الوصائل الى الرسائل المجلد 12

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بقي الكلام في حجج المُفصِّلين

فنقول : أمّا التفصيل بين العدمي والوجودي بالاعتبار في الأوّل وعدمه في الثاني ، فهو الذي ربما يستظهر من كلام التفتازاني ، حيث استظهر من عبارة العضدي في نقل الخلاف : « أنّ خلاف منكري الاستصحاب إنّما هو في الاثبات دون النفي » .

وما استظهره التفتازاني لا يخلو ظهوره عن تأمل ، مع أنّ هنا

-------------------

( بقي الكلام في حجج المفصّلين ) حيث يرون بعض أقسام الاستصحاب حجة ، وبعض أقسامه غير حجة .

( فنقول : أمّا ) حجة القول الثالث وهو : ( التفصيل بين العدمي والوجودي بالاعتبار ) للاستصحاب ( في الأوّل ) وهو العدمي فإنه حجة ( وعدمه ) أي : عدم اعتبار الاستصحاب ( في الثاني ) وهو الوجودي فليس بحجة ( فهو ) أي : هذا التفصيل هو ( الذي ربما يستظهر من كلام التفتازاني ) .

وإنّما يستظهر منه ذلك ( حيث استظهر ) التفتازاني ( من عبارة العضدي في نقل الخلاف ) في باب الاستصحاب ( « أنّ خلاف منكري الاستصحاب إنّما هو في الاثبات ) فبعض يقول بحجيته ، وبعض يقول بعدم حجيته ( دون النفي » (1) ) فإن استصحاب النفي حجة عند الجميع .

هذا ( وما استظهره التفتازاني ) من كلام العضدي ( لا يخلو ظهوره عن تأمل ) لأن عبارة العضدي لا يظهر منها حجية استصحاب النفي بلا خلاف .

( مع أنّ هنا ) أي : في كون استصحاب الاثبات محل خلاف عند من يرى

ص: 5


1- - تعليقة شرح مختصر الاصول شرح الشرح : ص284 .

إشكالاً آخر قد أشرنا اليه في تقسيم الاستصحاب وتحرير محلّ النزاع ، وهو أنّ القول باعتبار الاستصحاب في العدميّات يغني عن التكلّم في اعتباره في الوجوديات ، إذ ما من مستصحب وجودي إلاّ وفي مورده استصحاب عدمي يلزم من الظنّ ببقائه الظنُّ ببقاء المستصحب الوجودي .

وأقلُّ ما يكون عدم ضدّه ، فإنّ الطهارة لا تنفكّ عن عدم النجاسة ، والحياة لا تنفكّ عن عدم الموت ، والوجوب أو غيره من الأحكام لا ينفكّ

-------------------

استصحاب النفي حجة ( إشكالاً آخر قد أشرنا اليه ) أوائل البحث وذلك ( في تقسيم الاستصحاب وتحرير محلّ النزاع ) بين الأقوال .

( وهو ) أي : ذلك الاشكال الآخر هو : ( أنّ القول باعتبار الاستصحاب في العدميّات يغني عن التكلّم في اعتباره في الوجوديات ) .

وإنّما يغني عنه ( إذ ما من مستصحب وجودي إلاّ وفي مورده استصحاب عدمي يلزم من الظنّ ببقائه ) أي : ببقاء ذلك العدم ( الظنُّ ببقاء المستصحب الوجودي ) فإذا قلنا : بأن الاستصحاب في العدميات حجة ، فأيّة فائدة في أن نقول : بأن الاستصحاب في الوجوديات ليس بحجة ؟ .

( وأقلّ ما يكون ) هنا حيث قلنا : بأنه ما من مستصحب وجودي إلاّ وفي مورده استصحاب عدمي هو : استصحاب ( عدم ضدّه ) أي : عدم ضد ذلك الوجودي ، لأن لكل وجود ضد ، فإذا استصحبنا عدم ضده ، فيثبت الوجودي نفسه .

وأما مثال ذلك ، فكما قال : ( فإنّ الطهارة لا تنفكّ عن عدم النجاسة ، والحياة لا تنفكّ عن عدم الموت ، والوجوب أو غيره من الأحكام ) الخمسة ( لا ينفكّ

ص: 6

عن عدم ما عداه من أضداده ، والظنّ ببقاء هذه الأعدام لا ينفكّ عن الظنّ ببقاء تلك الوجودات. فلابد من القول باعتباره ، خصوصا بناءا على ما هو الظاهر المصرّح به في كلام العضدي وغيره : من أنّ إنكار الاستصحاب لعدم افادته الظنّ بالبقاء ، وإن كان ظاهر بعض النافين كالسيد قدس سره وغيره : استنادهم الى عدم افادته للعلم ، بناءا على أنّ عدم اعتبار الظنّ عندهم مفروغٌ عنه في أخبار الآحاد ، فضلاً عن الظنّ الاستصحابي .

-------------------

عن عدم ما عداه من أضداده ) فنستصحب عدم النجاسة ، فيثبت القول بالطهارة ، فلا حاجة الى استصحاب الطهارة ، وكذا في سائر ما ذكره المصنِّف من الأمثلة .

( و ) معلوم : إن ( الظنّ ببقاء هذه الأعدام لا ينفكّ عن الظنّ ببقاء تلك الوجودات ) للتلازم بينهما عقلاً .

وعليه : ( فلابد من القول باعتباره ) أي : باعتبار الظن ببقاء تلك الوجودات ( خصوصا بناءا على ما هو الظاهر المصرّح به في كلام العضدي وغيره : من أنّ إنكار الاستصحاب لعدم افادته الظنّ بالبقاء ) فإذا ثبت إفادته الظن بالبقاء - كما بيّناه - ثبت حجية الاستصحاب .

إذن : فالظن بالبقاء كافٍ في حجية الاستصحاب ، لأن الظاهر من كلام العضدي وغيره : إن المحور هو الظن .

هذا ( وإن كان ظاهر بعض النافين ) لحجية الاستصحاب ( كالسيد قدس سره وغيره : استنادهم ) في عدم حجية الاستصحاب ( الى عدم افادته للعلم ) فالعلم هو المحور عندهم في الحجية ، لا الظن ؛ وذلك ( بناءا على أنّ عدم اعتبار الظنّ عندهم مفروغٌ عنه في أخبار الآحاد ) أي : هي من الأمارات ، فليست عندهم بحجة ( فضلاً عن الظنّ الاستصحابي ) الذي هو من الأُصول العملية ، فهو ليس

ص: 7

وبالجملة : فانكارُ الاستصحاب في الوجوديات والاعتراف به في العدميّات لا يستقيمُ بناءا على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ .

نعم ، لو قلنا باعتباره من باب التعبّد من جهة الاخبار صحّ أن يقال : إنّ ثبوت العدم بالاستصحاب لا يوجب ثبوت ما قارنه من الوجودات .

فاستصحاب عدم أضداد الوجوب لا يوجب ثبوت الوجوب في الزمان

-------------------

بحجة عندهم بطريق أولى .

وعليه : فإذا لم تكن اخبار الآحاد وهي أمارة ، حجة عندهم مع إنها تفيد الظن ، فالاستصحاب وهو أصل لا يكون حجة عندهم بطريق أولى ، إذ في الخبر أمران : خبر وظن ، بينما في الظن الاستصحابي أمر واحد ، وهو الظن فقط .

( وبالجملة : فانكارُ الاستصحاب في الوجوديات والاعتراف به في العدميّات ) على ما ذكره المفصّلون ( لا يستقيمُ بناءا على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ) لما عرفت من إن الظن بالعدم يستلزم الظن بالوجود .

( نعم ، لو قلنا باعتباره ) أي : باعتبار الاستصحاب ( من باب التعبّد من جهة الاخبار ) لأن الاخبار هي التي أمرت بالاستصحاب ، فالاستصحاب حجة تعبدا ، فإن قلنا بذلك ( صحّ أن يقال : إن ثبوت العدم بالاستصحاب لا يوجب ثبوت ما قارنه من الوجودات ) لما تقدَّم ويأتي أيضا : من إن الاستصحاب لا يثبت اللوازم العقلية والعرفية والعادية .

مثلاً : الظن بعدم الحدث وإن استلزم الظن ببقاء الطهارة ، لكن هذا اللازم عقلي وليس لازما شرعيا حتى يكون حجة ولذا لم يكن الظن ببقاء الطهارة حجة .

وعليه : ( فاستصحاب عدم أضداد الوجوب ) كما إذا قلنا : إنه لم يكن مستحبا ولا مكروها ولا حراما ولا مباحا ( لا يوجب ثبوت الوجوب في الزمان

ص: 8

اللاحق ، كما أنّ عدم ما عدا زيد من أفراد الانسان في الدار لا يثبت باستصحابه ثبوت زيد فيها ، كما سيجيء تفصيله إن شاء اللّه تعالى .

لكن المتكلم في الاستصحاب من باب التعبّد والاخبار بين العلماء في غاية القلّة الى زمان متأخري المتأخّرين مع

-------------------

اللاحق ) إذا إستندنا في الاستصحاب الى الاخبار .

( كما أنّ عدم ما عدا زيد من أفراد الانسان في الدار لا يثبت باستصحابه ثبوت زيد فيها ، كما سيجيء تفصيله ) أي : تفصيل الأصل المثبت فيما يأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) .

مثلاً : إذا علمنا بوجود أحد في الدار مردّد بين زيد ، أو عمرو ، أو بكر ، فاستصحاب عدم الأخيرين لا يثبت وجود زيد في الدار لأن عدم الضد لازم عقلي للضد الآخر ، وليس لازما شرعيا له ، وقد عرفت : إنه لو كان الاستصحاب حجة من باب الاخبار لا يثبت به إلاّ اللوازم الشرعية فقط .

( لكن المتكلم في الاستصحاب من باب التعبّد والاخبار بين العلماء في غاية القلّة الى زمان متأخري المتأخّرين ) أي : الى زمان والد الشيخ البهائي ، على ما تقدّم .

وعليه : فحجّية الاستصحاب من باب الظن ، والظن بالعدم يستلزم الظن بالوجود ، فلماذا قال هؤلاء المفصّلون بأن الاستصحاب حجة في العدميات لا في الوجوديات .

( مع ) إنه لو قلنا بحجية الاستصحاب من باب الاخبار كان استصحاب العدم ملازما لاستصحاب الوجود أيضا ، إذ جملة من القائلين باعتباره من باب الاخبار يقولون بحجية اللوازم غير الشرعية للاستصحاب أيضا ، وذلك كما قال :

ص: 9

أنّ بعض هؤلاء وجدناهم لا يفرّقون في مقارنات المستصحب بين أفرادها ويثبتون بالاستصحاب جميع ما لاينفكّ عن المستصحب على خلاف التحقيق الآتي في التنبيهات الآتية إن شاء اللّه تعالى .

ودعوى « أنّ اعتبار الاستصحابات العدمية لعلّه ليس لأجل الظنّ حتى

-------------------

( إنّ بعض هؤلاء ) القائلين بحجية الاستصحاب من باب التعبّد ( وجدناهم لايفرّقون في مقارنات المستصحب بين أفرادها ) أي : افراد المقارنات : من العقلية والشرعية والعادية والعرفية ( ويثبتون بالاستصحاب جميع ما لا ينفكّ عن المستصحب ) حتى المقارنات غير الشرعية ، ومن تلك المقارنات : إنه إذا نفى العدم ثبت الوجود .

إذن : فاستصحاب العدم يلازم استصحاب الوجود حتى على القول بحجيته من باب التعبد ، فكيف يقول المفصّل بحجية الاستصحاب في العدميات دون الوجوديات ، مع إن الوجوديات ملازمة للعدميات ؟ .

وعليه : فإن هذا وإن كان ( على خلاف التحقيق الآتي في التنبيهات الآتية إن شاء اللّه تعالى ) : من إن الاستصحاب لا يثبت لوازمه العادية والعقلية والعرفية ، إلاّ أن الكلام في أقوال العلماء الذين يقولون بحجية الاستصحاب من باب الظن ، أو من باب الاخبار ، ولا يفرّقون على القولين بين لوازمه ، فلماذا يكون الاستصحاب حجة في العدميات دون الوجوديات ؟ .

( ودعوى ) إن الاستصحاب ليس حجة لا من باب الظن ، ولا من باب التعبّد ، بل من باب بناء العقلاء ، وبناء العقلاء على حجية الاستصحاب سواء كان للظن أم للتعبد لا يوجب السراية من العدمي الى الوجودي ، فإن هذه الدعوى ليست في محلها كما قال : ( « أنّ اعتبار الاستصحابات العدمية لعلّه ليس لأجل الظنّ حتى

ص: 10

يسري الى الوجوديات المقارنة ، معها بل لبناء العقلاء عليها في اُمورهم بمقتضى جبلّتهم » ، مدفوعةٌ : بأنّ عمل العقلاء في معاشهم على ما لا يفيد الظنّ بمقاصدهم والمضي في اُمورهم بمحض الشك والتردّد في غاية البعد ، بل خلافُ ما نجده من أنفسنا معاشِرَ العقلاء .

وأضعفُ من ذلك أن يدّعى : أنّ المعتبر عند العقلاء من الظنّ الاستصحابي هو الحاصل بالشيء من تحققه السابق ، لا الظنّ الساري من هذا الظنّ الى شيء آخر .

-------------------

يسري الى الوجوديات المقارنة معها ) أي : مع العدميات ( بل لبناء العقلاء عليها ) أي : على الاستصحابات العدمية ( في اُمورهم بمقتضى جبلّتهم » ) وفطرتهم تعبدا ، لا بمقتضى الظن فلا يسري الاستصحاب العدمي الى الوجودي .

هذه الدعوى ( مدفوعةٌ : بأنّ عمل العقلاء في معاشهم على ما لا يفيد الظنّ بمقاصدهم والمضي في اُمورهم بمحض الشك والتردّد في غاية البعد ) فإن عملهم إنّما هو لافادته الظن ( بل ) هو بمحض التعبد ( خلافُ ما نجده من أنفسنا معاشِرَ العقلاء ) فإنّا نعمل حسب الظن ، لا تعبدا حتى وإن لم يفد الظن .

وعليه : فإذا كان الاستصحاب العدمي حجة من باب الظن العقلائي ، فقد عرفت : إن الظن العدمي يسري الى الظن الوجودي .

( وأضعفُ من ذلك ) أي : من الدعوى السابقة ( أن يدّعى : أنّ المعتبر عند العقلاء من الظنّ الاستصحابي ) أي : بنائهم على حجية الاستصحاب للظن ، لا للتعبد ، لكن المعتبر عندهم من هذا الظن ( هو الحاصل بالشيء من تحققه السابق ) فيكون الاستصحاب حجة فيه فقط ( لا الظنّ الساري من هذا الظنّ الى شيء آخر ) كالساري من العدمي الى الوجودي .

ص: 11

وحينئذ فنقول : العدم المحقّق سابقا يظنُّ بتحققه لاحقا ما لم يعلم أو يظنّ تبدّله بالوجود ، بخلاف الوجود المحقق سابقا ، فإنّه لا يحصل الظنّ ببقائه لمجرّد تحققه السابق .

-------------------

وإنّما كان هذا أضعف من سابقه لوضوح : إن المعيار عند العقلاء هو : حجية الظن سواء الظن العدمي المستصحب ، أم الظن الوجودي الملازم للظن العدمي .

وعليه : فقد تحقق الى هنا أربعة احتمالات : -

الأوّل : كون الاستصحاب حجة من باب الظن .

الثاني : كونه حجة من باب التعبد والاخبار .

الثالث : كونه حجة من باب بناء العقلاء تعبّدا ، فلا يسري الاستصحاب العدمي الى الاستصحاب الوجودي .

الرابع : بناء العقلاء على حجية الاستصحاب من باب الظن ، لكنهم لا يسرونه الى الوجودي .

( وحينئذ ) أي : حين عرفت ذلك كله وعلمت أن القول بالتفصيل في الاستصحاب بين العدمي فحجة ، والوجودي فليس بحجة هو محور البحث هنا ( فنقول ) في تقرير حجية هذا التفصيل وبيان الدليل عليه ما يلي :

( العدم المحقّق سابقا يظنُّ بتحققه لاحقا ما لم يعلم أو يظنّ تبدّله بالوجود ) فإذا كان ظانا بأنه محدث ، فإنه يظن لاحقا بأنه محدث أيضا ، إلاّ إذا علم بأنه توضّأ، أو ظن تبدّل حالته بالتطهر .

( بخلاف الوجود المحقق سابقا ، فإنّه لا يحصل الظنّ ببقائه لمجرّد تحققه السابق ) وذلك لأن الأعدام لا تحتاج الى المؤثر ، بخلاف الوجودات ، ومن أين لنا إن المؤثر السابق باق في تأثيره الى الزمان اللاحق ؟ .

ص: 12

والظنّ الحاصل ببقائه الظنّ الاستصحابي المتعلّق بالعدمي المقارن له غيرُ معتبر إمّا مطلقا أو إذا لم يكن ذلك الوجودي من آثار العدمي المترتبة من جهة الاستصحاب .

ولعله المراد بما حكاه التفتازاني عن الحنفيّة : من أنّ حياة الغائب بالاستصحاب ، إنّما يصلح عندهم من جهة الاستصحاب ،

-------------------

ألا ترى : إنه لو لم يكن بناء في أرض بقي كذلك آلاف السنوات ، بل ملايينها ، أمّا البناء فلا يبقى آلاف السنوات ، فكيف بملايينها ؟ .

( و ) إن قلت : إنكم إذا قلتم باستصحاب الظن العدمي ، فإنه يلازم الظن الوجودي لأن الظن بعدم الحدث يلازم الظن ببقاء التطهر .

قلت : ( الظنّ الحاصل ببقائه ) أي : ببقاء الوجود ( الظنّ الاستصحابي المتعلّق بالعدمي المقارن له غيرُ معتبر ) فلا يفيد استصحاب العدم اثبات الوجود ( إمّا مطلقا ) أي : سواء كان الوجودي المقارن من آثار العدمي أم لم يكن من آثاره ( أو ) غير معتبر خصوص ما ( إذا لم يكن ذلك الوجودي من آثار العدمي المترتبة ) تلك الآثار ( من جهة الاستصحاب ) .

وعليه : فانه قد يكون الوجودي من آثار العدمي ، مثل وجوب النفقة للزوجة فإنه من آثار عدم موت الزوج ، وقد لا يكون الوجودي من آثار العدمي مثل وجود النهار ، فإنه مقارن لعدم الليل ، لا إن وجود النهار من آثار عدم الليل ، إذ وجود أحد الضدّين ليس من آثار عدم الضدّ الآخر .

( ولعله ) أي : لعل هذا التفصيل الأخير الذي ذكره المصنِّف بقوله : أو إذا لم يكن ذلك الوجودي من آثار العدمي هو ( المراد بما حكاه التفتازاني عن الحنفيّة : من أنّ حياة الغائب بالاستصحاب ، إنّما يصلح عندهم من جهة الاستصحاب ،

ص: 13

لعدم انتقال ارثه الى وارثه ، لا انتقال ارث مورّثه اليه . فإنّ معنى ذلك : أنّهم يعتبرون ظنّ عدم انتقال مال الغائب الى وارثه ، لا انتقال مال مورّثه اليه ، وإن كان أحد الظنّين لا ينفك عن الآخر .

ثم إنّ معنى عدم اعتبار الاستصحاب في الوجودي : إمّا عدم الحكم ببقاء المستصحب الوجودي ، وإن كان لترتب أمر عدمي عليه ،

-------------------

لعدم انتقال ارثه الى وارثه ، لا انتقال ارث مورّثه اليه ) وفي هذا إشارة الى إن المستصحب في المقام أُمور ثلاثة :

الأوّل : حياة الغائب ، وهو أمر وجودي لا يعتبر استصحابه عند من لا يرى استصحاب الأُمور الوجودية .

الثاني : عدم إنتقال ارثه الى وارثه وهو أمر عدمي يعتبر استصحابه .

الثالث : انتقال ارث مورّثه اليه ، وهو أمر وجودي لازم للعدمي يحصل من الظن بالعدمي الظن به ، لكنه ليس من آثار العدمي المترتبة من جهة الاستصحاب ، فإن انتقال ارث مورّثه اليه من آثار حياته ، وليس أثرا لعدم انتقال ارثه الى وارثه .

ولذا قال المصنِّف : ( فإنّ معنى ذلك : إنّهم يعتبرون ظنّ عدم انتقال مال الغائب الى وارثه ، لا انتقال مال مورّثه اليه ، وإن كان أحد الظنّين لا ينفك عن الآخر ) عقلاً، لأنه إن مات ورث وورّث بالتشديد ، وإن لم يمت لا يرث ولا يورّث بالتشديد .

وعليه : فإن عدم موت زيد من آثاره : عدم إنتقال ارثه الى وارثه ، وليس من آثار عدم موته انتقال ارث مورّثه اليه ، وإن كانا متلازمان عقلاً .

( ثم إنّ معنى عدم اعتبار الاستصحاب في الوجودي : إمّا عدم الحكم ببقاء المستصحب الوجودي ، وإن كان لترتب أمر عدمي عليه ) فلا نستصحب أمرا

ص: 14

كترتّب عدم جواز تزويج المرأة المفقود زوجها المترتّب على حياته ، وإمّا عدم ثبوت الأمر الوجودي لأجل الاستصحاب وإن كان المستصحب عدميا ، فلا يترتب انتقال مال قريب الغائب إليه ، وإن كان مترتّبا على استصحاب عدم موته .

ولعلّ هذا هو المراد بما حكاه التفتازاني عن الحنفيّة : من أنّ الاستصحاب حجّة في النفي دون الاثبات .

وبالجملة : فلم يظهر لي ما يدفع هذا الاشكال

-------------------

وجوديا نريد بذلك ترتيب أثر عدمي على هذا الأمر الوجودي ( كترتّب عدم جواز تزويج المرأة المفقود زوجها المترتّب على حياته ) فلا نستصحب وجود زيد المفقود ، حتى نرتّب على هذا الوجود عدم جواز تزويج امرأته .

( وإمّا عدم ثبوت الأمر الوجودي لأجل الاستصحاب وإن كان المستصحب عدميا ) بأن نستصحب عدما لترتيب الوجود عليه ( فلا يترتب انتقال مال قريب الغائب إليه ، وإن كان مترتّبا على استصحاب عدم موته ) .

والحاصل : هل مراد من يقول بعدم استصحاب الوجود : إنه لا يستصحب الوجود وإن أُريد ترتيب العدم عليه ، أو إنه لا يستصحب العدم إذا أريد ترتيب الوجود عليه ؟ .

( ولعلّ هذا ) المعنى الثاني الذي ذكره المصنِّف بقوله : وإمّا عدم ثبوت الأمر الوجودي لأجل الاستصحاب ، وإن كان الاستصحاب عدميا ( هو المراد بما حكاه التفتازاني عن الحنفيّة : من أنّ الاستصحاب حجّة في النفي دون الاثبات ) فلا يستصحب الوجود لترتيب العدم عليه .

( وبالجملة : فلم يظهر لي ما يدفع هذا الاشكال ) القائل بأن الظن

ص: 15

عن القول بعدم اعتبار الاستصحاب في الاثبات واعتباره في النفي من باب الظنّ .

نعم ، قد أشرنا فيما مضى الى أنّه لو قيل باعتباره في النفي من باب التعبّد ، لم يغن ذلك عن التكلم في الاستصحاب الوجودي ، بناءا على ما سنحققه : من أنّه لا يثبت بالاستصحاب إلاّ آثار المستصحب المترتّبة عليه شرعا .

-------------------

بالمستصحب العدمي يستلزم الظن بالمستصحب الوجودي ، فإذا اعتبرنا الاستصحاب العدمي كان اللازم أن نعتبر الاستصحاب الوجودي أيضا .

إذن : فالاشكال وارد على قول المفصّل ، ولا دافع لهذا الاشكال ( عن القول بعدم اعتبار الاستصحاب في الاثبات واعتباره في النفي من باب الظنّ ) .

أما لو كان اعتبار الاستصحاب من باب الاخبار ، فقد عرفت : إنه من الممكن استصحاب النفي بدون ترتيب الوجود عليه ، لأن الاخبار تدل على حجّية نفس الاستصحاب ، لا لوازمه العقلية أو العرفية أو العادية .

( نعم ) وهذا استثناء من قوله : وبالجملة فلم يظهر لي ما يدفع هذا الاشكال ، وهو : أنّا ( قد أشرنا فيما مضى الى إنّه لو قيل باعتباره ) أي : باعتبار الاستصحاب ( في النفي من باب التعبّد ) لا من باب الظن ( لم يغن ذلك ) الاعتبار للاستصحاب العدمي ( عن التكلم في الاستصحاب الوجودي ) لأن الاستصحاب العدمي لايفيد حكما وجوديا .

وإنّما لم يغن ذلك عنه ( بناءا على ما سنحققه : من أنّه لا يثبت بالاستصحاب إلاّ آثار المستصحب المترتّبة عليه شرعا ) لا عقلاً أو عرفا أو عادة ، ومن المعلوم :

إن استصحاب العدم لاثبات الوجود من الآثار العقلية لا من الآثار الشرعية .

ص: 16

لكن يرد على هذا : أنّ هذا التفصيل مساوٍ للتفصيل المختار ، المتقدّم ولا يفترقان فيغني أحدهما عن الآخر ، إذ الشك في بقاء الاعدام السابقة من جهة الشك في تحقق الرافع لها وهي علّة الوجود

-------------------

( لكن يرد على هذا ) أي : على ما أشكلناه على التفصيل بين العدمي والوجودي : من استلزام الظن بالمستصحب العدمي الظن بالمستصحب الوجودي ، فكيف يكون استصحاب النفي حجة دون الاثبات ؟ إن الاشكال نفسه يرد على تفصيلنا أيضا .

وإنّما يرد على تفصيلنا أيضا ، لأنه كما قال : ( أنّ هذا التفصيل ) بين العدمي والوجودي ( مساوٍ للتفصيل المختار ، المتقدّم ) منّا بين المقتضي والمانع ، حيث إنا أجرينا الاستصحاب في الشك في المانع والرافع ، ولم نجره في الشك في المقتضي .

( ولا يفترقان ) أي التفصيلان : تفصيل هذا المفصّل مع تفصيلنا نحن ( فيغني أحدهما عن الآخر ) فإذا قال شخص بتفصيل ذلك المفصّل معناه : إنه قال بتفصيلنا ، وكذلك العكس .

وإنّما يكون هذا التفصيل مساويا للتفصيل المختار ( إذ الشك في بقاء الاعدام السابقة ) كعدم المطلوبية إنّما هو ( من جهة الشك في تحقق الرافع لها ) أي : للمطلوبية كالاستدانة ، وهذا الرافع ( وهي ) الاستدانة ( علّة الوجود ) للمطلوبية .

يعني : إن الأعدام من طبيعتها البقاء والاستمرار ، فيبقى عدم المطلوبية كما في المثال مستمرا حتى يأتي ما يرفعه وهي الاستدانة ، فنستصحب عدم الاستدانة ، فيبقى عدم المطلوبية ثابتا .

ص: 17

والشك في بقاء الأمر الوجودي من جهة الشك في الرافع لا ينفكُّ عن الشك في تحقق الرافع ، فيستصحب عدمه ويترتّب عليه بقاء ذلك الأمر الوجودي .

-------------------

( و ) كذا يكون ( الشك في بقاء الأمر الوجودي ) كالطهارة إذا كان ( من جهة الشك في الرافع ) كطروّ الحدث ، لا من جهة الشك في المقتضي ، كالشك في مقدار استعداد الطهارة للبقاء ، فإن الشك في بقاء الطهارة من جهة الشك في الرافع ( لا ينفكُّ عن الشك في تحقق الرافع ) أي : إن الشك في بقاء الطهارة عبارة أخرى عن الشك في تحقق الرافع .

ومن المعلوم : إن معنى الشك في تحقق الرافع هو : الشك في علة العدم ( فيستصحب عدمه ) أي : عدم الرافع ( ويترتّب عليه بقاء ذلك الأمر الوجودي ) الذي هو الطهارة في المثال .

وعليه : فقد إنطبق اعتبار الاستصحاب في العدميات الذي يقول به المفصّل ، على اعتبار الاستصحاب عند الشك في تحقق الرافع الذي نقول به نحن ، لأن الرافع : إمّا رافع العدم وهي علة الوجود فيستصحب عدم ذلك الرافع ، وإمّا رافع الوجود وهي علة العدم فيستصحب عدمه أيضا ، ومعلوم : إن ذلك ليس من الشك في المقتضي ، وإنّما هو من الشك في الرافع الذي نقول به نحن .

والحاصل : إن الشك في بقاء الطهارة هو من باب الشك في الرافع ، حيث لا نعلم هل حدث رافع يرفع الطهارة أم لا؟ وهذا الشك هو بعينه الشك في العدم ، لأنّ الشك في العدم من باب الشك في الرافع أيضا ، حيث لا نعلم هل حصل الوجود ؟ فنستصحب عدم حصول .

إذن : فلا فرق بين أن نقول : بتفصيل المفصّل بين العدمي والوجودي ،

ص: 18

وتخيّل : « أن الأمر الوجودي قد لا يكون من الآثار الشرعيّة لعدم الرافع فلا يغني العدمي عن الوجودي » ، مدفوعٌ : بأنّ الشك إذا فرض من جهة الرافع فيكون الأحكام الشرعية المترتبة على ذلك الأمر الوجودي مستمرّة الى تحقق ذلك الرافع .

فإذا حكم بعدمه عند الشك ترتّب عليه

-------------------

أو نقول : بتفصيلنا بين المقتضي والمانع ، إذ كل شك في الرافع هو شك في العدم .

( وتخيّل : « أن ) هنا فرقا بين التفصيلين ، وذلك لأن ( الأمر الوجودي ) كالطهارة ( قد لا يكون من الآثار الشرعيّة لعدم الرافع ) أي : عدم الحدث ، فإن عدم الرافع لا يثبت وجود الطهارة ، لأن وجود الطهارة ليس من آثار عدم الحدث ( فلا يغني ) الاستصحاب ( العدمي عن ) الاستصحاب ( الوجودي » ) .

إذن : فيثبت الأمر الوجودي باستصحابه على تفصيل المختار دون التفصيل المذكور ، لأنه باستصحاب عدم الرافع لم يثبت الوجودي حيث لم يكن أثرا شرعيا لعدم الرافع .

هذا التخيّل ( مدفوعٌ : بأنّ ) العدمي يغني عن الوجودي ، وذلك لأن ( الشك إذا فرض من جهة الرافع ) يعني : لم نعلم هل إنه حدث ما يرتفع به الطهارة أم لا؟ ( فيكون الأحكام الشرعية المترتبة على ذلك الأمر الوجودي ) كجواز الدخول في الصلاة ، ومسّ كتابة القرآن ، وصحة الطواف ، وما أشبه ( مستمرّة الى تحقق ذلك الرافع ) الذي هو الحدث .

وعليه : ( فإذا حكم بعدمه ) أي : بعدم الرافع الذي هو الحدث ( عند الشك ) في إنه هل تحقق الحدث أم لم يتحقق؟ ( ترتّب عليه ) أي : على عدم الرافع

ص: 19

شرعا جميع تلك الأحكام ، فيغني ذلك عن الاستصحاب الوجودي .

وحينئذ : فيمكن أن يحتجّ لهذا القول : إمّا على عدم الحجّية في الوجوديات : فبما تقدّم في أدلّة النافين ، وأمّا على الحجّية في العدميات : فبما تقدّم في أدلّة المختار ، من الاجماع والاستقراء ، والاخبار ، بناءا على أنّ بقاء المشكوك في بقائه من جهة الرافع ،

-------------------

( شرعا جميع تلك الأحكام ) من جواز الدخول في الصلاة والطواف ، وما أشبه ذلك .

إذن : ( فيغني ذلك ) الاستصحاب العدمي ( عن الاستصحاب الوجودي ) فلا نحتاج الى استصحاب الطهارة ، وإنّما يكفي أن نستصحب عدم الحدث .

( وحينئذ ) أي : حين ثبت تساوي هذا التفصيل مع التفصيل الذي ذكرناه نحن بين المقتضي والمانع ( فيمكن أن يحتجّ لهذا القول ) المفصّل بين الوجودي ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، وبين العدمي فيجري فيه الاستصحاب بما يلي :

( إمّا على عدم الحجّية ) للاستصحاب ( في الوجوديات : فبما تقدّم في أدلّة النافين ) الذين قالوا بعدم حجية الاستصحاب مطلقا ، فإن ما استدلوا به هناك لعدم حجيته يشمل الاستصحاب في الوجوديات هنا أيضا .

( وأمّا على الحجّية في العدميات : فبما تقدّم في أدلّة المختار ، من الاجماع والاستقراء ، والاخبار ) فإنها تختص حينئذ بالاستصحاب في العدميات .

إن قلت : الاخبار مثل : لا ينقض اليقين بالشك ، وغير ذلك لا يختص في الاستصحاب العدمي .

قلت : ( بناءا على أنّ بقاء المشكوك في بقائه ) وقوله : المشكوك في بقائه ، هي جملة واحدة ، كالطهارة - مثلاً - فالشيء المشكوك البقاء ( من جهة الرافع ،

ص: 20

إنّما يحكم ببقائه لترتّبه على استصحاب عدم وجود الرافع ، لا لاستصحابه في نفسه ، فإنّ الشاك في بقاء الطهارة من جهة الشك في وجود الرافع يحكمُ بعدم الرافع ، فيحكُم من أجله ببقاء الطهارة .

وحينئذ : فقوله عليه السلام : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ولا ينقُض اليقين بالشك » ، وقوله : « لأنّك كُنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين » ، وغيرهما ، ممّا دلّ على أنّ اليقين

-------------------

إنّما يحكم ببقائه ) أي : بقاء الشيء المشكوك ( لترتّبه على استصحاب عدم وجود الرافع ، لا لاستصحابه ) أي : استصحاب بقاء الشيء المشكوك ( في نفسه ) فلا نستصحب الطهارة في نفسها بل نستصحب عدم الحدث فتثبت الطهارة .

وعليه : ( فإنّ الشاك في بقاء الطهارة من جهة الشك في وجود الرافع ) لا من جهة الشك في وجود المقتضي لبقاء الطهارة ( يحكمُ بعدم الرافع ) الذي هو الحدث ( فيحكُم من أجله ببقاء الطهارة ) ويترتب على هذه الطهارة الباقية آثارها : من جواز الدخول في الصلاة والطواف ومسّ كتابة القرآن وما أشبه ذلك .

( وحينئذ ) أي : حين استصحبنا عدم الحدث ورتبنا على ذلك آثار الطهارة ( فقوله عليه السلام : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ولا ينقُض اليقين بالشك » (1) ، وقوله : « لأنّك كُنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين » (2) ، وغيرهما ) من روايات (3) الاستصحاب ( ممّا دلّ على أنّ اليقين

ص: 21


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب109 ح13 ، علل الشرائع : ج2 ص59 ح1 ، وسائل الشيعة : ج3 ص482 ب24 ح4236 .
3- - كرواية زرارة عن أحدهما ، انظر الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 وكرواية محمد بن مسلم في حديث الاربعمائة ، انظر الخصال : ص619 ح10 = = ووسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح636 .

لا يُنقض أو لا يُدفع بالشك يرادُ منه أنّ احتمال طروّ الرافع لا يعتنى به ، ولا يترتّب عليه أثرُ النقض ، فيكون وجوده كالعدم ، فالحكم ببقاء الطهارة السابقة من جهة استصحاب العدم ، لا من جهة إستصحابها .

والأصل في ذلك : أنّ الشك في بقاء الشيء إذا كان مسبّبا عن الشك في شيء آخر ، فلا يجتمع معه في الدخول تحت عموم «لا تنقض» ، سواء تعارض مقتضى اليقين السابق فيهما أم تعاضدا ،

-------------------

لا يُنقض ، أو لا يُدفع بالشك يرادُ منه ) المعنى التالي ، وهو كما قال :

( أنّ احتمال طروّ الرافع ) الذي هو الحدث ( لا يعتنى به ، ولا يترتّب عليه أثر النقض ) وحيث لا يترتب أثر النقض على احتمال طروّ الحدث ( فيكون وجوده ) أي : وجود هذا الاحتمال بطروّ الحدث ( كالعدم ، فالحكم ببقاء الطهارة السابقة ) إنّما هو ( من جهة استصحاب العدم ، لا من جهة إستصحابها ) أي : الطهارة نفسها.

( والأصل في ذلك ) أي : في اعتبار الاستصحاب في العدمي دون الوجودي على ما قرّبناه هو : ( أنّ الشك في بقاء الشيء إذا كان مسبّبا عن الشك في شيء آخر ) أي : كان بينهما سبب ومسبّب ( فلا يجتمع ) الشك في بقاء الشيء ( معه ) أي : مع الشك في شيء آخر ( في الدخول تحت عموم لا تنقض ) .

وإنّما لا يجتمع معه لأن الشك السببي والمسبّبي كليهما لا يدخلان تحت دليل واحد ، فكلّما دخل السببي خرج المسبّبي ( سواء تعارض مقتضى اليقين السابق فيهما أم تعاضدا ) أي : سواء كان السببي والمسبّبي أحدهما معارضا للآخر ، أم كان أحدهما موافقا للآخر ، فإنه إذا أجرينا الاستصحاب في الشك السببي ، لا يبقى مجال للشك المسبّبي .

ص: 22

بل الداخل هو الشك السببي ، ومعنى عدم الاعتناء به زوالُ الشك المسبب به ، وسيجيء توضيح ذلك .

هذا ،

-------------------

أما مثال التعارض : فكما إذا شككنا في طهارة الثوب النجس ، المغسول بالماء المشكوك بقاؤه على الكرية ، فإن مقتضى اليقين السابق في الماء المغسول به الثوب النجس هو : طهارة الثوب ، ومقتضى اليقين السابق في الثوب هو : نجاسته ، فالمقتضيان متعارضان ، لكن الشك السببي مقدّم على الشك المسببي .

وأمّا مثال التعاضد : فكما لو شك في بقاء الزوجية فشك من جهته في وجوب النفقة ، فإن استصحاب بقاء الزوجية واستصحاب وجوب النفقة متعاضدان ، لكن لما جرى الاستصحاب الأوّل الذي هو سببي لم يكن مجال للاستصحاب الثاني الذي هو مسببي .

وإنّما لم يبق مجال للثاني لأنه لو كانت الزوجية باقية لم نحتج الى استصحاب وجوب النفقة ، بل تجب النفقة تلقائيا ، لأن وجوب النفقة من آثار الزوجية .

وعليه : فلا يجتمع السببي والمسببي تحت الأدلة ( بل الداخل ) في الأدلة ( هو الشك السببي ) فقط .

هذا ( ومعنى عدم الاعتناء به ) أي : بالشك المسببي هو : ( زوالُ الشك المسبب به ) أي : بسبب الشك السببي ، فإذا استصحبنا كرّية الماء لم نشك في طهارة الثوب النجس المغسول به ، وكذلك إذا استصحبنا بقاء الزوجية لم نشك في وجوب النفقة .

( وسيجيء توضيح ذلك ) إن شاء اللّه تعالى فيما يأتي من الشك السببي والمسببي ، وإنه كلما جرى الشك السببي لم يكن مجال للشك المسببي أصلاً .

( هذا ) تمام الكلام في تساوي التفصيلين : التفصيل المذكور ، والتفصيل الذي

ص: 23

ولكن يرد عليه :

أنّه قد يكون الأمرُ الوجودي أمرا خارجيا ، كالرطوبة يترتّب عليها آثار شرعية ، فإذا شك في وجود الرافع لها لم يجز أن يثبت به الرطوبة حتى يترتّب عليه أحكامها ، لما سيجيء : من أنّ المستصحب لا يترتّب عليه إلاّ آثاره الشرعية المترتبة عليه ، بلا واسطة أمر عقلي أو عادي ،

-------------------

اخترناه نحن ( ولكن يرد عليه ) أي : على تساوي التفصيلين وعدم إفتراق أحدهما عن الآخر : إن هنا نقطة إفتراق بينهما وهي كما قال :

( أنّه قد يكون الأمر الوجودي أمرا خارجيا ، كالرطوبة ) فإن الرطوبة ليست من الأُمور الشرعية لكن ( يترتّب عليها ) أي : على الرطوبة ( آثار شرعية ) كالنجاسة ، فإذا علمنا برطوبة الثوب وملاقاته للنجس ، ترتّب عليه النجاسة ، لكن إذا شككنا في رطوبة الثوب ، للشك في هبوب ريح تجففها ، فليس لنا أن نستصحب عدم هبوب الريح لنثبت به الرطوبة حتى يترتّب عليها القول بنجاسة الثوب كما قال :

( فإذا شك في وجود الرافع لها ) أي : لهذه الرطوبة بأنه هل هبّت ريح فجففتها أم لا ؟ ( لم يجز أن يثبت به ) أي : بعدم هبوب الريح وجود ( الرطوبة حتى يترتّب عليه أحكامها ) أي : أحكام الرطوبة من السراية إذا وقع الثوب على أرض نجسة .

وإنّما لم يجز ذلك ( لما سيجيء : من أنّ المستصحب ) كعدم هبوب الريح في المثال ( لا يترتّب عليه إلاّ آثاره الشرعية المترتبة عليه ، بلا واسطة أمر عقلي أو عادي ) أو عرفي ، ومعلوم : إن الرطوبة وعدمها ليس أثرا شرعيا لهبوب الريح وعدمه ، فلا يصح إثبات الرطوبة باستصحاب عدم هبوب الريح ، لأنه يكون حينئذ مثبت والاستصحاب المثبت ليس بحجة .

ص: 24

فيتعين حينئذ استصحاب نفس الرطوبة .

وأصالة عدم الرافع : إن اُريد بها أصالة عدم ذات الرافع ، كالريح المجفّف للرطوبة - مثلاً - لم ينفع في الأحكام المترتبة شرعا على نفس الرطوبة ، بناءا على عدم اعتبار الأصل المثبت ، كما سيجيء .

وإن أريد بها أصالة

-------------------

وعليه : ( فيتعين حينئذ ) أي : حين لم نتمكن من استصحاب عدم الرافع ( استصحاب نفس الرطوبة ) لكنك قد عرفت : إن نفس الرطوبة لا تستصحب عند من يقول بعدم جريان الاستصحاب في الوجوديات .

( و ) إن قلت : فما فائدة ( أصالة عدم الرافع ) حينئذ مع تسليم حجيتها ؟ .

قلت : أصالة العدم على قسمين :

الأوّل : أصالة عدم الرافع من حيث ذات الرافع ، كعدم هبوب الريح لاثبات الرطوبة كما في المثال ، فليس بحجة لأنه مثبت فلا ينفعنا هنا .

الثاني : أصالة عدم الرافع من حيث وصف الرافعية ومرجعها الى أصالة عدم ارتفاع الرطوبة في المثال وهو حجة لكنه لا ينفعنا هنا أيضا .

والى القسم الأوّل أشار المصنِّف حيث قال : فإنه ( إن اُريد بها ) أي : بأصالة عدم الرافع : ( أصالة عدم ذات الرافع ، كالريح المجفّف للرطوبة - مثلاً - لم ينفع في الأحكام المترتبة شرعا على نفس الرطوبة ) كالنجاسة فيما إذا كان الثوب رطبا ولاقى نجسا ، فإنها لا تثبت ، وذلك ( بناءا على عدم اعتبار الأصل المثبت ، كما سيجيء ) الكلام عنه إن شاء اللّه تعالى .

والى القسم الثاني أشار بقوله : ( وإن أريد بها ) أي : بأصالة عدم الرافع : ( أصالة

ص: 25

عدمه من حيث وصفه الرافعيّة ، ومرجعها الى أصالة عدم ارتفاع الرطوبة ، فهي وإن لم يكن يترتّب عليه الأحكام الشرعية للرطوبة ، لكنّها عبارة أخرى عن استصحاب نفس الرطوبة .

فالانصاف : إفتراق القولين في هذا القسم .

-------------------

عدمه من حيث وصفه الرافعيّة ، ومرجعها الى أصالة عدم ارتفاع الرطوبة ) كما في المثال ، فإن كان هذا هو المراد بها ( فهي وإن لم يكن يترتّب عليه الأحكام الشرعية للرطوبة ، لكنّها عبارة أخرى عن استصحاب نفس الرطوبة ) وقد تقدّم : إن المفصّل لا يجري الاستصحاب في الوجوديات .

إذن : ( فالانصاف : إفتراق القولين ) : قولنا ، وقول المفصّل بين العدمي والوجودي ( في هذا القسم ) وهو القسم الثاني من أصالة عدم الرافع ، فيجري فيه الاستصحاب على مختارنا دون التفصيل المذكور ، وذلك بالتوجيه المتقدّم وهو : أن يكون اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد ، وأن يكون المترتب على المستصحب هو آثاره الشرعية بلا واسطة ، دون العقلية والعادية والشرعية .

وعليه : فالأثر قد يكون أثرا شرعيا بلا واسطة ، وهذا هو الذي يترتب على الاستصحاب بناءا على حجيته من باب التعبد بالاخبار .

وقد يكون أثرا شرعيا مع الواسطة ، أو يكون أثرا غير شرعي ، وكلاهما لايترتبان على الاستصحاب بناءا على حجيته من باب التعبد بالأخبار .

إذن : فتحصل من كلام المصنِّف ما يلي : -

أولاً : تساوي التفصيلين وإن التفصيل المذكور بين الوجودي والعدمي هو التفصيل الذي اختاره المصنِّف بين المقتضي والمانع .

ثانيا : عدم تساوي التفصيلين في بعض المواضع ، حيث يجري الاستصحاب

ص: 26

حجّة مَن أنكر اعتباره في الاُمور الخارجية

ما حكاه المحقق الخوانساري في شرح الدروس ، وحكاه في حاشية له عند كلام الشهيد : « ويحرم استعمال الماء النجس والمشتبه » على ما حكاه شارح الوافية واستظهره المحقق القمّي قدس سره من السبزواري من : « أنّ الاخبار لا يظهر شمولها للأمور الخارجية ، مثل : رطوبة الثوب ونحوها ،

-------------------

فيه على مختار المصنِّف دون التفصيل المذكور بين الوجودي والعدمي ، وذلك بناءا على حجية الاستصحاب من باب التعبد بالاخبار .

( حجّة ) القول الرابع وهو : قول ( من أنكر اعتباره ) أي : اعتبار الاستصحاب ( في الاُمور الخارجية ) أي : في الموضوعات وقال بحجيته في الأحكام الشرعية : ( ما حكاه المحقق الخوانساري في شرح الدروس ، وحكاه في حاشية له عند كلام الشهيد ) فإن الشهيد قال : ( : « ويحرم استعمال الماء النجس والمشتبه » ) كما في مورد العلم الاجمالي بنجاسة أحد الانائين ، وذلك ( على ما حكاه شارح الوافية ) .

وعليه : فإن السيد الصدر في شرحه للوافية ، حكى هذا القول عن المحقق الخوانساري في شرح الدروس ( واستظهره المحقق القمّي قدس سره من السبزواري ) أيضا ، فالمحققان : الخوانساري والسبزواري يقولان بهذا التفصيل .

وأما حجة من حكي عنهم هذا التفصيل فهو ما أشار اليه المصنِّف بقوله : ( من « أنّ الاخبار لا يظهر شمولها للأمور الخارجية ) أي : الموضوعات ( مثل : رطوبة الثوب ونحوها ) فلا يستصحب رطوبة الثوب إذا كان للرطوبة أثر مثل نجاسته بسبب الملاقاة للنجس .

ص: 27

إذ يبعدُ أن يكون مرادُهم بيانَ الحكم في مثل هذه الأُمور الذي ليس حكما شرعيا وإن كان يمكن أن يصير منشأ لحكم شرعي ، وهذا ما يقال : إنّ الاستصحاب في الأُمور الخارجية لا عبرة به » ، انتهى .

وفيه : أمّا أولاً : فبالنقض بالأحكام الجزئية ، مثل : طهارة الثوب من حيث عدم ملاقاته للنجاسة ونجاسته من حيث ملاقاته لها ، فإنّ بيانها أيضا ليس من وظيفة الإمام عليه السلام ،

-------------------

وإنّما لا يظهر من الاخبار شمولها لمثل هذه الأُمور الخارجية ( إذ يبعدُ أن يكون مرادُهم ) أي : مراد المعصومين عليهم السلام ( بيانَ الحكم في مثل هذه الأُمور الذي ليس حكما شرعيا ) لأن شأن الشارع بيان الأحكام لا بيان الموضوعات ( وإن كان يمكن أن يصير منشأ لحكم شرعي ) فإن استصحاب الرطوبة منشأ لحكم شرعي وهو : نجاسة الثوب الرطب الملاقي للنجس .

( وهذا ما يقال : إنّ الاستصحاب في الأُمور الخارجية لا عبرة به » (1) انتهى ) ما حكاه المحقق الخوانساري رحمه اللّه .

( وفيه : أمّا أولاً : فبالنقض بالأحكام الجزئية ) فإنه لا شك في جريان الاستصحاب في الأحكام الجزئية ( مثل : طهارة الثوب من حيث عدم ملاقاته للنجاسة ) فإذا شككنا في إنه هل لاقى النجاسة أم لا ، نستصحب طهارته ؟ .

( و ) كذا مثل ( نجاسته من حيث ملاقاته لها ) أي : للنجاسة فإذا شككنا في إن الثوب النجس طهّرناه أم لا ، نستصحب نجاسته ، وهكذا سائر الأحكام الجزئية .

وعليه : ( فإنّ بيانها ) أي : بيان هذه الأحكام الجزئية ( أيضا ) كالأمور الخارجية مثل استصحاب بقاء زيد ونحو ذلك ( ليس من وظيفة الإمام عليه السلام )

ص: 28


1- - القوانين المحكمة : ج2 ص66 ، مشارق الشموس في شرح الدروس : ص281 .

كما أنّه ليس وظيفة المجتهد ولا يجوز التقليد فيها ، وإنّما وظيفتُه من حيث كونه مبيّنا للشرع : بيان الأحكام الكلّية المشتبهة على الرعيّة .

وأمّا ثانيا : فبالحل ، توضيحه أنّ بيان الحكم الجزئي في المشتبهات الخارجيّة ليس وظيفة للشارع ، ولا لأحد من قبله .

-------------------

لكن الإمام عليه السلام بيّنها .

( كما أنّه ليس وظيفة المجتهد ) ذلك أيضا ( ولا يجوز التقليد فيها ) بأن نقلّد في إن الثوب هل لاقى النجس أم لا ؟ وأن الثوب النجس هل طهّرناه أم لا ؟ ( وإنّما وظيفته من حيث كونه مبيّنا للشرع : بيان الأحكام الكلّية المشتبهة على الرعيّة ) مثل كل مسكر حرام ، وكل مسكر مايع بالأصالة ، فهو نجس ، وما أشبه ذلك .

إذن : فالذي تقولون به بالنسبة الى هذه الأحكام الجزئية مع إن الشارع بيّنها يلزم أن تقولوا به بالنسبة الى الأُمور الخارجية أيضا ، وذلك لعدم الفرق بينهما من الجهة التي ذكرناها .

( وأمّا ثانيا : فبالحل ) وذلك بأن الشارع إنّما عليه بيان الحكم الكلي ، لكن الحكم الكلي كما ينطبق على الجزئيات الشرعية ، ينطبق على الجزئيات الخارجية أيضا ، فإن الشارع يقول مثلاً : « لا تنقض اليقين بالشك » (1) فإذا شك الانسان في أن شخصا مات أو لم يمت يستصحب حياته ، وإذا شك الانسان في أن شيئا لاقى النجس أو لم يلاق النجس يستصحب طهارته ، وهكذا .

وأما ( توضيحه ) فهو كما قال : ( أنّ بيان الحكم الجزئي في المشتبهات الخارجيّة ليس وظيفة للشارع ، ولا لأحد من قبله ) أي : من قبل الشارع كالمجتهد

ص: 29


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

نعم ، حكم المشتبه حكمه الجزئي ، كمشكوك النجاسة أو الحرمة ، حكمٌ شرعي كلّي ليس بيانُه إلاّ وظيفة للشارع ، وكذلك الموضوع الخارجي كرطوبة الثوب ، فإنّ بيان ثبوتها وانتفائها في الواقع ليس وظيفة للشارع .

نعم ، حكم الموضوع المشتبه في الخارج ، كالمايع المردّد بين الخل والخمر حكمٌ كلّي ليس بيانُه وظيفة إلاّ للشارع ، وقد قال الصادق عليه السلام :

-------------------

بما هو حكم جزئي .

( نعم ، حكم ) ذلك ( المشتبه حكمه الجزئي ) فحكمه : فاعل المشتبه ، والجزئي : صفة حكمه ( كمشكوك النجاسة أو الحرمة ) بما هو حكم كلي ، فإنه ( حكمٌ شرعي كلّي ليس بيانُه إلاّ وظيفة للشارع ) حيث قال سبحانه : « يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر » (1) .

( وكذلك الموضوع الخارجي كرطوبة الثوب ، فإنّ بيان ثبوتها ) أي : الرطوبة ( وانتفائها في الواقع ) أي : إنه خارجا هل هو رطب أو ليس برطب فإن هذا بما هو ( ليس وظيفة للشارع ) وإنّما هو وظيفة الانسان بنفسه .

( نعم ، حكم ) ذلك ( الموضوع المشتبه في الخارج كالمايع المردّد بين الخل والخمر ) بما هو حكم كلّي ، فإنه ( حكم كلّي ليس بيانُه وظيفة إلاّ للشارع ) .

وكذلك بقية الموضوعات المشتبهة في الخارج ، كرطوبة الثوب وعدمها الثوب نجسا ، فإنه يلزم استطراق باب الشارع لننظر ما بيّنه من حكم كلي لهذه الجزئيات ، فنطبّق ذلك الكلي على هذه الجزئيات الخارجية .

هذا ( وقد قال الصادق عليه السلام ) في بيان الحكم الكلي لأمثال هذه الجزئيات :

ص: 30


1- - سورة الاعراف : الآية 157 .

« كلُّ شيء لك حلالٌ حتى تعلَم أنّه حرامٌ ، وذلك مثل الثَّوب يكون عليك » الى آخره ، وقوله في خبر آخر : « سأخبرُك عن الجُبُنِّ » ، وغيره .

ولعلّ التوهّم نشأ من تخيّل أنّ ظاهر «لا تنقض» : إبقاء نفس المتيقن السابق ، وليس إبقاء الرطوبة ممّا يقبل حكم الشارع بوجوبه .

ويدفعه بعد النقض بالطهارة المتيقنة سابقا ، فإنّ إبقاءها ليس من الأفعال الاختياريّة القابلة للايجاب :

-------------------

( « كلُّ شيء لك حلالٌ حتى تعلَم أنّه حرامٌ ، وذلك مثل الثَّوب يكون عليك » (1) الى آخره ، وقوله ) عليه السلام : ( في خبر آخر : « سأخبرُك عن الجُبُنِّ » (2) ، وغيره (3) ) فبيّن الإمام الحكم الكلي ونحن نطبّقه على الجزئي الخارجي .

( ولعلّ التوهّم ) بأن بيان حكم الجزئي ليس من وظيفة الشارع ( نشأ من تخيّل أنّ ظاهر « لا تنقض » : إبقاء نفس المتيقن السابق ، و ) معلوم : إنه ( ليس إبقاء الرطوبة ممّا يقبل حكم الشارع بوجوبه ) فإنّ الموضوع الخارجي من الأُمور التكوينية وليس من الأُمور التشريعية حتى يثبت أو يسقط بالتشريع .

( ويدفعه بعد النقض بالطهارة المتيقنة سابقا ، فإنّ إبقاءها ) أي : الطهارة السابقة ( ليس من الأفعال الاختياريّة القابلة للايجاب ) أي القابلة لايجاب البقاء ، فإن الاختيار فيما يصلح للاختيار إنّما هو بالنسبة الى المستقبل ، وأمّا فيما مضى فقد خرج عن الاختيار ولا يوصف به .

ص: 31


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
2- - انظر الكافي ( فروع ) : ج6 ص339 ح2 ، وسائل الشيعة : ج25 ص118 ب61 ح31377 ، بحار الانوار : ج65 ص156 ح30 .
3- - كرواية اللحم المشترى من السوق ، راجع الاستبصار : ج4 ص75 ب48 ح1 ، وسائل الشيعة : ج24 ص70 ب29 ح30023 بالمعنى .

أنّ المراد من الابقاء وعدم النقض هو : ترتيب الآثار الشرعية المترتّبة على المتيقن . فمعنى استصحاب الرطوبة ترتيب آثارها الشرعية في زمان الشك ، نظير استصحاب الطهارة . فطهارة الثوب ورطوبته سيّان في عدم قابلية الحكم بابقائهما عند الشك وفي قابلية الحكم بترتب آثارهما الشرعية في زمان الشك .

-------------------

وإنّما خرج ما مضى عن الاختيار لأن الفعل الاختياري ما كان كل من الفعل والترك فيه مقدورا للمكلف ، ومن المعلوم : إن الطهارة المتيقنة بالنسبة الى سابق الشك إن نقضت فالابقاء غير مقدور ، وإن لم تنقض فترك الابقاء غير مقدور .

وعليه : فإنه يدفع التوهم المذكور بعد النقض المزبور يدفعه : ( أنّ المراد من الابقاء وعدم النقض هو : ترتيب الآثار الشرعية المترتّبة على المتيقن ) لا إبقاء نفس المتيقن ، ومن المعلوم : إن ترتيب الآثار وعدم ترتيب الآثار هو من الأُمور الاختيارية .

إذن : ( فمعنى استصحاب الرطوبة ) الذي هو أمر خارجي : ( ترتيب آثارها الشرعية في زمان الشك ) كما إنه لو لم نقل باستصحاب الرطوبة كان معناه : عدم ترتيب آثارها الشرعية ، فاستصحاب الرطوبة إذن هو ( نظير استصحاب الطهارة ) الذي هو أمر شرعي من حيث ترتيب الآثار الشرعية أو عدم ترتيبها .

وعليه : ( فطهارة الثوب ) الذي هو أمر شرعي ( ورطوبته ) الذي هو أمر خارجي ( سيّان في عدم قابلية الحكم بابقائهما عند الشك ) فإن الأمر التكويني ، كما ذكرنا غير قابل للابقاء وعدم الابقاء .

( و ) كذا سيّان أيضا ( في قابلية الحكم بترتب آثارهما الشرعية في زمان الشك ) لأن الأمر الاعتباري المستقبلي يمكن ترتيبه ، كما يمكن عدم ترتيبه .

ص: 32

فالتفصيل بين كون المستصحب من قبيل رطوبة الثوب وكونه من قبيل طهارته ، لعدم شمول أدلّة «لا تنقض» للأول ، في غاية الضعف .

نعم ، يبقى في المقام : أنّ استصحاب الاُمور الخارجية إذا كان معناه : ترتيب آثارها الشرعية لايظهر له فائدة ، لأنّ تلك الآثار المترتّبة عليه كانت مشاركة معه في اليقين السابق ، فاستصحابها يُغني عن استصحاب نفس الموضوع ،

-------------------

إذن : ( فالتفصيل بين كون المستصحب من قبيل رطوبة الثوب ) وحياة زيد ( وكونه من قبيل طهارته ) ونجاسته ( لعدم شمول أدلّة « لا تنقض » للأول ) وشموله للثاني ( في غاية الضعف ) على ما عرفت ، فمقتضي القاعدة : جريان الاستصحاب فيهما معا .

( نعم ، يبقى في المقام : أنّ استصحاب الاُمور الخارجية إذا كان معناه : ترتيب آثارها الشرعية ) على كما ذكرنا : من إن معنى الاستصحاب ذلك ، فإنه ( لا يظهر له ) أي : لهذا الاستصحاب ( فائدة ) .

وإنّما لا يظهر له فائدة ( لأنّ تلك الآثار المترتّبة عليه كانت مشاركة معه ) أي : مع تلك الأُمور الخارجية ( في اليقين السابق ) فكان زيد وكان معه حرمة ماله ومعه حرمة زوجته ( فاستصحابها ) أي : استصحاب تلك الآثار الشرعية ( يُغني عن استصحاب نفس الموضوع ) .

والحاصل : إن هنا موضوعا : هو زيد ، وحكما : هو حرمة ماله ، حيث إنه إذا مات حلّ ماله لوارثه ، والمقصود : استصحاب الحكم وهو : حرمة ماله فلماذا تستصحبون الموضوع وهو : بقاء زيد ، والحال إن استصحاب الحكم مغن عن بقاء الموضوع ؟ .

ص: 33

فإنّ استصحاب حرمة مال زيد الغائب وزوجته يُغني عن استصحاب حياته إذا فرض أنّ معنى إبقاء الحياة : ترتبُ آثارها الشرعية .

نعم ، قد يحتاج إجراء الاستصحاب في آثاره إلى أدنى تدبّر ، كما في الآثار غير المشاركة معه في اليقين السابق ، مثل توريث الغائب من قريبه المتوفّى في زمان الشك في حياة الغائب ، فانّ التوريث غير متحقّق حالَ اليقين بحياة الغائب ، لعدم موت قريبه بَعْد .

-------------------

وعليه : ( فإنّ استصحاب حرمة مال زيد الغائب ) فيما إذا شككنا في انه مات أم لا ، للمنع من التصرف فيه ، ( و ) استصحاب حرمة ( زوجته ) للمنع من تزوجها ( يُغني عن استصحاب حياته إذا فرض أنّ معنى إبقاء الحياة : ترتبُ آثارها الشرعية ) على ما ذكرتم : من إن استصحاب الحياة إنّما يفيد ترتيب الآثار الشرعية .

( نعم ) وهذا استثناء من قوله قبل قليل : « نعم يبقى في المقام » ، فانه ( قد يحتاج إجراء الاستصحاب في آثاره إلى أدنى تدبّر ) وهو فيما إذا لم يمكن استصحاب الآثار استصحابا مطلقا ، بل استصحابا تعليقيا ، وذلك ( كما في الآثار غير المشاركة معه في اليقين السابق ) فانه لا يمكن الاستصحاب فيها إلاّ على نحو التعليق وذلك ( مثل توريث الغائب من قريبه المتوفّى في زمان الشك في حياة الغائب ) حيث يكون زيد الغائب ، ولم يكن معه توريثه من قريبه المتوفى الآن - مثلاً - .

وعليه : ( فانّ التوريث غير متحقّق حالَ اليقين بحياة الغائب ، لعدم موت قريبه بَعْد ) أي : في حال اليقين بحياة الغائب ، والمتوهم بقوله : « نعم يبقى في المقام » ، يتوهم ان هنا يستصحب الحكم أيضا ، وهو عدم التوريث ، لأن الغائب لم يكن

ص: 34

لكن مقتضى التدبّر اجراء الاستصحاب على وجه التعليق ، بأن يقال : لو مات قريبه قبل الشك في حياته لورث منه .

وبعبارة اُخرى : موت قريبه قبل ذلك كان ملازما لارثه منه ، ولم يُعلم انتفاء الملازمة فيستصحب .

وبالجملة : الآثار المترتبة

-------------------

وارثا حال حياة أبيه ، فاذا شككنا في موت الغائب نستصحب عدم ارثه ( لكن مقتضى التدبّر اجراء الاستصحاب ) هنا أيضا ، لأن الحكم والموضوع كليهما كانا سابقا ولكن مع فارق وهو : ان الحكم كان سابقا في استصحاب حرمة مال زيد على وجه التحقيق ، وهنا على وجه التعليق .

إذن : فالاستصحاب يجري هنا ( على وجه التعليق ، بأن يقال : لو مات قريبه قبل الشك في حياته لورث منه ) فكان الموضوع وهو الغائب ، وكان الحكم التعليقي وهو التوريث .

( وبعبارة اُخرى : موت قريبه قبل ذلك ) أي : قبل زمان الشك ( كان ملازما لارثه منه ، ولم يُعلم انتفاء الملازمة فيستصحب ) بقاء الملازمة ، فالأثر مشارك معه في اليقين السابق أيضا .

والحاصل من قوله نعم يبقى في المقام إلى هنا هو : ان المستشكل يقول لا حاجة إلى استصحاب الموضوع لترتيب الآثار ، بل نستصحب نفس الآثار ، سواء كان حكما تنجيزيّا مثل : حرمة مال الغائب إذا شككنا في انه مات أو لم يمت ، أم حكما تعليقيا مثل : ارث الغائب عن أبيه إذا مات أبوه ، ولا نعلم هل ان الغائب حي أو ميت ؟ .

( وبالجملة ) : لا فرق بين الآثار التنجيزية ، والآثار التعليقية ، إذ ( الآثار المترتبة

ص: 35

على الموضوع الخارجي منها : ما يجتمع معه في زمان اليقين به ، ومنها : ما لا يجتمع معه في ذلك الزمان .

لكن عدم الترتب فعلاً في ذلك الزمان ، مع فرض كونه من آثاره شرعا ، ليس إلاّ لمانع في ذلك الزمان ، أو لعدم شرط ، فيصدق في ذلك الزمان أنّه لولا ذلك المانع أو عدم الشرط لترتب الآثار ، فاذا فُقِدَ المانعُ الموجود ، أو وُجِدَ الشرط المفقود ، وشُك في ترتّبه من جهة الشك في بقاء ذلك الأمر الخارجي ،

-------------------

على الموضوع الخارجي ) كحياة زيد الغائب الذي نشك في انه حي أو ليس بحي تكون على قسمين :

( منها : ما يجتمع معه في زمان اليقين به ) أي : اليقين بالموضوع وهو زيد .

( ومنها : ما لا يجتمع معه في ذلك الزمان ) أي : زمان اليقين .

( لكن عدم الترتب فعلاً في ذلك الزمان ) ترتبا تنجيزيا ( مع فرض كونه من آثاره شرعا ، ليس إلاّ لمانع في ذلك الزمان ، أو لعدم شرط ) أي : ان الحكم إذا لم يترتّب في الزمان السابق ، فلوجود مانع عن ترتب الحكم ، أو فقد شرط للحكم .

وعليه : ( فيصدق في ذلك الزمان ) أي : زمان اليقين وهو الزمان السابق ( أنّه لولا ذلك المانع ، أو ) لولا ( عدم الشرط ، لترتب الآثار ) عليه وهو الحكم .

مثلاً : حياة الأب الذي هو مورث الابن الغائب في المثال السابق مانع عن الارث ، وموته شرط للارث ( فاذا فُقِدَ المانعُ الموجود ، أو وُجِدَ الشرط المفقود ، وشُك في ترتّبه ) أي : ترتب الحكم وهو الارث في المثال ( من جهة الشك في بقاء ذلك الأمر الخارجي ) كحياة الابن الغائب الذي شككنا في انه هل بقي حيا حتى يرث من أبيه ، أو لم يبق حيا حتى لا يرثه ؟ .

ص: 36

حُكِمَ باستصحاب ذلك الترتّب الشأني ، وسيأتي لذلك مزيدُ توضيح في بعض التنبيهات الآتية .

هذا ، ولكنّ التحقيق أنّ في مورد جريان الاستصحاب في الأمر الخارجي لا يجري استصحاب الأثر المترتّب عليه .

فاذا شكّ في بقاء حياة زيد ، فلا سبيل إلى إثبات آثار حياته إلاّ بحكم

-------------------

فان الشك في ترتب الحكم من هذه الجهة ( حُكِمَ باستصحاب ذلك الترتّب الشأني ) فنقول : ان الأب لو مات في السابق ، كان الابن يرثه ، والآن نستصحب ذلك الارث الشأني بعد ان وجد شرط الارث وهو : موت أب الغائب .

هذا ( وسيأتي لذلك ) الاستصحاب التعليقي ( مزيدُ توضيح في بعض التنبيهات الآتية ) انشاء اللّه تعالى .

ثم لا يخفى : ان ( هذا ) الذي ذكرناه من الاشكال بقولنا : « نعم يبقى في المقام » ممّا كان حاصله : ان المتوهم يقول : بأنّا نستصحب الحكم فلا حاجة إلى استصحاب الموضوع ، سواء كان الحكم تنجيزيا ، أم تعليقيا ، غير تام كما قال :

( ولكنّ التحقيق ) ان الاشكال بقوله : « نعم يبقى في المقام » ، غير تام ، إذ استصحاب الموضوع سببي ، واستصحاب الحكم مسببي ، وكلما أمكن الاستصحاب السببي لم يبق مجال للاستصحاب المسببي ، فاللازم ان نستصحب حياة زيد الغائب ، لا ان نستصحب حرمة ماله أو ان نستصحب حرمة زوجته كما قال : ( أنّ في مورد جريان الاستصحاب في الأمر الخارجي لا يجري استصحاب الأثر المترتّب عليه ) لأن استصحاب الأمر الخارجي سببي واستصحاب الأثر مسببي .

وعليه : ( فاذا شك في بقاء حياة زيد ، فلا سبيل إلى إثبات آثار حياته إلاّ بحكم

ص: 37

الشارع بعدم جواز نقض حياته بمعنى : وجوب ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على الشخص الحي ، ولا يغني عن ذلك اجراء الاستصحاب في نفس الآثار ، بأن يقال بأنّ حرمة ماله وزوجته كانت متيقنة فيحرم نقض اليقين بالشك ، لأنّ حرمة المال والزوجة إنّما يترتّبان في السابق على الشخص الحي بوصف أنّه حي ، فالحياة داخلٌ في موضوع المستصحب ، وهي مشكوكة في الزمن اللاحق ،

-------------------

الشارع بعدم جواز نقض حياته ) أي : يلزم علينا ان نستصحب وجود زيد ، لا ان نستصحب آثار حياته من حرمة زوجته وحرمة ماله وما أشبه ذلك .

وإنّما لا سبيل إلى الآثار الشرعية إلاّ باثبات موضوعها وهي الحياة هنا ، لأن حكم الشارع بعدم جواز نقض الحياة إنّما هو ( بمعنى : وجوب ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على ) الموضوع الخارجي وهو ( الشخص الحي ) كزيد مثلاً ، فلابد من إثباته لترتب آثاره عليه .

( و ) من المعلوم : انه ما لم يثبت الموضوع لم يترتب عليه آثاره ، ولذا ( لا يغني عن ذلك ) أي : عن استصحاب الموضوع ( اجراء الاستصحاب في نفس الآثار ، بأن يقال ) في استصحاب نفس الآثار : ( بأنّ حرمة ماله وزوجته كانت متيقنة ) في الزمان السابق ( فيحرم نقض اليقين بالشك ) .

وإنّما نقول : لا يغني ذلك عن استصحاب الموضوع ( لأنّ حرمة المال والزوجة إنّما يترتّبان في السابق على الشخص الحي بوصف أنّه حي ، فالحياة داخلٌ في موضوع المستصحب ) فالمستصحب إذن هو الشخص الحي ( وهي ) أي الحياة ( مشكوكة في الزمن اللاحق ) وما دامت مشكوكة لم نقطع ببقاء الموضوع ، فلم يترتب عليه آثاره إلاّ إذا استصحبنا نفس الحياة وقطعنا

ص: 38

وسيجيء اشتراط القطع ببقاء الموضوع في الاستصحاب ، واستصحاب الحياة لاحراز الموضوع في استصحاب الآثار غلط ، لأنّ معنى استصحاب الموضوع : ترتيب آثاره الشرعية .

فتحقّق أنّ استصحاب الآثار نفسها غير صحيح ، لعدم إحراز الموضوع ، واستصحاب الموضوع كافٍ في إثبات الآثار .

وقد مرّ في مستند التفصيل السابق وسيجيء

-------------------

ببقاء الموضوع .

( وسيجيء اشتراط القطع ببقاء الموضوع في الاستصحاب ) فكيف يمكن استصحاب حرمة ماله وحرمة زوجته بدون القطع ببقاء حياته ؟ .

( و ) ان قلت : سلّمنا : فانا نستصحب حياة زيد ، لكن بعد ان استصحبنا حياته نستصحب حرمة ماله وزوجته .

قلت : ( استصحاب الحياة لاحراز الموضوع في استصحاب الآثار ) كحرمة ماله وزوجته ( غلط ) إذ لا حاجة إلى استصحاب الآثار ، لأنه مسبّبي بعد استصحاب الموضوع الذي هو سببي ، فالسببي لا يدع مجالاً للمسببي ( لأنّ معنى استصحاب الموضوع : ترتيب آثاره الشرعية ) فلا حاجة إلى استصحاب الآثار .

إذن : ( فتحقّق : أنّ استصحاب الآثار نفسها غير صحيح ، لعدم احراز الموضوع، واستصحاب الموضوع كاف في إثبات الآثار ) فلا حاجة بعده إلى استصحاب الآثار ، وعلى هذا فقول المستشكل : « نعم يبقى في المقام » ، لا مورد له .

هذا ( وقد مرّ في مستند التفصيل السابق ) بين الوجودي والعدمي ( وسيجيء )

ص: 39

في اشتراط بقاء الموضوع وفي تعارض الاستصحابين أنّ الشك المسبّب عن شك آخر لا يُجامِعُ معه في الدخول تحت عموم « لا تنقض » ، بل الداخل هو الشك السببي ، ومعنى عدم الاعتناء به وعدم جعله ناقضا لليقين زوالُ الشك المسبّب به ، فافهم .

-------------------

ان شاء اللّه تعالى ( في اشتراط بقاء الموضوع ، وفي تعارض الاستصحابين ) هذا المطلب أيضا وهو : ( أنّ الشك المسبّب عن شك آخر لا يُجامِعُ ) المسبّب ( معه ) أي : مع السبب ( في الدخول تحت عموم «لا تنقض» ) بلا فرق بين ان يكون السببي والمسببي متعاضدين أو متخالفين على ما تقدّم ( بل الداخل ) تحت الأدلة ( هو الشك السببي ) فقط لا المسببي .

( ومعنى عدم الاعتناء به ) أي : بالشك السببي ( وعدم جعله ) أي : جعل الشك السببي ( ناقضا لليقين ) السابق معناه : ( زوالُ الشك المسبّب به ) أي : بالشك السببي حتى يكون الشك المسببي في حكم العدم .

( فافهم ) ولعله إشارة إلى انه قد لا يمكن استصحاب الموضوع ، لأن العرف يرون عدم الموضوع السابق إلاّ بالمسامحة ، مما نضطر إلى استصحاب الحكم ، كما مثّل لذلك صاحب الرياض في المنقول عنه بما يلي :

لو رأت المرأة الدم في أول وقت الفريضة ، وتردد دمها بين الحيض والاستحاضة ، فيقال : انه قد جاز لها الدخول في الفريضة قبل رؤية الدم ، إلاّ انّ فقد الشرط وهو دخول الوقت قد منع من ثبوت هذا الحكم لها قبل الرؤية ، لكن مع تحقق الشرط يشك في ترتب هذا الحكم عليها من جهة الشك في بقاء الموضوع على الصفة التي كان معها موضوعا له ، وهو صفة الخلو من الحيض ، فتستصحب الملازمة الثابتة قبل الرؤية إلى ما بعدها .

ص: 40

وأمّا القول الخامس

وهو : التفصيل بين الحكم الشرعي الكلّي ، وبين غيره ، فلا يعتبرُ في الأوّل ، فهو المصرّح به في كلام المحدّث الاسترابادي ، لكنّه صرّح باستثناء استصحاب عدم النسخ مدّعيا للاجماع ، بل للضرورة على اعتباره .

قال في محكيّ فوائده المكّية - بعد ذكر أخبار الاستصحاب - ما لفظه :

-------------------

لكن هذا الاستصحاب إنّما يتم بالمسامحة العرفية ، إذ موضوع جواز الدخول في الفريضة وان كانت هي المرأة بوصف الخلوّ من الحيض ، إلاّ ان أهل العرف يزعمون ثبوت هذا الحكم بشخص المرأة من حيث هي ، ويتخيّلون تبدّل حالة الخلوّ من الحيض إلى حالة الحيض من قبيل تبدل حالات الموضوع ، لا من قبيل تغيّر نفس الموضوع .

( وأمّا القول الخامس ) في الاستصحاب ( وهو : التفصيل بين الحكم الشرعي الكلّي ، وبين غيره ) من الاُمور الجزئية ( فلا يعتبرُ في الأوّل ) وإنّما يعتبر في الثاني ( فهو المصرّح به في كلام المحدّث الاسترابادي ، لكنّه صرّح باستثناء استصحاب عدم النسخ ) مع انه حكم كلي .

وعليه : فنظر المحدث الاسترابادي هو : ان الحكم الشرعي لا استصحاب فيه إلاّ ما كان من قبيل استصحاب عدم النسخ ( مدّعيا للاجماع ، بل للضرورة على اعتباره ) أي : اعتبار الاستصحاب في عدم النسخ .

( قال في محكيّ فوائده المكّية ، بعد ذكر أخبار الاستصحاب - ما لفظه :

ص: 41

« لا يقال : هذه القاعدة تقتضي جواز العمل بالاستصحاب في أحكام اللّه تعالى ، كما ذهب اليه المفيد والعلامة من أصحابنا والشافعيّة قاطبةً ، ويقتضي بطلان قول أكثر علمائنا والحنفيّة بعدم جواز العمل به .

لأنّا نقول : هذه شبهة عجز عن جوابها كثير من فحول الاُصوليين والفقهاء ، وقد أجبنا عنها في الفوائد المدنيّة تارة بما ملخّصه : إنّ صور الاستصحاب المختلف فيها عند نظر التدقيق والتحقيق راجعةٌ إلى أنّه إذا ثبت حكمٌ بخطاب شرعي في موضوع في حال من حالاته

-------------------

« لا يقال : هذه القاعدة ) أي : قاعدة البناء على اليقين السابق ( تقتضي جواز العمل بالاستصحاب في أحكام اللّه تعالى ، كما ذهب اليه المفيد والعلامة من أصحابنا والشافعيّة قاطبةً ، ويقتضي بطلان قول أكثر علمائنا والحنفيّة بعدم جواز العمل به ) أي : بالاستصحاب علما بأن عدم الجواز هو الذي نذهب اليه نحن الاسترابادي .

وإنّما لا يقال ذلك ( لأنّا نقول : هذه شبهة عجز عن جوابها كثير من فحول الاُصوليين والفقهاء ، وقد أجبنا عنها في الفوائد المدنيّة تارة ) : بأنه لا مجال للاستصحاب بعد تبدّل الموضوع ، واُخرى : بانه وان كان للاستصحاب مجال إلاّ ان الشارع منع عنه .

أمّا الجواب الأوّل فنقول ( بما ملخّصه : إنّ صور الاستصحاب المختلف فيها عند نظر التدقيق والتحقيق ) وقوله : التحقيق : عبارة عن تحصيل الحق ، وان لم يكن فيه دقة ، والتدقيق : ما يحتاج في تحصيله إلى الدقة .

وكيف كان : فان صور الاستصحاب المختلف فيها ( راجعةٌ إلى أنّه إذا ثبت حكمٌ بخطاب شرعي في موضوع في حال من حالاته ) أي : حال من حالات ذلك

ص: 42

نجريه في ذلك الموضوع عند زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها فيه .

ومن المعلوم : أنّه إذا تبدّل قيد موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد ، اختلف موضوع المسألتين ، فالذي سمّوه استصحابا راجع في الحقيقة إلى اسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر متّحد معه في الذات ، مختلف معه في الصفات .

ومن المعلوم عند الحكيم : أنّ هذا المعنى غير معتبر شرعا وأنّ القاعدة

-------------------

الموضوع ( نجريه ) أي : نجري ذلك الحكم ( في ذلك الموضوع عند زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها) أي : نقيض تلك الحال ( فيه ) أي : في ذلك الموضوع.

( ومن المعلوم : أنّه إذا تبدّل قيد موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد ، اختلف موضوع المسألتين ) فموضوع بقيد ، وموضوع بقيد على خلاف ذلك القيد .

وعليه : ( فالذي سمّوه استصحابا راجع في الحقيقة إلى اسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر ) بحيث يكون الموضوع الثاني ( متّحد معه ) أي : مع الموضوع الأوّل ( في الذات ، مختلف معه في الصفات ) .

مثلاً : إذا تبدّل الماء المتغيّر إلى الماء غير المتغير ، فاذا أجرينا الحكم وهو النجاسة الذي كان في الماء المتغير إلى الماء غير المتغيّر كان معناه : اسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر ، فانه وان كان ذات الماء متحدا في كليهما إلاّ ان الصفات مختلفة ، حيث ان الصفة في الماء الأوّل : التغيّر ، وفي الماء الثاني : نقيض ذلك لزوال التغيّر .

( ومن المعلوم عند الحكيم : أنّ هذا المعنى ) وهو : اسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر ( غير معتبر شرعا ) لأنه قياس وليس باستصحاب ( وأنّ القاعدة

ص: 43

الشريفة المذكورة غير شاملة له .

وتارةً : بأنّ استصحاب الحكم الشرعي ، وكذا الأصل - أي الحالة التي إذا خُلِّي الشيء ونفسه كان عليها - إنّما يُعْمَل بهما ما لم يظهر مخرجٌ عنهما ، وقد ظهر في محل النزاع لتواتر الأخبار : بأنّ كلّ ما يحتاج اليه الامّة ورد فيه خطابٌ وحكمٌ حتى أرش الخدش ،

-------------------

الشريفة المذكورة ) وهي قاعدة الاستصحاب ( غير شاملة له ) أي : لما كان من اسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر .

هذا هو الجواب الأوّل ، وامّا الجواب الثاني الذي ذكره الاسترابادي فهو : انه وان كان للاستصحاب مجال ، إلاّ أن الشارع منع عنه كما قال : ( وتارةً : بأنّ استصحاب الحكم الشرعي ، وكذا الأصل ) أي : أصل البرائة وفسّر الاسترابادي الأصل بقوله : ( - أي الحالة التي إذا خُلِّي الشيء ونفسه كان عليها - ) وتلك الحالة هي البرائة الأصلية ، لأن الانسان برئما لم يثبت عليه تكليف .

ثم قال : فان الاستصحاب والبرائة ( إنّما يُعْمَل بهما ما لم يظهر مخرج عنهما ، و ) الحال ( قد ظهر في محل النزاع ) المخرج عن كلي الاستصحاب وأصل البرائة ( لتواتر الأخبار : بأنّ كلّ ما يحتاج اليه الامّة ورد فيه خطابٌ وحكمٌ ) شرعي ( حتى أرش الخدش ) (1) فما يراد استصحابه ، أو اجراء الأصل فيه ، محكوم شرعا بحكم ، فلا يصح الاستصحاب والتمسك بالأصل في شيء من الأحكام .

ص: 44


1- - الكافي اصول : ج1 ص59 ح3 و ج7 ص157 ح9 ، بصائر الدرجات : ص142 ح3 ، الاحتجاج : ص153 ، المحاسن : ص273 ، نوادر القمّي : ص161 ، بحار الانوار : ج2 ص170 ب22 ح8 ، ج26 ص22 ب1 ح10 .

وكثيرٌ ممّا ورد مخزونٌ عند أهل الذِكر عليهم السلام فعلم أنّه ورد في محل النزاع أحكامٌ لا نعلمها بعينها وتواتر الأخبار بحصر المسائل في ثلاث : بيّن رُشدُه ، وبيّن غيُّهُ ، أي : مقطوع فيه ذلك لا ريبَ فيه ، وما ليس هذا ولا ذاك ، وبوجوب التوقّف في الثالث » انتهى .

وما ذكره أوّلاً

-------------------

( و ) ان قلت : انا لا نجد في كثير من الاُمور حكما ، فنضطر إلى الاستصحاب ، أو العمل بالأصل .

قلت : ( كثيرٌ ممّا ورد ) من الشارع من الأحكام (مخزونٌ عند أهل الذِكر عليهم السلام) فعدم وجداننا لا يدل على عدم الوجود في الواقع .

إذن : ( فعلم أنّه ورد في محل النزاع ) أي : مورد الاستصحاب ( أحكامٌ لا نعلمها بعينها ) وحيث لا نتمكن من إجراء الاستصحاب والبرائة ولا نجد الحكم الوارد عنهم عليهم السلام ، فلابد من الاحتياط .

( و ) كذلك يدلّ على انه لا يصح لنا العمل بالاستصحاب وأصل البرائة ( تواتر الأخبار بحصر المسائل في ثلاث : بيّن رُشدُه ، وبيّن غيُّهُ ، أي : مقطوع فيه ) أي :

في تلك المسائل ( ذلك ) الرشد أو الغني بحيث انه ( لا ريب فيه ) أي : في ذلك الرشد أو في ذلك الغيّ ( وما ليس هذا ولا ذاك ، و ) هو القسم الثالث يعني : لا بيّن الرشد ، ولا بيّن الغي ، حيث أمروا ( بوجوب التوقّف في الثالث » (1) ) فلا يعمل فيه لا بالاستصحاب ولا بالأصل ، وإنّما يجب فيه التوقف والاحتياط .

( انتهى ) كلام الأمين الاسترابادي ( و ) لكن يرد على ( ما ذكره أوّلاً ) عند قوله : تارة بما ملخّصه ، ما يلي : ان الأصحاب أجابوا بهذا الجواب ، بل بأكثر منه ، حيث

ص: 45


1- - الفوائد المكّية : مخطوط .

قد استدلّ به كلّ مَن نفى الاستصحاب من أصحابنا وأوضحوا ذلك غاية الايضاح ، كما يظهر لمن راجع الذريعة والعدّة والغنية وغيرها .

إلاّ أنّهم منعوا عن اثبات الحكم الثابت لموضوع في زمان له بعينه في زمان آخر من دون تغيّر واختلاف في صفة الموضوع سابقا ولاحقا ، كما يشهد له تمثيلهم بعدم الاعتماد على حياة زيد أو بقاء البلد على ساحل البحر بعد الغيبة عنهما .

-------------------

إن الاسترابادي يمنع الاستصحاب في الشك في المقتضي ، والأصحاب المانعون عن الاستصحاب يمنعونه حتى في الشك في الرافع ، وذلك كما قال :

انه ( قد استدلّ به ) أي : بما أجاب المحدث الاسترابادي ( كلّ مَن نفى الاستصحاب من أصحابنا وأوضحوا ذلك غاية الايضاح ، كما يظهر لمن راجع الذريعة ) للسيد المرتضى ( والعدّة ) لشيخ الطائفة ( والغنية ) لابن زهرة ( وغيرها ) من الكتب ، فانهم قالوا بعدم جريان الاستصحاب إلى الحالة اللاحقة من الحالة السابقة .

( إلاّ أنّهم منعوا عن اثبات الحكم الثابت لموضوع في زمان له بعينه ) الضميران في : « له » « وبعينه » ، راجعان إلى الموضوع فانهم منعوا من إثباته له ( في زمان آخر ) حتى وان كان ( من دون تغيّر واختلاف في صفة الموضوع سابقا ولاحقا ) .

إذن : فالاسترابادي يقول : ان الاستصحاب لا يجري لتغيّر الموضوع ، وهؤلاء الأصحاب يقولون : ان الاستصحاب لا يجري لتبدل الزمان ، وان كان الموضوع بعينه وصفته باقيا ( كما يشهد له ) أي : لبنائهم على عدم جريان الاستصحاب بسبب تغيّر الزمان فقط ( تمثيلهم بعدم الاعتماد على حياة زيد أو بقاء البلد على ساحل البحر بعد الغيبة عنهما ) مع وضوح : ان المتبدل فيهما هو الزمان فقط ،

ص: 46

وأهملوا قاعدة البناء على اليقين السابق ، لعدم دلالة العقل عليه ولا النقل ، بناءا على عدم التفاتهم إلى الأخبار المذكورة ، لقصور دلالتها عندهم ببعض ما أشرنا اليه سابقا ، أو لغفلتهم عنها على أبعد الاحتمالات عن ساحة من هو دونهم في الفضل .

وهذا المحدّث ، قد سلّم دلالة الأخبار على وجوب البناء على اليقين السابق وحرمة نقضه مع اتحاد الموضوع .

-------------------

فلا يكون الموضوع من حيث الصفة في السابق وهو زمان اليقين ، مخالفا له من حيث الصفة في اللاحق وهو زمان الشك ، وإنّما الاختلاف هو بتغير الزمان فقط .

هذا ( وأهملوا قاعدة البناء على اليقين السابق ) أي : قالوا بعدم الاستصحاب ، وذلك ( لعدم دلالة العقل عليه ) أي : على هذه القاعدة ( ولا النقل ، بناءا على عدم التفاتهم إلى الأخبار المذكورة ) في البناء على اليقين السابق .

وإنّما لم يلتفتوا إلى هذه الأخبار الدالة على الاستصحاب ( لقصور دلالتها ) أي : هذه الأخبار ( عندهم ببعض ما أشرنا اليه سابقا ) حيث ناقشنا في دلالة الأخبار المذكورة من جهة السند ، أو الدلالة ( أو لغفلتهم عنها ) أي : عن هذه الأخبار ( على أبعد الاحتمالات عن ساحة من هو دونهم في الفضل ) فكيف بهم رضوان اللّه تعالى عليهم ؟ .

( وهذا المحدّث ، قد سلّم دلالة الأخبار على وجوب البناء على اليقين السابق وحرمة نقضه مع اتحاد الموضوع ) فهو يسلّم الكبرى : حجية الاستصحاب مع اتحاد الموضوع ، لكن لا يرى الاستصحاب في الأحكام صغرى لهذه الكبرى ، وذلك لادّعائه تبدل الموضوع فيها ، ورؤيته بأنها من اسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، بينما هؤلاء لا يسلّمون الكبرى ويقولون بعدم الحجية مطلقا

ص: 47

إلاّ أنّه ادّعى تغاير موضوع المسألة المتيقنة والمسألة المشكوكة ، فالحكم فيها بالحكم السابق ليس بناءا على اليقين السابق ، وعدم الحكم به ليس نقضا له .

فَيَرِدُ عليه ، أولاً : النقضُ بالموارد التي ادّعى الاجماع والضرورة على اعتبار الاستصحاب فيها ، كما حكيناها عنها سابقا ،

-------------------

حتى فيما لم يكن تبدّل الموضوع ، بل كان تبدّل الزمان فقط مما معناه بقاء الموضوع كاملاً .

وعليه : فانه سلّم دلالة الأخبار على الاستصحاب ( إلاّ أنّه ادّعى ) أي : المحدّث الاسترابادي : ( تغاير موضوع المسألة المتيقنة ) السابقة ( والمسألة المشكوكة ) اللاحقة وإذا تغاير موضوعهما ( فالحكم فيها ) أي : في المسألة المشكوكة ( بالحكم السابق ) الذي كان للمسألة المتيقنة ( ليس بناءا على اليقين السابق ) لأن المسألة المتيقنة تبدلت إلى مسألة مشكوكة فصار الموضوع موضوعا آخر ( و ) لذلك كان ( عدم الحكم به ) حينئذ ( ليس نقضا له ) أي : للحكم السابق .

إذا اتضح ذلك ( فَيَرِدُ عليه ) ما يلي :

( أولاً ) : بانه كيف يجري الاستصحاب فيما هو أبعد من الاستصحاب في الأحكام الكلية ؟ مما يكون خلاصة هذا الايراد هو : ( النقضُ بالموارد التي ادّعى الاجماع والضرورة على اعتبار الاستصحاب فيها ) أي : في تلك الموارد ( كما حكيناها عنها سابقا ) .

لا يقال : تلك الموارد التي ذكرها الاسترابادي وقال فيها بالاستصحاب إنّما هو لادعائه الاجماع ، ولا إجماع في غير تلك الموارد ، فكيف تنقضون عليه ؟ .

لأنه يقال : الموارد التي ذكرها الاسترابادي إنّما قال الأصحاب فيها

ص: 48

فانّ منها استصحاب الليل والنهار ، فانّ كون الزمان المشكوك ليلاً ونهارا أشدُّ تغايرا واختلافا ، مع كون الزمان السابق كذلك من ثبوت خيار الغبن ، أو الشفعة في الزمان المشكوك ، وثبوتهما في الزمان السابق .

ولو اريد من الليل والنهار : طلوع الفجر وغروب الشمس لا نفس

-------------------

بالاستصحاب لاطلاق أدلة الاستصحاب من العقل أو النقل ، وذلك الاطلاق شامل لغير تلك الموارد فصحّ النقض عليه حينئذٍ .

أما تلك الموارد التي ادّعى الاسترابادي الاجماع والضرورة على اعتبار الاستصحاب فيها : ( فانّ منها استصحاب الليل والنهار ) لمن شك بانقضاء الليل ، فيستصحب الليل ، ولمن شك في انقضاء النهار فيستصحب النهار .

وعليه : ( فانّ كون الزمان المشكوك ليلاً ونهارا أشدُّ تغايرا واختلافا ، مع كون الزمان السابق كذلك ) أي : ليلاً ونهارا ( من ثبوت خيار الغبن ، أو الشفعة في الزمان المشكوك ، وثبوتهما في الزمان السابق ) المتيقن .

وإنّما يكون التغاير بينهما أشدّ ، لأن التغاير بين الزمانين يكون بحسب الذات ، وبين الخيارين والشفعتين بحسب الزمان ، فان الزمان السابق غير الزمان اللاحق بحسب الذات ، امّا الخيار في الغبن والشفعة ، فلم يختلف حقيقتهما في الزمان اللاحق عن الزمان السابق ، وإنّما اختلف زمانهما ، فاذا جرى الاستصحاب في مااختلف ذاته، فجريان الاستصحاب في مالم يختلف إلاّ زمانه يكون بطريق أولى.

لا يقال : لم يقصد الاسترابادي من الليل والنهار انات الزمان حتى يختلف اللاحق عن السابق في ذاته ، بل أراد كون الشمس فوق الأُفق وكونها تحته ، ومن المعلوم : ان ذلك حقيقة واحدة سابقا ولاحقا .

لأنه يقال : ( ولو اريد من الليل والنهار : طلوع الفجر وغروب الشمس لا نفس

ص: 49

الزمان ، كان الأمر كذلك وإن كان دون الأوّل في الظهور ، لأنّ مرجع الطلوع والغروب إلى الحركة الحادثة شيئا فشيئا .

ولو أريد استصحاب أحكامهما مثل جواز الأكل والشرب وحرمتهما ففيه : أنّ ثبوتَهما في السابق كان منوطا ومتعلّقا في الأدلّة الشرعية بزماني الليل والنهار ،

-------------------

الزمان ) أي : آناته المتعددة المختلفة الحقيقة ( كان الأمر كذلك ) أيضا يعني : كان التغاير بينهما مع السابق أشد مما ذكرنا من الغبن والشفعة ( وإن كان دون الأوّل ) التي هي الآنات ( في الظهور ) فانّ ظهور هذا في اختلاف الحقيقة ، أقل من ظهور الآنات في اختلاف الحقيقة .

وإنّما كان الأمر في هذا أيضا كذلك ( لأنّ مرجع الطلوع والغروب إلى الحركة الحادثة شيئا فشيئا ) وإلاّ فالطلوع والغروب ، وكون الشمس فوق الاُفق أو تحت الاُفق ليس شيئا في قبال الآنات .

إذن : فمعنى كون الشمس فوق الاُفق أو تحت الأُفق : آنات الشمس في تلك الآنات فوق الاُفق أو تحت الاُفق ، مثل : النهر حيث انه قطرات متلاصقة بعضها ببعض وأجزائها مختلفة وليست شيئا واحدا ، بخلاف مثل : خيار الغبن في الآن الثاني ، حيث انه نفس خيار الغبن في الآن الأوّل .

هذا ( ولو أريد استصحاب أحكامهما ) أي : أحكام الليل والنهار ( مثل جواز الأكل والشرب ) في الليل إذا شك في طلوع الفجر ( وحرمتهما ) أي : حرمة الأكل والشرب في النهار إذا شك في المغرب ( ففيه ) ما يلي :

( أنّ ثبوتهما في ) الزمان ( السابق كان منوطا ومتعلّقا في الأدلّة الشرعية بزماني الليل والنهار ) لأن الشارع أجاز الأكل والشرب في الليل ومنع الأكل والشرب

ص: 50

فاجراؤهما مع الشك في تحقق الموضوع بمنزلة ما أنكره على القائلين بالاستصحاب : من إجراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر .

وبما ذكرنا يظهر ورود النقض المذكور عليه في سائر الأمثلة ، فأي فرق بين الشك في تحقّق الحدث أو الخبث بعد الطهارة ، الذي جعل الاستصحاب فيه من ضروريات الدين وبين الشك في كون المذي محكوما شرعا برافعيّة الطهارة ،

-------------------

في النهار ( فاجراؤهما ) أي : اجراء جواز الأكل والشرب ، أو منع الأكل والشرب ( مع الشك في تحقق الموضوع ) الذي هو الليل والنهار ( بمنزلة ما أنكره ) الاسترابادي ( على القائلين بالاستصحاب : من إجراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ) .

وإنّما يكون ذلك من اجراء الحكم إلى موضوع آخر ، لأن الثابت هو : جواز الأكل والشرب في الليل ، فمن أين جواز الأكل والشرب في الوقت المشكوك كونه ليلاً ؟ وهل هذا إلاّ من اسراء الحكم من موضوع مقطوع إلى موضوع آخر مشكوك ؟ .

( وبما ذكرنا ) من النقض باستصحاب الليل والنهار الذي يقول به الاسترابادي ( يظهر ورود النقض المذكور عليه ) أي : على الاسترابادي ( في سائر الأمثلة ) التي يعترف بجريان الاستصحاب فيها .

وعليه : ( فأي فرق بين الشك في تحقّق الحدث أو الخبث بعد الطهارة ) من الحدث أو الخبث ( الذي جعل ) الاسترابادي ( الاستصحاب فيه من ضروريات الدين ) وقال : بانه يجري فيه الاستصحاب قطعا ( وبين الشك في كون المذي محكوما شرعا برافعيّة الطهارة ) أو ليس محكوما بذلك حيث أنكر الاسترابادي

ص: 51

فانّ الطهارة السابقة في كلّ منهما كان منوطا بعدم تحقق الرافع ، وهذا المناط في زمان الشك ، غير متحقق ، فكيف يسري حكم حالة وجود المناط اليه ؟ .

وثانيا : بالحلّ ، بأنّ اتحاد القضية المتيقّنة والمشكوكة - الذي يتوقّف صدق البناء على اليقين ونقضه بالشك عليه - أمرٌ راجع إلى العرف

-------------------

الاستصحاب فيه وقال : بأنه لا يجري فيه قطعا ؟ .

وإنّما لا فرق بينهما لأنه كما قال : ( فانّ الطهارة السابقة في كلّ منهما ) أي : في الشك في تحقق الحدث أو الخبث والشك في رافعية المذي ( كان منوطا بعدم تحقق الرافع ) فان الطهارة كانت مسلّمة قبل الشك في الحدث أو الخبث ، كما ان الطهارة كانت قبل خروج المذي مسلّمة أيضا ، فلماذا الفرق بينهما ؟ .

هذا ( و ) من المعلوم : ان ( هذا المناط ) وهو : عدم تحقق الرافع ( في زمان الشك ، غير متحقق ) في كلا المثالين ، لأنه قد تبدّل الأمر فيهما من اليقين بعدم تحقق الرافع إلى الشك في عدم تحقق الرافع ( فكيف يسري حكم حالة وجود المناط ) في حال اليقين السابق ( اليه ؟ ) أي : إلى حالة فقد المناط في حال الشك اللاحق بالنسبة إلى كلا المثالين ، فلماذا أجرى المحدث الاستصحاب في أحدهما دون الآخر ؟ فظهر : ان النقض وارد عليه .

( وثانيا : بالحلّ ) وذلك : بأن استصحاب حكم المسألة المتيقنة إلى المسألة المشكوكة ، ليس كما ذكره الاسترابادي : من اسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، فان الموضوع في المسألة المتيقنة والمشكوكة واحد عرفا كما قال :

( بأنّ اتحاد القضية المتيقّنة والمشكوكة - الذي يتوقّف صدق البناء على اليقين ونقضه بالشك عليه - ) أي : على ذلك الاتحاد ( أمرٌ راجع إلى العرف ) فان العرف

ص: 52

لأنّه المحكّم في باب الألفاظ .

ومن المعلوم : أنّ الخيار أو الشفعة إذا ثبت في الزمان الأوّل وشك في ثبوتهما في الزمان الثاني يصدق عرفا : أنّ القضية المتيقّنة في الزمان الأوّل بعينها مشكوكة في الزمان الثاني .

نعم ، قد يتحقق في بعض الموارد : الشك في إحراز الموضوع للشك في مدخليّة الحالة المتبدّلة فيه . فلابد من التأمّل التامّ ،

-------------------

هو الذي يقول باتحاد القضيتين أو اختلافهما ، ففي اتحاد القضيتين يحكم بالبناء على اليقين السابق ، وفي اختلاف القضيتين لا يحكم بالبناء على اليقين السابق .

وإنّما يكون مرجعه إلى العرف ( لأنّه المحكّم في باب الألفاظ ) فان الألفاظ ألقيت إلى العرف فما فهم منها العرف كان هو الحجة عليه .

( ومن المعلوم : أنّ الخيار ) في الغبن ( أو الشفعة إذا ثبت في الزمان الأوّل وشك في ثبوتهما ) أي : في ثبوت كل من خيار الغبن وخيار الشفعة ( في الزمان الثاني يصدق عرفا : أنّ القضية المتيقّنة في الزمان الأوّل بعينها مشكوكة في الزمان الثاني ) فان المتيقن سابقا كان الخيار ، ويشك ثانيا في وجود الخيار ، والمتيقن أولاً كانت الشفعة ، ويشك ثانيا في بقاء الشفعة .

( نعم ، قد يتحقق في بعض الموارد : الشك في إحراز الموضوع ) بأن يشك في ان موضوع القضية المتيقنة هل هو موضوع القضية المشكوكة أم لا ؟ .

وإنّما يشك في احراز الموضوع ( للشك في مدخليّة الحالة المتبدّلة فيه ) أي : في الموضوع ، لأنه سابقا كان على حالة ، ولاحقا على حالة اُخرى ، كالماء إذا كان سابقا متغيّرا ولاحقا زائلاً تغيّره ( فلابد من التأمّل التامّ ) حتى نحرز ان الموضوع

هل هو باق أو ليس بباق ؟ .

ص: 53

فانّه من أعظم المزالّ في هذا المقام .

وأمّا ما ذكره ثانيا : من معارضة قاعدة اليقين والأصل بما دلّ على التوقف .

ففيه - مضافا إلى ما ذكرنا من ضعف دلالة الأخبار على وجوب الاحتياط ، وإنّما يدلّ على وجوب التحرّز عن موارد التهلكة الدنيويّة أو الاُخرويّة ، والأخيرةُ مختصةٌ بموارد يحكم العقل بوجوب الاحتياط

-------------------

وعليه : ( فانّه ) أي : الشك في احراز الموضوع ( من أعظم المزالّ في هذا المقام ) أي : مقام الاستصحاب ، فربما يرى شخص : ان الموضوع في الماء المتغير هو : الماء بوصف التغيّر ، فاذا زال التغيّر رآه من تبدل الموضوع فلا يجري فيه استصحاب النجاسة ، ويرى شخص آخر : ان الموضوع هو الماء فقط والتغير حالة ، فاذا زال التغيّر رأى بقاء الموضوع ، فيجري فيه استصحاب النجاسة .

( وأمّا ما ذكره ) الاسترابادي ( ثانيا : من معارضة قاعدة اليقين والأصل بما دلّ على التوقف ) وانّ المحكّم هو التوقف حيث قال : وتارة بانّ استصحاب الحكم الشرعي وكذا الأصل إنّما يعمل بهما ما لم يظهر مخرج عنهما وقد ظهر ( ففيه ) ما يلي :

أولاً : ما أشار اليه بقوله : ( - مضافا إلى ما ذكرنا ) في أصل البرائة حيث تقدّم هذا المبحث هناك : ( من ضعف دلالة الأخبار ) الدالة ( على وجوب الاحتياط ) والتوقف في كل مكان مطلقا سواء كان شكا في التكليف أم شكا في المكلّف به .

( وإنّما ) نقول بضعف الدلالة ، لأن مضمون أخبار الاحتياط ( يدلّ على وجوب التحرّز عن موارد التهلكة الدنيويّة أو الاُخرويّة ، والأخيرةُ ) وهي موارد الهلكة الاُخروية ( مختصةٌ بموارد يحكم العقل بوجوب الاحتياط ) في تلك

ص: 54

من جهة القطع بثبوت العقاب إجمالاً وتردّده بين المحتملات - أنّ أخبار الاستصحاب حاكمةٌ على أدلّة الاحتياط على تقدير دلالة الأخبار عليه أيضا ، كما سيجيء في مسألة تعارض الاستصحاب مع سائر الاُصول إن شاء اللّه تعالى .

-------------------

الموارد ( من جهة القطع بثبوت العقاب إجمالاً ) وذلك فيما كان الشك في المكلّف به ( وتردّده ) أي : تردّد العقاب ( بين المحتملات - ) وهي أطراف الشبهة لا فيما كان الشك في التكليف .

وعلى أي حال : فأخبار الاحتياط إنّما تدلّ على وجوب الاحتياط في موارد الشك في المكلّف به ، لا في موارد الشك في التكليف ، وما نحن فيه من موارد الاستصحاب ، إنّما هو من الشك في التكليف لا من الشك في المكلّف به .

وفيه ثانيا : ما أشار اليه بقوله : ( أنّ أخبار الاستصحاب حاكمةٌ على أدلّة الاحتياط على تقدير دلالة الأخبار ) أي : أخبار الاحتياط ( عليه ) أي : على وجوب الاحتياط ( أيضا ) أي : إنّا إذا قلنا : بأن أخبار الاحتياط لا تدل على وجوب الاحتياط ، فلا كلام ، ولكن إذا قلنا : بأنها تدل على وجوب الاحتياط كان الاستصحاب حاكما على تلك الأخبار ، فلا مجال لاخبار الاحتياط أيضا .

وإنّما كان الاستصحاب حاكما عليها ، لأن اخبار الاحتياط تقول : بان الواجب الاحتياط في موارد الشبهة ، والاستصحاب يرفع الشبهة ، فلا يبقى للاحتياط موضوع ، فالمقام يشبه مقام اخبار الاحتياط وأدلة البينة ( كما سيجيء ) تفصيل الكلام في حكومة الاستصحاب على أدلة الاحتياط ( في مسألة تعارض الاستصحاب مع سائر الاُصول إن شاء اللّه تعالى ) .

وبذلك كلّه تبيّن : ان تفصيل الاسترابادي بعدم جريان الاستصحاب

ص: 55

ثم إنّ ما ذكره - من أنّه شبهة عجز عن جوابها الفحول - ممّا لايخفى ما فيه ، إذ أيّ اُصولي أو فقيه تعرّض لهذه الأخبار وورود هذه الشبهة فعجز عن جوابها ؟ .

مع أنّه لم يذكر في الجواب الأوّل عنها إلاّ ما اشتهر بين النافين للاستصحاب .

ولا في الجواب الثاني إلاّ ما اشتهر بين الأخباريين : من وجوب التوقف والاحتياط في الشبهة الحكميّة .

-------------------

في الأحكام الكلية وجريانه في الأحكام الجزئية فقط محل إشكال ، نقضا وحلاًّ ، فاللازم إذن القول بجريانه في الأحكام الكلية ، كجريانه في الأحكام الجزئية .

( ثم إنّ ما ذكره ) الاسترابادي : ( من أنّه شبهة عجز عن جوابها الفحول - ممّا لايخفى ما فيه ، إذ أيّ اُصولي أو فقيه تعرّض لهذه الأخبار وورود هذه الشبهة ) على هذه الأخبار ( فعجز عن جوابها ؟ ) هذا أولاً .

ثانيا : ( مع أنّه ) أي : الاسترابادي ( لم يذكر في الجواب الأوّل عنها ) أي : عن هذه الشبهة حيث قال : وقد أجبنا عنها تارة بما ملخصه ( إلاّ ما اشتهر بين النافين للاستصحاب ) فلم يأت بشيء جديد .

( ولا في الجواب الثاني ) حيث قال : وتارة بأن استصحاب الحكم الشرعي وكذا الأصل إنّما يعمل بهما ما لم يظهر مخرج عنهما وقد ظهر ( إلاّ ما اشتهر بين الأخباريين : من وجوب التوقف والاحتياط في الشبهة الحكميّة ) فلم يأت إذن بشيء جديدا إطلاقا .

ص: 56

حجّة القول السادس

على تقدير وجود القائل به ، على ما سبق من التأمّل ، تظهر مع جوابها ممّا تقدّم في القولين السابقين .

حجّة القول السابع

الذي نسبه الفاضل التوني قدس سره إلى نفسه وإن لم يلزم ممّا حقّقه في كلامه ما ذكره في كلام طويل له ،

-------------------

( حجّة القول السادس ) وهو : التفصيل بين الحكم الجزئي وغيره من الأحكام الكلية والاُمور الخارجية ، فلا يعتبر الاستصحاب في غير الأوّل ، وذلك ( على تقدير وجود القائل به ) .

وإنّما قال : على تقدير وجود القائل به لأن من المحتمل ان لا قائل يقول بهذا القول، وإنّما المنسوب اليه هذا القول يقول ببعض الأقوال المتقدمة ، وذلك ( على ما سبق من التأمّل ) في وجود القائل بهذا القول .

وكيف كان : فانّ حجّة هذا القول ( تظهر مع جوابها ممّا تقدّم في القولين السابقين ) : الرابع والخامس .

( حجّة القول السابع الذي نسبه الفاضل التوني قدس سره إلى نفسه ) وهو التفصيل بين الأحكام الوضعية يعني : نفس الأسباب والشروط والموانع ، لا السببية والشرطية والمانعية ، والأحكام التكليفية التابعة لها ، وبين غيرها من الأحكام الشرعية ، فيجري الاستصحاب في الأوّل دون الثاني .

هذا ( وإن لم يلزم ممّا حقّقه في كلامه ) أي : لم يثبت من تحقيق الفاضل التوني ( ما ذكره ) هو من التفصيل ( في كلام طويل له ) سيأتي ان شاء اللّه تعالى ، فانه

ص: 57

فانّه بعد الاشارة إلى الخلاف في المسألة قال : « ولتحقيق المقام لابدّ من إيراد كلام يتّضح به حقيقةُ الحال ، فنقول : الأحكام الشرعية تنقسم إلى ستة أقسام :

الأوّل والثاني : الأحكامُ الاقتضائية المطلوب فيها الفعل وهي الواجب والمندوب .

-------------------

لم يلزم منه هذا التفصيل وذلك حسب ما أوضحه الأوثق بقوله :

« ان ما ذكره عند التحقيق من التفصيل بين الأحكام التكليفية والوضعية ، وبين متعلقات الأحكام الوضعية من السبب والشرط والمانع ، ليس بالتفصيل ، بل قول باعتبار الاستصحاب مطلقا ، لأنه إنّما منعه في الموارد التي منعه فيها لزعمه عموم دليل الحالة السابقة للحالة اللاحقة ، لا من جهة عدم اعتبار الاستصحاب من حيث هو ، وهذا ليس قولاً بالتفصيل ، لأنه إنّما يتحقق مع قوله بعدم اعتباره في بعض الموارد مع فرض كونه موردا له كما هو واضح (1) ، انتهى كلام الأوثق .

وكيف كان : ( فانّه ) أي : الفاضل التوني ( بعد الاشارة إلى الخلاف في المسألة ) أي : في مسألة الاستصحاب ، وانه هل يجري الاستصحاب أو لا يجري ، أو يفصّل بين بعض أقسامه فيجري ، وبين بعض أقسامه الاُخر فلا يجري ؟ ( قال : « ولتحقيق المقام لابدّ من إيراد كلام يتّضح به حقيقةُ الحال ) في الاستصحاب ( فنقول : الأحكام الشرعية تنقسم إلى ستة أقسام ) كالتالي :

( الأوّل والثاني : الأحكامُ الاقتضائية المطلوب فيها الفعل وهي الواجب ) مع المنع من النقيض ( والمندوب ) بدون المنع من النقيض .

ص: 58


1- - أوثق الوسائل : ص474 القول بعدم حجيّة الاستصحاب في الامور الخارجية « بتصرّف » .

والثالث والرابع : الأحكام الاقتضائية المطلوب فيها الترك وهو الحرام والمكروه .

والخامس : الأحكام التخييرية الدالّة على الاباحة .

والسادس : الأحكام الوضعية ، كالحكم على الشيء بأنّه سببٌ لأمر أو شرطٌ له أو مانعٌ له . والمضايقة بمنع أنّ الخطاب الوضعي داخل في الحكم الشرعي ممّا لا يضرّ فيما نحن بصدده .

إذا عرفت هذا ، فاذا ورد أمرٌ بطلب شيء، فلا يخلو إمّا أن يكون موقتا أم لا .

-------------------

( والثالث والرابع : الأحكام الاقتضائية المطلوب فيها الترك وهو الحرام ) مع المنع من النقيض ( والمكروه ) بدون المنع من النقيض .

( والخامس : الأحكام التخييرية الدالّة على الاباحة ) وذلك فيما يخيّر الشارع فيه المكلّف بين فعل الشيء وتركه من دون ترجيح أحدهما على الآخر .

( والسادس : الأحكام الوضعية ، كالحكم على الشيء بأنّه سببٌ لأمر ) مثل سببيّة الاتلاف للضمان ( أو شرطٌ له ) كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ( أو مانعٌ له ) كالحدث بالنسبة إلى الصلاة .

هذا ( والمضايقة بمنع أنّ الخطاب الوضعي داخل في الحكم الشرعي ، ممّا لا يضرّ فيما نحن بصدده ) لأنه ان لم يكن وضع كان تكليف ، فيدخل في الأحكام الخمسة ، فلا يضر على ذلك ان يقول شخص : ان الحكم الوضعي ليس بحكم مستقل في مقابل الأحكام الخمسة .

( إذا عرفت هذا ، فاذا ورد أمرٌ بطلب شيء ، فلا يخلو إمّا أن يكون موقتا ، أم لا ) أي : ليس بموقّت فالموقّت مثل : الصلوات اليومية ، وغير الموقّت مثل : صلة الرحم ، وحرمة شرب الخمر .

ص: 59

وعلى الأوّل يكون وجوب ذلك الشيء أو ندبه في كلّ جزء من أجزاء الوقت ثابتا بذلك الأمر .

فالتمسّك في ثبوت ذلك الحكم في الزمان الثاني بالنصّ ، لا بالثبوت في الزمان الأوّل حتى يكون إستصحابا ، وهو ظاهر .

وعلى الثاني أيضا كذلك إن قلنا بافادة الأمر التكرار ، وإلاّ فذمّة المكلّف مشغولة حتى يأتي به في أي زمان كان ، ونسبةُ أجزاء الزمان اليه نسبةٌ واحدة في كونه أداءً في كل جزء منها ، سواء قلنا بأنّ الأمر للفور أم لا .

-------------------

( وعلى الأوّل ) وهو الموقت : ( يكون وجوب ذلك الشيء أو ندبه في كلّ جزء من أجزاء الوقت ثابتا بذلك الأمر ) فان وجوب الظهرين - مثلاً - من أول الظهر إلى الغروب مستمر ، وكذلك استحباب نوافل الظهرين - مثلاً - من أول الظهر إلى الغروب باستثناء قدر الصلاتين مستمر أيضا .

وعليه : فاذا كان الموقت هو كذلك ( فالتمسّك في ثبوت ذلك الحكم في الزمان الثاني ) من أجزاء الوقت إنّما هو ( بالنصّ ، لا بالثبوت في الزمان الأوّل حتى يكون إستصحابا ، وهو ظاهر ) ولا غبار عليه .

( وعلى الثاني ) : وهو غير الموقت مثل صلاة الزلزلة ، فهو ( أيضا كذلك ) أي : لا يكون من الاستصحاب في شيء ( إن قلنا بافادة الأمر التكرار ) لأن الواجب - مثلاً - ثابت في كل جزء جزء من الوقت ، فليس هو من استصحاب الحالة السابقة إلى الحالة اللاحقة ( وإلاّ ) أي : بأن لم نقل ان الأمر يفيد التكرار ( فذمّة المكلّف مشغولة حتى يأتي به في أي زمان كان ) لفرض ان الأمر مطلق يشمل كل الأزمنة .

( و ) من المعلوم : ان ( نسبة أجزاء الزمان اليه ) أي : إلى غير الموقت ( نسبةٌ واحدة في كونه أداءً في كل جزء منها ، سواء قلنا بأنّ الأمر للفور أم لا ) فاذا عصى

ص: 60

والتوهّم : بأنّ الأمر إذا كان للفور يكون من قبيل الموقّت المضيّق ، اشتباهٌ غير خفيّ على المتأمّل . فهذا أيضا ليس من الاستصحاب في شيء .

ولا يمكن أن يقال : إثبات الحكم في القسم الأوّل فيما بعد وقته من الاستصحاب فانّ هذا لم يقل به أحد ولا يجوز إجماعا وكذا الكلام في النهي بل هو الاُولى بعدم توهّم الاستصحاب فيه ،

-------------------

-

مثلاً - ولم يصلّ صلاة الزلزلة في الآن الأوّل من حدوثها ، كان مأمورا بها في الآن الثاني والثالث وهكذا ، سواء قلنا بأن الأمر للفور كما قيل في صلاة الزلزلة من ان الأمر بها فور ففور أم لا ، وهذا ليس من الاستصحاب في شيء .

( والتوهّم : بأنّ الأمر إذا كان للفور يكون من قبيل الموقّت المضيّق ) فيكون في الحالة الثانية من الاستصحاب ( اشتباهٌ غير خفيّ على المتأمّل ) لأنه إنّما يكون من قبيل الموقّت إذا كان على نحو تعدّد المطلوب ، لا على نحو اتحاد المطلوب .

وعليه : ( فهذا ) أي : القسم الثاني وهو غير الموقت إنّما هو ( أيضا ) أي : كالقسم الأوّل وهو الموقت ( ليس من الاستصحاب في شيء ) لأن نفس الدليل يشمل جميع أجزاء الزمان .

هذا ( ولا يمكن أن يقال : إثبات الحكم في القسم الأوّل ) وهو الموقّت ( فيما بعد وقته من الاستصحاب ) لوضوح بطلانه ( فانّ هذا لم يقل به أحد ولا يجوز إجماعا ) إذ ليس من الصحيح استصحاب الوجوب - مثلاً - إلى ما بعد الوقت ، لفرض انه موقّت ، فاذا انتهى الوقت انتهى هو أيضا .

( وكذا الكلام في النهي ) فان النهي كالأمر إذا تعلق بشيء فهو أيضا بين موقت ومطلق ، وفي كليهما لا يجري الاستصحاب ( بل هو ) أي : النهي يكون ( الاُولى بعدم توهّم الاستصحاب فيه ) .

ص: 61

لأنّ مطلقه يفيد التكرار ، والتخييري أيضا كذلك .

فالأحكام التكليفية الخمسة المجرّدة عن الأحكام الوضعيّة لا يتصوّر فيها الاستدلال بالاستصحاب .

وأمّا الأحكام الوضعية ، فاذا جعل الشارع شيئا سببا لحكم من الأحكام الخمسة - كالدلوك لوجوب الظهر ،

-------------------

وإنّما يكون هو الأولى من الأمر بعدم هذا التوهّم ( لأنّ مطلقه ) أي : مطلق النهي ( يفيد التكرار ) فاذا قال : لا تشرب الخمر كان معناه : لا تشرب الخمر في أيّة ساعة ، ففي الساعة الثانية لا نحتاج إلى استصحاب الحرمة ، بل الدليل بنفسه يدلّ على الحرمة .

هذا بالنسبة إلى الأقسام الأربعة من الأحكام التكليفية ( والتخييري أيضا كذلك ) أي : ان الحكم التخييري الدال على الاباحة وهو القسم الخامس من الأحكام على ما ذكره الفاضل التوني هو أيضا كالأحكام الأربعة التكليفية ، لا يجري فيه الاستصحاب ، لا في موقّته ولا في مطلقة .

إذن : ( فالأحكام التكليفية الخمسة المجرّدة عن الأحكام الوضعيّة ) لا الأحكام التكليفية التابعة للأحكام الوضعية ( لا يتصوّر فيها الاستدلال بالاستصحاب ) رأسا ، فلا مجال للاستصحاب في الأحكام التكليفية إطلاقا ، لا في موقّتها ولا في مطلقها .

( وأمّا الأحكام الوضعية ) التي جعلها الفاضل المذكور سادس الأقسام فقد أشار إليها بقوله : ( فاذا جعل الشارع شيئا سببا لحكم من الأحكام الخمسة كالدلوك لوجوب الظهر ) حيث قال سبحانه: « أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق

ص: 62

والكسوف لوجوب صلاته ، والزلزلة لصلاتها ، والايجاب والقبول لاباحة التصرّفات والاستمتاعات في الملك والنكاح ، وفيه لتحريم أمّ الزوجة ، والحيض والنفاس لتحريم الصوم والصلاة ، إلى غير ذلك - فينبغي أن يُنظَر إلى كيفيّة سببيّة السبب : هل هي على الاطلاق ، كما في الايجاب والقبول ، فانّ سببيّته على نحو خاص ، وهو الدوام إلى أن يتحقق المزيل ،

-------------------

الليل » (1) ( والكسوف لوجوب صلاته ) أي : سببا لوجوب صلاة الكسوف .

( والزلزلة لصلاتها ) أي : سببا لوجوب صلاة الزلزلة .

( والايجاب والقبول لاباحة التصرّفات ) بالنسبة إلى كل واحد مما انتقل اليه المال أو الثمن ( والاستمتاعات في الملك والنكاح ) وهذا من باب اللف والنشر المرتّب .

( و ) الايجاب والقبول ( فيه ) أي : في النكاح ( لتحريم أمّ الزوجة ) وسائر المحرمات بسبب المصاهرة .

( والحيض والنفاس ) اللذان هما سبب ( لتحريم الصوم والصلاة ، إلى غير ذلك ) من الأسباب المجعولة شرعا للمسبّبات العبادية أو المعاملية .

وعليه : ( فينبغي أن يُنظَر إلى كيفيّة سببيّة السبب : هل هي على الاطلاق ) حتى إذا حصل السبب حصل المسبب إلى الأبد ، وذلك ( كما في الايجاب والقبول ، فانّ سببيّته على نحو خاص ، وهو الدوام إلى أن يتحقق المزيل ) فاذا تحقق البيع - مثلاً - صارت البضاعة ملكا للمشتري ، إلى ان يتحقق المزيل لملكه لها ببيع أو هبة أو ما أشبه ذلك .

ص: 63


1- - سورة الاسراء : الآية 78 .

وكذا الزلزلة ، أو في وقت معيّن ، كالدلوك ونحوه ممّا لم يكن السببُ وقتا ، وكالكسوف والحيض ونحوهما ممّا يكون السببُ وقتا للحكم ، فانّ السببيّة في هذه الأشياء على نحو آخر ، فانّها أسبابٌ للحكم في أوقات معيّنة ، وجميعُ ذلك ليس من الاستصحاب في شيء ،

-------------------

( وكذا الزلزلة ) التي هي سبب لصلاة الآيات على الدوام حيث قد ذكر الفقهاء ان صلاة الآيات تجب فورا ففورا .

( أو ) سببية السبب هي ( في وقت معيّن كالدلوك ) فانه سبب لوجوب صلاتي الظهر والعصر ( ونحوه ) أي : نحو الدلوك كالفجر سببا لوجوب صلاة الصبح ( ممّا لم يكن السببُ وقتا ) فان الدلوك سبب لوجوب الظهر والعصر وليس وقتا لهما ، وإنّما وقت هاتين الصلاتين ما بين الدلوك إلى المغرب .

( وكالكسوف والحيض ونحوهما ممّا يكون السببُ وقتا للحكم ) فان الكسوف سبب لوجوب الصلاة ، والحيض سبب لترك الصوم والصلاة ونحو ذلك ، مع ان كل واحد وقت للواجب ، فالكسوف وقت لصلاة الآيات والحيض وقت لترك الصوم والصلاة - مثلاً - .

وعليه : ( فانّ السببيّة في هذه الأشياء ) من الدلوك والكسوف والحيض ونحوها ( على نحو آخر ) غير النحو الأوّل الذي كان السبب فيه سببا دائما مثل : سببيّة العقد للملك الدائم ، وسببيّة الزلزلة لصلاة الآيات فورا ففورا وغير ذلك .

إذن : ( فانّها ) أي : الأسباب الخاصة المذكورة : من الدلوك ونحوها ( أسبابٌ للحكم في أوقات معيّنة ) والأوقات المعيّنة هي أوقات لمتعلق الحكم ، فان الحكم هو الوجوب ، ومتعلق الحكم هي الصلاة - مثلاً - ( وجميعُ ذلك ) الذي ذكرناه من الأسباب ( ليس من الاستصحاب في شيء ) .

ص: 64

فانّ ثبوت الحكم في شيء من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم ليسَ تابعا للثبوت في جزء آخر ، بل نسبةُ السبب في محلّ اقتضاء الحكم في كلّ جزء نسبةٌ واحدة ، وكذلك الكلام في الشرط والمانع .

فظهر ممّا ذكرناه : أنّ الاستصحاب المختلف فيها لا يكون إلاّ في الأحكام الوضعيّة ، أعني : الأسباب والشرائط والموانع

-------------------

وإنّما لم يكن من الاستصحاب في شيء ، لأنه كما قال : ( فانّ ثبوت الحكم في شيء من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم ، ليس تابعا للثبوت في جزء آخر ) قبله حتى نسحب الحكم من الجزء السابق إلى الجزء اللاحق ، فيكون استصحابا ( بل نسبةُ السبب في محلّ اقتضاء الحكم في كلّ جزء نسبة واحدة ) فالسبب بنفسه يشمل الجميع من دون حاجة إلى الاستصحاب .

( وكذلك الكلام في الشرط والمانع ) فكما لا يستصحب في السبب ، فكذلك لا يستصحب في الشرط والمانع ، لأن أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم بسبب الشرط، أو الفاقد فيه الحكم بسبب المانع ، ليست تابعةً للثبوت أو عدم الثبوت في جزء سابق من الزمان ، بل دليل الشرط والمانع يشمل كل الأزمنة .

إذن : ( فظهر ممّا ذكرناه : أنّ الاستصحاب المختلف فيها ) وتأنيث الضمير باعتبار قاعدة الاستصحاب ( لا يكون إلاّ في الأحكام الوضعيّة ) لا الأحكام التكليفية ( أعني : الأسباب والشرائط والموانع ) وما أشبهها .

وحيث إنّ المصنِّف يستشكل على هذا الظهور فيما يأتي من قوله: ولا يخفى ما في هذا التفريع ، نؤجل المناقشة فيه إلى ما يأتي ان شاء اللّه تعالى ، فلا حاجة هنا إلى التفصيل في كلام الفاضل التوني وانه كيف ظهر من كلامه السابق ما فرّعه عليه ؟ .

ص: 65

للأحكام الخمسة من حيث أنّها كذلك ، ووقوعه في الأحكام الخمسة إنّما هو بتبعيّتها .

وكما يقال في الماء الكرّ المتغيّر بالنجاسة إذا زال تغيّره من قبل نفسه ، فانّه يجب الاجتناب عنه في الصلاة ، لوجوبه قبل زوال تغيّره ، فانّ مرجعه إلى أنّ النجاسة كانت ثابتة قبل زوال تغيّره ، فكذلك يكون بعده .

-------------------

وكيف كان : فالاستصحاب المختلف فيه إنّما هو في الأحكام الوضعية المستتبعة ( للأحكام الخمسة ) التكليفية ( من حيث أنّها كذلك ) أي : أحكاما وضعية ( ووقوعه ) أي : وقوع الاستصحاب ( في الأحكام الخمسة إنّما هو بتبعيّتها ) أي : بتبعيّة الأحكام التكليفية للأحكام الوضعية ، فالاستصحاب أولاً وبالذات يقع في الأحكام الوضعية ، وبتبع الأحكام الوضعية يقع في الأحكام التكليفية .

( وكما يقال في الماء الكرّ المتغيّر بالنجاسة إذا زال تغيّره من قبل نفسه ) وذلك عند الشك في انه هل بقي على النجاسة أو صار طاهرا بزوال التغير ؟ ( فانّه يجب الاجتناب عنه في الصلاة ) فلا يجوز للمكلف أن يصلّي والحال ان ثوبه أو بدنه قد لاقى هذا الماء المتغيّر بالنجاسة بعد زوال تغيره .

وإنّما يجب الاجتناب عنه في الصلاة ( لوجوبه ) أي : وجوب الاجتناب ( قبل زوال تغيّره ) أي : تغيّر الماء ، فكما انه لا تصح الصلاة ببدن أو ثوب لاقى هذا الماء المتغيّر بالنجاسة في وقت تغيّره ، كذلك لا تجوز الصلاة ببدن أو ثوب لاقى هذا الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره .

وعليه : ( فانّ مرجعه ) أي مرجع هذا الاستصحاب ( إلى أنّ النجاسة كانت ثابتة قبل زوال تغيّره ، فكذلك يكون بعده ) أي : بعد زوال تغيّره ، فالحكم التكليفي

ص: 66

ويقال في المتيمّم : إذا وجد الماء في أثناء الصلاة : إنّ صلاته كانت صحيحة قبل الوجدان . فكذا بعده أي : كان مكلّفا ومأمورا بالصلاة بتيمّمه قبله ، فكذا بعده ، فانّ مرجعه إلى أنّه كان متطهّرا قبل وجدان الماء ، فكذا بعده ، والطهارة من الشروط .

فالحقُّ مع قطع النظر عن الروايات

-------------------

وهو وجوب الاجتناب يستصحب فيه ، باعتبار ان هذا الحكم الذي هو الوجوب تابع للحكم الوضعي الذي هو النجاسة .

( و ) كما ( يقال في المتيمّم : إذا وجد الماء في أثناء الصلاة ) وذلك عند الشك في انه هل بطل تيممه حتى تبطل صلاته ، أو لم يبطل تيممه حتى يمضي في صلاته ؟ فيقال : ( إنّ صلاته كانت صحيحة قبل الوجدان ) للماء ( فكذا بعده ) أي: بعد الوجدان له ( أي : كان مكلّفا ومأمورا بالصلاة بتيمّمه قبله ، فكذا بعده ) .

وعليه : ( فانّ مرجعه ) أي : مرجع هذا الاستصحاب التكليفي أولاً وبالذات إلى الحكم الوضعي ، وبتبع الحكم الوضعي يجري الاستصحاب في الحكم التكليفي .

وبعبارة اُخرى : ان مرجع هذا الاستصحاب ( إلى أنّه كان متطهرا قبل وجدان الماء، فكذا بعده ، و ) من المعلوم : ان ( الطهارة ) من الحدث في الصلاة ( من الشروط ) وهو حكم وضعي ، كما ان النجاسة في الماء المتغير من الموانع وهو حكم وضعي ، وبتبع هذا الحكم الوضعي الذي هو التطهر يجب المضي في الصلاة الذي هو حكم تكليفي .

وعلى ما ذكرناه : من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية إلاّ تبعا للأحكام الوضعية نقول : ( فالحقُّ مع قطع النظر عن الروايات ) الدالة على حجية

ص: 67

عدمُ حجيّة الاستصحاب ، لأنّ العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت لا يقتضي العلم بل ولا الظنّ بوجوده في غير ذلك الوقت ، كما لا يخفى ، فكيف يكون الحكم المعلّق عليه ثابتا في غير ذلك الوقت ؟ .

فالذي يقتضيه النظرُ دون ملاحظة الروايات : أنّه إذا علم تحقّق العلامة الوضعيّة تعلّق الحكم بالمكلّف ، وإذا زال ذلك العلم بطروّ الشك يتوقف عن الحكم بثبوت ذلك الحكم الثابت أولاً ، إلاّ أنّ الظاهر

-------------------

الاستصحاب ( عدمُ حجيّة الاستصحاب ) وذلك ( لأنّ العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت ، لا يقتضي العلم ، بل ولا الظنّ بوجوده في غير ذلك الوقت ، كما لا يخفى ) على أحد .

وعليه : فاذا لم يجر الاستصحاب في الأحكام الوضعية من السبب والشرط والمانع ( فكيف يكون الحكم المعلّق عليه ) من الأحكام الخمسة المعلقة على شرط أو سبب أو مانع ( ثابتا في غير ذلك الوقت ؟ ) فانه إذا لم يجر الاستصحاب في الأصل الذي هو الحكم الوضعي ، لا يجري في الفرع الذي هو الحكم التكليفي بطريق أولى .

إذن : ( فالذي يقتضيه النظرُ دون ملاحظة الروايات : أنّه إذا علم تحقّق العلامة الوضعيّة ) من سبب أو شرط أو مانع ( تعلّق الحكم بالمكلّف ) لأن الحكم التكليفي تابع للحكم الوضعي على ما عرفت ( وإذا زال ذلك العلم ) بالحكم الوضعي زوالاً ( بطروّ الشك ) فيه ، فانه حينئذ ( يتوقف عن الحكم بثبوت ذلك الحكم الثابت أولاً ) ولا يجري فيه الاستصحاب .

هذا ما يقتضيه النظر بالنسبة إلى القاعدة الأولية في الاستصحاب .

وامّا ما يقتضيه النظر مع ملاحظة الروايات ، فكما قال : ( إلاّ أنّ الظاهر

ص: 68

من الأخبار : أنّه إذا عُلِمَ وجود شيء ، فانّه يُحكَمُ به حتى يعلم زواله » ، انتهى كلامه رفع مقامه .

وفي كلامه أنظار يتوقّف بيانها على ذِكر كلّ فقرة هي مورد للنظر ، ثم توضيح النظر فيه بما يخطر في الذهن القاصر ، فنقول :

قوله أوّلاً : « والمضايقة بمنع أنّ الخطاب الوضعي، داخل في الحكم الشرعي ، لا يضرُّ فيما نحن بصدده » .

فيه :

-------------------

من الأخبار : أنّه إذا علم وجود شيء ، فانّه يُحكَمُ به حتى يعلم زواله » (1) ، انتهى كلامه رفع مقامه ) .

ولا يخفى : انا فسرنا كلامه ؛ حسب ظاهره مع قطع النظر عن إشكالات المصنِّف عليه كما سيأتي ان شاء اللّه تعالى .

قال المصنِّف : ( وفي كلامه أنظار ) أي : اشكالات ( يتوقّف بيانها ) أي : بيان تلك الانظار ( على ذِكر كلّ فقرة هي مورد للنظر ، ثم توضيح النظر فيه بما يخطر في الذهن القاصر ) حتى يتبيّن ان كلامه مضافا إلى انه لا يفيد التفصيل في مسألة الاستصحاب ، محل نظر في نفسه أيضا .

( فنقول : ) ان من موارد النظر ( قوله أوّلاً : « والمضايقة بمنع أنّ الخطاب الوضعي، داخل في الحكم الشرعي ، لا يضرُّ فيما نحن بصدده » ) هذا الكلام من الفاضل التوني ( فيه ) أي : يرد عليه : ان هذه المضايقة تضرّ بالتفصيل الذي هو بصدده ، وحاصل هذا الايراد على ما بيّنه الأوثق بتوضيح منّا هو ما يلي :

إن صدر كلام الفاضل التوني وذيله مختلفان في المؤدى ، فمقتضى صدره :

ص: 69


1- - الوافية : مخطوط .

أنّ المنع المذكور لا يضرّ فيما يلزم من تحقيقه الذي ذكره ، وهو : اعتبار الاستصحاب في موضوعات الأحكام الوضعية ، أعني : نفس السبب والشرط والمانع ، لا في التفصيل بين الأحكام الوضعية ، أعني : سببيّة السبب ، وشرطيّة الشرط والأحكام التكليفية .

-------------------

كونه مفصّلاً بين الأحكام الوضعية وغيرها بتسليم صحة الاستصحاب في الاُولى دون غيرها ، ومقتضى ذيله : كونه مفصّلاً بين متعلّقات الأحكام الوضعية أعني : الأسباب والشروط والموانع ، فان الوضوء شرط والحدث مانع .

وعليه : فالوضوء والحدث متعلق الحكم الوضعي ، إذ الحكم الوضعي هو شرط ومانع وما أشبه ذلك ، وبين مطلق الأحكام وغير الأحكام ، بالتسليم للاستصحاب في الاُولى دون غيرها .

هذا ومنع اضرار عدم دخول خطاب الوضع في الحكم الشرعي إنّما يسلم على الثاني الذي هو مقتضى ذيل كلامه ، دون الأوّل الذي هو مقتضى صدر كلامه ، وذلك كما قال :

( أنّ المنع المذكور ) أي : منع كون الخطاب الوضعي داخلاً في الحكم الشرعي إنّما ( لا يضرّ فيما يلزم من تحقيقه الذي ذكره ) الفاضل التوني في ذيل كلامه .

( وهو : اعتبار الاستصحاب في موضوعات الأحكام الوضعية أعني : نفس السبب والشرط والمانع ) .

وأمّا التفصيل الذي ذكره في صدر كلامه فانه يضرّه المنع المذكور ، وذلك كما قال : ( لا في التفصيل بين الأحكام الوضعية أعني : سببيّة السبب ، وشرطيّة الشرط ) ومانعية المانع ، وجزئية الجزء وما أشبه ذلك ( و ) بين ( الأحكام التكليفية ) فان المنع المذكور يضره .

ص: 70

وكيف لا يضرّ في هذا التفصيل منع كون الحكم الوضعي حكما مستقلاً ؟ وتسليم ، وتسليم أنّه أمر اعتباري منتزع من التكليف تابع له حدوثا وبقاءً ؟ .

وهل يعقل التفصيل مع هذا المنع ؟ .

-------------------

ولا يخفى : ان هناك شرطية الشرط ، وسببية السبب ، ومانعية المانع - مثلاً - وهناك ذات الشرط ، وذات السبب ، وذات المانع - مثلاً - فذات الشرط هو الوضوء ، وشرطية الشرط يعني : وصف الشرط وهو الشرطية ، بمعنى : كون الصلاة مشروطة بالوضوء ، وهكذا بالنسبة إلى سائر الأمثلة من الأحكام الوضعية والمنع لا يضر لو أراد ذات السبب ، ويضر لو أراد سببية السبب ، كما قال :

( وكيف لا يضرّ في هذا التفصيل منع كون الحكم الوضعي حكما مستقلاً ؟ وتسليم ) وهذا عطف على منع يعني : وكيف لا يضر بالتفصيل ( وتسليم أنّه أمر اعتباري منتزع من التكليف تابع له ) أي : للتكليف ( حدوثا وبقاءً ؟ ) بحيث كلما حدث الحكم التكليفي حدث تبعا له الحكم الوضعي ، وكلما بقي الحكم التكليفي بقي تبعا له الحكم الوضعي ؟ .

( و ) عليه : فانه ( هل يعقل التفصيل مع هذا المنع ؟ ) الذي صرّح به الفاضل التوني بقوله : ولا نضايق بمنع ان الخطاب الوضعي داخل في الحكم الشرعي ؟ .

وإنّما لا يعقل التفصيل معه لأنه إذا كان الوضع داخلاً في التكليف لا يمكن التفصيل بين الوضع والتكليف ، وذلك لأنه كلّما كان تكليف كان الوضع ، وكلما لم يكن تكليف لم يكن وضع ، فانه يكون من قبيل التفصيل بين الأعداد التي هي زوج وبين الزوجية ، مع وضوح : ان الزوجية لا تكون إلاّ تابعة للأعداد التي هي زوج .

ص: 71

ثم إنّه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان أنّ الحكم الوضعي حكم مستقل مجعول كما اشتهر في ألسنة جماعة ، أو لا ، وإنّما مرجعه إلى الحكم التكليفي ، فنقول :

المشهور كما في شرح الزبدة ، بل الذي استقرّ عليه رأي المحققين ، كما في شرح الوافية للسيد صدر الدين : أنّ الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي وأنّ كون الشيء سببا لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشيء . فمعنى قولنا : « إتلاف الصبي سببٌ لضمانه » : أنّه يجب عليه غرامة المثل والقيمة إذا اجتمع فيه شرائط التكليف : من البلوغ والعقل واليسار وغيرها .

-------------------

( ثم إنّه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان أنّ الحكم الوضعي حكم مستقل مجعول ) بجعل الشارع ( كما اشتهر في ألسنة جماعة ، أو لا ، وإنّما مرجعه إلى الحكم التكليفي ) فليس للشارع حكمان : حكم وضعي ، وحكم تكليفي ، وإنّما له حكم تكليفي يتبعه الوضع في بعض الأماكن ؟ .

( فنقول : المشهور كما في شرح الزبدة ) للفاضل الجواد ( بل الذي استقرّ عليه رأي المحققين ، كما في شرح الوافية للسيد صدر الدين : أنّ الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي ) التكليفي ( وأنّ كون الشيء سببا لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشيء ) فهناك حكم تكليفي فقط يتبعه الوضع .

إذن : ( فمعنى قولنا : « إتلاف الصبي سببٌ لضمانه » : أنّه يجب عليه غرامة المثل والقيمة إذا اجتمع فيه شرائط التكليف : من البلوغ والعقل واليسار وغيرها ) كالقدرة - مثلاً - إذ لا تكليف بغير المقدور ، وذلك كما إذا كان بعيدا لا يتمكن

ص: 72

فاذا خاطب الشارع البالغَ العاقلَ الموسِرَ بقوله : « أغرم ما أتلفتَه في حال صِغَرك » ، اُنْتُزِعَ من هذا الخطاب معنى يعبّر عنه : بسببيّة الاتلاف للضمان ، ويقال : إنّه ضامن ، بمعنى : أنّه يجب عليه الغرامة عند اجتماع شرائط التكليف ، ولم يدّع أحدٌ إرجاع الحكم الوضعي إلى التكليف المنجّز حال استناد الحكم الوضعي إلى الشخص ، حتى يدفع ذلك ، بما ذكره بعض من غفل عن مراد النافين ، من أنّه قد يتحقق الحكمُ الوضعي في مورد غير قابل للحكم التكليفي ، كالصبي والنائم وشبههما .

-------------------

من الوصول إلى المالك .

وعليه : ( فاذا خاطب الشارع البالغ العاقل الموسِرَ ) القادر ( بقوله : « أغرم ما أتلفته في حال صِغَرك » ) الذي هو حكم تكليفي ( اُنْتُزِعَ من هذا الخطاب معنى يعبّر عنه : بسببيّة الاتلاف للضمان ) الذي هو الحكم الوضعي ( ويقال : إنّه ضامن، بمعنى : أنّه يجب عليه الغرامة عند اجتماع شرائط التكليف ) لا بمعنى : انه مكلف في حال الصغر بذلك .

هذا ( ولم يدّع أحدٌ إرجاع الحكم الوضعي إلى التكليف المنجّز ) تنجيزا ( حال استناد الحكم الوضعي إلى الشخص ) فليس معناه : ان الصبي ضامن الآن ( حتى يدفع ذلك ، بما ذكره بعض من غفل عن مراد النافين ) للحكم الوضعي : ( من أنّه قد يتحقق الحكمُ الوضعي في مورد غير قابل للحكم التكليفي كالصبي والنائم وشبههما ) كالمجنون - مثلاً - .

والحاصل : انه لا يقال : ان الحكم الوضعي لو كان تابعا للحكم التكليفي لزم تكليف الصبي بالغرامة ، لأنه على الصبي الوضع ، فاذا كان على الصبي الوضع ولم يكن عليه التكليف تبيّن ان الوضع غير التكليف .

ص: 73

وكذا الكلام في غير السبب فانّ شرطية الطهارة للصلاة ، ليست مجعولة بجعلٍ مغاير لانشاء وجوب الصلاة الواقعة حال الطهارة .

وكذا مانعيّة النجاسة ليست إلاّ منتزعة من المنع عن الصلاة في النجس ، وكذا الجزئية منتزعة من الأمر بالمركب .

-------------------

لأنه يقال : ان الصبي عليه التكليف إذا بلغ ، ومن هذا التكليف المستقبلي ينتزع الوضع الحالي ، كما انه ينتزع المشروطية الفعلية من الشرط المتأخر ، فيقال ، مثلاً :

صحة الايجاب مشروط بالقبول المتأخّر عن الايجاب ، وصحة الصيام بالنسبة للمستحاضة مشروط بالغسل بعد دخول الليل ، إلى غير ذلك .

إذن : فالانتزاع يمكن أن يكون من الأمر السابق ، ويمكن ان يكون من الأمر المقارن ، ويمكن ان يكون من الأمر اللاحق على ما بيّنوه في مسألة الشرط المتأخّر .

( وكذا الكلام في غير السبب ) كالشرط - مثلاً - ( فانّ شرطية الطهارة للصلاة ، ليست مجعولة بجعلٍ مغاير لانشاء وجوب الصلاة الواقعة حال الطهارة ) فان الشارع قال : تجب الصلاة حال الطهارة ، ومن هذا الحكم التكليفي انتزع الحكم الوضعي الذي هو عبارة عن شرطية الطهارة للصلاة .

( وكذا مانعيّة النجاسة ) إذا كانت في بدن المصلي أو ثوبه فانها ( ليست إلاّ منتزعة من المنع عن الصلاة في النجس ) وذلك حيث قال الشارع : لا تصلّ في النجس ، فانتزع من هذا الحكم التكليفي مانعيّة النجاسة .

( وكذا الجزئية منتزعة من الأمر بالمركب ) فاذا قال الشارع : صلّ صلاة أولها التكبير وآخرها التسليم ، انتزع من هذا الأمر جزئية التكبير ، والتسليم ، وغيرهما من أجزاء الصلاة .

ص: 74

والعجبُ ممّن ادّعى بداهة بطلان ما ذكرنا مع ما عرفت : من أنّه المشهور والذي استقرّ عليه رأي المحقّقين ، فقال قدس سره في شرحه على الوافية ، تعريضا على السيّد الصدر : وأمّا من زعم أنّ الحكم الوضعي عينُ الحكم التكليفي ، على ما هو ظاهر قولهم : « إنّ كون الشيء سببا لواجب هو الحكم بوجوب الواجب عند حصول ذلك الشيء » ، فبطلانه غني عن البيان ، إذ الفرق بين الوضع والتكليف مما لا يخفى على من له أدنى مُسكة ، والتكاليف المبنيّة على الوضع غير الوضع .

والكلام إنّما هو في نفس الوضع والجعل والتقرير .

-------------------

هذا ( والعجبُ ممّن ادّعى بداهة بطلان ما ذكرنا ) وهو المحقق الكاظمي ، فانه ادّعى بداهة بطلان كون الأحكام الوضعية تابعة للأحكام التكليفية ، وذلك ( مع ما عرفت : من أنّه المشهور والذي استقرّ عليه رأي المحقّقين ) فان ادعاءه هذا مثار للتعجب ، لأنه كيف يذهب المشهور والمحققون إلى ما هو بديهي البطلان طبعا مع قطع النظر عن الاشكال الوارد على كلام هذا المحقق ؟ .

( فقال قدس سره في شرحه على الوافية تعريضا على السيّد الصدر ) الذي يرى الأحكام الوضعية تابعة للأحكام التكليفية : ( وأمّا من زعم أنّ الحكم الوضعي عينُ الحكم التكليفي ، على ما هو ظاهر قولهم : « إنّ كون الشيء سببا لواجب هو الحكم بوجوب الواجب عند حصول ذلك الشيء » ) وكذلك بالنسبة إلى الشرط والمانع والجزء وغيرها ( فبطلانه غني عن البيان ) .

وإنّما يكون واضح البطلان ( إذ الفرق بين الوضع والتكليف مما لا يخفى على من له أدنى مُسكة ) في عقله ( و ) ذلك لأن ( التكاليف المبنيّة على الوضع غير الوضع ) فهما أمران : تكليف ووضع ( والكلام إنّما هو في نفس الوضع والجعل والتقرير )

ص: 75

وبالجملة : فقول الشارع : « دلوك الشمس سببٌ لوجوب الصلاة ، والحيض مانع منها » ، خطاب وضعي وإن استتبع تكليفا وهو ايجاب الصلاة عند الزوال ، وتحريمها عند الحيض كما أنّ قوله تعالى : « أقِم الصلاة لِدُلوك الشمس » و - قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم - : « دَعي الصلاة أيام اقرائِك » خطاب تكليفي ، وإن استتبع وضعا، وهو كون الدلوك سببا والاقراء مانعا .

والحاصل : أنّ هناك أمرين متباينين ، كلّ منهما فردٌ للحكم ، فلا يغني استتباعُ أحدهما للآخر عن مراعاته واحتسابه في عداد الأحكام » ،

-------------------

لا في التكاليف المبنيّة عليها .

( وبالجملة : فقول الشارع : « دلوك الشمس سببٌ لوجوب الصلاة ، والحيض مانع منها » ، خطاب وضعي وإن استتبع تكليفا وهو ) أي : ذلك التكليف الذي تبع الحكم الوضعي : ( ايجاب الصلاة عند الزوال ، وتحريمها عند الحيض ) وبذلك تبيّن : ان الوضع شيء ، والتكليف شيء آخر ، لا ان الوضع تابع للتكليف .

( كما أنّ قوله تعالى : « أقِم الصلاة لِدُلوك الشمس » (1) ) بالنسبة إلى سببيّة الدلوك للصلاة ( و ) قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( « دَعي الصلاة أيام اقرائِك » (2) ) أي : حيضك ( خطاب تكليفي ، وإن استتبع وضعا ، وهو كون الدلوك سببا والاقراء مانعا ) .

ثم قال رحمه اللّه : ( والحاصل : أنّ هناك أمرين متباينين ) لا ربط لأحدهما بالآخر ، إذ ( كلّ منهما فردٌ للحكم ) الذي حكم به الشارع ( فلا يغني استتباعُ أحدهما للآخر عن مراعاته واحتسابه في عداد الأحكام » (3) ) فان تبعيّة الوضع للتكليف لا يمنع

ص: 76


1- - سورة الاسراء : الآية 78 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص88 ح1 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص384 ب19 ح6 ، فقه القرآن : ج2 ص157 ، غوالي اللئالي : ج2 ص207 .
3- - شرح الوافية : مخطوط .

انتهى كلامه رفع مقامه .

أقول : لو فرض نفسه حاكما بحكم تكليفي ووضعي بالنسبة إلى عبده ، لوجد من نفسه صدق ما ذكرنا فانّه إذا قال لعبده : « أكرم زيدا إن جاءك » ، فهل يجد المولى من نفسه أنّه أنشأ إنشائين وجعل أمرين ، أحدهما : وجوب إكرام زيد عند مجيئه والآخر : كون مجيئه سببا لوجوب اكرامه ، أو أنّ الثاني مفهوم منتزع من الأوّل لا يحتاج إلى جعل مغاير لجعله ولا إلى بيان مخالف لبيانه .

-------------------

من ان يكون الوضع حكما كما ان التكليف هو حكم أيضا .

( انتهى كلامه رفع مقامه ) ولكن حيث ان المحقق المذكور جعل المغايرة بين التكليفي والوضعي بديهية ، أراد المصنِّف ان يمثّل مثالاً ليظهر به بداهة عدم المغايرة ، وإنهما شيء واحد أحدهما تابع للآخر فقال :

( أقول : لو فرض ) الفاضل التوني ( نفسه حاكما بحكم تكليفي ووضعي بالنسبة إلى عبده ، لوجد من نفسه صدق ما ذكرنا ) : من انه ليس هناك حكمان ، وإنّما هو حكم واحد ( فانّه إذا قال لعبده : « أكرم زيدا إن جاءك » ، فهل يجد المولى من نفسه أنّه أنشأ إنشائين وجعل أمرين ) على عبده وذلك على النحو التالي :

( أحدهما : وجوب إكرام زيد عند مجيئه ) وهو حكم تكليفي .

( والآخر : كون مجيئه سببا لوجوب اكرامه ) وهو حكم وضعي ؟ .

( أو أنّ الثاني ) : وهو كون مجيئه سببا لوجوب اكرامه ( مفهوم منتزع من الأوّل ) وهو وجوب اكرام زيد عند مجيئه ، بحيث ( لا يحتاج ) هذا الثاني ( إلى جعل مغاير لجعله ) الأوّل ( ولا إلى بيان مخالف لبيانه ) الأوّل ؟ .

ص: 77

ولهذا اشتهر في ألسنة الفقهاء سببيّة الدلوك ومانعيّة الحيض ، ولم يرد من الشارع إلاّ إنشاء طلب الصلاة عند الأوّل وطلب تركها عند الثاني .

فان أراد تباينهما مفهوما فهو أظهر من أن يخفى ، كيف وهما محمولان مختلفا الموضوع ، وإن أراد كونهما مجعولين بجعلين فالحوالة على الوجدان لا البرهان ، وكذا لو أراد كونهما مجعولين بجعل واحد ،

-------------------

( ولهذا ) أي : لأن الثاني منتزع من الأوّل ، وليس في مقابل الأوّل ( اشتهر في ألسنة الفقهاء سببيّة الدلوك ومانعيّة الحيض ، و ) الحال انه ( لم يرد من الشارع إلاّ إنشاء طلب الصلاة عند الأوّل ) أي : الدلوك ( وطلب تركها عند الثاني ) أي : الحيض ، مما يدل على انه حكم واحد وان السببية والمانعية للدلوك والحيض أمران منتزعان من التكليف الواحد .

وعليه : ( فان أراد ) الفاضل التوني ( تباينهما ) أي : الحكم التكليفي والوضعي ( مفهوما ) بأن يكون لهذا مفهوم ولذاك مفهوم ( فهو أظهر من أن يخفى ) على أحد ، ولا معنى للاختلاف فيه .

أم ( كيف ) لا يكون مفهمومهما مختلفا ( وهما محمولان مختلفا الموضوع ) فانه يقال : الصلاة واجبة ، والدلوك سبب ، أو يقال : الصلاة واجبة ، والحيض مانع .

هذا ( وإن أراد كونهما مجعولين بجعلين ) بأن يكون للمولى جعل تكليفي ، وجعل وضعي ( فالحوالة على الوجدان لا البرهان ) لأن الاُمور الوجدانية لا تدخل تحت البرهان ، مثل ضياء الشمس وحرارة النار .

( وكذا لو أراد كونهما مجعولين بجعل واحد ) بأن يكون للمولى مجعولان : تكليف ووضع ، لكن لا بجعلين ، بل بجعل واحد ، فالحوالة أيضا على الوجدان .

ص: 78

فانّ الوجدان شاهد على أنّ السببية والمانعية في المثالين اعتباران منتزعان ، كالمسببية والمشروطية والممنوعية ، مع أنّ قول الشارع : « دلوك الشمس سببٌ لوجوب الصلاة » ، ليس جعلاً للايجاب استتباعا ، كما ذكره ، بل هو إخبارٌ عن تحقّق الوجوب عند الدلوك .

هذا كلّه ،

-------------------

وعليه : فاذا كانت الحوالة في معرفتهما على الوجدان ( فانّ الوجدان شاهد على أنّ السببية ) للدلوك ( والمانعية ) للحيض ( في المثالين ) الذين ذكرناهما للسبب والمانع ( اعتباران منتزعان ، كالمسببية والمشروطية والممنوعية ) .

إذن : فالصلاة مسببية عن الدلوك ، ومشروطة بالطهارة ، وممنوعة بالحيض ، وما ذلك إلاّ لانشاء طلب الصلاة عند الدلوك ، أو مع الطهارة ، وإنشاء طلب تركها عند الحيض ، أو النفاس ، فهو شيء واحد له انتزاعات مختلفة مثل : ذات زيد الذي يطلق عليه : أبو عمرو ، وابن بكر ، وأخو خالد ، وغيرها من سائر الانتزاعات، وهكذا يكون الكلام في سائر الاُمور المنتزعة .

( مع أنّ قول الشارع : « دلوك الشمس سببٌ لوجوب الصلاة » ، ليس جعلاً للايجاب استتباعا ) للوضع ، فان الحكم الوضعي لا يستتبع الحكم التكليفي ( كما ذكره ) الفاضل التوني في كلامه المتقدّم حيث قال : «ان الاستصحاب المختلف فيها لا يكون إلاّ في الأحكام الوضعية أعني : الأسباب والشرايط والموانع للأحكام الخمسة من حيث انها كذلك ، ووقوعه في الأحكام الخمسة إنّما هو بتبعيّتها» .

( بل هو إخبارٌ عن تحقّق الوجوب عند الدلوك ) فكأن الشارع قال : أقم الصلاة، واعلم ان هذه الصلاة يتحقق وجوبها عليك عند الدلوك .

( هذا كلّه ) بيان لكون الحكم الوضعي تابعا للحكم التكليفي وليس مقابلاً له .

ص: 79

مضافا إلى أنّه لا معنى لكون السببية مجعولة فيما نحن فيه حتى يتكلّم أنّه بجعل مستقل ، أو لا . فأنّا لا نعقل من جعل الدلوك سببا للوجوب - خصوصا عند من لا يرى كالأشاعرة ، الأحكام منوطة بالمصالح والمفاسد الموجودة في الأفعال - إلاّ انشاء الوجوب عند الدلوك .

وإلاّ فالسببية القائمة بالدلوك ليست من لوازم ذاته ، بأن يكون

-------------------

( مضافا إلى أنّه لا معنى لكون السببية مجعولة فيما نحن فيه ) أي : ان السببية في باب دلوك الشمس لوجوب الصلاة - مثلاً - ليست مجعولة أصلاً لا مستقلاً ولا تبعا ( حتى يتكلّم أنّه بجعل مستقل ، أو لا ) أي : ليس بجعل مستقل بل هو بجعل تبعي ؟ .

وعليه : ( فأنّا لا نعقل من جعل الدلوك سببا للوجوب - خصوصا عند من لا يرى كالأشاعرة ، الأحكام منوطة بالمصالح والمفاسد الموجودة في الأفعال - إلاّ انشاء الوجوب عند الدلوك ) .

وإنّما قال : خصوصا ، لأن الحسن والقبح عند الأشاعرة ما أمر الشارع به أو نهى عنه من دون أن يكون ذلك ناشئا من مصلحة أو مفسدة كامنة في ذات الشيء ، وقيد الخصوصية حينئذ واضح ، لأنه لا نعلم سببية الدلوك إلاّ من الأمر بالصلاة عند تحقق الدلوك .

بخلافه على مذهب الامامية والمعتزلة القائلين بالعدل ، وبالحسن والقبح العقليين ، إذ لمتوهم ان يتوهم حينئذ : كون نفس المصلحة معنى السببية ، وكون نفس المفسدة معنى المانعية .

( وإلاّ ) بان لم نقل ان جعل الدلوك سببا معناه : انشاء الوجوب عند الدلوك ( فالسببية القائمة بالدلوك ليست من لوازم ذاته ) أي : ذات الدلوك ( بأن يكون

ص: 80

فيه معنى يقتضي ايجاب الشارع فعلاً عند حصوله ، ولو كانت لم تكن مجعولة من الشارع ولا نعقلها أيضا صفة أوجدها الشارع فيه باعتبار الفصول المنوّعة ، ولا الخصوصيات المصنِّفة ، أو المشخِّصة .

-------------------

فيه ) أي : في الدلوك ( معنى يقتضي ايجاب الشارع فعلاً عند حصوله ) أي : حصول الدلوك ، فالدلوك وقت الواجب لا سبب الواجب .

إذن : فليست السببية حينئذ من لوازم ذات الدلوك ( ولو كانت ) أي : السببية من لوازم ذات الدلوك ( لم تكن مجعولة من الشارع ) بل وجودها ذاتي بالتبع .

وربّما يقرّب هذا المعنى القول : بأن الدلوك ان كان ذاته سببا ، فلا معنى لجعله الشارع سببا تشريعا ، فليس حكما وضعيا ، وان لم يكن ذاته سببا ، فلا معنى لجعله الشارع سببا أيضا ، بعد ان كانت الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، ولا مصلحة في ذات الدلوك ، وإنّما المصلحة هي في الصلاة في وقت الدلوك .

( و ) كذلك ( لا نعقلها ) أي : السببية للدلوك ( أيضا صفة أوجدها الشارع فيه ) بأن لم تكن السببية من ذات الدلوك ، وإنّما السببية صفة أوجدها الشارع في الدلوك ، وذلك ( باعتبار الفصول المنوّعة ، ولا ) صفة باعتبار ( الخصوصيات المصنّفة ، أو المشخِّصة ) فان السببية في الدلوك ليست بهذا المعنى .

هذا ، ولا يخفى : انّ الصفة قد تكون صفة منوّعة كالناطق بالنسبة إلى الحيوان حيث تميّز الجنس عن سائر الأنواع ، وقد تكون صفة مصنّفة كالزنجي بالنسبة إلى الانسان ، حيث تصنّف النوع إلى زنجي وغير زنجي ، وقد تكون صفة مشخّصة حيث تشخص الفرد عن سائر الافراد مثل : كونه ابن زيد ، وحفيد عمرو ، وولد في يوم كذا ، وفي ساعة كذا ، ومن المعلوم : ان السببية في الدلوك ليست أحد هذه الثلاثة .

ص: 81

هذا كلّه في السبب والشرط والمانع والجزء .

وأمّا الصحة والفساد ، فهما في العبادات موافقةُ الفعل المأتيّ به للفعل المأمور به أو مخالفته له ، ومن المعلوم أنّ هاتين : الموافقة والمخالفة ليستا بجعل جاعل .

وأمّا في المعاملات فهما ترتّب الأثر عليها وعدمه فمرجع ذلك إلى سببيّة هذه المعاملة لأثرها وعدم سببية تلك .

-------------------

( هذا كلّه ) تمام الكلام ( في السبب والشرط والمانع والجزء ) حيث أثبت المصنّف ان هذه الاُمور ليست أحكاما وضعية ، وإنّما هي اُمور منتزعة من التكليف بالمسبّب والمشروط والممنوع والمركّب .

( وأمّا الصحة والفساد ) فقد ذكر جماعة من العلماء انهما أيضا من الأحكام الوضعية ، وحيث لم يرتض المصنِّف ذلك بدأ يمهّد للاجابة عنهما بقوله : ( فهما في العبادات ) عبارة عن ( موافقة الفعل المأتيّ به للفعل المأمور به ) في الصحة ( أو مخالفته له ) في الفساد .

( ومن المعلوم : أنّ هاتين : الموافقة والمخالفة ليستا بجعل جاعل ) بل هما أمران عقليان محضان منتزعان عن مطابقة المأتي به للمأمور به أو عدم مطابقت له.

( وأمّا ) الصحة والفساد ( في المعاملات ) بالمعنى الأعم الشامل للعقود والايقاعات وما أشبه ( فهما ) أي : الصحة والفساد عبارة عن : ( ترتّب الأثر عليها ) أي : على المعاملات في الصحة ( وعدمه ) أي : عدم ترتب الأثر في الفساد .

إذن : ( فمرجع ذلك ) أي : مرجع ترتب الأثر ( إلى سببيّة هذه المعاملة ) الصحيحة ( لأثرها ) مثل: نقل الملك ( وعدم سببية تلك ) المعاملة الفاسدة لأثرها.

وعليه : ( فان لوحظت المعاملة سببا لحكم تكليفي - كالبيع لاباحة التصرفات ،

ص: 82

فان لوحظت المعاملة سببا لحكم تكليفي - كالبيع لاباحة التصرفات ، والنكاح لاباحة الاستمتاعات - فالكلامُ فيها يُعرف ممّا سبق في السببية وأخواتها .

وإن لوحظت سببا لأمر آخر ، كسببية البيع للملكية ، والنكاح للزوجية ، والعتق للحرية ، وسببيّة الغسل للطهارة ، فهذه الاُمور بنفسها ليست أحكاما شرعية ، نعم الحكم بثبوتها شرعيٌ ،

-------------------

والنكاح لاباحة الاستمتاعات - فالكلام فيها ) أي : في المعاملة ( يُعرف ممّا سبق في السببية وأخواتها ) من المانعية والشرطية والجزئية ونحوها ، فمعنى سببية المعاملة للحكم التكليفي ، هو انتزاع الصحة والفساد من الحكم التكليفي على ما اختاره المصنِّف في باب السببية ونحوها .

( وإن لوحظت ) المعاملة ( سببا لأمر آخر ) غير الحكم التكليفي ( كسببية البيع للملكية ، والنكاح للزوجية ، والعتق للحرية ، وسببيّة الغسل للطهارة ) وما أشبه ذلك ( فهذه الاُمور ) من الملكية والزوجية والحرية والطهارة ( بنفسها ليست أحكاما شرعية ) فان الحكم الشرعي هو عبارة : عن الأمر والنهي ، امّا مثل الملكية والزوجية وما أشبه ذلك فانها اُمور اعتبارية أو حقايق خارجية على ما سيأتي .

( نعم ، الحكم بثبوتها ) أي : ثبوت الملكية والزوجية ونحوهما ( شرعي ) ومعنى ان الحكم بثبوتها شرعي هو : قول الشارع : بأن هنا تحققت الملكية والزوجية والحرية - مثلاً - أو لم تتحقق الملكية والزوجية والحرية ، إلى غير ذلك .

والحاصل : إنّ المعاملة ، امّا سبب لحكم تكليفي ككون البيع سببا لجواز التصرف ، واما سبب للملك ، فليس هناك حكم وضعي يتبعه الحكم التكليفي كما ذكره الفاضل التوني ، وهذا لا كلام فيه ، وإنّما الكلام في ان الملك ونحوه ما هو ؟ .

ص: 83

وحقائقها إمّا اُمور اعتبارية منتزعة من الأحكام التكليفية ، كما يقال : الملكيّة كون الشيء بحيث يجوز الانتفاع به وبعوضه ، والطهارة : كون الشيء بحيث يجوز استعماله في الأكل والشرب ، نقيض النجاسة ؛

-------------------

والجواب : انه لا يخلو من ان يكون مجعولاً ، أو انتزاعيا ، أو حقيقة واقعية ، وحيث منعنا كونه مجعولاً لأنه ليس بحكم ، فلابد وان يكون أحد الأمرين الباقيين:

فاما ان يكون أمرا انتزاعيا من جهة السبب والمسبب ، فانه لما قال الشارع : أبحت لك التصرّف بعد العقد ، انتزع من هذه الاباحة ، ان العقد سبب والملك مسبّب .

واما حقيقة واقعية كشف عنها الشارع سببا ومسببا ، وذلك بأن يكون العقد مثلاً حاله كحال النار ، والملك - مثلاً - حاله كحال الاحتراق ، غير ان النار سببا والاحتراق مسبّبا نحسّ بهما ، امّا كون العقد سببا والملك مسببا فلا نحسّ بهما ، وإنّما كشف الشارع لنا عنهما .

وإلى الأوّل أشار المصنِّف بقوله : ( وحقائقها ) أي : حقايق هذه الاُمور من الملكية والزوجية والحرية والطهارة وما أشبه ( إمّا اُمور اعتبارية منتزعة من الأحكام التكليفية ) فاذا قال الشارع : أبحت لك التصرف بعد العقد ، انتزع من هذه الاباحة الأمر الاعتباري الذي هو الملك في عقد البيع ، وانتزع منها الأمر الاعتباري الذي هو الزوجية في عقد النكاح ، إلى غير ذلك .

( كما يقال : الملكيّة كون الشيء بحيث يجوز الانتفاع به وبعوضه ، والطهارة : كون الشيء بحيث يجوز استعماله في الأكل والشرب ، نقيض النجاسة ) والعتق كون العبد بحيث يجوز له التصرف في نفسه وماله كسائر الأحرار ، وهكذا .

ص: 84

وإمّا اُمورٌ واقعية كشف عنها الشارع .

فأسبابها على الأوّل أسباب للتكاليف ، فيصير سببيّة تلك الأسباب كمسبّباتها اُمورا انتزاعيّة في الحقيقة ؛ وعلى الثاني يكون أسبابُها كنفس المسبّبات اُمورا واقعية مكشوفا عنها ببيان الشارع ، وعلى التقديرين

-------------------

وإلى الثاني أشار بقوله : ( وإمّا ) هي أي : الملكية والزوجية والحرية والطهارة وما أشبه ( اُمورٌ واقعية كشف عنها الشارع ) بأن يكون حالها حال كشف الطبيب عن الجرثومة التي توجب المرض .

وعليه : ( فأسبابها ) أي : أسباب هذه الاُمور من الملكية والزوجية والطهارة وما أشبه ( على الأوّل ) أي : على انها اُمور اعتبارية ( أسباب للتكاليف ) التي انتزعت منها هذه الاُمور الاعتبارية ، فأولاً : كان التكليف ، وبعد ذلك : الأسباب والمسببات ( فيصير سببيّة تلك الأسباب كمسبّباتها اُمورا انتزاعيّة في الحقيقة ) منتزعة من التكاليف .

مثلاً : اباحة التصرف للمشتري ينتزع منها : ملكية المشتري للمثمن ، والبائع للثمن ، وسببيّة البيع للملكية ، وهكذا الكلام في الزوجية والحرية والطهارة ونحوها ، فهنا اباحة شرعية ، وسبب ومسبّب منتزعان من تلك الاباحة .

( وعلى الثاني ) : أي على ان الملكية والزوجية والطهارة ونحوها اُمور واقعية ( يكون أسبابُها كنفس المسبّبات اُمورا واقعية مكشوفا عنها ببيان الشارع ) فلما قال الشارع : أبحت لك ، اكتشفنا من هذه الاباحة : ان العقد سبب حقيقي ، والملك مسبّب حقيقي ، حال هذا السبب والمسبب حال النار والاحراق ، أو حال الجرثومة والمرض بالنسبة إلى كشف الطبيب لهما .

( وعلى التقديرين ) سواء تقدير كون الملكية والزوجية والطهارة ونحوها

ص: 85

فلا جعل في سببية هذه الأسباب .

وممّا ذكرنا تُعرَفُ الحالُ في غير المعاملات من أسباب هذه الاُمور كسببية الغليان في العصير للنجاسة ، وكالملاقاة لها ،

-------------------

اُمورا اعتبارية أم اُمورا واقعية ( فلا جعل في سببية هذه الأسباب ) لمسبّباتها ، فالعقد مثلاً سبب للملك والزوجية ، لكن مسببيّته لها غير مجعولة ، لأنها على الأوّل : انتزاع ، وعلى الثاني حقيقة .

ومن المعلوم : ان الحقايق الخارجية كالاُمور الانتزاعية ليست مجعولة بجعل شرعي ، وإنّما الحقايق الخارجية اُمور تكوينية ، فان الشارع لم يجعل النار سببا للاحراق بالجعل التشريعي ، كما لم يجعل الأربعة زوجا بجعل تشريعي أيضا وإنّما خلق الأربعة ، والزوجية انتزعت منهما .

ومن كل ذلك تبيّن : ان ما قاله الفاضل التوني من ان الأحكام الوضعية مجعولة في قبال الأحكام التكليفية ، وان الأحكام التكليفية منتزعة من الأحكام الوضعية غير تام .

وإنّما لم يكن تاما لأن الأحكام التكليفية هي المجعولة ، والأحكام الوضعية : اما منتزعة من الأحكام التكليفية كانتزاع الزوجية من الأربعة ، وامّا حقائق كشف عنها الأحكام التكليفية ، فيكون كما إذا قال الطبيب للمريض : اشرب الدواء الفلاني ، حيث يكتشف المريض من أمر الطبيب هذا : ان في بدنه الجرثومة الفلانية التي سبّبت فيه المرض الفلاني .

( وممّا ذكرنا ) في أمر المعاملات ( تُعرَفُ الحالُ في غير المعاملات من أسباب هذه الاُمور ) المسببة - بالفتح - ( كسببية الغليان في العصير للنجاسة ، وكالملاقاة

لها ) أي : للنجاسة ، فان الشيء إذا لاقى النجس تنجّس .

ص: 86

والسبي للرقّية ، والتنكيل للحرّية ، والرضاع لانفساخ الزوجية ، وغير ذلك .

فافهم وتأمّل في المقام ، فانّه من مزالّ الأقدام .

قوله : « وعلى الأوّل يكون وجوب ذلك الشيء أو ندبُه في كلّ جزء من أجزاء ذلك الوقت ثابتا بذلك الأمر ، فالتمسك في ثبوت الحكم في الزمان الثاني بالنصّ ، لا بثبوته في الزمان الأوّل حتى يكون استصحابا » .

-------------------

( والسبي للرقّية ، والتنكيل للحرّية ) فان السيد إذا نكّل بعبده ، بأن قطع اُذنه أو أنفه أو ما أشبه ذلك ، تحرّر العبد تلقائيا .

( والرضاع لانفساخ الزوجية ) فان اُم الزوجة إذا أرضعت ولد الزوجة انفسخ نكاح الزوجة عن زوجها لقاعدة : لا ينكح المرتضع في أولاد صاحب اللبن ( وغير ذلك ) مما اصطلح عليه الفقهاء بالأحكام الوضعية .

والحاصل : ان هذه الاُمور ليست أحكاما وضعية بل هي : امّا اُمور اعتبارية منتزعة من التكاليف ، أو اُمور واقعية كشف عنها الشارع ( فافهم وتأمّل في المقام ، فانّه من مزالّ الأقدام ) حيث اشتباه الأمر الانتزاعي ، أو الحقيقة الخارجية بالحكم ، فليس هناك حكم ، وإنّما أمر انتزاعي أو حقيقة كشف عنها الشارع .

ومن موارد النظر في كلام الفاضل التوني : ( قوله : « وعلى الأوّل ) : أي : ما كان واجبا أو مندوبا موقّتا ( يكون وجوب ذلك الشيء أو ندبه في كلّ جزء من أجزاء ذلك الوقت ثابتا بذلك الأمر ) الوارد بالوجوب أو الندب ( فالتمسك في ثبوت الحكم في الزمان الثاني ) إنّما هو ( بالنصّ ) الذي يشمل في الزمان الأوّل والزمان الثاني ( لا بثبوته في الزمان الأوّل حتى يكون استصحابا » ) فلا يجري الاستصحاب في الموقّتات .

ص: 87

أقول : فيه أنّ الموقّت قد يتردّد وقتُه بين زمان وما بعده ، فيجري الاستصحاب .

واُورد عليه تارة : بأنّ الشك قد يكون في النسخ ، واُخرى : بأنّ الشك قد يحصل في التكليف ، كمَن شك في وجوب إتمام الصوم لحصول مرض يشك في كونه مبيحا للافطار ،

-------------------

( أقول : فيه ) : ان الأقسام في الموقتات ثلاثة :

الأوّل : ما يعرف فيه كل الوقت مثل : الفجر إلى الغروب بالنسبة إلى الصوم .

الثاني : ما يعرف فيه بعض الوقت من الأخير ، ولا يعرف أوله .

الثالث : ما يعرف فيه بعض الوقت عن الأوّل ، ولا يعرف آخره ، وهنا محل الاستصحاب كما قال : ( أنّ الموقّت قد يتردّد وقته بين زمان وما بعده ، فيجري الاستصحاب ) فيه ، وذلك لأن هذا القسم ليس هو من أقسام ما ذكره الفاضل التوني حتى يشمله قوله : «فالتمسك في ثبوت الحكم في الزمان الثاني بالنص ، لابثبوته في الزمان الأوّل حتى يكون استصحابا» فلا مورد إذن للاستصحاب في الموقت .

( واُورد عليه ) أي : أورد بعض على هذا الذي ذكره الفاضل التوني هنا : من انه لا يجري الاستصحاب في الموقت بما يلي :

( تارة : بأنّ الشك قد يكون في النسخ ) أي نشك في انه هل نسخ الحكم أو لم ينسخ ؟ فنحتاج إلى الاستصحاب في الآن الثاني .

( واُخرى : بأنّ الشك قد يحصل في ) بقاء ( التكليف ) أي : نشك في انه هل الحكم باق أو ليس بباق ؟ ومن المعلوم : ان الشك في النسخ أيضا من هذا القبيل ، ومثال الشك في التكليف على ما قاله المصنِّف هو : ( كمن شك في وجوب إتمام الصوم لحصول مرض يشك في كونه مبيحا للافطار ) أو غير مبيح له ،

ص: 88

وثالثةً : بأنّه قد يكون أوّل الوقت وآخره معلوما ، ولكنّه يشك في حدوث الآخر والغاية ، فيحتاج المجتهد في الحكم بالوجوب أو الندب أو الحكم بعدمهما عند عروض ذلك الشك إلى دليل عقلي أو نقلي غير ذلك الأمر .

هذا ، ولكنّ الانصاف : عدم ورود شيء من ذلك عليه .

أمّا الشك في النسخ : فهو خارجٌ عمّا نحن فيه ،

-------------------

فان المكلّف هنا يعلم آخر الوقت وانه ساعة كذا - مثلاً - وإنّما يشك في انه هل حصل رافع يرفع الحكم في الأثناء ، أو لم يحصل رافع ؟ فنحتاج إلى الاستصحاب في الزمان الثاني .

( وثالثةً : بأنّه قد يكون أوّل الوقت وآخره معلوما ، ولكنّه يشك في حدوث الآخر والغاية ) من باب الشبهة الموضوعية ، وذلك بأن يعلم - مثلاً - ان الساعة الفلانية مغرب ، لكن في الهواء سحاب ولا ساعة عنده ، فلا يعلم هل صارت الساعة الفلانية أم لا ؟ فهنا مورد الاستصحاب .

وعليه : ( فيحتاج المجتهد في الحكم بالوجوب أو الندب ، أو الحكم بعدمهما عند عروض ذلك الشك ) في الموارد الثلاثة ( إلى دليل عقلي أو نقلي غير ذلك الأمر ) الأوّل الوارد بالوجوب أو الندب ، فاذا كان دليل من نقل أو عقل فبه ، وإلاّ فهي مورد للاستصحاب ، فالموارد الثلاثة إذن من موارد الاستصحاب في الموقت .

( هذا ) هو تمام الايراد الذي أورده المستشكل على الفاضل التوني ( ولكنّ الانصاف : عدم ورود شيء من ذلك ) أي : عدم ورود هذه الاشكالات الثلاثة ( عليه ) أي : على الفاضل المذكور ، وذلك كما يلي :

( أمّا الشك في النسخ : فهو خارجٌ عمّا نحن فيه ) فان كلام الفاضل التوني

ص: 89

لأنّ كلامه في الموقّت من حيث الشك في بعض أجزاء الوقت ، كما إذا شك في جزء ممّا بين الظهر والعصر في الحكم المستفاد من قوله : « إجلس في المسجد من الظهر إلى العصر » . وهو الذي ادّعى أنّ وجوبه في الجزء المشكوك ثابت بنفس الدليل .

وأمّا الشك في ثبوت هذا الحكم الموقّت لكلّ يوم أو نسخه في هذا اليوم ، فهو شكٌ لا من حيث توقيت الحكم ،

-------------------

لا يشمل النسخ ( لأنّ كلامه في الموقّت من حيث الشك في بعض أجزاء الوقت ) والنسخ ليس من ذلك ، فليس كلامه فيه .

إذن : فكلامه إنّما هو فيما مثّل له بقوله : ( كما إذا شك في جزء ممّا بين الظهر والعصر في الحكم المستفاد من قوله : « إجلس في المسجد من الظهر إلى العصر » ) فان في مضيّ أربع ساعات بعد الظهر - مثلاً - يتحقق العصر بلا شك ، لكن بعد مضيّ ثلاث ساعات هل يتحقق العصر أم لا ؟ فلا يعلم هل ان أمره بالجلوس في المسجد شامل إلى الساعة الثالثة أو الساعة الرابعة ؟ .

( وهو الذي ادّعى ) الفاضل التوني : ( أنّ وجوبه في الجزء ) الثاني ( المشكوك، ثابت بنفس الدليل ) الأوّل الوارد بالوجوب ، فليس هو من مورد الاستصحاب حتى يجري الاستصحاب فيه برأي الفاضل التوني ، وان كان يأتي من المصنِّف الاشكال فيه .

وكيف كان : فان كلام الفاضل التوني هو في توقيت الموقت ، لا في نسخ الموقت كما قال :

( وأمّا الشك في ثبوت هذا الحكم الموقّت لكلّ يوم ) كأقم الصلاة فلا نسخ فيه ( أو نسخه في هذا اليوم ) من الغيبة ( فهو شكٌ لا من حيث توقيت الحكم ،

ص: 90

بل من حيث نسخ الموقّت ، فانّ وقع الشك في النسخ الاصطلاحي لم يكن استصحاب عدمه من الاستصحاب المختلف فيه ، لأنّ إثبات الحكم في الزمان الثاني لعموم الأمر الأوّل ، للأزمان ولو كان فَهْمُ هذا العموم من استمرار طريقة الشارع ، بل كلِّ شارع على إرادة دوام الحكم ما دامت تلك الشريعة ، لا من عموم لفظي زماني .

-------------------

بل من حيث نسخ الموقّت ) فالاشكال على الفاضل التوني بالشك في النسخ ، خروج عن كلامه ، لأن الموقّت غير المنسوخ ، والمنسوخ غير الموقت .

وعليه : ( فانّ وقع الشك في النسخ الاصطلاحي ) وهو : ما كان الدال على الحكم المشكوك ظاهرا في الدوام والاستمرار ، ولكن نشك في النسخ لأمر خارجي ( لم يكن استصحاب عدمه ) أي : عدم النسخ ( من الاستصحاب المختلف فيه ) حتى يصححه بعض ويرفضه بعض .

وإنّما لم يكن من الاستصحاب المختلف فيه ( لأنّ إثبات الحكم في الزمان الثاني ) هنا إنّما هو ( لعموم الأمر الأوّل ، للأزمان ) المتتالية أولاً وثانيا وثالثا وهكذا ، فلا مورد للاستصحاب هنا حتى ( ولو كان فهم هذا العموم ) للأزمان ناشئا ( من استمرار طريقة الشارع ، بل كلِّ شارع ) ومقنّن للقوانين ( على إرادة دوام الحكم ما دامت تلك الشريعة ) باقية ( لا من عموم لفظي زماني ) .

والحاصل : ان شمول الدليل للأزمنة المتأخرة إنّما هو بأحد وجهين : اما من جهة العموم اللفظي : من عموم أو اطلاق أو ما أشبه ذلك ، واما من جهة بناء العقلاء على استمرار الحكم ما لم يأت المولى بناسخ ، فليس هو على كل تقدير من باب الاستصحاب .

ص: 91

وكيف كان : فاستصحاب عدم النسخ لدفع احتمال خصوص المخصّص في الأزمان ، كاستصحاب عدم التخصيص ، لدفع احتمال المخصّص في الأفراد واستصحاب عدم التقييد لدفع إرادة المقيّد من المطلق .

والظاهر : أنّ مثل هذا ليس محلاً لانكاره ،

-------------------

( وكيف كان ) : فانه سواء فهم العموم من اللفظ ، أم من غيره ، فالعموم هو الذي يدل على ثبوت الحكم في الزمان الثاني ، وحينئذ ( فاستصحاب عدم النسخ لدفع احتمال خصوص المخصّص في الأزمان ) إنّما يكون ( كاستصحاب عدم التخصيص ، لدفع احتمال المخصّص في الأفراد ) أي : يكون مثله في انه ما دام لم نعلم به نحكم بالعموم .

مثلاً : إذا شككنا في ان زيدا هل خرج من اكرم العلماء خروجا بسبب التخصيص ؟ نحكم بعموم اكرم العلماء لاكرام زيد ، كذلك إذا شككنا في ان زمان الغيبة هل خرج من عموم أقم الصلاة خروجا بسبب النسخ ؟ نحكم بعموم أقم الصلاة لاقامة الصلاة فيه .

( و ) أيضا يكون مثل : ( استصحاب عدم التقييد لدفع إرادة المقيّد من المطلق ) أي : يكون مثله في انه ما دام لم نعلم بالتقييد نحكم بالاطلاق ، فكذلك إذا لم نعلم بالنسخ في زمان الغيبة نحكم بعموم الدليل له .

( والظاهر : أنّ مثل هذا ) الذي ذكرناه : من ان الأصل عدم النسخ من جهة عموم اللفظ ، أو من جهة القرينة الخارجية ( ليس محلاً لانكاره ) أي : لانكار الفاضل التوني حتى يورد عليه المستشكل بقوله : بأن الشك قد يكون في النسخ .

ص: 92

وإثباتا للحكم في الزمن الثاني لوجوده في الأوّل ، بل لعموم دليله الأوّل ، كما لايخفى .

وبالجملة : فقد صرّح هذا المفصّل بأنّ الاستصحاب المختلف فيه لا يجري في التكليفيّات ، ومثل هذا الاستصحاب ممّا عقد على اعتباره الاجماع ، بل الضرورة ، كما تقدّم في كلام المحدث الاسترابادي .

-------------------

( و ) إنّما لم يكن مثل هذا محلاً لانكاره لأنه امتداد الحكم في الزمان الثاني في مورد الشك في النسخ ( إثباتا للحكم في الزمن الثاني لوجوده في الأوّل ) حتى يكون من الاستصحاب ( بل لعموم دليله الأوّل ) الظاهر في الاستمرار ( كما لايخفى ) على من أعطى المسألة حقها من التأمل .

( وبالجملة : فقد صرّح هذا المفصّل ) وهو الفاضل التوني رحمه اللّه : ( بأنّ الاستصحاب المختلف فيه لا يجري في التكليفيّات ) حيث قال فيما تقدّم من كلامه : فالأحكام التكليفية الخمسة المجردة عن الأحكام الوضعية لا يتصور فيها الاستدلال بالاستصحاب ( و ) من المعلوم : ان ( مثل هذا الاستصحاب ) أي : استصحاب عدم النسخ ليس من المختلف فيه ، بل ( ممّا عقد على اعتباره الاجماع ، بل الضرورة ، كما تقدّم في كلام المحدث الاسترابادي ) فلا يستشكل على الفاضل التوني باشكال النسخ .

وبهذا ظهر : إنّ المصنِّف أشكل على من أورد على الفاضل التوني بثلاثة اشكالات :

الأوّل : ان كلام الفاضل التوني في الموقّت ، والشك في النسخ ليس منه .

الثاني : انه لا يجوز الاستصحاب في الأحكام التكليفية ، وهذا من الشك في الحكم التكليفي .

ص: 93

ولو فرض الشك في نسخ حكم لم يثبت له من دليله ولا من الخارج عموم زماني ، فهو خارج عن النسخ الاصطلاحي داخلٌ فيما ذكره ، من أنّ الأمر إذا لم يكن للتكرار - يكفي فيه المرّة .

ولا وجه للنقض به في مسألة الموقّت ، فتأمل .

-------------------

الثالث انه ليس مثل استصحاب عدم النسخ الذي هو مما قام عليه الاجماع والضرورة ، وكلام الفاضل التوني إنّما هو فيما إذا لم يكن هناك إجماع أو ضرورة على الاستصحاب .

هذا ( ولو فرض الشك في نسخ حكم لم يثبت له ) أي : لذلك الحكم ( من دليله ولا من الخارج عموم زماني ) فيتوهم انه مورد الاستصحاب ( فهو خارج عن النسخ الاصطلاحي ) الذي هو عبارة عما إذا كان الدال على الحكم المشكوك ظاهرا في الدوام والاستمرار ، و ( داخلٌ فيما ذكره ) الفاضل التوني : ( من أنّ الأمر إذا لم يكن للتكرار ) ولم يكن له قرينة على التكرار ( يكفي فيه المرّة ) .

إذن : فليس الاستصحاب في مثل هذا الخارج عن النسخ الاصطلاحي قطعيا ، حتى يستشكل به على الفاضل التوني ( و ) حينئذ ( لا وجه للنقض به في مسألة الموقّت ) لما عرفت : من انه ليس بموقّت .

( فتأمل ) ولعل أمر المصنِّف بالتأمل إشارة إلى ان هذا الايراد بالنقض وان لم يكن واردا على مسألة الموقّت ، إلاّ انه وارد على مسألة كون الأمر بالطبيعة أو التكرار ، لأنه على القول بالطبيعة إذا شك في نسخ الأمر المتعلق بالطبيعة ، فاثباته في زمان الشك ليس إلاّ بالاستصحاب ، فيكون نقضا على الفاضل التوني في هذه الصورة .

ص: 94

وأمّا الشك في تحقّق المانع - كالمرض المبيح للإفطار ، والسفر الموجب له وللقصر ، والضرر المبيح لتناول المحرّمات - فهو الذي ذكره المفصِّل في آخر كلامه ، بجريان الاستصحاب في الحكم التكليفي تبعا للحكم الوضعي ، فانّ السلامة من المرض الذي يضرّ به الصوم شرطٌ في وجوبه ، وكذا الحضر وكذا الأمن من الضرر في ترك المحرّم .

فاذا شك في وجود شيء من ذلك استصحب الحالة السابقة له وجودا وعدما

-------------------

( وأمّا الشك في تحقّق المانع ، كالمرض المبيح للإفطار ، والسفر الموجب له ) أي : للافطار بالنسبة إلى الصوم ( وللقصر ) بالنسبة إلى الصلاة ( والضرر المبيح لتناول المحرّمات ) وهذا هو ثاني الاشكالات التي أوردها المستشكل على الفاضل التوني ( فهو ) أيضا لا يستشكل به على الفاضل المذكور .

وإنّما لا يستشكل به عليه ، لأنه هو ( الذي ذكره المفصِّل ) أي : الفاضل التوني رحمه اللّه ( في آخر كلامه ، بجريان الاستصحاب في الحكم التكليفي ، تبعا للحكم الوضعي ) فما قبله الفاضل التوني من الاستصحاب لا يستشكل عليه بأنه كيف لا يستصحب فيه .

وعليه : ( فانّ السلامة من المرض الذي يضرّ به ) أي : بصاحب المرض ( الصوم ) فان السلامة منه ( شرطٌ في وجوبه ) أي : وجوب الصوم ( وكذا الحضر ) فانه شرط لوجوب الصوم وتمامية الصلاة ( وكذا الأمن من الضرر في ترك المحرّم ) فانه شرط في وجوب ترك تناول المحرّمات .

وعلى ذلك : ( فاذا شك في وجود شيء من ذلك ) أي : شك في انه هل هناك مرض أو سفر أو ضرر ( استصحب الحالة السابقة له وجودا وعدما ) فان كانت

ص: 95

ويتبعه بقاء الحكم التكليفي السابق ، بل يمكن أن يقال : بعدم جريان الاستصحاب في الحكم التكليفي إلاّ مع قطع النظر عن استصحاب الحكم الوضعي في المقام .

مثلاً : إذا أوجب الشارع الصوم إلى الليل على المكلّف بشرط سلامته من المرض الذي يتضرّر بالصوم ، فاذا شك في بقائها وحدوث المرض المذكور ، واُحراز الشرط أو عدم المانع

-------------------

حالته السابقة ، المرض استصحب المرض ، وان كانت حالته السابقة الصحة استصحب الصحة ، وكذلك بالنسبة إلى الضرر واللاضرر والحضر واللاحضر .

( ويتبعه ) أي : يتبع الموضوع الذي هو المرض واللامرض ، والحضر واللاحضر ، والضرر واللاضرر بعد ان استصحب ( بقاء الحكم التكليفي السابق ) من وجوب الصوم وعدمه - مثلاً - وهكذا بقية الأمثلة ، فلا يستشكل على الفاضل التوني : بأن في هذه الموارد يجري الاستصحاب ، فكيف قلتم بأنه لا يجري ؟ وذلك لأنّ الفاضل التوني إنّما يجري الاستصحاب بالنسبة إلى هذه الموارد في الحكم الوضعي ، وتبعا لبقاء الحكم الوضعي يبقي الحكم التكليفي السابق .

( بل يمكن أن يقال : بعدم جريان الاستصحاب في الحكم التكليفي إلاّ مع قطع النظر عن استصحاب الحكم الوضعي في المقام ) فالحق مع الفاضل التوني الذي لا يجري الاستصحاب في الحكم التكليفي في هذه الموارد .

( مثلاً : إذا أوجب الشارع الصوم إلى الليل على المكلّف بشرط سلامته من المرض الذي يتضرّر ) المكلّف منه ( ب ) سبب ( الصوم ، فاذا شك في بقائها ) أي : بقاء السلامة وعدم بقائها ( وحدوث المرض المذكور ، و ) عدم حدوثه ، فله ( اُحراز الشرط ) وهي السلامة ( أو عدم المانع ) وهو عدم المرض

ص: 96

بالاستصحاب ، أغنى عن استصحاب المشروط . بل لم يبق مجرىً له ، لأنّ معنى استصحاب الشرط وعدم المانع : ترتيبُ آثار وجوده ، وهو : ثبوت المشروط مع فرض : وجود باقي العلل الناقصة .

وحينئذ : فلا يبقى الشك في بقاء المشروط .

وبعبارة اُخرى : الشك في بقاء المشروط مسبّبٌ عن الشك في بقاء الشرط ،

-------------------

( بالاستصحاب ) .

وعليه : فاذا استصحب الشرط أو استصحب عدم المانع ( أغنى عن استصحاب المشروط ) الذي هو الحكم التكليفي ( بل لم يبق مجرىً له ) أي : لاستصحاب المشروط .

وإنّما لا يبقى مجرى لاستصحاب المشروط ( لأنّ معنى استصحاب الشرط وعدم المانع : ترتيبُ آثار وجوده ) أي : آثار وجود الشرط وعدم المانع ( وهو : ثبوت المشروط ) وذلك ( مع فرض : وجود باقي العلل الناقصة ) .

مثلاً : إذا شك بالنسبة إلى وجوب الصوم في حدوث الضرر وعدمه ، فانه إذا استصحب عدم الضرر ، وكان باقي أسباب وجوب الصوم موجودا ، مثل : العقل ، وعدم الاغماء ، وعدم الحيض ، وما أشبه ذلك ، أثرت العلة التامة أثرها في وجوب الصوم ، ولا حاجة حينئذ إلى استصحاب وجوب الصوم كما قال :

( وحينئذ ) أي : حين استصحب الشرط وعدم المانع ، وكانت بقية العلل الناقصة موجودة ( فلا يبقى الشك في بقاء المشروط ) الذي هو وجوب الصوم حتى نحتاج فيه إلى استصحاب الوجوب .

( وبعبارة اُخرى : الشك في بقاء المشروط مسبّبٌ عن الشك في بقاء الشرط )

ص: 97

والاستصحاب في الشرط وجودا أو عدما مبيّنٌ لبقاء المشروط أو ارتفاعه، فلا يجري فيه الاستصحاب ، لا معارضا لاستصحاب الشرط ، لأنّه مزيل له ولا معاضدا ، كما فيما نحن فيه . وسيتضح ذلك في مسألة الاستصحاب في الاُمور الخارجية وفي بيان اشتراط الاستصحاب ببقاء الموضوع إن شاء اللّه تعالى .

-------------------

فان الشك في ان الشرط باق أو ليس بباق ، يجعلنا نشك في ان المشروط باق أو ليس بباق ( والاستصحاب في الشرط وجودا أو عدما ) بأن كان الشرط موجودا سابقا فنستصحب وجوده ، أو معدوما سابقا فنستصحب عدمه ( مبيّنٌ لبقاء المشروط أو ارتفاعه ) .

وعليه : فاذا استصحب بقاء السلام ) من كان سالما وشك في بقائها ، ثبت وجوب الصوم ، أو استصحب عدم بقائها ، لأنه كان مريضا فشك في بقاء المرض ثبت عدم وجوب الصوم ، فلا حاجة إلى الاستصحاب .

إذن : ( فلا يجري فيه الاستصحاب لا معارضا لاستصحاب الشرط ، لأنّه ) أي : استصحاب الشرط سببي ( مزيل له ) أي : لاستصحاب المشروط المسببي ( ولا معاضدا ، كما فيما نحن فيه ) بأن نستصحب بقاء السلامة ، ثم نستصحب وجوب الصوم .

والحاصل : ان الاستصحاب في الشك المسببي لا مجرى له إذا جرى الاستصحاب في الشك السببي على ما سبق الالماع اليه ( وسيتضح ذلك في مسألة الاستصحاب في الاُمور الخارجية ) من الشبهة الموضوعية ( وفي بيان اشتراط الاستصحاب ببقاء الموضوع ) فانه سنتكلم حول هذه المسألة في كلا الموضعين ( إن شاء اللّه تعالى ) .

ص: 98

وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن النقض الثالث عليه : بما إذا كان الشك في بقاء الوقت المضروب للحكم التكليفي ، فانّه إن جرى معه استصحاب الوقت ، أغنى عن استصحاب الحكم التكليفي ، كما عرفت في الشرط ، فانّ الوقت شرط أو سببٌ ، وإلاّ لم يجر استصحاب الحكم التكليفي ،

-------------------

إذن : فالاشكال الثاني الذي أورده المستشكل على الفاضل التوني بقوله : واُخرى بأن الشك قد يحصل في التكليف كمن شك في وجوب اتمام الصوم لحصول مرض يشك في كونه مبيحا للافطار ، هذا الاشكال لم يكن واردا على الفاضل التوني .

( وممّا ذكرنا ) من انه لا مجال للاستصحاب في الشك المسببي إذا جرى الاستصحاب في الشك السببي ( يظهر الجواب عن النقض الثالث عليه ) أي : على الفاضل التوني ( بما إذا كان الشك في بقاء الوقت المضروب للحكم التكليفي ) من باب الشبهة الموضوعية .

مثلاً : إذا علمنا ان المغرب يتحقق في الساعة الفلانية ، لكنا شككنا في انه هل صارت الساعة المذكورة أم لا ؟ ( فانّه إن جرى معه استصحاب الوقت ) الذي هو شرط أو سبب ( أغنى عن استصحاب الحكم التكليفي ) أي : عن استصحاب وجوب الصوم لما تقدّم من انه من الشك السببي والمسببي ، وذلك ( كما عرفت في الشرط ) حيث تقدّم : انه إذا جرى الاستصحاب في الشرط ، فلا يبقى مجال للاستصحاب في المشروط ( فانّ الوقت شرط أو سبب ) للحكم التكليفي ، يعني: ان الصوم في المثال اما مشروط بوقت كذا ، أو ان سببه وقت كذا .

( وإلاّ ) بأن لم يجر الاستصحاب في الوقت ( لم يجر استصحاب الحكم التكليفي ) أي : وجوب استمرار الصوم أيضا .

ص: 99

لأنّه كان متحققا بقيد ذلك الوقت ، فالصوم المقيّد وجوبه بكونه في النهار لا ينفع استصحاب الوجوب في الزمان المشكوك كونه عن النهار .

وأصالة بقاء الحكم المقيّد بالنهار في هذا الزمان لا يثبت كون هذا الزمان نهارا ، كما سيجيء توضيحه في نفي الاُصول المثبتة إن شاء اللّه تعالى .

-------------------

وإنّما لا يجري استصحاب الحكم التكليفي لأنه من الشك في الموضوع ، ومع الشك في الموضوع لا يجري الاستصحاب في الحكم كما قال : ( لأنّه ) أي : الحكم التكليفي كوجوب الصوم في المثال ( كان متحققا بقيد ذلك الوقت ) فاذا شككنا في تحقق ذلك الوقت شككنا في الشرط ، ومع الشك في الشرط لا يجري الاستصحاب في المشروط .

إذن : ( فالصوم المقيّد وجوبه بكونه في النهار ، لا ينفع استصحاب الوجوب في الزمان المشكوك كونه عن النهار ) لأنه من قبيل الشك في المقتضي ، ومع الشك في المقتضي لا اعتبار بالاستصحاب على ما يراه المصنِّف .

( و ) لا يقال نستصحب بقاء الحكم المقيّد بالنهار ، فيثبت النهار ، وإذا ثبت النهار كان الصوم واجبا ، وهذا بمعنى : ان استصحاب الحكم يفيد بقاء الموضوع .

لأنه يقال : ( أصالة بقاء الحكم المقيّد بالنهار في هذا الزمان ) المشكوك كونه من النهار ، وليس من النهار ( لا يثبت كون هذا الزمان نهارا ) لأنه مثبت ، ومثبتات الاُصول ليست بحجة ( كما سيجئتوضيحه في نفي الاُصول المثبتة إن شاء اللّه تعالى ) وذلك اضافة إلى ما تقدّم : من الالماع إلى ان الاستصحاب إنّما يكون حجة بالنسبة إلى الآثار الشرعية ، لا الآثار العقلية والعرفية والعادية .

ص: 100

اللّهمَّ إلاّ أن يقال : أنّه يكفي في الاستصحاب تنجّز التكليف سابقا وإن كان لتعليقه على أمر حاصل .

فيقال عرفا : إذا ارتفع الاستطاعة المعلّق عليها وجوب الحج : إنّ الوجوب ارتفع ، فاذا شك في ارتفاعها يكون شكا في ارتفاع الحكم المنجّز وبقائه

-------------------

( اللّهمَّ إلاّ أن يقال ) : وهذا استثناء من عدم جريان الاستصحاب لفقد الموضوع الذي هو الشرط هنا بما يكون حاصله : ان الاستصحاب يجري حتى وان علم فقد الشرط أو شك فيه ، وذلك كما قال : ( أنّه يكفي في الاستصحاب تنجّز التكليف سابقا وإن كان ) التنجّز ( لتعليقه ) أي : لتعليق التكليف ( على أمر حاصل ) سابقا مشكوك الآن ( فيقال عرفا : إذا ارتفع الاستطاعة المعلّق عليها وجوب الحج ) - مثلاً - ( إنّ الوجوب ارتفع ، فاذا شك في ارتفاعها ) أي : ارتفاع الاستطاعة فانه ( يكون شكا في ارتفاع الحكم المنجّز وبقائه ) أي : شكا في الارتفاع والبقاء فيستصحب بقاؤه .

والحاصل : ان الحكم إذا كان معلّقا على شرط ، وكان الحكم متحققا لأجل وجود شرطه ، أو سببه ، أو عدم مانعه - مثلاً - فمع ارتفاع الشرط بعده وان لم يصدق ارتفاع الحكم ، وكذا مع الشك في ارتفاع الشرط بعده فانه وان لم يصدق الشك في ارتفاع الحكم عند التحقيق - وذلك لتوقف صدق الارتفاع والبقاء والشك فيهما على القطع ببقاء الموضوع مع قيوده المأخوذة فيه ، والمفروض : انا نعلم بارتفاع القيد أو نشك فيه - إلاّ ان أهل العرف يتسامحون في ذلك ، فيطلقون ارتفاع الحكم عند ارتفاع شرطه بعد تحقق ذلك الحكم .

وإنّما يطلقون ذلك زعما منهم بأن ارتفاع الشرط الذي هو من قيود الموضوع

ص: 101

وإن كان الحكم المعلّق لا يرتفع بارتفاع المعلّق عليه ، لأنّ ارتفاع الشرط لا يوجب ارتفاع الشرطية ، إلاّ أنّ استصحاب وجود

-------------------

من قبيل تبدّل حالات الموضوع ، لا من قبيل تغيّر نفس الموضوع ، فيحكمون بارتفاع وجوب الحج بعد تحققه ، عند ارتفاع الاستطاعة يعني يرفعون ذلك الوجوب المعلّق على تلك الاستطاعة بعد ارتفاعها وان كانت القضية التعليقية صادقة مع ارتفاع المعلّق عليه ، لوضوح : عدم توقف صدق كون وجوب الحج معلقا على الاستطاعة على تحقق الاستطاعة في الخارج .

وعليه : فاذا صدق عرفا ارتفاع الحكم المعلق على شرط ، عند ارتفاع شرطه ، كما فيما نحن فيه من وجوب الصوم المعلّق على تحقق كون الزمان نهارا ، وكذا إذا صدق الشك في ارتفاع الحكم عند الشك في ارتفاع شرطه ، فانه يصح فيما نحن فيه استصحاب وجوب الصوم إلى زمان الشك حتى ( وإن كان الحكم المعلّق ) وهو وجوب الصوم فيما نحن فيه ( لا يرتفع بارتفاع المعلّق عليه ) أي : بارتفاع الشرط حقيقة .

وإنّما لا يرتفع بارتفاعه ( لأنّ ارتفاع الشرط لا يوجب ارتفاع الشرطية ) فان القضية التعليقية صادقة مع صدق التعليق ، سواء كان في الخارج أم لا ، وكاذبة مع كذب التعليق ، سواء كان في الخارج أم لا ؟ .

إذن : فالقول بأنّ الحج مشروط بالاستطاعة صادق ، وان لم يكن استطاعة في الخارج ، كما ان القول بأن الحج مشروط بكون الوقت شتاءً كاذب وان كان الوقت في أيام الحج شتاءً .

( إلاّ ) وهذا الاستثناء جواب لقوله : اللّهم إلاّ ان يقال ( أنّ استصحاب وجود

ص: 102

ذلك الأمر المعلّق عليه كافٍ في عدم جريان الاستصحاب المذكور ، فانّه حاكم عليه ، كما ستعرف .

نعم ، لو فرض في مقامٍ عدم جريان الاستصحاب في الوقت - كما لو كان الوقت مردّدا بين أمرين ، كذهاب الحمرة واستتار القرص - انحصر الأمر حينئذ في اجراء استصحاب التكليف ، فتأمّل .

-------------------

ذلك الأمر ) وهو النهار ( المعلّق عليه ) وجوب الصوم ( كافٍ في عدم جريان الاستصحاب المذكور ) أي : الاستصحاب التكليفي ، فلا يستصحب وجوب الصوم مع استصحاب وجود النهار .

وإنّما يكون كافيا لأنه كما قال : ( فانّه ) أي : استصحاب الشرط ( حاكم عليه ) أي : على استصحاب الحكم ( كما ستعرف ) ذلك فيما يأتي ان شاء اللّه تعالى : من ان الاستصحاب الحاكم مقدّم على الاستصحاب المحكوم ، ولا مجال للاستصحاب المحكوم مع وجود الاستصحاب الحاكم ، فانه مع استصحاب الموضوع ، لا مجال لاستصحاب الحكم .

( نعم ) يجري استصحاب الحكم ، فيما إذا لم يمكن اجراء استصحاب الموضوع ، كما ( لو فرض في مقامٍ عدم جريان الاستصحاب في الوقت ) وذلك ( كما لو كان الوقت مردّدا بين أمرين كذهاب الحمرة واستتار القرص ) بأن لم نعلم ان المراد من قوله سبحانه : « ثم أتمّوا الصيام إلى الليل » (1) هو استتار القرص أو ذهاب الحمرة ؟ ( انحصر الأمر حينئذٍ ) أي : حين تردّد الوقت ( في اجراء استصحاب التكليف ) لأنه لا حاكم على استصحاب التكليف .

( فتأمّل ) قال في الأوثق : « لعل الأمر بالتأمل إشارة إلى منع جريان استصحاب

ص: 103


1- - سورة البقرة : الآية 187 .

والحاصل : أنّ النقض عليه بالنسبة إلى الحكم التكليفي المشكوك بقائه من جهة الشك في سببه ، أو شرطه ، أو مانعه ، غير متّجه ، لأنّ مجرى الاستصحاب في هذه الموارد أولاً وبالذات هو نفس السبب والشرط والمانع ويتبعه إبقاء الحكم التكليفي ولا يجوز اجراء الاستصحاب في الحكم التكليفي ابتداءً ،

-------------------

الحكم هنا أيضا ، لكون مرجع الشك هنا إلى الشك في شرطية الزمان المشكوك فيه في المأمور به وعدمها ، والمرجع عند الشك في الأجزاء والشرائط هي البرائة على مختار المصنِّف ، والاحتياط على قول آخر » (1) .

( والحاصل ) من اشكالنا على الايراد الثالث الذي أورده المستشكل على الفاضل التوني هو : ( أنّ النقض عليه ) أي : على الفاضل التوني ( بالنسبة إلى الحكم التكليفي المشكوك بقائه من جهة الشك في سببه ، أو شرطه ، أو مانعه ، غير متّجه ) ذلك النقض .

وإنّما لم يكن متجها ( لأنّ مجرى الاستصحاب في هذه الموارد أولاً وبالذات هو نفس السبب والشرط والمانع ) وذلك لأن السبب والشرط وعدم المانع من قبيل الموضوع والاستصحاب في الموضوع يمنع عن الاستصحاب في الحكم .

( و ) عليه : فاذا جرى الاستصحاب في هذه الموارد ( يتبعه ) أي : يتبع الاستصحاب في هذه الموارد ( إبقاء الحكم التكليفي ) تلقائيا لأنه إذا تحقق الموضوع ، تحقق الحكم ، سواء كان تحقق الموضوع بالوجدان أم بالاستصحاب.

هذا ( ولا يجوز اجراء الاستصحاب في الحكم التكليفي ابتداءً ) أي : من دون

ص: 104


1- - أوثق الوسائل : ص478 الصحّة والفساد في العبادات والمعاملات في الامور الغير المجعولة .

إلاّ إذا فرض انتفاء استصحاب الأمر الوضعي .

قوله : «وعلى الثاني أيضا كذلك إن قلنا بافادة الأمر التكرار ، إلى آخره» ، قد يكون التكرار مردّدا بين وجهين ، كما إذا علمنا بأنّه ليس بالتكرار الدائمي ، ولكنّ العدد المتكرر كان مردّدا بين الزائد والناقص .

وهذا الايراد

-------------------

ملاحظة جريان الاستصحاب في الموضوع ( إلاّ إذا فرض انتفاء استصحاب الأمر الوضعي ) فاذا انتفى استصحاب الموضوع لجأنا إلى استصحاب الحكم ، وذلك على ما فيه من الاشكال الذي ذكرناه بقولنا : فتأمل .

ومن موارد النظر في كلام الفاضل التوني : ( قوله : « وعلى الثاني ) أي : غير الموقّت ( أيضا كذلك ) أي : كالموقت من حيث شمول الدليل للزمان الثاني من دون حاجة إلى الاستصحاب ، وذلك ( إن قلنا بافادة الأمر التكرار ، إلى آخره » ) لأن معنى التكرار : هو ان يكون الدليل شاملاً للزمان الأوّل ، والزمان الثاني ، وهكذا .

فنقول : ( قد يكون التكرار مردّدا بين وجهين ، كما إذا علمنا بأنّه ليس بالتكرار الدائمي ، ولكنّ العدد المتكرر كان مردّدا بين الزائد والناقص ) فان اثبات الزائد بالتمسك بالأمر ، من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية وهو غير جائز .

مثلاً : إذا علمنا بأن المولى يريد الشيء مكررا ، لكن لم نعلم هل انه يريد عشر مرات أو عشرين مرة ؟ فانه ليس هنا مجال لما ذكره الفاضل التوني : من ان الأمر بنفسه شامل لكل الأفراد بلا حاجة إلى الاستصحاب ، وذلك لفرض : ان الأمر بنفسه لا يدلّ على ان المولى يريد الافراد الزائدة عن العشرة أم لا ؟ .

( وهذا الايراد ) الذي ذكرناه على الفاضل التوني : من انه إذا كان الشك

ص: 105

لا يندفع بما ذكره قدس سره : من أنّ الحكم في التكرار كالأمر الموقت، كما لا يخفى .

فالصواب أن نقول : إذا ثبت وجوب التكرار ، فالشك في بقاء ذلك الحكم من هذه الجهة مرجعه إلى الشك في مقدار التكرار ، لتردّده بين الزائد والناقص ولا يجري فيه الاستصحاب ، لأنّ كلّ واحد من المكرّر إن كان تكليفا مستقلاً ، فالشك في الزائد شكٌ في التكليف المستقلّ ، وحكمه : النفي بأصالة البرائة ، لا الاثبات بالاستصحاب ، كما لا يخفى .

وإن كان الزائد

-------------------

في العدد المراد للمولى ( لا يندفع بما ذكره قدس سره : من أنّ الحكم في التكرار كالأمر الموقت ، كما لا يخفى ) .

وإنّما لا يندفع بذلك ، لأنه قد مضى في الأمر الموقت أيضا : بأنه إذا كان مرددا بين أمرين كذهاب الحمرة واستتار القرص ، فان الدليل لا يشمل أبعد الوقتين مثل : ذهاب الحمرة الذي هو أبعد من استتار القرص بربع ساعة - مثلاً - .

إذن : ( فالصواب أن نقول ) بالنسبة إلى الوقت الثاني انه : ( إذا ثبت وجوب التكرار ، فالشك في بقاء ذلك الحكم من هذه الجهة ) أي : من جهة تردده بين الزائد والناقص يكون ( مرجعه إلى الشك في مقدار التكرار ) هل هو عشر مرات أو أكثر ؟ ( لتردّده بين الزائد والناقص ولا يجري فيه الاستصحاب ) .

وإنّما لا يجري فيه الاستصحاب ( لأنّ كلّ واحد من المكرّر إن كان تكليفا مستقلاً ) بأن كانت هناك تكاليف متعددة ( فالشك في الزائد شكٌ في التكليف المستقلّ ، وحكمه : النفي بأصالة البرائة ) لأنه من الشك في التكليف ( لا الاثبات بالاستصحاب ، كما لا يخفى ) على أحد .

هذا ان كان الزائد على تقدير وجوبه واجبا مستقلاً ( و ) اما ( إن كان الزائد

ص: 106

على تقدير وجوبه جزءً من المأمور به ، بأن يكون الأمر بمجموع العدد المتكرّر ، من حيث أنّه مركب واحد ، فمرجعه إلى الشك في جزئية الشيء للمأمور به وعدمها ، ولا يجري فيه الاستصحاب أيضا ، لأنّ ثبوت الوجوب لباقي الأجزاء لا يُثبِتُ وجوب هذا الشيء المشكوك في جزئيّته ، بل لابد من الرجوع إلى البرائة والاحتياط .

قوله : « إلاّ فذمّة المكلّف مشغولةٌ حتى يأتي بها في أي زمان كان » .

قد يورد عليه النقض بما عرفت

-------------------

على تقدير وجوبه جزءً من المأمور به ، بأن يكون الأمر بمجموع العدد المتكرّر ، من حيث أنّه مركب واحد ) أي : لم تكن هناك تكاليف مستقلة ، وإنّما تكليف واحد يشك في ان أجزائه عشرة أو أكثر ؟ ( فمرجعه إلى الشك في جزئية الشيء للمأمور به وعدمها ) أي : عدم الجزئية بالنسبة إلى الزائد عن العشرة - مثلاً - ( ولا يجري فيه الاستصحاب أيضا ) .

وإنّما لا يجري فيه الاستصحاب ( لأنّ ثبوت الوجوب لباقي الأجزاء ) المتيقنة كالعشرة في المثال ( لا يُثبِتُ وجوب هذا الشيء المشكوك في جزئيّته ) أي : لا يثبت وجوب الجزء الحادي عشر الذي نشك في انه جزء أو ليس بجزء ( بل لابد من الرجوع إلى البرائة ) كما يقوله الاُصوليون ( والاحتياط ) كما يقوله الاخباريون .

ومن موارد النظر في كلام الفاضل التوني : ( قوله : « إلاّ ) بأن لم نقل ان الأمر يفيد التكرار ( فذمّة المكلّف مشغولةٌ حتى يأتي بها في أي زمان كان » ) .

فنقول : ( قد يورد عليه ) أي : على الفاضل التوني هنا ( النقض بما عرفت

ص: 107

حاله في العبارة الاُولى .

ثمّ إنّه لو شك في كون الأمر للتكرار أو المرّة كان الحكم ، كما ذكرنا ، في تردّد التكرار بين الزائد والناقص .

وكذا لو أمر المولى بفعل له استمرارٌ في الجملة ،

-------------------

حاله ) أي حال إيراد المصنِّف عليه هناك ( في العبارة الاُولى ) من كلام الفاضل المذكور حيث ان الفاضل المذكور قبل قوله : « وإلاّ » ، قال : بشمول الدليل للزمان الثاني ان قلنا بافادة الأمر التكرار .

وعليه : فالايراد الذي أورده المصنِّف هناك ، يرد هنا على هذه العبارة أيضا ، وهو : انه قد نعلم ان الأمر ليس للتكرار الدائمي ، لكن عدده مردّد بين الزائد والناقص ، وإثبات الزائد بنفس الدليل كما قاله الفاضل التوني غير صحيح ، لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فيجري في الزائد البرائة لأن نفي التكرار في الجملة لا يستلزم نفي مطلق التكرار .

وكيف كان : فان هذا الايراد هنا - كما عرفت هناك - لا يندفع بما ذكره الفاضل التوني هناك ، بل الجواب عنه هنا بما ذكره المصنِّف هناك أيضا حيث قال : فالصواب ان نقول : إذا ثبت وجوب التكرار ، فالشك في بقاء ذلك الحكم من هذه الجهة مرجعه إلى الشك في مقدار التكرار ولا يجري فيه الاستصحاب بل البرائة .

( ثمّ إنّه لو شك في كون الأمر للتكرار أو المرّة ) بأن لم نعلم هل المعنى اللغوي للأمر هذا ، أو ذاك ؟ ( كان الحكم كما ذكرنا في تردّد التكرار بين الزائد والناقص ) من جريان البرائة عن الزائد على المرّة هنا ، كجريان البرائة عن الزائد على الأقل هناك .

( وكذا لو أمر المولى بفعل له استمرارٌ في الجملة ) فلا يكتفى بفعله مرة ،

ص: 108

كالجلوس في المسجد ، ولم يعلم مقدار استمراره فانّ الشك بين الزائد والناقص يرجعُ مع فرض كون الزائد المشكوك واجبا مستقلاً على تقدير وجوبه إلى أصالة البرائة .

ومع فرض كونه جزءً يرجع إلى مسألة الشك في الجزئية وعدمها ، فانّ فيها البرائة أو وجوب الاحتياط .

قوله : « وتوهّم : أنّ الأمر إذا كان للفور يكون من قبيل الموقّت المضيّق ، اشتباهٌ غير خفيّ على المتأمّل » .

-------------------

ولا نعلم أيضا بالاستمرار المطلق ( كالجلوس في المسجد ، ولم يعلم مقدار استمراره ) هل هو واجب إلى الظهر أو إلى العصر ؟ .

وعليه : ( فانّ الشك بين الزائد والناقص ) في كلا المثالين ( يرجع مع فرض كون الزائد المشكوك واجبا مستقلاً على تقدير وجوبه ) أي : وجوب ذلك الزائد ، يرجع ( إلى أصالة البرائة ) فلا يجب الزائد .

( ومع فرض كونه جزءً ) بأن كان المجموع واجبا واحدا ، نشك بأن له عشرة أجزاء أو أكثر ؟ فانه ( يرجع إلى مسألة الشك في الجزئية وعدمها ) أي : عدم الجزئية ( فانّ فيها ) أي : في مسألة الشك في الجزئية وعدمها ( البرائة ) كما يقوله الاُصوليون ( أو وجوب الاحتياط ) كما يقوله الاخباريون .

ومن موارد النظر في كلام الفاضل التوني أيضا : ( قوله : « وتوهّم : أنّ الأمر إذا كان للفور يكون من قبيل الموقّت المضيّق ، اشتباهٌ غير خفيّ على المتأمّل » ) فان الفاضل التوني لما قسّم الأمر في صدر كلامه إلى الموقّت وغير الموقّت ، ثم سوّى في غير الموقّت بين أن يكون الأمر بالفور أم لم يكن ، توجّه عليه إشكال توهم : بأن الأمر إذا كان للفور ، كان من قبيل الموقت ، فكيف جعلتموه من أقسام

ص: 109

الظاهر : أنّه دفعُ اعتراض على التسوية في ثبوت الوجوب في كل جزء من الوقت بنفس الأمر بين كونه للفور وعدمه ، ولا دخل له بمطلبه وهو عدم جريان الاستصحاب في الأمر الفوري ، لأنّ كونه من قبيل الموقّت المضيّق لا يوجب جريان الاستصحاب فيه .

-------------------

غير الموقت مع انه لا يجوز أن يكون شيء واحد موقتا وغير موقت ؟ .

فأجاب عنه : بأنه اشتباه غير خفي على المتأمل ، وذلك لامكان أن يكون الفور من قبيل تعدّد المطلوب ، فالشي مطلوب في نفسه ، وفوريّته مطلوب ثان ، فيمكن استصحابه بعد الآن الأوّل ، بخلاف الموقت ، حيث لا حكم بعد وقته ، فلا يمكن استصحابه .

ولذا قال المصنِّف : ( الظاهر : أنّه دفع اعتراض على التسوية في ثبوت الوجوب في كل جزء من الوقت بنفس الأمر ) تسوية ( بين كونه للفور وعدمه ) أي : عدم كونه للفور .

وتقريب الاعتراض هو : ان التسوية في الحكم بين كون الأمر للفور وعدمه غير صحيح ، لأن الأمر إذا كان للفور كان من قبيل الموقت ، فلا يكون توسعة في وقت الفعل حتى يكون ثبوت الحكم في كل جزء من الوقت بنفس الأمر ( ولا دخل له ) أي : لهذا الدفع ( بمطلبه ) أي : مطلب الفاضل التوني ( وهو ) أي : مطلبه : ( عدم جريان الاستصحاب في الأمر الفوري ) .

وإنّما لا دخل له بمطلبه ( لأنّ كونه من قبيل الموقّت المضيّق لا يوجب جريان الاستصحاب فيه ) وذلك لأن الفاضل التوني لا يرى جريان الاستصحاب ، لا في الفور ولا في الموقت ، وإنّما أراد بيان ان الفور والموقت شيئان لا شيء واحد

ص: 110

لأنّ الفور المنزّل عند المتوهّم منزلةَ الموقّت المضيّق ، إمّا أن يراد به المسارعة في أول أزمنة الامكان ، وإن لم يسارع ففي ثانيها ، وهكذا ، وإمّا أن يراد به خصوص الزمان الأوّل ، فاذا فات لم يثبت بالأمر وجوب الفعل في الآن الثاني لا فورا ولا متراخيا ، وإمّا أن يراد به ثبوته في الآن الثاني متراخيا .

وعلى الأوّل : فهو في كلّ جزء من الوقت

-------------------

كما توهمه المتوهم ، وذلك ( لأنّ الفور المنزّل عند المتوهّم منزلةَ الموقّت المضيّق ) له ثلاث احتمالات :

الأوّل : ( إمّا أن يراد به ) أي : بالفور ( المسارعة في أول أزمنة الامكان ، وإن لم يسارع ففي ثانيها ، وهكذا ) فيكون فورا ففورا .

الثاني : ( وإمّا أن يراد به خصوص الزمان الأوّل ، فاذا فات لم يثبت بالأمر وجوب الفعل في الآن الثاني لا فورا ولا متراخيا ) .

الثالث : ( وإمّا أن يراد به ثبوته في الآن الثاني متراخيا ) .

وعليه : فقد يريد المولى أن يسقي الحديقة في الساعة الاُولى ، فان لم يسقها ففي الساعة الثانية ، وهكذا ، وهذا ما يسمى فورا ففورا .

وقد يريد ان يسقيها في الساعة الاُولى ، فان لم يسقها مات الشجر ، فلا أمر بالسقي في الساعة الثانية .

وقد يريد أن يسقيها في الساعة الاُولى ، فان لم يسقها سقاها متى شاء ، لأنه وان ذبل الثمر بعدم السقي في الساعة الاُولى ، إلاّ ان الشجر يحتاج إلى الماء فيسقيها متى شاء .

( وعلى الأوّل ) وهو : ان يريده فورا ففورا ( فهو في كلّ جزء من الوقت

ص: 111

من قبيل المضيّق .

وعلى الثاني : فلا معنى للاستصحاب بناءا على ما سيذكره من أنّ الاستصحاب لم يقل به أحد فيما بعد الوقت .

وعلى الثالث يكون في الوقت الأوّل كالمضيّق ، وفيما بعده كالأمر المطلق .

وقد ذكر بعض شرّاح الوافية : « أنّ دفع هذا التوهم لأجل استلزامه الاحتياجَ إلى الاستصحاب لاثبات الوجوب في ما بعد الوقت الأوّل » .

-------------------

من قبيل المضيّق ) فكما انه إذا ترك المضيّق عوقب ، وإذا ترك الفور أيضا عوقب ، فكذلك إذا ترك فورا ففورا .

( وعلى الثاني : فلا ) تكليف في الآن الثاني ، إذ لا ( معنى للاستصحاب بناءا على ما سيذكره : من أنّ الاستصحاب لم يقل به أحد فيما بعد الوقت ) الأوّل ، لأن المفروض : ان المولى يريد الشيء فورا ، فاذا فات الفور ، لا يريد بعده شيئا .

( وعلى الثالث ) : وهو المركب من الفور أولاً والتراخي ثانيا وثالثا وهكذا ، فانه ( يكون في الوقت الأوّل كالمضيّق ، وفيما بعده كالأمر المطلق ) .

وعلى أي حال : فالفور له أقسام متفاوتة وليس كالمضيّق على الاطلاق حتى يتساوى الفور والمضيّق مطلقا .

هذا ( وقد ذكر بعض شرّاح الوافية : « أنّ دفع هذا التوهم ) من الفاضل التوني إنّما هو ( لأجل استلزامه ) أي : استلزام هذا التوهم ( الاحتياجَ إلى الاستصحاب ) احتياجا ( لاثبات الوجوب في ما بعد الوقت الأوّل » (1) ) في الفور ، فرده الفاضل حتى يثبت قوله بعدم جريان الاستصحاب فيه ، مع انه على ما عرفت ليس كذلك .

ص: 112


1- - شرح الوافية : مخطوط .

ولم أعرف له وجها .

قوله : « وكذا النهي » .

لا يخفى : أنّه قدس سره لم يستوف أقسام الأمر ، لأنّ منها : ما يتردّد الأمر بين الموقّت بوقت ، فيرتفع الأمر بفواته ، وبين المطلق الذي يجوز امتثاله بعد ذلك الوقت ،

-------------------

وعليه : فالشارح قال : ان من يتوهم تساوي الفور والمضيّق ، يستلزم عليه الاحتياج إلى الاستصحاب في الوقت الثاني ، فقال المصنِّف في رده : ( ولم أعرف له وجها ) إذ كيف يستلزم الاستصحاب مع انه لا استصحاب في المضيّق ؟ فكيف يجري الاستصحاب في الفور الذي يراه المتوهم مثل المضيّق ؟ .

والحاصل من كلام المصنِّف هو : ان الفاضل التوني رحمه اللّه بقوله : وتوهّم ان الأمر إذا كان الفور يكون من قبيل الموقّت المضيّق اشتباه غير خفي ، أراد به دفع توهم غير مربوط بمطلبه ، لا انه مربوط بمطلبه كما قاله بعض الشرّاح .

ومن موارد النظر في كلام الفاضل التوني : ( قوله : « وكذا النهي » ) فان الفاضل التوني بعد ان قسم الأمر إلى أقسام وأنكر جريان الاستصحاب فيها قال : وكذا الكلام في النهي ، بل هو الأولى بعدم توهم الاستصحاب فيه ، لأن مطلقه يفيد التكرار ، وإذا كان مفيدا للتكرار فلا مجرى للاستصحاب .

فنقول : ( لا يخفى : أنّه قدس سره لم يستوف أقسام الأمر ) فشرع في النهي قبل استيفاء أقسام الأمر ، وقد كان عليه أن يستوفي أقسام الأمر أولاً ثم يبدأ بالنهي .

وإنّما لم يستوف أقسام الأمر ( لأنّ منها : ما يتردّد الأمر بين الموقّت بوقت ، فيرتفع الأمر بفواته ، وبين المطلق الذي يجوز امتثاله بعد ذلك الوقت ) وهذا قسم لم يذكره الفاضل التوني رحمه اللّه .

ص: 113

كما إذا شككنا في أنّ الأمر بالغسل في يوم الجمعة مطلق ، فيجوز الاتيان به في كلّ جزء من النهار أو موقّت إلى الزوال ، وكذا وجوب الفطرة بالنسبة إلى يوم العيد ، فانّ الظاهر : أنّه لا مانع من استصحاب الحكم التكليفي هنا ابتداءً .

قوله : « بل هو أولى ، لأنّ مطلقه ، إلى آخره » .

-------------------

وامّا مثاله : فهو ما أشار اليه بقوله : ( كما إذا شككنا في أنّ الأمر بالغسل في يوم الجمعة مطلق ، فيجوز الاتيان به في كلّ جزء من النهار ) إلى المغرب ( أو موقّت إلى الزوال ) وليس مطلقا فهل يجري فيه الاستصحاب بعد الزوال أو لا يجري ؟ .

( وكذا وجوب الفطرة بالنسبة إلى يوم العيد ) إذا شككنا في ان وفيه إلى ما قبل صلاة العيد ، أو إلى الظهر ، أو إلى المغرب ، فهل يجري فيه الاستصحاب بعد الصلاة أم لا ؟ .

وعليه : ( فانّ الظاهر : أنّه لا مانع من استصحاب الحكم التكليفي هنا ابتداءً ) أي : من دون استصحاب الحكم الوضعي ، فنستصحب استحباب غسل الجمعة إلى الغروب ، وكذلك نستصحب وجوب الفطرة إلى الغروب .

وقال : ابتداءً ، يعني : لا تبعا لاستصحاب الحكم الوضعي ، وكأنه بناءا على المشهور : من المسامحة في موضوع الاستصحاب ، وامّا بناءا على الدقّة : فلا يجري الاستصحاب ، لأنه من قبيل الشك في بقاء موضوع المستصحب ، حيث ان المصنِّف بنى على عدم جريان الاستصحاب في ما كان الشك فيه من الشك في المقتضي .

ومن موارد النظر في كلام الفاضل التوني : ( قوله : « بل هو أولى ، لأنّ مطلقه ، إلى آخره » ) فان الفاضل التوني قال : ان النهي أولى بعدم توهم الاستصحاب فيه

ص: 114

كأنّه قدس سره ، لم يلاحظ إلاّ الأوامر والنواهي اللفظية البيّنة المدلول ، وإلاّ ، فاذا قام الاجماع ، أو دليل لفظي مجمل ، على حرمة شيء في زمان ولم يعلم بقاؤها بعده ، كحرمة الوطي للحائض المردّدة بين اختصاصها بأيّام رؤية الدم ، فيرتفع بعد النقاء وشمولها لزمان بقاء حدث الحيض ، فلا يرتفع إلاّ بالاغتسال ،

-------------------

من الأمر ، لأن مطلقه يفيد التكرار ، ومن المعلوم : ان معنى التكرار هو : ان الدليل شامل لكل أجزاء الزمان فلا مجال للاستصحاب أصلاً .

لكن يرد عليه : ان النواهي الّلبّية لا إطلاق لها بالنسبة إلى الأزمنة المختلفة ، فاذا شك في وجوب النهي في الزمان الثاني كان مجرى للاستصحاب ، ولذلك قال : ( كأنّه قدس سره لم يلاحظ إلاّ الأوامر والنواهي اللفظية البيّنة المدلول ) حتى جعل النهي واضحا شموله لجميع الأزمنة .

( وإلاّ ، فاذا قام الاجماع ، أو دليل لفظي مجمل ، على حرمة شيء في زمان ولم يعلم بقاؤها ) أي بقاء تلك الحرمة ( بعده ) أي : بعد ذلك الزمان ( كحرمة الوطي للحائض المردّدة ) تلك الحرمة ( بين اختصاصها بأيّام رؤية الدم ، فيرتفع بعد النقاء ) وان لم تغتسل ، فيجوز وطيها في هذا الحال ( وشمولها لزمان بقاء حدث الحيض ، فلا يرتفع إلاّ بالاغتسال ) .

ولا يخفى : ان الاجمال هنا حدث من قوله سبحانه : « حتى يطْهرن » (1) للشك في انه هل يراد به الطهر من الخبث ، أو الطهر من الحدث ؟ فان الشك هنا موجود حتى وان لم يكن قرائة التشديد .

وكيف كان : فاذا طهرت عن الخبث ولم تغتسل بعد كان مجال استصحاب

ص: 115


1- - سورة البقرة : الآية 222 .

وكحرمة العصير العنبي بعد ذهاب ثلثيه بغير النار ، وحلّية عصير الزبيب والتمر بعد غليانهما ، إلى غير ذلك ممّا لا يُحصى ، فلا مانع في ذلك كلّه من الاستصحاب .

قوله : « فينبغي أن ينظر إلى كيفية سببيّة السبب هل هي على الاطلاق ؟ إلى آخره » .

-------------------

الحرمة واسعا .

( وكحرمة العصير العنبي بعد ذهاب ثلثيه بغير النار ) حيث نشك في انه هل بقيت الحرمة أم لا ؟ .

( وحلّية عصير الزبيب والتمر بعد غليانهما ) حيث نشك في انهما بقيا حلالين ، أو ان الغليان سبب حرمتهما ؟ .

( إلى غير ذلك ممّا لا يُحصى ) أمثلته من النواهي اللبية التي يشك في دوام النهي وعدم دوامه .

وعليه : ( فلا مانع في ذلك كلّه من الاستصحاب ) للحكم السابق سواء الحرمة أم الحلية .

ومن موارد النظر في كلام الفاضل التوني : ( قوله : « فينبغي أن ينظر إلى كيفية سببيّة السبب هل هي على الاطلاق ؟ إلى آخره » ) فان الفاضل التوني قال في بقيّة عبارته المتقدّمة ما يلي :

كما في الايجاب والقبول ، فان سببيّته على نحو خاص وهو : الدوام إلى ان يتحقق المزيل وكذا الزلزلة ، أو في وقت معيّن كالدلوك ونحوه مما لم يكن السبب وقتا ، وكالكسوف والحيض ونحوهما ممّا يكون السبب وقتا للحكم ، فان السببيّة في هذه الأشياء على نحو آخر يعني : ليس على سبيل الدوام - فانها أسباب للحكم

ص: 116

الظاهر : أنّ مراده من سببية السبب تأثيره ، لا كونُه سببا في الشرع ، وهو : الحكم الوضعي لأنّ هذا لا ينقسم إلى ما ذكره من الأقسام ، لكونه دائميّا في جميع الأسباب إلى أن ينسخ .

فان أراد من النظر في كيفية سببيّة السبب : تحصيل مورد يشك في كيفية السببيّة ليكون موردا للاستصحاب في المسبّب ، فهو منافٍ لما ذكره : من عدم جريان

-------------------

في أوقات معيّنة - يعني : أوقات متعلق الحكم لا نفس الحكم - وجميع ذلك ليس من الاستصحاب في شيء .

فنقول : ( الظاهر : أنّ مراده من سببية السبب تأثيره ) لأنه قد يكون هناك سبب ، لكنّه لا يؤثر لفقد شرط أو وجود مانع ( لا كونُه ) أي : كون السبب ( سببا في الشرع ، وهو : الحكم الوضعي ) .

وإنّما قلنا لا كونه سببا ( لأنّ هذا ) أي : كونه سببا ( لا ينقسم إلى ما ذكره من الأقسام ، لكونه دائميّا في جميع الأسباب ) مستمرا ( إلى أن ينسخ ) فان النسخ هو الرافع للسبب ، وإلاّ فبدون النسخ يبقى السبب سببا .

وعليه : ( فان أراد من النظر في كيفية سببيّة السبب : تحصيل مورد يشك في كيفية السببيّة ) حتى لا يجري الاستصحاب في السببيّة ، بل ( ليكون موردا للاستصحاب في المسبّب ) وذلك على ما سبق : من انه إذا أجرينا الاستصحاب في السببيّة لم يبق مجال للاستصحاب في المسبّب ، لأن استصحاب السبب حاكم على الاستصحاب في المسبب .

وعليه : فان أراد منه هذا المعنى ( فهو منافٍ لما ذكره : من عدم جريان

ص: 117

الاستصحاب في التكليفيّات إلاّ تبعا لجريانه للوضعيّات .

وإن أراد من ذلك نفي مورد يشك في كيفية سببية السبب ليجري الاستصحاب في المسبب فأنت خبيرٌ : بأنّ موارد الشك كثيرة ، فانّ المسببيّة قد تتردّد بين الدائم والموقت ، كالخيار المسبب عن الغبن ، المتردّد بين كونه دائما لولا المُسقط ، وبين كونه فوريّا ، وكالشفعة المردّدة بين كونه مستمرا إلى الصبح لو علم به ليلاً ، أم لا ،

-------------------

الاستصحاب في التكليفيّات إلاّ تبعا لجريانه للوضعيّات ) لأنه قد أجرى الاستصحاب هنا في المسبّب وهو أمر تكليفي ، بدون أن يجري الاستصحاب في السبب الذي هو وضع .

( وإن أراد من ذلك ) أي : من النظر في كيفية سببية السبب : ( نفي مورد يشك في كيفية سببية السبب ) حتى انه ليس لنا مورد يشك فيه ( ليجري الاستصحاب في المسبب ) فانه يجاب : بأنه إذا لم يكن شك في السبب لم يكن شك في المسبّب أيضا ، فلا مجال حينئذ للاستصحاب في المسبّب أيضا .

وعليه : فان أراد منه هذا المعنى ( فأنت خبيرٌ : بأنّ موارد الشك كثيرة ، فانّ المسببيّة قد تتردّد بين الدائم والموقت ) فلا نعلم بأن المسبّب دائم أو موقّت وذلك ( كالخيار المسبب من الغبن ، المتردّد ) ذلك الخيار ( بين كونه دائما لولا المسقط ، وبين كونه فوريّا ) وقال : لولا المسقط ، لأنه إذا حصل مسقط فلا إشكال في انه لا خيار .

( وكالشفعة المردّدة بين كونه مستمرا إلى الصبح لو علم به ) أي : بحقه في الشفعة ( ليلاً ، أم لا ) بل اللازم أن يأخذ بحقه في نفس الليلة ، فاذا تأخر عن الأخذ بحقه في الشفعة إلى الصباح سقطت الشفعة .

ص: 118

وهكذا ، والموقّت قد يتردّد بين وقتين ، كالكسوف الذي هو سبب لوجوب الصلاة المردّد وقتها بين الأخذ في الانجلاء ، وتمامه .

قوله : « وكذا الكلام في الشرط والمانع ، إلى آخره » .

لم أعرف المراد من إلحاق الشرط والمانع بالسبب ، فانّ شيئا من الأقسام المذكورة للسبب لا يجري في الشرط والمانع

-------------------

( وهكذا ) بالنسبة إلى سائر الأمثلة ممّا يكون الشك في المسبّب مرددا بين الموقّت والدائم .

هذا ( والموقّت قد يتردّد بين وقتين ) فانه وان علمنا انه ليس بدائم وإنّما هو موقت ، لكنّا نشك في ان الوقت طويل أو قصير ( كالكسوف الذي هو سبب لوجوب الصلاة ) للآيات ( المردّد وقتها ) أي : وقت تلك الصلاة بالنسبة إلى آخر الوقت ( بين الأخذ في الانجلاء ، و ) بين ( تمامه ) .

وعليه : فاذا كان آخر وقت الصلاة هو الانجلاء ، فاذا شرع القرص في الانجلاء تمّ وقت الصلاة ، وإذا كان الوقت ممتدا إلى آخر الانجلاء ، فان الصلاة تكون واجبة إلى آخر لحظة من الكسوف أو الخسوف .

ومن موارد النظر في كلام الفاضل التوني : ( قوله : « وكذا الكلام في الشرط والمانع ، إلى آخره » ) فان الفاضل التوني بعد ان ذكر السبب ذكر ان الكلام في الشرط والمانع هو كالكلام في السبب .

لكن المصنِّف قال : ( لم أعرف المراد من الحاق الشرط والمانع بالسبب ) وذلك لأنه قسّم السبب إلى دائم وموقّت ، والموقّت إلى ظرف وغير ظرف ، وهذه الأقسام لا تأتي في الشرط والمانع كما قال :

( فانّ شيئا من الأقسام المذكورة للسبب لا يجري في الشرط والمانع )

ص: 119

وإن جرى كلّها أو بعضها في المانع إذا لوحظ كونه سببا للعدم ، لكنّ المانع بهذا الاعتبار يدخلُ في السبب . وكذا عدم الشرط إذا لوحظ كونه سببا لعدم الحكم .

وكذا ما ذكره في وجه عدم جريان الاستصحاب بقوله : « فانّ ثبوت الحكم ، إلى آخره » .

-------------------

حتى ( وإن جرى كلّها ، أو بعضها في المانع ) وذلك ( إذا لوحظ كونه سببا للعدم ) فانه لا يصح إلحاقه بالسبب مع ذلك لأنه حينئذ سبب ، والسبب يأتي فيه تلك الأقسام المذكورة كما قال : ( لكنّ المانع بهذا الاعتبار ) أي : باعتبار كونه سببا للعدم ( يدخلُ في السبب ) فلا يكون مانعا حينئذ .

( وكذا عدم الشرط إذا لوحظ كونه سببا لعدم الحكم ) فانه يأتي فيه تلك الأقسام كما انه يأتي عليه نفس الاشكال أيضا من انه يدخل في السبب فلا يكون شرطا حينئذ .

لكن يمكن أن يقال : ان مراد الفاضل التوني رحمه اللّه هو : ان الشرط قد يكون شرطا للشيء مطلقا ، وقد يكون شرطا له موقتا ، وكذلك المانع قد يكون مطلقا وقد يكون موقتا ، لا ان مراده ما أشار اليه المصنِّف .

ولذا ذكرنا هناك عند شرح عبارة الفاضل المذكور : انه كما لا يستصحب في السبب ، لا يستصحب في الشرط والمانع ، لأن أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم بسبب الشرط ، أو الفاقد فيه الحكم بسبب المانع ، ليس تابعا للثبوت أو عدم الثبوت في جزء آخر سابق عليه .

( وكذا ) قال المصنِّف : لم أعرف المراد من ( ما ذكره في وجه عدم جريان الاستصحاب بقوله : « فانّ ثبوت الحكم ، إلى آخره » ) حيث قال : فان ثبوت

ص: 120

فانّ الحاصل من النظر في كيفية شرطيّة الشرط أنّه قد يكون نفس الشيء شرطا لشيء على الاطلاق ، كالطهارة من الحدث الأصغر للمسّ ، ومن الأكبر للمكث في المساجد ، ومن الحيض للوطي ، ووجوب العبادة .

وقد يكون شرطا له في حال دون حال ، كاشتراط الطهارة من الخبث في الصلاة مع التمكين لا مع عدمه .

وقد يكون حدوثه في زمان مّا شرطا للشيء ، فيبقى المشروط ولو بعد ارتفاع الشرط ، كالاستطاعة للحج .

-------------------

الحكم في شيء من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم ، ليس تابعا للثبوت في جزء آخر ، بل نسبة السبب في محل اقتضاء الحكم في كل جزء نسبة واحدة .

وعليه : ( فانّ الحاصل من النظر في كيفية شرطيّة الشرط ) هو انقسام الشرط ، لكن لا بالاعتبار الذي ذكره الفاضل التوني في السبب ، بل بالاعتبار التالي كما قال :

أولاً : ( أنّه قد يكون نفس الشيء شرطا لشيء على الاطلاق ، كالطهارة من الحدث الأصغر للمسّ ) أي مسّ كتابة القرآن ( و ) الطهارة ( من ) الحدث ( الأكبر للمكث في المساجد ، و ) الطهارة ( من الحيض للوطي ، ووجوب العبادة ) لأن المرأة إذا لم تطهر من الحيض لا يجوز لزوجها وطيها ولا تجب العبادة عليها ، وكل ذلك يجري الاستصحاب في نفس الشرط دون الشرطية .

ثانيا : ( وقد يكون شرطا له في حال دون حال ، كاشتراط الطهارة من الخبث في الصلاة مع التمكين ) من التطهير ( لا مع عدمه ) فانه إذا لم يتمكن المصلي من التطهير صلى مع الخبث ، فلا يكون هناك اشتراط الطهارة من الخبث .

ثالثا : ( وقد يكون حدوثه في زمان مّا ) أي : حدوث الشرط في زمان ما ( شرطا للشيء ، فيبقى المشروط ولو بعد ارتفاع الشرط ، كالاستطاعة للحج ) فان الانسان

ص: 121

وقد يكون تأثير الشرط بالنسبة إلى فعل دون فعل ، كالوضوء العُذريّ المؤثر فيما يُأتى به حال العذر .

فاذا شككنا في مسألة الحجّ في بقاء وجوبه بعد ارتفاع الاستطاعة ، فلا مانع من استصحابه .

-------------------

إذا صار مستطيعا في زمان مّا ولم يحج ، وجب عليه الحج في السنوات القادمة وان ذهبت استطاعته بعد ذلك .

رابعا : ( وقد يكون تأثير الشرط بالنسبة إلى فعل دون فعل ، كالوضوء العُذريّ المؤثر فيما يُأتى به حال العذر ) وكذلك الغسل العذري ، فان ما يأتي به من الأفعال المشروطة بالوضوء أو الغسل في حال العذر مع الوضوء أو الغسل العذريّين صحيح ، دون ما يأتي به في غير هذه الحال ، إذ لو ارتفع العذر وجب الوضوء والغسل التامان حتى يجوز الدخول في الصلاة ، ويصحّ الطواف ، وما أشبه ذلك .

وحيث كان الشرط كما عرفت على أقسام ، فاذا شككنا في ان الشرط في مكان هل هو من قبيل ما إذا ارتفع ارتفع المشروط ، أو من قبيل ما إذا ارتفع لم يرتفع المشروط ؟ نستصحب المشروط ، لاحتمالنا بقاء وجوب المشروط ، وانه من قبيل الشرط الذي يكفي حدوثه في بقاء المشروط على وجوبه ولو بعد إنعدام الشرط .

أما مثاله ، فقد مثّل لذلك المصنِّف بقوله : ( فاذا شككنا في مسألة الحجّ في بقاء وجوبه بعد ارتفاع الاستطاعة ) بأن لم نعلم هل الاستطاعة من قبيل الشرط المطلق حتى إذا ارتفع ارتفع وجوب الحج ، أو من قبيل الشرط الذي يكفي حدوثه في بقاء وجوب الحج ولو بعد ارتفاع الشرط ( فلا مانع من استصحابه ) أي :

ص: 122

وكذا لو شككنا في اختصاص الاشتراط بحال التمكّن من الشرط ، كما إذا ارتفع التمكّن من إزالة النجاسة في أثناء الوقت ، فانّه لا مانع من استصحاب الوجوب .

-------------------

استصحاب وجوب الحج حينئذ .

ومن ذلك ظهر : انه لا تهافت بين كلامي المصنِّف حيث قال تارة : ان الاستطاعة حدوثها في زمان مّا شرط فيبقى المشروط ولو بعد ارتفاع الشرط ، وقال اُخرى : فاذا شككنا في بقاء وجوبه بعد ارتفاع الاستطاعة أي : بعد ارتفاع الشرط .

وإنّما قلنا : لا تهافت ، لأن كلامه الأوّل في واقع شرط الاستطاعة المستفاد من الأدلة ، وكلامه الثاني على نحو القضية الفرضية بأن نفرض انه لم نستفد من الأدلة بأن اشتراط الحج بالاستطاعة هل هو من قبيل الشرط المطلق كالطهارة بالنسبة إلى مس كتابة القرآن ، أو من قبيل الشرط الذي يكفي حدوثه في بقاء وجوب الحج ، فانه حينئذ نستصحب وجوب الحج وان ارتفع الشرط الذي هو الاستطاعة ؟ .

( وكذا ) لا مانع من الاستصحاب فيما ( لو شككنا في ) انّ الاشتراط مطلق ، أو ان ( اختصاص الاشتراط بحال التمكّن من الشرط ، كما إذا ارتفع التمكّن من إزالة النجاسة في أثناء الوقت ، فانّه لا مانع من استصحاب الوجوب ) .

مثلاً : إذا فرضنا انا لم نعلم هل ان إزالة الخبث شرط مطلق حتى إذا لم يتمكن المكلّف من إزالة الخبث عن بدنه أو ثوبه سقط وجوب الصلاة عنه ، أو انه شرط عند التمكن فقط ، حتى إذا كان أول الوقت قادرا على الصلاة مع الازالة ، ثم وسط الوقت سقطت قدرته ، فانا نستصحب وجوب الصلاة إلى ما بعد وقت زوال القدرة .

ص: 123

وكذا لو شككنا في أنّ الشرط في إباحة الوطي الطهارة بمعنى : النقاء من الحيض أو ارتفاع حدث الحيض . وكذا لو شككنا في بقاء إباحة الصلاة أو المسّ بعد الوضوء العذريّ إذا كان فعل المشروط به بعد زوال العذر .

وبالجملة : فلا أجد كيفيّة شرطيّة الشرط مانعة عن إجراء الاستصحاب في المشروط بل قد يوجب إجرائه فيه .

-------------------

( وكذا لو شككنا في أنّ الشرط في إباحة الوطي الطهارة بمعنى : النقاء من الحيض ) ولو لم تغتسل ( أو ارتفاع حدث الحيض ) بأن يجوز الوطي بعد اغتسالها ، فانا نستصحب إباحة الوطي التي كانت قبل الحيض ، حيث ان الشارع أباح الوطي مطلقا وأخرج من الاباحة حال الدم ، فاذا شككنا في الجواز وعدمه بعد تمام الدم قبل الغسل ، نستصحب الجواز السابق على الحيض .

هذا وقد يقال : هناك في تفسير هذه العبارة من المصنِّف معنى آخر : وهو إستصحاب حرمة الوطي بعد النقاء قبل الغسل ، لكنه خلاف ظاهر العبارة .

( وكذا لو شككنا في بقاء إباحة الصلاة أو ) إباحة ( المسّ ) لكتابة القرآن ( بعد الوضوء العذريّ إذا كان فعل المشروط به ) من الصلاة والمسّ ( بعد زوال العذر ) بأن توضأ - مثلاً - وضوء الجبيرة ، وبعد البرء أراد أن يصلي أو يمس كتابة القرآن بذلك الوضوء العذري ، فإنه يستصحب الاباحة السابقة .

( وبالجملة : فلا أجد كيفيّة شرطيّة الشرط مانعة عن إجراء الاستصحاب في المشروط ) فإن الاستصحاب يجري في المشروط إذا شككنا في إن الشرط بكيفيّة مطلقة ، أو ان الشرط بكيفيّة خاصة على ما عرفت .

( بل قد يوجب إجرائه فيه ) أي : في المشروط ، بمعنى : ان الشك في الكيفيّة يوجب إجراء الاستصحاب في المشروط ، ومعنى إيجابه هو : أن يكون دليل

ص: 124

قوله : « فظهر ممّا ذكرنا : أنّ الاستصحاب المختلف فيه لا يجري إلاّ في الأحكام الوضعيّة ، أعني : الأسباب والشروط والموانع » .

لا يخفى ما في هذا التفريع ، فإنّه لم يظهر من كلامه : جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعيّة ، بمعنى نفس الأسباب والشروط ، ولا عدمُه فيها بالمعنى المعروف .

-------------------

الاستصحاب شاملاً لهذا المورد الذي يشك في كيفية شرطه بأنه هل هو شرط مطلق أو شرط ليس بمطلق .

ومن موارد النظر في كلام الفاضل التوني : ( قوله : « فظهر ممّا ذكرنا : أنّ الاستصحاب المختلف فيه ) حيث يجريه جماعة ، ويمنعه جماعة ( لا يجري إلاّ في الأحكام الوضعيّة ، أعني : الأسباب والشروط والموانع » ) فقط .

فنقول أولاً : ( لا يخفى ما في هذا التفريع ، فإنّه لم يظهر من كلامه : جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعيّة ، بمعنى نفس الأسباب والشروط ، ولا عدمُه فيها بالمعنى المعروف ) للاستصحاب ، ولذا قال الأوثق والآشتياني هنا واللفظ للأول ما حاصله :

ان قول الفاضل التوني مركّب من عقدي : الايجاب والسلب وهما : إعتبار الاستصحاب في متعلّقات أحكام الوضع ، وعدمه في غيرها ، وما يظهر من كلامه إلى قوله : فظهر ممّا ذكرنا هو : عدم إعتباره في الأحكام التكليفية إبتداءً ، ولا في المسبّبات ، وكذا في أحكام الوضع .

وأمّا متعلّقات أحكام الوضع ، فلم يظهر من كلامه جريانه ولا عدمه فيه بالمعنى المعروف ، أعني : إثبات الشيء في الزمان الثاني تعويلاً على ثبوته في الزمان الأوّل ، فلا يصحّ التفريع حينئذ ، مع إن متعلّقاتها إن كانت من الموضوعات

ص: 125

نعم ، علم عدم الجريان أيضا في المسبّبات أيضا ، لزعمه إنحصارها في المؤبّد ، والموقّت بوقت محدود معلوم .

فبقي أمران ، أحدهما : نفس الحكم الوضعي ، وهو : جعل الشيء سببا لشيء أو شرطا ، واللازم : عدم جريان الاستصحاب فيها ،

-------------------

الخارجية ، فهي خارجة عن محل الكلام أعني : الأحكام الشرعية التي قسّمها إلى ستة أقسام ، وان كانت من الموضوعات الشرعية مثل الطهارة والنجاسة اللتين مثّل بهما ، فهي من قبيل المسبّبات التي صرّح بعدم جريان الاستصحاب فيها (1) .

( نعم ، علم ) من كلام الفاضل التوني ( عدم الجريان أيضا ) للاستصحاب ( في المسبّبات أيضا ، لزعمه إنحصارها ) أي المسبّبات ( في المؤبّد ، والموقّت بوقت محدود معلوم ) وما كان مؤبّدا أو مؤقتا كان الحكم فيه في الزمان الثاني بنفس الدليل بالاستصحاب .

ونقول ثانيا : ( فبقي ) ممّا لم يذكره الفاضل التوني ( أمران ) على النحو التالي :

( أحدهما : نفس الحكم الوضعي وهو : جعل الشيء سببا لشيء ، أو شرطا ) إذ قد تقدّم : إن هناك ذات الشرط كالوضوء ، والشرطية وهو إشتراط الصلاة بالوضوء، وذات السبب كالدلوك ، والسببية وهو سببية الدلوك لوجوب الصلاة حيث قال عليه السلام : « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة » (2) وهكذا في ذات المانع ، والمانعية ( واللازم : عدم جريان الاستصحاب فيها ) أي : في الشرطية

ص: 126


1- - أوثق الوسائل : ص479 جريان الاستصحاب في الأسباب والموانع والشروط .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص140 ب23 ح4 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص33 ح67 ، وسائل الشيعة : ج1 ص372 ب4 ح981 و ج2 ص203 ب14 ح1929 .

لعين ما ذكره في الأحكام التكليفية .

والثاني : نفس الأسباب والشروط .

ويرد عليه أنّ نفس السبب والشرط والمانع إن كان أمرا غير شرعي ، فظاهرُ كلامه - حيث جعل محلّ الكلام في الاستصحاب المختلف فيه هي الاُمور الشرعية - : خروجُ مثل هذا عنه ، كحياة زيد ورطوبة ثوبه ؛

-------------------

والسببية والمانعية ( لعين ما ذكره في الأحكام التكليفية ) لأنه من القسم الدائم حتى يجيء رافع ، وقد عرفت : إنه لا إستصحاب في الدائم ، فتتساوى الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية من جهة عدم جريان الاستصحاب حسب نظر الفاضل التوني .

( والثاني : نفس الأسباب والشروط ) كالدلوك والوضوء .

( ويرد عليه ) أي : على الفاضل التوني فيما ذكره : من ان الاستصحاب المختلف فيه لا يجري إلاّ في الأحكام الوضعية أعني : الأسباب والشروط والموانع ، فيرد عليه بعد إشكاله الأوّل وهو ما ذكره بقوله : لا يخفى ما في هذا التفريع ، وإشكاله الثاني وهو ما ذكره بقوله : فبقي أمران ، إشكال ثالث وهو ما أشار إليه بقوله : ( أنّ نفس السبب والشرط والمانع إن كان أمرا غير شرعي ، فظاهرُ كلامه - حيث جعل محلّ الكلام في الاستصحاب المختلف فيه هي الاُمور الشرعية - : خروجُ مثل هذا عنه ، كحياة زيد ورطوبة ثوبه ) ولا يخفى : ان قوله : « حيث جعل محل الكلام في الاستصحاب المختلف فيه هي الاُمور الشرعية » جملة معترضة بين المبتدأ وهو قوله : « فظاهر كلامه » ، وبين الخبر وهو قوله : « خروج مثل هذا » .

قال الآشتياني رحمه اللّه : « الوجه في ظهور كلامه في إختصاص البحث

ص: 127

وإن كان أمرا شرعيا كالطهارة والنجاسة فلا يخفى : أنّ هذه الاُمور الشرعية مسبّبة عن أسباب ، فانّ النجاسة التي مثّل بها في الماء المتغيّر مسبّبة عن التغيّر والطهارة التي مثّل بها في مسألة المتيمّم

-------------------

بالاستصحاب في الحكم الشرعي على ما ذكره دام ظله شيئان :

أحدهما : عنوان الاستصحاب في الأدلة العقلية ، فإنه يقتضي تخصيص الكلام بالاستصحاب في الحكم الشرعي .

ثانيهما : تخصيصه تقسيم المستصحب بالحكم الشرعي ، فلو كان المراد هو الأعم لجعل التقسيم أيضا أعم من الحكم الشرعي .

وأيضا كلامه في الاستصحاب المختلف فيه وحجية الاستصحاب ممّا لا خلاف فيه عند الاخباريين ، فالحكم بجريان الاستصحاب المختلف فيه في الشبهة الموضوعية ممّا لا معنى له ، إنتهى كلام الآشتياني قدس سره .

أقول : فالمعنى : انه كما ان حياة زيد ورطوبة ثوبه خارج عن الاستصحاب ، كذلك يخرج عن الاستصحاب نفس السبب والشرط والمانع ، لأنها أُمور غير شرعية .

( وإن كان ) السبب والشرط والمانع ( أمرا شرعيا كالطهارة والنجاسة ) فإن الطهارة شرط في الصلاة ، والنجاسة مانعة عنها ( فلا يخفى : أنّ هذه الاُمور الشرعية مسبّبة عن أسباب ) فتكون هذه الاُمور الشرعية مسبّبات ، وقد منع سابقا عن جريان الاستصحاب في المسبّبات ، فيلزم التهافت بين كلامي الفاضل المذكور .

وعليه : ( فانّ النجاسة التي مثّل بها في الماء المتغيّر ) هذه النجاسة ( مسبّبة عن التغيّر ) بالنجس ( والطهارة التي مثّل بها في مسألة المتيمّم ) فيما إذا وجد المتيمّم

ص: 128

مسبّبة عن التيمّم ، فالشك في بقائها لا يكون إلاّ للشك في كيفيّة سببيّة السبب الموجب لاجراء الاستصحاب في المسبّب ، أعني : النجاسة والطهارة ، وقد سبق منه المنعُ عن جريان الاستصحاب في المسبّب .

ودعوى : « أنّ الممنوع في كلامه جريان الاستصحاب في الحكم التكليفي المسبّب عن الأسباب إلاّ تبعا لجريانه في نفس الأسباب » .

-------------------

ماءً في وسط الصلاة ( مسبّبة عن التيمّم ) فإن التيمم سبب الطهارة ، كما ان التغيّر سبب النجاسة .

إذن : ( فالشك في بقائها ) أي : في بقاء النجاسة والطهارة ( لا يكون إلاّ للشك في كيفيّة سببيّة السبب الموجب لاجراء الاستصحاب في المسبّب ، أعني : النجاسة والطهارة ) حيث لا نعلم هل ان التغيّر سبب مطلق للنجاسة حتى بعد زواله ، أو انه سبب ما دام التغيّر موجودا ؟ .

وكذلك لا نعلم هل ان التيمم سبب لمطلق الطهارة حتى بعد وجدان الماء في أثناء الصلاة ، أو سبب ما دام لم يجد الماء ؟ .

هذا ( وقد سبق منه ) أي : من الفاضل التوني ( المنعُ عن جريان الاستصحاب في المسبّب ) فكيف يجري الاستصحاب في الطهارة والنجاسة ، والحال إنهما مسبّبان عن التغيّر والتيمّم ؟ .

( ودعوى : « أنّ الممنوع في كلامه ) إنّما هو ( جريان الاستصحاب في الحكم التكليفي المسبّب عن الأسباب ) فإنه لا يجري فيه الاستصحاب ( إلاّ تبعا لجريانه في نفس الأسباب » ) دون الوضعي إذ ليس الممنوع جريان الاستصحاب في الحكم الوضعي إذا كان مسبّبا كما نحن فيه من الطهارة والنجاسة .

والحاصل : ان المصنِّف أشكل على الفاضل التوني : بأنه كيف يجري

ص: 129

مدفوعةٌ : بأنّ النجاسة ، كما حكاه المفصِّل عن الشهيد ليست إلاّ عبارة عن وجوب الاجتناب ، والتطهير الحاصل من التيمّم ليس إلاّ إباحة الدخول في الصلاة المستلزمة لوجوب المضي فيها بعد الدخول ، فهما إعتباران منتزعان من الحكم التكليفي .

-------------------

الاستصحاب في الطهارة والنجاسة وهما مسبّبان عن التيمّم والتغيّر مع ان الفاضل التوني يقول : بأن الاستصحاب لا يجري في المسبّبات ؟ .

فإدعى المدّعي : عدم ورود هذا الاشكال على الفاضل التوني ، وذلك لأنه قال بعدم جريان الاستصحاب في الحكم التكليفي ، إذا كان مسبّبا ولم يقل بعدم جريانه في الحكم الوضعي إذا كان مسببا ، والطهارة والنجاسة حكم وضعي مسبّب ، فلا تناقض بين كلاميه .

هذه الدعوى ( مدفوعةٌ : بأنّ ) الطهارة والنجاسة حكمان تكليفيان لا حكمان وضعيان ، وذلك لأنّ ( النجاسة كما حكاه المفصِّل ) وهو الفاضل التوني ( عن الشهيد ) الأوّل رحمه اللّه ( ليست إلاّ عبارة عن وجوب الاجتناب ) ووجوب الاجتناب حكم تكليفي ( والتطهير الحاصل من التيمّم ليس إلاّ إباحة الدخول في الصلاة المستلزمة ) هذه الاباحة ( لوجوب المضي فيها بعد الدخول ) فاذا دخل في الصلاة بالتيمم ، ثم وجد الماء في الأثناء وجب عليه المضي فيما بقي من الصلاة ، ووجوب المضي في الصلاة حكم تكليفي .

وعلى هذا نقول في رد الفاضل التوني : ( فهما ) أي : الطهارة والنجاسة ( إعتباران منتزعان من الحكم التكليفي ) ومسبّبان عنه ، وقد عرفت : ان الفاضل التوني لا يوجب الاستصحاب في المسبّب الذي هو حكم تكليفي .

ص: 130

قوله : « ووقوعه في الأحكام الخمسة إنّما هو بتبعيّتها ، إلى آخره » .

قد عرفت وستعرف أيضا : أنّه لا خفاء في أنّ إستصحاب النجاسة لا يعقل لها معنى إلاّ ترتيب أثرها ، أعني : وجوب الاجتناب في الصلاة والأكل والشرب .

فليس هنا إستصحاب للحكم التكليفي ، لا إبتداءً ولا تبعا ، وهذا كاستصحاب حياة زيد ، فإنّ حقيقة ذلك هو : الحكم بتحريم عقد

-------------------

ومن موارد النظر في كلام الفاضل التوني : ( قوله : « ووقوعه ) أي : الاستصحاب ( في الأحكام الخمسة ) التكليفية ( إنّما هو بتبعيّتها ) أي : بتبعيّة الأحكام الوضعية ( إلى آخره » ) .

فنقول : ( قد عرفت وستعرف أيضا : أنّه لا خفاء في أنّ إستصحاب النجاسة لا يعقل لها معنى إلاّ ترتيب أثرها ) وترتيب الأثر ( أعني : وجوب الاجتناب في الصلاة والأكل والشرب ) وما أشبه ذلك .

إذن : فحاصل إشكال المصنِّف على الفاضل التوني هو : إنه لا إستصحاب في الحكم التكليفي إطلاقا ، وذلك كما قال :

( فليس هنا إستصحاب للحكم التكليفي ، لا إبتداءً ) حتى نستصحب حرمة الأكل والشرب ، وبطلان الصلاة ، وما أشبه ذلك ( ولا تبعا ) للحكم الوضعي ، بأن نستصحب النجاسة ، وتبعا لاستصحاب النجاسة نستصحب حرمة الأكل والشرب، وبطلان الصلاة ، وما أشبه ذلك ( و ) إنّما يكون ( هذا كاستصحاب حياة زيد ) الذي يترتب عليه الأثر تلقائيا بلا إستصحاب في الأثر ، لا إستقلالاً ولا تبعا كما قال : ( فإنّ حقيقة ذلك ) أي: إستصحاب حياة زيد ( هو: الحكم بتحريم عقد

ص: 131

زوجته والتصرّف في ماله .

وليس هذا إستصحابا لهذا التحريم ، بل التحقيق - كما سيجيء - عدم جواز إجراء الاستصحاب في الأحكام التي يستصحب موضوعاتها ، لأنّ إستصحاب وجوب الاجتناب - مثلاً - إن كان بملاحظة إستصحاب النجاسة ، فقد عرفت : أنّه لا يبقى بهذه الملاحظة شك في وجوب الاجتناب لما عرفت : من أنّ حقيقة حكم الشارع بإستصحاب النجاسة هو : حكمه بوجوب الاجتناب حتى يحصل اليقين بالطهارة .

-------------------

زوجته والتصرّف في ماله ) وما أشبه ذلك ( وليس هذا ) أي : الحكم بتحريم عقد زوجته ( إستصحابا لهذا التحريم ) وإنّما يترتّب التحريم تلقائيا على إستصحاب حياته .

إلى هنا أثبت المصنِّف إنه لا يستصحب الحكم التكليفي إطلاقا ، ثم ترقّى عن ذلك وقال : ان دليل الاستصحاب لا يشمل إستصحاب الحكم التكليفي رأسا ، ولذلك قال : ( بل التحقيق كما سيجيء : عدم جواز إجراء الاستصحاب في الأحكام التي يستصحب موضوعاتها ) وعدم الجواز هنا يعني : عدم صحته عقلاً ولا نقلاً ، فانه لا إستصحاب في المسبّب ما دام يمكن الاستصحاب في السبب .

وإنّما لا يجوز الاستصحاب في الحكم مع جريانه في الموضوع ( لأنّ إستصحاب وجوب الاجتناب - مثلاً - إن كان بملاحظة إستصحاب النجاسة ) بأن نستصحب وجوب الاجتناب تبعا لاستصحاب النجاسة ( فقد عرفت : أنّه لا يبقى بهذه الملاحظة شك في وجوب الاجتناب ) وإذا لم يبق شك فيه فلا مجال لاستصحابه ، وذلك ( لما عرفت : من أنّ حقيقة حكم الشارع بإستصحاب النجاسة هو : حكمه بوجوب الاجتناب حتى يحصل اليقين بالطهارة )

ص: 132

وإن كان مع قطع النظر عن إستصحابها ، فلا يجوز الاستصحاب ، لأنّ وجوب الاجتناب سابقا عن الماء المذكور إنّما كان من حيث كونه نجسا ، لأنّ النجس هو الموضوع لوجوب الاجتناب ، فما لم يحرز الموضوع في حال الشك لم يجر الاستصحاب ، كما سيجئفي مسألة إشتراط القطع ببقاء الموضوع في الاستصحاب .

ثمّ إعلم أنّه بقي هنا شبهةٌ اُخرى

-------------------

فإن الأحكام الوضعية تنتزع من الأحكام التكليفية لا ان التكليفية شيء في قبال الوضعية حتى تستصحب مستقلة .

( وإن كان ) إستصحاب وجوب الاجتناب ( مع قطع النظر عن إستصحابها ) أي: عن إستصحاب النجاسة ( فلا يجوز الاستصحاب ) .

وإنّما لا يجوز الاستصحاب ( لأنّ وجوب الاجتناب سابقا عن الماء المذكور ) الذي كان متغيّرا ثم زال تغيّره من نفسه ( إنّما كان من حيث كونه نجسا ، لأنّ النجس هو الموضوع لوجوب الاجتناب ، فما لم يحرز الموضوع في حال الشك ) في إنه باقٍ على نجاسته بعد زوال التغيّر أم لا ( لم يجر الاستصحاب ، كما سيجيء في مسألة إشتراط القطع ببقاء الموضوع في الاستصحاب ) ان شاء اللّه تعالى .

وإنّما لم يجر الاستصحاب مع الشك في بقاء الموضوع ، لأن الاستصحاب معناه : إن الموضوع ثابت في حالي اليقين والشك ، وإنّما نشك فيما يترتّب على الموضوع فنستصحبه ، فاللازم : بقاء الموضوع في الحالين ، وإلاّ كان من إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، إنتهى مناقشة كلام الفاضل التوني قدس سره .

( ثمّ إعلم أنّه بقي هنا ) في باب إستصحاب الأحكام التكليفية ( شبهةٌ اُخرى

ص: 133

في منع جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية مطلقا ، وهي : أنّ الموضوع للحكم التكليفي ليس إلاّ فعل المكلّف .

ولا ريب أنّ الشارع ، بل كلّ حاكم

-------------------

في منع جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية مطلقا ) أي : سواء كانت أصلية أم تبعية ، وسواء كانت من التكاليف الالزامية أم غير الالزامية ، فإنه لا يجري الاستصحاب على ذلك في الأحكام التكليفية الخمسة إطلاقا .

هذا وسيأتي من المصنِّف بعد صفحات ما يوجب عموم هذه الشبهة للأحكام الوضعية أيضا فلا يجري الاستصحاب حينئذ مطلقا ، لا في الأحكام التكليفية ولا في الأحكام الوضعية ، وتكون هذه الشبهة دليلاً للقائلين بنفي حجية الاستصحاب مطلقا .

أما الشبهة ، فحاصلها هو : ان الموضوع إن كان باقيا فالحكم باق تلقائيا ، لأن الموضوع علة الحكم ، وكل ما كانت العلة كان المعلول ، وان لم يكن باقيا فلا حكم تلقائيا ، لأنه بذهاب العلة يذهب المعلول أيضا ، فأين محل الاستصحاب ؟.

وأما الجواب الذي يجيب به المصنِّف عن هذه الشبهة ، فحاصله هو : ان الموضوع العرفي باق دون الموضوع الدقّي ، فانه لو كان الموضوع الدقّي باقيا لم يكن مجال للاستصحاب ، كما ان الموضوع العرفي لو كان زائلاً لم يكن مجال للاستصحاب أيضا ، لكن إذا كان الموضوع الدقي زائلاً ، والعرفي باقيا ، فهو مجال للاستصحاب .

( و ) عليه : فان الشبهة حسب بيان المصنِّف ( هي : أنّ الموضوع للحكم التكليفي ليس إلاّ فعل المكلّف ) لأن فعل المكلّف هو معرض الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة والاباحة ( ولا ريب أنّ الشارع ، بل كلّ حاكم

ص: 134

إنّما يلاحظ الموضوع بجميع مشخّصاته التي لها دخل في ذلك الحكم ، ثمّ يحكم عليه .

وحينئذ : فإذا أمر الشارع بفعل - كالجلوس في المسجد مثلاً - فان كان الموضوع فيه هو مطلق الجلوس فيه غير المقيّد بشيء أصلاً ، فلا إشكال في عدم إرتفاع وجوبه إلاّ بالاتيان به ، إذ لو إرتفع الوجوب بغيره كان ذلك الرافع من قيود الفعل وكان الفعل المطلوب مقيدا بعدم هذا القيد

-------------------

إنّما يلاحظ الموضوع بجميع مشخّصاته التي لها ) أي : لتلك المشخصات ( دخل في ذلك الحكم ، ثمّ ) انّه إذا لاحظه بجميع مشخّصاته ( يحكم عليه ) ، وإلاّ ، لزم إثبات المعلول مع علته الناقصة وهو محال .

هذا في عالم الثبوت ( وحينئذ ) أي حين تمّ ما ذكرناه في عالم الثبوت نقول : ( فإذا أمر الشارع بفعل - كالجلوس في المسجد مثلاً - ) فان موضوع هذا الأمر الذي هو الجلوس يتصوّر على وجهين :

أولاً : ( فان كان الموضوع فيه هو مطلق الجلوس فيه غير المقيّد بشيء أصلاً ) لا بقيد زماني كالجلوس إلى الظهر - مثلاً - ولا بقيد أحوالي كالسلامة من المرض - مثلاً - فإذا كان كذلك ( فلا إشكال في عدم إرتفاع وجوبه ) أي : وجوب الجلوس ( إلاّ بالاتيان ) أي : باتيان ذلك الجلوس الذي أمر ( به ) الشارع .

وإنّما لا يرتفع وجوب الجلوس إلاّ باتيانه ( إذ لو إرتفع الوجوب بغيره ) أي : بغير الاتيان من إنقضاء الوقت أو فقدان السلامة - مثلاً - ( كان ذلك الرافع من قيود الفعل ) أي : من قيود الجلوس .

( و ) عليه : فإذا كان ذلك الرافع غير الاتيان به من قيود الجلوس ( كان الفعل المطلوب ) الذي هو الجلوس حينئذ ( مقيدا بعدم هذا القيد ) أي : مقيدا بعدم

ص: 135

من أول الأمر ، والمفروض خلافه .

وإن كان الموضوع فيه هو الجلوس المقيّد بقيد ، كان عدم ذلك القيد موجبا لانعدام الموضوع ، فعدم مطلوبيته ليس بارتفاع الطلب عنه ، بل لم يكن مطلوبا من أول الأمر .

وحينئذٍ : فإذا شك في الزمان المتأخّر في وجوب الجلوس يرجع الشك إلى الشك في كون الموضوع للوجوب هو الفعل المقيّد

-------------------

إنقضاء الوقت ، أو عدم فقدان السلامة - مثلاً - ( من أول الأمر ) أي : من حين أمر المولى بالجلوس ( والمفروض خلافه ) أي : خلاف ذلك ، فإن المولى لم يقيّد الجلوس لا بقيد زماني ، ولا بقيد أحوالي .

ثانيا : ( وإن كان الموضوع فيه ) أي : في حكم الشارع ( هو الجلوس المقيّد بقيد ، كان عدم ذلك القيد ) وفقدانه ( موجبا لانعدام الموضوع ) إذ المطلوب هو المقيّد حسب الفرض ، فإذا صار الظهر إرتفع وجوب الجلوس ، أو إذا أصبح مريضا إرتفع أيضا وجوب الجلوس .

وعليه : ( فعدم مطلوبيته ) أي : مطلوبية الجلوس بعد حصول الظهر أو بعد حدوث المرض ( ليس بارتفاع الطلب عنه ) أي : عن الجلوس الواجب ( بل لم يكن ) الجلوس ( مطلوبا من أول الأمر ) أي : من حين أمر المولى بالجلوس .

( وحينئذٍ ) أي : حين كان الموضوع من الأوّل يتصوّر على وجهين : اما مطلقا أو مقيدا ( فإذا شك في الزمان المتأخّر ) أي : الزمان الثاني ( في وجوب الجلوس ) حيث يراد إستصحاب الوجوب ، فإنه ( يرجع الشك إلى الشك في كون الموضوع للوجوب هو الفعل المقيّد ) بعدم حصول الظهر ، أو بعدم حدوث المرض - مثلاً -

ص: 136

أو الفعل المعرّى عن هذا القيد ؟ .

ومن المعلوم : عدم جريان الاستصحاب هنا ، لأنّ معناه إثباتُ حكم كان متيقّنا لموضوع معيّن عند الشك في إرتفاعه عن ذلك الموضوع ، وهذا غير متحقق فيما نحن فيه .

وكذا الكلام في غير الوجوب من الأحكام الأربعة الاُخر لاشتراك الجميع في كون الموضوع لها هو فعل المكلّف الملحوظ للحاكم ، خصوصا الحكيم

-------------------

( أو الفعل المعرّى عن هذا القيد ؟ ) .

وعليه : فيكون مرجع الشك في الحالة الثانية إلى الشك في الموضوع ( ومن المعلوم : عدم جريان الاستصحاب هنا ) أي : عند الشك في الموضوع ، وذلك ( لأنّ معناه ) أي : معنى الاستصحاب ( إثباتُ حكم ) كالوجوب - مثلاً - ( كان متيقّنا لموضوع معيّن ) كالجلوس - مثلاً - ( عند الشك في إرتفاعه ) أي : إرتفاع ذلك الحكم ( عن ذلك الموضوع ) الذي هو الجلوس ( وهذا غير متحقق فيما نحن فيه ) .

وإنّما لم يكن متحققا فيما نحن فيه لأن الموضوع وهو الجلوس مشكوك من الأوّل فلا نعلم هل هو الجلوس المطلق أو المقيد ؟ فإن كان هو المطلق ، كان الدليل دالاً على الحكم في الزمان الثاني بلا حاجة للاستصحاب ، وإن كان هو المقيّد ، إرتفع الحكم في الآن الثاني تلقائيا لانتفاء المقيّد بانتفاء قيده .

( وكذا الكلام في غير الوجوب من الأحكام الأربعة الاُخر ) التكليفية ( لاشتراك الجميع ) أي : جميع الأحكام ( في كون الموضوع لها هو فعل المكلّف الملحوظ للحاكم ) حين حكمه بتلك الأحكام ( خصوصا الحكيم ) وهو اللّه سبحانه وتعالى

ص: 137

بجميع مشخّصاته ، خصوصا عند القائل بالتحسين والتقبيح ، لمدخليّة المشخّصات في الحسن والقبح حتى الزمان .

وبه يندفع ما يقال : « إنّه كما يمكن أن يُجعل الزمان ظرفا للفعل ، بأن يقال : التبريد في زمان الصيف مطلوبٌ ، فلا يجري الاستصحاب إذا شك في مطلوبيّته في زمان آخر ، أمكن أن يقال : إنّ التبريد مطلوب في زمان الصيف على أن يكون الموضوع نفس التبريد والزمان قيدا للطلب ، وحينئذ فيجوز إستصحاب الطلب إذا شك في بقائه بعد الصيف ،

-------------------

فإنه يلاحظه ( بجميع مشخّصاته ) وذلك ( خصوصا عند القائل بالتحسين والتقبيح ، لمدخليّة المشخّصات في الحسن والقبح حتى الزمان ) .

وإنّما قال : حتى الزمان لأن الشيء ربما يكون حسنا في زمان ويكون نفسه غير حسن في زمان آخر ، وكذا قد يكون الشيء قبيحا في زمان ويكون نفسه غير قبيح في زمان آخر .

( وبه ) أي : بما ذكرناه : من إن كل قيد فهو راجع إلى القيد في الموضوع ( يندفع ما يقال : « إنّه كما يمكن أن يُجعل الزمان ظرفا للفعل ) حتى يكون الفعل مقيّدا بالظرف ، وذلك ( بأن يقال : التبريد في زمان الصيف مطلوبٌ ، فلا يجري الاستصحاب إذا شك في مطلوبيّته ) أي التبريد ( في زمان آخر ) غير زمان الصيف وذلك للشك في الموضوع .

وعليه : فإنه كما أمكن أن يقال ذلك ، أيضا ( أمكن أن يقال : إنّ التبريد مطلوب في زمان الصيف ) فلا يكون الزمان قيدا للتبريد ، بل ( على أن يكون الموضوع نفس التبريد والزمان قيدا للطلب ، وحينئذ ) أي : حين كان الموضوع مجرّدا عن القيد وإنّما كان الحكم هو المقيّد ( فيجوز إستصحاب الطلب إذا شك في بقائه بعد الصيف ) .

ص: 138

إذ الموضوع باق على حاله في الحالتين » .

توضيح الاندفاع : أنّ القيد في الحقيقة راجعٌ إلى الموضوع وتقييد الطلب به أحيانا في الكلام مسامحةٌ في التعبير ، كما لا يخفى ، فافهم .

-------------------

وإنّما يجوز الاستصحاب حينئذ لأنه كما قال : ( إذ الموضوع باق على حاله ) وهو التبريد ( في الحالتين » ) .

والحاصل : ان القيد قد يكون قيدا للموضوع فيتمّ فيه ما ذكرتم ، وقد يكون قيدا للحكم ، وهنا محل الاستصحاب ، إذ قد يكون المولى : التبريد في الصيف مطلوب ، فيكون الظرف قيدا للتبريد ، ولا مجال للاستصحاب بعد إنسلاخ الصيف ، وقد يقول ، التبريد مطلوب في الصيف ، فيكون الظرف قيدا للحكم ، وهنا يصح الاستصحاب لمطلوبيّة التبريد بعد إنسلاخ الصيف ، لأن الموضوع لم يكن مقيّدا .

( توضيح الاندفاع : أنّ القيد في الحقيقة راجعٌ إلى الموضوع ) من غير فرق بين أن يكون في صورته قيدا للموضوع أو قيدا للحكم ( وتقييد الطلب به ) أي : بهذا القيد ( أحيانا في الكلام مسامحةٌ في التعبير ، كما لا يخفى ) فيكون الظرف : في الصيف على كلا الحالين قيدا للتبريد وان جاء في صورة : قيدا للتبريد ، وفي صورة : قيدا للمطلوب .

( فافهم ) ولعله إشارة إلى ما ذكره الأوثق : من منع كون الشك في بقاء الحكم دائما ناشئا من الشك في بعض قيود موضوعه ، لوضوح : عدم كون عدم المانع إبتداءً ، أو إستدامةً ، داخلاً في الموضوع لأنه من قيود ثبوت المحمول على موضوعه في كل زمان ، فالموضوع عند العقل هو المقتضي للحكم لا إنه

ص: 139

وبالجملة : فينحصر مجرى الاستصحاب في الاُمور القابلة للاستمرار في موضوع ، وللارتفاع عن ذلك الموضوع بعينه ، كالطهارة والحدث والنجاسة والملكية والزوجية والرطوبة واليبوسة ونحو ذلك .

ومن ذلك يظهر : عدم جريان الاستصحاب في الحكم الوضعي أيضا

-------------------

علته التامة (1) .

هذا ، وقياس ما نحن فيه على الأحكام العقلية فاسد ، لأن عدم جريان الاستصحاب فيها إنّما هو من جهة ان حكم العقل بشيء لا يعقل إلاّ بعد إحراز علته التامة ، فلا يحصل الشك في حكمه في آن حتى يجري فيه الاستصحاب ، والعلة التامة غير معلومة غالبا في الأحكام الشرعية ، وقد عرفت : عدم ملازمة وجود الموضوع لوجود العلة التامة حتى يقال : ان العلم ببقائه كما هو الشرط في جريان الاستصحاب مستلزم للعلم بالعلة التامة .

( وبالجملة : ف ) إنه بعد بيان الشبهة المتقدّمة الدالة على انه لا يجري الاستصحاب في عامة الأحكام التكليفية الخمسة ( ينحصر مجرى الاستصحاب في الاُمور القابلة للاستمرار في موضوع ، وللارتفاع عن ذلك الموضوع بعينه ) بأن يكون هناك موضوع قابل للاستمرار وعدم الاستمرار ( كالطهارة والحدث والنجاسة والملكية والزوجية والرطوبة واليبوسة ونحو ذلك ) من سائر الأحكام الوضعية .

( ومن ذلك ) أي : من الشبهة المتقدمة التي أوردناها على جريان الاستصحاب في الحكم التكليفي ( يظهر : عدم جريان الاستصحاب في الحكم الوضعي أيضا

ص: 140


1- - أوثق الوسائل : ص480 الاستصحاب أو البناء على اليقين السابق .

إذا تعلّق بفعل الشخص .

هذا ، والجواب عن ذلك : أنّ مبنى الاستصحاب - خصوصا إذا إستند فيه إلى الأخبار - على القضايا العرفية المتحقّقة في الزمان السابق التي ينتزعها العرفُ من الأدلّة الشرعية ، فإنّهم لا يرتابون في أنّه إذا ثبت تحريم فعل في زمان ، ثم شك

-------------------

إذا تعلّق بفعل الشخص ) وذلك لنفس الشبهة المتقدّمة ، وقد ذكر الفقيه الهمداني في حاشيته موضّحا قيد : فعل الشخص ، في كلام المصنِّف عند قوله : «إذا تعلق بفعل الشخص» قائلاً : إحترز بهذا عمّا لو كان متعلّق الحكم الوضعي أمرا خارجيا ، كسببيّة الخسوف والكسوف لصلاتهما ، وشرطيّة القرص لوجوب قضائها ، فإنه لا مانع في مثل هذه الموارد من إستصحاب الحكم الوضعي ، وامّا إذا كان متعلّقه فعل المكلّف كقوله : إذا أفطرت فكفّر ، فيتمشّى الكلام فيه كما تمشّى في الأحكام التكليفية .

( هذا ) تمام الكلام في الشبهة التي أوردناها على جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية وعلى قسم من الأحكام الوضعية .

( والجواب عن ذلك ) هو كما قال : ( أنّ مبنى الاستصحاب - خصوصا إذا إستند فيه إلى الأخبار - على القضايا العرفية المتحقّقة في الزمان السابق ) فيستصحب ذلك الحكم الذي وضع على الموضوع العرفي في الزمان السابق إلى الزمان اللاحق والقضايا العرفية هي ( التي ينتزعها العرفُ من الأدلّة الشرعية ) لأن العرف هم المخاطبون بهذه القضايا ، فإذا رأوا ان الموضوع عرفي كفى في جريان الاستصحاب فيه .

وعليه : ( فإنّهم لا يرتابون في أنّه إذا ثبت تحريم فعل في زمان ، ثم شك

ص: 141

في بقائه بعده ، أنّ الشك في هذه المسألة في إستمرار الحرمة لهذا الفعل وإرتفاعها ، وإن كان مقتضى المداقّة العقليّة : كون الزمان قيدا للفعل ، وكذلك الاباحة والكراهة والاستحباب .

نعم ، قد يتحقّق في بعض الواجبات مورد لا يحكم العرف بكون الشك في الاستمرار ، مثلاً : إذا ثبت في يوم وجوب فعل عند الزوال ، ثم شككنا في الغد : أنّه واجب اليوم عند الزوال ، فلا يحكمون باستصحاب ذلك ولا يبنون

-------------------

في بقائه بعده ) ولم يكن هناك دليل على البقاء ، أو على عدم البقاء ، فلا يرتابون في ( أنّ الشك في هذه المسألة في إستمرار الحرمة لهذا الفعل وإرتفاعها ) أي : إرتفاع الحرمة وهو مجرى الاستصحاب كما عرفت ( وإن كان مقتضى المداقّة العقليّة : كون الزمان قيدا للفعل ) لكن ذلك لا يضر بعد رؤية العرف الموضوع في الآن الثاني هو نفس الموضوع في الآن الأوّل .

( وكذلك ) أي : كالحرمة المحتملة وجودها وعدمها في الزمان الثاني : ( الاباحة والكراهة والاستحباب ) والوجوب ، ولعل المصنِّف لم يذكر الوجوب من جهة : ان كل حرام هو واجب الترك ، وكل واجب هو حرام الترك ، فذكره للحرام أغنى عن ذكر الوجوب ، وكيف كان فالعرف يحكم ببقاء الموضوع .

( نعم ، قد يتحقّق في بعض الواجبات مورد لا يحكم العرف بكون الشك في الاستمرار ) وكذلك يكون الحال في الأحكام الأربعة الباقية .

( مثلاً : إذا ثبت في يوم وجوب فعل عند الزوال ، ثم شككنا في الغد : أنّه واجب اليوم عند الزوال ) أو ان الوجوب كان منحصرا في اليوم السابق ( فلا يحكمون باستصحاب ذلك ) الوجوب الذي كان في اليوم السابق ( ولا يبنون

ص: 142

على كونه ممّا شك في إستمراره وإرتفاعه ، بل يحكمون في الغد بأصالة عدم الوجوب قبل الزوال .

أمّا لو ثبت ذلك مرارا ثمّ شك فيه بعد أيام ، فالظاهر حكمهم بأنّ هذا الحكم كان مستمرا وشك في إرتفاعه فيستصحب .

ومن هنا ترى الأصحاب يتمسّكون باستصحاب وجوب التمام عند الشك في حدوث التكليف بالقصر ،

-------------------

على كونه ممّا شك في إستمراره وإرتفاعه ، بل يحكمون في الغد بأصالة عدم الوجوب قبل الزوال ) .

مثلاً : إذا قال المولى : أذّن في هذا اليوم ظهرا ، فأذّن ، ففي غده يحتمل وجوب الأذان باعتبار الاستصحاب ، وإن الوجوب مستمر في كل يوم ظهرا ، ويحتمل عدم وجوبه ، باعتبار إن قبل الظهر لم يكن الأذان واجبا ، فيستصحب عدم الوجوب إلى الظهر ففي مثله لا يجرون الاستصحاب .

( أمّا لو ثبت ذلك ) الوجوب عند الظهر ( مرارا ) بمعنى : انه ثبت وجوب الأذان في أيام متتالية ( ثمّ شك فيه بعد أيام ) بانه هل يجب باعتبار إستصحاب الأيام السابقة ، أو لا يجب لأنه كان الواجب خاصا بتلك الأيام ؟ ( فالظاهر : حكمهم بأنّ هذا الحكم كان مستمرا وشك في إرتفاعه فيستصحب ) بقاء ذلك الحكم وهو الوجوب دون ان يعتنى بحالة ما قبل الظهر ، فلا يعارضه القول : بان الأذان قبل الظهر لم يكن واجبا ، فعند الظهر ليس بواجب أيضا .

( ومن هنا ) أي : من حيث إن التكرار يوجب الاستصحاب ( ترى الأصحاب يتمسّكون باستصحاب وجوب التمام عند الشك في حدوث التكليف بالقصر ) لأنه قد تكرر التمام أياما .

ص: 143

وباستصحاب وجوب العبادة عند شك المرأة في حدوث الحيض ؛ لا من جهة أصالة عدم السفر الموجب للقصر ، وعدم الحيض المقتضي لوجوب العبادة حتى يحكم بوجوب التمام ، لأنّه من آثار عدم السفر الشرعي الموجب للفقر ، وبوجوب العبادة ، لأنّه من آثار عدم الحيض ؛

-------------------

( وباستصحاب وجوب العبادة عند شك المرأة في حدوث الحيض ) باعتبار تكرر وجوب العبادة عليها ، فعند الشك في إستمرار ذلك الوجوب عليها وعدمه ، تستصحب إستمرار الوجوب عليها .

بل انّ هذا الأمر عرفي أيضا ، فإذا كان هناك شخص يأتي كل يوم صباحا لبيع الخبز أو اللبن أو ما أشبه ذلك ، فإنهم ينتظرونه كل يوم وان شكوا في مجيئه وعدم مجيئه ، وليس كذلك حالهم فيما إذا كان هناك شخص جاء في يوم واحد وباع اللبن أو الخبز ، فإنهم لا ينتظرونه في اليوم الثاني .

وكيف كان : فالاستصحاب هنا إنّما هو من جهة ثبوت التمام ، وثبوت العبادة ( لا من جهة أصالة عدم السفر الموجب ) ذلك السفر ( للقصر ، وعدم الحيض المقتضي ) ذلك العدم ( لوجوب العبادة ) عليها ( حتى يحكم بوجوب التمام ) وبوجوب العبادة .

وقال : بوجوب التمام لا من جهة أصالة عدم السفر إحترازا ( لأنّه ) أي : وجوب التمام يكون أيضا ( من آثار عدم السفر الشرعي الموجب للفقر ) فإنه إذا لم يكن سفر شرعي يوجب القصر ، يكون التمام واجبا .

( و ) قال ( بوجوب العبادة ) لا من جهة عدم الحيض إحترازا أيضا ( لأنّه ) أي : وجوب العبادة يكون أيضا ( من آثار عدم الحيض ) فإنه إذا لم يكن حيض ثبت وجوب العبادة .

ص: 144

بل من جهة كون التكليف بالاتمام وبالعبادة عند زوال كلّ يوم ، أمرا مستمرا عندهم وإن كان التكليف يتجدّد يوما فيوما، فهو في كلّ يوم مسبوقٌ بالعدم ، فينبغي أن يرجع إلى استصحاب عدمه ، لا إلى استصحاب وجوده .

والحاصل : أنّ المعيار حكم العرف : بأنّ الشيء الفلاني كان مستمرا

-------------------

وإنّما قال المصنِّف : لا من جهة أصالة عدم السفر ، وعدم الحيض لأنه إذا حصل وجوب التمام ووجوب العبادة من جهة أصالة عدم السفر وأصالة عدم الحيض كان من الأصل المثبت ، إذ نفي الضد لاثبات ضده من الأصل المثبت .

مثلاً : إذا قال : الأصل عدم السفر ، كان لازمه عقلاً : الحضر ، والتمام مرتب على الحضر ، وإذا قال : الأصل عدم الحيض كان لازمه عقلاً : الطهر ، والطهر يوجب العبادة .

( بل ) إنّما نقول بوجوب التمام وبوجوب العبادة ( من جهة كون التكليف بالاتمام وبالعبادة عند زوال كلّ يوم ، أمرا مستمرا عندهم ) أي : عند العرف وإن لم يكن أمرا مستمرا دقة لتجدّده يوما فيوما كما قال : ( وإن كان التكليف يتجدّد يوما فيوما، فهو في كلّ يوم مسبوقٌ بالعدم ) .

وعليه : فان التكليف بالنظر الدقي يتجدد يوما فيوما ، فيكون في كل يوم مسبوقا بالعدم ، وإذا كان كذلك ( فينبغي أن يرجع إلى استصحاب عدمه ) أي : عدم التكليف لسبقه بالعدم ( لا إلى استصحاب وجوده ) أي : وجود التكليف ، ولكن قد عرفت : ان المعيار هو النظر العرفي ، والعرف هنا يرى إستمرار التكليف عند زوال كل يوم ، فيستصحب بقائه عند الشك في إنقطاعه .

( والحاصل : أنّ المعيار حكم العرف : بأنّ الشيء الفلاني كان مستمرا

ص: 145

فارتفع وإنقطع ، وأنّه مشكوك الانقطاع ، ولولا ملاحظة هذا التخيّل العرفي ، لم يصدق على النسخ : أنّه رفعٌ للحكم الثابت ، أو لمثله ، فانّ عدم التكليف - في وقت الصلاة - بالصلاة إلى القبلة المنسوخة - دفعٌ في الحقيقة للتكليف لا رفعٌ .

ونظير ذلك في غير الأحكام الشرعية ما سيجيء :

-------------------

فارتفع وإنقطع ، وأنّه مشكوك الانقطاع ) فإذا شك العرف في إنقطاعه ولم يعلم إرتفاعه ، يستصحب بقائه .

( و ) عليه : فانه ( لولا ملاحظة هذا التخيّل العرفي ، لم يصدق على النسخ : أنّه رفعٌ للحكم الثابت ، أو ) بعبارة أدق : انه رفع ( لمثله ) أي : لمثل ذلك الحكم الثابت لا نفسه ، لأن الحكم الثابت في الأوّل هو غير الحكم في الآن الثاني دقة .

إذن : ( فانّ عدم التكليف - في وقت الصلاة - بالصلاة إلى القبلة المنسوخة ، دفعٌ في الحقيقة ) والدقة العقلية ( للتكليف ) لعدم وجود مقتضيه ( لا رفعٌ ) للتكليف ، لأنه كما عرفت في كل آن غيره في الآن الثاني دقة ، فيكون النسخ دفعا دقة وحقيقة ، لا رفعا .

وعليه : فإذا شك المسلم في أول الاسلام في ان القبلة هل تحوّلت إلى الكعبة أم لا ؟ فالاستمرار العرفي للصلاة إلى بيت المقدس في كل وقت صلاة يقتضي بقاء الموضوع إلى حين الشك ، فإذا لم يستصحبه لأجل النسخ وصلّى إلى الكعبة ، رآه العرف رفعا للحكم الثابت ، لا دفعا ، ممّا معناه : ان الموضوع العرفي باق ، بينما ان الدقة العقلية تقتضي عدم بقاء الموضوع .

( ونظير ذلك ) التخيل العرفي لوحدة الموضوع يكون ( في غير الأحكام الشرعية ) أيضا من الموضوعات التي لها أحكام ، وذلك على ( ما سيجيء :

ص: 146

من إجراء الاستصحاب في مثل الكرّية وعدمها ، وفي الاُمور التدريجيّة المتجدّدة شيئا فشيئا ، وفي مثل وجوب الناقص بعد تعذّر بعض الأجزاء ، فيما لا يكون الموضوع فيه باقيا إلاّ بالمسامحة العرفيّة ، كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى .

-------------------

من إجراء الاستصحاب في مثل الكرّية ) أي : بأن كان الماء كرا ثم اخذ منه مقدارا ، فشك في انه هل سقط عن الكرية أم لا ؟ فانه يستصحب كريته .

( و ) كذا اجراء الاستصحاب في ( عدمها ) أي : عدم الكرية ، وذلك فيما إذا لم يكن الماء كرا ، ثم صبّ عليه مقدارا من الماء فشك في انه هل صار كرا أم لا ؟ فانه يستصحب فيه عدم الكرية .

إذن : فاحراز الموضوع في الكرية وفي عدم الكرية ، إنّما هو بالمسامحة العرفية لا بالدقة العقلية ، لأنه بالدقة العقلية ، وتغيّر الماء الأوّل إلى أنقص أو إلى أزيد .

( و ) كذا إجراء الاستصحاب ( في الاُمور التدريجية المتجدّدة شيئا فشيئا ) من الزمان والزمانيات كالتكلم - مثلاً - فان العرف يرى وحدة الموضوع فيها تسامحا .

( و ) كذا ( في مثل وجوب الناقص بعد تعذّر بعض الأجزاء ، فيما لا يكون الموضوع فيه باقيا إلاّ بالمسامحة العرفيّة ) كما إذا تعذّر بعض أجزاء الصلاة حيث يستصحب الوجوب النفسي للبقية بعد تعذّر بعض الأجزاء ، وذلك ( كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى ) .

وبذلك كله تبيّن ان الشبهة التي أوردها المصنِّف بقوله : بقي هنا شبهة اُخرى في منع جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية التي أوردها المصنِّف بقوله : بقي هنا شبهة اُخرى في منع جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية مطلقا

ص: 147

حجّة القول الثامن

وجوابه يظهر بعد بيانه وتوضيح القول فيه ، فنقول : قد نسب جماعةٌ إلى الغزالي القول بحجية الاستصحاب وإنكارها في استصحاب حال الاجماع ، وظاهر ذلك كونُه مفصّلاً في المسألة .

وقد ذكر في النهاية مسألة الاستصحاب ، ونسب إلى جماعة ؛ منهم الغزالي حجيّته ، ثم أطال الكلام في أدلّة النافين والمثبتين ، ثم ذكر عنوانا آخر لاستصحاب حال الاجماع

-------------------

والوضعية في الجملة ، وذلك لأن الموضوع الدقي العقلي غير باق فلا يستصحب لانتفاء الموضوع ، هذه الشبهة غير واردة على ما عرفت .

( حجّة القول الثامن ) : وهو التفصيل بين ما ثبت بالاجماع وغيره ، فلا يعتبر فيما ثبت بالاجماع ، ويعتبر فيما ثبت بغيره ( وجوابه يظهر بعد بيانه وتوضيح القول فيه ) وانه هل هناك قول بهذا التفصيل أو ليس هناك قول به ، فان المصنِّف يرى : انه لم يكن قول بهذا التفصيل ؟ .

وعليه : ( فنقول : قد نسب جماعةٌ إلى الغزالي القول بحجية الاستصحاب ) في الجملة ( وإنكارها في استصحاب حال الاجماع ) أي : انه لا يقول بالحجية في استصحاب حال الاجماع ، وإنّما يقول بالحجية في غيره ممّا ثبت بسائر الأدلة ( وظاهر ذلك ) القول المنسوب إلى الغزالي : ( كونُه ) أي : الغزالي ( مفصّلاً في المسألة ) .

هذا ( وقد ذكر في النهاية مسألة الاستصحاب ، ونسب إلى جماعة ؛ منهم الغزالي حجيّته ) في الجملة ( ثم أطال الكلام في أدلّة النافين والمثبتين ، ثم ذكر عنوانا آخر لاستصحاب حال الاجماع ) ممّا يدل على ان المسألة في النهاية

ص: 148

ومثّل له بالمتيمّم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة ، وبالخارج من غير السبيلين من المتطهّر . ونسب إلى الأكثر ، ومنهم الغزالي عدم حجيّته .

إلاّ أنّ الذي يظهر بالتدبّر في كلامه المحكيّ في النهاية ، هو : إنكار الاستصحاب المتنازع فيه رأسا وإن ثبت المستصحب بغير الاجماع من الأدلّة المختصّة دلالتها بالحال الأوّل المعلوم إنتفاؤها في الحال الثاني ،

-------------------

معممة تارة بالنسبة إلى غير الاجماع ، وتارة بالنسبة إلى الاجماع فقط .

( ومثّل له ) أي : مثّل النهاية لاستصحاب حال الاجماع بمثالين :

الأوّل : ( بالمتيمّم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة ) حيث يشك في إنه هل يبقى على صلاته أو تبطل صلاته برؤية الماء ؟ .

الثاني : ( وبالخارج من غير السبيلين من المتطهّر ) حيث يشك في انه هل بقي على تطهره أو انتقض تطهره بالحديث الخارج - مثلاً - من ثقبة في بطنه أو ظهره أو جنبه ؟ .

( و ) كيف كان : فقد ( نسب ) العلامة في نهايته ( إلى الأكثر ، ومنهم الغزالي عدم حجيّته ) أي : عدم حجية استصحاب حال الاجماع ممّا يظهر من نهاية العلامة : ان الغزالي من القائلين بالتفصيل .

( إلاّ أنّ الذي يظهر بالتدبّر في كلامه ) أي : كلام الغزالي ( المحكيّ في النهاية ، هو : إنكار الاستصحاب المتنازع فيه رأسا ) والمراد من الاستصحاب المتنازع فيه هو : مطلق الاستصحاب مقابل المتسالم عليه : من الاصول اللفظية ، فالغزالي لايرى حجيّة الاستصحاب إطلاقا ، حتى ( وإن ثبت المستصحب بغير الاجماع من الأدلّة ) الاُخرى ( المختصّة دلالتها بالحال الأوّل ، المعلوم إنتفاؤها ) أي : إنتفاء دلالة تلك الأدلة ( في الحال الثاني ) .

ص: 149

وقد يعبّر عن جميع ذلك باستصحاب حال الاجماع ، كما ستعرف في كلام الشهيد ، وإنّما المُسلَّمُ عنده استصحاب عموم النصّ أو إطلاقه الخارج عن محل النزاع بل عن حقيقة الاستصحاب حقيقةً ، فمنشأ نسبة التفصيل إطلاق الغزالي الاستصحاب

-------------------

إن قلت : ثبوت المستصحب بالأدلة الاُخرى غير الاجماع لا يعبّر عنه : باستصحاب حال الاجماع .

قلت : ( وقد يعبّر عن جميع ذلك ) الذي يثبت شرعا في الزمان الثاني تعويلاً على الزمان الأوّل : ( باستصحاب حال الاجماع ) فالغزالي لما ينفي استصحاب حال الاجماع ، معناه : إنه ينفي مطلق الاستصحاب الثابت بأيّ دليل كان من إجماع أو غيره ( كما ستعرف في كلام الشهيد ) الأوّل ذلك إن شاء اللّه تعالى .

( وإنّما المسلّم عنده ) أي : عند الغزالي من الاستصحاب هو : ( استصحاب عموم النصّ أو إطلاقه ) أي : ان عموم النص يشمل الحال الثاني ، أو ان إطلاق النص يشمل الحال الثاني ( الخارج ) مثل هذا الاستصحاب الذي هو في الاُصول اللفظية ( عن محل النزاع ) لأنه لم ينازع أحد في حجية العموم والاطلاق بالنسبة إلى الآن الثاني .

( بل ) هو خارج ( عن حقيقة الاستصحاب حقيقة ) لأنه عمل بالعموم والاطلاق لا بالاستصحاب ، فان الاستصحاب هو « إبقاء ما كان » من حيث انه كان سابقا ، « والابقاء » فيما ذكر من عموم نص أو إطلاقه ، إنّما هو من جهة وجود الدليل .

وعليه : ( فمنشأ نسبة التفصيل ) إلى الغزالي بين الاستصحاب الثابت بالاجماع فليس بحجة ، والثابت بغيره فحجة ، هو : ( إطلاق الغزالي الاستصحاب

ص: 150

على إستصحاب عموم النصّ أو إطلاقه وتخصيص عنوان ما أنكره باستصحاب حال الاجماع ، وإن صرّح في أثناء كلامه بالحاق غيره - ممّا يشبهه في إختصاص مدلوله بالحالة الاُولى - به في منع جريان الاستصحاب فيما ثبت بهما ،

-------------------

على إستصحاب عموم النصّ أو إطلاقه ) الدال على إعتبار هذا الاستصحاب عنده ( وتخصيص عنوان ما أنكره باستصحاب حال الاجماع ) .

إذن : فاطلاق الغزالي القول بالاستصحاب على إستصحاب العموم والاطلاق من جهة ، وتخصيص القول بانكار الاستصحاب باستصحاب حال الاجماع من جهة اُخرى ، سبّب نسبة هذا التفصيل إليه بينما الغزالي قصد من قوله بالاطلاق : خصوص الاستصحاب في الاُصول اللفظية ، ومن قوله بتخصيص الانكار : مطلق الاستصحاب غير الاُصول اللفظية .

وإنّما قلنا : بأنّ قصد الغزالي كان ذلك ، لأنه ( وإن ) كان ظاهر كلامه التفصيل المنسوب إليه ، إلاّ انه قد ( صرّح في أثناء كلامه بالحاق غيره ) أي : غير حال الاجماع ( ممّا يشبهه ) أي : يشبه حال الاجماع شبها ( في إختصاص مدلوله بالحالة الاُولى ) فألحقه ( به ) أي : بحال الاجماع ( في منع جريان الاستصحاب فيما ثبت بهما ) في الآن الأوّل .

والحاصل : ان الغزالي منع استصحاب حال الاجماع ، ثم ذكر في أثناء كلامه : ان ما ثبت بغير الاجماع أيضا ملحق بما ثبت بالاجماع إلحاقا من جهة عدم حجية الاستصحاب فيه ، ممّا يكون نتيجته : ان الاستصحاب ليس بحجة عنده إطلاقا سواءً كانت الحالة السابقة قد ثبتت بالاجماع أم بسائر الأدلة .

لكن قال في الأوثق : « ان ما استظهره المصنِّف من كلام الغزالي : من كونه نافيا

ص: 151

قال في الذكرى : بعد تقسيم حكم العقل غير المتوقف على الخطاب إلى خمسة أقسام ما يستقل به العقل ، كحسن العدل ، والتمسك بأصل البرائة ، وعدم الدليل دليل العدم ،

-------------------

مطلقا وان كان متجها بناءا على ما جاء في كلامه المحكي في النهاية ، إلاّ ان محمد بن علي بن أحمد الجباعي العاملي قد حكى في شرحه على قواعد الشهيد ، عن الغزالي ، في كتابه المستصفى : التصريح بالتفصيل بين إستصحاب حال الاجماع وغيره » (1) .

ثم إنّ المصنِّف وعد أن يذكر كلام الشهيد قبل عدّة أسطر والآن وفى بوعده قائلاً : ( قال ) الشهيد الأوّل ( في الذكرى : بعد تقسيم حكم العقل غير المتوقف على الخطاب ) الشرعي ، لأن العقل : قد يحكم بعد خطاب الشارع مثل : حكم العقل بوجوب الاطاعة بعد قول الشارع : « أقيموا الصلاة وآتوا الزّكاة » (2) وليس التقسيم في هذا .

وقد يحكم بدون ان يكون هناك خطاب من الشرع مثل : حسن العدل وقبح الظلم ، والتقسيم في هذا ، فقد قسّمه ( إلى خمسة أقسام ) كالتالي :

الأوّل : ( ما يستقل به العقل ، كحسن العدل ) وقبح الظلم .

( و ) الثاني : ( التمسك بأصل البرائة ) وذلك فيما إذا شك الانسان بأنه هل هو مكلّف أو بريى ء ؟ فالعقل يحكم بأنه بريى ء ما لم يثبت دليل يدل على وجوب شيء أو حرمته عليه .

( و ) الثالث : ( عدم الدليل دليل العدم ) وهذا كما لا يخفى : قد يوافق البرائة

ص: 152


1- - أوثق الوسائل : ص480 ما نسب الى الغزالي عدم حجيّة استصحاب حال الاجماع .
2- - سورة البقرة : الآية 43 و 83 و 110 .

والأخذ بالأقلّ عند فقد دليل على الأكثر .

« الخامس : أصالة بقاء ما كان ، ويسمى : إستصحاب حال الشرع وحال الاجماع في محل الخلاف ، مثاله المتيمّم ، إلى آخره ،

-------------------

وقد يخالفها .

( و ) الرابع : ( الأخذ بالأقلّ عند فقد دليل على الأكثر ) وذلك فيما إذا شك الانسان في انه هل يجب عليه الأقل أو الأكثر ، فانّه يتمسك بالأقل إذ لا دليل على الأكثر .

( « الخامس : أصالة بقاء ما كان ، ويسمى : إستصحاب حال الشرع وحال الاجماع ) فهم إسمان لشيء واحد ( في محل الخلاف ) لا في مثل العمل بالعموم والاطلاق الذي لا خلاف في جريان الاستصحاب فيه ، بل هو خارج عن الاستصحاب المصطلح ، وإنّما فيما لم يكن دليل يدل على وجود الحكم في الحال الثاني ولا على عدمه .

ولا يخفى : ان ما وعده المصنِّف من ذكر كلام الشهيد حيث قال قبل أسطر : وقد يعبّر عن جميع ذلك باستصحاب حال الاجماع هو هذه العبارة من الشهيد حيث قال : ويسمى استصحاب حال الشرع وحال الاجماع ، فعمّم الشهيد حال الاجماع على كل أقسام الأدلة .

وأما ( مثاله ) أي : مثال الاستصحاب المختلف فيه ، فهو : ( المتيمّم ، إلى آخره ) أي : الذي تيمم ودخل في الصلاة ثم وجد الماء في الأثناء ، فانه إذا قلنا بالاستصحاب نستصحب التطهر فيجب إتمام الصلاة ، وان لم نقل بالاستصحاب لا نستصحب التطهر فيجب تجديد الوضوء واستئناف الصلاة .

ص: 153

واختلف الأصحاب في حجيته ، وهو مقرّر في الاُصول » ، انتهى .

ونحوه ما حكي عن الشهيد الثاني في مسألة : أنّ الخارج من غير السبيلين ناقض أم لا ، وفي مسألة المتيمّم ، إلى آخره . وصاحب الحدائق في الدُرر النجفيّة . بل استظهر هذا من كلّ مَن مثّل لمحل النزاع بمسألة المتيمّم ، كالمعتبر والمعالم وغيرهما .

-------------------

ثم قال ( وإختلف الأصحاب في حجيته ) أي : في حجية القسم الخامس الذي هو الاستصحاب ( وهو ) أي : هذا الاختلاف في حجيته ( مقرّر في الاُصول » (1) ) فلا داعي للتعرّض له في كتاب الذكرى الذي هو كتاب فقهي ( انتهى ) كلام الشهيد قدس سره .

( ونحوه ما حكي عن الشهيد الثاني في مسألة : أنّ الخارج من غير السبيلين ناقض أم لا ) ؟ فانّه ان قلنا بالاستصحاب لم يكن ناقضا ، وان لم نقل بالاستصحاب يكون ناقضا ( وفي مسألة المتيمّم إلى آخره ) كما عرفت .

( و ) نحوه أيضا ما حكي عن ( صاحب الحدائق في الدرر النجفيّة ) وغيره .

( بل استظهر هذا ) أي : كون المراد من إستصحاب حال الاجماع هو : مطلق ما دل الدليل على وجود الحكم في الآن الأوّل ، من غير دلالة له على الآن الثاني استظهر ( من كلّ مَن مثّل لمحل النزاع ) في حجية الاستصحاب وعدم حجيته ( بمسألة المتيمّم ) الذي وجد الماء في أثناء الصلاة ( كالمعتبر والمعالم وغيرهما ) .

ص: 154


1- - ذكرى الشيعة : ص5 .

ولابدّ من نقل عبارة الغزالي المحكيّة في النهاية حتى يتضح حقيقة الحال ، قال الغزالي على ما حكاه في النهاية : « المستصحب إن أقرّ بأنّه لم يُقِم دليلاً في المسألة ، بل قال : أنا نافٍ ، ولا دليل على النافي ، فسيأتي بيان وجوب الدليل على النافي ؛ وإن ظنّ إقامة الدليل فقد أخطأ ، فإنّا نقول : إنّما يستدام الحكم الذي دلّ الدليل على دوامه ،

-------------------

هذا ( ولابدّ من نقل عبارة الغزالي المحكيّة في النهاية حتى يتضح حقيقة الحال ) ونرى هل انه يقول بنفي الاستصحاب مطلقا كما يستظهره المصنِّف من عبارته ، أو يقول بالتفصيل كما استظهره النهاية وغيرها ؟ .

( قال الغزالي على ما حكاه في النهاية ) : ان ( « المستصحب ) بصيغة إسم الفاعل ( إن أقرّ بأنّه لم يُقِم دليلاً في المسألة ) على حجية الاستصحاب معتذرا : بأن الاستصحاب ليس سوى إبقاء الحالة الاُولى إلى الحالة الثانية ، وإبقاء ما كان ، ليس إثبات شيء جديد حتى يحتاج إلى دليل جديد ( بل قال : أنا نافٍ ) أي : ناف لانتقاض الحالة الاُولى ومنكر لحدوث شيء جديد على خلاف الحالة السابقة ( ولا دليل على النافي ) لأن المثبت يحتاج إلى الدليل دون النافي .

وعليه : فان أقرّ وقال بأنه ناف ( فسيأتي بيان وجوب الدليل على النافي ) أيضا، كما انه يجب الدليل على المثبت ، لأن هذا النافي يريد اثبات الحالة السابقة إلى الحالة اللاحقة .

( وإن ظنّ إقامة الدليل ) على حجية الاستصحاب ، مثل الاستدلال : بان ما ثبت دام ( فقد أخطأ ، فإنّا نقول ) في بيان خطائه : ( إنّما يستدام الحكم الذي دلّ الدليل على دوامه ) وحيث ان الدليل الدال على الدوام : من النص والاجماع وغير ذلك لم يكن موجودا ، فلا وجه لاستصحاب الحالة السابقة إلى الحالة اللاحقة .

ص: 155

فان كان لفظ الشارع فلابدّ من بيانه ، فلعلّه يدلّ على دوامها عند عدم الخروج من غير السبيلين ، لا عند وجوده .

وإن دلّ بعمومها على دوامه عند العدم والوجود معا كان ذلك تمسكا بالعموم ، فيجب إظهار دليل التخصيص ،

-------------------

وعليه : ( فان كان ) ذلك الدليل الدال على الدوام هو : ( لفظ الشارع ، فلابدّ من بيانه ) أي : بيان ذلك اللفظ الدال على جريان الحكم في الحالة اللاحقة حتى نعرفه ( فلعلّه ) أي : ذلك اللفظ غير عام ، بل خاص ( يدلّ على دوامها ) أي : دوام الطهارة ( عند عدم الخروج من غير السبيلين ، لا عند وجوده ) أي : عند وجود الخروج من غير السبيلين أيضا .

والحاصل : ان الشارع الذي قال بأنه متطهر ، لعل كلامه كان خاصا بما إذا لم يخرج شيء من غير السبيلين ، امّا إذا خرج شيء من غير السبيلين فلا يقول الشارع بانه متطهر .

( وإن ) كان ذلك اللفظ عاما وقد ( دلّ بعمومها على دوامه ) أي : دوام التطهّر ( عند العدم ) للخروج ( والوجود ) للخروج ( معا ) بأن كان لفظ الشارع يقول : انه متطهّر سواء خرج من غير السبيلين شيء أم لم يخرج ( كان ذلك ) الدوام لما بعد الخروج في الحالة الثانية ( تمسكا بالعموم ) لا بالاستصحاب ، وإذا كان تمسّكا بالعموم ( فيجب إظهار دليل التخصيص ) لذلك العموم يعني : ان على من يريد خلاف ذلك العموم ويقول بأن الخارج من غير السبيلين ناقض الاستدلال عليه .

والحاصل : ان لفظ الشارع ان كان خاصا بالتطهّر قبل الخروج ، كان من يريد تعميمه إلى ما بعد الخروج محتاجا إلى الدليل ، وان كان لفظ الشارع عاما يعمّ التطهر قبل الخروج وبعد الخروج ، كان من يقول بعدم تطهره بعد الخروج

ص: 156

وإن كان الاجماع ، فالاجماع إنّما إنعقد على دوام الصلاة عند العدم دون الوجود .

ولو كان الاجماع شاملاً حال الوجود ، كان المخالف خارقا له ، كما أنّ المخالف في إنقطاع الصلاة عند هبوب

-------------------

محتاجا إلى الدليل ومعلوم : انه لا ربط للوجهين بالاستصحاب .

هذا إتمام الكلام في الدليل الأوّل وهو : بأن كان الدليل الدال على الدوام هو : لفظ الشارع .

( وإن كان ) الدليل الدال على الدوام هو ( الاجماع ، فالاجماع إنّما إنعقد على دوام الصلاة عند العدم ) أي : عند عدم وجدان الماء للمتيمم ، أو عدم خروج شيء من غير السبيلين للمتطهر ( دون الوجود ) أي : دون ما إذا وجد الماء أو خرج شيء من غير السبيلين ، فانه لا يشمله الاجماع .

هذا ( ولو كان الاجماع شاملاً حال الوجود ) للماء ، أو حال الوجود للخروج أيضا ، بمعنى : ان الاجماع لو إنعقد على انه سواء وجد الماء أم لم يوجد ، خرج شيء أم لم يخرج ، فهو متطهّر ( كان المخالف ) في دوام الصلاة الذي يقول : بأن وجدان الماء ، أو الخروج يبطل التيمم والتطهر ( خارقا له ) أي : للاجماع لا للاستصحاب ، وهذا الوجهان كالوجهين السابقين لا ربط لهما بالاستصحاب أيضا .

إذن : فالدليل في الصورة الاُولى كان هو النص لا الاستصحاب ، والدليل في هذه الصورة وهي الصورة الثانية : كان هو الاجماع لا الاستصحاب .

وعليه : فالمخالف في دوام الصلاة الذي يقول ببطلانها فيما نحن فيه خارق للاجماع ( كما أنّ المخالف في إنقطاع الصلاة ) الذي يقول ببطلانها ( عند هبوب

ص: 157

الرياح ، وطلوع الشمس ، خارقٌ للاجماع ، لأنّ الاجماع لم ينعقد مشروطا بعدم الهبوب ، وانعقد مشروطا بعدم الخروج وعدم الماء ، فإذا وجد فلا إجماع ،

-------------------

الرياح ، وطلوع الشمس ، خارقٌ للاجماع ) لا للاستصحاب أيضا .

وإنّما يكون المخالف في دوام الصلاة عند وجود الماء أو الخروج خارقا للاجماع إذا كان الاجماع شاملاً لحال الوجود والعدم كما فرض في مثال المتيمم والمتطهر ، ويكون المخالف في إنقطاع الصلاة عند الهبوب والطلوع خارقا للاجماع إذا كان الاجماع مختصا بحال عدم الهبوب والطلوع كما فرض في مثال الهبوب والطلوع ، بينما الاجماع في المثالين ليس كذلك حقيقة ، وذلك ( لأنّ الاجماع لم ينعقد ) على دوام الصلاة ( مشروطا بعدم الهبوب ، و ) عدم الطلوع ، بل إنعقد مطلقا يشمل حال الوجود والعدم في مثال الهبوب والطلوع ، كما لم ينعقد الاجماع على دوام الصلاة مطلقا في مثال المتيمم والمتطهّر ، بل ( انعقد مشروطا بعدم الخروج ) من غير السبيلين في المتطهر ( وعدم الماء ) في أثناء الصلاة للمتيمّم ( فإذا وجد ) الماء أو الخروج ( فلا إجماع ) على بقاء التطهّر والتيمم بعده .

والحاصل : انه لا اجماع يدل على بقاء التطهر والتيمم في الحالة الثانية .

هذا تمام الكلام في الدليل الثاني وهو : بأن كان الدليل الاجماع .

وامّا الدليل بأن نقيس حالة ما بعد وجدان الماء ، وما بعد الخروج من غير السبيلين، على حالة ما قبل الوجدان وما قبل الخروج ، فكما انه يكون ما قبلهما متطهرا ، فكذلك يكون ما بعدهما متطهرا أيضا .

ص: 158

فيجب أن يقاس حال الوجود على حال العدم المجمع عليه لعلّة جامعة ، فامّا أن يستصحب الاجماع عند إنتفاء الجامع فهو محال ، وهذا كما أنّ العقل دلّ على البرائة الأصلية بشرط عدم دليل السمع ، فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع ، وكذا هنا : إنعقد الاجماع بشرط العدم ، فانتفى الاجماع عند الوجود .

وهنا دقيقة ، وهو : أنّ كلّ دليل يضادّ نفس الخلاف ، فلا يمكن إستصحابه مع الخلاف ، والاجماع يضادّه نفس الخلاف ، إذ لا إجماع مع الخلاف ،

-------------------

( ف ) نجيب عن القياس : بأن القياس في الأزمان كالقياس في الأفراد باطل ، إضافة انه قياس مع الفارق ، إذ ( يجب أن يقاس حال الوجود على حال العدم المجمع عليه لعلّة جامعة ) بين الوجود والعدم من وحدة مناط ، والشبه ( فامّا أن يستصحب الاجماع عند إنتفاء الجامع ) كما فيما نحن فيه ( فهو محال ) لوضوح : ان الاجماع قد إنعقد على حال العدم ، فلا يقاس عليه حال الوجود ، لأنه لا إجماع فيه .

( وهذا كما أنّ العقل دلّ على البرائة الأصلية بشرط عدم دليل السمع ، فلا يبقى له ) أي : للعقل ( دلالة مع وجود دليل السمع ) فلا يقاس ما فيه بيان بما ليس فيه بيان ( وكذا هنا : إنعقد الاجماع بشرط العدم ) أي : عدم وجدان الماء وعدم الخروج من غير السبيلين ( فانتفى الاجماع عند الوجود ) لهما .

( وهنا دقيقة ) يلزم ملاحظتها ( وهو : أنّ كلّ دليل يضادّ نفس الخلاف ، فلا يمكن إستصحابه مع الخلاف ) فيما إذا كانت الحالة الثانية خلاف الحالة الاُولى ( والاجماع يضادّه نفس الخلاف ، إذ لا إجماع مع الخلاف ) .

ص: 159

بخلاف العموم والنصّ ودليل العقل ، فانّ الخلاف لا يضادّه ، فانّ المخالف مقرّ بأنّ العموم بصيغته تشمل لمحل الخلاف ، فانّ قوله عليه وآله الصلاة والسلام : « لا صيام لِمَن لا يُبيّتِ الصّيام من الليل » ، شامل بصيغته صوم رمضان ، مع خلاف الخصم فيه ،

-------------------

إذن : فالاجماع إنّما قام على التطهر قبل وجدان الماء ، وقبل الخروج من غير السبيلين ، امّا بعدهما فلا إجماع ، بل فيه خلاف ، ومع وجود الخلاف لا يكون هناك إجماع ( بخلاف العموم والنصّ ودليل العقل ، فانّ الخلاف لا يضادّه ) أي : إذا كان خلاف في المسألة لم يكن ذلك الخلاف ضارا بالعموم ، أو ضارا بالنص ، أو ضارا بدليل العقل .

أو الفرق بين العموم والنص واضح ، فان النص نص في مفاده ، بينما العموم ظاهر في مفاده .

وعليه : ( فانّ المخالف ) أي : الذي لا يقول بأن الحالة الثانية كالحالة الاُولى ، أو الذي لا يقول بأن الفرد الثاني كالفرد الأوّل ( مقرّ بأنّ العموم ، بصيغته تشمل لمحل الخلاف ) فالخلاف هنا في اللفظ لا يضادّ العموم والنص ودليل العقل ، بينما الخلاف هناك في الاجماع يضادّ كونه مجمعا عليه .

وعليه : ( فانّ قوله عليه وآله الصلاة والسلام : « لا صيام لمن لا يُبيّت الصّيام من الليل » (1) ) إذا اختلفوا في ان هذا الحكم هل يشمل شهر رمضان أيضا ، أو لا يشمل شهر رمضان ؟ فان هذا الاختلاف لا يضر بعموم اللفظ لأنه ( شامل بصيغته صوم رمضان مع خلاف الخصم فيه ) أي : في صوم شهر رمضان بأنه

ص: 160


1- - غوالي اللئالي : ج3 ص132 ح5 .

فيقول : اُسلّم شمول الصيغة ، لكنّي اُخصّصه بدليل ، فعليه الدليل .

وهذا ، المخالف لا يسلّم شمول الاجماع لمحل الخلاف ، لاستحالة الاجماع ، وعدم إستحالة شمول الصيغة مع الخلاف ، فهذه دقيقة يجب التنبيه لها .

-------------------

هل يلزم فيه بيتوتة الصيام من الليل أم لا ؟ .

والحاصل : إنهم إختلفوا في انه هل يلزم في شهر رمضان ان ينوي الصيام من الليل ، أو لا يلزم ؟ بينما الكل اتّفقوا على انه يلزم في غير شهر رمضان ان ينوي الصيام من الليل ، فاختلافهم في شهر رمضان لا يضر بشمول الدليل لشهر رمضان كما يشمل غير شهر رمضان أيضا .

وعليه : ( فيقول ) الخصم الذي يقول بعدم لزوم تبييت النية من الليل في شهر رمضان : ( اُسلّم شمول الصيغة ) المذكورة في النبوي لشهر رمضان أيضا ( لكنّي اُخصّصه بدليل ) خارجي فأقول لأجل ذلك الدليل المخصص : انه لا يلزم تبييت النية من الليل في شهر رمضان .

إذن : ( فعليه الدليل ) أي : على هذا الخصم المنكر للزوم تبييت النية من الليل المسلّم شمول الصيغة له أن يأتي بالدليل المخصص لهذا العام النبوي .

( و ) لكن ( هذا المخالف ) للاجماع ( لا يسلّم شمول الاجماع لمحل الخلاف ) فالاختلاف والاجماع في طرفي نقيض ، وذلك ( لاستحالة الاجماع ) في محل الخلاف ( وعدم إستحالة شمول الصيغة ) المذكورة في النبوي ( مع الخلاف ) بين الفقهاء في الحكم .

إذن : ( فهذه دقيقة يجب التنبيه لها ) فان النص يمكن ان يختلف فيه ، امّا مع وجود الاجماع فلا يمكن الاختلاف .

ص: 161

ثم قال فان قيل : الاجماع يحرّم الخلاف ، فكيف يرتفع بالخلاف ؟ .

ثمّ أجاب : بأنّ هذا الخلاف غير محرّم بالاجماع ، ولم يكن المخالف خارقا للاجماع ، لأنّ الاجماع إنّما إنعقد على حالة العدم ، لا على حالة الوجود ، فمن ألْحَقَ الوجود بالعدم ، فعليه الدليل .

لا يقال دليل صحة الشروع دالّ على الدوام إلى أن يقوم دليل على الانقطاع ، لأنّا نقول : ذلك الدليل ليس هو الاجماع ، لأنّه مشروط بالعدم

-------------------

( ثم قال ) الغزالي : ( فان قيل : الاجماع يحرّم الخلاف ، فكيف يرتفع بالخلاف ؟ ) أي : انه إذا كان هناك إجماع رفع ذلك الاجماع الخلاف ، وأنتم تقولون : ان الخلاف يرفع الاجماع فكيف يكون ذلك ؟ .

( ثمّ أجاب : بأنّ هذا الخلاف ) منهم في ان الحالة الثانية هل هي كالحالة الاُولى أم لا ؟ ( غير محرّم بالاجماع ، ولم يكن المخالف خارقا للاجماع ، لأنّ الاجماع إنّما إنعقد على حالة العدم ) فقط يعني : على التطهر قبل وجدان الماء ، وقبل الخروج من غير السبيلين ( لا على حالة الوجود ) لهما .

وعليه : ( فمن ألحق ) حالة ( الوجود بالعدم ، فعليه الدليل ) من نص ، أو إجماع ، أو ما أشبه ذلك ، والكل غير موجود .

( لا يقال ) : الدليل على التطهر بعد وجدان الماء ، وبعد الخروج من غير السبيلين موجود وهو : ( دليل صحة الشروع ) وهذا الدليل بنفسه ( دالّ على الدوام إلى أن يقوم دليل على الانقطاع ) وذلك لأن أحكام الشرع باقية إلى ان يدل الدليل على نقص تلك الأحكام .

( لأنّا نقول : ذلك الدليل ) الدال على الدوام ( ليس هو الاجماع ، لأنّه ) أي : لأن الاجماع على دوام الصلاة ( مشروط بالعدم ) أي : بعدم وجدان الماء ، وعدم

ص: 162

فلا يكون دليلاً عند العدم ، وإن كان نصا فبيّنه حتى ننظر هل يتناول حال الوجود أم لا .

لا يقال لم ينكروا على من يقول : الأصل أنّ ما ثبت دام إلى وجود قاطع ، فلا يحتاج الدوام إلى دليل في نفسه ، بل الثبوت هو المحتاج ، كما إذا ثبت موت زيد ، أو بناء دار كان دوامه بنفسه لا بسبب .

لأنّا نقول : هذا وهمٌ باطلٌ ، لأنّ كلّ ما ثبت

-------------------

الخروج من غير السبيلين ( فلا يكون ) الاجماع إذن ( دليلاً عند العدم ) أي : عند عدم الشرط وذلك بوجدان الماء ، أو الخروج من غير السبيلين .

هذا ( وإن كان ) الدليل الدال على التطهر بعد وجدان الماء ، وبعد الخروج من غير السبيلين ( نصا ، فبيّنه حتى ننظر هل يتناول حال الوجود ) للماء ، أو الخروج من غير السبيلين ( أم لا ) يتناوله ؟ .

( لا يقال ) : مقتضى القاعدة : ان التطهر متى ما وجد دام حتى يقطع بخلافه ، ووجدان الماء أو الخروج من غير السبيلين لا يوجب القطع بخلاف التطهر ، بل يوجب الشك ، ومع الشك يستصحب التطهر ، وذلك لأن الاُصوليين ( لم ينكروا على من يقول : الأصل أنّ ما ثبت دام إلى وجود قاطع ، فلا يحتاج الدوام إلى دليل في نفسه ، بل الثبوت ) أي : ثبوت الخلاف ( هو المحتاج ) إلى الدليل .

( كما إذا ثبت موت زيد ، أو بناء دار ، كان دوامه بنفسه ) فيبقى مستمرا ( لا بسبب ) ولا بدليل ، فلا نحتاج إلى سبب ودليل يدل على دوام موته وعمارة داره ، بل دوامه بنفسه .

لا يقال ذلك ( لأنّا نقول : هذا وهمٌ باطلٌ ) فليس كل ما ثبت دام ( لأنّ كلّ ماثبت

ص: 163

جاز دوامه وعدمه ، فلابدّ لدوامه من سبب ودليل سوى دليل الثبوت .

ولولا دليل العادة على أنّ الميت لا يحيى ، والدّار لا ينهدم إلاّ بهادم ، أو طول زمان ، لما عرفنا دوامه بمجرد ثبوته ، كما لو أخبر عن قعود الأمير ، وأكله ، ودخوله الدّار ، ولم يدلّ العادة على دوام هذه الأحوال ، فانّا لانقضي بدوامها .

وكذا خبر الشارع عن دوام الصلاة مع عدم الماء ليس خبرا عن دوامها مع وجوده ، فيفتقر في دوامها

-------------------

جاز دوامه ، و ) جاز ( عدمه ) أي : عدم دوامه ( فلابدّ لدوامه من سبب ودليل سوى دليل الثبوت ) .

وأما مثالهم بموت زيد وبقاء داره فهو غير صحيح لما أشار إليه بقوله :

( ولولا دليل العادة على أنّ الميت لا يحيى ، والدّار لا ينهدم إلاّ بهادم ، أو طول زمان ) كمائة سنة - مثلاً - ( لما عرفنا دوامه ) أي : دوام الموت ودوام الدار ( بمجرد ثبوته ) في الآن الأوّل .

وأما الدليل على ان كلّما ثبت دام غير صحيح ، فهو ما ذكره بقوله : ( كما لو أخبر عن قعود الأمير ، وأكله ، ودخوله الدّار ، ولم يدلّ العادة على دوام هذه الأحوال ، فانّا لانقضي بدوامها ) وما نحن فيه من قبيل قعود الأمير ونحوه ، لا من قبيل موت زيد ونحوه كما قال : ( وكذا خبر الشارع عن دوام الصلاة مع عدم الماء ) حيث قد تيمّم ودخل في الصلاة فانه ( ليس خبرا عن دوامها مع وجوده ) أي مع وجود الماء وحصوله في الأثناء .

إذن : ( فيفتقر في دوامها ) أي : في دوام الصلاة بعد وجدان الماء في أثناء

ص: 164

إلى دليل آخر » ، إنتهى .

ولا يخفى : أنّ كثيرا من كلماته خصوصا قوله : أخيرا ، « خبر الشارع عن دوامها » صريحٌ في أنّ هذا الحكم غير مختص بالاجماع ، بل يشمل كلّ دليل يدلّ على قضيّة مهملة من حيث الزمان بحيث يقطع بانحصار مدلوله الفعلي في الزمان الأوّل .

-------------------

الصلاة ( إلى دليل آخر » (1) ) غير دليل أصل التيمم ( إنتهى ) كلام الغزالي .

هذا ( ولا يخفى : أنّ كثيرا من كلماته خصوصا قوله : أخيرا ، « خبر الشارع عن دوامها » ) أي : عن دوم الصلاة مع عدم الماء ليس خبرا عن دوامها مع وجوده ، فيفتقر في دوامها إلى دليل آخر ، فان قوله هذا ( صريحٌ في أنّ هذا الحكم ) أي : عدم الحكم في الآن الثاني بما حكم به في الآن الأوّل ( غير مختص بالاجماع ) .

وعليه : فقد ظهر انه لا يلزم في عدم حجية الاستصحاب ، ان يكون دليل الحكم في الآن الأوّل هو الاجماع ( بل يشمل كلّ دليل ) إجماعا كان أم غير إجماع ( يدلّ على قضيّة مهملة من حيث الزمان ) .

إذن : فالدليل لو كان مهملاً وساكتا من حيث الزمان بأن لم يدل على انه هل هو في الزمان الأوّل فقط ، أو في جميع الأزمنة ؟ يعني ما لم يكن ( بحيث يقطع بانحصار مدلوله الفعلي ) أي : مدلول ذلك لادليل ( في الزمان الأوّل ) ولا بحيث يقطع بشمول مدلوله للزمان الثاني ، وإنّما هو ساكت عن ذلك ، فهذا الدليل الساكت سواء كان إجماعا أم غير إجماع من نص وغير نص ، فهو عند الغزالي ليس بحجة ممّا يدل على انه ينفي حجية الاستصحاب مطلقا ، لا انه يقول .

ص: 165


1- - المستصفى : ج1 ص129 مع تفاوت يسير .

والعجب من شارح المختصر ، حيث انّه نسب القول بحجيّة الاستصحاب إلى جماعة ، منهم الغزالي ، ثم قال : « ولا فرق عند من يرى صحّة الاستدلال به بين أن يكون الثابت به نفيا أصليّا كما يقال فيما إختلف كونه نصابا : أنّ الزكاة لم تكن واجبة عليه ، والأصل البقاء ؛ أو حكما شرعيّا ، مثل : قول الشافعي في الخارج من غير السبيلين أنّه كان قبل خروج الخارج منه متطهّرا إجماعا ، والأصل البقاء حتى يثبت معارضٌ والأصل عدمُه » ، انتهى .

-------------------

هذا ( والعجب من ) العضدي ( شارح المختصر ) لابن الحاجر ( حيث انّه نسب القول بحجيّة الاستصحاب إلى جماعة ، منهم الغزالي ، ثم قال : « ولا فرق عند من يرى صحّة الاستدلال به ) أي : بالاستصحاب ( بين أن يكون الثابت به ) أي : بالاستصحاب إما ( نفيا أصليّا ) أي : البرائة ( كما يقال فيما إختلف كونه نصابا : أنّ الزكاة لم تكن واجبة عليه ، والأصل البقاء ) أي : بقاء عدم الوجوب .

( أو حكما شرعيّا ) إيجابيا ( مثل : قول الشافعي في الخارج من غير السبيلين؛ انّه كان قبل خروج الخارج منه ) أي : من المكلّف ( متطهِّرا إجماعا ، والأصل البقاء ) أي : بقاء التطهر ( حتى يثبت معارضٌ ) أي : يثبت المخرج عن أصل التطهر ( والأصل عدمُه » (1) ) أي : عدم المعارض .

( انتهى ) كلام شارح المختصر وهو - كما رأيت - قد نسب القول بحجية الاستصحاب إلى الغزالي مع ان الغزالي منكر للاستصحاب - على ما عرفت عنه - ولذلك تعجب المصنِّف من كلام شارح المختصر ، لأنه قال ما يناقض كلام

ص: 166


1- - شرح مختصر الاصول : ج2 ص284 .

ولا يخفى : أنّ المثال الثاني ممّا نسب إلى الغزالي : إنكارُ الاستصحاب فيه ، كما عرفت من النهاية ، ومن عبارة الغزالي المحكيّة عنه فيها .

ثمّ إنّ السيد صدر الدين جمع في شرح الوافية « بين قولي الغزالي تارة : بأنّ قوله بحجيّة الاستصحاب ليس مبنيّا على ما جعله القوم دليلاً من حصول الظن ، بل هو مبني على دلالة الروايات عليها ، والروايات لا تدلّ على حجيّة استصحاب حال الإجماع ؛

-------------------

الغزالي ، والتناقض هو ما أشار إليه بقوله : ( ولا يخفى : أنّ المثال الثاني ) وهو الخارج من غير السبيلين ( ممّا نسب إلى الغزالي : إنكارُ الاستصحاب فيه ، كما عرفت من النهاية ، ومن عبارة الغزالي المحكيّة عنه فيها ) ومع إنكاره كيف يلائم ما أسنده إليه شارح المختصر من القول بحجيته ؟ .

( ثمّ إنّ السيد صدر الدين جمع في شرح الوافية ) للفاضل التوني ( « بين قولي الغزالي ) وهما : عدم إعتبار استصحاب حال الاجماع ، وإعتبار حال سائر الأدلة فقد جمع بينهما بما يلي :

( تارة : بأنّ قوله بحجيّة الاستصحاب ليس مبنيّا على ما جعله القوم دليلاً من حصول الظن ) وإلاّ ، بأن كان الدليل على الحجية هو حصول الظن ، لزم عدم الفرق فيه بين أن يكون حصول الظن من الاجماع أو من غير الاجماع من سائر الأدلة .

قال : ( بل هو مبني على دلالة الروايات عليها ) أي : على حجية الاستصحاب ( والروايات لا تدلّ على حجيّة استصحاب حال الإجماع ) بل على حجية استصحاب النص وما أشبه ، فالروايات هي الفارق ، لدلالتها على حجية الاستصحاب في غير الاجماع ، وعدم دلالتها على حجية الاستصحاب في الاجماع .

ص: 167

واُخرى : بأنّ غرضه من دلالة الدليل على الدوام : كونه بحيث لو علم أو ظنّ وجود المدلول في الزمان الثاني أو الحالة الثانية لأجل موجب لكان حملُ الدليل على الدوام ممكنا ، والاجماع ليس كذلك ، لأنّه يضادّ الخلاف ، فكيف يدلّ على كون المختلف فيه مُجمعا عليه ؟ كما يرشد إليه قوله : « والاجماع يضادّه نفسُ الخلاف ، إذ لا إجماع مع الخلاف ، بخلاف النص ، والعموم ، ودليل العقل ، فانّ الخلاف لا يضادّه » .

ويكون غرضُه من قوله : « فلابد لدوامه من سبب » ، الردّ على من إدّعى أنّ علّة الدوام هو مجرد تحقق الشيء

-------------------

( واُخرى : بأنّ غرضه ) أي : الغزالي ( من دلالة الدليل على الدوام : كونه بحيث لو علم أو ظنّ وجود المدلول في الزمان الثاني أو الحالة الثانية لأجل موجب ) أي : لأجل قرينة خارجية توجب العلم أو الظن بذلك ( لكان حملُ الدليل على الدوام ممكنا ) وهذا إنّما هو في غير الاجماع ، كالنص وما أشبه ، اما الاجماع فحمله على الدوام غير ممكن كما قال : ( والاجماع ليس كذلك ) أي : لا يمكن حمله على الدوام ( لأنّه يضادّ الخلاف، فكيف يدلّ ) الاجماع ( على كون المختلف فيه ) وهو الآن الثاني ( مُجمعا عليه ؟ ) .

والحاصل : ان الاجماع لا يمكن إستصحابه ، بخلاف سائر الأدلة ( كما يرشد إليه قوله : « والاجماع يضادّه نفسُ الخلاف ، إذ لا إجماع مع الخلاف ، بخلاف النص ، والعموم ، ودليل العقل ، فانّ الخلاف لا يضادّه » ) لامكان أن يكون الدليل شاملاً لكلا الحالين حتى وان كان أحدهما مجمعا عليه والآخر غير مجمع عليه .

( و ) حينئذٍ : ( يكون غرضُه ) أي : الغزالي ( من قوله : « فلابد لدوامه من سبب » ، الردّ على من إدّعى أنّ علّة الدوام هو مجرد تحقق الشيء

ص: 168

في الواقع ، وأنّ الاذعان به يحصلُ بمجرد العلم بالتحقّق ، فردّ عليه بأنّه ليس الأمرُ كذلك ، وأنّ الاذعان والظنّ بالبقاء لابدّ له من أمر أيضا ، كعادة ، أو أمارة ، أو غيرهما » ، انتهى .

-------------------

في الواقع ، و ) الرد على من إدّعى : ( أنّ الاذعان به ) أي : بالدوام ( يحصلُ بمجرد العلم بالتحقّق ، فردّ عليه ) بما يلي :

أولاً : ( بأنّه ليس الأمرُ كذلك ) فان علّة الدوام ليس هو مجرد التحقق والثبوت في الواقع .

ثانيا : ( وأنّ الاذعان والظنّ بالبقاء ) علما بأن الظن تفسير للاذعان ، أو هو أعم من الاذعان ، لأن الاذعان هو الدرجة الرفيعة من الظن ، والظن يشمل حتى الدرجة الخفيفة من الرجحان ، فانه ( لابدّ له من أمر أيضا ) .

وعليه : فكما ان البقاء يحتاج إلى علة ، كذلك الاذعان والظن بالبقاء يحتاج إلى قرينة ودليل ، حتى يظن الانسان بأن الشيء السابق باق .

وان شئت قلت : ان البقاء يحتاج إلى العلة في مقام الثبوت ، والاذعان يحتاج إلى الاعتراف بالبقاء في مرحلة الاثبات ( كعادة ، أو أمارة ، أو غيرهما » ) مثل قابلية

الشيء إلى انه إذا ثبت بقى .

( انتهى ) كلام السيد الصدر في شرح الوافية .

هذا ، ولا يخفى : ان السيد الصدر لما قال في توجيهه الثاني : بكفاية قابلية الدوام للدليل في القول ببقاء الحكم الأوّل إلى الزمان الثاني ، كان كلامه هذا معرضا لأن يستشكل عليه : بان هذا التوجيه يضادّ ما قاله الغزالي : بأنه لابد من وجود سبب للدوام ، وذلك لوضوح ان قابلية الدليل للسببية غير وجود السبب .

فأجاب السيد الصدر : بأن غرض الغزالي من هذا الكلام هو : الرد على

ص: 169

أقول : أمّا الوجه الأوّل ، فهو كما ترى ، فانّ التمسّك بالروايات ليس له أثر في كلام الخاصة الذين هم الأصل في تدوينها في كتبهم ، فضلاً عن العامة .

وأمّا الوجه الثاني : ففيه : أنّ منشأ العجب من تناقض قوليه حيث انّ ما ذكره في استصحاب حال الاجماع : من إختصاص

-------------------

من زعم ان علّة الدوام هو مجرد التحقق من غير إحتياج إلى أمر آخر ، فان الحكم لا يدوم إلاّ إذا كانت قابلية الدوام موجودة فيه ، وهذه القابلية موجودة في الأدلة وليست موجودة في الاجماع ، إذ الاجماع دليل لبّي لا يظهر منه القابلية للبقاء في الآن الثاني .

وإلى هذا الاشكال والجواب ، أشار السيد الصدر فيما مرّ من قوله : ويكون غرض الغزالي من قوله : فلابد لدوامه من سبب .

( أقول : أمّا الوجه الأوّل ) من توجيه السيد الصدر لكلام الغزالي : ( فهو كما ترى ) أي : غير تام .

وإنّما لم يكن تاما ، لأنه كما قال : ( فانّ التمسّك ) للاستصحاب ( بالروايات ليس له أثر في كلام الخاصة الذين هم الأصل في تدوينها في كتبهم ) فانهم وان دوّنوها في كتبهم المتقدّمة ، إلاّ ان التمسك بها للاستصحاب إنّما هو في المتأخرين ( فضلاً عن العامة ) حيث إنهم لم يستدلوا بالأخبار إطلاقا .

هذا بالاضافة إلى انه لو فرضنا ان بناء المتقدمين في حجية الاستصحاب كان على الروايات ، فانه يرد عليه ان الروايات لا تكون هي الفارق بين الاجماع تشمل الاجماع وغير الاجماع على حد سواء ، فمن أين ان الروايات هي الفارق بينهما ؟.

( وأمّا الوجه الثاني : ففيه : أنّ منشأ العجب ) إنّما هو ( من تناقض قوليه ) أي : قولي الغزالي ( حيث انّ ما ذكره في استصحاب حال الاجماع : من إختصاص

ص: 170

دليل الحكم بالحالة الاُولى بعينه ، موجودٌ في بعض صور استصحاب حال غير الاجماع - فانّه إذا ورد النصّ على وجه يكون ساكتا بالنسبة إلى ما بعد الحالة الاُولى - كما إذا ورد : أنّ الماء ينجس بالتغيير مع فرض : عدم إشعار فيه بحكم ما بعد زوال التغيّر - فانّ وجود هذا الدليل بوصف كونه دليلاً مقطوعُ العدم في الحالة الثانية ، كما في الاجماع .

وأمّا قوله « وغرضه من دلالة الدليل على الدوام : كونه بحيث لو علم أو ظنّ بوجود المدلول

-------------------

دليل الحكم بالحالة الاُولى ) دون الحالة الثانية فلا يستصحب إلى الحالة الثانية هو ( بعينه ، موجودٌ في بعض صور استصحاب حال غير الاجماع ) من النص وما أشبه .

ثم أشار إلى بيان بعض تلك الصور بقوله : ( فانّه إذا ورد النصّ على وجه يكون ساكتا بالنسبة إلى ما بعد الحالة الاُولى ) وذلك ( كما إذا ورد : أنّ الماء ينجس بالتغيير مع فرض : عدم إشعار فيه ) أي : في النص ( بحكم ما بعد زوال التغيّر ) فان هذا الدليل حاله حال الاجماع كما قال : ( فانّ وجود هذا الدليل بوصف كونه دليلاً ) على الحكم ( مقطوعُ العدم في الحالة الثانية ، كما في الاجماع ) حيث ان الاجماع أيضا مقطوع العدم في الحالة الثانية .

إذن : فما هو الفارق بين هذا الدليل وبين الاجماع ، حتى يقول الغزالي : بأن الاجماع لا يستصحب إلى الحالة الثانية بخلاف الدليل حيث يستصحب إلى الحالة الثانية ؟ وهذا الاشكال لم يجب عنه السيد صدر الدين في وجهه الثاني .

( وأمّا قوله ) أي : قول السيد صدر الدين في شرح الوافية : ( « وغرضه ) أي : الغزالي ( من دلالة الدليل على الدوام : كونه بحيث لو علم أو ظنّ بوجود المدلول

ص: 171

في الآن الثاني ، إلى آخر ما ذكره » .

ففيه : أنّه إذا علم لدليل ، أو ظنّ لأمارة ، بوجود مظنون هذا الدليل الساكت ، أعني : النجاسة في المثال المذكور ، فامكان حمل هذا الدليل على الدوام ، إن اُريد به إمكان كونه دليلاً على الدوام، فهو ممنوعٌ ، لامتناع دلالته على ذلك ، لأنّ دلالة اللفظ لابدّ له من سبب وإقتضاء ، والمفروض عدمُه .

وإن اُريد : إمكان كونه مرادا في الواقع من الدليل ،

-------------------

في الآن الثاني ، إلى آخر ما ذكره » ) السيد صدر الدين من قوله : أو الحالة الثانية لأجل موجب ، لكان حمل الدليل على الدوام ممكنا ، والاجماع ليس كذلك لأنه يضادّ الخلاف ( ففيه ) ما يلي :

إنّ الإمكان الذي ذكره السيد في قوله : «لكان حمل الدليل على الدوام ممكنا» غير مسقيم ، وذلك ( أنّه إذا علم لدليل ، أو ظنّ لأمارة ، بوجود مظنون هذا الدليل الساكت ) عن الحالة الثانية ( أعني : النجاسة في المثال المذكور ) وهو مثال : تغيّر الماء ثم زوال تغيّره من قبل نفسه ، حيث لا يعلم في هذه الحالة بأنه هل يستصحب النجاسة فيه أم لا ؟ فإن هذا الامكان غير تام بأي معنى من المعنيين الآتيين أخذنا الامكان ، وذلك كما قال :

( فامكان حمل هذا الدليل على الدوام ) في قوله : لكان حمل الدليل على الدوام ممكنا ( إن اُريد به إمكان كونه دليلاً على الدوام ، فهو ممنوعٌ ، لامتناع دلالته على ذلك ) أي : على الدوام ( لأنّ دلالة اللفظ لابدّ له من سبب وإقتضاء ، والمفروض عدمُه ) إذ دليل النجاسة ساكت عن الحالة الثانية التي هي زوال التغيّر من قبل نفسه .

( وإن اُريد : إمكان كونه ) أي : الدوام ( مرادا في الواقع من الدليل ) بأن كان

ص: 172

وإن لم يكن الدليل مفيدا له ، ففيه مع إختصاصه بالاجماع ، عند العامّة الذي هو نفس مستند الحكم ، لا كاشف عن مستنده الراجع إلى النصّ وجريان مثله في المستصحب الثابت بالفعل أو التقرير ،

-------------------

الشارع أراد النجاسة في الحالة الثانية أيضا ، إلاّ ان الدليل الذي ذكره خاص بالحالة الاُولى كما قال : ( وإن لم يكن الدليل مفيدا له ) أي : الدوام لفرض ان الدليل ساكت عن الحالة الثانية ( ففيه ) ثلاث إشكالات :

الاشكال الأوّل : هو ما أشار إليه بقوله : ( مع إختصاصه ) أي : الامكان على المعنى الثاني ( بالاجماع عند العامّة الذي هو نفس مستند الحكم ) عندهم ( لا كاشف عن مستنده الراجع إلى النصّ ) كما هو عندنا .

والحاصل : ان العامة يرون نفس الاجماع بما هو إجماع دليلاً ، والخاصة يرونه دليلاً لأنه كاشف عن الدليل وعن قول المعصوم عليه السلام لا بما هو دليل ، وبناءً على هذا الفارق ، فالخلاف يضادّ الاجماع عند العامة ، ولا يضادّه عند الخاصة ، لأن الاجماع عند الخاصة يكون كقول المعصوم عليه السلام وقول المعصوم حجة وان كان الحكم مختلفا فيه بين الفقهاء .

وعليه : فإذا كان هناك اختلاف بين الفقهاء في الحالة الثانية ، فلا يمكن ان يكون إجماع عند العامة ، ويمكن ان يكون إجماع عند الخاصة .

إذن : فالدليل المكشوف عن الاجماع عند الخاصة ، يمكن ان يكون دالاً على الدوام ، لكنه لا يمكن ان يكون دالاً على الدوام عند العامة ، لما عرفت : من ان الاجماع يضادّ الخلاف ، والمفروض وجود الخلاف في الحالة الثانية .

الاشكال الثاني : هو ما أشار إليه المصنِّف بقوله : ( وجريان مثله ) أي : مثل الاشكال الذي ذكرناه في الاجماع ( في المستصحب الثابت بالفعل أو التقرير )

ص: 173

فانّه لو ثبت دوام الحكم لم يمكن حمل الدليل على الدوام - أنّ هذا المقدار من الفرق لا يؤثر فيما ذكره الغزالي في نفي استصحاب حال الاجماع ، لأنّ مناط نفيه لذلك - كما عرفت من تمثيله بموت زيد وبناء داره - إحتياج الحكم في الزمان الثاني إلى دليل أو أمارة .

-------------------

أيضا ، فانه كما لا يمكن استصحاب الحكم الذي كان مجمعا عليه في الآن الأوّل ، كذلك لا يمكن استصحاب الحكم الذي كان ثابتا بفعل المعصوم عليه السلام أو تقريره في الآن الأوّل .

وعليه : ( فانّه لو ثبت دوام الحكم ) من الدليل الخارجي للحالة الثانية ( لم يمكن حمل الدليل على الدوام ) لأن الاجماع والفعل والتقرير ، كلها لا يمكن إمتدادها إلى الحالة الثانية .

وأما الاشكال الثالث من إشكالات المصنِّف فهو : ( أنّ هذا المقدار من الفرق ) بين الاجماع وغيره ( لا يؤثر فيما ذكره الغزالي في نفي استصحاب حال الاجماع ) وإثبات الاستصحاب في غير حال الاجماع من سائر الأدلة .

وإنّما لا يكون هذا المقدار من الفرق مؤثرا في نفي استصحاب حال الاجماع ( لأنّ مناط نفيه لذلك ) أي : لاستصحاب حال الاجماع ( كما عرفت من تمثيله بموت زيد وبناء داره ) حيث ان الاستصحاب ثابت في موت زيد ، لأنه لا نحتمل حياته بعد الموت ، وثابت في كون داره باقية ، لأنه لا نحتمل إنهدامها في زمان قليل هو : ( إحتياج الحكم في الزمان الثاني إلى دليل أو أمارة ) تدل على بقائه .

إذن : فالغزالي إنّما يقول بجريان الاستصحاب في الآن الثاني إذا كان دليل أو أمارة على البقاء في الآن الثاني ، كما في موت زيد وبناء داره ، حيث الدليل والأمارة قائمة على بقائهما ، لا إنه يقول بجريان الاستصحاب في الآن الثاني مطلقا

ص: 174

هذا ، وعلى كلّ حال : فلو فرض كون الغزالي مفصّلاً في المسألة بين ثبوت المستصحب بالاجماع وثبوته بغيره ، فيظهر ردّه ممّا ظهر من تضاعيف ما تقدّم : من أنّ أدلّة الاثبات لا يفرّق فيها بين الاجماع وغيره خصوصا ما كان نظير الاجماع في السكوت عن حكم الحالة الثانية ،

-------------------

ولو من دون دليل أو أمارة .

وعليه : فإذا ثبت الحكم في الآن الأوّل بالاجماع ، وكان هناك دليل أو أمارة على بقاء ذلك الحكم في الآن الثاني ، أجرى الغزالي في الآن الثاني الاستصحاب أيضا لمكان ذلك الدليل أو تلك الأمارة .

إذن : فلا يكون ما ذكره السيد الصدر لتوجيه كلام الغزالي حيث فسّر إمكان الدوام بكون الدوام مرادا في الواقع في محله ، لأن الامكان وحده لا يفيد ، وإنّما يفيد إذا كان هناك دليل أو أمارة عليه .

( هذا ) تمام الكلام في الرد على توجيه السيد الصدر للتناقض الواقع بين كلامي الغزالي .

( وعلى كلّ حال : فلو فرض كون الغزالي مفصّلاً في المسألة بين ثبوت المستصحب بالاجماع ) فلا يجري فيه الاستصحاب ( وثبوته بغيره ) من سائر الأدلة ، فيجري فيه الاستصحاب ، فإذا سلمنا إنه من المفصّلين ، فتفصيله هذا مردود ولا وجه له وذلك كما قال : ( فيظهر ردّه ) أي : ردّ هذا التفصيل ( ممّا ظهر من تضاعيف ما تقدّم : من أنّ أدلّة الاثبات ) للاستصحاب ( لا يفرّق فيها بين الاجماع وغيره ) من سائر الأدلة ، فيلزم القول بجريان الاستصحاب فيهما معا ، أو عدم جريان الاستصحاب فيهما معا ( خصوصا ما كان نظير الاجماع في السكوت عن حكم الحالة الثانية ) ونظير الاجماع هو ما تقدّم : من تقرير المعصوم عليه السلام

ص: 175

خصوصا إذا علم عدم إرادة الدوام منه في الواقع ، كالفعل والتقرير ، وأدلّة النفي كذلك لا يفرّق فيها بينهما أيضا .

نعم ، قد يفرّق بينهما :

-------------------

وفعله ، وذلك ( خصوصا إذا علم عدم إرادة الدوام منه ) أي : من غير الاجماع ( في الواقع كالفعل والتقرير ) .

إذن : فالدليل إذا لوحظ بالنسبة إلى الحالة الثانية ، إنقسم على أربعة أقسام :

الأوّل : ما يكون دالاً على ثبوت الحكم في الحالة الثانية بالعموم أو الاطلاق .

الثاني : ما يكون دالاً على عدم ثبوته في الحالة الثانية ونفيه عنها ، سواءً كان بالمفهوم أم بالمنطوق .

الثالث : ما يكون مجملاً بالنسبة إلى دلالته على ثبوت الحكم في الحالة الثانية بمعنى إحتمال إرادته منه وإن لم يكن الدليل دالاً عليه دلالة قطعيةً .

الرابع : ما يكون مهملاً بالنسبة إلى ثبوت الحكم في الحالة الثانية وساكتا عنه ، بحيث لو علم ثبوت الحكم في الحالة الثانية لم يعقل إرادته عن نفس الدليل ، بل لابد من إرادته من دليل آخر ، فيدل على ثبوت الحكم في الواقع ، لا كونه مرادا من الدليل الأوّل ، كما في القسم الثالث .

هذا كله تمام الكلام في حال الاجماع وغيره بالنسبة إلى أدلة الاثبات ، حيث قلنا : انه لا فرق في تلك الأدلة بين الاجماع وغيره .

( و ) اما بالنسبة إلى ( أدلّة النفي ) فهي ( كذلك لا يفرّق فيها بينهما ) أي : بين الاجماع وغيره ( أيضا ) أي : كما لم يفرّق بينهما في أدلة الاثبات .

( نعم ، قد يفرّق بينهما ) أي : بين الأدلة اللفظية وبين الاجماع ونحوه من الفعل والتقرير بما يلي :

ص: 176

بأنّ الموضوع في النصّ مبيّن يمكن العلمُ بتحققه وعدم تحققه في الآن اللاحق .

كما إذا قال : الماء إذا تغيّر نجس ، فانّ الماء موضوع ، والتغيّر قيد للنجاسة ، فإذا زال التغيّر أمكن استصحاب النجاسة للماء ، وإذا قال : الماء المتغيّر نجسٌ ، فظاهره : ثبوت النجاسة للماء المتلبّس بالتغيّر ، فإذا زال التغيّر لم يمكن الاستصحاب ، لأنّ الموضوع هو المتلبّس بالتغيّر وهو غير موجود .

كما إذا قال : الكلبُ نجسٌ ، فإنّه لا يمكن استصحاب النجاسة بعد إستحالته ملحا .

-------------------

أولاً : ( بأنّ الموضوع في النصّ مبيّن يمكن العلمُ بتحققه وعدم تحققه ) أي : تحقق الموضوع ، وعدم تحقق الموضوع بسبب الاستصحاب ( في الآن اللاحق ) والنص المبيّن هو : ( كما إذا قال : الماء إذا تغيّر نجس ، فانّ الماء موضوع ، والتغيّر قيد للنجاسة ) لأنه قد قيّد الماء بقوله : إذا تغيّر ( فإذا زال التغيّر أمكن استصحاب

النجاسة للماء ) الذي هو الموضوع .

( و ) أما ( إذا قال : الماء المتغيّر نجسٌ ) بأن جعل التغيّر صفة للماء لا شرطا له

( فظاهره : ثبوت النجاسة للماء المتلبّس بالتغيّر ، فإذا زال التغيّر لم يمكن الاستصحاب ) .

وإنّما لا يمكن الاستصحاب ( لأنّ الموضوع هو المتلبّس بالتغيّر وهو غير موجود ) في الحالة الثانية عند زوال التغير .

وعليه : فيكون حال قوله : الماء المتغيّر نجس ( كما إذا قال : الكلبُ نجسٌ ، فإنّه لا يمكن استصحاب النجاسة بعد إستحالته ملحا ) لزوال الموضوع الذي هو

ص: 177

فإذا فرضنا إنعقاد الاجماع على نجاسة الماء المتصف بالتغيّر ، فالاجماع أمر لبّي ليس فيه تعرّضٌ لبيان كون الماء موضوعا ، والتغير قيدا للنجاسة أو أنّ الموضوع هو المتلبّس بوصف التغيّر .

وكذلك إذا إنعقد الاجماع على جواز تقليد المجتهد في حال حياته ثم مات ، فانّه لا يتعيّن الموضوع حتى يحرز عند إرادة الاستصحاب .

-------------------

عبارة عن الكلب بسبب تحوّله إلى الملح .

ثانيا : بأن الموضوع في الاجماع ليس مبيّنا ( فإذا فرضنا إنعقاد الاجماع على نجاسة الماء المتصف بالتغيّر ، فالاجماع أمر لبّيّ ) والأمر اللّبي ( ليس فيه تعرّضٌ لبيان كون الماء موضوعا ، والتغير قيدا للنجاسة ) حتى يكون حاله حال قوله : الماء إذا تغيّر تنجّس ، فإذا زال تغيّره أمكن استصحاب النجاسة فيه ( أو أنّ الموضوع هو المتلبّس بوصف التغيّر ) حتى يكون حاله حال قوله : الماء المتغيّر نجس ، فإذا زال تغيّره لم يمكن الاستصحاب فيه .

( وكذلك إذا إنعقد الاجماع على جواز تقليد المجتهد في حال حياته ، ثم مات ) فانه لا يمكن استصحابه ، لأنا لا نعلم هل الموضوع هو : مطلق المجتهد حتى إذا مات لم ينتف الموضوع ، لأن مطلق المجتهد يشمل كونه حيا أو ميتا ، أو الموضوع هو : المجتهد الحي حتى إذا مات انتفى الموضوع ، لأن المجتهد المتلبس بوصف الحياة لا يشمل كونه ميتا ؟ وحيث لم نعلم الموضوع في الدليل اللبي الذي هو الاجماع ، فلا يمكن الاستصحاب فيه .

إذن : ( فانّه لا يتعيّن الموضوع ) في الدليل اللبّي الذي هو الاجماع ( حتى يحرز عند إرادة الاستصحاب ) بقاء الموضوع فيه فلا يمكن استصحابه ، وذلك لما عرفت : من انه لابد من إحراز الموضوع حتى يجري الاستصحاب .

ص: 178

لكن هذا الكلام جار في جميع الأدلّة غير اللفظية .

مع ما سيجيء وتقدّم : من أنّ تعيين الموضوع في الاستصحاب بالعرف ، لا بالمداقّة ولا بمراجعة الأدلّة الشرعية ، فيكفي في دفع الفرق المذكور ، فتراهم يُجْرون الاستصحاب فيما لا يساعد دليل المستصحب على بقاء الموضوع فيه في الزمان اللاحق ، كما سيجيء في مسألة إشتراط بقاء الموضوع إن شاء اللّه .

-------------------

( لكن هذا الكلام ) وهو : كون الاجماع أمرا لبيا ، فلا يتعيّن فيه الموضوع حتى يمكن احرازه عند الاستصحاب ، ليس في محله ، لانه يرد عليه ما يلي :

أولاً : انه ( جار في جميع الأدلّة غير اللفظية ) كالفعل والتقرير ، فلا خصوصية لهذا الكلام بالاجماع .

ثانيا : ( مع ما سيجيء وتقدّم : من أنّ تعيين الموضوع في الاستصحاب ) انما هو ( بالعرف ، لا بالمداقّة ) العقلية ( ولا بمراجعة ) ما اخذ موضوعا في ( الأدلّة الشرعية ) .

وعليه : فإذا عرفنا الموضوع العرفي للحكم المجمع عليه ، جاز إستصحابه بلا حاجة إلى الدقة العقلية ، ولا معرفة اللفظ الشرعي ، فيكون حال الاجماع حال غيره في جواز الاستصحاب .

إذن : ( فيكفي ) كون الموضوع عرفيا ( في دفع الفرق المذكور ) بين الاجماع وغيره ( فتراهم ) أي : العرف ( يُجرون الاستصحاب فيما لا يساعد دليل المستصحب على بقاء الموضوع فيه في الزمان اللاحق ) بلا فرق منهم بين الاجماع وغيره ( كما سيجيء في مسألة إشتراط بقاء الموضوع ) وإحراز بقائه عرفا في جواز الاستصحاب ( إن شاء اللّه ) تعالى .

ص: 179

حجّة القول التاسع :

وهو التفصيل بين ما ثبت إستمرار المستصحب وإحتياجه في الارتفاع إلى الرافع وبين غيره - ما يظهر من آخر كلام المحقق في المعارج ، كما تقدّم في نقل الأقوال ، حيث قال : « والذي نختاره أن ننظر في دليل ذلك الحكم ، فان كان يقتضيه مطلقا وجب الحكم باستمرار الحكم ، كعقد النكاح ، فإنّه يوجب حلّ الوطي مطلقا ،

-------------------

والمتحصل من ذلك كله : ان الغزالي ليس مفرّقا بين الاجماع وبين غيره في الاستصحاب ، ولو فرض انه مفرق فلا دليل له عليه ، وإنّما يلزم القول بعدم الفرق بين الاجماع وبين غير الاجماع ، في جواز الاستصحاب ، أو في نفي الاستصحاب .

( حجّة القول التاسع : وهو التفصيل بين ما ثبت إستمرار المستصحب وإحتياجه في الارتفاع إلى الرافع ) فيستصحب ( وبين غيره ) وهو الشك في المقتضي فلا يستصحب ، فحجته هو : ( ما يظهر من آخر كلام المحقق في المعارج كما تقدّم في نقل الأقوال ، حيث قال : ) المحقق هناك ما يلي :

( « والذي نختاره أن ننظر في دليل ذلك الحكم ) الذي نريد إستصحابه ( فان كان يقتضيه مطلقا ) كالبيع ونحوه حيث لم نعلم هل انه بطل بسبب وقوع بعض المبطلات المشكوكة في إبطالها للبيع ، أم لا ؟ ( وجب الحكم باستمرار الحكم ) الذي كان في الآن الأوّل ، فنستصحبه إلى الآن الثاني .

مثلاً : ( كعقد النكاح ، فإنّه يوجب حلّ الوطي مطلقا ) أي : من دون تقييده

ص: 180

فإذا وجد الخلاف في الألفاظ التي يقع بها الطلاق ، فالمستدلّ على أنّ الطلاق لا يقع بها لو قال : « حلّ الوطي ثابتٌ قبل النطق بها فكذا بعده » ، كان صحيحا فإنّ المقتضي للتحليل - وهو العقد - إقتضاه مطلقا ولا يعلم أنّ الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء ، فيثبت الحكم عملاً بالمقتضي .

لا يقال : إنّ المقتضي هو العقد ، ولم يثبت أنّه باق .

« لأنّا نقول :

-------------------

بشيء ، فقد قال سبحانه : « نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم » (1) ونحو ذلك من الأدلة المطلقة لحل الوطي بسبب النكاح .

وعليه : ( فإذا وجد الخلاف ) بين العلماء ( في الألفاظ التي يقع بها الطلاق ) مثل لفظ خليّة ، وبريّة ، ونحوهما ممّا كان من باب الشبهة الحكمية ( فالمستدلّ على أنّ الطلاق لا يقع بها ) أي : بهذه الألفاظ ( لو قال : « حلّ الوطي ثابت قبل النطق بها ) أي : بهذه الألفاظ ( فكذا بعده » ) أي : بعد النطق بها ( كان ) إستدلاله ( صحيحا ) .

وإنّما كان إستدلاله صحيحا لأنه كما قال : ( فإنّ المقتضي للتحليل - وهو العقد - إقتضاه مطلقا ) أي : سواء جرت هذه الألفاظ أم لم تجر ( ولا يعلم أنّ الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء ) المطلق ( فيثبت الحكم ) بحل الوطي ( عملاً بالمقتضي ) الذي هو النكاح .

( لا يقال : إنّ المقتضي ) لحلّ الوطي ( هو العقد ) بمعنى : العلقة الزوجية ( ولم يثبت أنّه باق ) بعد جريان هذه الألفاظ ، فيكون الشك فيه من الشك في المقتضي.

( « لأنّا نقول ) : بل المقتضي لحل الوطي هو اللفظ لا العلقة الزوجية ،

ص: 181


1- - سورة البقرة : الآية 223 .

وقوع العقد إقتضى حلّ الوطي لا مقيّدا ، فيلزم دوام الحل ، نظرا إلى وقوع المقتضي لا دوامه ، فيجب أن يثبت الحلّ حتى يثبت الرافع . فان كان الخصم يعني بالاستصحاب ما أشرنا إليه ، لم يكن ذلك عملاً بغير دليل ؛ وإن كان يعني أمرا آخر وراء هذا ، فنحن مضربون عنه » ، انتهى .

-------------------

ومع ( وقوع ) لفظ ( العقد ، إقتضى حلّ الوطي ) إقتضاءً مطلقا ( لا مقيّدا ) بعدم هذه الألفاظ المشكوكة .

وعليه : ( فيلزم دوام الحل ، نظرا إلى وقوع المقتضي ) وهو وقوع لفظ العقد ( لا دوامه ) أي : لا نظرا إلى دوام المقتضي حتى يقال : لم يثبت انه باق بعد هذه الألفاظ ، فيكون من الشك في المقتضي .

إذن : فإنا لا ندّعي دوام الحل حتى يقال : لو كنا نعلم دوام الحل لم نحتج إلى الاستصحاب ، ولا ندّعي دوام المقتضي حتى يقال : لم يثبت انه باق بعد هذه الألفاظ ، وإنّما نقول المقتضي قد وجد ولم نعلم بارتفاعه ، فاللازم القول ببقائه ( فيجب أن يثبت الحلّ حتى يثبت الرافع ) وثبوت الرافع إنّما هو بألفاظ الطلاق المعروفة لا بهذه الألفاظ .

وعليه : ( فان كان الخصم يعني بالاستصحاب ما أشرنا إليه ) : من شمول إطلاق الدليل للآن الثاني ، ويقول في ذلك : بأنه عمل من غير دليل ، فنقول له : بأنه ( لم يكن ذلك عملاً بغير دليل ) وإنّما لدليل وهو الاطلاق .

( وإن كان يعني أمرا آخر وراء هذا ، فنحن مضربون عنه » (1) ) ولا نقول به .

( انتهى ) كلام المحقق في المعارج .

ص: 182


1- - معارج الاصول : ص209 .

وحاصل هذا الاستدلال يرجع إلى : كفاية وجود المقتضي ، وعدم العلم بالرافع لوجود المقتضي .

وفيه : أنّ الحكم بوجود الشيء لا يكون إلاّ مع العلم بوجود علّته التامّة التي من أجزائها عدم الرافع ، فعدم العلم به يوجب عدم العلم بتحقق العلّة التامّة ، إلاّ أن يثبت التعبّد من الشارع بالحكم بالعدم عند عدم العلم به ، وهو عين الكلام في إعتبار الاستصحاب .

-------------------

( وحاصل هذا الاستدلال يرجع إلى : كفاية وجود المقتضي ، وعدم العلم بالرافع لوجود المقتضي ) فما دام لا نعلم بأن هناك رافعا للمقتضي نحكم ببقاء المقتضي .

( وفيه : أنّ الحكم بوجود الشيء لا يكون إلاّ مع العلم بوجود علّته التامّة التي من أجزائها عدم الرافع ) وذلك بأن نعلم بأن المقتضي موجود وبأن الرافع مفقود أيضا ، فعلمنا بوجود المقتضي وحده لا يكفي لأن نقول ببقاء المعلول .

إذن : ( فعدم العلم به ) أي : بعدم الرافع الذي هو جزء العلة ( يوجب عدم العلم بتحقق العلّة التامّة ) فلا نتمكن من الحكم ببقاء المعلول ( إلاّ أن يثبت التعبد من الشارع بالحكم بالعدم ) أي : الحكم بعدم الرافع ( عند عدم العلم به ) وذلك بأن يقول الشارع : إذا علمت بوجود المقتضي ولم تعلم بوجود الرافع ، فاحكم ببقاء الحكم الذي هو المعلول لذلك المقتضي .

( وهو ) أي : ثبوت هذا التعبد من الشارع ، وعدم ثبوته ( عين الكلام في إعتبار الاستصحاب ) أي : أول الكلام ، فلا يمكن ان يتخذه المحقق دليلاً على حجية الاستصحاب .

ص: 183

والأولى : الاستدلال له بما إستظهرناه من الروايات السابقة - بعد نقلها - من أنّ النقض : رفعُ الأمر المستمر في نفسه ، وقطع الشيء المتصل كذلك ، فلابد أن يكون متعلّقه ما يكون له إستمرار وإتصال وليس ذلك نفس اليقين ، لانتقاضه بغير إختيار المكلّف ، فلا يقع في حيّز التحريم ، ولا أحكام اليقين من حيث هو وصف من الأوصاف ، لارتفاعها بارتفاعه قطعا .

-------------------

( و ) عليه : فان ( الأولى : الاستدلال له ) أي : للقول التاسع وهو التفصيل بين الشك في الرافع فيجري فيه الاستصحاب ، وبين الشك في المقتضى فلا يجري فيه الاستصحاب ان يكون ( بما إستظهرناه من الروايات السابقة بعد نقلها ) أي : بعد نقل تلك الروايات ، فانّ الظرف متعلق بالاستظهار يعني : نقلها الروايات أولاً، ثم إستظهرنا منها ذلك المعنى .

أمّا ما استظهره منها فهو كما قال : ( من أنّ النقض : رفعُ الأمر المستمر في نفسه، وقطع الشيء المتصل كذلك ) أي في نفسه ( فلابد أن يكون متعلّقه ) أي : متعلق القطع أيضا ( ما يكون له إستمرار وإتصال ) في نفسه .

هذا ( وليس ذلك ) الشيء المستمر والمتصل ( نفس اليقين ، لانتقاضه ) أي : لانتقاض اليقين ( بغير إختيار المكلّف ) عند الشك ، فان اليقين ينتقض تلقائيا ( فلا يقع في حيّز التحريم ) حتى يقول الشارع : لا تنقض اليقين .

( ولا أحكام اليقين من حيث هو ) أي : اليقين ( وصف من الأوصاف ) النفسية، كما تقدّم فيما إذا نذر التصدق في كل يوم بدرهم ما دام كونه متيقنا ببقاء ولده ، فانه إذا شك في بقائه ذهبت صفته النفسية وذهبت معها وجوب التصدق .

وإنّما قال : لا احكام اليقين ( لارتفاعها ) أي : إرتفاع تلك الأحكام ( بارتفاعه ) أي : بإرتفاع اليقين الذي هو صفة نفسيّة ( قطعا ) لتبدّله بالشك .

ص: 184

بل المراد به ، بدلالة الاقتضاء ، الأحكام الثابتة للمتيقّن بواسطة اليقين ، لأنّ نقض اليقين بعد إرتفاعه لا يعقل له معنى سوى هذا .

فحينئذ : لابد أن يكون أحكام المتيقّن كنفسه ممّا يكون مستمرّا لولا الناقض .

-------------------

( بل المراد به ) أي : بمتعلق لا تنقض ( بدلالة الاقتضاء ) وقد تقدّم معنى دلالة الاقتضاء ، وهو : ما يتوقف صدق الكلام ، أو صحته عليه ، إذ لولا هذا المعنى الذي نذكره لقوله عليه السلام : لا تنقض اليقين ، لكان الكلام امّا غير صحيح ، وامّا غير صادق ، وكلاهما غير معقول في كلام العقلاء العاديين فكيف بكلامهم صلوات اللّه عليهم أجمعين ؟ .

إذن : فالمراد هو : عدم نقض ( الأحكام الثابتة للمتيقّن بواسطة اليقين ) فانه إذا تيقن بالوضوء ، فالوضوء متعلق اليقين ، فهو المتيقن ولهذا الوضوء الذي هو المتيقن أحكام مثل : دخول الصلاة ، وصحة الطواف ، ومسّ كتابة القرآن ، وما أشبه ذلك .

وإنّما يكون المراد منه : الأحكام الثابتة للمتيقن ( لأنّ نقض اليقين بعد إرتفاعه ) من نفسه بسبب الشك وزوال الصفة النفسية عن الانسان ( لا يعقل له ) أي : للنهي عن نقضه ( معنى سوى هذا ) الذي ذكرناه : من ان المراد منه هو : عدم نقض الأحكام الثابتة للمتيقن .

( فحينئذ ) أي : حين أراد من قوله : لا تنقض اليقين : لا تنقض الأحكام الثابتة للمتيقن ( لابد أن يكون أحكام المتيقّن كنفسه ) أي : كنفس اليقين ( ممّا يكون مستمرّا ) في نفسه ( لولا الناقض ) .

وإلاّ لم يصدق عليه النقض ، فإنّ الطهارة في المثال أمر مستمر لولا الناقض ،

ص: 185

هذا ، ولكن لابدّ من التأمّل في أنّ هذا المعنى جارٍ في المستصحب العدمي أم لا ، ولا يبعد تحقّقه ، فتأمل .

ثم إنّ نسبة القول المذكور إلى المحقق ،

-------------------

بينما عند الشك في المقتضي لا يكون الأمر هكذا ، فيختص دليل الاستصحاب بما إذا كان الشك في الرافع .

( هذا ، ولكن لابدّ من التأمّل في أن هذا المعنى ) الذي ذكرناه للنقض ولزوم ان يكون متعلقه أيضا وهو المتيقن أمرا مستحكما يقتضي الاستمرار ممّا يخصّص الاستصحاب بالشك في الواقع ، هذا المعنى هل هو ( جارٍ في المستصحب العدمي أم لا ) حيث يظهر : ان العدم ليس أمرا مستحكما حتى يصدق عليه النقض ؟ ( و ) لكن ( لا يبعد تحقّقه ) أي : تحقق المعنى المذكور وجريانه في العدميات أيضا ، وذلك من جهة ان عدم العلة علة للعدم وهي مستمرة .

( فتأمل ) ولعله إشارة إلى ان الشك في العدمي يرجع إلى الشك في علته ، وانها هل تقتضي البقاء إلى زمن الشك أم لا ؟ فيكون الشك في المقتضي ولا يجري فيه الاستصحاب .

أو لعله إشارة إلى التأمل في أصل المطلب وهو : ان قوله عليه السلام : لا تنقض اليقين مطلق يشمل الشك في المقتضي والشك في الرافع عرفا ، والعرف هو المحكّم في أمثال هذه الاُمور ، لأنهم هم الذين القي إليهم الكلام ، فالقول بالتفصيل بين الاستصحاب في الشك في الرافع فيجري ، والشك في المقتضي فلا يجري ، خلاف ظاهر الدليل .

( ثم إنّ نسبة القول المذكور ) من التفصيل بين الشك في المقتضي فلا يجري الاستصحاب فيه ، والشك في الرافع فيجري فيه الاستصحاب ( إلى المحقق ،

ص: 186

مبنيّ على أنّ مراده من دليل الحكم في كلامه بقرينة تمثيله بعقد النكاح في المثال المذكور : هو المقتضي ،

-------------------

مبنيّ على أنّ مراده من دليل الحكم في كلامه ) المتقدم حيث قال : والذي نختاره ان ننظر في دليل الحكم ، وذلك ( بقرينة تمثيله بعقد النكاح في المثال المذكور : هو المقتضي ) للحكم ، لا عموم النص أو إطلاقه .

وإلاّ فمع قطع النظر عن تمثيل المحقق بعقد النكاح الدال على انه أراد من دليل الحكم : المقتضي للحكم ، لكان الظاهر : انه أراد من دليل الحكم : عموم النص أو إطلاقه - مثلاً - الشامل للحكم في الزمان الثاني بنفسه ، لا بالاستصحاب ، فيكون المحقق على ذلك من المنكرين للاستصحاب مطلقا ، سواء كان الشك في المقتضي أم في الرافع ، لكن تمثيله بالنكاح نفى عنه هذا الاحتمال .

والحاصل : ان في كلام المحقق نوع إجمال ، لأن قوله : والذي نختاره ان ننظر في دليل ذلك الحكم إلى آخره ظاهر في معنيين :

أولاً : ربما يظهر منه : انه من المفصلين بين إستصحاب عموم النص وغيره ، باعتبار الاستصحاب في الأوّل دون الثاني ، وهذا هو الذي فهمه صاحب المعالم ، فيكون المحقق على هذا المعنى من النافين مطلقا ، لخروج إستصحاب عموم النص عن محل النزاع ، بل لخروجه من حقيقة الاستصحاب ، كما صرّح به المصنِّف في مواضع متعددة .

ثانيا : وربما يظهر منه بقرينة تمثيله بعقد النكاح : انه من المفصلين في الاستصحاب بين ما إذا كان الشك في الرافع فحجة ، وبين ما إذا كان الشك في المقتضي فليس بحجة ، وهذا هو الذي فهمه المصنِّف ، فيكون المحقق على هذا المعنى من القائلين بالتفصيل الذي هو مختار المصنِّف أيضا .

ص: 187

وعلى أن يكون حكمُ الشك في وجود الرافع حكم الشك في رافعية الشيء ، إمّا لدلالة دليله المذكور على ذلك ،

-------------------

وعليه : فنسبة هذا التفصيل ، إلى المحقق مبني على المعنى الثاني الذي فهمه المصنِّف ( وعلى أن يكون حكم الشك في وجود الرافع ) مساويا مع ( حكم الشك في رافعية الشيء ) الموجود .

مثلاً : قد نشك في انه هل أجرى ما هو مبطل للنكاح أم لا ؟ وهذا شك في وجود الرافع ، وقد نعلم انه أجرى شيئا ، لكن لا نعلم هل ان هذا الذي أجراه مبطل للنكاح أم لا ؟ وهذا شك في رافعية الموجود .

وإنّما قال المصنِّف : وعلى ان يكون حكم الشك في وجود الرافع حكم الشك في رافعية الموجود ، لأنه أراد إثبات ان المحقق يقول بحجية الاستصحاب عند الشك في وجود الرافع مع ان مثال المحقق هو الشك في رافعية الموجود .

وعليه : فإذا أراد المصنِّف إثبات ان المحقق مفصّل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع ، فيلزم عليه إثبات ما يلي :

أولاً : ان مراده من دليل الحكم هو المقتضي للحكم .

ثانيا : ان يكون الشك في وجود الرافع والشك في رافعية الموجود عنده متساويين من حيث جريان الاستصحاب فيهما .

اما إثبات ان مراده من دليل الحكم هو : المقتضي ، فبقرينة تمثيله بعقد النكاح .

واما إثبات ان الأمرين متساويان عنده من حيث الاستصحاب فبما قال :

( إمّا لدلالة دليله المذكور على ذلك ) أي : على التسوية ، لأن دليل المحقق كما يجري في الشك في رافعية الموجود - على ما مثّل له - يجري في الشك في وجود الرافع أيضا فهما متساويان .

ص: 188

وإمّا لعدم القول بالاثبات في الشك في الرافعيّة ، والانكار في الشك في وجود الرافع وإن كان العكس موجودا ، كما سيجيء من المحقق السبزواري .

لكن في كلا الوجهين نظرٌ :

أمّا الأوّل ، فلامكان الفرق في الدليل الذي ذكره ، لأنّ مرجع ما ذكره في الاستدلال إلى جعل المقتضي والرافع من قبيل العام والمخصّص .

فإذا ثبت عموم المقتضي - وهو عقد النكاح لحلّ الوطي في جميع

-------------------

( وإمّا لعدم ) القول بالفصل بين ( القول بالاثبات ) للاستصحاب ( في الشك في الرافعيّة ، والانكار ) للاستصحاب ( في الشك في وجود الرافع ) .

وعليه : فكل من قال بالاستصحاب في الشك في رافعية الموجود ، قال بالاستصحاب في الشك في وجود الرافع ( وإن كان ) التفصيل في ( العكس موجودا ) بين الأقوال ، فان هناك من يقول باثبات الاستصحاب في الشك في وجود الرافع ، وبانكاره في الشك في رافعية الموجود ( كما سيجيء ) هذا التفصيل ( من المحقق السبزواري ) قدس سره .

( لكن في كلا الوجهين ) المذكورين للدلالة على ان حكم الشك في وجود الرافع هو حكم الشك في رافعية الموجود ( نظرٌ : ) على ما يلي :

( أمّا الأوّل ) : وهو ما ذكره بقوله : «امّا لدلالة دليله المذكور على ذلك يعني : على التسوية ( فلامكان الفرق في الدليل الذي ذكره ) المحقق للتساوي بينهما من وحدة المناط ، وذلك ( لأنّ مرجع ما ذكره في الاستدلال ) إنّما هو ( إلى جعل المقتضي والرافع من قبيل العام والمخصّص ) .

وعليه : ( فإذا ثبت عموم المقتضي - وهو عقد النكاح لحلّ الوطي في جميع

ص: 189

الأوقات - فلا يجوز رفع اليد عنه بالألفاظ التي وقع الشك في كونها مزيلة لقيد النكاح ، إذ من المعلوم أنّ العموم لا يرفع اليد عنه بمجرد الشك في التخصيص .

-------------------

الأوقات - ) والأزمان ( فلا يجوز رفع اليد عنه ) أي : عن مقتضى عقد النكاح ( بالألفاظ التي وقع الشك في كونها مزيلة لقيد النكاح ) أو غير مزيلة له مثل : خلية وبرية .

وإنّما لا يجوز رفع اليد عنه ( إذ من المعلوم أنّ العموم لا يرفع اليد عنه بمجرد الشك في التخصيص ) وذلك لأن الشك في المخصّص على ثلاثة أقسام :

الأوّل : الشك في أصل المخصص وذلك بالشك في انه هل وجد المخصّص أم لا ؟ .

الثاني : الشك في مخصّصيّة الموجود وذلك بأن علم بوجود شيء ، لكن شك في ان هذا الشيء هل هو مخصّص للعام أم لا ؟ .

الثالث : الشك في مصداق المخصّص بعد العلم بتخصيص العام ، وذلك كما لو قال المولى : اكرم العلماء ثم قال : ولا تكرم الفساق منهم ، فشك في ان زيدا العالم هل هو فاسق أم لا ؟ .

اما في القسمين الأولين فيلزم العمل بالعام ، وذلك للشك في التخصيص ، فيكون ظهور العام محكّما .

وامّا في القسم الثالث ، وهو العلم بالتخصيص والشك في مصداقه خارجا ، فيلزم الرجوع في إزالة الشبهة إلى الأدلة الخارجية مثل : إستصحاب عدالة زيد أو فسقه أو ما أشبه ذلك .

وعلى هذا : فإذا فرضنا كون المقتضي والمانع نظير العام والخاص ، وذلك

ص: 190

أمّا لو ثبت تخصيص العام - وهو المقتضي لحلّ الوطي ، أعني : عقد النكاح - بمخصّص ، وهو اللفظ الذي إتفق على كونه مزيلاً لقيد النكاح ، فإذا شك في تحققه وعدمه ، فيمكن منع التمسك بالعموم حينئذ إذ الشك ليس في طروّ التخصيص على العام ، بل في وجود ما خصّص العام به يقينا ، فيحتاج إثبات عدمه المتمّم للتمسك بالعام إلى إجراء الاستصحاب ،

-------------------

بأن كان المقتضي نظير العام ، والمانع نظير الخاص ، فلابدّ ان يكون المقتضي مؤثرا مع الشك في مانعية الموجود ، لا مع الشك في وجود المانع .

( أمّا لو ثبت تخصيص العام - و ) ذلك العام هنا ( هو المقتضي لحلّ الوطي ) وفسّر المصنِّف المقتضي بقوله : ( أعني : عقد النكاح - ) لو ثبت تخصيصه ( بمخصّص ، و ) ذلك المخصّص ( هو اللفظ الذي إتفق على كونه مزيلاً لقيد النكاح ) مثل : طالق ( فإذا شك في تحققه ) أي : تحقق ذلك المخصّص بأن كان الشك في تحقق الرافع ( وعدمه ، فيمكن منع التمسك بالعموم حينئذ ) أي : حين كان الشك في تحقق الرافع .

وإنّما يمكن منع التمسك بالعموم عند الشك في تحقق الرافع ( إذ الشك ليس في طروّ التخصيص على العام ، بل في وجود ما خصّص العام به يقينا ) فيكون التمسك بالعام النفي المخصّص من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية .

وعليه : ( فيحتاج إثبات عدمه ) أي : عدم وجود المخصّص ( المتمّم ) ذلك العدم ( للتمسك بالعام ) لأن التمسك بالعام يحتاج إلى رفع المانع حتى يؤثر المقتضي أثره ، فيحتاج حينئذ لاثبات عدمه ( إلى إجراء الاستصحاب ) .

والحاصل : إنّ العام موجود ، فإذا إنضم إليه دليل يدل على عدم وجود المخصص الرافع لأثر العام ، أثّر العام أثره ، وإثبات عدم وجود المخصّص الرافع ،

ص: 191

بخلاف ما لو شك في أصل التخصيص ، فإنّ العامّ يكفي لاثبات حكمه في مورد الشك .

وبالجملة : فالفرق بينهما : أنّ الشك في الرافعيّة من قبيل الشك في تخصيص العام زائدا على ما علم تخصيصه ، نظيرُ ما إذا ثبت تخصيص العلماء في : « أكرم العلماء » بمرتكبي الكبائر وشك في تخصيصه بمرتكب الصغائر ، فانّه يجب التمسك بالعموم .

-------------------

يحتاج إلى إجراء الاستصحاب .

وهذا لما عرفت ( بخلاف ما لو شك في أصل التخصيص ) بمثل خلية وبرية حيث يشك في إنها هل خصّصت العام أم لا ؟ ( فإنّ العامّ يكفي لاثبات حكمه في مورد الشك ) إذ ليس التمسك بالعام هنا من التمسك به في الشبهة المصداقية .

وإنّما يكفي العام هنا لاثبات حكمه في مورد الشك لوضوح : ان أصالة الحقيقة في العام قاضية بأن حكم مورد الشك هو حكم سائر أفراد العام داخل في العام ، فيجب العمل بالعام في المورد المشكوك ، فان أصالة الحقيقة في العام عين عموم العام لكل الأفراد ، سواء شككنا بأنه خرج أم لا ؟ .

( وبالجملة : فالفرق بينهما ) أي : بين الشك في رافعية الموجود ، والشك في وجود الرافع هو : ( أنّ الشك في الرافعيّة ) للموجود ( من قبيل الشك في تخصيص العام زائدا على ما علم تخصيصه ) به .

وعليه : فيكون ( نظيرُ ما إذا ثبت تخصيص العلماء في : « أكرم العلماء » بمرتكبي الكبائر ) بأن قال المولى : اكرم العلماء ولا تكرم العصاة ( وشك في تخصيصه بمرتكب الصغائر ) زائدا على تخصيصه بمرتكبي الكبائر ( فانّه يجب التمسك بالعموم ) لما ذكرناه : من أصالة الحقيقة ، فلا نكرم مرتكبي الكبائر ،

ص: 192

والشك في وجود الرافع شكٌ في وجود ما خصّص العام به يقينا ، نظير ما إذا علم تخصيصه بمرتكبي الكبائر وشك في تحقق الارتكاب وعدمه ، فانّه لولا إحراز عدم الارتكاب بأصالة العدم التي مرجعها إلى الاستصحاب المختلف فيه لم ينفع العام في إيجاب إكرام ذلك المشكوك .

-------------------

ويجب علينا إكرام مرتكبي الصغائر من العلماء أيضا .

( والشك في وجود الرافع ) إنّما هو ( شكٌ في وجود ما خصّص العام به يقينا ) فنحتاج في نفيه إلى أصالة العدم .

وعليه : فيكون ( نظير ما إذا علم تخصيصه بمرتكبي الكبائر وشك في تحقق الارتكاب وعدمه ) في عالم كزيد ، حيث لا نعلم هل انه إرتكب الكبيرة أم لا ؟ ( فانّه لولا إحراز عدم الارتكاب بأصالة العدم التي مرجعها ) أي : مرجع هذه الأصالة ( إلى الاستصحاب المختلف فيه ) والمتنازع عليه ( لم ينفع العام في إيجاب إكرام ذلك ) الفرد ( المشكوك ) في انه هل إرتكب المعصية أم لا ؟ .

والحاصل : ان ما ذكرناه - عن الشيخ - قبل أسطر : من ان نسبة التفصيل بين المقتضي والرافع إلى المحقق ، مبني على ان يكون حكم الشك في وجود الرافع هو حكم الشك في رافعية الموجود ، وذلك بأن لم يكن فرق بينهما ، فإن هذا الذي ذكرناه هناك غير صحيح .

وإنّما لم يكن صحيحا لأنّا قد ذكرنا بعد ذلك عند قولنا : وبالجملة ذكرنا : ان بينهما فرقا ، وذلك لأن كلام المحقق إنّما هو في رافعية الموجود في مثل : لفظ خلية وبرية ، لا في وجود الرافع ، وقد عرفت بعد توضيح الفرق بينهما : انه لا تساوي بينهما حتى يكون المحقق ممّن يقول بأن الشك إذا كان في الرافع ، فهو مجرى الاستصحاب .

ص: 193

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ مبنى كلام المحقق قدس سره لمّا كان على وجود المقتضي حال الشك وكفاية ذلك في الحكم بالمقتضي ، فلا فرق في كون الشك في وجود الرافع ، أو رافعيّة الموجود .

والفرق بين الشك في الخروج والشك في تحقق

-------------------

( هذا ، ولكن يمكن أن يقال ) في عدم الفرق بين الشك في وجود الرافع والشك في رافعية الموجود ، حتى يتم عليه كون المحقق مفصّلاً بين الشك في المقتضي والشك في الرافع ما يلي :

( إنّ مبنى كلام المحقق قدس سره لمّا كان على وجود المقتضي ) للحكم بدليل تمثيله بعقد النكاح الموجب إجراء لفظه لحل الوطي مطلقا ، فإذا شك في إرتفاع الحل بمثل لفظ خليّة وبريّة وعدم إرتفاعه بها ، فالمقتضي للحل وهو اللفظ قد وجد ولم نعلم بارتفاعه ، فنحكم بوجوده ( حال الشك ) أيضا ( وكفاية ذلك ) أي : وجود المقتضي يكون كافيا ( في الحكم بالمقتضي ) - بالفتح - .

وعليه : ( فلا فرق في كون الشك في وجود الرافع ، أو رافعيّة الموجود ) .

إن قلت : انكم ذكرتم الفرق بين ما لو شك في انه هل وجد المخصّص أم لا ، حيث يعمل بالعام ؟ وبين ما لو شك في ان الذي وجد هل كان مخصّصا أم لا حيث لا يعمل بالعام ؟ ثم قستم ذلك بما نحن فيه : من انه لو شك في ان الزوج هل طلق أم لا فيتمسك ببقاء الزوجية لمكان العام ؟ ولو شك في ان اللفظ الذي أجراه هل كان من ألفاظ الطلاق أم لا ، فلا يتمسك ببقاء الزوجية ، لأن العام لا يشمله إلاّ بالاستصحاب ونحوه ؟ .

قلت : ( والفرق بين الشك في الخروج ) أي : وجود الرافع ( والشك في تحقق

ص: 194

الخارج في مثال العموم والخصوص من جهة إحراز المقتضي للحكم بالعموم ظاهرا في المثال الأوّل من جهة أصالة الحقيقة ، وعدم إحرازه في الثاني لعدم جريان ذلك الأصل ،

-------------------

الخارج ) أي : رافعية الموجود ( في مثال العموم والخصوص ) هو كما إذا قال المولى اكرم العلماء ولا تكرم الفساق ، فانه قد يكون الشك في التخصيص كالشك في ان الفساق هل يشمل مرتكبي الصغائر أم لا ؟ فنعمل بالعام في مرتكب الصغيرة .

وقد يكون الشك في المصداق بعد العلم بالتخصيص كالشك في ان زيدا العالم هل هو فاسق أم لا ؟ فلا يتمسك بالعام إلاّ باستصحاب عدم فسق زيد أو نحو الاستصحاب .

وعليه : فهذا الفرق بين الشك في الخروج ، والشك في تحقق الخارج إنّما هو ( من جهة إحراز المقتضي للحكم بالعموم ظاهرا في المثال الأوّل ) وهو : الشك في الخروج فان إحراز المقتضي فيه إنّما هو ( من جهة أصالة الحقيقة ) في العام الشامل لهذا الفرد المشكوك الخروج من جهة الشك في الرافع .

( وعدم إحرازه ) أي : عدم إحراز المقتضي للحكم بالعموم ( في ) المثال ( الثاني ) وهو : الشك في تحقق الخارج ، فان عدم إحرازه إنّما هو ( لعدم جريان ذلك الأصل ) فيه .

إذن : فأصالة الحقيقة إنّما تنفي خروج الفرد المشكوك الخروج ، وهو الشك في وجود الرافع ، ولا تنفي خروج الفرد الخارج وهو الشك في رافعية الوجود ، وذلك لأن أصالة الحقيقة لا ربط لها بتعيين المصداق الخارجي ، بل هي لتعيين إرادة المتكلم فقط .

ص: 195

لا لاحراز المقتضي لنفس الحكم ، وهو وجوب الاكرام في الأوّل دون الثاني ، فظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين المثالين .

وأمّا دعوى عدم الفصل بين الشكّين على الوجه المذكور فهو ممّا لم يثبت .

-------------------

وعليه : فالفرق بين المثالين إنّما هو من جهة : إحراز المقتضي للحكم بالعموم في المثال الأوّل ، وعدم إحرازه في المثال الثاني ( لا : لاحراز ) أي : لا من جهة إحراز ( المقتضي لنفس الحكم وهو ) أي : نفس الحكم : ( وجوب الاكرام في الأوّل ) وهو الشك في الخروج يعني : في وجود الرافع ( دون الثاني ) وهو الشك في تحقق الخارج يعني : في رافعية الموجود .

وإنّما قال : لا لاحراز لأن المقتضي لنفس الحكم موجود في الثاني أيضا .

إذن : ( فظهر الفرق بين ما نحن فيه ) وهو : الشك في رافعية الموجود ووجود الرافع حيث قد تبيّن إنهما متساويان من جهة وجود المقتضي في كل منهما حال الشك ( وبين المثالين ) في العام والخاص أو هما : الشك في الخروج ووجود الخارج حيث قد عرفت وجود الفرق بينهما من جهة جريان أصالة الحقيقة في المثال الأوّل يعني في الشك في الخروج ، وعدم جريانها في المثال الثاني يعني : في الشك في وجود الخارج .

وعليه : فلا يقاس ما نحن فيه من قسمي المقتضي بمثالي العام والخاص .

( وأمّا ) عدم التفريق بينهما لأجل ( دعوى عدم الفصل بين الشكّين ) : الشك في رافعية الموجود ، ووجود الرافع ( على الوجه المذكور ) في كلام المصنِّف ( فهو ممّا لم يثبت ) عند المصنِّف شيئا عنه ، وذلك على ما سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.

ص: 196

نعم ،

-------------------

هذا ، ولا يخفى : ان قوله : وامّا دعوى ، عطف على قوله : امّا الأوّل ، فان المصنِّف قبل عدة صفحات قال : على ان يكون حكم الشك في وجود الرافع حكم الشك في رافعية الشيء ، امّا لدلالة دليله المذكور على ذلك ، وامّا لعدم القول بالاثبات في الشك في الرافعية والانكار في الشك في وجود الرافع ، ثم قال : لكن في كلا الوجهين نظر : أما الأوّل : فلامكان الفرق في الدليل الذي ذكره ، إلى آخره ، ثم قال هنا : وامّا دعوى .

إذن : فقوله هنا : وامّا دعوى بمنزلة قوله : وامّا الثاني .

ثم انّ الأوثق قال في توضيح قول المصنِّف : فهو ممّا لم يثبت ، ما يلي :

«امّا لعدم الاحاطة بجميع أقوال المسألة ، وامّا لوجود القول بالفصل مثل : القول باعتبار الاستصحاب في الأحكام الشرعية دون الاُمور الخارجية ، لكون الشك في وجود المانع من قبيل الثاني ، لعدم تحققه في الأحكام سوى إستصحاب عدم النسخ الخارج من محل النزاع ، وفي مانعية الشيء الموجود من قبيل الأوّل .

وامّا لأنّ المسألة اُصولية ولا يعتدّ بدعوى الاجماع فيها .

وامّا لأن عدم الفصل والاجماع المركب إنّما يعتبران مع ضم إجماع بسيط إليهما ، وهو في المقام غير ثابت » (1) ، إنتهى كلام الأوثق .

( نعم ) وهذا رجوع من المصنِّف إلى القول : بأن المحقق يسوّي بين الشك في وجود الرافع ، وبين الشك في رافعية الموجود ، وذلك بعد قوله قبل عدة أسطر : وفي كلا الوجهين نظر ، حيث هناك فرّق بين وجود الرافع وبين رافعية الموجود ،

ص: 197


1- - أوثق الوسائل : ص483 القول التاسع ، التفصيل المنسوب الى المحقق .

يمكن أن يقال : أنّ المحقق قدس سره لم يتعرّض لحكم الشك في وجود الرافع ، لأنّ ما كان من الشبهة الحكمية من هذا القبيل ليس إلاّ النسخ ، وإجراء الاستصحاب فيه إجماعي ، بل ضروري ، كما تقدّم .

وأمّا الشبهة الموضوعية ، فقد تقدّم خروجها في كلام القدماء عن معقد مسألة الاستصحاب المعدود في أدلّة الأحكام .

فالتكلّم فيها إنّما يقعُ تبعا للشبهة الحكميّة

-------------------

فتداركه هنا بقوله :

نعم ( يمكن أن يقال : أنّ المحقق قدس سره لم يتعرّض لحكم الشك في وجود الرافع ) متعمدا ، بل تكلم في رافعية الموجود مثل التلفظ : بخليّة وبريّة ونحوهما .

وإنّما لم يتعرّض لحكم الشك في وجود الرافع ( لأنّ ما كان من الشبهة الحكمية من هذا القبيل ) أي : من قبيل وجود الرافع ، فهو ( ليس إلاّ النسخ ، وإجراء الاستصحاب فيه ) أي : في عدم النسخ ( إجماعي ، بل ضروري كما تقدّم ) فلم يحتج المحقق حينئذ إلى البحث والتكلم فيه .

( وأمّا الشبهة الموضوعية ) كالبلد على ساحل البحر ( فقد تقدّم خروجها في كلام القدماء عن معقد مسألة الاستصحاب المعدود في أدلّة الأحكام ) لأن القدماء كانوا بصدد إثبات أو نفي ان الاستصحاب هل يثبت الحكم أم لا ؟ امّا الشبهة الموضوعية ، فليست مربوطة بالحكم إبتداءً .

وعليه : ( فالتكلّم فيها ) أي : في الشبهة الموضوعية ( إنّما يقع تبعا للشبهة الحكميّة ) فمن قال بجريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية ، يقول بجريانه في الشبهة الموضوعية ، ومن لا يقول بجريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية ، لا يقول بجريانه في الشبهة الموضوعية .

ص: 198

ومن باب تمثيل جريان الاستصحاب في الاحكام وعدم جريانه بالاستصحاب في الموضوعات الخارجيّة .

فترى المنكرين يمثّلون

-------------------

( و ) حينئذ يكون تكلمهم في الشبهة الموضوعية ( من باب تمثيل جريان الاستصحاب في الاحكام وعدم جريانه ) في الأحكام ، فان تمثيلهم لذلك يكون ( بالاستصحاب في الموضوعات الخارجيّة ) .

والحاصل : انه لما كان كلام القدماء في الاستصحاب المعدود من أدلة الأحكام، فالتكلم في الشبهة الموضوعية يقع تبعا للشبهة الحكمية ، فيكون تمثيلهم بالشبهة الموضوعية من باب مجرد المثال .

إذن : فالكلام في الشبهة الموضوعية إنّما هو تمثيل المثبت لجريان الاستصحاب في الأحكام بالاستصحاب في الموضوعات الخارجية ، وتمثيل المنكر لعدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية أيضا بالاستصحاب في الموضوعات الخارجية ، فالمنكرون يمثّلون بالبلد الواقع على ساحل البحر وهو من الموضوعات ، والمثبتون يمثلون بزيد الغائب عن أهله وهو أيضا من الموضوعات .

وكيف كان : فقول المصنِّف في بيان المحقق يسوّي بين الشك في وجود الرافع وبين رافعية الموجود حيث قال : ومن باب تمثيل جريان الاستصحاب في الأحكام وعدمه ، إما هو بيان لقوله : فالتكلم فيها إنّما يقع تبعا للشبهة الحكمية وإما هو بيان لوجه آخر .

وعليه : ( فترى المنكرين ) للاستصحاب في الأحكام ( يمثّلون )

ص: 199

بما إذا غبنا عن بلد في ساحل البحر لم يجر العادة ببقائه ، فانّه لا يحكم ببقائه بمجرّد إحتماله ، والمثبتين بما إذا غاب زيدٌ عن أهله وماله ، فانّه يحرم التصرّف فيهما بمجرّد إحتمال الموت .

ثمّ إنّ ظاهر عبارة المحقق

-------------------

للاستصحاب ( بما إذا غبنا عن بلد في ساحل البحر لم يجر العادة ببقائه ) مدّة مديدة ( فانّه لا يحكم ببقائه بمجرّد إحتماله ) أي : إحتمال البقاء .

( و ) ترى ( المثبتين ) للاستصحاب في الأحكام يمثلون للاستصحاب ( بما إذا غاب زيد عن أهله وماله ) مدة يشك معها في موته ( فانّه يحرم التصرّف فيهما ) من الزواج بزوجته ، وتقسيم ماله إرثا ( بمجرّد إحتمال الموت ) .

وبهذا كله تبيّن : ان المحقق لا يفرّق بين الشك في وجود الرافع ، والشك في رافعية الموجود ، وان عدم ذكره للشك في وجود الرافع ليس لأنه يفرّق بين الشكّين وإنّما هو لأن الشك في وجود الرافع بين مقطوع الاستصحاب كما في النسخ ، وبين ما هو خارج عن كلام القدماء كالشبهة الموضوعية .

( ثمّ ) انه لا فرق في جريان الاستصحاب في الزمان الثاني ، بين ما كان الحكم أبديا وشك في نقضه برافعية الموجود ، كما تلفّظ بخليّة وبريّة ونحوهما بعد إجراء لفظ النكاح ، وبين ما كان الحكم موقتا وشك في إنه قبل إنتهاء الوقت إرتفع أو لم يرتفع ، كما لو تمرّض في أثناء شهر رمضان بما لم يعلم هل سقط عنه وجوب الصوم أم لا ؟ فيستصحب الحكم السابق في الصورتين .

إذن : فليس كلام المحقق في الشك في رافعية الموجود خاصا بالحكم الأبدي، بل يشمل الموقت أيضا .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف حيث قال : ( إنّ ظاهر عبارة المحقق )

ص: 200

وإن أوهم إختصاص مورد كلامه بصورة دلالة المقتضي على تأبيد الحكم ، فلا يشمل ما لو كان الحكم موقتا ، حتى جعل بعضٌ هذا من وجوه الفرق بين قول المحقق والمختار بعد ما ذكر وجوها اُخر ضعيفةً غير فارقة ، لكن مقتضى دليله شموله لذلك إذا كان الشك في رافعيّة شيء للحكم قبل مجيء الوقت .

-------------------

من قوله: يقتضيه مطلقا ( وإن أوهم إختصاص مورد كلامه بصورة دلالة المقتضي على تأبيد الحكم ) وذلك بجريان الاستصحاب في هذه الصورة فقط ( فلا يشمل ) كلامه على ذلك ( ما لو كان الحكم موقتا ) إلاّ انه ليس كذلك على ما عرفت .

ثم إن إيهام إختصاص كلامه بالمؤبّد كان بدرجة ( حتى جعل بعضٌ ) كصاحب الفصول ( هذا ) الاختصاص بالمؤبّد وعدم شمول كلامه للموقت ( من وجوه الفرق بين قول المحقق والمختار ) أي : ما إختاره المصنِّف من كونه أعم من التأبيد والموقت ( بعد ما ذكر وجوها اُخر ضعيفة غير فارقة ) بين قول المحقق وبين المختار .

( لكن مقتضى دليله ) أي : دليل المحقق ( شموله ) أي : شمول كلامه ( لذلك ) أي : لما كان الحكم موقتا أيضا ( إذا كان الشك في رافعيّة شيء للحكم قبل مجيء الوقت ) أي : قبل إنتهاء الوقت ، كما ذكرناه من مثال الصوم .

قال في الفصول : فاعلم ان ما إختاره المحقق رحمه اللّه في الاستصحاب وان كان قريبا إلى مقالتنا ، إلاّ انه يفارقها من وجوه :

الأوّل : انه لم يتعرّض لحكم الاستصحاب في غير الحكم الشرعي وإنّما ذكر التفصيل المذكور في الحكم الشرعي جريا للكلام على مقتضى المقام .

ص: 201

حجّة القول العاشر

ما حكي عن المحقق السبزواري في الذخيرة ، فانّه إستدلّ على نجاسة الماء الكثير المطلق الذي سلب عنه الاطلاق بممازجته مع المضاف النجس بالاستصحاب ،

-------------------

الثاني : انه يعبّر في سبب الحكم ان يكون مقتضيا لبقائه ما لم يمنع عنه مانع ، ليصح ان يكون دليلاً على البقاء عند الشك ، ونحن إنّما إعتبرنا ذلك ليكون مورد الاستصحاب مشمولاً لأخبار الباب .

الثالث : ان أدلة الاستصحاب عنده مختلفة على حسب إختلاف أسباب الحكم، وقضية ذلك ان لا يكون الاستصحاب حجة في مؤدّاه ، وامّا على ما إخترناه فقاعدة الاستصحاب مستندة إلى دليل عام ، وهي حجة على الحكم بالبقاء في مواردها الخاصة .

الرابع : انه اعتبر في الاستصحاب ان لا يكون الدليل الذي يقتضيه موقتا ، وهذا إنّما يعتبر عندنا فيما إذا كان الشك في تعيين الوقت مفهوما أو مصداقا دون غيره ، إنتهى .

( حجّة القول العاشر ) وهو حجية الاستصحاب فيما لو كان الشك في وجود الرافع فقط ، لا في الشك في المقتضي ، ولا في سائر أقسام الرافع وهو : ( ما حكي عن المحقق السبزواري في الذخيرة ، فانّه إستدلّ على نجاسة الماء الكثير المطلق الذي سلب عنه الاطلاق بممازجته مع المضاف النجس ) إستدل على نجاسته ( بالاستصحاب ) لنجاسة المضاف .

مثلاً : إذا كان كر من الماء المطلق ، ثم زال إطلاقه وصار مضافا بسبب مزجه بمضاف نجس فهل يتنجس ذلك الكثير أم لا ؟ إحتمالان :

ص: 202

ثمّ ردّه بأنّ إستمرار الحكم تابعٌ لدلالة الدليل ، والاجماع إنّما دلّ على النجاسة قبل الممازجة .

ثمّ قال : لا يقال : قول أبي جعفر عليه السلام في صحيحة زرارة : « ليس ينبغي لك أن تنقضَ اليقين بالشك أبدا ، ولكن تنقُضُه بيقينٍ آخر » ، يدل على إستمرار

-------------------

الأوّل : انه يتنجس ، لاستصحاب نجاسة المضاف حيث انه كان نجسا ولم نعلم زوال نجاسته بهذا الامتزاج ، وحيث صار المائان ماءً واحدا ، فلا يمكن ان يكون له حكمان بعضه طاهر وبعضه نجس ، فالكل نجس .

الثاني : ما ذكره بقوله : ( ثمّ ردّه ) أي : ردّ هذا الاستصحاب لنجاسة المضاف ، وذلك ( بأنّ إستمرار الحكم ) السابق بالنجاسة إلى الزمان اللاحق ( تابعٌ لدلالة الدليل ) عليه ( والاجماع ) الذي هو الدليل في المقام ( إنّما دلّ على النجاسة ) أي : نجاسة الماء المضاف ( قبل الممازجة ) بالكر ، ولم يدل على النجاسة بعد الممازجة بالكر ، فالماء طاهر ، لأنا لا نعلم بنجاسة الكر الذي كان مطلقا ثم سلب عنه الاطلاق ، فنقول بطهارته ، وحيث صار المائان ماءً واحدا ، فلا يمكن ان يكون له حكمان بعضه طاهر وبعضه نجس ، فالكل طاهر .

( ثمّ قال : لا يقال : قول أبي جعفر عليه السلام في صحيحة زرارة : «ليس ينبغي لك أن تنقضَ اليقين بالشك أبدا ) (1) على ما في صحيحة زرارة الثانية ( ولكن تنقُضُه بيقينٍ آخر» ) (2) على ما في صحيحته الاولى ( يدل على إستمرار

ص: 203


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب109 ح13 ، علل الشرائع : ج2 ص59 ح1 ، وسائل الشيعة : ج3 ص482 ب24 ح4236 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

أحكام اليقين ما لم يثبت الرافع .

لأنّا نقول : التحقيق أنّ الحكم الشرعي الذي تعلّق به اليقين إمّا أن يكون مستمرا ، بمعنى : أنّ له دليلاً دالاً على الاستمرار بظاهره ، أم لا ، وعلى الأوّل فالشك في رفعه يكون على أقسام .

ثم ذكر الشك في وجود الرافع والشك في رافعيّة الشيء من جهة إجمال معنى ذلك الشيء

-------------------

أحكام اليقين ما لم يثبت الرافع ) فاللازم على ذلك ان نستصحب نجاسة المضاف النجس ، وإذا استصحبنا نجاسته كان معناه : ان كل الماء صار نجسا .

( لأنّا نقول ) : ليس هذا مورد إستصحاب نجاسة المضاف ، لأن الدليل لا يشمل مثل هذا الاستصحاب ، فان ( التحقيق أنّ الحكم الشرعي الذي تعلّق به اليقين ) يكون على أحد وجهين : ( إمّا أن يكون مستمرا ) ذلك الحكم الشرعي ( بمعنى : أنّ له دليلاً دالاً على الاستمرار بظاهره ) وذلك بأن يكون الشك في الرافع لا في المقتضي ، وإلاّ فانّ الدليل دال على إستمرار ذلك الحكم .

( أم لا ) بأن لم يكن له دليل يدل على إستمراره ، وذلك بأن يكون الشك في المقتضي .

( وعلى الأوّل ) وهو ما كان للحكم الشرعي دليل يدل على إستمراره ( فالشك في رفعه ) أي : رفع الحكم الشرعي ( يكون على أقسام ) أربعة ( ثم ذكر ) الأقسام بقوله : أولاً : (الشك في وجود الرافع) وذلك كما إذا لم يعلم المتطهر بأنه أحدث أم لا ؟.

ثانيا : ( والشك في رافعيّة الشيء من جهة إجمال معنى ذلك الشيء ) الذي باعتبار إجماله حصل الشك في رافعية هذا الشيء ، كما لو دلّ الدليل على ان قطع عضو المسلم حرام ، ثم دلّ دليل آخر على ان السرقة رافع لهذا الحكم ، ثم شك

ص: 204

والشك في كون الشيء مصداقا للرافع المبيّن مفهوما ، والشك في كون الشيء رافعا مستقلاً .

ثم قال : « إنّ الخبر المذكور إنّما يدلّ على النهي عن نقض اليقين بالشك ، وذلك إنّما يعقل في القسم الأوّل من تلك الأقسام الأربعة دون غيره

-------------------

في ان الأخذ من الكيس رافع للحكم أم لا ، من جهة إجمال معنى السرقة ، وان الآخذ من الكيس سرقة أو ليس بسرقة ، وهذا القسم يكون من الشك في المفهوم .

ثالثا : ( والشك في كون الشيء مصداقا للرافع المبيّن مفهوما ) أي : انّ مفهوم الرافع مبيّن وإنّما الشك في ان هذا المصداق الخارجي هل هو من ذلك المفهوم أو ليس من ذلك المفهوم ؟ كما إذا كان مفهوم البول الناقض للوضوء واضحا ، وإنّما شك في ان الذي خرج منه هل هو بول أو مذي ؟ .

رابعا : ( والشك في كون الشيء رافعا مستقلاً ) كما إذا علم ان لفظ : طالق رافع لأحكام عقد النكاح ، لكن شك في ان الألفاظ المختلف فيها مثل : خلية وبرية ، هل هي رافعة لأحكام عقد النكاح أم لا ؟ .

ثم لا يخفى : ان هذا التقسيم الرباعي يكون هكذا : فان الشك قد يكون في وجود الرافع ، وقد يكون في رافعية الموجود ، ثم ان الشك في رافعية الموجود : قد يكون من جهة الشبهة المفهومية ، وقد يكون من جهة الشبهة المصداقية ، فهذه ثلاثة أقسام ، والرابع : هو الشك بين الأقل والأكثر ، فالأقل مثل طالق فناقض قطعا ، والأكثر مثل خليّة فيشك في انه ناقض أم لا ؟ .

( ثم قال : « إنّ الخبر المذكور ) الذي ينهى فيه عن نقض اليقين بالشك ( إنّما يدلّ على النهي عن نقض اليقين بالشك . وذلك إنّما يعقل في القسم الأوّل من تلك الأقسام الأربعة ) وهو : الشك في وجود الرافع ( دون غيره ) من الأقسام الاُخر .

ص: 205

لأنّ غيره ، لو نقض الحكم بوجود الأمر الذي شك في كونه رافعا ، لم يكن النقض بالشك ، بل إنّما يحصل النقض باليقين بوجود ما شكّ في كونه رافعا أو باليقين بوجود ما يشك في إستمرار الحكم معه ، لا بالشك ، فإنّ الشك في تلك الصور كان حاصلاً من قبل ولم يكن بسببه نقضٌ ، وإنّما يعقل النقض حين اليقين بوجود ما يشك في كونه رافعا للحكم بسببه ،

-------------------

وإنّما يعقل في القسم الأوّل دون غيره ( لأنّ غيره ، لو نقض الحكم بوجود الأمر الذي شك في كونه رافعا ، لم يكن النقض بالشك ، بل إنّما يحصل النقض باليقين بوجود ما ) أي : بوجود لفظ خليّة مثلاً الذي تلفّظه ثم ( شكّ في كونه رافعا ) أم لا ، فلفظ خلية متيقّن الوجود .

( أو ) يحصل النقض ( باليقين بوجود ما يشك في إستمرار الحكم معه ) أي : مع لفظ خليّة - مثلاً - بعد التلفظ به وهو أيضا متيقن الوجود .

إذن : فالنقض في غير القسم الأوّل من أقسام الشك في رفع الحكم الشرعي يكون نقضا لليقين باليقين ( لا ) انه يكون نقضا لليقين ( بالشك ) .

وإنّما لا يكون نقضا لليقين بالشك في غير القسم الأوّل ، لأنه كما قال ( فإنّ الشك في تلك الصور ) الثلاث غير القسم الأوّل ( كان حاصلاً من قبل ) أي : من قبل اليقين بحصول مثل لفظ خليّة ، أو من قبل اليقين المنقوض بمثل لفظ خليّة .

هذا ( ولم يكن بسببه ) أي : بسبب هذا الشك في رافعية الموجود ( نقضٌ ) لليقين في صورة الثلاث ( وإنّما يعقل النقض ) في الصور الثلاث للشك في رافعية الموجود ( حين اليقين بوجود ما ) أي : لفظ خليّة بعد التلفظ به حيث ( يشك في كونه ) أي : هذا اللفظ مثل : خليّة ( رافعا للحكم بسببه ) أم لا ؟ .

وعليه : فان الشك في الصور الثلاث ، كان حاصلاً قبل اليقين بوجود الشيء

ص: 206

لأنّ الشيء إنّما يستند إلى العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها ، فلا يكون في تلك الصور نقض اليقين بالشك ، وإنّما يكون ذلك في صورة خاصة دون غيرها » ،

-------------------

المشكوك رفعه ، فلا يستند نقض اليقين إليه ، لامتناع حصول اليقين مع وجود العلة التامة لعدم اليقين ، وإنّما يعقل نقض اليقين حين اليقين بوجود ما يشك في كونه رافعا بسبب اليقين بوجوده لا بسبب الشك .

وعلى ذلك : فان الشيء يستند إلى العلة التامة أو الجزء الأخير منها إذا كانت مركبة ، واليقين بالوجود هو الجزء الأخير للعلة التامة للنقض ، فلا يكون في الصور الثلاث نقض اليقين بالشك بل باليقين ، وإنّما يكون نقض اليقين بالشك في صورة واحدة وهو : الشك في وجود الرافع ، فإنه يحصل به .

هذا ما ذكره بعض المحشين توضيحا لكلام المصنِّف حيث قال : ( لأنّ الشيء إنّما يستند إلى العلّة التامة أو الجزء الأخير منها ) واليقين بوجود ما يشك في كونه رافعا في الصور الثلاث جزء أخير للعلة التامة للنقض فيها ( فلا يكون في تلك الصور نقض اليقين بالشك ) بل نقض اليقين باليقين .

مثلاً : هبوب الرياح العواصف فانه يقال : ان علة السقوط هبوب الرياح العواصف ، وإذا كانت العلة التامة لسقوطه مجموع اُمور : من وهنه لقدمه ، وصب الماء عليه ، وضربه بالمعول ، فانه يقال : ان علة سقوطه هو ضربه بالمعول .

إذن : فنقض اليقين في الصور الثلاث لم يكن بالشك بل باليقين ( وإنّما يكون ذلك ) أي : نقض اليقين بالشك ( في صورة خاصة ) وهي : الصورة الاُولى يعني : الشك في وجود الرافع ( دون غيرها » (1) ) من الصور الثلاث الأخيرة التي هي :

ص: 207


1- - ذخيرة المعاد : ص115 .

انتهى كلامه رفع مقامه .

أقول : ظاهره : تسليم صدق النقض في صورة الشك في إستمرار الحكم فيما عدا القسم الأوّل ، وإنّما المانع عدم صدق النقض بالشك فيها .

ويرد عليه : أوّلاً ،

-------------------

الشك في رافعية الموجود .

( انتهى كلامه رفع مقامه ) وحاصله : انا إذا حكمنا بنجاسة الكثير في مثال الممازجة السابق ، كان من نقض اليقين باليقين ، لا نقض اليقين بالشك ، لأن المتيقن هو نجاسة المضاف قبل الممازجة ، امّا بعد الممازجة فلا نعلم بنجاسته ، فان الناقض لنجاسته لا يكون الشك ، بل هو اليقين بالممازجة .

وان شئت قلت : المضاف النجس يبقى نجسا إذا شك في انه هل إمتزج بشيء أم لا ؟ والحال انا نعلم بأنه إمتزج بالكثير المضاف ، فإذا قلنا ببقاء نجاسته ، كان من نقض اليقين بالنجاسة باليقين بالممازجة ، والرواية إنّما تقول : لا تنقض اليقين بالشك بالممازجة ، لا انها تقول : لا تنقض اليقين باليقين بالممازجة .

( أقول : ظاهره : تسليم صدق النقض في صورة الشك في إستمرار الحكم فيما عدا القسم الأوّل ) لأنه قال : لأن غير القسم الأوّل لو نقض الحكم بوجود الأمر الذي شك في كونه رافعا ، لم يكن النقض بالشك ، بل إنّما يحصل النقض باليقين.

إذن : فهو يسلّم صدق النقض في الصور الثلاث ( وإنّما المانع ) عنده رحمه اللّه : ( عدم صدق النقض بالشك فيها ) أي : في هذه الصور الثلاث وان النقض عنده فيها باليقين .

( ويرد عليه : أولاً ) : ان كلام السبزواري خلاف ظاهر الرواية ، لأنه جعل الشك واليقين فيها تقديريّين ، بينما ظاهر الرواية إنهما فعليّان ، فإذا كانا فعليين شملت

ص: 208

أنّ الشك واليقين قد يلاحظان بالنسبة إلى الطهارة مقيّدة بكونها قبل حدوث ما يشك في كونه رافعا وبكونها بعده ، فيتعلّق اليقين بالاُولى والشك بالثانية ، واليقين والشك بهذه الملاحظة يجتمعان في زمان واحد ، سواء كان قبل حدوث ذلك الشيء أو بعد ، فهذا الشك كان حاصلاً من قبل ، كما أنّ اليقين باق من بعد ،

-------------------

الرواية جميع الصور الأربع ، امّا إذا كانا تقديريّين فلم تشمل الرواية إلاّ الصورة الاُولى يعني : الشك في وجود الرافع فقط .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف قائلاً : ( أنّ الشك واليقين قد يلاحظان بالنسبة إلى الطهارة مقيّدة ) تلك الطهارة ( بكونها قبل حدوث ما ) أي : شيء مشتبه ( يشك في كونه رافعا ) لتلك الطهارة .

( و ) قد يلاحظان بالنسبة إلى الطهارة مقيدة ( بكونها بعده ) أي : بعد حدوث ما يشك في كونه رافعا .

والحاصل : الطهارة المقيّدة بكونها قبل حدوث ما يشك في رافعيته ، والطهارة المقيّدة بكونها بعد حدوث ما يشك في رافعيته ( فيتعلّق اليقين بالاُولى ) أي : بالطهارة المقيدة بقبل الحدوث ( والشك بالثانية ) أي بالطهارة المقيدة ببعد الحدوث ( و ) من المعلوم : ان ( اليقين والشك بهذه الملاحظة يجتمعان في زمان واحد ) فان الطهارة قبل حدوث ما يشك في كونه رافعا لها متيقنة في أيّ زمان لوحظ ، وبعده مشكوكة في أيّ زمان لوحظ ( سواء كان قبل حدوث ذلك الشيء ) المشكوك كونه رافعا ( أو بعد ) حدوثه .

وعليه : ( فهذا الشك ) التقديري ( كان حاصلاً من قبل ) أي : قبل حدوث ما يشك في كونه رافعا ( كما أنّ اليقين ) التقديري ( باق من بعد ) أي : بعد حدوث

ص: 209

وقد يلاحظان بالنسبة إلى الطهارة المطلقة .

وهما بهذا الاعتبار لا يجتمعان في زمان واحد ، بل الشك متأخّر عن اليقين .

ولا ريب أنّ المراد باليقين والشك في قوله عليه السلام في صدر الصحيحة المذكورة : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت » ، وغيرها من أخبار الاستصحاب ، هو اليقين والشك

-------------------

ما يشك في كونه رافعا .

مثلاً : الشك التقديري في الطهارة حاصل قبل حدوث الامذاء ، كما ان اليقين التقديري بالطهارة حاصل بعد حدوث الامذاء ، فالمكلف ان يقول : انا قبل الامذاء متيقن الطهارة ، وانا بعد الامذاء مشكوك الطهارة ، وهذا اليقين والشك كلاهما يكونان قبل الامذاء كما يكونان بعد الامذاء أيضا .

( وقد يلاحظان ) : الشك واليقين ( بالنسبة إلى الطهارة المطلقة ) أي : الطهارة الفعلية من غير تقييد بما ذكر ( وهما بهذا الاعتبار ) أي : اعتبار الفعلية والاطلاق ( لا يجتمعان في زمان واحد ، بل الشك متأخّر عن اليقين ) .

مثلاً : قول المكلّف : اني فعلاً متيقن بالطهارة ، لا يجتمع مع قوله : اني فعلاً شاك في الطهارة ، لأن اليقين بالطهارة والشك في الطهارة ممّا لا يجتمعان في زمان واحد .

هذا ( ولا ريب أنّ المراد باليقين والشك في قوله عليه السلام في صدر الصحيحة المذكورة : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت » (1) ، وغيرها من أخبار الاستصحاب ) التي ذكر فيها اليقين والشك ( هو اليقين والشك ) الفعليان

ص: 210


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب109 ح13 ، علل الشرائع : ج2 ص59 ح1 ، وسائل الشيعة : ج3 ص482 ب24 ح4236 .

المتعلّقان بشيء واحد ، أعني : الطهارة المطلقة .

وحينئذٍ : فالنقض المنهيُّ عنه هو نقض اليقين بالطهارة بهذا الشك المتأخّر المتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين .

-------------------

( المتعلّقان بشيء واحد ، أعني : الطهارة المطلقة ) لا المتعلقان بشيئين : الطهارة المقيّدة بقبل المذي ، والطهارة المقيّدة ببعد المذي .

مضافا إلى ان الطهارة المطلقة فعلية ، والطهارة المقيدة تقديرية ، وقد عرفت : ان ظاهر الرواية هو : الفعلية لا التقديرية .

( وحينئذ ) أي : حين كان اليقين والشك متعلقين بشيء واحد أعني : الطهارة المطلقة ( فالنقض المنهيُّ عنه ) في الرواية ( هو نقض اليقين بالطهارة ) نقضا ( بهذا الشك المتأخّر ) عن اليقين ، وكذلك ( المتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين ) فقوله : المتأخر ، وكذا المتعلق صفة للشك .

وعليه : فالمفروض في الرواية هو طهارة الماء الكثير الذي إنقلب مضافا بالممازجة كما في المثال ، واما المفروض في كلام المحقق السبزواري فهو نجاسته .

ثم إنّ حاصل ما أورده المصنِّف على السبزواري بلفظ الأوثق هو ما يلي :

ان إجتماع اليقين والشك في زمان واحد إنّما هو فيما كان متعلّقهما مقيّدين ، وحينئذ يكون الشك فيه في زمان اليقين به تقديريا معلّقا على وجود ما يشك في رافعيته ، إذ لا نعلم بالشك الفعلي قبل وجود ما علّق عليه ، وامّا إذا كان متعلّقهما مطلقين كالطهارة المطلقة ، فلا يعقل حصول الشك الفعلي فيه حين اليقين به .

ثم قال الأوثق : نعم ، إستظهر صاحب الفصول كون المراد باليقين والشك هو الفعليان من لفظهما ، وإستظهره المصنِّف من قوله عليه السلام : لأنك كنت على يقين

ص: 211

...

-------------------

فشككت ، لأن ظاهره : إعتبار تعلق الشك بنفس ما تعلق به اليقين ، لا بشيء آخر ، وهو لا يتم إلاّ باعتبار كون الشك فعليا متأخرا عن اليقين ، ولكل وجه (1) .

وهنا لا بأس بنقل عبارة الفقيه الهمداني في بيان ما أورده المصنِّف أولاً على المحقق السبزواري ، ليتضح إيراد المصنِّف أكثر فأكثر .

قال قدس سره : توضيحه : ان اليقين والشك لا يعقل ان يتعلّقا بشيء واحد في زمان واحد ، فلابد من إختلاف : امّا في متعلق اليقين والشك ، أو في زمان نفس الوصفين ، كما في قاعدة اليقين والشك على ما تسمعه في محله .

وستعرف : ان متعلق اليقين والشك في باب الاستصحاب مختلف ، فان متعلق اليقين - مثلاً - : عدالة زيد يوم الجمعة ، أو طهارته قبل خروج المذي ، أو مضيّ زمان يشك في خروج ناقض منه ، ومتعلق الشك : عدالته يوم السبت ، وطهارته بعد خروج المذي ، أو بعد مضيّ زمان يزول يقينه بالبقاء .

فحينئذ : ان لوحظ الزمان قيدا في متعلقهما ، إجتمع الوصفان في زمان ، لصحة كون هذا المتوضئما لم يخرج منه بول أو مذي متطهرا يقينا ، وبعد خروج البول محدث يقينا ، وعند خروج المذي مشكوك الطهارة .

ومن الواضح : ان أدلة الاستصحاب لا تعمّ مواردها بهذه الملاحظة ، وإنّما تعمّها بعد فرض : وحدة متعلق اليقين والشك ، وعدم أخذ الزمان قيدا فيه ، بمعنى : ملاحظته من حيث هو ، وبهذه الملاحظة يمتنع ان يتعلق به اليقين والشك في زمان واحد .

فما دام متيقنا بطهارة زيد إمتنع ان يشك فيها ، فهو قبل خروج المذي منه

ص: 212


1- - أوثق الوسائل : ص484 الاستصحاب أو البناء على اليقين السابق .

وأمّا وجود الشيء المشكوك الرافعيّة ، فهو بوصف الشك في كونه رافعا الحاصل من قبل ، سببٌ لهذا الشك .

فانّ كلّ شك لابدّ له من سبب متيقّن الوجود ، حتى الشك في وجود الرافع ،

-------------------

كان على يقين من طهارته ، وبعد خروجه صار شاكا فيها ، وهذا الشك لم يكن حاصلاً من قبل جزما ، والذي كان حاصلاً من قبل كان شكا تقديريا متعلقا بخروج المذي .

ثم قال الفقيه الهمداني : والأولى ان يقال في تقريب الايراد : بأن الشك الذي كان حاصلاً من قبل ، هو الشك في الحكم الشرعي الكلي ، وهو : ان المذي هل هو ناقض في الشريعة أم لا ؟ وهذا الشك ليس له حالة سابقة معلومة حتى يجري فيه الاستصحاب ، والشك في بقاء طهارته بعد خروج المذي منه شك في حكم شرعي جزئي ، نشأ ذلك من الجهل بالحكم الكلي ، وهذا الشك المتعلق بطهارته المتيقنة يمتنع إجتماعه مع اليقين بها .

إذن : فما زعمه المحقق المزبور نظير المناقشة المتقدّمة عند توجيه مذهب المحقق رحمه اللّه ناشئ من الخلط بين المفاهيم الكلية ومصاديقها .

هذا كل الكلام في المراد من الشك واليقين ردا على السبزواري فيما كان الشك في وجود الرافع ( وأمّا وجود الشيء المشكوك الرافعيّة ) للحكم كالمذي ( فهو بوصف الشك في كونه رافعا ، الحاصل ) ذلك الشك التقديري ( من قبل ) خروج المذي فهو ( سبب لهذا الشك ) الفعلي الحاصل بعد خروج المذي ( فانّ كلّ شك لابدّ له من سبب متيقّن الوجود ، حتى الشك في وجود الرافع ) لوضوح : ان كل شيء محتاج إلى سبب .

ص: 213

فوجود الشيء المشكوك في رافعيّته جزءٌ أخيرٌ للعلّة التامّة للشك المتأخر الناقض ، لا للنقض .

وثانيا : أنّ رفع اليد عن أحكام اليقين عند الشك في بقائه وإرتفاعه ، لا يُعقل إلاّ أن يكون مسببا عن نفس الشك ، لأنّ التوقّف في الزمان اللاحق عن الحكم السابق ، أو العمل بالاُصول المخالفة له لا يكون إلاّ لأجل الشك .

غاية الأمر : كون الشيء المشكوك كونه رافعا منشئا للشك .

والفرق بين الوجهين

-------------------

وعليه : ( فوجود الشيء المشكوك في رافعيّته جزءٌ أخير للعلّة التامّة ) الموجب ( للشك المتأخر ) أي : الشك الفعلي ( الناقض ، لا ) ان وجود الشيء المشكوك علة ( للنقض ) كما يدّعيه السبزواري ، فان الشك في رافعيته الحاصل قبل وجوده جزء للعلة التامة للشك المتأخر الناقض ، ووجوده جزء أخير لها ، فالشك هو الناقض لليقين ، لا اليقين .

( وثانيا : أنّ ) النقض بمعنى : ( رفع اليد عن أحكام اليقين عند الشك في بقائه ) أي : في بقاء المتيقن ( وإرتفاعه ، لا يُعقل إلاّ أن يكون مسببا عن نفس الشك ) الفعلي المتأخر .

وإنّما لا يعقل النقض إلاّ ان يكون مسببا عن نفس الشك المتأخر ( لأنّ التوقّف في الزمان اللاحق عن الحكم السابق ، أو العمل بالاُصول المخالفة له ) أي : للحكم السابق ( لا يكون إلاّ لأجل الشك ) وإلاّ لم يكن معنى للتوقف .

( غاية الأمر : كون الشيء المشكوك كونه رافعا ) للحكم كالمذي هو الذي كان هنا ( منشئا للشك ) وسببا له .

هذا ( والفرق بين الوجهين ) أي : بين ما ذكره المصنِّف فيما أورده

ص: 214

أنّ الأوّل ناظر إلى عدم الوقوع والثاني إلى عدم الامكان .

وثالثا : سلّمنا أنّ النقض في هذه الصور ليس بالشك ،

-------------------

على السبزواري أولاً ، وما أورده عليه ثانيا هو : ( أنّ الأوّل ناظر إلى عدم الوقوع ) أي : عدم وقوع النقض باليقين ، بل بالشك ( والثاني إلى عدم الامكان ) أي : عدم إمكان وقوع النقض باليقين ، بل بالشك لعدم تعقّله .

إذن : فمرجع هذا الايراد وسابقه إنّما هو إلى : ان النقض فيما عدا الصورة الاُولى من صور الشك في الرافع ، لم يكن نقضا باليقين - كما ادّعاه المحقق السبزواري - بل نقضا بالشك ، غير انهما يفترقان فيما يلي :

الأوّل يقول : ان النقض لم يقع بسبب اليقين ، بل بسبب الشك .

الثاني يقول : ان النقض لا يمكن ان يقع بسبب اليقين ، بل بسبب الشك قطعا ، لعدم تعقله .

وحاصله : بلفظ الأوثق : « ان المراد من نقض اليقين بالشك في الأخبار : رفع اليد عن الآثار المرتبة في حال اليقين بترتيب آثار الشك : من التوقف ، أو العمل بأصالة البرائة ، أو الاشتغال ، بحسب الموارد ، ولا ريب : ان النقض في صورة الشك في مانعية ما يشك في مانعيّته كالمذي ، إنّما هو بهذا الاعتبار ، ولا يعقل حينئذ كون النقض فيها مستند إلى اليقين بوجود ما يشك في ما نعيّته لعدم كون التوقف أو العمل بالاُصول من آثار اليقين بوجوده ، بل من آثار الشك في بقاء المتيقن السابق »(1) .

( وثالثا : سلّمنا أنّ النقض في هذه الصور ) الثلاث ( ليس بالشك ) أي :

ص: 215


1- - أوثق الوسائل : ص484 الاستصحاب أو البناء على اليقين السابق .

لكنّه ليس نقضا باليقين بالخلاف .

ولا يخفى : أنّ ظاهر ما ذكره في ذيل الصحيحة : « ولكن تنقضه بيقين آخر » ، حصرُ الناقض لليقين السابق باليقين بخلافه ، وحرمة النقض بغيره شكّا كان أم يقينا ، بوجود ما شك في كونه رافعا .

ألا ترى أنّه لو قيل في صورة الشك في وجود الرافع أنّ النقض بما هو متيقّن من سبب الشك لا بنفسه

-------------------

ان اليقين في هذه الصور لم ينقض بالشك ( لكنّه ليس نقضا باليقين بالخلاف ) فانه لم يكن يقين بالخلاف حتى يرفع اليقين السابق .

هذا ( ولا يخفى : أنّ ظاهر ما ذكره ) عليه السلام ( في ذيل الصحيحة ) المتقدمة : ( « ولكن تنقضه بيقين آخر » (1) ، حصرُ الناقض لليقين السابق باليقين بخلافه ، وحرمة النقض بغيره ) أي : بغير اليقين بالخلاف ( شكّا كان أم يقينا ، بوجود ما شك في كونه رافعا ) .

إذن : فاليقين اللاحق بخلاف اليقين السابق هو الذي يرفع اليقين السابق ، امّا غير اليقين اللاحق سواء كان ذلك الغير شكا أم كان يقينا ولكنه لم يكن بالخلاف ، لم يرفع اليقين السابق .

( ألا ترى ) وهذا إيراد رابع في بيان انه لا يعتبر في النقض منشأ الشك ، المنشأ الذي هو يقيني ، وإنّما يعتبر نفس الشك كما قال :

( أنّه لو قيل في صورة الشك في وجود الرافع ) وهي الصورة الاُولى من الصور الأربع : ( أنّ النقض ) فيها ( بما هو متيقّن من سبب الشك ) أي : ان منشأ الشك فيها كالمذي المتحقق الوجود ، هو الناقض للحالة السابقة ( لا بنفسه ) أي :

ص: 216


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

لا يُسمع .

وبالجملة : فهذا القول ضعيف في الغاية ، بل يمكن دعوى الاجماع المركّب ، بل البسيط على خلافه .

وقد يتوهّم

-------------------

لا بنفس الشك فانه لو قيل هذا ( لا يُسمع ) منه .

وعليه : فانه كما لو قيل بأن سبب الشك ، السبب الذي هو يقيني ، يرفع اليقين السابق ، لم يكن صحيحا في الصورة الاُولى يعني : صورة الشك في وجود الرافع ، فكذلك لم يكن صحيحا هذا الكلام الذي ادّعاه المحقق السبزواري في الصور الثلاث الباقية أيضا .

( وبالجملة ) وهذا إيراد خامس ( فهذا القول ) الذي ذكره السبزواري في الفرق بين الصورة الاُولى وبين الصور الثلاث من صور الشك في الرافع ( ضعيف في الغاية ، بل يمكن دعوى الاجماع المركّب ، بل البسيط على خلافه ) .

أمّا الاجماع المركب : فان من قال باعتبار الاستصحاب في الشك في وجود الرافع، قال باعتبار الاستصحاب في الشك في رافعية الموجود ، وكلّ من نفاه في الصورة الثانية نفاه في الصورة الاُولى أيضا ، فالفصل بينهما باعتباره في الصورة الاُولى ، وعدم إعتباره في الصورة الثانية خرق للاجماع المركب .

بل يمكن دعوى الاجماع البسيط على خلافه وذلك بتقريب : ان الاستصحاب المختلف فيه هو غير صورة الشك في الرافع ، فالشك في الرافع خارج عن محل النزاع ، مجمع على إعتبار الاستصحاب فيه ، فالقول بعدم الاستصحاب في بعض صوره خرق للاجماع البسيط .

( وقد يتوهّم ) والمتوهم - على ما قيل - هو السيد إبراهيم القزويني صاحب

ص: 217

أنّ مورد صحيحة زرارة الاُولى ممّا أنكر المحقق المذكور الاستصحاب فيه ، لأنّ السؤال فيها عن الخفقة والخفقتين من نقضهما للوضوء .

وفيه : ما لا يخفى : فانّ حكم الخفقة والخفقتين قد علم من قوله عليه السلام : « قد تنام العين ولا ينام القلب والاُذن » ، وإنّما سئل فيها بعد ذلك عن حكم ما إذا وجدت أمارةٌ على النوم ، مثل : تحريك شيء إلى جنبه وهو لا يعلم ،

-------------------

الضوابط في الاُصول حيث قال : ( أنّ مورد صحيحة زرارة الاُولى ) (1) هو ( ممّا أنكر المحقق المذكور الاستصحاب فيه ) أي : ان المحقق السبزواري قد أنكر الاستصحاب في مورد صحيحة زرارة في جملة ما أنكره من موارد الاستصحاب .

ثم علّل صاحب الضوابط إنكار المحقق السبزواري للاستصحاب في مورد الصحيحة بقوله : ( لأنّ السؤال فيها عن الخفقة والخفقتين ) يعرضان المتوضئ، فسئل الإمام عليه السلام ( من نقضهما للوضوء ) ومعلوم : ان الشك في نقضهما شك في كون الشيء الموجود وهو : الخفقة والخفقتان هل هو مصداق للرافع المبيّن مفهوما وهو النوم أم لا ؟ والمحقق لا يرى الاستصحاب فيه ، بل ينكره .

( وفيه ) : أي : في هذا التوهم ( ما لا يخفى : فانّ حكم الخفقة والخفقتين قد علم من قوله عليه السلام : « قد تنام العين ولا ينام القلب والاُذن » (2) ) .

إذن : فليس السؤال عن الخفقة والخفقتين ( وإنّما سئل فيها بعد ذلك عن حكم ما إذا وجدت أمارةٌ على النوم مثل : تحريك شيء إلى جنبه وهو لا يعلم ) فان الراوي سأل من الإمام عليه السلام عن مثل هذا النوم بانه هل يبطل الوضوء أم لا ؟ .

ص: 218


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

فأجاب بعدم إعتبار ما عدا اليقين بقوله عليه السلام : « لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام ، حتى يجيء من ذلك أمرٌ بيّنٌ ، وإلاّ فانّه على يقين ، الخ » نعم ، يمكن أن يلزم المحقق المذكور ، كما ذكرنا سابقا ، بأنّ الشك في أصل النوم في مورد الرواية ، مسبّب عن وجود ما يوجب الشك في تحقّق النوم ، فالنقض به ، لا بالشك ، فتأمّل .

-------------------

( فأجاب ) عليه السلام : ( بعدم إعتبار ما عدا اليقين بقوله عليه السلام : « لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام ، حتى يجيء من ذلك ) النوم ( أمرٌ بيّنٌ ، وإلاّ ) بأن لم يجيء أمر بيّن على انه قد نام فلا يبطل وضوئه ( فانّه على يقين ، الخ » ) من وضوئه .

( نعم ، يمكن أن يلزم المحقق المذكور ) لكن لا بما ذكره المتوهّم ، بل ( كما ذكرنا سابقا ) عند قولنا : ألا ترى ( بأنّ الشك في أصل النوم في مورد الرواية ، مسبّب عن وجود ما يوجب الشك في تحقّق النوم ) وهو الخفقة والخفقتان فصار من الشك في رافعية الموجود .

وعليه : ( فالنقض به ) أي : بما يوجب الشك ( لا بالشك ) نفسه ( فتأمّل ) .

قال في الأوثق : « لعل الأمر بالتأمل ، إشارة إلى قول المحقق السبزواري : لكون النقض - فيما عدا صورة الشك في وجود المانع - باليقين بوجود ما يشك في مانعيته ، لا بالشك مبنيّ على انه لو كان بالشك لم يكن الشك مجتمعا مع اليقين في زمان واحد ، وهذا المبنى مفقود على زعمه في صورة الشك في وجود المانع ، لتأخر الشك فيها عن اليقين كما أشار إليه بقوله : فان الشك في تلك الصور يعني : ما عدا صورة الشك في وجود المانع ، كان حاصلاً من قبل إلى آخره ، فلا يصح الزام المحقق المذكور به » (1) .

ص: 219


1- - أوثق الوسائل : ص485 ما أفاده المحقق الخوانساري من التفصيل .

حجّة القول الحادي عشر

ما ذكره المحقق الخوانساري قدس سره في شرح الدروس ، قال عند قول الشهيد قدس سره : « ويجزيء ذو الجهات الثلاث » ما لفظه :

« حجّة القول بعدم الاجزاء الروايات الواردة بالمسح بثلاثة أحجار ، والحجر الواحد لا يسمى بذلك ، وباستصحاب حكم النجاسة حتى يعلم لها مطهِّر شرعي ، وبدون الثلاثة لا يعلم المطهّر الشرعي .

وحسنة ابن المغيرة

-------------------

( حجّة القول الحادي عشر ) وهو القول : بأن المستصحب ان كان ممّا ثبت إستمراره فشك في وجود الغاية الرافعة لا رافعية الموجود ، أو شك في مصداق الغاية الرافعة لا مفهومها ، فالاستصحاب حجة فيهما ، وبين غيرهما ، فليس الاستصحاب حجة فيه .

وعليه : فحجة هذا القول هو : ( ما ذكره المحقق الخوانساري قدس سره في شرح الدروس قال عند قول الشهيد قدس سره ) في كتاب الدروس : ( « ويجزيء ذو الجهات الثلاث » ) من الحجر عند الاستنجاء ، فلا يلزم ان يكون ثلاثة أحجار ( ما لفظه ) كالتالي :

( حجّة القول بعدم الاجزاء ) في الاستنجاء ، بذي الجهات الثلاث اُمور :

الأوّل : ( الروايات الواردة بالمسح بثلاثة أحجار ، والحجر الواحد لا يسمى بذلك ) أي : لا يسمى بثلاثة أحجار .

الثاني : ( وباستصحاب حكم النجاسة ) في المحل ، للعلم بنجاسته ( حتى يعلم لها مطهِّر شرعي ، وبدون ) الأحجار ( الثلاثة لا يعلم المطهّر الشرعي ) .

الثالث : ( وحسنة ابن المغيرة ) حيث فيها بعد السؤال عن انه هل للاستنجاء

ص: 220

وموثّقة ابن يعقوب لا يُخرجان عن الأصل ، لعدم صحّة سندهما ، خصوصا مع معارضتهما بالروايات الواردة بالمسح بثلاثة أحجار ، وأصل البرائة بعد ثبوت النجاسة ووجوب إزالتها ، لا يبقى بحاله » ،

-------------------

حدّ ؟ فقال عليه السلام : لا ، حتى ينقى ما ثمّت (1) .

( و ) كذا ( موثّقة ابن يعقوب ) فان فيها بعد السؤال عن الوضوء الذي فرضه اللّه تعالى على العباد لمن جاء من الغائط ؟ قال : يغسل ذكره ويذهب الغائط (2) .

وهاتان الروايتان لا إشكال في أعمّيتهما ممّا دل على المسح بثلاثة أحجار ، فيشملان المسح بحجر ذي ثلاث جهات .

لكنّ هاتين الروايتين ( لا يُخرجان عن الأصل ) أي : عن أصل النجاسة لما يلي :

أولاً : ( لعدم صحّة سندهما ) .

ثانيا : ( خصوصا مع معارضتهما بالروايات الواردة بالمسح بثلاثة أحجار ) (3) فان تلك الروايات صريحة في لزوم التعدد بأن يكون هناك أحجار ثلاثة ، فلا يكفي الواحد ذو الجهات الثلاث .

( و ) ان قلت : الأصل هو البرائة عن خصوصية الثلاثة .

قلت : ( أصل البرائة بعد ثبوت النجاسة ووجوب إزالتها ، لا يبقى بحاله » ) لأن الاستصحاب حاكم على البرائة ، فلا مورد لأصل البرائة هنا بعد العلم بالاشتغال .

ص: 221


1- - انظر وسائل الشيعة : ج1 ص322 ب13 ح849 و ج3 ص439 ب25 ح4102 .
2- - انظر وسائل الشيعة : ج1 ص316 ب9 ح833 و ص294 ب18 ح771 و ص294 ب18 ح772 «بالمعنى» .
3- - انظر وسائل الشيعة : ج1 ص349 ب3 ح924 و ح925 .

إلى أن قال ، بعد منع حجّية الاستصحاب .

« إعلم أنّ القوم ذكروا : أنّ الاستصحاب : إثبات حكم في زمان ، لوجوده في زمان سابق عليه ، وهو ينقسم إلى قسمين ، باعتبار الحكم المأخوذ فيه ، إلى شرعي وغيره .

فالأول : مثل ما إذا ثبت نجاسة ثوب أو بدن في زمان ، فيقولون بعد ذلك : يجب الحكم بنجاسته إذا لم يحصل العلمُ برفعها .

والثاني : مثل ما إذا ثبت رطوبة ثوب في زمان ، ففي ما بعد ذلك الزمان يجب الحكم برطوبته ما لم يعلم الجفاف .

فذهب بعضهم إلى حجّيته بقسميه ، وذهب

-------------------

( إلى أن قال ، بعد منع حجية الاستصحاب ) أي : إستصحاب النجاسة بعد مسح الموضع بالحجر ذي الجهات الثلاث : ( « إعلم أنّ القوم ذكروا : أنّ الاستصحاب : إثبات حكم في زمان ، لوجوده في زمان سابق عليه ) وهو عبارة اُخرى عن إبقاء ما كان ، ثم قال : ( وهو ينقسم إلى قسمين ، باعتبار الحكم المأخوذ فيه ) أي : في الاستصحاب ( إلى شرعي وغيره ) أي : غير شرعي .

( فالأول : مثل ما إذا ثبت نجاسة ثوب أو بدن في زمان ، فيقولون بعد ذلك : يجب الحكم بنجاسته إذا لم يحصل العلم برفعها ) أي : برفع النجاسة سواء كان علما وجدانيا أم علما شرعيا كقيام البيّنة ونحو البينة .

( والثاني : ) وهو غير الشرعي ( مثل ، ما إذا ثبت رطوبة ثوب في زمان ، ففي ما بعد ذلك الزمان ) أي : في الزمان الثاني ( يجب الحكم برطوبته ما لم يعلم الجفاف ) وأثره انه إذا كان قد لاقى النجس فقد تنجس هذا الثوب .

( فذهب بعضهم إلى حجّيته بقسميه ) : الشرعي وغير الشرعي ( وذهب

ص: 222

بعضهم إلى حجّية القسم الأوّل .

وإستدلّ كلّ من الفريقين بدلائل مذكورة في محلّها ، كلّها قاصرة عن إفادة المرام ، كما يظهر بالتأمّل فيها ، ولم نتعرض لذكرها هنا ، بل نشير إلى ما هو الظاهر عندنا في هذا الباب ، فنقول :

« إنّ الاستصحاب بهذا المعنى لا حجية فيه أصلاً بكلا قسميه ، إذ لا دليل عليه تامّا ، لا عقلاً ولا نقلاً .

نعم ، الظاهر : حجيّة الاستصحاب بمعنى آخر : وهو

-------------------

بعضهم إلى حجّية القسم الأوّل ) من الاستصحاب وهو : الشرعي فقط ( وإستدلّ كلّ من الفريقين بدلائل مذكورة في محلّها ) من الاُصول لكنها ( كلّها قاصرة عن إفادة المرام ، كما يظهر بالتأمّل فيها ) أي : في تلك الأدلة .

ثم قال المحقق الخوانساري : ( ولم نتعرض لذكرها هنا ، بل نشير إلى ما هو الظاهر عندنا في هذا الباب ) وهو : باب الاستصحاب ( فنقول : « إنّ الاستصحاب بهذا المعنى ) أي : بمعنى « إبقاء ما كان » ( لا حجية فيه أصلاً ، بكلا قسميه ) الشرعي وغير الشرعي .

وإنّما لا حجية فيه ( إذ لا دليل عليه ) دليلاً ( تامّا ، لا عقلاً ولا نقلاً ) فالعقل والنقل قاصران عن الدلالة عليه .

( نعم ، الظاهر : حجيّة الاستصحاب بمعنى آخر ) غير معنى الحكم بالثبوت في الزمان الثاني وذلك إتكالاً على ثبوته في الزمان الأوّل ، فانه بهذا المعنى ليس بحجة مطلقا ، سواء كان الشك في بقائه من حيث المقتضي ، أم من حيث الرافع .

بل هو حجة بمعنى آخر ( وهو ) أي : ذلك المعنى الآخر يتم بوجود دليل شرعي يدل على الاستمرار ممّا معناه : ان لا يكون الشك في المقتضي

ص: 223

أن يكون دليل شرعي ، على أنّ الحكم الفلاني بعد تحققه ثابت إلى زمان حدوث حال كذا أو وقت كذا ، مثلاً ، معيّن في الواقع بلا إشتراطه بشيء .

فحينئذ : إذا حصل ذلك الحكم ، فيلزم الحكم باستمراره إلى أن يعلم وجود ما جعل مزيلاً له ولا يحكم بنفيه بمجرّد الشك في وجوده .

والدليل على حجيّته أمران :

-------------------

بل في الرافع ، يعني : ( أن يكون دليل شرعي ، على أنّ الحكم الفلاني بعد تحققه ثابت إلى زمان حدوث حال كذا ) كالحكم بأن الحج - مثلاً - واجب إلى حدوث حالة الصدّ عن الحج ، فالمقتضي موجود إلى ان يحصل الرافع .

( أو وقت كذا ) كالحكم بوجوب الصوم ( مثلاً ) إلى حدوث المغرب الشرعي ، فان المقتضي موجود حتى يحصل الرافع .

هذا ، وان ذلك الزمان الذي قال بثبوت الحكم إليه بعد تحققه لوجود مقتضيه فيه ( معيّن في الواقع ) وان لم يكن معيّنا عندنا بان لم نعلم هل المغرب يتحقق بعد ساعة أو ساعتين أو صدّ العدوّ لنا عن الحج يتحقق بعد مسافة فرسخ أو فرسخين ، وذلك ( بلا إشتراطه ) أي إشتراط الحكم المتحقق ( بشيء ) .

وعليه : ( فحينئذ : إذا حصل ذلك الحكم ، فيلزم الحكم باستمراره إلى أن يعلم وجود ما جعل مزيلاً له ) من حصول الصدّ في المثال الأوّل ، والغروب في المثال الثاني ( ولا يحكم بنفيه ) أي : بنفي ذلك الحكم الشرعي ( بمجرّد الشك في وجوده ) أي : في وجود المزيل .

هذا ( والدليل على حجيّته ) أي : حجية الاستصحاب بالمعنى الآخر الذي إستظهر المحقق الخوانساري حجيته ( أمران ) كما يلي :

ص: 224

أحدهما : أنّ هذا الحكم إمّا وضعي ، أو إقتضائي ، أو تخييري . ولمّا كان الأوّل عند التحقيق يرجع إليهما فينحصر في الأخيرين ، وعلى التقديرين فيثبت ما ادّعيناه .

أمّا على الأوّل ، فلأنّه إذا كان أمر أو نهي بفعل إلى غاية معيّنة - مثلاً - فعند الشك في حدوث تلك الغاية لو لم يمتثل التكليف المذكور لم يحصل

-------------------

( أحدهما : أنّ هذا الحكم إمّا وضعي ، أو إقتضائي ، أو تخييري ) فالحكم الوضعي عبارة عمّا سوى الأحكام الخمسة : من الجزئية والشرطية والمانعية وما أشبه ذلك، والحكم الاقتضائي عبارة عن الأحكام الأربعة : الوجوب والاستحباب والكراهة والحرمة ، والحكم التخييري عبارة عن الاباحة .

( ولمّا كان الأوّل ) وهو الحكم الوضعي ( عند التحقيق يرجع إليهما ) أي : إلى الأخيرين : الاقتضائي والتخييري ، لأن الحكم الوضعي ليس بشيء غير الأمر والنهي على ما تقدَّم تحقيقه من المصنّف ( فينحصر ) الحكم ( في الأخيرين ) : الاقتضائي والتخييري ممّا يشملان الأحكام الخمسة .

( وعلى التقديرين ) : الاقتضائي والتخييري ( فيثبت ما ادّعيناه ) من حجية الاستصحاب بهذا المعنى الذي ذكرناه ، وهو : كون الدليل الشرعي الدال على الحكم ، هو بنفسه يدل على الاستمرار والدوام .

( أمّا على الأوّل ) وهو الاقتضائي : ( فلأنّه إذا كان أمر أو نهي بفعل إلى غاية معيّنة - مثلاً - فعند الشك في حدوث تلك الغاية ) بأن شك المكلّف في وجوب نفقة زوجته ، أو حلّية وطيها - مثلاً - للشك في انه هل حصلت الغاية الرافعة للزوجية بقوله : خليّة وبريّة أم لا ؟ فيجب الامتثال حتى يحرز الغاية الرافعة .

وعليه : فانه ( لو لم يمتثل التكليف المذكور ) من النفقة - مثلاً - ( لم يحصل

ص: 225

الظنّ بالامتثال والخروج عن العهدة ، وما لم يحصل الظنّ لم يحصل الامتثال .

فلابد من بقاء التكليف حال الشك أيضا ، وهو المطلوب .

وأمّا على الثاني ، فالأمر أظهر ، كما لا يخفى .

وثانيهما ما ورد في الروايات : من أنّ اليقين

-------------------

الظنّ ) الذي هو حجة سواء كان ظنا نوعيا كالخبر الواحد ، أم ظنا مطلقا عند من يقول بالانسداد ، فانه ما لم يمتثل التكليف لم يحصل له الظن ( بالامتثال والخروج عن العهدة ، وما لم يحصل الظنّ ) بالامتثال ( لم يحصل الامتثال ) فانه لا يخرج عن عهدة التكليف إلاّ بامتثاله وهو واضح .

وعليه : ( فلابد من بقاء التكليف حال الشك أيضا ) كما هو باق حال العلم ( وهو المطلوب ) أي : إثبات ان ذلك الحكم باق إلى حال الشك هو مطلوب المحقق الخوانساري ومراده من حجية الاستصحاب بالمعنى الآخر .

( وأمّا على الثاني ) : وهو كون الحكم تخييريا ( فالأمر أظهر ) بالنسبة إليه من الحكم الاقتضائي ( كما لا يخفى ) فان الحكم التخييري باق حال الشك أيضا ، لأن رفعه يحتاج إلى دليل يدل على الحكم الاقتضائي في هذا الجانب أو ذلك الجانب، وما لم يكن دليل على رفعه إستمر ذلك الحكم التخييري ، فبقاء الحكم حال الشك هو مطلوب المحقق الخوانساري من حجية الاستصحاب بالمعنى الآخر .

( وثانيهما ) أي : ثاني الدليلين على حجية الاستصحاب بالمعنى الآخر الذي إستظهره المحقق الخوانساري هو : ( ما ورد في الروايات : من أنّ اليقين

ص: 226

لا يُنقض بالشك .

فان قلت : هذا كما يدلّ على المعنى الذي ذكرته ، كذلك يدلّ على المعنى الذي ذكره القوم ، لأنّه إذا حصل اليقين في زمان ، فلا ينبغي أن يُنقض في زمان آخر بالشك نظرا إلى الروايات ، وهو بعينه ما ذكروه .

قلت :

-------------------

لا يُنقض بالشك ) (1) فاللازم إستمرار اليقين السابق حتى نعلم بخلاف ذلك اليقين .

( فان قلت : هذا ) أي : ما ذكر في الروايات من عدم نقض اليقين بالشك ( كما يدلّ على المعنى الذي ذكرته ) في الاستصحاب من كونه خاصا بالشك في الرافع ( كذلك يدلّ على المعنى الذي ذكره القوم ) في باب الاستصحاب من كونه أعم من الشك في الرافع والمقتضي ، فالروايات دالة على ما ذكره الأصحاب أيضا لا على ما ذكرته فقط .

وإنّما يدل على ما ذكره القوم أيضا ( لأنّه إذا حصل اليقين في زمان ، فلا ينبغي أن يُنقض في زمان آخر بالشك ) سواء كان الشك في المقتضي أم في الرافع ، وذلك ( نظرا إلى الروايات ، و ) هذا المعنى المستفاد من الروايات للاستصحاب ( هو بعينه ما ذكروه ) فلماذا الفرق بين الأمرين ؟ .

( قلت ) : هناك فرق بين ما ذكرته أنا وما ذكره القوم ، فالذي ذكرته أنا هو : لزوم دلالة الدليل الشرعي على الحكم في الزمان الثاني حتى يمكن القول بوجود الحكم فيه ، بينما القوم لا يشترطون ذلك كما قال :

ص: 227


1- - راجع تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 و ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب109 ح13 ، علل الشرائع : ج2 ص59 ح1 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 و ج3 ص482 ب24 ح4236 .

الظاهر أنّ المراد من عدم نقض اليقين بالشك أنّه عند التعارض لا يُنقض ، والمراد بالتعارض : أن يكون شيء يوجب اليقين لولا الشك .

وفيما ذكروه ليس كذلك ، لأنّ اليقين بحكم في زمان ليس ممّا يوجب حصوله في زمان آخر لولا عروض الشك ، وهو ظاهر .

فان قلت : هل الشك في كون الشيء مزيلاً للحكم مع العلم بوجوده كالشك في وجود المزيل أو لا ؟ .

-------------------

( الظاهر : أنّ المراد من عدم نقض اليقين بالشك : أنّه عند التعارض ) بين اليقين والشك يلزم أن ( لا يُنقض ) اليقين بالشك ( والمراد بالتعارض : أن يكون شيء ) أي : دليل ( يوجب اليقين ، لولا الشك ) وهذا هو على ما ذكرناه .

( وفيما ذكروه ) من الشك في المقتضي ( ليس كذلك ) حيث انهم لم يشترطوا دلالة الدليل على الحكم في الزمان الثاني ( لأنّ اليقين بحكم في زمان ليس ممّا يوجب حصوله ) أي : حصول اليقين به ( في زمان آخر ) أي : في الزمان الثاني ( لولا عروض الشك وهو ظاهر ) وواضح .

( فان قلت : هل الشك في كون الشيء مزيلاً للحكم مع العلم بوجوده ) بأن يكون الشك في مزيليّة الموجود ، كالمذي إذا خرج منه قطعا ، لكنا لا نعلم هل انه يزيل الطهارة أم لا ؟ ( كالشك في وجود المزيل ) كالبول الذي نعلم بأنه مزيل لكنا لا نعلم هل وجد أو لم يوجد ؟ ( أو لا ؟ ) بأن لم يكن حكم الشكين حكما واحدا ؟ .

والحاصل: هل إنكم ترون صحة الاستصحاب في كليهما، أو في أحدهما فقط ؟ .

ص: 228

قلت : فيه تفصيل ، لأنّه إن ثبت بالدليل أنّ ذلك الحكم مستمر إلى غاية معيّنة في الواقع ثم علمنا صدق تلك الغاية على شيء وشككنا في صدقها على شيء آخر ، فحينئذ لا يُنقض اليقين بالشك .

وأمّا إذا لم يثبت ذلك ، بل ثبت أنّ ذلك الحكم مستمر في الجملة ، ومزيله الشيء الفلاني ، وشككنا في أنّ الشيء الآخر مزيله أم لا ؟ .

-------------------

( قلت ) : نحن لا نسلم إطلاق الاستصحاب ، بل نقول : ( فيه تفصيل ، لأنّه إن ثبت بالدليل أنّ ذلك الحكم مستمر إلى غاية معيّنة في الواقع ) بأن كان عند اللّه سبحانه - مثلاً - انّ خروج البول هو الذي يرفع الطهارة في الواقع ، لا المذي وما أشبه ( ثم علمنا صدق تلك الغاية على شيء ) كالماء المائل إلى الحمرة الخارج منه ( وشككنا في صدقها على شيء آخر ) بأن كان الشك في المصداق الخارجي : كالماء غير المائل إلى الحمرة الخارج منه وان إحتملنا انه من الحبائل والعروق الصغار التي في المجرى ونحوه .

( فحينئذٍ ) أي : حين كان الشك في المصداق ( لا يُنقض اليقين بالشك ) بل يجري الاستصحاب ، فإذا خرج منه ذلك الماء غير المائل إلى الحمرة نقول ببقاء طهارته .

( وأمّا إذا لم يثبت ذلك ) أي : لم يثبت ان الحكم مستمر إلى غاية معيّنة ( بل ثبت أنّ ذلك الحكم مستمر في الجملة ، ومزيله الشيء الفلاني ، وشككنا في أنّ الشيء الآخر مزيله أم لا ؟ ) كما إذا ثبت ان خيار الغبن ثابت في الجملة ، وعلمنا ان

مزيله الرضا بالعقد قطعا ، وشككنا في ان طول الزمان من الصباح إلى المساء - مثلاً - مزيل للخيار أم لا ؟ .

ص: 229

فحينئذٍ : لا ظهور في عدم نقض الحكم وثبوت إستمراره ، إذ الدليل الأوّل غير جار فيه ، لعدم ثبوت حكم العقل في هذه الصورة ، خصوصا مع ورود بعض الروايات الدالّة على عدم المؤاخذة بما لا يعلم .

والدليل الثاني ، الحقّ أنّه لا يخلو عن إجمال ، وغاية ما يسلّم منها ثبوت الحكم في الصورتين اللتين ذكرناهما وإن كان فيه

-------------------

( فحينئذٍ : لا ظهور في عدم نقض الحكم ) وبقاء الخيار إلى الليل ( وثبوت إستمراره ) أي : إستمرار الحكم كالخيار في المثال إلى الليل .

وإنّما لا دليل عليه ( إذ الدليل الأوّل ) الدال على ثبوت الخيار في الجملة ( غير جار فيه ) أي : في الزمان الثاني ، وذلك ( لعدم ثبوت حكم العقل ) بجريانه ( في هذه الصورة ) التي دل دليل الحكم فيها على الثبوت في الجملة .

( خصوصا مع ورود بعض الروايات الدالّة على عدم المؤاخذة بما لا يعلم ) وهنا التكليف السابق المشكوك بقائه لا نعلم باستمراره ، فإذا لم نؤدّ ذلك التكليف في الآن الثاني لم نؤاخذ عليه ، لأن أصل البرائة ، ورفع ما لا يعلمون ، ونحوه يكون جاريا فيه .

هذا بعض الكلام في الدليل الأوّل للقائلين بالاستصحاب في الأعم من الرافع والمقتضي .

( والدليل الثاني ) لهم وهو : ما دل في الروايات : من ان اليقين لا يُنقض بالشك : ف ( الحقّ أنّه لا يخلو عن إجمال ) والمجمل لا يمكن الاستدلال به .

هذا ( وغاية ما يسلّم منها ) أي : من الروايات : ( ثبوت الحكم في الصورتين اللتين ذكرناهما ) وهما : الشك في وجود المزيل ، وكون الموجود مزيلاً من باب الشبهة المصداقية ( وإن كان فيه ) أي : في ثبوت الحكم في هاتين الصورتين

ص: 230

أيضا بعض المناقشات ، لكنّه لا يخلو عن التأييد للدليل الأوّل ، فتأمّل .

فان قلت : الاستصحاب الذي يدّعونه فيما نحن فيه وأنت منعته ، الظاهر : أنّه من قبيل ما إعترفت به ، لأنّ حكم النجاسة ثابتٌ ما لم يحصل مطهّر شرعي إجماعا .

وهنا لم يحصل الظنّ المعتبر شرعا بوجود المطهّر ،

-------------------

بالروايات ( أيضا بعض المناقشات ) لأن بعضا منعوا دلالة الروايات على الاستصحاب .

وكيف كان : فانه وان كان في ثبوت الحكم في هاتين الصورتين بالروايات بعض المناقشات من النافين للاستصحاب ( لكنّه لا يخلو عن التأييد للدليل الأوّل ) الذي ذكرناه لحجية الاستصحاب بالمعنى الآخر وهو : ان يكون التكليف عند الشك في الغاية الرافعة باقيا ، « ولا تنقض » يؤيده .

( فتأمّل ) ولعله إشارة إلى انه لو قلنا بعدم دلالة الروايات على الصورتين المذكورتين بقيت الروايات بلا مورد ، وهذا ما لا يقول به أحد .

( فان قلت : الاستصحاب الذي يدّعونه فيما نحن فيه ) وهو بقاء النجاسة بعد المسح بالحجر الواحد ذي الجهات الثلاث في باب الاستنجاء ( وأنت منعته ) أي : منعت هذا الاستصحاب ( الظاهر : أنّه من قبيل ما إعترفت به ) أي : من قبيل الشبهة المصداقية التي إعترفت بجريان الاستصحاب فيها .

وإنّما هو من قبيل ما إعترفت بالاستصحاب فيه ( لأنّ حكم النجاسة ثابتٌ ) في محل النجو ( ما لم يحصل مطهّر شرعي إجماعا ، وهنا لم يحصل الظنّ المعتبر شرعا بوجود المطهّر ) بعد كون الحجر واحدا .

ص: 231

لأنّ حسنة ابن المغيرة ، وموثّقة ابن يعقوب ليستا حجة شرعية ، خصوصا مع معارضتهما بالروايات المتقدّمة، فغاية الأمر حصول الشك بوجود المطهّر ، وهو « لا ينقض اليقين » .

قلت : كونه من قبيل الثاني ممنوع ، إذ لا دليل على أنّ النجاسة باقية ما لم يحصل مطهّر شرعي .

وما ذكر من الاجماع غير معلوم ، لأنّ غاية ما أجمعوا عليه : أنّ التغوّط إذا حصل لا يصح الصلاة بدون الماء والتمسّح رأسا

-------------------

وإنّما لم يحصل الظن المعتبر بالمطهّر ( لأنّ حسنة ابن المغيرة (1) ، وموثّقة ابن يعقوب (2) ليستا حجة شرعية ) وان دلّتا على كفاية مطلق المزيل الصادق بالحجر الواحد ذي الجهات الثلاث ( خصوصا مع معارضتهما بالروايات المتقدّمة ) الدالة على لزوم ان يكون هناك ثلاثة أحجار (3) .

إذن : ( فغاية الأمر حصول الشك بوجود المطهّر ) فيما إذا إستعمل الحجر الواحد ( وهو ) أي : الشك في المطهّر ( « لا ينقض اليقين » ) بنجاسة المحل .

( قلت : كونه ) أي : كون ما نحن فيه ( من قبيل الثاني ) وهو الشك المصداقي ( ممنوع ، إذ لا دليل على أنّ النجاسة باقية ما لم يحصل مطهّر شرعي ) لاحتمال ان يكون زوال العين بنفسه مطهّرا كما قال به السيد المرتضى وغيره .

هذا ( وما ذكر من الاجماع ) على بقاء النجاسة ما لم يحصل مطهّر شرعي ( غير معلوم ، لأنّ غاية ما أجمعوا عليه : أنّ التغوّط إذا حصل لا يصح الصلاة

ص: 232


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص322 ب13 ح849 و ج3 ص439 ب25 ح4102 .
2- - وسائل الشيعة : ج1 ص316 ب9 ح833 و ص294 ب18 ح771 و 772 .
3- - وسائل الشيعة : ج1 ص349 ب3 ح924 و ح925 .

لا بالثلاثة ولا بشُعب الحجر الواحد .

فهذا الاجماع لا يستلزم الاجماع على ثبوت حكم النجاسة حتى يحدث شيء معيّن في الواقع مجهول عندنا ، قد إعتبره الشارع مطهّرا فلا يكون من قبيل ما ذكرنا .

فان قلت : هب أنّه ليس داخلاً في الاستصحاب المذكور ، لكن نقول : قد ثبت بالاجماع وجوب شيء على المتغوّط في الواقع .

وهو مردّد بين المسح بثلاثة أحجار ، أو الأعمّ منه ومن المسح بجهات حجر واحد ، فما لم يأت بالأول لم يحصل اليقين

-------------------

بدون الماء والتمسّح رأسا ) يعني : ( لا بالثلاثة ) أي : بالأحجار الثلاثة ( ولا بشُعب الحجر الواحد ) أي : بالحجر ذي الجهات الثلاث .

وعليه : ( فهذا الاجماع لا يستلزم الاجماع ) المدّعى ( على ثبوت حكم النجاسة حتى يحدث شيء معيّن في الواقع مجهول عندنا ، قد إعتبره الشارع مطهّرا ) وإذا لم يستلزم ذلك ( فلا يكون ) ما نحن فيه وهو المسح بالحجر الواحد ذي الجهات ( من قبيل ما ذكرنا ) من الشبهة المصداقية حتى يجري فيه الاستصحاب .

( فان قلت : هب أنّه ليس داخلاً في الاستصحاب المذكور ، لكن نقول : ) يلزم المسح بالأحجار الثلاثة ، ولا يكفي الحجر الواحد ذو الجهات الثلاث ، فانه ( قد ثبت بالاجماع وجوب شيء على المتغوّط في الواقع ) والشيء مبهم مفهومي لا مصداقي ( وهو مردّد بين المسح بثلاثة أحجار ، أو الأعمّ منه ومن المسح بجهات حجر واحد ) .

وعليه : ( فما لم يأت بالأول ) وهو المسح بثلاثة أحجار ( لم يحصل اليقين

ص: 233

بالامتثال ، والخروج عن العهدة ، فيكون الاتيان به واجبا .

قلت : نمنع الاجماع على وجوب شيء معين في الواقع مبهم في نظر المكلّف بحيث لو لم يأت بذلك الشيء المعيّن لاستحقّ العقاب ، بل الاجماع على أنّ ترك الأمرين معا سبب لاستحقاق العقاب ، فيجب أن لا يتركهما .

-------------------

بالامتثال ، و ) لا ( الخروج عن العهدة ، فيكون الاتيان به ) أي : بالأول من المسح بثلاثة أحجار ( واجبا ) وحينئذ ، فلم يثبت ما كنتم بصدده : من كفاية المسح بالحجر ذي الجهات الثلاث .

( قلت : نمنع الاجماع على ) العقد الايجابي وهو : ( وجوب شيء معين في الواقع مبهم في نظر المكلّف ) حتى يلزم الاتيان بشيء يوجب اليقين بالبرائة ( بحيث لو لم يأت بذلك الشيء المعيّن لاستحق العقاب ) من المولى .

( بل الاجماع على ) العقد السلبي وهو ( أنّ ترك الأمرين ) : الأحجار الثلاثة ، والحجر ذي الجهات الثلاث (معا سبب لاستحقاق العقاب ، فيجب أن لايتركهما) معا .

ومنه يظهر : ان الفرق بين الاعتراض الأوّل في قوله : فان قلت : الاستصحاب إلى آخره ، والاعتراض الثاني في قوله : فان قلت : هب ، إلى آخره هو ما يلي :

إنّ الاعتراض الأوّل مبناه : دعوى الاجماع على بقاء النجاسة وعدم إرتفاعها إلاّ برافع شرعي ، فما دام لم يثبت وجود الرافع يجب الحكم ببقائها ، للاستصحاب بالمعنى الذي ذكره المحقق المذكور ، بينما الاعتراض الثاني مبناه : دعوى الاجماع على وجوب شيء معيّن في الواقع على المتغوط مع قطع النظر عن بقاء النجاسة وعدمها ، ومع قطع النظر عن الاستصحاب ، ومقتضاه : تحصيل الجزم بفراغ الذمّة لقاعدة الاشتغال .

والجواب : ان المقام من البرائة ، فالواجب : أحد الأمرين ، وقد أتى به حيث

ص: 234

والحاصل : أنّه إذا ورد نصٌ أو إجماع على وجوب شيء معيّن - مثلاً - معلوم عندنا أو ثبوت حكم إلى غاية معيّنة عندنا ، فلابد من الحكم بلزوم تحصيل اليقين أو الظنّ بوجود ذلك الشيء المعلوم حتى يتحقق الامتثال ، ولا يكفي الشك في وجوده ، في إرتفاع ذلك الحكم .

وكذا إذا ورد نصّ أو إجماع - على وجوب شيء معيّن في الواقع مردّد

-------------------

مسح بالحجر ذي الجهات الثلاث .

( والحاصل ) من ذلك كله ( أنّه ) أي : ان الحكم من جهة انه متى يستمر ، ومتى لا يستمر ، فيما إذا لم يكن مغيّى بغاية ، وفيما إذا كان مغيّى بغاية وصار الشك في نفس الغاية ، أو صار الشك قبل الغاية شكا من جهة عروض أمر يحتمل إنتهاء الحكم بذلك العارض ، فانه يكون على أربعة أقسام :

الأوّل : ( إذا ورد نصٌ أو إجماع على وجوب شيء معيّن - مثلاً - معلوم عندنا ) كما إذا ورد وجوب التطهير بالماء عند خروج البول .

الثاني : ( أو ثبوت حكم إلى غاية معيّنة عندنا ) كما اذا وجب الصيام إلى المغرب الشرعي .

وعليه : فإذا كان المورد من هذين القسمين ( فلابد من الحكم بلزوم تحصيل اليقين أو الظنّ ) المعتبر ( بوجود ذلك الشيء المعلوم ) عندنا أو الغاية المعينة عندنا ، وذلك ( حتى يتحقق الامتثال ) .

هذا ( ولا يكفي الشك في وجوده ) أي : وجود ذلك الشيء المعلوم عندنا ، أو الغاية المعينة عندنا ( في إرتفاع ذلك الحكم ) الواجب علينا ما لم نعلم أو نظن ظنا معتبرا بوجود ذلك الشيء المعلوم ، أو تحقق تلك الغاية المعيّنة عندنا .

الثالث : ( وكذا إذا ورد نصّ أو إجماع على وجوب شيء معيّن في الواقع مردّد

ص: 235

في نظرنا بين اُمور ، ويعلم أنّ ذلك التكليف غير مشروط بشيء من العلم بذلك الشيء ؛ أو على ثبوت حكم إلى غاية معيّنة في الواقع مردّدة عندنا بين أشياء ، ويُعلم أيضا عدم إشتراطه بالعلم - مثلاً - يجب الحكم بوجوب تلك الأشياء المردّدة في نظرنا وبقاء ذلك

-------------------

في نظرنا بين اُمور ) كما إذا ورد وجوب إكرام الوالدين لكنه كان مردّدا عندنا بين خدمتهم فعلاً ، أو صلتهم مالاً ( ويعلم أنّ ذلك التكليف غير مشروط بشيء من العلم ) منا ( بذلك الشيء ) أي : بأن أراد الشارع العنوان منا ، فيلزم إحراز العنوان بما يحصّله .

وعليه : فإذا كان التكليف - كما في المثال - غير مشروط بالعلم وتردّد بين متباينين - مثلاً - وجب علينا الاتيان بهما لاحراز الواقع ، بينما إذا كان مشروطا بالعلم ولم يحصل العلم لنا ، فلا يجب علينا الاتيان بالأمر المردّد ، لأن فقد الشرط يوجب فقد المشروط .

الرابع : ( أو على ثبوت حكم إلى غاية معيّنة في الواقع مردّدة عندنا بين أشياء ، ويُعلم أيضا عدم إشتراطه بالعلم - مثلاً - ) أو ما يقوم مقام العلم ، كما إذا قال المولى : إبق في الدار إلى ان تقرء سورة كذا ، وتردّدت السورة بين يس والرحمن ، حيث يجب عليه الأمران :

الأوّل : البقاء في الدار .

الثاني : قرائة السورة ، وحيث كانت السورة مردّدة بين سورتين ، وجب الاتيان بهما من باب العلم الاجمالي .

وعليه : فهنا ( يجب الحكم بوجوب تلك الأشياء المردّدة في نظرنا وبقاء ذلك

ص: 236

الحكم إلى حصول تلك الأشياء أيضا ، ولا يكفي الاتيان بشيء واحد منها في سقوط التكليف ، وكذا حصول شيء واحد في إرتفاع الحكم .

وسواء في ذلك : كون الواجب شيئا معيّنا في الواقع مجهولاً عندنا أو أشياء ، كذلك أو غاية معيّنة مجهولة عندنا أو غايات كذلك ،

-------------------

الحكم ) المغيّى ( إلى حصول تلك الأشياء أيضا ) فيكون الواجب كما قلنا : شيئين :

الأوّل : البقاء في الدار .

الثاني قرائة السورتين .

ولذا قال أيضا : ( ولا يكفي الاتيان بشيء واحد منها ) أي : من تلك الاُمور المردّدة كونها غاية ( في سقوط التكليف ) وذلك لمكان العلم الاجمالي الذي عرفته .

( وكذا ) لا يكفي ( حصول شيء واحد ) دون كل الأشياء ( في إرتفاع الحكم ) المغيّى .

( و ) هذا الحكم جار فيما نحن فيه بلا فرق بين ان يكون هذا الواجب المغيّى ، المردّد عندنا ، شيئا واحدا في الواقع ، أو أشياء متعددة ، ولا بين ان تكون الغاية المردد عندنا غاية واحدة في الواقع ، أو غايات متعددة كما قال :

( سواء في ذلك : كون الواجب ) المغيّى ( شيئا معيّنا في الواقع مجهولاً عندنا أو أشياء ، كذلك ) أي : معيّنة في الواقع مجهولة عندنا وهذا من جهة المغيّى ( أو غاية معيّنة مجهولة عندنا أو غايات كذلك ) أي : معيّنة في الواقع مجهولة عندنا ، وهذا من جهة الغاية ، فانه لا فرق في الحكم بين وحدتهما وتعددهما .

وكذا لا فرق في الحكم المذكور بين وجود قدر مشترك بين تلك الأشياء

ص: 237

وسواء أيضا تحقّق قدر مشترك بين تلك الأشياء والغايات و تباينها بالكلّية .

وأمّا إذا لم يكن الأمر كذلك ، بل ورود نص مثلاً : على أنّ الواجب الشيء الفلاني ، ونص آخر : على أنّ ذلك الواجب شيء آخر ، أو ذهب بعض الامّة الى وجوب شيء ، وبعض آخر الى وجوب شيء آخر ، فالظاهر من النصّ والاجماع في الصورتين

-------------------

والغايات ، وبين عدم وجوده كما قال : ( وسواء أيضا تحقّق قدر مشترك بين تلك الأشياء والغايات ) بأن كان بين الأشياء المردّد بينها الواجب ، أو الغايات المردّد بينها الغاية عموم من وجه ( أو تباينها بالكلّية ) .

هذا ( وأمّا إذا لم يكن الأمر كذلك ) أي : بأن لم يكن من الأقسام الأربعة التي ذكرناها ، والتي كانت عبارة عمّا يلي :

1 - ورود نص أو إجماع على وجوب حكم معيّن معلوم عندنا .

2 - أو غاية معيّنة معلومة عندنا .

3 - ورود نص أو إجماع على وجوب حكم مردد عندنا .

4 - أو غاية مردّدة عندنا .

( بل ) كان قسما خامسا ، مثل ( ورود نص مثلاً : على أنّ الواجب الشيء الفلاني ، ونص آخر : على أنّ ذلك الواجب شيء آخر ) بأن كان بين الواجبين المحتملين بتباين وتعارض ، كالظهر والجمعة في يوم الجمعة ( أو ذهب بعض الاُمّة إلى وجوب شيء ، وبعض آخر إلى وجوب شيء آخر ) كما لو قام الاجماع المركب في مثال الظهر والجمعة حيث لم نعلم الواجب منهما .

( فالظاهر من النص والاجماع في الصورتين ) هاتين : صورة ورود نصين

ص: 238

أنّ ترك ذينك الشيئين معا سببٌ لاستحقاق العقاب .

فحينئذ : لم يظهر وجوب الاتيان بهما معا حتى يتحقق به الامتثال ، بل الظاهر : الاكتفاء بواحد منهما ، سواء إشتركا في أمر أم تباينا كلّية ، وكذلك الحكم في ثبوت الحكم الكلّي إلى الغاية .

-------------------

متخالفين ، أو صورة وجود إجماع مركب من ذهاب الاُمة إلى قولين متخالفين هو : ( أنّ ترك ذينك الشيئين معا سببٌ لاستحقاق العقاب ) لا ترك أحدهما ، فاللازم ان يأتي بأحدهما .

( فحينئذ : لم يظهر وجوب الاتيان بهما معا حتى يتحقق به الامتثال ) لأن الامتثال يتحقق باتيان أحدهما ، وهذا يشير إلى ان المحقق المذكور لا يرى وجوب الاتيان بأطراف العلم الاجمالي ، وكلامه هذا ينافي كلامه السابق الظاهر منه : وجوب الاتيان بأطراف العلم الاجمالي .

وعلى أي حال : فانه قال : ( بل الظاهر : الاكتفاء بواحد منهما ، سواء إشتركا في أمر ) كمثال الظهر والجمعة في يوم الجمعة ( أم تباينا كلّية ) كما في التصدق والصلاة عند رؤية الهلال - مثلاً - .

( وكذلك الحكم في ثبوت الحكم الكلّي إلى الغاية ) إذ الدليل الذي ذكرناه لا فرق فيه بين الحكم الكلي والحكم الجزئي .

هذا ، وكأن المحقق المذكور أراد بما ذكره من قوله : والحاصل ، بيان ان الاستصحاب يجري في وجود الشك في الرافع ، أو الشك في رافعية الموجود إذا كان الشك من باب الشبهة المفهومية ، ولا يجري إذا كان الموجود مشكوك الرافعية باعتبار كون الرافع مردّدا من جهة المصداق ، أو كان الموجود مشكوكا كونه رافعا مستقلاً آخر .

ص: 239

هذا مجمل القول في هذا المقام ، وعليك التأمّل في خصوصيّات الموارد وإستنباط أحكامها عن هذا الأصل ورعاية جميع ما يجب رعايته عند تعارض المتعارضات ، واللّه الهادي إلى سواء الطريق » ، إنتهى كلامه رفع مقامه .

وحكى عنه السيّد الصدر في شرح الوافية حاشية اُخرى له عند قول الشهيد « ويحرم إستعمال الماء النجس والمشتبه ، إلى آخره » ، ما لفظه : « وتوضيح الكلام : أنّ الاستصحاب لا دليل على حجّيته عقلاً ،

-------------------

هذا ما فهمناه من عبارته قدس سره وهو - كما رأيت - غير ما فهمه المصنّف منه ، كما إنا لم نعرف مراده في أصل مطلبه ، ولا في كيفية أخذه النتيجة من هذا المطلب ، ولعل ذلك لسقط في العبارة .

وعلى أيّ حال : فان ( هذا مجمل القول في هذا المقام ، وعليك التأمّل في خصوصيّات الموارد وإستنباط أحكامها عن هذا الأصل ورعاية جميع ما يجب رعايته عند تعارض المتعارضات ، واللّه الهادي إلى سواء الطريق » (1) ، إنتهى كلامه رفع مقامه ) وزِيْدَ في علوّ درجاته .

( وحكى عنه السيّد الصدر في شرح الوافية حاشية اُخرى له ) على شرحه للدروس ( عند قول الشهيد ) الأوّل : ( « ويحرم إستعمال الماء النجس والمشتبه ، إلى آخره » ) والمراد بالمشتبه هو : المردّد بين إنائين مع العلم الاجمالي بأن أحدهما نجس .

قال ( ما لفظه : « وتوضيح الكلام : أنّ الاستصحاب لا دليل على حجّيته عقلاً ،

ص: 240


1- - مشارق الشموس في شرح الدروس : ص75 - 77 .

وما تمسّكوا لها ضعيفٌ ، وغايةُ ما تمسّكوا فيها بما ورد في بعض الروايات الصحيحة : « أنّ اليقينَ لا يُنقضُ بالشكّ » ، وعلى تقدير تسليم صحة الاحتجاج بالخبر في مثل هذا الأصل وعدم منعها ، بناءا على أنّ هذا الحكم الظاهر أنّه من الاُصول ، ويشكل التمسكُ بالخبر في الاُصول ، إن سلّم التمسك به في الفروع ، نقول : أولاً : إنّه لا يظهر شموله للاُمور الخارجيّة ، مثل رطوبة الثوب ونحوها ، إذ يبعد أن يكون مرادُهم

-------------------

وما تمسّكوا لها ضعيفٌ ، وغاية ما تمسّكوا فيها ) أي : في حجية الاستصحاب إنّما هو ( بما ورد في بعض الروايات الصحيحة : « أنّ اليقينَ لا يُنقضُ بالشكّ » ) كما عرفت ورود هذا النص في جملة من الروايات (1) .

هذا ( وعلى تقدير تسليم صحة الاحتجاج بالخبر في مثل هذا الأصل ) وهو حجية الاستصحاب ( وعدم منعها ) أي : عدم منع صحة الاحتجاج بالخبر في مثله ، فان المنع فيه إنّما يكون ( بناءا على أنّ هذا الحكم الظاهر ) في الاستصحاب ( أنّه من الاُصول ) حيث يترتب عليه فروع كثيرة من أول الفقه إلى آخره ، وإذا كان من الاُصول فلا يثبت بالخبر كما قال : ( و ) من المعلوم : انه ( يشكل التمسكُ بالخبر في الاُصول ، إن سلّم التمسك به في الفروع ) فان التمسك بالخبر في الفروع أيضا محل نظر ، كما عن السيد المرتضى وابن إدريس وجماعة آخرين فكيف به في الاُصول ؟ .

وكيف كان : فانه على فرض تسليم صحة الاحتجاج بالخبر لمثل الاستصحاب ( نقول : أولاً : إنّه لا يظهر شموله للاُمور الخارجيّة ) التي ليست من الأحكام الشرعية ( مثل رطوبة الثوب ونحوها ) كحياة زيد وما أشبه ذلك .

وإنّما لا يظهر شموله لها ( إذ يبعد أن يكون مرادُهم ) أي: مراد

ص: 241


1- - كصحيحة زرارة الاولى والثانية والثالثة .

بيان الحكم في مثل هذه الاُمور التي ليست أحكاما شرعيّة ، وإن أمكن أن يصير منشاءً لحكم شرعي ، وهذا ما يقال : من أنّ الاستصحاب في الاُمور الخارجية لا عبرة به .

ثم بعد تخصيصه بالأحكام الشرعية فنقول : الأمر على وجهين أحدُهما أن يثبت حكم شرعي في مورد خاص باعتبار حال يعلم من الخارج أنّ زوال تلك الحالة لا يستلزم زوال ذلك الحكم ، والآخَرُ أن يثبت باعتبار حال لا يعلم فيه ذلك .

-------------------

المعصومين عليهم السلام ( بيان الحكم في مثل هذه الاُمور التي ليست أحكاما شرعيّة ، وإن أمكن أن يصير منشاءً لحكم شرعي ) كما عرفت : من ان بقاء رطوبة الثوب يوجب تنجسه إذا لاقى المتنجس ، وبقاء حياة الزوج يوجب نفقة زوجته .

( وهذا ) هو معنى ( ما يقال : من أنّ الاستصحاب في الاُمور الخارجية لا عبرة به ) لما مرّ : من ان شأنهم عليهم السلام هو : بيان الأحكام لا بيان الموضوعات .

( ثم بعد تخصيصه ) أي : تخصيص الخبر الدال على الاستصحاب ( بالأحكام الشرعية ) دون الاُمور الخارجية ( فنقول : الأمر على وجهين ) كما يلي :

( أحدُهما ) : الشك في الرافع وهو : ( أن يثبت حكم شرعي في مورد خاص باعتبار حال يعلم من الخارج أنّ زوال تلك الحالة لا يستلزم زوال ذلك الحكم ) ويأتي ان شاء اللّه تعالى مثاله في كلامه قريبا .

( والآخَرُ ) : الشك في المقتضي وهو : ( أن يثبت ) حكم شرعي في مورد خاص ( باعتبار حال لا يعلم فيه ذلك ) أي : لا يعلم من الخارج ان زوال تلك الحالة ممّا يستلزم زوال ذلك الحكم أو لا يستلزمه ؟ .

ص: 242

مثال الأوّل : إن ثبت نجاسة ثوب باعتبار ملاقاته للبول ، فانّه علم من إجماع أو ضرورة : أنّ النجاسة لا تزول بزوال الملاقاة .

ومثال الثاني : ما نحن فيه ، فانّه ثبت وجوب الاجتناب عن الاناء باعتبار أنّه شيء يعلم وقوع النجاسة فيه بعينه وكل شيء كذلك يجب الاجتناب عنه ولم يعلم بدليل من الخارج : أنّ زوال ذلك الوصف الذي يحصل باعتبار زوال المعلوميّة بعينه لا دخل له في زوال ذلك الحكم .

-------------------

( مثال الأوّل : إن ثبت نجاسة ثوب باعتبار ملاقاته للبول ، فانّه علم من إجماع أو ضرورة : أنّ النجاسة لا تزول بزوال الملاقاة ) بل ان مقتضى الروايات الدالة على بقاء النجاسة هو بقائها إلى ان يأتي المطهّر .

( ومثال الثاني : ما نحن فيه ) من الاناء المشتبه ( فانّه ثبت وجوب الاجتناب عن الاناء باعتبار أنّه شيء يعلم وقوع النجاسة فيه بعينه ) أي : هو كما إذا علمنا بأن النجاسة وقعت في هذا الاناء الخاص ( وكل شيء كذلك ) أي : علم بعينه انه نجس ( يجب الاجتناب عنه ) .

والحاصل : ان العلم بالنجاسة في إناء خاص بعينه موجب للاجتناب عنه قطعا ( ولم يعلم بدليل من الخارج : أنّ زوال ذلك الوصف ) : العلم بعينه ( الذي يحصل باعتبار زوال المعلوميّة بعينه ) أي : يحصل بما إذا لم يعلم بان النجاسة وقعت في هذا الاناء أو ذاك الاناء ، فانه لم يعلم من زوال الوصف انه ( لا دخل له في زوال ذلك الحكم ) المترتب على ذلك الوصف .

وإنّما لا يعلم بانّ زوال الوصف لا دخل له في زوال الحكم ، لاحتمال ان الشارع إنّما أوجب الاجتناب عن النجاسة المعلومة ، ولم يوجب الاجتناب عن النجاسة المشكوكة بين كونها في هذا الاناء أو في ذاك الاناء حيث انه يكون

ص: 243

وعلى هذا شمولُ الخبر للقسم الأوّل ظاهرٌ ، فيمكن التمسّك بالاستصحاب فيه ، وأمّا القسم الثاني : فالتمسك فيه مشكل .

فان قلت : بعد ما علم في القسم الأوّل ، أنّه لا يزول الحكم بزوال الوصف ، فأيُّ حاجة الى التمسّك بالاستصحاب ، وأيّ فائدة فيما ورد في الأخبار : من أنّ اليقين لا يُنقض بالشك ؟ .

-------------------

من الشك في المقتضي .

مثلاً : إذا وقعت نجاسة في إناء ثم إشتبه ذلك الاناء باناء آخر ممّا زال بسببه وصف العلم التفصيلي، فهل النجاسة بعد هذا الاشتباه مقتض للبقاء أو ليس لها مقتض للبقاء؟ ولذا يكون الشك في النجاسة بعد الاشتباه من باب الشك في المقتضي .

( وعلى هذا ) الذي ذكرناه : من ان الأمر في الاستصحاب على قسمين ، فان ( شمول الخبر ) الدال على الاستصحاب ( للقسم الأوّل ) وهو : الشك في الرافع ( ظاهرٌ ، فيمكن التمسّك بالاستصحاب فيه ) فإذا كان شيء نجسا ، ثم شككنا في زوال النجاسة نستصحب بقائها .

( وأمّا القسم الثاني : فالتمسك فيه ) بالاستصحاب ( مشكل ) فلا نتمكن ان نستصحب وجوب الاجتناب عن الاناء الذي إشتبه بإناء طاهر بعد إشتباهه ، لأنه كما عرفت من الشك في المقتضي .

( فان قلت : بعد ما علم في القسم الأوّل ، أنّه لا يزول الحكم ) بالنجاسة مثلاً ( بزوال الوصف ) أي : وصف الملاقاة للنجس بل لابد من التطهير ، ومعه (فأيُّ حاجة الى التمسّك بالاستصحاب ؟ وأيّ فائدة فيما ورد في الأخبار : من أنّ اليقين لا يُنقض بالشك ؟ ) فانه مع فرض دوام الحكم بالنجاسة - مثلاً - حتى يأتي

ص: 244

قلت : القسم الأوّل على وجهين :

أحدُهما أن يثبت أنّ الحكم أعني : النجاسة بعد الملاقاة ، حاصلٌ ما لم يرد عليه الماء على الوجه المعتبر ، وحينئذ فائدته أنّ عند حصول الشك في ورود الماء لا يحكم بزوال النجاسة ، والآخر أن يعلم ثبوت الحكم في الجملة بعد زوال الوصف ، لكن لم يعلم أنّه ثابت دائما ، أو في بعض الأوقات إلى غاية معيّنة محدودة أم لا .

-------------------

التطهير ، لا حاجة إلى الاستصحاب العقلي ، ولا إلى الاستصحاب الشرعي .

( قلت : القسم الأوّل على وجهين ) بالنحو التالي :

( أحدُهما ) : الشك في وجود الرافع وهو : ( أن يثبت أنّ الحكم أعني : النجاسة بعد الملاقاة حاصل ما لم يرد عليه الماء على الوجه المعتبر ) في التطهير ( وحينئذ ) يكون ( فائدته ) أي : فائدة الاستصحاب العقلي والشرعي في هذا القسم وهو الشك في وجود الرافع : ( أنّ عند حصول الشك في ورود الماء لا يحكم بزوال النجاسة ) وهذا من الشبهة الموضوعية .

( والآخر ) وهو الشك في رافعية الموجود بأن حصل شيء ، لكن لم يعلم هل انه رافع أو ليس برافع ؟ وهذا من الشبهة الحكمية بمعنى : ( أن يعلم ثبوت الحكم في الجملة بعد زوال الوصف ، لكن لم يعلم أنّه ثابت دائما ، أو في بعض الأوقات إلى غاية معيّنة محدودة أم لا ) ؟ فإذا تنجست اليد - مثلاً - بالملاقاة مع الدم ، ثم زال وصف الملاقاة عن اليد ، وزال عنها جرم الدم وعينه أيضا ، ولم يعلم هل ان النجاسة باقية دائما إلى حصول التطهير بالماء ، أو انه يطهر بشيء آخر كزوال عين الدم - مثلاً - ؟ فالمستصحب هنا بقاء النجاسة إلى ان يطهر بالماء كما قال :

ص: 245

وفائدته أنّه إذا ثبت الحكم في الجملة ، فيستصحب إلى أن يعلم المزيل .

ثم لا يخفى : أنّ الفرق الذي ذكرنا من إثبات مثل هذا بمجرّد الخبر مشكلٌ مع إنضمام أنّ الظهور في القسم الثاني لم يبلغ مبلغه في القسم الأوّل

-------------------

( وفائدته ) : أي : فائدة الاستصحاب في هذا القسم الذي هو من الشبهة الحكمية والشك في رافعية الموجود هو : ( أنّه إذا ثبت الحكم في الجملة ، فيستصحب إلى أن يعلم المزيل ) وهو التطهير بالماء على ما في المثال المذكور .

( ثم لا يخفى : أنّ الفرق الذي ذكرنا ) يكون حاصله : ان الاستصحاب يجري مع الشك في وجود الغاية ، لا مع الشك في غائية الموجود : كالشك في ان المذي غاية للتطهّر أم لا ؟ فالفرق المذكور : ( من إثبات مثل هذا ) الأصل وهو : الاستصحاب في الشبهة الحكمية ( بمجرّد الخبر مشكلٌ ) وذلك لما يلي :

أولاً : لأن الشبهة حكمية ، والشبهة الحكمية لا تثبت بالخبر الواحد ، لأن الشبهة الحكمية مسألة اُصولية ، وخبر : « لا تنقض اليقين بالشك » (1) ليس ظاهرا في الشبهة الحكمية .

لا يخفى : ان قوله : «ان الفرق الذي ذكرناه» خبره سيأتي بعد أسطر ، وذلك عند قوله : «كأنه يصير قريبا» .

ثانيا : ( مع إنضمام ) أي : بأن ينضم إلى ما ذكرناه : من ان إثبات مثل هذا الأصل بمجرد الخبر مشكل ، ان ينضم إليه : ( أنّ الظهور في القسم الثاني ) وهو الشك في رافعية الموجود ( لم يبلغ مبلغه في القسم الأوّل ) الذي هو الشك في وجود الرافع ، وذلك لأن ظاهر الأخبار هو القسم الأوّل فقط .

ص: 246


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

وأنّ اليقين لا يُنقض بالشك - قد يقال إنّ ظاهره : أن يكون اليقين حاصلاً لولا الشك باعتبار دليل دالّ على الحكم ، في غير صورة ما شك فيه .

إذ لو فرض عدم الدليل عليه لكان نقضُ اليقين حقيقة باعتبار عدم الدليل الذي هو دليل العدم ، لا الشك كأنّه يصير قريبا ،

-------------------

( و ) إنّما لم يبلغ ظهور الأخبار في القسم الثاني مبلغها في القسم الأوّل ، لأنه كما قال : ( أنّ اليقين لا يُنقض بالشك - قد يقال ) بالنسبة إليه : ( إنّ ظاهره : أن يكون اليقين حاصلاً ) أي : مستمر ( لولا الشك ) فانه لولا الشك لكان اظهر « لا يُنقض » كون اليقين مستمرا ( ب ) سبب ( اعتبار دليل دالّ على الحكم ، في غير صورة ما شك فيه ) .

وإنّما يكون اليقين مستمرا بسبب إعتبار الدليل ( إذ لو فرض عدم الدليل عليه ) أي : على الاستمرار ( لكان نقضُ اليقين حقيقة ب ) سبب ( إعتبار عدم الدليل الذي هو ) أي : عدم الدليل ( دليل العدم ، لا ) بسبب إعتبار ( الشك ) .

إذن : فالفرق الذي ذكرناه بين القسمين من الاستصحاب ( كأنّه يصير قريبا ) بمعونة هذين الأمرين الذين ذكرهما بقوله : ان إثبات مثل هذا بمجرد الخبر مشكل ، وقوله : مع إنضمام ان الظهور في القسم الثاني لم يبلغ مبلغه في القسم الأوّل .

وحاصل كلامه بلفظ بعض المحشين هو ما يلي :

انّ الفرق الذي ذكرناه في الأحكام الشرعية بعد إخراج الاُمور الخارجية فرقا بين الشك من جهة الرافع ، ومن جهة المقتضي ، باثبات دلالة ، الخبر على إعتبار الاستصحاب في القسم الأوّل ، وان التمسك به في القسم الثاني مشكل إذا ضممنا إليه : ان ظهور الخبر في القسم الثاني دون ظهوره في القسم الأوّل ، وإنضمام

ص: 247

ومع ذلك ينبغي رعايةُ الاحتياط في كلّ من القسمين ، بل في الاُمور الخارجية أيضا » ، انتهى كلامه رفع مقامه .

أقول : لقد أجاد فيما أفاد وجاء بما فوق المراد ،

-------------------

ما يقال : من ان اليقين لا يُنقض بالشك ظاهره : ان اليقين كان حاصلاً لولا الشك بدلالة الدليل الدال عليه ، فلا يشمل الشك في المقتضى ، كأن الفرق المذكور يصير قريبا بالاعتبار .

( ومع ذلك ) الذي فصّلناه في الاستصحاب من تفصلين : تفصيل بين المقتضي والرافع ، وتفصيل بين الشك في وجود الرافع ورافعية الموجود ( ينبغي رعايةُ الاحتياط في كلّ من القسمين ) الذين ذكرهما بقوله : أحدهما : ان يثبت حكم شرعي باعتبار حال يعلم زوال الحكم بزوالها ، والآخر : ان يثبت باعتبار حال لا يعلم فيه ذلك .

( بل ) ينبغي عليه الاحتياط ( في الاُمور الخارجية أيضا » (1) ، انتهى كلامه رفع مقامه ) وزيد في علوّ درجاته .

( أقول : لقد أجاد فيما أفاد وجاء بما فوق المراد ) قال الآشتياني : أي أجاد في فهم إختصاص دلالة الروايات بالشك في الرافع ، وعدم شمولها للشك في المقتضي ، إلاّ انه ما أجاد في تخصيصها ببعض أقسام الشك في الرافع ، كما ستقف عليه إن شاء اللّه ، هذا كله بناءا على كون الغاية من قبيل الرافع أو ملحقة به حكما ، وإلاّ فما أجاد في التفصيل المذكور أصلاً ، إلاّ انك قد عرفت : ان الغاية وإن لم تكن من الرافع موضوعا ، إلاّ انها ملحقة به في الحكم .

أقول : وإنّما قال المصنِّف بالنسبة إلى كلام المحقق الخوانساري : بأنه جاء

ص: 248


1- - شرح الوافية : مخطوط .

إلاّ أنّ في كلامه مواقع للتأمّل ، فلنذكر مواقعه ونشير إلى وجهه فنقول :

قوله : « وبعضهم ذهب إلى حجيته في القسم الأوّل » .

ظاهره كصريح ما تقدّم منه في حاشيته الاُخرى وجودُ القائل بحجّية الاستصحاب في الأحكام الشرعية الجزئية : كطهارة مثل الثوب ، والكلّية : كنجاسة المتغيّر بعد زوال التغيّر ؛ وعدم الحجّية في الاُمور الخارجية : كرطوبة الثوب ، وحياة زيد .

وفيه نظرٌ ، يعرف بالتتبع في كلمات القائلين بحجّية الاستصحاب وعدمها ، والنظر في أدلّتهم .

-------------------

بما فوق المراد ، لأن مراد المصنّف هو : التفصيل بين الاستصحاب في المقتضي فلا يجري ، وبين الاستصحاب في الرافع فيجري ، والخوانساري أضاف إلى ذلك موضوع الشك في الغاية وغيره ممّا عرفت .

ثم قال المصنّف : ( إلاّ أنّ في كلامه مواقع للتأمّل ، فلنذكر مواقعه ونشير إلى وجهه ) أي : وجه التأمل ( فنقول : قوله : « وبعضهم ذهب إلى حجيته ) أي : حجية الاستصحاب ( في القسم الأوّل » ) أي : في الأحكام الشرعية الجزئية مثل : ما إذا ثبت نجاسة ثوب أو بدن في زمان ، فيحكمون بعد ذلك بنجاسته إذا لم يحصل العلم برفعها ، فان ( ظاهره ) أي : ظاهر قول المحقق الخوانساري هذا ( كصريح ما تقدّم منه في حاشيته الاُخرى ) هو : ( وجودُ القائل بحجّية الاستصحاب في الأحكام الشرعية الجزئية : كطهارة مثل الثوب ، والكلّية : كنجاسة المتغيّر بعد زوال التغيّر ، وعدم الحجية في الاُمور الخارجية : كرطوبة الثوب ، وحياة زيد ) - مثلاً - .

( وفيه نظرٌ ) لعدم وجود مثل هذا القائل ، وذلك ( يعرف بالتتبع في كلمات القائلين بحجّية الاستصحاب وعدمها ، والنظر في أدلّتهم ) فانّه لا يظهر

ص: 249

مع أنّ ما ذكره في الحاشية الأخيرة دليلاً لعدم الجريان في الموضوع جار في الحكم الجزئي ، فانّ بيان وصول النجاسة إلى هذا الثوب الخاص واقعا وعدم وصولها ، وبيان نجاسته المسبّبة عن هذا الوصول وعدمها لعدم الوصول ، كلاهما خارج عن شأن الشارع .

-------------------

من كلماتهم وأدلتهم مثل : هذا التفصيل المذكور .

لكن قال الأوثق : لا يخفى ان إنكار وجود قائل بهذا القول ، لا يناسب عدّه من جملة أقوال المسألة وجعلها به أحد عشر قولاً ، كما صنعه المصنّف عند تعدادها ، فالأولى ترك هذا القول في جملتها وجعلها عشرة كاملة (1) .

أقول : لعل المصنّف عدّ هذا التفصيل هناك قولاً حادي عشر باعتبار إستفادته من كلام المحقق الخوانساري ، ولكن هنا حيث انه بنفسه لم يجد هذا القول في كلمات الفقهاء والاُصوليين الذين تتبع كلماتهم تنظّر فيه .

هذا ( مع أنّ ما ذكره في الحاشية الأخيرة دليلاً لعدم الجريان في الموضوع ) حيث قال : نقول ، أولاً : انه لا يظهر شموله للاُمور الخارجية مثل : رطوبة الثوب ونحوها ، إذ يبعد ان يكون مرادهم عليهم السلام بيان الحكم في مثل هذه الاُمور التي ليست أحكاما شرعية ، فان ما ذكره دليلاً لعدم جريان الاستصحاب في الموضوع ( جار في الحكم الجزئي ) أيضا .

وإنّما يجري ذلك الدليل في الحكم الجزئي أيضا لأنه كما قال : ( فانّ بيان وصول النجاسة إلى هذا الثوب الخاص واقعا وعدم وصولها ) إلى الثوب ( وبيان نجاسته المسببة عن هذا الوصول وعدمها ) أي : عدم النجاسة ( لعدم الوصول ، كلاهما خارج عن شأن الشارع ) .

ص: 250


1- - أوثق الوسائل : ص486 ما أفاده المحقق الخوانساري من التفصيل .

كما أنّ بيان طهارة الثوب المذكور ظاهرا ، وبيان عدم وصول النجاسة إليه ظاهرا الراجع في الحقيقة إلى الحكم بالطهارة ظاهرا ، ليس إلاّ شأن الشارع ، كما نبّهنا عليه فيما تقدّم .

-------------------

وإنّما يكون خارجا عن شأن الشارع ، لأن شأن الشارع هو : بيان الأحكام الكلية الشرعية ، لا الأحكام غير الشرعية ولا الأحكام الشرعية الجزئية ، وقد روي عنهم عليه السلام إنهم قالوا : علينا الاُصول وعليكم التفريع (1) .

( كما أنّ بيان طهارة الثوب المذكور ظاهرا ، وبيان عدم وصول النجاسة إليه ظاهرا ) إذ قد يقول الشارع : الثوب طاهر ، وقد يقول : النجاسة لم تصل إليه ، فبيان عدم وصول النجاسة ( الراجع في الحقيقة إلى الحكم بالطهارة ) ليس أمرا خارجيا ، بل كما قال : يرجع إلى بيان الحكم وهو الطهارة لكن ( ظاهرا ) وهو ( ليس إلاّ شأن الشارع ، كما نبّهنا عليه فيما تقدّم ) .

والحاصل : انا لو سألنا من الشارع هل وصلت النجاسة إلى الثوب أم لا ؟ أو سألنا منه هل هو طاهر أم لا ؟ أجاب : بانه لا ربط له بهذين ، لأن الأوّل أمر خارجي يستطرق فيه باب العرف ، والثاني : أمر جزئي وقد أشار إلى كليّة وعليّة الكليات لا الجزئيات .

أمّا لو سألنا من الشارع عن الشيء الجزئي المشكوك طهارته ونجاسته بعد ان كان طاهرا : ما حكمه الظاهري ؟ وكذا لو سألناه عن الشيء كان رطبا ، ثم وقع على أرض نجسة وشككنا في طهارته ونجاسته؛ ما هو حكمه الظاهري ؟ أجاب الشارع عن كلا السؤالين : بلزوم الاستصحاب .

وعلى أيّ حال : فالأوّلان ليسا من شأن الشارع ، بينما التاليان من شأنه ، فإطلاق

ص: 251


1- - راجع وسائل الشيعة : ج27 ص61 ب6 ح33201 و ص62 ب6 ح33202 .

قوله : « والظاهر حجّية الاستصحاب بمعنى آخر ، إلى آخره » ، وجهُ مغايرة ما ذكره لما ذكره المشهور ، هو : أنّ الاعتماد في البقاء عند المشهور على الوجود السابق ، كما هو ظاهر قوله : « لوجوده في زمان سابق عليه » .

وصريح قول شيخنا البهائي إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلاً على ثبوته في الزمن الأوّل . وليس الأمر كذلك على طريقة شارح الدروس .

قوله قدس سره : « إنّ الحكم الفلاني بعد تحققه ثابت

-------------------

قول المحقق الخوانساري بأنهما ليسا من شأن الشارع محل تأمل .

ومن مواقع التأمل في كلام المحقق الخوانساري ( قوله : « والظاهر حجّية الاستصحاب بمعنى آخر ، إلى آخره » ) فان ( وجهُ مغايرة ما ذكره ) المحقق الخوانساري ( لما ذكره المشهور ) من معنى الاستصحاب ( هو : أنّ الاعتماد في البقاء عند المشهور على الوجود السابق ، كما هو ظاهر قوله ) أي : قول المحقق الخوانساري عند بيان قول المشهور في بقاء الشيء بانه ( « لوجوده في زمان سابق عليه » ، وصريح قول شيخنا البهائي ) في معنى الاستصحاب : من انه ( إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلاً على ثبوته في الزمن الأوّل ) وهكذا غيرهما ممن ذكر الاستصحاب .

هذا ( وليس الأمر كذلك على طريقة شارح الدروس ) أي : المحقق الخوانساري ، فان إعتماده في الاستصحاب إنّما هو على دليل الحكم ، فيكون الاستصحاب تابعا للدليل ضيْقا وسِعَةً ، ولذا كان الاستصحاب عند المحقق الخوانساري غير الاستصحاب عند المشهور .

ومن مواقع التأمل في كلامه ( قوله قدس سره : « إنّ الحكم الفلاني بعد تحققه ثابت

ص: 252

إلى حدوث حال كذا أو وقت كذا ، إلى آخره » .

أقول : بقاء الحكم إلى زمان كذا يتصوّر على وجهين :

الأوّل : أن يلاحظ الفعل إلى زمان كذا موضوعا واحدا تعلّق به الحكم الواحد ، كأن يلاحظ الجلوس في المسجد إلى وقت الزوال فعلاً واحدا تعلّق به أحد الأحكام الخمسة ، ومن أمثلته الامساك المستمرّ إلى الليل ، حيث انّه ملحوظ فعلاً واحدا تعلّق به الوجوب ، أو الندب ، أو غيرهما من أحكام الصوم .

-------------------

إلى حدوث حال كذا أو وقت كذا ، إلى آخره » ).

( أقول ) : وخلاصة ما ذكره المصنّف هنا في شرح هذا الكلام هو إعتراض على المحقق الخوانساري في تمسكه بقاعدة الاشتغال أو البرائة في إثبات إعتبار الاستصحاب ، فان ( بقاء الحكم إلى زمان كذا ) أو إلى حدوث حال كذا ( يتصوّر على وجهين ) بالنحو التالي :

الوجه ( الأوّل : أن يلاحظ الفعل إلى زمان كذا موضوعا واحدا تعلّق به الحكم الواحد ) فالموضوع واحد والحكم واحد ويسمّى بالكل المجموعي ( كأن يلاحظ الجلوس في المسجد إلى وقت الزوال فعلاً واحدا تعلّق به أحد الأحكام الخمسة ) من الوجوب فيما إذا كان بقائه واجبا في المسجد ، أو الحرمة فيما إذا كان جُنُبا ، إلى غير ذلك .

( ومن أمثلته ) أي : أمثلة الموضوع الواحد والحكم الواحد ( الامساك ) في الصوم ( المستمرّ إلى الليل ، حيث انّه ملحوظ فعلاً واحدا تعلّق به الوجوب ، أو الندب ، أو غيرهما من أحكام الصوم ) فان الصوم قد يكون حراما كما هو واضح ، أو مكروها بمعنى : قلّة الثواب أو الحزازة ، كما قاله الآخوند ، إلى غير ذلك .

ص: 253

الثاني : أن يلاحظ الفعل في كلّ جزء يسعه من الزمان المغيّى موضوعا مستقلاً تعلّق به حكمٌ فيحدث في المقام أحكام متعدّدة لموضوعات متعدّدة ، ومن أمثلته : وجوبُ الصوم عند رؤية هلال رمضان إلى أن يرى هلال شوال ، فانّ صوم كل يوم إلى إنقضاء الشهر فعل مستقلّ تعلّق به حكم مستقلّ .

أمّا الأوّل ، فالحكم التكليفي : إمّا أمر ، وإمّا نهي وإمّا تخيير :

فان كان أمرا ، كان اللازم عند الشك في وجود الغاية ما ذكره :

-------------------

الوجه ( الثاني : أن يلاحظ الفعل في كلّ جزء يسعه ) أي : يسع ذلك الفعل ( من الزمان المغيّى موضوعا مستقلاً تعلّق به حكم ) ولا يعني بذلك كل جزء جزء، وإنّما الأجزاء التي إعتبرها الشارع أجزاء ( فيحدث في المقام أحكام متعدّدة لموضوعات متعدّدة ) ويسمى بالكل الافرادي .

( ومن أمثلته : وجوبُ الصوم عند رؤية هلال رمضان إلى أن يرى هلال شوال ) ويُرى بصيغة المجهول ( فانّ صوم كل يوم إلى إنقضاء الشهر فعل مستقلّ تعلّق به حكم مستقلّ ) فهنا موضوعات متعدّدة لأحكام متعدّدة .

( أمّا الأوّل ) : وهو ان يلاحظ الفعل إلى زمان كذا أو حال كذا موضوعا واحدا تعلق به حكم واحد ( فالحكم التكليفي : إمّا أمر ، وإمّا نهي وإمّا تخيير ) فالأمر : هو الذي يمنع من النقيض ، والنهي : هو الذي يمنع من النقيض أيضا ، والتخيير : إنّما يكون بين الفعل والترك بلا إلزام في أحد الجانبين ، فيشمل التخيير الأحكام الثلاثة التي لا تقتضي إلزاما ، سواء كان في أحد الجانبين ترجيح كالاستحباب والكراهة ، أم لم يكن كالاباحة .

وعليه : ( فان كان أمرا ، كان اللازم عند الشك في وجود الغاية ما ذكره :

ص: 254

من وجوب الاتيان بالفعل تحصيلاً لليقين بالبرائة من التكليف المعلوم ، لكن يجب تقييده بما إذا لم يعارضه تكليف آخر محدود بما بعد الغاية ، كما إذا وجب الجلوس في المسجد إلى الزوال ووجب الخروج منه من الزوال إلى الغروب ، فانّ وجوب الاحتياط للتكليف بالجلوس عند الشك في الزوال معارض بوجوب الاحتياط للتكليف بالخروج بعد الزوال .

فلابد من الرجوع في وجوب الجلوس - عند الشك في الزوال - إلى أصل آخر غير الاحتياط ، مثل : أصالة عدم الزوال أو عدم الخروج عن عهدة التكليف بالجلوس

-------------------

من وجوب الاتيان بالفعل تحصيلاً لليقين بالبرائة من التكليف المعلوم ) لأنه من الشك في المكلّف به بعد علمه بالتكليف ( لكن يجب تقييده بما إذا لم يعارضه تكليف آخر محدود بما بعد الغاية ) حتى يتعارض التكليفان : قبل الغاية وبعد الغاية .

أما مثاله فهو : ( كما إذا وجب الجلوس في المسجد إلى الزوال ووجب الخروج منه من الزوال إلى الغروب ، فانّ وجوب الاحتياط للتكليف بالجلوس عند الشك في الزوال معارض بوجوب الاحتياط للتكليف بالخروج بعد الزوال ) فلا مجال للاحتياط المستلزم للجلوس ، أو الاحتياط المستلزم لعدم الجلوس .

وعليه : فحيث يتعارض الاحتياطان ( فلابد من الرجوع في وجوب الجلوس - عند الشك في الزوال - إلى أصل آخر غير الاحتياط ، مثل : أصالة عدم الزوال ) وهو أصل موضوعي حيث انه إذا أجرينا أصالة عدم تحقق الزوال يتبعه وجوب الجلوس لتحقق الحكم بتحقق موضوعه .

( أو ) مثل أصالة : ( عدم الخروج عن عهدة التكليف بالجلوس ) وهو أصل

ص: 255

أو عدم حدوث التكليف بالخروج ، أو غير ذلك .

وإن كان نهيا ، كما إذا حرّم الامساك المحدود بالغاية المذكورة أو الجلوس المذكور ، فان قلنا بتحريم الاشتغال ، كما هو الظاهر ، كان المتيقّنُ التحريم قبل الشك في وجود الغاية .

وأمّا الحرمة بعده

-------------------

حكمي حيث انه كان مكلَّفا بالجلوس ، فإذا خرج قبل علمه باتيانه بالتكليف كاملاً، كان الأصل عدم خروجه عن عهدة التكليف .

( أو ) مثل أصالة : ( عدم حدوث التكليف بالخروج ، أو غير ذلك ) من سائر الاُصول الحكمية الاُخرى مثل أصالة : عدم إنقلاب التكليف وما أشبه .

( وإن كان نهيا ) أي : ان كان الحكم التكليفي المتعلق بالفعل المغيّى إلى زمان كذا أو حال كذا ، والذي فرضنا كونه موضوعا واحدا تعلق به حكم واحد نهيا ( كما إذا حرم الامساك المحدود بالغاية المذكورة ) أي : المستمر إلى الليل مثل : ما إذا كان الصوم حراما في يوم العيد .

( أو الجلوس المذكور ) بأن كان الجلوس في المسجد إلى الزوال حراما .

وعليه : ( فان قلنا بتحريم الاشتغال ) بالامساك أو الجلوس المحرّم ( كما هو الظاهر ) من النهي ، فانّه إذا قال المولى : لا تصم يوم الفطر ، كان معناه : ان إشتغالك بالصوم حرام ، فانه ليس المحقّق للحرام هو فقط الامساك التام من الفجر إلى الغروب بل الاشتغال بالامساك محقّق للحرام أيضا ، ففي هذه الصورة ( كان المتيقّنُ ) هو : ( التحريم قبل الشك في وجود الغاية ) للامساك أو الجلوس .

إذن : فالامساك - مثلاً - إنّما يحرم في هذه الصورة ما دام لم يشك في وجود الغاية وإنه هل صار المغرب أم لا ؟ ( وأمّا الحرمة بعده ) أي : حرمة الامساك

ص: 256

فلا يثبت بما ذكر في الأمر ، بل يحتاج إلى الاستصحاب المشهور ، وإلاّ فالأصل : الاباحة في صورة الشك ، وإن قلنا : إنّه لا يتحقق الحرام ، ولا إستحقاق العقاب إلاّ بعد تمام الامساك والجلوس المذكورين ، فيرجع إلى مقتضى أصالة عدم إستحقاق العقاب وعدم تحقق المعصية ، ولا دخل له

-------------------

- مثلاً - بعد حدوث الشك في وجود الغاية وانه هل صار المغرب أم لا ؟ ( فلا يثبت بما ذكر ) المحقق الخوانساري ( في الأمر ) من الاحتياط إعتمادا على دليل الحكم .

وإنّما لا يكون الحكم هنا كما ذكره من الحكم هناك في الأمر ، إذ لا دليل هنا على الحرمة ( بل يحتاج ) إثبات الحرمة بعد الشك ( إلى الاستصحاب المشهور ) وهو سحب الحالة السابقة إلى الحالة اللاحقة ( وإلاّ ) بأن لم يكن إستصحاب ( فالأصل : الاباحة في صورة الشك ) إذ لا دليل على الحرمة ، ولا إستصحاب حتى تثبت الحرمة .

هذا ( وإن قلنا : إنّه لا يتحقق الحرام ، ولا إستحقاق العقاب ) بصرف الاشتغال ( إلاّ بعد تمام الامساك والجلوس المذكورين ) إلى الغاية ، وهذا المعنى - كما هو المعلوم - ليس ظاهرا من النهي ، لكن قد يكون مورد قصد المولى ، كما لو أراد الظالم ان يأخذ مالاً من عبد المولى إذا كان العبد من الصباح إلى الليل في الدار ، فنهاه المولى عن الكون في الدار بين الحدين ، فان الحرام يتحقق بتمام الكون لا بالشروع في الكون .

وعليه : ففي هذا الفرض إذا شك في وجود الغاية ( فيرجع إلى مقتضى أصالة عدم إستحقاق العقاب وعدم تحقق المعصية ، ولا دخل له ) أي : لهذا الفرض

ص: 257

بما ذكره في الأمر .

وإن كان تخييرا ، فالأصل فيه وإن إقتضى عدم حدوث حكم ما بعد الغاية للفعل عند الشك فيها ، إلاّ أنّه قد يكون حكم ما بعد الغاية تكليفا منجّزا يجب فيه الاحتياط .

كما إذا أباح الأكل إلى طلوع الفجر ، مع تنجّز وجوب الامساك من طلوع الفجر إلى الغروب عليه ، فانّ الظاهر لزومُ الكفّ من الأكل عند الشك .

-------------------

( بما ذكره ) المحقق الخوانساري ( في الأمر ) من الاحتياط إعتمادا على دليل الحكم ، وذلك لأن هنا محل إستصحاب عدم الاستحقاق أيضا ، وهو الذي ذكره المشهور لا ما ذكره المحقق الخوانساري .

( وإن كان تخييرا ) بالمعنى الأعم الشامل للاباحة والكراهة والاستحباب ( فالأصل فيه وإن إقتضى عدم حدوث حكم ما بعد الغاية للفعل ) المخيّر فيه ( عند الشك فيها ) أي : في الغاية ( إلاّ أنّه قد يكون حكم ما بعد الغاية تكليفا منجّزا يجب فيه الاحتياط ) .

ففي هذه الصورة لا مجال للاستصحاب كما لا مجال للبرائة التي حكم بها المحقق الخوانساري هنا إعتمادا على دليل الحكم ، بل الحكم هنا هو وجوب الاحتياط .

أمّا مثاله فقد أشار إليه بقوله : ( كما إذا أباح الأكل إلى طلوع الفجر ، مع تنجّز وجوب الامساك من طلوع الفجر إلى الغروب عليه ) الجار والمجرور متعلق بتنجز ( فانّ الظاهر ) في مثل هذا المثال ( لزوم الكفّ من الأكل ) وسائر المفطرات ( عند الشك ) في انه هل طلع الفجر أم لا ؟ .

وإنّما يجب الاحتياط هنا لا إستصحاب جواز الأكل ونحوه ، لأنّ الاحتياط

ص: 258

هذا كلّه إذا لوحظ الفعل المحكوم عليه بالحكم الاقتضائي أو التخييري أمرا واحدا مستمرا .

وأمّا الثاني ، وهو ما لوحظ فيه الفعل اُمورا متعدّدة ، كل واحد منها متصف بذلك الحكم غير مربوط بالآخر . فان كان أمرا أو نهيا ، فأصالة الاباحة والبرائة قاضية بعدم الوجوب والحرمة في زمان الشك ،

-------------------

هو طريق العقلاء في أمثال هذه الاُمور ، كما سبق ذلك في مثال ما إذا لم يعلم هل ان ماله بلغ النصاب في الزكاة أم لا ؟ أو هل زاد ماله عن مؤنة السنة في الخمس أم لا ؟ أو هل انه إستطاع مالاً ، أو بدنا ، أو طريقا في الحج أم لا ؟ إلى غيرها من الأمثلة .

( هذا كلّه إذا لوحظ الفعل المحكوم عليه بالحكم الاقتضائي ) وهو الشامل للوجوب والتحريم ( أو التخييري ) وهو الشامل للأحكام الثلاثة الاُخر ( أمرا واحدا مستمرا ) وهو الكل المجموعي الذي ذكره المصنّف قبل قليل بقوله : الأوّل : أن يلاحظ الفعل إلى زمان كذا موضوعا واحدا تعلق به الحكم الواحد .

( وأمّا الثاني وهو ) الكل الافرادي الذي ذكره المصنّف بقوله : الثاني ان يلاحظ الفعل في كل جزء يسعه من الزمان المغيّى موضوعا مستقلاً ، يعني : ( ما لوحظ فيه الفعل اُمورا متعدّدة كل واحد منها متصف بذلك الحكم غير مربوط بالآخر ) أي : بأن كان هناك إطاعات ومعاصي متعدّدة ، كمن يصوم بعض أيام شهر رمضان ولا يصوم بعضها الآخر .

وعلى هذا الثاني : ( فان كان أمرا أو نهيا ) ممّا فيه الاقتضاء المانع من النقيض ( فأصالة الاباحة والبرائة قاضية بعدم الوجوب والحرمة في زمان الشك ) فاذا شك في ان هذا اليوم أيضا محكوم بالحكم الاقتضائي أم لا ، وجوبا أو تحريما ،

ص: 259

وكذلك أصالة الاباحة في الحكم التخييري إلاّ إذا كان الحكم فيما بعد الغاية تكليفا منجّزا يجب الاحتياط فيه .

فعلم ممّا ذكرنا : أنّ ما ذكره من الوجه الأوّل الراجع إلى وجوب تحصيل الامتثال لا يجري إلاّ في قليل من الصور المتصوّرة في المسألة .

ومع ذلك فلا يخفى : أنّ إثبات الحكم في زمان الشك ، بقاعدة الاحتياط

-------------------

فهو من الشك في التكليف ، والأصل البرائة في مثل هذا الشك .

( وكذلك ) حال ( أصالة الاباحة في الحكم التخييري ) فان الأصل بالنسبة إلى الفرد المشكوك في انه مستحب أو مكروه أو مباح هو : البرائة .

ثم ان الفرق بين البرائة والاباحة هو : ان الاباحة حكم واقعي بالتخيير ، امّا البرائة فهو حكم ظاهري به .

( إلاّ إذا كان الحكم فيما ) أي : في الحكم التخييري المباح ( بعد الغاية تكليفا منجّزا ، يجب الاحتياط فيه ) مثل : كون الصيام في أيام ذي الحجة مستحبا إلى اليوم الأضحى ، حيث يحرم الصوم فيه ، فإذا شك في صيرورته يوم الأضحى أم لا ، فاللازم الاحتياط لما ذكرناه : من انه طريق الطاعة .

إذن : ( فعلم ممّا ذكرنا : أنّ ما ذكره ) المحقق الخوانساري : ( من الوجه الأوّل الراجع إلى وجوب تحصيل الامتثال ) قد ورد عليه ما يلي :

أولاً : انه ( لا يجري إلاّ في قليل من الصور المتصوّرة في المسألة ) على ما عرفت .

ثانيا : ( ومع ذلك ) أي : مع ورود الايراد الأوّل عليه ، يرد عليه إيراد ثان وهو ما أشار إليه بقوله : ( فلا يخفى : أنّ إثبات الحكم في زمان الشك ، بقاعدة الاحتياط

ص: 260

كما في الاقتضائي، أو قاعدة الاباحة والبرائة كما في الحكم التخييري ، ليس قولاً بالاستصحاب المختلف فيه أصلاً ، لأنّ مرجعه إلى أنّ إثبات الحكم في الزمان الثاني يحتاج إلى دليل يدلّ عليه ولو كان أصالة الاحتياط أو البرائة ، وهذا عينُ إنكار الاستصحاب ، لأنّ المنكر يرجع إلى اُصول اُخر .

فلا حاجة إلى تطويل الكلام وتغييراُسلوب كلام المنكرين فيهذا المقام.

-------------------

كما في الاقتضائي، أو قاعدة الاباحة والبرائة كما في الحكم التخييري ، ليس قولاً بالاستصحاب المختلف فيه أصلاً ، لأنّ مرجعه ) أي : ان مرجع إثبات الحكم في زمان الشك بقاعدة الاحتياط في الاقتضائي ، والبرائة في التخييري إنّما هو ( إلى أنّ إثبات الحكم في الزمان الثاني يحتاج إلى دليل يدلّ عليه ) أي : يدل على الاثبات .

وإنّما كان هذا مرجعه ، لأن إثبات الحكم بقاعدة الاحتياط صغرى جزئية ، والصغرى الجزئية يلزم ان تكون داخلة تحت كبرى كلية ، والكبرى الكلية في هذا المقام هو : ما ذكره بقوله : يحتاج إلى دليل يدل عليه .

وعليه : فاثبات الحكم يحتاج إلى دليل يدل عليه ( ولو كان ) ذلك الدليل ( أصالة الاحتياط ) كما في الاقتضائي ( أو البرائة ) كما في اللااقتضائي ( وهذا عينُ إنكار الاستصحاب ، لأنّ المنكر يرجع إلى اُصول اُخر ) غير الاستصحاب ، وأنتم أيضا رجعتم إلى اُصول اُخر غير الاستصحاب من الاحتياط والبرائة .

إذن : ( فلا حاجة إلى تطويل الكلام ) في الاستصحاب ( وتغيير اُسلوب كلام المنكرين في هذا المقام ) .

والحاصل : انه كان من اللازم على المحقق الخوانساري ان ينكر الاستصحاب رأسا لا ان يقول : اني قائل بالاستصحاب بمعنى آخر ، الذي هو خلاف

ص: 261

بقي الكلام :

في توجيه ما ذكره من أنّ الأمر في الحكم التخييري أظهر ، ولعلّ الوجه فيه : أنّ الحكم بالتخيير في زمان الشك في وجود الغاية مطابق لأصالة الاباحة الثابتة بالعقل والنقل .

كما أنّ الحكم بالبقاء في الحكم الاقتضائي ، كان مطابقا لأصالة الاحتياط الثابتة في المقام بالعقل والنقل .

-------------------

المعنى المشهور .

( بقي الكلام في توجيه ما ذكره ) المحقق الخوانساري : ( من أنّ الأمر في الحكم التخييري أظهر ) من الحكم الاقتضائي .

أقول : ( ولعلّ الوجه فيه ) أي : في أظهريته : ( أنّ الحكم بالتخيير في زمان الشك في وجود الغاية ) أي : فيما إذا شككنا بأن غاية التخيير تحققت أم لا ( مطابق لأصالة الاباحة الثابتة بالعقل والنقل ) فانا إذا شككنا ان التخيير إرتفع أم لا ، كان العقل والنقل متطابقين على وجوب التخيير ، حيث لا علم بحكم إقتضائي .

( كما أنّ الحكم بالبقاء ) أي : ببقاء الوجوب أو الحرمة ( في الحكم الاقتضائي ، كان مطابقا لأصالة الاحتياط الثابتة في المقام بالعقل والنقل ) أيضا .

قال في الأوثق : ان غاية ما ذكره المصنّف هو : إثبات التسوية لا الأظهرية ، اللّهم إلاّ ان يقال : ان القول بأصالة البرائة عند الشك في وجود الغاية ، أو مصداقها الخارجي ، المندرجين في الشبهات الموضوعية فيما كان الشك فيه في المكلّف به غير الالزامي ، أظهر من القول بوجوب الاحتياط فيهما فيما كان الشك فيه في المكلّف به الالزامي ، وذلك لمخالفة جماعة من الاُصوليين في الثاني ، بخلاف

ص: 262

وقد وجّه المحقق القمّي قدس سره إلحاق الحكم التخييري بالاقتضائي بأنّ مقتضى التخيير إلى غاية وجوب الاعتقاد بثبوته في كلّ جزء ممّا قبل الغاية ، ولا يحصل اليقين بالبرائة من التكليف

-------------------

الأوّل لعدم الخلاف فيه حتى من الاخباريين (1) .

ثم انه إنّما كان الاحتياط في الحكم الاقتضائي مطابقا للعقل والنقل ، لأن اللازم العمل حسب الاقتضاء الوجوبي أو التحريمي من باب المقدمة العلمية ، والمقدمة العلمية ممّا تظافر العقل والنقل على وجوبها .

هذا ( وقد وجّه المحقق القمّي قدس سره ) عبارة المحقق الخوانساري قدس سره : «ان الأمر في الحكم التخييري أظهر» بما لا يخلو من تكلّف ، وذلك لأن كلمة : « أظهر » ، في نسخة المحقق القمي كانت مصحّفة بكلمة : « كذلك » ، فتصوّر القمي بسببها ان مراد الخوانساري هو : انه كما يجب الاحتياط في الحكم الالزامي كذلك يجب الاحتياط في الحكم التخييري ، وحيث انه لا يجب الاحتياط في الحكم التخييري إضطر المحقق القمي إلى تفسير وجوب الاحتياط بوجوب الاعتقاد بالحكم التخييري .

وكيف كان : فالمحقق القمي وجّه عبارة المحقق الخوانساري بقوله ما يلي :

ان ( إلحاق ) المحقق الخوانساري ( الحكم التخييري بالاقتضائي ) حيث قال : «ان الأمر في الحكم التخييري كذلك» وجّهه ( بأنّ مقتضى التخيير إلى غاية ) معيّنة هو : ( وجوب الاعتقاد بثبوته ) أي : ثبوت التخيير من باب الايمان بما جاء به الشارع ( في كلّ جزء ممّا قبل الغاية ، ولا يحصل اليقين بالبرائة من التكليف

ص: 263


1- - أوثق الوسائل : ص487 توجيه كلام المحقق الخوانساري .

باعتقاد التخيير عند الشك في حدوث الغاية ، إلاّ بالحكم بالاباحة وإعتقادها في هذا الزمان أيضا .

وفيه : أنّه إن اُريد وجوب الاعتقاد بكون الحكم المذكور ثابتا إلى الغاية المعيّنة ، فهذا الاعتقاد موجود ولو بعد القطع بتحقق الغاية فضلاً عن صورة الشك فيه ، فانّ هذا إعتقادٌ بالحكم الشرعي الكلّي ، ووجوبه غير مغيّى بغاية ، فانّ الغاية غاية للمعتَقَد لا لوجوب الاعتقاد .

-------------------

باعتقاد التخيير ) وقوله : « باعتقاد » متعلق بالتكليف ( عند الشك في حدوث الغاية ، إلاّ بالحكم بالاباحة وإعتقادها ) أي إعتقاد الاباحة ( في هذا الزمان أيضا ) كالزمان السابق .

وعليه : فيكون حاصل توجيه المحقق القمي لكلام المحقق الخوانساري هو : انه كما يلزم الاحتياط في الزمان الثاني في الأحكام الاقتضائية ، كذلك يلزم الاحتياط بوجوب الاعتقاد بالتخيير في الزمان الثاني في الأحكام التخييرية .

( وفيه : أنّه ان اُريد وجوب الاعتقاد ) بأن يعتقد بالحكم الكلي ، فاللازم على المكلّف الاعتقاد ( بكون الحكم المذكور ثابتا إلى الغاية المعيّنة ) فان كان المراد من وجوب الاعتقاد هذا المعنى ( فهذا الاعتقاد موجود ) ولازم ( ولو بعد القطع بتحقق الغاية فضلاً عن صورة الشك فيه ) أي : في تحقق الغاية ، فانه يلزم الاعتقاد بصحة أحكام اللّه تعالى قبل فعلية الحكم ، ومع فعلية الحكم ، وبعد فعلية الحكم ، فلا خصوصية لحالة الشك كما قال :

( فانّ هذا إعتقادٌ بالحكم الشرعي الكلّي ، ووجوبه ) أي : وجوب هذا الاعتقاد ( غير مغيّى بغاية ، فانّ الغاية غاية للمعتَقَد لا لوجوب الاعتقاد ) والمعتَقَد هو : التخيير ، فان التخيير يدوم إلى الغاية ، وأمّا الاعتقاد بالحكم الكلي الالهي فواجب

ص: 264

وإن اُريد وجوب الاعتقاد بذلك الحكم التخييري في كلّ جزء من الزمان الذي يكون في الواقع ممّا قبل الغاية وإن لم يكن معلوما عندنا ، ففيه : أنّ وجوب الاعتقاد في هذا الجزء المشكوك بكون الحكم فيه هو الحكم الأولي

-------------------

قبل الشك ، ومع الشك ، وبعد الشك .

( وإن اُريد وجوب الاعتقاد بذلك الحكم التخييري في كلّ جزء من الزمان الذي يكون في الواقع ممّا قبل الغاية ) بأن يجب الاعتقاد بالحكم التخييري في كل جزء جزء من زمان التخيير حتى ( وإن لم يكن معلوما عندنا ) ذلك الجزء الواقعي ، لعدم علمنا بانه متى تتحقق الغاية - مثلاً - .

هذا ، ولا يخفى الفرق بين المعنيين ، فان الفرق بين قوله الأوّل : ان اُريد وجوب الاعتقاد بكون الحكم المذكور ، وقوله الثاني : وان اُريد وجوب الاعتقاد بذلك الحكم التخييري ، هو : ان الأوّل : عبارة عن الاعتقاد باستمرار التخيير إلى الغاية ، والثاني : عبارة عن الاعتقاد بالتخيير في كل جزء جزء ، فمثلهما مثل : الصوم بين الحدين ، والصوم في كل جزء جزء .

والحاصل : إنّ اللازم من وجوب الاعتقاد على المعنى الثاني هو : الاعتقاد بالتخيير في زمان الشك ، فاذا جاء زمان الشك : بان مضى من ليل شهر رمضان خمس ساعات - مثلاً - فشك في انه هل طلع الفجر أم لا ؟ فيكون شاكا في انه هل هو مخيّر في ان يأكل ويشرب أم ليس بمخيّر لاحتمال طلوع الفجر ؟ فاللازم على المكلّف ان يعتقد بأن الشارع خيّره بين الأكل وعدم الأكل في هذا الزمان الذي هو زمان الشك .

وعليه : فان كان المراد من وجوب الاعتقاد المعنى الثاني ( ففيه : أن وجوب الاعتقاد في هذا الجزء المشكوك بكون الحكم فيه هو الحكم الأولي

ص: 265

أو غيره ، ممنوع جدّا .

بل الكلام في جوازه ، لأنّه معارضٌ بوجوب الاعتقاد بالحكم الآخر ، الذي ثبت فيما بعد الغاية واقعا وإن لم يكن معلوما ، بل لا يعقل وجوبُ الاعتقاد مع الشك في الموضوع ، كما لا يخفى .

ولعلّ هذا الموجّه قدس سره ، قد وجد عبارة شرح الدروس في نسخته ، كما وجدته في بعض نسخ شرح الوافية ، وأمّا على الثاني : فالأمر كذلك ،

-------------------

أو غيره ، ممنوع جدّا ) أي : ممنوع أن يقال : انه يجب ان يعتقد بالتخيير بعد ما مضى من الليل خمس ساعات ، والحال انه لا يعلم هل بقي الليل أو صار الفجر ؟.

( بل الكلام في جوازه ) فان المحقق القمي يقول : بوجوب الاعتقاد ، ونحن نقول : بل الكلام في انه هل يجوز هذا الاعتقاد أم لا ؟ .

وإنّما يكون الكلام في جوازه ( لأنّه معارضٌ بوجوب الاعتقاد بالحكم الآخر ، الذي ثبت فيما بعد الغاية واقعا ) فانه بعد تحقق الغاية لا تخيير ، بل يجب عليه الامساك ( وإن لم يكن ) حصول الغاية ( معلوما ) عنده لفرض انه شاك في انه هل حصلت الغاية أم لا ؟ .

هذا ( بل لا يعقل وجوبُ الاعتقاد ) الذي ذكره المحقق القمي ( مع الشك في الموضوع ) وانه هل تحققت الغاية أم لا ؟ ( كما لا يخفى ) وذلك لأن المحمول تابع للموضوع ، فإذا لم يحرز الموضوع لا يعقل الحمل عليه والاعتقاد به .

( ولعلّ هذا الموجّه ) وهو المحقق القمي ( قدس سره ، قد وجد عبارة شرح الدروس في نسخته ، كما وجدته في بعض نسخ شرح الوافية ) مصحّفا بالعبارة التالية : ( وأمّا على الثاني : فالأمر كذلك ) وهذا التصحيف في عبارة : «كذلك» سبّب

ص: 266

كما لا يخفى ، لكنّي راجعت في بعض نسخ شرح الدروس فوجدت لفظ : « أظهر » بدل « كذلك » وحينئذ فظاهرُه : مقابلة وجه الحكم بالبقاء في التخيير ، بوجه الحكم بالبقاء في الاقتضاء فلا وجه لارجاع أحدهما بالآخر .

والعجب من بعض المعاصرين ، حيث أخذ التوجيه المذكور عن القوانين ، ونسبه إلى المحقق الخوانساري ،

-------------------

هذا التوجيه من المحقق القمي ( كما لا يخفى ) .

أقول : ( لكنّي راجعت في بعض نسخ شرح الدروس فوجدت لفظ : « أظهر » بدل ) لفظ : ( « كذلك » ) المصحَّف .

( وحينئذ ) أي : حين كان الصحيح من لفظ الخوانساري هو كلمة : « اظهر » ، لا كلمة : « كذلك » ( فظاهرُه : مقابلة وجه الحكم بالبقاء في التخيير ، بوجه الحكم بالبقاء في الاقتضاء ) فيكون معنى عبارة الخوانساري : ان الحكم الاقتضائي يبقى ، كما يبقى الحكم التخييري ، بل بقاء التخييري في مورد التخيير أظهر من بقاء الاقتضائي في مورد الاقتضائي ، وقد عرفت وجه الأظهرية في كلام الأوثق .

وعليه : ( فلا وجه لارجاع أحدهما ) وهو الحكم في التخييري ( بالآخر ) أي : بالحكم في الاقتضائي وإيجاب الاحتياط فيهما معا ، كما فعله المحقق القمي حيث إضطر لأجله إلى ذلك التوجيه المزبور .

هذا ( والعجب من بعض المعاصرين ) وهو صاحب الفصول ( حيث أخذ التوجيه المذكور عن القوانين ، ونسبه إلى المحقق الخوانساري ) مع ان التوجيه كما عرفت إنّما هو للقوانين موجّها به كلام المحقق الخوانساري وليس للخوانساري نفسه .

وعليه : فان صاحب الفصول نسب التوجيه المذكور للقوانين إلى المحقق

ص: 267

فقال : « حجّةُ المحقق الخوانساري أمران : الأخبار ، وأصالة الاشتغال » ، ثم أخذ في إجراء أصالة الاشتغال في الحكم التخييري بما وجّهه في القوانين ، ثم أخذ في الطعن عليه وأنت خبيرٌ بأنّ الطعن في التوجيه ، لا في حجة المحقق. بل لا طعن في التوجيه أيضا ، لأنّ غلط النسخة ألجأه إليه .

هذا ، وقد أورد عليه السيد الشارح بجريان ما ذكره من قاعدة وجوب تحصيل الامتثال في إستصحاب القوم

-------------------

الخوانساري ثم علّق عليه ( فقال : « حجّةُ المحقق الخوانساري ) في إلحاق الحكم التخييري بالاقتضائي ، ( أمران : الأخبار ، وأصالة الاشتغال » ، ثم أخذ ) صاحب الفصول ( في إجراء أصالة الاشتغال في الحكم التخييري ) وانه كيف يمكن القول بأصل الاشتغال مع كون الحكم تخييريا ؟ فوجّه ذلك ( بما وجّهه في القوانين ) بأن مقتضى التخيير إلى غاية : وجوب الاعتقاد بثبوته في كل جزء ممّا قبل الغاية ( ثم أخذ ) صاحب الفصول ( في الطعن عليه ) أي : على ما إحتج به المحقق الخوانساري .

ثم قال المصنّف بعد ذلك : ( وأنت خبيرٌ بأنّ الطعن ) إنّما هو ( في التوجيه ) الذي ذكره المحقق القمي ( لا في حجة المحقق ) الخوانساري الذي إحتج به ( بل لا طعن في التوجيه أيضا ، لأنّ غلط النسخة ألجأه ) أي : ألجأ المحقق القمي ( إليه ) أي : إلى ذلك التوجيه .

( هذا ، وقد أورد عليه ) أي : على المحقق الخوانساري ( السيد الشارح ) للوافية ، وهو السيد الصدر ( بجريان ما ذكره ) المحقق الخوانساري : ( من قاعدة وجوب تحصيل الامتثال ) لقاعدة الاشتغال ( في إستصحاب القوم ) القائلين بالاستصحاب عند الشك في المقتضي أيضا ومعه كيف ينكر المحقق

ص: 268

قال : « بيانُه : أنّا كما نجزم في الصورة التي فرضها بتحقق الحكم في قطعة من الزمان .

ونشك أيضا حين القطع في تحققه في زمان يكون حدوث الغاية فيه وعدمه متساويين عندنا ، فكذلك نجزم بتحقق الحكم في زمان لا يمكن تحققه إلاّ فيه ، ونشك حين القطع في تحققه في زمان متصل بذلك الزمان لاحتمال وجود رافع لجزء من أجزاء علّة الوجود ،

-------------------

الخوانساري إستصحاب القوم ؟ .

( قال ) السيد الصدر : ( « بيانه : أنّا كما نجزم في الصورة التي فرضها ) المحقق الخوانساري من الشك في الرافع ( بتحقق الحكم ) من الدليل ( في قطعة من الزمان ، ونشك أيضا حين القطع في تحققه ) أي : نشك في تحقق ذلك الحكم السابق ( في زمان يكون حدوث الغاية فيه وعدمه متساويين عندنا ) لاحتمال ان يراد من الدليل : وجود الحكم في زمان الشك ، وان يراد عدم وجوده ، فكذلك نجزم في صورة الشك في المقتضي .

وعليه : فانا كما نجزم بتحقق الحكم في الزمان الثاني إذا كان الشك في الرافع ( فكذلك نجزم بتحقق الحكم في زمان لا يمكن تحققه إلاّ فيه ، ونشك حين القطع في تحققه ) أي : يُشك في تحقق ذلك الحكم السابق ( في زمان متصل بذلك الزمان ) لأنه من الشك في المقتضي ( لاحتمال وجود رافع لجزء من أجزاء علّة الوجود ) بمعنى : ان المقتضي كان خاصا ، لا ان له إمتدادا .

والحاصل : ان الشك في المقتضي الذي ذكر القوم انه مجرى الاستصحاب ، هو مثل الشك في الرافع الذي ذكر المحقق الخوانساري انه مجرى الاستصحاب ، فلماذا يجري المحقق الخوانساري الاستصحاب في الشك في الرافع دون

ص: 269

وكما أنّ في الصورة الاُولى يكون الدليلُ محتملاً لأن يراد منه وجود الحكم في زمان الشك ، وأن يراد عدم وجوده ، فكذلك الدليل في الصورة التي فرضناها ، وحينئذٍ فنقول : لو لم يمتثل المكلّف لم يحصل الظنّ بالامتثال ، إلى آخر ما ذكره » ، انتهى .

أقول : وهذا الايراد ساقط عن المحقق ، لعدم جريان قاعدة الاشتغال في غير الصورة التي فرضها المحقق .

-------------------

الشك في المقتضي ؟ .

( وكما أنّ في الصورة الاُولى ) وهي صورة الشك في الرافع ( يكون الدليل محتملاً، لأن يراد منه وجود الحكم في زمان الشك ، وأن يراد عدم وجوده ، فكذلك الدليل في الصورة التي فرضناها ) وهي الصورة الثانية : صورة الشك في المقتضي ، أشار إليها قبل قليل بقوله : فكذلك نجزم بتحقق الحكم في زمان لا يمكن تحققه إلاّ فيه .

( وحينئذٍ ) أي : حين كانت الصورة الثانية مثل الصورة الاُولى في جريان الاستصحاب ( فنقول : لو لم يمتثل المكلّف ) في الزمان الثاني ، وذلك لامتداد الحكم السابق إلى زمان الشك ( لم يحصل الظنّ بالامتثال ، إلى آخر ما ذكره » (1) ) السيد الصدر هناك ( انتهى ) ما أردنا من نقل كلام السيد الصدر هنا .

( أقول : وهذا الايراد ) من السيد الصدر ( ساقط عن المحقق ) الخوانساري ، وذلك ( لعدم جريان قاعدة الاشتغال في غير الصورة التي فرضها المحقق ) الخوانساري ، فان في غير تلك الصورة وهي صورة الشك في المقتضي تجري البرائة لا الاشتغال .

ص: 270


1- - شرح الوافية : مخطوط .

مثلاً : إذا ثبت وجوب الصوم في الجملة وشككنا في أنّ غايته سقوط القرص ، أو ميلُ الحمرة المشرقيّة ؟ فاللازم حينئذ ، على ما صرّح به المحقق المذكور في عدّة مواضع من كلماته : الرجوعُ في نفي الزائد - وهو وجوب الامساك بعد سقوط القرص - إلى أصالة البرائة لعدم ثبوت التكليف بامساك أزيد من المقدار المعلوم ، فيرجع إلى مسألة الشك في الجزئيّة .

فلا يمكن أن يقال : إنّه لو لم يمتثل التكليف لم يحصل الظنّ بالامتثال ، لأنّه إن اُريد : إمتثال التكليف المعلوم ، فقد حصل قطعا ، وإن اُريد :

-------------------

( مثلاً : إذا ثبت وجوب الصوم في الجملة وشككنا في أنّ غايته سقوط القرص ، أو ميلُ الحمرة المشرقية ؟ فاللازم حينئذ ) أي : حين كون الشك في ان الغاية هذا أو ذاك ( على ما صرّح به المحقق المذكور في عدّة مواضع من كلماته : الرجوعُ في نفي الزائد - وهو وجوب الامساك بعد سقوط القرص - إلى أصالة البرائة ) لا الاشتغال .

وإنّما يرجع فيه إلى البرائة ( لعدم ثبوت التكليف بامساك أزيد من المقدار المعلوم ) والمقدار المعلوم هنا هو : من الفجر إلى سقوط القرص ( فيرجع إلى مسألة الشك في الجزئيّة ) حيث لا نعلم هل ان هذا المقدار من الزمان المتوسط بين سقوط القرص إلى ميل الحمرة جزء الصوم أم لا ؟ فيجري فيه البرائة .

وعليه : ( فلا يمكن أن يقال : إنّه لو لم يمتثل التكليف ) في هذا المقدار من الزمان المتوسط بين سقوط القرص إلى ميل الحمرة ( لم يحصل الظنّ بالامتثال ) .

وإنّما لا يمكن ان يقال ذلك ( لأنّه إن اُريد : إمتثال التكليف المعلوم ، فقد حصل قطعا ) لأن علمه لم يكن أكثر ممّا بين الفجر وسقوط القرص ( وإن اُريد :

ص: 271

إمتثال التكليف المحتمل ، فتحصيله غير لازم .

وهذا بخلاف فرض المحقق ، فان التكليف بالامساك إلى السقوط على القول به ، أو ميل الحمرة على القول الآخر ، معلوم مبيّن ، وإنّما الشك في الاتيان به عند الشك في حدوث الغاية ، فالفرق بين مورد إستصحابه ومورد إستصحاب القوم كالفرق بين الشك في إتيان الجزء المعلوم الجزئية والشك في جزئية شيء ، وقد تقرّر في محلّه : جريان أصالة الاحتياط في الأوّل دون الثاني

-------------------

إمتثال التكليف المحتمل ، فتحصيله غير لازم ) لأنه من الشك في التكليف ، والشك في التكليف مجرى البرائة .

ثم قال المصنِّف : ( وهذا بخلاف فرض المحقق ) الخوانساري من الشك في الرافع ( فان التكليف بالامساك إلى السقوط على القول به ، أو ميل الحمرة على القول الآخر ، معلوم مبيّن ، وإنّما الشك في الاتيان به عند الشك في حدوث الغاية ) فانا نعلم ان الواجب في مذهب الشيعة الصيام إلى ميل الحمرة ، لكنه يشك هل مالت الحمرة أم لا ؟ فاللازم ان يقال : بالاشتغال حتى يعلم ميل الحمرة .

إذن ( فالفرق بين مورد إستصحابه ) أي : إستصحاب المحقق الخوانساري وهو الشك في الرافع ( ومورد إستصحاب القوم ) الذي يشمل الشك في المقتضي أيضا ( كالفرق بين الشك في إتيان الجزء المعلوم الجزئية ) حيث انه من الشك في المكلّف به ، فيلزم الاتيان به ( والشك في جزئية شيء ) لم يعلم هل انه جزء أم لا ؟ حيث تجرى فيه البرائة .

( وقد تقرّر في محلّه : جريان أصالة الاحتياط في الأوّل ) لما عرفت : من انه من الشك في المكلّف به بعد العلم بالتكليف ( دون الثاني ) لأنه من الشك

ص: 272

وقس على ذلك سائر موارد إستصحاب القوم ، كما لو ثبت أنّ للحكم غاية وشككنا في كون شيء آخر أيضا غاية له ، فانّ المرجع في الشك في ثبوت الحكم بعد تحقق ما شك في كونه غاية عند المحقق الخوانساري قدس سره هي : أصالة البرائة دون الاحتياط .

قوله : « الظاهر من عدم نقض اليقين بالشك : أنّه عند التعارض لا ينقض ، ومعنى التعارض : أن يكون شيء يوجب اليقين لولا الشك » .

أقول :

-------------------

في التكليف .

( وقس على ذلك سائر موارد إستصحاب القوم ) كالشك في غائية الرافع المستقل ، وغيره ممّا يثبت القوم الاستصحاب فيه ، والمحقق ينكره .

أمّا مثاله فهو : ( كما لو ثبت أنّ للحكم غاية وشككنا في كون شيء آخر أيضا غاية له ) أم لا ؟ كما إذا علمنا بان خروج البول غاية للطهارة ، وشككنا بان خروج المذي غاية أم لا ( فانّ المرجع في الشك في ثبوت الحكم بعد تحقق ما شك في كونه غاية عند المحقق الخوانساري قدس سره هي : أصالة البرائة ) لأنه من الشك في المقتضي ( دون الاحتياط ) لعدم العلم الاجمالي .

ومن مواقع التأمل في كلامه ( قوله ) في دليله الثاني على حجية الاستصحاب بالمعنى الآخر : ( « الظاهر من عدم نقض اليقين بالشك : أنّه عند التعارض لا ينقض ، ومعنى التعارض : أن يكون شيء يوجب اليقين لولا الشك » ) أي : بان يكون دليل يوجب اليقين ، فإذا أراد الشك إزالة حكم ذلك اليقين لا يزول حكمه ، بل يبقى مستمرا .

( أقول ) : قد عرفت إنّ القول الحادي عشر كما هو ظاهر كلام المحقق

ص: 273

ظاهر هذا الكلام جعلُ تعارض اليقين والشك ، باعتبار تعارض المقتضي لليقين ونفس الشك على أن يكون الشك مانعا عن اليقين ، فيكون من قبيل تعارض المقتضي للشيء والمانع عنه .

والظاهر أنّ المراد بالموجب في كلامه

-------------------

الخوانساري هو : التفصيل بين ما ثبت إستمراره بالدليل الشرعي وشك في وجود الغاية الرافعة لا رافعية الموجود ، أو شك في مصداق الغاية الرافعة لا مفهومها ، فالاستصحاب حجة فيهما ، وبين غيرهما : من الشك في المقتضي والشك في بقية أقسام الرافع فليس بحجة ، لكن عند التدقيق في كلامه يظهر : القول بتفصيل غير التفصيل المذكور ، لدخول بقية أقسام الشك في الرافع وبعض أقسام الشك في المقتضي في هذا التفصيل الجديد ، وقد أراد المصنِّف بهذا الكلام بيان الفرق بين رأي المحقق ورأيه وانه لا يصح رأي المحقق في حجية الاستصحاب بالنسبة إلى الشك في المقتضي أصلاً ، ولذا قال في آخر كلامه : وبين هذا المعنى وما ذكره المحقق تباين جزئي في ضمن العموم والخصوص المطلق ، كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى .

وعليه : فان ( ظاهر هذا الكلام ) من المحقق الخوانساري : ( جعلُ تعارض اليقين والشك ، باعتبار تعارض المقتضي لليقين ) وهو الدليل مثل صم إلى المغرب ( ونفس الشك ) وذلك بهذه الكيفية التي أشار إليها بقوله : ( على أن يكون الشك مانعا عن اليقين ، فيكون من قبيل تعارض المقتضي للشيء والمانع عنه ) فالدليل يقتضي اليقين ، والشك يمنع عنه .

( والظاهر ) أيضا ( أنّ المراد بالموجب في كلامه ) أي : كلام المحقق الخوانساري حيث قال : «ان يكون شيء يوجب اليقين لولا الشك» ان الموجب

ص: 274

دليل اليقين السابق وهو الدالّ على إستمرار حكم إلى غاية معيّنة .

وحينئذ : فيرد عليه مضافا إلى أنّ التعارض الذي إستظهره من لفظ النقض لابدّ أن يلاحظ بالنسبة إلى الناقض ونفس المنقوض ، لا مقتضيه الموجب له لولا الناقض - أنّ نقض اليقين بالشك بعد صرفه عن ظاهره ، وهو : نقض صفة اليقين

-------------------

هو : ( دليل اليقين السابق ) أي : السابق على الشك ( و ) ذلك الموجب لليقين ( هو الدالّ على إستمرار حكم إلى غاية معيّنة ) بحسبه .

( وحينئذ ) أي : حين جعل المحقق الخوانساري الشك في مقابل دليل اليقين ، لا في مقابل نفس اليقين ( فيرد عليه ) ما يلي :

أولاً : ( مضافا إلى أنّ التعارض الذي إستظهره من لفظ النقض لابدّ أن يلاحظ بالنسبة إلى الناقض ) وهو الشك ( ونفس المنقوض ) وهو اليقين ( لا ) بين الناقض وبين ( مقتضيه ) أي : مقتضي المنقوض ( الموجب له ) أي : الموجب للمنقوض الذي هو عبارة عن اليقين ( لولا الناقض ) وهذا إستثناء من الموجب .

هذا هو الاشكال الأوّل على المحقق الخوانساري وخلاصته : ان الشك إنّما هو في قبال نفس اليقين لا في قبال الموجب لليقين الذي هو الدليل .

ثانيا : ( أنّ نقض اليقين بالشك بعد صرفه عن ظاهره ) أي : عن ظاهر نقض اليقين ، فان في لا تنقض اليقين إحتمالات ثلاثة :

الأوّل : ان يراد به ظاهره ( وهو : نقض صفة اليقين ) وهذا لا يمكن ، لأن صفة اليقين بنفسها قد إرتفعت ، بسبب الشك ، فليس بيد الشاك نقضه حتى ينهى عنه .

الثاني : ان يراد به نقض أحكام اليقين التابعة لهذه الصفة النفسيّة ، كما قال :

ص: 275

أو أحكامها الثابتة لها من حيث هي صفة من الصفات لارتفاع اليقين ، وأحكامه الثابتة له من حيث هو ، حين الشك قطعا ظاهر في نقض أحكام اليقين ، يعني : الأحكام الثابتة باعتباره للمتيقن ، أعني : المستصحب ، فيلاحظ التعارض حينئذ بين المنقوض والناقض .

-------------------

( أو أحكامها الثابتة لها من حيث هي صفة من الصفات ) وذلك كما إذا نذر أن يعطي كل يوم درهما ، ما دام له صفة اليقين بحياة ولده ، فإذا شك في حياة ولده فقد إرتفعت صفة اليقين بنفسها بسبب الشك ، فيرتفع بتبعه وجوب إعطاء الدرهم ، وهذا أيضا لا يمكن ان يكون المراد من لا تنقض اليقين لأنه ليس بيد الشاك نقضه حتى ينهى عنه .

الثالث : ان يراد به نقض الحكم التابع لمتعلق اليقين ، كالحكم بجواز الدخول في الصلاة الذي هو حكم للطهارة التي هي متعلق اليقين وهذا لا ينتقض من نفسه بسبب الشك فيصُح النهي عن نقضه فيكون هو المستفاد من الرواية .

ثم إنّ المصنِّف علل لزوم صرف لا تنقض اليقين عن ظاهره إلى المعنى الثالث بقوله : ( لارتفاع اليقين ، و ) إرتفاع ( أحكامه الثابتة له من حيث هو ، حين الشك قطعا ) فلا يقين كما لا حكم بإعطاء الدرهم ، فلا يمكن ان ينهى الشارع عنه بقوله : لا تنقض .

وعليه : فإذا سقط الاحتمالان الأولان ، فنقض اليقين بالشك في الرواية ( ظاهر في نقض أحكام اليقين يعني : الأحكام الثابتة باعتباره للمتيقن ، أعني : المستصحب ) وهو المعنى الثالث الذي ذكرناه ( فيلاحظ التعارض حينئذ بين المنقوض ) وهو المتيقن كالطهارة بما لها من الأحكام الثابتة لها ( والناقض ) وهو الشك .

ص: 276

واللازم من ذلك إختصاص الأخبار بما يكون المتيقن وأحكامه ممّا يقتضي بنفسه الاستمرار لولا الرافع .

فلا ينقض تلك الأحكام بمجرّد الشك في الرافع سواء كان الشك في وجود الرافع أو في رافعية الموجود . وبين هذا وما ذكره المحقق تباينٌ جزئيٌّ .

-------------------

( و ) عليه : فيكون ( اللازم من ذلك ) الذي ذكرناه في صرف لا تنقض اليقين عن ظاهره إلى المعنى الثالث : ( إختصاص الأخبار ) الواردة في عدم جواز نقض اليقين بالشك ( بما يكون المتيقن وأحكامه ممّا يقتضي بنفسه الاستمرار لولا الرافع ) بمعنى ان يكون الشك في الرافع لا في المقتضي .

وعليه : فإذا شك في الرافع بعد العلم بأن المتيقن وأحكامه ممّا يقتضي البقاء ( فلا ينقض تلك الأحكام ) الثابتة للمتيقن كالطهارة - مثلاً - ( بمجرّد الشك في الرافع ) أي : الحدث فان الطهارة مقتضية للبقاء لولا الحدث ، وذلك ( سواء كان الشك في وجود الرافع ) بأن لم يعلم هل أحدث أم لا ؟ ( أو في رافعية الموجود ) بأن خرج منه ما لم يعلم انه بول أو مذي ؟ .

( و ) من المعلوم : ان ( بين هذا ) الذي ذكرناه ( وما ذكره المحقق ) الخوانساري في مورد الاستصحاب بالمعنى الآخر ( تباينٌ جزئيٌّ ) .

قال الفقيه الهمداني هنا : ان المحقق الخوانساري خصّص الحجية بالشك في وجود الرافع وعمّمها بالنسبة إلى بعض صور الشك في المقتضي ، وهو : ما إذا دل الدليل على إستمرار الحكم إلى غاية معيّنة في الواقع وشك في تحققها ، فانه ربما لا يكون الغاية من قبيل الرافع ، بل ينقضي عندها ما يقتضي الحكم كاستصحاب وجوب الصوم عند الشك في تحقق الغروب .

ص: 277

ثم إنّ تعارضَ المقتضي لليقين ونفس الشك ، لم يكد يتصوّر فيما نحن فيه ، لأنّ اليقين بالمستصحب ، كوجوب الامساك في الزمان السابق ، كان حاصلاً من اليقين بمقدّمتين صغرى وجدانيّة ، وهي : أنّ هذا الآن لم يدخل الليل ، وكبرى مستفادة من دليل إستمرار الحكم إلى غاية معيّنة ، وهي : وجوب الامساك قبل أن يدخل الليل .

-------------------

( ثم ) ان المصنِّف لمّا قال : ان نقض اليقين بالشك في الرواية ظاهر في ان الذي يعارضه الشك هو : أحكام اليقين الثابتة للمتيقن أعني : المستصحب باعتبار اليقين ، تعرض للاشكال على كلام المحقق المذكور الذي جعل التعارض بين الشك ودليل اليقين وقال : ان هذا خلاف الظاهر من الرواية بل ( إنّ تعارض المقتضي لليقين ) أي : دليل اليقين ( ونفس الشك ، لم يكد يتصوّر فيما نحن فيه ) الذي هو عبارة عن الشك في دخول الليل وعدمه .

وإنّما قال : لم يكد يتصور هنا ( لأنّ اليقين بالمستصحب كوجوب الامساك في الزمان السابق كان حاصلاً من اليقين بمقدّمتين ) :

المقدمة الاُولى : إنّ الليل لم يدخل .

المقدمة الثانية : انه يجب الامساك قبل دخول الليل .

أشار المصنِّف إلى المقدمة الاُولى بقوله : ( صغرى وجدانيّة ، وهي : أنّ هذا الآن لم يدخل الليل ) لوضوح : ان في الزمان الأوّل السابق على الشك لم يكن الليل داخلاً .

وأشار إلى المقدمة الثانية بقوله : ( وكبرى مستفادة من دليل إستمرار الحكم إلى غاية معيّنة ، وهي : وجوب الامساك قبل أن يدخل الليل ) حيث قال سبحانه :

ص: 278

والمراد بالشك زوال اليقين بالصغرى . وهو ليس من قبيل المانع عن اليقين والكبرى من قبيل المقتضي له حتى يكونا من قبيل المتعارضين ، بل نسبة اليقين إلى المقدّمتين على نهج سواء ، كلّ منهما من قبيل جزء المقتضي له .

والحاصل : أنّ ملاحظة النقض بالنسبة إلى الشك وأحكام المتيقن الثابتة لأجل اليقين

-------------------

« ثم أتمُّوا الصيام إلى الليل » (1) .

هذا ( و ) من المعلوم : ان ( المراد بالشك ) المنهي عن نقض اليقين به هو : ( زوال اليقين بالصغرى . وهو ) أي : زوال اليقين بالصغرى : ( ليس من قبيل المانع عن اليقين ) بالحكم في زمان الشك ( و ) كذا ليس ( الكبرى من قبيل المقتضي له ) أي : لليقين بالحكم ( حتى يكونا من قبيل المتعارضين ) على ما قاله المحقق الخوانساري .

وإنّما لم يكن كذلك ، لأن الامساك قبل دخول الليل لا يطارده الشك في انه هل دخل الليل أم لا ؟ فليس الشك المذكور من قبيل الرطوبة التي تطارد النار ، حيث تمنع من تأثير النار في الاحراق ( بل نسبة اليقين ) بالحكم في زمان الشك ( إلى المقدمتين ) : الصغرى والكبرى ( على نهج سواء ، كلّ منهما من قبيل جزء المقتضي له ) أي : لليقين .

( والحاصل : ) ان ما ذكره المحقق الخوانساري من التعارض بين الشك ومقتضي اليقين غير تام ، وذلك ( أنّ ملاحظة النقض بالنسبة إلى الشك وأحكام المتيقن الثابتة ) تلك الأحكام ( لأجل اليقين ) مثل : جواز الدخول في الصلاة

ص: 279


1- - سورة البقرة : الآية 187 .

أولى من ملاحظته بالنسبة إلى الشك ودليل اليقين .

وأمّا توجيه كلام المحقق ب « أن يراد من موجب اليقين : دليل المستصحب وهو عموم الحكم المغيّى ومن الشك : إحتمال الغاية التي من مخصصات العام .

فالمراد عدمُ نقض عموم دليل المستصحب بمجرّد الشك في المخصّص » ، مدفوعٌ : بأنّ نقض العام باحتمال التخصيص إنّما يتصور في الشك في أصل التخصيص ، ومعه

-------------------

يكون ( أولى من ملاحظته ) أي : ملاحظة النقض ( بالنسبة إلى الشك ودليل اليقين ) ولذا قال المصنِّف قبل أسطر : ان التعارض الذي إستظهره من لفظ النقض لابد ان يلاحظ بالنسبة إلى الناقض ونفس المنقوض لا مقتضيه .

( وأمّا توجيه كلام المحقق ) الخوانساري ، حيث جعل التعارض بين الشك ودليل اليقين ( ب «أن يراد من موجب اليقين: دليل المستصحب وهو عموم الحكم المغيّى ) مثل : « أتمُّوا الصيام إلى الليل » (1) ( و ) ان يراد ( من الشك : إحتمال الغاية التي من مخصصات العام) فان المغيّى يرتفع بالغاية، كما يرتفع العام بسبب المخصص .

وعليه : ( فالمراد ) أي : مراد المحقق المذكور هو : ( عدم نقض عموم دليل المستصحب بمجرّد الشك في المخصّص » ) أي : إذا شككنا في ان الغاية هل حصلت أم لا ، فلا نرفع اليد عن المغيّى ؟ .

إذن : فمن قال فهذا التوجيه قلنا له : انه ( مدفوعٌ : بأنّ نقض العام باحتمال التخصيص إنّما يتصور في الشك في أصل التخصيص ، ومعه ) أي : مع هذا

ص: 280


1- - سورة البقرة : الآية 187 .

يتمسّك بعموم الدليل لا بالاستصحاب وأمّا مع اليقين بالتخصيص والشك في تحقق المخصص المتيقن ، كما فيما نحن فيه فلا مقتضيَ للحكم العام حتى يتصوّر نقضه ، لأنّ العام المخصّص لا إقتضاء فيه لثبوت الحكم في مورد الشك في تحقق المخصص ، خصوصا في مثل التخصيص بالغاية .

والحاصل :

-------------------

الاحتمال ( يتمسّك بعموم الدليل لا بالاستصحاب ) وهذا ليس محل كلامنا .

( وأمّا مع اليقين بالتخصيص والشك في تحقق المخصص المتيقن ، كما فيما نحن فيه ) فانا نعلم بوجوب الصيام إلى الغاية ، وانه بعد الغاية لا صوم ، ولكن نشك في انه حصلت الغاية أم لا ؟ ( فلا مقتضيَ للحكم العام حتى يتصور نقضه ).

وإنّما لا مقتضي ( لأنّ العام المخصّص لا إقتضاء فيه لثبوت الحكم في مورد الشك في تحقق المخصص ، خصوصا في مثل التخصيص بالغاية ) حيث يرتفع الحكم عما بعد الغاية بالمرّة .

قال الأوثق : ان قلنا بكون العام في الشمول لأفراده من قبيل المقتضي ، والتخصيص من قبيل المانع ، فلا ريب ان التخصيص بالغاية ليس كذلك ، لما عرفت : من ان العموم بحسب الأحوال إنّما هو لأجل دليل الحكمة ، وهو إنّما يجري في موارده مع عدم بيان الشارع لمطلوبية الحكم في بعض الأحوال دون بعض ، فالتخصيص بالغاية من باب رفع المقتضي لا إثبات المانع (1) .

( والحاصل ) : انه إذا شك في انه هل هناك تخصيص أم لا ؟ فالعام يشمله ، والخاص لا يشمله ، فيحكم حسب العام امّا إذا علمنا بالعام ، وعلمنا بالخاص

ص: 281


1- - أوثق الوسائل : ص489 بيان معنى المقتضي والمانع .

أنّ المقتضي والمانع في باب العام والخاص هو لفظ العام والمخصّص، فإذا اُحرز المقتضي وشُك في وجود المخصّص يُحكم بعدمه عملاً بظاهر العام ، وإذا عُلِمَ بالتخصيص وخروج اللفظ عن ظاهر العموم ، ثم شك في صدق المخصّص على شيء ، فنسبةُ دليل العموم والتخصيص إليه على السواء من حيث الاقتضاء .

هذا كلّه ، مع أنّ ما ذكره في معنى النقض لا يستقيم في قوله عليه السلام في ذيل الصحيحة : « ولكن تنقُضه بيقين

-------------------

وشككنا في فرد انه من العام أو من الخاص ، فان نسبة كل من العام والخاص إلى ذلك الفرد على حد سواء .

وعليه : فلا يمكن ان يقال : يشمله العام ولا يشمله الخاص ، كما فعله المحقق الخوانساري حيث قال : ( أنّ المقتضي والمانع في باب العام والخاص هو لفظ العام و ) هو المقتضي ولفظ ( المخصّص ) وهو المانع ( فإذا اُحرز المقتضي وشك في وجود المخصّص يُحكم بعدمه ) أي : بعدم المخصص وذلك ( عملاً بظاهر العام ) ولا إستصحاب هنا .

( وإذا عُلِمَ بالتخصيص وخروج اللفظ عن ظاهر العموم ، ثم شك في صدق المخصّص على شيء ، فنسبةُ دليل العموم والتخصيص إليه ) أي : إلى ذلك الشيء ( على السواء من حيث الاقتضاء ) العام فلا إستصحاب أيضا .

( هذا كلّه ، مع أنّ ما ذكره في معنى النقض ) : من انه نقض دليل اليقين بسبب الشك ( لا يستقيم في قوله عليه السلام في ذيل الصحيحة : « ولكن ينقُضه بيقين

ص: 282

آخر » ، وقوله عليه السلام في الصحيحة المتقدّمة الواردة في الشك بين الثلاث والأربع : « ولكن يَنقُض الشك باليقين » ، بل ولا في صدرها المصرّح بعدم نقض اليقين بالشك ، فانّ المستصحب في موردها إمّا عدم فعل الزائد وإمّا عدم برائة الذمّة من الصلاة ، كما تقدّم ، ومن المعلوم : إنّه ليس في شيء منهما دليلٌ يوجوب اليقين لولا الشك .

قوله في جواب السؤال :

-------------------

آخر » (1) ، وقوله عليه السلام في الصحيحة المتقدمة الواردة في الشك بين الثلاث والأربع : « ولكنه يَنقُض الشك باليقين » (2) ، بل ولا في صدرها المصرّح بعدم نقض اليقين بالشك ) .

وإنّما لا يستقيم لأنه كما قال : ( فانّ المستصحب في موردها ) أي : مورد الصحيحة هو : ( إمّا عدم فعل الزائد ) وهي الركعة المشكوكة ( وإمّا عدم برائة الذمّة من الصلاة ) وكل من إستصحاب العدمين ليس دليلاً ، لأنه أصل العدم والأصل ليس بدليل ، وذلك ( كما تقدّم ) .

وإلى بيان هذا المعنى قال المصنِّف : ( ومن المعلوم : إنّه ليس في شيء منهما دليلٌ بوجوب اليقين لولا الشك ) فكيف يوقع المحقق المذكور التعارض بين الشك ودليل اليقين ؟ وهذا بخلاف ما ذكره المصنِّف في معنى النقض من إعتبار وجود المقتضي للحكم، وكون المراد بنقضه رفع اليد عما يقتضيه من إستمرار الحكم .

ومن مواقع التأمل في كلام المحقق الخوانساري ( قوله في جواب السؤال :

ص: 283


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

« قلت : فيه تفصيل ، إلى آخر الجواب » .

أقول : إنّ النجاسة فيما ذكره من الفرض أعني : موضع الغائط مستمرةٌ وثبت أنّ التمسّح بثلاثة أحجار مزيل لها ، وشك أنّ التمسّح بالحجر الواحد ذي الجهات مزيل أيضا أم لا ، فإذا ثبت وجوب إزالة النجاسة ، والمفروض : الشك في تحقق الازالة بالتمسّح بالحجر الواحد ذي الجهات ، فمقتضى دليله هو : وجوب تحصيل اليقين أو الظنّ المعتبر بالزوال ،

-------------------

« قلت : فيه تفصيل ، إلى آخر الجواب » ) الذي مرّ في ثاني الأمرين من الاستدلال على حجية الاستصحاب بالمعنى الآخر .

( أقول ) : إنّ المحقّق الخوانساري جعل الأصل هو البرائة في صورة الشك في انه هل يكفي الحجر الواحد ذو الجهات الثلاث أو يلزم أحجار ثلاثة ؟ فقال بكفاية أحدهما ، وهذا غير تام بعد علمنا بحصول النجاسة وشكنا في انها هل ترتفع بالحجر ذي الجهات الثلاث أم لا ؟ فان الأصل هنا هو الاشتغال لا البرائة .

وإنّما يكون الأصل هنا الاشتغال ، لأنه كما قال : ( إنّ النجاسة فيما ذكره من الفرض أعني : موضع الغائط ) هذه النجاسة ( مستمرةٌ ) إلى ان يثبت المزيل ( و ) قد ( ثبت أنّ التمسّح بثلاثة أحجار مزيل لها ، وشك أنّ التمسّح بالحجر الواحد ذي الجهات مزيل أيضا أم لا ) أي : غير مزيل فتستصحب النجاسة لليقين السابق بالنجاسة والشك اللاحق في زوالها ، فيكون موردا للاحتياط .

وعليه : ( فإذا ثبت وجوب إزالة النجاسة ، والمفروض : الشك في تحقق الازالة بالتمسّح بالحجر الواحد ذي الجهات ، فمقتضى دليله ) أي : دليل وجوب الازالة ( هو : وجوب تحصيل اليقين ) أي : القطع الذي هو صفة نفسية ( أو الظنّ المعتبر ) بسبب خبر الواحد أو ما أشبه ذلك ( بالزوال ) أي : بزوال النجاسة .

ص: 284

وفي مثل هذا المقام لا يجري أصالة البرائة ولا أدلّتها ، لعدم وجود القدر المتيقن في المأمور به ، وهي الازالة وإن كان ما يتحقق به مردّدا بين الأقل والأكثر ، لكن هذا الترديد ليس في نفس المأمور به ، كما لا يخفى .

نعم ، لو فرض أنّه لم يثبت الأمر بنفس الازالة ، وإنّما ثبت بالتمسّح بثلاثة أحجار أو بالأعمّ منه ومن التمسّح بذي الجهات ، أمكن بل لم يبعد إجراء أصالة البرائة عمّا عدا الأعمّ .

-------------------

( و ) عليه : فان ( في مثل هذا المقام ) المحتاج إلى الدليل على الزوال ( لا يجري أصالة البرائة ولا أدلّتها ) وقوله : «ولا أدلتها» ، عطف بيان إذ المعنى : ان دليل البرائة لا يجري فلا تجري البرائة .

وإنّما لا تجري البرائة ، لان الشك في المكلّف به لا في التكليف ، حيث ان الشارع يريد الطهارة ، ولا نعلم بحصول الطهارة بدون ثلاثة أحجار ، لا أن الشارع يريد المسح ونشك بين الأقل والأكثر حتى يكون الأصل كفاية الأقل ، وجريان البرائة عن الأكثر .

وعليه : ففي مثل المقام لا يجري البرائة ( لعدم وجود القدر المتيقن في المأمور به ، وهي ) أي : المأمور به هنا : ( الازالة وإن كان ما يتحقق به ) المأمور به - والضمير في : به عائد إلى : ما ، ومصداقه الحجر - ( مردّدا بين الأقل والأكثر ، لكن هذا الترديد ليس في نفس المأمور به ) الذي هو الازالة ( كما لا يخفى ) بل الترديد في محصّل المأمور به كما مثّلنا .

( نعم ، لو فرض أنّه لم يثبت الأمر بنفس الازالة ، وإنّما ثبت بالتمسّح بثلاثة أحجار أو بالأعم منه ) أي : من الأحجار الثلاثة ( ومن التمسّح بذي الجهات ) الثلاث ( أمكن بل لم يبعد إجراء أصالة البرائة عمّا عدا الأعمّ ) لأن الأعم لازم

ص: 285

والحاصل : أنّه فرقٌ بين الأمر بازالة النجاسة من الثوب المردّدة بين غسله مرّة أو مرّتين وبين الأمر بنفس الغَسل المردّد بين المرّة والمرّتين .

والذي يعيّن كون مسألة التمسّح من قبيل الأوّل دون الثاني هو ما اُستفيد من أدلّة وجوب إزالة النجاسة للصلاة ، مثل قوله : « وثيابك فطهّر » وقوله عليه السلام في صحيحة زرارة : « لا صلاة إلاّ بطَهُور » ،

-------------------

مطلقا ، والزائد مشكوك فيه ، فالأصل عدمه ، لكن هذا الامكان غير تام في المقام لما عرفت .

( والحاصل : أنّه فرق بين الأمر بازالة النجاسة من الثوب المردّدة ) تلك الأزالة ( بين غسله مرّة أو مرّتين ) حيث يلزم فيه الاحتياط ، إذ لم يعلم حصول الازالة بالغسل مرّة .

( وبين الأمر بنفس الغَسل المردّد ) ذلك الغَسل ( بين المرّة والمرّتين ) حيث يجري فيه البرائة ، لأن الشك حينئذ في التكليف الزائد وهو مجرى البرائة .

( والذي يعيّن كون مسألة التمسّح من قبيل الأوّل ) الذي هو الأمر بازالة النجاسة فيجب فيه الاحتياط ( دون الثاني ) الذي هو الأمر بنفس الغَسل فيكون مجرى البرائة ( هو : ما اُستفيد من أدلّة وجوب إزالة النجاسة للصلاة ، مثل قوله : « وثيابك فطهّر » (1) وقوله عليه السلام في صحيحة زرارة : « لا صلاة إلاّ بطَهُور » (2) ) فان هذه الأدلة ظاهرة في ان مطلوب الشارع هو الطهارة ، وحيث لا نعلم ان هذا

ص: 286


1- - سورة المدثر : الآية 4 .
2- - الامالي للصدوق : ص645 ، مفتاح الفلاح : ص202 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص33 ح67 و ص58 ح129 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص49 ب3 ح83 و ص209 ب9 ح8 و ج2 ص140 ب23 ح3 و 4 ، الاستبصار : ج1 ص55 ب31 ح15 و 16 ، غوالي اللئالي : ج3 ص8 ح1 ، وسائل الشيعة : ج1 ص315 ب9 ح829 .

بناءا على شمول الطهور - ولو بقرينة ذيله الدالّ على كفاية الأحجار من الاستنجاء - للطهارة الخبثيّة - ومثل الاجماعات المنقولة على وجوب إزالة النجاسة عن الثوب والبدن للصلاة .

وهذا المعنى وإن لم يدلّ عليه دليلٌ صحيحُ السند والدلالة على وجه يرتضيه المحقق المذكور ، بل ظاهرُ أكثر الأخبار الأمر بنفس الغَسل ،

-------------------

المطلوب يحصل بالحجر ذي الجهات ، فاللازم ان نأتي بما نقطع معه بحصول مطلوب الشارع .

وإنّما يستفاد من أدلة وجوب إزالة النجاسة للصلاة تعيين كون مسألة التمسّح من قبيل الأوّل ( بناءا على شمول الطهور - ولو بقرينة ذيله الدالّ على كفاية الأحجار من الاستنجاء - للطهارة الخبثيّة - ) أيضا ، لا بناءا على انّ «لا صلاة إلاّ بطهور» خاص بالطهارة الحدثية حتى لا يكون له ربط بالمقام .

( و ) كذا يستفاد التعيين من ( مثل الاجماعات المنقولة على وجوب إزالة النجاسة عن الثوب والبدن للصلاة ) فيكون المكلّف به هو : الازالة والتطهير لا الغَسل المحقق لهما .

( وهذا المعنى ) وهو : كون المأمور به نفس الازالة ونفس التطهير وهو مورد الاحتياط لا مايتحقق به الازالة أو يحقق التطهير حتى يكون موردا للشك في التكليف المردّد بين الأقل والأكثر ، فان هذا المعنى ( وإن لم يدلّ عليه دليلٌ صحيحُ السند والدلالة ) بأن يكون حجة من حيث السند ، ومن حيث الدلالة ( على وجه يرتضيه المحقق المذكور ) الخوانساري ( بل ظاهر أكثر الأخبار الأمر بنفس الغَسل ) فيكون الشك فيه بين الأقل والأكثر وهو مجرى البرائة لا الاشتغال .

ص: 287

إلاّ أنّ الانصاف وجود الدليل على وجوب نفس الازالة ، وأنّ الأمر بالغسل في الأخبار ليس لاعتباره بنفسه في الصلاة ، وإنّما هو أمر مقدّمي لازالة النجاسة ، مع أنّ كلام المحقق المذكور لا يختصّ بالمثال الذي ذكره حتى يناقش فيه .

وبما ذكرنا يظهر ما في قوله في جواب الاعتراض الثاني : بأنّ مسألة الاستنجاء من قبيل ما نحن فيه ما لفظه : « غاية ما أجمعوا عليه أنّ التغوّط

-------------------

( إلاّ أنّ الانصاف وجود الدليل على وجوب نفس الازالة ) والطهارة ( وأنّ الأمر بالغسل في الأخبار ليس لاعتباره بنفسه في الصلاة ، وإنّما هو أمر مقدّمي لازالة النجاسة ) والتحقيق الطهارة .

هذا ( مع أنّ كلام المحقق المذكور ) الخوانساري ( لا يختصّ بالمثال الذي ذكره حتى يناقش فيه ) أي : في المثال ، بل ان كلامه في كليّ ما كان من هذا القبيل وانه هل يجري فيه الاستصحاب أم لا ، لا في خصوص النجاسة والأحجار أو الحجر الواحد حتى يناقش في مثاله بانه يجب فيه التمسّح لا الازالة والطهارة .

( وبما ذكرنا ) من ان الأمر في مسألة الاستنجاء متعلق بازالة النجاسة وبالطهارة، لا بالغسل المردّد بين المرة والمرتين ، ولا بالمسَحات الثلاث المردّدة بين المسح بثلاثة أحجار ، أو حجر ذي شعب ثلاث ، فالمسألة على ذلك من الاشتغال لا من البرائة ( يظهر ما في قوله ) أي : قول المحقق الخوانساري ( في جواب الاعتراض الثاني : بأنّ مسألة الاستنجاء من قبيل ما نحن فيه ) أي : ممّا يجري فيه البرائة لا الاشتغال ( ما لفظه ) كالتالي :

( « غاية ما أجمعوا عليه ) هو العقد السلبي ، لا الايجابي ، أي : ( أنّ التغوّط

ص: 288

متى حصل ، لا يصح الصلاة بدون الماء والتمسّح رأسا ، لا بالثلاث ولا بشُعَب الحجر الواحد .

وهذا لا يستلزم الاجماع على ثبوت النجاسة حتى يحصل شيء معيّن في الواقع مجهول عندنا قد اعتبره الشارع مطهّرا، إلى آخره » .

ويظهر ما في قوله جوابا عن الاعتراض الأخير : « أنّه لم يثبت الاجماع على وجوب شيء معيّن بحيث لو لم يأت بذلك الشيء لاستحقّ العقاب ، إلى آخره » .

وما في كلامه المحكي في حاشية شرحه على قول الشهيد قدس سره : «ويحرم إستعمال الماء النجس والمشتبه

-------------------

متى حصل ، لا يصح الصلاة بدون الماء والتمسّح رأسا لا بالثلاث ولا بشُعَب الحجر الواحد ) فانه بدون شيء من هذه الاُمور لا تصح الصلاة ( وهذا لا يستلزم الاجماع على ثبوت النجاسة حتى يحصل شيء معيّن في الواقع مجهول عندنا قد اعتبره الشارع مطهّرا، إلى آخره » (1) ) حتى يكون المورد من قاعدة الاشتغال ، لا قاعدة البرائة .

( ويظهر ) بما ذكرنا أيضا ( ما في قوله جوابا عن الاعتراض الأخير ) حيث قال: ( « أنّه لم يثبت الاجماع على وجوب شيء معيّن بحيث لو لم يأت بذلك الشيء لاستحقّ العقاب ، إلى آخره » ) فانه إذا لم يثبت ذلك جرى فيه البرائة عن الزائد على القدر المتيقن .

( و ) كذا يظهر ، بما ذكرنا أيضا ( ما في كلامه المحكي في حاشية شرحه على قول الشهيد قدس سره : « ويحرم إستعمال الماء النجس والمشتبه ) حيث قال هناك :

ص: 289


1- - مشارق الشموس في شرح الدروس : ص76 .

إلى آخره » .

وأنت إذا أحطت خُبرا بما ذكرنا في أدلّة الأقوال ، علمت أنّ الأقوى منها : القول التاسع ، وبعده القول المشهور ، واللّه العالم بحقائق الاُمور .

-------------------

وتوضيح الكلام : ان الاستصحاب لا دليل على حجيته ( إلى آخره » ) .

والحاصل : ان الاجماع قد ثبت على وجوب إزالة النجاسة للصلاة ، كما ثبت على وجوب التطهير لها ، فيلزم الأحجار الثلاثة تحصيلاً لليقين بالازالة التي هي شرط صحة الصلاة .

هذا ( وأنت إذا أحطت خُبرا بما ذكرنا في أدلّة الأقوال ، علمت أنّ الأقوى منها : القول التاسع ) القائل بالتفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع ، وذلك بعدم حجية الاستصحاب في الأوّل وحجيّته في الثاني .

( وبعده ) أي : بعد القول التاسع قوة هو : ( القول المشهور ) القائل بحجية الاستصحاب مطلقا .

امّا القائلين بنفي حجية الاستصحاب مطلقا ، وكذا سائر المفصلين ، فأدلتهم غير تامة ( واللّه العالم بحقائق الاُمور ) .

ثم أنّه قد عرفت : إنّ مختارنا (1) هو : القول المشهور ، لأنه هو المستفاد من الأدلة ، وهو يقتضي حجية الاستصحاب مطلقا ، سواء كان الشك في المقتضي أم في المانع ، وسواء كان من الاُمور الخارجية أم من الأحكام الكلية أم من الأحكام الجزئية ؟ .

ص: 290


1- - أي مختار السيد الشارح «دام ظلّه» .

وينبغي التنبيه على اُمور :

اشارة

وهي بين ما يتعلّق بالمتيقن السابق ، وما يتعلّق بدليله الدالّ عليه ، وما يتعلّق بالشك اللاحق في بقائه .

الأوّل :

أنّ المتيقن السابق إذا كان كلّيا في ضمن فرده وشك في بقائه ،

-------------------

هذا ( وينبغي التنبيه على اُمور ) تبلغ إثنى عشر أمرا ( وهي بين ما يتعلّق بالمتيقن السابق ) فانه قد يكون المتيقن السابق حكما كليا ، وقد يكون حكما جزئيا ، وما أشبه ذلك .

( وما يتعلّق بدليله الدالّ عليه ) أي : على المتيقن فانه قد يكون الدليل الدال على المتيقن في الزمان السابق مطلقا يشمل كل الأزمنة ، أو مهملاً ، أو مجملاً .

( وما يتعلّق بالشك اللاحق في بقائه ) أي : في بقاء ذلك المتيقن فانه قد يكون الشك في البقاء والانتفاء مساوي الطرفين ، وقد يكون راجح البقاء ، أو راجح الانتفاء .

أما الأمر ( الأوّل ) من تلك الاُمور الاثني عشر فهو : ( أنّ المتيقن السابق ) قد يكون جزئيا كحياة زيد ، حيث نستصحبه لايجاب النفقة على زوجته ، أو تحريم تقسيم أمواله ، أو ما أشبه ذلك ، وقد يكون كليا مثل : حدوث الحدث المترتب عليه حرمة الدخول في الصلاة من غير فرق بين افراد الحدث ، فان مطلق الحدث الكلي محكوم بهذا الحكم .

وعليه : فالمتيّقن ( إذا كان كلّيا في ضمن فرده وشك في بقائه ) أي : بقاء ذلك الكلي ، فهو على ثلاثة أقسام :

ص: 291

فأمّا أن يكون الشك من جهة الشك في بقاء ذلك الفرد ، وإمّا أن يكون من جهة الشك في تعيين ذلك الفرد وتردّده بين ما هو باق جزما ، وبين ما هو مرتفع جزما ، وإمّا أن يكون من جهة الشك في وجود فرد آخر مع الجزم بارتفاع ذلك الفرد .

أمّا الأوّل : فلا إشكال في جواز إستصحاب الكلّي ، ونفس الفرد وترتيب أحكام كلّ منهما عليه .

-------------------

القسم الأوّل : ( فامّا أن يكون الشك ) في بقاء الكلي المستند إلى الفرد المعيّن ( من جهة الشك في بقاء ذلك الفرد ) بحيث لو علمنا إرتفاع ذلك الفرد علمنا بارتفاع الكلي ، كما إذا علمنا بحدوث الجنابة ، وشككنا في بقاء الحدث للشك في بقاء الجنابة ، فان الحدث كلي والجنابة فرد منه .

القسم الثاني : ( وإمّا أن يكون من جهة الشك في تعيين ذلك الفرد وتردّده ) أي : تردّد ذلك الفرد ( بين ما هو باق جزما ، وبين ما هو مرتفع جزما ) كما إذا علم بالنكاح وشك في انه هل كان متعة لمدة شهر ، أو عقد دوام ، فان كان الأوّل : فقد إرتفع جزما حيث إنقضى الشهر ، وان كان الثاني : فهو باق جزما ؟ .

القسم الثالث : ( وإمّا أن يكون من جهة الشك في وجود فرد آخر مع الجزم بارتفاع ذلك الفرد ) الأوّل ، كما إذا قال المولى : ابق في الدار ما دام فيها إنسان ، فدخل زيد وقد خرج قطعا ، لكن العبد يشك في انّ بعد خروج زيد هل دخل عمرو حتى يجب عليه البقاء في الدار ، وانه لم يدخل حتى ينصرف ، فهو شك في وجود فرد آخر من الكلي مع الجزم بارتفاع ذلك الفرد السابق .

( أمّا الأوّل : فلا إشكال في جواز إستصحاب الكلّي ، ونفس الفرد ، وترتيب أحكام كلّ منهما عليه ) أي : على كل منهما ، ففي المثال الذي ذكرناه يجوز

ص: 292

وأمّا الثاني : فالظاهر جواز الاستصحاب في الكلّي مطلقا على المشهور.

نعم ، لا يتعيّن بذلك أحكام الفرد الباقي ، سواء كان الشك من جهة الرافع ، كما إذا علم بحدوث البول أو المني ولم يعلم الحالة السابقة

-------------------

إستصحاب الجنابة ، لاثبات وجوب الغسل ، وحرمة المكث في المسجد ، وما أشبه ذلك من الأحكام الثابتة لنفس الجنابة بما هي جنابة ، كما يجوز إستصحاب الحدث الجامع بين الجنابة وغيرها ، لاثبات حرمة الصلاة ، ومس كتابة القرآن ، وما أشبه ذلك ، لأن هذه الآثار آثار مطلق الحدث ، سواء كانت جنابة ، أم غيرها .

( وأمّا الثاني : فالظاهر جواز الاستصحاب في الكلّي مطلقا ) سواء في الرافع كان الشك ، أم في المقتضي ، وذلك ( على المشهور ) فان المشهور لا يفرّقون في جريان الاستصحاب بين الشك في المقتضي والشك في الرافع ، فيستصحبون بقاء الزوجية في المثال الذي ذكرناه .

( نعم ، لا يتعيّن بذلك أحكام الفرد الباقي ) الذي هو الدوام في المثال ، فيجوز للزوج في المثال الزواج بالخامسة ، كما لا يجب عليه النفقة لها ، وذلك لأن حرمة الزواج بالخامسة إنّما هو فيما إذا كان العقد الأوّل دواما حتى تتم له أربع زوجات ، والمفروض انه مشكوك كون العقد الأوّل دواما ، كما ان النفقة تجب للدائمة وهي مشكوكة .

وكيف كان : فالاستصحاب في القسم الثاني من الكلي يجري مطلقا ( سواء كان الشك من جهة الرافع ) مع علمه باقتضاء المقتضي للدوام وذلك ( كما إذا علم ) إجمالاً ( بحدوث البول أو المني ولم يعلم الحالة السابقة ) .

وإنّما قيّده بكونه لم يعلم الحالة السابقة ، لأنه لو كان عالما بالحالة السابقة ، كان علمه الاجمالي بلا أثر فيما إذا كانت الحالة السابقة الجنابة أو الحدث الأصغر .

ص: 293

في الجمع بين الطهارتين ، فإذا فعل إحداهما وشك في رفع الحدث ، فالأصل بقاؤه وإن كان الأصل عدم تحقق الجنابة ، فيجوز له ما يحرم على الجنب ،

-------------------

مثلاً : لو كان عالما بسبق الحدث الأصغر ، وجب عليه الوضوء فقط ، لأن هذا الخارج على فرض كونه حدثا أصغر ، لا أثر له وإحتمال كونه منيا يدفع بالأصل ، فيكون كما إذا كان هناك إناءان أحدهما نجس فوقعت قطرة دم في أحدهما ، حيث ان هذا العلم الاجمالي لا أثر له ، لأنه يشك في توجه تكليف جديد عليه .

وكذا لو كان عالما بسبق الحدث الأكبر وجب عليه الغسل فقط ، لأن هذا الخارج لا أثر له بولاً كان أو منيا على ما عرفت وجهه .

نعم ، إذا لم يكن عالما بحالته السابقة إطلاقا ، أو كان عالما بتبادل الحالتين عليه ، فانه ( في ) هذه الصورة يجب عليه ( الجمع بين الطهارتين ) وذلك من جهة علمه الاجمالي ، لأن إستصحاب الحدث يثبت حرمة ما يحرم على المحدث ، فيحكم العقل بلزوم جمعه بين الطهارتين ، حتى يحرز حلّية تلك الاُمور .

هذا ، ولا يخفى : انه لو كان عالما بسبق الطهارة ، ثم خرج منه شيء لم يعلم انه بول أو مني ، كان الحكم كذلك يعني : وجوب الجمع بين الطهارتين .

وعليه : ( فإذا فعل إحداهما ) أي : إحدى الطهارتين ( وشك في رفع الحدث ، فالأصل بقاؤه ) أي : بقاء الحدث الكلي حتى يأتي بالطهارة الثانية أيضا .

هذا بالنسبة إلى الأثر المشترك بين البول والجنابة ، واما الأثر المختص بالجنابة - مثلاً - فلا يترتب باستصحاب كلي الحدث كما قال : ( وإن كان الأصل عدم تحقق الجنابة ، فيجوز له ما يحرم على الجنب ) من الأحكام المختصة به .

إذن : فوجوب الجمع بين الطهارتين ، إنّما هو للآثار المشتركة بين البول

ص: 294

أم كان الشك من جهة المقتضي ، كما لو تردّد مَن في الدار بين كونه حيوانا لا يعيش إلاّ سنة ، وكونه حيوانا يعيش مائة سنة ، فيجوز بعد السنة الاُولى إستصحاب الكلّي المشترك بين الحيوانين ويترتّب عليه آثاره الشرعية الثابتة ،

-------------------

والجنابة ، واما الآثار المختصة بالجنابة فتنفى بأصالة عدم الجنابة ، لوضوح : ان هناك آثارا مشتركة بين الحدث الأصغر والأكبر مثل : حرمة الصلاة ، وحرمة مس كتابة القرآن ، وآثارا مختصة بالجنابة فقط مثل : حرمة المكث في المسجد ، ووضع شيء فيه ، وإستصحاب كلي الحدث إنّما يثبت الآثار المشتركة ، لا الآثار الخاصة .

وعلى أي حال : فالشك فيما نحن فيه شك في الرافع ، لأن الحدث سواء كان حدثا أكبر أم أصغر فانه إذا ثبت دام إلاّ برافع .

إذن : فالاستصحاب يجري في القسم الثاني من الكلي سواء كان الشك من جهة الرافع وقد عرفت مثاله ( أم كان الشك من جهة المقتضي ) بان لم يعلم هل المقتضي طويل أو قصير ؟ .

( كما لو تردّد من في الدار بين كونه حيوانا لا يعيش إلاّ سنة ) كالعصفور - مثلاً - ( وكونه حيوانا يعيش مائة سنة ) كالغراب - مثلاً - ( فيجوز بعد السنة الاُولى إستصحاب الكلّي ) أي : كلي الحيوان ( المشترك بين الحيوانين ) العصفور والغراب في المثال ( ويترتّب عليه آثاره الشرعية الثابتة ) للكلي .

مثلاً : إذا قال المولى لعبده : إبق في حديقة الحيوانات ما دام فيها حيوان ، فانه بعد إنقضاء السنة يلزم على العبد البقاء أيضا ، لعلمه بأن الحيوان قد وجده ، وشكه في فقده بعد السنة ، لاحتمال ان يكون الحيوان الذي وجد في الحديقة كان غرابا

ص: 295

دون آثار شيء من الخصوصيتين ، بل يحكم بعدم كل منهما لو لم يكن مانع عن إجراء الأصلين ،

-------------------

فهو باق ، وهذا من الشك في المقتضي .

وعليه : فيترتب على الكلي المستصحب آثاره المشتركة ( دون آثار شيء من الخصوصيتين ) فلا يثبت بالاستصحاب كونه عصفورا ، ولا كونه غرابا كما لا يثبت به شيء من الآثار الخاصة بكل منهما فإذا كان للعصفور حكم خاص بأن يشتري له كل يوم بعض الحبوب ، وللغراب حكم خاص بان يشتري له كل يوم بعض اللحوم ، لم يجب شيء منهما وإنّما يجب ان لا يقطع مطلق الأكل والشرب عنه .

إذن : فلا يترتب شيء من الآثار الخاصة بكل منهما ( بل يحكم بعدم كل منهما لو لم يكن مانع عن إجراء الأصلين ) امّا إذا تعارض الأصلان فلا يجوز له عدم ترتيب الأثرين ، لأن العلم الاجمالي قاض باتيانه الأثر الذي هو مترتب عليهما .

مثلاً : إذا نذر بان يصلي كل يوم ركعتين إذا كان في الحديقة عصفور ، ونذر نذرا ثانيا بان يصلي كل يوم ركعتين ، إذا كان في الحديقة غراب ، فانه بعد السنة يجب عليه الاتيان بالركعتين كل يوم ، لأنه يعلم بوجوب هذا النذر عليه على كل حال .

بخلاف ما لو صدر النذران من نفرين ، كما لو نذر زيد بان يصلي كل يوم ركعتين إذا كان في الحديقة عصفور ، ونذر عمرو بان يصلي كل يوم ركعتين إذا كان في الحديقة غراب ، فانه بعد السنة لا يجب عليهما شيء ، لأن كلاً منهما يشك في وجوب الصلاة عليه ، فينفيه بأصل العدم ، كما هو الحال في واجدي المني في الثوب المشترك .

ص: 296

كما في الشبهة المحصورة .

وتوهّم : « عدم جريان الأصل في القدر المشترك من حيث دورانه بين ما هو مقطوع الانتفاء وما هو مشكوك الحدوث ، وهو محكوم بالانتفاء بحكم الأصل » ، مدفوعٌ ،

-------------------

ولذا قال المصنِّف : ( كما في الشبهة المحصورة ) فان في الشبهة المحصورة بالنسبة إلى الشخص الواحد يوجد مانع عن إجراء الأصلين وهو : لزوم المخالفة العملية ، بخلاف الشخصين حيث يجري كل واحد منهما الأصل بالنسبة إلى نفسه دون ان يكون معارضا بأصل صديقه .

( و ) ربّما يتوهم : انه لا يصح إستصحاب الكلي المردّد بين القصير والطويل كالعصفور والغراب ، وذلك لأن الكلي المتيقن وجوبه في السابق ، كان مردّدا بين فردين كلاهما محكوم بالعدم ، فانّ العصفور منتف بعد السنة بالقطع ، والغراب منتف بالأصل لأنه لا يعلم هل وجد في الحديقة غراب أم لا ؟ فالأصل عدمه ، ومعه كيف يجوز إستصحاب الكلي ؟ .

وإلى هذا أشار المصنِّف بقوله : و ( توهّم « عدم جريان الأصل في القدر المشترك ) وهو هنا : كلي الحيوان ، وذلك ( من حيث دورانه بين ما هو مقطوع الانتفاء ) وهو الفرد القصير فانه منتف بالقطع ( وما هو مشكوك الحدوث ، وهو ) الفرد الطويل فان الفرد الطويل ( محكوم بالانتفاء بحكم الأصل » ) لأنه لا يعلم هل وجد الغراب في الحديقة أم لا ؟ فالأصل عدمه .

وعليه : فإنّ هذا التوهم ( مدفوعٌ ) وذلك لأن ما ذكره المتوهم إنّما يمنع من إستصحاب نفس الفردين : من العصفور والغراب ، لا الكلي ، لوضوح : ان الكلي وهو الحيوان بما هو حيوان يقيني الحصول في السابق مشكوك البقاء في اللاحق ،

ص: 297

بأنّه لا يقدح ذلك في إستصحابه بعد فرض الشك في بقائه وإرتفاعه ، كاندفاع توهّم كون الشك في بقائه مسبّبا عن الشك في حدوث ذلك المشكوك الحدوث ، فإذا حكم بأصالة عدم حدوثه لزمه إرتفاع القدر المشترك ، لأنّه من آثاره

-------------------

فأركان الاستصحاب تامة بالنسبة إليه ، فيجري الاستصحاب فيه .

ولذا قال المصنِّف في دفعه : ( بأنّه لا يقدح ذلك ) أي : إرتفاع فرد قطعا ، وعدم القطع بوجود فرد آخر ( في إستصحابه ) أي : إستصحاب الكلي ( بعد فرض ) تمامية أركان الاستصحاب وهو : ( الشك في بقائه ) أي : بقاء الكلي ( وإرتفاعه ) بعد إحرازه فيصدق عليه حينئذ : «لا تنقض اليقين بالشك» .

وعليه : فهذا التوهم مندفع ( كاندفاع توهّم ) عدم جريان الاستصحاب الكلي فيما نحن فيه ، بسبب ان الحيوان ، وهو الكلي الذي نريد إستصحابه يدور بقائه وإرتفاعه مدار حدوث الغراب ، وعدمه ، وحيث كان الأصل عدم حدوث الغراب فيترتب عليه إرتفاع الحيوان ، فلا كلي حتى يستصحب بقائه .

وإنّما يتوهم عدم جريان إستصحاب الكلي فيما نحن فيه ، لأن ( كون الشك في بقائه ) أي : بقاء الكلي ( مسبّبا عن الشك في حدوث ذلك المشكوك الحدوث ) وهو الفرد الطويل كالغراب في المثال ( فإذا حكم بأصالة عدم حدوثه ) لأن حدوث الغراب مشكوك ، فالأصل عدمه ( لزمه إرتفاع القدر المشترك ) وهو الكلي ( لأنّه ) أي : القدر المشترك ( من آثاره ) أي : من آثار الفرد الطويل .

والجواب : ان الشك في البقاء ليس مسبّبا عن ذلك ، بل عن إحتمال حدوث العصفور ، والقول : بانه لم يحدث الغراب فحدث العصفور والعصفور مرتفع ، غير صحيح ، لأن إثبات حدوث العصفور بأصل عدم حدوث الغراب مثبت .

ص: 298

فانّ إرتفاع القدر المشترك من لوازم كون الحادث ذلك الأمر المقطوع الارتفاع ، لا من لوازم عدم حدوث الأمر الآخر .

نعم ، اللازم من عدم حدوثه هو عدم وجود ما هو في ضمنه من القدر المشترك في الزمان الثاني ، لا إرتفاع القدر المشترك بين الأمرين ، وبينهما فرق واضح ،

-------------------

وعليه : ( فانّ إرتفاع القدر المشترك ) أي : عدم كلي الحيوان المشترك بين الغراب والعصفور إنّما هو ( من لوازم كون الحادث ذلك الأمر المقطوع الارتفاع ) وهو العصفور ( لا من لوازم عدم حدوث الأمر الآخر ) وهو الغراب .

إذن : فاحتمال إرتفاع الكلي ، مسبّب عن إحتمال حدوث العصفور ، لا عن إحتمال عدم حدوث الغراب حتى ينتج أصالة عدم حدوث الغراب إرتفاع الحيوان .

( نعم ، اللازم من عدم حدوثه ) أي : عدم حدوث الأمر الآخر يعني الغراب - مثلاً - ( هو عدم وجود ما هو في ضمنه ) أي : ضمن الغراب ( من القدر المشترك ) من الحيوانية فانه إذا لم يكن الغراب قد وجد ، كان معناه : ان الحيوان الذي هو في ضمن الغراب لم يوجد ( في الزمان الثاني ، لا ) ان اللازم من عدم حدوثه : ( إرتفاع القدر المشترك ) أي : إرتفاع كلي الحيوان ( بين الأمرين ) العصفور والغراب .

هذا ( وبينهما فرق واضح ) إذ قد يقال : ان كلي الحيوان الذي هو في ضمن الغراب لم يوجد ، وقد يقال : ان كلي الحيوان الأعم من الغراب والعصفور لم يوجد ، وهكذا يقال في الأحكام الشرعية : فان عدم وجود الحدث في ضمن الجنابة يرفع الأثر الخاص مثل حرمة مكث المحدث في المسجد ، وامّا عدم وجود كلي الحدث الأعم من الجنابة والوضوء ، فهو يرفع الأثر المشترك مثل :

ص: 299

ولذا ذكرنا : أنّه تترتّب عليه أحكام عدم وجود الجنابة في المثال المتقدّم .

ويظهر من المحقق القمي رحمه اللّه في القوانين مع قوله بحجّية الاستصحاب على الاطلاق ، عدم جواز إجراء الاستصحاب في هذا القسم .

ولم أتحقق وجهه ،

-------------------

حرمة مسّ كتابة القرآن وما أشبه ذلك .

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكر : من ان المترتب على أصالة عدم حدوث الفرد الطويل ، هو : عدم حدوث القدر المشترك من الكلي في ضمن هذا الفرد الطويل ، وعدم ترتيب الآثار المختصة بالفرد الطويل ، لا عدم وجود أصل الكلي الأعم من الفرد الطويل أو القصير ، فانه لأجل ذلك ( ذكرنا : أنّه ) قد ( تترتّب عليه ) أي : على أصالة عدم حدوث الفرد الطويل ( أحكام عدم وجود الجنابة في المثال المتقدّم ) .

وعليه : فأصالة عدم حدوث الجنابة يترتب عليه عدم حرمة المكث في المسجد لا عدم حرمة مس كتابة القرآن ، فان حرمة مس كتابة القرآن مترتبة على كلي الحدث الجامع بين الجنابة والبول .

( ويظهر من المحقق القمي رحمه اللّه في القوانين مع قوله بحجّية الاستصحاب على الاطلاق ) أي : سواء كان من الشك في المقتضي ، أم من الشك في الرافع ( عدم جواز إجراء الاستصحاب في هذا القسم ) من الكلي ، فيما إذا شك في بقاء الكلي من جهة تردده بين الفرد الطويل والفرد القصير كالعصفور والغراب .

هذا ( ولم أتحقق وجهه ) أي : وجه منع المحقق القمي عن جريان الاستصحاب هنا إلاّ لكونه من الشك في المقتضي ، والمحقق القمي يرى : جريان الاستصحاب في الشك في المقتضي .

ص: 300

قال : « إنّ الاستصحاب يتبع الموضوع وحكمه في مقدار قابلية الامتداد وملاحظة الغلبة فيه ، فلابدّ من التأمّل في أنّه كلّي أو جزئي ، فقد يكون الموضوع الثابت حكمه أولاً مفهوما كلّيا مردّدا بين اُمور ، وقد يكون جزئيا حقيقيا معيّنا .

-------------------

وكيف كان : فان المحقق القمي ( قال : « إنّ الاستصحاب يتبع الموضوع وحكمه في مقدار قابلية الامتداد ) فحرمة الزواج بالخامسة - مثلاً - يمتد إلى زمان إمتداد حياة الزوجة الرابعة ، فإذا كان بقاء الانسان غالبا مائة سنة كانت الحرمة إلى

مائة سنة .

( و ) عليه : فيلزم ( ملاحظة الغلبة فيه ) أي : في قدر الامتداد ، فان الطريق العرفي لتشخيص مقدار قابلية إمتداد كل شيء ، إنّما هو بحسب الغلبة في افراد ذلك الشيء ، فزوجة زيد الرابعة - مثلاً - لو فقدت وشك في بقائها وعدمه ، لزم ملاحظة أغلب الأفراد ، فإذا رأينا ان أغلب افراد الانسان يمتد أعمارهم إلى مائة سنة نقول بأن هذه الزوجة المفقودة أيضا يمتد عمرها إلى مائة سنة ، فيلزم على زوجها ان لا يتخذ زوجة خامسة .

إذن : ( فلابدّ من التأمّل في أنّه ) أي : ان المستصحب هل هو ( كلّي أو جزئي ، فقد يكون الموضوع الثابت حكمه أولاً مفهوما كلّيا مردّدا بين اُمور ) مثل : كلي الحيوان المردّد بين العصفور والغراب في المثال المتقدم ( وقد يكون ) المستصحب ( جزئيا حقيقيا معيّنا ) كما إذا كانت له زوجة رابعة ففقدت ولم يعلم انّها ماتت حتى يجوز له الزواج باُخرى ، أو لم تمت حتى لا يجوز له ذلك لأنّها تكون زوجة خامسة .

ص: 301

وبذلك يتفاوت الحال ، إذ قد يختلف افراد الكلّي في قابلية الامتداد ومقداره ، فالاستصحاب حينئذ ينصرف إلى أقلّها إستعدادا للامتداد .

ثم ذكر حكاية تمسّك بعض أهل الكتاب لاثبات نبوّة نبيّه بالاستصحاب ، و ردّ بعض معاصريه له بما لم يرتضيه الكتابيّ ، ثم ردّه بما إدّعى إبتنائه على ما ذكره : من ملاحظة مقدار القابلية ،

-------------------

( وبذلك يتفاوت الحال ) من حيث جريان الاستصحاب وعدمه ، فيجري في الجزئي دون الكلي ، لاختلاف افراد الكلي كما قال : ( إذ قد يختلف افراد الكلّي في قابلية الامتداد ومقداره ) أي : مقدار الامتداد ، فان الحيوان لو كان عصفورا يقبل الامتداد إلى سنة - مثلاً - وان كان غرابا فإلى مائة سنة .

إذن : ( فالاستصحاب حينئذ ) أي : حين التردّد بين ما هو قابل للامتداد الكثير ، وبين ما لا يقبل إلاّ الامتداد القليل ( ينصرف إلى أقلّها ) أي : أقل افراد الكلي ( إستعدادا للامتداد ) وهو في مثال الحيوان المردّد بين الغراب والعصفور سنة ، فيستصحب إلى سنة فقط لا إلى مائة سنة .

( ثم ذكر ) المحقق القمي ( حكاية تمسّك بعض أهل الكتاب لاثبات نبوّة نبيّه ) أي : امتداد أحكام النبوة ، فلم تكن منسوخة بنبوة نبي الاسلام ، وذلك ( بالاستصحاب ، و ) ذكر ( ردّ بعض معاصريه ) أي : معاصري المحقق القمي وهو السيد باقر القزويني قدس سره حسب ما في بحر الفوائد ( له ) أي : للاستصحاب ( بما لم يرتضيه الكتابيّ ) وسيأتي تفضيل حجة الكتابي وردها في الأمر التاسع إن شاء اللّه تعالى .

( ثم ردّه ) أي : ردّ المحقق القمي إستصحاب الكتابي ( بما إدّعى إبتنائه على ما ذكره : من ملاحظة مقدار القابلية ) فقال : انه لا مجال لاستصحاب أحكام النبوة،

ص: 302

ثم أوضح ذلك بمثال ، وهو :

أنّا إذا علمنا أنّ في الدار حيوانا ، لكن لا نعلم أنّه أيّ نوع هو ، من الطيور أو البهائم أو الحشار أو الديدان ، ثم غبنا عن ذلك مدّةً ، فلا يمكن لنا الحكم ببقائه في مدة يعيش فيها أطولُ الحيوان عمرا .

فاذا إحتمل كون الحيوان الخاص في البيت عصفورا أو فأرة أو دودة قزّ ، فكيف يحكم بسبب العلم بالقدر المشترك باستصحابها إلى حصول زمان ظنّ بقاء أطول الحيوانات عمرا .

-------------------

لأنّا لا نعلم هل في مثل هذه النبوة إقتضاء البقاء إلى زماننا فيكون كالغراب في المثال ، أم لا ، فيكون كالعصفور ؟ وما كان من هذا القبيل لا يصح إستصحابه ، لأن الثابت لنبيّه هو النبوة في الجملة ، لا النبوّة الممتدة حتى بعد مجئنبي الاسلام صلى اللّه عليه و آله وسلم .

( ثم أوضح ) المحقق القمي كلامه ( ذلك بمثال : وهو أنّا إذا علمنا أنّ في الدار حيوانا ، لكن لا نعلم أنّه أيّ نوع هو ، من الطيور أو البهائم أو الحشار ) وحشار جمع حشرة مثل الذباب والبعوض وما أشبه ذلك ( أو الديدان ، ثم غبنا عن ذلك مدّةً ، فلا يمكن لنا الحكم ببقائه ) أي : بقاء كلي الحيوان ( في مدة يعيش فيها أطول الحيوان عمرا ) لاحتمالنا ان الحيوان الذي وجد كان من أقل الحيوانات عمرا .

وعليه : ( فإذا إحتمل كون الحيوان الخاص في البيت عصفورا أو فأرة أو دودة قزّ ، فكيف يحكم بسبب العلم بالقدر المشترك ) بين هذه الحيوانات مع تفاوت افرادها طولاً وقصرا ( باستصحابها إلى حصول زمان ظنّ بقاء أطول ) هذه ( الحيوانات عمرا ) في البيت ؟ إذ قد يكون فيها الأقصر وهو منتفٍ قطعا .

ص: 303

قال : وبذلك بطل تمسك الكتابي » في الاستصحاب .

مع أنّه مستلزم لاختصاص إعتبار الاستصحاب بالشك في الرافع ، موجبٌ لعدم إنضباط الاستصحاب ، لعدم إستقامة إرادة

-------------------

ثم ( قال ) المحقق القمي : ( وبذلك ) المثال الذي ذكرناه لابطال الاستصحاب في أمثال هذه الموارد ( بطل تمسك الكتابي » (1) ) لاثبات بقاء دينه بعد نبوة نبي الاسلام صلى اللّه عليه و آله وسلم .

هذا ، ولكن المصنِّف لم يرتض جواب المحقق القمي ولذلك قال :

أقول : ان ملاحظة استعداد المستصحب واعتباره أي: اعتبار استعداد المستصحب ( في الاستصحاب ) كما يظهر من كلام المحقق القمي غير تام لما يلي :

أوّلاً : ( مع أنّه مستلزم لاختصاص إعتبار الاستصحاب بالشك في الرافع ) فقط دون الشك في المقتضي ، مع ان المحقق القمي يرى حجية الاستصحاب مطلقا ، سواء كان من الشك في المقتضي أم من الشك في الرافع ، فكلامه هذا ينافي كلامه السابق .

ثانيا : انه ( موجبٌ لعدم إنضباط الاستصحاب ) لان الاستعداد قد ينسب إلى الشخص بالذات ، وقد ينسب إلى أبعد الأجناس ، وقد ينسب إلى أقرب الأصناف، وقد ينسب إلى المتوسط عن الأصناف ، وقد ينسب إلى الظن الشخصي بدوام الاستعداد في المستصحب أو غير ذلك ممّا يوجب عدم إنضباط الاستصحاب ، فسقط أكثره عن الحجية .

وإنّما يوجب عدم الانضباط وسقوط الأكثر عن الحجية ( لعدم إستقامة إرادة

ص: 304


1- - القوانين المحكمة : ج2 ص69 - 73 .

إستعداده من حيث تشخّصه ولا أبعد الأجناس ولا أقرب الأصناف .

-------------------

إستعداده ) أي : إستعداد المستصحب للبقاء ( من حيث تشخّصه ) فإذا أردنا ان نستصحب بقاء زيد فمن المعلوم : ان الافراد مختلفون في البقاء قصرا وطولاً ، فلا ينضبط الاستصحاب على إرادة ذلك من جهة انا لا نعرف هل في زيد مثلاً إستعداد البقاء طويلاً حتى يعيش طويلاً ، أو قصيرا حتى لا يعيش إلاّ قصيرا .

( ولا ) يستقيم أيضا إرادة إستعداد المستصحب من حيث ( أبعد الأجناس ) بالنسبة إليه ، وأبعد الأجناس هو : الممكن القار أو مطلق الممكن ، فان الممكن هو أبعد الأجناس بالنسبة إلى الممكنات .

وإنّما لا يستقيم ذلك لأن القدر المشترك بين افراد هذا الجنس هو : إستعداد البقاء لحظة على ما يقولونه في بعض الخلايا الحيّة ، وهذا القدر المشترك متيقن ، فلا نحتاج فيه إلى الاستصحاب ، والزائد عليه مشكوك فلا ينضبط فيه الاستصحاب ، لأن الاستعداد في هذا الممكن يتراوح بين ما يعيش لحظة ، وبين ما يعيش مليارات من السنوات .

( ولا ) يستقيم أيضا إرادة تعداد المستصحب من حيث ( أقرب الأصناف ) بالنسبة إليه ، وذلك لاختلاف الأصناف من حيث الاستعداد طولاً وقصرا ، فالصنف الأفريقي مثلاً يعيش سبعين سنة ، والآسيوي يعيش ثمانين وهكذا ، فلا ينضبط فيه الاستصحاب حتى بملاحظة إستعداد أفراد أقرب الأصناف ، لأن كل فرد داخل في أصناف متعدّدة ، كالصنف الحار المزاج ، أو البارد المزاج ، والصنف المتولّد من أبوين ضعيفين ، أو قويّين ، وهكذا .

ص: 305

ولا ضابط لتعيّن المتوسط والاحالة على الظنّ الشخصي .

قد عرفت ما فيه سابقا مع أنّ إعتبار الاستصحاب عند هذا المحقق لا يختصّ دليله بالظنّ ، كما إعترف به سابقا ، فلا مانع من إستصحاب وجود الحيوان في الدار إذا ترتّب أثر شرعي على وجود مطلق

-------------------

( و ) إن قلت : نلاحظ استعداد المستصحب بالمتوسّط من إستعداد الافراد القريبة من صنفه ونجعله ضابطا للاستصحاب ، فينضبط ، أو نحيل الضابط إلى الظن الشخصي باستعداد المستصحب ، فينضبط أيضا .

قلت : ( لا ضابط لتعيّن المتوسط ) لما عرفت من الاختلاف ( والاحالة على الظنّ الشخصي ) بان نقول بالاستصحاب ما دام الظن الشخصي بالاستعداد حاصلاً ، وبعدم الاستصحاب إذا تبدل الظن الشخصي إلى الشك أو الظن بالخلاف ، فانه غير تام لما يلي :

أولاً : انه ( قد عرفت ما فيه سابقا ) : من ان المعهود من طريقة العقلاء والفقهاء تمسكهم في الاستصحاب بالاُمور النوعية ، لا الشخصية .

ثانيا : ( مع أنّ إعتبار الاستصحاب عند هذا المحقق ) وهو المحقق القمي رحمه اللّه ( لا يختصّ دليله بالظنّ ) بل بالاخبار ( كما إعترف به سابقا ) فلا يتم إحالة الضابط على الظن الشخصي .

إذن : ( فلا مانع ) بعد عدم تمامية المنع عن الاستصحاب في الكلي القسم الثاني ( من ) القول بجريان الاستصحاب فيه ، وهو في مثالنا : ( إستصحاب وجود الحيوان في الدار ) عند تردّده بين الغراب والعصفور ، وذلك لتمامية أركان الاستصحاب : من يقين سابق وشك لاحق .

وإنّما نقول باستصحابه فيما ( إذا ترتّب أثر شرعي على وجود مطلق

ص: 306

الحيوان فيها .

ثم إنّ ما ذكره من إبتناء جواب الكتابي على ما ذكره سيجيء ما فيه مفصلاً إن شاء اللّه تعالى .

وأمّا الثالث وهو ما إذا كان الشك في بقاء الكلّي مستندا إلى إحتمال وجود فرد آخر ، غير الفرد المعلوم حدوثه وإرتفاعه فهو على قسمين : لأنّ الفرد الآخر ، إمّا أن يحتمل وجوده مع ذلك الفرد المعلوم حاله ،

-------------------

الحيوان فيها ) أي : في الدار ، مثل حرمة قطع الطعام والماء عنه .

( ثم إنّ ما ذكره ) المحقق القمي رحمه اللّه : ( من إبتناء جواب الكتابي على ما ذكره ) : من ملاحظة قابلية إستعداد المستصحب للبقاء وعدمه ( سيجيء ما فيه مفصلاً إن شاء اللّه تعالى ) .

هذا تمام الكلام في القسم الثاني من أقسام إستصحاب الكلي ، وهو المردّد بين الفرد الطويل والفرد القصير .

( وأمّا الثالث ) من أقسام إستصحاب الكلي فهو المردّد بين الفرد الأصيل والفرد البديل كما قال : ( وهو ما إذا كان الشك في بقاء الكلّي مستندا إلى إحتمال وجود فرد آخر ، غير الفرد المعلوم حدوثه وإرتفاعه ) قوله : « وإرتفاعه » ، عطف على قوله : « حدوثه » ، يعني : علمنا ان الفرد المعلوم الحدوث معلوم الارتفاع أيضا ، لكن نحتمل وجود فرد آخر غير الفرد السابق .

وعليه : فاما هذا القسم الثالث ( فهو على قسمين : لأنّ الفرد الآخر ، إمّا أن يحتمل وجوده مع ذلك الفرد المعلوم حاله ) كما إذا علمنا ان زيدا في الدار ، ثم علمنا بخروجه منه ، لكن إحتملنا إحتمالاً عقلائيا وجود عمرو معه بحيث نحتمل بقاء الانسان في الدار .

ص: 307

وإمّا يحتمل حدوثه بعده ، إمّا بتبدّله إليه وإمّا بمجرد حدوثه مقارنا لارتفاع ذلك الفرد .

وفي جريان إستصحاب الكلّي في كلا القسمين نظرا إلى تيقّنه سابقا وعدم العلم بارتفاعه

-------------------

وكما إذا علم زيد بأن دما أصاب ثوبه فغسله فعلم بزواله ، لكنه إحتمل إحتمالاً عقلائيا وجود دم آخر معه بحيث يحتمل بقاء النجاسة على ثوبه .

( وإمّا يحتمل حدوثه بعده ، إمّا بتبدّله ) أي : تبدل الفرد السابق ( إليه ) أي : إلى الفرد الجديد ، كما إذا علمنا بحصول السواد في جسم ، ثم علمنا بزوال ذلك السواد ، لكن إحتملنا تبدله إلى سواد آخر أخف منه .

وكما إذا أصاب ثوبه دم عبيط - مثلاً - فغسله في الظلام فعلم بزوال ذلك الدم العبيط ، لكن إحتمل تبدله إلى دم أخف ممّا لا يجوز الصلاة في أيّ منهما ؟ .

( وإمّا بمجرد حدوثه ) أي : حدوث الفرد الجديد ( مقارنا لارتفاع ذلك الفرد ) السابق كما إذا إحتملنا دخول عمرو في الدار مقارنا لخروج زيد منها ، لا أن عمروا كان في الدار قبل خروج زيد منها على ما هو مفروض القسم الأوّل .

وكما إذا احتمل حدوث دم آخر على الثوب مقارنا لغسل الدم الأوّل .

هذا ( وفي جريان إستصحاب الكلّي في كلا القسمين ) من الكلي الثالث - وهما ما أشرنا إليه بقولنا : اما ان يحتمل وجوده مع ذلك الفرد المعلوم ، واما ان يحتمل حدوثه بعده - أو عدم جريان الاستصحاب فيهما ، أو التفصيل بينهما ، وجوه ثلاثة كما يلي :

الوجه الأوّل : جريان الاستصحاب فيهما ، وذلك ( نظرا إلى تيقّنه ) أي : تيقن الكلي فيهما ( سابقا وعدم العلم بارتفاعه ) لاحقا فيتمّ أركان الاستصحاب بالنسبة

ص: 308

وإن عُلِمَ بارتفاع بعض وجوداته وشك في حدوث ما عداه لأنّ ذلك مانع من إجراء الاستصحاب في الأفراد دون الكلّي ، كما تقدّم نظيره في القسم الثاني .

أو عدم جريانه فيهما ، لأنّ بقاء الكلّي

-------------------

إلى هذا القسم وهو القسم الثالث من إستصحاب الكلي بجميع صوره ، فيقين سابق وشك لاحق فيستصحب حتى ( وإن ) لم يتم أركان الاستصحاب بالنسبة إلى كل واحد من الفردين : السابق واللاحق ، لأنه ( عُلِمَ بارتفاع بعض وجوداته ) وهو زيد الذي كان في الدار سابقا ( وشك في حدوث ما عداه ) وهو عمرو ، وكذلك بالنسبة إلى الدم العبيط فانه إرتفع قطعا ، والدم الخفيف فانه لم يعلم حدوثه ، فالمعلوم السابق لا شك في إرتفاعه ، والمشكوك اللاحق لا علم بسبقه .

والحاصل : ان أركان الاستصحاب تامة بالنسبة إلى الكلي فيستصحب الكلي ، وان كان كل فرد من فرديه : السابق واللاحق ، لم يتم أركان الاستصحاب بالنسبة إليه ، ولا يضر عدم تمامية أركان الاستصحاب بالنسبة إلى كل فرد في تمامية أركان الاستصحاب بالنسبة إلى الكلي .

وإنّما لا يضرّ به ( لأنّ ذلك ) أي : عدم تمامية أركان الاستصحاب بالنسبة إلى الفرد السابق ، والفرد اللاحق ( مانع من إجراء الاستصحاب في الأفراد دون الكلّي ) ونحن نريد إستصحاب الكلي التام الأركان وذلك ( كما تقدّم نظيره في القسم الثاني ) من إستصحاب الكلي المردّد بين الفرد الطويل والقصير ، حيث كان الاستصحاب يجري في الكلي دون فرديه .

الوجه الثاني : ( أو عدم جريانه فيهما ) أي : عدم جريان الاستصحاب في كلا القسمين من القسم الثالث من إستصحاب الكلي وذلك ( لأنّ بقاء الكلّي

ص: 309

في الخارج عبارةٌ عن إستمرار وجوده الخارجي المتيقن سابقا وهو معلوم العدم .

وهذا هو الفارق بين ما نحن فيه والقسم الثاني ، حيث أنّ الباقي في الآن اللاحق بالاستصحاب هو عين الوجود المتيقن سابقا .

-------------------

في الخارج عبارةٌ عن إستمرار وجوده الخارجي المتيقن سابقا ) فانّ الكلي لا يوجد في الفراغ ، وإنّما يوجد في ضمن الافراد ، كما وجد في فرد هو زيد ( وهو معلوم العدم ) لانا فرضنا ان زيدا خرج من الدار قطعا ، فالكلي التابع لهذا الفرد الأصيل منتف قطعا ، والفرد البديل لا نعلم به فلا نعلم بوجود الكلي الذي هو في ضمنه ، ومعلوم : ان وجود الكلي في ضمن زيد هو غير وجود الكلي في ضمن عمرو .

وعليه : ففي كلا القسمين من القسم الثالث يكون متيقن الوجود سابقا غير محتمل الوجود لاحقا ، لأنه متيقن الزوال ، ومحتمل الوجود لاحقا غير متيقن الوجود سابقا ، فأركان الاستصحاب غير تامة في كلا القسمين من القسم الثالث من إستصحاب الكلي فلا يجري فيه الاستصحاب مطلقا .

( وهذا ) الذي ذكرناه : من العلم بعدم إستمرار الكلي في فرده الخارجي المتيقن سابقا ( هو الفارق بين ما نحن فيه ) من القسم الثالث من إستصحاب الكلي المردّد بين الفرد الأصيل والبديل ( والقسم الثاني ) من إستصحاب الكلي المردّد بين الفرد الطويل والقصير .

وإنّما كان الفارق بينهما ذلك لأنه كما قال : ( حيث أنّ الباقي في الآن اللاحق ) من القسم الثاني من إستصحاب الكلي يكون بقائه ( بالاستصحاب هو عين الوجود المتيقن سابقا ) فانه على إحتمال كون الموجود في الدار غرابا ،

ص: 310

أو التفصيل بين القسمين ، فيجري في الأوّل ، لاحتمال كون الثابت في الآن اللاحق هو عين الموجود سابقا ، فيتردّد الكلّي المعلوم سابقا ، بين أن يكون وجوده الخارجي على نحو لا يرتفع بارتفاع الفرد المعلوم إرتفاعه وأن يكون على نحو يرتفع بارتفاع ذلك الفرد .

-------------------

يكون كلي الحيوان الباقي هو نفس الكلي السابق الذي وجد في ضمن الفرد السابق وهو الغراب ، بخلاف الكلي في القسم الثالث .

الوجه الثالث : ( أو التفصيل بين القسمين ) من القسم الثالث من إستصحاب الكلي ( فيجري ) الاستصحاب ( في ) القسم ( الأوّل ) منه فقط ، وهو ما كان الفرد الجديد محتمل وجوده مع ذلك الفرد السابق المعلوم حاله .

وإنّما يجري الاستصحاب في هذا القسم فقط ( لاحتمال كون الثابت في الآن اللاحق هو عين الموجود سابقا ) إذ هذا القسم من الكلي الثالث مردّد من الأوّل بين حصوله في ضمن زيد فقط ، فالكلي لا إستعداد له للبقاء بعد خروج زيد من الدار ، وبين حصوله من الأوّل في ضمن فردين : زيد وعمرو ، فالكلي مستعد للبقاء بعد خروج زيد من الدار ، وحيث يكون المحتمل هو الكلي المستعد للبقاء، فلا مانع من الاستصحاب فيه ، وذلك لتمامية أركانه كما قال :

( فيتردّد الكلّي المعلوم سابقا ، بين أن يكون وجوده الخارجي على نحو لا يرتفع بارتفاع الفرد المعلوم إرتفاعه ) وذلك بأن يكون الكلي من الأوّل حاصلاً في ضمن فردين : زيد وعمرو ، فإذا إرتفع زيد لم يترفع الكلي ، ( و ) بين ( أن يكون على نحو يرتفع بارتفاع ذلك الفرد ) وذلك بان يكون الكلي من الأوّل حاصلاً في ضمن زيد فقط ، فإذا إرتفع زيد إرتفع الكلي .

ص: 311

فالشك حقيقة إنّما هو في مقدار إستعداد ذلك الكلّي ، وإستصحاب عدم حدوث الفرد المشكوك لا يثبت تعيين إستعداد الكلّي وجوهٌ : أقواها الأخير .

-------------------

وعليه : ( فالشك ) في القسم الأوّل من قسمي الكلي الثالث ( حقيقة إنّما هو في مقدار إستعداد ذلك الكلّي ) للبقاء ، وعدم إستعداده ، فيستصحب بقائه لتمامية أركان الاستصحاب فيه .

( و ) ان قلت : الفرد المشكوك حدوثه وهو عمرو في المثال نستصحب عدم حدوثه ، فيثبت عدم إستعداد الكلي للبقاء .

قلت : ( إستصحاب عدم حدوث الفرد المشكوك لا يثبت تعيين إستعداد الكلّي ) في عدم بقائه بعد إرتفاع الفرد المتيقن وهو زيد في المثال ، وذلك لأنه أصل مثبت .

إذن : فهناك في القسم الثالث من إستصحاب الكلي بكلا قسميه ( وجوه ) ثلاثة ( أقواها الأخير ) وهو التفصيل المذكور .

لكن ربما يقال بعدم جريان الاستصحاب في هذا القسم إطلاقا ، لما عرفت : من ان المتيقن سابقا لم يكن إلاّ وجود الكلي في ضمن هذا الفرد الخارجي وهو زيد في المثال وقد إرتفع قطعا فكيف يجري فيه الاستصحاب ؟ مضافا إلى ان جريانه يستلزم القول بما لا يلتزمون به إطلاقا .

مثلاً : إذا تيقن بالحدث الأصغر ولكن إحتمل معه حصول الحدث الأكبر أيضا ، فانه يلزمه بعد الوضوء إستصحاب الحدث والاتيان بالغسل أيضا ، لتردّد الحدث من الأوّل بين المستعد للبقاء بعد الوضوء ، وبين غيره بينما لا يقولون بذلك .

وكذلك إذا تيقن بالاجارة وإحتمل معها حصول الارث ، بأن ورث العين

ص: 312

ويستثنى من عدم الجريان في القسم الثاني ما يتسامح في العُرف ، فيعدّون الفرد اللاحق مع الفرد السابق كالمستمرّ الواحد ، مثل : ما لو عُلِمَ السواد الشديد في محل ، وشك في تبدّله بالبياض

-------------------

الموجرة حتى يصح له التصرف فيها بعد إنتهاء المدة ، أو إحتمل الهبة ونحوها مع الاجارة ، فانهم لا يقولون بإستصحاب جواز التصرف بعد تمام المدة .

وكذلك إذا إحتمل حصول العقد الدائم مع عقد المتعة ، أو حصول هبة ، أو إرث ، أو تمليك من مالك الاُمة مع كونها محللة له ، وهكذا فانه لا يقول أحد بالاستصحاب فيه .

( ويستثنى من عدم الجريان ) أي : عدم جريان الاستصحاب ( في القسم الثاني ) من القسم الثالث من إستصحاب الكلي وهو ما يحتمل حدوث فرد آخر بعد إرتفاع الفرد السابق اما بتبدله إليه أو مقارنا لارتفاعه ، فيستثنى منه ( ما يتسامح في العُرف ، فيعدّون الفرد اللاحق مع الفرد السابق كالمستمرّ الواحد ) وذلك لما عرفت سابقا ، وسيأتي إن شاء اللّه مفصلاً : من ان موضوع الاستصحاب عرفي .

وعليه : فإذا رأى العرف ان الموضوع السابق باق ، جاز الاستصحاب وان لم يكن الموضوع باقيا بالدقة العقلية ، وذلك على ما مثلنا له سابقا بالماء الكرّ الذي أخذنا بعض الماء منه ، فانه يستصحب كريته وان كان هذا الفرد من الماء غير الفرد السابق من الماء قطعا .

وكذلك حال العكس بان لم يكن كرا ثم صب عليه بعض الماء بما شك في انه صار كرا أم لا ؟ .

وكذا ( مثل : ما لو عُلِمَ السواد الشديد في محل ، وشك في تبدّله بالبياض

ص: 313

أو بسواد أضعف من الأوّل ، فانّه يُستصحَب السواد ، وكذا لو كان الشخص في مرتبة من كثرة الشك ، ثم شك من جهة إشتباه المفهوم أو المصداق في زوالها أو تبدّلها إلى مرتبة دونها ،

-------------------

أو بسواد أضعف من الأوّل ، فانّه يُستصحَب السواد ) إذ السواد الضعيف وان كان بالدقة العقلية فردا آخر غير السواد الشديد ، إلاّ ان العرف يرون السواد الضعيف إمتدادا للسواد القوي ، فيحكمون باستمرار الموضوع الأوّل ، ولا يعدّون السواد الضعيف موضوعا مغايرا للسواد الشديد .

وكذلك حال العكس بان كان هناك سواد ضعيف ، فاحتملنا انه تبدّل إلى سواد أشد ، حيث ان السواد عند العرف شيء واحد ، سواء تبدل من الضعف إلى القوة أم من القوة إلى الضعف .

( وكذا لو كان الشخص في مرتبة من كثرة الشك ، ثم شك ) في كونه كثير الشك ( من جهة إشتباه المفهوم ) بان لم يعرف انّ مفهوم كثرة الشك هل يصدق مع الشك في صلاتين من الصلوات اليومية ، أو لا يصدق إلاّ ان يكون الشك في كل الصلوات الخمس .

( أو ) شك في كونه كثير الشك من جهة ( المصداق ) بان لم يعرف هل شك في صلاتين من الصلوات الخمس ، أو في أكثر من ذلك ، مع علمه بانه لو كان شكه في صلاتين فقط لم يكن ذلك من كثير الشك .

وعليه : فالذي كان في مرتبة عليا من كثرة الشك ، ثم شك ( في زوالها أو تبدّلها إلى مرتبة دونها ) أي : دون تلك المرتبة ، فانه يستصحب بقائها لرؤية العرف المرتبتين كالمستمر الواحد .

هذا بالنسبة إلى من خرج شكه عن المتعارف في شكوك الصلاة حيث يشك

ص: 314

أو علم إضافة المايع ثم شك في زوالها أو تبدّلها إلى فرد آخر من المضاف .

-------------------

في زواله أو تبدله إلى الشك المتعارف ، سواء كان شكه من الشبهة المفهومية أم المصداقية ؟ .

وأمّا من خرج ظنه عن المتعارف بالنسبة إلى الظن في الصلاة ، حيث لا يعتمد على الظن غير المتعارف في أفعال الصلاة وأقوالها ، وإنّما يعتمد على الظن المتعارف فيهما وذلك حسب الدليل ، فإذا شك من خرج ظنه عن المتعارف في زواله أو تبدله إلى الظن المتعارف ، سواء كان شكّه في ذلك من الشبهة المفهومية أم من الشبهة المصداقية ، فانه يستصحب بقائها لأن العرف يرون المرتبتين كالمستمر الواحد .

وكذا حال الوسواسي بالنسبة إلى ما يوسوس فيه من الطهارة والنجاسة ، والحلية والحرمة ، وغير ذلك ، فانه إذا شك في زوالها أو تبدلها إلى ما هو متعارف الناس ، سواء كان شكه من الشبهة المفهومية أم من الشبهة المصداقية ؟ فانه يستصحب بقائها ولا يعتني بها وذلك لما عرفت من وحدة الموضوع عرفا في المرتبتين .

وعليه : فما عدّه العرف موضوعا واحدا جرى فيه الاستصحاب ، كما في الأمثلة الماضية ( أو ) كما في الأمثلة الآتية : وذلك مثل ما لو ( علم إضافة المايع ) حيث لا يصح التطهّر به كماء الورد الكامل الطعم والرائحة ( ثم شك في زوالها ) أي زوال الاضافة ( أو تبدّلها إلى فرد آخر من المضاف ) أخف من الفرد السابق ، فانه يستصحب بقاء الاضافة فلا يصح التطهر به لرؤية العرف وحدة الموضوع في الحالتين .

ص: 315

وبالجملة : فالعبرةُ في جريان الاستصحاب عدُّ الموجود السابق مستمرا إلى اللاحق ولو كان الأمر اللاحق على تقدير وجوده مغايرا بحسب الدقّة للفرد السابق .

ولذا لا إشكال في إستصحاب الأعراض ، حتى على القول فيها بتجدّد الأمثال ،

-------------------

( وبالجملة : فالعبرةُ في جريان الاستصحاب عدُّ الموجود السابق مستمرا إلى اللاحق ) بحيث يراهما العرف موضوعا واحدا ، فيجري فيه الاستصحاب حتى ( ولو كان الأمر اللاحق على تقدير وجوده مغايرا بحسب الدقّة للفرد السابق ) إذ قد عرفت : انه لا إعتبار في الاستصحاب بالدقة العقلية وإنّما بالموضوع العرفي .

( ولذا لا إشكال في إستصحاب الأعراض ) من الأوصاف والألوان ، والأفعال والأحوال ، وما أشبه ذلك فالحالات المرضية في الانسان - مثلاً - لو خفّت ، كان لها الحكم السابق فإذا كان مريضا بحيث يضره الصوم ، أو يضره إستعمال الماء من أجل الوضوء للصّلاة ثم خف مرضه بما يشك معه في وجوب الصوم ، أو وجوب الوضوء للصلاة ، فان الاستصحاب محكّم في أمثال ذلك .

وإنّما يكون الاستصحاب محكَّما في مثل ذلك ، لأن العرف يرون الفرد الجديد إمتدادا للفرد القديم ، وذلك ( حتى على القول فيها ) أي : في الاعراض ( بتجدّد الأمثال ) إذ في الأعراض قولان كالتالي :

القول الأوّل : ان الاعراض مثل الجواهر قارة ، فكما ان الجواهر قارة فكذلك الاعراض ، إلاّ ما كان من الاعراض من قبيل الحركة ، فانها تتجدّد آنا فآنا بلا إشكال ، وعلى هذا القول وهو : ان الاعراض قارة ، فلا شك في جريان الاستصحاب فيها ، لأن الوجود الثاني إستمرار للوجود الأوّل ، وإنّما الشك

ص: 316

وسيأتي ما يوضّح عدم إبتناء الاستصحاب على المداقّة العقليّة .

ثم إنّ للفاضل التوني كلاما يناسب المقام مؤيّدا لبعض ما ذكرنا ،

-------------------

فيها شك في البقاء .

القول الثاني : ان الأعراض غير قارة كالزمان ، فان يتجدد آنا فآنا ، فالعرض في الزمان الثاني ، غير العرض في الزمان الأوّل بالدقة العقلية ، إلاّ انه عرفا لما كان موضوعا واحدا ، جرى الاستصحاب فيه ، وهكذا حال النور المتجدّد شيئا فشيئا .

وكذلك ما كان من قبيل القوة والضعف ، فانه قد عرفت جريان الاستصحاب فيه ، فإذا أمره المولى بالبقاء في الدار لحفظ الأثاث من اللصوص ما دام النور ضعيفا ، فإذا إشتد النور قليلاً بحيث شك في زوال الضعف أو تبدله إلى القوي ، إستصحب بقائه لوحدة الموضوع في الحالتين بنظر العرف ، وكذا حال العكس بان شك في زوال قوة النور أو تبدله إلى الضعيف في الجملة .

هذا ( وسيأتي ) إن شاء اللّه تعالى ( ما يوضّح عدم إبتناء الاستصحاب على المداقّة العقليّة ) وإلاّ لم يجر حتى إستصحاب واحد ، وذلك من جهة الشك في ان الزمان من المقيّدات أم لا ؟ حيث قال جمع : بان الزمان أيضا من المقيدات كما نجده مقيدا في كثير من الموارد ولذا يحتمل ان يكون الموضوع في الزمان الثاني غير الموضوع في الزمان الأوّل فلا يجري الاستصحاب ، لكن قد عرفت ان الموضوع العرفي كاف في جريان الاستصحاب .

( ثم إنّ للفاضل التوني كلاما يناسب المقام مؤيّدا لبعض ما ذكرنا ) : من عدم صحة الاستصحاب في القسم الثالث من إستصحاب الكلي ، فلا يستصحب وجود الانسان في الدار - مثلاً - إذا إحتملنا دخول عمرو مع خروج زيد من الدار ،

ص: 317

وإن لم يخل بعضُه عن النظر ، بل المنع .

قال في ردّ تمسك المشهور في نجاسة الجلد المطروح باستصحاب عدم التذكية : « إنّ عدم المذبوحيّة لازم لأمرين الحياة والموت حتفَ الأنف ، والموجب للنجاسة ليس هذا اللازم من حيث هو ، بل ملزومه الثاني أعني : الموت حتف الأنف ،

-------------------

فكلامه يؤيد ما قلناه ( وإن لم يخل بعضُه ) أي : بعض كلام الفاضل المذكور ( عن النظر ، بل المنع ) كما سيأتي الكلام حوله إن شاء اللّه تعالى .

وكيف كان : فان الفاضل المذكور ( قال في ردّ تمسك المشهور في نجاسة الجلد المطروح ) الذي لا يعلم تذكيته وعدم تذكيته ، فانهم قالوا بنجاسة هذا الجلد تمسّكا ( باستصحاب عدم التذكية ) لأن الحيوان لما كان حيّا لم يكن الجلد مذكّى فنستصحب عدم تذكيته .

وعلى أي حال : فان الفاضل التوني قال في ردّهم : ( « إنّ عدم المذبوحية لازم لأمرين ) هما كالتالي :

أولاً : ( الحياة ) .

ثانيا : ( والموت حتفَ الأنف ) .

والمراد بالموت حتف الأنف هو : الموت الطبيعي مقابل الموت بسبب الذبح وما أشبه .

وكيف كان : فان عدم المذبوحية لازم اما للحياة ، واما للموت ، على سبيل البدل ، سواء كان الموت لحتف الأنف أم بالذبح على غير الطريقة الشرعية ( والموجب للنجاسة ليس هذا اللازم من حيث هو ) أي : مطلق عدم المذبوحية ( بل ملزومه الثاني أعني : الموت حتف الأنف ) .

ص: 318

فعدم المذبوحية لازمٌ أعمٌّ لموجب النجاسة ، فعدم المذبوحيّة اللازم للحياة ، مغايرٌ لعدم المذبوحية العارض للموت حتفَ أنفه .

والمعلوم ثبوته في الزمان السابق هو الأوّل لا الثاني ، وظاهرٌ أنّه غير باق في الزمان الثاني ،

-------------------

إذن : فعنوان عدم التذكية كلي صادق على فردين :

الأوّل : ان يكون الحيوان حيا .

الثاني : ان يكون الحيوان ميتا من غير تذكية ، سواء مات بنفسه أم على غير الطريقة الشرعية .

ومن المعلوم : ان النجاسة ليست من آثار الكلي المذكور ، بل من آثار أحد فرديه وهو : الموت بدون تذكية ، فكيف يستصحب عدم التذكية لاثبات النجاسة ؟ فانه من قبيل إستصحاب الحيوان لاثبات الانسان كما قال :

( فعدم المذبوحية لازمٌ أعمُّ لموجب النجاسة ) إذ موجب النجاسة هو خصوص الموت بلا تذكية ، بينما عدم المذبوحية قد يكون في ضمن الحياة ، وقد يكون في ضمن الموت بلا تذكية .

إذن : ( فعدم المذبوحيّة اللازم للحياة ، مغايرٌ لعدم المذبوحية العارض للموت حتفَ أنفه ) وحينئذ فاستصحاب عنوان الكلي وهو : عدم المذبوحية لا يثبت أحد الفردين بخصوصه .

هذا ( والمعلوم ثبوته في الزمان السابق هو الأوّل ) أي : عدم المذبوحية اللازم للحياة ( لا الثاني ) أي : عدم المذبوحية العارض للموت حتف الأنف ( وظاهرٌ أنّه ) أي : ان الأوّل وهو الحياة ( غير باق في الزمان الثاني ) أي : زمان الشك في الذبح ، لوضوح ان الجلد المطروح مسلوب الحياة .

ص: 319

ففي الحقيقة يخرج مثل هذه الصورة من الاستصحاب إذ شرطه بقاء الموضوع ، وعدمه هنا معلوم .

قال : وليس مَثَلُ التمسك بهذا الاستصحاب ، إلاّ مَثَلَ مَن تمسك على وجود عمرو في الدار باستصحاب بقاء الضاحك ، المتحقق بوجود زيد في الدار في الوقت الأوّل ،

-------------------

وعليه : ( ففي الحقيقة يخرج مثل هذه الصورة من الاستصحاب ) لعدم بقاء الموضوع في اليقين السابق حال الشك اللاحق ، فانه كان في السابق : عدم المذبوحية المقارن للحياة ، وفي اللاحق : عدم المذبوحية المقارن للموت حتف الأنف .

وإنّما يخرج مثل هذا من الاستصحاب ( إذ شرطه ) أي : شرط الاستصحاب ( بقاء الموضوع ) في الحالتين : حال اليقين ، وحال الشك ( وعدمه ) أي : عدم الموضوع ( هنا معلوم ) لفرض ان الموضوع كان : عدم المذبوحية المقارن للحياة، والآن هو : عدم المذبوحية المقارن للموت .

( قال ) الفاضل التوني : ( وليس مَثَلُ ) ومَثَل بفتحتين على وزن فرس ، فانه ليس مَثَل ( التمسك بهذا الاستصحاب ، إلاّ مَثَلَ مَن تمسك على وجود عمرو في الدار باستصحاب بقاء الضاحك ، المتحقق بوجود زيد في الدار ) بقاءً ( في الوقت الأوّل ) .

وإنّما مثل ذلك الاستصحاب مثل إستصحاب بقاء الضاحك من حيث الفساد ، إذ كما ان الضاحكية لازم أعم لزيد وعمرو ولا يصح إستصحابها لاثبات وجود عمرو في الدار ، لأنها في زيد قد زالت قطعا ، وهي في عمرو مشكوكة الحدوث ، فكذلك عدم المذبوحية لازم أعم للحياة والموت حتف الأنف ، فلا يصح

ص: 320

وفساده غنيٌّ عن البيان » ، إنتهى .

أقول : ولقد أجاد فيما أفاد : من عدم جواز الاستصحاب في المثال المذكور ونظيره ، إلاّ أنّ نظر المشهور ، في تمسكهم على النجاسة ، إلى أنّ النجاسة إنّما رتّبت في الشرع على مجرّد عدم التذكية ،

-------------------

إستصحابه لاثبات الموت حتف الأنف ، لأن عدم المذبوحية اللازم للحياة قد زال قطعا ، وعدم المذبوحية اللازم للموت حتف الأنف مشكوك الحدوث لاحتمال تذكيته .

وعليه : فان بطلان هذا الاستصحاب ( وفساده غنيٌّ عن البيان » (1) ) وذلك لما عرفت : من تبدل الموضوع فيه ، والموت حتف الأنف الذي هو الموضوع للنجاسة غير معلوم حصوله ، وإذا لم نعلم حصوله لم تثبت نجاسته ، فيكون من مشكوك النجاسة فتجري فيه قاعدة الطهارة ( إنتهى ) كلام الفاضل التوني .

( أقول : ولقد أجاد فيما أفاد : من عدم جواز الاستصحاب في المثال المذكور ) وهو إستصحاب عدم المذبوحية لاثبات نجاسة الجلد المطروح ( و ) كذا ( نظيره ): وهو إستصحاب بقاء الضاحك بعد خروج زيد من الدار لاحتمال دخول عمرو فيها ( إلاّ أنّ نظر المشهور في تمسكهم على النجاسة ) ليس إلى هذا الاستصحاب الذي ذكره وهو إستصحاب عدم التذكية ، حتى يرد عليهم هذا الاشكال بل نظرهم ( إلى أنّ النجاسة إنّما رتّبت في الشرع على ) أمر عدمي وهو : ( مجرّد عدم التذكية ) .

إذن : فكلام الفاضل التوني في كبراه صحيح ، وإنّما تطبيق هذه الكبرى على الصغرى الخارجية التي ذكرها المشهور غير صحيح ، وذلك لأن الفاضل التوني

ص: 321


1- - الوافية مخطوط .

كما يرشد إليه قوله تعالى : « إلاّ ما ذكّيتم » ، الظاهر في أنَّ المحرّم إنّما هو لحم الحيوان الذي لم يقع عليه التذكية

-------------------

تصوّر ان موضوع النجاسة عند المشهور أمر وجودي هو : الموت حتف الأنف ، أو الذبح على غير الطريقة الشرعية ، وانهم يريدون باستصحاب عدم التذكية إثبات هذا الموضوع الوجودي ، والحال ان الأمر ليس كذلك ، فان موضوع النجاسة عند المشهور أمر عدمي هو نفس عدم التذكية .

هذا ومن الواضح : ان جلد الحيوان في حال الحياة لم يكن مذكّى ، فبعد الموت لم نعلم انه ذكّي أو لم يذكّ ، فنستصحب عدم تذكيته ، فلا نريد إثبات شيء وجودي باستصحاب عدمي حتى يرد عليه : بانه إثبات لأمر أخص باستصحاب هو أعم .

إذن : فالشارع قد رتب النجاسة على أمر عدمي هو مجرد عدم التذكية ، لا أمر وجودي ( كما يرشد إليه ) أي : إلى كون موضوع النجاسة أمرا عدميا ، وهو عدم التذكية ، لا أمرا وجوديا ، وهو الموت حتف الأنف أو بالذبح الفاسد ( قوله تعالى : « إلاّ ما ذكّيتم » (1) ، الظاهر في ان المحرّم انما هو لحم الحيوان الذي لم يقع عليه التذكية ) وانما كان الظاهر من هذه الآية المباركة ذلك ، لأن الشارع جعل التذكية سببا للحل ، فإذا إنتفت التذكية إنتفت الحلية بنفسها من دون حاجة إلى أمر وجودي وهو الموت حتف الأنف أو الموت بالذبح الفاسد .

إذن : فالحرام عند الشارع هو مجرد غير المذكّى ، ومن المعلوم : التلازم بين

ص: 322


1- - سورة المائدة : الآية 3 .

واقعا أو بطريق شرعيّ ولو كان أصلاً ، وقوله تعالى : « ولا تأكُلوا ممّا لم يُذكَرِ اسمُ اللّه ِ عليه » ، وقوله تعالى : « فكُلوا مِمّا ذُكِرَ اسمُ اللّه ِ عليه » ،

-------------------

الحرمة والنجاسة في الحيوان الذي له نفس سائلة ولم يذكّ من غير فرق بين ان يكون غير مذكّى ( واقعا ) كما إذا قطعنا بانه لم يذكّ .

( أو ) يكون غير مذكّى ( بطريق شرعيّ ) تعبّدي كقيام شاهدين عادلين على انه لم يذكّ .

أو يكون غير مذكّى تعبّدا ( ولو كان ) ذلك الدليل التعبّدي ( أصلاً ) عمليا ، مثل إستصحاب عدم التذكية .

ومن المعلوم : ان عدم التذكية في الجلد المطروح يدل عليه الأمر الثالث وهو : إستصحاب عدم التذكية ، لأنه لم يكن مذكّى حال الحياة ، فنشك في انه هل ذكّي أم لم يذكّ ، فنستصحب عدمها ؟ .

( و ) كذا يرشد إلى ان موضوع النجاسة أمر عدمي ( قوله تعالى : « ولا تأكُلوا ممّا لم يُذكَرِ اسمُ اللّه ِ عليه » (1) ) فانه ظاهر في ان موضوع الحرمة هو : ما لم يذكّ ، وذلك على التقريب المتقدّم : من التلازم بين ما لم يذكر اسم اللّه عليه ، وبين النجاسة ، فانا إذا شككنا في ان هذا الجلد المطروح هل ذكر اسم اللّه عليه أم لا ؟ قلنا : بانه لم يذكر عليه حال الحياة ، فلا نعلم انه ذكر عليه حال الذبح أم لا ، فالأصل عدمه .

( و ) كذا ( قوله تعالى : « فكُلوا مِمّا ذُكِرَ اسمُ اللّه ِ عليه » (2) ) فانّ وجه الدلالة فيه يكون على نحو ما ذكرناه في آية : « ولا تأكلوا ممّا لم يُذكَرِ اسم اللّه ِ عليه » (3) .

ص: 323


1- - سورة الانعام : الآية 121 .
2- - سورة الانعام : الآية 118 .
3- - سورة الانعام : الآية 121 .

وقوله عليه السلام في ذيل موثّقة ابن بُكَير : «إذا كان ذكيّا ذكّاه الذابح» ، وبعض الأخبار المُعلِّلة لحرمة الصيد الذي اُرسل اليه كلابٌ ولم يُعلم أنّه مات بأخذ المعلّم بالشك في إستناد موته إلى المعلّم . إلى غير ذلك ممّا إشترط فيه العلم باستناد القتل إلى الرمي ، والنهي عن الأكل مع الشكّ .

-------------------

( و ) كذا ( قوله عليه السلام في ذيل موثّقة ابن بُكَير: «إذا كان ) الحيوان ( ذكيّا ذكّاه الذابح » (1) ) فيكون مفهومه : انه إذا لم يكن ذكيّا ذكّاه الذابح ، فليس بجائز ، سواء كان غير ذكي بالعلم ، أم غير ذكيّ بالبيّنة ، أم بالأصل ؟ وذلك على التقريب السابق .

( و ) كذا يرشد إليه ( بعض الأخبار المعلِّلة لحرمة الصيد الذي اُرسل اليه كلابٌ ولم يُعلم ) صاحبها وهو الصائد ( أنّه ) أي : الصيد ( مات بأخذ المعلّم ) له ، أو انه مات بغير ذلك ، فان مثل هذا الحيوان حرام وقد علّلت الرواية حرمته ( بالشك في إستناد موته إلى ) الكلب ( المعلّم ) (2) مما يعلم منه : ان مجرد الشك في حصول التذكية يوجب الحرمة .

( إلى غير ذلك ممّا إشترط فيه العلم باستناد القتل ) أي : قتل الصيد ( إلى الرمي ) بالشرائط المذكورة في باب الصيد ( والنهي عن الأكل مع الشكّ ) فيها .

إذن : فالآيات والروايات كلها تدل على ان موضوع الحرمة أمر عدمي هو : عدم التذكية ، ومن الواضح : ان عدم التذكية قابل للاستصحاب ، فلا نريد إثبات أمر وجودي بالأصل العدمي حتى يرد عليه : انه مثبت .

ص: 324


1- - الكافي فروع : ج3 ص397 ح1 (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج4 ص345 ب2 ح5344 (بالمعنى) .
2- - للتفصيل راجع موسوعة الفقه : ج75 النذر والصيد والذباحة ، للشارح .

ولا ينافي ذلك ما دلّ على كون حكم النجاسة مرتبا على موضوع الميتة، بمقتضى أدلّة نجاسة الميتة ، لأنّ الميتة عبارة عن : كلّ ما لم يذَكَّ ، لأنّ التذكية أمر شرعي توقيفي ، فما عدا المذكّى ميتةٌ .

-------------------

( و ) ان قلت : ترتب حكم الحرمة والنجاسة على موضوع وجودي هو : الميتة - بحسب الأدلة - ينافي ما ذكرتم : من ان موضوع الحرمة والنجاسة أمر عدمي هو : عدم التذكية ، فالموت والحياة على ما في الأدلة ضدان وجوديان ولذا قال سبحانه : « خلق الموت والحياة » (1) .

وفي الحديث : ان الموت يؤتى به في القيامة على صورة كبش ويذبح بين الجنة والنار ، فيعلم كل فريق انه لا موت بعد ذلك ، فأهل الجنة خالدون إلى الأبد ، وأهل النار خالدون إلى الأبد ، إلاّ ما شاء اللّه ، ولو كان إلى الموت سبيل بعد ذلك ، لمات أهل النار غما وهما ، ولمات أهل الجنة فرحا وسرورا .

وعليه : فإذا كان الموت والحياة أمران وجوديان ، لم يثبت باستصحاب عدم التذكية اللازم للحياة : الميتة ، التي هي موضوع الحرمة والنجاسة ، وذلك لأنه من الأصل المثبت .

ان قلت ذلك قلت : ( لا ينافي ذلك ) الذي ذكرناه : من ان موضوع الحرمة والنجاسة هو عبارة عن عدم التذكية لا ينافيه ( ما دلّ على كون حكم النجاسة مرتبا على موضوع الميتة ، بمقتضى أدلّة نجاسة الميتة ) .

وإنّما لا ينافي ذلك ما دل على ترتّب حكم النجاسة على موضوع الميتة ( لأنّ الميتة ) ليست أمرا وجوديا ، بل هي ( عبارة عن : كلّ ما لم يذَكَّ ، لأنّ التذكية أمر شرعي توقيفي ) ذكرها الشارع بشرائطها المقرّرة ( فما عدا المذكّى ميتةٌ )

ص: 325


1- - سورة الملك : الآية 2 .

والحاصل : أنّ التذكية سببٌ للحل والطهارة ، فكلّ ما شك فيه أو في مدخليّة شيء فيه ، فأصالة عدم تحقق السبب الشرعي حاكمةٌ على أصالة الحلّ والطهارة .

ثمّ

-------------------

لأن الشارع جعل التذكية سببا للحل والطهارة تعبّدا ، فبمجرّد عدمها يحصل الحرمة ، ولا يهمّنا بعد ذلك ان يكون الموت الخارجي أمرا وجوديا أو أمرا عدميا وان اختلفوا في ان الموت هل هو أمر وجودي أو أمر عدمي كما لا يخفى على من راجع علم الكلام وغيره ؟ .

( والحاصل : أنّ التذكية سبب للحل والطهارة ، فكلّ ما شك فيه ) أي : في تذكيته من اجزاء الحيوان التي تحلها الحياة : من لحم وشحم وجلد ( أو ) شك ( في مدخليّة شيء فيه ) أي : في التذكية بان لم يعلم - مثلاً - هل يشترط في التذكية وضع الحيوان على أحد جنبيه ، أو يكفي توجيهه نحو القبلة ولو واقفا كما يتم ذلك في نحر الابل فانه كلّما شك في شيء من ذلك ( فأصالة عدم تحقق السبب الشرعي حاكمة على أصالة الحلّ والطهارة ) .

وعليه : فليس المقام مجرى لقوله : «كل شيء لك حلال » ، « وكل شيء لك طاهر » لوضوح : ان موضوع أصل الحل وأصل الطهارة هو مشكوك الحلّية والطهارة ، وإستصحاب عدم التذكية يعيّن الحرمة والنجاسة ، وقد تقدّم ويأتي : ان الاستصحاب السببي لا يدع مجالاً للاستصحاب المسبّبي .

( ثمّ ) لا يقال : ان إستصحاب عدم التذكية لاثبات نجاسة الجلد المطروح هو : من إستصحاب الكلي لاثبات الفرد ، وإثبات الفرد لازم عقلي لاستصحاب الكلي ، فيكون من الاستصحاب المثبت .

ص: 326

إنّ الموضوع للحل والطهارة ومقابليهما هو اللحم ، أو المأكول فمجرد تحقق عدم التذكية في اللحم يكفي في الحرمة والنجاسة .

لكنّ الانصاف : أنّه لو علّق حكم النجاسة على من مات حتف الأنف ، لكون الميتة عبارة عن هذا المعنى - كما يراه بعضٌ - أشكل إثباتُ الموضوع بمجرّد أصالة عدم التذكية الثابتة حال الحياة ، لأنّ عدم التذكية السابق حال الحياة المستصحب إلى زمان خروج الروح لا يثبتُ

-------------------

لأنه يقال : انا نستصحب عدم تذكية هذا الجلد الخاص ، فلا يكون من الاستصحاب الكلي لاثبات الفرد حتى يكون مثبتا ، وذلك ( إنّ الموضوع للحل والطهارة ومقابليهما ) أي : الحرمة والنجاسة ( هو اللحم ، أو المأكول ) أو الجلد الخارجي الجزئي ( فمجرد تحقق عدم التذكية في اللحم يكفي في الحرمة والنجاسة ) أي : انّ الاستصحاب يجري في نفس الموضوع ، فيثبت به الحرمة والنجاسة ولا يكون من الاستصحاب المثبت .

إلى هنا ردّ المصنِّف تقرير الفاضل التوني طهارة الجلد المطروح ، ثم بدأ هو يقرّر الطهارة في صورة ثانية بقوله : ( لكنّ الانصاف : أنّه لو علّق حكم النجاسة ) والحرمة ( على ) أمر وجودي مثل : ( من مات حتف الأنف ) أو مات بالذبح الفاسد ( لكون الميتة عبارة عن هذا المعنى ) الوجودي ( كما يراه بعضٌ ) الفقهاء ( أشكل إثباتُ الموضوع ) أي : الميتة ( بمجرّد أصالة عدم التذكية الثابتة حال الحياة ) .

وإنّما يشكل إثبات الموضوع بذلك ( لأنّ عدم التذكية السابق حال الحياة المستصحب إلى زمان خروج الروح ) من الحيوان ( لا يثبتُ ) الميتة وهو :

ص: 327

كون الخروج حتف الأنف ، فيبقى أصالة عدم حدوث سبب نجاسة اللحم ، وهو الموت حتف الأنف ، سليمةً عن المعارض وإن لم يثبت به التذكية ، كما زعمه السيد الشارح للوافية ، فذكر أنّ أصالة عدم التذكية يُثبت الموت حتف الأنف ، وأصالة عدم حتف الأنف يثبت التذكية ،

-------------------

( كون الخروج حتف الأنف ) أو بالذبح الفاسد ، لأنه أصل مثبت .

وعليه : ( فيبقى أصالة عدم حدوث سبب نجاسة اللحم ، وهو ) أي : سبب النجاسة ( الموت حتف الأنف ) أو الذبح الفاسد ( سليمةً عن المعارض ) فلا أصل يعارض أصالة عدم حدوث سبب النجاسة ، فان الجلد كان حال حياة الحيوان طاهرا ، والآن نحكم بطهارته ، وكذلك سائر أجزاء الحيوان .

إذن : فأصل عدم حدوث سبب النجاسة حسب تقرير المصنِّف للحكم بالطهارة ، يثبت به الطهارة ( وإن لم يثبت به التذكية ، كما زعمه ) أي : زعم ثبوت التذكية ، ( السيد الشارح للوافية ) وهو السيد الصدر ، فانه قرر الحكم بالطهارة بصورة تعتمد على إثبات التذكية حسب زعمه ، بينما المصنِّف أثبت الطهارة دون التذكية .

وأمّا السيد الصدر ( فذكر ) حكم الطهارة بتقرير تعارض الأصلين : أصل عدم الموت حتف الأنف ، وأصل عدم الموت بالتذكية ، فيتعارضان ويتساقطان ويكون المرجع أصالة الحل ، وأصالة الطهارة ، لأنه إذا سقط الأصل السببي وهو أصل عدم التذكية بالتعارض ، لم يكن مانع من جريان الأصل المسبّبي وهو : أصل الحل ، وأصل الطهارة كما قال : ( أنّ أصالة عدم التذكية يُثبت الموت حتف الأنف، وأصالة عدم حتف الأنف يثبت التذكية ) فإذا أجرينا الأصلين المذكورين تعارضا وتساقطا ، فيكون المرجع حينئذ إلى أصل الطهارة أو إستصحابها ، وإلى أصل

ص: 328

فيكون وجه الحاجة إلى إحراز التذكية - مع أنّ الاباحة والطهارة لا تتوقف عليه بل يكفي إستصحابهما - أنّ إستصحاب عدم التذكية حاكمٌ على إستصحابهما ، فلولا ثبوت التذكية بأصالة عدم الموت حتف الأنف لم يكن مستندٌ للاباحة والطهارة .

-------------------

الحل أو إستصحابه .

وإنّما نرجع إلى أصل الطهارة أو إستصحابها ، لأن الحيوان حال حياته كان طاهرا ، فإذا شككنا في انه هل تنجس أم لا ؟ إستصحبنا طهارته .

وإنّما نرجع إلى أصل الحل أو إستصحابه ، لأن الحيوان حال حياته كان حلالاً ، فان الحيوان إنّما يحرم إذا مات بدون التذكية ، فما دام لم يمت كان حلالاً ، فإذا شك في انه بموته هل تبدل الحل إلى الحرمة أم لا ؟ كان الأصل الحل .

لا يقال : إذا أجريتم أصالة الحل وأصالة الطهارة في اللحم المشكوك تذكيته ، فلا حاجة إلى إحراز التذكية .

لأنه يقال : الحاجة إليه إنّما هو لأجل إحداث التعارض بين الأصلين والتساقط ، حتى يسلم أصل الحل وأصل الطهارة .

وإلى هذا الاشكال والجواب أشار المصنِّف بقوله : ( فيكون وجه الحاجة إلى إحراز التذكية مع انّ الاباحة والطهارة ) في اللحم المشكوك ( لا تتوقف عليه ) أي : على إحراز التذكية كما ذكرتم ( بل يكفي إستصحابهما ) أي : إستصحاب الاباحة وإستصحاب الطهارة في الحكم بالحلية والطهارة .

والجواب : إنّ وجه الحاجة إليه هو : ( أنّ إستصحاب عدم التذكية حاكمٌ على إستصحابهما ) أي : إستصحاب الاباحة والطهارة ( فلولا ثبوت التذكية بأصالة عدم الموت حتف الأنف لم يكن مستندٌ للاباحة والطهارة ) .

ص: 329

وكأنّ السيد قدس سره ذكر هذا ، لزعمه أنّ مبنى تمسّك المشهور على إثبات الموت حتف الأنف بأصالة عدم التذكية ،

-------------------

وعليه : فانا نجري أصالة عدم التذكية حتى يثبت الموت حتف الأنف ، ونجري أصالة عدم الموت حتف الأنف حتى يثبت التذكية ، فيتعارضان ويتساقطان ، فإذا تساقطا وصلت النوبة إلى أصالة الطهارة وإستصحابها ، وإلى أصالة الاباحة وإستصحابها .

قال في الأوثق : وحاصل ما ذكره : إنّ إجراء أصالة عدم الموت بحتف الأنف لاثبات التذكية ، وفرض التعارض بينها وبين أصالة عدم التذكية ، إنّما هو ليسلم إستصحاب الطهارة والحلية من المعارض ، وإلاّ فمع عدم إجراء أصالة عدم الموت بحتف الأنف لم يكن مستند للطهارة والحلية ، لكون أصالة عدم التذكية حاكمة على إستصحابهما .

ثم قال الأوثق : ان الطهارة يمكن إستنادها إلى القاعدة والاستصحاب ، واما الحلّية فهي مستندة إلى القاعدة ، خاصة فاطلاق الاستصحاب عليهما من باب التغليب (1) .

أقول : لكنّك قد عرفت : صحة إستصحاب الحلّية أيضا ، ويؤيده : انهم ذكروا حليّة بلع السمك الصغير الحي مستدلين عليه بانه حلال فإذا مات صار حراما إذا لم يكن بشروط التذكية .

هذا ( وكأنّ السيد ) الصدر ( قدس سره ذكر هذا ) التعارض بين الاستصحابين وتساقطهما ( لزعمه أنّ مبنى تمسّك المشهور على إثبات الموت حتف الأنف ) كان ( بأصالة عدم التذكية ) .

ص: 330


1- - أوثق الوسائل : ص492 ما أفاده الفاضل التوني في عدم جريان الاستصحاب في الكلي من القسم الثالث .

فيستقيم حينئذ معارضتهم بما ذكره السيد قدس سره فيرجع بعد التعارض إلى قاعدة الحلّ والطهارة وإستصحابهما .

لكن هذا كلّه مبنيٌ على ما فرضناه : من تعلّق الحكم على الميتة ، والقول بأنّها ما زهق روحه بحتف الأنف .

-------------------

وعليه : ( فيستقيم حينئذ ) أي : حين كان مبنى تمسكهم لاثبات الحرمة والنجاسة بأصالة عدم التذكية ( معارضتهم بما ذكره السيد قدس سره ) من أصالة عدم الموت حتف الأنف المثبت للتذكية ( فيرجع بعد التعارض ) بين الاستصحابين والتساقط ( إلى قاعدة الحل والطهارة وإستصحابهما ) أي : إستصحاب الحل والطهارة .

( لكن هذا كلّه ) الذي ذكره الفاضل التوني ، والسيد الصدر ، والمصنِّف في تقرير طهارة مشكوك التذكية ( مبنيٌ على ما فرضناه : من تعلّق الحكم ) بالنجاسة ( على ) أمر وجودي هو : ( الميتة ، والقول بأنّها ) أي : الميتة ( ما زهق روحه بحتف الأنف ) موتا طبيعيا ، أو بالذبح الفاسد ، علما بان في مسألة المذكّى والميتة أقوالاً ثلاثة :

الأوّل : ما ذهب إليه الفاضل التوني والسيد الصدر وهو : ان موضوع الطهارة أمر وجودي وذلك بان يكون الحيوان مذكّى ، وان موضوع النجاسة أيضا أمر وجودي وذلك بان يموت بغير الشرائط الشرعية ، سواء كان بحتف الأنف أم بالذبح الفاسد، وهذا هو ا لمراد بالميتة عندهم ، فالمذكّى والميتة عند مثل الفاضل التوني والسيد الصدر من قبيل البياض والسواد أمران وجوديان .

الثاني : ما ذهب إليه المشهور ، وهو : ان موضوع الطهارة أمر وجودي ، وذلك بان يكون الحيوان مذكّى ، وان موضوع النجاسة أمر عدمي وذلك بان لم يذكّ ،

ص: 331

...

-------------------

سواء مات حتف الأنف أم مات بالذبح غير الشرعي ، وهذا هو مراد المشهور من الميتة ، وبناءا على مرادهم فلا محيص عن الحكم بالنجاسة ، إذ يستصحب عدم كون هذا اللحم مذكّى فيثبت نجاسته .

الثالث : ان موضوع النجاسة هو مطلق ما زهق روحه ، سواء كان بالتذكية الصحيحة ، أم بالموت حتف الأنف ، أم بالذبح الفاسد ، وهذا هو المراد بالميتة وقد أخرج الشارع من هذا المطلق المذكّى ، فيكون موضوع الطهارة أخص من موضوع النجاسة ، فكلّما شك في انه هل خرج عن العام أم لا ؟ يتمسك بعموم العام ، فتثبت النجاسة .

إذن : فهو كما إذا قال المولى : اكرم العلماء ولا تكرم الفاسق منهم ، فانه إذا شككنا في ان زيدا العالم هل هو فاسق أم لا ؟ لزم التمسك فيه بالعموم ، لأن الخارج بحاجة إلى دليل ولا دليل ، كما انه ليس هذا من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فان ذلك إنّما هو فيما إذا لم نعلم بان زيدا عالم أم لا ؟ والمفروض : انا نعلم بأنّه عالم ، لكن لا نعلم هل انه خرج من عموم العام لأنه فاسق أم لا ؟ .

وكيف كان : فقد عرفت : ان الحكم بطهارة مشكوك التذكية مبني على كون النجاسة معلقة على أمر وجودي هو : الميتة التي هي عبارة عما زهق روحه بحتف الأنف أو بالذبح الفاسد ، بينما الحكم بنجاسة مشكوك التذكية يكون مبنيا على أحد إحتمالات ثلاثة :

الأوّل : تعلق النجاسة على أمر عدمي وهو : ما لم يذكّ ، أو لم يذكر اسم اللّه عليه.

الثاني : تعلق الحل على أمر وجودي هو ذبيحة المسلم ، أو ما ذكر

ص: 332

أمّا إذا قلنا بتعلّق الحكم على لحم لم يذكّ حيوانُه ، أو لم يذكر اسم اللّه عليه أو تعلّق الحلّ على ذبيحة المسلم ، أو ما ذكر اسم اللّه عليه ، المستلزم لانتفائه بانتفاء أحد الأمرين ولو بحكم الأصل ، ولا ينافي ذلك تعلّق الحكم في بعض الأدلّة الاُخر بالميتة ولا ما علّق فيه الحلّ على ما لم يكن ميتةً ،

-------------------

إسم اللّه عليه ، بحيث يكون الشك في هذا الأمر الوجودي مستلزما لانتفائه فيثبت حرمته ونجاسته .

الثالث : ان تكون الميتة ما زهق روحه مطلقا ، إلاّ ما خرج من المذكّى .

وإلى أول هذه الاحتمالات الثلاثة أشار المصنِّف بقوله : ( أمّا إذا قلنا بتعلّق الحكم ) بالنجاسة ( على ) أمر عدمي ، كجلد ، أو ( لحم لم يذكّ حيوانُه ، أو ) كجلد أو لحم ( لم يذكر اسم اللّه عليه ) فان عدم ذكر اسم اللّه سبحانه وتعالى عليه كعدم التذكية أمر عدمي فتثبت النجاسة .

وإلى ثاني الاحتمالات الثلاثة أشار بقوله : ( أو تعلّق الحلّ على ذبيحة المسلم ، أو ما ذكر اسم اللّه عليه ، المستلزم لانتفائه ) أي : إنتفاء الحل ( بانتفاء أحد الأمرين ) فإذا لم تكن الذبيحة للمسلم ، أو لم يذكر اسم اللّه عليه إنتفاءً ( ولو بحكم الأصل ) أي : بالاستصحاب ، إنتفى الحل ، وإذا إنتفى الحل فانه يثبت حرمته ونجاسته .

هذا ( ولا ينافي ذلك ) أي : ما قلناه في الاحتمال الثاني : من تعلق الحلّ بالتذكية، وتعلق الحرمة والنجاسة بعدم التذكية ( تعلّق الحكم ) بالنجاسة ( في بعض الأدلّة الاُخر بالميتة ) لما تقدّم : من ان المراد بالميتة : ما لم يذكّ ، لا انه عنوان وجودي حتى يكون من الضدّين .

( ولا ما علّق فيه الحلّ على ما لم يكن ميتةً ) لما تقدّم : من ان المراد منه :

ص: 333

كما في آية : « قُل لا أجِدُ » الآية ؛ أو قلنا : إنّ الميتة هو ما زهق روحُه مطلقا ، خرج منه ما ذكّى ، فإذا شك في عنوان المخرج فالأصل عدمه - فلا محيص عن قول المشهور .

ثم إنّ ما ذكره الفاضل التوني - من عدم جواز إثبات عمرو باستصحاب الضاحك ، المحقّق في ضمن زيد - صحيحٌ .

-------------------

المذكّى ، لا انه عنوان عدمي حتى يكون من الضدين ، فليس الأمر عدميّا ( كما في آية : « قُل لا أجِدُ ) فيما اُوحي إليّ مُحرّما على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة » (1) إلى آخر ( الآية ) فان ظاهر الآية على ان الحل إنّما هو في الحيوان الذي لم يكن ميتة .

وإلى ثالث الاحتمالات الثلاثة أشار بقوله : ( أو قلنا : إنّ الميتة هو ما زهق روحُه مطلقا ) مما يشمل الموت حتف الأنف ، والذبح الفاسد ، والذبح الجامع لشرائط التذكية ، فان كل ذلك ميتة في مقابل الحياة ، لكن ( خرج منه ما ذكّى ) فهو حلال ( فإذا شك في عنوان المخرج ) وانه مذكّى أم لا ؟ ( فالأصل عدمه ) أي : عدم ذلك العنوان وهو فيما نحن فيه : عدم كونه مذكّى فيثبت نجاسته .

إذن : ( ف ) على هذه الاحتمالات الثلاثة التي ذكرها المصنِّف وعرفتها مفصّلاً ، لم يبق مجال للقول بطهارة مشكوك التذكية ، بل ( لا محيص عن قول المشهور ) وهو : نجاسة مشكوك التذكية .

( ثم إنّ ما ذكره الفاضل التوني : من عدم جواز إثبات عمرو باستصحاب الضاحك ، المحقّق في ضمن زيد ) وذلك في مثال خروج زيد مع إحتمال دخول عمرو في الدار ، فنستصحب الضاحك الجامع بينهما ، فان عدم جواز إثباته بالاستصحاب ( صحيحٌ ) وذلك على ما تقدّم في أوائل القسم الثالث من أقسام

ص: 334


1- - سورة الانعام : الآية 145 .

وقد عرفت أنّ عدم جواز إستصحاب نفس الكلّي وإن لم يثبت خصوصيّته لا يخلو عن وجه ، وإن كان الحق فيه : التفصيل ، كما عرفت .

إلاّ أنّ كون عدم المذبوحية من قبيل الضاحك محلُّ نظر ،

-------------------

إستصحاب الكلي .

هذا ( وقد عرفت ) هناك : ( أنّ عدم جواز إستصحاب نفس الكلّي وإن لم يثبت خصوصيّته ) للفرد بإستصحابه ، فانه لا يجري لا من أجل إثبات نفس الكلي ، ولا من أجل إثبات خصوص فرد خاص من الكلي ، وهذا ( لا يخلو عن وجه ، وإن كان الحق فيه : التفصيل ، كما عرفت ) ذلك عند تقسيمنا القسم الثالث من أقسام إستصحاب الكلي ، حيث جوزنا الاستصحاب في مثل الفرد الشديد والضعيف إذا تبدلت الشدة إلى الضعف ، أو الضعف إلى الشدة .

إذن : فما ذكره الفاضل التوني : من عدم جواز إثبات عمرو باستصحاب الضاحك في ضمن زيد صحيح ، لكن تنظيره إستصحاب عدم المذبوحية الذي هو أمر عدمي ، باستصحاب الضاحك الذي هو أمر وجودي لم يكن صحيحا كما قال : ( إلاّ أنّ كون عدم المذبوحية من قبيل الضاحك محلُّ نظر ) .

وإنّما كان ذلك محل نظر ، لأن تنظيره هذا متفرِّع على التغاير الذي إدعاه بقوله : «ان عدم المذبوحية اللازم للحياة ، مغاير لعدم المذبوحية اللازم للموت حتف الأنف» مع ان التغاير إنّما يتم في الوجوديات لا في العدميات .

مثلاً : وجود الانسان في ضمن زيد غير وجوده في ضمن عمرو ، فهما حصتان من الوجود ، بينما العدم ليس كذلك ، فان عدم التذكية - مثلاً - عدم أزلي مستمر إلى ان يرفعه رافع ، ولا يتغيّر هذا العدم بتبادل مصاديقه : من الحياة ، أو الموت حتف الأنف ، أو بالذبح الفاسد ، فلا مانع من إستصحاب هذا العدم ، فانه في حال

ص: 335

من حيث أنّ عدم الأزليّ مستمرٌّ مع حياة الحيوان وموته حتف الأنف ؛ فلا مانع من إستصحابه وترتّب أحكامه عليه عند الشك وإن قُطِعَ بتبادل الوجودات المقارنة له .

-------------------

حياته لم يكن مذكّى ففي حال موته لم يكن مذكّى أيضا ، فالعدم أمر مستمر لا تغاير فيه .

وعلى هذا : فوجه النظر في كلام الفاضل التوني إنّما هو ( من حيث أنّ عدم الأزليّ ) وفي نسخة اُخرى : «العدم الأزلي» وهو أتقن ( مستمرٌّ مع حياة الحيوان وموته حتف الأنف ) أو بالذبح الفاسد ( فلا مانع من إستصحابه ) أي : إستصحاب هذا العدم الأزلي ( وترتّب أحكامه عليه عند الشك ) في إرتفاعه حتى ( وإن قُطِعَ بتبادل الوجودات المقارنة له ) أي : لهذا العدم ، فان الوجود الأوّل كان وجوده حيا، والوجود الثاني هو وجوده ميتا .

هذا ولا يخفى : إنّ قول المصنِّف : «عدم الأزلي» هو بتقدير الشيء ، يعني : عدم الشيء الأزلي ، ويقصد به هنا : عدم التذكية الأزلي ، غير انه جاء في نسخة اُخرى : «العدم الأزلي» وهو أوفق بالعربية .

وكيف كان : فان الفاضل التوني لم يصب في موردين :

الأوّل : في مراد المشهور حيث إستظهر انهم يقولون : بان موضوع النجاسة أمر وجودي وهو : الموت حتف الأنف ، وانهم يريدون بإستصحاب عدم التذكية إثبات ذلك ، وقد عرفت : ان موضوع النجاسة عند المشهور هو نفس عدم التذكية.

الثاني : ما تقدّم من تصوره ان عدم المذبوحية اللازم للحياة مغاير لعدم المذبوحية اللازم للموت حتف الأنف ، وقد عرفت : ان عدم المذبوحية ليس في أحد الأمرين غير عدم المذبوحية في الأمر الآخر ، فلا مانع إذن من إستصحابه .

ص: 336

بل لو قلنا بعدم جريان الاستصحاب في القسمين الأولين من الكلّي ، كان الاستصحاب في الأمر العدمي المقارن للوجودات خاليا عن الاشكال إذا لم يُرد به إثبات الموجود المتأخّر المقان له به ، نظير إثبات الموت حتف الأنف بعدم التذكية أو إرتباط الموجود المقارن له به .

-------------------

( بل لو قلنا بعدم جريان الاستصحاب في القسمين الأولين من الكلّي ، كان الاستصحاب في الأمر العدمي ) مثل : عدم التذكية ( المقارن للوجودات ) من الحياة ، والموت حتف الأنف أو بالذبح الفاسد شرعا ( خاليا عن الاشكال ) لما عرفت : من ان العدم أمر مستمر إلاّ أن يرفعه رافع .

ولا يخفى : ان التعبير عن العدم بالمقارن أو بسائر الأوصاف الوجودية ، كالتعبير عنه بكونه سببا أو مسبّبا أو وصفا أو ما أشبه ذلك كلها من التسامح ، كما أشرنا إلى ذلك في ما سبق .

هذا ، ولكن إستصحاب الأمر العدمي إنّما يصح ( إذا ) اُريد به إثبات نفس الأمر العدمي مثل عدم التذكية وما أشبه ذلك يعني : بأن ( لم يُرد به إثبات الموجود المتأخّر المقان له ) أي : للأمر العدمي ، وهو الأمر الوجودي مثل الميتة في المثال (به) أي: بالاستصحاب ، فإذا اُريد به ذلك ، كان من الأصل المثبت الذي ليس بحجة .

إذن : فلا يصح الاستصحاب فيما كان ( نظير إثبات الموت حتف الأنف ) المقارن ( بعدم التذكية ) يعني : مثلاً إذا كانت النجاسة مترتبة على الميتة ، يعني :

على أمر وجودي ، فلا يصح إستصحاب عدم التذكية لاثبات هذا الأمر الوجودي الذي هو الميتة في المثال حتى يترتب عليه النجاسة .

( أو ) لم يرد باستصحاب الأمر العدمي ( إرتباط الموجود المقارن له ) أي : للأمر العدمي ( به ) أي : بذلك الأمر العدمي ، فان الاستصحاب يجري في الأمر

ص: 337

كما إذا فرض الدليل على أنّ كلّ ما تقذفه المرأة من الدم إذا لم يكن حيضا فهي إستحاضة ، فانّ إستصحاب عدم الحيض في زمان خروج الدم المشكوك لا يوجب إنطباق هذا السلب على ذلك الدم وصدقه عليه حتى يصدق : « ليس بحيض » على هذا الدم فيحكم عليه بالاستحاضة ،

-------------------

العدمي لاثبات نفس الأمر العدمي دون إثبات غيره .

وعليه : فلا يصح إستصحاب الأمر العدمي إذا اُريد به إثبات الوجود المتأخر المشكوك ، أو اُريد به إثبات الربط بينه وبين الوجود المتأخر المعلوم .

وأمّا مثال لاثبات الربط بينه وبين الوجود المتأخر المعلوم فهو : ( كما إذا فرض الدليل على أنّ كلّ ما تقذفه المرأة من الدم إذا لم يكن حيضا فهي إستحاضة ) وذلك فيما إذا لم تعلم انه من دم البكارة ، أو دم الجرح ، أو ما أشبه ذلك .

إذن : فالمرأة إذا كانت طاهرة من الدم ، ثم رأت الدم وشكّت في انه حيض أو ليس بحيض ( فانّ إستصحاب عدم الحيض في زمان خروج الدم المشكوك ) الحيضية ( لا يوجب إنطباق هذا السلب ) أي : عدم الحيضيّة ( على ذلك الدم ) الحادث ( و ) لا يوجب ( صدقه ) أي : صدق عدم الحيضيّة ( عليه ) أي : على هذا الدم .

والحاصل : ان إستصحاب عدم الحيضيّة لا يثبت ان هذا الدم ليس بحيض ، لأن هذا الدم وجود مقارن لعدم الحيض ، لا ان هذا الدم هو نفس عدم الحيض ، فاستصحاب عدم الحيضية لا يثبت ان هذا الدم هو إستحاضة ( حتى يصدق : « ليس بحيض » على هذا الدم ) الحادث ( فيحكم عليه ) أي : على هذا الدم الحادث المشكوك كونه حيضا : ( بالاستحاضة ) .

ص: 338

إذ فرقٌ بين الدم المقارن لعدم الحيض ، وبين الدم المنفي عنه الحيضيّة .

وسيجيء نظير هذا الاستصحاب الوجودي والعدمي في الفرق بين الماء المقارن لوجود الكرّ وبين الماء المتصف بالكرّية ،

-------------------

وإنّما لا يحكم عليه بالاستحاضة ، لأنه كما قال : ( إذ فرقٌ بين الدم المقارن لعدم الحيض ، وبين الدم المنفي عنه الحيضيّة ) لوضوح : ان المقارن للشيء ، لا يوجب كونه وصفا لذلك الشيء ، فزيد - مثلاً - إذا كان في الليل ، فان عدم النهار يكون مقارنا لزيد ، لا انه يكون وصفا لزيد ، فعدم الحيضية مقارن لهذا الدم ، لا انه دم ليس بحيض .

( وسيجيء نظير هذا الاستصحاب الوجودي ) أي : مثل إستصحاب الضاحك لاثبات وجود عمرو في الدار بعد علمنا بخروج زيد منها وشكنا في انه هل دخل عمرو فيها أم لا ؟ ( و ) كذا نظيره ( العدمي ) أي : مثل إستصحاب عدم التذكية لاثبات وجود الموت حتف الأنف ، أو إستصحاب عدم الحيض لاثبات الربط بينه وبين الدم الموجود ، حتى يكون الدم الموجود ليس بحيض على طريق الوصف ممّا ينتج انه إستحاضة .

وعليه : فانه سيجيء نظيرهما من حيث الصحة وعدم الصحة عند بحثنا ( في الفرق بين الماء المقارن لوجود الكرّ ) فان الاستصحاب فيه مثبت ولا يجري على رأي المصنِّف ورأي المشهور من المتأخرين ( وبين الماء المتصف بالكرّية ) فانه غير مثبت ويجري فيه الاستصحاب .

مثلاً : إذا كان في الحوض ماء بقدر الكر ، ثم نقص من الماء مقدار لا يضرّ في الصدق العرفي ببقاء الموضوع ، فانه يجري فيه الاستصحاب من جهة ، ولا يجري فيه من جهة اُخرى .

ص: 339

والمعيار عدم الخلط بين المتصف بوصف عنواني ، وبين قيام ذلك الوصف بمحلّ ، فانّ إستصحاب وجود المتصف أو عدمه لا يثبتُ كون المحلّ موردا لذلك الوصف العنواني، فافهم .

-------------------

أمّا انه لا يجري فيه الاستصحاب : فلان إستصحاب وجود الكر في الحوض لاثبات الربط بينه وبين هذا الماء الباقي المقارن له من الأصل المثبت ، فهو نظير مقارنة الموت حتف الأنف لعدم التذكية بان يستصحب عدم التذكية ، فيثبت بذلك انه مات حتف أنفه .

وأمّا انه يجري فيه الاستصحاب : فلأن إستصحاب الكرية في نفس الماء المتصف بالكرية ليس من الأصل المثبت فيقال : هذا الماء كان كرا ، فشككنا بعد أخذ شيء منه في انه هل خرج عن الكرية أم لا ؟ فنستصحب كريته لبقاء الموضوع العرفي ، فان العرف يرون بقاء الموضوع في مثله كما أشرنا إلى ذلك سابقا.

( والمعيار ) في صحة الاستصحاب ، وعدم صحته : ( عدم الخلط بين المتصف بوصف عنواني ، وبين قيام ذلك الوصف بمحلّ ) .

فالأول: كما إذا قيل هذا الدم لم يكن حيضا فهو ليس بحيض فيصح فيه الاستصحاب.

والثاني : كما إذا قيل نستصحب عدم وجود الحيض ، فنحكم بان هذا العدم قائم بهذا الدم الخارج المشكوك كونه حيضا فلا يصح فيه الاستصحاب كما قال : ( فانّ إستصحاب وجود المتصف ) كإستصحاب وجود الكر ( أو عدمه ) كإستصحاب عدم الحيض ( لا يثبت كون المحلّ ) وهو في المثال : الماء الباقي في الحوض بعد أخذ شيء منه ، والدم الخارج بعد ان كانت المرأة طاهرة ( موردا لذلك الوصف العنواني ) لأنه مثبت .

(فافهم) ولعله إشارة إلى ان عدم حجية الأصل المثبت إنّما هو بناءا على إعتبار

ص: 340

الأمر الثاني :

إنّه قد علم من تعريف الاستصحاب وأدلّته أنّ مورده الشك في البقاء ، وهو : وجود ما كان موجودا في الزمان السابق ، ويترتّب عليه عدم جريان الاستصحاب في نفس الزمان ،

-------------------

الاستصحاب من باب الأخبار ، واما بناءا على إعتباره من باب الظن فلا فرق فيه بين الأصل المثبت وغيره ، لأن الظن كالخبر الواحد ونحوه سواء كان ظنا خاصا أم ظنا عاما إنسداديا يثبت مثبتاته : من اللازم والملزوم والملازم ، كما سيأتي الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالى .

( الأمر الثاني ) من تنبيهات الاستصحاب ، وهو : ( إنّه ) هل يصح إستصحاب الزمان والزمانيات ، أو ان دليل الاستصحاب لا يشملهما ؟ فانه ( قد علم من تعريف الاستصحاب ) وهو « إبقاء ما كان » ( وأدلّته ) الدالة على حجية الاستصحاب مثل «لا يُنقض اليقين بالشك» ونحوه : عُلم ( أنّ مورده الشك في البقاء ، وهو : وجود ما كان موجودا في الزمان السابق ) بان كان الشك في بقاء الموجود السابق بعينه ، لا ما إذا شك في شيء مغاير للموجود السابق .

( ويترتّب عليه ) أي : على إشتراط الاستصحاب بكونه موجودا في الزمان السابق يعني : بان يكون من الاُمور المستقرة الثابتة عرفا مثل : الحياة والطهارة ، والوجوب والحرمة ، والشرط والجزء ، ونحوها ، فانه حسب هذا الشرط يترتب عليه ( عدم جريان الاستصحاب في نفس الزمان ) كالليل والنهار والشهر والاسبوع وما أشبه ذلك .

مثلاً : اذا كان في نهار شهر رمضان فشك في أنه هل انقضى النهار حتى يجوز له الافطار ، أم لا حتى لا يجوز له ذلك ؟ أو كان في الليل فشك في انه هل إنقضى

ص: 341

ولا في الزمانيّ الذي لا إستقرار لوجوده ، بل يتجدّد شيئا فشيئا على التدريج ، وكذا في المستقرّ الذي يؤخذ قيدا له .

إلاّ أنّه يظهر من كلمات جماعة جريانُ الاستصحاب في الزمان ، فيجري في القسمين الأخيرين بطريق أولى ،

-------------------

الليل حتى يحرم عليه الأكل أم لا حتى لا يحرم عليه ؟ إلى غير ذلك من أمثلة الزمان فانه لا يجري الاستصحاب فيه .

( ولا ) يجري الاستصحاب أيضا ( في الزمانيّ الذي لا إستقرار لوجوده ، بل يتجدّد شيئا فشيئا على التدريج ) مثل : سيلان الدم في المرأة ، وسيلان النبع في الماء الذي إذا إنقطع نبعه صار قليلاً ، فان الدم السائل في اللحظة الثانية غير الدم في اللحظة الاُولى ، وكذلك الماء النابع في اللحظة الثانية غير الماء الذي نبع في اللحظة الاُولى ، وهكذا يكون التكلم والكتابة وما أشبه ذلك .

( وكذا ) لا يجري الاستصحاب أيضا ( في المستقرّ الذي يؤخذ ) الزمان ( قيدا له ) مثل : وجوب الصوم مقيّدا بيوم الجمعة ، فإذا شك في وجوب الصوم عليه يوم السبت وعدم وجوبه ، لا يجري فيه الاستصحاب ، لوضوح : ان الصوم يوم الجمعة غير الصوم يوم السبت .

( إلاّ أنّه يظهر من كلمات جماعة ) من العلماء : ( جريانُ الاستصحاب في الزمان ، فيجري ) الاستصحاب ( في القسمين الأخيرين ) أي : ما كان زمانيا أو كان الزمان قيدا له ( بطريق أولى ) فان عدم الجريان فيهما تابع لعدم الجريان في نفس الزمان ، فإذا جرى في الزمان كان الجريان فيهما أولى بنظر العرف .

والحاصل : ان عدم الجريان في الزمان والزماني إنّما هو لانقطاع الوجود السابق والشك في تجدّد اللاحق ، فلا يصدق البقاء على المشكوك ، والجريان إنّما هو

ص: 342

بل تقدّم من بعض الاخباريين : أنّ إستصحاب الليل والنهار من الضروريات .

والتحقيق : أنّ هنا أقساما ثلاثة :

أمّا نفس الزمان ، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ، لتشخيص كون الجزء المشكوك فيه من أجزاء الليل والنهار ، لأنّ نفس الجزء لم يتحقق في السابق ، فضلاً عن وصف كونه نهارا أو ليلاً .

-------------------

من جهة الوحدة العرفية وقد عرفت : ان معيار الاستصحاب هو بقاء الموضوع عرفا ( بل تقدّم من بعض الاخباريين : أنّ إستصحاب الليل والنهار من الضروريات ) فإذا جرى الاستصحاب في الليل والنهار ، جرى في الأمر المرتبط بهما بطريق أولى .

( والتحقيق : أنّ هنا أقساما ثلاثة ) كالتالي :

الأوّل : ( أمّا نفس الزمان ، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه لتشخيص كون الجزء المشكوك فيه من أجزاء الليل والنهار ) فيما إذا شككنا في انه هل إنقضى الليل أم لا ؟ أو هل إنقضى النهار أم لا ؟ .

وإنّما لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ( لأنّ نفس الجزء لم يتحقق في السابق فضلاً عن وصف كونه نهارا أو ليلاً ) فإذا شك في ان هذا الآن هل هو من أجزاء الليل أم لا ؟ وذلك فيما إذا كان السابق ليلاً ، فلا يصح الاستصحاب في نفس هذا الآن بأن يقال : هذا الآن كان سابقا من الليل فهو ليل ، لوضوح : ان نفس هذا الآن لم يكن موجودا سابقا ، فكيف بوصف كونه ليلاً ؟ وهكذا بالنسبة إلى إستصحاب الآنات في النهار .

ص: 343

نعم ، لو اُخِذَ المستصحب مجموع الليل أو النهار ولوحظ كونه أمرا خارجيا واحدا وجُعل بقاؤه وإرتفاعه عبارة عن عدم تحقق جزئه الأخير وتجدّده أو عن عدم تجدّد جزء مقابله وتجدّده ، لأنّ بقاء كلّ شيء في العرف بحسب ما يتصور العرف له من الوجود ، فيصدق : أنّ الشخص كان

-------------------

( نعم ، لو اُخِذَ المستصحب مجموع الليل أو النهار ) لا خصوص الآن المشكوك ، وذلك بان لم نقسِّم النهار أو الليل إلى آنات متعدّدة ، بل أخذنا الليل أو النهار وحدة واحدة ( ولوحظ كونه ) أي : كون هذا المجموع ( أمرا خارجيا واحدا ) فان العرف يرى النهار بجميع آناته المضيئة شيئا واحدا ، والليل بجميع آناته المظلمة شيئا واحدا ، لا إنه يراه متعدّدا .

هذا ( وجُعل بقاؤه ) أي : بقاء الليل - مثلاً - ( وإرتفاعه عبارة عن عدم تحقق جزئه الأخير ) فما لم يتحقق الجزء الأخير من الليل يستصحب بقاء الليل ( و ) عند ( تجدّده ) أي : تجدّد الجزء الأخير من الليل بان يعلم بتجدّده يرتفع الليل ، فليس له ان يستصحب الليل .

( أو ) جُعل بقاء الليل - مثلاً - عبارة ( عن عدم تجدّد جزء مقابله ) وهو النهار ، فما لم يتجدّد جزء النهار يستصحب بقاء الليل ( و ) عند ( تجدّده ) أي : تجدّد جزء النهار بان يعلم بتجدّده يرتفع الليل ، فليس له ان يستصحب الليل .

وإنّما يُجعل بقاء الليل - مثلاً - وإرتفاعه عبارة عما قلناه ( لأنّ بقاء كلّ شيء في العرف بحسب ما يتصور العرف له من الوجود ) فالعرف يتصور مجموع النهار شيئا واحدا ، ومجموع ما يقابله من الليل شيئا واحدا .

والحاصل : انه إذا لوحظ الليل أو النهار كذلك ( فيصدق : أنّ الشخص كان

ص: 344

على يقين من وجود الليل فشك فيه ، فالعبرة بالشك في وجوده العلم بتحققه قبل زمان الشك وإن كان تحققه بنفس تحقّق زمان الشك ، وإنّما وقع التعبير بالبقاء في تعريف الاستصحاب بملاحظة هذا المعنى في الزمانيات ، حيث جعلوا الكلام

-------------------

على يقين من وجود الليل فشك فيه ) فيستصحب وجود الليل ، كما إنه يصدق عليه : بانه كان على يقين من عدم وجود النهار فيستصحب عدم وجود النهار .

وعلى هذا : ( فالعبرة ) في إستصحاب الزمان كالليل أو النهار إنّما هو ( بالشك في وجوده ) أي : في وجود الزمان بعد ( العلم بتحققه ) أي : بتحقق ذلك الزمان واليقين بوجوده ( قبل زمان الشك ) فيه .

وعليه : فإذا علم - مثلاً - بوجود الليل ، ثم شك في انه هل إنقضى أم لا ؟ فانه يكفي في إستصحاب الليل مجرّد مثل هذا الشك ، لتمامية أركان الاستصحاب فيه حتى ( وإن كان تحققه ) أي : تحقق وجود الليل ( بنفس تحقّق زمان الشك ) لا شيء واقع في زمان الشك كما في الزمانيات .

مثلاً : لو شك في نهار شهر رمضان في بقاء النهار ، فان وجود النهار في آن الشك يكون بنفس حدوث هذا الآن المشكوك كونه نهارا ، لا ببقاء الآن السابق المتيقن كونه نهارا ، فالشك في ان هذا الآن نهار أم لا وان كان بالدقة العقلية شكا في الحدوث ، إلاّ انه بملاحظة كون المستصحب مجموع النهار وانه وحدة واحدة خارجا يكون شكا في البقاء عرفا ، ولذلك قال :

( وإنّما وقع التعبير بالبقاء في تعريف الاستصحاب بملاحظة هذا المعنى ) المذكور للبقاء وهو انّ بقاء كل شيء بحسبه عرفا ، ومنه : معنى البقاء ( في الزمانيات ) ومعنى البقاء في الزمان أيضا ، وذلك ( حيث جعلوا الكلام

ص: 345

في إستصحاب الحال أو لتعميم البقاء لمثل هذا مسامحةً .

إلاّ أنّ هذا المعنى

-------------------

في إستصحاب الحال ) وحينئذ فالاستصحاب في الزمان والزماني يكون للمسامحة العرفية .

وعليه : فالتعبير بالبقاء في تعريف الاستصحاب بالنسبة إلى الزمان والزماني يكون اما لملاحظة المعنى المذكور للبقاء ( أو لتعميم البقاء لمثل هذا ) الذي هو ليس ببقاء في الحقيقة وذلك ( مسامحةً ) فيكون البقاء في الزمان بقاء مسامحي ، لا بقاء حقيقي .

والحاصل : إنّ إستصحاب الزمان يكون بأحد وجهين :

الأوّل : ان نلاحظ أجزاء الزمان شيئا واحدا ، لأن العرف يراه كذلك ، فالتسامح يكون في المستصحب لا في الاستصحاب .

الثاني : ان نلاحظ أجزاء الزمان آنات متعدّدة ، لأنه حقيقة كذلك ، فالتسامح يكون في البقاء ، حيث أطلق البقاء على ما ليس ببقاء حقيقة ، من قبيل تسمية بقاء الولد بانه بقاء للوالد ، فالتسامح على هذا الثاني في الاستصحاب لا في المستصحب .

هذا ولا يخفى : ان هناك إحتمالاً ثالثا ليس من التصرف ، لا في المستصحب ، ولا في الاستصحاب وهو : ان يطلق النهار ، أو الليل ، أو الأسبوع ، أو الشهر ، أو السنة - مثلاً - على ما بين الحدّين مثل : ما بين الطلوع والغروب بالنسبة إلى النهار ، أو ما بين الغروب والطلوع بالنسبة إلى الليل ، أو ما بين أول الاسبوع وآخر الاسبوع بالنسبة إلى الاسبوع وهكذا فلا يحتاج الاستصحاب فيه إلى أحد التوجيهين المذكورين ، إذ لا تسامح في البين ( إلاّ أنّ هذا المعنى ) الذي ذكره

ص: 346

على تقدير صحته ، والاغماض عمّا فيه لا يكاد يجدي في إثبات كون الجزء المشكوك فيه متصفا بكونه من النهار أو من الليل حتى يصدق على الفعل الواقع فيه أنّه واقع في الليل أو النهار ، إلاّ على القول بالأصل المثبت مطلقا أو على بعض الوجوه الآتية .

-------------------

المصنّف : من التصرّف في المستصحب ، أو التصرّف في الاستصحاب ( على تقدير صحته ، والاغماض عمّا فيه ) من البعد لما عرفت : من ان الزمان آنات متعدّدة ، وان افراد الآنات مثل : افراد الانسان ، فانه على ذلك ( لا يكاد يجدي في إثبات كون الجزء المشكوك فيه متصفا بكونه من النهار أو من الليل ) .

وعليه : فان إستصحاب النهار مثلاً لا يثبت كون هذا الآن المشكوك نهارا ، لأنه من قبيل إستصحاب الكلي لاثبات الفرد وهو مع تبادل الافراد غير صحيح ، ولكن على فرض صحته بسبب التصرف في المستصحب أو في الاستصحاب فانه لا ينفعنا هنا ( حتى يصدق على الفعل ) من الأكل والشرب - مثلاً - ( الواقع فيه أنّه واقع في الليل أو النهار ، إلاّ على القول بالأصل المثبت مطلقا ) سواء كانت الواسطة جلية أم خفية ( أو على بعض الوجوه الآتية ) بأن تكون الواسطة خفية - مثلاً - .

والحاصل : انه قد يقال : بحجية الأصل المثبت حتى مع وضوح الواسطة وجلائها ، وقد يقال : بحجيته بشرط خفاء الواسطة ، فان هناك بين إستصحاب الكلي وبين إثبات الفرد واسطة ، وهي عبارة عن قياس خارجي عقلي ، وهو : انه كلّما كان الكلي موجودا كان الفرد موجودا ، وحيث نثبت بالاستصحاب وجود الكلي ، فلابد ان يكون ذلك الكلي في ضمن فرد فيترتب على ذلك الفرد أحكامه.

وعليه : فلا محيص عند إستصحاب الكلي لاثبات الفرد من واسطة ، سواء

ص: 347

ولو بنينا على ذلك أغنانا عمّا ذكر من التوجيه إستصحابات اُخر ، واُمورا متلازمةً مع الزمان ، كطلوع الفجر

-------------------

كانت جلية أم خفية ، ويمثلون للواسطة الجلية بمثل إستصحاب حياة الولد الموجبة للتصدق - فيما لو غاب الولد وقد نذر الأب التصدق إذا نبتت لحية ولده - فان الواسطة بينهما هو نبات للحية ، لكن يراها العرف جلية ، لأنه يرى ان التصدق مترتب على نبات اللحية لا على نفس الحياة .

ويمثلون للواسطة الخفية بمثل : إستصحاب الرطوبة في النجس الموجبة لتنجس الملاقي ، فان الواسطة بينهما هي السراية لكن يراها العرف خفية ، لأنه يرى ان التنجس مترتّب على نفس الرطوبة لا على السراية .

( و ) كيف كان : فانه ( لو بنينا على ذلك ) أي : على القول بالأصل المثبت سواء أصلاً مثبتا مطلقا ، أم أصلاً مثبتا في صورة خفاء الواسطة ، فقد ( أغنانا ) هذا البناء ( عمّا ذكر من التوجيه ) في صحة إستصحاب الزمان والزماني بأحد التوجيهين : من التصرف في المستصحب ، أو التصرف في الاستصحاب ، فانه يغنينا عن ذلك ( إستصحابات اُخر ، واُمورا متلازمةً مع الزمان ) .

والحاصل : ان إستصحاب الليل أو النهار أو ما أشبه ذلك من الزمان والزماني إذا إحتاج إلى التصرف في المستصحب أو الاستصحاب ، وكان مع ذلك متوقفا على حجية الأصل المثبت وقلنا بحجيته ، فلا داعي إلى مثل هذا الاستصحاب المستلزم للتصرف فيه .

وإنّما لا داعي إلى مثل هذا الاستصحاب ، لأن هناك إستصحابات اُخر مثبتة ولا تحتاج إلى التصرف في المستصحب أو الاستصحاب ( كطلوع الفجر ) فانه إذا شك في الليل بانه هل طلع الفجر حتى يحرم عليه الأكل والشرب ، أو لم يطلع

ص: 348

وغروب الشمس ، وذهاب الحمرة وعدم وصول القمر إلى درجة يمكن رؤيته فيها .

فالأولى التمسك في هذا المقام

-------------------

حتى يحلّ عليه ؟ فانه يستصحب عدم طلوع الفجر ، ولازمه بقاء الليل وجواز الاتيان بالمفطرات .

( و ) مثل ( غروب الشمس ، وذهاب الحمرة ) فانه إذا شك في النهار بانه هل غربت الشمس وذلك إذا قلنا بان غروب الشمس هو ميزان الافطار والصلاة ، أو انه هل ذهبت الحمرة وذلك إذا قلنا بان ذهاب الحمرة هو الميزان كما هو المشهور عند الشيعة ؟ فانه يستصحب عدم الغروب ، وعدم ذهاب الحمرة ، ويلزمه بقاء النهار وحرمة الاتيان بالمفطرات .

( و ) مثل ( عدم وصول القمر إلى درجة يمكن رؤيته فيها ) فان القمر إذا إبتعد عن الشمس زهاء إثنتي عشرة درجة وقع فيه النور وصار قابلاً للرؤية وبه يدخل الشهر الجديد ، فإذا شككنا في انه هل وصل القمر إلى هذه الدرجة أم لا ؟ فالأصل عدم وصوله إليها ، مما لازمه بقاء الشهر السابق وعدم دخول الشهر اللاحق ، وهذا يجري في كل الشهور ، لا خصوص شهر رمضان وشوال وذي الحجة .

وكذلك لو شككنا في ان القمر هل وصل إلى درجة المحاق ، حيث يكره الزواج فيه ، أم لا حتى لا يكون الزواج مكروها ؟ .

هذا ، وقد تقدّم من المصنِّف في التنبيه السابق : ان إستصحاب الأمر العدمي المقارن للوجودات المتعاقبة المتجدّدة خال عن الاشكال .

وكيف كان : فبعد كون إستصحاب الزمان يحتاج إلى التوجيه وانه مثبت على ماعرفت ( فالأولى التمسك في هذا المقام ) أي : مقام ترتيب الأحكام السابقة

ص: 349

باستصحاب الحكم المرتّب على الزمان لو كان جاريا فيه ، كعدم تحقق حكم الصوم والافطار عند الشك في هلال رمضان أو شوّال ، ولعلّه المراد بقوله عليه السلام في المكاتبة المتقدّمة في أدلّة الاستصحاب : « اليقينُ لا يدخلُه الشك ، صُمْ للرؤية ، وأفطِر للرؤية » ،

-------------------

بالنسبة إلى الزمان والزماني ( باستصحاب ) ثالث وهو : إستصحاب ( الحكم المرتّب على الزمان لو كان ) الاستصحاب ( جاريا فيه ) أي : في الزمان .

وعليه : فلا يستصحب الزمان لما عرفت : من انه مثبت ومحتاج إلى التوجيه ، وإنّما يستصحب نفس الحكم المترتب على الزمان ، لأن إستصحاب الحكم لا يحتاج إلى التوجيه السابق ، كما لم يكن مثبتا ، وذلك ( كعدم تحقق حكم الصوم ) فيما إذا شك في انه هل صار شهر رمضان أم لا ؟ ( و ) عدم تحقق حكم ( الافطار ) فيما إذا شك في انه هل صار شهر شوال أم لا ؟ .

إذن : فاستصحاب الحكمين المذكورين ( عند الشك في هلال رمضان أو شوّال ) خالٍ عن المحذور .

وهكذا إستصحاب عدم إستحباب ما ورد في شهر ذي الحجة وما ورد في شهر رجب ، إلى غير ذلك .

( ولعلّه ) أي : لعل الاستصحاب الحكمي هو ( المراد بقوله عليه السلام في المكاتبة المتقدّمة في أدلّة الاستصحاب : « اليقينُ لا يدخلُه الشك ، صُمْ للرؤية ، وأفطِر للرؤية » (1) ) .

والحاصل : انّه يمكن ان يكون مراده عليه السلام في المكاتبة : إستصحاب

ص: 350


1- - تهذيب الاحكام : ج4 ص159 ب1 ح17 ، الاستبصار : ج2 ص64 ب33 ح12 ، وسائل الشيعة : ج10 ص256 ب3 ح13351 .

إلاّ أنّ جواز الافطار للرؤية لا يتفرّع على الاستصحاب الحكمي ، إلاّ بناءا على جريان إستصحاب الاشتغال والتكليف بصوم رمضان ، مع أنّ

-------------------

الموضوع ، فيكون المعنى حينئذ : اليقين بوجود شعبان لا يدخله الشك في مجيء رمضان فلا يصام قبل الرؤية ، كما ان اليقين بوجود رمضان لا يدخله الشك في دخول شوال فلا يفطر قبل الرؤية .

ويمكن ان يكون مراده عليه السلام في المكاتبة: إستصحاب الحكم على ما ذكرناه من قولنا : فالأولى التمسك في هذا المقام بإستصحاب الحكم المرتب على الزمان، فيكون المعنى حينئذ : اليقين بعدم وجوب الصوم لا يدخله الشك في الوجوب ، فلا يصام بدون الرؤية، كما ان اليقين بحرمة الافطار لا يدخله الشك في عدم الحرمة ، فلا يفطر دون الرؤية .

وعليه : فالرواية محتملة للاستصحاب الموضوعي ، كما انها محتملة للاستصحاب الحكمي أيضا ( إلاّ أنّ ) تفريع جواز الافطار للرؤية على الاستصحاب الحكمي أعني : الوجوب ، لا يخلو من إشكال .

وإنّما قلنا انه لا يخلو من إشكال ، لأن الشك في خروج شهر رمضان ، شك في وجوب الزائد ، والزائد مجري للبرائة ، فلا يصح إستصحاب الوجوب والاشتغال حتى يتفرع عليه : أفطر للرؤية ، فان الانسان إذا شك في ان الواجب عليه صوم ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين ، فالأصل عدم وجوب الزائد ، لأنه من الأقل والأكثر غير الارتباطيين وقد تقدّم انه مجرى للبرائة كما قال :

فان ( جواز الافطار للرؤية لا يتفرّع على الاستصحاب الحكمي ، إلاّ بناءا على جريان إستصحاب الاشتغال و ) إستصحاب ( التكليف بصوم رمضان ، مع أنّ

ص: 351

الحقّ في مثله التمسك بالبرائة لكون صوم كلّ يوم واجبا مستقلاً .

وأمّا القسم الثاني : أعني : الاُمور التدريجيّة غير القارّة ، كالتكلّم ، والكتابة ، والمشي ، ونبع الماء من العين ، وسيلان دم الحيض من الرحم ، فالظاهرُ : جواز إجراء الاستصحاب فيما يمكن أن يفرض فيها أمرا واحدا مستمرّا

-------------------

الحقّ في مثله ) من الشك في الأقل والأكثر الاستقلاليين ( التمسك بالبرائة ) لا بالاشتغال والاحتياط .

وإنّما كان الحق هنا التمسك بالبرائة لا بالاشتغال ( لكون صوم كلّ يوم واجبا مستقلاً ) غير مرتبط ببقية الأفراد ، ولهذا إذا صام كل شهر رمضان إلاّ يوما واحدا لم يصمه عصيانا ، كان صيامه لباقي الأيام صحيحا غير مرتبط بهذا الافطار العمدي في اليوم الواحد ، إلى غير ذلك مما تقدّم في مسألة الأقل والأكثر غير الارتباطيين .

هذا تمام الكلام في القسم الأوّل من الاُمور التدريجية غير القارة الذي هو الزمان .

( وأمّا القسم الثاني : أعني : الاُمور التدريجيّة غير القارّة ) التي تسمّى بالزمانيات ( كالتكلّم ، والكتابة ، والمشي ، ونبع الماء من العين ، وسيلان دم الحيض من الرحم ) وغيرها من الزمانيات فما هو حكم الاستصحاب فيها ؟ .

مثلاً : إذا قال المولى لعبده : إبق في الدار ما دام الخطيب يتكلم ، أو ما دام فلان يكتب ، أو مادام يمشي ، أو ما دام ينجر الخشب ، أو يبني الدار ، أو ما أشبه ذلك من الاُمور التدريجية الزمانية ( فالظاهرُ : جواز إجراء الاستصحاب فيما يمكن أن يفرض فيها أمرا واحدا مستمرّا ) عرفا .

وعليه : فما كان من الزمانيات بنظر العرف أمرا واحدا جرى فيه الاستصحاب

ص: 352

نظير ما ذكرناه في نفس الزمان فيفرض التكلّم - مثلاً - مجموعُ أجزائه أمرا واحدا ، والشك في بقائه لأجل الشك في قلّة أجزاء ذلك الفرد الموجود منه في الخارج وكثرتها ، فيستصحب القدر المشترك المردّد بين قليل الأجزاء وكثيرها .

-------------------

مثل تكلم الخطيب في مجلس واحد فان مجموعه يعدُّ عرفا أمرا واحدا وفردا من افراد كلي التكلم الصادق على هذا الفرد من التكلم وعلى غيره ، سواء كان تكلما من هذا الخطيب نفسه أم من سائر الخطباء .

وهكذا يكون بنظر العرف حال الكتابة والمشي ونجر الخشب والاشتغال بالبناء وغير ذلك .

إذن : فما ذكرناه من فرض الوحدة في الزمانيات يكون ( نظير ما ذكرناه ) من فرض الوحدة ( في نفس الزمان ) حيث ذكرنا : ان الزمان شيء واحد عرفا وان كان له أجزاء تدريجية دقة ، لكن عرفت : ان النظرة الدقية ليست مناطا في باب الاستصحاب ، وإنّما المناط هو النظر العرفي ، وإستصحاب كل شيء إنّما هو بحسبه ، كما تقدّم ذلك في الزمان .

وعليه : ( فيفرض التكلّم - مثلاً - مجموعُ أجزائه ) الحاصلة في مجلس واحد من خطيب واحد ( أمرا واحدا ، والشك في بقائه ) يكون حينئذ ( لأجل الشك في قلّة أجزاء ذلك الفرد الموجود منه ) أي : من التكلم ( في الخارج وكثرتها ) أي : كثرة الأجزاء ، فيكون من قبيل الشك في ان الفرد الموجود من الحيوان في حديقة الحيوانات هل هو الفرد الذي يعيش قصيرا - مثلاً - أو يعيش طويلاً ؟ .

وهنا نستصحب كليّ التكلّم كما قال : ( فيستصحب القدر المشترك ) من التكلم ( المردّد بين قليل الأجزاء وكثيرها ) كما نستصحب كلي الحيوان المردّد

ص: 353

ودعوى : « أنّ الشك في بقاء القدر المشترك ناش عن حدوث جزء آخر من الكلام والأصل عدمه المستلزم لارتفاع القدر المشترك ، فهو من قبيل القسم الثالث من الأقسام الثلاثة المذكورة في الأمر السابق » ،

-------------------

بين الطويل والقصير ، فيلزم على العبد البقاء في الدار ، ما دام لم يعلم إنتهاء الخطبة ، أو لم يقم دليل شرعي على الانتهاء .

وهكذا يكون حال إستصحاب نبع الماء من العين حتى يكون مطهّرا لأنه جار .

وكذا يكون إستصحاب سيلان الدم من الرحم حتى تكون المرأة في حيض أو نفاس أو إستحاضة .

( و ) ان قلت : لا يصح مثل هذا الاستصحاب ، وذلك لأجل ( دعوى : « أنّ الشك في بقاء القدر المشترك ) من التكلم ، أو الدم ، أو نبع الماء ، أو ما أشبه ذلك ( ناش عن حدوث جزء آخر من الكلام ) غير الجزء المتيقن سابقا ( والأصل عدمه المستلزم ) هذا العدم ( لارتفاع القدر المشترك ) .

وإنّما يستلزم ذلك إرتفاع القدر المشترك ، لأن الفرد الذي حصل الكلي في ضمنه سابقا قد زال قطعا ، والفرد الذي يحتمل حصول الآن في ضمنه لم يكن متحققا ، والأصل عدمه ، فكيف يمكن إستصحاب الكلي مع انه من قبيل مثال خروج زيد والشك في دخول عمرو مقارنا لخروجه ؟ .

إذن : ( فهو ) أي : إستصحاب كلي التكلم والدم ، ونبع الماء ، وما أشبه ذلك من الزمانيات ( من قبيل ) إستصحاب الكلي ( القسم الثالث من الأقسام الثلاثة المذكورة في الأمر السابق » ) أي : مثل خروج زيد ودخول عمرو ، وقد قلنا بعدم إستصحاب كلي الانسان فيه .

ص: 354

مدفوعةٌ : بأنّ الظاهر كونه من قبيل الأوّل من تلك الأقسام الثلاثة ، لأنّ المفروض في توجيه الاستصحاب جعل كلّ فرد من التكلّم مجموع ما يقع في الخارج من الأجزاء التي يجمعها رابطةٌ يوجب عدّها شيئا واحدا ، وفردا من الطبيعة ، لا جعل كلّ قطعة من الكلام الواحد فردا واحدا حتى يكون بقاء الطبيعة بتبادل افراده غاية الأمر كون المراد بالبقاء هنا

-------------------

إن قلت ذلك ، قلت : ان هذه الدعوى ( مدفوعةٌ : بأنّ الظاهر كونه من قبيل ) إستصحاب الكلي القسم ( الأوّل من تلك الأقسام الثلاثة ) .

وإنّما يكون من القسم الأوّل من الأقسام الثلاثة ( لأنّ المفروض في توجيه الاستصحاب ) في المقام : ( جعل كلّ فرد من التكلّم مجموع ما يقع في الخارج من الأجزاء التي يجمعها رابطةٌ يوجب عدّها شيئا واحدا ، وفردا من الطبيعة ) لا أن التكلم السابق فرد والتكلم اللاحق فرد ، حتى يكون من قبيل خروج زيد ودخول عمرو .

وعليه : فليس المقام من قبيل إستصحاب الكلي مع تبادل الأفراد ، بل هو من استصحاب الكلي القسم الأوّل وهو ما كان الشك في الكلي من جهة الشك في بقاء الفرد المتحقق هو في ضمنه .

إذن : فالمفروض هو جعل مجموع الكلام الواحد في المثال شيئا واحدا ( لا جعل كلّ قطعة من الكلام الواحد فردا واحدا حتى يكون بقاء الطبيعة ) أي : الكلي ( بتبادل افراده ) .

نعم ( غاية الأمر ) ان نقول في توجيه الاستصحاب في الزماني : بانه مثل الاستصحاب في نفس الزمان على ما ذكرناه سابقا : من ( كون المراد بالبقاء هنا

ص: 355

وجود المجموع في الزمان الأوّل بوجود جزء منه ، ووجوده في الزمان الثاني بوجود جزء آخر منه .

والحاصل : أنّ المفروض كون كلّ قطعة جزءا من الكلّ ، لا جزئيّا من الكلّي .

هذا ،

-------------------

وجود المجموع في الزمان الأوّل ) من حيث المجموع ( بوجود جزء منه ، ووجوده في الزمان الثاني بوجود جزء آخر منه ) وقد تقدّم : ان الجزء الثاني والجزء الأوّل حسب المسامحة العرفية بالتصرف في المستصحب أو الاستصحاب مما يشمله دليل الاستصحاب .

( والحاصل : أنّ المفروض كون كلّ قطعة جزءا من الكلّ ، لا جزئيّا من الكلّي ) فاذا فرضناه جزءا من الكل كان للكل وحدة واحدة فتكون قابلة للاستصحاب ، بينما إذا فرضناه جزئيا من الكلي مثل : افراد الانسان التي هي جزئيات من كلي الانسان لم تكن للافراد وحدة واحدة ، فلا تكون قابلة للاستصحاب ، ولذا قلنا : بعدم جريان الاستصحاب إذا علم بخروج زيد وشك في دخول عمرو مقارنا لخروج زيد .

والحاصل : انه إذا فرضنا مجموع كلمات الخطيب وحدة واحدة كان من القسم الأوّل ، وإذا فرضنا كل جملة من كلمات الخطيب فردا لكلي الكلام كان من القسم الثالث ، وهكذا بالنسبة إلى قطرات الدم ، وقطرات الماء ، وغيرها من الاُمور التدريجية .

( هذا ) هو توجيه من توجيهات الاستصحاب في التدريجيات ، ويمكن أيضا توجيه الاستصحاب فيها بوجه آخر وهو : ملاحظة ان العرف يرى الفرد اللاحق

ص: 356

مع ما عرفت في الأمر السابق : من جريان الاستصحاب فيما كان من القسم الثالث ، فيما إذا لم يعدّ الفرد اللاحق على تقدير وجوده موجودا آخر مغايرا للموجود الأوّل كما في السواد الضعيف الباقي بعد ارتفاع القويّ ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فافهم .

-------------------

هو عين الفرد السابق حتى كأنه هو الفرد الأوّل قد بقي مستمرا ، فيكون حينئذ من الموارد الجائزة الاستصحاب من أقسام الكلي القسم الثالث كما قال :

( مع ما عرفت في الأمر السابق : من جريان الاستصحاب فيما كان من القسم الثالث ، فيما إذا لم يعدّ الفرد اللاحق على تقدير وجوده موجودا آخر مغايرا للموجود الأوّل كما ) مثّلنا له ( في السواد الضعيف الباقي بعد ارتفاع القويّ ) من السواد ( وما نحن فيه من هذا القبيل ) .

وعليه : فالكلام الطويل بنظر العرف فرد ضعيف ، والكلام القصير فرد شديد ، فإذا زال الكلام القصير الذي هو فرد شديد وشك في بقاء الفرد الضعيف ، إستصحب كلي الكلام الشامل لهما ، كاستصحاب كلي السواد الشامل للقوي والضعيف .

وإنّما يفرض الكلام القصير فردا شديدا ، والطويل فردا ضعيفا ، لضعف إستعداد المتكلِّم للكلام الطويل ، بالنسبة إلى استعداده للتكلم بالكلام القصير ، وهكذا بالنسبة إلى أول الماء وآخر الماء المشكوك وجوده وعدمه ، وأول الدم وآخر الدم ، إلى غير ذلك من الأمثلة .

( فافهم ) ولعله إشارة إلى ان الجزء الثاني من الأمر التدريجي ليس بنظر العرف ضعيفا والجزء الأوّل شديدا ، حتى يقاس ما نحن فيه بالسواد الشديد والضعيف، أو لعله إشارة إلى الفرق بين التوجيهين فانه دقيق .

ص: 357

ثم إنّ الرابطة الموجبة لعدّ المجموع أمرا واحدا موكولةٌ إلى العرف ، فانّ المشتغل بقرائة القرآن لداعٍ يُعَدُّ جميع ما يحصل منه في الخارج بذلك الداعي أمرا واحدا ، فإذا شك في بقاء اشتغاله بها في زمان لأجل الشك في حدوث الصارف أو لأجل الشك في مقدار إقتضاء الدّاعي ، فالأصل بقاؤه .

-------------------

( ثم إنّ الرابطة الموجبة لعدّ المجموع أمرا واحدا ) بعد أن كان في الحقيقة افرادا متعددة ، لأن كل جزء من التدريجي فرد غير الفرد الآخر ، فاللازم وجود الكلي الرابط بين الافراد ، وهذه الرابطة ( موكولةٌ إلى العرف ، فانّ ) العرف هو المعيار في بقاء الشيء السابق وعدم بقائه .

مثلاً : ( المشتغل بقرائة القرآن لداعٍ ) خاص كمجلس ديني ، أو حفل تعليمي ، فانه ( يُعَدُّ جميع ما يحصل منه في الخارج بذلك الداعي أمرا واحدا ) عرفا ( فإذا شك في بقاء اشتغاله بها في زمان ) لاحق فانّ شكه يكون على أحد وجهين :

إمّا ( لأجل الشك في حدوث الصارف ) وذلك فيما إذا أحرز المقتضي للاستمرار ، ثم احتمل طروّ المانع والصارف عنه ، بان علم - مثلاً - انه كان يريد قرائة القرآن إلى الظهر ، ثم شك قبل ساعة من الظهر في انه هل إنصرف لأجل مجئضيف له أم لا ؟ .

( أو لأجل الشك في مقدار إقتضاء الدّاعي ) بان كان الشك في المقتضي ومقدار الاستعداد ، كما إذا شك بانه هل كان يريد قرائة أمّن يجيب ألف مرة أو عشرة آلاف مرة - مثلاً - ؟ .

وعليه : فإذا شك في بقاء إشتغاله بقرائة القرآن سواء كان في المقتضي أم في الرافع ( فالأصل بقاؤه ) أي : بقاء إشتغاله بقرائة القرآن عند من يرى حجية الاستصحاب في الشك في الرافع والشك في المقتضي معا ، امّا من لا يرى حجية

ص: 358

أمّا لو تكلم لداعٍ أو لدواع ثمّ شك في بقائه على صفة التكلّم لداع آخر ، فالأصل عدم حدوث الزائد على المتيقن .

وكذا لو شك بعد إنقطاع دم الحيض في عوده في زمان يحكم عليه بالحيضيّة أم لا ، فيمكن إجراء الاستصحاب

-------------------

الاستصحاب في الشك المقتضي ، فلا يجري الاستصحاب في الأمر الثاني الذي ذكره المصنِّف بقوله : أو لأجل الشك في مقدار إقتضاء الدّاعي .

و ( أمّا لو تكلم لداعٍ ) خاص في مجلس ( أو لدواع ) متعددة في مجالس متعددة ( ثمّ شك في بقائه على صفة التكلّم لداع آخر ) في نفس المجلس أو مجلس آخر بان كان - مثلاً - داعيه الأوّل الوعظ والارشاد ، وكان داعيه الثاني الابكاء لأجل مصيبة الامام الحسين عليه السلام ( فالأصل عدم حدوث الزائد على المتيقن ) فلا يستصحب بالنسبة إلى المجلس الثاني ، كما لا يستصحب بالنسبة إلى المجلس الأوّل لداع آخر في المتعدّد الدّواعي .

( وكذا لو شك بعد إنقطاع دم الحيض في عوده في زمان يحكم عليه بالحيضيّة ) وذلك قبل تجاوز العشرة فانهم ذكروا : ان دم الحيض يمكن ان يمتد إلى عشرة أيام ( أم لا ) بان لم يُعد في العشرة ، فإذا شك في ذلك ( فيمكن إجراء الاستصحاب ) واعتداد ما بقي إلى العشرة حيضا .

مثلاً : إذا علم بانقطاع السيلان في اليوم الخامس وإحتمل عوده في اليوم السابع ولم يتجاوز العشرة حسب الفرض ، فيمكن إستصحاب الحيض ، لأن سيلان الدم ثانيا وان كان شكا في مقدار إقتضاء الطبيعة لذلك إلاّ انه يعدّ مع سيلانه الأوّل أمرا واحدا عرفا ، فيكون من قبيل الشك في مقدار إقتضاء الحيوان للبقاء في الفرد القصير والطويل حيث يستصحب بقاء الحيوان ، فكذلك يستصحب بقاء الحيض.

ص: 359

نظرا إلى أنّ الشك في إقتضاء طبيعتها لقذف الرحم الدم في أيّ مقدار من الزمان ، فالأصل عدم إنقطاعه .

وكذا لو شُك في اليأس فرأت الدمَ ، فانّه قد يقال : باستصحاب الحيض ، نظرا إلى كون الشك في إنقضاء ما إقتضته الطبيعة من قذف الحيض في كلّ شهر .

وحاصل وجه الاستصحاب ملاحظة كون الشك في إستمرار الأمر الواحد

-------------------

وإنّما يمكن إجراء إستصحاب الحيض ( نظرا إلى أنّ الشك في إقتضاء طبيعتها لقذف الرحم الدم في أيّ مقدار من الزمان ) هل هو خمسة أيام أو أكثر من ذلك ؟ ( فالأصل عدم إنقطاعه ) أي : عدم إنقطاع الدم .

( وكذا لو شُك في اليأس فرأت الدمَ ) فشُك في انه حيض أو ليس بحيض ( فانّه قد يقال : باستصحاب الحيض ، نظرا إلى كون الشك في إنقضاء ما إقتضته الطبيعة من قذف الحيض في كلّ شهر ) والأصل عدم إنقضائه ، فهو حيض وذلك لأن العرف يعدّ المجموع أمرا واحدا .

مثلاً : إذا لاحظنا مجموع ما تراه المرأة من الحيض في كل شهر إلى مدة خمسين سنة - وهو سن اليأس في غير القرشية ، أو إلى ستين سنة في القرشية - أمرا واحدا ، لوحدة المنشأ الذي هو إقتضاء الطبيعة للحيض في مدة من العمر ، فيكون الشك في حيضية الدم ناشئا عن الشك في مقدار الاقتضاء ، فيكون حال المقام حال الفرد الطويل والقصير في الحيوان ، وقد عرفت : جريان الاستصحاب في مثله .

( وحاصل وجه الاستصحاب ) فيما ذكرناه هو : ( ملاحظة كون الشك ) إنّما هو ( في إستمرار الأمر الواحد ) عرفا ، مثل الحيض في أيام معدودة وذلك فيما إذا

ص: 360

الذي إقتضاه السبب الواحد ، إذا لوحظ كلّ واحد من أجزاء هذا الأمر حادثا مستقلاً ، فالأصل عدم الزائد على المتيقن وعدم حدوث سببه .

ومنشأ إختلاف بعض العلماء في إجراء الاستصحاب في هذه الموارد إختلاف انظارهم في ملاحظة ذلك الأمر المستمرّ حادثا واحدا أو حوادث متعدّدة .

والانصاف : وضوحُ الوحدة في بعض الموارد

-------------------

إنقطع حيضها في خمسة وعاد - مثلاً - بعد يوم أو يومين ولم يتجاوز العشرة ، ومثل الحيض إلى مدة من العمر ، وذلك فيما إذا رأت الدم في زمان لا تعلم هل انها وصلت حدّ اليأس أم لا ؟ فيكون وجه الاستصحاب : ملاحظة المجموع شيئا واحدا عرفا ( الذي إقتضاه السبب الواحد ) عرفا .

( و ) لكن ( إذا لوحظ كلّ واحد من أجزاء هذا الأمر حادثا مستقلاً ) بان لاحظنا سيلان الدم خمسة أيام حادثا مستقلاً ، وعوده ثانيا حادثا مستقلاً آخر ، أو لاحظنا الحيض في كل شهر حادثا مستقلاً لا يرتبط بما بعده وبما قبله ( فالأصل عدم الزائد على المتيقن ) لأنه من الشك في الأقل والأكثر .

( و ) كذا الأصل ( عدم حدوث سببه ) أيضا ، لأن السبب شيء حادث لا نعلم هل انه حدث السبب حتى يحدث المسبّب أم لا ؟ فالأصل عدمه .

( ومنشأ إختلاف بعض العلماء في إجراء الاستصحاب في هذه الموارد ) حيث ان بعضهم يستصحب الحيض في المثالين المذكورين ، وبعضهم لا يستصحبه هو: ( إختلاف انظارهم في ملاحظة ذلك الأمر المستمرّ ) فالذي يراه ( حادثا واحدا ) يستصحبه ( أو حوادث متعدّدة ) فلا يستصحبه .

( والانصاف : وضوحُ الوحدة في بعض الموارد ) مثل : ما لو جرى الحيض

ص: 361

وعدمها في بعض وإلتباس الأمر في ثالث ، واللّه الهادي إلى سواء السبيل ، فتدبّر .

وأمّا القسم الثالث ، وهو ما كان مقيدا بالزمان ،

-------------------

بلا إنقطاع ، وشك في اليوم الرابع بان الدم هل هو حيض أو إستحاضة ؟ .

( و ) وضوح ( عدمها في بعض ) وذلك كما إذا شك في ان الخطيب هل يخطب عشرة أيام أو أحد عشر يوما ؟ فان كل يوم من الخطابة حادث مستقل لا يرتبط بالآخر .

( وإلتباس الأمر في ثالث ) مثل : سيلان الدم مرة ثانية بعد إنقطاعه على خمسة أيام ، فان الوحدة وعدم الوحدة فيه غير واضح خصوصا إذا كان فصل الثاني عن الأوّل عدة أيام بأن رأت الحيض في ثلاثة أيام ثم بعد خمسة أيام رأت يوما آخر - مثلاً - .

ومن المعلوم : ان في موارد الالتباس لا يتمسك بالاستصحاب ، لأن من شرط الاستصحاب إحراز وحدة الموضوع ، ووحدة الموضوع في التدريجيات إنّما يكون بالنظر العرفي ، فاذا شك العرف في انه هل هو موضوع واحد أو ليس بموضوع واحد ؟ لم يحرز وحدة الموضوع حتى يستصحب ( واللّه الهادي إلى سواء السبيل ) وهو المعين .

( فتدبّر ) ولعله إشارة إلى ان تمييز كون الاستصحاب في بعض الموارد الملتبسة بانه هل هو من القسم الأوّل الواضح وحدته ، أو القسم الثاني الواضح عدم وحدته ؟ بحاجة إلى دقة ، وإذا بقي الشك في انه من أيّ القسمين ؟ كان الأصل عدم جريان الاستصحاب .

( وأمّا القسم الثالث ) من الاُمور التدريجية : ( وهو ما كان مقيدا بالزمان ) كما إذا

ص: 362

فينبغي القطع بعدم جريان الاستصحاب فيه .

ووجهه : أنّ الشيء المقيّد بزمان خاص لا يعقل فيه البقاء لأنّ البقاء ، وجود الموجود الأوّل في الآن الثاني وقد تقدّم الاستشكال في جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفيّة

-------------------

قال الشارع : صم النهار ، فان النهارية قيد للصوم ، فإذا شك في انه هل صار الليل أم لا ؟ لا يتمكن من الاستصحاب .

ولذا قال المصنّف ( فينبغي القطع بعدم جريان الاستصحاب فيه ) أي : في الشيء المقيد بالزمان ، وهذا بخلاف ما إذا كان الشيء مظروفا بالزمان ، بأن كان الزمان ظرفا له مثل : خيار الغبن ، فانه غير مقيّد بالزمان في النص ، وإنّما يكون الزمان ظرفا له ، فيحتمل ان يستصحب .

( ووجهه : أنّ الشيء المقيّد بزمان خاص لا يعقل فيه البقاء ) وذلك ( لأنّ البقاء وجود ) نفس ( الموجود الأوّل في الآن الثاني ) فالمتيقن هو وجوب الصوم في النهار ، والمفروض : انه لا يعلم هل النهار باق أم لا ؟ .

هذا ( وقد تقدّم الاستشكال في جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفيّة ) الخمسة ، حيث ذكر المصنِّف في القول السابع من أقوال الاستصحاب ، الاشكال في إستصحاب الأحكام بوجهين :

الأوّل : وهو ما ذكره الفاضل التوني : من ان حدود الأحكام حدوثا وبقاءا وإرتفاعا معلوم بأدلتها الشرعية ، فلا يعقل فيها شك حتى يحتاج فيه إلى الاستصحاب .

الثاني وهو ان الشك في الأحكام إنّما ينشأ من حصول تغيير في موضوعاتها ، وقد عرفت : لزوم بقاء الموضوع وعدم تغيّره في جواز الاستصحاب .

ص: 363

لكون متعلّقاتها هي الأفعال المتشخّصة بالمشخصات التي لها دخلٌ وجودا وعدما في تعلّق الحكم ، ومن جملتها الزمان .

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما وقع لبعض المعاصرين ، من تخيّل جريان إستصحاب عدم الأمر الوجودي المتيقّن سابقا

-------------------

وإنّما أشكلوا على الاستصحاب في الأحكام التكليفية ( لكون متعلّقاتها ) أي : متعلقات الأحكام التكليفية ( هي الأفعال المتشخّصة بالمشخصات التي لها دخلٌ وجودا وعدما في تعلّق الحكم ) فان الشارع يشخّص موضوعه بكل قيوده الوجودية والعدمية ، ثم يحكم على ذلك الموضوع بحكم من الأحكام التكليفيّة الخمسة .

مثلاً : وجود تغير الماء بالنجاسة ، له مدخلية في نجاسة الماء ، وكذا عدم وجدان الماء ، له مدخلية في صحة التيمم ، وهكذا .

( ومن ) المعلوم : ان من ( جملتها ) أي : جملة تلك المشخّصات ( الزمان ) فانه كثيرا ما يكون الزمان أو المكان قيدا بالنسبة إلى الموضوع حتى يترتب الحكم على ذلك الموضوع ، كالزمان في الصوم وفي الاعتكاف وفي الحج وما أشبه ذلك، فالشك في الحكم يكون لأجل إنتفاء شيء من مشخصات الموضوع ، أو وجود شيء زائد في الموضوع ، وقد سبق : ان من شرط الاستصحاب بقاء الموضوع كما هو هو من غير زيادة أو نقيصة .

( وممّا ذكرنا ) : من ان القيود زيادة ونقيصة توجب فقد الموضوع الذي هو شرط للاستصحاب ( يظهر فساد ما وقع لبعض المعاصرين ) وهو المحقق النراقي قدس سره ( من تخيّل جريان إستصحاب عدم الأمر الوجودي المتيقّن سابقا ) كوجوب الجلوس الذي هو أمر وجودي فيما إذا أمره المولى بالجلوس

ص: 364

ومعارضته مع إستصحاب وجوده ، بزعم أنّ المتيقّن وجود ذلك الأمر في القطعة الاُولى من الزمان والأصل بقاؤه - عند الشك - على العدم الأزليّ

-------------------

في المسجد من الصبح إلى الظهر ، فانه يستصحب عدم وجوب الجلوس الذي كان قبل أذان الصبح ( ومعارضته ) أي : معارضة هذا الاستصحاب الذي هو عدم الأمر الوجودي ( مع إستصحاب وجوده ) أي : وجود الأمر الوجودي كاستصحاب وجوب الجلوس الذي كان قبل الظهر في المثال ، فيقع التعارض بين الاستصحابين إستصحاب عدم الوجوب الذي كان في الليل ، وإستصحاب الوجوب الذي كان في النهار .

أمّا وجه الفساد : فهو ان وجوب الجلوس المقيّد بما قبل الظهر لا يمكن إستصحابه بعد الظهر ، حتى يتعارض مع عدم الوجوب الثابت قبل الأمر بالجلوس وهو الذي يسمّى بالقدم الأزلي ، وإذا لم يمكن إستصحاب الوجوب بعد الظهر بقي إستصحاب عدم الوجوب الأزلي بعد الظهر بلا معارض .

وإنّما تخيّل بعض المعاصرين جريان الاستصحابين وتعارضهما ( بزعم أنّ المتيقّن وجود ذلك الأمر ) العدمي وهو كما في المثال عدم وجوب الجلوس ( في القطعة الاُولى من الزمان ) أي : ما قبل النهار ( والأصل بقاؤه - عند الشك - على العدم الأزليّ ) الذي كان ما قبل النهار ، يعني ان عدم وجوب الجلوس الذي كان قبل النهار يكون باقيا بعد الظهر أيضا بناءا على العدم الأزلي والمفروض : بقاء وجوب الجلوس الذي كان في النهار بعد الظهر أيضا فيتعارضان .

وعليه : فالأصل عند الشك بعد الظهر في وجوب الجلوس : بقاء وجوب الجلوس الذي كان في النهار ، والأصل بقاء العدم الأزلي الذي كان قبل النهار ،

ص: 365

الذي لم يعلم إنقلابه إلى الوجود إلاّ في القطعة السابقة من الزمان . قال في تقريب ما ذكر من تعارض الاستصحابين : « إنّه إذا علم أنّ الشارع أمر بالجلوس يوم الجمعة وعلم أنّه واجب إلى الزوال ولم يعلم وجوبه فيما بعده فنقول كان عدم التكليف بالجلوس قبل يوم الجمعة ، وفيه إلى الزوال وبعده معلوما قبل ورود أمر الشارع ، وعلم بقاء

-------------------

وهو بقاء عدم وجوب الجلوس ( الذي لم يعلم إنقلابه ) أي : إنقلاب ذلك العدم ( إلى الوجود ) بان يجب الجلوس ( إلاّ في القطعة السابقة من الزمان ) أي : السابقة على زمان الشك ومصداق زمان الشك هو : ما بعد الظهر ، ومصداق القطعة السابقة هو : من الصبح إلى الظهر الذي وجب الجلوس فيها ، فيكون ما بعد الظهر مسرحا لاستصحابين : إستصحاب الوجوب الذي كان في النهار ، وإستصحاب عدم الوجوب الذي كان قبل النهار لكن قد عرفت : ان الوجوب المقيد بما قبل الظهر لا يمكن إستصحابه بعد الظهر ، فيبقى العدم الأزلي بعد الظهر بلا معارض .

ثم ( قال في تقريب ما ذكر من تعارض الاستصحابين ) : إستصحاب الليل بعدم الجلوس ، وإستصحاب النهار بوجوب الجلوس : ( « إنّه إذا علم أنّ الشارع أمر بالجلوس يوم الجمعة ، وعلم أنّه واجب إلى الزوال ) كما إذا قال : أجلس في المسجد إلى الظهر ( ولم يعلم وجوبه فيما بعده ) أي : بعد الظهر ( فنقول ) في تقريب تعارض الاستصحابين بالنسبة إلى ما بعد الظهر ما يلي :

( كان عدم التكليف بالجلوس قبل يوم الجمعة ، وفيه ) أي : في يوم الجمعة ( إلى الزوال ، وبعده ) أي : بعد يوم الجمعة . في كل ذلك كان عدم التكليف ( معلوما قبل ورود أمر الشارع ) بوجوب الجلوس يعني : لم يكن الجلوس قبل الأمر به واجبا ، لا في الليل ، ولا في النهار لا قبل الظهر ولا بعد الظهر ( وعلم بقاء

ص: 366

ذلك العدم قبل يوم الجمعة ، وعلم إرتفاعه والتكليف بالجلوس فيه قبل الزوال ، وصار بعده موضع الشك ، فهنا شك ويقينان ، وليس إبقاء حكم أحد اليقينين أولى من إبقاء حكم الآخر .

فان قلت : يحكم ببقاء اليقين المتصل بالشكّ ، وهو اليقين بالجلوس .

قلنا : إنّ الشك في تكليف ما بعد الزوال حاصلٌ قبل مجيء يوم الجمعة وقت

-------------------

ذلك العدم قبل يوم الجمعة ) أي : في ليلة الجمعة ( وعلم إرتفاعه ) أي : إرتفاع ذلك العدم ( و ) تبدله إلى ( التكليف بالجلوس فيه ) أي : في يوم الجمعة ( قبل الزوال ) إلى الظهر ( وصار بعده ) أي : بعد الزوال ( موضع الشك ) وانه هل يجب الجلوس بعد الظهر أم لا ؟ .

وعليه : ( فهنا شك ) بعد الظهر ( ويقينان ) وهما عبارة عن اليقين بعدم الوجوب قبل يوم الجمعة ، واليقين بالوجوب إلى زوالها ( وليس إبقاء حكم أحد اليقينين ) من العدم أو الوجوب ( أولى من إبقاء حكم الآخر ) لتساوي اليقينين من كل الجهات : اليقين بالعدم ليلاً ، واليقين بالوجوب صباحا ، فيتعارض حينئذ الاستصحابان بالنسبة إلى ما بعد الظهر .

( فان قلت : يحكم ببقاء اليقين المتصل بالشكّ ، وهو اليقين بالجلوس ) لأن اليقين بعدم الوجوب قد إنقطع بوجوب الجلوس صباحا ، فيكون اليقين المُتصل بالشك هو اليقين الثاني وهو اليقين بوجوب الجلوس قبل الظهر ، فهذا اليقين الثاني المتصل بالشك هو المحكوم بالبقاء ، لا اليقين الأوّل الذي كان بالنسبة إلى الليل .

( قلنا : إنّ الشك في تكليف ما بعد الزوال حاصلٌ قبل مجيء يوم الجمعة وقت

ص: 367

ملاحظة أمر الشارع ، فشك في يوم الخميس - مثلاً - حال ورود الأمر في أنّ الجلوس غدا هل هو مكلّف به بعد الزوال أيضا أم لا ، واليقين المتصل به هو : عدم التكليف فيستصحب ويستمر ذلك إلى وقت الزوال » ، انتهى .

-------------------

ملاحظة أمر الشارع ) فان الشك في انه هل يجب الجلوس بعد الظهر أو لا يجب ؟ لا يختص بيوم الجمعة بعد الظهر ، حتى يكون متصلاً باليقين الثاني ، بل إذا التفت الانسان قبل يوم الجمعة ولو بسنة - مثلاً - وتوجّه إلى وجوب الجلوس قبل زوال الجمعة لشك في انه هل يجب الجلوس بعد زوالها أم لا ؟ فيكون متصلاً باليقين الأوّل .

مثلاً : إذا التفت في يوم الخميس إلى ذلك ( فشك في يوم الخميس - مثلاً - حال ورود الأمر في أنّ الجلوس غدا هل هو مكلّف به بعد الزوال أيضا أم لا ) ويوم الخميس من باب المثال ، وإلاّ فانه لو التفت إلى ذلك قبل يوم الخميس أيضا لشك فيه ( و ) معلوم : ان ( اليقين المتصل به ) أي : بهذا الشك ( هو : عدم التكليف ) لأنه شك قبل مجيء الجمعة ، وقبل الجمعة يعلم بعدم التكليف ( فيستصحب ) عدم التكليف ( ويستمر ذلك ) العدم ( إلى وقت الزوال » (1) ) فيحكم بعدم الوجوب بعده أيضا .

والحاصل : ان كلا اليقينين متصلان بالشك : اليقين بانه لم يكن واجبا قبل يوم الجمعة ، وهذا أمر مستمر إلى ما بعد ظهر الجمعة على ما عرفت ، واليقين بانه كان واجبا قبل الزوال ، وهذا أمر مستمر إلى ما بعد الظهر أيضا ، فلا أولوية حينئذ لتقديم اليقين الثاني بوجوب الجلوس على اليقين الأوّل بعدم وجوب الجلوس .

( انتهى ) كلام المحقق النراقي في تعارض الاستصحابين بعد الزوال .

ص: 368


1- - مناهج الأحكام للنراقي ، قاعدة لا ضرر : ص239 .

ثم أجرى ما ذكره : من تعارض إستصحابي الوجود والعدم في مثل وجوب الصوم إذا عرض مرض يشك في بقاء وجوب الصوم معه وفي الطهارة إذا حصل الشك فيها لأجل المذي وفي طهارة الثوب النجس إذا غسل مرّة .

فَحَكَمَ في الأوّل : بتعارض إستصحاب وجوب الصوم قبل عروض الحمّى ، وإستصحاب عدمه الأصلي قبل وجوب الصوم .

-------------------

( ثم أجرى ما ذكره : من تعارض إستصحابي الوجود والعدم في مثل وجوب الصوم إذا عرض مرض يشك في بقاء وجوب الصوم معه ) فانه بعد المرض يكون الصوم مشكوك الوجوب ، وقبل المرض يكون يقينان : يقين بوجوب ما قبل المرض ، ويقين بعدم وجوب ما قبل النهار ، وبعد المرض يتعارض الاستصحابان .

( وفي الطهارة إذا حصل الشك فيها لأجل المذي ) فهنا شك في الطهارة بعد المذي ، ويقينان قبل المذي : يقين بعدم الطهارة سابقا على التوضي ، ويقين بالطهارة بعد التوضي .

( وفي طهارة الثوب النجس إذا غسل مرة ) فهنا شك في طهارة الثوب عن الخبث بعد الغَسل ويقينان قبل الغَسل : يقين بنجاسته بعد التنجّس ، ويقين بطهارته قبل التنجس .

( فحكم في الأوّل : بتعارض إستصحاب وجوب الصوم قبل عروض الحمّى ، وإستصحاب عدمه الأصلي ) أي : عدم وجوب الصوم الثابت ( قبل وجوب الصوم ) شرعا ، ونتيجة التعارض هو : التساقط .

ص: 369

وفي الثاني : بتعارض إستصحاب الطهارة قبل المذي واستصحاب عدم جعل الشارع الوضوء سببا للطهارة بعد المذي .

وفي الثالث : حَكَمَ بتعارض إستصحاب النجاسة قبل الغَسل ، وإستصحاب عدم كون ملاقاة البول سببا للنجاسة بعد الغَسل مرّةً ، فيتساقط الاستصحابان في هذه الصورة ، إلاّ أن يرجع إلى استصحاب آخر ، حاكم على إستصحاب العدم ، وهو عدم الرافع ، وعدم جعل الشارع مشكوك الرافعيّة رافعا .

-------------------

( وفي الثاني : بتعارض إستصحاب الطهارة قبل المذي واستصحاب عدم جعل الشارع الوضوء سببا للطهارة بعد المذي ) ومعلوم : ان نتيجة التعارض هو التساقط ، فيتساقط الاستصحابان .

( وفي الثالث : حكم بتعارض إستصحاب النجاسة قبل الغَسل ، وإستصحاب عدم كون ملاقاة البول سببا للنجاسة بعد الغَسل مرّةً ) وإذا كان كذلك ( فيتساقط الاستصحابان في هذه الصورة ) وأمثالها .

( إلاّ أن يرجع إلى استصحاب آخر ، حاكم على إستصحاب العدم ) الثابت قبل تشريع الشارع هذا الحكم ( وهو ) أصل ( عدم الرافع ، وعدم جعل الشارع مشكوك الرافعية رافعا ) .

والحاصل : ان ما ذكرناه من تعارض إستصحابي الوجود والعدم يعني : تعارض عدم وجوب الجلوس في المسجد يوم الخميس ، وإستصحاب وجوب الجلوس فيه نهار الجمعة ، إنّما يتم في مورد الشك في المقتضي ، كما في مثال الأمر بالجلوس والأمر بالصوم ، لا في مورد الشك في الرافع ، كمثال المذي بالنسبة إلى الطهارة الحدثية ، والغَسل مرة بالنسبة إلى الطهارة الخبثية ، لوضوح : أنّ أصالة

ص: 370

قال : « ولو لم يُعلم أنّ الطهارة ممّا لا يرتفع إلاّ برافع ، لم نقل فيه بإستصحاب الوجود » .

ثم قال « هذا في الاُمور الشرعية . وأمّا الاُمور الخارجيّة ، كاليوم والليل والحياة والرطوبة والجفاف ونحوها ، ممّا لا دخل لجعل الشارع في وجودها ، فإستصحاب الوجود فيها ، حجّةٌ بلا معارض ،

-------------------

عدم الرافع يمنع عن إجراء العدم الأزلي فيجري إستصحاب الوجود فقط ، ولا يتعارض الاستصحابان .

ثم ( قال : « ولو لم يُعلم أنّ الطهارة ) والنجاسة ( ممّا لا يرتفع إلاّ برافع ) بان لم نعلم هل ان الطهارة والنجاسة تقتضيان البقاء حتى يأتي ما يرفعهما ، أو لا تقتضيان البقاء لقصر مدتهما في أنفسهما ؟ ( لم نقل فيه بإستصحاب الوجود » ) فقط من دون إستصحاب العدم ، بل نقول حينئذ بتعارض الاستصحابين وتساقطهما .

( ثم قال ) المحقق النراقي : ( « هذا ) التعارض إنّما هو ( في الاُمور الشرعية ) كالأمثلة المتقدمة : من الطهارة والصوم والجلوس في المسجد ( وأمّا الاُمور الخارجيّة ) التي لا ترتبط بالشارع ( كاليوم والليل والحياة ) والموت ( والرطوبة والجفاف ونحوها ، ممّا لا دخل لجعل الشارع في وجودها ) أي : في إعتبارها وإلاّ فان الشارع هو الذي خلق الكائنات وأعدمها ( فإستصحاب الوجود فيها ، حجّةٌ بلا معارض ) .

إذن : فالاُمور الشرعية إنقلابها من العدم إلى الوجود ، ومن الوجود إلى العدم إنّما هو بتعبّد من الشارع وإعتباره ، فقد يعتبره موجودا ، وقد يعتبره معدوما ، وبقائها وفنائها بتعبّد منه فيكتفي في الانقلاب الاعتباري بالقدر المتيقن ، ويرجع في غيره إلى العدم الأزلي ، لأن الاعتبار أمر وجودي أيضا وان لم يكن أمرا

ص: 371

لعدم تحقق إستصحاب حال عقل معارض باستصحاب وجودها » ، انتهى .

أقول : الظاهر التباسُ الأمر عليه :

أمّا أولاً : فلأنّ الأمر الوجودي المجعول إن لوحظ الزمان قيدا له

-------------------

خارجيا مع حقيقة تجسمية .

وأمّا الاُمور الخارجية التكوينية فانقلابها من العدم إلى الوجود ، ومن الوجود إلى العدم إنّما هو إنقلاب خارجي تكويني لا يحتاج في حدوثها ، ولا في بقائها ولا في عدمها إلى إعتبار معتبر ، بل إعتبار المعتبر لا يرتبط بها إطلاقا ، فيكون إنقلابها من باب إنقلاب الأصل ، فلا معنى للاكتفاء بالمتيقن والرجوع إلى الأصل الأزلي عند الشك فيها .

وإنّما يكون إستصحاب الوجود لا معارض له في الاُمور الخارجية ( لعدم تحقق إستصحاب حال عقل ) أي : عدم أزلي ( معارض باستصحاب وجودها » (1) ) أي : وجود تلك الاُمور الخارجية ( إنتهى ) كلام المحقق النراقي .

( أقول : الظاهر التباسُ الأمر عليه ) وذلك في موارد ثلاثة :

( أمّا أولاً : ) أي : المورد الأوّل من موارد التباس الأمر عليه فهو : انه قد حكم بتعارض الاستصحابين في مثال الأمر بالجلوس في يوم الجمعة إلى الزوال ، ولم يفرّق بين ان يكون الزمان ظرفا ، فيستصحب وجوب الجلوس ، أو قيدا فلا يستصحب الجلوس كما قال : ( فلأنّ الأمر الوجودي المجعول ) مثل : وجوب الجلوس في المسجد إلى زوال الجمعة ( إن لوحظ الزمان قيدا له ) أي : للوجوب نفسه ، لا لمتعلّقه ، وذلك بأن يكون الوجوب إلى الزوال شيئا ، والوجوب بعد الزوال شيئا آخر ، فيكون الوجوبان فردين لكليّ الوجوب .

ص: 372


1- - مناهج الأحكام للنراقي : ص240 .

أو لمتعلّقه ، بأن لوحظ وجوب الجلوس المقيّد بكونه إلى الزوال شيئا ، والمقيّد بكونه بعد الزوال شيئا آخر متعلقا للوجوب ، فلا مجال لاستصحاب الوجوب للقطع بارتفاع ما علم وجوده ، والشك في حدوث ما عداه ، ولذا لا يجوز الاستصحاب في مثل : « صُم يوم الخميس » إذا شك في وجوب صوم يوم الجمعة ؛ وإن لوحظ الزمان ظرفا لوجوب الجلوس ، فلا مجال

-------------------

( أو ) لوحظ الزمان قيدا ( لمتعلّقه ) أي : لمتعلق الوجوب لا لنفس الوجوب وهو في المثال : الجلوس في المسجد إلى زوال الجمعة ، وذلك ( بأن لوحظ وجوب الجلوس المقيّد بكونه إلى الزوال شيئا ، والمقيّد بكونه بعد الزوال شيئا آخر متعلقا للوجوب ) .

وعليه : فانه سواء كان هناك وجوبان : وجوب قبل الزوال ووجوب بعد الزوال، أم جلوسان : جلوس مقيّد بما قبل الزوال وجلوس مقيّد بما بعد الزوال ( فلا مجال لاستصحاب الوجوب ، للقطع بارتفاع ما علم وجوده ، والشك في حدوث ما عداه ) وذلك لأنهما فردان ولا يجوز سحب الحكم من فرد إلى فرد آخر ، كما سبق في القسم الثالث من إستصحاب الكلي .

( ولذا لا يجوز الاستصحاب في مثل : « صُم يوم الخميس » ) حيث ان الظاهر منه : ان الوجوب ، أو الصوم مقيّد بيوم الخميس ، فلا يجوز الاستصحاب ( إذا شك في وجوب صوم يوم الجمعة ) لأن يوم الجمعة فرد مستقل لا ربط له بيوم الخميس الذي هو فرد آخر من الكلي .

هذا ان لوحظ الزمان قيدا حيث قلنا لا مجال لاستصحاب الوجوب ( وإن لوحظ الزمان ظرفا لوجوب الجلوس ) بأن لم يكن الزمان قيدا ( فلا مجال

ص: 373

لاستصحاب العدم ، لأنّه إذا إنقلب العدمُ إلى الوجود المردّد بين كونه في قطعة خاصة من الزمان وكونه أزيد .

والمفروض تسليم حكم الشارع : بأنّ المتيقن في زمان لابدّ من إبقائه ، فلا وجه لاعتبار العدم السابق .

وما ذكره قدس سره : من أنّ الشك في وجوب الجلوس بعد الزوال ، كان ثابتا حال اليقين بالعدم يوم الخميس مدفوعٌ : بأنّ ذلك أيضا حيث كان مفروضا بعد اليقين بوجوب الجلوس إلى الزوال ، مهمل

-------------------

لاستصحاب العدم ) الأزلي ، بل الوجودي فقط : يعني يلزم إستصحاب الوجوب إلى ما بعد زوال الجمعة .

وإنّما لا مجال لاستصحاب العدم الأزلي هنا ( لأنّه إذا إنقلب العدمُ ) الأزلي ( إلى الوجود المردّد بين كونه في قطعة خاصة من الزمان ) كنهار الجمعة حتى الزوال ( وكونه أزيد ) بأن يكون إلى المغرب - مثلاً - مما يشمل بعد الظهر أيضا ( والمفروض تسليم ) حجية الاستصحاب وهو : ( حكم الشارع : بأنّ المتيقن في زمان لابدّ من إبقائه ) في زمان الشك ( فلا وجه لاعتبار العدم السابق ) الأزلي بالنسبة إلى ما بعد الظهر ، بل لابد من إستصحاب الوجوب الذي كان قبل الظهر .

هذا ( وما ذكره قدس سره : من أنّ الشك في وجوب الجلوس بعد الزوال ، كان ثابتا حال اليقين بالعدم يوم الخميس ) فيجتمع ما بعد الظهر شك ويقينان متعارضان ( مدفوعٌ : بأنّ ذلك ) أي : الشك في يوم الخميس قبل اليقين بوجوب الجلوس وان كان متصلاً باليقين بالعدم إلاّ انه ( أيضا حيث كان مفروضا بعد اليقين بوجوب الجلوس إلى الزوال ، مهمل ) لا أثر له ، فالشك مرتفع ، وذلك

ص: 374

بحكم الشارع بابقاء كلّ حادث لا يعلم مدة بقائه ، كما لو شك قبل حدوث حادث في مدّة بقائه .

والحاصل : أنّ الموجود في الزّمان الأوّل ، إن لوحظ مغايرا من حيث القيود المأخوذة فيه للموجود الثاني ، فيكون الموجود الثاني حادثا مغايرا للحادث الأوّل ، فلا مجال للاستصحاب الموجود

-------------------

( ب ) بسبب ( حكم الشارع بابقاء كلّ حادث لا يعلم مدة بقائه ) .

وعليه : فما ذكره قدس سره يكون ( كما لو شك قبل حدوث حادث في مدّة بقائه ) حيث يستصحب البقاء لا العدم ، وهنا أيضا كذلك ، فيلزم ان نحكم ببقاء اليقين الذي ترتب عليه الشك ، وهو اليقين بوجوب الجلوس ، لا اليقين السابق وهو اليقين بالعدم الأزلي الذي رفعه الشارع بوجوب الجلوس .

وإن شئت قلت : ان اليقين بعدم الجلوس ليلاً إرتفع بحكم الشارع بالجلوس قبل الظهر الذي كان الزمان ظرفا لهذا الجلوس ، فالاستصحاب إنّما يكون للجلوس الذي كان قبل الشك ، لا لعدم الجلوس الذي إنفصل ذلك العدم بسبب وجوب الجلوس قبل الظهر .

( والحاصل ) : ان هناك فرقا بين الظرف والقيد وهو : ( أنّ الموجود في الزّمان الأوّل إن لوحظ مغايرا من حيث القيود المأخوذة فيه للموجود الثاني ) فهو مقياس كون الزمان قيدا للجلوس ، فيكون الجلوس قبل الظهر فردا مستقلاً ، والجلوس بعد الظهر فردا مستقلاً آخر كما قال :

( فيكون الموجود الثاني حادثا مغايرا للحادث الأوّل ) من قبيل وجود زيد ووجود بكر ، ومعه ( فلا مجال للاستصحاب الموجود ) ما قبل الظهر ، وسحبه

ص: 375

إذ لا يتصوّر البقاء لذلك الموجود بعد فرض كون الزّمان الأوّل من مقوّماته ؛ وإن لوحظ متّحدا مع الثاني لا مغايرا لها إلاّ من حيث ظرفه الزماني ، فلا معنى لاستصحاب عدم ذلك الموجود ، لأنه إنقلب إلى الوجود .

وكأنّ المتوّهم ينظر في دعوى جريان إستصحاب الوجود إلى كون الموجود أمرا واحدا قابلاً للاستمرار بعد زمان الشك ، وفي دعوى جريان إستصحاب العدم إلى تقطيع وجودات ذلك الموجود وجعل كلّ واحد منها

-------------------

إلى ما بعد الظهر ( إذ لا يتصوّر البقاء لذلك الموجود ) قبل الظهر ( بعد فرض كون الزّمان الأوّل من مقوّماته ) فانه بحصول الظهر ينعدم ذلك الفرد الموجود أولاً .

( وإن لوحظ متّحدا مع الثاني ) بان كان الوجود الثاني إستمرارا للوجود الأوّل ( لا مغايرا لها ) أي : للوجود الأوّل بمقوماته ، وبهذا الاعتبار أتى بالضمير مؤنثا ، ( إلاّ من حيث ظرفه الزماني ) حيث ان الظرف قبل الظهر غير الظرف بعد الظهر وان كان الموجود فيهما شيئا واحدا مستمرا ، ومعه ( فلا معنى لاستصحاب عدم ذلك الموجود ، لأنه إنقلب إلى الوجود ) .

هذا ( وكأنّ المتوّهم ) وهو المحقق النراقي ( ينظر في دعوى جريان إستصحاب الوجود إلى كون الموجود ) وهو : وجوب الجلوس ( أمرا واحدا قابلاً للاستمرار بعد زمان الشك ) أي : عند الشك في انه هل بقي أو لم يبق ؟ فهو يجعل الزمان هنا ظرفا لا مفرّدا وقيدا .

( و ) لكنّه ينظر ( في دعوى جريان إستصحاب العدم ) الأزلي الذي كان في الليل ( إلى تقطيع وجودات ذلك الموجود ) وجعله افرادا متعددة مثل : افراد الانسان زيد وعمرو وبكر ( وجعل كلّ واحد ) وكل قطعة ( منها ) أي : من تلك

ص: 376

بملاحظة تحقّقه في زمان مغايرا للآخر ، فيؤخذ بالمتيقن منها ويحكم على المشكوك منها بالعدم .

وملخّص الكلام في دفعه : أنّ الزمان إن أخِذ ظرفا للشيء ، فلا يجري إلاّ إستصحاب وجوده ، لأنّ العدم انتقض بالوجود المطلق وقد حكم عليه بالاستمرار ، بمقتضى أدلّة الاستصحاب ؛ وإن اُخِذَ قيدا له ،

-------------------

الوجودات ( بملاحظة تحقّقه في زمان مغايرا للآخر ) الذي تحقق في زمان آخر، وهو مقياس كون الزمان قيدا ومفرّدا ، فهو يجعل الزمان هنا قيدا ومفرّدا لا ظرفا ، وحينئذ ( فيؤخذ بالمتيقن منها ) وهو وجوب الجلوس إلى ظهر الجمعة ( ويحكم على المشكوك منها ) وهو ما بعد ظهر الجمعة ( بالعدم ) .

إذن : فالمحقق النراقي - كما عرفت - : أخذ الزمان ظرفا تارة ، وقيدا تارة اُخرى، مع وضوح : ان الزمان ان كان قيدا فهو قيد دائما ، وان كان ظرفا فهو ظرف دائما .

( وملخّص الكلام في دفعه ) أي : دفع ما ذكره النراقي هو : ( أنّ الزمان إن أخذ ظرفا للشيء ، فلا يجري إلاّ إستصحاب وجوده ) أي : وجود الأمر الوجودي وهو وجوب الجلوس ( لأنّ العدم ) الأزلي قد ( انتقض بالوجود المطلق ) الذي لم يكن مقيّدا بزمان ( وقد حكم عليه ) أي : على هذا الأمر الوجودي وهو وجوب الجلوس ( بالاستمرار ، بمقتضى أدلّة الاستصحاب ) فيجب الجلوس بعد الظهر أيضا ، كما كان واجبا قبل الظهر .

هذا إن أخذ الزمان ظرفا للشيء ( وإن اُخِذَ ) الزمان ( قيدا له ) أي : للشيء بأن كان للجلوس - على ما في المثال - افراد متعددة ، ففرد قبل الظهر ، وفرد

ص: 377

فلا يجري إلاّ إستصحاب العدم ، لأنّ إنتقاض عدم الوجود المقيّد ، لا يستلزم إنتقاض المطلق ، والأصل عدم الانتقاض . كما إذا ثبت وجوب صوم يوم الجمعة ، ولم يثبت غيره .

وأمّا ثانيا :

-------------------

بعد الظهر، من قبيل كون زيد وعمرو فردين للانسان ( فلا يجري إلاّ إستصحاب العدم ) الأزلي الذي كان من الليل .

وإنّما لا يجري إلاّ إستصحاب العدم الأزلي ( لأنّ إنتقاض عدم الوجود المقيّد ، لا يستلزم إنتقاض ) عدم الوجود ( المطلق ) فان عدم وجود الشيء ، كعدم وجوب الجلوس - في المثال - كان قبل الأمر به معدوما مطلقا ، وبعد الأمر به مقيدا بما قبل الزوال ، إنتقض عدم وجوب الجلوس المقيّد بكونه قبل الزوال ( و ) بقي عدم وجوب الجلوس المطلق على حاله ، لأن ( الأصل عدم الانتقاض ) فيستصحب إلى ما بعد الزوال عند الشك فيه .

وعليه : فيكون ما نحن فيه ( كما إذا ثبت وجوب صوم يوم الجمعة ، ولم يثبت غيره ) أي : بأن كان الزمان فيه قيدا ومفرّدا ، بحيث يكون الواجب : الصوم المقيّد بيوم الجمعة بالذات ، فانه كما لا يستصحب وجوب الصوم إلى يوم السبت ، لأن يوم السبت فرد آخر ، فكذلك لا يستصحب وجوب الجلوس إلى ما بعد الزوال ، لأن ما بعد الزوال فرد آخر .

( وأمّا ثانيا ) : أي : المورد الثاني من موارد التباس الأمر على المحقق النراقي : فهو انه قد حكم بتعارض الاستصحابين في مثال الطهارة والنجاسة الخبثية والحدثية ، مع انه ان فرض الشك في المقتضي فلا وجه لاستصحاب الوجود ، وان فرض الشك في الرافع فلا وجه لاستصحاب العدم ، فلا تعارض

ص: 378

فلأنّ ما ذكره : من إستصحاب عدم الجعل والسببيّة في صورة الشك في الرافع غيرُ مستقيم ، لأنّا إذا علمنا أنّ الشارع جعل الوضوء علّة تامّة لوجود الطهارة وشككنا في أنّ المذي رافع لهذه الطهارة الموجودة المستمرة بمقتضى إستعدادها ، فليس الشك متعلقا بمقدار سببية السبب ،

-------------------

بين الاستصحابين كما قال :

( فلأنّ ما ذكره : من إستصحاب عدم الجعل والسببيّة في صورة الشك في الرافع ) أي : ان إستصحاب عدم جعل الشارع الوضوء سببا للطهارة بعد المذي ، والحكم بأن هذا الشخص غير متطهر ، فلا يجوز له الصلاة مع طهارته تلك ، وكذا إستصحاب عدم جعل الشارع الملاقاة للبول سببا للتنجس بعد الغَسل مرة ، فلا نجاسة للثوب بعد ان غسل مرة ، هذا الكلام ( غيرُ مستقيم ) وذلك لانّا إذا علمنا بسببية الوضوء للطهارة الحدثية ، لزم إستصحاب الطهارة بعد المذي ، وكذلك إذا علمنا بسببية البول للنجاسة ، لزم إستصحاب النجاسة الخبثية بعد الغَسل مرة وذلك لتمامية أركان الاستصحاب وعدم المعارض .

وعليه : فاستصحاب عدم السببية غير مستقيم ( لأنّا إذا علمنا أنّ الشارع جعل الوضوء علّة تامّة لوجود الطهارة ) من الحدث ( وشككنا في أنّ المذي رافع لهذه الطهارة الموجودة المستمرة بمقتضى إستعدادها ) حيث ان هذه الطهارة مستعدة للبقاء حتى نعلم بالرافع ، وما دام لم نعلم بالرافع فإستصحاب الطهارة محكّم .

إذن : ( فليس الشك متعلقا بمقدار سببية السبب ) حتى يكون من الشك في المقتضي ، بل الشك متعلق بطروّ الرافع ، ومع الشك في الرافع يلزم إستصحاب الطهارة ، فالشك في السببية بعد المذي وإستصحاب عدم السببية غير تام ،

ص: 379

وكذا الكلام في سببية ملاقاة البول للنجاسة عند الشك في إرتفاعها بالغَسل مرّة .

فان قلت : إنّا نعلم أنّ الطهارة بعد الوضوء قبل الشرع لم تكن مجعولة أصلاً ، وعلمنا بحدوث هذا الأمر الشرعي قبل المذي ، وشككنا في الحكم بوجودها بعده ، والأصل عدم ثبوتها بالشرع .

قلت :

-------------------

وذلك لفرض العلم بالسببية والشك في الرافعية ، فيلزم إستصحاب الطهارة فقط ، ولا معارض لها .

( وكذا الكلام في سببية ملاقاة البول للنجاسة عند الشك في إرتفاعها ) أي : إرتفاع النجاسة شكا ( ب ) سبب ( الغَسل مرّة ) فان اللازم الحكم باستمرار النجاسة حتى يعلم الرافع ، وحيث لا يعلم الرافع بالغَسل مرة فاللازم إستصحاب النجاسة فقط ، فلا يكون هناك إستصحابان متعارضان كما ذكره النراقي .

( فان قلت : إنّا نعلم أنّ الطهارة بعد الوضوء قبل الشرع ) أي : قبل تشريع الشارع الطهارة ( لم تكن مجعولة أصلاً ، وعلمنا بحدوث هذا الأمر الشرعي ) وهي : سببية الوضوء للطهارة ( قبل المذي ، و ) لهذا نقول بالطهارة قبل المذي ثم بعد المذي ( شككنا في الحكم بوجودها ) أي : بوجود الطهارة ( بعده ) أي : بعد المذي ( و ) إذا شككنا ، فان ( الأصل عدم ثبوتها بالشرع ) .

إذن : فالأصل الطهارة قبل المذي من ناحية ، والأصل عدم الطهارة بعد المذي من ناحية اُخرى ، فيتعارض الأصلان ويتساقطان ، فنرجع إلى أصل ثالث وهو : أصل عدم كون المذي رافعا ، فنحكم ببقاء الطهارة .

( قلت ) : لقد ذكر المحقق النراقي هنا ثلاثة اُصول :

ص: 380

لابدّ من أن يلاحظ حينئذ أنّ منشأ الشك في ثبوت الطهارة بعد المذي الشك في مقدار تأثير المؤثّر وهو الوضوء ، وأنّ المتيقن تأثيره مع عدم المذي لا مع وجوده ، أو

-------------------

الأوّل : أصل الطهارة قبل المذي .

الثاني : أصل عدم الطهارة بعد المذي .

الثالث : أصل عدم جعل المذي رافعا .

وعليه : فلو فرضنا ان مقدار سببية الوضوء للطهارة غير محرز ، فالشك بعد خروج المذي في الطهارة وعدمها يكون شكا في المقتضي ، لا شكا في الرافع ، وإذا كان الشك في المقتضي لم يبق مجال للأصل الثالث الذي ذكره المحقق النراقي بعد حكمه بتعارض الأصلين ، وذلك لأن مع الشك في المقتضي - بنظر المصنِّف - لا يجري الاستصحاب .

وان فرضنا كون الشك في الرافع فلا مجال للأصل الثاني الذي جعله المحقق النراقي معارضا للأول ، لأن أركان الاستصحاب مع الشك في الرافع تامة ، فيجري الاستصحاب .

والحاصل : ان أحد أصليه : الثاني أو الثالث غير تام ، وذلك لأنه ( لابدّ من أن يلاحظ حينئذ أنّ منشأ الشك في ثبوت الطهارة بعد المذي ) هل هو الشك في المقتضي ، أي : ( الشك في مقدار تأثير المؤثر وهو الوضوء ، وأنّ المتيقن تأثيره مع عدم المذي لا مع وجوده ) أو ان تأثيره حتى مع وجوده ، وذلك معنى كون الشك في المقتضي .

( أو ) ان منشأ الشك في ثبوت الطهارة بعد المذي هو الشك في الرافع حيث

ص: 381

أنّا نعلمُ قطعا تأثير الوضوء في إحداث أمر مستمرّ ، لولا ما جعله الشارع رافعا .

فعلى الأوّل : لا معنى لاستصحاب عدم جعل الشيء رافعا ، لأنّ المتيقن تأثير السبب مع عدم ذلك الشيء والأصل عدم التأثير مع وجوده، إلاّ أن يتمسك باستصحاب وجود المسبّب ، فهو

-------------------

( أنّا نعلم قطعا تأثير الوضوء في إحداث أمر مستمر ، لولا ما جعله الشارع رافعا ) ولا نعلم بكون المذي مما جعله الشارع رافعا ، وذلك معنى كون الشك في الرافع ؟ .

( فعلى الأوّل ) : وهو الشك في المقتضي ( لا معنى لاستصحاب عدم جعل الشيء رافعا ) بأصل عدم جعل المذي رافعا ، وهو الأصل الثالث الذي أجراه المحقق النراقي ( لأنّ المتيقن تأثير السبب ) الذي هو الوضوء ( مع عدم ذلك الشيء ) المحتمل الرافعية الذي هو المذي ، غاية ما هناك نشك في تأثير السبب مع وجود محتمل الرافعيّة ( والأصل عدم التأثير مع وجوده ) أي : وجود محتمل الرافعية .

وعليه : فلو فرضنا ان مقدار سببية الوضوء للطهارة غير محرز ، فالشك في الطهارة بعد خروج المذي شك في المقتضي وليس شكا في الرافع ، فلا معنى لقول المحقق النراقي : ان الأصل عدم جعل المذي رافعا ، لأنه ليس الشك في الرافع حسب الفرض ، وإنّما الشك في المقتضي .

( إلاّ أن يتمسك ) المحقق النراقي ( باستصحاب وجود المسبّب ) أي : الطهارة هنا كما فعله وجعله حاكما على إستصحاب العدم .

وكيف كان : ( فهو ) أي : الشك في مقدار سببية الوضوء للطهارة فيما نحن فيه

ص: 382

نظير ما لو شك في بقاء تأثير الوضوء المبيح ، كوضوء التقيّة بعد زوالها ، لا من قبيل الشك في ناقضيّة المذي .

وعلى الثاني : لا معنى لاستصحاب العدم ، إذ لا شك في مقدار تأثير المؤثر حتى يؤخذ بالمتيقن .

وأمّا ثالثا :

-------------------

يكون ( نظير ما لو شك في بقاء تأثير الوضوء المبيح ) للصلاة ، لا الرافع للحدث ( كوضوء التقيّة بعد زوالها ) أي : بعد زوال التقية ، فيكون من الشك في المقتضي ، لأنه يشك في قدر إقتضائه بانه هل هو إلى زوال التقية ، أو حتى بعد زوال التقية ؟ ( لا من قبيل الشك في ناقضيّة المذي ) حتى يكون من الشك في الرافع .

والحاصل : ان الوضوء على قسمين :

الأوّل : ما يكون رافعا كالوضوء في الحالات الاختيارية ، وهنا يكون الشك فيه بعد المذي شكا في الرافع ، لا في المقتضي .

الثاني : الوضوء في الحالات الاضرارية مثل : وضوء التقية ، ووضوء الجبيرة وما أشبه ذلك ، وهنا يكون فيه الشك بعد إرتفاع الاضطرار شكا في المقتضي ، حيث لا يعلم هل يقتضي وضوء التقية الطهارة حتى بعد التقية أم لا ؟ .

هذا على الأوّل : وهو الشك في المقتضي .

( وعلى الثاني ) : وهو الشك في الرافع ( لا معنى لاستصحاب العدم ) أي : عدم الطهارة وهو الأصل الثاني الذي أجراه المحقق النراقي ( إذ لا شك في مقدار تأثير المؤثر ) أي : الوضوء ( حتى يؤخذ بالمتيقن ) منه وهو : الطهارة قبل المذي ، بل الشك في الرافع ، فيستصحب الطهارة .

( وأمّا ثالثا ) : أي : المورد الثالث من موارد التباس الأمر على المحقق النراقي

ص: 383

فلو سُلِّمَ جريان إستصحاب العدم حينئذ لكن ليس إستصحاب عدم جعل الشيء رافعا ، حاكما على هذا الاستصحاب ، لأنّ الشك في أحدهما ليس مسببا عن الشك في الآخر ، بل مرجع الشكّ فيهما إلى شيء واحد ، وهو : أنّ المجعول في حقّ المكلّف في هذه الحالة هو الحدث

-------------------

فهو أنّه قد حكم بان أصالة عدم جعل المذي رافعا - وهو أصله الثالث - حاكم على إستصحاب عدم الطهارة بعد المذي وهو أصله الثاني ، مما يستلزم إستمرار الوضوء ، فانه يرد عليه : ان الشك في أصله الثاني ليس مسبّبا عن الشك في أصله الثالث حتى يكون من الحاكم والمحكوم ، بل كلا الشكين راجعان إلى أمر واحد ، وهو ان حكم الشارع بعد خروج المذي هل هو الحدث أو الطهارة ؟ .

وعليه : ( فلو سُلِّمَ جريان إستصحاب العدم ) أي : عدم جعل الطهارة بعد المذي وهو أصله الثاني ( حينئذ ) أي : حين كان المورد من الشك في الرافع ، لا من الشك في المقتضي ( لكن ليس إستصحاب عدم جعل الشيء رافعا ) وهو أصله الثالث ( حاكما على هذا الاستصحاب ) أي : إستصحاب عدم الطهارة بعد المذي الذي هو أصله الثاني .

وإنّما لا يكون حاكما عليه ( لأنّ الشك في أحدهما ليس مسببا عن الشك في الآخر ) وميزان الحكومة هو : ان يكون أحد الشكين مسبّبا عن الشك في الآخر ، مثل الشك في صحة الصلاة المسبّب عن الشك في بقاء الطهارة ، فانه إذا استصحبت الطهارة إرتفع الشك في صحة الصلاة .

( بل مرجع الشكّ فيهما ) أي : في عدم جعل المذي رافعا ، وعدم جعل الطهارة بعد المذي ( إلى شيء واحد ، وهو : أنّ المجعول ) من قبل الشارع ( في حقّ المكلّف في هذه الحالة ) أي : بعد خروج المذي هل ( هو الحدث

ص: 384

أو الطهارة .

نعم ، يستقيم ذلك فيما إذا كان الشك في الموضوع الخارجي أعني : وجود المزيل أو عدمه ، لأنّ الشك في كون المكلّف حال الشك مجعولاً في حقّه الطهارة أو الحدث ، مسبّبٌ عن الشك في تحقق الرافع ،

-------------------

أو الطهارة ) ؟ .

والحاصل : ان المحقق النراقي جعل التعارض بين إستصحابين : إستصحاب الطهارة قبل المذي ، وإستصحاب عدم الطهارة بعد المذي ، وجعل أصالة عدم رافعية المذي حاكمة على أصالة عدم الطهارة بعد المذي مما نتيجته إستمرار الوضوء ، والمصنّف لم يرتض هذه الحكومة ، لأن الشك في الطهارة بعد المذي هو عين الشك في رافعية المذي ، وليس مسببا عنه ، حتى يكون أحدهما حاكما على الآخر .

( نعم ، يستقيم ذلك ) أي حكومة أحد الاستصحابين وهو أصله الثالث على الآخر وهو أصله الثاني حسب مثاله ( فيما إذا كان الشك في الموضوع الخارجي ) بأن كانت الشبهة موضوعية ( أعني : وجود المزيل أو عدمه ) لا فيما إذا كانت الشبهة حكمية كما نحن فيه .

وإنّما تستقيم الحكومة التي ادّعاها المحقق النراقي في الشبهة الموضوعية دون الحكمية ( لأنّ الشك في كون المكلّف حال الشك ) في الموضوع الخارجي بكونه ( مجعولاً في حقّه الطهارة أو الحدث ، مسبّبٌ عن الشك في تحقق الرافع ) وعدم تحققه ، فإذا شك في انه هل خرج منه مزيل أم لا ؟ فشك تبعا لذلك في انه هل هو متطهر أم لا ؟ فان إستصحاب عدم خروج المزيل حاكم على الشك

ص: 385

إلاّ أنّ الاستصحاب مع هذا العلم الاجمالي بجعل أحد الأمرين في حقّ المكلّف غيرُ جارٍ .

-------------------

في كونه متطهرا ، إذ يرتفع الشك في الطهارة بسبب إستصحاب عدم خروج المزيل فيكون متطهرا .

( إلاّ أنّ الاستصحاب ) أي : إستصحاب كل من الطهارة قبل المذي ، وعدم الطهارة بعد المذي ( مع هذا العلم الاجمالي بجعل أحد الأمرين ) من الطهارة ، أو الحدث ، بعد خروج المذي ، هذا الاستصحاب ( في حقّ المكلّف غيرُ جارٍ ) بل يجري في حقه إستصحاب عدم تحقق الرافع فقط ، فيحكم بطهارته .

والحاصل : ان المحقق النراقي قال : بأن هنا بعد المذي إستصحابين :

الأوّل : إستصحاب الطهارة قبل خروج المذي .

الثاني : إستصحاب عدم الطهارة من جهة العدم الأزلي بعد خروج المذي .

ثم بعد التعارض قال بتحكيم الأصل الثالث وهو : إستصحاب عدم تحقق الرافع ، فيثبت كونه متطهرا .

لكن المصنِّف قال : حيث انا نعلم بطلان أحد الاستصحابين لعلمنا الاجمالي بأن المكلّف بعد خروج المذي اما متطهر أو محدث ، فلا يجري الاستصحابان رأسا ، لأن العلم الاجمالي عند المصنِّف مانع من جريان الاُصول في أطرافها ، لا أنها جارية وساقطة بالتعارض ، فلا يجريان رأسا ، وإنّما يجري إستصحاب عدم تحقق الرافع فقط ، فيثبت انه متطهر .

ص: 386

الأمر الثالث :

إنّ المتيقن السابق إذا كان ممّا يستقلّ به العقل كحرمة الظلم ، وقبح التكليف بما لا يطاق ، ونحوهما من المحسّنات والمقبّحات العقليّة ، فلا يجوز إستصحابه ، لأنّ الاستصحاب إبقاء ما كان ، والحكم العقلي موضوعه معلوم تفصيلاً للعقل الحاكم به .

فان أدرك العقل بقاء الموضوع في الآن الثاني ، حكم به

-------------------

( الأمر الثالث ) مما ينبغي التنبيه عليه في الاستصحاب هو ما يلي :

( إنّ المتيقن السابق ) قد يكون موضوعا لحكم شرعي : كما إذا لم نعلم بأن الزوج هل هو حي ، حتى يجب نفقة زوجته ، أم لا ، حتى لا يجب ؟ فانه يستصحب بقائه .

وقد يكون المتيقن السابق حكما شرعيا بنفسه ، كما إذا علمنا بقاء الزوج ، لكن لا نعلم هل سقطت عنه نفقة زوجته ، لاحتمالنا نشوزها ، أم لا ؟ فانه يستصحب بقاء الحكم .

وامّا ( إذا كان ) المتيقن السابق ( ممّا يستقلّ به العقل ) من الأحكام العقلية ( كحرمة الظلم ، وقبح التكليف بما لا يطاق ، ونحوهما ) مثل وجوب العدل وحسن الاحسان ، وغير ذلك ( من المحسّنات والمقبّحات العقليّة ، فلا يجوز إستصحابه ) إذا شككنا فيه .

وإنّما لا يجوز إستصحابه مع الشك فيه ( لأنّ الاستصحاب ) هو عبارة عن ( إبقاء ما كان ) كما مرّ سابقا في تعريفه ( والحكم العقلي موضوعه معلوم تفصيلاً للعقل الحاكم به ) فلا تقع الشبهة في الموضوع للحكم العقلي .

وعليه : ( فان أدرك العقل بقاء الموضوع في الآن الثاني ، حكم به ) أي : بالحكم

ص: 387

حكما قطعيّا ، كما حكم أولاً ، وإن أدرك إرتفاعه ، قطع بارتفاع ذلك الحكم ،

-------------------

المترتب على ذلك الموضوع ( حكما قطعيا ، كما حكم أولاً ) فلا شك له في بقاء الحكم وعدمه .

( وإن أدرك إرتفاعه ، قطع بارتفاع ذلك الحكم ) حكما قطعيا أيضا ، فان العقل لا يحكم إلاّ على موضوع يرى فيه توفّر جميع خصوصياته ، الموجبة تلك الخصوصيات لحسن ذلك الحكم أو لقبحه .

مثلاً : إذا حكم العقل بقبح التصرف في ملك الغير بلا إذن منه ، ولا إذن من الشارع ، فان الشارع قد يأذن في بعض الموارد مع عدم إذن المالك مثل : حلّية التصرف في ملك الغير في حالة الاضطرار ، أو حالة دوران الأمر بين الأهم والمهم، مثل إنقاذ الغريق الذي يتوقف إنقاذه على الغصب ، وما أشبه ذلك .

وعليه : فإذا علم العقل في الآن الثاني بقاء ذلك الموضوع بكل قيوده وخصوصياته ، لم يكن له شك في بقاء ذلك الحكم ، فلا حاجة إلى الاستصحاب ، وإذا لم يعلم ببقاء كل تلك القيود لم يكن له شك في إنتفاء ذلك الحكم ، فلا حاجة إلى الاستصحاب أيضا .

ثم إنّ الشارع وإن كان حكمه كذلك في متن الواقع ، حيث انه يحكم على موضوع يرى فيه توفّر جميع قيوده وشروطه ، إلاّ انا لا نعلم هل ان الموضوع الذي ذكره الشارع لحكمه هو كل العلة لهذا الحكم ، أو بعض العلة ؟ ولذا يتعقل شكنا في بقاء الحكم الشرعي بسبب زيادة أو نقيصة بعض القيود والشروط .

مثلاً : إذا قال الشارع : الخمر حرام ، لا نعلم هل انه يريد الخمر المسكر ، أو حتى إذا زال اسكاره ؟ فإذا زال اسكاره لا نعلم زال الحكم أم لا ، وحيث نشك في بقاء الحكم في الآن الثاني بعد تيقّننا بوجوده في الزمان الأوّل ، يبقى المجال

ص: 388

ولو ثبت مثله بدليل ، لكان حكما جديدا حادثا في موضوع جديد .

-------------------

للاستصحاب ، فيشمله : « لا تنقض اليقين بالشك » .

وعليه : فالفرق بين الحكم العقلي والحكم الشرعي هو : ان الأوّل : معلوم لدينا فلا مجال للاستصحاب فيه ، بينما الثاني قد يكون مجهولاً لنا فمجال الاستصحاب فيه موجود .

وممّا ذكرنا ثبت انه لو زال الموضوع للحكم العقلي - مثلاً - وثبت الحكم بعد زوال ذلك الموضوع ، كان اللازم ان يكون الحكم ثابتا على موضوع جديد كما قال : ( ولو ثبت مثله ) أي : مثل الحكم السابق في الآن اللاحق ثبوتا ( بدليل ، لكان حكما جديدا حادثا في موضوع جديد ) لا ان هذا الحكم باق على نفس ذلك الموضوع السابق .

مثلاً : لو حكم العقل بقبح أكل أموال الناس بدون اذنهم ولا إذن من الشارع ، ثم إذن المالك ، ورأينا ان العقل يحكم بقبح أكله أيضا ، لم يكن القبح في الآن الثاني لأجل انه أكل مال الناس بدون إذنهم ولا إذن من الشارع ، بل يكون لأجل انه ضارّ - مثلاً - فالموضوع جديد وهو حكم جديد ، وان كان الحكمان متشابهان من حيث القبح ، وبذلك تبيّن ان الأقسام المتصورة في الحكم العقلي أربعة :

الأوّل : الشك في الحكم مع العلم ببقاء موضوعه ، وهذا غير معقول .

الثاني : الشك في الحكم العقلي مع العلم بارتفاع موضوعه ، وهذا غير معقول أيضا .

الثالث : الشك فيه ، للشك في بقاء موضوعه من جهة الاشتباه الخارجي ، يعني: ان تكون الشبهة موضوعية كما أشار إليه المصنِّف بقوله :

ص: 389

وأمّا الشك في بقاء الموضوع ، فان كان لاشتباه خارجي ، كالشك في بقاء الاضرار في السمّ الذي حكم العقلُ بقبح شربه ، فذلك خارجٌ عمّا نحن فيه ، وسيأتي الكلام فيه .

وإن كان لعدم تعيين الموضوع تفصيلاً وإحتمال مدخليّة موجود مرتفع أو معدوم حادث في موضوعيّة الموضوع ،

-------------------

( وأمّا الشك في بقاء الموضوع ، فان كان لاشتباه خارجي ، كالشك في بقاء الاضرار في السمّ الذي حكم العقلُ بقبح شربه ) فان الشك في بقاء الاضرار وعدمه ليس من الشبهة الحكمية ، بل من الشبهة الموضوعية ( فذلك خارجٌ عمّا نحن فيه ) لأن كلامنا في الشبهة الحكمية ( وسيأتي الكلام فيه ) إن شاء اللّه تعالى ، وذلك عند قول المصنِّف : وامّا موضوعه .

الرابع : الشك فيه للشك في بقاء موضوعه من جهة عدم تعيّنه من أصله ، وذلك كما إذا دار الأمر بين محذورين ، حيث يحكم العقل بالتخيير في الأخذ بهذا أو بذاك ، لكن بعد الأخذ بأحدهما يشك العقل في انه هل كان التخيير إبتدائيا حتى لا يجوز له الأخذ بالشق الثاني في الآن الثاني ، أو كان التخيير إستمراريا حتى يجوز له ان يأخذ في كل واقعة بأحد الشقّين ؟ .

وإلى هذا أشار المصنِّف بقوله : ( وإن كان لعدم تعيين الموضوع تفصيلاً ) وإنّما يعلمه إجمالاً ( وإحتمال مدخليّة موجود مرتفع ) وهو التحيّر المرتفع باختيار أحد الشقّين ( أو معدوم حادث ) وهو التحيّر الحاد عند تكرّر الواقعة ، حيث يحتمل مدخلية ذلك ( في موضوعيّة الموضوع ) .

والحاصل : انه يحتمل ان يكون موضوع التخيير : دوران الأمر بين المحذورين للمتحيّر في أول الأمر ، فبعد الأخذ بأحدهما لم يكن متحيّرا ، فلا يجوز له الأخذ

ص: 390

فهذا غير متصوّر في المستقلات العقليّة ، لأنّ العقل لا يستقلُّ بالحكم إلاّ بعد إحراز الموضوع ومعرفته تفصيلاً ، لأنّ القضايا العقليّة إمّا ضرورية لا يحتاج العقلُ في حكمه إلى أزيد من تصوّر الموضوع بجميع ما له دخل

-------------------

بالشق الآخر في الواقعة الثانية ، وهذا هو ما أشار اليه بقوله : « وإحتمال مدخلية موجود مرتفع » .

ويحتمل ان يكون موضوع التخيير هو : دوران الأمر بين المحذورين للمتحيّر ما دام لم يأخذ بأحدهما ، فإذا أخذ بأحدهما في واقعة إنعدم التحيّر ، فإذا تكرّرت الواقعة حدث التحيّر من جديد فحدث موضوع التخيير ، فيجوز له الأخذ بالشق الآخر في الواقعة الثانية ، وهذا هو ما أشار إليه بقوله : أو معدوم حادث .

وعلى كل حال : ( فهذا ) القسم الرابع من الأقسام المتصورة للحكم العقلي وهو الشك في الحكم للشك في بقاء موضوعه من جهة عدم تعيّنه ( غير متصوّر في المستقلات العقليّة ، لأن العقل لا يستقلُّ بالحكم إلاّ بعد إحراز الموضوع ومعرفته تفصيلاً ) فلا يحكم مع الشك فيه .

مثلاً : إذا كانت له زوجتان ولا يتمكن من إطعامهما كل يوم ، فالعقل يرى التخيير الاستمراري ، حيث ان العقل يرى ان وفاء بعض الحق لكل منهما أولى من إعطاء إحداهما دائما دون الاُخرى ، بينما إذا كان مريضا ووصف له طبيبان نسختين كل منهما ضد ما وصفه الآخر ، فانه يقطع بشدة مرضه لو عمل كل يوم بما وصف أحدهما ، فهنا يرى العقل التخيير الابتدائي دون الاستمراري ، لأنه مقطوع الضرر ، فلا شك إذن في المقام كما عرفت .

وإنّما قلنا ان القسم الرابع غير متصور ( لأنّ القضايا العقليّة إمّا ضرورية لا يحتاج العقل في حكمه إلى أزيد من تصوّر الموضوع بجميع ما له دخل

ص: 391

في موضوعيّته من قيوده ، وإمّا نظريّةٌ تنتهي إلى ضرورية كذلك ، فلا يعقل إجمال الموضوع في حكم العقل مع أنّك ستعرف

-------------------

في موضوعيّته من قيوده ) وشروطه وموانعه وسائر خصوصياته ، كما ذكرنا سابقا في مثال قبح التصرف في ملك الغير بغير إذنٍ منه ولا إذن من الشارع .

( وإمّا نظريّةٌ تنتهي إلى ضرورية كذلك ) أي : بان لا يحتاج العقل في حكمه إلى أزيد من تصور الموضوع بجميع قيوده وشروطه وخصوصياته .

إذن : فالقضية العقلية النظرية لابد وان تنتهي إلى الضرورية ، وإلاّ فمن أين يكون ذلك حكما عقليا ؟ فقد ثبت في الحكمة : ان كل ما بالعرض لابد وان ينتهي إلى ما بالذات ، والنظري المنتهي إلى الضروري في حكم العقل هو مثل : عدم تنجز التكليف على الجاهل ، فان هذا حكم نظري ، لكنه ينتهي إلى حكم ضروري وهو : قبح العقاب بلا بيان ، سواء كان بيانا للحكم أم بيانا للاحتياط .

وعلى أيّ حال : ( فلا يعقل إجمال الموضوع في حكم العقل ) فلا يصح القسم الرابع .

هذا ( مع أنّك ستعرف ) انه لو فرضنا إمكان إجمال موضوع حكم العقل ، كما قال به بعض العلماء ، وذلك بان يكون الموضوع في نظر العقل مجملاً : بين يقيني يؤخذ به ، وبين الزائد على ذلك اليقيني حيث لا يؤخذ به ، كما إذا قلنا بان في التخيير العقلي يجوز الأخذ بأيٍّ منهما إبتداءا من باب القدر المتيقن ، لا إستمرارا ، لأنه مشكوك جواز الأخذ به بعد رفع تحيّره بالأخذ بأحدهما ، فلا يكون التخيير إستمراريا .

وعليه : فانه حتى لو فرضنا إمكان إجمال موضوع حكم العقل فستعرف

ص: 392

في مسألة إشتراط بقاء الموضوع : أنّ الشك في الموضوع خصوصا لأجل مدخليّة شيء مانع عن إجراء الاستصحاب .

-------------------

( في مسألة إشتراط بقاء الموضوع : أنّ ) عند ( الشك في الموضوع خصوصا ) إذا كان شكا ( لأجل مدخلية شيء ) في الموضوع ( مانع عن إجراء الاستصحاب ) لأن شرط الاستصحاب الحكمي هو إحراز الموضوع ، فكيف يجوز إجراء الاستصحاب مع الشك في الموضوع ؟ .

هذا ، وقول المصنِّف : خصوصا ، إنّما هو لأجل الاشارة إلى ان الشك في الموضوع على قسمين :

الأوّل : ما إذا كان الشك لأجل الاشتباه في الاُمور الخارجية ، وذلك كما تقدّم من مثال الشك في بقاء الاضرار في السم ، حيث يرى العقل وجوب التحرز عنه .

الثاني : ما إذا كان الشك لاحتمال مدخلية قيد وجودي أو عدمي في الموضوع ، كاحتمال مدخلية التحيّر في أول الأمر في حكم العقل بالتخيير في الدوران بين المحذورين .

هذا كما ان في قول المصنِّف : خصوصا ، إشارة أيضا إلى ان الشك في بقاء الموضوع لاحتمال مدخلية شيء فيه يكون مانعا عن إستصحاب الحكم ، وعن إستصحاب الموضوع معا .

امّا انه مانع عن إستصحاب الحكم فلعدم إحراز الموضوع ، وقد عرفت : لزوم إحراز الموضوع في الاستصحاب الحكمي .

وامّا انه مانع عن إستصحاب الموضوع ، فلانه مثبت ، إذ إستصحاب بقاء الموضوع ، لا يثبت ان هذا الشيء الخارجي هو الموضوع ، فهو من قبيل إستصحاب الكلي لاثبات الفرد ، كما تقدّم مثله في إستصحاب الكرية لاثبات كون

ص: 393

فان قلت : فكيف يستصحب الحكم الشرعي مع أنّه كاشفٌ عن حكم عقلي مستقلّ ، فانّه إذا ثبت حكم العقل بردّ الوديعة ، وحكم الشارع على وجوب الردّ ثمّ عرض ما يوجب الشك مثل : الاضطرار والخوف فيستصحب الحكم مع أنّه كان تابعا للحكم العقلي .

-------------------

هذا الماء كرا ، وذلك بخلاف الشك في الموضوع لاشتباه خارجي ، فانه لا يمنع عن إستصحاب نفس الموضوع .

والحاصل : ان عدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقلية ، إنّما هو لأجل عدم إمكان فرض الشك فيها ، مضافا إلى عدم العلم ببقاء الموضوع الذي هو شرط جريان الاستصحاب على ما عرفت .

( فان قلت ) : إذا لم يستصحب الحكم العقلي : ( فكيف يستصحب الحكم الشرعي مع أنّه ) أي : الحكم الشرعي ( كاشفٌ عن حكم عقلي مستقلّ ) ؟ فإذا لم يستصحب في المتبوع الذي هو حكم العقل ، لم يستصحب في التابع الذي هو حكم الشرع أيضا ، وذلك لقاعدة الملازمة القائلة : بأنه كلّما حكم به العقل حكم به الشرع ، وكلّما حكم به الشرع حكم به العقل .

وعليه : ( فانّه إذا ثبت حكم العقل بردّ الوديعة ، وحكم الشارع ) الثابت بالأدلة الثلاثة الاُخر ( على وجوب الردّ ) أيضا ( ثمّ عرض ما يوجب الشك ) في انه هل يجب الردّ أو لا يجب ؟ ( مثل : الاضطرار ) إلى استعمال الوديعة ( والخوف ) بان يكون طريق الردّ غير مأمون ( فيستصحب الحكم ) الشرعي بوجوب الردّ ( مع أنّه كان تابعا للحكم العقلي ) الذي ذكرتم انه لا إستصحاب فيه ، فالمانع عن إستصحاب حكم العقل هو بعينه جار في إستصحاب حكم الشرع ، مع إنكم تقولون باستصحاب حكم الشرع .

ص: 394

قلت : أمّا الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي ، فحاله حال الحكم العقلي في عدم جريان الاستصحاب .

نعم ، لو ورد في مورد حكم العقل حكمٌ شرعي من غير جهة العقل ، وحصل التغيّر في حال من أحوال موضوعه ممّا يحتمل مدخليّته وجودا أو عدما في الحكم

-------------------

( قلت : أمّا الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي ، فحاله حال الحكم العقلي في عدم جريان الاستصحاب ) ولكن ليس كل حكم شرعي تابع للحكم العقلي ، فالاشكال إنّما هو في الحكم الشرعي التابع للحكم العقلي ، امّا الحكم الشرعي الذي ليس بتابع للحكم العقلي ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه .

لا يقال : انكم تقولون انه كل ما حكم به الشرع حكم به العقل ، ومعنى ذلك هو : ان كل حكم شرعي فهو تابع للحكم العقلي .

لأنه يقال : معنى تبعية أحكام الشرع للعقل هو ان الشرع لو كشف للعقل عن الموضوع للحكم الشرعي ، لحكم العقل به كما حكم الشرع به ، وذلك لأن الشارع بصير يرى الواقعيات ، بينما العقل لا يرى الواقعيات ، حالهما حال الرياضي والجاهل ، حيث ان الجاهل لو إنكشف له الواقع لحكم بما حكم به الرياضي من الجمع والضرب والطرح والتقسيم .

( نعم ، لو ورد في مورد حكم العقل حكمٌ شرعي من غير جهة العقل ، وحصل التغيّر في حال من أحوال موضوعه ) أي : موضوع العقل ( ممّا يحتمل مدخليّته وجودا أو عدما في الحكم ) كما إذا ورد في العقل والشرع حكمان متطابقان على عدم تكليف غير المميّز ، فإذا حصل تغيّر في موضوع الحكم العقلي بان صار مميّزا ، ذهب الحكم العقلي وبقي الحكم الشرعي ، لأن الشارع لا زال يقول بعدم تكليفه .

ص: 395

جرى الاستصحاب وحُكِمَ بأنّ موضوعه أعمّ من موضوع حكم العقل ، ومن هنا يجري إستصحاب عدم التكليف في حال يستقلّ العقل بقبح التكليف فيه ، لكنّ

-------------------

ومن ذلك تبيّن : ان حكم العقل وحكم الشرع وان تطابقا في غير المميّز ، لكنهما بملاكين لا بملاك واحد ، فملاك الشارع : انه لم يبلغ الحلُم وهو سبب إرتفاع القلم عنه ، حيث قال : رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم ، وملاك العقل : انه لعدم تمييزه رفع عنه القلم ، من غير فرق بين ان يكون حصول التغير لاحتمال مدخلية شيء فُقد ، مثل مدخلية سن خاص كثلاث سنوات وقد فُقد ذلك السن بان صار عمره أكثر ، أو لاحتمال مفقود وُجد ، مثل مدخلية عدم التمييز قبلاً حيث صار مميّزا وان لم يصر بالغا .

وحينئذٍ : ( جرى الاستصحاب ) الشرعي ( وحُكِمَ بأنّ موضوعه ) أي : موضوع حكم الشرع ( أعمّ من موضوع حكم العقل ) لأن موضوع حكم العقل هو غير المميّز بينما موضوع حكم الشرع هو الأعم من ذلك ما دام لم يصل إلى حد البلوغ .

( ومن هنا ) أي : ممّا ذكرنا : من انه ليس كل حكمي شرعي بتابع للحكم العقلي وان توافقا في بعض الاُمور ( يجري إستصحاب عدم التكليف ) الثابت ( في حال يستقلّ العقل بقبح التكليف فيه ) كحال عدم التمييز ، فانه بعد التمييز لا يجري الاستصحاب العقلي ، بينما يجري الاستصحاب الشرعي ، وذلك لأن موضوع حكم الشرع هو : عدم التكليف فيستصحب بعد التمييز ، امّا موضوع حكم العقل فهو : قبح التكليف ، وقبح التكليف مرتفع في زمان التمييز .

( لكنّ ) وكأنه جواب سؤال مقدّر وهو : ان الحكم الشرعي لو كان تابعا للحكم

ص: 396

العدم الأزليّ ليس مستندا إلى القبح ، وإن كان موردا للقبح . هذا حالُ نفس الحكم العقلي .

-------------------

العقلي لزم عدم الاستصحاب في الحكم الشرعي ، فكيف تستصحبون العدم الأزلي ، مع ان الحكم الشرعي هنا مستند إلى الحكم العقلي ، إذ العقل يرى عدم امكان الحكم في الأزل ، والشرع يطابقه ؟ .

والجواب : ان العقل يقول بعدم الحكم في الأزل من جهة قبح التكليف بلا بيان، والشارع يقول : بعدم الحكم في الأزل من جهة قوله تعالى : « وما كنّا معذّبين حتى نبعث رسولاً » (1) والملاك الذي قاله الشرع أعم من الملاك الذي قاله العقل ، فملاك حكم الشرع باق في زمان الشك وان كان لا ملاك لحكم العقل في زمان الشك.

وعليه : فإن ( العدم الأزليّ ليس مستندا إلى القبح ، وإن كان موردا للقبح ) أي : ان العقل والشرع وان كانا متطابقين على عدم الحكم في الأزل ، لكنهما مفترقان من حيث المستند ، فمستند العقل : قبح التكليف بلا بيان ومستند الشرع قاعدة : « وما كنّا معذّبين حتى نبعث رسولاً » (2) .

( هذا حالُ ) الاستصحاب في ( نفس الحكم العقلي ) حيث ذكرنا : ان الحكم العقلي لا يستصحب ، لأنه مع بقاء موضوعه فالحكم موجود ، ومع فقد موضوعه فالحكم مفقود ، فلا مجال للشك فيه حتى يستصحب .

انتهى الجزء الثاني عشر

ويليه الجزء الثالث عشر في

تتمّة التنبيه الثالث للاستصحاب

وله الشكر

ص: 397


1- - سورة الإسراء : الآية 15 .
2- - سورة الاسراء : الآية 15 .

ص: 398

المحتويات

أدلّة حجّية المفصّلين

أدلّة حجّية القول الثالث ... 5

أدلّة حجّية القول الرابع ... 27

أدلّة حجّية القول الخامس ... 41

أدلّة حجّية القول السادس ... 57

أدلّة حجّية القول السابع ... 57

الإشكال على الدليل ... 69

بيان الحكم الوضعي ... 72

الشبهة في جريان الاستصحاب في التكليفية ... 133

أدلّة حجّية القول الثامن ... 148

الجواب عن الدليل ... 189

أدلّة حجّية القول التاسع ... 190

توجيه كلام المحقق ... 194

أدلّة حجّية القول العاشر ... 202

الاشكال على الدليل ... 208

أدلّة حجّية القول الحادي عشر ... 220

الاشكال على الدليل ... 249

توجيه كلام المحقق الخوانساري ... 262

ص: 399

تنبيهات

التنبيه الأوّل ... 291

التنبيه الثاني ... 341

التنبيه الثالث ... 387

المحتويات ... 399

ص: 400

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.