الوصائل الى الرسائل المجلد 11

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

ص: 4

إشارة

توضيحُ الفساد : أنّ هذه القاعدة تدلّ على عدم جعل الأحكام الضررية واختصاص أدلّة الأحكام بغير موارد الضرر .

نعم ، لولا الحكومة ومقام الامتنان

-------------------

أمّا ( توضيحُ الفساد ) في توهم هذا الاشكال فهو كما قال :

( أنّ هذه القاعدة ) بمقتضى الأدلة الكثيرة ( تدلّ على عدم جعل الأحكام الضررية ) من الشارع فالوضوء والصلاة والحج وغيرها من العبادات إذا كانت ضررية فهي ليست مجعولة ( و ) تدل أيضا على ( اختصاص أدلّة الأحكام ) الأولية ، كأدلة الصلاة والصوم والحج وغير ذلك ( بغير موارد الضرر ) .

هذا ، ولعل عمدة تلك الأدلة الكثيرة الدالة على عدم جعل الأحكام الضررية هو: ورود القاعدة قبال الأحكام الأولية حيث انهم عليهم السلام رفعوا الأحكام الأولية لمقابلتها دليل لا ضرر أو دليل لا حرج ، أو دليل لا عسر ، وغيرها من الأدلة الحاكمة ، فقد ورد حكم النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم بقلع عذق سمرة المضار (1) قِبال : « الناس مسلطون على أموالهم » (2) وورد حكم الإمام عليه السلام باثبات حق الشفعة للشريك قبال : « أوفوا بالعقود » (3) وورد حكمه عليه السلام بالمسح على المرارة (4) لدليل لا حرج ، قِبال : وجوب المسح على البشرة ، وهكذا .

( نعم ، لولا الحكومة ) التي يفهمها العرف بعد الجمع بين الأدلة العامة وبين دليل لا ضرر ( و ) كذا لولا ( مقام الامتنان ) الذي وردت هذه الروايات الثانوية

ص: 5


1- - الكافي فروع : ج5 ص294 ح8 .
2- - نهج الحق : ص494 و ص495 و ص504 ، غوالي اللئالي : ج1 ص222 و ج2 ص138 و ج3 ص208 ح54 ، بحار الانوار : ج2 ص272 ح7 .
3- - سورة المائدة : الآية 1 .
4- - الكافي فروع : ج3 ص33 ح4 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص363 ب16 ح27 ، الاستبصار : ج1 ص77 ب46 ح3 ، وسائل الشيعة : ج1 ص464 ب29 ح1231 .

كان للتوهّم المذكور مجالٌ .

وقد يُدفع : بأنّ العمومات الجاعلة للأحكام إنّما تكشف عن المصلحة في نفس الحكم ولو في غير مورد الضرر ، وهذه المصلحة لا يُتدارك الضرر الموجود في مورده ، فانّ الأمر بالحج والصلاة - مثلاً - يدلّ على عوض ولو مع عدم الضرر ، ففي مورد الضرر لا علمَ بوجود ما يقابل الضرر .

-------------------

في مورده ( كان للتوهّم المذكور ) وهو : تقدّم أدلة التكاليف الأولية على قاعدة لا ضرر وشبهها ( مجال ) واسع ، لكن القرينتين دليلان على ما ذكرناه : من حكومة لا ضرر ونحوه على الأدلة العامة الأولية .

هذا ( وقد يدفع ) التوهم المذكور والدافع هو صاحب العوائد وصاحب العناوين : ( بأنّ العمومات الجاعلة للأحكام ) مثل : « أقيموا الصلاة » (1) ومثل : « كتب عليكم الصيام » (2) ( إنّما تكشف عن المصلحة في نفس الحكم ولو في غير مورد الضرر ) فان الصلاة والصوم والحج إنّما وجبت لمصلحة فيها ( وهذه المصلحة لا يُتدارك الضرر الموجود في مورده ) أي : في مورد الضرر .

وعليه : ( فانّ الأمر بالحج والصلاة - مثلاً - يدلّ على عوض ولو مع عدم الضرر ) ولذا يجب الاتيان بالحج والصلاة ونحوهما ( ففي مورد الضرر لا علم بوجود ما يقابل الضرر ) من المصلحة ، ولذا تسقط تلك العمومات ، فلا يجب ما كان من العبادات ضرريا .

وان شئت قلت : ان الوضوء إنّما وجب لمصلحة فيه ، فان كان فيه ضرر ، قابل الضرر تلك المصلحة فأسقطها ، وبعد ذلك لا يكون في الوضوء مصلحة حتى يجب الوضوء ، ولذا يسقط وجوب الوضوء .

ص: 6


1- - سورة المزمل : الآية 20 .
2- - سورة البقرة : الآية 183 .

وهذا الدفع أشنع من أصل التوهّم ، لأنه إذا أسلم عموم الأمر لصورة الضرر ، كشف عن وجود مصلحة يُتدارك به الضرر في هذا المورد ، مع أنّه يكفي حينئذ في تدارك الضرر الأجر المستفاد من قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « أفضل الأعمال أحمزُها » ، وما اشتهر في الألسن وارتكز في العقول : من أنّ : « الأجر على قدر المشقّة » .

-------------------

( وهذا الدفع ) للتوهم المتقدم ( أشنع من أصل التوهّم ) فكما ان أصل التوهم فاسد لما ذكرناه من الأدلة الكثيرة الدالة على حكومة قاعدة لا ضرر على الأدلة الأولية ، يكون هذا الجواب أفسد من ذلك التوهم لأمرين :

أولاً : ( لأنه إذا أسلم عموم الأمر ) بالوضوء - مثلاً - ( لصورة الضرر ، كشف ) العموم هذا ( عن وجود مصلحة يتدارك به الضرر في هذا المورد ) أي : في مورد الضرر أيضا ، فيكون حال الأمر الأولي بالوضوء حينئذ حال الأوامر الأولية المتعلقة بالموضوعات الضررية : من الخمس والزكاة والحج والجهاد وغير ذلك ، فيجب الوضوء حتى في مورد الضرر أيضا .

ثانيا : ( مع أنّه يكفي حينئذ ) أي : حين شمول الأدلة الأولية لمورد الضرر ( في تدارك الضرر : الأجر المستفاد من قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « أفضل الأعمال أحمزها » (1) ، وما اشتهر في الألسن وارتكز في العقول : من أنّ : « الأجر على قدر المشقّة » (2) ) فيكون للوضوء الضرري جهتان : جهة المصلحة وهي تسقط بسبب الضرر وجهة الأجر وهي لا تسقط بسبب الضرر ، فيكون واجبا لأجل ما فيه من الأجر .

ثم انه لا بأس باشارة مختصرة إلى هذه الرواية التي ذكرها المصنِّف وهي :

ص: 7


1- - مفتاح الفلاح : ص45 ، النهاية : ج1 ص440 ، بحار الانوار : ج70 ص191 ب53 ح2 و ص237 ب54 ح6 .
2- - بحار الانوار : ج73 ص275 ب132 ح27 بيان.

...

-------------------

« أفضل الأعمال أحمزها » فانه لا يبعد ان يراد بذلك ما إذا كان هناك عملان أحدهما أشد من الآخر ، فان الأشد يكون أفضل ، فدراسة الفقه - مثلاً - أصعب من دراسة الطب ، فيكون دراسة الفقه أفضل وهكذا .

وبهذا المعنى لا ينافي هذا الحديث مثل قوله سبحانه : « يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر » (1) ولا مثل قوله سبحانه : « ما جعل عليكم في الدين من حرج» (2) ولا مثل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « ان هذا الدين رفيق فأوغل فيه برفق » (3) .

لكن ربما يقال : انه يمكن إرادة ذلك العمل الواحد أيضا ، كما إذا كان للعمل الواحد طريقان : طريق أصعب وطريق أسهل ، فان الطريق الأصعب يكون أفضل ، فالحج - مثلاً - مشيا أفضل من الحج ركوبا، ولهذا كان الأئمة عليهم السلام يذهبون إلى الحج مشيا .

هذا ، ولكن لا شك في ان الحج مشيا أفضل من الركوب إذا كان لأجل التواضع للّه سبحانه ، كما ان بساطة العيش وأكل ماجشب من الطعام لأئمة المسلمين أفضل من خصوبة العيش وأكل اللباب إذا كان للّه سبحانه ، وذلك لما فيه من توفير المال على الرعية ، ومواساة الضعفاء منهم ، ودفع اتهام التصرف في أموالهم ، وتسلية الفقراء منهم، كما أشار إلى ذلك أمير المؤمنين عليه السلام في كلام له في نهج البلاغة (4) .

أمّا بدون مصلحة التواضع ، أو مصلحة المواساة للرعية كما في إمامة المسلمين فالأيسر أفضل .

ص: 8


1- - سورة البقرة : الآية 185 .
2- - سورة الحج : الآية 78 .
3- - وسائل الشيعة : ج1 ص110 ب26 ح270 وفيه متين بدل (رفيق) ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج2 ص94 .
4- - راجع ارشاد القلوب : ص214 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج16 ص287 راجع الخطبة « أأقنع من نفسي بأن يقال لي أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر وجشوبة العيش » .

فالتحقيق في دفع التوهم المذكور ما ذكرناه من « الحكومة » والورود في مقام الامتنان .

ثم إنّك قد عرفت بما ذكرنا : أنّه لا قصور في القاعدة المذكورة من حيث مدركها سندا أو دلالة ، إلاّ أنّ الذي يُوهِن فيها هي كثرة التخصيصات فيها بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي ،

-------------------

والحاصل : ان اليسر هو مراد اللّه سبحانه ، إلاّ ان تكون مصلحة في خلاف اليسر ، وحين وجود تلك المصلحة يكون الأحمز أفضل .

وكيف كان : ( فالتحقيق في دفع التوهم المذكور ) القائل بتقديم الأدلة العامة على دليل لا ضرر هو : ( ما ذكرناه من « الحكومة » والورود في مقام الامتنان ) فانه قد عرفت : ان الحكومة وكذلك الامتنان بها قرينتان على تقديم لا ضرر على الأدلة الأولية .

وحيث فرغ المصنِّف من الأمور الأربعة المرتبطة بقاعدة لا ضرر : من بيان مدركها ، ومعنى اللفظين فيها ، ومعنى النفي ، وبيان نسبتها مع سائر العمومات ، شرع في الأمر الخامس وهو : بيان إشكالات التمسك بهذه القاعدة فقال : ( ثم إنّك قد عرفت بما ذكرنا : أنّه لا قصور في القاعدة المذكورة من حيث مدركها سندا ) لما عرفت : من تواتر السند ، وصحة بعض الأسانيد ، وعمل المشهور بها قديما وحديثا ، بل أجمعوا على العمل بها .

( أو دلالة ) لما تقدّم : من حكومة قاعدة « لا ضرر » على الأدلة الأولية .

( إلاّ أنّ الذي يُوهِن فيها هي : كثرة التخصيصات فيها بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي ) موارد الضرر في الفقه كثيرة جدا ، فان شراء الماء للوضوء ، أو للغسل ، أو لتطهير الثياب ، أو ما أشبه ذلك ضرر ، كما ان الحقوق المالية كالخمس

ص: 9

كما لا يخفى على المتتبع ، خصوصا على تفسير الضرر بادخال المكروه ، كما تقدّم ، بل لو بُنِى على العمل بعموم هذه القاعدة حصل منه فقهٌ جديدٌ ،

-------------------

والزكاة والكفارات ، وكذلك الجهاد والقصاص والديات ضرر .

( كما لا يخفى على المتتبع خصوصا على تفسير الضرر بادخال المكروه كما تقدّم ) فان الضرر قد يفسّر بمعناه العرفي : من التضرر المالي أو الجسمي أو ما أشبه ذلك ، وقد يفسر بالمعنى الأعم الشامل لما فيه المكروه أيضا ، فيكون الضرر على هذا أوسع دائرة من الضرر بالمعنى العرفي ، لأنه يشمل مثل الصوم الواجب والحج الواجب وأمثالهما مما يدخل بسببها المكروه على الانسان فيكثر بذلك التخصيص في قاعدة لا ضرر .

( بل لو بنى على العمل بعموم هذه القاعدة حصل منه فقه جديد ) لأنه يلزم منه تعطيل كثير من الأحكام الضرورية ، وتغيير كثير من الفروع البديهية ، من الخمس والزكاة ، والحج ، والجهاد وما أشبه ، وذلك مما لا يجوز .

أقول : لكن الظاهر : ان هذا الاشكال غير وارد ، فان مثل الخمس والزكاة والحج والضمانات لا يسمى ضررا عرفا ، لأن الاُمور الموضوعة لمصلحة الفرد أو لمصلحة الاجتماع من مقوّمات الحياة لا من الاضرار ، فالخمس والزكاة - مثلاً - للتكافل الاجتماعي ، والحج لمنافع لهم كما في الآية المباركة من الاجتماع والتعارف ، وتحريك الأسواق ، وانعاش الاقتصاد ، وغير ذلك ، والضمانات لجبر الخسائر ، وهكذا .

ومن المعلوم : انّ مثل هذا لا يسمى ضررا ، وإلاّ لصح ان يقال للمشتري الذي يعطي المال في قِبال البضاعة أو ما يحتاج إليه : انه متضرر ، ومن أجل ذلك لا يسمى صرف المال في المسكن والمأكل والمشرب والمنكح والمركب

ص: 10

ومع ذلك فقد استقرّت سيرة الفريقين على الاستدلال بها في مقابل العمومات المثبتة للأحكام وعدم رفع اليد عنها إلاّ بمخصّص قويّ في غاية الاعتبار ، بحيث يُعْلَم منه إنحصار مدرك الحكم في عموم هذه القاعدة .

-------------------

ونحوها ضررا .

وعليه : فاعتبار مثل هذه الاُمور ضررا وتخصيصا في دليل لا ضرر محل منع قطعي ، كما ان تعميم الضرر لما فيه المكروه خلاف اللغة والعرف والشرع .

إذن : فهذا الاشكال وهو : كثرة التخصيصات في لا ضرر الموهن لها ، من أساسه محل نظر .

( و ) لكن ( مع ذلك ) الوهن كله على فرض تسليمه كما يراه المصنِّف ، فان القاعدة معتبرة عند المسلمين كلهم ( فقد استقرّت سيرة الفريقين ) من العامة والخاصة ( على الاستدلال بها ) أي : بقاعدة لا ضرر ( في مقابل العمومات المثبتة للأحكام ) فيسقطون بها وجوب الوضوء الضرري - مثلاً - ولزوم البيع الغبني وغير ذلك من أمثلة تخصيص لا ضرر للعمومات الموجودة من أول الفقه إلى آخره .

كما ( و ) استقرت سيرتهم أيضا على ( عدم رفع اليد عنها ) أي : عن قاعدة لا ضرر ( إلاّ بمخصّص قويّ في غاية الاعتبار ) مثل : أدلة وجوب الخمس والزكاة، والكفارات والديات ، وغيرها من الأحكام الضرورية الثابتة بالدليل القطعي ، لكن هذا التخصيص قد عرفت ما فيه ، فانه تخصّص لا تخصيص .

لا يقال : فلعل الفقهاء ذكروا سقوط الوضوء الضرري وما أشبه لدليل خاص لا لقاعدة لا ضرر ، لأن قاعدة لا ضرر ساقطة بسبب كثرة التخصيصات .

لأنّه يقال : انّهم ذكروا سقوط الوضوء الضرري وما أشبه ذلك مستدلين له بقاعدة لا ضرر ( بحيث يُعْلَم منه إنحصار مدرك الحكم في عموم هذه القاعدة )

ص: 11

ولعلّ هذا كافٍ في جبر الوهن المذكور ، وإن كان في كفايته نظرٌ ، بناءا على أنّ لزوم تخصيص الأكثر على تقدير العموم قرينةٌ على إرادة معنى لايلزم منه ذلك ،

-------------------

بل هم يصرحون بذلك في موارد كثيرة من الفقه ( ولعلّ هذا ) أي : استدلال الفقهاء بقاعدة لا ضرر لتخصيص الأدلة العامة الأولية ( كافٍ في جبر الوهن المذكور ) : من كثرة التخصيصات على تقدير تسليمه .

هذا ، ولكن يمكن القول بعدم كفايته كما قال ( وإن كان في كفايته ) أي : في كفاية استدلال الفقهاء بهذه القاعدة لتخصيص الأدلة الأولية ( نظرٌ ، بناءا على أنّ لزوم تخصيص الأكثر على تقدير العموم قرينةٌ على إرادة معنى لا يلزم منه ذلك ) أي : تخصيص الأكثر .

وعليه : فاذا ورد عام ورأينا كثرة التخصيص المستهجن فيه ، ودار أمره بين المعنى الظاهر للعام الذي يسبب كثرة تخصيصه ، وبين معنى آخر لا يسبب كثرة التخصيص ، فاستهجان الأوّل يوجب حمل العام على خلاف ظاهره من المعنى الثاني الذي لا يسبب كثرة التخصيص فيه .

مثلاً : إذا قال المولى : اكرم العلماء ، فانه ظاهر في العموم الشامل لكل عالم عالم ، فاذا خصص بالنحوي والأديب ، والشاعر والفاسق ، وما أشبه ذلك ، بحيث كان الخارج أكثر من الباقي كما إذا بقي تحت العام عشرة وخرج منه تسعون ، فانه يكون قرينة على ان المراد من هذا العموم ليس معناه الظاهر الشامل لكل أقسام العلماء .

إذن : فالمراد منه معنى آخر لا تخصيص فيه ، أو تخصيصه قليل بحيث لا يكون مستهجنا ، وذلك بحمله - مثلاً - على إرادة المجتهدين منه فيقال : ان هذه القرينة

ص: 12

غاية الأمر تردّد الأمر بين العموم وإرادة ذلك المعنى ، واستدلال العلماء لايصلح معيّنا خصوصا لهذا المعنى المرجوح المنافي لمقام الامتنان وضرب القاعدة

-------------------

دلت على ان إرادة المولى من العالم هنا : المجتهد العادل فقط دون غيره من العلماء .

والكلام فيما نحن فيه أيضا كذلك ، فانه إذا رأينا ان قاعدة لا ضرر خصصت بكثير من الموارد من أول الطهارة إلى آخر الديات ، كان ذلك قرينة على ان المراد من القاعدة ليس نفي مطلق الضرر الموجب لكثرة التخصيص المستهجن على ماعرفت ، بل المراد : نفي اتلاف مال الغير فقط ، وهذا المعنى اما لم يخصص بشيء، أو خصص بتخصيص قليل لا يوجب استهجانه .

( غاية الأمر تردّد الأمر بين العموم وإرادة ذلك المعنى ) فانه على تقدير عدم الجزم بأن المراد من العام هو المعنى الآخر ، فلا أقل من الترديد في ان المولى هل أراد العموم من هذا العام أو أراد ذلك المعنى الآخر منه؟ فيلزم الاجمال في كلام المولى ، والاجمال يسبب الأخذ بالقدر المتيقن وهو : المجتهد العادل في مثل : اكرم العلماء ، واتلاف مال الغير في مثل لا ضرر .

إذن : فالمعنى العام لا يريده المولى حسب هذه القرينة لا في : اكرم العلماء ولا في قاعدة لا ضرر .

( و ) ان قلت : استدلال العلماء بهذه القاعدة لاخراج موارد الضرر من الأدلة العامة يكون معنيا لارادة العموم من لا ضرر .

قلت : ( استدلال العلماء لا يصلح معيّنا ) لارادة العموم من لا ضرر ( خصوصا لهذا المعنى المرجوح المنافي لمقام الامتنان وضرب القاعدة ) فان إرادة العموم

ص: 13

إلاّ أن يقال : مضافا إلى منع أكثرية الخارج وإن سلّمت كثرته ، إنّ الموارد الكثيرة الخارجة عن العام إنّما خرجت بعنوان واحد جامع لها وإن لم نعرفه على وجه التفصيل .

وقد تقرّر : أنّ تخصيص الأكثر لا استهجانَ فيه إذا كان بعنوان واحد

-------------------

مع تخصيصات كثيرة مرجوح في نظر العلماء ، وكذلك مناف لمقام الامتنان أيضا.

وعليه : فان قوله : « لا ضرر في الاسلام » (1) وما أشبه ذلك من الروايات السابقة إنّما هو في قمام المنَّة وضرب القاعدة ، فكيف يمكن أن يخرج منها هذه الكثرة الكثيرة من الموارد ؟ .

هذا ، مع انا نرى ان مقام المنَّة وضرب القاعدة آبيان عن أصل التخصيص ، فكيف بهذه الكثرة من التخصيص؟ فيكون ذلك دليلاً على ان مراد المولى من لا ضرر : إتلاف مال الغير ، فاذا أتلف أحد مال الغير فعليه تداركه بالضمان ونحوه.

( إلاّ ان يقال : مضافا إلى منع أكثرية الخارج وان سلّمت كثرته ) أي : سلمنا كثرة الموارد الخارجة من تحت عموم لا ضرر ، لكن لا نسلم كونها أكثر من الموارد الباقية تحت عمومه من أول الفقه إلى آخر الفقه ، فانه إضافة إلى ذلك نقول :

( إنّ الموارد الكثيرة الخارجة عن العام إنّما خرجت بعنوان واحد جامع لها ) أي : لتلك الموارد الكثيرة ( وان لم نعرفه ) أي : لم نعرف ذلك الجامع ( على وجه التفصيل ) فلا يكون الخارج حينئذ كثيرا ، وإنّما يكون الخارج عنوانا واحدا ، والعنوان الواحد لا مانع في خروجه من تحت العام .

هذا ( وقد تقرّر : أنّ تخصيص الأكثر لا استهجان فيه إذا كان بعنوان واحد

ص: 14


1- - معاني الاخبار : ص281 ، مصباح الكفعمي : ص346 ، نهج الحق : ص489 ، وسائل الشيعة : ج26 ص14 ب1 ح32382 .

جامع لأفراد هي أكثر من الباقي ، كما إذا قيل : « أكرم الناس » ، ودلّ دليلٌ على اعتبار العدالة ، خصوصا إذا كان المخصّص ممّا يعلم به المخاطبُ حال الخطاب .

ومن هنا ظهر وجه صحّة التمسّك بكثير من العمومات مع خروج أكثر أفرادها ، كما في قوله عليه السلام :

-------------------

جامع لأفراد هي أكثر من الباقي ، كما إذا قيل : « أكرم الناس » ، ودلّ دليل على اعتبار العدالة ) فيه ، فان غير العادل وان كان كثيرا إلاّ انه لا يكون مستهجنا لمّا كان بعنوان واحد ، بخلاف ما إذا كان التخصيص بعناوين متعددة كما إذا قلنا : اكرم العلماء ، ثم قلنا : لا تكرم النحويين ، ولا تكرم الصرفيين ، ولا تكرم الاُدباء ، ولا تكرم الشعراء ، وما أشبه ذلك ، ولعل التخصيصات الواردة في قاعدة لا ضرر من القسم الأوّل غير المستهجن .

فان قلت : فما هو ذلك العنوان الواحد الخارج عن قاعدة لا ضرر ، المطّرد من أول الفقه إلى آخره ؟ .

قلت : معرفتنا أو عدم معرفتنا بذلك العنوان ليس بمهم بعد علمنا ان الشارع حكيم ولا يصدر منه التخصيص المستهجن ( خصوصا إذا كان المخصّص ) الذي خرج بعنوان واحد عن قاعدة لا ضرر ( ممّا يعلم به المخاطب حال الخطاب ) وان كان ذلك العنوان مجهولاً عندنا نحن معاشر الغائبين .

( ومن هنا ) أي : مما ذكرنا من ان كثرة الخارج لا يضر إذا كان بعنوان و احد ، لأنه غير مستهجن وان كان الخارج بالنتيجة أكثر من الباقي ( ظهر وجه صحّة التمسّك بكثير من العمومات مع خروج أكثر أفرادها . كما في قوله عليه السلام :

ص: 15

« المؤمنونَ عنْد شروطِهم » وقوله تعالى : « اُوفُوا بالعُقود » بناءا على إرادة العهود ، كما في الصحيح .

ثم

-------------------

« المؤمنون عند شروطهم » (1) وقوله تعالى : « اُوفوا بالعقود » (2) بناءا على إرادة العهود ، كما ) ورد ( في الصحيح ) فقد خرج من عموم : « المؤمنون عند شروطهم » شرط إرتكاب الحرام ، وشرط ترك الواجب ، والشرط المنافي لمقتضى العقد ، والشرط المجهول ، والشرط الغرري ، وغير ذلك .

كما خرج من : « اُوفوا بالعقود » عقد الصغير ، والسفيه ، والسكران ، والمفلّس ، والغرري ، والمجهول ، وعقد من ليس له حق العقد كالعبد ، إلى غيرها.

وأمّا بالنسبة إلى العهود ، فانَّ أكثر العهود المتعارفة بين الناس لا يجب الوفاء به، لكنّا ذكرنا في الفقه : ان الظاهر من العقد هو غير العهد ، والتعبير عنه بالعهد تعبير تسامحي ، فانه ليس أحدهما مرادفا للآخر ، كما يدل على ذلك العرف واللغة ، بل والشرع أيضا .

( ثم ) ان الظاهر من لا ضرر : نفي الضرر الشخصي ، إلاّ إذا دل دليل على نفي الضرر النوعي ، كما في الشفعة والغبن ، فانه يقال فيهما بالنوعية لما دلّ من الدليل على إطلاق حق الشفيع والمغبون في الفسخ .

وعليه : فلا دليل على إرادة نفي الضرر النوعي من لا ضرر ، وإنّما أفاد النوعية في الشفعة والغبن دليل الشفعة وهو الرواية ، ودليل الغبن وهو بناء العقلاء

ص: 16


1- - تهذيب الاحكام : ج7 ص371 ب21 ح66 ، الاستبصار : ج3 ص232 ب142 ح4 ، نهج الحق : ص480 ، وسائل الشيعة : ج21 ص276 ب20 ح27081 ، عيون أخبار الرضا : ج2 ص159 .
2- - سورة المائدة : الآية 1 .

إنّه يُشكِلُ الأمرُ من حيث أنّ ظاهرهم من الضرر المنفي : الضرر النوعي لا الشخصي ، فحكموا بشرعية الخيار للمغبون ، نظرا إلى ملاحظة نوع البيع المغبون فيه وإن فُرِضَ عدم تضرّره في خصوص مقام ، كما إذا لم يوجد راغبٌ في المبيع وكان بقاؤه ضررا على البايع ، لكونه في مَعرِض الإباق أو التلف

-------------------

الذي سكت عليه الشارع ، ولذا نقول بالخيار في الغبن بالنسبة إلى البيع وغير البيع من سائر المعاملات أيضا كالاجارة والمضاربة والرهن وغيرها .

وبذلك ظهر : عدم ورود هذا الاشكال من المصنِّف حيث أشار إليه بقوله : ( إنّه يُشكَلُ الأمرُ من حيث أنّ ظاهرهم من الضرر المنفي: الضرر النوعي لا الشخصي ) بل الظاهر على ما عرفت : ان مرادهم من الضرر المنفي : الضرر الشخصي لا النوعي ، إلاّ في موارد خرج من الشخصية إلى النوعية بدليل خارجي .

وعلى أي حال : فالمصنف يرى الظاهر من الفقهاء النوعية ولذلك قال : ( فحكموا بشرعية الخيار للمغبون ، نظرا إلى ملاحظة نوع البيع المغبون فيه وان فرض عدم تضرّره في خصوص مقام ) بأن لم يكن عليه شخصا ضرر في الغبن ومع ذلك له الخيار ( كما إذا لم يوجد راغب في المبيع وكان بقائه ضررا على البايع لكونه في معرض الاباق ) - مثلاً - بالنسبة إلى العبد ( أو التلف ) بالنسبة إلى ما يتلف ليومه غاصب .

إذن : فالفقهاء لما حكموا بخيار البايع المغبون مطلقا ، سواء كان متضررا أم لم يكن متضررا ، وكان حكمهم بالخيار مستندا إلى قاعدة لا ضرر ، دلّ ذلك على ان المراد من نفي الضرر هو : الضرر النوعي لا الشخصي .

ص: 17

وكما إذا لم يترتّب على ترك الشُّفعة ضررٌ على الشفيع ، بل كان له فيه نفعٌ .

وبالجملة : فالضررُ عندهم في بعض الأحكام حكمةٌ لا يعتبرُ اطّرادُها ، وفي بعض المقامات يعتبرون اطّرادَها ، مع أنّ ظاهر الرواية اعتبار الضرر الشخصي ، إلاّ أن يستظهر منها انتفاء الحكم رأسا إذا كان موجبا للضرر غالبا وإن لم يوجبه دائما ،

-------------------

( و ) كذا في حق الشفعة ( كما إذا لم يترتّب على ترك الشفعة ضرر على الشفيع، بل كان له فيه نفع ) فان الفقهاء لما رأوا ان ترك الشفعة يوجب الضرر على الشريك نوعا ، حكموا بحق الشفعة للشريك مطلقا أيضا .

هذا ، ولكن من الواضح : انه لا نتمكن ان نأخذ بنوعية الضرر في كل أقسامه من أول الفقه إلى آخره ، فاذا كان الوضوء أو الغسل أو الصوم أو الحج - مثلاً - يضرّ غالب الناس لبرد أو مرض أو خطر طريق أو ما أشبه ذلك ، ولم يكن لزيد تلك المحذورات ، فانهم قالوا بوجوب هذه العبادات على زيد الذي لا يتضرر بها ، فكيف يمكن الجمع بين ان المراد بالقاعدة : النوعية ، وبين فتواهم في هذه الموارد بالشخصية ؟ .

( وبالجملة : فالضرر عندهم في بعض الأحكام حكمة لا يعتبر اطّرادها ) كما في باب الشفعة والغبن ونحوهما ( وفي بعض المقامات يعتبرون اطّرادها ) كما مثلنا له بالوضوء والغسل وغيرهما ( مع انّ ظاهر الرواية اعتبار الضرر الشخصي ) لأنه لا معنى لرفع الضرر بالنسبة إلى من لا يتضرر فيما إذا كان الغالب يتضررون .

( إلاّ ان يستظهر منها ) أي من قاعدة لا ضرر بملاحظة بعض القرائن ( انتفاء الحكم رأسا إذا كان موجبا للضرر غالبا وان لم يوجبه دائما ) حتى يكون المراد من لا ضرر : نفي الضرر النوعي وان لم يتضرر به بعض الافراد .

ص: 18

كما قد يدّعى نظير ذلك في أدلّة نفي الحرج .

ولو قلنا بأنّ التسلط على ملك الغير باخراجه عن ملكه قهرا عليه بخيار أو شُفعة ضررٌ أيضا ، صار الأمر أشكَلَ ،

-------------------

وأمّا القرائن التي يمكن هذا الاستظهار منها حسب رأي المصنِّف فهو مثل : حق الشفعة الذي قرره الإمام عليه السلام ، من دون تفصيل بين تضرر هذا الفرد وعدم تضرره .

أقول : لكنك قد عرفت : ان الظاهر من لا ضرر هو الشخصي ، وفي مورد النوعي يحتاج إلى دليل خارجي ، والشفعة والغبن دل الدليل الخارجي على النوعية فيهما ، فدليل الشفعة الروايات ، ودليل الغبن بناء العقلاء الذي سكت الشارح عليه .

هذا ( كما قد يدّعى نظير ذلك ) أي : نظير ما ادعي من نفي الضرر النوعي ( في أدلّة نفي الحرج ) أيضا ، لكن الظاهر : ان دليل الحرج والضرر والعسر وغيرها كلها اُمور شخصية ، وإنّما يحتاج الحكم فيها بالنوعية إلى دليل خارجي .

ولا يخفى انه قد تقدّم منّا الفرق بين الضرر وأخويه (1) : فانّ الضرر يتحقّق في المال والجسم ، بينما الحرج في النفس ، والعسر في الجسد ما لم يكن ضرر ، كما إذا كان الانسان يتأذّى من الشمس بدون تضرر وإنّما يقع منها في شدة .

وحيث أشكل المصنِّف على إثبات نفي الضرر النوعي بقاعدة لا ضرر ، أشكل على إثبات أصل القاعدة فيما لو تعارض الضرران بقوله : ( ولو قلنا بأنّ التسلط على ملك الغير باخراجه عن ملكه قهرا عليه بخيار أو شفعة ضرر أيضا ، صار الأمر أشكل ) لأن نفس القاعدة تنفي سلطته على ملك الغير ، فكيف لها باثبات

ص: 19


1- - أي الحرج والعُسر .

إلاّ أن يقال : إنّ الضرر أوجب وقوع العقد على وجه متزلزل يدخل فيه الخيار ، فتأمل .

-------------------

سلطته عليه ؟ .

إذن : فالاستدلال بقاعدة لا ضرر على نفي الضرر النوعي مشكل ، ولكن الأشكل منه هو : الاستدلال بهذه القاعدة على نفي الضرر فيما لو تعارض ضرران ، كما في الشفعة - مثلاً - فان لزوم البيع ضرر على الشريك ، وتزلزل البيع ضرر على المشتري ، فيتعارضان .

( إلاّ ان يقال : انّ الضرر أوجب وقوع العقد على وجه متزلزل يدخل فيه الخيار ) فان اخراج الشفيع الملك من المشتري إنّما يعدّ ضررا على المشتري فيما إذا استقر ملك المشتري ، بينما تضرر الشفيع هنا أوجب التزلزل من الأوّل ، فهو كسائر العقود الجائزة ، فلا يكون تعارض بين ضررين ، وإنّما الضرر يكون بالنسبة إلى الشفيع فقط لو لم يكن له حق الفسخ .

( فتأمل ) فان المشتري إنّما لا يصدق عليه التضرر إذا كان العقد بنفسه غير مقتض للزوم ، كما في العقود الجائزة مثل : الهبة ونحوها ، وامّا مع اقتضاء العقد اللزوم بنفسه كما في البيع ، وإنّما حدث التزلزل فيه من جهة تضرر الشفيع فانه يصدق على المشتري التضرر حينئذ ، فيتعارض مع تضرر الشريك .

وكيف كان : فقد تقدّم : ان نفي الحرج كنفي الضرر يراد به الشخصي ، فانه وان ذهب جملة من الأصحاب إلى ان المنفي بعمومات نفي الحرج هو الحرج النوعي، بمعنى : انه إذا كان فعل من الأفعال حرجا في حق الغالب فوجوبه مرتفع حتى في حق من لا حرج عليه كما انه إذا لم يكن حرج في حق الغالب لا يرتفع وجوبه حتى في حق من كان الفعل حرجا بالنسبة اليه ، إلاّ ان الظاهر على ما عرفت :

ص: 20

ثم إنّه قد يتعارض الضرران بالنسبة إلى شخص واحد أو شخصين ،

-------------------

كون الحرج شخصيا .

وعليه : فاذا لم يكن على النوع حرج وكان على زيد حرج ، فالحكم مرفوع بالنسبة إلى زيد فقط ، كما انه لو انعكس بأن كان الحكم حرجا على الغالب ولم يكن حرجا على زيد فالحكم ثابت بالنسبة إلى زيد فقط .

( ثم إنّه قد يتعارض الضرران ) وتعارضهما يتصور على وجوه ثلاثة :

الأوّل : ان يتعارضا ( بالنسبة إلى شخص واحد ) وذلك كما إذا دار أمره بين ان يلقي نفسه من أعلى الدار فتنكسر رجله - مثلاً - لكنه يبقى حيا ، وبين ان يبقى في مكانه فيحترق ويموت فيكون المقام من باب التزاحم ، فاذا كان أحدهما أقل ضررا من الآخر اختاره ، وإذا تساويا كان الخيار له ، امّا إذا كانت الأهمية محتملة غير مقطوعة ، فالأمر يدور بين مسألة التعيين والتخيير ، وقد اخترنا فيه التخيير خلافا لجماعة حيث اختاروا التعيين .

الثاني : ( أو ) يتعارض الضرران بالنسبة إلى ( شخصين ) وأراد ثالث ان يحكم بينهما ، وذلك كما إذا دخلت دابة شخص دار شخص آخر ولم يمكن اخراجها إلاّ بهدم الحائط ، فاللازم ان يرجح الحاكم أحد الأمرين : من هدم الحائط أو ذبح الدابة إذا كان أحدهما أرجح ، وان لم يكن أحدهما أرجح تخيّر ، ولذلك ذهب المشهور إلى ترجيح الهدم مع الغرامة من حيث كونه أقلّ ضررا .

وهكذا حال دابة شخص أدخلت رأسها في قدر شخص آخر ولم يمكن اخراجه منه ، فانه يحكم بكسر القدر إذا كان أقل ضررا ، إلاّ إذا كان القدر نفيسا جدا وكانت الدابة أقل قيمة ، فان الحاكم يرجح ذبح الدابة على كسر القدر .

ومنه يعلم : حال ما إذا أشرفت السفينة بأهلها على الغرق ولزم القاء طن

ص: 21

...

-------------------

من أثاث المسافرين في البحر ، فدار الأمر بين طن من حديد وبين طن من ذهب ، فانه يلزم على الربّان هنا القاء طن الحديد ، وامّا إذا دار الأمر بين طن زيد وطن عمرو وكلاهما حديد فهو مخيّر بين القاء هذا أو ذاك فيما إذا لم يمكن التقسيم بنصف طن لكل واحد منهما ، وإلاّ لزم التقسيم لقاعدة العدل .

الثالث : أو يتعارض الضرران بين شخصين بالنسبة إليهما من دون ثالث يحكم بينهما ، وذلك كما إذا دار الأمر بين تضرره أو تضرر غيره ، فالظاهر : وجوب تقديم تضرر النفس على الغير إذا تساويا أو كان تضرر الغير أهم ، كما إذا أوجب سقي حديقته الاضرار بجدار الغير ، فلا يسقي حديقته حفظا لحق الغير ويدل عليه تقديم النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ضرر الأنصاري على ضرر سمرة ، وإطلاق « حرمة ماله كحرمة دمه » (1) ولأن ضرر الغير أذية له واهانة غالبا ، وليس كذلك ضرر نفسه .

وأمّا إذا كان تضرر نفسه أهم ، كما إذا كانت قيمة الحديقة ألف دينار وقيمة جدار الغير مائة بحيث لو لم يسق الحديقة ماتت اشجاره ، فانه يسقي الحديقة ويتحمل ضرر الغير ، اما انه يسقي الحديقة فلقاعدة الأهم والمهم ، واما انه يتحمل ضرر الغير فمن باب الجمع بين الدليلين : دليل جواز الاضرار ، ودليل الضمان .

هذا ، وقد ذكرنا المسألة في الفقه مفصلاً فلا حاجة إلى تكرارها خصوصا وهي خارجة عن مقصود الشرح .

وعلى كلّ حال : فان الحكم في الضررين المتعارضين بوجوهها الثلاثة

ص: 22


1- - الكافي اصول : ج2 ص359 ح2 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص569 ب2 ح4946 و ج4 ص377 ب2 ح5781 ، مجموعة ورام : ج2 ص65 و ص209 ، أعلام الدين : ص201 ، الاختصاص : ص342 ، تحف العقول : ص212 ، تفسير القمّي : ج1 ص291 ، كنز الفوائد : ج1 ص216 .

فمع فقد المرجّح يرجع إلى الاُصول والقواعد الاُخر ،

-------------------

هو كالحكم في كل متعارضين حيث يرجع فيهما إلى المرجح ( فمع فقد المرجّح ) بينهما ( يرجع إلى الاُصول والقواعد الاُخر ) كأصل التخيير وقاعدة السلطنة ، والضمان ، وما أشبه .

وإنّما قلنا : بأن الحكم في الضررين المتعارضين ذلك ، لأن قاعدة لا ضرر إنّما هي منّة على العباد ونسبة العباد إليه تعالى كنسبة عبد واحد ، ولا منّة على تحمل الضرر لدفع الضرر عن الآخر ، فاللازم ملاحظة الأهم والمهم ان كان هناك أهم وإلاّ تساويا فكان التخيير ، ولكن مع تقديم الأهم يلزم على الذي ضرّ غيره ان يتحمل خسارته ، كما في مثال الحديقة والجدار إذا كان تضرّر الحديقة أهم من تضرر الجدار .

لا يقال : اضرار الغير حرام ، اما اضرار النفس فليس بحرام .

لأنّه يقال أوّلاً : ان اضرار النفس قد يكون حراما أيضا ، كما إذا أجبره الجائر على ان يقطع يده أو يد صديقه ، أو أجبره على ان يحرق متاعه أو متاع صديقه ، فان القطع والاحراق كلاهما محرّم سواء بالنسبة إلى النفس أو إلى الغير .

ويقال ثانيا : ان الشارع قد نفى الضرر عن الجميع فلا ضرر عليه ولا على الغير ، ولذلك ينظر عند التعارض فان كان أحدهما أهم قدّم على الآخر ، كما ذكرناه في مثال الحاكم الذي يقدّم الأهم على المهم في ضرر شخصين تحاكما اليه ، وان كانا متساويين فالتخيير .

هذا ما نراه ، وأمّا المصنِّف فيرى غير ذلك حيث قال :

ص: 23

كما أنّه إذا اُكره على الولاية من قبل الجائر ، المستلزمة للاضرار على الناس ؛ فانّه يرجع إلى قاعدة نفي الحرج ، لأنّ إلزام الشخص بتحمّل الضرر لدفع الضرر عن غيره حرجٌ ، وقد ذكرنا توضيح ذلك في مسألة التولّي من قبل الجائز من كتاب المكاسب .

-------------------

( كما انّه إذا أكره على الولاية من قبل الجائر ، المستلزمة للاضرار على الناس ) حيث يدور أمره بين قبول الولاية والاضرار بالناس ، وبين عدم قبول الولاية والاضرار بنفسه من قبل الجائر .

وإذا كان كذلك ( فانّه يرجع إلى قاعدة نفي الحرج ) حيث ان المصنِّف يرى حكومة قاعدة « لا حرج » على قاعدة « لا ضرر » ، معللاً ذلك بقوله : ( لأنّ إلزام الشخص بتحمّل الضرر لدفع الضرر عن غيره حرج ) والحرج منفي ( وقد ذكرنا توضيح ذلك في مسألة التوليّ من قبل الجائز من كتاب المكاسب ) .

هذا ، لكن الظاهر : ان الحرج والضرر في رتبة واحدة ، فاذا ذكرا معا اُريد بالحرج النفسي ، وبالضرر الجسدي أو المالي ، وان كان كل واحد منهما يشمل الآخر إذا ذكر وحده ، كالفقير والمسكين ، فلا حكومة حينئذ لاحدى القاعدتين على الاُخرى .

أمّا الولاية من قبل الجائر ، فاللازم ان يقال فيها : بمسألة الأهم والمهم ، إذ من أين يكون الحرج حاكما على الضرر ولا يكون الضرر حاكما على الحرج؟ فكما لا يقال : بأن الضرر حاكم على الحرج ، كذلك لا يقال : بأن الحرج حاكم على الضرر .

وكذا حال قاعدة العسر مع القاعدتين : الحرج والضرر ، فانّ المعيار في الجميع ترجيح الأهم على المهم ، والتخيير عند التساوي كما ذكرنا ذلك من غير فرق

ص: 24

ومثله : إذا كان تصرّفُ المالك في ملكه موجبا لتضرّر جاره ، وتركُه موجبا لتضرّر نفسه ، فانّه يرجع إلى عموم : « الناسُ مسلّطون على أموالهم » ، ولو عُدَّ مطلقُ حَجره عن التصرّف في ملكه ضررا ، لم يعتبر في ترجيح المالك ضررٌ زائدٌ على ترك التصرّف ،

-------------------

بين ان يكون الفردان تحت قاعدة واحدة بأن يكون في كلا الطرفين ضرر أو حرج أو عسر ، أو يكون الفردان تحت قاعدتين ، بأن يكون في طرف حرج وفي طرف ضرر أو عسر - مثلاً - .

وكيف كان حكم الاكراه على الولاية فقد قال المصنِّف ( ومثله ) أي : مثل الاكراه على الولاية ( إذا كان تصرّف المالك في ملكه موجبا لتضرّر جاره ، وتركُه موجبا لتضرّر نفسه ) كما في مثال : سقي الحديقة وانهدام جدار الجار ( فانّه يرجع إلى عموم : « الناسُ مسلّطون على أموالهم » (1) ) بعد تعارض الضررين وتساقطهما .

هذا إذا كان منع تصرّف المالك في ملكه يوجد تضرره بضرر آخر غير ضرر المنع من التصرف ، كما لو كان محتاجا إلى ثمار أشجار حديقته ، واما إذا كان تضرره لمجرد منعه من التصرف فكما قال : ( ولو عُدَّ مطلقُ حجره عن التصرّف في ملكه ضررا ) أي : من دون ان يلحقه ضرر آخر غير ضرر المنع من سلطته ( لم يعتبر في ترجيح المالك ضررٌ زائدٌ على ترك التصرّف ) فضرر منع المالك من التصرف في ملكه ، كاف لأن يتعارض مع ضرر الجار ويتساقطان ، وبعد التساقط ، للمالك ان يرجع إلى أحد أمرين : عموم السلطنة ، أو قاعدة نفي الحرج .

ص: 25


1- - نهج الحق : ص494 و ص495 و ص504 ، غوالي اللئالي : ج1 ص222 و ج2 ص138 و ج3 ص208 ح54 ، بحار الانوار : ج2 ص272 ح7 .

فيرجع إلى عموم التسلّط .

ويمكن الرجوع إلى قاعدة نفي الحرج ، لأن منع المالك لدفع ضرر الغير حرجٌ وضيقٌ عليه ،

-------------------

أشار المصنّف إلى الأوّل بقوله : ( فيرجع إلى عموم التسلّط ) لتقديم نفسه على جاره ، وهذا بخلاف البعض الآخر من الفقهاء ، كما في بعض حواشي كتاب إحياء الموات من شرح اللمعة ، حيث قدّم قاعدة « لا ضرر » على قاعدة « التسلط » بدليل : ان « التسلط » قاعدة أولية و « لا ضرر » قاعدة ثانوية ، والقواعد الثانوية تقدّم على القواعد الأولية مطلقا ، كتقديم قاعدة لا ضرر على الوضوء والغسل وغيرهما .

وأشار إلى الثاني بقوله : ( ويمكن الرجوع إلى قاعدة نفي الحرج ) عن المالك وذلك بعد تعارض ضرر المالك وضرر الجار وتساقطهما ( لأن منع المالك ) عن التصرف في ملكه ( لدفع ضرر الغير حرج وضيق عليه ) فيكون جائز التصرف مطلقا .

والحاصل من كل ذلك هو : ان تعارض ضرر المالك مع ضرر الجار يتصور على صورتين :

الاُولى : أن يكون ترك التصرف موجبا لتضرر المالك فعلاً ، لاحتياجه إلى سقي حديقته ، بحيث إذا لم يسقها ماتت أشجاره ، فيسقي الحديقة لقاعدة السلطنة ، أو قاعدة نفي الحرج بالنسبة إلى المالك ، ويضمن ضرر الجار لقاعدة الضمان .

الثانية : ان يكون مجرد ترك التصرف من المالك ضررا ، وان لم يلزم منه ضرر فعلي عليه ، كما إذا أراد غرس الأشجار في ساحة بيته للنظارة والجمال ، فان الأمر

ص: 26

إمّا لحكومته ابتداءً على نفي الضرر، وإمّا لتعارضهما والرجوع إلى الأصل .

ولعلّ هذا أو بعضه منشأ إطلاق جماعة وتصريح آخرين بجواز تصرف المالك في ملكه وإن تضرر الجار : بأن يبني دارَهُ مَدبَغَة أو حماما أو بيت القِصارة

-------------------

يدور بين إضرار الغير بغرس الأشجار ، وبين إضرار النفس بحرمانها من النظارة والجمال ، فيغرس الأشجار لقاعدة السلطنة ، أو قاعدة نفي الحرج بالنسبة إلى المالك ، ويضمن ضرر الجار لقاعدة الضمان .

ثمّ إنّ المصنِّف علّل الرجوع إلى قاعدة « نفي الحرج » بقوله : ( إمّا لحكومته ) أي : حكومة لا حرج ( ابتداءً على نفي الضرر ، وامّا لتعارضهما ) أي : تعارض الضررين : ضرر الجار مع ضرر النفس ( والرجوع إلى الأصل ) بعد تساقطهما ، فان قاعدة لا حرج يحتمل ان تكون حاكمة على قاعدة لا ضرر ، فيرجع إلى قاعدة لاحرج ابتداءً من دون حاجة إلى سقوط لا ضرر بالتعارض ، ويحتمل أن تكون قاعدة لا حرج في رتبة لا ضرر أو متأخرة عنها ، فيرجع اليها بعد اعتبار سقوط لاضرر بالتعارض بين المالك والجار .

( ولعلّ هذا ) الذي ذكرناه كله : من الرجوع إلى قاعدة السلطنة ، وحكومة لاحرج وما أشبه ( أو بعضه ) أي : بعض هذا الذي ذكرناه هو ( منشأ إطلاق جماعة وتصريح آخرين بجواز تصرف المالك في ملكه وان تضرر الجار ) بسبب هذا التصرف .

أمّا مثال ذلك فهو كما قال : ( بأن يبني دارَهُ مَدبَغَة ) يدبغ فيها الجلود فيوجب أذى الجار بسبب الرائحة النتنة ( أو حماما ) يستحم فيه الناس ، فيوجب دخان محرقته أذى الجار ( أو بيت القِصارة ) لغسل الثياب ، فيوجب سريان رطوبتها

ص: 27

أو الحِدادة ، بل حكي عن الشيخ الحلبي وابن زهرة دعوى الوفاق عليه .

ولعلّه أيضا منشأ ما في التذكرة : « من الفرق بين تصرف الانسان في الشارع المباح باخراج رَوشن أو جَناح وبين تصرفه في ملكه » حيث اعتبر في الأوّل عدم تضرر الجار ، بخلاف الثاني ، فانّ المنعَ عن التصرف في المباح لا يعدُّ ضررا ، بل فواتَ انتفاع .

-------------------

إلى بيت الجار ( أو الحِدادة ) حيث تزعج الجيران إزعاجا كثيرا .

( بل حكي عن الشيخ الحلبي وابن زهرة دعوى الوفاق عليه ) أي : على جواز تصرف المالك في ملكه وان تضرر الجار .

( ولعلّه ) أي : لعل ما ذكرناه هو ( أيضا منشأ ما في التذكرة : « من الفرق بين تصرف الانسان في الشارع المباح باخراج روشن أو جناح ) علما بأن الروشن ما لا يحتاج إلى العمود في الشارع ، والجناح ما يحتاج إليه .

( وبين تصرفه في ملكه » (1) ) بسقي حديقته ، أو غرس أشجاره ، أو نحو ذلك مما يؤذي الجار ( حيث اعتبر في الأوّل عدم تضرر الجار ، بخلاف الثاني ) فلم يعتبر فيه عدم تضرر الجار لأنه تصرف من المالك في ملكه .

وإنّما اعتبر في الأوّل عدم تضرر الجار لأنه كما قال : ( فانّ المنع عن التصرف في المباح لا يعد ضررا ) بالنسبة إلى الذي يريد اخراج الجناح أو الروشن في الشارع ( بل فوات انتفاع ) بالنسبة إليه ، ولذلك يشترط تصرفه هذا بعدم تضرر الجار ، بينما لم يعتبر في الثاني عدم تضرر الجار ، لأن منع المالك عن التصرف في ملكه يعدّ بنفسه ضررا ، فيتعارض مع ضرر الجار ويتساقطان ويرجع بعدها إلى قاعدة السلطنة أو قاعدة لا حرج .

ص: 28


1- - تذكرة الفقهاء : ج2 ص182 .

نعم ، ناقش في ذلك صاحب الكفاية مع الاعتراف بأنّه المعروف بين الأصحاب بمعارضة عموم التسلط لعموم نفي الضرر ، قال في الكفاية .

« ويُشكل جوازُ ذلك فيما إذا تضرر الجار تضرّرا فاحشا ، كما إذا حفر في ملكه بالوعة ففسد بها بئرُ الغير ، أو جعل حانوتَهُ في صفّ العطّارين حانوت حداد ، أو جعل دارَهُ مَدْبَغةً أو مَطْبَخةً » ، انتهى .

-------------------

( نعم ، ناقش في ذلك صاحب الكفاية مع الاعتراف ) أي : إعتراف صاحب الكفاية وهو المحدث السبزواري ( بأنّه المعروف بين الأصحاب ) فانه بعد اعترافه بذلك ناقش فيه ( بمعارضة عموم التسلط لعموم نفي الضرر ) وتساقطهما، فكيف يقدّم التسلط على قاعدة لا ضرر؟ .

( قال في الكفاية ) وهو يبيّن المناقشة في الفتوى المعروفة بين الأصحاب : ( « ويُشكل جواز ذلك فيما إذا تضرر الجار تضرّرا فاحشا ، كما إذا حفر في ملكه بالوعة ففسد بها بئرُ الغير ) لوصول الماء القذر إليها واسقاطها عن الانتفاع بها .

( أو جعل حانوتَهُ ) ومحله الذي هو ( في صفّ العطّارين حانوت حداد ) حيث يزعجهم بمطرقته وحرارته .

( أو جعل داره مَدْبَغةً أو مَطْبَخةً » (1) ) حيث ان المدبغ وكذلك المطبخ يسببان أذى الجيران بالروائح ، وبالدخان وما أشبه ذلك ( انتهى ) .

والظاهر في هذه الموارد هو ما ذكرناه : من تقديم الأهم إذا كان هناك أهم ، وإلاّ تخيّر بين اضرار الجار وضمان ضرره ، وبين الاضرار بنفسه وترك التصرف في ملكه ، فحالهما حال غريمين رجعا إلى الحاكم ، وذلك لما عرفت : من ان العبيد بالنسبة إلى اللّه سبحانه وتعالى كعبد واحد ، وانّ لا ضرر هو حكم الجميع .

ص: 29


1- - كفاية الأحكام : ص241 .

وإعْتُرِضَ عليه تبعا للرياض بما حاصله : « إنّه لا معنى للتأمّل بعد إطباق الأصحاب عليه نقلاً وتحصيلاً ، والخبرِ المعمول عليه ، بل المتواتر : من : « أنّ الناس مسلطون على أموالهم » وأخبار الاضرار على ضعف بعضها وعدم تكافؤها لتلك الأدلة

-------------------

ومن ذلك ظهر : انه لا يبعد ان يكون للحاكم الشرعي حق المنع عن الاُمور المزعجة : كالمصانع والمعامل في المدن السكنية .

وأن يكون له حق المنع عن تربية الدواجن والمواشي ممّا لها أصوات مزعجة وروائح كريهة تؤذي الجيران اللذين ليست لهم هذه الاُمور في البلد ، ونقل كل ذلك إلى خارج البلد أو إلى القرى والأرياف ، فان مثل هذه الاضرار في القرى وكذلك الأرياف متبادلة بعكس البلد ، وقد ذكرنا ذلك مسهبا في كتاب إحياء الموات (1) ( وإعْتُرِضَ عليه ) أي : على المحدث السبزواري - الذي ناقش في تقديم قاعدة السلطنة عند تعارض ضرر المالك مع ضرر الجار - بعض الفقهاء فقال في اعتراضه عليه ( تبعا للرياض بما حاصله : « إنّه لا معنى للتأمّل بعد إطباق الأصحاب عليه نقلاً وتحصيلاً ، و ) بعد ( الخبرِ المعمول عليه بل المتواتر : من « أنّ الناس مسلطون على أموالهم » (2) ) .

إن قلت : فماذا تصنعون بمثل أخبار : « لا ضرر ولا ضرار » (3) ؟ .

قلت : ( وأخبار الاضرار على ضعف بعضها وعدم تكافؤها لتلك الأدلة )

ص: 30


1- - راجع موسوعة الفقه للشارح : ج80 وكما ألمع الى ذلك في كتابه الفقه البيئة .
2- - نهج الحق : ص494 و ص495 و ص504 ، غوالي اللئالي : ج1 ص222 و ج2 ص138 و ج3 ص208 ح54 ، بحار الانوار : ج2 ص272 ح7 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص294 ح8 و ج5 ص280 ح4 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص146 ب22 ح4 ، معاني الاخبار : ص281 ، غوالي اللئالي : ج1 ص309 ح18 ، نهج الحق : ص489 و ص495 .

محمولة على ما إذا لم يكن غرض إلاّ الاضرار ، بل فيها كخبر سمرة إيماءٌ إلى ذلك .

سلّمنا ، لكنّ التعارض بين الخبرين بالعموم من وجه ، والترجيح للمشهور للأصل

-------------------

المصرّحة بأن « الناس مسلطون على أموالهم » ( محمولة على ما إذا لم يكن غرض إلاّ الاضرار ، بل فيها كخبر سمرة إيماءٌ إلى ذلك ) حيث ان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم قال له : « انك رجل مضار » (1) فيظهر منه : ان الممنوع هو قصد الاضرار بالغير ، امّا إذا قصد إدارة اُموره حتى لا يتضرر ، فلا بأس باضرار الغير إذا عمل بسلطنة نفسه في ملكه .

( سلّمنا ) عدم تقدّم قاعدة « السلطنة » على قاعدة « لا ضرر » ( لكنّ التعارض بين الخبرين ) أي : بين خبر السلطنة وخبر لا ضرر ( بالعموم من وجه ) .

وإنّما يكون التعارض بينهما من وجه لأنه قد يكون سلطنة بلا ضرر ، كما إذا تصرف في داره بلا تضرر الجار ، وقد يكون تضرر بلا سلطنة ، كما إذا هدم دار الجار ، إذ لا سلطنة للانسان في التصرف في دار الغير ، وقد يجتمعان كما إذا سقى حديقته فتضرر به دار الجار ( والترجيح ) في مادة الاجتماع ( للمشهور ) حيث يقدّمون حق المالك على حق الجار .

وإنّما يقدّم المشهور حق المالك ( للأصل ) فانه إذا شك في جواز تصرف المالك في ملكه بما يتضرر به جاره وعدم جوازه فالأصل الجواز ، لأنه « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (2) وغيره من أدلة أصل البرائة وأصل الاباحة .

ص: 31


1- - الكافي فروع ج5 ص294 ح8 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

والاجماع » ، انتهى .

ثم فصّل المعترض بين أقسام التصرف : بأنّه إن قصد به الاضرار من دون أن يترتّب عليه جلب نفع أو دفعُ ضرر ، فلا ريب في أنّه يمنَعُ ، كما دلّ عليه خبرُ سمرة بن جندب ، حيث قال له النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم : « إنّك رجلٌ مُضار » .

وأمّا إذا ترتّب عليه نفع أو دفع ضرر ، وعلى جاره ضرر يسير ، فانّه جائزٌ قطعا .

-------------------

( و ) كذا لأجل ( الاجماع » ) حيث قد عرفت : ان المشهور يقدّمون حق المالك على الجار ( انتهى ) كلام هذا البعض المعترض على صاحب الكفاية .

( ثم فصّل المعترض بين أقسام التصرف : بأنّه ان قصد به الاضرار من دون ان يترتّب عليه جلب نفع ) لنفسه ( أو دفع ضرر ) عن نفسه ( فلا ريب في انّه يمنع ، كما دلّ عليه خبر سمرة بن جندب ، حيث قال له النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم: « إنّك رجلٌ مُضارٌّ » (1) )

واحتمال كون الأمر بقلع الشجرة في خبر سمرة من باب اعمال الولاية الالهية ، لا من باب قاعدة لا ضرر ، لأن الضرر لم يكن من الشجرة ، وإنّما من الدخول إلى الشجرة بلا إذن ، غير تام .

وإنّما كان هذا الاحتمال غير تام ، لأن الظاهر من الخبر : ان الشجرة هي بنفسها كانت مادة الفساد ومنشأ الضرر ، ولذا كان اللازم قلعها ، فالأمر بقلعها إنّما هو بقاعدة لا ضرر لا لاعمال الولاية .

( وأمّا إذا ترتّب عليه نفع أو دفع ضرر ، وعلى جاره ضرر يسير ، فانّه جائزٌ قطعا )

ص: 32


1- - الكافي فروع : ج5 ص294 ح8 .

وعليه بنوا جواز رفع الجدار على سطح الجار ، وأمّا إذا كان ضررُ الجار كثيرا يتحمّل عادة ، فانّه جائزٌ على كراهة شديدة ، وعليه بنوا كراهة التولّي من قبل الجائر لدفع ضرر يصيبه .

وأمّا إذا كان ضررُ الجار كثيرا لا يتحمل عادةً لنفع يصيبه ، فانّه لا يجوز له ذلك .

وعليه بنوا حرمة الاحتكار في مثل ذلك ،

-------------------

وذلك اما لقاعدة الأهم والمهم ، أو لقاعدة السلطنة ، أو للأصل ، أو للاجماع ، أو لقاعدة لا حرج أو ما أشبه ذلك ( وعليه بنوا جواز رفع الجدار على سطح الجار ) حيث يمنع الهواء والشمس وغير ذلك عن الجار ، فان المالك مسلط على هذا وان تضرر الجار به تضررا قليلاً .

( وأمّا إذا كان ضررُ الجار كثيرا ) لكنه مما ( يتحمّل عادة ) بين الجيران ، مثل سراية الرطوبة إلى بيته ، وتأذّيه بحشرات أشجار جاره وما أشبه ذلك ( فانّه جائزٌ ) أيضا لما ذكر ، ولكن ( على كراهة شديدة ) .

وإنّما يكون شديد الكراهة ، لأن الأفضل للجار ان لا يعمل شيئا يتأذى جاره وان كان من حقه ان يعمل ذلك .

( وعليه بنوا كراهة التوليّ من قبل الجائر لدفع ضرر يصيبه ) إذ ما يصيب الناس من ضرر بسبب تولّيه ، أقل مما يصيبه بسبب عدم قبوله ولاية الجائر .

( وأمّا إذا كان ضررُ الجار كثيرا ) بحيث ( لا يتحمل عادةً ) فانه حتى وان كان تضرر جاره ( لنفع يصيبه ، فانّه لا يجوز له ذلك ) إذ يصدق عليه حينئذ انه مضار ، فينفيه خبر لا ضرر المتواتر وخصوص خبر سمرة .

( وعليه بنوا حرمة الاحتكار في مثل ذلك ) أي : فيما إذا كان تضرر الغير بسبب

ص: 33

وعليه بنى جماعة كالفاضل في التحرير ، والشهيد في اللمعة : الضمانَ إذا أجّج نارا بقدر حاجته مع ظنّه التعدّي إلى الغير .

وأمّا إذا كان ضرره كثيرا وضررُ جاره كذلك ، فانّه يجوز له دفعُ ضرره وإن تضرّر جاره أو أخوه المسلمُ .

وعليه بنوا جواز الولاية من قبل الجائر إلى أن قال : والحاصل أنّ أخبارَ الأضرار فيما يُعَدُّ اضرارا معتدّا به عرفا ،

-------------------

احتكار هذا الانسان تضررا كبيرا بحيث لا يتحمل عادة من جوع ، أو مرض أو ما أشبه ذلك .

( وعليه بنى جماعة كالفاضل في التحرير ، والشهيد في اللمعة : الضمان إذا أجّج نارا بقدر حاجته مع ظنّه التعدّي إلى الغير ) فان في تعدي النار إلى الغير ضرر كبير .

( وأمّا إذا كان ضرره كثيرا وضرر جاره كذلك ) كثيرا ( فانّه يجوز له دفع ضرره وان تضرّر جاره أو أخوه المسلم ) لأنه لا دليل على وجوب تحمل الضرر لدفع ضرر الجار ، فتجري قاعدة السلطنة ، أو قاعدة لا حرج ، أو ما أشبه ذلك .

( وعليه بنوا جواز الولاية من قبل الجائر ) إذا كان ضرره في عدم القبول كثيرا وكان ضرر الناس بسببه كثيرا أيضا .

( إلى أن قال : والحاصل ) أي : حاصل ما ذكره هذا الفقيه المعترض على كفاية السبزواري : من التفصيل بين أقسام التصرفات المضرة بالغير هو : ان الضرر المحرّم في الروايات ليس هو كل ضرر بالغير ، بل هو ما اجتمع فيه أمران :

الأوّل : ان يعدّ في العرف ضررا معتدّا به ، وإليه أشار المصنِّف بقوله : ( أنّ أخبار الأضرار ) إنّما تتحقق ( فيما يعدّ اضرارا معتدّا به عرفا ) .

ص: 34

والحال أنّه لا ضرر بذلك على المضرّ ، لأنّ الضرر لا يزال بالضرر » ، انتهى .

أقول : الأوفق بالقواعد تقديمُ المالك ، لأنّ حجر المالك عن التصرف في ماله ضررٌ يعارض ضرر الغير ، فيرجع إلى عموم قاعدة السلطنة ونفي الحرج .

-------------------

الثاني : ان يكون هذا الضرر المعتد به في العرف مما لا يجلب على تاركه ضررا ، فلو كان ضرر على تاركه لم يجب عليه تركه ، وإليه أشار بقوله : ( والحال أنّه لا ضرر بذلك على المضرّ ) وإنّما يشترط ذلك ( لأنّ الضرر لا يزال بالضرر ) فانه لا دليل على وجوب إزالة الضرر عن الغير بتحمل الضرر بنفسه ( انتهى ) كلام هذا المعترض القائل بالتفصيل في المسألة .

ولا يخفى : ان هذا المعترض على كفاية السبزواري تبعا للرياض ، والمفصّل في أقسام التصرف المضر بالغير هو : صاحب مفتاح الكرامة ، وقد جعل المسألة على خمسة أقسام :

الأوّل : أن يقصد بتصرفه الاضرار من دون ان يترتب عليه جلب نفع لنفسه أو دفع ضرر عنها .

الثاني : ان يترتب لنفسه عليه نفع أو دفع ضرر ، وعلى جاره ضرر يسير .

الثالث : أن يتضرر به الجار كثيرا لكنه بحيث يتحمل عادة .

الرابع : أن يتضرّر به الجار كثيرا ويكون مما لا يتحمل عادة .

الخامس : أن يكون ضرره به كثيرا وضرر جاره به كثيرا أيضا .

( أقول : الأوفق بالقواعد ) عند المصنِّف ( تقديم المالك ) حتى في الصورة الأخيرة ( لأنّ ) مجرد ( حجر المالك عن التصرف في ماله ضرر ) وضرر المالك هذا ( يعارض ضرر الغير ، فيرجع إلى عموم قاعدة السلطنة ونفي الحرج )

ص: 35

نعم ، في الصورة الاُولى التي يقصد المالك مجرّد الاضرار من غير غرض في التصرف يعتدّ به لا يعدّ فواتُه ضررا .

والظاهر عدم الفرق بين كون ضرر المالك بترك التصرف أشدّ من ضرر الغير أو أقلّ ، إمّا لعدم ثبوت الترجيح بقلة الضرر كما سيجيء ، وإمّا لحكومة نفي الحرج على نفي الضرر ،

-------------------

على ماعرفت .

( نعم ، في الصورة الاُولى التي يقصد المالك مجرّد الاضرار ) بالغير ( من غير غرض في التصرف يعتدّ به ) عند العقلاء بحيث ( لا يعدّ فواته ) أي : فوات ذلك التصرف ( ضررا ) على المالك ، فانه يمنع المالك منه كما منع سمرة من الدخول إلى عذقه بدون إذن الصحابي .

وإنّما يمنع منه لأن تصرفه بهذا النحو لم يكن إلاّ للاضرار بالغير ، ومن الواضح: ان منع المالك عن هذا النحو من التصرف ليس ضررا على المالك حتى يكون معارضا بتضرر الجار ويكون المرجع بعد تساقطهما إلى قاعدة السلطنة أو قاعدة الحرج ، بل يجري قاعدة لا ضرر بالنسبة إلى الجار فقط .

( والظاهر ) عند المصنِّف : ( عدم الفرق بين كون ضرر المالك بترك التصرف أشدّ من ضرر الغير أو أقلّ ) فانه يجوز للمالك التصرف بنظر المصنِّف مطلقا ، وذلك لأحد أمرين :

( إمّا لعدم ثبوت الترجيح بقلة الضرر ) لأن « لا ضرر » شامل للمالك سواء كان ضرره قليلاً أم كثيرا ، وسواء كان ضرر الجار قليلاً أم كثيرا ( كما سيجيء ) فانه يتعارض الضرران ويتساقطان ويكون المرجع قاعدة السلطنة .

ثانيا : ( وإمّا لحكومة نفي الحرج على نفي الضرر ) لما تقدّم عن المصنِّف :

ص: 36

فانّ تحمُّل الغير على الضرر ولو يسيرا ، لأجل دفع الضرر عن الغير ولو كثيرا ، حرجٌ ، ولذا اتفقوا على أنّه يجوز للمُكره الاضرارُ على الغير بما دون القتل ، لأجل دفع الضرر عن نفسه ، ولو كان أقل من ضرر الغير ، هذا كلّه في تعارض ضرر المالك وضرر الغير .

وأمّا في غير ذلك ،

-------------------

من ان نفي الحرج حاكم على نفي الضرر ، فانه وان كان ضرر الجار كثيرا وضرر النفس قليلاً ، إلاّ ان قاعدة لا حرج توجب تقديم لا ضرر النفس على لا ضرر الجار كما قال : ( فانّ تحمل الغير ) أي : النفس ( على الضرر ولو يسيرا لأجل دفع الضرر عن الغير ) أي : الجار مثلاً ( ولو كثيرا حرج ) على النفس ( ولذا اتفقوا على انّه يجوز للمكره الاضرار على الغير بما دون القتل ) إضرارا ( لأجل دفع الضرر عن نفسه ) كما في الوالي الجائر ( ولو كان ) ضرره على نفسه ( أقل من ضرر الغير ) .

وعلى قول المصنِّف هذا : فانه إذا قال الجائر : اقطع يد زيد ورجله ، أو اقلع عينيه واجدع أنفه ، أو اصلم أُذنيه واقلع أسنانه - مثلاً - وإلاّ قطعت اصبعا من أصابعك ، جاز له اضرار الغير حتى لا تقطع اصبع من أصابعه .

هذا ، ولكنّك قد عرفت : ان هذا خلاف ظاهر الأدلة ، بل لا يعلم من إطلاق الفقهاء شمول مثل ذلك ، بل مقتضى القاعدة هو ما ذكرناه : من ملاحظة الأهم إذا كان هناك أهم ، أو التخيير إذا كان تساو مع ضمان ضرر الغير ، وذلك جمعا بين الدليلين : دليل لا ضرر ، ودليل الضمان .

( هذا كلّه في تعارض ضرر المالك وضرر الغير ) بأن دار الأمر بين ان يتضرر المالك أو يتضرر الغير .

( وأمّا في غير ذلك ) بأن كانت هناك واقعة دار الأمر فيها بين اضرار زيد

ص: 37

فهل يرجعُ ابتداءً إلى القواعد الاُخر ، أو بعد الترجيح بقلّة الضرر ؟ وجهان ، بل قولان ، يظهر الترجيحُ من بعض الكلمات المحكيّة عن التذكرة ، وبعض مواضع الدروس ، ورجّحه غير واحد من المعاصرين .

ويمكن أن ينزّل عليه ما عن المشهور : من أنّه لو أدخلت الدابة رأسها

-------------------

واضرار عمرو ، كما في قصة القدر والدابة ( فهل يرجع ابتداءً إلى القواعد الاُخر ) : من القرعة ، والتخيير ، وقاعدة العدل ان كان لهذه القاعدة مسرح في تلك الواقعة ( أو بعد الترجيح بقلّة الضرر ) حيث يلزم على الحاكم - مثلاً - ان يختار أقل الأمرين ضررا ؟ .

( وجهان ) من الرجوع إلى القواعد ابتداءً بلا ترجيح ، لأن لا ضرر في هذا الجانب ولا ضرر في ذلك الجانب متعارضان ، سواء كانا متساويين قدرا أم مختلفين ، فيتساقطان ويرجع بعدها إلى التخيير - مثلاً - .

ومن عدم الرجوع إلى القواعد إلاّ بعد فقد الترجيح بقلة الضرر ، فان مع وجود الأقل ضررا ، يقدم الأقل ، لأن الضرر الكثير قليل وزيادة ، فيتساقط القليلان بالتعارض ويبقى الزائد تحت دليل لا ضرر ، فيكون كما إذا أجبره الجائر على ان يأخذ دينارا من زيد أو دينارين من عمرو ، فاللازم ان يقدّم أخذ دينار من زيد لا دينارين من عمرو ، لأنه مجبور في أخذ دينار واحد لا في أخذ الزائد عليه .

( بل قولان ، يظهر الترجيح ) أي : الترجيح بقلة الضرر ( من بعض الكلمات المحكية عن التذكرة ، وبعض مواضع الدروس ، ورجّحه ) أي : رجح الترجيح بأقلية الضرر ( غير واحد من المعاصرين ) لما ذكرناه من العلة .

( ويمكن ان ينزّل عليه ما عن المشهور : من انّه لو ادخلت الدابة رأسها

ص: 38

في القِدر بغير تفريط من أحد المالكين كُسرت القِدر وضَمِنَ قيمتَه صاحبُ الدابّة ، مُعلّلاً : بأنّ الكسر لمصلحته ، فيُحمل إطلاق كلامهم على الغالب : من أنّ ما يدخل من الضرر على مالك الدابّة ، إذا حُكِمَ عليه بتلف الدابّة وأخِذَ قيمتُها ، أكثرُ ممّا يدخل صاحب القدر بتلفه وأخذ قيمته .

وبعبارة أخرى : تلفُ إحدى العينين وتبدّلها بالقيمة أهون من تلف الاُخرى.

-------------------

في القدر بغير تفريط من أحد المالكين ) لوضوح : انه لو كان تفريط من أحدهما ، كان الضرر عليه من دون ضمان الآخر ، لأنه هو الذي أتلف مال نفسه بتفريطه فاذا كان ذلك من دون تفريط ( كسرت القدر ) بحكم الحاكم إذا ترافعا إليه ( وضمن قيمته ) أي : قيمة القدر ( صاحب الدابّة ) جمعا بين الحقين على ما عرفت ، فانهم رجحوا كسر القدر لقلة ضرره على قطع رقبة الدابة لكثرة ضرره .

وإنّما يضمن قيمة القدر ( معلّلاً : بأنّ الكسر لمصلحته ) أي : لمصلحة صاحب الدابة ، فانه إذا بقيت دابته سالمة وضمن قيمة القدر وهي يسيرة ، كان أولى في نظر العقل والشرع والعرف من ان تقطع رقبة دابته ، ولا يتضرر باعطاء قيمة القدر .

لا يقال : ان قول المشهور بكسر القدر هنا مطلق يشمل ما إذا تساوت الدابة والقدر قيمة ، أو كانت الدابة أرفع ، أو كانت الدابة أخفض .

لأنّه يقال : لا إطلاق لانصرافه إلى الغالب كما قال : ( فيُحمل إطلاق كلامهم على الغالب : من أنّ ما يدخل من الضرر على مالك الدابّة إذا حُكِمَ عليه بتلف الدابّة وأخِذَ قيمتُها أكثرُ ممّا يدخل صاحب القدر بتلفه وأخذ قيمته ) لأن الغالب في ذلك أن يكون قيمة الدابة أغلى بكثير من قيمة القدر .

( وبعبارة أخرى : تلف إحدى العينين وتبدّلها بالقيمة أهون من تلف الاُخرى ) فيؤخذ بالأهون والأقل ضررا ، إلاّ إذا تراضيا معا على شيء ، فانه يجوز العمل

ص: 39

وحينئذٍ : فلا يبقى مجالٌ للاعتراض على تعليل الحكم بكونه لمصلحته صاحب الدابة ، بما في المسالك : « من أنّه قد يكون المصلحة لصاحب القدر فقط ، وقد يكون المصلحةُ مشتركة بينهما » .

وكذلك حكمهم بضمان صاحب الدابة إذا دخلت في دار لا يخرج إلاّ بهدمها، معللاً : بأنّه لمصلحة صاحب الدابّة ، فانّ الغالب أنّ تدارك المهدوم أهون من تدارك الدابّة .

-------------------

بما تراضيا عليه سواء تراضيا على ذبح الدابة أم كسر القدر بشرط ان لا يكون ما تراضيا عليه إتلافا يمنع الشارع عنه كما إذا كانت الدابة حمارا لا ينتفع بلحمها فان ذبحها إتلاف لها ولا يجيزه الشارع إلاّ لأمر أهم .

( وحينئذ ) أي : حين حملنا إطلاق قول المشهور على الغالب ( فلا يبقى مجال للاعتراض على تعليل الحكم ) أي : تعليل حكمهم بكسر القدر وضمان صاحب الدابة قيمة القدر ( بكونه لمصلحته صاحب الدابة ) اعتراضا ( بما في المسالك : من انّه قد يكون المصلحة لصاحب القدر فقط ) لنفاسة القدر وكونه من التحفيات - مثلاً - ( وقد يكون المصلحة مشتركة بينهما ) لتساويهما .

( وكذلك ) يحمل على الغالب ( حكمهم بضمان صاحب الدابة ) قيمة الدار ( إذا دخلت ) الدابة ( في دار لا يخرج إلاّ بهدمها ) أي : بهدم الدار وإنّما يضمن قيمة الدار ( معللاً : بأنّه لمصلحة صاحب الدابّة ، فانّ الغالب انّ تدارك المهدوم أهون من تدارك الدابّة ) فيكون كلامهم هذا محمول على الغالب أيضا ، وإلاّ فالميزان هو ما ذكرناه : من تقديم الأهم إذا كان أهم ، والتخيير عند التساوي مع ضمان ضرر المتضرر في الصورتين : صورة تقديم الأهم ، وصورة تقديم أحد المتساويين ، هذا هو تمام الكلام في باب البرائة والاشتغال والحمد لله ربّ العالمين .

ص: 40

الوصائل الى الرسائل

رسالة الشارح: في قاعدة لا ضرر

اشارة

ص: 41

ص: 42

قاعدة لا ضرر

-------------------

ثم إنّا قد كتبنا في باب « لا ضرر » سابقا رسالة مختصرة رأينا إلحاقها هنا لعلها تفيد بعض المشتغلين ان شاء اللّه تعالى ، فنقول ومن اللّه التوفيق :

إنّ في باب « لا ضرر » أحاديث كثيرة ، وفروعا كثيرة ، وتحقيقات للعلماء حولهما كثيرة ، ونحن نكتفي هنا بالأول والثاني وندع التحقيق لمجال آخر .

أما الأحاديث : ففي الكافي ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام قال :

« أنّ سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار ، وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، فكان يمرّ به إلى نخلته ولا يستأذن ، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء ، فأبى سمرة ، فلما تأبّى جاء الأنصاري إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فشكى إليه وخبّره الخبر ، فأرسل إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم وخبّره بقول الأنصاري وما شكى ، وقال : إن أردت الدخول فاستأذن ، فأبى ، فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ماشاء اللّه ، فأبى ان يبيع فقال : لك بها عذق يمد لك في الجنة ، فأبى أن يقبل ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم للأنصاري : إذهب فاقلعها وإرم بها إليه ، فانّه لا ضرر ولا ضرار » (1) .

وفي رواية اُخرى عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام قال :

« أنّ سمرة بن جُندب كان له عذق وكان طريقه إليها في جوف منزل رجل من الأنصار ، فكان يجيء ويدخل إلى عذقه بغير إذن من الأنصاري ، فقال الأنصاري : ياسمرة لا تزال تفاجئنا على حال لا نحب أن تفاجئنا عليها ، فاذا دخلت فاستأذن ، فقال : لا أستأذن في طريق وهو طريقي إلى عذقي ، قال : فشكاه الأنصاري

ص: 43


1- - الكافي فروع : ج5 ص292 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص146 ب22 ح36 .

...

-------------------

إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فأرسل إليه رسول اللّه فأتاه فقال له :

إنّ فلانا قد شكاك وزعم إنّك تمر عليه وعلى أهله بغير إذنه ، فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل . فقال : يارسول اللّه ، أستأذن في طريقي إلى عذقي ؟ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : خلّ عنه ولك في مكانه عذق في مكان كذا وكذا ، فقال : لا .

قال : فلك إثنان . قال : لا اُريد . فلم يزل يزيده حتى بلغ عشرة أعذاق ، فقال : خلّ عنه ولك عشرة في مكان كذا وكذا ، فأبى ، فقال : خلّ عنه ولك مكانه عذق في الجنة ، قال : لا اُريد ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : إنك رجل مُضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن .

قال : ثم أمر بها رسول اللّه فقلعت ، ثم رمى بها إليه وقال له رسول اللّه : انطلق فاغرسها حيث شئت » (1) .

وعن أبي عبيدة الحذاء قال : قال أبو جعفر عليه السلام :

« كان لسمرة بن جُندب نخلة في حائط بني فلان ، وكان إذا جاء إلى نخلته نظر إلى شيء من أهل الرجل يكرهه الرجل ، قال : فذهب الرجل إلى رسول اللّه فشكاه إليه فقال : يارسول اللّه ، إنّ سمرة يدخل عليّ بغير إذني ، فلو أرسلت إليه فأمرته أن يستأذن حتى تأخذ أهلي خدرها منه ؟ فأرسل اليه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فدعاه فقال :

ياسمرة ما شأن فلان يشكوك ويقول : يدخل بغير إذني فترى من أهله ما يكره ذلك ، ياسمرة استأذن إذا أنت دخلت ، ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : يسرك أن يكون لك عذق في الجنة بنخلتك ؟ قال : لا . قال : لك ثلاثة ، قال : لا . قال : ما أراك

ص: 44


1- - الكافي فروع : ج5 ص294 ح8 .

...

-------------------

ياسمرة إلاّ مضار إذهب يافلان فاقطعها واضرب بها وجهه » (1) .

وهنا لا بأس أن نقول تعليقا على الحديث المتقدم : إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم كان همّه نشر الاسلام ، وكسر الأصنام ، وصبّ الناس في بوتقة الدين ، ولهذا كان صلى اللّه عليه و آله وسلم من اللين الخُلقي ، والرفق العملي على جانب كبير لم يصل إليه أحد قبله ولا بعده، وكان من لينه العملي أن لم يجعل سجنا إطلاقا ، فان أول من جعل السجن عمر بن الخطاب على ما ذكره المؤرّخون (2) ، ولم يُجْرِ الحدّ إلاّ قليلاً جدا ، ولم نعهد منه تعزيرا ، وذلك لأنّ هذه الاُمور مما تنفّر الناس ، فلا داعي لها إلاّ في أشد حالات الضرورة .

وعليه : فانّه صلى اللّه عليه و آله وسلم بهذا الخلق الرفيع واللين الغريب حيث وصفه سبحانه بقوله : « فبما رحمة من اللّه لِنْتَ لهم ولو كُنت فظّا غليظَ القلب لانفضّوا من حولك » (3) تمكّن أن ينشر الاسلام ويحطّم الأصنام في رقعة واسعة من العالم ، من الكويت الحالية إلى آخر اليمن ، وإلى الاُردن حيث قلعة أكيدر ، مرورا بالبحرين ، والمسقط ، والأمارات ، وقطر ، وكل أجزاء الحجاز .

إذن : فلا عجب من أن نراه صلى اللّه عليه و آله وسلم يستعمل هذا القدر الهائل من اللين مع سمرة كما أن تهديده صلى اللّه عليه و آله وسلم بتنفيذ حكم اللّه تعالى في حقه لم يكن إلاّ بعد اليأس من ارتداعه عن الظلم ، وكثيرا ما كان تهديده صلى اللّه عليه و آله وسلم بمجرد اللفظ ليردع الطرف عن غيّه ، ويرجعه إلى الصواب كما عليه دأب القرآن حيث يقول سبحانه

ص: 45


1- - من لا يحضره الفقيه : ج3 ص103 ب2 ح3423 ، وسائل الشيعة : ج25 ص428 ب12 ح32279 .
2- - للتفصيل راجع كتاب أحكام السجون للدكتور أحمد الوائلي .
3- - سورة آل عمران : الآية 159 .

...

-------------------

في تهديد المنافقين : « لنغيرنّك بهم » (1) أي : لنأمرنك يارسول اللّه بقتالهم واجلائهم عن وطنهم ، وكقوله سبحانه : « جاهد الكفار والمنافقين » (2) مع انّه لم يصلنا منه صلى اللّه عليه و آله وسلم أنّه جاهد المنافقين جهاد حرب ، أو إجلاء أو مصادرة ، أو سجن ، وإنّما كان جهاده بالكلام فقط ، وهذا بحث طويل مربوط بسيرته صلى اللّه عليه و آله وسلم أردنا الالماع إليه فقط (3) .

ثم إنّ من أحاديث الباب طائفة كبيرة ورد فيها كلمة : « لا ضرر ولا ضرار » ، ففي رواية عن أبي عبداللّه ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليهم السلام : إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : « لا ضرر ولا ضرار » .

وعن الصدوق ، قال النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم : « الاسلام يزيد ولا ينقص » (4) .

قال الصدوق : وقال صلى اللّه عليه و آله وسلم : لاضرر ولا اضرار في الاسلام ، فالاسلام يزيد المسلم خيرا ولا يزيده شرا » (5) .

وعن الشيخ في الخلاف : أنّه روي عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم أنّه قال : « لا ضرر ولا ضرار » .

وعن عقبة بن خالد ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : « قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم بين

ص: 46


1- - سورة الأحزاب : الآية 60 .
2- - سورة التحريم : الآية 9 ، سورة التوبة : الآية 73 .
3- - وقد فصل الحديث الشارح عن سلوكيات الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم في بعض كتبه منها : لأوّل مرّة في تاريخ العالم ، اسلوب حكومة الرسول والإمام علي عليهماالسلام ، السبيل الى انهاض المسلمين ، الصياغة الجديدة ، ممارسة التغيير ، الفقه الحكم في الاسلام ، الفقه الدولة الاسلامية ، الفقه الادارة .
4- - من لا يحضره الفقيه : ج4 ص334 ب2 ح5717 و ح5720 ، غوالي اللئالي : ج1 ص226 ، نهج الحق : ص515 ، الحجّة على ايمان أبي طالب : ص164 .
5- - من لا يحضره الفقيه : ج4 ص334 ب2 ح5718 .

...

-------------------

أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نفع البئر ، وقضى بين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء وقال : لا ضرر ولا ضرار » (1) .

وعن أبي عبداللّه عليه السلام قال : « قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال : لا ضرر ولا ضرار » (2) .

وعن تذكرة العلامة ، أنّه روي عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم أنّه قال: «لا ضرر ولا ضرار» .

وفي مجمع البحرين في حديث الشفعة : « قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم بالشفعة بين الشركاء في الارضين والمساكن ، وقال : لا ضرر ولا ضرار في الاسلام » (3) .

وعن هارون بن حمزة الغنوي ، عن أبي عبداللّه عليه السلام : « في رجل شهد بعيرا مريضا وهو يباع فاشتراه رجل بعشرة دراهم ، فجاء وأشرك فيه رجلاً بدرهمين بالرأس والجلد ، فقضى أنّ البعير برء فبلغ ثمنه دنانير ، قال : فقال عليه السلام : لصاحب الدرهمين خذ خمس ما بلغ ، فأبى وقال : اُريد الرأس والجلد ، فقال : فليس له ذلك ، هذا الضرار وقد اُعطي حقه إذا اُعطي الخمس » (4) .

وعن عقاب الأعمال ، عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم في حديث قال : « ومن أضرّ بامرأته حتى تفتدي منه نفسها ، لم يرض اللّه له بعقوبة دون النّار ومن ضارّ مسلما فليس منّا ولسنا منه في الدنيا والآخرة » (5) .

ص: 47


1- - الكافي فروع : ج5 ص293 ح6 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص280 ح4 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص164 ب22 ح4 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص76 ب2 ح3368 .
3- - مجمع البحرين : ج3 ص373 ضرر .
4- - الكافي فروع ج5 ص293 ح4 .
5- - ثواب الاعمال : ص285 ، اعلام الدين : ص416 .

...

-------------------

وعن أبي عبداللّه عليه السلام : « إنّه سئل عن جدار الرجل وهو سترة بينه وبين جاره سقط فامتنع من بنيانه ؟ قال : ليس يجبر على ذلك إلاّ أن يكون وجب ذلك لصاحب الدار الاُخرى بحق أو بشرط في أصل الملك ، ولكن يقال لصاحب المنزل : استر على نفسك في حقّك ان شئت ، قيل له : فان كان الجدار لم يسقط ولكنه هدمه أو أراد هدمه إضرارا بجاره لغير حاجة منه إلى هدمه ؟ قال : لا يترك ، وذلك أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : لا ضرر ولا ضرار » (1) .

أقول : لا يخفى : إنّ هذا الحديث ضعيف لأنّه مروي في الدعائم ، ولعل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : لا يترك من باب التنزيه ، لا أنّه حكم إلزامي ، أو كان لمورد السؤال بعض الملابسات والقرائن الحالية والمقامية التي أوجبت ذلك .

وعن عقبة بن خالد ، عن أبي عبداللّه عليه السلام : « في رجل أتى جبلاً فشق فيه قناة فذهبت قناة الآخر بماء قناة الأوّل ، قال : فقال : يتقاسمان بحقائب البئر ليلة ليلة ، فينظر أيتها أضرت بصاحبتها ، فان رئيت الأخيرة أضرت بالاُولى فلتعوّر » (2) .

قال في الوسائل : « ورواه الصدوق باسناده عن عقبة بن خالد نحوه وزاد : وقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم بذلك وقال : إن كانت الاُولى أخذت ماء الأخيرة لم يكن لصاحب الأخيرة على الأوّل سبيل (3) ، وحقائب البئر بمعنى : احتباس الماء » .

وعن محمد بن الحسين قال : كتبت إلى أبي محمد عليه السلام : « رجل كانت له قناة في قرية فأراد رجل أن يحفر قناة اُخرى إلى قرية له ، كم يكون بينهما في البعد

ص: 48


1- - دعائم الاسلام : ج2 ص499 ح7181 ، ج2 ص504 ح1805 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص294 ح7 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص102 ب2 ح3420 .
3- - من لا يحضره الفقيه : ج3 ص102 ب2 ح3420 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص145 ب22 ح29 على الاُولى وفيه شيء .

...

-------------------

حتى لا يضر بالاُخرى في الأرض إذا كانت صلبة أو رخوة ؟ فوقّع عليه السلام : على حسب أن لا يضر إحداهما بالاُخرى إن شاء اللّه » (1) .

وروى عن محمد بن علي بن محبوب قال : كتب رجل الى الفقيه عليه السلام في : « رجل كان له رحىً على نهر قرية والقرية لرجل أو لرجلين ، فأراد صاحب القرية أن يسوق الماء إلى قريته في غير هذا النهر الذي عليه هذه الرحى ويعطل هذه الرحى ، أله ذلك أم لا ؟ فوقع عليه السلام : يتّقي اللّه ويعمل في ذلك بالمعروف ، ولا يضر أخاه المؤمن » (2) .

وعن طلحة بن زيد ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، عن أبيه عليه السلام قال : « قرأت في كتاب لعلي عليه السلام ، إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل يثرب : إنّ كل غازية غزت بما يعقب بعضها بعضا بالمعروف والقسط بين المسلمين ، فانّه لا يجوز حرب إلاّ باذن أهلها ، وإنّ الجار كالنفس غير مضار ولا آثم ، وحرمة الجار على الجار كحرمة اُمه وأبيه ، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اللّه إلاّ على عدل وسواء » (3) .

وهناك جملة من الروايات مشتملة على أمثال هذه الألفاظ أيضا رواها العامة في كتبهم .

مثل : ما رواه عبادة بن الصامت في ضمن نقل قضايا كثيرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم حيث قال : وقضى أن لا ضرر ولا ضرار .

ص: 49


1- - الكافي فروع : ج5 ص293 ح5 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج3 ص238 ب2 ح3870 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص31 ح5 .

...

-------------------

وفي نهاية ابن الأثير قال : في الحديث : لا ضرر ولا ضرار في الاسلام (1) .

أمّا الفروع ، وهو البحث الثاني في باب لا ضرر فاُمور :

الأوّل : إذا أضره أحد شخصين لا يعلم الضارّ منهما بعينه فالظاهر : تقسيم الضرر عليهما لقاعدة العدل ، وإذا أضر بأحد شخصين لا يعلم انّه أيهما قسّم المال بينهما .

لا يقال : لماذا يتضرر بنصف المال أحدهما ؟ .

لأنّه يقال : لقاعدة العدل ، فقد ورد مثله في درهمي الودعي ، وفي تقسيم الحيوان بين نفرين كل يدعيه ، كما في قضاء أمير المؤمنين علي عليه السلام ، إلى غير ذلك من الروايات المتواترة في الموارد الخاصة ، والتي يفهم منها قاعدة كلية قد استند إليها جملة من الفقهاء .

كما إنّه إذا لم يعلم هل أنّه أضره باتلاف شاة حيث قيمتها عشرة ، أو جمل حيث قيمته عشرون ؟ أعطاه نصفهما ، وكذلك إذا أضره باتلاف متاع اختلف المقوّمون في قيمته ، فقال بعض إنّه خمسون ، وقال بعض إنّه مائة ، فانّه يعطيه نصفهما .

هذا ، ولا مجال للبرائة في أمثال هذه المقامات ، لأنّ قاعدة العدل العقلائية مقدمة عليها .

الثاني : الضرر النوعي لأجل الشخص ، أو الشخصي لأجل النوع ، أو الشخصي لأجل الشخص ، أو النوعي لأجل النوع ، لا يسمى ضررا عند العقلاء ، ولذا نرى كما في الغرب يرحّبون بذلك في الضرائب المعقولة التي تدار بها البلاد ،

ص: 50


1- - النهاية لابن الأثير : ج3 ص81 .

...

-------------------

وتصلح بها العباد .

وعلى هذا : فالخمس والزكاة ونحوهما ليس من الضرر ، وكذلك الحج ، وهكذا الغرامات من الديات والكفارات ونحوهما فانّها لا تعدّ ضررا .

الثالث : إذا أقدم بنفسه طوعا على الضرر ، لا يصدق عليه الضرر ، كما إذا نذر أنّ يتصدّق بدينار ، وهكذا إذا كان السبب نفسه ، كما في الضمانات ، فانها وإن كانت ضررا لكن المنصرف من « لا ضرر » في النص : أنّ الضرر المرفوع هو الذي جاء من قبل الشارع لا الذي جاء من قبل نفسه باقدامه عليه أو بتسبيبه له .

الرابع : مثل إرش المعيب ، والدية في قتل العمد الذي يتخير الولي بينها وبين القصاص ، والتصدق باللقطة فيما إذا كان مخيرا فيها بين التملك والتصدق عن صاحبها ، وما أشبه ، هل يؤثر بشيء من ذلك في عدم استطاعته للحج ، وفي تحجير المفلّس ، وفي وجوب الخمس عليه ؟ .

الظاهر : إنّ ذمة بائع المعيب ، والقاتل عمدا ، ليست الآن مشغولة بهما ، ولذا لا تأثير لها في عدم استطاعته ، أو عدم وجوب الخمس عليه ، أو ما أشبه ذلك .

الخامس : لما كان « لا ضرر » عرفيا والعرف يرى ضرر المغبون كان له صور ، فما ذكروه : من كون الخيار فوريا ، فاذا لم يتخير فورا سقط خياره ، لأنه أقدم على ضرر نفسه ، غير ظاهر ، بل الظاهر : بقاء خيار المغبون إلى مدة لم يتضرر الغابن تضررا من جهة كونه معلق المال ، فقولهم بالفورية لا دليل قوي عليه .

السادس : « لا ضرر » كما يشمل الضرر الحالي يشمل الضرر المستقبلي أيضا ، فاذا لم يكن في الحال ضرر لكن يحدث منه الضرر في المستقبل جاز الدفع في الحال حتى لا يتضرر منه في المستقبل كما إذا كان حائط الغير مشرفا على السقوط

ص: 51

...

-------------------

بحيث انه إذا لم يهدمه سقط فأضر الناس مالاً أو نفسا فانه يجوز هدمه حتى لايتضرر به المسلمون في المستقبل .

وكذا إذا كان في ملك الغير ماء راكد بحيث لو لم يجففه الآن ، لأضر الناس بنتنه وحشراته في الصيف ، فانه يجوز طمه وتجفيفه حتى لا يتأذى به الناس مستقبلاً .

السابع : إذا كان الضرر في موارد العلم الاجمالي جاز دفع الجميع ، لكن المتولي لذلك وهو الحاكم الشرعي يضمن من بيت المال لغير المورد الضار ويقسّمه بين المتضررين .

مثلاً : إذا أصاب الوباء بعض الألبان ، فالحاكم يأمر بصب الجميع ويدفع من بيت المال قدر الضرر مقسما ذلك على الجميع ، فاذا كان - مثلاً - بين عشرة أوان اناء وبائي مجهول ، أمر الحاكم بصب الجميع وقسّم قيمة التسعة بين المالكين العشرة لقاعدة العدل ، وذلك جمعا بين الأدلة .

الثامن : حيث ان لا ضرر منّة ، وقول الشارع ببطلان العبادة الضررية التي يجهل الانسان ضررها ، اغتسالاً كان أو وضوءً ، صوما كان أو حجا أو غير ذلك ، خلاف المنّة ، لأنه إذا أبطل الشارع عمله فقد حمّله صعوبة اُخرى باعادة الصلاة والصيام والحج ثانيا ، فيلزم القول بصحة أعماله تلك وان كانت تبطل أتى بها وهو عالم بضررها .

وعليه : فانّ عدم الضرر في العبادات من الشرائط العلمية نظير الطهارة من الخبث بالنسبة إلى الصلاة ، لا الواقعية نظير الطهارة من الحدث بالنسبة إلى الصلاة.

مثلاً : إذا توضأ مع اعتقاد عدم التضرر باستعمال الماء ثم إنكشف خلافه ،

ص: 52

...

-------------------

لا يحكم بالبطلان ، وعليه جرت سيرة الفقهاء في العبادات حيث يعتبرون العلم بالضرر أو الظن به أو الاحتمال العقلائي له وعدمها دخيلاً في صحة العبادة وبطلانها .

نعم ، قد جرى الفقهاء في المعاملات على مقتضى ظاهر لفظ الرواية ، ولذا حكموا بخيار الغبن والعيب لقاعدة نفي الضرر ولو مع اعتقاد المشتري عدمهما حين البيع في المنكشف خلافه . فحكموا بثبوت الخيار من حين البيع لا من حين ظهور الغبن والعيب ، والمسألة مفصلة في بابها .

التاسع : إذا عمل إيجابا ما أورث سلبه الضرر ، كما لو حبس الرجل عن متاعه فسرقه سارق ، أو منعه عن الحيلولة دون سد الماء فأتلف الماء زرعه أو ضرعه ، أو منعه عن غلق قفصه فطار طائره ، وحبس دابته فمات ولدها ، أو ما أشبه ذلك ، فالظاهر : شمول دليل لا ضرر له ، إضافة إلى دليل من أتلف ونحوه ، فان إطلاق لاضرر يشمل كل حكم وجودي .

وعليه : فاذا سبب الوجود الضرر كان مرفوعا ، وإذا سبب العدم الضرر كان مرفوعا أيضا ، ومعنى رفع العدم : ان الحكم الوجودي الذي هو مقابل العدم قائم مقامه ، وقد اختار ذلك الرياض وغيره .

ولا يخفى : انا ذكرنا في الاُصول : ان العدم لا يكون مؤثرا ولا متأثرا ، وإنّما المراد به ما يقابله من الوجود ، فاذا قال : لم يراجع الطبيب فمات ، كان معناه : تمكن المرض أو العرض فيه فمات إلى غير ذلك .

العاشر : إذا توجه ضرر إلى الغير وأمكن دفعه بتوجيه الضرر إلى النفس ، أو إلى ثالث ، فهو على ثلاثة أقسام :

ص: 53

...

-------------------

الأوّل : ان يكون الدفع واجبا ، وذلك كما إذا توجه القتل إلى الغير وأمكن إقناع الضار باعطائه دينارا من نفسه حتى لا يقتله ، فانه يجب إعطاء الدينار ودفع الضرر عن الغير كما يجب دفع الضرر عن النفس ، وذلك لوجوب حفظ النفس المحترمة.

ثم هل للدافع ان يأخذ الدينار من الذي دفع الدينار لأجله ، أو ليس له ذلك ، وإذا لم يكن له ذلك فهل له ان يأخذه من بيت المال؟ احتمالات ثلاثة :

امّا احتمال انه لا يتمكن من استرداد ماله ، فلأنه واجب عليه كسائر الواجبات المتوقفة على المال ، فاذا دفع دينارا - مثلاً - إلى من يوصله إلى المحل الذي يجب عليه ان ينهى فيه عن المنكر ، فلا شك انه لا يحق له ان يأخذ هذا الدينار من فاعل المنكر الذي سبب هذا التحرك من أجله .

وامّا احتمال انه يجوز له أخذ الدينار ممن توجه الضرر اليه ، فلأنه جمع بين الحقين ، كما قالوا في أكل المخمصة .

وامّا احتمال أخذه من بيت المال ، فلأنه المعد لمصالح المسلمين ، ولا إشكال في ان دفع القتل عن الغير من مصالح المسلمين .

الثاني : ان يكون الدفع حراما ، وذلك كما إذا كان الضرر المتوجه إلى الغير هو قطع اليد ، والضرر المتوجه إلى النفس أو الثالث هو القتل - مثلاً - .

الثالث : ان يكون الدفع جائزا وذلك كما إذا تساوى الضرران ولم يكن تحمله لدافعه عن الغير إلى النفس محرّما .

الحادي عشر : إذا توجه الضرر إلى النفس وأمكن دفعه إلى الغير ، فانه يأتي فيه الأقسام الثلاثة التي كانت في الفرع السابق وذلك كما إذا رماه العدو بسهم وكان إذا تنحّى أصاب من خلفه ، فان كان السهم يقتله لكن يجرح من خلفه وجب

ص: 54

...

-------------------

التنحي ، وان كان العكس حرم ، وان تساويا جاز .

الثاني عشر : إذا أمره الجائر باضرار الغير ففي جوازه وعدمه ما تقدّم في الفرعين السابقين : العاشر والحادي عشر ، علما بأن الكلام فيهما وفي هذا الفرع أيضا طويل جدا نكتفي منه بهذا القدر .

الثالث عشر : الضرر المتوجه إلى الانسان من الشرع ، مرفوع بلا إشكال ، ويشمله الدليل المتقدم ، وذلك كما إذا كان الضرر في ا لوضوء ، أو الغسل أو الصوم ، أو الحج ، أو ما أشبه ذلك ، امّا الضرر المتوجه إلى الانسان من نفسه فهو على ثلاثة أقسام :

الأوّل : ما إذا كان جائزا له ، وذلك كما إذا قصر في الفحص عن قيمة بضاعته وباعها بأقل من القيمة فصار مغبونا فيها ، فان له خيار الغبن ، لأن الشارع لم يوجب الفحص عليه ، فاذا ألزمه بالبقاء على البيع لزم غبنه وتضرره ، ولذا فهو مرفوع لاطلاق دليل لا ضرر .

الثاني : ما إذا كان حراما عليه ، وذلك كما إذا أجنب نفسه بالحرام وكان الغسل ضررا عليه ، فانه مرفوع أيضا ويتبدل حكمه إلى التيمم .

الثالث : ما إذا أدخل الضرر على نفسه باختياره عالما عامدا ، وذلك كما إذا باع ما قيمته عشرة دنانير بدينار واحد عالما عامدا ، فان دليل لا ضرر هنا لا ينفيه ، فلا حق له في الفسخ ، بل نفي الضرر هنا يناقض قاعدة : « الناس مسلطون على أموالهم » (1) إذ لو ان الشارع أبطل البيع ، أو جعل له الخيار ، كان خلاف سلطنته .

ص: 55


1- - نهج الحق : ص494 و ص495 و ص504 ، غوالي اللئالي : ج1 ص222 و ج2 ص138 و ج3 ص185 ح54 ، بحار الانوار : ج2 ص272 ح7 .

...

-------------------

ولهذا أشكل جمع على صاحب الجواهر في قوله : يجب رد المغصوب إلى مالكه ولو استلزم تضرر الغاصب باضعاف قيمة المغصوب ، لأنه هو الذي أدخل الضرر على نفسه بسبب الغصب فأشكلوا عليه : بأن الغاصب إنّما أراد الانتفاع بالمغصوب - مثلاً - لا اضرار نفسه ، فاذا أمره الشارع بما لم يقدم عليه كان خلاف دليل لا ضرر .

الرابع عشر : إذا اشتكى شخص عند الحاكم شكاية باطلة تضرر المشتكى عليه بالمصارف : من اُجرة الرواح والمجئوالسفر وما أشبه ، أو تضرر في كسبه وتجارته بسبب إنشغاله بالمحكمة ، أو تضرر لأن المحكمة أخذت منه رسوم المحاكمة ، أو لأنه دفع اُجرة المحاماة أو ما أشبه ذلك ، فانه لا يستبعد ان يكون للمشتكى عليه الحق على المشتكي في تدارك الأضرار المذكورة .

وإنّما كان له الحق في ذلك ، لشمول لا ضرر لها ، وذلك من غير فرق بين علم المشتكي بأنه حق أو باطل وبين عدم علمه بذلك ، لأن الضمانات وضعيات لايشترط فيها العلم ونحوه .

امّا إذا كانت الشكاية بحق ولم يكن للمشتكي إلاّ هذا الطريق ، لم يتحمل المشتكي أضرار المشتكى عليه إذ صاحب الحق يحق له إنقاذ حقه ، فلا يشمل لاضرر مثل ذلك .

الخامس عشر : لا فرق في حق مطالبة المتضرر تدارك أضراره بين ان يكون المتضرر شخصا أو جهة ، وكذا لا فرق بين ان يكون الضار شخصا أو جهة ، وذلك كما لو كان الضار وقفا أو ثلثا أو ما أشبه أو كان المتضرر شيئا من ذلك ، لاطلاق الأدلة .

ص: 56

...

-------------------

السادس عشر : لو أرضعت اُم الزوجة حفيدتها مما حرّم الرضاع على الزوج زوجته وذلك لقاعدة : لا ينكح أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن ، لم نستبعد في الفقه ضمانها للمهر لكنه غير مشهور ، وكذلك كل رضاع محرّم .

السابع عشر : لو تعدى على امرأة فلا شك في إستحقاقها المهر من المتعدي ، سواء كان عالما بالحرمة ، أم كان جاهلاً بها ، أو شاكا فيها ، وامّا إذا تعدى على غلام فهل يستحق بدلاً من المتعدي؟ لم أجده في كلام أحد ، نعم ، إذا تضرر بالتعدي لاشك في إستحقاقه بدل ضرره لاطلاق الأدلة .

الثامن عشر : ليس من الضرر المتدارك ما إذا فتح محلاً تجاريا - مثلاً - قِبال محل تجاري لشخص آخر ، فسبّب تضرره بانقسام المراجعين اليهما وكذا بالنسبة إلى الطبيبين ونحوهما ، كما انه ليس من الضرر المتدارك إذا سبب قتل إنسان أو حجره انقطاع منافعه التي كان يوصلها إلى الناس ، فان القاتل لا يطالب بتلك المنافع التي كانت تصل الآخرين من المقتول أو من المحجور لانصراف الأدلة عن مثلها .

التاسع عشر : لو اضطر إلى الاضرار بالغير بما يجوز له ، كما إذا قال له جائر : إذا لم تلق متاع هذا في البحر قتلته ، وكان قيمة متاعه دينارا مثلاً ، فانه يجب عليه القاء

المتاع لانقاذ صاحبه ولا كلام فيه ، وإنّما الكلام في ان ضمان الدينار هل هو عليه ،

أو على من أجبره ؟ .

احتمالان : من انه محسن وما على المحسنين من سبيل ، ومن انه وجه الجمع بين الجواز والضمان كما في أكل المخمصة ، ولو قلنا بكون الضمان عليه ، فلا إشكال في ان قراره على المكره - بالكسر - .

ص: 57

...

-------------------

امّا إذا ألجأه على الضرر ، كما لو القاه من شاهق على شخص فمات ، أو على زجاج فانكسر ، فلا إشكال في عدم الضمان عليه ، وإنّما يكون الضمان على الملقي .

العشرون : لو اضطر إلى الاضرار بالغير بما لا يجوز له فاضرّه ، كان الضمان على الضار لا على من أجبره كما لو قال له جائر : اقطع اصبع هذا ، وإلاّ أخذت دينارا منك جبرا ، فلا يجوز له الاضرار بالغير في مقابل خسارته دينارا ، لأن الشارع لم يأذن له بذلك .

الواحد والعشرون : لو اضطر لنجاة الغريق إلى ان يطأ زرع الناس مما يوجب فساده ، فهل يضمن ضرر صاحب الزرع أم لا ، احتمالان : من انه محسن وما على المحسنين من سبيل ، ومن انه وجه الجمع بين الجواز والضمان فيضمن على ما عرفت .

الثاني والعشرون : لو جيء بالمريض إلى الطبيب الموظف لمعالجته من قبل جهة محترمة : كدولة مشروعة ، أو جماعة خيرية - مثلاً - فلم يعالجه الطبيب عمدا حتى مات أو اُصيب بما فيه الضمان بأن تلفت عينه - مثلاً - فهل يضمن الطبيب لأنه السبب عرفا ، أو لا يضمن لأنه لم يباشر قتله أو لم يباشر إتلاف عينه؟ لا يبعد الضمان وان كان بعض المعاصرين أشكل فيه .

الثالث والعشرون : إذا كان موظفا لحراسة أموال الناس ليلاً فرأى اللص يسرق ولم يقل له شيئا فانه ضامن ، وكذا لا يبعد الضمان عليه أيضا إذا نام أو ذهب إلى بعض شغله فاستغل السارق نومه وغيابه فسرق ، نعم ، لا شك في ان قرار الضمان على اللص .

ص: 58

...

-------------------

الرابع والعشرون : إذا لم يكن الشخص موظفا للحراسة ورأى السارق يسرق أموال الناس فلم يمنعه من ذلك مع تمكنه من منعه ، كان فاعلاً للحرام إلاّ انه لم يكن ضامنا .

الخامس والعشرون : لا يجوز للجندي ، أو الطيار ، أو غيرهما من افراد الجيش في الدول الجائرة تنفيذ أوامر قتل الأبرياء أو قصفهم وان أدّى عدم التنفيذ إلى قتله، لكن لو فعل ذلك وألقى - مثلاً - قنبلة على مدينة فقتل آلاف الأبرياء ، فهل الدية كلها على الملقي لأنه المباشر ، أو على المشتركين في هذه الجريمة موزعة عليهم بنسبة القوة والضعف عرفا ، أو بالتساوي ؟ .

احتمالات وان كان بعض المعاصرين يرجّح الأوّل لما ذكروه في الفقه : من مسألة المباشر والسبب ، لكن لا يبعد إنصراف الأدلة عن مثل هذه الاُمور ، والعرف يرى إشتراك الجميع ، بل يرى المباشر أضعف الأسباب مما يجعل جلّ الدية على غيره .

السادس والعشرون : إذا كان مع الطيار في الطائرة طفل - مثلاً - فضغط الطفل على الزر مما سبب إنطلاق القنبلة وقتل الآلاف ، فهل الدية على عاقلة الطفل أم لا ؟ .

إحتمالان : من إنصراف النص عن مثله كما ذكر السيد الحكيم قدس سره شبه ذلك في باب نجاسة الماء المضاف حيث قال : بأن مثل معدن النفط لا يتنجس لانصراف الأدلة عن مثله ، ومن إطلاق أدلة كون الدية على العاقلة ، والظاهر : ترجيح عدم كونه على العاقلة إلاّ بالمقدار اليسير الذي لا ينصرف عنه دليل : « عمد الصبي

ص: 59

...

-------------------

خطأ » (1) والمسألتان محل تأمل وإشكال .

السابع والعشرون : لو منعه ظالم عن الاصطياد - مثلاً - وكان لو تركه إصطاد ما قيمته عشرة دنانير ، لم يستبعد ضمان ذلك الظالم لأنه عرفا اضرار ، وان كان المشهور لا يقولون به حسب ما يظهر من فتاواهم في شبه هذه المسألة معلّلين ذلك : بأنه عدم ربح لا انه ضرر .

ولو منعه الظالم عن عمله وكان يعمل تارة ما قيمته خمسة دنانير ، واُخرى ما قيمته عشرة دنانير ، كان على الضار نصف القيمتين ، فاذا كان - مثلاً - يشتغل يوما حمالاً ويوما نجارا ، واُجرة الحمال خمسة دنانير واُجرة النجار عشرة دنانير ولم يكن يعرف ان في هذا اليوم يعمل حمالاً أو نجارا ، امّا إذا عرف انه كان يعمل حمالاً أو نجارا فله بقدر أجرة ما تركه من العمل .

الثامن والعشرون : لو دار الأمر بين تضرر أحد شخصين ، قدّم الأهم سواء من حيث المال أم من حيث آخر .

مثلاً : إذا أدخل ثور زيد رأسه في خابية عمرو ، مما اضطر إلى قتل الثور أو كسر الخابية ، فقد يكون قيمة أحدهما دينارا والآخر عشرة ، ثم قد يكون الدينار لصاحبه أهم من العشرة لصاحبها حسب نظر العرف فيقدّم الأهم ، وان لم يكن بينهما أهم ، فالقرعة أو اختيار الحاكم ، وقد ذكروا هذه المسألة ونحوها في الدينار والمحبرة .

التاسع والعشرون : قد ذكرنا في الفقه مسألة تضرر الجار بسبب عمل الجار ،

ص: 60


1- - تهذيب الاحكام : ج10 ص233 ب4 ح53 وفيه عمد الصبي وخطاه واحد وسائل الشيعة : ج29 ص89 ب34 .

...

-------------------

وانه جائز في المتعارف وغير جائز فيما لم يكن متعارفا .

مثلاً : الرواح والمجئالمتعارف وان تضرر الجار بسبب ضوضائه جائز ، لتعارفه في الضيافات وما أشبه في البيوت ، وكذا لو رفع بناء الدار بحيث منع الشمس عن دار الجار ، فانه وان تضررّ به الجار جائز لتعارف ذلك في أبنية المدن، وهكذا في غرس الأشجار في البيت أو البستان الموجب لكثرة البعوض ، فاذا فعل ما كان متعارفا لم يكن عليه الضمان وكان جائزا .

امّا إذا فعل ما لم يكن متعارفا مثل : ان ينصب في داره رحى أو ماكنة توجب تصدع دار جاره ، أو يسقي حديقته ماءً فيوجب إنهدام حائط الجار ، أو ما أشبه ذلك ، فانه غير جائز ، لعدم تعارفه ، فاذا فعل ما لم يكن متعارفا لم يكن جائزا وكان عليه الضمان لصدق لا ضرر .

وعليه : فليس القصد هنا بيان ان الضرر ولا ضرر يدوران مدار الجواز وعدم الجواز ، وإنّما القصد ما ذكرناه : من بيان المتعارف وغير المتعارف .

الثلاثون : كما لا يجوز الاضرار بالمسلم ، كذلك لا يجوز الاضرار بالكافر ، إلاّ بقدر إجازة الشارع : من رد الاعتداء ، أو المجابهة في الحرب ، أو ما أشبه ، كل ذلك لاطلاق الأدلة ، بل لا يجوز الاضرار بالحيوان أيضا كما ذكرناه في كتاب النكاح باب النفقات (1) .

الواحد والثلاثون : لا يستبعد ضمان الضار ، الزائد على المقرر شرعا من الدية إذا سببت الجناية صرف مال في علاجه بمقدار أزيد من الدية المقررة له .

مثلاً : إذا قطع الجاني رجل إنسان ، فديتها خمسمائة دينار ، لكن إذا صرف

ص: 61


1- - راجع موسوعة الفقه : ج68 ص391 وما بعدها ، للشارح .

...

-------------------

المجني عليه ستمائة دينار في معالجته ، وجب على الجاني أن يدفع للمجني عليه ستمائة دينار ، خمسمائة دية الرجل شرعا ، ومائة ضمان الضرر لدليل لا ضرر .

ولو تمكن الجاني من وصل ما قطعه كانت المصارف عليه وان كانت أكثر من الدية ، فاذا تمكن الطب الحديث من وصل الرجل المقطوعة بالجسم - مثلاً - فانه يلزم على الجاني دفع كل مصارفه ، وذلك لأن الدية بدل ، وهذا يتمكن من الأصل بوصلها فيجب عليه .

وهكذا يكون الحال في أمثال هذه الجنايات ، فاذا سبّب - مثلاً - ضعف قلبه وتمكن من تعويض القلب ، أو ابرائه بما يرجع اليه حالته الصحية السابقة ، فأيهما يكون المقدّم؟ لم يستبعد تقدّم الابراء على التعويض ، ويكون مصرف الابراء على الجاني وان أراد المجني عليه التعويض .

الثاني والثلاثون : حيث لم يثبت للضرر حقيقة شرعية فهو أمر عرفي ، ولذلك يختلف الضرر زمانا ومكانا ، ففي زمان يكون الشيء الفلاني ضررا دون زمان آخر ، وفي مكان يكون الشيء الفلاني ضررا دون مكان آخر ، امّا الاختلاف بحسب الاشخاص فلا ، حتى ان الفلس الواحد ضرر وان كان المتضرر في غاية الثروة .

نعم ، الظاهر : انصراف لا ضرر عن مثل قشرة وحبة ، لكن لو تعلق غرض المالك بهما لدواء وما أشبه ، حرم تصرف الغاصب فيهما ووجب عليه بدلهما ، لأن غرض المالك قد تعلق بهما وان لم يكن غرض العقلاء كذلك ، فان المعيار هنا المالك لا العقلاء .

هذا ، بل لم نستبعد في الفقه كون المنع عن النفع ضررا أيضا ، فاذا حبس

ص: 62

...

-------------------

الظالم إنسانا فلم يقدر على ان يكتسب قوت عائلته ، صدق انه أضره بذلك .

وكذا لو منعه عن بيع داره فتنزلت قيمتها مائة دينار ، صدق عرفا انه أضره بمائة دينار ، إلى غير ذلك من الأمثلة .

الثالث والثلاثون : لو خيّره الجائر بين ضررين فاختار الضرر الأشد كان على الجائر ضمان الضرر الأخف ، سواء تمّ الضرر بيد الجائر أم بيد المتضرر نفسه .

مثلاً : إذا قال له : اكسر آنيتك وقيمتها دينار ، أو ابريقك وقيمته ديناران فاختار كسر الابريق بنفسه أو أعطى ابريقه للجائر فكسره ، فان الزائد كان بارادة المتضرر فيكون كمن أعطى اناءه إلى غيره ليكسره ، ومنه يعرف حال ما لو اجبرت المرأة على اللمس أو الفاحشة فاختارت الفاحشة .

الرابع والثلاثون : لو قال الجائر لزيد بن عمرو : قدم اناءك لأكسره ، فقدم زيد بن خالد اناءه متوهما انه المعنيّ للجائر فكسره ، فهل يضمن الجائر أم لا ؟ .

احتمالان : من ان المتضرر هو الذي أقدم عليه فصار الكسر باختياره ، فيكون كمن ألقى متاعه في البحر باختياره متوهما ، ومن ان لا ضرر يصدق عليه ، إذ ليس المقام من الاستثناء الذي يكون باقدام الانسان على ضرر نفسه ، فيشمله دليل لاضرر .

الخامس والثلاثون : لو أجبره الجائر بالقاء آنيته في البحر فألقى إبريقه والابريق أثمن من الآنية ، فالظاهر : ضمان قيمة الآنية لا الابريق ، لأنه لم يجبره على إلقاء

الابريق ، وإنّما هو توهم ذلك ، فالزائد يكون عليه لا على الجائر .

السادس والثلاثون : لو قال له الجائر كلاما عاديا ، فزعم انه أجبره على كسر آنيته والحال انه كان غير ذلك فكسر آنيته ، لم يضمن المتكلِّم ، لأنّ التوهم سبّب ذلك ، لا ان الجائر أضره .

ص: 63

...

-------------------

السابع والثلاثون : لو قال زيد بن عمرو لشخص : اكسر آنيتك ولم يكن مقتدرا جائرا حتى يلزم نفوذ كلامه لعدم قدرته ، فزعم الشخص ان القائل زيد بن خالد الجائر فكسر الآنية ، لم يضمن أي واحد من الزيدين ، لأنه توهم للاضرار ، وليس إضرارا بنفسه .

الثامن والثلاثون : لو أعطى سيارته بيد من لم يعرف السياقة ، فوطأ بها بضاعة إنسان فسبّب تلفها ، فهل الضامن صاحب السيارة لأنه عرفا السبب ، أو السائق لأنه المباشر ؟ قال المشهور في السبب والمباشر : ان الضمان على المباشر وهو هنا : السائق لا على السبب وهو هنا صاحب السيارة ، لكن فيه تأمل .

التاسع والثلاثون : لو إنكسر من السيارة شيء حال سيرها مما أدى إلى الاضرار بالآخرين ، فهل يضمن السائق؟ الظاهر : انه ان قصّر في تعاهد سيارته وإصلاحها ضمن ، وإلاّ لم يضمن لعدم إسناد الضرر إليه ، لكن المسألة محل تأمل .

الأربعون : لو أجبره الجائر على الزنا بامرأة خاصة ، رفع الجبر الأحكام التكليفية : من الحرمة والعقاب الاُخروي والعقاب الدنيوي كالحد وما أشبه ، امّا الأحكام الوضعية كالولد ، والجنابة ، ونجاسة الموضع ، وما أشبه ذلك ، فهي مترتبة .

نعم ، ورد في الأحاديث لا يحرّم الحرام الحلال على تفصيل مذكور في الفقه ، فلا نعيد الكلام حوله ، وإنّما الكلام هنا هو : ان دليل لا ضرر ونحوه هل يوجب ضمان المهر لها لو لم تكن بغيّة أم لا ؟ .

احتمالان : من انه ضرر عرضي وان لم يكن ضررا نفسيا أو ماليا ، ولا ضرر يشمل الثلاثة : العرضي ، والنفسي ، والمالي ، فدليل لا ضرر إذن يوجب ضمان المهر كما يوجب ضمان الغرم أيضا لو كانت باكرة فافتضها .

ص: 64

...

-------------------

ومن انه ربّما يقال : بأن هذا لا يسمى ضررا ، فدليل لا ضرر لا يوجب ضمانا إذن ، وإنّما ضمان المهر من باب أدلته الخاصّة ، وقد تقدّم : ان قرار المهر يكون على من أجبره .

هذا ، ولو أجبره على الزنا بامرأة غير معينة من بين عدّة ، لم يجز له الزنا بالبكر لو كان فيهن غير بكر ، لأنه بالاضافة إلى الزنا جناية ، وكلما دار أمر الحرام بين الأشد والأخف قدّم الأخف .

وكذا لم يجز له الزنا بالشابة منهن لو كان فيهن عجوز ، لأن اللازم ترك الألذ ، وذلك لأنه ليس بمجبور فيه ، وإنّما الاجبار بالجامع الذي يحصل بالأقل وهو في المثال : الزنا بالعجوز ، فان اختار الشابة لم يبعد تعزيره لاختياره الزائد .

وكذا لو أكرهه بالزنا دقيقة فبقي بقدر دقيقتين ، فانه لم يستبعد هنا الحد أيضا .

وكذا لو كان الأوّل زنا والآخر عقدا ، أو الأوّل عقدا والآخر زنا أو كان الزنا في الوسط دون الطرفين ، أو في الطرفين دون الوسط ، فانه لو كان مخيرا بينها لم يجز اختيار الحرام منها ، فاذا اختار الحرام لم يبعد الحد أيضا .

ومثل : اختيار الألذ ما إذا خيّره الجائر بين شرب خمر يدوم سكره ساعة وبين فرد آخر يدوم ساعتين ، أو غرق في البحر عجوز وشابة ، أو رجل وامرأة ، فأنقذ الأجل تشهيا ولأجل الملامسة ، فانه يعزّر حيث ان الوجوب يتمركز على ما لا لذة فيه أو فيه لذة أقل ، إلى غيرها من الأمثلة .

ولا يخفى : ان هذه المسائل خارجة عن صلب الرسالة ، وإنّما ذكرناها بالمناسبة استطرادا .

الواحد والأربعون : لو باع القصاب لحما مسموما ، فأكله المشتري فتمرض

ص: 65

...

-------------------

أو مات - مثلاً - سواء علم بالمسمومية أم جهلها أم شك بها ، وذلك لاستناد الفعل اليه.

نعم ، مع علم الآكل أو احتماله للتسمم إحتمالاً عقلائيا لم يكن على القصاب الضمان ، لأنه لم يضره وإنّما أضر الآكل نفسه بأكله ما يعمل أو يحتمل إحتمالاً عقلائيا ضرره ، وكذلك حال ما إذا قدم الطعام المسموم إلى الضيف - مثلاً - فانه يأتي فيه بحث علم القصاب أو جهله وشكه ، وعلم الآكل أو جهله وشكه .

الثاني والأربعون : لو ظن ان ضرر الضار قليل وكان كثيرا في الواقع ، أو العكس ، فالمعيار في الكائن لا فيما زعمه ، وكذلك إذا تصور انه يتمرض به فقتله ، أو بالعكس ، أو يصيبه مرض اليرقان فأصابه الاستسقاء - مثلاً - فان الاعتبار في كل ذلك بما حدث لا بما زعم .

الثالث والأربعون : هل الضرر بسمعة الانسان الموجب للخسارة المالية ، والموجب للضرر الجسدي بأن يسبّب مرضه - مثلاً - يعدّ ضرر بحيث يلزم تداركه أم لا؟ لا يبعد ذلك لصدق الضرر .

الرابع والأربعون : لو اختلفا في أصل الاضرار : كان الأصل العدم ، ولو اختلفا في قدره كان الأصل مع الأقل ، ولو اختلفا في انه هل أضره في شاته أو في إبله؟ كانت قاعدة العدل محكمة فيما إذا لم يثبت كلام أحد الطرفين .

كما إنه ليس المقام من البرائة عن الزائد لو كانت قيمة الشاة عشرة والابل عشرين ، لأن المعيار في النزاع هو المصب لا المآل على ما ذكرناه في الفقه ، ولو اختلف المقوّمون أخذ بالوسط .

ولو اختلفا في انه أتلف ثلجه في الشتاء حيث لا قيمة له ، أو في الصيف حيث يكون له قيمة ، احتاج مدعي القيمة إلى الاثبات .

ص: 66

...

-------------------

وكذا لو اختلفا في انه أتلف كلبه حيث لا قيمة ، أو شاته حيث القيمة ، فان على مدعي القيمة إثبات ذلك .

ولو اختلفا اجتهادا أو تقليدا ، أو كان أحدهما مجتهدا والآخر مقلدا ، رجعا إلى ثالث ليفصل بينهما وكان حكمه نافذا عليهما ، سواء وافق حكمه أحدهما أم خالف كليهما ، كما قرر في كتاب القضاء (1) .

الخامس والأربعون : لو أخذ الضار من المتضرر البرائة عن الضرر لم يكن عليه شيء ، لأن المتضرر يكون حينئذ هو الذي أقدم على ضرر نفسه ، كما ذكروا ذلك في الطبيب الآخذ بالبرائة ، وذلك للقاعدة وللنصوص الخاصة في مورد الطبيب .

ومثله : ما إذا كان الطعام محتمل المسمومية ، فقدمّه صاحبه للزبون وقال : أنا برئمن ضرره ، فقبله الزبون مع انه يحتمل مسموميته وأكله فتضرر به .

نعم ، إذا كان الاحتمال عقلائيا ، لم يستبعد حرمة تقديمه للزبون ، لأنه من التعاون على الاثم إذا كان مسموما واقعا ، لا ما إذا لم يكن فانه ليس بأزيد من التجري حينئذ .

ومثله : ما إذا أعطاه أحد الطعامين المشتبهين بكون أحدهما مسموما ، فانّه لو صادف المسموم ، فقد أضرّه بما يلزمه التدارك ، وإلاّ كان تجريا .

هذا والمسائل في باب الضرّ كثيرة جدا نكتفي منها بهذا القدر ، وقد ذكرنا بعضها في كتاب الغصب (2) ، وبعضها في بعض المواضع الاُخر من الفقه واللّه المستعان .

والحمد للّه ربّ العالمين ، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطيِّبين الطّاهرين ، واللعنةُ على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين .

ص: 67


1- - للتفصيل راجع موسوعة الفقه ج84 - 85 كتاب القضاء للشارح .
2- - راجع موسوعة الفقه ج78 للشارح .

ص: 68

الوصائل الى الرسائل

تتمّة المقصد الثالث: بحث الاستصحاب

اشارة

ص: 69

ص: 70

المقام الثاني: في الاستصحاب

وهو لغةً : أخذُ الشيء مُصاحبا ،

-------------------

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحَمْدُ للّه ربِّ العالَمين والصَّلاة والسَّلام على خَير خَلْقه محمّد وآله الطّاهرين ولعنةُ اللّه على أعدائِهم أجمَعين إلى يومِ الدِّين ... وبعد :

المقام الثاني في الاستصحاب

تقدَّم في أول أصل البرائة : أنّ تمام الكلام في الاصول الأربعة يحصل باشباعه في مقامين :

المقام الأوّل: في حكم الشك في الحكم الواقعي من دون ملاحظة الحالة السابقة الراجع الى الأُصول الثلاثة : من البرائة ، والاحتياط ، والتخيير .

المقام الثاني : في حكم الشك في الحكم الواقعي بملاحظة الحالة السابقة الراجع الى الاستصحاب .

( وهو ) أي : الاستصحاب ( لغةً : أخذُ الشيء مُصاحبا ) ، لكن الظاهر : أنّ الاستصحاب لغةً هو : «طلب الصُحبة» ، إذ الأصل في الاستفعال ذلك ، يقال : «إستخرج» بمعنى : «طَلَبَ الخروج» .

ومنه قوله سبحانه : « إستَجيبُوا لِرَبِّكُم » (1) وذلك من باب تهيئة مقدمات الاجابة فهو طلب أيضا ، فكأنّ الانسان يطلب الاجابة من نفسه بتوفير مقدمات

ص: 71


1- - سورة الشورى : الآية 47 .

ومنه : استصحابُ أجزاء ما لا يؤكل لحمُه في الصلاة ، وعند الاصوليّين عُرِّف بتعاريف ، أسَدُّها وأخْصَرُها : « إبقاءُ ما كان » .

-------------------

الاجابة في نفسه .

ومنه : ما جاء في خطبة الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام حيث قال في وصف جده صلوات اللّه وسلامه عليه : «وأول من أجاب واستجاب للّه ربّ العالمين » (1) .

ولهذا قال في القاموس : «استصحبه» أي : دعاه الى الصحبة ، ولازَمَهُ (2) ، فالمعنى الذي ذكره المصنِّف لعلّه يكون من باب الملازمة للمعنى اللغوي .

( ومنه ) أي : من الاستصحاب بالمعنى اللغوي على رأي المصنِّف قول الفقهاء في عِداد المبطلات للصلاة : ( استصحابُ أجزاء ما لا يؤكل لحمُه في الصلاة ) فإنّ معناه : أخذ أجزاء ما لا يؤكل لحمه مصاحبا .

( و ) أمّا اصطلاحا : فانه ( عند الاصوليّين عُرِّف بتعاريف ) مختلفة ذكر بعضهم انها دون العشرين ، وقد ذكر المصنِّف جملة منها ( أسَدُّها ) من حيث السلامة عن الاشكالات الواردة ( وأخصَرُها ) من حيث اللفظ هو : ( « ابقاء ما كان » ) .

والمراد : ابقاء المكلّف ما كان على حالته السابقة .

وربّما قيل : بأنّ الأخصر من هذا التعريف هو : «الابقاء» فقط لأنّ «ما كان» يفهم من الابقاء .

ص: 72


1- - بحار الانوار : ج45 ص138 ب39 ح1 .
2- - قاموس المحيط : ص134 صَحَبَ .

والمرادُ بالإبقاء الحكمُ بالبقاء . ودَخلُ الوصف في الموضوع مُشعِرٌ بعلّيته للحكم ، فعلّةُ الابقاء هو أنّه كان ، فيخرج إبقاء الحكم لأجل وجود علّته أو دليله .

وإلى ما ذكرنا يرجع تعريفه

-------------------

( والمرادُ بالإبقاء ) حينئذ هو : ( الحكمُ بالبقاء ) فانّه ليس ابقاءا خارجيا وإنّما حكم بالبقاء ، كالحكم ببقاء الوضوء ، أو ببقاء الحدث ، أو ببقاء الزوجيّة ، أو ما أشبه ذلك ، فالمكلّف المستصحِب - بالكسر - يأخذ الحكم السابق مصاحبا الى الحالة اللاحقة .

هذا ( ودَخلُ الوصف ) وهو قوله : «كان» لانّ الكلمة وصف ( في الموضوع ) وهو «ما» في قوله : «ما كان» ( مُشعرٌ بعلّيته ) أي : علّية الوصف ( للحكم ) الذي هو الابقاء ( فعلّةُ الابقاء هو أنّه كان ) فكأنّه قيل : أبْقِ الحالة السابقة لأنّه كان سابقا .

وعليه ( فيخرج إبقاء الحكم لأجل وجود علّته أو دليله ) فانّ الشيء قد يبقى لبقاء علّته كبقاء نجاسة الماء المغيّر لبقاء تغيرّه ، لأنّ النجاسة معلولة للتغيّر ، فاذا بقي التغيّر بقيت النجاسة .

وقد يبقى لبقاء دليله كبقاء حكم الحلّية للحليب الحلال اذا صار جِبْنا أو أقطا أو زبدا أو ما أشبه ذلك ، وكبقاء حكم الحرمة للحليب الحرام عند صيرورته جبنا أو أقطا أو زبدا أو ما أشبه ذلك .

ومن الواضح : أنّ بقاء الحكم لاجل وجود علّته أو وجود دليله لا يسمّى استصحابا بالمعنى الذي ذكرناه ، نعم ، إذا كان البقاء لمجرد أنّه كان سابقا فهذا هو

الاستصحاب .

( وإلى ما ذكرنا ) في تعريف الاستصحاب : من أنّه إبقاء ما كان (يرجع تعريفه)

ص: 73

في الزبدة : ب « أنّه إثباتُ الحكم في الزمان الثاني تعويلاً على ثبوته في الزمن الأول» .

بل نَسَبَه شارحُ الدروس الى القوم ، فقال : « إنّ القوم ذكروا : أنّ الاستصحابَ اثباتُ حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه » .

-------------------

أي : تعريف الشيخ البهائي رحمه اللّه للاستصحاب ( في ) كتابه ( الزبدة : «بأنّه إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلاً على ثبوته في الزمن الأول» (1) ) .

وإنّما يرجع هذا التعريف الى التعريف السابق ، لأن هذا التعريف هو توضيح لذلك التعريف السابق .

( بل نَسَبَه ) أي : نَسَبَ هذا التعريف ( شارحُ الدروس ) وهو المحقق الخوانساري رحمه اللّه ( الى القوم ، فقال : « إنّ القوم ذكروا : إنّ الاستصحاب إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه » (2) ) والزمان هنا من باب اللأبدية في الزمانيّات ، وإلاّ فالمهمّ هو السَّبق واللحوق .

هذا ، ولا يخفى : أن الاصوليين قد عرَّفوا الاستصحاب بتعاريف تنتهي جميعها الى طوائف ثلاث :

الاولى : تعريفه بالحال ، وهذا ما عرّفه به شارح الدروس حيث قد نَسَبَه الى القوم .

الثانية : تعريفه بالمحل ، كما صرح به المحقق القمي وسيأتي قريبا إن شاء اللّه تعالى .

الثالثة : تعريفه بكليهما وهو ظاهر شارح المختصر وصاحب الوافية .

ص: 74


1- - زبدة الأحكام : ص72 .
2- - مشارق الشموس في شرح الدروس : ص76 .

وأزيَفُ التعاريف تعريفُه ب « أنّه كونُ حكمٍ أو وصفٍ يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق » ، إذ لا يخفى : أنّ كون حكم أو وصف كذلك هو محقّقُ مورد الاستصحاب ومحلّه ، لا نفسه .

ولذا صرّح في المعالم كما عن غاية المأمول ب « أنّ استصحابَ الحال، محلّه أن يثبت حكمٌ في وقت ، ثم يجيء وقت آخر ، ولا يقوم دليلٌ على انتفاء ذلك الحكم ،

-------------------

والى الثانية وضعفها أشار المصنِّف حيث قال : ( وأزيفُ التعاريف ) وأردئها : ( تعريفه ) بما في القوانين ( ب « أنّه كون حكم ) كالوجوب والحرمة ونحوهما ( أو وصف ) كالحياة والزمان وما أشبه ( يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق » (1) ) .

وإنّما قال بأنه أزيف التعاريف ( إذ لا يخفى : أنّ كون حكم أو وصف كذلك ) أي : يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق ( هو محقّق مورد الاستصحاب ومحلّه ، لا نفسه ) فان كون الشيء متيقّنا ثم مشكوكا يوجب كون هذا الشيء مجرى الاستصحاب ، لا ان هذا الكون بنفسه هو الاستصحاب كما ذكره القوانين .

( ولذا ) أي : لأجل ان ما ذكره القوانين هو المحل لا الحال ، والاستصحاب هو الحال ( صرّح في المعالم كما عن غاية المأمول ) للشهيد الثاني : ( ب « أنّ استصحاب الحال ، محلّه أن يثبت حكمٌ في وقت ثم يجيء وقتٌ آخر ، ولا يقوم دليلٌ على انتفاء ذلك الحكم ) كما انه لا يقوم دليل على بقاء ذلك الحكم .

ص: 75


1- - القوانين المحكمة : 275 .

فهل يُحكَمُ ببقائه على ما كان ، وهو الاستصحاب ؟ » ، انتهى .

ويمكن توجيه التعريف المذكور : بأنّ المحدودَ هو الاستصحابُ المعدودُ من الأدلة ، « وليس الدليل إلاّ ما أفاد العلم أو الظن بالحكم» والمفيدُ للظنّ بوجود الحكم في الآن اللاحق ليس إلاّ كونه يقينيَّ الحصول في الآن السابق ، مشكوك البقاء في الآن اللاحق ، فلا مناص عن تعريف الاستصحاب المعدود من الأمارات إلاّ بما ذكره قدس سره.

-------------------

وحينئذٍ : ( فهل يُحكَم ببقائه على ما كان وهو الاستصحاب ؟ » (1) ، انتهى ) تصريح المعالم .

( ويمكن توجيه التعريف المذكور ) في القوانين : ( بأنّ المحدود ) أي : المعرَّف بالفتح - بهذا التعريف الذي ذكره القوانين ( هو الاستصحابُ المعدود من الأدلّة ) عند القدماء ، فإن الاستصحاب عندهم من أدلة الأحكام لا من الاصول العملية كما هو عند المتأخرين ( وليس الدليلُ إلاّ ما أفاد العلم أو الظنّ بالحكم ) إما ظنا خاصا أو ظنا عاما للانسداد ( والمفيدُ للظنّ بوجود الحكم في الآن اللاحق ليس إلاّ ) المحل وهو : ( كونه يقينيَّ الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق ) .

وعلى هذا : ( فلا مناصَ عن تعريف الاستصحاب المعدود من الأمارات إلاّ بما ذكره قدس سره ) .

والحاصل : إن المعرَّف - بالفتح - هو الاستصحاب المعدود من أدلة الأحكام الذي هو الاستصحاب الحكمي المبني على الظن وليس الدليل عندهم إلاّ ما أفاد

ص: 76


1- - معالم الدين : ص231 .

لكن فيه : أنّ الاستصحاب - كما صرّح به هو قدس سره في أوّل كتابه : « إن اُخِذَ من العقل كان داخلاً في دليل العقل ، وإن اُخِذَ من الأخبار فيدخلُ في السنّة » .

وعلى كلّ تقدير فلا يستقيمُ تعريفه بما ذكره ، لأنّ دليل العقل هو حكمٌ عقليٌّ يتوصّل به إلى حكم شرعي .

-------------------

العلم أو الظن بالحكم ، ولا يوجب الظن بالحكم إلاّ كونه متيقن الحصول في الآن السابق ، ولذا يلزم من أن يعرّف الاستصحاب بالمحل لا الحال .

( لكن فيه ) أي : في التوجيه المذكور لتعريف القوانين : إن الدليل الموجب للظن بالحكم هو : كون الشيء يقيني الحصول في السابق مشكوك البقاء في اللاحق ، والاستصحاب أمر مغاير لهذا التعريف سواء جعلناه داخلاً في الدليل العقلي أم داخلاً في السنة ، وذلك كما قال : ( أنّ الاستصحاب كما صرّح به هو قدس سره في أوّل كتابه ) أي : القوانين : ( « إن اُخِذَ من العقل ) حيث يظن العقل ببقاء ما كان سابقا إذا شك في بقائه وعدم بقائه ( كان داخلاً في دليل العقل ) حيث إن من أدلة الأحكام العقل .

( وإن اُخِذَ من الأخبار ) مثل قوله عليه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » (1) ( فيدخل في السنّة » (2) ) فان أدلة الأحكام كما ذكروا : الكتاب والسنة والاجماع والعقل .

( وعلى كلّ تقدير ) سواء تقدير كونه من العقل أم من السنة ( فلا يستقيم تعريفُه بما ذكره ) القوانين .

وإنّما لا يستقيم ( لأنّ دليلَ العقل هو حكمٌ عقليٌ يتوصّل به إلى حكم شرعيّ )

ص: 77


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
2- - القوانين المحكمة : ج2 ص13 .

وليس هنا إلاّ حكمُ العقل ببقاء ما كان ، والمأخوذ من السنّة ليس إلاّ وجوب الحكم ببقاء ما كان على ما كان ، فكونُ الشيء معلوما سابقا مشكوكا فيه لا ينطبقُ على الاستصحاب بأحد الوجهين .

نعم ، ذكر شارحُ المختصر : « أنّ معنى استصحاب الحال إنّ الحكم الفلاني قد كان ولم يُظَنَّ عدمُه، وكلُّ ما كان كذلك فهو

-------------------

إذ ليس الكلام في الاصول عن المستقلات العقلية ، وإنّما الكلام في الأحكام العقلية الملازمة للأحكام الشرعية بمقتضى : كل ما حكم به العقل حكم به الشرع ، ( وليس هنا ) في مورد الشك في البقاء ( إلاّ حكم العقل ببقاء ما كان ) وهو الحال لا المحل .

هذا ( والمأخوذ من السنّة ليس إلاّ وجوب الحكم ببقاء ما كان على ما كان ) وهو الحال أيضا لا المحل .

إذن : ( فكونُ الشيء معلوما سابقا مشكوكا فيه ) لاحقا ( لا ينطبق على الاستصحاب بأحد الوجهين ) أي : إن تعريف المحقق القمي للاستصحاب لاينطبق لا على تعريف الاستصحاب المأخوذ من العقل ، ولا على المأخوذ من السنّة، وذلك لأن كلا التعريفين لاستصحاب الحال، لا المحل الذي ذكره القوانين .

( نعم ) هنا تعريف ثالث ينطبق على الاستصحاب بالوجهين كليهما : الحال والمحل معا ، فقد ( ذكر ) العضدي ( شارح المختصر ) لابن الحاجب قائلاً :

( « أنّ معنى استصحاب الحال ) وقد كان هذا اصطلاحا عند القدماء ، حيث يسمون الاستصحاب باستصحاب الحال يعني استصحاب الحالة السابقة هو : ( أنّ الحكم الفلاني قد كان ولم يُظَنَّ عدمُه ، وكلّ ما كان كذلك فهو

ص: 78

مظنون البقاء » .

فإن كان الحدّ هو خصوص الصغرى إنطبق على التعريف المذكور ، وإن جُعِلَ خصوص الكبرى إنطبق على تعاريف المشهور ، وكأنّ صاحب الوافية استظهر منه : كون التعريف مجموع المقدمتين ، فوافقه في ذلك ، فقال : « الاستصحاب هو التمسّكُ بثبوت ما ثبت في وقت أو حال

-------------------

مظنونُ البقاء»(1) ) فإن هذا التعريف كما ترى قد أخذ الحال والمحل كليهما في تعريف .

وعليه : ( فإن كان الحدّ هو خصوصَ الصغرى ) أي : قوله : إن الحكم الفلاني قد كان ولم يظن عدمه ( إنطبق على التعريف المذكور ) في القوانين .

( وإن جُعِلَ خصوصَ الكبرى ) أي : قوله : وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء ( إنطبق على تعاريف المشهور ) لأن قوله : « وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء » مرجعه إلى أن العقل يظن ببقاء الشيء الكذائي وهو الاستصحاب الذي ذكرناه بقولنا : إبقاء ما كان .

هذا ( وكأنّ صاحب الوافية ) وهو الفاضل التوني قد ( استظهر منه : كون التعريف مجموعَ المقدمتين ) كبرى وصغرى ( فوافقه في ذلك ، فقال : « الاستصحاب هو التمسّكُ بثبوت ما ثبت في وقت ) كوجوب الصوم وقت النهار، فيما إذا شك في ان الليل دخل أو لم يدخل ، فانه يستصحب بقاء وجوب الصوم ( أو حال ) كنجاسة الماء حال التغير فيما إذا شك في ان النجاسة زالت بزوال التغير أو لم تزل ، فانه يستصحب بقاء النجاسة كما قال :

ص: 79


1- - شرح مختصر الأصول : ج2 ص284 .

على بقائه فيما بعد ذلك الوقت أو في غير تلك الحال ، فيقال : إنّ الأمر الفلاني قد كان ولم يُعلَم عدمُه ، وكلُّ ما كان كذلك فهو باقٍ » ، إنتهى . ولا ثمرة مهمّة في ذلك .

بقي الكلام في أمور

الأوّل:

-------------------

فيبني ( على بقائه فيما بعد ذلك الوقت ) أي : عند الشك في إنه هل دخل الليل أم لا ؟ ( أو في غير تلك الحال ) أي : عند الشك بعد زوال تغيّر الماء من نفسه بأنّه

هل طهر أم لا؟ ( فيقال : إنّ الأمر الفلاني قد كان ولم يُعلم عدمُه ، وكلّ ما كان كذلك فهو باقٍ » (1) ، إنتهى ) كلام صاحب الوافية .

( ولا ) يخفى عدم وجود ( ثمرة مهمّة في ذلك ) فإنه سواء علمنا بأن الاستصحاب عندهم هو الحال فقط ، أو المحل فقط ، أو المحل والحال معا ، أم لم نعلم بذلك ، فقد تبيّن حسب القاعدة : إن الاستصحاب هو الحال .

( بقي الكلام في أمور ) ترتبط ببعض خصوصيات الاستصحاب وهي :

( الأوّل) : هل الاستصحاب من الأدلة الاجتهادية أو من الاصول العملية؟ .

وبعبارة أُخرى : هل الاستصحاب من الأحكام الظاهرية أو الأحكام الواقعية ؟ .

والمراد بالحكم الواقعي : هو الحكم المجعول للموضوعات بالملاحظة الأوّلية ، بمعنى : إنه لم يلاحظ في موضوع الحكم الجهل بحكمه الأوّلي المجعول له ، من غير فرق بين سائر الاعتبارات والأوصاف كالحضر والسفر ، والصحة والمرض ، ووجدان الماء وفقدانه ، والاختيار والاضطرار ، وغير ذلك .

ص: 80


1- - الوافية : مخطوط .

إنّ عدَّ الاستصحاب من الأحكام الظاهرية الثابتة للشيء بوصف كونه مشكوك الحكم ، نظير أصل البرائة وقاعدة الاشتغال ، مبني على استفادته من الأخبار .

-------------------

وعليه : فإن الحكم المجعول على الموضوع بما هو هو من غير أخذ الجهل بالموضوع يسّمى حكما واقعيا .

إذن : فقوله سبحانه : « إذا قمتم إلى الصلاة فأغسلوا وجوهكم » (1) حكم واقعي ، وقوله تعالى : « فلم تجدوا ماءا فتيمّموا » (2) حكم واقعي ، وقوله تعالى : « إلاّ ما اضطررتم إليه » (3) حكم واقعي وهكذا .

وأمّا الحكم الظاهري ، فهو المجعول على الموضوعات من حيث الجهل وعدم العلم بالحكم المجعول لها أوّلاً وبالذات مثل : قوله عليه السلام : « كل شيء لك طاهر حتى تعلم » (4) وقوله عليه السلام : « كل شيء حلال حتى تعلم » (5) ونحوهما .

إذا تبين ذلك نقول : ( إنّ عدَّ الاستصحاب من الأحكام الظاهرية الثابتة للشيء بوصف كونه مشكوك الحكم ) حيث لا نعلم حكم هذا الموضوع فنستصحب الحالة السابقة ( نظير أصل البرائة وقاعدة الاشتغال ، مبني على استفادته من الأخبار ) مثل : « لا تنقض اليقين بالشك » (6) ونحوه .

ص: 81


1- - سورة المائدة : الآية 6 .
2- - سورة المائدة : الآية 6 .
3- - سورة الأنعام : الآية 119 .
4- - مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 .
5- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
6- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

وأمّا بناءا على كونه من أحكام العقل ، فهو دليلٌ ظنّي اجتهادي ، نظير القياس والاستقراء على القول بهما .

-------------------

وعليه : فانه كما يكون حكم شرب التتن المشكوك الحرمة والحلية هو : الحلية والبرائة ، وحكم صلاة الجمعة المشكوك وجوبها وعدم وجوبها هو : الوجوب والاشتغال ، كذلك يكون حكم الماء الزائل تغيره من قبل نفسه المشكوك بقاء نجاسته هو النجاسة ووجوب الاجتناب للاستصحاب .

وهذا إنّما يتم لو أخذنا الاستصحاب من الأخبار ، فإنها تأمر عند الشك فيما له حالة سابقة بالأخذ بالحالة السابقة .

( وأمّا بناءا على كونه ) أي : الاستصحاب ( من أحكام العقل ) وان العقل دال على استصحاب الحالة السابقة ( فهو دليل ظنّي اجتهادي ، نظير القياس والاستقراء على القول بهما ) أي : على قول من يرى حجية القياس وحجية الاستقراء .

وعليه : فانه كما يظن العقل بالحكم الشرعي من القياس أو الاستقراء عند القائلين بهما ، كذلك يظن العقل بالحكم السابق إذا كان متيقنا سابقا مشكوكا لاحقا .

والحاصل : ان الاستصحاب لو استفدناه من الأخبار فهو أصل عملي ، لأن في الأخبار أخذ الشك في موضوعه ، وان استفدناه من غيره ، كبناء العقلاء ونحوه فهو دليل ظني اجتهادي ، لأن موضوعه الحالة السابقة من غير أخذ الشك في الموضوع .

لا يقال : لابد من الشك في الحكم حتى نستصحب .

لأنّه يقال : الشك في الحكم متحقق في الخبر أيضا ، فإنا إذا لم نشك

ص: 82

وحيث أنّ المختار عندنا هو الأوّل ، ذكرناه في الاصول العمليّة المقررة للموضوعات بوصف كونها مشكوكة الحكم ، لكن ظاهر كلمات الأكثر ، كالشيخ ، والسيّدين ، والفاضلين ، والشهيدين ، وصاحب المعالم ، كونُه حكما عقليا ، ولذا لم يتمسّك أحدُ هؤلاء فيه بخبر من الأخبار .

نعم ، ذكر في العدّة ، انتصارا للقائل بحجيته ، ما روي عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم : « من أنّ الشيطان ينفخ بين إليي

-------------------

في وجوب الجمعة لم نأخذ بخبر زرارة .

إذن : فلا فرق بين الأصل العملي والدليل الاجتهادي من حيث الشك وإنّما الفرق بينهما هو من حيث ان في الأصل العملي أخذ الجهل في موضوع الحكم فهو يقول : الموضوع المشكوك حلال ، وفي الدليل الاجتهادي أخذ الجهل ظرفا للحكم ، فهو يقول : الموضوع الواقعي في ظرف الجهل بحكمه حلال .

هذا ( وحيث انّ المختار عندنا هو الأوّل ) أي : استفادة الاستصحاب من الأخبار ( ذكرناه في الاصول العمليّة المقررة للموضوعات بوصف كونها ) أي : كون تلك الموضوعات ( مشكوكة الحكم ) فيكون الشك قد أخذ في الموضوع فيكون أصلاً عمليا .

( لكن ظاهر كلمات الأكثر ، كالشيخ ، والسيّدين ، والفاضلين ، والشهيدين ، وصاحب المعالم ، كونُه حكما عقليا ) فيكون الاستصحاب عندهم من الأدلة الاجتهادية ( ولذا لم يتمسّك أحدُ هؤلاء فيه بخبر من الأخبار ) حيث إن الأخبار ظاهرها : أخذ الشك في الموضوع فيكون الاستصحاب من الاصول العملية .

( نعم ، ذكر في العدّة ) للشيخ ( انتصارا للقائل بحجيته ) أي : حجية الاستصحاب ( ما روي عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم : « من انّ الشيطان ينفخ بين إليي

ص: 83

المصلّي ، فلا ينصرفَنّ أحدكُم إلاّ بعد أن يسمع صوتا أو يجد ريحا » .

ومن العجب أنّه انتصر بهذا الخبر الضعيف والمختص بمورد خاص ، ولم يتمسك بالأخبار الصحيحة العامة المعدودة في حديث الأربعمائة من أبواب العلوم .

وأوّل من تمسك بهذه الأخبار فيما وجدته والد الشيخ البهائي ،

-------------------

المصلّي ، فلا ينصرفنّ أحدكم إلاّ بعد أن يسمع صوتا أو يجد ريحا » (1) ) فانه صلى اللّه عليه و آله وسلم أمر بالبقاء على طهارته السابقة عند الشك في ان الشيء الذي خرج منه هل هو ريح من داخل المعدة ، أو إنه ريح يجذبه الموضع من الخارج ثم يردّه ؟ .

( ومن العجب أنّه انتصر بهذا الخبر الضعيف ) على حجية الاستصحاب ( والمختص بمورد خاص ) فإنّ الخبر ضعيف سندا لأنه نبوي وضعيف دلالة لأنه لا يدل على قاعدة كلية في المقام ( ولم يتمسك بالأخبار الصحيحة العامة المعدودة في حديث الأربعمائة من أبواب العلوم ) مما رواه أبو بصير قائلاً :

عن أبي عبداللّه عليه السلام ، عن آبائه : ان أمير المؤمنين عليه السلام علّم أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب من العلم ، فقال في أحدها : «من كان على يقين فشك فليمض على يقينه » (2) فإن هذا الخبر صحيح سندا عام دلالة وهو دال على الاستصحاب .

( وأوّل من تمسك بهذه الأخبار فيما وجدته والد الشيخ البهائي )

ص: 84


1- - عدّة الاصول للطوسي : ص304 وقريب منه في الكافي فروع : ج3 ص36 ح3 وتهذيب الاحكام : ج1 ص347 ب14 ح9 والاستبصار : ج1 ص90 ب55 ح2 .
2- - الخصال : ص619 ح10 ، وسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح636 .

فيما حكي عنه في العقد الطهماسبي ، وتبعه صاحب الذخيرة ، وشارح الدروس ، وشاع بين من تأخر عنهم .

نعم ، ربما يظهر من الحلي في السرائر الاعتماد على هذه الأخبار ، حيث عبّر عن استصحاب نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره من قبل نفسه «بنقض اليقين باليقين» وهذه العبارة ظاهرةٌ في أنّها مأخوذةٌ من الأخبار .

-------------------

الشيخ عبدالصمد ( فيما حكي عنه في العقد الطهماسبي ) وهو كتاب لهذا الشيخ الجليل ( وتبعه صاحب الذخيرة ، وشارح الدروس ، وشاع بين من تأخر عنهم ) فهم إلى اليوم يتمسكون بالأخبار لحجية الاستصحاب .

( نعم ، ربما يظهر من الحلي في السرائر الاعتماد على هذه الأخبار ) في الاستصحاب ( حيث عبّر عن استصحاب نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره من قبل نفسه ) وذلك خلافا لبعض الفقهاء كيحيى بن سعيد وغيره القائلين بطهارته مستدلين له : بأنه إذا زال تغيره لم يصدق عليه الماء المتغير .

وكيف كان : فإن ابن إدريس عبّر عن استصحاب النجاسة ( « بنقض اليقين باليقين » ) وهو ما ورد من قوله : « ولكن إنْقضه بيقين آخر » (1) بمعنى انه حيث لا يقين لا حق بالطهارة هنا نستصحب النجاسة السابقة .

( وهذه العبارة ) من ابن إدريس كما تراها ( ظاهرةٌ في أنّها مأخوذةٌ من الأخبار ) الواردة في باب الاستصحاب .

ص: 85


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

الثاني :

إنّ عدّ الاستصحاب على تقدير اعتباره من باب إفادة الظنّ ، من الأدلة العقلية، كما فعله غير واحد منهم ، باعتبار أنّه حكم عقلي يتوصل به إلى حكم شرعي بواسطة خطاب الشارع .

فنقول : إنّ الحكم الشرعي الفلاني ثبت سابقا ولم يعلم إرتفاعه ، وكلّ ما كان كذلك فهو باق ،

-------------------

( الثاني ) : قد نقول : إن الاستصحاب حكم شرعي بحت ، لأنه ثابت بالأخبار ، وقد نقول : إن الاستصحاب حكم عقلي ، فإذا قلنا بأنه حكم عقلي ، كان المراد منه: ان العقل بضميمة مقدمة شرعية - لا مستقلاً - ينتهي إلى الاستصحاب ، وسيجيء صورة القياس عند قوله : « فنقول » ، وذلك كما قال :

( إنّ عدّ الاستصحاب على تقدير اعتباره من باب إفادة الظنّ ، من الأدلة العقلية، كما فعله غير واحد منهم ) حيث إنهم عدّوا الاستصحاب من الأمارات وذلك ( باعتبار أنّه حكم عقلي ) غير مستقل ( يتوصل به إلى حكم شرعي ) توصلاً ( بواسطة خطاب الشارع ) فهنا خطاب شرعي وأمر عقلي ، وضم أحدهما إلى الآخر ينتج الحكم الشرعي .

إذن : فليس مرادهم من الاستصحاب على هذا القول انه حكم عقلي مستقل عن الشرع ليكون من قبيل حسن الاحسان وقبح الظلم وما أشبه ذلك ، بل مرادهم منه : إنه حكم عقلي غير مستقل عن الشرع فهو بإنضمام خطاب شرعي ينتهي إلى حكم شرعي ، وصورة القياس ما ذكره بقوله : ( فنقول : إنّ الحكم الشرعي الفلاني ) كنجاسة الماء المتغير ( ثبت سابقا ) أي : في الزمان السابق حين كان متغيرا ( ولم يعلم إرتفاعه ) بزوال التغير من نفسه ( وكلّ ما كان كذلك فهو باق )

ص: 86

فالصغرى شرعية والكبرى عقليّة ظنّية ، فهو والقياس والاستحسان والاستقراء ، نظير المفاهيم والاستلزمات ، من العقليّات غير المستقلة .

-------------------

فالماء المتغير بعد زوال تغيّره باق على نجاسته .

( فالصغرى ) وهي قوله : ان الحكم الشرعي الفلاني ثبت سابقا ( شرعية ) فان الشارع يقول بنجاسة الماء المتغير بسبب التغير .

( والكبرى ) وهي قوله : وكل ما كان كذلك فهو باق ( عقليّة ظنيّة ) فإن العقل قد يكون قاطعا وقد يكون ظانا .

وعليه : ( فهو ) أي : الاستصحاب حينئذ ( والقياس والاستحسان والاستقراء ) عند من يقول بحجية هذه الثلاثة ( نظير المفاهيم ) كمفهوم الوصف ، ومفهوم الشرط ، ومفهوم الغاية ، ومفهوم العدد ( و ) نظير ( الاستلزمات ) العقلية كاستلزام الأمر بالشيء وجوب مقدمته ، وحرمة ضده ، وما أشبه ذلك ، يكون ( من العقليّات غير المستقلة ) لأنّها لا تنتج إلاّ بضميمة مقدمة خارجية شرعية .

مثلاً : العقل يرى حرمة الخمر ويظن بأن مناط الحرمة السكر فيقيس عليه النبيذ فيقول بحرمته أيضا لأنه مسكر ، وهذا هو القياس .

ويلاحظ حرمة النظر وسائر الاستمتاعات مع الأجنبية فيستحسن حرمة كل ما يناسب ذلك فيقول بحرمة التكلم معها أيضا ، وهذا هو الاستحسان .

ويرى حرمة بيع العنب ليعمل خمرا ، وحرمة بيع السلاح لأعداء الدين ، وحرمة اعطاء السيف بيد الظالم ، وحرمة ارائة الطريق لمن يريد الزنا وما أشبه ذلك ، فيظن منها تحريم كل مقدمة الحرام فيقول بحرمة السفر لأجل المعصية ، وهذا هو الاستقراء .

ويلاحظ قوله عليه السلام : « الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شيء » فيفهم منه من باب

ص: 87

...

-------------------

مفهوم الوصف الإنتفاء عند الإنتفاء ، فيقول بتنجيس القليل بالملاقاة .

ويلاحظ اشتراط الصلاة بالطهارة ، فيقطع بوجوب ما لا يتم الواجب إلاّ به فيقول بوجوب الوضوء .

ويرى قوله تعالى : « ثم أتموا الصيام إلى الليل » (1) فيقطع بأنه لا صيام بعد دخول الليل فيقول بالافطار فيه ، وهكذا .

ومن الواضح : إن هذه الصغريات الشرعية المذكورة ، والكبريات العقلية الظنية أو القطعية التي هي عبارة عن القياس والاستحسان والاستقراء والوصف والشرط والغاية ، ونحوها ، لا توصلنا إلى حكم الشرع عبر النتائج المترتبة عليها وهو واضح ولا كلام فيه .

إنّما الكلام في إنه ان كان المراد من حكم العقل غير المستقل في باب الاستصحاب وغيره هو انضمام حكم العقل إلى مقدمة شرعية ، وكلما ترتبت مقدمتان إحداهما أضعف ، كانت النتيجة تابعة لأضعف المقدمتين دائما ، وهنا حيث إنضم الحكم العقلي الى الحكم الشرعي لزم أن تكون النتيجة حكما شرعيا لا حكما عقليا ، لأن العقل أقوى من حكم الشرع فلماذا سميت حكما عقليا ؟ .

والجواب : انّ المراد بالحكم العقلي هنا هو : الحكم العقلي غير المستقل ، فلا فرق بين أن نقول : إنه حكم عقلي غير مستقل ، أو حكم شرعي بضميمة الحكم العقلي إذ لا مشاحة في الاصطلاح .

ص: 88


1- - سورة البقرة : الآية 187 .

الثالث :

إنّ مسألة الاستصحاب على القول بكونه من الأحكام العقليّة مسألةٌ اصوليةٌ يبحثُ فيها عن كون الشيء دليلاً على الحكم الشرعي ،

-------------------

( الثالث ) : اختلفوا في أن الاستصحاب هل هو من المسائل الاصولية أو الفقهية ؟ .

قال بعض : بأنه من المسائل الاصولية .

وقال بعض آخر : بأنه من المسائل الفقهية .

وفَصّل ثالث بين الشبهات الحكمية والموضوعية ، فقال : البحث عن الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية من مسائل الاصول ، والجاري في الشبهات الموضوعية من مسائل الفقه .

وفَصّل رابع بين الاستصحاب المنتهي اعتباره الى العقل : فمن الاصول ، والمنتهي اعتباره الى النقل : فمن الفقه .

وفصّل خامس بين الاستصحاب بمعنى المحل ، فمن الاصول ، والاستصحاب بمعنى الحال فمن الفقه .

والى هذا المعنى أشار المصنِّف حيث قال : ( إنّ مسألة ) حجية ( الاستصحاب على القول بكونه ) أي : الاستصحاب ( من الأحكام العقليّة ) بعد ما عرفت معنى كونه من الأحكام العقلية ( مسألة اصولية يبحث فيها عن كون الشيء ) أي : الاستصحاب ( دليلاً على الحكم الشرعي ) فيكون صورة القياس فيه هكذا :

الاستصحاب العقلي يبحث فيه عن كون الشيء دليلاً على الحكم الشرعي ، وكل ما بحث فيه عن الدليل على الحكم الشرعي فهو مسألة اصولية ، لأنّ الأصول

ص: 89

نظير حجيّة القياس والاستقراء .

نعم ، يشكل ذلك بما ذكره المحقق القمي قدس سره في القوانين ، وحاشيته : من أنّ مسائل الاصول ما يبحث فيها عن حال الدليل بعد الفراغ عن كونه دليلاً ، لا عن دليلية الدليل .

-------------------

يبحث عن أدلة الأحكام .

وعليه : فيكون بحث الاستصحاب ( نظير ) البحث عن ( حجّية القياس والاستقراء ) عند من يقول بحجيتهما ، ففي القياس - مثلاً - نقول : البحث عن حجية القياس بحث عن الدليل على الحكم الشرعي ، وكل ما كان البحث فيه عن الدليل على الحكم الشرعي فهو مسألة اصولية .

وهكذا نقول بالنسبة الى الاستقراء .

( نعم ، يشكل ذلك ) أي : كون الاستصحاب مسألة اصولية ( بما ذكره المحقق القمي قدس سره في القوانين وحاشيته : من أنّ مسائل الاصول ما يبحث فيها عن حال الدليل بعد الفراغ عن كونه دليلاً ) .

مثلاً : نبحث عن الكتاب بعد تسليم كونه دليلاً ، ونبحث عن السنة بعد تسليم كونها دليلاً ، فإنه بعد تسليم ذلك خارجا ، نبحث في علم الاصول عن مطلقات الكتاب - مثلاً - بأنه هل يؤخذ باطلاقها لأنها في مقام الاطلاق ، أو لايؤخذ باطلاقها لأنها في مقام الاجمال؟ ونبحث عن تعارض الروايتين - مثلاً - في السنة بأنه هل يؤخذ بهذه أو بتلك ؟ .

( لا ) البحث ( عن دليلية الدليل ) فإنه إذا كان البحث عن دليلية الكتاب وانه دليل أو ليس بدليل ، أو عن السنة : إنها دليل أو ليست بدليل ، لم يكن ذلك من مسائل الاصول ، لأن موضوع الاصول : الأدلة بما هي حجة ، وليست الأدلة

ص: 90

وعلى ما ذكره قدس سره ، فيكون مسألةُ الاستصحاب كمسائل حجيّة الأدلّة الظنّية : كظاهر الكتاب ، وخبر الواحد ، ونحوهما ، من المباديء التصديقيّة للمسائل الاصولية ،

-------------------

بما هي هي حتى يكون البحث عن دليليتها بحثا عن العوارض .

ومن المعلوم : ان مسائل كل علم هي التي يبحث فيها عن عوارض موضوع ذلك العلم ، فلا يكون إذن البحث عن دليلية الأدلة داخلاً في البحث عن المسائل ، بل يكون داخلاً في البحث عن المبادئ.

( وعلى ما ذكره ) صاحب القوانين ( قدس سره فيكون مسألة الاستصحاب كمسائل حجيّة الأدلّة الظنيّة : كظاهر الكتاب ، وخبر الواحد ، ونحوهما ) من الاجماع المنقول ، والشهرة ، وغير ذلك ( من المباديء التصديقيّة للمسائل الاصولية ) .

وهذا إشارة الى ما بحث في المنطق : من إن لكل علم موضوعا : وهو الجامع لموضوعات المسائل ، ومسائل : وهي عوارض موضوع العلم ، ومباديء تصديقية : وهي الأدلة التي تسبب تصديقنا بأن المسألة الفلانية كذا ، ومبادئ تصورية : وهي تصور مفردات ما يدور في ذلك العلم .

مثلاً : موضوع علم النحو : الكلمة لأنها جامعة بين موضوعات : الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب ، والمضاف اليه مجرور ، فإن الفاعل والمفعول والمضاف اليه كلها كلمات .

ومسائل علم النحو : هي هذه المسائل التي عرفتها ، إذ كل هذه المسائل تتكلم عن أحوال الكلمة .

والمباديء التصديقية لعلم النحو : هي ما توجب تصديقنا بالمسائل مثل تصديقنا بأن العرب تستعمل الفاعل مرفوعا فالفاعل مرفوع ، وتستعمل المفعول

ص: 91

وحيث لم يتبيّن في علم آخر احتيج الى بيانها في نفس العلم ، كأكثر المباديء التصوريّة .

-------------------

منصوبا فالمفعول منصوب وهكذا .

والمباديء التصورية : هي ما توجب معرفة معنى الفاعل ، ومعنى المفعول ، ومعنى الحال ، ومعنى التمييز ، ومعنى المرفوع ، ومعنى المنصوب ومعنى المجرور ، وغير ذلك .

ومن المعلوم : إن كلاً من المباديء التصورية والمباديء التصديقية لا يكون من مسائل العلم ، وحجية الاستصحاب وعدم حجيته من المبادئالتصديقية ، فلا تكون من مسائل العلم .

هذا ( و ) لكن حجية الاستصحاب وعدم حجيته ( حيث لم يتبيّن في علم آخر ) كتبيّن حجيّة الكتاب وحجيّة السنة في علم الكلام ( احتيج الى بيانها في نفس العلم ) أي نفس علم الاصول ( كأكثر المباديء التصوريّة ) المرتبطة بالمباحث الاصولية مثل : قولنا المقدمة ما هي ؟ والشرط ما هو ؟ والغاية ما هي ؟ والوصف ماهو ؟ وغير ذلك من المفردات التي ترتبط بالمباحث الاصولية .

والحاصل : إن صاحب القوانين قال : إن الأدلة الأربعة بما هي أدلة موضوع علم الاصول ، فيكون كل بحث عن كون الشيء الفلاني دليلاً أو ليس بدليل خارجا عن علم الاصول ، فلا يكون البحث في ان الاستصحاب حجة أو ليس بحجة من مسائل علم الاصول ، وإنّما يكون من المباديء التصديقيّة .

ثم إنه حيث استلزم كلام القوانين خروج بحث الاستصحاب ونحوه عن مسائل علم الاصول لانه جعل الأدلة بما هي أدلة : موضوع علم الاصول - على ما عرفت - أراد صاحب الفصول التخلص من هذا الاشكال فقال : موضوع علم

ص: 92

نعم ، ذكر بعضهم « أنّ موضوع الاصول ذواتُ الأدلة ، من حيث يبحث عن دليليّتها أو عمّا يعرض لها بعد الدليليّة » .

ولعلّه موافق لتعريف الاصول : ب «أنّه العلمُ بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الفرعيّة عن أدلّتها» .

-------------------

الاصول هي الأدلة بذواتها ، لا بما إنها أدلة ، فمسألة الاستصحاب داخلة في مسائل علم الاصول ، إذ يبحث في هذه المسألة عن ان الاستصحاب دليل أو ليس بدليل .

هذا ، ومن المعلوم : ان الاستصحاب إمّا عقلي فداخل في العقل ، وإمّا شرعي فداخل في السنة ، والعقل والسنة بالاضافة إلى الكتاب والاجماع موضوع علم الاصول ، لأن موضوعه هي الأدلة الأربعة .

والى هذا أشار المصنِّف بقوله : ( نعم ، ذكر بعضهم ) وهو صاحب الفصول : ( « أنّ موضوع الاصول ذواتُ الأدلة من حيث يبحث عن دليليّتها ) أي : عن إنها دليل أو ليست بدليل ( أو ) يبحث ( عمّا يعرض لها بعد الدليليّة » (1) ) والفراغ منه فالبحث عن ان خبر الواحد دليل أو ليس بدليل يكون من مباحث علم الاصول ، كما ان البحث بعد ثبوت دليلية الخبر الواحد عن تعارض الخبرين يكون أيضا من موضوع علم الاصول .

( ولعلّه ) أي : لعلّ الذي ذكره صاحب الفصول ( موافق لتعريف الاصول : ب « أنّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الفرعيّة عن أدلّتها » (2) ) التفصيلية ، فكل شيء له مدخلية قريبة من الاستنباط سواء كان البحث عن أصل الحجية أم البحث عن عوارض الحجية بعد ثبوت أصل الحجية يكون من مسائل

ص: 93


1- - الفصول الغروية : ص11 .
2- - القوانين المحكمة : ص3 .

أمّا على القول بكونه من الاصول العمليّة ، ففي كونه من المسائل الاصوليّة غموضٌ ، لأنّ الاستصحاب حينئذ قاعدةٌ مستفادةٌ من السنّة ، وليس التكلّم فيه تكلّما في أحوال السنّة ، بل هو نظيرُ سائر

-------------------

علم الاصول .

هذا كله بناءا على كون مسألة حجية الاستصحاب من باب الحكم العقلي .

و ( أمّا على القول بكونه من الاصول العمليّة ) المقررة للشاك تعبدا بسبب الأخبار ( ففي كونه من المسائل الاصوليّة غموضٌ ) لأنها حينئذ أشبه بالقواعد الفقهية مثل : قاعدة لا ضرر ، وقاعدة من ملك شيئا ملك الاقرار به ، وقاعدة الميسور لا يُترك بالمعسور ، وما أشبه ذلك .

وإنّما لا يكون الاستصحاب مسألة اصولية ( لأنّ الاستصحاب حينئذ ) أي : حين كونه أصلاً عمليا ( قاعدةٌ مستفادةٌ من السنّة ) حيث ورد في السنة : «لا تنقض اليقين أبدا بالشك » (1) ( وليس التكلّم فيه تكلّما في أحوال السنّة ) إذ أحوال السنة شيئان فقط :

الأوّل: هل السنة حجة أو ليست بحجة؟ .

الثاني : هل الشيء الفلاني سنة أو ليس بسنة؟ .

ومن المعلوم : ان الاستصحاب لا يتكلم فيه عن أحد الشيئين ، وإنّما يتكلم فيه عن مفاد السنة أي مفاد : «لا تنقض اليقين بالشك» مثل : التكلم عن مفاد قاعدة الميسور ، وقاعدة من ملك شيئا ملك الاقرار به ، وما أشبههما من القواعد الكثيرة كما قال : ( بل هو ) أي : التكلم في الاستصحاب تكلم في مفاد السنة ( نظيرُ سائر

ص: 94


1- - كصحيحة زرارة الاُولى ، انظر تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

القواعد المستفادة من الكتاب والسنّة ، والمسألة الاصولية هي التي بمعونتها يُستنبَط هذه القاعدة من قولهم عليهم السلام : « لا تَنقُضِ اليقينَ بالشَّك » ، وهي المسائل الباحثة عن أحوال طريق الخبر ، وعن أحوال الألفاظ الواقعة فيه .

فهذه القاعدة كقاعدة البرائة

-------------------

القواعد المستفادة من الكتاب والسنّة ) فليس هو إذن مسألة اصولية .

هذا ( والمسألة الاصولية هي التي بمعونتها ) أي بمعونة تلك المسألة ( يُستنبَط هذه القاعدة ) أي : قاعدة الاستصحاب ( من قولهم عليهم السلام : «لا تَنقُضِ اليقينَ بالشَّك » (1) ) فقولهم عليهم السلام : « لا تنقض اليقين بالشك » بضميمة المسألة الاصولية يستفاد منه الاستصحاب .

( و ) لا يخفى : ان المسألة الاصولية هنا المنضمة الى : «لا تنقض» ( هي المسائل الباحثة عن أحوال طريق الخبر ) كحجية خبر الثقة التي تذكر في الاصول، إذ في الاصول يذكر هل ان خبر الثقة حجة أم لا؟ (وعن أحوال الألفاظ الواقعة فيه) أي : في الخبر ، فإنه يبحث في الاصول هل إن ظواهر الألفاظ حجة أو ليست بحجة؟.

وعليه : فإذا ثبت في الاصول حجية خبر الثقة من جانب ، وحجية ظواهر الألفاظ من جانب آخر ، فهاتان المسألتان الاصوليتان تنضمان الى قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشك » فيستفاد من هذا المجموع : الاستصحاب الذي هو إبقاء ما كان على ما كان .

إذن : ( فهذه القاعدة ) أي : قاعدة الاستصحاب تكون ( كقاعدة البرائة

ص: 95


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

والاشتغال ، نظير قاعدة نفي الضرر والحرج ، من القواعد الفرعيّة المتعلّقة بعمل المكلّف .

نعم ، يندرج تحت هذه القاعدة

-------------------

والاشتغال ) فإن كل هذه القواعد الثلاث قواعد فقهية ، فهي ( نظير قاعدة نفي الضرر والحرج من القواعد الفرعيّة المتعلّقة بعمل المكلّف ) فإنه إذا كان شيئا عارضا لفعل المكلّف كان مسألة شرعية .

مثلاً : الوجوب العارض للصلاة ، والحرمة العارضة للخمر ، مسألة فقهية ، والاستصحاب من هذا القبيل ، فإنه - مثلاً - يستصحب الطهارة فيما إذا شك في الحديث وكان سابقا متطهرا ، ومن المعلوم : إن الطهارة عارضة على فعل المكلّف .

هذا كله في المسألة الفقهية .

أما المسألة الاصولية : فهي التي تنضمّ الى الكتاب أو الخبر - مثلاً - فيستفاد منه ضمّهما معا ، كما لو ضمّ الى المسألة الاصولية الخبر فإنه يستفاد منهما معا الحكم الشرعي .

مثلاً : حجية خبر الواحد ليس بنفسه عارضا على فعل المكلّف ، وإنّما حجية الخبر بضميمة قول زرارة : « الفقاع حرام » (1) يستفاد منه وجوب الاجتناب عن الفقاع ووجوب الاجتناب مسألة فقهية ، لأن الوجوب يعرض على فعل المكلّف .

( نعم ) بعض المسائل الاصولية كأصالة العدم يندرج أحيانا تحت هذه القاعدة الفقهية وهي الاستصحاب ، فإنه ( يندرج تحت هذه القاعدة ) التي هي

ص: 96


1- - الكافي فروع : ج6 ص424 ح14 ، الاستبصار : ج4 ص95 ب60 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج9 ص124 ب4 ح271 .

مسألةٌ اصوليّة يجري فيها الاستصحاب ، كما تندرج المسألة الاصولية أحيانا تحت أدلة نفي الحرج ، كما يُنفى وجوب الفحص عن المعارض حتى يقطع بعدمه بنفي الحرج .

-------------------

الاستصحاب ( مسألةٌ اصوليّة يجري فيها الاستصحاب ) .

مثلاً : اصالة عدم التخصيص ، واصالة عدم النسخ ، واصالة عدم النقل ، وما أشبه ذلك ، نستصحبها مع إنّها مسائل اصولية ، فتندرج تحت الاستصحاب ( كما تندرج المسألة الاصولية أحيانا تحت أدلة نفي الحرج ) مع العلم بأن نفي الحرج قاعدة فقهية .

أما مثال المسألة الاصولية المندرجة تحت قاعدة لا حرج فهو ما أشار اليه المصنِّف ، بقوله : ( كما ينفى وجوب الفحص عن المعارض حتى يقطع بعدمه ، بنفي الحرج ) فإذا وجدنا خبرا يدل على طهارة العصير - مثلاً - : ثم لم نعلم هل له معارض أم لا؟ فانه يجب الفحص عنه ، إمّا مقدار الفحص فهل هو حتى نقطع بأنه لا معارض له ، أو يكفي أن نظن بأنه لا معارض له فنقول : قاعدة الحرج هنا تنفي وجوب الفحص الى حد القطع بعدم المعارض ، وذلك لأن القطع بعدم المعارض يحتاج - مثلاً - الى مطالعة مائة كتاب وهو حرج ، بينما الظن بعدم المعارض يحتاج الى مطالعة خمسين كتابا ولا حرج فيه ، فنكتفي بالظن بعدم المعارض المحتاج الى مطالعة خمسين كتابا ، وحينئذ فقد أثبتنا بقاعدة لا حرج مسألة اصولية وهي : كفاية الفحص الى حد الظن .

الى هنا أثبت المصنِّف ان الاستصحاب قاعدة فقهية لا اصولية ، ثم شرع الآن في بيان ان الاستصحاب مسألة اصولية لا فقهية فقال :

ص: 97

نعم ، يشكل كونُ الاستصحاب من المسائل الفرعية : بأنّ اجرائها في موردها أعني : صورة الشك في بقاء الحكم الشرعي السابق ، كنجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره مختصٌ بالمجتهد وليس وظيفةً للمقلّد ، فهي ممّا يحتاج اليه المجتهد فقط ولا ينفع للمقلّد ، وهذا من خواص المسألة الاصولية ، فانّ المسائل الاصولية لمّا مهّدت للاجتهاد واستنباط الأحكام من الأدلّة اختصّ التكلّمُ فيها بالمستنبط ، ولاحظّ لغيره فيها .

-------------------

( نعم ، يشكل كونُ الاستصحاب من المسائل الفرعية ب ) سبب ( أنّ اجرائها ) أي : اجراء قاعدة الاستصحاب ( في موردها أعني : صورة الشك في بقاء الحكم الشرعي السابق ، كنجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره مختصٌ بالمجتهد ) فقط .

مثلاً : الماء النجس بالتغير إذا زال تغيره من نفسه يشك في بقاء نجاسته ، فإذا اُريد استصحاب نجاسته ، فإن الاستصحاب لا يجري إلاّ بعد عدم وجود دليل على الطهارة ، وعدم وجود ما يدل على الطهارة يحتاج الى الفحص واليأس عنه ( و ) من المعلوم : ان الفحص واليأس ( ليس وظيفةً للمقلّد ) لأنه غير قادر على ذلك ، فيكون خاصا بالمجتهد والشيء الخاص بالمجتهد مسألة اصولية كما قال : ( فهي ممّا يحتاج اليه المجتهد فقط ولا ينفع للمقلّد ، وهذا ) أي : اختصاص الشيء باحتياج المجتهد اليه دون المقلد ( من خواص المسألة الاصولية ) .

وإنّما كان ذلك من خواص المسألة الاصولية لأنه كما قال : ( فإنّ المسائل الاصولية لمّا مهّدت للاجتهاد واستنباط الأحكام من الأدلّة ، اختصّ التكلّم فيها بالمستنبط ) الذي هو المجتهد ( ولا حظّ لغيره ) أي : لغير المجتهد الذي هو المقلد ( فيها ) أي : في تلك المسائل الاصولية .

إذن : فالاستصحاب لا يجري في مورده إلاّ بعد الفحص واليأس عن وجود دليل

ص: 98

فإن قلت : إنّ اختصاص هذه المسألة بالمجتهد ، لأجل أنّ موضوعها وهو : الشك في الحكم الشرعي وعدم قيام الدليل الاجتهادي عليه ، لا يتشخّص إلاّ للمجتهد ، وإلاّ فمضمونُه ، وهو العمل على طبق الحالة السابقة ، وترتيب آثارها مشترك بين المجتهد والمقلّد .

-------------------

في ذلك المورد ، والفحص عن الدليل مختص بالمجتهد ، فالاستصحاب مختص بالمجتهد ، وما يختص بالمجتهد فهو مسألة اصولية .

( فإن قلت : إنّ اختصاص هذه المسألة بالمجتهد ) لا تجعل الاستصحاب مسألة اصولية ، لأنه قد يكون الاختصاص به ( لأجل أنّ موضوعها وهو : الشك في الحكم الشرعي ) الكلي ناشئا من تعارض الدليلين ، أو إجماله ، أو فقده ( و ) من المعلوم : ان الاطمينان الى ( عدم قيام الدليل الاجتهادي ) المعتبر بعد الفحص ( عليه ) أي : على ذلك الحكم الشرعي مما ( لا يتشخّص إلاّ للمجتهد ) فقط .

( وإلاّ ) بأن لم نلاحظ في الاستصحاب هذه الجهة الخاصة بالمجتهد بل نلاحظ مدلوله ومضمونه ( فمضمونه ) أي : مضمون الاستصحاب ( وهو العمل على طبق الحالة السابقة ، وترتيب آثارها ) أي : آثار الحالة السابقة ليس مختصا بالمجتهد ، بل هو ( مشترك بين المجتهد والمقلّد ) فيجريه المجتهد في الحكم الكلي ، والمقلد في الأحكام الجزئية .

إذن : فالاستصحاب هو كسائر المسائل الفرعية يشترك فيه المقلد والمجتهد ، فهو مسألة فقهية لا اصولية .

وإن شئت قلت : إن المسألة الاصولية كما قال بعض : هي التي تكون النتيجة فيها دائما حكما كليا لا يتعلق بعمل آحاد المكلفين ، بينما النتيجة في القاعدة الفقهية قد تكون كالمسألة الاصولية ، وقد لا تكون كذلك ، بل تتعلق بعمل آحاد المكلفين .

ص: 99

قلت : جميع المسائل الاصولية كذلك ، لأنّ وجوب العمل بخبر الواحد وترتيب آثار الصدق عليه ليس مختصا بالمجتهد .

-------------------

مثلاً : حجية خبر الواحد لا تتعلق بعمل آحاد المكلفين وإنّما تختص بالمجتهد الذي يبحث عن ان الخبر حجة أو ليس بحجة ، أما قاعدة لا حرج - مثلاً - فهي كما تشمل المجتهد ، تتعلق بعمل آحاد المكلفين في مثل الوضوء الحرجي لزيد ، والغسل الحرجي لعمرو ، أيضا ، والاستصحاب من قبيل قاعدة لا حرج ، لا من قبيل حجية خبر الواحد ، فهو إذن مسألة فقهية لا اصولية .

إن قلت ذلك ( قلت : جميع المسائل الاصولية كذلك ، لأنّ وجوب العمل بخبر الواحد وترتيب آثار الصدق عليه ليس مختصا بالمجتهد ) بل إن كلاً من المجتهد والمقلد يعمل بالخبر الواحد ويرتب عليه آثار الصدق .

أمّا المجتهد فواضح ، وأمّا المقلد فلأن معاصري الأئمة عليهم السلام كانوا من أهل اللسان وكانوا يعملون بالروايات حسب ما يسمعونها عنهم عليهم السلام مباشرة أو عن الرواة كزرارة ومحمد بن مسلم ، فإذا كان ميزان كون المسألة الاصولية أن لا يتمكن المقلد من العمل بها ، لزم خروج الخبر الواحد وجملة من المسائل الاصولية عن كونها مسألة اصولية .

وعليه : فليس الاستصحاب مسألة فقهية - كما يتوهم - بحجة ان المقلد أحيانا يعمل بالاستصحاب أيضا ، فإنه وان كان يعمل بالاستصحاب كل من المجتهد والمقلد إلاّ ان المقلد لا يتمكن من العمل بالاستصحاب في كل مكان ، كما إن الأمر كذلك بالنسبة الى الخبر الواحد ، فإن كلاً من المجتهد والمقلد يعمل بالخبر الواحد ، لكن المقلد لا يتمكن من العمل بالخبر الواحد في كل مكان كما قال :

ص: 100

نعم ، تشخيص مجرى خبر الواحد وتعيين مدلوله وتحصيل شروط العمل به مختصّ بالمجتهد ، لتمكّنه من ذلك وعجز المقلّد عنه ، فكأنّ المجتهد نائبٌ عن المقلد في تحصيل مقدمات العمل بالأدلّة الاجتهادية وتشخيص مجاري الاصول العمليّة ، وإلاّ فحكم اللّه الشرعي في الاصول والفروع مشترك بين المجتهد والمقلّد .

-------------------

( نعم ، تشخيص مجرى خبر الواحد ) وإنه - مثلاً - يجري في الفروع ولا يجري في اصول الدين ( وتعيين مدلوله ) أي مدلول الخبر الواحد وان الأمر فيه - مثلاً - ظاهر في الوجوب أو الندب ( وتحصيل شروط العمل به ) أي : بالخبر مثل اشتراط أن لا يكون صادرا عن تقية ، وأن لا يكون سنده ضعيفا ، وأن لا يكون له معارض أقوى ، وما أشبه ذلك مما لا يقدر عليه المقلد .

إذن : فتشخيص هذا كله ، ( مختصّ بالمجتهد ، لتمكّنه من ذلك ) أي : من تشخيص هذه الأمور الثلاثة : المجرى ، والمدلول ، والشرط ( وعجز المقلّد عنه ).

وعليه فالمقلد لا يتمكن على شيء من الأمور الثلاثة التي ذكرناها فيتبع فيها المجتهد ( فكأنّ المجتهد نائب عن المقلد في تحصيل مقدمات العمل بالأدلّة الاجتهادية وتشخيص مجاري الاصول العمليّة ) لأن المجتهد هو الذي يعرف الخبر وشروطه ، ويعرف أين تجري البرائة؟ وأين تجري قاعدة الاشتغال - مثلاً - دون المقلد .

( وإلاّ فحكم اللّه الشرعي في الاصول والفروع مشترك بين المجتهد والمقلّد ) على حد سواء .

نعم ، هناك بعض أحكام اللّه سبحانه وتعالى خاصة بالمجتهد كولاية أمور المسلمين ، واجراء الحدود ، والقيام بالجهاد وما أشبه ذلك ، وهذا لا يضر

ص: 101

هذا ، وقد جعل بعض السادة الفحول الاستصحاب دليلاً على الحكم في مورده ، وجعل قولهم عليهم السلام : «لا تنقض اليقين بالشّك» دليلاً على الدليل ،

-------------------

الاشتراك بالمعنى العام ، كما إن اختصاص بعض المسائل بالنساء كالحيض والنفاس ، واختصاص بعض المسائل بالرجال كالقيمومة ووجوب النفقة ، لاينافي كون حكم اللّه سبحانه وتعالى عاما لجميع البشر .

الى هنا تبيّن إن المصنِّف قرر في الاستصحاب ما يلي :

أولاً : إن مسألة الاستصحاب مسألة فرعية بقوله ففي كونه من المسائل الاصولية غموض .

ثانيا : إن مسألة الاستصحاب مسألة اصولية بقوله : نعم يشكل كون الاستصحاب من المسائل الفرعية .

ثالثا : أشكل على كون الاستصحاب مسألة اصولية بقوله : فإن قلت .

رابعا : دفع الاشكال عن ذلك وأثبت ان الاستصحاب مسألة اصولية بقوله : «قلت» .

ثم إنّ السيد بحر العلوم رحمه اللّه جعل الاستصحاب مسألة اصولية ، لكن من طريق آخر ، واليه أشار المصنِّف بقوله : ( هذا ، وقد جعل بعض السادة الفحول الاستصحاب دليلاً على الحكم في مورده ) أي : في مورد الاستصحاب فأثبت - مثلاً - نجاسة الماء الزائل تغيره من نفسه بدليل الاستصحاب ( وجعل قولهم عليهم السلام : « لا تنقض اليقين بالشّك » (1) دليلاً على الدليل ) .

ص: 102


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

نظير آية النبأ بالنسبة الى خبر الواحد ، حيث قال : « إنّ استصحاب الحكم المخالف للأصل في شيء

-------------------

وعليه : فهنا ثلاثة أُمور : النجاسة وهي حكم الحالة السابقة للماء ، ودليل إبقاء النجاسة الى الآن وهو الاستصحاب ، ودليل هذا الدليل وهو « لا تنقض اليقين بالشك » فيكون ( نظير آية النبأ بالنسبة الى خبر الواحد ) حيث فيه ثلاثة أمور .

مثلاً : إذا دلّ الخبر على نجاسة العصير العنبي ، وحصل عندنا أمور ثلاثة : النجاسة وهي الحكم الشرعي للعصير العنبي ، ودليل هذا الحكم الشرعي وهو الخبر ، ودليل حجّية هذا الخبر وهو آية النبأ .

وعليه : فلا يكون الاستصحاب عين مفاد أخبار لا تنقض اليقين بالشك حتى يكون كقاعدة لا حرج - مثلاً - قاعدة فقهية مستفادة من السنة ، بل هو عبارة عن إبقاء ما كان ودليل حجيته اخبار : « لا تنقض » ، وكما ان البحث عن حجية الخبر وعدم حجيته مسألة اصولية ، فكذلك يكون البحث عن حجية الاستصحاب وعدم حجيته .

والى هذا المعنى أشار السيد ( حيث قال : « إنّ استصحاب الحكم المخالف للأصل في شيء ) كاستصحاب حرمة العنب بالغليان بعد صيرورته زبيبا ، فإن هذا الاستصحاب مخالف لأصل الحِل في الأشياء ، مع العلم بأن الحكم الموافق للأصل لايحتاج الى الاستصحاب ، بل نفس الأصل كاف في اثبات الحِليّة - مثلاً - حتى يثبت خلافه .

إذن : فكل شيء لك حلال - مثلاً - يشمل كل شيء يشك في حليته وحرمته بدون حاجة الى استصحاب الحلية ، أمّا الحكم المخالف للأصل ، كاثبات الحرمة لشيء - مثلاً - فإنه يحتاج الى الاستصحاب .

ص: 103

دليلٌ شرعي رافعٌ لحكم الأصل ومخصصٌ لعمومات الحلّ - الى أن قال في آخر كلام له سيأتي نقله : - وليس عمومُ قولهم عليهم السلام : « لا تنقُض اليقين بالشّك » بالقياس الى افراد الاستصحاب وجزئيّاته إلاّ كعموم آية النبأ بالقياس الى آحاد الأخبار المعتبرة » ، انتهى .

أقول :

-------------------

وعليه : فالاستصحاب فيما يخالف الأصل ، مثل استصحاب حرمة العنب بالغليان بعد أن صار زبيبا ، ( دليل شرعي رافع لحكم الأصل ) الذي هو الحل ( و ) هذا الاستصحاب ( مخصص لعمومات الحلّ ) مثل : « كل شيء لك حلال » (1) و « كل شيء مطلق » (2) وما أشبه ذلك .

( الى أن قال في آخر كلام له سيأتي نقله : وليس عموم قولهم عليهم السلام : « لا تنقض اليقين بالشك » (3) بالقياس الى افراد الاستصحاب وجزئيّاته ) الخارجية ، كاستصحاب طهارة ثوب زيد ، واستصحاب بقاء حدثه ، وما أشبه ذلك ( إلاّ كعموم آية النبأ بالقياس الى آحاد الأخبار المعتبرة » (4) ، انتهى ) كلامه رفع مقامه .

( أقول ) : قياس الاستصحاب بالخبر من السيد غير تام ، لأن العمل

ص: 104


1- - الكافي ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .
3- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
4- - بحر الفوائد : الفائدة 35 ص116 .

معنى الاستصحاب الجزئي في المورد الخاص ، كاستصحاب نجاسة الماء المتغيّر ، ليس إلاّ الحكم بثبوت النجاسة في ذلك الماء النجس سابقا ،

-------------------

بالاستصحاب يستدعي أمرين فقط :

أحدهما : الحكم الشرعي كالحكم بنجاسة الماء النجس سابقا الذي زال تغيره الآن من قبل نفسه .

ثانيهما : الدليل على الاستصحاب كاخبار لا تنقض اليقين بالشك .

أمّا العمل بالخبر فهو يستدعي ثلاثة أمور :

الأوّل: الحكم الشرعي كحرمة الفقاع - مثلاً - .

الثاني : دليل هذا الحكم الشرعي كخبر زرارة - مثلاً - .

الثالث : دليل حجية هذا الخبر كآية النبأ - مثلاً - .

وعليه : فالاستصحاب ليس أمرا آخر غير الحكم الشرعي المستفاد من السنة حتى يكون البحث فيه مسألة اصولية ، بخلاف الخبر فإن حجيته أمر آخر غير الحكم الشرعي ، فيكون البحث فيه عن حجيته وعدم حجيته مسألة اصولية .

والى هذا المعنى أشار المصنِّف حيث قال : إن ( معنى الاستصحاب الجزئي في المورد الخاص ، كاستصحاب نجاسة الماء المتغيّر ) واستصحاب بقاء الوضوء، أو بقاء الحدث ، أو بقاء الثوب المتنجس نجسا فيما إذا شككنا في إنه هل طهّرناه أم لا ؟ الى غير ذلك من الجزئيات ( ليس إلاّ الحكم بثبوت النجاسة في ذلك الماء النجس سابقا ) .

وكذا يكون معنى الاستصحاب بالنسبة الى سائر الأمثلة من الجزئيات الخارجية ، فإنها جزئيات لقوله : «لا تنقض» فلم يكن في الاستصحاب سوى أمرين أشار اليهما بقوله :

ص: 105

وهل هذا إلاّ نفسُ الحكم الشرعي ، وهل الدليلُ عليه إلاّ قولهم عليهم السلام : « لا تَنقُضِ اليقينَ بالشّك » ، وبالجملة : فلا فرق بين الاستصحاب وسائر القواعد المستفادة من العمومات .

-------------------

( وهل هذا إلاّ نفس الحكم الشرعي ) بالنجاسة ؟ ( وهل الدليل عليه إلاّ قولهم عليهم السلام : « لا تنقض اليقين بالشّك » (1) ؟ ) .

بينما ليس الأمر كذلك في الخبر ، فإن الخبر ليس هو نفس الحكم الشرعي ، بل هو طريق الى الحكم الشرعي ، فلابد من اثبات حجيته بمثل آية النبأ ، فآية النبأ تدل على حجية الخبر الواحد ، والخبر الواحد له جزئيات مثل الإخبار عن وجوب صلاة الجمعة ، والإخبار عن حرمة العصير ، وما أشبه ذلك ، وهذه الجزئيات ليست جزئيات لآية النبأ بل للخبر ، والخبر هو حجة بسبب آية النبأ .

( وبالجملة : فلا فرق بين الاستصحاب وسائر القواعد المستفادة من العمومات ) في انها قواعد فقهية مستفادة من الآيات والأخبار ، مثل : قاعدة لا حرج ، المستفادة من قوله : « « ما جعل عليكم في الدين من حرج » (2) » ومثل : قاعدة لاضرر ، المستفادة من قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » (3) .

ص: 106


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
2- - سوره الحج : الآية 78 .
3- - معاني الاخبار : ص281 ، نهج الحق : ص489 و ص495 و ص506 ، وسائل الشيعة : ج18 ص32 ب17 ح23073 و ح23074 .

وهذا كلّه في الاستصحاب الجاري في الشبهة الحكمية المثبت للحكم الظاهري الكلّي .

وأمّا الجاري في الشبهة الموضوعية ، كعدالة زيد ، ونجاسة ثوبه ، وفسق عمرو ، وطهارة بدنه ، فلا إشكال في كونه حكما فرعيا ،

-------------------

لكن لا يخفى : أنه مرّ سابقا : ان الاستصحاب يمكن ادخاله في المسائل الاصولية وذلك بالتقرير الذي ذكره المصنِّف لا بالتقرير الذي ذكره السيد بحر العلوم .

( وهذا كلّه في الاستصحاب الجاري في الشبهة الحكمية المثبت للحكم الظاهري الكلّي ) كنجاسة الماء الزائل تغيره من نفسه ، وطهارة من خرج منه الوذي أو المذي ، أو ما أشبه ذلك .

( وأمّا ) الاستصحاب ( الجاري في الشبهة الموضوعية كعدالة زيد ، ونجاسة ثوبه ، وفسق عمرو ، وطهارة بدنه ) وذلك فيما إذا كان كل من العدالة والفسق ، أو النجاسة والطهارة قد ثبت سابقا ، وشككنا في زواله لاحقا فنستصحب بقائه ( فلا إشكال في كونه حكما فرعيا ) وذلك لما عرفت : من ان هذه المسائل يشترك فيها المجتهد والمقلد .

وعليه : فالاستصحاب في الشبهة الحكمية مسألة اصولية ، والاستصحاب في الشبهة الموضوعية مسألة فقهية .

هذا ، وقد ذكر الاصوليون الاستصحاب في اصول من جهة الشبهة الحكمية وان كان يعرف منه أيضا الاستصحاب في الشبهة الموضوعية حيث إنه مرتبط

ص: 107

سواء كان التكلم فيه من باب الظن ، أم كان من باب كونها قاعدةً تعبديّة مستفادة من الأخبار ، لأنّ التكلّم فيه على الأوّل نظيرُ التكلم في اعتبار سائر الأمارات ، كَيَدِ المسلمين ، وسوقهم ، والبيّنة ، والغلبة ، ونحوها ، في الشبهات الخارجية .

وعلى الثاني من باب أصالة الطهارة وعدم الاعتناء بالشك بعد الفراغ ، ونحو ذلك .

-------------------

بالفقه مطلقا أي : ( سواء كان التكلم فيه ) أي : في الاستصحاب الجاري في الشبهة الموضوعية ( من باب الظن ) بأن قلنا : إن الاستصحاب أمارة لأنها حجة من جهة الظن النوعي ( أم كان من باب كونها قاعدة تعبديّة مستفادة من الأخبار ) بأن قلنا : ان الاستصحاب أصل عملي لانه حجة تعبديّة من جهة الاخبار .

وإنّما يكون الاستصحاب في الشبهة الموضوعية حكما فرعيا مشتركا بين المجتهد والمقلد على المبنيين ( لأنّ التكلّم فيه على الأوّل ) أي : بناءا على كون الاستصحاب من الأمارات الظنية لا من الاصول العملية ، يكون ( نظير التكلم في اعتبار سائر الأمارات ) الشرعية ( كَيَدِ المسلمين ، وسوقهم ، والبيّنة ، والغلبة ،

ونحوها ) من الأمارات الجارية ( في الشبهات الخارجية ) الموضوعية ممّا يجريه المجتهد والمقلد معا .

( وعلى الثاني ) : أي : بناءا على كون الاستصحاب من باب الاصول العملية ، لا من باب الأمارات يكون الاستصحاب ( من باب أصالة الطهارة ، وعدم الاعتناء بالشك بعد الفراغ ، ونحو ذلك ) كعدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز وغيرها ممّا يشترك فيه المجتهد والمقلد أيضا .

والحاصل : إن الاستصحاب وغيره ممّا يُتمسك به في الموضوعات أمارة كان

ص: 108

الرابع :

-------------------

أو أصلاً ، لا يتوقف التمسك به على الفحص وما أشبه ، وان يتمكن كل مكلف من اجرائها سواء كان مجتهدا أم مقلدا .

ومنه فتوى المجتهدون في رسائلهم العملية بجواز تمسك المقلدين في الشبهات الموضوعية بالاستصحاب وغيره ، فقالوا : بأنه لو قامت البيّنة - مثلاً - على نجاسة الماء فللمقلد أن يأخذ بها ، وإنه لو كان الماء نجسا سابقا فشك في طهارته ونجاسته لاحقا فللمقلد أن يستصحب ، وهكذا .

بخلاف المسائل الاصولية التي لا حق للمقلد في اجرائها ، لأنها محتاجة الى مقدمات لا يتمكن المقلد من تحصيلها .

( الرابع ) : إن قلنا : بأن الاستصحاب حجة من باب الاخبار ، فلا فرق في جريان الاستصحاب ، سواء ظن بالخلاف ، أم ظن بالوفاق ، أم شك فيهما بأن كان متساوي الطرفين ، فلو كان في الصباح متوضئا - مثلاً - ثم ظن في الظهر ببقاء وضوئه ، أو ظن بنقض وضوئه ، أو شك في بقاء وضوئه وعدم بقائه ، فانه في كل هذه الأحوال الثلاث يستصحب بقاء الوضوء .

بخلاف ما إذا قلنا : بأن الاستصحاب حجة من باب بناء العقلاء فإنه لا يجري مع الظن بالخلاف .

إذن : فهناك في جريان الاستصحاب قولان :

الأوّل : ان الاستصحاب يجري مطلقا بلا فرق فيه بين الظن بالوفاق ، أو الظن بالخلاف ، أو الشك فيهما .

الثاني : ان الاستصحاب يجري بشرط أن لا يظن بالخلاف ، فلو ظن بالخلاف لم يجرِ الاستصحاب .

ص: 109

إنّ المناط في اعتبار الاستصحاب ، على القول بكونه من باب التعبّد الظاهري ، هو : مجرد عدم العلم بزوال الحالة السابقة .

وأمّا على القول بكونه من باب الظن فالمعهود من طريقة الفقهاء عدمُ اعتبار إفادة الظنّ في خصوص المقام .

كما يعلم ذلك من حكمهم بمقتضيات الاصول كليّةً

-------------------

والى هذا المعنى أشار المصنِّف بقوله : ( إنّ المناط في اعتبار الاستصحاب ، على القول بكونه من باب التعبّد الظاهري ) الثابت بسبب أخبار « لا تنقض اليقين بالشك » (1) ونحوه ( هو : مجرد عدم العلم بزوال الحالة السابقة ) فيستصحب مالم يعلم بزوال الحالة السابقة ، سواء ظن بالزوال ، أم ظن بعدم الزوال ، أم شك في الزوال وعدمه ، وذلك لما في الاخبار : من إطلاق عدم نقض اليقين السابق إلاّ بيقين لاحق على الخلاف ، وما دام لم يحصل اليقين على الخلاف يستصحب اليقين السابق .

( وأمّا على القول بكونه ) أي بكون الاستصحاب حجة ( من باب الظن ) العقلائي ، حيث إن العقل وكذلك العقلاء يحكمون بدوام الحالة السابقة كما قال : ( فالمعهود من طريقة الفقهاء ) هو : ( عدمُ اعتبار افادة الظنّ في خصوص المقام ) فلا يعتبر الظن الشخصي ببقاء الحالة السابقة ، لأن الاستصحاب حجة من باب الظن النوعي فيجري سواء ظن ظنا شخصيا بالخلاف ، أو ظن بالوفاق ، أم شك في الخلاف والوفاق .

( كما يعلم ذلك من حكمهم بمقتضيات الاصول كليّةً ) فانهم يحكمون ، مثلاً :

ص: 110


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

مع عدم اعتبارهم أن يكون العامل بها ظانا ببقاء الحالة السابقة .

ويظهر ذلك لأدنى متتبّع في أحكام العبادات والمعاملات ، والمرافعات ، والسياسات .

-------------------

بأن من تيقَّن بالطهارة وشك في الحدث فهو متطهر ، ومن تيقّن بالحدث وشك في الطهارة فهو محدث ، وهكذا ( مع عدم اعتبارهم أن يكون العامل بها ) أي : بهذه الاصول الاستصحابية ( ظانا ببقاء الحالة السابقة ) .

وعليه : فالاستصحاب العقلي يكون في حجيته كالاستصحاب النقلي فيجري سواء ظن بالوفاق أم ظن بالخلاف أم شك في الأمرين .

( ويظهر ذلك ) أي : عدم اعتبارهم الظن بالوفاق ( لأدنى متتبّع في أحكام العبادات ) كاستصحاب الطهارة وما أشبه ذلك .

( والمعاملات ) وهي الأعم من العقود والايقاعات : كاستصحاب بقاء النكاح ، واستصحاب بقاء العدّة ، واستصحاب بقاء الوكالة ، وما أشبه ذلك .

( والمرافعات ) كاستصحاب عدم الزوجية ، وعدم الملكية وما أشبه ذلك ، لقولهم - مثلاً - : بأن المنكر من كان قوله موافقا للأصل والأصل : عدم البيع ، وعدم النكاح ، وعدم الطلاق ، وهكذا ، فإذا تنازع شخصان في هذه الأمور فانهم يتمسكون بالاستصحاب من غير فرق بين أن يكون الظن الشخصي في هذه الموارد موافقا للأصل أو مخالفا له .

( والسياسات ) كاستصحاب إجراء الحدود على من وجب عليه الحد ، فندم وتاب بعد قيام البيّنة ، فإنهم وان ظنوا بأن الحكم غير باق بسبب ندمه على فعله ، أو ظنوا بأن الشاهد سقط عن عدالته ، أو غير ذلك ، لكنهم لا يعتنون بالظنون الشخصية ويجرون الاستصحاب في كل الموارد المذكورة .

ص: 111

نعم ، ذكر شيخنا البهائي قدس سره في الحبل المتين ، في باب الشك في الحدث بعد الطهارة ، ما يظهر منه : اعتبار الظنّ الشخصي ، حيث قال : « لا يخفى : أنّ الظنّ الحاصل بالاستصحاب فيمن تيقّن الطهارة وشك في الحدث لا يبقى على نهج واحد ، بل يضعف بطول المدّة شيئا فشيئا ، بل قد يزول الرجحان ويتساوى الطرفان ، بل ربما يصير الراجحُ مرجوحا ، كما إذا توضأ عند الصبح وذهل عن التحفّظ ، ثم شك عند المغرب في صدور الحدث منه ، ولم يكن من عادته البقاءُ على الطهارة الى ذلك الوقت ،

-------------------

( نعم ، ذكر شيخنا البهائي قدس سره في الحبل المتين في باب الشك في الحدث بعد الطهارة ما يظهر منه : اعتبار الظنّ الشخصي ) بحيث إذا ظن على خلاف الحالة السابقة لا يجري الاستصحاب ، فيكون الاستصحاب العقلي حينئذ غير شامل لصورة الظن بالخلاف ، بينما الاستصحاب الشرعي كما عرفت شامل حتى لهذه الصورة .

وإنّما يظهر منه اعتبار ذلك ( حيث قال : « لا يخفى : أنّ الظنّ الحاصل بالاستصحاب فيمن تيقّن الطهارة وشك في الحدث لا يبقى ) ذلك الظن ( على نهج واحد ، بل يضعف بطول المدّة شيئا فشيئا ، بل قد يزول الرجحان ويتساوى الطرفان ) حتى يكون شكا .

( بل ربّما يصير الراجح مرجوحا ) وذلك بأن يظن بخلاف الحالة السابقة ( كما إذا توضأ عند الصبح وذهل عن التحفّظ ، ثم شك عند المغرب في صدور الحدث منه ) وعدم صدوره ( ولم يكن من عادته البقاء على الطهارة الى ذلك الوقت ) فإنه يظن بخلاف الطهارة السابقة ، فلا يجري الاستصحاب في حقه .

ص: 112

والحاصل : أنّ المَدار على الظنّ ، فما دام باقيا ، فالعمل عليه وإن ضعف » ، انتهى كلامه ، رفع مقامه .

ويظهر من شارح الدروس ارتضاؤه ، حيث قال بعد حكاية هذا الكلام : « ولا يخفى أنّ هذا إنّما يَصحّ لو أبنى المسألة على أنّ ما يتيقّن بحصوله في وقت ولم يعلم أو يظنّ طروّ ما يزيله يحصل الظنّ ببقائه ، والشك في نقيضه لا يعارضه ، إذ الضعيف لا يعارض القوي ،

-------------------

( والحاصل : أنّ المَدار على الظنّ ، فما دام باقيا فالعمل عليه وإن ضعف » (1) ) أمّا إذا انقلب الظن على الخلاف ، فلا استصحاب ( انتهى كلامه . رفع مقامه ) .

هذا ( ويظهر من شارح الدروس ) وهو المحقق الخوانساري ( ارتضاؤه ) لكلام الشيخ البهائي ( حيث قال بعد حكاية هذا الكلام ) ما يلي : ( « ولا يخفى أنّ هذا ) الذي ذكره الشيخ البهائي : من اشتراط الاستصحاب بعدم الظن الشخصي بالخلاف ( إنّما يَصحّ ) بناءا على اعتبار الاستصحاب من باب الأمارة ، وذلك فيما ( لو أبنى المسألة على أنّ ما يتيقّن بحصوله في وقت ) سابق ( ولم يعلم أو يظنّ طروّ ما يزيله ) في وقت لاحق ( يحصل الظنّ ببقائه ) على حالته السابقة .

( و ) من المعلوم : إن ( الشك في نقيضه ) أي : الشك في احتمال ارتفاع تلك الحالة السابقة ما دام لم يصل الى الظن بارتفاعه ( لا يعارضه ) أي : لا يعارض الظن السابق ( إذ الضعيف ) من الشك ( لا يعارض القوي ) من الظن السابق .

ص: 113


1- - الحبل المتين : ص37 .

لكن هذا البناء ضعيف جدا ، بل بناؤها على الروايات مؤيدة بأصالة البرائة في بعض الموارد ، وهي تشمل الشك والظنّ معا ، فاخراج الظنّ منها ممّا لا وجه له أصلاً » ، إنتهى كلامه .

ويمكن إستظهار ذلك من الشهيد قدس سره في الذكرى حيث ذكر : « أنّ قولنا : « اليقينُ لا ينقضُه الشك » ، لا يعني به إجتماع اليقين والشك ،

-------------------

ثم قال : ( لكن هذا البناء ضعيف جدا ، بل بناؤها ) أي : حجية الاستصحاب ( على الروايات ، مؤيدة بأصالة البرائة في بعض الموارد ) وذلك فيما إذا كان الاستصحاب نافيا للتكليف فإن البرائة هناك أيضا تنفي التكليف .

( وهي ) أي : هذه الروايات الدالة على الاستصحاب ( تشمل الشك والظّن معا ) فالاستصحاب يجري سواء شك في الحال اللاحق ، أم ظن بالخلاف ، أم ظن بالوفاق .

وعليه : ( فاخراج الظّن منها ) أي : اخراج مورد الظن بالخلاف من الروايات والقول : بأن الروايات لا تدل على حجية الاستصحاب إذا كان المكلّف يظن ظنا شخصيا بالخلاف ( ممّا لا وجه له أصلاً » (1) ، إنتهى كلامه ) رفع مقامه .

( ويمكن إستظهار ذلك ) الذي ذكره الشيخ البهائي واستظهرناه من شارح الدروس ( من الشهيد قدس سره في الذكرى حيث ذكر : « أنّ قولنا : « اليقين لاينقضه الشك » ) في باب الاستصحاب ( لا يعني به إجتماع اليقين والشك ) في مورد

ص: 114


1- - مشارق الشموس في شرح الدروس : ص142 .

بل المرادُ : أنّ اليقين الذي كان في الزمن الأوّل لا يخرج عن حكمه بالشك في الزمان الثاني لأصالة بقاء ما كان ، فيؤول الى اجتماع الظنّ والشك في الزمان الواحد ، فيرجّح الظنّ عليه ، كما هو مطّرد في العبادات » ، انتهى كلامه .

ومرادُه من الشك مجرّد الاحتمال ،

-------------------

واحد ووقت واحد حتى يقال إنه محال ( بل المراد : أنّ اليقين الذي كان في الزمن الأوّل لا يخرج عن حكمه ) المقرر له شرعا ( بالشك في الزمان الثاني ) .

وإنّما لا يخرج اليقين عن حكمه بالشك ( لأصالة بقاء ما كان ) على ما كان ( فيؤول ) الاستصحاب ( الى اجتماع الظنّ والشك في الزمان الواحد ) وهو الزمان الثاني ( فيرجّح الظنّ عليه ) أي : على الشك .

( كما هو ) أي : ترجيح الظن على الشك ( مطّرد في العبادات»(1) ) فإن الانسان إذا صلّى وشك في انه صلّى ثلاث ركعات أو أربع ركعات وظن بأحدهما ، قَدّم ظنه على الشك وبَنى على ظنه ( انتهى كلامه ) .

هذا ( ومرادُه ) أي : مراد الشهيد ( من الشك ) حيث ذكر أنه يجتمع مع الظن فيقدّم الظن عليه ، ليس هو الاحتمال المتساوي الطرفين لوضوح : أن الظن راجح والراجح سواء كان علما أم ظنا لايجتمع مع المتساوي ، بل مراده : ( مجرّد الاحتمال ) بأن احتمل في الآن الثاني أن وضوءه السابق - مثلاً - قد إنتقض بالحدث .

ص: 115


1- - ذكرى الشيعة : ص98 .

بل ظاهر كلامه أنّ المناط في اعتبار الاستصحاب من باب أخبار عدم نقض اليقين بالشك هو الظنُّ أيضا ، فتأمّل .

-------------------

( بل ظاهر كلامه ) أي : ظاهر كلام الشهيد الذي استعمل لفظ الرواية في كلامه حيث قال : إن قولنا : اليقين لا ينقضه الشك هو : ( أنّ المناط في اعتبار الاستصحاب ) وحجيته عنده ( من باب أخبار عدم نقض اليقين بالشك ) فيكون هذا دليلاً على أنّ مراده من الظن في قوله : اجتماع الظن والشك ( هو الظنُّ ) الشخصي ( أيضا ) .

والحاصل : إن مراد الشهيد من الظن في قوله : «فيؤول الى اجتماع الظن والشك» هو : الظن الشخصي كما يشير اليه قوله : «فيرجح الظن عليه كما هو مطرد في العبادات» فإنه إذا اجتمع الظن والوهم في الركعات لا يعتنى بالوهم بل يعمل بالظن .

ومن المعلوم أن الظن المعتبر في العبادات هو الظن الشخصي لا الظن النوعي كما أشير اليه في الفقه .

( فتأمّل ) ولعله إشارة الى احتمال أن يكون مراد الشهيد في الظن : هو الظن النوعي لا الظن الشخصي ، إذ لا يستظهر من عبارة الشهيد إرادة الظن الشخصي ليوافق الشيخ البهائي .

وعلى أيّ حال : فالذي ينبغي أن يقال : إن الظن الشخصي بالخلاف لا يضر الاستصحاب سواء قلنا بأنه حجة من باب الاخبار أم من باب بناء العقلاء ، إذ كل من الاخبار أو بناء العقلاء مطلق يشمل الظن الشخصي بالخلاف ، كما يشمل الشك والظن الشخصي بالوفاق .

ص: 116

الخامس :

-------------------

( الخامس ) في بيان ما يتوقف به الاستصحاب ، فإن للاستصحاب ركنين هما : اليقين والشك ، ولهما شروط خاصة بهما ، بتوفرها يتحقق الاستصحاب المصطلح ، ويحترز عن مثل قاعدة اليقين ، والاستصحاب القهقري .

أما شروط اليقين في الاستصحاب فهي : سَبْقَه على الشك ، وإحراز وجوده ولو بعد زمان وجوده ، وذلك كما إذا لم يلتفت اليه زمان وجوده ، بل التفت اليه بعد ذلك ، وبعبارة أخرى : لا يشترط في إحراز اليقين الفعلية .

وأما شروط الشك في الاستصحاب : فهي : لحوقه على اليقين ، والالتفات اليه زمان وجوده فلا يكفي احراز وجود الشك بعد زمان وجوده ، وبعبارة أخرى : يشترط في إحراز الشك الفعلية .

ومن بيان شروط اليقين والشك ، المقوّمان للاستصحاب ، ظهر حال أمور ثلاثة :

الأوّل : الاستصحاب وهو كما عرفت : عبارة عن اليقين السابق والشك اللاحق في بقاء ذلك اليقين السابق .

الثاني : قاعدة اليقين وهو على ما يأتي : عبارة من اليقين السابق والشك في نفس ذلك اليقين السابق ويسمّى بالشك الساري أيضا ، لأن الشك يسري الى اليقين ويزلزله في موضعه ، وذلك كما إذا تيقن يوم الجمعة بأن زيدا عادل ، ثم شك يوم السبت في منشأ يقينه وانه هل كان عن مدرك صحيح أم لا بحيث يتزلزل يقينه في موضعه ؟ .

الثالث : الاستصحاب القهقري : وهو عبارة عن اليقين اللاحق والشك السابق :

ص: 117

إنّ المستفاد ، من تعريفنا السابق الظاهر في استناد الحكم بالبقاء الى مجرد الوجود السابق ، أنّ الاستصحاب يتقوّم بأمرين :

أحدهما : وجود الشيء في زمان سواء عَلِمَ به في زمان وجوده أم لا .

-------------------

كما إذا تيقن بالطهارة عصرا وشك في إنه هل كان في الظهر متطهّرا أم لا ؟ فيستصحب طهارته من العصر الى الظهر فيقول : كنت متطهرا في الظهر أيضا .

هذا ، والأخبار إنّما تدل على حجية الأوّل وهو الاستصحاب المصطلح فقط ، لا الثاني وهو قاعدة اليقين ، ولا الثالث وهو الاستصحاب القهقري .

إذا تبيّن ذلك نرجع الى أصل المطلب وهو بيان شروط اليقين والشك ، المقومان للاستصحاب والمخرجان لغيره فنقول : أما اليقين : وهو المقوّم الأوّل للاستصحاب والذي من خلاله يشير المصنِّف الى قاعدة اليقين ، فلا يشترط فيه بعد احراز وجوده السابق : فعليته . فلا يلزم أن يكون اليقين السابق موجودا في الزمان السابق حتى يجري فيه الاستصحاب .

مثلاً : قد يتيقّن الانسان بالطهارة صباحا ثم يشك في بقائها ظهرا ، وقد يتيقّن ظهرا انه كان في الصباح متطهّرا ويشك الآن في بقائها ، فإن هذا أيضا من الاستصحاب مع إنه لا يقين عند الصباح ، وإنّما اليقين هو في وقت الظهر ، لكن متعلق اليقين هو وقت الصباح .

والى ما بيّناه أشار المصنِّف وقال : ( إنّ المستفاد من تعريفنا السابق ) للاستصحاب : بأنه إبقاء ما كان ( الظاهر في استناد الحكم بالبقاء الى مجرد الوجود السابق ) أي : إبقاء ما كان لمجرد انه كان سواء عَلِمْنا به زمان وجوده أم لا ؟ فإنه يستفاد من ذلك : ( أنّ الاستصحاب يتقوّم بأمرين ) كالتالي :

( أحدهما : وجود الشيء في زمان سواء عَلِمَ به في زمان وجوده أم لا ) وهذا

ص: 118

نعم ، لابدّ من إحراز ذلك حين إرادة الحكم بالبقاء بالعلم ، أو الظنّ المعتبر .

وأمّا مجرّد الاعتقاد بوجود شيء في زمان مع زوال ذلك الاعتقاد في زمان آخر ، فلا يتحقق معه الاستصحابُ الاصطلاحيّ ، وإن توهّم بعضهم جريان عموم « لا تنقُض » فيه كما سَنُنَبه عليه .

-------------------

كما قلنا إشارة الى أنه لا يشترط فعلية اليقين بعد احرازه بمعنى أنه لا يلزم في اليقين أن يكون موجودا في الظرف السابق ، وإنّما يصح أن يكون اليقين الآن لكن متعلقه الظرف السابق .

( نعم ، لابدّ من إحراز ذلك ) اليقين الذي يكون متعلقه الزمان السابق ( حين إرادة الحكم بالبقاء ) احرازا أما ( بالعلم ، أو الظنّ المعتبر ) أي : بأن يعلم في الظهر علما وجدانيا أو يظن ظنا معتبرا بسبب البيّنة مثلاً بأنه كان في الصباح متطهرا .

ثم منه أشار المصنِّف الى قاعدة اليقين بقوله : ( وأمّا مجرّد الاعتقاد بوجود شيء في زمان مع زوال ذلك الاعتقاد في زمان آخر ) بأن سرى الشك الى اليقين السابق وزلزله في موضعه مما سمّيناه بقاعدة اليقين ( فلا يتحقق معه الاستصحاب الاصطلاحيّ ) بل يطلق عليه : قاعدة اليقين .

ولا يخفى أن الفرق بين قاعدة اليقين ، وبين الاستصحاب هو : أن في قاعدة اليقين الشك سارٍ ، وفي الاستصحاب الشك طارٍ .

هذا ( وإن توهّم بعضهم جريان عموم « لا تنقض » فيه ) أي في الشك الساري أيضا ( كما سَنُنَبه عليه ) إن شاء اللّه تعالى في محله ونقول : بأن أخبار الاستصحاب لايمكن أن تشمل قاعدة اليقين وحدها : ولا أن تشمل الاستصحاب وقاعدة اليقين كليهما ، إذ لا جامع بين الاستصحاب وبين القاعدة .

ص: 119

والثاني : الشك في وجوده في زمان لاحق عليه ، فلو شك في زمان سابق عليه فلا استصحاب ، وقد يطلق عليه الاستصحاب القهقري مَجازا .

ثم المعتبرُ هو الشك الفعلي الموجود حال الالتفات اليه ، أمّا لو لم يلتفت فلا استصحاب وإن فرض شك فيه على فرض الالتفات .

-------------------

( و ) إما الشك : وهو المقوّم الثاني للاستصحاب ، فيشترط فيه بعد تحققه في زمان لاحق على اليقين : فعليته أيضا ، أشار المصنِّف الى اشتراط كونه لاحقا لليقين لا سابقا عليه بقوله :

( الثاني ) من الأمرين المقومين للاستصحاب والذي من خلاله يشير المصنِّف الى الاستصحاب القهقري هو أن يكون ( الشك في وجوده في زمان لاحق عليه ) أي : على ذلك الزمان السابق ( فلو شك في زمان سابق عليه ) أي : على الزمان اللاحق ( فلا استصحاب ) لأن ظاهر أدلة الاستصحاب : أن اليقين سابق والشك لاحق ، لا أن اليقين لاحق والشك سابق ثم يسري اليقين اللاحق الى زمان الشك السابق ونقول : أن حال الشك السابق محكوم بحال اليقين اللاحق .

هذا ( وقد يطلق عليه ) أي : على ما كان شكّه سابقا ويقينه لاحقا : ( الاستصحاب القهقري ) وذلك ( مجازا ) لأنه ليس من الاستصحاب في شيء ، فإن الاستصحاب عبارة عن طلب صحبة السابق الى اللاحق لا طلب صحبة اللاحق الى السابق .

( ثم ) أشار المصنِّف الى اشتراط كون الشك فعليا لا تقديريا بقوله : إن ( المعتبرُ هو الشك الفعلي الموجود حال الالتفات اليه ) أي : الى الشيء وذلك بأن يشك في الشيء بالفعل لا بالفرض فيستصحب الحالة السابقة ( أمّا لو لم يلتفت فلا استصحاب وإن فرض شك فيه على فرض الالتفات ) اليه .

ص: 120

فالمتيقِّنُ للحدث إذا التفت الى حاله في اللاحق فشكّ ، جرى الاستصحاب في حقّه ، فلو غفل عن ذلك

-------------------

وعليه : فالشك قد يكون فعليا : كما إذا التفت الى حاله فشك في انه هل تطهّر بعد الحدث أم لا ؟ فيستصحب حاله السابقة ، وقد يكون تقديريا : كما إذا غفل عن حاله بعد الحدث لكنه كان بحيث لو التفت لكان شاكّا في بقاء حاله السابقة وعدم بقائها ، فلا يستصحب حاله السابقة .

إذن : فيختص جريان الاستصحاب بالشك الفعلي لأن حرمة النقض في الأخبار موضوعه الشك في بقاء ما كان ، فما دام لم يكن الموضوع وهو الشك فعليا ، لا يكون حرمة النقض فعليا ، فلا استصحاب .

وإنّما لا ينفع في الاستصحاب الشك الفرضي الذي لا فعلية له ، لأن قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين بالشك » (1) ظاهر في الشك الفعلي ، بل هو المتبادر منه ، حتى انه قد جاء لفظ الشك في بعض الروايات بصيغة الماضي الدال على تحقق الوقوع كما في قوله عليه السلام في رواية زرارة : «لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت » (2) فإنه كالصريح في لزوم فعلية الشك ، فلا يكفي شأنية الشك .

وعليه : ( فالمتيقِّنُ للحدث إذا التفت الى حاله في اللاحق ) قبل أن يصلي ( فشكّ ) في إنه هل بقي على الحدث أو تطهّر بعده ؟ ( جرى الاستصحاب في حقّه ) فيستصحب الحدث فلا يجوز له الدخول في الصلاة .

( فلو غفل عن ذلك ) أي بعد أن جرى استصحاب الحدث في حقه غفل

ص: 121


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب109 ح13 ، علل الشرائع : ج2 ص59 ح1 ، وسائل الشيعة : ج3 ص482 ب24 ح4236 .

وصلّى ، بطلت صلاتُه ، لسبق الأمر بالطهارة ، ولا يجري في حقّه حكمُ الشك في الصحة بعد الفراغ عن العمل ، لأنّ مجراه الشك الحادث بعد الفراغ ، لا الموجود من قبل .

نعم ، لو غفل عن حاله بعد اليقين بالحدث وصلّى ، ثم إلتفت وشك في كونه محدثا حال الصلاة أو متطهّرا ، جرى في حقّه قاعدةُ الشكّ بعد الفراغ ،

-------------------

عن ان وظيفته التطهر ( وصلّى ، بطلت صلاته ، لسبق الأمر بالطهارة ) لأن الشارع قال له بسبب الاستصحاب قبل الصلاة : أنت محدث فيجب عليك التطهّر للصلاة ، وهذا لم يتطهّر للصلاة فلم يصل عن طهارة ، لا طهارة قطعيّة ، ولا طهارة استصحابية .

( و ) إن قلت : إن قاعدة الفراغ جارية هنا فنحكم لأجلها بصحة صلاة هذا الشخص .

قلت : ( لا يجري في حقّه حكمُ الشك في الصحة بعد الفراغ عن العمل ) وذلك ( لأنّ مجراه ) أي : مجرى قاعدة الفراغ ( الشك الحادث بعد الفراغ ) كما إذا شك بعد الفراغ من الصلاة في انه هل كان متطهّرا أو لم يكن متطهّرا؟ ( لا الموجود من قبل ) كما هو المفروض حيث ان هذا الشك قد حصل له قبل الصلاة وجرى في حقه استصحاب الحدث .

( نعم ، لو غفل عن حاله بعد اليقين بالحدث ) بأن لم يعرض له شك قبل الصلاة حتى يكون مستصحبا للحدث ، بل كان غافلاً عن حاله ( وصلّى ثم إلتفت وشك في كونه محدثا ) كان ( حال الصلاة أو متطهّرا ) بأن كان شكّه بعد الصلاة ( جرى في حقّه قاعدةُ الشكّ بعد الفراغ ) .

ص: 122

لحدوث الشك بعد العمل ، وعدم وجوده قبله ، حتى يوجب الأمر بالطهارة والنهي عن الدخول فيه بدونها .

نعم ، هذا الشكّ اللاحق يوجبُ الاعادة بحكم استصحاب عدم الطهارة لولا حكومةُ قاعدة الشك بعد الفراغ عليه ، فافهم .

-------------------

وإنّما تجري القاعدة في حق الغافل عن حاله ( لحدوث الشك بعد العمل وعدم وجوده ) أي : الشك ( قبله ) أي : قبل العمل ، فإن عدم وجود الشك قبله يثمر : أنه لم يكن مستصحب الحدث ( حتى يوجب الأمر بالطهارة ، و ) يوجب ( النهي عن الدخول فيه ) أي : في الصلاة - مثلاً - ( بدونها ) أي : بدون الطهارة .

( نعم ، هذا الشكّ اللاحق ) بعد الصلاة ( يوجبُ الاعادة بحكم استصحاب عدم الطهارة لولا حكومةُ قاعدة الشك بعد الفراغ عليه ) أي : على الاستصحاب ، فإن قاعدة الفراغ كقاعدة التجاوز ، وقاعدة الصحة . وما أشبه ، كلّها حاكمة على الاستصحاب لما قرّر في محله : من أنه لو لم تتحكم هذه القواعد على الاستصحاب لزم سقوطها .

وإنّما يلزم سقوطها لأن هذه القواعد مجعولة في موارد الاستصحاب ، مثل استصحاب اشتغال الذمّة ، واستصحاب عدم ملكية هذا البائع للبضاعة التي يبيعها، وغير ذلك مما لو أردنا العمل بالاستصحاب فيها لما بقي لمثال قاعدة الفراغ مورد ، فيلزم تقديمها على الاستصحاب .

( فافهم ) ولعله إشارة الى أن وجوب الإعادة من الأحكام العقلية لاتيان الصلاة فاقدة لبعض شرائطها ، كما لو أتى بها بلا طهارة ، وذلك لأن المشروط عدم عند عدم شرطه ، وهذا الحكم العقلي لا يثبت بالاستصحاب لأنه مثبت ، وقد تقدّم ويأتي أن المثبت في الاصول ليس بحجة .

ص: 123

السادس :

في تقسيم الاستصحاب الى أقسام :

لِيُعرَفَ : أنّ الخلاف في مسألة الاستصحاب في كلّها أو في بعضها ، فنقول : إنّ له تقسيما باعتبار المُستصحب ، وآخر : باعتبار الدليل الدالّ عليه ، وثالثا : باعتبار الشك المأخوذ فيه .

-------------------

( السادس : في تقسيم الاستصحاب الى أقسام ) تالية ، وإنّما نقسمه الى هذه الأقسام ( لِيُعرَفَ : أنّ الخلاف في مسألة الاستصحاب ) هل هو ( في كلّها أو في بعضها ) ؟ حتى يكون الذي هو محل وفاق الجميع أكثر وثوقا وذلك للاطمئنان بصحة جريان الاستصحاب فيه .

( فنقول : إنّ له ) أي : للاستصحاب ( تقسيما باعتبار المُستصحب ، وآخر : باعتبار الدليل الدالّ عليه ، وثالثا : باعتبار الشك المأخوذ فيه ) .

أمّا تقسيمه باعتبار المستصحب : فلأن المستصحب قد يكون من قبيل الأحكام ، وقد يكون من قبيل الموضوعات .

وأمّا تقسيمه باعتبار الدليل الدال عليه : فلأن الدليل الدال على الاستصحاب ، امّا العقل ويسمّى باستصحاب حال العقل ، وامّا الشرع ويسمّى باستصحاب حال الشرع .

وأمّا تقسيمه باعتبار الشك المأخوذ فيه : فلأن الشك إمّا أن يكون في المقتضي أو يكون في المانع .

ولا يخفى : أنه قد يكون الشك في الملفق من المقتضي والمانع ، ومرادهم بذلك : ما كان الشك في البقاء فيه مرددا بين إنقضاء إستعداده

ص: 124

أمّا بالاعتبار الأوّل فمن وجوه :

الوجه الأوّل

أحدها : من حيث أنّ المستصحب قد يكون أمرا وجوديا ، كوجوب شيء ، أو طهارته أو رطوبته أو نحو ذلك .

-------------------

أو عروض المانع عليه ، كما سيأتي تفاصيل كل ذلك في كلام المصنِّف قدس سره .

( أمّا ) تقسيم الاستصحاب ، ( بالاعتبار الأوّل : ) أي : باعتبار المستصحب ( فمن وجوه ) تالية :

( أحدها : من حيث أنّ المستصحب قد يكون أمرا وجوديا ) بأن كان حكما تكليفيا اعتباريا ( كوجوب شيء ، أو ) وضعيا مثل : ( طهارته ) فإن الأحكام الخمسة تسمّى بالأحكام التكليفية ، وما عداها كالجزئية والشرطية ، والطهارة والنجاسة ، والملكية والزوجية ، والرقّية والحرية ، تسمّى بالأحكام الوضعية .

( أو ) موضوعا خارجيا مثل : ( رطوبته أو نحو ذلك ) .

هذا ، وقد سبق أن قلنا : أن الحكم الشرعي هو الذي يستطرق فيه باب الشرع ، فكون هذا الشيء واجبا أو ليس بواجب ، طاهرا أو ليس بطاهر - مثلاً - يحتاج الى بيان من الشرع .

وأمّا الموضوع الخارجي فإنه يستطرق فيه باب العرف فكون هذا الشيء رطبا أو ليس برطب ، وإن زيدا ميت أو حي ، - مثلاً - لا يرتبط بالشارع ، وإنّما يلزم أن نستطرق فيه باب العرف ، لنعرف هل إنه كان رطبا حتى يتنجّس بالملاقاة ؟ وإنه هل بقي حيا حتى تجب نفقة زوجته - مثلاً -؟ وهكذا .

ص: 125

وقد يكون عدميّا ، وهو على قسمين :

أحدُهما عدم اشتغال الذمة بتكليف شرعي ، ويسمّى عند بعضهم : بالبرائة الأصليّة وأصالة النفي .

والثاني : غيره ، كعدم نقل اللفظ عن معناه وعدم القرينة

-------------------

( وقد يكون ) المستصحب أمرا ( عدميّا ) بمعنى : استصحاب العدم ( وهو على قسمين ) كما يلي :

( أحدهما ) : ما يرتبط بالشارع مثل : ( عدم اشتغال الذمة بتكليف شرعي ) كما إذا شككنا في أنّ التتن - مثلاً - حرام أم لا ؟ فنستصحب عدم الحرمة ( ويسمّى عند بعضهم : بالبرائة الأصليّة ) لأنّ الأصل برائة الانسان من كل تكليف حتى يثبت ذلك التكليف عليه ( و ) يسمّى أيضا : ( أصالة النفي ) لأنّ الأصل نفي التكليف عن الانسان حتى يثبت عليه التكليف .

مثلاً : ان التتن قبل الشرع لم يكن حراما فنستصحب عدم حرمته الى ما بعد الشرع ، أو انه حال الصغر أو الجنون لم يكن عليه حراما فنستصحب عدم حرمته بعد البلوغ والعقل ، أو إنه قبل دخول الوقت لم يكن واجبا عليه ، فنستصحب عدم وجوبه بعد الوقت ، أو إن المرأة حالة الحيض لم يجب عليها صلاة الآيات ، فنستصحب عدم الوجوب عليها بعد الحيض ، وهكذا .

( والثاني : غيره ) مما لا يرتبط بالشارع وإنّما يرتبط بالأمور الخارجية ، بلا فرق بين أن يكون راجعا الى الألفاظ ( كعدم نقل اللفظ عن معناه ) الى معنى آخر ( وعدم القرينة ) فيكون الكلام حقيقة في معناه اللغوي

ص: 126

وعدم موت زيد ورطوبة الثوب ، وحدوث موجب الوضوء أو الغسل ونحو ذلك .

ولا خلاف في كون الوجودي محل النزاع .

وأمّا العدميّ فقد مال الاستاذ قدّس اللّه سرّه ، الى عدم الخلاف فيه ، تبعا لما حكاه عن استاذه : السيّد صاحب الرياض : من دعوى الاجماع على اعتباره في العدميات .

-------------------

( و ) عدم التخصيص ، وعدم التقييد ، وعدم الاضمار ، وعدم الاشتراك ، وما أشبه ذلك .

أو يكون راجعا الى غير الألفاظ مثل : ( عدم موت زيد ) فيما إذا شككنا في حياته ( و ) عدم ( رطوبة الثوب ) فيما إذا شككنا في رطوبته حين وقوعه على الأرض النجسة - مثلاً - ( و ) عدم ( حدوث موجب الوضوء أو الغسل ) من الأحداث التي توجبهما فيما إذا شككنا في شيء منها .

( ونحو ذلك ) مثل : عدم حليّة هذه المرأة لهذا الرجل بهذا العقد المشكوك صحته وغيرها .

هذا ( ولا خلاف في كون ) الاستصحاب ( الوجودي محل النزاع ) بين العلماء في انه هل هو حجة أو ليس بحجة ؟ .

( وأمّا ) الاستصحاب ( العدميّ فقد مال الاستاذ ) شريف العلماء ( قدس اللّه سره ، الى عدم الخلاف فيه ) وانه حجة قطعا ، وذلك ( تبعا لما حكاه عن استاذه : السيّد صاحب الرياض : من دعوى الاجماع على اعتباره ) أي : على اعتبار الاستصحاب ( في العدميات ) فقط .

ص: 127

واستشهد على ذلك ، بعد نقل الاجماع المذكور ، باستقرار

سيرة العلماء على التمسك بالاصول العدمية ، مثل : أصالة عدم القرينة ، والنقل ، والاشتراك ، وغير ذلك ، وببنائهم هذه المسألة على كفاية العلّة المحدثة للابقاء .

أقول : ما استظهره قدس سره

-------------------

( واستشهد ) الاستاذ ( على ذلك ) أي : على عدم الخلاف في حجية الاستصحاب في العدميات ( بعد نقل الاجماع المذكور ) عن استاذه : ( باستقرار سيرة العلماء على التمسك بالاصول العدمية ، مثل : أصالة عدم القرينة ، و ) عدم ( النقل ، و ) عدم ( الاشتراك ، وغير ذلك ) فإن سيرتهم على التمسك بهذه الاصول العدمية تدل على عدم الخلاف في جريان الاستصحاب في العدميات .

( و ) استشهد الاستاذ أيضا ( ببنائهم هذه المسألة على كفاية العلّة المحدثة للابقاء ) أي : إنهم اختلفوا في ان العلّة المحدثة كافية في الابقاء أو ليست بكافية ، فإذا تنجس الماء - مثلاً - بسبب التغيّر ثم زال تغيّره من نفسه ، فهل تبقى النجاسة لأن العلّة المحدثة للنجاسة وهي التغيّر كافية في ابقاء النجاسة ولو زال التغيّر ؟ قال بعض : نعم ، لأن العلة المحدثة كافية للبقاء ، وقال بعض : لا ، لأن العلة المحدثة ليست كافية للبقاء .

هذا ، ومن المعلوم : ان هذا الكلام مختص بالوجوديات ، لأنّ العدم كما عرفت : لا يحتاج الى علّة حتى يبحث : في كون علّة العدم المحدثة للعدم هل هي مبقية للعدم أو ليست بمبقية؟ فإن العدم ليس بشيء حتى يكون علة أو معلولاً ، أو وصفا أو موصوفا ، أو ما أشبه ذلك من أوصاف الوجوديات .

( أقول : ما استظهره ) الاستاذ ( قدّس سرّه ) من عدم الخلاف في العدميات

ص: 128

لايخلو عن خفاء .

أما دعوى الاجماع فلا مسرح لها في المقام ،

مع ما سيمرّ بك من تصريحات كثيرة بخلافها ، وإن كان يشهد لها ظاهر التفتازاني في شرح الشرح ، حيث قال : « إنّ خلاف الحنفية المنكرين للاستصحاب إنّما هو في الاثبات دون النفي الأصلي» .

-------------------

( لا يخلو عن خفاء ، أما دعوى الاجماع فلا مسرح لها ) أي : لهذه الدعوى ( في المقام ) .

وإنّما لا مسرح لها هنا لوضوح : أن الاجماع إنّما هو حجة في الشرعيات لا في العقليات وجريان الاستصحاب في العدم أو عدم جريانه فيه من باب العقل لا من باب الشرع ( مع ما سيمرّ بك من تصريحات كثيرة بخلافها ) أي : بخلاف هذه الدعوى ، فأين الاجماع في المسألة ؟ .

والحاصل : ان الاجماع مخدوش صغرى : بوجود المخالف ، وكبرى : بأن المسألة ليست من المسائل التي يكون الاجماع فيها حجة ( وإن كان يشهد لها ) أي : لهذه الدعوى أيضا ( ظاهر التفتازاني في شرح الشرح ) فإن ابن الحاجب كتب كتابا في الاصول وشرحه العضدي ، وشرح التفتازاني شرح العضدي .

وكيف كان : فإن ظاهر التفتازاني يشهد لدعوى الاجماع ( حيث قال : « إنّ خلاف الحنفية المنكرين للاستصحاب إنّما هو في الاثبات دون النفي الأصلي » (1) ) أي : إنهم مختلفون في الاستصحاب في الوجوديات ، أمّا الاستصحاب في العدميات فلا خلاف منهم فيه .

هذا ، ولعل مراده بالنفي الأصلي ما أشرنا اليه : من أصالة النفي ، فإن الأصل نفي

ص: 129


1- - تعليقة شرح مختصر الاصول : ص284 .

وأمّا سيرة العلماء : فقد استقرّت في باب الألفاظ على التمسك بالاصول الوجودية والعدمية كلتيهما .

قال الوحيد البهبهاني في رسالته الاستصحابية ، بعد نقل القول بانكار اعتبار الاستصحاب مطلقا عن بعض وإثباته عن بعض ، والتفصيل عن بعض آخر ،

-------------------

التكليف عن الانسان حتى يثبت عليه التكليف ، كما ان الأصل في الأشياء العدم والنفي أيضا .

( وأمّا سيرة العلماء : فقد استقرّت في باب الألفاظ على التمسك بالاصول الوجودية والعدمية كلتيهما ) معا ، ومن المعلوم : ان الأصل في باب الألفاظ ، يراد به : الظهور لا الاستصحاب الاصطلاحي .

وإنّما يراد به الظهور لأن العلماء في باب الألفاظ يقولون : الأصل بقاء المعنى الأوّل وهو من الاصول الوجودية ، فإذا كان للفظ معنى ثم شككنا في أنه هل تغيّر عن ذلك المعنى أو لم يتغيّر؟ فالظاهر أنه باق على ذلك المعنى ، وهكذا بالنسبة الى الاصول العدمية مثل : أصالة عدم القرينة ، وعدم المخصّص ، وعدم الناسخ ، وما أشبه ذلك .

والحاصل : إن حجية الاصول اللفظية ليست مبتنية على حجية الاستصحاب ، بل من باب الظهور النوعي الذي يعتمده أهل اللسان ، بلا فرق بين الاصول الوجودية والاصول العدمية ، ويشهد لذلك كلام المحقق البهبهاني كما نقله المصنِّف بقوله : ( قال الوحيد البهبهاني في رسالته الاستصحابية ) التي كتبها في الاستصحاب ( بعد نقل القول بانكار اعتبار الاستصحاب مطلقا عن بعض ) حيث قال بعدم حجيته مطلقا ( وإثباته عن بعض ) حيث قال بحجيته مطلقا ( والتفصيل عن بعض آخر ) حيث قال

ص: 130

ما هذا لفظه :

« لكنّ الذي نجد من الجميع حتى من المنكر مطلقا ، أنّهم يستدلّون بأصالة عدم النقل ، فيقولون : الأمر حقيقةٌ في الوجوب عرفا ، فكذا لغةً ، لأصالة عدم النقل . ويستدلّون بأصالة بقاء المعنى اللغوي ، فينكرون الحقيقة الشرعية الى غير ذلك ، كما لا يخفى على المتتبع» ، انتهى .

وحينئذ : فلا شهادة

-------------------

بحجيّة بعض الاستصحاب دون بعض .

قال الوحيد ( ما هذا لفظه : « لكنّ الذي نجد من الجميع حتى من المنكر مطلقا ) أي : القائل بأن الاستصحاب ليس بحجة اطلاقا نرى ( أنّهم يستدلّون بأصالة عدم النقل ) - مثلاً - بالنسبة الى الاصول العدمية ( فيقولون : الأمر حقيقةٌ في الوجوب عرفا ، فكذا لغةً لأصالة عدم النقل ) لأنه لو نقل اللفظ من معناه السابق الى معنى جديد لكان على هذا النقل دليل .

( ويستدلّون بأصالة بقاء المعنى اللغوي ) - مثلاً - بالنسبة الى الاصول الوجودية، وذلك فيما إذا شك في بقاء المعنى اللغوي للفظ وعدم بقائه ( فينكرون الحقيقة الشرعية ) لأن الأصل بقاء المعنى اللغوي للصلاة - مثلاً - وبقاؤه يقتضي عدم وجود حقيقة شرعية .

( الى غير ذلك ، كما لا يخفى على المتتبع » (1) ، انتهى ) كلام الوحيد البهبهاني .

( وحينئذ ) أي : حين ظهر من كلام الوحيد : أن الاصول اللفظية وجودية كانت أو عدمية منوطة بالظهور حتى من المنكر للاستصحاب مطلقا ( فلا شهادة

ص: 131


1- - الرسالة الاستصحابية : مخطوط .

في السيرة الجارية في باب الألفاظ على خروج العدميات .

وأمّا استدلالهُم على إثبات الاستصحاب باستغناء الباقي عن المؤثر الظاهر الاختصاص بالوجودي - فمع أنّه معارَضٌ باختصاص بعض أدلّتهم الآتي بالعدمي ،

-------------------

في السيرة الجارية في باب الألفاظ على خروج العدميات ) عن محل الخلاف في باب الاستصحاب ، فإن العدميّات في باب الاستصحاب لا تزال محل خلاف وإن كانت العدميّات في باب الألفاظ محل وفاق .

وإنّما لا شهادة للسيرة الجارية هناك على ما نحن فيه ، لأن هنا بابين لا باب واحد : باب مرتبط بالألفاظ وجرت عليه السيرة ، وهو الظهورات ، وباب مرتبط بالاستصحاب ولم تجرِ عليه السيرة وهو الاستصحاب .

( وأمّا استدلالهُم على إثبات الاستصحاب باستغناء الباقي عن المؤثر الظاهر الاختصاص بالوجودي ) على ما عرفت : من إن ظهور هذا الكلام إنّما هو في الأمر الوجودي ، فلا يشمل الأمر العدمي ، لأن الوجود هو المحتاج الى المؤثر دون العدم ، لكنه لا يكون دليلاً أيضا على خروج العدميات عن محل الخلاف وذلك لما يلي :

أولاً : ( فمع أنّه معارَضٌ باختصاص بعض أدلّتهم الآتي ) ذكرها ( بالعدمي ) مثل قولهم : إن الاستصحاب لو كان حجة لوجب ترجيح بيّنة المنكر لكونها مؤيدة بأصالة العدم ، فإنه لو كان اختصاص بعض أدلتهم بالوجوديات ، لتعارض هذا الاستدلال مع اختصاص بعض أدلتهم الاخرى بالعدميات ، فيتساقطان ، فلا يكون الدليل الوجودي سببا لاخراج الاستصحاب العدمي عن محل الخلاف .

ص: 132

وبأنّه يقتضي أن يكون النزاعُ مختصا بالشك من حيث المقتضي لا من حيث الرافع -

-------------------

ثانيا : ( وبأنّه يقتضي أن يكون النزاعُ مختصا بالشك من حيث المقتضي ) وذلك كالشك في بقاء النجاسة للماء الذي زال تغيّره من نفسه ، فإن القائل باستغناء الباقي عن المؤثر يرى وجود المقتضي للنجاسة فيستصحب النجاسة ، بينما القائل بعدم استغناء الباقي عن المؤثر وإنه لابد من العلة المبقية ، يرى عدم وجود المقتضي للنجاسة فلا يستصحب النجاسة .

إذن : فيكون النزاع على هذا مختصا بصورة الشك في المقتضي و ( لا ) يشمل صورة الشك ( من حيث الرافع ) وذلك كالشك في بقاء الطهارة ، فإن الطهارة مما إذا وجدت إقتضت البقاء إلاّ أن يزيلها رافع ، فلا شك فيه حينئذ من حيث المقتضي حتى يكون مشمولاً للنزاع .

وعليه : فإن الشك قد يكون في المقتضي ، وقد يكون في الرافع ، فإذا أوقدنا السراج - مثلاً - أول الليل ، وشككنا في بقاء إنارته منتصف الليل ، فإن الشك المذكور قد يكون من باب الشك في المقتضي : بأن لا نعلم هل إن زيته كان بمقدار يبقى الى الصباح أم لا؟ وقد يكون من باب الشك في الرافع : بأن نعلم أن زيته كان بمقدار يبقى الى الصباح ، لكن لا نعلم هل ان ريحا هبّت فأطفأته أم لا؟ وهذا بالنسبة الى العرفيات .

أما بالنسبة الى الشرعيات فكذلك ، فإنه قد يكون الشك ، فيها من باب الشك في المقتضي ، كما مثَّلنا له بالماء المتغيّر الذي زال تغيّره من نفسه ، حيث لا نعلم هل إن التغيّر يقتضي بقاء النجاسة حتى بعد زواله أم لا؟ وقد يكون من باب الشك في الرافع ، كما مثلنا له بالشك في بقاء الطهارة ، حيث نعلم أن الطهارة إذا ثبتت

ص: 133

يمكن توجيهه أيضا بأنّ الغرض الأصلي هنا لمّا كان هو التكلّم في الاستصحاب الذي هو من أدلّة الأحكام الشرعيّة ، اكتفوا بذكر ما يثبت الاستصحاب الوجودي ،

-------------------

دامت ، لكن نشك في بقائها من جهة إنّا نشك في أنه هل حدث رافع أم لم يحدث ؟ .

وكيف كان : فإن الدليل المذكور لو تم كان سببا لاختصاص النزاع بالشك في المقتضي لا في الشك في الرافع ، لأنّ في مورد الشك في الرافع لا معنى للبحث في أن الباقي مستغنٍ في بقائه عن المؤثّر أم لا ، إذ وجود المؤثّر مقطوع البقاء فيه فإن الوضوء والغسل يؤثّران في الطهارة ما لم يعرض رافع ، فيكون الاستصحاب فيه متفقا عليه ، والحال أنه ليس الاستصحاب فيه متفقا عليه عند الجميع .

وإن شئت قلت : أن وجه اختصاص النزاع على هذا في الشك في المقتضي دون الشك في الرافع هو : انه مع الشك في الرافع لا يتفاوت الحال بين القول باحتياج الباقي الى المؤثر وبين القول بعدمه ، إذ الشك في الرافع إنّما هو بعد القطع بوجود المقتضي ، فالقول باحتياج الباقي الى المؤثر لا يمنع من اعتبار الاستصحاب فيه .

ثالثا : أنه بالاضافة الى ذلك ( يمكن توجيهه أيضا بأنّ الغرض الأصلي هنا ) في باب الاستصحاب ( لمّا كان هو التكلّم في الاستصحاب الذي هو من أدلّة الأحكام الشرعيّة ، اكتفوا بذكر ما يثبت الاستصحاب الوجودي ) أي : اكتفى الاصوليون بذكر ما يثبت الاستصحاب الوجودي بسبب استغناء الباقي عن المؤثّر ، وإلاّ فكلامهم في الأعم من الاستصحاب الوجودي والاستصحاب العدمي ، ومن المعلوم : ان الغالب في الأحكام الشرعية هي الوجودات لا الأعدام .

ص: 134

مع أنّه يمكن أن يكون الغرض : تتميمَ المطلب في العدمي بالاجماع المركب ، بل الأولويّة ، لأنّ الموجود إذا لم يحتج في بقائه الى المؤثّر ، فالمعدوم كذلك بالطريق الأولى .

-------------------

رابعا : ( مع أنّه يمكن أن يكون الغرض : تتميمَ المطلب في العدمي بالاجماع المركب ) إذ بعضهم قال بحجية الاستصحاب في الوجودي والعدمي مطلقا ، وبعضهم قال بعدم حجية الاستصحاب في الوجودي والعدمي مطلقا ، فإذا ثبت لدينا حجية الوجودي يلزم أن نقول بحجية العدمي أيضا ، وإلاّ لزم التفصيل بين حجية الوجودي وعدم حجية العدمي ، وهذا خرق للاجماع المركب .

خامسا : ( بل ) يمكن تتميم المطلب في العدمي بدليل ( الأولويّة ، لأنّ الموجود إذا لم يحتج في بقائه الى المؤثّر ) لأن المفروض : كفاية العلة المحدثة في بقاء المعلول وإن انتفت العلة ، كالماء المتغيّر إذا زال تغيّره ( فالمعدوم كذلك ) لم يحتج في بقائه على حالة العدم الى المؤثر ، وذلك ( بالطريق الأولى ) لأن العدم خفيف المؤنة بخلاف الوجود .

وبهذا ظهر : أن المصنِّف قد أجاب عن استدلالهم لاثبات الاستصحاب باستغناء الباقي عن المؤثر بخمسة أجوبة أثبت من خلالها عدم إفادة استدلالهم خروج العدميات عن محل النزاع والأجوبة هي كالتالي :

الأوّل : بقوله : فمع إنه معارض .

الثاني : بقوله : وبأنه يقتضي أن يكون .

الثالث : بقوله : يمكن توجيهه .

الرابع : بقوله : مع إنه يمكن أن يكون .

الخامس : بقوله : بل الأولوية .

ص: 135

نعم ، ظاهرُ عنوانهم للمسألة باستصحاب الحال وتعريفهم له ظاهر الاختصاص بالوجودي ، إلاّ أنّ الوجه فيه بيانُ الاستصحاب الذي هو من الأدلّة الشرعية للأحكام .

ولذا عَنونه بعضهُم بل الأكثر : باستصحاب حال الشرع .

وممّا ذكرنا

-------------------

الى هنا ثبت أن عنوانهم الاستصحاب أعم من الوجودي والعدمي .

( نعم ، ظاهرُ عنوانهم للمسألة باستصحاب الحال وتعريفهم له ) بأنه إبقاء ما كان ونحوه انّه ( ظاهر الاختصاص بالوجودي ) لأن «الحال» لا يكون للعدم وإنّما يكون للموجود ، كما إن «ما كان» ظاهر في ما وجد سابقا ، وإلاّ فإن العدم لايُسمّى « ما كان » .

( إلاّ أنّ ) هذا أيضا لا يكون دليلاً على إرادتهم استصحاب الوجود فقط ، وخروج العدميات عن محل الخلاف ، وذلك لأن ( الوجه فيه ) أي : في عنوانهم الاستصحاب بلفظ الحال ، وتعريفه بأنه « ابقاء ما كان » إنّما هو لأجل ( بيانُ الاستصحاب الذي هو من الأدلّة الشرعية للأحكام ) وقد عرفت : أن الأحكام الشرعية على الأغلب وجوديات وإن كان قسم منها عدميات مثل عدم الأكل ، وعدم الشرب ، وعدم الجماع ، بالنسبة الى الصوم والصلاة ، والإعتكاف ، والإحرام .

( ولذا عَنونه بعضهُم بل الأكثر : باستصحاب حال الشرع ) مما يظهر منه : أن مقصودهم الاستصحاب الذي هو من أدلة الأحكام الشرعية .

( وممّا ذكرنا ) : من أنهم لا يريدون نفي الاستصحاب العدمي ، بل يريدون اثبات الاستصحاب الذي هو دليل للأحكام الشرعية الغالب كونها وجوديات

ص: 136

يظهر عدم جواز الاستشهاد على اختصاص محل النزاع بظاهر قولهم في عنوان المسألة ب « استصحاب الحال » في الوجودي ، وإلاّ لَدلَّ تقييد كثير منهم العنوان ب «استصحاب حال الشرع» على اختصاص النزاع بغير الاُمور الخارجيّة .

وممّن يظهر منه : دخول العدميّات في محلّ الخلاف

-------------------

( يظهر عدم جواز الاستشهاد على اختصاص محل النزاع ) بالأمور الوجودية دون العدمية ، وذلك إستشهادا ( بظاهر قولهم في عنوان المسألة ب «استصحاب الحال» ) فإن هذا العنوان لا يدل على اختصاص الخلاف ( في الوجودي ) فقط .

( وإلاّ ) بأن كان ذكرهم استصحاب الحال في العنوان ظاهرا في قصدهم الوجودي في قبال العدمي ( لَدلَّ تقييد كثير منهم العنوان ب «استصحاب حال الشرع» على اختصاص النزاع بغير الاُمور الخارجيّة ) من الشك في الموضوعات ، فإن الموضوعات ليست من حال الشرع .

والحاصل : إن محل النزاع أعمّ من الاستصحاب الوجودي والعدمي ، والحكمي والموضوعي ، وعنوانهم استصحاب الحال إنّما هو من جهة أن العمدة بيان الاستصحاب الوجودي المُثبت للحكم الشرعي الكلّي ، لا أن مرادهم اخراج الاستصحاب العدمي عن محل النزاع .

كما إن عنوانهم حال الشرع في باب الاستصحاب أيضا من جهة أن قصدهم غالبا هو استصحاب الأحكام ، لا أنهم يريدون إخراج الاستصحاب الموضوعي عن محل النزاع ، فيكون قد روعي بذلك الغلبة في التعريفين ، تعريف الاستصحاب بالوجودي ، وتعريف الاستصحاب بحال الشرع .

هذا ( وممّن يظهر منه : دخول العدميّات في محلّ الخلاف ) وأنه هل يجري

ص: 137

الوحيد البهبهاني فيما تقدّم منه ، بل لعله صرّح في ذلك ، بملاحظة ما ذكره قبل ذلك في تقسيم الاستصحاب .

وأصرحُ من ذلك في عموم محل النزاع استدلال النافين في كتب الخاصة والعامة : بأنّه لو كان الاستصحاب معتبرا لزم ترجيحُ

-------------------

فيها الاستصحاب أم لا ، كما اختلفوا في أنه هل يجري الاستصحاب في الوجوديات أم لا؟ هو : ( الوحيد البهبهاني فيما تقدّم منه ) أي : من الوحيد حيث إنه نقل إنكار بعضهم للاستصحاب مطلقا ، وإثبات بعضهم للاستصحاب مطلقا ، وتفصيل بعضهم .

وإنّما يظهر من هذا الكلام ذلك ، لأن مثبت الاستصحاب مطلقا يثبته في الوجودي والعدمي والحكمي والموضوعي ، كما إن المنكر له مطلقا ينكره في جميع هذه الاُمور الأربعة ، والمفصّل يفصّل باثبات الاستصحاب في بعض الأربعة دون بعض .

( بل لعله صرّح في ذلك ) أي : في دخول العدميات في محل الخلاف أيضا ، وذلك ( بملاحظة ما ذكره قبل ذلك في تقسيم الاستصحاب ) فإنه رحمه اللّه قسّمه أولاً الى العدمي والوجودي والحكمي والخارجي . مما يظهر منه أن قوله : مطلقا في الاثبات ، ومطلقا في النفي ، شامل للوجودي والعدمي والحكمي والموضوعي .

( وأصرح من ذلك ) أي : من كلام الوحيد ( في عموم محل النزاع ) وشموله للاستصحاب الوجودي والعدمي معا ( استدلال النافين ) للاستصحاب مطلقا ( في كتب الخاصة والعامة : بأنّه لو كان الاستصحاب معتبرا لزم ) عند تعارض البيّنتين : بيّنة تقول بأن الدار لزيد ، وأخرى تقول بأن الدار ليست لزيد ( ترجيحُ

ص: 138

بيّنة النافي ، لاعتضاده بالاستصحاب ؛ واستدلال المثبتين - كما في المنية - بأنّه لو لم يعتبر الاستصحاب لانسدّ باب استنباط الأحكام من الأدلة ، لتطرّق احتمالات فيها لا يندفع إلاّ بالاستصحاب .

وممّن أنكر الاستصحاب في العدميات : صاحب المدارك ، حيث أنكر اعتبار استصحاب عدم التذكية الذي تمسّك به الأكثر لنجاسة الجلد

-------------------

بيّنة النافي ، لاعتضاده بالاستصحاب ) الذي هو أصالة العدم ، فإن الاستصحاب في العدميات لو كان خارجا عن محل الخلاف لما استطاع هؤلاء نفيه والاستدلال على ذلك .

( واستدلال المثبتين ) للاستصحاب مطلقا ( كما في المنية ) تأليف عميد الدين : ( بأنّه لو لم يعتبر الاستصحاب ) مطلقا حتى في العدميات ( لانسدّ باب استنباط الأحكام من الأدلة ) .

وإنّما ينسد باب استنباط الأحكام ( لتطرّق احتمالات فيها ) أي : في تلك الأحكام : من وجود التخصيص ، أو التقييد ، أو النسخ ، أو النقل ، أو الإضمار ، أو الاشتراك ، أو غير ذلك مما ( لا يندفع ) شيء منها ( إلاّ بالاستصحاب ) أي : باستصحاب العدم فيها ، كاستصحاب عدم التخصيص ، وعدم التقييد - مثلاً - فإن الاستصحاب في العدميات لو كان محل وفاق لما احتاج هؤلاء الى اثباته والاستدلال على ذلك .

والحاصل : انه ظهر من إستدلال المثبتين للاستصحاب ، وكذا من إستدلال النافين للاستصحاب : أن الاستصحاب العدمي هو محل البحث والنزاع أيضا .

هذا ( وممّن أنكر الاستصحاب في العدميات : صاحب المدارك ، حيث أنكر اعتبار استصحاب عدم التذكية الذي تمسّك به الأكثر لنجاسة الجلد

ص: 139

المطروح .

وبالجملة : فالظاهر : أنّ المتتبّع يشهد بأنّ العدميات ليست خارجة عن محل النزاع ، بل سيجيء - عند بيان أدلة الأقوال -

-------------------

المطروح ) وكذا في اللحم المطروح بلا علامة التذكية ، فإن الأكثر عند الشك في التذكية وعدمها يتمسكون بأصالة عدم التذكية ويرتبون على ذلك : عدم حلّ شيء مما تحلّه الحياة من ذلك الحيوان ، لأن الحيوان إنّما يكون محلّلاً إذا ذُكِّي ، فإذا أجرينا استصحاب عدم التذكية يكون الحيوان محرّما ، فأنكر المدارك هذا الاستصحاب معلّلاً له بأمرين :

أولاً بعمد اعتبار الاستصحاب في العدميات ولذا لا نتمكن من استصحاب عدم التذكية .

ثانيا : بأن هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم الموت حتف أنفه ، حيث جعل التذكية والموت حتف الأنف ضدّين ، ومن المعلوم : أن عدم أحد الضدّين لا يثبت الضدّ الآخر ، فإن أصل العدم يجري في هذا ويجري في ذاك ، فيتساقطان بالتعارض .

والحاصل : أن إنكار المدارك للاستصحاب العدمي من جهة ، واثبات غيره للاستصحاب العدمي من جهة أخرى ، يدل على أن الاستصحاب العدمي أيضا محل نزاع بين الاصوليين إثباتا ونفيا ، كما أن الاستصحاب الوجودي أيضا كذلك.

( وبالجملة : فالظاهر : أنّ المتتبّع ) لكلام الفقهاء والاصوليين ( يشهد بأنّ العدميات ليست خارجة عن محل النزاع ) في باب الاستصحاب .

( بل سيجيء - عند بيان أدلة الأقوال - ) المختلفة في باب الاستصحاب

ص: 140

أنّ القول بالتفصيل بين العدمي والوجودي - بناءا على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ - وجوده بين العلماء لا يخلو من إشكال ، فضلاً عن إتفاق النافين عليه ، إذ ما من استصحاب وجودي إلاّ ويمكن معه فرضُ استصحاب عدمي يلزم من الظنّ به الظنّ بذلك المستصحب الوجودي ، فيسقط فائدةُ نفي اعتبار الاستصحابات الوجودية ،

-------------------

إن شاء اللّه تعالى : ( أنّ القول بالتفصيل بين العدمي والوجودي ) وذلك ( بناءا على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ) هذا التفصيل ( وجوده بين العلماء لا يخلو من إشكال ) فكيف بالاتفاق عليه كما قال : ( فضلاً عن إتفاق النافين عليه ) ؟ .

إذن : فالقول في المسألة : إما بالاستصحاب مطلقا وإما بعدم الاستصحاب مطلقا مما يثبت دخول العدمي في محل النزاع ، فلا قول بالتفصيل حتى يكون العدمي على القول به خارجا عن محل النزاع .

وإنّما يشهد كلام الاصوليين والفقهاء بعدم خروج العدميات عن محل النزاع ( إذ ما من استصحاب وجودي إلاّ ويمكن معه فرض استصحاب عدمي يلزم من الظنّ به ) أي : بالعدم ( الظنّ بذلك المستصحب الوجودي ) فإنه لو كان الاستصحاب في العدميات حجة بلا خلاف ، لكان البحث في حجية الاستصحاب في الوجوديّات لغوا .

وإنّما يكون البحث فيه لغوا لأنه ما من مورد للاستصحاب الوجودي إلاّ ويمكن تبديله بالاستصحاب العدمي ( فيسقط فائدةُ نفي اعتبار الاستصحابات الوجودية ) لأن مهمّة المستصحِب - بالكسر - وصوله الى الحكم بواسطة الاستصحاب وهو إذا استصحب العدم وصل الى الحكم الوجودي ومعه لا حاجة للتكلم في كون الاستصحاب الوجودي حجة أم لا ؟ .

ص: 141

وانتظر لتمام الكلام .

وممّا يشهد بعدم الاتفاق في العدميات اختلافهم في أنّ النافي يحتاج الى دليل أم لا ،

-------------------

مثلاً : إنه يتمكن من أن يستصحب عدم موت زيد لايجاب نفقة زوجته فلا حاجة له الى استصحاب حياة زيد ، ويتمكن من أن يستصحب عدم نجاسة الماء لاثبات طهارة الثوب المغسول به فلا حاجة له الى استصحاب طهارة الماء ، وهكذا .

وعليه : فمحاولة الاصوليين اثبات حجية الاستصحاب الوجودي وإنه لو لم يكن حجة لم يصلوا الى الحكم المترتب على الاستصحاب الوجودي ، يدل على عدم مسلّمية حجية الاستصحاب العدمي عند الجميع إذ لو كان الاستصحاب العدمي حجة كذلك لم يحتاجوا الى هذه المحاولة ، لأن الاستصحاب العدمي يسدّ مسد الاستصحاب الوجودي على ما بيّناه .

( وانتظر لتمام الكلام ) في هذا المجال ، فإن الاستصحاب العدمي هو أيضا كالوجودي على ما عرفت : محل النزاع بين الاصوليين ، وليس كما زعمه بعض : من انه متفق عليه .

( وممّا يشهد بعدم الاتفاق في العدميات ) ودخوله في محل النزاع هو ( اختلافهم في أنّ النافي يحتاج الى دليل أم لا ) .

مثلاً : إذا اختلف اثنان في أنه هل وقع النكاح ، أو وقع البيع ، أو وقع الصلح أو ما أشبه أم لا؟ قال بعض : بأن النافي لهذه المعاملات ونحوها لا يحتاج الى الدليل ، لأن أصل العدم كاف لاثبات كلامه ، وقال بعض آخر : بأن أصل العدم لا يكفي لاثبات كلامه ، فاختلافهم في ذلك دليل على أنهم غير متّفقين في العدميّات

ص: 142

فلاحظ ذلك العنوان تجده شاهد صدق على ما إدّعينا .

نعم ، ربّما يظهر من بعضهم : خروج بعض الأقسام من العدميات من محل النزاع ، كاستصحاب النفي المسمّى : بالبرائة الأصلية ، فإنّ المصرّح به في كلام جماعة ، كالمحقق ، والعلامة ، والفاضل الجواد : الإطباق على العمل عليه ، وكاستصحاب عدم النسخ ، فإن المصرّح به في كلام غير واحد ، كالمحدّث الاسترابادي ، والمحدّث البحراني : عدم الخلاف فيه ،

-------------------

بل مختلفون فيها .

وعليه : فإن أردت الوقوف على ما قلناه ( فلاحظ ذلك العنوان تجده شاهد صدق على ما إدّعينا ) : من أن الاستصحاب العدمي هو كالوجودي موضع اختلاف بين الاصوليين والفقهاء .

( نعم ، ربّما يظهر من بعضهم : خروج بعض الأقسام من العدميات من محل النزاع ) والاتفاق على الاستصحاب فيه ( كاستصحاب النفي المسمّى : بالبرائة الأصلية ) مثل ما لو شككنا في أنه هل حرم التتن أم لا؟ فنستصحب عدم حرمته قبل الشرع الى ما بعد الشرع .

وكذا لو شككنا في حكم على صغير بلغ ، أو على مجنون أفاق ، فلم نعلم أنه كلّف بالتكليف الفلاني أم لا؟ فنستصحب عدم التكليف حال الصغر وحال الجنون الى ما بعد البلوغ والإفاقة .

وعليه : ( فإنّ المصرّح به في كلام جماعة ) من الفقهاء ( كالمحقق ، والعلامة ، والفاضل الجواد : الإطباق على العمل عليه ) أي : على استصحاب النفي فيها .

( وكاستصحاب عدم النسخ ) حيث انه متّفق عليه بينهم ( فإن المصرّح به في كلام غير واحد كالمحدّث الاسترابادي ، والمحدّث البحراني : عدم الخلاف فيه )

ص: 143

بل مالَ الأوّل الى كونه من ضروريات الدين ، وألحق الثاني بذلك استصحاب عدم المخصّص والمقيّد .

والتحقيقُ : إنّ اعتبار الاستصحاب بمعنى: التعويل في تحقق شيء في الزمان الثاني على تحققه في الزمان السابق عليه ، مختلفٌ فيه من غير فرق بين الوجودي والعدمي .

نعم ، قد يتحقق في بعض الموارد قاعدة أخرى يوجب الأخذ بمقتضى الحالة السابقة ، كقاعدة قبح التكليف من غير بيان ،

-------------------

فإنه ما دام لا نعلم بالنسخ نستصحب عدم النسخ .

( بل مالَ الأوّل ) : وهو الاسترابادي ( الى كونه ) أي : استصحاب عدم النسخ ( من ضروريات الدين ) .

هذا ( وألحق الثاني ) : وهو البحراني ( بذلك ) أي : بأصل عدم النسخ ( استصحاب عدم المخصّص والمقيّد ) وقال : بأنه من ضروريات الدين ، فإذا لم يظهر مخصص أو مقيد ، نستصحب عدمهما ونتمسك بالعام أو المطلق .

( و ) مما ذكرنا من كلماتهم ظهر : أن ( التحقيقُ : أنّ اعتبار الاستصحاب بمعنى: التعويل في تحقق شيء في الزمان الثاني على تحققه في الزمان السابق عليه ، مختلفٌ فيه ) بين الفقهاء والاصوليين ( من غير فرق بين الوجودي والعدمي ) فليس الاستصحاب العدمي متفقا عليه .

( نعم ، قد يتحقق في بعض الموارد قاعدة أخرى ) غير الاستصحاب ( يوجب الأخذ بمقتضى الحالة السابقة ) فذلك ليس من باب الاستصحاب بل من باب قاعدة أخرى ( كقاعدة قبح التكليف من غير بيان ) حيث إنه من المستقلات العقلية ، وهذا يوافق استصحاب العدم ، لكنه قاعدة أخرى غير الاستصحاب .

ص: 144

أو عدم الدليل دليل العدم ، أو ظهور الدليل الدالّ على الحكم في استمراره ، أو عمومه ، أو اطلاقه أو غير ذلك ، وهذا لا ربط له باعتبار الاستصحاب .

ثم إنّا لم نجد في أصحابنا من فَرَّق بين الوجودي والعدمي .

-------------------

( أو عدم الدليل دليل العدم ) وهذه أيضا قاعدة عقلائية توافق استصحاب العدم يعمل بها العقلاء تجاه الموالي وذلك في أنه لاحق للمولى إذا لم ينصب دليلاً أن يعاقب العبد على عدم عمله بما يريده المولى ، وهي غير الاستصحاب .

( أو ظهور الدليل الدالّ على الحكم في استمراره ، أو عمومه ، أو اطلاقه ) فإنه إذا كان للدليل ظهور في الاستمرار ، أو العموم ، أو الاطلاق بنى العقلاء على ذلك للظهور العقلائي وإن كان يوافقه استصحاب عدم النسخ ، وعدم التخصيص ، وعدم التقييد ( أو غير ذلك ) مما له ظهور كارادة الحقيقة فيما إذا لم يكن هناك قرينة منصوبة على خلافه .

( وهذا لا ربط له باعتبار الاستصحاب ) فإن هذه اصول عقلائية يعمل عليها العقلاء سواء قلنا بحجيّة الاستصحاب أم لم نقل بحجيّته .

إذن : فلا يحق لأحد أن يقول : أنّ هذه الاُمور العدميّة متّفق عليها فتكون دليلاً على اتّفاقهم على الاستصحاب في الاُمور العدمية أيضا ، وذلك لما عرفت : من أنّ الاستصحاب شيء ، وهذه الاُمور العدميّة شيء آخر ، فلا يكون أحدهما دليل على الآخر .

( ثم إنّا لم نجد في أصحابنا من فَرَّق بين الوجودي والعدمي ) ، في باب الاستصحاب ، بل هم بين من أثبته مطلقا أو نفاه مطلقا على ما عرفت .

ص: 145

نعم ، حكى شارح الشرح هذا التفصيل عن الحنفيّة .

الوجه الثاني :

إنّ المستصحب قد يكون حكما شرعيا ، كالطهارة المستصحبة بعد خروج المذي ، والنجاسة المستصحبة بعد زوال تغيّر المتغيّر من قبل نفسه ؛

-------------------

( نعم ، حكى شارح الشرح ) أي : التفتازاني المتقدم ذكره ( هذا التفصيل ) بين العدمي والوجودي ( عن الحنفيّة ) وذلك لا يكون دليلاً على أن أصحابنا أيضا يقولون بالتفصيل .

ثم لا يخفى : أنه قد ذكرنا في أوّل المبحث السادس قبل عدة صفحات تقسيم الاستصحاب تارة باعتبار المستصحب ، واخرى باعتبار الدليل ، وثالثة باعتبار الشك المأخوذ فيه ، ومضى أن التقسيم باعتبار المستصحب من وجوه ، تكلمنا عن أولها ، وبقي الكلام في الباقي ، أما الكلام في ثانيها فهو كما يلي :

( الثاني ) من تقسيمات الاستصحاب حسب المستصحب هو : ( إنّ المستصحب قد يكون حكما شرعيا ) كليّا ( كالطهارة ) عن الحدث ، ( المستصحبة بعد خروج المذي ) والوذي والودي ، فإن الفقيه يحكم بالطهارة المستصحبة في هذه الاُمور مطلقا ، وهو حكم كلّي لكل من خرج منه شيء من هذه الاُمور بعد طهارته .

( و ) مثل ( النجاسة المستصحبة بعد زوال تغيّر المتغيّر من قبل نفسه ) بأن كان الماء قد تنجس بالتغيّر ، ثم زال تغيّره من قبل نفسه حيث نشك في أنه هل بقي على النجاسة أو زالت النجاسة بزوال التغير؟ فإن الاستصحاب يقول ببقاء

ص: 146

وقد يكون غيره ، كاستصحاب الكرّية ، والرطوبة ، والوضع الأوّل عند الشك في حدوث النقل أو في تاريخه .

والظاهر بل صريح جماعة : وقوع الخلاف في كلا القسمين .

نعم ، نُسب الى بعض التفصيل بينهما بانكار الأوّل والاعتراف بالثاني ، ونُسب الى آخر : العكس

-------------------

النجاسة ، وهو حكم كلّي يستنبطه الفقيه من قاعدة الاستصحاب .

( وقد يكون غيره ) أي : غير الحكم الشرعي ، فإن الاستصحاب قد يكون في الأحكام وقد يكون في الموضوعات ( كاستصحاب الكرّية ، والرطوبة ، والوضع الأوّل ) للكلمة ، فإنا نستصحب الوضع الأوّل للكلمة ( عند الشك في حدوث النقل أو في تاريخه ) أي : تاريخ النقل للكلمة ، فإذا شككنا - مثلاً - في أن صيغة الأمر هل نقلت عن الوجوب الذي هو المعنى الظاهر للصيغة الى الاستحباب في زمان الأئمة عليهم السلام أم لا ؟ نقول بعدم النقل لاستصحابه .

وكذا إذا عَلِمنا بأنّ كلمة الصلاة نقلت من الدعاء الى الأركان المخصوصة ، لكن نَشك في أنّ النقل حصل في زمن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم أو في زمن الإمام الصادق عليه السلام نقول : بأنه لم ينقل الى زمان الإمام الصادق عليه السلام وهذا هو استصحاب الموضوع وليس استصحابا للحكم .

( والظاهر بل صريح جماعة : وقوع الخلاف في كلا القسمين ) من الاستصحاب : الاستصحاب الحكمي والاستصحاب الموضوعي معا .

( نعم ، نُسب الى بعض التفصيل بينهما بانكار الأوّل ) بأن قال بعدم جريان الاستصحاب في الحكم ( والاعتراف بالثاني ) بأن قال بجريان الاستصحاب في الموضوع ( ونُسب الى آخر : العكس ) بأن أجرى الاستصحاب في الحكم دون

ص: 147

حكاهما الفاضل القمّي في القوانين .

وفيه نظرٌ ، يظهر بتوضيح المراد من الحكم الشرعي وغيره ، فنقول : الحكم الشرعي يراد به تارة : الحكم الكلّي الذي من شأنه أن يؤخذ من الشارع ، كطهارة من خرج منه المذي أو نجاسة ما زال تغيّره بنفسه .

وأخرى : يراد به ما يعمّ الحكم الجزئي الخاصّ في الموضوع الخاصّ ،

-------------------

الموضوع ، وهذان التفصيلان ( حكاهما الفاضل القمّي في القوانين (1) ) .

وعليه : فالأقوال حينئذ أربعة : قولان بالاطلاق وهما : جريان الاستصحاب مطلقا في الحكم والموضوع ، وعدم جريان الاستصحاب مطلقا لا في الحكم ولا في الموضوع ، وقولان بالتفصيل وهما : جريان الاستصحاب في الحكم دون الموضوع ، وجريان الاستصحاب في الموضوع دون الحكم ، لكن سيأتي من المصنِّف أن الأقوال بالتفصيل ثلاثة لا إثنان .

( وفيه ) أي : فيما نقله الفاضل القمّي من التفصيل ونَسَبه الى بعض ( نظرٌ ، يظهر بتوضيح المراد من الحكم الشرعي وغيره ) أي : غير الحكم الشرعي وهو الموضوع الخارجي .

وعليه : ( فنقول : الحكم الشرعي يراد به تارة : الحكم الكلّي الذي من شأنه أن يؤخذ من الشارع ) لأنّ الأحكام الكلّية إنّما تؤخذ من الشارع فقط ( كطهارة من خرج منه المذي ) والودي والوذي ( أو نجاسة ما زال تغيّره بنفسه ) وما أشبه ذلك من الأحكام الكليّة وجوبية كانت أو تحريمية ، تكليفية كانت أو وضعية .

( وأخرى : يراد به ما يعمّ ) الحكم الكلّي المذكور و ( الحكم الجزئي الخاصّ

ص: 148


1- - القوانين المحكمة : ص283 .

كطهارة هذا الثوب ونجاسته ، فإنّ الحكم بهما من جهة عدم ملاقاته للنجس أو ملاقاته ، ليس وظيفةً الشارع .

نعم ، وظيفته إثبات الطهارة الكلّية لكل شيء شك في ملاقاته للنجس وعدمها .

وعلى الاطلاق الأوّل جرى الاخباريون ، حيث أنكروا اعتبار الاستصحاب في نفس أحكام اللّه تعالى .

-------------------

في الموضوع الخاصّ ، كطهارة هذا الثوب ونجاسته ) حيث إن المرجع فيهما العرف ( فإنّ الحكم بهما من جهة عدم ملاقاته للنجس أو ملاقاته ، ليس وظيفة الشارع ) .

إذن : فالشارع ليس مرجعا لبيان أن ثوب زيد نجس وثوب خالد طاهر من جهة الملاقاة وعدم الملاقاة ، وإنّما الشارع مرجع لبيان الأحكام الكلّية ، أمّا الصُغريات الخارجية لتلك الأحكام فمرجعها العُرف .

( نعم ، وظيفته ) أي : الشارع ( إثبات الطهارة الكلّية لكل شيء شك في ملاقاته للنجس وعدمها ) فإن الشارع يقول : كلّ شيء لك طاهر حتى تَعْلَم أنّه لاقى النجس ، أمّا أن هذا الثوب لاقى النجس أو لم يلاق النجس فليس من وظيفة الشارع بيانه .

( وعلى الاطلاق الأوّل جرى الاخباريون ) أي : أن الاخباريين أنكروا جريان الاستصحاب في أحكام اللّه ، لكنهم أرادوا من أحكام اللّه : الحكم الشرعي الكلّي ،

لا الأعم منه حتى ليشمل كلامهم الأحكام الشرعيّة الجزئية التي ليست وظيفة الشارع.

وعليه : فالاخباريون - كما قال - أرادوا الاطلاق الأوّل للحكم الشرعي ( حيث أنكروا اعتبار الاستصحاب في نفس أحكام اللّه تعالى ) فقالوا مثلاً : بعدم

ص: 149

وجعله الاسترابادي من أغلاط من تأخر عن المفيد ، مع اعترافه باعتبار الاستصحاب في مثل طهارة الثوب ونجاسته وغيرهما مما شك فيه من الأحكام الجزئية لأجل اشتباه في الاُمور الخارجية .

وصرّح المحدّث الحرّ العامليّ : بأنّ أخبار الاستصحاب لا تدلّ على اعتباره في نفس الحكم الشرعي ، وإنّما يدل على اعتباره في موضوعاته ومتعلّقاته .

-------------------

استصحاب حلّية التتن قبل الشريعة الى ما بعدها ، وبعدم استصحاب صحة ضمان ما لم يجب قبل الشريعة الى ما بعدها وهكذا .

( وجعله ) أي : جعل هذا الاستصحاب ( الاسترابادي من أغلاط من تأخر عن المفيد ) رحمه اللّه ( مع اعترافه ) أي : الاسترابادي ( باعتبار الاستصحاب في مثل طهارة الثوب ونجاسته وغيرهما مما شك فيه من الأحكام الجزئية ) شكا ( لأجل اشتباه في الاُمور الخارجية (1) ) كما إذا لم نعلم بأنّ الثوب لاقى البول أو لم يلاقه ، أو أن زيدا مات حتى لا تجب نفقة زوجته أو لم يمت ؟ .

والحاصل : أن المحقق الاسترابادي يفصّل بين الأحكام الكلّية والأحكام الجزئية ، حيث لا يجري الاستصحاب في الأحكام الكلّية ويجريه في الأحكام الجزئية .

( وصرّح المحدّث الحرّ العامليّ : بأنّ أخبار الاستصحاب لا تدلّ على اعتباره ) أي : اعتبار الاستصحاب ( في نفس الحكم الشرعي ) الكلّي ( وإنّما يدل على اعتباره ) أي : اعتبار الاستصحاب ( في موضوعاته ومتعلّقاته ) أي : موضوعات الحكم الجزئي ومتعلقات تلك الموضوعات ، فيستصحب حياة زيد

ص: 150


1- - الفوائد المدنية : ص141 .

والأصل في ذلك عندهم : إنّ الشبهة في الحكم الكلّي لا مرجع فيها إلاّ الاحتياط ، دون البرائة أو الاستصحاب ، فانّهما عندهم مختصّان بالشبهة في الموضوع .

وعلى الاطلاق الثاني جرى بعضٌ آخر .

قال المحقّق الخوانساري في مسألة الاستنجاء بالأحجار : « وينقسمُ الاستصحاب الى قسمين باعتبار الحكم المؤخذ فيه الى شرعي وغيره

-------------------

كما يستصحب وجوب نفقة زوجته ، فإن النفقة متعلق الموضوع .

هذا ( والأصل ) أي : المنشأ ( في ذلك ) أي : في أن اخبار الاستصحاب لاتدلّ على اعتبار الاستصحاب في نفس الحكم الشرعي الكلّي ( عندهم ) أي : عند الاخباريين هو : ( أنّ الشبهة في الحكم الكلّي لا مرجع فيها إلاّ ) الى ( الاحتياط ، دون البرائة أو الاستصحاب ) أي : لا البرائة ولا الاستصحاب ( فانّهما ) أي : البرائة والاستصحاب ( عندهم ) أي : عند الاخباريين ( مختصّان بالشبهة في الموضوع ) .

هذا كلّه على الاطلاق الأوّل وهو : اطلاق الحكم الشرعي على الحكم الكلّي فقط .

( وعلى الاطلاق الثاني ) : أي : اطلاق الحكم الشرعي على المعنى الأعم الشامل للكلّي والجزئي ( جرى بعضٌ آخر ) فقد ( قال المحقّق الخوانساري في مسألة الاستنجاء بالأحجار : «وينقسمُ الاستصحاب الى قسمين باعتبار الحكم المؤخذ فيه ) الاستصحاب ( الى شرعي وغيره ) ومراده من الشرعي بقرينة عدم التقييد : الأعم من الحكم الشرعي الكلّي ، كما ان مراده من غيره : الاُمور الخارجية .

ص: 151

ومثَّل للأوّل بنجاسة الثوب أو البدن ، وللثاني برطوبته . ثم قال : ذهب بعضهُم الى حجيّة القسمين ، وبعضهم الى حجيّة القسم الأوّل فقط » ، انتهى .

إذا عرفت ما ذكرنا ، ظهر : أنّ عدّ القول بالتفصيل بين الأحكام الشرعية والاُمور الخارجيّة قولين متعاكسين ، ليس على ما ينبغي .

لأنّ المراد بالحكم الشرعي إن كان هو الحكم

-------------------

هذا ( ومثَّل للأوّل ) وهو ما أشار اليه بقوله : الى شرعي ( بنجاسة الثوب أو البدن ) فإن نجاسة هذا الثوب أو ذاك البدن الخاص وعدم نجاستهما حكم شرعي .

كما ( و ) مثّل ( للثاني ) : وهو ما أشار اليه بقوله : وغيره ( برطوبته ) فإن الرطوبة أمر خارجيّ وليس حكما شرعيا وإن ترتّب على الرطوبة واللارطوبة الحكم الشرعي ، فإن الثوب إذا كان رطبا ولاقى النجس تنجّس بخلاف ما إذا لم يكن رطبا .

( ثم قال : ذهب بعضهُم الى حجيّة القسمين ، وبعضهم الى حجيّة القسم الأوّل فقط » (1) ، انتهى ) كلام المحقق الخوانساري رحمة اللّه عليه .

( إذا عرفت ما ذكرنا ) : من أن الحكم الشرعي يراد به تارة الحكم الكلّي الذي من شأنه أن يؤخذ من الشارع ، وأخرى يراد به ما يعمّ الحكم الكلّي والحكم الجزئي المرتبط بالموضوع الخاص ، إذا عرفت ذلك ( ظهر : أنّ عدّ القول بالتفصيل بين الأحكام الشرعية والاُمور الخارجيّة قولين متعاكسين ) كما نقلناه عن المحقق القمي رحمه اللّه ( ليس على ما ينبغي ) .

وإنّما لايكون على ما ينبغي ( لأنّ المراد بالحكم الشرعي إن كان هو الحكم

ص: 152


1- - مشارق الشموس في شرح الدروس : ص76 .

الكلّي الذي أنكره الاخباريون ، فليس هنا من يقول باعتبار الاستصحاب فيه ونفيه في غيره ، فإنّ ما حكاه المحقق الخوانساري واستظهره السبزواري هو اعتباره في الحكم الشرعي بالاطلاق الثاني الذي هو الأعمّ من الأوّل .

وإن أريد بالحكم الشرعي الاطلاق الثاني الأعمّ ، فلم يقل أحدٌ باعتباره في غير الحكم الشرعي ، وعدمه في الحكم الشرعي ،

-------------------

الكلّي الذي أنكره الاخباريون ، فليس هنا من يقول ) بعكس هذا القول ، لأنه صحيح أنّ الاخباريين أنكروا الاستصحاب في الحكم الكلّي واعتبروه في غيره ، إلاّ أنه لا عكس له في الأقوال ، إذ لم يقل أحد ( باعتبار الاستصحاب فيه ) أي : في الحكم الكلّي فقط ( ونفيه ) أي : نفي اعتبار الاستصحاب ( في غيره ) أي : في غير الحكم الكلّي .

وإنّما لم يكن هنا من يقول بالعكس لأنه كما قال : ( فإنّ ما حكاه المحقق الخوانساري واستظهره السبزواري ) ليس هو اعتبار الاستصحاب في الحكم الكلّي فقط حتى يكون عكسا لقول الاخباريين ، بل ( هو اعتباره في الحكم الشرعي بالاطلاق الثاني الذي هو الأعمّ من الأوّل ) أي : من الحكم الكلّي والجزئي .

( وإن أريد بالحكم الشرعي الاطلاق الثاني ) الذي هو ( الأعمّ ) من الكلّي والجزئي ( فلم يقل أحدٌ باعتباره ) أي : باعتبار الاستصحاب ( في غير الحكم الشرعي ، وعدمه في الحكم الشرعي ) .

إذن : فالمحقق الخوانساري وإن نقل عن بعض : القول باعتبار الاستصحاب في الحكم الشرعي مطلقا ، وإنكاره في الاُمور الخارجية ، إلا إنّه لا عكس له ،

ص: 153

لأن الاخباريين لاينكرون الاستصحاب في الأحكام الجزئية .

ثم إنّ المحصّل من القول بالتفصيل بين القسمين المذكورين في هذا التقسيم ثلاثةٌ :

الأوّل : اعتبار الاستصحاب في الحكم الشرعي مطلقا ، جزئيا كان : كنجاسة الثوب ، أو كليّا : كنجاسة الماء المتغيّر بعد زوال التغيّر ، وهو الظاهر مما حكاه المحقق الخوانساري .

الثاني : اعتباره في ما عدا الحكم الشرعي الكلّي وإن كان حكما جزئيا ،

-------------------

إذ لم يوجد أحد من الاخباريين ولا من غيرهم يقول باعتبار الاستصحاب في الاُمور الخارجيّة وعدم اعتباره في الحكم الشرعي مطلقا .

وإنّما لم يقل به أحد حتى الاخباريين ( لأن الاخباريين ) أيضا ينكرون الاستصحاب في الحكم الكلّي فقط ، لا في الأحكام الجزئية الخارجيّة فإنهم ( لا ينكرون الاستصحاب في الأحكام الجزئية ) كطهارة ثوب زيد ، ونجاسة بدن عمرو ، وما أشبه ذلك .

( ثم إنّ المحصّل من القول بالتفصيل بين القسمين المذكورين في هذا التقسيم ) أي : تقسيم الاستصحاب الى الحكم الشرعي وغيره من الاُمور الخارجية أن الأقوال بالتفصيل ( ثلاثةٌ ) لا اثنين ، وذلك على ما يلي :

( الأوّل : اعتبار الاستصحاب في الحكم الشرعي مطلقا جزئيا كان : كنجاسة الثوب ، أو كليّا : كنجاسة الماء المتغيّر بعد زوال التغيّر ، وهو الظاهر مما حكاه المحقق الخوانساري ) في كلامه المتقدم .

( الثاني : اعتباره في ما عدا الحكم الشرعي الكلّي وإن كان حكما جزئيا )

ص: 154

وهو الذي حكاه في الرسالة الاستصحابية عن الاخباريين .

الثالث : اعتباره في الحكم الجزئي دون الكلّي ودون الاُمور الخارجية ، وهو الذي ربما يُستظهر ممّا حكاه السيد شارح الوافية عن المحقق الخوانساري في حاشيةٍ له على قول الشهيد في تحريم استعمال الماء النجس والمشتبه .

الوجه الثالث :

من حيث إنّ المستصحب قد يكون حكما تكليفيا ، وقد يكون وضعيا شرعيا ، كالأسباب

-------------------

خارجيا ، كنجاسة هذا الثوب وطهارة بدن زيد ( وهو الذي حكاه ) الوحيد البهبهاني ( في الرسالة الاستصحابية عن الاخباريين ) على ما تقدّم .

( الثالث : اعتباره في الحكم الجزئي دون الكلّي ودون الاُمور الخارجية ، وهو الذي ربما يستظهر ممّا حكاه السيد شارح الوافية ) السيد صدر الدين ( عن المحقق الخوانساري في حاشيةٍ له ) أي : للخوانساري ( على قول الشهيد ) في اللمعة ، وذلك ( في تحريم استعمال الماء النجس والمشتبه ) حيث انه يحرم استعمال هذين المائين في الشرب ونحوه .

( الوجه الثالث ) من وجوه تقسيم الاستصحاب باعتبار المستصحب هو : تقسيمه ( من حيث أنّ المستصحب قد يكون حكما تكليفيا ) وهي الأحكام الخمسة ( وقد يكون ) حكما ( وضعيا شرعيا ) وهي التي يصطلح عليها الفقهاء : بالأحكام الوضعية .

أما أمثلة الأحكام الوضعية فهي : ( كالأسباب ) أي : سببيّه الأسباب للمسبّبات ،

ص: 155

والشروط والموانع .

وقد وقع الخلاف من هذه الجهة : فَفَصَّل صاحب الوافية بين التكليفي وغيره : بالانكار في الأوّل ، دون الثاني .

وإنّما لم ندرج هذا التقسيم في التقسيم الثاني ، مع أنّه تقسيمٌ لأحد

-------------------

مثل سببيّة عقد البيع لانتقال الملك ، وعقد النكاح لاباحة الوطي ، وما أشبه ذلك .

( و ) كشرطية ( الشروط ) مثل : شرطية الصلاة بالطهارة والقبلة .

( و ) كمانعية ( الموانع ) مثل : مانعية الحدث عن الصلاة .

وبكلمة واحدة : إن كل ما لم يكن حكما تكليفيا من الأحكام الخمسة ، فهو حكم وضعي .

ثم إنّهم اختلفوا في تعداد الأحكام الوضعية فقيل : أنها ثلاثة وهي : السببيّة والشرطيّة والمانعيّة ، وقيل : إنها خمسة باضافة العلّية والعلاميّة ، وقيل : إنها تسعة باضافة الصحة والفساد والرخصة والعزيمة .

لكن من الواضح : أن هذه الأعداد لا تفيد كل الأحكام الوضعية ، وإنّما الأحكام الوضعية هي ما عدا الأحكام التكليفيّة الخمسة فقد عرفت : إن كل ما لم يكن حكما تكليفيا كان حكما وضعيا ، حتى إن بعضهم ذكر شمول الأحكام الوضعية لمثل : القضاء والولاية والقيمومة وما أشبه ذلك .

( وقد وقع الخلاف من هذه الجهة ) أي : من جهة كون المستصحب حكما تكليفيا أو حكما وضعيا ( ففصّل صاحب الوافية بين التكليفي وغيره : بالانكار في الأوّل ، دون الثاني ) فإن الفاضل التوني وهو صاحب الوافية يرى أن الأحكام التكليفية لا تستصحب ، بل تستصحب الأحكام الوضعية فقط .

( وإنّما لم ندرج هذا التقسيم ) الثالث ( في التقسيم الثاني مع أنّه تقسيم لأحد

ص: 156

قسميه ، لأنّ ظاهر كلام المفصّل المذكور وإن كان هو التفصيل بين الحكم التكليفي والوضعي ، إلاّ أنّ آخِر كلامه ظاهرٌ في إجراء الاستصحاب في نفس الأسباب والشروط والموانع ، دون السببيّة والشرطيّة والمانعيّة ،

-------------------

قسميه ) أي : لأحد قسمي الثاني ، فإن التقسيم الثاني عبارة عن : تقسيم المستصحب الى الحكم الشرعي وغيره ، وهذا التقسيم الثالث الذي هو عبارة عن تقسيم المستصحب الى الحكم التكليفي والوضعي تقسيم للحكم الشرعي أيضا .

وعليه : فاللازم على ذلك إدراج هذا التقسيم في التقسيم الثاني وذلك بأن يقال في التقسيم الثاني : أن الاستصحاب قد يكون في الحكم الشرعي وقد يكون في غير الحكم الشرعي ، وما كان في الحكم الشرعي فقد يكون في الاُمور التكليفيّة وقد يكون في الاُمور الوضعية .

وإنّما لم ندرج التقسيم الثالث في التقسيم الثاني مع إنه أحد قسمي التقسيم الثاني ( لأنّ ظاهر كلام المفصّل المذكور ) أي : صاحب الوافية ( وإن كان هو التفصيل بين الحكم التكليفي والوضعي ) بجريان الاستصحاب في الوضعي دون التكليفي . ( إلاّ أنّ آخِر كلامه ظاهرٌ في إجراء الاستصحاب في نفس الأسباب والشروط والموانع ، دون السببيّة والشرطيّة والمانعيّة ) فلم يعلم منه التفصيل بين الحكم التكليفي والوضعي بل يظهر من آخر كلامه التفصيل بين الحكم وغيره .

والحاصل : إن هذا المُفصّل لا يرى الاستصحاب في الكَمّ الشرعي مطلقا لا التكليفي ولا الوضعي ، وإنّما يرى الاستصحاب في الأسباب والشروط والموانع مع العلم بأن الحكم الوضعي عبارة عن السببيّة والشرطيّة والمانعيّة ، لا السبب والشرط والمانع .

ص: 157

وسيتضح ذلك عند نقل عبارته عند التعرّض لأدلّة الأقوال .

وأمّا بالاعتبار الثاني فمن وجوه أيضا :

أحدُها : من حيث الدليل المثبت للمستصحب ، إمّا أن يكون هو الاجماع ، وإمّا أن يكون غيره ،

-------------------

ومن الواضح : الفرق بين ذات الشرط كالوضوء ، وبين الشرطيّة وهي التلوّن بالشرط كالصلاة مشترطة بالوضوء ، وهكذا في السبب والمانع فقد نقول - مثلاً - : بأن الرطوبة تستصحب ، وقد نقول : بأن سببيّة الرطوبة لمنع الاحراق بالنار تستصحب .

وعليه : فالسبب والشرط والمانع ذوات ، بخلاف السببيّة والشرطيّة والمانعيّة فإنها أوصاف ( وسيتضح ذلك عند نقل عبارته عند التعرّض لأدلّة الأقوال ) إن شاء اللّه تعالى .

ثم إن المصنِّف لما انتهى من تقسيم الاستصحاب باعتبار اختلاف المستصحب ، شرع في تقسيمه باعتبار الدليل الدالّ عليه فقال :

( وأمّا ) تقسيم الاستصحاب ( بالاعتبار الثاني ) أي : باعتبار دليل الاستصحاب ( فمن وجوه أيضا ) ذكر المصنِّف ثلاثة منها :

( أحدُها : من حيث الدليل المثبت ) بصيغة اسم الفاعل ( للمستصحب إمّا أن يكون هو الاجماع ) كما إذا قام الاجماع على تنجّس الكرّ بالتغيّر ، ثم زال التغيّر فشككنا في بقاء النجاسة وعدم بقائها .

( وإمّا أن يكون ) الدليل المثبت للاستصحاب ( غيره ) أي : غير الاجماع من الكتاب والسنة .

ص: 158

وقد فصّل بين هذين القسمين الغزالي ، فأنكر الاستصحاب في الأوّل .

وربما يظهر من صاحب الحدائق فيما حكي عنه في الدّرر النجفيّة : أنّ محل النزاع في الاستصحاب منحصرٌ في استصحاب حال الاجماع .

الثاني : من حيث انّه قد يثبت بالدليل الشرعي ، وقد يثبت بالدليل العقلي ،

-------------------

( وقد فصّل بين هذين القسمين الغزالي ، فأنكر الاستصحاب في الأوّل ) وهو ما كان دليله الاجماع ، دون الثاني وهو ما كان دليله الكتاب أو السنة .

( وربما يظهر من صاحب الحدائق فيما حكي عنه في الدّرر النجفيّة : أنّ محل النزاع في الاستصحاب منحصرٌ في استصحاب حال الاجماع ) بينما قد عرفت فيما سبق : أن الاخباريين لا يجرون الاستصحاب في ما ثبت بالكتاب والسنّة ، وذلك باعتبار أنه حكم كلّي ، والحكم الكلّي عندهم يلزم فيه العمل بالاحتياط .

هذا ( وسيأتي تفصيل ذلك عند نقل أدلة الأقوال إن شاء اللّه ) تعالى ، ولذا لم نفصّل الكلام فيه الآن .

( الثاني : من حيث انّه ) أي : المستصحب ( قد يثبت بالدليل الشرعي ) كما إذا قام الدليل على تنجّس ماء الكرّ عند تغيّره بالنجاسة ، فإذا زال التغيّر من نفسه وشككنا في بقاء النجاسة بعد زوال التغيّر وعدم بقائها ، إستصحبنا بقاء النجاسة .

( وقد يثبت ) المستصحب ( بالدليل العقلي ) كما إذا حكم العقل بقبح التصرف في مال الغير بغير إذنه قبحا مانعا من النقيض ، فإنه يحرم شرعا أيضا ، وذلك للتلازم بين الدليل العقلي والدليل الشرعي حسب قاعدة : « كلما حكم به العقل حكم به الشرع » فإذا شككنا في حصول الاذن وعدمه استصحبنا بقاء الحكم العقلي فيبقى الحكم الشرعي أيضا .

ص: 159

ولم أجد مَن فصّل بينهما ، إلاّ أنّ في تحقق الاستصحاب مع ثبوت الحكم بالدليل العقلي ، وهو : الحكم العقلي المتوصّل به الى حكم شرعي ، تأمّلاً ، نظرا الى أنّ الأحكام العقليّة كلّها مبيّنة مفصّلة من حيث مناط الحكم الشرعي ،

-------------------

إذن : في المستصحب قد يثبت بدليل عقلي أو شرعي ( ولم أجد مَن فصّل بينهما ) بأن قال بحجية الاستصحاب في الحكم الشرعي الثابت بالدليل الشرعي وعدم حجية الاستصحاب في الحكم الشرعي الثابت بالدليل العقلي ، ولا من قال بعكس ذلك .

هذا ( إلاّ أنّ في تحقق الاستصحاب مع ثبوت الحكم ) الشرعي ( بالدليل العقلي وهو : الحكم العقلي المتوصّل به الى حكم شرعي ) كما تقدّم مثاله ( تأمّلاً ) .

وإنّما فيه تأمل وذلك ( نظرا الى أنّ الأحكام العقليّة كلّها مبيّنة ) واضحة الموضوع بجميع قيوده لدى العقل ( مفصّلة من حيث ) لحاظ المصالح والمفاسد التي هي ( مناط الحكم الشرعي ) فإنّ مناط الأحكام الذي هو عبارة عن جهات المصلحة والمفسدة في الشيء لابد وأن يكون عند العقل واضحا بجميع جهاته حتى يحكم العقل به ، وإلاّ لم يحكم العقل به .

وعليه : فالعقل لا يحكم بحسن شيء أو قبحه إلاّ بعد أن يدرك موضوعه بجميع قيوده بأن يلاحظ جميع ما له دخل في ذلك الشيء : من وجود المقتضي للحسن أو القبح ، وعدم المانع عنه ، فإذا توفّر كل ذلك حكم عليه .

مثلاً : إذا رأى العقل أنّ التصرف في ملك الغير مقتضٍ للقبح ، ورأى إذن المالك مانعا عنه ، فإنه يحكم حينئذ بقبح التصرف في ملك الغير من غير إذن ،

ص: 160

والشك في بقاء المستصحب وعدمه لابد وأن يرجع الى الشك في موضوع الحكم ، لأنّ الجهات المقتضية للحكم العقلي بالحسن والقبح كلّها راجعةٌ الى قيود فعل المكلّف الذي هو الموضوع ،

-------------------

وإذا ثبت ذلك عقلاً ثبت شرعا لقاعدة التلازم .

وأما إذا لم يدرك العقل موضوع الشيء بجميع قيوده بأن لم يدرك المقتضي للشيء ، أو عدم المانع عنه ، فلا يحكم بذلك الشيء ، لأن الموضوع بجميع قيوده وشروطه علّة للحكم .

( و ) إذا كان الأمر كذلك كان ( الشك في بقاء المستصحب وعدمه ) فيما إذا شككنا في أن القبح باقٍ أو ليس بباقٍ راجعا الى أنه - مثلاً - : هل أعرض المالك عن ماله أو لم يعرض عنه؟ أو الى أن المالك هل أذن أو لم يأذن؟ والشك في إعراض المالك أو إذنه شك في الموضوع .

إذن : فالشك في ذلك كما قال ( لابد وأن يرجع الى الشك في موضوع الحكم ) بمعنى : أنّا نشك في أن تصرفنا في هذا الشيء هل هو تصرف في ملك الغير بدون الاذن ، أو ليس هو تصرفا في ملك الغير لأنه أعرض عنه ، أو هو تصرف في ملك الغير مع الاذن منه ؟ .

وإنّما يرجع الشك في ذلك الى الشك في الموضوع ( لأنّ الجهات المقتضية للحكم العقلي بالحسن والقبح ) على ما عرفت : مِن أنّ القبح إنّما يكون إذا كان ملكا للغير ولم يأذن الغير في التصرّف ، فإن هذه الجهات ( كلّها راجعةٌ الى قيود فعل المكلّف ) الذي هو التصرف في ملك الغير ( الذي هو الموضوع ) لحكم العقل .

إذن : فالحرمة في مثالنا مترتِّبة على الموضوع الذي هو التصرّف في ملك الغير

ص: 161

فالشك في حكم العقل حتى لأجل وجود الرافع لا يكون إلاّ للشك في موضوعه ، والموضوع لابد أن يكون محرزا معلوم البقاء في الاستصحاب ، كما سيجيء .

-------------------

بدون إذنه ، والشك في بقاء الحرمة لهذا التصرف وعدم بقائها له راجع الى الشك في الموضوع وهو : الشك في أن هذا التصرف هل هو تصرف في ملك الغير بدون إذنه ، أو ليس كذلك ؟ .

وعليه : ( فالشك في حكم العقل حتى لأجل وجود الرافع ) بأن احتملنا وجود رافع رَفَع المقتضي ، والرافع في المثال : إذن المالك ( لا يكون إلاّ للشك في موضوعه ) أي : موضوع الحرمة وهو : التصرف بدون الاذن ، لوضوح : أن جميع القيود بالنسبة الى الحرمة راجعة الى الموضوع ، فإذا شككنا في وجوده وعدم وجوده لا يجري الاستصحاب .

( و ) إنّما لا يجري الاستصحاب لأن ( الموضوع ) في باب الاستصحاب ( لابد أن يكون محرزا معلوم البقاء في الاستصحاب ) وفي المثال لا يعقل استصحاب القبح من دون احراز أنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه .

( كما سيجيء ) عند بيان الخاتمة : من أن في باب الاستصحاب يجب بقاء الموضوع ، وإلاّ بأن تغيّر الموضوع ، أو شككنا في إن الموضوع باق أو ليس بباق ، لم يكن مجرى للاستصحاب .

والمتحصّل من هذا كلّه : أنّ الحكم الشرعي التابع للحكم العقلي لا يجري فيه الاستصحاب ، لأن الشك في الحكم حينئذ يرجع الى الشك في الموضوع ، ومع الشك في الموضوع لا مجال للاستصحاب .

وأما إذا كان الشك في بقاء الحكم الشرعي الثابت بالدليل الشرعي - كما مثلنا له

ص: 162

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون الشك من جهة الشك في وجود الرافع وبين أن يكون لأجل الشك في إستعداد الحكم ، لأنّ ارتفاع الحكم العقلي لايكون إلاّ بارتفاع موضوعه ، فيرجع الأمر بالأخرة الى تبدّل العنوان ،

-------------------

بالماء المتغيّر بعد زوال تغيّره - فإنه إذا شككنا في بقاء النجاسة بعد زوال تغيره وعدم بقائها استصحبنا النجاسة .

وإنّما نستصحب النجاسة لأن العرف يرى أنّ الماء المتغيّر وغير المتغيّر موضوع واحد ، وإنّما التغير واللا تغير حالتان طارئتان عليه ، لا أنّهما مقوّمان له .

لا يقال : أن في الحكم الشرعي الثابت بالدليل العقلي يمكن الاستصحاب في الموضوع ، بأن يستصحب في المثال السابق تصرفه في ملك الغير بغير إذن منه ، فإذا تحقق بقاء الموضوع ترتبت عليه الحرمة الشرعية .

لأنّه يقال : لا بأس باستصحاب الموضوع ، كما يأتي في التنبيه الثالث ، لكن الذي نتكلم حوله الآن هو جريان الاستصحاب في نفس الحكم ، أما استصحاب الموضوع وإثبات الحكم له فهو أمرا آخر .

هذا ( ولا فرق فيما ذكرنا ) : من عدم جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي الثابت بالحكم العقلي ( بين أن يكون الشك من جهة الشك في وجود الرافع ) كاحتمال حصول الاذن بأن تكلم المالك بكلام شككنا في أنه كان إذنا منه أم لا ( وبين أن يكون لأجل الشك في إستعداد الحكم ) أي : في المقتضي ، كما إذا احتملنا زوال عنوان ملك الغير لأجل الاعراض عنه .

وإنّما لا يجري الاستصحاب على كل من التقديرين ( لأنّ ارتفاع الحكم العقلي لا يكون إلاّ بارتفاع موضوعه ، فيرجع الأمر بالأخرة ) على كلا التقديرين ( الى تبدّل العنوان ) أي عنوان الموضوع العقلي الذي حكم العقل عليه بالحسن

ص: 163

ألا ترى أنّ العقل إذا حكم بقبح الصدق الضارّ ، فحكمه يرجع الى أنّ الضارّ من حيث أنّه ضارّ حرام .

ومعلوم : إنّ هذه القضية غير قابلة للاستصحاب عند الشك في الضرر ، مع العلم بتحققه سابقا ، لأنّ قولنا : « المضرّ قبيح » ، حكم دائمي لا يحتمل إرتفاعه أبدا ، ولا ينفع في إثبات القبح عند الشك في بقاء الضرر .

ولا يجوز أن يقال : إنّ هذا الصدق كان قبيحا سابقا

-------------------

أو القبح ، وللتلازم بين حكم العقل والشرع ترتب حكم الشرع عليه بالوجوب أو الحرمة .

ثم بدأ المصنِّف في بيان تبدل العنوان فقال : ( ألا ترى أنّ العقل إذا حكم بقبح الصدق الضارّ فحكمه ) أي : حكم العقل ( يرجع الى أنّ الضارّ من حيث أنّه ضارّ حرام ) فالحكم بالحرمة حكم شرعي دليله حكم العقل بالقبح وموضوعه : الصدق الضار ، فالضار هو عنوان الموضوع .

( ومعلوم : أنّ هذه القضية ) أي : حرمة الصدق الضارّ ( غير قابلة للاستصحاب عند الشك في الضرر مع العلم بتحققه ) أي : تحقق الضرر ( سابقا ) فإذا شككنا في أن الصدق بقي على ضرره ولم يبق على ضرره ؟ لا نتمكن من الاستصحاب .

وإنّما لا يمكن الاستصحاب ( لأنّ قولنا : « المضرّ قبيح » ، حكم دائمي لايحتمل إرتفاعه أبدا ) فإن المضرّ قبيح ماضيا وحالاً ومستقبلاً إذا كان محرزا ( و ) لكن عند الشك ( لا ينفع في إثبات القبح عند الشك في بقاء الضرر ) فإنا إذا شككنا في بقاء الضرر لا نتمكن أن نحكم بأنه قبيح فهو حرام ، لأن القبح إنّما ثبت على موضوع الضارّ ، والمفروض إنّا نشك في أنّه ضارّ أم لا لتبدّل العنوان ؟ .

( و ) الحاصل : أنه ( لا يجوز أن يقال : إنّ هذا الصدق كان قبيحا سابقا

ص: 164

فيُستصحَب قُبحُه ، لأنّ الموضوع في حكم العقل بالقبح ، ليس هذا الصدق ، بل عنوان المضرّ ، والحكم له مقطوع البقاء .

وهذا بخلاف الأحكام الشرعية ، فإنّه قد يحكم الشارع على الصدق بكونه حراما ، ولا يُعلَم أنّ المناط الحقيقي فيه باقٍ في زمان الشك أو مرتفع ، فيستصحب الحكم الشرعي .

-------------------

فيُستصحَب قُبحُه ) وذلك ( لأنّ الموضوع في حكم العقل بالقبح ، ليس هذا الصدق ) بما هو هو ( بل عنوان المضرّ ، و ) من الواضح : أن ( الحكم له ) أي : لعنوان المضر ( مقطوع البقاء ) فإن الصدق الضارّ نقطع ببقائه على حكمه من القبح والحرمة ، فلا شك حتى نستصحبه .

وعليه : فإنا إذا قطعنا ببقاء الضرر لا نحتاج الى استصحاب الحرمة ، وإذا شككنا في بقاء الضرر لا يمكن استصحاب الحرمة ، لأنّ الحرمة مترتبة على القبح ، والقبح مترتب على عنوان الضار والآن نشك في بقاء ذلك العنوان ، وقد تقدّم : أنه مع الشك في الموضوع لا يمكن استصحاب الحكم .

( وهذا ) الحكم الشرعي المترتب على الحكم العقلي حيث قلنا أنه لا يستصحب ، يكون ( بخلاف الأحكام الشرعية ) المترتبة على الدليل الشرعي كما تقدّم في مثال بقاء نجاسة الماء بعد زوال تغيّره .

وعليه : ( فإنّه قد يحكم الشارع على الصدق ) مثلاً ( بكونه حراما ولا يعلَم أنّ المناط الحقيقي فيه ) أي : في تحريمه ما هو؟ وهل إنه ( باقٍ في زمان الشك أو مرتفع ) ذلك المناط ( فيستصحب الحكم الشرعي ) السابق ، لأنه مع عدم العلم بمناط الحكم الشرعي يحكم العرف بأن هذا الصدق كان حراما وشك الآن في حرمته ، فالموضوع العرفي محرز والشك إنّما يكون في حكمه فيستصحب الحكم .

ص: 165

فإن قلت : على القول بكون الأحكام الشرعية تابعة للأحكام العقلية ، فما هو مناط الحكم وموضوعه في الحكم العقلي بقبح هذا الصدق ، فهو الموضوع والمناط في حكم الشرع بحرمته .

إذ المفروض ، بقاعدة التطابق ، أنّ موضوع الحرمة ومناطه هو بعينه موضوعُ القبح ومناطه .

-------------------

( فإن قلت : ) له ( على القول بكون الأحكام الشرعية تابعة للأحكام العقلية ) يلزم أن لا يكون فرق بين الحكمين من حيث عدم جريان الاستصحاب .

وإنّما يلزم عدم الفرق بينهما إذ كما أن الحكم الشرعي المستند الى الحكم العقلي واضح موضوعه عند العقل حتى ان الشك فيه يكون شكّا في بقاء الموضوع فلا يجري فيه الاستصحاب ، كذلك الحكم الشرعي الثابت بالدليل الشرعي واضح موضوعه عند الشارع ، فيكون الشك فيه راجعا الى الشك في بقاء الموضوع أيضا فلا يجري فيه الاستصحاب ، فلماذا فرّقتم وقلتم : أن الاستصحاب لا يجري في الحكم العقلي فيجري في الحكم الشرعي .

وعليه : ( ف ) إن ( ما هو مناط الحكم وموضوعه في الحكم العقلي بقبح هذا الصدق ، فهو ) أيضا ( الموضوع والمناط في حكم الشرع بحرمته ) أي : بحرمة هذا الصدق فيما إذا قرّر الشارع حرمته .

وإنّما يكون مناط الحكم وموضوعه في الحكمين واحدا ( إذ المفروض بقاعدة التطابق ) بين حكم العقل وحكم الشرع حيث قد قرر : أنه كل ما حَكَم به الشرع حَكَم به العقل ، وكل ما حَكَم به العقل حَكَم به الشرع ( أنّ موضوع الحرمة ومناطه هو بعينه موضوعُ القبح ومناطه ) .

وعليه : فإذا لم يجرِ الاستصحاب في الحكم الشرعي المستند الى العقل ، يلزم

ص: 166

قلت : هذا مسلّمٌ ، لكنّه مانعٌ عن الفرق بين الحكم الشرعي والعقلي من حيث الظنّ بالبقاء في الآن اللاحق ، لا من حيث جريان أخبار الاستصحاب وعدمه ،

-------------------

أن لا يجري الاستصحاب في الحكم الشرعي المستند الى الدليل الشرعي ، فتكون النتيجة : أن الاستصحاب لا يجري لا في الأحكام العقلية ولا في الأحكام الشرعية مما يستلزم سدّ باب الاستصحاب مطلقا .

( قلت : هذا ) الذي ذكرتم من التطابق بين حكم الشرع وحكم العقل ( مسلّمٌ ، لكنّه ) أي : التطابق ( مانعٌ عن الفرق بين الحكم الشرعي والعقلي من حيث الظنّ بالبقاء في الآن اللاحق ) أي : بناءا على حجية الاستصحاب من باب الظن ( لا من حيث جريان أخبار الاستصحاب وعدمه ) أي : لا بناءا على أن حجية الاستصحاب من باب الاخبار : فإن التطابق يمنع من الفرق في الأوّل لا في الثاني .

والحاصل : إنا إذا قلنا : بأن دليل الاستصحاب هو الظن بالبقاء لا يكون فرق بين الأحكام العقلية والشرعية ، لأنه في الآن الثاني إمّا يظن بالبقاء أو لا يظن بالبقاء ، من غير فرق بين أن يكون منشأ الحكم العقل أو الشرع .

وأمّا إذا قلنا : بأن دليل الاستصحاب هو الأخبار ، فهناك فرق بين الأحكام العقلية والأحكام الشرعية ، حيث لا تستصحب الأحكام العقلية لعدم إحراز الموضوع فيها وقد عرفت : أن في الاستصحاب يشترط إحراز الموضوع .

أمّا الأحكام الشرعية فتستصحب لبقاء الموضوع العرفي فيها ، والاخبار لا تدلّ على أكثر من لزوم بقاء الموضوع العرفي .

وإنّما يكفي في استصحاب الأحكام الشرعية بناءا على الاخبار بقاء الموضوع فيها عرفا ، لأن الموضوع المعتبر احرازه في استصحاب الأحكام بناءا

ص: 167

فإنّه تابعٌ لتحقق موضوع المستصحب ومعروضه بحكم العرف . فاذا حكم الشارع بحرمة شيء في زمان وشك في الزمان الثاني ، ولم يُعلم أنّ المناط الحقيقي واقعا الذي هو عنوان الموضوع في حكم العقل باقٍ هنا أم لا ، فيصدق هنا : أنّ الحكم الشرعي الثابت لما هو الموضوع له في الأدلّة الشرعية كان موجودا سابقا ويشك في بقائه ويجري فيه اخبار الاستصحاب .

-------------------

على الاخبار ليس هو الموضوع والمناط الواقعي ، بل ما هو الموضوع والمناط بحسب فهم العرف من لسان الدليل .

وعليه : ( فإنّه ) أي : أن جريان اخبار الاستصحاب ( تابعٌ لتحقق موضوع المستصحب ومعروضه ) قوله : « ومعروضه » عطف على موضوع المستصحب عطف بيان ، فيكون تحقق الموضوع فيه ( بحكم العرف ) لأن اخبار الاستصحاب الذي هو كلام الشارع ملقى الى العرف ، والعرف يكتفي ببقاء الموضوع العرفي .

وعليه : ( فاذا حكم الشارع بحرمة شيء في زمان ) سابق ( وشك في الزمان الثاني ، ولم يُعلم أنّ المناط الحقيقي واقعا الذي هو عنوان الموضوع في حكم العقل باقٍ هنا أم لا ) وذلك إذا حكم الشارع بحرمة الخمر وشككنا بعد زوال سكره : بأنه هل كان السكر هو المناط في الحرمة حتى يحل ، أو أن الخمر حرام سواء كان مسكرا أم ليس بمسكر ؟ .

( فيصدق هنا : أنّ الحكم الشرعي الثابت لما ) أي : للخمر مثلاً الذي ( هو الموضوع له في الأدلة الشرعية كان موجودا سابقا ) في حال كونه مسكرا ( ويشك في بقائه ) أي : بقاء الحكم الشرعي بعد زوال سكره فيستصحب كما قال : ( ويجري فيه اخبار الاستصحاب ) لأن الموضوع العرفي محرز ، والشك

ص: 168

نعم ، لو عُلِمَ مناط هذا الحكم عنوانه المعلق عليه في حكم العقل لم يجرِ الاستصحاب ، لما ذكرنا : من عدم إحراز الموضوع .

وممّا ذكرنا يظهر : أنّ الاستصحاب لايجري في الأحكام العقلية ، ولا في الأحكام الشرعية المستندة اليها ، سواء كانت وجوديّة أم عدميّة ،

-------------------

إنّما هو في الحكم ، فيستصحب .

وإنّما يكون الموضوع محرزا عرفا ، لرؤية العرف الخمر المسكر والخمر الذي زال إسكاره موضوعا واحدا ، وإنّما الإسكار وعدم الإسكار حالتان تتناوبان على هذا الموضوع الذي كان سابقا وهو باق الى الآن ، وهذا بخلاف الحكم العقلي المعلوم مناطه ، فإنا إذا شككنا في الحكم العقلي كان معناه : الشك في الموضوع كما تبيّن سابقا . ومع الشك في الموضوع لا يجري الاستصحاب .

( نعم ، لو عُلِمَ مناط هذا الحكم ) الشرعي ( عنوانه المعلق عليه في حكم العقل ) بأن كان العقل يرى : أنّ الخمر المُسكر حرام وكان حكم الشرع تابعا له ، فإنه إذا زال إسكاره إرتفع الحكم العقلي ، وبِتَبَع ارتفاع الحكم العقلي يرتفع الحكم الشرعي أيضا ، وحينئذ ( لم يجرِ الاستصحاب لما ذكرنا : من عدم إحراز الموضوع ) حيث قد سبق : إنه يشترط في الاستصحاب إحراز الموضوع .

( وممّا ذكرنا ) فيما مضى : من رجوع الشك في موارد حكم العقل الى الشك في الموضوع ، حيث لايمكن جريان الاستصحاب فيه ( يظهر : أنّ الاستصحاب لايجري في الأحكام العقلية ولا في الأحكام الشرعية المستندة اليها ) أي : الى الأحكام العقلية ( سواء كانت ) الأحكام الشرعية ( وجوديّة أم عدميّة ) .

أما الوجوديّة : فكما تقدّم من مثال قبح الصدق الضارّ المستتبع لحرمته شرعا ، فإنّه عند الشك في ضرره وعدم ضرره لا يستصحب القبح ، فيسقط الحكم

ص: 169

إذا كان العدم مستندا الى القضية العقلية ، كعدم وجوب الصلاة مع السورة على ناسيها ، فإنّه لا يجوز استصحابه بعد الالتفات ، كما صدر من بعض من مال الى الحكم بالاجزاء في هذه الصورة ، وأمثالها من موارد الأعذار العقلية الرافعة للتكليف مع قيام مقتضيه .

-------------------

العقلي، وإذا سقط الحكم العقلي لا تستصحب الحرمة ، لأن الحرمة مستندة الى القبح على ما عرفت .

وأما الأحكام الشرعية العدميّة فهي : كما ( إذا كان العدم ) الشرعي ( مستندا الى القضية العقلية كعدم وجوب الصلاة مع السورة على ناسيها ) فإن هذا حكم شرعي عدمي مستند الى حكم عقلي وهو : قبح تكليف الناسي ، فقبح تكليف الناسي يحكم به العقل ويحكم به الشرع أيضا للملازمة ، فإذا صار الناسي ذاكرا لايجري فيه الاستصحاب ، لأن الاستصحاب كما لا يجري في الحكم العقلي - على ما عرفت - كذلك لا يجري في الحكم الشرعي المستند اليه .

وعليه : ( فإنّه لا يجوز استصحابه ) أي : استصحاب عدم وجوب السورة ( بعد الالتفات ) لوضوح تبدّل العنوان ، فإن الناسي أصبح ذاكرا .

وإنّما صرّح المصنِّف بعدم جوازه للردّ على مَن أجازه ( كما صدر ) أي : جواز الاستصحاب ( من بعض من مال ) وهو الفاضل القمي ( الى الحكم بالاجزاء في هذه الصورة وأمثالها ) أي : أمثال صورة النسيان ( من موارد الأعذار العقلية ) كالاكراه والجهل والعجز وغيرها من الأعذار ( الرافعة للتكليف مع قيام مقتضيه ) أي : مقتضي التكليف فيها .

ص: 170

وأمّا إذا لم يكن العدم مستندا الى القضية العقلية ، بل كان لعدم المقتضي وإن كانت القضية العقلية موجودة أيضا ، فلا بأس باستصحاب العدم المطلق بعد ارتفاع القضية العقلية .

-------------------

والحاصل : إن مصلحة قرائة السورة في الصلاة تقتضي وجوبها ، إلاّ أن وجوبها مرتفع عن ذوي الأعذار ، وذلك للحكم العقلي المستلزم للحكم الشرعي بارتفاعه حال العذر ، فإذا تبدّل حال العذر الى الالتفات ونحوه وشككنا في الوجوب وعدمه ، فلا مجرى لاستصحاب العدم فيه وإن مال اليه المحقق القمّي .

هذا كلّه فيما إذا كان العدم الشرعي مستندا الى القضية العقلية .

( وأمّا إذا لم يكن العدم ) الشرعي ( مستندا الى القضية العقلية ) وذلك بأن كانت هناك قضية شرعية عدميّة وقضية عقلية عدميّة ، لكن القضية الشرعية لم تكن مستندة الى القضية العقلية ( بل كان لعدم المقتضي ) بأن نفى الشارع الحكم لعدم مقتضيه ، فإنه ( وإن كانت القضية العقلية موجودة أيضا ، فلا بأس باستصحاب العدم المطلق بعد ارتفاع القضية العقلية ) وذلك لما عرفت : من أن القضية الشرعية لم تكن مستندة الى القضية العقلية حتى إذا ارتفعت القضية العقلية ترتفع القضية الشرعية .

هذا ، وقد مثّلوا للعدم الشرعي غير المستند الى القضية العقلية مع وجودها : بما إذا حكم العقل بعدم التكليف على الصبي ، وحكم الشرع أيضا بمثل ذلك لكن لم يكن حكم الشرع مستندا الى حكم العقل ، فإن العقل يحكم بالعدم لوجود المانع وهو عدم التمييز ، بينما الشرع يحكم به لعدم وجود المقتضي الى زمن البلوغ .

وعليه : فإنه مع الشك في التكليف بعد البلوغ وارتفاع القضية العقلية يجوز

ص: 171

ومن هذا الباب استصحاب حال العقل المراد به في اصطلاحهم :

استصحاب البرائة والنفي ، فالمراد استصحاب الحال التي يحكم العقل على طبقها ، وهو : عدم التكليف ، لا الحال المستندة الى العقل ، حتى يقال : إنّ مُقتضى ما تقدّم هو : عدم جواز استصحاب عدم التكليف عند ارتفاع القضية العقلية ، وهي

-------------------

استصحاب العدم السابق ، وذلك كما إذا علمنا بأن التتن ليس بمحرّم على الصبي ثم بلغ الصبي وشككنا في أن التتن هل حرم عليه أم لا ؟ فإنا نستصحب عدم حرمة التتن عليه .

( ومن هذا الباب ) أي : من باب عدم إستناد القضية الشرعية الى القضية العقلية ، ولهذا يصح الاستصحاب في القضية الشرعية ( استصحاب حال العقل ) في عباراتهم ، فإن ( المراد به في اصطلاحهم : استصحاب البرائة والنفي ) حال الصغر ، فإن الصغير بريء الذمة ، والتكليف منفي عنه .

إذن : ( فالمراد ) من استصحاب حال العقل هو : ( استصحاب الحال التي يحكم العقل على طبقها ) أي : يحكم العقل أيضا كما يحكم الشرع على طبق تلك الحال ( وهو : عدم التكليف ) المطلق ، فإن الشرع والعقل متطابقان على عدم التكليف هذا .

( لا ) استصحاب ( الحال المستندة الى العقل ) فإن مرادهم من استصحاب حال العقل : استصحاب العدم المطلق الذي يطابق حكم العقل أيضا ، لا استصحاب نفس حكم العقل بعدم التكليف ( حتى يقال : إنّ مُقتضى ما تقدّم ) : من عدم جريان استصحاب حكم العقل ولا حكم الشرع المستند اليه ( هو : عدم جواز استصحاب عدم التكليف عند ارتفاع القضية العقلية ، وهي ) عبارة

ص: 172

قبح تكليف غير المميّز أو المعدوم .

ومما ذكرنا ظهر : أنّه لا وجه للاعتراض على القوم في تخصيص استصحاب حال العقل باستصحاب النفي والبرائة ، بأنّ الثابت بالعقل قد يكون عدميا وقد يكون وجوديا ، فلا وجه للتخصيص .

وذلك

-------------------

عن ( قبح تكليف غير المميّز ، أو المعدوم ) الذي لم يولد بعد ، فإن إستصحاب البرائة والنفي هو غير هذا الاستصحاب .

( وممّا ذكرنا ظهر : أنّه لا وجه للاعتراض ) من صاحب الفصول ( على القوم في تخصيص استصحاب حال العقل باستصحاب النفي والبرائة ) حيث إعترض : ( بأنّ الثابت بالعقل قد يكون عدميا وقد يكون وجوديا ، فلا وجه للتخصيص ) عن المقوم بالعدمي فإن صاحب الفصول قال :

« وإعلم إنه ينقسم الاستصحاب باعتبار مورده الى استصحاب حال العقل ، والمراد به : كل حكم ثبت بالعقل سواء كان تكليفيا : كالبرائة حال الصغر ، واباحة الأشياء الخالية عن أمارة المفسدة قبل الشرع ، وكتحريم التصرف في مال الغير ، ووجوب ردّ الوديعة إذا عرض هناك ما يحتمل زواله كالاضطرار والخوف ، أم كان وضعيا ، سواء تعلق الاستصحاب باثباته : كشرطية العلم لثبوت التكليف إذا عرض ما يوجب الشك في بقائها مطلقا أو في خصوص مورد ، أم بنفيه : كعدم الزوجية وعدم الملكية الثابتين قبل تحقق موضوعهما ، وتخصيص جمع من الاصوليين لهذا القسم أعني : استصحاب حال العقل بالمثال الأوّل أعني : البرائة الأصلية مما لا وجه له إنتهى » .

وحاصل إشكال الفصول أمران ( وذلك ) كما يلي :

ص: 173

لما عرفت : من أنّ الحال المستند الى العقل المنوط بالقضية العقلية لا يجري فيها الاستصحاب ، وجوديا كان أو عدميا .

-------------------

الأوّل : إن استصحاب حال العقل لا يختص بالنفي ، بل يجري في الايجاب أيضا مثل حكم العقل بوجوب ردّ الوديعة .

الثاني : إن تمثيل استصحاب حال العقل بالنفي والبرائة فقط ، لا وجه له ، لأنّ استصحاب عدم الزوجية وعدم الملكية من إستصحاب حال العقل أيضا .

أجاب الشيخ عن الاشكال الأوّل : بأن استصحاب حال العقل غير المستند الى قضية عقلية مع وجودها ، خاص بالنفي دون الايجاب ، وعن الثاني : بأن التمثيل لذلك منحصر في مثال واحد فقط هو مثال النفي والبرائة .

وإنّما لا وجه لاعتراض صاحب الفصول على القوم ( لما عرفت : من أنّ الحال المستند الى العقل المنوط بالقضية العقلية لا يجري فيها الاستصحاب ، وجوديا كان أو عدميا ) لأنا ذكرنا : إن القضية العقلية لا يجري فيها الاستصحاب لعدم احراز الموضوع فيها ، فالقضية الشرعية المستندة الى القضية العقلية لا يجري فيها الاستصحاب أيضا ، لأنه إذا سقط المستند سقط الاستناد .

وعليه : فإنه إذا كان هناك قضية عقلية وقضية شرعية ولم تستند الشرعية الى العقلية ، فهي منحصرة في العدميات فقط وفي العدميات منحصرة أيضا في مورد واحد وهو عدم التكليف حال الصغر ، ولذا حكموا بجواز استصحابه وسموه : باستصحاب حال العقل ، بمعنى : استصحاب عدم التكليف الذي يطابق حكم العقل ، لا بمعنى : استصحاب نفس حكم العقل بالعدم ، ولا بمعنى : استصحاب نفس حكم الشرع المستند الى حكم العقل .

ص: 174

وما ذكره من الأمثلة يظهر الحال فيها ممّا تقدّم .

الثالث : إنّ دليل المستصحب إمّا أن

-------------------

( وما ذكره من الأمثلة ) الوجودية والعدمية غير البرائة والنفي ( يظهر الحال فيها ممّا تقدّم ) : من عدم التعقّل لأن يشك العقل في حكمه ، وعلى فرض الشك فهو شك في الموضوع ولا يجري فيه الاستصحاب .

وكذا ما ذكره : من استصحاب اباحة الأشياء فإنه يرد عليه : إن الحكم في الاباحة إنّما هو للشك ، لأن الاباحة هناك ظاهرية فيكفي فيها قوله عليه السلام : « كل شيء لك حلال » (1) .

وأمّا ما ذكره من شرطية العلم لثبوت التكليف ، فإنه يرد عليه : إن الشرطية ليست مجعولة .

كما يرد على المثالين الأخيرين : من استصحاب عدم الزوجية وعدم الملكيّة : بأنه إن أريد بهما استصحاب عدم الزوجية وعدم الملكية لشيء ، ففيه : انه لا حالة سابقة لهما ، وإن أريد بهما استصحاب العدم الأزلي ، ففيه : إنه مثبت لأنه يريد استصحاب العدم المحمولي لاثبات العدم النعتي ، كما قرّر في استصحاب العدم الأزلي .

ثم إنّ المصنِّف ذكر قبل عدة صفحات : إن تقسيم الاستصحاب بالاعتبار الثاني وهو : تقسيمه باعتبار الدليل الدال عليه يكون من وجوه فَذَكَر منها وجهين ، ثم تعرّض لثالثها بقوله : ( الثالث ) من تلك الوجوه : ( إنّ دليل المستصحب إمّا أن

ص: 175


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

يدل على استمرار الحكم الى حصول رافع أو غاية .

وإمّا أن لا يدل ، وقد فصّل بين هذين القسمين المحقق في المعارج ، والمحقق الخوانساري في شرح الدروس ، فأنكرا الحجّيّة في الثاني ، واعترفا بها في الأوّل ، مطلقا ، كما يظهر من المعارج ، أو بشرط كون

-------------------

يدل على استمرار الحكم الى حصول رافع ) بأن يكون له استعداد البقاء ما دام لم يحصل ما يرفعه مثل الطهارة والنجاسة ، والحرية والرقّيّة ، والملكيّة والزوجيّة ، وما أشبه ذلك مما له استعداد البقاء الى أن يرفعه رافع مثل : أن يرفع الحدث الطهارة ، أو لعتق الرقية ، أو الطلاق الزوجية ، أو ما أشبه ذلك .

( أو ) الى حصول ( غاية ) أي : حصول نهاية الشيء منتهى استعداده للابقاء مثل : استمرار وجوب الصوم الى الليل ، واستمرار وقت فريضة الصبح الى طلوع الشمس ، وهكذا .

( وإمّا أن لا يدل ) دليل المستصحب على استمرار الحكم ولا عدم استمراره بل يكون ساكتا على ذلك ، كالدليل الدال على ثبوت خيار الغُبن حيث إنه لا يدل على الفوريّة ولا على الاستمرارية : فيكون الشك في إقتضائه وإستعداده .

هذا ( وقد فصّل بين هذين القسمين ) : ما يدل على استمرار الحكم حتى حصول رافع أو غاية ، وما لا يدل على أحدهما ( المحقق في المعارج ، والمحقق الخوانساري في شرح الدروس ، فأنكرا ) أي : هذان العلمان ( الحجيّة ) للاستصحاب ( في الثاني ) وهو ما ذكرناه بقولنا : وأما أن لا يدل ( واعترفا بها في الأوّل ) وهو ما ذكرناه بقولنا : إما أن يدل على إستمرار الحكم الى حصول رافع أو غاية ، إعترافا ( مطلقا ) في كل أقسامه ( كما يظهر من المعارج ، أو بشرط كون

ص: 176

الشك في وجود الغاية ، كما يأتي من شارح الدروس .

وتخيّل بعضُهم ، تبعا لصاحب المعالم : أنّ قول المحقق قدس سره موافق للمنكرين ، لأنّ محل النزاع ما لم يكن الدليل مقتضيا للحكم في الآن اللاحق ، لولا الشك في الرافع .

-------------------

الشك في وجود الغاية ) لا غائية الموجود ( كما يأتي من شارح الدروس ) وهو المحقق الخوانساري .

هذا ، وسيأتي بعد عدة صفحات بيان أقسام الشك في الرافع والشك في الغاية ، فإن المصنّف يقسّم كل واحد من الشكّين الى خمسة أقسام حيث يقول : وهذا على أقسام ، لأن الشك إمّا في وجود الرافع كالشك في حدوث البول ، وإمّا أن يكون في رافعيّة الموجود ، الى آخر كلامه هناك فلا داعي الى ذكر الأقسام هنا .

( وتخيّل بعضُهم ) وهو الفاضل الجواد ( تبعا لصاحب المعالم : أنّ قول المحقق قدس سره موافق للمنكرين ) للاستصحاب ولذلك عدّه من جملتهم .

وإنّما تخيّل منه ذلك ( لأنّ محل النزاع ) بين الفقهاء الاصوليين إنّما هو في (ما لم يكن الدليل ) بنفسه ( مقتضيا للحكم في الآن اللاحق ، لولا الشك ) أي: وإن لم يكن في ذلك المورد شكّ ( في الرافع ) وذلك بأن كان الشك في المقتضي .

أمّا إذا كان الشك في الرافع أو الغاية فلا نزاع فيه ، لأنّ الدليل بنفسه حينئذ مقتض لاستمرار الحكم الى حصول الرافع أو الغاية وإذا كان كذلك فلا حاجة معه الى الاستصحاب .

وعليه : فإن هذا البعض لما رأى أنّ المحقق خَصَّ إعتبار الاستصحاب بهذا المورد وهو : ما دلّ الدليل فيه على استمرار الحكم الى حصول الرافع أو الغاية تخيّل انه ينكر الاستصحاب ، بينما كلامه ذلك تخصيص للاستصحاب بالشك

ص: 177

وهو غيرُ بعيد بالنظر الى كلام السيد ، والشيخ ، وابن زهرة ، وغيرهم ، حيث انّ المفروض في كلامهم هو : كونُ دليل الحكم في الزمان الأوّل قضية مهملة ساكتة عن حكم الزمان الثاني ، ولو مع فرض عدم الرافع .

إلاّ أنّ الذي يقتضيه التدبّرُ في بعض كلماتهم - مثل إنكار السيد لاستصحاب البلد المبني على ساحل البحر ، مع كون الشك فيه نظير الشك في وجود الرافع للحكم

-------------------

في الرافع ، فيكون محل النزاع هو مورد الشك في المقتضي لا مورد الشك في الرافع .

( وهو ) أي : خروج مورد الشك في الرافع عن محل النزاع والاتفاق على حجية الاستصحاب فيه ( غيرُ بعيد بالنظر الى كلام السيد ، والشيخ ، وابن زهرة ، وغيرهم ، حيث انّ المفروض في كلامهم ) ونزاعهم ( هو : كون دليل الحكم في الزمان الأوّل قضية مهملة ساكتة عن حكم الزمان الثاني ، ولو مع فرض عدم الرافع ) وهذا ظاهر في اختصاص النزاع بمورد الشك في المقتضي دون الشك في الرافع .

وإنّما لا نزاع في الشك في الرافع لأن الشك في الرافع إنّما يكون فيما إذا كان دليل الحكم في الزمان الأوّل قضيّة دالّة على إستمرار الحكم ، ومع دلالته على الاستمرار لا نزاع ، فيكون الشك في الرافع على ذلك خارجا عن محلّ النزاع إيجابا وسلبا .

( إلاّ أنّ الذي يقتضيه التدبّر في بعض كلماتهم - مثل إنكار السيد لاستصحاب البلد المبني على ساحل البحر ) عند الشك بأنه هل طغى عليه البحر أم لا ؟ ( مع كون الشك فيه ) أي : في هذا البلد إنّما هو ( نظير الشك في وجود الرافع للحكم

ص: 178

الشرعي ، وغير ذلك ممّا يظهر للمتأمّل ويقتضيه الجمع بين كلماتهم وبين ما يظهر من بعض استدلال المُثْبتين والنّافين - هو : عموم النزاع لما ذكره المحقق .

فما ذكره في المعارج أخيرا ليس رجوعا عمّا ذكره أوّلاً ،

-------------------

الشرعي ) فإن البلد يبقى مستمرا حتى يطغى البحر عليه كما أن الطهارة تبقى مستمرة حتى يرفعها الحدث ؟ ( وغير ذلك ممّا يظهر للمتأمّل ) من أمثلتهم التي مثَّلوا بها للاستصحاب في موارد الشك في الرافع .

وعليه : فإن الذي يقتضيه التدبّر في مقالاتهم ( ويقتضيه الجمع بين كلماتهم وبين ما يظهر من بعض استدلال المُثْبتين والنّافين - هو : عموم النزاع لما ذكره المحقق ) وشموله حتى للشك في الرافع ، فلا يكون النزاع مختصا بالشك في المقتضي ، كما توهَّمه الفاضل الجواد تبعا لصاحب المعالم :

ثم إن استدلال المُثبتين للاستصحاب الذي إستظهر المصنِّف منه عموم النزاع فهو مثل استدلالهم : بأن المقتضي موجود والمانع مفقود ، فيلزم حينئذ أن يؤثّر المقتضي أثره ، وهذا صريح بأنه في مورد الشك في الرافع ، وإلاّ لم يصح أن يقال : المقتضي موجود .

أما استدلال النافين للاستصحاب فهو مثل : تقديمهم بيّنة النافي على بيّنة المثبت ، فإنه من المعلوم : أن النفي يستمر ما لم يرفعه وجود ، فليس النفي من الشك في المقتضي وإنّما هو من الشك في الرافع .

وعلى أي حال : ( فما ذكره في المعارج أخيرا ) في كلامه الذي سوف ننقله قريبا إن شاء اللّه ( ليس رجوعا عمّا ذكره أوّلاً ) فإن المحقق ذكر أولاً : اعتبار الاستصحاب وفاقا للمفيد وذكر الأدلة لحجية الاستصحاب ، ثم نقل عن السيد

ص: 179

بل لعلّه بيانٌ لمورد تلك الأدلّة التي ذكرها لاعتبار الاستصحاب ، وأنّها

-------------------

المرتضى إنكار الاستصحاب ، ثم قال : والذي نختاره أن ننظر في دليل الحكم المشكوك ، فإن اقتضاه مطلقا نحكم باستمراره الى آخر عبارته ، فتصوّر صاحب المعالم وتبعه الفاضل الجواد أن هذه العبارة من المحقق مناقضة لقوله أولاً بحجية الاستصحاب ، ولذا قال في المعالم ما يلي :

إن هذا الذي ذكره أخيرا من اعتبار الاستصحاب في الشك في الرافع خارج عن محيط النزاع ، فإن النزاع مختص بالشك في المقتضي وهو أنكره فصار في رديف المنكرين كالسيد ، وقد كان أولاً في رديف المثبتين كالمفيد فرجع عن مختاره .

هذا ، ولكن حيث لم يرتض المصنِّف قدس سره كلام صاحب المعالم أجاب : بأن الشك في الرافع أيضا محل نزاع ، وأن مختار المحقق أولاً وأخيرا هو عبارة عن اعتبار الاستصحاب في الشك في الرافع .

إذن : فالشك في الرافع ليس متّفقا على حجية الاستصحاب فيه ، بل هو أيضا محل النزاع بين العلماء ، فما ذكره صاحب المعالم : من كون المحقق من المنكرين للاستصحاب مطلقا حسب كلامه الأخير ، وأن محل النزاع هو الشك في المقتضي ، لا الشك في الرافع ، وذلك لاتفاقهم على حجية الاستصحاب في الشك في الرافع ، ليس كما ينبغي .

لا يقال : كيف يجمع حينئذ بين أولّ كلام المحقق وآخر كلامه .

لأنّه يقال كما قال المصنِّف : ( بل لعلّه ) أي : لعلّ ما ذكره المحقق أخيرا هو : ( بيانٌ لمورد تلك الأدلّة التي ذكرها ) أولاً ( لاعتبار الاستصحاب ، وأنّها ) أي :

ص: 180

لا تقتضي اعتبارا أزيد من مورد يكون الدليل فيه مقتضيا للحكم مطلقا ويشك في رافعه .

-------------------

تلك الأدلة ( لا تقتضي اعتبارا أزيد من مورد يكون الدليل فيه مقتضيا للحكم مطلقا ) أي : من غير تقييد بوقت ، وذلك بأن يكون فيه استعداد البقاء ( ويشك في رافعه ) .

وإن شئت قلت : أن الدليل قد يدلّ على الاستمرار بنفسه ، كالظهور اللفظي وهو خارج عن الاستصحاب المصطلح ، وقد يدلّ على أن المستصحب له إقتضاء الاستمرار الى حصول الرافع ، كالطهارة والنكاح ، وقد يكون مهملاً ساكتا عن حكم الزمان الثاني وهو الشك في المقتضي كخيار الغُبن ، فالأقسام ثلاثة لا إثنين ، أنكر المحقق الاستصحاب في الثالث دون الأولين .

هذا ، لكن الفاضل الجواد تبعا للمعالم فسّر الاستصحاب الذي اعتبره المحقق حجة بالقسم الأوّل وحيث كان القسم الأوّل من الظهورات وليس من الاستصحاب المصطلح قال متوهما بأن المحقق منكر للاستصحاب مطلقا ، وقد عرفت : أنه ليس كذلك ، فإن الاستصحاب الذي اعتبره المحقق حجة هو القسم الثاني ، لأنه مثّل بالنكاح وهو بيان لموضع يدل دليله على إن المستصحب له إقتضاء الاستمرار الى حصول الرافع ، فيكون الشك فيه من باب الشك في الرافع لا المقتضي ، ويكون المحقق على ذلك من المثبتين للاستصحاب لا من المنكرين له .

الى هنا إنتهى كلام المصنِّف في اعتبار الدليل وهو الثاني من الأمر السادس حيث تعرّض المصنِّف في الأمر السادس الى تقسيم الاستصحاب باعتبار المستصحب ، وآخر باعتبار الدليل ، وثالثا باعتبار الشك ، وبدأ الآن في بيان الثالث

ص: 181

وأمّا باعتبار الشك في البقاء فمن وجوه أيضا :

أحدها :

من جهة أنّ الشك قد ينشأ من إشتباه الأمر الخارجي ،

-------------------

فقال : ( وأمّا ) تقسيم الاستصحاب ( باعتبار الشك في البقاء فمن وجوه أيضا ) كالتالي :

( أحدها : من جهة أنّ الشك قد ينشأ من إشتباه الأمر الخارجي ) فإن منشأ الشك قد يكون اشتباه الاُمور الخارجية ، مثل : أن يشك في خروج حدث منه وعدم خروجه ، أو يعلم بخروج شيء منه ، لكنه يشك في أن الخارج منه كان بولاً أو كان وذيا ، وهذا يسمّى بالشبهة الموضوعية .

هذا ، وقد تقدّم : أن الشبهة في الموضوع يحتاج في معرفتها الى إستطراق باب العرف من غير فرق في هذا القسم بين أن يكون المستصحب حكما شرعيا جزئيا مثل : طهارة زيد ونجاسة ثوبه ، أو يكون من الموضوعات الخارجية الصرفة مثل : استصحاب الرطوبة واستصحاب الكرّيّة ، أو يكون من الموضوعات المستنبطة كنقل اللفظ عن معناه الأصلي وشبه ذلك .

وقد يكون منشأ الشك اشتباه الحكم الشرعي الصادر من الشارع مثل : الشك في بقاء النجاسة للماء المتغير بعد زوال تغيره ، والشك في طهارة المكلّف بعد حدوث المذي والوذي والودي منه ، ونحو ذلك ، ويسمّى بالشبهة الحكميّة والشبهة في هذا القسم يلزم فيها استطراق باب الشرع .

ولا يخفى : أن هذا التقسيم قد تعرّض له المصنِّف أوّل الأمر السادس عند تقسيم الاستصحاب باعتبار المستصحب ، وذلك في الثاني من وجوه تقسيم

ص: 182

مثل : الشك في حدوث البول ، أو كون الحادث بولاً أو وَذيا ، ويسمّى بالشبهة في الموضوع ، سواء كان المستصحب حكما شرعيا جزئيا ، كالطهارة في المثالين ، أم موضوعا كالرطوبة ، والكّرية ، وعدم نقل اللفظ عن معناه الأصلي ، وشبه ذلك .

وقد ينشأ من اشتباه الحكم الشرعي الصادر من الشارع ، كالشك في بقاء نجاسة المتغيّر بعد زوال تغيّره ،

-------------------

المستصحب ، لكن هناك كان لبيان نقل الأقوال القائلة بالتفصيل بين الحكم الشرعي وغيره وكيفية ذلك التفصيل ، أمّا هنا فهو لبيان أن الاستصحاب في الشبهة الموضوعية هل هو داخل في محل النزاع أو خارج عن محل النزاع ، مع العلم بأن الاستصحاب في الشبهة الحكميّة داخل في محل النزاع قطعا ؟ .

وعلى أي حال : فالشك في البقاء قد يكون من جهة اشتباه الأمر الخارجي ( مثل : الشك في حدوث البول ، أو كون الحادث بولاً أو وَذيا ) وبولاً أو مذيا ، أو غير ذلك من الأمثلة .

( ويسمّى بالشبهة في الموضوع ، سواء كان المستصحب حكما شرعيا جزئيا ، كالطهارة في المثالين ) وهو شأن المقلد والمجتهد معا ( أم موضوعا ) خارجيا ( كالرطوبة ، والكّرية ، وعدم نقل اللفظ عن معناه الأصلي ، وشبه ذلك ) والاستصحاب هنا ليس معناه : سحب الموضوع بما هو موضوع الى الآن الثاني ، بل معناه : ترتيب الأثر الشرعي عليه ، كما هو واضح .

( وقد ينشأ من اشتباه الحكم الشرعي الصادر من الشارع ، كالشك في بقاء نجاسة المتغيّر بعد زوال تغيّره ) حيث يشك في أن زوال التغيّر من نفسه هل يسبّب زوال النجاسة ، أو تبقى النجاسة حتى بعد زوال التغيّر فيستصحب

ص: 183

وطهارة المكلّف بعد حدوث المذي منه ، ونحو ذلك .

والظاهر دخول القسمين في محل النزاع ، كما يظهر من كلام المنكرين حيث ينكرون استصحاب زيد بعد غيبته عن النظر ، والبلد المبني على ساحل البحر ، ومن كلام المثبتين حيث يستدلّون بتوقف نظام معاش الناس ومعادهم على الاستصحاب .

-------------------

النجاسة ؟ .

( و ) كالشك في بقاء ( طهارة المكلّف بعد حدوث المذي منه ) حيث يشك في أن المذي هل هو كالبول يوجب الحدث أو ليس كالبول موجبا للحدث ، فيستصحب الطهارة .

( ونحو ذلك ) من الشبهات الحكميّة .

( والظاهر دخول القسمين ) من الشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية ( في محل النزاع ) بين الأعلام .

( كما يظهر ) ذلك ( من كلام المنكرين حيث ينكرون استصحاب زيد بعد غيبته عن النظر ، و ) ينكرون استصحاب ( البلد المبني على ساحل البحر ) ولهذا تراهم إذا أرادوا الانفاق على زوجة زيد أو عدم تقسيم أمواله ، أو السفر الى ذلك البلد ، أو ما أشبه ، احتاجوا الى دليل آخر لا أنهم يتمسّكون بالاستصحاب لاثبات ذلك .

هذا ، ومن المعلوم : أن المثالين المذكورين ، هما من الشبهة الموضوعية ، فلو كانت الشبهة الموضوعية خارجة عن محل النزاع لم يتعرَّض لها المنكرون .

( و ) كذا يظهر ذلك ( من كلام المثبتين حيث يستدلّون بتوقف نظام معاش الناس ومعادهم على الاستصحاب ) فإن الناس إنّما يقصدون المسجد الذي

ص: 184

ويحكى عن الاخباريين اختصاصُ الخلاف بالثاني ، وهو الذي صرّح به المحدّث البحراني ، ويظهر من كلام المحدّث الاسترابادي ، حيث قال في فوائده : « إعلم أنّ للاستصحاب صورتين معتبرتين باتفاق الأمّة ، بل أقول : اعتبارهما من ضروريات الدين ، إحداهما : إنّ الصحابة وغيرهم كانوا يستصحبون ما جاء به نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم الى أن يجيء ما ينسخه .

-------------------

قصدوه سابقا للصلاة والعبادة ، ويقصدون السوق الذي قصدوه سابقا للبيع والشراء ، وما أشبه ذلك من الاُمور المعاشيّة والمعاديّة التي يتداولها الناس بسبب الاستصحاب ، بلا فرق بين الشبهة الموضوعيّة والحكميّة وجوبيّة أو تحريميّة .

ومن المعلوم : أن الشبهة في المعاش والمعاد أعمّ من الشبهة الموضوعية فيشمل النزاع الشبهة الموضوعية والشبهة الحكميّة معا .

( ويحكى عن الاخباريين اختصاص الخلاف بالثاني ) وهو كون الشك ناشئا من اشتباه الحكم الشرعي لا من اشتباه الأمر الخارجي ، فإنّ الاشتباه في الاُمور الخارجية والتي تسمّى بالشبهة الموضوعية قد إدّعى الاخباريون كما حكي عنهم : عدم الخلاف في جريان الاستصحاب فيها ( وهو الذي صرّح به المحدّث البحراني ، ويظهر من كلام المحدّث الاسترابادي ، حيث قال في فوائده : « إعلم أنّ للاستصحاب صورتين معتبرتين باتفاق الأمّة ، بل أقول : اعتبارهما من ضروريات الدين ) والصورتان كالتالي :

( إحداهما : إنّ الصحابة وغيرهم ) من التابعين وتابعي التابعين ( كانوا يستصحبون ما جاء به نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم الى أن يجيء ما ينسخه ) وهذا من استصحاب عدم النسخ .

ص: 185

الثانية : إنّا نستصحب كل أمر من الاُمور الشرعية ، مثل كون الرجل مالك أرض وكونه زوج امرأة ، وكونه عبد رجل ، وكونه على وضوء ، وكون الثوب طاهرا أو نجسا ، وكون الليل أو النهار باقيا ، وكون ذمّة الانسان مشغولة بصلاة أو طواف ، الى أن يقطع بوجود شيء جعله الشارع سببا مزيلاً لنقض تلك الاُمور .

ثم ذلك الشيء قد يكون شهادة العدلين ،

-------------------

( الثانية : إنّا نستصحب كل أمر من الاُمور الشرعية ) سواء كان بنفسه أمرا شرعيا أو كان ذا أثر شرعي ( مثل كون الرجل مالك أرض ) فإذا شككنا في أن الأرض خرجت عن ملكه أم لا نستصحب بقائها ملكا له ( وكونه زوج امرأة ، وكونه عبد رجل ، وكونه على وضوء ، وكون الثوب طاهرا أو نجسا ، وكون الليل أو النهار باقيا ) في مثل الصيام والصلاة ونحوهما ( وكون ذمّة الانسان مشغولة بصلاة أو طواف ) أو ما أشبه ذلك .

ومن الواضح : أن هذه الاُمور من الشبهات الموضوعية وهي مجرى للاستصحاب إتفاقا ( الى أن ) يقوم دليل على زوال الحالة السابقة يعني حتى ( يقطع بوجود شيء جعله الشارع سببا مزيلاً لنقض تلك الاُمور ) مثل : قيام البيّنة على أن الأرض خرجت من ملك صاحبها ، وأن الرجل طلّق امرأته ، وغير ذلك من الأمثلة ، فإنه بعد قيام البيّنة عليها يحكم بنقض تلك الاُمور .

( ثم ذلك الشيء ) المعتبر شرعا المزيل لمقتضى الاستصحاب ( قد يكون شهادة العدلين ) فإن الشارع جعل البيّنة معتبرة في الموضوعات كلها حيث قال : « والأشياء كلها على ذلك حتى تستبين أو تقوم به البيّنة » (1) إلاّ ما خرج بالدليل

ص: 186


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : = = ج17 ص89 ب4 ح22053 (بالمعنى) ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

وقد يكون قول الحجّام المسلم ومَن في حكمه ، وقد يكون قول القصّار أو مَن في حكمه ، وقد يكون بيع ما يحتاج الى الذبح والغسل في سوق المسلمين ، وأشباه ذلك من الاُمور الحسيّة » ،

-------------------

بالنسبة الى الأزيد من العدلين ، كما في الشهادة على الزنا وما أشبه ، حيث يلزم فيها أربعة شهود .

وكذا ما خرج بالدليل بالنسبة الى الأقل من العدلين ، كما في الوصيّة إذا شهدت امرأة واحدة - مثلاً - :

( وقد يكون قول الحجّام المسلم ومن في حكمه ) كالحلاّق - مثلاً - فإنه إذا أخبر بتطهير موضع الحِجامة أو الحلاقة يقبل منه لأنه ذو يد على ذلك الموضع فيكون قوله حجة فيه .

( وقد يكون قول القصّار ) وهو غاسل الثياب ، ويسمّى قصّارا ، لأن الغسل يسبب تقصير الثوب كما هو المتعارف فإنه إذا أخبر بتطهير الثياب كان قوله حجة .

( أو مَن في حكمه ) أي : في حكم القصّار مثل : الزوجة إذا أخبرت بتطهير ما في يدها من الاُثاث أو الخادم ، أو من أشبههما ، فإن كل ذي يد على شيء قوله حجة فيه .

( وقد يكون بيع ما يحتاج الى الذبح والغسل في سوق المسلمين ) فإن سوق المسلمين يدل على أن الحيوان مذكّى ، وأن الشيء طاهر ، مع أن الاستصحاب يدل على عدم التذكية وعدم الطهارة .

( وأشباه ذلك من الاُمور الحسيّة » (1) ) المعتبرة شرعا لازالة مقتضى

ص: 187


1- - الفوائد المدنية : ص143 .

انتهى .

ولولا تمثيله باستصحاب الليل والنهار ، لاحتمل أن يكون معقد إجماعه : الشك من حيث المانع وجودا أو منعا ، إلاّ أنّ الجامع بين جميع أمثلة الصورة الثانية ليس إلاّ الشبهة الموضوعية ،

-------------------

الاستصحاب ، كاليدّ على الشيء فإن اليد علامة الملكية ، مع ان الاستصحاب على خلاف ذلك ( انتهى ) كلام المحدّث الاسترابادي .

هذا ( ولولا تمثيله باستصحاب الليل والنهار ) في جملة كلامه المتقدم ( لاحتمل أن يكون معقد إجماعه : الشك من حيث المانع وجودا أو منعا ) دون الشك من حيث المقتضي وذلك ، لأن الأمثلة التي ذكرها كانت كلها من الشك في الرافع ، إلاّ الشك في بقاء الليل والنهار فإنه من الشك في المقتضي .

وإنّما كان ذلك من الشك في المقتضي لأنّا نعلم هل النهار له استعداد البقاء - مثلاً - عشر ساعات أو إحدى عشرة ساعة ؟ فإذا شككنا في الساعة الحادية عشرة من بقاء النهار نستصحب النهار وكذلك بالنسبة الى الليل .

وبهذا المثال إندفع احتمال أن يكون مراد المحدث الاسترابادي من الصورتين المعتبرتين للاستصحاب هو : الشك في النسخ الرافع فقط ليضاهي قول المحقق في المعارج ، بل ظهر : أن معقد إجماعه على جريان الاستصحاب حتى مع الشك في المقتضي .

هذا ( إلاّ أنّ الجامع بين جميع أمثلة الصورة الثانية ) في كلام المحدث الاسترابادي ( ليس إلاّ الشبهة الموضوعية ) فليس هناك شبهة حكمية في كلامه لما تقدّم : من ان الاخباريين لا يرون حجية الاستصحاب في الشبهة الحكمية

ص: 188

فكأنّه إستثنى من محل الخلاف صورة واحدة من الشبهة الحكميّة ، أعني : الشك في النسخ وجميع صور الشبهة الموضوعية .

وأصرحُ من العبارة المذكورة في اختصاص محل الخلاف بالشبهة الحكميّة ما حكي عنه في الفوائد أنّه قال في جملة كلام له :

« إنّ صور الاستصحاب المختلف فيه راجعةٌ الى أنّه إذا ثبت حكمٌ بخطاب شرعي في موضوع في حال من حالاته نُجريه في ذلك الموضوع

-------------------

الكليّة ( فكأنّه ) أي : المحدّث الاسترابادي ( إستثنى من محل الخلاف صورة واحدة من الشبهة الحكميّة أعني : الشك في النسخ ) على ما ذكره في الصورة الاُولى .

ولكن أشكل عليه : بأن الأخذ بعدم النسخ ليس من الاستصحاب المصطلح ، بل من الأخذ بظاهر الدليل الدال على دوام الحكم فهو مثل استصحاب العموم والاطلاق حيث لم يكن من الاستصحاب المصطلح كما هو واضح .

إذن : فالمحدّث الاسترابادي قد إستثنى من محل النزاع صورة واحدة من الشبهة الحكمية فقط ( وجميع صور الشبهة الموضوعية ) فيؤيده ما حكي عن الاخباريين من إنهم يرون حجية الاستصحاب منحصرا في الشبهة الموضوعية فقط .

هذا ( وأصرح من العبارة المذكورة ) عن المحدّث الاسترابادي ( في اختصاص محل الخلاف بالشبهة الحكميّة ما حكي عنه ) أيضا ( في الفوائد أنّه قال في جملة كلام له : « إنّ صور الاستصحاب المختلف فيه راجعةٌ الى أنّه إذا ثبت حكمٌ بخطاب شرعي في موضوع في حال من حالاته ) مثل : ثبوت حكم النجاسة للكرّ حال تغيّره فهل ( نُجريه ) أي : نجري ذلك الحكم ( في ذلك الموضوع

ص: 189

عند زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها فيه .

ومن المعلوم : أنّه إذا تبدّل قيد موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد اختلف موضوع المسألتين ، فالذي سمّوه استصحابا راجعٌ في الحقيقة الى إجراء حكم لموضوع الى موضوع متّحد معه بالذات مختلف بالقيد والصفات » ، انتهى .

-------------------

عند زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها فيه ) أم لا ؟ .

ولا يخفى : ان المراد من النقيض هنا ليس هو النقيض الاصطلاحي ، بل الأعم من الضد والنقيض .

والحاصل : أنه في مثل هذا المثال هل يجري استصحاب حكم النجاسة عند زوال التغيّر من قبل نفسه أم لا ؟ .

هذا ( ومن المعلوم : أنّه إذا تبدّل قيد موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد ) كتبدّل تغيّر الماء الى العدم ( اختلف موضوع المسألتين ) فإن موضوع المسألة السابقة هو المتغير ، وموضوع المسألة اللاحقة هو عدم التغيّر فلا إتحاد في موضوع المسألتين .

وعليه : ( فالذي سمّوه استصحابا راجعٌ في الحقيقة الى إجراء حكم لموضوع الى موضوع ) آخر ( متّحد ) ذلك الموضوع الآخر ( معه ) أي : مع الموضوع الأوّل ( بالذات ) فإن ماء الكرّ هو هو في حال التغيّر وفي حال زوال تغيّره لم يختلف ذاتا .

نعم ، هو ( مختلف بالقيد والصفات » (1) ) لأن الماء سابقا كان متغيّرا والآن زال تغيّره ( انتهى ) كلام المحدّث الاسترابادي ، وهو - كما رأيت - ظاهر

ص: 190


1- - الفوائد المدنية : ص143 .
الثاني :

من حيث إنّ الشك بالمعنى الأعمّ الذي هو المأخوذ في تعريف الاستصحاب ، قد يكون مع تساوي الطرفين ، وقد يكون مع رجحان البقاء أو الارتفاع ، ولا إشكال في دخول الأوّلين في محل النزاع .

وأمّا الثالث ، فقد يترائى من بعض كلماتهم :

-------------------

في اختصاص محل النزاع بالشبهة الحكميّة دون الموضوعية .

ثم إن المصنِّف ذكر : ان تقسيم الاستصحاب باعتبار الشك في البقاء من وجوه ، أحدها : من جهة ان الشك قد نشأ من اشتباه الأمر الخارجي وقد مرّ الكلام حوله على ما عرفت .

( الثاني : من حيث أنّ الشك بالمعنى الأعمّ ) الشامل لمتساوي الطرفين وللظن والوهم ( الذي هو المأخوذ في تعريف الاستصحاب ) فقد عرّفوا الاستصحاب : بكون شيء يقيني الحصول في السابق مشكوك البقاء في اللاحق ، فإنهم حيث جعلوا الشك في مقابل اليقين ظهر : ان مرادهم من الشك هو : معناه الأعمّ يعني : ما ليس بيقين ، سواء كان ظنا ، أو وهما ، أو شكا بالمعنى الاصطلاحي الذي هو تساوي الطرفين .

وعليه : فإن الشك هنا ( قد يكون مع تساوي الطرفين ، وقد يكون مع رجحان البقاء أو ) رجحان ( الارتفاع ) ففي كل هذه الموارد يستصحب الحال السابق ، سواء كان مظنون البقاء أو مظنون الارتفاع أو متساوي الطرفين .

هذا ( ولا إشكال في دخول الأوّلين ) أي : تساوي الطرفين ورجحان البقاء ( في محل النزاع ) الجاري من القوم في حجية الاستصحاب وعدم حجيته .

( وأمّا الثالث ) : وهو رجحان الارتفاع ( فقد يترائى من بعض كلماتهم :

ص: 191

عدم وقوع الخلاف فيه .

قال شارحُ المختصر : « معنى استصحاب الحال : أنّ الحكم الفلاني قد كان ولم يظن عدمه ، وكلّ ما كان كذلك فهو مظنون البقاء . وقد اختلف في حجيته لافادته الظنّ ، وعدمها لعدم إفادته » ، انتهى .

والتحقيق : أنّ محل الخلاف إن كان في اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد والطريق الظاهري عمّ صورة الظنّ غير المعتبر بالخلاف ،

-------------------

عدم وقوع الخلاف فيه ) أي : يظهر منه : انه لا خلاف في عدم اعتبار الاستصحاب فيما إذا ظن المكلّف بخلاف الحالة السابقة ، ويشهد لما ذكرناه قول شارح المختصر فإنه كما يلي :

( قال شارحُ المختصر : « معنى استصحاب الحال : أنّ الحكم الفلاني قد كان ولم يظن عدمه ) فإن ظاهر قوله : « ولم يظن عدمه » ، إنه إذا ظن عدمه لم يجرِ الاستصحاب ، ثم أضاف : ( وكلّ ما كان كذلك فهو مظنون البقاء ) فيعمل على بقاء تلك الحالة السابقة ثم قال :

( وقد اختلف في حجيته لافادته الظنّ ) فهو حجة ( وعدمها ) أي : عدم حجيته ( لعدم إفادته » (1) ) بظن ، لأنه ليس كل ما كان الانسان يتيقن بشيء في الزمان السابق يظن ببقائه في الزمان اللاحق ( انتهى ) كلام شارح المختصر .

( والتحقيق : أنّ محل الخلاف إن كان في اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد والطريق الظاهري ) الذي هو مفاد اخبار الاستصحاب ( عمّ ) النزاع ( صورة الظنّ غير المعتبر بالخلاف ) أمّا الظن المعتبر بالخلاف كما إذا قامت البينة ، أو خبر العادل ، أو ما أشبه ذلك على الخلاف ، فلا نزاع في انه لا يكون مجرى

ص: 192


1- - شرح مختصر الاصول : ج2 ص284 .

وإن كان من باب إفادة الظنّ ، كما صرّح به شارح المختصر ، فإن كان من باب الظنّ الشخصي ، كما يظهر من كلمات بعضهم ، كشيخنا البهائي في حبل المتين وبعض من تأخّر عنه ، كان محل الخلاف في غير صورة الظنّ بالخلاف ، إذ مع

-------------------

للاستصحاب .

كما ان الظن بالوفاق إن كان معتبرا لم يكن مجرى للاستصحاب أيضا ، لأن الاستصحاب دليل حيث لا دليل .

هذا إذا كان اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار .

( وإن كان ) اعتبار الاستصحاب ( من باب إفادة الظنّ ) بالبقاء ، وذلك من جهة دلالة العقل على إبقاء ما كان على ما كان ( كما صرّح به شارح المختصر ، فإن كان ) أي : اعتبار الاستصحاب ( من باب الظنّ الشخصي ، كما يظهر من كلمات بعضهم كشيخنا البهائي في حبل المتين ) على ما سبق من كلامه الذي نقلناه ( وبعض من تأخّر عنه ، كان محل الخلاف في غير صورة الظنّ بالخلاف ) لأنه إذا ظن بالخلاف ظنا شخصيا لم يكن مجرى للاستصحاب .

وعليه : فإنهم حيث قد اعتبروا في حجية الاستصحاب الظن الشخصي بالبقاء ، فإذا كان الظن الشخصي بالخلاف لم يكن ظن شخصي بالبقاء فلم يجرِ الاستصحاب .

وأمّا إذا كان في الزمان الثاني شاكا ، فإنه بملاحظة حالته السابقة يتبدّل شكّه الى الظن ، فلا يرد عليه : انه إذا كان من باب الظن الشخصي ، لم يكن حجة في الزمان الثاني مطلقا .

وعلى أي حال : فإنه مع الظن بالخلاف لم يكن الاستصحاب حجة ( إذ مع

ص: 193

وجوده لا يعقل ظنُّ البقاء ، وإن كان من باب إفادة نوعه الظنّ لو خُلِّي وطَبْعَهُ ، وإن عرض لبعض افراده ما يُسقطه عن إفادة الظنّ ، عمّ الخلاف صورة الظن بالخلاف أيضا .

ويمكن أن يحمل كلام العضدي على إرادة : أنّ الاستصحاب من شأنه بالنوع أن يفيد الظنّ عند فرض عدم الظنّ بالخلاف ، وسيجيء زيادة توضيح لذلك إن شاء اللّه تعالى .

-------------------

وجوده ) أي : وجود الظن الشخصي بالخلاف ( لا يعقل ظنُّ البقاء ) حتى يكون مجرى للاستصحاب .

( وإن كان ) أي : اعتبار الاستصحاب ( من باب إفادة نوعه الظنّ لو خُلِّي وطبعَه) فإن نوع الناس يظنون بالبقاء من الحالة السابقة ( وإن عرض لبعض افراده ما يسقطه عن إفادة الظنّ ) الفعلي ، كما إذا قامت أمارة غير معتبرة على الخلاف ، فإن في مورد تلك الأمارة لا يكون ظن بالبقاء ، ولكن لو لم يعرض له ذلك ( عمّ الخلاف صورة الظن بالخلاف أيضا ) فيجري الاستصحاب في جميع الصور ، سواء ظن بالوفاق أم ظن بالخلاف أم شك فيه .

( ويمكن أن يحمل كلام العضدي ) الذي تقدّم منه ، حيث قال : وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء ( على إرادة : أنّ الاستصحاب من شأنه بالنوع أن يفيد الظنّ عند فرض عدم الظنّ بالخلاف ) فيكون مراد العضدي على ذلك هو الظن النوعي ، لا الظن الشخصي ( وسيجيء زيادة توضيح لذلك إن شاء اللّه تعالى ) في المباحث الآتية .

ص: 194

الثالث :

من حيث انّ الشك في بقاء المستصحب ، قد يكون من جهة المقتضي ، والمراد به : الشك من حيث استعداده وقابليّته في ذاته للبقاء ، كالشك في بقاء الليل والنهار ، وخيار الغُبن بعد الزمان الأوّل ، وقد يكون من جهة طروّ الرافع مع القطع باستعداده للبقاء .

-------------------

( الثالث ) من وجوه تقسيم الاستصحاب باعتبار الشك في البقاء هو : ( من حيث انّ الشك في بقاء المستصحب ، قد يكون من جهة المقتضي ، والمراد به : الشك من حيث استعداده وقابليّته في ذاته للبقاء ، كالشك في بقاء الليل والنهار ) فإنه لو كان في آخر العصر وشك في بقاء النهار أو كان في آخر الليل وشك في بقاء الليل ، فهل له أن يستصحبهما أم لا ؟ وهذا من الشك في المقتضي ، لأن الليل والنهار في ذاتهما حدّا محدودا يتصرّمان بالتدريج وينقضيان في تمام الحدّ فلا يقتضيان البقاء فوق حدّهما .

( و ) كالشك في ( خيار الغُبن بعد الزمان الأوّل ) حيث لا نعلم هل إن خيار الغبن فوري حتى لا يكون للمغبون خيار في الزمان الثاني ، أو لم يكن فوريا حتى يبقى في الزمان الثاني أيضا ؟ فإن هذا أيضا من الشك في المقتضي ، لأنه شك في مقدار استعداد الخيار للبقاء وعدمه .

( وقد يكون ) الشك ( من جهة طروّ الرافع مع القطع باستعداده للبقاء ) لولا الرافع ، كما إذا شككنا في زوال الطهارة والنجاسة ، والحليّة والحرمة ، والملكيّة والزوجية ، - مثلاً - وذلك لشكنا في عروض ما يزيل تلك الأحوال السابقة ، بعد علمنا بأن الأحوال السابقة كلها قابلة للبقاء ما لم يعرض عليها الرافع .

هذا ، ولا يخفى على أحد الفرق بين هذا التفصيل والتفصيل السابق الذي ذكره

ص: 195

وهذا على أقسام : لأنّ الشك إمّا في وجود الرافع ، كالشك في حدوث البول ، وإمّا أن يكون في رافعيّة الموجود ، إمّا لعدم تعيّن المستصحب وتردّده بين ما يكون الموجود رافعا وبين ما لا يكون ، كفعل الظهر المشكوك كونُه رافعا لشغل الذمة بالصلاة المكلّف بها قبل العصر يوم الجمعة ، من جهة تردّده بين الظهر والجمعة ، وإمّا للجهل بصفة الموجود من كونه رافعا ، كالمذي ،

-------------------

المصنِّف عن المحقق والخوانساري ، فإن الفرق بينهما هو : ان التفصيل السابق كان باعتبار دلالة الدليل على الاستمرار وعدمه ، وهذا التفصيل باعتبار الشك في الرافع والمقتضي ، كما إن التفصيل السابق كان مختصا بالشبهة الحكمية ، وهذا يعمّ الشبهة الحكمية والموضوعية .

( وهذا ) أي : الشك في الرافع ( على أقسام ) خمسة وذلك كما يلي :

الأوّل : ( لأنّ الشك إمّا في وجود الرافع كالشك في حدوث البول ) لمن كان متطهّرا ، ثم شكّ في ذلك للشك في أنه أحدث أم لا ؟ .

الثاني : ( وإمّا أن يكون في رافعيّة الموجود ) والشك في رافعية الموجود ( إمّا لعدم تعيّن المستصحب وتردّده بين ما يكون الموجود رافعا وبين ما لا يكون ) رافعا ( كفعل الظهر المشكوك كونُه رافعا لشغل الذمة بالصلاة المكلّف بها قبل ) صلاة ( العصر يوم الجمعة ، من جهة تردّده ) أي : تردّد الشغل ( بين الظهر والجمعة ) فإنه إذا شكّ في ان تكليفه يوم الجمعة صلاة الظهر أو صلاة الجمعة ثم صلّى إحداهما ؟ فإنه يشك في رافعية هذه الصلاة لشغل الذمّة حيث لا يعلم أن الواجب هل كان الظهر أو كانت الجمعة ؟ .

الثالث : ( وإمّا للجهل بصفة الموجود من كونه رافعا ، كالمذي ) حيث لا يعلم

ص: 196

أو مصداقا لرافع معلوم المفهوم ، كالرطوبة المردّدة بين البول والوذي ، أو مجهول المفهوم .

-------------------

هل إن الشارع جعل المذي رافعا للطهارة كرافعيّة البول لها أم لا ؟ ولذا فانه إذا خرج منه مذي شك في بقاء طهارته وعدم بقائها .

الرابع : ( أو ) شك في الرافعيّة من جهة شكّه في كون الموجود ( مصداقا لرافع معلوم المفهوم ، كالرطوبة المردّدة بين البول والوذي ) فإنه يعلم أن البول رافع ، ويعلم أيضا إن الوذي ليس برافع ، لكن خرج منه شيء لا يعلم هل هو بول حتى يكون رافعا لطهارته ، أو وذي حتى لا يكون رافعا لطهارته ، فهذا البلل مشكوك في كونه مصداقا للبول المعلوم المفهوم به الذي هو رافع قطعي .

الخامس : ( أو مجهول المفهوم ) كما إذا حصلت له خفقة فلم يعلم ان الخفقة داخلة في مفهوم النوم الرافع للطهارة حتى يكون محدثا ، أم لا حتى يكون متطهرا ؟ فإن هذا الشك ناشيء من جهة الشك في المفهوم بينما الشك السابق كان ناشئا من جهة الشك في المصداق لا في المفهوم .

هذه كانت أقسام الشك في الرافع .

وأما أقسام الشك في الغاية فهي خمسة أيضا على ما يلي :

الأوّل : أن يشك في وجود الغاية مثل : دخول النهار بالنسبة الى المنع عن الأكل والشرب في ليالي شهر رمضان .

الثاني : أن يشك في غائية الموجود مثل : شكّه في أن خفاء الجدران هل هو حدّ للترخص أم لا ؟ .

الثالث : إن الشك في إندراج الشيء الموجود في الغاية وعدم إندراجه فيها دخول ما بين الاستتار وذهاب الحمرة في الليل ، فهل تصح صلاة المغرب في هذا

ص: 197

...

-------------------

الوقت أو لا تصح ؟ .

الرابع : أن يشك في مصداقية الموجود للغاية ، كما إذا كان السفر ثمانية فراسخ موجبا للقصر ، فسافر الى موضع شك في أنه ثمانية فراسخ أم لا ؟ .

الخامس : أن يشك في الشيء لتردّده بين ما يحصل غايته بهذا وبين ما لا يحصل به ، كما إذا سافر حتى خَفِي عليه أذان المحلة في المدن الكبار ولم يَخْف بعد أذان البلد ، فيشك في أنّ المناط لحدّ الترخص هل هو خفاء أذان المحلة حتى يصلي قصرا ، أو أذان البلد حتى يصلي تماما ؟ .

ثم إنّ الشك في المقتضي مثل : الشك في بقاء الليل والنهار قد يكون منشأه الشك في طول النهار والليل أو قصرهما ، فهو من الشك في المقتضي ، وقد يكون منشأه الشك في حصول غايته مثل : استتار القرص في الأوّل وطلوعه في الثاني ، فهو من الشك في الرافع ، فيعمّ المثال كلا القسمين ، وكيف كان : فان المندرج تحت الشك في المقتضي أقسام أربعة :

الأوّل : أن يكون مجهول الكم ، كما لو لم نعلم هل إن السراج مملوّ من النفط أم لا ؟ .

الثاني : أن يكون مجهول الكيف ، كما لو لم نعلم هل ان في السراج نفط جيد يدوم الى الصباح ، أو نفط رديء لا يدوم إلاّ الى منتصف الليل ؟ .

الثالث : أن يكون معلوم الكمّ والكيف ، كما لو كان السراج مملوا من النفط الجيد ، لكن لا نعلم وقت ابتداء إنارة السراج ، ولذا لم نعلم هل إنه يبقى الى الصباح أو ينطفيء عند منتصف الليل .

الرابع : أن يكون الشك في استعداد المستصحب ناشئا عن الشك في مناطه ،

ص: 198

ولا إشكال في كون ما عدا الشك في وجود الرافع محلاً للخلاف ، وإن كان ظاهرُ استدلال بعض المثبتين : بأنّ المقتضي للحكم الأوّل موجود ، الى آخره ، يُوهِم الخلاف ، وأمّا هو فالظاهر أيضا : وقوع الخلاف فيه ، كما يظهر من إنكار السيد للاستصحاب في البلد المبني على ساحل البحر ، وزيد الغائب عن النظر ،

-------------------

وهذا إنّما يكون فيما إذا كان للمستصحب موضوع يأتي متبدّلاً الى غيره في ثاني الأزمنة ، ومثّلوا لذلك بالماء المتغير بالنجس إذا زال تغيّره من نفسه ، حيث لا يعلم ان موضوع النجاسة هل هو مجرد حصول التغيّر فلا تزول بزواله ، أو استمرار التغيّر فتزول بزواله ؟ .

( و ) كيف كان : فإنه ( لا إشكال في كون ما عدا الشك في وجود الرافع محلاً للخلاف ) بين العلماء ( وإن كان ظاهرُ استدلال بعض المثبتين : بأنّ المقتضي للحكم الأوّل موجود ، الى آخره ، يُوهِم الخلاف ) أي : يوهم أن الشك في المقتضي متّفق على عدم اعتبار الاستصحاب فيه فيكون خارجا أيضا كما خرج الشك في الرافع عن محل الخلاف للاتفاق على اعتبار الاستصحاب فيه ، وقد عرفت : أنه ليس كذلك ، فإن الشك في المقتضي محل للنزاع أيضا .

( وأمّا هو ) أي : الشك في وجود الرافع ( فالظاهر أيضا : وقوع الخلاف فيه ) بين العلماء ، وذلك ( كما يظهر من إنكار السيد للاستصحاب في البلد المبني على ساحل البحر ) حيث ان فيه إقتضاء البقاء ما دام لم يطغ عليه البحر ( و ) من انكاره استصحاب حياة ( زيد الغائب عن النظر ) مع ان الانسان يقتضي البقاء ما دام لم يعرض عليه عارض الموت .

هذا ، ومن المعلوم : ان هذين المثالين من الشك في الرافع ، ومع ذلك فقد

ص: 199

وإنّ الاستصحاب لو كان حجّة لكان بيّنةُ النافي أولى ، لاعتضاده بالاستصحاب .

وكيف كان : فقد يفصّل بين كون الشك من جهة المقتضي ، وبين كونه من جهة الرافع فينكر الاستصحاب في الأوّل ، وقد يفصّل في الرافع بين الشك في وجوده ، والشك في رافعيّته فينكر الثاني مطلقا أو إذا لم يكن

-------------------

أنكر السيد الاستصحاب فيهما .

( و ) كذا يظهر من أدلة النافين القائلين : ( أنّ الاستصحاب لو كان حجّة لكان بيّنةُ النافي أولى ، لاعتضاده بالاستصحاب ) فإن العدم كما تقدّم : يبقى الى أن يأتي ما يزيله ، فهو من الشك في الرافع ، ولكن مع ذلك أنكر النافون الاستصحاب فيه محتجّين : بأن الاستصحاب عند الشك في الرافع لو كان معتبرا لجرى أصل العدم وتعاضد به بيّنة النفي وتقدمت على بيّنة الاثبات ، فعدم تقديم بيّنة النفي دليل على عدم اعتبار الاستصحاب في الشك في الرافع .

( وكيف كان ) كلامهم بالنسبة الى الشك في المقتضي أو الشك في الرافع ( فقد يفصّل بين كون الشك من جهة المقتضي ، وبين كونه من جهة الرافع ) فيعتبر الاستصحاب في الثاني دون الأوّل كما قال : ( فينكر الاستصحاب في الأوّل ) وهو الشك في المقتضي ويثبّته في الثاني وهو الشك في الرافع .

( وقد يفصّل في الرافع بين الشك في وجوده ، والشك في رافعيّته فينكر ) الاستصحاب في ( الثاني مطلقا ) أي : سواء كان الشك في المفهوم أم في المصداق أم في غير ذلك .

( أو ) ينكر الاستصحاب في رافعيّة الموجود لكن لا مطلقا ، بل ( إذا لم يكن

ص: 200

الشك في المصداق الخارجي .

أقوال في الاستصحاب

هذه جملة ما حضرني من كلمات الأصحاب ، والمتحصّل منها في بادي النظر : أحد عشر قولاً :

الأوّل : القول بالحجية مطلقا .

الثاني : عدمُها مطلقا .

الثالث : التفصيل بين العدمي والوجودي .

الرابع : التفصيل بين الاُمور الخارجية ، وبين الحكم الشرعي مطلقا ،

-------------------

الشك في المصداق الخارجي ) كالشك مثلاً في إن هذه الرطوبة بول أو مذي فإنه يثبّته فيه أيضا .

ثم إن المصنِّف قال بعد ذلك : ( هذه جملة ما حضرني ) الآن ( من كلمات الأصحاب ) وغير الأصحاب من العامّة الذين نقل المصنِّف عنهم ( والمتحصّل منها في بادي النظر : أحد عشر قولاً ) وان كان في بعض الأقوال منها إشكال تعرّض له بعض الشروح والحواشي ، أما الأقوال فهي عبارة عما يلي :

( الأوّل : القول بالحجية مطلقا ) بدون أي تفصيل .

( الثاني : عدمُها ) أي : عدم الحجية ( مطلقا ) فلا استصحاب إطلاقا .

( الثالث : التفصيل بين العدمي والوجودي ) وذلك بأن يجري الاستصحاب في العدمي ولا يجري في الوجودي .

( الرابع : التفصيل بين الاُمور الخارجية ، وبين الحكم الشرعي مطلقا ) يعني : سواء كان الحكم الشرعي ، كليّا كاباحة شرب التتن ، أم جزئيا كاستصحاب طهارة بدن زيد ونجاسة ثوبه ، فإنه يجري الاستصحاب فيه ، دون الاُمور الخارجية كما

ص: 201

فلا يعتبر في الأوّل .

الخامس : التفصيل بين الحكم الشرعي الكلّي وغيره ، فلا يعتبر في الأوّل إلاّ في عدم النسخ .

السادس : التفصيل بين الحكم الجزئي وغيره ، فلا يعتبر في غير الأوّل .

وهذا هو الذي تقدّم : أنّه ربما يستظهر من كلام المحقق الخوانساري في حاشية شرح الدروس ، على ما حكاه السيد في شرح الوافية .

السابع : التفصيل بين الأحكام الوضعيّة يعني : نفس الأسباب

-------------------

قال : ( فلا يعتبر في الأوّل ) وهي : الاُمور الخارجية مثل : استصحاب حياة زيد ورطوبة يده .

( الخامس : التفصيل بين الحكم الشرعي الكلّي وغيره ) فالحكم الشرعي الجزئي ، والموضوع الخارجي يجري الاستصحاب فيهما دون الحكم الشرعي الكلّي كما قال : ( فلا يعتبر في الأوّل ) وهو الحكم الشرعي الكلّي ( إلاّ في عدم النسخ ) فإن استصحاب عدم النسخ محل وفاق - كما تقدّم - لكن تقدّم أيضا : ان بعضهم جعل استصحاب عدم النسخ من باب الظهور اللفظي لا من باب الاستصحاب العملي .

( السادس : التفصيل بين الحكم الجزئي وغيره ) أي : غير الحكم الجزئي فيشمل الحكم الشرعي الكلّي والاُمور الخارجية معا ( فلا يعتبر في غير الأوّل ، وهذا هو الذي تقدّم : أنّه ربما يستظهر من كلام المحقق الخوانساري في حاشية شرح الدروس ، على ما حكاه السيد في شرح الوافية ) لكن بعضهم أنكر صحة النِسبة المذكورة .

( السابع : التفصيل بين الأحكام الوضعيّة يعني : نفس الأسباب

ص: 202

والشروط والموانع ، والأحكام التكليفيّة التابعة لها ، وبين غيرها من الأحكام الشرعية ، فيجري في الأوّل دون الثاني .

الثامن : التفصيل بين ما ثبت بالاجماع وغيره ، فلا يعتبر في الأوّل .

التاسع : التفصيل بين كون المستصحب مما ثبت بدليله ، أو من الخارج استمراره ، فشك في الغاية الرافعة له ،

-------------------

والشروط والموانع ) لا المانعيّة والشرطيّة والسببيّة ، فإن الحكم الوضعي - مثلاً - هو السببيّة لا السبب إلاّ ان مراد المفصل من الحكم الوضعي هو ما يقوم به الحكم لا الحكم نفسه ( والأحكام التكليفيّة التابعة لها ) أي : للأحكام الوضعيّة ، فقد تقدّم : ان الأحكام التكليفية تابعة للأحكام الوضعيّة ، فالزوجية - مثلاً - حكم وضعي ، يتبعها حكم تكليفي كوجوب النفقة ، فربما نستصحب بقاء الزوجية ، وربما نستصحب وجوب النفقة .

( وبين غيرها من الأحكام الشرعية ، فيجري ) الاستصحاب ( في الأوّل دون الثاني ) وذلك بأن لا يجري الاستصحاب في نفس الأحكام مطلقا ، سواء كانت تكليفية كالأحكام الخمسة ، أم وضعيّة كالشرطيّة والمانعيّة ونحوها ، وسيأتي نقله عن الفاضل التوني إن شاء اللّه تعالى .

( الثامن : التفصيل بين ما ثبت بالاجماع وغيره ) أي : غير الاجماع من الكتاب والسنة ( فلا يعتبر في الأوّل ) أي : في الحكم الثابت بالاجماع وإنّما يعتبر الاستصحاب في الحكم الثابت من الكتاب والسنة .

( التاسع : التفصيل بين كون المستصحب مما ثبت بدليله ، أو من الخارج استمراره ) فإذا ثبت بنفس الدليل أو بقرينة خارجية استمرار المستصحب ( فشك في الغاية الرافعة له ) بأن كان الشك في الرافع ، بِصِوَرِه الخمس ، فيجري فيها

ص: 203

وبين غيره ، فيعتبر في الأوّل دون الثاني ، كما هو ظاهر المعارج .

العاشر : هذا التفصيل مع اختصاص الشك بوجود الغاية ، كما هو الظاهر من المحقق السبزواري فيما سيجيء من كلامه .

الحادي عشر : زيادة الشك في مصداق الغاية من جهة الاشتباه المصداقي دون المفهومي ، كما هو ظاهر ما سيجيء من المحقق الخوانساري .

-------------------

الاستصحاب جميعا .

( وبين غيره ) وهو الشك في المقتضي فلا يجري فيه الاستصحاب على ما قال : ( فيعتبر ) الاستصحاب ( في الأوّل دون الثاني كما هو ظاهر ) - كلام المحقق في ( المعارج ) على ما تقدّم .

( العاشر : هذا التفصيل ) المذكور من المحقق ( مع اختصاص الشك بوجود الغاية ) الرافعة بأن يكون الشك في وجود الرافع فقط دون الصور الأربع الباقية للشك في الرافع ، فإنه لا يجري الاستصحاب فيها ولا في الشك في المقتضي ( كما هو الظاهر من المحقق السبزواري فيما سيجيء من كلامه ) إن شاء اللّه تعالى .

( الحادي عشر ) : اعتبار الاستصحاب في صورة الشك في وجود الرافع مع ( زيادة ) صورة أخرى من صور الشك في رافعية الموجود وهي : صورة ( الشك في مصداق الغاية ) الرافعة للحكم ( من جهة الاشتباه المصداقي ) كما تقدّم : من مثال تردد الرطوبة بين البول والمذي حيث انه من باب الاشتباه المصداقي ( دون المفهومي ) على ما تقدّم من مثال الشك في رافعية الخفقة لاحتمال دخولها في مفهوم النوم ( كما هو ظاهر ما سيجيء من المحقق الخوانساري ) فإنه سيأتي بيانه

ص: 204

ثم إنّه لو بنى على ملاحظة ظواهر كلمات من تعرّض لهذه المسألة في الاصول والفروع لزادت الأقوال على العدد المذكور بكثير ، بل يحصل لعالم واحد قولان أو أزيدُ في المسألة . إلاّ أنّ صرف الوقت في هذا مما لا ينبغي .

والأقوى هو القول التاسع ، وهو الذي اختاره المحقق ،

-------------------

مع بيان بقية الأقوال مفصلاً إن شاء اللّه تعالى .

( ثم إنّه لو بنى على ملاحظة ظواهر كلمات من تعرّض لهذه المسألة ) أي : مسألة الاستصحاب ( في الاصول والفروع ) أي : في الكتب الاصولية والكتب الفقهية ( لزادت الأقوال على العدد المذكور بكثير ) حتى قيل : إن الأقوال تبلغ أكثر من خمسين قولاً .

( بل ) ربما ( يحصل لعالم واحد قولان أو أزيد في المسألة ) وذلك بأن يقول بقول في مسألة ، ويقول بقول آخر في مسألة أخرى مماثلة ( إلاّ أنّ صرف الوقت في هذا مما لا ينبغي ) ولذلك نتركه ونكتفي بهذا القليل .

لا يقال : ولا ينبغي أيضا صرف الوقت في جملة من هذه الأقوال .

لأنه يقال : إن هذا الأقوال لجماعة من كبار المحققين ولعله يأتي من يرى رأيهم ، بخلاف سائر الأقوال الضعيفة ، كما انتهج مثل ذلك المتكلمون في اصول الدين حيث تعرّض مشهور المتكلمين لدين موسى وعيسى ونبي المجوس وذكروا تحريفها بعد أنبيائهم ونَسْخِها بالاسلام ولم يتعرّضوا لسائر الأديان مع وجود مَن يعترف بها كدين بوذا حيث يعتقد به - على ما يقال - مئات الملايين من الناس في الحال الحاضر .

هذا ( والأقوى ) عندنا هو القول الأوّل ، وهو ثبوت الاستصحاب مطلقا ، أما المصنِّف فالأقوى عنده (هو القول التاسع وهو الذي اختاره المحقق) في المعارج.

ص: 205

فإنّ المحكي عنه في المعارج أنّه قال :

« إذا ثبت حكمٌ في وقت ، ثم جاء وقت آخر ولم يقم دليلٌ على إنتفاء ذلك الحكم ، هل يُحْكَم ببقائه ما لم يقم دلالة على نفيه ؟ أم يفتقر الحكم به في الوقت الثاني الى دلالة ؟ .

وحكي عن المفيد قدس سره : أنّه يحكم ببقائه وهو المختار .

وقال المرتضى قدس سره : لا يحكم .

ثم مثّل بالمتيمّم الواجد للماء في أثناء الصلاة ،

-------------------

وعليه : ( فإنّ المحكي عنه في المعارج أنّه قال : « إذا ثبت حكم في وقت ) كما إذا كان حكمه التيمُّم عند تعذر الماء فتيمّم وصلّى ( ثم جاء وقت آخر ) بأن حضر الماء في أثناء صلاته ( ولم يقم دليل على إنتفاء ذلك الحكم ) فيشك في انتقاض تيمّمه وعدم انتقاضه ، فحينئذ ( هل يحكم ببقائه ) أي : بقاء الحكم الأوّل وصحة تيمّمه ( ما لم يقم دلالة على نفيه ) أي : نفي الحكم الأوّل وانتقاض تيمّمه ولو كان في أثناء الصلاة .

( أم يفتقر الحكم به في الوقت الثاني الى دلالة ) دليل ، وحيث لم يكن الدليل موجودا نقول ببقاء الحكم الأوّل وصحة تيمّمه ؟ .

( وحكي عن المفيد قدس سره : أنّه يحكم ببقائه وهو المختار ) عند المحقق .

( وقال المرتضى قدس سره : لا يحكم ) ببقائه .

( ثم مثّل ) المحقق في المعارج : ( بالمتيمّم الواجد للماء في أثناء الصلاة ) فإنه هل يتمّ صلاته اعتمادا على بقاء الطهارة ، أو تبطل صلاته بسبب حصول الماء في أثنائها ؟ .

ص: 206

ثم إحتجّ للحجية بوجوه :

منها : أنّ المقتضي للحكم الأوّل موجود ، ثم ذكر أدلّة المانعين وأجاب عنها ، ثم قال : « والذي نختاره : أن ننظر في دليل ذلك الحكم ، فإن كان يقتضيه مطلقا ، وجب الحكم باستمرار الحكم ، كعقد النكاح ، فإنّه يوجب حلّ الوطي مطلقا .

فإذا وقع الخلاف في الألفاظ التي يقع بها الطلاق ، فالمستدلّ على أنّ الطلاق لا يقع بها لو قال : حلّ الوطي ثابت قبل النطق بهذه الألفاظ ، فكذا بعده ، كان صحيحا ،

-------------------

( ثم إحتجّ للحجية ) أي : لحجية الاستصحاب في الصورة المذكورة ( بوجوه ، منها : أنّ المقتضي للحكم الأوّل موجود ) وفي هذا دلالة على أن كلام المحقق إنّما هو في الشك في الرافع لا الشك في المقتضي ( ثم ذكر أدلّة المانعين ) عن الاستصحاب ( وأجاب عنها ، ثم قال ) بعد ذلك ما نصّه : ( والذي نختاره : أن ننظر في دليل ذلك الحكم ) الذي نريد استصحابه ( فإن كان يقتضيه مطلقا ) أي : من غير تقييد مما يفيد استمرار الحكم الى حصول الرافع ( وجب الحكم باستمرار الحكم كعقد النكاح ، فإنّه يوجب حلّ الوطي مطلقا ) أي : من غير تقييد بزمان أو مكان أو خصوصية .

وعليه : ( فإذا وقع الخلاف في الألفاظ التي يقع بها الطلاق ) وشك في أن هذه الألفاظ توجب الطلاق أم لا ؟ كما اختلفوا في أن قول الزوج لزوجته : أنت خليّة أو بريئة أو ما أشبه ذلك يوجب الطلاق أم لا ؟ .

( فالمستدلّ على أنّ الطلاق لا يقع بها ) أي : بهذه الألفاظ المخْتَلف فيها ( لو قال : حلّ الوطي ثابت قبل النطق بهذه الألفاظ ، فكذا بعده ، كان ) استدلاله ( صحيحا ) .

ص: 207

لأن المقتضي للتحليل - وهو العقد - اقتضاه مطلقا ، ولا يعلم أنّ الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء ، فيثبت الحكم عملاً بالمقتضي .

« لا يقال : إنّ المقتضي هو العقد ، ولم يثبت أنّه باق » .

« لأنّا نقول : وقوع العقد اقتضى حل الوطي لا مقيدا بوقت ، فيلزم دوام الحل نظرا الى وقوع المقتضي ، لا الى دوامه ، فيجب أن يثبت الحل حتى يثبت الرافع

-------------------

وإنّما يكون صحيحا ( لأن المقتضي للتحليل - وهو العقد - اقتضاه مطلقا ) من غير تقييد بزمان أو ما أشبه ذلك ( ولا يعلم ان الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء فيثبت الحكم ) وهو حلّ الوطي ( عملاً بالمقتضي ) للتحليل .

( لا يقال : إنّ المقتضي هو العقد ولم يثبت أنّه باق » ) بعد تلك الألفاظ المخْتَلف فيها ، ( « لأنّا نقول : وقوع العقد اقتضى حل الوطي لا مقيدا بوقت ) فإنه لم يقيّد حلّ الوطي بوقت خاص ( فيلزم دوام الحل نظرا الى وقوع المقتضي ، لا الى دوامه ) أي : لا الى دوام المقتضي ، فإن دوام الحل لا يتوقف على دوام المقتضي حتى يقال : بأن الدوام غير محرز ، بل يتوقف على وقوع المقتضي للاستمرار ، فإنه بعد وقوع المقتضي للاستمرار ، وهو العقد هنا احتاج الارتفاع الى الاحراز ، لا أن البقاء يحتاج الى الاحراز .

وهذا في الظاهر ، وأمّا في الواقع : فلا إشكال في أن الحكم إنّما يبقى لأجل دوام المقتضي لا بمجرد وقوع المقتضي .

وعليه : فإذا كان الدليل يقتضي الحل غير مقيد بوقت ( فيجب أن يثبت الحل حتى يثبت الرافع ) وما دام لم يثبت الرافع نستصحب الحل ، فالاستصحاب بهذا الدليل حجة في الشك في الرافع .

ص: 208

- ثم قال - : « فإن كان الخصمُ يعني بالاستصحاب ما أشرنا اليه ، فليس هذا عملاً بغير دليل ، وإن كان يعني أمرا آخر وراء هذا ، فنحن مضربون عنه » ، إنتهى .

ويظهر من صاحب المعالم اختياره ، حيث جعل هذا القول من المحقق نفيا لحجية الاستصحاب ، فيظهر : أنّ الاستصحاب المُختلف فيه غيرُه .

-------------------

( ثم قال ) المحقق : ( « فإن كان الخصم ) الذي ينكر الاستصحاب ( يعني بالاستصحاب ما أشرنا اليه ، فليس هذا عملاً بغير دليل ) حيث إن الخصم قال : إن العمل بالاستصحاب هو عمل بغير دليل ( وإن كان يعني أمرا آخر وراء هذا ) بأن أراد الاستصحاب عند الشك في المقتضي - مثلاً - ( فنحن مضربون عنه » (1) ) ولا نقول بالاستصحاب فيه ( إنتهى ) كلام المحقق .

( ويظهر من صاحب المعالم اختياره ) لقول المحقق ( حيث جعل هذا القول من المحقق نفيا لحجية الاستصحاب ) .

وإنّما يظهر منه ذلك لأن معنى إرجاع إثبات الاستصحاب في الشك في الرافع الى القول بإنكار الاستصحاب هو : قبول المعالم كالمحقق بأن الاستصحاب في الشك في الرافع خارج عن محل النزاع للاتفاق على حجيته .

وعليه : ( فيظهر : أنّ الاستصحاب المُختلف فيه ) بنظر المحقق والمعالم هو : ( غيره ) أي : غير الشك في الرافع وهو الشك في المقتضي - مثلاً - وقد نفاه المحقق وإختار النفي المعالم أيضا حيث جعل قول المحقق هذا نفيا للاستصحاب .

هذا هو ما استدل به المحقق واختاره المعالم بالنسبة الى حجية الاستصحاب في الشك في الرافع .

ص: 209


1- - معارج الاصول : ص206 .

لنا على ذلك وجوه

الأوّل : ظهور كلمات جماعة في الاتفاق عليه :

فمنها : ما عن المباديء ، حيث قال : « الاستصحاب حجّةٌ ، لاجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكمٌ ، ثم وقع الشك في أنّه طرء ما يزيله أم لا ، وجب الحكم ببقائه على ما كان أولاً ، ولولا القول بأنّ الاستصحاب حجةٌ ، لكان ترجيحا لأحد طرفي الممكن من غير مرجح » (1) ،

-------------------

( لنا على ذلك ) أي : دليلنا على ما ذكره المحقق : من حجية الاستصحاب بالنسبة الى الشك في الرافع ( وجوه ) كالتالي :

( الأوّل : ظهور كلمات جماعة في الاتفاق عليه ) أي : على الاستصحاب في الشك في الرافع .

ولا يخفى ان مثل هذا الاجماع لو تمّ فإنه ليس بحجة ، لأنه اجماع في الاصول لا في الفروع على ما سبق مثله من المصنِّف قدس سره .

وعلى كل حال : ( فمنها : ما عن المباديء حيث قال : « الاستصحاب حجّةٌ ، لاجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكمٌ ، ثم وقع الشك في أنّه طرء ما يزيله أم لا ) بأن كان الشك في الرافع ( وجب الحكمُ ببقائه ) أي : ببقاء ذلك الحكم ( على ما كان أولاً ) وهذا معناه : حجية الاستصحاب في الشك في الرافع .

ثم إستدلّ بقوله : ( ولولا القول بأنّ الاستصحاب حجّةٌ ، لكان ترجيحا لأحد طرفي الممكن من غير مرجح » ) وذلك لأن الحكم في الآن الثاني محتمل

ص: 210


1- - مباديء الاصول الى علم الاصول : ص250 .

انتهى .

ومرادُه ، وإن كان الاستدلال به على حجيّة مطلق الاستصحاب ، بناءا على ما إدّعاه ، من أنّ الوجه في الاجماع على الاستصحاب مع الشك في طروّ المزيل ، هو اعتبار الحالة السابقة مطلقا ، لكنه ممنوع ، لعدم الملازمة ، كما سيجيء .

ونظيرُ هذا ما عن النهاية : « من أنّ الفقهاء بأسرهم على كثرة إختلافهم اتفقوا على أنّا متى تيقّنّا حصول شيء

-------------------

الوجود، ومحتمل العدم ، فاللازم : ترجيح أحدهما على الآخر بمرجح ، والمرجح هو الاستصحاب المقتضي لبقاء الحكم ( انتهى ) كلام المباديء .

( ومراده ، وإن كان الاستدلال به على حجيّة مطلق الاستصحاب ) من الشك في المقتضي والشك في الرافع ( بناءا على ما إدّعاه من ) تنقيح المناط ، لأن المناط في كل من الشك في المقتضي والشك في الرافع واحد : ( أنّ الوجه في الاجماع على الاستصحاب مع الشك في طروّ المزيل ، هو اعتبار الحالة السابقة مطلقا ) سواء كان من الشك في المقتضي ، أم الشك في الرافع .

( لكنه ) أي : لكن الذي ادّعاه المباديء من أن مناط الشك في الرافع موجود في الشك في المقتضي أيضا ( ممنوع ، لعدم الملازمة ) فإنه لا ملازمة بين حجية الاستصحاب في الشك في الرافع وحجيته في الشك في المقتضي ، وذلك للفرق بينهما ( كما سيجيء ) الكلام فيه مفصلاً إن شاء اللّه تعالى .

( ونظير هذا ما عن النهاية : من أنّ الفقهاء بأسرهم على كثرة إختلافهم ) في أصول الفقه وفروعه ( اتفقوا على أنّا متى تيقّنّا حصول شيء ) في زمان سابق

ص: 211

وشككنا في حدوث المزيل له ، أخذنا بالمتيقن » ، وهو عينُ الاستصحاب ، لأنّهم رجّحوا بقاء الثابت على حدوث الحادث .

ومنها : تصريح صاحب المعالم والفاضل الجواد : بأنّ ما ذكره المحقق أخيرا في المعارج راجعٌ الى قول السيد المرتضى المنكر للاستصحاب ، فإنّ هذا شهادة منهما على خروج ما ذكره المحقق عن مورد النزاع وكونه موضع وفاق ، إلاّ أنّ في صحة هذه الشهادة نظر ، لأنّ ما مثّل في المعارج : من الشك في الرافعيّة من مثال

-------------------

( وشككنا في حدوث المزيل له ) بأن كان شكا في الرافع ( أخذنا بالمتيقن » ، و ) من المعلوم : إن هذا الكلام ( هو عين الاستصحاب ، لأنّهم رجّحوا بقاء الثابت على حدوث الحادث ) المزيل لذلك الثابت السابق .

( ومنها : تصريح صاحب المعالم والفاضل الجواد : بأنّ ما ذكره المحقق أخيرا في المعارج ) من إختصاص الاستصحاب بالشك في الرافع ( راجعٌ الى قول السيد المرتضى المنكر للاستصحاب ) .

وإنّما كان هذا التصريح من المعالم والجواد دالاً على الاجماع على حجية الاستصحاب في الشك في الرافع لما ذكره المصنِّف بقوله : ( فإنّ هذا شهادة منهما على خروج ما ذكره المحقق عن مورد النزاع وكونه موضع وفاق ) فيكون كلامهما دليلاً على أن المنكر للاستصحاب والمثبت له متوافقان على حجية الاستصحاب في الشك في الرافع .

( إلاّ أنّ في صحة هذه الشهادة ) من المعالم والجواد على خروج ما ذكره المحقق من حجية الاستصحاب في الشك في الرافع عن محل النزاع ( نظر ) .

وإنّما فيه نظر ( لأنّ ما مثّل ) به ( في المعارج : من الشك في الرافعيّة من مثال

ص: 212

النكاح ، هو بعينه ما أنكره الغزالي . ومثّل له بالخارج من غير السبيلين ، فإنّ الطهارة كالنكاح في أنّ سببها مقتض لتحققه دائما الى أن يثبت الرافع .

الثاني :

إنّا تتبّعنا موارد الشك في بقاء الحكم السابق المشكوك من جهة الرافع ، فلم نجد من أوّل الفقه الى آخره موردا إلاّ وحَكَمَ الشارع فيه بالبقاء ،

-------------------

النكاح ، هو بعينه ما أنكره الغزالي . ومثّل له بالخارج من غير السبيلين ) أي : إن ما مثّل به الغزالي لما أنكره من الاستصحاب ، هو نفس ما مثّل به المحقق لما أثبته من الاستصحاب ، إذ كِلا المثالين من الشك في الرافع ، فيظهر عدم خروج ما ذكره المحقق عن محل النزاع .

وإنّما يكون ما أثبته المحقق عين ما أنكره الغزالي من الاستصحاب لأنه كما قال : ( فإنّ الطهارة كالنكاح في أنّ سببها مقتض لتحققه دائما الى أن يثبت الرافع ) فالنكاح كالطهارة كلاهما من باب الشك في الرافع ومع ذلك أنكر الغزالي الاستصحاب في الطهارة ، مما يدل على أن الغزالي ينكر الاستصحاب في الشك في الرافع .

وعليه : فقد ظهر : أن شهادة المعالم والجواد على خروج الشك في الرافع عن موضع النزاع غير تام لأنه قد تنازع فيه المحقق والغزالي على ما عرفت .

( الثاني ) من وجوه استدلالنا على ما ذكره المحقق من حجية الاستصحاب في الشك في الرافع هو : ( إنّا تتبّعنا موارد الشك في بقاء الحكم السابق المشكوك من جهة الرافع ، فلم نجد من أوّل الفقه الى آخره موردا إلاّ وحَكَمَ الشارع فيه بالبقاء ) وهذا غير الدليل السابق ، فإن الدليل السابق كان هو الاجماع ، وهذا الدليل

ص: 213

إلاّ مع أمارة توجبُ الظنّ بالخلاف ، كالحكم بنجاسة الخارج قبل الاستبراء ، فإنّ الحكم بها ليس لعدم اعتبار الحالة السابقة - وإلاّ لوجب الحكم بالطهارة ، لقاعدة الطهارة -

-------------------

هو الاستقراء القطعي .

مثلاً : إذا شككنا في عروض النجاسة فالحكم هو بقاء الطهارة ، وإذا شككنا في عروض الطهارة فالحكم هو بقاء النجاسة ، وإذا شككنا في الحدث الأصغر فالحكم بقاء الوضوء ، وإذا شككنا في الحدث الأكبر فالحكم بقاء الطهارة ، وإذا شككنا في حصول الزواج فالحكم عدمه ، وإذا شككنا في حصول البينونة فالحكم بقاء الزوجية ، وإذا شككنا في إنتقال الملك فالحكم بقاء الملكية ، وإذا شككنا في عتق العبد فالحكم بقاء رقّيته ، الى غير ذلك ممّا لا يحصى من أول الفقه الى آخره .

( إلاّ مع أمارة توجبُ الظنّ بالخلاف ) فإذا قامت أمارة معتبرة على خلاف الحالة السابقة كانت حاكمة على الاستصحاب ، سواء كان ذلك في الأحكام مثل خبر العادل ، أم في الموضوعات مثل البيّنة ، وذلك ( كالحكم بنجاسة الخارج قبل الاستبراء ) فإن هذا مثال لما يخالف الاستصحاب ، لأنّ الاستصحاب يقتضي طهارة المحل غير إن الشارع قدّم النجاسة لأمارة توجب الظن بالخلاف .

وعليه : ( فإنّ الحكم بها ) أي : بالنجاسة ( ليس لعدم اعتبار الحالة السابقة ) أي: ليس لعدم حجية الاستصحاب فإن الشارع يرى حجية الاستصحاب ( وإلاّ ) بأن كان مع الغض عن الحالة السابقة ( لوجب الحكم بالطهارة ، لقاعدة ) أخرى غير الاستصحاب وهي قاعدة ( الطهارة ) إذ لو لم نقل باعتبار الحالة السابقة ، كان اللازم الحكم بالطهارة لأصل الطهارة .

ص: 214

بل لغلبة بقاء جزء من البول أو المنيّ في المخرج ، فرجّح هذا الظاهر على الأصل ، كما في غُسالة الحمام عند بعض ، والبناء على الصحّة المستند الى ظهور فعل المسلم .

-------------------

إذن : فالحكم بالنجاسة هنا : ليس لعدم اعتبار الحالة السابقة ( بل لغلبة بقاء جزء من البول أو المنيّ في المخرج ، فرجّح ) الشارع ( هذا الظاهر على الأصل ) فأسقط الاستصحاب وأصالة الطهارة في المقام ، وحكم بنجاسة الرطوبة المشتبهة بعد البول أو المني إذا غسل المحل من دون استبراء ، لأن المظنون هو كون الخارج بولاً أو منيّا ، وذلك لغلبة بقائهما في المجرى .

وإنّما فعل الشارع ذلك تقديما للظاهر على الأصل ، سواء كان الأصل كاشفا كالاستصحاب أم غير كاشف كأصالة الطهارة .

و ( كما في غُسالة الحمام ) فإن غسالة الحمام محكومة بالنجاسة الشرعية أيضا ( عند بعض ) الفقهاء ، وذلك تقديما للظاهر على الأصل فإن الظاهر : غلبة إرادة المستحمّين إزالة النجاسة والأدران عن أبدانهم عند الاستحمام .

وعليه : فالمياه المجتمعة من غسلهم ، المسمّاة بالغسالة قالوا : بأن الشارع حكم فيها بالنجاسة وذلك لا لأن الشارع لم يعتبر الاستصحاب المقتضي لطهارة تلك المياه ، وإنّما تقديما للظاهر على الأصل .

( و ) كما في ( البناء على الصحّة ، المستند الى ظهور فعل المسلم ) قولاً وعملاً ، فإن المسلم إذا عقد على امرأة ، وشككنا في صحة اجرائه لصيغة النكاح وعدم صحته حكمنا بصحته ، ورتّبنا عليه أثره من الزوجية وأحكامها مع ان الاستصحاب يقتضي العدم .

وكذا لو عمل عملاً إذا رأيناه قد غسّل ميتا وشككنا في صحة تغسيله له

ص: 215

والانصاف : إنّ هذا الاستقراء يكاد يفيد القطع ، وهو أولى من الاستقراء الذي ذكره غير واحد ، كالمحقق البهبهاني وصاحب الرياض ، أنّه المستند في حجّية شهادة العدلين على الاطلاق .

-------------------

وعدم صحته ، حكمنا بصحته ورتبنا عليه أثره من عدم الاشتغال بتغسيل ذلك الميت مرة ثانية مع ان الاستصحاب يقتضي العدم فيترتب عليه الاشتغال ، غير أن الشارح قدّم ظاهر حال المسلم على الاستصحاب المقتضي للاشتغال .

لا يقال : إذن فالاستقراء غير تام ، لأن الشارع لم يحكم ببقاء الحالة السابقة المسمّى بالاستصحاب في موارد متعددة : كحكمه بنجاسة البلل إذا لم يستبرئ، مع إن الاستصحاب يقتضي طهارة المحل ، وكحكمه بنجاسة غسالة الحمام مع ان الأصل يقتضي الطهارة ، وكحكمه بالبناء على الصحة مع ان الأصل يقتضي الفساد.

لأنّه يقال : ان الشارع قدّم أمارة الغلبة ، في هذه الموارد الثلاثة ، وهي أمارة موجبة للظن بالخلاف فليست هذه الموارد من باب طرح الاستصحاب بدون دليل حتى يخدش الاستقراء ، بل هي من طرح الاستصحاب بدليل ، فلا يستشكل بها على الاستقراء الذي ذكرناه .

( والانصاف : أنّ هذا الاستقراء ) الذي ذكرناه : من بقاء الحكم السابق إذا شك في ارتفاعه ، استقراءا من أول الفقه الى آخره ( يكاد يفيد القطع ) على حجية الاستصحاب عند الشارع .

( وهو ) أي : هذا الاستقراء الدالّ على الاستصحاب ( أولى من الاستقراء ) الدالّ على البيّنة ( الذي ذكره غير واحد ، كالمحقق البهبهاني وصاحب الرياض ) حيث قالوا : ( أنّه ) أي : الاستقراء هو ( المستند في حجّية شهادة العدلين على الاطلاق ) أي : في مطلق الموضوعات .

ص: 216

...

-------------------

والحاصل : إن الاستدلال هنا على حجية الاستصحاب بالاستقراء ، أولى من الاستدلال هناك على حجية البيّنة بالاستقراء كما فعله جماعة من الفقهاء حيث استدلوا به على حجية شهادة العدلين في مطلق الموضوعات من أول الفقه الى آخر الفقه عدا ما خرج بالدليل كالزنا حيث يحتاج الى أربعة شهود ، وكالوصية حيث يقبل فيها شهادة امرأة واحدة بالنسبة الى الربع - مثلاً - فقالوا : إنّا تتبعنا موارد الشك في الموضوعات فوجدنا إنه كلما كان هناك اشتباه في الموضوع حَكَم الشارع فيه باعتبار شهادة العدلين مما يظهر منه أن شهادة العدلين حجة عند الشارع مطلقا .

هذا إضافة الى ما ورد من قوله عليه السلام : «والأشياء كلها على ذلك حتى تستبين أو تقوم به البيّنة » (1) وذلك بناءا على ظهور البيّنة في البيّنة الشرعية التي هي شهادة العدلين ، لا البيّنة اللغوية التي وردت في القرآن الحكيم ، حيث قال تعالى: « ألم يكُن الّذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكِّين حتى تأتيْهم البيّنة » (2) الى غير ذلك .

وإنّما قلنا : بأن الاستقراء هنا أولى بالحجية من الاستقراء هناك في البيّنة الذي ذكره غير واحد ، لأن موارد الاستقراء هنا في باب الاستصحاب أكثر من موارد الاستقراء هناك في باب الشهادة ، فإذا كان باب الشهادة ينفع فيه الاستقراء كان نفع الاستقراء في باب حجية الاستصحاب بطريق أولى .

ص: 217


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
2- - سورة البيّنة : الآية 1 .
الثالث : الأخبار المستفيضة

منها : صحيحة زرارة ، ولا يضرّها الاضمار

« قال : قلت له : الرَّجلُ ينامُ وهو على وضوء ، أيوجبُ الخَفقةُ والخفقتانُ عليه الوضوء ؟ .

قال : يازرارة ! قد تنامُ العينُ ولا ينامُ القلبُ والاُذنُ ، فإذا نامت العينُ والاُذنُ

-------------------

( الثالث ) من وجوه استدلالنا على ما ذكره المحقق من حجية الاستصحاب بالنسبة الى الشك في الرافع : ( الأخبار المستفيضة ) الواردة في الفقه والتي ( منها: صحيحة زرارة ، ولا يضرّها الاضمار ) ومعنى الاضمار هو : عدم تعيين المروي عنه ، فإن عدم التعيين لا يضر هنا بالصحيحة ، لأنّ مثل زرارة لا يروي عن غير الإمام عليه السلام .

وعليه : فإن زرارة ( « قال : قلت له : الرَّجلُ ينامُ ) ومراده انه يشرف على النوم وذلك من قبيل قوله تعالى : « ولمَّا ورد ماء مدين » (1) فإن الانسان لا يرد في الماء وإنّما يشرف على الماء ، فإذا هاجمه النوم ( وهو على وضوء ، أيوجبُ الخَفقةُ والخفقتانُ عليه الوضوء ؟ ) .

يقال : خفق برأسه إذا انحنى عن وضعه الطبيعي من غير اختيار بسبب شدة نعاسه ، وقد كان شبهة السائل هو دخول النعاس في مفهوم النوم ، فسأل هل هذا نوم حتى يكون ناقضا للوضوء ، أو ليس بنوم حتى لا يكون ناقضا .

( قال : يازرارة ! قد تنامُ العينُ ولا ينامُ القلبُ والاُذنُ ، فإذا نامت العينُ والاُذنُ

ص: 218


1- - سورة القصص : الآية 23 .

فقد وجبَ الوضوءُ .

قلتُ : فإن حُرِّكَ في جنبه شيء وهو لا يعلم ؟ .

قال عليه السلام : لا ، حتى يستيقِنَ أنّه قد نام ، حتى يجيء من ذلك بأمر بيِّن ، وإلاّ ، فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا ينقُضُ اليقينَ أبدا بالشكّ ، ولكن ينقُضُه بيقين آخرَ » .

-------------------

فقد وجبَ الوضوءُ ) فان النوم لا يكون إلاّ بنوم القلب ، ونوم القلب لا يكون إلاّ بنوم العين والأذن معا ، فلا يفيد نوم العين وحدها أو نوم الاُذن وحدها .

قال زرارة : ( قلتُ : فإن حُرِّكَ في جنبه شيء وهو لا يعلم ؟ ) أراد زرارة أن يتخذ هذا أمارة على نوم القلب فسأل : هل يكون مثل هذا نوما ؟ .

( قال عليه السلام : لا ، حتى يستيقِنَ أنّه قد نام ، حتى يجيء من ذلك بأمر بيِّن ) أي : يحصل له من جهة النوم أمر واضح ، بأنه قد نام ، وإلاّ فتحرك الشيء وعدم تحرّكه لايكون علامة للنوم وعدمه كما قال عليه السلام : ( وإلاّ ، فإنّه ) كان ( على يقين من وضوئه ولا ينقُضُ اليقينَ أبدا بالشكّ ، ولكن ينقُضُه بيقين آخرَ » (1) ) وذلك بأن يتيقن بالنوم كما كان قد تيقن بالوضوء ، فإذا تيقن بالنوم نقض وضوءه .

ولا يخفى : إن في الرواية ثلاثة احتمالات ، والاستدلال بهذه الرواية على حجية الاستصحاب إنّما يتمّ على الاحتمال الأوّل الذي سيذكره المصنِّف بقوله : « وتقرير الاستدلال ... » لا على الاحتمالين الآخرين الذين سيذكرهما بعد ذلك بقوله : « ولكن مبنى الاستدلال على كون اللام في اليقين للجنس ... » وقوله : « مع احتمال أن لايكون قوله عليه السلام : فإنه على يقين علّة قائمة مقام الجزاء ... » .

ثم على الاحتمال الأوّل في الرواية يكون التقدير هكذا : إن لم يستيقن النوم

ص: 219


1- - تهذيب الأحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

وتقرير الاستدلال : أنّ جواب الشرط في قوله عليه السلام : « وإلاّ فإنّه على يقين » محذوف قامت العلّة مقامه ، لدلالته عليه ،

-------------------

لايجب عليه الوضوء ، لأنه كان على يقين ، وكلما كان على يقين وشك ، فلا ينقض اليقين بالشك ، فاللام في اليقين للجنس وكُبراه كليّة فيدل على حجية الاستصحاب مطلقا .

وعلى الاحتمال الثاني يكون التقدير هكذا : إن لم يستيقن النوم لا يجب عليه الوضوء ، لأنه كان على يقين الوضوء ، ولا ينقض يقين الوضوء بالشك ، واللام حينئذ ليس للجنس لأنّ الأقرب أن يكون اللام للعهد فيختص الاستصحاب بالوضوء فلا يكون دليلاً على حجية الاستصحاب مطلقا .

وعلى الاحتمال الثالث يكون التقدير هكذا : إن لم يستيقن النوم ، فحيث إنه كان على يقين الوضوء فلا ينقضه بالشك فيه فيكون هذا الاحتمال كالاحتمال الثاني مختصا بالوضوء لأن اللام فيه ليس للجنس فيختص الاستصحاب بالوضوء، فلايكون دليلاً على حجية الاستصحاب مطلقا .

إذن : فالذي يدل على حجية الاستصحاب مطلقا هو الاحتمال الأوّل من الاستدلال ( وتقرير الاستدلال ) يكون كما قال :

( أنّ جواب الشرط في قوله عليه السلام : « وإلاّ فإنّه على يقين » ، محذوف ) وتقديره : إن لم يستيقن انه قد نام ، فلا يجب عليه الوضوء ، فقوله عليه السلام : فلا يجب عليه الوضوء هو الجواب وقد ( قامت العلّة ) وهي صغرى وكبرى ، فقوله عليه السلام «فإنه على يقين من وضوئه» صغرى «ولا ينقض اليقين أبدا بالشك» كبرى ( مقامه ) أي : مقام الجواب ( لدلالته ) أي : لدلالة هذه العلّة ( عليه ) أي : على الجواب .

ص: 220

وجعلُه نفس الجزاء يحتاجُ الى تكلّف .

وإقامة العلّة مقام الجزاء لا تحصى كثرةً في القرآن وغيره ، مثل : قوله « وإنْ تَجْهَر بالقول فإنّه يَعْلَمُ السرّ وأخفى »

-------------------

إن قلت : لا حاجة الى أن نلتزم بحذف الجواب حتى نجعل العلّة قائمة مقامه ، إذ يمكن جعل العلّة نفس الجزاء ، فيختص بالوضوء .

قلت : ( وجعلُه نفس الجزاء يحتاجُ الى تكلّف ) أي : جعل قوله عليه السلام : «فإنه على يقين من وضوئه» جوابا لا يكون إلاّ بتكلف ، والتكلف هنا هو: جعل الأخبار بمعنى الانشاء ، فيكون معنى الحديث : إن لم يستيقن إنه قد نام فليبق على يقين من وضوئه فيختص بالوضوء ولا يكون حينئذ دليلاً على حجية الاستصحاب مطلقا .

لا يقال : يؤيد جعل نفس الجزاء جوابا : أن اقامة العلّة مقام المعلول مجاز أيضا كجعل الجواب نفس الجزاء فلماذا تقدمون ذلك المجاز على هذا المجاز؟ .

لأنه يقال : ( وإقامة العلّة مقام الجزاء ) الذي هو المعلول مجاز شائع بحيث يكون أظهر من سائر المجازات حتى مما ارتكبه المتكلف ، فإن إقامة العلّة مقام الجزاء ( لا تحصى كثرةً في القرآن وغيره ) من الأحاديث وأشعار العرب وكلماتهم .

أما في القرآن فهو ( مثل : قوله ) تعالى : ( « وإنْ تَجْهَر بالقول فإنّه يَعْلَمُ السرّ وأخفى » (1) ) فإن قوله تعالى : «فإنه يعلم السرّ» علّة للجزاء المحذوف يعني : انه لا حاجة الى الجهر بالقول ، ما دام إن اللّه سبحانه وتعالى يعلم السرّ وأخفى من السرّ ، والأخفى من السرّ هو : ما يدور في القلب والصدر ، فكأن مراد الآية :

ص: 221


1- - سورة طه : الآية 7 .

« إن تكفُروا فإنّ اللّه غنيٌ عنكم » « ومَن كَفَرَ فإنّ ربّي غنيٌ كريمٌ » « ومَن كفر فإنّ اللّه غنيّ عن العالمين » « فإن يكفُر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قوما ليسو بها بكافرين » « وإن يسرِق فقد سرق أخٌ له من قبلُ »

-------------------

وإن تجهر بالقول ، تتعب نفسك بلا حاجة ، لأن اللّه يعلم السرّ وأخفى .

وقوله تعالى : ( « إن تكفُروا ) أنتم أيها الناس ، عاد ضرره عليكم لا على اللّه سبحانه ( فإنّ اللّه غنيٌ عنكم » (1) ) ولا يضرّه كفركم .

وقوله تعالى : ( « ومَن كَفَرَ ) عاد ضرره عليه لا على اللّه سبحانه ( فإنّ ربّي غنيٌ كريمٌ » (2) ) غنيّ عن إيمانكم ، كريم لا يخسر لأنه خلقكم وإن لم تطيعوه ، فإن الكريم يبذل الشيء ولا يريد عليه جزاء .

وقوله تعالى : ( « ومَن كفر ) عاد ضرره عليه ( فإنّ اللّه غنيّ عن العالمين » (3) ) والغني لا يضرّه الكفر ، كما لا ينفعه الايمان ، وإنّما أمَرَ بالايمان ونَهى عن الكفر لفائدة الناس أنفسهم .

وقوله تعالى : ( « فإن يكفُر بها ) أي : بالكتاب والحكمة والنبوة وما أنزلنا على عبدنا ( هؤلاء ) الكفار ، لم يكن ذلك موجبا للغوية حكمنا وأنزلنا الكتاب ( فقد وكّلنا بها قوما ليسُوا بها بكافرين » (4) ) فأنزلنا يفيد فائدته في أناس آخرين .

وقوله تعالى : ( « وإنْ يسرِق ) يعني : «بنيامين» فلا عجب ( فقد سرق أخٌ له ) يعني : يوسف على نبينا وآله وعليه السلام ( من قبلُ » (5) ) فإن يوسف لمّا كان

ص: 222


1- - سورة الزمر : الآية 7 .
2- - سورة النمل : الآية 40 .
3- - سورة آل عمران : الآية 97 .
4- - سورة الانعام : الآية 89 .
5- - سورة يوسف : الآية 77 .

« وإن يكذّبوك فقد كُذّبَت » ، الى غير ذلك .

فمعنى الرواية : إنْ لم يستيقن أنّه قد نام ، فلا يجب عليه الوضوء ، لأنّه على يقين من وضوئه في السابق ، وبعد إهمال تقييد اليقين بالوضوء

-------------------

صغيرا نزل ذات يوم ضيفا على عمّته ، فأرادت العمّة إبقائه عندها ، فاحتالت لذلك بشدّ منطقة لها من ذهب تحت ثياب يوسف بعنوان انه قد سرقها ، وكان من عادتهم أنّ السارق يصبح عبدا للمسروق منه ، وبهذه الحيلة استطاعت العمّة أن تبقي يوسف عندها ممّا ظهر للاخوة أن يوسف قد سرق ، ولهذا قالوا : « إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل » وهذا على ما فسّره بعض المفسّرين .

ومن نافلة القول أن نقول : ان يوسف على نبينا وآله وعليه السلام قال لمن يعمل معه : احفظوا «بنيامين» عندكم ، ولم يقل لهم : إتهموه واخوته بالسرقة ، لكنهم أقبلوا عليهم وقالوا « إنّكم لسارقون » (1) فهذا الكلام كان منهم وليس منه حتى يقال : إن النبي لا يكذب ، وقيل : في وجه ذلك أمور أُخر موضوعها التفاسير .

وقال سبحانه : ( « وإن يكذّبوك ) فلا تحزن ( فقد كُذّبَت » ) « رسلٌ من قبلك والى اللّه تُرجَع الاُمور » (2) ) ( الى غير ذلك ) من الموارد الكثيرة التي أقيمت العلّة مقام الجزاء مما هو شائع في اللغة العربية والفارسية وغيرهما .

إذن : ( فمعنى الرواية ) على هذا التقرير يكون : ( إنْ لم يستيقن أنّه قد نام ، فلا يجب عليه الوضوء ، لأنّه على يقين من وضوئه في السابق ) أقيمت العلّة ، وهي قوله عليه السلام : فانه على يقين ، مقام المعلول والجزاء المحذوف وهو : فلا يجب عليه الوضوء (و) ذلك (بعد إهمال تقييد اليقين بالوضوء) أي : بأن لم نجعل اليقين مقيدا بالوضوء ، بل جعلنا اليقين على نحو الكلّية والوضوء من باب المورد

ص: 223


1- - سورة يوسف : الآية 70 .
2- - سورة فاطر : الآية 4 .

وجعل العلّة نفس اليقين يكون قوله عليه السلام : « ولا ينقض اليقين » بمنزلة كبرى كليّة للصغرى المزبورة .

-------------------

كما قال : ( وجعل العلّة نفس اليقين ) لا اليقين بالوضوء ، وحينئذ ( يكون قوله عليه السلام : « ولا ينقض اليقين » ) بالشك ( بمنزلة كبرى كليّة للصغرى المزبورة ) .

وعليه : فيكون صورة القياس على التقرير المذكور هكذا : الوضوء متيقن سابقا ، وكلما تيقن الانسان بشيء فلا ينقضه إلاّ بيقين مضاد له .

والحاصل : إنّه قيّد الوضوء في الرواية حيث قال عليه السلام : فإنه على يقين من وضوئه ، إنّما هو من باب المورد لا من باب قيود العلّة ، وذلك لوجهين :

الأوّل : إن العرف يُفهم منه هذا المعنى فإذا قال الطبيب - مثلاً - : لا تأكل الرمّان لأنه حامض ، فُهم منه : ان العلّة في عدم الأكل هو الحموضة ، لا ان العلّة هو خصوص الرمّان الحامض ، ولذا يرى العرف تعدّي النهي الى كل حامض من خَلٍّ أو ليمون أو ما أشبه ذلك .

الثاني : إن الوضوء لو أخذ قيدا يكون العلّة أمرا تعبديّا مختصا بالوضوء حيث يصير معناه : لا يجب الوضوء لأنه على يقين من الوضوء ، ولا ينقض اليقين بالوضوء بسبب الشك فيه ، ومن المعلوم : أن التعليل بعلّة تعبّدية خلاف موازين البلاغة . لأنه لا يزيد السامع شيئا ، فهو مثل أن يقول : لا تأت الى دارنا ، لأنه يلزم عليك أن لا تأت الى دارنا .

وأمّا لو أهملنا تقييد اليقين بالوضوء ، فإنه يكون العلّة أمرا إرتكازيا حيث يصير معناه : لا يجب الوضوء لأنه على اليقين ، ولا يُنقض اليقين بالشك ، وعدم نقض اليقين بالشك مرتكز عرفي وقاعدة عقلائية يجريها العقلاء في كل مورد من اليقين السابق والشك اللاحق .

ص: 224

هذا ، ولكن مبنى الاستدلال على كون اللام في اليقين للجنس ، إذ لو كان للعهد ، لكانت الكبرى المنضمّة الى الصغرى : « ولا ينقض اليقين بالوضوء بالشك » ، فيفيد قاعدة كليّة في باب الوضوء وأنّه لا ينقض إلاّ باليقين بالحدث .

-------------------

هذا ، وظاهر الرواية يقتضي أن يكون التعليل بأمر ارتكازي ، فيكون مثل أن يقول : لا تأت الى دارنا ، لأن اتيانك يوجب لك مشكلة ، وحينئذ يكون اللام في اليقين للجنس ، وإذا وقع الجنس في حيّز النفي كما نحن فيه أفاد العموم ، فيدل على حجية الاستصحاب مطلقا .

وأمّا لو أخذنا الوضوء قيدا للصغرى فإنه يكون اللام في الكبرى للعهد الذكري حيث يصير معناه : ولا ينقض اليقين بالوضوء بسبب الشك في اليقين المذكور ، فيختص الكبرى بباب الوضوء ، فلا يتم معه الاستدلال على حجية الاستصحاب مطلقا ، واليه أشار المصنِّف بقوله : ( هذا ، ولكن مبنى الاستدلال على كون اللام في اليقين للجنس ) فإنه إذا كان الاستدلال على ان اللام للجنس حسب ما هو الظاهر ، تكون الرواية دليلاً على حجية الاستصحاب مطلقا .

وأما إذا لم يكن اللام للجنس فلا تدلّ الرواية على حجية الاستصحاب مطلقا وذلك كما قال : ( إذ لو كان ) اللام ( للعهد ، لكانت الكبرى المنضمّة الى الصغرى ) هكذا : ( « ولا ينقض اليقين بالوضوء بالشك » ) وحينئذ ( فيفيد قاعدة كليّة في باب الوضوء ) فقط ( وأنّه ) أي : الوضوء ( لا ينقض إلاّ باليقين بالحدث ) فكأن الإمام عليه السلام قال : إنه على يقين من وضوئه ، واليقين بالوضوء لا يُنقض بالحدث المشكوك .

ص: 225

واللاّم وإن كان ظاهرا في الجنس ، إلاّ أنّ سبق يقين الوضوء ربما يُوهِمُ الظهور المذكور ، بحيث لو فرض إرادة خصوص يقين الوضوء لم يكن بعيدا عن اللفظ مع احتمال أن لا يكون قوله عليه السلام : « فانّه على يقين » ، علّةً قائمةً مقام الجزاء ، بل يكون الجزاء مستفادا من قوله عليه السلام : « ولا ينقض » ، وقوله عليه السلام : « فانّه على يقين » توطئة له .

-------------------

( و ) عليه : فإن ( اللاّم وإن كان ظاهرا في الجنس ) كما عرفت ذلك في الاحتمال الأوّل ( إلاّ أنّ سبق يقين الوضوء ) في الصغرى ( ربما يُوهِمُ الظهور المذكور ) في الاحتمال الثاني وهو : أن يكون اللام في الكبرى للعهد فيكون مختصا بالوضوء كما قال : ( بحيث لو فرض ) في الكبرى ( إرادة خصوص يقين الوضوء لم يكن بعيدا عن اللفظ ) لكنّك قد عرفت : إن هذا النوع من الاستدلال بعيد عن موازين البلاغة .

والحاصل : ان اللام إن كان للجنس تمّ الاستدلال المذكور ، وإن لم يكن للجنس بل كان للعهد الذكري ، اختص بباب الوضوء فلم يكن دليلاً على حجية الاستصحاب مطلقا .

هذا ( مع احتمال ) ثالث في الرواية ولكن لا يتمّ معه أيضا الاستدلال على حجية الاستصحاب مطلقا ، وهو كما قال : ( أن لا يكون ) الجواب محذوفا كما ذكرناه في الاحتمال الأوّل واستظهرناه من الرواية ، فلا يكون ( قوله عليه السلام : « فانّه على يقين » ، علّةً قائمةً مقام الجزاء ، بل يكون الجزاء مستفادا من ) الكبرى وهي ( قوله عليه السلام : « ولا ينقض » ، و ) أن يكون ( قوله عليه السلام : « فانّه على يقين » توطئة له ) أي : للجزاء ، لأنه ربما يأتي المتكلم بشيء مقدمة وكاشفا عن الجزاء .

ص: 226

والمعنى : أنّه إن لم يستيقن النوم فهو مستيقنٌ لوضوئه السابق،

ويثبت على مقتضى يقينه ولا ينقضه ، فيخرج قوله « لا تنقض » ، عن كونه بمنزلة الكبرى ، فيصير عمومُ اليقين وإرادة الجنس منه أوهَنَ .

لكنّ الانصاف : أنّ الكلام مع ذلك لا يخلو عن ظهور ، خصوصا بضميمة الأخبار الأُخر الآتية المتضمّنة لعدم نقض اليقين بالشك .

-------------------

( و ) عليه : فيكون ( المعنى ) للرواية على هذا الاحتمال الثالث : ( أنّه إن لم يستيقن النوم فهو مستيقنٌ لوضوئه السابق ، ويثبت على مقتضى يقينه ولا ينقضه ) فهو مثل أن يقال : إذا جائك زيد فمجيئه رحمة يوجب الاكرام ، فإن صورة الشرطية تكون هكذا : إذا جائك زيد وجب إكرامه ، وقوله في وسط الشرط والجزاء : فمجيئه رحمة من باب التوطئة والتمهيد للجزاء ، لا انه جزاء .

إذن : ( فيخرج قوله ) عليه السلام : ( « لا تنقض » ، عن كونه بمنزلة الكبرى ) الكلّية ، بل يختص بجواب الشرط ( فيصير عمومُ اليقين وارادة الجنس منه ) أي : من اللام ( أوهَنَ ) من الاحتمال الثاني الذي ذكرنا : إنه موهون .

والحاصل : إنه إن أُريد من الرواية الاحتمال الثاني فدلالة الرواية على حجية الاستصحاب مطلقا ظاهرةٌ الوهن ، وإن أريد منها الاحتمال الثالث فدلالتها على حجية الاستصحاب مطلقا أظهر وهنا ، وذلك لأن كون اللام للجنس في الاحتمال الثاني أقوى من احتمال كون اللام للجنس في الاحتمال الثالث .

هذا هو جملة من الكلام في الاحتمالات الثلاثة ( لكنّ الانصاف : أنّ الكلام مع ذلك ) أي : مع هذين الاحتمالين ( لا يخلو عن ظهور ) في الاحتمال الأوّل : حيث قد تقدّم : أن في الرواية وجهين للدلالة على أن اللام للجنس وأن الوضوء من باب المورد ( خصوصا بضميمة الأخبار الأُخر الآتية ، المتضمّنة لعدم نقض اليقين بالشك ) .

ص: 227

وربّما يورد على إرادة العموم من اليقين أنّ النفي الوارد على العموم لا يدلّ على السلب الكلّي .

وفيه : إنّ العموم مستفادٌ من الجنس في حيّز النفي .

فالعمومُ بملاحظة النفي ، كما في : « لا رجل في الدّار »

-------------------

وعليه : فظهور الرواية منضّما الى اطلاق سائر الروايات في هذا الباب وكون مساقها مساق هذه الرواية يفيد : ان المراد بهذه الرواية أيضا الجنس لا خصوصية المورد .

( وربّما يورد على ) دلالة الرواية على حجية الاستصحاب مطلقا : بأن ( إرادة العموم من اليقين ) غير تام ، وذلك ( أنّ النفي الوارد على العموم لا يدلّ على السلب الكلّي ) بل يدل على السلب الجزئي ، فإن قولك : « لم يأت كلّ العلماء » يفيد مجيء بعض دون بعض لا مجيء الكلّ ، فمعنى الحديث : لا ينقض كل يقين ، وهو يفيد إنه ينقض بعضه دون بعض ، فلا كبرى كلّية في المقام .

( وفيه ) : إن جملة : « ولا ينقض اليقين أبدا بالشك » (1) يفيد العموم لا سلب العموم ، إذ هناك فرق بين العموم الذي يستفاد من النفي مثل : لا رجل في الدار ، فإن العموم فيه قد اُستفيد من النفي ، فإن نفي الجنس يفيد العموم ، وبين العموم المستفاد من الوضع ، ووقوع ذلك العموم في حيّز النفي ، مثل : ليس كل إنسان أبيض ، فإن الأوّل : يفيد العموم ، والثاني : يفيد البعض ، والحديث من قبيل الأوّل لا من قبيل الثاني كما قال : ( أنّ العموم مستفادٌ من الجنس ) الواقع ( في حيّز النفي ، فالعمومُ بملاحظة النفي ) يكون ( كما في : « لا رجل في الدّار » ) حيث أُستفيد العموم في هذه

ص: 228


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

لا في حيّزه ، كما في : « لم آخذُ كُلَّ الدّراهم » .

ولو كان اللامُ لاستغراق الأفراد ، كان الظاهر ، بقرينة المقام والتعليل

-------------------

الجملة من نفس النفي ، لأن النفي ورد على الطبيعة فأفاد العموم .

( لا في حيّزه ) أي : لا ان العموم وقع في حيّز النفي ، فإنه ليس في الرواية عموم حيّز النفي ( كما في : « لم آخذ كُلَّ الدّراهم » ) فإن كل الدراهم عموم وقع في حيز النفي ، وهو لا يفيد العموم ، بل يفيد أنه أخذ بعض الدراهم .

والحاصل : إن هناك فرقا بين وقوع العام بعد النفي مثل : لم آخذ كل الدراهم ، فإن كل الدراهم عام وقع بعد النفي : لم آخذ ، فأفاد السلب الجزئي ، وبين استفادة العموم من نفس النفي مثل : لا رجل في الدّار ، حيث إن العموم أُستفيد من النفي ، فإن النكرة في سياق النفي تفيد العموم .

لا يقال : لا تنقض اليقين أيضا عام وقع بعد النفي ، لأن اللام للاستغراق فمعناه: لا تنقض كل يقين ، فيفيد السلب الجزئي .

لأنّه يقال : ( ولو كان اللامُ لاستغراق الأفراد ) أي : كل يقين فإنه مع ذلك ( كان الظاهر ) من الرواية بدلالة أمور ثلاثة هو السلب الكلّي لا السلب الجزئي ، والاُمور الثلاثة هي كالتالي :

الأوّل : ( بقرينة المقام ) حيث ان الكبرى في مقام تأسيس قاعدة ، وكلّما كان الكلام في مقام تأسيس القاعدة أُستفيد منه العموم .

الثاني : ( والتعليل ) حيث قد تقدّم : إن التعليل بالسلب الجزئي يكون تعبّديا ، والتعليل بالسلب الكلّي يكون إرتكازيا ، ومن المعلوم : ان التعليل التعبّدي عبارة عن تكرار المعلول وذلك خلاف اسلوب البلاغة .

ص: 229

وقوله : « أبدا » ، هو إرادة عموم النفي ، لا نفي العموم .

وقد أورد على الاستدلال بالصحيحة بما لا يخفى جوابه على الفطن ،

-------------------

الثالث : ( وقوله : « أبدا » ) حيث ان ظاهره يتنافى مع إرادة السلب الجزئي إذ لا معنى لقولنا : ولا ينتقض بعض اليقين أبدا بالشك .

إذن : فالأمور الثلاثة تدل على ان ظاهر الرواية ( هو إرادة عموم النفي ) أي : السلب الكلّي الشامل لكل ما كان هناك يقين سابق وشك لاحق ( لا نفي العموم ) أي : السلب الجزئي حتى يكون مختصا بالوضوء .

وعليه : فإنّا لو سلّمنا أن العموم في الرواية وقع بعد النفي ، فإنه يستفاد منه السلب الكلّي أيضا ، لما ذكرنا : من قرينة لفظ « أبدا » ، ومن قرينة التعليل ومن قرينة كونه لتأسيس قاعدة كلّية ، فيكون حينئذ من قبيل : « إنّ اللّه لا يحبّ كُلّ مختال فخور » (1) حيث معناه : السلب الكلّي لا كلّي السلب .

هذا ( وقد أورد على الاستدلال بالصحيحة بما لا يخفى جوابه على الفطن ) والتي منها : إنها مضمرة ، وفيه : ما قد عرفت سابقا : من عدم الضرر في إضمارها .

ومنها : عدم صحة الاعتضاد بأخبار الآحاد في المسائل الاصولية ، كما ذكره المحقق الخوانساري ، وفيه مضافا الى ما تقدّم من منع كون ما نحن فيه مسألة أصولية بحتة : أنا نمنع عدم صحة اعتضاد أخبار الآحاد في المسائل الاصولية ، إذ بعد ثبوت كون الخبر الواحد حجة يصح الاعتضاد به سواء في المسائل الأصولية أم المسائل الفرعية .

ومنها : عدم إمكان اجتماع اليقين مع الشك في مورد واحد حتى يصح النهي عن نقضه به ، وفيه : ان المراد باليقين آثار اليقين كما هو واضح .

ص: 230


1- - سورة لقمان : الآية 18 .

والمهم في هذا الاستدلال : إثباتُ إرادة الجنس من اليقين .

ومنها : صحيحةٌ أخرى لزرارةَ مضمرةٌ أيضا : « قال : قلتُ له : أصابَ ثوبي دمُ رُعاف ، أو غيره أو شيء من المنيّ ، فَعَلّمتُ أثرَهُ الى أن اُصيبَ له الماء ، فحَضرتِ الصلاة ونَسيتُ أنّ بثوبي شيئا وصلّيتُ ، ثمّ إنّي ذكرتُ بعد ذلك ؟ .

-------------------

ومنها : إنه لو تمسكنا بهذا الخبر لحجية الاستصحاب لزم عدم حجية الاستصحاب ، وذلك لأن مقتضى الاستصحاب عدم صدور هذه الرواية عن المعصوم عليه السلام ، وما يلزم من وجوده عدمه فهو محال ، وفيه مضافا الى ان الرواية متواترة معنىً ، انها لا تشمل نفسها قطعا لأنها من قبيل كل خبري كاذب على ما قرّر في موضعه ، الى غير ذلك .

( و ) كيف كان : فإن ( المهم في هذا الاستدلال : إثبات إرادة الجنس من اليقين ) وقد عرفت : إنه هو الظاهر منه .

هذا هو تمام الكلام في الصحيحة الاُولى لزرارة .

( ومنها ) أي : من الأخبار المستفيضة الدالّة على الاستصحاب ( صحيحةٌ أخرى لزرارةَ مضمرةٌ أيضا : « قال : قلتُ له : أصابَ ثوبي دمُ رُعاف ، أو غيره ) أي: غير دم الرعاف ، ودم الرعاف هو الدم الخارج من الأنف لا لجرح فيه ، وإنّما لانفجار العروق الصغار في جدار الأنف .

( أو ) أصاب ثوبي ( شيء من المنيّ ، فَعَلّمتُ أثرَهُ ) أي : جعلت علامة مكان ذلك الدم أو المني الذي وصل الى ثوبي ( الى أن اُصيبَ له الماء ) فأغسله ( فحَضرتِ الصلاة ونَسيتُ أنّ بثوبي شيئا ) من النجس ( وصلّيتُ ، ثمّ إنّي ذكرتُ بعد ذلك ؟ ) فهل تصحّ صلاتي أم لا ؟ .

ص: 231

قال عليه السلام : تُعيد الصلاة وتَغسِلُهُ .

قلتُ : فإن لم أكن رأيتُ موضِعَهُ ، وعَلِمتُ أنّه أصابَهُ ، فطلبتُه ولم أقدِر عليه فلمّا صلّيت وجدتُه ؟ .

قال عليه السلام : تغسِلُه وتُعيد .

قلتُ : فإن ظننتُ أنّه أصابَهُ ولم أتيقّن ذلك فنظرتُ ولم أرَ شيئا فصلّيت فيه فرأيت ما فيه ؟ .

قال : تغسِلُه ولا تُعيد الصلاةَ .

قلتُ : لِمَ ذلك ؟ .

-------------------

( قال عليه السلام : تُعيد الصلاة وتَغسِلُهُ ) وهذا من باب اللف والنشر المشوش أي : تغسله وتعيد الصلاة .

( قلتُ : فإن لم أكن رأيتُ موضِعَهُ ، و ) لكن ( عَلِمتُ ) اجمالاً ( أنّه أصابَهُ ، فطلبتُه ولم أقدِر عليه ) لأن الدم - مثلاً كان قليلاً بحيث لم يدركه بصري وقت طلبه ( فلمّا صلّيت وجدتُه ) بعد الصلاة ؟ .

( قال عليه السلام : تغسِلُه وتُعيد ) الصلاة ، وذلك لأن مقتضى العلم الاجمالي وجوب غسل مقدار من الثوب يقطع معه بزوال النجس ، فإذا لم يغسله وصلّى فيه بطلت صلاته .

( قلتُ : فإن ظننتُ أنّه أصابَهُ ولم أتيقّن ذلك ) أي : لم أتيقن انه أصابه ( فنظرتُ ولم أرَ شيئا فصلّيت فيه فرأيت ما فيه ؟ ) بعد الصلاة ؟ .

( قال : تغسِلُه ولا تُعيد الصلاةَ ) بعده .

( قلتُ : لِمَ ذلك ؟ ) أي : لماذا لم تجب الاعادة في هذه الصورة ، بينما وجبت الاعادة في الصورة السابقة ؟ .

ص: 232

قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتِكَ فشكَكْت ، وليس ينبغي لك أن تنقُضَ اليقينَ بالشّك أبدا .

قلتُ : فإنّي قد علمتُ أنّهُ قد أصابَهُ ولم أدْرِ أين هو فأغسِلَهُ .

قال : تغسِلُ من ثوبكَ النّاحِيَةَ التي ترى أنّه قد أصابَها حتى تكونَ على يقينٍ من طهارتِكَ .

قلتُ : فهل عليّ إن شكَكْت أنّه أصابَهُ شيءٌ أن أنظرَ فيه ؟ .

قال : لا ،

-------------------

( قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتِكَ فشكَكْت ) والمراد بالشك : أعمّ من الظن بالوفاق ، أو الظن بالخلاف ، أو المتساوي الطرفين كما سبق ، ثم أضاف عليه السلام : ( وليس ينبغي لك أن تنقُضَ اليقينَ بالشّك أبدا ) فقد أحال عليه السلام ، عدم اعادة الصلاة على الاستصحاب المرتكز عند جميع العقلاء ومنهم زرارة ، مما يدل على حجية الاستصحاب مطلقا في كل مورد .

( قلتُ : فإنّي قد علمتُ أنّهُ قد أصابَهُ ولم أدْرِ أين هو فأغسِلَهُ ) أي : حتى غسله، فما أفعل حينئذ بالثوب الذي أعلم اجمالاً بنجاسة موضع منه ؟ .

( قال : تغسِلُ من ثوبكَ النّاحِيَةَ التي ترى أنّه قد أصابَها ) أي : أصاب تلك الناحية ، فإذا أصاب الطرف الأيمن - مثلاً - تغسل كل الطرف الأيمن ، وإذا أصاب الطرف الأيسر تغسل كل الطرف الأيسر ، وهكذا ( حتى تكونَ على يقينٍ من طهارتِكَ ) فإن الصلاة لا تصح في ثوب نجس .

( قلتُ : فهل عليّ إن شكَكْت أنّه أصابَهُ شيءٌ ) من الدم أو غيره ( أن أنظرَ فيه ) أي : أفحص عنه مع انه من موارد الشبهة الموضوعية ؟ .

( قال : لا ) وقد تقدّم : أن الشبهة الموضوعية في مثل الطهارة والنجاسة ،

ص: 233

ولكنّك إنّما تُريد أن تذهَبَ بالشكِّ الذي وقع مِن نفسِكَ .

قلتُ : إن رأيتُه في ثوبي وأنا في الصلاة ؟ .

قال : تنقُض الصلاة وتُعيد إذا شكَكْت في موضعٍ منهُ ثمَّ رأيتَهُ .

-------------------

والحليّة والحرمة ، لا يجب فيها الفحص إجماعا ، وإن ناقشنا في وجوب الفحص في الشبهة الموضوعية في مثل الاستطاعة والزكاة والخمس وما أشبه ذلك ، ثم أضاف عليه السلام قائلاً : ( ولكنّك إنّما تُريد أن تذهَبَ بالشكِّ الذي وقع مِن نفسِكَ ) يعني : ان الفحص هنا حسن لأنه يذهب الشك من نفسك ، وهذا يدل على استحباب الفحص في غير الموارد المنهي عن الفحص فيها ، كما في قوله عليه السلام : ليس عليكم المسألة (1) ، وما أشبه ذلك ممّا قد تقدّم .

( قلتُ : إن رأيتُه في ثوبي وأنا في الصلاة ؟ ) أي : مع الشك قبل الصلاة في موضع منه ؟ .

( قال : تنقُض الصلاة وتُعيد إذا شكَكْت في موضعٍ منهُ ) أي : من الثوب ، وذلك بأن كان شكك فيه قبل دخولك في الصلاة ( ثمَّ رأيتَهُ ) بعد ذلك في الأثناء .

ولا يخفى : ان هذه الفقرات قد تحمل على انه حصل له العلم بالنجاسة قبل الصلاة فلم يهتمّ بها وصلّى ثم رأى النجاسة أثناء الصلاة ، فيكون قوله عليه السلام : « تنقض الصلاة وتعيد » بمعنى : إبطالها ثم استينافها بعد التطهير ، وهذا هو الظاهر من الرواية .

وقد تحمل على إنه حصل له مجرد الشك بالنجاسة قبل الصلاة فلم يفحص عنها وصلى ثم رأى النجاسة أثناء الصلاة ، فيكون قوله عليه السلام : تنقض الصلاة وتعيد

ص: 234


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص368 ب13 ح61 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص257 ح791 ، قرب الاسناد : ص171 ، وسائل الشيعة : ج3 ص491 ب50 ح4262 و ج4 ص456 ب55 ح5701 .

وإن لم تشُكَّ ثم رأيتَهُ رطبا ، قطعتَ الصلاةَ وغسلتَهُ ثمّ بنيتَ على الصلاة ، لأنّك لا تدري لعلّه شيءٌ اُوقِعَ عليكَ فليسَ ينبغي لك أن تنقُض اليقينَ بالشكِّ » ، الحديث .

-------------------

بمعنى : السكوت وتطهير الثوب ثم البناء عليها من حيث سكت ، وهذا هو الذي يناسب الفقرة التالية حيث قال عليه السلام :

( وإن لم تشُكَّ ) في النجاسة قبل الصلاة ( ثم رأيتَهُ رطبا ) في أثناء الصلاة ( قطعتَ الصلاةَ ) أي : سكتَّ بدون ارتكاب المنافي ( وغسلتَهُ ثمّ بنيتَ على الصلاة ) أي : أتيت ببقية الصلاة ، وإنّما تأتي ببقية الصلاة بعد التطهير في هذه الصورة ( لأنّك لا تدري لعلّه شيءٌ اُوقِعَ عليكَ ) في أثناء الصلاة ، وحيث لا تدري وكنت على يقين من طهارة ثوبك ، فإنه كلّما كنت على يقين وشككت ( فليسَ ينبغي لك أن تنقُض اليقينَ بالشكِّ » (1) ).

إذن : فالعلم بالنجاسة إن كان قبل الصلاة بطلت الصلاة ووجب استينافها بعد التطهير ، وإن كان في أثناء الصلاة لزم السكوت والتطهير ثم إتمام الصلاة ، وإن كان بعد الصلاة صحّت صلاته الى آخر ( الحديث ) .

ولا يخفى : ان هذه الرواية رويت تارة مضمرة كما في رواية الشيخ ، واخرى مسندة الى الإمام الباقر عليه السلام ، كما في العِلل .

ثم إن بعض الفقهاء قالوا : إن هذا الحديث يستفاد منه قواعد شريفة وكثيرة :

منها : اعتبار قاعدة الاستصحاب .

ومنها: صحة عبادة الجاهل إذا اتفقت مطابقتها لبعض الطرق الشرعية ،

ص: 235


1- - تهذيب الأحكام : ج1 ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب109 ح13 ، علل الشرائع : ج2 ص59 ح1 ، وسائل الشيعة : ج3 ص482 ب24 ح4236 .

والتقريب كما تقدّم في الصحيحة الاُولى

-------------------

لأنه عليه السلام قد حكم فيها بصحة صلاة الجاهل بنجاسة ثوبه ولم يوجب عليه إعادتها لأجل مطابقتها مع الاستصحاب .

ومنها : كون الطهارة من الخبث في الصلاة من الشرائط العلمية لا الشرائط الواقعية ، لأنه عليه السلام حكم فيها بعدم وجوب إعادة الصلاة مع العلم بعد الصلاة بوقوعها مع النجاسة ، فإن الطهارة لو كانت من الشرائط الواقعية دون العلمية لوجبت الاعادة ، لفرض ظهور الخلاف بعد الصلاة .

ومنها : وجوب الموافقة القطعيّة في الشبهة المحصورة لقوله عليه السلام : « تغسل من ثوبك الناحية التي ترى انه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك » .

ومنها : عدم وجوب الفحص في العمل بالأصل في الموضوعات مطلقا ، أو إذا كان من أمثال الطهارة والنجاسة .

ومنها : إعتبار الاستصحاب من باب الظن النوعي ، فلا يقدح في جريان الاستصحاب الظن الشخصي بالخلاف ، كما يدلّ عليه قوله عليه السلام في جواب قول زرارة حيث قال : فإن ظننت إنه أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت ولم أرَ شيئا فصلّيت فيه فرأيت فيه؟ قال عليه السلام : « تغسله ولا تعيد الصلاة » .

ومنها : حسن الاحتياط في مثل هذه الاُمور لقوله عليه السلام : « ولكنك إنّما تريد أن تذهب بالشك الذي وقع من نفسك » .

ومنها : تقديم الأصل في الشك السَببي على الشك المُسَببي .

هذا ( و ) لا يخفى : ان ( التقريب ) لهذا الحديث في دلالته على حجية الاستصحاب مطلقا هو ( كما تقدّم في الصحيحة (1) الاُولى ) ولذا لا حاجة

ص: 236


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

وإرادة الجنس من اليقين لعله أظهر هنا .

وأمّا فقه الحديث ، فبيانه : أنّ مورد الاستدلال يحتملُ وجهين :

أحدُهما : أن يكون مورد السؤال فيه : أن رأى بعد الصلاة نجاسة يعلم أنّها هي التي خفيت عليه قبل الصلاة .

-------------------

الى تكرار التقريب المتقدم ( و ) إثبات ان اللام فيه للجنس ، بل ( إرادة الجنس من اليقين لعله أظهر هنا ) من الرواية السابقة ، وذلك كما أشار اليه الأوثق بقوله :

«لأن موضع الدلالة من هذه الصحيحة كما سنشير اليه ، فقرتان إحداهما : قوله عليه السلام : فان ظننت الى قوله : قلت : فإني قد علمت ، والاُخرى : قوله عليه السلام : وإن لم تشك الى آخره ، ولا مسرح لقضية التوطئة في الاُولى ، لعدم الشرطية فيها حتى يقال : إن قوله : لأنك كنت على يقين ، علّة قائمة مقام الجزاء ، أو هو مذكور من باب التوطئة ، فهو صريح في العليّة ، وأما الثانية : فلعدم سبق ذكر اليقين بالطهارة فيها حتى يحتمل كون اللام في قوله : فلا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك ، للعهد الذكري » (1) .

( وأمّا فقه الحديث ) أي : فهمه حتى نعرف كيف إستدلّ الإمام عليه السلام لعدم وجوب الاعادة بالاستصحاب ؟ مع إن فيه نوع اجمال ، أشار اليه المصنِّف بقوله : ( فبيانه : أنّ مورد الاستدلال ) بهذا الحديث لحجية الاستصحاب ، إنّما يبدأ من قوله : قلت : فإن ظننت انه أصابه ولم أتيقّن ذلك ، فإنه ( يحتملُ وجهين ) كالتالي :

( أحدُهما : أن يكون مورد السؤال فيه : أن رأى بعد الصلاة نجاسة يعلم أنّها هي التي خفيت عليه قبل الصلاة ) فيتيقّن بعد الصلاة أنه قد صلّى في النجس

ص: 237


1- - أوثق الوسائل : ص454 الصحيحة الثانية أظهر من سابقتها في ارادة القاعدة الكلية .

وحينئذٍ : فالمرادُ اليقين بالطهارة قبل ظنّ الاصابة ، والشك حين إرادة الدخول في الصلاة .

لكن عدم نقض ذلك اليقين بذلك الشك إنّما يصلح علّة لمشروعيّة الدخول في العبادة المشروطة بالطهارة مع الشك فيها ، وأنّ الامتناع عن الدخول فيها نقضٌ لآثار تلك الطهارة المتيقنة ، لا لعدم وجوب الاعادة على مَن تيقّن أنّه صلّى في النجاسة ، كما صرّح به السيد الشارح للوافية ،

-------------------

(

وحينئذٍ : فالمرادُ ) بقوله عليه السلام : لأنّك كنت على يقين : ( اليقين بالطهارة قبل ظنّ الاصابة ، و ) بقوله : فشككت : ( الشك حين إرادة الدخول في الصلاة ) .

هذا ، وقد تقدّم : ان المراد بالشك أعمّ من الظن ، فيكون هذا الاستصحاب جاريا قبل الصلاة ، لأن كلاً من اليقين بالطهارة ، والشك في الاصابة كان قبل الصلاة ، فله استصحاب الطهارة قبل الصلاة .

( لكن ) كون الاستصحاب قبل الصلاة بأن يكون ( عدم نقض ذلك اليقين بذلك الشك ) الحاصل قبل الصلاة لا يتلائم مع ما ذكره الإمام عليه السلام بقوله : ولا تعيد الصلاة .

وإنّما لا يتلائم معه ، لأن الاستصحاب الذي هو قبل الصلاة ( إنّما يصلح علّة لمشروعيّة الدخول في العبادة المشروطة بالطهارة مع الشك فيها ) أي : في تلك الطهارة ( و ) يصلح لافادة ( أنّ الامتناع عن الدخول فيها ) أي : في الصلاة ( نقضٌ لآثار تلك الطهارة المتيقنة ) .

وكذا ( لا ) يصلح علّة ( لعدم وجوب الاعادة على مَن تيقّن أنّه صلّى في النجاسة ) لأنه يكون من نقض اليقين باليقين ، فلا يكون مجرى للاستصحاب ( كما صرّح به ) أي : بما ذكرنا ( السيد الشارح للوافية ) حيث قال بعدم صلاحية

ص: 238

إذ الاعادة ليست نقضا لأثر الطهارة المتيقّنة بالشك ، بل هو نقض باليقين ، بناءا على أنّ من آثار حصول اليقين بنجاسة الثوب حين الصلاة ولو بعدها وجوب إعادتها .

-------------------

وقوع الاستصحاب علّة لعدم وجوب الاعادة ، وإنّما يصلح علّة لمشروعية الدخول في الصلاة .

والحاصل : إن الاستصحاب لا يكون علّة لعدم الاعادة ، وإنّما يكون علّة لجواز الدخول في الصلاة ، فكيف جعل الإمام عليه السلام الاستصحاب علّة لعدم الاعادة ؟ .

وإنّما لا يصلح الاستصحاب علّة لعدم وجوب الاعادة ، لأنه كما قال : ( إذ الاعادة ليست نقضا لأثر الطهارة المتيقّنة ) سابقا ( بالشك ) قبل الصلاة ( بل هو نقض باليقين ) الحاصل بعد الصلاة ، لأن المفروض : أن تيقن بنجاسة ثوبه بعد الصلاة ، فيكون عدم وجوب الاعادة حينئذ من باب عدم نقض اليقين باليقين ، لا من باب عدم نقض اليقين بالشك .

وإنّما يكون وجوب الاعادة من باب نقض اليقين باليقين ، لأن ذلك ( بناءا على أنّ من آثار حصول اليقين بنجاسة الثوب حين الصلاة ولو ) كان هذا اليقين حاصلاً ( بعدها ) أي : بعد الصلاة هو : ( وجوب إعادتها ) أي : إعادة الصلاة .

وإن شئت قلت : إن المطلوب في المقام أمران : جواز الدخول في العبادة ، وعدم وجوب اعادتها ، فجواز الدخول يطلب قبل الشروع في الصلاة ، وعدم وجوب الاعادة يطلب بعد الفراغ من الصلاة ، والاستصحاب مختص بما قبل الشروع ولا استمرارية له الى ما بعد الفراغ حتى يترتب أثره على الصلاة بعد الفراغ .

إذن : فجواز دخوله في الصلاة كان لأجل الاستصحاب ، أمّا عدم وجوب

ص: 239

وربّما يتخيل حسنُ التعليل لعدم الاعادة بملاحظة اقتضاء امتثال الأمر الظاهري للاجزاء ، فتكون الصحيحة من حيث تعليلها دليلاً على تلك القاعدة وكاشفة عنها .

-------------------

الاعادة عليه ، فلم يكن لأجل الاستصحاب ، بل لاجتماع شرائط الصحة في مثل هذه الصلاة ، لأنه حين الاتيان بها لم يكن عالما بالنجاسة ، وقد عرفت : ان النجاسة الخبثية ليست من الموانع الواقعية ، وإنّما الطهارة منها من الشرائط العلمية .

والحاصل : إنّ الإمام عليه السلام ، علّل عدم الاعادة بالاستصحاب ، بينما عدم الاعادة معلول اجتماع شرائط الصحة في الصلاة لا الاستصحاب .

ثم إن المصنِّف أجاب عمّا قاله قبل قليل : لكن عدم نقض ذلك اليقين بذلك الشك إنّما يصلح علّة لمشروعية الدخول في العبادة لا علّة لعدم وجوب الاعادة بقوله :

( وربما يتخيل حسنُ التعليل ) من الإمام عليه السلام بعدم نقض اليقين بالشك ( لعدم الاعادة ) أي : بأن لا يعيد الصلاة لأجل الاستصحاب ، وذلك ( بملاحظة اقتضاء امتثال الأمر الظاهري ) أي : البناء على طهارة الثوب ( للاجزاء ) والاجزاء مقتض لعدم الاعادة .

وعليه : ( فتكون الصحيحة ) حينئذ ( من حيث تعليلها ) في كلام الإمام عليه السلام ( دليلاً على تلك القاعدة ) أي : قاعدة اقتضاء الأمر الظاهري الاجزاء ( وكاشفة عنها ) أي : عن تلك القاعدة .

والحاصل : إنه يصحّ تعليل عدم وجوب الاعادة بالاستصحاب ، لأن الاستصحاب يقتضي صحة الدخول في الصلاة وإذا صحّ له الدخول كان مأمورا

ص: 240

وفيه : أنّ ظاهر قوله « فليس ينبغي » يعني : ليس ينبغي لك الاعادة ، لكونه نقضا .

كما أنّ قوله عليه السلام في الصحيحة « لا ينقُض اليقين أبدا بالشك » : عدم إيجاب إعادة الوضوء ،

-------------------

بالأمر الظاهري بهذه الصلاة ، والأمر الظاهري بهذه الصلاة يقتضي الاجزاء وعدم الاعادة ، فيكون مُقتضى الاستصحاب بالأخرة : عدم الاعادة لكن بضميمة قاعدة الاجزاء ، ولهذا علّل الإمام عليه السلام عدم الاعادة بالاستصحاب .

( وفيه : أنّ ظاهر قوله ) عليه السلام : ( « فليس ينبغي (1) ) لك أن تنقض اليقين بالشك » ( يعني : ليس ينبغي لك الاعادة ، لكونه نقضا ) أي : لكون وجوب الاعادة نقضا للاستصحاب مباشرة فلا ينبغي لك الاعادة .

إذن : فظاهر الرواية : أن الاعادة بنفسها نقض لليقين بالشك ، لا أنها نقض للأمر الظاهري ، ونقض الأمر الظاهري ينتهي الى نقض اليقين بالشك .

والحاصل : إنّكم قلتم : عدم الاعادة ينتهي بالأخرة الى الاستصحاب ، فيرد على كلامكم : ان ظاهر كلام الإمام عليه السلام هو : ان عدم الاعادة من آثار الاستصحاب مباشرة لا بضميمة قاعدة الاجزاء ( كما أنّ ) ظاهر ( قوله عليه السلام في الصحيحة ) الاُولى : ( « لا ينقُض اليقين أبدا بالشك » (2) : عدم إيجاب إعادة الوضوء ) مباشرة .

وعليه : فكما إن عدم إيجاب إعادة الوضوء هناك كان أثرا للاستصحاب مباشرة ، فكذلك يلزم أن يكون عدم إيجاب إعادة الصلاة هنا أثرا للاستصحاب

ص: 241


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب109 ح13 ، علل الشرائع : ج2 ص59 ح1 ، وسائل الشيعة : ج3 ص482 ب24 ح4236 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

فافهم ، فانّه لا يخلو عن دقّة .

ودعوى : « أنّ من آثار الطهارة السابقة إجزاء الصلاة وعدم وجوب الاعادة لها ، فوجوب الاعادة نقضٌ لآثار الطهارة السابقة » .

مدفوعةٌ : بأنّ الصحّة الواقعيّة وعدم الاعادة للصلاة

-------------------

مباشرة أيضا ، لا أثر الاستصحاب بواسطة قاعدة الاجزاء .

( فافهم ، فانّه ) أي : عدم فهمنا لصحة تعليل عدم الاعادة بعدم النقض ( لا يخلو عن دقّة ) وإن لم ندركها نحن ، فيلزم على ذلك أن نرد علم التعليل في هذه الرواية اليهم عليه السلام .

هذا ، ولكن لا يخفى : إن عدم فهمنا للتعليل لا يضرّ بحجية الاستصحاب ، إذ ربما يعلّل شيء بشيء وتكون العلّة حجة وإن لم نفهم نحن كيف صارت هذه العلّة علّة لهذا المعلول ؟ وذلك كما إذا قال المولى - مثلاً - أكرم العلماء لأن الأرض كرويّة ، فإن وجوب إكرام العلماء ثابت وإن لم نفهم نحن الربط لعلّية كرويّة الأرض بإكرام العلماء ؟ .

وهناك توجيه آخر لتعليل الإمام عدم الاعادة بالاستصحاب أشار اليه المصنِّف بقوله : ( ودعوى : « أنّ من آثار الطهارة السابقة إجزاء الصلاة وعدم وجوب الاعادة لها ) أي : للصلاة إذ لو وجبت الاعادة كان معناه : عدم إجزاء الصلاة ، وعدم الاجزاء إنّما يكون لو لم يكن الاستصحاب حجة ، وحيث كان الاستصحاب حجة لم تكن إعادة ، ولذا علّل الإمام عدم الاعادة بالاستصحاب كما قال : ( فوجوب الاعادة نقضٌ لآثار الطهارة السابقة » ) وحيث إن الاستصحاب يقول : لا تنقض آثار الطهارة السابقة فلا إعادة .

لكن هذه الدعوى ( مدفوعةٌ : بأنّ الصحّة الواقعيّة وعدم الاعادة للصلاة

ص: 242

مع الطهارة المتحققة سابقا من الآثار العقلية غير المجعولة للطهارة المتحققة لعدم معقولية عدم الاجزاء فيها ، مع أنّه

-------------------

مع الطهارة المتحققة سابقا ) حسب الاستصحاب إنّما هي ( من الآثار العقلية غير المجعولة للطهارة المتحققة ) فإن العقل هو الذي يحكم بعدم الاعادة عند تحقق الطهارة واقعا أو ظاهرا ، وذلك ( لعدم معقولية عدم الاجزاء فيها ) أي : في الصلاة مع الطهارة .

وإنّما لا يعقل عدم الاجزاء فيها لأنه بعد إنطباق المأتي به على المأمور به يسقط الأمر ، ومع سقوط الأمر لا يعقل وجوب الاعادة ، فالصحة وعدم الاعادة من الآثار العقلية غير المجعولة ، وقد عرفت : إن الآثار العقلية لا تثبت بالاستصحاب .

والحاصل : إن الدعوى تقول : إن من آثار الطهارة السابقة هو : عدم وجوب الاعادة لأنّ في الاعادة نقضا لآثار الطهارة المستصحبة ، فيصح تعليل عدم وجوب الاعادة بعدم جواز نقض اليقين بالشك الذي هو الاستصحاب ، فردّ عليه المصنِّف بما حاصِلَهُ : إن عدم وجوب الاعادة ليس من الآثار الشرعية بل من الآثار العقلية للمستصحب فلا يثبت بالاستصحاب .

وبعبارة أخرى : إن الطهارة إن كانت من الشرائط الواقعية للصلاة ، فلا يجدي استصحابها بعد إنكشاف خلافها ، وإن كانت من الشرائط العلمية ، بأن كان شرط صحة الصلاة عدم العلم بالنجاسة حين إيقاعها ، فلا معنى لاستصحاب صحة الصلاة ، إذ لا حاجة للاستصحاب حينئذٍ ، بل يكفي عدم علمه بالنجاسة .

هذا ( مع أنّه ) لو قلنا بعدم وجوب إعادة الصلاة لاجل استصحاب الطهارة السابقة في خصوص ما إذا رأى نجاسة بعد الفراغ دون الأثناء ، فانه يلزم منه اضافة

ص: 243

يوجب الفرق بين وقوع تمام الصلاة مع النجاسة فلا يُعيد ، وبين وقوع بعضها معها فيُعيد ، كما هو ظاهر قوله عليه السلام بعد ذلك : « وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته » إلاّ أن يحمل هذه الفقرة ، كما استظهر شارح الوافية ، على ما لو عَلِم الاصابة وشك في موضعها ولم يغسلها نسيانا ، وهو مخالفٌ لظاهر الكلام

-------------------

الى الاشكال الأوّل الذي دفعنا به الدعوى إشكال ثانٍ هو : التفكيك بين متلازمين .

وإنّما يلزم منه ذلك لأن هذا الكلام ( يوجب الفرق بين وقوع تمام الصلاة مع النجاسة فلا يُعيد ) حسب ما قاله الإمام عليه السلام ( وبين وقوع بعضها معها ) أي : مع النجاسة ( فيُعيد : كما هو ظاهر قوله عليه السلام بعد ذلك ) أي : بعد العبارة المتقدمة : ( « وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته » ) في الاثناء ، مع إنه لو كان عدم الاعادة لأجل استصحاب الطهارة ، كان عدم الاعادة في الاثناء بطريق أولى ، فالفرق بينهما على القول بالاستصحاب يستلزم التفكيك بين المتلازمين .

( إلاّ أن يحمل هذه الفقرة ) أي : فقرة إعادة الصلاة في الاثناء ( كما استظهر شارح الوافية ) السيد الصدر الشارح لوافية التوني ( على ما لو عَلِم ) اجمالاً ( الاصابة ) أي : اصابة النجس ثوبه ( وشك في موضعها ولم يغسلها نسيانا ) فرآها في الأثناء ، حتى تكون صلاته باطلة من جهة نسيان النجاسة .

( و ) لكن هذا الحمل ( هو مخالفٌ لظاهر الكلام ) الذي قاله عليه السلام : «تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته» (1) فإن ظاهر هذه الفقرة هو : إنه لم يعلم بالنجاسة قبل الصلاة وإنّما شك في النجاسة .

ص: 244


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب109 ح13 ، علل الشرائع : ج2 ص59 ح1 ، وسائل الشيعة : ج3 ص482 ب24 ح4236 .

وظاهر قوله بعد ذلك : « وإن لم تشك ثم رأيته » ، الى آخره .

والثاني : أن يكون مورد السؤال : رؤية النجاسة بعد الصلاة مع إحتمال وقوعها بعدها .

فالمراد

-------------------

( و ) مخالف أيضا مع ( ظاهر قوله ) عليه السلام : ( بعد ذلك : « وإن لم تشك ثم رأيته » (1) ، الى آخره ) حيث إنه كما ترى ظاهر في الشك البدوي .

وعليه : فقد ظهر من مجموع ما ذكرناه : انا لا نفهم وجه تعليل الرواية عدم وجوب الاعادة بالاستصحاب .

ثم إن المصنِّف بعد أن تعرّض لفقه الحديث في صحيحة زرارة الثانية ، وذكر الوجه الأوّل من وجهي الاستدلال بها ، حيث كان مورد السؤال فيها : رؤية النجاسة بعد الصلاة وهو يعلم بأنها هي التي خفيت عليه قبل الصلاة ، بدأ في بيان الوجه الثاني فقال : ( والثاني : أن يكون مورد السؤال : رؤية النجاسة بعد الصلاة مع إحتمال وقوعها بعدها ) أي : وقوع النجاسة بعد الصلاة .

وعليه : فإن رؤية النجاسة هنا لم تكن كما في الوجه الأوّل حيث كان هناك يعلم بأنها هي التي خفيت عليه قبل الصلاة ، حتى إنه لم يحتمل وقوعها عليه بعدها ، بينما هنا في الوجه الثاني يحتمل وقوعها عليه بعد الصلاة أيضا ، وذلك بأن أتمّ الصلاة ثم رأى نجاسة على ثوبه مما يحتمل إصابة هذه النجاسة ثوبه قبل الصلاة ، أو في أثنائها ، أو بعد الصلاة .

وعلى هذا الوجه ( فالمراد ) من تعليل الإمام عليه السلام عدم وجوب الاعادة

ص: 245


1- - تهذيب الأحكام : ج1 ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب209 ح13 ، علل الشرائع : ج2 ص59 ح1 ، وسائل الشيعة : ج3 ص482 ب24 ح4236 .

أنّه ليس ينبغي أن ينقض يقين الطهارة بمجرّد احتمال وجود النجاسة حال الصلاة .

وهذا الوجه سالمٌ ممّا يرد على الأوّل ، إلاّ أنّه خلافُ ظاهر السؤال .

نعم ، مورد قوله عليه السلام أخيرا : « فليس ينبغي لك » ، الى آخره ، هو الشك

-------------------

بالاستصحاب هو : ( أنّه ليس ينبغي أن ينقض يقين الطهارة بمجرّد احتمال وجود النجاسة حال الصلاة ) .

إذن : فمجرد احتمال النجاسة حال الصلاة لا يكفي لنقض اليقين بالطهارة قبل الصلاة ، لأن المفروض : ان اليقين بالنجاسة قد حصل من وجود النجاسة بعد الصلاة ، فلا يقين بحصول النجاسة قبل الصلاة ، ولا في أثنائها ، فيستصحب الطهارة قبل الصلاة ويستمر الاستصحاب حتى بعد الصلاة ، فلا اعادة إذن ، للاستصحاب .

( وهذا الوجه ) الثاني من تعليل عدم وجوب الاعادة للاستصحاب كما رأيت ( سالم ممّا يرد على ) الوجه ( الأوّل ) من إشكال : إنه نقض اليقين باليقين لا نقض اليقين بالشك وغير ذلك ( إلاّ أنّه ) مصاب من جهة أخرى باشكالين هما كالتالي :

أولاً : إن هذا الفرض على الوجه الثاني هو ( خلافُ ظاهر السؤال ) فإن ظاهر السؤال في الرواية هو : ان النجاسة التي رآها بعد الصلاة هي التي شك فيها أولاً بحيث لم يحتمل معها وقوع النجاسة بعد الصلاة .

ثانيا : إن عدم وجوب الاعادة حتى على هذا الوجه إنّما هو لموافقة الأمر وليس للاستصحاب .

( نعم ، مورد قوله عليه السلام أخيرا : « فليس ينبغي لك » (1) ، الى آخره ، هو الشك

ص: 246


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب109 ح13 ، علل الشرائع : ج2 ص59 ح1 ، وسائل الشيعة : ج3 ص482 ب24 ح4236 .

في وقوعه أوّلَ الصلاة أو حين الرؤية ، ويكون المراد من قطع الصلاة الاشتغال عنها بغسل الثوب مع عدم تخلّل المنافي لا إبطالها ، ثم البناء عليها الذي هو خلاف الاجماع ، لكن تفريع عدم نقض اليقين على احتمال تأخّر الوقوع

-------------------

في وقوعه أوّل الصلاة أو حين الرؤية ) أي: في الأثناء فيندفع به حينئذ الاشكال الأوّل: من إنه خلاف ظاهر السؤال ، إلاّ إنه يبقى الاشكال الثاني على حاله ، وهو : ان عدم وجوب الاعادة ، إنّما يكون لموافقة الأمر لا للاستصحاب على ما مرّ سابقا .

( و ) كيف كان : فإنه ( يكون المراد من قطع الصلاة ) على الوجه الثاني هو : ( الاشتغال عنها ) بأن يترك الصلاة تركا موقتا ويشتغل ( بغسل الثوب مع عدم تخلّل المنافي ) كما إذا كان حوض من الماء الكرّ أمامه وتمكن أن يغسل ثوبه فيه حيث لايكون ذلك من الفعل الكثير الماحي لصورة الصلاة .

إذن : فالمراد من قطع الصلاة حينئذ هو الاشتغال عنها ( لا إبطالها ) بارتكاب المنافي لها ( ثم البناء عليها ) أي : على الصلاة ، وذلك بأن يأتي ببقية الصلاة بعد إبطالها ( الذي هو ) أي : البناء بعد الابطال ( خلاف الاجماع ) فإن الاجماع قام على عدم صحة البناء على الصلاة بعد إبطالها ، بل يجب الاستيناف بعد الابطال .

( لكن ) مع هذا كلّه لا يستفاد من هذه الفقرة حينئذ حجية الاستصحاب مطلقا ، بل تختص حجيته على ذلك بباب الطهارة فقط .

وإنّما لا يستفاد منها ذلك ، لأن ( تفريع عدم نقض اليقين على احتمال تأخّر الوقوع ) وذلك في قوله عليه السلام : « لعلّه شيء أوقع عليك » حيث فرّع عليه قوله : « فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك » ، فإنّ هذا التفريع بحرف الفاء

ص: 247

يأبى عن حمل اللام على الجنس ، فافهم .

ومنها صحيحة ثالثة لزرارة :

-------------------

ممّا ( يأبى عن حمل اللام على الجنس ) بل يكون للعهد ، فيختص بحجية الاستصحاب في باب الطهارة فقط .

والحاصل : إن الإمام عليه السلام قال في جواب من رأى نجاسة بعد الصلاة : إنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك ، ثم فرّع عليه قوله : « فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك » وهذا التفريع يأبى عن أن يكون اللام في اليقين للجنس حتى يفيد العموم ويصير دليلاً على الاستصحاب مطلقا .

بل الظاهر إنّ اللام فيه للعهد ، لأنّ اللام في الفرع غالبا يكون إشارة الى الأصل ، فالمعنى : ليس ينبغي لك نقض اليقين بطهارتك بالشك .

إذن : فلا يكون هنا عموم حتى يقال : إنه يدل على حجية الاستصحاب مطلقا .

( فافهم ) ولعله إشارة الى إنه لو لم يكن مراد الإمام عليه السلام من التعليل في الرواية : تأسيس قاعدة كلّية ، لزم تعليل الشيء بنفسه لا بأمر مرتكز عند العقلاء ، مع إنه إنّما يصح التعليل هنا بأن يكون بأمر ارتكازي عقلائي وهو : قاعدة كلّية لحجية الاستصحاب مطلقا ، أمّا تعليل الشيء بنفسه : فهو خلاف البلاغة ، كما أشرنا الى مثل ذلك في الرواية السابقة .

( ومنها ) أي : من الأخبار المستفيضة الدالّة على الاستصحاب : ( صحيحة ثالثة لزرارة ) وهي مروية عن أحد الباقرين عليهماالسلام ، فإنه قال : قلت له : من لم يدرِ في أربع هو أم في ثنتين وقد أحرز ثنتين ؟ قال عليه السلام : ليركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهد ولا شيء عليه ثم أضاف :

ص: 248

« وإذا لم يَدْرِ في ثلاثٍ هو أو في أربعٍ وقد أحرز الثلاثَ ، قامَ فأضاف اليها أخرى ولا شيء عليه ، ولا يَنقُضُ اليقينَ بالشك ، ولا يُدخِل الشكَّ في اليقين ، ولا يُخَلِّطُ أحدهُما بالآخر ، ولكنّه ينقُضُ الشكّ باليقينِ ويُتمُّ على اليقين فيَبني عليه ولا يعتدُّ بالشكِّ في حالٍ من الحالات » .

وقد تمسّك بها في الوافية ، وقرّره الشارحُ وتبعه جماعةٌ ممّن تأخّر عنه .

وفيه تأمّل ،

-------------------

( « وإذا لم يَدْرِ في ثلاثٍ هو أو في أربعٍ وقد أحرز الثلاثَ ) بمعنى : إن المشكوك هي الركعة الرابعة فقال عليه السلام : ( قامَ فأضاف اليها أخرى ) وسيأتي : إن المراد ركعة احتياطية منفصلة لا ركعة متصلة .

ثم قال عليه السلام : ( ولا شيء عليه ) بعدها ، فلا يحتاج الى الاعادة بعد ذلك ( ولا ينقُض اليقينَ بالشك ، ولا يُدخِل الشكَّ في اليقين ، ولا يُخَلِّطُ أحدهُما بالآخر ، ولكنّه ينقُضُ الشكّ باليقينِ ويُتمُّ على اليقين فيَبني عليه ) أي : على اليقين ( ولا يعتدُّ بالشكِّ في حالٍ من الحالات » (1) ، و ) هذه الرواية ( قد تمسّك بها في الوافية ، وقرّره الشارحُ وتبعه جماعةٌ ممّن تأخّر عنه ) حيث قالوا : إنها تدلّ على حجية الاستصحاب .

( وفيه تأمّل ) لأن هذه الرواية : إما هي ظاهرة في خلاف الاستصحاب ، وإمّا هي محتملة للاستصحاب ولغير الاستصحاب بحيث تكون مجملة ، وفي كلتا الصورتين لا يمكن التمسك بها للاستصحاب .

اللّهم إلاّ أن يقال : أن الرواية تدلّ على لزوم العمل باليقين دائما وإن اختلفت

ص: 249


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

لأنّه إن كان المرادُ بقوله عليه السلام : « قام فأضاف اليها أخرى » : القيام للركعة الرابعة من دون تسليم في الركعة المردّدة بين الثالثة والرابعة ، حتى يكون حاصل الجواب هو البناء على الأقل ، فهو مخالف للمذهب وموافق لقول العامّة ،

-------------------

موارده ، فالعمل باليقين في مورد الاستصحاب ، هو الأخذ بالحالة السابقة ، والعمل باليقين في مورد الرواية هو ركعة الاحتياط .

إذن : فالرواية اشتملت على كبرى كلّية تشمل الاستصحاب وغير الاستصحاب ، وصغرى جزئية هي الاحتياط في مورد الصلاة ، ولعل هذا الاحتمال هو الظاهر من الرواية عرفا .

وكيف كان : فإن المصنِّف قد احتمل في هذه الرواية احتمالات ، وانتهى بالاخرة الى التأمل في دلالتها على الاستصحاب .

وإنّما انتهى الى ذلك ( لأنّه إن كان المرادُ بقوله عليه السلام : « قام فأضاف اليها أخرى » : القيام للركعة الرابعة من دون تسليم في الركعة المردّدة بين الثالثة والرابعة حتى يكون حاصلُ الجواب ) منه عليه السلام ( هو البناء على الأقل ) كما هو مقتضى الاستصحاب لأن الأقل متيقن والرابعة مشكوكة ، فيستصحب عدم الاتيان بالرابعة ، فيأتي بالركعة الرابعة متصلة ، فإنه إن كان هذا هو المراد من الرواية ورد عليه ما يلي :

أولاً : ( فهو مخالفٌ للمذهب ) لأن فقهاء الشيعة ذهبوا الى إنه لا يستصحب في الصلاة ، وإنّما يأتي بالركعة الاحتياطية أو بالركعتين الاحتياطيتين منفصلة عن الصلاة .

ثانيا : ( وموافقٌ لقول العامّة ) حيث إن العامة قالوا بالاستصحاب في الصلاة ،

ص: 250

ومخالف لظاهر الفقرة الاُولى من قوله عليه السلام : « يركع ركعتين بفاتحة الكتاب » ، فإنّ ظاهره بقرينة تعيين الفاتحة إرادة ركعتين منفصلتين ، أعني : صلاة الاحتياط ، فتعيّن أن يكون المرادُ به : القيامَ

-------------------

فإذا كانت هذه الرواية مخالفة للمذهب وموافقة للعامة ، فلابد من حملها على التقيّة مع العلم بأن الأصل عدم التقية ما دام يمكننا توجيه الرواية بما يوافق المذهب .

ثالثا : ( ومخالفٌ ) أيضا ( لظاهر الفقرة الاُولى من قوله عليه السلام : « يركع ركعتين بفاتحة الكتاب » ) على ما عرفت في صدر الرواية .

وإنّما يكون مخالفا لظاهر الصدر لأنه كما قال : ( فإنّ ظاهره ) أي : ظاهر الصدر في الرواية ( بقرينة تعيين الفاتحة ) وعدم التخيير بينها وبين التسبيحات ( إرادة ) البناء على الأكثر في الشك بين الثنتين والأربع ثم يسلّم وبعد التسليم يصلّي ( ركعتين منفصلتين ، أعني : صلاة الاحتياط ) .

وعليه : فكما إنه إذا شك بين الثنتين والأربع يسلّم ثم يأتي بركعتي الاحتياط بعد الصلاة كل ركعة بفاتحة الكتاب ، كذلك إذا شك بين الثلاث والأربع يتمّ ويأتي بركعة الاحتياط بعد الصلاة بفاتحة الكتاب .

إذن : فصدر الرواية يكون قرينة على ان المراد باليقين هو : أن يعمل عملاً يتيقن منه بصحة صلاته ، لا ان المراد هو الاستصحاب .

وعليه : فلا يمكن الاستدلال بهذه الرواية على حجية الاستصحاب مطلقا .

إذن : فلا يصح أن يكون المراد بقوله عليه السلام : قام فأضاف اليها أخرى القيام

للركعة الرابعة من دون تسليم ، وإذا كان كذلك ( فتعيّن أن يكون المرادُ به : القيامَ

ص: 251

بعد التسليم في الركعة المردّدة الى ركعة مستقلّة ، كما هو مذهب الاماميّة .

فالمراد باليقين كما في اليقين الوارد في الموثَّقة الآتية ، على ما صرح به السيد المرتضى واستفيد من قوله عليه السلام ، في أخبار الاحتياط : « إن كنتَ قد نقضت فكذا ، وإن كنت قد أتممت فكذا » ،

-------------------

بعد التسليم في الركعة المردّدة ) وذلك بأن يقوم بعد التسليم ( الى ركعة مستقلّة ) يقرء فيها الحمد ( كما هو مذهب الاماميّة ) .

وعليه : ( فالمراد باليقين ) في قوله عليه السلام : « ولا ينقض اليقين » الى آخره : ليس هو اليقين السابق بعدم الاتيان بالأكثر ، لأن مقتضى ذلك اليقين الاستصحابي هو : أن يأتي بالركعة متصلة لا منفصلة ، بينما المراد به هنا أن يأتي بالركعة منفصلة لامتصلة .

إذن : فالمراد باليقين في الرواية هو ( - كما في اليقين الوارد في الموثَّقة الآتية ) عند قوله عليه السلام : « إذا شككت فأبْنِ على اليقين » (1) حيث أريد باليقين : أن يأتي بالركعة منفصلة ( على ما صرح به السيد المرتضى واستفيد من قوله عليه السلام في أخبار ) صلاة ( الاحتياط : « إن كنتَ قد نقضت فكذا ، وإن كنت قد أتممت فكذا » (2) ) .

والحاصل : إن المتردّد بين الثلاث والأربع - مثلاً - يبني على الأكثر ويتمّ الصلاة ، ثم يأتي بركعة احتياط منفصلة وتصح صلاته على كل حال ، بخلاف ما إذا بنى على الأقل وأتى بركعة متصلة ، وذلك لأنه إن أتى بالركعة منفصلة : فإن كان سلّم على الثلاث إلتحقت هذه الركعة المنفصلة بالثلاث فتمّت أربع ركعات وصحّت صلاته ، وإن كان سلَّم على الأربع كانت هذه الركعة نافلة ، فتصح صلاته على التقديرين .

ص: 252


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص351 ح1025 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10452 .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص349 ب13 ح36 ، وسائل الشيعة : ج8 ص213 ب8 ح10453 .

هو اليقين بالبرائة ، فيكون المراد وجوب الاحتياط وتحصيل اليقين بالبرائة ، بالبناء على الأكثر وفعل صلاة مستقلّة قابلة لتدارك ما يحتمل نقصه .

وقد اُريد من اليقين والاحتياط في غير واحد من الأخبار

-------------------

بخلاف ما إذا استصحب الأقل وأتمّ الصلاة بالركعة متصلة ، فإنه لا تصح صلاته على كل حال ، لأنه يحتمل أن يكون قد أتى حين الشك بأربع ركعات ، فتكون هذه الركعة المتصلة موجبة لأن تكون صلاته خمس ركعات وهي باطلة .

إذن : فالمراد باليقين في الرواية : التيقّن بوقوع الصلاة صحيحة على كل حال .

وعليه : فقد ظهر : أن اليقين في الرواية ليس هو الاستصحاب ، بل ( هو اليقين بالبرائة ) على كل حال ( فيكون المراد وجوب الاحتياط ) بركعة منفصلة ( وتحصيل اليقين بالبرائة بالبناء على الأكثر ) في داخل الصلاة .

مثلاً : إذا شك بين الثلاث والأربع بنى على الأربع وأتمّ الصلاة ثم أتى بركعة منفصلة ، وهذه الطريقة لا تضرّ بصلاته بل تتدارك نقصانها كما قال :

( وفعل صلاة مستقلّة ) وهي الركعة الاحتياطية ( قابلة لتدارك مايحتمل نقصه ) لأن المحتمل نقصه في المقام هو ركعة ، فإذا كان في الواقع صلاته ناقصة التحقت هذه الركعة الاحتياطية المنفصلة بالثلاث التي أتى بها فصارت أربع ركعات وتمّت صلاته .

( و ) هذا المعنى مع قطع النظر عن إنه موافق لمذهب الشيعة ، بخلاف إرادة الاستصحاب الذي هو مطابق لمذهب العامة في باب ركعات الصلاة ، هو الذي ( قد اُريد من اليقين والاحتياط في غير واحد من الأخبار ) أي : من أخبار صلاة الاحتياط .

ص: 253

هذا النحو من العمل ، منها : قوله عليه السلام في الموثّقة الآتية : « إذا شككت فابْنِ على اليقين » .

فهذه الأخبار الآمرة بالبناء على اليقين وعدم نقضه ، يراد منها : البناء على ما هو المتيقن من العدد ، والتسليم عليه مع جبره بصلاة الاحتياط .

ولهذا

-------------------

وعليه : فاليقين في اخبار الاحتياط أريد به ( هذا النحو من العمل ) وهو الاتيان بركعة منفصلة والتي ( منها : قوله عليه السلام في الموثّقة الآتية : « إذا شككت فابْنِ على اليقين » (1) ) فإنه قد فسّر في الفقه بما ذكرناه : من ركعة الاحتياط المنفصلة .

إذن : ( فهذه الأخبار الآمرة بالبناء على اليقين ) كالموثقة وغيرها ( وعدم نقضه ) كالصحيحة الثالثة لزرارة (2) وغيرها ( يراد منها : البناء على ما هو المتيقن من العدد ) كالثلاث حيث كان الشك بين الثلاث والأربع ( والتسليم عليه ) أي : على هذا المتيقّن ( مع جبره بصلاة الاحتياط ) .

ومن المعلوم : إن مراد المصنِّف من البناء على ما هو المتيقن من العدد ، ليس هو البناء على الأقل ، بل هو البناء على مكان الشك ، ولذلك لو غيّر العبارة فقال : هذه الأخبار يراد منها البناء على الأكثر والتسليم عليه ثم جبره بصلاة الاحتياط ، لكان أوضح .

( ولهذا ) أي : لكون هذا العمل وهو : التسليم في مورد الشك ثم اضافة ركعة

ص: 254


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص351 ح1025 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10452 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

ذكر في غير واحد من الأخبار ما يدلّ على أنّ العمل مُحْرِزٌ للواقع ، مثل: قوله عليه السلام : « ألا اُعَلِمُكَ شيئا إذا فعلته ، ثمّ ذكرت أنّك نقصت أو أتممت لم يكُن عليك شيءٌ » .

وقد تصدّى جماعةٌ تبعا للسيد المرتضى ، لبيان أنّ هذا العمل هو الأخذُ باليقين والاحتياط دون ما يقوله العامّة من البناء على الأقل . ومبالغةُ الإمام عليه السلام ، في هذه الصحيحة بتكرار عدم الاعتناء بالشك ، وبتسمية ذلك في غيرها

-------------------

أخرى منفصلة هو المراد ( ذكر في غير واحد من الأخبار ما يدلّ على أنّ ) هذا ( العمل مُحْرِزٌ للواقع ) وأن المصلّي يقطع معه بأنه قد صلّى أربع ركعات مثلاً عند الشك بين الثلاث والأربع ، وذلك ( مثل : قوله ) عليه السلام في الرواية التالية : ( « ألا اُعَلِمُكَ شيئا إذا فعلته ثمّ ذكرت أنّك نقصت أو أتممت لم يكُن عليك شيءٌ » (1) ) ثم علّمه عليه السلام هذه الطريقة بأن يسلّم في موضع الشك ، ثم يضيف ركعة منفصلة .

( وقد تصدّى جماعة ) من الفقهاء ( تبعا للسيد المرتضى ، لبيان أنّ هذا العمل ) أي : السلام في موضع الشك ثم الاتيان بركعة منفصلة ( هو الأخذُ باليقين والاحتياط ) يعني : هو الذي يكون مقتضى الاحتياط .

( دون ما يقوله العامّة من ) الاستصحاب وهو : ( البناء على الأقل ) فإن العامة يقولون : إذا شك المصلّي بين الثلاث والأربع يبني على أنه قد صلّى ثلاث فقط ، فيأتي بالركعة الرابعة متصلة للاستصحاب .

هذا ( ومبالغةُ الإمام عليه السلام في هذه الصحيحة بتكرار عدم الاعتناء بالشك ) حيث ذكره سبع مرات ( و ) كذا مبالغته عليه السلام ( بتسمية ذلك ) العمل ( في غيرها )

ص: 255


1- - تهذيب الأحكام : ج2 ص349 ب13 ح36 ، وسائل الشيعة : ج8 ص213 ب8 ح10453 .

بالبناء على اليقين ، والاحتياط ، يُشعِرُ بكونه في مقابل العامّة الزاعمين بكون مقتضى البناء على اليقين هو البناء على الأقل وضمّ الركعة المشكوكة .

-------------------

أي : غير الصحيحة من سائر أخبار شكوك الصلاة ( بالبناء على اليقين ، و ) بأنه مقتضى ( الاحتياط ، يُشعِرُ بكونه في مقابل العامّة الزاعمين بكون مقتضى البناء على اليقين هو : البناء على الأقل وضمّ الركعة المشكوكة ) الى الصلاة متصلة .

وعليه : فإن كل ذلك يشير الى أنّ مراد الإمام عليه السلام هو التأكيد في قبال العامّة وإلاّ لم يكن احتياجا الى تكرار هذا المطلب بهذه الكثرة .

إذن : فالبناء إن كان على الأقل وإتيان ركعة متصلة فهو بناء على اليقين بمعنى اليقين السابق الاستصحابي ، لا بمعنى اليقين بالبرائة ، وإن كان على الأكثر وإتيان ركعة احتياط منفصلة بعد التسليم فهو بمعنى البناء على اليقين بالبرائة .

وعليه : فمعنى الحديث حينئذ واللّه أعلم : لا ينقض اليقين بأن عليه أربع ركعات بالشك في أنه أتى بأربع أو خمس ، ولا يدخل الشك من الركعة المشكوكة في اليقين الذي هو أربع ركعات ، ولا يخلط المشكوك بالمتيقن والمتيقن بالمشكوك ، ولكنه ينقض الشك في الرابعة باليقين باتيانها منفصلة ، ويتم على اليقين بأن يتيقن أنه أتى بأربع ركعات صحيحة ، فيبني على اليقين وأنه أتى بأربع ركعات من دون زيادة أو نقيصة ، وذلك يكون بالركعة المنفصلة ، ولا يعتدّ بالشك بما هو مشكوك أبدا ، لأن المكلّف به اليقيني يحتاج الى البرائة اليقينية .

وربّما يقال : ان فقرات محل البحث ذكرت مكررا سبع مرات ثلاث منها سِلْبيّات وهي : لا يدخل الشك في اليقين ، ولا اليقين في الشك ، ولا أحدهما

ص: 256

ثم لو سلّم ظهور الصحيحة في البناء على الأقل المطابق للاستصحاب ، كان هناك صوارفُ عن هذا الظاهر ، مثل تعيّن حملها حينئذ على التقيّة ، وهو مخالف للأصل .

ثم ارتكاب الحمل على التقيّة

-------------------

في الآخر ، وثلاث منها إيجابيات وهي : يجعل الشك في محله ، واليقين في محله ، وكل واحد منهما في محله .

ومن المعلوم : إن الفقرة الثالثة من الايجابيات والثالثة من السلبيات تأكيد للفقرتين السابقتين عليهما .

ثم ذكر عليه السلام في السابع قاعدة كلية حيث قال : ولا يعتدّ بالشك في حال من الحالات .

( ثم ) إنك قد عرفت : أن المصنِّف لا يرى للصحيحة ظهورا في الاستصحاب أصلاً ، بل يقول بظهورها في اليقين بالبرائة في باب صلاة الاحتياط على التقرير المتقدم ، ولذلك قال : و ( لو سلّم ظهور الصحيحة ) الثالثة لزرارة ( في البناء على الأقل المطابق للاستصحاب ، كان هناك صوارفُ عن هذا الظاهر ) وقرائن توجب اختصاص الصحيحة بقاعدة اليقين في باب الركعات دون الاستصحاب ، والقرائن الصارفة هي كالتالي :

القرينة الاُولى هي ما أشار اليه المصنِّف بقوله : ( مثل تعيّن حملها حينئذ على التقيّة ) أي : لو فرضنا إنها تدلّ على الاستصحاب لوجب أن نحملها على التقية ( وهو مخالف للأصل ) فإن الأصل في كلام الشارع أن يكون لبيان الحكم واقعا ، لا لبيان الحكم تقيةً .

القرينة الثانية : هي ما أشار اليها بقوله : ( ثم ارتكاب الحمل على التقيّة

ص: 257

في مورد الرواية ، وحمل القاعدة المستشهد بها لهذا الحكم المخالف للواقع على بيان الواقع ، ليكون التقيّة في اجراء القاعدة في المورد ، لا في نفسها ، مخالفةٌ أخرى للظاهر وإن كان ممكنا في نفسه .

مع أنّ هذا المعنى مخالفٌ لظاهر صدر الرواية الآبي عن الحمل على التقيّة ،

-------------------

في مورد الرواية ، وحمل القاعدة ) وهي : عدم نقض اليقين بالشك ( المستشهد بها لهذا الحكم المخالف للواقع على بيان الواقع ليكون التقيّة ) في الحكم و ( في اجراء القاعدة في المورد ، لا في نفسها ) أي : لا في نفس القاعدة ( مخالفةٌ أخرى للظاهر ) .

وإنّما يكون ذلك مخالفة أخرى للظاهر ، لأن الظاهر هو : إنطباق الكبرى في الرواية على الصغرى فيها ، بينما يقول المستدلّون بهذه الرواية للاستصحاب : إن الكبرى صحيحة لكن الصغرى من باب التقية بمعنى : إن الصغرى ليست صغرى لهذه الكبرى وإنّما جاء بها الإمام عليه السلام لهذه الكبرى من باب التقية .

وعليه : فإن هذا الحمل ( وإن كان ممكنا في نفسه ) إلاّ أنه خلاف الظاهر فهو مثل أن يقول شخص : زيد إمام والإمام مفروض الطاعة ، ويكون كبراه صحيحا لأن الإمام مفروض الطاعة ، لكن يكون صغراه تقية لأن زيدا ليس بامام ، وهذا كما ترى خلاف الظاهر .

القرينة الثالثة : هي ما أشار اليه بقوله : ( مع أنّ هذا المعنى ) أي : البناء على الأقل حسب مقتضى الاستصحاب ( مخالفٌ لظاهر صدر الرواية الآبي ) ذلك الصدر ( عن الحمل على التقيّة ) فقد سبق في صدر الرواية تعيين فاتحة الكتاب بالنسبة الى الشك بين الاثنتين والأربع ، وتعيين فاتحة الكتاب ظاهر في إن المراد

ص: 258

مع أنّ العلماء لم يفهموا منها إلاّ البناء على الأكثر ، الى غير ذلك مما يُوهِن إرادة البناء على الأقل .

وأمّا إحتمال : « كون المراد من عدم نقض اليقين بالشك

-------------------

هو : الركعتان المنفصلتان .

القرينة الرابعة : هي ما أشار اليه بقوله : ( مع أنّ العلماء لم يفهموا منها ) أي : من هذه الصحيحة ( إلاّ البناء على الأكثر ) لا البناء على الأقل الذي هو مقتضى الاستصحاب .

( الى غير ذلك ) من القرائن التي تؤيد : أن المراد باليقين هنا اليقين في باب الركعات لا اليقين في باب الاستصحاب فتكون الصحيحة مثل سائر الأخبار الواردة في شكوك الصلاة الآمرة بالبناء على الأكثر ( مما يُوهِن إرادة البناء على الأقل ) والأخذ بالاستصحاب .

ثم إنه قد تقدّم : إن الرواية مُحتملة للاستصحاب ، ومُحتملة لقاعدة اليقين في الصلاة ، وقلنا : أن الاحتمال الأوّل خلاف مذهب الشيعة ، فيتعين الحمل على الاحتمال الثاني ، وقد ذكر الفصول احتمالين آخرين :

الأوّل : أن يكون المراد بالصحيحة : كلاً من الاستصحاب والاتيان بركعة منفصلة .

الثاني : أن يكون المراد بها : الاستصحاب مطلقا في غير الصلاة وقاعدة اليقين في الصلاة خاصة .

هذا ، لكن المصنِّف مَنَعَ كلا الاحتمالين مشيرا الى الاحتمال الأوّل بقوله :

( وأمّا إحتمال : « كون المراد من عدم نقض اليقين بالشك ) هو : وجوب البناء على الأقل لأجل الاستصحاب بمعنى :

ص: 259

عدم جواز البناء على وقوع المشكوك بمجرّد الشكّ ، كما هو مقتضى الاستصحاب ، فيكون مفادُه عدم جواز الاقتصار على الركعة المردّدة بين الثالثة والرابعة .

-------------------

( عدم جواز البناء على وقوع المشكوك ) وتحققه خارجا ( بمجرّد الشكّ ، كما هو مقتضى الاستصحاب ) فإنه لا يجوز البناء على الأكثر ، والتسليم عليه بلا تدارك ، وإذا لم يجز ذلك تعيّن البناء على الأقل وهو معنى الاستصحاب .

إذن : فالصحيحة تشير الى البناء على الأقل ، ومذهب الامامية استقرَّ على البناء على الأكثر ويمكن الجمع بينهما إذ لا منافاة بين حمل الصحيحة على اعتبار الاستصحاب كلّية حتى في مورد الرواية مما يسبب حجية الاستصحاب مطلقا ، وبين ما استقر عليه مذهب الامامية من الاتيان بصلاة الاحتياط بأن يكون معنى الصحيحة هكذا :

بنى على الثلاث وسلّم عليه ، ثم قام فأضاف إليها ركعة أخرى منفصلة ، ولاينقض اليقين السابق بأنه صلّى ثلاث ركعات بالشك اللاحق في الرابعة ، ولا يخلط الركعة المشكوكة التي هي الرابعة بالمتيقّن ، بل يأتي بها منفصلة ، فتكون الرواية على ذلك متعرّضة لكبرى كلّية هي الاستصحاب ، وصغرى في باب الصلاة مبنيّة على تلك الكبرى الكلّية .

وعليه : ( فيكون مفادُه ) أي : مفاد عدم نقض اليقين بالشك هو : ( عدم جواز الاقتصار على الركعة المردّدة بين الثالثة والرابعة ) فليس له أن يتمّ الصلاة بدون أن يأتي بشيء آخر ، لأن هذا هو خلاف الاستصحاب الذي يقول بأنه لم يأت بالركعة الرابعة .

ص: 260

وقوله : « لا يُدخِلُ الشكّ في اليقين » يرادُ به : أنّ الركعة المشكوك فيها المبني على عدم وقوعها لا يضمّها الى اليقين ، أعني : القدر المتيقّن من الصلاة ، بل يأتي بها مستقلّة على ما هو مذهب الخاصة » .

ففيه : من المخالفة لظاهر الفقرات السِتّ أو السبع ما لا يخفى على المتأمل .

-------------------

( و ) أما ( قوله : « لا يُدخِلُ الشكّ في اليقين » (1) ) فليس هو تأكيدا لعدم النقض ، بل ( يراد به : أنّ الركعة المشكوك فيها المبني على عدم وقوعها ) بالاستصحاب ( لا يضمّها الى اليقين أعني : القدر المتيقّن من الصلاة ) فلا يأتي بركعة رابعة متصلة ( بل يأتي بها مستقلّة على ما هو مذهب الخاصة » ) .

إذا كان هذا هو المراد منه ( ففيه : من المخالفة لظاهر الفقرات السِتّ ) وقال : الفقرات السِتّ ، بناءا على أن قوله : فيبني على اليقين متفرّع على سابقه ولم يكن فقرة مستقلة ( أو السبع ) بناءا على إنه فقرة مستقلة ( ما لا يخفى على المتأمل ) .

وإنّما فيه ما لا يخفى لأن الظاهر : كون جميع الفقرات بمعنى واحد ، وذلك بأن تكون الفقرات المتأخرة تأكيدا للفقرات المتقدّمة ، أما على هذا الاحتمال فتكون الفقرة الاُولى ناظرة الى حرمة نقض اليقين السابق ، والفقرة الثانية ناظرة الى وجوب صلاة الاحتياط منفصلة ، وهذا خلاف سياق الفقرات ، لأن السياق يعطي وحدة المستفاد منها ، وان بعضها تأكيدا لبعض ، لا ان بعضها حكم مستقل وبعضها الآخر مستقل آخر .

ص: 261


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

فإنّ مقتضى التدبّر في الخبر أحدُ معنيين ، أمّا الحملُ على التقيّة ، وقد عرفت : مخالفته للاصول والظواهر ؛ وأمّا حملُه على وجوب تحصيل اليقين بعدد الركعات على الوجه الأحوط .

وهذا الوجه وإن كان بعيدا في نفسه ، لكنّه منحصرٌ بعد عدم إمكان الحمل على ما يطابق الاستصحاب ، ولا أقلّ من مساواته لما ذكره هذا القائل ،

-------------------

وعليه : ( فإنّ مقتضى التدبّر في الخبر أحدُ معنيين ) مقتبس من جميع فقراته وهو كما قال :

( أمّا الحملُ على التقيّة ) كما تقدّم سابقا ، بأن يراد به : البناء على الأقل وضمّ الركعة الى تلك الركعات المُتيقّنة والأخذ بمقتضى الاستصحاب كما يقوله العامّة ( وقد عرفت : مخالفته للاصول والظواهر ) إذ الأصل كون اللفظ مسوقا لبيان الحكم الواقعي لا للاستصحاب المحمول على التقية ، كما إن الظاهر على ما عرفت في هذا الخبر وفي غير هذا الخبر : إفادة قاعدة الاحتياط لا قاعدة الاستصحاب .

( وأمّا حملُه على وجوب تحصيل اليقين بعدد الركعات على الوجه الأحوط ) بأن يبني على الأكثر ويأتي بصلاة الاحتياط بعد السلام ( وهذا الوجه وإن كان بعيدا في نفسه ) لظهور لا تنقض في الاستصحاب لأنه يشبه سائر روايات الاستصحاب ، وعدم ظهوره في اليقين بالبرائة ( لكنّه منحصرٌ ) فيه ( بعد عدم امكان الحمل على ما يطابق الاستصحاب ) لما عرفت : من أنه مخالف للاصول والظواهر .

( و ) إن أبيت ذلك ، فإنه ( لا أقلّ من مساواته لما ذكره هذا القائل ) من البناء

ص: 262

فيسقط الاستدلال بالصحيحة ، خصوصا على مثل هذه القاعدة .

وأضعف من هذا دعوى : « أنّ حملها على وجوب تحصيل اليقين في الصلاة بالعمل على الأكثر ، والعمل على الاحتياط بعد الصلاة ، على ما هو فتوى الخاصة ، وصريح أخبارهم الاُخر لا ينافي إرادة العموم من القاعدة لهذا ، وللعمل على اليقين السابق في الموارد الأُخر » .

-------------------

على الأقل وصلاة الاحتياط فتكون الرواية على ذلك مجملة ولا يمكن الاستدلال بها على الاستصحاب .

وعلى أيّ حال : فسواء كانت الرواية بقرينة خارجية ظاهرة في قاعدة اليقين في باب الصلاة ، أم مجملة محتملة لقاعدة اليقين في باب الصلاة أو الاستصحاب ( فيسقط الاستدلال بالصحيحة ) لاجمالها ( خصوصا على مثل هذه القاعدة ) أي : قاعدة الاستصحاب التي هي من القواعد الاصولية المهمّة .

( وأضعف من هذا ) الاحتمال الذي ذكره الفصول في الرواية احتمال ثان للفصول أيضا وهو الاحتمال الرابع حسب ما ذكره المصنِّف حيث تدلّ الرواية بسبب هذا الاحتمال على الاستصحاب أيضا ، وهو كما قال : ( دعوى : « أنّ حملها على وجوب تحصيل اليقين في الصلاة بالعمل على الأكثر ، والعمل على الاحتياط بعد الصلاة ، على ما هو فتوى الخاصة ، وصريح أخبارهم الاُخر ) فإن هذا الحمل ( لا ينافي إرادة العموم من ) هذه ( القاعدة ) المذكورة في الرواية ، فتعمّ ( لهذا ) المورد وهو اليقين بالبرائة في الصلاة ( وللعمل على اليقين السابق في الموارد الأُخر » ) في غير الصلاة وهو الاستصحاب .

ص: 263

وسيظهر اندفاعُها ، بما سيجيء في الأخبار الآتية : من عدم إمكان الجمع بين هذين المعنيين في المراد من العمل على اليقين وعدم نقضه .

-------------------

إذن : فالرواية تدلّ على أمر عام يشمل قاعدة اليقين في الصلاة ، كما يشمل الاستصحاب في غير الصلاة ، وذلك بأن يراد من قوله عليه السلام : لا ينقض اليقين بالشك (1) : الأعمّ من حرمة نقض اليقين السابق بالشك اللاحق وهو الاستصحاب في غير الصلاة ، ومن حرمة نقض اليقين بالبرائة بالشك في البرائة وهو اليقين في الصلاة .

هذا ( وسيظهر اندفاعها بما سيجيء في الأخبار الآتية : من عدم إمكان الجمع بين هذين المعنيين في المراد من العمل على اليقين وعدم نقضه ) أي : عدم نقض اليقين بالشك على ما في الرواية .

إذن : فالمصنف لا يرى جامعا بين الاستصحاب في غير الصلاة ، وبين قاعدة اليقين في الصلاة حتى يتكفّله لفظ واحد ، وذلك لاختلاف المناط عنده فيهما ، فإن مناط أحدهما لحاظ الحالة السابقة ، ومناط الآخر هو دفع العقاب المحتمل .

هذا ، ولكن ذكرنا في أول هذا المبحث : أن مقتضى الظاهر هو الاحتمال الرابع ، بل لا نستبعد أن يراد بالرواية هذين الاحتمالين إضافة الى قاعدة اليقين أيضا ، فيكون المعنى : ان اليقين عند الشارع لا ينقض بالشك ، سواء في اليقين الاستصحابي ، أم في يقين قاعدة اليقين ، أم في يقين ركعات الصلاة ، غير إن الشارع أضاف في باب الركعات وجوب الاتيان بصلاة الاحتياط منفصلة .

وإن شئت قلت : إن كل ما ذكرناه في المراد من اليقين إنّما هو إرادة

ص: 264


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

وممّا ذكرنا ظهر : عدم صحة الاستدلال بموثّقة عمار عن أبي الحسن عليه السلام قال : « إذا شككت فابْنِ على اليقين . قلتُ : هذا أصلٌ ؟ قال : نعم » .

فإنّ جعل البناء على الأقل أصلاً ينافي ما جعله الشارع أصلاً في غير واحد من الأخبار :

-------------------

الاستصحاب المرتكز عند العقلاء ، سواء كان البناء على الحالة السابقة في الشك الساري أم في الشك الطاري ، وسواء كان في الصلاة أم في غير الصلاة .

نعم ، قال : أضاف الشارع بالنسبة الى الصلاة اتيان صلاة الاحتياط منفصلة ، بحيث إنه لو لم يقل الشارع ذلك كان بنائهم الاتيان بها متصلة .

( وممّا ذكرنا ) من ان المراد من اليقين في الصحيحة هو : اليقين بالبرائة في الصلاة فقط ، لعدم امكان ارادة اليقين السابق ، لأنه استصحاب ولا يقول به الخاصة في الصلاة ( ظهر : عدم صحة الاستدلال بموثّقة عمار عن أبي الحسن عليه السلام قال : « إذا شككت فابْنِ على اليقين ) فإن المراد باليقين هنا هو التسليم ثم الاتيان بالركعة المشكوكة أو الركعتين المشكوكتين بعد التسليم والخروج من الصلاة .

ثم قال : ( قلتُ : هذا أصلٌ ؟ قال : نعم » (1) ) ومعنى كونه « أصلاً » : انه يجري في الصلاة ، سواء كان الشك في ركعة أم في ركعتين ، وسواء كانت الصلاة ظهرا أم عصرا أم عشاءا وذلك فيما إذا كانت تلك الصلوات تماما لا قصرا .

وإنّما لا يصح الاستدلال بهذه الموثَّقة على الاستصحاب لما ذكره المصنِّف بقوله : ( فإنّ جعل البناء على الأقل أصلاً ) في هذه الموثَّقة دالاً على الاستصحاب (ينافي ما جعله الشارع أصلاً) دالاً على اليقين بالبرائة (في غير واحد من الأخبار)

ص: 265


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص351 ح1025 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10452 .

مثل قوله عليه السلام : « أجمَعُ لك السَّهو كُلَّه في كلمتين : متى شككت فابْنِ على الأكثر » ، وقوله عليه السلام فيما تقدّم : « ألا اُعلمك شيئا » الى آخر ما تقدّم .

فالوجهُ فيه : إمّا الحمل على التقيّة ،

-------------------

المرتبطة بشكوك الصلاة .

إذن : فما جعله الشارع أصلاً في غير واحد من أخبار شكوك الصلاة هو : التسليم على الأقل ثم الاتيان بالمشكوك في صلاة احتياط منفصلة ، فإذا كان المراد من اليقين في هذه الرواية الاستصحاب كان منافيا لتلك الروايات .

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إن المراد بهذه الموثَّقة أيضا الاستصحاب ، وإنّما يفهم انفصال الركعة من الروايات الأخر .

وعلى أي حال : فالمصنف يرى إن هذه الموثَّقة إذا حُمِلَتْ على الاستصحاب والبناء على الأقل تنافت مع الروايات الأخر الواردة في باب الصلاة القائلة بالبناء على الأكثر ( مثل قوله عليه السلام : « أجمَعُ لك السَّهو كُلَّه في كلمتين : متى شككت فابْنِ على الأكثر » (1) ، و ) كذا مثل ( قوله عليه السلام فيما تقدّم : « ألا اُعلمك شيئا » (2) الى آخر ما تقدّم ) .

وعليه : ( فالوجهُ فيه ) أي : في حديث عمّار (3) هو : ( إمّا الحمل على ) الاستصحاب وذلك بالحمل على الأقل من باب ( التقيّة ) وهو كما أشار اليه المصنِّف خلاف الأصل ، وخلاف فهم الأصحاب ، وكذا خلاف سائر الأخبار في باب الصلاة .

ص: 266


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص340 ح992 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10451 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص601 ح2 .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص349 ب13 ح36 ، وسائل الشيعة : ج8 ص213 ب8 ح10453 .
3- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص351 ح1025 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10452 .

وإمّا ما ذكره بعض الأصحاب في معنى الرواية : بارادة البناء على الأكثر ثم الاحتياط بفعل ما ينفع لأجل الصلاة على تقدير الحاجة ، ولا يضرّ بها على تقدير الاستغناء .

نعم ، يمكن أن يقال بعدم الدليل على اختصاص الموثَّقة بشكوك الصلاة ، فضلاً عن الشك في ركعاتها ، فهو أصل

-------------------

( وإمّا ما ذكره بعض الأصحاب في معنى الرواية : بارادة البناء على الأكثر ) فإذا شكّ بين الثلاث والأربع - مثلاً - يبني على الأربع ويتمّ الصلاة .

( ثم ) بعد الاتمام عليه ( الاحتياط بفعل ما ) يتيقّن معه بالبرائة ، وذلك لا يكون إلاّ باتيان ركعة منفصلة حيث ( ينفع لأجل الصلاة على تقدير الحاجة ) اليها فتكون الركعة المنفصلة متمّمة للصلاة ( ولا يضرّ بها على تقدير الاستغناء ) عنها فتكون الركعة المنفصلة نافلة خارجة عن الصلاة .

( نعم ، يمكن أن يقال بعدم الدليل على اختصاص الموثَّقة ) أي : موثَّقة عمّار (1) ( بشكوك الصلاة فضلاً عن الشك في ركعاتها ) أي : إن الصحيحة السابقة (2) وإن كانت بنظر المصنِّف خاصة بشكوك الركعات ، إلاّ أن الموثَّقة هذه لا دلالة فيها على اختصاصها بالشك في الصلاة أو في خصوص ركعات الصلاة .

وعليه : فلا مانع من حملها حينئذ على بيان قاعدة كلّية للاستصحاب .

إذن : ( فهو ) أي : البناء على اليقين في الموثَّقة الظاهر في الاستصحاب ( أصل

ص: 267


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص351 ح1025 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10452 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

كلّي خرج منه الشك في عدد الركعات ، وهي غير قادح .

لكن يَرِد عليه : عدم الدلالة على إرادة اليقين السابق على الشك ، ولا المتيقن السابق على المشكوك اللاحق .

فهو

-------------------

كلّي خرج منه الشك في عدد الركعات وهي ) أي : خروج الشك في عدد الركعات من هذه القاعدة الكلّية ( غير قادح ) إذ ما من عام إلاّ وقد خصّ ، وما من مطلق إلاّ وقد قيّد .

( لكن يَرِد عليه : عدم الدلالة على إرادة اليقين السابق على الشك ، ولا المتيقن السابق على المشكوك اللاحق ) وإذا لم يكن فيها ما يدلّل على أحدهما كانت الموثَّقة مُجملة لا يُعلم هل المراد بها الاستصحاب أو قاعدة اليقين؟ وسيأتي إن شاء اللّه تعالى الاستدلال لقاعدة اليقين بما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال : « من كان على يقين فشكّ فَلْيمض على يقينه » (1) .

وعليه : فإذا كانت الموثَّقة مُجملة فلا يمكن أن يتمسّك بها لا للاستصحاب ولا لقاعدة اليقين ، وقد تقدّم : ان مناط الاستصحاب هو : سبق المتيقن على المشكوك ، سواء تقدّم وصف اليقين على وصف الشك أيضا كما هو الغالب أم لا ؟ .

ومناط قاعدة اليقين هو : سبق وصف اليقين بشيء ولحوق وصف الشك في نفس ذلك المتيقن ، كما مثّلنا له سابقا باليقين بعدالة زيد يوم الجمعة والشك في يوم السبت بأنه هل كان عادلاً يوم الجمعة أم لا ؟ .

إذن : فالموثَّقة مُجملة على ما عرفت ، وإذا كان كذلك ( فهو ) أي : هذه الموثَّقة

ص: 268


1- - الخصال : ص619 ح10 ، وسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح636 .

أضعفُ دلالة من الرواية الآتية الصريحة في اليقين السابق ، لاحتمالها لارادة إيجاب العمل بالاحتياط ، فافهم .

ومنها : ما عن الخصال بسنده عن محمّد بن مسلم ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : قال أمير المؤمنين صلوات اللّه وسلامه عليه : « مَن كان على يقين فشكَّ فَلْيمض على يقينه ، فإنّ الشك لا ينقض اليقين » .

-------------------

تكون حينئذ ( أضعف دلالة ) على الاستصحاب ( من الرواية الآتية الصريحة في اليقين السابق ) المفيدة لقاعدة اليقين صراحة .

وإنّما كانت الموثَّقة أضعف دلالة من الرواية الآتية ( لاحتمالها ) أي : الموثَّقة ( لارادة ) اليقين بالبرائة في ركعات الصلاة فقط بمعنى : ( إيجاب العمل بالاحتياط ) على ما ذكرناه : من الاتيان بالركعة المنفصلة .

بخلاف الرواية الآتية فإنها ظاهرة في الشك الساري ، أو مردّدة بين الشك الطاري الاستصحابي ، والشك الساري الذي هو قاعدة اليقين ، كما سيأتي .

( فافهم ) ولعلّه إشارة الى ما ذكرناه : من أن الموثَّقة تشمل كل الثلاثة : الاستصحاب ، وقاعدة اليقين ، واليقين بالبرائة في الصلاة الذي هو من الاستصحاب أيضا غير أنه يلزم إنفصال صلاة الاحتياط بقرينة خارجية .

( ومنها ) أي : من الأخبار المستفيضة الدالّة على الاستصحاب : ( ما عن الخصال بسنده عن محمّد بن مسلم ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : قال أمير المؤمنين صلوات اللّه وسلامه عليه : « مَن كان على يقين فشكّ فَلْيمض على يقينه ، فإنّ الشك لا ينقض اليقين » (1) ) وهو يفيد الاستصحاب ، لأن الاستصحاب عبارة عن اليقين السابق والشك اللاحق .

ص: 269


1- - الخصال : ص619 ح10 ، وسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح636 .

وفي رواية أخرى عنه عليه السلام : « مَن كان على يقين فأصابه شكٌّ فليَمض على يقينه ، فإنّ اليقين لا يُدفَعُ بالشكِّ » .

وعدّها المجلسي في البحار في سلك الأخبار التي يستفاد منها القواعد الكلّية .

أقولُ : لا يخفى أنّ

-------------------

( وفي رواية أخرى عنه عليه السلام : « مَن كان على يقين فأصابه شكٌّ فليَمض على يقينه ، فإنّ اليقين لا يُدفَعُ بالشّك » (1) ) وتقريب دلالته مثل تقريب دلالة سابقه .

هذا ( و ) قد ( عدّها ) أي : عدّ هذه الرواية المروية على نحوين ( المجلسي في البحار في سلك الأخبار التي يستفاد منها القواعد الكلّية ) فإنّ بعض الأخبار وردت لبيان أمور جزئية ، وبعض الأخبار وردت لبيان قواعد كلّية ، ولهذا ورد عنهم عليه السلام : علينا الأصول وعليكم الفروع (2) .

مثلاً : قد يقول الإمام عليه السلام : « إذا شككت بين الثنتين والثلاث فابْنِ على الثلاث » (3)، فهذا لا يُفهم منه قاعدة كلّية مطردة في باب الصلاة والصوم والحج وغير ذلك .

وقد يقول : « ولا ينقض اليقين أبدا بالشك » (4) ، وهذا يفهم منه قاعدة كلّية مطردة في باب الطهارة والنجاسة والملكية وغيرها ؛ والمجلسي جعل هذه الرواية من القسم الثاني .

( أقولُ : لا يخفى أنّ ) هذه الرواية تحتمل وجهين :

ص: 270


1- - الارشاد للمفيد : ج1 ص302 ، بحار الانوار : ج2 ص272 ب33 ح2 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص228 ب1 ح433 .
2- - راجع وسائل الشيعة : ج27 ص61 ب6 ح33201 و ص62 ب6 ح33202 .
3- - الكافي فروع : ج3 ص353 ح7 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص184 ب23 ح34 وفي الاوّل (بين الثلاث والاربع) وفي الثاني (وقع رأيك على الثلاث) .
4- - تهذيب الاحكام : ج1 ص8 ب1 ح11 ، وسائل الشيعة : ج1 ص245 ب1 ح631 .

الشك واليقين لا يجتمعان حتى ينقض أحدُهما الآخر ، بل لابد من اختلافهما ، إمّا في زمان نفس الوصفين ، كأن يقطَع يوم الجمعة بعدالة زيد في زمانٍ ثم يشكّ يوم السبت في عدالته في ذلك الزمان ،

-------------------

أحدهما : قاعدة الشك الساري المُسمّاة بقاعدة اليقين .

ثانيهما : قاعدة الاستصحاب التي تقدّم الكلام حولها .

وعليه : فإن هذه الرواية لا يمكن التمسّك بها للاستصحاب ، لأنها - على ما عرفت - مجملة فلا نعلم هل تشمل هذه القاعدة أو تلك القاعدة ؟ .

وإذ قد علمت الاحتمالين نقول : إن ( الشك واليقين لا يجتمعان ) في زمان واحد على متعلق واحد لوضوح : إن اليقين : قَطْعٌ بالوجود أو العدم ، والشك : ترديد بين الوجود والعدم ، فلا يجتمعان ( حتى ينقض أحدهما الآخر ) لأنّ النقض إنّما يكون إذا اجتمعا في مكان واحد وحيث لا يجتمعان في مكان واحد لا يمكن لأحدهما نقض الآخر .

إذن : فالشك واليقين لا يجتمعان ( بل لابد من اختلافهما ) وهذا الاختلاف يكون بأحد وجهين :

( إمّا في زمان نفس الوصفين ) مع وحدة متعلقهما ( كأن يقطَع ) عمرو - مثلاً - ( يوم الجمعة بعدالة زيد في زمانٍ ) كيوم الجمعة ( ثم يشكّ يوم السبت في عدالته في ذلك الزمان ) أي : في عدالته في يوم الجمعة .

ويدعى هذا بقاعدة اليقين كما إنه يسمّى بالشك الساري أيضا ، لأنه كان يعلم بعدالته في يوم الجمعة وشك يوم السبت في نفس العدالة التي تيقّن بها يوم الجمعة .

وعليه : فملاك قاعدة اليقين هو : تعدّد زمان اليقين والشك ، وكون زمان اليقين

ص: 271

وإمّا في زمان متعلقهما وإن إتحد زمانُهما ، كأن يقطع يوم السبت بعدالة زيد يوم الجمعة ويشك في زمان هذا القطع بعدالته في يوم السبت ، وهذا هو الاستصحاب ، وليس منوطا بتعدّد زمان

-------------------

مقدّما وزمان الشك مؤخرا ، مع وحدة متعلقهما ، كما مرّ في المثال السابق ، وكما لو إطمأن عمرو - مثلاً - في يوم الجمعة بأن زيدا عادل وطلّق أمامه ، ثم شك يوم السبت في مستند علمه وإنه هل كان المستند صحيحا أم لا ؟ فإن الشك في هذه الحالة يسري الى مكان القطع .

( وإمّا ) أن يكون الاختلاف ( في زمان متعلقهما وإن إتحد زمانهما ) أي : زمان الشك واليقين فإنه لا يشترط فيه اختلاف زمانهما ، ويدعى هذا بقاعدة الاستصحاب ، كما إنه يسمّى بالشك الطاري أيضا ، لأن الشك فيه لا يسري الى مكان القطع ، وإنّما يطرء بعد ذلك .

وعليه : فملاك الاستصحاب هو : تعدّد زمان المتيقن والمشكوك وكون زمان المتيقن مقدما وزمان المشكوك مؤخرا بلا فرق بين أن يكون زمان اليقين والشك مختلفا كما لو تيقّن في يوم الجمعة بأن زيدا عادل وشكّ في يوم السبت بأنه هل بقي على عدالته الى يوم السبت أم لا؟ وبين أن يكون زمان اليقين والشك متّحدا كما مثّل له المصنِّف بقوله :

( كأن يقطع يوم السبت بعدالة زيد يوم الجمعة ويشك في زمان هذا القطع ) وهو : يوم السبت ( بعدالته في يوم السبت ) فاليقين والشك وإن حصل كلاهما يوم السبت ، إلاّ أن الأوّل : تعلّق بعدالة يوم الجمعة ، والثاني بعدالة يوم السبت ( وهذا هو الاستصحاب ) المسمى بالشك الطاري .

( و ) عليه : فقد ظهر مما ذكرناه : أن الاستصحاب ( ليس منوطا بتعدّد زمان

ص: 272

الشك واليقين ، كما عرفت في المثال ، فضلاً عن تأخر الأوّل عن الثاني .

وحيث إن صريح الرواية : إختلاف زمان الوصفين وظاهرها اتحاد زمان متعلّقهما ، تعيّن حملُها على القاعدة الاُولى .

وحاصلها عدم العِبرة بطروّ الشك في شيء

-------------------

الشك واليقين ، كما عرفت في المثال ، فضلاً عن تأخر الأوّل ) أي : زمان الشك ( عن الثاني ) أي : زمان اليقين فلا يشترط في الاستصحاب لا تعدّد زمان اليقين والشك ولا تقدّم اليقين على الشك . وإنّما يشترط ذلك بالنسبة الى اليقين والمشكوك فقط .

( وحيث ) قد عرفت الفرق بين قاعدة اليقين وبين الاستصحاب ، نقول : قد يقال : بأن الرواية المتقدمة تدلّ على الشك الساري وهي قاعدة اليقين وذلك ( إن صريح الرواية : إختلاف زمان الوصفين ) فإنه عليه السلام قال : مَن كان على يقين فشك (1) ، حيث إن ظاهر « كان » : يدلّ على مضي زمان اليقين ، وظاهر الفاء للترتيب ، فيدلّ على تأخر الشك .

( و ) أما زمان المتعلق اليقين والشك فإن ( ظاهرها ) أي : ظاهر هذه الرواية ( اتحاد زمان متعلّقهما ) أي : متعلق الشك واليقين فإن لهما متعلقا واحدا وهو مثلاً ، عدالة زيد يوم الجمعة ، فيوم الجمعة كان يعلم بعدالته ، وفي يوم السبت شكّ في إنّه هل كان في يوم الجمعة عادلاً أم لا؟ وإذا كان كذلك ( تعيّن حملها ) أي : حمل الرواية ( على القاعدة الاُولى ) وهي : قاعدة اليقين ، فلا دلالة في الرواية إذن على الاستصحاب .

( وحاصلها ) أي : حاصل قاعدة اليقين هو : ( عدم العِبرة بطروّ الشك في شيء

ص: 273


1- - الخصال : ص619 ح10 ، وسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح636 .

بعد اليقين بذلك الشيء .

ويؤيده : أنّ النقض حينئذ محمولٌ على حقيقته ، لأنّه رفع اليد عن نفس الآثار التي رتّبها سابقا على المُتيقّن بخلاف الاستصحاب ، فإنّ المراد بنقض اليقين فيه رفعُ اليد عن ترتيب الآثار في غير زمان اليقين ،

-------------------

بعد اليقين بذلك الشيء ) فَمَن تيقّن - مثلاً - يوم الجمعة بعدالة زيد وطلّق أمامه أو قَبِلَ شهادته ثم شكّ يوم السبت في أن زيدا هل كان عادلاً يوم الجمعة حين طلّق أمامه ، أو قَبِلَ شهادته ، أو لم يكن عادلاً؟ لا يعتني بشكّه ، فلا يعيد الطلاق ولا يردّ الشهادة .

( ويؤيده ) أي : يؤيّد حمل الرواية على قاعدة اليقين : ( أنّ النقض حينئذ محمولٌ على حقيقته ، لأنّه ) أي : لأنّ نقض اليقين في باب قاعدة اليقين والشك الساري هو عبارة عن ( رفع اليد عن نفس الآثار التي رتّبها سابقا على المُتيقّن ) فإنه في يوم الجمعة رتّب أثر الشهادة وأثر الطلاق على عدالة زيد والآن يريد في يوم السبت نقض نفس تلك الآثار ، وهو نقض حقيقة .

( بخلاف الاستصحاب ، فإنّ المراد بنقض اليقين فيه ) أي : في الاستصحاب ( رفع اليد عن ترتيب الآثار في غير زمان اليقين ) لا في نفس زمان اليقين .

مثلاً : إذا عَلِمَ عمرو بعدالة زيد يوم الجمعة وطلّق أمامه أو قَبِلَ شهادته ثم شكّ يوم السبت في أنه هل بقي على عدالته الى هذا اليوم أم لا ؟ فإن هذا الشك يريد عدم ترتيب آثار العدالة على طلاق آخر أو على شهادة أخرى في يوم السبت ، أمّا طلاق وشهادة يوم الجمعة فلا يريد هذا الشك عدم ترتيب آثار العدالة عليهما لأنهما صحيحان في مكانهما .

ص: 274

وهذا ليس نقضا لليقين السابق إلاّ إذا اُخِذَ متعلّقه مجردا عن التقييد بالزمان الأوّل .

وبالجملة : فمن تأمّل في الرواية وأغمضَ عن ذكر بعض

-------------------

( وهذا ) أي : نقض اليقين في الاستصحاب كما رأيت ( ليس نقضا لليقين السابق ) وإنّما هو عبارة عن عدم ترتيب الآثار في المستقبل .

إذن : فقاعدة اليقين تقول : طلاقك يوم الجمعة صحيح ، والاستصحاب يقول : إذا أردت الطلاق يوم السبت يكون طلاقك صحيحا .

إن قلت : إذا كان النقض في مورد الاستصحاب ليس هو نقضا لأثر عدالة زيد يوم الجمعة - مثلاً - الذي هو اليقين السابق وإنّما هو نقض لأثر عدالته يوم السبت ، وهذا لا يسمّى نقضا ، لليقين السابق فكيف قيل : لا تنقض اليقين بالشك ، وأريد منه عدم نقض اليقين السابق ؟ .

قلت : إنّ النقض في مورد الاستصحاب ليس هو نقضا لليقين السابق ( إلاّ إذا أخذ متعلّقه ) أي : متعلق اليقين كعدالة زيد في المثال ( مجردا عن التقييد بالزمان الأوّل ) فإن عدالة زيد يوم الجمعة وعدالته يوم السبت شيء واحد ، وإنّما التعدّد جاءها من تقييدها بالزمان ، فإذا جرت العدالة التي هي متعلق اليقين عن الزمان كانت شيئا واحدا وصَدَقَ عليها لا تنقض .

وإن شئت قلت : إن متعلق اليقين والشك في مورد الاستصحاب إنّما يتعدّدان إذا قيّدا بالزمان ، بأن جعلنا عدالة زيد يوم الجمعة شيئا ، وعدالته يوم السبت شيئا آخر ، والحال إنه ليس كذلك ، بل متعلقهما نفس عدالة زيد الممتدة في الزمانين ، وهذا المقدار من الوحدة في العدالة يكفي في صدق النقض عليها .

( وبالجملة : فمن تأمّل في الرواية ) المذكورة ( وأغمض عن ذكر بعض )

ص: 275

لها في أدلّة الاستصحاب ، جزم بما ذكرنا في معنى الرواية .

اللّهمّ إلاّ أن يقال : بعد ظهور كون الزمان الماضي في الرواية ظرفا لليقين : إنّ الظاهر تجريد متعلّق اليقين عن التقييد بالزمان ، فإنّ ظاهر قول القائل : « كنت متيقّنا أمسّ بعدالة زيد » ظاهرٌ في إرادة أصل العدالة ، لا العدالة المتقيّدة بالزمان الماضي وإن كان ظرفه في الواقع ظرف اليقين .

-------------------

كالوحيد البهبهاني والمحقق القمّي ( لها في أدلّة الاستصحاب ) حيث إن التعرّض الى أنهما ذَكَراها في أدلّة الاستصحاب ليس هو إلاّ لمجرد الاستيناس بفهم الفقهاء وإلاّ فمن تأمّل في نفس الرواية ( جزم بما ذكرنا في معنى الرواية ) من أن المراد بها : قاعدة اليقين لا الاستصحاب .

ولكن قد يؤكّد دلالة الرواية على الاستصحاب ما ذكره المصنِّف من قوله :

( اللّهم إلاّ أن يقال : بعد ظهور كون الزمان الماضي في الرواية ظرفا لليقين ) لا ظرفا لمتعلّق اليقين ، لأن الإمام عليه السلام قال : مَن كان على يقين فشكّ : ( إنّ الظاهر تجريد متعلّق اليقين ) كالعدالة في مثال الطلاق وقبول الشهادة ( عن التقييد بالزمان ) الماضي وذلك لما ذكره المصنِّف بقوله :

( فإنّ ظاهر قول القائل : « كنت متيقّنا أمسّ بعدالة زيد » ظاهر في إرادة أصل العدالة ، لا العدالة المتقيّدة بالزمان الماضي ) فإن الزمان والمكان لا يقيّدان إلاّ إذا كانت هنالك عناية بالتقييد ، فلا يراد : كنت متيقّنا أمسّ بعدالة زيد في الأمس ، وإنّما يراد : كنت متيقنا في الأمس بعدالة زيد .

إذن : فالظاهر من الرواية تجريد متعلق اليقين ( وإن كان ظرفه ) أي : ظرف متعلق اليقين وهو العدالة ( في الواقع ظرف اليقين ) أيضا لوضوح : أن اليقين بعدالة زيد إذا كان يوم الجمعة كان ظرف عدالة زيد أيضا يوم الجمعة ،

ص: 276

لكن لم يلاحظ على وجه التقييد ، فيكون الشك فيما بعد هذا الزمان متعلقا بنفس ذلك المُتيقن ، مجردا عن ذلك التقييد ظاهرا في تحقق أصل العدالة في زمان الشك فينطبق على الاستصحاب ، فافهم .

ثمّ لو سلّم أنّ هذه القاعدة باطلاقها مخالفة للاجماع ، أمكن تقييدُها

-------------------

( لكن لم يلاحظ ) الزمان وهو يوم الجمعة في العدالة ( على وجه التقييد ) .

وعليه : ( فيكون الشك فيما بعد هذا الزمان ) أي : بعد يوم الجمعة كيوم السبت - مثلاً - ( متعلقا بنفس ذلك المُتيقن ) يعني : متعلقا بالعدالة لكن ( مجردا عن ذلك التقييد ) بيوم الجمعة .

مثلاً : إذا قال أحد : كنت أمس متيقنا بعدالة زيد فشككت في عدالته كان الشك ( ظاهرا في تحقق أصل العدالة في زمان الشك فينطبق ) حينئذ كلامه عليه السلام ( على الاستصحاب ) ولذا فَهِمَ الوحيد والقمّي من الرواية المذكورة الاستصحاب .

( فافهم ) ولعله إشارة الى ما ذكرناه سابقا : من أن الظاهر العرفي من الرواية هو: شمولها لقاعدة اليقين وقاعدة الاستصحاب معا ، لأن اليقين جامع بينهما ، سواء كان الشك ساريا أم طاريا ، غير أن المصنِّف لا يرتضي بمثل هذا ، ولذلك قال : ( ثمّ لو سلّم أن هذه القاعدة ) أي : قاعدة اليقين ( باطلاقها مخالفة للاجماع ) أي : إن الرواية وإن دلّت على قاعدة اليقين مطلقا ، إلاّ إن الاجماع قام على عدم التمسك بها على إطلاقها ، فدلالة الرواية على إطلاق القاعدة لا ينفع بعد هذا الاجماع .

وإنّما قال بأن مخالفة الاجماع كان لاطلاق القاعدة لا لأصل القاعدة ، لأن بعض الفقهاء عَمِلَ بقاعدة اليقين في الجملة ، ولذلك ( أمكن تقييدها ) بنظر المصنِّف بما يلي :

ص: 277

بعدم نقض اليقين السابق بالنسبة الى الأعمال التي رتّبها حال اليقين به ، كالاقتداء في مثال العدالة بذلك الشخص ، أو العمل بفتواه أو شهادته أو تقييد الحكم بصورة عدم التذكّر لمستند القطع السابق واخراج صورة تذكّره والتفطّن لفساده وعدم قابليته لافادة القطع .

لكن الانصاف : أنّ الرواية سيما بملاحظة

-------------------

أولاً : ( بعدم نقض اليقين السابق بالنسبة الى الأعمال التي رتّبها حال اليقين به ، كالاقتداء في مثال العدالة بذلك الشخص ) في صلاته ( أو العمل بفتواه ) إذا كان مجتهدا ( أو شهادته ) بالنسبة الى الطلاق ، أو في موارد النزاع أو ما أشبه ، فلا يعيد ما مضى ، لكنه لا يحمل بفتواه من جديد ، ولا يقبل شهادته في طلاق جديد ، وما أشبه ذلك .

ثانيا : ( أو تقييد الحكم ) في القاعدة وهو : عدم نقض اليقين السابق ( بصورة عدم التذكرّ لمستند القطع السابق ) كما إذا بنى على عدالة زيد يوم الجمعة ثم شك في عدالته يوم السبت وهو لم يتذكّر مستند قطعه بعدالته يوم الجمعة ، ففي هذه الصورة لا يعتني بالشك الساري ، وإنّما يرتّب آثار اليقين السابق عليه .

( واخراج صورة تذكرّه ) لمستند القطع السابق ( والتفطّن لفساده وعدم قابليته لافادة القطع ) فإذا بنى على عدالة زيد يوم الجمعة - مثلاً - ثم شك في عدالته يوم السبت وتذكّر إن مستند قطعه بعدالته يوم الجمعة لم يكن قابلاً للاستناد وإنّما غفل في الاستناد اليه ، ففي هذه الصورة لا يعتني باليقين السابق بل يرتّب أثر العدم على ذلك اليقين السابق .

هذا ( لكن الانصاف : أنّ الرواية ) بحسب ظاهرها العرفي ( سيما بملاحظة

ص: 278

قوله عليه السلام : « فإنّ اليقين لا يُنْقَض بالشك » وبملاحظة ما سبق في الصحاح من قوله : « لا يَنقُض اليقين بالشك » ، حيث إنّ ظاهره مساوقته لها ، وظاهرة في الاستصحاب . ويبعد حمله على المعنى الذي ذكرنا .

لكن سند الرواية ضعيف بالقاسم بن يحيى ، لتضعيف العلامة له

-------------------

قوله عليه السلام : « فإنّ اليقين لا يُنْقَض بالشك » (1) ) الظاهر في كونه تعليلاً بأمر ارتكازي وكونه في صدد تأسيس قاعدة عرفية علمية ( و ) كذا ( بملاحظة ما سبق في الصحاح ) وغيرها ممّا جاء في مورد الاستصحاب ( من قوله ) عليه السلام : ( لا ينقض اليقين بالشك (2) ) فإنه يؤكد ظهورها في الاستصحاب .

وإنّما نلاحظ هذه الأمور في فهم الحديث هنا ( حيث إنّ ظاهره ) أي : ظاهر هذا الحديث ( مساوقته لها ) أي : للصحاح ، فإن الصحاح وهذه الرواية في سياق واحد ( وظاهرة في الاستصحاب ) كما ذكره جمع من الفقهاء ( ويبعد حمله على المعنى الذي ذكرنا ) : من إنه لبيان قاعدة اليقين ، لا لبيان الاستصحاب .

إذن : فالرواية من حيث ظهورها في الاستصحاب لا بأس به ، ودلالتها على الاستصحاب لا كلام فيه .

( لكن سند الرواية ضعيف بالقاسم بن يحيى ، لتضعيف العلامة له

ص: 279


1- - الارشاد للمفيد : ج1 ص302 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص228 ب1 ح433 ، بحار الانوار : ج2 ص272 ب33 ح2 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

في المختلف ، وإن ضعّف ذلك باستناده الى تضعيف ابن الغضائري المعروف عدم قدحه ، فتأمل .

ومنها : مكاتبة علي بن محمّد القاساني ، قال : كتبتُ اليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان ،

-------------------

في المختلف وإن ضعّف ذلك ) التضعيف من العلامة ( ب ) سبب ( استناده ) أي : استناد تضعيف العلامة رحمه اللّه ( الى تضعيف ابن الغضائري المعروف عدم قدحه ) أي : عدم قدح تضعيف ابن الغضائري ، لأن ابن الغضائري قد ضعّف كثيرا من الرواة المعتمدين ولذا أسقط المشهور تضعيفاته .

هذا إضافة الى أنه قد ذكر غير واحد من الثقاة : رواية الأجلة عن القاسم بن يحيى سيّما مثل : أحمد بن محمد بن عيسى ، فإن ذلك أمارة الاعتماد عليه ، بل الوثاقة له ، كما ويؤيده كثرة رواياته والافتاء بمضمونها .

وكذا يؤيده عدم تضعيف شيخ من المشايخ العظام المضطلعين بأحوال الرجال إياه وعدم طعنهم عليه في ترجمته وترجمة جده وغيرهما ، فإذا استظهرنا أن العلامة تبع ابن الغضائري في تضعيفه له فلا يكون لهذا التضعيف أثر .

( فتأمل ) ولعله إشارة الى أنه بعد الاشكالين المذكورين في السند والدلالة لايمكن الاستناد الى هذه الرواية في تأسيس أصل مهم كالاستصحاب الجاري من أول الفقه الى آخره ، لكن قد عرفت : عدم ورود ذينك الاشكالين ، فالاعتماد على الرواية مقتضى القاعدة .

( ومنها ) أي : من الأخبار المستفيضة الدالة على الاستصحاب : ( مكاتبة علي بن محمّد القاساني « قال : كتبتُ اليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان ) ابتداءا لاحتمال أنه آخر شعبان ، أو إنتهاءا لاحتمال أنه أول شوال :

ص: 280

هل يُصامُ أم لا ؟ فكتب عليه السلام : اليقينُ لا يدخلُه الشك ، صُم للرؤية وأفطِر للرؤية » .

فإنّ تفريع تحديد كلّ من الصوم والافطار على رؤية هلالَي رمضان وشوال لا يستقيم إلاّ بارادة عدم جعل اليقين السابق مدخولاً بالشك ، أي : مزاحما به .

-------------------

( هل يصام أم لا ؟ فكتب عليه السلام : اليقين لا يدخلُه الشك ، صُم للرؤية وأفطِر للرؤية » (1) ) .

هذا ، ولا يخفى إن التقييد في قول الراوي : وأنا بالمدينة ، ليس اعتباطا ، فإن مثل هذا الكلام كان متعارفا في الروايات ، وذلك للدلالة على أن الجواب هل صدر تقية أم لا ؟ فإن الإمام عليه السلام كان يجيب الرجل الكوفي الذي يبتلي بمثل الحجاج الثقفي وغيره بالتقية ، بينما يجيب الرجل المدني ونحو المدني بالحكم الواقعي .

وكذا بالنسبة الى الروايات المقيدة بالزمان ، فإن في بعض الأزمنة لم يكن اضطرار الى التقية وفي بعضها الآخر كان ، وذلك على ما هو مذكور في علم الرجال والدراية .

وكيف كان : ( فإنّ تفريع تحديد كلّ من الصوم والافطار على رؤية هلالي رمضان وشوال ) بالصوم في الأوّل والافطار في الثاني ( لا يستقيم إلاّ بارادة عدم جعل اليقين السابق مدخولاً بالشك ) اللاحق ( أي : مزاحما به ) أي : بالشك .

وعليه : فاللازم : العمل باليقين السابق حتى يأتي يقين على خلافه ، أمّا الشك في زوال الحالة السابقة فلا يعتنى به ، وهذا معنى الاستصحاب .

نعم ، لو قال الإمام عليه السلام : أفطر للرؤية فقط احتملنا إنه من باب الاشتغال ،

ص: 281


1- - تهذيب الأحكام : ج4 ص159 ب1 ح17 ، الاستبصار : ج2 ص64 ب33 ح12 ، وسائل الشيعة : ج10 ص256 ب3 ح13351 .

والانصاف : إنّ هذه الرواية أظهرُ ما في هذا الباب من أخبار الاستصحاب ، إلاّ أنّ سندها غير سليم .

هذه جملة ما وقفت عليه من الأخبار المستدلّ بها للاستصحاب ،

-------------------

إلاّ أنه عليه السلام قال : صُم للرؤية وأفطر للرؤية ، فلا يحتمل فيه إلاّ الاستصحاب ، لأنّ الصوم للرؤية لا يحتمل الاشتغال ، بل الأصل هو : البرائة عن الصوم في يوم شك فيه إنه من شعبان أو من رمضان .

هذا ( والانصاف : أنّ هذه الرواية أظهر ما في هذا الباب من أخبار الاستصحاب ) وذلك لسلامتها من الاحتمالات الواردة في سائر الروايات مثل احتمال كون اللام في اليقين للعهد الذكري ، أو احتمال لبيان قاعدة الاشتغال ، أو لبيان قاعدة اليقين والشك الساري ، وغير ذلك مما تقدّم من الاشكالات في الروايات السابقة .

( إلاّ أنّ سندها غير سليم ) وذلك لأن بعض الرجاليين ذكر : إن القاساني سمع منه بعض المذاهب المنكرة ، وقال الآشتياني رحمه اللّه : الوجه في عدم سلامته : تضعيف جماعة من أهل الرجال لمحمد .

ويمكن القول بعدم قدحه بناءا على انجبار الضعف بالشهرة وحجية الخبر المشهور ، حيث إن الرواية معمول بها عند الأصحاب وقد عوّلوا عليها في كتبهم ، كما إدّعاه بعض المحققين أيضا .

( هذه جملة ما وقفت عليه من الأخبار المستدلّ بها للاستصحاب ) .

وأضاف الأوثق : بأن منها الرضوي : إذا شككت في الحدث وكُنت على يقين من الوضوء فلا تنقض اليقين بالشك ، وقال فيه أيضا : وإن توضأت وضوءا صلّيت صلاتك أو لم تصلّ ، ثم شككت فلم تَدْرِ أحدثت أو لم تُحدث ، فليس

ص: 282

وقد عرفتَ عدمَ ظهور الصحيح منها وعدم صحة الظاهر منها .

فلعل الاستدلال بالمجموع باعتبار التجابر والتعاضد .

وربما يؤيّد ذلك بالأخبار الواردة في الموارد الخاصة :

-------------------

عليك وضوء ، لأن اليقين لا ينقض بالشك (1) .

ومنه : ما عن مصباح الشريعة عن الصادق عليه السلام : لا يدفع اليقين بالشك .

( و ) لكن ( قد عرفت : عدم ظهور الصحيح منها وعدم صحة الظاهر منها ) وذلك حسب الاشكالات المتقدمة ، لكن الظاهر عندنا هو : الظهور وصحّة السند في بعضها على ما عرفت : من عدم ورود اشكالات المصنِّف عليها .

وعلى أي حال : ( فلعل الاستدلال بالمجموع باعتبار التجابر والتعاضد ) حيث إن ضعيف السند ينجبر بالصحاح ، وقويّ الدلالة يعاضد ضعيف الدلالة ، فيكون في المجموع كفاية .

وإنّما يكون في المجموع كفاية لأنه يحصل منه ظنّ باعتبار الاستصحاب وقد قام بناء العقلاء على حجية مثل هذا الظن ، لأنه من الظن الذي قام الدليل على اعتباره ، إذ لا فرق في الظن بين الحاصل ، من لفظ واحد ، والحاصل من ألفاظ متعدّدة ، فهو من قبيل العلم الحاصل من طرف واحد أو من أطرف متعددة ، كما ذكره المحقق القمّي وتبعه الآشتياني .

( وربّما يؤيّد ذلك ) أي : يمكن تأييد ما ذكرناه : من كفاية المجموع في الدلالة على الاستصحاب ( بالأخبار الواردة في الموارد الخاصة ) فإن الصغريات المتعددة تدلّ على كبرى كلّية ، وهي كالتالي :

ص: 283


1- - أوثق الوسائل : ص459 التمسّك بسائر الأخبار بحجية الاستصحاب .

مثل : رواية عبد اللّه بن سنان الواردة : « فيمن يُعير ثوبه الذمّي ، وهو يعلم أنّه يشربُ الخمرَ ويأكلُ لحمَ الخنزير . قال : فهل عليّ أن أغسِلَهُ ؟ .

فقال : لا ، لأنّك أعرته إيّاه وهو طاهرٌ ، ولم تستيقن أنّه نَجَّسه » .

وفيها دلالة واضحة على أنّ وجه البناء على الطهارة وعدم وجوب غسله هو سبقُ طهارته وعدم العلم بارتفاعها .

ولو كان المستند

-------------------

أولاً : ( مثل : رواية عبد اللّه بن سنان الواردة : « فيمن يعير ثوبه الذمّي وهو يعلم أنّه يشرب الخمرَ ويأكلُ لحمَ الخنزير ) وذلك بالاضافة الى أنه إذا لبسه يعرق غالبا، وأنه لايجتنب سائر النجاسات كالدم والبول وغيرها ( قال: فهل عليّ أن أغسله ؟ ) بعد استرداده ؟ .

( فقال ) عليه السلام : ( لا ، لأنّك أعرته إيّاه وهو طاهرٌ ولم تستيقن أنّه نَجَّسه » (1) ) فتستصحب طهارته .

( وفيها دلالة واضحة على أنّ وجه البناء على الطهارة وعدم وجوب غسله ) عند استعادة الثوب ( هو سبقُ طهارته وعدم العلم بارتفاعها ) أي : ارتفاع تلك الطهارة السابقة وهو معنى الاستصحاب .

( و ) إن قلت : لعل مستند حكم الإمام بطهارة الثوب بعد استرجاعه قاعدة الطهارة لا الاستصحاب .

قلت : ( لو كان المستند ) في حكم الإمام عليه السلام بطهارة الثوب بعد استرجاعه

ص: 284


1- - تهذيب الأحكام : ج2 ، ص361 ب13 ح27 ، الاستبصار : ج1 ص393 ب231 ح2 ، وسائل الشيعة : ج3 ص521 ب74 ح4348 .

قاعدة الطهارة لم يكن معنى لتعليل الحكم بسبق الطهارة ، إذ الحكم في القاعدة مستندٌ الى نفس عدم العلم بالطهارة والنجاسة .

نعم ، الرواية مختصة باستصحاب الطهارة دون غيرها ، ولا يبعد عدم القول بالفصل بينها وبين غيرها مما يشك في ارتفاعها بالرافع .

-------------------

من الذمي ( قاعدة الطهارة ) أي : « كل شيء لك طاهر حتى تعلم إنه قذر » (1) ( لم يكن معنى لتعليل الحكم بسبق الطهارة ) بينما الإمام عليه السلام علّله بسبق الطهارة فيدل على أن الحكم بالطهارة كان للاستصحاب .

وإنّما لم يكن لهذا التعليل معنى لو لم يقصد الاستصحاب لأنه كما قال : ( إذ الحكم في القاعدة مستندٌ الى نفس عدم العلم بالطهارة والنجاسة ) لا الى عدم العلم بالطهارة والنجاسة بعد العلم بسبق الطهارة ، فإن حكمه عليه السلام بالطهارة ، لو كان لأجل إنه من مشكوك الطهارة والنجاسة لكان ينبغي أن يعلّل بمجرّد الشك في النجاسة لا أن يعلّل بسبق اليقين بالطهارة ولحوق الشك في نجاسته .

( نعم ، الرواية مختصة باستصحاب الطهارة دون غيرها ) فلا يعمّ الاستصحاب في الرواية غير مورد الطهارة ، وذلك لأن الرواية لم تشتمل على قاعدة كلّية كالتي اشتملت عليها الروايات السابقة حيث جاء فيها : ولا ينقض اليقين بالشك أبدا ، وما أشبه ذلك .

هذا ( و ) لكن ( لا يبعد عدم القول بالفصل بينها ) أي : بين الطهارة ( وبين غيرها مما يشك في ارتفاعها بالرافع ) فتكون هذه الرواية بملاكها شاملة لجميع موارد الاستصحاب إذا كان الشك في الرافع .

أو يقال : بأنه يتم جريان الاستصحاب في سائر الموارد كما يجري في مورد

ص: 285


1- - انظر تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .

ومثل : قوله عليه السلام في موثّقة عمّار : « كُلُّ شيء طاهرٌ حتى تعلَم أنّه قذر» ، بناءا على أنّه مسوق لبيان استمرار طهارة كل شيء الى أن يُعلم حدوثُ قذارته ، لا ثبوتها له ظاهرا ، واستمرار هذا الثبوت الى أن يُعلم عدمُها .

-------------------

هذه الرواية بعدم القول بالفصل .

ثانيا : ( ومثل : قوله عليه السلام في موثّقة عمار: «كُلُّ شيء طاهرٌ حتى تعلَم أنّه قذر » (1) ).

وإنّما تدل هذه الموثقة على الاستصحاب ( بناءا على أنّه مسوق لبيان استمرار طهارة كل شيء الى أن يُعلم حدوثُ قذارته ) فكل شيء تستمر طهارته السابقة الى زمان العلم بالنجاسة وهي قاعدة الاستصحاب .

( لا ) بناءا على ( ثبوتها له ) أي : ثبوت الطهارة للشيء ( ظاهرا ، واستمرار هذا الثبوت الى أن يُعلم عدمُها ) أي : عدم طهارته حتى تدل هذه الموثقة على قاعدة الطهارة ، ويكون التقدير حينئذ كالتالي :

كل شيء مشكوك الطهارة والنجاسة ، محكوم بالطهارة حكما مستمرا الى زمان العلم بالعدم .

والحاصل : إن الموثقة هذه قد يقال بأنها تريد بيان استصحاب الطهارة فقط ، أو بيان قاعدة الطهارة فقط ، وقد يقال - كما نراه نحن - بأنها تريد بيان كليهما ، غير إنه عند بيان كليهما يكون قد ذكر فيها غاية واحدة مشتركة بين الاستصحاب والقاعدة .

وإنّما تكون الغاية مشتركة بينهما لأن كل واحد من الاستصحاب والقاعدة

ص: 286


1- - مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 .

فالغاية ، وهي العلم بالقذارة ، على الأوّل غايةٌ للطهارة رافعةٌ لاستمرارها . فكلُّ شيء محكومٌ ظاهرا باستمرار طهارته الى حصول العلم بالقذارة .

فغاية الحكم غير مذكورة ولا مقصودة ؛ وعلى الثاني غاية للحكم بثبوتها ، والغاية وهي : العلم بعدم الطهارة رافعةٌ للحكم ،

-------------------

مغيّ بالعلم ، فالطهارة تستصحب الى أن يتحقق العلم بالنجاسة ومشكوك الطهارة يحكم عليه بالطهارة الى أن يعلم بنجاسته .

أمّا بناءا على دلالة الموثقة على الاستصحاب فقط ( فالغاية ، وهي العلم بالقذارة على الأوّل ) أي : الاستصحاب ( غاية للطهارة رافعة لاستمرارها ) .

وعليه : ( فكلّ شيء ) محرز طهارته سابقا مشكوك طهارته لاحقا ( محكوم ظاهرا باستمرار طهارته الى حصول العلم بالقذارة ) فتكون الغاية على ذلك غاية الاستمرار لا غاية الحكم .

وإنّما لا تكون حينئذ غاية للحكم لأنه كما قال : ( فغاية الحكم ) أي : القاعدة ( غير مذكورة ولا مقصودة ) في الموثقة فكأنه قال : يستصحب الطهارة الى العلم بالقذارة ولم يقل : كل شيء طاهر حتى يعلم بالقذارة ، لأنّ المفروض : إن الغاية غاية لاستمرار الطهارة المفروغ عنها ، لا للحكم بالطهارة المشكوك فيها .

( و ) إما بناءا ( على الثاني ) : وهو ما ذكره بقوله : لا ثبوتها له ظاهرا واستمرار هذا الثبوت الى أن يعلم عدمها ، مما يراد بالموثقة : القاعدة فيكون قوله عليه السلام : حتى تعلم ( غاية للحكم بثبوتها ، والغاية وهي : العلم بعدم الطهارة رافعة للحكم ) بثبوت الطهارة ، لا إنها رافعة لنفس الطهارة .

ص: 287

فكلّ شيء يستمر الحكم بطهارته الى كذا . فاذا حصلت الغاية انقطع الحكم بطهارته ، لا نفسُها .

والأصل في ذلك أنّ القضية المغيّاة سواء كانت إخبارا عن الواقع وكانت الغاية قيدا للمحمول ، كما في قولنا : الثوب طاهر الى أن يلاقي نجسا ،

-------------------

إذن : ( فكلّ شيء ) مشكوك الطهارة والنجاسة ( يستمر الحكم بطهارته الى كذا ) أي : الى حصول العلم بارتفاع الطهارة .

وعليه : ( فاذا حصلت الغاية ) بأن علم بالنجاسة ( انقطع الحكم ) القائل ( بطهارته ، لا نفسها ) أي : لا نفس الطهارة ، لأنّ الطهارة لم تكن محرزة من الأوّل حتى تكون الغاية رافعة لهذه الطهارة المحرزة ، بل الشارع حكم ظاهرا بالطهارة ، فالغاية رافعة لذلك الحكم القائل بثبوت الطهارة ظاهرا .

والحاصل : إنه بناءا على إفادة الموثقة الاستصحاب فقط تكون الغاية غاية للاستمرار ، وبناءا على إفادة الرواية القاعدة فقط تكون الغاية أيضا غاية للاستمرار ، إلاّ إنها في الاستصحاب غاية لاستمرار الطهارة ، وفي القاعدة غاية لاستمرار الحكم بثبوت الطهارة .

( والأصل في ذلك ) أي : منشأ الاحتمالين في الموثقة الذين ذكرهما المصنِّف بقوله : بناءا على إنه مسبوق لبيان استمرار الطهارة ، وبقوله : لا ثبوتها له ظاهرا ، هو : ما أشار اليه بقوله :

(أنّ القضية المغيّاة ) أي : القضية التي ذكر فيها الغاية (سواء كانت إخبارا عن الواقع وكانت الغاية قيدا للمحمول ، كما في قولنا الثوب طاهر الى أن يلاقي نجسا ) فالى أن يلاقي قيد لقوله : طاهر ، والطاهر محمول لقوله : الثوب ، وهي قضية واقعية وإخبار عن الواقع بمعنى : ثبوت الطهارة للثوب واقعا من دون لحاظ

ص: 288

أم كانت ظاهرية مغيّاة بالعلم بعدم المحمول ، كما فيما نحن فيه - قد يقصد المتكلم مجرّد ثبوت المحمول للموضوع ظاهرا أو واقعا ، من غير ملاحظة كونه مسبوقا بثبوته له ، وقد يقصد المتكلم به مجرّد الاستمرار ، لا أصل الثبوت ،

-------------------

كونه مشكوك الحكم ، وعلى هذا فالغاية وهي : الملاقاة تكون أيضا غاية للطهارة الواقعية ورافعة لتلك الطهارة .

( أم كانت ) القضية المغيّاة ( ظاهرية مغيّاة بالعلم بعدم المحمول كما فيما نحن فيه ) من قوله عليه السلام : «كل شيء طاهر حتى تعلم إنه قذر» فإنها قضية ظاهرية ، وبيان للحكم الظاهري بمعنى : ثبوت الطهارة ظاهرا للشيء المشكوك الطهارة والنجاسة ، وعلى هذا يكون العلم بالقذارة غاية للطهارة الظاهرية ورافعة لهذه الطهارة الظاهرية .

وعلى كلٍّ من التقديرين : فإنه ( - قد يقصد المتكلم مجرّد ثبوت المحمول للموضوع ظاهرا ) فيكون التقدير : كل شيء مشكوك الطهارة والنجاسة محكوم بالطهارة ظاهرا .

( أو واقعا ) فيكون التقدير : كل شيء طاهر واقعا الى أن يلاقي نجسا .

( من غير ملاحظة كونه مسبوقا بثبوته له ) أي : من دون لحاظ الحالة السابقة ، وذلك بأن يرى الغاية قيدا للطهارة ، سواء كانت طهارة ظاهرية أم واقعية من دون أن يقصد كون الغاية غاية للاستمرار حتى يكون معنى الاستصحاب ، وهذا هو معنى القاعدة .

( وقد يقصد المتكلم به مجرّد الاستمرار لا أصل الثبوت ) أي : إن المتكلم بعد الفراغ من أصل الثبوت يقصد بالحكم لحاظ الحالة السابقة فتكون الغاية غاية

ص: 289

بحيث يكون أصل الثبوت مفروغا عنه ، والأوّل أعمّ من الثاني من حيث المورد .

-------------------

للاستمرار وهو معنى الاستصحاب ويكون التقدير : الثوب مستمر طهارته الى حصول النجاسة .

وعليه : فالمقصود هو مجرد الاستمرار ( بحيث يكون أصل الثبوت مفروغا عنه ) فلا كلام في الموثقة على هذا التقدير عن أصل الثبوت ، وإنّما الكلام في استمرار الثبوت وهو معنى الاستصحاب .

( والأوّل ) : وهي القاعدة ( أعمّ من الثاني ) وهو الاستصحاب ( من حيث المورد ) فإن القاعدة أعمّ مطلقا من الاستصحاب ، لأنه كلما جرى فيه الاستصحاب بلحاظ الطهارة السابقة ، جرى فيه قاعدة الطهارة أيضا بلحاظ مجرد الشك وليس العكس ، إذ ربما يشك في الطهارة من دون سبق يقين بها ، فتجري القاعدة دون الاستصحاب .

إذن : فالشك في الطهارة من دون سبق اليقين له قسمان :

الأوّل : أن لا يكون له حالة سابقة أصلاً ، كما إذا شك في طهارة الحديد .

الثاني : أن يكون له حالة سابقة ، لكن لا يعلم هل إنها هي الطهارة أو النجاسة ؟ .

هذه هي النسبة بين القاعدة والاستصحاب من حيث المورد .

وأمّا النسبة بين القاعدة والاستصحاب من حيث المناط : فبينهما تباين ، لأن مناط القاعدة هو مجرد الشك في الطهارة ، ومناط الاستصحاب هو الطهارة بلحاظ الحالة السابقة ، ومن المعلوم : إن ملاحظة الحالة السابقة وعدم ملاحظتها بينهما تباين .

ص: 290

إذا عرفت هذا ، فنقول : إنّ معنى الرواية : إمّا أن يكون خصوص المعنى الثاني ، وهو القصد الى بيان الاستمرار بعد الفراغ من ثبوت أصل الطهارة ، فيكون دليلاً على استصحاب الطهارة ، لكنّه خلاف الظاهر ؛ وإمّا خصوص المعنى الأوّل الأعمّ منه .

-------------------

( إذا عرفت هذا ، فنقول ) : إن كان المقصود من الموثقة : بيان ثبوت الطهارة ظاهرا للشيء المشكوك طهارته واستمرار هذا الثبوت الى زمن العلم بالنجاسة أفادت الموثقة قاعدة الطهارة ، وإن كان المقصود منها : بيان إن الشيء المحرز طهارته سابقا يستمر طهارته الى زمن العلم بالارتفاع أفادت الموثقة الاستصحاب ، والى هذين الاحتمالين أشار المصنِّف حيث قال :

( إنّ معنى الرواية : إمّا أن يكون خصوص المعنى الثاني ، وهو القصد الى بيان الاستمرار ) للطهارة (بعد الفراغ من ثبوت أصل الطهارة ) يعني : إن الرواية لاتتعرض لأصل الطهارة ، وإنّما تتعرض لاستمرار الطهارة فقط ( فيكون دليلاً على استصحاب الطهارة ) لا على قاعدة الطهارة .

( لكنّه خلاف الظاهر ) إذا ظاهر الجملة الخبرية : إثبات أصل المحمول لااستمرار المحمول بعد الفراغ عن أصله ، فإنه إذا قال - مثلاً - : زيد قائم ، كان معناه : ثبوت القيام لزيد ، لا إثبات إن قيامه مستمر مع الاعراض عن أصل اثبات القيام له .

( وإمّا ) أن يكون معنى الرواية ( خصوص المعنى الأوّل ) وهي القاعدة ( الأعمّ منه ) أي : من الاستصحاب موردا على ما عرفت : من أن القاعدة أعمّ من الاستصحاب موردا ، فيكون معناه : كل مشكوك محكوم بالطهارة .

ص: 291

وحينئذٍ : لم يكن فيه دلالةٌ على استصحاب الطهارة ، وإن شمل مورده ، إلاّ أنّ الحكم فيما عُلِمَ طهارته ولم يُعلَم طروّ القذارة له ليس من حيث سبق طهارته ، بل باعتبار مجرّد كونه مشكوك الطهارة ، فالرواية تفيد قاعدة الطهارة حتى في مسبوق الطهارة ، لا استصحابها ، بل يجري في مسبوق النجاسة

-------------------

( وحينئذٍ ) أي : حين إرادة خصوص المعنى الأوّل من الرواية ( لم يكن فيه دلالة على استصحاب الطهارة ، وإن شمل مورده ) لما عرفت : من إن ثبوت الطهارة للشيء المشكوك يشمل المشكوك المسبوق بالطهارة ، كما يشمل المشكوك الذي لم يسبق له طهارة على ما مثّلنا له بالحديد .

( إلاّ أن الحكم ) بالطهارة ( فيما عُلِمَ طهارته ولم يُعلم طروّ القذارة له ليس من حيث سبق طهارته ) حتى يكون استصحابا .

( بل باعتبار مجرّد كونه مشكوك الطهارة ) والنجاسة وهو مناط قاعدة الطهارة ، فإن مناط القاعدة في جميع مواردها هو : لحاظ مجرد الشك لا لحاظ سبقه بالطهارة ، فسواء كان مسبوق الطهارة أم لم يكن مسبوق الطهارة فإنه إذا كان مشكوك الطهارة حكم بطهارته .

إذن : ( فالرواية تفيد قاعدة الطهارة حتى في مسبوق الطهارة ، لا استصحابها ) أي : لا استصحاب الطهارة حتى تفيد الاستصحاب .

( بل يجري ) قاعدة الطهارة ( في مسبوق النجاسة ) أيضا ، لأنّ المفروض : إنه سواء كان مسبوق الطهارة أم مسبوق النجاسة ، أم لا سابقة له ، أم نحن لا نعلم سابقته ، فإن كل ذلك مشكوك الطهارة ويكون موردا لقاعدة الطهارة ، غير إنه إذا كان مسبوق النجاسة ، كان استصحاب النجاسة حاكما على القاعدة .

ص: 292

على أقوى الوجهين الآتيين في باب معارضة الاستصحاب للقاعدة .

ثم لا فرق في مفاد الرواية بين الموضوع الخارجي الذي يشكّ في طهارته من حيث الشبهة في حكم نوعه ، وبين الموضوع الخارجي المشكوك طهارته من حيث اشتباه الموضوع الخارجي .

-------------------

ثم إن جريان قاعدة الطهارة في مسبوق النجاسة وسقوطها لحكومة استصحاب النجاسة عليها إنّما هو ( على أقوى الوجهين الآتيين في باب معارضة الاستصحاب للقاعدة ) والوجهان هما كالتالي :

الوجه الأوّل : إنه تجري قاعدة الطهارة ، ولكن هذه القاعدة تسقط باستصحاب النجاسة .

الوجه الثاني : إنه لا تجري قاعدة الطهارة أصلاً ، وإنّما يجري استصحاب النجاسة فقط ، على ما سيأتي تفصيل ذلك إن شاء اللّه تعالى .

هذا تمام الكلام حسب ما يراه المصنِّف : من أن الرواية لا تشمل القاعدة والاستصحاب معا ، إلاّ أن الظاهر هو : أن العرف يفهمون من الرواية كليهما .

( ثم لا فرق في مفاد الرواية بين ) مورد الشبهة الحكمية وهو : ( الموضوع الخارجي الذي يشكّ في طهارته من حيث الشبهة في حكم نوعه ) كما إذا لم نعلم هل إن الحديد طاهر أو نجس ، فإنه شبهة حكمية ويسمّى بالموضوع الخارجي ، لأن الحديد موضوع خارجي .

( وبين ) مورد الشبهة الموضوعية وهو : ( الموضوع الخارجي المشكوك طهارته من حيث اشتباه الموضوع الخارجي ) كما إذا لم نعلم هل إن هذا المايع ماء أو خمر ؟ وتشمل الرواية كليهما لاطلاقها .

ص: 293

فعُلِمَ ممّا ذكرنا أنّه لا وجه لما ذكره صاحب القوانين : من إمتناع إرادة المعاني الثلاثة من الرواية ، أعني : قاعدة الطهارة في الشبهة الحكمية ، وفي الشبهة الموضوعية ، واستصحاب الطهارة ، إذ لا مانع عن إرادة الجامع بين الأوّلين ، أعني : قاعدة الطهارة في الشبهة الحكميّة والموضوعية .

نعم ، إرادة القاعدة والاستصحاب معا يوجب إستعمال اللفظ في معنيين ، لما عرفت أنّ المقصود في القاعدة مجرّد إثبات الطهارة في المشكوك ،

-------------------

إذن : ( فعُلِمَ ممّا ذكرنا ) في مفاد الرواية : من شمولها للشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية معا في حين اختصاصها إمّا بقاعدة الطهارة أو الاستصحاب فقط ( أنّه لا وجه لما ذكره صاحب القوانين : من إمتناع إرادة المعاني الثلاثة من الرواية ) والمعاني الثلاثة ( أعني : قاعدة الطهارة في الشبهة الحكمية ، وفي الشبهة الموضوعية ، واستصحاب الطهارة ) .

وإنّما علم مما ذكرنا أنْ لا وجه لكلام صاحب القوانين ( إذ لا مانع عن إرادة الجامع بين الأوّلين أعني : قاعدة الطهارة في الشبهة الحكميّة والموضوعية ) فإن الرواية تشملهما لوجود الجامع بينهما وهو : طهارة الشيء المشكوك .

( نعم ، إرادة القاعدة والاستصحاب معا يوجب إستعمال اللفظ في معنيين ) وذلك إمّا محال كما يقوله : الآخوند ، أو مُمكن كما يقوله غيره لكنه محتاج الى القرينة ، والقرينة مفقودة في المقام .

وإنّما لم تُستعمل الرواية فيهما معا ( لما عرفت أنّ المقصود ) والمناط ( في القاعدة مجرّد إثبات الطهارة في المشكوك ) ، من حيث هو مشكوك ، سواء كان

ص: 294

وفي الاستصحاب خصوص إبقائها في معلوم الطهارة سابقا ، والجامع بينهما غير موجود ، فيلزم ما ذكرنا .

والفرق بينهما ظاهر ، نظير الفرق بين قاعدة البرائة واستصحابها ، ولا جامع بينهما .

وقد خفي ذلك على بعض

-------------------

مسبوقا بالطهارة أم لم يكن مسبوقا بالطهارة ، وسواء عَلِمْنا بأنه مسبوق بالطهارة أم لم نعلم به ؟ .

( و ) الحال إن المقصود ( في الاستصحاب ) والمناط فيه هو : ( خصوص إبقائها في معلوم الطهارة سابقا ) وقد عرفت : أن النسبة بين القاعدة وبين الاستصحاب من حيث المناط هو التباين ( والجامع بينهما ) أي : بين القاعدة والاستصحاب ( غير موجود ) حتى يقال : بأن الرواية استعملت في الجامع ، فشملت القاعدة والاستصحاب .

إذن : ( فيلزم ما ذكرنا ) من أن هذه الموثقة إمّا تفيد القاعدة ، وإمّا تفيد الاستصحاب ، وذلك لعدم وجود جامع بينهما .

( و ) إما ( الفرق بينهما ) أي : بين القاعدة والاستصحاب فإنه ( ظاهر ) وهو ( نظير الفرق بين قاعدة البرائة واستصحابها ) فإذا شك في وجوب الحج - مثلاً - فبمجرد ملاحظة الشك فيه يكون مجرى البرائة ، وبملاحظة سبق عدم وجوب الحج عليه يكون مجرى استصحاب عدم الوجوب ( ولا جامع بينهما ) أيضا لما عرفت : من أنّ بينهما التباين ، فلا يصح إرادتهما معا في دليل واحد .

هذا ( وقد خفي ذلك ) الذي أوضحناه من أنه لا جامع بينهما ( على بعض

ص: 295

المعاصرين ، فزعم جواز إرادة القاعدة والاستصحاب معا ، وأنكر ذلك على صاحب القوانين فقال : « إنّ الرواية تدلّ على أصلين أحدهما : أنّ الحكم الأوّلي للأشياء ظاهرا هي : الطهارةُ مع عدم العلم بالنجاسة .

وهذا لا تعلّق له بمسألة الاستصحاب .

الثاني : إنّ هذا الحكم مستمر الى زمن العلم بالنجاسة ، وهذا من موارد الاستصحاب وجزئياته » ، إنتهى .

-------------------

المعاصرين ) وهو النراقي قدس سره ( فزعم جواز إرادة القاعدة والاستصحاب معا ) في قوله : « كل شيء طاهر حتى تعلم إنه قذر » ( وأنكر ذلك ) أي : امتناع ارادتهما معا و ( على صاحب القوانين ) الذي قال : بأنه يمتنع إرادتهما معا في كلامه المتقدّم ( فقال : « إنّ الرواية تدلّ على أصلين ) كالتالي :

( أحدهما : أنّ الحكم الأوّلي للأشياء ظاهرا هي : الطهارة مع عدم العلم بالنجاسة ، وهذا ) يسمّى بقاعدة الطهارة ومعلوم : انه ( لا تعلّق له بمسألة الاستصحاب ) لأنّ الاستصحاب عبارة عن سحب الحالة السابقة المتيقّنة الى الحالة اللاحقة المشكوكة ، وقاعدة الطهارة لا تحتاج الى مثل ذلك .

( الثاني : أنّ هذا الحكم مستمر الى زمن العلم بالنجاسة ، وهذا من موارد الاستصحاب وجزئياته » (1) ) فإنّ سحب الطهارة السابقة الى الحالة اللاحقة المشكوكة جزئي من جزئيات الاستصحاب ، وإلاّ فالاستصحاب عام يشمل : استصحاب النجاسة ، واستصحاب الملكية ، واستصحاب الحرية ، واستصحاب الزوجية ، وغير ذلك ( إنتهى ) كلام النراقي .

ص: 296


1- - الفصول الغروية : ص361 .

أقول : ليت شعري ما المشار اليه بقوله : « هذا الحكم مستمرّ الى زمن العلم بالنجاسة » ، فإن كان هو الحكم المستفاد من الأصل الأوّلي ، فليس استمراره ظاهرا ولا واقعا مُغيّا بزمان العلم بالنجاسة ، بل هو مستمر الى زمن نسخ هذا الحكم في الشريعة .

-------------------

( أقول : ليت شعري ) أي : ليتني كنت أشعر وأفهم ( ما المشار اليه بقوله : « هذا الحكم مستمرّ الى زمن العلم بالنجاسة » فإن كان هو ) أي : المشار اليه : ( الحكم المستفاد من الأصل الأوّلي ) أي : قاعدة الطهارة بمعنى إن ثبوت الطهارة للأشياء ظاهرا مغيّى بزمن العلم بالنجاسة ، مما حاصله :

إنّ المغيّى والغاية - وهما قاعدة الطهارة - مستمران الى زمن العلم بالنجاسة ، فإن كان هذا هو المشار اليه ففيه ما يلي :

أولاً : إنه غير تام ، إذ المغيّى والغاية معتبران شرعا الى زمان النسخ ، فقاعدة الطهارة حكم شرعي باق الى أن ينسخه الشارع ، لا الى أن يعلم المكلّف بالنجاسة .

ثانيا : إن الغاية إذا جُعلت غاية للحكم الأوّل وهي : الطهارة الظاهرية ، فالحكم الثاني الذي هو الاستصحاب لا يكون مغيّى بتلك الغاية .

والى الاشكال الأوّل أشار المصنِّف بقوله : ( فليس استمراره ظاهرا ولا واقعا مُغيّا بزمان العلم بالنجاسة ، بل هو ) أي : الحكم بالطهارة حكم شرعي ( مستمر الى زمن نسخ هذا الحكم في الشريعة ) الاسلامية .

إذن : فالقاعدة وهي الحكم بثبوت الطهارة الى زمن العلم بالنجاسة ليس مستمرا الى زمن العلم بالنجاسة ، بل مستمر الى زمن النسخ إن فُرِضَ نسخه ، وإن لم يفرض نسخه كان مستمرا الى يوم القيامة .

ص: 297

مع أنّ قوله « حتى تعلم » إذا جُعِلَ من توابع الحكم الأوّل الذي هو الموضوع للحكم الثاني ، فمن أين يصير الثاني مُغيّا به ؟ ، إذ لا يعقل كونُ شيء في استعمال واحد غايةً لحكم ولحكم آخر يكون الحكم الأوّل المغيّا موضوعا له ؛ وإن كان هو الحكم الواقعي المعلوم ، يعني : أنّ الطهارة إذا ثبت واقعا في زمان ، فهو مستمر

-------------------

والى الاشكال الثاني أشار بقوله : ( مع أنّ قوله «حتى تعلم» إذا جُعِلَ من توابع الحكم الأوّل ) بأن كان خبرا لقوله : كل شيء طاهر ( الذي هو ) أي : الحكم الأوّل بمجموعه من المغيّى والغاية ( الموضوع للحكم الثاني ) أعني : الاستصحاب ( فمن أين يصير الثاني مُغيّا به ؟ ) أي : بالأول ، وذلك لأن الغاية والمغيّى صارا عبارة عن الحكم الأوّل ، والحكم الأوّل مستمر ، فمن أين تكون الغاية التابعة للحكم الأوّل تابعة للحكم الثاني أيضا ؟ .

وإنّما لا يكون ذلك ( إذ لا يعقل كونُ شيء في استعمال واحد غاية لحكم ) وهو الطهارة الظاهرية في المثال ( ولحكم آخر ) وهو الاستصحاب بحيث ( يكون الحكم الأوّل المغيّا موضوعا له ) أي : للحكم الآخر .

وإنّما لا يعقل ذلك لوضوح : إنه إذا كان غاية للموضوع ، يقتضي تقدمه على الحكم الثاني ، وكونه غاية للحكم الثاني ، يقتضي تأخره عن الحكم الثاني ، فيلزم تقدّم الشيء على نفسه كما يلزم كون شيء واحد في آن واحد مقدما ومؤخرا .

هذا إن كان المشار اليه هو استمرار الحكم المستفاد من الأصل الأوّل .

( وإن كان ) المشار اليه في كلام النراقي : ( هو الحكم الواقعي المعلوم ) عند المكلّف ، وذلك ( يعني : أنّ الطهارة إذا ثبت واقعا في زمان ، فهو مستمر

ص: 298

في الظاهر الى زمن العلم بالنجاسة ، فيكون الكلام مسوقا لبيان الاستمرار الظاهري فيما علم ثبوتُ الطهارة له واقعا في زمان .

فأين هذا من بيان أصل قاعدة الطهارة من حيث هي ، للشيء المشكوك من حيث هو مشكوك .

ومنشأ الاشتباه في هذا المقام ملاحظة عموم القاعدة لمورد الاستصحاب ،

-------------------

في الظاهر الى زمن العلم بالنجاسة ، فيكون ) مفيدا للاستصحاب فقط .

وإنّما يكون مفيدا للاستصحاب فقط ، لأن ( الكلام ) حينئذ يكون ( مسوقا لبيان الاستمرار الظاهري فيما علم ثبوتُ الطهارة له واقعا في زمان ) أول .

وعليه : ( فأين هذا ) الكلام المسوق لبيان الاستصحاب ( من بيان أصل قاعدة الطهارة من حيث هي ) فان قاعدة الطهارة إنّما هي بخلاف الاستصحاب قد شرعت ( للشيء المشكوك ) طهارته ونجاسته ( من حيث هو مشكوك ) فالقاعدة إذن والاستصحاب متباينان ، فإذا استعملت الموثقة فيهما لزم استعمالها في معنيين .

أقول : لكنك قد عرفت سابقا : ان المستفاد عرفا من الموثقة : القاعدة والاستصحاب معا كما استفاده النراقي ، فكأن الإمام عليه السلام قال : كل شيء طاهر وطهارته مستمرة الى زمن العلم بالنجاسة ، فليست الغاية غاية إلاّ للحكم الثاني وهو استمرار الطهارة .

( و ) أما ( منشأ الاشتباه ) من النراقي بنظر المصنِّف ( في هذا المقام ) حيث توهّم أن الموثقة تريد قاعدة الطهارة واستصحاب الطهارة معا ، فهو ( ملاحظة عموم القاعدة لمورد الاستصحاب ) فقد تقدّم : أن القاعدة من حيث المورد أعمّ

ص: 299

فيتخيّل أنّ الرواية تدلّ على الاستصحاب .

وقد يقال أنّ دلالة الرواية على طهارة مستصحب الطهارة غير دلالتها على اعتبار استصحاب الطهارة ، وإلاّ

-------------------

من الاستصحاب .

وعليه : ( فيتخيّل ) للنراقي من ذلك : ( أنّ الرواية تدلّ على الاستصحاب ) أيضا ، بينما الرواية تدلّ على مورد الاستصحاب لا على الاستصحاب بنفسه ، وذلك لأن مورد الاستصحاب وإن كان متحدا مع مورد القاعدة وهو : كونه مشكوك الطهارة ، إلاّ أن وحدة المورد لا فائدة فيه بعد اختلاف مناطهما على ما عرفت .

إذن : فمشكوك الطهارة يكون موردا للقاعدة ، سواءا كان مسبوقا بالطهارة أم لم يكن مسبوقا بالطهارة ، وهذا لا يعني الدلالة على الاستصحاب أيضا ، فإذا وجب - مثلاً - إكرام العلماء ووجب إكرام الأب ، فإنه يجب إكرام الأب لأنه عالم ، إذ وجوب إكرام العالم لا يفرق فيه بين أن يكون أبا وأ غير أب ، لا لأن أكرم العلماء يشمل قاعدة إكرام الأب .

وعليه : فإنّ هناك فرقا بين أن يكون إكرام الأب موردا لأكرم العلماء ، وبين أن يكون أكرم العلماء دالاً على وجوب إكرام الأب بما هو أب .

( وقد يقال ) في ردّ النراقي : إنه كيف زعم جواز شمول الموثقة للقاعدة والاستصحاب معا مع ( أنّ دلالة الرواية على طهارة مستصحب الطهارة غير دلالتها على اعتبار استصحاب الطهارة ) فمستصحب الطهارة مورد بينما استصحاب الطهارة هو استصحاب .

( وإلاّ ) بأن سلّمنا دلالة الموثقة على المستصحب والاستصحاب معا ، فإنه

ص: 300

فقد أشرنا الى أنّ القاعدة تشمل مستصحب النجاسة أيضا ، كما سيجيء .

ونظير ذلك ما صنعه صاحب الوافية ، حيث ذكر روايات أصالة الحلّ الواردة في مشتبه الحكم أو الموضوع

-------------------

يلزم منه التناقض في داخل الموثقة ، إذ الموثقة كما تشمل مستصحب الطهارة باعتبار إنه مشكوك الطهارة والنجاسة ، كذلك تشمل مستصحب النجاسة أيضا باعتبار إنه مشكوك الطهارة والنجاسة وذلك يستلزم التناقض كما قال : ( فقد أشرنا الى أنّ القاعدة تشمل مستصحب النجاسة أيضا ، كما سيجيء ) ولو شملت الرواية مستصحب النجاسة لزم التناقض .

وإنّما يلزم منه التناقض لأن مستصحب النجاسة طاهر لقاعدة كل شيء طاهر ، ونجس لقاعدة استصحاب النجاسة ، والمفروض : إن الموثقة تشمل القاعدة والاستصحاب معا ، فتكون الموثقة شاملة للمتناقضين ، لكن الموثقة لا يمكن أن تكون شاملة للمتناقضين ، فيلزم إما أن تشمل مستصحب الطهارة ، أو استصحاب الطهارة ، لا كليهما - كما قاله النراقي - .

( ونظير ذلك ) الذي صنعه النراقي حيث جعل الرواية دالّة على قاعدة الطهارة واستصحاب الطهارة معا ( ما صنعه صاحب الوافية ) الفاضل التوني رحمه اللّه ( حيث ذكر روايات أصالة الحلّ الواردة في مشتبه الحكم أو الموضوع ) فإن روايات الحل تدّل على أن الشبهة الحكمية التحريمية وكذلك الشبهة الموضوعية التحريمية حكمها : الحلية .

مثلاً : إذا لم نعلم هل إن التتن حرام أو حلال؟ فهو حلال ، وكذلك إذا لم نعلم هل إن هذا المائع ماء أو خمر؟ فهو حلال أيضا .

ص: 301

في هذا المقام .

ثم على هذا كان ينبغي ذكر أدلة أصالة البرائة ، لأنّها أيضا متصادقة مع الاستصحاب من حيث المورد .

-------------------

وعليه : فإن روايات الحلّ مثل : « كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام » (1) قد إستدل بها صاحب الوافية ( في هذا المقام ) أي : مقام الاستدلال على اعتبار الاستصحاب ، مما يدل على إن صاحب الوافية يرى : إن روايات الحل تشمل الشبهة الحكمية ، والموضوعية وتشمل استصحاب الحل أيضا .

وأما منشأ اشتباهه فهو عموم قاعدة الحل لمورد استصحاب الحل ، لا إن روايات الحل تشمل قاعدة الحل واستصحاب الحل معا ، وذلك على التقريب المتقدم في ردّ النراقي .

( ثم على هذا ) أي : على فرض أنّه لو كان عموم قاعدة الطهارة وقاعدة الحلّ لمورد استصحاب الطهارة واستصحاب الحلّ دليلاً على اعتبار القاعدة والاستصحاب فيهما معا ( كان ينبغي ذكر أدلة أصالة البرائة ) مثل : حديث الرفع ، (2) وحديث الحجب (3) ، وما أشبه دليلاً على الاستصحاب أيضا .

وإنّما كان ينبغي ذكرها ( لأنّها أيضا متصادقة مع الاستصحاب من حيث المورد ) فإن الحكم بالبرائة عن التكليف المشكوك يشمل ما إذا كان مسبوقا بالتكليف أو كان مسبوقا بعدم التكليف ، أو لم يكن له سابقة أصلاً .

ص: 302


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
2- - انظر تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 ح27 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .
3- - انظر الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .

فالتحقيق : أنّ الاستصحاب من حيث هو مخالف للقواعد الثلاث : البرائة والحلّ والطهارة ، وإن تصادقت مواردُها .

فثبت من جميع ما ذكرنا : أنّ المُتعيّن : حمل الرواية المذكورة

-------------------

مثلاً : المسبوق بالتكليف كصوم يوم الشك من شوال ، والمسبوق بالبرائة كصوم يوم الشك من شعبان ، وما لا سابقة له كشرب التتن بعد البلوغ إذا شك في أن التتن بعد البلوغ حرام أو حلال ، فإن هذه كلها - كما رأيت - موارد للاستصحاب أيضا .

إذن : فموارد دليل البرائة تتصادق مع موارد دليل الاستصحاب ، لكن هذا التصادق لا يستلزم الاستدلال بدليل البرائة على استصحاب البرائة ، وذلك لأن البرائة إنّما هو بملاحظة الشك في التكليف ، لا بملاحظة استصحاب البرائة في المسبوق بالبرائة على ما عرفت مثاله : من إكرام الأب لأنه عالم لا لأنه أب .

وعلى هذا : ( فالتحقيق : أنّ الاستصحاب من حيث هو ) أي : من حيث المناط الذي هو لحاظة الحالة السابقة وسحبها الى الحالة اللاحقة المشكوكة ( مخالف للقواعد الثلاث : البرائة ) وهي عند الشك في التكليف ( والحلّ ) الذي هو في مشتبه الحرمة ( والطهارة ) التي هي في مشتبه النجاسة .

إذن : فالاستصحاب مخالف للقواعد الثلاث مناطا ( وإن تصادقت مواردها ) على ما علمت من أن القواعد الثلاث : من البرائة والحل والطهارة موردها أعمّ مطلقا من مورد الاستصحاب ، لكن التصادق موردا شيء والدلالة على الاستصحاب شيء آخر ، ولا تلازم بين التصادق موردا والدلالة لفظا .

( فثبت من جميع ما ذكرنا : أنّ المتعيّن : حمل الرواية المذكورة )

ص: 303

على أحد المعنيين ، والظاهر : إرادة القاعدة ، نظير قوله : « كُلّ شيءٍ لك حلالٌ » ، حملَه على الاستصحاب وحملَ الكلام على إرادة خصوص الاستمرار فيما علم طهارته سابقا ، خلاف الظاهر ، إذ ظاهر الجملة الخبريّة إثبات أصل المحمول للموضوع ، لا إثبات استمراره في مورد الفراغ عن ثبوت أصله .

-------------------

من قوله عليه السلام : « كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر » (1) ( على أحد المعنيين ) أما القاعدة وأما الاستصحاب ، لا كما صنعه النراقي من حملها على كلا المعنيين .

هذا ( والظاهر : إرادة القاعدة ) من الرواية بنظر المصنِّف لا الاستصحاب ، فتكون الرواية بذلك ( نظير قوله ) عليه السلام : ( « كُلّ شيءٍ لك حلالٌ » (2) ) ونظير قوله عليه السلام : رفع ... ما لا يعلمون (3) ، وغير ذلك من أدلة البرائة .

وإنّما يكون الظاهر ذلك ( حملَه على الاستصحاب ، و ) بتعبير ثانٍ ( حملَ الكلام ) في الرواية المذكورة ( على إرادة خصوص الاستمرار فيما علم طهارته سابقا ، خلاف الظاهر ) المنسبق من الرواية ( إذ ظاهر الجملة الخبريّة ) في قوله عليه السلام : « كل شيء طاهر » ( إثبات أصل المحمول للموضوع ) أي : الطهارة للشيء المشكوك .

( لا إثبات استمراره في مورد الفراغ عن ثبوت أصله ) بأن يقال : إن الطهارة للمشكوك مفروغ عنها ، وإنّما الكلام في استمرارها وعدم استمرارها .

ص: 304


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح42053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
3- - تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 ح27 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769.

نعم ، قوله : « حتى تعلم » يدل على استمرار المغيّا لكن المغيّا به الحكم بالطهارة ، يعني : هذا الحكم الظاهري مستمر له الى كذا ، لا أنّ الطهارة الواقعيّة المفروغ عنها مستمرّةٌ ظاهرا الى زمن العلم .

-------------------

( نعم ، قوله : « حتى تعلم » يدل على استمرار المغيّا ) فإن المغيّى فيه استمرار ، لكن لا استمرار الاستصحاب ، ولهذا قال المصنِّف : ( لكن المغيّا به ) والضمير في به راجع الى حتى ، فيكون المراد بالمغيّى به هو : ( الحكم بالطهارة يعني : هذا الحكم الظاهري مستمر له ) أي : للشيء ( الى كذا ) ومصداق كذا هو العلم بالنجاسة .

( لا أنّ الطهارة الواقعيّة المفروغ عنها ، مستمرّةٌ ظاهرا الى زمن العلم ) بالنجاسة .

إذن : فقوله حتى تعلم ، بنظر المصنِّف يفيد : إن مشكوك الطهارة مستمر طهارته الظاهرية الى زمن العلم ، لا أن الطهارة الواقعية مستمرة الى زمن العلم ، والمعيار في الاستصحاب هو الثاني حيث إن الاستصحاب كاشف عن الواقع ، فاللازم أن تكون الطهارة الواقعية للشيء مستمرة الى أن يعلم بخلافه لا الطهارة الظاهرية ، كما ان الحلية الواقعية للشيء مستمرة الى أن يعلم بحرمته لا الحلية الظاهرية ، وان الحياة الواقعية للشخص مستمرة الى أن يعلم بموته لا الحياة الظاهرية ، وهكذا .

لكن يمكن أن يقال : إن الاستصحاب أعم من الواقعي والظاهري ، فالحكم الثابت واقعا أو ظاهرا مستمر الى العلم بالخلاف ، كما إذا شهدت البيّنة على الطهارة فإنه حكم ظاهري ، ويستمر الى أن نعلم بالخلاف .

ص: 305

ومنها : قوله عليه السلام : « الماءُ كلُّه طاهرٌ حتى تعلَم أنّه نجسٌ » .

وهو وان كان متحدا مع الخبر السابق من حيث الحكم والغاية إلاّ أنّ الاشتباه في الماء من غير جهة عروض النجاسة للماء ، غير متحقق غالبا .

-------------------

ثالثا : ( و ) مثل الروايتين السابقتين في كونهما من الأخبار الواردة في الموارد الخاصة وتدل على الاستصحاب أيضا رواية ثالثة أشار اليها المصنِّف بقوله : ( منها : قوله عليه السلام : « الماءُ كلُّه طاهرٌ حتى تعلَم أنّه نجسٌ »(1) ) مما يشبه موثّقة عمار إلاّ من جهة واحدة كما قال : ( وهو وان كان متحدا مع الخبر السابق ) أي : مع موثقة عمار : «كل شيء طاهر حتى تعلم إنه قذر» (2) ( من حيث الحكم والغاية ) فإن في كل من الخبرين قد حكم بطهارة المشكوك الى زمن العلم بالنجاسة .

( إلاّ أنّ الاشتباه في الماء من غير جهة عروض النجاسة للماء ، غير متحقق غالبا ) فإن الخبر السابق كان بالنسبة الى كل شيء وهذا الخبر بالنسبة الى الماء فقط ، والفارق بينهما ما يلي :

إن قوله : « كل شيء طاهر » : يشمل كل ما يشك في طهارته بحسب خلقته الأصلية مثل : خرء الطير الحرام اللحم ونحوه فإنهم اختلفوا في إنه طاهر أم لا ؟ فيناسبها إرادة قاعدة الطهارة لبيان : إن كل شيء مشكوك الطهارة فهو محكوم ظاهرا بالطهارة الى زمن العلم بالقذارة .

وأمّا قوله : « الماء كله طاهر » ، فإنه لا يشمل كل ما يشك في طهارته بل هو في خصوص الماء ، ولا شك في طهارة المياه بحسب خلقتها الأصلية .

ص: 306


1- - وقريب منه ورد في الكافي فروع : ج3 ص1 ح2 وح3 وتهذيب الاحكام : ج1 ص215 ب10 ح2 ووسائل الشيعة : ج1 ص134 ب1 ح326 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .

فالأولى حملها على إرادة الاستصحاب ، والمعنى : « أنّ الماء المعلوم طهارتُه بحسب أصل الخلقة طاهرٌ ، حتى تعلم .. » أي : مستمر طهارته المفروضة الى حين العلم بعروض القذارة له ، سواء كان الاشتباه وعدم العلم من جهة الاشتباه في الحكم ، كالقليل الملاقي للنجس ، والبئر ،

-------------------

كما إن الغالب الذي يندر خلافه هو : إن الشك في الماء يحصل من جهة احتمال عروض النجاسة مع سبق الطهارة ، إلاّ في بعض الافراد النادرة حيث لا يكون الشك فيها من هذه الجهة مثل : الكر المتغير الزائل تغيره بنفسه ، والكر المجتمع من المياه النجسة ، حيث اختلفوا في إنه هل يطهر بذلك لصدق قوله : « الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسّه شيء » (1) ، أو لم يطهر بذلك لعدم صدقه عليه .

وهكذا بالنسبة الى الماء النجس المتمم كرا بطاهر ، فهل يكون طاهرا أو يكون نجسا ، وذلك لأن الماء لا يمكن أن يكون له حكمان بعضه طاهر وبعضه نجس ؟.

إذن : ( فالأولى حملها ) أي : حمل هذه الرواية الثالثة ( على إرادة الاستصحاب ) فتكون من الروايات الدالة على حجية الاستصحاب ( و ) يكون ( المعنى « أنّ الماء المعلوم طهارته بحسب أصل الخلقة طاهر حتى تعلم .. » ) ومعنى إنه طاهر حتى تعلم ( أي : مستمر طهارته المفروضة الى حين العلم بعروض القذارة له ) وهذا هو معنى الاستصحاب .

وعليه : فالرواية تدل على الاستصحاب وتشمل الشبهة الحكمية والموضوعية معا كما قال المصنِّف : ( سواء كان الاشتباه وعدم العلم من جهة الاشتباه في الحكم ، كالقليل الملاقي للنجس ، والبئر ) فإن هذا من الشبهة الحكمية .

ص: 307


1- - الكافي فروع : ج3 ص2 ح1 و2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص150 ب6 ح118 ، الاستبصار : ج1 ص6 ب1 ح1 و ح2 ، وسائل الشيعة : ج1 ص158 ب9 ح391 .

أم كان من جهة الاشتباه في الأمر الخارجي ، كالشك في ملاقاته للنجاسة أو نجاسة ملاقيه .

ومنها: قوله عليه السلام: «إذا استَيقنْتَ أنّك قد توضأت، فإيّاك أن تُحْدِثَ وضوءا،

-------------------

وإنّما يكون من الشبهة الحكمية لأنا لا نعلم هل إن الشارع حكم بنجاسة الماء القليل الملاقي للنجس أم لا ؟ وكذا هل حكم بنجاسة ماء البئر الملاقي للنجس كما يقول به بعض أم لا ؟ .

ومن المعلوم : إن هذين المثالين من الشبهة الحكمية مما يحتاج لمعرفتها الى استطراق باب الشرع .

( أم كان من جهة الاشتباه في الأمر الخارجي ) من الشبهة الموضوعية ( كالشك في ملاقاته للنجاسة ) فيما إذا علمنا إنه يتنجس بالملاقاة لكن لم نعلم هل انه لاقى نجسا أو لم يلاقه ؟ .

( أو نجاسة ملاقيه ) بأن لم نعلم هل إن هذا الماء لاقى البول أو لاقى مايعا من المايعات الطاهرة غير البول .

ومن المعلوم : إن هذين المثالين من الشبهة الموضوعية مما يحتاج لمعرفتها الى استطراق باب العرف .

رابعا : ( و ) مثل الروايات الثلاث السابقة في كونها من الأخبار الواردة في الموارد الخاصة وتدل على الاستصحاب أيضا رواية رابعة أشار اليها المصنِّف بقوله : ( منها : قوله عليه السلام : « إذا استَيقنْتَ أنّك قد توضأت ، فإيّاك أن تُحْدِثَ وضوءا ) أي : إنك لا تحتاج الى وضوء جديد بعنوان التشريع ، وإن جاز لك ذلك بعنوان التجديد أو الاحتياط .

ص: 308

حتى تستيقِن أنّك أحدثت » .

ودلالته على استصحاب الطهارة ظاهرة .

ثم إنّ اختصاص ما عدا الأخبار العامة بالقول المختار واضحٌ . وأمّا الأخبار العامّة ، فالمعروف بين المتأخرين : الاستدلال بها على حجية الاستصحاب في جميع الموارد .

-------------------

إذن : فلا تحدث الوضوء ( حتى تستيقِن أنّك أحدثت » (1) ) حدثا مبطلاً لوضوئك الذي كنت عليه ( ودلالته على استصحاب الطهارة ظاهرة ) فلا حاجة الى تفصيل الكلام فيه .

( ثم إنّ اختصاص ما عدا الأخبار العامة بالقول المختار ) لدى المصنِّف : من إن موردها هو الشك في الرافع ، لا الشك في المقتضي ( واضحٌ ) لأن الاخبار الخاصة كلها واردة في مورد الشك في الرافع مثل : أن يكون سابقا طاهرا ويحتمل النجاسة ، أو يكون متطهرا ويحتمل الحدث ، أو يكون محدثا ويحتمل التطهر .

ومن المعلوم : إن الحدث ، وكذا الطهارة من الحدث أو الخبث هي مما إذا وجدت دامت إلاّ بالرافع .

( وأما الأخبار العامّة ) التي مرّ ذكرها سابقا الدالة على حرمة نقض اليقين بالشك ( فالمعروف بين المتأخرين : الاستدلال بها على حجية الاستصحاب في جميع الموارد ) سواء كان شكا في المقتضي أم شكا في الرافع .

والظاهر إن استدلال المتأخرين بها على حجية مطلق الاستصحاب ،

ص: 309


1- - الكافي : ج3 ص33 ح1 بالمعنى ، تهذيب الاحكام : ج1 ص102 ب4 ح117 (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح637 (بالمعنى) .

وفيه تأمّلٌ قد فتح بابه المحقق الخوانساري في شرح الدروس ،

توضيحه أنّ حقيقة النقض هو : رفع الهيئة الاتصالية ، في نقض الحبل ، والأقرب اليه على تقدير مجازيّته هو رفع الأمر الثابت ، وقد يطلق على مطلق رفع اليد عن الشيء ولو لعدم المقتضي له ، بعد أن كان آخذا به .

-------------------

هو مقتضى القاعدة وفي محله وإن قال المصنِّف : ( وفيه تأمّلٌ قد فتح بابه ) أي : باب هذا التأمل (المحقق الخوانساري في شرح الدروس) فان هنا التأمل ليس في محله .

وأما ( توضيحه ) أي : توضيح هذا التأمل وهو كما قال : ( أنّ حقيقة النقض هو : رفع الهيئة الاتصالية ، في نقض الحبل ) ونحو الحبل من الأمور التكوينية المستحكمة ، وحيث إن كلامنا في الأمور الاعتبارية ، لم يرد من النقض المعنى الحقيقي ، بل المعنى المجازي فما هو إذن أقرب المجازات اليه ؟ .

قال المصنِّف : ( والأقرب اليه على تقدير مجازيّته ) أي : مجازية النقض بعد عدم إرادة المعنى الحقيقي منه ( هو رفع الأمر الثابت ) بأن كان المقتضي موجودا ، وكان الشك في الرافع .

وإنّما يكون هذا هو أقرب المجازات الى الحقيقة ، لأن الشيء الذي لا يرتفع إلاّ برافع أقرب الى الأمر الثابت الخارجي من الشيء الذي يرتفع بنفسه .

هذا ( وقد يطلق ) النقض أيضا ( على مطلق رفع اليد عن الشيء ولو لعدم المقتضي له ، بعد أن كان ) الشخص ( آخذا به ) أي : بذلك الشيء .

مثلاً : رفع اليد عن التيمم عند وجدان الماء فيما إذا كان آخذه بالتيمم مستندا الى فقد الماء فيقال : نقض تيمّمه مع إنه لا مقتضي لبقاء تيممه مع وجدان الماء .

وكرفع اليد عن الصوم فيما إذا تمرّض في الأثناء فيقال : نقض صومه مع إن الشخص الذي يتمرّض في الأثناء لا مقتضي لبقاء صومه .

ص: 310

فالمراد من النقض : عدم الاستمرار عليه والبناء على عدمه بعد وجوده .

إذا عرفت هذا ، فنقول : إنّ الأمر يدور بين أن يراد بالنقض : مطلق ترك العمل وترتيب الأثر وهو المعنى الثالث ، ويبقى المنقوضُ عامّا لكلّ يقين ،

-------------------

وعلى هذا : ( فالمراد من النقض : عدم الاستمرار عليه ) أي : على الشيء ( والبناء على عدمه بعد وجوده ) أي : بعد وجود الشيء بلا فرق بين أن يكون رفع اليد عن الشيء لعدم المقتضي أو لوجود الرافع .

( إذا عرفت هذا ) الذي قلناه : من إن النقض الحقيقي في الاعتباريات متعذر وهو المعنى الأوّل للنقض ، يبقى المعنيان الآخران المجازيان وهما : النقض بسبب الرافع فقط ، والنقض بأعم من الرافع والمقتضي ، ويدور الأمر بينهما كما أشار اليه المصنِّف بقوله : ( فنقول : إنّ الأمر يدور بين أن يراد بالنقض : مطلق ترك العمل وترتيب الأثر ) بلا فرق بين أن يكون رفع اليد من باب الشك في المقتضي أو من باب الشك في الرافع .

( و ) عليه : فيكون النقض معنى : مطلق ترك العمل ( هو المعنى الثالث ) للنقض ، لأن المعنى الأوّل للنقض على ما عرفت هو : النقض الحقيقي وهو متعذر هنا ، والمعنى الثاني هو : رفع الأمر الثابت مما له مقتضي البقاء فقط : والمعنى الثالث هو : الأعم مما فيه مقتضى البقاء وما ليس فيه مقتضي البقاء .

( و ) عليه : فإذا أخذنا معنى النقض عاما ( يبقى المنقوضُ عامّا لكلّ يقين ) سواء تعلق بأمر لا يرتفع إلاّ برافع كالوضوء ، أو تعلق بأمر يرتفع بانتهاء استعداده كالتيمم .

إذن : فالأمر بعد تعذّر المعنى الحقيقي للنقض يدور بين مطلق ترك العمل

ص: 311

وبين أن يراد من النقض ظاهره ، وهو المعنى الثاني ، فيختص متعلقه بما من شأنه الاستمرار ، المختص بالموارد التي يوجد فيها هذا المعنى .

ولا يخفى رجحان هذا على الأوّل ، لأنّ الفعل الخاص يصير مخصّصا لمتعلّقه العام ،

-------------------

حيث قد تقدّم بحثه ( وبين أن يراد من النقض ظاهره ، وهو المعنى الثاني ) أي : رفع الأمر الثابت مما يكون الشك في الرافع فقط ( فيختص ) على المعنى الثاني ( متعلقه ) أي : متعلق النقض وهو المنقوض ( بما ) أي : باليقين الذي ( من شأنه الاستمرار ، المختص بالموارد التي يوجد فيها هذا المعنى ) أي : معنى الاستمرار .

وعليه : فإنا إذا أخذنا معنى النقض خاصا بأن جعلناه بمعنى : رفع الأمر الثابت وهو المعنى الثاني للنقض ، أصبح المنقوض خاصا باليقين الذي له طبيعة الاستمرار وفيه اقتضاء البقاء ، كاليقين بالطهارة حيث من طبيعتها البقاء إلاّ بالرافع وكاليقين بالنجاسة حيث من طبيعتها البقاء إلاّ بالرافع ، وهكذا .

( ولا يخفى رجحان هذا ) أي : المعنى الثاني وهو الخاص بما من شأنه الاستمرار ( على الأوّل ) أي : المعنى الثالث وهو العام الشامل لما من شأنه الاستمرار وما ليس من شأنه الاستمرار .

وإنّما يكون المعنى الثاني وهو المعنى الخاص للنقض أرجح ( لأنّ الفعل الخاص ) الذي هو النقض في المثال ( يصير ) بحسب فهم العرف ( مخصّصا لمتعلّقه العام ) أي : لمتعلق النقض وهو اليقين .

وعليه : فإن اليقين وإن كان عاما يشمل كل يقين سواء كان فيه مقتضى البقاء أم لم يكن ، إلاّ أن النقض لظهوره في رفع الأمر الثابت الظاهر فيما فيه مقتضى البقاء يخصصه بالشك في الرافع فيصير قرينة على إن المراد من اليقين هو : الخاص

ص: 312

كما في قول القائل : لا تضرب أحدا ، فإنّ الضرب قرينة على اختصاص العام بالأحياء ، ولايكون عمومه للأموات

-------------------

بالأمر الذي من شأنه الاستمرار مثل اليقين بالطهارة ، واليقين بالنجاسة ، واليقين بالملكية ، وما أشبه ذلك لا اليقين بالأعم منه .

والحاصل : إنّ علماء البلاغة ذكروا في كتب البلاغة : إنّ الموضوع قد يكون قرينة على التصرّف في الحكم ، كما إن الحكم قد يكون قرينة على التصرف في الموضوع ، مثلاً إذا قال : رأيت في الملعب أسدا يرمي ، كان يرمي قرينة على التصرف في الأسد وإرادة الرجل الشجاع منه ، وإذا قال : رأيت في المسبعة أسدا يرمي ، كان الأسد قرينة على التصرف في الرمي وإرادة الحجارة منه .

ولهذا قالوا : بأن الحكم قد يخصص الموضوع أو يعممه ، كما إن الموضوع قد يعمم الحكم أو يخصصه ، وفي المقام : « لا تنقض » وهو حكم ، قرينة على التصرف في الموضوع وهو « اليقين » .

وعليه : فإن اليقين وإن كان شاملاً لقسمي اليقين إلاّ أن لا تنقض الظاهر في اختصاصه بالشك في الرافع ، يكون قرينة للتصرف في اليقين وإرادة اليقين الخاص بالأمر المستمر ، لا العام الشامل للأمر الذي ينتهي بنفسه أيضا ، فالمقام إذن من التصرف في الموضوع بسبب الحكم .

والى بيان هذا المعنى أشار المصنِّف حيث قال : ( كما في قول القائل : لا تضرب أحدا فإنّ الضرب ) حيث كان ظاهرا في الايلام يكون ( قرينة على اختصاص العام ) وهو أحد ( بالأحياء ) فإن الأموات لا يتألمون بسبب الضرب .

( و ) حينئذ : ( لايكون عمومه ) أي : عموم أحد الشامل ( للأموات ) الفاقدين

ص: 313

قرينة على ارادة مطلق الضرب عليه كسائر الجمادات .

ثم لا يتوهّم الاحتياج حينئذ الى تصرّف في اليقين بإرادة المتيقّن منه ،

-------------------

للحس ( قرينة على ارادة مطلق الضرب عليه ) حتى الفاقدين للحس ( كسائر الجمادات ) .

ولذلك يستفيد العرف من مثل هذه العبارة ، لزوم التصرف في الموضوع بسبب الحكم .

( ثم ) إنه إن قلت : إنا لو أردنا بالنقض المعنى الثاني وهو المعنى الخاص لزم رفع اليد عن ظاهر اليقين وتأويله بالمتيقن ، بخلاف ما إذا أردنا به المعنى الثالث وهو المعنى العام حيث لا يلزم منه هذا المجاز ، فيترجح على ذلك المعنى الثالث للنقض ، لا المعنى الثاني الذي ارتضاه المصنِّف .

وبعبارة أخرى : إن النقض لو كان بمعنى رفع اليد عن الشيء وهو المعنى الثالث للنقض كان اليقين فيه باقيا على حاله بلا تصرف فيه لأن اليقين يمكن نقضه برفع اليد عنه ، فيكون معنى « لا تنقض اليقين » : لا ترفع اليد عن اليقين .

وأما لو كان بمعنى رفع الأمر الثابت وهو المعنى الثاني للنقض : فلابد من التصرف في اليقين وجعله فيه بمعنى المتيقن لأن المتيقن كالطهارة - مثلاً - هو الأمر الثابت الذي يمكن نقضه ، لا نفس اليقين ، فيكون معنى لا تنقض اليقين : لا ترفع المتيقن الذي هو أمر ثابت .

هذا ، ومن المعلوم : إن إرادة ما لا تصرّف فيه مقدّم على ما فيه تصرّف .

إن قلت ذلك قلت : ( لا يتوهّم الاحتياج حينئذ ) أي : حين إرادة المعنى الثاني للنقض ( الى تصرّف في اليقين بإرادة المتيقّن منه ) أي : من اليقين ، وذلك

ص: 314

لأنّ التصرّف لازم على كل حال .

فإنّ النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه لا يتعلّق بنفس اليقين على كلّ تقدير ، بل المراد نقض ما كان على يقين منه ، وهو الطهارة السابقة أو أحكام اليقين .

والمراد بأحكام اليقين ليس أحكام نفس وصف اليقين ،

-------------------

( لأنّ التصرّف لازم على كل حال ) سواء قلنا بالمعنى الثاني للنقض ، أم قلنا بالمعنى الثالث له ؟ .

وإنّما يكون التصرف في اليقين لازما لأنه كما قال : ( فإنّ النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه لا يتعلّق بنفس اليقين على كلّ تقدير ) أي : سواء على تقدير المعنى الثاني للنقض ، أم تقدير المعنى الثالث له ، وذلك لأن اليقين بنفسه قد انتقض بطروّ الشك عليه ، فلا يكون نقضه اختياريا حتى ينهى الشارع عنه .

إذن : فلا يكون المراد من اليقين المنهي عن نقضه هو : نفس اليقين ( بل المراد ) من اليقين المنهي عن نقضه هو : إمّا ( نقض ما كان على يقين منه ، وهو ) أي : ما كان على يقين منه مثلاً : ( الطهارة السابقة ) ومن المعلوم : إن الطهارة السابقة ليست هي نفس اليقين بل المتيقن .

( أو ) المراد من اليقين المنهي عن نقضه هو : ( أحكام اليقين ) وهو مثلاً : جواز الدخول في الصلاة في مورد سبق الطهارة ، وجواز مس كتابة القرآن ، وجواز الدخول في الطواف ، وما أشبه ذلك من الشبهات الحكمية ، أو مثلاً : وجوب نفقة الزوجة في مورد سبق الحياة ، وعدم تقسيم أمواله ، وحرمة الزواج من زوجته ، وما أشبه ذلك من الشبهات الموضوعية .

( و ) من المعلوم : إن ( المراد بأحكام اليقين ليس أحكام نفس وصف اليقين ،

ص: 315

إذ لو فرضنا حكما شرعيا محمولاً على نفس صفة اليقين ارتفع بالشك قطعا ، كمن نذر فعلاً في مدّة اليقين بحياة زيد .

بل المراد أحكام المتيقّن المُثبتة له من جهة اليقين ،

-------------------

إذ لو فرضنا حكما شرعيا محمولاً على نفس صفة اليقين ارتفع ) ذلك الحكم ( بالشك ) فإن الصفة ترتفع بارتفاع الموصوف ( قطعا ، كمن نذر فعلاً في مدّة اليقين بحياة زيد ) .

مثلاً : إذا نذر بأن يعطي الفقير كل يوم درهما ما دام له صفة اليقين بحياة زيد فإنه إذا ارتفعت منه صفة اليقين وتبدلت بالشك إرتفع موضوع وجوب اعطاء الدرهم للفقير ، ولا ينفع فيه الاستصحاب ، لأن الاستصحاب لا يورث في النفس صفة اليقين حتى يتحقق موضوع النذر .

إذن : فلا يكون المراد من أحكام اليقين المنهي عن نقضها هو أحكام نفس صفة اليقين .

( بل المراد ) من أحكام اليقين المنهي عن نقضها هو : ( أحكام المتيقّن المُثبتة له ) أي : للمتيقن ( من جهة اليقين ) فهنا أربعة أمور :

الأوّل : اليقين بنفسه ، وقد ارتفع قطعا ، لأنه لا يعقل الجمع بين الشك واليقين في الصفة النفسية .

الثاني : ما هو حكم صفة اليقين ، كمثال النذر وقد ارتفع أيضا بزوال صفة اليقين عن النفس بسبب الشك .

الثالث : متعلق اليقين كالطهارة وما أشبه وهو : المتيقن .

الرابع : احكام المتيقن كالدخول في الصلاة وما أشبه : وهذان الأخيران اللذان نهى الشارع عن نقضهما فيستصحبان دون الأولين .

ص: 316

وهذه الأحكام كنفس المتيقن أيضا لها استمرارٌ شأني لا يرتفع إلاّ بالرافع ، فإنّ جواز الدخول في الصلاة بالطهارة أمرٌ مستمر الى أن يحدث ناقضها .

وكيف كان : فالمراد : إمّا نقض المتيقّن فالمراد بالنقض : رفع اليد عن مقتضاه وإمّا نقض أحكام اليقين ، أي الثابتة للمتيقّن من جهة اليقين به

-------------------

إذن : فلابد من التصرف في اليقين المنهي عن نقضه على كل تقدير ( و ) إرادة إما المتيقن منه أو أحكام المتيقن ، علما بأن ( هذه الأحكام ) التي هي للمتيقن كالدخول في الصلاة والطواف ومس كتابة القرآن وما أشبه ذلك إنّما هي ( كنفس المتيقن ) في مثالنا وهو الطهارة فإنها ( أيضا لها استمرار شأني ) اعتباري ( لا يرتفع إلاّ بالرافع ) كالحدث - مثلاً - .

وعليه : ( فإنّ جواز الدخول في الصلاة بالطهارة أمر مستمر الى أن يحدث ناقضها ) كما إن نفس الطهارة أمر مستمر اعتباري حتى يحدث ناقضها .

( وكيف كان : فالمراد : إمّا نقض المتيقّن ) كما تقدّم من مثال الطهارة والنجاسة، والملكية والزوجية ، والحياة والحرية ، وما أشبه ذلك من الشبهات الموضوعية والحكمية ( ف ) يكون ( المراد بالنقض : رفع اليد عن مقتضاه ) أي : عن مقتضى اليقين ، فإن مقتضى اليقين بالطهارة - مثلاً - هو : بقاء الطهارة واستمرارها الى حين الشك ، فهذا المقتضى لا تنقضه ولا ترفع اليد عنه .

( وإمّا ) أن يكون المراد : ( نقض أحكام اليقين ، أي ) : الأحكام ( الثابتة للمتيقّن من جهة اليقين به ) أي : من جهة اليقين بذلك المتيقن ، فاليقين بالطهارة - مثلاً - أحكامه جواز الدخول في الصلاة ، وما أشبه ، واليقين بحياة زيد - مثلاً - أحكامه وجوب نفقة زوجته وما أشبه ، وهكذا سائر الأحكام المتعلقة بالمتيقن

ص: 317

والمراد حينئذ : رفع اليد عنها .

ويمكن أن يستفاد من بعض الأمارات إرادةُ المعنى الثالث ، مثل قوله عليه السلام : « بل ينقض الشك باليقين » ،

-------------------

( و ) يكون ( المراد ) بالنقض ( حينئذ : رفع اليد عنها ) أي : لا ترفع اليد عن تلك الأحكام .

والحاصل : إن معنى لا تنقض اليقين : إما لا ترفع اليد عن الطهارة - مثلاً - وإما لا ترفع اليد عن أحكام الطهارة - مثلاً - كالدخول في الصلاة ، وهكذا بقية الأمور غير الطهارة ، وسائر الأحكام غير أحكام الطهارة ، فلا ترفع اليد عنها .

ثم إنّ المصنِّف أثبت الى هنا : إن المراد من لا تنقض اليقين بالشك ، الواردة في روايات الاستصحاب العامة هو الشك في الرافع فقط ، وهنا يشير الى إنه يمكن أن يراد من بعض تلك الروايات ما يعم الشك في الرافع والشك في المقتضي فقال : ( ويمكن أن يستفاد من بعض الأمارات : إرادة المعنى الثالث ) أي : مطلق رفع اليد عن الشيء سواء كان من باب الشك في المقتضي أم من باب الشك في الرافع ، والأمارات هي كالتالي :

أولاً : ( مثل قوله عليه السلام : « بل ينقض الشك باليقين » (1) ) حيث إن النقض هنا أسند الى الشك ولم يسند الى اليقين كما هو في بقية الروايات ، ومعلوم : ان الشك هو عبارة عن أمر غير ثابت لاتقتضي الاستمرار ، فيكون المراد من اسناد النقض اليه في قوله : بل ينقض الشك : مجرد عدم الاعتداد بالشك ورفع اليد عنه ، وحينئذ يكون المراد من قوله : لا تنقض اليقين هو هذا المعنى أيضا بقرينة المقابلة .

ص: 318


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

وقوله : « ولا يعتدّ بالشك في حال من الحالات » ، وقوله : « اليقين لا يدخله الشك ، صُم للرؤية وأفطر للرؤية » فإنّ مورده استصحاب بقاء رمضان ، والشك فيه ليس شكا في الرافع كما لا يخفى .

-------------------

وعليه : فيعمّ النقض ما كان فيه مقتضي البقاء بأن يكون الشك في الرافع ، وما ليس فيه مقتضي البقاء بأن يكون الشك في المقتضى .

ثانيا : ( و ) مثل ( قوله ) عليه السلام : ( « ولا يعتدّ بالشك في حال من الحالات »(1) ) بأن يرفع اليد عنه ، وذلك في مقابل قوله : لا ينقض اليقين بالشك يعني يعتدّ باليقين ولا يرفع اليد عنه والتقريب هو التقريب الذي ذكرناه في الرواية السابقة من إن الشك ليس أمرا ثابتا يقتضي الاستمرار .

ثالثا : (و) مثل : (قوله) عليه السلام : («اليقين لا يدخله الشك صُم للرؤية وأفطر للرؤية»(2) ) وتقريب الدلالة هو ما ذكره المصنِّف بقوله : ( فإنّ مورده استصحاب بقاء رمضان ، والشك فيه ليس شكا في الرافع ) بل هو شك في المقتضي (كما لا يخفى) .

هذا بالنسبة الى الافطار للرؤية ، وكذا بالنسبة الى الصوم للرؤية فإن مورده استصحاب بقاء شعبان ، ومعلوم : إن الشك في بقاء كل من شعبان وشهر رمضان ليس شكا في الرافع ، وإنّما هو شك في المقتضي ، وذلك لأنا لا نعلم هل إن شعبان يقتضي البقاء الى الثلاثين أم لا ؟ وكذلك لا نعلم هل إن شهر رمضان يقتضي البقاء الى الثلاثين أم لا ؟ .

إذن : فهذه الرواية تدل على حجية الاستصحاب في الشك في المقتضي أيضا .

ص: 319


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
2- - تهذيب الاحكام : ج4 ص159 ب1 ح17 ، الاستبصار : ج2 ص64 ب33 ح12 ، وسائل الشيعة : ج10 ص256 ب3 ح13351 .

وقوله في رواية الأربعمائة : « مَن كان على يقين فشك فليمضِ على يقينه، فانّ اليقين لا يُدفع بالشك » ، وقوله : «وإذا شككت فابْنِ على اليقين» .

فإنّ المستفاد من هذه وأمثالها : أنّ المراد بعدم النقض : عدم الاعتناء بالاحتمال المخالف لليقين السابق ، نظير قوله عليه السلام : « إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره ، فشكُّك ليس بشيء » .

-------------------

رابعا : ( و ) مثل ( قوله ) عليه السلام ( في رواية الأربعمائة : « مَن كان على يقين فشك فليمضِ على يقينه ، فانّ اليقين لا يُدفع بالشك » (1) ) وتقريب شموله للشك في المقتضي هو ما ذكرناه في الرواية الاُولى .

خامسا : ( و ) مثل ( قوله ) عليه السلام : ( « إذا شككت فابْنِ على اليقين » ) (2) أي : لا ترفع يدك عنه ، وتقريبه هو نفس التقريب المذكور في الرواية الاُولى .

وعليه : ( فإنّ المستفاد من هذه وأمثالها : أنّ المراد بعدم النقض : عدم الاعتناء بالاحتمال ) والشك اللاحق ( المخالف لليقين السابق ) سواء كان مما يقتضي البقاء أم لا ، فتكون هذه الروايات من حيث عدم الاعتناء بالشك اللاحق ( نظير قوله عليه السلام : «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره ، فشكُّك ليس بشيء » (3) ) مطلقا فلا تعتن به ، وهذه الرواية ذكرها الفقهاء في الفقه، واستدلوا بها على قاعدة التجاوز .

إذن : فالشك اللاحق لليقين السابق سواء كان يقينا يقتضي البقاء ، أم لا يقتضي البقاء ، لا تعتن به ، فيشمل الشك في الرافع والشك في المقتضي معا .

ص: 320


1- - انظر الخصال : ص619 ح10 ووسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح636 ، ولا يخفى ان ذيل الرواية ينسجم مع ما ورد في الارشاد : ج1 ص302 وبحار الانوار : ج2 ص272 ب33 ح2 ومستدرك الوسائل : ج1 ص228 ب1 ح433 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص351 ح1025 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10452 .
3- - تهذيب الاحكام : ج2 ص352 ب13 ح47 ، وسائل الشيعة : ج8 ص237 ب23 ح10524 .

هذا ، ولكنّ الانصاف : أنّ شيئا من ذلك لا يصلح لصرف لفظ النقض عن ظاهره ، لأنّ قوله « بل ينقضُ الشك باليقين » ، معناه : رفعُ الشك ، لأنّ الشك ممّا إذا حصل لا يرتفع إلاّ برافع .

وأمّا قوله : « مَن كان على يقين فشكَّ » ، فقد عرفت الاشكال في ظهوره في اعتبار الاستصحاب كقوله : « إذا شككت فابْنِ

-------------------

( هذا ) هو غاية ما يمكن تقريبه في دلالة الروايات على حجية الاستصحاب مطلقا ، سواء كان الشك في الرافع أم في المقتضي .

( ولكنّ الانصاف : أنّ شيئا من ذلك ) الذي استدل به لأعمية الاستصحاب ( لايصلح لصرف لفظ النقض عن ظاهره ) بنظر المصنِّف حيث إن المصنِّف يرى: إن ظاهر النقض خاص بالشك في الرافع .

وإنّما يراه لا يصلح لصرفه عن ظاهره ( لأنّ قوله ) عليه السلام في الأمارة الاُولى : ( « بل ينقضُ الشك باليقين » (1) ، معناه : رفعُ ) الأمر الثالث الذي هو ( الشك ، لأنّ الشك ) حاله حال الطهارة والنجاسة ، والحلّية والحرمة ، والملكية والزوجية ، وما أشبه ( ممّا إذا حصل لا يرتفع إلاّ برافع ) فالشك ممّا يحتاج في رفعه الى رافع ، وليس مما يرتفع من نفسه .

( وأمّا قوله ) عليه السلام في الأمارة الثانية : ( « مَن كان على يقين فشكَّ » (2) ، فقد عرفت الاشكال في ظهوره في اعتبار الاستصحاب ) لاحتمال إنه يريد حجية الشك الساري المسمى بقاعدة اليقين ( كقوله ) عليه السلام : ( « إذا شككت فابْنِ

ص: 321


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
2- - الخصال : ص619 ح10 ، وسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح636 .

على اليقين » مع إمكان أن يجعل قوله : « فإنّ اليقين لا يُنقَضُ بالشك ، أو لا يُدفع به » ، قرينة على اختصاص صدر الرواية بموارد النقض .

مع أنّ الظاهر من المضيّ الجري

-------------------

على اليقين » (1) ) حيث إنه محتمل لارادة اليقين بالبرائة لا اليقين السابق ، فلا ربط لهذه الرواية بالاستصحاب .

هذا ( مع إمكان أن يجعل قوله ) عليه السلام : ( « فإنّ اليقين لا يُنقَضُ بالشك أو لا يُدفع به » (2) ، قرينة على اختصاص صدر الرواية بموارد النقض ) فايراد النقض بنظر المصنِّف كما عرفت مختص بالشك في الرافع ، فتكون الرواية أيضا مختصة بالشك في الرافع .

إذن : فلفظ المضي على اليقين في صدر هذه الرواية وهي الأمارة الثانية وإن كان بمعنى العمل باليقين السابق وعدم رفع اليد عنه سواء كان مما يقتضي البقاء أم لا ؟ إلاّ أن تعبير الإمام عليه السلام في ذيل الرواية تارة : بأن اليقين لا يدفع بالشك ، وأخرى : بأن الشك لا ينقض اليقين ، يكون قرينة على إن مراده عليه السلام بالمضيّ على اليقين في صدر الرواية هو أيضا المضيّ فيما كان له مقتضي البقاء ، مما يؤل بالأخرة الى حجية الاستصحاب في صورة الشك في الرافع لا في صورة الشك في المقتضي .

هذا ( مع أنّ الظاهر من المضيّ ) في كلام الإمام عليه السلام هو : ( الجري

ص: 322


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص351 ح1025 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10452 .
2- - الخصال : ص619 ح10 ، وسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح636 ، وان قيد لا يدفع به ينسجم مع ما ورد في الارشاد للمفيد : ج1 ص302 ومستدرك الوسائل : ج1 ص228 ب1 ح433 وبحار الانوار : ج2 ص272 ب33 ح2 .

على مقتضى الداعي السابق ، وعدم الوقف إلاّ لصارف ، نظير قوله : « إذا كثر عليك السهو ، فامْضِ في صلاتك » ، ونحوه ، فهو أيضا مختص بما ذكرنا .

وأمّا قوله : « اليقين لا يدخله الشك » ، فتفرّع الافطار للرؤية عليه من جهة استصحاب الاشتغال بصوم رمضان الى أن يحصل الرافع .

-------------------

على مقتضى الداعي السابق ، وعدم الوقف إلاّ لصارف ) أي : لرافع فيكون لفظ : المضيّ في قوله : « فليمض على يقينه » مثل لفظ : لا ينقض في قوله : ولا ينقض اليقين بالشك وبمعناه ، وإذا كان بمعناه اختص الشك في المقتضي .

وعليه : فالمضي هنا يكون حينئذ ( نظير ) المضيّ في ( قوله ) عليه السلام : ( « إذا كثر عليك السهو ، فامْضِ في صلاتك » (1) ، ونحوه ، فهو أيضا مختص بما ذكرنا ) من الشك في الرافع .

وإنّما هو مختص بالشك في الرافع ، لأن المضيّ في الصلاة مقتضية للبقاء حتى ترتفع برافع : من حدث ، أو فعل كثير ، أو ما أشبه ذلك .

( وأمّا قوله ) عليه السلام في الأمارة الثالثة ( « اليقين لا يدخله الشك » (2) ، فتفرّع الافطار للرؤية عليه ) أي : على اليقين ( من جهة استصحاب الاشتغال بصوم رمضان الى أن يحصل الرافع ) أي : إنّ الاستصحاب فيه ليس استصحابا للزمان حتى يكون من الشك في المقتضي وإنّما هو استصحاب الاشتغال ، بأن الاشتغال بشيء إذا ثبت دام حتى يرتفع برافع فيكون من الشك في الرافع .

ص: 323


1- - الكافي فروع : ج3 ص359 ح8 ، تهذيب الأحكام : ج2 ص343 ب13 ح11 و ح12 ، وسائل الشيعة : ج8 ص228 ب16 ح10495 .
2- - تهذيب الأحكام : ج4 ص159 ب1 ح17 ، الاستبصار : ج2 ص64 ب33 ح12 ، وسائل الشيعة : ج10 ص256 ب3 ح13351 .

وبالجملة : فالمتأمّل المنصف يجد أنّ هذه الأخبار لا تدلّ على أزيد من اعتبار اليقين السابق عند الشك في الارتفاع برافع .

-------------------

إذن : فتفرع الافطار للرؤية على اليقين بالنسبة الى شهر رمضان هو : استصحاب الاشتغال بالصوم ، فالشك فيه من الشك في الرافع .

كما إن تفرّع الصوم للرؤية على اليقين بالنسبة الى شعبان هو : استصحاب عدم وجوب الصوم ، أو جواز الأكل والشرب وما أشبه ذلك ، فالشك فيه أيضا من الشك في الرافع فإذا قلنا : بأنه استصحاب عدم وجوب الصوم كان من الاستصحاب العدمي ، وإذا قلنا : بأنه من استصحاب جواز الأكل والشرب ، كان من الاستصحاب الوجودي على ما سيأتي تفصيل ذلك إن شاء اللّه تعالى .

وأما الجواب عن الأمارة الرابعة وهي حديث الأربعمائة (1) ، والأمارة الخامسة وهي : إذا شككت فابن على اليقين (2) : فبالتقريب الماضي في الجواب عن الأمارات الثلاث الماضية .

( وبالجملة : فالمتأمّل المنصف يجد أنّ هذه الأخبار ) الواردة في باب الاستصحاب ( لا تدلّ على أزيد من اعتبار اليقين السابق عند الشك في الارتفاع برافع ) ولا تشمل الشك في المقتضي .

هذا تمام الكلام فيما احتج به للاستصحاب على القول التاسع ، وهو الذي اختاره المحقق في المعارج وارتضاه المصنِّف هنا مما خلاصته : حجية الاستصحاب في الشك في الرافع فقط دون الشك في المقتضي .

ص: 324


1- - الخصال : ص619 ح10 ، وسائل الشيعة : ج1 ص247 ب1 ح636 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص351 ح1025 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10452 .

إحتج للقول الأوّل بوجوه :

منها : أنّه لو لم يكن الاستصحاب حجّة لم يستقم استفادة الأحكام من الأدلة اللفظية ، لتوقفها على أصالة عدم القرينة والمعارض والمخصص والمقيّد والناسخ وغير ذلك .

-------------------

وأما الاحتجاج لبقية الأقوال فقد أشار إليه المصنِّف بقوله : ( إحتج للقول الأوّل ) وهو القول بحجية الاستصحاب مطلقا ( بوجوه ) هي كالتالي :

( منها : أنّه لو لم يكن الاستصحاب حجّة لم يستقم استفادة الأحكام من الأدلة اللفظية ) وذلك ( لتوقفها ) أي : توقف الاستفادة من الأدلة اللفظية ( على أصالة عدم القرينة ) مثل : اغتسل حيث ان ظاهره : الوجوب ، فنشك هل كان معه قرينة تصرفه الى الندب ؟ نقول : الأصل عدم القرينة .

( و ) أصالة عدم ( المعارض ) مثل : المرأة لا ترث من الأرض ، فنشك هل هناك خبر آخر يعارضه ، أو يكون حاكما أو واردا عليه؟ نقول : الأصل عدمه .

( و ) أصالة عدم ( المخصّص ) بالنسبة الى العام مثل : « أحلّ لكم الطيّبات » (1) فنشك هل هناك ما يخصّصه ؟ نقول : الأصل عدمه .

( و ) أصالة عدم ( المقيّد ) بالنسبة الى المطلق مثل : « أعتق رقبة مؤمنة » (2) ، فنشك هل هناك خبر يقيدها بالبيضاء أو السوداء ؟ نقول : الأصل عدمه .

( و ) أصالة عدم ( الناسخ ) مثل : « المشركون نجس » (3) فنشك هل جاء ما ينسخه ؟ نقول : الأصل عدمه .

( وغير ذلك ) من الأصول اللفظية كأصل عدم الاضمار ، وأصل عدم المجاز ،

ص: 325


1- - سورة المائدة : الآية 4 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص178 ح13 .
3- - سورة التوبة : الآية 28 .

وفيه : أنّ تلك الأصول قواعد لفظية مُجمَعٌ عليها بين العلماء وجميع أهل اللسان في باب الاستفادة ، مع أنّها أصول عدمية لا يستلزم القول بها القول باعتبار الاستصحاب مطلقا ، إمّا لكونها مجمعا عليها بالخصوص ،

-------------------

وما أشبههما ، فإن احتمال هذه الأمور مما يصرف اللفظ عن ظاهره ولا يدع مجالاً للعمل باللفظ ، فإذا استصحبنا عدم القرينة وعدم المعارض وما أشبه ذلك ، تمكّنا أن نعمل على ظاهر اللفظ ، أمّا إذا لم نستصحب عدم هذه الأمور تصبح الألفاظ مجملة فلا يمكن العمل على ظاهرها .

هذا ، ولكن حيث نرى : إن العقلاء كافة يعملون على ظاهر الألفاظ ، نستظهر حجّية الاستصحاب عند العقلاء ، والشارع لم يغيّر طريقتهم فيظهر أنه أيضا اتبع هذه الطريقة في أحكامه .

( وفيه : أنّ تلك الأصول قواعد لفظية مُجمَعٌ عليها بين العلماء وجميع أهل اللسان في باب الاستفادة ) من ظاهر الألفاظ ، فإن أهل اللسان كلهم مجمعون على هذه الاصول وإن لم يكونوا من العلماء ، وإذا كان كذلك فلا تتم أركان الاستصحاب ، لأن من أركان الاستصحاب : اليقين السابق والشك اللاحق ، وحيث ثبت اجماع العلماء عليها فلا شك في اللاحق ، فلا يكون هذا من باب الاستصحاب .

( مع ) إنا لو قلنا بأن هذا من الاستصحاب ، لا يكون أيضا دليلاً على القول الأوّل القائل بحجية الاستصحاب مطلقا ، وذلك لما عرفت : من ( أنّها أصول عدمية لا يستلزم القول بها القول باعتبار الاستصحاب مطلقا ) أي : سواء في الاصول العدمية أم في الاصول الوجودية .

وعدم استلزامها ذلك ( إمّا لكونها مجمعا عليها بالخصوص ) فلا يتعدّى منها

ص: 326

وإمّا لرجوعها الى الشك في الرافع .

ومنها : ماذكره في المعارج ، وهو : « أنّ المقتضي للحكم الأوّل ثابت ، والعارض لا يصلح رافعا ، فيجب الحكم بثبوته في الآن الثاني ، أمّا أنّ المقتضي ثابتٌ : فلأنّا نتكلم على هذا التقدير ، وأمّا أنّ العارض لا يصلح رافعا : فلأنّ العارض احتمال تجدّد ما يوجب زوال الحكم ، لكنّ احتمال ذلك معارضٌ باحتمال عدمه ، فيكون كل منهما

-------------------

الى غيرها من الأصول الوجودية ( وإمّا لرجوعها الى الشك في الرافع ) فلا يكون دليلاً على حجية الاستصحاب بالنسبة الى الشك في المقتضي .

إذن : فهذا الدليل لا يكون دليلاً على حجية الاستصحاب على إطلاقه .

( ومنها ) أي : مما استدل به القول الأوّل : ( ما ذكره ) المحقق ( في المعارج : وهو : « أنّ المقتضي للحكم الأوّل ثابت ) سواء كان وجوديا أم عدميا ( والعارض ) وهو الشك ( لا يصلح رافعا ) وإذا تمّت هاتان المقدمتان ( فيجب الحكم بثبوته ) أي : ثبوت الحكم الأوّل ( في الآن الثاني ) وهو عبارة أخرى عن الاستصحاب .

( أمّا أنّ المقتضي ثابت : فلأنّا نتكلم على هذا التقدير ) أي : تقدير ثبوت المقتضي لأنه لو لم يكن المقتضي ثابتا فلا مجال للاستصحاب .

( وأمّا أنّ العارض لا يصلح رافعا : فلأنّ العارض احتمال تجدّد ما يوجب زوال الحكم ) لأن المفروض : إنا نشك هل إن الحكم السابق باق أم لا ؟ ومعنى شكنا هو: إنا نحتمل تجدد ما يوجب زوال الحكم .

( لكنّ احتمال ذلك ) أي : تجدد ما يوجب زوال الحكم ( معارضٌ باحتمال عدمه ) أي : عدم تجددّه فيتعارضان ويتساقطان .

وعليه : ( فيكون كل منهما ) أي : من احتمال التجدد واحتمال عدم التجدد

ص: 327

مدفوعا بمقابله ، فيبقى الحكم الثابت سليما عن الرافع » ، انتهى .

وفيه : أنّ المراد بالمقتضي : إمّا العلّة التامّة للحكم أو للعلم به ، أعني : الدليل أو المقتضي بالمعنى الأخص .

وعلى التقدير الأوّل ، فلابد من أن يراد من ثبوتِه ثبوتُه في الزمان الأوّل .

ومن المعلوم : عدم إقتضاء ذلك لثبوت المعلول أو المدلول في الزمان الثاني أصلاً .

-------------------

( مدفوعا بمقابله ) فيتساقطان ( فيبقى الحكم الثابت ) أوّلاً ( سليما عن الرافع » (1) ، انتهى ) كلام المعارج .

( وفيه : أنّ المراد بالمقتضي : إمّا العلّة التامّة للحكم ) أي : العلّة التامة لثبوت الحكم وذلك في مقام الثبوت ( أو ) العلّة التامة ( للعلم به ) أي : للعلم بالحكم وذلك في مقام الاثبات ، والمراد بالعلة العامة ( أعني : الدليل ) الدال على الحكم .

( أو ) إن المراد بالمقتضي : ( المقتضي بالمعنى الأخص ) أي : العلّة الناقصة للحكم ، وسمّاه بالمعنى الأخص مقابل المقتضي بالمعنى الأعم ، فإن المقتضي بالمعنى الأخص هو أخص من المقتضي بالمعنى الأعم الشامل للعلة التامة والعلّة الناقصة .

( وعلى التقدير الأوّل ) أي : تقدير أن يراد بالمقتضي : العلّة التامة للحكم أو العلّة التامة للعلم بالحكم ( فلابد من أن يراد من ثبوته ) حيث قال المعارج : إن المقتضي للحكم الأوّل ثابت : ( ثبوته في الزمان الأوّل ) لأنه إذا أراد ثبوته في الزمان الثاني فلا حاجة الى الاستصحاب ( ومن المعلوم : عدم إقتضاء ذلك ) أي : الثبوت في الزمان الأوّل ( لثبوت المعلول أو المدلول في الزمان الثاني أصلاً )

ص: 328


1- - معارج الاصول : ص206 .

وعلى الثاني ، فلابد من أن يراد ثبوته في الزمان الثاني مقتضيا للحكم . وفيه : مع أنّه أخصّ من المدّعى أنّ مجرد احتمال عدم الرافع لا يثبت العلم ولا الظن بثبوت المقتضى - بالفتح - .

-------------------

الذي هو زمان الشك .

وإنّما قال المصنِّف : لثبوت المعلول فيما إذا أريد بالمقتضي : العلّة التامة ، وقال : أو المدلول ، فيما إذا أريد بالمقتضي : الدليل ، حيث قال قبل سطر : العلّة التامة للحكم أو للعلم .

( وعلى الثاني ) : أي : تقدير أن يراد بالمقتضي : المعنى الأخص ( فلابد من أن يراد : ثبوته في الزمان الثاني مقتضيا للحكم ) أي : يلزم أن يكون في زمان الشك أيضا مقتضيا للحكم ، وذلك لأن المقتضي - كالنار - إذا كان موجودا في الزمان الثاني وإنضم اليه عدم المانع - كعدم الرطوبة - أثّر أثره ، وإلاّ فلا .

( وفيه ) أولاً : ( مع أنّه أخصّ من المدّعى ) لأن هذا الدليل حينئذ يثبت حجية الاستصحاب إذا كان الشك في الرافع فقط ، بينما المستدل يريد أن يثبت به حجية الاستصحاب مطلقا ، سواء كان شكا في المقتضي أم شكا في الرافع .

وفيه ثانيا : ( أنّ مجرد احتمال عدم الرافع لا يثبت العلم ولا الظن بثبوت المقتضى - بالفتح - ) فإذا علمنا - مثلاً - بوجود النار واحتملنا عدم الرطوبة في الخشبة فإن ذلك لا يوجب علمنا ولا ظننّا بأن الخشبة قد احترقت .

وإنّما لا يوجب ذلك علمنا ولا ظنّنا باحتراق الخشبة ، لأن حصول العلم أو الظن باحتراق الخشبة إنّما هو فيما إذا علمنا أو ظننا بوجود النار ، وعلمنا أو ظننا بعدم وجود الرطوبة، فالعلمان أو الظنان يوجبان العلم أو الظن بالمقتضى - بالفتح - وهو الاحتراق ، لكن إذا كان أحدهما مظنونا أو موهوما ، ظننا أو توهّمنا الاحتراق ،

ص: 329

والمراد من معارضة احتمال الرافع باحتمال عدمه الموجبة للتساقط إن كان سقوط الاحتمالين فلا معنى له ، وإن كان سقوط المحتملين عن الاعتبار حتى لا يحكم بالرافع ولا بعدمه ، فمعنى ذلك التوقف عن الحكم بثبوت المقتضى - بالفتح - لا ثبوته .

وربما يحكى إبدال قوله : « فيجب الحكم بثبوته » بقوله : « فيظنّ ثبوته »

-------------------

لأن النتيجة تابعة لأخس المقدّمتين .

( و ) أخيرا : ما ( المراد من معارضة احتمال الرافع باحتمال عدمه ) أي : عدم الرافع ، ( الموجبة للتساقط ) وذلك على ما تقدّم من قوله : إن احتمال تحدّد ما يوجب زوال الحكم معارض باحتمال عدمه ، فيكون كل منهما مدفوعا بمقابله ، فيبقى الحكم الثابت أولاً سليما عن الرافع ، فإنه ( إن كان سقوط الاحتمالين ) في مقام الاثبات ( فلا معنى له ) لوضوح : إن الاحتمالين باقيان .

( وإن كان سقوط المحتملين ) أي : ما يتعلق به الاحتمالان : من وجود الرافع وعدمه ( عن الاعتبار ) والحجية ( حتى لا يحكم بالرافع ولا بعدمه ، فمعنى ذلك ) أي : سقوط المحتملين هو : ( التوقف عن الحكم ) بأن لا نحكم ( بثبوت المقتضى - بالفتح - ) كالاحتراق في المثال المتقدم ( لا ثبوته ) أي : لا أن نحكم بثبوت الاحتراق حسب الاستصحاب .

والحاصل : إن نتيجة هذا الدليل : أن لا نحكم بالحكم السابق ولا بخلاف الحكم السابق ، لا أن نحكم بالحكم السابق الذي هو مقتضى الاستصحاب ، فكيف يكون هذا دليلاً على الاستصحاب ؟ .

( وربّما يحكى إبدال قوله ) أي : قول المعارج : ( « فيجب الحكم بثبوته » ) إبدالاً ( بقوله : « فيظنّ ثبوته » ) فيكون الدليل هكذا : إن المقتضي للحكم الأوّل

ص: 330

ويتخيّل أنّ هذا أبعد عن الايراد ، ومرجعه الى دليل آخر ذكره العضدي وغيره ، وهو : أنّ ما ثبت في وقت ولم يظن عدمه ، فهو مظنون البقاء ، وسيجيء ما فيه .

ثم إنّ ظاهر هذا الدليل دعوى القطع ببقاء الحالة السابقة واقعا ، ولم يعرف هذه الدعوى من أحد ، واعترف بعدمه في المعارج

-------------------

ثابت ، والعارض لا يصلح رافعا فيظن ثبوته .

( و ) حينئذ ( يتخيّل أنّ هذا ) التغيير في قوله : يجب الحكم بثبوته الى : يظن بثبوته ، أن يكون ( أبعد عن الايراد ) الذي أورد المصنِّف بقوله : إن المراد بالمقتضي : إمّا العلّة التامة ، أو المقتضي بالمعنى الأخص الى آخر كلامه .

( ومرجعه ) أي : مرجع هذا الدليل بعد التبديل ( الى دليل آخر ذكره العضدي وغيره ) لحجية الاستصحاب ( وهو : أنّ ما ثبت في وقت ولم يظن عدمه ، فهو مظنون البقاء ، وسيجيء ما فيه ) : من إن ما لم يظن عدمه ، يمكن أن يكون مشكوك الوجود والعدم ، ويمكن أن يكون مظنون الوجود ، فهو إذن : أعم منهما كما لا يخفى .

( ثم إنّ ظاهر هذا الدليل ) الذي ذكره المحقق في المعارج حيث قال : إن المقتضي للحكم الأوّل ثابت والعارض لا يصلح رافعا فيجب بثبوته في الآن الثاني، قد يستفاد منه احتمالات أربعة :

الاحتمال الأوّل : ( دعوى القطع ببقاء الحالة السابقة واقعا ) فإن قوله : « يجب » ، معناه : القطع بالحكم ، وقوله : « بثبوته » معناه : كون الحكم واقعيا ( ولم يعرف هذه الدعوى من أحد ) ممن ذكر حجية الاستصحاب ( و ) خاصة من المحقق نفسه فقد ( اعترف بعدمه ) أي : بعدم الثبوت القطعي ( في المعارج

ص: 331

في أجوبة النافين ، وصرّح بدعوى رجحان البقاء .

ويمكن أن يريد به إثباتَ البقاء على الحالة السابقة ، ولو مع عدم رجحانه ، وهو في غاية البعد عن عمل العقلاء بالاستصحاب في أمورهم .

والظاهر : أنّ مرجع هذا الدليل الى أنّه إذا اُحرِزَ المقتضي وشُكَّ في المانع بعد تحقق المقتضي وعدم المانع في السابق بنى على عدمه

-------------------

في أجوبة النافين ، وصرّح بدعوى رجحان البقاء ) لا إنه مقطوع البقاء .

الاحتمال الثاني : ( ويمكن أن يريد ) المحقق ( به ) أي : بما ذكره في المعارج : ( إثبات البقاء على الحالة السابقة ، ولو مع عدم رجحانه ) أي : عدم رجحان البقاء والظن به ( و ) ذلك بأن يرى العقلاء بقاء المستصحب وإن لم يكن مظنون البقاء ، فإن هذا الاحتمال ( هو في غاية البعد عن عمل العقلاء بالاستصحاب في أمورهم ) .

وإنّما يكون في غاية البعد عنهم ، لأنهم إنّما يعملون بالاستصحاب لظنهم بالبقاء ورجحانه بنظرهم رجحانا نوعيا ، لا إنه نوع تعبد منهم به سواء كان راجح البقاء أم مرجوحا أم مشكوكا ؟ .

الاحتمال الثالث : ( والظاهر : أنّ مرجع هذا الدليل ) الذي ذكره المحقق إنّما هو ( الى أنّه ) أي : ان الشاك ( إذا اُحرِزَ المقتضي ) أي العلّة الناقصة في الزمان الثاني ( وشُكَّ في المانع ) وذلك ( بعد تحقق المقتضي وعدم المانع في السابق ) فإنه في الزمان السابق كان المقتضي موجودا والمانع مفقودا ، ثم في الزمان الثاني يحرز المقتضي ويشك في المانع .

وعليه : فإذا أحرز المقتضي وشك في المانع ( بنى على عدمه ) أي : عدم

ص: 332

ووجود المقتضي .

ويمكن أن يستفاد من كلامه السابق في قوله : « والذي نختاره » أنّ مراده بالمقتضي للحكم : دليله ، وأنّ المراد بالعارض احتمالُ طروّ المخصّص لذلك الدليل ، فمرجعه الى أنّ

-------------------

المانع ( ووجود المقتضي ) فتتحقق العلّة التامة للحكم في الزمان الثاني وهو عبارة عن الاستصحاب .

الاحتمال الرابع ( ويمكن أن يستفاد من كلامه السابق ) أي : من كلام المحقق الذي مرّ قبل عدّة صفحات من الكتاب ( في قوله : « والذي نختاره » ) حيث قال هناك : منها : إن المقتضي للحكم الأوّل موجود ثم قال : والذي نختاره أن ننظر في دليل ذلك الحكم فإن كان يقتضيه مطلقا وجب الحكم باستمرار الحكم كعقد النكاح الى آخر كلامه .

وعليه : فبمعونة كلامه هذا يستفاد ( أنّ مراده ) أي : مراد المحقق ( بالمقتضي للحكم : دليله ) لا علة الحكم .

وإنّما يستفاد من ذلك إن مراد المحقق دليل الحكم لا علة الحكم لأن لفظ الدليل جاء في قوله « السابق » حيث قال : والذي نختاره أن ننظر في دليل الحكم ، وهذا ظاهر في إن مراده : الدليل لا العلة .

( و ) يستفاد منه أيضا ( أنّ المراد ) أي : مراد المحقق ( بالعارض ) حيث قال قبل صفحات : إن المقتضي للحكم الأوّل ثابت والعارض لا يصلح رافعا هو : ( احتمالُ طروّ المخصّص لذلك الدليل ) فيكون الشك حينئذ في مرحلة الاثبات لا في مرحلة الثبوت .

إذن : على هذا الاحتمال ( فمرجعه ) أي : مرجع كلام المحقق يكون ( الى أنّ

ص: 333

الشك في تخصيص العام أو تقييد المطلق لا عبرة به .

كما يظهر من تمثيله بالنكاح والشك في حصول الطلاق ببعض الألفاظ ، فإنّه إذا دلّ الدليلُ على أنّ عقد النكاح يُحْدِث علاقة الزوجيّة ، وعُلِمَ من الدليل دوامُها ، ووجِدَ في الشرع ما ثبت كونه رافعا لها ، وشك في شيء آخر أنّه رافع مستقل أو فرد من ذلك الرافع أم لا ، وجب العملُ بدوام الزوجيّة ، عملاً بالعموم ، الى أن يثبت المخصّص .

-------------------

الشك في تخصيص العام أو تقييد المطلق لا عبرة به ) بل يلزم الحكم بالعموم والاطلاق ( كما يظهر من تمثيله بالنكاح والشك في حصول الطلاق ببعض الألفاظ ) مثل : لفظ خليّة وبريئة .

ثم إنه إنّما يظهر ذلك من تمثيله لأنه كما قال : ( فإنّه إذا دلّ الدليل على أنّ عقد النكاح يحدث ) بصيغة باب الافعال ( علاقة الزوجيّة ، وعُلِمَ من الدليل دوامُها ) أي : دوام العلاقة ( ووجِدَ في الشرع ما ثبت كونه رافعا لها ) أي : لهذه العلاقة مثل قول الزوج : طالق ( وشك في شيء آخر ) مثل : خليّة وبريئة ( أنّه رافع مستقل أو فرد من ذلك الرافع أم لا ، وجب العمل بدوام الزوجيّة ) .

وإنّما يشك في مثل خليّة وبريئة ، لأن فيها احتمالات ثلاثة :

الأوّل : أن يكون فردا من الطلاق .

الثاني : أن يكون رافعا للنكاح ، وليس بطلاق .

الثالث : أن لا يوجب شيئا أصلاً .

وعليه : فإذا أجرى أحد لفظ خليّة وبريئة مثلاً وشككنا في إنها رفعت الزوجية أم لا ، حكمنا بدوام الزوجية ( عملاً بالعموم ) أي : عموم أدلة النكاح المقتضية للاستمرار ( الى أن يثبت المخصّص ) بأن يجري لفظ الطلاق - مثلاً - .

ص: 334

وهذا حقّ ، وعليه عملُ العلماء كافّة .

نعم ، لو شك في صدق الرافع على موجود خارجي لشبهة : كظلمة ، أو عدم الخبرة ، ففي العمل بالعموم حينئذ وعدمه - كما إذا قيل : « أكرم العلماء إلاّ زيدا » ، فشك في إنسان أنّه زيد أو عمرو - قولان في باب العام المخصّص ، أصحّهما : عدم الاعتبار بذلك العام .

-------------------

( وهذا ) الذي ذكره المحقّق ( حقّ ، وعليه عملُ العلماء كافّة ) لأنهم يتمسّكون بالعموم والاطلاق ما لم يثبت المخصّص والمقيّد .

( نعم ، لو شك في صدق الرافع على موجود خارجي ) بأن كان الشك من باب الشبهة الموضوعية وذلك ( لشبهة : كظلمة ، أو عدم الخبرة ) .

مثلاً : إذا شك في إنه هل قال : طالق حتى يوجب إرتفاع النكاح أو قال : خليّة حتى لا يوجب شيئا أو علم بأنه قال : خليّة ولكن لا يعلم هل إن خليّة طلاق أو ليس بطلاق ؟ وهكذا بالنسبة الى الظلمة ، كما إذا شرب من الاناء حيوان فلم يعلم لأجل الظلام انه كان كلبا حتى يحكم بنجاسة الماء ، أو شاة حتى يكون الماء طاهرا ؟ .

( ففي العمل بالعموم حينئذ ) أي : حين كان الشك في صدق الرافع على شيء من باب الشبهة الموضوعية لظلمة ونحوها ( وعدمه ) أي : عدم العمل بالعموم حينئذ ( كما إذا قيل : « أكرم العلماء إلاّ زيدا » ، فشك في إنسان أنّه زيد أو عمرو ) وذلك لظلمة ، أو لعدم العلم بأن أيّهما زيد وأيّهما عمرو ( قولان في باب العام المخصّص ) أي : العام الذي خصّص بشيء مشكوك ( أصحّهما : عدم الاعتبار بذلك العام ) في هذا الفرد المشكوك .

وإنّما لا يعتبر ذلك لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، وقد تحقق

ص: 335

لكن كلام المحقق قدس سره في الشبهة الحكميّة ، بل مفروض كلام القوم أيضا إعتبار الاستصحاب المعدود من أدلّة الأحكام فيها دون مطلق الشبهة ، الشاملة للشبهة الخارجية .

هذا غاية ما أمكنّا من توجيه الدليل المذكور .

لكنّ الذي يظهر بالتأمل : عدم إستقامته في نفسه

-------------------

في الاصول : عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فإذا قال المولى ، مثلاً : - لا تشرب الخمر وشك العبد في شيء إنه خمر أم لا ، فلا يجوز التمسك بالعام فيه حتى يقال : يحرم شربه ، لأنه ما دام لم يثبت إنه خمر ، فكيف يقال : بأنه يحرم شربه ؟ .

إذن : فالأصح في الشبهة الموضوعية إذا كان الشك في صدق الرافع على شيء لظلمة وما أشبه هو : عدم العمل بالعموم . ( لكن كلام المحقق قدس سره في الشبهة الحكميّة ) بدليل ما مثّل من النكاح ، وواضح : إن الشبهة المصداقية خارجة عن الشبهة الحكمية ( بل مفروض كلام القوم أيضا إعتبار الاستصحاب المعدود من أدلّة الأحكام فيها ) أي : في الشبهة الحكمية ( دون مطلق الشبهة ، الشاملة للشبهة الخارجية ) أي : الموضوعية أيضا .

( هذا غاية ما أمكنّا من توجيه الدليل المذكور ) أي : هذا هو تمام الكلام في الاحتمال الرابع الذي احتمله المصنِّف في كلام المحقق المذكور في المعارج .

( لكنّ الذي يظهر بالتأمل : عدم إستقامته ) هذا الاحتمال الرابع ( في نفسه ) وذلك لعدم استقامة إجراء الاستصحاب في مثل العام المشكوك تخصيصه ، والمطلق المشكوك تقييده ، لوضوح : أن الاستصحاب من أركانه اليقين السابق ، ولا يقين بالعموم والاطلاق في زمان ، بل هما من أول الأمر مشكوكان لأنا لا نعلم

ص: 336

وعدم إنطباقه على قوله المتقدّم : « والذي نختاره » وإخراجه للمدّعى عن عنوان الاستصحاب كما نبّه عليه في المعالم وتبعه غيره ، فتأمّل .

ومنها : أنّ الثابت في الزمان الأوّل ممكن الثبوت في الآن الثاني ،

-------------------

شمول العام والمطلق للزمان الثاني .

( و ) يظهر أيضا ( عدم إنطباقه ) أي : إنطباق هذا الاحتمال الرابع ( على قوله المتقدّم : « والذي نختاره » ) لأن كلامه السابق إنّما هو في إثبات اعتبار الاستصحاب وهذا الاحتمال الرابع إنّما هو في الشك في المخصص ، ومن المعلوم : إن الاستصحاب أصل عملي ، وهذا الاحتمال من باب الأصل اللفظي .

( و ) كذا يظهر : ( إخراجه ) أي : إخراج هذا الاحتمال الرابع ( للمدّعى عن عنوان الاستصحاب ) أي : إنه يخرج مدعى المحقق عن الاستصحاب الى الأصل اللفظي على ما عرفت ( كما نبّه عليه في المعالم وتبعه غيره ) أي : نبّه على إن المعتمد في هذا الاحتمال الرابع الذي ذكرناه هو الظهور اللفظي ومن المعلوم : إن الظهور اللفظي لا ربط له بالاستصحاب .

( فتأمّل ) ولعله إشارة الى إمكان أن يكون الاحتمال الرابع لتوجيه كلام المحقق في محله ، وذلك لأن القدماء كانوا يذكرون الأُصول اللفظية والأُصول العملية في سياق واحد ، فلا يضر توجيه الاستصحاب بالأُصول اللفظية .

( ومنها ) أي : مما إستدل به للقول الأوّل وهو القول بحجية الاستصحاب مطلقا : قياس صورته على ما يلي : ( أنّ الثابت في الزمان الأوّل ممكن الثبوت في الآن الثاني ) لأنّ الممكن ممكن دائما ، وكلّما كان كذلك فيثبت بقائه في الآن الثاني .

ص: 337

وإلاّ لم يحتمل البقاء فيثبت بقاؤه ما لم يتجدّد مؤثّر العدم ، لاستحالة خروج الممكن عمّا عليه بلا مؤثّر . فإذا كان التقدير : تقدير عدم العلم بالمؤثّر ، فالراجح بقاؤه فيجب العمل عليه .

وفيه : منع استلزام عدم العلم بالمؤثّر رجحان عدمه المستلزم لرجحان البقاء ، مع أنّ مرجع هذا الوجه الى ما ذكره العضدي وغيره : من أنّ ما تحقّق وجوده ولم يظنّ عدمه أو لم يعلم عدمه فهو مظنون البقاء .

-------------------

( وإلاّ ) بأن لم يكن ممكن الثبوت في الآن الثاني ( لم يحتمل البقاء ) إذ المفروض إنه مشكوك في الآن الثاني والمشكوك محتمل البقاء كما هو محتمل العدم ، وإذا كان كذلك ( فيثبت بقاؤه ما لم يتجدّد مؤثّر العدم ) .

وإنّما يثبت بقائه حينئذ ( لاستحالة خروج الممكن عمّا عليه ) من الوجود أو العدم السابقين ( بلا مؤثّر ) فإنّ المؤثّر هو الذي يجعل الموجود معدوما والمعدوم موجودا ( فإذا كان التقدير : تقدير عدم العلم بالمؤثّر ) الجديد ( فالراجح بقاؤه ) أي : بقاء الثابت في الزمان الأوّل الى الآن الثاني ( فيجب العمل عليه ) أي : على ما كان ثابتا سواء كان الثابت في الزمان الأوّل وجودا أم عدما .

( وفيه ) أولاً : ( منع استلزام عدم العلم بالمؤثّر رجحان عدمه ) أي : عدم المؤثّر ( المستلزم ) ذلك الرجحان ( لرجحان البقاء ) لوضوح : إن عدم العلم بالمؤثر ليس معناه : رجحان عدم المؤثر .

وفيه ثانيا : ( مع أنّ مرجع هذا الوجه الى ما ذكره العضدي وغيره : من أنّ ما تحقّق وجوده ولم يظنّ عدمه أو لم يعلم عدمه فهو مظنون البقاء ) .

وإنّما يكون مرجع هذا الدليل الى ما ذكره العضدي ، لأن العضدي أخذ الظن

ص: 338

ومحصّل الجواب عن هذا وأمثاله من أدلّتهم الراجعة الى دعوى : حصول ظنّ البقاء ، منعُ كون مجرد وجود الشيء سابقا مقتضيا لظنّ بقائه ، كما يشهد له تتبع موارد الاستصحاب ، مع أنّه إن اُريد إعتبار الاستصحاب من باب الظنّ النوعي ، يعني بمجرد كونه لو خُلِّي وطبعَه ، يفيد الظنّ بالبقاء وإن لم يُفده فعلاً لمانع .

ففيه : أنّه لا دليل على إعتباره أصلاً .

-------------------

بالبقاء في دليل الاستصحاب ، فلابد وأن يكون هذا المستدل أراد ذلك أيضا ، فلايكفي في الاستصحاب مجرّد عدم العلم من دون الظن بالبقاء .

( ومحصّل الجواب عن هذا ) الذي ذكره العضدي ( وأمثاله من أدلّتهم الراجعة الى دعوى : حصول ظنّ البقاء ) في الآن الثاني بالنسبة الى ما كان ثابتا في الزمان الأوّل هو الاشكال في الصغرى بقوله : ( منع كون مجرد وجود الشيء سابقا مقتضيا لظنّ بقائه ) لاحقا ، لا ظنا شخصيا ولا ظنا نوعيا .

( كما يشهد له ) أي : لهذا المنع ( تتبع موارد الاستصحاب ) فإن كثيرا من موارد الاستصحاب لا يظن المكلّف ببقاء الحالة السابقة لا ظنا نوعيا ولا ظنا شخصيا .

( مع أنّه ) يرد على الكبرى أيضا : بأنه ( إن اُريد إعتبار الاستصحاب من باب الظنّ النوعي ) فإن النوع يحصل لهم الظن ، بسبب الاستصحاب وإن لم يكن هناك ظن شخصي .

( يعني ) : إن الاستصحاب حجة ( بمجرد كونه لو خُلِّي وطبعه ، يفيد الظنّ بالبقاء ) حتى ( وإن لم يُفده فعلاً لمانع ) أي : لم يفد الظن الشخصي لمانع بنظر المستصحب فإن أُريد هذا المعنى ( ففيه : أنّه لا دليل على إعتباره ) أي : إعتبار هذا الظن النوعي ( أصلاً ) بل مقتضي قوله تعالى : «إن الظن لا يغني من

ص: 339

وإن اُريد اعتباره عند حصول الظنّ فعلاً منه . فهو وإن استقام على ما يظهر من بعض من قارب عصرنا من أصالة حجّية الظنّ ، إلاّ أنّ القول باعتبار الاستصحاب بشرط حصول الظنّ الشخصي منه ، حتى أنّه في المورد الواحد يختلف الحكم باختلاف الاشخاص والأزمان

-------------------

الحق شيئا » (1) إنه لا اعتبار به .

( وإن اُريد اعتباره عند حصول الظنّ فعلاً ) ظنا شخصيا ( منه ) أي : من الاستصحاب ( فهو وإن استقام ) حيث إن الظن الشخصي حجة ( على ما يظهر من بعض من قارب عصرنا من أصالة حجّية الظنّ ) ولعلّه لمقدّمات الانسداد ( إلاّ أنّ القول باعتبار الاستصحاب بشرط حصول الظنّ الشخصي منه ) أي : من الاستصحاب بحيث إذا حصل منه الظن الشخصي كان حجة وإذا لم يحصل منه ظن شخصي لم يكن حجة غير مستقيم .

وإنّما لم يكن مستقيما لاختلاف حكم الاستصحاب حينئذ ( حتى أنّه في المورد الواحد يختلف الحكم باختلاف الاشخاص ) فالشخص الذي يظن ببقاء وضوئه من الصباح الى الظهر - مثلاً - يكون الاستصحاب حجة بالنسبة إليه ، والشخص الذي لا يظن شخصيا ببقاء الوضوء، لا يكون حجة بالنسبة إليه وهكذا .

( و ) يختلف الحكم أيضا باختلاف ( الأزمان ) مثل : زمان الضيف حيث يشرب الانسان المايعات كثيرا مما يسبّب الحدث كثيرا ، فلا يكون الاستصحاب حجة لمن شرب المايعات كثيرا وذلك لعدم الظن الشخصي حينئذ ببقاء وضوئه

ص: 340


1- - سورة يونس : الآية 36 ، سورة النجم : الآية 28 .

وغيرها ، لم يقل به أحدٌ فيما أعلمُ . عدا ما يظهر من شيخنا البهائي قدس سره في عبارته المتقدّمة .

-------------------

من الصبح الى الظهر ، بخلاف زمان الشتاء حيث يقلّ الانسان من شرب المايعات ، فيكون الاستصحاب حجة حينئذ لوجود الظن الشخصي ببقاء وضوئه .

( و ) كذا ( غيرها ) أي : غير الأزمان : من الأمكنة والأحوال وغير ذلك ، كما إذا كان في منطقة باردة ، أو منطقة حارة ، أو كان في حال السلامة ، أو في حال المرض ، أو كان قد أكل مليّنا ، أو أكل قابضا ، أو ما أشبه ، فإن حكم الاستصحاب يختلف فيها باختلاف الموارد في كل هذه الأُمور .

وعليه : فإن أريد باعتبار الاستصحاب هذا المعنى وهو حصول الظن الشخصي منه ، فإنه ( لم يقل به أحدٌ فيما أعلمُ ) فإن الفقهاء لم يعلّقوا حجّية الاستصحاب على الظن الشخصي ( عدا ما يظهر من شيخنا البهائي قدس سره في عبارته المتقدّمة ) في أوائل بحث الاستصحاب في الأمر الرابع حيث قال هناك ما نصه :

لا يخفى إن الظن الحاصل بالاستصحاب فيمن تيقّن الطهارة وشكّ في الحدث لا يبقى على نهج واحد ، بل يضعف بطول المدّة شيئا فشيئا ، بل قد يزول الرجحان ويتساوى الطرفان بل ربما يصير الراجح مرجوحا ، كما إذا توضأ عند الصبح وذهل عن التحفظ ، ثم شك عند المغرب في صدور الحدث منه ولم يكن من عادته البقاء على الطهارة الى ذلك الوقت ، ثم قال :

والحاصل : إن المدار على الظن : فما دام باقيا ، فالعمل عليه وإن ضعف .

ثم إن المصنِّف رحمه اللّه قال في تعقيبه على كلام الشيخ البهائي هناك ناقلاً عن شارح الدروس : بأن شارح الدروس إرتضى ما ذكره الشيخ البهائي ، ونقل أيضا :

ص: 341

وما ذكره قدس سره مخالف للاجماع ظاهرا ، لأنّ بناء العلماء في العمل بالاستصحاب ، في الأحكام الجزئية والكلّية والموضوعات خصوصا العدميات ، على عدم مراعاة الظنّ الفعلي .

ثم إنّ ظاهر كلام العضدي - حيث أخذ في إفادته الظنّ بالبقاء عدمَ الظنّ بالارتفاع - أنّ الاستصحاب أمارةٌ حيث لا أمارة ،

-------------------

إستظهار ذلك من الشهيد في الذكرى ، فراجع ، وأما هنا ، فقال في تعقيبه عليه : ( وما ذكره ) الشيخ البهائي ( قدس سره مخالف للاجماع ظاهرا ) .

وإنّما كان ما ذكره مخالفا للاجماع ظاهرا ( لأنّ بناء العلماء في العمل بالاستصحاب في الأحكام الجزئية ) مثل : استصحاب طهارة زيد ( والكلّية ) مثل : استصحاب طهارة كل من توضأ ثم شك في الحدث ( والموضوعات ) مثل استصحاب بقاء زيد إذا شككنا في موته ( خصوصا العدميات ) مثل : استصحاب عدم طلاق زيد زوجته .

وإنّما خصّص من بينها العدميات ، لأن العدم لا يزول إلاّ بالمؤثر بخلاف الوجود، حيث إن الوجود في كثير من الأحيان يزول بنفسه لانتهاء مقتضية .

وعليه : فإن بناء الفقهاء في العمل بالاستصحاب في كل هذه الأُمور إنّما هو ( على عدم مراعاة الظنّ الفعلي ) الشخصي ، بل هم يراعون فيها الظن النوعي فقط .

( ثم إنّ ظاهر كلام العضدي - حيث أخذ في إفادته ) أي : في إفادة الاستصحاب ( الظنّ بالبقاء ) هو : اشتراط ( عدمَ الظنّ بالارتفاع - ) لأنه ما دام لم يظن بالارتفاع يظن بالبقاء ، فإن ظاهر هذا الكلام هو : ( أنّ الاستصحاب أمارةٌ حيث لا أمارة ) أي : إنه لم يظن بالارتفاع فإنه يظن بالبقاء ، فإن الظن بالارتفاع

ص: 342

وليس في الأمارات مايكون كذلك .

نعم ، لا يبعد أن يكون الغلبة كذلك .

-------------------

أمارة على العدم ، فإذا لم يكن ، كان الاستصحاب .

هذا ( وليس في الأمارات ما يكون كذلك ) بأن يكون أمارة حيث لا أمارة على خلافها .

إذن : فالظن بالارتفاع أمارة ، والظن بالبقاء وهو الاستصحاب أمارة ، والعضدي يقول : إن الاستصحاب أمارة حيث لا ظن على خلافه ، فإذا كان ظن على خلافه لم يكن الاستصحاب حجّة ، لأن الظن على الخلاف أمارة يرفع الاستصحاب ، وإذا لم يكن في الأمارات مثل ذلك كان معناه : إن الاستقراء في الأمارات يفيد عدم صحة مثل هذه الأمارة التي هي على خلاف كل الأمارات ، فلا يكون الاستصحاب حجّة .

وإن شئت قلت : إن الأصل يسقط بالأمارة ، لا ان الأمارة تسقط بالأمارة ، فكيف يكون الاستصحاب أمارة يسقط بأمارة أخرى ؟ .

( نعم ، لا يبعد أن يكون الغلبة كذلك ) أي : بأن تكون الغلبة أمارة حيث لا أمارة ، فإنه على ما يظهر من كلام بعضهم : إن الغلبة هي كالاستصحاب أمارة حيث لا أمارة هناك على خلافها .

وأما مع وجود أمارة على خلاف الغلبة ، فالغلبة حينئذ تكون كالأصول تسقط بتلك الأمارة ، فإذا كانت هناك - مثلاً - غلبة وقلنا إن الغلبة دليل ، فدليليتها إنّما يكون إذا لم تكن أمارة على خلافها .

مثلاً : غلبة كون الأسماك في بحر كذا من النوع الحرام يفيد حرمة إستعمال ما إبتلي الانسان به من تلك الأسماك ، لكن إذا قدّمها مسلم للانسان ، فإن أصالة

ص: 343

وكيف كان : فقد عرفت منع إفادة مجرّد اليقين بوجود الشيء للظنّ ببقائه .

وقد استظهر بعضٌ تبعا لبعض ، بعد الاعتراف بذلك ، أنّ المنشأ في حصول الظنّ : غلبةُ البقاء في الأمور القارّة .

-------------------

الصحة في عمل المسلم أمارة توجب سقوط حكم الغلبة ، فيحلّ تناول ذلك السمك .

وعليه : فالغلبة مع كونها أمارة سقطت بسبب بأمارة أخرى ، فلا يختص السقوط إذن بالأصل في قبال الأمارة .

( وكيف كان : فقد عرفت ) الاشكال في صغرى وكبرى الدليل المتقدم ، أما الاشكال في الكبرى فخلاصته : إنه لا دليل على اعتبار الظن لا النوعي ولا الشخصي .

وأما الاشكال في الصغرى فخلاصته : ( منع إفادة مجرّد اليقين بوجود الشيء ) في الزمان الأوّل ( للظنّ ببقائه ) في الآن الثاني .

لكن بعض من منع الصغرى أثبت الكبرى وصدّقها وقال : إنه إذا كان موجبا للظن كما في الأُمور القارة كان هذا الظن حجة .

والى هذا أشار المصنِّف بقوله : ( وقد استظهر بعضٌ ) وهو المحقق القمي ( تبعا لبعض ) وهو السيد صدر الدين شارح الوافية ( بعد الاعتراف بذلك ) أي : بعد إعترافه بأن مجرّد اليقين بوجود الشيء في الزمان الأوّل لا يفيد الظن ببقائه في الآن الثاني .

وعليه : فإنه بعد إعترافه بمنع الصغرى هذه أثبت الكبرى مستظهرا ( أنّ المنشأ في حصول الظنّ : غلبة البقاء في الأمور القارّة ) والمراد بالأمور القارة هي التي

ص: 344

قال السيد الشارح للوافية ، بعد دعوى رجحان البقاء « إنّ الرجحان لابدّ له من موجب ، لأنّ وجود كل معلول يدلّ على وجود علّة له إجمالاً ، وليست هي اليقين المتقدّم بنفسه ، لأنّ ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم ، ويشبه أن يكون هي كون الأغلب في أفراد الممكن القارّ : أن يستمر وجوده بعد التحقق ، فيكون رجحان وجود هذا الممكن الخاص للالحاق بالأعمّ الأغلب .

-------------------

تجتمع أجزائها في الوجود ، بخلاف الأمور غير القارة كالزمان ونحوه ، حيث لا تجتمع أجزائها في الوجود .

( قال السيد الشارح للوافية ، بعد دعوى رجحان البقاء ) فيما إذا كان هناك يقين بوجود الشيء في الزمان الأوّل ( « إنّ الرجحان لابدّ له من موجب ) إذ لولا الموجب لم يكن رجحان ، وذلك ( لأنّ وجود كل معلول يدلّ على وجود علّة له إجمالاً ) كشفا إنّيا .

هذا ( وليست ) تلك العلة ( هي اليقين المتقدّم بنفسه ، لأنّ ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم ) فالوجود المتقدم بنفسه ليس سببا للرجحان في المتأخّر .

إذن : فلابدّ من علة توجب الرجحان ( ويشبه أن يكون ) أي : تلك العلة الموجبة للرجحان ( هي : كون الأغلب في أفراد الممكن القارّ : أن يستمر وجوده بعد التحقق ) وحيث إن هذه الغلبة موجودة في افراد الممكن القار ( فيكون رجحان وجود هذا الممكن الخاص ) المشكوك البقاء مسلّما ، وذلك ( للالحاق بالأعمّ الأغلب ) وكل ما كان كذلك يكون الاستصحاب فيه حجة .

ص: 345

هذا إذا لم يكن رجحان الدّوام مؤيدا بعادة أو أمارة ، وإلاّ فيقوى بهما ، وقِس على الوجود حال العدم إذا كان يقينيا » انتهى كلامه ، رفع مقامه .

-------------------

( هذا إذا لم يكن رجحان الدّوام مؤيدا بعادة ) مثل : أن يكون من عادته الاحتفاظ على وضوء الصبح الى صلاة الظهر ( أو أمارة ) مثل أن يكون فاقدا للماء بين الصبح والظهر وكان فقده للماء أمارة عرفية على إنه إحتفظ بوضوئه .

( وإلاّ ) بأن كان هناك عادة أو أمارة ( فيقوى ) الرجحان الناشيء عن الغلبة ( بهما ) أي : بالعادة والأمارة .

هذا إذا كان الثابت في الزمان الأوّل هو الوجود .

وأما إذا كان العدم فهو أيضا كذلك كما قال : ( وقس على الوجود حال العدم إذا كان يقينيا » (1) ) فإنه إذا كان العدم ثابتا في الزمان الأوّل وكانت هناك غلبة في بقائه، ثم شك في موضع خاص : بأنه هل بقي العدم أم لا؟ حكم ببقاء هذا الموضع الخاص إلحاقا له بالأعم الأغلب ، وإذا كانت هناك عادة أو أمارة تؤيد العدم ، تقوّى رجحان العدم بهما .

( انتهى كلامه ) أي : كلام السيد الشارح للوافية ( رفع مقامه ) وقد وافقه المحقق القمي في هذا الكلام مع فارق وهو : أن السيد الصدر يدّعي : أن البقاء هو الغالب في الموجودات القارة ، بينما المحقق القمي يدّعي : إن البقاء هو الغالب في الموجودات القارة وفي خصوص أنواعها .

وإن شئت قلت : إن شارح الوافية إدعى غلبة البقاء في مطلق الممكنات القارة ، والمحقق القمي إدعاها في افراد كل نوع بحسب نوعها .

ص: 346


1- - شرح الوافية : مخطوط .

وفيه : أنّ المراد بغلبة البقاء ليس غلبة البقاء أبد الآباد ، بل المراد : البقاء على مقدار خاص من الزمان .

ولا ريب أنّ ذلك المقدار الخاص ليس أمرا مضبوطا في الممكنات ولا في المستصحبات ، والقدرُ المشترك بين الكلّ أو الأغلب منه معلوم التحقّق في مورد الاستصحاب ، وإنّما الشك في الزائد ، وإن أُريد بقاء الأغلب الى زمان الشك .

فإن أُريد : أغلب الموجودات السابقة بقول مطلق ،

-------------------

( وفيه : أنّ المراد بغلبة البقاء : ليس غلبة البقاء أبد الآباد ) بأن يبقى الشيء الى الأبد ( بل المراد : البقاء على مقدار خاص من الزمان ) وهو زمان وجود المقتضي .

هذا ( ولا ريب أنّ ذلك المقدار الخاص ) من إقتضاء البقاء ( ليس أمرا مضبوطا في الممكنات ) أي : في جنس الممكن ( ولا في المستصحبات ) أي : في نوع من جنس الممكن ( والقدرُ المشترك ) لزمان البقاء ( بين الكلّ أو الأغلب منه معلوم التحقّق في مورد الاستصحاب ) .

إذن : فإنا نعلم إن الممكن يبقى مدة ( وإنّما الشك في الزائد ) عن ذلك القدر المعلوم ، فمن أين لنا إثبات القدر الزائد المشكوك حتى يصحّ فيه الاستصحاب ؟.

والحاصل : إنه إن أريد بغلبة البقاء : البقاء الى مدة ، فذلك مسلّم معلوم ، لكنه لا ينفع للاستصحاب ، إذ البقاء الى مدة لا يثبت البقاء الى زمان الشك الذي هو محل الكلام في الاستصحاب .

( وإن أُريد بقاء الأغلب الى زمان الشك ) حتى ينفع الاستصحاب فنقول : ما المراد من الأغلب ؟ ( فإن أُريد : أغلب الموجودات السابقة بقول مطلق ) أي :

ص: 347

ففيه : أولاً ، أنّا لا نعلمُ بقاء الأغلب في زمان الشك ، وثانيا : لا ينفع بقاء الأغلب في إلحاق المشكوك للعلم بعدم الرابط بينها وعدم استناد البقاء فيها الى جامع ، كما لا يخفى .

بل البقاء في كلّ واحد منها مستند الى ما هو مفقود في غيره .

نعم ، بعضها مشترك في مناط البقاء .

-------------------

غلبة جنسها للبقاء حتى يشمل جميع أفراد الجنس ( ففيه ) ما يلي :

( أولاً : أنّا لا نعلم بقاء الأغلب في زمان الشك ) فإن بقاء الأغلب هو بنفسه مما يحتاج الى الاثبات .

( وثانيا : لا ينفع بقاء الأغلب في إلحاق المشكوك ) به حتى نقول إن الأغلب لما كان باقيا ، فهذا المشكوك أيضا باق ، وذلك ( للعلم بعدم الرابط بينها ) فإنا نعلم بأنه لا ربط بين بقاء الأغلب الى زمان الشك ، وبقاء هذا الفرد الذي نريد استصحابه ( وعدم استناد البقاء فيها الى جامع ، كما لا يخفى ) .

وعليه : فإن الحاق شيء بالأغلب يحتاج : إما الى رابط بين الأغلب وبين هذا الشيء المراد استصحابه ، وإمّا الى جامع بين الأغلب وبين هذا الشيء المراد استصحابه ، وكل من الرابط والجامع مفقود ، فمن أين يحكم على هذا الشيء المراد استصحابه بما هو حكم الأغلب : من البقاء الى زمان الشك ؟ .

( بل البقاء في كلّ واحد منها ) أي : من الموجودات ( مستند الى ما هو مفقود في غيره ) فبقاء الحديد - مثلاً - مستند الى علة خاصة ، مفقودة تلك العلة في بقاء الخشب - مثلاً - وبقاء الخشب أيضا مستند الى علة خاصة ، مفقودة تلك العلة في غير الخشب ، وهكذا .

( نعم ، بعضها مشترك في مناط البقاء ) مثل اشتراك بقاء النور وبقاء الحرارة

ص: 348

وبالجملة ، فمن الواضح أنّ بقاء الموجودات المشاركة مع نجاسة الماء المتغير في الوجود من الجواهر والاعراض في زمان الشك في النجاسة ، لذهاب التغيّر المشكوك مدخليّته في بقاء النجاسة ، لا يوجب الظن ببقائها ، وعدم مدخليّة التغيّر فيها .

وهكذا الكلام في كلّ ما شك في بقائه لأجل الشك في استعداده للبقاء .

-------------------

في النار ، فإن بقاء النار مستلزم لبقاء النور والحرارة معا ، لاشتراكهما في مناط البقاء ، ولكن ليس أغلب الموجودات كذلك ، بل أغلب الموجودات مشتركة في الوجود فقط .

( وبالجملة ، فمن الواضح أنّ بقاء الموجودات المشاركة ) أي : المشتركة ( مع نجاسة الماء المتغير ) إنّما هو اشتراك ( في الوجود ) فقط ، لا في المناط أيضا .

وعليه : فإن بقاء هذه الموجودات ( من الجواهر والاعراض ) لا ربط لها حينئذ ببقاء نجاسة الماء الذي زال تغيّره من نفسه ( في زمان الشك في النجاسة ) .

وإنّما نشك في النجاسة ( لذهاب التغيّر المشكوك مدخليّته في بقاء النجاسة ) وقد تبيّن : إنّ اشتراك الموجودات مع نجاسة الماء المتغير اشتراكا في الوجود فقط ، بلا رابط ولا جامع بينهما ( لا يوجب الظن ببقائها ، وعدم مدخليّة التغيّر فيها ) أي : في النجاسة .

إذن : فلا يفيد غلبة البقاء في الموجودات : الظن ببقاء النجاسة في المثال .

والحاصل : إن بقاء الحديد والخشب والماء وألف شيء آخر ، ربط له ببقاء نجاسة الماء المتغير إذا زال تغيره من نفسه حتى يقال : إن غلبة بقاء تلك الأشياء تدل على بقاء نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره ؟ .

( وهكذا الكلام في كلّ ما شك في بقائه لأجل الشك في استعداده للبقاء )

ص: 349

ومن هنا يظهر ضعف ما وَجَّه به ، كلام السيد المتقدم ، صاحب القوانين بعد ما تبعه في الاعتراف بأنّ هذا الظنّ ليس منشأه محض الحصول في الآن السابق ، لأنّ ما ثبت جاز أن يدوم ، وجاز أن لا يدوم ، قال :

« بل لأنّا لمّا فتّشنا الأمور الخارجية من الأعدام والموجودات ، وجدناها مستمرة بوجودها الأوّل على حسب استعداداتها وتفاوتها في مراتبها ، فنحكم فيما لم نعلم حاله بما وجدناه في الغالب

-------------------

بأن كان من الشك في المقتضي .

( ومن هنا ) أي : مما أوردنا على كلام السيد الصدر ( يظهر ضعف ما وَجَّه به كلام السيد المتقدِّم ) وهو السيد الصدر الشارح للوافية والموجّه هو ( صاحب القوانين ) وذلك ( بعد ما تبعه في الاعتراف بأنّ هذا الظنّ ) بالبقاء ( ليس منشأه محض الحصول في الآن السابق ) إذ محض الحصول سابقا لا يوجب الظن بالبقاء حقا ( لأنّ ما ثبت جاز أن يدوم ، وجاز أن لا يدوم ) .

ثم ( قال : ) بعد ذلك ، معللاً الظن بالبقاء : بأن منشأه ليس هو محض الحصول ، وإنّما منشأه الغلبة كما قال : ( « بل لأنّا لمّا فتّشنا الأمور الخارجية من الأعدام والموجودات ) ولا يخفى : إن التعبير عن الأعدام بالأمور الخارجية ، فيه نوع مسامحة ( وجدناها مستمرة بوجودها الأوّل على حسب استعداداتها وتفاوتها في مراتبها ) حيث إن بعضها مستعدّ للبقاء ألف سنة ، وبعضها مستعدّ للبقاء مائة سنة ، وهكذا .

وعليه : ( فنحكم فيما لم نعلم حاله بما وجدناه في الغالب ) .

مثلاً : إذا رأينا إن أغلب الحبوبات تبقى سنة ، ورأينا حبا يبقى سنتين ، وحبا يبقى ثلاث سنوات ، ورأينا حبا رابعا لا نعلم هل إنه يبقى شهرا ، أو سنة ، أو أكثر ؟

ص: 350

إلحاقا له بالأعمّ الأغلب .

ثم إنّ كل نوع من أنواع الممكنات يلاحظ زمان الحكم ببقائه بحسب ما غلب في افراد ذلك النوع ، فالاستعداد الحاصل للجدران القويمة يقتضي مقدارا من البقاء بحسب العادة ، والاستعداد الحاصل للإنسان يقتضي مقدارا منه وللفرس مقدارا آخر ، وللحشرات مقدارا آخر ، ولدود القزّ ، والبقّ ، والذباب ، مقدارا آخر ، وكذلك الرطوبة في الصيف والشتاء .

-------------------

استصحبنا بقائه الى سنة ، لأن الغالب بقاء الحب الى سنة قطعا ( إلحاقا له بالأعمّ الأغلب ) لأن أغلب الحبوبات تبقى سنة لا أكثر .

( ثم إنّ كل نوع من أنواع الممكنات يلاحظ زمان الحكم ببقائه بحسب ما غلب في افراد ذلك النوع ) فالفرد المشكوك من ذلك النوع يلحق بالأعم الأغلب في نوعه .

وعليه : ( فالاستعداد الحاصل للجدران القويمة يقتضي مقدارا من البقاء بحسب العادة ) كخمسين سنة - مثلاً - .

( والاستعداد الحاصل للانسان يقتضي مقدارا منه ) أي : من البقاء كسبعين سنة - مثلاً - .

( وللفرس مقدارا آخر ، وللحشرات مقدارا آخر ، ولدود القزّ ، والبقّ ، والذباب، مقدارا آخر ) وهكذا ففي كل فرد من افراد هذه الأنواع إذا شككنا في إنه هل يبقى ذلك المقدار المقرر لنوعه أم لا؟ حكمنا بأنه أيضا يبقى الى ذلك المقدار.

( وكذلك الرطوبة في الصيف والشتاء ) والربيع والخريف حيث إن الرطوبة في الصيف تبقى مدة قليلة ، وفي الشتاء مدة طويلة ، وفي الفصلين الآخرين مدة متوسطة بين الصيف والشتاء ، فإذا شككنا في فرد منها ، حكمنا بما هو الغالب

ص: 351

فهنا مرحلتان : الاُولى : إثبات الاستمرار في الجملة ، الثانية : إثبات مقدار الاستمرار ، ففيما جُهِلَ حالُه من الممكنات القارّة ، يثبت ظنُّ الاستمرار في الجملة بملاحظة حال أغلب الممكنات مع قطع النظر عن تفاوت أنواعها ، وظنُّ مقدار خاص من الاستمرار بملاحظة حال النوع الذي هو من جملتها .

-------------------

في نوعها .

وعليه : ( فهنا مرحلتان ) على ما يلي :

( الاُولى : إثبات الاستمرار في الجملة ) وهذا مقطوع به .

( الثانية : إثبات مقدار الاستمرار ) وإنه هل هو شهر ، وسنة ، أو أقل ، أو أكثر؟ وهذا هو محل الكلام .

أما بالنسبة الى اثبات الاستمرار في الجملة ، فكما قال : ( ففيما جُهِلَ حالُه من الممكنات القارّة ) بأن نكون جهلناه لعدم علمنا بالنوع ، أو كنا نعلم بنوعه لكن لا نعلم بصنفه ، أو علمنا بصنفه لكن لا نعلم بشخصه ، ففي هذه الصورة ( يثبت ظنُّ الاستمرار في الجملة بملاحظة حال أغلب الممكنات مع قطع النظر عن تفاوت أنواعها ) لأن الاستمرار في الجملة مقطوع به .

( و ) أما بالنسبة الى مقدار الاستمرار ، ففي هذه الصورة يثبت ( ظنُّ مقدار خاص من الاستمرار بملاحظة حال النوع الذي ) ذلك الفرد المشكوك ( هو من جملتها ) أي : من جملة تلك الأنواع .

مثلاً : إذا رأينا نوعا من العصفور ولم نعلم كم سنة يبقى هذا النوع ؟ فهنا نقول أولاً : إنه يبقى مدة في الجملة ، ونقول : ثانيا : إنه لما كان غالب العصافير يبقون خمس سنوات ، فهذا يبقى خمس سنوات أيضا ، إلحاقا له بالأعم الأغلب .

ص: 352

فالحكم الشرعي - مثلاً - نوع من الممكنات قد يلاحظ من جهة ملاحظة الأحكام الصادرة من الموالي الى العبيد ، وقد يلاحظ من جهة ملاحظة سائر الأحكام الشرعية فإذا أردنا التكلّم في اثبات الحكم الشرعيّ فنأخذ الظنّ الذي إدّعيناه : من ملاحظة أغلب الأحكام الشرعية ، لأنّه الأنسب به والأقرب اليه وإن أمكن ذلك

-------------------

إذا عرفت ذلك نقول : ( فالحكم الشرعي - مثلاً - نوع من الممكنات قد يلاحظ من جهة ملاحظة الأحكام الصادرة من الموالي الى العبيد ) فإنّ الأحكام الصادرة من الموالي الى العبيد نوع ، وهذا الحكم الصادر من المولى الحقيقي الى عبيده أيضا نوع من تلك الأنواع ، وكما إن تلك الأحكام تبقى مدة ، فكذلك هذا الحكم الشرعي يبقى مدة أيضا .

( وقد يلاحظ من جهة ملاحظة سائر الأحكام الشرعية ) فإن الصلاة والصوم والطهارة للصلاة - مثلاً - وما أشبه ذلك نرى إن وجوبها يبقى الى آخر العمر ، فكذلك نجاسة الماء المتغيّر الذي زال تغيّره من نفسه أيضا يبقى الى آخر العمر ، وذلك إلحاقا للماء المتغيّر بالأعم الأغلب من الأحكام الشرعية الثابتة للصلاة وغيرها .

وعليه : ( فإذا أردنا التكلّم في اثبات الحكم الشرعيّ ) في الزمان الثاني المشكوك بقاء ذلك الحكم الشرعي فيه ( فنأخذ الظنّ الذي إدّعيناه : من ) قولنا : إن الظن يلحق الشيء بالأعم الأغلب ، وهو هنا ( ملاحظة أغلب الأحكام الشرعية : لأنّه الأنسب به ) أي : بهذا الحكم الشرعي الخاص المشكوك بقائه ( والأقرب اليه ) أيضا .

وعليه : فنأخذ بالأنسب والأقرب الى هذا الحكم حتى ( وإن أمكن ذلك

ص: 353

بملاحظة أحكام سائر الموالي وعزائم سائر العباد .

ثم إنّ الظنّ الحاصل من الغلبة في الأحكام الشرعيّة محصّلة : أنّا نرى أغلب الأحكام الشرعية مستمرّة بحسب دليله الأوّل ، بمعنى : أنّها ليست أحكاما آنيّة مختصة بآنِ الصدور ،

-------------------

بملاحظة أحكام سائر الموالي وعزائم سائر العباد ) وعزائم : جمع عزيمة ، والعزيمة يراد بها الفريضة .

والحاصل : إن بقاء النجاسة في الماء ، الذي زال تغيّره من نفسه ، فوقه ثلاث أغلبيات :

الأوّل : الأغلبية الشرعية في الأحكام التي ذكرها الشارع .

الثاني : الأغلبية الملحوظة بالنسبة الى سائر الموالي والعبيد .

الثالث : الأغلبية الملحوظة في عزائم سائر العباد ، لأن لكل إنسان واجبات ومحرمات حسب ما يرشده إليه عقله ، وتقرّره له اجتماعاته وإن لم يكن هناك موال وعبيد .

هذا ، ونجاسة الماء فيما نحن فيه إنّما يقاس بالنسبة الى الأعم الأغلب من الأحكام الشرعية ، لا الى الأغلب من أحكام الموالي ، أو الأغلب من عزائم سائر العباد .

الى هنا تمّ بيان إن المراد ب « الأغلب » ما هو ؟ ومن الآن يريد المصنِّف التعرّض الى بيان إنه كيف يكون الأغلب في الشرع موجبا لبقاء الأمر المشكوك فيه ، فقال :

( ثم إنّ الظنّ الحاصل من الغلبة في الأحكام الشرعيّة محصّلة : أنّا نرى أغلب الأحكام الشرعية مستمرّة بحسب دليله الأوّل ) لكن لا بمعنى إنها عامة أو مطلقة تشمل جميع الأفراد ، بل ( بمعنى : أنّها ليست أحكاما آنيّة مختصة بآنِ الصدور )

ص: 354

بل يُفهم من حاله من جهة أمر خارجي عن الدليل أنّه يريد استمرار ذلك الحكم الأوّل من دون دلالة الحكم الأوّل على الاستمرار ، فإذا رأينا منه أنّه إكتفى في إبداء الحكم بالأمر المطلق القابل للاستمرار وعدمه ، ثم علمنا : أنّ مراده من الأمر الأوّل الاستمرار نحكم فيما لم يظهر مراده بالاستمرار

-------------------

أو بزمان محدود كعشر سنوات أو عشرين سنة ، أو ما أشبه ذلك .

( بل يُفهم من حاله ) أي : حال المولى ( من جهة أمر خارجي عن الدليل ) فإن الاستمرار في الاحكام ليس وجودا في متن الدليل ، وإنّما هناك أدلة خارجية تشير الى ( أنّه يريد استمرار ذلك الحكم الأوّل ) .

مثلاً : وجوب الصلاة مستمر ، وكذلك وجوب الصوم ، وحرمة شرب الخمر مستمر ، وكذلك حرمة السرقة ، وهكذا ، وذلك ( من دون دلالة الحكم الأوّل على الاستمرار ) فإن : « أقيموا الصلاة وآتوا الزَّكاة » (1) و « إنّما الخَمْرَ والمَيْسَرَ » (2) وغيرهما من أدلة الأحكام لم تكن بنفسها دالة على العموم الازماني والاستمراري .

وعليه : ( فإذا رأينا منه ) أي : من المولى ( أنّه إكتفى في إبداء الحكم بالأمر المطلق ) أي : من دون تعيين الزمان فيه ( القابل ) ذلك الاطلاق ( للاستمرار وعدمه ) أي : عدم الاستمرار . مثل قوله سبحانه : « وأنْكِحُوا الأيامى مِنْكُم » (3) وقوله سبحانه : « فكاتِبُوهم إنْ عَلِمْتُم فيهم خيْرا » (4) ( ثم علمنا : أنّ مراده من الأمر الأوّل الاستمرار ) فإذا تحققت هذه المقدمات ( نحكم فيما لم يظهر مراده بالاستمرار ) إنه مستمر أيضا .

ص: 355


1- - سورة البقرة : الآية 43 و 83 و 110 .
2- - سورة المائدة : الآية 90 .
3- - سورة النور : الآية 32 .
4- - سورة النور : الآية 33 .

إلحاقا بالأغلب ، فقد حصل الظنّ بالدليل وهو قول الشارع بالاستمرار ، وكذلك الكلام في موضوعات الأحكام من الأُمور الخارجية ، فإنّ غلبة البقاء تورث الظنّ القوي بالبقاء» ، إنتهى .

ويظهر وجه ضعف هذا التوجيه ممّا أشرنا اليه .

توضيحه : أنّ الشك في الحكم الشرعي، قد يكون من جهة الشك في مقدار استعداده وقد يكون من جهة الشك في تحقق الرافع .

-------------------

وإنّما نحكم فيه بالاستمرار أيضا ( إلحاقا بالأغلب ) الذي كان مستمرا حسب ما ذكرناه ( فقد حصل الظنّ بالدليل ) على الاستمرار ( وهو ) أي : ذلك الدليل ( قول الشارع بالاستمرار ) الذي فهمناه من القرائن الخارجية .

( وكذلك الكلام في موضوعات الأحكام من الأُمور الخارجية ) بأن أُريد استصحاب الموضوعات لترتب الأحكام عليها مثل : حياة الزوج لنفقة زوجته ( فإنّ غلبة البقاء ) فيها ( تورث الظنّ القوي بالبقاء» (1) ) في الأمر المشكوك بقائه .

( إنتهى ) كلام صاحب القوانين المؤيد لما قاله السيد الصدر ( ويظهر وجه ضعف هذا التوجيه ) من القوانين لكلام السيد الصدر ( مما أشرنا اليه ) سابقا .

( توضيحه : أنّ الشك في الحكم الشرعي قد يكون من جهة الشك في مقدار استعداده ) أي: استعداد الحكم الشرعي للبقاء، وهو مايسمى بالشك في المقتضي .

( وقد يكون من جهة الشك في تحقق الرافع ) بأن نعلم استعداده ، ولكن لا نعلم هل إنه حدث رافع يرفعه أم لا ؟ ويسمى بالشك في الرافع .

ص: 356


1- - القوانين المحكمة : ج2 ص57 .

أمّا الأوّل فليس فيه نوعٌ ولا صنفٌ مضبوطٌ من حيث مقدار الاستعداد . مثلاً ، إذا شككنا في مدخلية التغيير في النجاسة حدوثا وإرتفاعا وعدمها ، فهل ينفع في حصول الظنّ بعدم المدخليّة تتبع الأحكام الشرعية الأُخر ، مثل : أحكام الطهارات والنجاسات ، فضلاً عن أحكام المعاملات والسياسات ، فضلاً عن أحكام الموالي الى العبيد .

-------------------

( أمّا الأوّل ) : وهو الشك في مقدار الاستعداد ( فليس فيه نوعٌ ولا صنفٌ مضبوطٌ من حيث مقدار الاستعداد ) حتى يقال : بأن هذا النوع أو هذا الصنف من الحكم الشرعي يقتضي استعداده لبقاء سنة ، أو شهر ، أو أكثر ، أو أقل .

أمّا مثل الطهارة والنجاسة ، والملكية والزوجية ، والحرية والرقية ، وما أشبه ، فنعلم مقدار استعدادها ، وليس الكلام في مثلها ، كما إنه لا كلام في مثل الاجارة والعقود التابعة في مقدار استعدادها للمقرّر بين المتعاقدين ، وإنّما الكلام في غير ذلك ممّا مثّل له المصنِّف بقوله :

( مثلاً ، إذا شككنا في مدخلية التغيير في النجاسة حدوثا وإرتفاعا ، وعدمها ) أي : عدم المدخلية ( فهل ينفع في حصول الظنّ بعدم المدخليّة ) أي : عدم مدخليّة التعيين في النجاسة حدوثا وارتفاعا بالنسبة للماء المتعين هل ينفعنا ( تتبع الأحكام الشرعية الأُخر ، مثل : أحكام الطهارات والنجاسات ) التي هي من قبيل مثالنا لحصول الظن بعدم المدخلية في مثالنا؟ .

الجواب : إنه لا ينفع ( فضلاً عن أحكام المعاملات والسياسات ) التي هي ليست من قبيل مثالنا حيث إن أحكام المعاملات والسياسات تجتمع مع الطهارة والنجاسة في الجنس فقط .

وكذلك ( فضلاً عن أحكام الموالي الى العبيد ) وفضلاً عن سائر غرائم العباد

ص: 357

وبالجملة : فكلّ حكم شرعي أو غيره تابعٌ لخصوص ما في نفس الحاكم من الأغراض والمصالح ، ومتعلّقٌ بما هو موضوع له وله دخلٌ في تحققه ، ولا دخلَ لغيره من الحكم المغاير له . ولو إتّفق موافقته له كان بمجرد الاتفاق من دون ربط .

ومن هنا

-------------------

على ما تقدّم من تمثيل المحقق به .

( وبالجملة : فكلّ حكم شرعي أو غيره ) أي : غير الحكم الشرعي ، سواء كان حكم الموالي أم أحكام الأشياء الخارجية ، فهو ( تابعٌ لخصوص ما في ) نقل ( نفس الحاكم من الأغراض والمصالح ) فإنّ الحاكم يضع أحكامه حسب خصوصياتٍ يراها ، كما إن غير الحكم الشرعي أيضا بقائه وزواله تابع للخصوصية التي فيه قوة وضعفا .

( و ) أيضا ذلك الحكم الشرعي وغيره ( متعلّقٌ بما هو موضوع له ) أي : للحكم ( وله ) أي : ولذلك الموضوع الخاص ( دخلٌ في تحققه ) أي : في تحقق الحكم الشرعي الخاص ( و ) معلوم : إنه ( لا دخلَ لغيره من الحكم المغاير له ) أي: لذلك الحكم الخاص ، لأن بقاء وزوال كل حكم تابع لما يراه المولى ، وليس بتابع لمقدار بقاء وزوال حكم آخر .

هذا ( ولو إتّفق موافقته له ) أي : إتفق موافقة هذا الحكم لغيره من الأحكام في البقاء والزوال ( كان بمجرد الاتفاق ) لأنه لا جامع بينهما وكان ( من دون ربط ) وإتحاد مناط ، بل مجرد إتفاق .

( ومن هنا ) أي : من أجل ما ذكرنا : من أنه لا يرتبط دوام حكم وزواله بدوام حكم آخر ، وزواله يظهر ما يلي :

ص: 358

لو شك واحدٌ من العبيد في مدخليّة شيء في حكم مولاه حدوثا وارتفاعا ، فتتبّع لأجل الظنّ بعدم المدخليّة وبقاء الحكم بعد ارتفاع ذلك الشيء ، أحكام سائر الموالي بل أحكام هذا المولى المتغايرة للحكم المشكوك موضوعا ومحمولاً ، عُدَّ من أسفه السفهاء .

وأمّا الثاني : وهو الشك في الرافع فإن كان الشك في رافعيّة الشيء للحكم ، فهو أيضا لا دخل له بسائر الأحكام .

-------------------

إنه ( لو شك واحد من العبيد في مدخليّة شيء في حكم مولاه حدوثا وارتفاعا ) بأن شك في إن الشيء الفلاني يسبّب حدوث الحكم أم لا ؟ أو إن الشيء الفلاني يسبب ارتفاع الحكم أم لا؟ ( فتتبّع لأجل الظنّ بعدم المدخليّة وبقاء الحكم بعد ارتفاع ذلك الشيء ) تتبعا في ( أحكام سائر الموالي ، بل أحكام هذا المولى ) تلك الأحكام ( المتغايرة للحكم المشكوك موضوعا ومحمولاً ) أو المتوافقة موضوعا لا محمولاً ، أو محمولاً لا موضوعا ( عُدَّ من أسفه السفهاء ) .

مثلاً : إذا شك العبد في إنه هل يجب عليه البقاء في الدار الى الصباح أو الى نهاية الاسبوع ؟ فتتبع فرأى إن المولى أمر أجيره بصيام اسبوع ، وخادمه بالسفر اسبوعا ، وبنّاء داره بالبناء اسبوعا ، وهكذا ، لم يحق له أن يقيس ما أمره المولى بالأوامر الأُخر فيقول : يجب عليّ البقاء في الدار الى نهاية الاسبوع .

هذا كله في الشك في المقتضي .

( وأمّا الثاني : وهو الشك في الرافع ) فقد يكون شكا في رافعية الموجود ، وقد يكون شكا في وجود الرافع ( فإن كان الشك في رافعيّة الشيء للحكم ) بأن كان شيء موجودا وشككنا في إنه هل هو رافع للحكم أم لا ؟ ( فهو أيضا لا دخل له بسائر الأحكام ) حتى يقاس هذا الحكم بسائر الأحكام من باب الغلبة .

ص: 359

ألا ترى أنّ الشك في رافعيّة المذي للطهارة لا ينفعُ فيه تتبع موارد الشك في الرافعيّة ، مثل : ارتفاع النجاسة بالغسل مرة ، أو نجاسة الماء بالاتمام كُرّا ، أو ارتفاع طهارة الثوب والبدن بعصير العنب أو الزبيب والتمر .

وأما الشك في وجود الرافع

-------------------

( ألا ترى أنّ الشك في رافعيّة المذي للطهارة لا ينفع فيه تتبع موارد الشك في الرافعيّة ) حتى يقاس عليها المذي في كونه رافعا أو ليس برافع .

إذن : فلا ينفع في مورد الشك فيما نحن فيه تتبع موارد الشك المشابهة ( مثل : ارتفاع النجاسة بالغسل مرة ، أو ) مثل ارتفاع ( نجاسة الماء بالاتمام كُرّا ) على ما قال به بعض الفقهاء تمسّكا منه بقوله عليه السلام : الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجسه شيء (1) .

( أو ) مثل : ( ارتفاع طهارة الثوب والبدن بعصير العنب أو الزبيب والتمر ) عند جماعة من الفقهاء ، وذلك لقولهم بنجاسة عصير هذه الثلاثة ، فحيث يشك في نجاستها يشك في إنه هل ارتفع طهارة الثوب بسبب ملاقاته لشيء منها أم لا ؟ .

والحاصل : إن الشك في رافعيّة الموجود لا يقاس الى سائر الروافع ، بأن يقال : تلك الأمور روافع فهذا رافع أيضا ، كما لا يقال : بأن سائر الأمور ليست بروافع ، فهذا ليس برافع أيضا .

( وأما الشك في وجود الرافع ) مع العلم بأنه رافع في نفسه ، كما إذا شك المتطهر في إنه هل خرج منه بول أو لم يخرج ؟ مع علمه بأن البول رافع ،

ص: 360


1- - الكافي فروع : ج3 ص2 ح1 و ح2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص150 ب6 ح118 ، الاستبصار : ج1 ص6 ب1 ح1 و ح2 ، وسائل الشيعة : ج1 ص158 ب9 ح391 .

وعدمه ، فالكلام فيه هو الكلام في الأمور الخارجيّة .

ومحصّل الكلام : أنّه إن أُريد : أنّه يحصل الظنّ بالبقاء إذا فرض له صنف أو نوع يكون الغالب في افراده البقاء ، فلا نُنْكِرُهُ ، ولذا يحكم بظنّ عدم النسخ عند الشك فيه .

لكنّه يحتاج الى ملاحظة الصنف والتأمّل حتى لا يحصل التغاير ،

-------------------

فإذا شك في وجوده ( وعدمه ) أي : عدم وجود الرافع ( فالكلام فيه هو الكلام في الأمور الخارجيّة ) الموضوعية .

( ومحصّل الكلام ) فيها : ( أنّه إن أُريد : أنّه يحصل الظنّ بالبقاء إذا فرض له صنف أو نوع يكون الغالب في افراده البقاء ) فإنه إذا أريد حصول الظن من الغلبة هذا المعنى ( فلا نُنْكِرُهُ ) .

وإنّما لا ننكره ، لأن الغلبة في افراد الصنف أو النوع ، يوجب الظن بأن هذا الفرد من الصنف أو من النوع أيضا يبقى بمقدرا بقاء سائر افراد الصنف أو النوع .

مثلاً : إذا كان نوع الحمام غالبا يبقى خمس سنوات ، يحصل لنا منه الظن بأن الحمام الخاص الذي هو في العراق أو الحمام الخاص الذي هو في مكان آخر يبقى أيضا كذلك .

( ولذا ) أي : لأجل إن من هذه الغلبة يحصل لنا الظن بأن هذا الفرد أيضا كسائر الافراد من الصنف أو النوع ( يحكم بظنّ عدم النسخ عند الشك فيه ) أي : في النسخ في مورد خاص .

وإنّما نظن بعدم النسخ ، لأن النسخ قليل جدا في الأحكام الشرعية ، ولهذا نقيس هذا الفرد المشكوك النسخ على سائر الافراد .

( لكنّه يحتاج الى ملاحظة الصنف والتأمّل حتى لا يحصل التغاير ) بينهما ،

ص: 361

فإنّ المتطهّر في الصبح إذا شك في وقت الضحى في بقاء طهارته وأراد إثبات ذلك بالغلبة ، فلا ينفعه تتبعُ الموجودات الخارجيّة ، مثل بياض ثوبه وطهارته وحياة زيد وقعوده وعدم ولادة الحمل الفلاني ، ونحو ذلك .

نعم ، لو لوحظ صنفُ هذا المتطهّر في وقت الصبح المتحد أو المتقارب فيما له مدخل في بقاء الطهارة ، ووجد الأغلب متطهرا في هذا الزمان ، حصل الظنّ ببقاء طهارته .

وبالجملة : فما ذكره من ملاحظة أغلب الصنف ،

-------------------

فيلزم التأكد من إن هذا الفرد هو فرد من ذلك الصنف ، أو فرد من ذلك النوع ، حتى يوجب الغلبة في الصنف أو النوع الحاق هذا الفرد بها .

وعليه : ( فإنّ المتطهّر في الصبح إذا شك في وقت الضحى في بقاء طهارته وأراد إثبات ذلك بالغلبة ) أي : أراد اثبات بقاء طهارته من الصبح الى الضحى بسبب الغلبة ( فلا ينفعه تتبع الموجودات الخارجيّة مثل بياض ثوبه ) حيث إن بياض ثوبه يبقى هذا المقدار من الزمان ( وطهارته ) أي : طهارة ثوبه ( وحياة زيد وقعوده ، وعدم ولادة الحمل الفلاني ، ونحو ذلك ) فإن الطهارة من الحدث لا تقاس بمثل هذه الاُمور الخارجية .

( نعم ، لو لوحظ صنفُ هذا المتطهّر في وقت الصبح ، المتحد ) ذلك الصنف ( أو المتقارب ) معه ( فيما له مدخل في بقاء الطهارة ، ووجد الأغلب متطهرا في هذا الزمان ، حصل الظنّ ببقاء طهارته ) أيضا .

مثلاً : إذا كان ممن هم في عمره وخصوصياته تبقى طهارتهم في هذا الزمان بهذا المقدار ، حصل الظن من ذلك ببقاء طهارته .

( وبالجملة : فما ذكره ) المحقق القمي : ( من ملاحظة أغلب الصنف ،

ص: 362

فحصول الظنّ به حقّ ، إلاّ أنّ البناء على هذا في الاستصحاب يسقطه عن الاعتبار في أكثر موارده .

وإن بنى على ملاحظة الأنواع البعيدة أو الجنس البعيد

-------------------

فحصول الظنّ به حقّ ) لأن الظن يلحق الشيء بالأعم الأغلب ، وهذا قياس صورته : إن ملاحظة أغلب الصنف يورث الظن بالالحاق ، وكلّما أورث الظن به كان حجة .

لكن أشكل المصنِّف عليه بعدها ، في صغراه : بأن ذلك لا يورث الظن بالالحاق ، وفي كبراه : بأنه أخص من المدعى .

أما الاشكال في الكبرى ، فهو ما أشار اليه بقوله :

( إلاّ أنّ البناء على هذا ) أي : على ملاحظة أغلب الصنف أو النوع ( في الاستصحاب يسقطه عن الاعتبار في أكثر موارده ) إذ يسقط جميع أقسام الشك في المقتضي ، كما يسقط جميع أقسام الشك في رافعية الموجود ، ويسقط أيضا بعض أصناف الشك في وجود الرافع .

هذا مع إن هؤلاء القائلين بحجية الاستصحاب مطلقا ، يقولون بحجيته في كل هذه الموارد ، فيكون دليل القمي أخصّ من مدّعاه .

وأما الاشكال في الصغرى ، فهو ما أشار الى بيانه بقوله : ( وإن بنى ) وجود الغلبة لاستفادة الاستصحاب في هذا الفرد ( على ملاحظة الأنواع البعيدة ) مثل : الحاق بقاء طهارة من له عمر سبعين سنة في البلاد الباردة وفي الشتاء بغالبية من لهم عمر عشرين سنة في البلاد الحارة وفي الصيف ( أو ) على ملاحظة ( الجنس البعيد ) مثل : الحاق بقاء حياة الانسان بغالبية بقاء مطلق الحيوان .

ص: 363

أو الأبعد ، وهو الممكن القارّ ، كما هو ظاهر كلام السيد المتقدّم ففيه : ما تقدّم من القطع بعدم جامع بين مورد الشك وموارد الاستقراء يصلح لاستناد البقاء اليه . وفي مثله لا يحصل الظنّ بالالحاق لأنّه لابدّ في الظنّ بلحوق المشكوك بالأغلب ، من الظنّ أولاً بثبوت الحكم أو الوصف الجامع ، فيحصل الظنّ بثبوته في الفرد المشكوك .

-------------------

( أو الأبعد ، وهو ) مثل : بقاء ( الممكن القارّ ، كما هو ظاهر كلام السيد المتقدّم ) الشارح للوافية .

( ففيه : ما تقدّم من القطع بعدم جامع بين مورد الشك وموارد الاستقراء ) جامعا بحيث ( يصلح لاستناد البقاء اليه ) فلا غلبة إذن بالنسبة الى هذا النوع والصنف ، كما لا علّة تجمع الأفراد المختلفة ( وفي مثله لا يحصل الظنّ بالالحاق ) .

وإنّما لا يحصل الظن بالالحاق ( لأنّه لابدّ في الظنّ بلحوق المشكوك بالأغلب، من الظّن أولاً بثبوت الحكم ) كالطهارة ( أو الوصف ) كالاستمرار ( الجامع ) ذلك الحكم أو الوصف بين هذا الفرد وسائر الأفراد ، وحينئذ ( فيحصل الظنّ بثبوته في الفرد المشكوك ) .

والحاصل : إنه يلزم في الحاق المشكوك بالأغلب أمران :

الأوّل : الظن بوجود الحكم في الأغلب .

الثاني : الظن بوجود الحكم في هذا الفرد المشكوك ، وذلك بأن يكون هناك جامع بينهما .

ومن المعلوم : إن الجامع البعيد أو الأبعد مثل : الممكن القار ، لا يكون جامعا بحيث يسري الظن من موارد الاستقراء الى هذا الفرد المشكوك فيه .

ص: 364

وممّا يشهد بعدم حصول الظنّ بالبقاء اعتبار الاستصحاب في موردين يعلم بمخالفة أحدهما للواقع ، فإنّ المتطهّر بمايع شُك في كونه بولاً أو ماءا ، يحكم باستصحاب طهارة بدنه وبقاء حدثه ، مع أنّ الظنّ بهما محال .

وكذا الحوض الواحد إذا صبّ فيه الماء تدريجا فبلغ الى موضع شُكَّ

-------------------

( وممّا يشهد بعدم حصول الظنّ بالبقاء ) وإن جرى الاستصحاب ممّا يدل على إن الاستصحاب ليس لأجل حصول الظن : ( اعتبار الاستصحاب في موردين ) متخالفين ( يعلم بمخالفة أحدهما للواقع ) فإنه من الواضح : عدم إمكان حصول الظن على طرفين متخالفين ( فإنّ المتطهّر بمايع شُك في كونه بولاً أو ماءا، يحكم باستصحاب طهارة بدنه وبقاء حدثه ، مع أنّ الظنّ بهما محال ) .

إن قلت : كونهما معا هو الواقع أيضا محال ، لأنه إن كان الماء نجسا نجس بدنه وبقي حدثه ، وإن كان طاهرا كان بدنه طاهرا وحدثه مرتفعا ، فكيف يمكن الاستصحابان مع علمنا بمخالفة أحدهما للواقع ؟ .

قلت : ذلك من باب التشريع ، ومن المعلوم : إن الاعتبار بيد المعتبر ، فهو مثل : تغريم السارق المال دون القطع إذا إعترف بالسرقة مرّة لا مرتين ، مع إنه لو كان في الواقع سارقا لزم القطع والتغريم ، وإن لم يكن سارقا لم يلازمه شيء .

ومثل دفع ربع الوصية إذا شهدت بها امرأة واحدة ، ونصف الوصية إذا شهدت بها امرأتان ، وثلاثة أرباع الوصية إذا شهدت بها ثلاث ، وكل الوصية إذا شهدت بها أربع ، مع إن الوصية لو كانت في الواقع محققة لزم دفعها ولو بشهادة امرأة واحدة ، وإن لم تكن لم يجب شيء ولو بشهادة أربع .

( وكذا الحوض الواحد إذا صبّ فيه الماء تدريجا فبلغ الى موضع شُكَّ

ص: 365

في بلوغ مائه كُرّا ، فإنّه يحكم حينئذٍ ببقاء قلّته . فإذا امتلأ واُخِذَ منه تدريجا الى ذلك الموضع ، فيشكّ حينئذ في نقصه عن الكرّ ، فيحكم ببقاء كرّيته ، مع أنّ الظنّ بالقلّة في الأوّل ، وبالكرّية في الثاني محالٌ .

ثم إنّ اثبات حجيّة الظنّ المذكور على تقدير تسليمه دونها خرطُ القتاد .

-------------------

في بلوغ مائه كُرّا ، فإنّه يحكم حينئذٍ ببقاء قلّته . فإذا امتلأ واُخِذَ منه تدريجا الى ذلك الموضع ، فيشكّ حينئذ في نقصه عن الكرّ ، فيحكم ببقاء كرّيته ، مع أنّ ) الاستصحابين متخالفان ، نعلم بعدم صحة أحدهما ، فإن ( الظنّ بالقلّة في الأوّل ، وبالكرّية في الثاني محالٌ ) .

وكذا حال المسافر إذا شك في مكان بأنه حدّ الترخص أم لا ، فإنه يصلّي تماما ذاهبا ، وقصرا راجعا ، للاستصحابين المتخالفين مع إنه إن لم يكن في الواقع حدّ الترخص كانت الصلاة فيه تماما في الحالين ، وإن كان حدّ الترخص كانت الصلاة فيه قصرا في الحالين .

وكذا من كان عاقلاً فجنّ تدريجا ووصل الى حال لم نعلم هل إنه عاقل أو مجنون فإنه يستصحب العقل ؟ والعكس بالعكس فإنه يستصحب الجنون مع إنه في الواقع إما عاقل في الحالين ، أو مجنون في الحالين .

الى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة في هذا المجال لا يمكن فيه ظنّان مختلفان ، وإن جاز فيه الاستصحابان على ما قاله جماعة .

( ثم إنّ اثبات حجيّة الظنّ المذكور ) الحاصل من الغلبة ( على تقدير تسليمه ) أي : تسليم حصول الظن من الغلبة ( دونها خرطُ القتاد ) وذلك لأنه لا دليل على حجية مثل هذا الظن ، وقد ورد في القرآن الحكيم : « إنّ الظَنَّ لا يُغنِي

ص: 366

خصوصا في الشبهة الخارجية التي لا يعتبر فيها الغلبة إتفاقا ، فإنّ اعتبار استصحاب طهارة الماء من جهة الظنّ الحاصل من الغلبة وعدم اعتبار الظنّ بنجاسته من غلبة اُخرى ، كطين الطريق - مثلاً - مما لا يجتمعان ،

-------------------

من الحقّ شيئا » (1) .

وعلى أي حال : فهذا إشكال ثان من المصنِّف بعد إشكاله الأوّل في الكبرى ، فقد أشكل أولاً : بأن الدليل أخص من المدعى ، وثانيا : بأنه لا حجية لمثل هذا الظن ، كما إن إشكاله السابق : بأن الظن لا يحصل من الغلبة كان إشكالاً على الصغرى ، وصورة القياس على ما مرّ هو الظن يحصل من الغلبة ، وكلما حصل الظن من الغلبة كان حجة .

إذن : فلو سلمنا حصول الظن من الغلبة ، فإنه لا حجية لمثل هذا الظن ( خصوصا في الشبهة الخارجية ) الموضوعية ( التي لا يعتبر فيها الغلبة إتفاقا ) فإن العلماء متّفقون على إن الشبهات الموضوعية لا يعتبر فيها الغلبة مع إن الاستصحاب فيها موضع وفاقهم .

أما مثال عدم حجية الظن المذكور ، فهو ما أشار اليه بقوله : ( فإنّ اعتبار استصحاب طهارة الماء من جهة الظنّ الحاصل من الغلبة ) حيث إن الماء القليل طاهر حتى يظن بخلافه ( وعدم اعتبار الظنّ بنجاسته ) أي : نجاسة الماء القليل ( من غلبة اُخرى ، كطين الطريق - مثلاً - مما لا يجتمعان ) فإنه إذا وقع شيء من طين الطريق في الماء القليل ، فهنا غلبتان مختلفتان :

الاُولى : غلبة نجاسة طين الطريق الموجب لنجاسة الماء القليل .

ص: 367


1- - سورة يونس : الآية 36 ، سورة النجم : الآية 28 .

وكذا إعتبار قول المنكر من باب الاستصحاب مع الظنّ بصدق المدّعي لأجل الغلبة .

ومنها : بناء العقلاء على ذلك في جميع أمورهم ، كما إدّعاه العلامة في النهاية وأكثر من تأخّر عنه ، وزاد بعضهم أنّه لولا ذلك لأختلّ نظام العالم وأساس عيش بني آدم .

-------------------

الثاني : غلبة طهارة الماء القليل الموجب لعدم نجاسته ، ومعلوم : إنه لا يعقل أن يكون هذا الماء طاهرا ونجسا .

( وكذا إعتبار قول المنكر من باب الاستصحاب مع الظنّ بصدق المدّعي لأجل الغلبة ) فإن المدعي إذا عرفنا صدقه في الغالب ، قسنا صدقه في هذه الدعوى الخاصة على صدقه في سائر الأماكن فنظن بصدقه ، فهو إذن صادق في دعواه ، والمنكر معه الاستصحاب ، فهو إذن صادق في إنكاره فيلزم إجتماع المتخالفين .

والحاصل : إن الكبرى وهي : كون الغلبة وما يستند اليها حجة ، لا يمكن الأخذ بها في هذه المواضع ، ولذا قال المصنِّف : حجية الظن المذكور دونها خرط القتاد.

( ومنها ) : أي : مما استدل به للقول الأوّل وهو : القول بحجية الاستصحاب مطلقا ( بناء العقلاء على ذلك ) أي : على الاستصحاب ( في جميع أمورهم ، كما إدّعاه العلامة في النهاية وأكثر من تأخّر عنه ، وزاد بعضهم ) أي : بعض العلماء القائلين لحجية الاستصحاب مطلقا ( أنّه لولا ذلك ) أي : لولا الاستصحاب ، ( لإختلّ نظام العالم وأساس عيش بني آدم ) .

وإنّما يختل النظام لولا الاستصحاب ، لأنا نعمل في جميع أمورنا العادية على الاستصحاب ، في ذهابنا الى المدرسة والسوق والطبيب ، وغيرها من مزاولة الأعمال اليومية ، وذلك من جهة استصحاب عدم تحوّل المدرسة عن مكانها ،

ص: 368

وزاد آخر : أنّ العمل على الحالة السابقة أمرٌ مركوزٌ في النفوس حتى الحيوانات ، ألا ترى : أنّ الحيوانات تطلب عند الحاجة المواضع التي عَهِدَت فيها الماء والكلاء ، والطيور تعود من الأماكن البعيدة الى أوكارها . ولولا البناء على « إبقاء ما كان » ، لم يكن وجه لذلك .

والجوابُ : أنّ بناء العقلاء إنّما يسلّم في موضع يحصل لهم الظنّ بالبقاء ، لأجل الغلبة ، فإنّهم في أمورهم عاملون بالغلبة ، سواء وافقت الحالة السابقة أو خالفتها .

ألا ترى : أنّهم لا يكاتبون من عهدوه في حال لا يغلب فيه السلامة ، فضلاً

-------------------

وعدم إنتقال السوق الى مكان آخر ، وعدم موت الطبيب ، وهكذا .

( وزاد آخر : أنّ العمل على الحالة السابقة أمر مركوزٌ في النفوس حتى الحيوانات ، ألا ترى : أنّ الحيوانات تطلب عند الحاجة المواضع التي عهدت فيها الماء والكلاء ، و ) كذلك ( الطيور تعود من الأماكن البعيدة الى أوكارها ) وهكذا الأسماك - كما ثبت في العلم - ترجع الى مراكزها بعد الأسفار الطويلة في البحار والمحيطات ، ثم قال : ( ولولا البناء على « إبقاء ما كان » ، لم يكن وجه لذلك ) فيدل على إن الاستصحاب فطري لجميع الحيوانات ، فكيف بالانسان ؟ .

( والجواب : أنّ بناء العقلاء إنّما يسلّم في موضع يحصل لهم الظنّ بالبقاء لأجل الغلبة ) لا لأجل الاستصحاب ، فمعيارهم هو : الظن ، لا الاستصحاب ( فإنّهم في أمورهم عاملون بالغلبة ، سواء وافقت الحالة السابقة أو خالفتها ) .

هذا بالاضافة الى عدم حصول الشك لهم غالبا فيما يمارسونه من أعمالهم اليومية المتطابقة مع الاستصحاب ، وذلك بدليل إنهم لو شكوا لتوقفوا .

( ألا ترى : أنّهم لا يكاتبون من عهدوه في حال لا يغلب فيه السلامة ، فضلاً

ص: 369

عن المهالك ، إلاّ على سبيل الاحتياط لاحتمال الحياة ، ولا يرسلون إليه البضائع للتجارة ، ولا يجعلونه وصيّا في الأموال ، أو قيّما على الأطفال ، ولا يقلّدونه في هذا الحال إذا كان من أهل الاستدلال .

وتراهم لو شكّوا في نسخ الحكم الشرعي ، يبنون على عدمه ، ولو شكّوا في رافعيّة المذي شرعا للطهارة ، فلا يبنون على عدمها .

-------------------

عن المهالك ) أي : إن من عهدوه في حال يغلب فيه الهلاك حيث لا ظن معه بالسلامة لا يراجعونه ولا يراسلونه .

مثلاً : إذا حدث في منطقة زلزال أو ما أشبه من الكوارث المدمرة ومات فيها ناس كثير ، فلا يكاتب العقلاء شخصا كان في هذه المنطقة قبل الكارثة ( إلاّ ) بعد التحقيق عن حاله والتأكد من وجوده ، مع إن الاستصحاب يقتضي بقائه حيا بعد الكارثة ، وإذا كاتبوه قبل التأكد كان ( على سبيل الاحتياط لاحتمال الحياة ) فهم إذن تابعون للظن لا للاستصحاب .

( و ) كذا ( لا يرسلون إليه البضائع للتجارة ، ولا يجعلونه وصيّا في الأموال ، أو قيّما على الأطفال ، ولا يقلّدونه في هذا الحال إذا كان ) من غلب عليه العطب ( من أهل الاستدلال ) بأن كان فقيها ، وذلك في تقليدهم الابتدائي ، أمّا في تقليدهم الاستمراري والبقاء على الميت ، فذلك جائز عندهم .

( وتراهم لو شكّوا في نسخ الحكم الشرعي ، يبنون على عدمه ) أي : عدم النسخ لظنهم بأنه لم ينسخ ، وذلك للغلبة حيث إن الغلبة هنا على عدم نسخ الأحكام ، لا للاستصحاب .

( و ) تراهم ( لو شكّوا في رافعيّة المذي شرعا للطهارة ، فلا يبنون على عدمها ) أي : عدم الرافعية لعدم الظن بالغلبة ، مع إن مقتضى الاستصحاب

ص: 370

وبالجملة : فالذي أظنّ أنّهم غير بانين في الشكّ في الحكم الشرعي من غير جهة النسخ على الاستصحاب .

نعم ، الانصاف : أنّهم لو شكّوا في بقاء حكم شرعي ، فليس عندهم كالشك في حدوثه في البناء على العدم .

ولعلّ هذا من جهة عدم وجدان الدليل بعد الفحص ، فإنّها أمارة على العدم ، لما علم من بناء الشارع على التبليغ ،

-------------------

عدم الرافعية .

( وبالجملة : فالذي أظنّ إنّهم غير بانين في الشكّ في الحكم الشرعي ) لو كان شكهم ( من غير جهة النسخ ) فإنهم لا يبنون فيه ( على الاستصحاب ) وإنّما على ظنهم بالبقاء للغلبة .

ثم إن المصنِّف بعد أن ذكر إنّ العقلاء لا يبنون عند الشك في الحكم الشرعي على الاستصحاب سواء كان الشك في البقاء أم في الحدوث ، بأن كانت الحالة السابقة هو الوجود أو العدم ، تدارك ذلك وقال :

( نعم ، الانصاف : أنّهم لو شكّوا في بقاء حكم شرعي ، فليس عندهم ) الشك في البقاء ( كالشك في حدوثه في البناء على العدم ) فإنهم في البقاء لا يحكمون على العدم ، بينما في الحدوث يحكمون على العدم .

( ولعلّ هذا ) الفرق بين الوجود والعدم هو : ( من جهة عدم وجدان الدليل بعد الفحص ) أي : إنه من باب : عدم الدليل دليل على العدم ، لا من باب الاستصحاب ( فإنّها ) أي : عدم الوجدان ، وجاء بالضمير مؤنثا للخبر وهو قوله : ( أمارة على العدم ) فإن عدم وجدان الدليل علامة عدم الدليل .

وإنّما كان عدم الوجدان أمارة على العدم ( لما علم من بناء الشارع على التبليغ )

ص: 371

فظنّ عدم الورود يستلزم الظنّ بعدم الوجود . والكلام في اعتبار هذا الظنّ بمجرّده من غير ضمّ حكم العقل بقبح التعبّد بما لا يعلم في باب أصل البرائة .

قال في العدّة ، بعدما اختار عدم اعتبار الاستصحاب في مثل المتيمم الداخل في الصلاة :

-------------------

للأحكام في كل جزئية وكلّية ، وحيث لم يحصل المكلّف على الحكم مع الفحص عنه ، يستدل منه على عدم وجود الحكم .

إذن : ( فظنّ عدم الورود ) أي : عدم ورود الحكم لأنه فحص عنه فلم يجده ( يستلزم الظنّ بعدم الوجود ) فبناء العقلاء في أُمورهم إنّما هو لهذا الطريق العقلائي ، لا لأجل الاستصحاب .

( و ) أما ( الكلام في اعتبار هذا الظنّ بمجرّده ) أي : ( من غير ضمّ حكم العقل بقبح التعبّد بما لا يعلم ) فقد مضى بحثه ( في باب أصل البرائة ) فراجع .

والحاصل : إن العقلاء يحكمون في الشك في الحدوث على العدم من باب إن الظن بعدم ورود الحكم مستلزم للظن بعدم وجود الحكم ، فهل حكمهم هذا هو : لأجل مجرد الظن بعدم الحكم ، أو هو : مع إنضمام حكم العقل بقبح التعبد بغير العلم ، فإن نسبة ما لم يعلم من الشارع الى الشارع قبيح ؟ .

اختار المصنِّف في باب البرائة الثاني يعني : اختار إن حجية هذا الظن واعتباره من باب ضم حكم العقل إليه ، لا من باب مجرّد الظن بعدم الحكم .

هذا ، ويشهد على ذلك ما ذكره شيخ الطائفة حيث ( قال في العدّة ، بعدما اختار عدم اعتبار الاستصحاب في مثل المتيمم الداخل في الصلاة ) فإن المتيمم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة ، فالاستصحاب يقول بصحة صلاته والمضي فيها ،

ص: 372

« والذي يمكن أن ينتصر به طريقةُ استصحاب الحال ما أومأنا اليه من أن يقال : لو كانت الحالة الثانية مغيّرة للحكم الأوّل ، لكان عليه دليلٌ .

وإذا تتبّعنا جميع الأدلة فلم نجد فيها ما يدلّ على أنّ الحالة الثانية مخالفة للحالة الاُولى ، دلّ على أنّ حكم الحالة الأُولى باقٍ على ما كان .

فإن قيل : هذا رجوعٌ الى الاستدلال بطريق آخر ، وذلك خارج عن استصحاب الحال .

وقيل : إنّ الذي نريد باستصحاب الحال هذا الذي ذكرنا

-------------------

ووجود الماء يقول ببطلان الصلاة ووجوب الوضوء أو الغسل ، والشيخ بعد أن اختار عدم اعتبار الاستصحاب هنا قال : ( « والذي يمكن أن ينتصر به طريقة استصحاب الحال ) أي : ينتصر به للاستصحاب هنا والقول بكفاية التيمم السابق هو : ( ما أومأنا اليه من أن يقال ) بما يلي :

( لو كانت الحالة الثانية مغيّرة للحكم الأوّل ) وهو : الحكم قبل وجود الماء ( لكان عليه دليلٌ ) أي : على التغيير المذكور ( وإذا تتبّعنا جميع الأدلة فلم نجد فيها ما يدلّ على أنّ الحالة الثانية مخالفة للحالة الاُولى ، دلّ ) عدم وجداننا للدليل ( على أنّ حكم الحالة الأُولى باقٍ على ما كان ) .

إذن : فهو الآن متطهر ويستمر في صلاته بدون نقضها .

ثم قال شيخ الطائفة : ( فإن قيل : هذا رجوعٌ الى الاستدلال بطريق آخر ) لأنكم ذكرتم إن البقاء على الحالة السابقة ليس من جهة الاستصحاب ، بل من جهة عدم الدليل دليل العدم ( وذلك خارج عن استصحاب الحال ) لأنه ليس اعتمادا على الحالة السابقة ، بل هو اعتماد على عدم وجود الدليل .

( وقيل : إنّ الذي نريد باستصحاب الحال هذا الذي ذكرنا ) هنا : من إن عدم

ص: 373

وأمّا غير ذلك فلا يكاد يحصل غرضُ القائل به » ، انتهى .

احتجّ النافون بوجوه

منها : ما عن الذريعة والغنية من : « أنّ

-------------------

الوجدان أمارة على العدم ( وأمّا غير ذلك ) أي : التعويل على الحالة الاُولى في اثبات الحكم اللاحق وهو الاستصحاب ( فلا يكاد يحصل غرضُ القائل به » (1) ) أي : بالبقاء على الحالة الاُولى ، وذلك لأنه تعويل على الاستصحاب ، والاستصحاب لا دليل عليه .

بل يحصل غرض القائل بالبقاء على الحالة الاُولى عن طريق عدم الدليل دليل العدم على ما عرفت بيانه .

( انتهى ) كلام شيخ الطائفة ، وهو مؤيد لما ذكره المصنِّف : من إن الشك في الحدوث والحكم بالبقاء على الحالة الاُولى ليس للاستصحاب ، وإنّما لأن عدم الدليل دليل العدم ، وشيخ الطائفة أيضا لم يعتمد في الحكم بصحة صلاة المتيمم الواجد للماء في الاثناء على الاستصحاب ، وانما إعتمد على إنه لا دليل على تغيّر حالته بعد حصول الماء ، فجعل عدم الدليل دليل العدم .

هذا تمام الكلام في أدلة المثبتين لحجية الاستصحاب مطلقا وهو القول الأوّل في الاستصحاب وقد عرفت وجوه الايراد فيها .

وأما أدلة النافين فقد ( احتجّ النافون ) لحجية الاستصحاب مطلقا ، وهو القول الثاني في الاستصحاب ( بوجوه ) متعددة :

( منها : ما عن الذريعة ) للسيد المرتضى ( والغنية ) لابن زهرة : ( من : « أنّ )

ص: 374


1- - عدة الاصول : ص304 .

المتعلّق بالاستصحاب يُثبت الحكم عند التحقيق من غير دليل . توضيحُ ذلك أنّهم يقولون : قد ثبت بالاجماع على من شرع في الصلاة بالتيمم وجوب المُضيّ فيها قبل مشاهدة الماء ، فيجب أن يكون على هذا الحال بعد المشاهدة .

وهذا منهم جمع بين الحالتين في حكم من غير دليل يقتضي الجمع بينهما ، لأنّ اختلاف الحالتين لا شبهة فيه ؛ لأنّ المصلّي غير واجد للماء في إحداهما

-------------------

الشخص ( المتعلّق بالاستصحاب ) أي : الذي يتمسك في اثبات الحكم الشرعي بالاستصحاب ( يُثبت الحكم عند التحقيق من غير دليل ) أي : إنه يحكم بما لادليل عليه ، والحكم بلا دليل تشريع محرّم .

( توضيحُ ذلك أنّهم يقولون : قد ثبت بالاجماع على من شرع في الصلاة بالتيمم وجوب المُضيّ فيها قبل مشاهدة الماء ) فإنه قبل مشاهدة الماء يجب عليه المضي في صلاته ( فيجب أن يكون على هذا الحال ) أي : المضي في الصلاة ( بعد المشاهدة ) أيضا ، لاستصحاب الحالة السابقة ثم قالوا :

( وهذا منهم جمع بين الحالتين ) أي : حالة قبل المشاهدة ، وحالة بعد المشاهدة ( في حكم ) واحد وهو المضي ، وذلك ( من غير دليل يقتضي الجمع بينهما ) أي : بين الحالتين .

وإنّما يكون ذلك جمعا من غير دليل ( لأنّ اختلاف الحالتين لا شبهة فيه ) فإن الحالتين مختلفتان قطعا ، والاختلاف هذا يستلزم الاختلاف في الحكم أيضا ، ولهذا يشك في الحالة الثانية كما قال :

( لأن المصلّي غير واجد للماء في إحداهما ) وهي : الحالة السابقة ،

ص: 375

وواجد له في الأُخرى ، فلا يجوز التسوية بينهما من غير دلالة . فإذا كان الدليل لا يتناولُ إلاّ الحالة الأُولى وكانت الحالة الأُخرى عارية منه ، لم يجز أن يثبت فيها مثل الحكم » ، انتهى .

أقول : إن كان محلّ الكلام فيما كان الشك لتخلُّف وصفٍ وجودي أو عدمي متحقق سابقا يشك في مدخليّته في أصل الحكم

-------------------

وهو ( واجد له في الأُخرى ) وهي الحالة الثانية ( فلا يجوز التسوية بينهما ) في وجوب المضي ( من غير دلالة ) دليل على المضي ، فإنه لو كان دليل على المضي بعد المشاهدة لم نحتج الى الاستصحاب .

وعليه : ( فإذا كان الدليل لا يتناول إلاّ الحالة الأُولى ) قبل مشاهدة الماء ( وكانت الحالة الأُخرى ) بعد مشاهدة الماء ( عارية منه ) أي : من الدليل ( لم يجز أن يثبت فيها ) أي : في الحالة الثانية ( مثل الحكم » (1) ) الثابت في الحالة الاُولى ( إنتهى ) ما نقل عن الذريعة والغنية .

( أقول : إن كان محلّ الكلام فيما كان الشك ) في المقتضي ، وذلك ( لتخلُّف وصف وجودي ) كتغيّر الماء بأن يزول تغيّره ( أو عدمي ) كفقدان الماء بأن يوجد بعد فقدانه ( متحقق سابقا ) ذلك الوصف الوجودي أو العدمي بحيث إنه بعد تخلّفه لاحقا ( يشك في مدخليّته ) أي : مدخلية ذلك الوصف المتخلف على أحد وجهين : أما يشك ( في أصل الحكم ) بأن كان الوصف مقوّما له حدوثا وبقاءا كفقدان الماء لصحة التيمم .

ص: 376


1- - الذريعة الى اصول الشريعة : ج2 ص83 .

أو بقائه ، فالاستدلال المذكور متينٌ جدا لأنّ الفرض : عدمُ دلالة دليل الحكم الأوّل وفقد دليلٍ عام يدلّ على إنسحاب كل حكم ثبت في الحالة الاُولى في الحالة الثانية ، لأنّ عمدة ما ذكروه من الدليل هي الاخبار المذكورة ، وقد عرفت : اختصاصها بمورد يتحقق معنى النقض ، وهو : الشك من جهة الرافع .

نعم ، قد يتخيّل كونُ مثال التيمّم من قبيل

-------------------

( أو ) يشك في مدخلية ذلك الوصف المتخلّف في ( بقائه ) أي : بقاء الحكم بأن كان الوصف مقوّما له حدوثا لا بقاءا كزوال التغيّر من نفسه .

وعليه : فإن كان محل الكلام ذلك ( فالاستدلال المذكور متينٌ جدا ) .

وإنّما يكون الاستدلال متينا جدا لأمرين :

أولاً : ( لأنّ الفرض : عدم دلالة دليل الحكم الأوّل ) بخصوصه على الحكم الثاني .

ثانيا : ( وفقد دليلٍ عام يدلّ على إنسحاب كل حكم ثبت في الحالة الاُولى ) كحكم المصلي بالتيمم قبل مشاهدة الماء من المضي في الصلاة ( في الحالة الثانية ) أيضا بعد مشاهدة الماء ، وهذا الدليل العام هو إخبار الاستصحاب .

وإنّما لا يدل اخبار الاستصحاب على ذلك ( لأنّ عمدة ما ذكروه من الدليل ) لاثبات الاستصحاب ( هي الاخبار المذكورة ، وقد عرفت : اختصاصها بمورد يتحقق معنى النقض ، وهو : الشك من جهة الرافع ) لا الشك من جهة المقتضي ، فلا دليل إذن بالنسبة الى الشك في المقتضي ، لا من جهة دليل خاص ، ولا من جهة دليل عام .

( نعم ، قد يتخيّل كون مثال التيمّم ) أي : هذا المصداق الخاص بأنه ( من قبيل

ص: 377

الشك من جهة الرافع لأنّ الشك في انتقاض التيمّم بوجدان الماء في الصلاة كانتقاضه بوجدانه قبلها ، سواء قلنا بأن التيمم رافع للحدث أم قلنا إنّه مبيح ، لأنّ الاباحة أيضا مستمرة الى أن تنتقض بالحدث أو يوجد الماء .

ولكنّه فاسدٌ ، من حيث أنّ وجدان الماء ليس من الروافع والنواقض ،

-------------------

الشك من جهة الرافع ) لا من قبيل الشك من جهة المقتضي ( لأنّ الشك في انتقاض التيمّم بوجدان الماء في ) أثناء ( الصلاة ) الذي هو محل الكلام ( كانتقاضه ) أي : التيمم ( بوجدانه ) أي : الماء ( قبلها ) أي : قبل الصلاة .

وعليه : فحال وجدان الماء في أثناء الصلاة كحال وجدان الماء قبل الصلاة ، كلاهما يوجب انتقاض التيمم ( سواء قلنا بأن التيمم رافع للحدث ) كما قال به جماعة ، فيكون حال التيمم حال الوضوء من جميع الجهات ( أم قلنا إنّه مبيح ) للدخول في الصلاة فقط ، وليس برافع فلا يكون حينئذ كالوضوء في جميع الجهات .

وإنّما لا يكون فرق في انتقاض التيمم بوجدان الماء قبل الصلاة وفي الصلاة حتى على القول بأن التيمم مبيح ( لأنّ الاباحة أيضا مستمرة الى أن تنتقض بالحدث أو يوجد الماء ) .

إذن : فالتيمم على كلا القولين يقتضي جواز الدخول في الصلاة ويستمر حتى وقوع الحدث أو حصول الماء ، فيكون الشك عند وجود الماء شكا في الرافع لا في المقتضي .

( ولكنّه ) أي : هذا التخيل ( فاسد ) لأن الشك في مثال التيمم ليس من جهة الرافع ، وإنّما الشك فيه من جهة المقتضي ، وذلك ( من حيث أنّ وجدان الماء ليس من الروافع والنواقض ) للتيمم وهو واضح .

ص: 378

بل الفقدان الذي هو وصف المكلّف لمّا كان مأخوذا في صحة التيمّم حدوثا وبقاءا في الجملة ، كان الوجدانُ رافعا لوصف الموضوع الذي هو المكلّف ، فهو نظير التغيّر الذي يشك في زوال النجاسة بزواله .

فوجدان الماء ليس كالحدث

-------------------

( بل الفقدان الذي هو وصف المكلّف ) أي : كون المكلّف فاقدا للماء ( لمّا كان مأخوذا في صحة التيمّم ) كجزء من موضوع جواز التيمم ( حدوثا وبقاءا ) بأن يقال : المكلّف الفاقد للماء يصح له التيمم ، وكذلك المكلّف الفاقد للماء يصح بقائه على التيمم ، فحدوث التيمم وبقائه منوط بتحقق الموضوع وهو المكلّف الفاقد للماء ، وذلك ( في الجملة ) أي : في غير حال الصلاة ، أو الأعم من كونه في غير حال الصلاة أو حال الصلاة .

وعليه : فإذا كان فقدان الماء الذي هو وصف الموضوع مأخوذا في صحة التيمم ( كان الوجدانُ رافعا لوصف الموضوع ) أي : رافعا للفقدان ، فإن وصف الموضوع هو : الفقدان والموضوع بكامله هو : المكلّف الفاقد للماء كما قال : ( الذي هو المكلّف ) وقوله : الذي صفة الموضوع .

إذن : ( فهو ) أي : الفقدان ( نظير التغيّر الذي يشك في زوال النجاسة بزواله ) أي : بزوال التغيّر ، وذلك لأن الموضوع هو الماء المتغيّر ، وفي المقام هو المكلّف الفاقد .

وعليه : ( فوجدان الماء ليس كالحدث ) في كونه ناقضا ، وإنّما هو مفوّت للموضوع ، وفرق بين المفوّت للموضوع وبين الناقض ، فإن فوات الموضوع معناه : زوال الموضوع ، بينما إنتقاض الموضوع معناه : إن الموضوع موجود لكن عرض ما يبطله ، فإنه قد لا تكون نار ، وقد تكون النار لكن الماء يطفئها .

ص: 379

وإن قرن به في قوله عليه السلام : حين سئل عن جواز الصلوات المتعدّدة بتيمّم

واحد : « نعم ، ما لم يُحدث ، أو يَجِد ماءً » لأنّ المراد من ذلك تحديدُ الحكم بزوال المقتضي أو طروّ الرافع .

وكيف كان : فإن كان محلّ الكلام في الاستصحاب

-------------------

وعلى هذا : فوجدان الماء ليس كالحدث ، لأن وجدان الماء مفوّت للموضوع ، والحدث ناقض ( وإن قرن ) وجدان الماء ( به ) أي : بالحدث ( في ) بعض الروايات ، مثل : ( قوله عليه السلام : حين سئل عن جواز الصلوات المتعدّدة بتيمّم واحد ) فأجاب عليه السلام قائلاً : ( « نعم ، ما لم يُحدث ، أو يَجِد ماءً » (1) ) فإن الإمام قرن بين حدوث الحدث ، وبين وجود الماء ، ممّا ظاهره الابتدائي : إن وجود الماء أيضا كالحدث ناقض ، لكنه ليس كذلك ، فإن الحدث ناقض ووجود الماء مفوّت للموضوع .

وإنّما قلنا وجدان الماء ليس كالحدث ( لأنّ المراد من ذلك ) أي : من اقتران حدوث الحدث ووجدان الماء في قوله عليه السلام : « نعم » هو : ( تحديد الحكم بزوال المقتضي ) وهو وجدان الماء ( أو طروّ الرافع ) وهو حدوث الحدث .

والحاصل : إن مثال بعضهم بالتيمم في المكلّف الواجد للماء في أثناء الصلاة لم يكن من باب الشك في الرافع ، بل من باب الشك في المقتضي ، وقد عرفت : إن المصنِّف لا يجري الاستصحاب في الشك في المقتضي .

( وكيف كان : فإن كان محلّ الكلام في ) جريان ( الاستصحاب ) وعدمه هو :

ص: 380


1- - الكافي فروع : ج3 ص63 ح4 ، الاستبصار : ج1 ص163 ب97 ح1 (بالمعنى) ، تهذيب الاحكام : ج1 ص200 ب8 ح54 (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج1 ص375 ب7 ح989 و ج3 ص377 ب19 ح3910 (بالمعنى) .

ما كان من قبيل هذا المثال ، فالحقّ مع المنكرين لما ذكروه ، وإن شمل ماكان من قبيل تمثيلهم الآخر ، وهو الشك في ناقضيّة الخارج من غير السبيلين ، قلنا : إنّ اثبات الحكم بعد خروج الخارج ليس من غير دليل ، بل الدليل ما ذكرنا من الوجوه الثلاثة ،

-------------------

( ما كان من قبيل هذا المثال ) أي : مثال المتيمم الواجد للماء في أثناء الصلاة ( فالحقّ مع المنكرين لما ذكروه ) من عدم الدليل عليه ، لأنه من الشك في المقتضي ، والشك في المقتضي لا استصحاب فيه .

وإنّما يكون الحق بنظر المصنِّف مع المنكرين لأنه لا دليل خاص بنظره على الاستصحاب في الشك في المقتضي ولا دليل عام يشمله .

( وإن شمل ) محل كلامهم في الاستصحاب ( ما كان من قبيل تمثيلهم الآخر ، وهو الشك في ناقضيّة الخارج من غير السبيلين ) أي : من غير المخرج المعتاد ، وذلك لمرض وما أشبه ، فيشك في إنه مبطل للوضوء أو ليس بمبطل مما يكون الشك في الرافع .

وعليه : فإن كان هذا هو محل كلامهم الذي قال النافون : الاستصحاب ليس بحجة ، وقال المثبتون بأن الاستصحاب حجة ( قلنا : إنّ اثبات الحكم بعد خروج الخارج ) من غير السبيلين ( ليس من غير دليل ) كما قاله النافون ، فإن النافين قالوا: بأنه لا دليل على الاستصحاب في مورد الشك في الرافع .

( بل الدليل ) على صحة الاستصحاب في الشك في الرافع هو ( ما ذكرنا من الوجوه الثلاثة ) المتقدمة ، وهي عبارة عمّا يلي :

أولاً : ظهور كلمات جماعة في الاتفاق على هذا الاستصحاب .

ثانيا : استقراء موارد الشك في بقاء الحكم السابق ، المشكوك من جهة الرافع

ص: 381

مضافا الى إمكان التمسك بما ذكرنا في توجيه كلام المحقق في المعارج ، لكن عرفت ما فيه من التأمّل .

ثم إنّه أجاب في المعارج عن الدليل المذكور ب « أنّ قوله : « عمل بغير دليل » ، غير مستقيم ، لأنّ الدليل دلّ على أنّ الثابت لا يرتفع إلاّ برافع ، فإذا كان التقدير : تقدير عدمه كان بقاء الثابت

-------------------

يفيد القطع بالحكم .

ثالثا : الأخبار المستفيضة الدالة على صحة الاستصحاب على ما مرّ تفصيله .

( مضافا الى إمكان التمسك بما ذكرنا في توجيه كلام المحقق في المعارج ) وهذا وجه رابع لصحة الاستصحاب في الشك في الرافع حيث قال المحقق : والظاهر إن مرجع هذا الدليل الى أنه إذا أحرز المقتضي وشك في المانع بعد تحقق المقتضي وعدم المانع في السابق بنى على عدمه في اللاحق ، وحاصل دليله : إن المقتضي موجود والمانع مفقود ، فيلزم أن يؤثر المقتضي أثره .

( لكن عرفت ما فيه من التأمّل ) لأن وجود المقتضي في السابق لا يدل على وجوده في اللاحق .

( ثم إنّه أجاب في المعارج عن الدليل المذكور ) عن النافين للاستصحاب مطلقا حيث قالوا : ( ب « أنّ قوله ) أي : المتمسك بالاستصحاب ( « عمل بغير دليل» ) فإن النافين للاستصحاب ، قالوا : عدم الدليل على الاستصحاب دليل العدم ، فأجاب عنه المحقق : بأنه ( غير مستقيم ) .

وإنّما قال : إن دليلهم غير مستقيم ( لأنّ الدليل دلّ على أنّ الثابت لا يرتفع إلاّ برافع ) فهو إذن عمل بالدليل ، لا أنه عمل بغير دليل .

وعليه : ( فإذا كان التقدير : تقدير عدمه ) أي : عدم الرافع ( كان بقاء الثابت

ص: 382

راجحا في نظر المجتهد والعمل بالراجح لازم » ، انتهى .

وكأنّ مراده بتقدير عدم الرافع : عدم العلم به ، وقد عرفت ما في دعوى حصول الظنّ بالبقاء بمجرد ذلك ، إلاّ أن يرجع الى عدم الدليل بعد الفحص الموجب للظنّ بالعدم .

-------------------

راجحا في نظر المجتهد ) والمراد بالثابت : الشيء الذي كان في السابق وشك فيه في اللاحق ( و ) معلوم : إن ( العمل بالراجح لازم » (1) ، انتهى ) كلام المحقق .

هذا ( وكأنّ مراده بتقدير عدم الرافع : عدم العلم به ) فإنا لا نعلم بالرافع ، لا أنا نعلم عدم الرافع ( وقد عرفت ما في دعوى حصول الظنّ بالبقاء بمجرد ذلك ) أي: عرفت الاشكال فيه بمجرد ثبوته في الزمان الأوّل وعدم ارتفاعه من دون رافع .

( إلاّ أن يرجع ) هذا الكلام من المحقق ( الى عدم الدليل بعد الفحص الموجب للظنّ بالعدم ) .

والحاصل : إن المحقق أجاب عن إن الاستصحاب عمل بغير دليل الذي استدل به النافون ، قائلاً : إن الدليل على الاستصحاب هو إن الثابت لا يرتفع إلاّ برافع ، ولا رافع ، فأشكل عليه المصنِّف بما يلي :

أولاً : بأنا لا نعلم بالرافع ، لا أن الرافع غير موجود ، وعدم العلم ليس معناه عدم الوجود .

ثانيا : إن الثابت سابقا لا يثبت لاحقا بمجرد عدم العلم بالرافع ، إلاّ أن يكون مراد المحقق : إنّا إذا لم نجد الدليل على الرفع بعد الفحص عن الدليل ، كان عدم وجداننا دليلاً على العدم ، وهذا لا يسمى استصحابا .

ص: 383


1- - معارج الاصول : ص209 .

ومنها أنّه لو كان الاستصحاب حجّةً ، لوجب فيمن علم زيدا في الدّار ولم يعلم بخروجه منها أن يقطع ببقائه فيها . وكذا كان يلزم إذا علم بأنّه حيّ ، ثم انقضت مدّة لم يعلم فيها بموته أن يقطع ببقائه ، وهو باطل .

وقال في محكيّ الذريعة : « قد ثبت في العقول : أنّ من شاهد زيدا في الدّار ثم غاب عنه ، لم يحسن اعتقاد استمرار كونه في الدّار إلاّ بدليل متجدّد .

-------------------

وإنّما لا يسمى استصحابا ، لأن الاستصحاب ملاكه الحالة السابقة ، وهذا ملاكه : الفحص وعدم الوجدان .

( ومنها ) أي : من أدلة النافين لحجية الاستصحاب مطلقا : ( أنّه لو كان الاستصحاب حجّةً لوجب فيمن علم زيدا في الدّار ولم يعلم بخروجه منها أن يقطع ببقائه فيها ) ولو بعد عشر سنين - مثلاً - .

( وكذا كان يلزم إذا علم بأنّه حيّ ، ثم انقضت مدّة لم يعلم فيها بموته ) كخمسين سنة مثلاً ( أن يقطع ببقائه ، وهو باطل ) فالاستصحاب باطل .

أقول : كأنّ المستدل استدل بالتلازم بين الحجية والقطع ، فقال : إن كل ما كان حجة فهو موجب للقطع ، والاستصحاب حجة فهو موجب للقطع .

وفيه : إنه لا تلازم بين الحجة وبين القطع .

نعم ، التلازم في عكسه ، وهو أنه كل ما كان قطع فهو حجة .

( وقال في محكيّ الذريعة ) في تقريب نفي الاستصحاب بهذا الدليل ( « قد ثبت في العقول : أنّ من شاهد زيدا في الدّار ، ثم غاب عنه ، لم يحسن اعتقاد استمرار كونه في الدّار ) ولو بعد عشرين سنة ( إلاّ بدليل متجدّد ) يدل على بقائه في الدار هذه المدة .

ص: 384

ولا يجوز استصحابُ الحالة الاولى ، وقد صار كونه في الدّار في الزمان الثاني - وقد زالت الرؤية - بمنزلة كون عمرو فيها » .

وأجاب في المعارج عن ذلك ب « أنّا لا ندّعي القطع ، لكن ندّعي رجحان الاعتقاد ببقائه ، وهذا يكفي في العمل به » .

أقول قد عرفت ممّا سبق منع حصول الظنّ كلّية

-------------------

هذا ( ولا يجوز استصحابُ الحالة الاولى ، وقد صار كونه في الدّار في الزمان الثاني - وقد زالت الرؤية - بمنزلة كون عمرو فيها » (1) ) .

وإنّما كان في الزمان الثاني بمنزلة كون عمرو فيها ، لأنه في الزمان الثاني موضوع آخر ، كما إن وجود عمرو فيها موضوع آخر ، فكما لا يصح الانتقال من وجود زيد الى وجود عمرو ، كذلك لا يصح الانتقال من وجود زيد في الزمان السابق الى وجوده في الزمان اللاحق .

( وأجاب في المعارج عن ذلك ) : أي : عن هذا الدليل ( ب « أنّا لا ندّعي القطع ) ببقاء زيد في الدار ( لكن ندّعي رجحان الاعتقاد ببقائه ، وهذا ) الرجحان ( يكفي في العمل به » (2) ) أي : بالاستصحاب .

والحاصل : إن المحقق أجاب عن دليل النافين بدليل مركب من صغرى وكبرى، فالصغرى : إن وجوده السابق يرجح وجوده اللاحق ، والكبرى : إن الرجحان كاف في الاستصحاب .

( أقول ) : إن دليل المعارج ممنوع صغرى وكبرى ، أما صغرى فإنه ( قد عرفت ممّا سبق منع حصول الظنّ كلّية ) بل حصوله في الجملة .

ص: 385


1- - الذريعة : ج2 ص830 .
2- - معارج الاصول : ص209 .

ومنع حجّيته .

ومنها : أنّه لو كان حجة لزم التناقض ، إذ كما يقال : كان للمصلي قبل وجدان الماء المضيُّ في صلاته ، فكذا بعد الوجدان ، كذلك يقال : إنّ وجدان الماء قبل الدخول في الصلاة كان ناقضا للتيمّم ، فكذا بعد الدخول ، أو يقال الاشتغال بصلاة متيقنة ثابتٌ قبل فعل هذه الصلاة ، فيستصحب .

-------------------

وأما منع الكبرى فقد أشار اليها بقوله : ( ومنع حجّيته ) أي حجية مثل هذا الظن على تقدير وجوده .

والحاصل : إنه لا رجحان ، وعلى تقدير الرجحان ، لا يكون مثل هذا الرجحان حجة لا شرعا ولا عقلاً .

( ومنها ) : أي : من أدلة النافين لحجية الاستصحاب مطلقا ( أنّه لو كان ) الاستصحاب ( حجة لزم التناقض ) بين استصحابين متعارضين في كل مورد استصحاب .

وإنّما يلزم منه التناقض في كل مورد ( إذ كما يقال : كان للمصلي قبل وجدان الماء المضيّ في صلاته ، فكذا بعد الوجدان ) حيث يجد ماءا في أثناء الصلاة ، فيستصحب المضي في صلاته ، فإنه ( كذلك يقال : إنّ وجدان الماء قبل الدخول في الصلاة كان ناقضا للتيمّم ، فكذا بعد الدخول ) في الصلاة .

وعليه : فهذان استصحابان متعارضان أحدهما يقول : إمض في صلاتك ، والآخر يقول : بطلت صلاتك ، فلا تمض فيها .

( أو يقال ) في تصوير الاستصحاب المعارض للمضي في الصلاة : إن ( الاشتغال بصلاة متيقنة ثابتٌ قبل فعل هذه الصلاة ، فيستصحب ) فهنا استصحاب يقول : امض في صلاتك ، واستصحاب يقول : لا تمض فيها ، لأنك

ص: 386

قال في المعتبر « استصحاب الحال ليس حجة ، لأنّ شرعية الصلاة بشرط عدم الماء لا يستلزم الشرعية معه . ثم مثل هذا لا يسلمُ عن المعارض ، لأنّك تقول : الذمّة مشغولة بالصلاة قبل الاتمام فكذا بعده » ، انتهى .

وأجاب عن ذلك في المعارج : بمنع وجود المعارض في كلّ مقام ،

-------------------

مشغول الذمة بصلاة متيقنة الصحة ، والصلاة المتيقنة الصحة هي التي يؤتى بها مع الوضوء .

إذن : فحيث كان القول بحجية الاستصحاب يوجب دائما حصول التناقض بين الاستصحابين ، يكون الاستصحاب باطلاً ، لأن ملازم التناقض باطل .

هذا ، وقد ( قال في المعتبر ) في تقريب تعارض الاستصحابين ، بعد أن قال : ( « استصحاب الحال ليس حجة ، لأنّ شرعية الصلاة ) مع التيمم كان ( بشرط عدم الماء ) وهذا ( لا يستلزم الشرعية معه ) أي : مع وجدان الماء ، وليس كلامنا في هذه القطعة من كلام المعتبر ، وإنّما شاهدنا في القطعة الثانية ، حيث ذكر التعارض فقال : ( ثم ) إنّ ( مثل هذا ) الاستصحاب ( لا يسلمُ عن المعارض ، لأنّك تقول : الذمّة مشغولة بالصلاة قبل الاتمام ) وذلك فيما إذا أتم الصلاة بالتيمم السابق ( فكذا بعده » (1) ) أي : بعد الاتمام ( انتهى ) كلام المعتبر .

( وأجاب عن ذلك ) أي : عن اشكال التعارض بين الاستصحابين المحقق نفسه ( في المعارج : بمنع وجود المعارض في كلّ مقام ) فإنه لا تعارض على نحو الكلية ، وإنّما في بعض الموارد .

ص: 387


1- - المعتبر : ص209 .

ووجود المعارض في الأدلة المظنونة لا يوجب سقوطها حيث يسلم عن المعارض .

أقول : لو بنى على معارضة الاستصحاب بمثل استصحاب الاشتغال ، لا يسلم الاستصحاب في أغلب الموارد عن المعارض ، إذ قلّما ينفك مستصحب عن أثر حادث يراد ترتّبه على بقائه ،

-------------------

( و ) من المعلوم : إن ( وجود المعارض في الأدلة المظنونة ) في بعض الموارد ( لا يوجب سقوطها ) أي : فرط الأدلة في كل مكان حتى ( حيث يسلم عن المعارض ) .

والحاصل : إن هذا الدليل يدل على سقوط الاستصحاب في مقام وجود المعارض لا في كل مقام ، فهو إذن أخص من المدّعى ونحن نسلّم سقوط الاستصحاب إذا حصل له معارض ، لكنّا نقول بحجية الاستصحاب إذا لم يحصل له معارض .

( أقول ) : إننا إذا سلّمنا جواب المعارج ، لزم سقوط الاستصحاب في كثير من الموارد ، وذلك إنه ( لو بنى على معارضة الاستصحاب بمثل استصحاب الاشتغال ، لا يسلم الاستصحاب في أغلب الموارد عن المعارض ) فإن الاستصحاب إذا أردنا أن نثبت به البرائة عن الاشتغال عارضه استصحاب الاشتغال .

نعم ، الاستصحاب إذا أردنا أن نثبت به التكليف لا يكون استصحاب الاشتغال معارضا له .

وإنّما لا يسلم الاستصحاب عن المعارض في الأغلب ( إذ قلّما ينفك مستصحب عن أثر حادث يراد ترتّبه ) أي : ترتب ذلك الأثر الحادث ( على بقائه )

ص: 388

فيقال الأصلُ عدم ذلك الأثر .

والأولى في الجواب : أنّا إذا قلنا باعتبار الاستصحاب لافادته الظنّ بالبقاء ، فإذا ثبت ظنُّ البقاء في شيء ، لزم عقلاً ظنُّ ارتفاع كل أمر فُرِضَ كونُ بقاء المستصحب رافعا له ، أو جزءا أخيرا له ، فلا يعقل الظنُّ ببقائه .

-------------------

أي : على بقاء المستصحب ( فيقال ) في معارضه : ( الأصلُ عدم ذلك الأثر ).

لكن لا يخفى : إن هذين الاستصحابين لا يتعارضان ، لتقدّم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسببي ، فإنه إذا صحّ استصحاب المضي في الصلاة في مثال المتيمم الواجد للماء في أثناء الصلاة ، لم يبق مجال لاستصحاب الاشتغال ، لأن استصحاب الاشتغال محكوم باستصحاب المضي .

( و ) عليه : فإن ( الأولى ) أولوية لزومية مثل : قوله سبحانه : « أولى لك فأولى » (1) أن يقال ( في الجواب : أنّا إذا قلنا باعتبار الاستصحاب لافادته الظنّ بالبقاء ) بأن كان حجية الاستصحاب مبنيا على الظن ، فيكون أمارة لا أصلاً ، ومعلوم : إن هذا الظن الاستصحابي لا يترك ظنا معارضا له لأنّ الظن النوعي لا يعارضه ظن نوعي آخر ، والظن الشخصي لا يعارضه ظن شخصي آخر ، فلا تعارض كما قال :

( فإذا ثبت ظنُّ البقاء في شيء ، لزم عقلاً ظنُّ ارتفاع كل أمر فُرِضَ كونُ بقاء المستصحب رافعا له ، أو جزءا أخيرا له ) أي : للرافع ، فيما إذا كان للرافع أجزاء أخيرها بقاء المستصحب ( فلا يعقل الظنُّ ببقائه ) أي : ببقاء ذلك المرفوع .

ص: 389


1- - سورة القيامة : الآية 34 .

فإنّ ظنّ بقاء طهارة ماءٍ غسل به ثوب نجس ، أو توضّأ به محدثٌ ، مستلزمٌ عقلاً لطهارة ثوبه وبدنه وبرائة ذمّته بالصلاة بعد تلك الطهارة ، وكذا الظنّ بوجوب المضيّ في الصلاة يستلزم الظنّ بارتفاع اشتغال الذمّة بمجرّد اتمام تلك الصلاة .

وتوهّم إمكان العكس مدفوعٌ بما سيجيء توضحيه : من عدم إمكانه .

-------------------

أمّا مثاله فهو ما أشار إليه بقوله : ( فإنّ ظنّ بقاء طهارة ماءٍ غسل به ثوب نجس ، أو توضّأ به محدثٌ ، مستلزمٌ عقلاً لطهارة ثوبه وبدنه ) إذ لا يمكن عقلاً ظن طهارة الماء ، وظن نجاسة الثوب والبدن .

( و ) كذلك الظن ببقاء طهارة ذلك الماء ، مستلزم عقلاً ( برائة ذمّته بالصلاة بعد تلك الطهارة ) فلا يعارض باستصحاب الاشتغال بالصلاة .

( وكذا الظنّ بوجوب المضيّ في الصلاة ) في المتيمم الواجد للماء في الأثناء ( يستلزم الظنّ بارتفاع اشتغال الذمّة بمجرّد اتمام تلك الصلاة ) فلا يعارض استصحاب وجوب المضي في الصلاة استصحاب الاشتغال .

( وتوهّم إمكان العكس ) بأن يقال : الشك في طهارة الماء الذي غسل فيه الثوب النجس ، مسبّب عن الشك في بقاء نجاسة الثوب ، فإذا أجرينا الاستصحاب في نجاسة الثوب ارتفع الشك في طرف الماء ، وهكذا سائر الأمثلة ، فإن هذا التوهم ( مدفوعٌ بما سيجيء توضحيه : من عدم إمكانه ) .

وإنّما لا يمكن توهم عكسه لأن السبب مقدّم على المسبّب ، لا إن المسبّب مقدّم على السبب ، فاستصحاب طهارة الماء سبب لارتفاع نجاسة الثوب ، لا إن استصحاب نجاسة الثوب سبب لارتفاع طهارة الماء .

والحاصل : إنه كلّما تحقق استصحاب سببي ، واستصحاب مسببي ، قدّم

ص: 390

وكذا إذا قلنا باعتباره من باب التعبّد بالنسبة الى الآثار الشرعية المترتبة على وجود المستصحب أو عدمه ، لما ستعرف : من عدم امكان شمول الروايات إلاّ للشك السببي ، ومنه يظهر

-------------------

الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسببي ، كما سيجيء توضيحه إن شاء اللّه تعالى .

( وكذا ) لا تعارض بين الاستصحابين السببي والمسببي ( إذا قلنا باعتباره ) أي: باعتبار الاستصحاب ( من باب التعبّد ) بأن كان حجية الاستصحاب مبينا على الاخبار ، فيكون أصلاً لا أمارة ، وهذا عطف على قوله المتقدِّم : إنّا إذا قلنا باعتبار الاستصحاب لافادته الظن بالبقاء .

وعليه : فإذا قلنا باعتبار الاستصحاب من باب التعبّد ( بالنسبة الى الآثار الشرعية المترتبة على وجود المستصحب ، أو عدمه ) أي : عدم المستصحب بأن كان الأثر مترتبا على العدم مثل : صحة الصوم والحج والاعتكاف ، حيث تترتب صحة هذه الأُمور على عدم المفطر، وعلى تروك الاحرام ، وعلى تروك الاعتكاف .

وإنّما لا تعارض بينهما أيضا إذا قلنا : باعتبار الاستصحاب من باب التعبد ( لما ستعرف : من عدم امكان شمول الروايات إلاّ للشك السببي ) دون الشك المسببي ، فلا تعارض إذن بينهما على المبنيين .

والحاصل : إن الاستصحاب السببي لا يعارض الاستصحاب المسببي ، وإنّما يقدّم على المسببي ، سواء كان الاستصحاب حجة من باب الظن وإنه أمارة ، أم كان حجة من باب الاخبار ، وإنه أصل من الأُصول العملية .

( ومنه ) : أي : من عدم المعارضة بين الاستصحاب السببي والمسببي ( يظهر

ص: 391

حال معارضة استصحاب وجوب المضيّ ، باستصحاب انتقاض التيمّم بوجدان الماء .

ومنها : أنّه لو كان الاستصحاب حجّة لكان بيّنة النفي أولى وأرجح من بيّنة الاثبات ، لاعتضادها باستصحاب النفي .

والجوابُ عنه :

أولاً : باشتراك هذا الايراد

-------------------

حال معارضة استصحاب وجوب المضيّ ، باستصحاب انتقاض التيمّم بوجدان الماء ) في أثناء الصلاة ، فانه لا يصح القول : بأن الفاقد للماء إذا وجد الماء قبل الصلاة انتقض تيممه ، فكذا إذا وجد الماء في أثناء الصلاة .

وإنّما لايصح ذلك لأن استصحاب المضي سببي ، واستصحاب الانتقاض مسببي ، والاستصحاب السببي مقدّم على الاستصحاب المسببي على ما عرفت .

( ومنها ) أي : من أدلة النافين لحجية الاستصحاب مطلقا : ( أنّه لو كان الاستصحاب حجّة لكان بيّنة النفي أولى وأرجح من بيّنة الاثبات ) .

وإنّما كان بينة النفي أولى ( لاعتضادها ) أي : اعتضاد بيّنة النفي ( باستصحاب النفي ) فيكون في جانب النفي دليلان : البينة والاستصحاب ، وفي جانب الاثبات دليل واحد : وهو البينة فقط ، والدليلان مقدمان على الدليل الواحد ، مع إن الفقهاء لا يقولون بأرجحية بيّنة النفي ممّا يدل على إنهم لا يعترفون بحجية الاستصحاب .

( والجوابُ عنه : أولاً ، باشتراك هذا الايراد ) على كل تقدير ، فإنه سواء قلنا بحجية الاستصحاب أم بنفي حجيته ، فإن النافي لحجية الاستصحاب أيضا يحتاج

ص: 392

بناءا على ما صرّح به جماعة : من كون استصحاب النفي المسمى بالبرائة الأصليّة معتبرا اجماعا .

الّلهُم إلاّ أن يقال : إنّ اعتبارها ليس لأجل الظنّ ، أو يقال : إنّ الاجماع إنّما هو على البرائة الأصلية في الأحكام الكلّية .

-------------------

الى الجواب عن هذا الاشكال .

وإنّما كان هذا الاشكال مشترك الورود على المثبتين والنافين ( بناءا على ما صرّح به جماعة : من كون استصحاب النفي المسمى بالبرائة الأصليّة معتبرا اجماعا ) أي : عند المثبتين للاستصحاب والنافين له .

وعليه : فيستشكل : بأنه كيف يكون جانب النفي له دليلان : البينة واستصحاب النفي ، وجانب الاثبات له دليل واحد ومع ذلك نرى الفقهاء لا يقولون بتقديم بيّنة النافي ؟ .

( الّلهُم إلاّ أن يقال : إنّ اعتبارها ) أي : اعتبار البرائة الأصلية ( ليس لأجل الظنّ ) بل من باب التعبد ، فالبيّنتان ظنّان متعارضان ، فلا يقدم أحدهما على الآخر ، بل يتساقطان ، فلا يرد الاشكال حينئذ سواء قلنا بحجية الاستصحاب أم نفينا حجيته على القول بحجيته من باب التعبد .

بخلاف ما إذا قلنا بحجية الاستصحاب لأجل الظن حيث إن كلاً من بيّنة النفي والاستصحاب ظن ، فهنا ظنان ، ومقابلهما ظن واحد ، هو الظن الحاصل من بيّنة الاثبات .

( أو يقال : إنّ الاجماع إنّما هو على البرائة الأصلية في الأحكام الكلّية ) مثل : ما إذا شككنا في إن التتن حرام أم لا ؟ وشككنا في إن دعاء رؤية الهلال واجب

ص: 393

فلو كان أحدُ الدليلين معتضدا بالاستصحاب اُخذ به ، لا في باب الشك في اشتغال ذمة الناس ، فإنّه من محل الخلاف في باب الاستصحاب .

-------------------

أم لا ؟ لا في الأحكام الجزئية .

وعليه : ( فلو كان أحدُ الدليلين معتضدا بالاستصحاب أخذ به ) إذا كان من الأحكام الكلية ( لا في باب الشك في اشتغال ذمة الناس ) الذي هو من الاُمور الجزئية ( فإنّه من محل الخلاف في باب الاستصحاب ) فاستصحاب النفي في باب اشتغال ذمة الناس يكون من محل الخلاف الثابت في باب الاستصحاب .

هذا ، وقد أوضح الأوثق جواب المصنِّف عن عدم تقديم بينة النفي ، وذلك عند قول المصنِّف أولاً : باشتراك هذا الايراد ، ثم قوله : اللّهم إلاّ أن يقال : بما لفظه : «إذ مع فرض تحقق الاجماع على اعتبار أصالة البرائة لابدّ من تقديم بيّنة النفي على بينة الاثبات ، فلابدّ من بيان وجه عدم التقديم على القول باعتبار الاستصحاب وعدمه ، فلا اختصاص لهذا الايراد بالأول .

اللّهم إلاّ أن يقال : إن وجه عدم الاشتراك على تقدير القول باعتبار أصالة البرائة: من باب التعبّد ، كما إذا قلنا باعتبارها من باب الأخبار ، أو حكم العقل بقبح التكليف بلا بيان ، كما هو الحق ، لا من باب الاستصحاب ، وان اعتبار البينة : إمّا من باب الظن النوعي ، أو التعبد .

ومن المعلوم : إن الأمر التعبدي - كأصالة البرائة - لا يصلح مرجّحا

ص: 394

وثانيا : بما ذكره جماعة : من أنّ تقديم بيّنة الاثبات لقوّته على بيّنة النفي ، وإن اعتضد بالاستصحاب ،

-------------------

لما هو - كالبينة - معتبر من باب الظن والطريقية ، ولذا نقول : بكون الاصول مرجعا في تعارض الاخبار لا مرجحا ، ولا لما هو معتبر من باب التعبد ، ولذا لا نقول بالترجيح بكثرة الاصول ، فالايراد مما يختص بمن يرى اعتبار الاصول من باب الظن ، كما هو ظاهر المشهور ، فالقول باعتبار البرائة الأصلية من باب التعبد يدفع اشتراك الايراد » (1) .

والحاصل : إن المستدل قال : لو كان الاستصحاب حجة لكان بينة النفي أولى .

والجواب : أولاً : إن الايراد مشترك الورود بين من يقول بحجية الاستصحاب ، ومن يقول بعدم حجيته ، لأن القائل بعدم حجيته أيضا يعترف بالبرائة الأصلية فيرد عليه : بأنه كيف لا يقدّم بينة النفي المعتضدة بالبرائة على بيّنة الاثبات غير المعتضدة بشيء ؟ .

إلاّ أن يقال بعدم الاشتراك ، لأن من يقول بالبرائة الأصلية يقول : باعتبارها من باب التعبد فلا يراها مساوية للبينة ، أو يقول : بأن البرائة الأصلية لا تأتي في الأحكام الجزئية ، وإنّما تختص بالأحكام الكلية ، بينما الاستصحاب يأتي في المنازعات الجزئية ، فليس الاشكال إذن مشترك الورود .

( و ) الجواب ( ثانيا : بما ذكره جماعة : من أنّ تقديم بيّنة الاثبات ) على بيّنة النفي ( لقوّته ) أي : لقوة الاثبات ( على بيّنة النفي ، وإن اعتضد ) النفي ( بالاستصحاب ) .

ص: 395


1- - أوثق الوسائل: ص469 - 470، ما أفاده المصنّف بأنّ دليل الثاني يتم مع الشّك في المقتضي .

إذ ربّ دليل أقوى من دليلين .

نعم ، لو تكافأ دليلان رجّح موافق الأصل به ، لكن بيّنة النفي لا تكافيء بيّنة الاثبات ، إلاّ أن يرجع أيضا الى نوع من الاثبات ، فيتكافئان .

وحينئذٍ : فالوجه : تقديم بيّنة النفي لو كان الترجيح في البيّنات كالترجيح في الأدلّة منوطا بقوة الظنّ

-------------------

وإنّما يقدّم الاثبات على النفي ( إذ ربّ دليل أقوى من دليلين ) فيقدّم الدليل الأقوى وإن كان الدليل الأضعف معاضدا بشيء آخر .

وإنّما قالوا بيّنة الاثبات أقوى ، لأنها تدّعي إنها رأت زيدا وهو يشتري الدار من عمرو - مثلاً - وبيّنة النفي لم تر ذلك ، فلعلّه اشتراها حيث لم تره بيّنة النفي ، ولذا قالوا بتقديم الجرح على التعديل ، لأن المعدّل لم ير فسقه - مثلاً - بينما الجارح رأى ذلك .

( نعم ، لو تكافأ دليلان رجّح موافق الأصل به ) أي : بسبب الأصل ، كما إذا قالت بيّنة الاثبات : إنها رأته يشرب الخمر في الساعة الرابعة ، وفي الدقيقة الأُولى منها ، وقالت بيّنة النفي : إنها رأته في تلك الدقيقة وهو لا يشربها .

ولذا قال المصنِّف : ( لكن بيّنة النفي لا تكافيء بيّنة الاثبات ، إلاّ أن يرجع أيضا الى نوع من الاثبات ، فيتكافئان ) كما في المثال الذي ذكرناه ، فإن بينة الاثبات رأته يشرب ، وبينة النفي رأته لا يشرب فكل واحد منهما مثبت ، لا إن أحدهما ناف والآخر مثبت .

( وحينئذ ) أي : حين كان كلاهما اثباتا ( فالوجه : تقديم بيّنة النفي لو كان الترجيح في البيّنات كالترجيح في الأدلّة منوطا بقوة الظنّ ) فكما إنه إذا كان خبران

ص: 396

مطلقا ، أو في غير الموارد المنصوصة على الخلاف ، كتقديم بيّنة الخارج .

وربّما تمسّكوا بوجوه اُخر ، يظهر حالها بملاحظة ما ذكرنا في ما ذكرنا من أدلّتهم ،

-------------------

أحدهما أقوى ظنا من الآخر قدّم الأقوى ، فكذلك إذا كانت بيّنتان إحداهما أقوى ظنا من الاُخرى ، والمراد : ظن العرف من أحدهما يكون أقوى من ظنهم من الآخر .

وعليه : فإذا كان مناط الترجيح في تعارض البينات كما في الأدلة : قوة الظن ، فالوجه : تقديم بينة النفي ، لقوة الظن فيها باعتضادها بالبرائة إمّا ( مطلقا ) أي : حتى في الموارد المنصوصة على الخلاف .

( أو ) الوجه تقديم بينة النفي ( في غير الموارد المنصوصة على الخلاف ) أي : على خلاف تقديم الأقوى ظنا ( كتقديم بيّنة الخارج ) مع إن قوة الظن إنّما هو في طرف بينة الداخل ، لكن الشارع قدّم بالنص الخاص بيّنة الخارج .

مثلاً : إذا كان زيد ساكنا في الدار ، وعمرو خارجا عن الدار وتنازعا ، نعم أتى كل واحد منهما بينة على إن الدار له ، فإن الشارع قضى ببينة الخارج وأمر باعطاء الدار له ، مع إن الداخل بينته معاضدة بيده ، فالظن بالنسبة الى الداخل أقوى لكن الشارع قدّم الخارج ، فإن هذا من الموارد المنصوصة على الخلاف .

هذا ( وربّما تمسّكوا ) أي : النافون لحجية الاستصحاب مطلقا ( بوجوه اُخر ) غير الوجوه التي ذكرناها ( يظهر حالها بملاحظة ما ذكرنا ) من الاشكالات ( في ما ذكرنا من أدلّتهم ) وذلك لأن تلك الوجوه الأُخر توافق هذه الوجه

ص: 397

هذا ملخّص الكلام في أدلّة المثبتين والنافين مطلقا .

-------------------

التي ذكرناها في خصوصيات الاستدلال وكيفيتها .

( هذا ملخّص الكلام في أدلّة المثبتين ) مطلقا ( والنافين مطلقا ) وقد عرفت : إن المصنِّف يرى التفصيل بين المقتضي والرافع ، ونحن نرى الاطلاق في حجية الاستصحاب ، من غير فرق بين أن يكون الشك في المقتضي أو في الرافع .

انتهى الجزء الحادي عشر

ويليه الجزء الثاني عشر

في حجج المفصّلين

وله الحمد

ص: 398

المحتويات

تتمّة قاعدة لاضرر ... 5

رسالة الشارح في قاعدة لا ضرر ... 41

بحث الاستصحاب ... 69

المقام الثاني في الاستصحاب ... 71

بقي الكلام في أمور

الأمر الأوّل ... 80

الأمر الثاني ... 86

الأمر الثالث ... 89

الأمر الرابع ... 109

الأمر الخامس ... 117

الأمر السادس ... 124

أقسام الاستصحاب

أقسام الاستصحاب باعتبار المستصحب ... 125

الوجه الأوّل ... 125

الوجه الثاني ... 146

الوجه الثالث ... 155

أقسام الاستصحاب باعتبار الدليل الدال عليه ... 158

أقسام الاستصحاب باعتبار الشّك في البقاء ... 182

ص: 399

الوجه الأوّل ... 182

الوجه الثاني ... 191

الوجه الثالث ... 195

أقوال في الاستصحاب ... 201

أدلّة حجيّة الاستصحاب بالنسبة الى الشّك في الرافع ... 210

الوجه الأوّل : الاجماع ... 210

الوجه الثاني : حكم الشارع بالبقاء ... 213

الوجه الثالث : الأخبار المستفيضة ... 218

أدلّة بقيّة الأقوال

أدلّة حجّية القول الأوّل - المثبتين مطلقا - ... 325

أدلّة حجيّة القول الثاني - النافين مطلقا - ... 374

المحتويات ... 399

ص: 400

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.