحكوم ( وإن كانت الأخبار فلا دلالة فيها ) أي :

ص: 84

ففيه أنّ الأصل إذا كان مدركه غير الأخبار ، وهو الظنّ النوعي الحاصل ببقاء ما كان على ما كان ، لم يكن إشكالٌ في أنّ الظنّ بالملزوم يوجب الظنّ باللازم ولو كان عاديا .

ولا يمكن حصول الظنّ بعدم اللازم بعد حصول الظنّ بوجود ملزومه ، كيف ولو حصل الظنّ بعدم اللازم إقتضى الظنّ بعدم الملزوم ، فلا يؤثر

-------------------

في الأخبار على حجية الأصل المثبت ، فانه ان كان المراد ذلك ( ففيه ) ما يلي :

أولاً : ( أنّ الأصل ) أي : الاستصحاب ( إذا كان مدركه غير الأخبار ، وهو الظنّ النوعي الحاصل ببقاء ما كان على ما كان ، لم يكن إشكالٌ في أنّ الظنّ بالملزوم ) كعدم الرطوبة ( يوجب الظنّ باللازم ) وهو الاحتراق ، حتى ( ولو كان ) اللازم ( عاديا ) كما في المثال ( ولا يمكن حصول الظنّ بعدم اللازم ) الذي هو الاحتراق ( بعد حصول الظّن بوجود ملزومه ) الذي هو عدم الرطوبة .

وعليه : فلا يمكن التعارض بين الأصلين ، لأنه لو جرى أصل عدم الرطوبة ، كان معناه : إنّا نظن عدم الرطوبة ، ولازم مثل هذا الظن : انّا نظن بالاحتراق ، فكيف يمكن ظننا بعدم الاحتراق حتى يتعارض الأصلان اللذان هما ظنان أحدهما على خلاف الآخر ؟ .

ثانيا : ( كيف ولو حصل الظنّ بعدم اللازم إقتضى الظن بعدم الملزوم ) أيضا ، يعني : انه لو أمكن حصول الظن بعدم اللازم وهو : عدم الاحتراق مع فرض حصول الظن بالاحتراق ، حتى يتعارض الأصلان ، فانه ان أمكن ذلك لزم التعارض في الاُصول غير المثبتة من اللوازم الشرعية أيضا ، وإذا لزم التعارض فيها لزم التساقط فلا يبقى إستصحاب بالمرة كما قال : ( فلا يؤثر ) الاستصحاب بناءا

ص: 85

في ترتّب اللوازم الشرعية أيضا .

ومن هنا يعلم أنّه لو قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ لم يكن مناصٌ عن الالتزام بالاُصول المثبتة لعدم إنفكاك الظنّ بالملزوم عن الظنّ باللازم ، شرعيا كان أو غيره .

إلاّ أن يقال : إنّ الظنّ الحاصل من الحالة السابقة حجة في لوازمه الشرعية دون غيرها ،

-------------------

على التعارض ( في ترتّب اللوازم الشرعية أيضا ) أي : كما لم يكن يؤثر في ترتب اللوازم العقلية والعادية والعرفية مع انه لم يقل به أحد .

( ومن هنا ) أي : من وجود التلازم بين الظن باللازم والظن بالملزوم ( يعلم أنّه لو قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ) النوعي لا من باب الأخبار ( لم يكن مناصٌ عن الالتزام بالاُصول المثبتة ) فيكون الأصل المثبت حجة حينئذ ( لعدم إنفكاك الظنّ بالملزوم عن الظنّ باللازم شرعيا كان ) كالنجاسة المترتبة على عدم التذكية ( أو غيره ) أي : غير شرعي كالاحتراق المترتب على عدم الرطوبة - مثلاً - فيكون كل لازم حجة شرعيا كان أو عقليا ، عرفيا أو عاديا :

( إلاّ أن يقال : إنّ الظنّ الحاصل من الحالة السابقة حجة في لوازمه الشرعية دون غيرها ) أي : بأن يقال : ان بناء العقلاء الذي هو مدرك حجية الظن يفرّق بين اللوازم الشرعية فيؤخذ بها ، واللوازم العقلية والعادية والعرفية فلا يؤخذ بها .

وإنّما يفرّق بينها لأحد اُمور ثلاثة :

الأوّل : قصور أدلة الظن عن شمول كل الآثار .

الثاني : انّ أدلة الظن وان كان لها إطلاق إلاّ انه خرج من ذلك بعض اللوازم العقلية والعرفية والعادية بدليل خارج خروجا في جميع الموارد .

ص: 86

لكنّه إنّما يتمّ إذا كان دليل إعتبار الظنّ مقتصرا فيه على ترتب بعض اللوازم دون آخر ، كما إذا دلّ الدليل على أنّه يجب الصوم عند الشك في هلال رمضان بشهادة عدل ، فلا يلزم منه جواز الافطار بعد مضيّ ثلاثين من ذلك اليوم أو كان بعض الآثار ممّا لا يعتبر فيه مجرّد الظنّ إمّا مطلقا ، كما إذا حصل من الخبر الوارد في المسألة الفرعية ظنٌّ بمسألة اُصوليّة ، فانّه لا يعمل فيه

-------------------

الثالث : ان يكون لأدلة الظن إطلاق ، لكن خرج منه بعض الظنون خروجا في بعض الموارد .

وإلى الوجه الأوّل من هذه الثلاثة أشار المصنِّف بقوله : ( لكنّه ) أي : لكن القول بحجية الظن بالنسبة إلى لوازمه الشرعية دون غيرها ( إنّما يتمّ إذا كان دليل إعتبار الظنّ مقتصرا فيه ) أي : في ذلك الدليل ( على ترتب بعض اللوازم ) أي : الشرعية فقط ( دون آخر ) أي : العقلية والعادية والعرفية ، وذلك حسب المثال التالي :

( كما إذا دلّ الدليل على أنّه يجب الصوم عند الشك في هلال رمضان بشهادة عدل ) واحد ( فلا يلزم منه جواز الافطار بعد مضيّ ثلاثين من ذلك اليوم ) بحجة انه إذا ثبت هلال شهر رمضان قبل ثلاثين يوما ، فبعد الثلاثين يكون قد خرج شهر رمضان ودخل شهر شوال ، فان الشارع كما عرفت هنا قد إقتصر على ترتيب بعض اللوازم ، فلا دليل على ترتيب سائر اللوازم .

ثم أشار المصنِّف إلى الوجه الثاني بقوله : ( أو كان بعض الآثار ممّا لا يعتبر فيه مجرّد الظنّ ) وذلك بدليل خارج وهو ( إمّا مطلقا ) أي : في جميع الموارد ( كما إذا حصل من الخبر الوارد في المسألة الفرعية ظنّ بمسألة اُصوليّة ، فانّه لا يعمل فيه )

ص: 87

بذلك الظنّ بناءا على عدم العمل بالظنّ في الاُصول ، وإمّا في خصوص المقام ، كما إذا ظنّ بالقبلة مع تعذّر العلم بها

-------------------

أي : في هذا المورد ( بذلك الظنّ ) الحاصل بالمسألة الاُصولية فانه لا يعمل به ( بناءا على عدم العمل بالظنّ في الاُصول ) .

كما إذا دل الدليل على انه لا عقاب على من أكل الربا وهو لا يعلم ، فان هذا الخبر كما يحصل الظن منه بهذه المسألة الفرعية في خصوص مورد الربا يحصل منه الظن أيضا بمسألة اُصولية ، وهي أصالة البرائة عند الشك في التكليف مطلقا ، لأن العرف يفهم من هذا الخبر هذا الكلي .

وعليه : فان أدلة حجية الخبر وان لم يفرّق بين الظنين : الظن بالمسألة الفقهية ، والظن بالمسألة الاُصولية ، إلاّ ان الدليل الخارجي من إجماع أو نحوه قام على عدم إعتبار الظن في المسائل الاُصولية ، لأنها مسائل تعم الفقه من أوله إلى آخره ، فلا يمكن أن يعمل فيها بالخبر الواحد ، بخلاف المسائل الفقهية ، حيث إنها خاصة ببعض الموارد ، ولذا يعمل فيها بالظن .

ثم أشار المصنِّف إلى الوجه الثالث بقوله : ( وإمّا ) أن يكون بعض الآثار ممّا لا يعتبر فيه مجرد الظن ، وذلك ( في خصوص المقام ) لا في جميع الموارد ( كما إذا ظنّ بالقبلة مع تعذّر العلم بها ) فانه إذا وقف باتجاه القبلة المظنونة وقد إنحرفت الشمس عن عينه اليسرى إلى العين اليمنى لازمه عقلاً حصول الظن بدخول الوقت أيضا ، لكن هذا اللازم العقلي وهو : الظن بدخول وقت ليس بحجة ، إذ يمكنه تحصيل العلم بالوقت ، فلا يبني هنا الظن بالوقت الذي هو لازم على الظن بالقبلة الذي هو ملزوم .

ص: 88

فلزم منه الظنّ بدخول الوقت ، مع عدم العذر المسوّغ للعمل بالظنّ في الوقت .

ولعلّ ما ذكرنا هو الوجه في عمل جماعة من القدماء والمتأخّرين بالاُصول المثبتة في كثير من الموارد :

منها : ما ذكره جماعة ، منهم المحقق في الشرائع ، وجماعة ممّن تقدّم عليه وتأخّر عنه : من أنّه لو إتفق الوارثان في أول شعبان ، والآخر في غرّة رمضان ، واختلفا ، فادّعى أحدهما : موت المورّث في شعبان

-------------------

وعليه : فإذا ظن بالقبلة مع تعذّر العلم بها ( فلزم منه الظنّ بدخول الوقت ، مع عدم العذر المسوّغ للعمل بالظنّ في الوقت ) فلا يكون هذا اللازم حجة هنا وان كان الملزوم حجة ، وذلك لخروج هذا الظن باللازم في هذا المورد بالدليل الخاص .

( ولعلّ ما ذكرنا ) : من انه لو إعتبرنا حجية الاستصحاب من باب الظن ، فلا يفرّق فيه بين الاستصحاب المثبت وغير المثبت يكون ( هو الوجه في عمل جماعة من القدماء والمتأخّرين بالاُصول المثبتة في كثير من الموارد ) وذلك لأنهم يرون حجية الاستصحاب للظن - كما هو مبنى غالب القدماء - للأخبار حتى لا يكون مثبتات الاُصول عندهم حجة .

مثلاً : ( منها : ما ذكره جماعة ، منهم المحقق في الشرائع ، وجماعة ممّن تقدّم عليه وتأخّر عنه : من أنّه لو إتفق الوارثان في أول شعبان ، والآخر في غرّة رمضان ،

واختلفا ) في موت المورّث ( فادّعى أحدهما : موت المورّث في شعبان ) حتى يكون الوارث المسلم هو الوارث الوحيد ، لأن الوارث الآخر كافر حين موت المورّث والدليل دالّ على انه إذا مات الانسان عن وارث مسلم ووارث كافر ، ورثه

ص: 89

والآخر : موته في أثناء رمضان ، كان المال بينهما نصفين ، لأصالة بقاء حياة المورّث .

ولا يخفى : أنّ الارث مترتّب على موت المورّث عن وارث مسلم ، وبقاء حياة المورّث إلى غرّة رمضان لا يستلزم بنفسه موت المورّث في حال إسلام الوارث .

-------------------

المسلم فقط دون الكافر .

( و ) ادّعى ( الآخر : موته في أثناء رمضان ) حتى يرثه هو أيضا فيكون كِلا الوارثين الأخوين كما في المثال مسلمين فيرثانه جميعا وإذا كان كذلك ( كان المال بينهما نصفين ) .

وإنّما يرثه الاثنان وينصّف بينهما المال لاستصحاب حياة المورّث إلى غرة شهر رمضان ، فيكون موته عن وارثين مسلمين فيرثانه كما قال : ( لأصالة بقاء حياة المورّث (1) ) إلى غرّة شهر رمضان حيث أسلم فيه الوارث الثاني .

( و ) لكن ( لا يخفى : أنّ ) هذا الاستصحاب مثبت وذلك لأن ( الارث مترتّب على موت المورّث عن وارث مسلم ، و ) الحال ان إستصحاب ( بقاء حياة المورّث إلى غرّة رمضان ) الذي أسلم فيه الوارث الثاني ( لا يستلزم بنفسه ) إرثه ، وإنّما إرثه يترتب على لازم عقلي لاستصحاب حياة المورّث إلى ذلك الحين ، وذلك اللازم العقلي هو : ( موت المورّث في حال إسلام الوارث ) الثاني .

إذن : فالوارث الثاني لا يترتب إرثه على نفس المستصحب يعني : حياة المورّث لأن الحيّ لا يورث ، وإنّما يترتب على موت مورّثه ، والموت هنا ليس هو نفس المستصحب كما عرفت ، وإنّما هو لازم عقلي له ، لأن الاستصحاب

ص: 90


1- - شرائع الاسلام : ج4 ص120 ، تحرير الأحكام : ج2 ص200 .

نعم ، لمّا علم بإسلام الوارث في غرّة رمضان ان لم ينفكّ بقاء حياته حال الاسلام عن موته بعد الاسلام الذي هو سبب الارث .

إلاّ أن يوجّه

-------------------

يقول : ان المورّث حيّ إلى غرة شهر رمضان ، إذن : فموته حصل في أثناء شهر رمضان وهو مثبت ، فارث الوارث الثاني لازم عقلي لحياة المورّث حتى غرة شهر رمضان ، ولذلك قال المصنِّف :

( نعم ، لمّا علم بإسلام الوارث في غرّة رمضان ان لم ينفكّ ) عقلاً ( بقاء حياته ) أي : حياة المورّث ( حال الاسلام ) أي : إسلام الوارث الثاني ( عن موته بعد الاسلام ) أي : بعد إسلام الوارث الثاني ( الذي هو سبب الارث ) فان سبب الارث هو إسلام الوارث حال موت المورّث .

والحاصل : ان حكم الارث لا يترتب على المستصحب بلا واسطة حتى لا يكون مثبتا ، بل يكون مثبتا لأنه يترتب بواسطة لازمه العقلي أعني : موته عن وارث مسلم ، فيكون إستصحاب عدم موته إلى غرة شهر رمضان مستلزما لبقاء وارثين مسلمين فينصّف المال بينهما إذا كانا ابني الميت ، أو إبنتيه ، أو ما أشبه ذلك ممّن يقسّم المال بينهما نصفين .

أمّا إذا كانا ممّن يقسّم المال بينهما بالاختلاف ، كابن وبنت للمورّث ، فانه يأخذ كل منهما نصيبه ، فقولهم بالتنصيف من باب المثال ، كما ان كونهما وارثين اثنين أيضا من باب المثال ، إذ يمكن أن يكون الورّاث ثلاثة أو أكثر .

إذن : فالاستصحاب هنا مثبت وقال به جماعة من المتقدمين والمتأخرين ، لأنهم يرون حجيته من باب الظن لا الاخبار .

( إلاّ أن يوجّه ) بتوجيه لا يكون الاستصحاب فيه مثبتا فيخرج حينئذ عن كونه

ص: 91

بأنّ المقصود في المقام إحراز إسلام الوارث في حياة أبيه . كما يعلم من الفرع الذي ذكره قبل هذا الفرع في الشرايع

-------------------

مثالاً لهؤلاء الجماعة العاملين بالأصل المثبت ، وتوجيهه بأن يقال : نستصحب تأخير موت المورّث لاثبات إسلام الوارث حين موت المورّث ، وهذا مثبت ، وقد نستصحب حياة المورّث إلى زمن إسلام الوارث فإذا ثبت حياته إلى إسلامه ، فهو كاف في الارث ، وذلك لأن إسلام الوارث غرّة شهر رمضان وجداني ، وحياة المورّث أثبتناه بالاستصحاب فيكون هذا القدر كافيا في تحقق الارث .

وعليه : فيوجّه كلام هؤلاء الجماعة ( بأنّ المقصود في المقام ) من سبب الارث ليس هو إحراز موت المورّث بعد إسلام الوارث حتى يكون الاستصحاب مثبتا ، بل سبب الارث هو : ( إحراز إسلام الوارث في حياة أبيه ) وذلك يتم باستصحاب حياة الأب إلى غرة شهر رمضان وإسلام الابن غرة شهر رمضان وجداني ، فتحرر من ضم الأصل إلى الوجدان انّ إسلام الابن كان في حياة الأب فيرث منه ولا يكون مثبتا .

( كما يعلم ) صحة هذا التوجيه الذي ذكرناه لكلام هؤلاء الجماعة ( من الفرع الذي ذكره قبل هذا الفرع في الشرايع ) في آخر كتاب القضاء ممّا يدل على كفاية ضم مثل هذين الأمرين : الاستصحاب والوجدان في الارث .

وأمّا الفرع الذي ذكره في الشرايع قبل هذا الفرع فهو : «انه لو مات زيد مثلاً وخلّف عمروا وبكرا ، وإتفقا على تقدّم إسلام عمرو على موت الأب ، وإختلفا في بكر للجهل بتاريخ إسلامه ، سواء جهل تاريخ موت الأب أيضا أم لا ؟ إختص الارث بعمرو مع يمينه » إنتهى ، فهنا إختص الارث بعمرو ، وهناك إشتركا

ص: 92

ويكفي في ثبوت الاسلام حال الحياة المستصحبة في تحقق سبب الارث وحدوث الوارثية بين الولد ووالده حال الحياة .

ومنها : ما ذكره جماعة تبعا للمحقق - في كُرّ وجد فيه نجاسةٌ لا يعلم سبقُها على الكرّية وتأخّرها -

-------------------

في الارث ، مع إنه لو كان مستندهم الأصل المثبت لزم إشتراكهما في الفرعين ، فاختلاف حكمهم في الفرعين يؤيد توجيهنا للاستصحاب وان إستنادهم إليه بعد إخراجه عن كونه مثبتا ، وإلاّ لزم عدم إختلافهم في حكم الفرعين .

( و ) كيف كان : فانه على هذا التوجيه المخرج للاستصحاب عن كونه مثبتا ( يكفي في ثبوت الاسلام حال الحياة المستصحبة ) كفاية ( في تحقق سبب الارث وحدوث الوارثية بين الولد ووالده حال الحياة ) أي : حال حياة المورّث ، فان ثبوت إسلام الوارث حال حياة المورّث كاف للارث ، والمثال بين الولد والوالد من باب انه أحد مصاديق الكلي الذي يريده الشرايع لا لخصوصية بين الولد والوالد ، بل بين كل مورّث ووارث ، كما لا يخفى .

هذا ، وحيث ان المسألة فقهية ، وإنّما أراد المصنِّف الالماع إلى كون الأصل مثبتا، أو ليس بمثبت ، نكتفي منها بهذا القدر ، والتفصيل في كتاب الجواهر وغيره من كتب الفقه .

( ومنها : ما ذكره جماعة تبعا للمحقق - في كُرّ ) من الماء ( وجد فيه نجاسةٌ ) و ( لا يعلم سبقُها ) أي : سبق النجاسة ( على الكرّية وتأخّرها ) عن الكرية ، وذلك بأن لم نعلم هل صار كرّا أوّلاً ثم وقعت فيه النجاسة حتى يكون الماء طاهرا ، أو وقعت فيه النجاسة أولاً ثم صار كرا حتى يكون الماء نجسا ؟ .

ولا يخفى : ان في إنفعال الماء وعدمه قولين : قول بأن الكرية شرط ، وقول

ص: 93

فانّهم حكموا : بأنّ إستصحاب عدم الكرّية قبل الملاقاة الراجع إلى إستصحاب عدم المانع عن الانفعال حين وجود المقتضي له معارض باستصحاب عدم الملاقاة قبل الكرّية .

ولا يخفى أنّ الملاقاة معلومة ، فانّ كان اللازم في الحكم بالنجاسة إحراز وقوعها في زمان القلّة ، وإلاّ

-------------------

بأن القلة شرط ، فعلى القول الأوّل : يجري هذا إستصحاب عدم الكرية ولا يجري إستصحاب عدم الملاقاة لأنه مثبت ، فينتج نجاسة الماء ، وعلى القول الثاني : يجري هنا إستصحاب عدم الملاقاة حين القلة ، ولا يجري إستصحاب عدم الكرية لأنه مثبت ، فينتج طهارة الماء ، هذا عند القائلين بعدم حجّية الاستصحاب المثبت ، لكن القائلين به حكموا بالتعارض بين الاستصحابين : إستصحاب عدم الكرية ، وإستصحاب عدم الملاقاة على كلا القولين ، فحكم الجماعة هنا بالتعارض دليل على عملهم بالأصل المثبت ، وإليه أشار المصنِّف بقوله :

( فانّهم حكموا : بأنّ إستصحاب عدم الكرّية قبل الملاقاة ) الذي يقتضي نجاسة الماء ( الراجع إلى إستصحاب عدم المانع عن الانفعال ) وهو الكرية وذلك بأن نستصحب عدم الكرية ( حين وجود المقتضي له ) أي : للانفعال وهو الملاقاة، إذ الملاقاة تقتضي النجاسة والكرية تمنع عنها ، فانهم حكموا بأن هذا الاستصحاب المقتضي لنجاسة الماء ( معارض باستصحاب عدم الملاقاة قبل الكرّية ) الذي يقتضي طهارة الماء .

( ولا يخفى ) إنه بناءا على كلا القولين لا تعارض وذلك ( أنّ الملاقاة معلومة ) بالوجدان لمشاهدة النجاسة فيه ( فانّ كان اللازم في الحكم بالنجاسة إحراز وقوعها في زمان القلّة ) لأن القلة موضوع الانفعال ( وإلاّ ) بأن لم يحرز وقوعها

ص: 94

فالأصل : عدم التأثير ، لم يكن وجهٌ لمعارضة الاستصحاب الثاني بالاستصحاب الأوّل ، لأنّ أصالة عدم الكرّية حين الملاقاة لا يثبت كون الملاقاة قبل الكرّية ، وفي زمان القلّة حتى يثبت النجاسة إلاّ من باب عدم إنفكاك عدم الكرّية حين الملاقاة عن وقوع الملاقاة حين القلّة ، نظير عدم إنفكاك عدم الموت

-------------------

في زمن القلة ( فالأصل : عدم التأثير ) أي : عدم الانفعال فلا نجاسة .

وكذا على القول بأن الكرية موضوع عدم الانفعال ، فان اللازم في الحكم بالطهارة إحراز وقوع النجاسة في زمان الكرية وإلاّ فالأصل الانفعال وقبول التأثير فلا طهارة .

إذن : فعلى كلا القولين ( لم يكن وجهٌ لمعارضة ) الاستصحابين .

أمّا على القول بأن الكرية شرط : فلا وجه لمعارضة الأوّل وهو عدم الكرية ، بالثاني وهو عدم الملاقاة ، لأن الثاني مثبت .

وأمّا على القول بأن القلة شرط : فلا وجه لمعارضة ( الاستصحاب الثاني ) وهو: عدم الملاقاة ، قبل الكرية ( بالاستصحاب الأوّل ) وهو : عدم الكرية قبل الملاقاة ، وذلك لأن الاول مثبت كما قال ، ( لأنّ أصالة عدم الكرّية حين الملاقاة لا يثبت كون الملاقاة قبل الكرّية ، وفي زمان القلّة ) إلاّ على وجه مثبت ، وهو ليس بحجة ( حتى يثبت النجاسة ) .

إذن : فحكم الجماعة بتعارض الاستصحابين دليل عملهم بالاُصول المثبتة ، وذلك لأنه لا تعارض بينهما على ماعرفت (إلاّ من باب) القول بالأصل المثبت، والأصل المثبت هنا لاثبات النجاسة هو : ( عدم إنفكاك عدم الكرّية حين الملاقاة عن وقوع الملاقاة حين القلّة ) عقلاً فيكون ( نظير عدم إنفكاك عدم الموت

ص: 95

حين الاسلام لوقوع الموت بعد الاسلام ، فافهم .

ومنها : ما في الشرائع والتحرير ، تبعا للمحكيّ عن المبسوط : من أنّه لو ادّعى الجاني أنّ المجني عليه شرب سمّا ، فمات بالسمّ وادّعى الوليّ أنّه مات بالسراية فالاحتمالان فيه سواء ،

-------------------

حين الاسلام لوقوع الموت بعد الاسلام ) كما في المسألة الاُولى .

وبعبارة اُخرى : ان النجاسة هنا لا تترتب على نفس المستصحب يعني : على عدم الكرية حين الملاقاة ، بل تترتب على لازمه العقلي وهو وقوع الملاقاة حين القلة فيكون مثبتا .

( فافهم ) ولعله إشارة إلى ان المستفاد من الأخبار : إحتياج النجاسة إلى أن يكون الملاقاة حين القلة ، وهذا لا يثبت بالاستصحاب ، مضافا إلى ان الأصالة التي قام عليها الدليل هي : أصالة الطهارة لا المطهرية .

( ومنها : ما في الشرائع والتحرير ، تبعا للمحكيّ عن المبسوط : من أنّه لو ادّعى الجاني ) الذي جرح غيره ، ومات المجروح ( أنّ المجني عليه شرب سمّا ، فمات بالسمّ ) فليس إذن على الجاني إلاّ قصاص الجرح أو ديته .

( وادّعى الوليّ ) للميت : ( أنّه مات بالسراية ) أي : بسبب سراية الجرح الذي أورده الجاني عليه فأدّى إلى موته ، فعلى الجاني إذن القصاص في النفس ان جرحه عمدا ، والدية الكاملة ان جرحه خطأ .

لكنهم قالوا : ( فالاحتمالان فيه سواء ) وذلك لأن الأصل عدم السراية ، والأصل عدم شرب السم ، وحكمهم هذا إنّما يتم على القول بالتعارض بين الأصلين ، والتعارض لا يكون هنا إلاّ للعمل بالأصل المثبت ، إذ عدم شرب السم وهو الأصل الثاني مثبت ، فحكمهم بالتعارض هنا دليل على عملهم بالاُصول المثبتة .

ص: 96

وكذا الملفوف في الكساء إذا قدّه بنصفين ، فادّعى الوليّ أنّه كان حيّا والجاني ، أنّه كان ميّتا فالاحتمالان متساويان .

ثم حكي عن المبسوط : التردّد .

وفي الشرائع : رجّح قول الجاني ، لأنّ الأصل عدم الضمان ، وفيه إحتمال آخر ضعيف .

وفي التحرير « أنّ الأصل عدم الضمان من جانبه وإستمرار الحياة من جانب الملفوف

-------------------

( وكذا الملفوف في الكساء إذا قدّه بنصفين ، فادّعى الوليّ أنّه كان حيّا ) فكان موته بسبب القدّ ( و ) إدّعى ( الجاني ، أنّه كان ميّتا ) وليس عليه إلاّ الدية لهذا القدّ .

وهنا أيضا قالوا : ( فالاحتمالان متساويان ) لأن إستصحاب الحياة إلى زمان القدّ معارض باستصحاب عدم القدّ إلى زمان الموت ، والتعارض هنا لا يكون إلاّ على القول بالأصل المثبت ، فيدل على عمل الجماعة بالاُصول المثبتة .

( ثم حكي عن المبسوط : التردّد ) في حكم الجاني في المسألتين ، للتعارض بين الاستصحابين المذكورين .

( وفي الشرائع : رجّح قول الجاني ) وذلك ( لأنّ الأصل عدم الضمان ) على الجاني إلاّ بالقدر المتيقن منه .

ثم قال الشرايع : ( وفيه إحتمال آخر ضعيف ) وهو : إستصحاب الحياة فيثبت القتل الموجب للضمان .

( وفي التحرير ) قال : ( « أنّ الأصل عدم الضمان من جانبه ) أي : من جانب الجاني ( وإستمرار الحياة من جانب الملفوف ) أي : من جانب المجني عليه ،

ص: 97

فيرجّح قول الجاني وفيه نظر » .

والظاهر : أنّ مراده النظر في عدم الضمان ، من حيث أنّ بقاء الحياة بالاستصحاب إلى زمان القدّ سببٌ في الضمان ، فلا يجري أصالة عدمه . وهو الذي ضعّفه المحقق ، لكن قوّاه بعض محشّيه .

والمستفاد من الكلّ نهوض إستصحاب الحياة لاثبات القتل الذي هو سبب الضمان .

-------------------

فيتعارض الأصلان ( فيرجّح قول الجاني ) ثم قال : ( وفيه نظر » ) أي : في عدم الضمان ، وذلك لأن الأصل سببي وهو إستصحاب الحياة إلى حين القدّ فيقتضي الضمان ، فلا يبقى مجال للاستصحاب المسبّبي الذي هو عدم القدّ إلى زمان الموت حتى لا يقتضي الضمان .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف بقوله : ( والظاهر : أنّ مراده ) أي : التحرير من قوله : « وفيه نظر » هو : ( النظر في عدم الضمان ، من حيث أنّ بقاء الحياة بالاستصحاب إلى زمان القدّ ) يلزمه عقلاً حصول القتل الذي هو ( سببٌ في الضمان ، فلا يجري أصالة عدمه ) أي : عدم الضمان ( و ) عدم الضمان هذا ( هو الذي ضعّفه المحقق ) في قوله المتقدِّم حيث قال : « وفيه إحتمال آخر ضعيف » .

( لكن قوّاه بعض محشّيه ) أي : محشّي الشرايع في قبال تضعيف المحقّق له .

( و ) الحاصل : ان ( المستفاد من الكلّ ) أي : كل هذه الكلمات ( نهوض ) الأصل المثبت الذي هو ( إستصحاب الحياة لاثبات القتل الذي هو سبب الضمان) مع ان إستصحاب الحياة إلى حين القدّ لا يثبت ان القدّ صار سببا للموت - لأنه لازمه العقلي - إلاّ على القول بالأصل المثبت ، بينما أسقط بعض العلماء

ص: 98

ومنها : ما في التحرير بعد هذا الفرع : « ولو إدّعى الجاني نقصان يد المجني عليه باصبع ، إحتمل تقديمُ قوله عملاً بأصالة عدم القصاص و تقديم قول المجني عليه ، إذ الأصل السلامةُ .

هذا إن ادّعى الجاني نفي السلامة أصلاً ، وأمّا لو ادّعى زوالها طارئا ، فالأقرب : أنّ القول قول المجنيّ عليه » ، إنتهى .

-------------------

الاحتمالين هنا بالتعارض ورجع إلى دليل ثالث ، وبعضهم رجّح عدم الضمان ، وبعضهم تنظّر فيه ، وبعضهم قوّى الضمان ، ولا أحد منهم ردّ الأصل بأنه مثبت ، ممّا يظهر منهم انهم يعملون بالأصل المثبت .

( ومنها : ما في التحرير بعد هذا الفرع : « و ) هو : انه ( لو ) قطع الجاني يد المجنى عليه ثم إختلفا فادّعى المجني عليه تماميّة يده وعدم نقص فيها بينما ( إدّعى الجاني نقصان يد المجني عليه باصبع ) فليس له الدية فقط .

وهنا قالوا : ( إحتمل تقديمُ قوله ) أي : قول الجاني ( عملاً بأصالة عدم القصاص ) لأن القصاص أمر حادث لا نعلم انه شرّع في المقام أم لا ، فالأصل عدمه .

( و ) إحتمل أيضا ( تقديم قول المجني عليه ، إذ الأصل ) أي : الظاهر في حال الانسان والحيوان وغيرهما ( السلامةُ ) فللمجني عليه القصاص .

ثم قالوا : انّ ( هذا ) الذي ذكرناه : من تعارض الأصلين إنّما هو فيما ( إن ادّعى الجاني نفي السلامة أصلاً ) بأن قال : انه وُلِدَ ناقص الاصبع ( وأمّا لو ادّعى زوالها ) أي : زوال السلامة ( طارئا ) بأن قال الجاني : ان يده كانت تامة ثم قطع اصبع منها بسبب حادث ( فالأقرب : أنّ القول قول المجنيّ عليه » (1) ) لاستصحاب السلامة ( إنتهى ) كلام التحرير .

ص: 99


1- - تحرير الاحكام : ج2 ص261 .

ولا يخفى صراحته في العمل بأصالة عدم زوال الاصبع في إثبات الجناية على اليد التامّة .

والظاهر : أنّ مقابل الأقرب ما يظهر من الشيخ رحمه اللّه في الخلاف في نظير المسألة ، وهو : ما إذا اختلف الجاني والمجنيّ عليه في صحّة العضو المقطوع وعيبه . فانّه قوّى عدم ضمان الصحيح .

ومنها : ما ذكره جماعة تبعا للمبسوط والشرايع ، في إختلاف الجاني والولي في موت المجنيّ عليه بعد الاندمال أو قبله .

-------------------

( ولا يخفى صراحته ) أي : صراحة كلام التحرير ( في العمل بأصالة عدم زوال الاصبع في إثبات ) اللازم العقلي له ، وهو : وقوع ( الجناية على اليد التامّة ) الموجب ذلك للقصاص أو الدية التامة ، فان إستصحاب السلامة لا يثبت وقوع الجناية على اليد التامة إلاّ على القول بالأصل المثبت لأنه لازمه العقلي لا الشرعي .

( والظاهر : أنّ مقابل الأقرب ) في كلام التحرير هو : ( ما يظهر من الشيخ رحمه اللّه في الخلاف في نظير المسألة ، وهو : ما إذا اختلف الجاني والمجنيّ عليه في صحّة العضو المقطوع وعيبه ) بانه هل كان شللاً أو كان صحيحا مثلاً ؟ ( فانّه قوّى عدم ضمان الصحيح ) فليس القول قول المجني عليه .

( ومنها : ما ذكره جماعة تبعا للمبسوط والشرايع في إختلاف الجاني والولي في موت المجنيّ عليه ) بانه مات ( بعد الاندمال أو قبله ) فان مات ، بعد الاندمال ، فقد كان موته من اللّه تعالى لا بالسراية ، فليس على الجاني إلاّ دية الجرح ، وان مات قبل الاندمال كان الموت بالسراية ، فعلى الجاني الدية الكاملة للموت ، لا دية الجرح فقط .

قالوا : الاحتمالان فيه سواء ، فان من هذا الجانب : أصالة عدم الاندمال

ص: 100

إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع في كتب الفقه ، خصوصا كتب الشيخ والفاضلين والشهيدين .

لكنّ المعلوم منهم ومن غيرهم من الأصحاب : عدم العمل بكلّ أصل مثبت .

فاذا تسالم الخصمان في بعض الفروع المتقدّمة على ضرب اللفاف بالسيف على وجه لو كان زيدٌ الملفوف به سابقا باقيا على اللفاف ، لقتله إلاّ أنّهما إختلفا في بقائه ملفوفا أو خروجه عن اللفّ ،

-------------------

ممّا يقتضي الموت بالسراية الموجب لدية كاملة ، ومن ذاك الجانب : أصالة عدم السراية ممّا يقتضي الموت بعد الاندمال الموجب لدية الجرح فقط ، وقولهم هذا يقتضي التعارض بين الأصلين ، والقول بالتعارض هنا لا يكون إلاّ على القول بالأصل المثبت ، فيدلّ على انهم عملوا بالاُصول المثبتة .

( إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع في كتب الفقه خصوصا كتب الشيخ والفاضلين ) : المحقق والعلامة ( والشهيدين ) : الأوّل والثاني ( لكنّ المعلوم منهم ومن غيرهم من الأصحاب : عدم العمل بكلّ أصل مثبت ) وإنّما هم يعملون ببعض الاُصول المثبتة .

ثم ان المصنِّف يؤيد عدم عملهم بكل أصل مثبت بقوله : ( فاذا تسالم الخصمان في بعض الفروع المتقدّمة ) كفرع قدّ الملفوف بنصفين - مثلاً - ( على ضرب اللفاف بالسيف على وجه لو كان زيدٌ الملفوف به سابقا باقيا على اللفاف ، لقتله ) بهذه الضربة ، فاتفقا على ضربه ( إلاّ أنّهما إختلفا في بقائه ملفوفا ) حتى يكون على الضارب القصاص أو الدية ( أو خروجه عن اللفّ ) حتى لا يكون عليه شيء .

ص: 101

فهل تجد من نفسك رمي أحد من الأصحاب بالحكم : بأنّ الأصل بقاء لفّه ، فيثبت القتل ، إلاّ أن يثبت الآخر خروجه ، أو تجد فرقا بين بقاء زيد على اللف وبقائه على الحياة لتوقف تحقق عنوان القتل عليهما .

وكذا لو وقع الثوب النجس في حوض كان فيه الماء سابقا ، ثمّ شك في بقائه فيه ، فهل يحكم أحد بطهارة الثوب

-------------------

وعليه : ( فهل تجد من نفسك ) أيها الفقيه في هذا المثال ( رمي أحد من الأصحاب بالحكم : بأنّ الأصل بقاء لفّه ، فيثبت ) بذلك لازمه العادي وهو : ( القتل ) الموجب للقصاص ، أو لضمان الدية ( إلاّ أن يثبت ) الخصم ( الآخر خروجه ) أي : خروج زيد من اللفاف ، فانه لا يقول أحد : بأن الأصل بقاؤه في اللفاف ، وان موته صار من أجل ضرب اللفاف الذي كان هو فيه ؟ .

( أو تجد فرقا بين بقاء زيد على اللف ) حيث تركوا العمل فيه بالأصل المثبت ولم يقولوا بوجوب الدية أو القصاص على الضارب ( و ) بين ( بقائه على الحياة ) حيث عملوا فيه بالأصل المثبت وقالوا : بأن الملفوف كان حيا حين ضربه الجاني فاستند موته إليه ؟ .

وكيف كان : فانه لا فرق بينهما ، لانّه ان كان الأصل المثبت في الأوّل غير معمول به ، فالأصل المثبت في الثاني أيضا يلزم أن يكون غير معمول به ( لتوقف تحقق عنوان القتل ) الموجب للقصاص أو لضمان الدية ( عليهما ) أي : على بقاء اللف وبقاء الحياة ، لأنهما من واد واحد .

( وكذا لو وقع الثوب النجس في حوض كان فيه الماء سابقا ، ثمّ شك في بقائه فيه ) أي : في بقاء الماء في الحوض ، وعدمه ( فهل يحكم أحد بطهارة الثوب

ص: 102

بثبوت إنغساله بأصالة بقاء الماء .

وكذا لو رمى صيدا ، أو شخصا ، على وجه لو لم يطرء حائل لأصابه ، فهل يحكم بقتل الصيد أو الشخص بأصالة عدم الحائل .

إلى غير ذلك ممّا لا يُحصى من الأمثلة التي نقطع بعدم جريان الأصل لاثبات الموضوعات الخارجية التي يترتب عليها الأحكام الشرعية .

-------------------

بثبوت إنغساله بأصالة بقاء الماء ) في الحوض ؟ بأن يقال : نستصحب وجود الماء في الحوض ، فيثبت لازمه العادي وهو : كون الثوب قد غُسل بسبب وقوعه وسط هذا الحوض الذي كان فيه الماء في حين لم نعلم ان وقوع الثوب كان في وقت وجود الماء فيه أم لا ؟ .

( وكذا لو رمى صيدا ، أو شخصا ، على وجه لو لم يطرء حائل لأصابه ) السهم وقتله ، ثم رأينا الصيد أو الشخص مقتولاً ولم نعلم هل انه قتل برمي هذا أو قتل بسبب آخر ؟ ( فهل يحكم بقتل الصيد أو الشخص بأصالة عدم الحائل ) ؟ فانه إذا حكم بقتل الصيد أو الشخص كان معناه : إثبات القتل بالأصل المثبت ، وهذا ما لا يقول به أحد .

( إلى غير ذلك ممّا لا يُحصى من الأمثلة التي نقطع بعدم جريان الأصل لاثبات الموضوعات الخارجية ) بها ، مثل القتل في المثال السابق وما أشبه ( التي يترتب عليها الأحكام الشرعية ) كالدية والقصاص وما أشبه ذلك .

ومثل ما إذا علمنا بأن زيدا وطأ هندا ، وشككنا في انه هل عقد عليها ووطئها أم لا ؟ فان الاستصحاب - لولا انه مثبت - يقتضي عدم العقد إلى حين الوطي ، ممّا يوجب عليه حدا .

هذا ، ولكن لا يخفى : ان المسائل مختلفة : من جهة جريان أصل الصحة

ص: 103

وكيف كان : فالمتّبع هو الدليل ، وقد عرفت : أنّ الاستصحاب إن قلنا به من باب الظنّ النوعي ، كما هو ظاهر أكثر القدماء فهو كاحدى الأمارات الاجتهادية ، يثبت به كلّ موضوع يكون نظير المستصحب في جواز العمل فيه بالظنّ الاستصحابي . وأمّا على المختار من إعتباره من باب الاخبار ، فلا يثبت به ما عدا الآثار الشرعية المترتِّبة على نفس المستصحب .

نعم ،

-------------------

وعدمه ، ومن جهة خفاء الواسطة وعدمه ، ومن جهة حجية الاستصحاب من باب الظن أو من باب الاخبار ، ومن جهة درأ الحدود بالشبهات وعدمه ، ومن جهة علم الفاعل وجهله ، إلى غير ذلك ، فالجميع ليس من باب واحد .

( وكيف كان : فالمتّبع هو الدليل ، وقد عرفت : أنّ الاستصحاب إن قلنا به من باب الظنّ النوعي ، كما هو ظاهر أكثر القدماء ) على ما نقله المصنِّف عنهم ( فهو كاحدى الأمارات الاجتهادية ، يثبت به كلّ موضوع يكون نظير المستصحب ) كالنمو والالتحاء والتنفس للحياة ، فانها تكون كالمستصحب ( في جواز العمل فيه بالظنّ الاستصحابي ) وذلك لأن الاستصحاب يكون حينئذ كالشاهدين ، أو كقول أهل الخبرة ، فيثبت به لازمه ، وملزومه ، وملازمه ، العقلي والعادي والعرفي والشرعي .

( وأمّا على المختار من إعتباره ) أي : الاستصحاب ( من باب الاخبار ، فلا يثبت به ما عدا الآثار الشرعية المترتِّبة على نفس المستصحب ) بلا واسطة ، امّا الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب مع الواسطة ، وكذلك الآثار العقلية والعرفية والعادية فلا تترتب على الاستصحاب .

( نعم ) قد يكون الأصل مثبتا ، ومع ذلك تترتب الآثار ، وهذا ما ِشار إليه بقوله :

ص: 104

هنا شيء ، وهو : أن بعض الموضوعات الخارجية المتوسطة بين المستصحب وبين الحكم الشرعي من الوسائط الخفيّة ، بحيث يعدّ في العرف الأحكام الشرعية المترتبة عليها أحكاما لنفس المستصحب . وهذا المعنى يختلف وضوحا وخفاءً باختلاف مراتب خفاء الوسائط عن أنظار العرف .

منها : ما إذا إستصحب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر ،

-------------------

( هنا شيء ، وهو : أن بعض الموضوعات الخارجية المتوسطة بين المستصحب وبين الحكم الشرعي ) هو ( من الوسائط الخفيّة ، بحيث يعدّ في العرف الأحكام الشرعية المترتبة عليها ) أي : على تلك الوسائط من خفائها ( أحكاما لنفس المستصحب ) فيرى العرف انه لا فاصل بين الآثار وبين المستصحب ، لعدم ملاحظته الواسطة ، فلا يكون الأصل حينئذ مثبتا .

( وهذا المعنى ) الذي ذكرناه : من رؤية العرف ترتب الآثار على المستصحب بدون واسطة ( يختلف وضوحا وخفاءً باختلاف مراتب خفاء الوسائط عن أنظار العرف ) فاللازم ملاحظة هل ان الواسطة خفية حتى يستصحب لأنه ليس من الأصل المثبت ، أو ليست خفية حتى لا يستصحب لأنه حينئذ من الأصل المثبت ؟ .

( منها ) : أي من تلك الموضوعات التي تثبت بالاستصحاب لخفاء الواسطة ( ما إذا إستصحب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر ) بأن كان هناك شيء رطب نجس ، وشيء آخر يابس طاهر فتلاقيا ، وشككنا في بقاء الرطوبة المسرية حين الملاقاة حتى يتنجس الطاهر ، وعدم بقاء الرطوبة حتى لم يتنجّس

ص: 105

فانّه لا يبعد الحكمُ بنجاسته ، مع أنّ تنجسه ليس من أحكام ملاقاته للنجس رطبا ، بل من أحكام سراية رطوبة النجاسة إليه وتأثره بها بحيث يوجد في الثوب رطوبة متنجّسة .

ومن المعلوم : أنّ إستصحاب رطوبة النجس الراجع إلى بقاء جزء مائيّ قابل للتأثير لا يثبت تأثر الثوب وتنجّسه بها ، فهو أشبه مثال بمسألة بقاء الماء في الحوض ، المثبت لانغسال الثوب به .

-------------------

( فانّه لا يبعد الحكمُ بنجاسته ) أي : الطاهر ( مع أنّ تنجسه ليس من أحكام ) مجرّد ( ملاقاته للنجس رطبا ) بلا واسطة ( بل من أحكام سراية رطوبة النجاسة إليه وتأثره بها ) أي : بالرطوبة ( بحيث يوجد في الثوب رطوبة متنجّسة ) فان سرايتها إليه ليست من الآثار الشرعية ، بل من الآثار العادية .

( ومن المعلوم : أنّ إستصحاب رطوبة النجس الراجع ) ذلك ( إلى بقاء جزء مائيّ قابل للتأثير ) في الثوب الطاهر الذي لاقاه ( لا يثبت تأثر الثوب ) الطاهر بالرطوبة ( وتنجّسه بها ) فان التنجس ليس من أحكام ملاقاة النجس رطبا ، بل بينهما واسطة وهي : إنتقال الرطوبة النجسة إلى الشيء الطاهر ، لكن حيث ان الواسطة هنا خفية يرى العرف انه ليس بين المستصحب وبين أثره الشرعي واسطة ، فيستصحب الرطوبة ويحكم بتنجّس الملاقي .

هذا غير ان المصنِّف حيث صوّر عدم خفاء الواسطة هنا في المثال قال : ( فهو أشبه مثال ، بمسألة بقاء الماء في الحوض ، المثبت لانغسال الثوب به ) فكما ان الطهارة هناك مترتبة على واسطة غير شرعية ، فكذلك النجاسة هنا مترتبة على واسطة غير شرعية أيضا ، وهو مثبت وليس بحجة .

لكن الظاهر ان بينهما فرقا وهو : ان العرف يرى في مثال التنجس خفاء

ص: 106

وحكى في الذكرى عن المحقّق : تعليل الحكم بطهارة الثوب الذي طارت الذبابة عن النجاسة إليه بعدم الجزم ببقاء رطوبة الذبابة وإرتضاه ، فيحتمل أن يكون لعدم إثبات الاستصحاب لوصول الرطوبة إلى الثوب كما ذكرنا ، ويحتمل أن يكون لمعارضته باستصحاب طهارة الثوب

-------------------

الواسطة ، بينما لا يرى مثل ذلك في مسألة بقاء الماء في الحوض ، فالفرق بينهما رؤية العرف للتنجس بأنه من آثار الاستصحاب ، دون التطهر فانه لا يراه من آثار بقاء الماء في الحوض .

( وحكى في الذكرى عن المحقّق : تعليل الحكم بطهارة الثوب الذي طارت الذبابة عن النجاسة إليه ) حيث لا نعلم هل تنجس الثوب بسبب الرطوبة النجسة في رجل الذبابة أم لم يتنجس ؟ فقال المحقق : بأنه لا يتنجس ( ب ) سبب ( عدم الجزم ببقاء رطوبة الذبابة ) ممّا معناه : انه لو جزمنا ببقاء الرطوبة نحكم بنجاسة الثوب ( وإرتضاه ) الذكرى .

لكن إرتضاءه له يحتمل أحد وجهين : ( فيحتمل أن يكون ) الحكم بطهارة الثواب بعد سقوط الذبابة عليه ( لعدم إثبات الاستصحاب لوصول الرطوبة إلى الثوب كما ذكرنا ) فيما سبق : من ان إستصحاب رطوبة رجل الذباب لا يثبت اللازم العادي الذي هو سراية الرطوبة النجسة إلى الثوب حتى يتنجس ، وحيث نشك في تنجس الثوب كان مجرى الأصالة الطهارة .

( ويحتمل أن يكون لمعارضته باستصحاب طهارة الثوب ) فهنا إستصحابان متعارضان : إستصحاب رطوبة رجل الذباب مع إستصحاب طهارة الثوب ، فيتساقطان ويكون المرجع حينئذ قاعدة الطهارة ، لأن « كل شيء لك طاهر حتى تعلم انه نجس » ، ولم نعمل انه تنجس .

ص: 107

إغماضا عن قاعدة حكومة بعض الاستصحابات على بعض ، كما يظهر من المحقق ، حيث عارض إستصحاب طهارة الشاك في الحدث باستصحاب إشتغال ذمّته بالعبادة .

ومنها : أصالة عدم دخول هلال شوال في يوم الشك المثبت لكون غده يوم العيد ، فيترتّب عليه أحكام العيد من الصلاة والغسل ، وغيرهما .

-------------------

وإنّما نقول بمعارضة الاستصحابين مع ان أحدهما حاكم والآخر محكوم ( إغماضا عن قاعدة حكومة بعض الاستصحابات على بعض ) إذ إستصحاب رطوبة الرجل سببي ، وإستصحاب طهارة الثوب مسبّبي ، فلو جرى الاستصحاب السببي لم يبق مجال للاستصحاب المسبّبي حتى يتعارض الاستصحابان .

( كما يظهر ) الاغماض عن قاعدة الحكومة ( من المحقق ، حيث عارض إستصحاب طهارة الشاك في الحدث باستصحاب إشتغال ذمّته بالعبادة ) مع وضوح : ان الشك في الاشتغال والبرائة مسبّب عن الشك في بقاء الطهارة ، فاذا أحرزنا الطهارة بسبب الاستصحاب ، لا يبقى شك في صحة العبادة وبرائة الذمة ، ولكن كان من دأب القدماء جعل التعارض بين السببي والمسبّبي في كثير من الموارد ، كما لا يخفى ذلك لمن راجع الفقه .

( ومنها : أصالة عدم دخول هلال شوال في يوم الشك ) وذلك فيما لو شككنا في اليوم الثلاثين بانه هل هو آخر شهر رمضان أو أول شوال ؟ فان الأصل : عدم دخول شوال ( المثبت ) هذا الاستصحاب للازمه العقلي أي : ( لكون غده يوم العيد ، فيترتّب عليه ) أي : على الغد ( أحكام العيد ) المستحبة والمكروهة والمباحة والواجبة والمحرمة كما قال : ( من الصلاة ) أي : صلاة العيد ( والغسل ، وغيرهما ) كزيارة الامام الحسين عليه السلام ، والافطار ، وما أشبه ذلك .

ص: 108

فانّ مجرّد عدم الهلال في يوم لا يثبت آخرّيته ولا أوّلية غده للشهر اللاحق .

لكنّ العرف لا يفهمون من وجوب ترتيب آثار عدم إنقضاء رمضان وعدم دخول شوال : إلاّ ترتيب أحكام آخريّة ذلك اليوم لشهر وأوّلية غده لشهر آخر فالأول عندهم : ما لم يسبق بمثله والآخر ما إتصل بزمان حكم بكونه أول الشهر الآخر .

-------------------

وعليه : ( فانّ مجرّد عدم ) دخول ( الهلال في يوم لا يثبت آخرّيته ) أي : آخرية هذا اليوم لشهر رمضان ( ولا أوّلية غده للشهر اللاحق ) الذي هو شوال ، لأنهما أمران غير شرعيين ، وقد عرفت : ان الاستصحاب إنّما يثبت الآثار الشرعية، لا العقلية والعادية والعرفية ( لكنّ العرف لا يفهمون من وجوب ترتيب آثار عدم إنقضاء رمضان وعدم دخول شوال : إلاّ ترتيب أحكام آخريّة ذلك اليوم ) المشكوك فيه ( لشهر ) رمضان ( وأوّلية غده لشهر آخر ) هو شهر شوال .

إذن : ( فالأول ) أي : أول الشهر معناه عند العرف ليس هو : وصول الهلال إلى درجة يمكن فيه رؤيته حتى يكون واسطة جلية بالنسبة إلى دخول هلال شوال ، بل أول الشهر معناه ( عندهم : ما لم يسبق بمثله ) وهذه واسطة خفية بالنسبة إلى دخول هلال شوال ، فيرى العرف الأثر الشرعي المترتب على أول الشهر بهذا المعنى مترتبا على عدم دخول هلال شوال بلا واسطة ، فيحكم بأن هذا اليوم ليس من شوال قطعا .

( و ) كذا ( الآخر ) أي : آخر شهر رمضان ليس معناه عندهم : وصول الهلال إلى درجة لا يمكن رؤيته حتى يكون واسطة جلية بالنسبة إلى عدم إنقضاء شهر رمضان ، بل معناه عندهم هو : ( ما إتصل بزمان حكم بكونه أول الشهر الآخر )

ص: 109

وكيف كان : فالمعيار خفاء توسّط الأمر العادي والعقليّ بحيث يعدّ آثاره آثارا لنفس المستصحب .

وربما يتمسك في بعض موارد الاُصول المثبتة بجريان السيرة أو الاجماع على إعتباره هناك ، مثل : اجراء أصالة عدم الحاجب عند الشك في وجوده على محلّ الغَسل أو المسح

-------------------

وهذه واسطة خفية بالنسبة إلى عدم إنقضاء شهر رمضان ، فيرى العرف الأثر الشرعي المترتب على آخر الشهر بهذا المعنى مترتبا على عدم إنقضاء شهر رمضان بلا واسطة ، فيحكم بأن هذا اليوم هو من شهر رمضان قطعا .

هذا ، ولا يخفى : ان ما ذكرناه هنا لم يكن خاصا بآخر شهر رمضان وأول شوال ، بل هو عام يشمل كل شهر ، فيجري في آخر شعبان وأول شهر رمضان أيضا ، وكذلك يجري في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة ، وكذلك يجري بالنسبة إلى الأيام والأسابيع والأشهر كلها حتى في السنوات .

( وكيف كان : فالمعيار خفاء توسّط الأمر العادي ) كتأثر الثوب بالرطوبة في مثال تلاقي نجس وطاهر ( والعقليّ ) كأوّلية الغد في مثال شهر رمضان وشوال ( بحيث يعدّ آثاره ) أي : آثار الأمر العادي أو العقلي أو العرفي بخفائه ( آثارا لنفس المستصحب ) عرفا .

( وربّما يتمسك في بعض موارد الاُصول المثبتة بجريان السيرة أو الاجماع على إعتباره هناك ) أي : إعتبار الاستصحاب في تلك الموارد لكن لا لدليل الاستصحاب وحده ، بل بمعونة السيرة والاجماع ، وذلك ( مثل : اجراء أصالة عدم الحاجب عند الشك في وجوده على محلّ الغَسل أو المسح ) في الوضوء

ص: 110

لاثبات غَسل البشرة ومسحها المأمور بهما في الوضوء والغُسل ؛ وفيه نظر .

الأمر السابع :

لا فرق في المستصحب بين أن يكون مشكوك الارتفاع في الزمان اللاحق

-------------------

أو الغُسل ( لاثبات ) لازمه العادي ، أعني : ( غَسل البشرة ومسحها ، المأمور بهما في الوضوء والغُسل ) ولذا تعارف فيهما عدم الفحص عن الحاجب فيما إذا شك في حصول حاجب من دم البرغوث وما أشبه ، خصوصا في المحلات الكثيرة البرغوث.

( وفيه نظر ) ولعله لأن الشك في وجود الحاجب ان كان عقلائيا ولم يكن إطمئنان بعدم الحاجب فالسيرة على الفحص ، إلاّ إذا كان الشك غير عقلائي ، أو كان الشك بعد الفراغ فلا يجب الفحص لكن لا لوجود الأصل المثبت بل لكون الشك غير عقلائي أو لقاعدة الفراغ .

( الأمر السابع ) : في أصالة تأخر الحادث ، فانا قد نعلم بحدوث حادث لكن لا نعلم هل حدث في زمان سابق أو في زمان لاحق ؟ كما إذا علمنا ان زيدا مات لكن لا نعلم هل مات يوم الخميس أو مات يوم الجمعة ؟ .

وقد نعلم بحدوث حادث ، لكن لا نعلم بأنه هل حدث متقدّما أو متأخرا أو مقارنا لحادث آخر ؟ كما إذا علمنا بالكرية وبوقوع نجس في الماء ، لكن لا نعلم هل وقوع النجاسة قبل صيرورته كرا أو مع صيرورته كرا ؟ .

فالأول : هو الحادث المشكوك حدوثه بالنسبة إلى الزمان المتقدِّم أو المتأخِّر .

والثاني : هو الحادث المشكوك حدوثه بالنسبة إلى حادث آخر .

أشار المصنِّف إلى أوّل الفرعين بقوله : ( لا فرق في المستصحب ) الذي يشمله دليل الاستصحاب ( بين أن يكون مشكوك الارتفاع في الزمان اللاحق

ص: 111

رأسا وبين أن يكون مشكوك الارتفاع في جزء من الزمان اللاحق ، مع القطع بارتفاعه بعد ذلك الجزء .

فإذا شك في بقاء حياة زيد في جزء من الزمان اللاحق فلا يقدح في جريان إستصحاب حياته وعِلمُنا بموته بعد ذلك الجزء من الزمان .

-------------------

رأسا ) كما إذا شككنا في انه هل مات زيد أو لم يمت ؟ حيث نستصحب عدم موته .

( وبين أن يكون مشكوك الارتفاع في جزء من الزمان اللاحق ، مع القطع بارتفاعه بعد ذلك الجزء ) كما إذا علمنا بارتفاع حياة زيد في يوم الجمعة ، لكن لا نعلم هل انه إرتفع في يوم الخميس أو لم يرتفع في يوم الخميس ؟ حيث نستصحب عدم إرتفاعه يوم الخميس ؟ .

إذن : فالقاعدة في كلا الفرضين هو أن نستصحب حياة زيد ، لكن في المثال الأوّل نستصحبه مطلقا ، وفي المثال الثاني نستصحبه إلى يوم الخميس .

وعليه : ( فإذا شك في بقاء حياة زيد في جزء من الزمان اللاحق ) كيوم الخميس ( فلا يقدح في جريان إستصحاب حياته ) أي : ان إستصحاب حياة زيد في يوم الخميس لا يقدح فيه ( وعِلمُنا بموته بعد ذلك الجزء من الزمان ) كيوم الجمعة الذي نقطع بموته فيه .

وإنّما لا يقدح فيه لوضوح : ان موته يوم الجمعة لا يوجب رفع أركان الاستصحاب بالنسبة إلى يوم الخميس ، فان أركان الاستصحاب في يوم الخميس تامة ، وذلك لليقين السابق بحياته في يوم الأربعاء ، والشك اللاحق بموته يوم الخميس ، فيستصحب حياته .

ص: 112

وهذا هو الذي يعبّر عنه بأصالة تأخّر الحادث ، يريدون به : أنّه إذا علم بوجود حادث في زمان وشكّ في وجوده قبل ذلك الزمان فيحكم باستصحاب عدمه قبل ذلك ويلزمه عقلاً تأخر حدوث ذلك الحادث .

فإذا شكّ في مبدء موت زيد مع القطع بكونه يوم الجمعة ميّتا فحياته قبل الجمعة الثابتة بالاستصحاب

-------------------

( وهذا ) الشك في بقاء المستصحب في جزء من الزمان اللاحق ، وان علم بارتفاعه بعد ذلك ( هو الذي يعبّر عنه ) في ألْسنة الاُصوليين : ( بأصالة تأخّر الحادث . يريدون به : أنّه إذا علم بوجود حادث في زمان ) كعلمهم بموت زيد يوم الجمعة ( وشكّ في وجوده قبل ذلك الزمان ) بأن لم نعلم هل الموت وجد في يوم الخميس أم لا ؟ ( فيحكم باستصحاب عدمه ) أي : عدم الموت ( قبل ذلك ) أي : قبل يوم الجمعة كما في المثال .

إذن : فالعلم بالحادث في الزمان المتأخّر لا يمنع من إستصحاب عدم هذا الحادث في الزمان المتقدّم الذي هو مشكوك ( ويلزمه عقلاً تأخر حدوث ذلك الحادث ) .

وعليه : فإذا شككنا في موت زيد في يوم الخميس وإستصحبنا عدم موته في يوم الخميس ، كان لازمه العقلي : تأخر الموت عن يوم الخميس إلى يوم الجمعة كما قال : ( فإذا شكّ في مبدء موت زيد ) بانه هل كان يوم الخميس أو يوم الجمعة ؟ وذلك ( مع القطع بكونه يوم الجمعة ميّتا ) أي : ان الموت في الجمعة مقطوع به ، لكن الشك في ان يوم الجمعة هل هو مبدء موته ، أو ان يوم الجمعة إمتداد لموته الذي حصل يوم الخميس ؟ ( فحياته قبل الجمعة الثابتة بالاستصحاب ) لفرض ان الاستصحاب يقول : انه كان حيا يوم الخميس

ص: 113

مستلزمةٌ عقلاً : لكون مبدء موته يوم الجمعة .

وحيث تقدّم في الأمر السابق أنّه لا يثبت بالاستصحاب - بناءا على العمل به من باب الاخبار - لوازمه العقليّة ، فلو ترتّب على حدوث موت زيد في يوم الجمعة ، لا على مجرّد حياته قبل الجمعة حكمٌ شرعي ، لم يترتّب على ذلك .

-------------------

( مستلزمةٌ عقلاً : لكون مبدء موته يوم الجمعة ) لا يوم الخميس .

هذا ( وحيث تقدّم في الأمر السابق ) عند بيان الاستصحاب المثبت : ( أنّه لا يثبت بالاستصحاب - بناءا على العمل به من باب الاخبار - ) والروايات ، لا العمل به من باب الظن ، إذ قد عرفت : انه لو كان الاستصحاب حجة من باب الظن ، كانت لوازمه العقلية والعادية والعرفية كلها حجة ، ولكن لو كان حجة من باب الاخبار ، فانه لا يثبت ( لوازمه العقليّة ) والعادية والعرفية .

وعليه : ( فلو ترتّب على حدوث موت زيد في يوم الجمعة ، لا على مجرّد حياته قبل الجمعة ) أي : يوم الخميس ( حكمٌ شرعي ، لم يترتّب على ذلك ) فإذا نذر قرائة القرآن على روح زيد ان مات زيد يوم الجمعة ، لم تجب عليه القرائة ، لأنه لا يعلم بانه مات يوم الجمعة ، ولكن لو نذر قرائة القرآن على روح زيد في الجمعة الاُولى من موته ، وجبت عليه القرائة من دون حاجة إلى الاستصحاب ، وذلك للعلم بموته فيها سواء كانت الجمعة إبتداء موته أم إستمرارا لموته .

وهكذا الحال لو نذر التصدّق بدينار للفقير إذا ولدت زوجته يوم الجمعة ، ثم شك في انها ولدت يوم الخميس أو يوم الجمعة ، فإنه لم يجب عليه التصدّق ، لأن إستصحاب عدم ولادتها يوم الخميس لا يثبت ولادتها يوم الجمعة إذ هو أثر عادي له لا أثر شرعي ، فيكون من الاستصحاب المثبت الذي ليس بحجة ،

ص: 114

نعم ، لو قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ أو كان اللازم العقلي من اللوازم الخفيّة جرى فيه ما تقدّم ذكره .

وتحقيق المقام وتوضيحه : أنّ تأخّر الحادث قد يلاحظ بالقياس إلى ما قبله من أجزاء الزّمان ، كالمثال المتقدّم .

فيقال : الأصل عدم موت زيد قبل الجمعة ، فيترتّب عليه جميع أحكام ذلك العدم

-------------------

ولكن لو نذر التصدّق بدينار في أول جمعة من ولادتها وجب عليه التصدق من دون حاجة إلى الاستصحاب ، وذلك لأنها سواء ولدت يوم الخميس أم يوم الجمعة ، فهو أول جمعة من ولادتها .

هذا ، ان قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الاخبار ، فان مثبتاته على ما عرفت ليست بحجة .

( نعم ، لو قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظن ) العقلائي ( أو كان اللازم العقلي ) المترتب على المستصحب ( من اللوازم الخفيّة ) بحيث يرى العرف لخفاء الواسطة ترتب الحكم الشرعي على نفس المستصحب كما لو رأى الأثر المترتِّب على تأخّر حدوث الموت إلى يوم الجمعة مترتبا على عدم حدوث الموت يوم الخميس ، وكذا في مثال الولادة ( جرى فيه ما تقدَّم ذكره ) من حجّية الاستصحاب وان كان مثبتا .

هذا مجمل الكلام في المقام ( وتحقيق المقام وتوضيحه : أنّ تأخّر الحادث قد يلاحظ بالقياس إلى ما قبله من أجزاء الزّمان ، كالمثال المتقدّم ) بأن لم نعلم هل الموت أو الولادة حصلا في يوم الخميس أو يوم الجمعة ؟ ( فيقال : الأصل عدم موت زيد قبل الجمعة ، فيترتّب عليه جميع أحكام ذلك العدم ) في يوم الخميس :

ص: 115

لا أحكام حدوثه يوم الجمعة ، إذ المتيقّن بالوجدان تحقّق الموت يوم الجمعة لا حدوثه ، إلاّ أن يقال : إنّ الحدوث هو الوجود المسبوق بالعدم ، وإذا ثبت بالأصل : عدم الشيء سابقا ، وعلم بوجوده بعد ذلك ، فوجوده المطلق في الزمان اللاحق إذا إنضمّ إلى عدمه قبل ذلك الثابت بالأصل

-------------------

عن وجوب نفقة زوجته ، وحرمة خروجها من الدار لو كان قد نهاها عن الخروج فيه ، وغير ذلك ( لا أحكام حدوثه يوم الجمعة ) .

وإنّما لا يترتب على عدم الموت في يوم الخميس أحكام حدوث الموت في يوم الجمعة ( إذ المتيقّن بالوجدان ) هو ( تحقّق الموت يوم الجمعة ) فانه ميت في هذا اليوم على كل تقدير ، سواء كان موته يوم الخميس أم يوم الجمعة ( لا حدوثه ) أي : حدوث الموت في يوم الجمعة ، فانه غير متيقن بالوجدان للشك فيه ، فاذا أردنا أن نقول : ان الموت حدث يوم الجمعة باستصحاب عدم موته يوم الخميس كان من الأصل المثبت .

( إلاّ أن يقال ) : ان الموضوع مركب من : عدم ووجود ، فالعدم يثبت بالاستصحاب ، والوجود يثبت بالوجدان ، وعند ذلك يصح الاستصحاب ويترتب الأثر على ذلك الموضوع المركب ، بتقريب : ( إنّ الحدوث هو ) معنى مركب من : ( الوجود المسبوق بالعدم . وإذا ثبت بالأصل : عدم الشيء سابقا ، وعلم بوجوده بعد ذلك ) أي : ثبت بالأصل - كما في المثال - عدم الموت في يوم الخميس ، وعلم بوجود الموت في يوم الجمعة فانّ من ضم الأصل إلى الوجدان يتحقق معنى الحدوث كما قال :

( فوجوده المطلق في الزمان اللاحق ) وهو يوم الجمعة ( إذا إنضمّ إلى عدمه قبل ذلك ) وهو يوم الخميس ( الثابت بالأصل ) لأن عدم الموت يوم الخميس

ص: 116

تحقّق مفهوم الحدوث ، وقد عرفت حال الموضوع الخارجي الثابت أحد جزئي مفهومه بالأصل .

وممّا ذكرنا يعلم أنّه لو كان الحادث ممّا يعلم بارتفاعه بعد حدوثه فلا يترتّب عليه أحكام الوجود في الزمان المتأخّر أيضا ،

-------------------

ثبت بالأصل فإذا ضمّ أحدهما إلى الآخر ( تحقّق مفهوم الحدوث ) أي : حدوث الموت في يوم الجمعة وهو الموضوع المركب الموجب لترتيب الأثر عليه من الوفاء بالنذر .

( و ) لكن ( قد عرفت حال الموضوع الخارجي الثابت أحد جزئي مفهومه بالأصل ) فان المصنّف صرّح في التنبيه السابق بعدم حجية الأصل المثبت ، بلا فرق بين ان يثبت به تمام الموضوع الخارجي ، أو أحد جزئي مفهومه ، وذلك حين قال : «وكذا لا فرق بين ان يثبت بالمستصحب تمام ذلك الأثر العادي كالمثالين - مثال إستصحاب عدم الحائل لاثبات القتل ، ومثال إستصحاب حياة زيد لاثبات موت عمرو - أو قيد له عدمي أو وجودي كاستصحاب الحياة للمقطوع نصفين ، فيثبت القتل الذي هو ازهاق الحياة ، وكاستصحاب عدم الاستحاضة المثبت لكون الدم الموجود حيضا» إلى آخر كلامه .

( وممّا ذكرنا ) في المثال الآنف : من انه لا يترتب على أصالة عدم الموت يوم الخميس حدوث الموت يوم الجمعة ، وان كنّا نعلم يوم الجمعة انه ميت : امّا بقاءً وامّا حدوثا ( يعلم ) حكم المثال التالي ، وهو : ( أنّه لو كان الحادث ممّا يعلم بارتفاعه بعد حدوثه ) وذلك كما إذا علمنا بارتفاع كرية ماء الحوض بعد العلم بحدوث كريته في أحد اليومين : اما الخميس واما الجمعة ( فلا يترتّب عليه أحكام الوجود في الزمان المتأخّر أيضا ) أي : كما لا يترتب عليه أحكام الحدوث

ص: 117

لأنّ وجوده مساوق لحدوثه .

نعم ، يترتّب عليه أحكام وجوده المطلق في زمان مّا من الزمانين .

كما إذا علمنا أنّ الماء لم يكن كُرّا قبل الخميس ، فعلم أنّه صار كرّا بعده وارتفع كرّيته بعد ذلك ، فنقول : الأصل عدم كرّيته في يوم الخميس ،

-------------------

كذلك لا يترتب عليه أحكام الوجود .

وإنّما لا يترتب عليه أحكام الوجود أيضا ( لأنّ وجوده مساوق لحدوثه ) أي : ان وجود الكر في الحوض مساوق لحدوث الكر فيه ومساوٍ له ، وكما لا يترتب على أصالة عدم حدوث الكر يوم الخميس حدوثه يوم الجمعة ، كذلك لا يترتب على أصالة عدم وجود الكر يوم الخميس وجوده يوم الجمعة ، إذ لعل حدوث الكر ووجوده حصلا يوم الخميس وزالا بعد ذلك .

( نعم ، يترتّب عليه أحكام وجوده المطلق ) أي : وجود الكر ( في زمان مّا من الزمانين ) : في يوم الخميس أو يوم الجمعة ، لأنا نعلم : انه إمّا في يوم الخميس ، وإمّا في يوم الجمعة كان كرا ، وكذا يترتب عليه أحكام حدوثه المطلق أيضا للقطع بحدوثه في زمان مّا من الزمانين : اما الخميس وامّا الجمعة ، فكل واحد من وجوده المطلق ، أو حدوثه المطلق ، إذا كان له حكم ترتّب عليه .

( كما إذا علمنا أنّ الماء لم يكن كُرّا قبل الخميس ، فعلم أنّه صار كرّا بعده ) أي:

بعد الخميس : امّا في يوم الخميس وامّا في يوم الجمعة ( وارتفع كرّيته بعد ذلك ) أي : بعد أن صار كرا ( فنقول : الأصل عدم كرّيته في يوم الخميس ) لاستصحاب عدم كريته المتيقن في يوم الاربعاء ، فيترتب أثر هذا العدم عليه ، فلو غسل - مثلاً - ثوب نجس فيه يوم الخميس حكم ببقاء نجاسته ، ولو إتصل بماء قليل نجس لا يطهر ذلك الماء القليل ، وهكذا .

ص: 118

ولايثبت بذلك كرّيته يوم الجمعة ، فلا يحكم بطهارة ثوب نجس وقع فيه في أحد اليومين ، لأصالة بقاء نجاسته وعدم أصل حاكم عليه .

نعم ، لو وقع فيه في كلّ من اليومين حُكِمَ بطهارته من باب إنغسال الثوب بماءين مشتبهين .

-------------------

( و ) لكن ( لا يثبت بذلك ) أي : باستصحاب عدم الكرية لازمه غير الشرعي وهو : ( كرّيته يوم الجمعة ) إذ الكرية يوم الجمعة لازم عقلي لعدم كرية يوم الخميس ، بعد علمنا بانه صار كرا في أحد اليومين .

إذن : ( فلا يحكم بطهارة ثوب نجس وقع فيه في أحد اليومين ) لا في يوم الخميس لاستصحاب بقاء عدم الكرية ، ولا في يوم الجمعة ( لأصالة بقاء نجاسته ) أي : نجاسة ذلك الثوب ( وعدم أصل حاكم عليه ) لما عرفت : من ان أصالة عدم الكرية يوم الخميس لا تثبت الكرية يوم الجمعة ، فلعله صار يوم الخميس كرا ثم إرتفع يوم الجمعة .

( نعم ، لو وقع ) ذلك الثوب النجس ( فيه في كلّ من اليومين ) : الخميس والجمعة ( حُكِمَ بطهارته ) لأنه ان كان كرا يوم الخميس فقد طهر الثوب في يوم الخميس ، وان كان كرا يوم الجمعة فقد طهر في يوم الجمعة ، فالثوب طاهر على أيّ حال ، لكن مع فرض ان ماء الحوض صار كرا يوم الجمعة باتصاله بكرّ ، أو مطر ، أو نحوهما ، حتى لا يستشكل : بانه إذا كان غير كر يوم الخميس وتنجس بملاقاة الثوب النجس بقي الماء نجسا ، فلم يكن الكر يوم الجمعة طاهرا ومطهّرا ؟ .

وكيف كان : فإذا غسل هذا الثوب في الحوض يوم الخميس مرة ، ويوم الجمعة اُخرى ، فقد علمنا بطهارته ، وذلك ( من باب إنغسال الثوب بماءين مشتبهين ) أي : الحكم بطهارته هنا من باب الحكم بطهارته فيما إذا كان هناك

ص: 119

وقد يلاحظ تأخّر الحادث بالقياس إلى حادث آخر ، كما إذا علم بحدوث حادثين وشك في تقدّم أحدهما على الآخر فامّا أن يجهل تاريخهما

-------------------

مائان مشتبهان : أحدهما طاهر ، والآخر نجس ، فغسلنا الثوب النجس بصبّ كلٍ منهما عليه فانه نعلم بطهارته ، لأنه امّا طهر بالماء الأوّل ، وامّا طهر بالماء الثاني .

لا يقال : ان كان الماء الثاني نجسا فقد تنجس الثوب .

لأنه يقال : علمنا طهارته بأحد المائين ولم نعلم نجاسته بعد ذلك ، فنستصحب طهارته .

هذا تمام الكلام في الفرع الأوّل ، وهو : بأن يلاحظ تأخر الحادث بالقياس إلى ما قبله من أجزاء الزمان ، ومثاله : ما إذا علم بوجود موت زيد في الجمعة وشك في وجود موته في الخميس على ما مرّ تفصيله .

وامّا الفرع الثاني : فقد أشار إليه بقوله : ( وقد يلاحظ تأخّر الحادث بالقياس إلى حادث آخر ) كأن يكون هناك حادثان لا نعلم هل هذا متأخّر عن ذاك ، أو ذاك متأخّر عن هذا ؟ ولذلك قال : ( كما إذا علم بحدوث حادثين وشك في تقدّم أحدهما على الآخر ) .

مثلاً : إذا علمنا بأن هذا الماء غير الكر قد ورد عليه حادثان : الكرية والنجاسة ، ولكن لا نعلم هل ان الكرية واردة أولاً حتى لا تؤثر النجاسة ، أو ان النجاسة واردة أولاً حتى لا تؤثر الكرّية ويبقى الماء نجسا ، فان لهذا الفرع صورتين كالتالي :

الأوّل : ( فامّا أن يجهل تاريخهما ) بأن لم نعلم هل ان الكرية كانت يوم الخميس والنجاسة يوم الجمعة ، أو ان النجاسة كانت يوم الخميس والكرية يوم الجمعة ؟ .

ص: 120

أو يعلم تاريخ أحدهما ، فان جهل تاريخهما ، فلا يحكم بتأخّر أحدهما المعيّن عن الآخر ، لأن التأخّر في نفسه ليس مجرى الاستصحاب ، لعدم مسبوقيّته باليقين .

وأمّا أصالة عدم أحدهما في زمان حدوث الآخر فهي معارضة بالمثل ، وحكمه التساقط مع ترتّب الأثر على كلّ واحد من الأصلين

-------------------

الثاني : ( أو يعلم تاريخ أحدهما ) بأن علمنا ان الكرية كانت يوم الخميس ، لكن لا نعلم هل النجاسة حصلت يوم الاربعاء أو يوم الجمعة ؟ .

وعليه : ( فان جهل تاريخهما ، فلا يحكم بتأخّر أحدهما المعيّن عن الآخر ) وذلك ( لأن التأخّر في نفسه ليس مجرى الاستصحاب ، لعدم مسبوقيّته باليقين ) فان التأخر بوصف التأخر لم يكن سابقا حتى يستصحب ، فلا تتم فيه أركان الاستصحاب .

( وأمّا أصالة عدم أحدهما في زمان حدوث الآخر ) بأن نقول : الأصل عدم الكرية في زمان حدوث الملاقاة ، فالملاقاة يوم الخميس والكرية يوم الجمعة فهو إذن نجس ، أو نقول : ان الأصل عدم ملاقاة النجس في زمان الكرية ، فالكرية يوم الخميس والملاقاة يوم الجمعة ، فهو إذن طاهر ، فأركان الاستصحاب وان كان تاما في هذين الأصلين إلاّ إنهما لا يجريان لأن أصالة العدم في كل منهما معارضة بمثلها كما قال : ( فهي معارضة بالمثل ، وحكمه التساقط ) .

وإنّما يتعارضان ويتساقطان ( مع ترتب الأثر على كلّ واحد من الأصلين ) بأن كان هناك أثر لهذا الأصل وأثر لذاك الأصل ، فيتساقطان ، حيث يلزم الرجوع بعده إلى عموم أو أصل فوقه .

نعم ، إذا كان لأحد الأصلين أثر دون الأصل الآخر ، جرى الأصل الذي له الأثر

ص: 121

وسيجيء تحقيقه إن شاء اللّه .

وهل يحكم بتقارنهما في مقام يتصوّر التقارن لأصالة عدم كلّ منهما قبل وجود الآخر ؟ وجهان ، من كون التقارن أمرا وجوديا لازما لعدم كون كلّ منهما قبل الآخر ، ومن كونه من اللوازم الخفيّة حتى كاد يتوهّم أنّه عبارة عن عدم تقدّم أحدهما على الآخر في الوجود ،

-------------------

دون الأصل الآخر ، وذلك لأن الاستصحاب إنّما وضع للأثر ، فإذا كان هناك إستصحاب ولم يكن له أثر شرعي ، فلا مجرى للاستصحاب ( وسيجيء تحقيقه إن شاء اللّه ) تعالى فلا داعي لتفصيل الكلام الآن .

( وهل يحكم بتقارنهما في مقام يتصوّر التقارن ) ؟ كما هو فيما نحن فيه حيث يمكن تقارن الكرية والنجاسة بأن نقول : الأصل عدم تقدّم الكرية ، والأصل عدم تقدّم النجاسة ، فهما إذن متقارنان ، وذلك ( لأصالة عدم كلّ منهما قبل وجود الآخر ) فيتعارضان ويتساقطان وبعد التساقط تصل النوبة إلى التقارن ( وجهان ) :

الأوّل : عدم الحكم بالتقارن ، وقد أشار إليه بقوله : ( من كون التقارن أمرا وجوديا ) فيكون ( لازما لعدم كون كلّ منهما قبل الآخر ) وهو لازم غير شرعي ، ولذا لو أردنا إثباته باجراء الأصلين كان من الأصل المثبت ، وهو ليس بحجة ، فلا يصح الحكم بالتقارن .

( و ) الثاني : الحكم بالتقارن وهو ما أشار إليه بقوله : ( من كونه من اللوازم الخفيّة حتى كاد يتوهّم أنّه عبارة عن ) مجرّد ( عدم تقدّم أحدهما على الآخر في الوجود ) فيحكم به ولا يكون مثبتا ، وذلك لأن العرف يرون معنى تقارن الحادثين : انه مجرد اما إذا لم يصح تقدّم أحدهما على الآخر لا هذا على ذاك ، ولا ذاك على هذا ، وحينئذ فإذا كان التقارن منشاء أثر ، حكم بذلك الأثر ، فإذا نذر

ص: 122

وإن كان أحدهما معلوم التاريخ فلا يحكم على مجهول التاريخ ، إلاّ بأصالة عدم وجوده في تاريخ ذلك ، لا تأخّر وجوده عنه بمعنى حدوثه بعده .

نعم ، يثبت ذلك على القول بالأصل المثبت ،

-------------------

الأب - مثلاً - ان يصلي ركعتين إذا تقارن مجيء ولديه من السفر ، فجاءا ، لكن لم يعلم هل جاء أحدهما سابقا على الآخر ، أو تقارنا في المجيء ؟ فانه يجب عليه الوفاء بنذره حينئذ للتقارن بسبب الأصل .

هذا تمام الكلام في الصورة الاُولى وهي صورة الجهل بتاريخ الحادثين .

واما الصورة الثانية فهو ما أشار إليه المصنِّف بقوله :

( وان كان أحدهما معلوم التاريخ ) بان علمنا انه في الخميس صار كرا ، لكنا لا نعلم بأن ملاقاته للنجاسة كان يوم الاربعاء أو يوم الجمعة ( فلا يحكم على مجهول التاريخ ) وهو الملاقاة في المثال بالنسبة إلى معلوم التاريخ وهو الكرية ( إلاّ بأصالة عدم وجوده في تاريخ ذلك ) المعلوم فقط ( لا تأخّر وجوده ) أي : وجود المجهول التاريخ وهو الملاقاة ( عنه ) أي : عن المعلوم التاريخ وهو الكرية ( بمعنى حدوثه بعده ) فلا يثبت كون حدوث الملاقاة بعد زمان حدوث الكرية .

وعليه : فعدم وجود الملاقاة في زمان الكرية كما في المثال هو : مقتضى الأصل ولذلك يصح جريانه ، امّا حدوث الملاقاة بعد زمان الكرية ، فهو لازم عقلي لأصالة عدم حدوث الملاقاة يوم الخميس فلا يصح جريانه لأنه مثبت .

( نعم ، يثبت ذلك ) أي : تأخّر الملاقاة عن الكرية ( على القول بالأصل المثبت ) لكنك عرفت : ان مقتضى كون الاستصحاب حجة من باب الاخبار هو : انه لايثبت به لوازمه العقلية والعادية والعرفية .

ص: 123

فاذا علم تاريخ ملاقاة الثوب للحوض ، وجهل تاريخ صيرورته كرّا ، فيقال : الأصل بقاء قلّته ، وعدم كرّيته في زمان الملاقاة ، وإذا عُلِمَ تاريخ الكرّية حُكِمَ أيضا بأصالة عدم الملاقاة في زمان الكرّية ، وهكذا .

وربما يتوهّم جريان الأصل في طرف المعلوم بأن يقال : الأصل عدم وجوده في الزمان الواقعي للآخر .

-------------------

وعليه : ( فاذا علم تاريخ ملاقاة الثوب ) النجس ( للحوض ، وجهل تاريخ صيرورته كرّا ، فيقال : الأصل بقاء قلّته ، وعدم كرّيته في زمان الملاقاة ) فهو نجس ، وذلك لأن الكرية مشكوكة ، فيستصحب عدمها إلى زمان الملاقاة ، فيترتب على إستصحاب عدم الكرية إلى زمان الملاقاة نجاسة الماء ، وذلك بناءا على ان الملاقاة مقتض والكرية مانعة .

( و ) في عكسه : كما ( إذا عُلِمَ تاريخ الكرّية ) وجهل تاريخ الملاقاة ( حُكِمَ أيضا بأصالة عدم الملاقاة في زمان ) حدوث ( الكرّية ) فهو طاهر ، وذلك لأن الملاقاة مشكوكة فيستصحب عدمها إلى زمان الكرية ، فيترتب على إستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرية طهارة الماء ، وذلك بناءا على شرطية القلة ، فان ملاقاة النجس إنّما تكون منجسة إذا كان الماء قليلاً ، والمفروض إنا نشك في الملاقاة حال قلة الماء .

( وهكذا ) بالنسبة إلى كل حادثين علم تاريخ أحدهما ، وجهل تاريخ الآخر .

هذا ( وربما يتوهّم جريان الأصل في طرف المعلوم ) أيضا إذا كان لكل من الأصلين : المعلوم والمجهول أثر ، وذلك ( بأن يقال : الأصل عدم وجوده ) أي : وجود المعلوم تاريخه لدينا ( في الزمان الواقعي للآخر ) أي : للحادث الآخر المجهول تاريخه عندنا ، إذ لعله في الواقع حدث قبل معلوم التاريخ ، وإذا جرى

ص: 124

ويندفع بأنّ نفس وجوده غيرُ مشكوك في زمان ، وأمّا وجوده في زمان الآخر ، فليس مسبوقا بالعدم .

ثم إنّه يظهر من الأصحاب هنا قولان آخران :

أحدهما : جريان هذا الأصل في طرف مجهول التاريخ ،

-------------------

الأصل في معلوم التاريخ كما يجري في مجهول التاريخ ، تعارض الأصلان وتساقطا ، فيكون حال المعلوم تاريخ أحدهما ، حال مجهولي التاريخ .

( ويندفع ) هذا التوهم ( بأنّ نفس وجوده ) أي : وجود معلوم التاريخ بنفسه لا بالنظر إلى زمان الآخر ( غيرُ مشكوك في زمان ) حتى يستصحب عدمه ، إذ هو قبل التاريخ المعلوم معدوم يقينا ، وبعده موجود يقينا .

( وأمّا وجوده ) أي : وجود معلوم التاريخ لا بنفسه ، بل بالنظر إلى وجوده ( في زمان الآخر ، فليس مسبوقا بالعدم ) حتى يقال : ان وجود معلوم التاريخ في زمان الآخر لم يكن في السابق ، فلا يكون في الحال أيضا ، فانه لم يكن هناك زمان كان مجهول التاريخ موجودا ومعلوم التاريخ معدوما ، حتى يقال : الأصل عدم وجوده في زمان الآخر فيستصحب .

وعليه : فقد تبيّن إلى هنا : انه لو كان تاريخ أحدهما معلوما وتاريخ الآخر مجهولاً ، فانه يستصحب عدم مجهول التاريخ فقط ولا يستصحب عدم معلوم التاريخ ، فبطل قول من قال بأن كليهما يستصحبان ، كما في مجهولي التاريخ .

( ثم إنّه يظهر من الأصحاب هنا ) أي : في الفرع الثاني وهو : ما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ والآخر مجهول التاريخ ( قولان آخران : ) يدوران بين افراط ، وتفريط ، أشار المصنِّف إلى الأوّل منهما بقوله :

( أحدهما : جريان هذا الأصل ) أي : الاستصحاب ( في طرف مجهول التاريخ،

ص: 125

وإثبات تأخّره عن معلوم التاريخ بذلك ، وهو ظاهر المشهور وقد صرّح بالعمل به الشيخ وابن حمزة والمحقق والعلامة والشهيدان ، وغيرهم في بعض الموارد .

منها : مسألة إتفاق الوارثين على إسلام أحدهما في غرّة رمضان ، وإختلافهما في موت المورّث قبل الغُرّة أو بعدها ؛ فانّهم حكموا : بأنّ القول ، قول مدّعي تأخّر الموت .

نعم ، ربما يظهر من إطلاقهم التوقف في بعض المقامات

-------------------

وإثبات تأخّره عن معلوم التاريخ بذلك ) الأصل ، وهذا هو الذي قلنا بأنه إفراط ، وذلك لأن جريان أصل العدم في مجهول التاريخ يثبت - كما قلنا - عدم حدوثه إلى زمان معلوم التاريخ ، ولا يثبت تأخره عنه إلاّ على القول بالأصل المثبت ، فاثبات تأخره عنه بالأصل إفراط بنظر المصنِّف .

( و ) كيف كان : فان هذا القول ( هو ظاهر المشهور ) عن القدماء ( وقد صرّح بالعمل به الشيخ وابن حمزة والمحقق والعلامة والشهيدان ، وغيرهم في بعض الموارد ) من الفقه .

( منها : مسألة إتفاق الوارثين على إسلام أحدهما في غرّة رمضان ، وإختلافهما في موت المورّث قبل الغُرّة أو بعدها ) فانه ان كان موته قبل الغرة لم يرثه هذا الوارث لفرض انه كان كافرا حين موت مورّثه ، وان كان موته بعد الغرة ورثه هذا الوارث ( فانّهم حكموا : بأنّ القول ، قول مدّعي تأخّر الموت ) ومعنى ذلك : أن نستصحب عدم الموت إلى الغرة ، ثم يثبت به ان الموت كان متأخرا عن الغرة فنورّثه ، لتحقق موضوع الارث الذي هو موت المورّث عن وارث مسلم .

( نعم ، ربما يظهر من إطلاقهم التوقف في بعض المقامات ) التي تعرّضوا

ص: 126

من غير تفصيل : بين العلم بتاريخ أحد الحادثين ، وبين الجهل بهما - عدم العمل بالأصل في المجهول مع علم تاريخ الآخر ، كمسألة إشتباه تقدّم الطهارة أو الحدث ومسألة إشتباه الجمعتين وإشتباه موت المتوارثين ومسألة إشتباه تقدّم رجوع المرتهن عن الاذن في البيع على وقوع البيع ، أو تأخّره عنه

-------------------

لها ، من موارد توارد الحادثين ( من غير تفصيل : بين العلم بتاريخ أحد الحادثين ، وبين الجهل بهما ) ممّا يظهر منه ( عدم العمل بالأصل في المجهول ) التاريخ ( مع علم تاريخ الآخر ) فان إطلاق قولهم بالتوقف يشمل صورتي : الجهل بتاريخهما ، والجهل بتاريخ أحدهما .

أمّا تلك المقامات التي أطلقوا التوقف فيها فهو ( كمسألة إشتباه تقدّم الطهارة أو الحدث ) فيمن تطهّر من الصباح إلى الظهر مرة ، وأحدث مرة ، ولم يعلم المتقدّم منهما ، فانه إذا كانت الطهارة متقدّمة فالآن هو محدث ، وإذا كان الحدث متقدِّم فالآن هو متطهّر ؟ .

( ومسألة إشتباه الجمعتين ) المقامتين في أقل من فرسخ ، فانه إذا اُقيمتا معا بطلتا معا ، وإذا كانت إحداهما سابقة والاُخرى لاحقة بطلت اللاحقة ، والكلام فيما إذا لم يعلم إن أيتهما سابقة حتى تكون صحيحة ، وأيتهما لاحقة حتى تكون باطلة ؟ .

( وإشتباه موت المتوارثين ) كما إذا علم موت الأب والابن ، ولم يعلم ان موت الأب كان أولاً حتى يرثه الابن ، أو موت الابن كان أولاً حتى يرثه الأب ؟ .

( ومسألة إشتباه تقدّم رجوع المرتهن عن الاذن في البيع على وقوع البيع ، أو تأخّره عنه ) أي : تأخر الرجوع عن وقوع البيع ، فان المالك الذي رهن داره لزيد

ص: 127

وغير ذلك .

لكنّ الانصاف : عدم الوثوق بهذا الاطلاق بل هو إمّا محمول على صورة الجهل بتاريخهما - وأحالوا صورة العلم بتاريخ أحدهما على ما صرّحوا به في مقام آخر - أو على محاملَ اُخر .

-------------------

لا يجوز له بيع داره المرهونة ، فلو أذن له زيد في بيعها ، جاز للمالك بيعها ، فإذا رجع زيد عن إذنه وقد باعها المالك ، فانه قد يحصل لهما الشك في ان البيع تقدّم على الرجوع حتى يكون البيع صحيحا ، أو الرجوع تقدّم على البيع حتى يكون البيع باطلاً ؟ .

( وغير ذلك ) من موارد توارد الحادثين الذي لا يعلم هل ان هذا كان متقدّما أو ذاك ؟ ولم يفصّلوا بين الجهل بتاريخهما ، والجهل بتاريخ أحدهما ، بل أطلقوا قولهم بالتوقف فيها .

( لكنّ الانصاف : عدم الوثوق بهذا الاطلاق ) الذي ذكرناه قبل أسطر عند قولنا : « نعم ، ربما يظهر من إطلاقهم التوقف » ( بل هو ) أي : هذا الاطلاق ( إمّا محمول على صورة الجهل بتاريخهما ) أي : بتاريخ الحادثين معا ( وأحالوا صورة العلم بتاريخ أحدهما ) دون الآخر ( على ما صرّحوا به في مقام آخر ) مثل مقام إسلام الوارث في غرة شهر رمضان والشك في موت المورّث قبل الغرة أو بعدها ، حيث أجروا أصل العدم في مجهول التاريخ ، وأثبتوا به تأخره عن معلومه .

( أو على محاملَ اُخر ) غيرها ، كالاضطراب - مثلاً - فان كلماتهم بالنسبة إلى الحادثين مضطربة كاضطراب كلماتهم بالنسبة إلى أصل العمل بالاُصول المثبتة ، وذلك على ما سيأتي التصريح به من المصنِّف إن شاء اللّه تعالى .

ص: 128

وكيف كان : فحكمهم في مسألة الاختلاف في تقدّم الموت على الاسلام وتأخره مع إطلاقهم في تلك الموارد من قبيل النصّ والظاهر ، مع أنّ جماعة منهم نصّوا على تقييد هذا الاطلاق في موارد ، كالشهيدين في الدروس والمسالك في مسألة : الاختلاف في تقدّم الرجوع عن الاذن في بيع الرهن على بيعه وتأخّره ، والعلامة الطباطبائي في مسألة : إشتباه السابق من الحدث والطهارة .

-------------------

( وكيف كان : فحكمهم ) بتأخر مجهول التاريخ عن المعلوم ، باجراء الاستصحاب الذي هو أصل مثبت ( في مسألة الاختلاف في تقدّم الموت على الاسلام وتأخره ) عنه الذي هو إجراء الاستصحاب في صورة الجهل بتاريخ أحدهما فقط ( مع إطلاقهم ) التوقف ( في تلك الموارد ) المذكورة من توارد الحادثين بلا تفصيل بين صورتي : الجهل بتاريخهما معا ، والجهل بتاريخ أحدهما ( من قبيل النص والظاهر ) ، وإنّما هو من قبيل النص والظاهر : لأن حكمهم بتأخر مجهول التاريخ في صورة الجهل بتاريخ أحدهما نص في التفصيل بين الصورتين ، بينما إطلاقهم التوقف الشامل للصورتين ظاهر في عدم التفصيل بين الصورتين ، ومن المعلوم : ان النص مقدّم على الظاهر .

هذا ( مع أنّ جماعة منهم نصّوا على تقييد هذا الاطلاق ) بصورة الجهل بتاريخهما معا ، وذلك ( في موارد ) من المسائل الفقهية التي توارد الحادثين فيها ، واُولئك الجماعة هم ( كالشهيدين في الدروس والمسالك في مسألة : الاختلاف في تقدّم الرجوع عن الاذن في بيع الرهن على بيعه ، وتأخّره ) عنه .

( والعلامة الطباطبائي ) بحر العلوم قدس سره ( في مسألة : إشتباه السابق من الحدث والطهارة ) فيما لو تواردا معا ، وإلى غير ذلك .

ص: 129

هذا ، مع أنّه لا يخفى على متتبع موارد هذه المسائل وشبهها ، ممّا يرجع في حكمها إلى الاُصول أنّ غفلة بعضهم ، بل أكثرهم ، عن مجاري الاُصول في بعض شقوق المسألة غير عزيزة .

الثاني : عدم العمل بالأصل وإلحاق صورة جهل تاريخ أحدهما بصورة جهل تاريخهما .

-------------------

( هذا ) هو الجمع الذي ذكرناه بين قوليهما ( مع أنّه لا يخفى على متتبع موارد هذه المسائل وشبهها ، ممّا يرجع في حكمها إلى الاُصول ) لا إلى الأخبار ، فانه يرى ( أنّ غفلة بعضهم ، بل أكثرهم ، عن مجاري الاُصول في بعض شقوق المسألة غير عزيزة ) فانهم حين أطلقوا القول بالتوقف في توارد الحادثين غفلوا عن شقوق المسألة وصورها ، لا إنهم كانوا ملتفتين ومع ذلك أطلقوا حتى يشمل الصورتين .

ولا يخفى : ان هذا الكلام من المصنِّف هو ما أشار إليه قبل أسطر بقوله : « أو على محامل اُخر » .

هذا تمام الكلام في القول الأوّل من القولين الآخرين في فرع المجهول تاريخ أحدهما ، وكان هو القول الافراطي ، واما القول التفريطي منهما فهو ما أشار إليه المصنِّف بقوله :

( الثاني : عدم العمل بالأصل ) لا في المعلوم ، ولا في المجهول حتى وان لم يترتب الأثر على تأخر المجهول ، بل على نفس عدم حدوث المجهول ( و ) ذلك يعني : ( إلحاق صورة جهل تاريخ أحدهما بصورة جهل تاريخهما ) في التوقف عن العمل بالأصل ، فكما ان في صورة جهل تاريخهما لا يعمل بأحدهما ، كذلك لا يعمل بأحدهما في صورة جهل تاريخ أحدهما .

ص: 130

وقد صرّح به بعض المعاصرين ، تبعا لبعض الأساطين ، مستشهدا على ذلك بعدم تفصيل الجماعة في مسألة الجمعتين ، والطهارة والحدث ، وموت المتوارثين مستدلاً على ذلك بأنّ التأخّر ليس أمرا مطابقا للأصل .

وظاهر إستدلاله : إرادة ما ذكرنا : من عدم ترتيب أحكام صفة التأخّر ، وكون المجهول متحقّقا بعد المعلوم .

-------------------

( وقد صرّح به بعض المعاصرين ) وهو صاحب الجواهر ( تبعا لبعض الأساطين ) وهو صاحب مفتاح الكرامة ، فانهما قالا بعدم الفرق بين الصورتين في لزوم التوقف والرجوع إلى قاعدة اُخرى وذلك لما يلي :

أولاً : ( مستشهدا ) أي : بعض الأساطين وهو صاحب مفتاح الكرامة ( على ذلك ) أي : على عدم العمل بالأصل في صورة الجهل بتاريخ أحدهما : ( بعدم تفصيل الجماعة في مسألة الجمعتين ، والطهارة والحدث ، وموت المتوارثين ) بين صورتي : المجهول تاريخهما ، والمجهول تاريخ أحدهما ، وذلك على ما تقدّم في بيان هذه الأمثلة .

ثانيا : ( مستدلاً على ذلك ) أي : على عدم العمل بالأصل ، في صورة الجهل بتاريخ أحدهما :

( بأنّ التأخّر ليس أمرا مطابقا للأصل (1) ) ولذا لا يجري الأصل حتى يثبت التأخّر، إنتهى إستدلال صاحب مفتاح الكرامة وإستشهاده ، فأشكل المصنِّف عليهما بقوله : ( وظاهر إستدلاله : إرادة ما ذكرنا : من عدم ترتيب أحكام صفة التأخّر ، و ) صفة ( كون المجهول متحقّقا بعد المعلوم ) فان هذه الصفة لا تتحقق إلاّ على القول بالأصل المثبت .

ص: 131


1- - راجع جواهر الكلام : ج2 ص347 .

لكنّ ظاهر إستشهاده بعدم تفصيل الأصحاب في المسائل المذكورة : إرادة عدم ثمرة مترتّبة على العلم بتاريخ أحدهما أصلاً .

فإذا فرضنا العلم بموت زيد في يوم الجمعة ، وشككنا في حياة ولده في ذلك الزمان ، فالأصل بقاء حياة ولده ،

-------------------

( لكنّ ظاهر إستشهاده بعدم تفصيل الأصحاب في المسائل المذكورة : إرادة عدم ثمرة مترتّبة على العلم بتاريخ أحدهما أصلاً ) حتى في مجرى الاستصحاب، ومعلوم : انه إذا لم يكن له ثمرة ، تعارض الأصلان وتساقطا .

والحاصل : ان إستدلال صاحب مفتاح الكرامة مغاير لاستشهاده ، وذلك لأن إستدلاله يقول : ان أصالة عدم حدوث مجهول التاريخ في زمان معلوم التاريخ ، لا يثبت التأخر ، وهذا هو نفس ما ذكره المصنِّف : من ان أصل عدم الحدوث إنّما يجري لترتيب أثر العدم ، لا لاثبات التأخر ، فالعلم بتاريخ أحدهما ينفع شيئا ويثمر .

بينما إستشهاد صاحب مفتاح الكرامة يقول : انه لا فرق بين صورتي : الجهل بتاريخهما وتاريخ أحدهما في التوقف عن العمل بالأصل ، فالعلم بتاريخ أحدهما لا ينفع شيئا ولا يثمر ، لأنه مثل : الجهل بتاريخهما في كون الاستصحابين على تقدير جريانهما يتعارضان ويتساقطان ، فاللازم الرجوع إلى قاعدة اُخرى ، أو أصل آخر .

وعليه : ( فإذا فرضنا العلم بموت زيد في يوم الجمعة ، وشككنا في حياة ولده في ذلك الزمان ) بان لم نعلم هل انه حي إلى الجمعة حتى يرث منه ، أو ميّت حتى لا يرث منه ؟ ( فالأصل بقاء حياة ولده ) أي : ولد زيد وعدم حدوث موته

ص: 132

فيحكم له بارث أبيه ، وظاهر هذا القائل عدم الحكم بذلك وكون حكمه حكم الجهل بتاريخ موت زيد أيضا في عدم التوارث بينهما .

وكيف كان : فان أراد هذا القائل ترتيب آثار تأخر ذلك الحادث ، كما هو ظاهر المشهور فانكاره في محلّه ؛ وإن أراد : عدم جواز التمسك باستصحاب عدم ذلك الحادث ، ووجود ضدّه وترتيب جميع آثاره

-------------------

إلى زمان موت زيد الأب ( فيحكم له ) أي : للولد ( بارث أبيه ، و ) هذا الحكم على ما إختاره المصنِّف .

بينما ( ظاهر هذا القائل ) وهو صاحب مفتاح الكرامة المنكر لجريان الأصل في مجهول التاريخ هو : ( عدم الحكم بذلك ) أي : بارث الولد من والده ( وكون حكمه ) أي : حكم العلم بموت زيد في يوم الجمعة ( حكم الجهل بتاريخ موت زيد أيضا في ) عدم جريان الاستصحاب فيه ، ممّا ينتج ( عدم التوارث بينهما ) لأن الاستصحاب إذا لم يجر بالنسبة إلى بقاء أحدهما لا يرث أحدهما من الآخر .

( وكيف كان : فان أراد هذا القائل ) أي : صاحب مفتاح الكرامة من إنكار جريان الأصل في مجهول التاريخ : ( ترتيب آثار تأخر ذلك الحادث ، كما ) ان ترتيب آثار التأخر ( هو ظاهر المشهور ) من القدماء الذين - على ما عرفت - يرتبون أثر التأخر لا أثر نفس المستصحب وهو عدم الحدوث ( فانكاره في محلّه ) لما عرفت من ان الأصل مثبت حينئذ .

( وإن أراد : عدم جواز التمسك باستصحاب عدم ذلك الحادث ، ووجود ضدّه ) أي : بأن لا يجوز إستصحاب عدم موت الولد ولا إستصحاب حياته في المثال ( و ) لا ( ترتيب جميع آثاره ) أي : آثار إستصحاب عدم موته ،

ص: 133

الشرعيّة في زمان الشك ، فلا وجه لانكاره ، إذ لا يعقل الفرق بين مستصحبٍ علم بارتفاعه في زمان ، وما لم يعلم .

وأمّا ما ذكره من عدم تفصيل الأصحاب في مسألة الجمعتين وأخواتها فقد عرفت ما فيه .

فالحاصل : أنّ المعتبر في مورد الشك في تأخّر حادث عن آخر إستصحاب عدم الحادث في زمان حدوث الآخر .

-------------------

وما لاستصحاب حياته من الآثار ( الشرعيّة في زمان الشك ، فلا وجه لانكاره ) بل اللازم القول بجريان إستصحابه وترتيب آثاره الشرعية عليه .

وإنّما لا وجه لانكاره ( إذ لا يعقل الفرق بين مستصحبٍ علم بارتفاعه في زمان، وما لم يعلم ) بارتفاعه ، فكما انه لو شك في أصل موت زيد يستصحب حياته ، كذلك لو شك في حياته إلى زمن موت أبيه ، لأن المفروض : ان موت الأب معلوم وحياة ولده وموته مجهول ، فاللازم القول باستصحاب حياة الولد إلى زمان موت أبيه .

( وأمّا ما ذكره ) صاحب مفتاح الكرامة : ( من عدم تفصيل الأصحاب في مسألة الجمعتين وأخواتها ) من بقية مسائل توارد الحادثين ، حيث انهم لم يفصّلوا بين صورتي : الجهل بتاريخهما ، والجهل بتاريخ أحدهما ( فقد عرفت ما فيه ) من الحمل على صورة الجهل بتاريخهما ، أو غيره من المحامل .

وعلى هذا : ( فالحاصل : أنّ المعتبر في مورد الشك في تأخّر حادث عن ) حادث ( آخر ) هو ( إستصحاب عدم الحادث في زمان حدوث الآخر ) في ما كان للاستصحاب أثر .

ص: 134

فان كان زمانُ حدوثه معلوما ، فيجري أحكام بقاء المستصحب في زمان الحادث المعلوم لا غيرها فإذا علم بتطهّره في الساعة الاُولى من النهار ، وشك في تحقّق الحدث قبل تلك الساعة أو بعدها ، فالأصل عدم الحدث فيما قبل الساعة .

لكن لا يلزم من ذلك إرتفاع الطهارة المتحققة في الساعة الاُولى ، كما تخيّله بعض الفحول ، وإن كان مجهولاً كان حكمه حكم أحد الحادثين المعلوم حدوث أحدهما إجمالاً ،

-------------------

وعليه : ( فان كان زمانُ حدوثه ) أي : حدوث الآخر ( معلوما ، فيجري أحكام بقاء المستصحب ) الذي هو في المثال حياة الولد ( في زمان الحادث المعلوم ) وهو موت الأب ( لا غيرها ) من الأحكام فلا يترتب عليه أحكام التأخّر ( فإذا علم بتطهّره في الساعة الاُولى من النهار ، وشك في تحقّق الحدث قبل تلك الساعة أو بعدها ) فلم يعلم بأن الحدث قد إتفق له قبل التطهر أو بعده ؟ ( فالأصل عدم الحدث فيما قبل الساعة ) الاُولى .

وإنّما الأصل عدم الحدث قبلها لأن الحدث أمر حادث ، ولا نعلم بحدوثه قبل الساعة الاُولى ، فنستصحب عدمه ( لكن لا ) يترتب على إستصحاب عدم الحدث تأخّر الحدث عن التطهّر الذي هو عنوان وجودي ممّا يستلزم أن يكون في الحال الحاضر محدثا ، لأنه مثبت ، وإذا كان مثبتا فلا ( يلزم من ذلك إرتفاع الطهارة المتحققة في الساعة الاُولى ، كما تخيّله بعض الفحول ) وهو السيد بحر العلوم .

( وإن كان ) زمان حدوث الآخر ( مجهولاً ) أيضا يعني : بان كانا معا مجهولي التاريخ ، لا أن يكون أحدهما معلوم التاريخ ( كان حكمه حكم أحد الحادثين المعلوم حدوث أحدهما إجمالاً ) أي : بأن يعلم ان بين الحادثين حادثا متأخرا

ص: 135

وسيجيء توضيحه .

واعلم : أنّه قد يوجد شيء في زمان ويشك في مبدئه ، ويحكم بتقدّمه ، لأنّ تأخّره لازمٌ لحدوث حادث آخر قبله والأصل عدمه وقد يسمّى ذلك بالاستصحاب القهقري .

مثاله : أنّه إذا ثبت أنّ صيغة الأمر حقيقة في الوجوب في عرفنا ، وشك

-------------------

عن الآخر ولكن لا يعلم شخصه ، وحينئذ يتعارض الأصلان : أصل عدم تقدّم هذا ، وأصل عدم تقدّم ذاك ويتساقطان ( وسيجيء توضيحه ) في بحث تعارض الاستصحابين إن شاء اللّه تعالى .

هذا ( واعلم ) بأن المصنِّف قد خرج هنا من الاُصول العملية ودخل في الاُصول اللفظية مثل : أصل عدم النقل وما أشبه ، علما بأن الأصل فيها حجة وان كان مثبتا ، فقال : ( أنّه قد يوجد شيء في زمان ) لاحق مثل : كون الأمر حقيقة في الوجوب في عرف زماننا ( ويشك في مبدئه ) أي : مبدء وجود ذلك الشيء ( ويحكم بتقدّمه ) أي : تقدّم ذلك الشيء بأن يحكم مثلاً عند الشك في كون الأمر كان حقيقة في الوجوب من أول الأمر ، أو انه نقل إلى الوجوب في عرفنا : بانه كان حقيقة في الوجوب من أول الأمر وقبل زماننا هذا .

وإنّما يحكم بتقدّمه ( لأنّ تأخّره لازمٌ لحدوث حادث آخر قبله ) وهو في مثالنا : النقل ، وتعدد الوضع ( والأصل عدمه ) أي : عدم حدوث ذلك الحادث الآخر من النقل وغيره قبله ( وقد يسمّى ذلك ) أي : الحكم بتقدم الشيء تسمية مجازية : ( بالاستصحاب القهقريّ ) والياء في القهقريّ مشدّدة لأنها ياء النسبة .

( مثاله : أنّه إذا ثبت أنّ صيغة الأمر حقيقة في الوجوب في عرفنا ، وشك

ص: 136

في كونها كذلك قبل ذلك حتى يحمل خطابات الشارع على ذلك ، فيقال : مقتضى الأصل : كون الصيغة حقيقة في ذلك الزمان بل قبله ، إذ لو كان في ذلك الزمان حقيقة في غيره لزم النقل ، وتعدّد الوضع ، والأصل عدمه .

وهذا إنّما يصح بناءا على الأصل المثبت ، وقد إستظهرنا سابقا أنّه متّفقٌ عليه في الاُصول اللفظية ،

-------------------

في كونها ) أي : كون صيغة الأمر كانت ( كذلك ) حقيقة في الوجوب ( قبل ذلك ) أي : في زمان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم والأئمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين ( حتى يحمل خطابات الشارع على ذلك ) أي : على الوجوب ( فيقال : مقتضى الأصل : كون الصيغة حقيقة في ذلك الزمان ) أي : زمان الشارع ( بل قبله ) أي : في زمان الجاهلية أيضا ( إذ لو كان في ذلك الزمان حقيقة في غيره ) أي : في غير الوجوب ( لزم النقل ، وتعدّد الوضع ، والأصل عدمه ) أي : عدم كل واحد من النقل ، وتعدّد الوضع .

( وهذا إنّما يصح بناءا على الأصل المثبت ) وذلك لأن أصالة عدم حدوث النقل ، أو أصالة عدم تعدّد الوضع ، مستلزم عقلاً لأن يكون هذا المعنى العرفي لصيغة الأمر الثابت في زماننا على ما في المثال هو الموضوع له أوّلاً .

( وقد إستظهرنا سابقا ) أي : عند دعوانا الاتفاق على إعتبار الاستصحاب في العدميات وحجيته فيها ( أنّه متّفقٌ عليه في الاُصول اللفظية ) فان الاُصول اللفظية لازمها وملزومها وملازمها كلها حجة ، لأنها مبنية على بناء العقلاء والظن النوعي ، ومن المعلوم : ان مثبتات أمثال هذه الاُصول اللفظية ليست بمثل مثبتات الاستصحاب في الاُصول العملية .

هذا كان هو الكلام في المثال الذي مثّله للاُصول اللفظية ، واما الكلام في مورد

ص: 137

ومورده : صورة الشك في وحدة المعنى وتعدّده .

أمّا إذا علم التعدّد ، وشك في مبدء حدوث الوضع المعلوم في زماننا فمقتضى الأصل : عدم ثبوته قبل الزمان المعلوم .

ولذا إتفقوا في مسألة الحقيقة الشرعية على أنّ الأصل فيها : عدم الثبوت .

-------------------

ذلك ، فكما قال : ( ومورده : صورة الشك في وحدة المعنى وتعدّده ) كالذي مرّ في الأمر ، فانه لو كان في الزمانين متّحد المعنى كان معناه : الوجوب في زماننا وفي السابق أيضا ، ولو كان متعدّد المعنى كان معناه : الوجوب في زماننا وفي السابق غير الوجوب كالاستحباب مثلاً .

و ( أمّا إذا علم التعدّد ، وشك في مبدء حدوث الوضع المعلوم في زماننا ) كما إذا علمنا بأن معنى الزكاة في اللغة : مطلق النمو ، وفي عرفنا : القدر المخصوص من المال ، وشككنا ان لفظ الزكاة هل نقل إلى المعنى الجديد في زمان الشارع حتى يكون المراد من قوله : «زكّ» : القدر المخصوص ، أو بعد زمان الشارع حتى يكون المراد من قوله : «زك» ، دفع شيء من المال فقط بدون الخصوصيات الزكوية ، فانه إذا شك في ذلك ( فمقتضى الأصل : عدم ثبوته قبل الزمان المعلوم ) عندنا .

مثلاً : إذا علمنا بالنقل في زمان الصادقين عليهماالسلام ولم نعلم به قبل ذلك ، لزم أن نحمل كلام الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وأمير المؤمنين عليه السلام على إرادة المعنى اللغوي من الزكاة مثلاً ( ولذا إتفقوا في مسألة الحقيقة الشرعية على أنّ الأصل فيها : عدم الثبوت ) وذلك لأن الحقيقة الشرعية أمر حادث ، فاذا شك فيها فالأصل عدمها ، فتؤخذ الألفاظ بمعانيها اللغوية .

ص: 138

الأمر الثامن :

قد يستصحب صحّة العبادة عند الشك في طروّ مفسد ، كفقد ما يشك في إعتبار وجوده في العبادة أو وجود ما يشك في إعتبار عدمه .

وقد إشتهر التمسك بها بين الأصحاب : كالشيخ ، والحلّي ، والمحقّق ، والعلامة ، وغيرهم .

وتحقيقه وتوضيح مورد جريانه أنّه لا شك ولا ريب في أنّ المراد بالصحة المستصحبة : ليس صحة

-------------------

( الأمر الثامن ) في انه هل يصح إستصحاب الصحة كما ذكره جماعة أو لا يصح ؟ فانه ( قد يستصحب صحّة العبادة عند الشك ) في أثناء العبادة ( في طروّ مفسد ) في أثنائها ، والشك في طروّ المفسد في العبادة يكون بأحد وجهين : إمّا بالشك فقد ما يشترط وجوده ، وإمّا بالشك في وجود ما يشترط عدمه .

أمّا الأوّل : فهو ما أشار إليه بقوله : ( كفقد ما يشك في إعتبار وجوده في العبادة ) بأن يشك هل إنحرف عن القبلة - مثلاً - أثناء الصلاة أم لا ؟ أو يشك بانه هل وقع ستره أثناء الصلاة - مثلاً - أم لا ؟ أو ما أشبه ذلك .

وأمّا الثاني : فهو كما قال : ( أو وجود ما يشك في إعتبار عدمه ) كما إذا شك في انه هل وقع على جسمه أو ثوبه نجاسة ، أو لم يقع على شيء منهما نجاسة ؟ .

هذا ( وقد إشتهر التمسك بها ) أي : بالصحة المستصحبة فيما ( بين الأصحاب : كالشيخ ، والحلي ، والمحقق ، والعلامة ، وغيرهم ) من المتقدمين والمتأخرين من الفقهاء .

( و ) اما ( تحقيقه وتوضيح مورد جريانه ) أي : جريان إستصحاب الصحة فهو كما قال : ( أنّه لا شك ولا ريب في أنّ المراد بالصحة المستصحبة : ليس صحة

ص: 139

مجموع العمل ، لأنّ الفرض : التمسّك به عند الشك في الأثناء .

وأمّا صحة الأجزاء السابقة فالمراد بها إمّا موافقتها للأمر المتعلّق بها وإمّا ترتيب الأثر عليها .

أمّا موافقتها للأمر المتعلّق بها ، فالمفروض أنّها متيقّنة ، سواء فسد العمل أم لا ، لأنّ فساد العمل لا يوجب خروج الأجزاء المأتيّ بها على طبق الأمر المتعلّق بها عن كونها كذلك ، ضرورة عدم إنقلاب الشيء

-------------------

مجموع العمل ، لأنّ الفرض : التمسّك به ) أي : بهذا الاستصحاب ( عند الشك في الأثناء ) أي : في أثناء العمل وحينئذ فان مجموع العمل لم يتحقق بعد حتى يقال : بانه صحيح أو ليس بصحيح .

( وأمّا صحة الأجزاء السابقة ) على طروّ ما يشك في انه مفسد أو غير مفسد ( فالمراد بها ) أي : بصحة الأجزاء السابقة أحد معنيين : ( إمّا موافقتها للأمر المتعلّق بها ) أي : بتلك الأجزاء ( وإمّا ترتيب الأثر عليها ) أي : صلاحيتها لالتحاق الأجزاء الآتية بها .

( أمّا موافقتها للأمر المتعلّق بها ، فالمفروض أنّها متيقّنة ) لا مشكوكة ، لفرض انه أتى بالأجزاء السابقة على النحو المأمور به ، فهي موافقة للأمر ( سواء فسد العمل ) بعد تلك الاجزاء بسبب طروّ المفسد عليه ( أم لا ) بان لم يفسد .

وكيف كان : فالأجزاء السابقة مطابقة للأمر قطعا ( لأنّ فساد العمل لا يوجب خروج ) ما سبق من ( الأجزاء المأتيّ بها على طبق الأمر ) أي : الأمر الشرعي ( المتعلّق بها ) أي : بتلك الاجزاء ، فان طروّ الفساد لا يخرجها ( عن كونها كذلك ) أي : عن كون الأجزاء السابقة مطابقة للأمر ، وذلك ( ضرورة عدم إنقلاب الشيء

ص: 140

عمّا وجد عليه .

وأمّا ترتيب الأثر ، فليس الثابت منه للجزء من حيث أنّه جزء ، إلاّ كونه : بحيث لو ضُمّ إليه الأجزاء الباقية مع الشرائط المعتبرة لالتأم الكلّ في مقابل الجزء الفاسد ، وهو الذي لا يلزم من ضمّ باقي الأجزاء والشرائط إليه وجود الكلّ .

-------------------

عمّا وجد عليه ) فان الجزء الصحيح لا ينقلب عن الصحة إلى الفساد ، كما ان الجزء الفاسد إذا وقع فاسدا لا ينقلب إلى الجزء الصحيح .

( وأمّا ترتيب الأثر ) على الأجزاء السابقة بمعنى : انه لو إلتحق بها باقي الأجزاء لاكتمل المجموع المركب ، فهذا المعنى كالمعنى الأوّل متيقن وجوده في الأجزاء السابقة أيضا ، إلتحقت بها الأجزاء الباقية أم لم تلتحق .

وعليه : ( فليس الثابت منه ) أي : من الأثر ( للجزء من حيث أنّه جزء ، إلاّ كونه : بحيث لو ضُمّ إليه الأجزاء الباقية مع الشرائط المعتبرة لالتأم الكلّ ) واجتمع المركب .

مثلاً : الفاتحة الصحيحة القرائة ، ذات الأثر هي عبارة : عن الفاتحة التي لو إنضمّ إليها سائر أجزاء الصلاة مع الشرائط ومن دون الموانع ، لكانت الصلاة كاملة ، ويقابلها الفاسدة التي لا يترتب عليها هذا الأثر فتكون عديمة الأثر .

إذن : فالجزء الصحيح ذو الأثر يطلق ( في مقابل الجزء الفاسد ) العديم الأثر ( وهو الذي لا يلزم من ضمّ باقي الأجزاء والشرائط إليه ) مع فقد الموانع ( وجود الكلّ ) وإجتماع المركب لأن الصلاة إذا كانت فاتحتها فاسدة القرائة عن علم وعمد ، لم تكن صلاة حتى وان كانت مشتملة على سائر الأجزاء والشرائط ، وفاقدة لسائر الموانع والقواطع .

ص: 141

ومن المعلوم : أنّ هذا الأثر موجود في الجزء دائما ، سواء قطع بضمّ الأجزاء الباقية أم قطع بعدمه ، أم شك في ذلك .

فإذا شك في حصول الفساد من غير جهة تلك الأجزاء فالقطع ببقاء صحة تلك الأجزاء لا ينفع في تحقّق الكلّ ، مع وصف هذا الشك فضلاً عن إستصحاب الصحة .

مع ما عرفت : من أنّه ليس الشك في بقاء صحة تلك الأجزاء بأيّ معنى إعتبر من معاني الصحة .

-------------------

( ومن المعلوم : أنّ هذا الأثر موجود في الجزء ) السابق ( دائما ، سواء قطع بضمّ الأجزاء الباقية ) إليه الموجب للقطع بصحة العمل ( أم قطع بعدمه ) أي : بعدم ضمّ الأجزاء الباقية إليه الموجب للقطع ببطلان العمل ( أم شك في ذلك ) بانه هل إنضمت إليه الأجزاء الباقية أم لا ؟ وهذا هو المفروض في كلامنا حيث يشك في صحة العمل وعدم صحته ؟ .

وعليه : ( فإذا شك في حصول الفساد من غير جهة تلك الأجزاء ) بان كان الشك من جهة طروّ ما يشك في إفساده ، كما مثّلنا له من الشك في انه هل وقعت عليه نجاسة ؟ أو إنحرف عن القبلة - مثلاً - أم لا ؟ ( فالقطع ببقاء صحة تلك الأجزاء ) السابقة ( لا ينفع في تحقّق الكلّ ، مع وصف هذا الشك ) الذي عرض له، مثل : انه هل سقطت عليه نجاسة أو إنحرف عن القبلة ؟ ( فضلاً عن إستصحاب الصحة ) فانه إذا لم ينفع لتحقق الكل ، القطع بالصحة ، فكيف ينفعه إستصحاب هذه الصحة ؟ .

هذا ( مع ما عرفت : من أنّه ليس الشك في بقاء صحة تلك الأجزاء بأيّ معنى إعتبر من معاني الصحة ) فان صحة الاجزاء السابقة قطعية ، سواء كانت الصحة

ص: 142

ومن هنا ردّ هذا الاستصحاب جماعةٌ من المعاصرين ممّن يرى حجّية الاستصحاب مطلقا .

لكنّ التحقيق : التفصيل بين موارد التمسك بيانه : أنّه قد يكون الشك في الفساد من جهة إحتمال فقْد أمر معتبر أو وجود أمر مانع . وهذا هو الذي لا يعتنى في نفيه باستصحاب الصحة ،

-------------------

بمعنى : موافقة تلك الأجزاء للأمر ، أم بمعنى : ترتب الأثر عليها ، فالشك في الصحة والبطلان لم ينتج منها وإنّما نتج من طروّ ما يشك إفساده في الأثناء .

( ومن هنا ) أي : وممّا ذكرنا : من انه لا تلازم بين صحة الأجزاء السابقة ، وصحة العمل ، لامكان صحة الأجزاء السابقة مع بطلان العمل ، وذلك لعدم التحاق الأجزاء الباقية بالأجزاء السابقة - مثلاً - ( ردّ هذا الاستصحاب ) أي : إستصحاب الصحة ( جماعةٌ من المعاصرين ممّن يرى حجّية الاستصحاب مطلقا ) سواء كان الشك في المقتضي أم في المانع ، أو كان الاستصحاب مثبتا أم غير مثبت .

( لكنّ التحقيق : التفصيل بين موارد التمسك ) باستصحاب الصحة ، ففي بعض الموارد يصح التمسك باستصحاب الصحة ، وفي بعض الموارد لا يصح التمسك بها .

( بيانه : أنّه قد يكون الشك في الفساد من جهة إحتمال فقْد أمر معتبر ) في العبادة كترك جزء أو شرط ( أو ) من جهة إحتمال ( وجود أمر مانع ) عنها كزيادة جزء عمدا أو ركن ولو سهوا ( وهذا هو الذي لا يعتنى في نفيه باستصحاب الصحة ) فان إستصحاب الصحة لا مجال له في هذين الموردين .

ص: 143

لما عرفت : من أنّ فقد بعض ما يعتبر من الاُمور اللاحقة لا يقدح في صحة الأجزاء السابقة ؛ وقد يكون من جهة عروض ما ينقطع معه الهيئة الاتصاليّة المعتبرة في الصلاة .

فاذا إستكشفنا من تعبير الشارع عن بعض ما يعتبر عدمه في الصلاة بالقواطع أنّ للصلاة هيئة إتصاليّة ينافيها توسّط بعض الأشياء في خلال أجزائها ، الموجب لخروج الأجزاء اللاحقة عن قابلية الانضمام

-------------------

وإنّما لا يعتنى باستصحاب الصحة هنا في نفيه ( لما عرفت : من أنّ فقد بعض ما يعتبر من الاُمور اللاحقة ) الموجبة لبطلان العمل ( لا يقدح في صحة الأجزاء السابقة ) فان الاُمور الاعتبارية كالاُمور التكوينية يشتركان في انه : إذا لم يصح المجموع ، فليس معناه : عدم صحة الأجزاء السابقة فإذا بنى جدران الغرفة مثلاً بناءا صحيحا ، وبنى السقف بناءا غير صحيح ، فالغرفة غير صحيحة ، لكن ليس بمعنى عدم صحة بناء الجدران .

هذا ( وقد يكون ) الشك في الفساد ( من جهة عروض ما ينقطع معه الهيئة الاتصاليّة المعتبرة في الصلاة ) كما إذا بكى أو ضحك قليلاً ممّا شك في ان ذلك قاطع للهيئة الاتصالية ، أو ليس بقاطع لها ؟ .

وإنّما يشك في قطعه للهيئة الاتصالية لأنه كما قال : ( فاذا إستكشفنا من تعبير الشارع عن بعض ما يعتبر عدمه في الصلاة ) مثل الضحك والبكاء ( بالقواطع ) فانا فهمنا من هذا التعبير : ( أنّ للصلاة هيئة إتصالية ينافيها ) أي : ينافي تلك الهيئة الاتصالية ( توسّط بعض الأشياء في ) أثناء الصلاة ، أي : ( خلال أجزائها ، الموجب ) ذلك التوسط ( لخروج الأجزاء اللاحقة عن قابلية الانضمام )

ص: 144

والأجزاء السابقة عن قابلية الانضمام إليها ، فإذا شك في شيء من ذلك وجودا أو صفة ، جرى إستصحاب صحة الأجزاء بمعنى : بقائها على القابلية المذكورة : فيتفرّع على ذلك عدم وجوب إستينافها أو إستصحاب الاتصال الملحوظ بين الأجزاء السابقة ، وما يلحقها من الأجزاء الباقية فيتفرّع عليه بقاء الأمر بالاتمام .

وهذا الكلام وإن كان قابلاً للنقض والابرام ، إلاّ أنّ الأظهر بحسب المسامحة العرفية في كثير

-------------------

إلى الأجزاء السابقة ( والأجزاء السابقة عن قابلية الانضمام إليها ) أي : إلى الأجزاء اللاحقة ، فان هذا التوسط يوجب إنقطاع الهيئة الاتصالية بحيث لا يدع الأجزاء السابقة ، والأجزاء اللاحقة تصلح للاتصال وبذلك تبطل الصلاة .

وعليه : ( فإذا شك في شيء من ذلك ) القاطع ( وجودا ) بانه هل وجد الضحك - مثلاً - أم لا ؟ ( أو صفة ) بأن وجد الضحك لكن لم يعلم هل انه قاطع أو ليس بقاطع ؟ ( جرى إستصحاب صحة الأجزاء ) السابقة ( بمعنى : بقائها على القابلية المذكورة ) وهي : إتصال الأجزاء اللاحقة بها ( فيتفرّع على ذلك ) أي : على هذا الاستصحاب : ( عدم وجوب إستينافها ) أي : إستيناف الصلاة .

( أو ) جرى ( إستصحاب الاتصال الملحوظ بين الأجزاء السابقة ، وما يلحقها من الأجزاء الباقية ) للصلاة ( فيتفرّع عليه ) أي : على هذا الاستصحاب : ( بقاء الأمر ) من الشارع ( بالاتمام ) فيتم الصلاة من دون حاجة إلى الاعادة .

( وهذا الكلام وإن كان قابلاً للنقض والابرام ) بأن يقال : هذا الاستصحاب مثبت ، إذ يترتب عليه لازم عقلي وهو : حصول الكل بعد إنضمام الأجزاء الباقية إلى الأجزاء السابقة ( إلاّ أنّ الأظهر بحسب المسامحة العرفية في كثير

ص: 145

من الاستصحابات جريان الاستصحاب في المقام .

وربّما يتمسك في مطلق الشك في الفساد باستصحاب حرمة القطع ووجوب المضيّ .

وفيه : أنّ الموضوع في هذا المستصحب هو الفعل الصحيح لا محالة ، والمفروض الشك في الصحة .

-------------------

من الاستصحابات ) على ما عرفت سابقا من ان الميزان هو العرف : ( جريان الاستصحاب في المقام ) لأن الواسطة خفية فيراه العرف بانه أثر نفس المستصحب ، وقد تقدّم : ان الواسطة لو كانت بنظر العرف خفية جرى فيها الاستصحاب .

هذا تمام الكلام في إستصحاب الصحة وهناك إستصحاب آخر أشار إليه المصنِّف بقوله : ( وربّما يتمسك في مطلق الشك في الفساد ) سواء كان الشك في المانع أم في القاطع ، وجودا أم صفة ؟ ( باستصحاب حرمة القطع ووجوب المضيّ ) في العبادة ، فانه قبل عروض إحتمال الفساد كان القطع حراما والمضيّ فيها واجبا ، فيستصحب ذلك .

هذا بالنسبة إلى الصلاة الواجبة ، وامّا بالنسبة إلى الصلاة المستحبة فانه قبل طروّ إحتمال الفساد ، كان القطع مرجوحا والمضيّ فيها راجحا ، فيستصحب ذلك، علما بانه لا فرق في الاستصحاب بين أن يكون بالنسبة إلى الحكم الاقتضائي ، أو الحكم اللااقتضائي الراجح فعلاً أو تركا ، وذلك على ما سبق في أوّل مبحث الاستصحاب .

( وفيه : أنّ الموضوع في هذا المستصحب هو الفعل الصحيح لا محالة ، والمفروض الشك في الصحة ) فان حرمة القطع في الصلاة الواجبة ، ومرجوحية

ص: 146

وربّما يتمسك في إثبات الصحة في محلّ الشك بقوله تعالى : « ولا تُبطِلوا أعمالَكُم » ، وقد بيّنا عدم دلالة الآية على هذا المطلب في أصالة البرائة عند الكلام في مسألة الشك في الشرطية ، وكذلك التمسك بما عداها من العمومات المقتضية للصحة .

-------------------

القطع في الصلاة المستحبة ، إنّما هو فيما إذا كانت الصلاة صحيحة ، والمفروض : انا لا نعلم بصحة الصلاة بعد طروّ محتمل المفسدية عليها ، وقد سبق في بعض المباحث السابقة : ان الشك في الموضوع يوجب عدم صحة الاستصحاب .

هذا ( وربّما يتمسك في إثبات الصحة ) بعد طروّ محتمل المفسدية ( في محلّ الشك بقوله تعالى : « ولا تُبطِلوا أعمالَكُم » (1) ) وحينئذ ، فاللازم على الشاك الاستمرار في العبادة المحتملة الفساد ، وذلك لهذه الآية المباركة ، لا للاستصحاب .

( و ) لكن فيه : انا ( قد بيّنا عدم دلالة الآية على هذا المطلب في أصالة البرائة عند الكلام في ) تنبيهات ( مسألة الشك في الشرطية ) والجزئية ، حيث قلنا هناك : ان ظاهر الآية عبارة عن حرمة إبطال العمل بعد إتيانه بمثل الشرك والمعاصي الموجبة لأن يكون العمل هباءً منثورا ، حيث قال سبحانه : « وقدمنا إلى ما عَمِلوا من عملٍ فجعلناهُ هباءً منثورا » (2) مضافا إلى ان الابطال غير محرز في المقام ، لاحتمال حصول البطلان بنفسه عند طروّ المفسد ، فلا يكون إبطالاً لأنه كان باطلاً.

( وكذلك ) ظهر من البيان المتقدِّم : عدم جواز ( التمسك بما عداها ) أي : بغير هذه الآية المباركة ( من العمومات المقتضية للصحة ) كاطلاقات الصلاة ، بأن يقال : إطلاقاتها تقتضي إتمامها ، ومعنى إتمامها : عدم إبطالها ، وكذلك بالنسبة

ص: 147


1- - سورة محمد : الآية 33 .
2- - سورة الفرقان : الآية 23 .

الأمر التاسع :

لا فرق في المستصحب بين أن يكون من الموضوعات الخارجية أو اللغوية أو الأحكام الشرعية العمليّة اُصولية كانت أو فرعيّة .

-------------------

إلى إطلاقات الصوم والحج والاعتكاف والوضوء والغسل ونحوها من سائر العبادات .

قال في الأوثق : « و وجه ضعف التمسك بها : انها على القول بالصحيح مجملة وعلى القول بالأعم واردة في مقام بيان أحكام اُخر ، كالتشريع ، أو بيان الفضيلة، أو الخاصية ، أو نحو ذلك » (1) ، إذن : لا إطلاق لها حتى يتمسك بها من هذه الجهة .

( الأمر التاسع ) : في انه هل يصح إستصحاب النبوة إذا شككنا في بقائها أو لا يصح ؟ فانه ( لا فرق في المستصحب بين أن يكون من الموضوعات الخارجية ) مثل : إستصحاب حياة زيد فيما لو شككنا في حياته وموته لاثبات ، وجوب النفقة لزوجته - مثلاً - .

( أو اللغوية ) مثل : أصالة عدم النقل فيما إذا شككنا في ان الصلاة هل نقلت من معناها اللغوي وهو الدعاء إلى المعنى الشرعي الذي هو الأركان المخصوصة أم لا ؟ .

( أو الأحكام الشرعية العمليّة ) أي : المرتبة بالعمل ( اُصولية كانت ) تلك الأحكام مثل جواز البقاء على تقليد الميت ، حيث ان هذه المسألة هي مسألة اُصولية ، ولهذا ذكرها الاُصوليون في كتب الاُصول ، وان جاء بها صاحب العروة في أول كتابه : العروة الوثقى ( أو فرعيّة ) مثل إستصحاب الطهارة أو الحدث

ص: 148


1- - أوثق الوسائل : ص514 التنبيه الثامن في استصحاب صحة العبادة مع الشك في طرو المفسد .

وأمّا الشرعية الاعتقادية ، فلا يعتبر الاستصحاب فيها ، لأنّه إن كان من باب الاخبار ، فليس مؤدّاها إلاّ الحكم على ما كان معمولاً به على تقدير اليقين به ، والمفروض : أنّ وجوب الاعتقاد بشيء على تقدير اليقين به لا يمكن الحكم به عند الشك لزوال الاعتقاد فلا يعقل التكليف .

-------------------

أو ما أشبه ذلك .

( وأمّا الشرعية الاعتقادية ) كاستصحاب نبوة موسى أو نبوة عيسى على نبينا وآله وعليهما السلام ( فلا يعتبر الاستصحاب فيها ) لأنه لا دليل على إعتبار مثل هذا الاستصحاب من عقل أو نقل .

وإنّما لا يعتبر فيها الاستصحاب ( لأنّه ) أي : إعتبار الاستصحاب ( إن كان من باب الاخبار ، فليس مؤدّاها إلاّ الحكم على ما كان معمولاً به على تقدير اليقين به ) سابقا ، كوجوب نفقة الزوجة فيما إذا خرج الزوج وطالت غيبته فلم يعلم هل انه مات أو لم يمت ؟ فانه يستصحب وجوب النفقة لها حتى يثبت موت زوجها .

هذا ( والمفروض : أنّ وجوب الاعتقاد بشيء ) كنبوة موسى أو نبوة عيسى على نبينا وآله وعليهما السلام ( على تقدير اليقين به ) سابقا ( لا يمكن الحكم به ) أي : بهذا الوجوب ( عند الشك ) لاحقا في انه هل إنقطعت نبوتهما أو لم تنقطع ، وذلك ( لزوال ) موضوعه الذي هو ( الاعتقاد ) وقد عرفت سابقا : لزوم بقاء الموضوع حتى يستصحب .

إذن : ( فلا يعقل التكليف ) السابق ، لتبدل الموضوع ، وثبوت الحكم لموضوع آخر ليس معناه : بقاء الحكم السابق ، فان الاستصحاب يقول : ان وجوب نفقة الزوجة ، المعمول به في زمان اليقين بحياة الزوج ، ثابت في زمان الشك في حياته، بينما الاستصحاب لا يقول : ان وجوب الاعتقاد بشيء ، المعمول به

ص: 149

وإن كان من باب الظنّ فهو مبنيّ على إعتبار الظنّ في اُصول الدين ، بل الظنّ غير حاصل فيما كان المستصحب من العقائد الثابتة بالعقل أو النقل القطعي ، لأنّ الشك إنّما ينشأ من تغيّر بعض ما يحتمل مدخليته وجودا أو عدما في المستصحب .

نعم ، لو شك في نسخه ، أمكن دعوى الظنّ لو لم يكن إحتمال النسخ ناشئا عن إحتمال نسخ أصل الشريعة ، لا نسخ الحكم في تلك الشريعة .

-------------------

في زمان اليقين به ، ثابت في زمان الشك فيه أيضا ، لما عرفت : من زوال الموضوع الذي هو الاعتقاد ومع زواله يزول حكم الوجوب ، فان كان الحكم مع ذلك ثابتا ، كان من تسرية الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، وليس هذا من الاستصحاب في شيء ، بل يحتاج إلى دليل جديد .

هذا ( وإن كان ) إعتبار الاستصحاب ( من باب الظنّ ) النوعي لبناء العقلاء ( فهو مبنيّ على إعتبار الظنّ في اُصول الدين ) وقد تقدّم سابقا : الاختلاف في انه هل يكفي الظن في اُصول الدين أم لا ؟ ( بل الظنّ غير حاصل ، فيما كان المستصحب من العقائد الثابتة بالعقل أو النقل القطعي ) .

وإنّما يكون الظن هنا غير حاصل ( لأنّ الشك إنّما ينشأ من تغيّر بعض ما يحتمل مدخليته وجودا أو عدما في المستصحب ) كالذي نحن فيه - مثلاً - فان الشك في النبوة إنّما يكون لتغيّر ما له دخل في تغيّر الموضوع ، ومع حصول التغيّر في الموضوع لا يحصل الظن بالبقاء .

( نعم ، لو شك في نسخه ، أمكن دعوى الظنّ ) بالبقاء ، لأن إحتمال النسخ هو إحتمال للرافع مع وجود المقتضي ، ومعه يكون الظن بالبقاء حاصلاً ( لو لم يكن إحتمال النسخ ناشئا عن إحتمال نسخ أصل الشريعة ، لا نسخ الحكم في تلك الشريعة ).

ص: 150

...

-------------------

قال الفقيه الهمداني : «ان محطّ النظر في المقام هو : التكلم في صحة إستصحاب نبوة نبي بعد الشك في إنقضاء نبوته ونسخها ، فنقول : إذا ثبتت نبوة نبي في زمان بدليل عقلي ، كما إذا علم بانه أكمل أهل زمانه من جميع الوجوه التي لها دخل في إستحقاق منصب النبوة فحكم العقل بكونه نبيا في ذلك الزمان ، أو دلّ دليل شرعي عليه ، كاخبار النبي السابق بنبوته ، فشك في بقائها بعد وجود من يحتمل أكمليته منه ، وجب عقلاً الفحص عن حاله ، وتحصيل العلم ببقاء شريعته وعدم نسخها ، للخروج عن عهدة التكاليف الشرعية المنجزّة عليه بابلاغ نبي زمانه .

كما انه يجب عليه أيضا ذلك ، أي : معرفة نبي زمانه عقلاً من حيث هو لو دلّ دليل عقلي أو نقلي - وان كان خبر النبي اللاحق الذي يحتمل نبوته - بان معرفة نبي زمانه شرط في الايمان ، وخروج المكلّف عن حدّ الكفر ، فاذا تعذّر عليه تحصيل العلم بذلك إمتنع بقاء وجوبه ، سواء كان نفسيا أم مقدّميا ، وإستصحاب بقاء نبوته غير مجد ، لأنه لا يؤثر في حصول العلم كي يعقل بقاء حكمه .

نعم ، لو قلنا : بافادة الظن وكفاية الاعتقاد الظني في الخروج عن حدّ الكفر ، امّا مطلقا أو لدى تعذّر العلم عوّل على إستصحابه .

هذا بالنسبة إلى نفس الاعتقاد ووجوب الاذعان بالنبوة ، وامّا إستصحابها بملاحظة سائر الآثار العملية المتفرّعة على بقاء نبوته ، أي : إستصحاب الشريعة السابقة التي لم يعلم نسخها ، فلا مانع عنه ، بل قد أشرنا فيما سبق إلى ان : إستصحابات الشريعة من أظهر مصاديق الاستصحابات المعتبرة لدى العقلاء ، وان إعتباره لديهم من باب عدم الاعتناء باحتمال نسخها ما لم يتحقق ،

ص: 151

أمّا الاحتمال الناشيء عن إحتمال نسخ الشريعة فلا يحصل الظنّ بعدمه ، لأنّ نسخ الشرائع ، شايع بخلاف نسخ الحكم في شريعة واحدة ، فانّ الغالب بقاء الأحكام .

وممّا ذكرنا يظهر : أنّه لو شك في نسخ أصل الشريعة لم يجز التمسك بالاستصحاب لاثبات بقائها ، مع أنّه لو سلمنا حصول الظنّ ، فلا دليل على حجّيته حينئذ ،

-------------------

لا من حيث الظن ، ولا من باب التعبّد» .

هذا بالنسبة إلى إحتمال النسخ غير الناشى ء من إحتمال نسخ الشريعة ، فانه يظن فيه بالبقاء ، و ( أمّا الاحتمال الناشيء عن إحتمال نسخ الشريعة فلايحصل الظنّ بعدمه ) أي : بعدم نسخ الشريعة ( لأنّ نسخ الشرائع شايع ) وإذا شاع النسخ لا يظن بعدمه : بل يظن به ومع الظن بنسخ أصل الشريعة لا يبقى ظن ببقاء فرعه وهو الحكم بل يظن بعدمه ، فلا يظن إذن فيما نحن فيه ببقاء الحكم عند الشك فيه .

( بخلاف نسخ الحكم ) وحده دون إحتمال نسخ أصل الشريعة ( في شريعة واحدة ، فانّ الغالب بقاء الأحكام ) عند بقاء الشريعة ، فيظن حينئذ ببقاء الحكم عند الشك فيه .

( وممّا ذكرنا ) من ان نسخ الشرائع شايع فلا يظن ببقاء الشريعة عند الشك في انها هل نسخت أم لا ؟ ( يظهر : أنّه لو شك في نسخ أصل الشريعة ) لظهور مدّع جديد للنبوة وإتيانه بدين جديد ( لم يجز التمسك بالاستصحاب لاثبات بقائها ) أي : بقاء تلك الشريعة السابقة التي إحتملنا نسخها بسبب إدعاء النبوة من شخص جديد .

هذا ( مع أنّه لو سلّمنا حصول الظنّ ، فلا دليل على حجّيته حينئذ ) أي : حين

ص: 152

لعدم مساعدة العقل عليه ، وإن إنسدّ باب العلم لامكان الاحتياط إلاّ فيما لا يمكن .

والدليل النقلي الدّال عليه لا يجدي ، لعدم ثبوت الشريعة السابقة ، ولا اللاحقة .

فعلم ممّا ذكرنا : أنّ ما يحكى من تمسّك بعض أهل الكتاب في مناظرة بعض الفضلاء السادة

-------------------

كان الشك في الاعتقاديات ، وذلك ( لعدم مساعدة العقل عليه ، وان إنسدّ باب العلم ) فانه عند الانفتاح يتعيّن تحصيل العلم ، وعند الانسداد يحتاط ( لامكان الاحتياط ) وذلك بأن يعمل بكلا الشريعتين ( إلاّ فيما لا يمكن ) الاحتياط فيه ، فيعمل فيما لا يمكنه الاحتياط فيه حسب ظنه بالبقاء من باب الانسداد .

( و ) ان قلت : نتمسك بالاستصحاب من جهة الدليل النقلي مثل : « لا تنقض اليقين بالشك » (1) فنثبت به بقاء الشريعة السابقة .

قلت : ( الدليل النقلي الدّال عليه ) أي : على الاستصحاب ، هنا ( لا يجدي ، لعدم ثبوت الشريعة السابقة ، ولا اللاحقة ) حتى يأخذ من إحداهما الاستصحاب ، امّا الشريعة السابقة : فلاحتمال نسخها ، وامّا الشريعة اللاحقة : فلعدم ثبوتها بعد .

وعليه : ( فعلم ممّا ذكرنا : أنّ ما يحكى من تمسّك بعض أهل الكتاب في مناظرة بعض الفضلاء السادة ) وهو العلامة السيد باقر القزويني ، حيث ناظر عالما يهوديا يسكن قرية ذي الكفل القريبة من الكوفة ، وكانت آنذاك مجمعا لليهود

ص: 153


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

باستصحاب شرعه ، ممّا لا وجه له ، إلاّ أن يريد جعل البيّنة على المسلمين في دعوى الشريعة الناسخة ، إمّا لدفع كلفة الاستدلال

-------------------

إلى ما قبل نصف قرن تقريبا ، حيث تمسّك اليهودي في المناظرة ( باستصحاب شرعه ) فان تمسكه بالاستصحاب لاثبات شرعه ونبوة نبيه ( ممّا لا وجه له ) وذلك على ما عرفت لأمرين :

أولاً : لأن إثبات الشريعة بحاجة إلى اليقين حتى يكون مؤمّنا من العقاب ، ومن المعلوم : ان الاستصحاب لا يفيد اليقين .

ثانيا : انه على تقدير كفاية الظن ، لا يظن ببقاء الشريعة السابقة بعد ظهور الشريعة اللاحقة بأدلتها الواضحة ، ومعجزاتها القاطعة .

ثم لا يخفى : ان إطالة الكلام في مثل هذه المسألة له فائدتان :

الاُولى ، ان أهل الكتاب يتمسكون بالاستصحاب إلى يومنا هذا ، فاللازم التعرف على إشكالهم وإستحضار جوابهم .

الثانية : ان التدقيق في هذه المسائل يوجب قوة الذهن ويعطي القدرة على التدقيق في إشكالات اُخر للتعرف على أجوبتها ، ومعه فلا مجال لأن يقال : ما فائدة التدقيق في مسألة غابرة لا شأن لها بالحياة الفعلية ؟ .

وكيف كان : فانّ تمسّك الكتابي بالاستصحاب لاثبات بقاء شريعته ونبوة نبيه ليس في محله ( إلاّ أن يريد ) الكتابي ( جعل البيّنة على المسلمين في دعوى الشريعة الناسخة ) أي : ان غرض الكتابي من الاستدلال بالاستصحاب ليس هو لاثبات صحة شريعته ، بل لمجرد بيان ان قوله مطابق للأصل ، فهو منكر للشريعة الجديدة ، والمسلم مدّع على المدّعي إثبات دعواه .

وعليه : فيكون إستدلال الكتابي بالاستصحاب ( إمّا لدفع كلفة الاستدلال

ص: 154

عن نفسه ، وإمّا لابطال دعوى المدّعي ، بناءا على أنّ مدّعي الدين الجديد كمدّعي النبوة يحتاج إلى برهان قاطع .

فعدم الدليل القاطع للعذر على الدين الجديد - كالنبي الجديد - دليلٌ قطعي على عدمه بحكم العادة ، بل العقل ، فغرض الكتابي إثبات حقيّة دينه بأسهل الوجهين .

-------------------

عن نفسه ) حتى لا يقال له : أثبت بقاء شريعتك ونبوة نبيك ( وإمّا لابطال دعوى المدّعي ) المسلم للدين الجديد ، وذلك ( بناءا على أنّ مدّعي الدين الجديد كمدّعي النبوة يحتاج إلى برهان قاطع ) لاثبات دعواه ، فإذا لم يأت مدّعي الدين الجديد بدليل قاطع ، كان كمن يدّعي النبوة بلا دليل قاطع ، دليل على العدم .

هذا مع العلم بأن بين مدّعي النبوة ومدّعي الدين الجديد فرقا واضحا ، فان مدعي الدين الجديد لو عجز عن الاستدلال لاثباته لم يكن دليلاً على عدمه ، بينما مدّعي النبوة لو عجز عن الاستدلال عليه كان دليلاً على عدم نبوته ، لكن المصنِّف فرض تساويهما في جهة عدم الدليل دليل العدم ، ليجيب به عن إستصحاب الكتابي .

وعليه : ( فعدم الدليل القاطع للعذر ) أي : عدم إقامة المدعي الدليل القطعي ( على الدين الجديد - كالنبي الجديد - دليلٌ قطعي على عدمه بحكم العادة ، بل العقل ) فان النبي الجديد ، والدين الجديد كلاهما بحاجة إلى دليل قطعي ، فعدم الدليل القطعي لاثباتهما دليل على العدم .

إذن : ( فغرض الكتابي ) من الاستصحاب : ( إثبات حقيّة دينه بأسهل الوجهين ) إذ قد يكون إثبات دينه بإقامة البرهان عليه وهذا أمر صعب ، وقد يكون بابطال دعوى المدّعي للدين الجديد ، لعدم إقامته الدليل القاطع للعذر على الدين

ص: 155

ثمّ إنّه قد اُجيب عن إستصحاب الكتابي المذكور بأجوبة .

منها : ما حكي عن بعض الفضلاء المناظرين له ، وهو : أنّا نؤمن ونعترف بنبوّة كلّ موسى وعيسى أقرّ بنبوّة نبيّنا صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وكافرٌ بنبوّة كلّ من لم يقرّ بذلك ، وهذا مضمون ما ذكره مولانا الرضا عليه السلام في جواب الجاثليق .

وهذا الجواب بظاهره مخدوشٌ بما عن الكتابي : من أنّ

-------------------

الجديد ، وهذا أسهل الأمرين .

( ثمّ إنّه قد اُجيب عن إستصحاب الكتابي المذكور بأجوبة ) ثمانية على ما تعرّض له المصنِّف في الكتاب :

الأوّل : ما تقدّم عن المصنِّف رحمه اللّه آنفا .

الثاني : ما أشار إليه بقوله : ( منها : ما حكي عن بعض الفضلاء المناظرين له ) أي : الكتابي ، أعني : السيد باقر القزويني ( وهو : أنّا نؤمن ونعترف بنبّوة كلّ موسى وعيسى أقرّ بنبوّة نبيّنا صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وكافرٌ بنبوّة كلّ من لم يقرّ بذلك ) فنحن لا يقين لنا إلاّ بنبوة نبي أقرّ بنبوة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فان أقر نبيك بنبوة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم، فقد تمّ المطلوب ، وان لم يقر نبيك بنبوة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم فلا يقين لنا بنبوة نبيك حتى نستصحب نبوته وشريعته .

( وهذا مضمون ما ذكره مولانا الرضا عليه السلام في جواب الجاثليق ) الذي كان من علماء أهل الكتاب ، وقد ناظر الإمام الرضا عليه السلام في خراسان حول بقاء نبوة نبيه .

( و ) لكن ( هذا الجواب ) الذي أجاب به السيد القزويني عن إستصحاب ذلك الكتابي ( بظاهره مخدوشٌ ) هنا ، والخدشة هنا إنّما هي ( بما عن الكتابي : من أنّ

ص: 156

موسى بن عمران ، أو عيسى بن مريم ، شخص واحد وجزئي حقيقي إعترف المسلمون وأهل الكتاب بنبوّته ، فعلى المسلمين نسخها .

وأمّا ما ذكره الإمام عليه السلام : فلعلّه أراد به غير ظاهره ، بقرينة ظاهرة بينه وبين الجاثليق ، وسيأتي ما يمكن أن يؤوّل به .

ومنها : ما ذكره

-------------------

موسى بن عمران ، أو عيسى بن مريم ، شخص واحد وجزئي حقيقي إعترف المسلمون وأهل الكتاب بنبوّته ، فعلى المسلمين ) الذين يدّعون نسخ نبوته بعد إعترافهم به إثبات ( نسخها ) بدليل قاطع ، لا بجعل موسى أو عيسى كليا وتقسيمه إلى مقرّ وغير مقرّ ، إذ لا معنى لتقسيم الجزئي الحقيقي .

إن قلت : فكيف اجاب الإمام عليه السلام الجاثليق بمثل هذا الجواب ؟ .

قلت : ( وأمّا ما ذكره الإمام عليه السلام : فلعلّه أراد به غير ظاهره ، بقرينة ظاهرة بينه وبين الجاثليق ) فانه قد يقال : الشيخ المرتضى كلي له افراد وهذا غير تام ، وقد يقال : الشيخ المرتضى ان كان أعلم من سائر المجتهدين وجب تقليده ، وان كان مساويا لسائر المجتهدين تخيّر الانسان بين تقليده وتقليد غيره ، وهذا الكلام على ما فيه من التقسيم كلام تام .

وعليه : فلعل الإمام عليه السلام أراد هذا المعنى من كلامه يعني : أراد ما ذكرناه : من انّ نبي الكتابي ان أقرّ بنبوة نبينا محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم من بعده فهو نبي واقعي ، وهذا يوجب إنقضاء نبوته ونسخ شريعته ، وإلاّ لم يكن نبيا ، فلا نستصحب شريعة ولا نبوّة من ليس بنبي ( وسيأتي ما يمكن أن يؤوّل به ) كلام الإمام الرضا عليه السلام وهو يقرِّب ممّا ألمعنا إليه .

الثالث من الأجوبة : ما أشار إليه المصنِّف بقوله : ( ومنها : ما ذكره

ص: 157

بعض المعاصرين من « أنّ إستصحاب النبوة مُعارض باستصحاب عدمها ، الثابت قبل حدوث أصل النبوة » بناءا على أصل فاسد تقدّم حكايته عنه وهو : أنّ الحكم الشرعي الموجود ، يقتصر فيه على القدر المتيقّن وبعده يتعارض إستصحاب وجوده وإستصحاب عدمه .

وقد أوضحنا فساده بما لا مزيد عليه .

-------------------

بعض المعاصرين ) وهو المحقق النراقي في المناهج : ( من « أنّ إستصحاب النبوة مُعارض باستصحاب عدمها ، الثابت قبل حدوث أصل النبوة » ) أي : ان نبوة موسى أو عيسى كانت متحققة في قطعة من الزمن الفاصل بينه وبين نبيّنا محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فنستصحب نبوته بعد مجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم لكن قبل تلك القطعة من الزمان لم تكن نبوة موسى أو عيسى متحققة ، فنستصحب عدم نبوته بعد مجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فنبوته وعدم نبوته بمتعارضان ويتساقطان .

وإنّما قال المحقق النراقي بذلك ( بناءا على أصل فاسد تقدّم حكايته ) أي : حكاية ذلك الأصل ( عنه ) أي : عن النراقي ( وهو : أنّ الحكم الشرعي الموجود ، يقتصر فيه على القدر المتيقّن ) والقدر المتيقن ، هنا هو الزمن الفاصل بين نبوة موسى ونبوة نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم ( وبعده ) أي : بعد ذلك القدر المتيقن وهو بعد مجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم ( يتعارض إستصحاب وجوده ) أي : وجود نبوة موسى ( وإستصحاب عدمه ) أي : عدم نبوة موسى الذي كان قبل مجيئه .

هذا ( وقد أوضحنا ) نحن المصنِّف ( فساده ) أي : فساد تعارض الاستصحابين هنا ( بما لا مزيد عليه ) لأنا قلنا : ان العبرة إنّما هي باليقين المتصل بالشك ، لا اليقين المنفصل السابق على نبوة موسى على ما في المثال .

ص: 158

ومنها : ما ذكره في القوانين ، بانيا له على ما تقدّم منه في الأمر الأوّل من : « أنّ الاستصحاب مشروطٌ بمعرفة إستعداد المستصحب ، فلا يجوز إستصحاب حياة الحيوان المردّد بين حيوانين مختلفين في الاستعداد ، بعد إنقضاء مدّة إستعداد أقلّهما إستعدادا ، قال إنّ موضوع الاستصحاب لابدّ أن

-------------------

الرابع من الأجوبة : ما أشار إليه المصنِّف بقوله : ( ومنها : ما ذكره في القوانين بانيا له ) أي : للجواب هنا عن إستصحاب الكتابي ( على ما تقدّم منه ) أي : من القوانين هناك ( في الأمر الأوّل من ) تنبيهات الاستصحاب وذلك عند تعرّضه للقسم الثاني من إستصحاب الكلي المردّد بين قصير العمد وطويله حيث قال هناك ما يلي :

( « أنّ الاستصحاب مشروطٌ بمعرفة إستعداد المستصحب ) للبقاء ، وذلك بأن يكون الشك في الرافع ، لا في المقتضي ، وفي المقام الشك في المقتضي ، لأن الشك في ان نبوة موسى هل لها إستعداد البقاء إلى اليوم ، أو إلى مجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم هو كالشك في المردد بين العمر وطويله من حيث كونه شكا في المقتضي، فلا يستصحب .

إذن : فقد بنى القوانين الاستصحاب هنا على ما بناه هناك في مسألة الحيوان المردّد بين قصير العمر وطويله حيث صرّح هناك قائلاً : ( فلا يجوز إستصحاب حياة الحيوان المردّد بين حيوانين مختلفين في الاستعداد ، بعد إنقضاء مدّة إستعداد أقلّهما إستعدادا ) فإذا كان الحيوان مردّدا بين كونه عصفورا فيعيش سنة ، أو غرابا فيعيش كثيرا ، فبعد مضيّ سنة لا يجوز إستصحاب وجود الحيوان الكلي .

ثم ( قال ) في القوانين توضيحا لذلك : ( إنّ موضوع الاستصحاب لابدّ أن

ص: 159

يكون متعيّنا حتى يجري على منواله ، ولم يتعيّن هنا إلاّ النبوّة في الجملة ، وهي كلّي من حيث إنّها قابلة للنبوة إلى آخر الأبد ، بأن يقول اللّه جل ذكره لموسى عليه السلام : « أنت نبيٌّ وصاحبُ دينٍ إلى آخر الأبد » ، ولأن يكون إلى زمان محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، ولأن يكون غير مغيّىً بغاية بأن يقول « أنت نبيّ » بدون أحد القيدين فعلى الخصم أن يثبت : إمّا التصريح بالامتداد إلى آخر الأبد أو الاطلاق ، ولا سبيل إلى الأوّل ، مع أنّه يخرج عن الاستصحاب ؛

-------------------

يكون متعيّنا حتى يجري على منواله ) أي : على منوال ذلك الموضوع المتعيّن ، ولا يكون الموضوع متعيّنا إلاّ إذا كان الشك في الرافع ، لا في المقتضي ، بينما إستصحاب الكتابي هنا من الشك في المقتضي كما قال : ( ولم يتعيّن هنا إلاّ النبوّة في الجملة ، وهي ) أي : النبوة في الجملة بلا تعيين موضوعها ( كلّي من حيث إنّها قابلة للنبوة إلى آخر الأبد ، بأن يقول اللّه جل ذكره لموسى عليه السلام : « أنت نبيٌّ وصاحبُ دينٍ إلى آخر الأبد » ، ولأن يكون إلى زمان محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، ولأن يكون غير مغيّىً بغاية ) وذلك ( بأن يقول ) له : ( « أنت نبيّ » بدون ) أن يضيف على كلامه هذا ( أحد القيدين ) : لا قيد التأبيد ، ولا قيد التوقيت بكونه إلى زمان نبي الاسلام .

وعليه : ( فعلى الخصم ) وهو الكتابي ( أن يثبت : إمّا التصريح بالامتداد إلى آخر الأبد ) بأن يأتي بدليل يدل على ان موسى نبي إلى الأبد ( أو الاطلاق ) بأن يأتي بدليل يدلّ على ان اللّه تعالى قال لموسى : «أنت نبيّ» .

( ولا سبيل إلى الأوّل ) أي : إلى إثبات ان اللّه تعالى قال لموسى : أنت نبيّ إلى الأبد ( مع أنّه ) لو فرض السبيل إليه ، فانه ( يخرج عن الاستصحاب ) لوضوح : ان مع التصريح بالامتداد إلى الأبد لا يبقى مجال للاستصحاب ، لأن الاستصحاب

ص: 160

ولا إلى الثاني لأنّ الاطلاق في معنى القيد لابدّ من إثباته .

ومن المعلوم : أنّ مطلق النبوة غير النبوة المطلقة .

والذي يمكن إستصحابه هو الثاني ، دون الأوّل ،

-------------------

انما هو مع الشك وعلى فرض التصريح فلا شك .

( ولا إلى الثاني ) أي : إلى إثبات انه تعالى قال لموسى : «أنت نبيّ» ، فانه لا سبيل إليه أيضا ( لأنّ الاطلاق في معنى القيد لابدّ من إثباته ) أي : إثبات هذا القيد وهو : الاطلاق ، فكما ان النبوة المؤبدة بحاجة إلى إثبات فكذلك النبوة المطلقة ، ولا سبيل إلى إثباته فلا يصح الاستصحاب فيه .

هذا ( ومن المعلوم : أنّ ) المتيقن السابق هو : ( مطلق النبوة ) الذي هو مقسم يعني : النبوة في الجملة المردّدة بين الأقسام الثلاثة بين كونها : موقتة ، أو مؤبدة ، أو بلا أحد القيدين ، وهذا المعنى من النبوة المجملة ( غير النبوة المطلقة ) التي هي قسم خاص من الأقسام الثلاثة المعبّر عنها بقوله تعالى لموسى : «أنت نبيّ » .

( و ) قد عرفت : ان على الخصم إثبات نبوة موسى بالمعنى الثاني أعني النبوة المطلقة ، لا المعنى الأوّل أعني : مطلق النبوة ، بينما ( الذي يمكن إستصحابه هو الثاني ، دون الأوّل ) .

وعليه : فان الثابت لنا من نبوة موسى هو المعنى الأوّل ، ولا يفيد الخصم لأنه لا يصح الاستصحاب فيه على ما سيأتي ، وأما المعنى الثاني وهو الذي يصح الاستصحاب فيه على فرض ثبوته ، فانه غير ثابت لنا ، ولا سبيل للخصم أيضا إلى إثباته حتى يتمكن من إستصحابه ، فهو بين ما لا يقين سابق له ، أو لا شك لاحق فيه .

إذن : فلا يصح التمسك بالاستصحاب على المعنيين : أما على المعنى الثاني

ص: 161

إذ الكلّي لا يمكن إستصحابه إلاّ بما يمكن من بقاء أقلّ افراده » ، إنتهى موضع الحاجة .

وفيه :

أولاً : ما تقدّم من عدم توقّف جريان الاستصحاب على إحراز إستعداد المستصحب .

وثانيا : أنّ ما ذكره : من أنّ الاطلاق غير ثابت ، لأنّه في معنى القيد - غير صحيح - لأنّ عدم التقييد مطابق للأصل .

-------------------

يعني : النبوة المطلقة فلما عرفت ، واما على المعنى الأوّل وهو : مطلق النبوة فلعدم يقين سابق له ( إذ الكلّي ) فيما نحن فيه وهو : مطلق النبوة مردّد بين ما لا إستعداد له للبقاء ، وبين ما هو مستعدّ له ، كتردّد كلي الحيوان بين العصفور والغراب ، وقد عرفت ان في هذه الصورة ( لا يمكن إستصحابه إلاّ بما يمكن من بقاء أقل افراده » (1) ) وهو لا يفيد الخصم لأن عليه إثبات بقاء أطول افراده .

( إنتهى موضع الحاجة ) من كلام القوانين في ردّه على الكتابي .

( وفيه ) أي : في ردّ القوانين على الكتابي مواقع للنظر كالتالي :

( أولاً : ما تقدّم : من عدم توقّف جريان الاستصحاب على إحراز إستعداد المستصحب ) للبقاء حتى يختص الاستصحاب ، بمورد الشك في الرافع فقط ، فان الشك في المقتضي أيضا مورد للاستصحاب ، كما هو المشهور .

( وثانيا : أنّ ما ذكره : من أنّ الاطلاق غير ثابت ، لأنّه في معنى القيد ) إذ الماهية قد تكون مقيّدة بقيد ، وقد تكون مقيّدة بالاطلاق ( - غير صحيح - لأنّ عدم التقييد مطابق للأصل ) وما كان مطابقا للأصل لا يحتاج إلى إثبات ، فإذا قال المولى مثلاً :

ص: 162


1- - القوانين المحكمة : ج2 ص70 .

نعم ، المخالف للأصل الاطلاق بمعنى العموم الراجع إلى الدوام .

والحاصل : أنّ هنا في الواقع ونفس الأمر نبوّةً مستدامةً الى آخر الأبد ، ونبوّة مغيّاة إلى وقت خاص ، ولا ثالث لهما في الواقع ، فالنبوّة المطلقة - بمعنى غير المقيّدة - ومطلق النبوّة سيّان في التردّد بين الاستمرار والتوقيت .

-------------------

اكرم العلماء ، وشككنا في انه هل قيّده بالعدالة أم لا ؟ فالأصل عدم التقييد ولا يحتاج إلى أكثر من ذلك ، فأصالة الاطلاق في مورد الشك في الاطلاق والتقييد محكّمة .

( نعم ، المخالف للأصل ) الذي يحتاج إلى إثبات هو : ( الاطلاق بمعنى العموم الراجع إلى الدوام ) لأن كل واحد من التقيّد بزمان خاص والدوام قيد ، فيجب إثباته ، ولكن لم يكن مراد القوانين من النبوة المطلقة هذا المعنى ، بل مراده منها هو الاطلاق في قبال الموقتة والمؤبّدة ، وهو كما عرفت مطابق للأصل ، فلا يحتاج إلى إثبات .

( والحاصل : أنّ هنا في الواقع ونفس الأمر ) أمرين إثنين : ( نبوّةً مستدامةً إلى آخر الأبد ، ونبوة مغيّاة إلى وقت خاص ، ولا ثالث لهما في الواقع ) أي : في عالم الثبوت ، وامّا في عالم الاثبات ( فالنبوّة المطلقة - بمعنى غير المقيّدة - ومطلق النبوّة ، سيّان في التردّد بين الاستمرار والتوقيت ) من دون فرق بين العبارتين .

إذن : فالنبوة في عالم الثبوت والواقع تدور بين التوقيت والتأبيد ، بينما في عالم الاثبات والدلالة تدور بين كونها موقتة ، أو مؤبدة ، أو مطلقة مردّدة بينهما ، والاطلاق في العبارتين : النبوة المطلقة ، ومطلق النبوة ، بمعنى واحد ، وكما انه لو علمنا بالنبوة المطلقة بان قال تعالى : «أنت نبيّ» نتردّد بين كون النبوة موقتة

ص: 163

فلا وجه لاجراء الاستصحاب على أحدهما دون الآخر ، إلاّ أن يريد بقرينة ما ذكره بعد ذلك : من أنّ المراد من مطلقات كلّ شريعة بحكم الاستقراء : الدوام والاستمرار إلى أن يثبت الرافع : أنّ المطلق في حكم الاستمرار ، فالشك فيه شك في الرافع ، بخلاف مطلق النبوّة ، فانّ إستعداده غير محرز عند الشك ، فهو من قبيل الحيوان المردّد بين مختلفي الاستعداد .

-------------------

أو مؤبدة ، فكذلك إذا علمنا بمطلق النبوة .

وعليه : فالعبارتان بمعنى واحد ، وإذا كانتا بمعنى واحد ( فلا وجه لاجراء الاستصحاب على أحدهما دون الآخر ) كما ذكره القوانين .

( إلاّ أن يريد ) القوانين في فرض ثبوت النبوة المطلقة بأن قال سبحانه : «أنت نبيّ» جريان الاستصحاب فيه من جهة ان مطلقات كل شريعة مثل : الصلاة واجبة، والخمر حرام ، وما أشبه ذلك ، لها إستعداد البقاء بحكم الاستقراء ، فيجري الاستصحاب فيها عند الشك في بقائها بخلاف مطلق النبوة فان إستعدادها للبقاء غير محرز فلا يجري فيها الاستصحاب .

وعليه : فاجراء الاستصحاب في أحدهما لا وجه له إلاّ إذا أراد ما قلناه ( بقرينة ما ذكره بعد ذلك : من أنّ المراد من مطلقات كل شريعة بحكم الاستقراء : الدوام والاستمرار إلى أن يثبت الرافع ) يريد بذلك : ( أنّ المطلق في حكم الاستمرار ، فالشك فيه شك في الرافع ) وليس شكا في المقتضي ، يجري فيه الاستصحاب .

( بخلاف مطلق النبوّة ، فانّ إستعداده غير محرز عند الشك ، فهو من قبيل الحيوان المردّد بين مختلفي الاستعداد ) فيكون الشك فيه من قبيل الشك في المقتضي ، فلا يجري فيه الاستصحاب .

ص: 164

وثالثا : أنّ ما ذكره منقوضٌ بالاستصحاب في الأحكام الشرعية ، لجريان ما ذكر في كثير منها ، بل في أكثرها .

وقد تفطّن لورود هذا عليه ، ودفعه بما لا يندفع به فقال : « إنّ التتبع والاستقراء يحكمان :

-------------------

( وثالثا ) : وهو جواب نقضي وخلاصته : ( أنّ ما ذكره ) القوانين في الرد على إستصحاب الكتابي : من عدم جريان الاستصحاب هنا لأنه من الشك في المقتضي ( منقوضٌ بالاستصحاب في الأحكام الشرعية ، لجريان ما ذكر ) من كونه من الشك في المقتضي ( في كثير منها ، بل في أكثرها ) أي : ان أكثر موارد إستصحاب الحكم الشرعي يكون مع حصول تغير في الموضوع ممّا يكون الشك في المقتضي ، مثل : إستصحاب خيار الغبن عند الشك في بقائه ، وإستصحاب نجاسة الماء بعد زوال تغيره وما أشبه ذلك ، ومع هذا كله لا يمنع القوانين الاستصحاب فيه فكيف يمنعه هنا ؟ .

( وقد تفطّن ) القوانين ( لورود هذا ) الايراد النقضي ( عليه ، ودفعه بما لا يندفع به ) وذلك لأن دفعه لم يكن تاما ، فانه قال ما خلاصته :

إنّا نجد في الشريعة مطلقاتٍ كثيرة نعلم من الخارج بسبب الاستقراء انها مستمرة حتى يثبت الرافع الشرعي فيرفعها ، مثل : الطهارة والنجاسة والملكية والزوجية والحرية والرقيّة والحدث والتطهر وغير ذلك ، فاستقراء هذه الموارد يوجب الظن القوي بارادة الاستمرار في سائر المطلقات من الأحكام الفرعية التي لم يثبت من الخارج إستمرارها ولا توقيتها ، فنحكم للاستقراء في كل ما نشك في إستمراره أو توقيته بانه مجرى الاستصحاب .

وإلى هذا المعنى تعرّض القوانين ( فقال : « إنّ التتبع والاستقراء يحكمان :

ص: 165

بأنّ غالب الأحكام الشرعيّة في غير ماثبت له حدّ ليست بآنيّة ولا محدودة إلى حدّ معيّن وأنّ الشارع إكتفى فيما ورد عنه مطلقا في إستمراره .

فإنّ من تتبّع أكثر الموارد واستقرءها يحصل الظن القوي بأن مراده من تلك المطلقات هو الاستمرار ، ويظهر من الخارج : أنه اراد الاستمرار الى أن يثبت الرافع من دليل عقلي أو نقلي » ، إنتهى .

-------------------

بأنّ غالب الأحكام الشرعية في غير ما ثبت له حدّ ) بنص أو إجماع أو ما أشبه ذلك ( ليست بآنيّة ) أي : ليست فورية ( ولا محدودة إلى حدّ معيّن ) من ساعة أو يوم أو أقل أو أكثر ، وإنّما هي مستمرة ( و ) ذلك ( أنّ الشارع إكتفى فيما ورد عنه مطلقا ) بجعل الاطلاق علامة ( في إستمراره ) فالاستقراء يوجب أن يكون المشكوك أيضا ملحقا بالأعم الأغلب .

وعليه : ( فانّ من تتبّع أكثر الموارد ) الشرعية الفرعية ( وإستقرءها يحصل ) على ( الظنّ القوي بأنّ مراده ) أي : مراد الشارع ( من تلك المطلقات ) التي نشك في إستمرارها ( هو : الاستمرار ، ويظهر من الخارج : أنّه أراد الاستمرار إلى أن يثبت الرافع من دليل عقلي أو نقلي » (1) ) فيرفعه .

هذا ولا يخفى : ان التتبع والاستقراء يطلق كل واحد منهما على الآخر ، والقوانين امّا أراد منهما عطف التفسير ، أو أراد بالتتبع : الصغريات ، وبالاستقراء : الكبريات ، كما ويؤيده انه قال : يحكمان ، فليس ذلك بعطف تفسير ، وكان الاستقراء للكبريات لأنه مأخوذ من الذهاب إلى قرية قرية ، ثم في كل قرية يقوم الانسان بالتتبع وذلك كما إذا إستقرئنا باب الصلاة وباب الصوم وباب الحج ، وفي كل واحد من هذه الأبواب تتبّعنا مسائلها مسألة مسألة ، (إنتهى) كلامه رفع مقامه .

ص: 166


1- - القوانين المحكمة : ج2 ص73 .

ولا يخفى ما فيه : أمّا أولاً : فلأنّ مورد النقض لا يختص بما شك في رفع الحكم الشرعي الكلّي ، بل قد يكون الشك لتبدّل ما يحتمل مدخليّته في بقاء الحكم ، كتغيّر الماء للنجاسة .

وأمّا ثانيا : فلأنّ

-------------------

( ولا يخفى ما فيه ) أي : ما في دفع القوانين للاشكال الثالث من النقض الوارد على كلامه .

( أمّا أولاً : فلأنّ مورد النقض لا يختص بما شك في رفع الحكم الشرعي الكلّي ) مثل إحتمال إرتفاع خيار الغبن بعد الآن الأوّل لكونه فوريا ، وما أشبه ذلك حتى يكون الشك دائما في فوريته وتوقيته ، فيحكم للاستقراء باستمراره ( بل قد يكون الشك لتبدّل ما يحتمل مدخليّته في بقاء الحكم ، كتغيّر الماء للنجاسة ) فلا يكون من الشك في الفورية والتوقيت حتى يحكم للاستقراء باستمراره .

وعليه : فقول القوانين : ان الشارع أراد الاستمرار من مطلقاته إلى ان يثبت الرافع من دليل عقلي أو نقلي ، لا يجري في كل موارد الشك ، بل يجري في موارد الشك في الفورية والتوقيت فقط ، فإذا شك في بقاء الحكم لاحتمال كونه فوريا أو موقتا حكم باستمراره للاستقراء ، اما إذا شك في بقاء الحكم لحصول تغير في موضوعه كما في زوال تغيّر الماء النجس ، فلا يكون الشك ناشئا من إحتمال كون الحكم فوريا أو موقتا حتى يحكم للاستقراء باستمراره .

( وأمّا ثانيا : فلأنّ ) قول القوانين : ان الشارع أراد الاستمرار من مطلقاته إلى ان يثبت الرافع ، ليس معنى ثبوت الرافع : كون الشك في الرافع إلاّ بلحاظ لسان الدليل ، والاّ فان الشك في بقاء الحكم الشرعي لا يكون إلاّ من جهة الشك في بقاء مقدار إستعداده نظير الحيوان المردّد بين ما يستعد للبقاء سنة ، وما يستعد للبقاء

ص: 167

الشك في رفع الحكم الشرعي إنّما هو بحسب ظاهر دليله ، الظاهر في الاستمرار بنفسه ، أو بمعونة القرائن ، مثل الاستقراء الذي ذكره في المطلقات .

لكنّ الحكم الشرعي الكلّي في الحقيقة إنّما

-------------------

كثيرا ، فانه شك في المقتضي وليس شكا في الرافع .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف حيث قال : ان ( الشك في رفع الحكم الشرعي إنّما هو بحسب ظاهر دليله ، الظاهر في الاستمرار بنفسه ، أو بمعونة القرائن ) الخارجية يعني : ان الظاهر هو إستمرار الحكم إلى ان يثبت الرافع ظهورا من جهة نفس الدليل ، أو ظهورا من قرينة خارجية .

أما الظهور من نفس الدليل فهو : مثل ما إذا قال الشارع - مثلاً - : النكاح مستمر حتى يحصل الطلاق فيرفعه ، ثم قال الزوج لزوجته : أنت خليّة ، فلم نعلم هل بقي النكاح بعد ذلك أم لا ، فنحكم ببقائه ، والشاهد في تسمية الشك هنا بالشك في الرافع للرفع الذي جاء في نفس الدليل .

وأما الظهور من القرائن الخارجية فهو : ( مثل الاستقراء الذي ذكره في المطلقات ) فان الشارع إذا قال - مثلاً - : الوضوء يوجب الطهارة ، وشككنا بعد خروج المذي في بقاء الطهارة وعدم بقائها ، فانه حيث قام الاجماع ، أو كان غالب مطلقات الشارع للاستمرار حتى حصول الرافع ، كان ذلك الاجماع ، أو الاستقراء، قرينة على إستمرار الطهارة وبقائها ، فنحكم ببقائها ، والشاهد في تسمية الشك بالشك في الرافع للرفع الظاهر من الاجماع أو الاستقراء .

والحاصل : ان التعبير بكون الشك في الرافع إنّما هو أمر ظاهري بسبب نفس الدليل ، أو بسبب القرائن الخارجية ( لكنّ الحكم الشرعي الكلّي في الحقيقة إنّما

ص: 168

يرتفع بتمام إستعداده حتى في النسخ فضلاً عن نحو الخيار المردّد بين كونه على الفور أو التراخي .

والنسخ أيضا رفع صوريّ ، وحقيقته : انتهاء إستعداد الحكم ، فالشك في بقاء الحكم الشرعي لا يكون إلاّ من جهة الشك في مقدار إستعداده ، نظير الحيوان المجهول إستعداده .

وأمّا ثالثا : فلأنّ ما ذكره من حصول الظنّ بارادة الاستمرار من الاطلاق ، لو تمّ يكون دليلاً إجتهاديا مغنيا عن التمسك بالاستصحاب .

-------------------

يرتفع بتمام إستعداده ) ممّا يكون الشك في المقتضي وكذلك يكون ( حتى في النسخ ) الذي هو أظهر مصاديق الشك في الرافع ، فانه في الحقيقة شك في المقتضي ( فضلاً عن نحو الخيار المردّد بين كونه على الفور أو التراخي ) لوضوح كون الشك فيه شكا في المقتضي ، وكذا مثال النسخ ، فانه كما قال : ( والنسخ أيضا رفع صوريّ ، وحقيقته : انتهاء إستعداد الحكم ) .

وعليه : ( فالشك في بقاء الحكم الشرعي لا يكون إلاّ من جهة الشك في مقدار إستعداده ، نظير الحيوان المجهول إستعداده ) بين ما يعيش سنة وبين ما يعيش كثيرا ، حيث انه شك في المقتضي ، فيكون قول القوانين : «ان من تتبع أكثر الموارد وإستقرئها يحصل الظن القوي بأن مراده من تلك المطلقات هو الاستمرار» غير تام .

( وأمّا ثالثا : فلأنّ ما ذكره ) القوانين : ( من حصول الظنّ بارادة الاستمرار من الاطلاق ، لو تمّ يكون دليلاً إجتهاديا ) لبقاء الأحكام السابقة ، فيكون ( مغنيا عن

التمسك بالاستصحاب ) فلا مجال للاستصحاب فيما نعلم أو نظن ظنا قويا بانه باق ومستمر .

ص: 169

فانّ التحقيق : أنّ الشك في نفس الحكم المدلول عليه بدليل ظاهر في نفسه ، أو بمعونة دليل خارجي في الاستمرار ليس موردا للاستصحاب لوجود الدليل الاجتهادي في مورد الشك ، وهو : ظنّ الاستمرار .

نعم ، هو من قبيل إستصحاب حكم العام إلى أن يرد المخصّص ، وهو ليس إستصحابا في حكم شرعي ، كما لا يخفى .

ثم إنّه أورد على ما ذكره : من قضاء التتبع بغلبة الاستمرار في ما ظاهره الاطلاق ، بأنّ النبوة أيضا من تلك الأحكام .

-------------------

وعليه : ( فانّ التحقيق : أنّ الشك في نفس الحكم ، المدلول عليه ) أي : على ذلك الحكم المشكوك ( بدليل ظاهر ) في الاستمرار ، ظهورا ( في نفسه ، أو بمعونة دليل خارجي ) كالاجماع وكالاستقراء وما أشبه ذلك ، فان مع ظهور الدليل ( في الاستمرار ليس موردا للاستصحاب ) .

وإنّما لم يكن موردا للاستصحاب ( لوجود الدليل الاجتهادي في مورد الشك وهو : ظنّ الاستمرار ) وظن الاستمرار حجة لبناء العقلاء عليه .

( نعم ، هو ) أي : التمسك بالاطلاق يكون ( من قبيل إستصحاب حكم العام ) والجريان عليه ( إلى أن يرد المخصّص ، وهو ) أي : الجريان على حكم العام إلى ورود المخصّص ( ليس إستصحابا في حكم شرعي ، كما لا يخفى ) بل هو ظهور عقلائي يرتبط بالاُصول اللفظية ، فهو دليل إجتهادي عليه بناء العقلاء ، وليس أصلاً عمليا .

( ثم إنّه ) أي : صاحب القوانين قدس سره قد ( أورد على ما ذكره : من قضاء التتبع بغلبة الاستمرار في ما ظاهره الاطلاق ) قائلاً : ( بأنّ النبوة أيضا من تلك الأحكام ) أي : من ان قوله تعالى لموسى : أنت نبيّ من المطلقات الشرعية التي إقتضى

ص: 170

ثم أجاب بأنّ غالب النبوّات محدودةٌ . والذي ثبت علينا إستمراره نبوة نبيّنا صلى اللّه عليه و آله وسلم .

ولا يخفى ما في هذا الجواب .

أمّا أولاً : فلأنّ ، نسخ أكثر النبوّات لا يستلزم تحديدها ، فللخصم أن يدّعي ظهور أدلّتها في أنفسها أو بمعونة الاستقراء

-------------------

الاستقراء إستمرارها ، فيظن باستمرارها لغلبة إرادة الشارع ذلك من مطلقاته سواء في الاُصول أم في الفروع .

( ثم أجاب ) عن هذا الايراد : ( بأنّ غالب النبوّات محدودةٌ ) لوضوح : ان كل نبوة جديدة كانت تنسخ النبوة السابقة ( والذي ثبت علينا إستمراره ) هو ( نبوة نبيّنا صلى اللّه عليه و آله وسلم ) فقط ، فالنبوة في غير النبي الخاتم ليست من قبيل سائر المطلقات الشرعية حتى يظن ببقائها عند الشك فيها .

( ولا يخفى ما في هذا الجواب ) من مواقع للنظر :

( أمّا أولاً : فلأنّ ) قول القوانين : «غالب النبوات محدودة» ظاهر في انه إستفاد هذه الغالبية من غالبية النسخ التي رآها في النبوات ، مع انه لا تلازم بين غلبة النسخ وغلبة التحديد ، فمن أين ان نبوة موسى محدّدة بمجيء نبي الاسلام ، ولذا قال المصنِّف : ان ( نسخ أكثر النبوّات لا يستلزم تحديدها ) وإذا لم يثبت التلازم بينهما لم يثبت المدّعى وهو : تحديد نبوة موسى بمجيء نبي الاسلام .

وإنّما لم يثبت المدّعى لأنه كما قال : ( فللخصم ) اليهودي حينئذ ( أن يدّعي ظهور أدلّتها ) أي : أدلة النبوات ( في أنفسها ) لا بالقرائن الخارجية لأنها مطلقات ( أو بمعونة الاستقراء ) والقرائن الخارجية ، فيدّعي لذلك ظهورها

ص: 171

في الاستمرار ، فانكشف نسخ ما نسخ وبقي ما لم يثبت نسخه .

وأمّا ثانيا : فلأنّ غلبة التحديد في النبوّات غير مُجدية ، للقطع بكون إحداها مستمرّة .

فليس ما وقع الكلام في إستمراره أمرا ثالثا يتردّد بين إلحاقه بالغالب ، وإلحاقه بالنادر ،

-------------------

( في الاستمرار، فانكشف نسخ ما نسخ ) كنبوة نوح - مثلاً - ( وبقي ما لم يثبت نسخه ) كنبوة موسى عند اليهودي ، أو نبوة عيسى عند المسيحي ظاهرا في الاستمرار .

( وأمّا ثانيا : فلأنّ غلبة التحديد في النبوّات ) على فرض التلازم بينهما وبين غلبة النسخ ( غير مُجدية ) أيضا لاثبات المدّعى وهو : ان نبوة موسى محدّدة بمجيء نبي الاسلام محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم .

وإنّما لم تكن مجدية أيضا ( للقطع بكون إحداها ) أي : إحدى تلك النبوات وهي النبوة الأخيرة ( مستمرّة ) فلليهودي أن يقول : لعل نبوة موسى هي المستمرة إلى الأبد ، فمن أين لكم أيها المسلمون إثبات ان نبوّة موسى محددة وليست بمستمرة مع إنكم تدّعون : ان غالب النبوات محدّدة لا جميعها ، وان نبوة واحدةً من هذه النبوات مستمرة ؟ فمن أين لا تكون تلك المستمرة هي نبوة موسى ؟ .

وعليه : ( فليس ما وقع الكلام في إستمراره ) من نبوة موسى ( أمرا ثالثا يتردّد بين إلحاقه بالغالب ، وإلحاقه بالنادر ) حتى يظن لحوقه بالغالب ، لأن المشكوك قد يكون مردّدا بين كونه ملحقا بالغالب ، أو ملحقا بالنادر ، وقد يكون مردّدا بين كونه ملحقا بالغالب ، أو هو نفس الفرد النادر ، ففي الأوّل يظن بلحوق المشكوك بالغالب ، بينما في الثاني لا يظن بلحوقه بالغالب ، وما وقع الكلام في إستمراره

ص: 172

بل يشك في أنّه الفرد النادر أو النادر غيره ، فيكون هذا ملحقا بالغالب .

والحاصل : أنّ هنا أفرادا غالبا وفردا نادرا ، وليس هنا مشكوك قابل اللحوق بأحدهما ، بل الأمر يدور بين كون هذا الفرد هو الأخير النادر أو ما قبله الغالب ،

-------------------

هنا من قبيل الثاني لا الأوّل كما قال : ( بل يشك في أنّه ) أي : ما وقع الكلام في إستمراره من نبوة موسى هل هو نفس ( الفرد النادر ) المستمر ( أو النادر غيره ) يجيء بعده فينسخه ويبقى ذلك النادر مستمرا ، وهو نبوة نبي الاسلام نبينا محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ؟ فانه لا يظن في هذا الفرض لحوق المشكوك بالغالب .

وعليه : ( فيكون هذا ) الذي وقع الكلام في إستمراره من نبوة موسى على الفرض الأوّل ( ملحقا بالغالب ) لا على الفرض الثاني .

مثلاً : إذا كان العصفور يعيش سنة والغراب يعيش كثيرا ، وشك في اللقلق بانه كالعصفور أو كالغراب ؟ فهنا يصح أن يقال : هذا ملحق بالعصفور أو ملحق بالغراب ، بينما إذا كان في الدار طائر لا نعلم بانه عصفور أو غراب ؟ فهنا لا يصح أن يقال : انه ملحق بالعصفور أو ملحق بالغراب ؟ بل يجب ان يقال : هل أنّه عصفور أو غراب لأنّه لا ثالث ؟ وما وقع الكلام في إستمراره من نبوة موسى من قبيل الثاني ، لا من قبيل الأوّل .

( والحاصل : أنّ هنا ) في باب النبوة ( أفرادا غالبا ) هي النبوات غير المستمرة ( وفردا نادرا ) هو النبوة المستمرة ( وليس هنا ) قسم ثالث ( مشكوك قابل اللحوق بأحدهما ، بل الأمر يدور بين كون هذا الفرد ) المشكوك هل ( هو الأخير النادر ) الذي يبقى مستمرا ( أو ما قبله الغالب ) أي : ما قبل الأخير من افراد النبوات غير المستمرة وهي الافراد الغالبة ؟ فان المشكوك هنا ليس قسما ثالثا

ص: 173

بل قد يثبت بأصالة عدم ما عداه كون هذا هو الأخير المغاير للباقي .

ثم أورد قدس سره على نفسه : بجواز إستصحاب أحكام الشريعة السابقة المطلقة .

وأجاب : بأنّ إطلاق الأحكام مع إقترانها ببشارة مجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم لا ينفعهم .

وربما يورد عليه أنّ الكتابي

-------------------

حتى يلحق بأحد القسمين .

( بل قد يثبت بأصالة عدم ما عداه ) أي : يثبت باستصحاب ما عدا هذا المشكوك من نبوة موسى ( كون هذا هو الأخير المغاير للباقي ) من افراد النبوات غير المستمرة ، وهذا ما لا يريد القوانين إثباته لأنه يثبت مطلوب الكتابي ، لا مطلوبه ، فعليه ان يجيب بجواب غير هذا .

( ثم ) ان القوانين قد تفطّن إلى ما يمكن للكتابي التمسك به وذلك بان يقول : إذا لم يجر الاستصحاب في نبوة موسى لغلبة تحديد النبوات ، فليجر في أحكام شريعته ، إذ لا غلبة في تحديدها ، بل الغالب إستمرارها ، ولردّ ذلك ( أورد قدس سره على نفسه : بجواز إستصحاب أحكام الشريعة السابقة المطلقة ) أي : التي لم تقيّد بزمان خاص فيثبت بذلك مطلوب الكتابي .

( وأجاب : بأنّ إطلاق الأحكام مع إقترانها ببشارة مجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم لا ينفعهم ) فانه لا ينفع الكتابي ذلك ، لأن الأحكام السابقة لشريعة موسى - مثلاً - حيث كانت مقترنة ببشارة مجيء محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، كان معنى ذلك : انها موقتة ، فيكون الشك فيها من الشك في المقتضي الذي لا يجري الاستصحاب فيه .

هذا ( وربما يورد عليه ) أي : على هذا الكلام من القوانين : ( أنّ الكتابي

ص: 174

لا يسلّم البشارة المذكورة حتى يضُرُّه في التمسك بالاستصحاب ، ولا ينفعه .

ويمكن توجيه كلامه : بأنّ المراد أنّه إذا لم ينفع الاطلاق مع إقترانها بالبشارة فإذا فرض قضيّة نبوّته مهملة ، غير دالّة إلاّ على مطلق النبوة ، فلا ينفع الاطلاق بعد العلم بتبعيّة تلك الأحكام لمدّة النبوة ، فانّها تصير أيضا حينئذ مهملة .

-------------------

لا يسلّم البشارة المذكورة ) بمجيء محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ( حتى يضرّه ) ذلك ( في التمسك بالاستصحاب ، و ) حتى ( لا ينفعه ) الاستصحاب حينئذ .

( و ) لكن ( يمكن توجيه كلامه ) أي : كلام القوانين ( بأنّ المراد ) ليس هو المناظرة مع الكتابي حتى يمنع الكتابي البشارة ، بل المراد : إثبات انه مع تقارن إطلاقات أحكام الأنبياء السابقين بالبشارة بمجيء محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، لم يحصل الظن باستمرار تلك الأحكام عند الشك فيها بعد مجيء من بشّروا به ، كما لم يحصل الظن باستمرار أحكامهم أيضا مع كون نبواتهم مهملة ، لأن الشرايع ملازمة للنبوات ، فإذا كانت النبوات مهملة ولا يصح إستصحابها ، كانت الشرايع مهملة ولا يصح إستصحابها أيضا .

والحاصل : ( أنّه إذا لم ينفع الاطلاق مع إقترانها بالبشارة ) في حصول الظن باستمرار الأحكام ( ف ) كذلك ( إذا فرض قضيّة نبوّته مهملة ، غير دالّة إلاّ على مطلق النبوة ، فلا ينفع الاطلاق ) أي : إطلاق أحكام شريعته في حصول الظن باستمرارها عند الشك فيها أيضا ( بعد العلم بتبعيّة تلك الأحكام لمدّة النبوة ) فيها وذلك للملازمة بينهما على ما عرفت ( فانّها ) أي : الأحكام ( تصير أيضا حينئذ ) أي : حين إهمال النبوة ( مهملة ) فلا يصح إستصحابها .

ص: 175

ثم إنّه يمكن الجواب عن الاستصحاب المذكور بوجوه :

الأوّل : أنّ المقصود من التمسك به ، إن كان الاقتناع به في العمل عند الشك ، فهو مع مخالفته للمحكي عنه من قوله : « فعليكم كذا وكذا » ، فانّه ظاهرٌ في أنّ غرضه الاسكات والالزام - فاسدٌ جدا - لأنّ العمل به على تقدير تسليم جوازه غير جائز إلاّ بعد الفحص والبحث . وحينئذ يحصل العلم بأحد الطرفين

-------------------

( ثم إنّه يمكن الجواب عن الاستصحاب المذكور بوجوه ) خمسة ، إضافة إلى الوجوه الأربعة الماضية التي ذكرناها سابقا :

الوجه ( الأوّل : أنّ ) الاستصحاب الذي ذكره الكتابي ، امّا إقناعي يريد به إقناع نفسه بدينه ، وامّا الزامي يريد به الزام خصمه المسلم بقبول مدّعاه ، وعلى كل تقدير لم يكن الاستصحاب تاما .

أمّا على تقدير كونه إقناعيا فنقول : ( المقصود من التمسك به ، إن كان الاقتناع به في العمل ) لنفسه ( عند الشك ) العارض له أعني : للكتابي في ان نبوة موسى باقية أم لا ( فهو مع مخالفته للمحكي عنه ) أي : المحكي عن ذلك الكتابي ( من قوله : « فعليكم كذا وكذا » ، فانّه ظاهرٌ ) من كلامه هذا ( في أنّ غرضه الاسكات والالزام ) لا إقناع نفسه به .

وعليه : فان كان مقصوده منه هو إقتناعه به فانه ( فاسدٌ جدا ) لأنه لا يتمكن ان يقتنع بسبب الاستصحاب ببقاء نبوة موسى ( لأنّ العمل به ) أي : بالاستصحاب ( على تقدير تسليم جوازه ) هنا وعدم ورود الاشكالات السابقة على إستصحاب النبوات عليه ( غير جائز إلاّ بعد الفحص والبحث ، وحينئذ ) أي : حين فحص وبحث ( يحصل العلم بأحد الطرفين ) : امّا نبي لازم الطاعة ، وامّا انه قد إنقضت

ص: 176

بناءا على ما ثبت من إنفتاح باب العلم في مثل هذه المسألة ، كما يدلّ عليه النصّ الدالّ على تعذيب الكفار والاجماع المدّعى على عدم معذورية الجاهل ، خصوصا في هذه المسألة ، خصوصا من مثل هذا الشخص الناشيء في بلاد الاسلام .

وكيف كان : فلا يبقى مجال للتمسك بالاستصحاب .

-------------------

نبوته فيلزم إطاعة نبي آخر .

إذن : فلا يبقى شك ( بناءا على ما ثبت ) عندنا ( من إنفتاح باب العلم في مثل هذه المسألة ) الاُصولية التي هي من الاعتقادات المهمة ( كما يدلّ عليه النصّ الدالّ على تعذيب الكفار ) لوضوح : ان تعذيب العاجز عن العلم قبيح قطعا ، فما دلّ على تعذيبهم إنّما هو من جهة تقصيرهم في البحث مع إمكان تحصيل العلم ، أو عنادهم بعد علمهم بانه نبي ، كما قال سبحانه : « وجَحدوا بها وإستيقَنتْها أنفسهم » (1) .

( و ) كما يدل عليه أيضا ( الاجماع المدّعى على عدم معذورية الجاهل ، خصوصا في هذه المسألة ) المهمة التي هي من أركان اُمهات مسائل اُصول الدين، و ( خصوصا من مثل هذا الشخص ) الكتابي ( الناشيء في بلاد الاسلام ) حيث قد تقدّم انه كان في قرية ذي الكفل القريبة من النجف الأشرف والكوفة المقدسة .

( وكيف كان : فلا يبقى مجال ) للكتابي ( للتمسك بالاستصحاب ) والاقتناع به لبقاء نبوة موسى على نبينا وآله وعليه السلام ، وإنّما يجب عليه الفحص وتحصيل العلم .

ص: 177


1- - سورة النمل : الآية 14 .

وإن أراد به الاسكات والالزام ، ففيه : أنّ الاستصحاب ليس دليلاً إسكاتيّا، لأنّه فرع الشك ، وهو أمر وجداني كالقطع ، لا يلتزم به أحد .

وإن أراد بيان : أنّ مدّعي إرتفاع الشريعة السابقة ونسخها محتاج إلى الاستدلال ، فهو غلطٌ ، لأنّ مدّعي البقاء في مثل المسألة أيضا يحتاج إلى الاستدلال عليه .

-------------------

هذا ان أراد بالاستصحاب الاقتناع لنفسه ( وإن أراد به الاسكات والالزام ) للمسلم المخاصم له ( ففيه : أنّ الاستصحاب ليس دليلاً إسكاتيّا ، لأنّه فرع الشك ، و ) الشك ( هو أمر وجداني كالقطع ، لا يلتزم به أحد ) أي : ان الشك كالقطع أمر قلبي لا يمكن تحميله على الطرف ، والمسلم هنا لا شك له ، لا بالنسبة إلى نسخ نبوة موسى ، ولا بالنسبة إلى ثبوت نبوة نبي الاسلام ، فلا مجال للاستصحاب .

( وإن أراد بيان : أنّ مدّعي إرتفاع الشريعة السابقة ونسخها محتاج إلى الاستدلال ) على دعواه يعني : ان الكتابي إنّما جاء بالاستصحاب حتى يكون منكرا ، ويلجيء المسلم المدّعي إلى إقامة الدليل على معتقده ، فليس هو لاقناع نفسه ، ولا هو لالزام غيره ، فان كان مراده هذا ( فهو غلطٌ ) أيضا .

وإنّما هو ليس بصحيح أيضا ( لأنّ مدّعي البقاء ) أي : بقاء نبوة موسى وهو الكتابي لا يكفيه الاستصحاب ( في مثل المسألة ) التي هي من أهم الاعتقاديات ، فهو ( أيضا يحتاج إلى الاستدلال عليه ) فانّ كل واحد من مدّعي النسخ ، أو مدّعي البقاء لنبوة نبي من الأنبياء يحتاج إلى الاستدلال الموجب للعلم والقطع ، وإلاّ فكل واحد ممن يدين بنبوة نبي : موسى كان ، أو قبل موسى ، أو بعد موسى ، يتمكن أن يتمسك بالاستصحاب على من بعده ، لاثبات صحة دينه وبطلان دين اللاحق ، وهو واضح البطلان .

ص: 178

الثاني : أنّ إعتبار الاستصحاب إن كان من باب الاخبار ، فلا ينفع الكتابي التمسك به ، لأنّ ثبوته في شرعنا مانعٌ عن إستصحاب النبوّة ، وثبوته في شرعهم غير معلوم .

نعم ، لو ثبت ذلك من شريعتهم أمكن التمسك به ، لصيرورته حكما إلهيا غير منسوخ ، يجب تعبّد الفريقين به ، وإن كان

-------------------

الوجه ( الثاني : أنّ إعتبار الاستصحاب إن كان من باب الاخبار ) مثل : « لا تنقض اليقين بالشك» (1) ( فلا ينفع الكتابي التمسك به ، لأنّ ثبوته في شرعنا مانعٌ عن إستصحاب النبوّة ) السابقة ، فان الأخذ به من شرعنا يعني : قبول حقانية شرعنا وإعتراف بنسخ ما قبله ( وثبوته في شرعهم غير معلوم ) لنا ، فلا يصح التمسك بالاستصحاب لاثبات الكتابي مطلوبه .

( نعم ، لو ثبت ذلك ) أي : حجية الاستصحاب ( من شريعتهم أمكن التمسك به ) أي : بالاستصحاب ( لصيرورته ) أي : الاستصحاب حينئذ ( حكما إلهيا غير منسوخ ، يجب تعبّد الفريقين به ) إذ هو حجة عندنا وعندهم فكلانا نقول بحجية الاستصحاب ، لكن ذلك لا ينفع الكتابي أيضا ، لا لنفسه لأن النبوة - كما عرفت - من أركان اُصول الدين ولا يكفي الاستصحاب لاثباتها ، ولا لغيره لأنا نرى حجية الاستصحاب في مورد الشك ، ونحن لا نشك في نبوة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ولا في إنقضاء نبوة موسى ، فهو كما إذا قال : الليل باق ، وأراد إثبات بقاء الليل بالاستصحاب لمن يعلم وجدانا بأن الآن نهار وليس بليل .

هذا ان كان حجية الاستصحاب من باب الاخبار ( وإن كان ) حجيّة

ص: 179


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

من باب الظنّ ، فقد عرفت في صدر المبحث : أنّ حصول الظنّ ببقاء الحكم الشرعي الكلّي ممنوع جدا .

وعلى تقديره فالعمل بهذا الظنّ في مسألة النبوّة ممنوعٌ .

وإرجاع الظنّ بها إلى الظنّ بالأحكام الكلّية الثابتة في تلك الشريعة أيضا لا يجدي لمنع الدليل على العمل بالظنّ ، عدا دليل الانسداد غير الجاري في المقام مع التمكّن من التوقّف والاحتياط في العمل ،

-------------------

الاستصحاب ( من باب الظنّ ) العقلائي ( فقد عرفت في صدر المبحث : أنّ حصول الظنّ ببقاء الحكم الشرعي الكلّي ) كنبوة موسى وإستمرار شريعته ( ممنوع جدا ) بعد كونه شكا في مقدار إستعداده للبقاء ممّا يكون شكا في المقتضي ، وبعد شيوع لنسخ النبوات والشرايع ، فلا يحصل مع ذلك الظن الشخصي ولا النوعي ببقائه .

( وعلى تقديره ) أي : على تقدير حصول الظن ( فالعمل بهذا الظنّ في مسألة النبوّة ممنوعٌ ) حيث قد عرفت سابقا : ان الاعتقادات لا يكفي الظن فيها .

إن قلت : نرجع الظن بالنبوة إلى الظن بأحكام الشريعة ، والغالب في الأحكام بقاءها ، فنستصحبها لحصول الظن فيها .

قلت : ( وإرجاع الظنّ بها ) أي : بالنبوة ( إلى الظنّ بالأحكام الكلّية الثابتة في تلك الشريعة أيضا لا يجدي ) .

وإنّما لا يجري الاستصحاب فيها وان حصل الظن ( لمنع الدليل على العمل بالظنّ ، عدا دليل الانسداد غير الجاري في المقام ) فان دليل الانسداد لا يجري ( مع التمكّن من التوقّف ) في الاعتقاد ( والاحتياط في العمل ) وهنا يمكن التوقف في الاعتقاد ، ويمكن الاحتياط من حيث العمل أيضا ، فلا مسرح للعمل

ص: 180

ونفي الحرج لا دليل عليه في الشريعة السابقة ، خصوصا بالنسبة إلى قليل من الناس ممّن لم يحصل له العلم بعد الفحص والبحث .

ودعوى « قيام الدليل الخاص على إعتبار هذا الظنّ ، بالتقريب الذي ذكره بعض المعاصرين ، من أنّ شرائع الأنبياء السلف ، وإن كانت لم تثبت على سبيل الاستمرار ، لكنّها في الظاهر لم تكن محدودة بزمن معيّن ، بل بمجيء النبي اللاحق ، ولا ريب أنّها تستصحب ما لم تثبت نبوّة اللاحق ،

-------------------

بالظن الانسدادي .

( و ) إن قلت : انا لا نتمكن من الاحتياط في العمل بالشريعتين ، لأنه حرج .

قلت : إنّ ( نفي الحرج لا دليل عليه في الشريعة السابقة ، خصوصا بالنسبة إلى قليل من الناس ممّن لم يحصل له العلم بعد الفحص والبحث ) فان أهل الشريعة السابقة ما داموا لم يفحصوا أو فحصوا ولم يحصل لهم العلم بأحد الطرفين ، عليهم ان يحتاطوا بالجمع بين الشريعتين ، بل ربما يظهر من جملة من الآيات والروايات : ان الحرج كان في الشرايع السابقة لتعنّت الاُمم الماضية وعدم إنصياعهم للحق .

هذا ( ودعوى قيام الدليل الخاص على إعتبار هذا الظنّ ) ببقاء النبوة والشريعة، وذلك ( بالتقريب الذي ذكره بعض المعاصرين ) وهو صاحب الفصول : ( من أنّ شرائع الأنبياء السلف ، وإن كانت لم تثبت على سبيل الاستمرار ، لكنّها في الظاهر لم تكن محدودة بزمن معيّن ) كمائة سنة أو خمسمائة سنة مثلاً ، ( بل بمجيء النبي اللاحق ، ولا ريب أنّها تستصحب ما لم تثبت نبوّة اللاحق ) .

وعليه : فان العقلاء إذا شكّوا في مجيء النبي اللاحق وعدم مجيئه ، ولم يكن لهم طريق إلى إثبات نبوة النبي اللاحق بالقطع واليقين ، فانهم يستصحبون نبوة

ص: 181

ولولا ذلك لاختلّ على الاُمم السابقة نظام شرائعهم من حيث تجويزهم في كلّ زمان ظهور نبي ولو في الأماكن البعيدة ، فلا يستقر لهم البناء على أحكامهم » ، مدفوعة : بأنّ إستقرار الشرائع لم يكن بالاستصحاب قطعا ، وإلاّ لزم كونُهم شاكّين في حقيّة شريعتهم ونبوّة نبيهم في أكثر الأوقات ، لما تقدّم : من أنّ الاستصحاب بناءا على كونه من باب الظنّ ، لا يفيد الظنّ الشخصي في كلّ مورد .

وغاية ما يستفاد من بناء العقلاء في الاستصحاب

-------------------

النبي السابق وشريعته .

( ولولا ذلك ) أي : الاستصحاب حين الشك في مجيء النبي الجديد والشريعة الجديدة ( لاختلّ على الاُمم السابقة نظام شرائعهم ) وذلك ( من حيث تجويزهم في كلّ زمان ظهور نبي ولو في الأماكن البعيدة ) فإذا لم يستصحبوا مع ذلك نبوة النبي اللاحق وشريعته ( فلا يستقر لهم البناء على أحكامهم » ) التي عملوا بها في صلاتهم وصيامهم وعقودهم وإيقاعاتهم ، ونكاحهم ومواريثهم ، وغير ذلك .

وكيف كان : فان هذه الدعوى ( مدفوعة : بأنّ إستقرار الشرائع ) عند أهل كل شريعة : إنّما هو بسبب علمهم ، فانه ( لم يكن بالاستصحاب قطعا ، وإلاّ ) بان كان بالاستصحاب ( لزم كونهم شاكّين في حقيّة شريعتهم ونبوة نبيهم في أكثر الأوقات ) .

وإنّما لزم كونهم شاكين ( لما تقدّم : من أنّ الاستصحاب بناءا على كونه من باب الظنّ، لا يفيد الظنّ الشخصي في كلّ مورد ) فكيف يلتزمون بنبوة نبيهم وبقاء شريعتهم مع انه لا قطع ولا ظن شخصي لهم بذلك ، وهذا ممّا لا يمكن أن يلتزم به أحد ؟ .

( وغاية ما يستفاد من بناء العقلاء في الاستصحاب ) لنبوة النبي اللاحق

ص: 182

هي ترتيب الأعمال المترتبة على الدين السابق دون حقيّة دينهم ونبوّة نبيهم التي هي من اُصول الدين .

فالأظهر أن يقال : إنّهم كانوا قاطعين بحقيّة دينهم من جهة بعض العلامات التي أخبرهم بها النبي السابق .

نعم ، بعد ظهور النبي الجديد ، الظاهر كونهم شاكّين في دينهم مع بقائهم على الأعمال .

وحينئذ : فللمسلمين أيضا أن يطالبوا اليهود باثبات حقيّة دينهم لعدم الدليل لهم عليها وإن كان لهم الدليل على البقاء

-------------------

وشريعته على فرض حصول الشك لهم في ذلك ( هي ترتيب الأعمال المترتبة على الدين السابق ) فقط ( دون حقيّة دينهم ونبوّة نبيهم التي هي من اُصول الدين ) فانهم لا يبنون عليها للاستصحاب أو الظنون الشخصية ، وحينئذ ( فالأظهر أن يقال : إنّهم كانوا قاطعين بحقيّة دينهم من جهة بعض العلامات التي أخبرهم بها النبي السابق ) مثلاً .

( نعم ، بعد ظهور النبي الجديد ، الظاهر كونهم ) في الغالب عند التفاتهم إلى ذلك يصبحون ( شاكّين في ) حقيّة ( دينهم ) ولذا كان كثير منهم يفحصون ويبحثون ، ويناظرون ويجادلون ولكن ( مع بقائهم على الأعمال ) السابقة بالاستصحاب حتى يتبين لهم ان الحق في أيّ الطرفين ؟ .

( وحينئذ ) أي : حين يصبحون شاكّين في دينهم بعد ظهور النبي الجديد ( فللمسلمين أيضا أن يطالبوا ) هؤلاء الشاكين من ( اليهود ) والنصارى وسائر أهل الكتاب والشرايع السابقة ( باثبات حقيّة دينهم لعدم الدليل لهم عليها ) أي : على حقيّة دينهم ( وإن كان لهم الدليل ) وهو الاستصحاب ( على البقاء

ص: 183

على الأعمال في الظاهر .

الثالث : أنّا لم نجزم بالمستصحب وهي : نبوة موسى أو عيسى إلاّ بأخبار نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم ونصّ القرآن ،

-------------------

على الأعمال في الظاهر ) ما داموا شاكين - على ما عرفت - ولكن لا يخفى : انهم لو شكوا في حقيّة دينهم شكوا في بقاء شريعتهم أيضا ، لأنه فرع الدين ، ومثل هذا لا يبني العقلاء عليه بالاستصحاب .

الوجه ( الثالث ) : من وجوه الأجوبة على إستصحاب الكتابي هو : ان الاستصحاب لا يكون دليلاً ملزما لنا نحن المسلمين ، وذلك ( أنّا لم نجزم بالمستصحب وهي : نبوة موسى أو عيسى إلاّ باخبار نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم (1) ونصّ القرآن ) (2) الذي هو معجزة نبينا ، ويدل على عدم جزمنا به لولا إخبار رسول الاسلام وقرآنه عدم جزمنا بنبوة مثل بوذا أو كنفوشيوس وسقراط وغيرهم ممن يدّعي أتباعهم نبوتهم ، لأن نبيّنا لم يخبرنا عن نبوتهم .

هذا بالاضافة إلى أنّ في الموجود الآن بين يدي أهل الكتاب من دين موسى وعيسى ومن توراتهم وانجيلهم ما يندى له الجبين من كثرة الخرافات المنسوبة إلى شخص النبيين وإلى شرائعهم ، حتى انه لو لم يكن أخبرنا الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم بأنهما نبيّان ، وان أصل كتابيهما : التوراة والانجيل - لا هذان الموجودان الآن - من اللّه سبحانه وتعالى ، لكنّا نعتقد بعدم نبوتهما ، وعدم صحة إنتساب التوراة والانجيل إلى اللّه سبحانه (3) .

ص: 184


1- - بصائر الدرجات : ص121 ح1 ، بحار الانوار : ج23 ص96 ب5 ح3 و ج69 ص11 ب28 ح12 .
2- - راجع سورة البقرة : الآية 36 ، وسورة الاعراف : الآية 104 ، وسورة المائدة : الآية 46 .
3- - وقد تطرّق الشارح الى مثالب المسيحية في كتابه : ماذا في كتب النصارى ؟ .

وحينئذٍ : فلا معنى للاستصحاب .

ودعوى : أنّ النبوّة موقوفة على صدق نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم « لا على نبوته » ، مدفوعة : بأنّا لم نعرف صدقه إلاّ من حيث ثبوته .

-------------------

( وحينئذٍ ) أي : حين لم نجزم بالمستصحب إلاّ بأخبار نبينا ( فلا معنى للاستصحاب ) بعد ذلك ، لأن اليقين بنبوة موسى أو عيسى لم يحصل لنا إلاّ من اليقين بنبوة نبينا وحقانية كتابه وشريعته ونسخ ما قبلها من النبوات والشرايع ، ومعه لا شك فلا إستصحاب .

هذا ( ودعوى : أنّ النبوّة ) لموسى أو لعيسى غير موقوفة على نبوة نبينا حتى تكون نبوة نبينا ناسخة لنبوة موسى أو عيسى ، وإنّما هي ( موقوفة على صدق نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم « لا على نبوته » ) وإذا لم تكن نبوة موسى أو عيسى موقوفة على نبوة نبينا ، بل على صدقه فقط ، فلا نبوة لنبينا فرضا حتى تكون ناسخة لنبوة موسى أو عيسى ، فيجري إستصحاب نبوة موسى أو عيسى بلا مانع .

وبعبارة اُخرى : ان كون موسى وعيسى نبيّين موقوف على صدق المخبر ، لا على نبوته ، وذلك لأن الصادق إذا أخبر بشيء قُبل خبره ، فإذا أخبرنا الصادق الأمين يعني : محمد بن عبداللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم بنبوة موسى وعيسى يحصل لنا اليقين بنبوتهما ، فيجري الاستصحاب عند الشك في بقاء نبوتهما .

لكن هذه الدعوى ( مدفوعة : بأنّا لم نعرف صدقه إلاّ من حيث ثبوته ) أي : ان صدق محمد بن عبداللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم بحيث يحصل من خبره العلم بنبوة موسى وعيسى لم يعرف إلاّ من جهة نبوته ، فانا إذا لم نكن نعرف انه نبي لم نكن نعرف انه صادق ، فالمعجزة دلت على نبوته ، ونبوته أوجبت علمنا بصدقه .

ص: 185

والحاصل : أنّ الاستصحاب موقوف على تسالم المسلمين وغيرهم عليه ، لا من جهة النصّ عليه في هذه الشريعة .

وهو مشكل ، خصوصا بالنسبة إلى عيسى على نبيّنا وآله وعليه السلام ، لامكان معارضة قول النصارى بتكذيب اليهود .

الرابع : أنّ مرجع النبوّة المستصحبة ليس إلاّ إلى وجوب التديّن بجميع ما جاء به ذلك النبي ،

-------------------

( والحاصل : أنّ الاستصحاب موقوف على تسالم المسلمين وغيرهم عليه ) أي : على المستصحب من جهة ثبوته خارجا بالمعجزة ( لا من جهة النصّ عليه في هذه الشريعة ) فان إتفق الكل على المستصحب لثبوته خارجا بالمعجزة كان إلزام الكتابي لنا صحيحا ، وامّا ان يثبت المستصحب بنص شريعتنا فان ذلك ممّا لا ينفع الكتابي ، لأنا نصدّق بشريعتنا ، ومعنى تصديقنا بشريعتنا : ان نبوتهما قد إنقطعت .

هذا ، ولكن تسالم الجميع على المستصحب ممنوع كما قال : ( وهو ) أي : التسالم ( مشكل ، خصوصا بالنسبة إلى عيسى على نبيّنا وآله وعليه السلام ، لامكان معارضة قول النصارى ) القائلين ان عيسى نبي ( بتكذيب اليهود ) لهم ، فان اليهود ينكرون نبوة عيسى ، ويكذّبون النصارى في ذلك ، كما ان النصارى ينكرون نبوة موسى ويكذبون اليهود في ذلك ، وأما نحن المسلمين ، فانا وان قلنا بنبوة موسى وعيسى من جهة النص عليهما في شريعتنا ، إلاّ انا نقول بانقطاع نبوتهما ، فأين التسالم مع وجود هذا الاختلاف الكبير ؟ .

الوجه ( الرابع ) : من وجوه الأجوبة على إستصحاب الكتابي هو : ( أنّ مرجع النبوّة المستصحبة ليس إلاّ إلى وجوب التديّن بجميع ما جاء به ذلك النبي ) وهو

ص: 186

وإلاّ فأصل صفة النبوة أمر قائم بنفس النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، لا معنى لاستصحابه لعدم قابليته للارتفاع أبدا .

ولا ريب أنّا قاطعون بأنّ من أعظم ما جاء به النبي السابق الاخبار بنبوّة نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم ،

-------------------

موسى في المثال فإذا تديّنا بجميع ما جاء به موسى ، ومن جملة ما جاء به بلا ريب هو : نبوة نبينا ، فيلزم من وجوب التديّن بما جاء به موسى التديّن بانقطاع نبوته بمجيء نبينا محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم .

توضيحه : إنّ النبوة التي يريد الكتابي إستصحابها ان كانت بمعنى الصفات الرفيعة الموجودة في نفس موسى التي تؤهله لتلقّي الوحي والرسالة ، فاستصحابها لا ينفعنا ، لأن كون النفس رفيعة لا توجب لنا تكليفا .

وإن كانت بمعنى : السلطة التي بها يتصرّف في الآفاق والأنفس بسبب إرتفاع نفسيته ومكانته من اللّه سبحانه وتعالى ، فاستصحابها لا ينفعنا أيضا ، لأنه لا يحدث لنا تكليفا أيضا .

وإن كانت بمعنى : الرياسة الالهية العامة ، المستلزمة وجوب إطاعته وإتباع شريعته ، فذلك لا ينفع الكتابي ، لأن ممّا جاء به موسى هو : البشارة بنبينا ، وإذا ثبتت بشارته بنبينا كما نحن نقطع بذلك ، فليس علينا إتباعه بعد مجيء نبينا .

( وإلاّ ) بأن لم تكن النبوة بمعنى وجوب التديّن الذي ذكرناه في المعنى الثالث ( فأصل صفة النبوة أمر قائم بنفس النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم لا معنى لاستصحابه ) بل هو مقطوع به ( لعدم قابليته للارتفاع أبدا ) فان النبي لا ينقلب عن كونه نبيا .

هذا ( ولا ريب أنّا قاطعون بأنّ من أعظم ما جاء به النبي السابق ) هو ( الاخبار بنبوّة نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم ) ممّا يوجب عدم كون الاستصحاب ملزما لنا نحن المسلمين

ص: 187

كما يشهد به الاهتمام بشأنه في قوله تعالى حكاية عن عيسى على نبينا وآله وعليه السلام : « إنّي رسولُ اللّه إليكُم مُصدِّقا لِما بينَ يديَّ من التوراةِ ومُبشِّرا برسولٍ يأتي من بعدي إسمُه أحمَد » فيكون كلّ ما جاء به من الأحكام ، فهو في الحقيقة مغيّى بمجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم.

فدين عيسى على نبينا وآله وعليه السلام المختص به ، عبارةٌ عن مجموع أحكام مغيّاة إجمالاً بمجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم .

ومن المعلوم : أنّ الاعتراف ببقاء ذلك الدين لا يضرّ

-------------------

( كما يشهد به ) أي : بأخبار النبي السابق بنبوة نبينا ( الاهتمام بشأنه ) أي : بشأن نبينا ( في قوله تعالى حكاية عن عيسى على نبينا وآله وعليه السلام : « إنّي رسول اللّه إليكم مُصدِّقا لِما بين يديّ من التوراةِ ومبشّرا برسولٍ يأتي من بعدي إسمُه أحمَد » (1)) فالبشارة برسول الاسلام من أعظم ما بشر به عيسى .

وعليه : ( فيكون كلّ ما جاء به ) النبي السابق ( من الأحكام ، فهو في الحقيقة مغيّى بمجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم ) وإذا ثبتت هذه البشارة كما هي ثابتة لدينا ، فلا يبقى مجال للكتابي حتى يلزمنا بسبب الاستصحاب .

إذن : ( فدين عيسى على نبينا وآله وعليه السلام المختص به ، عبارةٌ عن مجموع أحكام مغيّاة إجمالاً بمجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم ) وكذلك بقية أديان الأنبياء السابقين فانها مغيّاة بمجيء نبينا .

( ومن المعلوم : أنّ الاعتراف ببقاء ذلك الدين ) السابق كدين موسى أو دين عيسى إلى زمان مجيء نبينا محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم على ما نعتقد به نحن ( لا يضرّ

ص: 188


1- - سورة الصف : الآية 6 .

المسلمين فضلاً عن إستصحابه .

فان أراد الكتابي دينا غير هذه الجملة المغيّاة إجمالاً بالبشارة المذكورة فنحن منكرون له ، وإن أراد هذه الجملة فهو عين مذهب المسلمين ، وفي الحقيقة بعد كون أحكامهم مغيّاة لا رفع حقيقة ، ومعنى النسخ : إنتهاء مدّة الحكم المعلوم إجمالاً .

-------------------

المسلمين فضلاً عن إستصحابه ) أي : انه إذا كان إعترافنا نحن المسلمين ببقاء الأديان السابقة إلى مجيء نبينا لا يضر باعتقادنا بنبينا وشريعتنا ، فاستصحاب بقائها لا يضر باعتقادنا بطريق أولى .

وعليه : ( فان أراد الكتابي دينا غير هذه الجملة ) من شريعة موسى أو عيسى ( المغيّاة إجمالاً بالبشارة المذكورة ) بنبينا ( فنحن منكرون له ) أي : لذلك الدين الخالي عن البشارة بنبينا .

( وإن أراد هذه الجملة ) المشتملة على البشارة بنبينا ( فهو عين مذهب المسلمين ) فلا يكون الكتابي بسبب الاستصحاب ملزما للمسلمين ، وإنّما يكون المسلمون بسبب مجيء نبينا ونسخ ما قبله ملزمين للكتابي ، مضافا إلى ان الاستصحاب هنا لا مجال له ، لانتهاء أمد الأديان السابقة بمجيء نبينا ، فلا شك ، وعلى فرض الشك فهو في المقتضي لا في الرافع كما قال :

( وفي الحقيقة بعد كون أحكامهم ) أي : أحكام الأديان السابقة ( مغيّاة ) بمجيء نبينا ( لا رفع حقيقة ) حتى يكون الشك في الرفع ، وإنّما تنتهي الأديان السابقة بانتهاء أمدها ( و ) ذلك معنى النسخ ، فان ( معنى النسخ : إنتهاء مدة الحكم المعلوم إجمالاً ) وهذا ليس معناه الرفع ، وإنّما معناه : إنتهاء المقتضي .

ص: 189

فان قُلت : لعلّ مناظرة الكتابيّ في تحقق الغاية المعلومة وأنّ الشخص الجائي هو المبشّر به أم لا فيصحّ تمسّكه بالاستصحاب .

قُلت : المسلّم هو الدين المغيّى بمجيء هذا الشخص الخاص ، لا بمجيء موصوف كلّي حتى يتكلّم في إنطباقه على هذا الشخص و يتمسك بالاستصحاب .

الخامس : أن يقال :

-------------------

( فان قُلت : لعلّ مناظرة الكتابيّ ) ليس في أصل الغاية ، بل ( في تحقق الغاية المعلومة وأنّ الشخص الجائي هو المبشّر به ) من جهة النبي السابق ( أم لا ) وإنّما يأتي بعد ذلك ؟ وحينئذ ( فيصحّ تمسّكه بالاستصحاب ) .

وإنّما يصح تمسك الكتابي حينئذ بالاستصحاب ، لأنّه قد إعترف بأن دينه ينتهي بمجيء نبي الاسلام محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وإنّما يشك في الصغرى يعني : في ان محمدا الذي ينسخ دين الكتابي هل هو محمد بن عبداللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم المبعوث قبل أربعة عشر قرنا ، أو هو محمد آخر يأتي بعد ذلك ؟ فالكتابي بادعاء هذا النوع من الشك يريد أن يلزم المسلمين باستصحاب شريعته حتى يثبت له مجيء محمد الذي بشّر به موسى .

( قُلت : المسلّم ) وجوده من الدين في الزمان السابق والذي يراد إستصحابه ( هو الدين المغيّى بمجيء هذا الشخص الخاص ) الذي جاء قبل أربعة عشر قرنا ( لا بمجيء موصوف كلّي حتى يتكلّم في إنطباقه على هذا الشخص و ) عدم إنطباقه حتى ( يتمسك بالاستصحاب ) لبقاء الدين السابق ، فلا مسرح إذن للاستصحاب هنا على ما يدّعيه الكتابي .

الوجه ( الخامس ) من وجوه الأجوبة على إستصحاب الكتابي هو ( أن يقال :

ص: 190

إنّا معاشر المسلمين ، لمّا علمنا أنّ النبي السالف أخبر بمجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وأنّ ذلك كان واجبا عليه ، ووجوب الاقرار به والايمان به يتوقف على تبليغ ذلك إلى رعيته ، صحّ لنا أن نقول : إنّ المسلّم نبوّة النبي السالف على تقدير تبليغ نبوّة نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم والنبوّة التقديرية لا تضرّنا ولا تنفعهم في بقاء شريعتهم .

ولعلّ هذا الجواب يرجع إلى ما ذكره الإمام أبو الحسن الرضا صلوات اللّه عليه في جواب الجاثليق ، حيث قال له عليه السلام :

« ما تقول في نبوة عيسى

-------------------

إنّا معاشر المسلمين لمّا علمنا أنّ النبي السالف ) كالنبي موسى أو عيسى - مثلاً - كان قد ( أخبر بمجيء نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وأنّ ذلك ) أي : اخباره بمجيء نبينا ( كان واجبا عليه ، ووجوب الاقرار به والايمان به يتوقف على تبليغ ذلك إلى رعيته ) لأن النبي معصوم ، فلا يمكنه ترك التبليغ ، وإذا كان كذلك ( صحّ لنا أن نقول : إنّ المسلّم نبوّة النبي السالف على تقدير تبليغ ) ذلك النبي السالف ( نبوة نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم ) .

وعليه : فالنبوة التحقيقية عندنا لموسى أو عيسى هي المبشرة بنبينا ، ممّا يوجب إنقطاع نبوتهما عند مجيء نبينا ( والنبوة التقديرية ) التي لم تبشر بنبينا ( لا تضرّنا ) لأنا لا نسلم بتلك النبوة ( ولا تنفعهم ) أي : لا تنفع الكتابي أيضا ، لأنه لا يستطيع إلزامنا بها ( في بقاء شريعتهم ) لأنا لا نسلّم النبوة السابقة التي لم تبشر بمجيء نبينا ولا نعترف بها ، ومع عدم الاعتراف لا مسرح للاستصحاب .

( ولعلّ هذا الجواب يرجع إلى ما ذكره الإمام أبو الحسن الرضا صلوات اللّه عليه في جواب الجاثليق حيث قال ) الجاثليق ( له عليه السلام : « ما تقول في نبوة عيسى

ص: 191

وكتابه ؟ هل تنكر منهما شيئا ؟ قال عليه السلام : أنّا مقرّ بنبوة عيسى وكتابه ، وما بشّر به اُمّته ، وأقرّت به الحواريون ، وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم وكتابه ، ولم يبشّر به اُمته . ثم قال الجاثليق : أليست تقطع الأحكام بشاهدي عدل ؟ قال عليه السلام : بلى . قال الجاثليق : فأقم شاهدين عدلين من غير أهل ملّتك على نبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم ممّن لا ينكره النصرانيّة ، وسلْنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا ، قال عليه السلام : « الآن جئت بالنصفة يانصراني ! » .

-------------------

وكتابه ؟ هل تنكر منهما شيئا ؟ قال عليه السلام : أنّا مقرّ بنبوة عيسى وكتابه ، وما بشّر به اُمّته ، وأقرّت به الحواريون ) من النبوة التي فيها بشارة لنبينا ( وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم وكتابه ، ولم يبشّر به اُمته ) فليس لي يقين بنبوة لم تبشر بنبينا حتى يتم الاستصحاب .

( ثم قال الجاثليق : أليست تقطع الأحكام ) أي النزاعات ( بشاهدي عدل ؟ ) فإذا لم أتمكن من إثبات نبوّة نبيّ بالاستصحاب ، أليس فصل الأمر إلى الشهود ؟ ( قال عليه السلام : بلى ) .

وحينئذٍ : ( قال الجاثليق : فأقم شاهدين عدلين من غير أهل ملّتك ) أي : من غير المسلمين ، لأن المسلمين في نظر الجاثليق متهمون بأنهم يجرّون النار إلى قرصهم ، فيشهدان ( على نبوّة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ممّن لا ينكره النصرانيّة ) لأن الشاهد يجب ان يكون مقبولاً عند الطرفين : المدّعي والمنكر ( وسلْنا مثل ذلك ) أعني : شاهدين عادلين ( من غير أهل ملتنا ) أي : من غير النصارى على صحة دين عيسى .

( قال عليه السلام : « الآن جئت بالنصفة يانصراني ! » ) والانصاف والنصفة بمعنى واحد ، وذلك باعتبار أن كل واحد من المتنازعين يأخذ النصف ، لا ان يجوز أحدهما على الآخر بأخذ الكل أو الأكثر .

ص: 192

ثم ذكر عليه السلام أخبار خواصّ عيسى

عليه السلام بنبوّة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم .

-------------------

( ثم ذكر عليه السلام أخبار خواصّ عيسى عليه السلام ) من الحواريين ( بنبوّة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ) (1) فأقام الإمام عليه السلام شاهدين عادلين مقبولين لدى الجاثليق على إنهما بشّرا بنبوة نبي الاسلام فقال عليه السلام : ما تقول في يوحنا الديلمي ؟ .

قال الجاثليق : بخ بخ ذكرت أحب الناس إلى المسيح .

قال الإمام عليه السلام : أقسمت عليك هل نطق الانجيل بأن يوحنا قال : إنّما المسيح أخبرني بدين محمد العربي وبشّرني به انه يكون من بعدي ، فبشّرت به الحواريون فآمنوا به ؟ .

قال الجاثليق : قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح وبشّر بنبوة رجل وبأهل بيته ووصيه ، ولم يلخّص متى يكون ذلك ؟ ولم يسمّ لنا القوم فنعرفهم .

أقول : قد إعترف الجاثليق بكلامه هذا بأصل البشارة ، لكن إدعى انه لم يعيّن ان محمدا الذي يأتي من بعد عيسى هو محمد رسول اللّه الذي يعترف به المسلمون ، وانه لم يسمّ عليا وفاطمة والحسن والحسين ومن إليهم من أله بيتهما صلوات اللّه عليهما وعليهم أجمعين .

وبعبارة اُخرى : إنّ الجاثليق بعد إنقطاعه عن الكبرى تمسك بالصغرى ، وادّعى ان الصغرى غير متحققة لديه وان كان قد قبل الكبرى ببشارة عيسى بنبي المسلمين .

قال عليه السلام : فإن جئناك بمن يقرء الانجيل فتلا عليك ذكر محمد وأهل بيته واُمته أتؤمن به ؟.

ص: 193


1- - انظر عيون أخبار الرضا : ج1 ص156 - 157 ح1 ، التوحيد : ص420 ، الاحتجاج : ص417 ، بحار الانوار : ج10 ص302 ب19 ح1 .

ولا يخفى : أنّ الاقرار بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به اُمته لا يكون حاسما لكلام الجاثليق ، إلاّ إذا اُريد المجموع من حيث المجموع ، بجعل الاقرار بعيسى على نبينا وآله وعليه السلام مرتبطا بتقدير بشارته المذكورة .

-------------------

أقول : ان الإمام عليه السلام بكلامه هذا أوضح للجاثليق : بانه مستعدّ لأن يدلّه على ما جاء في الانجيل من التصريح بالصغرى أيضا .

قال الجاثليق : أمر سديد .

عندها قال الإمام عليه السلام : خذ عليّ السفر الثالث من الانجيل ، ثم قرأ منه حتى بلغ ذكر محمد وأهل بيته واُمته ، ممّا دل على الصغرى الشخصية أيضا ، ثم انجرّ الكلام إلى ان قال الجاثليق : لا أنكر ما قد بان لي في الانجيل واني لمقرٌّ به ،(1) وتفصيل القصة مذكور في الاحتجاج والبحار وغيرهما .

هذا ( ولا يخفى : أنّ الاقرار ) من الإمام عليه السلام ( بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به اُمته ) بنحو الاجمال ( لا يكون حاسما لكلام الجاثليق ) أي : رادا له حتى ينقطع إستصحابه ( إلاّ إذا اُريد ) أي أراد الإمام عليه السلام ( المجموع من حيث المجموع ، بجعل الاقرار بعيسى على نبينا وآله وعليه السلام مرتبطا بتقدير بشارته المذكورة ) يعني : بأن جعل الإمام عليه السلام الاقرار معلّقا على نبوة مركّبة مع التبليغ والبشارة على نحو المركب الارتباطي بحيث لو أنكر انهم الجزء إنعدم المركب كلّه ، وحينئذ ينقطع الكتابي في تمسكه بالاستصحاب .

ص: 194


1- - الاحتجاج : ص417 ، التوحيد : ص420 ، عيون اخبار الرضا : ص156 - 158 ح1 ، بحار الانوار : ج10 ص302 ب19 ح1 .

ويشهد له قوله عليه السلام بعد ذلك : « كافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ ولم يبشِّر» فانّ هذا في قوّة مفهوم التعليق المستفاد من الكلام السابق .

وأمّا التزامه عليه السلام بالبيّنة على دعواه فلا يدلّ على تسليمه الاستصحاب وصيرورته مثبتا بمجرّد ذلك ،

-------------------

( ويشهد له ) أي : لارادة المجموع من حيث المجموع ( قوله عليه السلام بعد ذلك : « كافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ ولم يبشِّر » ) بنبوة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ( فانّ هذا ) الكلام من الإمام عليه السلام هنا ( في قوّة مفهوم التعليق المستفاد من الكلام السابق ) وهو قوله عليه السلام : انا مقرّ بنبوة عيسى وكتابه ، وما بشر به اُمته ، وأقرّت به الحواريون (1) .

إذن : فالاقرار معلق على إعتراف الكتابي بمركب إرتباطي جزء منه : النبوة ، وجزء منه : البشارة بنبي الاسلام ، فإذا قبل الكتابي المركب كله فقد إنقطع إستصحابه ، لأنه قد إعترف بنبوة نبي الاسلام ، وإذا لم يقبل الكتابي جزء البشارة ، فقد إنعدم المركب كله ، فلا إقرار منّا حتى يلزمنا بالاستصحاب ، فلا إستصحاب هنا على كل تقدير ( و ) ان قلت : إذا كان الإمام عليه السلام لم يقبل إستصحاب الجاثليق ، فلماذا قبل من الجاثليق أن يأتيه بالبينة ؟ .

قلت : ( أمّا التزامه عليه السلام بالبيّنة على دعواه ) الظاهر من قوله عليه السلام للجاثليق : الآن جئت بالنصفة ( فلا يدلّ على تسليمه ) عليه السلام من الجاثليق ( الاستصحاب وصيرورته ) أي الجاثليق بالاستصحاب ( مثبتا ) ومدّعيا ( بمجرّد ذلك ) أي :

ص: 195


1- - عيون أخبار الرضا : ص157 ، التوحيد : ص420 ، الاحتجاج : ص417 ، بحار الانوار : ج10 ص302 ب19 ح1 .

بل لأنّه عليه السلام من أوّل المناظرة ملتزمٌ بالاثبات . وإلاّ فالظاهر المؤيد بقول الجاثليق : « وسلنا مثل ذلك » ، كون كلّ منهما مدّعيا ، إلاّ أن يريد الجاثليق ببيّنته نفس الإمام وغيره من المسلمين المعترفين بنبوّة عيسى على نبينا وآله وعليه السلام

-------------------

بمجرد الالتزام منه عليه السلام باقامة البيّنة ( بل لأنّه عليه السلام من أول المناظرة ملتزمٌ بالاثبات ) لنبوة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم وليس للجاثليق فحسب ، بل لكل من يطلب الحق ، ومن المعلوم : ان كل من يريد إثبات أمر لأحد فعليه أن يأتي لذلك بالبيّنة .

( وإلاّ ) بان لم نقل ان الإمام عليه السلام ملتزم بالاثبات وإقامة البينة من أول المناظرة ( فالظاهر المؤيد بقول الجاثليق : « وسلنا مثل ذلك » ، كون كلّ منهما مدّعيا ) مع انه ليس كذلك قطعا ، فان الإمام عليه السلام إدّعى لعيسى النبوة المركبة مع التبليغ والبشارة، والجاثليق أنكر جزء البشارة ، فالجاثليق هنا منكر والإمام عليه السلام مدّع ، وليس كلاهما مدّعيين ، فليس إذن التزامه عليه السلام بالبينة تسليما للاستصحاب هنا .

نعم ، يمكن إخراج بينة الجاثليق عن كونها بينة إصطلاحية ، وذلك بارادته من البينة : اعتراف الإمام عليه السلام نفسه بنبوة نبيهم ، فإذا خرجت عن كونها بينة إصطلاحية، صح كون الجاثليق منكرا وكون الإمام عليه السلام مدعيا ، وبهذا الاخراج لا يكون أيضا التزام الإمام عليه السلام بالبينة تسليما للاستصحاب .

وإلى هذا الاخراج أشار المصنِّف حيث قال : ( إلاّ أن يريد الجاثليق ببيّنته ) التي عرض على الإمام عليه السلام ان يسأله عنها بأنها ليست هي البينة الاصطلاحية ، بل هي إعتراف ( نفس الإمام ) عليه السلام ( وغيره من المسلمين المعترفين بنبوّة عيسى على نبينا وآله وعليه السلام ) ومن المعلوم : ان هذا الاعتراف ليس هو بينة إصطلاحية .

وإنّما أخرج المصنِّف بينة الجاثليق عن كونها بينة إصطلاحية وقال : بأنه يريد

ص: 196

إذ لا بيّنة له ممّن لا ينكره المسلمون سوى ذلك ، فافهم .

الأمر العاشر :

إنّ الدليل الدالّ على الحكم في الزمان السابق ، إمّا أن يكون مبيّنا لثبوت الحكم في الزمان الثاني ، كقوله : « أكرم العلماء في كلّ زمان » وكقوله : « لا تُهِن فقيرا » ، حيث انّ النهي للدوام ؛

-------------------

من البينة إعتراف الإمام عليه السلام نفسه ، لأنه كما قال : ( إذ لا بيّنة له ) أي : للجاثليق بينة إصطلاحية بأن يقيم شاهدين عادلين ( ممّن لا ينكره المسلمون سوى ذلك ) أي سوى إعتراف الإمام عليه السلام نفسه وسائر المسلمين بنبوة نبيهم .

( فافهم ) إشكال من المصنِّف على ما قاله قبل قليل من قوله : إلاّ ان يريد الجاثليق ، لأن الظاهر من كلام الجاثليق هو : ان يأت الإمام عليه السلام ببينة ممن يقبله النصارى ، وان يأت هو أيضا ببينة يقبله الإمام عليه السلام والمسلمون ، لا ان المراد ببينة الجاثليق إعتراف الإمام عليه السلام وسائر المسلمين .

( الأمر العاشر ) : في بيان عموم العام وإستصحاب المخصص ، إعلم ( إنّ الدليل الدالّ على الحكم في الزمان السابق ) على ثلاثة أقسام :

الأوّل : وله شقان : ( إمّا أن يكون مبيّنا لثبوت الحكم في الزمان الثاني ) تصريحا ( كقوله : « أكرم العلماء في كلّ زمان » ) أو أكرم العلماء دائما ، أو وأكرم العلماء طول عمرك ، وغيره ممّا يدل على الدوام في كل الأزمنة تصريحا ( و ) إما التزاما ( كقوله : « لا تُهِن فقيرا » ، حيث انّ النهي للدوام ) إذ هو لطلب ترك الطبيعة ، والطبيعة سارية في الزمان الأوّل والزمان الثاني وسائر الأزمنة .

ص: 197

وإمّا أن يكون مبيّنا لعدمه ، نحو : « أكرم العلماء إلى أن يفسقوا» بناءا على مفهوم الغاية » .

وإمّا أن يكون غير مبيّن لحال الحكم في الزمان الثاني نفيا وإثباتا ، إمّا لاجماله ، كما اذا أمر بالجلوس إلى الليل ، مع تردّد الليل بين إستتار القرص وذهاب الحمرة ، وإمّا لقصور دلالته ،

-------------------

الثاني : ( وإمّا أن يكون مبيّنا لعدمه ) أي : لعدم ثبوت الحكم في الزمان الثاني ( نحو : « أكرم العلماء إلى أن يفسقوا » ) فانه دليل على عدم وجوب اكرامهم بعد فسقهم ، وذلك ( بناءا على مفهوم الغاية ) كما هو المشهور بين الاُصوليين والفقهاء: من ان الغاية لها مفهوم مثل قوله سبحانه : « أتمّوا الصيام إلى الليل » (1) وغيره من سائر الآيات والروايات المشتملة على الغاية الدالة على إنقضاء الحكم بمجيء الغاية .

الثالث : ( وإمّا أن يكون غير مبيّن لحال الحكم في الزمان الثاني نفيا وإثباتا ) فلا يدل على ثبوت الحكم في الزماني الثاني ولا على نفيه فيه ، وعدم دلالته لأحد وجهين :

الوجه الأوّل : ( إمّا لاجماله ، كما اذا أمر بالجلوس إلى الليل ، مع تردّد الليل بين إستتار القرص وذهاب الحمرة ) فان الدليل لما كان مجملاً لا نعلم هل الحكم مستمر إلى ذهاب الحمرة ، أو يكفي فيه إستتار القرص الذي هو قبل ذهاب الحمرة بمقدار ربع ساعة تقريبا ؟ .

الوجه الثاني : ( وإمّا لقصور دلالته ) وذلك يكون بالاهمال ، فانه فرق

ص: 198


1- - سورة البقرة : الآية 187 .

كما إذا قال : « إذا تغيّر الماء نَجِسَ » ، فانّه لا يدلّ على أزيد من حدوث النجاسة في الماء ، ومثل : الاجماع المنعقد على حكم في زمان ، فانّ الاجماع لا يشمل ما بعد ذلك الزمان .

ولا إشكال في جريان الاستصحاب في هذا القسم الثالث ، وأمّا القسم الثاني ،

-------------------

بين الاجمال والاهمال ، فان المجمل ما له دلالة ولكنّا لا نعلم هل دلالته على هذا الشيء أو ذاك الشيء ؟ وبينما المهمل ما ليس له دلالة أصلاً ، وذلك ( كما إذا قال : « إذا تغيّر الماء نَجِسَ » ، فانّه لا يدلّ على أزيد من حدوث النجاسة في الماء ) بسبب التغيّر ، وهذا الدليل مهمل لحكم النجاسة أو اللانجاسة بعد زوال التغيّر .

( ومثل : الاجماع المنعقد على حكم في زمان ) كخيار العيب ، حيث لا نعلم هل ان الحكم بالخيار ، الثابت في أول زمن العلم بالعيب موجود بعد ذلك الزمان حتى يصح الأخذ به ، أو ليس بموجود حتى لا يصح الأخذ به ( فانّ الاجماع لا يشمل ما بعد ذلك الزمان ) لأنه مهمل بالنسبة إليه .

إذن : فالدليل القائل : « إذا تغيّر الماء نجس » ، والاجماع ، كلاهما مهمل ، ولكن مع فرق بينهما وهو : ان الأوّل مهمل لفظي ، والثاني مهمل لبّي ، كما انه علم ممّا تقدّم : إنّ الاجمال لا يكون إلاّ في الدليل اللفظي ، بينما الاهمال قد يكون في الدليل اللفظي وقد يكون في الدليل اللبّي .

هذا ( ولا إشكال في جريان الاستصحاب في هذا القسم الثالث ) بكلا شقّيه : المجمل والمهمل ، وذلك لأن أركان الاستصحاب تامة فيه ، لوجود اليقين السابق، والشك اللاحق ، وهما ركنا الاستصحاب فيجري الاستصحاب بلا إشكال .

( وأمّا القسم الثاني ) وهو الذي ذكره المصنِّف بقوله : «واما ان يكون مبيّنا

ص: 199

فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ، لوجود الدليل على إرتفاع الحكم في الزمان الثاني .

وكذلك القسم الأوّل ، لأنّ عموم اللفظ للزمان اللاحق كافٍ ومُغنٍ عن الاستصحاب ، بل مانع عنه ، إذ المعتبر في الاستصحاب : عدم الدليل ولو على طبق الحالة السابقة .

ثم إذا فرض خروجُ بعض الافراد في بعض الأزمنة عن هذا العموم ،

-------------------

لعدمه» ( فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ، لوجود الدليل على إرتفاع الحكم في الزمان الثاني ) فلا شك في الزمان الثاني حتى يجري فيه الاستصحاب .

( وكذلك القسم الأوّل ) وهو الذي ذكره المصنِّف بقوله : «اما ان يكون مبيّنا لثبوت الحكم في الزمان الثاني» فانه لا يجري فيه الاستصحاب أيضا ( لأنّ عموم اللفظ للزمان اللاحق ) الذي هو دليل إجتهادي ( كافٍ ومُغنٍ عن الاستصحاب ) الذي هو دليل فقاهي .

إذن : فلا مجال للاستصحاب مع وجود الدليل الاجتهادي ، لان الدليل الاجتهادي ينفي موضوع الاستصحاب الذي هو الشك ، فلا شك معه ( بل ) عموم اللفظ للزمان الثاني ( مانع عنه ) أي : عن الاستصحاب في الزمان الثاني لما عرفت : من عدم الشك الذي هو موضوع الاستصحاب في الزمان الثاني .

وإنّما يكون عموم اللفظ للزمان الثاني مانعا عن الاستصحاب ( إذ المعتبر في الاستصحاب : عدم الدليل ولو على طبق الحالة السابقة ) فإذا كان دليل على طبق الحالة السابقة ، أو دليل على خلاف الحالة السابقة ، لم يكن مجرى للاستصحاب.

( ثم إذا فرض خروج بعض الافراد في بعض الأزمنة عن هذا العموم ) بأن قال - مثلاً - : اكرم العلماء دائما ثم قال : لا تكرم زيدا العالم يوم الجمعة ، فالسؤال

ص: 200

فشك فيما بعد ذلك الزمان المخرج بالنسبة إلى ذلك الفرد هل هو ملحقٌ به في الحكم أو ملحقٌ بما قبله ؟ الحق هو التفصيل في المقام ، بأن يقال :

إن اُخِذَ فيه عموم الأزمان افراديا ، بأن اُخِذ كلّ زمان موضوعا مستقلاً لحكم مستقل ، لينحلّ العموم إلى أحكام متعدّدة بتعدّد الأزمان كقوله : « أكرم العلماء كلّ يوم »

-------------------

هو انه هل نكرم زيدا العالم يوم السبت ، لعموم اكرم العلماء الشامل لكل زمان إلاّ ما خرج وهو يوم الجمعة فقط ، أو لا نكرمه يوم السبت أيضا لاستصحاب حال يوم الجمعة ؟ .

والحاصل : انه إذا خرج من عموم وجوب الاكرام العلماء وجوب اكرام زيد العالم يوم الجمعة ( فشك فيما بعد ذلك الزمان المخرج ) والمخرج بصيغة المفعول يعني : شك في يوم السبت ( بالنسبة إلى ذلك الفرد ) الذي هو زيد العالم في المثال ، بانه ( هل هو ملحقٌ به ) أي : بيوم الجمعة ( في الحكم ) من عدم الاكرام فلا يكرم يوم السبت أيضا إستصحابا ( أو ملحقٌ بما قبله ) أي : بما قبل يوم الجمعة من وجوب الاكرام ، فيجب اكرامه يوم السبت كما كان يجب اكرامه يوم الخميس ، لأنه باق تحت العام ، وإنّما الخارج منه هو يوم الجمعة فقط ؟ .

( الحق هو التفصيل في المقام ، بأن يقال : إن اُخِذَ فيه ) أي : في العام ( عموم الأزمان افراديا ) يعني : ( بأن أخِذ كلّ زمان موضوعا مستقلاً لحكم مستقل ) فاكرام زيد في يوم الخميس فرد من الواجب ، وفي يوم الجمعة فرد من الواجب ، وفي يوم السبت فرد من الواجب ، وهكذا ( لينحلّ العموم إلى أحكام متعدّدة بتعدّد الأزمان ) فيكون ( كقوله : « أكرم العلماء كلّ يوم » ) حيث ان كل يوم الذي هو عموم أزماني بالنسبة إلى كل عالم الذي هو عموم أفرادي موضوع مستقل ،

ص: 201

فقام الاجماع على حرمة إكرام زيد العالم يوم الجمعة .

ومثله : ما لو قال : « أكرم العلماء » ثم قال : « لا تُكرم زيدا يومَ الجمعة » ، إذا فرض الاستثناء قرينة على أخذ كلّ زمان فردا مستقلاً ، فحينئذ يُعمل عند الشك بالعموم ، ولا يجري الاستصحاب

-------------------

وله معصية وطاعة مستقلة .

وعليه : فاذا كان للعام عموم أزماني ، بأن كان الزمان مفردا ( فقام الاجماع على حرمة إكرام زيد العالم يوم الجمعة ) أي : بأن أخرج الاجماع الذي هو دليل لبّي هذا الفرد الخاص من عموم الافراد ومن عموم الازمان بالتخصيص ، فانه إذا شك بعد يوم الجمعة في وجوب إكرام زيد وعدمه ، عمل بالعموم دون المخصّص .

( ومثله : ما لو قال : « أكرم العلماء » ) فقط وسكت عن بيان الزمان ، فلم يقل كل يوم ( ثم قال : « لا تُكرم زيدا يومَ الجمعة » ) فان هذا أيضا يكون دليلاً على ان عموم الزمان أفرادي يعني : بأن يكون إكرام كل عالم في كل يوم فردا مستقلاً ، وذلك فيما ( إذا فرض الاستثناء قرينة على أخذ كلّ زمان فردا مستقلاً ) .

وإنّما يفرض هذا الاستثناء قرينة على كون الزمان مفرّدا لوضوح : ان الاستثناء المذكور يفيد إرادة دوام إكرام العلماء ، وانه إستثنى من هذا الدوام فردا واحدا من العلماء في زمان واحد وهو يوم الجمعة فقط .

وعليه : فإذا كان العام أفراديا من حيث الزمان والافراد وخرج فرد في زمان بدليل مخصص ( فحينئذ يعمل عند الشك بالعموم ، ولا يجري الاستصحاب ) أي: إستصحاب المخصّص لفرض ان كل يوم هو فرد من الواجب وموضوع مستقل ، والاستصحاب لا يوجب سحب الحكم من موضوع إلى موضوع ، فهو مثل ما إذا قال : أكرم زيدا ، فنستصحب وجوب الاكرام إلى عمرو ، وهذا واضح البطلان .

ص: 202

بل لو لم يكن عمومٌ وجب الرجوع إلى سائر الاُصول ، لعدم قابليّة المورد للاستصحاب .

وإن اُخذ لبيان الاستمرار ، كقوله : « أكرم العلماء دائما » ثمّ خرج فردٌ في زمان ، ويشك في حكم ذلك

-------------------

( بل لو لم يكن عموم ) رأسا ، وذلك بأن كان كلام المولى مجملاً بالنسبة إلى أفراد العلماء وأفراد الأزمنة ، فاستثنى يوم الجمعة ( وجب الرجوع ) عند ذلك بالنسبة إلى اكرام زيد يوم السبت ( إلى سائر الاُصول ) العملية غير الاستصحاب من البرائة ، أو الاحتياط ، أو ما أشبه ذلك .

وإنّما يجب الرجوع هنا إلى سائر الاُصول العملية غير الاستصحاب ( لعدم قابلية المورد للاستصحاب ) لفرض ان الاستثناء قرينة على أخذ كل زمان فردا مستقلاً ، فلا يمكن إستصحاب فرد سابق وهو يوم الجمعة إلى فرد لاحق وهو يوم السبت ، لتبدل الموضوع .

هذا فيما إذا كان الزمان مفرّدا ، حيث ان المرجع هو العام إذا كان عام ، وإذا لم يكن عام فالمرجع حينئذ هو سائر الاُصول العملية غير الاستصحاب .

وامّا إذا كان الزمان ظرفا يعني : بأن يكون إكرام زيد طول حياته فردا واحدا من الواجب ، لا أفرادا متعدّدة ، فهنا محل إستصحاب المخصّص ، لا محل الرجوع إلى العام ، وإليه أشار المصنِّف حيث قال :

( وان اُخذ ) عموم الأزمان في العام ( لبيان الاستمرار ) يعني : بأن اُخذ الزمان ظرفا لا مفرّدا ( كقوله : « أكرم العلماء دائما » ) بمعنى : ان اكرامهم مطلوب واحد مستمر ( ثمّ خرج فردٌ في زمان ، و ) ذلك للدليل المخصّص ، كما إذا قال : لا تكرم زيدا يوم الجمعة ، فانه إذا كان يوم السبت وصار موردا لأن ( يشك في حكم ذلك

ص: 203

الفرد بعد ذلك الزمان ، فالظاهر : جريان الاستصحاب إذ لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد ذلك الزمان تخصيصٌ زائد على التخصيص المعلوم ، لأنّ مورد التخصيص الافراد دون الأزمنة ، بخلاف القسم الأوّل .

-------------------

الفرد بعد ذلك الزمان ) أي : بعد يوم الجمعة في انه هل يكرم أو لا يكرم ؟ ( فالظاهر : جريان الاستصحاب ) أي : إستصحاب المخصّص بعد الجمعة وعدم إكرامه يوم السبت ( إذ لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد ) أي : حكم عدم الاكرام لزيد ( بعد ذلك الزمان ) أي : بعد يوم الجمعة ( تخصيصٌ زائد على التخصيص المعلوم ) .

وإنّما لا يلزم منه تخصيص زائد ( لأنّ مورد التخصيص ) هنا ( الافراد ) فقط كزيد وعمرو وبكر ( دون الأزمنة ) لفرض ان الزمان لم يكن مفرّدا حتى يكون يوم الخميس فردا ويوم الجمعة فردا ، وهكذا ، بل الزمان بمجيئه يكون ظرفا لهذا الواجب الواحد ، فسواء كان الخارج يوم الجمعة فقط ، أم كان خارجا إلى الأبد ، لم يخرج من عموم اكرم العلماء إلاّ فرد واحد فقط ، ولذا يكون المجال لاستصحاب المخصّص ، ولم يكن سحب عدم الاكرام من الجمعة إلى يوم السبت من باب سحب الحكم من فرد إلى فرد آخر .

( بخلاف القسم الأوّل ) وهو ما كان العام مبيّنا لثبوت الحكم في الزمان الثاني تصريحا كقوله : أكرم العلماء كل يوم ، أو التزاما كقوله : لا تهن الفقير ، حيث انه يلزم من إستصحاب المخصّص بعد ذلك الزمان تخصيص زائد على التخصيص المعلوم ، وكلما دار الأمر بين التخصيص الزائد والتخصيص الأقل ، كان الأصل هو التخصيص الأقل ، لأنه المتيقن ، امّا التخصيص الزائد فهو مشكوك والأصل عدمه .

ص: 204

بل لو لم يكن هنا إستصحاب لم يرجع إلى العموم ، بل إلى الاُصول الاُخر .

ولا فرق بين إستفادة الاستمرار من اللفظ ، كالمثال المتقدّم ، أو من الاطلاق ، كقوله : « تواضع للناس » ، بناءا على إستفادة الاستمرار منه ، فانّه إذا خرج منه ، التواضع في بعض الأزمنة على وجه لا يفهم من التخصيص ملاحظة المتكلّم كلّ زمان فردا

-------------------

( بل لو لم يكن هنا إستصحاب ) أي : ان الاستصحاب هنا في الخاص الذي خرج عن العموم بدليل مخصّص لو لم يجر ، لاختلال شرط من شروطه أو لتبدل الموضوع فيه ، فانه مع ذلك ( لم يرجع إلى العموم ، بل إلى الاُصول الاُخر ) من البرائة وما أشبه ، فلو قال مثلاً : اكرم العلماء دائما ، وقال : لا تكرم منهم زيدا الفاسق يوم الجمعة ، ثم صار زيد يوم السبت عادلاً ، فانه لا يستصحب حكم المخصّص وهو : حرمة الاكرام لتبدل الموضوع ، كما لا يرجع إلى العموم السابق وهو: اكرم العلماء دائما ، لانقطاع ذلك العموم بالنسبة إلى هذا الفرد، فيرجع إلى أصل آخر يكون المرجع عند فقد الاستصحاب والعموم ، وهو : أصل الاباحة - مثلاً - .

هذا ( ولا فرق بين إستفادة الاستمرار من اللفظ ، كالمثال المتقدّم ) في قوله : اكرم العلماء دائما ، أو أبدا ، أو ما دمت حيّا ، أو ما أشبه ذلك ( أو من الاطلاق ، كقوله : « تواضع للناس » ، بناءا على إستفادة الاستمرار منه ) أي : من الاطلاق بمقدمات الحكمة وذلك بأن يكون المولى في مقام البيان ، ولم يكن هناك قدر متيقّن ، ولم ينصب قرينة على الخلاف من لفظ أو عقل .

وعليه : فإذا استفيد الاستمرار من تواضع للناس ( فانّه إذا خرج منه ، التواضع في بعض الأزمنة على وجه لا يفهم من التخصيص ملاحظة المتكلّم كلّ زمان فردا

ص: 205

مستقلاً لمتعلّق الحكم إستصحب حكمه بعد الخروج وليس هذا من باب تخصيص العام بالاستصحاب .

وقد صدر خلافُ ما ذكرنا : من أنّ مثل هذا من مورد الاستصحاب ، وأنّ هذا ليس من تخصيص العام به ، في موضعين :

أحدهما : ما ذكره المحقق الثاني في مسألة خيار الغبن في باب تلقّي الركبان

-------------------

مستقلاً لمتعلّق الحكم ) بل فهم منه كون الزمان فيه من باب الظرف ( إستصحب حكمه ) أي : حكم المخصّص ، فلا يلزم التواضع ( بعد الخروج ) لفرض ان الزمان ظرف ، فالفرد الخارج يبقى خارجا ، إذ ليس الآن الثاني فردا آخر حتى يستلزم دوران التخصيص بين الأقل والأكثر فيقال : ان التخصيص الأقل هو مقتضى القاعدة ، وذلك لأنه على كل حال تخصيص واحد .

( و ) من المعلوم : انه ( ليس هذا ) أي : ليس إستصحاب حكم المخصّص فيما إذا لم يكن العام مفرّدا بالنسبة إلى الزمان ( من باب تخصيص العام بالاستصحاب ) حتى يقال : ان الاستصحاب أصل والعام دليل والأصل لا يخصّص الدليل ، بل من باب إبقاء التخصيص ، فهو رفع اليد عن دليل عام بدليل خاص دال على التخصيص .

هذا ( وقد صدر خلافُ ما ذكرنا : من ) قولنا : ( أنّ مثل هذا ) يكون ( من مورد الاستصحاب ، وأنّ هذا ليس من تخصيص العام به ) أي : بالاستصحاب فانه قد صدر الخلاف لما ذكرنا ( في موضعين ) على ما يلي :

( أحدهما : ما ذكره المحقق الثاني في مسألة خيار الغبن في باب تلقّي الركبان ) وتلقّي الركبان عبارة عن تلقّي الذين يأتون من القرى والأرياف إلى المدينة لأجل

ص: 206

من أنّه فوريّ ، لأنّ عموم الوفاء بالعقود من حيث الأفراد يستتبع عموم الأزمان .

وحاصله : منعُ جريان الاستصحاب ، لأجل عموم وجوب الوفاء ، خرج منه أوّل زمان الاطلاع على الغبن وبقي الباقي .

-------------------

بيع ما معهم من البضائع ، فقد كره رسول صلى اللّه عليه و آله وسلم تلقّيهم قبل وصولهم إلى المدينة ، لأنهم غالبا لا يعلمون الأسعار فيسبّب بيعهم خارج المدينة غبنهم ، امّا إذا وردوا المدينة فيسألون عن الأسعار فلا يُغبنون .

وكيف كان : فان ما ذكره المحقق هناك : ( من أنّه ) أي : خيار الغبن ( فوريّ ، لأنّ عموم الوفاء بالعقود من حيث الأفراد ) الشامل لكل عقد عقد ، مثل : عقد البيع ، وعقد الاجارة ، وعقد الرهن ، وعقد المضاربة ، وغيرها ( يستتبع عموم الأزمان ) الاشمل لزمان يوم الخميس الذي وقع فيه العقد ولما بعده من الأزمنة كيوم الجمعة ، ويوم السبت ، ويوم الأحد وهكذا .

( وحاصله ) أي : حاصل ما ذكره المحقق : من فورية خيار الغبن وانه لو علم بالغبن فلم يأخذ بالخيار فلا حق له في الخيار في الآن الثاني ، هو : ( منعُ جريان الاستصحاب ) أي : إستصحاب المخصص لوجوب الوفاء بالعقد الذي هو إستصحاب الخيار بعد الآن الأوّل .

وإنّما قال بمنع جريان إستصحاب الخيار بعد الآن الأوّل ( لأجل عموم وجوب الوفاء ) بالعقد الشامل لكل زمان زمان ( خرج منه ) أي : من عموم وجوب الوفاء ( أول زمان الاطلاع على الغبن ) لأنه المتيقّن ( وبقي الباقي ) وهو المشكوك من الأزمنة تحت عموم وجوب الوفاء .

ص: 207

وظاهر الشهيد الثاني في المسالك إجراء الاستصحاب في هذا الخيار .

وهو الأقوى بناءا على أنّه لا يستفاد من إطلاق وجوب الوفاء ، إلاّ كون الحكم مستمرّا ، إلاّ أنّ الوفاء في كلّ زمان موضوع مستقلّ محكوم بوجوب

-------------------

وعليه : فان الآية المباركة : « اُوفوا بالعُقود » (1) تدل على وجوب الوفاء بالعقود دائما ، خرج منه العقد الغبني فلا يجب الوفاء به ، غير ان المتيقن من خروجه هو أول زمان العلم بالغبن ، وبعد الزمان الأوّل حيث يشك في الزمان الثاني - مثلاً - فيرجع فيه إلى عموم الوفاء بالعقد فلا يحقّ له الفسخ في الآن الثاني ، يعني : ليس له في الآن الثاني ان يرجع إلى إستصحاب حقه في الغبن .

والحاصل : ان المحقق الثاني منع من إستصحاب حكم المخصّص وان كان العام مفيدا للعموم الزماني الاستمراري ، وهذا خلاف ما ذكرناه : من ان المقام مورد للاستصحاب ، لأن خروج الغبن قطعي ، فلا فرق بين أن يستمر هذا الخروج ، أو لا يستمر ، لأن الزمان ظرف .

( و ) هو أيضا خلاف ( ظاهر الشهيد الثاني في المسالك ) حيث ان بناء المسالك هو : ( إجراء الاستصحاب في هذا الخيار ) بالنسبة إلى الزمان الثاني وإثبات الخيار للمغبون ، ثم قال المصنِّف : ( و ) ظاهر كلام الشهيد الثاني ( هو الأقوى ) عندنا ، وذلك ( بناءا على أنّه لا يستفاد من إطلاق وجوب الوفاء ، إلاّ كون الحكم مستمرّا ) والزمان ظرفا لا مفرّدا ، فهو نظير قوله : تواضع للناس .

( إلاّ أنّ الوفاء في كلّ زمان موضوع مستقلّ ) وفرد بنفسه ( محكوم بوجوب

ص: 208


1- - سورة المائدة : الآية 1 .

مستقلّ ، حتى يقتصر في تخصيصه على ما ثبت من جواز نقض العقد في جزء من الزمان وبقي الباقي .

نعم ، لو إستظهر من وجوب الوفاء بالعقد عموم لا ينتقض بجواز نقضه في زمانٍ بالاضافة إلى غيره من الأزمنة ،

-------------------

مستقلّ ) حتى يكون نظير قوله : أكرم العلماء كل يوم ، حيث ان إكرام زيد في يوم الجمعة يكون حينئذ واجبا مستقلاً ، وفي يوم السبت واجبا ثانيا ، وفي يوم الأحد واجبا ثالثا ، وهكذا ، فانه ليس كذلك ( حتى يقتصر في تخصيصه على ما ثبت ) أي : على القدر المتيقن ( من جواز نقض العقد في جزء من الزمان ) وهو أول زمان العلم بالغبن ( وبقي الباقي ) من الأزمنة تحت عموم وجوب الوفاء ، فلا يجوز له الفسخ في الآن الثاني ، فانه ليس كذلك حتى لا يجري فيه إستصحاب المخصص .

والحاصل : ان المحقق يرى الزمان مفرّدا ، والشهيد يرى الزمان ظرفا ، ولذا فالأول : لا يستصحب ، بل يرجع إلى العموم ، والثاني : يستصحب ، فيرجع إلى المخصّص بالنسبة إلى الآن الثاني .

( نعم ، لو إستظهر من وجوب الوفاء بالعقد ) لقوله سبحانه : « اُوفوا بالعقود » (1) بالاضافة إلى العموم الافرادي ( عموم ) أزماني أيضا ، يعني : بأن كان الزمان فيه مفرّدا ، فانه ( لا ينتقض ) ذلك العموم بالنسبة إلى الزمان الثاني ( ب ) سبب ( جواز نقضه في زمانٍ ) أي : في الزمان الأوّل ، فان جواز النقض في أول زمان العلم بالغبن ، لا يسبّب جواز النقض ( بالاضافة إلى غيره من الأزمنة )

ص: 209


1- - سورة المائدة : الآية 1 .

صحّ ما ادّعاه المحقّق قدس سره ، لكنّه بعيد .

ولهذا رجع إلى الاستصحاب في المسألة جماعةٌ من متأخّري المتأخّرين تبعا للمسالك ، إلاّ أنّ بعضهم قيّده بكون مدرك الخيار في الزمان الأوّل هو : الاجماع ، لا أدلّة نفي الضرر لاندفاع الضرر بثبوت الخيار في الزمن الأوّل .

-------------------

وذلك لأن عموم وجوب الوفاء شمل كل زمان ، وإنّما خرج منه الزمان الأوّل ، فيرجع في سائر الأزمنة إلى العموم .

وعليه : فإذا إستظهرنا ذلك من وجوب الوفاء بالعقد ( صحّ ما ادّعاه المحقّق قدس سره ) : من عدم إستصحاب المخصّص وهو الخيار ( لكنّه بعيد ) لأن لوجوب الوفاء بالعقد إطلاق ، والاطلاق يفيد الاستمرارية ممّا يكون الزمان ظرفا ، لا مفرّدا ، وإذا كان ظرفا فالمجال لاستصحاب الخيار لا للتمسّك بالعموم .

( ولهذا ) أي : لما ذكرناه : من ان الزمان في وجوب الوفاء بالعقد ليس مفرّدا ، وإنّما الزمان يكون ظرفا ، وإذا كان ظرفا لزم الرجوع إلى الاستصحاب لا إلى العموم في الزمان الثاني ، ولذا نرى انه قد ( رجع إلى الاستصحاب في المسألة ) أي : مسألة الغبن ( جماعةٌ من متأخّري المتأخّرين تبعا للمسالك إلاّ أنّ بعضهم ) وهو صاحب الرياض ( قيّده ) أي : قيّد جواز الاستصحاب ( بكون مدرك الخيار في الزمان الأوّل هو : الاجماع ، لا أدلّة نفي الضرر ) .

وإنّما قيّده بكون مدرك الخيار : الاجماع ، لا دليل : «لا ضرر» ( لاندفاع الضرر بثبوت الخيار في الزمن الأوّل ) فلا يستصحب بعد الزمن الأوّل .

والحاصل : ان خيار الغبن قد يستدل عليه بالاجماع ، وقد يستدل عليه بدليل : «لا ضرر» ، فمن إستدل له بالأول صح له الاستصحاب ، لأن الاجماع يفيد جواز العقد وعدم لزومه ، ولا يتعرّض إلى انه فور أو متراخ ، ولذا يصح إستصحاب

ص: 210

ولا أجد وجها لهذا التفصيل ، لأنّ نفي الضرر إنّما نفي لزوم العقد ولم يحدّد زمان الجواز .

فان كان عموم أزمنة وجوب الوفاء يقتصر في تخصيصه على ما يندفع به الضرر ويرجع في الزائد إلى العموم ، فالاجماع أيضا كذلك ، يقتصر فيه على معقده .

-------------------

الخيار في الزمان الثاني ، بينما من إستدل له بالثاني لا يصح له إستصحاب الخيار في الزمان الثاني ، لأن لا ضرر يتضمن الفورية بملاحظة ان الضرر يندفع بوجود الخيار في الزمان الأوّل ، فلا يكون في زمان الثاني ضرر حتى يكون خيار .

ثم قال المصنِّف : ( ولا أجد وجها لهذا التفصيل ) فان خيار الغبن يستصحب ، سواء كان دليله الاجماع أم دليله لا ضرر ، وذلك ( لأنّ نفي الضرر ) كالاجماع ( إنّما نفي لزوم العقد ولم يحدّد زمان الجواز ) بأنه على الفور أو على التراخي ، وإذا كان ساكتا عن تحديد الزمان ، لزم النظر إلى عموم أزمنة وجوب الوفاء بالعقد لنراه مفرّدا أو ظرفا ( فان كان عموم أزمنة وجوب الوفاء ) مفرّدا ، فانه ( يقتصر في تخصيصه على ما يندفع به الضرر ) أي : على القدر المتيقن وهو الفور ( ويرجع في الزائد إلى العموم ) أي : عموم وجوب الوفاء بالعقد ، فلا خيار في الزمان الثاني، وان كان عموم الزمان ظرفا جرى الاستصحاب وكان الخيار في الزمان الثاني .

وكيف كان : فإذا عرفت حكم نفي الضرر بالنسبة إلى عموم وجوب الوفاء بالعقد ( فالاجماع أيضا كذلك ) بالنسبة إليه ، فان كان عموم الزمان مفرّدا ، فانه ( يقتصر فيه على ) القدر المتيقن من ( معقده ) أي : من معقد الاجماع وهو الفور ، ويرجع في الزائد إلى عموم وجوب الوفاء بالعقد ، فلا خيار في الزمان الثاني ،

ص: 211

وثانيهما : ما ذكره بعض من قارب عصرنا من الفحول ، من : « أنّ الاستصحاب المخالف للأصل دليل شرعي مخصّص للعمومات ،

-------------------

وان كان عموم الزمان ظرفا جرى الاستصحاب وكان الخيار في الزمان الثاني .

والحاصل : ان الاجماع ، ولا ضرر ، نسبتهما إلى عموم وجوب الوفاء بالعقد نسبة واحدة ، فان كان عموم الزمان مفرّدا أخذ من الاجماع ومن نفي الضرر بقدرهما المتيقن ، وهو الزمان الأوّل فلا خيار في الزمان الثاني ، وان كان عموم الزمان ظرفا جرى الاستصحاب وكان الخيار في الزمان الثاني سواء كان دليل الخيار هو الاجماع أم نفي الضرر ، فلا وجه إذن للتفصيل الذي إدعاه صاحب الرياض بينهما .

( وثانيهما : ما ذكره بعض من قارب عصرنا من الفحول ) وهو السيد بحر العلوم : ( من : « أنّ الاستصحاب المخالف للأصل ) كأصل البرائة ( دليل شرعي مخصّص للعمومات ) وقوله : « مخصص للعمومات » يفيد ان مقصوده منه هو التخصيص الزائد على التخصيص المعلوم ، فيكون مراده من العموم ما كان الزمان فيه مفرّدا لا ظرفا ، وقد عرفت انه لا يرجع إلى إستصحاب حكم المخصص فيما كان الزمان فيه مفرّدا ، بل يرجع إلى العموم ان كان ، وإلى الاُصول غير الاستصحاب ان لم يكن عموم أو كان ولكنه كان مجملاً ، فيكون ما ذكره السيد خلاف ما ذكرناه .

وكيف كان : فان السيد قال : يُخصّص العام بالاستصحاب المخالف للأصل ، وذلك كما إذا قال المولى : أكرم العلماء كل يوم ممّا كان الزمان فيه مفرّدا ، ثم قال : لا تكرم زيدا يوم الجمعة ، فشك المكلّف في يوم السبت بانه هل يجب إكرام زيد أو يحرم إكرامه للنهي عنه يوم الجمعة ؟ كان إستصحاب حرمة إكرامه الذي

ص: 212

ولا ينافيه عموم أدلة حجّيته من أخبار الباب ، الدالّة على عدم جواز نقض اليقين بغير اليقن ، إذ ليس العبرة في العموم والخصوص بدليل الدليل

-------------------

هو مخالف لأصل البرائة مخصّصا لعموم وجوب : أكرم العلماء كل يوم ، فيحكم بعدم وجوب إكرام زيد يوم السبت للاستصحاب المخصّص للعموم .

( و ) إن قلت : كيف يخصّص الاستصحاب عموم العام ، مع أنّ النسبة بينهما عموم من وجه وليس عموما مطلقا حتى يكون الاستصحاب مخصّصا للعام ؟ .

قلت : ( لا ينافيه ) أي : لا ينافي تخصيص العام باستصحاب حكم المخصّص ( عموم أدلة حجّيته ) أي : حجية الاستصحاب ( من أخبار الباب ، الدالّة على عدم جواز نقض اليقين بغير اليقن ) وعدم منافاته له يتم عبر إشكال وجواب يكون حاصلهما ما يلي :

إنّ المستشكل أشكل على السيد بحر العلوم : بأنكم كيف تخصّصون العام بالاستصحاب مع ان النسبة بينهما عموم من وجه ، وليس عموما مطلقا حتى يكون الاستصحاب مخصّصا للعام ؟ وذلك لأن عموم : « أكرم العلماء » ، يشمل غير مورد الاستصحاب من سائر العلماء ، وعموم : لا تنقض اليقين بالشك ، الدال على الاستصحاب يشمل غير مورد : « أكرام العلماء » من سائر موارد الاستصحاب ، فيتعارضان في مادة الاجتماع ، وهو : أكرام زيد يوم السبت ، فيرجع فيه إلى التخيير لا إلى تخصيص العام بالاستصحاب ، فكيف خصّصتم العام بالاستصحاب ؟ .

هذا حاصل قول المستشكل ، والسيد يقول في جوابه : أنّه لا محل لهذا الاشكال ( إذ ليس العبرة في العموم والخصوص بدليل الدليل ) والدليل هنا هو : إستصحاب حرمة أكرام زيد يوم الجمعة الموجب لحرمة إكرامه يوم السبت ،

ص: 213

وإلاّ لم يتحقق لنا في الادلّة دليل خاصّ ، لانتهاء كلّ دليل الى أدلّة عامّة ، بل العبرة بنفس الدليل .

ولا ريب أنّ الاستصحاب الجاري في كلّ مورد خاص لا يتعدّى الى غيره ، فيقدّم على العامّ ،

-------------------

ودليل هذا الدليل هو : عموم لا تنقض اليقين بالشك ، الدال على الاستصحاب ، فانه لا عبرة بدليل الدليل ( وإلاّ ) بأن كانت العبرة بدليل الدليل ( لم يتحقق لنا في الأدلة دليل خاصّ ) حتى يكون مخصصا للعمومات حتى في مثل : اكرم العلماء ، ولا تكرم زيدا ، وذلك ( لانتهاء كلّ دليل الى أدلّة عامّة ) .

مثلاً : ان قوله : لا تكرم زيدا ، الذي هو دليل خاص ينتهي الى دليل عام وهو حجية خبر العادل ، فاذا قام الاجماع - مثلاً - على وجوب اكرام العلماء ، وقام خبر العادل على حرمة اكرام زيد العالم ، فالنسبة بينهما على قول هذا المستشكل : هي العموم من وجه ، لأن اكرم العلماء يشمل ماعدا زيدٍ من سائر العلماء ، وحجية خبر الواحد في لا تكرم زيدا يشمل ماعدا وجوب اكرام العلماء من سائر الاحكام التي دَلّ عليها خبر الواحد ، فيتعارضان في مادة الاجتماع وهو في مثالنا : زيد العالم ، فإنّ أكرم العلماء يقول : أكرمه ، وحجية خبر الواحد يقول : لا تكرمه ، وحيث ان هذا النوع من التعارض بين الادلة باطل لم تكن العبرة به ، ( بل العبرة بنفس الدليل ) فقط ، لا بدليل الدليل .

هذا ( ولا ريب أنّ الاستصحاب الجاري في كلّ مورد خاص لا يتعدّى الى غيره ) فاستصحاب حرمة اكرام زيد في يوم السبت مختص بمورده ولا يشمل غيره ، فيكون استصحاب لا تكرم زيدا أخص مطلقا من عموم اكرم العلماء ( فيقدّم ) الخاص وهو استصحاب حرمة اكرام زيد ( على العامّ ) وهو اكرم العلماء

ص: 214

كما يقدّم على غيره من الأدلّة ، ولذا ترى الفقهاء يستدلّون على الشغل والنجاسة والتحريم بالاستصحاب ، في مقابله ما دلّ على البرائة الأصلية ، وطهاره الاشياء وحلّيتها .

ومن ذلك إستنادهم الى استصحاب النجاسة والتحريم في صورة الشك في ذهاب ثلثي العصير

-------------------

في مثالنا ( كما يقدّم على غيره من الأدلّة ) العامة في أمثلة اخرى مثل : تقديم استصحاب خيار الغبن على عموم : «أوفوا بالعقود» وتقديم استصحاب النجاسة على أصالة الطهارة ، وتقديم استصحاب الحرمة على أصالة الحلية ، وغير ذلك .

وعليه : فان استصحاب الخاص في كل الموارد يكون مقدّما على العمومات والاطلاقات ، ومنها ما نحن فيه فانه من هذا القبيل ، فاستصحاب : لا تكرم زيدا بالنسبة الى يوم السبت يقدّم على عموم : اكرم العلماء ، لأنّ : لا تكرم زيدا أخص مطلقا منه ، فليس أمر كما توهمه المستشكل : من ان النسبة بينهما عموم من وجه .

( ولذا ) أي : لما ذكرناه : من ان العبرة بنفس الدليل ، تكون النسبة بينهما عموم وخصوص مطلق ، فيلزم تقديم استصحاب الخاص على العام ( ترى الفقهاء يستدلّون على الشغل والنجاسة والتحريم بالاستصحاب ، في مقابله ما دلّ على البرائة الأصلية ، وطهارة الاشياء وحلّيتها ) كما عرفتها في الأمثلة التي ذكرناها ، ولو كانت العبرة بدليل الدليل ، لكانت النسبة هي العموم من وجه ، وفي العموم من وجه يحصل التعارض فيلزم أحكام التعارض لا تقديم الاستصحاب على تلك العمومات .

( ومن ذلك ) أي : تقديمهم استصحاب الخاص على العام ( إستنادهم الى استصحاب النجاسة والتحريم في صورة الشك في ذهاب ثلثي العصير ) فانهم

ص: 215

وفي كون التحديد تحقيقّيا او تقريبيّا ، وفي صيرورته قبل ذهاب الثلثين دبسا الى غير ذلك » ، انتهى كلامه ، على ما لخّصه بعض المعاصرين .

ولا يخفى ما في ظاهره لما عرفت : من أنّ مورد جريان العموم

-------------------

يقولون بالنجاسة والتحريم فيه ، تقديما لاستصحاب حكم الخاص وهو : نجاسة العصير وحرمته ، على العام وهو : اصالة الطهارة وأصالة الحلية في كل شيء .

( و ) كذا في صورة الشك ( في كون التحديد ) بذهاب الثلثين ( تحقيقّيا أو تقريبيّا ) فانهم يقولون بلزوم التحقيق لا التقريب ، لمكان استصحاب الخاص وهو : الحكم بنجاسة العصير وحرمته اذا ذهب الثلثان تقريبا لا تحقيقا وتقديمه على عموم الطهارة والحلية .

( و ) كذلك ايضا يكون حكمهم بالنسبة الى العصير ( في صيرورته قبل ذهاب الثلثين دبسا ) حيث يشك في طهارته وحليته حينئذ فانهم يستصحبون حكم العصير الخاص يعني : النجاسة والحرمة ويقدّمونه ، على عموم الطهارة والحلية .

( الى غير ذلك » (1) ) من موارد تقديمهم الاستصحاب على العموم ، مثل : تقديم استصحاب الاشتغال على أصالة البرائة .

( انتهى كلامه ، على ما لخّصه بعض المعاصرين ) وهو صاحب الفصول .

( ولا يخفى ما في ظاهره ) اي : ظاهر كلام السيد بحر العلوم : من تخصيص ما كان عموم الزمان فيه مفرّدا باستصحاب حكم المخصص ، ما ان التخصيص بالاستصحاب إنّما يكون فيما كان الزمان فيه ظرفا ، لا فيما كان الزمان فيه مفرّدا ، وذلك ( لما عرفت : من أنّ مورد جريان العموم ) وهو ما كان عموم الزمان فيه

ص: 216


1- - الفصول الغروية : القول في العامّ والخاصّ : ص213 عن بعض أفاضل متأخري المتأخرين بحر العلوم .

لا يجري الاستصحاب حتى لو لم يكن عموم ومورد جريان الاستصحاب لا يرجع الى العموم ولو لم يكن استصحابٌ .

ثمّ ما ذكره من الأمثلة خارجٌ عن مسألة تخصيص الاستصحاب للعمومات ، لأنّ الاصول المذكورة بالنسبة الى الاستصحاب ليست من قبيل العام بالنسبة الى الخاصّ ،

-------------------

مفرّدا مثل : اكرم العلماء كل يوم ( لا يجري الاستصحاب ) حتى يكون الاستصحاب مخصصا للعام ، فانه ( حتى لو لم يكن عموم ) هناك أصلاً لم يجر الاستصحاب ، لانه ليس موردا للاستصحاب ، بل يرجع فيه الى الاصول العملية غير الاستصحاب على ما عرفت .

هذا في مورد جريان العموم ( و ) أما في ( مورد جريان الاستصحاب ) وهو ما كان عموم الزمان فيه ظرفا لا مفرّدا ، فانه ( لا يرجع الى العموم ولو لم يكن استصحابٌ ) في مورد الخاص وعدم وجود الاستصحاب إما الاختلال شرط من شروطه أو لتبدل الموضوع فيه ، بل يرجع الى الاصول الاخر من البرائة وما اشبه ، وذلك على مرّ مفصّلاً .

( ثمّ ما ذكره ) السند بحر العلوم ( من الأمثلة ) كاستصحاب الشغل والنجاسة والتحريم داخل في مسألة حكومة الاستصحاب على سائر الاصول ، فهو ( خارجٌ عن مسألة تخصيص الاستصحاب للعمومات ) فكيف يقول السيد بحر العلوم : بأن هذه الأمثلة من مورد تخصيص الاستصحاب للعمومات ؟ .

وإنّما خرج ما ذكره من الامثلة عن ذلك ( لأنّ الاصول المذكورة ) اي : أصل البرائة وأصل الحلية وأصل الطهارة ( بالنسبة الى الاستصحاب ليست من قبيل العام بالنسبة الى الخاصّ ) حتى يقال : بان هذا الاستصحاب يخصص

ص: 217

كما سيجيء في تعارض الاستصحاب مع غيره من الاصول .

نعم ، لو فرض الاستناد في أصالة الحلّية الى عموم حلّ الطيّبات ، وحلّ الانتفاع بما في الارض ، كان استصحاب حرمة العصير في المثالين الأخيرين مثالاً لمطلبه دون المثال الأوّل ، لأنّه من قبيل الشك في موضوع الحكم الشرعي ، لا في نفسه .

-------------------

هذه العمومات ، وذلك ( كما سيجيء في تعارض الاستصحاب مع غيره من الاصول ) عند التعرض الى ان هذه الاصول ليست من قبيل العمومات بالنسبة الى الاستصحاب حتى يكون الاستصحاب بالنسبة الى هذه الاصول من قبيل الخاص .

( نعم ، لو فرض الاستناد في أصالة الحلّية الى عموم حلّ الطيّبات ، وحلّ الانتفاع بما في الارض ) بأن يكون الحلّ دليلاً لا أصلاً ( كان استصحاب حرمة العصير في المثالين الأخيرين ) وهما : مثال الشك في كون التحليل بالثلثين تحقيقيا أو تقريبيا ، ومثال : صيرورة العصير قبل ذهاب الثلثين دبسا ( مثالاً لمطلبه ) لكونه شبهة حكمية ( دون المثال الاول ) الذي هو الشك في ذهاب الثلثين .

وإنّما لا يكون الأوّل مثالاً لمطلبه ( لأنّه من قبيل الشك في موضوع الحكم الشرعي ) الذي يستطرق فيه باب العرف ( لا في نفسه ) اي : ليس الشك في نفس الحكم الشرعي ، حتى يستطرق فيه باب الشرع .

ومن المعلوم : انه اذا كان الشك في الموضوع ، استصحب الموضوع وهو هنا : العصير بعد الغليان ، وقدّم على أصل الطهارة وأصل الحل من باب تقدّم الاصل الموضوعي على الاصل الحكمي .

ص: 218

ففي الأوّل : يستصحب عنوان الخاص ، وفي الثاني يستصحب حكمه ، وهو الذي يتوهّم كونه مخصّصا للعموم دون الاول .

-------------------

وعليه : ( ففي الأوّل ) اي : في مثال الشك في ذهاب الثلثين الذي هو شبهة موضوعية خارجية ( يستصحب عنوان الخاص ) اي : عنوان : ان العصير بعد الغليان وقبل ذهاب الثلثين يكون نجسا وحراما ، والأصل الموضوعي حاكم على الاصل الحكمي - على ما سبق - لا أنّه مخصص له .

( وفي الثاني ) اي : في المثالين الاخرين وهما : الشك في كفاية الدبسية ، والشك في ان ذهاب الثلثين تقريبي أو تحقيقي فانه عند الشك في كل منهما ( يستصحب حكمه ) اي : حكم الخاص من الحرمة والنجاسة لانه مورد الاستصحاب ، فيتوهم انه يخصص به العموم .

( و ) عليه : فان الثاني الشامل للمثالين الاخرين : من الشك في كفاية الدبسية والشك في كون ذهاب الثلثين تقريبيا او تحقيقيا ( هو الذي يتوهّم كونه مخصّصا للعموم ) الاجتهادي مثل قوله سبحانه : « أحلّ لكم الطيبات » (1) وقوله سبحانه : « خلق لكم ما في الارض جميعا » (2) ونحو ذلك ( دون الاول ) وهو الشك في ذهاب الثلثين الذي هو من الشبهة الموضوعية ، وذلك لما عرفت : من ان الاصل الموضوعي يكون حاكما على الاصل الحكمي ، لا ان الاصل الموضوعي مخصص له .

وإنّما قال : يتوهم كونه مخصصا ، ولم يقل : بانه مخصص ، لانه في الواقع لم يكن مخصصا ، بل المورد هنا للاستصحاب ، لان زمان العام في قوله تعالى :

ص: 219


1- - سورة المائدة : الآية 4 و الآية 5 .
2- - سورة البقرة : الآية 29 .

ويمكن توجيه كلامه قدس سره بأنّ مراده من العمومات بقرينة تخصيصه الكلام بالاستصحاب المخالف هي : عمومات الاصول .

ومراده بالتخصيص للعمومات

-------------------

« احلّ لكم الطيبات » ظرف وليس مفرّدا ، فليس المورد هنا للعموم حتى يكون الاستصحاب مخصصا له .

( و ) حيث ان السيد بحر العلوم هو أجلّ من ان يشتبه بمثل هذا الاشتباه ، لذلك ( يمكن توجيه كلامه قدس سره بأنّ مراده من العمومات ) في قوله المتقدِّم : ان الاستصحاب المخالف للأصل دليل شرعي مخصص للعمومات ( بقرينة تخصيصه الكلام بالاستصحاب المخالف ) للأصل : ان مراده منها ( هي : عمومات الاصول ) العملية مثل : « كل شيء لك حلال » (1) « وكل شيء طاهر » (2) ، لا عمومات الأدلة الاجتهادية مثل : « اوفوا بالعقود » (3) و « احلّ لكم الطيبات » (4) .

وإنّما كان مراده من العمومات ذلك ، لأنّ الاستصحاب سواء كان مخالفا أم موافقا يخصص عمومات الاصول الاجتهادية ، اما عمومات الاصول العملية فلا يخصصها الاّ الاستصحاب المخالف ، فتخصيص كلامه بالاستصحاب المخالف ، يكون قرينة على ارادة عمومات الاصول العمليّة ، لا الاجتهادية .

( ومراده بالتخصيص للعمومات ) في قوله المتقدِّم : « ان الاستصحاب مخصص للعمومات » ، ليس معنى التخصيص الاصطلاحي المقابل للحكومة ،

ص: 220


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .
3- - سورة المائدة : الآية 1 .
4- - سورة المائدة : الآية 4 و الآية 5 .

ما يعمّ الحكومة ، كما ذكرنا في اول أصالة البرائة ، وغرضه أنّ مؤدّى الاستصحاب في كلّ مستصحب إجراء حكم دليل المستصحب في صورة الشك ، فكما أنّ دليل المستصحب أخص من الاصول

-------------------

مثل تخصيص : أكرم العلماء كل يوم ، باستصحاب حكم المخصص ، بل مراده من التخصيص : ( ما يعمّ الحكومة ) فيكون مراده بالتخصيص : مطلق تقديم الأخص على الأعّم ، سواء كان بنحو التخصيص أم بنحو الحكومة .

إذن : فمراده من كون الاستصحاب مخصصا للعمومات بنحو المسامحة : انه على عمومات الاصول العملية ( كما ذكرنا في اول أصالة البرائة ) ذلك ، حيث قلنا : بانه قد يتسامح في التعبير فيقال : بالتخصيص ويراد به الحكومة ، لا التخصيص الاصطلاحي ، وهنا كذلك ، فانه ليس مراد السيد من التخصيص : التخصيص الاصطلاحي بل ما يعمّ الحكومة ، وذلك بقرينة تخصيصه الكلام بالاستصحاب المخالف ، لانه لو كان مراده منه : التخصيص الاصطلاحي لم يكن وجه لتقييد كلامه بالاستصحاب المخالف ، اذ عمومات الأدلة الاجتهادية يخصّصها الاستصحاب بلا فرق بين مخالف الاصل وموافقه ، أما الذي لا يخصصه الاّ الاستصحاب المخالف فهو عموم الاصول العملية ، فيكون مراده بهذه القرينة : ان الاستصحاب المخالف للاصول مخصص لعمومات الاصول .

هذا ( وغرضه ) اي : غرض السيد من كلامه هذا هو : ( أنّ مؤدّى الاستصحاب في كلّ مستصحب ) هو : ( إجراء حكم دليل المستصحب في صورة الشك ) فيه ، لا الاصل ( فكما أنّ دليل المستصحب ) كالخبر الواحد ( أخص من الاصول ) العملية كالبرائة ، وقد ( سمّي تقدّمه عليها تخصيصا ، فالاستصحاب في ذلك

ص: 221

سمّي تقدّمه عليها تخصيصا ، فالاستصحاب في ذلك متمّم لحكم ذلك الدليل ، ومجريه في الزمان اللاحق .

وكذلك الاستصحاب بالنسبة الى العمومات الاجتهاديّة ، فانّه اذا خرج المستصحب من العموم بدليله ،

-------------------

متمّم لحكم ذلك الدليل ، ومجريه ) اي : مجري حكم ذلك الدليل المستصحب عند الشك فيه ومتمّمه له ( في الزمان اللاحق ) فيسمّى أيضا مخصصا .

مثلاً : إنّ «كل شيء لك حلال» و «كل شيء طاهر» وأشباههما ، شامل لكل مشكوك الطهارة والنجاسة والحلية والحرمة ، والنص الدال على حرمة العصير بالغليان ، وعلى نجاسته قبل ذهاب الثلثين ، مختص بمورده ، فيتسامح في اطلاق التخصيص عليه ويقال : يخصص الاصل الذي هو الطهارة والحل ، بهذا الدليل الدال على حرمة العصير ونجاسته بالغليان ، مع ان الدليل إمّا وارد على الاصل ، وإمّا حاكم عليه ، فكذلك اذا شككنا في بقاء الحرمة والنجاسة فيما اذا صار دبسا - مثلاً - فانه يستصحب كل من الحرمة النجاسة المستفاد من النص الدال على حرمة العصير ونجاسته قبل ذهاب الثلثين ، ويطلق عليه التخصيص ، مع ان مثل هذا الاستصحاب حاكم على سائر الاصول وانه مخصص لها .

( وكذلك الاستصحاب بالنسبة الى العمومات الاجتهاديّة ) مثل قوله تعالى : « احلّ لكم الطيبات » (1) وقوله سبحانه : « خلق لكم ما في الارض جميعا » (2) ( فإنّه اذا خرج المستصحب ) وهو العصير في المثال ( من العموم ) اي : من قوله تعالى : « احلّ لكم الطيبات » مثلاً ( بدليله ) الخاص وهو النص الدال على خروجه سمّي

ص: 222


1- - سورة البقرة : الآية 29 .
2- - سورة المائدة : الآية 4 والآية 5 .

والمفروض : أنّ الاستصحاب مُجرٍ لحكم ذلك الدليل في اللاحق ، فكأنّه أيضا مخصّصٌ يعني : موجب للخروج عن الحكم العامّ ، فافهم .

الأمر الحادي عشر :

قد أجرى بعضهم الاستصحاب فيما إذا تعذّر بعض أجزاء المركب ،

-------------------

تخصيصا ( والمفروض : أنّ الاستصحاب مُجرٍ لحكم ذلك الدليل في اللاحق ، فكأنّه أيضا مخصّصٌ ) للعموم ، فيسمّى تخصيصا .

وعليه : فإنّ قوله تعالى : « احلّ لكم الطيبات » عام ، والاستصحاب مخرج لهذا الفرد وهو العصير بعد الغليان في ثاني الأزمنة عند الشك في ذهاب ثلثيه او كفاية الدبسية من تحت ذلك العام ، فيشبه هذا الاستصحاب المخصص ، لا انه مخصص حقيقة .

إذن : فقولنا : الاستصحاب مخصص ( يعني : موجب للخروج عن الحكم العامّ ) الذي هو حلية الطيبات - مثلاً - وليس بتخصيص في الحقيقة .

وإن شئت قلت : إنّ الاستصحاب يوسِّع دائرة التخصيص للعام ، لاانه مخصص للعام حقيقة .

( فافهم ) فان السيد إذا أراد بالتخصيص هذا المعنى الذي وجّهنا كلامه به ، كان خلاف الاصطلاح ، وهو بعيد عن مثل السيد .

( الأمر الحادي عشر ) في انه هل يجري الاستصحاب اذا تعذّر جزء أو شرط من الواجب المركب كالصلاة مثلاً ، أم لا ؟ قال المصنِّف : ( قد أجرى بعضهم الاستصحاب فيما اذا تعذّر بعض أجزاء المركب ) ممّا يبقى معه صدق المركب على حاله تسامحا ، كما اذا لم يتمكن من قرائة السورة ، أو من ذكر الركوع ،

ص: 223

فيستصحب وجوب الباقي الممكن .

وهو بظاهره ، كما صرّح به بعض المحققين - غيرُ صحيح - لأنّ الثابت سابقا قبل تعذّر بعض الأجزاء : وجوبُ هذه الأجزاء الباقية تبعا لوجوب الكلّ ، ومن باب المقدّمة ، وهو مرتفع قطعا ، والذي يراد ثبوته بعد تعذّر البعض هو :الوجوب النفسي الاستقلالي ، وهو معلوم الانتقاء سابقا .

-------------------

أو من ذكر السجود ، أو ما أشبه ذلك في الصلاة فهل حاله مثل حال ماء الكر الذي نقص منه شيء قليل بحيث لم يعلم بسقوطه عن الكرية ، أم لا ؟ قال : ( فيستصحب وجوب الباقي الممكن ) اتيانه فيجب إذن الاتيان به .

ثم قال المصنّف : ( وهو ) اي : هذا الاستصحاب ( بظاهره ) ومع غضّ النظر عن التوجيهات الثلاثة الآتية ( كما صرّح به بعض المحققين - غيرُ صحيح ) .

وإنّما لم يكن بظاهره صحيحا لعدم بقاء الموضوع فيه ، وذلك ( لأنّ الثابت سابقا قبل تعذّر بعض الأجزاء : وجوب هذه الأجزاء الباقية ) الممكنة ( تبعا لوجوب الكلّ ، ومن باب المقدّمة ) الداخلية ، فان الأجزاء كلها مقدّمات داخلية للمجموع من حيث المجموع ( وهو مرتفع قطعا ) لانه لا وجوب للكل بعد عدم التمكن منه ، فلا شك لاحق حتى يصح الاستصحاب .

هذا قبل تعذّر البعض ، وأما بعد تعذّر البعض فكما قال : ( والذي يراد ثبوته بعد تعذّر البعض ) بسبب الاستصحاب ( هو :الوجوب النفسي الاستقلالي ) الذي كان سابقا حين امكان الكل ( وهو معلوم الانتقاء سابقا ) فلا يقين سابق ، ومع عدم يقين سابق ، أو شك لاحق ، لا يصح الاستصحاب .

والحاصل : انّه اذا تعذر جزء من المركب ، فالاجزاء الباقية منه لم يكن لها في حال التمكن من الكل وجوب استقلالي حتى يستصحب ، وإنّما كان الثابت لها

ص: 224

ويمكن توجيهه ، بناءا على ما عرفت : من جواز إبقاء القدر المشترك في بعض الموارد ، ولو علم بانتفاء الفرد المشخّص له سابقا ، بأنّ المستصحب هو مطلق المطلوبيّة المتحققة سابقا لهذا الجزء ولو في ضمن مطلوبيّة الكلّ .

-------------------

هو الوجوب التبعي المقدّمي وقد انتفى ذلك قطعا لانه بعد تعذر الجزء لا يجب الكل حتى يجب هذه الأجزاء مقدمة له ، والذي يراد إبقاؤه بالاستصحاب هو الوجوب النفسي لهذه الأجزاء ، والوجوب النفسي لهذه الأجزاء الباقية مشكوك الحدوث ، ومعه فلا يتم أركان الاستصحاب حتى يستصحب ، فالاستصحاب إذن لا يصح على ظاهره .

هذا ( ويمكن توجيهه ) أي : توجيه هذا الاستصحاب بالمسامحة العرفية في المستصحب ، وذلك ( بناءا على ما عرفت : من جواز إبقاء القدر المشترك في بعض الموارد ، ولو علم بانتفاء الفرد المشخّص له ) اي : المشخّص للقدر المشترك ( سابقا ) فان الوجوب الثابت بين الجزء والكل يستصحب بقاؤه من باب استصحاب الكلي .

وعليه : فيقال في تقريب الاستصحاب : ( بأنّ المستصحب هو مطلق المطلوبيّة المتحققة سابقا لهذا الجزء ) فانه لا شك ان هذا الجزء كان في السابق مطلوبا للمولى ( ولو في ضمن مطلوبيّة الكلّ ) اي : المطلوبية المقدّمية فتستصحب تلك المطلوبية التي هي عبارة اخرى عن الوجوب فيثبت به الوجوب للاجزاء الباقية .

إن قلت : استصحاب مطلوبية الكل الذي هو وجوب مقدمي لا يثبت الوجوب النفسي المطلوب الاّ على وجه مثبت .

ص: 225

إلاّ أنّ العرف لا يرونها مغايرةً في الخارج لمطلوبيّة الجزء في نفسه .

ويمكن توجيهه بوجه آخر يستصحب معه الوجوب النفسي ، بأن يقال : إنّ معروض الوجوب سابقا والمشار اليه بقولنا : « هذا الفعل كان واجبا » هو الباقي ، إلاّ أنّه يشك في مدخليّة الجزء المفقود في اتصافه بالوجوب النفسي مطلقا أو اختصاص المدخليّة بحال الاختيار ،

-------------------

قلت : صحيح ذلك ( إلاّ أنّ العرف لا يرونها ) أي : المطلوبية المقدّمية التي كانت للجزء في السابق ( مغايرةً في الخارج لمطلوبيّة الجزء في نفسه ) اي : المطلوبية النفسية له وذلك الخفاء ، فتستصحب تلك المطلوبية .

إذن : فمطلق المطلوبية ، وبعبارة اوضح : كلي الوجوب المقدّمي متحد بنظر العرف مع الوجوب النفسي لانهم يرون كل الآثار المترتِّبة على الوجوب النفسي مترتبة على الوجوب الكلي المقدّمي ، وهذا القدر كاف في الاستصحاب ، فيكون حاصل هذا التوجيه هو : استصحاب الوجوب .

( ويمكن توجيهه بوجه آخر ) وهو : بالمسامحة في موضوع المستصحب ، وذلك بأن ( يستصحب معه الوجوب النفسي ) لا مطلق المطلوبية الأعم من الوجوب النفسي والوجوب المقدّمي الذي ذكرناه في التوجيه السابق .

وعليه : فتوجيهه يكون على التقريب التالي ، وذلك ( بأن يقال : إنّ معروض الوجوب سابقا والمشار اليه بقولنا : « هذا الفعل كان واجبا » ، هو الباقي ) من الأجزاء ( إلاّ أنّه يشك في مدخليّة الجزء المفقود في اتصافه بالوجوب النفسي ) اي : يُشك في ان ذلك الجزاء المفقود هل له مدخلية فيه ( مطلقا ) حتى في حال عدم التمكن منه ممّا يكون معناه : عدم وجوب الباقي ( أو اختصاص المدخليّة بحال الاختيار ) فقط ، وأمّا في حال عدم التمكن فلا مدخلية له فيه ممّا يكون

ص: 226

فيكون محلّ الوجوب النفسي هو الباقي .

ووجود ذلك الجزء المفقود وعدمُه عند العرف في حكم الحالات المتبادلة لذلك الواجب المشكوك في مدخليّتها .

-------------------

معناه : وجوب الباقي .

إذن : ( فيكون محلّ الوجوب النفسي ) وموضوعه ( هو الباقي ) من الاجزاء ( ووجود ذلك الجزء المفقود وعدمُه عند العرف في حكم الحالات المتبادلة لذلك الواجب المشكوك في مدخليّتها ) اي : مدخلية الاجزاء فيه ، فالموضوع - كالصلاة مثلاً - في نظر العرف هو المركب الأعم من واجد السورة المفقودة وفاقدها .

وعليه : فحال السورة في الصلاة وعدمها بنظر العرف حال التغيّر في الماء وعدمه ، فكما يرى العرف التغيّر في الماء وعدمه من الحالات المتبادلة للماء وإنّما النجاسة قائمة بذات الماء الموجود في كلتا الحالتين : التغيّر وعدم التغير ، فكذلك يرى العرف السورة وعدمها في الصلاة من الحالات المتبادلة للصلاة ، وإنّما الوجوب قائم بذات الصلاة الموجودة في كلتا الحالتين ؛ مع السورة وعدمها، فيكون الموضوع حينئذ باقيا ويستصحب ذلك الموضوع الباقي ، فيكون استصحاب الوجوب النفسي لبقاء الموضوع تاما .

هذا ، ولا يخفى : ان الفرق بين التوجيه السابق ، وهذا التوجيه هو : ان في التوجيه السابق كنّا نستصحب كلي المطلوبية الأعم من الوجوب النفسي والمقدمي، وفي هذا التوجيه نستصحب الوجوب النفسي ، ففي التوجيه الاول كان التسامح في المستصحب ، وذلك بأن استصحبنا كلّي الوجوب ، وقلنا : بأن هذه الاجزاء كانت واجبة بكلّي الوجوب ، فهي كما كانت في السابق باقية

ص: 227

وهذا نظير استصحاب الكرّية في ماء نقص منه مقدارٌ ، فشك في بقاءه على الكرّية ، فيقال : هذا الماء كان كرّا ، والأصل بقاء كرّيته ، مع أنّ هذا الشخص الموجود الباقي لم يعلم بكرّيته .

وكذا استصحاب القلّة في ماء زيد عليه مقدارٌ .

وهنا توجيهٌ ثالثٌ ، وهو : استصحابُ الوجوب النفسي

-------------------

على وجوبها، وفي التوجيه الثاني يكون التسامح في الموضوع ، وذلك بأن استصحبنا نفس الوجوب النفسي الخاص المتعلِّق بهذه الأجزاء وقلنا بأن هذه الأجزاء كانت واجبة بوجوب نفسي ، فهي كما كانت في السابق باقية على وجوبها .

( وهذا ) التوجيه الثاني : ( نظير استصحاب الكرّية في ماء نقص منه مقدارٌ ، فشك في بقاءه على الكرّية ) وكان ذلك النقص قليلاً بحيث لا يضر بالصدق العرفي ( فيقال : هذا الماء كان كرّا ، والأصل بقاء كرّيته ) من باب التسامح في الموضوع فيحكم بمطهريّته وعدم انفعاله ( مع أنّ هذا الشخص الموجود الباقي ) من الماء ( لم يعلم بكرّيته ) سابقا ، لان معلوم الكرية سابقا هو الماء الذي لم ينقص منه شيء .

( وكذا استصحاب القلّة في ماء زيد عليه مقدارٌ ) لا يضر بالصدق العرفي بحيث نشك في انه هل خرج عن القلة حتى لا يتنجس بملاقاة النجس ، او لم يخرج عن القلة حتى يتنجس بملاقاة النجس ؟ فيقال : هذا الماء كان قليلاً ، والاصل بقاء قلّته من باب التسامح في الموضوع ، فيحكم بانه اذا لاقى النجس تنجس .

( وهنا ) ك ( توجيهٌ ثالثٌ وهو : استصحابُ الوجوب النفسي ) المتعلق

ص: 228

المردّد بين تعلّقه سابقا بالمركّب على أن يكون المفقود جزءا له مطلقا فيسقط الوجوب بتعذّره ، وبين تعلّقه بالمركّب على أن يكون الجزء جزءا اختياريّا يبقى التكليف بعد تعذّره ، والاصل بقاؤه ، فثبت به تعلّقه بالمركّب على الوجه الثاني .

وهذا نظير إجراء استصحاب وجود الكرّ في هذا الاناء لاثبات كرّية الباقي فيه .

-------------------

بالموضوع المجمل ( المردّد بين تعلّقه سابقا بالمركّب على أن يكون المفقود جزءا له مطلقا ) في حال الاختيار وحال التعذر ( فيسقط الوجوب بتعذّره ) اي : بتعذر ذلك الجزء ، فلا وجوب للباقي ( وبين تعلّقه ) اي : الوجوب النفسي ( بالمركب على أن يكون الجزء جزءا اختياريّا ) فقط فاذا تعذّر ( يبقى التكليف ) بالمركب الفاقد للجزء المتعذر ( بعد تعذّره ) اي : بعد تعذر ذلك الجزء الاختياري، كالسورة في المثال على حاله ( والاصل بقاؤه ) حينئذ .

إذن : ( فثبت به ) اي : بهذا الاصل وهو : استصحاب بقاء التكليف بالمركب الفاقد للجزء المتعذّر ( تعلّقه ) اي : تعلق الوجب ( بالمركّب على الوجه الثاني ) وهو ما كان الجزء المتعذّر فيه جزءا في حال الاختيار فقط لا مطلقا .

ولا يخفى : ان هذا الاصل مثبت لكن الواسطة خفيّة ( وهذا ) التوجيه الثالث : ( نظير إجراء استصحاب وجود الكرّ في هذا الاناء لاثبات كرّية) الماء (الباقي فيه) وذلك بان يقال : هذا الماء الموجود الآن في الاناء هو نفس الماء الموجود فيه سابقا ، وكان في السابق كرا فهو الآن كر ، بلا حاجة الى التسامح لا في المستصحب كما كان في التوجيه الاول ، ولا في الموضوع كما كان في التوجيه الثاني .

ص: 229

ويظهر فائدة مخالفة التوجيهات فيما اذا لم يبق إلاّ قليل من أجزاء المركّب ، فانّه يجري التوجيه الأوّل

-------------------

وعليه : فقد تبين ان الاستصحاب في الاول هو : استصحاب مطلق المطلوبية الأعم من النفسي و المقدّمي ، وذلك من باب التسامح في المستصحب وهو الوجوب ، وفي الثاني هو : استصحاب الوجوب النفسي وذلك من باب التسامح في موضوع الوجوب لاثبات ان الباقي هو عين السابق عرفا ، وفي الثالث هو : استصحاب الوجوب النفسي المتعلق بالموضوع المجمل لاثبات ان الباقي هو نفس الموضوع السابق ، وان الجزء المتعذر كان واجبا في حال الاختيار فقط دون التعذّر ، يعني : بأن كان ذلك الجزء في حال الاختيار زائدا على الموضوع بحيث ان فقده في حال عدم التمكن منه لا يوجب نقصا ومعه لا حاجة الى التسامح في الموضوع ولا في المستصحب .

( ويظهر فائدة مخالفة التوجيهات ) اي : اختلاف التوجيهات الثلاثة التي ذكرناها تظهر فائدتها ( فيما اذا لم يبق إلاّ قليل من أجزاء المركّب ) وذلك كما اذا لم يبق من الصلاة الاّ تكبيرة الاحرام والركوع والسجود والسلام فقط ، فانه يظهر فيها ثمرة اختلاف التوجيهات المذكورة ويظهر الفرق بينها ، بينما اذا تعذر بعض الأجزاء القليلة من المركب مثل : تعذر السورة فقط ، أو ذكر الركوع فقط أو ذكر السجود فقط ، فانه يجري فيها الاستصحاب على جميع التوجيهات من دون فرق بينها .

وعليه : ( فانّه ) في صورة تعذر اكثر الأجزاء يظهر الفرق بين التوجيهات المذكورة ، فان فيها ( يجري التوجيه الاول ) لان مبناه على المسامحة في نفس الوجوب الذي هو المستصحب ، لا في الموضوع ، فسواء زاد الموضوع أم نقص

ص: 230

والثالث دون الثاني ، لأنّ العرف لا يساعد على فرض الموضوع بين هذا الموجود وبين جامع الكلّ ولو مسامحةً لأنّ هذه المسامحة مختصّة بمعظم الأجزاء الفاقد لما لا يقدح في إثبات الاسم والحكم له وفيما لو كان

-------------------

لا يضرّ الحكم الذي هو الوجوب ، فيقال : سابقا كان واجبا وفي الحال يكون واجبا ايضا .

( و ) كذا يجري فيها التوجيه ( الثالث ) ايضا ، لان الثالث على ما عرفت كان مبنيا على استصحاب الوجوب المتعلّق بالموضوع المجمل .

وزيادة الموضوع ونقصانه لا يضر بالحكم الذي هو الوجوب فيكون الباقي واجبا ( دون الثاني ، لأنّ ) مبناه كما عرفت كان على المسامحة في الموضوع ، ومن المعلوم : انه لو تعذر اكثر الأجزاء لا يبقى الموضوع ، فكون كالكر الذي أخذ ثلاثة ارباع مائه فان ( العرف لا يساعد على فرض الموضوع بين هذا الموجود ) الباقي القليل ( وبين جامع الكلّ ) الذي كان يشتمل - مثلاً - على عشرة أجزاء ثم تعذّر أكثرها وبقي منها ثلاثة أجزاء ، فان الموضوع بنظر العرف ليس بباق هنا ( ولو مسامحةً ) .

وإنّما لا يساعد على بقاء الموضوع هنا مع مسامحته ( لأنّ هذه المسامحة مختصّة بمعظم الأجزاء ) بقاءا ( الفاقد لما لا يقدح ) ولا يضرّ فقده ( في إثبات الاسم ) كفقد السورة او ذكر الركوع أو السجود - مثلاً - ( و ) اذا بقي معظم الأجزاء فحينئذ يثبت ( الحكم له ) اي : لهذا المعظم ايضا ويقال : ان الموضوع باق بنظر العرف المسامحي ، دون ما اذا تعذّر اكثر الأجزاء .

( و ) كذلك يظهر ايضا فائدة اختلاف التوجيهات المذكورة ( فيما لو كان

ص: 231

المفقود شرطا ، فانّه لا يجري الاستصحاب على الأوّل ، ويجري على الأخيرين .

وحيث إنّ بناء العرف على عدم إجراء الاستصحاب

-------------------

المفقود شرطا ) كما اذا تعذرت القبلة او الطهارة - مثلاً - في الصلاة ( فانّه لا يجري الاستصحاب على الأوّل ) لأنّ المشروط عدم عند عدم شرطه ، فاذا تعذرت القبلة او الطهارة لا تكون صلاة ، فالوجوب المتعلق بالصلاة الجامعة للأجزاء والشرائط قد انتفى قطعا ، ووجوب آخر متعلق بالصلاة بلا شرائط ، هو مشكوك الحدوث ، فلا معنى إذن لاستصحاب كلي الوجوب هنا .

( ويجري على الأخيرين ) وذلك بأن يقال : ان موضوع الوجوب النفسي على التسامح العرفي هو المركب الأعم من واجد الشرط وفاقده ، وهذا الموضوع باق بعد فقد الشرط على حالة ، كما مرّ في التوجيه الثاني ، او يقال على التوجيه الثالث:

بأن نستصحب الوجوب النفسي المتعلّق بالموضوع المجمل المردّد بين ان يكون الشرط شرطا له مطلقا ، او في حال الاختيار فقط وذلك الى آخر ما تقدَّم بيانه في التوجيه الثالث .

والحاصل : ان العرف يتسامح ويحكم باتحاد الواجد للشرائط والفاقد لها ، فيستصحب الوجوب النفسي المتعقل بالاجزاء الباقية ، ويستصحب الوجوب النفسي المتعلّق بالموضوع المجمل ، وذلك على التوجيهين الاخيرين : الثاني والثالث .

ولكن التوجيه الثالث كالتوجيه الاول ممّا لا يساعد العرف على صحته واليه اشار المصنِّف بقوله : ( وحيث انّ بناء العرف على عدم إجراء الاستصحاب

ص: 232

في فاقد معظم الأجزاء ، واجرائه في فاقد الشرط ، كَشَفَ عن فساد التوجيه الأوّل ، وحيث إنّ بناءهم على استصحاب نفس الكرّية دون الذات المتصف بها كَشَفَ عن صحة الأوّل من الأخيرين ، وقد عرفت : أنّه لولا المسامحة العرفيّة في المستصحب وموضوعه لم يتمّ شيء من الوجهين .

-------------------

في فاقد معظم الأجزاء ، واجرائه في فاقد الشرط ، كَشَفَ عن فساد التوجيه الأوّل ) المبني على عكس ذلك ، فان التوجيه الاول - كما عرفت - كان يجري الاستصحاب في فاقد المعظم ولا يجريه في فاقد الشرط .

وإنّما كان بناء العرف المذكور كاشفا عن فساد التوجيه الاول ، لان العرف هو المخاطب من جهة الشارع ، فاذا لم ير العرف انطباق أخبار الاستصحاب على هذا التوجيه تبيّن ان التوجيه فاسد .

هذا بالنسبة الى التوجيه الأوّل وأمّا التوجيه الثاني فكما قال : ( وحيث إنّ بناءهم على استصحاب نفس الكرّية ) عند الشك في الكرية فيقولون : كان هذا الماء سابقا كرا فالآن كرّ ( دون الذات المتصف بها ) اي : بالكرية ، فانهم لا يستصحبون وجود الماء الكرّ ، حتى يثبتوا أن ما في الحوض كرّ ، فان بناءهم هذا ( كَشَفَ عن صحة الأوّل من الأخيرين ) اي : صحة التوجيه الثاني ، لأنّ فيه استصحاب الوجوب النفسي المتعلّق بهذه الأجزاء ، فهناك يقال : يستصحب كرّية الماء ، وهنا يقال : يستصحب وجوب الأجزاء .

( و ) امّا التوجيه الثالث : فلا يراه العرف صحيحا ايضا ، كما لم ير التوجيه الأوّل صحيحا ، وذلك لانه ( قد عرفت : أنّه لولا المسامحة العرفيّة في المستصحب وموضوعه لم يتمّ شيء من الوجهين ) الأخيرين ، فتماميّتهما متوقف على رؤية العرف والعرف يرى صحة أولهما دون ثانيهما ، فيكون التوجيه

ص: 233

لكنّ الاشكال بعدُ في الاعتماد على هذه المسامحة العرفيّة المذكورة ، إلاّ أنّ الظاهر : أنّ استصحاب الكرّية من المسلّمات عند القائلين بالاستصحاب . والظاهر : عدم الفرق .

ثم إنّه

-------------------

الثالث غير صحيح ، لان العرف في مثل الشك في الكريّة يستصحبون كرية هذا الماء على ما عرفت ، ولا يستصحبون وجود الماء الكرّ ، والتوجيه الثالث كان من قبيل استصحاب وجود الماء الكرّ .

هذا ، و ( لكنّ الاشكال بعدُ في الاعتماد على هذه المسامحة العرفيّة المذكورة ) وهو انه هل المسامحة العرفية توجب صحة الاستصحاب ام لا ؟ وعلى فرضه هل يفهم العرف من اخبار الاستصحاب مثل هذه المسامحة ام لا ؟ ( إلاّ أنّ الظاهر : أنّ استصحاب الكرّية ) في الماء الذي أخذ بعضه ممّا يراه العرف هو الماء السابق مسامحة ، فهو ( من المسلّمات عند القائلين بالاستصحاب و ) حجيته .

وعليه : فاذا تمّ استصحاب الكرية نقول : ( الظاهر : عدم الفرق ) بين نقص مقدار من الكرّ ، ونقص مثل السورة ، أو ذكر الركوع ، أو السجود ، أو ما اشبه ذلك من الصلاة ، فكما يستصحب هناك الكرية كذلك يستصحب هنا الوجوب .

( ثم إنّه ) لا يقال : ان استصحاب الوجوب بعد تعذّر السورة - مثلاً - إنّما يتم بعد تمكن المكلّف من الصلاة بأن دخل الوقت ولم يصلّها ثم تعذرت السورة ، وامّا اذا لم يدخل الوقت بعدُ وكانت السورة متعذّرةً لتقية شديدة او ما اشبه ، فانه لم تجب الصلاة بعدُ حتى يستصحب الوجوب لقوله عليه السلام : «اذا دخل الوقت

ص: 234

لا فرق ، بناءا على جريان الاستصحاب ، بين تعذّر الجزء بعد تنجّز التكليف ، كما اذا زالت الشمس ، متمكّنا من جميع الأجزاء ففقد بعضها ، وبين ما اذا فقده قبل الزوال ، لأنّ المستصحب هو : الوجوب النوعي المنجّز على تقدير اجتماع شرائطه ، لا الشخصي المتوقف على تحقق الشرائط فعلاً ،

-------------------

وجب الطهور والصلاة » (1) والمفروض : أنّه لم يدخل الوقت بعد ، فكيف يستصحب الوجوب ؟ .

لأنّه يقال : ( لا فرق بناءا على جريان الاستصحاب ) عند المثبتين للاستصحاب في الباقي بعد تعذر بعض الاجزاء ( بين تعذّر الجزء بعد تنجّز التكليف ) بدخول الوقت ( كما اذا زالت الشمس ) في حال كون المكلّف ( متمكّنا من جميع الأجزاء ففقد بعضها ) لتعذّر أو تعسّر ( وبين ما اذا فقده قبل الزوال ) .

وإنّما قلنا : لا فرق بينهما ( لأنّ المستصحب هو : الوجوب النوعي المنجّز على تقدير اجتماع شرائطه ) اي :بأن يكون تنجزّه معلقا على تحقق شروطه : من دخول الوقت وما اشبه ، وهذا الوجوب النوعي لا فرق فيه قبل الوقت وبعد الوقت، وذلك لانه قبل الوقت متوجّه الى نوع المكلفين معلقا ، فله وجود تعليقي، والوجود التعليقي قابل للاستصحاب فيستصحب .

( لا ) الوجوب ( الشخصي المتوقف على تحقق الشرائط فعلاً ) اي : لا التكليف المنجزّ الشخصي ، حتى يقال : بأنه لم يكن واجبا ، فماذا

ص: 235


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص33 ح67 ، وسائل الشيعة : ج1 ص372 ب4 ح981 و ج2 ص253 ب14 ح1929 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص140 ب23 ح4

نعم هنا أوضح .

وكذا لا فرق ، بناءا على عدم الجريان بين ثبوت جزئيّة المفقود بالدليل الاجتهادي وبين ثبوتها بقاعدة الاشتغال .

وربما يتخيّل : أنّه لا اشكال في الاستصحاب

-------------------

تستصحبون ؟ .

( نعم ) جريان الاستصحاب ( هنا ) فيما اذا حصل التعذر بعد دخول الوقت يعني : عند تنجزّ الوجوب الشخصي على المكلّف يكون ( أوضح ) من جريان الاستصحاب بالنسبة الى الوجود التعليقي في الوجوب النوعي الذي كان واجبا قبل دخول الوقت .

( وكذا لا فرق ، بناءا على عدم الجريان ) وذلك عند المانعين من جريان الاستصحاب في الباقي بعد تعذر بعض الاجزاء فإنّه لا فرق عندهم ( بين ثبوت جزئيّة المفقود بالدليل الاجتهادي ) كما اذا ورد نص على ان السورة جزء ( وبين ثبوتها بقاعدة الاشتغال ) كما اذا اشككنا في ان السورة جزء او ليست بجزء وبنينا على جزيئيتها ، لانه من الشك بين الأقل والاكثر الارتباطين وقلنا فيه - مثلاً - بوجوب الاحتياط باتيان الاكثر .

وإنّما قلنا : لا فرق بين القسمين : الاول والثاني ، في سقوط وجوب الباقي - بناءا على عدم جريان الاستصحاب - لأنّ المانعين يرون اختلاف القضيتين : المتيقنة والمشكوكة فيما نحن فيه ، فيرون الموضوع غير باق ، فلا يجرون الاستصحاب ، سواء ثبت جزيئة الجزء المتعذِّر بالدليل الاجتهادي ، أم بقاعدة الاشتغال .

( وربما يتخيّل : أنّه لا اشكال في الاستصحاب ) أي : استصحاب التكليف

ص: 236

في القسم الثاني ، لأنّ وجوب الاتيان بذلك الجزء لم يكن إلاّ لوجوب الخروج عن عهدة التكليف ، وهذا بعينه مقتضٍ لوجوب الاتيان بالباقي بعد تعذّر الجزء .

-------------------

لاثبات وجوب الاجزاء الباقية ( في القسم الثاني ) وهو ما ثبت جزئيته بقاعدة الاشتغال ( لأنّ وجوب الاتيان بذلك الجزء ، لم يكن ) الدليل اجتهادي ، وإنّما لقاعدة الاشتغال ، فلا يكون وجوب اتيانه ( إلاّ لوجوب الخروج عن عهدة التكليف ) الذي هو مقتضى استصحاب التكليف بعد الاتيان بالصلاة بلاسورة - مثلاً - .

( وهذا بعينه ) اي : استصحاب التكليف ، المقتضي لوجوب الخروج عن عهدة التكليف بالنسبة الى الاجزاء الباقية من الصلاة بعد تعذر السورة - مثلاً - موجود ايضا ، وهو بنفسه ( مقتضٍ لوجوب الاتيان بالباقي بعد تعذّر الجزء ) فيثبت وجوب الباقي ، اذ في فرض ثبوت وجوب الجزء - كالسورة مثلاً - بالاستصحاب ، يحتمل ان يكون الواجب بالنسبة الى المركب من اول الامر هو عبارة عن الاقل - كالصلاة بالسورة مثلاً - فتكون الصلاة بعد تعذر السورة واجبة ايضا .

وعليه : فاذا شك في ان الواجب هل هي الصلاة مع السورة او بدونها ولا دليل اجتهادي ؟ فيقال : انه مع التمكن من الصلاة مع السورة فاستصحاب التكليف يقتضي : وجوب الاتيان بالاكثر فتجب السورة ، ومع عدم التمكن من السّورة فاستصحاب التكليف يقتضي : وجوب الاتيان بالباقي فيجب الباقي ، ففرق بين ثبوت الجزء بدليل اجتهادي فلا استصحاب ، وبين ثبوته بقاعدة الاشتغال فالاستصحاب جار .

ص: 237

وفيه ما تقدّم ، من أنّ وجوب الخروج عن عهدة التكليف بالمجمل إنّما هو بحكم العقل لا بالاستصحاب ، والاستصحاب لا ينفع هنا إلاّ بناءا على الأصل المثبت .

ولو قلنا به

-------------------

( وفيه ما تقدّم ) في بحث البرائة ( من أنّ وجوب الخروج عن عهدة التكليف بالمجمل ) المردّد بين الأقل والاكثر المستلزم للاحتياط والاتيان بالاكثر ( إنّما هو بحكم العقل ) القائل بوجوب دفع العقاب المحتمل ، من باب ان التكليف قطعي ، فاذا اُتي به من دون هذا الجزء المشكوك ، لم يُعلم بالخروج عن عهدة التكليف ، ولذا يجب الاتيان بالأكثر ، فالوجوب إذن بحكم العقل ( لا بالاستصحاب ) اي : ان الأثر للشك لا للمشكوك .

هذا ( والاستصحاب لا ينفع هنا إلاّ بناءا على الأصل المثبت ) وذلك بأن نستصحب الوجوب الكلي السابق فنقول : إذن هذا الفاقد للجزء هو الواجب ، فيكون من قبيل استصحاب الكلي لاثبات فرد منه ، وهو مثبت ، والاصل المثبت كما عرفت ليس بحجة .

وكيف كان : فانه مع التمكن من الاتيان بذلك الجزء يجب الاتيان بالمجموع لكن لا من باب استصحاب التكليف لانه مثبت ، بل من باب القول بوجوب الاكثر لقاعدة الاشتغال فيما اذا كان الشك بين الأقل والاكثر الارتباطيين كما نحن فيه ، وذلك لانه شك في اسقاط التكليف وهو مجرى الاحتياط ، بينما مثل هذا لا يجري عند الشك في وجوب الباقي بعد تعذّر بعض الاجزاء وذلك لانه شك في اثبات التكليف وهو مجرى البرائة .

هذا ، ان لم نقل باعتبار الاصل المثبت ( ولو قلنا به ) اي : باعتبار الأصل المثبت

ص: 238

لم يفرّق بين ثبوت الجزء بالدليل او بالأصل ، لما عرفت : من جريان استصحاب بقاء أصل التكليف وإن كان بينهما فرقٌ من حيث أنّ استصحاب التكليف في المقام من قبيل استصحاب الكلّي المتحقق سابقا في ضمن فرد معيّن ، بعد العلم بارتفاع ذلك الفرد المعيّن

-------------------

وحجيته ( لم يفرّق ) في القول بوجوب الباقي ( بين ثبوت الجزء بالدليل او بالأصل ) وذلك لأنّ ثبوت الجزء المتعذّر سواء كان بالدليل ام بالاصل ، فان استصحاب الوجوب للاجزاء الباقية لا يُثبت لها الوجوب النفسي الاّ على وجه مثبت كما عرفت .

إذن : فمن جهة أنّ القول بوجوب الباقي ، لا يكون الاّ على القول بالاصل المثبت ، لم يفرّق بين ان يكون الجزء المتعذر ثابتا بالدليل او بالاصل ، وذلك ( لما عرفت : من جريان استصحاب بقاء أصل التكليف ) .

وأمّا من جهة مورد جريان الاستصحاب ، فهناك فرق بين كون الجزء ثابتا بالدليل ، وبين كونه ثابتا بالاصل ، كما قال : ( وإن كان بينهما فرقٌ ) .

وإنّما يكون بينهما فرق ( من حيث أنّ استصحاب التكليف في المقام ) وهو تعذر الجزء الثابت بالدليل الاجتهادي ( من قبيل استصحاب الكلّي المتحقق سابقا في ضمن فرد معيّن ، بعد العلم بارتفاع ذلك الفرد المعيّن ) وهذا هو القسم الثابت من أقسام استصحاب الكلي ، فإنّ استصحاب كلي الوجوب مع تردّده بين الوجوب المقدّمي بالنسبة الى الباقي المرتفع قطعا بارتفاع الكل ، والوجوب النفسي المشكوك حدوثه في الباقي مكان الكل ، يكون من قبيل استصحاب كلي الانسان المردّد بين زيد المرتفع قطعا لخروجه من الدار ، وعمرو المشكوك حدوثه مكان زيد لاحتمال دخوله في الدار ، والاستصحاب فيه لا يجري

ص: 239

وفي استصحاب الاشتغال من قبيل استصحاب الكلّي المتحقّق في ضمن المردّد بين المرتفع والباقي ، وقد عرفت عدم جريان الاستصحاب في الصورة الاولى ، إلاّ في بعض مواردها بمساعدة العرف .

-------------------

الاّ في بعض الصور المتسامح فيه عرفا .

هذا مورد جريان الاستصحاب في الاجزاء الباقية بعد تعذر الجزء الثابت بالدليل الاجتهادي والذي عبّر عنه بقوله : « في المقام » .

وأمّا مورد جريان الاستصحاب في الاجزاء الباقية بعد تعذر الجزء الثابت بالاصل ، كالثابت فيما نحن فيه بقاعدة الاشتغال ، فهو كما أشار اليه بقوله : ( وفي استصحاب الاشتغال ) يكون ( من قبيل استصحاب الكلّي المتحقّق في ضمن المردّد بين المرتفع والباقي ) حيث انه من القسم الثاني من اقسام استصحاب الكلي ، مثل استصحاب كلي الحيوان المردّد بين كونه عصفورا لا يعيش إلاّ سنة أو غرابا يعيش طويلاً .

هذا ( وقد عرفت ) ممّا ذكرناه سابقا في التنبيه الاول ( عدم جريان الاستصحاب في الصورة الاولى ) من هاتين الصورتين المذكورتين ، وذلك لانها من القسم الثالث من اقسام استصحاب الكلي فلا يجري فيها الاستصحاب ( إلاّ في بعض مواردها بمساعدة العرف ) وذلك بأن يرى العرف أنّ الفرد الباقي هو استمرار الفرد السابق ، وما نحن فيه هو من الموارد التي يرى العرف فيها ذلك ، فيصح استصحاب الكلي في هذا المورد ، لكنه لا يثبت بقاء الوجوب النفسسي لبقية الاجزاء الاّ على القول بالأصل المثبت ، أو فرض خفاء الواسطة ، وذلك لانه من استصحاب الكلي لاثبات بعض أفراده .

ص: 240

ثمّ إعلم أنّه نُسِبَ الى الفاضلين ، التمسكُ بالاستصحاب في هذه المسألة في مسألة الأقطع .

والمذكور في المعتبر والمنتهى : « الاستدلال على وجوب غَسل ما بقي من اليد المقطوعة ممّا دون المرفق أنّ غَسل الجميع بتقدير وجود ذلك البعض واجبٌ ، فاذا زال البعض لم يسقط الآخر » انتهى .

وهذا الاستدلال

-------------------

( ثمّ إعلم أنّه نُسِبَ الى الفاضلين ) : المحقق والعلامة ( «قدس سرهما» ، التمسكُ بالاستصحاب في هذه المسألة ) اي : مسألة تعذر الجزء من غير تفصيل بين الجزء الثابت بالدليل الاجتهادي ، والثابت بالأصل العملي ( في مسألة الأقطع ) الذي قطعت يده ، وبقي بعضها ، فانه كان سابقا يجب عليه غَسل هذا البعض في ضمن غَسل كل اليد ، فلمّا قطع بعضها نشك في انه هل بقى وجوب غَسل هذا البعض أم لا ؟ فنستصحب وجوب غَسله .

( والمذكور في ) كتابي الفاضلين : ( المعتبر ) للمحقق قدس سره ( والمنتهى ) للعلامة قدس سره ( « الاستدلال على وجوب غَسل ما بقي من اليد المقطوعة ممّا دون المرفق ) فيما اذا بقي شيء من محل الغَسل ، وذلك بتقريب : ( أنّ غَسل الجميع ) اي : جميع اليد ( بتقدير وجود ذلك البعض ) المقطوع ( واجبٌ ) اي : كان سابقا واجبا ( فاذا زال البعض لم يسقط الآخر » (1) ) عن الوجوب ، فيجب غَسل البعض الآخر الباقي الى المرفق .

( انتهى ، وهذا الاستدلال ) له احتمالات ثلاثة : فاحتمال انه تمسك بقاعدة

ص: 241


1- - المعتبر : ص39 .

يحتمل أن يراد منه مفاد قاعدة : « الميسور لا يسقُط بالمعسور » ، ولذا أبدله في الذكرى بنفس القاعدة ؛ ويحتمل أن يراد منه : الاستصحاب ، بأن يراد أنّ هذا الموجود بتقدير وجود المفقود في زمان سابق واجب .

فاذا زال البعض لم يعلم سقوط الباقي ، والأصل عدمه أو لم يسقط بحكم الاستصحاب .

-------------------

الميسور ، واحتمال انه تمسك بالاصل العملي وهو الاستصحاب ، واحتمال انه تمسك بالأصل اللفظي وهو عموم قوله تعالى : « فاغسلوا وجوهكم وأيديكم ... »(1) فانه شامل لجميع أجزاء اليد ، فاذا سقط بعض الأجزاء وجب غَسل الباقي .

وعليه : فالاحتمالات هنا ثلاثة ، اشار المصنِّف الى أولها بقوله : ( يحتمل أن يراد منه مفاد قاعدة : « الميسور لا يسقُط بالمعسور » (2) ) لا الاستصحاب ( ولذا أبدله ) اي : أبدل الاستدلال المذكور الشهيد الاول ( في الذكرى بنفس القاعدة ) اي : بقاعدة الميسور ، حيث انه قال : يجب غَسل ما بقي لقاعدة الميسور .

وأشار الى ثانيها بقوله : ( ويحتمل أن يراد منه : الاستصحاب ، بأن يراد أنّ هذا الموجود ) من اليد الى المرفق ( بتقدير وجود المفقود في زمان سابق ، واجب ) غَسله ( فاذا زال البعض لم يعلم سقوط الباقي ، والأصل عدمه ) اي : عدم سقوط الباقي وهذا تمسّك بالاصل العدمي ( أو ) يتمسك بالاصل الوجودي وذلك بأن يقال : هذا الموجود من اليد على تقدير وجود المفقود كان واجبا غَسله سابقا ، ولآن واجب ايضا حيث ان وجوبه ( لم يسقط بحكم الاستصحاب ) .

ص: 242


1- - سورة المائدة : الآية 6 .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ص58 ح205 بالمعنى ، بحار الانوار : ج84 ص101 ب12 ح2 .

ويحتمل أن يراد به : التمسك بعموم ما دلّ على وجوب كلّ من الأجزاء ، من غير مخصّص له بصورة التمكّن من الجميع ، لكنّه ضعيفٌ احتمالاً ومحتملاً .

-------------------

وأشار الى ثالثها بقوله : ( ويحتمل أن يراد به : التمسك ) بالاصل اللفظي أي : ( بعموم ما دلّ على وجوب كلّ من الأجزاء ، من غير مخصّص له بصورة التمكّن من الجميع ) وذلك بأن أوجب الشارع غسل اليد بنحو العموم الشامل لغسل ما بين المرفق الى رؤوس الاصابع ، فاذا سقط بعضه لقطع أو نحوه بأن سقطت أصابعه ، أو سقطت كفه من الزند ، أو سقط ممّا دون المرفق - مثلاً - وجب غَسل الباقي .

( لكنّه ) اي : التمسك بالعموم اللفظي من الفاضلين ( ضعيفٌ احتمالاً ومحتملاً ) أمّا احتمالاً وهو ان يكون في كلامهما ما يشعر بذلك ، فلأن كلامهما لا ظهور له في انهما يريدان التمسك بالعام بالنسبة الى ما بقي من اليد بل له ظهور في ارادتهما دليل الميسور .

وأمّا محتملاً : فلأن وجوب غَسل البعض بعد سقوط البعض الآخر غير مشمول للعموم ، اذ الظاهر من الآية والرواية غَسل الجميع ، فاذا انتفى الجميع بانتفاء البعض لم يبق أمر حتى يشمل عمومه البعض الآخر الباقي .

هذا ، ولا يخفى : ان ما ذكروه جار في غير اليد أيضا ، كبعض مواضع المسح ، وبعض الوجه ، وكذلك الحال فيمن لا يتمكن في الغُسل من غَسل جميع بدنه ، فهل يجب عليه غَسل الرأس والرقبة أو مع الطرف الايمن - مثلاً - أم لا ؟ وكذا الحال في المتيمم الذي لا يتمكن من المسح على جبهته ، أو على احدى يديه ، او على كلتا اليدين ، فهل يجب عليه ذلك أم لا ؟ .

ص: 243

الأمر الثاني عشر :

إنّه لا فرق في احتمال خلاف الحالة السابقة بين أن يكون مساويا لاحتمال بقائه ، أو راجحا عليه بأمارة غير معتبرة .

ويدلّ عليه وجوه :

الأوّل : الاجماع القطعي على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار .

-------------------

وهكذا حال غُسل الميت اذا لم يتمكن الغاسل من تغسيل جميع جسده ، أو في تيممه اذا لم يتمكن من مسح كل اعضاء تيممه ، وكذا في الميت الذي قطع رأسه ، فهل يجب تغسيل جانبه الأيمن وجانبه الأيسر ام لا ؟ وهكذا حال تيممه أيضا .

وكذا الحال بالنسبة الى الصلاة والصوم والحج ، وغيرها من الواجبات ، فان نفس المسئلة تأتي فيها ايضا ، وذلك كما اذا علم بانه بعد صلاة ركعتين من الظهر الرباعية يقتل أو يجنّ او ما اشبه ذلك ممّا لا يتمكن معه من اتمام الصلاة ، او في الصوم تحيض المرأة ، او يقتل الرجل ، او ما اشبه ذلك ، وهكذا في باب الحج ، فهل يجب عليه ذلك أم لا ؟ .

( الأمر الثاني عشر ) : في ان المراد بالشك المأخوذ في الاستصحاب هو الأعم من الشك الاصطلاحي المتساوي الطرفين ، والظن بالبقاء ، والظن بالانتفاء ، وذلك ( إنّه لا فرق في احتمال خلاف الحالة السابقة ) للذي يجري الاستصحاب حينئذ ( بين أن يكون مساويا لاحتمال بقائه ، أو راجحا عليه بأمارة غير معتبرة ) .

وقال : غير معتبرة ، لأنّ الأمارة كانت معتبرة لم يبق مجال للاستصحاب ، بل لزم الاخذ بتلك الأمارة المعتبرة .

( ويدلّ عليه ) اي : على ان احتمال خلاف الحالة السابقة أعم ( وجوه ) كالتالي :

( الأوّل : الاجماع القطعي على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار )

ص: 244

الثاني: أنّ المراد بالشك في الروايات معناه اللغوي، وهو: خلاف اليقين ، كما في الصحاح ، ولا خلاف فيه ظاهرا .

ودعوى : « انصراف المطلق في الروايات الى معناه الأخص ، وهو : الاحتمال المساوي » ، لا شاهد لها ، بل يشهد بخلافها - مضافا الى تعارف الشك في الاخبار على المعنى الأعمّ - مواردُ من الأخبار الواردة .

منها : مقابلة الشك باليقين في جميع الاخبار .

-------------------

فان كل اولئك الذين يرون حجية الاستصحاب تعبدا من باب الاخبار ، مجمعون على عدم الفرق بين الشك الاصطلاحي والظن بالوفاق او بالخلاف .

( الثاني : أنّ المراد بالشك في الروايات معناه اللغوي وهو : خلاف اليقين ) فيكون شاملاً للشك والظن والوهم لانها جميعا خلاف اليقين ، وذلك ( كما في الصحاح ) للجوهري ( و ) ارادة المعنى اللغوي من الشك الوارد في الروايات هو ممّا ( لا خلاف فيه ظاهرا ) فاحتمال ان الشارع قد غيرّ المعنى اللغوي الى المعنى الاصطلاحي المنطقي غير ظاهر .

( ودعوى : « انصراف ) الشك ( المطلق في الروايات الى معناه الأخص ، وهو : الاحتمال المساوي » ) الطرفين المصطلح لدى المنطقيين ( لا شاهد لها ) اي : لهذه الدعوى اذ لا وجه لهذا الانصراف بعد كون الاصل في النقل هو العدم ، فإنّ اثبات تغيير اللغة الى اصطلاح خاص يحتاج الى دليل ، ولا دليل عليه هنا .

( بل يشهد بخلافها ) اي : بخلاف هذه الدعوى ( مضافا الى تعارف ) اطلاق ( الشك في الاخبار على المعنى الأعمّ ) الشامل للوهم والظن والشك الاصطلاحي، يشهد له ( موارد من الأخبار الواردة ) في الاستصحاب .

( منها : مقابلة الشك باليقين في جميع الاخبار ) التي جعلت الشك في مقابل

ص: 245

ومنها : قوله في صحيحة زرارة الاُولى : « فان حُرِّكَ الى جنبِه شيءٌ وهو لا يعلم به » الى آخره ، فان ظاهره : فرض السؤال فيما كان معه أمارةُ النوم .

ومنها : قوله عليه السلام : « لا ، حتى يستيقن » حيث جعل غاية وجوب الوضوء الاستيقان بالنوم ، ومجيء أمر بيّن منه .

-------------------

اليقين وظاهر التقابل هو التناقض ، يعني : كل ما ليس بيقين ، وما ليس بيقين يشمل الشك الاصطلاحي والظن والوهم .

( ومنها : قوله ) عليه السلام ( في صحيحة زرارة الاُولى ) المفيدة بقاء الوضوء الى ان يتيقن بالنوم ، وعدم نقض الوضوء بالخفقة ونحوها حيث قال فيها عليه السلام : ( « فان حُرِّكَ الى جنبه شيءٌ وهو لا يعلم به » (1) الى آخره ، فان ظاهره : فرض السؤال فيما كان معه أمارةُ النوم ) .

ومن المعلوم : ان الأمارة على النوم بتحريك شيء الى جنبه وهو لا يعلم يوجب الظن بالخلاف ، ومع ذلك فان الشارع قال : عليه بعدم الاعتناء بظنه وباستصحاب وضوءه .

( ومنها : قوله عليه السلام : « لا ، حتى يستيقن » (2) حيث جعل غاية وجوب الوضوء ) الجديد للصلاة : هو ( الاستيقان بالنوم ، ومجيء أمر بيّن منه ) فانه في هذه الصورة فقط ينتقض وضوءه ، امّا اذا لم يأت أمر بيّن منه فيستصحب وضوءه .

ومن المعلوم : انه بدون الأمر البيّن المورث لليقين بالنوم قد يكون النوم مظنونا ، كما قد يكون مشكوكا ، أو موهوما ، فيعم الجميع .

ص: 246


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

ومنها : قوله عليه السلام : « ولكن تنقضه بيقين آخر » فانّ الظاهر : سَوقه في مقام بيان حصر ناقض اليقين في اليقين .

ومنها : قوله عليه السلام في صحيحة زرارة الثانية : «فلعلّه شيءٌ اُوقِعَ عليك ، وليس ينبغي لك أن تنقُضَ اليقين بالشكِّ » ، فانّ كلمة : « لعل » ظاهرة في مجرّد الاحتمال ، خصوصا مع وروده في مقام إبداء ذلك ، كما في المقام ،

-------------------

( ومنها : قوله عليه السلام : « ولكن تنقضه بيقين آخر » (1) فانّ الظاهر : سَوقه في مقام بيان حصر ناقض اليقين في اليقين ) فقط ، فيعم عدم النقض بكل ماليس بيقين من الوهم والشك والظن بالنقض .

( ومنها : قوله عليه السلام في صحيحة زرارة الثانية : « فلعلّه شيءٌ اُوقِعَ عليك ، وليس ينبغي لك أن تنقُضَ اليقين بالشكِّ » (2) فانّ كلمة : « لعل » ظاهرة في مجرّد الاحتمال ) سواء كان الاحتمال متساوي الطرفين ، أو راجح الفعل ، أم راجح الترك ، فان لعل يستعمل في مقام الاحتمال المقابل لليقين ، فاذا قيل للمريض - مثلاً - اشرب الدواء الفلاني لعله ينفعك ، كان معناه : انه يحتمل انتفاعه به ، سواء كان الاحتمال مظنونا أم مشكوكا أم موهوما .

( خصوصا مع وروده ) اي : ورود « لعلّ » من : «لعله شيء أوقع عليك» ( في مقام إبداء ذلك ) اي : ابداء الاحتمال وابقائه ( كما في المقام ) فإنّ رؤية الانسان الدم في ثوبه بعد الصلاة لا يوجب بطلان صلاته ، لأنّه يحتمل ولو ضعيفا وقوعه بعد الصلاة ، فتكون صلاته صحيحة بابقاء هذا الاحتمال

ص: 247


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب109 ح13 ، علل الشرائع : ج2 ص59 ح1 ، وسائل الشيعة : ج3 ص482 ب24 ح4236 .

فيكون الحكم متفرّعا عليه .

ومنها : تفريع قوله عليه السلام : « صُم للرّؤية وافطِر للرّؤيةِ » على قوله عليه السلام : «اليقينُ لا يدخلُه الشك » .

الثالث : أنّ الظنّ غير المعتبر إن علم بعدم اعتباره بالدليل ، فمعناه : أنّ وجوده كعدمه عند الشارع ، وأنّ كلّ ما يترتّب شرعا على تقدير عدمه فهو المترتّب على تقدير وجوده ،

-------------------

( فيكون الحكم ) بعدم النّقض ( متفرّعا عليه ) اي : على مجرد الاحتمال .

( ومنها : تفريع قوله عليه السلام : « صُم للرّؤية وافطِر للرّؤيةِ » على قوله عليه السلام : «اليقينُ لا يدخلُه الشك » ) (1) فان الرؤية يقين وما سواها شك ، فيكون التفريع المذكور هنا شاملاً لكل ما هو ليس بيقين ورؤية ، وما ليس هو بيقين ورؤية يعم الظن والشك والوهم ، فالتفريع المذكور اذان يشهد بأن المراد هنا هو : ان اليقين لا يدخله غير اليقين ، سواء كان غير اليقين ظنا ام وهما ام شكا .

( الثالث ) من الشواهد على ان المراد من الشك : الأعم من متساوي الطرفين ومن الظن بالخلاف هو : ( أنّ الظنّ غير المعتبر ) القائم على خلاف الحالة السابقة ( إن علم بعدم اعتباره بالدليل ) كما في الظن الحاصل من القياس والاستحسان والرأي وخبر الفاسق وما اشبه ذلك ( فمعناه : أنّ وجوده كعدمه عند الشارع ) لأنّ الشارع لم يعتبره كما هو المفروض ، بل ( وأنّ كلّ ما يترتّب شرعا على تقدير عدمه ، فهو المترتّب على تقدير وجوده ) لأنّ وجوده كالعدم على ما عرفت فاذا لم يكن هذا الظن القياسي ماذا كنّا نعمل ؟ فكذلك نعمل اذا كان هذا الظن

ص: 248


1- - تهذيب الاحكام : ج4 ص159 ب1 ح17 ، الاستبصار : ج2 ص64 ب33 ح12 ، وسائل الشيعة : ج10 ص256 ب3 ح13351 .

وإن كان ممّا شك في اعتباره ، فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السابق بسببه الى نقض اليقين بالشك فتأمّل ، جدّا .

وهذا كلّه على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد المستنبط من الأخبار .

-------------------

القياسي موجودا ، فالاستصحاب إذن لا يختلف هنا سواء كان الظن القياسي على خلافه ، أم لا ؟ .

( وإن كان ممّا شك في اعتباره ) كالشهرة في الفتوى - مثلاً - ( فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السابق بسببه ) اي : بسبب هذا الظن المشكوك الاعتبار ، كالظن الحاصل من الشهرة على خلاف الاستصحاب السابق ، يكون ( الى نقض اليقين بالشك ) لأنّا لا نعلم هل الشهرة معتبرة ام لا ؟ فاذا نقضنا اليقين السابق بسبب هذه الشهرة ، كان معناه : إنّا نقضنا اليقين بالشك ، وهذا ما نهى الشارع عنه في الأخبار .

( فتأمّل جدّا ) حتى لا يخفى عليك ما ذكرناه : من ان الاستصحاب يجري بلا فرق بين ان يكون الشك متساوي الطرفين ، او راجح احد الطرفين على الآخر ، ومن المشهور عند الأساتيذ انه لو قال المصنِّف : فتأمل جدا ، أو فتأمل جيدا ، وما اشبه ذلك ، لم يكن اشارة الى شيء ، وإنّما هو اشارة الى دقة المطلب وأهميته.

( وهذا كلّه ) أي ما قلناه : من عدم الفرق في جريان الاستصحاب بين الشك ، والظن على الخلاف ، او الظن على الوفاق ، هو ( على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد المستنبط من الأخبار ) وذلك لما عرفت : من اطلاق الشك على الثلاثة .

ص: 249

وأمّا على تقدير اعتباره من باب الظنّ الحاصل من تحقّق المستصحب في السابق ، فظاهر كلماتهم : أنّه لا يقدح فيه ايضا وجود الأمارة غير المعتبرة ، فيكون العبرة فيه عندهم بالظنّ النوعي وإن كان الظنّ الشخصي على خلافه .

ولذا تمسكوا به في مقامات غير محصورة على الوجه الكلّي من غير التفات الى وجود الأمارات غير المعتبرة في خصوصيّات الموارد .

واعلم أنّ الشهيد قدس سره في الذكرى بعد ما ذكر مسألة الشك في تقديم

-------------------

( وأمّا على تقدير اعتباره ) اي : اعتبار الاستصحاب ( من باب الظنّ الحاصل من تحقّق المستصحب في السابق ) ظنا نوعيا ( فظاهر كلماتهم : أنّه لا يقدح فيه أيضا وجود الأمارة غير المعتبرة ) من قياس او ما اشبه على خلافه ( فيكون العبرة فيه ) اي : في الاستصحاب ( عندهم بالظنّ النوعي ) لان النوع يظنون من كون الشيء متحققا سابقا باقٍ لاحقا ، وان كان بعض الاشخاص لا يظنون بذلك ، او يظنون بالخلاف ، لبعض القرائن المناسبة ، فان الاستصحاب يجري حتى ( وإن كان الظنّ الشخصي على خلافه ) اي : خلاف الاستصحاب .

( ولذا ) اي : لاجل ما ذكرنا : من انه لا فرق بين ان يكون الظن على الخلاف والوفاق ، فيما اذا كان الاستصحاب معتبرا من باب الظن النوعي نراهم قد ( تمسكوا به ) اي : بالاستصحاب ( في مقامات غير محصورة ) من كثرتها ، وذلك ( على الوجه الكلّي ) فانهم قالوا : الاستصحاب حجة مطلقا ( من غير التفات الى وجود الأمارات غير المعتبرة في خصوصيّات الموارد ) التي كانت تلك الأمارة مخالفة للحالة السابقة .

هذا ( واعلم أنّ الشهيد قدس سره في الذكرى بعد ما ذكر مسألة الشك في تقديم

ص: 250

الحدث على الطهارة ، قال : « تنبيه ، معنى قولنا : « اليقين لا يرفعه الشك » ، لا نعني به : اجتماع اليقين والشك في زمان واحد ، لامتناع ذلك ، ضرورة أنّ الشك في احد النقيضين يرفع يقين الآخر .

بل المعنيّ به أنّ اليقين الذي كان في الزمن الاول لا يخرج عن حكمه بالشك في الزمان الثاني ، لأصالة بقاء ما كان على ما كان ، فيؤول الى اجتماع الظنّ والشك في الزمان الواحد ،

-------------------

الحدث على الطهارة ، قال : « تنبيه ، معنى قولنا : « اليقين لا يرفعه الشك » ، لا نعني به : اجتماع اليقين والشك في زمان واحد ) بأن يكون الانسان المتطهّر صباحا في الزمان الثاني كالظهر - مثلاً - متيقنا ببقاء الطهارة وشاكا في بقائها في آن واحد .

وإنّما قال : لا يغني به هذا المعنى ( لامتناع ذلك ) اي : امتناع اجتماعهما ، فان المتيقِّن ليس بشاك ، والشاك ليس بمتيقِّن ( ضرورة أنّ الشك في احد النقيضين يرفع يقين الآخر ) فاحتمالنا بقاء الطهارة يرفع اليقين بانتفائها ، لوضوح : انا لو تيقّنّا ببقاء الّطهارة كان ، معناه : عدم شكنا في بقاء الطهارة ، وكذلك في سائر الموارد .

( بل المعنيّ به ) اي : بقولنا : اليقين لا يرفعه الشك هو : ( أنّ اليقين الذي كان في الزمن الاول ) كاليقين بالطهارة صباحا ( لا يخرج عن حكمه بالشك في الزمان الثاني ) كالشك ظهرا في انه هل بقي على طهارته ام لا ؟ فان اليقين لا يخرج عن حكمه بالظن ( لأصالة بقاء ما كان على ما كان ) وهذا يورث الظن بالبقاء ( فيؤول ) الأمر ( الى اجتماع الظنّ والشك في الزمان الواحد ) وهو في مثالنا : الظهر حيث يجتمع فيه حينئذ ظن بانه متطهّر ، وشك بانه هل بطلت طهارته ام لا ؟ واذا اجتمع

ص: 251

فيرجّح الظنّ عليه ، كما هو مطّرد في العبادات وغيرها » ، انتهى .

ومراده من الشك : معناه اللغوي ، وهو : مجرّد الاحتمال المنافي لليقين ، فلا ينافي ثبوت الظنّ الحاصل من أصالة بقاء ما كان .

فلا يرد ما اُورد عليه : من أنّ الظنّ كاليقين في عدم الاجتماع مع الشك .

-------------------

ظن وشك ( فيرجّح الظنّ عليه ، كما هو مطّرد في العبادات وغيرها » (1) ) حيث ان الظن في العبادة يؤخذ به حسب الأدلة الخاصة .

( انتهى ) كلام الشهيد في الذكرى ( ومراده من الشك : معناه اللغوي ، وهو : مجرّد الاحتمال ) الشامل للوهم ، ففي الزمان الثاني هو يظن ببقاء الطهارة ، ويتوهم عدم البقاء ، لانه دائما اذا كان احد الطرفين راجحا وظنا ، كان الطرف الآخر مرجوحا ووهما ( المنافي ) هذا الوهم ( لليقين ) السابق الذي صار في الآن الثاني ظنا ( فلا ينافي ثبوت الظنّ الحاصل من أصالة بقاء ما كان ) على ما كان ، لأن الاصل يوجب الظن النوعي والوهم على خلافه .

وعليه : ( فلا يرد ما اُورد عليه : من أنّ الظنّ كاليقين في عدم الاجتماع مع الشك ) فان الشهيد قال : « اليقين لا يجتمع مع الشك لكن الظن يجتمع مع الشك » ، فاورد عليه : أنّه كما لا يجتمع اليقين مع الشك ، كذلك لا يجتمع الظن مع الشك ، وذلك لان الظن معناه : رجحان احد الطرفين ، والشك معناه : تساوي الطرفين ، فلا يجتمعان .

واُجيب : بأنّ مراده من الشك : الوهم .

ومن المعلوم : ان الظن والوهم على طرفي نقيض يجتمعان .

ص: 252


1- - ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة : ص98 .

نعم ، يرد على ما ذكرنا من التوجيه أنّ الشهيد قدس سره في مقام دفع ما يتوهّم من التناقض المتوهّم في قولهم : « اليقين لا يرفَعُهُ الشك » .

ولا ريب أنّ الشك الذي حُكِمَ بأنّه لا يرفع اليقين ، ليس المراد منه : الاحتمال الموهوم ، لأنّه إنّما يصيرُ موهوما بعد ملاحظة أصالة بقاء ما كان ، نظير المشكوك الذي يراد الحاقه بالغالب ، فانّه يصير مظنونا بعد ملاحظة الغلبة ،

-------------------

( نعم ، يرد على ما ذكرنا من التوجيه ) الذي وجّهنا به كلام الشهيد قدس سره لرفع التناقض منه : ( أنّ الشهيد قدس سره في مقام دفع ما يتوهّم من التناقض المتوهّم في قولهم : « اليقين لا يرفعه الشك » ) اي : انه في صدد بيان انه لا يجتمع اليقين والشك ( ولا ريب أنّ الشك الذي حُكِمَ ) به من قبل المشهور : ( بأنّه لا يرفع اليقين ، ليس المراد منه : الاحتمال الموهوم ) بل الاعم من الاحتمال الموهوم والمتساوي الطرفين .

وإنّما لم يكن المراد منه الاحتمال الموهوم ( لأنّه ) اي : الاحتمال في اول حدوثه متساوي الطرفين ، و ( إنّما يصير موهوما بعد ملاحظة أصالة بقاء ما كان ) اي : بعد ملاحظة الحالة السابقة وجريان الاستصحاب ، فانه بعد ذلك يصير احد طرفي الاحتمال ظنا والآخر وهما ، فهو إذن ( نظير المشكوك الذي يراد الحاقه بالغالب ، فانّه ) اي : المشكوك متساوي الطرفين ، وإنّما ( يصير مظنونا بعد ملاحظة الغلبة ) .

مثلاً : اذا كان غالب المسلمين يعملون صحيحا ، ونادر منهم يعملون فاسدا ، ثم رأينا انسانا لا نعرف انه من الغالب او من غير الغالب ، فيكون الأمر بالنسبة

ص: 253

وعلى تقدير إرادة الاحتمال الموهوم ، كما ذكر المدقّق الخوانساري ، فلا يندفع به توهّمُ اجتماع الوهم واليقين المستفاد من عدم رفع الأوّل للثاني وإرادة اليقين السابق ، والشك اللاحق يغني عن إرادة خصوص الوهم من الشك .

-------------------

الى هذا الانسان في باديء الأمر مشكوكا يعني : متساوي الطرفين ، لكن بعد ملاحظتنا غلبة المسلمين على العمل الصحيح ، يصير صحة عمله لنا مظنونا ، وفساد عمله عندنا موهوما ، واذا كان كذلك ، فيكون مراد المشهور من الشك هو : المتساوي الطرفين ، لا الموهوم ، ومتساوي الطرفين لا يجتمع مع العلم كما انه لا يجتمع مع الظن ايضا ، فيكون اشكال عدم اجتماع الظن مع الشك واردا عليه .

هذا ( وعلى تقدير إرادة الاحتمال الموهوم ) من الشك في كلام الشهيد ( كما ذكر المدقّق الخوانساري ) ذلك ايضا في توجيه كلام الشهيد وذلك دفعا للتناقض ( فلا يندفع به ) اي : بهذا التوجيه التناقض الموجود هنا، وهو : ( توهّمُ اجتماع الوهم واليقين المستفاد من عدم رفع الأوّل ) اي : الوهم ( للثاني و ) هو اليقين ، بينما ( إرادة اليقين السابق ، والشك اللاحق ) منه كافٍ لرفع التناقض فهو كما قال : ( يغني عن إرادة خصوص الوهم من الشك ) .

إذن : فالتناقض المتوهم في كلام الشهيد ، لا يصح دفعه بحمل الشك على الوهم كما صنعه الخوانساري ، وإنّما يندفع بارادة تعدّد زمان اليقين والشك كما ذكره الشهيد .

ومن المعلوم : انه لو كان زمان اليقين والشك مختلفين ، فلا يبقى معه حاجة الى حمل الشك على الوهم حتى يقال : بأنّ اليقين يراد به الظن ، والشك يراد

ص: 254

وكيف كان : فما ذكره المُورِد من اشتراك الظنّ واليقين في عدم الاجتماع مع الشك مطلقا - في محلّه .

فالأولى أن يقال : إنّ قولهم : « اليقين لا يرفعه الشك » ، لا دلالة فيه على اجتماعهما في زمان واحد ، إلاّ من حيث الحكم في تلك القضية بعدم الرفع .

ولاريب أنّ هذا ليس إخبارا عن الواقع ، لانّه كذبٌ ، وليس حكما شرعيّا بابقاء نفس اليقين أيضا ، لأنّه غير معقول ،

-------------------

به الوهم وهما يجتمعان .

( وكيف كان : فما ذكره المورد ) في الايراد على الشهيد : ( من اشتراك الظنّ واليقين في عدم الاجتماع مع الشك مطلقا ) اي : مع الشك الاعم من الموهوم وان اجتمع مع الشك الموهوم ( في محلّه ) وذلك لأنّ الشك يعني : تساوي الطرفين وكل من اليقين والظن رجحان احد الطرفين ، ومن المعلوم : انه لا يعقل اجتماع تساوي الطرفين مع رجحان احد الطرفين في مكان واحد .

إذن : ( فالأولى أن يقال : إنّ قولهم : « اليقين لا يرفعه الشك » ) لا لوهم تناقضا في الكلام كي يكون بحاجة الى توجيه ، وذلك لانه ( لا دلالة فيه على اجتماعهما ) اي : اليقين والشك ( في زمان واحد ، إلاّ من حيث الحكم في تلك القضية بعدم الرفع ) اي : الحكم ببقاء الآثار لليقين السابق حتى بعد الشك .

هذا ( ولاريب أنّ هذا ) الكلام وهو قولهم : « اليقين لا يرفعه الشك » ( ليس إخبارا عن الواقع ، لانّه كذبٌ ) اذ من المعلوم : ان الانسان اذا شك في شيء ارتفع يقينه عن ذهنه بلا اختيار ارتفاعا تكوينيا ( وليس حكما شرعيّا بابقاء نفس اليقين أيضا، لأنّه ) اي : أمر الشارع بابقاء نفس اليقين في حال شكه ( غير معقول ) أيضا،

ص: 255

وإنّما هو حكم شرعي ، لعدم رفع آثار اليقين السابق بالشك اللاحق ، سواء كان احتمالاً متساويا أو مرجوحا .

-------------------

لانه ليس بيد الشارع رفعه او وضعه ( وإنّما هو حكم شرعي لعدم رفع آثار اليقين السابق ) كجواز الدخول في الصلاة فيما اذا كان سابقا متطهرا ( بالشك اللاحق ) في انه هل بقي على طهارته ام لا ؟ ( سواء كان ) الشك اللاحق ( احتمالاً متساويا او مرجوحا ) أو راجحا .

* * *

ص: 256

خاتمة

ذكر بعضُهم للعمل بالاستصحاب شروطا : كبقاء الموضوع وعدم المعارض ووجوب الفحص .

والتحقيق رجوع الكلّ الى شروط جريان الاستصحاب .

وتوضيح ذلك أنّك قد عرفت : أنّ الاستصحاب عبارة عن إبقاء ما شك في بقائه ، وهذا لا يتحقّق إلاّ مع الشك في بقاء القضية المحقّقة في السابق بعينها في الزمان اللاحق ، والشك على هذا الوجه لا يتحقق إلاّ بأمور .

الأوّل :

بقاء الموضوع في الزمان اللاحق ،

-------------------

( خاتمة : ذكر بعضُهم للعمل بالاستصحاب شروطا : كبقاء الموضوع ) ولو عرفا ( وعدم المعارض ) أي : عدم معارضة استصحاب لاستصحاب آخر ( ووجوب الفحص ) عن الدليل ، فانه اذا كان هناك دليل لم يكن استصحاب .

هذا ( والتحقيق رجوع الكلّ ) أي : كل هذه الشروط ( الى شروط جريان الاستصحاب ) وتحقق مفهومه ، لا الى شروط تحقق حجية الاستصحاب وصحة العمل به ( وتوضيح ذلك ) على ما يلي :

( أنّك قد عرفت : أنّ الاستصحاب عبارة عن ابقاء ما شك في بقائه ، وهذا ) المفهوم ( لا يتحقق إلاّ مع الشك في بقاء القضية المحقّقة في السابق بعينها في الزمان اللاحق ، و ) ذلك بأن يكون موضوع القضية المتيقنة والمشكوكة واحدا .

ومن المعلوم : ان ( الشك على هذا الوجه لا يتحقق إلاّ بأمور ) تالية :

( الأوّل : بقاء الموضوع ) بجميع قيوده وأجزائه وشرائطه ( في الزمان اللاحق )

ص: 257

والمراد به معروض المستصحب ، فاذا اريد استصحاب قيام زيد أو وجوده ، فلابدّ من تحقّق زيد في الزمان اللاحق على النحو الذي كان معروضا في السابق سواء كان تحقّقه في السابق بتقرّره ذهنا أو بوجوده خارجا .

-------------------

على ما كان عليه في الزمان السابق ، فاذا أردنا - مثلاً - ان نستصحب وجوب اكرام زيد العالم ، فلابد من احراز وجود زيد وعلمه في الآن الثاني ، وإنّما الشك في الآن الثاني يكون في انه هل يكرم او لا يكرم ؟ فاللازم حينئذ ان يكون زيد العالم موجودا حتى نستصحب وجوب اكرامه .

( والمراد به ) أي : بالموضوع ( معروض المستصحب ) والمستصحب في مثالنا هو : وجوب الاكرام ، ومعروضه هو : زيد العالم ، والمعروض هو : القابل لأنْ يحكم عليه بالمستصحب يعني : بوجوب الاكرام ، وبخلاف المستصحب يعني : بعدم وجوب الاكرام وذلك كما في مثال : وجوب إكرام زيد العالم ، وهذا مثال كون المعروض على نحو مفاد كان الناقصة بان كان موجودا في الخارج ثم حكم باكرامه ، واذا كان المعروض على نحو مفاد كان التامة بان يكون صرف المهية كزيد في مثال : كان زيد موجودا ، فان المعروض هو زيد الذهني القابل لان يحكم عليه ، فالمعروض إذن في كلا الصورتين يلزم بقاؤه لاحقا على ما كان عليه سابقا من الخارجية أو الذهنية .

وعليه : ( فاذا اريد استصحاب قيام زيد ) وهو مفاد كان الناقصة ( أو وجوده ) وهو مفاد كان التامة ( فلابدّ من تحقّق زيد في الزمان اللاحق على النحو الذي كان معروضا في السابق ) من الخارجية والذهنية ، كما قال : ( سواء كان تحقّقه في السابق بتقرّره ذهنا ) فيما اذا اردنا استصحاب وجود زيد ( أو بوجوده خارجا )

ص: 258

فزيدٌ معروض للقيام في السابق بوصف وجوده الخارجي و للوجود بوصف تقرّره ذهنا ، لا وجوده الخارجي .

وبهذا اندفع ما استشكله بعضٌ في أمر كلّية اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب ،

-------------------

فيما اذا اردنا استصحاب قيامه او وجوب اكرامه .

إذن : ( فزيدٌ معروض للقيام في السابق بوصف وجوده الخارجي و ) هو معروض ( للوجود بوصف تقرّره ذهنا ، لا ) بوصف ( وجوده الخارجي ) وذلك لان زيدا الموجود في الذهن هو الذي يمكن ان يوجد في الخارج او لا يوجد ، وامّا زيد الموجود في الخارج ، فلا معنى لوجوده ثانيا .

والحاصل : إنّا اذا اردنا استصحاب وجود زيد فنقول : زيد الذهني الذي كان موجودا في الآن الاول وشككنا في وجوده في الآن الثاني مع احتمال وجوده وعدم وجوده نستصحب وجوده ، وإنّما قلنا : زيد الذهني ، لانه هو القابل لان يحكم عليه بالوجود الخارجي وبالعدم الخارجي ، وامّا اذا اردنا استصحاب وجوب اكرامه فنقول : زيد الموجود في الخارج الذي كان واجب الاكرام في الآن الاول وشككنا في وجوب اكرامه في الآن الثاني مع احتمال انه يجب اكرامه او لا يجب ، نستصحب وجوب اكرامه .

وبعبارة اخرى : إنّا اذا اردنا استصحاب الموضوع يلزم ان يكون له وجود ذهني ، واذا اردنا استصحاب الحكم يلزم ان يكون للموضوع وجود خارجي .

( وبهذا ) التفسير المتقدّم للموضوع ( اندفع ما استشكله بعضٌ في أمر كلّية اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب ) حيث قال : ان هذه الكلية غير صحيحة ،

ص: 259

بانتقاضها باستصحاب وجود الموجودات عند الشك في بقائها زعما منه : أنّ المراد ببقائه وجوده الخارجي الثانوي ، وغفلةً عن أنّ المراد : وجوده الثانوي على نحو وجوده الأوّلي الصالح ، لأن يُحكم عليه بالمستصحب وبنقيضه ،

-------------------

وذلك ( بانتقاضها ) اي : بسبب انتقاض هذه الكلية ( باستصحاب وجود الموجودات عند الشك في بقائها ) فانه اذا شككنا - مثلاً - في بقاء زيد وعدم بقائه لا معنى لاستصحابه على قول هذا الزاعم ، وذلك ( زعما منه : أنّ المراد ببقائه ) اي : ببقاء الموضوع هو : ( وجوده الخارجي الثانوي ) الواقع في الزمان الثاني ، يعني : في زمان الشك .

والحاصل : ان المستشكل توهّم ان المراد من احراز الموضوع الذي ذكره الفقهاء شرطا لجريان الاستصحاب هو : احراز بقاء الموضوع الخارجي ، ولذلك قال : هذا إنّما يتم في مثل استصحاب قيام زيد ، وذلك لأنه يمكن ان يكون زيد الموجود في الزمان الثاني قائما او غير قائم فيجري الاستصحاب عند الشك فيه ، وبينما لا يتم هذا في مثل استصحاب وجود زيد وذلك لانه لا يمكن ان يكون زيد الموجود في الزمان الثاني موجودا بوجود ثان ، فانه مع احراز بقائه لا يبقى مجال للشك في وجوده حتى يجري الاستصحاب ، ومع احراز عدم بقائه فهو مقطوع العدم ، فلا معنى إذن للاستصحاب فيه .

وعليه : فتوهّم المستشكل بأنّ المراد من بقاء الموضوع هو وجوده الخارجي في كل صورة ، أوقعه في هذا الاشكال ( و ) ذلك ( غفلةً عن أنّ المراد : وجوده الثانوي على نحو وجوده الأوّلي الصالح لأن يُحكم عليه بالمستصحب وبنقيضه ) فزيد الموجود خارجا صالح لان يحكم عليه بالقيام وبعدم القيام : كما ان زيدا

ص: 260

وإلاّ لم يجز أن يُحمل عليه المستصحب في الزمان السابق .

-------------------

الموجود ذهنا صالح لأن يحكم عليه بالوجود خارجا وبعدمه .

إذن : فليس المراد من بقاء الموضوع في الزمان الثاني يعني : في زمان الشك الذي عبّر عنه المصنّف بقوله : الثانوي ، هو : وجوده الخارجي في كل صورة ، بل هو وجوده بنحو الوجود الاول يعني بنحو وجوده في زمان اليقين ، فان كان ذهنيا فذهني ، وان كان خارجيا فخارجي .

( وإلاّ ) بأن لم يكن المراد من بقاء الموضوع وجوده على نحو الوجود الاول الصالح للحكم عليه بالوجود وبالعدم ، كصلاحه لوجوب الاكرام وعدم وجوب الاكرام في استصحاب الحكم ، وصلاحه للوجود الخارجي وعدم الوجود الخارجي في استصحاب الموضوع ( لم يجز أن يُحمل عليه ) اي : على الموضوع ( المستصحب في الزمان السابق ) الاوّلي ايضا ، وذلك لانه تحصيل للحاصل .

وإنّما يكون من تحصيل الحاصل ولا يجوز ، لانه اذا كان الموضوع مع لحاظ تحققه في الخارج نريد ان نحمل عليه الوجود فهو تحصيل للحاصل ، وان كان مع لحاظ عدم تحققه في الخارج نريد ان نحمل عليه الوجود فهو محال ، فلابد إذن من ملاحظة الموضوع على وجه قابل لان نحمل عليه الوجود او العدم ، وهو : الموضوع بما هو هو .

مثلاً اذا قلنا : زيد يجب اكرامه ، فلابد من لحاظ زيد على وجه قابل لوجوب الاكرام وعدم الوجوب ، حتى نحمل عليه الوجوب - مثلاً - والاّ فزيد الواجب اكرامه لا يحمل عليه الوجوب لانه تحصيل للحاصل ، ولا عدم الوجوب لأنّه تناقض ومحال ، وكذا اذا قلنا : زيد موجود فيما اذا اردنا استصحابه لوجوب النفقة على زوجته ، فلابد ان نلاحظ زيدا على وجه قابل للوجود والعدم حتى نحمل

ص: 261

فالموضوع في استصحاب حياة زيد هو : زيدٌ القابل لأن يحكم عليه بالحياة تارةً ، وبالموت أخرى .

وهذا المعنى لا شك في تحقّقه عند الشك في بقاء حياته .

ثمّ الدليل على اعتبار هذا الشرط في جريان الاستصحاب واضحٌ ، لأنّه لو لم يعلم

-------------------

عليه الوجود - مثلاً - والاّ فزيد الموجود لا يحمل عليه الوجود لانه تحصيل للحاصل ، ولا العدم لانه تناقض ومحال ، فالموضوع إذن في كلتا القضيتين : المتيقنة والمشكوكة يلاحظ بما هو هو القابل للوجوب وعدم الوجوب خارجا فنستصحب وجوبه في الاستصحاب الحكمي ، و القابل للوجود وعدم الوجود خارجا فنستصحب وجوده في الاستصحاب الموضوعي .

وعليه : ( فالموضوع في استصحاب حياة زيد ) او وجوب اكرامه ( هو : زيدٌ ) بما هو هو ، اي : ( القابل لأن يحكم عليه بالحياة تارةً ، وبالموت أخرى ) وبوجوب الاكرام مرة وبعدم الوجوب اخرى ( وهذا المعنى ) الذي فسرنا به الموضوع في القضية المتيقنة ( لا شك في تحقّقه عند الشك في بقاء حياته ) اي : في القضية المشكوكة ايضا ، فيجري الاستصحاب من دون ورود اشكال المستشكل عليه.

( ثمّ الدليل على اعتبار هذا الشرط ) اي : بقاء الموضوع وتحققه ( في جريان الاستصحاب واضحٌ ) وذلك لان نقض اليقين بالشك المنهي عنه في الاخبار ، لا يصدق الاّ مع اتحاد القضية المشكوكة والقضية المتيقنة ، وإنّما الفارق بين القضيتين : ان في الاولى : اليقين موجود وفي الثانية : الشك .

هذا بالاضافة الى ما ذكره المصنّف من وجه هذا الشرط بقوله : ( لأنّه لو لم يعلم

ص: 262

تحقّقه لاحقا ، فاذا أريد ابقاء المستصحب العارض له المتقوّم به ، فامّا أن يبقى في غير محلّ وموضوع وهو محال ، وإمّا أن يبقى في موضوع غير الموضوع السابق .

ومن المعلوم : أنّ هذا ليس إبقاءا لنفس ذلك العارض ، وإنّما هو حكم بحدوث عارض مثله في موضوع جديد ،

-------------------

تحقّقه ) اي : تحقق الموضوع كزيد في مثال : اكرم زيدا ( لاحقا ) اي : عند ارادة الاستصحاب زمان الشك ( فاذا أريد ابقاء المستصحب ) كوجوب الاكرام في مثال : اكرم زيدا ، وذلك فيما اذا كان زيد متيقنا سابقا وجوب اكرامه وشك فيه لاحقا ، فالمستصحب هنا : وجوب الاكرام ( العارض له ) اي : للموضوع وهو زيد في المثال ( المتقوّم ) ذلك الوجوب ( به ) اي : بالموضوع ، فاذا كان الموضوع حسب الفرض مشكوك البقاء فكيف يتقوّم وجوب الاكرام به ؟ فابقاء وجوب الاكرام حينئذ يبتلى باحد امرين كلاهما محال ، وهما كالتالي :

الأوّل : ( فامّا أن يبقى ) وجوب الاكرام ( في غير محلّ وموضوع ) كان الموضوع مشكوك بقاؤه بحسب الفرض ( وهو محال ) لوضوح : ان وجوب الاكرام باعتبار كونه عرضا ، مستحيل ان يوجد بلا محل ولا في موضوع ، فهل يمكن ان يكون هناك وجوب اكرام في الفراغ من دون ان يكون له موضوع ؟ .

الثاني : ( وإمّا أن يبقى ) وجوب الاكرام ( في موضوع غير الموضوع السابق ) كما اذا استصحبنا وجوب اكرام زيد لاثبات وجوب اكرام عمرو ( ومن المعلوم : أنّ هذا ) اي : استصحاب وجوب اكرام زيد لاثبات وجوب اكرام عمرو ( ليس إبقاءا لنفس ذلك العارض ) الذي كان هو وجوب الاكرام ( وإنّما هو حكم بحدوث عارض مثله ) اي : مثل وجوب الاكرام الاول ( في موضوع جديد ) اي :

ص: 263

فيخرج عن الاستصحاب ، بل حدوثه للموضوع الجديد كان مسبوقا بالعدم ، فهو المستصحب دون وجوده .

وبعبارة أخرى : بقاء المستصحب لا في موضوع محالٌ ، وكذا في موضوع آخر ؛ إمّا لاستحالة انتقال العَرَض ، وإمّا لأنّ المتيقّن سابقا وجوده

-------------------

في عمرو ( فيخرج عن الاستصحاب ) لان الاستصحاب هو ابقاء ما كان على ما كان ، وهذا ليس ابقاء ما كان على ما كان ، وإنّما هو اسراء الحكم من موضوع الى موضوع آخر .

( بل حدوثه للموضوع الجديد ) اي : حدوث وجوب الاكرام لعمرو ( كان مسبوقا بالعدم ) لان عمروا بحسب الفرض لم يكن واجب الاكرام سابقا ( فهو ) اي : عدم وجوب الاكرام حينئذ يجب ان يكون هو ( المستصحب دون وجوده ) اي : يلزم ان نستصحب عدم وجوب الاكرام ، لا وجوب الاكرام ، لان عمروا لم يجب اكرامه سابقا .

( وبعبارة أخرى : بقاء المستصحب ) وهو : وجوب الاكرام في المثال ( لا في موضوع ) يعني : في الفراغ ( محالٌ ) لما عرفت : من ان العَرَض يحتاج الى موضوع ومحل .

( وكذا في موضوع آخر ) يكون محالاً ايضا وذلك كما يلي :

( إمّا لاستحالة انتقال العَرَض ) فان نفس انتقال وجوب الاكرام من زيد الى عمرو غير ممكن - كما قال الحكماء والمتكلمون - وذلك لانه يلزم ان يبقى وجوب الاكرام في آن انتقاله من زيد الى عمرو في الفراغ بلا موضوع ومحل وهو مستحيل عقلاً .

( وإمّا لأنّ المتيقّن سابقا ) هو ( وجوده ) اي : وجود العَرَض الذي هو وجوب

ص: 264

في الموضوع السابق ، والحكم بعدم ثبوته لهذا الموضوع الجديد ليس نقضا للمتيقن السابق .

وممّا ذكرنا يُعلم أنّ المعتبر هو العلم ببقاء الموضوع ، ولا يكفي احتمال البقاء ، إذ لابدّ من العلم بكون الحكم بوجود المستصحب إبقاءا والحكم بعدمه نقضا .

فان قلت : اذا كان الموضوع محتمل البقاء ، فيجوز احرازه في الزمان اللاحق بالاستصحاب .

قلت : لا مضايقة من جواز استصحابه

-------------------

الاكرام ( في الموضوع السابق ) الذي هو زيد ( و ) معه يكون ( الحكم بعدم ثبوته لهذا الموضوع الجديد ) اي : الحكم بعدم وجوب الاكرام لعمرو ( ليس نقضا للمتيقن السابق ) المنهيّ عنه شرعا .

( وممّا ذكرنا ) في صحة الاستصحاب : من اشتراط احراز الموضوع في الزمان الثاني ( يُعلم أنّ المعتبر هو العلم ببقاء الموضوع ) علما يقينيا ( ولا يكفي احتمال البقاء ) في جريان الاستصحاب ( اذ لابدّ ) في صحّة الاستصحاب وتحقق مفهومه ( من العلم بكون الحكم بوجود المستصحب ، ابقاءا ) لما كان على ما كان ( والحكم بعدمه ، نقضا ) لما كان ، ومن المعلوم : ان هذا لا يتحقق الاّ بان نعلم سابقا بالموضوع ونعلم لاحقا ببقائه .

( فانّ قلت : اذا كان الموضوع محتمل البقاء ، فيجوز احرازه ) اي : احراز الموضوع المحتمل بقاؤه ( في الزمان اللاحق بالاستصحاب ) فنستصحب الموضوع ونثبت له المحمول والحكم .

( قلت : لا مضايقة من جواز استصحابه ) اي : استصحاب الموضوع

ص: 265

في بعض الصور ، إلاّ أنّه لا ينفع في استصحاب الحكم المحمول عليه .

بيان ذلك : أنّ الشك في بقاء الحكم الذي يراد استصحابُه ، إمّا أن يكون مسبّبا من سبب غير الشك في بقاء ذلك الموضوع المشكوك البقاء ، مثل : أن يشك في عدالة مجتهده مع الشك في حياته ،

-------------------

الذي احتملنا بقاءه ، او رفعه ( في بعض الصور ) مثل ما اذا كان الشك في الحكم مسبّبا عن الشك في الموضوع من جهة الشبهة الموضوعية ، فانه يجوز فيه استصحاب الموضوع واثبات الحكم له ، وذلك كما اذا كان هذا المايع سابقا خمرا ثم طرأ عليه ما شككنا في انه هل زالت خمريته حتى يزول التحريم المستند الى الخمرية أم لا ؟ فان هذا الشك في الحرمة مستند الى الشك في الخمرية ، والشك في الخمرية يوجب استصحاب خمريته السابقة فيثبت لها التحريم ( إلاّ أنّه لا ينفع في استصحاب الحكم المحمول عليه ) لأنّا اذا استصحبنا الموضوع كفانا عن استصحاب الحكم ، وذلك لما ذكروه : من انه اذا جرى الاستصحاب في السببي لا يجري في المسبّبي ، لانه مع جريان الاستصحاب في السببي يثبت الموضوع ، فيترتب عليه الحكم بلا استصحاب .

( بيان ذلك : أنّ الشك في بقاء الحكم الذي يراد استصحابه ) فيما اذا كان الشك في بقاء الموضوع أيضا ، يكون على ثلاث صور :

الصورة الاولى : ( إمّا أن يكون مسبّبا من سبب غير الشك في بقاء ذلك الموضوع المشكوك البقاء ) أي : بأن كان الحكم والموضوع كلاهما مشكوكا ، الاّ ان الشك في الحكم يكون مسبّبا عن احتمال عروض شيء يضادّ الحكم ، ولم يكن مسبّبا عن احتمال انتفاء الموضوع ( مثل : أن يشك في عدالة مجتهده مع الشك في حياته ) فان الشك في عدالة مجتهده يكون مسبّبا عن احتمال عروض

ص: 266

وإمّا أن يكون مسبّبا عنه .

فان كان الأوّل ، فلا اشكال في استصحاب الموضوع عند الشك ، لكن استصحاب الحكم كالعدالة مثلاً لا يحتاج الى ابقاء حياة زيد ، لأنّ موضوع العدالة زيدٌ على تقدير الحياة ، إذ لا شك فيها إلاّ على فرض الحياة ،

-------------------

موجب لفسقه ، وليس مسببا عن احتمال موته ، ولذلك قد يكون قاطعا بحياته ، ومع ذلك يشك في عدالته لاحتمال تبدلها الى الفسق .

الصورة الثانية : ( وإمّا أن يكون ) الشك في بقاء الحكم ( مسبّبا عنه ) اي : عن الشك في بقاء الموضوع ، وذلك على ما تقدّم من مثال الشك في بقاء حرمة مايع ، للشك في بقاء خمريته ، وهذه الصورة مقسم لصورتين هما : الثانية والثالثة من صور الشك في بقاء الموضوع على ما يأتي قريبا انشاء اللّه تعالى .

وعليه : ( فان كان الأوّل ) : وهو مثال الاجتهاد والعدالة ( فلا اشكال في استصحاب الموضوع عند الشك ) فانا نستصحب حياة المجتهد لترتيب الآثار الشرعية المتوقفة على حياته ، لكن هذا الاستصحاب لا يؤثر في عدالته لا مكان ان يكون المجتهد حيا لكن تبدلت عدالته الى الفسق ، وذلك لان الاستصحابين هنا غير مرتبط احدهما بالآخر ، لوضوح ان كل واحد من العدالة والحياة مشكوك بشك مستقل ، من غير ان يكون الشك في بقائه او ارتفاعه مربوطا بالشك في بقاء وارتفاع الآخر .

وكذا قال المصنّف : ( لكن استصحاب الحكم كالعدالة مثلاً لا يحتاج الى ابقاء حياة زيد ) فيما اذا اردنا استصحاب العدالة التقديرية ( لأنّ موضوع العدالة ) حينئذ هو ( زيدٌ على تقدير الحياة ) وذلك بمعنى الملازمة بينهما ( إذ لا شك فيها ) اي : في العدالة ( إلاّ على فرض الحياة ) فان زيدا لو كان حيا ، شك في انه

ص: 267

فالذي يراد استصحابه هو عدالته على تقدير الحياة .

وبالجملة : فهنا مستصحبان ، لكلّ منهما موضوع على حدة ، حياة زيد ، وعدالته على تقدير الحياة ، ولا يعتبر في الثاني إثبات الحياة .

وعلى الثاني ، فالموضوع إمّا أن يكون معلوما معيّنا شكّ في بقائه ، كما إذا علم أنّ الموضوع

-------------------

هل هو عادل او ليس بعادل ؟ ( فالذي يراد استصحابه هو عدالته على تقدير الحياة ) وهذا هو معنى استصحاب العدالة التقديرية حيث انه يكفي فيها الحياة التقديرية لزيد ، فيجري فيها الاستصحاب على تقدير الحياة ، وان لم يكن الآن زيد حيا ولا فعلية لحياته .

نعم ، ان اعتبرت العدالة الفعلية ، وذلك للصلاة خلفه ، او لقبول شهادته ، أو ما اشبه ذلك ، احتاج الى الحياة الفعلية ايضا ، بينما العدالة التقديرية يكفي فيها الحياة التقديرية .

( وبالجملة : فهنا مستصحبان ، لكلّ منهما موضوع على حدة ) الأوّل : ( حياة زيد ، و ) الثاني : ( عدالته على تقدير الحياة ) فانه قد يشك في ان زيدا هل بقي حيا او ليس بحي ؟ وقد يشك في انه بعد كونه حيا هل هو عادل او ليس بعادل ؟ ( ولا يعتبر في الثاني ) اي : الشك في عدالته ( إثبات الحياة ) لما عرفت : من ان الشك إنّما هو في العدالة التقديرية ، لا العدالة الفعلية .

( وعلى الثاني ) وهي : الصورة الثانية التي اشار اليها المصنّف قبل قليل بقوله : «واما ان يكون مسببا عنه» يعني : بان يكون من قبيل الشك السببي والمسببي فهذه الصورة مقسم لصورتين كا قال : ( فالموضوع ) فيها إذن على قسمين :

الأوّل : ( إمّا أن يكون معلوما معيّنا شكّ في بقائه ، كما اذا علم أنّ الموضوع

ص: 268

لنجاسة الماء هو الماء بوصف التغيّر ، وللمطهّرية هو الماء بوصف الكرّية والاطلاق ، ثم شك في بقاء تغيّر الماء الأوّل وكرّية الماء الثاني أو اطلاقه ، وإمّا أن يكون غير معيّن ، بل مردّدا بين أمر معلوم البقاء وآخر معلوم الارتفاع ، كما اذا لم يعلم أنّ الموضوع للنجاسة هو : الماء الذي حدث فيه التغيّر آنا مّا أو الماء المتلبّس فعلاً بالتغيّر .

وكما اذا شككنا في أنّ النجاسة محمولة على الكلب بوصف أنّه كلب

-------------------

لنجاسة الماء هو الماء بوصف التغيّر ، وللمطهّرية هو الماء بوصف الكرّية والاطلاق ، ثم شك ) بشبهة موضوعية ( في بقاء تغيّر الماء الأوّل ) وهو يوجب الشك في بقاء النجاسة ( وكرّية الماء الثاني أو اطلاقه ) وهو يوجب الشك في المطهّرية ، فان كل واحد منهما من قبيل السببي والمسببّي ، ومن المعلوم : انه مادام يجري الاستصحاب في السبب ، لا يجري في المسبّب .

الثاني : ( وإمّا أن يكون ) الموضوع ( غير معيّن ، بل مردّدا بين أمر معلوم البقاء وآخر معلوم الارتفاع ، كما اذا ) شك بشبهة حكمية اي : بان ( لم يعلم أنّ الموضوع للنجاسة هو : الماء الذي حدث فيه التغيّر آنا مّا ) حتى يكون التغيّر علة محدثة ، فاذا زال التغيّر لا تزول النجاسة ( أو ) ان الموضوع هو : ( الماء المتلبّس فعلاً بالتغيّر ) حتى يكون التغيّر علة محدثة ومبقية ، فاذا زال التغيّر زالت النجاسة .

( وكما اذا شككنا في أنّ النجاسة محمولة على الكلب بوصف أنّه كلب ) حتى تكون الصورة النوعية قيدا للموضوع فتنتفي النجاسة بانتفاء الصورة النوعية ، والمراد بالصورة النوعية : ليست هي الخصوصية الكلبية الخارجية بل حتى وان

ص: 269

أو المشترك بين الكلب ، وبين ما يستحال اليه من الملح أو غيره .

وأمّا الأوّل : فلا إشكال في استصحاب الموضوع ، وقد عرفت في مسألة الاستصحاب في الامور الخارجية أنّ استصحاب الموضوع حقيقته : ترتيب الأحكام الشرعية المحمولة على ذلك الموضوع الموجود واقعا .

-------------------

ذهبت هذه الصورة وصارت قطعة من اللحم المتعفّن ( أو ) ان النجاسة محمولة على الجسم المادي ( المشترك بين الكلب ، وبين ما يستحال اليه من الملح ) اذا وقع في المملحة وصار ملحا ( أو غيره ) بان استحال ترابا - مثلاً - فتكون الصور النوعية علّة محدثة غير محتاج اليها في بقاء النجاسة .

وكذا يكون الكلام فيما لو اتخذ الصابون من العذرة على ما هو المتعارف الآن ، حيث قال بعض المعاصرين بطهارته ، لان الشارع قال : العذرة نجسة ، وهذه ليست بعذرة ، فيشمله « كل شيء لك طاهر » ، وقال بعضهم : بالنجاسة لعدم خصوصية الصورة النوعية .

( وأمّا الأوّل ) : وهو ما ذكره المصنّف بقوله : «فالموضوع اما ان يكون معلوما معيّنا شك في بقائه ...» ( فلا إشكال في استصحاب الموضوع ) لتمامية اركان الاستصحاب فيه ( وقد عرفت في مسألة الاستصحاب في الامور الخارجية ) كحياة زيد فيما اذا اشتهر موته وأرادت زوجته الزواج بآخر ، أو اُريد تقسيم ماله فاستصحبنا حياته ( أنّ استصحاب الموضوع حقيقته : ترتيب الأحكام الشرعية المحمولة على ذلك الموضوع الموجود واقعا ) فمعنى استصحاب حياته : انه لا يجوز لزوجته الزواج ، ولا لماله التقسيم بين الورثة ، كا يجب اعطاء نفقة زوجته، وهكذا .

ص: 270

فحقيقةُ استصحاب التغيّر والكرّية والاطلاق في الماء : ترتيبُ أحكامها المحمولة عليها ، كالنجاسة في الأوّل والمطهّرية في الأخيرين .

فمجرّد استصحاب الموضوع يوجب اجراء الاحكام ، فلا مجال لاستصحاب الاحكام حينئذ ، لا رتفاع الشك .

بل لو اُريد استصحابها لم يجر،

-------------------

وعليه : ( فحقيقةُ استصحاب التغيّر والكرّية والاطلاق في الماء : ترتيبُ أحكامها المحمولة عليها ، كالنجاسة في الأوّل ) اي : في استصحاب التغيّر ( والمطهّرية في الأخيرين ) اي : في استصحاب الكرية واستصحاب الاطلاق ، وهذه الامثلة الثلاثة من امثلة استصحاب الموضوع ، وبمجرّد ثبوت الموضوع بالاستصحاب يترتّب عليه الحكم ، بلا حاجة الى استصحاب الحكم .

والى هذا المعنى اشار المصنّف بقوله : ( فمجرّد استصحاب الموضوع يوجب اجراء الاحكام ) وذلك لما تقدّم : من ان وجه استصحاب الموضوع الذي جعله الشارع هو : ترتيب الاحكام ، ومعه ( فلا مجال لاستصحاب الاحكام حينئذ ) لوضوح : انه تحصيل للحاصل ، فبعد ان قال الشارع هذا كرّ بحكم استصحاب الموضوع ، او زيد حتى بحكم استصحاب الموضوع ، لا معنى لان نستصحب الحكم ( لا رتفاع الشك ) في الحكم بسبب استصحاب الموضوع .

( بل لو اُريد استصحابها ) اي : استصحاب الاحكام في الامثلة الثلاثة وما شابهها ( لم يجر ) وهذا جواب ثانٍ من الشيخ وهو : ان كل ما ثبت للموضوع المتيقن سابقا يثبت للموضوع المنزّل لاحقا ، والذي ثبت اولاً للماء المتغير هو النجاسة ، لا صحة استصحاب النجاسة ، فلا يجري صحة استصحاب النجاسة في الموضوع المنزّل لاحقا .

ص: 271

لأنّ صحة استصحاب النجاسة - مثلاً - ليس من أحكام التغيّر الواقعي ليثبت باستصحابه ، لأنّ أثر التغيّر الواقعي هي النجاسة الواقعية ، لا استصحابها ، إذ مع فرض التغيّر لا شك في النجاسة .

مع أنّ قضيّة ما ذكرنا من الدليل على اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب حكم العقل باشتراط بقائه فيه ،

-------------------

وإنّما لا يجري ( لأنّ صحة استصحاب النجاسة - مثلاً - ليس من أحكام التغيّر الواقعي ليثبت باستصحابه ) اي : باستصحاب التغيّر ، فانه قبل استصحاب الموضوع لا تحرز النجاسة ، وبعد استصحاب الموضوع لم يصح استصحاب النجاسة ، لان النجاسة السابقة على استصحاب التغيّر إنّما هي من احكام التغيّر الواقعي فتثبت بالتنزيل للتغيّر التنزيلي ، بينما صحة استصحاب النجاسة ليست من احكام التغيّر الواقعي حتى تثبت بالتنزيل للتغيّر التنزيلي ، فالثابت إذن في التغيّر المنزّل منزلة التغيّر الواقعي هي : النجاسة المنزّلة منزلة النجاسة الواقعية لااستصحاب النجاسة .

والحاصل :إنّا لو استصحبنا التغيّر لم يكن من آثاره استصحاب النجاسة حتى يصح استصحابها ، وذلك ( لأنّ أثر التغيّر الواقعي هي النجاسة الواقعية ، لا استصحابها ) اي : لا استصحاب النجاسة ( إذ مع فرض التغيّر ) واثباته بالاستصحاب يترتّب عليه حكم النجاسة ، ومعه ( لا شك في النجاسة ) حتى يجري فيها الاستصحاب ، فلا يجري إذن فيما نحن فيه استصحاب النجاسة .

( مع أنّ قضيّة ) اي : مقتضى ( ما ذكرنا من الدليل على اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب ) إنّما هو : ( حكم العقل باشتراط بقائه فيه ) اي : بقاء الموضوع في صحة الاستصحاب ، وهذا جواب ثالث من الشيخ وهو : ان الحاكم باشتراط

ص: 272

فالتغيير الواقعي إنّما يجوز استصحاب النجاسة له بحكم العقل .

فهذا الحكم ، أعني : ترتّب الاستصحاب على بقاء الموضوع ، ليس أمرا جعليّا حتى يترتّب على وجوده الاستصحابي ، فتأمّل .

-------------------

بقاء الموضوع في صحة الاستصحاب هو العقل ، لما عرفت : من امتناع انتقال العَرَض من موضوع الى موضوع ، أو بقاء العَرَض في الفراغ .

وعليه : ( فالتغيير الواقعي إنّما يجوز استصحاب النجاسة له بحكم العقل ) اي : ان العقل هو الذي يحكم بصحة الاستصحاب وجوازه عندما يرى توفّر شروط الاستصحاب وتمامية اركانه ، فاذا علمنا ببقاء التغيّر وشككنا في بقاء النجاسة يحكم العقل بصحة الاستصحاب ، فالعقل يرى وجود الشرط العقلي في الاستصحاب وان كان الحاكم بالاستصحاب من حيث انه ابقاء ما كان هو الشرع ، فجزء منه عقلي ، وجزء منه شرعي .

إذن : ( فهذا الحكم ، أعني : ترتّب الاستصحاب على بقاء الموضوع ) هو امر عقلي لوضوح : ان ترتّب المشروط على الشرط قهري ، فترتب الاستصحاب هنا وتحقق مفهومه إذن ( ليس أمرا جعليّا حتى يترتّب على وجوده ) اي : وجود الموضوع ( الاستصحابي ) وهذا هو ما ذكرناه سابقا : من ان المترتب على الاستصحاب هو الآثار الشرعية المجعولة من الشارع ، لا الآثار العقلية ، على العلم بوجود التغيّر الواقعي حكم عقلي ، فلا يترتب على وجود التغيّر الاستصحابي الجعلي الاّ اذا قلنا بالاصل المثبت ، وذلك بأن نستصحب التغيّر فيترتب عليه الأثر العقلي وهو : صحة الاستصحاب ، ثم يترتب عليه الأثر الشرعي وهو : استصحاب النجاسة وقد عرفت سابقا : ان الاستصحاب اذا كان مثبتا لم يكن حجة .

( فتأمّل ) لعله اشارة الى حجية هذا الاستصحاب هنا وذلك لخفاء الواسطة

ص: 273

وعلى الثاني : فلا مجال لاستصحاب الموضوع ولا الحكم .

أمّا الأوّل : فلأنّ أصالة بقاء الموضوع لا يثبت كون هذا الأمر الباقي متّصفا بالموضوعيّة إلاّ بناءا على القول بالأصل المثبت ، كما تقدّم في أصالة بقاء الكرّ المثبتة الكرّية المشكوك بقاؤه على الكرّية .

-------------------

المذكورة فيه ، وقد ذكرنا سابقا : انه مع خفاء الواسطة يصح الاستصحاب لرؤية العرف ترتيب الأثر على الاستصحاب بدون ملاحظة ان هناك واسطة بين الاثر وبين المستصحب .

هذا هو تمام الكلام على الاول .

( وعلى الثاني ) وهو ما ذكره المصنّف بقوله : « وامّا ان يكون غير معيّن ، بل مردّدا بين أمر معلوم البقاء وآخر معلوم الارتفاع » وذلك فيما اذا كان الشك في الحكم مسبّبا عن تردّد الموضوع بين ما هو معلوم الارتفاع وما هو معلوم البقاء ( فلا مجال لاستصحاب الموضوع ولا الحكم ) فيه ، وذلك لما يلي :

( أمّا الأوّل ) اي : استصحاب الموضوع ( ف ) لانه مثبت وذلك ( لأنّ أصالة بقاء ) كلي ( الموضوع ) المردّد بين الأمر المعلوم البقاء أو الارتفاع ( لا يثبت كون هذا الأمر الباقي ) وهو الماء المتغيّر الذي زال تغيّره - مثلاً - ( متصفا بالموضوعيّة ) وانه هو الفرد المعلوم البقاء المحكوم بالنجاسة ( إلاّ بناءا على القول بالأصل المثبت ، كما تقدّم في أصالة بقاء الكرّ المثبتة الكرّية ) هذا الماء ( المشكوك بقاؤه على الكرّية ) فاذا قلنا - مثلاً - : هذا الماء كان كرا ، والاصل بقاؤه على كرّيته ، فلازمه العقلي هو إذن كرّ ، وكذلك اذا قلنا فيما نحن فيه : هذا الماء كان موضوعا للنجاسة، والاصل بقاؤه على موضوعيته ، فلازمه العقلي هو إذن موضوع ، وهذا اصل مثبت كما سبق .

ص: 274

وعلى هذا القول ، فحكمُ هذا القسم حكمُ القسم الأوّل .

وأمّا أصالة بقاء الموضوع بوصف كونه موضوعا ، فهو في معنى استصحاب الحكم ، لأنّ صفة الموضوعيّة للموضوع ، ملازمٌ لانشاء الحكم من الشارع باستصحابه .

-------------------

( وعلى هذا القول ) وهو حجية الأصل المثبت ( فحكم هذا القسم ) الثاني هو ( حكمُ القسم الأوّل ) الذي كان فيه الاستصحاب سببيا ومسبّبيا ، فانه نستصحب الموضوع الذي هو سبب فيترتب عليه الحكم بلا حاجة الى استصحابه ، وذلك لأن الحكم يترتب بنفسه على الموضوع المستصحب من غير احتياج الى استصحاب حينئذ .

( و ) إن قلت : لا نقصد باصالة بقاء الموضوع كلي الموضوع المردّد حتى يكون مثبتا ، وإنّما نقصد به بقاء الموضوع بوصف انه موضوع ، فيترتب عليه الحكم ولا يكون مثبتا .

قلت : ( أمّا أصالة بقاء الموضوع بوصف كونه موضوعا ) للتخلص بذلك من محذور الأصل المثبت ( فهو في معنى استصحاب الحكم ) اي : انا لو قلنا : بأن هذا كان موضوعا وهو باق على موضوعيته ، فهو وان لم يكن مثبتا الاّ انه ليس من استصحاب الموضوع في شيء ، بل هو استصحاب نفس الحكم فكأنه قيل : هذا كان نجسا فهو نجس .

وإنّما هو في معنى استصحاب الحكم ( لأنّ صفة الموضوعية ) التي نريد اثباتها بالاستصحاب ( للموضوع ، ملازم لانشاء الحكم من الشارع باستصحابه ) اي : باستصحاب الموضوع الثابت له وصف الموضوعية ، فيرجع استصحاب موضوعيته الى استصحاب نجاسته وذلك لما عرفت : من ان ثبوت الموضوع

ص: 275

وأمّا استصحاب الحكم ، فلأنّه كان ثابتا لأمر لا يعلم بقاؤه ، وبقاؤه قائما بهذا الموجود الباقي ، ليس قياما بنفس ما قام به أولاً حتى يكون اثباته إبقاءا ونفيه نقضا .

اذا عرفت ما ذكرنا ، فاعلم أنّه كثيرا مّا يقع الشك في الحكم من جهة الشك في أنّ موضوعه ومحلّه هو الأمر الزائل ولو بزوال قيده المأخوذ في موضوعيّته ،

-------------------

بهذا الوصف مستلزم الانشاء الحكم من الشارع .

هذا كله في استصحاب الموضوع وقد عرفت : عدم صحته .

( وأمّا استصحاب الحكم ف ) هو غير صحيح ايضا ( لأنّه ) اي : الحكم ( كان ثابتا لأمر ) اي : لموضوع ( لا يعلم بقاؤه ) اي : بقاء ذلك الموضوع في الزمان الثاني ، اذ لا نعلم ان موضوع النجاسة - مثلاً - هل هو نفس الماء والتغيّر علة محدثة لها حتى يبقى الموضوع بعد زوال التغيّر ، أو هو الماء المتغيّر حتى يزول الموضوع بزواله ؟ ( و ) اذا كان كذلك ، فالحكم لا يستصحب ، اذ ( بقاؤه قائما بهذا الموجود الباقي ، ليس قياما بنفس ما قام به أولاً ) اي : ان النجاسة في المثال كانت قائمة بالماء المتغيّر ، لا بهذا الماء ، فالمتيقن هو كون النجاسة للماء بواسطة التغيّر، فاذا زال التغيّر لا نعلم بأن الموضوع باق ( حتى يكون اثباته إبقاءا ونفيه نقضا ) فلا تتم أركان الاستصحاب .

( اذا عرفت ما ذكرنا ) : من اعتبار بقاء الموضوع ( فاعلم أنّه كثيرا ما يقع الشك في الحكم ) بان نشك في ان الحكم باق او ليس بباق ، وذلك ( من جهة الشك في أنّ موضوعه ومحلّه ) اي : محل الحكم هل ( هو الأمر الزائل ) كالماء المتغيّر الذي زال تغيرّه بنفسه ( ولو بزوال قيده ) اي بزوال التغيّر ( المأخوذ في موضوعيّته ،

ص: 276

حتى يكون الحكم مرتفعا ، أو هو الأمر الباقي والزائل ليس موضوعا ولا مأخوذا فيه ، فلو فرض شك في الحكم كان من جهة اُخرى غير الموضوع .

كما يقال : إنّ حكم النجاسة في الماء المتغيّر موضوعه نفس الماء ، والغيّر علّة محدثة للحكم ، فيشك في علّيته للبقاء .

-------------------

حتى يكون الحكم مرتفعا ) بزوال موضوعه ، فنحكم على الماء المتغيّر الذي زال تغيّره من نفسه بالطهارة ، لان موضوع النجاسة هو : الماء المتغيّر بالفعل وقد زال .

( أو هو الأمر الباقي ) كالماء في المثال ( والزائل ) الذي هو التغيّر في الآن الثاني ( ليس موضوعا ) للنجاسة ( ولا مأخوذا فيه ) اي : في موضوع النجاسة ، وذلك بان كان موضوع النجاسة نفس الماء ، والتغيّر علة محدثة ، فانه مع زوال التغيّر يبقى الموضوع فنحكم بنجاسته ، ولكن حيث لا نعلم ان الموضوع هذا او ذاك نشك في بقاء النجاسة .

وعليه : ( فلو فرض ) بالنسبة الى الفرض الثاني وهو ما ذكره المصنّف بقوله : « أو هو ، اي : الموضوع ، الامر الباقي والزائل ليس موضوعا » فلو ( شك في الحكم ) في الآن الثاني ( كان ) ذلك الشك حينئذ ( من جهة اُخرى غير الموضوع ) لفرض ان الموضوع على الفرض الثاني باق ( كما يقال : إنّ حكم النجاسة في الماء المتغيّر موضوعه ) هو ( نفس الماء ) الذي كان سابقا وهو باق الآن ( والغيّر علة محدثة للحكم ) بالنجاسة فيبقى الموضوع بعد زوال التغيّر ( فيشك في علّيته ) اي : علّية التغيّر ( للبقاء ) اي : لبقاء النجاسة ، وعدم علّيّته ، اذ قد عرفت : انه يُحتمل كون التغيّر علة محدثة فقط فلا تزول النجاسة بزوال التغيّر ، ويحتمل انه علّة محدثة ومبقية أيضا فتزول بزواله .

وعلى هذا الذي ذكرنا : من انه كثيرا ما يشك في ان الموضوع هذا او ذاك ،

ص: 277

فلا بدّ من ميزان يميّز به القيود المأخودة في الموضوع عن غيرها ، وهو أحد أمور :

الأوّل : العقل فيقال : إنّ مقتضاه كون جميع القيود قيودا للموضوع مأخوذة فيه ، فيكون الحكم ثابتا لأمر واحد يجمعها ؛ وذلك لأنّ كلّ قضية ، وإن كثرت قيودها

-------------------

كما في مثال الماء اذا تغيّر حيث لم يُعلم ان الموضوع هل هو الماء المتغيّر ، أو الماء وحده والتغيّر علة محدثة ؟ ( فلا بدّ من ميزان يميّز به القيود المأخودة في الموضوع ) حتى اذا ذهبت تلك القيود ذهب الموضوع فيميّزها ( عن غيرها ) من القيود التي لم تؤخذ في الموضوع ، حتى اذا ذهبت لم يذهب الموضوع بل يكون باقيا ، فيجري فيه الاستصحاب .

( وهو ) اي : هذا الميزان ( أحد أمور ) تالية :

( الأوّل : العقل ) وذلك بأن يميّز العقل ان هذا القيد هل هو من قيود الموضوع او ليس من قيوده ؟ ( فيقال : إنّ مقتضاه ) اي : مقتضى العقل : ( كون جميع القيود قيودا للموضوع ) بلا فرق بين ان يكون القيد في لفظ الدليل قيدا للموضوع أو قيدا للحكم ، او يكون الدليل مجملاً من هذه الجهة ، فان العقل يرى كل القيود في الحقيقة ( مأخوذة فيه ) اي : في الموضوع حدوثا وبقاءا ، فمادام ذلك القيد موجودا فالحكم موجود ، فاذا ذهب القيد ذهب الحكم ، فالعقل يرى مدخلية جميع القيود في حصول مناط الحكم .

وعليه : ( فيكون الحكم ثابتا لأمر ) اي : لموضوع ( واحد يجمعها ) اي : يجمع ذلك الموضوع كل تلك القيود ، فاذا انتفى أحد القيود انتفى الموضوع بانتفائه .

( و ) إنّما كان مقتضى العقل ( ذلك ، لأنّ كلّ قضية ، وإن كثرت قيودها

ص: 278

المأخوذة فيها راجعة في الحقيقة الى موضوع واحد ، ومحمول واحد .

فاذا شك في ثبوت الحكم السابق بعد زوال بعض تلك القيود ، سواء علم بكونه قيدا للموضوع أو للمحمول أو لم يعلم أحدهما ، فلا يجوز الاستصحاب ، لأنّه اثبات عين الحكم السابق لعين الموضوع السابق ، ولا يصدق هذا مع الشك في أحدهما .

-------------------

المأخوذة فيها راجعة في الحقيقة الى موضوع واحد ، ومحمول واحد ) اعتبارا ، لوضوح : ان المولى لا يأتي بقيد في كلامه الاّ مع مدخلية ذلك القيد في حصول مطلوبه ، فاذا قال - مثلاً - : اكرم زيدا يوم الجمعة بالضيافة حال كونه عالما عادلاً خلوقا مداريا ، كان لكل تلك القيود : من يوم الجمعة الى مداريا ، دخل في الموضوع ، بحيث اذا ذهب احدها لم يجب الاكرام ، كما اذا كان في يوم السبت ، أو كان الاكرام بالمال ، او كان زيد قد ذهب علمه او عدالته او أخلاقه او مداراته .

وعليه : ( فاذا شك في ثبوت الحكم السابق بعد زوال بعض تلك القيود ، سواء ) كان الزائل بعض قيود الموضوع ام بعض قيود الحكم ، وسواء ( علم بكونه قيدا للموضوع ) بأن قال - مثلاً - : الماء المتغيّر نجس ( أو للمحمول ) بأن قال - مثلاً - : الماء نجس اذا تغيّر ( أو لم يعلم أحدهما ) بأن قال - مثلاً - : التغيّر يوجب تنجّس الماء ، حيث ان لفظ التغيّر لا يعلم هل هو مربوط بالموضوع او بالحكم ؟ ( فلا يجوز الاستصحاب ) .

وإنّما لا يجوز الاستصحاب ( لأنّه ) اي : الاستصحاب ( اثبات عين الحكم السابق لعين الموضوع السابق ) في الزمان الثاني ( ولا يصدق هذا ) التعريف للاستصحاب يعني : انه عين الحكم السابق لعين الموضوع السابق ( مع الشك في أحدهما ) اي : الشك في انه هل هو عين الحكم السابق ، او هو عين

ص: 279

نعم ، لو شك بسبب تغيّر الزمان ، المجعول ظرفا للحكم كالخيار ، لم يقدح في جريان الاستصحاب ، لأنّ الاستصحاب مبني على الغاء خصوصية الزمان الأوّل .

فالاستصحاب في الحكم الشرعي لا يجري إلاّ في الشك من جهة الرافع ذاتا أو وصفا ، وفيما كان من جهة مدخليّة الزمان .

-------------------

الموضوع السابق ؟ .

( نعم ، لو شك بسبب تغيّر الزمان ، المجعول ظرفا للحكم ) لا قيدا مفرّدا ( كالخيار ) بان احتملنا ان الحكم ثابت في الزمان الاول فقط دون سائر الازمنة ، كما في مثل خيار الغبن حيث لم نعلم بانه فوري او متراخ ، فانه ( لم يقدح ) هذا التغيّر ( في جريان الاستصحاب ) فنستصحب بقاء الخيار في الزمان الثاني وذلك ( لأنّ الاستصحاب مبني على الغاء خصوصية الزمان الأوّل ) فان الاستصحاب هو عبارة عن ابقاء ما كان سابقا يعني : في الزمان الاول ، لاحقا يعني : في الزمان الثاني .

إذن ( فالاستصحاب في الحكم الشرعي لا يجري إلاّ ) في الموارد التالية :

الأوّل : ( في الشك من جهة الرافع ذاتا ) بان لم يعلم هل جاء ذات الرافع او لم يجيء ؟ كما اذا شك بعد الوضوء في انه هل جاءه النوم او لم يجيء فانه مع هذا الشك الذي هو في وجود الرافع يجري الاستصحاب .

الثاني : ( أو وصفا ) اي : لاذاتا ، وذلك بان جاءه شيء ، لكن لا يعلم هل هو نوم حتى يكون ناقضا ، او ليس بنوم بل مجّرد خفقة حتى لا يكون ناقضا ؟ فانه مع هذا الشك الذي هو في رافعية الموجود يجري الاستصحاب ايضا .

الثالث : ( وفيما كان ) الشك ( من جهة مدخليّة الزمان ) بان شك في ان الزمان

ص: 280

نعم ، يجري في الموضوعات الخارجية بأسرها .

ثم لو لم يعلم مدخليّة القيود في الموضوع ، كفى في عدم جريان الاستصحاب ، الشك في بقاء الموضوع ، على ما عرفت مفصّلاً .

-------------------

هل له دخل في خيار الغبن - مثلاً - حتى يكون في الآن الاول فقط ، او ليس له دخل حتى يجري في الآن الثاني ايضا ؟ فانه مع هذا الشك الذي هو من جهة مدخلية الزمان يجري الاستصحاب أيضا .

وعليه : فان الاستصحاب في الحكم الشرعي يجري في هذه الموارد الثلاثة التي هي من الشك في الرافع فقط ، ولا يجري في موارد الشك في المقتضي ، وذلك لحصول تغيّر في الموضوع فيها - ولو في الجملة - ممّا لا يرى العرف الموضوع باقيا ، مثل : زوال التغيّر في الماء ، ومثل : وجدان الماء في المتيمّم ، وما اشبه ذلك من موارد الشك في المقتضي .

( نعم ، يجري في الموضوعات الخارجية بأسرها ) اي : سواء كان من الشك في الرافع ام من الشك في المقتضي ، وذلك لا حراز الموضوع في الامور الخارجية فاذا شككنا - مثلاً - في حياة زيد نستصحب حياته ، سواء شككنا في حياته لاحتمال انقضاء استعداده بان كان استعداده الجسمي والروحي لخمسين سنة فقط ممّا هو شك في المقتضي ، أم لاحتمال طرو رافع من قتل او غرق ، أو سقوط من شاهق ، او ما اشبه ذلك ، ممّا هو شك في الرافع وذلك لاحراز الموضوع فيها .

( ثم لو لم يعلم مدخليّة القيود في الموضوع كفى في عدم جريان الاستصحاب، الشك ) والشك هنا فاعل كفى يعني : يكفينا لعدم الاستصحاب ، الشك ( في بقاء الموضوع ، على ما عرفت مفصّلاً ) عند قول المصنّف قبل اسطر :

ص: 281

الثاني : أن يرجع في معرفة الموضوع للأحكام الى الأدلّة ، ويفرّق بين قوله : «الماء المتغيّر نجس» ، وبين قوله : « الماء ينجس اذا تغيّر » ، فيجعل الموضوع في الأوّل الماء المتلبّس بالتغيّر ، فيزول الحكم بزواله ، وفي الثاني نفس الماء ، فيستصحبُ النجاسةُ لو شك في مدخليّة التغيّر في بقائها ،

-------------------

« سواء علم بكونه قيدا للموضوع او المحمول أو لم يعلم احدهما » فإنّه بمجرد الشك في ذلك لا يجري الاستصحاب فيها ايضا .

( الثاني ) ممّا يميّز به كون القيود مأخوذة في الموضوع فلا يستصحب ، او غير مأخوذة فيه فيستصحب : ( أن يرجع في معرفة الموضوع للأحكام ) ليرى ان الموضوع هل هو المقيد او ان الموضوع بلا قيد ؟ ( الى الأدلّة ) الشرعية ( ويفرّق بين قوله : «الماء المتغيّر نجس» ، وبين قوله : «الماء ينجس اذا تغيّر» ) والفارق هو ماذكره بقوله : ( فيجعل الموضوع في الأوّل الماء المتلبّس بالتغيّر ) فعلاً ، لأن الوصف له مدخلية في الموضوع ، فهو مثل : قلّد زيدا العالم ، وأقم الصلاة خلف زيد العادل ، واذا كان كذلك ( فيزول الحكم بزواله ) اي : بزوال هذا القيد المأخوذ في الموضوع فلا يجوز فيه الاستصحاب .

( وفي الثاني ) اي في مثل قوله : « الماء ينجس اذ تغيّر » ، يجعل الموضوع فيه ( نفس الماء ) لانه مقتضى ظاهر اطلاق لفظ الماء بدون تقييده بشيء ، ويكون التغيّر علة محدثة ، فمع زوالها في الآن الثاني لا يزول الموضوع واذا كان كذلك ( فيستصحب النجاسة ) لهذا الماء الذي زال تغيّره وذلك فيما ( لو شك في مدخليّة التغيّر في بقائها ) اي : في بقاء النجاسة وعدم مدخليته فيها بأن شككنا في ان التغيّر هل هي علة مبقية حتى لا يبقى الماء نجسا بعد زوال تغيّره ، أو علة

ص: 282

وهكذا .

وعلى هذا : فلا يجري الاستصحاب ، فيما كان الشك من غير جهة الرافع ، إذا كان الدليل غير لفظي لا يتميّز فيه الموضوع ،

-------------------

محدثة حتى اذا زال التغيّر بقيت النجاسة .

( وهكذا ) في سائر الموارد الواردة في لسان الشارع ، فانه قد يكون القيد بعد الموضوع ، وقد يكون القيد بعد الحكم فكلّما كان القيد بعد الموضوع زال الموضوع بزوال القيد فلا يستصحب الحكم لزوال الموضوع ، بخلاف ما اذا كان القيد بعد الحكم ، فانه لا يزول الموضوع بزوال القيد فيستصحب الحكم لبقاء الموضوع .

( وعلى هذا ) الذي ذكرناه في الميزان الثاني من ان لسان الدليل هو الميزان لتمييز الموضوع ( فلا يجري الاستصحاب فيما كان الشك من غير جهة الرافع ) بان كان من جهة المقتضي ( إذا كان الدليل غير لفظي ) بان كان لبيا كالاجماع - مثلاً - وذلك لأنّ الشك إذا كان من جهة الرافع كان معناه : ان الموضوع بجميع قيوده باق ، وإنّما الشك في انه هل رفعه شيء ام لا ؟ فيستصحب .

بخلاف ما اذا كان الشك من جهة المقتضي ، فإنّه لابدّ فيه من لفظٍ حتى يتميّز به الموضوع ، بينما اذا كان الدليل لبيا فحيث لا لفظ ( لا يتميّز فيه الموضوع ) فلا يستصحب لو كان الشك فيه من جهة المقتضي ، وذلك لأنّا لا نعلم هل الموضوع هو الذات المطلقة او الذات المقيّدة ؟ وحيث نشك في الموضوع لا يجوز لنا الاستصحاب ، وذلك كما اذا قام الاجماع - مثلاً - على تقليد المجتهد الحي ، فاذا مات المجتهد لا يجوز لنا استصحاب جواز تقليده بعد موته ، لاحتمال كون الحياة قيدا للموضوع بحيث ينتفي موضوع جواز التقليد بانتفاء الحياة .

ص: 283

لاحتمال مدخليّة القيد الزائد فيه .

الثالث : أن يرجع في ذلك الى العرف ، فكلّ مورد يصدق عرفا : أنّ هذا كان كذا سابقا جرى فيه الاستصحاب ، وإن كان المُشار اليه لا يُعلم بالتدقيق ، او بملاحظة الأدلة ، كونه موضوعا ، بل عُلِمَ عدمُه .

-------------------

وإنّما لا يجوز فيه الاستصحاب ( لاحتمال مدخليّة القيد الزائد فيه ) اي : في الموضوع ومع هذا الاحتمال لا يعلم بقاء الموضوع ، وقد عرفت : لزوم العلم ببقاء الموضوع حتى يجوز فيه الاستصحاب .

( الثالث ) : ممّا يميّز به كون القيود مأخوذة في الموضوع فلا يستصحب ، او غير مأخودة فيه فيستصحب ( أن يرجع في ذلك الى العرف ، فكلّ مورد يصدق عرفا : أنّ هذا كان كذا سابقا ) بأن لم يكن التغيّر الحاصل فيه رافعا للموضوع بنظر العرف ( جرى فيه الاستصحاب ) لان العرف هو الذي اُلقي اليه الكلام ، فيكون فهمه هو الميزان ، لقوله تعالى : « وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه » (1) .

وعليه : فان رأى العرف كون القيد من مقوّمات الموضوع حدوثا وبقاءا لم يجر الاستصحاب ، وان رأى القيد من مقوّمات الموضوع حدوثا لابقاءا جرى الاستصحاب حتى ( وإن كان المُشار اليه ) بقول العرف : هذا كان كذا ( لا يُعلم بالتدقيق ، او بملاحظة الأدلة ، كونه موضوعا ) و «كونه موضوعا» فاعل لقوله : «لا يُعلم» يعني : لا يُعلم كونه موضوعا بالتدقيق حسب الميزان الاول ، او بملاحظة الادلة حسب الميزان الثاني ( بل عُلِمَ عدمُه ) وذلك لما عرفت : من ان الدقة العقلية تقتضي عدم بقاء الموضوع بعد ذهاب بعض الخصوصيات ، فاذا قال : الماء اذا تغيّر نجس ، فالدقة العقلية تقتضي عدم بقاء الموضوع بعد زوال التغيّر ،

ص: 284


1- - سورة ابراهيم : الآية 4 .

مثلاً : قد ثبت بالأدلّة أنّ الانسان طاهرٌ والكلب نجسٌ ، فاذا ماتا حكم العرف بارتفاع طهارة الأوّل وبقاء نجاسة الثاني ، مع عدم صدق الارتفاع والبقاء هنا بحسب التدقيق فيهما ، لأنّ الطهارة والنجاسة كانتا محمولتين على الحيوانين المذكورين ، وقد ارتفعت الحيوانيّة ،

-------------------

لكن العرف يرى ان الموضوع هو الماء ، وان التغيّر علة محدثة فقط ، فيرى بقاء الحكم .

( مثلاً : قد ثبت بالأدلّة ) الشرعية ( أنّ الانسان طاهرٌ ) اذا كان مسلما ( والكلب نجسٌ ) اذا كان برّيا ( فاذا ماتا حكم العرف بارتفاع طهارة الأوّل ) عند المصنّف ، لكنه عندنا غير ظاهر ، لان العرف يرى ان الانسان حيّه وميّته طاهر ، فاذا حكم بنجاسة الانسان بالموت كان من باب الدليل الخاص كما ان العرف يرى ان الكلب حيّه وميته نجس ، فالعرف إذن يرى الحي والميت في حكم واحد ، سواء بالنسبة الى النجس كالكلب ، ام بالنسبة الى الطاهر كالانسان .

وكيف كان : فان المصنّف قال : ان العرف يحكم بارتفاع طهارة الاول وهو الانسان ( وبقاء نجاسة الثاني ) وهو الكلب ( مع عدم صدق الارتفاع ) اي : ارتفاع الطهارة في الانسان ( و ) عدم صدق ( البقاء ) اي : بقاء النجاسة في الكلب ( هنا بحسب التدقيق فيهما ) .

وإنّما لم يصدق ذلك فيهما بحسب التدقيق ( لأنّ الطهارة والنجاسة كانتا محمولتين على الحيوانين المذكورين ) الانسان والكلب ( وقد ارتفعت الحيوانيّة ) فيهما بالموت ، وحدث موضوع جديد ، فان الحيوان بعد الموت

ص: 285

فلا معنى لصدق ارتفاع الأوّل ، وبقاء الثاني بعد صيرورته جمادا .

ونحوه حكم العرف باستصحاب بقاء الزوجية بعد موت أحد الزوجين ، وقد تقدّم حكم العرف ببقاء كرّية ما كان كرّا سابقا و وجوب الأجزاء الواجبة سابقا قبل تعذّر بعضها

-------------------

يصير جمادا وليس بحيوان ، ومعه ( فلا معنى لصدق ارتفاع الأوّل ، و ) هو الطهارة في الانسان ، لانه ليس ارتفاعا بحسب التدقيق بل قد حدث موضوع جديد بالموت ، كما لا معنى لصدق ( بقاء الثاني ) اي : النجاسة في الكلب ، لانه ليس بقاءا لها ( بعد صيرورته جمادا ) وخروجه بالموت عن الحيوانية ، بل هو من باب انتفاء الموضوع الاول وحدوث موضوع جديد للنجاسة بحسب التدقيق .

( ونحوه ) اي : نحو المثال السابق وحكم العرف فيه ( حكم العرف باستصحاب بقاء الزوجية بعد موت أحد الزوجين ) فان العرف يرى الموضوع في المثال هو هذا الموجود الخارجي الباقي بعد الموت ايضا ، فاذا شك في بقاء الزوجية بعد الموت يجري الاستصحاب فيترتب عليه الأثر ، كجواز النظر واللمس ، امّا عدم جواز الوطي، فللاجماع ونحوه ، كما ان جواز التزوج باختها والخامسة فمن باب الدليل .

والحاصل : ان الميزان في كل موارد الاستصحاب التي هي من هذا القبيل هو : حكم العرف بالبقاء ( وقد تقدّم ) من المصنّف بعض الامثلة على ذلك مثل ( حكم العرف ببقاء كرّية ما كان كرّا سابقا ) بعد ان اُخذ منه بعض الماء ممّا شك في كريته .

( و ) مثل حكم العرف ببقاء ( وجوب الأجزاء الواجبة سابقا قبل تعذّر بعضها ) كما في تعذّر السورة بالنسبة الى الصلاة - مثلاً - حيث يرى العرف ان ناقص

ص: 286

واستصحاب السواد فيما علم زوال مرتبة معيّنة منه ، ويشك في تبدّله بالبياض أو بسواد خفيف ، الى غير ذلك .

وبهذا الوجه يصحّ للفاضلين « قدّس سرّهما » في المعتبر والمنتهى : « الاستدلال على بقاء نجاسة الاعيان النجسة بعد الاستحالة بأنّ النجاسة قائمة بالأشياء النجسة ، لا بأوصاف الأجزاء ، فلا تزول بتغيّر أوصاف محلّها ،

-------------------

الأجزاء وكامل الأجزاء شيء واحد ، فالوجوب السابق باقٍ .

ومثل حكم العرف ببقاء الموضوع ( واستصحاب السواد فيما علم زوال مرتبة معيّنة منه ، ويشك في تبدّله بالبياض أو بسواد خفيف ) وذلك لأنّ في نظرهم السواد الخفيف والسواد القوي شيئا واحدا .

( الى غير ذلك ) من الأمثلة كاستصحاب الزمانيات كما مثلنا له سابقا : بأن الماء لو كان قليلاً ، ثم اضيف عليه بمقدار يشك في كرّيته ، فانه يستصحب قلته ايضا ، مع ان الموضوع السابق بالدقة ليس هو الباقي وإنّما حدث فيه تغيّر .

( وبهذا الوجه ) الذي ذكرناه : من ان الميزان في بقاء الموضوع هو العرف ( يصحّ للفاضلين ) : المحقق والعلامة ( «قدّس سرّهما» في المعتبر والمنتهى « الاستدلال على بقاء نجاسة الاعيان النجسة بعد الاستحالة ) الى الرماد او التراب او الملح أو ما اشبه ذلك ، ممّا سبق الالماع اليه ، فانهم يرون - مثلاً - ان الكلب اذا تحوّل الى ملح بقي نجسا مستدلين لذلك : ( بأنّ النجاسة قائمة بالأشياء النجسة ) بذواتها ( لا بأوصاف الأجزاء ) وبعبارة اُخرى : ان موضوع النجاسة في الكلب - مثلاً - هو جسم الكل لا عنوانه ، فلا مدخلية لخصوصيّة الكلب في نجاسته ، واذا كان كذلك ( فلا تزول ) النجاسة ( بتغيّر أوصاف محلّها ) اي : محلّ النجاسة اعني :

ص: 287

وتلك الأجزاء باقية ، فلا ترتفع النجاسة ، لانتفاء ما يقتضي ارتفاعها » ، انتهى كلام المعتبر .

واحتجّ فخر الدين « للنجاسة بأصالة بقائها وبأنّ الاسم أمارة ومعرّف ، فلا يزول الحكم بزواله » ، انتهى .

-------------------

عنوان الكلبية ، فانّ عنوان الكلبية وان زال بصيرورة الكلب ملحا الاّ ان جسمه ( وتلك الأجزاء ) من جسمه ( باقية ) فيستصحب نجاستها .

إذن : ( فلا ترتفع النجاسة ) الموجودة - مثلاً - في جسم الكلب باستحالته ملحا ( لانتفاء ما يقتضي ارتفاعها» (1) ) اي ارتفاع النجاسة ، فان ارتفاع النجاسة إنّما يكون بالتطهير ، ولم يحصل تطهير ( انتهى كلام المعتبر ) ونحوه كلام المنتهى .

( واحتجّ فخر الدين ) ابن العلامة ( «للنجاسة ) في مثل الكلب المتحوّل الى ملح - مثلاً - بدليلين :

الأوّل : ( بأصالة بقائها ) اي : بقاء النجاسة ، فانه عند الاستحالة نشك في زوالها،

فنستصحب بقاءها .

الثاني : ( وبأنّ الاسم أمارة ومعرّف ، فلا يزول الحكم بزواله » (2) ) اي : بزوال الاسم ، وذلك لأنّ الشارع لما قال : الكلب نجس ، اراد نجاسة هذه الذات ، وكونه كلبا اسم وعلامة لتلك الذات فقط ، فاذا زال الاسم والعلامة ، لا يزول الذات ، فتبقى النجاسة ، فهو كما اذا نصب أحد علامة على الفرسخ ، فانه لا تكون لتلك العلامة مدخلية في الفرسخية ولذا اذا زالت العلامة بقيت الفرسخية ( انتهى ) كلام فخر الدين بن العلاّمة .

ص: 288


1- - المعتبر : ص125 .
2- - ايضاح الفرائد في شرح القواعد : ج1 ص31 .

وهذه الكلمات وإن كانت محلَّ الايراد ، لعدم ثبوت قيام حكم الشارع بالنجاسة بجسم الكلب ، المشترك بين الحيوان والجماد ، بل ظهور عدمُه ، لأنّ ظاهر الأدلّة تبعيّة الاحكام للاسماء ، كما اعترف به في المنتهى في استحالة الاعيان النجسة ، إلاّ أنّه شاهدٌ على إمكان موضوعيّة الذات المشتركة بين واجد الوصف العنواني وفاقده .

-------------------

( و ) كيف كان : فان ( هذه الكلمات ) من الاعلام الثلاثة ( وإن كانت محل الايراد ، لعدم ثبوت قيام حكم الشارع بالنجاسة ) اي : بنجاسة الاعيان النجسة ، فان الشارع لما حكم بنجاسة الكلب - مثلاً - لم يلاحظ كون النجاسة قائمة ( بجسم الكلب ، المشترك بين الحيوان ) عندما كان حيا ( والجماد ) بعد ان صار ملحا ( بل ظهور عدمه ) اي : عدم قيام حكم النجاسة بالجسم ، وإنّما بالاسم والعنوان ، وذلك ( لأنّ ظاهر الأدلّة تبعيّة الاحكام للاسماء ، كما اعترف به في المنتهى ) .

وعليه : فاذا قال الشارع - مثلاً - الكلب نجس ، فظاهر معناه : انه مادام يسمّى كلبا فهو نجس ، فاذا تحوّل الكلب الى ملح لم يصدق قوله : الكلب نجس حينئذ عليه ، وهذا الكلام ممّا قد صرّح به العلامة في المنتهى عند حديثه ( في استحالة الاعيان النجسة ) الى أشياء طاهرة كالملح وما اشبه .

والحاصل : ان كلمات الاعلام الثلاثة وان كانت محل اشكال كما عرفت ( إلاّ أنّه شاهد على امكان موضوعيّة الذات المشتركة بين واجد الوصف العنواني وفاقده ) اي : انا وان قلنا : بأن الشيء اذا استحال يكون طاهرا - كما هو المشهور - الاّ ان المستفاد من كلمات هؤلاء الاعلام الثلاثة ؛ امكان كون الموضوع هو المشترك بين واجد العنوان وفاقد العنوان ولو في نظر العرف ، فاذا قال الشارع - مثلاً - : الحنطة ملك زيد ، فالملكية حكم للجسم المتحقق في ضمن صورة الحنطة والطحين

ص: 289

كما ذكرنا في نجاسة الكلب بالموت ، حيث أنّ أهل العرف لايفهمون نجاسة أخرى حاصلة بالموت ، ويفهمون ارتفاع طهارة الانسان ، الى غير ذلك مّما يفهمون الموضوع فيه مشتركا بين الواجد للوصف العنواني والفاقد .

ثم

-------------------

والعجين والخبز وما اشبه ، وذلك لأنّ العرف يرون الملكية وصف الجسم ، لا وصف الجسم المتصف بكونه حنطة حتى اذا زالت الحنطية يزول الملك .

( كما ذكرنا ) ذلك ايضا ( في نجاسة الكلب بالموت ، حيث ) قلنا : ان العرف يرون النجاسة قائمة بهذا الجسم ، سواء كان حيا ام ميتا ، وذلك ( أنّ أهل العرف لايفهمون نجاسة أخرى حاصلة بالموت ) غير النجاسة الاولى التي كانت للكلب حال الحياة ، بل يرون هذه النجاسة هي نفس تلك النجاسة ، كما ( ويفهمون ارتفاع طهارة الانسان ) - عند المصنّف بسبب الموت مع انه ليس بارتفاع بل هو من تبدّل الموضوع .

وإنّما قلنا : عند المصنّف ، لانه قد عرفت فيما سبق اشكالنا في هذا الكلام من المصنّف ، وذلك لأنّ العرف بنظرنا يرون ان الحي والميت من الانسان كلاهما طاهر ، وإنّما يحتاج النجاسة بعد الموت الى دليل خاص .

وعلى اي حال : فحيث كان الموضوع بنظر العرف واحدا في الحالين ، يصحّ الاستصحاب كما في الأمثلة التي سبق ذكرها ، و ( الى غير ذلك مّما يفهمون الموضوع فيه مشتركا بين الواجد للوصف العنواني ) كالكلب الذي هو وصف عنواني لهذا الجسم ( والفاقد ) حيث يتحول الى ملح ويكون جمادا .

( ثم ) ان المصنّف ذكر الى هنا قولين في المسألة : قول المشهور بالطهارة

ص: 290

إنّ بعض المتأخّرين فرّق بين استحالة نجس العين والمتنجّس ، فحكم بطهارة الأوّل لزوال الموضوع دون الثاني ، لأنّ موضوع النجاسة فيه ليس عنوان المستحيل ، أعني : الخشب - مثلاً - وإنّما هو الجسم ولم يزل بالاستحالة .

وهو حسنٌ في بادي النظر ، إلاّ أنّ دقيق النظر يقتضي خلافه ،

-------------------

لدى الاستحالة ، وقول غير المشهور بعدم الطهارة لدى الاستحالة وبقاؤه على النجاسة السابقة ، وهنا قول ثالث بالتفصيل وقد اشار اليه المصنّف بقوله فيما يلي .

( إنّ بعض المتأخرين ) وهو الفاضل الهندي ( فرّق بين استحالة نجس العين والمتنجّس ) اي : قال بالتفصيل بينهما ( فحكم بطهارة الأوّل ) وهو نجس العين ( لزوال الموضوع ) فيه بالاستحالة ، فان الكلب بعد تحوله الى الملح ليس بكلب ، والدليل قال : الكلب نجس : ممّا ظاهره عنوان المستحيل اعني : الكلب وقد زال بالاستحالة ( دون الثاني ) وهو المتنجس كالخشب المتحوّل الى الرماد فلم يحكم بطهارته بالاستحالة ( لأنّ موضوع النجاسة فيه ليس عنوان المستحيل ، أعني : الخشب - مثلاً - وإنّما هو الجسم ) لان الاجماع قام على ان كل جسم لا قى نجسا برطوبة تنجّس ( و ) من المعلوم انه ( لم يزل ) الجسم ( بالاستحالة ) فان الجسم في كل من الخشب والرماد باق ، وحيث كانت النجاسة حكما للجسم فهي باقية حتى بعد الرمادية .

ثم قال المصنّف : ( وهو ) اي : هذا التفصيل المذكور ( حسنٌ في بادي النظر ، إلاّ أنّ دقيق النظر يقتضي خلافه ) ويرى انه لا فرق بين تحوّل الكلب ملحا او الخشب النجس رمادا .

ص: 291

إذ لم يعلم أنّ النجاسة في المتنجّسات محمولة على الصورة الجنسيّة وهي الجسم ، وإن اشتهر في الفتاوى ومعاقد الاجماعات : أنّ كلّ جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجسٌ .

إلاّ أنّه لا يخفى على المتأمّل أنّ التعبير بالجسم لأداء عموم الحكم لجميع الأجسام الملاقية من حيث سببيّة الملاقاة .

-------------------

وإنّما يقتضي النظر الدقيق خلافه ( إذ لم يعلم ) من ظاهر الدليل ( أنّ النجاسة في المتنجّسات ) هل هي محمولة على الصورة النوعية حتى يقال : ان الجسم لا خصوصية له فيها سوى انه لبيان شمول الحكم ، او هي ( محمولة على الصورة الجنسيّة وهي الجسم ) حتى يقال : ان الجسم باق بعد الرمادية ، فالنجاسة باقية ؟ .

وعليه : فحيث انه لم يعلم ايّهما المراد منه ، لا يحكم ببقاء النجاسة بعد الاستحالة حتى ( وإن اشتهر في الفتاوى ومعاقد الاجماعات ) ما يوهم ان النجاسة قائمة بالجسم بما هو جسم ، لا بالخصوصية العنوانية للجسم ، وذلك لقولهم :( أنّ كلّ جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجسٌ ) فانه يوهم ان النجاسة قائمة بالجسم ، والجسم متحقق في كل واحد من الخشب النجس والرماد .

والحاصل : انه وان اشتهر ما يوهم بأن للجسم خصوصية في تعبيرهم ( إلاّ أنّه لا يخفى على المتأمّل أنّ التعبير بالجسم ) فيما اشتهر عنهم إنّما هو ( لأداء عموم الحكم لجميع الأجسام الملاقية من حيث سببيّة الملاقاة ) فان تعبيرهم - بالجسم - عند بيان حكم الانفعال بالملاقاة ليس لبيان موضوعية الجسم بما هو جسم ، بل لبيان ان حكم الانفعال بالملاقاة عام لكل شيء هو قابل للملاقاة والانفعال ، فذكروا الجنس العام لهذه الامور .

ص: 292

وبتقرير آخر : الحكم ثابتٌ لاشخاص الجسم ، فلا ينافي ثبوته لكلّ واحد منها من حيث نوعه أو صنفه المتقوّم به عند الملاقاة .

فقولهم : « كلّ جسم لاقى نجسا فهو نجسٌ » ، لبيان حدوث النجاسة في الجسم بسبب الملاقاة ، من غير تعرّض للمحل الذي يتقوّم به ، كما اذا قال القائل : « إنّ كلّ جسم له خاصيّة وتأثير » مع كون الخواص والتأثيرات من عوارض الأنواع .

-------------------

( وبتقرير آخر : الحكم ثابت لاشخاص الجسم ) وأفراده لا لكلي الجسم ومفهومه ، وذلك لأن الحكم يحمل على الجسم تارة لبيان مفهوم الجسم كما اذا قلنا : الجسم هو ما يقبل الأبعاد الثلاثة : وتارة لبيان شمول الحكم لافراد الجسم كما اذا قلنا : كل جسم لاقى النجس يتنجس ، فاذا كان لبيان شمول الحكم لاشخاص الجسم وافراده ( فلا ينافي ) ثبوت الحكم للاشخاص ( ثبوته لكلّ واحد منها من حيث نوعه ) اي : نوع ذلك الشخص كالسؤال من الاجسام ( أو صنفه ) اي : صنف ذلك الشخص كالماء من الاجسام السائلة ( المتقوّم ) ذلك الحكم ( به ) اي : بذلك النوع او الصنف ( عند الملاقاة ) بالنجس ، فالحكم بالنجاسة إنّما هو على النوع او الصنف ، لا على الجسم بما هو جسم .

إذن : ( فقولهم : «كلّ جسم لاقى نجسا فهو نجسٌ» ، لبيان حدوث النجاسة في الجسم بسبب الملاقاة ، من غير تعرّض للمحل الذي يتقوّم به ) الحكم وانه هل هو الصورة الجنسية او الصورة النوعية - مثلاً - ؟ وذلك ( كما اذا قال القائل : «إنّ كلّ جسم له خاصيّة وتأثير» ) معيّن ( مع كون الخواص والتأثيرات من عوارض الأنواع ) لا الأجناس فقولهم : كل جسم له خاصية ، واضح بأنّه لا يراد به كون الخاصية للجسم بما هو جسم .

ص: 293

وإن أبيتَ إلاّ عن ظهور معقد الاجماع في تقوّم النجاسة بالجسم ، فنقول لا شك أنّ مستند هذا العموم هي الأدلة الخاصة الواردة في الاشخاص الخاصة ، مثل : الثوب والبدن والماء ، وغير ذلك .

فاستنباط القضيّة الكليّة المذكورة منها ليس إلاّ من حيث عنوان حدوث النجاسة ، لا ما تقوّم به ، وإلاّ فاللازم إناطة

-------------------

( وإن أبيتَ إلاّ عن ظهور معقد الاجماع في تقوّم النجاسة بالجسم ) فلا يكون للصورة النوعية او ما اشبه مدخلاً في النجاسة .

( فنقول ) : لا نتمكن ان نأخذ بهذا الظهور ، لان اجماعهم قد انعقد من الادلة الخاصة ، فاللازم مراجعة الادلة الخاصة فانه ( لا شك أنّ مستند هذا العموم ) في قولهم : « كل جسم لاقى نجسا تنجس » ( هي الأدلة الخاصة الواردة في الاشخاص الخاصة ، مثل : الثوب والبدن والماء ، وغير ذلك ) ممّا في الروايات : من ان الثوب يتنجس بالملاقاة مع النجس ، والبدن يتنجس بذلك ، والماء يتنجس به ، وهكذا ( فاستنباط ) الفقهاء ( القضيّة الكليّة المذكورة منها ) اي : من هذه الموارد الخاصة ( ليس إلاّ من حيث عنوان حدوث النجاسة ، لا ما تقوّم به ) النجاسة .

إذن : فهنا حيثيتان : حيثية عنوان حدوث النجاسة ، وحيثية عنوان ما يتقوّم به النجاسة والجسم في معقد اجماعهم هو عنوان لحدوث النجاسة ، وليس عنوانا لما يتقوّم به النجاسة حتى اذا بقي الجسم بقيت النجاسة وان ذهب العنوان الخاص كعنوان الثوبية والبدنية والمائية بالاستحالة الى الرماد او التراب او البُخار - مثلاً - .

( وإلاّ ) بان لم تكن القضية الكلية المستنبطة من الموارد الخاصة مستنبطة من حيثية عنوان حدوث النجاسة ، بل من حيثية عنوان ما يتقوّم به ( فاللازم إناطة

ص: 294

النجاسة في كلّ مورد بالعنوان المذكور في دليله .

ودعوى : « أنّ ثبوت الحكم لكلّ عنوان خاصّ من حيث كونه جسما » ، ليس بأولى من دعوى : كون التعبير بالجسم في القضية العامّة من حيث عموم ما يحدث فيه النجاسة بالملاقاة ، لا من حيث تقوُّم النجاسة بالجسم .

-------------------

النجاسة في كلّ مورد بالعنوان المذكور في دليله ) بأن يقولوا : الثوب يتنجّس بملاقاة كذا والبدن يتنجّس بملاقاة كذا ، والماء يتنجّس بملاقاة كذا ، وهكذا سائر العناوين الواردة في النصوص ، فحيث لم يقولوا ذلك ظهر : انهم ارادوا من قولهم : « كلّ جسم يتنجّس بالملاقاة » استنباط قضية كلية ، لا أن الجسم بما هو جسم يتنجّس حتى يستصحب بعد الرمادية وما اشبه ذلك .

( و ) ان قلت : كما انكم تصرّفتم في قول الفقهاء : « كل جسم يتنجّس بالملاقاة » ، فقلتم : المراد به : العناوين الخاصة لا الجسم ، يمكن ان نتصرّف في الادلة الخاصة الواردة في الروايات فنقول قولهم عليهم السلام : الثوب يتنجّس بكذا ، والبدن يتنجّس بكذا ، والماء يتنجّس بكذا ، وهكذا ليس المقصود منه ان الثوب بما هو ثوب والبدن بما هو بدن ، والماء بما هو ماء يتنجّس ، بل مقصود الروايات انه بما هو جسم يتنجّس .

قلت : التصّرف في الادلة الخاصة ب ( دعوى : «أنّ ثبوت الحكم لكلّ عنوان خاص ) في الروايات إنّما هو ( من حيث كونه جسما» ) لا من حيث كونه ثوبا - مثلاً - هذا التصرّف ( ليس بأولى من ) التصرّف في معقد الاجماع المستنبط من هذه الادلة ب ( دعوى : كون التعبير بالجسم في القضية العامة ) : «كل جسم لاقى نجسا تنجّس» إنّما هو ( من حيث ) بيان ( عموم ما يحدث فيه النجاسة بالملاقاة ، لا من حيث تقوُّم النجاسة بالجسم ) بما هو جسم ، فان التصرّف في ما قاله الفقهاء

ص: 295

نعم ، الفرق بين المتنجّس والنجس أنّ الموضوع في النجس معلوم الانتفاء في ظاهر الدليل وفي المتنجّس محتمل البقاء .

ولكنّ هذا المقدار لا يوجب الفرق بعدما تبيّن أنّ العرف هو المحكّم في موضوع الاستصحاب .

أرأيت أنّه لو حكم على الحنطة أو العنب بالحلّية أو الحرمة

-------------------

هو الاولى عرفا من التصرف في الادلة الخاصة .

( نعم ، الفرق بين المتنجّس والنجس ) فيما اذا تحوّل الى شيء آخر ، كما اذا تحوّل الكلب ملحا ، والخشبة المتنجّسة رمادا هو : ( أنّ الموضوع في النجس معلوم الانتفاء في ظاهر الدليل ) القائل - مثلاً - : الكلب نجس ، لوضوح : ان الملح ليس بكلب ، فلا يستصحب . ( وفي المتنجّس محتمل البقاء ) للاجماع القائم على : ان كل جسم لاقى نجسا تنجّس ، فيحتمل ان يكون الموضوع هو الجسم ، ومن الواضح : ان الجسم باقٍ بعد استحالة الخشبة رمادا فيستصحب .

( ولكنّ هذا المقدار ) من الفرق بين النجس والمتنجّس ( لا يوجب الفرق ) بينهما من حيث الاستصحاب وعدمه بعد استحالتهم او ذلك خصوصا ( بعدما تبيّن أنّ العرف هو المحكّم في موضوع الاستصحاب ) والعرف لا يرون بقاء الموضوع في كل منهما واذا انتفى الموضوع العرفي في كل من النجس والمتنجّس ، فلا مجال لاستصحاب النجاسة في شيء منهما .

( أرأيت ) وهذا لبيان ان العرف إنّما يجري الاستصحاب اذا رأى وحدة الموضوع ، وهو لا يجري الاستصحاب اذا رأى تبدّل الموضوع وتعدّده ، فاما مثال وحدة الموضوع فهو : ( أنّه لو حكم على الحنطة أو العنب بالحلّية أو الحرمة

ص: 296

أو النجاسة أو الطهارة ، هل يتأمّل العرف في إجراء تلك الاحكام على الدقيق والزبيب .

كما لا يتأمّلون في عدم جريان الاستصحاب في استحالة الخشب دخانا والماء المتنجّس بولاً لمأكول اللحم ، خصوصا اذا اطّلعوا على زوال النجاسة بالاستحالة .

كما أنّ العلماء لم يفرّقوا أيضا في الاستحالة بين النجس والمتنجّس ، كما لا يخفى على المتتبّع .

-------------------

أو النجاسة أو الطهارة ، هل يتأمّل العرف في إجراء تلك الاحكام على الدقيق والزبيب ) ؟ كلا ، لأن العرف حيث يرون الموضوع واحدا لا يتأملون في جريان احكام الحنطة والعنب على الدقيق والزبيب فيهما .

وأمّا مثال تبدّل الموضوع وتعدّده ، فهو : ما اشار اليه بقوله : ( كما لا يتأمّلون في عدم جريان الاستصحاب ) لتبدّل الموضوع في نظرهم ( في استحالة الخشب ) المتنجّس ( دخانا ) او رمادا او ما اشبه ذلك ( والماء المتنجّس بولاً لمأكول اللحم ) بعد سقيه له ، او ثمرا للاشجار بعد سقيه لها ، او ما اشبه ذلك .

( خصوصا اذا اطّلعوا على زوال النجاسة بالاستحالة ) اي : باستحالة الاعيان النجسة ، فانهم اذا علموا ان استحالة الأعيان النجسة كاستحالة الكلب - مثلاً - الى الملح يوجب طهارته ، لا يشكون بسبب تنقيح المناط في طهارة الخشب المتنجّس اذا استحال رمادا بطريق اولى .

( كما أنّ العلماء لم يفرّقوا أيضا في الاستحالة بين النجس والمتنجّس ، كما لا يخفى على المتتبع ) فان من تتبع كلام العلماء وتصفّح كتبهم رأى ان المشهور منهم قالوا : بأن الاستحالة توجب الطهارة سواء كانت الاستحالة من النجس

ص: 297

بل جعل بعضهم الاستحالة مطهّرة للمتنجّس بالأولويّة القطعيّة حتى تمسّك بها في المقام من لا يقول بحجيّة مطلق الظنّ .

ومّما ذكرنا يظهر وجه النظر فيما ذكره جماعة ، تبعا للفاضل الهندي قدس سره من أنّ الحكم في المتنجّسات ليس دائرا مدار الاسم ، حتى يطهّر بالاستحالة رمادا .

-------------------

الى شيء آخر ، ام من المتنجس الى شيء آخر .

( بل جعل بعضهم الاستحالة مطهّرة للمتنجّس بالأولويّة القطعيّة ) فان عين النجس اذا طهر بالاستحالة طهر المتنجّس بطريق أولى ( حتى تمسّك بها ) اي : بهذه الأولوية ( في المقام ) صاحب المعالم وهو ( من لا يقول بحجيّة مطلق الظنّ ) ممّا يدل على ان الاولوية هنا قطعية ، فان صاحب المعالم تمسك في مسألتنا بالأولوية ، لأنّ الأولوية أمر عرفي مع انه لا يقول بالظن المطلق ، ولا بالظن الخاص في المقام ، أمّا الظن المطلق ، فلأن الانسداد ليس عنده بحجة ، وامّا الظن الخاص ، فلأنه لا دليل في المقام على طهارة الخشب المتنجّس اذا استحال رمادا - مثلاً - فيدل على ان الاولية عنده قطعية .

( ومّما ذكرنا ) : من ان النجاسة دائرة مدار الأسم في العرف بلا فرق بين النجس والمتنجّس ، فاذا استحال لا يبقى الاسم ، فلا تبقى النجاسة ( يظهر وجه النظر فيما ذكره جماعة تبعا للفاضل الهندي قدس سره من أنّ الحكم في المتنجّسات ) كالخشبة المتنجّسة - مثلاً - ثابت للجسم بما هو جسم ، والجسم موجود في كلا الحالين حال الخشبية وحال الرمادية وانه ( ليس دائرا مدار الاسم ) اي : اسم كونه خشبا - مثلاً - ( حتى يطهّر بالاستحالة رمادا ) .

ص: 298

فالتحقيق : أنّ مراتب تغيّر الصورة في الاجسام مختلفة بل الاحكام أيضا مختلفة ، ففي بعض مراتب التغيّر يحكم العرف بجريان دليل العنوان من غير حاجة الى الاستصحاب .

وفي بعض آخر ، لا يحكمون بذلك ويثبتون الحكم

-------------------

وعليه : ( فالتحقيق ) بعدما عرفت : من ان الموضوع العرفي باق في مكان ، وليس بباق في مكان آخر ، يعلم ( أنّ مراتب تغيّر الصورة في الاجسام مختلفة ) حيث ان التغيّر في بعضها يوجب انتفاء الموضوع كالخشب والرماد ، وفي بعضها لا يوجب انتفاء الموضوع كالعنب والزبيب .

( بل الاحكام أيضا مختلفة ) في نفسها حيث ان بعض الاحكام يدور مدار الاسم وبعضها لا يدور مدار الاسم وان كان الموضوع واحدا ، فالحنطة - مثلاً - موضوع واحد ، لكنه اذا نذر ان يعطي منّا من الحنطة للفقير لا يبرّ نذره بأعطائه الخبز اوالدقيق بينما نفس الحنطة لو كانت ملكا لانسان لا يزول ملكه عنها بتحولها الى الدقيق ونحوه .

وعليه : ( ففي بعض مراتب التغيّر يحكم العرف بجريان دليل العنوان من غير حاجة الى الاستصحاب ) وذلك لأنّ العرف يرى هذا هو ذاك ، كما ذكرنا ذلك فيما سبق من مثال الملكية في الحنطة والدقيق ، فانه لا يستصحب الملكية الى الدقيق ، وذلك لانّ العرف يرى ان الحنطة والدقيق في الملكية واحد ، وكذا فيما اذا تنجست الحنطة ، فان الدقيق ايضا حسب النظر العرفي هو الموضوع الاول ، فهو نجس بدليل نجاسة الحنطة ، لا بالاستصحاب .

( وفي بعض آخر ، لا يحكمون بذلك ) اي : لا يحكمون بجريان دليل العنوان بلا استصحاب ، وذلك لان الموضوع عندهم قد تغيّر ( و ) إنّما ( يثبتون الحكم

ص: 299

بالاستصحاب .

وفي ثالث : لا يُجرون الاستصحاب أيضا من غير فرق في حكم النجاسة بين النجس والمتنجّس .

فمن الأوّل : ما لو حكم على الرطب أو العنب بالحلّية أو الطهارة أو النجاسة ، فانّ الظاهر : جريان عموم أدلّة هذه الأحكام للتمر والزبيب ، فكأنّهم يفهمون من الرطب والعنب الأعمّ مّما جفّ منهما فصار تمرا أو زبيبا .

مع أنّ الظاهر تغاير الاسمين ،

-------------------

بالاستصحاب ) لشكهم في بقاء الحكم وعدم بقاء الحكم بعد علمهم ببقاء الموضوع .

( وفي ثالث : لا يُجرون الاستصحاب أيضا ) لأنّهم يرون ان الموضوع غير باق، كما عرفت من مثال الخشب والرماد ، وذلك ( من غير فرق في حكم النجاسة بين النجس والمتنجّس ) في كل تلك المراتب الثلاث ، فانه قد يكون الحكم على ما عرفت باقيا بنفسه ، وقد يكون باقيا بالاستصحاب ، وقد لا يكون باقيا .

( فمن الأوّل ) : وهو ما ذكره بقوله : «ففي بعض مراتب التغيّر يحكم العرف بجريان دليل العنوان من غير حاجة الى الاستصحاب» ( ما لو حكم على الرطب أو العنب بالحلّية أو الطهارة أو النجاسة ) او الحرمة ( فانّ الظاهر : جريان عموم أدلّة هذه الأحكام للتمر والزبيب ) ايضا من غير حاجة الى الاستصحاب ، وذلك لوحدة موضوعهما بنظرهم ( فكأنّهم ) اي : العرف ( يفهمون من الرطب والعنب الأعمّ مّما جفّ منهما فصار تمرا أو زبيبا ) .

هذا ( مع أنّ الظاهر ) عند العرف ( تغاير الاسمين ) حتى عدّوا اطلاق احدهما

ص: 300

ولهذا لو حلف على ترك أحدهما لم يحنَث بأكل الآخر .

والظاهر : أنّهم لا يحتاجون في إجراء الاحكام المذكورة الى الاستصحاب .

ومن الثاني : إجراءُ حكم بول غير المأكول اذا صار بولاً لمأكول ، وبالعكس ، وكذا صيرورة الخمر خَلاً ، وصيرورة الكلب أو الانسان جمادا بالموت ،

-------------------

مكان الآخر مجازا ، فاذا قال المولى لعبده - مثلاً - : اشتر العنب لا يشتري الزبيب ، وكذلك العكس ، او قال له : اشتر الرطب لا يشتري التمر ، وكذا العكس ( ولهذا لو حلف على ترك أحدهما لم يحنَث بأكل الآخر ) اللّهم الاّ اذا كان مرتكز ذهنه الأعم منه ، ( و ) لكن مع كل ذلك فان ( الظاهر : أنّهم لا يحتاجون في إجراء الاحكام المذكورة ) التي يجرونها من العنب الى الزبيب ، ومن الرطب الى التمر ( الى الاستصحاب ) بل يرون ان حكم العنب هو حكم الزبيب ، وهكذا .

( ومن الثاني ) : وهو ما يحتاج اثبات الحكم في الحالة الثانية الى الاستصحاب ( إجراءُ حكم بول غير المأكول اذا صار بولاً لمأكول ، وبالعكس ) وذلك للشك في جريان دليل العنوان الاول للتغيّر الحاصل في الحال الثاني ، فيحتاج لاثباته الى الاستصحاب .

( وكذا صيرورة الخمر خَلاً ) والخل خمرا - مثلاً - فانه بحاجة الى الاستصحاب لاثبات دليل العنوان الاول في الحال الثاني .

( و ) هكذا ( صيرورة الكلب أو الانسان جمادا بالموت ) وقال : صيرورتهما جمادا بالموت مقابل استحالتهما الى التراب والملح ونحوهما ، لأنّه بالاستحالة يرى العرف انتفاء الموضوع ، بينما لا يرى العرف ذلك بمجرد الموت ، غير انه

ص: 301

إلاّ أنّ الشارع حكم في بعض هذه الموارد بارتفاع الحكم السابق ، إمّا للنص الخاص كما في الخمر ، وإمّا لعموم ما دلّ على حكم المنتقل اليه ، فانّ الظاهر أنّ استفادة طهارة المستحال اليه اذا كان بولاً لمأكول ، ليس من أصالة الطهارة بعد عدم جريان الاستصحاب ، بل هو من الدليل ، نظير استفادة نجاسة بول المأكول إذا صار بولاً لغير مأكول .

-------------------

يشك في جريان دليل عنوانيهما ، فيثبته لهما بالاستصحاب ، وذلك بعد رؤيته بقاء الموضوع في الامثلة الثلاثة المذكورة رغم التغيّر الحاصل فيها .

( إلاّ أنّ ) مراجعة الأدلة الشرعية قد لا تسمح باجراء الاستصحاب ، وذلك لأن ( الشارع حكم في بعض هذه الموارد بارتفاع الحكم السابق ، إمّا للنص الخاص كما في الخمر ) الذي انقلب خلاً .

( وإمّا لعموم ما دلّ ) اي : للدليل العام الدال ( على حكم المنتقل اليه ) فان العرف حيث يرى موضوعا جديدا بسبب الاستحالة ان يرى هذا الموضوع الجديد داخل في حكم هذا العموم الجديد ، مثل عموم نجاسة الميتة او الخمر بعد انتفاء موضوع الانسان او الخل باستحالة الانسان ميتةً والخمر خلاً .

وعليه : ( فانّ الظاهر ) من انتفاء الموضوع العرفي بالاستحالة هو : ( أنّ استفادة طهارة المستحال اليه اذا كان بولاً لمأكول ، ليس من أصالة الطهارة بعد عدم جريان الاستصحاب ) فان الاستصحاب لا يجري لانتفاء الموضوع العرفي بالاستحالة ( بل هو من الدليل ) الدال على طهارة بول الحيوان المأكول اللحم ، فهو ( نظير استفادة نجاسة بول المأكول ) اللحم الذي هو طاهر ( إذا صار بولاً لغير مأكول ) اللحم ، وذلك كما اذا اشرب الكلب بول الشاة فصار بولاً للكلب ، حيث انه خرج عن الموضوع الاول الطاهر ، ودخل في الموضوع الثاني النجس .

ص: 302

ومن الثالث : إستحالة العذرة أو الدهن المتنجس دخانا، والمنيّ حيوانا.

ولو نوقش في بعض الأمثلة المذكورة ، فالمثال غير عزيز على المتتبّع المتأمّل .

-------------------

ومنه يعلم : حال ما اذا اُخذ جزء من انسان او حيوان ووصل بانسان او حيوان آخر ، وكان أحدهما طاهرا كالمسلم والشاة ، والآخر نجسا كالكافر والكلب ، فإنّ النجاسة والطهارة فيهما تابعتان للحيوان او الانسان المنتقل اليه ، وكذلك في الحل والحرمة اذا صار ذلك الجزء جزءا من الحلال او الحرام ، فان ذلك مثل : البول الذي يتحول من الحرام الى الحلال ، او الحلال الى الحرام ، ومن الطاهر الى النجس ، ومن النجس الى الطاهر (1) .

( ومن الثالث ) وهو الذي لا يُجري العرف فيه الاستصحاب ايضا لانه لا يحكم بجريان دليل العنوان الاول فيه لتبدّل الموضوع ( إستحالة العذرة أو الدهن المتنجس دخانا ، والمنيّ حيوانا ) والكلب ملحا ، وغير ذلك من الامثلة التي يرى العرف تبدل الموضوع فيها ، فلا يجري فيها الاستصحاب لذلك .

هذا ( ولو نوقش في بعض الأمثلة المذكورة ) وانه هل هو من القسم الاول او الثاني او الثالث ؟ ( فالمثال غير عزيز على المتتبّع المتأمّل ) فان مقصودنا هنا هو : تقسيم الموضوع بعد الاستحالة بغيره الى الأقسام الثلاثة ، وليس مقصودنا خصوصية الأمثلة المذكورة .

كما انه لو شُك في تحقق الاستحالة وعدمه ، يُستصحب الحكم السابق ، فاذا امتصّ البعوض دم الانسان - مثلاً - وقبل انفصاله وطيرانه قتله في مكان ، حيث يُشك في انه هل استحال دمه الى دمه ام لا ؟ فتُستصحب النجاسة .

ص: 303


1- - وقد تطرّق الامام الشارح الى أشباه هذه المسائل في كتابه « المسائل المتجددة» .

ومّما ذكرنا يظهر : أنّ معنى قولهم : « الأحكام تدور مدار الأسماء » : أنّها تدور مدار أسماء موضوعاتها التي هي المعيار في وجودها وعدمها .

فاذا قال الشارع : « العنب حلال » ، فان ثبت كون الموضوع هو مسمّى هذا الاسم دار الحكم مدارَه ، فينتفي عند صيرورته زبيبا .

أمّا اذا علم من العرف أو غيره أنّ الموضوع هو الكلّي الموجود في العنب المشترك بينه وبين الزبيب أو بينهما وبين العصير دار الحكم مداره أيضا .

-------------------

( ومّما ذكرنا ) من تحكيم العرف في موضوع الاستصحاب بعد الاستحالة واختلاف رؤيته له ، وتقسيم مراتبه الى ثلاثة اقسام ( يظهر : أنّ معنى قولهم : «الأحكام تدور مدار الأسماء» : أنّها تدور مدار أسماء موضوعاتها ) العرفية ( التي هي المعيار في وجودها ) اي : وجود تلك الاحكام ( وعدمها ) اي : عدم تلك الاحكام فليس المراد دورانها مدار الاسماء المذكورة في لسان الدليل ، او الاسماء بالدقة العقلية ، وإنّما المراد : العرفية على ما عرفت .

وعليه : ( فاذا قال الشارع : « العنب حلال » ، فان ثبت كون الموضوع هو مسمّى هذا الاسم ) كالمسمّى بالعنب بما هو عنب مثلاً ( دار الحكم مدارَه ) اي : مدار الاسم ( فينتفي عند صيرورته زبيبا ) لاّن الزبيب ليس بعنب ، كما ذكرنا في مثال النذر .

( أمّا اذا علم من العرف أو غيره ) كابلاغ الشارع بسبب اجماع او شبهه : ( أنّ الموضوع هو الكلّي الموجود في العنب ) اي : الجنس ( المشترك بينه ) اي : بين العنب ( وبين الزبيب ) فقط ، بدون التعدّي الى العصير ( أو بينهما وبين العصير ) أيضا ، او بينها وبين مسحوقه بعد اليبس ( دار الحكم مداره أيضا ) فينتفي عند

ص: 304

نعم ، يبقى دعوى : « أنّ ظاهر اللفظ في مثل القضيّة المذكورة كون الموضوع هو العنوان ، وتقوّم الحكم به المستلزم لانتفائه بانتفائه .

لكنّك عرفت : أنّ العناوين مختلفة ، والأحكام أيضا مختلفة .

وقد تقدّم حكاية بقاء نجاسة الخنزير المستحيل ملحا عن أكثر أهل العلم واختيار الفاضلين له .

-------------------

انتفاء هذا القدر المشترك ، كما اذا صار دخانا او خلاً او رمادا او ترابا .

( نعم ، يبقى دعوى : «أنّ ظاهر اللفظ في مثل القضيّة المذكورة ) التي ذكرها الشارع بقوله : العنب حلال ( كون الموضوع هو العنوان ، وتقوّم الحكم به ) اي : بهذا العنوان الذي ورد في النص ( المستلزم لانتفائه ) اي : انتفاء الموضوع ( بانتفائه ) اي : بانتفاء العنوان ومعه ينتفي الحكم فلا استصحاب .

ان قيل ذلك قلت : ( لكنّك عرفت : أنّ العناوين مختلفة ، والأحكام أيضا مختلفة ) فربّ عنوان يُعمّمه العرف فيجري في المنتقل اليه نفسه الحكم الاول بلا حاجة الى الاستصحاب ، ورب ، عنوان لا يُعمّمه العرف فيحتاج فيه الى الاستصحاب ، ورب عنوان يرى العرف ان لا استصحاب فيه ايضا لانتفاء الموضوع عنده بانتفاء عنوانه ، وقد عرفت سابقا مثال اختلاف الاحكام عند قول المصنّف قبل عدة صفحات : «بل الاحكام ايضا مختلفة» .

هذا ( وقد تقدّم حكاية بقاء نجاسة الخنزير المستحيل ملحا عن أكثر أهل العلم واختيار الفاضلين له ) اي : لبقاء النجاسة في الخنزير المستحيل الى الملح ، ولكنك كما عرفت : ان المتقدّم كان هو نجاسة الكلب المستحيل ملحا لا الخنزير فلعل جعل الخنزير مكانه من اشتباه النسّاخ ، او ان الخنزير كان مذكورا ايضا في الكلام المتقدّم لكن اُسقط منه سهوا .

ص: 305

ودعوى « احتياج استفادة غير ما ذكر من ظاهر اللفظ الى القرينة الخارجيّة ، وإلاّ فظاهر اللفظ كون القضية ما دام الوصف العنواني » ، لا يضرُّنا فيما نحن بصدده ، لأن المقصود مراعاة العرف في تشخيص الموضوع ، وعدم الاقتصار في ذلك على ما يقتضيه العقل على وجه الدقّة ولا على ما يقتضيه الدليل اللفظي ، اذا كان العرف بالنسبة الى القضية الخاصة على خلافه .

-------------------

( و ) كيف كان : فان قلت : ان ما ذكرته وان كان تاما ، لكنه محتاج الى قرينة خارجية ، والاّ فظاهر اللفظ هو إناطة الحكم بالموضوع الظاهر في الوصف العنواني .

قلت : ( دعوى «احتياج استفادة غير ما ذكر من ظاهر اللفظ الى القرينة الخارجيّة ) لتدل تلك القرينة الخارجية من عقل او نقل ، في لفظ او خارج لفظ على خلاف ظاهره ( وإلاّ فظاهر اللفظ ) هو : ( كون القضية ما دام الوصف العنواني» ) فيدور الحكم مدار العنوان هذا الادّعاء ( لا يضرُّنا فيما نحن بصدده ) الآن من بيان كون المعيار هو الفهم العرفي .

وإنّما لا يضرّنا هذا الادعاء ( لأن المقصود ) هنا كما عرفت هو : ( مراعاة العرف في تشخيص الموضوع ، وعدم الاقتصار في ذلك على ما يقتضيه العقل على وجه الدقّة ) لأنّ الشارع انمّا يتكلم على مقتضى العرف .

( ولا ) الاقتصار ( على ما يقتضيه الدليل اللفظي ، اذا كان العرف بالنسبة الى القضية الخاصة ) وفي مورد خاص من موارد كلام الشارع ( على خلافه ) اي : على خلاف الدليل اللفظي .

إذن : فالمتبع هو فهم العرف ، لا اللفظ ، ولا الدقة العقلية .

ص: 306

وحينئذٍ : فيستقيم أن يراد من قولهم : « إنّ الأحكامَ تدور مدار الأسماء » : أنّ مقتضى ظاهر دليل الحكم تبعية ذلك الحكم لاسم الموضوع الذي علّق عليه الحكم في ظاهر الدليل ، فيراد من هذه القضية تأسيس أصل قد يُعدل عنه بقرينة فهم العرف أو غيره ، فافهم .

-------------------

وعليه : فاذا قال المولى : اقطع لسانه فيمن يطلب من المولى معونة ، او اقطع رجله فيمن يزاحم المولى بمجيئه كل يوم اليه ، او اقطع يده فيمن يتصرّف في اموال المولى بما لا ينبغي ، يفهم العرف : ان المولى يريد ان يقول لعبده : إعطه شيئا حتى لايطلب ، او إنصحه بأن لا يأتي الى المولى كل يوم ، أو عِظْهُ بأن لا يتصرف في اموال المولى ، الى غير ذلك من امثال هذه الأمثلة .

( وحينئذ ) اي : حين قلنا : بأن اللفظ هو المعيار ، لكن حسب فهم العرف ( فيستقيم أن يراد من قولهم : «إنّ الأحكام تدور مدار الأسماء» : أنّ مقتضى ظاهر دليل الحكم ) لو لم يقم دليل خارجي من عقل او نقل في لفظ او خارج لفظ على خلافه ، هو : ( تبعية ذلك الحكم لاسم الموضوع الذي علّق عليه الحكم في ظاهر الدليل ) فتكون الاحكام دائرة مدار الأسماء حسب فهم العرف ، لا الأسماء حسب الفهم اللغوي الجاف .

وعليه : ( فيراد من هذه القضية ) اي : قضية كون الحكم يدور مدار اسماء موضوعاتها هو : ( تأسيس أصل قد يُعدل عنه بقرينة فهم العرف أو غيره ) اي : غير العرف كإخبار الشارع بنفسه ، فاذا اخبر الشارع ، أو فهم العرف من العنب ما يعم الزبيب ، ومن الرطب ما يعم التمر، ومن الحنطة ما يعم الدقيق ، فالحكم يدور مدار اللفظ لكن بضميمة فهم العرف أو إخبار الشارع نفسه .

( فافهم ) ولعله اشارة الى ان المعيار هو : فهم العرف من اللفظ ، لا ان اللفظ

ص: 307

الأمر الثاني :

مّما يعتبر في تحقّق الاستصحاب أن يكون في حال الشك متيقّنا بوجود المستصحب في السابق ، حتى يكون شكّه في البقاء .

فلو كان الشك في تحقّق نفس ما تيقّنه سابقا - كأن تيقّن عدالة زيد في زمان كيوم الجمعة - مثلاً - ثم شك في نفس هذا المتيقّن ، وهو عدالة زيد يوم الجمعة ، بأن زال مدرك اعتقاده السابق فشك في مطابقته للواقع ، أو كونه جهلاً

-------------------

هو المعيار باستثناء ما اذا فهم العرف غيره ، وحينئذ فلا يتم ما قاله المصنِّف : «فيراد من هذه القضية تأسيس أصل قد يُعدل عنه بقرينة فهم العرف» .

هذا كله تمام الكلام في الأمر الاول من خاتمة الاستصحاب ، وكان في بيان اشتراط بقاء الموضوع في الزمان الثاني وهو زمان الاستصحاب .

( الأمر الثاني ) : في بيان ان روايات الاستصحاب لا تشمل قاعدة اليقين ، وذلك لأنّ ( مّما يعتبر في تحقّق ) مفهوم ( الاستصحاب ) الثابت بالأخبار هو : ( أن يكون في حال الشك متيقّنا بوجود المستصحب ) اي : المتيقن ( في السابق ، حتى يكون شكّه في البقاء ) فقط ، لا في نفس المتيقّن حال تيقنه به .

وعليه : ( فلو كان الشك في تحقّق نفس ما تيقّنه سابقا ) وذلك ، ( كأن تيقّن عدالة زيد في زمان كيوم الجمعة - مثلاً - ثم شك في نفس هذا المتيقّن ، وهو عدالة زيد يوم الجمعة ، بأن ) شك يوم السبت في ان يقينه بعدالة زيد في يوم الجمعة هل كان صحيحا ، أو لم يكن صحيحا ؟ لاستناده - مثلاً - الى قول من لا يوجب اليقين ولذلك ( زال مدرك اعتقاده السابق ) ، الذي اعتقد بسببه عدالة زيد يوم الجمعة ( فشك في مطابقته ) اي : مطابقة اعتقاده السابق ( للواقع ، أو كونه جهلاً

ص: 308

مركّبا - لم يكن هذا من مورد الاستصحاب لغةً ، ولا اصطلاحا .

أمّا الأوّل : فلأنّ الاستصحاب لغةً : أخذ الشيء مصاحبا ، فلابدّ من إحراز ذلك حتى يأخذه مصاحبا ، فاذا شك في حدوثه من أصله فلا استصحاب .

-------------------

مركّبا ) لا واقع له في ذلك الحين ؟ .

إذن : فلو شك في مورد بأن يقينه السابق كان مطابقا للواقع ام لا ، وذلك بان سرى الشك الى نفس اليقين ( لم يكن هذا ) المورد المسمّى بالشك الساري والمعروف بقاعدة اليقين ( من مورد الاستصحاب لغةً ، ولا اصطلاحا ) وانمّا هو مورد لقاعدة اليقين ، ولا ربط له بالاستصحاب .

( أمّا الأوّل ) : وهو انه ليس من مورد الاستصحاب لغة ( فلأنّ الاستصحاب لغةً : أخذ الشيء مصاحبا ، فلابدّ من إحراز ذلك ) الشيء أوّلاً في مكانه ، كاحراز العدالة لزيد في يوم الجمعة اولاً ( حتى يأخذه مصاحبا ) معه ثانيا في يوم السبت عند الشك فيه .

وعليه : ( فاذا شك في حدوثه ) اي : حدوث الشيء وهو - مثلاً - عدالة زيد يوم الجمعة ( من أصله ) لا في بقائه الى يوم السبت بعد تسليم اصله ( فلا استصحاب ) لانه لا يقين سابق حتى يستصحب ، فانّ اليقين السابق قد تزلزل بعد سراية الشك اليه .

أقول : الاستصحاب لغة من باب الاستفعال ، وهو طلبٌ - كما قالوا - فالاستصحاب لغة معناه : طلب الصحبة ، وإنّما قيل للاستصحاب الاصطلاحي : استصحابا ، لان المستصحب لا يعلم هل صحبه ذلك واقعا او لم يصحبه ؟ فهو يطلب صحبة طهارته السابقة ، ومعنى طلب الصحبة : ترتيب الآثار .

ص: 309

وأمّا إصطلاحا : فلانّهم اتفقوا على أخذ الشك في البقاء أو ما يؤدّي هذا المعنى في معنى الاستصحاب .

نعم ، لو ثبت أنّ الشك بعد اليقين بهذا المعنى ملغىً في نظر الشارع ، فهي قاعدة اُخرى مباينة للاستصحاب ، سنتكلّم فيها ، بعد دفع توهّم

-------------------

( وأمّا ) الثاني : وهو انه ليس من مورد الاستصحاب ( إصطلاحا : فلانّهم اتفقوا على أخذ الشك في البقاء ) ولذلك قالوا : يقين سابق وشك لاحق ( أو ما يؤدّي هذا المعنى ) مثل تعريفهم له : بانه ابقاء ما كان ، او ابقاء ما كان على ما كان ، فالشك إذن ( في معنى الاستصحاب ) مأخوذ في البقاء لا في الحدث ، فاذا سرى الشك الى يوم الجمعة في المثال المتقدّم لم يكن الشك في البقاء ، وإنّما كان الشك في الحدوث .

( نعم ، لو ثبت أنّ الشك بعد اليقين بهذا المعنى ) اي : بمعنى قاعدة اليقين والشك الساري ، كالشك بعد اليقين بمعنى الاستصحاب والشك الطاري ، ( ملغىً في نظر الشارع ) يعني : كما ان الشارع لا يعتني بالشك الطاريء على اليقين المسمّى بقاعدة الاستصحاب ، كذلك كان لا يعتني بالشك الساري الى نفس اليقين المسمّى بقاعدة اليقين ، وذلك بان قال - مثلاً - : لو تُيقّن عدالة زيد يوم الجمعة ثم شك يوم السبت في نفس اليقين وانه هل كان اليقين في وقته صحيحا ام لا ؟ فلا يُعتنى بهذا الشك ، بل يحكم بعدالة زيد حينه ، اذا كان كذلك ، فهذه قاعدة ثانية غير الاستصحاب .

وعليه : فاذا اثبت الغاء الشارع هذا الشك ايضا ( فهي قاعدة اُخرى ) تسمّى بقاعدة اليقين ، كما تسمّى بالشك الساري ، وهي ( مباينة ) كليا ( للاستصحاب ) .

هذا ولا يخفى : انا ( سنتكلّم فيها ) اي : في قاعدة اليقين ( بعد دفع توهّم

ص: 310

من توهّم أنّ أدلة الاستصحاب يشملها وأنّ مدلولها لا يختص بالشك في البقاء ، بل الشك بعد اليقين ملغىً مطلقا ، سواء تعلّق بنفس ما تيقّنه سابقا أم ببقائه .

وأوّل من صرّح بذلك الفاضل السبزواري في الذخيرة في مسألة : من شك في بعض أفعال الوضوء حيث قال : « والتحقيق أنّه فرغ من الوضوء متيقّنا للإكمال ثمّ عرض له الشك ، فالظاهر :

-------------------

من توهّم أنّ أدلة الاستصحاب يشملها ) اي : يشمل قاعدة اليقين ( وأنّ مدلولها ) اي : مدلول ادلة الاستصحاب ( لا يختص بالشك في البقاء ، بل ) يشمل الشك في الحدوث ايضا .

وبعبارة اخرى : مدلول أدلة الاستصحاب هو : ان ( الشك بعد اليقين ملغىً مطلقا ) فعلى الشاك العمل بحسب اليقين السابق ( سواء تعلّق ) شكه اللاحق ( بنفس ما تيقّنه سابقا ) من عدالة زيد يوم الجمعة حيث تزلزل يقينه بها ممّا يسمّى بقاعدة اليقين ( أم ببقائه ) واستمرار ما تيقنه سابقا من عدالة زيد يوم الجمعة حيث ان ما تيقنه محرز في وقته ، وإنّما يشك في استمراره الى يوم السبت ممّا يسمّى بقاعدة الاستصحاب .

( وأوّل من صرّح بذلك ) التوهّم المذكور وقال : ان ادلة الاستصحاب تشمل قاعدة الاستصحاب وقاعدة اليقين معا هو ( الفاضل السبزواري في الذخيرة في مسألة : من شك في بعض أفعال الوضوء حيث قال : « والتحقيق أنّه فرغ من الوضوء متيقّنا للإكمال ) وقاطعا بانه قد أكمل وضوءه ( ثمّ عرض له الشك ) في انه هل أكمل وضوءه ام لا ؟ بأن سرى شكه الى ما تيقّنه ، قال : ( فالظاهر :

ص: 311

عدم وجوب اعادة شيء لصحيحة زرارة : « ولا تنقُض اليقينَ ابدا بالشك » ، انتهى .

ولعلّه قدس سره تفطّن له من كلام الحلّي في السرائر ، حيث استدلّ على المسألة المذكورة ب « أنّه لا يخرج عن حال الطهارة إلاّ على يقين من كمالها ، وليس ينقُض الشكُ اليقين » ، انتهى .

لكن هذا التعبير من الحّلي لا يلزم أن يكون استفادةً من أخبار عدم نقض اليقين بالشك .

-------------------

عدم وجوب اعادة شيء لصحيحة زرارة : « ولا تنقُض اليقينَ ابدا بالشك (1) » (2) ) وهي من ادلة الاستصحاب فاستدل بها على قاعدة اليقين .

( انتهى ) كلام الفاضل السبزواري ( ولعلّه ) اي : الفاضل المذكور ( قدس سره تفطّن له ) اي : لشمول ادلة الاستصحاب لقاعدة اليقين ( من كلام ) ابن ادريس ( الحلّي في السرائر ، حيث استدلّ على المسألة المذكورة ) وهي : ما اذا خرج من الوضوء متيقّنا بالاكمال ، ثم عرض له الشك في انه هل أكمل وضوءه ام لا ؟ قال : ( ب «أنّه لا يخرج عن حال الطهارة إلاّ على يقين من كمالها ) لفرض انه في حال الوضوء قد تيقّن كماله ( وليس ينقُض الشكُ اليقين» (3) ، انتهى ) كلام ابن ادريس ، وهو ظاهر في قاعدة اليقين .

( لكن هذا التعبير من الحّلي لا يلزم أن يكون استفادةً من أخبار عدم نقض اليقين بالشك ) اي : من اخبار الاستصحاب ، اذ لعلّ ابن ادريس فهم الشك الساري من ادلّة اُخر .

ص: 312


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .
2- - ذخيرة المعاد : ص44 .
3- - السرائر : ص18 .

ويقرب من هذا التعبير عبارةُ جماعة من القدماء .

لكنّ التعبير لا يلزم دعوى شمول الأخبار للقاعدتين ، على ما توهّمه غير واحد من المعاصرين ، وإن اختلفوا بين مدّعٍ لانصرافها الى خصوص الاستصحاب وبين منكر له عامل بعمومه .

وتوضيح دفعه : أنّ المناط في القاعدتين مختلف ، بحيث لا يجمعهما مناط واحد ،

-------------------

( ويقرب من هذا التعبير ) اي : تعبير ابن ادريس ( عبارةُ جماعة من القدماء ) ايضا حيث ان ظاهرهم : عدم الاعتناء بالشك الساري والبقاء على اليقين السابق وان تزحزح اليقين السابق في مكانه .

( لكنّ التعبير ) المذكور عن ابن ادريس وعن الجماعة على ما عرفت ( لا يلزم دعوى شمول الأخبار ) اي : اخبار الاستصحاب ( للقاعدتين ) : قاعدة الاستصحاب ، وقاعدة اليقين معا ( على ما توهّمه ) اي : توهّم الشمول ( غير واحد من المعاصرين ، وإن اختلفوا ) اي : اختلف المتوهّمون ( بين مدّعٍ لانصرافها ) اي : انصراف الاخبار ( الى خصوص الاستصحاب ) وذلك لكثرة وجود موارد الاستصحاب ، بينما موارد قاعدة اليقين قليلة ( وبين منكر له ) اي : منكر لهذا الانصراف ( عامل بعمومه ) اي : بعموم أخبار الاستصحاب للقاعدتين : الاستصحاب واليقين معا .

( وتوضيح دفعه ) اي : دفع توهّم شمول روايات الاستصحاب للقاعدتين هو : ( أنّ المناط في القاعدتين مختلف ، بحيث لا يجمعهما مناط واحد ) اضافة الى ان اللفظ لا يشمل معنيين ، وذلك اما لاستحالته كما يقوله الآخوند ، واما لانه خلاف الظاهر ولا يصار اليه الاّ بدليل قطعي ، وهنا لا دليل قطعي عليه .

ص: 313

فانّ مناط الاستصحاب هو اتحاد متعلّق الشك واليقين ، مع قطع النظر عن الزمان ، لتعلّق الشك ببقاء ما تيقّن سابقا ، ولازمه كون القضية المتيقّنة ، أعني : عدالة زيد يوم الجمعة متيقّنة حين الشك أيضا من غير جهة الزمان .

ومناط هذه القاعدة اتحاد متعلّقيهما من جهة الزمان ، ومعناه : كونه في الزمان اللاحق شاكّا فيما تيقّنه سابقا

-------------------

وكيف كان : ( فانّ مناط الاستصحاب هو اتحاد متعلّق الشك واليقين ، مع قطع النظر عن الزمان ، لتعلّق الشك ببقاء ما تيقّن سابقا ) فعدالة زيد التي هي متعلّق اليقين يوم الجمعة تكون هي بنفسها متعلق الشك يوم السبت .

( و ) عليه : فاذا كان كذلك كان ( لازمه ) اي : لازم اتحاد متعلّق الشك واليقين مع قطع النظر عن الزمان هو : ( كون القضية المتيقّنة ، أعني : عدالة زيد يوم الجمعة متيقّنة حين الشك أيضا ) يعني : العدالة التي هي متعلق اليقين يوم الجمعة هي بنفسها بلا دخل لزمان الجمعة فيها متعلّق الشك في يوم السبت ، فالعدالة حين كونها مشكوكة لزيد متيقنة له ايضا لكن ( من غير جهة الزمان ) وامّا من جهة الزمان : فالمتيقّن كان في وقتٍ وهو يوم الجمعة ، بينما المشكوك في وقت آخر وهو يوم السبت ، فمناط الاستصحاب اتحاد متعلق الشك واليقين لكن لا من جهة الزمان .

( ومناط هذه القاعدة ) اي : قاعدة اليقين على العكس وهو : ( اتحاد متعلّقيهما ) اي : متعلق الشك واليقين ( من جهة الزمان ) فان عدالة زيد يوم الجمعة كانت متيقنة ثم صارت عدالة زيد يوم الجمعة في نفسها مشكوكة ، فمناط قاعدة اليقين على عكس قاعدة الاستصحاب ، لان في قاعدة الاستصحاب الاتحاد لا من جهة الزمان ، وفي قاعدة اليقين الاتحاد من جهة الزمان ( ومعناه : كونه في الزمان اللاحق شاكّا فيما ) اي : في نفس الذي ( تيقّنه سابقا ) من عدالة زيد شكا

ص: 314

بوصف وجوده في السابق .

فإلغاء الشك في القاعدة الاُولى عبارةٌ عن الحكم ببقاء المتيقّن سابقا من حيث انه متيقّن من غير تعرّض لحال حدوثه .

وفي القاعدة الثانية هو الحكم بحدوث ما تيقّن حدوثه من غير تعرّض لحكم ابقائه ،

-------------------

فيه ( بوصف وجوده في السابق ) اي : في يوم الجمعة ، وهل انه كان حينها عادلاً ام لا ؟ .

وعليه : ( فإلغاء الشك في القاعدة الاُولى ) وهي قاعدة الاستصحاب ( عبارةٌ عن الحكم ببقاء ) عدالة زيد يوم الجمعة الذي هو ( المتيقّن سابقا من حيث انه متيقّن ) في نفسه وابقائه الى يوم السبت ( من غير تعرّض لحال حدوثه ) اي : حدوث المتيقّن في يوم الجمعة من عدالة زيد وهل انه كان حينها عادلاً ام لا ؟ لان المفروض : ان عدالة زيد في يوم الجمعة محرزة حينها في يوم السبت ايضا.

( و ) الغاء الشك ( في القاعدة الثانية ) وهي قاعدة اليقين معناه : ( هو الحكم بحدوث ما تيقّن حدوثه ) من عدالة زيد يوم الجمعة والقطع بتحققها في حينها ، نافيا للشك الذي يريد ان يسري اليها يوم السبت ليزلزلها في حينها ( من غير تعرّض لحكم ابقائه ) اي : ابقاء ما تيقن حدوثه في يوم الجمعة من عدالة زيد الى يوم السبت ، وذلك لأنّ الكلام في قاعدة اليقين ليس هو في بقاء عدالته وعدم بقائها ، بل الكلام في انه هل كان عادلاً حينها ام لا ؟ .

مثلاً : اذا طلّق الزوج زوجته يوم الجمعة امام زيد الذي كان يتيقّن انه عادل ، فشك في يوم السبت هل انه كان عادلاً يوم الجمعة ام لا ؟ فان هذا الزوج لا يريد استصحاب عدالة زيد الى يوم السبت ، لانه لا يهمّه أن يكون زيد عادلاً

ص: 315

فقد يكون بقاؤه معلوما ، أو معلوم العدم ، أو مشكوكا .

واختلاف مؤدّى القاعدتين وإن لم يمنع من إرادتهما من كلام واحد ، بأن يقول الشارع : اذا حصل بعد اليقين بشيءٍ شكٌ له ، تعلّق بذلك الشيء

-------------------

يوم السبت او لا يكون عادلاً ، بل يريد ان يعلم حدوث عدالته يوم الجمعة وتحققها حينها ليعلم هل ان طلاقه يوم الجمعة كان صحيحا حتى تكون الزوجة مطلّقة ، أم لا حتى تكون بعدُ زوجة له ؟ .

هذا من جهة حدوث ما تيقنه من عدالة زيد يوم الجمعة ، وأما من جهة بقاء عدالته الى يوم السبت ( فقد يكون بقاؤه ) اي : بقاء زيد على عدالته الى يوم السبت ( معلوما ، أو معلوم العدم ، أو مشكوكا ) بلا فرق بينها في قاعدة اليقين ، وذلك لما عرفت : من ان الزوج المطلّق زوجته امام زيد يوم الجمعة لا يهمه عدالة زيد وعدم عدالته في يوم السبت ، وإنّما يريد ان يتحقق من عدالته يوم الجمعة حتى يكون طلاقه صحيحا .

( و ) ان قلت : يمكن هنا تصوير جامع يشمل القاعدتين ، فيمكن الاستدلال به على كل من القاعدتين بلا اشكال .

قلت ( اختلاف مؤدّى القاعدتين ) : قاعدة الاستصحاب ، وقاعدة اليقين - على ما عرفت - ( وإن لم يمنع من إرادتهما من كلام واحد ) بالقرينة الخارجية ، او بوجود جامع بينهما ، كما اذا قال - مثلاً - : الشك لا اعتبار به بعد اليقين ، سواء يقينٌ

زال ، ام يقين لم يزل .

او ( بأن يقول الشارع : اذا حصل ) للانسان ( بعد اليقين بشيءٍ ) كاليقين بعدالة زيد يوم الجمعة ( شكٌ له ، تعلّق بذلك الشيء ) بأن شك في العدالة يوم السبت

ص: 316

فلا عبرة به ، سواء تعلّق ببقائه أو بحدوثه ، واُحكِمَ بالبقاء في الأوّل ، وبالحدوث في الثاني ، إلاّ أنّه مانعٌ عن إرادتهما من قوله عليه السلام : « فليمض على يقينه » فانّ المضيّ على اليقين السابق ، المفروض تحقّقه في القاعدتين ، أعني : عدالة زيد يوم الجمعة بمعنى : الحكم بعدالته في ذلك اليوم ، من غير تعرّض لعدالته فيما بعده ، كما هو مفاد القاعدة الثانية ، يغايرُ المضيّ عليه بمعنى عدالته بعد يوم الجمعة ، من غير تعرّض

-------------------

( فلا عبرة به ) اي : بهذا الشك ( سواء تعلّق ببقائه ) اي : ببقاء اليقين واستمراره الى يوم السبت وهي قاعدة الاستصحاب ( أو بحدوثه ، و ) تحقق ما تيقّنه يوم الجمعة من عدالة زيد حينها وهي قاعدة اليقين فاذا اتفق ذلك ( اُحكِمَ بالبقاء في الأوّل ، وبالحدوث في الثاني ) فيشمل هذا الكلام القاعدتين معا .

( إلاّ أنّه ) اي : اختلاف مؤدّى القاعدتين ( مانعٌ عن إرادتهما ) معا ( من قوله عليه السلام : «فليمض على يقينه » ) (1) لانها عبارة واحدة وهما معنيان ، ولا جامع بينهما، فظاهرها : قاعدة الاستصحاب فقط .

وإنّما يمنع عن ارادتهما معا لما ذكره المصنِّف بقوله : ( فانّ المضيّ على اليقين السابق ، المفروض تحقّقه في القاعدتين ، أعني : عدالة زيد يوم الجمعة ) حيث انها كانت متيقنة حينها ، فيكون المضيّ على اليقين بها في قاعدة اليقين ( بمعنى : الحكم بعدالته في ذلك اليوم ، من غير تعرّض لعدالته فيما بعده ، كما هو مفاد القاعدة الثانية ) اي : قاعدة اليقين .

ومن المعلوم : ان هذا المعنى ( يغايرُ المضيّ عليه ) اي : على اليقين بعدالة زيد في يوم الجمعة المضي عليه ( بمعنى عدالته بعد يوم الجمعة ، من غير تعرّض

ص: 317


1- - الخصال : ص619 ح10 ، وسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح646 .

لحال يوم الجمعة ، كما هو مفاد قاعدة الاستصحاب ، فلا يصح ارادة المعنيين منه .

فان قلت : إنّ معنى المضيّ على اليقين عدمُ التوقّف من أجل الشك العارض وفرض الشك كعدمه ، وهذا يختلف باختلاف متعلّق الشك ، فالمضيّ مع الشك في الحدوث بمعنى : الحكم بالحدوث

-------------------

لحال يوم الجمعة ، كما هو مفاد قاعدة الاستصحاب ) فان قاعدة الاستصحاب لا تتعرض ليوم الجمعة وإنّما تتعرض ليوم السبت .

وعليه : ( فلا يصح ارادة المعنيين ) للقاعدتين ( منه ) اي : من المضي على اليقين .

وان شئت قلت : ان قاعدة الاستصحاب تقول : هل ان حكم اليقين السابق باق ومستمر الى الزمان اللاحق ام لا ؟ وقاعدة اليقين تقول : هل ان حكم اليقين السابق باق ومتحقق في حينه ام لا ؟ .

( فان قلت : إنّ ) لفظ المضي شامل للمعنيين ، فهما فردان له ، لاانهما معنيان حتى يكون من استعمال اللفظ الواحد في معنيين ، وكذلك لفظ الشك ، فيكون ( معنى المضيّ على اليقين ) هو : ( عدمُ التوقف من أجل الشك العارض وفرض الشك كعدمه ) فكما انه اذا لم يشك الزوج في عدالة زيد صح طلاق زوجته امامه يوم الجمعة ، كذلك يصح له الاقتداء به يوم السبت .

( و ) عليه : فان ( هذا ) المعنى الواحد للمضي والشك لا يختلف في نفسه ، وإنّما ( يختلف باختلاف متعلّق الشك ، فالمضيّ مع الشك في الحدوث ) وانه هل كان عادلاً يوم الجمعة ام لا ؟ .

( بمعنى : الحكم بالحدوث ) وتحقق عدالته حينه ، اذ لا اعتبار بالشك .

ص: 318

ومع الشك في البقاء بمعنى الحكم به .

قلت : لاريب في اتحاد متعلّقي الشك واليقين ، وكون المراد المضيّ على ذلك اليقين المتعلّق بما تعلّق به الشك .

والمفروض : أن ليس في السابق إلاّ يقين واحد ، وهو : اليقين بعدالة

-------------------

( ومع الشك في البقاء ) وانه هل بقي على عدالته الى يوم السبت ام لا ؟ ( بمعنى الحكم به ) اي : الحكم بالبقاء الى السبت ، اذ لا اعتبار بالشك ايضا ، فاين استعمال اللفظ في معنيين ؟ .

( قلت ) : ان لفظ : المضي ، ولفظ : الشك ، وان كان لهما معنى يصلح لِشمول الفردين ، وينطبق على القاعدتين معا ، الاّ ان ظاهر الاخبار : اعتبار اتحاد متعلقي اليقين والشك ، وهو يوجب التنافي بين المعنيين كما قال : ( لاريب في اتحاد متعلّقي الشك واليقين ، و ) ذلك لوضوح : انه لولا اتحاد متعلّقيهما كان الشك متعلّقا بشيء ، واليقين بشيء آخر ، ومعه لا يكون احدهما ناقضا للآخر ، حتى يشمله : « لا تنقض اليقين بالشك » (1) .

وكذا لا ريب في ( كون المراد ) من المضي على اليقين ، وعدم الاعتناء بالشك هو : ( المضيّ على ذلك اليقين المتعلّق بما تعلّق به الشك ) فان عدالة زيد - مثلاً - قد تعلق بها اليقين تارة ، وقد تعلق بها الشك اخرى . فالعدالة بنفسها هي متعلق اليقين وهي متعلق الشك ايضا ، فلا يعتنى بالشك فيها ، وإنّما يعتنى باليقين بها فقط .

هذا ( والمفروض : أن ليس في السابق إلاّ يقين واحد ، وهو : اليقين بعدالة

ص: 319


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

زيد ، والشك فيها وليس له هنا فردان يتعلّق أحدهما بالحدوث والآخر بالبقاء ، بل المراد : الشك في نفس ما تيقّن .

وحينئذ : فان اعتبر المتكلّم في كلامه : الشك في هذا المتيقّن من دون تقييده بيوم الجمعة ، فالمضي على هذا اليقين عبارةٌ عن : الحكم باستمرار هذا المتيقّن وإن اعتبر الشك فيه مقيّدا بذلك اليوم ، فالمضيّ على ذلك

-------------------

زيد ) يوم الجمعة ( والشك فيها ) أي : في تلك العدالة يوم السبت فان الشك هذا ( و ) ان كان له فردان : الشك في الحدوث ، والشك في البقاء ، الاّ انه ( ليس له هنا ) عند اتحاد متعلقي الشك واليقين ( فردان ) حتى ( يتعلّق أحدهما بالحدوث ) والتحقق الذي هو قاعدة اليقين ( والآخر بالبقاء ) والاستمرار الذي هو قاعدة الاستصحاب .

( بل المراد : الشك في نفس ما تيقّن ) فانه تيقّن عدالة زيد وشك في نفس عدالة زيد ، فالعدالة هي متعلّق الشك واليقين .

( وحينئذٍ ) اي : حين دلّت الاخبار على اعتبار اتحاد متعلّقي الشك واليقين المانع من تحقق فردين للشك ( فان اعتبر المتكلّم في كلامه : الشك في هذا المتيقّن من دون تقييده بيوم الجمعة ) كما في الاستصحاب ( فالمضي على هذا اليقين عبارةٌ عن : الحكم باستمرار هذا المتيقّن ) الذي هو عدالة زيد - كما في المثال - فانه يحكم باستمرارها من يوم الجمعة الى يوم السبت ولا يعتني بالشك فيها ، فيصح ان يصلي خلفه يوم السبت .

( وإن اعتبر الشك فيه ) اي : في هذا المتيقّن من عدالة زيد ( مقيّدا بذلك اليوم ) بأن كان يوم الجمعة قد تيقن بها فطلّق امامه ، ثم شك في يوم السبت في منشأ يقينه في يوم الجمعة ، فشك في صحة طلاقه ( فالمضيّ على ذلك

ص: 320

المتيقّن الذي تعلّق به الشك عبارةٌ عن الحكم بحدوثها من غير تعرّض للبقاء كأنّه قال : مَن كان على يقين من عدالة زيد يوم الجمعة فشك فيها ، فليمض على يقينه السابق .

وقس على هذا سائر الأخبار الدالّة على عدم نقض اليقين بالشك ، فانّ الظاهر اتحاد متعلّق الشك واليقين ، فلابدّ أن يلاحظ المتيقّن والمشكوك غير مقيّدين بالزمان

-------------------

المتيقّن الذي تعلّق به الشك ) هو : ( عبارةٌ عن الحكم بحدوثها ) اي : حدوث العدالة وتحققها يوم الجمعة وان طلاقه كان صحيحا ، وذلك ( من غير تعرّض للبقاء ) والاستمرار الى يوم السبت ، وهذه هي قاعدة اليقين .

وعليه : ففي قاعدة اليقين ( كأنّه قال : مَن كان على يقين من عدالة زيد يوم الجمعة فشك فيها ) اي : في نفس عدالة زيد التي تيقن بها يوم الجمعة وطلق امامه ( فليمض على يقينه السابق ) وليحكم بعدالته حينها وصحة طلاقه .

إذن : ففي قاعدة الاستصحاب يقول : ابق يقينك الى يوم السبت ، وفي قاعدة اليقين يقول : ابق على يقينك في يوم الجمعة ، ومن المعلوم : انهما مفهومان لا مفهوم واحد وفردان لا فرد واحد وان كان لهما جامع .

( وقس على هذا سائر الأخبار الدالّة على عدم نقض اليقين بالشك ) غير صحيحة زرارة ( فانّ الظاهر ) من تلك الاخبار هو : اعتبار ( اتحاد متعلّق الشك واليقين ) الموجب للتنافي بين قاعدة اليقين وقاعدة الاستصحاب ، واذا كان كذلك ( فلابدّ ) في دلالة هذه الاخبار على الاستصحاب - لا على قاعدة اليقين - بعد عدم شمول الاخبار للاستصحاب وقاعدة اليقين معا ( أن يلاحظ المتيقّن والمشكوك غير مقيّدين بالزمان ) بل مجرّدين عنه ، وذلك لان اليقين السابق يراد سحبه

ص: 321

وإلاّ لم يجر استصحابه كما تقدّم في ردّ شبهة من قال بتعارض الوجود والعدم في شيء واحد .

والمفروض في القاعدة الثانية كون الشك متعلّقا بالمتيقّن السابق بوصف وجوده في الزمان السابق .

-------------------

الى الآن اللاحق ، فلا يكون اليقين مقيّدا بيوم الجمعة .

( وإلاّ ) بان قيّد المتيقن والمشكوك بالزمان وذلك كما لو قال : من كان على يقين من عدالة زيد يوم الجمعة ، فشك يوم السبت في تحقق عدالته حينها ، فليمض على يقينه ، ممّا هو مفاد قاعدة اليقين ( لم يجر استصحابه ) لعدم يقين سابق اذ اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة قد تبدل الى الشك في العدالة يوم الجمعة.

( كما تقدّم في ردّ شبهة من قال بتعارض الوجود والعدم في شيء واحد ) حيث قد تقدّم : من انه لو أمر المولى عبده بالجلوس الى الظهر من يوم الجمعة ، ثم شك في وجوبه بعد الظهر كيف يفعل ؟ قال بعض : باجتماع استصحابين بعد الظهر : استصحاب الوجوب الموجود قبل الظهر ، واستصحاب عدم الوجوب الموجود قبل يوم الجمعة ، فيتعارضان ويتساقطان ، فرّده المصنِّف : بان هذا غير تام ، وإنّما اللازم هو استصحاب وجوب الجلوس ، فيما اذا لم يكن الزمان مفرّدا ، والاّ فاستصحاب عدم الجلوس فيما اذا كان الزمان مفرّدا .

هذا ( والمفروض في القاعدة الثانية ) اي : قاعدة اليقين هو : ( كون الشك متعلّقا بالمتيقّن السابق بوصف وجوده في الزمان السابق ) فعدالة زيد يوم الجمعة متيقّنة في يوم الجمعة ، وفي يوم السبت نفس عدالة زيد يوم الجمعة مشكوكة التحقق في حينها .

إذن : فالملاحظ في قاعدة الاستصحاب عدم التقييد بالزمان ، والملاحظ

ص: 322

ومن المعلوم : عدم جواز إرادة الاعتبارين من اليقين والشك في تلك الاخبار .

ودعوى : « أنّ اليقين بكلّ من الاعتبارين فرد من اليقين ، وكذلك الشك المتعلق فرد من الشك ، فكلّ فرد لا ينقض بشكّه » ،

-------------------

في قاعدة اليقين هو التقييد بالزمان ( ومن المعلوم : عدم جواز إرادة الاعتبارين ) : عدم التقيد كما في قاعدة الاستصحاب ، والتقييد كما في قاعدة اليقين ( من اليقين والشك في تلك الاخبار ) وذلك لأنّ احدهما حدوث والآخر بقاء ، فاللازم ان يلاحظ إمّا الحدوث وإمّا البقاء ، لا ان يلاحظ اللحاظين على سبيل البدل .

هذا ( ودعوى : «أنّ اليقين بكلّ من الاعتبارين ) : الاطلاق والتقييد ( فرد من اليقين ، وكذلك الشك المتعلق ) اي : بكل من الاعتبارين الاطلاق والتقييد ( فرد من الشك ، فكلّ فرد ) من اليقين ( لا ينقض بشكّه » ) .

وعليه : فالشك في عدالة زيد يوم الجمعة له فردان : الشك في الحدوث ومقّيد بزمان الجمعة كما في قاعدة اليقين ، والشك في البقاء وغير مقيدّ بزمان الجمعة ، كما في الاستصحاب ، وكذلك اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة ، له فردان ايضا : فرد مقيد بزمان الجمعة كما في قاعدة اليقين ، وآخر غير مقّيد بزمان الجمعة كما في الاستصحاب ، وحيث كان لكل من الشك واليقين - كما عرفت - فردان ، فلا مانع من ارادة الرواية القاعدتين ، لانه ليس من استعمال اللفظ في المعنيين ، بل من استعمال اللفظ في الكلي الذي له فردان وذلك غير ممنوع .

والحاصل من هذه ا لدعوى هو : ان اليقين بعدالة زيد يقينا مقّيدا بيوم الجمعة ، لا ينقض بالشك في حدوث عدالته شكا مقيدا بيوم الجمعة ، وهي قاعدة اليقين ، وان اليقين بعدالة زيد يقينا غير مقّيد بيوم الجمعة ، لا ينقض بالشك في بقاء

ص: 323

مدفوعةٌ : بأنّ تعدّد اللحاظ والاعتبار في المتيقّن به السابق ، بأخذه تارةً مقيّدا بالزمان السابق ، واُخرى : بأخذه مطلقا ، لا يوجبُ تعدّد أفراد اليقين .

وليس اليقين بتحقّق مطلق العدالة في يوم الجمعة واليقين بعدالته المقيّدة بيوم الجمعة ، فردين من اليقين تحت عموم الخبر ، بل الخبر بمثابة أن يقال : « مَن كان على يقين من عدالة زيد أو فسقه أو غيرهما من حالاته فشك فيه ، فليمض على يقينه بذلك » ، فافهم ، فانّه لا يخلو عن دقّة .

-------------------

عدالته شكا غير مقيّد بيوم الجمعة ، كما اذا اراد ان يصلي خلفه يوم السبت ، وهي قاعدة الاستصحاب .

هذه الدعوى ( مدفوعةٌ : بأنّ تعدّد اللحاظ والاعتبار في المتيقّن به السابق ، بأخذه ) اي : بأخذ المتيقن وهو : عدالة زيد كما في المثال ( تارةً مقيّدا بالزمان السابق ، واُخرى : بأخذه مطلقا ) غير مقيّد بالزمان ( لا يوجب تعدّد أفراد اليقين ) فان تعدّد لحاظ المتعلّق لا يجعل اليقين متعدّدا ، فاللازم اما ان يكون بلحاظ التقييد ، واما ان يكون بلحاظ الاطلاق ، لانهما لا يجتمعان .

( و ) كيف كان : فانه ( ليس اليقين بتحقّق مطلق العدالة في يوم الجمعة ) اي : بالمطلق غير المقيّد ( واليقين بعدالته المقيّدة بيوم الجمعة ، فردين من اليقين تحت عموم الخبر ) حتى يقال : ان الكلي شامل لهما ( بل الخبر بمثابة أن يقال : «مَن كان على يقين من عدالة زيد أو فسقه أو غيرهما من حالاته ) الاخرى المترتّب عليها آثار شرعية ( فشك فيه ، فليمض على يقينه بذلك » ) اي : بالفسق فلا يصلّي خلفه ، او بالعدالة فيصّلي خلفه ، وهكذا ، فيفيد الاستصحاب فقط ، لان تعدّد اللحاظ من الفسق والعدالة لا يفيد تعدّد اليقين المذكور في العبارة الآنفة ( فافهم ، فانّه لا يخلو عن دقّة ) .

ص: 324

ثمّ اذا ثبت عدم جواز إرادة المعنيين ، فلابدّ أن يختصّ مدلولها بقاعدة الاستصحاب ، لورودها في موارد تلك القاعدة كالشك في الطهارة من الحدث والخبث ودخول هلال شهر رمضان أو شوال .

هذا كلّه ، لو اُريد من القاعدة الثانية إثبات نفس المتيقّن عند الشك ، وهي عدالة زيد في يوم الجمعة - مثلاً - .

-------------------

هذا ، ولكن المستفاد العرفي من الخبر القائل : « ان الشك لا ينقض اليقين » (1) ، هو : المعنى الأعم الشامل لقاعدة الاستصحاب ، وقاعدة اليقين ، وما ذكره المصنِّف فهو الى الدقة العقلية أقرب منه الى المفهوم العرفي .

( ثم اذا ثبت عدم جواز إرادة المعنيين ) : معنى الاستصحاب ، ومعنى قاعدة اليقين من الاخبار ( فلابدّ أن يختصّ مدلولها ) اي : مدلول هذه الاخبار ( بقاعدة الاستصحاب ، لورودها في موارد تلك القاعدة ) : اي : الاستصحاب ( كالشك في الطهارة من الحدث والخبث ) حيث استدل عليه السلام بهذه القاعدة لبقاء الطهارة منهما ( ودخول هلال شهر رمضان أو شوال ) ايضا حيث استدل عليه السلام بهذه القاعدة لبقاء شعبان وشهر رمضان .

( هذا كلّه ) اي : كل ما اوردناه من اشكال على ارادة المعنيين من الاخبار ان لم نقل بارادتها الاستصحاب فقط إنّما هو فيما ( لو اُريد من القاعدة الثانية ) اي : قاعدة اليقين ( إثبات نفس المتيقّن عند الشك ، وهي عدالة زيد في يوم الجمعة - مثلاً - ) اي : أريد من قاعدة اليقين معنى واحدا وهو : اثبات عدالة زيد في نفس يوم الجمعة على ما في المثال فقط .

ص: 325


1- - الخصال : ص619 ح10 ، وسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح646 .

أمّا لو أريد منها إثباتُ عدالته من يوم الجمعة مستمرّة الى زمان الشك ، وما بعده الى اليقين بطروّ الفسق ، فيلزم استعمال الكلام في معنيين أيضا ، لأنّ الشك في عدالة زيد يوم الجمعة ، غيرُ الشك في استمرارها الى الزمان اللاحق .

وقد تقدّم نظير ذلك في قوله : عليه السلام « كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر » .

-------------------

( أمّا لو أريد منها ) اي : من قاعدة اليقين بالاضافة الى اثبات نفس المتيقن ( إثباتُ عدالته من يوم الجمعة مستمرّة الى زمان الشك ، وما بعده الى اليقين بطروّ الفسق ) عليه ، وذلك بان اريد من قاعدة اليقين معنيان : اثبات عدالة زيد في يوم الجمعة ، واثبات استمرار تلك العدالة الى يوم السبت على ما في المثال ( فيلزم استعمال الكلام في ) خصوص قاعدة اليقين في ( معنيين أيضا ) اي : بالاضافة الى الاستصحاب ، وذلك لان قاعدة اليقين حينئذ تفيد : قاعدة يقين واستصحاب لتلك القاعدة ، مضافا الى أصل دلالة الأخبار على الاستصحاب .

وإنّما يلزم استعمال اللفظ فيها في معنيين اضافة الى ما تقدّم فيما لو اردنا من قاعدة اليقين معنيين ( لأنّ الشك في عدالة زيد يوم الجمعة ، غيرُ الشك في استمرارها ) اي : استمرار العدالة ( الى الزمان اللاحق ) الذي هو يوم السبت .

إذن : فالاخبار حينئذ تدل على ثلاثة امور : على الاستصحاب ، وعلى قاعدة اليقين ، وعلى استمرار قاعدة اليقين الى زمان الشك .

( وقد تقدّم نظير ذلك ) عن المحقق النراقي ( في قوله : عليه السلام «كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر (1) » ) فانه قال : ان هذه الرواية تشمل قاعدة الطهارة واستمرار تلك القاعدة ، فيكون معناه على قول النراقي : ان الأشياء محكومة في الظاهر

ص: 326


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .

ثم لو سلّمنا دلالة الروايات على ما يشمل القاعدتين لزم حصول التعارض في مدلول الرواية المسقط له عن الاستدلال به على القاعدة الثانية ، لأنّه اذا شك في ما تيقّن سابقا ، أعني : عدالة زيد في يوم الجمعة ، فهذا الشك معارض لفردين من اليقين ، أحدهما : اليقينُ بعدالته المقيّدة بيوم الجمعة ،

-------------------

بالطهارة ، وان هذه الطهارة الظاهرية الثابتة للأشياء مستمرة الى زمن العلم بالنجاسة ، وقد ذكرنا هناك عند البحث في «كل شيء طاهر» ردّه .

( ثم لو سلّمنا دلالة الروايات على ما يشمل القاعدتين ) بأن قلنا : ان المراد بالشك هو : الشامل للشك الساري والشك الطاريء معا ، والمراد باليقين هو : الشامل لليقين الذي يراد استصحابه واليقين الذي يراد ابقاؤه معا ( لزم حصول التعارض في مدلول الرواية ) القائلة : « لا تنقض اليقين بالشك » (1) ( المسقط ) ذلك التعارض ( له ) اي : لمدلول الرواية ( عن الاستدلال به على القاعدة الثانية ) اي : قاعدة اليقين ، لان في كل موارد القاعدة يجري الاستصحاب المعارض لها دون العكس .

وإنّما يقع التعارض في مدلولها ( لأنّه اذا شك في ما تيقّن سابقا ، أعني : عدالة زيد في يوم الجمعة ) وذلك بان شك فيها يوم السبت ( فهذا الشك معارض لفردين من اليقين ) بالبيان التالي : -

( أحدهما : اليقينُ بعدالته المقيّدة بيوم الجمعة ) الذي هو من الشك الساري وقاعدة اليقين .

ص: 327


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص317 ب10 ح10462 .

الثاني : اليقين بعدم عدالته المطلقة قبل يوم الجمعة ، فيدلّ بمقتضى القاعدة الثانية على عدم نقض اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة باحتمال انتفائها في ذلك الزمان ، وبمقتضى قاعدة الاستصحاب : على عدم نقض اليقين بعدم عدالته قبل الجمعة باحتمال حدوثها في يوم الجمعة ، فكلّ من طرفي الشك معارضٌ لفرد من اليقين .

-------------------

( الثاني : اليقين بعدم عدالته المطلقة قبل يوم الجمعة ) الذي هو من الشك الطاري وقاعدة الاستصحاب .

وعليه : ( فيدلّ بمقتضى القاعدة الثانية ) وهي قاعدة اليقين : ( على عدم نقض اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة ) وذلك ( باحتمال انتفائها ) اي : العدالة ( في ذلك الزمان ) اي : في نفس يوم الجمعة ، كما ( و ) يدل ايضا ( بمقتضى قاعدة الاستصحاب : على عدم نقض اليقين بعدم عدالته ) اي : بعدم عدالة زيد المطلقة ( قبل الجمعة ) وذلك ( باحتمال حدوثها في يوم الجمعة ) وهما كما ترى متعارضان .

مثلاً : اذا حصل له يوم الجمعة اليقين بعدالة زيد ، ثم حصل له يوم السبت الشك في عدالته يوم الجمعة ، فهنا يقينان يقين قبل الجمعة بعدم العدالة المطلقة ، ويقين يوم الجمعة بالعدالة في يوم الجمعة ، وشك يوم السبت ذو طرفين : طرف سارٍ في عدالة يوم الجمعة ، وطرف طاريء في عدم العدالة المطلقة ( فكلّ من طرفي الشك معارض لفرد من اليقين ) في موارد قاعدة اليقين ، فان الشك في عدالة زيد يوم الجمعة معارض لليقين بعدم عدالته قبلها ، والشك في عدم عدالته يوم الجمعة معارض لليقين بعدالته فيها ، فاذا قلنا بشمول الاخبار لاعتبار الاستصحاب والقاعدة معا ، لزم التعارض في مدلولها في موارد القاعدة ، فتسقط

ص: 328

ودعوى : « أنّ اليقين السابق على الجمعة قد انتقض باليقين في الجمعة، والقاعدة الثانية تُثبِتُ وجوب اعتبار هذا اليقين الناقض لليقين السابق » ، مدفوعةٌ : بأنّ الشك الطاريء في عدالة زيد يوم الجمعة وعدمِها عين الشك في انتقاض ذلك اليقين السابق .

واحتمالُ انتقاضه وعدمه معارضان لليقين بالعدالة وعدمها ،

-------------------

القاعدة عن الحجية بالتعارض ، ويبقى الاستصحاب سليما عن المعارض ، فتكون الاخبار مختصة باعتبار الاستصحاب فقط .

( ودعوى : «أنّ اليقين السابق على الجمعة قد انتقض باليقين في الجمعة ) فلا استصحاب لعدم العدالة ( والقاعدة الثانية ) وهي قاعدة اليقين ( تُثبِتُ وجوب اعتبار هذا اليقين ) اللاحق وهو اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة ( الناقض لليقين السابق» ) وهو اليقين بعدم عدالة زيد قبل الجمعة ، واذا انتقض اليقين بعدم العدالة لم يصح استصحابه حتى يعارض اليقين بالعدالة ، فتبقى قاعدة اليقين سالمة عن المعارض ، فيتم دلالة الاخبار على اعتبار الاستصحاب والقاعدة معا .

هذه الدعوى ( مدفوعةٌ : بأنّ الشك الطاريء ) اي : الحادث يوم السبت ( في عدالة زيد يوم الجمعة وعدمِها ) هو : ( عين الشك في انتقاض ذلك اليقين السابق ) على الجمعة وعدمه ، واذا كان كذلك فاليقين السابق بعدم العدالة المطلقة قبل الجمعة كيف ينتقض باليقين اللاحق بعدالة يوم الجمعة مع انه لا يقين لاحقا لسراية الشك فيه ؟ .

هذا ( واحتمالُ انتقاضه وعدمه ) اي : احتمال انتقاض اليقين السابق معارض لليقين السابق نفسه ، واحتمال عدم انتقاض اليقين السابق مُعارض لليقين اللاحق بعده ، فالاحتمالان ( معارضان لليقين بالعدالة وعدمها ) واذا كان كذلك

ص: 329

فلا يجوز لنا الحكم بالانتقاض ولا بعدمه .

ثم إنّ هذا من باب التنزّل والمماشاة ، وإلاّ فالتحقيق ما ذكرناه : من منع الشمول بالتقريب المتقدّم ، مضافا الى ما ربما يدّعى : من ظهور الاخبار في الشك في البقاء .

بقي الكلام في وجود مدرك للقاعدة الثانية غير هذه

-------------------

( فلا يجوز لنا الحكم بالانتقاض ولا بعدمه ) لانه لما تعارضا تساقطا ، والرواية اذا اشتملت على مثل هذه المعارضة لم يبق مجال لدلالتها على قاعدة اليقين ، فتختص بالاستصحاب .

( ثم إنّ هذا ) الذي ذكره المصنِّف : من عدم صحة الاستدلال بالاخبار على قاعدة اليقين لحصول التعارض في مدلولها ، إنّما هو ( من باب التنزّل والمماشاة ) مع الخصم القائل بأنها تدل على القاعدتين معا ( وإلاّ فالتحقيق ما ذكرناه : من منع الشمول ) للقاعدتين معا ، وذلك ( بالتقريب المتقدّم ) من قولنا : ان ظاهر الاخبار هو : اعتبار الاتحاد في متعلّق اليقين والشك الموجب للتنافي بين ارادة الاخبار للقاعدتين معا .

( مضافا الى ما ربما يدّعى : من ظهور الاخبار في الشك في البقاء ) والاستمرار الذي هو مفاد الاستصحاب ، لا الشك في الحدوث والتحقق الذي هو مفاد قاعدة اليقين ، وذلك لأنّ العرف يفهمون من الاخبار هذا المعنى فقط ، بالاضافة الى ان كثيرا من موارد الاخبار هو الاستصحاب على ما عرفت .

هذا ، ولكنا ذكرنا فيما مضى : ان الاخبار لها ظهور عرفي في ان الشك بعد اليقين، لا يعتنى به سواء كان طاريا أم ساريا وهو شامل للقاعدتين معا .

( بقي الكلام في وجود مدرك للقاعدة الثانية ) وهي : قاعدة اليقين ( غير هذه

ص: 330

الاخبار فنقول : إنّ المطلوب من تلك القاعدة إمّا أن يكون اثبات حدوث المشكوك فيه ، وبقائه مستمرا الى اليقين بارتفاعه ، وإمّا أن يكون مجرّد حدوثه في الزمان السابق بدون إثباته بعده بأن يراد : اثبات عدالة زيد في يوم الجمعة فقط ،

-------------------

الاخبار ) اي: غير أخبار الاستصحاب التي عُلمت من المصنِّف القول بعدم دلالتها على هذه القاعدة ( فنقول : إنّ المطلوب من تلك القاعدة ) اي : قاعدة اليقين احد ثلاثة معانٍ : -

الأوّل : ( إمّا أن يكون اثبات حدوث المشكوك فيه ، و ) هو عدالة زيد يوم الجمعة على ما في المثال ، واثبات ( بقائه مستمرا الى اليقين بارتفاعه ) فيكون المطلوب من القاعدة معنيين : اثبات عدالة زيد يوم الجمعة ، واثبات استمرار تلك العدالة الى يوم السبت ، فاذا علم - مثلاً - بعدالة زيد يوم الجمعة وطلّق امامه ، ثم شك في يوم السبت بانه هل كان عادلاً ام لا ؟ فالطلاق في يوم الجمعة صحيح لثبوت العدالة ، كما ويصح الطلاق امامه مرة أخرى في يوم السبت ايضا لاستمرار العدالة .

الثاني : ( وإمّا أن يكون مجرّد حدوثه ) أي : حدوث المشكوك فيه وهو العدالة ( في الزمان السابق بدون إثباته بعده ) وذلك ( بأن يراد : اثبات عدالة زيد في يوم الجمعة فقط ) لا اثبات بقائها الى يوم السبت ، واذا كان المطلوب من القاعدة : اثبات نفس العدالة كان مقتضاه : ثبوت ما للعدالة من لوازمٍ شرعية سابقة كصحة طلاقه أمامه يوم الجمعة ، ولوازم شرعية لاحقة كصحة نذره ووجوب اعطائه كل يوم دينارا للفقير فيما اذا نذر ذلك معلقا على ثبوت عدالة زيد يوم الجمعة فقط لا استمرار عدالته ايضا .

ص: 331

وإمّا أن يراد مجرّد امضاء الآثار التي ترتّبت عليها سابقا ، وصحة الأعمال الماضية المتفرّعة عليه .

فاذا تيقّن الطهارة سابقا وصلّى بها ثم شك في طهارته في ذلك الزمان فصلاتُه ماضيةٌ .

-------------------

الثالث : ( وإمّا أن ) لا يراد من القاعدة اثبات شيء من المعنيين حتى اثبات نفس العدالة ، بل ( يراد مجرّد امضاء الآثار التي ترتّبت عليها ) اي : على العدالة ( سابقا ، وصحة الأعمال الماضية المتفرّعة عليه ) فقط ، فليس المطلوب من القاعدة اثبات حدوث المشكوك فيه من العدالة وغيرها حتى يقتضي ذلك ثبوت مالها من لوازم شرعية سابقة ولاحقة ، بل المطلوب امضاء الآثار المترتبة وصحة الاعمال المتفرّعة عليها .

وعليه : ( فاذا تيقّن ) - مثلاً - ( الطهارة سابقا ) حين الزوال ( وصلّى بها ) صلاة الظهر ( ثم شك في طهارته في ذلك الزمان ) عندما اراد أن يصلي العصر ( فصلاته ) التي صلاها ظهرا ( ماضيةٌ ) اي : نافذة وصحيحة وليس اكثر من ذلك ، وهذا هو ثالث المعاني التي يمكن قصدها من القاعدة .

وان شئت قلت : -

الأوّل : الحكم بالعدالة واستمرارها الى يوم السبت .

الثاني : الحكم بالعدالة يوم الجمعة فقط ومقتضى الحكم بالعدالة ترتب آثارها الشرعية سابقا ولاحقا .

الثالث : الحكم بترتب الآثار وصحة الاعمال المتفرّعة على العدالة سابقا فقط دون اثبات نفس العدالة .

ص: 332

فان اُريد الأوّل ، فالظاهر : عدم دليل يدلّ عليه ، اذ قد عرفت أنّه لو سلّم اختصاص الاخبار - المعتبرة لليقين السابق - بهذه القاعدة لم يمكن أن يراد منها اثبات حدوث العدالة وبقائها ، لأنّ لكلّ من الحدوث والبقاء شكا مستقلاً .

نعم ، لوفرض القطع ببقائها على تقدير الحدوث ، أمكن أن يقال : إنّه اذا اثبت حدوث العدالة بهذه القاعدة ثبت بقاؤها ، للعلم ببقائها على تقدير الحدوث ،

-------------------

وكيف كان : ( فان اُريد الأوّل ) وهو ماذكره بقوله : «اما ان يكون اثبات حدوث المشكوك فيه و - اثبات - بقائه مستمرا» ( فالظاهر : عدم دليل يدلّ عليه ، اذ قد عرفت أنّه لو سلّم اختصاص الأخبار - المعتبرة ) بالكسر ( لليقين السابق - بهذه القاعدة ) اي : بقاعدة اليقين ( لم يمكن أن يراد منها اثبات حدوث العدالة وبقائها ) معا لماذكرناه : من انه استعمال للّفظ في المتنافيين ، بالاضافة الى احتياجه للحاظين .

وإنّما لم يمكن ان يراد من القاعدة اثبات الحدوث والبقاء معا ( لأنّ لكلّ من الحدوث والبقاء شكا مستقلاً ) ففي قاعدة اليقين شك في انه هل حدث ام لا ؟ وفي الاستصحاب شك في انه هل بقي ام لا ؟ ولفظ واحد لا يتمكن ان يشمل كلا المعنيين .

( نعم ، لوفرض ) في مورد من الموارد ( القطع ببقائها على تقدير الحدوث ) بان قطعنا انه لو حدث بقي قطعا ( أمكن أن يقال : إنّه اذا أثبت حدوث العدالة بهذه القاعدة ) اي : بقاعدة اليقين ( ثبت بقاؤها ) ايضا ، ولكن لا للاستصحاب ، بل ( للعلم ببقائها على تقدير الحدوث ) الثابت بقاعدة اليقين .

ص: 333

لكنّه لا يتمّ إلاّ على الأصل المثبت ، فهو تقدير على تقدير .

وربما يتوهّم الاستدلال لاثبات هذا المطلب بما دلّ الى عدم الاعتناء بالشك في الشيء بعد تجاوز محلّه .

لكنّه فاسد ، لأنّه على تقدير الدلالة لايدلّ على استمرار المشكوك ،

-------------------

هذا ( لكنّه ) اي : اثبات البقاء - لأجل القطع بالبقاء - على تقدير الحدوث الثابت بقاعدة اليقين ( لا يتمّ إلاّ على الأصل المثبت ) وذلك لان قاعدة اليقين تثبت الحدوث ، والقطع بالتلازم بين الحدوث والبقاء الذي هو لازم غير شرعي ، يثبت البقاء .

ومن المعلوم : ان اللوازم غير الشرعية ليست بحجة سواء في الاستصحاب أم في قاعدة اليقين ( فهو ) إذن ( تقدير على تقدير ) على ما عرفت : من انه إنّما يتم على تقدير العلم بالبقاء الملازم لتقدير الحدوث .

( وربما يتوهّم الاستدلال لاثبات هذا المطلب ) اي : اثبات المعنى الأوّل للقاعدة وهو اثبات المشكوك واثبات استمراره ( بما دلّ الى عدم الاعتناء بالشك في الشيء بعد تجاوز محلّه ) حيث قال عليه الصلاة والسلام : «اذا شككت في شيء من الوضوء ودخلت في غيره ، فشكّك ليس بشيء ، إنّما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه » (1) قالوا : ان هذا الدليل الدال على قاعدة التجاوز يدلّ عليه .

( لكنّه فاسد ، لأنّه على تقدير الدلالة ) فان الظاهر هو عدم دلالته على قاعدة اليقين ، وذلك لأنّ مناط قاعدة التجاوز تجاوز المحل لا اليقين السابق ، فانه مع تسليم ذلك ( لا يدلّ على استمرار المشكوك ) بل يدلّ على اصل ثبوته في محله ،

ص: 334


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 ، السرائر : ج3 ص554 .

لأنّ الشك في الاستمرار ، ليس شكا بعد تجاوز المحلّ .

وأضعف منه الاستدلال له بما سيجيء : من دعوى أصالة الصحة في اعتقاد المسلم ،

-------------------

ففي مثال الشك في متحقق عدالة زيد يوم الجمعة يدل على ثبوت العدالة يوم الجمعة ، لا استمرار العدالة الى يوم السبت .

وإنّما لا دلالة لهذا الدليل على الاستمرار ( لأنّ الشك في الاستمرار ، ليس شكا بعد تجاوز المحلّ ) فان الشك في استمرار عدالة زيد الى يوم السبت - مثلاً - ليس شكا بعد ما تجاوز المحل ، اذ ليس للعدالة محل .

( وأضعف منه ) اي : من الاستدلال لاثبات المعنى الاول للقاعدة بما دل على عدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز ( الاستدلال له بما سيجيء : من دعوى أصالة الصحة في اعتقاد المسلم ) بتقريب : ان اعتقاده بعدالة زيد يوم الجمعة كان صحيحا ، فاذا شك في اعتقاده حمل اعتقاده على الصحيح ، ودليل صحة الاعتقاد ما دل على صحة أمر المسلم ووضعه على الصحيح ، فانه يشمل نفسه ايضا ، ولذا قالوا : انه اذا شك في ان عباداته في اول البلوغ كانت صحيحة ام لا ، يحملها على الصحة ؟ .

وإنّما كان هذا الاستدلال أضعف لما ذكره الأوثق : بقوله : «ان الحمل على الصحة فرع قابلية المحمول للصحة والفساد ، وصحة الاعتقاد ليست كذلك ، لان المدار في جواز العمل به وعدمه ، على حصول نفس الصفة وعدمه ، وليس له قسم صحيح يجوز العمل به ، وقسم فاسد لا يجوز العمل به ، كالظن الخبري والقياسي حتى يجب الحمل على الصحيح عند دوران الأمر بين الصحيح والفاسد منه » (1) .

ص: 335


1- - أوثق الوسائل : ص538 الشرط الثاني يتيقن وجود المستصحب سابقا في حال الشك .

مع أنّه كالأول في عدم اثباته الاستمرار .

وكيف كان : فلا مدرك لهذه القاعدة بهذا المعنى .

وربما فصّل بعضُ الأساطين بين ما إذا علم مدرك الاعتقاد بعد زواله وأنّه غير قابل للاستناد اليه وبين ما إذا لم يذكره ، كما إذا علم أنّه اعتقد في زمان بطهارة ثوبه أو نجاسته ، ثم غاب المستند وغفل زمانا ،

-------------------

وعلى ايّ حال : فان هذا الاستدلال يعتمد على استدلال كاشف الغطاء الذي ادعى أصالة الصحة في جميع الموجودات حتى الاعتقاد وسيأتي نقله عنه انشاء اللّه تعالى .

هذا ( مع أنّه ) اي : هذا الاستدلال ( كالأول ) اي : كالاستدلال الاول الذي توهّمه المستدل لاثبات المعنى الاول للقاعدة ( في عدم اثباته الاستمرار ) وإنّما يثبت - على فرض تسليم دلالته - : ان عدالة زيد في يوم الجمعة كانت صحيحة ، لا أن عدالته مستمرة الى يوم السبت - مثلاً - .

( وكيف كان : فلا مدرك لهذه القاعدة ) اي : قاعدة اليقين ( بهذا المعنى ) اي : بالمعنى الاول الذي هو الثبوت ثم البقاء .

( وربما فصّل بعضُ الأساطين ) وهو كاشف الغطاء ( بين ما إذا علم مدرك الاعتقاد بعد زواله ) اي : بعد زوال الاعتقاد ( وأنّه غير قابل للاستناد اليه ) كما اذا اعتقد بعدالة زيد من إخبار عمرو وبكر ، ثم علم في يوم السبت ان عمروا وبكرا ليسا بعادلين حتى يكون خبرهما حجة ، ففي هذا المورد قال كاشف الغطاء بعدم جريان قاعدة اليقين فيه .

( وبين ما إذا لم يذكره ، كما إذا علم أنّه اعتقد في زمان بطهارة ثوبه أو نجاسته ، ثم غاب المستند ) عن ذهنه بأن نسي مدرك اعتقاده ( وغفل زمانا ) ومدّة عن ذلك

ص: 336

فشك في طهارته ونجاسته ، فيبني على معتقده هنا ، لا في الصورة الاُولى ، وهو وإن كان أجود من الاطلاق ، لكن إتمامه بالدليل مشكل .

وإن اُريد بها الثاني ، فلا مدرك له بعد عدم دلالة اخبار الاستصحاب إلاّ ما تقدّم : من اخبار عدم الاعتناء بالشك بعد تجاوز المحلّ .

لكنّها لو تمّت ،

-------------------

( فشك ) بعدها ( في طهارته ونجاسته ، فيبني على معتقده هنا ) اي : في هذه الصورة الثانية فقط ( لا في الصورة الاُولى ) فقاعدة اليقين إذن حجة في بعض الموارد وليست بحجة في بعضها الآخر .

( وهو ) اي : هذا التفصيل الذي ذكره كاشف الغطاء ( وإن كان أجود من الاطلاق ) لان كاشف الغطاء يمنع بعض صور قاعدة اليقين على المعنى الاول ، ولا يقول بحجيتها كلها، بينما الاطلاق يقول بحجية قاعدة اليقين على المعنى الاول في كل صورها ، فهذا التفصيل وان كان اجود ( لكن إتمامه ) اي : اتمام اعتبار الحجية للقاعدة بالمعنى الاول واسناده ( بالدليل مشكل ) لما عرفت : من ان روايات الاستصحاب ، وكذا قاعدة التجاوز ، مضافا الى اصل الصحة لا يشمل شيء منها قاعدة اليقين بالمعنى الاول .

( وإن اُريد بها ) اي : بقاعدة اليقين المعنى ( الثاني ) وهو الذي ذكره المصنِّف بقوله : «وامّا ان يكون مجرّد حدوثه في الزمان السابق بدون اثباته بعده» بأن يراد اثبات عدالة زيد في يوم الجمعة فقط ( فلا مدرك له ) يدل عليه ( بعد عدم دلالة اخبار الاستصحاب ) على قاعدة اليقين كما عرفت تفصيله ( إلاّ ما تقدّم : من اخبار عدم الاعتناء بالشك بعد تجاوز المحلّ ) المعبّر عنها بقاعدة التجاوز .

هذا ، وقد مضى عدم دلالتها ( لكنّها لو تمّت ) اي : اخبار قاعدة التجاوز سندا

ص: 337

فانّما تنفع في الآثار المترتّبة عليه سابقا ، فلا يثبت بها إلاّ صحة ما ترتّبت عليها .

وأمّا اثبات نفس ما اعتقده سابقا حتى يترتب عليه بعد ذلك الآثار المترتّبة على عدالة زيد يوم الجمعة وطهارة ثوبه في الوقت السابق فلا ، فضلاً عن اثبات مقارناته غير الشرعية ،

-------------------

ودلالة ( فانّما تنفع في ) اثبات المعنى الثالث لقاعدة اليقين دون المعنى الثاني الذي هو محل كلامنا الآن ، اذ دليل التجاوز يفيد امضاء ( الآثار المترتّبة عليه سابقا ) فقط يعني : ان دليل التجاوز يقول : ان الصلاة التي صلّيتها خلف هذا الانسان صحيحة ، لا ان هذا الانسان عادل ، وهذا هو المعنى الثالث لقاعدة اليقين .

إذن : ( فلا يثبت بها إلاّ صحة ما ترتّبت عليها ) سابقا من الصلوات التي صلاها - مثلاً - خلفه حين يقينه بعدالته .

( وأمّا اثبات نفس ما اعتقده سابقا ) من عدالته يعني : اثبات نفس العدالة ( حتى يترتب عليه بعد ذلك ) اي : لاحقا في يوم السبت - مثلاً - لوازمه الشرعية ايضا من ( الآثار المترتّبة على عدالة زيد يوم الجمعة ) كوجوب التصدق بدينار كل يوم فيما لو علّق نذره على ثبوت عدالة زيد يوم الجمعة ( و ) الآثار المترتبة على ( طهارة ثوبه في الوقت السابق ) فيما لو كان معتقدا بطهارة ثوبه ثم شك في معتقده ، حتى يكون ما لاقاه برطوبة طاهرا الآن ايضا ، فيتمكن من ان يُصلي فيه ( فلا ) لان قاعدة التجاوز تثبت الأثر لا المؤثر .

وعليه : فان قاعدة التجاوز لا تنفع ، الاّ لاثبات الآثار الشرعية السابقة ، فلا تثبت الآثار الشرعية اللاحقة للمتيقن ( فضلاً عن اثبات مقارناته غير الشرعية ،

ص: 338

مثل كونها على تقدير الحدوث باقية .

وإن اُريد بها الثالث ، فله وجهٌ ، بناءا على تماميّة قاعدة الشك بعد الفراغ وتجاوز المحلّ .

فاذا صلّى بالطهارة المعتقدة ، ثم شك في صحة اعتقاده وكونه متطهّرا في ذلك الزمان بنى على صحّة الصلاة ، لكنّه ليس من جهة اعتبار الاعتقاد السابق .

ولذا لو فرض في السابق غافلاً غير معتقد لشيء من الطهارة والحدث

-------------------

مثل كونها ) اي : العدالة والطهارة وأشباههما ( على تقدير الحدوث باقية ) ومستمرة لاحقا .

( وإن اُريد بها ) اي : بقاعدة اليقين المعنى ( الثالث ) وهو الذي ذكره المصنِّف بقوله : «واما ان يراد مجرد امضاء الآثار التي ترتب عليها سابقا» ( فله وجهٌ ) وذلك

( بناءا على تماميّة قاعدة الشك بعد الفراغ وتجاوز المحلّ ) علما بان قاعدة الفراغ اعم مطلقا من قاعدة التجاوز اذ كل فراغ تجاوز ، وليس كل تجاوز فراغا ، فاذا شك بعد الصلاة في شيء من اجزاء الصلاة كان شكا بعد الفراغ وتجاوز ايضا ، بينما اذا شك في اثناء السورة بانه قرء الحمد ام لا ، كان شكا بعد التجاوز وليس فراغا .

وعلى اي حال : ( فاذا صلّى بالطهارة المعتقدة ، ثم شك في صحة اعتقاده وكونه متطهّرا في ذلك الزمان ) الذي صلّى فيه ام لا ( بنى على صحة الصلاة ) لانه شك بعد الفراغ ( لكنّه ليس من جهة اعتبار الاعتقاد السابق ) حتى يكون ذلك من جهة قاعدة اليقين ، بل صحة الصلاة من جهة عدم اعتبار الشك بعد الفراغ .

( ولذا لو فرض ) كونه ( في السابق غافلاً غير معتقد لشيء من الطهارة والحدث ) وصلّى غافلاً عن الصحة والفساد ، وبعد تمام الصلاة شك في ان

ص: 339

بنى على الصحة أيضا ، من جهة أنّ الشك في الصلاة بعد الفراغ منها لا اعتبار به ، على المشهور بين الاصحاب ، خلافا لجماعة من متأخري المتأخرين ، كصاحب المدارك ، وكاشف اللثام ، حيث منعا البناء على صحة الطواف اذا شك بعد الفراغ في كونه مع الطهارة ، والظاهر كما يظهر من الأخير أنّهم يمنعون القاعدة المذكورة في غير أجزاء العمل .

ولعلّ بعض الكلام في ذلك سيجيء في مسألة أصالة الصحة في الأفعال

-------------------

صلاته كانت بطهارة ام لا ( بنى على الصحة أيضا ) مع انه لا يقين في السابق ، اذ المفروض انه غافل حين الصلاة عن كونه متطهرا ام محدثا فيكون بناؤه على الصحة ( من جهة أنّ الشك في الصلاة بعد الفراغ منها لا اعتبار به ) اي : بهذا الشك وذلك ( على المشهور بين الاصحاب ) وكذا يكون بالنسبة الى الصوم والحج والوضوء والغسل وما اشبه ذلك ، كما ذكروه في الفقه ( خلافا لجماعة من متأخري المتأخرين ، كصاحب المدارك ، وكاشف اللثام ، حيث منعا البناء على صحة الطواف اذا شك بعد الفراغ في كونه مع الطهارة ) طاف ام لا ؟ ( والظاهر كما يظهر من الأخير ) اي : من كاشف اللثام : ( أنّهم يمنعون القاعدة المذكورة في غير أجزاء العمل ) ولعله لانهم لا يرون اثنينيّةً بين الفراغ والتجاوز ، بل يعدّونهما قاعدة واحدة فيخصون جريانها في الأجزاء فقط ، كما اذا شك حال الركوع في القراءة ، او شك حال السجود في الركوع ، وهكذا ، فانه يبني على الصحة ، لا بعد مجموع العمل ، كالمثال المذكور من الشك بعد الفراغ من الطواف فانه شك بعد مجموع العمل ، بالاضافة الى انه شك في الشرط لا في الجزء .

( ولعلّ بعض الكلام في ذلك سيجيء في مسألة أصالة الصحة في الأفعال

ص: 340

انشاء اللّه .

وحاصل الكلام في هذا المقام هو : أنّه اذا اعتقد المكلّف قصورا أو تقصيرا بشيء في زمان ، موضوعا كان أو حكما إجتهاديا أو تقليديا ، ثم زال اعتقاده ، فلا ينفع اعتقاده السابق في ترتّب آثار المعتقد ، بل يرجع بعد زوال الاعتقاد الى ما يقتضيه الاصول بالنسبة الى نفس المعتقد والى الآثار المترتبة عليه سابقا أو لاحقا .

-------------------

انشاء اللّه ) تعالى ، كما ان تفصيل الكلام حوله مذكور في الفقه .

( وحاصل الكلام في هذا المقام ) عن قاعدة اليقين ( هو : أنّه اذا اعتقد المكلّف قصورا ) في مدرك اعتقاده كما لو اعتمد على عدلين تبين فسقهما ( أو تقصيرا ) كالاعتماد على من لم يعتدّ بخبره ، فاعتقده من اجله ( بشيء في زمان ) كيوم الجمعة ( موضوعا كان ) ذلك الشيء كعدالة زيد ( أو حكما ) كطهارة عرق الجنب من الحرام ( إجتهاديا ) بان اجتهد فاعتقد بطهارة عرق الجنب من الحرام ( أو تقليديا ) بان قلّد فاعتقد بالطهارة المذكورة ( ثم زال اعتقاده ) يوم السبت ( فلا ينفع اعتقاده السابق في ترتّب آثار المعتقد ) من العدالة والطهارة وغير ذلك ، لعدم الدليل على قاعدة اليقين بمعانيها الثلاثة .

( بل يرجع بعد زوال الاعتقاد الى ما يقتضيه الاصول بالنسبة الى نفس المعتقد ) فيرجع الى أصالة الفسق في زيد الذي اعتقد عدالته يوم الجمعة ، كما يرجع الى استصحاب نجاسة عرق الجنب من الحرام ، فيما اذا كان اجتهاده السابق النجاسة ( و ) كذا يرجع الى ما تقتضيه الاصول بالنسبة ( الى الآثار المترتبة عليه ) اي : على معتقده ( سابقا ) فيرجع الى قاعدة الفراغ ويحكم بصحة صلاته التي صلاّها خلفّ زيد يوم الجمعة ( أو لاحقا ) فيرجع الى اصل البرائة من وجوب

ص: 341

الثالث :

أن يكون كلُّ من بقاء ما أحرز حدوثه سابقا ، وارتفاعه غير معلوم ، فلو علم احدهما فلا استصحاب ، وهذا مع العلم بالبقاء أو الارتفاع واقعا من دليل قطعي واقعي واضحٌ .

وإنّما الكلام فيما أقامه الشارعُ مقام العلم بالواقع ،

-------------------

التصدق كل يوم بدينار فيما لو علق نذره على ثبوت عدالة زيد يوم الجمعة .

( الثالث ) ممّا يعتبر في تحقق مفهوم الاستصحاب هو عدم العلم بالبقاء ولا بالارتفاع ، يعني ( أن يكون كلُّ من بقاء ما أحرز حدوثه سابقا ، وارتفاعه غير معلوم ) لنا في الزمان الثاني فاذا علمنا بعدالة زيد يوم الجمعة ، ثم في يوم السبت علمنا بانه عادل او علمنا بانه ليس بعادل ، فلا مورد للاستصحاب كما قال : ( فلو علم احدهما ) اي : البقاء او الارتفاع ( فلا استصحاب ) لانه لا شك وقد عرفت : بأن من مقومات الاستصحاب الشك اللاحق .

( وهذا ) اي : عدم الاستصحاب ( مع العلم بالبقاء أو الارتفاع واقعا من دليل قطعي واقعي واضحٌ ) لأنه لا شك اذا قطع بانه باق ، أو قطع بانه مرتفع ، ومع عدم الشك لا استصحاب .

إذن : فلا كلام في عدم الاستصحاب فيما لو علم بالبقاء او الارتفاع من دليل قطعي ( وإنّما الكلام فيما أقامه الشارعُ مقام العلم بالواقع ) من الأمارات والطرق :

كالخبر الواحد والاجماع المنقول في الاحكام ، وكالبينة والسوق في الموضوعات، وذلك كما اذا اقتضى الاستصحاب طهارة شيء وقامت البينة على نجاسته ، او اقتضى الاستصحاب نجاسة شيء ولكن دلّ السوق على طهارته ، كاللحم الذي يباع في سوق المسلمين فايّهما يكون المقدّم ؟ .

ص: 342

فانّ الشك الوقعي في البقاء والارتفاع لا يزول معه ، ولاريب في العمل به دون الحالة السابقة .

لكنّ الشأن في أنّ العمل به من باب تخصيص أدلّة الاستصحاب أو من باب التخصّص .

الظاهر : أنّه من باب حكومة أدلّة تلك الامور على أدلّة الاستصحاب ،

-------------------

وكيف كان : ( فانّ الشك الوقعي في البقاء والارتفاع لا يزول معه ) اي : مع ما أقامه الشارع مقام العلم ، حتى لا يجري الاستصحاب ، وذلك لان الانسان مع قيام البينة أو السوق على النجاسة او الطهارة لا يزول شكه ، بل يبقى شاكا في الطهارة وعدمها حقيقة ، غاية الامر انه يكون مع قيام البينة او السوق - مثلاً - متعبّدا من قبل الشارع بخلاف الحالة السابقة ، لا عالما بخلاف الحالة السابقة .

هذا ، ولكن لا شك ( ولاريب في العمل به ) اي : العمل بما اقامه الشارع من الدليل مقام العلم دون الاستصحاب ، يعني : ( دون الحالة السابقة ) فانه لا يصح العمل بالحالة السابقة قطعا ( لكنّ الشأن ) والكلام ( في أنّ العمل به ) اي : بما اقامه الشارع من الدليل المضادّ للحالة السابقة هل هو ( من باب تخصيص أدلّة الاستصحاب ) علما بأن التخصيص هو اخراج حكمي ، وذلك كأن يقول الشارع : اعمل بالاستصحاب الاّ اذا قام الدليل على خلافه ( أو من باب التخصّص ) علما بأن التخصّص هو خروج موضوعي ، فيكون من قبيل عدم اكرام زيد الجاهل فيما اذا قام الدليل على اكرام العلماء ، فان عدم اكرام زيد الجاهل من باب التخصّص لا التخصيص ؟ .

( الظاهر : أنّه من باب حكومة أدلّة تلك الامور ) من الخبر الواحد والاجماع والبيّنة والسوق وما اشبه ذلك ( على أدلّة الاستصحاب ) علما بأن الحكومة هي :

ص: 343

وليس تخصيصا بمعنى : رفع اليد عن عموم أدلّة الاستصحاب في بعض الموارد ، كما رفع اليد عنها في مسألة الشك بين الثلاث والأربع ونحوها بما دلّت على وجوب البناء على الأكثر ولاتخصّصا بمعنى خروج المورد بمجرّد

-------------------

توسيع او تضييق في دائرة الموضوع ، وذلك كأن يقول الشارع فيما نحن فيه : اعمل بالاستصحاب ولكن اذا قام الدليل على خلافه ضيّق دائرة الاستصحاب عن شمول هذا المورد ، فلا يشمله تضييقا ، للحكومة ، ومنه يعرف عكسه في التوسيع .

إذن : فما نحن فيه هو من باب الحكومة ( وليس تخصيصا ) كما يراه صاحب الرياض حيث قال في محكي كلامه : ان الأمارة تتقدم على الاصول بألوان التخصيص ، والتخصيص على ما عرفت ( بمعنى : رفع اليد عن عموم أدلّة الاستصحاب في بعض الموارد ، كما رفع اليد عنها ) اي : عن ادلة الاستصحاب ( في مسألة الشك بين الثلاث والأربع ونحوها ) اذا كان الشك فيها بعد اكمال السجدتين ، فانه يرفع اليد عن الاستصحاب الدال على الأقل ( بما ) اي : بالادلة التي ( دلّت على وجوب البناء على الأكثر ) فان الشارع الغى الاستصحاب في ركعات الصلاة مع تمامية اركانه ، وجعل بدله العمل بالبناء على الاكثر ، وذلك على ما هو مذكور في الفقه .

وعليه : فما نحن فيه من باب الحكومة لا تخصيصا على ما عرفت ( ولا تخصّصا ) والمراد بالتخصّص هنا ليس هو التخصّص الاصطلاحي بل هو : الورود ، علما بأن الورود هو : نسف للموضوع بحيث يكون وجود احد الدليلين مخرجا للشيء عن موضوع الدليل الآخر ، اي : ( بمعنى خروج المورد بمجرّد

ص: 344

وجود الدليل - عن مورد الاستصحاب ، لأنّ هذا مختصّ بالدليل العلمي المزيل بوجوده للشك المأخوذ في مجرى الاستصحاب .

-------------------

وجود الدليل - عن مورد الاستصحاب ) .

مثلا : اذا شككنا في طهارة ماء كان مسبوقا بالنجاسة ، فالاستصحاب يقول بنجاسة الماء ، فاذا قامت البينة على طهارته كانت البينة حاكمة على الاستصحاب لا واردة عليه ، وذلك لان مجرّد وجود البينة لا يزيل الشك في بقاء النجاسة ، لوضوح : ان البيّنة تقوم ، ومع ذلك يكون الانسان شاكا في انه هل هو نجس او طاهر ؟ .

نعم ، دليل اعتبار البيّنة يوجب تقدّم البيّنة على الاستصحاب بعنوان الحكومة ، بينما الدليل الوارد هو ما كان يزيل الشك فينسف موضوع ما لا يعلمون بورود دليل على حرمة التتن - مثلاً - فيتحوّل اللاعلم الى العلم ، كما اشار اليه المصنِّف بقوله : ( لأنّ هذا ) اي : التخصّص بمعنى الورود ( مختصّ بالدليل العلمي المزيل بوجوده ) اي : بوجود هذا الدليل العلمي ( للشك المأخوذ في مجرى الاستصحاب ) .

إذن : فالورود إنّما هو من قبيل ما اذا بيّن الشارع حكما ، حيث ان البيان ينسف موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان - وهو الشك - ويزيله ، وليس كذلك الطرق والأمارات في مورد الاستصحاب فانه لا يزول الشك بها ، فيكون مثل الخبر الواحد والاجماع في الاحكام ، والبيّنة والسوق في الموضوعات حاكمة على الاستصحاب لا مخصصة ، ولا واردة ، وقد عبّر المصنِّف عن الورود بالتخصّص حيث قال : وليس تخصيصا ولا تخصّصا .

ص: 345

ومعنى الحكومة : على ما سيجيء في باب التعارض والتراجيح أن يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل الآخر ، لولا هذا الدليل الحاكم أو بوجوب العمل في مورد بحكم لا يقتضيه دليله لولا

-------------------

هذا ( ومعنى الحكومة : على ما سيجيء في باب التعارض والتراجيح ) ان شاء اللّه تعالى وعلى ما سبق من تعريفنا له هو : ان يكون الدليل الحاكم ناظرا الى الدليل المحكوم ومفسرا له ، اما بتضيق دائرة موضوعه يعني : باخراج شيء منه ، او بتوسيع دائرة موضوعه ، يعني : بادخال شيء فيه .

إذن : فالتضييق هو : ( أن يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل الآخر ، لولا هذا الدليل الحاكم ) .

مثلاً : اذا قال الشارع : « اذا شككت فابن على الاكثر » (1) ، كان هذا دليلاً على وجوب البناء على الاكثر مطلقا ، سواء كان شك الإمام والمأموم ام غيرهما ، لكن الشارع لما ذكر انه لا اعتبار بشك الإمام مع حفظ المأموم او شك المأموم مع حفظ الإمام ، سقط قاعدة وجوب البناء على الاكثر فيما لو شك احدهما مع حفظ الآخر، فالدليل الحاكم ضيّق موضوع دليل المحكوم ، حيث ان دليل المحكوم كان شاملاً لشك الإمام والمأموم والدليل الحاكم ضيّقه واخرج من البناء على الاكثر شك الإمام والمأموم مع حفظ الآخر ، وهذه هي الحكومة المضيّقة .

وأمّا الحكومة الموسّعة ، فقد اشار اليها المصنِّف بقوله : ( أو ) ان يحكم الشارع ( بوجوب العمل في مورد بحكم لا يقتضيه دليله ) اي : دليل ذلك المورد ( لولا

ص: 346


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص340 ح992 ، جامع احاديث الشيعة : ج5 ص601 ح2 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10451 .

الدليل الحاكم ، وسيجيء توضيحه إن شاء اللّه .

ففي ما نحن فيه اذا قال الشارع : « إعمل بالبيّنة في نجاسة ثوبك » والمفروض : أنّ الشك موجود مع قيام البيّنة على نجاسة الثوب ، فانّ الشارع حكم

-------------------

الدليل الحاكم ) بأن يكون الدليل الحاكم أعم ، كما اذا قال الشارع : «لا صلاة الاّ بطهور » (1) ، ثم قال : « الطواف بالبيت صلاة » (2) فالدليل الثاني يقتضي وجوب الطهور عند الطواف ، مع ان الدليل الاول اقتضى اختصاص الطهور بالصلاة فقط ، لكن الطواف بالبيت صلاة وسّع دائرة الصلاة بحيث جعلها تشمل الصلاة المتعارفة والطواف ، ولذلك يكون الدليل القائل : الطواف بالبيت صلاة ، حاكم: على الدليل : القائل : لا صلاة الاّ بطهور ( وسيجيء توضيحه إن شاء اللّه ) تعالى مفصّلاً .

وكيف كان : ( ففي ما نحن فيه ) من كون دليل الاستصحاب محكوما ، ودليل الخبر او الاجماع في الاحكام ، او البيّنة والسوق في الموضوعات حاكما ، قد اجتمع التضييق والتوسعة فيه معا ، وذلك كما ( اذا قال الشارع : « إعمل بالبيّنة في نجاسة ثوبك » ) الذي هو مجرى استصحاب الطهارة فيما اذا قامت البيّنة على نجاسته ، فعامله معاملة النجس وان احتملت الخلاف .

هذا ( والمفروض : أنّ الشك موجود ) تكوينا ( مع قيام البيّنة على نجاسة الثوب ) الذي جرى فيه استصحاب الطهارة ، ولكن مع ذلك ( فانّ الشارع حكم

ص: 347


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص33 ح67 و ص58 ح129 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص49 ب3 ح83 و ص209 ب9 ح8 و ج2 ص140 ب23 ح3 و4 ، وسائل الشيعة : ج1 ص315 ب9 ح829 ، الاستبصار : ج1 ص55 ب31 ح15 و 16 ، مفتاح الفلاح : ص202 ، غوالي اللئالي : ج3 ص8 ح1، الامالي للصدوق : ص645 .
2- - نهج الحق : ص472 ، غوالي اللئالي : ج1 ص414 و ج2 ص167 ح3 ، وسائل الشيعة : ج13 ص376 ب38 ح17997 ، مستدرك الوسائل : ج9 ص410 ب38 ح11203 .

في دليل وجوب العمل بالبيّنة برفع اليد عن آثار الاحتمال المخالف للبينّة ، التي منها استصحاب الطهارة .

وربما يُجعل العمل بالأدلة في مقابل الاستصحاب من باب التخصيص ، بناءا على أنّ المراد من الشك عدم الدليل والطريق ، والتحيّرُ في العمل ، ومع قيام الدليل الاجتهادي لاحيرة .

-------------------

في دليل وجوب العمل بالبيّنة ) حيث قال : «والاشياء كلها على ذلك حتى تستبين او تقوم به البينة » (1) ( برفع اليد عن آثار الاحتمال المخالف للبينّة ) اي : نزَّلَ مؤدّى البيّنة بالتوسعة منزلة العلم وجعله علما ، ففسّر به دليل الاستصحاب بتضييق موضوعه وهو الشك وجعله كلا شك ، فحكم من اجل البينة برفع اليد عن الآثار المترتبة على الاحتمال المخالف للبينة ، و ( التي منها ) اي : من تلك الآثار ( استصحاب الطهارة ) فلا تستصحب الطهارة حينئذ من باب الحكومة .

هذا ( وربما يُجعل العمل بالأدلة في مقابل الاستصحاب من باب التخصيص ) وفي بعض النسخ : «من باب التخصّص» والمراد من التخصّص الورود ، والتخصّص بهذا المعنى هو الأوفق هنا نظرا لما بعده من عبارة المصنِّف حيث يقول : ( بناءا على أنّ المراد من الشك ) الذي هو موضوع الاستصحاب ليس هو عدم العلم الذي لا يرتفع الاّ بالعلم ، بل المراد بالشك هو : إما ( عدم الدليل والطريق ، و ) إما ( التحيّرُ في العمل ، و ) من المعلوم : انه ( مع قيام الدليل الاجتهادي لاحيرة ) فلا استصحاب .

إذن : فحيث انه لا يبقى مع الدليل الاجتهادي موضوع للاستصحاب ، يكون

ص: 348


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

وإن شئت قلت : إنّ المفروض دليلاً قطعيُّ الاعتبار ، فنقضُ الحالة السابقة نقضٌ باليقين .

وفيه :

-------------------

الدليل الاجتهادي واردا ، لما عرفت : من ان الورود عبارة عن ان احد الدليلين يرفع موضوع الدليل الآخر ، وهنا كان موضوع الاستصحاب حسب الفرض : عدم الدليل ، وقد ورد الدليل من خبر او اجماع على خلاف الاستصحاب ، فارتفع به موضوع الاستصحاب ، بينما يكون الدليل على ما ذكره المصنِّف ، حاكما ، لان موضوع الاستصحاب عنده هو عدم العلم ، والدليل لا يقلب عدم العلم علما حتى يكون ورودا .

( وإن شئت قلت : ) في تقريب كون الادلة واردة على الاستصحاب : ( إنّ المفروض دليلاً ) كالبينة والسوق ، والخبر والاجماع ( قطعيُّ الاعتبار ) فاذا كان اعتباره قطعيا يقينيا ( فنقضُ الحالة السابقة ) إنّما هو ( نقضٌ باليقين ) لا نقض بالشك حتى يشمله دليل : « لا تنقض اليقين بالشك » (1) ومعه لم يبق موضوع للاستصحاب ، وهو معنى الورود .

والحاصل : ان موضوع الاستصحاب على هذا التقريب هو : الشك بمعنى : عدم العلم ، والمراد بالعلم هو : ما يعم الواقعي ، وما قامت البينة والسوق عليه ، او ما قام الخبر والاجماع عليه ، فمؤدّاه علم ، فينتفي عدم العلم الذي هو موضوع الاستصحاب ، فالدليل إذن وارد لا حاكم عليه .

( وفيه : ) إنّ أدلّة حجية الخبر ، وحجية البيّنة ، شارحة لدليل اعتبار

ص: 349


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

أنّه لا يرفع التحيّر ، ولا يصير الدليل الاجتهادي قطعيّ الاعتبار في خصوص مورد الاستصحاب إلاّ بعد اثبات كون مؤدّاه حاكما على مؤدّى الاستصحاب ، وإلاّ أمكن أن يقال : إنّ مؤدّى الاستصحاب وجوبُ العمل على الحالة السابقة مع عدم اليقين بارتفاعها ، سواء كان هناك الأمارة الفلانيّة أم لا ؟ ومؤدّى دليل تلك الأمارة وجوب العمل بمؤدّاه ، خالف الحالة السابقة أم لا ؟.

-------------------

الاستصحاب ومفسّرة له ، فيكون تقدّمها على الاستصحاب بالحكومة ، من قبيل شك الإمام والمأموم الحاكم على : « ان شككت فابن على الاكثر » (1) ونحوه ، وذلك ( أنّه ) اي : ان قيام الدليل الاجتهادي كالخبر ( لا يرفع التحيّر ، ولا يصير الدليل الاجتهادي قطعيّ الاعتبار في خصوص مورد الاستصحاب ) حتى يكون الدليل الاجتهادي واردا على دليل الاستصحاب ( إلاّ بعد اثبات كون مؤدّاه ) أي : مؤدّى ذلك الدليل الاجتهادي (حاكما على مؤدّى الاستصحاب) وشارحا ومفسرا له.

( وإلاّ ) بان لم يثبت كون مؤدّى الدليل حاكما على مؤدّى الاستصحاب ، لم يكن وجه لتقديم الأمارة على الاستصحاب ، بل ( أمكن أن يقال : إنّ مؤدّى الاستصحاب ) هو : ( وجوبُ العمل على الحالة السابقة مع عدم اليقين بارتفاعها ، سواء كان هناك الأمارة الفلانيّة ) على الخلاف كالبينة ( أم لا ؟ ) هذا مؤدّى الاستصحاب ( ومؤدّى دليل تلك الأمارة ) هو : ( وجوب العمل بمؤدّاه ، خالف الحالة السابقة ) بان كان في مورد الاستصحاب ( أم لا ؟ ) فعموم الدليلين - : الاستصحاب والأمارة - في مادة التعارض ان لم نقل بحكومة دليل اعتبار الأمارة

ص: 350


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص340 ح992 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10451 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص601 ح2 .

ولا يندفع مغالطةُ هذا الكلام إلاّ بما ذكرنا : من طريق الحكومة ، كما لا يخفى .

وكيف كان : فجعل بعضهم عدم الدليل الاجتهادي على خلاف الحالة السابقة من شرائط العمل بالاستصحاب لا يخلو من مسامحة ، لأنّ مرجع ذلك بظاهره الى عدم المعارض لعموم « لا تنقض » ،

-------------------

لم يكن وجه لتقديمه على الاستصحاب .

إذن : فلا يتم تقديم الأمارة على الاستصحاب في مادّة تعارضهما ( ولا يندفع مغالطة هذا الكلام إلاّ بما ذكرنا : من طريق الحكومة كما لا يخفى ) ذلك على كل اصولي دقيق .

( وكيف كان ) فانه سواء كان تقدّم الأمارة على الاستصحاب من باب الحكومة كما يراه المصنِّف ، أم من باب الورود كما يراه غيره ( فجعل بعضهم عدم الدليل الاجتهادي على خلاف الحالة السابقة من شرائط العمل بالاستصحاب ) مع انه من شرايط جريان الاستصحاب ، لان وجوده يكون مانعا من جريانه ومخصصا لعموم لا تنقض ، فهو ( لا يخلو من مسامحة ) في التعبير ، فاللازم ان يأتي هذا البعض بكلمة : « ارتفاع » مكان كلمة : « خلاف » فيقول : من شرائط العمل بالاستصحاب عدم الدليل الاجتهادي على ارتفاع الحالة السابقة ، بدل قوله : على خلاف الحالة السابقة ، حتى يكون من شرائط العمل بالاستصحاب .

وإنّما لا يخلو هذا التعبير من مسامحة ( لأنّ مرجع ذلك ) التعبير يعني : على خلاف الحالة السابقة ( بظاهره الى ) شرط تحقق جريان الاستصحاب وهو : ( عدم ) وجود الدليل الاجتهادي ( المعارض لعموم « لا تنقض » ) فإنّ وجود الدليل الاجتهادي المعارض يكون مانعا عن جريان الاستصحاب ومخصصا

ص: 351

كما في مسألة البناء على الأكثر ، لكنّه ليس مراد هذا المشترط قطعا ، بل مراده عدم الدليل على ارتفاع الحالة السابقة .

ولعلّ ما أورده عليه المحقق القمي رحمه اللّه : من « أنّ الاستصحاب أيضا أحدٌ من الأدلّة فقد يرجّح عليه الدليل ، وقد يرجّح على الدليل ، وقد لا يرجّح أحدُهما على الآخر .

-------------------

لعموم دليله ( كما في مسألة البناء على الأكثر ) عند الشك في ركعات الصلاة ، فانه دليل اجتهادي مانع من جريان الاستصحاب ومخصص لعموم دليله في البناء على الاقل ، وهذا ليس من شرائط العمل بعموم دليل الاستصحاب فقط ، بل من شرائط العمل بعموم كل عام ، ( لكنّه ) اي : اشتراط عدم وجود الدليل الاجتهادي المعارض للاستصحاب ( ليس مراد هذا المشترط قطعا ) لان وجود الدليل الاجتهادي على خلاف الحالة السابقة يكون مانعا عن جريان الاستصحاب ومخصصا لعموم دليله ، وليس حاكما ، ولا واردا على الاستصحاب ، مضافا الى ان هذا الشرط ليس مختصا بعموم دليل الاستصحاب فقط، بل يجري في عموم كل عام.

إذن : فليس مراد المشترط : عدم وجود الدليل الاجتهادي المعارض ، الذي هو مانع من جريان الاستصحاب ومخصّصا لعموم دليله على ما يظهر من تعبيره ( بل مراده ) من تعبيره بذلك : ( عدم الدليل ) الاجتهادي ( على ارتفاع الحالة السابقة ) الذي هو حاكم برأي المصنِّف أو وارد برأي غيره على الاستصحاب .

( ولعلّ ما أورده عليه ) اي : على هذا المشترط ( المحقق القمي رحمه اللّه : من « أنّ الاستصحاب ) على كلام هذا المشترط يكون ( أيضا أحدٌ من الأدلّة ) فيكون حال الاستصحاب حال سائر الادلة عند وجود المعارض ( فقد يرجّح عليه الدليل ، وقد يرجّح ) هو ( على الدليل ، وقد لا يرجّح أحدُهما على الآخر ) بل يتعارضان

ص: 352

قال قدس سره « ولذا ذكر بعضهم في مال المفقود : أنّه في حكم ماله حتى يحصل العلم العادي بموته استصحابا لحياته ، مع وجود الروايات المعتبرة - المعمول بها عند بعضهم ، بل عند جمع من المحققين - الدالة على وجوب الفحص أربع سنين » ، مبنيٌّ على ظاهر كلامه ، من إرادة العمل بعموم « لا تنقض » .

-------------------

ويتساقطان ، فاللازم حينئذ التماس دليل ثالث .

ثم ( قال قدس سره ) في اثبات ايراده هذا على المشترط : ( « ولذا ذكر بعضهم في مال المفقود : أنّه في حكم ماله ) اي : مال المفقود من حيث عدم جواز التصرف فيه ، وعَدم جواز تقسيمه بين الورثة ( حتى يحصل العلم العادي ) اي : الاطيمنان ( بموته ) .

وإنّما قال هذا البعض : لا يجوز تقسيم مال المفقود على الورثة ( استصحابا لحياته ) فانه جعل الاستصحاب كواحد من الأدلة وافتى طبقه ، وذلك ( مع وجود الروايات المعتبرة - المعمول بها عند بعضهم ، بل عند جمع من المحققين - الدالة على وجوب الفحص أربع سنين » ) والقائلة : بانه اذا عُثر عليه في هذه المدة - فبها ، وإلاّ قسمت أمواله بين ورثته ، وهذا لم يعمل بها وإنّما رجّح الاستصحاب وعمل به دونها .

وكيف كان : فان ما أورده المحقق القمي على هذا المشترط مؤيّدا له بالمثال المذكور ، لعله ( مبنيٌّ على ظاهر كلامه ) اي : ظاهر كلام المشترط : ( من إرادة العمل بعموم « لا تنقض » ) لا ما حققه المصنِّف : من ان ارادة هذا المشترط من كلامه هو : عدم الدليل الاجتهادي على ارتفاع الحالة السابقة .

والحاصل: ان ما ذكرناه هو : انه يشترط في العمل بالاستصحاب ان لا يكون

ص: 353

وأمّا على ما جزمنا به : من أنّ مرادَه عدم ما يدلّ علما أو ظنا على ارتفاع الحالة السابقة ، فلا وجه لورود ذلك ، لأنّ الاستصحاب إن اُخذ من باب التعبّد ، فقد عرفت : حكومة أدلة جميع الأمارات الاجتهادية على دليله ،

-------------------

هناك دليل رافع له ، وما ذكره المشترط هو : ان لا يكون هناك دليل مخالف له ، وما أورده المحقق القمي وأيدّه بالمثال مبني على ظاهر كلام هذا المشترط ، لا على كلامنا ، والفرق بين كلامنا وكلام المشترط هو : ان كلامنا معناه : شرط العمل ، وكلام المشترط معناه : شرط الجريان .

مثلاً : قد نقول : ان شرط جريان الخبر الواحد أن لا يكون له مخالف ، كوجود خبر آخر معارض له ، وقد نقول : ان شرط العمل بالخبر الواحد أن لا يكون المخبر فاسقا ، وكلامنا فيما نحن فيه في شرط العمل ، فاللازم التعبير : بان لا يكون له رافع ، حتى يكون الدليل الرافع حاكما او واردا على الاستصحاب ، لا التعبير : بان لا يكون له مخالف حتى يكون الدليل المخالف مانعا من جريان الاستصحاب ، وما أوره المحقق القمي إنّما يرد على ما ذكره المشترط ، لا على ما ذكرناه نحن .

ولذا قال المصنِّف : ( وأمّا على ما جزمنا به : من أنّ مرادَه ) اي : مراد المشترط :

( عدم ما يدلّ علما أو ظنا على ارتفاع الحالة السابقة ، فلا وجه لورود ذلك ) اي : لا وجه لما اورده المحقق القمي وما أيده بالمثال عليه :

وإنّما لا وجه لوروده عليه ( لأنّ الاستصحاب إن اُخذ من باب التعبّد ) اي : من الروايات ( فقد عرفت : حكومة أدلة جميع الأمارات الاجتهادية على دليله ) ومحكوميته لها ، ومعه لا يوجد مورد يرجّح فيه الاستصحاب على الدليل الاجتهادي ، أو يساوي الدليل الاجتهادي ، فكيف قال المحقق القمي : « فقد

ص: 354

وإن اُخِذَ من باب الظن ، فالظاهر : أنّه لا تأمّل لأحد في أنّ المأخوذ في إفادته للظنّ عدم وجود أمارة في مورده على خلافه .

ولما ذكرنا لم نر أحدا من العلماء قدّم الاستصحاب على أمارة مخالفة له مع اعترافه بحجّيتها لولا الاستصحاب ، لا في الاحكام

-------------------

يرجّح عليه الدليل وقد يرجّح على الدليل ، وقد لا يرجّح احدهما على الآخر » ؟ .

( وإن اُخِذَ ) الاستصحاب ( من باب الظن ) النوعي لا من باب الاخبار ( فالظاهر : أنّه لا تأمّل لأحد ) من الفقهاء والاصوليين ( في أنّ المأخوذ في إفادته للظنّ ) هو ( عدم وجود أمارة في مورده ) اي : في مورد الاستصحاب ( على خلافه ) اي : خلاف الاستصحاب ، فانه على هذا القول ، فلا يكون مورد يرجّح الاستصحاب على سائر الأدلة او يُساويها .

( ولما ذكرنا ) : من تقدّم الأدلة الاجتهادية على الاستصحاب ، سواء كان الاستصحاب حجة من باب الاخبار ام من باب الظن ( لم نر أحدا من العلماء قدّم الاستصحاب على أمارة مخالفة له ) فلم يقدّم أحد منهم الاستصحاب على البينة ، أو على سوق المسلمين ، أو على أصالة الصحة في عمل المسلم ، او ما اشبه ذلك ( مع اعترافه بحجّيتها ) اي : حجية تلك الأمارات ( لولا الاستصحاب ) .

وعليه : فان من يعترف بحجية الأمارات لا يقدّم الاستصحاب عليها اطلاقا ، وهذا دليل على انه لا يتقدّم الاستصحاب على الأمارات ولا يُساويها ، فكيف قال المحقق القمي : «فقد يرجّح عليه الدليل ، وقد يرجّح على الدليل ، وقد لا يرجّح احدهما على الآخر ؟» .

وعلى ايّ حال : فالاستصحاب لا يقدّم على الحجج الأخرى ( لا في الاحكام ) كما اذا اقتضى الاستصحاب بقاء الطهارة ، وقام خبر صحيح على نجاسة عرق

ص: 355

ولا في الموضوعات .

وأمّا ما استشهد به رحمه اللّه من عمل بعض الاصحاب بالاستصحاب في مال «المفقود » وطرح ما دلّ على وجوب الفحص أربع سنين والحكم بموته بعده - فلا دخل له بما نحن فيه ، لأنّ تلك الاخبار ليست أدلّة في مقابل استصحاب حياة المفقود ، وإنّما المقابل له قيام دليل معتبر على موته .

وهذه الاخبار

-------------------

الجنب من الحرام ( ولا في الموضوعات ) كما اذا اقتضى الاستصحاب بقاء الفاكهة على ملك صاحب البستان ، ورأينا شخصا يبيعها ممّا نحتمل انها غصب او ما يقدّمان على الاستصحاب .

( وأمّا ما استشهد به ) المحقق القمي ( رحمه اللّه من عمل بعض الاصحاب بالاستصحاب في مال « المفقود » وطرح ما دلّ ) فيه من الاخبار ( على وجوب الفحص أربع سنين والحكم بموته بعده ) اي : بعد أربع سنين ( فلا دخل له بما نحن فيه ) من القول : بأن الأمارة مقدّمة على الاستصحاب .

وإنّما لا دخل له فيما نحن فيه ( لأنّ تلك الاخبار ليست أدلّة في مقابل استصحاب حياة المفقود ) حتى تكون حاكمة او واردة عليه ( وإنّما المقابل له ) اي : لاستصحاب الحياة هو : ( قيام دليل معتبر على موته ) كالبينة - مثلاً - فاذا قامت البينة على موته كانت حاكمة او واردة على استصحاب حياته .

وعليه : فان تلك الاخبار إنّما هي مخصّصة لعموم : «لا تنقض» لا ان الاستصحاب دليل ، وتلك الاخبار دليل ويتقابلان ، وعند التقابل قد يقدّم هذا ، وقد يقدّم ذاك ، وقد يتساويان ، كما قاله المحقق القمي .

والى هذا المعنى أشار المصنِّف بقوله : ( وهذه الاخبار ) التي دلت

ص: 356

على تقدير تماميّتها مخصّصة لعموم أدلة الاستصحاب ، دالّة على وجوب البناء على موت المفقود بعد الفحص ، نظير ما دلّ على وجوب البناء على الأكثر مع الشك في عدد الركعات .

فمن عمل بها خصّص بها عمومات الاستصحاب ، ومن طرحها لقصور فيها بقي أدلة الاستصحاب عنده على عمومها .

-------------------

على الفحص أربع سنوات ( على تقدير تماميّتها ) سندا ودلالة ( مخصّصة لعموم أدلة الاستصحاب ، دالّة ) أي : هذه الاخبار بعد تماميّتها ( على وجوب البناء على موت المفقود بعد الفحص ) مدة أربع سنوات ، فتكون ( نظير ما دلّ على وجوب البناء على الأكثر مع الشك في عدد الركعات ) حيث لا يستصحب ، وإنّما يبني على الاكثر ويكون البناء على الاكثر مخصّصا للاستصحاب .

وحينئذ : ( فمن عمل بها ) اي : بالاخبار الدالة على وجوب البناء على الاكثر ( خصّص بها عمومات الاستصحاب ، و ) لكن ( من طرحها لقصور فيها ) وقال : بأن دليل الاستصحاب هو المحكّم في المقام ، وان أدلة البناء على الاكثر ليست بحجة ( بقي أدلة الاستصحاب عنده على عمومها ) فيعمل بأدلة الاستصحاب في الشك في الركعات ، ويبني على الأقل .

والحاصل من اشكال المصنِّف على المحقق القمي هو : انه ان كانت روايات الفحص عن المفقود مدة اربع سنوات دليلاً معتبرا لتماميّة سندها ودلالتها ، فالعمل يكون بالدليل ، والاّ فالعمل يكون بالاستصحاب ، والذي عمل بالاستصحاب في مثال المحقق القمي إنّما هو لأنه لم ير روايات الفحص معتبرة ، لا انه مع تسليم اعتبارها قدّم الاستصحاب عليها حتى جعله المحقق القمي مثالاً مؤيدا لايراده : بانه قد يقدّم هذا على هذا ، وقد يعكس ، وقد يتساويان .

ص: 357

ثم المراد بالدليل الاجتهادي كلُّ أمارة اعتبرها الشارع من حيث أنّها تحكي عن الواقع وتكشف عنه بالقوّة ويسمّى في نفس الاحكام : أدلّةً اجتهاديةً وفي الموضوعات أمارات معتبرة .

فما كان ممّا نصّبه الشارع غير ناظر الى الواقع أو كان ناظرا ، لكن فرض أنّ الشارع اعتبره لا من هذه الحيثيّة ، بل من حيث مجرّد احتمال مطابقته للواقع ، فليس اجتهاديّا ، وهو من الأصول ، وإن كان مقدّما على بعض الاصول الاُخر .

-------------------

( ثم المراد بالدليل الاجتهادي ) الذي ذكرناه في طيّ كلماتنا هو : ( كلُّ أمارة اعتبرها الشارع من حيث أنّها تحكي عن الواقع وتكشف عنه بالقوّة ) اي : بان يكون لها شأنية الكشف عن الواقع وان لم تفده في بعض الموارد لبعض المحاذير الخارجية ، فالمراد بالدليل الاجتهادي إذن هو كل ما كان له هذا المعنى ( ويسمّى في نفس الاحكام : أدلّةً اجتهاديةً ) كالخبر الواحد ، والاجماع ، والشهرة ، والسيرة، وما اشبه ذلك ( وفي الموضوعات أمارات معتبرة ) كالبينة ويد المسلم ، وسوق المسلم ، وأرض المسلم ، وما اشبه ذلك .

وعليه : ( فما كان ممّا نصّبه الشارع غير ناظر الى الواقع ) مثل أصالة البرائة وأصالة الاحتياط واصالة التخيير ممّا لا كشف لها اصلاً ، فهي اصول عملية غير تنزيلية وليست أدلة اجتهادية .

( أو كان ناظرا ) الى الواقع ( لكن فرض أنّ الشارع اعتبره لا من هذه الحيثيّة ، بل من حيث مجرّد احتمال مطابقته للواقع ) كالاستصحاب ( فليس ) دليلاً ( اجتهاديّا ، و ) إنّما ( هو من الأصول ) العملّية التنزيلية وهو مقدّم على غير التنزيلية كما قال : ( وإن كان مقدّما على بعض الاصول الاُخر ) فإنّ الاستصحاب

ص: 358

والظاهر : أنّ الاستصحاب والقرعة من هذا القبيل .

ومصاديق الأدلّة والأمارات في الاحكام والموضوعات واضحةٌ غالبا ، وقد يختفي ، فيتردّد الشيء ، بين كونه دليلاً ، وبين كونه أصلاً ، لاختفاء كون اعتباره من حيث كونه ناظرا الى الواقع أو من حيث هو ، كما في كون اليد المنصوبة دليلاً على الملك ،

-------------------

مقدّم على البرائة والاحتياط والتخيير، لان الاستصحاب فيه نوع كشف عن الواقع، بخلاف هذه الاصول الثلاثة الأخر ، ولذلك قال : ( والظاهر : أنّ الاستصحاب والقرعة من هذا القبيل ) الأخير المقدّم على البرائة والاحتياط والتخيير .

وعليه : فان الاستصحاب والقرعة كاشفان وناظران الى الواقع ، لكن اعتبارهما لم يكن من حيث الكشف والنظر بل من حيث احتمال مطابقة الواقع ، ولهذا قالوا : بانّ الاسصحاب والقرعة مؤخران عن الادلة الاجتهادية ومقدّمان على الاصول العملية .

هذا ( ومصاديق الأدلّة ) الاجتهادية ( والأمارات في الاحكام والموضوعات واضحةٌ غالبا ، و ) لكن ( قد يختفي ) ذلك في بعض المصاديق ( فيتردّد الشيء ، بين كونه دليلاً ، وبين كونه أصلاً ) واذا تردّد بينهما ما لم يعلم هل انه مقدّم ايضا على سائر الاصول ام لا ؟ .

وإنّما يتردّد في ذلك ( لاختفاء كون اعتباره من حيث كونه ناظرا الى الواقع ) وكاشفا عنه ، حتى يكون دليلاً اجتهاديا ( أو من حيث هو ) لا بما هو ناظر الى الواقع وكاشف عنه ، حتى يكون أصلاً عمليا ، وذلك ( كما في كون اليد المنصوبة دليلاً على الملك ) فيما لو خفي علينا حيثية اعتبارها ، فان اليد على شيء - عند الشك في ان صاحب اليد مالك له أم لا - يكون دليلاً على ان صاحب اليد مالك لهذا الشيء الذي في يده .

ص: 359

وكذلك أصالة الصحة عند الشك في عمل نفسه بعد الفراغ وأصالة الصحة في عمل الغير .

وقد يعلم عدم كونه ناظرا الى الواقع وكاشفا عنه وأنّه من القواعد التعبّدية ، لكن يخفى حكومته مع ذلك على الاستصحاب ، لأنّا قد ذكرنا : أنّه قد يكون الشيء غير الكاشف منصوبا

-------------------

( وكذلك أصالة الصحة عند الشك في عمل نفسه بعد الفراغ ) منه ، مع اختفاء حيثية اعتبارها ، فان الانسان اذا عمل عملاً ، ثم شك بعد الفراغ منه في انه هل أتى به صحيحا أو أتى به فاسدا ؟ فانه سواء كان عبادة كالصلاة والصيام ، ام معاملة كالبيع والرهن ، فانه يحمل على الصحيح .

( و ) كذا ( أصالة الصحة في عمل الغير ) حيث ورد : «ضع أمر أخيك على أحسنه » (1) والى غير ذلك ممّا يتردد في انه دليل أو اصل لاختفاء حيثية اعتباره .

هذا ( وقد يعلم عدم كونه ناظرا الى الواقع و ) لا ( كاشفا عنه ) اي : عن الواقع ( و ) إنّما يعلم ( أنّه من القواعد التعبّدية ، لكن يخفى حكومته مع ذلك على الاستصحاب ) فلا يعلم مع انه أصل تعبدّي هل هو حاكم على الاستصحاب او ليس بحاكم عليه ؟ .

وإنّما يخفى علينا مع ذلك ( لأنّا قد ذكرنا : أنّه قد يكون الشيء غير الكاشف ) كقاعدة التجاوز والفراغ ، او حتى الكاشف كالاستصحاب والقرعة ( منصوبا

ص: 360


1- - الكافي اصول : ج2 ص362 ح3 (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج12 ص302 ب161 ح16361، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج12 ص10 .

من حيث تنزيل الشارع الاحتمال المطابق له منزلةَ الواقع ، إلاّ أنّ الاختفاء في تقديم أحد التنزيلين على الآخر وحكومته عليه .

-------------------

من حيث تنزيل الشارع الاحتمال المطابق له ) اي : للواقع ( منزلةَ الواقع ) لا من حيث انه كاشف عن الواقع ، كالخبر والاجماع والشهرة والسيرة وما أشبه ( إلاّ أنّ الاختفاء ) علينا والشك عندنا يكون ( في تقديم أحد التنزيلين على الآخر وحكومته عليه ) وانه هل هذا مقدَّم على ذاك ، او ذاك مقدَّم على هذا ؟ .

والحاصل : ان الادلة على اربعة اقسام :

الاول : ما كان كاشفا عن الواقع وناظرا اليه مع اعتبار هذه الجهة فيه ، كالخبر والاجماع وما اشبه ذلك في الأحكام ويسمّى بالطريق ، وكالبينة والسوق وما اشبه ذلك في الموضوعات ويسمّى بالأمارة ، وهذا الاوّل - بقسميه ويسمى بالدليل الاجتهادي - إنّما وجد فهو مقدّم على غيره .

الثاني : ما هو وظيفة مقررة للجاهل بلا كشفٍ عن الواقع ولا نظرٍ اليه اطلاقا ، كالاحتياط والتخيير ونحوهما ، ويُسّمى هذا القسم من الأدلة بالاصول العملية غير التنزيلية أو غير المحرزة ، وهذا الثاني متأخر عن الجميع .

الثالث : ما كان ناظرا الى الواقع وكاشفا عنه ، الاّ انه اعتبر بمجرد احتمال المطابقة للواقع كالاستصحاب والقرعة ، ويسمّى هذا القسم من الأدلة بالاصول العملية التنزيلية أو المحرزة ، وهذا الثالث متأخر عن الأدلة الاجتهادية ومقدَّم على غيره من الاصول .

الرابع : ما اعتبره الشارع بمجرد احتمال المطابقة للواقع ، لكنه لا كشف ولا نظر له الى الواقع ، كقاعدة التجاوز والفراغ ونحوهما ، وهذا الرابع مردّد في تقدّمه وتأخره لاختفائه علينا .

ص: 361

تقديم الاستصحاب على الاصول الثلاثة

ثم إنّه لا ريب في تقديم الاستصحاب على الاُصول الثلاثة ، أعني : البراءة والاحتياط والتخيير ، إلاّ أنّه قد يختفي وجهه على المبتدي .

فلابدّ من التكلّم هنا في مقامات :

الأوّل : في عدم معارضة الاستصحاب لبعض الأمارات التي يترائى كونها من الاصول ، كاليد ونحوه .

الثاني : في حكم معارضة الاستصحاب للقرعة ونحوها .

الثالث : في عدم معارضة سائر الاصول للاستصحاب .

-------------------

اذا عرفت ذلك نقول : ( ثم إنّه لا ريب في تقديم الاستصحاب على الاصول الثلاثة أعني : البراءة والاحتياط والتخيير ) فانه اذا كان هناك استصحاب ، فلا مجال معه للبراءة ولا للاحتياط ولا للتخيير ( إلاّ أنّه قد يختفي وجهه ) اي : وجه تقديم الاستصحاب على هذه الاصول الثلاثة ( على المبتدي ) في الاصول ( فلابدّ من التكلّم هنا في مقامات ) ثلاثة ليتضح وجه التقديم :

( الأوّل : في عدم معارضة الاستصحاب لبعض الأمارات التي يترائى كونها من الاصول ، كاليد ونحوه ) مثل : أصالة الصحة وما أشبه ذلك ، فانه اذا كان هناك استصحاب ويد ، فاليد مقدَّمة على الاستصحاب .

( الثاني : في حكم معارضة الاستصحاب للقرعة ونحوها ) اي : نحو القرعة مما هو ناظر الى الواقع وكاشف عنه ، لكن الشارع اعتبره لمجرد احتمال المطابقة للواقع ، فاذا كان هناك استصحاب وقرعة فهل يعمل بالقرعة او بالاستصحاب ؟ .

( الثالث : في عدم معارضة سائر الاصول للاستصحاب ) وإنّما يقدّم الاستصحاب عليها ، ولذا يقدّم على أصل البراءة والاحتياط والتخيير .

ص: 362

أمّا الكلام في المقام الأوّل :

فيقع في مسائل :

الاُولى :

أنّ اليد مّما لا يعارضها الاستصحاب ، بل هي حاكمة عليه .

بيان ذلك : أنّ اليد ، إن قلنا بكونها من الأمارات المنصوبة دليلاً على الملكيّة من حيث كون الغالب في مواردها كون صاحب اليد مالكا أو نائبا عنه .

وأنّ اليد المستقلة غير المالكيّة

-------------------

( أمّا الكلام في المقام الأوّل ) وهو عدم مُعارضة الاستصحاب لبعض الأمارات التي يترائى كونها من الاصول كاليد ونحو اليد ( فيقع في مسائل ) :

المسألة ( الاولى : أنّ اليد ممّا لا يعارضها الاستصحاب ، بل هي ) اي : اليد ( حاكمة عليه ) اي : على الاستصحاب ، فاذا كان شيء لغير زيد ثم رأيناه في زيد وهو يدّعي انه له ، فيده حاكمة على الاستصحاب ، الاّ اذا تنازعا وأثبت من كان الشي سابقا في يده انه له .

( بيان ذلك : أنّ اليد إن قلنا بكونها من الأمارات المنصوبة دليلاً على الملكيّة ) حتى يكون حالها حال البينّة في الحجية ، فان اليد إنّما تكون دليلاً على الملكية لامور تالية :

أوّلاً : ( من حيث كون الغالب في مواردها كون صاحب اليد مالكا أو نائبا عنه ) أي : عن المالك إمّا بالوكالة أو بالوصاية أو بالقيمومة أو نحوها .

ثانيا : ( وأنّ اليد المستقلة غير المالكيّة ) اي : العدوانية ، سواء مع علم صاحب

ص: 363

قليل بالنسبة إليها .

وأنّ الشارع إنّما اعتبر هذه الغلبة تسهيلاً على العباد ، فلا اشكال في تقديمها على الاستصحاب ، على ما عرفت : من حكومة أدلّة الأمارات على دليل الاستصحاب .

وإن قلنا بأنّها غير كاشفة بنفسها عن الملكيّة ، أو أنّها كاشفة - لكنّ اعتبار الشارع له ليس من هذه الحيثيّة ، بل جعلها في محلّ

-------------------

اليد ام بدون علمه ( قليل بالنسبة إليها ) اي : الى اليد المالكية او المأذونة من قبل المالك .

ثالثا : ( وأنّ الشارع إنّما اعتبر هذه الغلبة ) الخارجية ( تسهيلاً على العباد ) كما هي قاعدة المقنّنين ، حيث يعتبرون الغلبة في غالب الموارد .

وعليه : ( فلا اشكال في تقديمها ) اي : تقديم اليد حينئذ ( على الاستصحاب ) وذلك ( على ما عرفت : من حكومة أدلّة الأمارات على دليل الاستصحاب ) .

وإنّما تكون حاكمة عليه لأنّ اليد كاشفة ، وان الاستصحاب ليس بكاشف ، ولذا قال عليه السلام : « والأشياء كلها على ذلك حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة » (1) فاليد حينئذ كالبينة يرتفع بها موضوع الاستصحاب الذي هو الشك ، اذ مع اليد لاشك .

هذا إن قلنا بأن اليد كالبينة أمارة كاشفة عن الملكية ( وإن قلنا بأنّها غير كاشفة بنفسها عن الملكية ، أو أنّها كاشفة - لكنّ اعتبار الشارع له ليس من هذه الحيثيّة ) اي : من حيثية الكشف ( بل جعلها ) اي : جعل الشارع اليد معتبرة ( في محل

ص: 364


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح4 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

الشك تعبّدا ، لتوقف استقامة نظام معاملات العباد على اعتبارها ، نظير أصالة الطهارة ، كما يشير اليه قوله عليه السلام في ذيل رواية حفص بن غياث الدالّة على الحكم بالملكيّة على ما في يد المسلمين « ولولا ذلك لما قام للمسلمين سوقٌ » - فالأظهر أيضا تقديمُها على الاستصحاب ، اذ لولا هذا

-------------------

الشك ) في الملكية ، ذلك ( تعبّدا ) أي : لا من حيث كونه كاشفا .

وإنّما اعتبرها الشارع كذلك ( لتوقف استقامة نظام معاملات العباد على اعتبارها ) والمراد بالمعاملات هنا ليس هو المعنى الأخص ، بل مطلق التعامل ، فتكون قاعدة اليد حينئذ ( نظير أصالة الطهارة ، كما يشير اليه ) اي : الى توقف استقامة النظام على اعتبارها ( قوله عليه السلام في ذيل رواية حفص بن غياث الدالّة على الحكم بالملكية على ما في يد المسلمين ) فان في ذيل الرواية - بعد قول السائل : «اذا رأيتُ في يد رجل شيئا ، أيجوز أن اشهد انه له ؟ قال : نعم ، قال : قلت : فلعله لغيره ؟ قال : ومن أين جاز لك أن تشتريه وتصيّره ملك لك ثم تقول بعد ذلك : هو لي وتحلف عليه ؟ » - ما يدل على أن الشارع إنّما اعتبر اليد لتوقف نظام المعاملات على اعتبارها حيث قال عليه السلام في ذيلها : ( « ولولا ذلك لما قام للمسلمين سوقٌ » ) (1) والمراد بالسوق الخارجية ، لا مطلق المُعاملات والتصرفات .

وكيف كان : فان قلنا بأن اليد غير كاشفة ، أو لم يعتبر كاشفيتها ( - فالأظهر أيضا تقديمُها على الاستصحاب ، اذ لولا هذا ) التقديم بأن قيل : بالتعارض والتساقط ،

ص: 365


1- - الكافي فروع : ج7 ص387 ح1 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص262 ب22 ح100 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص51 ب2 ح3307 ، وسائل الشيعة : ج27 ص292 ب25 ح33780 .

لم يجز التمسك بها في أكثر المقامات ، فيلزم المحذور المنصوص ، وهو اختلال السوق ، وبطلان الحقوق ، اذ الغالب العلم بكون ما في اليد مسبوقا بكونه ملكا للغير ، كما لا يخفى .

وأمّا حكم المشهور : بأنّه لو اعترف ذو اليد : بكونه سابقا ملكا للمدّعي انتزع منه العين ، إلاّ أن يقيم البيّنة على انتقالها اليه - فليس من تقديم الاستصحاب ، بل لأجل أنّ دعواه الملكيّة في الحال

-------------------

أو قيل بتقديم الاستصحاب على اليد ( لم يجز التمسك بها في أكثر المقامات ) للعلم غالبا بسبق ملك الغير فيها ( فيلزم المحذور المنصوص ، وهو اختلال السوق ، وبطلان الحقوق ) .

وإنّما يختل السوق وتبطل الحقوق ( اذ الغالب العلم بكون ما في اليد ) اي : ما في يد الناس ( مسبوقا بكونه ملكا للغير ) فاللازم ان لا يبقى لليد الاّ الموارد النادرة جدا ( كما لا يخفى ) ذلك على أحد ( و ) ان قلت : اذا كانت اليد مقدّمة على الاستصحاب ، فلماذا حكم المشهور بانتزاع المال من ذي اليد فيما اذا اعترف : بأنه اشتراه من المدّعي وأنكر المدّعي ذلك ، فإن تقديم قول المدّعي معناه : ان الاستصحاب مقدّم على اليد ، لا أن اليد مقدّمة على الاستصحاب ؟ .

قلت : ( أمّا حكم المشهور : بأنّه لو اعترف ذو اليد : بكونه ) اي : بكون ما في يده كان ( سابقا ملكا للمدّعي انتزع منه العين ) واعطيت للمّدعي ( إلاّ أن يقيم ) ذو اليد ( البيّنة على انتقالها اليه ) ببيع أو هبة أو ما أشبه ذلك ، أما هذا الحكم ( - فليس من تقديم الاستصحاب ) على اليد .

وإنّما لم يكن من تقديم الاستصحاب على اليد ، لانه كما قال : ( بل لأجل أنّ دعواه ) اي : دعوى اليد ( الملكيّة في الحال ) فانّ من في يده العين يدّعي أنها

ص: 366

اذا انضمّت الى إقراره بكونه قبل ذلك للمدّعي ، يرجع الى دعوى انتقالها اليه فينقلب مدّعيا ، والمدّعي منكرا .

ولذا لو لم يكن في مقابله مدّعٍ ، لم يقدح هذه الدعوى منه في الحكم بملكيّته أو كان في مقابله مدّعٍ ، لكن أسند الملك السابق الى غيره ، كما لو قال في جواب زيد المدّعي : اشتريتُه من عمرو .

-------------------

الآن ملك له ، فانه ( اذا انضمّت ) هذه الدعوى ( الى إقراره ) اي : اقرار ذي اليد ( بكونه قبل ذلك للمدّعي ، يرجع الى دعوى انتقالها ) اي : العين ( اليه ) اي : الى ذي اليد ( فينقلب ) ذو اليد ( مدّعيا ، و ) ينقلب ( المدّعي ) الذي يقول : ان المال له ولم يعطه لذي اليد ( منكرا ) فتدخل المسألة في موازين المدّعي والمنكر ، فعلى المدّعي الذي هو ذو اليد البيّينة ، وعلى المنكر وهو الذي كان الملك سابقا له اليمين .

( ولذا ) اي : لما قلنا : من ان الحكم بانتزاع العين من ذي اليد وتسليمها لمالكها السابق ، إنّما يكون لاجل انقلاب العنوان وصيرورة ذي اليد مدّعيا والمدّعي منكرا ، لا لتقديم الاستصحاب على اليد ، نرى انه ( لو لم يكن في مقابله ) اي : مقابل ذي اليد المعترف بان مافي يده كان للمدّعي سابقا ( مدّعٍ ، لم يقدح هذه الدعوى منه في الحكم بملكيّته ) يحكم بأنه مالك للشيء الذي في يده ويقدّم على الاستصحاب .

هذا ان لم يكن في مقابله مدّع ( أو كان في مقابله مدّعٍ ، لكن أسند الملك السابق الى غيره ) اي : الى غير المدعي ( كما لو قال في جواب زيد المدّعي : اشتريتُه من عمرو ) لا منك ، فانه يحكم بملكية ذي اليد على ما في يده تقديما لليد على الاستصحاب .

ص: 367

بل يظهر مّما ورد في محاجّة علي عليه السلام مع أبي بكر في أمر فدك المرويّة في الاحتجاج : أنّه لم يقدح في تشبّث فاطمة عليه السلام ، باليد دعواها ، تلقّي الملك من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، مع أنّه قد يقال إنّها حينئذٍ صارت مدّعيةً لا تنفعها اليد .

-------------------

والحاصل : ان هنا فرضين :

الفرض الأوّل : هو ان يقول ذو اليد : اني اشتريته من زيد المدّعي ، حيث ينقلب ذو اليد مدّعيا لمكان اقراره ، لا لأن الاستصحاب يقتضي بان المال لزيد والاستصحاب مقدّم على اليد ، ولهذا قلنا : بان ذا اليد يلزم عليه ان يأتي بالبينة في مقابل زيد .

الفرض الثاني : هو ان يقول ذو اليد : اني اشتريته من عمرو لا من زيد المدّعي ، فان زيدا المدّعي يبقى مدّعيا حينئذ ، فيحتاج هو لا صاحب اليد الى البينة ، كما لا يكون باستصحاب كونه مال عمرو لعدم ادعائه ، فلا تقديم إذن للاستصحاب على اليد .

( بل يظهر مّما ورد في محاجّة علي عليه السلام مع أبي بكر في أمر فدك المروية في الاحتجاج : أنّه لم يقدح في تشبّث فاطمة عليهاالسلام ، باليد ) اعترافها و ( دعواها تلقّي الملك من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ) (1) وذلك لاحتجاج علي عليه السلام مع ذلك على ابي بكر : بأنّ فاطمة عليهاالسلام ذو يدٍ على فدك وذو اليد لا يطالب بالبينة .

هذا ( مع أنّه قد يقال ) هنا قولاً غير صحيح وهو : ( إنّها حينئذٍ ) اي : حين اعترافها عليها السلام بتلقّي الملك من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ( صارت مدّعيةً لا تنفعها اليد ) وإنّما لم يكن هذا صحيحا ، لانها عليه السلام أسندت الملك الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم

ص: 368


1- - راجع الاحتجاج : ج1 ص95 - 96 .

وكيف كان ،

-------------------

لا الى أبي بكر ، ولم يكن المدعي مقابلها رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم وإنّما كان أبا بكر ، وذلك زعما منه بأنّه فيء للمسلمين : وهذا من ابي بكر مجرّد ادعاء فعليه البينة ، لا على صاحب اليد - وهي فاطمة عليهاالسلام - اضافة الى انه لو اقام ابو بكر على ادعائه هذا الف بينة ، فهو حيث لم يكن من أهل آية التطهير - باعتراف جميع المسلمين - لا ينفعه بصريح القرآن ذلك ، مقابل يد فاطمة عليها السلام التي هي باعتراف كل المسلمين من أهل آية التطهير ، وقد شهد اللّه تعالى لها بالامانة والطهارة ، وهل يجرأ أحد على ردّ شهادة اللّه سبحانه وتعالى ؟ .

( وكيف كان ) فان هذه القصة تكون دليلاً على ما ذكره المصنِّف في الفرض الثاني بقوله : «او كان في مقابله مدّعٍ ، لكن اسند الملك السابق الى غيره» يعني : الى غير المدعي ، فان في مقابل فاطمة عليها السلام كان ابا بكر ، وهي عليها السلام لم تسند الملك اليه ، وإنّما اسندته الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم وقالت : انه صلى اللّه عليه و آله وسلم هو الذي منحه إياها نحلة لها، وبُلغة لابنيها عليهماالسلام ، وذلك بأمر من اللّه تعالى حين انزل عليه سبحانه : « وآت ذا القربى حقه » (1) ولم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم مدعيا في مقابلها .

وإنّما قال المصنِّف : «بل» الذي ظاهره الاضراب ، مع ان الرواية المذكورة في الاحتجاج موافقة للقاعدة ، لان قوله قبلها : «لكن اسند الملك السابق الى غيره» كان على القاعدة ، ومطابقا لهذه الرواية ، فيكون مقام «بل» هنا نظير قولنا : البرائة

موافقة للقاعدة بل للروايات ، فهو اضراب من الادنى الى الاعلى .

ص: 369


1- - سورة الاسراء : الآية 26 .

فاليد على تقدير كونها من الاصول التعبّديّة فهي أيضا مقدمةٌ على الاستصحاب وإن جعلناه من الأمارات الظنّية ، لأنّ الشارع نصبها في مورد الاستصحاب .

وإن شئت قلت : إنّ دليله أخصّ من عمومات الاستصحاب .

هذا مع أنّ الظاهر من الفتوى والنص الوارد في اليد ، مثل : رواية حفص بن غياث ،

-------------------

إذن : ( فاليد على تقدير كونها من الاصول التعبّديّة ) وانها ليست - فرضا - من الأمارات ( فهي أيضا مقدمةٌ على الاستصحاب ) حتى ( وإن جعلناه ) اي : الاستصحاب ( من الأمارات الظنّية ) لا من الاصول التعبدية .

وإنّما تكون اليد وان فرضناها اصلاً مقدمة على الاستصحاب وان فرضناه أمارة ( لأنّ الشارع نصبها ) أي : اليد ( في مورد الاستصحاب ) كما ألمعنا اليه سابقا ، فلو قدّم الاستصحاب على اليد لكان اعتبار اليد لغوا أو شبه لغو .

( وإن شئت قلت : إنّ دليله ) اي : دليل اليد ( أخصّ من عمومات الاستصحاب ) وكل دليل أخصّ يقدّم على الدليل الأعم ، لانه لو أخذ بالدليل الأعم لم يبق مورد للدليل الأخص .

( هذا ) كله في بيان ان تقديم اليد على الاستصحاب لازم على كل حال ، سواء قلنا بكونهما أمارتين ، ام أصلين ، ام احدهما أصلاً والآخر أمارة ، فكيف لاتُقدّم اليد ( مع أنّ الظاهر من الفتوى والنص الوارد في اليد ) كون اليد أمارة ، كما ان الظاهر من دليل الاستصحاب انه أصل ؟ .

أما النص فهو ( مثل : رواية حفص بن غياث ) المتقدّمة حيث قال عليه السلام في جواب من سأله : «اذا رايتُ في يد رجل شيئا ، أيجوز ان اشهد انه له ؟ قال عليه السلام:

ص: 370

أنّ اعتبار اليد أمرٌ كان مبنى عمل الناس في امورهم ، وقد أمضاه الشارع .

ولا يخفى : أنّ عمل العرف عليه من باب الأمارة ، لا من باب الاصل التعبدي .

وأمّا تقديم البيّنة على اليد وعدم ملاحظة التعارض بينهما أصلاً ، فلا يكشف عن كونها من الاصول ، لأنّ اليد إنّما جعلت

-------------------

نعم ، قال : قلت : فلعله لغيره ؟ قال عليه السلام : ومن اين جاز لك ان تشريه وتصيِّره ملكا لك ثم تقول بعد ذلك : هو لي وتحلف عليه ؟ » (1) فان هذا ظاهر في ( أنّ اعتبار اليد أمرٌ كان مبنى عمل الناس في امورهم ، وقد أمضاه الشارع ) .

ومن المعلوم : ان العرف يرون اليد أمارة لاأصلاً كما قال : ( ولا يخفى : أنّ عمل العرف عليه من باب الأمارة ) والكشف عن الواقع ( لا من باب الاصل التعبدي ) لأنّ موازين العقلاء على الأمارات ، لا على الاصول التعبدية .

هذا كله في تقديم اليد على الاستصحاب .

( وأمّا تقديم البيّنة على اليد ) اذا تخالفا ، كما لو كان شيء في يد زيد فادّعاه بكر وأقام عليه البينة ، فانه يؤخذ من زيد ويُعطى لبكر ( و ) ذلك تقديما للبينة مع ( عدم ملاحظة التعارض بينهما أصلاً ) حتى يقال : هل هذا مقدّم أو ذاك ؟ فأما هذا ( فلا يكشف عن كونها ) اي : عن كون اليد ( من الاصول ) لوضوح : ان الأمارة كما تتقدم على الاصول تتقدم على الأمارات ايضا ، كتقدم البينة على اليد .

وإنّما لا يكشف تقديم البينة على اليد كون اليد أصلاً ( لأنّ اليد إنّما جعلت

ص: 371


1- - الكافي فروع : ج7 ص387 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص51 ب2 ح3307 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص262 ب22 ح100 ، وسائل الشيعة : ج27 ص292 ب25 ح33780 .

أمارةً على الملك عند الجهل بسببها ، والبيّنة مبيّنة لسببها .

والسرّ في ذلك أنّ مستند الكشف في اليد هي الغلبة ، والغلبة انّما توجب إلحاق المشكوك بالأعمّ الأغلب ، فاذا كان في مورد الشك أمارة معتبرة تزيل الشك ، فلا يبقى موردٌ للالحاق ، ولذا كانت جميع الأمارات في أنفسها مقدّمة على الغلبة .

-------------------

أمارةً على الملك عند الجهل بسببها ) اي : بسبب اليد ( والبيّنة مبيّنة لسببها ) وقائلة : بأن الشيء ليس لذي اليد ، سواء كان متعدّيا : كالغاصب ام غير متعدٍّ كالجاهل القاصر .

( والسرّ في ) ان اليد أمارة الملك عند الجهل بسببها هو كما قال : ( ذلك أنّ مستند الكشف في اليد هي الغلبة ) على ما تقدّم ( والغلبة انّما توجب إلحاق المشكوك بالأعمّ الأغلب ) فيما اذا لم تكن هناك بيّنة أو نحو البينة يزيل الشك ( فاذا كان في مورد الشك أمارة معتبرة تزيل الشك ) كالبينة ( فلا يبقى موردٌ للالحاق ) .

ولهذا السبب نرى ان الاقرار يقدّم على اليد، فيما اذا أقرّ ذو اليد على ان الشيء الذي في يده ليس له وإنّما هو لغيره ، وذلك لان الاقرار مزيل للشك ، وكذلك اذا كانت القرائن الخارجية تؤيّد عدم الملكية ، كما اذا رأينا على البحر سمكا يوزن بأطنان ويدّعيه انسان ضعيف لايتمكن وحده من صيده .

( و ) عليه : فحيث قلنا بأن الأمارة توجب زوال حكم الغلبة ( لذا كانت جميع الأمارات في أنفسها مقدّمة على الغلبة ) كالسوق - مثلاً - فان الصحة فيه مبنية على الغلبة ، فانّها هي سبب جريان أصالة الصحة في اعمال أهله ، فاذا قامت البيّنة على ان بضاعة احدهم غصب ، قدمت البيّنة على الغلبة ، فلا يمكن اشتراء تلك

ص: 372

وحال اليد مع الغلبة حالُ أصالة الحقيقة في الاستعمال على مذهب السيد مع أمارات المجاز ،

-------------------

البضاعة منه .

هذا حال اليد مع البيّنة اذا تخالفتا .

( وحال اليد مع الغلبة ) فيما اذا تخالفتا هو : تقديم الغلبة على اليد ، بخلاف ما ذكرناه سابقا : من تقديم البينة على الغلبة .

مثلاً : الدلاّل ، فان الغالب فيه كون ما في يده لغيره ، بينما يده تدلّ على انه لنفسه ، وكذلك متولّي الوقف ، فان الغالب كون ما في يده للوقف ، بينما يده تدلّ على انه لنفسه ، وكذا المصدّق والمرجع والحاكم ، فان الغالب كونه ما في أيديهم أموال الناس بينما أيديهم تدل على انها لهم ، الى غير ذلك ، فان في هذه الموارد تقدّم الغلبة على اليد ، لان السرّ في مستند كشف اليد عن الملك - على ما قاله المصنِّف - هي الغلبة ، وقد انعكست الغلبة هنا وصارت كاشفة عن عدم الملك فتقدّم الغلبة .

وبعبارة اخرى : ان اليد أمارة الملك عند الجهل بسببها ، وهنا لاجهل للغلبة ، فتقدم الغلبة على اليد .

وعليه : فيكون حال اليد حينئذ مع الغلبة ( حالُ أصالة الحقيقة في الاستعمال على مذهب السيد ) المرتضى الذي يرى الاستعمال علامة الحقيقة ، خلافا للمشهور الذين يرون الاستعمال أعم ، وذلك اذا تقابلت ( مع أمارات المجاز ) فان الاستعمال عند السيد المرتضى أمارة الحقيقة عند الجهل بسببه ، وهنا لا جهل للقرينة ، فتقدّم قرينة المجاز على أصالة الحقيقة .

إذن : فحال اليد مع الغلبة ، حال أصالة الحقيقة في الاستعمال مع القرائن

ص: 373

بل حال مطلق الظاهر والنصّ ، فافهم .

-------------------

المجازية ( بل حال مطلق الظاهر والنصّ ) فانه عند تقابل الظاهر والنص ، يتقدّم النص على الظاهر ، وذلك كما اذا قال : أكرم العلماء ، ولا تكرم زيدا ، فإن العلماء أمارة على أكرم زيد العالم لظهور العموم في ذلك ، بينما المخصّص لا تكرم زيدا نص في عدم إكرامه ، والظهور مقدّم مالم يكن نص على خلافه ، وهنا وجد النص المخالف ، فيقدّم النص على الظاهر .

( فافهم ) ولعله اشارة الى انه يشك في تقديم الغلبة على اليد كما في الأمثلة التي ذكرتموها ، وذلك لاطلاق دليل اليد .

لكن ربما يقال : انه لا اطلاق ، لانصراف ما دل على اليد عن مثل ما اذا كانت الغلبة هي المحكَّمة عرفا ، والشارع قد صدّق الغلبة في موردها واليد في موردها ، ففي غير الدلاّل وأمثاله تكون اليد مقدّمة اذا شككنا ان الشيء لذي اليد او لغيره ، أمّا في الدلاّل وأمثاله فالغلبة تكون مقدّمة اذا شككنا أن ما في يده هل هو له أو لغيره ؟ .

ولذا حكم بعضهم - فيما اذا مات الزوجان ولم يعلم ان أثاث البيت لمن منهما - بأن يجعل ما يختص بالنساء للزوجة ، وما يختص بالرجال للزوج .

هذا تمام الكلام في بيان عبارة الكتاب : «وحال اليد مع الغلبة» لكن هناك نسخة اخرى فيها مكان لفظ «الغلبة» كلمة «البينة» فيكون الكلام على تلك النسخة واضحا ، وتكون العبارة مثالاً لقوله قبلها : «ان مستند الكشف في اليد هي الغلبة ، والغلبة إنّما يوجب الحاق المشكوك بالاعم الاغلب ، فاذا كان في مورد الشك أمارة معتبرة تزيل الشك - كالبينة - فلا يبقى مورد للالحاق» ثم مثّل لذلك بقوله : «وحال اليد مع البيّنة حال أصالة الحقيقة في الاستعمال على مذهب السيد

ص: 374

المسألة الثانية :

في أنّ أصالة الصحة في العمل بعد الفراغ عنه لا يعارض بها الاستصحاب ،

إمّا لكونها من الأمارات ، كما يشعر به قوله عليه السلام : في بعض روايات ذلك الأصل : « هو حينَ يَتَوضّأ أذْكَرُ منهُ حينَ يَشُكُّ » .

-------------------

مع أمارات المجاز» اي : كما أنّ أصالة الحقيقة في الاستعمال عند السيد يلحق المشكوك بالاعم الاغلب ، فاذا كان في مورد الشك أمارة تزيل الشك - كأمارات المجاز - فلا يبقى مورد للالحاق ، بل يقدَّم المجاز على الحقيقة ، فكذلك هنا تقدّم البينة على اليد ، ثم ترقّى المصنِّف في المثال فقال : «بل حال مطلق الظاهر والنص» ثم قال : «فافهم» أشارة الى التأمل في التنظير وأن حال اليد مع البينة ليس حال مطلق الظاهر والنص من كل جهة .

( المسألة الثانية : في أنّ أصالة الصحة في العمل بعد الفراغ عنه لا يعارض بها ) اي : بأصالة الصحة ( الاستصحاب ) فان الاستصحاب يقتضي العدم ، وأمثال الصحة يقتضي الوجود ، فاذا فرغ - مثلاً - من الصلاة وشك في انه هل أتى بالركوع ام لا ؟ فأصالة الصحة تقول : قد اتى به ، والاستصحاب يقول : لم يأت به ، وأصالة الصحة مقدّمة على الاستصحاب ، وسبب تقدّمها أحد امرين :

( إمّا لكونها من الأمارات ) الشرعية وقد عرفت ان الأمارة مقدّمة على الأصل ( كما يشعر به ) اي : بكون أصالة الصحة أمارة ( قوله عليه السلام: في بعض روايات ذلك الأصل ) اي : أصل الصحة ( « هو حين يتوضّأ أذكَرُ منهُ حين يَشُكُّ » (1) ) فانه

ص: 375


1- - تهذيب الأحكام : ج1 ، ص101 ب4 ، ح114 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1249 .

وإمّا لانّها وإن كانت من الاصول إلاّ أنّ الأمر بالأخذ بها في مورد الاستصحاب يدلّ على تقديمها عليه ، فهي خاصة بالنسبة اليه يخصّص بأدلّتها أدلّته ، ولا اشكال في شيء من ذلك .

إنّما الاشكال في تعيين مورد ذلك الأصل من وجهين :

أحدُهما : من جهة تعيين معنى الفراغ والتجاوز المعتبر

-------------------

اذا شك - مثلاً - بعد تمام الوضوء في انه هل مسح رأسه أم لا ؟ فان قوله عليه السلام : «هو حين يتوضأ أذكر» الحاكم بالصحة مشعر بأماريته ، وذلك من باب تقديم الظاهر على الاصل ، فان ظاهر الشخص العامل ان يكون غالبا ملتفتا حين العمل ، ولا يأتي الملتفت بعمله إلاّ تامّا .

( وإمّا لانّها وإن كانت من الاصول ) التعبدية لا من الأمارات الشرعية ( إلاّ أنّ الأمر بالأخذ بها ) اي : بأصالة الصحة جاء ( في مورد الاستصحاب ) بحيث لو اردنا ان نترك أصالة الصحة ونأخذ بالاستصحاب لزم ان لا يبقى مورد للعمل بأصالة الصحة اطلاقا أو غالبا ، وهذا ( يدلّ على تقديمها ) اي : تقديم أصالة الصحة ( عليه ) اي : على الاستصحاب ، فانه لو لم تتقدم أصالة الصحة على الاستصحاب لزم لغوية أصالة الصحة أو شبة لغويّتها .

إذن : ( فهي ) اي : أصالة الصحة ( خاصة بالنسبة اليه ) اي : الى الاستصحاب ، فيكون بينهما عموم مطلق : الاستصحاب أعم ، وأصالة الصحة أخص ، والخاص دائما يُقدّم على العام ، ومعه ( يخصّص بأدلّتها أدلّته ) اي : يخصّص بأدلة أصالة الصحة أدلة الاستصحاب ( ولا اشكال في شيء من ذلك ، إنّما الاشكال في تعيين مورد ذلك الأصل ) أصل الصحة ( من وجهين ) تاليين :

( أحدُهما : من جهة تعيين معنى الفراغ والتجاوز ) والمضيّ ( المعتبر

ص: 376

في الحكم بالصحة ، وأنّه هل يكتفي به أو يُعتبر الدخول في غيره ، وأنّ المراد بالغير ما هو ؟ .

الثاني : من جهة أنّ الشك في وصف الصحة للشيء ملحقٌ بالشك في أصل الشيء أم لا .

وتوضيح الاشكال من الوجهين موقوف على ذكر الاخبار الواردة في هذه القاعدة ، ليزول ببركة تلك الاخبار كل شبهّة حدثت أو تحدث في هذا المضمار .

-------------------

في الحكم بالصحة ) لان تعبير الروايات فيه مختلفة ، فتارة جاء التعبير بالفراغ ، واخرى بالتجاوز ، وثالثة بالمضيّ .

( و ) ايضا من جهة تعيين ( أنّه هل يكتفي به ) اي : بمجرّد المضيّ والتجاوز والفراغ فقط ( أو يُعتبر الدخول في غيره ) ايضا حتى يحكم بأصالة الصحة ؟ ( و ) هكذا من جهة تعيين ( أنّ المراد بالغير ما هو ؟ ) هل هو مطلق الغير ، ركنا كان ام غير ركن ، او هو غيرٌ خاص ، شرعي - مثلاً - أو عقلي أو عادي أو عرفي ؟ .

( الثاني : من جهة أنّ الشك في وصف الصحة للشيء ) بعد العلم بالاتيان به ، كما هو علم بانه اتى بالشيء لكن شك في انه أتى به صحيحا أو غير صحيح ، فهل هذا ( ملحقٌ بالشك في أصل ) اتيان ( الشيء أم لا ) غير ملحق به ؟ فانه قد يشك في انه أتى بالركوع أم لا ، وقد يعلم انه أتى بالركوع لكن يشك في انه أتى به صحيحا او فاسدا ، فهل الصحة تجري في الموردين معا أم تختصّ بأحدهما ؟ .

قال المصنِّف : ( وتوضيح الاشكال من الوجهين موقوف على ذكر الأخبار الواردة في هذه القاعدة ، ليزول ببركة تلك الاخبار كل شبهّة حدثت أو تحدث في هذا المضمار ) فان هناك فروعا مشكلة لا يعلم بانها هل هي مجرى قاعدتي

ص: 377

فنقول مستعينا باللّه : روى زرارة في الصحيح عن ابن عبد اللّه عليه السلام قال : « اذا خرجت من شيء ودخلت في غيره ، فشكُّكَ ليس بشيء » .

وروى اسماعيل بن جابر عن ابي عبد اللّه عليه السلام قال : « إن شكَّ في الركوع بعدما سَجَدَ فليَمض ، وإن شكَّ في السجود بعد ما قام فليَمض ، كلّ شيء شكَّ فيه وقد جاوزَهُ ودخل في غيرهِ ، فليمض عليه » .

وهاتان الروايتان ظاهرتان في اعتبار الدخول في غير المشكوك .

-------------------

التجاوز والفراغ ام لا ؟ وبذكر الأخبار ومراجعتها يظهر لنا دخول تلك الفروع في هذه الجانب او ذلك الجانب جليّا ان شاء اللّه تعالى .

( فنقول مستعينا باللّه : روى زرارة في الصحيح عن ابن عبد اللّه عليه السلام قال : « اذا خرجت من شيء ودخلت في غيره ، فشكُّكَ ليس بشيء » (1) ) ومعناه : عدم الاعتناء بالشك الحادث في الشيء الذي كان قد تجاوزه الى غيره .

( وروى اسماعيل بن جابر عن ابي عبد اللّه عليه السلام قال : «ان شك في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وان شك في السجود بعد ما قام فليمض ، كلّ شيء شك فيه وقد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » ) (2) اي : ليحكم بصحته ما أتى به .

( وهاتان الروايتان ظاهرتان في اعتبار الدخول في ) شيء آخر ( غير المشكوك ) وذلك بأن شك في الركوع وقد سجد ، او في السجود وقد قام وشرع في الحمد ، أو شرع في التشهد ، أو ما أشبه ذلك .

ص: 378


1- - تهذيب الأحكام : ج2 ص352 ب13 ح47 ، وسائل الشيعة : ج8 ص237 ب23 ح10524 .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص153 ب23 ح60 ، وسائل الشيعة : ج6 ص318 ب13 ح8071 ، دعائم الإسلام : ج1 ص189 بالمعنى .

وفي الموثّقة : « كلُّ ما شككت فيه مّما قد مضى فأمضِهِ كما هو » .

وهذه الموثّقة ظاهرة في عدم اعتبار الدخول في الغير .

وفي موثّقة ابن ابي يعفور : « اذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلتَ في غيره ، فشكُّكَ ليس بشيء ، إنّما الشك اذا كُنت في شيء لم تجزه » .

-------------------

( وفي الموثّقة ) اي : موثقة محمد بن مسلم قال : ( « كلُّ ما شككت فيه مّما قد مضى فأمضِهِ كما هو » (1) ) بمعنى : عدم الاعتناء بالشك .

( وهذه الموثّقة ظاهرة في عدم اعتبار الدخول في الغير ) اي : في غير المشكوك ، وإنّما اعتبرت ملاك الحكم بالصحة : مجرّد المضي ، فاذا شك في صحة الركوع وقد قام منه فانه وان لم يسجد بعدُ ، يبني على صحة ركوعه ، وهكذا .

( وفي موثّقة ابن ابي يعفور : « اذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلتَ في غيره ) كما لو شككت - مثلاً - في غسل الوجه وقد شرعت في غسل اليد ، او شككت في مسح الرأس وقد شرعت في مسح الرجلين ، على ما هو ظاهر هذه الرواية وان كان المشهور لا يقولون بجريان قاعدة التجاوز بالنسبة الى أجزاء الوضوء ، فاذا شككت كذلك ( فشكُّكَ ليس بشيء ، إنّما الشك اذا كُنت في شيء لم تجزه » (2) ) اي : اذا شككت في صحة غَسل يدك - مثلاً - وانت بعد في غَسل اليد ، أو شككت في الركوع وانت بعد في الركوع فتداركه ، والاّ فاحكم بصحته .

ص: 379


1- - تهذيب الأحكام : ج2 ص344 ب13 ح14 ، وسائل الشيعة : ج8 ص238 ب23 ح10526 .
2- - تهذيب الأحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 ، السرائر : ج3 ص554 .

وظاهر صدر هذه الموثّقة كالأوليين ، وظاهر عجزها كالثالثة .

هذه تمام ما وصل الينا من الأخبار العامّة .

وربما يستفاد العموم من بعض ما ورد في الموارد الخاصة :

مثل : قوله عليه السلام ، في الشك في فعل الصلاة بعد خروج الوقت ، من قوله عليه السلام : « وإن كان بعدما خرج وقتُها فقد دخل حائلٌ ، فلا إعادة » .

-------------------

( وظاهر صدر هذه الموثّقة كالأوليين ) (1) اي : كالروايتين الظاهرتين في اعتبار الدخول في غير المشكوك ، فلا يحكم بالصحة الاّ بعد الدخول في الغير .

( وظاهر عجزها كالثالثة ) اي : كموثقة محمد بن مسلم (2) الظاهرة في عدم اعتبار الدخول في غير المشكوك ، وانه يكفي للحكم بالصحة : التجاوز عنه والفراغ منه وان لم يدخل في غيره ( هذه تمام ما وصل الينا من الأخبار العامّة ) ومجموعها يفيد قاعدة كلية ، وهي: ان الشك إنّما يعتبر اذا كان الشخص داخلاً في نفس الشيء ، أما الشك بعد الفراغ والتجاوز والمضيّ فلا اعتبار به .

( وربما يستفاد العموم ) اي : عموم قاعدتي التجاوز والفراغ ( من بعض ما ورد في الموارد الخاصة ) فيتعدّى من تلك الموارد الخاصة الى غيرها لفهم المناط والملاك ، وذلك ( مثل : قوله عليه السلام ، في الشك في فعل الصلاة بعد خروج الوقت ، من قوله عليه السلام : « وإن كان بعد ما خرج وقتُها فقد دخل حائلٌ ، فلا إعادة » (3) )

ص: 380


1- - كرواية زرارة ورواية اسماعيل ، انظر تهذيب الاحكام : ج2 ص352 ب13 ح47 و ص153 ب23 ح60 ، وسائل الشيعة : ج8 ص237 ب23 ح10524 و ج6 ص318 ب13 ح8071 ، دعائم الاسلام : ج1 ص189 .
2- - انظر تهذيب الاحكام : ج2 ص344 ب13 ح14 ، وسائل الشيعة : ج8 ص238 ب23 ح10526 .
3- - الكافي فروع : ج3 ص294 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص277 ب13 ح135 ، وسائل الشيعة : ج4 ص283 ب60 ح5168 .

وقوله عليه السلام : « كلُّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرتَه تذكُّرا فأمضِهِ كما هُو » ، وقوله عليه السلام : فيمن شك في الوضوء بعدما فرغ : « هو حين يتوضّأ

أذكَرُ منه حين يَشُكُّ » .

ولعلّ المتتبّع يعثر على أزيد من ذلك ،

-------------------

فانه يدل على ان الملاك هو حصول الحيلولة ، والحيلولة إنّما تحصل بحالة مغايرة للحالة الاولى ، وواضح ان الشك بعد التجاوز والفراغ سواء في العبادات أم المعاملات كله من هذا القبيل ( وقوله عليه السلام : « كلُّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرتَه تذكُّرا ) بأن لم تعلم هل أتممته او لم تتمّه ؟ ( فأمضِهِ كما هُو » (1) ) اي : احكم بانه صحيح ، فان العرف يفهم من مثل : « ذكرته تذكّرا فأمضه » الملاك ، فلا خصوصية للصلاة والطهور ، بل يأتي في الحج والصيام وغير ذلك .

( وقوله عليه السلام ) الذي اشار اليه المصنِّف قبل قليل أول المسئلة الثانية وهي رواية بكير بن أعين : ( فيمن شك في الوضوء بعدما فرغ ) منه وانه هل أتى به صحيحا ام لا ؟ فكان فيما قاله عليه السلام : ( « هو حين يتوضّأ أذكَرُ منه حين يَشُكُّ » (2) ) اي : لا يعتني بشكه ويبني على أصالة الصحة ، فانه عليه السلام لما علّل عدم الاعتناء بالشك في الوضوء بعد تمامه بالأذكرية حين العمل ، دلّ ذلك على مسلّمية كبرى كلية تقول : بأن كل عامل في حال عمله أذكر ، فاذا شك بعد ذلك فلا يعتني بشكه .

هذا ( ولعلّ المتتبّع يعثر على أزيد من ذلك ) فيما نحن فيه من الروايات فقد ورد في مضمون رواية الفقيه عن محمد بن مسلم عن ابي عبد اللّه عليه السلام انه قال :

ص: 381


1- - تهذيب الأحكام : ج1 ص364 ب16 ح34 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1248 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص580 ح6 .
2- - تهذيب الأحكام : ج1 ص101 ب4 ح114 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1249 .

وحيث انّ مضمونها لا يختصّ بالطهارة والصلاة ، بل يجري في غيرهما ، كالحج ، فالمناسب الاهتمام في تنقيح مضامينها ودفع ما يتراءى من التعارض بينها ، فنقول مستعينا باللّه ، فانّه وليّ التوفيق :

إنّ الكلام يقع في مواضع :

-------------------

«ان شك الرجل بعدما صلّى ، فلم يدر ثلاثا صلّى ام اربعا ، وكان يقينه حين انصرف انه كان قد أتم ، لم يُعد الصلاة ، وكان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك » (1) .

ومنها : ما في ذيل صحيحة زرارة : «فاذا قمت عن الوضوء وفرغت عنه ، وقد صرت في حال اُخرى في الصلاة او غيرها ، فشككت في بعض ما سمّى اللّه مما أوجب اللّه ، لا شيء عليك » (2) .

ومنها : ما رواه محمد بن مسلم في الصحيح عن الصادق عليه السلام : « رجل شك في الوضوء بعد ما فرغ من الصلاة ؟ قال : يمضي على صلاته ولا يعيد » (3) .

وهذه الروايات ذكرها الأوثق ، وهناك روايات أخرى يجدها المتتبع في المجاميع .

هذا ( وحيث انّ مضمونها لا يختصّ بالطهارة والصلاة ، بل يجري في غيرهما، كالحج ) والصوم والاعتكاف وسائر المعاملات ( فالمناسب الاهتمام في تنقيح مضامينها ودفع ما يتراءى من التعارض بينها ) حتى يعلم ان أيّا من الفروع المشكوكة داخل في قاعدتي التجاوز والفراغ ، وأيا منها غير داخل فيالقاعدتين؟.

( فنقول مستعينا باللّه ، فانّه وليّ التوفيق : إنّ الكلام يقع في مواضع ) سبعة :

ص: 382


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص352 ح1027 ، وسائل الشيعة : ج8 ص246 ب27 ح10552 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص33 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص100 ب4 ح110 ، وسائل الشيعة : ج1 ص469 ب42 ح1243 .
3- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح113 و ص102 ب4 ح116 .

الموضع الأوّل :

إنّ الشك في الشيء ، ظاهرٌ - لغةً وعرفا - في الشك في وجوده ، إلاّ أنّ تقييد ذلك في الروايات بالخروج عنه ومضيّه والتجاوز عنه ربما يصيرُ قرينةً على إرادة كون وجود أصل الشيء مفروغا عنه ، وكون الشك فيه باعتبار الشك في بعض ما يعتبر فيه شرطا أو شطرا .

-------------------

( الموضوع الأوّل : إنّ ) ما ورد في الأخبار المتقدّمة من لفظ ( الشك في الشيء ، ظاهرٌ لغةً وعرفا في الشك في ) أصل ( وجوده ) اي : وجود الشيء المشكوك وعدمه وذلك كما اذا شك في انه هل ركع ام لا - مثلاً - ؟ لا في صحته بعد الفراغ عن وجوده ( إلاّ أنّ تقييد ذلك ) أي : تقييد الشك ( في الروايات بالخروج عنه ) اي : عن ذلك الشيء المشكوك كما تقدَّم في رواية زرارة (1) ( ومضيّه ) على ما تقدّم في موثّقة محمد بن مسلم (2) ( والتجاوز عنه ) على ما في رواية اسماعيل (3) وموثّقة ابن ابي يعفور (4) ( ربما يصيرُ قرينةً على إرادة كون وجود أصل الشيء مفروغا عنه ، و ) مسلّما وقوعه ، وإنّما (كون الشك فيه باعتبار الشك في بعض مايعتبر فيه شرطا أو شطرا ).

مثلاً : يعلم انه أتى بالركوع قطعا ، لكنه لا يعلم هل انه أتى به في حال الستر

ص: 383


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص352 ب13 ح47 ، وسائل الشيعة : ج8 ص237 ب23 ح10524 .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص344 ب13 ح14 ، وسائل الشيعة : ج8 ص238 ب23 ح10526 .
3- - تهذيب الاحكام : ج2 ص153 ب23 ح60 ، وسائل الشيعة : ج6 ص318 ب13 ح8071 ، دعائم الاسلام : ج1 ص189 بالمعنى .
4- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .

نعم ، لو أريد الخروج والتجاوز عن محلّه ، أمكن إرادة المعنى الظاهر من الشك في الشيء .

وهذا هو المتعيّن ، لأنّ ارادة الأعمّ من الشك في وجود الشيء والشك الواقع في الشيء الموجود في استعمال واحد غير صحيح .

-------------------

والاستقبال من جهة الشرط ؟ او هل انه أتى به مع الذكر والتسبيح من جهة الشرط والجزء فيما اذا قلنا : بأن الذكر جزء وشطر من الركوع ؟ وهكذا حال ما اذا شك في انه هل أتى به مع المانع او بدون المانع ؟ .

( نعم ، لو أريد الخروج والتجاوز عن محلّه ، أمكن إرادة المعنى الظاهر من الشك في الشيء ) بمعنى : انه ان أريد من الخروج والمضيّ والتجاوز : التجاوز عن نفس الشيء ، يكون الشك في جزئه وشرطه وعدم ما نعه ، وان أريد منه : التجاوز عن محل الشيء ، يكون الشك في أصل وجود الشيء وانه هل أتى به أم لا ؟ .

( وهذا ) اي : إرادة معنى التجاوز عن محل الشيء من ألفاظ الروايات ( هو المتعيّن ) عند المصنِّف ، فلابدّ من حمل الفاظ : الخروج والمضي والتجاوز في الروايات على التجاوز عن محل الشيء لا نفس الشيء ، فيكون الشك في الشيء معناه : انه شك في أصل وجوده وعدمه .

وإنّما قال المصنِّف : «هذا هو المتعيّن» ( لأنّ ارادة الأعمّ من الشك في وجود الشيء ) كما اذا شك في انه ركع أو لم يركع ( والشك الواقع في الشيء الموجود ) كما اذا شك في ان ركوعه الذي ركعه كان مع الستر والاستقبال ام لا ، فانّ ارادة الأعم ( في استعمال واحد غير صحيح ) لانه يراد به معنيان ، واللفظ الواحد لايتمكن ان يشمل معنيين ، وذلك إما استحالة كما يقوله الآخوند ، أو لأنه يحتاج

ص: 384

وكذا إرادة خصوص الثاني ، لأنّ مورد غير واحد من تلك الاخبار هو الأوّل .

ولكن يبعد ذلك في ظاهر موثّقة محمّد بن مسلم ، من جهة قوله عليه السلام : «فأمضه كما هو» ، بل لا يصحّ ذلك

-------------------

الى قرينة مفقودة في المقام كما يراه المشهور .

( وكذا إرادة خصوص الثاني ) اي : ارادة الروايات من الشك في الشيء : خصوص الشك الواقع في صحة الشيء الموجود ، فانه غير صحيح بنظر المصنِّف أيضا . وإنّما لم يكن صحيحا أيضا بنظره ( لأنّ مورد غير واحد من تلك الاخبار ) كرواية اسماعيل (1) بن جابر عن الإمام الصادق عليه السلام ( هو الأوّل ) أي : الشك في وجود اصل الشيء ، لا في صحة الشيء الموجود ، واذا كان كذلك ، فاللازم حمل سائر الأخبار على هذا المعنى ايضا ، فيكون مفادها : انه اذا شك في اصل الشيء ، بأن لم يعلم هل انه أتى به او لم يأت به وقد تجاوزه ، أو دخل في غيره بعد تجاوزه عنه فلا يعتني بشكه ؟ .

( لكن يبعد ذلك ) اي : يبعد كون الشك في أصل وجود الشيء ( في ظاهر موثّقة محمد بن مسلم من جهة قوله ) عليه السلام : ( « فأمضه كما هو » (2) ) اذ ظاهر :

امضه كما هو : الشك في انه هل أتى بالعمل جامعا للشرائط ام لا ؟ فليس الشك في أصل الاتيان بالعمل وعدمه ، وإنّما الشك في صحة العمل وعدم صحته .

( بل لا يصحّ ذلك ) اي : لا يصح ان يكون الشك في أصل وجود الشيء

ص: 385


1- - انظر تهذيب الاحكام : ج2 ص153 ب23 ح60 ، وسائل الشيعة : ج6 ص318 ب13 ح8071 ، دعائم الاسلام : ج1 ص189 .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص344 ب13 ح14 ، وسائل الشيعة : ج8 ص238 ب23 ح10526 .

في موثّقة ابن أبي يعفور ، كما لا يخفى .

لكنّ الانصاف : إمكان تطبيق موثّقة محمد بن مسلم على ما في الروايات

.

وأمّا هذه الموثّقة فسيأتي توجيهُها على وجه

-------------------

( في موثّقة ابن أبي يعفور (1) ، كما لا يخفى ) على من راجعها حيث يدلّ صدرها على عدم اعتبار الشك في شيء من الوضوء بعد الفراغ منه ، وإنّما العبرة به قبل الفراغ منه ، وذلك ظاهر في انه قد أتى قطعا بالوضوء ، وإنّما شك في بعض خصوصياته.

( لكنّ الانصاف : إمكان تطبيق موثّقة محمد بن مسلم على ما في الروايات ) الأخر ، وذلك على ان يكون قوله عليه السلام : «فأمضه كما هو» (2) بمعنى : ابن على وقوع الشيء المشكوك وتحققه ، فيكون الشك في أصل الشيء وعدمه لا في خصوصياته وصحته .

أقول : لكن الظاهر أن ما يستظهره العرف من موثقة محمد بن مسلم هو : الأعم من الشك في أصل الشيء او في خصوصياته ، فان قوله عليه السلام : «كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو» يشمل الأمرين عرفا ، فهما فردان من كلي أفادته الموثقة المذكورة .

( وأمّا هذه الموثّقة ) اي : موثقة ابن أبي يعفور (3) ( فسيأتي توجيهُها على وجه

ص: 386


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص344 ب13 ح14 ، وسائل الشيعة : ج8 ص438 ب23 ح10526 .
3- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .

لا يعارض الروايات إن شاء اللّه .

الموضع الثاني :

إنّ المراد بمحلّ الفعل المشكوك في وجوده هو : الموضوع الذي لو اُتى به فيه لم يلزم منه اختلال في الترتيب المقرّر .

وبعبارة أخرى : محلّ الشيء ، هي المرتبة المقرّرة له بحكم العقل

-------------------

لا يعارض الروايات إن شاء اللّه ) تعالى ، وذلك حتى يكون المراد من هذه الموثقة عند المصنِّف ايضا هو : الشك في أصل الشيء ، لا الشك في خصوصياته ، والتوجيه الذي يأتي هو : ان الوضوء قد اعتبر شرعا أمرا بسيطا ، واذا كان كذلك فلا يعقل فيه التجاوز الاّ بالفراغ منه .

أقول : لكن يظهر ان هذا غير تام ، وذلك لأنّ الصناعة تقتضي بنظرنا ان يكون الوضوء ايضا مما يأتي فيه قاعدة التجاوز ، وهو الذي أيّده العلامة وولده .

( الموضع الثاني : إنّ المراد بمحلّ الفعل المشكوك في وجوده ) وعدم وجوده، وذلك فيما لوشك في انه هل أتى بالفعل الفلاني ام لا بعد ان تجاوز محله ؟ فانه - كما عرفت - يبني على انه أتى به ، فما المراد من المحل هنا ؟ علما بانه ليس في الروايات لفظ المحل ، وإنّما فهم الفقهاء المحل من مثل قوله عليه السلام : «اذا كنت في شيء لم تجزه» (1) وما اشبه ذلك ، قال المصنِّف : المراد به : ( هو : الموضوع الذي لو اُتى به ) اي : بالفعل المشكوك ( فيه ) اي : في ذلك المحل ( لم يلزم منه اختلال في الترتيب المقرّر ) شرعا .

( وبعبارة أخرى : محلّ الشيء ، هي المرتبة المقرّرة له ) إمّا ( بحكم العقل )

ص: 387


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .

أو بوضع الشارع أو غيره ولو كان نفس المكلّف ، من جهة اعتياده باتيان ذلك المشكوك في ذلك المحلّ .

فمحلُّ تكبيرة الاحرام قبل الشروع في الاستعاذة لاجل القراءة بحكم الشارع ، ومحلّ « اكبر » قبل تخلّل الفصل الطويل بينه وبين لفظ الجلالة بحكم الطريقة المألوفة في نظم الكلام ، ومحلّ الراء من « أكبر » قبل أدنى فصل يوجب الابتداء بالساكن

-------------------

كما يأتي ان شاء اللّه تعالى في مثال الابتداء بالحرف الساكن .

( أو بوضع الشارع ) كما في جعل الشارع محل ا لسورة بعد الحمد في الصلاة - مثلاً - .

( أو غيره ) اي : غير الشارع كالعرف على ما يأتي ان شاء اللّه تعالى في مثال الصلاة قبل الطعام لمن اعتاد ذلك ، حتى ( ولو كان ) هذا الغير ( نفس المكلّف ، من جهة اعتياده باتيان ذلك المشكوك في ذلك المحلّ ) وان لم يكن محلاً عقليا ولا محلاً شرعيا .

وعليه : ( فمحلُّ تكبيرة الاحرام قبل الشروع في الاستعاذة لاجل القراءة ) يكون ( بحكم الشارع ) لان الشارع هو الذي قال : يستحب الاتيان بالاستعاذة قبل القراءة .

( ومحلّ « اكبر » قبل تخلّل الفصل الطويل بينه وبين لفظ الجلالة ) يعني : أن يأتي بهما متلاصقين ، وهو يكون ( بحكم الطريقة المألوفة في نظم الكلام ) الذي صدّقه الشارع ايضا ، وكذا عدم الفصل الطويل بين المبتدأ والخبر ، والموصوف والصفة ، وذي الحال والحال ، الى غير ذلك

( ومحلّ الراء من « أكبر » قبل أدنى فصل يوجب الابتداء بالساكن ) يكون

ص: 388

بحكم العقل ، ومحلّ غَسل الجانب الأيسر أو بعضه في غُسل الجنابة لمن اعتاد الموالاة فيه قبل تخلّل فصل يخلّ بما اعتاده من الموالاة .

هذا كلّه مّما لا اشكال فيه ، إلاّ الأخير ، فانّه ربما يتخيّل انصراف إطلاق الأخبار الى غيره .

-------------------

(

بحكم العقل ) لانه لابد من توالي حروف الكلمة الواحدة بلا أدنى فصل بينها ، فاذا فصل حرف الراء عما قبله من الحروف في كلمة اكبر ، لزم الابتداء بالساكن ، والابتداء بالساكن محال عقلاً ، فيكون محل الراء في كلمة اكبر بعد حرف الباء بلا فصل بحكم العقل .

( ومحلّ غَسل الجانب الأيسر أو بعضه في غُسل الجنابة لمن اعتاد الموالاة فيه ) في الغُسل دون تفريق أجزاء الغُسل في أوقات مختلفة ، يكون ( قبل تخلّل فصل يخلّ بما اعتاده من الموالاة ) فاذا كان - مثلاً - قد اعتاد على الموالاة في الغُسل ، ثم شك بعد الفصل الطويل المخلّ بالموالاة بأنه هل غسل الجانب الأيسر أم لا فهذا الشك يكون شكا بعد تجاوز المحل العادي لانه على خلاف معتاده في الغُسل .

( هذا كلّه مّما لا اشكال فيه ، إلاّ الأخير ) وهو التجاوز عن المحل العادي ثم الشك فيه ( فانّه ربما يتخيّل انصراف إطلاق الأخبار ) الدالة على عدم العبرة بالشك بعد تجاوز المحل ( الى غيره ) اي : الى غير المحل العادي ، فان المنصرف من اطلاق تجاوز المحل هو المحل الشرعي والعقلي والعرفي لا المحل العادي ، وقد سبق منا الفرق بين العرف والعادة ، فانه قد يكون العرف على شيء ، لكن عادة هذا الانسان ليس على ذلك الشيء ، وقد يكون العكس .

ص: 389

مع أنّ فتح هذا الباب بالنسبة الى العادة يوجب مخالفة اطلاقات كثيرة .

فمن اعتاد الصلاة في أوّل وقته أو مع الجماعة ، فشك في فعلها بعد ذلك فلايجب عليه الفعل .

وكذا من اعتاد فعل شيء بعد الفراغ من الصلاة فرأى نفسه فيه

-------------------

( مع أنّ فتح هذا الباب بالنسبة الى العادة ) فيما لو قيل : بانه لا عبرة بالشك بعد تجاوز المحل العادي ( يوجب مخالفة اطلاقات كثيرة ) تدل تلك الاطلاقات على لزوم الاتيان بالفعل المشكوك ، فاذا كان - مثلاً - من عادته انه يصلّي اول الوقت ، او يقضي صيام شهر رمضان من اليوم الثاني من شوال ، أو يزكّي ماله في اول يوم يتعلق به الزكاة ، أو يعطي خمس ماله أول السنة الجديدة ، او يطوف للعمرة بمجرد وصوله الى مكة ، وبعدها عرض له الشك في انه هل أتى بها كما هو اعتياده أم لا ؟ وحينئذ لو قلنا : بانه يجري حكم التجاوز ، ولا يلزم عليه الاتيان بهذه الامور كان مخالفا لاطلاقات : « أقيموا الصلوة وآتوا الزكوة » (1) وغيرهما من النصوص المطلقة .

وعليه : ( فمن اعتاد الصلاة في أوّل وقته أو مع الجماعة ، فشك في فعلها بعد ذلك ) الوقت او بعد انتهاء الجماعة فان قلنا بشمول التجاوز المحل العادي ايضا ( فلا يجب عليه الفعل ) اي : ليس عليه أن يأتي بالصلاة لانه قد تجاوز المحل العادي للصلاة .

( وكذا من اعتاد فعل شيء بعد الفراغ من الصلاة ) كأكل طعامه ، او الشروع في درسه بعد الصلاة ( فرأى نفسه فيه ) اي : في مثل أكل الطعام ، أو الشروع

ص: 390


1- - سورة البقرة : الآية 43 و 83 .

وشك في فعل الصلاة .

وكذا من اعتاد الوضوء بعد الحدث بلا فصل يعتدّ به ، أو قبل دخول الوقت للتهيّؤ فشك بعد ذلك في الوضوء ، الى غير ذلك من الفروع التي يبعدُ إلتزامُ الفقيه بها .

نعم ، ذكر جماعةٌ من الأصحاب مسألة معتاد الموالاة في غسل الجنابة اذا شك في الجزء الأخير ، كالعلامة وولده والشهيدين والمحقق الثاني وغيرهم «قدس اللّه أسرارهم» .

-------------------

في الدرس ، أو ما اشبه ذلك ( وشك في فعل الصلاة ) فلا يجب عليه ان يأتي بالصلاة لو قلنا بشمول التجاوز المحل العادي ايضا ، لانه قد تجاوز المحل العادي للصلاة.

( وكذا من اعتاد الوضوء بعد الحدث بلا فصل يعتدّ به ، أو قبل دخول الوقت للتهيّؤ ) الى الصلاة كما يعتاده كثير من الناس ( فشك بعد ذلك في الوضوء ) بانه هل توضأ حسب عادته ام لا ؟ فلو قلنا بشمول التجاوز المحل العادي ايضا فلا يجب عليه ان يتوضأ لانه قد تجاوز المحل العادي للوضوء .

( الى غير ذلك من الفروع التي يبعدُ إلتزامُ الفقيه بها ) للانصراف الذي ذكره المصنِّف هنا ولأن المحكّم في المقام بنظره هو : قاعدة الاشتغال لا التجاوز .

( نعم ، ذكر جماعةٌ من الأصحاب مسألة معتاد الموالاة في غسل الجنابة اذا شك في الجزء الأخير ، كالعلامة وولده والشهيدين والمحقق الثاني وغيرهم «قدس اللّه أسرارهم» ) وناقشوا في جريان قاعدة التجاوز هنا وعدم جريانها

ص: 391

واستدلّ فخر الدين على مختاره في المسألة ، بعد صحيحة زرارة المتقدّمة : بأنّ خرق العادة على خلاف الاصل .

ولكن لا يحضرني كلام منهم في غير هذا المقام ، فلابدّ من التتبّع والتأمل .

-------------------

( واستدلّ فخر الدين على مختاره ) وهو جريانها ( في المسألة ، بعد صحيحة زرارة (1) المتقدّمة : بأنّ خرق العادة ) اي : الظاهر ( على خلاف الاصل ) ويلزم تقديم الظاهر على الاصل ، وذلك لأنّ الاصل هنا : عدم الاتيان بالجزء المشكوك ، بينما الظاهر من حال معتاد الموالاة في الغُسل ظاهرا عقلائيا : انه قد أتى به ، فيقدّم الظاهر على الأصل .

ثم قال المصنِّف : ( ولكن لا يحضرني كلام منهم في غير هذا المقام ، فلابدّ من التتبّع ) في فتاواهم حتى يعلم هل انهم أفتوا بذلك في مقام آخر ام لا ؟ علما بأن بعض الفقهاء ذكر مثل ذلك أيضا فيمن شك في غَسل محلّ النجو بعد خروجه عن الكنيف ممن كان عادته الغَسل .

( و ) كذا لابدّ من ( التأمّل ) ايضا في وجه الفتوى المذكورة وفيما لو كانوا قد أفتوا بمثل هذه الفتوى ، وان كان يحتمل بنظرنا جريان قاعدة التجاوز في مثل هذه الامور العادية ، وذلك لبعض الأخبار الآتية ، ولوجوه اُخر : مثل : الاجماع في الجملة ، ومثل : بناء العقلاء على الصحة بعد تجاوز المحل ، ومثل : ظهور حال العاقل المريد لايقاع الفعل على وجه الصحة ، ومثل : الغلبة ، لان الغالب من عادته ذلك ، والغلبة حجّة باعتبار انها طريقة عقلائية لم يردع عنها الشارع .

ص: 392


1- - انظر تهذيب الاحكام : ج2 ص352 ب13 ح47 ، وسائل الشيعة : ج8 ص237 ب23 ح10524 .

والذي يقرب في نفسي عاجلاً هو : الالتفات الى الشك ، وإن كان الظاهر من قوله عليه السلام فيما تقدّم : « هو حين يتوضأ اذكَرُ منه حين يشكّ » أنّ هذه القاعدة من باب تقديم الظاهر على الأصل ؛ فهو دائرٌ مدار الظهور النوعي من العادة ،

-------------------

هذا ، ولكن المصنّف قال : ( والذي يقرب في نفسي عاجلاً هو : الالتفات الى الشك ) والعمل بقاعدة الاشتغال لا بقاعدة التجاوز ، وذلك حتى لا يُضطر الى الالتزام بفروع لا يلتزم الفقهاء بها .

ثم أضاف المصنِّف بعد ذلك قوله : ( وإن كان الظاهر من قوله عليه السلام فيما تقدّم : « هو حين يتوضأ اذكَرُ منه حين يشك » (1) أنّ هذه القاعدة ) هي أمارة ظنية عقلائية قرّرها الشارع (من باب تقديم الظاهر على الأصل) فإن بعض الفقهاء قال : ان الأصل لا حكم له مع الظاهر اذا كان الظاهر على خلافه ، مثل غسالة الحمّام ، حيث ان الظاهر نجاستها مع ان الاصل الطهارة ، ومثل ادّعاء الصرّاف تماميّة ما سلّمه الى صاحب النقد ، وادّعاء صاحب النقد النقص بعد ان استلم نقده منه وذهب ثم رجع حيث ان الظاهر التمامية ، بينما الاصل النقص ، الى غير ذلك من الامثلة .

وعليه : ( فهو ) اي : ما استظهرناه من تقديم الظاهر على الاصل ( دائرٌ مدار الظهور النوعي ) فأين ما وجد ظهور نوعي لزم تقديمه على الاصل حتى وان كان ذلك الظهور النوعي حاصلاً ( من العادة ) وكان التجاوز عنه تجاوزا عن المحل العادي .

ص: 393


1- - تهذيب الأحكام : ج1 ص101 ب4 ح104 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1249 .

لكنّ العمل بعموم ما يستفاد من الرواية أيضا مشكلٌ ، فتأمّل .

والأحوط ما ذكرنا

الموضع الثالث :

الدخول في غير المشكوك إن كان محققا للتجاوز عن المحلّ ، فلا اشكال في اعتباره ، وإلاّ

-------------------

ثم استدرك المصنِّف كلامه بقوله : ( لكنّ العمل بعموم ما يستفاد من الرواية أيضا مشكلٌ ) لانه لو التزمنا به كان معناه تأسيس فقه جديد ( فتأمّل ) فان الظاهر عند المصنِّف هو : التجاوز من المحل الذي جعله الشارع ، لا حسب العادة ، فحتى لو لم يستلزم ذلك تأسيس فقه جديد لا يمكن الالتزام به لأنّ النص لا يشمله .

( و ) على ايّ حال : فان ( الأحوط ما ذكرنا ) : من الالتفات الى الشك بالنسبة الى المحل العادي والعمل فيه بقاعدة الاشتغال لا التجاوز .

( الموضع الثالث ) : في ان المعيار لجريان قاعدة التجاوز هل هو الدخول في الغير ، أو تجاوز المحل وان لم يدخل في الغير ؟ علما بأن ( الدخول في غير المشكوك ) ، أي : في الغير ( إن كان محققا للتجاوز عن المحلّ ، فلا اشكال في اعتباره ) اي : في اشتراط الدخول في الغير ، كما اذا شك في الحمد بعد الدخول في السورة حيث ان محل الحمد بين تكبيرة الاحرام وبين السورة فالغير هنا محقق للتجاوز فيكون شرطا لجريان القاعدة .

( وإلاّ ) بأن لم يكن الدخول في الغير محققا للتجاوز ، وإنّما تحقق التجاوز بغيره ، وذلك كما اذا فرغ عن تكبيرة الاحرام ومضى زمان عليه بمقدار قراءة الحمد ولم يشرع بعد في السورة ، ثم شك في انه هل قرء الحمد أو لم يقرءه ؟

ص: 394

فظاهرُ الصحيحتين الاُولَيَن : اعتباره ، وظاهرُ اطلاق موثّقة ابن مسلم عدمُ اعتباره .

ويمكن حمل التقييد في الصحيحين على الغالب خصوصا في أفعال الصلاة ، فانّ الخروج من أفعال الصلاة يتحقق غالبا

-------------------

ففي هذه الصورة هل يصدق التجاوز حتى لا يحتاج الى قراءة الحمد ، أو لايصدق التجاوز لانه لا دخول في الغير ، فاللازم ان يقرء الحمد ؟ احتمالان :

( فظاهرُ الصحيحتين الاُولَيَن : (1) اعتباره ) اي : اعتبار الدخول في الغير في صدق التجاوز عن المحل .

( وظاهرُ اطلاق موثّقة ابن مسلم (2) عدمُ اعتباره ) اي : عدم اعتبار الدخول في الغير ، وإنّما يكفي مجرّد التجاوز عن محلّ الشيء في الحكم بأنه قد أتى بالشيء المشكوك :

هذا (ويمكن حمل التقييد في الصحيحين ) حيث دلاّ على لزوم الدخول في الغير (على الغالب) لا على انه احترازي، اذ الغالب في الامور هو حصول التجاوز بالدخول في الغير ، ولذلك عبرّ عن التجاوز بالدخول في الغير ، والاّ فالمناط هو : عنوان التجاوز ، وذلك حسب قوله عليه السلام: «إنّما الشك اذا كنت في شيء لم تجره»(3) (خصوصا في أفعال الصلاة ، فانّ الخروج من أفعال الصلاة يتحقق غالبا

ص: 395


1- - وهي صحيحة زرارة ، انظر تهذيب الاحكام : ج2 ص352 ب13 ح47 ، وسائل الشيعة : ج8 ص237 ب23 ح10524 ، وصحيحة اسماعيل بن جابر ، انظر تهذيب الاحكام : ج2 ص153 ب23 ح60 ، وسائل الشيعة : ج6 ص318 ب13 ح8071 ، دعائم الاسلام : ج1 ص189 بالمعنى .
2- - انظر تهذيب الاحكام : ج2 ص344 ب13 ح14 ، وسائل الشيعة : ج8 ص238 ب23 ح10526 .
3- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .

بالدخول في الغير ، وحينئذ ، فيلغوا القيد .

ويحتمل ورود المطلق على الغالب ، فلا يحكم بالاطلاق .

ويؤيّد الأوّل ظاهر التعليل المستفاد من قوله عليه السلام : « هو حين يتوضأ أذكَرُ منه حين يشك » ،

-------------------

بالدخول في الغير ) ولذا جاء التعبير في الصحيحتين بالدخول في الغير .

( وحينئذ ) اي : حين ، تمّ حمل القيد على الغالب ( فيلغوا القيد ) ولا حاجة حينئذ في صدق التجاوز الى الدخول في الغير .

( ويحتمل ) اعتبار القيد ويكون ذلك من باب ( ورود المطلق على الغالب ) فان الغالب كونه مقيدّا بالدخول في الغير ( فلا يحكم بالاطلاق ) لان الدخول في الغير معتبر في قاعدة التجاوز ، وإنّما لم يذكر ذلك في بعض الروايات لعدم الحاجة الى ذكره ، حيث ان الغالب هو كون التجاوز يتحقق بالدخول في الغير .

( ويؤيّد الأوّل ) وهو : عدم اعتبار القيد وكفاية مجرّد تجاوز المحل : ( ظاهر التعليل المستفاد من قوله ) عليه السلام : ( « هو حين يتوضأ أذكَرُ منه حين يشك » (1) ) اي : سواء دخل في الغير أم لم يدخل ، وذلك لأنّ ظاهر هذا التعليل هو : ان الحكم دائر مدار الظهور النوعي ، واقتضاء الظهور النوعي هو : ان الانسان يأتي بالشيء في محله ، فاذا تجاوز المحل سواء دخل في الغير ام لم يدخل في الغير يبني على انه قد أتى به .

ص: 396


1- - تهذيب الأحكام : ج1 ص101 ب4 ح114 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1249 .

وقوله عليه السلام : « إنّما الشك اذا كُنت في شيء لم تَجزه » ، بناءا على ما سيجيء من التقريب ، وقوله عليه السلام : « كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك ، الخبر » .

-------------------

( وقوله عليه السلام : « إنّما الشك اذا كُنت في شيء لم تجزه » (1) ، بناءا على ما سيجيء من التقريب ) فيكون المعيار التجاوز وعدم التجاوز ، لا الدخول في الغير وعدم الدخول في الغير .

( وقوله ) عليه السلام : ( كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك ) فذكرته تذكّرا ، فأمضه كما هو ، أي : سواء دخلت في غيره أم لا ، فانّ ظاهر هذا ( الخبر ) (2) هو تأسيس قاعدة كلية المناط العمل بالمشكوك ، وعدم العمل به ، وهو : مجرد المضي والتجاوز ، الى غير ذلك من المؤيدات ، خصوصا مفهوم الحصر في قوله عليه السلام : « إنّما الشك » (3) حيث دلّ على أنه لا اعتبار بالشك بعد التجاوز عنه والفراغ منه سواء دخل في الغير أم لم يدخل فيه .

انتهى الجزء الثالث عشر

ويليه الجزء الرابع عشر في

تتمة الكلام عن المسألة الثانية

وله الحمد والشكر

ص: 397


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص364 ب16 ح34 ، وسائل الشيعة : ج1 ص471 ب42 ح1248 ، جامع احاديث الشيعة : ج5 ص580 ح6 .
3- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب 4 ح111 ، السرائر : ج3 ص554 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 و ج8 ص237 ب23 ح10524 .

ص: 398

المحتويات

تتمّة التنبيه الثالث ... 5

التنبيه الرابع ... 19

التنبيه الخامس ... 30

التنبيه السادس ... 63

التنبيه السابع ... 111

التنبيه الثامن ... 139

التنبيه التاسع ... 148

التنبيه العاشر ... 197

التنبيه الحادي عشر ... 223

التنبيه الثاني عشر ... 244

خاتمة في شروط جريان الاستصحاب

الأمر الأوّل ... 257

الأمر الثاني ... 308

الأمر الثالث ... 342

تقديم الاستصحاب على الاُصول الثلاثة ... 362

المقام الأوّل ... 363

المسألة الاُولى ... 363

المسألة الثانية ... 375

ص: 399

الموضع الأوّل : معنى الشّك في قاعدة الفراغ ... 383

الموضع الثاني : محل الشّك ... 387

الموضع الثالث : اعتبار التجاوز ... 394

المحتويات ... 399

ص: 400

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.