الوصائل الى الرسائل المجلد 10

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

ص: 4

أمّا الاُولى

فالأقوى فيها أصالة بطلان العبادة بنقص الجزء سهوا ، إلاّ أن يقوم دليل عامّ أو خاص على الصحة ، لأنّ ما كان جزءا في حال العمد كان جزءا في حال الغفلة ، فاذا انتفى انتفى المركب ، فلم يكن المأتيُّ به موافقا للمأمور به ، وهو معنى فساده .

أمّا عموم جزئيته لحال الغفلة ،

-------------------

( أمّا الاُولى : فالأقوى فيها : اصالة بطلان العبادة بنقص الجزء سهوا ، إلاّ أن يقوم دليل عام ) على الصحة ، مثل ما ورد : « من وجوب سجدتي السهو لكل زيادة ونقيصة » (1) ، حيث ان هذا الدليل الثانوي يدل على ان نقص الجزء السهوي لا يكون ضارا ( أو ) يقوم دليل ( خاص على الصحة ) كما إذا ورد - مثلاً - ان من ترك السورة سهوا فلا شيء عليه .

وإنّما قلنا بالبطلان إلاّ ان يقوم دليل ( لأنّ ما كان جزءا في حال العمد كان جزءا في حال الغفلة ) لان اطلاق دليل الجزئية يقتضي الجزئية في كلا الحالين ( فاذا انتفى ) الجزء ( انتفى المركب ، فلم يكن المأتيّ به موافقا للمأمور به ، وهو معنى فساده ) فان الفساد في الاُمور الخارجية كالتفاح وما أشبه معناه : عدم سلامته لنقص كالتعفن وما أشبه ، امّا في الاُمور الاعتبارية فمعنى الفساد : عدم تحقق المركب في الخارج أصلاً ، إذ ما أتى به ناقصا لم يكن من ذلك الكلي المأمور به .

( أمّا عموم جزئيته لحال الغفلة ) فلأن الخطاب لا يختلف بملاحظة العلم

ص: 5


1- - اشارة الى مرسلة سفيان ، انظر نزهة الناظر ص40 ، تهذيب الاحكام : ح2 ص155 ب23 ح66 ، الوافي : ج2 ص149 ، وسائل الشيعة : ج8 ص251 ب32 ح10563 .

فلأن الغفلة لا يوجب تغيير المأمور به ، فان المخاطب بالصلاة مع السورة إذا غفل عن السورة في الأثناء لم يتغيّر الأمر المتوجّه اليه قبل الغفلة ولم يحدث بالنسبة اليه من الشارع أمر آخر حين الغفلة ، لانّه غافل عن غفلته .

-------------------

والجهل إذا كان الخطاب واحدا ، فلا يكون خطاب العالم الملتفت هو : وجوب الصلاة مع السورة ، وخطاب الجاهل الغافل هو : وجوب الصلاة بلا سورة ، لان ذلك مستلزم للدور كما مرّ في موضعه .

نعم ، لا بأس بذلك إذا كان بخطابين ، كما ورد بالنسبة إلى الجاهل بالجهر والقصر ، وكما ورد من الدليل العام أو الخاص بالنسبة إلى الغافل عن الحمد والسورة في الصلاة ، ولكن الكلام حسب الفرض إنّما هو في مقام لا يوجد فيه خطابان ، وإلاّ لم يكن مجال للبحث عن البطلان وعدمه بسبب النقيصة غفلة أو جهلاً .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف حيث قال ما يلي : ( فلأن الغفلة لا يوجب تغيير المأمور به ، فان المخاطب بالصلاة مع السورة إذا غفل عن السورة في الأثناء لم يتغيّر الأمر المتوجه اليه قبل الغفلة ) فان تكليفه قبل الغفلة هو نفس تكليفه بعد الغفلة ( ولم يحدث بالنسبة اليه من الشارع أمر آخر حين الغفلة ، لانّه غافل عن غفلته ) إذ تنجّز كل تكليف موقوف على احراز موضوعه ، فلو وجبت الصلاة بلا سورة على الغافل توقف تنجز هذا التكليف على توجه المكلّف إلى الموضوع وهو : الغفلة عن السورة ، ومن الواضح : ان الغافل عن الشيء غافل عن غفلته أيضا ولو نبّهه أحد على غفلته زال عنه الغفلة وصار ملتفتا .

نعم ، يستثنى من ذلك اُمور ثلاثة :

الأوّل : ما إذا كان في المسألة خطابان - على ما عرفت - .

ص: 6

فالصلاةُ المأتي بها من غير سورة غيرُ مأمور بها بأمر أصلاً ، غايةُ الأمر عدمُ توجه الأمر بالصلاة مع السورة اليه ، لاستحالة تكليف الغافل ، فالتكليفُ ساقطٌ عنه ما دام الغفلة ، نظير من غفل عن الصلاة رأسا أو نام عنها ، فاذا التفت اليها والوقتُ باق وجبَ عليه الاتيانُ به بمقتضى الأمر الأوّل .

-------------------

الثاني : ما إذا خوطب بعنوان آخر مثل ان يقول له : أيها المرتدي للثوب الأبيض .

الثالث : ما إذا خوطب بعبارة الغفلة بدون ذكر متعلق الغفلة ، كما إذا قال : أيها الغافل عليك كذا ، دون ان يلتفت إلى غفلته عن السورة حتى يصير ملتفتا .

لكن من دون هذه الاُمور الثلاثة لا طريق إلى تنجّز التكليف على الغافل ، فلا يبقى إلاّ ان يكون مشتركا في التكليف مع الملتفت .

وعليه : ( فالصلاة المأتي بها من غير سورة ، غير مأمور بها بأمر أصلاً ) لا بالأمر الأوّل لأنّ المفروض : ان متعلقه عام يشمل كل مكلّف من العالم والجاهل ، والملتفت والغافل ، ولا بأمر جديد لعدم امكان حدوث أمر آخر حال الغفلة بعنوان الغفلة مع ذكر متعلق الغفلة كما عرفت .

( غاية الأمر : عدم توجه الأمر بالصلاة مع السورة اليه ) أي : إلى الغافل ( لاستحالة تكليف الغافل ) لانه غير قادر ، وغير القادر لا يمكن توجيه التكليف اليه.

إذن : ( فالتكليف ساقط عنه ) بالمرة ( ما دام الغفلة ) باقيةً ( نظير من غفل عن الصلاة رأسا ، أو نام عنها ) أو اُغمي عليه ، أو ما أشبه ذلك ممّا يسلب فيه عقله أو التفاته ( فاذا التفت اليها ) أي : إلى الصلاة بعد ذلك ( والوقت باق ) مع بقاء سائر الشرائط ( وجب عليه الاتيان به بمقتضى الأمر الأوّل ) كما انه إذا التفت اليها

ص: 7

فان قلت : عمومُ جزئية الجزء لحال النسيان يتمُّ فيما لو ثبت الجزئيّة بمثل قوله : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » دون ما لو قام الاجماع مثلاً على جزئيّة شيء في الجملة ، واحتمل اختصاصها بحال الذكر ،

-------------------

والوقت خارج وكان أمر جديد بالقضاء وجب عليه القضاء ، وكذلك بدون أمر جديد عند من يرى القضاء بالأمر الأوّل .

( فان قلت : ) شمول التكليف بجزئية الجزء لمثل الناسي والغافل إنّما يتم إذا ثبتت للجزئية عمومٌ ، بدليل لفظي مثل : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (1) أو كان له معقد اجماع حتى يكون بحكم الدليل اللفظي ، دون ما إذا ثبت بدليل لبّي لا إطلاق له ، مثل ما إذا قام إجماع على جزئية شيء في الجملة واحتملنا اختصاصه بحال الالتفات فقط .

وعليه : فما ثبت جزئيته بدليل لبي ، فانه لا يكون له عموم ليشمل الغافل والناسي حتى يرجع اليه حال النسيان والغفلة فيحكم ببطلان العبادة ، بل يرجع شكه في صحة العبادة وفسادها لأجل النسيان والغفلة عن الجزء إلى الشك في الجزئية وعدمها ، فيكون مرجعها البرائة أو الاحتياط على ما تقدّم من الخلاف في الأقل والأكثر الارتباطيين .

وعليه : فان ( عموم جزئية الجزء لحال النسيان ) ونحو النسيان إنّما ( يتمّ فيما لو ثبت الجزئيّة بمثل قوله : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » دون ما لو قام الاجماع ) الذي ليس له معقد ممّا هو دليل لبّي ( مثلاً على جزئية شيء في الجملة ، واحتمل اختصاصها بحال الذكر ) والالتفات ، فاذا احتمل ذلك لم يثبت جزئيته لحال

ص: 8


1- - مفتاح الفلاح ص202 ، غوالي اللئالي : ج3 ص82 ح65 .

كما انكشف ذلك بالدليل في الموارد التي حكم الشارع فيها بصحة الصلاة المنسيّ فيها بعضُ الأجزاء على وجه يظهر من الدليل كونُ صلاته تامة .

مثل قوله عليه السلام : « تمت صلاته و لا يعيد » وحينئذ ، فمرجع الشك

-------------------

النسيان والغفلة ، وإذا شك في الجزئية ، فالأصل العدم .

( كما ) لو ( انكشف ذلك ) أي : الاختصاص بحال الالتفات ( بالدليل ، في الموارد التي حكم الشارع فيها بصحة الصلاة المنسيّ فيها بعض الأجزاء ) وذلك بأن كان التخصيص ( على وجه يظهر من الدليل : كون صلاته تامة ، مثل قوله عليه السلام: « تمت صلاته و لا يعيد » ) فقد روي عن محمد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهماالسلام : « فمن نسي القرائة فقد تمت صلاته ولا شيء عليه » (1) وغيره مما يثبت صحة هذه العبادة ، وينفي احتمال عموم الجزئية للغافل والناسي وعدم اختصاصها بحال الالتفات والذكر .

إذن : فالقول : بأنّ الجزء أعمّ من حال الالتفات وحال النسيان ، وإنّما جعل الشارع الناقص بدلاً عن الكامل تعبدا غير تام .

( وحينئذ ) أي : حين كان الدليل مجملاً مع احتمال اختصاصه بحال الالتفات ولا عموم يرجع اليه ، ينتفي جزئية الجزء في حال الغفلة والنسيان ، وعندئذ ( فمرجع الشك ) في الصحة والفساد بالنسبة إلى هذه الصلاة الفاقدة ، يكون

ص: 9


1- - وسائل الشيعة : ج6 ص87 ب27 ح7415 وقريب منه في الكافي فروع : ج3 ص347 ح1 وتهذيب الاحكام : ج2 ص145 ب23 ح27 والاستبصار: ج1 ص353 ب206 ح1 و بحار الانوار : ج88 ص142 ب5 ح1 .

إلى الشك في الجزئية حال النسيان ، فيرجع فيها إلى البرائة والاحتياط على الخلاف .

وكذا لو كان الدالّ على الجزئية حكما تكليفيا مختصا بحال الذكر ، وكان الأمر بأصل العبادة مطلقا ، فانه يقتصر في تقييده على مقدار قابليّة دليل التقييد ، أعني حال الذكر ، إذ لا تكليفَ حالَ الغفلة ، فالجزء المنتزع من الحكم التكليفي

-------------------

( إلى الشك في الجزئية حال النسيان ، فيرجع فيها إلى البرائة والاحتياط على الخلاف ) المتقدّم في الشك في الجزء : من ان مجراه هو البرائة كما يقول به المشهور ، أو الاحتياط كما يقول به جمع .

( وكذا ) عموم جزئية الجزء لا يتم ( لو كان ) الدليل ( الدالّ على الجزئية حكما تكليفيا مختصا بحال الذكر ) كما إذا قال سبحانه : « فاقرأوا ما تيسّر منه » (1) فانه يستفاد من هذه الآية التكليف بالقرائة ، ومن التكليف بها يستفاد الجزئية ( وكان الأمر بأصل العبادة مطلقا ) مثل قوله : « أقيموا الصلاة » (2) ( فانه يقتصر في تقييده ) أي : في تقييد مثل : « أقيموا الصلاة » ( على مقدار قابليّة دليل التقييد ، أعني : حال الذكر ) والالتفات .

وإنّما يقتصر فيه على ذلك ، لانه كما قال : ( إذ لا تكليف حال الغفلة ) والنسيان ، فيحكم بأنّ الجزء إنّما هو جزء حال الالتفات ، وأمّا حال النسيان والغفلة فليس بجزء فيتمسك فيها باطلاق دليل العبادة ، فيحكم بصحتها .

وعلى هذا : ( فالجزء المنتزع من الحكم التكليفي ) كما مثلنا له بانتزاع جزئية

ص: 10


1- - سورة المزّمّل : الآية 20 .
2- - سورة البقرة : الآية 43 .

نظير الشرط المنتزع منه في اختصاصه بحال الذكر ، كلِبس الحرير ونحوه .

قلت :

-------------------

القرائة من التكليف بقوله سبحانه : « فاقرئوا ما تيسّر منه » يكون ( نظير الشرط المنتزع منه ) أي : من التكليف مثل : «إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق » (1) ( في اختصاصه بحال الذكر ) والالتفات .

امّا مثال الشرط المنتزع فهو : ( كلبس الحرير ) فان شرطية عدم لبس الحرير في الصلاة منتزع من أدلة حرمة الحرير ، لقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم مشيرا إلى الذهب والحرير : « إن هذين محرّمان على ذكور اُمتي » (2) وقد تقدّم : انه لا يمكن اجتماع الأمر والنهي ، فلبس الحرير في الصلاة غير جائز ، لكن التكليف لمّا لم يكن في حال النسيان ، فلا شرطية لعدم لبس الحرير في الصلاة .

( ونحوه ) أي : نحو لبس الحرير في الحكم سائر الأمثلة المنتزعة ، كانتزاع شرطية اباحة المكان من حرمة الغصب حيث قال عليه السلام : « ياكميل انظر فيم تصلّي وعلى ما تصلي » (3) ونحو ذلك .

إن قلت ذلك ( قلت ) : توجه الخطاب بالتام الأجزاء إلى الغافل غير ممكن لما عرفت : من انه في حال الغفلة لا يتمكن من الاتيان بذلك الجزء المغفول عنه ،

ص: 11


1- - سورة المائدة : الآية 6 .
2- - بحار الأنوار : ج83 ص248 ب5 ح9 وقريب منه في ج66 ص553 ب5 ح56 و ج77 ص167 ب7 ح2 .
3- - بحار الانوار : ج77 ص275 ب11 ح1 ، بشارة المصطفى : ص28 بالمعنى .

إن اُريد بعدم جزئيّة ما ثبت جزئيته في الجملة في حق الناسي إيجابُ العبادة الخالية عن ذلك الجزء عليه ، فهو غيرُ قابل لتوجّه الخطاب اليه بالنسبة إلى المغفول عنه إيجابا واسقاطا .

-------------------

وتوجه الخطاب بالناقص عن ذلك الجزء المجهول وان كان ممكنا ، لكنه لا يمكن ان يكون بالعنوان بأن يقول : ياأيها الغافل عن السورة عليك بتسعة أجزاء الصلاة .

وأمّا إذا أمضى الشارع ما أتى به الناسي من العبادة الفاقدة للجزء ، وذلك بأن اكتفى منه بتسعة أجزاء وجعلها بدلاً عن العبادة الواقعية ذات الأجزاء العشرة فهو تام ، لأنّ الشارع قد حكم في حقه بعد زوال غفلته .

هذا ، ولكن عدم الجزئية بهذا المعنى عند الشك ، مما لم يقل به أحد من المختلفين في مسألة البرائة والاحتياط ، لوضوح : ان هذا المعنى من البدلية واسقاط جزئية العاشر حكم وضعي لا يجري فيه أدلة البرائة ، بل الأصل عدم البدلية وعدم الاسقاط باتفاق العلماء ، إذ معنى بطلان العبادة الفاقدة للجزء نسيانا هو : عدم كونها مأمورا بها ولا مسقطا للمأمور به .

وعليه : فانه ( ان اُريد بعدم جزئية ما ثبت جزئيته ) عندنا ، لكن لا بالدليل اللفظي ، بل بالاجماع على ما ذكرناه ، وذلك ( في الجملة ) أي : بان لم يكن للاجماع معقد حتى يلحق بالدليل اللفظي ، فيكون ما اريد به ( في حق الناسي : إيجاب العبادة الخالية عن ذلك الجزء عليه ) بان يوجّه المولى الخطاب إلى المكلّف باتيان تسعة أجزاء ( فهو غير قابل لتوجّه الخطاب اليه بالنسبة إلى المغفول عنه إيجابا واسقاطا ) فانه كما يمتنع إيجاب الجزء العاشر يمتنع اسقاطه بالخطاب لما عرفت من انه يلزم ان يقول : ياأيها الغافل يجب عليك الجزء العاشر، أو لا يجب عليك الجزء العاشر ، ومثل هذا الخطاب ممتنع .

ص: 12

وان اُريد به إمضاء الخالي عن ذلك الجزء من الناسي بدلاً عن العبادة الواقعية ، فهو حسن ، لأنّه حكم في حقّه بعد زوال غفلته ، لكن عدم الجزئيّة بهذا المعنى عند الشك ممّا لم يقل به أحد من المختلفين في مسألة البرائة والاحتياط ، لأنّ هذا المعنى حكم وضعي لا يجري فيه أدلّة البرائة ، بل الأصلُ فيه العدمُ بالاتفاق .

-------------------

( وان اُريد به : امضاء الخالي عن ذلك الجزء من الناسي بدلاً عن العبادة الواقعية ) بأن أمضى الشارع الأجزاء التسعة بدلاً عن الأجزاء العشرة ( فهو حسن ) ويكون نظير جعل الشارع الجهر مكان الاخفات أو العكس ، أو جعل الاتمام موضع القصر بالنسبة إلى الجاهل .

وإنّما يكون بمعنى البدل حسنا ( لأنّه ) أي : جعل البدل ( حكم ) وضعي ( في حقّه بعد زوال غفلته ) فلا يحكم عليه بالأجزاء العشرة أو بالأجزاء التسعة حكما تكليفيا ، وإنّما يقول له بعد زوال غفلته : قد جعلت الأجزاء التسعة بدلاً لك عن الأجزاء العشرة .

( لكن عدم الجزئيّة بهذا المعنى ) المذكور : من بدلية التسعة عن العشرة ( عند الشك ) في جزئية الجزء العاشر ( ممّا لم يقل به أحد من المختلفين في مسألة البرائة والاحتياط ) .

أما على رأي القائلين بالاحتياط فواضح ، لأنهم يقولون بالاجزاء العشرة لا بالتسعة .

وأما على رأي القائلين بالبرائة ، فانهم إنّما يقولون بالبرائة بالنسبة إلى التكليف لا بالنسبة إلى اثبات الوضع للأجزاء التسعة كما قال : ( لأنّ هذا المعنى ) أي : البدلية ( حكم وضعي لا يجري فيه أدلّة البرائة ) فان البرائة إنّما تجري في التكليف لا في الوضع ( بل الأصل فيه ) أي : في الحكم الوضعي ( العدم بالاتفاق )

ص: 13

وهذا معنى ما اخترناه من فساد العبادة الفاقدة للجزء نسيانا ، بمعنى عدم كونها مأمورا بها ولا مسقطا عنه .

وممّا ذكرناه ظهر أنّه ليس هذه المسألة من مسألة اقتضاء الأمر للاجزاء في شيء ، لأنّ تلك المسألة مفروضةٌ فيما إذا كان المأتيّ به مأمورا به بأمر شرعي ، كالصلاة مع التيمم أو بالطهارة

-------------------

فلا يكون التسعة بدلاً عن العشرة على نحو الحكم الوضعي .

( وهذا معنى ما اخترناه : من فساد العبادة الفاقدة للجزء نسيانا ، بمعنى : عدم كونها مأمورا بها ) لما عرفت : من امتناع الاختلاف في التكليف ، بأن يكون تكليف الملتفت عشرة ، وتكليف الناسي تسعة ( ولا مسقطا عنه ) أي : عن المأمور بها لعدم ثبوت الاسقاط بالبرائة على ما عرفت .

( وممّا ذكرناه ) : من ان هذه الصلاة الفاقدة للجزء نسيانا غير مأمور بها بأمر أصلاً ، لا بأمر التكليف خطابا ، ولا بأمر الوضع بدلاً ( ظهر : أنّه ليس هذه المسألة من مسألة اقتضاء الأمر للاجزاء في شيء ) فلا يمكن ان يقال : ان هذه الأجزاء التسعة مجزية عن الأجزاء العشرة ، حتى يكون حال المقام حال الصلاة مع التيمم، المجزية عن الصلاة مع الوضوء حال عدم الامكان من الماء .

وانّما لم تكن المسألة من تلك ( لانّ تلك المسألة ) أي : مسألة الاجزاء ( مفروضةٌ فيما إذا كان المأتيّ به مأمورا به بأمر شرعي ) سواء كان أمرا اضطراريا ، بأن خاطب المولى العبد بالصلاة مع التيمم لقوله سبحانه : « فتيمّموا صعيدا طيبا » (1) فقال ( كالصلاة مع التيمم أو ) كان أمرا ظاهريا فقال : كالصلاة ( بالطهارة

ص: 14


1- - سورة النساء : الآية 43 ، سورة المائدة : الآية 6 .

المظنونة ، وليس في المقام أمرٌ بما أتى به الناسي أصلاً .

وقد يتوهّمُ : « أن في المقام أمرا عقليّا ، لاستقلال العقل ، بأنّ الواجب في حقّ الناسي هو هذا المأتيّ به ، فيندرج لذلك في إتيان المأمور به بالأمر العقلي » .

وهو فاسد جدا ،

-------------------

المظنونة ) وذلك إذا قلنا بان الظن حجّة في باب الطهارة عن الحدث ، كما قلنا به في باب الطهارة عن الخبث .

هذا ( وليس في المقام ) أي : مقام الغفلة عن الجزء العاشر ( أمر بما أتى به الناسي أصلاً ) لا أمرا اضطراريا ولا أمرا ظاهريا لما عرفت : من استحالة ذلك .

( وقد يتوهّم : ) فيقال : بأن عدم الأمر بالتكليف أو بالوضع بالنسبة إلى الغافل عن الجزء وان كان مسلّما ، إلاّ ( « أن في المقام أمرا عقليّا ) بهذه الأجزاء التسعة .

وإنّما يتوهم ذلك ( لاستقلال العقل ، بأنّ الواجب في حقّ الناسي ) للجزء العاشر ( هو هذا المأتيّ به ، فيندرج لذلك في اتيان المأمور به بالأمر العقلي » ) وكلّما كان فيه أمر عقلي كان مجزيا ، فان بعض الفقهاء حكم لوجود الأمر العقلي في مثل الغافل : بأنّ واجبه هو ما أتى به من الاجزاء التسعة ، فيكون مندرجا في اتيان المأمور به بالأمر العقلي وان لم يكن هناك أمر شرعي به .

( و ) لكن هذا التوهم ( هو فاسد جدا ) وذلك لأنّ العقل إنّما ينفي التكليف بالجزء المغفول عنه لعدم امكان مثل هذا التكليف ، لا ان العقل يثبت التكليف بما عدا الجزء المغفول عنه ، وهي : الأجزاء التسعة الباقية يدّعي لاتيان هذه الأجزاء التسعة الأمر بالعبادة الواقعية وان غفل عن عدم كون المأتي به هي العبادة الواقعية ، فانه كيف يمكن التكليف والحال ان التكليف سواء كان عقليا أم شرعيا يحتاج

ص: 15

لأنّ العقل ينفي تكليفه بالمنسيّ ولا يُثبت له تكليفا بما عداه من الاجزاء .

وإنّما يأتي بها بداعي الأمر بالعبادة الواقعية غفلة عن عدم كونه إياها .

كيف والتكليفُ عقليا كان أو شرعيا ، يحتاجُ إلى الالتفات ، وهذا الشخصُ غير ملتفت إلى أنّه ناس عن الجزء حتّى يكلف بما عداه .

ونظيرُ هذا التوهّم توهّم أنّ ما يأتي به الجاهل المركب باعتقاد أنّه المأمور به من باب اتيان المأمور به بالأمر العقلي ،

-------------------

إلى الالتفات والتوجه ، وهذا الشخص الغافل أو الناسي غير ملتفت إلى انه ناس للجزء أو غافل عنه حتى يكلّف بما عداه ؟ .

وإلى هذا المعنى من فساد التوهم أشار المصنِّف حيث قال : ( لانّ العقل ينفي تكليفه بالمنسيّ ) والمغفول عنه حال نسيانه أو غفلته أو ما أشبه ذلك ( ولا يثبت له تكليفا بما عداه من الاجزاء ) التسعة ( وإنّما يأتي بها بداعي الأمر بالعبادة الواقعية غفلة عن عدم كونه إياها ) أي : عدم كون هذا المأتي به تلك العبادة الواقعية .

وعليه : فانه ( كيف ) يمكن كون الصلاة بلا سورة واجبة على الغافل وجوبا عقليا ؟ كما قاله هذا المتوهم ، أو وجوبا شرعيا ، كما قاله بعض ممّن تقدّم ( و ) الحال ان ( التكليف عقليا كان أو شرعيا ، يحتاج إلى الالتفات ) إلى الموضوع والحكم معا ( وهذا الشخص غير ملتفت إلى ) الموضوع ، لأنه ليس بملتفت إلى ( أنّه ناس عن الجزء حتّى يكلف بما عداه ) كما عرفت تفصيل ذلك .

( ونظير هذا التوهّم ) المذكور وهو استقلال العقل بوجوب المأتي به ( توهّم : أنّ ما يأتي به الجاهل المركب باعتقاد أنّه المأمور به من باب اتيان المأمور به بالأمر العقلي ) فاذا قطع بأنّ السورة مثلاً ليست جزءا للصلاة قطعا ، وذلك بأن كان

ص: 16

وفسادُه يظهرُ مما ذكرنا بعينه .

وأمّا ما ذكره : « من أن دليل الجزء قد يكون من قبيل التكليف ، وهو لاختصاصه بغير الغافل ، لا يقيّد الأمر بالكلّ إلاّ بقدر مورده ، وهو غير الغافل ،

-------------------

جاهلاً مركبا وأتى بتسعة أجزاء ، فهذه التسعة قالوا بأنها مأمور بها بالأمر العقلي .

وفيه ما عرفت : من ان العقل يحكم بعدم جزئية السورة مع الجهل المركب ، لا بوجوب الصلاة ذات الأجزاء التسعة ، كما قال : ( وفسادُه يظهر مما ذكرنا ) في فساد التوهم الأوّل ( بعينه ) بلا زيادة ولا نقيصة .

هذا تمام الكلام في رد ما تقدّم من الجزء الأوّل من ان قلت وهو : ان عموم جزئية الجزء لحال النسيان يتم فيما لو ثبت الجزء بمثل قوله : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (1) دون ما لو قام الاجماع - مثلاً - على جزئية في الجملة .

ثم شرع المصنِّف في رد الجزء الثاني من ان قلت وهو : عدم عموم جزئية الجزء لحال النسيان لو كان الدال على الجزء حكما تكليفيا مختصا بحال الالتفات ومثّلنا له بقوله سبحانه : « فاقرأوا ما تيسر منه » (2) فقال : ( وأمّا ما ذكره ) في ان قلت : ( من أنّ دليل الجزء قد يكون من قبيل التكليف ) مثل : « فاقرأوا ما تيسر منه » فانّه يدل على وجوب القرائة بالحكم التكليفي ( وهو ) أي : هذا التكليف ( لاختصاصه بغير الغافل ، لا يقيّد الأمر بالكلّ ) في مثل : « أقيموا الصلاة » ( إلاّ بقدر مورده ، و ) مورده ( هو غير الغافل )

ص: 17


1- - مفتاح الفلاح : ص202 ، غوالي اللئالي : ج3 ص82 ح65 .
2- - سورة المزّمّل : الآية 20 .

فاطلاق الأمر بالكلّ المقتضي لعدم جزئيّة هذا الجزء له بالنسبة إلى الغافل بحاله » .

ففيه : أنّ التكليف المذكور إن كان تكليفا نفسيا فلا يدل على كون متعلّقه جزءا للمأمور به حتى يقيّد به الأمر بالكلّ .

وإن كان تكليفا غيريّا ، فهو كاشف عن كون متعلّقه جزءا ، لانّ الأمر الغيريّ إنّما يتعلّق بالمقدمة ،

-------------------

عن وجوب القرائة .

إذن : ( فاطلاق الأمر بالكلّ المقتضي لعدم جزئيّة هذا الجزء ) وهو القرائة ( له ) أي : للكل وهو الصلاة في المثال ، يبقى ( بالنسبة إلى الغافل بحاله » ) سالما عن التقييد بالقرائة .

هذا هو تمام المراد من الجزء الثاني في ان قلت ، ثم اعترض عليه المصنِّف بقوله : ( ففيه : أن التكليف المذكور ) بالجزء العاشر كالقرائة - مثلاً - ( إن كان تكليفا نفسيا ) بأن كانت القرائة واجبا نفسيا ( فلا يدل على كون متعلّقه ) وهو القرائة ( جزءا للمأمور به ) الذي هو الصلاة ( حتى يقيّد به الأمر بالكل ) في مثل قوله سبحانه : « أقيموا الصلاة » (1) .

( وإن كان تكليفا غيريّا ) بأن كان الأمر بالقرائة من باب الجزئية للصلاة ( فهو كاشف عن كون متعلّقه ) وهو القرائة ( جزءا ) للصلاة ، وذلك ( لانّ الأمر الغيريّ إنّما يتعلّق بالمقدمة ) والغفلة عنها توجب انتفاء تنجّز الأمر بالنسبة إلى الغافل ، لكنها لا توجب انتفاء الجزئية كما قال :

ص: 18


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

وانتفاؤه بالنسبة إلى الغافل لا يدل على نفي جزئيّته في حقّه ، لأنّ الجزئية غير مسبّبة عنه ، بل هو مسبب عنها .

ومن ذلك

-------------------

( وانتفاؤه ) أي : انتفاء الأمر الغيري ( بالنسبة إلى الغافل لا يدل على نفي جزئيتّه في حقّه ) بل يبقى جزءا حتى بالنسبة اليه ، وذلك لما قد عرفت : من ان الغفلة لا توجب انتفاء الجزئية ( لأنّ الجزئية غير مسبّبة عنه ) أي : عن الأمر ( بل هو ) أي : الأمر ( مسبب عنها ) أي : عن الجزئية ، فان الجزئية ليست بتابعة للأمر حتى تنتفي بانتفاء الأمر ، بل الأمر تابع للجزئية على ما ذكرناه .

والحاصل : ان التكليف بالقرائة ان كان نفسيا فلا ربط للقرائة بالصلاة ، لان الكلام في الجزء لا في أمر خارج عن الصلاة ، وان كان التكليف بالقرائة غيريّا ، فالقرائة جزء غفل عنها أم لم يغفل ، فكيف يقال : بأنها ليست جزءا إذا غفل المكلّف عنها ؟ .

نعم ، غاية الأمر : انه لا أمر بالقرائة حال الغفلة ، لكن عدم الأمر من جهة الغفلة لايوجب عدم الجزئية ، إذ الأمر تابع للجزء لا ان الجزء تابع للأمر ، وذلك لما قد سبق : من ان المولى يتصور الاجزاء، ثم يعتبرها اجزاءا ، ثم يأمر بها ، فالأمر تابع وليس بمتبوع.

( ومن ذلك ) الذي ذكرناه : من ان ارتفاع الأمر لا يوجب ارتفاع الجزء ، ظهر الفرق بين الجزء الذي فهم من الأمر وبين الشرط الذي فهم كذلك ، فان الشرط يرتفع بارتفاع الأمر ، بينما لا ترتفع الجزئية فيما لو فهم الجزء من التكليف بارتفاع أمره ، كما في فهم جزئية القرائة من قوله سبحانه : « فاقرأوا ما تيسّر منه » (1) .

ص: 19


1- - سورة المزّمّل : الآية 20 .

يُعلم الفرق بين ما نحن فيه وبين ما ثبت اشتراطه من الحكم التكليفي ، كلبس الحرير فانّ الشرطيّة مسببة عن التكليف ، عكس ما نحن فيه ، فتنتفي بانتفائه .

-------------------

وهنا أراد المصنِّف بيان ان الشرط الذي يفهم من التكليف ليس كالجزء الذي يفهم منه ، فانه إذا ارتفع التكليف ارتفع الشرط بخلاف الجزء ، فاذا اشترط - مثلاً - عدم الغصبية في لباس المصلي من باب ان الغصب حرام منهي عنه ولا يجتمع الأمر والنهي ، فعدم الغصبية شرط ، لكن إذا غفل المكلّف عن كونه غصبا لم يكن نهي ، لانه لا يمكن نهي الغافل ، وإذا ارتفع النهي فلا شرطية ، فلا يتحقق حينئذ اجتماع الأمر والنهي .

وبذلك ( يُعلم الفرق بين ما نحن فيه ) من الجزء الذي فهم من التكليف ( وبين ما ثبت اشتراطه من الحكم التكليفي ، كلبس الحرير ) وارتداء الغصب بالنسبة إلى الصلاة ، حيث تشترط الصلاة بعدم كون الساتر فيها حريرا للرجال ، وعدم كونه غصبا للرجال وللنساء ، وذلك لانه كما قال :

( فانّ الشرطية مسببة عن التكليف ، عكس ما نحن فيه ) من الجزئية ( فتنتفي ) الشرطية ( بانتفائه ) أي : بانتفاء التكليف بينما لا تنتفي الجزئية بانتفاء التكليف ، وذلك لأن التكليف تابع للجزئية على ما عرفت ، لا أن الجزئية تابعة للتكليف ، فانه ما دام لم يعتبر الشارع الوحدة بين أمور متعددة منها القرائة - مثلاً - لا معنى لتعلق الأمر الغيري بالقرائة ، فعند الغفلة ينتفي الأمر الغيري ولا يلزم من انتفائه انتفاء الجزئية .

بينما لا يكون الأمر كذلك في الشرط المفهوم من التكليف ، فان الشرطية تكون تابعة للتكليف لا ان التكليف تابع للشرطية ، فانه ما دام لم يكن الحرير

ص: 20

والحاصل : أنّ الأمر الغيري بشيء ، لكونه جزءا ، وإن انتفى في حق الغافل عنه من حيث انتفاء الأمر بالكلّ في حقه ، إلاّ أنّ الجزئية لا تنتفي بذلك .

-------------------

حراما لم يلزم من الصلاة في الحرير اجتماع الأمر والنهي حتى يكون اجتناب الحرير من شرائط الصلاة ، فعند الغفلة عن النهي عن الحرير أو عن الغصب ترتفع الحرمة ، وإذا ارتفعت الحرمة ارتفعت الشرطية .

( والحاصل : ان الأمر الغيري بشيء ، لكونه جزءا ) كالقرائة المنكشف جزئيتها من قوله سبحانه : « فاقرأوا ماتيسّر منه » (1) ( وان انتفى في حق الغافل عنه ) أي عن الأمر الغيري ، لانه لا أمر بالنسبة إلى الغافل ( من حيث انتفاء الأمر بالكلّ في حقه ) أي : في حق الغافل ( إلاّ أنّ الجزئية لا تنتفي بذلك ) أي : بانتفاء الأمر بالكل في حقه ، بينما الشرطية ليست كذلك ، فان الشرطية المستفادة من التكليف تنتفي بانتفاء التكليف ، وانتفاء التكليف إنّما يكون بالغفلة .

هذا ولا يخفى : ان الشرط على قسمين :

الأوّل : ما يكون شرطا معتبرا في المأمور به مأخوذا في موضوع الأمر ، فيكون حاله حال الجزء .

الثاني : ما يكون معتبرا في امتثال الأمر المتعلق بالمأمور به بحيث لا يكون له ارتباط بالمهية أصلاً ، وإنّما فهم هذا الشرط من التكليف .

ومن الواضح : ان كلام المصنِّف إنّما هو في القسم الثاني من الشرط لا في القسم الأوّل ، لانّ القسم الأوّل والجزء متساويان فيما ذكر دون القسم الثاني ،

ص: 21


1- - سورة المزّمّل : الآية 20 .

وقد يتخيّل : أنّ أصالة العدم على الوجه المتقدّم وإن اقتضت ما ذكر ، إلاّ أنّ استصحاب الصحّة حاكم عليها .

وفيه ما سيجيء في المسألة الآتية من فساد التمسك به في هذه المقامات ، وكذا

-------------------

وهذا هو سرّ ما ذكره الفقهاء : من عدم بطلان الصلاة إذا صلّى بالغصب جاهلاً بالغصبية أو ناسيا لها .

( وقد يتخيّل أنّ أصالة العدم ) أي : عدم الجزئية ( على الوجه المتقدّم ) أي : على ما ذكرناه قبل أسطر في جواب ان قلت مما خلاصته : عدم بدلية الناقص ذات الأجزاء التسعة عن الكامل ذات الأجزاء العشرة ، فانه ( وإن اقتضت ما ذكر ) من فساد العبادة لان العبادة التي يريدها اللّه سبحانه وتعالى ذات أجزاء عشرة ، ولا دليل على بدلية ذات الأجزاء التسعة عنها .

( إلاّ أنّ استصحاب الصحّة حاكم عليها ) فان الأجزاء التي أتى بها من تكبيرة الاحرام والقرائة والركوع والسجود وما أشبه ، كانت صحيحة ولا نعلم هل بطلت بسبب فقدان الجزء العاشر الذي هو جلسة الاستراحة - مثلاً - أم لا؟ فالاستصحاب يقوّل بصحة تلك الأجزاء ، وهذا الاستصحاب حاكم على أصل عدم بدلية الناقص عن الكامل فيؤخذ به ، لأنّ الاستصحاب عرش الاصول ، فلا يبقى معه مجال للبرائة والاشتغال والتخيير .

( وفيه ما سيجيء في المسألة الآتية : من فساد التمسك به ) أي : بالاستصحاب ( في هذه المقامات ) لوضوح : ان الأجزاء الفاقدة للجزء المغفول عنه لم يثبت صحتها حتى تستصحب ، كما ان صحة الأجزاء المتقدمة على الجزء المفقود ، لاينفع استصحابها لصحة الاجزاء المتأخرة عنه ، بل ( وكذا ) سيجيء فساد

ص: 22

التمسك بغيره مما سيذكر هناك .

فان قلت : إنّ الأصل الاوّلي وإن كان ما ذكرت ، إلاّ أنّ هنا أصلاً ثانويا يقتضي إمضاء ما يفعله الناسي خاليا عن الجزء والشرط المنسي عنه ، وهو قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « رُفِعَ عن اُمتي تسعةٌ : الخطأ والنسيانُ .. » ، بناءا على أنّ المقدّر ليس خصوص المؤاخذة ، بل جميع الآثار الشرعية المترتّبة على الشيء المنسيّ لولا النسيان ،

-------------------

( التمسك بغيره ) أي : بغير استصحاب الصحة لتصحيح الفاقدة ( مما سيذكر هناك ) ان شاء اللّه تعالى .

( فان قلت : ان الأصل الاوّلي وان كان ما ذكرت ) : من عدم كون الناقص ذات الاجزاء التسعة بدلاً عن الكامل ذات الاجزاء العشرة في مثل الصلاة ( إلاّ أنّ هنا أصلاً ثانويا يقتضي امضاء ما يفعله الناسي خاليا عن الجزء والشرط المنسي عنه ) أي : الشرط الذي هو من باب الامتثال ، لا الشرط الذي له دخل في المهية .

( و ) ذلك الأصل الثانوي ( هو قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : «رُفِعَ عن اُمتي تسعةٌ : الخطأ والنسيانُ .. » (1) ، بناءا على أنّ المقدّر ليس خصوص المؤاخذة ، بل جميع الآثار الشرعية المترتّبة على الشيء المنسيّ ) ترتبا ( لولا النسيان ) فانه قد تقدّم ان في الحديث ثلاثة احتمالات :

الأوّل : رفع جميع الآثار .

الثاني : رفع المؤاخذة فقط .

ص: 23


1- - تحف العقول : ص50 ، الخصال : ص417 ح27 ، التوحيد : ص353 ح24 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

فانّه لو ترك السورة لا للنسيان يترتّبُ حكم الشارع عليه بالفساد ووجوب الاعادة ، وهذا مرفوع مع ترك السورة نسيانا .

وإن شئت قلت : إنّ جزئية السورة مرتفعة حال النسيان .

-------------------

الثالث : رفع الأثر المناسب لكل واحد واحد من التسعة المرفوعة .

أمّا على الاحتمال الثاني والثالث فلا ينفع الحديث لما نحن فيه ، إذ لا منازعة في عدم مؤاخذة الناسي ، كما لا منازعة في رفع الأثر المناسب ، وإنّما النزاع في وجوب الاعادة ، وعدم المؤاخذة ، والاحتمالان لا يثبتان عدم وجوب الاعادة حتى يمكن التمسك بالحديث لنفي وجوب الاعادة .

نعم ، ينفع ما نحن فيه على الاحتمال الاول وذلك كما قال : ( فانّه لو ترك السورة لا للنسيان ) وإنّما تركها عالما عامدا ، فانه ( يترتّبُ حكم الشارع عليه بالفساد ووجوب الاعادة ) في الوقت ، والقضاء خارج الوقت ( وهذا مرفوع مع ترك السورة نسيانا ) لمكان حديث الرفع .

( وان شئت قلت : انّ جزئية السورة مرتفعة حال النسيان ) فان الحديث يرفع الجزئية عند النسيان ، فيرتفع القضاء والاعادة المترتبان على ترك الجزء كالسورة مثلاً ، فتكون النتيجة صحة هذه الصلاة المنسيّ جزؤها .

والحاصل : ان الأصل الاوّلي وان كان هو البطلان ، لكن مقتضى الأصل الثانوي هو الصحة ، وقد نقل هذا أيضا عن الشيخ والحلي والمحقق الثاني وغيرهم .

والأصل الثانوي هو حديث الرفع الحاكم على الأدلة الاوّلية مما يدل على اختصاص جزئية السورة بحال الالتفات ، وعدم جزئيتها في حال النسيان ، ولازم ذلك : كون المأتي به في حال النسيان الفاقد للجزء المنسي هو تمام المأمور به ، ومعلوم: ان الاتيان بالشيء تاما لا يجب معه الاعادة داخل الوقت ولا القضاء خارجه .

ص: 24

قلت : بعد تسليم إرادة رفع جميع الآثار إنّ جزئية السورة ليست من الأحكام المجعولة لها شرعا ، بل هي ككلّية الكلّ .

وإنّما المجعول الشرعي وجوبُ الكلّ

-------------------

( قلت : بعد تسليم ارادة رفع جميع الآثار ) من حديث الرفع ، فقد مرّ في أصل البرائة من المصنِّف عدم تسليمه دلالة حديث الرفع على رفع جميع الآثار ، وإنّما على رفع المؤاخذة فقط حيث قال ما لفظه : ان المقدّر في الرواية باعتبار دلالة الاقتضاء يحتمل ان يكون جميع الآثار في كل واحد من التسعة ، وهو الأقرب اعتبارا إلى المعنى الحقيقي ، وان يكون في كل منها ما هو الأثر الظاهر فيه ، بأن يقدّر المؤاخذة في الكل ، وهذا أقرب عرفا من الاوّل وأظهر من الثاني أيضا ، لانّ الظاهر : ان نسبة الرفع إلى مجموع التسعة على نسق واحد ، فاذا اُريد من الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه وما اضطروا المؤاخذة على نفسها ، كان الظاهر « فيما لايعلمون » ذلك أيضا ، انتهى .

وعلى كل حال : فانه بعد تسليم رفع جميع الآثار نقول : ( إنّ جزئية السورة ليست من الأحكام المجعولة لها ) أي : للسورة ( شرعا ، بل هي ككلّية الكلّ ) أمر انتزاعي ، فقولكم : ان جزئية السورة مرتفعة حال النسيان غير تام .

وإنّما لم يكن تاما ، لان الجزئية والكلية أمران انتزاعيان لا ربط لهما بالجعل ، ولذلك لم نجد الشارع يقول ذات مرة : حكمت بجزئية السورة أو بكلية الصلاة ذات الأجزاء العشرة ، وإنّما يعتبر الشارع الوحدة بين اُمور متعددة ، فينتزع من هذا الاعتبار : كلية المجموع ، وجزئية الأبعاض .

وعليه : فلا ترتفع جزئية السورة بحديث الرفع لانها ليست مجعولاً شرعيا ( وإنّما المجعول الشرعي وجوب الكلّ ) ومن جعل الكل مأمورا به ينتزع وجوب

ص: 25

والوجوبُ مرتفع حال النسيان بحكم الرواية ، ووجوبُ الاعادة بعد التذكير يترتّب على الأمر الأوّل لا على ترك السورة .

ودعوى : « أنّ ترك السورة سببٌ لترك الكلّ الذي هو سبب وجود الأمر الأوّل ، لأنّ عدم الرافع من أسباب البقاء ، وهو من المجعولات القابلة

-------------------

الكل مطابقة ، ووجوب الأجزاء تضمنا ( والوجوبُ مرتفع حال النسيان بحكم الرواية ) دون الجزئية ، فان الجزئية ليست حكما شرعيا حتى ترتفع .

هذا ( ووجوبُ الاعادة بعد التذكير يترتّب على الأمر الأوّل ) فان الأمر الاول يقتضي الاتيان بالشيء كاملاً ، فاذا لم يأت به لكونه فاقدا لبعض الأجزاء وجب عليه الاتيان به ، وهذا الاتيان يسمّى بالاعادة ( لا ) ان وجوب الاعادة مترتّب ( على ترك السورة ) حتى يرتفع عند النسيان .

وعليه : فالأمر الأوّل متوجه إلى الكل ولما تعذّر توجهه إلى المكلّف حال نسيانه كان معذورا ، فهو كما لو لم يتمكن من اتيان الكل ، أو نام عنه ، أو ما أشبه ذلك ، فاذا ارتفع العذر وزال المانع توجه الأمر اليه مع بقاء الوقت ، أو دلالة الدليل على القضاء إذا قلنا بأن القضاء بأمر جديد .

( ودعوى ) : ان النسيان سبب ترك السورة ، وترك السورة سبب بقاء الأمر الاول ، فاذا رفع النسيان رفع ما يتبعه من الأثر الشرعي الذي هو بقاء الأمر الاول ، فلا أمر حتى يجب الاعادة أو القضاء كما قال : ( « أنّ ترك السورة سبب لترك الكلّ الذي هو ) أي : ترك الكل ( سبب وجود الأمر الأوّل ) القائل بوجوب الصلاة - مثلاً - ( لانّ عدم الرافع ) الذي هو عدم الاتيان بالكل ( من أسباب البقاء ) للأمر الأوّل بالكل ، فانه إذا لم يأت بما يرفع وجوب الصلاة كان معناه : بقاء الأمر الأوّل بالوجوب ( و ) الأمر الأوّل بالوجوب ( هو من المجعولات القابلة

ص: 26

للارتفاع في الزمان الثاني .

فمعنى رفع النسيان رفعُ ما يترتب عليه وهو ترك الجزء ، ومعنى رفعه رفعُ ما يترتب عليه وهو ترك الكلّ ، ومعنى رفعه رفعُ مايترتب عليه وهو وجود الأمر في الزمان الثاني » .

مدفوعةٌ بما تقدّم ، في بيان معنى الرواية في الشبهة التحريمية في الشك في أصل التكليف ، من أنّ المرفوع في الرواية الآثار الشرعية الثابتة لولا النسيان ، لا الآثار غير الشرعية

-------------------

للارتفاع في الزمان الثاني ) كما لا يخفى .

وعليه : ( فمعنى رفع النسيان ) في الحديث : ( رفع ما يترتب عليه وهو ترك الجزء ) فكأن الجزء لم يترك ( ومعنى رفعه ) أي : رفع ترك الجزء ( رفع ما يترتب عليه وهو ترك الكلّ ) فكأن الكل لم يترك ( ومعنى رفعه ) أي : رفع ترك الكل حتى كأن الكل لم يترك ( رفع ما يترتب عليه ) أي : على ترك الكل ( وهو : وجود الأمر في الزمان الثاني » ) فلا أمر في الزمان الثاني حينئذ حتى يلزم الاعادة أو القضاء .

هذه الدعوى ( مدفوعة بما تقدّم ، في بيان معنى الرواية في الشبهة التحريمية في الشك في أصل التكليف ) حيث كان ما تقدّم هو عبارة عما ذكره بقوله : ( من أنّ المرفوع في الرواية : الآثار الشرعية الثابتة لولا النسيان ) فالافطار - مثلاً - لا عن نسيان يوجب الكفارة ، وهذا الافطار نفسه عن نسيان لا يوجب شيئا .

( لا ) ان المرفوع في الرواية : ( الآثار غير الشرعية ) مما نحن فيه : من ترك الجزء ، وترك الكل ، فانهما مترتبان عقلاً على نسيان السورة وليسا من الآثار الشرعية لنسيان السورة .

ص: 27

ولا ما يترتب على هذه الآثار من الآثار الشرعية .

فالآثار المرفوعة في هذه الرواية نظير الآثار الثابتة للمستصحب بحكم اخبار الاستصحاب ،

-------------------

( ولا ) ان المرفوع في الرواية : ( ما يترتب على هذه الآثار من الآثار الشرعية ) كبقاء الأمر فانّ بقاء الأمر تابع لترك الكل الذي هو تابع لترك الجزء ، ومن المعلوم : ان ترك الكل موجب للاعادة فانه أثر شرعي مترتب على ترك الكل الذي هو أثر عقلي مترتب على النسيان .

والحاصل : ان الآثار التي يمكن رفعها بحديث الرفع على ثلاثة أقسام :

الأوّل : الآثار الشرعية .

الثاني : الآثار العقلية مثل كون الانسان في الحيّز ، والعادية مثل الالتحاء إذا مضى على الانسان من عمره عشرين سنة .

الثالث : الآثار الشرعية المترتبة على الآثار العقلية أو الآثار العادية .

هذا ، وحديث الرفع إنّما يرفع القسم الأوّل من الآثار دون الثاني والثالث .

إذن : ( فالآثار المرفوعة في هذه الرواية ) أي : في حديث الرفع ( نظير الآثار الثابتة للمستصحب بحكم اخبار الاستصحاب ) فان الاستصحاب إنّما يثبت الآثار الشرعية المباشرة ، لا الآثار العقلية والعادية ، ولا الآثار الشرعية المترتبة على العقلية والعادية ، فاذا غاب زيد عشر سنوات فاستصحاب بقائه له ثلاثة أقسام من الآثار :

الأوّل : الآثار الشرعية مثل وجوب الانفاق على زوجته وحرمة تقسيم أمواله .

الثاني : الآثار العقلية والعادية مثل كونه في الحيّز ، ونبات لحيته .

الثالث : الآثار الشرعية لهذين القسمين من العقلية والعادية ، كما إذا نذر

ص: 28

في أنّها هي خصوص الشرعيّة المجعولة للشارع دون الآثار العقليّة والعاديّة ، ودون ما يترتب عليها من الآثار الشرعية .

نعم ،

-------------------

والد زيد ان يذبح كل شهر شاة ما دام زيد في الحيّز ، أو نذر انه إذا التحى زيد ان يعطي دينارا للفقير .

ومن المعلوم : انه إنّما يثبت باستصحاب بقاء زيد : الأثر الأوّل فقط ، دون الأثرين الآخرين : العقلي والعادي ، ولا ما يترتب عليهما من الآثار الشرعية .

هذا ، وحديث الرفع مثل : الاستصحاب ( في أنّها ) أي : في ان الآثار المرفوعة بها ( هي خصوص الشرعيّة المجعولة للشارع ) ابتداءا وبلا واسطة .

( دون الآثار العقلية ) مثل : ترك الجزء وترك الكلّ المترتبين على النسيان ( والعادية ) كالسكر المترتب على شرب الخمر غفلة .

( ودون ما يترتب عليها ) أي : على الآثار العقلية والعادية ( من الآثار الشرعية ) فللاثر الشرعي المترتب على الأثر العادي مثل : انتقاض الطهارة المترتب على السكر ، والأثر الشرعي المترتب على الأثر العقلي مثل : بقاء الأمر الأوّل المترتب على ترك الكل ، المترتب ذلك الترك على ترك الجزء ، فان ترك الجزء يسبّب ترك الكل ، وترك الكل يسبّب بقاء الأمر الأوّل .

( نعم ) لو لم يكن للرفع أثر شرعي مباشر وكان له أثر شرعي غير مباشر بان كان الأثر الشرعي مترتبا على أثر عقلي أو عادي ، فاللازم ان نقول : بأن دليل الرفع يرفع ذلك الأثر الشرعي ، إذ لو لم يرفعه دليل الرفع كان كلام الشارع لغوا ، فلصون كلام الشارع من اللغوية نقول برفع ذلك الأثر الشرعي المترتب على الأثر العقلي أو العادي .

ص: 29

لو صرّح الشارع بأن حكم نسيان الجزء الفلاني مرفوع ، أو أنّ نسيانه كعدم نسيانه ، أو أنّه لا حكمَ لنسيان السورة - مثلاً - وجب حمله ، تصحيحا للكلام ، على رفع الاعادة وإن لم يكن أثرا شرعيا ، فافهم .

-------------------

مثلاً : ( لو صرّح الشارع : بأن حكم نسيان الجزء الفلاني مرفوع ، أو أنّ نسيانه كعدم نسيانه ، أو أنّه لا حكم لنسيان السورة - مثلاً - ) أو قال : ان جهل الجزء الفلاني مرفوع ، أو غير ذلك ( وجب حمله ) أي : حمل الرفع ( تصحيحا للكلام ) الصادر من الشارع حتى لا يكون بلا فائدة ( على رفع الاعادة وإن لم يكن أثرا شرعيا ) له .

وعليه : فإنّ هناك فرقا بين دليل الرفع العام القائل : « رفع عن امتي النسيان » وذلك بناءا على رفع جميع الآثار لا خصوص المؤاخذة ، وبين دليل الرفع الخاصّ القائل: رفع نسيان السورة مثلاً ، وذلك من جهة دعوى ظهور الدليل العام وكذا أخبار الاستصحاب في خصوص الآثار الشرعية ، دون الآثار العقلية والعادية، ودون الآثار الشرعية مع الواسطة .

بخلاف الدليل الخاص الوارد في مورد لا أثر للرفع فيه إلاّ الأثر الشرعي مع الواسطة ، فانه يتعيّن إرادته بدلالة الاقتضاء ، ففرق بين الدليلين : العام والخاص ، ولذلك يحمل العام على رفع الآثار الشرعية فقط لانه المتبادر منه ، ويحمل الخاص على رفع الأثر الشرعي المترتب على الأثر العقلي لانّه لو لم نحمله على ذلك لزم لغوية الكلام .

( فافهم ) فانه لا فرق بين دليل الرفع العام والخاص في رفع جميع الآثار : الشرعية وغير الشرعية ، المترتبة مع الواسطة أو بلا واسطة .

ص: 30

وزعم بعض المعاصرين الفرق بينهما حيث حكم في مسألة البرائة والاشتغال في الشك في الجزئية بأنّ أصالة عدم الجزئية ، لايثبت بها مايترتب عليه من كون المأمور به هو الأقلّ ، لأنّه لازم غير شرعيّ ، أمّا رفعُ الجزئية الثابتة بالنبويّ فيثبتُ به كون المأمور به هو الأقل .

وذكر في وجه الفرق ما لا يصلح له

-------------------

هذا ( وزعم بعض المعاصرين ) وهو صاحب الفصول ( الفرق بينهما ) أي : بين الاستصحاب ، وحديث الرفع ، وذلك باثبات الاستصحاب الآثار الشرعية فقط ونفي دليل الرفع جميع الآثار ( حيث حكم في مسألة البرائة والاشتغال في الشك في الجزئية بأنّ ) الشك هل يقتضي البرائة عن الجزء المشكوك ، أو ان الأمر يقتضي الاشتغال ؟ قال : ان الاستصحاب وهو ( أصالة عدم الجزئية ، لا يثبت بها ما يترتب عليه ) أي : على هذا العدم ( من كون المأمور به هو الأقلّ ، لانّه لازم غير شرعيّ ) أي : انه لازم عقلي لعدم وجوب الأكثر ، فهو من نفي الضد لاثبات ضده الآخر ، وهو أمر عقلي فلا يثبت بالاستصحاب .

وقال : ( أمّا رفع الجزئية الثابتة بالنبويّ ) وهو لازم غير شرعي ، فانه إذا شككنا في ان السورة هل هي جزء الصلاة أم لا ؟ ورفعنا جزئيتها ، بقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : «رفع... ما لايعلمون » (1) ( فيثبت به ) ما يترتب عليه : من ( كون المأمور به هو الأقل ) وهي - مثلاً - الاجزاء التسعة الباقية للصلاة .

( وذكر في وجه الفرق ) بين الاستصحاب والنبوي ( ما لا يصلح له ) أي :

ص: 31


1- - تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 ح27 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

من اراده راجعة فيما ذكره في أصالة العدم ، وكيف كان ، فالقاعدة الثانوية في النسيان غير ثابتة .

-------------------

ما لايصلح للفرق بنظرنا ، و ( من اراده ) أي : أراد أن يعرف وجه الفرق الذي ذكره الفصول بينهما ( راجعة فيما ذكره في أصالة العدم ) حيث ذكر هناك في وجه الفرق ما حاصله : ان أصل العدم المستفاد من الاستصحاب يجري في نفي ما يحتمل اعتباره شطرا أو شرطا ، لكنه لا يصلح لتعيين الماهية كذلك .

وأمّا أصل العدم المستفاد من أخبار الوضع والرفع ، فيكون دائرته أوسع ، لجريانه بمقتضى هذا الدليل في مطلق أحكام الوضع حتى الجزئية منها والشرطية والمانعية ، لانّ المفهوم من اخبار هذا الباب هو : رفع الحكم المجهول واثبات مايترتب عليه من الأحكام الشرعية وغيرها مما يترتب عليه أحكام شرعية ، وذلك عملاً بظاهر الاطلاق السالم عما يقتضي هنا صرفه عنه ، إذ الوجه الذي قرّرناه في منع إطلاق اخبار الاستصحاب ، وبيان ان المستفاد منها هو : ابقاء ما من شأنه البقاء لولا المانع المشكوك فيه ، واثبات أحكامه الشرعية خاصة غير متطرق إلى إطلاق هذه الاخبار .

هذا ، ولكن فيه ما عرفت سابقا : من ان الجزئية ليست حكما شرعيا حتى ترتفع بحديث الرفع ويوجب رفعها ذلك ، رفع جميع آثارها العقلية والعادية والشرعية المترتبة على الآثار العقلية والعادية ، فالاستصحاب والحديث النبوي في هذا المجال من مساق واحد .

( وكيف كان ) الأمر في الفرق الذي ذكره الفصول بين النبوي والاستصحاب صحة وسقما ، فانه لا يهمنا التعرّض له ، وإنّما نقول : ( فالقاعدة الثانوية في النسيان غير ثابتة ) علما بأن القاعدة الثانوية هي القائلة بعدم وجوب القضاء

ص: 32

نعم ، يمكن دعوى القاعدة الثانوية في خصوص الصلاة من جهة قوله عليه السلام : « لاتُعاد الصلاةُ إلاّ من خمسةٍ ، الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود » .

وقوله عليه السلام في مرسلة سفيان : « يسجد سجدتي السهو في كل زيادة ونقيصة » .

-------------------

والاعادة بسبب نسيان جزء من الصلاة ، أو من أي مركب آخر أمر به الشارع ، فهي مقابل القاعدة الأوّلية القائلة بوجوب الاعادة والقضاء ، لانه لم يأت بالمركب المطلوب .

( نعم ، يمكن دعوى القاعدة الثانوية ) والقول بكفاية الناقص وعدم لزوم الاتيان بالكامل ثانيا اعادة أو قضاءا ( في خصوص الصلاة ) وذلك ( من جهة قوله عليه السلام : « لاتعاد الصلاة إلاّ من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود» (1) ) فاذا توفّرت هذه الاُمور الخمسة في الصلاة ، فلا يلزم إعادة الصلاة لترك جزء أو شرط آخر غيرها .

( وقوله عليه السلام في مرسلة سفيان : «يسجد سجدتي السهو في كل زيادة ونقيصة » (2) ) حيث ان ظاهر هذا الحديث والذي عمل به غير واحد من الفقهاء : ان الزيادة والنقيصة لا توجب بطلان الصلاة ، لان ظاهر قوله : «يسجد سجدتي

ص: 33


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص151 ب23 ح55 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص279 ح857 و ص339 ح991 ، وسائل الشيعة : ج1 ص372 ب3 ح980 و ج4 ص312 ب9 ح5241 و ج5 ص471 ب1 ح7090 ، الخصال : ص285 ح35 .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص155 ب23 ح66 ، نزهة الناظر : ص40 ، الوافي : ج2 ص149 ، وسائل الشيعة : ج8 ص251 ب32 ح10563 .

وقوله عليه السلام في مَن نسي الفاتحة : «أليس قد أتممتَ الركوع والسجود ؟ » ، وغيره .

ثم إنّ الكلام في الشرط كالكلام في الجزء ، في الأصل الاوّلي والثانوي المزيّف والمقبول ،

-------------------

السهو» كفاية سجدة السهو في تكميل الصلاة الناقصة جزءا أو شرطا .

( وقوله عليه السلام في مَن نسي الفاتحة : «أليس قد أتممت الركوع والسجود ؟ » (1) ) مما يكون معناه : انه لا حاجة إلى اعادة الصلاة بسبب نسيان الفاتحة .

( وغيره ) من الأخبار الخاصة الدالة على عدم بطلان الصلاة بالزيادة والنقيصة لجزء أو شرط سهوا أو نسيانا فيما عدا تلك الاُمور الخمسة .

( ثم ان الكلام في الشرط ) المنسي ( كالكلام في الجزء ، في الأصل الاوّلي ) وهو البطلان ( والثانوي ) بكلا قسميه : ( المزيّف ) والمردود منه ، وهو جعل الناقص بدلاً عن الكامل لدليل الرفع العام ( والمقبول ) منه ، وهو جعل الناقص بدلاً عن الكامل في خصوص الصلاة لدليل الرفع الخاص .

ولا يخفى : ان كلام المصنِّف هذا ليس مناقضا لكلامه السابق ، حيث ان مراده من الشرط الذي جعل حكمه حكم الجزء هنا هو : شرط المهية لا شرط الامتثال ، فقد تقدّم من المصنِّف : التصريح بمخالفة حكم نسيان شرط الامتثال لحكم نسيان الجزء ، فاشكال بعض المحشين على المصنِّف بمناقضة كلامه هذا لكلامه

ص: 34


1- - الكافي فروع : ج3 ص348 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص146 ب23 ح28 ، الاستبصار : ج1 ص353 ب206 ح2 ، وسائل الشيعة : ج6 ص90 ب29 ح7424 .

وهو غاية المسؤول .

-------------------

السابق في الشرط ، غير تام ( و ) اللّه سبحانه ( هو غاية المسؤول ) لأن يأخذ بأيدينا إلى الحق وإلى سواء السبيل .

هذا ، ولكن الظاهر من إطلاق حديث الرفع ونحوه : رفع جميع الآثار الشرعية سواء كانت لواسطة أم بغير واسطة ، عن نسيان كانت أم عن جهل ، أم غير ذلك ، قصورا كانت أم تقصيرا وان كان المقصر معاقبا على تقصيره .

ويؤيّده : « حديث لا تعاد » (1) ، وما دل على رفع النسيان في باب الصوم ، وقوله عليه السلام في باب الحج : «أي امرء ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه » (2) وقول النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم في باب الحج : « لا حرج ، لا حرج » (3) مكررا ، وغير ذلك من الروايات في هذا المجال ، ولو ثبت عدم الرفع في مكان ، كان ذلك تخصيصا لأدلة الرفع ، وحيث ان تفصيل الكلام في ذلك خارج عن وضع الشرح نكله إلى موضعه .

ثم ان المصنِّف رحمه اللّه عقد في أول التنبيه حين قال : وينبغي التنبيه على اُمور متعلقة بالجزء والشرط مسائل ثلاث لبيان حكم الاخلال بالجزء نقيصة وزيادة ،

المسألة الثانية

ص: 35


1- - الخصال : ص285 ح35 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص151 ب23 ح55 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص279 ح857 و ص339 ح991 ، وسائل الشيعة : ج1 ص372 ب3 ح980 و ج4 ص312 ب9 ح5241 و ج5 ص471 ب1 ح7090 .
2- - وسائل الشيعة : ج8 ص248 ب30 ح10558 و ج12 ص489 ب45 ح16861 و ج13 ب8 ص158 ح17474 وفي تهذيب الاحكام : ج5 ص72 ب1 ح47 «رجل» .
3- - الكافي فروع : ج4 ص504 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج5 ص236 ب16 ح135 ، الاستبصار: ج2 ص284 ب195 ح3 وسائل الشيعة : ج14 ص157 ب39 ح18859 .

في زيادة الجزء عمدا وإنّما تتحقق في الجزء الذي لم يعتبر فيه اشتراط عدم الزيادة ، فلو أخذ بشرطه فالزيادةُ عليه موجبٌ لاختلاله

-------------------

وذكر الشرط أيضا تبعا :

احداها : نقيصة الجزء سهوا .

ثانيتها : زيادة الجزء عمدا .

ثالثتها : زيادة الجزء سهوا .

هذا ، وقد تعرّض في المسألة الاُولى لنقيصة الجزء سهوا ، - على ما تقدّم - فاختار فيها بطلان العبادة مطلقا في كل العبادات ، إلاّ ان يقوم دليل عام أو خاص على الصحة ، مثل: « حديث لاتعاد » ونحوه ، ولما فرغ منها تعرض لذكر ما يليها فقال : ( المسألة الثانية : في زيادة الجزء عمدا ) ويمكن تقسيم الجزء إلى ما يشترط زيادته : كالسجدة حيث يشترط الحاق السجدة الاُولى بالسجدة الثانية ، وإلى ما يشترط عدم زيادته : كالركوع فانه يشترط عدم الحاقه بركوع ثان ، وإلى ما يكون بلا شرط لانه لوحظ فيه الاطلاق فله ان يزيد منه أو ينقص : كالذكر في الركوع والسجود ، وهذه الأقسام لا كلام فيها لوضوحها كما لا يخفى .

( وإنّما ) الكلام في الزيادة العمدية التي وصفها المصنِّف بأنّها : ( تتحقق في الجزء الذي لم يعتبر فيه اشتراط عدم الزيادة ) .

وعليه : ( فلو أخذ بشرطه ) أي : بشرط عدم الزيادة ( فالزيادة عليه موجب لاختلاله ) أي : لاختلال ذلك الجزء بلا كلام ، وذلك لان الشارع قد اعتبر جزئيته

ص: 36

من حيث النقيصة ، لانّ فاقد الشرط كالمتروك ، كما أنّه لو أخذ في الشرع لا بشرط الوحدة والتعدّد فلا إشكال في عدم الفساد .

ويشترط في صدق الزيادة قصدُ كونه من الأجزاء ، أمّا زيادةُ صورة الجزء لا بقصدها كما لو سجد للعزيمة في الصلاة ، لم يعدّ زيادة في الجزء .

نعم ، ربما ورد في بعض الأخبار : « أنّها زيادة في المكتوبة » ،

-------------------

بشرط عدم الزيادة عليه ، فالزيادة فيه مخلّة ( من حيث النقيصة ) فان الجزء الذي قد زيد عليه ما يشابهه يكون ك- لا جزء ، فتكون الصلاة ناقصة الجزء .

وإنّما يكون الزائد كالناقص ( لانّ فاقد الشرط كالمتروك ) فاذا قال المولى - مثلاً - : يشترط في التسبيح ان لا يكون معه تسبيح آخر ، فسبّح المصلي تسبيحتين فهو ، كأن لم يسبّح أصلاً ، لان تسبيحه فاقد للشرط .

( كما انه لو أخذ في الشرع لا بشرط الوحدة والتعدّد ، فلا إشكال في عدم الفساد ) أي : عدم فساد ذلك الجزء بلا كلام أيضا ، وذلك سواء اتى به واحدا أم متعددا ، وقد مثلنا له بذكر الركوع والسجود وما أشبه ذلك .

هذا ( ويشترط في صدق الزيادة : قصد كونه من الأجزاء ، امّا زيادة صورة الجزء لا بقصدها ) أي : لا بقصد الجزئية ( كما لو سجد للعزيمة في الصلاة ، لم يعدّ زيادة في الجزء ) لان الجزئية في الاُمور القصدية إنّما تتحقق بالقصد ، فبدون القصد لا يعدّ جزءا .

( نعم ، ربما ورد في بعض الأخبار : « أنّها ) أي : سجدة العزيمة في الصلاة ( زيادة في المكتوبة » (1) ) وظاهر هذا الحديث : ان الاتيان بأي شيء يشبه جزءا

ص: 37


1- - الكافي فروع : ج3 ص318 ح6 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص96 ب23 ح129(بالمعنى)، وسائل = = الشيعة : ج6 ص105 ب40 ح7460 .

وسيأتي الكلام في معنى الزيادة في الصلاة .

ثمّ الزيادة العمديّة تتصور على وجوه :

أحدها : أن يزيد جزءا من أجزاء الصلاة بقصد كون الزائد جزءا مستقلاً ، كما لو اعتقد شرعا أو تشريعا أنّ الواجب في كلّ ركعة ركوعان ، كالسجود .

-------------------

من أجزاء الصلاة ، يكون زيادة في الصلاة وان لم يقصد جزئيته ، فاذا انحنى في الصلاة إلى حدّ الركوع احتراما للقرآن - مثلاً - عدّ زيادة في المكتوبة ، وان لم يقصد به الركوع، وهكذا غيره ممّا يشبه أجزاء الصلاة .

( وسيأتي الكلام في معنى الزيادة في الصلاة ) تنقيحا له ، فان تنقيح الموضوع مهم في المقام ، لما قد ورد في جملة من الاخبار : بطلان الصلاة والطواف بالزيادة ، فلابد من معرفة ما يتحقق به الزيادة ليعرف بها صحيح العبادة من باطلها ، غير ان ظاهر الزيادة المخلّة بالعبادة هو : ان يكون الزائد من سنخ المزيد عليه امّا مثل اللعب بالأصابع ، والعبث باللحية في الصلاة فلا يصدق عليه الزيادة ، وأن يكون قد قصد جزئيته لانّ الأعمال القصدية لا تتحقق بدون القصد ، إلاّ ما أخرجه الدليل كسجدة العزيمة وكقول آمين .

( ثم الزيادة العمديّة تتصور على وجوه ) كالتالي :

( أحدها : ان يزيد جزءا من اجزاء الصلاة بقصد كون الزائد جزءا مستقلاً ، كما لو اعتقد شرعا ) بسبب الجهل المركب من غير تقصير ( أو تشريعا ) بسبب الجهل المركب مع التقصير في البحث ومراجعة غير الحجة ، حتى اعتقد على أثرها : ( أنّ الواجب في كلّ ركعة ركوعان ، كالسجود ) فكان يصلي مدة من الزمان صلاة

ص: 38

الثاني : أن يقصد كون مجموع الزائد والمزيد عليه جزءا واحدا ، كما لو اعتقد أنّ الواجب في الركوع الجنسُ الصادقُ على الواحد والمتعدد .

الثالث : أن يأتي بالزائد بدلاً عن المزيد بعد رفع اليد عنه ، إمّا

-------------------

ذات ركوعين في كل ركعة .

قال في بحر الفوائد عند قوله : كما لو اعتقد شرعا أو تشريعا : المراد من الاعتقاد التشريعي هو الاعتقاد الحاصل لأكثر العوام الذين لا يرتدعون عنه مع نهيهم عن العمل به ، وتنبيههم على فساد سلوك الطريق الذي يسلكونه من جهة عدم اعتنائهم بقول الناهي ، فيقلدون سلفهم أو من يحذو حذوهم بجبلّتهم العوامية المنحرفة عن الحق ، المائلة إلى الباطل ، كما نشاهد بالوجدان في حق أهل البوادي ، بل البلدان ، بل ربما نشاهد في حق بعض من يدّعي كونه من الخواص وأهل الاجتهاد في الأحكام ، فانه لا يرتدع بردع غيره عن سلوك ما ليس أهلاً له ، عصمنا اللّه واخواننا من الأهواء الباطلة والنفس الأمارة بالسوء ، انتهى .

( الثاني : ان يقصد كون مجموع الزائد والمزيد عليه جزءا واحدا ) لتصوره انه مأمور بالمهيّة الصادقة بالقليل والكثير ( كما لو اعتقد ) شرعا عن قصور ، أو تشريعا عن تقصير ( أنّ الواجب في الركوع : الجنس الصادق على الواحد والمتعدد ) لتصوره انه نظير الذكر في الركوع والسجود ، فأتى بركوعين ، أو بأربع سجدات ، أو ما أشبه ذلك .

( الثالث : ان يأتي بالزائد بدلاً عن المزيد ) عليه ( بعد رفع اليد عنه ، امّا ) رفعا

ص: 39

اقتراحا ، كما لو قرء سورة ، ثم بدا له في الأثناء أو بعد الفراغ ، وقرء سورة اُخرى لغرض ديني كالفضيلة ، أو دنيوي كالاستعجال ، وأمّا لإيقاع الأوّل على وجه فاسد بفقد بعض الشروط ، كأن يأتي ببعض الأجزاء رياءا ، أو مع عدم الطمأنينة المعتبرة فيها ، ثم يبدو له في إعادته على وجه صحيح .

أمّا الزيادة على الوجه الأوّل ، فلا إشكال في فساد العبادة إذا نوى ذلك قبل الدخول في الصلاة

-------------------

( اقتراحا ) والمراد بالاقتراح هنا تركه من غير علة توجبه ( كما لو قرء سورة ، ثم بدا له ) أي : ظهر له تركها ( في الأثناء ) أي أثناء السورة ( أو بعد الفراغ ) منها فرفع يده عن السورة التي قرأها ( وقرء سورة اُخرى لغرض ديني كالفضيلة ، أو دنيوي كالاستعجال ) لأنّ السورة الاُولى كانت - مثلاً - سورة طويلة فرفع يده عنها في الأثناء ليقرء سورة اُخرى قصيرة .

ولا يخفى : انه يمكن قياس ذلك بالاُمور العرفية وذلك فيما إذا أمره المولى باتيان الماء فأتى بالماء في ظرف ، ثم بدا له تبديله لان هذا الظرف - مثلاً - لا يليق بالمولى ، فبدّل الظرف وأتى بماء ثان .

( وأمّا لإيقاع الاوّل على وجه فاسد بفقد بعض الشروط ، كأن يأتي ببعض الأجزاء رياءا ، أو مع عدم الطمأنينة المعتبرة فيها ) أو انه أتى بسورة اخفاتا ، ثم تنبّه ان الموضع موضع جهر فأتى بسورة ثانية جهرا ( ثم يبدو له في إعادته على وجه صحيح ) أي : بدون قصد الرياء ، ومع الطمأنينة ، ومع الجهر في مكان الجهر، إلى غير ذلك .

( أمّا الزيادة على الوجه الأوّل ) وهو : ان يزيد جزءا في العبادة بقصد انها جزء مستقل ( فلا إشكال في فساد العبادة إذا نوى ذلك قبل الدخول في الصلاة

ص: 40

أو في الأثناء ، لأن ما أتى به وقصد الامتثال به ، وهو المجموع المشتمل على الزيادة غيرُ مأمور به ، وما أمر به وهو ما عدا تلك الزيادة لم يقصد الامتثالُ به .

وأمّا الأخيران فمقتضى الأصل عدم بطلان العبادة فيهما ، لأن مرجع الشكّ إلى الشكّ في مانعيّة الزيادة ، ومرجعها إلى الشك في شرطية عدمها ، وقد تقدّم أن مقتضى الأصل فيه البرائة .

-------------------

أو في الأثناء ) بخلاف ما لو نوى ذلك بعد العمل ، فانه لا يؤثر في الفساد بالعنوان المذكور ، لعدم مجيء التعليل الذي ذكره المصنِّف للفساد في هذا القسم بقوله : ( لأنّ ما أتى به وقصد الامتثال به وهو المجموع المشتمل على الزيادة غير مأمور به ، وما أمر به وهو ما عدا تلك الزيادة لم يقصد الامتثال به ) وحيث ان عمل العبادة أمر قصدي يكون قصد الخلاف وعدم قصد الوفاق مبطل ، فهو مثل أن يقصد بقرائة الحمد في الصلاة : الحمد لأجل الأموات ، أو يقصد بالسجود في الصلاة سجود التلاوة ، أو لم يقصد بالركوع والسجود والقرائة الصلاة ولا غير الصلاة .

( وأمّا الأخيران ) وهما : الاتيان بالزائد بقصد كون الزائد والمزيد عليه جزءا واحدا ، والاتيان بالزائد بدلاً عن المزيد عليه اما اقتراحا أو لايقاع الأوّل فاسدا ، فقد استدل على الصحة فيهما بوجوه خمسة كالتالي :

الأوّل : ما أشار اليه بقوله : ( فمقتضى الأصل : عدم بطلان العبادة فيهما ) أي : في هذين الأخيرين ، وذلك ( لان مرجع الشكّ ) في الصحة فيهما ( إلى الشكّ في مانعيّة الزيادة ، ومرجعها ) أي : مرجع مانعية الزيادة ( إلى الشك في شرطية عدمها ) أي : شرطية عدم الزيادة ( وقد تقدّم : ان مقتضى الأصل فيه البرائة ) .

ص: 41

وقد يستدلّ على البطلان بأنّ الزيادة تغيير لهيئة العبادة الموظّفة فتكون مبطلة ، وقد احتجّ به في المعتبر على بطلان الصلاة بالزيادة .

وفيه نظر : لأنّه إن اريد : تغيير الهيئة المعتبرة في الصلاة فالصغرى ممنوعة ، لأنّ اعتبار الهيئة الحاصلة من عدم الزيادة

-------------------

وعليه : فكلّما شككنا في ان الشيء الفلاني وجوده شرط للصحة ، أو عدمه شرط للصحة ، فالأصل عدمه ، لأنّ الشرط شيء ، يحتاج إلى الدليل ، فاذا لم يكن عليه دليل كان الأصل عدمه .

هذا ( وقد يستدلّ على البطلان ) في الأخيرين : ( بأنّ الزيادة تغيير لهيئة العبادة الموظّفة ) وقد قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « صلّوا كما رأيتموني أُصلي » (1) مما يدل على ان للصلاة صورة خاصة موظفة ، والزيادة تضرّ بتلك الصورة ( فتكون ) الزيادة لأجل التغيير ( مبطلة ) كسائر القواطع ، مثل النوم والحدث ، والبكاء والضحك ، وما أشبه ذلك .

( وقد احتج به ) أي : بهذا الدليل الذي ذكرناه بقولنا : وقد يستدل على البطلان : المحقق ( في المعتبر على بطلان الصلاة ب ) سبب ( الزيادة ) المغيّرة للهيئة .

( وفيه نظر : لأنّه إن أريد : تغيير الهيئة المعتبرة في الصلاة ) شرعا ( فالصغرى ممنوعة ) فان دليل صاحب المعتبر مركب من صغرى وهي : هذه الزيادة تغيير ، وكبرى وهي : كل تغيير مبطل .

وإنّما نمنع الصغرى ، لأنّا لا نسلم تغيير الهيئة الشرعية بالزيادة بنحو الوجهين الأخيرين : الثاني والثالث ، وذلك ( لأنّ اعتبار الهيئة الحاصلة من عدم الزيادة

ص: 42


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص198 ح8 ، بحار الانوار : ج85 ص279 ب34 .

أوّل الدعوى ، فاذا شك فيه فالأصل البرائة .

وإن أريد أنّه تغيير للهيئة المتعارفة المعهودة للصلاة فالكبرى ممنوعة ، لمنع كون تغيير الهيئة المتعارفة مبطلاً .

ونظيرُ الاستدلال - بهذا للبطلان - في الضعف الاستدلال للصحة باستصحابها ،

-------------------

أوّل الدعوى ) إذ لا دليل على ان الشارع اعتبر الهيئة الكذائية ، وحيث لا دليل ( فاذا شك فيه ) أي : في اعتبار الهيئة الحاصلة من عدم الزيادة ( فالأصل البرائة ) عنه لأن الاعتبار أمر نشك فيه ، وكلّما شككنا فيه فالأصل عدمه .

( وإن أريد : أنّه تغيير للهيئة المتعارفة المعهودة للصلاة ، فالكبرى ممنوعة ، لمنع كون تغيير الهيئة المتعارفة مبطلاً ) فانا لا نسلم ان تغيير الهيئة العرفية موجبا للبطلان ، وذلك لانا مأمورون بالهيئة الشرعية لا الهيئة العرفية .

لا يقال : الوجه الثاني من الزيادة كان عبارة عن زيادة الركوع ، ومن المعلوم : ان زيادة الركوع مبطل للصلاة .

لانه يقال : بطلان الصلاة بزيادة الركوع إنّما هو لوجود الدليل الخارجي على ذلك ، وكلامنا فيما لا دليل على البطلان من الخارج ، وأما ذكر المصنِّف زيادة الركوع في الوجه الثاني فهو من باب المثال فقط ، كما ان ذكره زيادة السورة في الوجه الثالث من باب المثال أيضا ، والأصحّ التمثيل للوجه الثالث بما لو أتى بركوعين وجعل الركوع الثاني بدلاً عن الركوع الأوّل .

الثاني من الوجوه الخمسة للاستدلال على الصحة فيهما : ما أشار اليه بقوله : ( ونظير الاستدلال - بهذا ) أي : بالذي استدل به المعتبر ( للبطلان - في الضعف : الاستدلال للصحة باستصحابها ) أي : باستصحاب الصحة ، فانه كما يكون

ص: 43

بناءا على أن العبادة قبل هذه الزيادة كانت صحيحة ، والأصلُ بقائها وعدم عروض البطلان لها .

وفيه : أنّ المستصحب إن كان صحة مجموع الصلاة ، فلم يتحقق بعدُ ، وإن كان صحة الأجزاء السابقة منها فهي غير مُجدية ، لأنّ صحة تلك الأجزاء ،

-------------------

الاستدلال للبطلان بتغيير الزيادة للهيئة ضعيفا ، كذلك يكون الاستدلال للصحة باستصحاب الصحة ضعيفا أيضا ، وذلك ( بناءا على ان العبادة قبل هذه الزيادة كانت صحيحة ، والأصل بقائها ) أي : بقاء الصحة بعد زيادة هذا الجزء ( وعدم عروض البطلان لها ) أي : للعبادة بعد زيادة الجزء .

( وفيه : إنّ المستصحب إن كان صحة مجموع الصلاة ، فلم يتحقق بعد ) لانه لم يأت بالمجموع فكيف يستصحب صحة المجموع ؟ وبعد الاتيان بالمجموع يشك في انه هل بقيت الصحة أو لم تبق ، لانه قد أتى فيه بزيادة مثل : تكرار الركوع في مثال المصنِّف ؟ .

( وان كان صحة الأجزاء السابقة منها ) أي : من العبادة ، بأن كان التكبير والقرائة والركوع - مثلاً - التي قد جاء بها صحيحة ثم جاء بزيادة يشك بعدها في انه هل بطلت تلك الاجزاء السابقة أم لا ؟ فيستصحب تلك الصحة ، فان كان المستصحب هذه الصحة ( فهي غير مجدية ) لتصحيح العبادة ، لان هذه الصحة بما يأتي لها من معنى متيقّنة للأجزاء السابقة ، فلا حاجة لاستصحابها .

وإنّما لا تجدي هذه الصحة المتيقنة في تصحيح العبادة ، لان الكلام في صحة المجموع بعد الاتمام ، لا في صحة الأجزاء السابقة على الزيادة فقط ، وصحة المجموع بعد الاتمام محل اشكال ، وذلك ( لأنّ صحة تلك الأجزاء ) السابقة

ص: 44

إمّا عبارة عن مطابقتها للأمر المتعلق بها ، وإمّا ترتّب الأثر عليها .

والمراد بالأثر المترتب عليها حصول المركّب بها منضمّة مع باقي الأجزاء والشرائط ، إذ ليس أثر الجزء المنوط به صحته إلاّ حصول الكلّ به منضما إلى تمام غيره مما يعتبر في الكلّ .

ولا يخفى أنّ الصحة بكلا المعنيين ثابتة للأجزاء السابقة ، لأنّها بعد وقوعها مطابقة للأمر بها ، لا تنقلبُ عمّا

-------------------

يتصور لها أحد معنيين :

( إمّا عبارة عن مطابقتها للأمر المتعلق بها ) لانّ هناك عدة أوامر متعلقة بأجزاء الصلاة مثل : كبّر ، واقرء ، واركع ، واسجد ، وما أشبه ذلك .

( وإمّا ) عبارة عن ( ترتّب الأثر عليها ) أي على تلك الأجزاء السابقة على الزائد.

( والمراد بالأثر المترتب عليها ) أي : على تلك الأجزاء السابقة على الزائد هو : ( حصول المركب بها ) أي : بتلك الأجزاء ( منضمّة مع باقي الأجزاء والشرائط ) بمعنى : ان المركب من الأجزاء السابقة على الزائد ، والأجزاء اللاحقة على الزائد ، كلّها تؤثر أثرا خاصا ، وهو الامتثال وسقوط القضاء والاعادة .

وإنّما يكون المراد بالأثر حصول المركب ( إذ ليس أثر الجزء المنوط به ) أي : بالأثر : ( صحته ) أي : صحة ذلك الجزء ( إلاّ حصول الكلّ به منضما إلى تمام غيره مما يعتبر في الكلّ ) فان معنى كون الجزء ذا أثر: انه منضما إلى بقية الأجزاء ذو أثر.

( ولا يخفى : ان الصحة بكلا المعنيين ) المذكورين : من كون الجزء مطابقا للأمر ، وكون الأثر مترتبا على الجزء مع الانضمام ( ثابتة للأجزاء السابقة ) على الزائد ، فلا يجدي استصحابها .

أمّا مطابقة الجزء للأمر فهي ( لأنّها بعد وقوعها مطابقة للأمر بها ، لا تنقلب عمّا

ص: 45

وقعت عليه ، وهي بَعدُ على وجه لو انضمّ اليها تمام ما يعتبر في الكلّ حصل الكلُّ ، فعدم حصول الكلّ لعدم انضمام تمام ما يعتبر في الكلّ إلى تلك الأجزاء لا يُخلّ بصحتها .

ألا ترى أن صحة الخلّ من حيث كونه جزءا للسكنجبين لا يرادُ بها إلاّ كونه على صفة لو انضم اليه تمام ما يعتبر في تحقق السكنجبين لحصل الكلّ ، فلو لم ينضمّ اليه تمام ما يعتبر فلم يحصل ذلك الكلّ ، لم يقدح ذلك

-------------------

وقعت عليه ) لأنّ الانقلاب غير معقول .

( و ) اما ترتب الأثر عليها ، فلأنها ( هي ) أي : الاجزاء السابقة على الزيادة ( بَعدُ ) أي : بعد الاتيان بهذه الزيادة في التأثير ، باقية ( على وجه لو انضمّ اليها تمام ما يعتبر في الكلّ حصل الكلّ ) إذ لا دليل على انه إذا وقعت زيادة بين الأجزاء السابقة ، والأجزاء اللاحقة ان تسبّب عدم حصول الكل في الأثر وهو الامتثال .

وعليه : ( فعدم حصول الكلّ لعدم انضمام تمام ما يعتبر في الكلّ ) إنضماما ( إلى تلك الأجزاء ) السابقة على الزيادة ( لا يخلّ بصحتها ) أي : بصحة الأجزاء السابقة على الزيادة .

( ألا ترى : أن صحة الخلّ من حيث كونه جزءا للسكنجبين لا يراد بها ) أي : بالصحة ( إلاّ كونه على صفة لو انضم اليه تمام ما يعتبر في تحقق السكنجبين ) من السكّر ، ومن جعله على النار حتى يحصل له الامتزاج والقوام ، فانه لو انضم اليه ذلك ( لحصل الكلّ ، فلو لم ينضمّ اليه ) أي : إلى الخل ( تمام ما يعتبر ) في تحقق السكنجبين ( فلم يحصل ذلك الكلّ ، لم يقدح ذلك ) أي : عدم حصول الكل

ص: 46

في اتصاف الخل بالصحة في مرتبة جزئيته ، فاذا كان عدم حصول الكلّ يقينا لعدم تمام ما يعتبر في الكلّ غير قادح في صحة الجزء ، فكيف إذا شك في حصول الكلّ من جهة الشك في انضمام تمام ما يعتبر ، كما فيما نحن فيه .

فإنّ الشك في صحة الصلاة بعد تحقق الزيادة المذكورة

-------------------

( في اتصاف الخل بالصحة في مرتبة جزئيته ) .

وإنّما لا يقدح في صحة جزئيته لان الخل في نفسه جزء صحيح ، سواء انضم اليه بقية الأجزاء حتى يحصل السكنجبين أو لم ينضم اليه .

وعليه : ( فاذا كان عدم حصول الكلّ يقينا ) وذلك ( لعدم ) انضمام ( تمام ما يعتبر في الكلّ ) كما إذا علمنا بعدم الانضمام ، فانّ علمنا بذلك ( غير قادح في صحة الجزء ) أو الأجزاء السابقة على الزيادة ( فكيف إذا ) لم يكن لنا علم ، بل كان لنا ( شك في حصول الكلّ ، من جهة الشك في انضمام تمام ما يعتبر ، كما فيما نحن فيه ) من زيادة جزء أثناء العبادة ، فانه غير مخلّ بصحة ما سبق من الأجزاء بطريق أولى؟ .

والحاصل : انه إذا كان الجزء باقيا على وصف الصحة مع القطع بعدم حصول الكل لعدم انضمام سائر الأجزاء إلى الجزء السابق ، فبقاء الجزء على وصف الصحة مع الشك في تحقق الكل للشك في انضمام سائر الأجزاء اليه يكون بطريق أولى ، فاذا شككنا في صحة الأجزاء السابقة وعدم صحتها بعد تلك الزيادة، لم يكن وجه للقول ببطلان تلك الأجزاء .

إذن : فالاجزاء السابقة متيقنة الصحة ، لكنها لا تنفي الشك في صحة الصلاة وذلك كما قال : ( فان الشك في صحة الصلاة بعد تحقق الزيادة المذكورة )

ص: 47

من جهة الشك في انضمام تمام ما يعتبر إلى الأجزاء ، لعدم كون عدم الزيادة شرطا ، وعدم انضمامه ، لكون عدم الزيادة أحد الشرائط المعتبرة ولم يتحقق ، فلا يتحقق الكلّ .

ومن المعلوم أنّ هذا الشك لا ينافي القطع بصحة الاجزاء السابقة ، فاستصحاب صحة تلك الاجزاء غير محتاج اليه ، لأنا نقطع ببقاء صحتها ، لكنه لا يجدي في صحة الصلاة بمعنى استجماعها لما عداها

-------------------

في أثنائها إنّما هو ( من جهة الشك في انضمام تمام ما يعتبر إلى الأجزاء ) أي : ان الشك فيه إنّما هو لاحتمال انضمامه ، وذلك ( لعدم كون عدم الزيادة شرطا ، و ) لاحتمال ( عدم انضمامه ) وذلك ( لكون عدم الزيادة أحد الشرائط المعتبرة ولم يتحقق ) شرط عدم الزيادة ( فلا يتحقق الكلّ ) .

وعليه : فان هنا احتمالين : احتمال انضمام بقية الاجزاء إلى الاجزاء السابقة ، وذلك بأن لا يكون عدم الزيادة من الشرائط ، واحتمال عدم انضمام بقية الاجزاء إلى الاجزاء السابقة ، وذلك بأن يكون عدم الزيادة من الشرائط ، ومع هذين الاحتمالين يشك في تحقق الصلاة أو العبادة التي وقعت الزيادة في أثنائها .

هذا ( ومن المعلوم : انّ هذا الشك لا ينافي القطع بصحة الاجزاء السابقة ) على الزيادة ( فاستصحاب صحة تلك الاجزاء غير محتاج اليه ) أصلاً ، لانّ الاستصحاب إنّما يكون مع الشك ، وهنا لا شك في صحة الاجزاء السابقة ( لأنّا نقطع ببقاء صحتها ) أي : صحة الاجزاء السابقة على الزيادة .

( لكنه ) أي : لكن هذا القطع ببقاء الاجزاء السابقة على صحتها ( لا يجدي في صحة الصلاة بمعنى : استجماعها ) أي : استجماع الصلاة ( لما عداها ) أي :

ص: 48

من الاجزاء والشرائط الباقية .

فان قلت : فعلى ما ذكرت فلا يفرض البطلان للأجزاء السابقة أبدا ، بل هي باقية على الصحة بالمعنى المذكور إلى أبد الدهر وإن وقع بعدها ما وقع من الموانع ، مع أنّ من الشايع في النصوص والفتاوى إطلاق المبطل والناقض على مثل الحدث وغيره من قواطع الصلاة .

-------------------

لما عدا الاجزاء السابقة ( من الاجزاء والشرائط الباقية ) فانّ قطعنا بصحة الاجزاء السابقة ، لا يفيدنا في انا صلينا صلاة صحيحة ، لاحتمال ان الصلاة مشروطة بعدم الزيادة .

وعليه : فاستصحاب الصحة لتصحيح العبادة غير تام لوجهين :

أولاً : لأنه لا مجال لاستصحاب الصحة مع القطع بالصحة .

ثانيا : لأنه لو صح الاستصحاب لم ينفع في كفاية هذه الصلاة في باب الامتثال .

( فان قلت : فعلى ما ذكرت ) : من كون الأجزاء السابقة لا تنقلب عن الصحة الذاتية ولا عن الصحة التأهلية ( فلا يفرض البطلان للأجزاء السابقة أبدا ، بل هي باقية على الصحة بالمعنى المذكور ) : من الصحة الذاتية التي وقعت عليه ، والتأهلية لأن تكون جزءا من الصلاة الصحيحة إذا التحق بها سائر الأجزاء والشرائط اللاحقة ( إلى أبد الدهر وان وقع بعدها ما وقع من الموانع ) كالحدث والنوم والضحك وما أشبه .

هذا ( مع أنّ من الشايع في النصوص والفتاوى : إطلاق المبطل والناقض على مثل الحدث وغيره من قواطع الصلاة ) فكيف تقولون ببقاء الصحة للأجزاء السابقة مع ان ظاهر النصوص والفتاوى تقول : بانه إذا عرض شيء من الموانع والقواطع كالحدث ونحوه يكون مبطلاً وناقضا للأجزاء السابقة ؟ .

ص: 49

قلت : نعم ولا ضير في التزام ذلك ، ومعنى بطلانها عدم الاعتداد بها في حصول الكلّ ، لعدم التمكّن من ضمّ تمام الباقي اليها ، فيجب استيناف الصلاة امتثالاً للأمر .

نعم ، إنّ حكم الشارع على بعض الأشياء بكونه قاطعا للصلاة أو ناقضا ، يكشف عن أنّ لأجزاء الصلاة في نظر الشارع هيئة اتصالية

-------------------

( قلت : نعم ) الأجزاء السابقة باقية على صحتها أبد الدهر ( ولا ضير في التزام ذلك ) من بقائها على صحتها الذاتية والتأهلية ( و ) لكن ( معنى بطلانها ) بعروض الموانع والقواطع ممّا اشتهر في النصوص والفتاوى إنّما هو : ( عدم الاعتداد بها في حصول الكلّ ) وذلك ( لعدم التمكّن من ضم تمام الباقي اليها ) .

مثلاً : الحدث بين الأجزاء السابقة والاجزاء اللاحقة لايخرج الأجزاء السابقة عن الصحة ، وإنّما يمنع من انضمام الأجزاء اللاحقة إلى الأجزاء السابقة ( فيجب استيناف الصلاة امتثالاً للأمر ) القائل بوجوب الصلاة - مثلاً - كما في قوله سبحانه : « أقيموا الصلاة » (1) كذا غيره من سائر الأوامر ، فبالحدث لا تنقلب الأجزاء السابقة إلى البطلان .

( نعم ) انه قد يفرّق بين ما حكم الشارع بكونه قاطعا فيجري استصحاب الصحة في الشك فيه ، وبين ما حكم بكونه مانعا فلا يجري استصحاب الصحة في الشك فيه ، وذلك لأجل ( انّ حكم الشارع على بعض الأشياء بكونه قاطعا للصلاة أو ناقضا ، يكشف عن أنّ لاجزاء الصلاة في نظر الشارع هيئة اتصالية

ص: 50


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

ترتفعُ ببعض الأشياء دون بعض ، فانّ الحدث يقطع ذلك الاتصال والتجشّأ لا يقطعه ، والقطع يوجب الانفصال القائم بالمنفصلين ، وهما في ما نحن فيه الاجزاء السابقة ، والاجزاء التي يلحقها بعد تخلل ذلك القاطع . فكلّ من السابق واللاحق يسقط عن قابلية ضمه إلى الآخر وضمّ الآخر اليه .

ومن المعلوم أنّ الاجزاء السابقة كانت قابلة للضم اليها وصيرورتها اجزاءا فعليّة للمركّب ،

-------------------

ترتفع ببعض الأشياء ) كالحدث ( دون بعض ) كالتجشّأ ( فان الحدث يقطع ذلك الاتصال ) الذي اعتبره الشارع بين اجزاء الصلاة - مثلاً - ( والتجشّأ لا يقطعه ) .

هذا ( والقطع ) بسبب الحدث - مثلاً ليس كالمانع بسبب النجاسة - مثلاً - فان المانع لا يوجب فساد الاجزاء السابقة ، بينما القاطع يوجب فساد الطرفين ، لانه ( يوجب الانفصال القائم بالمنفصلين ) من الطرفين فتنفصل الأجزاء السابقة عن الاجزاء اللاحقة ، ويكون الانفصال قائما بالسابق على الزائد ، واللاحق عليه كما قال : ( وهما ) أي : المنفصلان ( في ما نحن فيه ) أي : في العبادة المركبة عبارة عن ( الاجزاء السابقة ، والاجزاء التي يلحقها بعد تخلل ذلك القاطع ) كالحدث ( فكلّ من السابق واللاحق ) لاجزاء الصلاة بسبب هذا الانفصال الحدثي ( يسقط عن قابلية ضمه إلى الآخر وضمّ الآخر اليه ) .

وعليه : فيكون حينئذ مثل الأجزاء السابقة واللاحقة للصلاة كمثل أجزاء من الحديد فصل بينها التراب ، فان التراب يمنع من وصول الحرارة من طرف إلى طرف آخر مع ان كلا الطرفين من أجزاء الحديد لها صلاحية ذاتية للاتصال بحيث لولا هذا التراب لاتصلت الحرارة من جانب إلى جانب كما قال : ( ومن المعلوم : أنّ الاجزاء السابقة كانت قابلة للضم اليها وصيرورتها اجزاءا فعليّة للمركّب )

ص: 51

والأصل بقاء تلك القابلية وتلك الهيئة الاتصالية بينها وبين ما يلحقها ، فيصح الاستصحاب في كل ما شك في قاطعية الموجود .

ولكن هذا مختص بما إذا شك في القاطعية ، وليس مطلق الشك في مانعية الشيء - كالزيادة في مانحن فيه - شكا في القاطعية .

وحاصل الفرق بينهما أنّ عدم الشيء في جميع آنات الصلاة قد يكون بنفسه من جملة الشروط ،

-------------------

وذلك فيما إذا لم يكن هذا القاطع حاصلاً بين الأجزاء السابقة والأجزاء اللاحقة .

لكن هذا إنّما هو في القاطع القطعي : كالحدث وما أشبه ذلك ، امّا إذا كان شيء مشكوك قاطعيته : كالزيادة التي لا نعلم انها قاطعة أو ليست بقاطعة ، فالأصل هو المحكّم ، ولذا قال المصنِّف :

( والأصل ) على فرض الشك في ابطال الزيادة ( بقاء تلك القابلية ) أي : قابلية انضمام الاجزاء السابقة إلى اللاحقة ( و ) بقاء ( تلك الهيئة الاتصالية بينها ) أي : بين الاجزاء السابقة ( وبين ما يلحقها ، فيصح الاستصحاب في كل ما شك في قاطعية الموجود ) فاذا شككنا في شيء انه قاطع أو ليس بقاطع نستصحب عدم القاطعية .

( ولكن ) قد عرفت : ان ( هذا ) الاستصحاب ( مختص بما إذا شك في القاطعيّة ، و ) معلوم انه ( ليس مطلق الشك في مانعية الشيء - كالزيادة في مانحن فيه - ) يكون ( شكا في القاطعية ) حتى يجري استصحاب الصحة فيه .

( و ) عليه : فان ( حاصل ) ما ذكره من ( الفرق بينهما ) أي : بين المانع والقاطع: انه لا يتمسك باستصحاب الصحة عند الشك في المانع ، وإنّما يتمسك باستصحاب الصحة في الشك في القاطع كما قال : ( أنّ عدم الشيء في جميع آنات الصلاة قد يكون بنفسه من جملة الشروط ) أي: لا من جهة اخلاله

ص: 52

فاذا وجدنا ما فقد انتفى الشرط على وجه لا يمكن تداركه ، فلا يتحقق المركب من هذه الجهة . وهذا لا يجدي فيه القطع بصحة الاجزاء السابقة فضلاً عن استصحابها ، وقد يكون اعتباره من حيث كون وجوده قاطعا ورافعا للهيئة الاتصالية والارتباطية في نظر الشارع بين الاجزاء ، فاذا شك في رافعيته لها

-------------------

بالاتصال ، وقد ذكرنا سابقا : ان العدم ليس بشيء ، فلا يمكن ان يكون شرطا أو نحوه ، فالمراد من كون العدم شرطا : ما يرجع إلى الوجود .

وعليه : ( فاذا وجدنا ) ما اشترط عدمه في الصلاة ( ما فقد انتفى الشرط على وجه لا يمكن تداركه ) لانه بانتفاء الشرط ينتفي المشروط ( فلا يتحقق المركب ) وهو الصلاة - مثلاً - ( من هذه الجهة ) أي : من جهة انتفاء الشرط .

( و ) لا يخفى : ان ( هذا ) القسم إذا شك في مانعيته فانه ( لا يجدي فيه القطع بصحة الاجزاء السابقة ) لانّ صحة الاجزاء السابقة مع تحقق هذا المانع لا ينفع في صحة المركب ( فضلاً عن استصحابها ) أي : استصحاب الصحة في الاجزاء السابقة .

وإنّما لا يجدي فيه ذلك لأنه لا تلازم بين صحة الاجزاء السابقة وبين عدم مانعية الزائد المشكوك في مانعيته ، فلا يستلزم صحة ما مضى أن يكون الزائد المشكوك غير مانع من انضمام الاجزاء الباقية إلى الاجزاء السابقة ، حتى يثبت الانضمام .

( وقد يكون اعتباره ) أي : اعتبار عدم الشيء لا من حيث انه بنفسه من جملة الشروط ، بل ( من حيث كون وجوده قاطعا ورافعا للهيئة الاتصالية والارتباطية في نظر الشارع بين الاجزاء ) كما إذا اعتبر الشارع الحدث - مثلاً - قاطعا ( فاذا شك في رافعيته ) أي : في رافعية شيء ( لها ) أي: للهيئة الاتصالية، بأن شككنا في ان شرب

ص: 53

حَكَمَ ببقاء تلك الهيئة واستمرارها وعدم انفصال الاجزاء السابقة عمّا يلحقها من سائر الاجزاء .

وربما يُرَدُّ استصحابُ الصحة

-------------------

الماء القليل أو الأكل القليل - مثلاً - يقطع الاتصال أم لا ؟ ( حكم ببقاء تلك الهيئة واستمرارها وعدم انفصال الاجزاء السابقة عمّا يلحقها من سائر الاجزاء ) بسبب الاستصحاب .

وعليه : فنحكم لأجل الاستصحاب ببقاء الأجزاء السابقة على قابليتها للانضمام مع الأجزاء اللاحقة ، كما نحكم ببقاء الاجزاء اللاحقة على صلاحيتها للالتحاق بالأجزاء السابقة ، وبذلك يصح اتصال الطرفين وتتحقق الهيئة الاتصالية الموجبة لصحة المركّب .

وحاصل الفرق كما ذكرنا : ان المانع هو ما يمنع أصل الفعل أوّلاً وبالذات ، فيكون عدمه شرطا في عرض سائر الشروط المعتبرة في المأمور به كالطهارة والقبلة والساتر وما أشبه ، بينما القاطع هو ما يقطع الهيئة الاتصالية أولاً وبالذات فلا يكون عدمه في عرض سائر الشروط المعتبرة في المأمور به ، وإنّما لقطعه الهيئة الاتصالية المعتبرة في المأمور به يمنع وجود الفعل على النحو الصحيح ، ولذا لا يتحقق المركب .

وعليه : فاذا أردنا تشبيه القاطع والمانع في المركب الاعتباري بالامور التكوينية نقول : الخشب الذي يحمل السقف قد يقطعه شيء من الوسط ، فيكون هذا هو القاطع الذي يوجب فقد الخشب صلاحيته لحمل السقف ، وقد لا يقطعه شيء ، وإنّما يكون الخشب واهيا، فلا يكون لذلك صالحا لحمل السقف وهذا هو المانع.

( وربما يُرَدُّ استصحاب الصحة ) كما هو المحكي عن الفصول حيث ادعى

ص: 54

بأنّه : « إن اُريد صحة الاجزاء المأتي بها بعد طروّ المانع الاجمالي فغير مُجد ، لأن البرائة إنّما تتحقق بفعل الكلّ دون البعض ، وإن اُريد اثبات عدم مانعية الطاريء ، أو صحة بقية الأجزاء فساقط ، لعدم التعويل على الاصول المثبتة » ، انتهى .

وفيه نظر يظهر مما ذكرنا ، وحاصله :

-------------------

وهن التمسك بالاستصحاب مستدلاً له : ( بأنّه : « إن اُريد صحة الاجزاء المأتيّ بها بعد طروّ المانع الاجمالي ، ف ) هذا الاستصحاب للصحة ( غير مُجد ، لأن البرائة إنّما تتحقق بفعل الكلّ دون البعض ) فانا نحتاج إلى البرائة من التكليف ، والبرائة من التكليف إنّما تكون بصحة كل الاجزاء لا بعض الاجزاء السابقة على المانع الاجمالي فقط .

( وإن اُريد اثبات عدم مانعية الطارئ، أو صحة بقية الأجزاء ، ف ) الاستصحاب ( ساقط ، لعدم التعويل على الاصول المثبتة » ) فان القول بأنّ الاجزاء السابقة صحيحة بالاستصحاب إذن : فالطارئ المشكوك ليس مانعا ، أو القول بان الاجزاء السابقة صحيحة بالاستصحاب إذن : فالأجزاء اللاحقة صحيحة ، مثبت ، لان كلاً من عدم مانعية الطارئالمشكوك ، وصحة الاجزاء اللاحقة ، من اللوازم العقلية لصحة الاجزاء السابقة ، فلا تثبت بالاستصحاب لما قرر في محله : من ان مثبت الاستصحاب ليس بحجة ( انتهى ) الكلام المحكي عن الفصول .

( وفيه نظر يظهر مما ذكرنا ، وحاصله ) : انه ان أراد بالأصل المذكور : ما يجري في الشك في المانع ، فقد تقدّم : ان هذا ساقط من أصله فلا يجري أصلاً حتى يبحث عن كونه مثبتا أو ليس بمثبت ، وان أراد به : ما يجري في الشك في القاطع ، فهو ليس من الاُصول المثبتة حتى يعترض عليه كما قال :

ص: 55

أنّ الشك إن كان في مانعية شيء وشرطية عدمه للصلاة ، فصحة الاجزاء السابقة لا يستلزم عدمها ظاهرا ولا واقعا ، حتى يكون الاستصحاب بالنسبة اليها من الاُصول المثبتة ، وإن كان في قاطعية الشيء ورفعه للاتصال والاستمرار الموجود للعبادة في نظر الشارع ، فاستصحاب بقاء الاتصال كاف ، إذ لا يقصد في المقام سوى بقاء تلك الهيئة الاتصاليّة ، والشك إنّما هو فيه ، لا في ثبوت شرط أو مانع آخر حتى يقصد بالاستصحاب دفعة ، ولا في صحة بقية الاجزاء من غير جهة زوال الهيئة الاتصالية بينها وبين الاجزاء السابقة ،

-------------------

( أنّ الشك إن كان في مانعية شيء وشرطية عدمه للصلاة ، فصحة الاجزاء السابقة لا يستلزم عدمها ) أي : عدم المانعية ( ظاهرا ولا واقعا ) أي : لا في مرحلة الظاهر ولا في مرحلة الواقع فلا يجري فيها الاستصحاب أصلاً ( حتى يكون الاستصحاب بالنسبة اليها ) أي : بالنسبة إلى المانعية ( من الاُصول المثبتة ) غير الحجة ، فلا يصح قول الفصول انه تعويل على الاُصول المثبتة .

( وإن كان ) الشك ( في قاطعية الشيء ورفعه للاتصال والاستمرار الموجود للعبادة في نظر الشارع ) حيث ان للصلاة - مثلاً - هيئة اتصالية يجب ان لا تقطع ( فاستصحاب بقاء الاتصال كاف ) في الحكم بالصحة وليس بمثبت ( إذ لا يقصد في المقام ) أي : في مقام الشك في القاطعية ( سوى بقاء تلك الهيئة الاتصاليّة ، والشك إنّما هو فيه ) أي : في بقاء تلك الهيئة فلا يكون استصحابه مثبتا .

وعليه : فالشك في نفس البقاء ( لا في ثبوت شرط أو مانع آخر حتى يقصد بالاستصحاب دفعة ) فيكون مثبتا ( ولا في صحة بقية الاجزاء من غير جهة زوال الهيئة الاتصالية بينها وبين الاجزاء السابقة ) حتى يكون مثبتا أيضا ، وذلك لان

ص: 56

والمفروض إحرازُ عدم زوالها بالاستصحاب .

وبما ذكرنا يظهر سرُّ ما أشرنا اليه في المسألة السابقة ، من عدم الجدوى في استصحاب الصحة لاثبات صحة العبادة المنسيّ فيها بعض الأجزاء ، عند الشك في جزئية المنسي حال النسيان .

-------------------

المقصود من استصحاب الهيئة الاتصالية إنّما هو اثبات نفس المستصحب ؛ وهو الهيئة الاتصالية ، لفرض ان الشك في هذه الهيئة لا في شيء آخر؛ فلا يكون الاستصحاب مثبتا .

هذا ( والمفروض : إحراز عدم زوالها ) أي : عدم زوال الهيئة الاتصالية احرازا ( بالاستصحاب ) وهذا بخلاف استصحاب الصحة ؛ حيث قد عرفت : انه مثبت ، لانه لا يراد باستصحاب الصحة : صحة الاجزاء السابقة ، بل يراد به إثبات شيء آخر وهو : نفي المانعية ، وصحة الكل ، وكلاهما بالنسبة إلى استصحاب الصحة من اللوازم العقلية لا من اللوازم الشرعية على ما عرفت .

( وبما ذكرنا ) : من عدم الملازمة بين صحة الاجزاء السابقة وبين نفي المانعية ، أو بين صحة الكل ( يظهر سرّ ما أشرنا اليه في المسألة السابقة ، من ) قول المصنِّف: وفيه ما سيجئفي المسألة الآتية من فساد التمسك به في هذه المقامات ، وما أشار اليه هو : ( عدم الجدوى في استصحاب الصحة لاثبات صحة العبادة المنسيّ فيها بعض الأجزاء ، عند الشك في جزئية المنسي حال النسيان ) .

مثلاً : إذا علمنا بأنّ القرائة جزء حال الالتفات وشككنا في انها جزء حال النسيان أم لا ؟ فاستصحاب الصحة لا يثبت لمن نسي القرائة عدم جزئية القرائة حال النسيان حتى يكون المأتي به مطابقا للمأمور به غير محتاج إلى الاعادة والقضاء .

إلى هنا صحّح المصنِّف استصحاب عدم القاطع عند الشك فيه ، والآن يريد

ص: 57

هذا ، ولكن يمكن الخدشة فيما اخترناه من الاستصحاب : بأن المراد بالاتصال والهيئة الاتصالية إن كان ما بين الأجزاء السابقة بعضها مع بعض فهو باق لا ينفع ، وإن كان ما بينها وبين ما لحقها من الاجزاء الآتية ، فالشك في وجودها لا بقائها .

وأمّا أصالة بقاء الاجزاء السابقة على قابلية الحاق الباقي بها ، فلا يبعدُ كونها من الاُصول المثبتة .

-------------------

الخدشة في هذا الاستصحاب بقوله : ( هذا ولكن يمكن الخدشة فيما اخترناه من الاستصحاب : ) أي : استصحاب عدم القاطع وبقاء الهيئة الاتصالية ( بأن المراد بالاتصال والهيئة الاتصالية إن كان ما بين الأجزاء السابقة ) نفسها أي : ( بعضها مع بعض فهو باق ) يقينا ولا يحتاج اثباته إلى الاستصحاب ، غير انه ( لا ينفع ) أي : ان بقاء الهيئة الاتصالية بين الاجزاء السابقة لا ينفع لمطلوبنا نحن ، لان مطلوبنا هو الهيئة الاتصالية بين الكل ، لا بين الاجزاء السابقة فقط .

( وإن كان ) المراد بالهيئة الاتصالية : الاتصال ( ما بينها وبين ما لحقها من الاجزاء الآتية ، فالشك في وجودها ) أي : وجود الهيئة الاتصالية ( لا بقائها ) حتى تستصحب ، وذلك لان المفروض انّ الزيادة - على فرض قاطعيتها - قد قطعت الهيئة الاتصالية بين الاجزاء السابقة مع الاجزاء اللاحقة ، فلا اتصال حتى يشك في بقائه .

ان قلت : ان لم نستطع استصحاب الهيئة الاتصالية للشك في وجودها ، نستصحب بقاء الاجزاء السابقة على قابليتها لاتصال الباقي بها .

قلت : ( وأمّا أصالة بقاء الاجزاء السابقة على قابلية الحاق الباقي بها ، فلا يبعد كونها من الاُصول المثبتة ) وذلك لان بقاء الاجزاء السابقة على قابلية الاتصال لايترتّب عليه أثر شرعي ، وإنّما يترتّب عليه : عدم كون الزيادة قاطعة للهيئة

ص: 58

اللّهم إلاّ أن يقال : استصحابَ الهيئة الاتصالية من الاستصحابات العرفية غير المبنيّة على التدقيق ، نظير استصحاب الكرّية في الماء المسبوق بالكرّية .

-------------------

الاتصالية ، وعدم القاطعية أثر عقلي ، فيكون من الاُصول المثبتة ، وقد ثبت في محله ان الأصل المثبت ليس بحجة .

وربّما يقرّر كون الأصل مثبتا ببيان آخر وهو : ان الحكم بصحة الصلاة مترتب على فعلية اتصال الاجزاء السابقة بالاجزاء اللاحقة ، لا على قابلية الاتصال ، فاثبات الحكم المذكور بالاستصحاب موقوف على ثبوت الفعلية بمجرد استصحاب القابلية ، لانه لو كان قابلاً كان فعلاً ، والتلازم بين القابلية والفعلية تلازم عقلي أو عادي ، فهو مثل ان نقول : نستصحب بقاء زيد فنثبت عليه انبات اللحية لانه كان قابلاً فيكون فعلاً ، وهذا واضح كونه من الاُصول المثبتة .

( اللّهم إلاّ أن يقال ) في تصحيح استصحاب الهيئة الاتصالية بحيث لا يكون مثبتا : ان ( استصحاب الهيئة الاتصالية من الاستصحابات العرفية غير المبنيّة على التدقيق ) فهو ( نظير استصحاب الكرّية في الماء المسبوق بالكرّية ) من حيث التسامح العرفي ، فيكون المستصحب فيما نحن فيه هو : مطلق الاتصال من غير نظر إلى تقوّمه في السابق بالاجزاء السابقة ، كما يكون المستصحب في الماء المسبوق بالكرية هو : مطلق الكرية من غير نظر إلى تقوّمها في السابق بالماء السابق .

ويمكن تقرير الاستصحاب بادعاء : ان الاتصال الثابت في السابق والباقي فلا اللاحق هو : شيء واحد في نظر العرف ، كما ان الكرية الثابتة في الماء السابق والباقية في الماء اللاحق هي شيء واحد في نظر العرف ، فاذا شككنا في ان هذا

ص: 59

ويقال في بقاء الاجزاء السابقة على قابلية الاتصال : إنّه لما كان المقصود الأصلي من القطع وعدمه هو لزومَ استيناف الأجزاء السابقة وعدمه ،

-------------------

الشيء الواحد أزيل أم لا ؟ استصحبنا بقائه .

لا يقال : استصحاب الكرية لا معنى له ، وذلك لان الماء الموجود سابقا وكان كرا قد انعدم قطعا ، والماء الموجود الآن يشك في كونه كرا ، فكيف يحكم باستصحاب كريته ؟ .

لأنه يقال : انا نستصحب الصفة دون الموصوف فنقول : ان الكر الكلي الذي كان موجودا في الحوض لا نعلم انه قد أزيل يأخذ بعض الماء منه أو لم يزل ، فنحكم لأجل الاستصحاب ببقائه ، فيكون البقاء حينئذ بالنسبة إلى الكر الكلي لابالنسبة إلى الماء حتى يرد عليه : ان الماء السابق قد انعدم قطعا ، والماء اللاحق لا يعلم كرّيته .

كما ويمكن تقرير المسامحة العرفية في الكر : بأن الموضوع أعني : هذا الماء منزّل بالمسامحة العرفية منزلة الماء السابق وكان في السابق كرا ، فنستصحب كريته ، وكذا نقول في تصحيح الاستصحاب فيما نحن فيه ، فان الموضوع : أعني : الاجزاء السابقة منزّل بالمسامحة العرفية منزلة المجموع وكان في السابق قابلاً ، فنستصحب قابليته .

( و ) عليه : فانه ( يقال في ) تصحيح استصحاب ( بقاء الاجزاء السابقة على قابلية الاتصال : إنّه لما كان المقصود الأصلي من القطع ) للهيئة الاتصالية (وعدمه) أي : عدم القطع لها ( هو : لزوم استيناف الاجزاء السابقة وعدمه ) لان الزائد إذا قطع الهيئة الاتصالية وجب استيناف الاجزاء السابقة ، وإذا لم يقطعها لم يلزم

ص: 60

وكان الحكم بقابليّتها لالحاق الباقي بها في قوة الحكم بعدم وجوب استينافها ، خرج من الاُصول المثبتة التي ذكر في محلّه : عدمُ الاعتداد بها في الاثبات ، فافهم .

-------------------

الاستيناف ، فالمقصود من استصحاب قابلية الاتصال ليس هو أثرها المباشر أعني: عدم قاطعية الزيادة الذي هو أثر عقلي ، وإنّما عدم القاطعية واسطة لاثبات أثر شرعي وهو : عدم وجوب الاستيناف ، وحيث ان هذه الواسطة خفية بنظر العرف رتّب الحكم المزبور على الاستصحاب المذكور .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف بقوله : ( وكان الحكم بقابليّتها ) أي : قابلية الاجزاء السابقة ( لالحاق الباقي ) من الاجزاء ( بها ) أي : بالاجزاء السابقة كان بالمسامحة العرفية لخفاء الواسطة ( في قوة الحكم بعدم وجوب استينافها ) فانه لما كان كذلك ( خرج ) الاستصحاب ( من الاُصول المثبتة التي ذكر في محلّه : عدم الاعتداد بها في الاثبات ) وصار حجة ومعتدا به .

والحاصل : انا نستصحب قابلية الاتصال في الأجزاء السابقة إلى المجموع ، لأنّ كلا طرفي الزيادة من الاجزاء اللاحقة والاجزاء السابقة شيء واحد في نظر العرف ، أو نستصحب الاتصال الذي هو الصفة لا الموصوف ، كما نستصحب الكرية للماء لرؤية العرف رؤية مسامحية بان كلا المائين شيء واحد .

( فافهم ) ولعله إشارة إلى انه لو قلنا بمثل هذه المسامحات العرفية ، لزم حجية غالب الاستصحابات المثبتة ، وهذا ما لا يقول به المحققون من الاُصوليين .

ثم لا يخفى : ان الكلام إلى هنا كان في الصورتين : الثانية والثالثة من صور الزيادة العمدية التي ذكرها المصنِّف بقوله : الثاني : ان يقصد كون مجموع الزائد والمزيد عليه جزءا واحدا ، والثالث : ان يأتي بالزائد بدلاً عن المزيد عليه ،

ص: 61

وقد يتمسّك لاثبات صحة العبادة عند الشك في طروّ المانع بقوله تعالى : « ولا تُبطلوا أعمالكُم »

-------------------

واستدل على الصحة فيهما بوجهين : أولهما : ما ذكره بقول : فمقتضى الأصل عدم بطلان العبادة فيهما وثانيهما : ما ذكره بقوله : واستصحاب الصحة بناءا على ان العبادة قبل هذه الزيادة كانت صحيحة .

هذا ، وحيث أتم المصنِّف الكلام في الوجهين السابقين؛ شرع في بيان وجه ثالث لصحة العبادة التي تخلّلتها الزيادة فقال :

( وقد يتمسك لاثبات صحة العبادة عند الشك في طروّ المانع ) فيها ، كتعمّد الزيادة فيما نحن فيه من الصورتين : الثانية والثالثة ، فيتمسك لصحتها ( بقوله تعالى : « ولا تُبطِلوا أعمالَكُم » ) وبهذا بدأ المصنِّف بعد فراغه من تأسيس الأصل الاوّلي في الصحة والاشكال على ذلك الأصل ، بدأ في تأسيس الأصل الثانوي بسبب الآية الشريفة من سورة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم حيث يقول سبحانه :« إنّ الذين كفروا وصدّوا عن سبيل اللّه وشاقّوا الرسول من بعد ما تبينَ لهم الهُدى لن يضرّوا اللّه شيئا وسيحبِط أعمالهم * يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم » (1) .

ولا يخفى : ان الشاهد في الجزء الأخير من الآية الثانية ، والمشهور بين الفقهاء هو التمسك بهذه الآية وان تأمل في الاستدلال بها المقدس الأردبيلي في محكي شرح الارشاد ، وكذا صاحب الحدائق فانه بعد نقل الاحتجاج بها قال : ان الآية لا تخلو من الاجمال المانع عن الاستدلال ، وتبعه الفاضل النراقي في عوائده

ص: 62


1- - سورة محمد : الآيات 32 - 33 .

فان حرمة الابطال : إيجابٌ للمُضي فيها ، وهو مستلزم لصحّتها ولو بالاجماع المركب ، أو عدم القول بالتفكيك بينهما

-------------------

حيث قال : ويمكن أن يكون وجه تأمل المحقق الاردبيلي ، وسبب الاجمال الذي ذكره صاحب الحدائق أحد الاُمور التالية :

الأوّل : التأمل في افادة النهي للحرمة .

الثاني : عدم بقاء الأعمال على عمومه قطعا ، لوجوب القطع في بعض الأحيان في الصلاة ، وجوازه مطلقا في بعض الأعمال كالوضوء والغسل والصوم المستحب ونحو ذلك .

الثالث : اعتبار الاجمال في الابطال .

هذا ، وسيأتي وجه الاجمال في كلام المصنِّف ، فانه قد استدل بهذه الآية على ان الشيء الزائد لا يوجب الابطال بتقريب أشار اليه بقوله :

( فان حرمة الابطال : إيجابٌ للمضي فيها ) أي في الصلاة ( وهو ) أي : ايجاب المضي في الصلاة ( مستلزم لصحّتها ) لانها لو لم تكن صحيحة لما وجب المضي فيها ، وهذا التلازم عرفي وثابت ( ولو بالاجماع المركب ، أو عدم القول بالتفكيك بينهما ) .

وعليه : فقد ذكر المصنِّف في كلامه الأخير وجوها ثلاثة للتلازم بين إيجاب المضي وصحة العمل ، وهي :

الأوّل : ما أشار اليه بقوله : ولو ، فان في مفهومه ما يدل على ان ايجاب المضي يستلزم الصحة بالدلالة اللفظية وذلك للملازمة بينهما عرفا ، فان العرف يفهم من وجوب المضي : الصحة .

الثاني : ما ذكره بقوله : بالاجماع المركب ، فانه ان أنكرنا الاستلزام اللفظي

ص: 63

في غير الصوم والحجّ .

وقد استدلّ بهذه الآية غيرُ واحد تبعا للشيخ قدس سره .

وهو لا يخلو عن نظر يتوقف على بيان ما تحتمله الآية الشريفة من المعاني .

-------------------

قلنا بالتلازم بين ايجاب المضي وصحة العمل للاجماع المركب ، وذلك لأن الأصحاب بين من يقول بعدم وجوب المضي وفساد العمل ، وبين من يقول بوجوب المضي وصحة العمل ، فاذا قال أحد بوجوب المضي وفساد العمل ، كان احداثا لقول ثالث ، وهو كما ترى خرق للاجماع المركب .

الثالث : ما أشار اليه بقوله : أو عدم القول بالتفكيك بينهما ، بتقريب : ان الأصحاب لم يفرّقوا بين حكم المضي وحكم العمل ، فان وجب الأوّل صح الثاني، وان لم يصح الثاني لم يجب الأوّل ، فاذا قيل بوجوب المضي كما يظهر من الآية وفساد العمل ، كان تفكيكا بين الموضوعين وهو خلاف الاجماع .

وعلى أيّ حال : فالتلازم بين الأمرين ثابت ( في غير الصوم والحجّ ) وذلك لما دلّ من الدليل على وجوب المضي فيهما حتى إذا فسدا ، فان الصائم في شهر رمضان إذا أفسد صومه بالافطار لا يحق له الافساد ثانيا وثالثا ، بل يجب عليه المضي فيه إلى المغرب ، وكذلك الحاج إذا أفسد حجه بالجماع ونحوه ، فانه لايجوز له رفع اليد عن حجه ، بل يجب عليه المضي في الحج إلى الأخير وان وجبت عليه الكفارة في الصوم والحج ووجب قضائهما بعد ذلك .

هذا ( وقد استدلّ بهذه الآية غير واحد ) من الفقهاء ( تبعا للشيخ قدس سره وهو ) أي : الاستدلال المذكور بالآية ( لا يخلو عن نظر ) غير انه ( يتوقف ) توضيح ذلك النظر ( على بيان ما تحتمله الآية الشريفة من المعاني ) الثلاثة الآتية

ص: 64

فنقول : أنّ حقيقة الابطال بمقتضى وضع باب الأفعال ، إحداثُ البطلان في العمل الصحيح وجعله باطلاً ، نظير قولك : أقمتُ زيدا ، أو أجلستُه ، أو أغنيتُه ، والآية بهذا المعنى راجعٌ إلى النهي عن جعل العمل لغوا لا يترتب عليه أثر كالمعدوم ، بعد أن لم يكن كذلك .

فالإبطال هنا نظير الابطال في قوله تعالى : « لا تبطلوا صدقاتِكم بالمنّ

-------------------

( فنقول ) : المعنى الأوّل : ( انّ حقيقة الابطال بمقتضى وضع باب الأفعال ) حيث يدل على احداث الفعل المجرد مثل : « أكرم » أي : احدث الكرم ، و «أفهم» أي : أحدث الفهم و « أعلمَ » أي : احدث العلم وهكذا ، غير ان ذلك فيما إذا لم يكن هناك قرينة خارجية، وإلاّ فالمعنى يكون بحسب القرينة الخارجية مثل : « أنجد » أي : دخل النجد إلى غير ذلك ممّا ذكروه في الصرف .

وعليه : فمقتضى الوضع هنا هو : ( إحداثُ البطلان في العمل الصحيح وجعله باطلاً ) وذلك بابطاله بعد العمل بمثل العجب ، والكفر ، والشرك ، وما أشبه ذلك .

وعلى هذا المعنى يكون ما نحن فيه ( نظير قولك : أقمت زيدا ) بمعنى : أحدثت فيه القيام بعد ان لم يكن قائما ( أو أجلسته ) أي : احدثت فيه الجلوس بعد أن لم يكن جالسا ( أو أغنيته ) أي : أحدثت فيه الغنى بعد أن كان فقيرا .

( والآية بهذا المعنى راجعٌ إلى النهي عن جعل العمل لغوا لا يترتب عليه أثر ) في الدنيا ولا ثواب في الآخرة ، وذلك بان يجعله ( كالمعدوم ، بعد أن لم يكن كذلك ) أي : لم يكن معدوما ، والمراد من جعله كالمعدوم بعد أن كان موجودا هو: إذهاب فوائده وآثاره بسبب ارتكاب بعض الأعمال المبطلة للعمل بعد الاتيان به .

إذن : ( فالإبطال هنا نظير الابطال في قوله تعالى : « لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ

ص: 65

والأذى » ، بناءا على أنّ النهي عن تعقيبها بهما ، بشهادة قوله تعالى : « ثمّ لايُتبِعون ما أنفقوا منّا ولا أذى » ، الآية .

الثاني : أن يراد به ايجاد العمل على وجه باطل ، من قبيل قوله : « ضَيّق فَمَ الركيّة » ، يعني أحدِثه ضيّقا ، لا أحدِث فيه الضِيق بعد السَعة ،

-------------------

والأذى » (1) بناءا على أنّ النهي ) في « لا تبطلوا صدقاتكم » نهي ( عن تعقيبها ) أي : تعقيب الصدقات ( بهما ) أي : بالمنّ والأذى ، وذلك ( بشهادة قوله تعالى ) : « الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه ( ثمّ لا يُتبِعون ما أنفقوا منّا ولا أذى » ) (2) إلى آخر ( الآية ) .

هذا كله بناءا على ان المراد من الابطال : أنّ يأتي الانسان بالعمل تاما ، ثم يأتي بعد ذلك بما يبطله من كفر أو شرك أو ما أشبه ذلك .

المعنى ( الثاني : أن يراد به ) أي : بالابطال في الآية المباركة : « ولا تبطلوا أعمالكم » (3) ( ايجاد العمل على وجه باطل ) بأن يكون فاقدا للشرط ، أو واجدا للمانع ، كأن يدخل في الصلاة بلا طهارة ، وفي الصيام بلا نية ، وما أشبه ذلك ، فيكون ( من قبيل قوله : « ضيّق فم الركيّة » ، يعني : أحدِثه ضيّقا ، لا أحدِث فيه الضيق بعد السَعة ) فان قوله : ضيّق فم الركيّة ، يحتمل المعنيين ، فربما تكون الركيّة وهي البئر، واسعة الفم فيريد تضييقها ، وربما يريد انشاء البئر فيقول له : ضيّق فمها أي : لا توسّعه ، بل انشئه ضيّقا .

ص: 66


1- - سورة البقرة : الآية 264 .
2- - سورة البقرة : الآية 262 .
3- - سورة محمد : الآية 33 .

والآية بهذا المعنى نهيٌ عن اتيان الأعمال مقارنة للوجوه المانعة عن صحتها أو فاقدةً للاُمور المقتضية للصحة ، والنهيُ على هذين الوجهين ظاهرُه الارشاد ، إذ لا يترتب على إحداث البطلان في العمل ، أو ايجاده باطلاً، عدا فوتِ مصلحة العمل الصحيح .

-------------------

( والآية بهذا المعنى ، نهيٌ عن اتيان الأعمال مقارنة للوجوه المانعة عن صحتها) كالصلاة في اللباس المغصوب ، أو في المكان المغصوب ، أو ما أشبه ذلك ( أو فاقدة للاُمور المقتضية للصحة ) كالصلاة بدون طهارة حدثية أو بدون طهارة خبثية .

هذا ( و ) لا يخفى : ان ( النهي على هذين الوجهين ) أي : الوجه الأوّل والوجه الثاني ( ظاهره الارشاد ) لا المولوية .

وإنّما كان ظاهرا في الارشاد ( إذ لا يترتب على إحداث البطلان في العمل ، أو ايجاده باطلاً ، عدا فوتِ مصلحة العمل الصحيح ) فاذا أتى بالعمل صحيحا كاملاً ثم أبطله بشرك أو كفر ، أو لم يوجده من أوله إلاّ باطلاً بسبب عدم الطهارة - مثلاً - لم يكن لذلك الاّ عقاب واحد وهو العقاب المترتب على عدم الاتيان بالعمل الصحيح .

وعليه : فيكون : « لا تبطلوا أعمالكم » (1) من قبيل « أطيعوا اللّه » (2) ارشاديا ، وقد تقدّم : ان الأوامر الارشادية لا يترتب على معصيتها إلاّ فوت مصلحة الواقع ، فيكون العقاب على ترك الواقع لا على مخالفة الأمر ، لانها من قبيل أوامر الطبيب .

هذا ، ومن المعلوم : ان المعنيين المذكورين أولاً وثانيا للآية لا ربط لهما

ص: 67


1- - سورة محمد : الآية 33 .
2- - سورة محمد : الآية 33 .

الثالث : أن يراد من إبطال العمل قطعُه ورفعُ اليد عنه ، كقطع الصلاة والصوم والحجّ ، وقد اشتهر التمسّك بحرمة قطع العمل بها .

ويمكن ارجاع هذا إلى المعنى الأوّل ، بأن يراد من الأعمال ما يعمّ الجزء المتقدّم من العمل ،

-------------------

بما نحن فيه : من الزيادة في أثناء العبادة ، إذ الحكم بمانعية الزيادة وقطع العمل غير احداث البطلان في العمل المأتي به صحيحا بعد اتمام العمل ، كما انه غير ايجاد العمل من الأوّل باطلاً .

المعنى ( الثالث : أن يراد من ابطال العمل قطعُه ) في أثنائه ( ورفعُ اليد عنه ) بعد الدخول فيه ( كقطع الصلاة ) بعد ركعتين ( و ) قطع ( الصوم ) أثناء النهار ( والحجّ ) بعد الدخول في الاحرام ، وإذا كان النهي عن الابطال بهذا المعنى أمكن ان يكون ارشادا إلى حفظ العمل ، وأمكن أن يكون للتحريم .

هذا ( وقد اشتهر التمسّك لحرمة قطع العمل ) في أثناء العمل ( بها ) أي : بهذه الآية ( و ) لكن مع ذلك ( يمكن ارجاع هذا إلى المعنى الأوّل ، بان يراد من الأعمال ) في قوله سبحانه : « ولا تبطلوا أعمالكم » (1) جميع العمل فيكون ابطاله بعده بشرك ونحوه ، أو بعض العمل فيكون ابطاله في الاثناء بضحك ونحوه .

وعليه : فالمراد هنا بالاعمال كما قال : ( ما يعمّ الجزء المتقدّم من العمل ) لصدق أعمالكم عليه ، فان الانسان كما يمكنه ابطال عمله بعد اتمامه ، كذلك يمكنه ابطال عمله في الأثناء ، فاذا أحرم للصلاة وصلّى ركعتين - مثلاً - فهو عمل له ، فاذا أبطل الصلاة في الأثناء ، فقد أبطل الركعتين ، وعلى هذا فهناك في الآية

ص: 68


1- - سورة محمد : الآية 33 .

لأنّه أيضا عملٌ لغةً ، وقد وجد على وجه قابل لترتّب الأثر وصيرورته جزءا فعليا للمركب ، فلا يجوز جعله باطلاً ساقطا عن قابليّة كونه جزءا فعليا ، فجعل هذا المعنى متغايرا للأول مبنيٌّ على كون المراد من العمل : مجموع المركب الذي وقع

-------------------

معنيان للابطال فقط :

الاول : المعنى الذي ذكره بقوله : الثاني وهو ان يراد به : ايجاد العمل على وجه باطل .

الثاني : المعنى الأوّل لكن الأعم من الذي ذكره بقوله : الثالث ، يشمل المعنى الأوّل وهو : ابطال العمل بعد تحققه كاملاً ويشمل المعنى الثالث وهو : ابطال العمل في أثنائه .

وإنّما يعم المعنى الأوّل المعنى الثالث ( لأنّه أيضا عمل لغةً ، وقد وجد على وجه قابل لترتّب الأثر ) عليه ( وصيرورته جزءا فعليا للمركب ) فان الانسان إذا صلّى ركعتين ، كانتا قابلتين لترتب الأثر عليهما ، كما لو أن الركعتين صارتا جزءا فعليا للصلاة المركبة منهما ومن بقية الركعات ( فلا يجوز جعله باطلاً ساقطا عن قابليّة كونه جزءا فعليا ) للعبادة ، ومن المعلوم : ان اسقاطه إنّما يكون باتيان المبطل في الأثناء .

وعليه : فان كان المقصود من ابطال العمل مجموع العمل ، فللابطال ثلاثة معاني - كما مرّ - وان كان المقصود منه ما يعم مجموع العمل وبعض العمل فللابطال معنيان ، وهذا هو السرّ في تثليث الأقسام وتثنيتها كما قال :

( فجعل هذا المعنى ) أي : المعنى الثالث للابطال معنى مستقلاً وكذلك ( متغايرا للأول مبنيٌّ على كون المراد من العمل : مجموع المركب الذي وقع

ص: 69

الابطالُ في أثنائه .

وكيف كان : فالمعنى الأوّل أظهر ، لكونه المعنى الحقيقي ، ولموافقته لمعنى الابطال في الآية الاُخرى المتقدمة ،

-------------------

الابطالُ في أثنائه ) لا الأعم من مجموع المركب ومن بعض أجزاء المركب ، فانه على الأعم يكون للابطال معنيان .

هذا ، ومن المحتمل : ان يكون للآية المباركة معنى رابعا وهو : جميع المعاني الثلاثة على نحو العموم ، لأنّ كلها ابطال ، ولعل هذا أقرب ، والسياق لا يدل على التخصيص بعد أن كان العموم دليلاً على الآية السابقة ، فالآيتان من قبيل : لاتضرب زيدا ، فان اهانة المؤمن حرام .

( وكيف كان ) أي : سواء رجع المعنى الثالث إلى المعنى الأوّل ، أم كانا معنيين مستقلين ( فالمعنى الأوّل أظهر ) عند المصنِّف ، فلا ظهور للآية في خصوص المعنى الثاني بمعنى ايجاد العمل باطلاً ، ولا للمعنى الثالث بمعنى الابطال أثناء العمل .

وإنّما يكون المعنى الأوّل أظهر لوجوه تالية :

أولاً : ( لكونه ) أي : المعنى الأوّل هو ( المعنى الحقيقي ) للابطال حيث تقدّم : انه يدل على ذلك مقتضى وضع باب الافعال ، كما علم من نظائره مثل : أقمت زيدا ، أو أجلسته ، أو أغنيته ، أو ما أشبه ذلك .

ثانيا : ( ولموافقته لمعنى الابطال في الآية الاُخرى المتقدِّمة ) في حرمة ابطال الصدقات حيث قال سبحانه : « ولا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى » (1) فان الظاهر من هذه الآية : التصدّق ثم ابطاله بالمنّ أو الأذى .

ص: 70


1- - سورة محمد : الآية 33 .

ومناسبته لما قبله من قوله تعالى : « ياأيّها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم » ، فانّ تعقيب اطاعة اللّه واطاعة الرسول بالنهي عن الابطال يُناسب الاحباط ، لا إتيانَ العمل على الوجه الباطل ، لأنّها مخالفة للّه وللرسول .

-------------------

ثالثا : ( ومناسبته لما قبله من قوله تعالى : « ياأيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم » (1) ) والتناسب بين الجمل نوع قرينة تهدي غالبا إلى المعنى المراد كما قال :

( فانّ تعقيب اطاعة اللّه واطاعة الرسول بالنهي عن الابطال يُناسب الاحباط ) الذي هو المعنى الأوّل ، وذلك لان مقتضى وقوع النهي عن الابطال عقيب الأمر بالاطاعة هو : ان يكون المعنى : اطيعوا اللّه واطيعوا الرسول ، ولا تسبّبوا بطلان أعمالكم بالكفر ، والصد عن سبيل اللّه ، ومشاقة الرسول وغير ذلك مما ذكر في الآية السابقة سببا لحبط الأعمال .

لكن قد عرفت : ان هذه المؤيدات الثلاثة لا يمكنها ان تصرف الآية عن العموم، فابقائها على عمومها بما يشمل المقام من الزيادة العمدية في أثناء الصلاة هو الأوفق بالظاهر .

هذا ، غير انّ المصنِّف يرى ظهور الآية في المعنى الأوّل ( لا ) في المعنى الثاني الذي هو : ( إتيان العمل على الوجه الباطل ) فان الاتيان بالعبادة على وجه باطل ليس هو معنى الآية حتى يقال بحرمتها ، وإنّما يقال بحرمتها ( لأنّها مخالفة للّه وللرسول ) بينما لا مخالفة هنا بنظر المصنِّف لانه لا يرى في الآية نهيا عن ايجاد

ص: 71


1- - سورة محمّد : الآية 33 .

هذا كلّه مع ظهور الآية في حرمة إبطال الجميع ، فيناسب الاحباط بمثل الكفر ، لا ابطال شيء من الأعمال الذي هو المطلوب .

ويشهد لما ذكرنا - مضافا إلى ما ذكرنا - ما ورد من تفسير الآية بالمعنى الأوّل ، فعن الأمالي وثواب الأعمال عن الباقر عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : « مَن قال : سُبحان اللّه ،

-------------------

العمل على الوجه الباطل حتى يقال بحرمة الشروع في العبادة بلا نيّة - مثلاً - أو الاعتكاف في غير المسجد ، أو الوضوء بالماء المضاف ، أو ما أشبه ذلك من صور ايجاد العمل باطلاً .

( هذا كلّه ) وجه عدم ارادة المعنى الثاني من الآية ، كما انه لا يراد من الآية المعنى الثالث لما ذكره بقوله : ( مع ظهور الآية في حرمة ابطال الجميع ) أي : ابطال مجموع العبادة بعد الاتيان بها كاملة ( فيناسب الاحباط ) الذي هو احداث البطلان في العمل ( بمثل الكفر ) والشرك ، ومشاقة الرسول ، وما أشبه ، وذلك يكون بعد العمل ( لا ابطال شيء ) أي : جزء ( من الأعمال ) في الأثناء ( الذي هو المطلوب ) في مقامنا حيث ان المطلوب في المقام وجود دليل يدل على بطلان العبادة بالزيادة في أثنائها .

( ويشهد لما ذكرنا ) : من ان الآية ظاهرة في المعنى الأوّل وهو : احداث البطلان في العمل التام بما يوجب احباطه ( مضافا إلى ما ذكرنا ) سابقا : من المؤيدات الثلاثة ( ما ورد من تفسير الآية بالمعنى الأوّل ) في رواياتنا :

( فعن الأمالي وثواب الأعمال عن الباقر عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : مَن قال : سبحان اللّه ، غرس اللّه ُ لهُ بها شجرة في الجنة ، ومَن قال : الحمد للّه ،

ص: 72

غَرس اللّه ُ لهُ بها شجرة في الجنّة ، ومَن قال : الحمدُ للّه ، غرس اللّه لهُ بها شجرةً في الجنّة ، ومَن قال : لا اله إلاّ اللّه ، غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة ، ومَن قال اللّه أكبر غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة ، فقال رجل من قريش : إنّ شجرَنا في الجنّة لكثيرٌ ، قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : نعم ، ولكن إيّاكم أن تُرسِلوا إليها نارا فتُحرقوها ، إنّ اللّه عزّوجلّ يقول : « يا أيّها الذين آمنُوا أطيعوا اللّه َ وأطيعُوا الرّسولَ ولا تُبطلُوا أعمالَكُم » .

-------------------

غرس اللّه له بها شجرة في الجنة ، ومَن قال : لا اله إلاّ اللّه ، غرس اللّه له بها شجرة في الجنة ، ومَن قال اللّه أكبر ، غرس اللّه له بها شجرة في الجنة ، فقال له رجل من قريش : إنّ شجرَنا في الجنة لكثيرٌ ) يريد بذلك انه كثيرا ما يقول : سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلاّ اللّه ، ف ( قال ) له صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( نعم ، ولكن إيّاكم ان تُرسِلوا إليها نارا فتُحرقوها ) والمراد من احراقها بالنار ارتكاب ما يبطل العمل بعد الاتيان به تاما .

وإنّما يكون المراد منه ذلك ، لان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم استدل بعدها بقوله : ( إنّ اللّه عزّوجلّ يقول : « ياأيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول ولا تبطلوا أعمالكم » (1) ) (2) .

ولا يخفى : ان هذه الرواية لا تكون دليلاً على اختصاص الآية بالمعنى الأوّل ، لانه كثيرا ما يستدل الانسان بالعموم على الخصوص ، كما هو الحال في كثير

ص: 73


1- - سورة محمد : الآية 33 .
2- - الأمالي للصدوق : ص486 ح14 ، وسائل الشيعة : ج7 ص186 ب31 ح9074 بالمعنى ، بحار الانوار : ج8 ص186 ب23 ح154 .

...

-------------------

من الآيات والروايات .

ثم ان هنا بحثا لا بأس بالتعرض له وهو : ان كلاً من الاُمور الحسنة وكذلك السيئة يمكن تغييرها إلى ضدّها كما يمكن تعقيبها بالضدّ بما يفسدها أو يصلحها، فانه يمكن جعل العنب خمرا ، والخمر خلاً - مثلاً - كما يمكن خلط الخل بالعسل حتى يفسد العسل ، أو ذرّ المسك على المكان المتعفّن حتى يطيب ريحه - مثلاً - .

هذا ، ولا يبعد استفادة كل هذه الاُمور الأربعة من الأخبار والآيات بالنسبة إلى أعمالنا الحسنة والسيئة أيضا .

أمّا في مجال التغيير إلى الضد الحسن ، فقد قال سبحانه : « فاُولئك يبدّل اللّه سيئاتهم حسنات » (1) .

وأما ما يدل على عكسه : فكما ورد في حق الزوج الذي ينوي حين النكاح تضييع مهر زوجته : بانّه يكتب عند اللّه زان ، مع ان النكاح شيء حسن في نفسه .

وأما في مجال التعقيب بالضد السيءّ ، فقد قال سبحانه : « سيحبط أعمالهم » (2) وقال صلى اللّه عليه و آله وسلم كما في الحديث المتقدِّم : « ان لم ترسلوا اليها نارا فتحرقوها » (3) ، وأمّا ما يدل على عكسه : فكما في حديث الجب (4) وغيره من الآيات والروايات الدالة على الغفران ، والبحث في ذلك طويل نكتفي منه بهذا المقدار .

ص: 74


1- - سورة الفرقان : الآية 70 .
2- - سورة محمد : الآية 32 .
3- - الأمالي للصدوق : ص486 ح14 ، بحار الانوار : ج8 ص186 ب31 ح9074 ، وسائل الشيعة : ج7 ص186 ب31 ح9074 .
4- - اشارة الى الحديث الوارد « الاسلام يجب ما قبله » ، انظر غوالي اللئالي : ج2 ص54 ح154 .

هذا إن قلنا بالاحباط مطلقا أو بالنسبة إلى بعض المعاصي .

وإن لم نقل به وطرحنا الخبر ، لعدم اعتبار مثله في مثل المسألة ، كان المراد في الآية الابطالَ بالكفر ،

-------------------

وعلى كل حال : فان ( هذا ) المعنى الأوّل الذي ذكرناه للآية : من حمل الابطال على احداث البطلان في العمل بعد الاتيان به تاما ، إنّما هو ( إن قلنا بالاحباط مطلقا ) أي : بكل معصية ( أو بالنسبة إلى بعض المعاصي ) لا بكل معصية .

( و ) لكن ( إن لم نقل به ) أي : بالاحباط رأسا ، بل قلنا بالمجازات ( وطرحنا الخبر ) المتقدم المنقول عن الباقر عليه السلام في غرس الأشجار الدالّ على حبط الأعمال ، فنطرحه ( لعدم اعتبار مثله ) أي : مثل هذا الخبر الواحد ( في مثل المسألة ) الاعتقادية التي نحن فيها ، فانه ان لم نقل بالاحباط ( كان المراد في الآية ) من الاحباط حينئذ هو : ( الابطالَ بالكفر ) .

ولا يخفى : ان في مسألة الاحباط ، التي هي مسألة كلامية ثلاثة مذاهب وأقوال :

الأوّل : بطلان الاحباط مطلقا ، إلاّ في مقام قام الاجماع عليه ، مثل الاحباط بالشرك والكفر ، وهذا ما ذهب اليه المحققون من الامامية وغيرهم .

الثاني التفصيل بين ما قام على الاحباط دليل من كتاب أو سنة أو اجماع فصحيح وبين ما لم يقم عليه شيء من ذلك فباطل ، وهذا هو مختار العلامة المجلسي كما حكي عنه .

الثالث : صحة الاحباط مطلقا بمعنى : ان المكلّف يسقط ثواب عمله المتقدِّم بسبب معصيته المتأخرة ، وهذا ما ذهب اليه جماعة من المعتزلة ، وتفصيل

ص: 75

لأن الاحباط به اتفاقي ، وببالي أنّي وجدتُ أو سمعتُ ورود الرواية في تفسير الآية : « ولا تبطلوا أعمالكم » بالشرك .

هذا كلّه ، مع أنّ إرادة المعنى الثالث الذي يمكن الاستدلال به موجبٌ لتخصيص الأكثر ،

-------------------

هذه الموارد موكول إلى علم الكلام (1) .

وإنّما قلنا بأن المراد من الاحباط في الآية - ان لم نقل بالاحباط رأسا - هو الابطال بسبب الكفر ( لأنّ الاحباط به ) أي : بسبب الكفر ( اتفاقي ) بين الجميع (وببالي انّي وجدت أو سمعت ورود الرواية في تفسير الآية : « ولا تبطلوا أعمالكم » (2) بالشرك ) .

قال في الأوثق : عن العيون في باب ما جاء عن الرضا عليه السلام من الأخبار المنقولة باسناده قال : «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : اختاروا الجنة على النار ، ولا تبطلوا أعمالكم فتقذفوا في النار منكبّين خالدين فيها أبدا » (3) قال : وظاهره كون بطلان الأعمال لأجل الشرك لانه السبب للخلود في النار وفسّره أبو علي أيضا بالنفاق والشك (4) .

( هذا كلّه ) في تقريب عدم دلالة الآية على المعنى الثالث ( مع إنّ إرادة المعنى الثالث الذي ) هو : ابطال العبادة وقطعها بسبب الزيادة في الأثناء مما ( يمكن الاستدلال به ) أي : الاستدلال بالمعنى الثالث لتحريم القطع لكنه مبتلى باشكال آخر وهو : انه ( موجبٌ لتخصيص الأكثر ) وتخصيص الأكثر مستهجن ، فيدل

ص: 76


1- - للتفصيل راجع الكتب الكلامية للشارح أمثال القول السديد في شرح التجديد وشرح منظومة السبزواري قسم الفلسفة ، وكتاب الفقه العقائد وما أشبه .
2- - سورة محمد : الآية 33 .
3- - عيون أخبار الرضا : ج2 ص32 ح52 .
4- - أوثق الوسائل : ص383 دلالة الاخبار المستفيضة على بطلان الفريضة بالزيادة العمدية .

فانّ ما يحرمُ قطعهُ من الأعمال بالنسبة إلى ما لا يحرم في غاية القلّة .

فاذا ثبت ترجيح المعنى الأوّل ؛ فان كان المراد بالأعمال ما يعمّ بعض العمل المتقدم ، كان دليلاً - أيضا - على حرمة القطع في الأثناء .

إلاّ أنّه لا ينفع فيما نحن فيه ،

-------------------

على ان قوله : « لا تبطلوا أعمالكم » لا يراد به رفع اليد عن العبادة وقطعها للزيادة في الأثناء .

وإنّما يوجب تخصيص الأكثر لانه كما قال : ( فانّ ما يحرم قطعه من الأعمال ) خاص ببعض الواجبات كالصلاة ، والصوم ، والحج ، والاعتكاف ، وما أشبه ، مما هي ( بالنسبة إلى ما لا يحرم ) قطعه كجميع المستحبات إلاّ ما ندر مثل الحج المستحب ، وكأغلب الواجبات مثل الوضوء والغسل والتيمم وغيرها ممّا لا يحرم قطعها في الأثناء ( في غاية القلّة ) .

وعليه : ( فاذا ثبت ترجيح المعنى الأوّل ) الذي هو احداث البطلان بعد تمام العمل ( فان كان المراد بالأعمال : ما يعمّ بعض العمل المتقدم ، كان دليلاً - أيضا - على حرمة القطع في الأثناء ) وذلك لما تقدّم : من ان المعنى الأوّل شامل للمعنى الثالث ، فكما انه لو كان الابطال بمعنى القطع كانت الآية دليلاً على حرمة القطع ، فكذلك لو كان بمعنى احداث البطلان بعد تمام العمل وقلنا بأنّ العمل أعم من التام والناقص كانت الآية دليلاً على حرمة القطع أيضا .

( إلاّ أنّه لا ينفع فيما نحن فيه ) لأنّ الآية على هذا المعنى وان كانت ظاهرة في حرمة القطع ، لكن في المقام إذا رفع المصلي يده عن الصلاة بعد الزيادة التي أتى بها في الأثناء لم يحرز كونه قطعا للصلاة ، لأن العمل يحتمل أن يكون قد انقطع بالزيادة ، فلا يحرز الموضوع الذي هو القطع بسبب رفع اليد عنه حتى يثبت

ص: 77

لأن المدّعى فيما نحن فيه هو انقطاعُ العمل بسبب الزيادة الواقعة فيه ، كانقطاعه بالحدث الواقع فيه لا عن اختيار . فرفع اليد عنه بعد ذلك لا يُعلم كونه قطعا له وإبطالاً ، ولا معنى لقطع المنقطع وابطال الباطل .

وممّا ذكرنا يظهر ضعفُ الاستدلال على الصحة فيما نحن فيه باستصحاب حرمة القطع ، لمنع كون رفع اليد - بعد وقوع الزيادة -

-------------------

له الحكم الذي هو الحرمة .

وإنّما لا ينفع في المقام ( لأن المدعى فيما نحن فيه هو : انقطاع العمل بسبب الزيادة الواقعة فيه ) أي : في أثناء العمل ( كانقطاعه بالحدث الواقع فيه ) وذلك انقطاعا ( لا عن اختيار ، فرفعُ اليد عنه ) أي : عن العمل ( بعد ذلك ) الذي أتى به من الزيادة ( لا يعلم كونه قطعا له ) أي : للعمل ( وابطالاً ، و ) ذلك لاحتمال كون العمل منقطعا ، فانه بعدها ( لا معنى لقطع المنقطع وابطال الباطل ) .

إذن : فلا دليل في الآية على وجوب المضي في هذا العمل الذي لا يعلم صدق القطع عليه برفع اليد عنه ، وإنّما يلزم ان نلتمس دليلاً آخر يدلّنا على انه هل يجوز رفع اليد عن مثل هذه الصلاة أو لا يجوز ؟ .

( وممّا ذكرنا ) في ضعف الوجه الثالث من الاستدلال بالآية على الصحة وحرمة قطع العبادة وذلك لعدم احراز صدق القطع برفع اليد عن العبادة بعد الاتيان بالزائد في الأثناء ( يظهر ضعف الاستدلال ) بوجه رابع ( على الصحة فيما نحن فيه ) أي : في العبادة التي توسّطت الزيادة فيها ، استدلالاً ( باستصحاب حرمة القطع ) إذ قبل الزيادة كان يحرم قطعها ، والآن حيث نشك بسبب الزيادة في حرمة القطع وعدم حرمته نستصحب حرمة القطع .

وإنّما ظهر ضعف هذا الاستدلال ( لمنع كون رفع اليد - بعد وقوع الزيادة -

ص: 78

قطعا لاحتمال حصول الانقطاع ، فلم يثبت في الآن اللاحق موضوع القطع حتى يُحكَم عليه بالحرمة .

وأضعفُ منه استصحاب وجوب اتمام العمل للشك في الزّمان اللاحق في القدرة على اتمامه ، وفي أنّ مجرد الحاق باقي الأجزاء اتمام له ، فلعلّ عدم الزيادة من الشروط ، والاتيان بما عداه من الأجزاء والشرائط ، تحصيلٌ لبعض الباقي لاتمامه حتى يصدق إتمام العمل .

-------------------

قطعا ) للعبادة ، فانا لا نعلم انه قطع يقينا ( لاحتمال حصول الانقطاع ) بسبب الزيادة ( فلم يثبت في الآن اللاحق موضوع القطع حتى يحكم عليه بالحرمة ) فكيف يحكم باستصحابها بها ؟.

( وأضعف منه ) أي : من الوجه الرابع الذي ذكرناه التقريب صحة الصلاة ووجوب المضي فيها : التمسك بوجه خامس وهو : ( استصحاب وجوب اتمام العمل ) فانه كان يجب اتمام العمل قبل هذه الزيادة ، وبعد الاتيان بالزيادة نشك في انه هل بقي هذا الوجوب أو لم يبق؟ فنستصحب الوجوب .

وإنّما قلنا بأن هذا الوجه أضعف مما كان قبله لما يلي :

أولاً : ( للشك في الزّمان اللاحق في القدرة على اتمامه ) لاحتمال انه قد انقطع فلا يكون الاتيان ببقية الأجزاء اتماما .

ثانيا ( و ) للشك ( في أنّ مجرد الحاق باقي الأجزاء اتمام له ) أي : للعمل ( فلعلّ عدم الزيادة من الشروط ، والاتيان بما عداه ) أي : بما عدا هذا الشرط ( من الأجزاء والشرائط ، تحصيلٌ لبعض الباقي ) أمّا البعض الآخر وهو : تحقق الشرط فقد فات بسبب الزيادة ، فلا يمكن حينئذ تحصيل تمام الباقي ، كما قال : ( لاتمامه حتى يصدق اتمام العمل ) وحيث لا يصدق عليه اتمام العمل لا يصح استصحاب

ص: 79

ألا ترى أنّه إذا شك بعد الفراغ عن الحمد في وجوب السورة وعدمه ، لم يحكم على الحاق ما عداها إلى الأجزاء السابقة أنّه إتمام للعمل .

-------------------

وجوبه لعدم تمامية أركان الاستصحاب .

( ألا ترى أنّه إذا شك بعد الفراغ عن الحمد في وجوب السورة وعدمه ) وذلك للخلاف في انه هل تجب السورة أم لا ؟ ( لم يحكم على الحاق ما عداها ) أي : ما عدا السورة ( إلى الاجزاء السابقة ) على السورة من الحمد والتكبير والنية ، لم يحكم عليه : ( أنّه إتمام للعمل ) وذلك لاحتمال ان السورة جزء العمل ومع عدمها يكون الحاق ما عداها تحصيل بعض العمل وليس اتماما للعمل .

وعليه : فاتمام العمل لا يكون موجبا لالحاق ما بعد السورة بما قبلها ، ولذا لايجب التمسك في صحة الصلاة بدون السورة المشكوكة باستصحاب حرمة القطع ، وباستصحاب وجوب الاتمام ، بل الذي ينفع في المقام هو أصالة البرائة عن السورة .

والحاصل : انه لا يمكن استصحاب حرمة القطع كما لا يمكن استصحاب وجوب الاتمام ، وذلك لاحتمال انه انقطاع وليس بقطع ، ولاحتمال انه استيناف وليس باتمام بعد وقوع هذه الزيادة .

قال في الأوثق : ثم ان الوجه في كون الاستصحاب الثاني أضعف من الأوّل : ان وجوب الاتمام ليس تكليفا مستقلاً مغايرا لحرمة القطع ، بل هو منتزع منها ، فلا يكون موردا للأصل وعلى تقديره فهو تابع له ، وعلى تقدير كونه موردا له بنفسه فقد عرفت ضعفه (1) .

ص: 80


1- - أوثق الوسائل : ص383 دلالة الاخبار المستفيضة على بطلان الفريضة بالزيادة العمدية .

وربّما يجابُ عن حرمة الابطال ووجوب الاتمام الثابتين بالأصل بأنّهما لا يدلاّن على صحة العمل ، فيجمع بينهما وبين أصالة الاشتغال بوجوب إتمام العمل ثم إعادته ،

-------------------

أقول : ان كان الشيء واجبا ، كان معناه : حرمة تركه ، وان كان حراما ، كان معناه: وجوب تركه ، فلا يكون أحدهما إذن تابعا للآخر لأنهما في عرض واحد ، وتفصيل الكلام فيه في محلّه .

( وربّما يجاب ) عن استصحاب حرمة القطع واستصحاب وجوب الاتمام بما قاله صاحب الرياض حيث أجاب ( عن حرمة الابطال ووجوب الاتمام الثابتين بالأصل ) أجاب : ( بأنّهما لا يدلاّن على صحة العمل ) وإنّما يدلاّن على حرمة القطع ، ووجوب الاتمام فقط .

وعليه : فالاستصحابان بنظر الرياض يجريان فيثبتان الوجوب والحرمة ، ولايثبتان صحة العمل وعدم وجوب الاعادة والقضاء ، وهذا خلاف ما تقدّم : من جواب المصنِّف عن الاستصحابين حيث قال : انهما لا يجريان أصلاً ، لعدم احراز صدق القطع ، وعدم احراز صدق الاتمام بعد الزيادة .

ثم على فرض جريان الاستصحابين لاثبات وجوب الاتمام ، وحرمة القطع - كما هو رأي الرياض - فانه يثبت وجوب اتمام الصلاة ، ويحرم قطعها ، أمّا صحة الصلاة وعدم صحتها ، ووجوب الاعادة والقضاء وعدم وجوبهما ، فيلزم مراجعة دليل آخر ، ولا دليل هنا - بنظر الرياض - سوى الاشتغال .

وعليه : ( فيجمع بينهما ) أي : بين الاستصحابين ( وبين أصالة الاشتغال ) فيحكم لذلك ( بوجوب اتمام العمل ) لأنّ الاتمام هو مقتضى الأصلين ( ثم اعادته ) لانه مقتضى العمل بالاشتغال .

ص: 81

للشك في أنّ التكليف هو إتمام هذا العمل ، أو عمل آخر مستأنف .

وفيه نظر : فانّ البرائة اليقينية تحصل بالاعادة من دون الاتمام .

-------------------

وإنّما نحكم بوجوب الاتمام ثم الاعادة ( للشك في انّ التكليف هو : اتمام هذا العمل ، أو عمل آخر مستأنف ) فيكون من العلم الاجمالي ، فيجب الجمع بين الأمرين : الاتمام ، والعمل المستأنف ، لانه المقتضى للعلم الاجمالي .

والحاصل : إنّ غاية ما يدل عليه الاستصحابان المذكوران هو : وجوب الاتمام وحرمة القطع ، دون الصحة وعدم وجوب الاعادة والقضاء ، فانه يرجع فيهما إلى الاشتغال ، فيجمع بين الاستصحابين وبين أصالة الاشتغال ، فيحكم بوجوب اتمام العمل تمسكا بالاستصحابين ، وبوجوب الاعادة تمسكا بقاعدة الاشتغال حيث يدور الأمر بين المتباينين : من وجوب الاتمام ووجوب عمل آخر مستأنف .

( وفيه نظر : ) وذلك لأن جواب الرياض لا يكون دليلاً على وجوب الجمع بين الأمرين ، لأنا إن بنينا على جريان استصحاب وجوب الاتمام ، فالبرائة يقينية تحصل بالاتمام من دون حاجة إلى الاعادة ، إذ وجوب الاتمام معناه : ايجاب امتثال الأمر بكليّ الصلاة في ضمن هذا الفرد ، وإذا تحقق الفرد كانت البرائة يقينية فلا مجال لأصالة الاشتغال ، لأنّه لا احتمال للضرر .

وإن بنينا على عدم جريان استصحاب وجوب الاتمام فمقتضى الاشتغال هو الاستيناف والاعادة ، فلا يجب الاتمام ، واحتمال وجوب الاتمام مدفوع بأصل البرائة ، إذ الشك في وجوب الاتمام وحرمة القطع على هذا يكون شكا في أصل التكليف ومرجعه البرائة ، لا شكا في المكلّف به حتى يلزم الاحتياط بالاتمام والاعادة معا .

وعليه : ( فإنّ البرائة اليقينية تحصل بالاعادة من دون الاتمام ) فلا حاجة إلى

ص: 82

واحتمال وجوبه وحرمة القطع مدفوع بالأصل ، لأنّ الشبهة في أصل التكليف الوجوبي أو التحريمي ، بل لا احتياط في الاتمام مراعاة لاحتمال وجوبه وحرمة القطع ، لأنّه موجبٌ لالغاء الاحتياط من جهة أُخرى ، وهي مراعاة نيّة الوجه التفصيلي في العبادة ،

-------------------

الاتمام لأنا نشك في وجوب الاتمام بعد الزيادة ( و ) مع الشك في وجوب الاتمام، ينتفي القطع بوجوبه ويبقى الاحتمال ، والاحتمال يدفع بالأصل كما قال :

وأما ( احتمال وجوبه ) أي : وجوب الاتمام ( وحرمة القطع ) فموجود وهو يستدعي الاتمام والإعادة ، غير ان هذا الاحتمال ( مدفوع بالأصل ، لأنّ الشبهة في أصل التكليف الوجوبي أو التحريمي ) والشبهة في أصل التكليف مجرى للبرائة .

( بل لا احتياط في الاتمام ) أي : في اتمام العمل ، وذلك ( مراعاة لاحتمال وجوبه ) أي : وجوب الاتمام ( و ) كذا مراعاة لاحتمال ( حرمة القطع ، لأنه ) أي : الاحتياط هنا ( موجب لالغاء الاحتياط من جهة أُخرى وهي : مراعاة نيّة الوجه التفصيلي في العبادة ) فيكون عندنا احتياطان متعارضان أحدهما أقوى من الآخر ، فيترك الأضعف للأقوى ، علما بأنّ الاحتياطين هما عبارة عمّا يلي :

الأوّل : الاحتياط بالاتمام .

الثاني : الاحتياط بقصد الوجه .

وعليهما : فاذا أتم الصلاة سقط الاحتياط الثاني لانه لم يتمكن من قصد الوجه عند الاعادة ، لاحتمال ان الذي أتمه كان هو الواجب ، بخلاف ما إذا ترك الصلاة التي زاد فيها ، فانه يتيقن بأنّ الواجب هي المعادة فينوي فيها الوجه ، فالاحتياط بالاتمام الغاء للاحتياط من جهة اُخرى ، فيكون الاحتياط في ترك الاحتياط .

ص: 83

فانه لو قطع العمل المشكوك فيه واستأنفه نوى الوجوب على وجه الجزم ، فان أتمّه ثم أعاد فاتت منه نية الوجوب فيما هو الواجب عليه .

ولا شك أنّ هذا الاحتياط على تقدير عدم وجوبه أولى من الاحتياط المتقدّم ، لأنّه كان الشك فيه في أصل التكليف ، وهذا شك في المكلّف به .

-------------------

وعليه : ( فانه لو قطع العمل المشكوك فيه ) بسبب الزيادة ( واستأنفه ، نوى الوجوب على وجه الجزم ) لانه يعلم ان هذه الصلاة هي الصلاة التي يريدها المولى منه ، بينما ليس كذلك لو أتمّ ثم أعاد كما قال : ( فان أتمّه ثم أعاد فاتت منه نية الوجوب فيما هو الواجب عليه ) لانه بعد اتمام العبادة المشكوكة يحتمل حصول الواجب الواقعي بتلك العبادة ، فاذا شرع في الثانية شرع فيها من دون جزم بوجوبها عليه ، فلا يتمكن حينئذ من نية الوجه فيها جزما .

إذن : فالاحتياطان متعارضان ( ولا شك ان هذا الاحتياط ) وهو : ابطال العمل الأوّل والاتيان بالثاني بنيّة الجزم فانه حتى ( على تقدير عدم وجوبه ) أي : عدم وجوب الجزم - كما هو كذلك - يكون ( أولى من الاحتياط المتقدّم ) وهو : اتمام العبادة المشكوكة ثم اعادتها .

وإنّما يكون ذلك أولى ( لأنّه كان الشك فيه ) أي : في الاحتياط المتقدّم بالاتمام شكا ( في أصل التكليف ، و ) ذلك للشك في انه هل كلّف بالاتمام أم لا؟ وإذا كان الشك في أصل التكليف كان محلاً للبرائة .

بينما ( هذا ) أي : الشك في وجوب الجزم بالنية ( شك في المكلّف به ) لانّ التكليف متيقن ، وإنّما يشك في ان المكلّف به ، هل هو العمل بدون نية الجزم أو معها؟ فاللازم ان يأتي به معها حتى يكون فارغا يقينا مما اشتغلت به ذمته ، ولايكون ذلك إلاّ بالاستيناف .

ص: 84

والحاصل : أنّ الفقيه إذا كان مترددا بين الاتمام والاستيناف ، فالأولى له الحكمُ بالقطع ، ثم الأمر بالاعادة بنيّة الوجوب .

-------------------

وعليه : فان الشك في اعتبار قصد الوجه شك في المكلّف به وهو مورد لقاعدة الاحتياط ، ومن المعلوم : كون هذا شكا في المكلّف به إنّما هو بحسب الظاهر ، وإلاّ فهو من الشك في التكليف لانه من الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ، وقد تقدّم من المصنِّف : الرجوع الى البرائة في الأقل والأكثر الارتباطيين ، لأنّ الشك فيهما راجع إلى الشك في أصل التكليف .

( والحاصل : إنّ الفقيه إذا كان مترددا بين الاتمام والاستيناف ) بان لم يعلم هل المقدّم هو الاحتياط بالاتمام والاعادة ، أو المقدّم هو الابطال والاستيناف حتى يجزم بالنية ؟ ( فالأولى له : الحكم بالقطع ) وبرفع اليد عن العمل ( ثم الأمر بالاعادة بنيّة الوجوب ) .

وإنّما كان الاُولى له ذلك لترجيح الاحتياط الذي فيه نية الوجه لانه بحسب الظاهر من الشك في المكلّف به ، على الاحتياط الذي فيه الاتمام والاعادة لانه من الشك في التكليف .

هذا ما يخص الفقيه ، أمّا المقلّد : فان التفت إلى هذه المسألة قبل الدخول في الصلاة ، فعليه ان يسأل حكمها من مرجعه وما يجب عليه من الاتمام أو الاستيناف ، وان كان في الصلاة وابتلى بهذه المسألة ، فعليه السؤال ان تمكن في وقتها ولو بالاشارة ، والعمل عليه .

وإلاّ بأن لم يمكنه شيء من ذلك ، فان حصل له ظن بأحد الطرفين : من الاتمام ، أو الابطال وجب عليه البناء على ما يظنه ، لأنّ الامتثال الظني مقدّم على الامتثال الوهمي مع البناء منه على السؤال بعد العمل ، وهذا نوع احتياط بالنسبة

ص: 85

ثم إنّ ما ذكرناه من حكم الزيادة وأنّ مقتضى أصل البرائة عدمُ مانعيّتها إنّما هو بالنظر إلى الأصل الأولي ، وإلاّ فقد يقتضي الدليل في خصوص بعض المركّبات البطلان ، كما في الصلاة ، حيث دلّت الأخبار المستفيضةُ على بطلان الفريضة بالزيادة فيها.

مثل قوله عليه السلام : « مَن زاد في صلاته فعليه الاعادة ».

وقوله عليه السلام : « وإذا استيقن أنّه زاد في المكتوبةِ فليستَقبل

-------------------

اليه ، وان لم يحصل له ظن بأحد الطرفين : من الاتمام أو الابطال ، فانه يتم الصلاة احتياطا، ثم يسأل عمّا يجب عليه، فان قال مرجعه بكفاية تلك الصلاة فهو ، وإلاّ أعادها.

( ثم إنّ ما ذكرناه : من حكم الزيادة وانّ مقتضى أصل البرائة : عدم مانعيّتها ) فيما إذا وقعت أثناء العبادة ( إنّما هو بالنظر إلى الأصل الأولي ) مما تقتضيه القواعد مع غض النظر عن وجود دليل في المسألة يدل على ان التكليف هو البرائة أو غيرها .

( وإلاّ ) بأن كان هناك دليل ، فلابد من العمل بما يقتضيه الدليل ( فقد يقتضي الدليل في خصوص بعض المركّبات ) العبادية ( البطلان ، كما في الصلاة ، حيث دلّت الأخبار المستفيضة على بطلان الفريضة بالزيادة فيها ) وكذلك الطواف إذا زاد فيه ، وقد لا يقتضي الدليل البطلان ، فلابد من ملاحظة الأدلة والحكم بالصحة أو البطلان بحسبها .

أمّا ما يقتضي البطلان فهو ( مثل قوله عليه السلام : « مَن زاد في صلاته فعليه الاعادة » (1) وقوله عليه السلام : « وإذا استيقن أنّه زاد في المكتوبة فليستَقبل

ص: 86


1- - الكافي فروع : ج3 ص355 ح5 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص194 ب23 ح65 ، الاستبصار : ج1 ص376 ب219 ح2 ، وسائل الشيعة : ج8 ص231 ب19 ح10509 .

صلاتَه » .

وقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم فيما حكى عن تفسير العياشي في مَن أتمّ في السفر : « أنّه يُعيده ، قال عليه السلام : « لأنّه زاد في فرض اللّه عزّوجل» ،

-------------------

صلاته » (1) وقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم في ما حكى عن تفسير العياشي في مَن أتمّ في السفر : « أنّه يُعيده ) ، قال عليه السلام : ( لأنّه زاد في فرض اللّه عزّ وجل » (2) ) حيث أن الركعتين الاوليين فرض اللّه سبحانه وتعالى، والركعة الثالثة في المغرب والأخيرتين من الظهرين والعشاء سنّة النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم كما دلّت عليه الأخبار والأحاديث .

ولا يخفى : ان الجمع بين الأحاديث في باب فريضة اللّه وسنة النبي لعله يكون بما يلي: وهو: ان اللّه فرض علينا أولاً : خمسين صلاة ثم أرجعها بشفاعة النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم إلى خمس صلوات ذات ركعتين ، فكان مجموعها عشر ركعات ، فأضاف اليها النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم سبع ركعات فقررها اللّه سبحانه له ، فصارت سبع عشرة ركعة .

هذا ، ولا يخفى ما في ذلك من الحكمة : فان في فرضها أولاً خمسين صلاة ، اشارة إلى جهة الاقتضاء الأوّلي فيها ، وفي ارجاعها بشفاعة النبي إلى خمس صلوات ، اظهار لمنزلة النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم في الشفاعة وفي تقريره ما أضافه النبي من الركعات ، بيان لمكانة النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم في العصمة وانه لا ينطق عن الهوى ، والتفصيل في هذا موكول إلى محله ، وإنّما أردنا الالماع إلى ما ذكره المصنّف

ص: 87


1- - الكافي فروع : ج3 ص354 ح2 ، غوالي اللئالي : ج3 ص94 ح106 ، وسائل الشيعة : ج8 ص231 ب19 ح10508 (بالمعنى) .
2- - الخصال : ص604 ح9 ، بحار الانوار : ج89 ص59 ب1 ح26 .

ودلّ بعموم التعليل على وجوب الاعادة بكلّ زيادة في فرض اللّه عزوجل .

وما ورد في النهي عن قرائة العزيمة في الصلاة من التعليل بقوله عليه السلام : « لأنّ السّجود زيادةٌ في المكتوبة » .

وما ورد في الطواف : « لأنّه مثلُ الصلاةِ المفروضةِ في أنّ الزيادةَ فيه مُبطلةً له » .

-------------------

من التعليل في قوله عليه السلام : لانه زاد في فرض اللّه عزّوجل .

( و ) عليه : فقد ( دلّ ) خبر العياشي ( بعموم التعليل ) في قوله : « لانّه زاد في فرض اللّه » ( على وجوب الاعادة بكلّ زيادة في فرض اللّه عزوجل ) فيشمل هذا الحديث كل زيادة في كل فرائض اللّه .

( و ) قد دل على وجوب الاعادة أيضا ( ما ورد في النهي عن قرائة العزيمة في الصلاة من التعليل بقوله عليه السلام : « لأنّ السجود زيادة في المكتوبة » (1) ) فانّه إن لم يسجد للتلاوة في الصلاة لزم تأخير السجود وهو محرّم ، وان سجد كانت سجدة التلاوة زيادة في المكتوبة وهو ليس بجائز ، وهذا الحديث بهذا التعليل يدل على ان كل زيادة في الفريضة موجب للاعادة . ( و ) كذا يدل على وجوب الاعادة (ما ورد في ) النهي عن زيادة ( الطواف ) الواجب في الحج بقوله عليه السلام : ( « لانّه مثل الصلاة المفروضة في أنّ الزيادة فيه ) أي: في الطواف ( مُبطلة له » (2) ) فيدل على ان الزيادة في الصلاة المفروضة مبطلة وموجبة للاعادة .

ص: 88


1- - الكافي (الفروع) : ج3 ص318 ح6 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص96 ب23 ح129 ، وسائل الشيعة : ج6 ص105 ب40 ح7460 .
2- - تهذيب الاحكام : ج5 ص151 ب1 ح23 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج13 ص366 ب34 ح17967 (بالمعنى) .

ولبيان معنى الزيادة ، وأنّ سجود العزيمة كيف يكون زيادة في المكتوبة مقامٌ آخر ، وإن كان ذكره هنا لا يخلو عن مناسبة ، إلاّ أنّ الاشتغال بالواجب ذكره بمقتضى وضع الرسالة أهم من ذكر مايناسب .

-------------------

هذا ( ولبيان معنى الزيادة ، وأنّ سجود العزيمة كيف يكون زيادة في المكتوبة ) مع انه يقصد الاتيان للعزيمة لا للصلاة؟ ( مقامٌ آخر ) فلا يهمّنا التعرّض له في المقام ( وإن كان ذكره هنا لا يخلو عن مناسبة ، إلاّ أنّ الاشتغال بالواجب ذكره بمقتضى وضع الرسالة ) حيث وضعناها لمباحث الشك في التكليف والمكلّف به ، يكون ( أهم من ذكر ما يناسب ) المقام .

ثم انه لا يبعد القول : بأنّ كل ما رآه المتشرعة زيادة في العبادة حسب تلقّيهم من الشرع تكون مبطلة لها ، سواء كان من سنخ المزيد عليه كالركوع والسجود وما أشبه ، أم لم يكن من سنخ المزيد عليه ، وسواء كان بقصد الجزئية أم لا بقصدها ، وسواء كان لعمل خارجي كسجود التلاوة أم لا ، كل ذلك لاطلاق الزيادة .

نعم ، يلزم ان لا يكون هناك دليل يدل على الصحة أو البطلان ، كالدليل الدال على ان كل ذكر وقرآن ودعاء في الصلاة فهو لا بأس به ، وكالدليل الدال على ان السكوت الطويل ماح لصورة الصلاة ، فان سكت طويلاً ولو عن قربة وذلك باعتبار ان الصمت من المستحبات الشرعية بطلت صلاته .

ص: 89

المسألة الثالثة :

في ذكر الزيادة سهوا التي تقدح عمدا وإلاّ فما لا يقدح عمدا فسهوها أولى بعدم القدح والكلام هنا كما في النقص نسيانا ، لأنّ مرجعه إلى الاخلال بالشرط

-------------------

( المسألة الثالثة : في ذكر الزيادة سهوا ) وقد تقدّم من المصنِّف ذكر الزيادة العمدية وذكر أحكامها المترتبة على أقسامها الثلاثة ، التي هي عبارة عن انه : قد يأتي بالزائد بقصد كونه جزءا مستقلاً ، وقد يأتي بالزائد بقصد كون الزائد والمزيد عليه جزءا واحدا ، وقد يأتي بالزائد بدلاً عن المزيد عليه امّا اقتراحا أو لايقاع الأوّل فاسدا .

هذا ، والآن حيث قد فرغ منها شرع في بيان قسم آخر من الزيادة وهي الزيادة السهوية ( التي تقدح ) ان صدرت ( عمدا ) فاذا كانت الزيادة عمدها قادحا ، فهل إذا وقعت سهوا تقدح أم لا ؟ .

( وإلاّ فما لا يقدح عمدا فسهوها أولى بعدم القدح ) فاذا أتى بقل هو اللّه أحد - مثلاً - في الركوع ، أو في حال التشهد ، أو ما أشبه ذلك ، فزيادة قل هو اللّه أحد عمدا لا تضر ، حيث ان القرآن في الصلاة غير ضار ، فاذا أتى بها سهوا فهي بعدم القدح أولى .

( والكلام هنا ) أي : في الزيادة سهوا يكون ( كما في النقص نسيانا ) فانه كما إذا نقص من المركب جزءا نسيانا بطل المركب لانه لم يأت بالمركب المطلوب ، كذلك يكون إذا زاد في المركب جزءا نسيانا فانه لم يأت بالمركب المطلوب .

وإنّما يكون الكلام في الزيادة كالكلام في النقص ( لأنّ مرجعه ) أي : مرجع الاتيان بالزيادة نسيانا ( إلى الاخلال بالشرط ) أي : شرط عدم الزيادة اخلالاً

ص: 90

نسيانا ، وقد عرفت أنّ حكمه البطلان ووجوب الاعادة .

فيثبت من جميع المسائل الثلاث أنّ الأصل في الجزء أن يكون نقصه مخلاً ومفسدا دون زيادته ، إلاّ ان يدلّ دليل

-------------------

( نسيانا ، وقد عرفت : ان حكمه ) أي : حكم الاخلال بالشرط سواء بالزيادة أو بالنقيصة هو ( البطلان ووجوب الاعادة ) .

والحاصل : ان كل زيادة أو نقيصة سهوية يوجب بطلان العبادة ، لانه لم يأت بالعبادة المطلوبة المحدودة بأجزاء خاصة ، وفي عدم الاتيان بها إمّا من جهة الزيادة ، وإمّا من جهة النقيصة .

وعليه : ( فيثبت من جميع المسائل الثلاث ) التي هي عبارة عن : نقيصة الجزء سهوا ، وزيادة الجزء عمدا ، وزيادة الجزء سهوا ( إنّ الأصل في الجزء ان يكون نقصه مخلاً ومفسدا ) سواء كان عمدا أم سهوا ، وذلك لانه لم يأت بالمركب المطلوب ، فيكون النقص عمدا مبطلاً ، لأن من لوازم وجوب الاتيان بالمركب انه إذا نقص منه جزءا كان باطلاً ، ويكون النقص سهوا مبطلاً ، لان الجزء حال النسيان جزء أيضا فنقصه مبطل أيضا ، فلا فرق إذن في النقص بين العمد والسهو .

( دون زيادته ) أي : زيادة الجزء عمدا وسهوا ، فانه لا يوجب البطلان إلاّ إذا كان عدم الزيادة شرطا ، وقد عرفت في المسألة الثانية من تنبيهات الجزء والشرط: ان عدم الزيادة إذا كان شرطا كان مرجع الزيادة إلى النقصان ، فيكون مبطلاً من جهة النقص لا من جهة الزيادة ، والكلام الآن فيما لا يكون عدم الزيادة شرطا ، فلا يكون الزائد مبطلاً ، لا عمدا لأنّ الأصل عدم كونه قاطعا ومبطلاً للصلاة ، ولا سهوا لأنّ العمد إذا لم يكن مبطلاً فالسهو لا يكون مبطلاً بطريق أولى .

إذن : فالزيادة إذا لم يشترط عدمها لم تكن مبطلة ( إلاّ ان يدلّ دليل )

ص: 91

على خلافه .

مثل قوله عليه السلام : « لا تُعاد الصلاة إلاّ مِن خمسةٍ » بناءا على شموله لمطلق الاخلال الشامل للزيادة .

وقوله عليه السلام في المرسلة : « تسجُد سجدتي السهو لكُلِّ زيادة ونقيصة

-------------------

من الخارج من كتاب أو سنة أو اجماع ( على خلافه ) أي : خلاف ما قلناه : من ان الأصل في الجزء ان يكون نقصه مخلاً دون زيادته ، فانه إذا دلّ دليل على ان النقص غير مخل بالعمل ، وعلى ان الزيادة مخلة به ، كان هذا الاخلال وعدم الاخلال بالأصل الثانوي ، وإلاّ فالنقص بالأصل الأوّلي مخلّ ومبطل ، كما ان الزيادة بالأصل الاوّلي ليست مخلة ولا مبطلة .

وأمّا ما دلَّ على خلاف الأصل الأوّلي زيادة ونقصا فهو : ( مثل قوله عليه السلام : لا تُعاد الصلاة إلاّ من خمسة ) (1) والخمسة عبارة عن : القبلة والطهور والوقت والركوع والسجود ( بناءا على شموله ) أي : شمول لا تعاد ( لمطلق الاخلال ) بالصلاة ( الشامل ) ذلك الاخلال ( للزيادة ) والنقيصة .

وعليه : فيكون معنى لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة : انّ نقص شيء من هذه الخمسة وكذلك زيادتها مخلّ بالصلاة ، كما ان زيادة أو نقص غير هذه الخمسة لا يخل بالصلاة ، فاذا توفرت هذه الخمسة في الصلاة صحّت الصلاة سواء زاد فيها أم نقص منها ، وهو خلاف ما بنينا عليه من الأصل .

( و ) مثل ( قوله عليه السلام في المرسلة : تسجد سجدتي السهو لكل زيادة ونقيصة

ص: 92


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص151 ب23 ح55 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص279 ح857 و ص339 ح991 ، الخصال : ص285 ح35 ، وسائل الشيعة : ج1 ص372 ب3 ح980 و ج4 ص312 ب9 ح5241 و ج5 ص471 ب1 ح7090 .

تدخُل عليكَ » .

نعم ، لو دلّ دليل على قدح زيادته عمدا ، كان مقتضى القاعدة البطلانَ بها سهوا .

فتلخّص من جميع ما ذكرنا : إنّ الأصل الأوّلي فيما ثبت جزئيته الركنيّة إنْ فُسِّرَ الركنُ بما يَبطُل الصلاة بنقصه .

وإن عُطِفَ على النقص الزيادة عمدا وسهوا ،

-------------------

تدخل عليك ) (1) فانه يدل على صحة الصلاة مع الزيادة والنقيصة غير انّه بحاجة إلى سجدتي السهو ليتلافى بهما ما زاد وما نقص من الصلاة ، وهذا أيضا خلاف ما قلناه من الأصل في الزيادة والنقيصة .

( نعم ، لو دلّ دليل على قدح زيادته عمدا ، كان مقتضى القاعدة : البطلان بها ) أي : بالزيادة ( سهوا ) أيضا ، لان حال العمد وحال السهو واحد إذا كان الدليل شاملاً لهما .

إذن : ( فتلخّص من جميع ما ذكرنا ) في قولنا : وينبغي التنبيه على اُمور متعلقة بالجزء والشرط بما فيها من المسائل الثلاث : ( ان الأصل الأوّلي فيما ثبت جزئيته : الركنيّة ان فسّر الركن بما يبطل الصلاة بنقصه ) سواء كان النقص عن عمد أم عن سهو، لأن الأصل يقتضي قدح النقص بالمركب المطلوب مطلقا، فيكون مبطلاً له .

هذا ( وان عطف على النقص الزيادة عمدا وسهوا ) بان قلنا : ان الركن هو

ص: 93


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص155 ب23 ح66 ، نزهة الناظر : ص40 ، الوافي : ج2 ص149 وسائل الشيعة : ج8 ص251 ب32 ح10563 .

فالأصل يقتضي التفصيل بين النقص والزيادة عمدا وسهوا ، لكنّ التفصيل بينهما غير موجود في الصلاة ، إذ كلّ ما تبطل الصلاة بالاخلال به سهوا تبطلُ بزيادته عمدا وسهوا .

فأصالة البرائة الحاكمة بعدم البأس بالزيادة معارضةٌ - بضميمة عدم القول بالفصل - باصالة الاشتغال الحاكمة ببطلان العبادة بالنقص سهوا .

-------------------

الذي يبطل الصلاة بنقصه عمدا وسهوا ، ويبطل أيضا بزيادته عمدا وسهوا فان فسّرنا الركن بذلك ( فالأصل يقتضي التفصيل بين النقص والزيادة عمدا وسهوا ) وذلك بأن يكون النقص قادحا عمدا وسهوا ، والزيادة غير قادحة لا عمدا ولا سهوا .

( لكنّ التفصيل بينهما ) أي : بين النقص والزيادة ( غير موجود في الصلاة ) فان مقتضى الأصل الأوّلي في طرف النقيصة وان كان هو الركنية ، وفي طرف الزيادة عدم الركنية ، إلاّ ان هذا التفصيل لم يقل به أحد في الصلاة ، فالاجماع المركب قائم على ان الزيادة والنقيصة في الصلاة بمنزلة واحدة ( إذ كلّ ما تبطل الصلاة بالاخلال به ) عمدا و ( سهوا تبطل بزيادته عمدا وسهوا ) .

إن قلت : ان أصل البرائة هنا حاكم بعدم البأس بالزيادة ، فيلزم التفصيل .

قلت : ( فأصالة البرائة الحاكمة بعدم البأس بالزيادة ) على ما ذكرناه سابقا ( معارضة - بضميمة عدم القول بالفصل - بأصالة الاشتغال الحاكمة ببطلان العبادة بالنقص سهوا ) فان أصالة الاشتغال تقول بقدح النقص ، وإذا ضممنا إلى هذا الأصل عدم القول بالفصل كان ذلك مقتضى لقدح الزيادة أيضا ، مع ان أصالة

ص: 94

فان جوّزنا الفصل في الحكم الظاهري الذي تقتضيه الاُصول العمليّة فيما لا فصل فيه من حيث الحكم الواقعي ، فيعمل بكلّ واحد من الأصلين ،

-------------------

البرائة كما عرفت تقتضي عدم قدح الزيادة ، فيتعارض الأصلان : أصل البرائة وأصل الاشتغال معا في الزيادة .

وعليه : ( فان جوّزنا الفصل في الحكم الظاهري الذي تقتضيه الاُصول العمليّة فيما لا فصل فيه من حيث الحكم الواقعي ، فيعمل بكلّ واحد من الأصلين ) في مورده بلا محذور ، ولذلك ذهب جماعة من الفقهاء والاُصوليين إلى جواز الفصل في الحكم الظاهري .

وإنّما ذهبوا إلى ذلك لانهم قالوا : ان الدليل إنّما دل على عدم جواز الفصل في الحكم الواقعي ، لا في الحكم الظاهري وما نحن فيه من الحكم الظاهري ، فيجوز فيه الفصل بين الأصلين ، لانه على تقدير جواز الفصل لا تعارض ولا تنافي بينهما.

ولا يخفى : انه قد ورد كثيرا في الشريعة : الفصل بين المتلازمين في الحكم الظاهري مع ان الحكم الواقعي يقتضي وحدة الحكم ، مثل : اعطاء ربع الوصية ونصفها وثلثها بسبب شهادة امرأة أو اثنتين أو ثلاث ، مع ان الوصية ان كانت ثابتة لزم تنفيذ جميعها ، وإلاّ فلا تنفيذ لها أصلاً .

ومثل اعطاء الجَمل منصّفا لنفرين حيث ادعى كل واحد منهما كله ، فقسّمه أمير المؤمنين عليه السلام بينهما نصفين مع ان الجمل إمّا كله لهذا أو كله لذاك .

ومثل إعطاء ثلاثة أرباع الارث للخنثى ، مع انه إمّا ذكر وإمّا أنثى ، فيجب ان يكون إمّا الكل وإمّا النصف .

ومثل أخذ المال من السارق دون القطع إذا اعترف مرة ، مع انه ان كان سارقا لزم الحكمان ، وان لم يكن سارقا سقط الحكمان ، إلى غير ذلك من الأمثلة .

ص: 95

وإلاّ فاللازم ترجيح قاعدة الاشتغال على البرائة ، كما لا يخفى .

هذا كلّه مع قطع النظر عن القواعد الحاكمة على الاُصول ، وأمّا بملاحظتها فمقتضى : « لاتُعاد الصلاةُ إلاّ من خمسة » والمرسلة المذكورة ،

-------------------

ومن هنا قال الفقهاء بمثل هذا التفكيك في الاُصول أيضا .

( وإلاّ ) بأن لم نجوّز الفصل بين الأصلين في الحكم الظاهري ، لانه مخالفة عملية للحكم الواقعي ولو اجمالاً وهو لا يجوز ( فاللازم ترجيح قاعدة الاشتغال على البرائة ) وذلك لأنّ دفع المخالفة العملية الاجمالية إنّما يكون باتحاد حكم الزيادة والنقيصة ، ويتم بالقول بالبرائة فيهما معا ، أو الاشتغال فيهما معا ، وحيث لا تجري البرائة فيهما معا حسب الفرض جرى الاشتغال فيهما معا ، لاستقلال العقل بذلك دفعا للمخالفة العملية الاجمالية .

وعليه : فيكون المحكّم فيهما معا هو الاشتغال ( كما لا يخفى ) فيحكم ببطلان الصلاة بالزيادة عمدا وسهوا .

( هذا كلّه مع قطع النظر عن القواعد الحاكمة على الاُصول ) الاوّلية ( وامّا بملاحظتها ) أي : بملاحظة القواعد الحاكمة ( فمقتضى « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة » (1) والمرسلة (2) المذكورة ) الحاكمة بسجدتي السهو لكل زيادة ونقيصة

ص: 96


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص151 ب23 ح55 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص279 ح857 و ص339 ح991 ، الخصال : ص285 ح35 ، وسائل الشيعة : ج1 ص372 ب3 ح980 و ج4 ص312 ب9 ح5241 و ج5 ص471 ب1 ح7090 .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص155 ب23 ح66 ، الوافي : ج2 ص149 ، نزهة الناظر : ص40 وسائل الشيعة : ج8 ص251 ب32 ح10563 .

عدم قدح النقص سهوا ، أو الزيادة سهوا ، ومقتضى عموم أخبار الزيادة المتقدمة قدحُ الزيادة عمدا وسهوا ، وبينهما تعارضُ العموم من وجه في الزيادة السهوية بناءا على اختصاص « لاتُعاد » بالسهو .

والظاهر حكومة قوله « لاتعاد » ، على أخبار الزيادة ،

-------------------

هو : ( عدم قدح النقص سهوا ، أو الزيادة سهوا ) .

هذا ( ومقتضى عموم أخبار الزيادة المتقدمة ) الحاكمة بالاعادة كقوله عليه السلام لمن زاد في صلاته فعليه الاعادة (1) هو : ( قدح الزيادة عمدا وسهوا ، وبينهما تعارض العموم من وجه في الزيادة السهوية ) لان أخبار لا تعاد تشمل النقص والزيادة ، وأخبار من زاد في صلاته تشمل الزيادة عمدا وسهوا ، فيكون التعارض في الزيادة سهوا ، لانّ خبر لا تعاد يقول بعدم الاعادة ، وخبر من زاد يقول بالاعادة .

وإنّما يكون التعارض في الزيادة سهوا فقط لانه ( بناءا على اختصاص « لا تعاد » بالسهو ) وعدم عمومه للعمد وان كان يحتمل عمومه للعمد أيضا ، لان اطلاقه يشمل العمد والسهو ، زيادة ونقيصة .

هذا ( والظاهر : حكومة قوله ) عليه السلام : ( لا تعاد (2) ، على اخبار الزيادة (3) ) لأنّ

ص: 97


1- - الكافي فروع : ج3 ص355 ح5 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص194 ب23 ح65 ، الاستبصار : ج1 ص376 ب219 ح2 ، وسائل الشيعة : ج8 ص231 ب19 ح10509 .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص151 ب23 ح55 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص279 ح857 و ص339 ح991 ، الخصال : ص285 ح35 ، وسائل الشيعة : ج1 ص372 ب3 ح980 و ج4 ص312 ب9 ح5241 و ج5 ص471 ب1 ح7090 .
3- - الكافي فروع : ج3 ص355 ح5 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص194 ب23 ح65 ، الاستبصار : ج1 ص376 ب219 ح2 ، وسائل الشيعة : ج8 ص231 ب19 ح10509 .

لأنها كأدلة سائر مايخلّ فعله أو تركه بالصلاة ، كالحدث والتكلّم ، وترك الفاتحة .

وقوله : «لاتعاد» يفيد أنّ الاخلال بما دلّ الدليل على عدم جواز الاخلال به إذا وقع سهوا لا يوجب الاعادة ،

-------------------

مقتضى اطلاق لا تعاد : عدم البطلان في هذه الصورة ، ومقتضى اطلاق الاعادة للزيادة : بطلان هذه الصورة ، فيتعارضان فيها ، غير ان هذا التعارض صوري بدائي لحكومة لا تعاد على اخبار البطلان .

وإنّما يكون هذا التعارض صوريا لأنّ الظاهر من أخبار « لا تعاد » كونها بيانا ومفسرا للاخبار الأوّلية ، فهي كقاعدة الضرر والحرج والعسر وما أشبه ذلك ، والظاهر من أخبار الزيادة انها في مقام الجعل والتأسيس فهي كسائر أدلة الأجزاء والشرائط والموانع والقواطع .

وعليه : فحديث « لا تعاد » يدل على ان الاخلال الذي دل الدليل على عدم جوازه إذا وقع سهوا ، فهو لا يوجب الاعادة وان كان من حقه ايجاب الاعادة لولا حديث لا تعاد ، فتخرج الزيادة السهوية بذلك عن عموم اخبار الزيادة الدالة على البطلان إلى اخبار لا تعاد .

إذن : فاخبار « لا تعاد » حاكمة على اخبار الزيادة وذلك ( لانها ) أي : اخبار الزيادة ( كأدلة سائر ما يخلّ فعله أو تركه بالصلاة كالحدث والتكلّم وترك الفاتحة ) وترك ذكر الركوع والسجود وما أشبه ذلك ( وقوله : « لا تعاد » يفيد : انّ الاخلال بما دلّ الدليل على عدم جواز الاخلال به إذا وقع سهوا لا يوجب الاعادة ) .

هذا ، والجمع بين الدليلين : حديث لا تعاد ، واخبار الزيادة ، يقتضي : اعطاء

ص: 98

وإن كان من حقه أن يوجبها .

والحاصل : أنّ هذه الصحيحة مسوقة لبيان عدم قدح الاخلال سهوا بما ثبت قدح الاخلال به في الجملة .

ثمّ لو دلّ دليل على قدح الاخلال بشيء سهوا ، كان أخصّ من الصحيحة

-------------------

الزيادة السهوية لحديث لا تعاد ، لا لأخبار الزيادة التي توجب البطلان ( وان كان من حقه ان يوجبها ) أي : من حق الاخلال أن يوجب الاعادة لولا خبر لا تعاد .

( والحاصل ) من بيان حكومة حديث « لا تعاد » على اخبار الزيادة في الزيادة السهوية : ( انّ هذه الصحيحة ) وهي صحيحة لا تعاد (1) ( مسوقة لبيان عدم قدح الاخلال سهوا بما ) أي : بشرط أو جزء ( ثبت قدح الاخلال به في الجملة ) فانه لو لم يكن حديث لا تعاد لكانت الزيادة في الجملة قادحة ، فجاء حديث لا تعاد وأخرج الزيادة السهوية عن القدح ، وبذلك أصبح حديث لا يعاد محكما في الزيادة السهوية .

وعليه : فقد تبيّن من كل ما قاله المصنِّف إلى هنا : ان الزيادة عمدا مبطلة ، وذلك لاخبار الزيادة ، والزيادة سهوا ليست مبطلة لاخبار لا تعاد ، والآن شرع في بيان ان الزيادة السهوية قد تكون مبطلة أيضا للدليل ، فما يكون نسبتها من حديث لا تعاد ؟ فبيّنها بقول :

( ثم لو دلّ دليل على قدح الاخلال بشيء سهوا ) أيضا ، كدلالة الدليل على ان الاخلال بتكبيرة الاحرام سهوا مبطل ( كان أخصّ من الصحيحة ) أي :

ص: 99


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص151 ب23 ح55 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص279 ح857 و ص339 ح991 ، الخصال : ص285 ح35 ، وسائل الشيعة : ج1 ص372 ب3 ح980 و ج4 ص312 ب9 ح5241 ج5 ص471 ب1 ح7090 .

إن اختصّت بالنسيان ، وعمّمت بالزيادة والنقصان .

والظاهر أنّ بعض أدلة الزيادة مختصّة بالسهو ، مثل قوله : « إذا استيقن أنّه زاد في صلاته المكتوبة ركعة لم يعتد بها واستقبل صلاته » .

-------------------

من صحيحة لا تعاد ، وذلك ( ان اختصّت ) تلك الرواية الدالة على قدح الاخلال بشيء سهوا ( بالنسيان ، وعمّمت ) الصحيحة ( بالزيادة والنقصان ) معا ، بان قلنا : ان الصحيحة تشمل الزيادة والنقصان ، وذلك الدليل مختص بصورة النسيان ، فيكون ذلك الدليل أخص من الصحيحة .

ولا يخفى إنّ قول المصنِّف قبل قليل : ثم لو دل دليل ، كبرى كلية ، وقوله الآن : ( والظاهر ) صغرى لتلك الكبرى الكلية ، وهي : ( انّ بعض أدلة الزيادة مختصّة بالسهو ، مثل قوله ) عليه السلام : ( «إذا استيقن أنه زاد في صلاته المكتوبة ركعة لم يعتد بها واستقبل صلاته » (1) ) فان ظاهر استيقن : حصوله بعد النسيان .

وعليه : فيكون هذا الحديث أخص من الصحيحة ، كما ان الصحيحة كانت أخص من أخبار الزيادة ، فالجمع بين الأدلة الثلاثة يكون هكذا : كلما زاد بطل إلاّ إذا كانت الزيادة سهوية ، وكلما زاد سهوا لم يكن مبطلاً إلاّ إذا كان في تكبيرة الاحرام - مثلاً - .

هذا ، ومن المعلوم : إنّ الزيادة السهوية في تكبيرة الاحرام إذا خرجت من تحت لا تعاد ، دخلت تحت كلي كلما زاد أعاد ، فيدل الدليل الأوّل من اخبار الزيادة وهو قوله عليه السلام : «من زاد في صلاته فعليه الاعادة » (2) على بطلان الصلاة

ص: 100


1- - الكافي فروع : ج3 ص354 ح2 ، وسائل الشيعة : ج8 ص231 ب19 ح10508 ، غوالي اللئالي: ج3 ص94 ح106 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص355 ح5 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص194 ب23 ح65 ، الاستبصار : ج1 ص376 ب219 ح2 ، وسائل الشيعة : ج8 ص231 ب19 ح10509 .

الأمر الثاني :

إذا ثبت جزئيّة شيء أو شرطيته في الجملة ، فهل يقتضي الأصل جزئيته وشرطيّته المطلقتين ، حتى إذا تعذّر سقط التكليف بالكلّ أو المشروط

-------------------

بزيادة تكبيرة الاحرام سهوا ، والكلام في المقام طويل جدا مذكور في الفقه اكتفينا هنا بالشرح فقط لتوضيح العبارة .

( الأمر الثاني ) من الاُمور التي ينبغي التنبيه عليها هو : انه إذا تعذر بعض ما له دخل في المأمور به وجودا : كالجزء والشرط ، بأن اضطر - مثلاً - إلى ترك السورة ، أو ترك الاستقبال وعدما : كالمانع والقاطع ، بأن اضطر - مثلاً - إلى الغصب أو الضحك ، ففي سقوط التكليف بأن لا يكلّف بالصلاة أصلاً ، وعدم سقوطه بان يكلف بالصلاة مع فقد الجزء أو الشرط أو مع وجود المانع أو القاطع ، قولان بين الفقهاء ، مبنيّان على ثبوت ذلك الجزء والشرط ، أو عدم المانع والقاطع حتى في حال التعذر ، أو اختصاصها بحال التمكن فقط .

إذن : فانّه ( إذا ثبت جزئية شيء أو شرطيته في الجملة ) بان لم يكن الدليل دالاً على الجزئية والشرطية في كل الأحوال ، لأنه إذا دل الدليل على الجزئية والشرطية في كل الأحوال ، فمن المعلوم : انه مع التعذر يسقط التكليف رأسا ، ومن الواضح: ان الكلام ليس في هذا ، وإنّما فيما إذا ثبت في الجملة ، كما أشار اليه المصنِّف آنفا.

وعليه : ( فهل يقتضي الأصل ) الأوّلي ( جزئيته وشرطيّته المطلقتين ) أي : الشامل لحال التمكن والتعذر ، فمع التعذر لا يجب الاتيان بالباقي كما قال : ( حتى إذا تعذّر سقط التكليف بالكلّ ) رأسا من حيث تعذّر الأجزاء ( أو ) سقط (المشروط ) رأسا من حيث تعذّر الشروط .

ص: 101

أو اختصاص اعتبارهما بحال التمكّن ، فلو تعذر لم يسقط التكليف ؟ وجهان ، بل قولان :

للأوّل : أصالة البرائة من الفاقد وعدم ما يصلح لاثبات التكليف به ، كما سنبيّن .

ولايعارضها استصحابُ وجوب الباقي ، لأنّ وجوبه كان مقدمة لوجوب الكلّ ، فينتفي بانتفائه ، وثبوت الوجوب النفسي له مفروض الانتفاء .

-------------------

( أو ) يقتضي الأصل الأولي ( اختصاص اعتبارهما ) أي : الشرط والجزء ( بحال التمكّن ) فقط ، ومع التعذر يجب الاتيان بالعبادة الفاقدة للجزء والشرط أو الواجدة للمانع والقاطع ، كما قال : ( فلو تعذر لم يسقط التكليف ) بالباقي؟ فيه ( وجهان ، بل قولان ) :

استدل ( للأوّل ) وهو سقوط التكليف رأسا ، بدليل : ( اصالة البرائة من الفاقد ) لوضوح : انه إذا شك في وجوب الفاقد ، كان شكا في أصل التكليف والشك في أصل التكليف مجرى للبرائة ( و ) من المعلوم : ان المفروض هنا هو : ( عدم ) وجود ( ما يصلح لاثبات التكليف به ) أي : بالفاقد حتى يمنع من جريان البرائة فيه .

( كما سنبيّن ) بعد قليل تلك الاُمور التي تقتضي وجوب الباقي وان فقدت الأجزاء والشرائط أو وجدت الموانع والقواطع .

هذا ( ولا يعارضها ) أي : البرائة ( استصحاب وجوب الباقي ) بعد تعذّر الشرط والجزء ، أو وجود المانع والقاطع ( لانّ وجوبه ) أي : وجوب الباقي الفاقد للشرط والجزء ، أو الواجد للمانع والقاطع ( كان مقدمة لوجوب الكلّ فينتفي بانتفائه ) فلا وجوب مقدمي للباقي ( و ) أما ( ثبوت الوجوب النفسي له ) أي : للباقي فهو ( مفروض الانتفاء ) لانا لا نعلم بالوجوب النفسي للباقي .

ص: 102

نعم ، إذا ورد الأمر بالصلاة - مثلاً - وقلنا بكونها اسما للأعم كان ما دلّ على اعتبار الأجزاء غير المقوّمة فيه من قبيل التقييد ، فاذا لم يكن للمقيّد إطلاق

-------------------

والحاصل : ان الوجوب المقدمي الثابت للباقي حال التمكن من الكل قد ارتفع قطعا ، إذ لا وجوب مقدمي بعد تعذر بعض الأجزاء والشرائط أو بعد وجود بعض الموانع والقواطع ، والوجوب النفسي لم يكن ثابتا للباقي حال التمكن من الأجزاء والشرائط ، وحال التمكن من الفاقد للموانع والقواطع ، بل الوجوب النفسي كان للكل وقد ارتفع بالتعذر ، فلا مجال حينئذ للاستصحاب ، لانه إمّا لا يقين في السابق وإمّا لا شك في اللاحق .

هذا ، وحيث بيّن المصنِّف اصالة عدم الوجوب لفاقد الشرط والجزء ، أو لواجد المانع والقاطع استثنى من عدم الوجوب صورة اطلاق دليل الوجوب مما يشمل فاقد الجزء والشرط ، أو واجد المانع والقاطع ، فقال :

( نعم ، إذا ورد الأمر بالصلاة - مثلاً - ) كما في قوله : « أقيموا الصلاة » (1) ( وقلنا بكونها اسما للأعم ) من واجد الأجزاء والشرائط وفاقدهما ( كان ما دلّ على اعتبار الأجزاء غير المقوّمة فيه ) بأن لم تكن الأجزاء مقوّمة للاسم ( من قبيل التقييد ) لاطلاق الصلاة ، ومعلوم : ان دليل هذا القيد قد يكون له اطلاق بحيث إذا تعذّر يسقط المقيّد رأسا فلا وجوب للباقي ، وقد لا يكون كذلك بحيث إذا تعذر لم يسقط المقيد رأسا ، فيبقى وجوب الباقي كما قال : ( فاذا لم يكن للمقيّد اطلاق

ص: 103


1- - سورة البقرة : الآيات 43 و 83 و 110 ، سورة النساء : الآية 77 ، سورة الانعام : 72 ، سورة يونس : 87 .

بأن قام الاجماع على جزئيته في الجملة أو على وجوب المركب من هذا الجزء في حق القادر عليه ، كان القدرُ المتيقنُ منه ثبوت مضمونه بالنسبة إلى القادر .

أمّا العاجز فيبقى على اطلاق الصلاة بالنسبة اليه سليما عن المقيّد ، ومثل ذلك الكلام في الشروط .

نعم ، لو ثبت الجزء والشرط بنفس الأمر بالكل والمشروط ، كما لو قلنا بكون الألفاظ أسامي للصحيح ، لزم من انتفائهما انتفاء الأمر ولا أمر

-------------------

بأن قام الاجماع على جزئيته في الجملة ) أي : لا على جزئيته مطلقا عند القدرة وعدم القدرة ( أو على وجوب المركب من هذا الجزء في حق القادر عليه ) فقط ، كما إذا قال المولى - مثلاً - : صلّ ، وقلنا : بأن الصلاة اسم للأعم من الصحيحة والفاسدة ثم قام الاجماع وهو دليل لبي على اشتراط الصلاة بالقرائة ، فاذا كان كذلك ( كان القدر المتيقن منه ) أي : من دليل القيد ( ثبوت مضمونه بالنسبة إلى القادر ) على القرائة فقط .

( أمّا العاجز فيبقى على اطلاق الصلاة ) الشاملة للواجدة والفاقدة ( بالنسبة اليه) أي : إلى العاجز ، وإذا بقي الاطلاق ( سليما عن المقيّد ) والمقيّد بصيغة اسم الفاعل أي : ما يقيّد الصلاة بهذا الجزء المتعذّر ، فانه يكفيه الصلاة بلا قرائة مثلاً .

( ومثل ذلك الكلام ) الذي ذكرناه في الجزء موجود ( في الشروط ) أيضا ، لان الشرط والجزء كلاهما في الملاك واحد .

( نعم ، لو ثبت الجزء والشرط بنفس الأمر بالكل والمشروط ) أي : ثبت الجزء والشرط بعين دليل المركب ( كما لو قلنا بكون الألفاظ أسامي للصحيح ، لزم من انتفائهما ) أي : الجزء والشرط ( انتفاء الأمر ) بالكل ، أو بالمشروط رأسا ( ولا أمر

ص: 104

آخر بالعاري عن المفقود ، وكذلك لو ثبت أجزاء المركب من أوامر متعددة ، فان كلاً منها أمر غيريّ ، إذا ارتفع فيه الأمر بسبب العجز ارتفع الأمر بذي المقدمة ،

-------------------

آخر ) غير الأمر بالكل أو بالمشروط يأمرنا ( بالعاري عن ) الجزء أو الشرط ( المفقود ) حتى يجب الباقي ، فيسقط التكليف رأسا .

وعليه : فاذا ثبت الجزء أو الشرط بدليل المركب نفسه كما لو قال : صلّ قائما ، أو صلّ متطهرا ، فان الصلاة وان وضعت للأعم على قول الأعمي ، فلم تقيّد الصلاة وضعا بالطهارة ولا بالقيام ، إلاّ ان الصلاة قيّدت بهذه القيود حين الأمر بها ، فاذا انتفى القيد انتفى المقيّد رأسا .

وهكذا الحال فيما إذا قلنا بأن أسامي العبادات وضعت للصحيح ، فان التقييد بجميع الشروط والأجزاء يكون دفعة واحدة ، فاذا لم يكن جزء أو شرط لم يصدق على الفاقد الصلاة ، لفرض كون الصلاة موضوعة للصحيح ، والفاقدة ليست بصحيحة .

( وكذلك ) يلزم من انتفاء الجزء والشرط انتفاء الأمر رأسا ( لو ثبت اجزاء المركب من أوامر متعددة ) بأن كان المركب ثابتا بعين دليل الأجزاء ( فان كلاً منها) أي : من تلك الأوامر المتعلقة بالأجزاء والشرائط ( أمر غيريّ ، إذا ارتفع فيه الأمر بسبب العجز ارتفع الأمر بذي المقدمة ) .

مثلاً : إذا كان هناك عشرة أوامر بالنية ، والتكبيرة ، والقيام ، والركوع ، والسجود ، وغير ذلك ، من دون أمر بالصلاة وانتزع من المجموع أمرا واحدا بالمركب منها ، فانه إذا انتفى بعض الأجزاء أو الشرائط لتعذر أو تعسر ، انتفى الأمر المنتزع منها ، فاذا شككنا في وجود الأوامر الغيرية بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط الباقية جرى

ص: 105

فينحصر الحكم بعدم سقوط الباقي في الفرض الأوّل كما ذكرنا .

ولا يلزم فيه استعمال لفظ المطلق في المعنيين ، أعني المجرّد عن ذلك الجزء بالنسبة إلى العاجز ، والمشتمل على ذلك الجزء بالنسبة إلى القادر .

لأنّ المطلق ، كما بيّن في موضعه ، موضوع للماهية المهملة الصادقة

-------------------

فيها البرائة .

وعلى هذا ( فينحصر الحكم بعدم سقوط الباقي ) بعد تعذّر بعض الاجزاء والشرائط ( في الفرض الأوّل كما ذكرنا ) وهو ما ذكره المصنِّف بقوله : نعم ، إذا ورد الأمر بالصلاة مثلاً وقلنا بكونها اسما للأعم .

وإنّما قال في الفرض الأوّل ليكون في مقابل الفرضين الأخيرين الذين أشار إلى أولهما بقوله : نعم لو ثبت الجزء والشرط بنفس الأمر بالكل ، وإلى ثانيهما بقوله : وكذلك لو ثبت أجزاء المركب من أوامر متعددة فان فيهما يسقط التكليف رأسا .

لا يقال : على الفرض الأوّل يستلزم استعمال الصلاة في معنيين المعنى التام للأجزاء والشرائط للقادر ، والمعنى الناقص من الأجزاء والشرائط للعاجز ، واستعمال اللفظ في معنيين غير جائز عقلاً كما يقوله الآخوند ، أو ظهورا حيث لم تكن قرينة كما يقوله آخرون .

لأنّه يقال : ( ولا يلزم فيه استعمال لفظ المطلق في المعنيين أعني : المجرّد عن ذلك الجزء ) أو الشرط ( بالنسبة إلى العاجز ، والمشتمل على ذلك الجزء ) أو الشرط ( بالنسبة إلى القادر ) عليهما .

وإنّما لا يلزم ذلك ( لانّ المطلق كما بيّن في موضعه موضوع للماهية المهملة ) أي : للطبيعة بما هي طبيعة ، فالصلاة - مثلاً - وضعت لطبيعة الصلاة ( الصادقة

ص: 106

على المجرّد عن القيد والمقيّد ، كيف ولو كان كذلك كان كثير من المطلقات مستعملاً كذلك .

فان الخطاب الوارد بالصلاة قد خوطب به جميع المكلفين الموجودين أو مطلقا ، مع كونهم مختلفين في التمكن من الماء وعدمه ، وفي الحضر والسفر والصحة والمرض ، وغير ذلك ، وكذا غير الصلاة من الواجبات .

-------------------

على المجرد عن القيد ، والمقيّد ) بالقيد ، سواء كان القيد جزءا أم شرطا .

( كيف ولو كان كذلك ) أي : لو لزم من اطلاق الصلاة على التامة والناقصة ، استعمال اللفظ في معنيين ( كان كثير من المطلقات مستعملاً كذلك ) في معنيين أو أكثر ، لوضوح : ان افراد المطلق مختلفة من حيث الخصوصيات كما قال :

( فان الخطاب الوارد بالصلاة قد خوطب به جميع المكلفين الموجودين ) وقت الخطاب ( أو مطلقا ) ليعمّ الموجودين وغير الموجودين ( مع كونهم مختلفين في التمكن من الماء وعدمه ، وفي الحضر والسفر ، والصحة والمرض ، وغير ذلك ) كالمتمكن من القرائة وعدم المتمكن منها ، فان الصلاة لم تستعمل في هذه الخصوصيات حتى يقال : بأن الصلاة استعملت في معاني كثيرة ، بل الصلاة استعملت في القدر المشترك بينها وهي الطبيعة السارية في كل تلك الأفراد المختلفة .

( وكذا غير الصلاة من ) سائر ( الواجبات ) كالصوم والحج والاعتكاف والوضوء والغسل وغيرها ، فلكل من هذه الواجبات افراد متشتة مختلفة زيادة ونقيصة من حيث الكم والكيف ، ومع ذلك فان ألفاظ هذه العبادات لم تستعمل فيها باعتبارها معاني متعددة ، وإنّما استعملت في الطبيعة السارية في جميعها ، كالانسان المستعمل في طبيعة الانسان السارية في زيد وعمرو ، وبكر وخالد ،

ص: 107

وللقول الثاني : استصحاب وجوب الباقي إذا كان المكلّف مسبوقا بالقدرة ، بناءا على أنّ المستصحب هو مطلق الوجوب ، بمعنى لزوم الفعل، من غير التفات إلى كونه لنفسه أو لغيره ،

-------------------

وان كان بعضهم عالما وبعضهم جاهلاً ، وبعضهم غنيا وبعضهم فقيرا ، وبعضهم كاملاً وبعضهم ناقصا ، إلى غير ذلك من الخصوصيات في الافراد .

هذا تمام الكلام في الاستدلال للقول الأوّل وهو : سقوط التكليف رأسا عند تعذر شرط أو جزء من الواجب المركّب .

( و ) استدل ( للقول الثاني : ) وهو : اختصاص اعتبار الاجزاء والشرائط بحال التمكن ، فلو تعذر لم يسقط التكليف رأسا ، بل يبقى الباقي على وجوبه ، فانه يدل عليه ( استصحاب وجوب الباقي ) من الاجزاء والشرائط بعد فقد بعض الاجزاء والشرائط .

وإنّما يدل عليه الاستصحاب فيما ( إذا كان المكلّف مسبوقا بالقدرة ) لا ما إذا بلغ وهو غير قادر إلاّ على بعض الاجزاء والشرائط ، أو أفاق من جنونه وحين افاقته لم يقدر إلاّ على البعض ، إذ في هذه الصورة لا يجري الاستصحاب ، وإنّما يجري الاستصحاب في صورة مسبوقية المكلّف بالقدرة .

إن قلت : الوجوب كان في السابق نفسيا ، والآن الوجوب غيري ، والوجوب النفسي غير الوجوب الغيري ، فما كان متيقنا زال يقينا ، وما هو باق لم يكن سابقا .

قلت : إنّا نستصحب كلي الوجوب ، لان الوجوب النفسي والوجوب الغيري لهما جامع هو : كلي اللزوم ، فاذا شككنا في زوال هذا الكلي حتى لا يجب الباقي ، أو عدم زواله حتى يجب الباقي ، استصحبنا بقائه ، لتمامية أركان الاستصحاب ، فيجب الباقي ، وذلك كما قال : ( بناءا على أنّ المستصحب هو مطلق الوجوب بمعنى : لزوم الفعل من غير التفات إلى كونه لنفسه أو لغيره ) أي : نستصحب

ص: 108

أو الوجوب النفسي المتعلق بالموضوع الأعمّ من الجامع لجميع الأجزاء والفاقد لبعضها ، بدعوى صدق الموضوع عرفا على هذا المعنى الأعمّ الموجود في اللاحق ولو مسامحة ، فان أهل العرف يطلقون على من عجز عن السورة بعد قدرته عليها : أنّ الصلاة كانت واجبة عليه حال القدرة على السورة ، ولا يعلم بقاء وجوبها بعد العجز عنها .

-------------------

مطلق الوجوب مجردا عن الخصوصية النفسية أو الغيرية .

( أو ) نستصحب ( الوجوب النفسي المتعلق بالموضوع ، الأعمّ من الجامع لجميع الأجزاء والفاقد لبعضها ) فانه يمكن استصحاب الوجوب النفسي بعناية المسامحة العرفية في الموضوع ، وذلك ( بدعوى : صدق الموضوع عرفا على هذا المعنى الأعمّ ، الموجود في ) السابق و ( اللاحق ولو مسامحة ) .

وإنّما يصدق الموضوع بالتسامح العرفي ، لان العرف يرى الوحدة بين هذه الصلاة الفاقدة لبعض الاجزاء والشرائط ، وبين تلك الصلاة الواجدة لكل الأجزاء والشرائط مثل : زيد الناقص وزيد الكامل ، فهو من قبيل تبدّل الحالات لا تبدل الموضوعات .

والشاهد على ذلك ما ذكره بقوله : ( فان أهل العرف يطلقون على من عجز عن السورة بعد قدرته عليها : انّ الصلاة كانت واجبة عليه حال القدرة على السورة، و ) الأصل الآن بقاء الصلاة على وجوبها ، مع انه ( لا يعلم بقاء وجوبها بعد العجز عنها ) أي : عن السورة ، مما يكشف ذلك : عن ان الموضوع عند العرف هو الأعم من الصلاة الواجدة للسورة والفاقدة لها .

ومن المعلوم : ان كلامهم هذا يدل على ان الموضوع عندهم في الحال هو الموضوع عندهم سابقا ، وفقد بعض الأجزاء أو فقد بعض الشرائط لا يؤثر

ص: 109

ولو لم يكف هذا المقدار في الاستصحاب لاختلّ جريانه في كثير من الاستصحابات ، مثل : استصحاب كثرة الماء وقلّته ، فان الماء المعيّن الذي اُخِذَ بعضُه أو زيد عليه ، يقال إنّه كان كثيرا أو قليلاً ، والأصل بقاء ما كان ، مع أنّ هذا الماء الموجود لم يكن متيقّن الكثرة أو القلّة ، وإلاّ لم يحتمل الشك فيه ، فليس الموضوع فيه إلاّ أعم من هذا الماء

-------------------

في صدق الاسم عندهم .

هذا ( ولو لم يكف هذا المقدار ) من التسامح العرفي ( في الاستصحاب ) وصحته ( لاختلّ جريانه ) أي: جريان الاستصحاب ( في كثير من الاستصحابات ) لوضوح : ان الشك في البقاء كثيرا ما ينشأ عن حصول تغيّر في الموضوع كما أو كيفا ، وقليلاً ما يكون الموضوع هو الموضوع السابق بعينه وإنّما يكون التغيّر في الزمان فقط .

( مثل : استصحاب كثرة الماء وقلّته ) مع ان الماء سابقا كان كثيرا ، والحال بعد ان اخذ منه صار قليلاً ، أو بالعكس كما قال :

( فان الماء المعيّن ) الموجود فعلاً في الحوض - مثلاً - ( الذي أخذ بعضه ، أو زيد عليه ) علما بأنّ الزيادة أيضا تسبب تغيير الموضوع بالدقة العقلية فانه مع ذلك ( يقال : انّه كان كثيرا ، أو قليلاً ، والأصل بقاء ما كان ، مع انّ هذا الماء الموجود ) الآن حين نريد استصحابه ( لم يكن متيقّن الكثرة أو القلّة ) بل كان سابقا متيقن الكثرة ، أو متيقن القلة ، والآن زيد عليه أو نقص منه .

( وإلاّ ) بان كان باقيا على حالته السابقة لم ينقص ولم يزد ( لم يحتمل الشك فيه ) فان الشك ناشئعن الزيادة أو القلة التي حدثت فيه .

وهكذا بالنسبة إلى التغيير الكيفي كما إذا كان وسخا فصار نظيفا ، أو بالعكس .

إذن : ( فليس الموضوع فيه ) عند العرف ( إلاّ أعم من هذا الماء )

ص: 110

مسامحة في مدخلية الجزء الناقص أو الزائد في المشار اليه ، ولذا يقال في العرف : هذا الماء كان كذا وشكّ في صيرورته كذا من غير ملاحظة زيادته ونقيصته .

ويدل على المطلب أيضا : النبوي والعلويان المرويان في غوالي اللئالي .

-------------------

الموجود الآن ، والموجود سابقا ، وذلك ( مسامحة في مدخلية الجزء الناقص أو الزائد ) وكذا في مدخلية الكيف زيادة ونقيصة ( في المشار اليه ) من الماء أو الصلاة - مثلاً - وهذا المقدار من الزيادة والنقيصة في الجزء ، أو الكيف ، إنّما هو من تبدل الحالات في نظرهم لا من تبدل الموضوع .

( ولذا يقال في العرف : هذا الماء كان كذا ) أي : كان كرا - مثلاً - ( وشكّ في صيرورته كذا ) أي : ناقصا عن الكر - مثلاً - ( من غير ملاحظة زيادته ونقيصته ) كما ولا زيادته ونقيصته كيفا ، وهكذا يكون الحال في سائر الاستصحابات .

مثلاً : إذا استصحبنا بقاء زيد بعد سنة ، فان اجزائه قد تغيرت كلية ، فليس زيد هذا هو نفس زيد السابق من حيث الاجزاء ، ولا هو زيد السابق من حيث الصفات ، فيما إذا تغيرت صفاته كلية .

وهكذا إذا استصحبنا الزمان فان الزمان الثاني ليس هو الزمان الأوّل ، كما انه كذلك يكون استصحاب الليل والنهار ، والدم الجاري من المرأة ، والماء الجاري في النهر ، وغير ذلك من الأمثلة التي حالها حال ماء الكرّ في المثال الذي ذكره المصنِّف .

( ويدل على المطلب ) الذي قلناه وهو : وجوب الباقي وعدم سقوط التكليف رأسا إذا تعذر بعض الأجزاء والشرائط ( أيضا ) أي : بالاضافة إلى ما تقدّم من دليل الاستصحاب فانّه يدل عليه : ( النبوي والعلويان المرويان في غوالي اللئالي )

ص: 111

« فعن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم : إذا أمرتُكُم بشيء فأتوا منه ما استطعتُم» ، وعن علي عليه السلام : «الميسور لا يسقُط بالمعسُور» . و «ما لايُدرك كلّه لا يُترك كلّه» .

وضعف إسنادها مجبورٌ باشتهار التمسك بها بين الأصحاب في أبواب العبادات ، كما لا يخفى على المتتبّع ، نعم ، قد يناقش في دلالتها :

أمّا الاُولى ،

-------------------

على النحو التالي : ( «فعن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم : إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» (1) ، وعن علي عليه السلام : «الميسور لا يسقط بالمعسور » (2) و « ما لايُدرك كلّه لا يُترك كلّه » (3) وضعف إسنادها مجبورٌ باشتهار التمسك بها بين الأصحاب في أبواب العبادات ) قديما وحديثا ( كما لا يخفى على المتتبّع ) .

بل يستدلون بها في غير أبواب العبادات أيضا ، كما إذا لم يتمكن إلاّ من بعض النفقة الواجبة عليه ، أو من بعض الواجب عليه من معاشرة الزوجة أو الزوج ، وكذا من تربية الأولاد ، ومن صلة الرحم ، ومن الوفاء بالنذر ، أو بالعهد ، أو باليمين، أو بالشرط ، أو غير ذلك من الاُمور المذكورة في محلها .

( نعم ، قد يناقش في دلالتها ) على المقصود فيما نحن فيه وهو : وجوب الباقي من الشرائط والاجزاء في العبادة بعد تعذر بعضها ، بمناقشات كالتالي :

( أمّا ) المناقشة ( الاُولى : ) فهي : إنّ النبوي إنّما يستدل به على وجوب الباقي

ص: 112


1- - غوالي اللئالي : ج4 ، ص58 ، ح206 بالمعنى ، بحار الانوار : ج22 ص31 ب37 .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ، ص58 ، ح205 بالمعنى ، بحار الانوار : ج84 ص101 ب12 ح2 .
3- - غوالي اللئالي : ج4 ، ص58 ، ح207 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج19 ص75 ب239 ، بحار الانوار : ج56 ص283 ب25 .

فلاحتمال كون « من » بمعنى الباء أو بيانيّا ، و « ما » مصدرية زمانية .

-------------------

اذا قدّرنا فيه « من » تبعيضية ، و « ما » موصولة ، فيكون المعنى : ائتوا ببعضه المقدور إذا كان ذلك البعض يصدق عليه : انه بعضه عرفا ، لا مثل ما إذا أمره بالمرق فقدر على مائِه فقط ، فانه لا يسمى : المقدور من المرق ، فالاستدلال بالنبوي إنّما يكون لو كان على هذا التقدير ، وهذا التقدير غير ثابت حتى يستدل به على وجوب الباقي ، فالمناقشة فيه إذن لوجود تقادير واحتمالات اُخر فيه كما قال : ( فلاحتمال كون « من » بمعنى الباء ) التي هي للتعدية ( أو بيانيّا ، و ) على الاحتمالين تكون ( « ما » مصدرية زمانية ) فيكون المعنى : ائتوا بالمأمور به زمان استطاعتكم ، أو : إئتوا الذي هو واجب عليكم زمان استطاعتكم ، وعلى هذين التقديرين لا يدل النبوي على وجوب الباقي وإنّما يدل على ان تنجّز المأمور به مشروط بالاستطاعة فاذا لم يستطع من الصوم - مثلاً - حال الشيخوخة ، أو من القيام بحقوق الزوجية في بعض الأزمان - مثلاً - فانه لا يجب عليه ذلك .

ويؤيد هذا المعنى : مورد الحديث ، فقد روي في دعائم الاسلام عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم انه خطب فقال : «ان اللّه كتب عليكم الحج ، فقام عكاشة بن محصن ويروى سراقة بن مالك فقال : أفي كل عام يارسول اللّه ؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا ، فقال : ويحك وما يؤمنك أن أقول : نعم ، واللّه ولو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم ، وإنّما هلك من هلك قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم ، فاذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه » (1) .

ص: 113


1- - بحار الانوار : ج22 ص31 ب37 .

وفيه : أنّ كون « من » بمعنى الباء مطلقا وبيانيّة في خصوصية المقام مخالفٌ للظاهر بعيدٌ ، كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام .

والعجب معارضة هذا الظاهر بلزوم تقييد الشيء بناءا على المعنى المشهور بما كان له اجزاء حتى يصحّ الأمر باتيان ما استطيع منه ، ثم تقييده بصورة تعذّر إتيان جميعه ، ثم ارتكاب التخصيص فيه باخراج ما لايجري فيه هذه القاعدة اتفاقا ،

-------------------

( وفيه : انّ كون « من » بمعنى الباء ) للتعدية ( مطلقا ، وبيانيّة في خصوصية المقام ، مخالف للظاهر بعيدٌ ، كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام ) عند العرب ، فان كون « من » بمعنى الباء خلاف الموضوع له ، فليس من معاني « من » الباء ، وامّا كون « من » بيانا : فانه وان كان من جملة معاني « من » - كما ذكره الأدباء - إلاّ انه إنّما يستعمل للبيان فيما إذا كان هناك كلام مبهم ، وليس في المقام مبهم حتى يبيّنه « من » .

( والعجب معارضة هذا الظاهر ) من صاحب الفصول ( بلزوم تقييد الشيء بناءا على المعنى المشهور ) وهو : كون « من » تبعيضية ( بما كان له اجزاء حتى يصحّ الأمر باتيان ما استطيع منه ، ثم تقييده بصورة تعذّر اتيان جميعه ) لتعذر بعضه ( ثم ارتكاب التخصيص فيه باخراج ما لا يجري فيه هذه القاعدة اتفاقا ) فان صاحب الفصول وان سلّم ظهور الحديث في المعنى المشهور ، إلاّ انه ضعّفه بلزوم كثرة التقييدات فيه ، لانه كما تصوّر يلزم تقدير الحديث هكذا :

إذا أمرتكم بشيء ذي اجزاء ولم تقدروا على اتيان جميعه فأتوا ببعضه المقدور.

وهذا كما لا يخفى مخصص أيضا بجملة اُمور : كالصوم إذا تمكن ان يصوم

ص: 114

كما في كثير من المواضع ، إذ لا يخفى أنّ التقييدين الأوّلين يستفادان من قوله : «فأتوا منه» ، إلى آخره ، وظهوره حاكم عليهما .

نعم ، اخراج كثير من الموارد لازم ، ولا بأس به في مقابل ذلك المجاز البعيد .

-------------------

بعض النهار دون بعض ، وكالحج إذا تمكن ان يأتي ببعض الأعمال دون بعض ، وكالصلاة إذا تمكن ان يصلّي الظهر ثلاث ركعات دون أربع ، وكالاعتكاف إذا تمكن ان يصوم يومين ونصف دون ثلاثة أيام - مثلاً - ، وهكذا ( كما في كثير من المواضع ) .

وعليه : فحيث يستلزم المعنى المشهور للنبوي بنظر الفصول المحذورات المذكورة ، قال : نحمل « من » فيه على معنى الباء ، أو التبيين .

وانّما كان كلام الفصول هذا موجبا للتعجب ( إذ لا يخفى : انّ التقييدين الأوّلين ) من الفصول للنبوي بكونه ذا أجزاء ، وتعذر بعضه ( يستفادان من قوله : «فأتوا منه» إلى آخره ) لوضوح : ان وجوب البعض المقدور لا يعقل إلاّ في شيء ذي أجزاء تعذر بعضه وتمكن المكلّف من بعضه الآخر بشرط أن يكون البعض الباقي مقوّما لذلك الشيء، لا مثل الماء بالنسبة إلى المرق كما مرّ في المثال السابق.

هذا ( وظهوره ) أي : ظهور النبوي في المعنى المشهور ( حاكم عليهما ) أي : على ذينك القيدين لوضوح : ان الاحتياج إلى القيدين موقوف على عدم ظهور « من » في التبعيض ، فاذا كان « من » ظاهرا في التبعيض لم يحتج إلى تقدير القيدين، بل الكلام بنفسه يدل على القيدين المذكورين .

( نعم ، اخراج كثير من الموارد لازم ، ولا بأس به في مقابل ذلك المجاز البعيد ) الذي ارتكبه صاحب الفصول : من حمل « من » على معنى الباء أو التبيين .

هذا اضافةً إلى ان التخصيص ليس كثيرا ، بل كل من الصلاة والحج والخمس

ص: 115

والحاصل : أنّ المناقشة في ظهور الرواية من اعوجاج الطريقة في فهم الخطابات العرفيّة .

-------------------

والزكاة والكفارات وسائر الواجبات يؤتى بها بقدر المستطاع ، فما يبقى على وجوبه من الواجبات بعد تعذّر بعض الأجزاء والشرائط أكثر مما يسقط منها لتعذر بعض الأجزاء والشرائط إلاّ في مثل الصوم فانه على الأغلب لا يبعّض في غير ذي العطاش ، ومن يفطر عند الغروب تقية ، وما أشبه ذلك .

( والحاصل : إنّ المناقشة في ظهور الرواية ) في المعنى المشهور ( من اعوجاج الطريقة في فهم الخطابات العرفيّة ) والمحاورات المتداولة عند أهل اللسان .

ثم انه إذا قلنا : بان «ما استطعتم» أعمّ من الزماني والاجزائي ، شمل الحديث كليهما، فيكون المعنى : ائتوا بالحج قدر الاستطاعة الزمانية وقدر الاستطاعة الاجزائية .

لا يقال : إنّ الحج لا يجب على الانسان كل عام حتى يجب الاتيان به قدر الاستطاعة الزمانية .

لانّه يقال : الحج على جميع المسلمين من حيث المجموع واجب كل عام ، إذ يجب ان لا يترك الحج في عام من الأعوام - كما ذكره الفقهاء - حتى انه إذا لم يكن في بعض الأعوام مستطيع ، وجب على الوالي إرسال جماعة من المسلمين على نفقة بيت المال إلى « الحج » حتى لا تبقى تلك المشاهد المكرمة خالية عن الحاج والزائرين (1) .

ص: 116


1- - وقد ذكر الشارح بعض اقتراحاته لتطوير مناسك هذا الركن الاساسي من أركان الاسلام في كتابه « لكي يستوعب الحج عشرة ملايين » وكتابه « الحج بين الأمس واليوم والغد » وكتابه «ليحج خمسون مليونا كلّ عام » .

وأمّا الثانية : فلِما قيل : من أنّ معناه أنّ الحكم الثابت للميسور لا يسقط بسبب سقوط المعسور ، ولا كلام في ذلك ؛ لانّ سقوط حكم شيء

-------------------

( وأمّا ) المناقشة ( الثانية : ) فهي : ان الاستدلال برواية الميسور لوجوب الباقي إنّما يكون لو حملنا الميسور والمعسور في الرواية على اجزاء المركب ، فيكون المعنى : ان وجوب ما تيسر من اجزاء المركب ، لا يسقط بسقوط وجوب ما تعذر منه ، ومن المعلوم : ان هذا ليس بصحيح إذ وجوب الاجزاء الميسورة من المركب غيري تابع لوجوب المركب ، فاذا تعذر المركب سقط وجوب الاجزاء ، فلا وجوب حتى يتمسك به لوجوب الباقي فيلزم حينئذ حمل الميسور والمعسور في الرواية على الاُمور المستقلة كما قال :

أما المناقشة في رواية الميسور ( فلما قيل : من إنّ معناه : ان الحكم الثابت للميسور ) المستقل لا الميسور من اجزاء المركب ( لا يسقط بسبب سقوط المعسور ) المستقل دون المعسور من اجزاء المركب فانه يسقط بسقوطه ، وذلك لأن اجزاء المركب وجوبها غيري تابع لوجوب المركب ، فاذا تعذر المركب سقط وجوب الاجزاء ، فلا وجوب للباقي الميسور كما عرفت .

وحاصل المناقشة : ان وجوب الباقي إنّما يكون في العموم الافرادي دون الاجزائي ، فاذا كان هناك عموم له افراد وكان وجوب بعضها مستقلاً عن وجوب بعض ولم يتمكن المكلّف من بعضها ، سقط ذلك البعض ووجب الباقي ، كما إذا وجب عليه صيام شهر رمضان فلم يتمكن من صوم بعض الأيام فانه يصوم الباقي منه ، وهكذا بالنسبة إلى النفقات الواجبة ، والأخماس ، والزكوات ونحوها مما لها افراد مستقلة .

( ولا كلام في ذلك ) المعنى الذي ذكرناه ( لانّ سقوط حكم شيء ) مستقل

ص: 117

لا يوجب لنفسه سقوط الحكم الثابت للآخر .

فتحمل الرواية على دفع توهّم السقوط في الأحكام المستقلة التي يجمعها دليل واحد كما في أكرم العلماء .

وفيه : أولاً ، أنّ عدم السقوط محمولٌ على نفس الميسور لا على حكمه .

-------------------

( لا يوجب لنفسه سقوط الحكم الثابت للآخر ) المستقل وهو واضح .

وعليه : ( فتحمل الرواية على دفع توهّم السقوط في الأحكام المستقلة التي يجمعها دليل واحد كما في اكرم العلماء ) فانه إذا لم يتمكن من اكرام بعض العلماء وجب عليه اكرام الباقي ، إذ وجوب افراد الاكرام بالنسبة إلى افراد العلماء واجبات مستقلة لا يرتبط بعضها ببعض ، فاذا لم يتمكن من بعضها وتمكن من الباقي ، وجب الباقي .

ولا يخفى : ان هذه المناقشة وهي المناقشة الثانية محكية عن صاحبي الفصول والعوائد وهي تفيد ، أمرين :

الأوّل : ان المراد من الميسور والمعسور في الرواية ليس هو نفس الميسور والمعسور ، بل حكمها ، لان شأن الشارع بيان الأحكام لا بيان الموضوعات .

الثاني : ان المراد من الرواية الأفراد لا الأجزاء .

وعلى هذا لا يكون الحديث دليلاً على وجوب الباقي بعد تعذر بعض الأجزاء أو الشرائط .

( وفيه : أولاً ، ان عدم السقوط محمول على نفس الميسور لا على حكمه ) لأن الامام عليه السلام لم يقل حكم الميسور لا يسقط بسبب حكم المعسور حتى يقال : بأن هذا إنّما يتم في الأفعال المستقلة لان حكمها نفسي ، دون الأجزاء، لانّ الأجزاء حكمها مقدمي يسقط بسقوط ذي المقدمة فلابد ان يكون الظاهر من الرواية :

ص: 118

فالمراد به عدم سقوط الفعل الميسور بسبب المعسور ، يعني : أنّ الفعل الميسور إذا لم يسقط عند عدم تعسّر شيء فلا يسقط بسبب تعسره .

وبعبارة اُخرى ما وجب عند التمكّن من شيء آخر ، فلا يسقط عند تعذره .

وهذا الكلام إنّما يقال في مقام يكون ارتباط وجوب الشيء بالتّمكن

-------------------

الأحكام النفسية لا المقدمية ، فانه ليس كذلك حتى يقال بذلك .

إذن : ( فالمراد به ) أي : بعدم السقوط في الرواية هو : ( عدم سقوط ) نفس ( الفعل الميسور ) من الصوم والصلاة والخمس والزكاة ، وما أشبه ذلك ( بسبب ) سقوط الفعل ( المعسور ) منها ( يعني : أنّ الفعل الميسور ) نفسه سواء كان اجزاءا أم افرادا ( إذا لم يسقط عند عدم تعسّر شيء ، فلا يسقط بسبب تعسره ) أي : تعسر ذلك الشيء ، فكأن الشارع قال : الميسور باق ، وحيث كان كلامه انشاءا لا إخبارا كان معناه : أبقه على حالته السابقة ، فأت به سواء كان ميسور الأجزاء أم ميسور الافراد .

( وبعبارة اُخرى : ما وجب عند التمكّن من شيء آخر ، فلا يسقط عند تعذره ) أي : عند تعذر الشيء الآخر ، فالاجزاء التسعة من الصلاة - مثلاً - كانت واجبة عند تيسر الجزء العاشر ، فلا تسقط هذه التسعة عن الوجوب عند تعذر الجزء العاشر ، وكذا اكرام خمسة من العلماء كان واجبا عند التمكن من اكرام كل العلماء ، فلايسقط اكرام هذه الخمسة عن الوجوب عند تعذر اكرام سائر العلماء .

( وهذا الكلام ) أي : الميسور لا يسقط بالمعسور ( إنّما يقال في مقام يكون ارتباط وجوب الشيء ) كالجزء والشرط الميسورين ( بالتمكّن

ص: 119

من ذلك الشيء الآخر محققا ثابتا من دليله كما في الأمر بالكلّ ، أو متوهّما كما في الأمر بما له عموم أفراديّ .

وثانيا : أنّ ما ذُكِرَ من عدم سقوط الحكم الثابث للميسور بسبب سقوط

-------------------

من ذلك الشيء الآخر ) من الجزء والشرط المعسورين ( محققا ثابتا من دليله ) أي : دليل الوجوب ( كما في الأمر بالكلّ ) مثل : « أقيموا الصلاة » (1) فان وجوب اجزاء الصلاة وشرائطها مرتبط بعضها ببعض ارتباطا محققا في الخارج ، لان وجوب الكل مرتبط بالتمكن من الاجزاء والشرائط ، ووجوب الاجزاء والشرائط المتمكن منهما مرتبط بوجوب الكل .

( أو ) يكون ارتباط وجوب الشيء ( متوهّما ) بان لم يكن الارتباط متحققا في الخارج ، بل الارتباط متوهم ( كما في الأمر بما له عموم افراديّ ) مثل : اكرم العلماء ، فان كل فرد من افراد الاكرام وان كان موضوعا مستقلاً للوجوب ، إلاّ ان وحدة دليل اكرم يوجب توهم كون المجموع موضوعا واحدا للوجوب .

وعليه : ففي مقام يكون الارتباط محققا أو متوهما ، إذا تعذّر شيء منها لزم ان ينتفي الكل ويسقط وجوب الباقي ، في مثل هذا المقام تقول الرواية بوجوب الباقي ، وإذا تعذر البعض لم يسقط الكل بسبب تعذر ذلك البعض ، فيكون الميسور سواء من الأجزاء والشرائط ، أم من الجزئي والافراد باقيا على حكمه السابق من الوجوب بعد تعذر المعسور وسقوط وجوبه بسبب العسر ، فيجب على المكلّف الاتيان بالباقي .

( و ) فيه ( ثانيا : انّ ما ذكر ) في المناقشة الثانية : ( من عدم سقوط

ص: 120


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

الحكم الثابت للمعسور ، كاف في اثبات المطلوب ، بناءا على ما ذكرنا في توجيه الاستصحاب ، من أنّ أهل العرف يتسامحون فيعبّرون عن وجوب باقي الاجزاء بعد تعذر غيرها من الأجزاء ببقاء وجوبها ، وعن عدم وجوبها بارتفاع وجوبها وسقوطه ، لعدم مداقتهم في كون الوجوب الثابت سابقا غيريا ، وهذا الوجوب الذي يتكلم في ثبوته وعدمه نفسي ،

-------------------

الحكم الثابث للميسور بسبب سقوط الحكم الثابت للمعسور ) إذا سلمناه ، فهو ( كاف في اثبات المطلوب ) : من ان الرواية تشمل عدم السقوط في الكل والكلي ، لا انها خاصة بالكلي كما ذكره المناقش حيث ناقش في وجوب الباقي : بان حكم الاجزاء مقدمي تابع لحكم الكل فيسقط بسقوط الكل فلا وجوب حينئذ للباقي الميسور بعد تعذر المعسور .

وإنّما يكون ما ذكره المناقش كافيا لاثبات المطلوب لانه كما قال : ( بناءا على ما ذكرنا في توجيه الاستصحاب ) في المسألة السابقة ( من انّ أهل العرف يتسامحون فيعبّرون عن وجوب باقي الاجزاء بعد تعذر غيرها من الأجزاء ) يعبّرون ( ببقاء وجوبها ) تسامحا ( و ) يعبّرون ( عن عدم وجوبها : بارتفاع وجوبها وسقوطه ) أي : سقوط الوجوب تسامحا أيضا .

إذن : فأهل العرف يرون وجوب باقي الاجزاء هو نفس الوجوب الذي كان للكل ، فيحكمون ببقاء وجوب الباقي بعد تعذّر البعض ، وذلك امّا من جهة ان الوجوب شامل للنفسي والمقدمي ، لانه جنس لهما والجنس باق وان تعذر بعض أنواعه ، وإمّا من جهة الوجوب النفسي شامل للكل والجزء .

وانّما يرون وحدة ذلك ( لعدم مداقتهم في كون الوجوب الثابت سابقا غيريا ، وهذا الوجوب الذي يتكلم في ثبوته وعدمه نفسي ) إذ بالنظر الدقي لم يكن

ص: 121

فلا يصدق على ثبوته البقاء ، ولا على عدمه السقوط والارتفاع ، فكما يصدق هذه الرواية لو شكّ بعد ورود الأمر باكرم العلماء بالاستغراق الافرادي

-------------------

الوجوبان شيئا واحدا ، بل شيئان ، وإذا كانا شيئين ( فلا يصدق على ثبوته البقاء ، ولا على عدمه السقوط والارتفاع ) كما عبّر عنه العرف تسامحا .

ولا يخفى : ان حمل البقاء لوجوب الباقي الميسور في الرواية على الأعم من البقاء الحقيقي كما في الكلي وافراده ، والمسامحي كما في الكل واجزائه يكون كما يلي :

أولاً : انه ظاهر الحديث وانه الذي يستفاد منه عرفا .

ثانيا : انا لو حملناه على ما ذكره الفصول : من البقاء الحقيقي ، يكون تأكيدا لما هو بديهي ، لانّ كلّ واحد يعلم ان الافراد الواجبة إذا لم يمكن فرد منها ، وجب الفرد الآخر ، بخلاف ما إذا قلنا بانه أعم من الكل والكلي ، فانه يكون تأسيسا ، لأن بقاء وجوب بعض الأجزاء بعد سقوط البعض الآخر يكون محتاجا إلى دليل خاص غير دليل أصل وجوب الكل .

إذن : فعلى ما ذكره الفصول تكون الرواية تأكيدا ، وعلى ما ذكرناه تكون تأسيسا ، ومن الواضح : ان حملها على التأسيس خير من حملها على التأكيد.

والعمدة في ذلك ما ذكرناه : من الظهور ، وإلاّ فان الوجوه الاعتبارية لا تصحح الظهور كما لا تسقطه .

وعليه : ( فكما يصدق هذه الرواية ) أي : رواية الميسور على وجوب الباقي ( لو شكّ بعد ورود الأمر باكرم العلماء بالاستغراق الافرادي ) بأن علمنا انّ المولى يريد اكرام كل عالم عالم يعني : كل جزئي من جزئيات الكلي بحيث لم يكن

ص: 122

في ثبوت حكم إكرام البعض الممكن الاكرام ، وسقوطه بسقوط حكم اكرام من يتعذّر إكرامه ، كذلك يصدق لو شكّ بعد الأمر بالمركب في وجوب الاجزاء بعد تعذر بعضه ، كما لايخفى .

-------------------

الواجب اكرام مجموع العلماء بما هو مجموع ، بل كان الواجب اكرام زيد مستقلاً ، واكرام عمرو مستقلاً وهكذا ، فانه كما يصدق رواية الميسور لو شككنا ( في ثبوت حكم اكرام البعض الممكن الاكرام ، وسقوطه ) أي : سقوط حكم الباقي ( بسقوط حكم اكرام من يتعذّر اكرامه ) كما في مثال اكرم العلماء ( كذلك يصدق لو شكّ بعد الأمر بالمركب في وجوب الاجزاء ) الباقية ( بعد تعذر بعضه ) كما في أقم الصلاة .

إذن : فالاجزاء في الكل كالجزئيات في الكلي بالنظر المسامحي العرفي ( كما لا يخفى ) فتكون الرواية شاملةً لكليهما .

ثم لا يخفى : انه إنّما تجري قاعدة الميسور فيما إذا لم يكن الجزء المتعذر من الأجزاء المقوّمة ، لانه إذا كان من الاجزاء المقوّمة تغيّر نظر العرف بالنسبة اليه ، فلا يرى التسامح فيه كما تقدّم في مثال الماء لمن تعذّر عليه المرق ، فيلزم في وجوب الباقي بالنسبة إلى الاجزاء صدق الاسم على الميسور من الاجزاء عرفا .

بخلاف الميسور من الافراد ، فانه إذا لم يتمكن إلاّ عن فرد واحد ، وجب عليه ذلك الفرد الواحد وان كان أضعف الافراد في نظر العرف ، لان الوجوب هنا مستقل لا يرتبط بعضه ببعض بينما الوجوب في الأجزاء مرتبط بعضه ببعض .

ثم إنّ صاحب الفصول كما تقدّم حمل دليل الميسور على إرادة الحكم لا الموضوع فكان معناه ان حكم الميسور لا يسقط بحكم المعسور ، ولم يحمله على نفس الميسور والمعسور حتى يكون معناه : الميسور لا يسقط بالمعسور .

ص: 123

وبمثل ذلك يقال في دفع دعوى جريان الايراد المذكور على تقدير تعلّق عدم السقوط بنفس الميسور لا بحكمه ، بأن يقال : إنّ سقوط المقدّمة لمّا كان لازما لسقوط ذيها ، فالحكم بعدم الملازمة في الخبر

-------------------

والمصنّف أخذ بظاهر الرواية من ارادة نفس الميسور والمعسور ، فلقائل ان يقول: ان حملكم الرواية على نفس الميسور والمعسور يرفع المناقشة ، إذ مناقشة الفصول جارية حتى على ارادة نفس الميسور والمعسور لا حكمها .

وإنّما تكون جارية لأنّ الاجزاء نفسها إنّما هي مقدمة لتحقق الكل ، فتكون تابعة للكل نفيا واثباتا ، فاذا تعذر بعض الاجزاء انتفى الكل ، فتنتفي المقدمة للتلازم بينهما ، فلا يمكن الحكم بعدم سقوط المقدمة ، ولذا لا يمكن حمل الرواية على الجزء والكل ، لأنه مستلزم للحكم بغير المعقول .

إذن : فلابد من حمل الرواية على ما له عموم افرادي مثل : اكرم العلماء دفعا لتوهم سقوط الباقي من أجل تعذر البعض فان في العموم الافرادي لا يسقط الباقي لاجل تعذر البعض ، بينما في الكل الاجزائي السقوط قطعي للتلازم العقلي بينهما ، فاذا حملنا الرواية على الكل الاجزائي وردت مناقشة الفصول .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف حيث قال : ( وبمثل ذلك ) الذي قلناه : من التسامح العرفي في دفع ايراد الفصول على القول : بأن المراد من الميسور في الرواية ، حكم الميسور لا نفسه ( يقال في دفع دعوى جريان الايراد المذكور على تقدير تعلّق عدم السقوط بنفس الميسور ، لا بحكمه ) .

أما تصوير ايراد الفصول على القول : بان المراد من الميسور والمعسور في الرواية نفسهما ، لا حكمهما ، فهو : ( بان يقال : انّ سقوط المقدّمة لمّا كان لازما لسقوط ذيها ، فالحكم بعدم الملازمة في الخبر ) حيث قال : بأن الميسور لا يسقط

ص: 124

لابد أن يحمل على الأفعال المستقلة في الوجوب ، لدفع توهم السقوط الناشيء عن ايجابها بخطاب واحد .

وأمّا في الثالثة :

-------------------

بسقوط المعسور ، يكون بالنسبة إلى الاجزاء غير معقول ، ولصونه من ذلك ( لابد ان يحمل على الأفعال المستقلة في الوجوب ) كاكرام افراد العلماء لا كأجزاء الصلاة .

وإنّما يحمل على الافراد المستقلة دون الاجزاء مع انه لا ملازمة بين الافراد ( لدفع توهم السقوط ) أي : سقوط الميسور من الافراد بسقوط المعسور منها ( الناشيء ) ذلك التوهم في الافراد ( عن ايجابها ) أي : ايجاب العموم الافرادي ( بخطاب واحد ) كما مرّ تفصيله .

إذن : فلا يمكن حمل الميسور في الرواية على الاجزاء حتى لو قلنا : بان المراد بالميسور في الرواية نفس الميسور ، لا حكمه .

هذا هو تصوير مناقشة الفصول ، واما دفعه فهو : بأن يقال : ان الاجزاء الباقية بعد تعذر البعض هي نفس الاجزاء قبل تعذر البعض عرفا ، فاذا كان الموضوع بنظر العرف واحدا ، ترتب عليه الحكم ، وهو الوجوب ، فلا يسقط الميسور من الاجزاء بسقوط المعسور منها .

والحاصل : ان المراد بعدم السقوط الذي هو بمعنى البقاء : عدم السقوط والبقاء الأعم من الحقيقي والمسامحي ، ومن المعلوم : ان البقاء المسامحي موجود في الجزء بالنسبة إلى الكل كما هو موجود في الفرد بالنسبة إلى الكلي ، لأنّ عرف العقلاء يتسامحون في ذلك فيحكمون بالبقاء وان كان بحسب الدقة العقلية غير باق .

( وأمّا ) المناقشة الثالثة ( في ) الرواية ( الثالثة ) ونصّها : «ما لا يدرك كله لا يترك

ص: 125

...

-------------------

كلّه » (1) وهي : ان الاستدلال بها لوجوب الباقي إنّما يكون لو حملنا الموصول في « ما لا يدرك كله » بقرينة « كله » على الكل الاجزائي ، وحملنا النهي في : « لا يترك كله » على انشاء التحريم ، لا على الاخبار ، فاذا لم يكن كذلك لم يصح الاستدلال بالرواية على وجوب الباقي ، ولذا أشكلوا في دلالة الرواية المذكورة على ما نحن فيه بأربعة اشكالات :

الأوّل : إنّ جملة « لا يترك » خبرية ، والجملة الخبرية لا تفيد إلاّ الرجحان لا الحرمة ، فلا تدل على ما هو المطلوب من وجوب الاتيان بالباقي .

الثاني : انه لو سلم ظهور جملة « لا يترك » في الحرمة ، فالأمر دائر بين حملها على مطلق المرجوحية لتلائم الجملة عموم الموصول الشامل للواجبات والمندوبات جميعا ، وبين تخصيص الموصول بالواجبات ليلائم الموصول ظهور الجملة الخبرية في الحرمة ، وحيث لا ترجيح لأحدهما على الآخر ، فلا يمكن الاستدلال بالرواية على بقاء الوجوب بعد سقوط بعض الأجزاء .

الثالث : انه لم يعلم من جملة « لا يترك » ان تكون انشاءا ، إذ من الممكن ان تكون اخبارا عن طريقة الناس وان طبيعتهم عدم ترك جميع الشيء بمجرد عدم درك مجموعه ، فلا يكون حينئذ في الرواية دلالة على الحكم الشرعي .

الرابع : انه من الممكن ان يكون لفظ « كل » في قوله : «ما لا يدرك كله» للعموم الافرادي لا للاجزائي ، فيختص بمثل : افراد العلماء لا بمثل اجزاء الصلاة ، فيكون

ص: 126


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص58 ح207 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج19 ص75 ب239 ، بحار الانوار : ج56 ص283 ب25 .

فما قيل من أنّ جملة « لايترك » خبرية لا تفيد إلاّ الرجحان ، مع أنّه لو اريد منها الحرمة لزم مخالفة الظاهر فيها ، إمّا بحمل الجملة على مطلق المرجوحيّة ، أو اخراج المندوبات ولا رجحان للتخصيص .

مع أنّه قد يمنع كون الجملة

-------------------

المعنى : انه إذا تعذر اكرام عالم وجب اكرام بقية العلماء ، لا إذا تعذر جزء من الصلاة وجب الاتيان ببقية الصلاة .

وإلى الاشكال الأوّل أشار بقوله : ( فما قيل من ان جملة « لا يترك » خبرية ) والجملة الخبرية التيتستعمل في مقام الطلب ( لا تفيد إلاّ الرجحان ) المطلق وهو أعم من الواجب والمستحب ، فلا تدل الرواية حينئذ على وجوب الميسور من اجزاء الصلاة بعد عدم التمكن من بعض اجزائها الاُخر .

وإلى الاشكال الثاني أشار بقوله : ( مع انّه لو اريد منها الحرمة لزم مخالفة الظاهر فيها ) بأحد نحوين ( امّا بحمل الجملة على مطلق المرجوحيّة ، أو اخراج المندوبات ) لأنا إذا سلّمنا ان ظاهر الرواية الحرمة ، فالحرمة لا تتم في المندوبات وهو واضح ، وحينئذ فلابد من مخالفة أحد الظاهرين على ما عرفت .

هذا ( ولا رجحان للتخصيص ) أي : تخصيص الموصول هنا بالواجبات حتى نحتفظ ببقاء لا يترك على ظاهره من الحرمة ، يعني : لا رجحان للتصرف في : الموصول على التصرف في « لا يترك » حتى يثبت مطلوبنا من وجوب الباقي بعد تعسر بعض الاجزاء أو تعذرّها .

إذن : فغاية ما تدل عليه هذه الرواية : استحباب الاتيان بالقدر الميسور لا وجوبه كما هو المطلوب .

وإلى الاشكال الثالث أشار بقوله : ( مع انّه قد يمنع كون ) هذه ( الجملة )

ص: 127

إنشاءا ، لإمكان كونه إخبارا عن طريقة الناس وأنّهم لايتركون الشيء بمجرد عدم إدراك بعضه .

مع احتمال كون لفظ الكلّ للعموم الافرادي ،

-------------------

الخبرية : لا يترك في قوله عليه السلام : « ما لا يدرك كله لا يترك كله » يمنع ان تكون ( انشاءا ) للحرمة ، أو انشاءا لمطلق المرجوحية الأعم من الحرمة والكراهة ، وذلك ( لامكان كونه ) أي : كون لا يترك ( اخبارا عن طريقة الناس ، وانّهم ) في اُمورهم العرفية ( لا يتركون الشيء بمجرد عدم ادراك بعضه ) .

وإنّما يمكن ان يكون « لا يترك » اخبارا لا انشاءا ، لان النبي والأئمة من أهل بيته صلوات اللّه عليهم أجمعين اضافة إلى بيانهم للأحكام الشرعية من الواجبات والمستحبات والمكروهات والمحرمات والمباحات كانوا يخبرون عن أحوال الناس وكيفية معاشرتهم الاجتماعية وغيرها ، مثل ما ورد من قوله عليه السلام :

ومَن هابَ الرِّجالَ تهيّبوه

ومَن وَهَنَ الرِّجالَ فَلنْ يهابا (1)

ومثل قوله عليه السلام : « من دخل مداخل السوء اتُّهم » (2) إلى غير ذلك .

ومع هذا الاحتمال لا يمكن الاستدلال بهذه الرواية على وجوب الباقي من الأجزاء بعد تعسّر البعض أو تعذره .

وإلى الاشكال الرابع أشار بقوله : ( مع احتمال كون لفظ الكلّ للعموم الافرادي) دون الاجزائي ، فيكون المقصود من قوله : «ما لا يدرك كله» يعني : كل افراده لا كل اجزائه ، فيختص بالعموم الذي له افراد ، فاذا تعذر بعض هذه الافراد ، وأمكن بعضها

ص: 128


1- - الخصال : ص73 ح111 بالمعنى ، ديوان الإمام علي عليه السلام : ص25 .
2- - وسائل الشيعة : ج12 ص38 ب19 ح15578 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج19 ص264 ب355 و ص265 .

لعدم ثبوت كونه حقيقة في الكلّ المجموعي ، ولا مشتركا معنويا بينه وبين الأفرادي ، فلعله مشترك لفظي أو حقيقة خاصة في الافرادي ، فيدلّ على أنّ الحكم الثابت لموضوع عام بالعموم الافرادي ، إذا لم يمكن الاتيان به على وجه العموم لايترك موافقته فيما أمكن من الافراد .

ويرد على الأوّل : ظهور الجملة في الانشاء الالزامي ، كما ثبت في محله ،

-------------------

الآخر فالأفراد الممكنة يجب الاتيان بها ولا يجوز تركها لأجل تلك الافراد المتعذرة .

وإنّما يحتمل اختصاص « كل » بالعموم الافرادي ( لعدم ثبوت كونه حقيقة في الكّل المجموعي ) ذي الأجزاء ( ولا مشتركا معنويا بينه ) أي : بين الكل المجموعي ( وبين الأفرادي ) حتى يشمل الكل والكلي ويكون على هذين التقديرين دليلاً على وجوب الاجزاء الباقية من المركب المتعسر بعض اجزائه .

وإنّما لم يثبت كون كل كذلك لانه كما قال : ( فلعله ) أي : لفظ كل في الرواية ( مشترك لفظي ) بين الافرادي والمجموعي فيكون مجملاً فلا يمكن التمسك به .

( أو ) لعله ( حقيقة خاصة في الافرادي ) فقط ( فيدلّ على انّ الحكم الثابت لموضوع عام بالعموم الافرادي ) مثل : اكرم الفقهاء ( إذا لم يمكن الاتيان به على وجه العموم ) بان لم يتمكن من اكرام كل واحد واحد من العلماء ( لا يترك موافقته فيما أمكن من الافراد ) .

وبهذه الاشكالات الأربعة ظهر : انه لا يمكن الاستدلال بهذه الرواية لوجوب الباقي من الاجزاء بعد تعذّر البعض أو تعسره .

هذا ( ويرد على الأوّل : ) من الاشكالات وهو : ان جملة لا يترك خبرية ما يلي :

أولاً ( ظهور الجملة في الانشاء الالزامي ) لا مطلق الرجحان واضح ( كما ثبت في محله ) من مباحث الألفاظ حتى قال بعض العلماء : ان الجملة الخبرية

ص: 129

مع أنّه إذا ثبت الرجحان في الواجبات ثبت الوجوب ، لعدم القول بالفصل في المسألة الفرعيّة .

وأمّا دوران الأمر بين تخصيص الموصول والتجوّز في الجملة ، فممنوع ، لأن المراد بالموصول في نفسه ليس هو العموم قطعا ،

-------------------

المستعملة للطلب أقوى دلالة من الأمر والنهي ، فقول المولى لعبده : تدخل السوق وتشتري اللحم ، أقوى دلالة من قوله : ادخل السوق واشتر اللحم ، وكذلك قول المولى : لا يشرب أحد من عبيدي الخمر ، أقوى دلالة من لا تشربوا الخمر .

ثانيا : ( مع انّه إذا ثبت الرجحان في الواجبات ثبت الوجوب ، لعدم القول بالفصل ) فان كل من قال بالرجحان في الواجبات ، قال بالوجوب فيها ، فاذا دلت الرواية على الرجحان دلت على الوجوب أيضا ، لأن الفقهاء ( في ) هذه ( المسألة الفرعيّة ) التي هي محل الكلام ، اتفقوا على ان الاتيان بالميسور من اجزاء الواجب إذا كان راجحا كان واجبا ، فليس هناك قول بانه راجح وليس بواجب .

( وامّا ) الاشكال الثاني الذي ذكره المستدل وهو : ( دوران الأمر بين تخصيص الموصول ، والتجوّز في الجملة ، فممنوع ) إذ لا دوران بين الأمرين ، فانه لو كان الموصول شاملاً للمستحبات كان الأمر يدور بين الشيئين الذين ذكرهما المستشكل ، بينما الموصول ليس بشامل للمستحبات من أول الأمر بقرينة لا يترك الظاهر في تحريم الترك كما قال : ( لان المراد بالموصول في نفسه ) أي : من أول الأمر ( ليس هو العموم ) الشامل للواجبات والمستحبات ( قطعا ) وذلك لما عرفت : من قرينة « لا يترك » الظاهرة في تحريم الترك .

وإنّما قلنا بأنّ الموصول ليس للعموم ، لأنه بالاضافة إلى قرينة « لا يترك » :

ص: 130

لشموله للأفعال المباحة بل المحرّمة ، فكما يتعيّن حمله على الأفعال الراجحة بقرينة قوله : « لايترك » ، كذلك يتعيّن حمله على الواجبات بنفس هذه القرينة ، الظاهرة في الوجوب .

وأمّا احتمال كونه إخبارا عن طريقة الناس ، فمدفوع بلزوم الكذب

-------------------

انه لو كان للعموم كان غير صحيح قطعا ، وذلك ( لشموله للأفعال المباحة بل المحرّمة ) أيضا لان لفظ « ما » بنفسه شامل لكل الأفعال من الواجب والمستحب والمكروه والمباح والمحرّم .

إذن : ( فكما يتعيّن حمله ) أي : حمل لفظ « ما » من أول الأمر ( على الأفعال الراجحة ) فلا يشمل المباح والمكروه والمحرّم ( بقرينة قوله ) عليه السلام : ( « لايترك » ، كذلك يتعيّن حمله ) من أول الأمر ( على الواجبات بنفس هذه القرينة ، الظاهرة في الوجوب ) .

لا يقال : العموم الشامل للأحكام الخمسة في الموصول هنا مقطوع العدم ، لكن على الظاهر لا مانع هنا من حمل الموصول هذا على الواجب والمستحب ، فيكون لا يترك أيضا محمول عليهما ؛ لأنّه يقال : هذا خلاف ظاهر « لا يترك » ، فظهور « لا يترك » يوجب حمل الموصول أيضا على الوجوب .

أقول : لا يبعد ان يكون الموصول في الرواية ظاهرا في الأعم من الواجب والمستحب ، ويكون لا يترك واجبا في الواجب ، ومستحبا في المستحب ، فان هذا هو المستفاد عرفا من هذه الرواية .

( وامّا احتمال كونه إخبارا عن طريقة الناس ) لا انشاءا للحكم الشرعي ، وهذا هو الاشكال الثالث على دلالة الرواية ( فمدفوع بلزوم الكذب ) فان الناس كثيرا

ص: 131

أو اخراج أكثر وقايعهم .

وأمّا احتمال كون لفظ الكلّ للعموم الافرادي ، فلا وجه له ، لأن المراد بالموصول هو فعل المكلّف .

وكلّه عبارة عن مجموعه .

-------------------

مايتركون الميسور بسبب المعسور ( أو اخراج أكثر وقايعهم ) وهو تخصيص مستهجن وكلاهما مقطوع العدم .

وهنا جواب آخر لعله أولى من هذا الجواب وهو : ان الأصل في كلماتهم عليهم السلام هو : بيان الأحكام لا التاريخ والحكاية وما أشبه ، لان بيان الأحكام هو شأنهم ، فانهم وان كانوا ربّما يتكلمون في غيره لكنه يحتاج إلى قرينة ، والقرينة مفقودة في مثل المقام ، ولذا حمل العلماء : «ومن هاب الرجال إلى آخره » (1) على انه بيان لاستحباب تهيّب الناس وكراهة وهنهم ، وحملوا : «من دخل مداخل السوء اتُّهم » (2) على انه بيان لكراهة ذلك .

( وأمّا ) الاشكال الرابع وهو : ( احتمال كون لفظ الكلّ للعموم الافرادي ) دون الكل المجموعي الذي هو عبارة عن المركب ( فلا وجه له ، لان المراد بالموصول هو فعل المكلّف ) لا افعال المكلّف ، إذ الموصول عندهم من قبيل المطلقات لا من قبيل العمومات حتى يختص بالعموم الافرادي .

( و ) عليه : فيكون المراد من لفظ ( كلّه ) في الرواية : ( عبارة عن مجموعه ) أي : مجموع اجزائه ، لا كل فرد فرد منه ، فيكون المعنى : ما لا يدرك مجموعه

ص: 132


1- - الخصال : ص73 ح111 بالمعنى ، ديوان الإمام علي عليه السلام : ص25 .
2- - وسائل الشيعة : ج12 ص38 ب19 ح15578 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج19 ص264 ب355 و ص265 .

نعم ، لو قام قرينةٌ على إرادة المتعدّد من الموصول بأن اريد : أنّ الافعال التي لا يدرك كلّها ، كاكرام زيد ، وإكرام عمرو ، وإكرام بكر ، لايترك كلّها ، كان لما احتمله وجهٌ ، لكن لفظ الكلّ حينئذٍ أيضا مجموعيّ لا افراديّ ، إذ لو حمل على الافرادي كان المراد: « ما لايدرك شيء منها لا يترك شيء منها » ، ولا معنى له ،

-------------------

من حيث المجموع لا يترك جميعه .

( نعم ، لو قام قرينة ) خارجية ( على ارادة المتعدّد من الموصول بان اريد : انّ الافعال التي لا يدرك كلّها كاكرام زيد ، واكرام عمرو ، واكرام بكر ، لا يترك كلّها ، كان لما احتمله ) من ارادة كل فرد فرد من العام ، لا كل جزء جزء من المركب ( وجه ) وجيه .

( لكن لفظ الكلّ حينئذ ) أي : حين قيام القرينة ( أيضا مجموعيّ لا افراديّ ) فيكون المعنى : ان الأعم من الأجزاء في المركب والأفراد في العام إذا لم يدرك كله المجموعي لا يترك كله ، بل يأتي بما تيسر منه ، فيكون لفظ الكل مجموعيا على كلا التقديرين ، سواء كان المراد الفعل الذي لا يدرك كله فيما كان ذا أجزاء كالصلاة ، أم كان المراد الأفعال التي لا يدرك كلها فيما كان ذا أفراد كالعلماء .

وإنّما يكون لفظ الكل مجموعيا حتى مع قيام القرينة على ان الموصول للمتعدد ( إذ لو حمل ) لفظ الكل ( على الافرادي كان المراد ) حسب ظاهر العبارة ( ما لا يدرك شيء منها لا يترك شيء منها ، و ) من الواضح : ان هذا ( لا معنى له ) فان مثل هذا الكلام ليس بصحيح .

لكن الأوثق وغيره اشكلوا على المصنِّف بقولهم : وفيه ما لا يخفى : لانه لو حمل لفظ كل على العموم الافرادي كان النفي في القضيتين مفيدا لسلب

ص: 133

فما ارتكبه في احتمال العموم الافرادي مما لاينبغي له ، لم ينفعه في شيء .

فثبت ممّا ذكرنا : أنّ مقتضى الانصاف تمامية الاستدلال بهذه الروايات ، ولذا شاع بين العلماء بل جميع الناس الاستدلالُ بها في المطالب ، حتى أنّه يعرفه العوامّ بل النسوان والأطفال .

-------------------

العموم الصادق مع السالبة الجزئية ، وما ذكره إنّما يتم لو كان مقتضاه عموم السلب فتدبر (1) .

وكيف كان : ( فما ارتكبه ) المستشكل ( في احتمال العموم الافرادي مما لا ينبغي له ) ارتكابه ، لانه لا معنى له .

وإنّما لا ينبغي له ارتكابه ، لانه ( لم ينفعه في شيء ) مما أراد اثباته ، وذلك لما قد تقدّم : من ان المراد بالموصول هو : فعل المكلّف لا افعال المكلّف ، لان الموصول هنا ظاهر في المطلق لا في العموم ، فيتناسب مع ذي الاجزاء لا مع ذي الافراد .

وعليه : ( فثبت ممّا ذكرنا : انّ مقتضى الانصاف تمامية الاستدلال بهذه الروايات ) الثلاث من النبوي والعلويين لافادة وجوب الباقي من الاجزاء عند تعسّر البعض أو تعذره .

( ولذا شاع بين العلماء ، بل جميع الناس الاستدلال بها ) أي : بهذه الروايات ( في المطالب ) المشابهة لما نحن فيه ( حتى انّه يعرفه العوامّ بل النسوان والأطفال ) الذين يميّزون مثل هذه الاُمور .

ص: 134


1- - أوثق الوسائل : ص391 دفع ما أورد على دلالة العلويين على وجوب الباقي المتيسّر .

ثم إنّ الرواية الاُولى والثالثة وإن كانتا ظاهرتين في الواجبات إلاّ أنّه يعلم جريانهما في المستحبّات بتنقيح المناط العرفيّ ، مع كفاية الرواية الثانية في ذلك .

-------------------

( ثم إنّ الرواية الاُولى ) وهي قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « فأتوا منه ما استطعتم » (1) ( والثالثة ) وهي قوله عليه السلام : « ما لا يدرك كله لا يترك كله » (2) ( وان كانتا ظاهرتين في الواجبات ) ما كان : « فأتوا » و « لا يترك » ( إلاّ انّه يعلم جريانهما في المستحبّات بتنقيح المناط العرفيّ ) فان العرف يفهم من مثل هذه العبارات ان مناطها موجود في المستحبات أيضا .

لكن ربما يقال : بأن ظاهر الروايتين هو الأعم من الواجب والمستحب ، فلا حاجة إلى المناط ، كما لا تحتاج الرواية الثانية إلى المناط على ما أشار اليه المصنِّف بقوله : ( مع كفاية الرواية الثانية في ذلك ) أي : في شمولها للواجب والمستحب بلا حاجة إلى المناط ، وذلك لان قول أمير المؤمنين عليه السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور » (3) بنفسه يشمل الواجب والمستحب معا .

ولا يخفى : ان هذه الروايات كما تشمل الواجب والمستحب تشمل الحرام والمكروه أيضا ولو بالمناط يعني : بغض النظر عن الأدلة الموجودة في المقام فان هذه الروايات تشملهما أيضا ، فاذا كان شيء حراما ، واضطر إلى ارتكاب بعضه لا جميعه حرم عليه ارتكاب الباقي ، وكذلك إذا كان شيء مكروها ، كأكل الجبن ،

ص: 135


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص58 ح206 بالمعنى ، بحار الانوار : ج22 ص31 ب37 .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ص58 ح207 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج19 ص75 ب239 ، بحار الانوار : ج56 ص283 ب25 .
3- - غوالي اللئالي : ج4 ص58 ح205 ، بحار الانوار : ج84 ص101 ب12 ح2 .

...

-------------------

أو النوم بين الطلوعين - مثلاً - .

بقي هنا شيء وهو : انه قد تقدّم في مباحث الألفاظ : ان العموم على ثلاثة أقسام : استغراقي ، ومجموعي ، وبدلي .

أمّا الأوّل وهو العام الاستغراقي : فيلاحظ فيه كل فرد من أفراده موضوعا مستقلاً للحكم ، كاكرم كل عالم إذا لوحظ كل فرد من افراد هذا العام موضوعا مستقلاً لوجوب الاكرام بحيث لا يرتبط أيّ فرد منه بفرد آخر ، ولازم هذا القسم : حصول الاطاعة والمعصية بفعل كل واحد وترك كل واحد من افراده .

وأما الثاني وهو العام المجموعي : فيلاحظ فيه جميع الافراد موضوعا واحدا للحكم ، بحيث يكون كل فرد من الأفراد جزءا من الموضوع ، فيكون الاتيان بالمجموع من حيث المجموع مطلوبا واحدا قد ارتبط امتثال بعضه ببعضه الآخر على نحو لو أتى بالجميع إلاّ واحدا لم يتحقق الامتثال ، وذلك كما إذا قال المولى : كُن يقظا كل ساعات الليل ، لان السارق يترصّد غفوته ليسرق المتاع ، ولازم هذا القسم : حصول الاطاعة بفعل الجميع ، والعصيان ولو بترك فرد واحد من أفراده .

وأمّا الثالث : وهو العام البدلي : فيلاحظ فيه واحد من الافراد على البدل موضوعا للحكم ، كاكرام عالما من العلماء ، فانه يحصل الامتثال باكرام أي واحد شاء من العلماء ، ولازم هذا القسم : حصول الاطاعة بفعل واحد من الافراد ، والعصيان بترك الجميع .

هذا هو تمام الكلام فيما ينبغي التنبيه عليه في الجزء .

ص: 136

وأما الكلام في الشروط

فنقول : إنّ الأصل فيها ما مرّ في الأجزاء من كون دليل الشرط إذا لم يكن فيه إطلاق عام لصورة التعذّر وكان لدليل المشروط إطلاق ، فاللازم الاقتصار في التقييد على صورة التمكن من الشرط .

-------------------

( وأما الكلام في الشروط ) علما بأنّ الفرق بين الجزء والشرط يكون واضحا ، لان الجزء : ما كان داخلاً في المهية ومعتبرا في عرض سائر الأجزاء كالركوع والسجود وما أشبه بالنسبة إلى الصلاة ، والشرط : ما كان خارجا عن حقيقة المركب وليس من اجزائه الخارجية بل من كيفياته ، فيكون المركب مقيّدا به بحيث يكون التقييد داخلاً والقيد خارجا ، كالطهارة والقبلة وما أشبه في الصلاة .

ولهذا فقد عرّف بعضهم الشرط : بأنّه ما يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده الوجود ، كالوضوء - مثلاً - فانه إذا كان معدوما لم تكن صلاة ، امّا إذا كان موجودا لا يلزم ان تكون صلاة .

وربما عرّف الشرط : بانه ما يتوقف عليه الشيء ولا يكون مقوّما له ، ومن المعلوم: ان الشرط في كلامنا يشمل الشرط المتقدّم ، والشرط المتأخر ، والشرط المقارن ، لأنّ كل هذه الأقسام من الشروط تعطي لونا للمشروط .

وعليه : ( فنقول : انّ الأصل فيها ) أي : في الشروط ( ما مرّ في الأجزاء : من كون دليل الشرط إذا لم يكن فيه إطلاق عام لصورة التعذّر وكان لدليل المشروط إطلاق، فاللازم الاقتصار في التقييد على صورة التمكن من الشرط ) فاذا كان للمركب إطلاق معتبر ولم يكن للشرط مثل ذلك الاطلاق ، اختص الشرط بصورة التمكن ، إذ عند تعذر الشرط يتمسك باطلاق دليل المشروط ، فلا يسقط المشروط بتعذّر الشرط .

ص: 137

وأمّا القاعدة المستفادةُ من الروايات المتقدمة ، فالظاهرُ عدم جريانها .

-------------------

أمّا في غير هذه الصورة من الصور الاُخر فيسقط المشروط عند تعذر الشرط فيها ، وذلك لأصالة البرائة من المشروط .

لكن لا يخفى : ان في عبارة المصنِّف نوع تسامح ، ولذا قال في بحر الفوائد :

« إنّ حق التحرير في المقام ان يقول قدس سره : ان الأصل فيها ما مر من الرجوع إلى البرائة ، أو الاستصحاب على الوجهين ، فيرجع اليه إذا لم يكن لدليل المشروط إطلاق يرجع اليه ، أو كان له إطلاق لا يرجع اليه من جهة إطلاق دليل الشرط ، فانه لا يرجع إلى الأصل في الصورتين ، فان ما أفاده بقوله : من كون دليل الشرط إلى آخره ، لا يمكن أن يجعل بيانا للأصل ، إلاّ ان يجعل المراد من الأصل : الأصل الثانوي المستفاد من دليل المشروط ، فلابد ان يراد بالأصل : الثانوي» ، انتهى .

وان شئت قلت : انه إذا كانت هناك قاعدة مستفادة من الروايات بالنسبة إلى الشرط أخذ بتلك القاعدة ، وإذا لم تكن قاعدة أخذ بالأصل اللفظي ، وإذا لم يكن الأمران فالأصل هو أحد ما تقدّم : من البرائة ، أو الاستصحاب ، كما ذكر تفصيله في الكلام عن الجزء .

( وأمّا القاعدة المستفادة من الروايات المتقدمة ، ) يعني بها قاعدة الميسور ( فالظاهر : عدم جريانها ) عند تعذر بعض الشروط .

لكن لا يخفى ان هذا هو ما يراه المصنِّف ، وإلاّ فالظاهر : إنّ العرف يفهم من جميع تلك الروايات عدم الفرق بين الجزء والشرط والمانع والقاطع بالنسبة اليها ولا منافاة بين الدقة العقلية التي ذكرها ، والفهم العرفي الذي نراه ، ومن المعلوم :

ص: 138

أمّا الاُولى والثالثة : فاختصاصهما بالمركب الخارجي واضحٌ .

وأمّا الثانية : فلاختصاصها - كما عرفت سابقا - بالميسور الذي كان له مقتض للثبوت حتى ينفي كون المعسور سببا لسقوطه .

ومن المعلوم : أن العمل الفاقد للشرط ، كالرقبة الكافرة - مثلاً - لم يكن المقتضي للثبوت فيه موجودا

-------------------

إنّ المعيار هو الثاني لا الأوّل .

وكيف كان : فالمصنّف يناقش في دلالة الروايات على وجوب الباقي عند تعذر بعض الشروط وذلك بقوله : ( أمّا الاُولى والثالثة : ) وهما : « فأتوا منه ما استطعتم » (1) و « ما لا يدرك كله لا يترك كله » (2) ( فاختصاصهما بالمركب الخارجي واضح ) وذلك بقرينة التبعيض في الاُولى ولفظ الكل في الثالثة ، فلا يشملان الشرط .

( وأمّا الثانية : فلاختصاصها - كما عرفت سابقا - بالميسور الذي كان له مقتض للثبوت ) وذلك بان يكون الميسور في نظر العرف هو المأمور به النفسي مسامحة ( حتى ينفي كون المعسور سببا لسقوطه ) أي : سقوط الميسور ، فالميسور بنظر العرف باق على وجوبه عند تعذر بعض الاجزاء لوجود المقتضي لثبوته ، دون الميسور بعد تعذر بعض الشروط فانه كما قال :

( ومن المعلوم : ان العمل الفاقد للشرط كالرقبة الكافرة - مثلاً - لم يكن المقتضي للثبوت فيه موجودا ) وذلك لان الرقبة الكافرة مباينة في نظر العرف

ص: 139


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص58 ح206 بالمعنى ، بحار الانوار : ج22 ص31 ب37 .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ص58 ح208 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج19 ص75 ب239 ، بحار الانوار : ج56 ص283 ب25 .

حتى لا يسقط بتعسر الشرط ، وهو الايمان .

هذا ، ولكن الانصاف جريانُها في بعض الشروط التي يحكم العرفُ ، ولو مسامحة باتحاد المشروط الفاقد لها مع الواجد لها .

ألا ترى : أنّ الصلاة المشروطة بالقبلة ، أو الستر ، أو الطهارة ، إذا لم يكن فيها هذه الشروط كانت عند العرف هي التي فيها هذه الشروط ؛ فاذا تعذرّت احدى هذه صدق الميسور على الفاقد لها ، ولولا هذه المسامحة

-------------------

للرقبة المؤمنة ، وكذا الصلاة مع الطهارة مباينة للصلاة بلا طهارة ، فليست هي حينئذ المأمور به النفسي مسامحة ( حتى لا يسقط ) الميسور الباقي منها ( بتعسر الشرط ، وهو الايمان ) في الرقبة والطهارة في الصلاة مثلاً .

( هذا ، ولكن الانصاف جريانها ) أي : جريان الرواية الثانية وهي رواية الميسور ( في بعض الشروط التي يحكم العرف ، ولو مسامحة باتحاد المشروط الفاقد لها ) أي : للشروط ( مع الواجد لها ) فهما عند العرف شيء واحد ، إلاّ ان أحدهما ميسور والآخر معسور .

( ألا ترى : انّ الصلاة المشروطة بالقبلة ، أو الستر ، أو الطهارة ، إذا لم يكن فيها هذه الشروط كانت عند العرف ) بالنظر المسامحي ( هي التي فيها هذه الشروط ، فاذا تعذّرت احدى هذه ) الشروط ( صدق الميسور على الفاقد لها ) أيضا ، لأن أهل العرف يرون الصلاة صلاة سواء كانت مع الشرط أم بدون الشرط .

نعم ، يرون من اللازم أولاً : الاتيان بها مع الشروط المذكورة ، فاذا تعذر شيء من تلك الشروط رأوا من اللازم : الاتيان بها بحسب المقدور من تلك الشروط .

( و ) عليه : فانه ( لولا هذه المسامحة ) العرفية لم تجر قاعدة الميسور هنا ،

ص: 140

لم يجر الاستصحاب بالتقرير المتقدّم .

نعم ، لو كان بين واجد الشرط وفاقده تغايرٌ كلّي في العرف ، نظير الرقبة الكافرة بالنسبة إلى المؤمنة ،

-------------------

كما ( لم يجر الاستصحاب ) فيما نحن فيه أيضا ولا في كثير من الاُمور .

أما تصور المسامحة العرفية هنا فيكون ( بالتقرير المتقدّم ) وهو : ان الجامع للشروط مع الفاقد للبعض يكون بنظر العرف واحدا ، لانه عندهم من تبدل الحالات لا من تبدل الموضوع ، وكما يجوز في أمثال هذه الموارد المشكوكة التمسك باستصحاب وجوب المشروط ، كذلك يجوز فيما نحن فيه التمسك بدليل الميسور ، لان العرف يرى ان الباقي هو الميسور من المعسور الذي لايتمكن المكلّف منه إطلاقا ، أو يتمكن منه لكن بعسر مرفوع شرعا .

( نعم ، لو كان بين واجد الشرط وفاقده تغاير كلّي في العرف ، نظير الرقبة الكافرة بالنسبة إلى المؤمنة ) فان بينهما تغاير كلي ، وقد أشار تعالى إلى المغايرة هذه وهو يصف الكفار بقوله : « يأكلون كما تأكل الانعام والنار مثوىً لهم » (1) .

وقال جلّ ذكره : « ان هم إلاّ كالأنعام بل هم أضل » (2) .

وقال عزّ من قال : « فمثله كمثل الكلب » (3) .

وقال سبحانه تعالى : « مثل الذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا » (4) إلى غير ذلك .

ص: 141


1- - سورة محمد : الآية 12 .
2- - سورة الفرقان : الآية 44 .
3- - سورة الاعراف : الآية 176 .
4- - سورة الجمعة : الآية 5 .

أو الحيوان الناهق بالنسبة إلى الناطق ، وكذا ماء غير الرمان بالنسبة إلى ماء الرمان ، لم تجر القاعدةُ المذكورة .

ومما ذكرنا يظهر ما في كلام صاحب الرياض ، حيث بنى وجوب غسل الميت بالماء القَراح ، بدلَ ماء السدر ،

-------------------

( أو ) كان التغاير الكلي نظير ( الحيوان الناهق بالنسبة إلى الناطق ) كما إذا قال المولى : جئني بحيوان ناطق ، فلم يتمكن من الناطق ، فهل يأتي بالحيوان الناهق لوجود الجنس فيهما معا ؟ .

( وكذا ) لو كان التغاير الكلي نظير تغاير ( ماء غير الرمان بالنسبة إلى ماء الرمان ) فانه إذا قال المولى : جئني بماء الرمان ، لا يكفي ان يأتي له باللبن ، أو بماء العنب ، أو بالماء القراح - مثلاً - لانّ أهل العرف لا يرون هذا الممكن ميسور ذلك الفاقد .

وعليه : فاذا كان التغاير بين الواجد والفاقد كليا كما مثلنا له ( لم تجر القاعدة المذكورة ) أي : قاعدة الميسور ، كما لا يجري الاستصحاب حينئذ أيضا .

نعم ، ربما يفهم من كلام المولى بسبب القرائن الخارجية ان الأمثلة المذكورة هي من الميسور أيضا ، كما إذا أراد المولى الطواف وهو لا يقدر على المشي .

فقال لعبده : ائتني بحيوان ناطق ليحمله في الطواف ، فان الناهق هنا يكون ميسورا منه ، وكذا إذا غصّ المولى بلقمته وأراد تليين اللقمة ليزدردها فقال : أئتني

بماء الرمان ، فان غيره من المضاف ، أو القراح يكون ميسورا عنه عرفا وهكذا .

( ومما ذكرنا ) : من التفصيل في الشروط ، وانّ فقد بعض الشروط لا يوجب سقوط المشروط للمسامحة العرفية بين الواجد للشرط وفاقده ، وان فقد بعضها الآخر يوجب سقوط المشروط لعدم المسامحة العرفية فيها ( يظهر ما في كلام صاحب الرياض ، حيث بنى وجوب غسل الميت بالماء القراح ، بدل ماء السدر )

ص: 142

على أن ليس الموجودُ في الرواية الأمرَ بالغسل بماء السدر على وجه التقييد ، وإنّما الموجود : « وليكن في الماء شيء من السدر » .

-------------------

أو بدل ماء الكافور على انه ليس من المقيد .

وإنّما أوجب الغسل بالماء عند تعذر السدر أو الكافور لانه قال : ان الأمر هنا ليس من قبيل القيد والمقيّد حتى ينتفي الغسل بتعذر السدر أو الكافور ، وإنّما من قبيل الجزء والكل فلا ينتفي الغسل عند تعذر السدر أو الكافور ، مع انه ليس كذلك ، فقد عرفت : انه حتى لو كان من القيد والمقيّد لم ينتف الغسل للتسامح العرفي بين الواجد للسدر وفاقده ، والواجد للكافور وفاقده .

وعليه : فعند تعذّر السدر والكافور ، هل يكتفي الغاسل بتغسيله غسلاً واحدا لتعذر السدر والكافور ، أو يغسله ثلاثة أغسال بالماء القراح ، أحدها : ميسور ماء السدر ، وثانيها : ميسور ماء الكافور ، وثالثها : نفس الماء القراح؟ قال صاحب الرياض بوجوب الثلاثة .

هذا ، وقد استدل لوجوب الثلاثة بناءا ( على ان ليس الموجود في الرواية الأمر بالغسل بماء السدر على وجه التقييد ) فلم تقل الرواية : اغسله بماء السدر والكافور لتفيد تقييد ماء الغسل بالسدر والكافور ، حتى ينتفي المقيّد وهو : الغسل بانتفاء القيد وهو : السدر والكافور ( وإنّما الموجود ) في الرواية : ( « وليكن في الماء شيء من السدر » (1) ) ولأجله قال صاحب الرياض : إنّ هنا مطلوبين مستقلين : الأوّل : الغسل .

ص: 143


1- - الكافي فروع : ج3 ص139 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص108 ب5 ح14 و ص300 ب13 ح43، وسائل الشيعة : ج2 ص483 ب2 ح2699 .

توضيح ما فيه : أنّه لا فرق بين العبارتين ، فانه إن جعلنا ماء السدر من القيد والمقيّد ، كان قوله : « وليكن فيه شيء من السدر » كذلك ، وإن كان من اضافة الشيء إلى بعض أجزائه كان الحكم فيها واحدا .

-------------------

الثاني : خلطه بشيء من السدر ، أو بشيء من الكافور ، ولا يسقط الأوّل بتعذر الثاني .

لكن لا يخفى : ان كلام الرياض في بدلية الماء عن الخليطين تام ، فانه يجب غسل الميت بثلاثة مياه ، إلاّ ان طريقة استدلاله لذلك غير تام ، فبدأ المصنِّف في ( توضيح ما فيه ) أي : ما في الاستدلال بقوله : ( انّه لا فرق بين العبارتين ) فسواء قال : اغسله بماء السدر ، أم قال : ليكن في الماء شيء من السدر كان الحكم فيها واحدا كما قال : ( فانه ان جعلنا ماء السدر من القيد والمقيّد كان قوله : وليكن فيه شيء من السدر كذلك ) من القيد والمقيّد ( وان كان من اضافة الشيء إلى بعض اجزائه كان الحكم فيها ) أي : في عبارة : وليكن فيه شيء من السدر أيضا كذلك ، فيكون حكم العبارتين المذكورتين ( واحدا ) غير ان فهم عبارة الرواية في انها من القيد والمقيّد، أو من اضافة الشيء إلى بعض أجزائه موكول إلى العرف .

وعلى أي حال : فالعبارتان المذكورتان ، امّا تفيدان الشرطية ، فعند تعذر السدر سقط وجوب الغسل اطلاقا لوضوح مباينة ماء السدر مع الماء القراح ، فلا يكون الماء القراح ميسورا لماء السدر ، كما انه لا يجري الاستصحاب لتبدّل الموضوع ، وامّا تفيدان الجزئية فعند تعذر الجزء لا يسقط الغسل رأسا لجريان القاعدتين : قاعدة الميسور ، والاستصحاب .

أقول : لكنك قد عرفت : عدم الفرق بين الجزء والشرط في جريان قاعدة الميسور فيهما معا .

ص: 144

ودعوى : « أنّه من المقيّد ، لكن لما كان الأمرُ الواردُ بالمقيد مستقلاً ، فيختصّ بحال التمكن ، ويسقط حالَ الضرورة ، ويبقى المطلقات غيرَ مقيّدة بالنسبة إلى الفاقد » ،

-------------------

نعم ، ربما يستشكل هنا : بأنّ الماء القراح ليس من ميسور ماء السدر ، كما لم يكن الماء الخالص من ميسور المرق في المثال السابق ، وذلك لما تقدّم : من انه لا يصدق عليه عرفا انه ميسوره ، لانّ المتعذر كان مقوّما للاسم وبانتفائه انتفى الاسم، فسقط الباقي عن الوجوب .

ثم لا يخفى : ان هذا الكلام من صاحب الرياض إنّما هو إشكال منه على المحقق ، حيث انه عند شرح قول المحقق هنا قال :

«ولو تعذر السدر والكافور كفت المرة بالقراح عند المصنِّف وجماعة ، لفقد المأمور به بفقد جزئه بعد تسليمه ، وهو كذلك إذا دلت الأخبار على الأمر بالمركب ، وليس كذلك لدلالة أكثرها وفيها الصحيح وغيره على الأمر بتغسيله بماء وسدر ، فالمأمور به شيئان متمايزان وان امتزجا في الخارج ، وليس الاعتماد في ايجاب الخليطين على ما دل على الأمر بتغسيله بماء السدر خاصة حتى يرتفع الأمر بارتفاع خليطه ، وبعد تسليمه لا نسلم فوات الكل بفوات الجزء بعد قيام المعتبرة باتيان الميسور وعدم سقوطه بالمعسور ، وضعفها بعمل الأصحاب طرا مجبور ، فاذن : الأقوى وجوب الثلاثة بالقراح وفاقا لجماعة» .

هذا ( ودعوى : « أنّه من ) القيد و ( المقيّد ، لكن لما كان الأمر الوارد بالمقيد مستقلاً ) بأن كان هنا أمران : أمر بالغسل ، وأمر بكونه بماء السدر ، فانه إذا كان كذلك ( فيختصّ ) كونه بماء السدر ( بحال التمكن ، ويسقط حال الضرورة ، ويبقى المطلقات ) الآمرة بالغسل ( غير مقيّدة ) بالسدر ( بالنسبة إلى الفاقد » )

ص: 145

...

-------------------

للسدر ، وكذا بالنسبة إلى الكافور .

والحاصل : ان الدعوى وان تسلّم ان السدر والكافور في ماء الغسل من الشرط والمشروط على التعبيرين ، والمشروط عدم عند عدم شرطه ، إلاّ انها تحاول التخلص فيما نحن فيه بجعل الأمر بالشرط مستقلاً بحيث إذا تعذر الشرط سقط الشرط وحده والحال ان هذا التخلص ليس بصحيح لان الشرط فيما نحن فيه ليس بأمر مستقل ، بل هو والمشروط بأمر واحد مثل : اغسله بماء السدر واغسله بماء الكافور ، وفي مثله إذا انتفى الشرط ينتفي المشروط ، لوضوح : ان المشروط وغير المشروط أمران متباينان ، فليس أحدهما ميسورا من الآخر .

نعم ، إذا ثبت كل من المركب واجزائه ، والمشروط وشروطه ، بدليل مستقل ، فان كان لدليل المركب أو المشروط اطلاق معتبر لم يكن دليل الجزء والشرط كذلك ، تقيّد الاشتراط والتركيب بحال التمكن من الشرط والجزء ، فعند تعذر الشرط والجزء يتمسك باطلاق دليل المركب والمشروط لفرض ان دليلهما مطلق يشمل حال التمكن من الشرط والجزء وحال العدم .

وعليه : فيكون ما نحن فيه حينئذ من قبيل قوله : أنفق على زوجتك ، مع قوله فيكلام آخر : ليكن الانفاق على النحو المتعارف ، فانّ اطلاق الأمر الأوّل : يقتضي وجوب الانفاق بالنحو غير المتعارف إذا تعذر الانفاق على النحو المتعارف .

وإنّما يقتضي ذلك لان للأمر الأوّل اطلاق فيتمسك به عند تعذر المتعارف من الانفاق ، بخلاف الأمر الثاني فانه يسقط بالتعذّر ولا يستطيع ان يقيّد اطلاق الأمر الأوّل حتى في حال التعذر حتى يكون نتيجة التقييد : سقوط الانفاق رأسا عند تعذر الانفاق بالنحو المتعارف .

ص: 146

مدفوعةٌ : بأنّ الأمر في هذا المقيّد للارشاد وبيان الاشتراط ، فلا يسقط بالتعذر ، وليس مسوقا لبيان التكليف ، إذ التكليف المتصورُ هنا هو التكليف المقدّمي ، لأن جعل السدر في الماء ، مقدمةٌ للغسل بماء السدر

-------------------

وكيف كان : فالدعوى ( مدفوعة : بأنّ الأمر في هذا المقيّد ) - بالكسر - على فرض استقلاله إنّما هو ( للارشاد وبيان الاشتراط ، فلا يسقط بالتعذر ) .

والحاصل : انا وان سلمنا ان الشرط بأمر ثان مستقل ، إلاّ ان هذا الأمر الثاني بالشرط أمر ارشادي كاشف عن تقيّد الواجب به وان لم يذكر معه في كلام واحد ، فيكون الأمر الأوّل مقيّدا بالثاني وجودا أو عدما فاذا تعذر القيد سقط المقيّد رأسا فلا تكليف بالأمر الأوّل .

( و ) ان قلت : الأمر الثاني تكليف مستقل ، فاذا تعذر سقط وحده وبقي الأمر الأوّل بالغسل .

قلت : ( ليس ) الأمر الثاني المقيّد للأول ( مسوقا لبيان التكليف ) مستقلاً حتى يكون هناك تكليفان أحدهما مستقل عن الآخر ، فاذا سقط التكليف الثاني بالتعذر، بقي التكليف الأوّل على وجوبه ( إذ التكليف المتصور هنا ) أي : في الأمر الثاني على رأي المصنِّف قدس سره ( هو التكليف المقدّمي ) .

وعليه : فالأمر الثاني لا يخلو من أحد وجهين : فهو إمّا ان يكون ارشاديا محضا، كما قال : الأمر في هذا المقيّد للارشاد ، وإمّا ان يكون مولويا مقدّميا ، وذلك ( لأن جعل السدر في الماء ، مقدمة للغسل بماء السدر ) كجعل التطهر مقدمة للصلاة مع الطهارة .

وعلى كل من الوجهين : فانه سواء جعلنا الأمر الثاني تكليفيا مقدّميا ، أم ارشاديا محضا ، فالأمر الثاني يكون مقيّدا للأمر الأوّل ولا يسقط وحده بالتعذر ،

ص: 147

المفروض فيه عدم التركيب الخارجي له ، لا جزء خارجي له حتى يسقط عند التعذّر .

وتقييده بحال التمكّن ناشٍ من تقييد وجوب ذيها ، فلا معنى لاطلاق أحدهما وتقيّد الآخر كما لايخفى على المتأمّل .

-------------------

بل إذا تعذّر السدر سقط الأمر بالغسل أيضا .

وإنّما جعل الأمر الثاني هنا من القيد والمقيّد لا من الجزء والكل ، لان ( المفروض فيه عدم التركيب الخارجي له ) كما اعترف به المدّعي في الدعوى أيضا، فالأمر الثاني إذن من المقيّد ( لا ) ( جزء خارجي له ) ليكون من الجزء والكل ( حتى يسقط عند التعذّر ) أي : تعذر الجزء ويبقى الأمر الأوّل بالغسل على وجوبه لقاعدة الميسور .

والحاصل : ان الأمر بالسدر ، سواء قلنا : انه أمر تكليفي مقدمي ، أم أمر ارشادي محض ، فانه لا يسقط بالتعذر ، بل يكون الاشتراط باقيا حال التعذر أيضا ، فاذا لم يتمكن من السدر سقط الغسل رأسا ، لا انه يسقط السدر ويبقى الغسل بالماء القراح .

( و ) إنّما قال : لا يسقط الأمر الثاني وحده حال التعذر ، لان ( تقييده بحال التمكّن ) حتى يسقط وحده عند التعذر ، أو عدم تقييده بحال التمكن حتى لا يسقط وحده عند التعذر ( ناشٍ من تقييد ) أو عدم تقييد ( وجوب ذيها ) أي : تابع في وجوده وسقوطه لذي المقدمة .

إذن : ( فلا معنى لاطلاق أحدهما وتقيّد الآخر ) أي : لا معنى لأن نقول : بأن الأمر بالغسل مطلق يشمل حال التمكن والتعذر عن السدر والأمر بالسدر مقيّد بحال التمكن منه فقط ( كما لا يخفى على المتأمّل ) .

ص: 148

ويمكن أن يستدل على عدم سقوط المشروط بتعذّر شرطه برواية عبد الأعلى مولى آل سام ، قال : « قلت لأبي عبداللّه عليه السلام عثرتُ فانقطع ظفري

-------------------

وان شئت قلت : إنّ المحقق قال : انه إذا تعذر الخليط كفاه غسل واحد ، والرياض أشكل عليه : بأنّ قاعدة الميسور تقتضي ثلاثة أغسال ، والمصنِّف وغيره أشكلوا على الرياض بأُمور :

الأوّل : انه لا فرق بين العبارتين فسواء قال المولى : اغسله بماء السدر ، أم قال : وليكن في الماء شيء من السدر ، فان الحكم فيهما يكون واحدا .

الثاني : ان احتمال الاستقلال في العطف بالواو ، إنّما هو فيما إذا لم يدل قرينة على خلافه ، وهنا قرينة تدل على ارتباط الماء بالسدر والسدر بالماء ، فلا استقلال لكل منهما ، لان اللازم هو الماء الخليط .

الثالث : انه على فرض الاستقلال ، فان الأمر الثاني هنا إمّا للارشاد المحض ، فيدل على ان الغسل الواجب مشروط بهذه الكيفية ، فلا يسقط الشرط بالتعذر ويبقى أصل الغسل ، وإمّا للتكليف المقدمي ، فيدل على ان جعل السدر في الماء مقدمة للغسل بماء السدر ، فاذا تعذر السدر سقط الغسل رأسا ، لانه من القيد والمقيد ، لا من الجزء والكل حتى يسقط الجزء عند التعذر ، ويبقى أصل الغسل .

هذا ، ولا يخفى : ان الكلام في المقام طويل لا يقتضيه الشرح وان كان الأظهر هو ما قاله الرياض : من وجوب الأغسال الثلاثة إذا تعذر السدر والكافور .

( ويمكن ان يستدل على عدم سقوط المشروط بتعذّر شرطه ) بعد ان استدل عليه بالبرائة والاستصحاب على اشكال فيهما ( برواية عبدالأعلى مولى آل سام ) وهي كما يلي :

( قال : « قلت لأبي عبداللّه عليه السلام عثرت ) أي : زلّت قدمي ( فانقطع ظفري ) أي :

ص: 149

فجعلتُ على اصبعي مرارةً ، فكيف أصنعُ بالوضوء ؟ قال : يُعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عزوجل : « ما جعلَ عليكُمْ في الدِّين من حَرَجٍ » إمسح عليه » .

فانّ معرفة حكم المسألة ، أعني : المسح على المرارة من آية نفي الحرج ، متوقفةٌ على كون تعسر الشرط غير موجب لسقوط المشروط ، بأن يكون المنفيُّ بسبب

-------------------

ظفر أصابع رجله ( فجعلت على اصبعي مرارةً فكيف اصنع بالوضوء ) مع تعذر المسح على نفس الاظفر والاصبع ؟ .

( قال ) عليه السلام : ( يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عزوجل ) حيث قال سبحانه : ( « ما جعل عليكم في الدين من حرجٍ » (1) ) ثم قال : ( امسح عليه ) (2) أي : على ما جعله على اصبعه من المرارة ، فإنّ المسح على نفس الاصبع حرج ، ولذا كان مرفوعا .

وإنّما يكون هذا الحديث دليلاً على عدم سقوط المشروط مع تعذر شرطه لما ذكره المصنِّف بقوله :

( فإنّ معرفة حكم المسألة ، أعني : المسح على المرارة من آية نفي الحرج ، متوقفةٌ على ) مقدمة خارجية وهي : ( كون تعسر الشرط غير موجب لسقوط المشروط ) فالمسح واجب ويشترط ان يكون بمباشرة اليد للرجل ، وحيث ان سقوط الشرط لا يوجب سقوط المشروط ، أمر الامام ( بأن يكون المنفيّ بسبب

ص: 150


1- - سورة الحج : الآية 78 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص33 ح4 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص363 ب16 ح27 ، الاستبصار : ج1 ص77 ب46 ح3 ، وسائل الشيعة : ج1 ص464 ب29 ح1231 ، بحار الانوار : ج2 ص277 ب33 ح32 .

الحرج مباشرةَ اليد الماسحة للرجل الممسوحة ، ولا ينتفي بانتفائه أصل المسح المستفاد وجوبُه من آية الوضوء .

إذ لو كان سقوطُ المعسور ، وهي المباشرة ، موجبة لسقوط أصل المسح ، لم يكن معرفة وجوب المسح على المرارة من مجرّد نفي الحرج ، لأنّ نفي الحرج ، حينئذ يدلّ على سقوط المسح في هذه الوضوء رأسا ، فيحتاج وجوب المسح على المرارة إلى دليل خارجي .

-------------------

الحرج مباشرة اليد الماسحة للرجل الممسوحة ولا ينتفي بانتفائه ) أي : بانتفاء الشرط الذي هو المباشرة ( أصل المسح المستفاد وجوبه من آية الوضوء ) (1) ومن سائر الروايات الدالة على وجوب المسح .

( إذ لو كان سقوط ) الشرط ( المعسور وهي المباشرة ، موجبة لسقوط ) المشروط وهو ( أصل المسح ، لم يكن معرفة وجوب المسح على المرارة ) مستفادا ( من مجرّد نفي الحرج ) في الآية ( لان نفي الحرج حينئذ ) أي : حين تعذر المباشرة ( يدلّ على سقوط المسح في هذه الوضوء رأسا ، فيحتاج وجوب المسح على المرارة إلى دليل خارجي ) .

والحاصل : ان حكم المسألة وهو المسح على المرارة لا يمكن استفادته من آية : نفي الحرج وحدها إلاّ بعد ضم قاعدة الميسور المستفادة من الروايات اليها .

وإنّما لا يمكن ذلك إلاّ مع ضم القاعدة لأن نفي الحرج في الآية أعم من المسح على المرارة ، فلولا قاعدة الميسور كانت المسألة مجملة في انه هل المراد من نفي

ص: 151


1- - اشارة الى الآية 6 من سورة المائدة «يا أيها الذين آمنوا اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم الى الكعبين » .

فرعان

الأوّل : لو دار الأمرُ بين ترك الجزء وترك الشرط - كما في ما إذا لم يتمكّن من الاتيان بزيارة عاشوراء بجميع أجزائها في مجلس واحد ، على القول باشتراط اتحاد المجلس فيه - فالظاهرُ تقديم ترك الشرط ، فيأتي بالأجزاء تامّة في غير المجلس ، وترك الشرط باتيان جميع الأجزاء

-------------------

الحرج سقوط أصل المسح ، أو سقوط المباشرة؟ فبمعونة قاعدة الميسور تتعيّن دلالة الآية على سقوط المباشرة دون أصل المسح ، فيمسح على المرارة .

ومن المعلوم : إنّ أشباه ذلك من أحكام الجبائر في الوضوء والغسل والتيمم بالنسبة للاحياء والأموات يفهم أيضا من هذه الآية بمعونة قاعدة الميسور - كما عرفت - .

( فرعان : الأوّل : لو دار الأمر بين ترك الجزء وترك الشرط ) بان لم يتمكن من الاتيان بهما معا ( - كما في ما إذا لم يتمكّن من الاتيان بزيارة عاشوراء بجميع أجزائها في مجلس واحد ، على القول باشتراط اتحاد المجلس فيه - ) فانه إذا اشترط ذلك ودار الأمر بين ان يأتي بكل الأجزاء في مجلسين مما يوجب فقد الشرط وهو : المجلس الواحد ، وبين أن يأتي ببعض الاجزاء في مجلس واحد فيوجب فقد الجزء ، وكذا لو دار الأمر - مثلاً - بين ترك الاستقبال في الصلاة أو ترك الحمد .

( فالظاهر ) عند المصنِّف ( تقديم ترك الشرط ، فيأتي بالأجزاء تامّة في غير المجلس ) الواحد .

هذا ( وترك الشرط ) يكون بأحد وجهين: إمّا (باتيان جميع الأجزاء ) بلاشرط، وذلك بأن لا يكون الشرط في جزء من الاجزاء ، كالاتيان بأجزاء الصلاة جميعها

ص: 152

أو بعضها بغير شرط ، لأنّ فوات الوصف أولى من فوات الموصوف ، ويحتمل التخيير .

-------------------

إلى غير القبلة .

( أو ) باتيان ( بعضها بغير شرط ) كما إنه إذا أراد الاحتفاظ بقرائة الحمد الذي هو جزء الصلاة طالت صلاته ، فرآه الظالم وأجبره على الانحراف من القبلة حيث يقع بعض أجزاء الصلاة فاقدا للشرط فيما إذا أراد الاحتفاظ بالجزء وهو قرائة الحمد ، فيدور أمره بين ترك الحمد واتيان جميع الصلاة إلى القبلة ، وبين قرائة الحمد واتيان بعض الصلاة إلى غير القبلة .

هذا ، وفي كلا الوجهين قال المصنِّف بتقديم ترك الشرط .

وإنّما قال المصنِّف بتقديم ترك الشرط بوجهيه على ترك الجزء ( لأنّ فوات الوصف أولى من فوات الموصوف ) وذلك لأن الوصف متأخر عن الأصل ، والجزء يعدّ من الأصل ، فالجزء سابق على الشرط ، والسابق أولى بالمراعاة ، فاللازم الاتيان بالجزء لأنّ تقدّم رتبة الجزء على الشرط في مقام تأليف المهية يعطي للجزء أهمية أكثر .

( ويحتمل التخيير ) فيما لو دار الأمر بين ترك الشرط أو الجزء ، وذلك لأن مجرد تأخر رتبة الشرط في التصور لا يوجب تعيّن فوات الشرط عند الدوران بين فواته وفوات الجزء .

هذا ، لكن الظاهر في المسألة هو : التفصيل بين ما إذا أحرز الأهمية في أحدهما إلى حد المنع عن النقيض ، فيقدم الأهم ، وبين ما لم يحرز ذلك فيتخيّر .

وأمّا ما ذكره المصنِّف قدس سره في وجه تقديم الجزء ، فهو وجه اعتباري لا يوجب الجزم ، فإنّ تقدّم لحاظ الجزء في مقام التأليف لايقتضي ترجيحه على الشرط

ص: 153

الثاني : لو جعل الشارع للكلّ بدلاً اضطراريا ، كالتيمم ، ففي تقديمه على الناقص وجهان :

-------------------

عند وقوع التزاحم بينهما ، بل لابد من ملاحظة مرجحات باب التزاحم ، فربما يقدّم الجزء وربما يقدّم الشرط .

هذا ، ولا يخفى : ان المصنِّف رحمه اللّه تبع الدروس في هذا الأمر حيث قد سبقه الدروس في الاستدلال بأنّ فوات الوصف أولى من فوات الموصوف على ما حكي عنه .

ومما ذكرنا : من ان اللازم مراعاة أهم الأمرين ان كان ، وإلاّ فالتخيير ، يعلم حال ما إذا دار الأمر بين شرطين ، أو بين جزئين ، أو بين مانعين ، أو بين قاطعين ، أو بالاختلاف مثل شرط ومانع إلى غير ذلك .

نعم ، ربما يقال : ان اللازم مراعاة المقدّم زمانا وان تساويا ، فاذا دار الأمر - مثلاً - بين ان يقوم في الركعة الاُولى أو الثانية ، فانه يلزم تقديم القيام في الركعة الاُولى على القيام في الركعة الثانية ، لانه قادر الآن ولا وجه لحفظ القدرة للركعة الثانية بدون الاضطرار إلى ذلك ، وكذا إذا دار الأمر بين الصيام أول يوم من شهر رمضان أو ثاني يوم منه ، وهكذا .

ومن المعلوم : ان تقديم المقدّم زمانا هو نوع من الترجيح الذي ذكرنا انه من مقتضيات التزاحم فيما إذا كان راجح هناك .

الفرع ( الثاني : لو جعل الشارع للكلّ بدلاً اضطراريا كالتيمم ) الذي هو بدل اضطراري عن الوضوء والغسل ( ففي تقديمه على الناقص ) من المبدل منه ، كما إذا دار الأمر بين الوضوء الناقص أو التيمم ، أو دار الأمر بين الغسل الناقص أو التيمم ( وجهان ) :

ص: 154

من أنّ مقتضى البدليّة : كونُه بدلاً عن التام ، فيقدّم على الناقص كالمُبدل .

ومن أنّ الناقص حال الاضطرار تام ، لانتفاء جزئيّة المفقود ، فيقدّم على البدل كالتام ويدلّ عليه رواية عبد الأعلى المتقدّمة .

-------------------

أمّا وجه تقديم البدل فهو قوله : ( من أنّ مقتضى البدليّة : كونه بدلاً عن التام ، فيقدّم على الناقص كالمبدل ) وهو التام حيث يقدّم على الناقص ، وذلك لان التيمم في قوة الوضوء التام حال تعذر الوضوء لانه مقتضى البدلية ، وكما يقدّم الوضوء التام على الوضوء الناقص ، كذلك يقدّم التيمم الذي هو بدله على الوضوء الناقص .

وأمّا وجه تقديم الناقص فهو قوله : ( ومن انّ الناقص حال الاضطرار تام ، لانتفاء جزئيّة المفقود ، فيقدّم ) الناقص ( على البدل كالتام ) أي : كما يقدّم الوضوء التام على التيمم ، كذلك يقدّم الوضوء الناقص على التيمم ، لانّ الناقص في حال تعذّر الجزء بمنزلة التام .

( ويدلّ عليه ) أي : على تقديم الناقص من المبدل على التام من البدل الاضطراري ، اضافة إلى قاعدة الميسور : ( رواية عبدالأعلى المتقدّمة ) حيث أمره الامام عليه السلام فيها، بوضوء ناقص ، وذلك بأن يمسح على الجبيرة (1) ، ولو كان التيمم مقدّما على الوضوء الناقص لكان تكليفه التيمم، فلأمره بالتيمم لا بالوضوء الناقص .

ص: 155


1- - الكافي فروع : ج3 ص33 ح4 ، الاستبصار : ج1 ص77 ب46 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص363 ب16 ح27 ، وسائل الشيعة : ج1 ص464 ب29 ح1231 ، بحار الانوار : ج2 ص277 ب33 ح32 .

الأمر الثالث

لو دار الأمر بين الشرطيّة والجزئيّة ،

-------------------

لكن لا يخفى انه يشترط هنا كما ذكرنا فيما سبق : لزوم ان يصدق الميسور على الناقص ، فاذا لم يصدق عليه كان اللازم البدل ، كما إذا تعذّر عليه غسل وجهه في الوضوء وتمكن من غسل اليدين والمسحين فقط ، فان اللازم تقديم التيمم ، لا الوضوء الفاقد لغسل الوجه ، وكذا إذا تمكن من الصيام مع شرب الدواء في اليوم مرات لمكان مرضه ، فانه ينتقل إلى البدل وهو القضاء ، لا الناقص من صوم شهر رمضان .

( الأمر الثالث ) من الاُمور التي ينبغي التنبيه عليها : ( لو دار الأمر بين الشرطية والجزئية ) بان علمنا إنّ الشيء الفلاني واجب ، لكن لم نعلم هل انه شرط أو جزء ؟ وذلك كما تقدّم في مثال السدر والكافور حيث لم نعلم ان الواجب هو الماء، والسدر والكافور من شرطه ، أو ان الواجب هو ماء السدر وماء الكافور ، بان يكون هناك جزئان : ماء وسدر ، أو ماء وكافور ؟ .

وكذا حال النية في الصلاة بان لم نعلم هل النية جزء أو شرط ؟ .

وهكذا الطمأنينة بين السجدتين حيث لم نعلم هل انها جزء من الصلاة أو شرط وهكذا ؟ .

وعليه : فهل هناك أصل يدل على ان هذا جزء أو شرط ، أو انه لا أصل في المقام ؟ .

ثم لا بأس هنا بعد ان ذكرنا في المباحث القريبة الفرق بين الجزء والشرط ، ان نشير الآن إلى الثمرة المترتبة على كون الشيء جزءا أو شرطا ، فانهم ذكروا الثمرة في امور هي : مثل ما لو نذر ان يعطي لمن صلى الصبح - مثلاً - دراهم بعدد أجزاء

ص: 156

فليس في المقام أصل كليّ يتعيّن به أحدهما ، فلابد من ملاحظة كل حكم يترتب على أحدهما وأنّه موافق للأصل أو مخالف له .

-------------------

صلاته ، فهل يجب أن يعطيه درهما بازاء النية أم لا؟ فعلى الجزئية يجب ان يعطيه درهما بازائها ، وعلى الشرطية لا .

ومثل ما لو نذر وقوع عمل في وقت خاص ، وكان ذلك الوقت لا يسع لأداء العمل مع الاتيان بالشيء المشكوك في انه جزء أو شرط لذلك العمل ، فانه إذا كان ذلك المشكوك شرطا إنعقد النذر ، بينما لو كان جزءا لم ينعقد ، وذلك فيما إذا كان النذر خاصا بالأجزاء دون الشروط .

ومثل ما لو قلنا بجريان قاعدة الميسور في الأجزاء دون الشروط ، فانه يجب الاتيان بالميسور عند تعذر المشكوك بناءا على كونه جزءا ، بخلاف ما إذا كان شرطا .

ومثل ما لو آجر نفسه لعمل مشتمل على شيء مردد بين الشرط والجزء وأخل به ، فان كان شرطا لم يقسّط الثمن عليه لبنائهم على انه ليس للشرط ثمن ، بينما إذا كان جزءا قسّط الثمن عليه بمقداره .

وكيف كان : ( فليس في المقام أصل كلي يتعيّن به أحدهما ، فلابد من ملاحظة كل حكم يترتب على ) خصوص ( أحدهما ) من الشرط أو الجزء ( وانه موافق للأصل أو مخالف له ) فاذا شك في شيء انه جزء للصلاة أو شرط فيها وقلنا : بان الرياء في الجزء مبطل للعمل دون الشرط ، كان مقتضى الأصل : عدم ابطال الرياء فيه ، لانه لم يحرز كونه جزءا حتى يبطله الرياء .

قال : في الأوثق : « ربما يمكن تمييز الجزئية أو الشرطية بحسب تعبيرات الشارع في الأدلة اللفظية ، فان قال الشارع : لا صلاة إلاّ بطهور ، أو بستر ،

ص: 157

الأمر الرابع

لو دار الأمرُ بين كون الشيء شرطا أو مانعا ، أو بين كونه جزءا أو كونه زيادة مبطلة .

ففي التخيير هنا ، لأنّه من دوران الأمر في ذلك

-------------------

أو باستقبال ، أو ما يؤدي هذا المعنى ، يستفاد منه كون هذه الاُمور خارجة عن حقيقة الصلاة معتبرة في كيفيتها وهو معنى الشرطية ، وان قال : تطهّر ، وتستّر ، واستقبل مثل قوله : اركع واسجد في الصلاة استفيد منه كونها داخلة في المهية » (1) .

( الأمر الرابع ) من الاُمور التي ينبغي التنبيه عليها : ( لو دار الأمر بين كون الشيء شرطا أو مانعا ) كالجهر بالقرائة في ظهر يوم الجمعة - مثلاً - حيث لا نعلم هل انه شرط في صحة القرائة ، أو مانع عن صحتها حتى يكون الاجهار بها مبطلاً للصلاة ؟ .

( أو ) دار الأمر ( بين كونه جزءا أو كونه زيادة مبطلة ) كتدارك الحمد - مثلاً - عند الشك فيه بعد الدخول في السورة ، حيث لا نعلم هل انه جزء فيجب الاتيان به ، أو زيادة مبطلة فيحرم الاتيان به ؟ .

وعليه : فهل الحكم في مثل ذلك هو التخيير ، لانه من دوران الأمر بين الوجوب والتحريم ، أو انه لابد من الاحتياط والاتيان بالعمل مرتين : مرة مع ذلك الشيء المشكوك ، ومرة مع عدمه لانه من العلم الاجمالي ؟ .

إذن : ( ففي التخيير هنا ) بين الفعل والترك ( لأنه من دوران الأمر في ذلك

ص: 158


1- - أوثق الوسائل : ص 394 دوران الأمر بين ترك الجزء وبين ترك الشرط .

الشيء بين الوجوب والتحريم ، أو وجوب الاحتياط بتكرار العبادة وفعلها مرّةً مع ذلك الشيء ، واُخرى بدونه ، وجهان .

مثاله الجهرُ بالقرائة في ظهر الجمعة حيث قيل بوجوبه ، وقيل بوجوب الاخفات وابطال الجهر ، وكالجهر بالبسملة في الركعتين الأخيرتين ، وكتدارك الحمد عند الشك فيه بعد الدخول في السورة .

-------------------

الشيء بين الوجوب والتحريم ) ولا دليل على أحدهما ، ولذلك ان شاء فعل وان شاء ترك .

( أو وجوب الاحتياط بتكرار العبادة وفعلها مرّة مع ذلك الشيء ، واُخرى بدونه ؟ ) أي : بدون ذلك الشيء؟ ( وجهان ) .

ومن المعلوم : ان الاحتمال الثاني وهو لزوم الجمع بينهما احتياطا إنّما هو مع القدرة عليه ، وإلاّ فبدونها كما إذا ضاق الوقت فلم يسع لصلاتين ، فاللازم القول بالتخيير .

أما ( مثاله ) أي : مثال الدوران بين الشرطية والمانعية فهو : ( الجهر بالقرائة في ظهر ) يوم ( الجمعة حيث قيل بوجوبه ، وقيل بوجوب الاخفات وابطال الجهر ، وكالجهر بالبسملة في الركعتين الأخيرتين ) لمن يريد قرائة الفاتحة فيهما، فهل عليه ان يجهر بها أو يخفت ، لان في المسألة قولين ؟ .

( و ) أما مثال الدوران بين الجزئية والزيادة المبطلة فهو ( كتدارك الحمد عند الشك فيه بعد الدخول في السورة ) حيث قد عرفت : انه يحتمل كون الحمد واجبا ، فاللازم الاتيان به ، فيكون تركه مبطلاً ، ويحتمل انه قد تجاوز محله ، فلايجوز الاتيان به ، فيكون الاتيان به مبطلاً .

ص: 159

فقد يُرجَّح الأوّل .

أمّا بناءا على ما اخترناه : من أصالة البرائة مع الشك في الشرطية والجزئية ،

-------------------

وعليه : فان هنا وجهين : التخيير ، والاحتياط ، ومع ذلك قال : ( فقد يُرجَّح الأوّل ) وهو : التخيير ، فيكون المكلّف الشاك في ان الجهر بالقرائة في ظهر الجمعة - مثلاً - شرط أو مانع ، مخيرا بين الجهر والاخفات ، فله ان يجهر بالقرائة في ظهر الجمعة وله ان يخفت بها .

هذا ، ولكن لما كانت هذه المسألة مرتبطة بمسألة الشك في الشرط والجزء ، كان الحكم فيها مبتنيا على الحكم في تلك المسألة ، وقد كان في تلك المسألة قولان : قول بالبرائة ، وآخر بالاحتياط ، فكيف قال بالتخيير ورجّحه في هذه المسألة مع ابتنائها في الحكم على تلك المسألة؟ فلابد إذن من تصحيح التخيير هنا على القولين هناك :

أمّا أول القولين في مسألة الشرط والجزء وهو : البرائة ، فقد قال به المصنِّف، ولذلك بدأ يشرح كيفية جريان البرائة هنا ليبني عليه التخيير فقال :

( أمّا بناءا على ما اخترناه : من أصالة البرائة مع الشك في الشرطية والجزئية ) فان المصنِّف قد اختار البرائة هناك في مسألة الشك في شرطية شيء أو جزئيته ، وبنى عليها هنا التخيير ، وذلك لان البرائة هنا تقتضي عدم وجوب احدى الخصوصيتين من الجهر والاخفات على الشاك في الجهر والاخفات - مثلاً - فيكون مخيرا بين الاتيان بالقرائة جهرا ، وبين الاتيان بها اخفاتا .

إن قلت : كيف تجري البرائة هنا مع انها تستلزم المخالفة القطعية ، فيلزم القول بالاحتياط ، وحينئذ فلا تخيير .

ص: 160

فلأنّ المانع من اجراء البرائه عن اللزوم الغيري في كلّ من الفعل والترك ، ليس إلاّ لزوم المخالفة القطعية ، وهي غير قادحة ، لأنها لاتتعلق بالعمل ، لأنّ واحدا من فعل ذلك الشيء وتركه ضروريّ مع العبادة ، فلا يلزم من العمل بالأصل في كليهما معصية متيقنةٌ ، كما كان يلزم في طرح المتباينين كالظهر والجمعة .

وبتقرير آخر : إذا أتى بالعبادة مع واحد منهما

-------------------

قلت : صحيح ان البرائة هنا تستلزم المخالفة القطعية ، لكنها مخالفة التزامية وليست عملية حتى تكون قادحة كما قال : ( فلانّ المانع من اجراء البرائة عن اللزوم الغيري ) المقدمي للمشكوك جزئيته أو شرطيته ( في كل من الفعل والترك) الذي تردد المكلّف بينهما ( ليس إلاّ لزوم المخالفة القطعية ، وهي غير قادحة ) في المقام ( لانها ) أي : المخالفة القطعية إنّما تتعلق بالالتزام و ( لا تتعلق بالعمل ) .

وإنّما لا تتعلق بالعمل ( لانّ واحدا من فعل ذلك الشيء وتركه ضروري مع العبادة ) لعدم خلو المكلّف من الفعل المطابق لاحتمال الوجوب ، أو الترك المطابق لاحتمال الحرمة ( فلا يلزم من العمل بالأصل في كليهما معصية متيقنة ) حتى يقال بوجوب التكرار دفعا للعقاب ، وإنّما يلزم منه المخالفة الالتزامية ، والمخالفة الالتزامية غير قادحة كما تقدّم في باب القطع وغيره .

وعليه : فلا يلزم هنا مخالفة قطعية عملية ( كما كان يلزم في طرح المتباينين كالظهر والجمعة ) لان اجراء الأصل في الظهر والجمعة معا يوجب مخالفة قطعية عملية ولهذا يجب الاتيان بهما ، بينما هنا ليس الأمر كذلك فيجري الأصل فيهما .

( وبتقرير آخر ) للمصنف أوضح فيه جريان البرائة عن كلا المحتملين في هذه المسألة ، وهو : انه ( إذا أتى ) المكلّف ( بالعبادة مع واحد منهما ) فقد أتى

ص: 161

قبح العقابُ من جهة اعتبار الآخر في الواقع لو كان معتبرا ، لعدم الدليل عليه وقبح المؤاخذة من دون بيان .

فالأجزاء المعلومة مما يعلم كونُ تركها منشئا للعقاب ، وأمّا هذا المردّد بين الفعل والترك ، فلا يصح استناد العقاب اليه لعدم العلم به ، وتركهما جميعا غير ممكن ، حتى يقال : إنّ العقابَ على تركهما معا ثابتٌ،

-------------------

بالموافقة الاحتمالية وبقي الطرف الآخر مشكوكا ، وإذا كان مشكوكا ( قبح العقاب) عليه ، والعقاب إنّما يكون ( من جهة اعتبار ) الطرف ( الآخر في الواقع ، لو كان معتبرا ) فرضا ، فيكون العقاب عليه قبيحا ( لعدم الدليل عليه ) أي : على اعتبار الطرف الآخر ( و ) إذا لم يكن دليل عليه دل على نفيه ( قبح المؤاخذة من دون بيان ) .

والحاصل: ان العلم الاجمالي باعتبار وجوب شيء أو عدمه، لا أثر له بعد عدم تمكن المكلّف من المخالفة العملية القطعية ، لان الأمر دائر بين الفعل والترك ، فلم يبق إلاّ الشك في الاعتبار وهو مورد لاصالة البرائة .

إذن : ( فالأجزاء المعلومة مما يعلم كون تركها منشئا للعقاب ) يؤاخذ على تركها ، فلا يجوز له ان يترك شيئا منها ( وامّا هذا ) الواجب ( المردّد بين الفعل والترك ) لفرض ان المكلّف يعلم ان الجهر - مثلاً اما واجب الفعل أو واجب الترك ( فلا يصح استناد العقاب اليه ) سواء فعله أو تركه ، وذلك ( لعدم العلم به ) تفصيلاً .

( و ) اما ( تركهما جميعا ) بان يترك الفعل ويترك الترك ، فهو هنا ( غير ممكن حتى يقال : انّ العقاب على تركهما معا ثابت ) فانه في مكان يمكن تركهما معا

ص: 162

فلا وجه لنفيه عن كلّ منهما .

وأمّا ، بناءا على وجوب الاحتياط عند الشكّ في الشرطية والجزئية ،

-------------------

يثبت العقاب على تركهما ( فلا وجه لنفيه ) أي : لنفي العقاب حينئذ ( عن كلّ منهما ) بالأصل ، ومعلوم : ان ما نحن فيه ليس كذلك .

نعم ، من يقول بعدم جريان الأصلين في مكان علم ان جريان أحدهما فيه ليس بصحيح ، وذلك لانه يرى عدم شمول دليل الأصل لمثلهما وان لم يستلزم مخالفة عملية فانه يقول بعدم جريان الأصلين هنا أيضا .

وأما ثاني القولين في مسألة الشرط والجزء وهو الاحتياط، فقد قال به جماعة ، ولذلك بدأ المصنِّف بشرح كيفية جريان الاحتياط هنا ليبني عليه التخيير، وقال : فقال : ( وأمّا بناءا على وجوب الاحتياط عند الشكّ في الشرطية والجزئية ) فان جماعة قالوا بالاحتياط في مسألة الشك في شرطية شيء أو جزئيته ، وبنى المصنِّف عليه التخيير هنا .

وإنّما بنى المصنِّف على الاحتياط هناك حكم التخيير هنا ، لان الاحتياط هناك إنّما يجب لتدارك ما هو جزء أو شرط واقعا ، وحيث ان تداركه هناك لايستلزم تكرار العبادة جاز ، لانه لا يضر بالجزم بالنية ، بينما الاحتياط هنا لتدارك ما هو شرط أو مانع واقعا يستلزم تكرار العبادة ، وذلك بأن يصلي مرة بقرائة جهرية ، ويصلي ثانية بقرائة اخفاتية ، وهذا التكرار هنا لا يجوز ، لانه يضر بالجزم بالنية .

وعليه : فيدور الأمر هنا بين بقاء وجوب الجزم بالنية فيحرم التكرار لانه مضر بالجزم في النية ، وبين بقاء وجوب ذلك المشكوك انه شرط أو مانع واقعا فيجب التكرار لاحراز ما هو واجب واقعا .

ومن المعلوم : ان وجوب الاحتياط بالجزم بالنية لتنجزه بسبب العلم به مقدّم

ص: 163

فلأن وجوب الاحتياط فرعُ بقاء وجوب الشرط الواقعي المردّد بين الفعل والترك ، وايجابَهُ مع الجهل مستلزمٌ لالغاء شرطيّة الجزم بالنية واقتران الواجب الواقعي بنية الاطاعة به بالخصوص مع التمكّن ،

-------------------

على وجوب الاحتياط بالتكرار ، لعدم تنجزه بسبب الجهل بما هو واجب واقعا لتردده بين وجوب فعله أو وجوب تركه ، فيكون المكلّف حينئذ حتى بناءا على الاحتياط في تلك المسألة ، مخيّرا هنا بين الجهر والاخفات في القرائة ، فيصلي صلاة واحدة بقرائة جهرية ، أو اخفاتية - مثلاً - ليحرز الجزم بالنية .

وإلى هذا المعنى: من ترتيب حكم التخيير على الاحتياط أشار المصنِّف قائلاً :

واما حكم التخيير هنا بناءا على وجوب الاحتياط هناك ( فلان وجوب الاحتياط فرع ) ناشئمن الشك في المكلّف به ، والشك في المكلّف به فرع ناشيء من ( بقاء وجوب الشرط الواقعي المردّد بين الفعل والترك ) كما في مثال القرائة في ظهر الجمعة حيث لا يعلم ان الجهر فيها شرط أو مانع واقعا ( وايجابه ) أي : ايجاب ما هو شرط أو مانع واقعا ( مع الجهل ) به لتردده بين الفعل والترك ( مستلزم لالغاء شرطيّة الجزم بالنية ) لانه مستلزم لتكرار الصلاة مرة مع الجهر ، واُخرى مع الاخفات - مثلاً - فلا يمكن الجزم بالنية .

هذا ( واقتران الواجب الواقعي بنية الاطاعة به ) أي : بذلك الواجب ( بالخصوص مع التمكّن ) من نية الاطاعة بالخصوص وهو الجزم بالنية يمنع من ايجاب ذلك الشرط المردد بين الفعل والترك على المكلّف ، إذ لو كان واجبا لما تمكن من الجزم بالنية ، فالجزم بالنية إذن مستلزم لالغاء شرطية الشرط الواقعي المردّد بين الفعل والترك .

ص: 164

فيدور الأمرُ بين مراعاة ذلك الشرط المردّد وبين مراعاة شرط الجزم بالنية .

وبالجملة : فعدم وجوب الاحتياط في المقام لمنع اعتبار ذلك الأمر المردّد بين الفعل والترك في العبادة واقعا في المقام ، نظير

-------------------

وعليه : ( فيدور الأمر بين ) وجوب ( مراعاة ذلك الشرط المردّد ) بين الفعل والترك ( وبين مراعاة شرط الجزم بالنية ) وقد عرفت : ان الجزم بالنية مقدّم على ذلك الشرط المردد بين الفعل والترك فيتخير أحدهما : الفعل أو الترك ليجزم بالنية .

( وبالجملة : ) فان الجزم بالنية لما كان منجزّا على المكلّف للعلم باعتبار موجبه ، قدّم على الاحتياط بتكرار العبادة لعدم تنجزّه على المكلّف وذلك للجهل باعتبار موجبه لفرض تردده بين الفعل والترك .

وبعبارة اُخرى : يشك المكلّف في ان ذلك الشيء المردد بين الفعل والترك، هل بقي على وجوبه بعد استلزامه فقد الجزم بالنية ، أم لم يبق على وجوبه ؟ والشك في أصل بقاء الوجوب شك في التكليف وهو مجرى البرائة ، لا ان وجوب ذلك الشيء محرز والواجب فيه مردّد بين الفعل والترك ، حتى يكون من الشك في المكلّف به ، والشك في المكلّف به مجرى الاحتياط فيلزم التكرار .

إذن : ( فعدم وجوب الاحتياط ) المستلزم لتكرار العبادة ( في المقام ) أي : في مقام مزاحمته للجزم بالنية ، إنّما هو ( لمنع ) تنجز ( اعتبار ذلك الأمر المردّد بين الفعل والترك في العبادة واقعا في المقام ) فانه بعد تنجزّ الجزم بالنية ، لم يبق مجال لتنجّز الاحتياط المستلزم لتكرار العبادة .

وعليه : فيكون المقام ( نظير ) ما إذا شك في جهة القبلة إلى أربع جهات

ص: 165

القول بعدم وجوب الاحتياط بالصلاة مع اشتباه القبلة ، لمنع شرطيّة الاستقبال مع الجهل ، لا لعدم وجوب الاحتياط في الشك في المكلّف به .

هذا ، وقد يُرجّح الثاني ، وإن قلنا بعدم وجوبه في الشك في الشرطية والجزئية ، لأن مرجع الشك هنا

-------------------

حيث يقال بوجوب صلاة واحدة فقط وترك الاحتياط ، لانه إذا أتى بواحدة جزم بالنية فيها ، بخلاف ما إذا أتى بأربع ، فانه لا يتمكن من الجزم بالنية فيها ، والجزم بالنية مقدّم على الاحتياط المستلزم للتكرار ، فيجب الاتيان بواحدة .

إذن : فالقول بعدم وجوب الاحتياط هنا يشبه ( القول بعدم وجوب الاحتياط بالصلاة مع اشتباه القبلة ) إلى أربع جهات ، فان عدم الوجوب فيها إنّما هو ( لمنع شرطيّة الاستقبال مع الجهل ) بجهة القبلة ( لا لعدم وجوب الاحتياط في الشك في المكلّف به ) فان الاحتياط عند الشك في المكلّف به واجب ، لكنه إذا دار الأمر بين التكرار وبين الجزم ، قدّم الجزم على التكرار .

( هذا ) هو تمام الكلام في ترجيح الوجه الأوّل من وجهي الأمر الرابع وهو : التخيير فيما لو دار الأمر بين كون الشيء شرطا أو مانعا مع ابتنائه على القولين : البرائة والاحتياط في المسألة المتقدمة عليه من الشك في الشرطية والجزئية .

وأمّا الكلام في الوجه الثاني من وجهي الأمر الرابع وهو الاحتياط فيما لو دار الأمر بين كون الشيء شرطا أو مانعا ، فهو ما أشار اليه بقوله :

( وقد يُرجّح الثاني ) أي : الاحتياط بأن يأتي بصلاتين - مثلاً - مرة مع فعل الشرط ، واُخرى مع تركه ، فانه ( وان قلنا بعدم وجوبه ) أي : وجوب الاحتياط ( في ) المسألة المتقدمة عليه وهي مسألة ، ( الشك في الشرطية والجزئية ) إلاّ انا نقول هنا بوجوبه ( لان مرجع الشك هنا ) أي : فيما دار الأمر بين كون الشيء

ص: 166

لمنع جريان أدلّة نفي الجزئية والشرطية عند الشك في المقام من العقل والنقل .

وما ذُكِر : من « أنّ إيجابَ الأمر الواقعي المردّد بين الفعل والترك ، مستلزمٌ لالغاء الجزم بالنية » ، مدفوعٌ بالتزام ذلك ولا ضير فيه .

ولذا وجب تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين ، وإلى الجهات الأربع ، وتكرار الوضوء بالمايعين عند اشتباه المطلق والمضاف مع وجودهما ،

-------------------

شرطا أو مانعا وليس إلى الأقل والأكثر كما كان في الشك في الشرطية والجزئية حتى نقول فيه بالبرائة .

وإنّما لم نقل بالبرائة هنا كما قلنا بها هناك ( لمنع جريان أدلّة نفي الجزئية والشرطية عند الشك في المقام من العقل والنقل ) لان الشك في الشرط أو الجزء شك في التكليف ، وفي المقام شك في المكلّف به ، ومن المعلوم : ان الشك في التكليف مجرى البرائة بخلاف الشك في المكلّف به فانه مجرى الاحتياط .

هذا ( وما ذكر : « من أنّ إيجاب الأمر الواقعي المردّد بين الفعل والترك ، مستلزم لالغاء الجزم بالنية ) والجزم بالنية مقدم على الاحتياط المستلزم لتكرار العبادة ، فيلزم ترك الاحتياط رعاية للجزم بالنية ، فان هذا الذي ذكر ( مدفوعٌ بالتزام ذلك ) فانا نلتزم القول بالاحتياط هنا وان كان مستلزما لالغاء الجزم بالنية ( ولا ضير فيه ) أي : في التزامنا هذا ، وذلك لما قد سبق : من انه لو دار الأمر بين الجزم بالنية وبين الاحتياط - مثلاً - لزم ترك الجزم بالنية رعاية للاحتياط .

( ولذا وجب تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين ، وإلى الجهات الأربع ، وتكرار الوضوء بالمايعين عند اشتباه المطلق والمضاف مع وجودهما ) بأن كان هناك ماء مطلق وماء مضاف ، ولا نعلم أيهما المطلق وأيهما المضاف ؟ .

ص: 167

والجمع بين الوضوء والتيمم إذا فقد أحدهما ، مع أنّ ما ذكرنا في نفي كلّ من الشرطية والمانعيّة بالأصل ، فلا يلزم من العمل بالأصل في كليهما معصية متيقّنة ، إنّما يستقيم لو كان كلّ من الفعل والترك توصليّا على تقدير الاعتبار ، وإلاّ فيلزم

-------------------

( و ) كذا ( الجمع بين الوضوء والتيمم إذا فقد أحدهما ) أي : أحد الانائين المردد بين المطلق والمضاف أو كان هناك ماء واحد مردّد بين كونه مطلقا أو مضافا ، أو دار أمره بين الوضوء الناقص أو التيمم التام ، وغير ذلك من الأمثلة التي يستلزم الاحتياط فيها تكرار العبادة ، فان المشهور قالوا بوجوب الاحتياط فيها مع استلزامه فقد الجزم بالنية ، مما يدل على ترجيح القول بالاحتياط وان أدّى إلى سقوط الجزم بالنية .

هذا ( مع انّ ما ذكرنا في ) أول وجهي الأمر الرابع عند ( نفي كلّ من الشرطية والمانعيّة بالأصل ) أي : بأصل البرائة لنرتّب عليه التخيير وذلك في قولنا قبل عدة صفحات : ( فلا يلزم من العمل بالأصل في كليهما معصية متيقّنة ) أي : مخالفة عملية فان عدم استلزامه ذلك ( إنّما يستقيم لو كان كلّ من الفعل والترك توصليّا ) لا تعبديا .

كما إذا شككنا في أنّه هل يجب تكفين الرجل بالحرير حيث لا كفن سواه ، حتى يكفّن بالحرير ، أو يحرم حتى يدفن عاريا، فان فعله ( على تقدير الاعتبار ) للتكفين - مثلاً - توصلي ، كما ان تركه على تقدير اعتبار ترك التكفين توصلي أيضا ، فينفى كل منهما بالأصل دون أن يلزم منه مخالفة عملية ، وذلك لان فعل التكفين أو تركه توصلي وقد تحقق ، فان تحققه غير مرتبط بقصد القربة .

( وإلاّ ) بأن لم يكن توصليا ، بل كان تعبديا محتاجا إلى قصد القربة ( فيلزم

ص: 168

من العمل بالأصلين مخالفة عمليّة ، كما لا يخفى .

والتحقيق : أنّه لو قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشكّ في الشرطية والجزئية ، وعدم حرمة المخالفة القطعيّة للواقع إذا لم تكن عمليّة ،

-------------------

من العمل بالأصلين مخالفة عمليّة كما لا يخفى ) والمخالفة العملية ممنوعة على ما عرفت في مبحث القطع .

اما انه كيف يستلزم منه مخالفة عملية ، فلانه - مثلاً - إذا شك في ان الجهر بالقرائة شرط حتى يجب فعله ، أو زيادة مبطلة حتى يجب تركه ، فانه لا يجري الاصلان فيه ، لان الجهر بالقرائة على تقدير وجوب فعله ، أو وجوب تركه تعبدي، والتعبدي يحتاج في تحققه إلى قصد القربة ، وقصد القربة متعذر بعد اجراء أصل عدم وجوب فعل الجهر ، وأصل عدم وجوب ترك الجهر ، وحينئذ سواء أتى بالجهر أم تركه فقد علم بالمخالفة العملية ، لانه قد أتى بالجهر أو تركه بلا قصد القربة مع انّ التعبدي لا يتحقق فعله أو تركه إلاّ بقصد القربة ، فلا يجري الأصلان إذن في التعبدي ، بل يختص بالتوصلي فقط .

هذا ( والتحقيق ) في المقام هو القول بالتفصيل ، وهذا قول ثالث بعد القولين : حيث كان الأوّل يقول بالتخيير هنا في الأمر الرابع مطلقا ، سواء بنينا هناك في الأمر الثالث على البرائة أم الاحتياط ، والقول الثاني يقول بالاحتياط هنا مطلقا ، سواء بنينا هناك على البرائة أم الاحتياط ، وهذا التفصيل هو قول ثالث يقول بالتخيير هنا لو بنينا على البرائة هناك ، وبالاحتياط هنا لو بنينا على الاحتياط هناك ، وذلك كما قال : ( انّه لو قلنا بعدم وجوب الاحتياط ) هناك أي : ( في الشّك في الشرطية والجزئية ، وعدم حرمة المخالفة القطعيّة للواقع إذا لم تكن ) مخالفة ( عمليّة ،

ص: 169

فالأقوى التخيير هنا ، وإلاّ تعيّن الجمع بتكرار العبادة ، ووجهه يظهر ممّا ذكرنا.

المطلب الثالث: في اشتباه الواجب بالحرام

-------------------

فالأقوى التخيير ) بين الفعل والترك ( هنا ) أي : في الشك بين كون الشيء شرطا أو مانعا وكون الشيء جزءا أو زيادة مبطلة .

( وإلاّ ) بأن قلنا بوجوب الاحتياط هناك ( تعيّن الجمع بتكرار العبادة ) ووجوب الاحتياط هنا ، وذلك بأن يصلي مرة مع الجهر بالقرائة ، واُخرى بدون الجهر بالقرائة .

( ووجهه ) أي : وجه هذا التفصيل ( يظهر ممّا ذكرنا ) سابقا : من ان المسألة هنا مبتنية على المسألة هناك ، فان قلنا بالبرائة هناك ، قلنا بالبرائة هنا أيضا ورتّبنا عليه التخيير ، وان قلنا بالاحتياط هناك ، قلنا بالاحتياط هنا ورتبنا عليه تكرار العبادة مرة بفعله واُخرى بتركه .

أقول : لكن لا يبعد الفرق بين الأمر الثالث وبين الأمر الرابع ، فنقول بالبرائة هناك لانه كما عرفت من دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، فالشك فيه شك في التكليف وهو مجرى البرائة ، ونقول بالاحتياط هنا ، لانه من دوران الأمر بين المتباينين ، فان الصلاة مع الجهر بالقرائة - مثلاً - صلاة بشرط شيء ، والصلاة بدون الجهر بالقرائة صلاة بشرط لا ، فيكون الشك فيه شكا في المكلّف به وهو مجرى الاحتياط ، فيلزم تكرار العبادة .

( المطلب الثالث ) من مطالب الشك في المكلّف به ( في اشتباه الواجب بالحرام ) فقد تقدّم من المصنِّف عند البحث في الشك في المكلّف به مطلبان :

ص: 170

بأن يُعلم أنّ أحد الفعلين واجب والآخر محرم واشتبه أحدُهما بالآخر.

وأمّا لو عُلِمَ أنّ واحدا من الفعل والترك واجب والآخر محرّم ، فهو خارجٌ عن هذا المطلب ، لأنّه من دوران الأمر بين الوجوب والحرمة الذي تقدّم حكمه في المطلب الثالث من مطالب الشك في التكليف .

والحكم في ما نحن فيه

-------------------

المطلب الأوّل : في دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب .

المطلب الثاني : في دوران الأمر بين الواجب وغير الحرام .

إذن : فلم يبق من أقسام الشك في المكلّف به إلاّ دوران الأمر بين الواجب والحرام ، وذلك ( بأن يعلم انّ أحد الفعلين واجب والآخر محرم واشتبه أحدهما بالآخر ) كما إذا كان لشخص زوجتان فحلف على وطي احداهما وترك وطي الاُخرى ، ثم اشتبهتا .

( وأمّا لو علم انّ واحدا من الفعل والترك واجب والآخر محرّم ) كما إذا كان لشخص زوجة وحلف ، فلم يعلم انه حلف على وطيها أو على تركه ( فهو خارج عن هذا المطلب ، لأنّه من دوران الأمر بين الوجوب والحرمة الذي تقدّم حكمه في المطلب الثالث من مطالب الشك في التكليف ) .

وعليه : فالدوران هنا فيما نحن فيه في أمرين ، بينما الدوران هناك في أمر واحد ، ففي الأمر الواحد لا يلزم منه لو بنى فيه على الوجوب وفعل ، أو على التحريم وترك ، مخالفة قطعية ولا موافقة قطعية ، بخلاف ما نحن فيه ، فانه لايجوز ترك وطي المرأتين معا أو وطيهما معا ، لان في كلتا الصورتين مخالفة قطعية لعلمه بان إحداهما محرمة واحداهما واجبة .

( و ) لذلك قالوا : ان ( الحكم في ما نحن فيه ) وهو دوران الأمر بين شيئين

ص: 171

وجوب الاتيان بأحدهما وترك الآخر مخيرا في ذلك .

لأنّ الموافقة الاحتمالية في كلا التكليفين أولى من الموافقة القطعية في أحدهما مع المخالفة القطعيّة في الآخر .

ومنشأ ذلك أنّ الاحتياط لدفع الضرر المحتمل لا يحسنُ بارتكاب الضرر المقطوع ،

-------------------

أحدهما واجب ، والآخر حرام مع اشتباه أحدهما بالآخر هو : ( وجوب الاتيان بأحدهما وترك الآخر مخيرا في ذلك ) فللمكلف في المثال ان يطأ هندا ويترك وطي دعد ، كما ان له يطأ دعدا ويترك وطي هند .

وإنّما قال : له ان يختار أحدهما ويترك الآخر دون فعلهما معا أو تركهما معا ( لأنّ الموافقة الاحتمالية في كلا التكليفين أولى من الموافقة القطعية في أحدهما مع المخالفة القطعيّة في الآخر ) فانه إذا أتى بأحدهما وترك الآخر احتمل الموافقة لكلا التكليفين ، بينما إذا أتى بكليهما قطع بالموافقة للواجب والمخالفة للحرام ، وإذا ترك كليهما قطع بالموافقة للحرام والمخالفة للواجب ، فالموافقة الاحتمالية حينئذ تكون أولى .

هذا ، ولكنهم قالوا في درهمي الودعي وما أشبه بالتقسيم ، لا باعطائه كله لأحدهما ، مع انه يحصل من التقسيم العلم بمخالفة قطعية في النصف ، وبموافقة قطعية في النصف الآخر ، امّا اعطائه كله لأحدهما ففيه موافقة احتمالية .

( و ) كيف كان : فان ( منشأ ذلك ) الحكم الذي ذكرناه : من وجوب الموافقة الاحتمالية هو : ( انّ الاحتياط لدفع الضرر المحتمل لا يحسن بارتكاب الضرر المقطوع ) به ، فانه إذا وطئ كلتيهما قطع بالضرر ، كما انه إذا ترك وطي كلتيهما قطع بالضرر أيضا ، بخلاف ما إذا وطئاحداهما وترك الاُخرى ، فانه لا يقطع بالضرر.

ص: 172

واللّه أعلم .

خاتمة: في ما يعتبر في العمل بالأصل

والكلام تارة في البرائة ، واُخرى في الاحتياط .

أمّا الاحتياط :

فالظاهر أنّه لا يعتبر في العمل به أمر زائد على تحقق موضوعه ،

-------------------

لكن ربما يقال بالتفصيل : بين ما إذا تساوى الحكمين فيهما : فكما ذكره المصنِّف ، وبين ما إذا اختلفا : فاللازم ترجيح الأهم ، فاذا كانت عنده - مثلاً - امرأتان : احداهما زوجته وهي على رأس أربعة أشهر حيث يجب وطيها . والاُخرى أجنبية حيث يحرم وطيها فنشك في ان أيتهما الزوجة وأيتهما الأجنبية ، فانه يلزم عليه ترك وطيهما ، إذ وجوب وطي الزوجة مهم ، وحرمة وطي الأجنبية أهم ، فيقدم الأهم على المهم ( واللّه أعلم ) بحقايق الأحكام وهو الموفق المستعان .

( خاتمة : في ما يعتبر في العمل بالأصل ، والكلام تارة في البرائة ، واُخرى في الاحتياط ) وذلك من غير فرق بين أن يكون الاحتياط لازما ، كما في الشك في المكلّف به ، والشك قبل الفحص ، وبين أن يكون راجحا كما في الشك في التكليف ، والشك في الشبهة البدوية ، وفي كل ذلك لا فرق بين الشك في الوجوب أو في الحرمة ، وبين الشك في الموضوع أو في الحكم .

( أمّا الاحتياط : فالظاهر : انّه لا يعتبر في العمل به أمر زائد على تحقق موضوعه) فانه كلما تحقق انه احتياط ، كان العمل به حسنا إذا لم تكن وسوسة

ص: 173

ويكفي في موضوعه إحراز الواقع المشكوك فيه به ، ولو كان على خلافه دليل اجتهادي بالنسبة اليه ، فانّ قيام الخبر الصحيح على عدم وجوب شيء لا يمنع من الاحتياط فيه ، لعموم أدلة رجحان الاحتياط ،

-------------------

وما أشبه كما ذكرناه في أوائل الكتاب .

( ويكفي في موضوعه احراز الواقع المشكوك فيه ) احرازا ( به ) أي : بالاحتياط ، فاذا كان هناك متباينان حصل الاحتياط فيه بالتكرار ، وإذا كان هناك أقل وأكثر سواء كان الأكثر جزءا أو شرطا حصل الاحتياط فيه باتيان الأكثر ، وإذا كان شكا بدويا حصل الاحتياط فيه باتيان المحتمل ، امّا إذا عارض احتياط احتياطا فاللازم الأخذ بأهمهما ، كما إذا دار الأمر بين قرائة السورة وخروج بعض الصلاة من الوقت ، فانه يقدم الاحتياط الأهم على الاحتياط المهم .

وعليه : فانه إذا تحقق موضوع الاحتياط ، فالاحتياط حسن ، حتى ( ولو كان على خلافه ) أي : على خلاف الاحتياط ( دليل اجتهادي بالنسبة اليه ) أي : بالنسبة إلى ذلك الاحتياط مثل : وجود ظاهر الكتاب ، وخبر العادل ، وكذا إذا كان هناك أصل عملي على خلافه كالبرائة - مثلاً - فانه يكون حسنا أيضا .

وإنّما يكون الاحتياط حسنا حتى مع الدليل على خلافه ، لانه كما قال : ( فانّ قيام الخبر الصحيح على عدم وجوب شيء ) من الدعاء عند رؤية الهلال - مثلاً - أو ما أشبه ذلك ( لا يمنع من الاحتياط فيه ، لعموم أدلة رجحان الاحتياط ) عقلاً ونقلاً ، مثل قوله عليه السلام : « أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت » (1) .

ص: 174


1- - الأمالي للمفيد : ص283 ، الأمالي للطوسي : ص110 ح168 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

غاية الأمر عدم وجوب الاحتياط ، وهذا مما لاخلاف فيه ولا اشكال .

إنّما الكلام يقع في بعض الموارد من جهة تحقق موضوع الاحتياط واحراز الواقع ، كما في العبادات المتوقفة صحتها على نيّة الوجه ،

-------------------

( غاية الأمر : عدم وجوب الاحتياط ) مع وجود الدليل الاجتهادي ، أو الأصل العملي على خلافه ( وهذا مما لا خلاف فيه ولا اشكال ) فان الكل متفقون عليه .

( إنّما الكلام يقع في بعض الموارد ) وذلك ( من جهة تحقق موضوع الاحتياط و ) عدم تحققه ، وانه هل يصح ( احراز الواقع ) فيه بالاحتياط أم لا؟ ( كما في العبادات المتوقفة صحتها على نيّة الوجه ) فان التوصليات لا تحتاج إلى النية ، ولهذا يصح الاحتياط فيها بدون خلاف ، بينما التعبديات التي تحتاج إلى النية فقد اشترط بعض صحة الاحتياط فيها بان يكون بعد الفحص والتأكد من تحقق موضوع الاحتياط .

بل ربما يقال : بعدم مشروعية الاحتياط في العبادات المتوقفة على النية حتى بعد الفحص ، كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق ، فلا يجوز - مثلاً - لمن يتمكن من الصلاة الواحدة في ثوب طاهر ان يأتي بصلاتين في ثوبين قد اشتبه أحدهما بالنجس ، وهكذا بالنسبة إلى القبلة وسائر الخصوصيات .

ومن الواضح : ان الكلام في التعبديات ليس في الكبرى فان الاحتياط حسن على كل حال ، وإنّما الكلام في الصغرى وهو : انه هل يتحقق الاحتياط فيها قبل الفحص أم لا ؟ .

ص: 175

فانّ المشهور أنّ الاحتياط فيها غير متحقق إلاّ بعد فحص المجتهد من الطرق الشرعية المثبتة لوجه الفعل وعدم عثوره على طريق منها ، لأن نيّة الوجه حينئذٍ ساقطة قطعا .

فاذا شك في وجوب غسل الجمعة واستحبابه أو في وجوب السورة واستحبابها ، فلا يصح له الاحتياط باتيان الفعل قبل الفحص عن الطرق الشرعية ، لأنه يتمكن من الفعل بنية الوجه ،

-------------------

وعليه : ( فانّ المشهور ) قالوا في التعبديات : ( انّ الاحتياط فيها غير متحقق إلاّ بعد فحص المجتهد من الطرق الشرعية المثبتة لوجه الفعل ) وذلك بان يفحص المجتهد - مثلاً - عن صلاة الجمعة هل هي الواجبة يوم الجمعة أو صلاة الظهر ، ليأتي بها بنية الوجه؟ وكذا حال البسملة في الركعتين الأخيرتين وانه هل يجب الجهر فيها أو الاخفات؟ وهكذا ، فانه بعد الفحص ( وعدم عثوره على طريق منها) أي : من الطرق الشرعية المثبتة لوجه الفعل يجوز له الاحتياط .

وإنّما يجوز له الاحتياط بعد ذلك مع ان الاحتياط يستلزم ترك نية الوجه ( لانّ نيّة الوجه حينئذ ) أي : حين الفحص وعدم العثور على طريق اجتهادي يثبتها ( ساقطة قطعا ) كما سبق الالماع اليه .

وعليه : ( فاذا شك في وجوب غسل الجمعة واستحبابه ) وهذا من الشك في التكليف المستقل ( أو في وجوب السورة واستحبابها ) وهذا من الشك في التكليف الضمني ( فلا يصح له الاحتياط باتيان الفعل قبل الفحص عن الطرق الشرعية ) وذلك بان يأتي بغسل الجمعة وبالسورة احتياطا دون ان ينوي الوجه فيهما .

وإنّما لا يصح له الاحتياط قبل الفحص ( لانه يتمكن من الفعل بنية الوجه )

ص: 176

والفعل بدونها غيرُ مُجد ، بناءا على اعتبار نية الوجه لفقد الشرط ، فلا يتحقق قبل الفحص احراز الواقع .

فاذا تفحّص ، فان عثر على دليل الوجوب أو الاستحباب ، أتى بالفعل ناويا لوجوبه واستحبابه ، وإن لم يعثر عليه ، فله أن يعمل بالاحتياط ، لأنّ المفروض سقوط نيّة الوجه ، لعدم تمكّنه منها ، وكذا لا يجوز للمقلّد الاحتياط قبل الفحص عن مذهب مجتهده .

-------------------

بأن يفحص حتى يعلم ان غسل الجمعة واجب أو مستحب ، فيأتي به بنية وجوبه أو استحبابه ، وهكذا بالنسبة إلى السورة ، وغير ذلك .

( و ) من المعلوم : ان ( الفعل بدونها ) أي : بدون نية الوجه ، بأن لم يعلم انّ مايأتي به واجب أو مستحب - مثلاً - ( غير مجد ، بناءا على اعتبار نية الوجه ) في العبادات .

وإنّما لم يكن مجديا بدون نية الوجه ( لفقد الشرط ) الذي هو قصد الوجه في العبادة ( فلا يتحقق قبل الفحص احراز الواقع ) لو أتى بها احتياطا .

وعليه : ( فاذا تفحّص فان عثر على دليل الوجوب أو الاستحباب ، أتى بالفعل ناويا لوجوبه أو استحبابه ، وان لم يعثر عليه ، فله ان يعمل بالاحتياط ) بان يأتي بغسل الجمعة بما يريده اللّه سبحانه وتعالى من الوجوب أو الاستحباب ، وكذلك بالنسبة إلى السورة ( لأنّ المفروض سقوط نيّة الوجه لعدم تمكّنه منها ) فانه إنّما يشترط نية الوجه لو كان متمكنا منها والمفروض : ان المجتهد لم يتمكن منها في هذه الصورة .

هذا بالنسبة إلى المجتهد ( وكذا ) بالنسبه إلى المقلد ، فانه ( لا يجوز للمقلّد الاحتياط ) في العبادات ( قبل الفحص عن مذهب مجتهده ) الذي يجب عليه تقليده .

ص: 177

نعم ، يجوز له بعد الفحص ، ومن هنا اشتهر بين أصحابنا : « أنّ عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد ، غير صحيحة وإن عَلِمَ إجمالاً بمطابقتها للواقع ، بل يجب أخذُ أحكام العبادات عن اجتهاد أو تقليد » .

ثم إنّ هذه المسألة ، أعني : بطلان عبادة تارك الطريقين ، يقع الكلام فيها في مقامين ، لأن العامل التارك في عمله بطريقي : الاجتهاد والتقليد ، إمّا أن يكون حين العمل بانيا على الاحتياط واحراز الواقع ،

-------------------

( نعم ، يجوز له بعد الفحص ) وعدم عثوره على فتواه ان يأتي بالشيء المشكوك بين الوجوب والاستحباب بقصد الاحتياط .

( ومن هنا ) أي : بناءا على اعتبار نية الوجه في العبادة ، وعدم جواز العمل بالاحتياط قبل الفحص ( اشتهر بين أصحابنا : « أنّ عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد ، غير صحيحة وإن ) عمل بالاحتياط ولم يكن في الاحتياط محذور ، و ( علم اجمالاً بمطابقتها للواقع ) وذلك لأنه وان علم ان غسل الجمعة مراد للّه سبحانه وتعالى ، لكنه لا يعلم هل انه مراد على نحو المنع من النقيض ، أو لا على نحو المنع من النقيض ؟ فلا يمكنه نيّة الوجه فيه مع قدرته على العلم بالوجه عن طريق الاجتهاد أو التقليد ، ولذلك قالوا : ( بل يجب أخذ أحكام العبادات عن اجتهاد أو تقليد » ) فيما إذا تمكن المجتهد من الاجتهاد في المسألة ، والمقلد من التقليد فيها .

( ثم إنّ هذه المسألة ، أعني : بطلان عبادة تارك الطريقين ) : الاجتهاد والتقليد ( يقع الكلام فيها في مقامين ، لان العامل التارك في عمله بطريقي : الاجتهاد والتقليد ) لا يخلو من أحد وجهين :

الوجه الأوّل : ( امّا أن يكون حين العمل بانيا على الاحتياط واحراز الواقع )

ص: 178

وإمّا أن لايكون كذلك ، فالمتعلق بما نحن فيه هو الاول ، وأمّا الثاني : فسيجيء الكلام فيه في شروط البرائة ، فنقول : إنّ الجاهل التارك للطريقين الباني على الاحتياط على قسمين : لأن احرازه للواقع تارة لا يحتاج إلى تكرار العمل ، كالآتي بالسورة في صلاته احتياطا ، وغير ذلك من موارد الشك في الشرطية والجزئية ؛

-------------------

وذلك بأن يأتي بالشيء المشكوك احتياطا ليحرز الواقع عن طريقه .

الوجه الثاني : ( وامّا ان لا يكون كذلك ) بل كان بانيا على البرائة عند الشك في التكليف ، ومكتفيا ببعض المحتملات عند الشك في المكلّف به .

هذا ، ومن المعلوم : ان كلامنا الآن في الاحتياط لا في البرائة كما قال : ( فالمتعلق بما نحن فيه هو الاول ، وامّا الثاني : فسيجئ الكلام فيه في شروط البرائة ) لانه من مبحث البرائة - كما هو واضح - .

ومن المعلوم أيضا : ان الكلام في الاحتياط إنّما هو في العبادات ، اما المعاملات ، فلا اشكال عند المشهور في جواز الاحتياط فيها ، بل ربما ادعي عليه الاجماع ، كما ان المراد بالعبادات : العبادات التي تتحقق بالايجاد ، امّا العبادات التي تتحقق بالترك ، كتروك الاحرام والصوم ، فلا كلام فيها أيضا إلاّ بناءا على اعتبار نية الوجه والتمييز وهو غير معتبر كما عرفت .

وعليه : ( فنقول : انّ الجاهل التارك للطريقين الباني على الاحتياط ) في عباداته يكون ( على قسمين : لأن احرازه للواقع تارة لا يحتاج إلى تكرار العمل ) كما في غير المتباينين مثل الدعاء عند رؤية الهلال ، والصلاة على النبي عند ذكره صلى اللّه عليه و آله وسلم .

وكذا في مثل الشك بين الأقل والأكثر ( كالآتي بالسورة في صلاته احتياطا ، وغير ذلك من موارد الشك في الشرطية والجزئية ) حيث ان المحتاط يأتي بهما

ص: 179

واُخرى يحتاج إلى التكرار ، كما في المتباينين ، كالجاهل بوجوب القصر والاتمام في مسيرة أربعة فراسخ والجاهل بوجوب الظهر أو الجمعة عليه .

أمّا الاوّل ، فالأقوى فيه الصحة ، بناءا على عدم اعتبار نية الوجه في العمل ، والكلام في ذلك قد حرّرناه في «الفقه» في نيّة الوضوء .

-------------------

في أثناء العبادة ، لا مستقلاً .

( واُخرى يحتاج إلى التكرار ، كما في المتباينين ، كالجاهل بوجوب القصر والاتمام في مسيرة أربعة فراسخ ) ذهابا وايابا ، فان فيه خلافا مّا ، اما انه إذا قصد ثمانية فراسخ ، فلا اشكال في وجوب القصر عليه ، كما انه إذا قصد دون الثمانية مستقيما أو ملفقا ، فلا اشكال أيضا في وجوب الاتمام عليه .

( و ) كذا مثل ( الجاهل بوجوب الظهر أو الجمعة عليه ) في ظهر يوم الجمعة - وغير ذلك - مما يحتاج الاحتياط فيه إلى التكرار، فيكرره احتياطا لادراك الواقع .

( أمّا الاوّل ) وهو ما لا يحتاج الاحتياط فيه إلى التكرار : ( فالأقوى فيه الصحة ) لأن العقل يحكم بحصول الامتثال بالاحتياط ، وكذلك العقلاء ، لكن بشرط ان لم يكن محتاجا إلى التكرار ، ولم يثبت من الشارع منع عنه ، ولم يكن المقام من احتمال اللعب بأمر المولى ، أو من احتمال الوسوسة ، كما يحتمل ذلك في التكرار.

نعم ، قد يعارض الاحتياط احتياط آخر ، فيقدّم الأقوى منهما إذا كان أحدهما أقوى ، ومع التساوي يكون مخيرا .

وإنّما يكون الأقوى في هذا القسم من الاحتياط هو الصحة ( بناءا على عدم اعتبار نية الوجه ) والتمييز ( في العمل ) على ما سبق الالماع اليه ( و ) حيث ان ( الكلام في ذلك قد حرّرناه في «الفقه» في نيّة الوضوء ) فلا حاجة إلى تكراره هنا.

ص: 180

نعم ، لو شك في اعتبارها ، ولم يقم دليل معتبر من شرع أو عرف حاكم بتحقق الاطاعة بدونها ، كان مقتضى الاحتياط اللازم الحكم بعدم الاكتفاء بعبادة الجاهل ،

-------------------

والحاصل : ان العقل مستقل ، وكذا العقلاء بكفاية الاحتياط غير المستلزم للتكرار قبل الفحص عن وجه الفعل بالنسبة إلى المجتهد القادر على الفحص ، وبكفاية الاحتياط قبل الرجوع إلى المجتهد بالنسبة إلى المقلد ، والشارع لم يغيّر هذه الطريقة العقلية والعقلائية .

( نعم ، لو ) فرض تردد العقل في كفاية الاحتياط في مقام امتثال أحكام الشرع ، وذلك بأن ( شك في اعتبارها ) أي : اعتبار نية الوجه ( ولم يقم دليل معتبر من شرع أو عرف حاكم ) أي : لا عرف عادي ، بل العرف الذي يكون ميزانا للحكم ثبوتا وسقوطا ، فانه إذا لم يثبت شيء منهما يدل على انه ( بتحقق الاطاعة بدونها) أي : بدون نية الوجه والتمييز ( كان مقتضى الاحتياط اللازم ) بحكم العقل : ( الحكم بعدم الاكتفاء بعبادة الجاهل ) بنية الوجه سواء كان مجتهدا ولم يفرغ وسعه في الفحص ، أو مقلدا ولم يرجع إلى مجتهده في الحكم .

هذا ، ولا يخفى : ان العرف ميزان وحاكم في ثلاثة اُمور :

الأوّل : في معنى الموضوع وحدوده .

الثاني : في معنى الحكم وحدوده .

الثالث : في تحقق الامتثال وعدمه .

وعليه : فاذا ورد مثلاً : الكلب نجس فاجتنبه ، فانه يرجع إلى العرف في معنى الكلب وحدوده ، وفي معنى النجس وحدوده ، وفي معنى الاجتناب وحدوده ، وهل ان الامتثال يتحقق بالاجتناب عنه مطلقا حتى عن النظر اليه ، أو هو الاجتناب

ص: 181

حتى على المختار من اجراء البرائة في الشك في الشرطيّة .

لأن هذا الشرط ليس على حدّ الشروط المأخوذة في المأمور به الواقعة في حيّز الأمر ،

-------------------

بنوع خاص ؟ فانه يرجع فيه إلى العرف للحكم بان هذا العمل فعلاً كان أم تركا امتثال أو ليس بامتثال ، وذلك فيما إذا شك في انه امتثل أم لا ، من جهة فقد بعض الخصوصيات ، أو زيادة بعض اُمور لا ترتبط بالتكليف .

هذا ، ولكن الظاهر : ان قوله : « نعم لو شك في اعتبار نية الوجه » ، انه مجرد فرض إذ لا يحصل مثل هذا الشك بعد القطع بحصول الامتثال عقلاً وعرفا باتيان المأمور به بقصد أمره الواقعي وان لم يعلم انه واجب أو مستحب ، فيكفي مجرد العلم بتعلق الطلب بالعبادة وان لم يعلم انه على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب .

هذا من جهة العقل والعقلاء والعرف ، وامّا من جهة الشرع فانه حيث لم يدل على اعتبار مثل نية الوجه في العبادة دليل مع ان المسألة مما يعمّ بها البلوى وتتكرر الحاجة اليها ليلاً ونهارا لكل مكلف ، فهو دليل على عدم اعتبارها ، من باب انه لو كان لبان ، فعدم الدليل في مثل ذلك دليل العدم .

نعم ، لو فرض الشك لزم الاحتياط ( حتى على المختار ) عند المصنِّف : ( من اجراء البرائة في الشك في الشرطيّة ) كما تجري البرائة في الشك في الجزئية ( لان هذا الشرط ليس على حدّ الشروط المأخوذة في المأمور به الواقعة في حيّز الأمر ) وداخله ، بأن وقع الأمر عليها ، فان الشرط على قسمين :

الأوّل : شرائط المأمور به التي يقع الأمر عليها مثل : شرط الطهارة والقبلة والستر وما أشبه في الصلاة ، وهذا القسم إذا شك فيه ، فأصل البرائة محكم فيه ،

ص: 182

حتى إذا شك في تعلق الالزام به من الشارع حَكَمَ العقل بقبح المؤاخذة المسبّبة عن تركه والنقل بكونه مرفوعا عن المكلّف، بل هو على تقدير اعتباره شرط لتحقّق الاطاعة ، وسقوط المأمور به ، وخروج المكلّف عن العهدة .

-------------------

وذلك لانه من الشك في التكليف .

الثاني : شرائط الامتثال التي تأتي بعد الأمر مثل : نية الوجه والتمييز وما أشبه في الصلاة ، فانه إذا صدر الأمر بالصلاة - مثلاً - استلزم اتيانها بهذا النحو من النية والتمييز وغير ذلك ، وهذا القسم إذا شك فيه لزم الاتيان به ، لأنه من الشك في المكلّف به والشك في المكلّف به مجرى الاحتياط .

إذن : فليس هذا القسم الثاني من الشرط كالقسم الأوّل ( حتى إذا شك ) المكلّف ( في تعلق الالزام به من الشارع حَكَمَ العقل بقبح المؤاخذة المسبّبة ) تلك المؤاخذة ( عن تركه ) أي : ترك هذا القسم من الشرط المأخوذ في المأمور به ( و ) حكم ( النقل ) أيضا ( بكونه مرفوعا عن المكلّف ) فانه ليس من شروط المأمور به حتى يحكم العقل والنقل فيه بالبرائة ويجري فيه : « رفع ما لا يعلمون » (1) و « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (2) .

( بل هو ) أي : هذا القسم الثاني من الشرط ( على تقدير اعتباره : شرط لتحقّق الاطاعة ، وسقوط المأمور به ، وخروج المكلّف عن العهدة ) فهو من شروط الامتثال ، لا من شروط المأمور به .

ص: 183


1- - تحف العقول ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 ح27 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .
2- - التوحيد : ص413 ح9 ، الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .

ومن المعلوم : أنّ مع الشك في ذلك لابد من الاحتياط واتيان المأمور به على وجه يقطع معه بالخروج عن العهدة .

وبالجملة : فحكم الشك في تحقق الاطاعة والخروج عن العهدة بدون الشيء غيرُ حكم الشك في أنّ أمر المولى متعلق بنفس الفعل لا بشرط أو به بشرط كذا .

والمختار في الثاني البرائة ، والمتعيّن في الأوّل الاحتياط .

-------------------

( ومن المعلوم : انّ مع الشك في ذلك ) أي : في شرط الامتثال ( لابد من الاحتياط واتيان المأمور به على وجه يقطع معه ) أي : من ذلك الوجه ( بالخروج عن العهدة ) فلا يكون موردا للبرائة حتى إذا لم يأت به يأمن العقاب على تركه .

( وبالجملة : فحكم الشك في تحقق الاطاعة والخروج عن العهدة بدون الشيء ) المشكوك مثل : قصد الوجه والتمييز ونحوهما من الاُمور المترتبة على الأمر ، لا الاُمور السابقة على الأمر ( غير حكم الشك في انّ أمر المولى متعلق بنفس الفعل لا بشرط ، أو به ) أي : بالفعل ( بشرط كذا ) الذي هو من شروط المأمور به وسابق على الأمر حيث يأتي الأمر عليه ، كما مثّلنا له بالطهارة والستر والقبلة وما أشبه .

هذا ( والمختار في الثاني ) أي : في شروط المأمور به وهو ما ذكره بقوله : الشك في ان أمر المولى متعلق بنفس الفعل لا بشرط ، أو به بشرط كذا ، هو : ( البرائة ، والمتعيّن في الأوّل ) أي : في شروط الامتثال وهو ما ذكره بقوله : ومن المعلوم : ان مع الشك في ذلك لابد من الاتيان به ، هو : ( الاحتياط ) وذلك لما عرفت : من أن باب الاطاعة وعدمها عرفي ، والعرف يوجبون الاحتياط عند الشك في مثل الوجه والتمييز ، ولا دليل من الشرع على عدم لزومه ، فاذا لم يأت

ص: 184

لكن الانصاف : أنّ الشك في تحقق الاطاعة بدون نية الوجه غير متحقق ، لقطع العرف بتحقّقها ، وعدّهم الآتي بالمأمور به بنية الوجه الثابت عليه في الواقع مطيعا وإن لم يعرفه تفصيلاً ، بل لا بأس بالاتيان به بقصد القربة المشتركة بين الوجوب والندب من غير أن يقصد الوجه الواقعي المعلوم للفعل اجمالاً .

وتفصيل ذلك في « الفقه » ، إلاّ أنّ الأحوط عدم اكتفاء الجاهل عن الاجتهاد أو التقليد بالاحتياط ،

-------------------

به لا يكون مأمونا من العقاب .

( لكن الانصاف : انّ الشك في تحقق الاطاعة بدون نية الوجه غير متحقق ) فان العرف لا يشكون في تحقق العبادة وان لم ينو المكلّف الوجه فيها ، وذلك ( لقطع العرف بتحقّقها ، وعدّهم الآتي بالمأمور به بنية الوجه الثابت عليه في الواقع ) بأن ينوي : اني آتي بهذا الشيء على وجهه الواقعي سواء كان واجبا أم مستحبا ، فانه يعدّ ( مطيعا وان لم يعرفه تفصيلاً ) بانه واجب أو مستحب .

( بل لا بأس بالاتيان به بقصد القربة المشتركة بين الوجوب والندب من غير ان يقصد الوجه الواقعي ) فانه قد ينوي : اني آتي بهذا العمل على وجهه الواقعي من الوجوب والندب ، وقد ينوي : اني آتي به قربة إلى اللّه تعالى من دون ان يجعل في نيته انه يأتي به على وجهه الواقعي ( المعلوم للفعل إجمالاً ) من انه اما واجب واما مستحب ( وتفصيل ذلك في «الفقه» ) فلا حاجة إلى تكراره .

( إلاّ انّ الأحوط ) احتياطا استحبابيا ( عدم اكتفاء الجاهل عن الاجتهاد أو التقليد بالاحتياط ) وإنّما عليه أن يفحص حتى يعلم هل هو واجب أو مستحب ؟ فحصا اجتهاديا بالنسبة إلى المجتهد وتقليديا بالنسبة إلى المقلد .

ص: 185

لشهرة القول بذلك بين الأصحاب ، ونقل غير واحد : اتفاقَ المتكلّمين على وجوب اتيان الواجب والمندوب لوجوبه أو ندبه أو لوجههما .

ونقل السيد الرضي قدس سره : اجماعَ أصحابنا على بطلان صلاة من صلّى صلاة لا يعلَمُ أحكامها ، وتقرير أخيه الأجلّ علم الهدى قدس سره له على ذلك في مسألة الجاهل بالقصر .

بل يمكن أن يجعل هذان الاتفاقان المحكيّان من أهل المعقول والمنقول

-------------------

وإنّما قال : الأحوط ترك الاحتياط قبل الفحص ( لشهرة القول بذلك ) أي : بعدم كفاية العمل الاحتياطي ( بين الأصحاب ، ونقل غير واحد : اتفاق المتكلّمين على وجوب اتيان الواجب والمندوب لوجوبه أو ندبه ) بان ينوي : اني آتي بصلاة الظهر لوجوبها ، أو آتي بصلاة النافلة لندبها ( أو لوجههما ) أي : وجه الوجوب ووجه الندب علما بأن الوجه في الوجوب هو المصلحة الملزمة وفي الندب هو المصلحة غير الملزمة .

( ونقل السيد الرضي قدس سره : اجماع أصحابنا على بطلان صلاة من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها ) وإطلاقه يشمل الاحتياط ، كما انه يشمل ما إذا كان العمل الذي أتى به مطابقا للواقع أيضا ، وليس ذلك إلاّ لعدم نية الوجه في مثل هذه الصلاة .

( و ) كذا ( تقرير أخيه الأجلّ علم الهدى قدس سره له على ذلك ) الاجماع ( في مسألة الجاهل بالقصر ) فانه إذا جهل بالقصر وصلّى صلاتين : قصرا وتماما لم يكف ، كما إنه إذا جهل بالقصر لكنه صلّى قصرا وكان ما صلاّه مطابقا للواقع لم يكف أيضا ، وما ذلك إلاّ للاخلال بنية الوجه .

( بل يمكن أن يجعل هذان الاتفاقان المحكيّان من أهل المعقول ) من المتكلمين ( والمنقول ) عن الرضي والمرتضى حيث ادعيا الاجماع

ص: 186

المعتضدان بالشهرة العظيمة دليلاً في المسألة ، فضلاً عن كونهما منشئا للشك الملزم للاحتياط ، كما ذكرنا .

وأمّا الثاني : وهو ما يتوقف الاحتياط فيه على تكرار العبادة ، فقد يقوى في النظر أيضا جواز ترك الطريقين فيه إلى الاحتياط بتكرار العبادة ،

-------------------

من الأصحاب ( المعتضدان بالشهرة العظيمة ) في كتب الفقه ( دليلاً في المسألة ) على لزوم نيّة الوجه ( فضلاً عن كونهما منشئا للشك ) بالنحو ( الملزم للاحتياط كما ذكرنا ) عند قولنا : « نعم لو شك في اعتبارها » إلى آخره .

ولا يخفى : ان المصنِّف يظهر منه : انه متردد في المسألة ، فقد رجح في مبحث القطع جواز العمل بالاحتياط ، بل رجحانه حتى في صورة التمكن من الظن الخاص فضلاً عن الظن المطلق في صورة عدم التكرار ، وصرّح هناك : بان شبهة اعتبار نية الوجه ضعيفة ، كما انه صرح بعدم حجية الاجماع المنقول في المسائل التعبدية فكيف في المسائل العقلية؟ وهنا مال إلى الوجوب وجعل الاجماع مستندا .

هذا ، ولعل العمدة في وجه تردده قدس سره هو تردّده بين الأدلة الصناعية المقتضية لعدم لزومه ، وبين الشهرة ونقل الاجماع الدالين على لزومه ، والظاهر : ان الأدلة الصناعية مقدمة ، إلاّ إذا قيل بالاحتياط الاستحبابي .

( وامّا الثاني : وهو ما يتوقف الاحتياط فيه على تكرار العبادة ) سواء كانت العبادة من جنس واحد كالصلاة في ثوبين أحدهما نجس ، أم من جنسين كصلاة الجمعة وصلاة الظهر ( فقد يقوى في النظر أيضا جواز ترك الطريقين ) : من الاجتهاد والتقليد ( فيه ) أي : في هذا القسم الثاني ( إلى الاحتياط بتكرار العبادة ) وذلك لما عرفت : من حصول الطاعة بالاحتياط عرفا إذا لم يكن هناك محذور

ص: 187

بناءا على عدم اعتبار نيّة الوجه .

لكن الانصاف عدم العلم بكفاية هذا النحو من الاطاعة الاجماليّة ، وقوة احتمال اعتبار الاطاعة التفصيلية في العبادة ، بأن يعلم المكلّف حين الاشتغال بما يجب عليه أنّه هو الواجب عليه .

-------------------

الوسوسة وما أشبه ذلك من المحاذير التي تقدمت الاشارة اليها .

وإنّما قال : قد يقوى جواز الاحتياط هنا أيضا ( بناءا على عدم اعتبار نيّة الوجه ) على ما ذكرناه آنفا، لأنه إذا قلنا باعتبار نية الوجه، فاعتبارها ينافي تكرار العبادة بالنسبة إلى من يقدر على تحصيل الوجه بالاجتهاد أو التقليد .

هذا ( لكن الانصاف ) عدم كفاية الاحتياط بتكرار العبادة قبل الفحص لوجوه ثلاثة ذكرها المصنِّف :

الأوّل : ( عدم العلم بكفاية هذا النحو من الاطاعة الاجماليّة ) لأن الاطاعة الاجمالية تستلزم فقد النية، والمفروض : اعتبار نية الوجه، فيقوى بسبب اعتبارها اشتراط الاطاعة التفصيلية كما قال : ( وقوة احتمال اعتبار الاطاعة التفصيلية في العبادة ) مع التمكن منها .

هذا ، والاطاعة التفصيلية إنّما تحصل ( بأن يعلم المكلّف حين الاشتغال بما يجب عليه أنّه هو الواجب عليه ) بعينه، لا انه مردد بين الواجب وغير الواجب .

وفيه : ان المشهور بين الأصحاب جوازه، لأنه لا دليل على لزوم قصد الوجه مؤيدا ذلك بمكاتبة صفوان بن يحيى، في الحسن عن أبي الحسن عليه السلام : يسأله عن الرجل كان معه ثوبان فأصاب أحدهما بول ولم يدر أيّهما هو؟ وحضرت الصلاة وخاف فوتها وليس عنده ماء كيف يصنع ؟ قال : يصلي فيهما جميعا (1) .

ص: 188


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص225 ب23 ح95 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص249 ح756 .

ولذا يعدّ تكرار العبادة لاحراز الواقع مع التمكن من العلم التفصيلي به أجنبيا عن سيرة المتشرعة ، بل من أتى بصلوات غير محصورة لاحراز شروط صلاة واحدة ، بأن صلّى في موضع تردّد فيه القبلة بين أربع جهات في خمسة أثواب ، أحدُها طاهرٌ ، ساجدا على خمسة أشياء : أحدُها ما يصح السجود عليه ، مائة

-------------------

كذا قيل ، لكن ظاهر هذه الرواية : عدم التمكن من العلم التفصيلي، فهي تصلح في ردّ ابن إدريس الحلي القائل بالصلاة عاريا في مفروض المسألة، ولا تصلح لرد من يقول بلزوم العلم في صورة التمكن منه .

الثاني : السيرة على عدم كفاية الاطاعة الاجمالية كما قال رحمه اللّه : ( ولذا يعدّ تكرار العبادة لاحراز الواقع مع التمكن من العلم التفصيلي به ) أو الظن التفصيلي المعتبر به، كشهادة أهل الخبرة - مثلاً - بالنسبة إلى القبلة ونحوها، يعدّ ( أجنبيا عن سيرة المتشرعة ) فان سيرتهم على تحصيل العلم أو الظن المعتبر، لا الاحتياط .

لكن أورد على السيرة : بعدم الحجية، إلاّ إذا كانت متصلة بزمان المعصوم، وعلم تقرير المعصوم لها ولو من جهة عدم إنكارها، وكلا الأمرين في المقام محل نظر .

الثالث : من وجوه عدم كفاية الاحتياط قبل الفحص المستلزم للتكرار : لزوم اللعب بأمر المولى ، كما أشار اليه المصنِّف بقوله :

( بل من أتى بصلوات غير محصورة لاحراز شروط صلاة واحدة، بأن صلّى في موضع تردّد فيه القبلة بين أربع جهات في خمسة أثواب أحدُها طاهرٌ ساجدا على خمسة أشياء : أحدُها ما يصح السجود عليه ) فيكون مجموع ما يصلّيه ( مائة )

ص: 189

مع التمكّن من صلاة واحدة يعلم فيها تفصيلاً اجتماع الشروط الثلاثة ، يعدّ في الشرع والعرف لاعبا بأمر المولى .

والفرق بين الصلوات الكثيرة وصلاتين لايرجع إلى محصّل .

-------------------

صلاة مكان صلاة واحدة ( مع التمكّن من صلاة واحدة يعلم فيها تفصيلاً اجتماع الشروط الثلاثة ) من القبلة، والثوب الطاهر، وما يصح السجود عليه ، فان المحتاط هذا ( يعدّ في الشرع والعرف : لاعبا بأمر المولى ) وهو واضح .

( و ) ان قلت : هناك فرق بين صورة استلزام الاحتياط : التكرار الكثير، وعدمه، فالتكرار في ثوبين مشتبهين - مثلاً - لا يعد لعبا بأمر المولى .

قلت : ( الفرق بين الصلوات الكثيرة ) كما في مثال الاحتياط بمائة صلاة ( وصلاتين ) كما في مثال الثوبين المشتبه أحدهما بالنجس ( لا يرجع إلى محصّل ) لأن المعيار هو : التكرار وعدم التكرار ، فاذا تحقق التكرار فلا فرق فيه بين القليل والكثير .

لكن لا يخفى : وضوح الفرق بينهما عند العرف، فانه إذا قال المولى : أئتني بكتاب الرسائل فجاء العبد بكتابين أحدهما الرسائل لا يوبّخه العرف، بينما إذا جاء بمائة كتاب احدها الرسائل ونحوه على انه لماذا يلعب بأمر المولى، وذلك على فرض تسليم كونه لعبا بأمر المولى ؟ .

وكيف كان : فقد أجاب عن هذا الاشكال جمع، منهم صاحب الكفاية حيث قال : وامّا كون التكرار لعبا وعبثا، فمع انه ربما يكون لداع عقلائي، كما إذا كان في تحصيل العلم التفصيلي بالامتثال مشقة وكلفة، أو بذل مال، أو ذل سؤال، ونحو ذلك ، إنّما يضر إذا كان لعبا بأمر المولى، لا في كيفية إطاعته بعد حصول الداعي اليها .

ص: 190

نعم ، لو كان ممن لا يتمكن من العلم التفصيلي ، كان ذلك منه محمودا مشكورا .

وببالي : أنّ صاحب الحدائق قدس سره يظهر منه : دعوى الاتفاق على عدم مشروعيّة التكرار مع التمكّن من العلم التفصيلي .

ولقد بالغ الحلّي قدس سره في السرائر حتى أسقط اعتبار الشرط المجهول تفصيلاً ولم يجوّز التكرار المحرز له ، فأوجب الصلاة عاريا على من عنده ثوبان مشتبهان ، ولم يجوّز تكرار الصلاة فيهما مع ورود النص به ، لكن من طريق الآحاد ،

-------------------

( نعم ، لو كان ) العبد ( ممن لا يتمكن من العلم التفصيلي ) فاحتاط وأتى بالشيء مكررا لتحصيل الواقع ( كان ذلك ) التكرار ( منه محمودا مشكورا ) لكن بشرط ان لا يكون فيه عسر أو حرج أو ضرر منهي عنه شرعا .

هذا ( وببالي : انّ صاحب الحدائق قدس سره يظهر منه : دعوى الاتفاق على عدم مشروعيّة التكرار مع التمكّن من العلم التفصيلي ، ولقد بالغ الحلّي ) ابن إدريس ( قدس سره في السرائر حتى أسقط اعتبار الشرط ) كالستر ( المجهول تفصيلاً ولم يجوّز التكرار المحرز له ) أي : لذلك الشرط المعلوم اجمالاً .

وعليه : فاذا كان للمكلف - مثلاً - ثوبان اشتبه أحدهما بالنجس ولم يتمكن من تطهيره أو تحصيل الثوب الطاهر ( فأوجب الصلاة عاريا ) عليه أي : ( على من عنده ثوبان مشتبهان ولم يجوّز تكرار الصلاة فيهما مع ورود النص به ) وهو النص الذي تقدّم من مكاتبة صفوان بن يحيى .

( لكن ) إنّما أسقط الحلي الشرط المجهول ولم يعمل بالنص فيه ، لأن النص قد ثبت ( من طريق ) الخبر ( الآحاد ) والحلي لا يعمل بالخبر الواحد ، ولذا يرى

ص: 191

مستندا في ذلك إلى وجوب مقارنة الفعل الواجب لوجهه .

وكما لا يجوز الدخول في العمل بانيا على احراز الواقع بالتكرار ، كذا لا يجوز بانيا على الفحص بعد الفراغ ، فان طابق الواقع وإلاّ أعاده .

ولو دخل في العبادة بنيّة الجزم ، ثم اتفق له ما يوجب تردّده في الصحة ووجوب الاتمام ، وفي البطلان ووجوب الاستئناف ،

-------------------

لزوم العمل حسب القواعد ، لأن الخبر الواحد ليس بحجة عنده ( مستندا في ذلك ) أي : في عدم جواز التكرار ( إلى وجوب مقارنة الفعل الواجب لوجهه ) ومعلوم انّ التكرار ينافي قصد الوجه .

( و ) عليه : فانه ( كما لا يجوز الدخول في العمل بانيا على احراز الواقع بالتكرار ) على رأي المصنِّف للوجوه الثلاثة التي ذكرها ( كذا لا يجوز ) على رأيه الدخول في العمل ( بانيا على الفحص بعد الفراغ ، فان طابق الواقع ) فهو ( وإلاّ أعاده ) .

كما إذا صلى في أحد الثوبين المشتبهين مع تمكنه من ثوب طاهر ، بانيا على الفحص عن هذا الثوب بعد الصلاة ، فان كان طاهرا اكتفى بتلك الصلاة ، وان كان نجسا أعادها في ثوب طاهر ، فانه جعل هذا التكرار الأوّل في عدم الجواز .

وإنّما يكون الحكم هنا مثل حكم التكرار هناك في عدم الجواز ، لأن هذا المصلي قد أخل بقصد الوجه هنا أيضا مع انه قادر على الصلاة مع قصد الوجه .

هذا ( ولو دخل في العبادة بنيّة الجزم ) بالصحة ، وذلك بأن كان حين الدخول فيه غير متردد في وجه العمل ( ثم اتفق له ما يوجب تردّده ) بين الصحة والبطلان ، وذلك للشك ( في الصحة ووجوب الاتمام ، وفي البطلان ووجوب الاستئناف ) .

كما إذا علا صوته بالبكاء ، أو تأوّه في الصلاة ، مما جعله يتردد بين الاتمام

ص: 192

ففي جواز الاتمام بانيا على الفحص بعد الفراغ والاعادة مع المخالفة وعدمه ، وجهان : من اشتراط العلم بالصحة حين العمل كما ذكرنا ، ولذا لم يجوّز هذا من أوّل الأمر .

وبعبارة اُخرى : الجزم بالنية معتبر في الاستدامة كالابتداء ، ومن أنّ المضيّ في العمل ولو مترددا بانيا على استكشاف حاله بعد الفراغ ، محافظة على عدم إبطال العمل المحتمل حرمته واقعا

-------------------

أو الاستيناف ( ففي جواز الاتمام بانيا على الفحص بعد الفراغ والاعادة مع المخالفة) ان ظهر مخالفة ما أتى به للواقع ( وعدمه ) أي : عدم جواز الاتمام لأنه فقد الجزم بالوجه ( وجهان ) :

أشار المصنِّف إلى أول الوجهين وهو : وجه البطلان بقوله : ( من اشتراط العلم بالصحة حين العمل كما ذكرنا ) آنفا من يعلم اعتبار قصد الوجه والتمييز ( ولذا لم يجوّز هذا ) أي : التردد في الصحة ( من أوّل الأمر ) أي : قبل الدخول في العمل ، فاذا أراد الدخول في الصلاة ولم يعلم ان هذه الصلاة صحيحة أو ليست بصحيحة لم يجز الدخول فيها ، كذلك إذا تردد في الأثناء لم يجز اتمامها .

( وبعبارة اُخرى : الجزم بالنية معتبر في الاستدامة كالابتداء ) فكما انه لا يصح الدخول في الصلاة بلا جزم بالنية ابتداءً ، كذلك لا يصح البقاء في الصلاة بلا جزم بالنية استدامة .

وأشار إلى ثاني الوجهين وهو : وجه الصحة بقوله : ( ومن انّ المضيّ في العمل ولو مترددا بانيا على استكشاف حاله ) أي : حال العمل ( بعد الفراغ ) منه ، وذلك البناء ( محافظة على عدم إبطال العمل المحتمل حرمته ) أي : حرمة إبطاله ( واقعا

ص: 193

على تقدير صحته ، ليس بأدون من الاطاعة التفصيليّة ولا يأباه العرفُ ولاسيرةُ المتشرّعة .

وبالجملة : فما اعتمد عليه في عدم جواز الدخول في العمل متردّدا من السيرة العرفية والشرعية غير جار في المقام .

ويمكن التفصيل بين كون الحادث الموجب

-------------------

على تقدير صحته ، ليس بادون ) وأنزل ( من الاطاعة التفصيليّة ) حتى نقول بابطال صلاته ، واستئناف صلاة جديدة .

هذا ( ولا يأباه ) أي : المضي في العمل والبناء على السؤال ( العرف ) الذين هم المخاطبون بالاحكام الشرعية فتلقيهم كاشف عن ارادة الشارع .

( ولا ) يأباه أيضا ( سيرة المتشرّعة ) في أمثال هذه الاُمور ، فانهم إذا ترددوا في صحة الصلاة وعدمه أثناء الصلاة أتموها بانين على السؤال بعد ذلك .

( وبالجملة : فما اعتمد عليه في عدم جواز الدخول في العمل متردّدا من السيرة العرفية والشرعية غير جار في المقام ) وهو ما إذا حصل التردد في أثناء العمل .

وأولى بالمضي ما إذا تردد في أثناء صوم شهر رمضان ، أو الحج ، أو صوم الاعتكاف في اليوم الثالث ، أو ما أشبه ذلك ، لأنه إذا كان صحيحا كان واجبا عليه إتمامه قطعا ، وإذا وجب عليه إتمامه حرم قطعه يقينا بخلاف ما إذا رفع يده عن الصلاة ، فان وجوب الاتمام في الصلاة ليس مقطوعا به بمثل القطع بوجوب إتمام صوم شهر رمضان وإتمام الحج وما أشبههما .

( ويمكن التفصيل ) هنا وهذا وجه ثالث في المسألة ، ويبدو انه مختار المصنِّف كما يظهر من عدم ردّه له وهو : التفصيل ( بين كون الحادث الموجب

ص: 194

للتردّد في الصحة ممّا وجب على المكلّف تعلّمُ حكمه قبل الدخول في الصلاة لعموم البلوى ، كأحكام الخلل الشايع وقوعها وابتلاء المكلّف بها .

فلا يجوز لتارك معرفتها إذا حصل له التردّد في الأثناء ، المضي والبناء على الاستكشاف بعد الفراغ ، لأنّ التردّد حصل من سوء اختياره ، فهو في مقام الاطاعة كالداخل في العمل مترددا ، وبين كونه ممّا لا يتفق إلاّ نادرا .

ولأجل ذلك لا يجب تعلّم حكمه قبل الدخول ، للوثوق بعدم الابتلاء غالبا ،

-------------------

للتردّد في الصحة ممّا وجب على المكلّف تعلّم حكمه قبل الدخول في الصلاة ) ووجوب تعلم حكمه ( لعموم البلوى ) وكثرة الابتلاء به ( كأحكام الخلل الشايع وقوعها ) مثل الشك بين الاثنتين والثلاث وما أشبه ذلك ( وابتلاء المكلّف بها ) كثيرا ، فان عموم البلوى موجب للتعلم ، وذلك لاطلاق أدلة التعلم .

وعليه: فاذا كان الحادث الموجب للتردد من هذا القبيل ( فلايجوز لتارك معرفتها إذا حصل له التردّد في الأثناء ، المضي والبناء على الاستكشاف بعد الفراغ ) .

وإنّما لا يجوز المضي ( لأنّ التردّد حصل من سوء اختياره ) حيث لم يتعلم قبل الصلاة مع وجوب التعلم عليه (فهو في مقام الاطاعة كالداخل في العمل مترددا ) وكما لايجوز الدخول في العمل مترددا كذلك لا يجوز استدامة العمل مترددا .

إذن : فالتفصيل بين عموم البلوى فلا يجوز المضي ( وبين كونه ممّا لا يتفق إلاّ نادرا ) مثل : انقاذ الغريق ، واطفاء الحريق ، وما أشبه ذلك ( ولأجل ذلك ) أي : ندرة وقوعه ( لا يجب تعلّم حكمه قبل الدخول ) في الصلاة ، وعدم وجوب تعلم حكمه إنّماهو ( للوثوق بعدم الابتلاء غالبا ) به ، فلا يشمله أدلة التعليم والتعلم .

ص: 195

فيجوز هنا المضيّ في العمل على الوجه المذكور ، هذا بعض الكلام في الاحتياط .

وأمّا البرائة

فان كان الشك الموجبُ للرجوع اليها من جهة الشبهة في الموضوع ، فقد تقدّم أنّها غير مشروطة بالفحص عن الدليل المزيل لها ،

-------------------

وعليه : ( فيجوز هنا ) فيما إذا تردد في الأثناء ( المضيّ في العمل على الوجه المذكور ) بأن يمضي في العمل ويبني على الفحص والسؤال بعد الاتمام ، فان صح فهو وإلاّ أعاده ( هذا بعض الكلام في الاحتياط ) .

ولا يخفى : ان المصنِّف ذكر في هذا المبحث ان الكلام تارة في الاحتياط ، واُخرى في البرائة ، وأهمل ذكر التخيير في المقام مع انه من الاُصول أيضا ، ولعله لاتحاد حكم التخيير مع البرائة ، مضافا إلى أنه صرّح بعد ذلك بعدم الفرق بينهما حيث قال : ثم أن في حكم أصل البرائة كل أصل عملي خالف الاحتياط ، وقوله : هذا يشمل التخيير والاستصحاب ، وان كان لو أبدل قوله : خالف الاحتياط بقوله : غير الاحتياط لكان أولى ، كما ألمع اليه الآشتياني .

( وأمّا ) الكلام في ( البرائة : فان كان الشك الموجب للرجوع اليها من جهة الشبهة في الموضوع ) كما إذا شك في ان هذا الماء نجس أم لا ، أو ان هذا المايع خمر أم لا ، إلى غير ذلك من الشبهات الموضوعية التي يستطرق فيها باب العرف من غير مدخلية للشرع فيها ( فقد تقدّم انّها ) أي : البرائة ( غير مشروطة بالفحص عن الدليل ) فلا يلزم سؤال أهل الخبرة وما أشبه ذلك ( المزيل لها ) أي : لهذه الشبهة .

ص: 196

وإن كان من جهة الشبهة في الحكم الشرعي .

-------------------

هذا ، ولكنا ذكرنا سابقا كما عرفت وذكرنا في الفقه أيضا : ان الواجب هو الفحص ، إلاّ فيما علم من الشارع عدم لزوم الفحص فيه ، كالشك في الطهارة والنجاسة ، والشك في المرأة التي يريد أن يتزوجها بأن لها زوج أم لا ، وغير ذلك مما صرح الشارع بعدم لزوم الفحص فيه .

وإنّما نقول بالفحص في الشبهات الموضوعية أيضا إلاّ ما استثني ، لأن الفحص في الموضوعات أيضا كالأحكام ، هو طريق الطاعة عرفا ، وعليه بناء العقلاء والسيرة المستمرة من المتشرعة ، ولذا اشتهر بينهم فتوىً أو احتياطا : الفحص عن بلوغ النصاب في الزكاة ، والزيادة عن المؤنة في الخمس ، وحصول الاستطاعة في الحج ، وغير ذلك .

نعم ، ورد عدم الفحص في بعض مسائل الحلال والحرام ، لكنه يحتمل ان يكون ذلك من جهة الاُصول المصححة مثل : السوق ونحوه ، فقد جاء في ذيل رواية مسعدة بن صدقة : «والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير هذا ، أو تقوم به البينة » (1) وقوله عليه السلام : «حتى يجيئك شاهدان يشهدان ان فيه الميتة » (2) إلى ما يشبههما ممّا تعرضوا له في الفقه .

( وإن كان ) الشك الموجب للرجوع إلى البرائة ( من جهة الشبهة في الحكم الشرعي ) وجوبا : كوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، أو حرمة : كحرمة شرب

ص: 197


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
2- - الكافي فروع : ج6 ص339 ح2 ، وسائل الشيعة : ج25 ص118 ب61 ح31377 ، بحار الانوار : ج65 ص156 ح30 .

فالتحقيقُ : أنه ليس لها إلاّ شرط واحد ، وهو : الفحص عن الأدلة الشرعية .

والكلامُ يقع تارةً في أصل الفحص ، واُخرى في مقداره .

أمّا وجوبُ أصل الفحص

وحاصله : عدم معذوريّة الجاهل المقصِّر في التعلّم ، فيدل عليه وجوه :

الأوّل : الاجماع القطعي على عدم جواز العمل بأصل البرائة قبل استفراغ الوسع في الأدلة .

-------------------

التتن ( فالتحقيق انه ليس لها ) أي : للبرائة ( إلاّ شرط واحد ، وهو : الفحص عن الأدلة الشرعية ) في مضامينها ، غير انه ربما يتوهم ان هناك شرطا آخر للبرائة ، لكن سيأتي الكلام في عدم تماميته .

هذا ( والكلام ) هنا في وجوب الفحص قبل اجراء البرائة ( يقع تارة في أصل الفحص ، واُخرى في مقداره ) أي : في مقدار الفحص .

( أمّا وجوبُ أصل الفحص ) عن الدليل حتى يجوز له اجراء البرائة إذا لم يظفر بدليل ( وحاصله : عدم معذوريّة الجاهل المقصّر في التعلّم ) إذا خالف الواقع ( فيدل عليه وجوه ) خمسة :

( الأوّل : الاجماع القطعي على عدم جواز العمل بأصل البرائة قبل استفراغ الوسع في الأدلة ) اللّهم إلاّ أن يقال : ان هذا الاجماع محتمل الاستناد ، والاجماع المحتمل الاستناد ليس بحجة ، كما تقدّم الكلام في ذلك في باب الاجماع ، فلا يكون حينئذ كاشفا عن قول المعصوم حتى يكون دليلاً على المطلب .

ص: 198

الثاني : الأدلة الدالّة على وجوب تحصيل العلم ، مثل آيتي : النفر للتفقّه وسؤال أهل الذكر ، والأخبار الدالّة على وجوب تحصيل العلم ، وتحصيل التفقه ، والذمّ على ترك السؤال .

-------------------

( الثاني : الأدلّة الدالة على وجوب تحصيل العلم ) من الآيات والروايات ( مثل آيتي : النفر للتفقّه ، وسؤال أهل الذكر ) فقد قال سبحانه : « فلولا نَفَرَ من كلّ فرقَةٍ منهم طائفة ليتَفَقَهُوا في الدّين ولينذرُوا قَومَهُم إذا رَجَعُوا إليهم » (1) وقال سبحانه : « فسئلوا أهل الذّكر إن كُنتُم لا تَعلَمون » (2) .

( والأخبار الدالّة على وجوب تحصيل العلم ، وتحصيل التفقه ، والذّم على ترك السؤال ) مثل : ما روي عن أبي عبداللّه الصادق عليه السلام ، انه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : « طلب العلم فريضة على كل مسلم » (3) وفي بعض الروايات : « طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة » (4) .

وفي رواية اُخرى عنه عليه السلام أيضا انه قال لحمران بن أعين : «إنّما يهلك الناس لأنهم لا يسألون » (5) فان إيجاب التعلم يدل على عدم جواز اجراء البرائة قبل الفحص .

ثم لا يخفى : انّ الظاهر من العلم الواجب في قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : «طلب العلم

ص: 199


1- - سورة التوبة : الآية 122 .
2- - سورة النحل : الآية 43 ، سورة الانبياء : الآية 7 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص30 ح1 ، الأمالي للمفيد : ص28 ، دعائم الاسلام : ج1 ص83 ، مجموعة ورام : ج2 ص14 ، روضة الواعظين : ص10 ، ارشاد القلوب : ص165 ، بصائر الدرجات : ص2 ، المحاسن : ص225 ، اعلام الدين : ص81 ، مشكاة الانوار : ص133 ، منية المريد : ص99 .
4- - مجموعة ورام : ج2 ص176 ، غوالي اللئالي : ج4 ص70 ح36 ، كنز الفوائد : ج2 ص107 ، مشكاة الانوار : ص133 ، عدة الداعي : ص72 ، مصباح الشريعة : ص22 .
5- - الكافي اصول : ج1 ص40 ح2 .

الثالث : ما دلّ على مؤاخذة الجهّال والذمّ بفعل المعاصي المجهولة ، المستلزم لوجوب تحصيل العلم ، لحكم العقل بوجوب التحرّز عن مضرّة العقاب .

مثل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فيمن غسل مجدورا أصابته جنابة ، فكزّ ، فمات : « قتلوه ، قتلهم اللّه ُ ، ألاّ سألوا ، ألا يَمَّمُوهُ » ؟ .

-------------------

فريضة » هو : علم اُصول الدين ، وعلم الفروع التي هي محل الابتلاء ، وعلم ما يتوقف عليه نظام المعاش والمعاد : من سياسة ، واقتصاد ، وطب ، وهندسة ، وصناعة ، واجتماع، وزراعة ، وعمارة ، وغيرها مما يتوقف عليها نظام المعاش والمعاد توقفا أوليا ، أو بحيث لا يغلب بسببها أهل الباطل أهل الحق فيكون توقفه عليه توقفا ثانويا .

هذا ، ومن الواضح : انه حتى إذا لم يكن في الحديث كلمة : « أو مسلمة » كان قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « فريضة على كل مسلم » شامل للصنفين أيضا .

( الثالث : ما دلّ على مؤاخذة الجهّال والذّم بفعل المعاصي المجهولة ) كونها معصية ( المستلزم ) ذلك ( لوجوب تحصيل العلم ) إذ لولا وجوبه لما ذم عليه .

إذن : فالاخبار هذه تستلزم وجوب تحصيل العلم ، وذلك ( لحكم العقل بوجوب التحرّز عن مضرّة العقاب ) ومعلوم : ان التحرز لا يكون إلاّ بالعلم ، فيجب تحصيله .

أما تلك الأخبار فهي ( مثل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم فيمن غسل مجدورا ) وهو المبتلى بالجدري حيث ( اصابته جنابة ، فكزّ ) والكزّ : داء أو رعدة متولدة من شدة البرد ، فغسله ( فمات ) فقال صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( « قتلوه قتلهم اللّه ُ ، ألاّ سألوا ؟ ألاّ يَمَّمُوهُ ؟ ) (1) .

ص: 200


1- - الكافي اصول : ج1 ص40 ح1 و الكافي ( فروع ) : ج3 ص68 ح5 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص184 ب8 ح3 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص107 ح219 ، مستدرك الوسائل : ج2 ص528 ب4 ح2631 .

وقوله عليه السلام : لمن أطالَ الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغِناء : « ما كان أسوء حالَك لو مُتَّ

-------------------

« فعن الفقيه والكافي : قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : ان فلانا أصابته جنابة وهو مجدور ، فغسلوه ، فمات ، فقال صلى اللّه عليه و آله وسلم : ألا سألوا؟ ألا يمموه؟ ان شفاء العيّ السؤال » (1) .

وفي رواية الجعفري عن أبي عبداللّه الصادق عليه السلام قال : «ان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ذكر له ان رجلاً أصابته جنابة على جرح كان به ، فأمر بالغسل فاغتسل فكز فمات ؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : قتلوه قتلهم اللّه ، إنّما كان دواء العيّ السؤال » والعيّ هنا هو الجهل ، والسؤال دواؤه .

هذا ، ولا يخفى : ان تشديد النبي والأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين أحيانا في الكلام كما في الرواية السابقة لبيان أهمية الأمر ، كأهمية العلم والسؤال من أهل العلم من جهة ، ولبيان طريقة الاسلام في تقويم المجتمع واصلاحه من جهة اُخرى ، فانهم حيث أرادوا الجمع بين النهي الأكيد عن المنكر لتقويم المجتمع وبين عدم استعمال السيف والسوط والسجن والتعذيب ومصادرة الأموال وما أشبه ذلك مما جرت عليه عادة الحكام غالبا ، شدّدوا في الكلام من باب دوران الأمر بين الأهم والمهم .

( و ) مثل ( قوله عليه السلام : لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء ) حيث كان جاهلاً بحرمة الاستماع فقال له عليه السلام : ( ما كان أسوء حالك لو متّ

ص: 201


1- - الكافي اصول : ج1 ص40 ح1 و ج3 ( فروع ) ص68 ح5 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص40 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص107 ح219 ، وسائل الشيعة : ج3 ص346 ب5 ح3824 .

على هذهِ الحالةِ » ، ثم أمره بالتوبة وغسلها .

وما ورد في تفسير قوله تعالى : « فللّه الحجة البالغة » من أنّه :

-------------------

على هذه الحالة ، ثم أمره بالتوبة وغسلها ) (1) أي : غسل التوبة فقد روي عن أبي عبداللّه الصادق عليه السلام ما يلي :

« ان رجلاً جاء اليه فقال : ان لي جيرانا لهم جوار يتغنّين ويضربن بالعود فربما دخلت الكنيف فاُطيل الجلوس استماعا مني لهن ، فقال له : لا تفعل ، فقال : واللّه ما هو شيء أتيته برجلي إنّما هو سماع اسمعه باُذني فقال عليه السلام : أما سمعت اللّه عزّ وجل يقول : « إن السمع والبصر والفؤاد كل اُولئك كان عنه مسئولاً » (2) فقال الرجل : كأني لم أسمع بهذه الآية من كتاب اللّه عزوجل من عربي ولا عجمي، لاجرم اني قد تركتها واني أستغفر اللّه ، فقال له عليه السلام قم فاغتسل وصلّ ما بدا لك فلقد كنت مقيما على أمر عظيم ، ما كان أسوء حالك لو مت على ذلك ، استغفر اللّه واسأله التوبة من كل ما يكره ، فانه لا يكره إلاّ القبيح ، والقبيح دعه لأهله فان لكل أهلاً » (3) .

إذن : فالروايات كما عرفت تدل على مؤاخذة الجهال والذم على ما يفعلونه من المعاصي وان كان عن جهل ، وهو يستلزم وجوب تحصيل العلم لما تقدّم من حكم العقل بوجوب التحرز عن مضرة العقاب .

( و ) مثل ( ما ورد في تفسير قوله تعالى : « فللّه الحجة البالغة » (4) من أنّه:

ص: 202


1- - الكافي فروع : ج6 ص432 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص116 ب5 ح36 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص80 ح177 ، فقه الرضا : ص281 ، وسائل الشيعة : ج3 ص331 ب18 .
2- - سورة الاسراء : الآية 36 .
3- - الكافي فروع : ج6 ص432 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص116 ب5 ح36 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص80 ح177 ، وسائل الشيعة : ج3 ص331 ب18 .
4- - سورة الانعام : الآية 149 .

« يقال للعبد يوم القيامة : هل علِمت ؟ فان قال : نعم ، قيل : فهلاّ عَمِلْتَ ؟ وإن قال : لا ، قيل له : هَلاّ تعلّمت حتى تعمَل » ؟ .

وما رواه القمّي في تفسير قوله تعالى : « الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم » « نزلت فيمن اعتزل عن أمير المؤمنين عليه السلام ولم يقاتل معه » « قالوا فيم كنتم قالوا : كُنّا مستضعفين في الأرض » أي : لم نعلم من الحق ،

-------------------

« يقال للعبد يوم القيامة : هل علِمت ؟ فان قال : نعم ، قيل : فهلاّ عَمِلْتَ ) وهلاّ للتحضيض ، يعني : لماذا لم تعمل بما علمت؟ ( وإن قال : لا ، قيل له : هلاّ تعلّمت حتى تعمل ؟ ) (1) مما يدل على ان التعلم واجب .

( و ) مثل ( ما رواه القمّي في تفسير قوله تعالى : « الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم » ) أي : بسبب المعاصي لان الانسان إذا لم يطع اللّه كان ظالما لنفسه ، فقال القمي ( « نزلت ) هذه الآية والمراد من نزولها : التأويل لا التنزيل كما هو واضح ، فانه قد يطلق على التأويل التنزيل باعتبار انه نزل مرادا به هذه التأويل ، فتأويلها ( فيمن اعتزل عن أمير المؤمنين عليه السلام ولم يقاتل معه ) الناكثين والقاسطين والمارقين .

وعليه : فالآية تشير إلى ما يجري بين الملائكة واُولئك الظالمين الذين تخلّفوا عن أمير المؤمنين عليه السلام وذلك أرواحهم وتقول :

( « قالوا : ) أي : الملائكة لاُولئك الظالمين ( فيم كنتم ) كناية عن انه لماذا لم تنصروا الحق وتكونوا بجانب أمير المؤمنين عليه السلام ضد أعدائه ( « قالوا كُنّا مستضعفين في الأرض » (2) أي : لم نعلم من ) هو ( الحق ) ومن هو الباطل

ص: 203


1- - الأمالي للمفيد : ص292 ح1 .
2- - سورة النساء : الآية 97 .

فقال اللّه تعالى : « ألم تكن أرضُ اللّه واسعةً فتهاجروا فيها » ؟ أي : دينُ اللّه وكتابه واضحا متسعا ، فتنظروا فيه ، فترشدوا وتهتدوا به سبيل الحق .

الرابع : انّ العقل لا يعذِرُ الجاهل القادر على الاستعلام في المقام ، الذي نظيره في العرفيّات ما إذا ورد من يدّعي الرسالة من المولى ، وأتى بطومار يدّعي أنّ الناظر فيه يطلع على صدق دعواه أو كذبها ،

-------------------

( فقال اللّه تعالى : « ألم تكن أرض اللّه واسعة فتهاجروا فيها » (1) ؟ أي : دين اللّه وكتابه واضحا متسعا ) لمن أراد النظر فيهما حتى يعرف الحق من الباطل ( فتنظروا فيه فترشدوا وتهتدوا به سبيل الحق » ) (2) .

إذن : فالحديث هذا وان كان لمكان دلالته أقرب إلى اُصول الدين ، إلاّ انه لمكان علّته شامل للجاهل بالفروع عن تقصير أيضا فيكون دليلاً على ما نحن فيه.

( الرابع : انّ العقل لا يعذر الجاهل القادر على الاستعلام في المقام الذي ) نحن فيه من الشبهة الحكمية مع استطاعته من تحصيل العلم بالحكم عن طريق الفحص ، فانه إذا لم يفحص لم يحرز اللابيان ، الذي هو موضوع البرائة ، وإذا لم يتحقق الموضوع لم يثبت الحكم فلا يستقل العقل بقبح عقابه ان أجرى البرائة وخالف الواقع .

هذا ، و ( نظيره في العرفيّات ما إذا ورد من يدّعي الرسالة من المولى وأتى ) وجاء معه ( بطومار ) أي : صحيفة وكتاب ( يدّعي أنّ الناظر فيه يطلع على صدق دعواه أو كذبها ) إلى الطومار ويفحص عن صدقه وكذبه ، فانه إذا كان ذلك المدعي صادقا وكان في طوماره ما يدل على صدقه كان للمولى معاقبة هذا العبد ،

ص: 204


1- - سورة النساء : الآية 97 .
2- - تفسير القمي : ج1 ص149 بالمعنى .

فتأمل .

والنقل الدالّ على البرائة في الشبهة الحكميّة ، مُعارضٌ بما تقدّم من الأخبار الدالة على وجوب الاحتياط حتى يسأل عن الواقعة ، كما في صحيحة عبدالرحمان المتقدمة ،

-------------------

وليس للعبد الاعتذار بعدم العلم ، لأن العقل لا يعذر الجاهل بما في الطومار مع تمكنه من الفحص عنه والعلم بما فيه .

( فتأمل ) ولعله إشارة إلى بيان الفرق بين النظر في الأحكام والنظر في الطومار ، إذ لا يحصل العلم من الأوّل غالبا بل الظن بينما يحصل العلم من الثاني غالبا ، فيقال بعدم معذورية الجاهل المجري للبرائة وهو قادر على الفحص فيما إذا أورث النظر العلم ، ومعذوريته فيما إذا لم يورثه .

لكن الظاهر : ضعف هذا الفرق ، لأن مبنى المسألتين على وجوب دفع الضرر المحتمل ، من دون مدخلية للعلم أو الظن المعتبر في ذلك أصلاً .

( و ) ان قلت : ان النقل يدل على البرائة ، وذلك لما تقدّم من اخبارها مثل : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (1) ومثل : « رفع ما لا يعلمون » (2) وما أشبه ذلك .

قلت : ( النقل الدالّ على البرائة في الشبهة الحكميّة ، معارض بما تقدّم من الأخبار الدالة على وجوب الاحتياط حتى يسأل عن الواقعة كما في صحيحة عبدالرحمان المتقدّمة ) حيث قال عليه السلام : في مسألة الصيد : « إذا أصبتم بمثل هذا

ص: 205


1- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .
2- - تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 ح27 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

وما دلّ على وجوب التوقف بناءا على الجمع بينها وبين أدلة البرائة ، بحملها على صورة التمكّن من ازالة الشبهة .

الخامس :

-------------------

فلم تدروا فعليكم الاحتياط حتى تسألوا وتعلموا » (1) .

هذا ، ومن المعلوم : ان هذا الحديث ليس خاصا بمسألة الصيد في هذا المورد الخاص لقوله : «بمثل هذا» والعرف يفهم منه : انه لا فرق بين الشبهة الحكمية في جميع المسائل ( وما ) أي : ومعارض أيضا بما ( دلّ على وجوب التوقف ) عند الشبهة ( بناءا على الجمع بينها ) أي : بين اخبار التوقف ( وبين أدلة البرائة بحملها) أي : بحمل اخبار التوقف ( على صورة التمكّن من ازالة الشبهة ) وحمل اخبار البرائة على صورة اليأس من إزالتها .

وإنّما نجمع بهذا بين الطائفتين لأن الاخبار الدالة على مؤاخذة ترك التعلم ، المقتضية لوجوب الفحص ، تعطي الأولوية لاخبار الاحتياط والتوقف على اخبار البرائة ، فيؤخذ بظهور هذه الاخبار الدالة على الاحتياط والتوقف ، ويقيد بها إطلاق حديث الرفع والحجب ونحوهما ، فيكون مورد حديث الرفع ونحوه ، بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل .

( الخامس : ) من أدلة وجوب الفحص : العلم الاجمالي لكل مسلم بوجود تكاليف في الشريعة ، وكما ان العلم الاجمالي بوجوب إتيان الظهر أو الجمعة ، أو اجتناب هذا الاناء أو ذاك ، يمنع عن البرائة ، فكذلك العلم الاجمالي بوجود تكاليف في الشريعة يمنع عن البرائة .

ص: 206


1- - الكافي فروع : ج4 ص391 ح1 ، تهذيب الاحكام : ج5 ص466 ب16 ح277 ، وسائل الشيعة : ج13 ص46 ب18 ح17201 و ج27 ص154 ب12 ح33464 .

حصول العلم الاجمالي لكلّ أحد قبل الأخذ في استعلام المسائل بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة ، ومعه لا يصح التمسك بأصل البرائة ، لما تقدّم : من أنّ مجراه الشك في أصل التكليف ، لا في المكلّف به مع العلم بالتكليف .

فان قلت : هذا يقتضي عدم جواز الرجوع إلى البرائة

-------------------

إذن : فمما يدل على وجوب الفحص هو : ( حصول العلم الاجمالي لكلّ أحد) من المسلمين ( قبل الأخذ في استعلام المسائل ) علما إجماليا ( بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة ) الاسلامية ( ومعه ) أي : مع العلم الاجمالي ( لايصح التمسك بأصل البرائة ) وذلك لأن العلم الاجمالي في المكلّف به يوجب الاحتياط ، إلاّ إذا انحل العلم الاجمالي فيه بسبب الفحص .

إذن : فلا يجوز اجراء البرائة قبل الفحص والظفر بالمقدار المعلوم ، لعدم انحلال العلم الاجمالي بسبب الفحص إلى معلوم تفصيلي ، وشك بدوي في باقي المحتملات حتى يكون باقي المحتملات مجرى لأصل البرائة ، وذلك ( لما تقدّم: من انّ مجراه ) أي : مجرى أصل البرائة هو : ( الشك في أصل التكليف ) كالشك في باقي المحتملات بعد الفحص والظفر بالمقدار المعلوم ، فان مع الشك في الباقي يكون من الشك في التكليف وهو مجرى البرائة .

( لا في المكلّف به مع العلم بالتكليف ) كما فيما نحن فيه قبل الفحص والظفر بالمقدار المعلوم ، حيث إنا نعلم بالتكليف ، لكن نشك في المكلّف به هل هو هذا أو فيه ذاك ؟ والشك في المكلّف به مجرى الاحتياط .

( فان قلت : هذا ) أي : الوجه الخامس ( يقتضي عدم جواز الرجوع إلى البرائة

ص: 207

ولو بعد الفحص ، لأن الفحص لا يوجب جريان البرائة مع العلم الاجمالي .

فان قلت : إذا علم المكلفُ تفصيلاً بعدّة اُمور من الواجبات والمحرمات ، يحتمل انحصار التكاليف فيها ، كان الشك بالنسبة إلى مجهولاته شكا في أصل التكليف .

وبتقرير آخر : إن كان استعلام جملة من الواجبات والمحرّمات تفصيلاً موجبا لكون الشك في الباقي شكا في أصل التكليف ، فلا مقتضي لوجوب الفحص وعدم الرجوع إلى البرائة ،

-------------------

ولو بعد الفحص ) وذلك ( لأن الفحص لا يوجب جريان البرائة مع العلم الاجمالي ) منا ببقاء واجبات ومحرمات بين الأحكام ، فانه بعد الفحص والظفر بألف حكم - مثلاً - لم ينحل العلم الاجمالي ، لاحتمال ان الأحكام أكثر من ألف ، فاللازم الاحتياط في الباقي أيضا .

هذا ، وفي نسخة اُخرى جاء التعبير عن « ان قلت » بما يلي : ( فان قلت : إذا علم ) المكلّف تفصيلاً بعدّة اُمور من الواجبات والمحرمات ، يحتمل انحصار التكاليف فيها ) أي : في هذا الذي علمه تفصيلاً ( كان الشك بالنسبة إلى مجهولاته ) الباقية ( شكا في أصل التكليف ) فيجري فيها البرائة بلا حاجة إلى الفحص فيها ، مما يدل على صحة إجراء البرائة وعدم وجوب الفحص من الأوّل .

( وبتقرير آخر : ان كان استعلام جملة من الواجبات والمحرّمات تفصيلاً ) بسبب الفحص ( موجبا لكون الشك في الباقي شكا في أصل التكليف ) والشك في أصل التكليف مجرى البرائة ( فلا مقتضي ) حينئذ ( لوجوب الفحص وعدم الرجوع إلى البرائة ) من الأوّل .

ص: 208

وإلاّ لم يجز الرجوع إلى البرائة ولو بعد الفحص ، إذ الشك في المكلّف به لايرجع فيه إلى البرائة ولو بذل الجهد في الفحص وطلب الحكم الواقعي .

قلت : المعلومُ إجمالاً قبل الفحص : وجود التكاليف الواقعية في الوقايع التي يقدر على الوصول إلى مداركها ، وإذا تفحّص وعجز عن الوصول إلى مدارك الواقعة خرجت تلك الواقعة عن الوقايع التي علم إجمالاً بوجود التكاليف فيها ،

-------------------

( وإلاّ لم يجز الرجوع إلى البرائة ولو بعد الفحص ) أي : ان لم نقل بجريان البرائة وعدم وجوب الفحص من الأوّل ، يجب أن لا نقول بجريانه حتى بعد الفحص أيضا ، وذلك لأن الشك - حسب الفرض - في المكلّف به وهو مجرى الاحتياط ، وليس شكا في التكليف حتى يكون مجرى البرائة كما قال : ( إذ الشك في المكلّف به لا يرجع فيه إلى البرائة ) حتى ( ولو بذل الجهد في الفحص وطلب الحكم الواقعي ) من مظانّه .

إن قلت ذلك ( قلت : ) ان الواجب علينا هو : اتباع ما في مداركنا لا أكثر من ذلك ، فاذا ظفرنا بألف حكم في الكتاب والسنّة إنحل العلم الاجمالي ، فيكون مثل التتن ومثل الدعاء عند رؤية الهلال - مثلاً - من الشبهة البدوية ويجري حينئذ فيها البرائة كما قال :

فان ( المعلوم إجمالاً قبل الفحص : وجود التكاليف الواقعية في الوقايع التي يقدر ) المكلّف ( على الوصول إلى مداركها ) من الكتاب والسنة والاجماع والعقل ( وإذا تفحّص وعجز عن الوصول إلى مدارك الواقعة ) كشرب التتن ، أو الدعاء عند رؤية الهلال ( خرجت تلك الواقعة عن الوقايع التي علم إجمالاً بوجود التكاليف فيها ) .

ص: 209

فيرجع فيها إلى البرائة .

ولكن هذا لا يخلو عن نظر ، لأن العلم الاجمالي إنّما هو بين جميع الوقايع من غير مدخليّة لتمكّن المكلّف من الوصول إلى مدارك التكليف وعجزه عن ذلك .

فدعوى اختصاص أطراف العلم الاجمالي بالوقايع المتمكّن من الوصول إلى مداركها مجازفةٌ .

-------------------

وعليه : فينحل العلم الاجمالي إلى معلوم تفصيلي وهو ألف حكم فرضا ، وشك بدوي وهو الباقي الذي لم يظفر بمدركه مثل : شرب التتن والدعاء عند رؤية الهلال ( فيرجع فيها إلى البرائة ) .

والحاصل : انه بعد الفحص في الأدلة واليأس عن الظفر بحرمة شرب التتن ، وبوجوب الدعاء عند رؤية الهلال تخرج أمثال هذه الاُمور المشكوكة عن دائرة العلم الاجمالي ، وتدخل في دائرة الشك البدوي ، والشك البدوي مجرى البرائة على ما عرفت في مبحثها .

( ولكن هذا ) الجواب ( لا يخلو عن نظر ) عند المصنِّف ( لأن العلم الاجمالي إنّما هو بين جميع الوقايع ) المتجاوزة عن الألف ( من غير مدخليّة لتمكّن المكلّف من الوصول إلى مدارك التكليف ) في تلك الوقايع ( وعجزه عن ذلك ) أي : عن الوصول إلى مدرك التكليف ( فدعوى اختصاص أطراف العلم الاجمالي بالوقايع المتمكّن من الوصول إلى مداركها مجازفةٌ ) .

أقول : ولا يخفى ما فيه ، فانه لا شك في انا لسنا مكلفين بأكثر مما في المدرك ، وإلاّ بان كان تكليفنا أكثر منه ، فاما أن نكون مكلفين بالواقع وهو محال ، أو بالاحتياط في جميع الأطراف المحتملة وهو مرفوع لاستلزامه العسر والحرج ،

ص: 210

مع أنّ هذا الدليل إنّما يوجب الفحصَ قبل استعلام جملة من التكاليف يحتمل إنحصار المعلوم إجمالاً فيها ، فتأمل ، وراجع ما ذكرنا في ردّ استدلال الأخباريين على وجوب الاحتياط

-------------------

إضافة إلى انه لو كنا مكلفين بالاحتياط ، لكان على الشارع بيان ذلك والتأكيد عليه حتى يصبح الاحتياط أمرا ضروريا عند المتشرعة ، ومن المعلوم : انه لا بيان كذلك ، مضافا إلى السيرة القطعية على اجراء البرائة فيما إذا لم يظفر المكلّف بمدرك الحكم المحتمل .

( مع انّ هذا الدليل ) ان تمّ بأن كان الفحص لازما لمكان العلم الاجمالي ، فانه يدل على وجوب الفحص قبل إنحلال العلم الاجمالي لا بعده ، فاذا فرض الانحلال بأن علم حرمة اُمور يحتمل إنحصار المحرمات فيها وشك في وجود حرام آخر غيرها ، لم يجب الفحص بعد ذلك ، مع ان الفحص واجب في كل ما شك فيه ولو بعد فرض الانحلال .

وعليه : فهذا الدليل أخص من المدعى ، لأنه ( إنّما يوجب الفحص قبل استعلام جملة من التكاليف يحتمل إنحصار المعلوم إجمالاً فيها ) واما بعد الاستعلام فلا يوجب الفحص ، وقد عرفت : ان الفحص واجب على كل حال .

مثلاً : إذا علمنا بوجود محرمات وفحصنا فظفرنا بألف محرم ، ثم شككنا في حرمة التتن فانه يلزم على هذا الدليل إجراء البرائة في التتن من غير فحص ، بينما لا شك في لزوم الفحص عن حرمة التتن أيضا ، فاذا حصل اليأس من الظفر بحرمته كان مجرى للبرائة ، فلا تجري البرائة قبل الفحص .

( فتأمل وراجع ما ذكرنا في ردّ استدلال الأخباريين على وجوب الاحتياط

ص: 211

في الشبهة التحريمية بالعلم الاجمالي .

وكيف كان : فالأولى ما ذكر في « الوجه الرابع » من أنّ العقل لا يعذِرُ الجاهل القادر على الفحص ، كما لا يعذر الجاهل بالمكلف به العالم به إجمالاً ،

-------------------

في الشبهة التحريمية بالعلم الاجمالي ) فانهم استدلوا هناك على وجوب الاحتياط بالعلم الاجمالي بوجود محرمات في الشريعة ، وردهم المصنِّف : بانحلال العلم الاجمالي الكبير بعد العلم بجملة من المحرمات الى علم اجمالي صغير ، حيث يلزم الفحص بعد ذلك بقدر هذا الصغير ، فاذا ظفر بقدر العلم الاجمالي الصغير كان الخارج عنه مجرى للبرائة .

أمّا التتن ، فبدون الفحص عن حكمه لا ينحل العلم الاجمالي الصغير ولايخرج عنه إلاّ بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليله ، فاذا فحصنا عنه ولم نظفر بدليله خرج ، فكان مجرى للبرائة .

وبهذا ظهر : عدم تمامية إشكال الكفاية على هذا الدليل مما حاصله : ان موجب الفحص لو كان هو العلم الاجمالي ، لزم جواز الرجوع إلى البرائة قبل الفحص بعد إنحلاله بالظفر على المقدار المعلوم بالاجمال ، مع انه غير جائز قطعا، فلابد من أن يكون المدرك أمرا آخر غير العلم المزبور .

( وكيف كان ) : الأمر بالنسبة إلى الوجه الخامس وما فيه ( فالأولى ) أن يكون الاستدلال بدليل خال عن الاشكال وهو : ( ما ذكر في « الوجه الرابع » من أنّ العقل لا يعذِرُ الجاهل القادر على الفحص ) في مورد الشك في التكليف ( كما لا يعذر الجاهل بالمكلف به العالم به إجمالاً ) إذا لم ينحل علمه الاجمالي فيه ، وذلك مثل: دوران الأمر بين المتباينين كالظهر والجمعة ، فانه لا ينحل العلم الاجمالي

ص: 212

ومناط عدم المعذوريّة في المقامين هو : عدم قبح مؤاخذة الجاهل فيهما ، فاحتمال الضرر بارتكاب الشبهة غيرُ مندفع بما يأمن معه من ترتب الضرر .

ألا ترى أنّهم حكموا باستقلال العقل ، بوجوب النظر في معجزة مدّعي النبوّة وعدم معذوريته في تركه ، مستندين في ذلك إلى وجوب دفع الضرر المحتمل ،

-------------------

فيه ، حتى بعد الفحص ، بخلاف ما إذا إنحل العلم الاجمالي فيه بعد الفحص كالشك بين الأقل والأكثر ولو الارتباطيين منهما .

هذا ( ومناط عدم المعذوريّة في المقامين ) أي : في مقام الشك في التكليف قبل الفحص ، والشك في المكلّف به بعد الفحص ، وعدم الانحلال ( هو : عدم قبح مؤاخذة الجاهل فيهما ) عقلاً .

وعليه : ( فاحتمال الضرر ) وهو العقاب ( بارتكاب الشبهة ، غير مندفع ) إذا لم يفحص في الشبهة في التكليف ، ولم يحتط في الشبهة في المكلّف به ( بما ) أي : بشيء ( يأمن معه من ترتب الضرر ) وقوله : بما متعلق بمندفع فيكون المعنى : انه لا شيء يدفع الضرر المحتمل إذا لم يفحص في الشبهة في التكليف ، ولم يحتط في الشبهة في المكلّف به .

( ألا ترى انّهم ) أي : المتكلمون ( حكموا باستقلال العقل بوجوب النظر في معجزة مدّعي النبوّة ) إذا احتمل صدقه ، لا مثل مدعي النبوة بعد خاتم الأنبياء صلى اللّه عليه و آله وسلم ( وعدم معذوريته في تركه ) أي : ترك النظر ، فانه إذا ترك النظر في معجزته لم يكن معذورا إذا كان نبيا في الواقع ( مستندين في ذلك ) أي : في وجوب النظر ( إلى وجوب دفع الضرر المحتمل ) الذي يحتمله الانسان القادر

ص: 213

لا إلى أنّه شك في المكلّف به .

هذا كلّه مع أنّ في الوجه الأوّل وهو الاجماع القطعي كفاية .

ثم إنّ في حكم أصل البرائة كل أصل عملي خالف الاحتياط .

-------------------

على الفحص .

وعليه : فانهم يستندون في وجوب الفحص وعدم معذورية الجاهل إلى وجوب دفع الضرر ( لا إلى أنّه شك في المكلّف به ) من جهة العلم بوجود أنبياء في هؤلاء الذين يدعون النبوة ، كما كان هو مقتضى الوجه الخامس : فالوجه الخامس وان كان غير كاف لاثبات وجوب الفحص ، إلاّ ان الوجه الرابع كاف لاثبات ذلك .

هذا ، ولا يخفى ان الضرر المحتمل إنّما يجب دفعه إذا كان كثيرا ، كما في المقام، وكما في صورة احتمال صدق مدعي النبوة ، وإلاّ فالضرر القليل لا يلزم دفعه حتى إذا كان متيقنا .

( هذا كلّه ) أي : ما ذكرناه من الوجوه الخمسة يكون دليلاً على وجوب الفحص ( مع أنّ في الوجه الأوّل وهو الاجماع القطعي كفاية ) في الدلالة عليه ، إذ لا مخالف في المسألة إطلاقا .

( ثم إنّ في حكم أصل البرائة ) من حيث وجوب الفحص قبل اجرائه ( كل أصل عملي خالف الاحتياط ) سواء كان تخييرا كما في الدوران بين المحذورين ، أم استصحابا يدل على التكليف ، أو على عدم التكليف ، كما في الاُمور التي لها حالة سابقة ، فانه يجب الفحص قبل اجرائها ان احتملنا ان يكون هناك تكليف آخر .

مثلاً : إذا كان الاستصحاب يدل على وجوب الظهر واحتملنا وجود دليل يدل على وجوب الجمعة ، فانه لا يجوز اجراء الاستصحاب إلاّ بعد الفحص واليأس عن دليله ، وكذا التخيير .

ص: 214

بقي الكلام في حكم الأخذ بالبرائة مع ترك الفحص ، والكلام فيه إمّا في استحقاقه العقاب ، وإمّا في صحة العمل الذي اُخِذَ فيه بالبرائة .

أمّا العقاب

-------------------

وحيث أنهى المصنِّف الكلام في عدم جواز العمل بالبرائة في الشبهات الحكمية إلاّ بعد الفحص واليأس عن الظفر بما يخالفها ، قال : ( بقي الكلام في حكم الأخذ بالبرائة مع ترك الفحص ، والكلام فيه ) يكون في مقامين :

الأوّل : ( إمّا في استحقاقه العقاب ) وعدم استحقاقه لو ترك الفحص خالف الواقع أم وافق الواقع .

الثاني : ( وإمّا في صحة العمل الذي اُخِذَ فيه بالبرائة ) من دون فحص وعدم صحته .

( أمّا ) الكلام في المقام الأوّل : وهو استحقاق ( العقاب ) وعدمه ، فقد اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال :

القول الأوّل : ما نسب إلى صاحب المدارك : من استحقاق العقوبة على ترك الفحص والتعلم مطلقا ، سواء صادف عمله الواقع أم خالفه .

القول الثاني : ما اختاره المشهور : من استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع لو اتفقت ، لا على ترك التعلم والفحص ، فاذا شرب الانسان العصير العنبي من غير فحص عن حكمه ، فانه يستحق العقوبة ان اتفق مع الحرام واقعا ، وان لم يتفق كونه حراما واقعا ، فلا عقاب إلاّ عند من يرى حرمة التجري كالشيخ وأبو المكارم ، فالعقوبة عندهما على التجري .

القول الثالث : ما اختاره المصنِّف : من إستحقاق العقوبة على ترك الفحص

ص: 215

فالمشهور : أنّه على مخالفة الواقع لو اتفقت ، فاذا شرب العصير العنبي من غير فحص عن حكمه ، فان لم يتفق كونه حراما واقعا فلا عقاب ، ولو اتفقت حرمته كان العقاب على شرب العصير ، لا على ترك التعلّم .

أمّا الأوّل : فلعدم المقتضي للمؤاخذة

-------------------

والتعلم من حين تركه لكن لا مطلقا ، بل إذا أدّى إلى مخالفة الواقع .

ولا يخفى : ان منشأ هذا الخلاف هو الخلاف في وجوب التعلم المستفاد من العمومات الدالة على وجوب التفقه والتعلم ، كما سيأتي الكلام في ذلك ان شاء اللّه تعالى .

وإلى ما ذكرناه من الأقوال الثلاثة في إستحقاق تارك الفحص العقاب وعدمه أشار المصنِّف حيث قال : ( فالمشهور : انّه ) أي : العقاب ( على مخالفة الواقع لو اتفقت ) المخالفة ( فاذا شرب العصير العنبي من غير فحص عن حكمه ) أي : عن حكم العصير فشربه هذا ، لا يخلو من أحد وجهين : اما انه يتفق مع الحرام ، واما لا ( فان لم يتفق كونه حراما واقعا فلا عقاب ، ولو اتفقت حرمته كان العقاب على شرب العصير لا على ترك التعلّم ) خلافا للمدارك واستاذه حيث ذكرا : ان العقاب على ترك التعلم ، فالكلام إذن في أمرين : المصادفة وعدم المصادفة .

( أمّا الأوّل : ) وهو ما لو أجرى البرائة وشرب العصير - مثلاً - من دون فحص ولم يصادف الحرام واقعا فلا عقاب .

أما انه لا عقاب ( فلعدم المقتضي للمؤاخذة ) لأنه لم يفعل حراما حتى يكون مؤاخذا ، وان كان قد يتخيل المؤاخذة وذلك على ترك التعلم ، أو على التجري ، لكنه ليس تاما كما قال :

ص: 216

عدا ما يتخيل من ظهور أدلة وجوب الفحص وطلب تحصيل العلم في الوجوب النفسي .

وهو مدفوع : بأن المستفاد من أدلته بعد التأمل إنّما هو وجوب الفحص لئلا يقع في مخالفة الواقع ، كما لا يخفى ، أو ما يتخيل من قبح التجرّي بناءا على أنّ الاقدام على ما لايؤمن كونه مضرّة ، كالاقدام على ما يعلم كونه كذلك ، كما صرح به جماعة ، منهم : الشيخ في العدّة ، وأبو المكارم في الغنية .

-------------------

( عدا ما يتخيل من ظهور أدلة وجوب الفحص وطلب تحصيل العلم في الوجوب النفسي ) فيكون العقاب على ترك التعلم ، على شرب العصير الحلال واقعا ، فالتعلم واجب نفسي على هذا القول .

( و ) لكن ( هو ) أي : هذا التخيل ( مدفوع : بأن المستفاد من أدلته ) أي : أدلة وجوب التعلم ( بعد التأمل ) فيها لمعرفة ما يستظهره العرف منها ( إنّما هو وجوب الفحص ) من باب المقدمة ( لئلا يقع في مخالفة الواقع ) والمفروض : انه لم يخالف الواقع لأن الواقع حلّية العصير لا حرمته ( كما لا يخفى ) هذا المعنى لمن راجع العرف .

( أو ) عدا ( ما يتخيل من قبح التجرّي بناءا على انّ الاقدام على ما لا يؤمن كونه مضرّة ) مثل الاقدام على محتمل الحرمة من دون فحص هو ( كالاقدام على ما يعلم كونه كذلك ) أي : كونه ضارا ( كما صرح به جماعة ، منهم : الشيخ في العدّة ، وأبو المكارم في الغنية ) .

وعليه : فان الشيخ الطوسي وأبو المكارم ومن تبعهما لا يقولون بالفرق بين محتمل الضرر ومقطوع الضرر من جهة استحقاق العقاب لمن أقدم عليهما ،

ص: 217

لكنه قد أسلفنا الكلام في صغرى وكبرى هذا الدليل .

وأمّا الثاني : فلوجود المقتضي ، وهو الخطاب الواقعي

-------------------

أمّا في مقطوع الضرر فلكونه مخالفة ، واما في محتمل الضرر فلكونه تجريا .

( لكنه قد أسلفنا الكلام في صغرى وكبرى هذا الدليل ) فانه يتشكل من قياس صغراه : الاقدام على ما لا يؤمن كونه مضرة تجرّ ، وكبراه : وكل تجرّ حرام ، فالاقدام على محتمل الضرر حرام .

ومن المعلوم : ان الرجوع إلى الأصل قبل الفحص الذي هو محل بحثنا جزئي من جزئيات الاقدام المذكور فيكون حراما .

وفيه : اما صغرىً : فانه ان اريد بالضرر : الضرر الدنيوي ، فنقول : لا يجب عدم الاقدام ، ولذا يقدم العقلاء على الأضرار الدنيوية لمصالح في نظرهم ، كما في ركوب البحر للتجارة وغير ذلك .

وان اُريد بالضرر : الضرر الاُخروي فنقول : هو واجب عقلاً ، إلاّ ان الشارع قد أذن فيه هنا، كما أذن في الشبهة الموضوعية والشبهة الوجوبية حتى عند الاخباريين .

وامّا كبرىً : فانه قد سبق في بحث القطع : ان التجري ليس بحرام ، وإنّما فيه قبح فاعلي لا فعلي ، حتى يكون محرّما في عداد سائر المحرّمات مثل شرب الخمر ، وقتل النفس ، وما أشبه .

( وأمّا الثاني : ) وهو ما لو أجرى البرائة وشرب العصير - مثلاً - من دون فحص، فصادف الحرام واقعا ، فالعقاب ، لكن لا على ترك التعلم والفحص ، بل على شرب العصير ، وقد ذكر المصنِّف لذلك وجوها ثلاثة :

الأوّل ما أشار اليه بقوله : ( فلوجود المقتضي ) للعقاب ( وهو الخطاب الواقعي

ص: 218

الدالّ على وجوب شيء وتحريمه ، ولا مانع منه عدا ما يتخيل من جهل المكلّف به ، وهو غير قابل للمنع عقلاً ولا شرعا .

أمّا العقل : فلا يقبّح مؤاخذة الجاهل التارك للواجب إذا علم أنّ بناء الشارع على تبليغ الأحكام على النحو المعتاد المستلزم لاختفاء بعضها لبعض الدواعي

-------------------

الدالّ على وجوب شيء وتحريمه ) فالشبهة الوجوبية كالدعاء عند رؤية الهلال والشبهة التحريمية ، كشرب العصير العنبي ، وذلك لو فرضنا وجود الدليل على هذا الواجب وهذا الحرام واقعا .

( ولا مانع منه ) أي : من العقاب ، فانه إذا وجد المقتضي ، وفقد المانع كان العقاب مقطوعا به ( عدا ما يتخيل من جهل المكلّف به ) أي : بالتكليف ( وهو ) أي : الجهل بالتكليف مع القدرة على الفحص ( غير قابل للمنع ) عن العقاب ، لا ( عقلاً ولا شرعا ) وذلك بالتفصيل التالي :

( أمّا العقل : فلا يقبّح مؤاخذة الجاهل التارك للواجب إذا علم أنّ بناء الشارع على تبليغ الأحكام على النحو المعتاد ) لا على نحو الاعجاز ، والنحو المعتاد هو ( المستلزم لاختفاء بعضها ) أي : بعض تلك الأحكام ( لبعض الدواعي ) والمراد ببعض الأحكام : ما عدا الضروريات .

ومن المعلوم : ان اعتماد الشارع في إيصال أحكامه على النحو المتعارف ، يستلزم اختفاء ما عدا الضروريات من الأحكام في بطون الكتب ، فيحتاج الظفر بها إلى الفحص ، بخلاف ما إذا كان الشارع يوصل أحكامه عن طريق الاعجاز ، فانه حينئذ لا يخفى شيء منه على أحد حتى يحتاج إلى الفحص ، بل يكون اختفاؤه وعدم وصوله دليل على عدم وجوده رأسا .

ص: 219

وكان قادرا على إزالة الجهل عن نفسه .

وأما النقل فقد تقدّم : عدم دلالته على ذلك ، وانّ الظاهر منها ولو بعد ملاحظة ما تقدّم من أدلّة الاحتياط ، الاختصاص بالعاجز .

مضافا إلى ما تقدّم في بعض الأخبار المتقدمة في « الوجه الثالث »

-------------------

وعليه : فان العقل لا يمنع من عقاب الجاهل الذي ترك الفحص ( وكان قادرا على إزالة الجهل عن نفسه ) بسبب الفحص ، لأن الحكم واصل وإنّما اختفى في بطون الكتب فيحتاج في حصوله إلى الفحص ، فلا عذر إذن لمن ترك الفحص وخالف .

( وأمّا النقل ) فهو أيضا لا يمنع من عقاب الجاهل بالتكليف ، القادر على الفحص وذلك كما قال : ( فقد تقدّم : عدم دلالته على ذلك ) أي : عدم دلالة النقل على معذورية الجاهل إذا ترك الفحص وخالف الواقع ( وانّ الظاهر منها ) أي : من أدلة البرائة النقلية ( ولو بعد ملاحظة ) تعارضه مع ( ما تقدّم من أدلة الاحتياط ) وأدلة التوقف هو : ( الاختصاص ) أي : اختصاص البرائة ( بالعاجز ) عن التعلّم ، وذلك جمعا بين أدلة البرائة وأدلة الاحتياط .

إذن : فأدلة الاحتياط قبل الفحص خاصة بالقادر على التعلّم ، وأدلة البرائة خاصة بالعاجز عن التعلم والفحص .

الثاني من وجوه الاستدلال على ان الجاهل القادر على الفحص لو أجرى البرائة وشرب العصير من دون فحص - مثلاً - فاتفق مخالفته للواقع ، كان العقاب على مخالفة الواقع ، لا على ترك التعلم ، هو : ما أشار اليه بقوله :

( مضافا إلى ما تقدّم في بعض الأخبار المتقدمة في « الوجه الثالث » ) حيث قال المصنِّف : الثالث : ما دل على مؤاخذة الجهال والذم بفعل المعاصي المجهولة ،

ص: 220

المؤيدة بغيرها ، مثل : رواية تيمّم عمار المتضمّنة لتوبيخ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم إياه بقوله : « أفلا صنعت هكذا » ؟ .

-------------------

المستلزم لوجوب تحصيل العلم ، مثل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم فيمن غسل مجدورا اصابته جنابة فكزّ فمات : قتلوه قتلهم اللّه ، ألا سألوا ؟ ألا يمّموه ؟ (1) .

ومثل قوله عليه السلام لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء : ما كان أسوء حالك لو مت على هذه الحالة (2) ، إلى آخر ما ذكر هناك من الأخبار ( المؤيدة بغيرها مثل : رواية تيمّم عمار المتضمّنة لتوبيخ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم إياه بقوله : « أفلا صنعت هكذا ؟ » (3) ) .

وإنّما قال : المؤيدة لأن التوبيخ حيث لم يكن في قوة التهديد لم يكن دليلاً ، بل كان مؤيدا لكون العقاب إنّما هو على مخالفة الواقع ، لا على ترك التعلم ، واما رواية تيمم عمار فهي كالتالي :

عن أبي جعفر عليه السلام قال : أتى عمار بن ياسر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فقال: يارسول اللّه ، اني اجنبت الليلة ولم يكن معي ماء ، قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : كيف صنعت؟ قال : طرحت ثيابي وقمت على الصعيد وتمعّكت فيه ، فقال صلى اللّه عليه و آله وسلم : هكذا يصنع الحمار ، إنّما قال اللّه عزوجل : « فتيمموا صعيدا طيبا » (4) ثم علّمه

ص: 221


1- - وسائل الشيعة : ج3 ص346 ب5 ح3824 ، الكافي اصول : ج1 ص40 ح1 و الكافي ( فروع ): ج3 ص68 ح5 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص107 ح219 ، مستدرك الوسائل : ج2 ص528 ب4 ح2631 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص184 ب8 ح3 .
2- - الكافي فروع : ج6 ص432 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص116 ب5 ح36 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص80 ح177 ، وسائل الشيعة : ج3 ص331 ب18 .
3- - الكافي فروع : ج3 ص62 ح4 (بالمعنى) ، تهذيب الاحكام : ج1 ص207 ب9 ح1 ، الاستبصار : ج1 ص170 ب102 ح4 ، وسائل الشيعة : ج3 ص359 ب11 ح3862 ، تفسير العياشي : ج1 ص244 ح144.
4- - سورة النساء : الآية 43 ، سورة المائدة : الآية 6 .

وقد يستدل أيضا بالاجماع على مؤاخذة الكفار على الفروع مع أنّهم جاهلون بها .

وفيه : أنّ معقد الاجماع تساوي الكفّار والمسلمين في التكليف بالفروع كالاُصول ، ومؤاخذتهم عليها بالشروط المقررة للتكليف ، وهذا لاينفي دعوى

-------------------

رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم كيفية التيمم » (1) .

الثالث من وجوه الاستدلال على ان عقاب الجاهل يكون على مخالفة الواقع لو اتفقت المخالفة ، لا على ترك التعلم هو : ما أشار اليه بقوله : ( وقد يستدل ) على ذلك ( أيضا ) أي إضافة إلى وجود مقتضي العقاب وعدم المانع منه ، وإضافة إلى الأخبار الدالة على المؤاخذة ، يستدل له ( بالاجماع على مؤاخذة الكفار على الفروع مع انّهم جاهلون بها ) .

وجه الاستدلال هو : تساوي الكفار والمسلمين في التكليف بالأحكام وفي المؤاخذة عليها ، ومعلوم : ان الكفار يجهلون الأحكام ، فيكون عقابهم لأجل تركهم الأحكام ، لا لأجل جهلهم ، فكذلك يكون عقاب المسلمين لأجل تركهم الأحكام ، لا لأجل جهلهم .

( وفيه : أنّ معقد الاجماع تساوي الكفّار والمسلمين في التكليف بالفروع كالاُصول ، ومؤاخذتهم عليها ) أي : على الفروع ( بالشروط المقررة للتكليف ) من البلوغ ، والعقل ، والقدرة ، والعلم ، والالتفات ، وما أشبه ( وهذا ) الاجماع الذي هو في مقابل إنكار أبي حنيفة لتكليف الكفار بالفروع ( لا ينفي دعوى :

ص: 222


1- - الكافي اصول : ج3 ص62 ح4 (بالمعنى) ، تهذيب الاحكام : ج1 ص207 ب9 ح1 ، الاستبصار : ج1 ص170 ب102 ح4 ، تفسير العياشي : ج1 ص244 ح144 ، وسائل الشيعة : ج3 ص359 ب11 ح3862 .

اشتراط العلم بالتكليف في حقّ المسلم والكافر .

وقد خالف فيما ذكرنا صاحب المدارك تبعا لشيخه المحقق الأردبيلي ، حيث جعلا عقاب الجاهل على ترك التعلّم لقبح تكليف الغافل ، وفهم منه بعض المدققين أنّه قول بالعقاب على ترك المقدمة دون ذي المقدمة .

-------------------

اشتراط العلم بالتكليف في حقّ المسلم والكافر ) لأن إثبات الشيء لاينفي ماعداه.

إذن : فلا إشكال في تساوي الكفار والمسلمين من حيث المؤاخذة على الفروع ، لكن من أين انه على ترك الأحكام لا على ترك التعلم ؟ .

( وقد خالف فيما ذكرنا ) على مخالفة الواقع لا على ترك التعلم ( صاحب المدارك تبعا لشيخه المحقق الأردبيلي حيث جعلا عقاب الجاهل على ترك التعلّم ) لا على مخالفة الواقع .

وإنّما جعلا العقاب على ترك التعلم ( لقبح تكليف الغافل ) الجاهل بالأحكام ، فان الجاهل قد يكون جهله جهلاً مركبا وهذا لا عقاب عليه في مخالفته للواقع ، لأنه قاطع بعدم التكليف .

وقد يكون جهله جهلاً بسيطا لكنه كان حين العمل ملتفتا إلى ان له تكليفا ومع ذلك لم يعتن بالتكليف واتفق مخالفته للواقع ، فان هذا يكون معلقا أيضا ، لأنه ليس بغافل ، وهذان القسمان لا خلاف فيهما .

وقد يكون جاهلاً بسيطا قصّر في التعلم ، لكنه لم يكن حين العمل ملتفتا إلى انه له تكليفا ، فاتفق مخالفته للواقع عن غفلة ، وهذا القسم هو مورد الخلاف وهو مراد المدارك .

هذا ( وفهم منه ) أي : من كلام المدارك ( بعض المدققين : أنّه قول بالعقاب على ترك المقدمة دون ذي المقدمة ) أي انه يعاقب على انه لماذا لم يتعلم ،

ص: 223

ويمكن توجيه كلامه بارادة إستحقاق عقاب ذي المقدمة حين ترك المقدمة ، فان من شرب العصير العنبي غير ملتفت حين الشرب إلى إحتمال كونه حراما قبح توجه النهي إليه في هذا الزمان ، لغفلته وإنّما يعاقب على النهي الموجّه اليه قبل ذلك حين التفت إلى أنّ في الشريعة تكاليف لا يمكن امتثالها إلاّ بعد معرفتها ، فاذا ترك المعرفة عوقب عليه

-------------------

لا على انه لماذا لم يؤدي الواجب ، ولماذا فعل الحرام؟ والمراد ببعض المدققين هو صاحب الذخيرة كما في بعض الحواشي .

( ويمكن توجيه كلامه ) أي : كلام المدارك بغير ما ذكره صاحب الذخيرة وذلك ( بارادة إستحقاق عقاب ذي المقدمة حين ترك المقدمة ) فان من ترك التعلم ملتفتا إلى وجوب التعلم واتفق مخالفته للواقع ، يعاقب لكن لا على المخالفة نفسها ، لأن المفروض : انه غافل حين المخالفة ، وعقاب الغافل قبيح ، ولا على ترك التعلم وحده ، لأن المفروض : عدم الوجوب النفسي للتعلم ، وإنّما يعاقب على ترك التعلم من حيث إفضائه إلى المخالفة - كما قال - :

( فان من شرب العصير العنبي ) حال كونه ( غير ملتفت حين الشرب إلى إحتمال كونه حراما ) لغفلته عن ذلك غفلة مطلقة ، فقد ( قبح توجه النهي إليه في هذا الزمان ) وذلك ( لغفلته ) وقد عرفت : ان الغافل لا يصح مخاطبته ، فلا يصح معاقبته .

إذن : فلا يعاقب حين المخالفة لفرض غفلته ( وإنّما يعاقب على النهي الموجّه اليه قبل ذلك ) أي : قبل حال الغفلة ، يعني : ( حين التفت إلى انّ في الشريعة تكاليف لا يمكن امتثالها إلاّ بعد معرفتها ، فاذا ترك المعرفة عوقب عليه ) أي : على ذلك التكليف المتروك ، لكن من حين ترك المعرفة بعد التفاته ، فيكون

ص: 224

من حيث افضائه إلى مخالفة تلك التكاليف ، ففي زمان الارتكاب لا تكليف ، لانقطاع التكليف حين ترك المقدمة ، وهي : المعرفة .

ونظيره من ترك قطع المسافة في آخر أزمنة الامكان ، حيث انّه يستحق أن يُعاقَب عليه ، لافضائه إلى ترك أفعال الحج في أيامها ، ولايتوقف إستحقاق عقابه على حضور أيام الحج وأفعاله .

-------------------

العقاب على ترك المعرفة لا لذات ترك المعرفة ، بل ( من حيث افضائه ) أي : افضاء الترك ( إلى مخالفة تلك التكاليف ) .

وعليه : ( ففي زمان الارتكاب لا تكليف ) حتى يعاقب عليه ، وذلك ( لانقطاع التكليف حين ترك المقدمة ، وهي : المعرفة ) فكما ان من يترك المقدمة يتعذر عليه ذو المقدمة ، كذلك من يترك التعلم يتعذر عليه الاطاعة ، فلا تكليف متوجه اليه بالنهي حين إرتكاب المخالفة ، وإنّما التكليف متوجه اليه بالنهي قبل ارتكاب المخالفة وذلك من حين ترك التعلم .

( ونظيره ) أي : نظير ما نحن فيه : مثال ( من ترك قطع المسافة في آخر أزمنة الامكان ) كما إذا كانت قوافل الحج تذهب إلى الحج من أول رجب إلى آخره ، فلم يذهب حتى مع آخر قافلة منها وهو يعلم بعدم إمكان الذهاب بعدها ( حيث انّه يستحق ان يُعاقَب عليه ) أي : على ذلك التكليف المتروك ، لكن من حين ترك السفر ، فيكون العقاب على ترك السفر لا لذاته ، بل ( لافضائه إلى ترك أفعال الحج في أيامها ) أي : في أيام أفعال الحج ( ولا يتوقف إستحقاق عقابه على حضور أيام الحج وأفعاله ) .

إذن : فالعقاب ليس على ترك السفر وحده ، ولا على ترك أعمال الحج في أيام ذي الحجة وحده ، وإنّما العقاب على ترك السفر من حيث إفضائه إلى ترك أعمال

ص: 225

وحينئذٍ : فانْ أراد المشهور توجّه النهي إلى الغافل حين زمان غفلته ، فلاريب في قبحه .

وإنْ أرادوا إستحقاق العقاب على المخالفة وإن لم يتوجّه اليه نهي وقت المخالفة :

-------------------

الحج في أيام الحج ، فيكون ، مستحقا للعقاب من حين ترك السفر في شهر رجب دون أن يتوقف على حضور شهر الحج وأيامه .

أقول : وفي كلام المصنِّف هذا ما لا يخفى ، لأن لازمه : ان من يسقي السم لانسان يجرّ اليه الموت بعد سنة ، ان تحكم الآن على الساقي بالقتل ، وهذا ما لايمكن الالتزام به، لأنه لم يمت المسموم بعد، فكيف يجزى ساقيه جزاء القاتل؟.

وعلى فرض موت الساقي قبل موت المسقي ، فهل يعاقب اللّه الساقي حين موته عقاب القاتل والحال انه لم يمت المسقي بعد؟ أو هل يجوز ضرب عنق الساقي قصاصا والمسقي بعد في قيد الحياة ؟ .

( وحينئذٍ ) أي : حين استظهر المصنِّف ما ذكره والمسقي في توجيه كلام صاحب المدارك ، اعترض على المشهور القائلين بكون العقاب على مخالفة الواقع لا على ترك التعلم بقوله :

( فان أراد المشهور ) القائلون بأن العقاب على مخالفة الواقع لا على ترك التعلم ( توجّه النهي إلى الغافل حين زمان غفلته ، فلا ريب في قبحه ) إذ الغافل لايمكن أن يخاطب من قبل الحكيم بشيء .

( وان أرادوا إستحقاق العقاب على المخالفة ) من حين المخالفة ( وان لم يتوجّه اليه نهي وقت المخالفة ) لأنه كان وقت المخالفة غافلاً ، ونهي الغافل قبح ، فان كان مراد المشهور هذا ، فهو يتصور على وجهين :

ص: 226

فان أرادوا الاستحقاق على المخالفة وقت المخالفة لا قبلها لعدم تحقق معصيته .

ففيه : أنّ لا وجه لترقّب حضور زمان المخالفة لصيرورة الفعل مستحيل الوقوع لأجل ترك المقدمة

-------------------

أشار المصنِّف إلى الوجه الأوّل بقول : ( فان أرادوا الاستحقاق على المخالفة : وقت المخالفة لا قبلها ) بأن لم يكن الاستحقاق من حين ترك التعلم ، وذلك ( لعدم تحقق معصيته ) حين ترك التعلم لأن المفروض عدم الوجوب النفسي للمتعلم ، فلا يكون في ترك التعلم عقاب ، فاذا ترك تعلم حكم العصير العنبي يوم الجمعة ، وشربه يوم السبت - مثلاً - فاتفق حرمته واقعا ، فقد وقعت المخالفة يوم السبت فكيف يعاقب عليها يوم الجمعة؟ فيجب أن يكون الاستحقاق يوم السبت أيضا .

( ففيه : انّ لا وجه لترقّب حضور زمان المخالفة ) وذلك ( لصيرورة الفعل ) من الاتيان بالواجب أو ترك الحرام - مثلاً - ( مستحيل الوقوع ) من حين ترك التعلم ، وذلك ( لأجل ترك المقدمة ) فان التعلم مقدمة للعمل ومن ترك المقدمة استحال عليه فعل ذي المقدمة .

وعليه ، فان المصنِّف رحمه اللّه يرى لزوم كون العقاب على المخالفة لو اتفقت ، لكن لا وقت المخالفة وإنّما وقت ترك المقدمة وهي : التعلم ، فاذا لم يتعلم حكم العصير - مثلاً - يوم الجمعة وشربه يوم السبت فاتفق حرمته عوقب على شربه من يوم الجمعة حيث لم يتعلم ، لا من يوم السبت حيث شربه ، وهكذا نظيره من مسألة الحج وغيره .

هذا كله هو كلي المطلب عند المصنِّف ، وقد استدل له ببعض صغريات

ص: 227

مضافا إلى شهادة العقلاء قاطبة بحسن مؤاخذة من رمى سهما لا يصيبُ زيدا ولا يقتله إلاّ بعد مدة بمجرّد الرمي .

وإن أرادوا إستحقاق العقاب في زمان ترك المعرفة على ما يحصل بعد من المخالفة ، فهو حسن لا محيص عنه .

هذا ، ولكن بعض كلماتهم

-------------------

المسألة بقوله : ( مضافا إلى شهادة العقلاء قاطبة بحسن مؤاخذة من رمى سهما لا يصيبُ زيدا ولا يقتله إلاّ بعد مدة ) فاذا رماه مثلاً هذه الساعة فأصابه السهم بعد ساعة فقتله ، فانه يحسن مؤاخذته ( بمجرّد الرّمي ) .

ولكن فيه ما قد عرفت : من ان لهذا الكلام كله لوازم لا يلتزم بها أحد ، كما مثلنا له بسقي السم وغيره .

وأشار إلى الوجه الثاني بقوله : ( وان أرادوا ) أي : المشهور : ( إستحقاق العقاب في زمان ترك المعرفة على ما يحصل بعد من المخالفة ) كما استظهره المصنِّف من كلام صاحب المدارك ( فهو حسن لا محيص عنه ) لكنك قد عرفت ما فيه .

إذن : فاللازم أن نقول هنا بما قالوه في غير هذا الموضع : من ان الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وان كان ينافيه خطابا ، فان من يلقي نفسه من شاهق لا يخاطب حين السقوط : بأن لا تقتل نفسك ، لخروجه من اختياره وقدرته لكنه إذا مات عوقب على انه قتل نفسه ، فالعقاب على القتل وقت القتل لا قبله حال المقدمة .

والحاصل : ان المصنِّف يحاول بتوجيهه هذا : التوفيق بين المشهور وبين صاحب المدارك ، وذلك بأن يجعل النزاع بينهما لفظيا ، وهذا ما لم يرتضه المصنِّف نفسه ، ولهذا قال : ( هذا ، ولكن بعض كلماتهم ) أي : كلمات المشهور

ص: 228

ظاهرة في الوجه الأوّل ، وهو توجّه النهي إلى الجاهل حين عدم التفاته ، فانّهم يحكمون بفساد الصلاة في المغصوب جاهلاً بالحكم ، لأن الجاهل كالعامد ، وأنّ التحريم لا يتوقف على العلم به ، ولولا توجّه النهي اليه حين المخالفة لم يكن وجه للبطلان ،

-------------------

( ظاهرة في الوجه الأوّل ، وهو توجّه النهي إلى الجاهل حين عدم التفاته ) أي : حين المخالفة .

ولكن ربّما يقال : بأنهم يقصدون : كون العقاب حال العمل ، لا ان الخطاب حال العمل .

وكيف كان : فكلام المشهور يخالف كلام صاحب المدارك ، فليس النزاع بينهما لفظيا ، وإنّما هو نزاع معنوي .

ثم استدل المصنِّف على ظهور كلمات المشهور في الوجه الأوّل بقوله : ( فانّهم يحكمون بفساد الصلاة في المغصوب جاهلاً بالحكم ) أي : بحرمة الغصب، وذلك ( لأن الجاهل كالعامد ، وانّ التحريم لا يتوقف على العلم به ) أي : بالتحريم ، فان التحريم ان توقف على العلم به لزم الدور ، وذلك لأن العلم إنّما هو بعد التحريم ، فكيف يؤخذ في موضوع التحريم ؟ .

وعلى هذا : فالحرام مطلق سواء علم المكلّف به أم لم يعلم به ، وإذا كان حراما توجه النهي اليه فكان فاسدا ، لأن الحرام المنهي عنه لا يتقرب به إلى اللّه كما قال : ( ولولا توجّه النهي اليه ) أي : إلى من يصلي في المغصوب جاهلاً ( حين المخالفة ، لم يكن وجه للبطلان ) .

لكن يمكن أن يقال : ان البطلان هنا ليس لذلك ، بل لفقد الشرط الواقعي حيث

ص: 229

بل كان كناسي الغصبية .

والاعتذار عن ذلك - بأنّه يكفي في البطلان اجتماع الصلاة المأمور بها مع ما هو مبغوض في الواقع ومُعاقَب عليه ، ولو لم يكن منهيا عنه بالفعل -

-------------------

قال عليه السلام لكميل : انظر فيم تصلي؟ وعلى م تصلي ؟ (1) إلى آخر الحديث ، فيكون الصلاة في الغصب حالها حال الصلاة بغير طهارة ، فان الصلاة بلا طهارة باطلة ، علم المصلي ذلك أم جهل به ، جهلاً بسيطا أم مركبا ، غير أن المصنِّف يرى ان وجه قولهم ببطلان الصلاة في الغصب هو : توجه النهي اليه حال المخالفة .

وعليه : فاذا فرض عدم توجه النهي اليه حال المخالفة لزم عدم البطلان هنا لانه يكون كالناسي هو : توجيه كما قال : ( بل كان كناسي الغصبية ) أي : كان الجاهل بالحكم كناسي الموضوع ، فكما ان ناسي الموضوع لا تكون صلاته باطلة ، كذلك الجاهل بالحكم لا تكون صلاته باطلة ، وذلك لان المشهور يحكمون بصحة صلاة ناسي الغصبية معللين ذلك بعدم توجه النهي اليه .

( والاعتذار عن ذلك ) أي : عن قول المشهور القائلين ببطلان صلاة الجاهل بحكم الغصب ( بأنه ) ليس لتوجه النهي اليه حتى يقال كيف يوجه النهي إلى الجاهل؟ وإنّما هو لاجتماع مبغوضية الغصب مع الصلاة ، إذ ( يكفي في البطلان اجتماع الصلاة المأمور بها مع ما هو مبغوض في الواقع ومُعاقَب عليه ولو لم يكن منهيا عنه بالفعل ) .

والحاصل : ان حكم المشهور ببطلان صلاة الجاهل بحكم الغصب ، ليس هو لتوجه النهي إلى الجاهل ، بل لاجتماع الأمر مع المبغوض ، فان النهي وان لم يتوجه اليه إلاّ ان هذا الغصب مبغوض معاقب عليه فلا يجتمع مع مقربية الصلاة .

ص: 230


1- - بشارة المصطفى : ص28 بالمعنى ، بحار الانوار : ج77 ص275 ب11 ح1 .

مدفوع مضافا إلى عدم صحته في نفسه ، بأنّهم صرّحوا بصحة صلاة من توسط أرضا مغصوبة في حال الخروج عنها ، لعدم النهي عنه وإن كان آثما بالخروج .

-------------------

إذن : فالاعتذار عنه بذلك ( مدفوع ) بما يلي :

أولاً : ( مضافا إلى عدم صحته في نفسه ) فانا لا نسلّم صحة هذا الاعتذار لأن الموجب للبطلان هو : إجتماع الأمر والنهي ، لا إجتماع الأمر والمبغوض .

وفيه : انّ المبغوض هو بنفسه لا يكون محبوبا ومقربا ، فلا حاجة للقول بالبطلان إلى أن يكون مستندا إلى اجتماع الأمر والنهي بل يكفي استناده إلى عدم إمكان الجمع بين المحبوب والمبغوض .

ثانيا : ( بأنّهم صرّحوا بصحة صلاة من توسط أرضا مغصوبة في حال الخروج عنها ) فان الذي يتوسط الأرض المغصوبة ويضيق عليه الوقت قال المشهور : بأن له أن يصلي حال الخروج منها ، وحكموا بصحة صلاته هذه ، وعللوا ذلك بقولهم: ( لعدم النهي عنه ) أي : عن الخروج من الأرض المغصوبة .

وعليه : فاذا لم يكن نهي ، صحّت صلاته ( وان كان آثما بالخروج ) لأنه نوع تصرّف في الغصب ، وهو حرام لسوء اختياره بالدخول فيه عامدا ، فيظهر من تعليلهم الصحة هنا بعدم النهي : ان علة قولهم بالبطلان هنا إنّما هو لوجود النهي .

إذن : فالمتوسط أرضا مغصوبة باختياره لابدّ له أن يخرج منها عقلاً ، لأن معصيته في الخروج أقل من معصيته في البقاء ، فاذا ضاق وقت الصلاة بحيث لا يدرك الوقت بعد الخروج وجبت عليه الصلاة في حال الخروج ، لأن فقد الوقت أهم من فقد الشرط الذي هو الصلاة في المباح ، فالخروج واجب عقلاً ، لكن هل هو واجب شرعا ، أو حرام شرعا ، أو ليس بواجب ولا حرام ، لتعارضهما

ص: 231

إلاّ أن يفرّق بين المتوسط للأرض المغصوبة وبين الغافل بتحقق المبغوضيّة في الغافل ،

-------------------

وتساقطهما ؟ احتمالات .

والحاصل : ان المشهور قالوا بتوجه النهي إلى الغافل مع عدم التفاته حين المخالفة : لأن العقاب على المخالفة لا على ترك التعلم ، والمدارك قال : بعدم توجه النهي إلى الغافل لأن الغافل لا يمكن تكليفه ، فالعقاب على ترك التعلم لا على المخالفة ، والمصنِّف جمع بين كلامهما ، فجعل مراد المشهور هو مراد المدارك ، وذلك بجعل العقاب على ترك التعلم المؤدي إلى ترك الواجب .

لكن هذا الجمع كما عرفت : غير مرضي ، لأنا نرى ان المشهور يقولون بتوجه النهي إلى الغافل مع غفلته حين المخالفة ، وذلك بدليل انهم يقولون ببطلان صلاة الجاهل بحكم الغصب مع ان البطلان لا يكون إلاّ من جهة النهي .

هذا ، وقد اعتذر عن المشهور بعض وقال : انهم يقولون ببطلان صلاة الجاهل بالحكم ، لكن لا لأنه منهي عنه ، بل لأنه مبغوض للمولى ، ولا يمكن إجتماع الأمر والمبغوضية في الصلاة .

وأجيب عن هذا الاعتذار ببطلانهُ ، أولاً : وبأن هؤلاء لا يقولون ببطلان صلاته للمبغوضية ، بل للنهي عنها ثانيا ، ولذا قالوا بصحة صلاة المتوسط أرضا مغصوبة ، لأنه لا نهي عنها ، إذ لا يمكن النهي عن الخروج ، فعلم : ان المعيار عند المشهور هو : النهي وعدمه ، لا المبغوضية وعدمها .

( إلاّ ان يفرّق بين المتوسط للأرض المغصوبة ) الذي يريد الخروج للتخلص من الغصب تصح صلاته في حال الخروج ( وبين الغافل بتحقق المبغوضيّة ، في الغافل ) الذي يجهل الحكم التكليفي للغصب بتركه التعلم حيث تكون صلاته باطلة.

ص: 232

وإمكان تعلّق الكراهة الواقعية بالفعل المغفول عن حرمته مع بقاء الحكم الواقعي بالنسبة إليه ، لبقاء الاختيار فيه وعدم ترخيص الشارع للفعل في مرحلة الظاهر

-------------------

وعليه : فالفرق بينهما حينئذ هو : ان الغافل عن حرمة الغصب الذي ترك التعلم، تصبح صلاته مبغوضة ولهذا تفسد ، وليس كذلك المتوسط عمدا في أرض مغصوبة ، فانه مأمور بالخروج الآن ، فلا مبغوضية لصلاته بعد أمر الشارع له بالخروج ، ولذا تصح صلاته .

إذن : فالفرق هو : تحقق المبغوضية وعدمها ، حيث لا تتحقق المبغوضية بالنسبة لمن يخرج من الغصب ، بينما هي متحققة بالنسبة لمن لم يتعلم حكم الغصب ، ولذلك تبطل صلاته كما قال :

( وإمكان تعلّق الكراهة الواقعية بالفعل المغفول عن حرمته ) كالصلاة في الغصب ، فان الشارع يكره الغصب ( مع بقاء الحكم الواقعي ) للغصب ( بالنسبة إليه ) أي : الغافل عن حرمة الغصب ، فانه وان لم يتوجه إليه الحكم فعلاً كغفلته ، إلاّ انه باق في حقه .

وإنّما يكون الحكم الواقعي باقيا في حقه ( لبقاء الاختيار فيه ) حيث ان الغافل قادر على ترك الغصب والصلاة في مكان مباح - مثلاً - وليس مضطرا إلى الغصب كاضطرار المتوسط في الأرض المغصوبة حيث انه مجبور على الغصب بقي أم خرج .

( و ) لأجل ( عدم ترخيص الشارع للفعل ) أي : للغصب بالنسبة إلى الغافل ( في مرحلة الظاهر ) لأن ترخيص الشارع ، إنّما يكون مع الاضطرار إلى الغصب ، والغافل ليس مضطرا إلى الغصب حتى يكون مرخّصا فيه .

ص: 233

بخلاف المتوسط ، فانّه يقبح منه تعلق الكراهة الواقعية بالخروج ، كالطلب الفعلي لتركه ، لعدم التمكّن من ترك الغصب .

-------------------

( بخلاف المتوسط ) في أرض غصبية عالما عامدا ( فانّه ) قد رخّص الشارع في خروجه ، بل أمر به من باب أمره بالأهم ، فان الشارع يرى إن بقائه في الغصب أسوء من خروجه منه ، فيأمره بالخروج ليكون المحذور أقل ، ولذلك ( يقبح منه ) أي : من المولى ( تعلق الكراهة الواقعية بالخروج ، كالطلب الفعلي لتركه ) أي : لترك الخروج ، فانه كما يقبح تعلق الكراهة بالخروج ، كذلك يقبح النهي عن الخروج ، فالمولى لا يطلب الخروج ولا يطلب عدم الخروج منه .

وإنّما لا يكره المولى خروجه ، ولا يطلب منه ترك الخروج ( لعدم التمكّن ) بالنسبة للمتوسط أرضا مغصوبة ( من ترك الغصب ) لأنه مبتلى بالغصب على كل حال ، سواء بقي أم خرج ، لكن حيث ان خروجه أقل محذورا ، لا يكره المولى خروجه ، وحينئذ لا تكون صلاته مكروهة ، وإذا لم تكن صلاته مكروهة كانت مأمورا بها .

فتحصّل من كل ذلك : ان الفرق بين الغافل الذي ترك التعلم وصلّى في الغصب حيث تبطل صلاته على المشهور ، والمتوسط أرضا مغصوبة عمدا الذي صلّى في حال الخروج حيث تصح صلاته عند المشهور ، هو : ان صلاة الأوّل مكروهة للمولى ، وصلاة الثاني ليست مكروهة للمولى ، والفارق الآخر : ان الأوّل ليس مضطرا ، بينما الثاني مضطرا .

ثم ان المشهور قالوا : ان صلاة من لا يعلم بموضوع الغصب صحيحة ، وصلاة من لا يعلم بحكم الغصب ، إذا كان جاهلاً مقصرا باطلة ، ووجه هذا الفرق هو : ان الجاهل بالموضوع ليس مكلفا بالفحص عن الموضوع ، بينما الجاهل بالحكم

ص: 234

وممّا ذكرنا : من عدم الترخيص يظهر الفرق بين جاهل الحكم وجاهل الموضوع المحكوم بصحة عبادته مع الغصب وإن فرض فيه الحرمة الواقعيّة .

نعم ، يبقى الاشكال في ناسي الحكم خصوصا المقصّر ،

-------------------

مكلّف بالفحص عن الحكم .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف بقوله : ( وممّا ذكرنا : من عدم الترخيص ) في الغافل المقصّر ( يظهر الفرق بين جاهل الحكم ) الذي قصّر في تحصيل الحكم ( وجاهل الموضوع ) الذي لم يفحص عن الموضوع ، فان الجاهل بالموضوع هو ( المحكوم بصحة عبادته مع الغصب وان فرض فيه الحرمة الواقعيّة ) وذلك لعدم تنجزّ الحرمة في حقه وان كان مقصّرا ، دون الجاهل بالحكم عن تقصير ، فانه هو المحكوم ببطلان عبادته مع الغصب لتنجّز الحرمة عليه .

والفارق : ما ذكرناه : من ان الشارع لم يرخّص في ترك الفحص عن الحكم ، بينما رخّص في ترك الفحص عن الموضوع .

والحاصل : ان الجاهل بالحكم ان كان مقصرا فصلاته باطلة ، اما الجاهل بالحكم قاصرا ، أو الجاهل بالموضوع قاصرا ، أو مقصرا ، فصلاته صحيحة .

( نعم ، يبقى الاشكال في ناسي الحكم خصوصا المقصّر ) فقد اختلفوا في الناسي ، فبعض قال : بأن ناسي الموضوع أو الحكم قصورا تصح صلاته لرفع النسيان ، امّا ناسي الموضوع تقصيرا بأن لم يتحفظ على ان هذه الدار غصب - مثلاً - حتى نسي الموضوع ، أو ناسي الحكم تقصيرا بأن لم يتحفّظ على ان الغصب حرام حتى نسي الحكم ، فبين قائل بالبطلان فيهما لأنه متصرف في الغصب ، وبين قائل بالصحة فيهما لاطلاق رفع النسيان .

ص: 235

وللتأمّل في حكم عبادته مجال ، بل تأمل بعضهُم في ناسي الموضوع ، لعدم الترخيص الشرعي من جهة الغفلة ، فافهم .

-------------------

هذا ( وللتأمّل في حكم عبادته ) أي : عبادة الناسي ( مجال ) واسع في انها هل تصح مطلقا ، أو تبطل مطلقا ، أو يفرق بين القاصر والمقصر ، بالصحة في القاصر ، والبطلان في المقصر؟ فقد تأمل فيه بعض كما قال :

( بل تأمل بعضهم في ناسي الموضوع ، لعدم الترخيص الشرعي من جهة الغفلة ) فان الجاهل بالموضوع كما عرفت : لا حكم له ، لأن الشارع لم يأمره بالفحص ، بخلاف الغافل عن الموضوع الذي علم ثم غفل ، فانه قصّر في عدم الحفظ ، ولهذا يمكن أن تكون صلاته باطلة .

( فافهم ) فان ناسي الموضوع أولى بالصحة من ناسي الحكم ، فاذا قلنا بشمول رفع النسيان لناسي الحكم وصحّحنا صلاته ، فالأولى ان نقول بصحة صلاة ناسي الموضوع أيضا .

ولا يخفى : ان الكلام في هذه المقامات طويل جدا ، وذكر تمامه ينافي الشرح، لذلك نكله إلى محله من الفقه ، غير أنا نذكر هنا كلام المحقق الأردبيلي ، وصاحب المدارك ، ليظهر لمن يريد التدبّر ماذا أرادا من كلامهما؟ فقد قال المحقق الأردبيلي في شرح الارشاد :

« واعلم أيضا ان سبب بطلان الصلاة في الدار المغصوبة - مثلاً - هو النهي عن الصلاة فيها ، المستفاد من عدم جواز التصرف في مال الغير ، وان النهي مفسد للعبادة ، فلا تبطل صلاة المضطر ، ولا الناسي ، ولا الجاهل ، لعدم النهي حين الفعل ، ولأن الناسي في سعة ما لا يعلمون وان كان في الواقع مقصّرا ومعاقبا على التقصير ، ولعل قول المصنِّف : وان جهل إلى آخره المراد به : عدم علمه بالبطلان ،

ص: 236

وممّا يؤيد إرادة المشهور للوجه الأوّل

-------------------

لا التحريم ، وان كان ظاهر كلامه غير ذلك وفهم من غير هذا المحل » ، انتهى كلام المحقق الأردبيلي ، وظاهره : ان الجاهل المقصّر معاقب من جهة تركه الفحص والتعلم .

ثم ان المدارك ذكر عند شرح قول المحقق : « وإذا أخل المصلي بإزالة النجاسة عن بدنه أو ثوبه أعاد في الوقت وخارجه » قائلاً :

« إذا أخل المصلي بازالة النجاسة التي تجب إزالتها في الصلاة عن ثوبه وبدنه ، فامّا أن يكون عالما بالنجاسة ذاكرا لها حالة الصلاة ، أو ناسيا ، أو جاهلاً ، فهنا مسائل ثلاث ، ثم قال في المسألة الاُولى : وإطلاق كلام الأصحاب يقتضي إنه لا فرق في العالم بالنجاسة بين أن يكون عالما بالحكم الشرعي أو جاهلاً ، بل صرح العلامة وغيره : بأن جاهل الحكم عامد ، لأن العلم ليس شرطا في التكليف ، وهو مشكل لقبح تكليف الغافل ثم قال :

والحق : إنهم ان أرادوا بكون الجاهل كالعامد ، انه مثله في وجوب الاعادة في الوقت ، فهو حق لعدم حصول الامتثال المقتضي لبقاء المكلّف تحت العهدة ، وان أرادوا انه كالعامد في وجوب القضاء ، فهو على إطلاقه مشكل ، لأن القضاء فرض مستأنف ، فيتوقف على الدليل ، فان ثبت مطلقا أو في بعض الصور ثبت الوجوب وإلاّ فلا ، وان أرادوا أنّه كالعامد في إستحقاق العقاب فمشكل ، لأن تكليف الجاهل بما هو جاهل به ، تكليف بما لا يطاق ، نعم ، هو مكلف بالبحث والنظر إذا علم وجوبهما بالعقل أو الشرع ، فيأثم بتركهما لا بترك ذلك المجهول كما هو واضح » انتهى .

( وممّا يؤيد إرادة المشهور للوجه الأوّل ) وهو : توجه النهي إلى الغافل حين

ص: 237

دون الأخير أنّه يلزم حينئذ عدم العقاب في التكاليف الموقتة التي لا تتنجّز على المكلّف إلاّ بعد دخول أوقاتها .

-------------------

غفلته ( دون الأخير ) أي : كون العقاب على ترك ذي المقدمة ، لكن حين ترك المقدمة من غير انتظار ظهور زمان المخالفة ( انّه يلزم حينئذ ) أي : حين إرادتهم الوجه الأخير ( عدم العقاب في التكاليف الموقتة التي لا تتنجّز على المكلّف إلاّ بعد دخول أوقاتها ) كالتكليف بالصلاة في أوقات خاصة حيث قال تعالى : « أقم الصلاة لدلوك الشمس » (1) وفي الحديث : « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة » (2) .

وهكذا بالنسبة إلى التكاليف المشروطة بالاستطاعة كالحج مثلاً .

وعليه : فان المشهور ان لم يساووا بين العالم والجاهل في توجه الخطاب اليهما حتى يلزم عقابهما معا ، لزم عدم العقاب في التكاليف المشروطة والموقتة التي لا تتنجز على المكلّف إلاّ بعد حصول شرطها ووقتها ، مع ان العقاب ثابت فيهما إجماعا ، إذ لا خلاف في ان الغافل المقصّر التارك للموقتات كالحج والصلاة - مثلاً - مستحق للعقاب ، وإستحقاقه للعقاب يتم على الوجه الأوّل وهو توجه التكليف إلى الغافل ، لا على الوجه الأخير ، وهو عدم توجه التكليف إلى الغافل .

وإنّما يتم على الوجه الأوّل دون الأخير ، لأنه حين الالتفات إلى هذه التكاليف التي لم يدخل وقتها ، لم يكن مكلفا بها حتى يعاقب عليها ، وبعد دخول وقتها لم يكن ملتفتا إليها ، فلا يتوجه إليه التكليف حتى يعاقب على مخالفتها كما قال :

ص: 238


1- - سورة الاسراء : الآية 78 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص33 ح67 ، وسائل الشيعة : ج1 ص372 ب4 ح981 و ج2 ص203 ب14 ح1929 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص140 ب23 ح4 .

فاذا فرض غفلة المكلّف عند الاستطاعة عن تكليف الحج ، والمفروض أنه لا تكليف قبلها ، فلا سبب هنا لاستحقاق العقاب رأسا .

أمّا حين الالتفات إلى امتثال تكليف الحج ، فلعدم التكليف به لفقد الاستطاعة ، وأمّا بعد الاستطاعة فلفقد الالتفات وحصول الغفلة ، وكذلك الصلاة والصيام بالنسبة إلى أوقاتها .

-------------------

( فاذا فرض غفلة المكلّف عند الاستطاعة عن تكليف الحج ، والمفروض انه لا تكليف قبلها ) أي قبل الاستطاعة ( فلا سبب هنا لاستحقاق العقاب رأسا ) أي : إطلاقا لا قبل الوقت ولا بعد الوقت .

( أمّا حين الالتفات إلى امتثال تكليف الحج ، فلعدم التكليف به ، لفقد الاستطاعة ) قبل أيام الموسم وحضور أشهر الحج .

( وامّا بعد الاستطاعة ) بأن دخل الموسم وحضر أشهر الحج ( فلفقد الالتفات وحصول الغفلة ) حينها؛ والغافل لم يكن مكلفا ، فلم يكن معاقبا عليه .

( وكذلك الصلاة والصيام بالنسبة إلى أوقاتها ) كقبل الزوال بالنسبة إلى صلاة الظهر وبعده ، وكقبل الفجر بالنسبة إلى الصوم وبعده ، فانه قبل الوقت لا تكليف ، وبعد الوقت لا التفات ، فلا عقاب في كلا الصورتين .

وعليه : فاذا أراد المشهور الوجه الأوّل : صحّ العقاب على المخالفة ، وامّا إذا أراد المشهور الوجه الأخير : فاللازم أن يقولوا باستحقاق العقاب على مخالفة الواقع في التكاليف المطلقة فقط ، دون المشروطة والموقتة لأن الواقع في المشروط والموقت لم يتنجز على المكلّف كي يعاقب عليه ، لا قبل الشرط والوقت ، ولا بعد الشرط والوقت .

أمّا قبل تحقق الشرط ودخول الوقت فواضح ، لأنه لا تكليف حيث لم يدخل

ص: 239

ومن هنا قد يلتجأ إلى ما لا يأباه كلام صاحب المدارك ومن تبعه ، من أنّ العلم واجب نفسي والعقاب على تركه من حيث هو ، لا من حيث افضائه إلى المعصية ، أعني ترك الواجبات و

-------------------

الوقت ولم يتحقق الشرط ، وامّا بعد دخول الوقت وتحقق الشرط فكذلك أيضا ، لأجل الغفلة الناشئة عن ترك الفحص والتعلم ، فلا يصح العقاب عليه مع ان الاجماع والضرورة قائمان على إستحقاق العقاب بالمخالفة ، سواء في التكاليف الموقتة والمشروطة أم في التكاليف المطلقة .

( ومن هنا ) أي : من حيث ان الوجه الأخير وهو : عدم توجه التكليف إلى الغافل ، يستلزم القول بالتفصيل في العقاب على المخالفة بين الواجبات المطلقة والواجبات المؤقتة والمشروطة مع انه لم يقل به أحد ، لذلك ( قد يلتجأ إلى ما لا يأباه كلام صاحب المدارك ومن تبعه ) وهو كما قال :

( من انّ العلم واجب نفسي والعقاب على تركه ) أي : على ترك التعلم يكون ( من حيث هو ) أي : من حيث انه ترك التعلم ( لا من حيث افضائه إلى المعصية أعني ) من إفضاء عدم التعلم إلى المعصية هو : أدائه إلى ( ترك الواجبات وفعل المحرّمات المجهولة تفصيلاً ) فان الجاهل وان كان يعلم بواجبات ومحرمات في الجملة ، لكن لا يعلم بهما تفصيلاً ، فلا يعاقب على تركهما ، وإنّما على ترك التعلم فقط .

( و ) ان قلت : إذا كان العقاب على ترك التعلم من حيث هو لا من حيث إفضائه إلى المعصية ، فماذا تصنعون بظاهر الأدلة الدالة على ان التعلم واجب من باب المقدمة ، مثل آية النفر (1) ، وآية السؤال (2) ، ومثل قوله عليه السلام : « عليكم بالتفقه

ص: 240


1- - اشارة الى سورة التوبة : الآية 122 .
2- - اشارة الى سورة النمل : الآية 43 .

فعل المحرّمات المجهولة تفصيلاً .

وما دلّ بظاهره من الأدلة المتقدمة على كون وجوب تحصيل العلم من باب المقدمة محمولٌ على بيان الحكمة في وجوبه ، وأنّ الحكمة في إيجابه لنفسه صيرورة المكلّف قابلاً للتكليف بالواجبات والمحرّمات حتى لايفوته منفعة التكليف بها ولا يناله مضرّة اهماله عنها ،

-------------------

في دين اللّه ، ولا تكونوا أعرابا ، فان من لم يتفقه في دين اللّه لم ينظر اللّه اليه يوم القيامة » (1) ومثل قوله عليه السلام بعد ما سأله السائل : « هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون اليه ؟ قال : لا » (2) إلى غيرها من الآيات والروايات الدالة على ان وجوب تحصيل العلم من باب المقدمة لا من باب انه واجب نفسي ؟ .

قلت : ( ما دلّ بظاهره من الأدلة المتقدمة على كون وجوب تحصيل العلم من باب المقدمة ) لا انه واجب نفسي ( محمول على بيان الحكمة في وجوبه ) أي : بيان الحكمة في الوجوب النفسي لتحصيل العلم .

( و ) معنى ذلك : ( انّ الحكمة في إيجابه لنفسه ) أي : في إيجاب العلم وجوبا نفسيا هو : ( صيرورة المكلّف قابلاً للتكليف بالواجبات والمحرّمات ) وذلك ( حتى لا يفوته منفعة التكليف بها ) أي : بالواجبات والمحرمات ( ولا يناله مضرّة اهماله ) أي : اهمال المكلّف ( عنها ) أي : عن تلك التكاليف من الواجبات والمحرّمات .

إذن : فالحكمة في إيجاب التعلم بالوجوب النفسي يكون على قسمين :

الأوّل : إدراك المكلّف مصلحة الواقع ، نظير التقوى - مثلاً - من إيجاب الصوم

ص: 241


1- - الكافي اصول : ج1 ص31 ح7 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص30 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص68 ب7 ح33219 .

فانّه قد يكون الحكمة في وجوب الشيء لنفسه صيرورة المكلّف قابلاً للخطاب ، بل الحكمة الظاهرة في الارشاد و تبليغ الأنبياء والحجج ليس إلاّ صيرورة الناس عالمين قابلين للتكاليف .

-------------------

وجوبا نفسيا ، فقد قال سبحانه : « كُتِبَ عَليكُم الصِّيام كما كُتِبَ على الّذين من قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتقُون » (1) .

الثاني : صيرورة المكلّف قابلاً للخطاب بالتكاليف الشرعية من أمر ونهي .

هذا ، وما نحن فيه : من إيجاب التعلم وجوبا نفسيا إنّما هو للقسم الثاني من الحكمة كما قال : ( فانّه قد يكون الحكمة في وجوب الشيء لنفسه ) أي : وجوبا نفسيا هو : ( صيرورة المكلّف قابلاً للخطاب ) فكأن الشارع قال للجاهل : تعلَّم ، والتعلم عليك واجب نفسي ، والحكمة في إيجاب التعلّم عليك هو : ان تصبح قابلاً للخطاب بالصلاة والصيام والحج وما أشبه ذلك .

( بل ) هذا القسم الثاني من الحكمة في الواجبات النفسية أمر شائع ، فان ( الحكمة الظاهرة في الارشاد ) أي : وجوب تعليم الجهال على العلماء ( و ) كذلك في وجوب ( تبليغ الأنبياء والحجج ) الأطهار عليهم صلوات اللّه الملك الجبار أحكام اللّه تعالى إلى الناس ( ليس إلاّ صيرورة الناس عالمين قابلين للتكاليف ) .

إذن : فالتعلم واجب نفسي على افراد الناس لهذه الحكمة وهي : ان يصبحوا قابلين للتكليف بالواجبات والمحرمات حتى لا يفوتهم منفعة التكليف بالواجبات والمحرمات ولا ينالهم مفسدة إهمال الأحكام .

هذا غاية ما يمكن من تقريب كون التعلم واجبا نفسيا .

ص: 242


1- - سورة البقرة : الآية 183 .

لكنّ الانصاف : ظهور أدلّة وجوب العلم في كونه واجبا غيريّا ، مضافا إلى ما عرفت من الأخبار في الوجه الثالث ، الظاهرة في المؤاخذة على نفس المخالفة .

-------------------

( لكنّ الانصاف : ظهور أدلة وجوب العلم في كونه واجبا غيريّا ) كقوله تعالى : « فاعلم انه لا إله إلاّ اللّه » (1) فانه ظاهر في ان العلم واجب من جهة كونه مقدمة الاعتقاد، لا من جهة نفسه ، ولذلك إذا علم ولم يعتقد ، لم ينفعه علمه ، كالكفار فانهم كانوا يعلمون ، لكنهم كانوا لايعتقدون بالحق ، ولذلك قال فيهم سبحانه : « وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم » (2) وقال سبحانه : « يعرفونه كما يعرفون أبنائهم » (3) إلى غير ذلك ( مضافا إلى ما عرفت من الأخبار في الوجه الثالث ) من الوجوه الخمسة المتقدمة ( الظاهرة في المؤاخذة على نفس المخالفة ) لا ترك التعلم ، مثل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم فيمن غسل مجدورا اصابته جنابة فكزّ فمات : « قتلوه قتلهم اللّه ، إلاّ سألوا ؟ إلاّ يمّموه ؟ » (4) .

وقوله عليه السلام لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء: « ما كان أسوء حالك لو متّ على هذه الحالة ، ثم أمره بالتوبة وغسلها » (5) .

وما ورد في تفسير قوله تعالى: « فللّه الحجة البالغة » (6) حيث يقال للعبد يوم

ص: 243


1- - سورة محمد : الآية 19 .
2- - سورة النمل : الآية 14 .
3- - سورة البقرة : الآية 146 ، سورة الانعام : الآية 20 .
4- - الكافي اصول : ج1 ص40 ح1 و الكافي ( فروع ) : ج3 ص68 ح5 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص107 ح219 ، مستدرك الوسائل : ج2 ص528 ب4 ح2631 ، وسائل الشيعة : ج3 ص346 ب5 ح3824 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص184 ب8 ح3 .
5- - الكافي فروع : ج6 ص432 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص116 ب5 ح36 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص80 ح177 ، وسائل الشيعة : ج3 ص331 ب18 .
6- - سورة الانعام : الآية 149 .

ويمكن أن يلتزم حينئذ باستحقاق العقاب على ترك تعلم التكاليف ، الواجب مقدمة ، وان كانت مشروطة بشروط مفقودة حين الالتفات إلى ما يعلمه إجمالاً من الواجبات المطلقة والمشروطة ،

-------------------

القيامة : هل علمت ؟ فان قال : نعم ، قيل : فهلا عملت؟ وان قال : لا ، قيل له : هلاّ تعلمت حتى تعمل ؟ (1) إلى غيرها من الروايات الظاهرة في كون المؤاخذة على نفس المخالفة لا على ترك التعلم .

( و ) عليه : فقد ظهر : ان وجوب التعلم غيري لا نفسي ، لكن يبقى عليه إشكال التفصيل في العقاب بين الواجبات المطلقة وغير المطلقة ، وللتخلص من هذا الاشكال ( يمكن أن يلتزم حينئذ ) أي : حين كان وجوب التعلم غيريا لا نفسيا ، - إضافة إلى ما تقدّم - : ( باستحقاق العقاب على ترك تعلم التكاليف ، الواجب ) ذلك التعلم ( مقدمة ، وان كانت ) تلك التكاليف ( مشروطة بشروط مفقودة حين الالتفات إلى ما يعلمه إجمالاً ) .

والحاصل : انه لا فرق في تنجز التكليف حين الالتفات اليه ولو اجمالاً بين أن يكون ( من الواجبات المطلقة والمشروطة ) فانها تتنجز على الملتفت إليها إجمالاً بلا فرق بينها ، إلاّ ان التكاليف المطلقة تتنجز بنحو الاطلاق ، والمشروطة بنحو التقييد .

ولا يخفى : إنّ هذا كما قلنا هو وجه أخر لحل وإشكال التفصيل في العقاب على القول بأنّ وجوب التعلم مقدمي نفسي ، وحاصله كما يلي :

إنّ المكلّف حين التفاته الاجمالي إلى ان عليه بعض التكاليف ، تتنجز عليه تلك التكاليف بلا فرق بين أن يلتفت إلى ما ليس له شرط كوجوب الستر ،

ص: 244


1- - الأمالي للمفيد : ص292 ح1 ، مجموعة ورام : ج2 ص178 .

لاستقرار بناء العقلاء في مثال الطومار المتقدم على عدم الفرق في المذمّة على ترك التكاليف المسطورة فيه بين المطلقة والمشروطة ،

-------------------

أو إلى ما له شرط كالحج ، أو إلى ما له وقت كالصوم والصلاة ، فلا فرق بين التكاليف المطلقة والمشروطة في تنجزها على المكلّف حين الالتفات الاجمالي اليها ، فصلاة الظهر - مثلاً - إذا التفت إليها قبل الظهر إجمالاً ، يكون مكلفا بها لكن بشرط دخول الوقت ، وهكذا .

وعليه : فالتكليف بالظهر - مثلاً - موجود الآن حين الالتفات الاجمالي إليه ، فلايقال انه لا تكليف قبل الظهر لأن الوقت لم يدخل بعد ، كما انه لا يقال لاتكليف بعد الظهر لأنه غافل والغافل لا يكلف ، وإذا لم يكن تكليف على الغافل فلا يصح عقابه على ترك الصلاة حتى نضطر إلى أن نقول : بأن العقاب على ترك التعلم ، بل نقول : ان العقاب على ترك الصلاة الملتفت إليها قبل الوقت إجمالاً وان كان التكليف بها مشروطا بدخول الوقت .

وإنّما نقول : بانه لا فرق بين الواجبات المشروطة والمطلقة ( لاستقرار بناء العقلاء في مثال الطومار المتقدم ) الذي كتب المولى أوامره فيه وأعطاه لعبده فلم ينظر العبد إلى ما جاء فيه ، وكان فيه بعض التكاليف المطلقة وبعض التكاليف المشروطة ، فان للمولى الحق في معاقبته على كلا القسمين من التكاليف .

وإنّما له الحق في ذلك ، لأن بناء العقلاء ( على عدم الفرق في المذمّة على ترك التكاليف المسطورة فيه ) أي : في ذلك الطومار ( بين المطلقة والمشروطة ) فتساوي ذم العقلاء على تركهما يدل على تنجز التكليف بالمشروط حين الالتفات إليه إجمالاً وان كان قبل حصول شرطه .

ويؤيد تنجز التكليف حين الالتفات إليه إجمالاً وان كان قبل حصول الشرط :

ص: 245

فتأمل .

-------------------

إنه إذا دخل قبل الظهر حجرة مصنوعة من الخشب واغلق على نفسه بابها وألقى المفتاح خارج الحجرة ولم يكن هناك من يفتح له الباب ، فانه يعاقب على ترك الصلاة قطعا ، مع إنه غير قادر على الطهور ماءً وترابا ، وقد قال جملة من الفقهاء :

بأن فاقد الطهورين لا يصلي .

وكذا لو لم يأكل طعام السحور قبل الفجر في شهر رمضان مثلاً وكان لضعف مزاجه لا يتمكن من الصيام بدون أكل طعام السحور ، فانه يعاقب على إفطاره هذا.

وكذا لو ذهب إلى مكان لا يوجد فيه خمر ، لكن يعلم إجمالاً بأنه بعد ساعة يأتي ظالم بخمر فيجبره على شربها ، فانه يلزم على قولكم : من ان الواجب المشروط لا يكون منجزا حين الالتفات إليه إجمالاً قبل تحقق شرطه ، ان لا يكون معاقبا ، لأنه قبل مجيء الخمر لم يكن مكلفا وبعد مجيئها لم يكن مختارا ، مع وضوح انه معاقب عليه ، لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار .

وكأنه إلى هذا أشار صاحب الكفاية في حاشيته حيث قال : ويمكن ان يقال : ان التكاليف الموقتة والمشروطة في الشريعة يكون التكليف فيها فعليا منجزا بحيث يجب على المكلّف تحصيل غير ما علق عليه من مقدماته مما كان باختياره، وذلك بأن يكون الوقت والشرط من قيود المادة والمأمور به، لا من قيود الهيئة والأمر.

( فتأمل ) ولعله إشارة إلى عدم توقف العقاب على توجه الخطاب ، بل مجرد المبغوضية كافية ، ومن المعلوم : ان كلاً من ترك الصلاة في الوقت ، والافطار في نهار شهر رمضان ، وشرب الخمر في المثال المتقدم مبغوض للمولى ، لأن فيه تفويت مصالح وجلب مفاسد ، فالعقاب لأجل جلب المفسدة ودفع المصلحة ، لا لأجل توجه الأمر .

ص: 246

هذا خلاصة الكلام بالنسبة إلى عقاب الجاهل التارك للفحص العامل بما يطابق البرائة .

وأما الكلام في الحكم الوضعي

وهي : صحّة العمل الصادر من الجاهل وفساده ، فيقعُ الكلام فيه تارة في المعاملات ، واُخرى في العبادات .

-------------------

هذا ، وقد ذكر جملة من المعلقين والمحشين على قوله : فتأمل ، مطالب نحن في غنى عن ذكرها ، لأنها لا تناسب الشرح ، واللّه سبحانه العالم .

( هذا خلاصة الكلام بالنسبة إلى ) الحكم التكليفي وهو : ( عقاب الجاهل التارك للفحص العامل بما يطابق البرائة ) وكذا يكون حال العامل بما يطابق التخيير ، أو الاستصحاب التارك للفحص ، وكان التخيير أو الاستصحاب مخالفا للحكم الذي إذا فحص عنه وجده .

( وأما الكلام في الحكم الوضعي وهي : صحّة العمل الصادر من الجاهل وفساده ) فهل عمل الجاهل صحيح أو فاسد؟ ( فيقع الكلام فيه تارة في المعاملات ) بالمعنى الأعم وهي ما لا تحتاج إلى قصد القربة مما ذكر في الفقه من العقود ، والايقاعات ، والأحكام .

وقال بعض : ان المعاملة تطلق على كل ما جعله الشارع سببا أو شرطا أو مانعا أو قاطعا لشيء آخر ، بلا فرق بين أن يكون من العقود والايقاعات : كالنكاح والطلاق ، أو الجنايات : كالقتل والقذف ، أو التوصليات : كغسل الثوب للتطهير والذبح لحلية اللحم ، وغير ذلك .

( واُخرى في العبادات ) وهي التي يشترط فيها قصد القربة بحيث انه إذا

ص: 247

أمّا المعاملات :

فالمشهور فيها أنّ العبرة فيها بمطابقة الواقع ومخالفتها ، سواء وقعت عن أحد الطريقين أعني الاجتهاد والتقليد ، أم لا عنهما ، فاتفقت مطابقته للواقع ، لأنها من قبيل الأسباب لاُمور شرعية ، فالعلم والجهل لا مدخل له في تأثيرها وترتّب المسبّبات عليها .

فمن عقد على امرأة عقد

-------------------

لم يقصد القربة فيها لم تتحقق تلك العبادة .

( أمّا المعاملات ، فالمشهور فيها ) بين الفقهاء خلافا للنراقي كما يأتي كلامه ( انّ العبرة فيها ) أي : في المعاملات إنّما هي ( بمطابقة الواقع ومخالفتها ) فان طابقت الواقع صحت ، وان خالفت الواقع فسدت ( سواء وقعت عن أحد الطريقين أعني الاجتهاد والتقليد ، أم لا عنهما ) بأن وقعت المعاملة بدون اجتهاد أو تقليد .

وعليه : فان وقعت المعاملة عن جهل بلا اجتهاد أو تقليد ، ومع ذلك ( فاتفقت مطابقته للواقع ) فانها صحيحة ، لأن عمله هذا طابق الواقع ومطابقة الواقع هو المعيار في الصحة والفساد على مذهب المخطئة ، والاجتهاد والتقليد عندهم طريقان إلى الواقع وليس أكثر .

وإنّما العبرة في صحة المعاملات مطابقتها للواقع ( لأنها ) أي : المعاملات ( من قبيل الأسباب لاُمور شرعية ) وكما ان الأسباب العرفية لا تنفك عن مسبباتها وجودا وعدما ، فكذلك الأسباب الشرعية لا تنفك عن مسبباتها وجودا وعدما بلا مدخلية للعلم أو الجهل فيها كما قال : ( فالعلم والجهل لا مدخل له في تأثيرها وترتّب المسبّبات عليها ، فمن عقد على امرأة عقد ) بالفارسية - مثلاً - اجتهادا

ص: 248

لا يعرف تأثيره في حلية الوطي فانكشف بعد ذلك صحته ، كفى في صحته من حين وقوعه ، وكذا لو انكشف فساده رتّب عليه حكم الفاسد من حين الوقوع ، وكذا من ذبح ذبيحة بفري ودَجيه ، فانكشف كونُه صحيحا

-------------------

وتقليدا ، ولا عن اجتهاد أو تقليد وهو ( لا يعرف تأثيره في حلية الوطي ) وكان في الواقع مؤثرا لحلية الوطي ، حلّ الوطي ، وان كان في الواقع غير موجب لحلية الوطي لم يحل الوطي .

نعم ، إذا فعل ذلك عن اجتهاد أو تقليد صحيح ، كان معذورا فيما فعله ، وكان الوطي ذلك وطي شبهة .

وعليه: فاذا عقد بالفارسية ( فانكشف بعد ذلك صحته ، كفى في صحته من حين وقوعه ) فيترتب عليه آثار الصحة من حين الوقوع لا من حين انكشاف الصحة .

( وكذا لو انكشف فساده رتّب عليه حكم الفاسد من حين الوقوع ) لا من حين انكشاف الفساد .

هذا ، وترتب الفساد من حين الوقوع يثمر - مثلاً - : ان لا نفقة للمرأة ، فلو لم يكن الرجل ينفق عليها مدة زواجها ، وكانا يزعمان انه مديون لها ، انكشف بذلك عدم المديونية ، وانكشف أيضا ان زواج الرجل باُختها أو بالخامسة كان حلالاً وان زعم حين الزواج انه كان حراما ، وانكشف أيضا ان أخذ المرأة الارث من الرجل بعد موته لم يكن صحيحا فيلزم عليها ان ترده إلى سائر الورثة ، وكذا إذا ماتت المرأة وورثها الرجل ، إلى غير ذلك من الأحكام المترتبة عليه .

( وكذا من ذبح ذبيحة بفري ودجيه ) وهما العرقان في جانبي الحلقوم ، فقد قال بعض بكفاية فريهما ، بينما المشهور قالوا : بلزوم فري الأوداج الأربعة ، فزعم حين ذبحه بفري ودجيه انه صار حراما ( فانكشف كونه صحيحا ) فانه يترتب

ص: 249

أو فاسدا ، ولو ترتب عليه أثرا قبل الانكشاف ، فحكمه في العقاب ما تقدّم من كونه مراعى بمخالفة الواقع كما إذا وطأها ، فانّ العقاب عليه مراعى .

-------------------

عليه أثر الصحة من حين الذبح ( أو فاسدا ) فانه يترتب عليه أثر الفساد من حين الذبح أيضا .

إذن : فالعبرة بمعاملة الجاهل - في نفسها لا بملاحظة الأثر المترتب عليها - من حيث الحكم الوضعي : الصحة والفساد هو : مطابقتها للواقع وعدم مطابقتها له ، فان طابقته صحت ، وإلاّ فلا .

هذا حكم المعاملة في نفسها ، اما حكمها بالنسبة إلى الأثر المترتب عليها ، فالكلام يقع فيه من جهتين : جهة حكمه التكليفي ، وجهة حكمه الوضعي . اما جهة حكمه التكليفي فهو ما أشار إليه بقوله :

( ولو ترتب عليه ) أي : على معاملة الجاهل ( أثرا قبل الانكشاف ) أي : قبل إنكشاف صحة المعاملة وفسادها ، وذلك بأن تصرف فيها - مثلاً - ( فحكمه ) التكليفي من حيث الحرمة وعدمها يعني : ( في العقاب ) وعدمه هو : ( ما تقدّم ) في المبحث السابق عند بيان الحكم التكليفي لعمل الجاهل : ( من كونه مراعى بمخالفة الواقع ) فان كان مخالفا للواقع كان حراما وعوقب عليه ، وإلاّ فلا .

أما مثال ذلك فهو : ( كما إذا وطأها ) أي : المرأة التي عقد عليها بالفارسية ، أو أكل من لحم الذبيحة التي ذبحت بفري ودجيها ، أو تطهر بالكرّ الذي قدر مائه سبعة وعشرون شبرا ، أو ما أشبه ذلك ( فانّ العقاب عليه مراعى ) بمخالفة الواقع ، فان كان مخالفا للواقع ومن دون حجة شرعية عوقب عليه ، وإلاّ بان كان له حجة شرعية من اجتهاد أو تقليد ، أو كان مطابقا للواقع فلا يعاقب عليه .

ص: 250

وأمّا حكمه الوضعي كما لو باع لحم تلك الذبيحة ، فحكمه كما ذكرنا هنا من مراعاته حتى ينكشف الحال .

ولا إشكال فيما ذكرنا بعد ملاحظة أدلّة سببية تلك المعاملات ،

-------------------

( وأمّا حكمه الوضعي ) أي : حكم الأثر المترتب على معاملة الجاهل من حيث الصحة والفساد قبل إنكشاف صحة المعاملة وفسادها وذلك ( كما لو باع لحم تلك الذبيحة ) التي ذبحت بفري ودجيها ( فحكمه ) أي : حكم هذا الأثر وهو البيع من حيث الصحة والفساد هو : ( كما ذكرنا هنا : من مراعاته حتى ينكشف الحال ) أي : حال ذي الأثر وهي معاملة الجاهل نفسها .

وعليه : فان انكشف صحة الذبح انكشف صحة البيع ، وان انكشف فساد الذبح انكشف فساد البيع ، وكذا الحكم إذا تزوج بالعقد الفارسي ودخل بالمرأة على المهر المسمى ، ولكن هنا إنكشف الفساد ، قال المشهور : عليه ان يعطيها مهر المثل ، لكنا تنظّرنا في مهر المثل في الفقه لاحتمال وجوب مهر المسمى ، وذلك لأن المسمى ان كان أقل من المثل ، فهي دخلت على الأقل حيث أسقطت حقها عن الزائد فلا حق لها في الأكثر ، وان كان أكثر فهو دخل على الأكثر حيث سمى الزائد على المثل ، فلا حق له في إعطاء الأقل الذي هو المثل .

بقي شيء وهو : انه لو عقد بالفارسية - مثلاً - ثم شك في صحته وفساده اجتهادا أو تقليدا ، كان عليه في الظاهر : الاجتناب لأصالة فساد المعاملة حتى يتأكد من صحتها ، وكذلك إذا ذبح الحيوان بفري ودجيه ثم شك في صحة الذبح وفساده ، كان عليه الاجتناب عن تلك الذبيحة لأصالة عدم التذكية وهكذا .

هذا ( ولا إشكال فيما ذكرنا ) من دوران حكم معاملة الجاهل تكليفا ووضعا مدار الواقع ، وذلك ( بعد ملاحظة أدلّة سببية تلك المعاملات ) لمسبباتها ،

ص: 251

ولا خلاف ظاهرا في ذلك أيضا إلاّ من بعض مشايخنا المعاصرين ، حيث أطال الكلام في تفصيل ذكره - بعد مقدمة هي :

أنّ العقود والايقاعات ، بل كلّ ما جعله الشارع سببا ، لها حقائق واقعية هي ما قرّره الشارع أولاً ، وحقايق ظاهرية هي ما يظنّه المجتهد أنّه ماوضعه الشارع ، وهي قد تطابق الواقعية وقد تخالفها .

-------------------

وسيذكر المصنِّف ان هذه الأسباب الشرعية كالاُمور الواقعية غير المجعولة في عدم توقف تأثيرها على قيام طريق علمي أو ظني حجة عليها ، فكما ان النار تحرق سواء علم بها الانسان أم لا ، كذلك العقد الصحيح يؤثر أثره سواء علم الانسان بصحته أم لا .

( ولا خلاف ظاهرا في ذلك أيضا إلاّ من بعض مشايخنا المعاصرين ) وهو النراقي قدس سره في كتابه المناهج ( حيث أطال الكلام في تفصيل ذكره ) هناك بين الجاهل المركب والجاهل البسيط ، وبين العقد والذبح ، وذلك ( بعد مقدمة هي ) كالتالي :

( انّ العقود والايقاعات بل كلّ ما جعله الشارع سببا ) كسببية الذبح لحل اللحم، وحيازة المباح للتملك - مثلاً - ( لها حقائق واقعية هي : ما قرّره الشارع أولاً ) وبالذات مثل : جعل الشارع حيازة المباح سببا للملك ، والاعراض عن الشيء سببا للخروج عن الملك ، وما أشبه ذلك ( وحقايق ظاهرية هي : ما يظنّه المجتهد ) ظنا حجة على ( انّه ما وضعه الشارع ) كما إذا ظن المجتهد بأن العقد الفارسي سبب للحلية ، وان عشر رضعات سبب لانتشار الحرمة .

إذن : فالأسباب الشرعية لها حقائق واقعية ، وحقائق ظاهرية ( وهي ) أي : الظاهرية ( قد تطابق الواقعية وقد تخالفها ) فنظر المجتهد قد يطابق الواقع وقد

ص: 252

ولمّا لم يكن لنا سبيل في المسائل الاجتهادية إلى الواقعية ، فالسبب والشرط والمانع في حقّنا هي الحقايق الظاهرية .

ومن البديهيات التي انعقد عليها الاجماع بل الضرورة : أنّ ترتب الآثار على الحقايق الظاهرية يختلف بالنسبة إلى الأشخاص ، فان ملاقاة الماء القليل للنجاسة سبب لتنجّسه عند واحد دون غيره ، وكذا قطع الحلقوم للتذكية والعقد الفارسي للتمليك ، أو الزوجيّة .

-------------------

يخالفه ، فاذا طابق الواقع كان قد أدرك الواقع وان خالفه كان معذورا .

هذا ( ولمّا لم يكن لنا سبيل في المسائل الاجتهادية ) أو الاُصول العملية ( إلى الواقعية ) التي هي ثابتة في اللوح المحفوظ ( فالسبب والشرط والمانع ) والقاطع ( في حقّنا هي الحقايق الظاهرية ) التي يؤدي اليها نظر المجتهد من الأدلة الاجتهادية ، أو الاُصول العملية .

( ومن البديهيات التي انعقد عليها الاجماع بل الضرورة : انّ ترتب الآثار على الحقايق الظاهرية يختلف بالنسبة إلى الأشخاص ) المجتهدين ، وذلك حسب اختلافهم في الاجتهاد .

مثلاً : ( فان ملاقاة الماء القليل للنجاسة سبب لتنجّسه عند واحد ) من المجتهدين ( دون غيره ) لأن بعضهم يرى عدم إنفعال الماء القليل .

( وكذا قطع الحلقوم ) وحده في الذبح سبب ( للتذكية ) عند بعض ، بينما البعض الآخر يرى وجوب قطع الأدواج الأربعة .

( و ) كذا ( العقد الفارسي للتمليك ، أو الزوجيّة ) تمليكا في المعاملات وزوجية في النكاح ، يصح عند بعض المجتهدين دون بعض ، فان بعض المجتهدين يرى اشتراط العربية في ذلك .

ص: 253

وحاصل ما ذكره من التفصيل : أنّ غير المجتهد والمقلّد على ثلاثة أقسام ، لأنّه إمّا غافل عن احتمال كون ما أتى به من المعاملة مخالفا للواقع ، وإمّا أن يكون غير غافل ، بل يترك التقليد مسامحة .

فالأول : في حكم المجتهد أو المقلد ، لأنه يتعبّد باعتقاده

-------------------

هذا كله حال المجتهد ومقلده ، لأن المقلد أيضا مأمور باتباع نظر المجتهد، فيختلف المقلدون في الحلّية والحرمة ، والزوجية وعدمها ، والملكية وعدم الملكية باختلاف المجتهدين فيها .

( وحاصل ما ذكره من التفصيل : إنّ غير المجتهد والمقلّد على ثلاثة أقسام ) بالنسبة إلى ما يوقعه من المعاملات :

الأوّل : الغافل عن مخالفة الواقع .

الثاني : غير الغافل عن مخالفة الواقع ، لاحتمال أن يكون ما صدر منه اما موافقا، أو مخالفا للحكم القطعي .

الثالث : غير الغافل عن مخالفة الواقع ، لاحتمال ان يكون ما صدر منه اما موافقا، أو مخالفا للحكم الظني .

وإلى القسم الأوّل أشار بقوله : ( لأنّه إمّا غافل عن احتمال كون ما أتى به من المعاملة مخالفا للواقع ) بان كان غافلاً مطلقا ، أو جاهلاً مركبا .

وأشار إلى القسم الثاني بقوله : ( وإمّا أن يكون غير غافل بل يترك التقليد مسامحة ) لعدم مبالاته بالتقليد كما هو حال بعض الناس خصوصا أوائل بلوغهم .

( فالأول : في حكم المجتهد أو المقلد ، لأنه يتعبّد باعتقاده ) فهو امّا قاطع والقطع حجة من أي سبب حصل، أو غير ملتفت إطلاقا وغير الملتفت لا حكم له ،

ص: 254

كتعبد المجتهد باجتهاده والمقلد بتقليده ما دام غافلاً ، فاذا تنبّه فان وافق اعتقاده قول من يقلده فهو ، وإلاّ كان كالمجتهد المتبدّل رأيه ، وقد مرّ حكمه في باب رجوع المجتهد .

وأمّا الثاني : وهو المتفطّن لاحتمال مخالفة ما أوقعه من المعاملة للواقع - فامّا أن يكون ما صدر عنه موافقا أو مخالفا للحكم القطعي الصادر من الشارع ،

-------------------

فيكون تعبده باعتقاده ( كتعبد المجتهد باجتهاده والمقلد بتقليده ) في الحكم ، لكن ( ما دام غافلاً ) وقوله : « ما دام غافلاً » ، متعلق بقوله : « في حكم المجتهد أو المقلد » .

وعليه : ( فاذا تنبّه ) إلى انه لا ينبغي له ان يعمل بدون اجتهاد أو تقليد ، وان عمله السابق كان بدون اجتهاد أو تقليد ( فان وافق اعتقاده ) الذي عمل به ( قول من يقلده ) أو اجتهد هو فرأى عن صحة ما عمله سابقا ( فهو ) لأنه لا شيء عليه بعد ذلك ، فقد كان تكليفه ان يعمل بقول المجتهد فاتفق ان قول المجتهد أو ان اجتهاده كان موافقا لما عمله .

( وإلاّ ، كان كالمجتهد المتبدّل رأيه ) لأنه يرى حينئذ غير ما يراه في السابق ، فلا يصح له ان يعمل حينئذ بما رآه سابقا ، بل عليه ان يعمل بما يراه الآن ( وقد مرّ حكمه في باب رجوع المجتهد ) عن اجتهاده السابق إلى اجتهاد لاحق جديد ، وسيأتي أيضا تفصيل ذلك ان شاء اللّه تعالى .

( وأمّا الثاني : وهو المتفطّن لاحتمال مخالفة ما أوقعه من المعاملة للواقع ) فانّه يكون على قسمين : ( فامّا ان يكون ما صدر عنه موافقا أو مخالفا للحكم القطعي الصادر من الشارع ) كما إذا علم قطعا حلية البيع الذي أوقعه بالفارسية سابقا ،

ص: 255

وإمّا أن لا يكون كذلك ، بان كان حكم المعاملة ثابتا بالظنون الاجتهادية .

فالأول : يترتب عليه الأثر مع الموافقة ، ولا يترتب عليه مع المخالفة ، إذ المفروضُ أنّه ثبت من الشارع قطعا أنّ المعاملة الفلانية سببٌ لكذا ، وليس معتقدا لخلافه ، حتى يتعبّد بخلافه

-------------------

لعدم اشتراط العربية في البيع ، أو علم قطعا حرمة المرأة التي عقد عليها بالفارسية سابقا ، لاشتراط العربية في النكاح .

( وإمّا ان لا يكون كذلك ، بان كان حكم المعاملة ثابتا بالظنون الاجتهادية ) كما إذا ظن بحلية التي ارتضعت معه عشر رضعات ، أو ظن بحرمة منظورة الأب .

( فالأول ) من قسمي المتفطن لمخالفة الواقع ، وكان ما صدر عنه موافقا أو مخالفا للحكم القطعي، فانه ( يترتب عليه الأثر مع الموافقة، ولايترتب عليه مع المخالفة ) أي : ان كان ما أوقعه من المعاملة موافقا للحكم الواقعي ترتب عليه الأثر ، وان كان مخالفا للحكم الواقعي لم يترتب عليه الأثر .

وإنّما قال : يترتب عليه الأثر مع الموافقة ( إذ المفروض : أنّه ثبت من الشارع قطعا أنّ المعاملة الفلانية سببٌ لكذا ) أي : ان معاملة البيع بالعقد الفارسي - مثلاً - سبب لانتقال المتاع إلى المشتري والثمن إلى البائع قطعا ، وحيث ان المعاملة توافقت مع الحكم الواقعي الثابت من الشارع قطعا ترتب عليها الأثر .

( و ) إنّما قال : لا يترتب عليه الأثر مع المخالفة ، إذ المفروض ان المتفطن للمخالفة الجاهل بالحكم الواقعي ( ليس معتقدا لخلافه ) أي لخلاف الحكم الواقعي ، لأن جهله كان بسيطا وليس مركبا ، فلا يكون قاطعا بالخلاف ( حتى يتعبّد بخلافه ) الذي اعتقد به ويكون معذورا عليه بسبب قطعه ، فانه حيث لم يكن كذلك بل كان جهله بسيطا لم يترتب عليه الأثر مع المخالفة .

ص: 256

ولا دليل على التقييد في مثله بعلم واعتقاد ، ولا يقدح كونه محتملاً للخلاف ، أو ظانا به ، لأنّه مأمور بالفحص والسؤال ، كما أنّ من اعتقد حلّية الخمر مع احتماله الخلاف يحرم عليه الخمر وإن لم يسأل ،

-------------------

إن قلت : انه يلزم من ذلك ان لا يترتب عليه الأثر حتى مع الموافقة للواقع ، وذلك لعدم العلم بالموافقة للواقع حين المعاملة .

قلت : ( ولا دليل على التقييد في مثله ) أي : لا دليل في مثل ما أوقعه من المعاملات إذا تطابقت مع الواقع أن تكون مقيدة ( بعلم واعتقاد ) ممّن أوقعها ، فان الشارع لم يقل : ان المعاملة صحيحة ان علمت صحتها حين إيقاعها ، أو ان اعتقدت صحتها حين إيقاعها ، بل يقول : ان المعاملة صحيحة ، والمفروض انه أوقع هذه المعاملة صحيحة ، فتؤثر أثرها بمجرد موافقتها للواقع وان لم يعلم صحتها حين إيقاعها .

( و ) إن قلت : انه يقدح في صحة معاملة المتفطن للمخالفة - وان طابقت الواقع - احتماله أو ظنه بالمخالفة قبل المعاملة ، فلا يترتب الأثر عليها ، لأنه لايجوز له الاقدام على المعاملة قبل الفحص والسؤال .

قلت : ( لا يقدح ) في صحة معاملة المتفطن وترتب الأثر عليها بعد ان طابقت الواقع ( كونه محتملاً للخلاف ، أو ظانا به ) حتى وان كان منشأ توهم القدح هنا هو : ( لأنّه مأمور بالفحص والسؤال ) .

وعليه : فكون الجاهل مأمورا بالفحص والسؤال لا يقدح في صحة معاملته بعد مطابقتها للواقع وان لم يسأل ( كما انّ من اعتقد ) أي : غلب على ظنه ( حلّية الخمر مع احتماله الخلاف ) أي : الحرمة ( يحرم عليه الخمر وان لم يسأل ) .

ص: 257

لأنه مأمور بالسؤال .

وأمّا الثاني : فالحق عدم ترتب الأثر في حقه ما دام باقيا على عدم التقليد ، بل وجود المعاملة كعدمها سواء طابقت أحد الأقوال أم لا ؟ .

إذ المفروض عدم القطع

-------------------

وإنّما يحرم عليه ذلك ( لأنه مأمور بالسؤال ) والفحص كما تقدّم : من ان الشبهات الحكمية لا يجوز إرتكابها إلاّ بعد الفحص .

إذن : فالمعيار في ترتب الأثر وعدمه هو : موافقة الواقع وعدمها ، فكلما ظهر كون الشيء موافقا للواقع ترتب الأثر عليه وان كان يحرم عليه إرتكابه قبل الفحص ، فان من المعلوم : ان الحرمة غير قادحة هنا ، لأن الكلام هنا في ترتب الأثر على المعاملة وعدم ترتبه ، لا في جواز الارتكاب قبل الفحص وعدمه ، فان عدم جواز الارتكاب قبل الفحص مسلّم .

( وأمّا الثاني : ) من قسمي المتفطن لمخالفة الواقع وكان ما صدر عنه من المعاملة موافقا أو مخالفا لما ثبت بالظنون الاجتهادية ، سواء الأدلة الاجتهادية أم الاُصول العملية فحكم معاملته كما قال : ( فالحق عدم ترتب الأثر ) على المعاملة ( في حقه ) أي : في حق هذا الجاهل البسيط المتفطن لاحتمال مخالفة ما أوقعه من المعاملة للواقع ، فانه ( ما دام باقيا على عدم التقليد ) لا يترتب الأثر في حقه حتى ولو إنكشف مطابقة معاملته لفتوى المجتهد الذي يجب عليه تقليده لكنه لم يقلده بعد .

( بل وجود المعاملة كعدمها ) في حق المتفطن غير المقلد من جهة عدم ترتب الأثر عليها ( سواء طابقت ) المعاملة ( أحد الأقوال ) للمجتهدين الذين يجوز رجوعه إليهم لتساويهم فرضا ( أم لا؟ ) بأن لم تطابق فتوى أحد المجتهدين .

وإنّما تكون المعاملة هنا كعدمها لأنه كما قال : ( إذ المفروض عدم القطع

ص: 258

بالوضع الواقعي من الشارع ، بل هو مظنون للمجتهد، فترتّب الأثر إنّما هو في حقّه .

ثم إن قلّد بعد صدور المعاملة المجتهد القائل بالفساد ، فلا إشكال فيه ؛ وإن قلّد من يقول بترتّب الأثر ، فالتحقيق التفصيل بما مرّ في نقض الفتوى بالمعنى الثالث ،

-------------------

بالوضع الواقعي من الشارع ) في صورة مطابقته لفتوى أحد المجتهدين ( بل هو مظنون للمجتهد ، فترتّب الأثر إنّما هو في حقّه ) وحق مقلديه فقط .

إذن : هناك فرق بين مطابقة المعاملة للواقع ، وبين مطابقة المعاملة لفتوى المجتهد ، إذ الحكم الواقعي منطبق في الصورة الاُولى ، امّا الصورة الثانية : وهي فتوى المجتهد ، فإنّما تنفع المجتهد ومقلديه ، والمفروض : انه لم يدخل في مقلدي هذا المجتهد ، ولذا إذا سأل عنه يوم القيامة لماذا عملت بهذا العمل المخالف للواقع؟ لم يتمكن ان يعتذر : بأنه مجتهد ، لأنه ليس بمجتهد ولا : بأن مجتهد قال كذا ، لأنه ليس بمقلد ، فلا يصح ان يستند إلى المجتهد في عمله هذا المخالف للواقع .

( ثم ان قلّد بعد صدور المعاملة ) منه ( المجتهد القائل بالفساد ، فلا إشكال فيه ) أي : في فساد معاملته من أول ما أوقعها .

( وان قلّد من يقول بترتّب الأثر ) وصحة المعاملة ( فالتحقيق التفصيل بما مرّ في نقض الفتوى بالمعنى الثالث ) فانه قد ذكر هناك في باب تبدل رأي المجتهد معاني ثلاثة لنقض الفتوى مما حاصله :

إنّ النقض ان كان بمعنى : الحكم بفساد الأعمال السابقة وتجديد الصوم والصلاة ، فهو خلاف الاجماع .

ص: 259

فيقال : أنّ ما لم يختص أثره بمعيّن أو بمعيّنين كالطهارة والنجاسة ، والحلية والحرمة وأمثالها ، يترتب عليه الأثر ، فاذا غسل ثوبه من البول مرة بدون تقليد ، أو اكتفى في الذبيحة بقطع الحلقوم فقط - مثلاً - كذلك ، ثم قلّد من يقول بكفاية الأوّل :

-------------------

وإن كان بمعنى : العمل في المستقبل بالفتوى الثانية ، فهذا لا إشكال فيه .

وإن كان بمعنى : سلب آثار المعاملات الماضية بأن تصير الزوجة أجنبية ، والطاهر نجسا ، ففيه تفصيل كالتالي :

القول بعدم الجواز في الأثر الشخصي كزوجية زينب لزيد ، لأن إبطال العقد الواقع فارسيا - مثلاً - من الأوّل ينافي وقوعه صحيحا ، وإبطاله من الآن لا معنى له ، لعدم وجوده فعلاً حتى يكون موردا للفتوى الثانية ، و : بالجواز في الأثر النوعي كطهارة الثوب ، لأن الغسل مرة - مثلاً - قد أثر من الأوّل في طهارة الثوب في حق كل من يرى كفاية الغسل مرة ، ولم يؤثر من الأوّل في حق من لا يرى كفايته ، غاية الأمر انه إلى الآن كان داخلاً في العنوان الأوّل فكان طاهرا في حقه ، والآن داخل في العنوان الثاني فنجس في حقه ، وهذا ليس بنقض .

وعليه : فان هذا المعنى الثالث للنقص وهو التفصيل بين الأثر الشخصي فغير مترتّب ، وبين الأثر النوعي فمترتب جار في المقام أيضا ( فيقال : انّ ما لم يختص أثره بمعيّن أو بمعيّنين ) أي : بشخص معيّن أو بشخصين معيّنين ( كالطهارة والنجاسة والحلية والحرمة وأمثالها ، يترتب عليه الأثر ، فاذا غسل ثوبه من البول مرة بدون تقليد ، أو اكتفى في الذبيحة بقطع الحلقوم فقط ) لا الأوداج الأربعة ، ( - مثلاً - كذلك ) أي : بدون تقليد أيضا ( ثم قلّد من يقول بكفاية الأوّل :

ص: 260

في الطهارة ، والثاني : في التذكية ، ترتّب الأثر على فعله السابق ، إذ المغسول يصير طاهرا بالنسبة إلى كل من يرى ذلك .

وكذا المذبوح حلالاً بالنسبة إلى كلّ من يرى ذلك ولا يشترط كونه مقلدا حين الغسل والذبح .

وأمّا ما يختص أثره بمعيّن أو معيّنين : كالعقود ، والايقاعات ، وأسباب شغل الذمة وأمثالها ، فلا يترتب عليه الأثر ، إذ آثار هذه الاُمور

-------------------

في الطهارة والثاني : في التذكية ، ترتّب الأثر على فعله السابق ) فيكون الأوّل طاهرا ، والثاني مذكّى .

وإنّما يترتب الأثر على النوعي (إذ المغسول يصير ) من حين غسله وان لم يقلّد الغاسل أحدا بعد ( طاهرا بالنسبة إلى كل من يرى ) كفاية ( ذلك ) أي : كل مجتهد يرى كفاية التطهير بالغسل مرة ، فلا يختص أثره بشخص معيّن ( وكذا المذبوح ) يصير ( حلالاً بالنسبة إلى كلّ من يرى ) كفاية ( ذلك ) الذبح في التذكية من المجتهدين دون أن يختص بشخص معين .

وعليه : فالمغسول يطهر بذلك الغسل والمذبوح يذكى بذلك الذبح ( ولا يشترط ) في ترتب أثر الطهارة والتذكية عليهما ( كونه مقلدا حين الغسل والذبح ) وذلك لأن الطهارة للجميع والتذكية للجميع ، ولا يختص بشخص معيّن أو بشخصين معيّنين .

( وأمّا ما يختص أثره بمعيّن أو معيّنين : كالعقود ، والايقاعات ، وأسباب شغل الذمة ) كالنذر والعهد واليمين ( وأمثالها ) كحق السبق إلى المسجد ، أو الحسينية ، أو ما أشبه ذلك ( فلا يترتب عليه الأثر ، إذ آثار هذه الاُمور ) ليست عامة للجميع ،

ص: 261

لابد من أن يتعلّق بالمعيّن ، إذ لا معنى لسببية عقد صادر عن رجل خاص على امرأة خاصة لحليّتها على كلّ من يرى جواز هذا العقد ومقلّديه .

وهذا الشخص حال العقد لم يكن مقلدا ، فلم يترتب في حقه الأثر كما تقدّم ، وأمّا بعده وإن دخل في مقلديه لكن لا يفيد ، ليترتب الأثر في حقه ، إذ المظنون لمجتهده سببية هذا العقد - متصلاً بصدوره - للأثر ،

-------------------

بل ( لابد من ان يتعلق بالمعيّن ) الذي أوقع المعاملة فقط .

وإنّما يتعلق بالمتعاقدين فقط ( إذ لا معنى لسببية عقد صادر عن رجل خاص على امرأة خاصة ) كعقد زيد على هند ( لحليّتها على كلّ من يرى جواز هذا العقد ومقلّديه ) فان هندا تكون حلالاً ليزيد فقط ، كما هو واضح .

( و ) إنّما لم يترتب عليه الأثر ، لأن ما يرجع إلى الظنون الاجتهادية لابد وان يكون غير المجتهد مقلدا فيها مع ان ( هذا الشخص حال العقد لم يكن مقلدا ، فلم يترتب في حقه الأثر ) لأن الأثر كان ثابتا في حق المقلد وهذا لم يكن مقلدا ( كما تقدّم ) الكلام عنه .

( وأمّا ) تقليده المجتهد فيها ( بعده ) أي : بعد صدور العقد ، فانه ( وان دخل في مقلديه ) لفرض انه قلد المجتهد القائل بجواز مثل هذا العقد ( لكن لا يفيد ، ليترتب الأثر في حقه ) .

وإنّما لا يفيد في حقه لأن المجتهد إنّما يفتي بصحة العقد الفارسي - مثلاً - إذا كان الأثر متصلاً بصدور العقد ، والمفروض : انه لم يكن الأثر متصلاً بصدور العقد، لأن العقد كان قبل شهر والأثر حين التقليد بعد شهر كما قال :

(إذ المظنون لمجتهده سببية هذا العقد - متصلاً بصدوره - للأثر) وقوله : «للأثر» متعلق بالسببية فيكون معناه : ان العقد سبب للأثر إذا كان الأثر متصلاً بصدور العقد

ص: 262

ولم يصر هذا سببا كذلك .

وأما السببية المنفصلة فلا دليل عليها ، إذ ليس هو مظنون المجتهد ، ولا دليل على كون الدخول في التقليد كاجازة المالك ، والأصل في المعاملات الفساد ، مع أنّ عدم ترتب الأثر كان ثابتا قبل التقليد ، فيستصحب » ،

-------------------

( و ) الحال انه ( لم يصر هذا ) العقد ( سببا كذلك ) أي : متصلاً لصدوره ، لأن المفروض : ان العقد كان قبل شهر ، والأثر حين التقليد بعد شهر - مثلاً - .

ان قلت : ما المانع من أن يكون مظنون المجتهد سببية العقد للأثر ولو منفصلاً ، خصوصا وان الانفصال هنا ظاهري لا واقعي ، لأنه بسبب التقليد ينكشف ان الأثر كان مترتبا حين صدور المعاملة ؟ .

قلت : ( وأما السببية المنفصلة فلا دليل عليها ) حتى يقال : ان العقد قبل شهر - مثلاً - سبب للأثر بعد شهر ( إذ ليس هو مظنون المجتهد ) فان المجتهد يرى السببية المتصلة لا المنفصلة ، فتكون المعاملة باطلة .

هذا ( ولا دليل على كون الدخول في التقليد كاجازة المالك ) في كونها مصححة للعقد الفضولي السابق حتى يكون التقليد هنا مصححا للمعاملة السابقة.

( و ) على فرض الشك في صحة المعاملة وفسادها بعد التقليد ، نرجع إلى الأصل في المعاملات فنرى ان ( الأصل في المعاملات : الفساد ) ما لم يثبت دليل على صحتها ، فيلزم القول بفساد المعاملة .

هذا مضافا إلى استصحاب عدم الأثر كما قال : ( مع انّ عدم ترتب الأثر كان ثابتا ) في الظاهر ( قبل التقليد ، فيستصحب » (1) ) بعد التقليد أيضا للشك فيه ،

ص: 263


1- - مناهج الأحكام للنراقي : ص311 .

انتهى كلامه ملخصا .

والمهم في المقام : بيانُ ما ذكره في المقدمة ، من أنّ كل ما جعله الشارع من الأسباب لها حقائق واقعية وحقائق ظاهرية ،

-------------------

فان غير المقلّد حيث لم يستند حين المعاملة إلى علم أو علمي ، كانت معاملته فاسدة ، فاذا شككنا في صحة تلك المعاملة وفسادها بعد التقليد استصحبنا فسادها ، فيحكم بالبطلان .

( انتهى كلامه ملخصا ، والمهم في المقام : بيان ما ذكره في المقدمة : من أنّ كل ما جعله الشارع من الأسباب لها حقائق واقعية وحقائق ظاهرية ) فانه بعد بيان ما هو وارد على هذا الكلام يظهر بوضوح مواقع النظر في جملة كلامه .

لكن قبل ان نشرع في كلام المصنِّف نقول : أن مقتضى القاعدة هنا في المعاملات : ان من جاء بمعاملة من عقد ، أو إيقاع ، أو ما أشبه ذلك ، فاما ان يكون قاطعا ، أو مستندا إلى اجتهاد أو تقليد ، أو بلا استناد :

أما إذا كان قاطعا بصحة المعاملة فانه يرتب عليها الأثر سابقا ولاحقا ، وان كان قاطعا بفساد المعاملة ، فلا يرتب عليها الأثر لا سابقا ولا لاحقا ، وان كان قد رتب الأثر عليها سابقا ظهر بطلانها من حين صدورها ، كما إذا علم - مثلاً - ان زوجته اُخته من الرضاعة فالعقد السابق باطل من حين صدوره ، فاذا لم يواقعها - مثلاً - وعقد عليها شخص آخر حال كونها في الظاهر زوجته كان عقد الثاني صحيحا ، لأنها لم تكن زوجته وإنّما زعم إنها زوجته .

وأما ان كان مستندا في المعاملة إلى الظن الاجتهادي أو التقليدي ثم تبدل إلى خلافه ، صح السابق ورتب الأثر لاحقا على ما فعله سابقا ، إذ لا دليل على ان الاجتهاد اللاحق يبطل آثار الاجتهاد السابق بتبدله .

ص: 264

فنقول : بعد الاغماض عما هو التحقيق عندنا تبعا للمحققين : من أنّ التسبيبات الشرعية راجعة إلى تكاليف شرعية :

-------------------

هذا ، ولعل صاحب الفصول حيث قال : ان الواقعة الواحدة لا تتحمل اجتهادين أشار إلى هذا المعنى ، فاذا عقد على من ارتضعت معه عشر رضعات لصحته عن اجتهاد أو تقليد ، ثم تبدل اجتهاده إلى فساده ، فانها تبقى على الزوجية السابقة .

نعم ، لا يحق له ان يتزوج بعد تبدل الاجتهاد إلى الفساد بمن ارتضعت معه عشر رضعات ، وكذلك في سائر الاُمور : من الطهارة والنجاسة ، والحلية والحرمة ، والبيع والشراء ، والخمس والزكاة ، والحج والجهاد ، والصلاة والصيام ، وغيرها ، ويشهد لذلك سيرة المسلمين على انهم بتبدل الاجتهاد أو المجتهد لا يرتبون الأثر على ما سبق من أعمالهم ، التي بطلت بنظر المجتهد أو الاجتهاد اللاحق .

وأما إن كان غير مستند في المعاملة إلى اجتهاد أو تقليد ، وذلك بأن كان قد أوقعها بلا مبالات قصورا أو تقصيرا ، لزم عليه ان يرتب على السابق واللاحق أثر الاجتهاد الحالي ، فاذا قلد من يقول بفساد عقد من ارتضعت معه عشر رضعات لزم عليه ان يفارقها أو بصحته ثبت عليها ، وهكذا .

والآن نرجع إلى الكلام المصنِّف ( فنقول : ) لا نسلم ان الأحكام لها حقايق واقعية وحقايق ظاهرية ، فانه ( بعد الاغماض عما هو التحقيق عندنا تبعا للمحققين : من أنّ التسبيبات الشرعية راجعة إلى تكاليف شرعية ) وليست هي شيئا مستقلاً ، فالحكم عند المصنِّف قسم واحد لا قسمان .

لا يخفى : ان الفقهاء اختلفوا في انه هل هناك قسمان من الحكم : قسم يسمى

ص: 265

...

-------------------

بالأحكام التكليفية وهي : الواجبات ، والمحرمات ، والمستحبات ، والمكروهات، والمباحات ، وقسم يسمى بالأحكام الوضعية وهي : الجزئية والشرطية ، والمانعية والقاطعية ، والحرية والرقية ، والملكية والزوجية ، وغير ذلك .

وعليه : فتكون الأسباب الشرعية عند هؤلاء الفقهاء كالأسباب التكوينية أحكاما مستقلة، غير ان الأسباب التكوينية تؤثر في التكوينيات كالشمس للحرارة، والثلج للبرودة ، وهذه تؤثر في التشريعيات ، كالعقد للزوجية ، والايقاع لفسخ الزوجية ، كما في الطلاق - مثلاً - ؟ .

أو قسم واحد من الحكم وهي : الأحكام الخمسة التكليفية فقط ، فليس للشارع أحكام وضعية ، وإنّما الأحكام الوضعية تنتزع من الأحكام التكليفية ، فالحكم بحلية اللحم عقيب الذبح - مثلاً - ينتزع منه سببية الذبح للحلية ، والحكم بحلية النظر إلى المرأة ووطيها عقيب العقد ، ينتزع منه سببية العقد للحلية وهكذا؟.

ومن المعلوم : ان كلام النراقي إنّما يتم على القول الأوّل دون القول الثاني إذ على القول الثاني : لا وجود للأحكام الوضعية حتى ينقسم إلى الأحكام الواقعية والظاهرية .

لكن لا يخفى : ان للنراقي أن يقول : تقسيمنا للأحكام إلى الواقعية والظاهرية لاينافي عدم القول بالأحكام الوضعية ، وذلك لأنه يمكن أن يقال : ان صحة المعاملة وفسادها منتزع من جواز التصرف وعدم جوازه ، والحكم بالجواز وعدمه الذي هو حكم تكليفي قد يكون واقعيا ، وقد يكون ظاهريا ، فيكون هذا الاشكال من المصنِّف على النراقي محل تأمل .

ص: 266

إنّ الأحكام الوضعية على القول بتأصّلها هي الاُمور الواقعية المجعولة للشارع ، نظير الاُمور الخارجية غير المجعولة ، كحياة زيد وموت عمرو ، ولكنّ الطريق إلى تلك المجعولات كغيرها ، قد يكون هو العلم ، وقد يكون هو الظن الاجتهادي ، أو التقليد ،

-------------------

وعليه : فانه بناءا على وجود قسمين من الحكم نقول : ( إنّ الأحكام الوضعية على القول بتأصّلها ) أي : جعل الشارع لها بالأصالة لا تبعا للأحكام التكليفية ( هي الاُمور الواقعية ) فلا يكون للعلم والظن ، والشك والوهم ، والتقليد والاجتهاد مدخلية فيها ، ولذلك فان وقع العمل موافقا لما جعله الشارع من الواقع ، ترتب عليه الأثر سواء وافقه الاجتهاد أم خالفه ، وان وقع العمل مخالفا لما جعله الشارع من الوقاع لم يترتب عليه الأثر ، سواء وافقه الاجتهاد أم خالفه؟ .

إذن : فالأحكام الوضعية ، هي الاُمور الواقعية ( المجعولة للشارع ، نظير الاُمور الخارجية غير المجعولة ، كحياة زيد وموت عمرو ) .

وإنّما تكون نظيرها لأنها لا تتغير عما هي عليه واقعا ، وافقها الاجتهاد أم خالفها ، فكما انه إذا اجتهد في التكوينيات لم يؤثر اجتهاده في تبديل حياة زيد إذا كان حيا واقعا إلى الموت ، كذلك إذا اجتهد في المجعولات الشرعية لم يؤثر اجتهاده في تبديل صحة المعاملة إذا كانت صحيحة واقعا إلى الفساد ، فالواقع باق على ما هو عليه وان خالفه الاجتهاد .

هذا ( ولكنّ الطريق إلى ) إثبات ( تلك المجعولات ) الشرعية من الأحكام الوضعية مثل : صحة المعاملة وفسادها ، تكون ( كغيرها ) من التكوينيات مثل : حياة زيد وموت عمرو ، على أقسام : فالطريق اليها ( قد يكون هو العلم ، وقد يكون هو الظن الاجتهادي ، أو التقليد ) أو الاستصحاب - مثلاً - .

ص: 267

وكلّ واحد من الطرق قد يحصل قبل وجود ذي الأثر ، وقد يحصل معه ، وقد يحصل بعده ، ولا فرق بينها في أنّه بعد حصول الطريق يجب ترتيب الأثر على ذي الأثر من حين حصوله .

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إذا كان العقد الصادر من الجاهل سببا للزوجية ،

-------------------

( وكلّ واحد من الطرق قد يحصل قبل وجود ذي الأثر ، وقد يحصل معه ، وقد يحصل بعده ) فان العقد قد يقارن الاجتهاد ، وقد يتقدم على الاجتهاد ، وقد يتأخر عن الاجتهاد .

هذا ( ولا فرق بينها ) أي : بين تلك الطرق ( في ) هذه الجهة وهي : ( انّه بعد حصول الطريق ) بأي قسم كان ، وفي أي وقت حصل ، متقدما على العقد أو متأخرا عنه أو متقارنا معه ، مجتهدا كان الذي حصل له الطريق أو مقلدا ، أو غير مجتهد ولا مقلد ، لا فرق في انه ( يجب ترتيب الأثر على ذي الأثر من حين حصوله ) .

وعليه : فان السبب إذا حصل حصل المسبب ، سواء علم به الانسان أم لم يعلم به ، قارن حصول السبب علمه أم كان علمه متأخرا عنه .

وبذلك يظهر : ما في كلام النراقي القائل بالفرق بين إنكشاف مطابقة الواقع ، وإنكشاف مطابقة الفتوى ، إذ ليس هناك وراء الواقع شيء على ما عرفت ، وكذا يظهر ما في كلامه في الفرق بين تقدّم التقليد وتأخره لتصوره إنفصال الأثر في صورة تأخر التقليد .

( إذا عرفت ذلك ، فنقول : إذا كان العقد الصادر من الجاهل ) غير المجتهد ولا المقلد (سببا للزوجية) في الواقع بأن جعله الشارع سببا من حيث كمال السبب وهو العقد ، وكمال محله وهو : الزوجة والزوج ببلوغهما وعقلهما وغير

ص: 268

فكل من حصل له إلى سببية هذا العقد طريق عقلي أعني : العلم ، أو جعلي بالظن الاجتهادي ، أو التقليد يترتب في حقّه أحكام تلك الزوجية من غير فرق بين نفس الزوجين وغيرهما ، فانّ أحكام زوجية هند لزيد ليست مختصة بهما ، فقد يتعلّق بثالث حكم مترتب على هذه الزوجية ، كأحكام المصاهرة، وتوريثها منه ، والانفاق عليها من ماله ، وحرمة العقد عليها حال حياته ،

-------------------

ذلك ( فكل من حصل له إلى سببية هذا العقد طريق عقلي أعني : العلم ، أو ) طريق ( جعلي بالظن الاجتهادي ، أو التقليد ) أو الظن على الانسداد - مثلاً - إذا قلنا بالحكومة ، فانه ( يترتب في حقّه أحكام تلك الزوجية ) سواء علم بذلك أم لم يعلم ( من غير فرق بين نفس الزوجين وغيرهما ) .

وإنّما يعم غير الزوجين أيضا لان لغير الزوجين أحكام بالنسبة إلى هذين الزوجين أيضا ، فانه لا يجوز لأحد أن يتزوج بهذه الزوجة ، كما لا يجوز للزوج ان يتزوج باُختها - مثلاً - .

وعليه : ( فانّ أحكام زوجية هند لزيد ليست مختصة بهما ) كما ذكره النراقي رحمه اللّه ( فقد يتعلّق بثالث حكم مترتب على هذه الزوجية ، كأحكام المصاهرة، وتوريثها منه ، والانفاق عليها من ماله ، وحرمة العقد عليها ) أي : على هذه الزوجة لثالث ( حال حياته ) أي : حياة هذا الزوج لأنها زوجته .

أمّا أحكام المصاهرة : فانه لا يجوز لهذا الزوج ان يتزوج باُم هذه الزوجة ولا باُختها ، ولا ببنتها ، ولا بخامسة ان كانت هي الرابعة ، ولا ببنت اُختها أو بنت أخيها بدون إذنها ، واما توريث هذه الزوجة من هذا الزوج ، فان شخصا ثالثا هو الولي أو الحاكم الشرعي يدفع اليها خفها من ارثه إذا مات ، واما الانفاق على هذه

ص: 269

ولافرق بين حصول هذا الطريق حال العقد ، أو قبله ، أو بعده .

ثم إنّه إذا اعتقد السببية وهو في الواقع غير سبب ، فلا يترتب عليه شيء في الواقع .

نعم ، لا يكون مكلفا بالواقع ما دام معتقدا ، فاذا زال الاعتقاد رجع الأمر إلى الواقع وعمل على مقتضاه .

-------------------

الزوجة فيما إذا غاب هذا الزوج عنها بسفر ، أو حبس ، أو سفه ، أو جنون ، فان على ثالث وهو الولي أو الحاكم الشرعي ان ينفق عليها من ماله ، وهكذا غيرها من الأحكام المتعلقة بغير الزوجين بالنسبة إلى هذين الزوجين .

( ولا فرق بين حصول هذا الطريق حال العقد ، أو قبله ، أو بعده ) في ترتب أثره في حقه ان كان موافقا للواقع ، وعدم ترتب أثره في حقه من حين صدره ان كان مخالفا للواقع ، بينما النراقي قد فرّق بين هذه الاُمور كما عرفت .

( ثم انّه ) أي : الجاهل الذي لا تقليد له ولا اجتهاد ( إذا اعتقد السببية وهو في الواقع غير سبب ، فلا يترتب عليه شيء في الواقع ) فما يظهر من النراقي في كلامه السابق من حجية الجهل المركب وان ظهور خلافه بمنزلة تبدل الرأي محل نظر .

( نعم ، لا يكون مكلفا بالواقع ما دام معتقدا ) لأنه لا يمكن تحميل الواقع على من هو قاطع بخلاف الواقع كما سبق في بحث القطع ( فاذا زال الاعتقاد رجع الأمر إلى الواقع وعمل على مقتضاه ) أي : مقتضى الواقع بالنسبة إلى السابق واللاحق .

مثلاً : إذا كان مقتضى الواقع فساد العقد بالفارسية والزوج لم ينفق على هذه الزوجة مدة مع زعمه بأنه مديون لها ، تبيّن عدم كونه مديونا لها ، وكذا إذا كان قد عقد على الخامسة ، أو الاُخت ، أو الاُم ، أو البنت ، غير مبال بقطعه ، تبيّن صحة العقد عليهن ، وهكذا .

ص: 270

وبالجملة : فحال الأسباب الشرعية حال الاُمور الخارجية ، كحياة زيد وموت عمرو ، فكما أنّه لا فرق بين العلم بموت زيد بعد مضيّ مدة من موته، وبين قيام الطريق الشرعي في وجوب ترتيب آثار الموت من حينه ، فكذلك لا فرق بين حصول العلم بسببية العقد لأثر بعد صدوره ، وبين الظن الاجتهادي به بعد الصدور ، فانّ مؤدّى الظن الاجتهادي الذي يكون حجة له وحكما ظاهريا في حقه هو كون هذا العقد المذكور حين صدوره محدثا لعلاقة الزوجية بين زيد وهند.

والمفروض : أنّ دليل حجية هذا الظن لا يفيد سوى كونه طريقا

-------------------

( وبالجملة : فحال الأسباب الشرعية حال الاُمور الخارجية ) التكوينية ( كحياة زيد وموت عمرو ) ومنتهى الفرق بينهما : ان الثاني تكويني والأوّل تشريعي .

( فكما انّه لا فرق بين العلم بموت زيد بعد مضيّ مدة من موته ، وبين قيام الطريق الشرعي ) كالبينة على موته ( في وجوب ترتيب آثار الموت من حينه ) أي: من حين الموت لا من حين الانكشاف ( فكذلك لا فرق بين حصول العلم بسببية العقد لأثر بعد صدوره ، وبين الظن الاجتهادي به بعد الصدور ) في وجوب ترتيب الأثر على العقد من حين صدوره ، لا من حين الانكشاف .

وعليه : ( فانّ مؤدّى الظن الاجتهادي الذي يكون حجة له ) أي : لهذا الشخص الجاهل بعد ان اجتهد أو قلّد ( وحكما ظاهريا في حقه هو : كون هذا العقد المذكور حين صدوره محدثا لعلاقة الزوجية بين زيد وهند ) فلا إنفصال بين العقد وأثره ، واذا لم يكن انفصال بينهما كان ما ذكره النراقي من الانفصال بين الأثر والمؤثر لا وجه له .

هذا ( والمفروض : انّ دليل حجية هذا الظن لا يفيد سوى كونه طريقا

ص: 271

إلى الواقع ، فأي فرق بين صدور العقد ظانّا بكونه سببا ، وبين الظن به بعد صدوره ؟ .

وإذا تأملت في ما ذكرنا عرفت مواقع النظر في كلامه المتقدّم ، فلا نطيل بتفصيلها .

ومحصّل ما ذكرنا : أنّ الفعل الصادر من الجاهل باق على حكمه الواقعي التكليفي

-------------------

إلى الواقع ) لا انه سبب ، فان هذا الظن - حسب الفرض - حجة من باب الطريقية فيكشف عن ترتب الأثر على العقد من حين صدوره ، لا من باب السببية حتى يكون ناقلاً للأثر من حين تعلق الظن به ، والظن قد حصل الآن ، بينما العقد قد حصل قبل شهر ، فوقع الانفصال بين العقد وأثره .

والحاصل : انا ذكرنا في أول مبحث الظن : ان الظن طريق وليس بسبب ، وحينئذ ( فأي فرق بين صدور العقد ظانّا بكونه سببا ، وبين الظن به بعد صدوره ؟ ) فكلاهما يؤدي إلى ان العقد لمّا تحقق وكان موافقا للواقع ترتب عليه أثره متصلاً به لا منفصلاً عنه .

( وإذا تأملت في ما ذكرنا عرفت : مواقع النظر في كلامه المتقدّم ، فلا نطيل بتفصيلها ) أي : لا حاجة لعدّ مواقع النظر فيها : من جعله الأحكام تكليفية ووضعية ، وذلك بالفرق بين مطابقة الواقع ومطابقة الفتوى ، وبين تقدّم التقليد وتأخره ، وكذا بين الجهل البسيط والجهل المركب .

( ومحصّل ما ذكرنا : انّ الفعل الصادر من الجاهل ) الذي لم يكن مجتهدا ولا مقلدا ( باق على حكمه الواقعي التكليفي ) من إستحقاق العقاب وعدمه ، فاذا باشر المرأة وكان حراما عليه واقعا مباشرتها - لعدم تأثير النكاح بالعقد الفارسي

ص: 272

والوضعي ، فاذا لحقه العلم ، أو الظن الاجتهادي أو التقليد كان هذا الطريق كاشفا حقيقيا أو جعليا عن حاله حين الصدور ، فيعمل بمقتضى ما إنكشف ، بل حققنا في مباحث الاجتهاد والتقليد :

-------------------

في حلية المرأة - إستحق العقاب ، وإلاّ فلا .

( و ) باق أيضا على حكمه الواقعي ( الوضعي ) من الصحة وعدمها ، فاذا أوقع معاملة في الخارج وكانت صحيحة واقعا ترتب عليها الأثر ، وإلاّ فلا ، فالفعل الصادر من الجاهل لا يتغير ، بل يبقى على ما هو عليه واقعا من حيث الحرمة والحلية ، والصحة والفساد .

هذا بالنسبة إلى ما صدر من الجاهل غير المجتهد ولا المقلد من حيث الحكم الواقعي تكليفا ووضعا ، واما بالنسبة إلى ما يلحقه من الانكشاف ، فحكمه كما قال : ( فاذا لحقه العلم ، أو الظن الاجتهادي ، أو التقليد ) أو الظن الانسدادي ( كان هذا الطريق كاشفا حقيقيا ) فيما إذا كان علما ( أو جعليا ) فيما إذا كان دليلاً شرعيا معتبرا ، سواء في الأحكام أم في الموضوعات ، فانه يكشف على كل تقدير ( عن حاله حين الصدور ) .

وإنّما يكشف عن حاله من حين صدوره لا من حين الانكشاف ، لأن ذلك هو مقتضى الطريقية لما عرفت : من ان أدلة الطرق المجعولة إنّما هي كالعلم حجّة من باب الطريقية ، لا من باب السببية ( فيعمل بمقتضى ما إنكشف ) له من الخلاف أو الوفاق من حين صدوره .

هذا هو بالنسبة إلى الجاهل الذي لم يجتهد ولم يقلد ، واما بالنسبة إلى المجتهد أو المقلد فيما صدر عنهما ، فكما قال : ( بل حققنا في مباحث الاجتهاد والتقليد :

ص: 273

أنّ الفعل الصادر من المجتهد أو المقلّد أيضا باق على حكمه الواقعي ، فاذا لحقه اجتهاد مخالف للسابق كان كاشفا عن حاله حين الصدور ، فيعمل بمقتضى ما انكشف

-------------------

انّ الفعل الصادر من المجتهد أو المقلّد أيضا ) لا يغير الواقع ، بل هو ( باق على حكمه الواقعي ) فاذا اجتهد ، أو قلد مجتهدا يرى حرمة من ارتضعت معه عشر رضعات وكانت في الواقع حلالاً عليه بقيت على حليتها ، أو يرى انها تحلّ له وكانت في الواقع حراما عليه بقيت على حرمتها ، وإلى غير ذلك .

نعم ، هنا إشكال وهو : انه لو فرض عدم إنكشاف الواقع إطلاقا ، فما هي فائدة الواقع حتى يحكم به الشارع ؟ .

والجواب عنه : بأنه ينكشف في زمان الحجة عجل اللّه تعالى فرجه .

هذا الجواب يرد عليه : بأن الحكم إذن ينفع في زمانه ، فلماذا جعل في زماننا ؟ .

اللّهم إلاّ أن يقال : انه لا يوجد هناك حكم بحيث لا ينكشف إلاّ في زمان الحجة إطلاقا ، وحينئذ يرد عليه : انه إذا خفي الحكم في زمان المفيد - مثلاً - وإنكشف في زمان المحقق ، فأية فائدة لتشريع هذا الحكم في زمان المفيد وجعله حكما واقعيا له ؟ .

وكيف كان : فان الفعل الصادر من المجتهد أو المقلد يكون باقيا على ما له من الحكم واقعا ( فاذا لحقه اجتهاد مخالف للسابق كان ) الاجتهاد اللاحق ( كاشفا عن حاله ) أي : حال الفعل ( حين الصدور ، فيعمل بمقتضى ما انكشف ) له من حين الصدور ، فانه كما على الجاهل ان يعمل بمقتضى ما انكشف له من حين الصدور كذلك على المجتهد والمقلد العمل بمقتضى ما انكشف له من حين الصدور .

ص: 274

خلافا لجماعة ، حيث تخيّلوا : أنّ الفعل الصادر عن الاجتهاد أو التقليد إذا كان مبنيا على الدوام واستمرار الآثار ، كالزوجيّة ، والملكية ، لا يؤثر فيه الاجتهاد اللاحق ، وتمام الكلام في محلّه .

وربما يتوهّم : الفساد في معاملة الجاهل من حيث الشكّ في ترتب الأثر على ما يوقعه فلا يتأتى منه قصد الانشاء في العقود والايقاعات .

وفيه : أنّ قصد الانشاء إنّما يحصل بقصد تحقق مضمون الصيغة ،

-------------------

مثلاً : إذا كان الواقع حلية الذبيحة التي ذبحت بفري ودجيها فقط ، وكان الاجتهاد الأوّل على الحرمة ، ثم تبدل اجتهاده إلى الحلية ، كشف الاجتهاد الثاني عن الحلية من حين الذبح لا من حين الاجتهاد الثاني .

( خلافا لجماعة حيث تخيّلوا : انّ الفعل الصادر عن الاجتهاد أو التقليد إذا كان مبنيا على الدوام واستمرار الآثار ، كالزوجيّة ، والملكية ) والوقفية ، والاباحة ، والحرمة ، وما أشبه ذلك ، قالوا : بأنه ( لا يؤثر فيه الاجتهاد اللاحق ) .

لكنّك قد عرفت : ان قول هؤلاء الجماعة هو مقتضى القاعدة ، وهو الذي جرت عليه سيرة المتشرعة بالنسبة إلى القضايا السابقة ، اما بالنسبة إلى القضايا اللاحقة فيلزم عليه العمل وفق الاجتهاد الثاني ( وتمام الكلام في محلّه ) من بحث الاجتهاد والتقليد .

هذا ( وربما يتوهّم : الفساد في معاملة الجاهل من حيث الشكّ ) الذي يعترضه من غير فرق بين العقد والايقاع ، فان الجاهل يشك ( في ترتب الأثر على ما يوقعه ) من عقد أو إيقاع ( فلا يتأتى منه قصد الانشاء في العقود والايقاعات ) وحيث لا يتأتى منه قصد الانشاء يكون عقده وإيقاعه باطلاً .

( وفيه : انّ قصد الانشاء إنّما يحصل بقصد تحقق مضمون الصيغة ) يعني :

ص: 275

وهو : الانتقال في البيع ، والزوجية في النكاح ، وهذا يحصل مع القطع بالفساد شرعا ، فضلاً عن الشك فيه ، ألا ترى أنّ الناس يقصدون التمليك في القمار ، وبيع المغصوب ، وغيرهما من البيوع الفاسدة .

وممّا ذكرنا يظهر : أنّه لا فرق في صحة معاملة الجاهل مع إنكشافها بعد العقد ، بين شكّه في الصحة حين صدورها وبين قطعه بفسادها ، فافهم ،

-------------------

إنّ الجاهل يعتبره هكذا ، فانه بمجرد تحقق مضمون العقد يحصل المراد من قصد الانشاء ( وهو : الانتقال في البيع ، والزوجية في النكاح ) والحرية في العتق ، والتملك في حيازة المباح ، وما أشبه ذلك ( وهذا يحصل مع القطع بالفساد شرعا فضلاً عن الشك فيه ) أو الظن بعدمه .

( ألا ترى ) كشاهد لما ذكرناه : من حصول القصد حتى مع القطع بالفساد ( انّ الناس يقصدون التمليك في القمار ، وبيع المغصوب ، وغيرهما من البيوع الفاسدة ) فلا يصح أن يقال : انهم لا يقصدون التمليك وما أشبه بمعنى : انه لايتمشى منهم قصد الانشاء ، بل يتمشى منهم ذلك إلاّ ان إنشائهم في غير موقعه ، فيكون كانسان ليس له الاعتبار فيعتبر ورقا خاصا دينارا - مثلاً - فانه إنشاء لكنه لاينطبق على الخارج ، لا انه لم يكن إنشاءً .

( وممّا ذكرنا ) فيما سبق : من انّ الفعل الصادر من الجاهل يكون باقيا على حكمه الواقعي بلا تغيير ( يظهر : انّه لا فرق في صحة معاملة الجاهل ) الذي ليس بمجتهد ولا بمقلد ( مع إنكشافها ) أي : إنكشاف صحة المعاملة ( بعد العقد ، بين شكّه في الصحة حين صدورها ، وبين قطعه بفسادها ) أو ظنه بأحدهما .

( فافهم ) ولعله إشارة إلى ما ذكرناه : من عدم وجود فائدة للحكم الواقعي الذي لم ينكشف أصلاً ، فان الحكيم لا يحكم بشيء ليس له تأثير في الخارج ، أو إشارة

ص: 276

هذا كله حال المعاملات .

وأمّا العبادات :

فملخّص الكلام فيها : أنّه إذا أوقع الجاهلُ عبادة عمل فيها يقتضيه البرائة ؛ كأن صلى بدون السورة ، فان كان حين العمل متزلزلاً في صحة عمله ، بانيا على الاقتصار عليه في الامتثال ، فلا إشكال في الفساد وإن إنكشف الصحة بعد ذلك ، بلا خلاف في ذلك ظاهرا ،

-------------------

إلى ما ذكرناه : من ان السيرة جرت على عدم تغيير السابق بسبب تغيير الاجتهاد والتقليد وان كان آثار السابق باقيا ، أو هو إشارة إلى غير ذلك مما ذكره بعض الشراح والمحشين .

( هذا كله حال المعاملات ) بالمعنى الأعم الشامل للايقاعات والأحكام أيضا .

( وأمّا العبادات : فملخص الكلام فيها : انه إذا أوقع الجاهل عبادة عمل فيها يقتضيه البرائة ) أو الاستصحاب ، أو التخيير ، من دون فحص ( كأن صلى بدون السورة ، فان كان حين العمل متزلزلاً في صحة عمله ، بانيا على الاقتصار عليه في الامتثال ) لا على الفحص بعد العمل ( فلا إشكال في الفساد وان إنكشف الصحة ) بأن إنكشف ( بعد ذلك ) اجتهادا وتقليدا : ان ما أتى به سابقا في حال جهله كان جامعا لجميع أجزاء المأمور به وشرائطه ، وفاقدا لكل الموانع والقواطع .

وعليه ، فانكشاف الجامعية في عبادة الجاهل بعد إتيانه بها ، لا يكشف عن صحتها ( بلا خلاف في ذلك ظاهرا ) .

وإنّما يكون باطلاً وان كان جامعا للأجزاء والشرائط وفاقدا للموانع والقواطع

ص: 277

لعدم تحقق نيّة القربة ، لأنّ الشاك في كون المأتي به موافقا للمأمور به كيف يتقرب به ؟ وما ترى من الحكم بالصحّة فيما شك في صدور الأمر به على تقدير صدوره ، كبعض الصلوات والأغسال التي لم يرد بها نصّ معتبر ، وإعادة بعض العبادات الصحيحة ظاهرا

-------------------

( لعدم تحقق نيّة القربة ) من الشاك ( لأنّ الشاك في كون المأتي به موافقا للمأمور به ، كيف يتقرب به؟ ) فان الانسان إذا لم يعلم بأن هذا العمل يقرّ به إلى مولاه ، لايتمكن أن يقول في نفسه : اني أعمل هذا العمل متقربا به إلى المولى واقعا .

لا يقال : ان كان المشكوك لا يمكن التقرب به ، فكيف يتقرب في الاحتياطات الواجبة ، كما لو كان الشك في المكلّف به ، مثل : دوران أمر الصلاة بين الظهر والجمعة ، أو دوران أمر القبلة بين أربع جهات؟ أم كيف يتقرب في الاحتياطات المستحبة ، كما لو كان الشك في غير المكلّف به ، مثل : بعض الأغسال والصلوات المندوبة ، أو إعادة العبادات السابقة إستحبابا ، مع وضوح رجحان الاحتياط في كل ذلك ، وتسليمه عند الجميع ؟ .

لأنّه يقال : بأن هناك فرقا بينهما كما قال : ( وما ترى من الحكم بالصحّة فيما شك في صدور الأمر به ) من العبادات حيث يحكم الفقهاء بصحته ( على تقدير صدوره ) أي : صدور الأمر به في الواقع ( كبعض الصلوات والأغسال التي لم يرد بها نصّ معتبر ) فان الفقهاء يحكمون بصحة الاحتياط فيه إستحبابا مع كونه مشكوكا ، وذلك للتسامح في أدلة السنن .

( و ) كذا ما ترى من الحكم بصحة ( إعادة بعض العبادات الصحيحة ظاهرا ) على ما يفعله بعض المقدسين حيث يعيدون عباداتهم لاحتمال خلل في تلك العبادات التي أتوا بها سابقا ، كما نقل من إعادة العلامة وبعض الفقهاء الآخرين

ص: 278

من باب الاحتياط ، فلا يشبه ما نحن فيه ، لأن الأمر على تقدير وجوده هناك لا يمكن قصد إمتثاله إلاّ بهذا النحو ، فهو أقصى ما يكون هناك من الامتثال ، بخلاف ما نحن فيه حيث يقطع بوجود أمر من الشارع ، فان امتثاله لا يكون إلاّ باتيان ما يعلم مطابقته له ، وإتيان ما يحتمله لاحتمال مطابقته له لا يعدّ إطاعة عرفا .

-------------------

عباداتهم مرة أو مرّات ( من باب الاحتياط ) إستحبابا لادراك الواقع .

وكذا ما ترى من الحكم بصحة عملين أو أكثر مما يعلم بوجود الواقع بينهما كالصلاة عند اشتباه القبلة ، فانه يصح التقرب بالمشكوك في كل ذلك بدون المشكوك فيما نحن فيه ، للفرق بينهما ( فلا يشبه ) ذلك ( ما نحن فيه ) من إتيان الجاهل بالعبادة شاكا في صحتها وسقمها .

وإنّما لا يشبه ذلك ما نحن فيه ( لأن الأمر على تقدير وجوده هناك ) أي : في الموارد المذكورة : كالشك في المكلّف به ، والصلوات المستحبات ، وما أشبه ذلك ( لا يمكن قصد إمتثاله إلاّ بهذا النحو ) من الامتثال ، لعدم القطع بوجود أمر من الشارع هناك ( فهو ) أي : هذا الاحتياط ( أقصى ما يكون هناك من الامتثال ) لأنه لا إمتثال وراء ذلك ، ولهذا يصدق عليه الطاعة عرفا .

( بخلاف ما نحن فيه ) من عبادة الجاهل ( حيث يقطع بوجود أمر من الشارع ، فان امتثاله لا يكون إلاّ باتيان ما يعلم ) أو يظن ظنا معتبرا ( مطابقته له ) أي : لذلك الأمر الموجود من الشارع ، فيلزم العلم بالمطابقة حتى يتمكن من الجزم بقصد القربة ، والعلم بالمطابقة لا يحصل إلاّ عن طريق الاجتهاد أو التقليد ، ولذلك فان ترك الاجتهاد والتقليد ( وإتيان ما يحتمله ) مأمورا به من الشارع ( لاحتمال مطابقته ) أي : مطابقة ما يأتي به ( له ) أي : لأمر الشارع ( لا يعدّ إطاعة عرفا ) .

ص: 279

وبالجملة : فقصدُ التقرب شرطٌ في صحة العبادة إجماعا ، نصّا وفتوىً ، وهو لا يتحقق مع الشك في كون العمل مقرّبا .

وأمّا قصد التقرب في الموارد المذكورة من الاحتياط فهو غير ممكن على وجه الجزم ، والجزم فيه غير معتبر إجماعا ،

-------------------

لكن يمكن أن يقال : إنّ إمكان الجزم بقصد القربة وعدم إمكان الجزم به ، ليس فارقا بعد إمكان الاتيان بالعبادة المحتملة بقصد الرجاء ، ولا دليل على أكثر منها ، مؤيدا ذلك بأن الجاهل إذا ظهر له مطابقة عمله لفتوى المجتهد ، أو اجتهد فظهر له مطابقة عمله لاجتهاده فرح على إتيانه بالعمل المطلوب للمولى ، مما يدل على ان الفطرة تشير إلى كفاية مثل ذلك .

نعم ، إذا لم يتطابق عمله للواقع ، ولم يكن مستندا إلى اجتهاد أو تقليد حال العمل ، حق للمولى عقابه على مخالفته للواقع وعدم استناده إلى اجتهاد أو تقليد ، ومعلوم : ان هذا بحث آخر .

( وبالجملة : فقصد التقرب ) على نحو الجزم ( شرط في صحة العبادة إجماعا نصّا وفتوىً ) على ما يراه المصنِّف ( وهو لا يتحقق مع الشك في كون العمل مقرّبا ) فلابد من إزالة الشك ، ولا يزول الشك فيما نحن فيه إلاّ بالاجتهاد أو التقليد ، فاذا لم يكن أحدهما حين العمل وقع باطلاً ، وهذا أصل يجب أن يبني عليه .

( وأمّا قصد التقرب في الموارد المذكورة من الاحتياط ) الواجب أو المستحب ( فهو غير ممكن على وجه الجزم ) لأنه لا يعلم بالحكم جزما ، فكيف يقصد القربة جزما ؟ .

وهذا ( والجزم فيه ) أي : في مورد لم يمكن الجزم فيه ( غير معتبر إجماعا ،

ص: 280

إذ لولاه لم يتحقق إحتياط في كثير من الموارد مع رجحان الاحتياط فيها إجماعا .

وكيف كان : فالعامل بما يقتضيه البرائة مع الشك حين العمل لا يصح عبادته وإن إنكشف مطابقته للواقع .

أمّا لو غفل عن ذلك أو سكن فيه إلى فعل من يسكن اليه من أبويه وأمثالهما ، فعمل باعتقاد التقرّب ، فهو خارج عن محل كلامنا الذي هو في عمل الجاهل الشاكّ قبل الفحص بما يقتضيه البرائة ،

-------------------

إذ لولاه ) أي : لولا عدم اعتبار الجزم في هذه الموارد المشكوكة ( لم يتحقق إحتياط في كثير من الموارد ) سواء موارد العلم الاجمالي ، أم موارد احتمال كونه طاعة ( مع رجحان الاحتياط فيها إجماعا ) حيث يعلم من هذا الاجماع : ان هذه الموارد قد خرجت عن مقتضى الأصل الأولي الذي قلنا فيه قبل قليل يجب ان يبنى عليه .

( وكيف كان : فالعامل بما يقتضيه البرائة مع الشك حين العمل ، لا يصح عبادته وان إنكشف مطابقته للواقع ) لما عرفت : من انه لا يتمكن من الجزم بقصد القربة .

( أمّا لو غفل عن ذلك ) أي : عن احتمال عدم صحة ما يأتي به واتفق مطابقته للواقع ( أو سكن فيه إلى فعل من يسكن اليه ) في اُمور عباداته ومعاملاته وسائر شئونه ( من أبويه وأمثالهما ) بأن رأى شيوع عمل في المجتمع واعتقد عباديته وكان مطابقا للواقع ( فعمل باعتقاد التقرّب فهو ) في هذين الصورتين ( خارج عن محل كلامنا الذي هو في عمل الجاهل الشاكّ قبل الفحص ) العامل ( بما يقتضيه البرائة ) أو بما يقتضيه التخيير أو الاستصحاب .

وإنّما خصّص محل الكلام من البرائة هنا بالجاهل الشاك : لأنه كما قال :

ص: 281

إذ مجرى البرائة في الشاك ، دون الغافل ، أو معتقد الخلاف .

وعلى أيّ حال : فالأقوى صحته إذا إنكشف مطابقته للواقع ، إذ لا يعتبر في العبادة إلاّ إتيان المأمور به على قصد التقرّب ، والمفروض : حصوله والعلم بمطابقته للواقع ، أو الظن بها من طريق معتبر شرعي غير معتبر في صحة العبادة لعدم الدليل ، فان أدلة وجوب رجوع المجتهد إلى الأدلة ، ورجوع المقلّد

-------------------

( إذ مجرى البرائة ) يختص ( في الشاك ، دون الغافل ، أو معتقد الخلاف ) لأن الغافل ليس شاكا ، وكذا معتقدا الخلاف ، لا يكون شاكا أيضا .

( وعلى أيّ حال : فالأقوى صحته إذا إنكشف مطابقته للواقع ) في هاتين الصورتين : من الغفلة ، واعتقاد الخلاف ( إذ لا يعتبر في العبادة إلاّ إتيان المأمور به على قصد التقرّب ، والمفروض : حصوله ) أي : قصد التقرب ، وكذا حصول المطابقة للواقع ، فانّ هذا العامل قد أتى بعبادة متطابقة مع الواقع وقد قصد التقرّب بها .

( و ) امّا ( العلم بمطابقته للواقع ، أو الظن بها من طريق معتبر شرعي ) زيادة على مطابقة العمل للواقع ، فهو ( غير معتبر في صحة العبادة لعدم الدليل ) عليه ، فانه لا يلزم أن يكون المكلّف حين العمل إذا كان عمله مطابقا للواقع أو لفتوى الفقيه : ان يعلم بالمطابقة .

إن قلت : الأدلة تقول : بأنه يلزم ان يكون العمل مستندا إلى الاجتهاد أو التقليد ، وهذا الغافل المعتمد على أبويه - مثلاً - لم يكن عمله مستندا ، لا إلى الاجتهاد ولا إلى التقليد ، فكيف تقولون بصحته ؟ .

قلت : الرجوع إلى المجتهد أو الاجتهاد إنّما هو طريق ، لا ان له مدخلية في الموضوع ( فان أدلة وجوب رجوع المجتهد إلى الأدلة ، ورجوع المقلّد

ص: 282

إلى المجتهد إنّما هي لبيان الطرق الشرعية التي لا يقدح مع موافقتها مخالفةُ الواقع ، لا لبيان اشتراط كون الواقع مأخوذا من هذه الطرق ، كما لا يخفى على من لاحظها ، ثم إنّ مرآة مطابقة العلم الصادر للواقع العلمُ بها أو الطريق الذي يرجع إليه المجتهد أو المقلّد .

-------------------

إلى المجتهد ) ليس من باب انه بدونهما لا يكون الواقع واقعا ، بل ( إنّما هي لبيان الطرق الشرعية التي لا يقدح مع موافقتها مخالفة الواقع ) فانه لو وافق إحدى الطرق الشرعية وكان عمله مخالفا للواقع لا يعاقب يوم القيامة على مخالفته تلك ، لأنه ليس مكلفا بأكثر من ذلك .

وعليه : فان الأدلة لبيان الطرق الشرعية ( لا لبيان اشتراط كون الواقع مأخوذا من هذه الطرق ) فان الشارع لم يجعل الواقع مقيّدا بهذه الطرق حتى إذا لم يسلك الانسان هذه الطرق لا يكون آتيا بالواقع ( كما لا يخفى على من لاحظها ) فان الذي يلاحظ تلك الأدلة يرى انها تدل على ان الاجتهاد والتقليد من الطرق إلى الواقع ، لا ان الواقع مقيّد بهذه الطرق .

( ثم انّ مرآة مطابقة العلم الصادر ) عن الغافل أو المعتمد على أبويه - مثلاً - ( للواقع ) تلك المرآة هي ( العلم بها ) أي : بالمطابقة للواقع ( أو الطريق الذي يرجع إليه المجتهد ) إجتهادا ( أو المقلّد ) تقليدا ، بلا فرق بين الانكشاف القطعي الذي هو العلم ، أو الانكشاف الظني الحجة الذي هو عبارة عن الاجتهاد أو التقليد.

إن قلت : ان ظن المجتهد إنّما يصحح الواقعة المستندة اليه حين صدورها ، فلا يصحح الواقعة التي صدرت سابقا بلا استناد إليه ، كعمل الغافل ، أو المعتمد على أبويه - مثلاً - .

ص: 283

وتوهّم : « أنّ ظنّ المجتهد وفتواه لا يؤثر في الواقعة السابقة » غلطٌ ، لأن مؤدى ظنه نفس الحكم الشرعي الثابت للأعمال الماضية والمستقبلية .

-------------------

قلت : ( وتوهّم : انّ ظنّ المجتهد وفتواه لا يؤثر في الواقعة السابقة غلط ) فان ظن المجتهد يؤثر في تصحيح العمل بلا فرق بين الأعمال السابقة واللاحقة ( لأن مؤدى ظنه ) أي : ظن المجتهد ( نفس الحكم الشرعي الثابت للأعمال الماضية والمستقبلية ) فلا موضوعية لظن المجتهد حتى يتقيد صحة العمل بالاستناد اليه حين الصدور .

أقول : ان كلام المصنِّف هذا القائل : بأن ظن المجتهد يؤثر في الواقعة السابقة كما يؤثر في الواقعة اللاحقة ، إنّما هو بالنسبة إلى الحكم الوضعي : من صحة الأعمال السابقة وعدم صحتها الذي هو محل الكلام ، لا بالنسبة إلى الحكم التكليفي : من إستحقاق العقاب على مخالفة أعماله السابقة للواقع وعدم إستحقاقه عليها - مما سيأتي الكلام عنه ان شاء اللّه تعالى مفصلاً - .

وعليه : فانه ان قلّد من يقول بصحة أعماله السابقة كان معذورا في عدم قضائها، لكنه لم يكن معذورا في المؤاخذة عليها ان كانت أعماله السابقة مخالفة للواقع ، فاذا قيل له يوم القيامة : لماذا لم تقض أعمالك السابقة؟ كان له أن يقول : ان المجتهد أفتى بعدم القضاء عليّ ، اما إذا قيل له : لماذا خالفت الواقع بأعمالك السابقة ؟ لم يكن له أن يقول : استندت إلى فتوى المجتهد ، لأنها حين الصدور لم تكن مستندة إلى فتواه فيستحق العقاب عليها .

والحاصل : ان كلام المصنِّف هنا في صحة عمل الجاهل غير المقلّد

ص: 284

وأمّا ترتيب الأثر على الفعل الماضي فهو بعد الرجوع ، فان فتوى المجتهد بعدم وجوب السورة كالعلم ، في أنّ أثرها قبل العمل : عدم وجوب السورة في الصلاة ، وبعد العمل : عدم وجوب إعادة الصلاة الواقعة من غير سورة ، كما تقدّم نظير ذلك في المعاملات .

ولنختم الكلام في الجاهل العامل قبل الفحص ، باُمور

-------------------

ولا المجتهد وعدم صحته بعد التقليد ، لا في إستحقاق العقاب ان خالف الواقع ، وعدم إستحقاقه بعد التقليد .

هذا ( وأمّا ترتيب الأثر على الفعل الماضي فهو بعد الرجوع ) إلى المجتهد ( فان فتوى المجتهد بعدم وجوب السورة ) - مثلاً - يكون ( كالعلم ، في انّ أثرها قبل العمل : عدم وجوب السورة في الصلاة ، وبعد العمل : عدم وجوب إعادة الصلاة الواقعة من غير سورة ) وهكذا بالنسبة إلى سائر الأجزاء والشرائط والموانع والقواطع ( كما تقدّم نظير ذلك في المعاملات ) السابقة على التقليد ، فانه إذا كان فتوى المجتهد على صحتها رتب عليها الأثر في المستقبل أيضا ولا حاجة إلى اعادتها .

نعم ، ان ما قلناه هناك من إستحقاق العقاب على مخالفة الواقع يأتي هنا أيضا ، لأنه لا فرق في ملاك ما ذكرناه بين العبادات والمعاملات ، غير انه قد استثنينا من العقاب بعض الصور في كتاب التقليد مما لا داعيإلى ذكره هنا أيضا .

( ولنختم الكلام في الجاهل العامل قبل الفحص ، باُمور ) هي كالتالي :

ص: 285

الأوّل :

إنّ العبرة في باب المؤاخذة والعدم بموافقة الواقع الذي يعتبر مطابقة العمل له ومخالفته ، هل هو الواقع الأوليّ الثابت في كل واقعة عند المخطّئة ، فاذا فرضنا العصير العنبي الذي تناوله الجاهل حراما في الواقع ، وفرض جود خبر معتبر يعثر عليه بعد الفحص على الحليّة ،

-------------------

الأمر ( الأوّل : ) في بيان الحكم التكليفي للجاهل العامل بالبرائة ، فان المصنِّف بعد أن ذكر الحكم الوضعي بالنسبة إلى الأعمال الصادرة من الجاهل العامل بالبرائة أو التخيير ، أو الاستصحاب ، بدأ في بيان الحكم التكليفي له : من المؤاخذة وعدمها ، وهل انه يستحق المؤاخذة بمخالفة الواقع وان وافق الطريق الشرعي ، أو بمخالفة الطريق الشرعي وان وافق الواقع ، أو يكفي في المؤاخذة مخالفة أحدهما : من الواقع أو الطريق ، أو يكفي في عدم المؤاخذة موافقة أحدهما : من الطريق أو الواقع؟ احتمالات أشار المصنِّف اليها بقوله :

( إنّ العبرة في باب المؤاخذة والعدم ) أي : عدم المؤاخذة ، إنّما هي ( بموافقة الواقع الذي يعتبر مطابقة العمل له ومخالفته ) لأن الواقع هو المحور أخذا وعطاءً ولا كلام فيه .

بل الكلام في ان هذا الواقع ( هل هو الواقع الأوليّ الثابت في كل واقعة عند المخطّئة ) أي : بغض النظر عن الطريق الشرعي ، فان المخطئة وهم الشيعة والمعتزلة يرون ان لكل واقعة حكما عند اللّه سبحانه وتعالى سواء وصل اليه المجتهد أم لا وان العبرة به ؟ .

وعليه : ( فاذا فرضنا العصير العنبي الذي تناوله الجاهل حراما في الواقع ، وفرض وجود خبر معتبر يعثر عليه بعد الفحص ) يدل ذلك الخبر ( على الحلية )

ص: 286

فيعاقب ، ولو عكس الأمر لم يعاقب ، أو العبرة بالطريق الشرعي المعثور عليه بعد الفحص فيعاقب في صورة العكس دون الأصل ، أو يكفي مخالفة أحدهما فيعاقب في الصورتين

-------------------

ففي هذه الصور فيكون معاقبا كما قال : ( فيعاقب ) هذا الجاهل الشارب لهذا العصير على شربه ، لأنّ العبرة في الحرمة بالواقع ، وقد فرض انه خالف الواقع واما موافقة الطريق فليس بمهم .

( ولو عكس الأمر ) بأن كان العصير حلالاً في الواقع واقتضى الخبر حرمة العصير ( لم يعاقب ) الجاهل على شربه ، لأنه قد وافق الواقع في عمله واما مخالفة الطريق فليس بمهم .

( أو العبرة بالطريق الشرعي المعثور عليه بعد الفحص ) أي : لا بالواقع الأولي ، فانه ان كان العبرة بالطريق الشرعي مع غض النظر عن الواقع الأولي ، ففي هذه الصورة يكون حكمه كما قال : ( فيعاقب في صورة العكس ) أي : في صورة كون العصير حلالاً في الواقع وحراما بحسب الطريق ، لأن الجاهل بشربه هذا قد خالف الطريق واما موافقة الواقع فلا عبرة به .

( دون الأصل ) فانه لا يعاقب على شربه في صورة كون العصير حراما في الواقع وحلالاً بحسب الطريق ، لأنه كان حسب هذا الاحتمال مكلفا باتباع الطريق، والطريق دلّ على الحلية فلا عبرة بمخالفة الواقع .

( أو يكفي ) في عقاب الجاهل ( مخالفة أحدهما ) من الواقع أو الطريق ( فيعاقب في الصورتين ) أي : في صورة كون العصير حراما في الواقع وان كان حلالاً في الظاهر ، وفي صورة كون العصير حراما في الظاهر وان كان حلالاً في الواقع ، نعم ، لو فرض موافقة الظاهر مع الواقع في الحلية فحينئذ لا يعاقب على شربه .

ص: 287

أم يكفي في عدم المؤاخذة موافقةُ أحدهما ، فلا عقاب في الصورتين ، وجوهٌ :

من أنّ التكليف الأولي إنّما هو بالواقع ، وليس التكليف بالطرق الظاهرية إلاّ على من عثر عليها .

-------------------

( أم يكفي في عدم المؤاخذة موافقة أحدهما ، فلا عقاب في الصورتين؟ ) فاذا كان العصير العنبي في الواقع حلالاً ، أو بحسب الطريق حلالاً ، لا يعاقب على شربه ، وإنّما يعاقب على شربه في فرض مخالفته للظاهر والواقع معا ، بأن كان العصير في الواقع والظاهر حراما ، وعلى هذا ففي المسألة ( وجوه ) أربعة .

لكنا نرى وجها خامسا في المسألة وهو : انه يعاقب على مخالفة الواقع الذي لو فحص وصل إليه ، لا ما إذا فحص لم يصل اليه ، لأنه لا معنى للعقاب على حكم لم يصل إليه المكلّف ، فيشترط حينئذ في العقاب أمران :

الأوّل : كونه مخالفا للواقع .

الثاني : كونه بحيث لو فحص عنه لوصل إلى ذلك الواقع .

أمّا الوجوه الأربعة فقد أشار المصنِّف إلى أولها وهو : كون المؤاخذة على مخالفة الواقع بقوله : ( من انّ التكليف الأولي ) الثابت في كل واقعة بحسب المصالح والمفاسد الواقعية كما دلّ عليه النص والعقل ( إنّما هو بالواقع ، وليس التكليف بالطرق الظاهرية إلاّ على من عثر عليها ) .

هذا ، والمفروض : انه لم يعثر على الطريق الظاهري ، فلا يكون مخالفا للطريق الظاهري ، وإنّما إذا كان مخالفا للواقع عوقب ، وإذا كان موافقا للواقع لم يعاقب عليه .

وأشار إلى ثاني الوجوه وهو : كون المؤاخذة على مخالفة الطريق بقوله :

ص: 288

ومن أن الواقع إذا كان في علم اللّه سبحانه غير ممكن الوصول إليه وكان هنا طريق مجعول مؤدّاه بدلاً عنه ، فالمكلّف به هو : مؤدّى الطريق دون الواقع على ما هو عليه ، فكيف يعاقب اللّه على شرب العصير من يعلم أنّه لم يعثر بعد الفحص على دليل حرمته .

ومن أنّ كلاً من الواقع ومؤدّى الطريق تكليفٌ واقعي ، أمّا إذا كان التكليف ثابتا في الواقع ، فلأنه كان قادرا على موافقة الواقع بالاحتياط ، وعلى إسقاطه

-------------------

( ومن ان الواقع إذا كان في علم اللّه سبحانه ) وتعالى ( غير ممكن الوصول إليه ) لاختفائه بسبب الاغراض والأطماع السياسية وما أشبه ذلك ( وكان هنا ) ك ( طريق مجعول) أي : جعل ( مؤدّاه بدلاً عنه ) أي : عن الواقع ( فالمكلّف به هو : مؤدّى الطريق دون الواقع على ما هو عليه ) .

وعليه : فاذا كان عمل الجاهل مخالفا للطريق عوقب ، وإذا كان موافقا للطريق لم يعاقب ، سواء وافق الطريق الواقع أم خالفه .

وإنّما لم يكن مناط العقاب الواقع ، لأن المفروض عدم إمكان الوصول إليه ( فكيف يعاقب اللّه على شرب العصير من يعلم انّه لم يعثر بعد الفحص على دليل حرمته ؟ ) .

وأشار إلى ثالث الوجوه وهو : كون المؤاخذة على مخالفة أحدهما : من الواقع أو الطريق بقوله : ( ومن انّ كلاً من الواقع ومؤدّى الطريق تكليف واقعي ) اما الواقع فلأنه هو الأصل ، واما مؤدّى الطريق فلأنه بديل عن الواقع ، فيعاقب في الصورتين كما قال : ( أمّا ) معاقبته على ما ( إذا كان التكليف ثابتا في الواقع ، فلأنه كان قادرا على موافقة الواقع بالاحتياط ، و ) كان قادرا أيضا ( على إسقاطه ) أي :

ص: 289

عن نفسه بالرجوع إلى الطريق الشرعي المفروض دلالته على نفي التكليف ، فاذا لم يفعل شيئا منهما فلا مانع من مؤاخذته ، وأمّا إذا كان التكليف ثابتا بالطريق الشرعي ، فلأنه قد ترك موافقة خطاب مقدور على العلم به ، فانّ أدلة وجوب الرجوع إلى خبر العادل أو فتوى المجتهد يشمل العالم والجاهل القادر على المعرفة .

ومن عدم التكليف بالواقع لعدم القدرة ،

-------------------

إسقاط الواقع ( عن نفسه بالرجوع إلى الطريق الشرعي المفروض دلالته على نفي التكليف ، فاذا لم يفعل شيئا منهما ) أي : من الاحتياط ، أو الرجوع إلى الطريق ( فلا مانع من مؤاخذته ) على مخالفة الواقع .

( وأمّا ) معاقبته على مخالفة ما ( إذا كان التكليف ثابتا بالطريق الشرعي ) بأن لم يكن التكليف حسب الواقع وأمّا كان التكليف حسب الطريق الشرعي ، كما إذا كان العصير - مثلاً - حراما حسب الطريق حلالاً حسب الواقع ، فهو معاقب على مخالفة الطريق لما ذكره بقوله: ( فلأنه قد ترك موافقة خطاب مقدور على العلم به ) والجاهل القادر على تحصيل العلم بالطريق - كالعالم - يعاقب على مخالفة الطريق ، وذلك لأنه كما قال :

( فانّ أدلة وجوب الرجوع إلى خبر العادل أو فتوى المجتهد يشمل العالم والجاهل القادر على المعرفة ) فالخطاب منجّز في حق الجاهل أيضا ، فيكون معاقبا على تركه .

وأشار إلى رابع الوجوه وهو : كون المؤاخذة على مخالفة الواقع والطريق معا ، فلا يكفي في المؤاخذة مخالفة أحدهما بقوله : ( ومن عدم التكليف بالواقع لعدم القدرة ) على الواقع حسب الفرض ، فلا يكون مكلفا بالواقع ، فاذا خالف الواقع

ص: 290

وبالطريق الشرعي لكونه ثابتا في حق من اطّلع عليه من باب حرمة التجري ، فالمكلّف به فعلاً ، الذي يكون المؤاخذة على مخالفته هو الواجب والحرام الواقعيّان المنصوب عليهما طريقٌ ، فاذا لم يكن وجوب أو تحريم فلا مؤاخذة .

نعم ، لو اطّلع على ما يدلّ ظاهرا على الوجوب أو التحريم الواقعي

-------------------

لم يعاقب على مخالفة الواقع لو وافق الطريق .

( و ) من عدم التكليف ( بالطريق الشرعي لكونه ) أي : لكون الطريق الشرعي ( ثابتا في حق من اطّلع عليه ) والمفروض : انه لم يفحص حتى يطّلع عليه ، فاذا خالف الطريق لم يعاقب على مخالفة الطريق لو وافق الواقع .

وإنّما قال : بأن الطريق الشرعي ثابت على من اطلع عليه فقط ، لأن ثبوت ذلك عليه ( من باب حرمة التجري ) وإلاّ فهذا الطريق حسب الفرض لم يكن طريقا إلى الواقع ، كما انه لم يكن بنفسه موضوعا للحكم ، فمخالفة الطريق هذا لا يوجب شيئا لو وافق الواقع .

إذن : ( فالمكلّف به فعلاً ، الذي يكون المؤاخذة على مخالفته هو : الواجب والحرام الواقعيّان المنصوب عليهما طريق ) موافق لهما ( فاذا ) خالفهما الطريق بأن ( لم يكن وجوب أو تحريم ) في الواقع ( فلا مؤاخذة ) على مخالفة هذا الطريق .

وان شئت قلت : الواقع ليس بحرام فلا عقوبة على الواقع ، والطريق الذي يقول بالحرمة ليس على السببية ، فلا شأن له في العقاب بالنسبة إلى هذا الجاهل بالطريق .

( نعم ، لو اطّلع على ما يدلّ ظاهرا على الوجوب أو التحريم الواقعي

ص: 291

مع كونه مخالفا للواقع بالفرض ، فالموافقة له لازمةٌ من باب الانقياد ، وتركُها تجرّ ، وإذا لم يطّلع على ذلك لتركه الفحص ، فلا تجرّي أيضا . وأمّا إذا كان وجوب واقعي وكان الطريق الظاهري نافيا ، فلأن المفروض عدم التمكّن من الوصول إلى الواقع ، فالمتضمن للتكليف متعذّر الوصول إليه ، والذي يمكن الوصول إليه ناف للتكليف .

والأقوى هو الأوّل ، ويظهر وجهُه بالتأمل في الوجوه الأربعة .

-------------------

مع كونه مخالفا للواقع بالفرض ) بأن كان الواقع الحلية والطريق على الحرمة ( فالموافقة له ) أي : للطريق ( لازمة من باب الانقياد ، وتركها ) أي : ترك الموافقة للطريق مع الاطلاع عليه ( تجرّ ، و ) اما ( إذا لم يطّلع على ذلك ) أي : على الطريق ( لتركه الفحص ، فلا تجرّي أيضا ) لعدم إطلاعه على الطريق ، كما لا عقاب من جهة الواقع لعدم مخالفته للواقع .

( وأمّا إذا كان وجوب واقعي ) أو حرمة واقعية ( وكان الطريق الظاهري نافيا ) للوجوب أو الحرمة ( ف ) لا عقاب أيضا ( لأن المفروض : عدم التمكّن من الوصول إلى الواقع ، فالمتضمن للتكليف متعذّر الوصول إليه ) ويقبح عقاب من يتعذر له الوصول إلى الواقع ( والذي يمكن الوصول إليه ) من الطريق ( ناف للتكليف ) فلا عقاب لا على الطريق ولا على الواقع .

هذا ( والأقوى هو الأوّل ) من هذه الوجوه العبرة في المؤاخذة وعدمها موافقة الواقع ومخالفته ، فاذا شرب العصير من غير فحص فان كان في الواقع حراما عوقب عليه ، وان لم يكن حراما لم يعاقب عليه ( ويظهر وجهه بالتأمل في الوجوه الأربعة ) من الاحتمالات التي ذكرناها .

ص: 292

وحاصله : أنّ التكليف الثابت في الواقع وإن فرض تعذّر الوصول إليه تفصيلاً ، إلاّ أنّه لامانع من العقاب بعد كون المكلّف محتملاً له قادرا عليه غير مطّلع على طريق شرعي ينفيه ، ولا واجدا لدليل يؤمّن من العقاب عليه مع بقاء تردّده ، و هو : العقل والنقل الدالاّن على برائة الذمة بعد الفحص والعجز عن الوصول ، وإن احتمل التكليف وتردّد فيه .

-------------------

( وحاصله : ) أي : حاصل الوجه الأوّل الذي اختاره المصنِّف هو : ( انّ التكليف الثابت في الواقع و ان فرض تعذّر الوصول إليه تفصيلاً ) لا إجمالاً ، لأنه يمكن الوصول إليه إجمالاً بسبب الاحتياط ( إلاّ انّه لامانع من العقاب ) عليه لو كان مخالفا للواقع ( بعد كون المكلّف محتملاً له ) أي : لمخالفة الواقع ، لأنه حسب الغرض جاهل بسيط وليس جاهلاً مركبا قاطعا بالخلاف حتى يكون معذورا .

وعليه : فان المفروض كون المكلّف ( قادرا عليه ) أي : على الوصول إلى الواقع بسبب الاحتياط ( غير مطّلع على طريق شرعي ينفيه ) أي : ينفي الواقع ، لفرض ان الطريق الشرعي الذي ينفي الواقع لم يصل اليه المكلّف بالفحص .

( ولا واجدا لدليل يؤمّن من العقاب عليه ) أي: على الواقع ( مع بقاء تردّده، و ) المقصود من الدليل المؤمّن مع بقاء شكه ( هو : العقل والنقل الدالاّن على برائة الذمة بعد الفحص والعجز عن الوصول ) إلى الواقع حتى ( وان احتمل ) بعد الفحص واجراء البرائة ( التكليف وتردّد فيه ) أي : في التكليف .

إذن : فالعقل والنقل تدلان على البرائة لكنهما لايجريان في حق المقصر عن الفحص بل يجريان بعد الفحص واليأس ، فالشك واللاشك ليسا معيارا وانّما المعيار الفحص واللافحص .

ص: 293

وأمّا إذا لم يكن التكليف ثابتا في الواقع ، فلا مقتضي للعقاب من حيث الخطابات الواقعية ، ولو فرض هنا طريقٌ ظاهري مثبت للتكليف لم يعثر عليه المكلّف ، لم يُعاقَب عليه ، لأن مؤدّى الطريق الظاهري غير مجعول من حيث هو هو في مقابل الواقع ، وإنّما هو مجعول بعنوان كونه طريقا إليه ، فاذا أخطأ

-------------------

( وأمّا إذا لم يكن التكليف ثابتا في الواقع ) بأن لم يكن العصير العنبي - مثلاً - حراما واقعا ، بل كان حلالاً فرضا ( فلا مقتضي للعقاب ) لمن شربه ( من حيث الخطابات الواقعية ) لأن المفروض عدم حرمته واقعا ، وإذا لم يكن حراما واقعا فانه حتى ( ولو فرض هنا طريق ظاهري مثبت للتكليف لم يعثر عليه المكلّف ) بأن كان فتوى المجتهد حرمته ، لكن الجاهل لم يفحص عن فتوى مرجعه وشرب العصير ، فانه ( لم يعاقب عليه ) .

وإنّما لم يعاقب عليه ( لأن مؤدّى الطريق الظاهري غير مجعول من حيث هو هو في مقابل الواقع ) إذ قد تقدّم في باب القطع : ان الطرق الظاهرية ليست مجعولة في مقابل الواقع ، ولا هي من باب السببية ، بل هي من باب الطريقية ، ولذلك فان طابقت الواقع كان الواقع لازما على الانسان ، وان لم تطابق الواقع لم يكن الطريق لازما عليه حتى يعاقب على مخالفة هذا الطريق الذي لم يعثر عليه ، لأن جعل مؤدى الطريق حكما واقعيا للجاهل بحيث يعاقب على مخالفته وان لم يطابق الواقع ، من التصويب الباطل ، وهو خلاف ما ذهب اليه العدلية القائلين بأن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية .

( و ) عليه : فان الطريق الشرعي ( إنّما هو مجعول بعنوان كونه طريقا إليه ) أي : إلى الواقع ( فاذا أخطأ ) الطريق بأن كان في الواقع حلالاً ، لكن الطريق دل على

ص: 294

لم يترتب عليه شيء ، ولذا لو أدّى عبادة بهذا الطريق ، فتبيّن مخالفتها للواقع ، لم يسقط الأمر ووجب إعادتُها .

نعم ، إذا عثر عليه المكلّف لم يجز مخالفته ، لأن المفروض : عدم العلم بمخالفته للواقع ، فيكون معصية ظاهرية من حيث فرض كونه طريقا شرعيا إلى الواقع ، فهو في الحقيقة نوع من التجرّي ، وهذا المعنى مفقود مع عدم الاطلاع على هذا الطريق ،

-------------------

حرمته ( لم يترتب عليه ) أي : على هذا الخطأ الطريقي ( شيء ) حتى يعاقب الشارب للعصير على انه خالف الطريق .

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه : من ان الطريق إذا أخطأ لم يترتب عليه شيء ، فانه ( لو أدّى ) المكلّف ( عبادة ) أو معاملة ( بهذا الطريق فتبيّن ) بعد إتيانه بالعبادة أو المعاملة ( مخالفتها ) أي : مخالفة تلك العبادة أو المعاملة ( للواقع ، لم يسقط الأمر ووجب إعادتها ) بالنسبة إلى العبادة ، واما بالنسبة إلى المعاملة ، فلا يترتب عليها أثر .

( نعم ، إذا عثر عليه المكلّف لم يجز مخالفته ، لأن المفروض : عدم العلم بمخالفته للواقع ) بل يحتمل مخالفته ، بل ربما يظن بأن هذا الطريق مطابق للواقع ( فيكون معصية ظاهرية من حيث فرض كونه طريقا شرعيا إلى الواقع ) فاذا خالفه كان في الظاهر عاص ( فهو في الحقيقة نوع من التجرّي ) والتجري عصيان ظاهرا وان كنا ذهبنا إلى انه ليس بمعصية في الواقع .

( و ) لكن ( هذا المعنى مفقود مع عدم الاطلاع على هذا الطريق ) لأنه لم يخالف طريقا ظاهريا وان كان متجريا من جهة ترك الفحص عن الدليل مما مرّ بيانه في مسألة عقاب الجاهل .

ص: 295

ووجوب رجوع العامّي إلى المفتي لأجل إحراز الواجبات ، فاذا رجع وصادف الواقع وجب من حيث الواقع ، وإن لم يصادف الواقع لم يكن الرجوع إليه في هذه الواقعة واجبا في الواقع ، ويترتب عليه آثار الوجوب ظاهرا مشروطة بعدم إنكشف الخلاف لا إستحقاق العقاب على الترك ، فانّه

-------------------

( و ) ان قلت : فلماذا يجب رجوع العامي إلى المفتي ، مع ان قول المفتي ليس طريقا إلى الواقع دائما ، بل ربما كان طريقا وربما لم يكن طريقا .

قلت : ( وجوب رجوع العامّي إلى المفتي ) ليس لأجل كون مؤدّى الفتوى مجعولاً للمقلد مقابل الواقع ، وإنّما هو محض طريق ربما أخطأ وربما أصاب ، فالرجوع إليه ( لأجل إحراز الواجبات ) بالطريق العقلائي المتعارف .

وعليه : ( فاذا رجع وصادف الواقع وجب من حيث الواقع ) لا من حيث انه فتوى المفتي .

( و ) لكن ( ان لم يصادف الواقع ، لم يكن الرجوع إليه في هذه الواقعة واجبا في الواقع ) فلا يترتب عليه آثار الواقع ( و ) إنّما ( يترتب عليه آثار الوجوب ظاهرا مشروطة ) تلك الآثار ( بعدم إنكشف الخلاف ) فاذا إنكشف الخلاف تبين انه ليس بطريق وإنه لا يجب عليه العمل به .

إذن : فالذي يترتب على الطريق هو آثار الوجوب الظاهري ( لا إستحقاق العقاب على الترك ) فانه لا يترتب على فتوى الفقيه العقاب الاُخري ، بل العقاب الاُخروي دائر مدار الواقع وجودا وعدما ، وإنّما يترتب على فتوى الفقيه آثار الوجوب في الظاهر مشروطا بعدم إنكشاف الخلاف على ما عرفت .

نعم ، لو لم يرجع إلى فتوى الفقيه وإنكشف ان فتوى الفقيه لم يكن مطابقا للواقع لم يكشف ذلك عن عدم إستحقاق العقاب ( فانّه ) أي : إستحقاق العقاب

ص: 296

يثبت واقعا من باب التجرّي .

ومن هنا يظهر : أنّه لا يتعدد العقاب مع مصادفة الواقع من جهة تعدّد التكليف .

نعم ، لو قلنا : بأنّ مؤديات الطرق الشرعية أحكام واقعية ثانوية لزم من ذلك إنقلاب التكليف إلى مؤديات تلك الطرق ، وكان أوجَه الاحتمالات حينئذٍ الثاني منها .

-------------------

على ترك الطريق ( يثبت واقعا من باب التجرّي ) بناءا على حرمته ، لكنا ذكرنا في أول الكتاب ان التجري له قبح فاعلي لا فعلي حتى نقول بحرمته .

( ومن هنا ) أي : مما ذكرنا : من ان مؤدّى الطريق ليس مجعولاً في مقابل الواقع حتى يكون هناك تكليفان : تكليف بالواقع ، وتكليف بالطريق ( يظهر : انّه لا يتعدد العقاب مع مصادفة الواقع ) بأن كانت الفتوى مصادفة للواقع ، وذلك ( من جهة تعدّد التكليف ) بأن يقال : انه خالف الواقع فعليه عقاب ، وخالف الطريق فعليه عقاب آخر ، فان الأمر ليس كذلك ، بل انه لو خالف الواقع كان عليه عقاب واحد ، ولو لم يخالف الواقع لم يكن عليه شيء .

( نعم ، لو قلنا : بأنّ مؤديات الطرق الشرعية أحكام واقعية ثانوية ) وان الشارع يريدها جزما لمصلحة في السلوك ، كما لم يستبعده المصنِّف في باب القطع ( لزم من ذلك ) فيما إذا خالف الطريق الواقع ( إنقلاب التكليف إلى مؤديات تلك الطرق ) فاللازم على العامي حينئذ ان يعمل بتلك الطرق ، فان عمل بها اثيب وان لم يعمل بها عوقب .

( و ) عليه : فاذا قلنا بانقلاب التكليف ( كان أوجه الاحتمالات ) المتقدمة ( حينئذ ) أي : حين قلنا بالانقلاب : الاحتمال ( الثاني منها ) أي : من تلك

ص: 297

...

-------------------

الاحتمالات الأربعة وهو : أن يكون العبرة بموافقة الطريق ومخالفته لا بموافقة الواقع ومخالفته ، فان وافق الطريق أثيب ، وان خالف الطريق عوقب ، من غير فرق بين ان يكون الطريق موافقا للواقع أو مخالفا له .

لكن قد تقدّم في أول الكتاب : ان إنقلاب التكليف إلى مؤديات الطرق خلاف المشهور ، بل الظاهر من الأدلة : ان الواقع هو المراد لا غيره ، وإنّما الطريق جعل للوصول إليه .

نعم ، لا إشكال في انه لو وافق الطريق ولم يصادف الواقع ، كان له ثواب الانقياد، كما انه لو خالف الطريق ولم يكن موافقا للواقع كان عليه عقاب التجري عند من يقول بحرمة التجري ، فمن يرى ان التجري محرما يرى حرمة المخالفة من جهة التجري .

والحاصل : ان ترتيب جميع آثار الوجوب على الطريق مشروط بعدم إنكشاف الخلاف ، إلاّ أثر العقاب على الترك فانه ثابت من باب التجري بناءا على كون التجري حراما موجبا للعقاب ، فاستحقاق العقاب فيه ليس مشروطا بعدم إنكشاف الخلاف ، بل هو ثابت مطلقا على القول بكون التجري حراما سواء إنكشف الخلاف أم لم ينكشف .

نعم ، لو اخترنا ما ذهب إليه صاحب الفصول : من ان التكليف الفعلي هو مؤدّى الطريق وان الواقع بما هو واقع ليس مكلفا به ، لزم من ذلك أيضا ، كما كان يلزم من القول بالمصلحة السلوكية : انقلاب التكليف إلى مؤدّيات الطرق ، فيكون الأوجه حينئذ أيضا الاحتمال الثاني المذكور في أول العنوان وهو : كون العبرة في باب المؤاخذة موافقة الطريق وعدم موافقته ، لا موافقة الواقع وعدم موافقته .

ص: 298

الثاني :

-------------------

الأمر ( الثاني ) من اُمور الخاتمة المتعلقة بالجاهل العامل قبل الفحص هو : ان المصنِّف بعد ان ذكر في الأمر الأوّل الملازمة بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي في أعمال الجاهل المقصر ، وانه كلما كان العمل باطلاً إستحق عليه العقاب ، وكلما كان صحيحا لم يكن عليه عقاب ، تعرض هنا إلى ذكر استثناء للملازمة ، فقد ذكر الأصحاب موارد للاستثناء ، منها في باب الحج حيث ورد فيه : « أيما امرء ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه » (1) .

هذا ، لكن المصنِّف اكتفى بذكر موردين من موارد انفكاك الملازمة بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي ، والانفكاك بمعنى : أن يكون العمل صحيحا مع إستحقاق العقاب عليه ، والموردان هما : مواد القصر والاتمام ، ومورد الجهر والاخفات ، فمن جهر بالقرائة في موضع الاخفات وان كان جهله بالحكم عن تقصير ، صحت صلاته ، وكذلك العكس ، وكذا من أتم صلاته في موضع القصر صحت صلاته وان كان جهله بالحكم عن تقصير ، دون العكس غير انه يكون مستحقا للعقاب في الموردين .

أمّا إستحقاق العقاب : فلتسالم الأصحاب عليه ، واما صحة الصلاة : فلانه بالاضافة إلى وجود الاجماع وجود أخبار صحيحة تدل على ذلك .

مثلاً : في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم « قالا : قلنا لأبي جعفر عليه السلام فيمن صلّى في السفر أربعا : أيعيد أم لا؟ قال عليه السلام : ان قرئت عليه آية التقصير وصلى

ص: 299


1- - تهذيب الاحكام : ج5 ص72 ح47 ب1 وفيه رجل ، وسائل الشيعة : ج8 ص248 ب30 ح10558 و ج12 ص489 ب45 ح16861 و ج13 ص158 ب8 ح17474 .

قد عرفت : أنّ الجاهل العامل بما يوافق البرائة مع قدرته على الفحص واستبانة الحال ، غير معذور ، لا من حيث العقاب، ولا من جهة سائر

-------------------

أربعا أعاد ، وان لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه» وزاد في بعضها: « وفسرت له » (1) عقيب قوله : « ان كانت قرئت عليه آية التقصير » .

وفي صحيحة اُخرى لزرارة أيضا : «قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : رجل جهر بالقرائة فيما لا ينبغي أن يجهر فيه ، أو أخفى فيما لا ينبغي الاخفاء فيه؟ فقال عليه السلام: أي ذلك فعل متعمدا فقد نقض صلاته وعليه الاعادة ، وان فعل ذلك ناسيا أو ساهيا أو لا يدري ، فلا شيء عليه فقد تمت صلاته » (2) .

هذا ، وقد أشكل بعض على صحة الصلاة مع وجود العقاب بما سيذكره المصنِّف قريبا ان شاء اللّه تعالى ، والظاهر : ان أول من أشكل بذلك هو السيد الرضي ، حيث اعترض على أخيه السيد المرتضى قائلاً : بأن الصحة لا تجامع مع ما أجمعنا عليه من بطلان صلاة من لا يعرف أحكامها ، والجهل بأعداد الركعات جهل بأحكامها ، فلا تكون الصلاة صحيحة مجزية .

وكيف كان : فانه ( قد عرفت : انّ الجاهل العامل بما يوافق البرائة مع قدرته على الفحص واستبانة الحال ، غير معذور ) لأنه جاهل مقصّر والجاهل المقصّر معاقب ، وإذا كان معاقبا كان لازمه بطلان عمله .

إذن : فالجاهل المقصر غير معذور ( لا من حيث العقاب، ولا من جهة سائر

ص: 300


1- - تهذيب الاحكام : ج3 ص226 ب13 ح80 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص435 ح1265 ، وسائل الشيعة : ج8 ص507 ب17 ح11300 .
2- - تهذيب الاحكام : ج2 ص162 ب23 ح93 ، وسائل الشيعة : ج6 ب26 ص86 ح7412 .

الآثار ، بمعنى : أنّ شيئا من آثار الشيء المجهول عقابا أو غيره من الآثار المترتبة على ذلك الشيء في حقّ العالم ، لا يرتفع عن الجاهل لأجل جهله .

وقد استثنى الأصحاب من ذلك القصر والاتمام ، والجهر والاخفات ، فحكموا بمعذورية الجاهل في هذين الموضعين .

وظاهر كلامهم إرادتهم العذر من حيث الحكم الوضعي ، وهي الصحة بمعنى : سقوط الفعل ثانيا دون المؤاخذة ، وهو الذي يقتضيه دليل المعذورية في الموضعين أيضا .

-------------------

الآثار ) الوضعية كالقضاء والاعادة والكفارة ، فان عدم المعذورية هنا ( بمعنى : انّ شيئا من آثار الشيء المجهول عقابا أو غيره ) أي : غير العقاب كالقضاء والاعادة ( من الآثار المترتبة على ذلك الشيء في حقّ العالم ، لا يرتفع عن الجاهل ) إرتفاعا ( لأجل جهله ) لأن الجهل بالحكم عن تقصير لا يكون عذرا .

( و ) لكن ( قد استثنى الأصحاب من ذلك ) موضعين ( القصر والاتمام ) بأن صلّى التمام في موضع القصر ( والجهر والاخفات ) بأن جهر في موضع الاخفات أو أخفت في موضع الجهر ( فحكموا بمعذورية الجاهل ) بالحكم ( في هذين الموضعين ) بلا استثناء .

هذا ( وظاهر كلامهم : إرادتهم العذر من حيث الحكم الوضعي ) أي : ان الصلاة ليست باطلة كما قال : ( وهي الصحة بمعنى : سقوط الفعل ثانيا ) من حيث القضاء أو الاعادة ( دون ) العذر من حيث الحكم التكليفي وهي : ( المؤاخذة ) .

وعليه : فانهم وان حكموا بصحة الصلاة لكنهم يقولون باستحقاق العقاب (و ) هذا المعنى ( هو الذي يقتضيه دليل المعذورية في الموضعين أيضا ) فان ظاهر دليل المعذورية هي : المعذورية الوضعية ، لا المعذورية التكليفية فاستحقاق

ص: 301

فحينئذ يقع الاشكال في أنّه إذا لم يكن معذورا من حيث الحكم التكليفي كسائر الأحكام المجهولة للمكلف المقصّر ، فيكون تكليفه بالواقع وهو : القصر بالنسبة إلى المسافر باقيا .

وما يأتي به من الاتمام المحكوم بكونه مسقطا ، إن لم يكن مأمورا به ، فكيف يسقط الواجب ، وإن كان مأمورا به ، فكيف يجتمع الأمر به مع فرض وجود الأمر بالقصر .

-------------------

العقاب إنّما هو للأصل الذي يقول : بأن الجاهل المقصر معاقب .

( فحينئذ ) أي : حين قالوا بانفكاك الملازمة بمعنى : إستحقاق العقاب وعدم لزوم القضاء أو الاعادة ( يقع الاشكال في انّه إذا لم يكن معذورا من حيث الحكم التكليفي ) أي : من حيث إستحقاقه العقاب على ترك الواقع ( كسائر الأحكام المجهولة للمكلف المقصّر ) حيث انه يستحق العقاب على تركها مما يستلزم بقاء التكليف بها ( فيكون تكليفه بالواقع وهو : القصر بالنسبة إلى المسافر باقيا ) لأن المسافر مكلف من عند اللّه سبحانه وتعالى واقعا بأن يأتي بالصلاة في السفر قصرا ، وإذا كان تكليفه بالواقع باقيا لزم أحد المحذورين : اما عدم كون ما أتى به مأمورا به فكيف يسقط الواجب واما اجتماع الضدين وهو تناقض كما قال :

( وما يأتي به من الاتمام المحكوم بكونه مسقطا ) للقضاء أو الاعادة ( ان لم يكن مأمورا به ، فكيف يسقط الواجب ) الذي هو القصر ؟ ( وان كان مأمورا به ، فكيف يجتمع الأمر به مع فرض وجود الأمر بالقصر ؟ ) فان الجمع بين هذين يكون من الجمع بين الضدين .

وإن شئت قلت : ان ثبوت المؤاخذة على ترك الواقع يدل على ثبوت الأمر بالقصر وبقاء الأمر الواقعي ، والحكم بالصحة وعدم وجوب الاعادة يدل على

ص: 302

ودفع هذا الاشكال ، إمّا بمنع تعلق التكليف فعلاً بالواقعي المتروك ، وإمّا بمنع تعلّقه بالمأتي به ، وإمّا بمنع التنافي بينهما .

-------------------

كونه مأمورا بالاتمام ، فيكون معنى ذلك : انه مأمور بالقصر وبالاتمام معا ، وهذا تناقض ظاهر ، وكذلك بالنسبة إلى الجهر والاخفات .

ويمكن الجواب عن ذلك جوابا أوليا : بأن المؤاخذة على ترك الواقع لا يدل على بقاء الأمر الواقعي ، فاذا أمر المولى عبده بأن يأتي إليه بماء عذب ليشربه لأنه قد غصّ بلقمته ، فجائه بماء أجاج فشربه اضطرارا لم يبق الأمر الأوّل ، لأن المولى قد تخلص من اللقمة فلا يحتاج بعدها إلى الماء ومع ذلك فان العبد مستحق للعقاب على عدم إطاعة الأمر الأوّل .

( ودفع هذا الاشكال ) هو كدفع الاشكال في كل مورد يتوهم فيه التناقض والتضاد ، وذلك بأن يقال : اما ان يكون هذا الضد غير موجود ، أو ذلك الضد غير موجود ، أو ان كليهما موجودان إلاّ انه ليس بينهما تناف .

إذن : فالجواب عن هذا الاشكال يكون أولاً : ( إمّا بمنع تعلق التكليف فعلاً ) أي : انه بعد إتيان التمام موضع القصر لا تكليف ( بالواقعي المتروك ) الذي هو القصر ، فالقصر إنّما يجب على المسافر العالم بالحكم ، لا المسافر الجاهل بالحكم .

ثانيا : ( وامّا بمنع تعلّقه بالمأتي به ) أي : ان الأمر في الواقع قد تعلق بالقصر لا بما أتى به من التمام ، لكن هذا التمام غير المأمور به قد أسقط القصر الذي كان مأمورا به ، كما مثّلنا له بالماء العذب والماء الاُجاج .

ثالثا : ( وإمّا بمنع التنافي بينهما ) أي : انه لا يلزم من الأمر بالتمام والأمر بالقصر، أمرا بضدين في آن واحد .

ص: 303

فالأول : إمّا بدعوى كون القصر - مثلاً - واجبا على المسافر العالم ، وكذا الجهر والاخفات .

وإمّا بمعنى معذرويته فيه ، بمعنى : كون الجهل بهذه المسألة كالجهل بالموضوع ، يُعذر صاحبه ويُحكم عليه ظاهرا ، بخلاف الحكم الواقعي .

-------------------

( فالأول ) وهو : منع تعلق التكليف فعلاً بالواقعي المتروك فيمكن تقريره بوجوه أربعة :

الوجه الأوّل : ما ذكره بقوله : ( امّا بدعوى كون القصر - مثلاً - واجبا على المسافر العالم ) لا المسافر الجاهل ( وكذا الجهر والاخفات ) فكأن الشارع قال : يجب القصر على المسافر العالم بوجوب القصر ، والجهر على المصلي العالم بوجوبه ، وهكذا الاخفات .

ولا يرد على هذا إشكال الدور القائل : بأن العلم قد أخذ تارة في موضوع الحكم واُخرى بعد الحكم ، لأنه يمكن تصحيح ذلك بأمرين فيما إذا اختصت مصلحة القصر - مثلاً - بالعالم بوجوب القصر فقط ، فيقول المولى أولاً : يجب القصر في السفر ويقول ثانيا : ان مصلحة القصر إنّما هي على العالم بوجوب القصر لا على الجاهل بوجوبه .

الوجه الثاني ما أشار إليه بقوله : ( وامّا بمعنى معذرويته ) أي : معذورية الجاهل ( فيه ) أي : في القصر والاتمام ، والجهر والاخفات ( بمعنى : كون الجهل بهذه المسألة كالجهل بالموضوع يُعذر صاحبه ) فان الجاهل بالموضوع - كالجاهل بأن هذا المايع خمر - معذور وان كان الحكم الواقعي للخمر ثابتا عليه ( و ) لأجل معذورية هذا الجاهل بالموضوع ( يُحكم عليه ظاهرا ) أي : حكما ظاهريا ( بخلاف الحكم الواقعي ) .

ص: 304

وهذا الجاهل وإن لم يتوجه إليه خطابٌ مشتملٌ على حكم ظاهريّ ، كما في الجاهل بالموضوع ، إلاّ أنّه مستغنىً عنه باعتقاده لوجوب هذا الشيء عليه في الواقع ، وإمّا من جهة القول بعدم تكليف الغافل

-------------------

إذن : فكما ان الجاهل بكون هذا المايع خمرا يحكم عليه حكما ظاهريا بجواز شربه وان كان الحكم الواقعي للخمر ثابتا عليه ، فكذلك الجاهل بالحكم فيما نحن فيه فانه معذور لكنه لغفلته لم يحكم عليه بحكم ظاهري ، لاستغنائه عن الحكم الظاهري بسبب اعتقاده بوجوب التمام - مثلاً - عليه كما قال :

( وهذا الجاهل وان لم يتوجه إليه خطاب مشتمل على حكم ظاهريّ ) لفرض غفلته عن الحكم الظاهري أيضا ، فلا يتوجه هذا الخطاب إليه ( كما ) كان يتوجه الخطاب المشتمل على حكم ظاهري ( في الجاهل بالموضوع ) لفرض التفاته إلى الحكم الظاهري لهذا المايع الذي لم يعلم خمريته ( إلاّ أنّه ) أي : الخطاب بالحكم الظاهري بالنسبة إلى هذا الجاهل بالحكم ( مستغنىً عنه ) .

إذن : فالشارع لا يخاطبه بالتمام الذي هو حكم ظاهري له لاستغنائه عن هذا الحكم الظاهري ( ب ) سبب ( اعتقاده ) أي : اعتقاد هذا الجاهل ( لوجوب هذا الشيء عليه ) وهو التمام ( في الواقع ) فان الشارع قد اكتفى منه بما أتى به من التمام في السفر من دون ان يخاطبه به ، وإنّما اُوكله إلى ما اعتقده من كون تكليفه التمام .

والفرق بين هذا الوجه والوجه الأوّل هو : ان في الوجه الأوّل لا تكليف بالتمام بالنسبة إلى الجاهل بالحكم ، وفي الوجه الثاني له تكليف شأني لا فعلي ، والجهل بالتكليف الشأني يكون نظير الجهل بالموضوع من حيث المعذورية ويحكم فيه بمقتضى الاُصول على خلاف الحكم الواقعي .

الوجه الثالث ما أشار إليه بقوله : ( وامّا من جهة القول بعدم تكليف الغافل

ص: 305

بالواقع وكونه مؤاخذا على ترك التعلّم ، فلا يجب عليه القصر، لغفلته عنه.

نعم ، يُعاقب على عدم إزالة الغفلة ، كما تقدّم إستظهاره من صاحب المدارك ومن تبعه .

وإمّا من جهة تسليم تكليفه بالواقع ، إلاّ أنّ الخطاب بالواقع ينقطعُ عند الغفلة لقبح خطاب العاجز ، وان كان العجز بسوء اختياره ، فهو معاقب حين الغفلة على ترك القصر ، لكنه ليس مأمورا به

-------------------

بالواقع ، وكونه مؤاخذا على ترك التعلّم ) فالعلم شرط تنجز التكليف ، إلاّ انه معاقب من جهة ترك التعلم ( فلا يجب عليه القصر ) فعلاً ، وذلك ( لغفلته عنه ) أي: عن القصر .

( نعم ، يعاقب على عدم إزالة الغفلة ، كما تقدّم إستظهاره من صاحب المدارك ومن تبعه ) القائلين بأن العقاب على ترك التعلم ، لا على ترك الحكم ، فيكون الفرق بين هذه الأوجه الثلاثة هو : ان العلم على الوجه الأوّل : شرط شرعي لثبوت الحكم نظير البلوغ والطهارة ، وعلى الثاني : شرط عقلي نظير اشتراط القدرة في ثبوت التكاليف ، وعلى الثالث : واجب نفسي نظير وجوب الصلاة .

الوجه الرابع : ما أشار إليه بقوله : ( وإمّا من جهة تسليم تكليفه بالواقع ) فالجاهل المقصر مكلف بالواقع والتكليف منجّز عليه ( إلاّ انّ الخطاب بالواقع ينقطع عند ) عروض ( الغفلة ) عليه وذلك ( لقبح خطاب العاجز وان كان العجز بسوء اختياره ، فهو معاقب حين الغفلة على ترك القصر ) فليس العقاب على ترك المقدمة ، كما قاله المدارك ومن تبعه ، بل العقاب على ترك الواقع من حين ترك المقدمة ، والمقدمة هي عبارة عن تحصيل العلم .

إذن : فالجاهل المقصر وان كان معاقبا على ترك القصر ( لكنه ليس مأمورا به )

ص: 306

حتى يجتمع مع فرض الأمر بالاتمام .

لكن هذا كله خلاف ظاهر المشهور ، حيث انّ الظاهر منهم كما تقدّم : بقاء التكليف بالواقع المجهول بالنسبة إلى الجاهل .

ولذا يُبطِلون صلاةَ الجاهل بحرمة الغصب ، إذ لولا النهي حين الصلاة لم يكن وجهٌ للبطلان .

والثاني :

-------------------

أي : بالقصر ( حتى يجتمع مع فرض الأمر بالاتمام ) ويكون هناك أمر بالضدين : أمر بالقصر ، وأمر بالاتمام ، وبواحد من هذه الوجوه الأربعة يتم التخلص من إشكال اجتماع الضدين .

( لكن هذا كله ) أي : كل الوجوه الأربعة التي ذكرناها في وجه الجواب الأوّل لدفع إشكال التضاد يكون ( خلاف ظاهر المشهور ، حيث انّ الظاهر منهم كما تقدّم : بقاء التكليف بالواقع المجهول بالنسبة إلى الجاهل ) المقصّر بينما قال الوجه الأوّل من الوجوه الأربعة بعدم التكليف بالقصر أصلاً ، والوجوه الثلاثة الاُخر منها بعدم التكليف المنجّز وهو يخالف قول المشهور .

إذن : فالمشهور كيف يجمعون بين التكليف بالقصر والتكليف بالتمام وهم يقولون ببقاء التكليف المنجّز واقعا؟ ( ولذا ) أي : لأجل قولهم ببقاء التكليف الواقعي ( يُبطِلون صلاة الجاهل بحرمة الغصب ، إذ لولا النهي حين الصلاة ) نهيا واقعيا منجّزا ( لم يكن وجه للبطلان ) وان كان يمكن أن يكون وجهه : عدم وجود الشرط كما لو جهل المتوضئنجاسة الماء ، فهو ليس منهيا عنه مع ان صلاته باطلة .

( والثاني ) من الأجوبة التي دفع بها إشكال التضاد هو ما ذكره المصنِّف بقوله :

ص: 307

منعُ تعلّق الأمر بالمأتي به والتزام أنّ غير الواجب مسقط عن الواجب ، فان قيام ما اعتقد وجوبه مقام الواجب الواقعي غير ممتنع .

نعم ، قد يوجب إتيانُ غير الواجب فوات الواجب ، فيحرم بناءا على دلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضد ، كما في آخر الوقت ، حيث يستلزم فعل التمام فوات القصر .

-------------------

وأمّا بمنع تعلقه بالمأتي به يعني : ( منع تعلّق الأمر بالمأتي به ) فالتمام في السفر لا أمر به إطلاقا ، ( والتزام انّ غير الواجب مسقط عن الواجب ) فهو لا بأس به ( فان قيام ما اعتقد وجوبه مقام الواجب الواقعي غير ممتنع ) .

وإنّما نلتزم بذلك لأنه من الممكن ان يكون غير الواجب مسقطا عن الواجب كالوضوء قبل الوقت حيث انه يسقط الواجب الذي هو الوضوء بعد الوقت ، فوجوب القصر منجّز على الجاهل المقصّر وهو مؤاخذ به ، لكن الاتمام مسقط للاعادة أو القضاء مع انه لم يكن مأمورا به ، فلا يلزم حينئذ الأمر بالضدين .

( نعم ) كون التمام مسقطا للاعادة أو القضاء إنّما يصح إذا أتى به قبل تضيّق الوقت ، وامّا إذا أتى به عند تضيّق الوقت كان فعل التمام مضادا لفعل القصر المأمور به واقعا ، والمفروض : ان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، فيكون التمام حراما باطلاً لأنه عبادة منهي عنها ، والحرام الباطل لا يكون مسقطا .

وعليه : فانه ( قد يوجب إتيان غير الواجب فوات الواجب ، فيحرم ) هذا الذي هو غير واجب ، وذلك ( بناءا على دلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضد ) ومثال تفويته يكون ( كما في آخر الوقت حيث يستلزم فعل التمام فوات القصر ) وكذلك بالنسبة إلى الجهر والاخفات في آخر الوقت حيث يستلزم فعل الجهر فوت الاخفات ، وفعل الاخفات فوت الجهر .

ص: 308

ويردّ هذا الوجه : أن الظاهر من الأدلة : كونُ المأتيّ به مأمورا به في حقه ، مثل قوله عليه السلام : في الجهر والاخفات : « تمت صلاته » ، ونحو ذلك .

والموارد التي قام فيها غير الواجب مقام الواجب يمنع عدم وجوب البدل ، بل الظاهر في تلك الموارد سقوط الأمر الواقعي وثبوت الأمر بالبدل ، فتأمّل .

-------------------

( ويردّ هذا الوجه : ان الظاهر من الأدلة : كون المأتيّ به مأمورا به في حقه ) وليس المأتي به مجرد المسقط حتى يكون كالماء الاجاج الذي مثّلنا له بإسقاطه الاتيان بالماء العذب ، وأمّا الادلة : فهي ( مثل قوله عليه السلام : في الجهر والاخفات: تمت صلاته (1) ، ونحو ذلك ) فان ظاهر تمت : انه مأمور به لا انه مجرد المسقط ، وإلاّ كان الامام عليه الصلاة والسلام يقول : سقط عنه التكليف وما أشبه ذلك ، فلا يرتفع إذن إشكال الجمع بين الضدين ، لأنه مأمور بالقصر ومأمور بالتمام في وقت واحد .

هذا ( والموارد التي قام فيها غير الواجب مقام الواجب يمنع عدم وجوب البدل ، بل الظاهر في تلك الموارد : سقوط الأمر الواقعي وثبوت الأمر بالبدل ) فالكبرى الكلية عبارة عن ان وجوب البدل مسقط لوجوب المبدل ، لكن المقام ليس من هذه الكبرى ، لأن الاتمام على الوجه الثاني من أجوبة دفع إشكال التضاد ليس بواجب ومع ذلك يسقط الواجب الذي هو القصر .

( فتأمّل ) ولعله إشارة إلى ان الكبرى ليست تامة ، إذ من الممكن إسقاط غير الواجب للواجب ، كما في مثال الوضوء قبل الوقت فانه مسقط للوضوء بعد الوقت ، ومن الممكن إسقاط الحرام للواجب ، كما في مثال الاتيان بالماء الأجاج

ص: 309


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص162 ب43 ح93 ، وسائل الشيعة : ج6 ص86 ب26 ح7412 .

الثالث : ما ذكره كاشف الغطاء رحمه اللّه من أنّ التكليف بالاتمام مترتب على معصيته للشارع بترك القصر ، فقد كلّفه بالقصر والاتمام على تقدير معصيته في التكليف بالقصر .

-------------------

مكان الاتيان بالماء العذب ، فانه مسقط له لكنه معاقب عليه .

وأمّا ( الثالث ) من الأجوبة التي دفع بها إشكال التضاد وهو ما ذكره المصنِّف بقوله : وامّا بمنع التنافي بينهما فهو ( ما ذكره كاشف الغطاء رحمه اللّه ) والمحقق الكركي، وسلطان العلماء ، وغيرهم ( من انّ التكليف بالاتمام مترتب على معصيته للشارع بترك القصر ) .

ولا يخفى : ان تقرير الترتب في المقام يكون على ما قالوا عبارة عن : ان وجوب كل من القصر والتمام غير جائز إذا كان على وجه التقارن بأن يوجبهما الشارع متقارنين ، وجائز إذا كان على وجه الترتب بأن يكون التكليف بالاتمام مترتبا على معصيته بالقصر ، فانه لا يمتنع عند العقل ان يقول المولى الحكيم لعبده أوجبت عليك الحضور في المدرسة ولكن لو عصيتني فيه أوجبت عليك الحضور في المسجد ، فان الأمر الثاني لا يناقض الأمر الأوّل بل هو مترتب على مخالفة الأمر الأوّل كما قال : ( فقد كلّفه ) الشارع أولاً ( بالقصر ) حيث قال سبحانه : « وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح ان تقصروا من الصلاة » (1) ( و ) بعد عصيانه للقصر كلفه وأوجب عليه ( الاتمام ) فالأمر بالاتمام مترتب ( على تقدير معصيته في التكليف بالقصر ) وكذلك يكون الحال بالنسبة إلى الجهر والاخفات .

ص: 310


1- - سورة النساء : الآية 101 .

وسلك هذا الطريق في مسألة الضدّ في تصحيح فعل غير الأهم من الواجبين المضيّقين ، إذا ترك المكلّف الامتثالَ بالأهمّ .

ويردّه : أنّا لانعقل الترتب في المقامين ،

-------------------

( و ) عليه : فان كاشف الغطاء قد ( سلك هذا الطريق ) وهو طريق الترتب ( في مسألة الضّد ) بناءا على ان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، كما في تصحيح فعل غير المضيّق من الواجبين المضيّق أحدهما كالصلاة والازالة .

وعلى هذا : فمن جاء إلى المسجد وهو يريد الصلاة في وقت موسّع ورأى في المسجد نجاسة ، كان مخاطبا أولاً بالازالة لأن وقتها مضيّق ، ثم بالصلاة لأن وقتها موسّع فاذا ترك الازالة وصلى ، اقتضى الأمر بالازالة النهي عن الصلاة ، فتكون الصلاة باطلة ، فصححها كاشف الغطاء بطريق الترتب وذلك بأن يخاطبه الشارع بقوله : أزل النجاسة عن المسجد فان عصيت فصلّ .

وقد سلك هذا الطريق أيضا ( في تصحيح فعل غير الأهم من الواجبين المضيّقين إذا ترك المكلّف الامتثال بالأهم ) فاذا كان هناك واجبان مضيّقان أحدهما أهم كصلاة الظهرين في آخر الوقت ، والآخر مهم كصلاة الآيات ، كان مخاطبا بالظهرين أولاً ثم بالآيات .

وعليه : فاذا ترك الظهرين وأتى بالآيات ، اقتضى الأمر بالظهرين النهي عن الآيات ، فتكون الآيات باطلة ، فصححها كاشف الغطاء بطريق الترتب ، وذلك بأن يخاطبه الشارع بقوله : صلّ الظهرين ، فان عصيت فصلّ صلاة الآيات .

( ويردّه ) أي : يردّ هذا الوجه وهو الوجه الثالث من الأجوبة المذكورة لتصحيح القصر والاتمام ، والجهر والاخفات ، قولنا : ( انّا لا نعقل الترتب في المقامين ) لا في المقام الذي نحن فيه من القصر والاتمام ، أو الجهر والاخفات ،

ص: 311

وإنّما يُعقل ذلك فيما إذا حدث التكليف الثاني بعد تحقق معصيته الأوّل ، كمن عصى بترك الصلاة مع الطهارة المائية ، فكلّف لضيق الوقت بالترابية .

-------------------

ولا في مقام مسألة الضد من الواجبين المضيّقين أحدهما أهم ، أو أحدهما موسّع دون الآخر .

وإنّما لا نعقل الترتب فيهما ، لأن الأمر الثاني فيهما وان لم يصعد إلى مرتبة الأوّل إلاّ ان الأمر الأوّل ينزل إلى مرتبة الأمر الثاني ، لأن المولى يريد الأمر الأوّل مطلقا ، امّا الأمر الثاني فلا يريده إلاّ في حال عصيان الأمر الأوّل .

مثلاً : إذا كان المولى ضامئا وسقط طفل له في البئر ، فانه يقول لعبده : انقذ الطفل ، فاذا عصاه العبد في أمره هذا قال له : إذن جئني بالماء ، فانّ أمر المولى بانقاذ الطفل مطلق شامل لوقت إتيان العبد بالماء أيضا وان كان الأمر باتيان الماء لا يصعد إلى وقت إنقاذ الطفل .

هذا ، وقول المولى له : جئني بالماء إنّما هو ليخفف عنه عقابه ، وإلاّ فالمولى يعاقب العبد على ترك الانقاذ سواء أتى بالماء أم لم يأت به .

إذن : فالترتب لا يعقل في المقامين ( وإنّما يعقل ذلك ) الترتب ( فيما إذا حدث التكليف الثاني بعد تحقق معصيته ) للأمر ( الأوّل ) وذلك بأن لم يبق للأمر الأوّل مجال إطلاقا .

وذلك أمّا مثاله فهو : ( كمن عصى بترك الصلاة مع الطهارة المائية ، فكلّف لضيق الوقت بالترابية ) فان في هذه الصورة لا تكليف بالماء إطلاقا ، لسقوطه بسبب العصيان ، فالمولى يأمره حينئذ بالتراب وان كان يعاقبه على تفويته مصلحة الماء ، ومثل هذا الترتب لا يستلزم الأمر بالضدين بخلاف الترتب في المقامين

ص: 312

الثالث :

أنّ وجوب الفحص إنّما هو في إجراء الأصل في الشبهة الحكمية الناشئة من عدم النص ، أو إجمال بعض ألفاظه ، أو تعارض النصوص .

أمّا اجراء الأصل في الشبهة الموضوعية ، فان كانت الشبهة في التحريم ، فلا إشكال ولا خلاف ظاهرا في عدم وجوب الفحص .

ويدل عليه إطلاق الأخبار ، مثل

-------------------

السابقين فانه من الأمر بالضدين .

الأمر ( الثالث ) من اُمور الخاتمة المتعلقة بالجاهل العامل قبل الفحص هو : ان المصنِّف بعد ان ذكر في الأمرين السابقين حكم الجاهل المقصر في الشبهة الحكمية ، تعرّض هنا لذكر حكمه في الشبهة الموضوعية وانه هل يجب عليه الفحص في الشبهة الموضوعية التحريمية والوجوبية أم لا؟ فقال :

( انّ وجوب الفحص إنّما هو في إجراء الأصل في الشبهة الحكمية الناشئة من عدم النص ، أو إجمال بعض ألفاظه ، أو تعارض النصوص ) وذلك لما تقدّم : من انه يلزم الفحص في الشبهة الحكمية قبل العمل ، فان ظفر بحكم شرعي عمل به وإلاّ أجرى الاُصول الممكنة : من الاستصحاب ، أو البرائة ، أو غير ذلك .

( أمّا اجراء الأصل في الشبهة الموضوعية ، فان كانت الشبهة في التحريم فلا إشكال ) عند المصنِّف ( ولا خلاف ظاهرا في عدم وجوب الفحص ) فيها ، لكن كونه لا خلاف فيه ، محل تأمل ، بل أشكل بعض الفقهاء في أن يكون هناك إجماع في المسألة غير ان المصنِّف يرى عدم وجوب الفحص كما هو المشهور أيضا .

( ويدل عليه ) أي : على هذا المشهور ( إطلاق الأخبار ) والروايات ( مثل

ص: 313

قوله عليه السلام : « كلُّ شيء لك حلال حتى تعلم » ، وقوله : «حتى يستبين لك غيرُ هذا ، أو تقومَ به البيّنة » ، وقوله : « حتى يجيئك شاهدان يشهدان : أنّ فيه الميتة » ، وغير ذلك ، السالم عمّا يصلح لتقييدها .

-------------------

قوله) عليه السلام : ( « كلّ شيء لك حلال حتى تعلم » ) إنه حرام بعينه (1) ( وقوله ) عليه السلام: ( « حتى يستبين لك غير هذا ، أو تقوم به البيّنة » (2) ، وقوله ) عليه السلام : ( « حتى يجيئك شاهدان يشهدان : أنّ فيه الميتة » (3) ) ومثل قوله عليه السلام في النكاح : « لم سألت ؟ » (4) أي : عن كونها خلية أو متزوجة ( وغير ذلك ) مما هي ظاهر في عدم وجوب الفحص .

وإنّما يقول المشهور بعدم وجوب الفحص هنا لاطلاق الروايات ( السالم عمّا يصلح لتقييدها ) من الأخبار الدالة على وجوب الفحص ، فان الأدلة التي سبقت في وجوب الفحص - كما عرفت - مختصة بالشبهة الحكمية .

لكن يمكن أن يقال : ان الأدلة المذكورة لوجوب الفحص في الشبهة الحكمية تجري في الشبهة الموضوعية أيضا ، وما يجاب به عن أدلة الحل بالنسبة إلى الشبهة الحكمية يجاب به بالنسبة إلى الشبهة الموضوعية أيضا .

مثلاً : قد يجاب عنها : بأن ما خرج عن دليل الفحص يحكم بعدم إرادة الفحص فيه ، كالطهارة والنجاسة ، والحلية والحرمة في الجملة ، وإلاّ فالأصل

ص: 314


1- - الكافي : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
2- - الكافي : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
3- - الكافي فروع : ج6 ص339 ح2 ، وسائل الشيعة : ج25 ص118 ب61 ح31377 ، بحار الانوار : ج65 ص156 ح30 .
4- - الكافي فروع : ج5 ص569 ح55 ، وسائل الشيعة : ج20 ص301 ب25 ح25676 .

وإن كانت الشبهة وجوبية ، فمقتضى أدلة البرائة حتى العقل ، كبعض كلمات العلماء : عدم وجوب الفحص أيضا ،

-------------------

وجوب الفحص ، لأنه طريق العقلاء في إطاعة الموالي .

ألا ترى : ان من يعلم ان الخمر والخنزير والميتة محرمات ، يلزم عليه الفحص حتى يعرف ما هي الخمر؟ وما هو الخنزير؟ وما هي الميتة ؟ .

وكذا من يعلم ان الاُم والاُخت والمرضعة محرمات ، فانه يلزم عليه الفحص حتى يعلم ان أيّة هذه النساء اُمه؟ وأيهن اُخته؟ وأيهن مرضعته ؟ .

وهكذا بالنسبة إلى من يعلم ان الغيبة والنميمة والقذف محرمات ، إلى غير ذلك .

ولا يخفى : ان بناء الفقهاء إنّما هو على وجوب الفحص في بعض فروع النكاح وغيره مما هو في الشبهة الموضوعية التحريمية على ما ذكروه في محله .

هذا هو تمام الكلام في الشبهة التحريمية الموضوعية .

( وان كانت الشبهة ) موضوعية ( وجوبية ، فمقتضى أدلة البرائة حتى العقل ، كبعض كلمات العلماء : عدم وجوب الفحص أيضا ) أي : كما في الشبهة الموضوعية التحريمية ، وقد بيّن الأوثق وجه قوله : حتى العقل بما هو محل تأمل حيث قال :

« لعل الوجه فيه : ان عدم حكم العقل بالبرائة قبل الفحص في الشبهات الحكمية ، إنّما هو من جهة كون العمل بها قبل الفحص عن دليل الواقعة - مع إحتمال وجوده في الواقع وإمكان الوصول إليه بالفحص - نوع تجرّ على مخالفة الشارع ، نعم ، بعد الفحص والعجز عن الوصول إليه ، يحكم بعدم تنجز التكليف بالواقع لو كان ، لأجل قبح التكليف بلا بيان ، وهذا الوجه غير جار في الشبهات

ص: 315

وهو مقتضى حكم العقلاء في بعض الموارد ، مثل قول المولى لعبده : « أكرم العلماء أو المؤمنين » ، فانه لا يجب الفحص في المشكوك حاله في المثالين ، إلاّ أنّه قد يترائى : أنّ بناء العقلاء في بعض الموارد على الفحص والاحتياط ، كما إذا أمر المولى باحضار علماء البلد ، أو أطبائها ، أو اضافتهم ، أو اعطاء كل واحد منهم دينارا ، فانّه قد يدّعى أنّ بنائهم على الفحص عن اُولئك وعدم الاقتصار على المعلوم ابتداءً

-------------------

الموضوعية بناءا على ما حقق في الشبهة التحريمية الموضوعية : من عدم كون الخطابات الواقعية دليلاً على الشبهات الخارجية في نظر أهل العرف ، فوجود هذه الخطابات لايمنع من العمل بأصالة البرائة في المصاديق الخارجية المشتبهة » (1) .

( و ) كيف كان : فان عدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعية الوجوبية ( هو مقتضى حكم العقلاء في بعض الموارد ، مثل قول المولى لعبده : « اكرم العلماء أو المؤمنين » ، فانه لا يجب الفحص في المشكوك حاله في المثالين ) .

ولا يخفى ما فيه: فان المولى إذا أعطى لعبده مالاً وقال له : اعطه لكل علماء قم المقدّسة ، لزم عليه الفحص عنهم حتى إنه إذا لم يعط أحدهم كان معاقبا عند المولى .

هذا ( إلاّ انّه قد يترائى : انّ بناء العقلاء في بعض الموارد على الفحص والاحتياط ، كما إذا أمر المولى باحضار علماء البلد ، أو أطبائها ، أو اضافتهم ، أو اعطاء كل واحد منهم دينارا ، فانّه قد يدّعى انّ بنائهم على الفحص عن اُولئك وعدم الاقتصار على المعلوم ابتداءً ) من دون أن يفحص عن واحد واحد

ص: 316


1- - أوثق الوسائل : ص409 وجوب الفحص في اجراء الأصل في الشبهات الحكمية وعدمه .

مع احتمال وجود غيرهم في البلد .

قال في المعالم : في مقام الاستدلال على وجوب التبيّن في خبر مجهول الحال بآية التثبّت في خبر الفاسق : « ان وجوب التثبّت فيها متعلق بنفس الوصف ، لا بما تقدّم العلم به منه .

ومقتضى ذلك

-------------------

منهم ( مع احتمال وجود غيرهم ) أي : غير المعلوم لديه ( في البلد ) ابتداءً .

وكذلك إذا قال المولى لعبده وهو في المعركة : جهّز كل مسلم قتل في المعركة، فاشتبه المسلم بالكافر ، فان عليه الفحص عن المسلم منهم للقيام بتجهيزه ودفنه ، وليس له أن يجري البرائة قبل الفحص مقتصرا على المعلوم منهم ابتداءً .

ثم إنّ المصنِّف ذكر كلام صاحب المعالم وصاحب القوانين دليلاً على وجوب الفحص في الشبهة الموضوعية الوجوبية فقال :

( قال في المعالم في مقام الاستدلال على وجوب التبيّن في خبر مجهول الحال بآية التثبّت في خبر الفاسق ) فان الآية تقول : « إن جائكم فاسق بنبأ فتبيَّنوا » (1) فاذا علمنا ان زيدا فاسق ، وعمروا عادل ، وشككنا في خالد هل هو عادل أو فاسق ؟ وجب الفحص في خبر خالد ، لا أن نتركه بلا فحص لاحتمال فسقه ، ولا أن نعمل به بلا فحص لاحتمال عدالته .

قال : ( « ان وجوب التثبّت فيها ) أي: في الآية المباركة ( متعلق بنفس الوصف ) أي: بالفاسق الواقعي ، فالفاسق الواقعي يتثبّت في خبره ( لا بما تقدّم العلم به منه ) أي : لا بالفاسق الذي علم المكلّف بأنه كان فاسقا فقط .

( ومقتضى ذلك ) أي : مقتضى تعلّق التثبت بالفاسق الواقعي لا بمن علم انه

ص: 317


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

إرادة الفحص والبحث عن حصوله وعدمه » ، ألا ترى أنّ قول القائل : « أعط كل بالغ رشيد من هذه الجماعة - مثلاً - درهما » يقتضي إرادة السؤال والفحص عمّن جمع الوصفين، لا الاقتصار على من سبق العلم باجتماعهما فيه » ، انتهى .

وأيّد ذلك المحقق القمي قدس سره في القوانين ب« أن الواجبات المشروطة بوجود شيء

-------------------

فاسق ( إرادة الفحص والبحث عن حصوله ) أي : حصول وصف الفسق فيه ( وعدمه » ) أي : عدم حصول وصف الفسق فيه واقعا ، وذلك لأن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية لا للمعلومة ، فاذا علّق المولى الحكم على لفظ وجب أن نفحص عن مصاديق ذلك اللفظ .

( ألا ترى انّ قول القائل : « أعط كل بالغ رشيد من هذه الجماعة - مثلاً - درهما يقتضي إرادة ) هذا القائل ( السؤال والفحص عمّن جمع الوصفين ) البلوغ والرشد ، سواء علم المكلّف بهما حال الأمر ، أم لم يعلم بهما ؟ .

( لا الاقتصار على من سبق العلم باجتماعهما ) أي : باجتماع الوصفين ( فيه » (1) ، انتهى ) كلام المعالم .

( وأيّد ذلك ) أي : أيد وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية الوجوبية ( المحقق القمي قدس سره في القوانين ) مستدلاً عليه : ( بأن الواجبات المشروطة بوجود شيء ) مثل وجوب التبين للنبأ المشروط بفسق المنبيء ، ومثل وجوب الحج المشروط بالاستطاعة ، ومثل وجوب الخمس والزكاة المشروطين بالزيادة عن المؤنة والنصاب ، إلى غيرها من الأمثلة ، فانه قال :

ص: 318


1- - معالم الدين : ص201 .

إنّما يتوقف وجوبُها على وجود الشرط لا على العلم بوجوده ، فبالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط ، مثل أنّ مَن شكّ في كون ماله بمقدار استطاعة الحج ، لعدم علمه بمقدار المال ، لايمكنه أن يقول : إنّي لا أعلم أنّي مستطيع ولا يجب عليّ شيء ، بل يجب عليه محاسبةُ ماله ليعلمَ أنّه واجدٌ للاستطاعة أو فاقد لها .

-------------------

( إنّما يتوقف وجوبها ) أي : وجوب تلك الواجبات المشروطة ( على وجود الشرط ) واقعا ( لا على العلم بوجوده ) حتى يأتي المكلّف بما علم وجود الشرط فيه ، ويترك ما لم يعلم وجود الشرط فيه من الافراد المشكوكة .

إذن : ( ف ) الواجب المشروط ( بالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط ) لأن الشارع قال : حج إن استطعت ، ولم يقل حج ان علمت بالاستطاعة ، فالواجب على المكلّف حينئذ الفحص حتى يعلم هل انه مستطيع أو ليس بمستطيع ؟ وذلك كما قال :

( مثل انّ من شكّ في كون ماله بمقدار استطاعة الحج لعدم علمه بمقدار المال لا يمكنه أن يقول : انّي لا أعلم انّي مستطيع ولا يجب عليّ شيء ) فيترك الحج لشكه هذا ( بل يجب عليه محاسبة ماله ليعلم انّه واجد للاستطاعة أو فاقد لها ) .

كذلك حال من لا يعلم هل ان بدنه يتحمّل هذا السفر الطويل أم لا؟ فاللازم الفحص عن ذلك ، كما انه يجب الفحص بالنسبة إلى الصحة البدنية في باب الصوم وكذا بالنسبة إلى تخلية السرب وأمن الطريق في الحج ، وذلك فيما لم يكن له حالة سابقة ، كما في توارد الحالتين ، فاذا تواردت حالتان : من الأمن والخوف في الطريق - مثلاً - وجب الفحص إذ لا حالة سابقة حتى تستصحب ، فان مع توارد الحالتين لا إستصحاب .

ص: 319

نعم ، لو شك بعد المحاسبة في أنّ هذا المال هل يكفيه في الاستطاعة أم لا ؟ فالأصل عدم الوجوب حينئذ » .

ثم ذكر المثال المذكور في المعالم بالتقريب المتقدم عنه .

وأمّا كلمات الفقهاء فمختلفةٌ في فروع هذه المسألة ، فقد أفتى جماعة منهم ، كالشيخ والفاضلين وغيرهم ، بأنّه لو كان فضة مغشوشة بغيرها وعلم بلوغَ الخالص نصابا وشك في مقداره

-------------------

ثم قال القوانين : ( نعم ، لو شك بعد المحاسبة في انّ هذا المال هل يكفيه في الاستطاعة أم لا ؟ فالأصل عدم الوجوب حينئذ » (1) ) .

لكن لا يخفى : ان هذا أيضا محل تأمل ، فان من الزلام الفحص لتحصيل العلم بأن هذا المقدار من المال كمائة دينار - مثلاً - هل يكفي للحج أو لا يكفي ؟ فلا وجه للتفصيل بين الفحصين .

( ثم ذكر ) القوانين ( المثال المذكور في المعالم ) وهو : مثال التثبت في الآية المباركة ( بالتقريب المتقدم عنه (2) ) أي : عن المعالم .

( وأمّا كلمات الفقهاء ) بالنسبة إلى وجوب الفحص وعدمه في الشبهة الموضوعية الوجوبية ( فمختلفةٌ في فروع هذه المسألة ) في مختلف أبواب الفقه .

( فقد أفتى جماعة منهم ، كالشيخ والفاضلين وغيرهم : بأنّه لو كان فضة مغشوشة بغيرها ) أي : بغير الفضة بحيث كان الخلط زائدا على المتعارف ، إذ هناك قدر متعارف يحتاج اليه الدينار والدرهم ، امّا إذا كان زائدا على المتعارف ( وعلم بلوغ الخالص نصابا ) زكويا ( وشك في مقداره ) بأنه هل بلغ النصاب الثاني أو الثالث أم لا ؟ وجب عليه أحد أمرين كما قال :

ص: 320


1- - معالم الدين : 201 .
2- - القوانين المحكمة : ص224 .

وجب التصفية ، لتحصيل العلم بالمقدار ، أو الاحتياط باخراج ما تيقن معه البرائة .

نعم ، إستشكل في التحرير في وجوب ذلك ، وصرّح غير واحد من هؤلاء - مع عدم العلم ببلوغ الخالص النصاب - ، بأنّه لا يجب التصفية ، والفرق بين المسألتين مفقودٌ إلاّ ما ربما يتوهّم : من أنّ العلم بالتكليف ثابت مع العلم ببلوغ النصاب ،

-------------------

( وجب التصفية ) إذا لم يمكن العلم بمقدار الخالص عن طريق آخر ، ووجوب التصفية إنّما هو ( لتحصيل العلم بالمقدار ) الخالص من الفضة حتى يؤدي زكاته حسب ما بلغ من النصاب .

( أو الاحتياط باخراج ما تيقن معه البرائة ) بأن يعطي الزائد على المتيقن .

( نعم ، إستشكل في التحرير في وجوب ذلك ) أي : في وجوب أحد الأمرين : من الفحص أو الاحتياط ، واحتمل كفاية إخراج ما يتيقن وجوبه ، لا ما يتيقن معه البرائة .

هذا ( وصرّح غير واحد من هؤلاء - مع عدم العلم ببلوغ الخالص النصاب - : بأنّه لا يجب التصفية ) بل يجري البرائة عن وجوب أصل الزكاة .

( والفرق بين المسألتين ) : عدم العلم بمقدار النصاب ، وعدم العلم ببلوغه النصاب ( مفقود ) لأن كلاً منهما شبهة موضوعية وجوبية ، فامّا ان يجب الفحص فيهما معا أو لا يجب الفحص فيهما معا ، فلا فارق بين المسألتين ( إلاّ ما ربما يتوهّم : من انّ العلم بالتكليف ثابت ) إجمالاً ( مع العلم ببلوغ النصاب ) والشك في مقداره ، فيلزم الخروج عن عهدة التكليف الثابت ، فيكون من الشك في المكلّف به - مثلاً - .

ص: 321

بخلاف ما لم يعلم به .

وفيه : أنّ العلم بالنصاب لا يوجب الاحتياط مع القدر المتيقن ودوران الأمر بين الأقل والأكثر مع كون الزائد على تقدير وجوبه تكليفا مستقلاً ، ألا ترى أنّه لو علم بالدين وشك في قدره ، لم يوجب ذلك الاحتياط والفحص ،

-------------------

( بخلاف ما لم يعلم به ) أي : ببلوغه النصاب أصلاً ، فيكون من الشك في التكليف - مثلاً - فيجري فيه البرائة عن وجوب أصل الزكاة ، لكن قد عرفت ان هذا الفارق المتوهم غير فارق كما قال :

( وفيه ) أوّلاً : ( انّ العلم بالنصاب لا يوجب الاحتياط مع القدر المتيقن ) لأنّ المفروض : انه يعلم بلوغ النصاب الأوّل ولا يعلم الزائد عليه ، فاللازم أن يأتي بالقدر المتيقن ويجري البرائة عن الزائد .

( و ) فيه ثانيا : ان العلم بالنصاب لا يوجب الاحتياط مع ( دوران الأمر بين الأقل والأكثر ) ( مع كون الزائد على تقدير وجوبه ) أي : تقدير وجوب ذلك الزائد ( تكليفا مستقلاً ) غير ارتباطي .

إذن : فالعلم بالنصاب فيما نحن فيه يكون من قبيل الدَّين المردّد بين الدينار والدينارين ، لا من قبيل الصلاة المرددة بين تسعة أجزاء أو عشرة أجزاء ، فانه حتى ولو قلنا بالاحتياط في الأقل والأكثر الارتباطيين ، لا نقول بالاحتياط في الأقل والأكثر الاستقلاليين ، وما نحن فيه من قبيل الاستقلاليين ، فاذا شك في الزائد كان اللازم عليه إعطاء الأقل وإجراء البرائة عن الأكثر .

( ألا ترى انّه لو علم بالدين وشك في قدره ، لم يوجب ذلك الاحتياط والفحص ) بل يجري البرائة من الزائد .

لكنّا ذكرنا سابقا : إنّ الاحتياط واجب في هذا المورد أيضا ، لأن الاحتياط

ص: 322

يمنع من إجراء البرائة قبل الفحص لمنع منها بعده ، إذ العلم الاجمالي لايجوز معه الرجوع إلى البرائة ولو بعد الفحص .

-------------------

طريق العقلاء في الاطاعة فاذا شك في انه مديون لزيد دينار أو دينارين وهو يتمكن من المراجعة والفحص فهل يقال بالبرائة عن الدينار المشكوك فيه؟ وكذا إذا شك في ان ثلث والده مائة دينار ، أو مائتا دينار ، فهل يقال بالبرائة من المائة المشكوك فيها؟ إلى غيرها من الأمثلة .

وفيه ثالثا : ان العلم بالنصاب هنا لا يلزم منه علم إجمالي معتبر حتى يوجب الاحتياط قبل الفحص الاجمالي غير المعتبر ( يمنع من إجراء البرائة قبل الفحص لمنع منها ) أي : من البرائة ( بعده ) أي : بعد الفحص أيضا ( إذ العلم الاجمالي ) المعتبر ( لا يجوز معه الرجوع إلى البرائة ولو بعد الفحص ) .

والحاصل : إنه إذا كان هناك أقل وأكثر ، وكان الأقل متيقنا والزائد مشكوكا ، كان الزائد موردا للبرائة ، لأنه من الشك في التكليف .

وامّا إذا لم يكن هناك قدر متيقن بأن كان الواجب مشتبها بينهما ، كان المورد من الشك في المكلّف به ، فلا يرجع فيه إلى البرائة حتى بعد الفحص ، إذ حال قبل الفحص وبعده سواء، لأن الفحص ليس له موضوعية، وإنّما الموضوعية تكون للشك في التكليف أو المكلّف به، فانه مع العلم بنجاسة أحد الانائين - مثلاً - الذي هو شك في المكلّف به ، لا يجوز الرجوع إلى البرائة حتى بعد الفحص إذا كان الشك في النجس باقيا على حاله ، بينما الشك في حرمة التتن الذي هو شك في التكليف يرجع فيه بعد الفحص إلى البرائة وان كان الشك فيه باقيا .

إذن : فالحكم بعدم جواز إجراء الأصل قبل الفحص ، وجوازه بعده ، ليس على وتيرة واحدة في مورد العلم الاجمالي .

ص: 323

وقال في التحرير في باب نصاب الغلات : « ولو شك في البلوغ ، ولامكيال هنا ولاميزان، ولم يوجد سقط الوجوب دون الاستحباب »، انتهى .

وظاهره : جريان الأصل مع تعذر الفحص وتحصيل العلم .

وبالجملة فما ذكروه من إيجاب تحصيل العلم بالواقع مع التمكّن في

-------------------

هذا ، لكن لا يخفى ان مرادهم من الفحص الذي لا يجوز العمل قبله هو : الفحص الذي يرتفع به الشك في المكلّف به ويتبدل إلى الشك في التكليف بالنسبة إلى الزائد ، امّا إذا بقي الشك على حاله فاللازم الاحتياط كما هو طريق الطاعة .

( وقال في التحرير في باب نصاب الغلات : ولو شك في البلوغ ) أي : بلوغ غلّته بقدر يجب فيه الزكاة أم لا ( ولا مكيال هنا ، ولا ميزان ، ولم يوجد ) بعدها ميزان ولا مكيال حتى يكتشف بهما بلوغ غلته النصاب ، وعدم بلوغها ( سقط الوجوب دون الاستحباب » (1) ، انتهى ) كلام التحرير .

( وظاهره : جريان الأصل ) في الشبهة الموضوعية الوجوبية ( مع تعذر الفحص و ) تعذر ( تحصيل العلم ) .

لكن يمكن أن يقال في هذا الفرع : بالتنصيف بين مالك الغلة ومستحق الزكاة ، وذلك لقاعدة العدل ان قلنا بأنها طريق إمتثال التكليف والطاعة في الاُمور المالية ، وذلك للفرق بين أن يشك الانسان في انه هل عليه قضاء أم لا؟ أو ان القضاء الذي عليه خمسة أو عشرة؟ حيث يجري البرائة عن أصل القضاء في الأوّل وعن الزائد في الثاني ، وبين ان يشك الانسان في حقوق الناس كما نحن فيه .

( وبالجملة : فما ذكروه من إيجاب تحصيل العلم بالواقع مع التمكّن في

ص: 324


1- - تحرير الأحكام : ص62 .

بعض افراد الاشتباه في الموضوع مشكلٌ .

وأشكل منه : فرقُهم بين الموارد، مع ما تقرّر عندهم: من أصالة نفي الزائد عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر .

وأمّا ما ذكره صاحب المعالم رحمه اللّه وتبعه عليه المحقق القمي رحمه اللّه : من تقريب الاستدلال بآية التثبّت على ردّ خبر مجهول الحال من جهة تعلق الأمر بالموضوع الواقعي المقتضي وجوب الفحص عن مصاديقه ، وعدم الاقتصار على القدر المعلوم ، فلا يخفى ما فيه ،

-------------------

بعض افراد الاشتباه في الموضوع مشكل ) كما في مثل الشك في الاستطاعة ، والشك في الزائد على النصاب الأوّل - مثلاً - ووجه الاشكال هو ما تقدّم : من جريان البرائة في الشبهة الموضوعية الوجوبية لاطلاق أدلتها .

( وأشكل منه : فرقهم بين الموارد ) على ما عرفت : من انهم فرّقوا بين الشك في أصل النصاب ، فلم يوجبوا الفحص فيه ، والشك في النصاب الزائد ، فأوجبوا الفحص فيه ، مع انه لا فارق بين المسألتين ، لأن كلتيهما من الشبهة الموضوعية الوجوبية فتفريقهم بينها مشكل ( مع ما تقرّر عندهم : من أصالة نفي الزائد عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر ) خصوصا في غير الارتباطيين .

( وأمّا ما ذكره صاحب المعالم وتبعه عليه المحقق القمي رحمه اللّه : من تقريب الاستدلال بآية التثبّت على ردّ خبر مجهول الحال من جهة تعلق الأمر بالموضوع ) الذي هو الفاسق ( الواقعي ) ذلك التعلق ( المقتضي وجوب الفحص عن مصاديقه وعدم الاقتصار على القدر المعلوم ) منه ابتداءً ، وذلك على ما عرفت تفصيله فيما سبق (1) ( فلا يخفى ما فيه ) .

ص: 325


1- - انظر معالم الدين : ص201 .

لأن ردّ خبر مجهول الحال ليس مبنيّا على وجوب الفحص عند الشك ، وإلاّ لجاز الأخذ به ، ولم يجب التبيّن فيه بعد الفحص واليأس عن العلم بحاله ، كما لا يجب الاعطاء في المثال المذكور بعد الفحص عن حال المشكوك وعدم العلم باجتماع الوصفين فيه ،

-------------------

وإنّما قال : لا يخفى ما فيه ( لأن ردّ خبر مجهول الحال ) وان كان قطعيا ، لكنه ( ليس مبنيّا على وجوب الفحص عند الشك ) في الموضوع من فسق الخبر وعدمه بل ردّه مبني على اشتراط قبول الخبر بعدالة المخبر .

( وإلاّ ) بأن كان الرد مبنيا على وجوب الفحص عند الشك في الموضوع ( لجاز الأخذ به ، ولم يجب التبيّن فيه بعد الفحص واليأس عن العلم بحاله ) أي : بحال المخبر ، وانه فاسق أم لا ؟ .

( كما لا يجب الاعطاء ) للزكاة ( في المثال المذكور ) من نصاب الغلاّت ( بعد الفحص عن حال المشكوك ) وهو : مقدار الغلّة ( وعدم العلم ) بحاله فان التكليف بالزكاة ينتفي ( باجتماع الوصفين ) : الفحص واليأس عند الشك ( فيه ) أي : في بلوغ الغلّة مقدار النصاب أم لا؟ وحينئذ كما لا يجب الزكاة بعد الفحص هنا كذلك لا يجب التبين في الخبر بعد الفحص هناك .

والحاصل : ان صاحب المعالم يقول : ان الفحص لازم لأن في الآية تعليق ، والمصنِّف يقول : ان الفحص لازم ، لأن الأصل عدم الحجية ، فيكون لازم قول المعالم : انه يجوز الأخذ بالخبر وان لم يظهر : بعد الفحص انه عادل بل بقي مجهولاً ، بينما لازم قول الشيخ المصنّف : انه لا يجوز الأخذ به إذا لم يظهر بعد الفحص انه عادل ، لأن الأصل عدم الحجية ، فما لم تثبت الحجية لا يجوز الأخذ به .

ص: 326

بل وجهُ ردّه قبل الفحص وبعده أنّ وجوب التبيّن شرطي ، ومرجعه إلى اشتراط قبول الخبر في نفسه من دون اشتراط التبيّن فيه بعدالة المخبر .

فاذا شك في عدالته شك في قبول خبره في نفسه ، والمرجع في هذا الشك والمتعيّن فيه عدم القبول ، لأن عدم العلم بحجية شيء كاف في عدم حجيته .

-------------------

وعليه : فان وجه الرد لخبر مجهول الحال ليس هو وجوب الفحص عند الشك في الموضوع حتى يلزم قبوله بعد الفحص واليأس عن معرفة حاله ( بل وجه ردّه قبل الفحص وبعده ) أي : سواء لم نفحص عن حال المخبر المجهول الحال أم فحصنا عن حاله ولم نعرف انه فاسق أو عادل فانه يجب ردّ خبره .

وأما وجه ردّه فهو : ( أنّ وجوب التبيّن ) في خبر الفاسق ليس وجوبا نفسيا كوجوب الزكاة حتى ينتفي بعد الفحص واليأس عنه ، بل للتبين وجوب ( شرطي ، ومرجعه ) أي : مرجع الوجوب الشرطي ( إلى اشتراط قبول الخبر في نفسه ) أي : ( من دون اشتراط التبيّن فيه ) فان قبوله مشروط ( بعدالة المخبر ) فقط .

وعليه : ( فاذا شك في عدالته ) كان معناه : انه ( شك في قبول خبره في نفسه ) ومن دون اشتراطه بالتبين ( والمرجع في هذا الشك والمتعيّن فيه ) عند العمل هو : ( عدم القبول ) وردّ الخبر سواء فحص عن حال المخبر ولم يصل إلى انه عادل أو فاسق ، أو لم يفحص عنه؟ ( لأن عدم العلم بحجية شيء كاف في عدم حجيته ) .

إذن : فالتبيّن في خبر مجهول الحال وردّه بعد الفحص لو حصل له اليأس عن معرفة حاله قطعي ، إلاّ ان وجهه ليس ما ذكره المعالم ، بل هو ما ذكره المصنِّف بقوله : «بل وجه ردّه ان وجوب التبين شرطي .. » .

ص: 327

ثمّ الذي يمكن أن يقال في وجوب الفحص ، أنّه إذا كان العلم بالموضوع المنوط به التكليف يتوقف كثيرا على الفحص ، بحيث لو أهمل الفحص لزم الوقوع في مخالفة التكليف كثيرا ، تعيّن هنا بحكم العقلاء : اعتبار الفحص ثم العمل بالبرائة ،

-------------------

( ثم ) ان المصنِّف لما نقل عن المشهور عدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعية الوجوبية ، ونقل عن المعالم وغيره ما يظهر منهم وجوب الفحص ، فصّل هو في المسألة بين ما يقع المكلّف بسببه في مخالفة التكليف كثيرا فألزم فيه الفحص ، وبين ما ليس كذلك فلم يلزم الفحص فيه فقال :

إن ( الذي يمكن ان يقال في وجوب الفحص ) في الشبهات الموضوعية الوجوبية هو : ( انّه إذا كان العلم بالموضوع المنوط به التكليف يتوقف كثيرا على الفحص ، بحيث لو أهمل الفحص ) وأخذ بالبرائة ( لزم الوقوع في مخالفة التكليف كثيرا ) فحيث انا نعلم بأن الشارع لا يرضى لنا ذلك ( تعيّن هنا بحكم العقلاء : اعتبار الفحص ) أولاً ( ثم العمل بالبرائة ) إذا لم يؤدّ الفحص إلى العلم به .

مثلاً : عدم الفحص عن أصل النصاب أو مقداره ، وعن الزيادة في المؤنة في باب الخمس وعدمها ، وعن الاستطاعة المالية والبدنية وتخلية السرب في الحج وعدمها ، وغير ذلك توقع كثيرا في مخالفة التكليف .

وكذا عدم الفحص عند الزواج فيما إذا تداول الرضاع بين قبيلة ، فانه يوقع كثيرا من أهل تلك القبيلة في الزواج المحرّم فيجب فيها الفحص ، وهذه الأمثلة للفحص نوعا .

وقد يكون الفحص من جهة الشخص ، كما إذا كان هناك شخص قد تمتع بجملة من نساء القرية بحيث أصبح في كل ثلاث منهنّ متعة - فرضا - فان

ص: 328

كبعض الأمثلة المتقدمة .

فانّ إضافة جميع علماء البلد أو أطبّائهم ، لا يمكن للشخص الجاهل إلاّ بالفحص ، فاذا حصل العلم ببعض واقتصر على ذلك ، نافيا لوجوب إضافة من عداه بأصالة البرائة من غير تفحص زائد على ما حصّل به المعلومين ، عُدّ مستحقا للعقاب والملامة عند إنكشاف ترك إضافة من يتمكن من تحصيل العلم به بفحص زائد .

ومن هنا يمكن أن يقال في مثال الحج المتقدم : إنّ العلم بالاستطاعة في أوّل أزمنة حصولها يتوقف غالبا على المحاسبة ،

-------------------

ابن ذلك الشخص إذا أراد أن يتزوج من تلك القرية لزم عليه الفحص حتى لا تكون التي يريد زواجها زوجة أبيه ، و ( كبعض الأمثلة المتقدمة ) .

وعليه : ( فانّ إضافة جميع علماء البلد أو أطبّائهم ، لا يمكن للشخص ) المأمور بضيافتهم ( الجاهل ) لهم ( إلاّ بالفحص ، فاذا حصل العلم ببعض واقتصر على ذلك ، نافيا لوجوب إضافة من عداه بأصالة البرائة من غير تفحص زائد على ما حصّل به المعلومين ، عدّ ) هذا الشخض ( مستحقا للعقاب والملامة عند إنكشاف ترك إضافة من يتمكن من تحصيل العلم به ) تمكنا ( بفحص زائد ) .

وإنّما يعدّ مستحقا للعقاب على ذلك لأنه لو فحص لظفر على علماء أو أطباء أكثر مما كان يعلمهم قبل الفحص .

( ومن هنا يمكن أن يقال في مثال الحج المتقدم : إنّ العلم بالاستطاعة في أوّل أزمنة حصولها يتوقف غالبا على المحاسبة ) وكذا بالنسبة إلى مثل الخمس والزكاة أصلاً ومقدارا .

ص: 329

فلو بنى الأمر على تركها ونفى وجوب الحج بأصالة البرائة ، لزم تأخير الحج عن أول سنة الاستطاعة بالنسبة إلى كثير من الأشخاص ، لكنّ الشأن في صدق هذه الدعوى .

-------------------

وعليه : ( فلو بنى الأمر على تركها ) أي : ترك المحاسبة ( ونفى وجوب الحج ) عنه ، أو نفى الخمس والزكاة - مثلاً - ( بأصالة البرائة ، لزم تأخير الحج عن أول سنة الاستطاعة بالنسبة إلى كثير من الأشخاص ) ولزم ترك الخمس والزكاة رأسا ، وذلك فيمن لا يعلم هل ربح شيئا أم لا في الخمس؟ أو هل بلغت غلّته مقدار النصاب أم لا في الزكاة؟ ولزم ترك مقدار من الخمس والزكاة فيمن علم الأقل وشك في الأكثر وذلك بالنسبة إلى كثير من الناس .

( لكنّ الشأن ) والكلام إنّما هو ( في صدق هذه الدعوى ) أي : دعوى لزوم تأخير الحج ، وترك الخمس والزكاة وغير ذلك من الواجبات المتوقفة على المحاسبة بالنسبة إلى كثير من الناس ، فان لم تكن الدعوى صادقة ، فهل يعدّ اجراء البرائة في مثلها مخالفة للمولى وخلاف طريقه العقلاء؟ وان كانت الدعوى صادقة، فلماذا اشتهر بينهم عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية الوجوبية ؟ .

هذا إضافة إلى انه ينتفض بمثل « كل شيء حلال » (1) و « كل شيء طاهر » (2) و « الأشياء كلها على ذلك حتى تستبين أو تقوم به البينة » (3) و « لم سألت ؟ » (4)

ص: 330


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
2- - مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج7 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
4- - الكافي فروع : ج5 ص569 ح55 ، وسائل الشيعة : ج20 ص301 ب25 ح25676 .

وأمّا ما استند إليه المحقق المتقدم : من أنّ الواجبات المشروطة يتوقف وجوبها على وجود الشرط لا العلم بوجوده ، ففيه : أنّه مسلّم ولا يجدي ، لأنّ الشك في وجود الشرط يوجب الشك في وجود المشروط وثبوت التكليف ، والأصل عدمه .

غاية الأمر : الفرق بين اشتراط التكليف بوجود الشيء واشتراطه بالعلم به ، إذ مع عدم العلم في الصورة الثانية يقطع بانتفاء التكليف

-------------------

في النكاح حيث يقع في قلبه انها ذات زوج وغير ذلك ، مع وضوح : انه إذا حكم بالحل والطهارة أدّى إلى مخالفة الواقع كثيرا .

( وأمّا ما استند إليه المحقق المتقدم ) أي : القمي قدس سره ( : من انّ الواجبات المشروطة يتوقف وجوبها على وجود الشرط ) واقعا ، فيلزم الفحص حتى يتبين ان الشرط موجود واقعا أم لا ( لا العلم بوجوده ) فقط ، فانه لا يكفي العلم بوجود الشرط من دون تحققه واقعا .

( ففيه : انّه مسلّم ) لأن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية لا المعاني المعلومة للانسان ( و ) لكن هذا المقدار ( لا يجدي ) في إيجاب الفحص عند الشك في الشبهة الوجوبية الموضوعية ( لأنّ الشك في وجود الشرط ) وعدمه واقعا ، لا يوجب الفحص ، بل ( يوجب الشك في وجود المشروط و ) في ( ثبوت التكليف ) فانّ الشك في الشرط شك في المشروط . ( والأصل عدمه ) أي : عدم المشروط وعدم التكليف .

( غاية الأمر : الفرق بين اشتراط التكليف بوجود الشيء ) واقعا ( واشتراطه بالعلم به ) أي : العلم بوجود الشيء فقط ، فان بينهما فرقا ( إذ مع عدم العلم في الصورة الثانية ) أي : صورة اشتراط الشيء بالعلم به ( يقطع بانتفاء التكليف )

ص: 331

من دون حاجة إلى الأصل ، وفي الصورة الاُولى يشك فيه ، فينفى بالأصل .

-------------------

لأن العلم لما لم يكن موجودا لم يكن المشروط موجودا ( من دون حاجة إلى الأصل ) بأن يجري أصل البرائة حتى ينفي بسببه التكليف .

( وفي الصورة الاُولى ) وهي : اشتراط التكليف بوجود الشيء واقعا ، فانه ( يشك فيه ) أي : في التكليف فيحتاج في إحراز عدمه اإلى إجراء أصل البرائة ( فينفى بالأصل ) .

مثلاً : إذا قال المولى : يجب عليك الحج ان علمت الاستطاعة ، بأن كان الشرط : العلم ، فاذا لم يعلم بها قطع بعدم الحج عليه ، لأنه لم يقطع بعدم حصول الشرط ، فيحتاج لاحراز عدم الحج عليه إلى إجراء البرائة حتى يقطع بعدم وجوب الحج عليه .

إذن : فهناك بين الصورتين فرق ، ففي الاُولى يعلم بعدم الشرط فيقطع بعدم المشروطة ، وفي الثانية : يشك في عدم الشرط ، وعند الشك يحتاج إلى أصل البرائة .

وممّا ذكرنا : يظهر وجوب الفحص عن البلوغ وعدمه ، وعن الاحتلام في النوم وعدمه ، وعن خروج الدم من بدنه إذا كان فيه قرح أو جرح ، ما أشبه ذلك ، وعن التصاق شيء بموضع وضوئه أو غسله من قير ونحوه إذا كان عمله - مثلاً - يقتضي ذلك ، وعن حصول الحيض والاستحاضة وعدمه ، وعن الحمل وعدمه ، إلى غيرها مما يكون إحتمال الاُمور المذكورة فيها قريبا .

هذا تمام الكلام في أصل وجوب الفحص عن الدليل في الشبهة الحكمية بعد بيان حكم الفحص في الشبهة الموضوعية أيضا .

ص: 332

وأمّا الكلام في مقدار الفحص

فملخصه : أنّ حدّ الفحص هو اليأس عن وجدان الدليل فيما بأيدينا من الأدلة ، ويختلف ذلك باختلاف الأعصار ، فانّ في زماننا هذا إذا ظنّ المجتهد بعدم

-------------------

( وأمّا الكلام في مقدار الفحص ) وانه هل يجب إلى ان يقطع بأنه لا دليل ، أو يظن بذلك أو يطمئن بعدمه؟ احتمالات ثلاثة .

الظاهر هو : الثالث كما قال : ( فملخصه : أنّ حدّ الفحص هو اليأس عن وجدان الدليل فيما بأيدينا من الأدلة ) واليأس يحصل بالاطمينان بالعدم .

هذا ( ويختلف ذلك ) اليأس ( باختلاف الأعصار ، فانّ في ) زمان النبي صلى اللّه عليه و آله كان مقدار الفحص عن الحكم بالنسبة إلى من كان عند الرسول حضور مجلسه والسؤال عنه ، وبالنسبة إلى من كان في البلاد البعيدة عن الرسول كالبحرين واليمن وما أشبه الرجوع إلى نائبه .

وكذا في إعصار الأئمة عليه السلام ، فان على معاصريهم الرجوع اليهم والسؤال عنهم ، أو السؤال عن الوسائط المعتبرة الذين أمروا عليهم السلام بالرجوع إليهم حيث قالوا : « لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا » (1) أو الرجوع إلى الكتب المعتمدة كالاُصول الأربعمائة التي كتبت في زمانهم عليهم السلام .

إذن : فحال اُولئك حال العوام في زماننا حيث انهم مأمورون بالسؤال عن الفقيه ، أو من يعرف فتواه وهو ثقة ، أو الرجوع إلى رسالته العملية .

وأمّا في ( زماننا هذا ) بالنسبة لمن يريد الاجتهاد ، فانه ( إذا ظنّ المجتهد بعدم

ص: 333


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج27 ص150 ب11 ح33455 ، رجال الكشي : ص536 ، بحار الانوار : ج5 ص318 ب4 ح15 .

وجود دليل التكليف في الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المعتبرة في الحديث التي يسهل تناولها على نوع أهل العصر ، على وجه صار ميؤوسا ، كفى ذلك منه في اجراء البرائة .

-------------------

وجود دليل التكليف في الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المعتبرة في الحديث ) كعيون أخبار الرضا ، وكمال الدين ، وأمالي الصدوق ، وغيرها من الكتب ( التي يسهل تناولها على نوع أهل العصر ) فان المجتهد إذا راجعها وظن ظنا اطمينانيا بعدم الدليل ( على وجه صار ميؤوسا ) من الدليل ( كفى ذلك منه في اجراء البرائة ) لكن مع إضافة كتب الفتوى في كل زمان اليها .

وإنّما قلنا مع إضافة كتب الفتوى حتى يعلم ان الخبر - مثلاً - مشهور ، أو معرض عنه ، أو مجمع عليه ، أو مجمع على خلافه ، وغير ذلك مما هو موجود في أمثال كتب الشيخ وابن إدريس والفاضلين والشهيدين ومن إليهم ، وفي زماننا أمثال الجواهر والحدائق والمستند وما إلى ذلك أيضا ، ويضاف عليه معرفة الرجال بقدر الحاجة ، فان اللازم هو الفحص بقدر ما يراه العقلاء لازما ، والعقلاء لا يرون اللزوم بأكثر من هذا .

لا يقال : لا شك في ان الأحكام ما كانت بالقدر الكافي في زمانهم عليهم السلام ، كما لاتحصل بالقدر الكافي بالنسبة إلى كثير من الناس حتى في زماننا هذا ، خصوصا بالنسبة إلى أهل القرى والأرياف .

لأنّه يقال : ان اللّه سبحانه جعل الأحكام حسب المصالح والمفاسد ، ولذا كان لكل شيء حكم ، امّا من لا يقدر على تحصيله بالطرق المتعارفة فهو معذور ، كما انه ليس على المجتهد أكثر من الاطمينان .

ومنه يظهر جواب انه لماذا كان الاجتهاد سهلاً بالنسبة إلى زمان الشيخ

ص: 334

وأمّا عدم وجوب الزائد ، فللزوم الحرج وتعطيل استعلام سائر التكاليف ، لأن إنتهاء الفحص في واقعة إلى حدّ يحصل العلم بعدم وجود دليل التكليف يوجب الحرمان من الاطلاع على دليل التكليف في غيرها من الوقايع ،

-------------------

وما بعده، صعبا بالنسبة إلى زماننا؟ فان جوابه : ان الاطمينان كان يحصل بالشيء القليل في ذلك الزمان ، ولا يحصل بمثله في هذا الزمان حيث توسع فيه الفقه والاُصول والرجال وما أشبه ، فيكون مثله مثل شخصين : أحدهما في البلد والآخر في القرية حيث يحصل الاطمينان لمن في القرية بطبيب القرية ، بينما لا يحصل الاطمينان لمن في البلد بطيب القرية .

والحاصل : ان حكم اللّه لم يتغير بالنسبة إلى الناس ، وإنّما الذي يتغير هو الامكانات ، سواء بالنسبة إلى المجتهد أم المقلد ، وهذا جار في كل شيء حتى في العاديات ، فان ضيافة الشخص الكريم في الصحراء لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه ضيافة نفس ذلك الشخص في البلد .

( وامّا عدم وجوب الزائد ) ما ذكرناه من مقدار الفحص وهو : كفاية حصول الاطمينان وعدم وجوب تحصيل العلم بعدم الدليل ( فللزوم الحرج ) من ذل أولاً وهو واضح ( وتعطيل استعلام سائر التكاليف ) ثانيا .

وإنّما يستلزم الفحص الزائد تعطيل معرفة بقية الأحكام ( لأن إنتهاء الفحص في واقعة إلى حدّ يحصل العلم بعدم وجود دليل التكليف ) أي : بأن لا نكتفي بالمقدار الذي يحصل منه الاطمينان بعدم الدليل في تلك الواقعة بل نوجب تحصيل العلم في كل واقعة ، فانه ( يوجب الحرمان من الاطلاع على دليل التكليف في غيرها من الوقايع ) .

ص: 335

فيجب فيها إمّا الاحتياط ، وهو يؤدي إلى العسر ، وإمّا لزوم التقليد لمن بذل فيها جهده على وجه علم بعدم دليل التكليف فيه .

وجواز ممنوع ، لأنّ هذا المجتهد المتفحّص ربما يخطّيء ذلك المجتهد في كثير من مقدمات استنباطه للمسألة .

نعم ، لو كان جميع مقدماته مما يرتضيها هذا المجتهد وكان

-------------------

وعليه : فيلزم من ذلك ان يتجزأ المجتهد في اجتهاده ، وذلك بأن يجتهد في واقعة واحدة كالطهارة - مثلاً - فقط ، أو الصلاة فقط ، وهكذا ، وأما في سائر الوقايع التي حرم من الاطلاع على أدلتها ( فيجب فيها ) أي : في تلك الوقايع عليه أحد أمرين :

( امّا الاحتياط ، وهو يؤدي إلى العسر ) والحرج وهو خلاف سيرة المتشرعة ، بل خلاف سيرة جميع أهل الأديان .

( وامّا لزوم التقليد لمن بذل فيها جهده على وجه علم بعدم دليل التكليف فيه ) فيلزم على المجتهد العظيم مثل الشيخ المرتضى الذي اجتهد في المكاسب فقط - مثلاً - ان يقلد مجتهدا من الدرجة الثانية في غيرها ( وجواز ممنوع ) .

وإنّما قال بمنع جوازه ( لأن هذا المجتهد المتفحّص ) في واقعة واحدة عن دقة واستقصاء ، كالشيخ في المثال ( ربما يخطّى ء ذلك المجتهد ) الذي يريد تقليده ( في كثير من مقدمات استنباطه للمسألة ) فان من المعلوم : ان الشيخ المرتضى أعلم في الاُصول وسائر أدلة الاستنباط من المجتهد الذي هو من الدرجة الثانية ، فكيف يطمئن الشيخ بتقليد ذلك المجتهد؟ أم كيف يؤمر شرعا بأن يقلّد الشيخ مثل هذا المجتهد ؟ .

( نعم ، لو كان جميع مقدماته مما يرتضيها هذا المجتهد ) فرضا ( وكان

ص: 336

التفاوت بينهما أنّه اطلّع على ما لم يطّلع هذا ، أمكن أن يكون قوله : حجة في حقّه .

لكن اللازم أن يتفحص حينئذ في جميع المسائل ، إلى حيث يحصل الظن بعدم وجود دليل التكليف ، ثم الرجوع إلى هذا المجتهد ، فان كان مذهبه مطابقا للبرائة ،

-------------------

التفاوت بينهما انّه اطلّع على ما لم يطّلع هذا ) أي : الشيخ مثلاً عليه ( أمكن ان يكون قوله : حجة في حقّه ) .

لكنه أيضا محل تأمل ، لأن حجية قول مجتهد لمجتهد آخر ، وخبير لخبير آخر، هو خلاف بناء العقلاء بالنسبة إلى المجتهدين والخبراء سواء في مسائل الدين كأحكام الصلاة والصيام ، والخمس والزكاة ، والحج والجهاد ، وغيرها ، أم مسائل الدنيا كمسائل الحساب والهندسة ، والتاريخ والجغرافيا ، والاقتصاد والسياسة ، وغيرها ، ولعله من أجل هذا قال الشيخ أمكن ولم يقل لزم ؟ .

( لكن اللازم ان يتفحص ) هذا المجتهد الذي يريد الرجوع إلى مجتهد آخر ( حينئذ في جميع المسائل ، إلى حيث يحصل الظن بعدم وجود دليل التكليف ، ثم ) انه إذا فحص بهذا المقدار كان له بعدها ( الرجوع إلى هذا المجتهد ) الذي فرضنا انه من الدرجة الثانية .

وإنّما يلزم عليه الفحص أولاً ثم الرجوع إلى مجتهد آخر على فرض جوازه لأن الرجوع إلى مجتهد آخر إنّما هو للاضطرار ، والمتيقن منه هو صورة الفحص بنفسه إلى حد اليأس .

ثم إنّ هذا المجتهد الذي فحص حتى ظن بعدم الدليل في تلك الوقايع ورجع فيها إلى مجتهد آخر ( فان كان مذهبه ) أي المجتهد الثاني ( مطابقا للبرائة ،

ص: 337

كان مؤيّدا لما ظنه من عدم الدليل ، وإن كان مذهبه مخالفا للبرائة ، كان شاهد عدل على وجود دليل التكليف ، فان لم يحتمل في حقه الاعتماد على الاستنباطات الحدسيّة أو العقلية من الأخبار ، اُخِذَ بقوله في وجود دليل وجعل فتواه كروايته .

ومن هذا القبيل ما حكاه غيرُ واحد ، من أنّ القدماء كانوا يعملون برسالة الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه عند اعواز النصوص .

-------------------

كان مؤيّدا لما ظنه ) المجتهد الأوّل ( من عدم الدليل ) على تلك الوقايع ( وان كان مذهبه مخالفا للبرائة ، كان ) المجتهد الثاني ( شاهد عدل على وجود دليل التكليف ) فيها .

وعليه : ( فان لم يحتمل ) المجتهد الأوّل ( في حقه ) أي : في حق المجتهد الثاني ( الاعتماد على الاستنباطات الحدسيّة أو العقلية من الأخبار ) وإنّما اعتمد على الأخبار بنصوصها مثل الشيخ في نهايته ، والمفيد في مقنعته ، والصدوق في مقنعه ، ومن أشبههم من الذين كانوا يفتون حسب نصوص الروايات ( أخذ بقوله في وجود دليل ، وجعل فتواه كروايته ) .

وحينئذ : لا يكون رجوع الشيخ المرتضى - مثلاً - إلى نهاية الشيخ الطوسي من قبيل رجوع العامي إلى رسالة المجتهد ، إذ النهاية نصوص ، بخلاف رسالة المجتهد ، فانها خليط من النص والاجتهاد .

( ومن هذا القبيل ) أي : من قبيل رجوع المجتهد إلى كتب القدماء التي هي نصوص منقولة بالمعنى ومحذوف منها الاسناد ( ما حكاه غير واحد ، من أنّ القدماء كانوا يعملون برسالة الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه عند اعواز النصوص ) وهكذا كان حال رجوعهم إلى المقنع ، والمقنعة ،

ص: 338

والتقييد باعواز النصوص مبني على ترجيح النصّ المنقول بلفظه على الفتوى التي يحتمل الخطأ في النقل بالمعنى ، وإن احتمل في حقّه ابتناء فتواه على الحدس والعقل ، لم يكن دليل على اعتباره في حقّه وتعيّن العملُ بالبرائة .

-------------------

وما أشبه ذلك .

( والتقييد باعواز النصوص مبني على ترجيح النصّ المنقول بلفظه على الفتوى التي يحتمل الخطأ في النقل بالمعنى ) فان مع وجود الروايات المنصوصة المنقولة باللفظ ، لا يرجع إلى الروايات الفتوائية المنقولة بالمعنى .

وإنّما لا يرجع إلى هذه مع وجود تلك ، لأن في الروايات الفتوائية قد تدخل الاجتهاد أيضا حيث صار التقطيع فأوجب اختفاء القرائن كثيرا ، وحذف رجال الاسناد وغير ذلك ، ولهذا يقدّم الرجوع إلى نصوص الروايات الموجودة في كتب الأحاديث على الرجوع إلى هذه الكتب التفوائية .

هذا كله فيما لو لم يحتمل المجتهد الأوّل اعتماد المجتهد الثاني على الحدس والعقل ( وان احتمل في حقّه ابتناء فتواه على الحدس والعقل ) فحينئذ ( لم يكن دليل على اعتباره في حقّه ) أي : في حق هذا المجتهد كالشيخ المرتضى الذي يريد الرجوع إلى شيخ الطائفة في فتواه - مثلاً - ( وتعيّن العمل بالبرائة ) في حقه .

وإنّما لا يجوز له الرجوع إليه ، لأن ذلك من رجوع العالم إلى العالم وهو غير جائز ، وليس من رجوع الجاهل إلى العالم الذي هو واجب عقلاً وشرعا .

ص: 339

تذنيب :

ذكر الفاضل التوني لأصل البرائة شروطا :

الأوّل : أن لا يكون إعمال الأصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة اُخرى ، مثل أن يقال ، في أحد الانائين المشتبهين : الأصلُ عدم وجوب الاجتناب عنه ، فانّه يوجبُ الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر أو عدم بلوغ الملاقي للنجاسة كرّا ،

-------------------

( تذنيب : ذكر الفاضل التوني لأصل البرائة شروطا ) ولغير أصل البرائة أيضا ، فانه قال فيما حكي عنه : واعلم ان لجواز التمسك بأصالة برائة الذمة ، وبأصالة العدم ، وبأصالة عدم تقدّم الحادث ، شروطا :

( الأوّل : ان لا يكون إعمال الأصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة اُخرى ) فان أصل البرائة إنّما هو لنفي الحكم ، فاذا اُريد به إثبات حكم آخر ، فلا يجري مثل هذا الأصل .

أما مثاله : فهو كما قال ( مثل ان يقال في أحد الانائين المشتبهين : الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه ، فانّه ) أي : جريان هذا الأصل غير صحيح ، لأنه ( يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر ) بل يلزم في الانائين المشتبهين العمل على قاعدة الشبهة المحصورة وهو الاجتناب عن كليهما .

( أو ) مثل أصل ( عدم بلوغ الملاقي للنجاسة كرّا ) وذلك كما إذا كان عندنا ماء قليل فزدنا عليه مقدارا من الماء حتى شككنا في كريته ، فاذا لاقى هذا الماء نجسا، فانه لا يصح لنا اجراء أصالة عدم بلوغ هذا الماء كرا حتى يقول بنجاسته ووجوب اجتنابه ، بل نجري في هذا الماء أصالة الطهارة .

ص: 340

أو عدم تقدّم الكرّية ، حيث يعلم بحدوثها على ملاقاة النجاسة ، فان أعمال الاُصول يوجب الاجتناب عن الاناء الآخر أو الملاقي أو الماء .

أقول : توضيح الكلام في هذا المقام :

-------------------

( أو ) مثل أصل ( عدم تقدّم الكرّية حيث يعلم بحدوثها ) أي : بحدوث الكرّية ويشك في تقدمها ( على ملاقاة النجاسة ) فانه إذا علم إجمالاً بلوغ الماء كرا ، وحدوث الملاقاة للنجس ، ولم يعلم هل ان الكرّية كانت متقدمة على الملاقاة حتى يكون هذا الماء طاهرا ، أو الملاقاة حتى يكون هذا الماء نجسا؟ فانه لا يصح لنا اجراء أصالة عدم تقدّم الكرّية على ملاقاة النجاسة حتى نقول بنجاسة الماء ووجوب اجتنابه بل نجري في هذا الماء أصالة الطهارة .

وإنّما قال بعدم جريان الأصل في هذه الأمثلة الثلاثة لما ذكره بقوله : ( فان أعمال الاُصول يوجب الاجتناب عن الاناء الآخر ) في المثال الأوّل ( أو الملاقي ) في المثال الثاني ( أو الماء ) في المثال الثالث وذلك غير جائز عنده .

ثم لا يخفى : ان ما جعله الفاضل التوني شرطا للعمل بأصل البرائة ، أراد به الأعم من أصل البرائة وإستصحاب العدم ، وأمثلته هنا واضحة ، فان أصالة عدم الماء كرا، وكذا أصالة عدم تقدّم الكرّية ، من قبيل الاستصحاب لا من قبيل البرائة ، بينما مثاله الأوّل من قبيل البرائة .

( أقول : توضيح الكلام في هذا المقام ) هو : ان الأصل ان كان موجبا لثبوت حكم آخر ، فاما ان يكون على نحو السبب والمسبّب ، بأن يساعد لاثبات موضوع حكم آخر ، فجريان الأصل فيه لا مانع منه ، واما ان يكون على نحو الملازمة ، بأن يثبت الحكم الآخر بالملازمة ، فجريان الأصل فيه مشروط بأن لا يكون معارضا بأصل آخر من جهة اُخرى ، لأنه إذا استلزم العمل بالأصل ، إثبات حكم شرعي

ص: 341

إنّ إيجاب العلم بالأصل لثبوت حكم آخر ، إمّا باثبات الأصل المعمول به لموضوع اُنيط به حكم شرعي ، كأن يثبت بالأصل برائة ذمة الشخص الواجد لمقدار من المال ، وافٍ بالحج من الدين ، فيصير بضميمة أصالة البرائة مستطيعا ، فيجب عليه الحج ، فانّ الدين مانع عن الاستطاعة ، فيدفع بالأصل

-------------------

من جهة اُخرى ، فأصل عدم هذا الحكم الشرعي يعارضه .

هذا ، ومن الواضح - كما سيأتي - ان اشتراط الفاضل التوني هنا مطلق ليشمل الاُصول الحاكمة ، والاُصول المحكومة ، والاُصول المعارضة أيضا؛ ولذلك قال المصنِّف في توضيحه ما يلي :

( إنّ إيجاب العلم بالأصل لثبوت حكم آخر ، إمّا ) على نحو السبب والمسبّب ، وذلك ( باثبات الأصل المعمول به لموضوع اُنيط به حكم شرعي ) يعني : ان الحكم الشرعي مترتب على موضوع يكون الأصل مساعدا لاثبات ذلك الموضوع من باب السبب والمسبب .

وعليه : فان مثل هذا الأصل لا بأس بجريانه وذلك ( كأن يثبت بالأصل برائة ذمة الشخص الواجد لمقدار من المال ، وافٍ ) ذلك المقدار ( بالحج ) فيثبت به البرائة ( من الدين فيصير ) هذا الشخص ( بضميمة أصالة البرائة مستطيعا فيجب عليه الحج ، فانّ الدين مانع عن الاستطاعة فيدفع ) الدين ( بالأصل ) .

وعليه : فانّ موضوع وجوب الحج هو المستطيع ، والاستطاعة تحصل بوجود المقتضي وهو المال ، وبعدم المانع وهو الدين ، لأنه لو كان مديونا وجب صرف ماله في الدين فلا يكون مستطيعا للحج .

إذن : فوجود المال محرز بالوجدان ، وكونه ليس مديونا يحرز بالأصل ، فيكون

ص: 342

ويحكمُ بوجوب الحج بذلك المال .

ومنه المثال الثاني ، فانّ أصالة عدم بلوغ الماء الملاقي للنجس كرّا يوجب الحكم بقلّته التي اُنيط بها الانفعال .

وإما لاستلزام نفي الحكم به عقلاً أو شرعا أو عادة

-------------------

الأصل مساعدا لاثبات موضوع الاستطاعة ( ويحكم بوجوب الحج بذلك المال ) فانّ مثل هذا الأصل لا بأس به .

( ومنه المثال الثاني ) للفاضل التوني وهو : الشك في بلوغ الماء الذي لاقى النجس كرا وعدمه ( فانّ أصالة عدم بلوغ الماء الملاقي للنجس كرّا ) إذا أجريناه هنا ( يوجب الحكم بقلته ) لأن كل ماء ليس بكر فهو قليل ، والقلّة هي ( التي اُنيط بها ) حكم ( الانفعال ) والتنجس بملاقاة النجاسة وهذا الأصل جار أيضا ، لأنه يساعد على إثبات موضوع النجاسة .

وعليه : فايجاب الأصل حكما آخر إما باثبات موضوع الحكم من باب السببية والمسببية ، فقد عرفت عدم المانع من جريانه .

( وإما لاستلزام نفي الحكم به ) أي : بالأصل إثبات حكم آخر على نحو الملازمة ( عقلاً ) وذلك مثل : دوران الأمر بين المحذورين ، إذ نفي أحد الضدّين يستلزم عقلاً إثبات الضدّ الآخر إذا كان الضدّان لا ثالث لهما ، كما في نفي الليل لاثبات النهار ، أو نفي النهار لاثبات الليل .

( أو ) الملازمة ( شرعا ) مثل : دوران الأمر بين وجوب الظهر والجمعة ، فان نفي وجوب أحدهما ملازم شرعا لاثبات وجوب الآخر ، لأنا نعلم بأن الواجب في يوم الجمعة امّا الظهر وامّا الجمعة .

( أو ) الملازمة ( عادة ) مثل : دوران الأمر بين تقدّم الكرّية والملاقاة ، فان نفي

ص: 343

ولو في هذه القضية الشخصية لثبوت حكم تكليفي في ذلك المورد أو في مورد آخر ، كنفي وجوب الاجتناب عن أحد الانائين .

فانّ كان إيجابُه للحكم على الوجه الأوّل ،

-------------------

تقدّم أحدهما يستلزم عادة لا عقلاً - تقدّم الآخر ، لأن التقدم والتأخر ليسا ضدين لا ثالث لهما ، بل لهما ثالث وهو : التقارن بين الكرّية والملاقاة ، غير ان هذا التقارن لا يكون عادة ، فيكون أصالة عدم تقدّم الكرّية مستلزما عادة لتقدم الملاقاة فيثبت للماء حكم النجاسة الموجب للاجتناب .

وعليه : فاذا كان الأصل موجبا لاثبات حكم آخر على نحو الملازمة ، فالفاضل التوني يمنع من جريان هذا الأصل ( ولو في هذه القضية الشخصية ) وذلك لعدم الفرق بين أن تكون الملازمة كلية ، كما في الأمثلة المتقدمة : من العقلية والشرعية والعادية ، وبين أن تكون الملازمة في صغرى جزئية ، كما في مثال الأنائين حيث إتفق نجاسة أحدهما في الخارج .

والحاصل : ان الفاضل التوني يشترط في جريان الأصل بأنه لا يكون موجبا لثبوت حكم آخر سواء كان على نحو السبب والمسبب كما مر ، أم على نحو الملازمة بأن استلزم نفي الحكم بالأصل ( لثبوت حكم تكليفي ) آخر ( في ذلك المورد ) كما في أصل عدم تقدّم الكرّية على الملاقاة المستلزم عادة لتقدم الملاقاة على الكرّية ، فيثبت حكم النجاسة لنفس هذا الماء ( أو في مورد آخر ، كنفي وجوب الاجتناب عن أحد الانائين ) المستلزم عقلاً لوجوب الاجتناب عن ذلك الاناء الآخر لا نفس هذا الاناء .

لكن ليس الأمر على إطلاق ، كما قال ا لفاضل التوني ، بل فيه تفصيل أشار إليه المصنِّف بقوله : ( فانّ كان ) الأصل ( إيجابه للحكم ) الآخر ( على الوجه الأوّل )

ص: 344

كالمثال الثاني ، فلا يكون ذلك مانعا عن جريان الأصل ، لجريان أدلّته من العقل والنقل من غير مانع .

ومجرّد إيجابه لموضوع حكم وجودي آخر لا يكون مانعا عن جريان أدلّته ، كما لا يخفى على مَن تتبّع الأحكام الشرعية والعرفيّة .

-------------------

بأن كان على نحو السبب والمسبب ، وذلك ( كالمثال الثاني ) للمصنف وهو : أصل عدم بلوغ الماء الملاقي للنجس كرا ، وأصل عدم كون المستطيع مديونا ، وغير ذلك من أمثلة السببية والمسببية ( فلا يكون ذلك مانعا عن جريان الأصل ) .

وإنّما لا يكون مانعا ( لجريان أدلّته من العقل والنقل ) فان قبح العقاب بلا بيان دليل البرائة عقلاً ، وإثبات الاستطاعة بالأصل بيان ، فاذا ترك الحج حينئذ لم يكن عقابه من العقاب بلا بيان ، كما ان «رفع ما لا يعلمون» دليل البرائة شرعا ، والدين المشكوك مما «لا يعلمون» فيرفعه الأصل ، فتثبت الاستطاعة عقلاً ونقلاً ( من غير مانع ) يمنع منها .

( و ) ان قلت : ان الأصل إنّما هو لنفي الحكم ، فاذا استلزم لثبوت حكم آخر ولو من باب السبب والمسبب بأن أثبت موضوع حكم وجودي آخر ، كان ذلك مانعا من جريانه .

قلت : ( مجرّد إيجابه ) أي : إيجاب الأصل ( لموضوع حكم وجودي آخر ) كالاستطاعة - مثلاً - التي هي موضوع وجوب الحج ( لا يكون مانعا عن جريان أدلّته ) أي : أدلة الأصل فيه .

( كما لا يخفى على من تتبّع الأحكام الشرعية والعرفّية ) أيضا ، حيث لم يدع احد اشكالاً في وجوب الحج بعد إجراء أصالة البرائة عن الدين ، ولا في جواز العبادة الاستيجارية للأجير الذي يجري البرائة عن وجوب الصوم أو الحج

ص: 345

ومرجعه في الحقيقة إلى رفع المانع ، فاذا انحصر الطهور في ماء مشكوك الاباحة بحيث لو كان محرّم الاستعمال لم يجب الصلاة لفقد الطهورين ، فلا مانع من اجراء أصالة الحل وإثبات كونه واجدا للطهور ، فيجب عليه الصلاة .

-------------------

على نفسه ، حيث يشترط جواز استيجار الصوم والحج في الأجير بأن لا يكون عليه صوم أو حج ، وغير ذلك مما سيأتي من الأمثلة .

( ومرجعه ) أي : مرجع هذا الأصل ( في الحقيقة إلى رفع المانع ) فان المانع عن وجوب الحج على هذا المستطيع هو : ان يكون مديونا ، فأصل عدم الدين يرفع هذا المانع ، لا ان أصل عدم الدين يثبت وجوب الحج .

وعليه : ( فاذا انحصر الطهور في ماء مشكوك الاباحة بحيث لو كان محرّم الاستعمال لم يجب الصلاة ، لفقد الطهورين ) وذلك عند من يقول : فاقد الطهورين لا صلاة عليه في الوقت ، فان في المسألة أربعة إحتمالات :

الأوّل : ان عليه القضاء دون الأداء .

الثاني : ان عليه الأداء دون القضاء ، وهو ما نذهب إليه .

الثالث : ان عليه الأداء والقضاء معا .

الرابع : إنه لا أداء ولا قضاء عليه .

وحينئذ : ( فلا مانع من اجراء أصالة الحل ) في هذا الماء المشكوك الاباحة ( وإثبات كونه واجدا للطهور ) فيرتفع المانع بذلك وتجب عليه الصلاة .

وكذا إذا شك في ماء انه مضاف أو مطلق وكان سابقا مطلقا ، فانه يستصحب اطلاقه ، فيرتفع المانع به ، ( فيجب عليه الصلاة ) .

إلى غير ذلك من الأمثلة التي تسبب أصالة العدم ، برائة ، أو استصحابا : رفع

ص: 346

ومثاله العرفي : ما إذا قال المولى لعبده : « إذا لم يكن عليك شغل واجب من قِبلي فاشتغل بكذا » ، فانّ العقلاء يوجبون عليه الاشتغال بكذا إذا لم يعلم بوجوب شيء على نفسه من قبل المولى .

وإن كان على الوجه الثاني : الراجع إلى وجود العلم الاجمالي بثبوت حكم مردّد بين حكمين :

فان اُريد باعمال الأصل في نفي أحدهما اثباتُ الآخر ، ففيه :

إنّ مفاد أدلة البرائة

-------------------

المانع ، فالدليل يشمل المقام .

هذا هو المثال الشرعي ( ومثاله العرفي : ما إذا قال المولى لعبده : « إذا لم يكن عليك شغل واجب من قبلي فاشتغل بكذا » ، فانّ العقلاء يوجبون عليه الاشتغال بكذا إذا لم يعلم ) العبد ( بوجوب شيء على نفسه من قبل المولى ) وذلك لأنهم يرون برائته من الوجوب إذا لم يعلم به ، فيرتفع المانع فيجب عليه الاشتغال بكذا.

هذا كله إذا كان الأصل موجبا لحكم آخر على الوجه الأوّل بأن كان من باب السببية والمسببية .

( وإن كان على الوجه الثاني : الراجع إلى وجود العلم الاجمالي بثبوت حكم مردّد بين حكمين ) وذلك كما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الانائين ، فان إعمال الأصل في نفي أحدهما يمكن فيه إرادة أحد وجهين كما قال :

( فان اُريد بإعمال الأصل في نفي أحدهما اثبات الآخر ) من باب الملازمة بأن يقال : الأصل عدم وجوب الاجتناب عن هذا الاناء ، فيثبت بالملازمة الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر .

( ففيه : انّ مفاد أدلة البرائة ) وأصل العدم ، وكذلك استصحاب العدم في مورد

ص: 347

مجرد نفي التكليف دون إثباته ، وإن كان الاثبات لازما واقعيا لذلك النفي ، فانّ الأحكام الظاهرية إنّما تثبت بمقدار مدلول أدلتها ولا يتعدى إلى أزيد منه بمجرد ثبوت الملازمة الواقعية بينه وبين ما ثبت ، إلاّ أن يكون الحكم الظاهري الثابت بالأصل موضوعا لذلك الحكم الآخر ، كما ذكرنا في مثال برائة الذمة عن الدين والحج ، وسيجيء توضيح ذلك في باب

-------------------

تعارض الأصلين هو ( مجرد نفي التكليف ) في مورد جريان الأصل ( دون إثباته ) أي : لا يثبت التكليف من جهة اُخرى .

إذن : فكلام الفاضل التوني في هذا المقام صحيح حتى ( وان كان الاثبات لازما واقعيا لذلك النفي ) لأنه إذا كان هذا الاناء طاهرا كان معناه نجاسة ذلك الاناء الثاني للعلم الاجمالي بنجاسة أحدهما .

وإنّما يكون مفاد أدلة أصل البرائة هو : مجرد نفي التكليف لما ذكره بقوله : ( فانّ الأحكام الظاهرية إنّما تثبت بمقدار مدلول أدلتها ) فقط ، دون اللازم والملزوم والملازم ، بخلاف الطرق والأمارات فانها تثبت اللوازم أيضا .

مثلاً : إذا قامت البينة على طهارة هذا الاناء كان معنى ذلك : نجاسة الاناء الآخر ، امّا الأصل فلا يفيد إلاّ مقدار مدلوله ( ولا يتعدى إلى أزيد منه بمجرد ثبوت الملازمة الواقعية بينه ) أي : بين ذلك الأزيد ( وبين ما ثبت ) بالأصل .

( إلاّ أن يكون الحكم الظاهري الثابت بالأصل موضوعا لذلك الحكم الآخر ) بأن كان من باب السببية والمسببية ( كما ذكرنا في مثال برائة الذمة عن الدين و ) وجوب (الحج) ومثال برائة الذمة عن الصوم والحج لاثبات جواز استيجار الحج والصوم النيابيين وغيرهما من الأمثلة ( وسيجئتوضيح ذلك في باب

ص: 348

تعارض الاستصحابين .

وإن اُريد باعماله في أحدهما مجرد نفيه دون الاثبات ، فهو جار ، إلاّ انّه معارض بجريانه في الآخر .

فاللازم إمّا اجرائه فيهما ، فيلزم طرح ذلك العلم الاجمالي لأجل العمل بالأصل ، وإمّا إهماله فيهما ، وهو المطلوب ، وإمّا اعمال أحدهما بالخصوص ، فترجيحٌ بلا مرجّح .

-------------------

تعارض الاستصحابين ) انشاء اللّه تعالى .

هذا ان اريد بإعمال الأصل في نفي أحد المشتبهين إثبات الآخر .

( وان اُريد باعماله ) أي : باعمال الأصل ( في أحدهما ) أي : أحد الموردين ( مجرد نفيه ، دون الاثبات ) لحكم في الآخر ، كما إذا أجرى الأصل في أحد الانائين المشتبهين لارادة شربه ، أو التوضئمنه ، أو تطهير ثيابه به ، لا لارادة اثبات نجاسة الآخر ( فهو جار ) .

وإنّما يكون جاريا لأن أدلة الاُصول تشمل هذا المورد ( إلاّ انّه معارض بجريانه في الآخر ) فان أصالة طهارة هذا الاناء معارض بأصالة طهارة الاناء الآخر.

وحينئذ : ( فاللازم ) أحد اُمور تالية : ( إمّا اجرائه فيهما ، فيلزم طرح ذلك العلم الاجمالي لأجل العمل بالأصل ) ومن المعلوم : ان العلم الاجمالي غير قابل للطرح .

( وإمّا إهماله ) أي : إهمال الأصل وعدم اجرائه ( فيهما ، وهو المطلوب ) لأنا نرى: انه إذا تعارض الأصل في الطرفين ولم يكن بينهما سببية ومسببية لزم طرحهما لمكان العلم الاجمالي المعارض لهما .

( وإمّا اعمال أحدهما بالخصوص ) في هذا الاناء فقط ، أو في ذلك الاناء فقط ( ف ) هو غير صحيح ، لأنه ( ترجيح بلا مرجّح ) له من عقل أو شرع .

ص: 349

نعم ، لو لم يكن العلم الاجمالي في المقام ممّا يضرّ طرحه لزم العملُ بهما ، كما تقدّم أنّه أحدُ الوجهين فيما إذا دار الأمر بين الوجوب والتحريم .

وكيف كان ، فسقوط العمل بالأصل في المقام لأجل المعارض ،

-------------------

( نعم ، لو لم يكن العلم الاجمالي في المقام ) أي : في مقام نفي الحكم فقط ، بأن لم يرد به إثبات حكم آخر ، لو لم يكن ( ممّا يضرّ طرحه ) أي : طرح العلم الاجمالي لانه لم يلزم منه مخالفة عملية ، بل مخالفة التزامية فقط ، كما لو نذر فنسي انه نذر ان يطأ زوجته هذه الليلة أو ان لا يطأها ، فاجراء أصل عدم الوجوب وأصل عدم الحرمة ، لا يلزم منه سوى المخالفة الالتزامية ، وقد تقدّم : انه لا ضير فيها ، وإذا كان كذلك ( لزم العمل بهما ) أي : بالأصلين معا .

وإنّما يلزم العمل بهما معا لأنه لا مخالفة عملية هنا ، والمخالفة الالتزامية غير ضارة ( كما تقدّم انّه ) أي : العمل بالأصلين معا هو ( أحد الوجهين ، فيما إذا دار الأمر بين الوجوب والتحريم ) والوجهان هما عبارة عن عدم إجراء الأصلين رأسا والأخذ بالتخيير ، أو لزوم اجراء الأصلين معا ، وذلك على ما ذكره المصنِّف .

إذن : فاجراء أصل عدم الوجوب وأصل عدم التحريم في مثل ما لو نذر فنسي انه نذر الفعل أو الترك لا يضر شيئا ، لأن الانسان هنا امّا فاعل أو تارك ، غير ان جريانهما مشكل لما يلي :

أولاً : لأنه لا فائدة فيه ، والتشريع بلا فائدة محال على الحكيم .

ثانيا : إنّهما معارضان للعلم الاجمالي ، ولا معنى لتشريع ما يعلم خلافه .

( وكيف كان : فسقوط العمل بالأصل في المقام ) أي : في مقام إرادة مجرد نفي الحكم لا إثبات حكم آخر به ، إنّما هو ( لأجل المعارض ) حيث قد عرفت : تعارضهما وتساقطهما ، فعدم العمل للتعارض لا لما ذكره الفاضل التوني من ان

ص: 350

ولا إختصاصَ لهذا الشرط بأصل البرائة ، بل يجري في غيره من الاُصول والأدلّة .

ولعلّ مقصود صاحب الوافية ذلك ، وقد عبّر هو قدس سره في باب الاستصحاب بعدم المعارض .

وأمّا أصالةُ عدم بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرّا ، فقد عرفت : أنّه لا مانع من استلزام جريانها الحكم بنجاسة الملاقي ، فانّه

-------------------

اعتبار هذه الاُصول إنّما هو لمجرد نفي الشيء لا لاثبات شيء آخر .

هذا ( ولا إختصاص لهذا الشرط ) أي : شرط عدم التعارض في جريان الاُصول ( بأصل البرائة ، بل يجري في غيره من الاُصول ) كالاستصحابين ( والأدلّة ) كالخبرين ، والاجماعين إذا فرض إمكان وجود إجماعين متعارضين .

( ولعلّ مقصود صاحب الوافية ) الفاضل التوني من الشرط الذي ذكره، هو ( ذلك ) الذي ذكرناه : من عدم اختصاصه بالبرائة .

( و ) يؤيد كون مراده من الشرط الذي ذكره ، هو ما ذكرناه : انه ( قد عبّر هو قدس سره في باب الاستصحاب بعدم المعارض ) فاشتراط في جريان الاستصحاب ان لا يكون له معارض .

( وأمّا أصالة عدم بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرّا ) بعد ان كان سابقا غير كرّ فيستصحب عدم كريته ( فقد عرفت : انّه لا مانع من استلزام جريانها ) أي : جريان هذه الأصالة واستلامها ( الحكم بنجاسة الملاقي ) أي : نجاسة هذا الماء المسبوق بعدم الكرّية الذي لاقاه النجس .

وإنّما لا مانع من ذلك ، لأنه كما قال ( فانّه ) من باب السبب والمسبب ، فاذا جرى أصل عدم بلوغه كرا ، كان لازمه الشرعي : النجاسة بملاقاته للنجس

ص: 351

نظير أصالة البرائة من الدّين المستلزم لوجوب الحج .

وقد فرّق بينهما المحقق القمي رحمه اللّه حيث اعترف بأنه لا مانع من أجراء البرائة في الدين وإن استلزم وجوب الحج ، ولم يحكم بنجاسة الماء مع جريان أصالة عدم الكرّية ، جمعا بينها وبين أصالة طهارة الماء ، ولم يعرف وجه فرق بينهما أصلاً .

ثم إنّ مورد الشك في البلوغ كرّا : الماء المسبوق بعدم الكرّية .

-------------------

( نظير أصالة البرائة من الدّين المستلزم لوجوب الحج ) فيما تقدّم ذكره .

هذا ( وقد فرّق بينهما ) أي : بين الحكم بالنجاسة والحكم بالحج ( المحقق القمي رحمه اللّه حيث اعترف بأنه لا مانع من أجراء البرائة في الدين وان استلزم وجوب الحج ، ولم يحكم بنجاسة الماء مع جريان أصالة عدم الكرّية ) .

وإنّما لم يحكم بنجاسة الماء ( جمعا بينها ) أي : بين أصالة عدم الكرّية ( وبين أصالة طهارة الماء ) فأصل عدم الكرّية يقول : انه ليس بكرّ ، فحكم فيه بعدم الكرّية وقال بعدم جواز إدخال اليد النجسة فيه ، لأنه أثر عدم الكرّية ، وأصل طهارة الماء يقول : إنه طاهر ، فحكم فيه بالطهارة وقال بجواز الاستفادة منه ، لأنه أثر الطهارة ، وبهذا جمع بين الأصلين ، غير انه استلزم الفرق بين المسألتين .

هذا ( ولم يعرف وجه فرق بينهما أصلاً (1) ) لأنه كما يستلزم أصل عدم الدين في المستطيع وجوب الحج عليه ، كذلك يستلزم أصل عدم الكرّية في الماء نجاسته إذا لاقى نجسا .

( ثم انّ مورد الشك في البلوغ كرّا : الماء المسبوق بعدم الكرّية ) وقد سبق الكلام فيه باسهاب ، وقلنا : انه محكوم بالنجاسة إذا لاقاه النجس .

ص: 352


1- - القوانين المحكمة : ص272 .

وأمّا المسبوق بالكرّية ، فالشك في نقصانه من الكرّية ، والأصل هنا بقاؤها ، ولو لم يكن مسبوقا بحال ، ففي الرجوع إلى طهارة الماء للشك في كون ملاقاته مؤثرة في الانفعال ، فالشك في رافعيتها للطهارة ؛ أو إلى النجاسة ، لأن الملاقاة مقتضية للنجاسة ، والكرّية مانعة عنها بمقتضى

-------------------

( وأمّا ) الماء ( المسبوق بالكرّية ، فالشك ) المتصور فيه إنّما هو ( في نقصانه من الكرّية ) بأن كان الماء كرا ثم أخذ منه مقدارا سبّب الشك في انه هل بقي على الكرّية أم لا؟ ( والأصل هنا بقاؤها ) أي : بقاء الكرية ، وإذا حكمنا ببقاء الكرية يكون مطهرا ، لأنهما من باب السبب والمسبب ، إذ المطهرية مسببة عن الكرّية .

( ولو لم يكن ) الماء المشكوك كريته ( مسبوقا بحال ) كما إذا اغترف من ماء البحر مقدارا يحتمل ان يكون كرا ويحتمل ان لا يكون كرا ، فلاقى النجس أو كان مسبوقا بحال وجهلناه نحن ، كما إذا تواردت الكرّية وعدمها عليه ولم نعلم السابق واللاحق منهما ( ففي الرجوع إلى طهارة الماء ) بعد ملاقاته للنجس وذلك ( للشك في كون ملاقاته ) للنجس ( مؤثرة في الانفعال ) لأنا نحتمل كريته ، ولذا إذا لاقى النجس نستصحب طهارته .

وعليه : ( فالشك ) يكون حينئذ ( في رافعيتها للطهارة ) أي : رافعية الملاقاة لطهارة هذا الماء ، فنستصحب طهارته .

( أو ) الرجوع ( إلى النجاسة ) والحكم بنجاسة هذا الماء عند ملاقاته للنجس وذلك ( لأن الملاقاة مقتضية للنجاسة والكرّية مانعة عنها بمقتضى

ص: 353

قوله عليه السلام : «إذا كان الماء قَدَرَ كرّ لم يُنجّسه شيء » ، ونحوه ، ممّا دلّ على سببيّة الكرّية ، لعدم الانفعال المستلزمة لكونها مانعة عنه ، والشك في المانع في حكم العلم بعدمه ، وجهان .

وأمّا أصالة عدم تقدّم الكرّية على الملاقاة ، فهو في نفسه ليس من الحوادث المسبوقة بالعدم حتى يجري فيه الأصلُ ،

-------------------

قوله عليه السلام : « إذا كان الماء قَدَر كّر لم يُنجّسه شيء » (1) ) حيث علق الامام عليه السلام عدم التنجّس بالكرية ( ونحوه ) أي : نحو هذا الحديث ( ممّا دلّ على سببيّة الكرّية لعدم الانفعال ) بملاقاة النجاسة ( المستلزمة لكونها ) أي : الكرّية ( مانعة عنه ) أي: عن الانفعال .

هذا ( والشك في المانع في حكم العلم بعدمه ) لأنه ثبت ان بناء العقلاء على أعمال المقتضي وهو هنا : الانفعال ما لم يعلموا بوجود المانع وهو هنا : الكرّية .

وعليه : فيكون في الرجوع إلى الطهارة أو إلى النجاسة في هذا الماء ( وجهان ).

( وأمّا ) إذا شككنا في ان الكرّية تقدمت على الملاقاة حتى يكون الماء طاهرا ، أو أن الملاقاة تقدمت على الكرّية حتى يكون الماء نجسا ، فلا يجري فيه ( أصالة عدم تقدّم الكرّية على الملاقاة ) كما لا يجري أصالة عدم تقدّم الملاقاة على الكرّية ، وذلك لقصور في نفس التقدّم كما قال :

( فهو ) أي : التقدم ( في نفسه ليس من الحوادث المسبوقة بالعدم حتى يجري فيه الأصل ) فان التقدم والتأخر ، وكذلك التقارن اُمور انتزاعية والأمر الانتزاعي

ص: 354


1- - الكافي فروع : ج3 ص2 ح1 و ح2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص150 ب6 ح118 ، الاستبصار : ج1 ص6 ب1 ح1 ، الامالي للصدوق : ص646 ، وسائل الشيعة : ج1 ص158 ب9 ح391 .

نعم ، نفس الكرّية حادثة ، فاذا شكّ في تحققها حين الملاقاة ، حكم بأصالة عدمها ، وهذا معنى عدم تقدّم الكرّية على الملاقاة ، لكن هنا أصالة عدم حدوث الملاقاة حين حدوث الكرّية ، وهو معنى عدم تقدّم الملاقاة على الكرّية ، فيتعارضان ، لا وجه لما ذكره من الأصل .

-------------------

لم يكن بنفسه مجرى للأصل ، وإنّما يلزم إجراء الأصل في منشأ انتزاعه .

وعليه : فاذا شككنا - مثلاً - في فردية التفاحات الموجودة في المخزن أو زوجيتها ، لا يصح لنا أن نجري أصل عدم الزوجية أو أصل عدم الفردية ، بل يلزم أن نجري الأصل في نفس التفاح الذي هو منشأ انتزاع الزوجية والفردية .

إذن : فالأمر الانتزاعي لا يجري فيه الأصل لأنه محكوم بالأصل الجاري في منشأ الانتزاع ، وما دام يجري الأصل في الحاكم لا مجرى للأصل في المحكوم .

( نعم ، نفس الكرّية حادثة فاذا شكّ في تحققها حين الملاقاة ، حكم بأصالة عدمها ) لأن الأصل عدم كل حادث إلاّ ان يعلم حدوثه ( وهذا معنى ) أصالة ( عدم تقدّم الكرّية على الملاقاة ) فان هذا الأصل يكون جاريا لولا المعارض .

( لكن هنا ) يعارضه ( أصالة عدم حدوث الملاقاة حين حدوث الكرّية ، وهو معنى عدم تقدّم الملاقاة على الكرّية ، فيتعارضان ) والتعارض يوجب التساقط على ما عرفت .

وعليه : فالفاضل التوني رحمه اللّه منع من إجراء أصل عدم تقدّم الكرّية لاستلزامه إثبات حكم آخر ، فأجابه الشيخ : بأنه ( لا وجه لما ذكره من الأصل ) إذ لا مانع لجريانه من هذه الجهة ، وإنّما المانع هو تعارضه وتساقطه علما بأن جواب الشيخ هذا جاء بعد إشارته إلى نكتة خارجة عن المبحث وهي : ان التقدم أمر انتزاعي لايجري فيه الأصل ، بل يجري الأصل في منشأ انتزاعه ، وهكذا بالنسبة إلى التأخر والتقارن .

ص: 355

وقد يفصّل فيها بين ما كان تاريخ واحد من الكرّية والملاقاة معلوما ، فانّه يحكم بأصالة تأخر المجهول ، بمعنى : عدم ثبوته في زمان يشك في ثبوته فيه فيلحقه حكمُه من الطهارة والنجاسة ،

-------------------

إلى هنا تبين لنا عدم جريان أصل تقدّم الكرّية على الملاقاة وكذا عدم جريان أصل تأخر الكرّية عن الملاقاة مطلقا ، ولكن في المقام تفصيل يمكن أن يكون هو المعتمد في الحكم ، فان للمسألة وجوها ثلاثة :

الأوّل : الجهل بهذا الطرف ، كما إذا علمنا حدوث الكرّية ظهرا ، ولم نعلم ان الملاقاة حدثت ظهرا أو صباحا أو مساءً ؟ .

الثاني : الجهل بذاك الطرف ، كما إذا علمنا حدوث الملاقاة ظهرا ، ولم نعلم ان الكرّية حدثت ظهرا أو صباحا أو مساءً ؟ .

الثالث : الجهل بهما معا ، كما إذا لم نعلم تاريخ الملاقاة ولا تاريخ الكرّية .

وإلى التفصيل في وجوه المسألة أشار المصنِّف بقوله : ( وقد يفصّل فيها ) أي : في المسألة ، والمفصّل هو صاحب الفصول ، فانه فصّل ( بين ما كان تاريخ واحد من الكرّية والملاقاة معلوما ) وتاريخ الآخر مجهولاً ( فانّه يحكم بأصالة تأخر المجهول ) وذلك ( بمعنى : عدم ثبوته ) أي : ثبوت المجهول ( في زمان يشك في ثبوته فيه ) أي : يشك في ثبوت ذلك المجهول في ذلك الزمان فيحكم بتأخره .

وعليه : فاذا ثبت بالأصل تأخر المجهول التاريخ ( فيلحقه حكمه ) كما قال :

( من الطهارة ) ان كان المجهول هو الملاقاة ، لاستصحاب تأخر الملاقاة عن الكرّية .

( والنجاسة ) ان كان المجهول هو الكرّية ، لاستصحاب تأخر الكرّية عن الملاقاة .

ص: 356

وقد يجهل التاريخان بالكلّية ، وقضية الأصل في ذلك التقارن ، ومرجعه إلى نفي وقوع كل منهما في زمان يحتمل عدم وقوعه فيه ، وهو مقتضى ورود النجاسة على ما هو كرّ حال الملاقاة ، فلا يتنجس به » انتهى .

وفيه :

-------------------

( وقد يجهل التاريخان بالكليّة ) بأن لم يعلم هل الملاقاة كانت متقدمة أو الكرّية ؟ ( وقضية الأصل في ذلك ) أي : مقتضى الأصل في هذه الصورة وهي صورة جهل التاريخين ( التقارن ) .

وإنّما يكون مقتضى الأصل هنا : التقارن ، لأن الأصل عدم تقدّم الملاقاة والأصل عدم تقدّم الكرّية فيثبت تقارنهما ، فيكون التقارن عين مؤدى الأصلين ، فلا يمكن اجراء أصالة عدم التقارن .

( و ) عليه : فيكون ( مرجعه ) أي : مرجع التقارن كما قلنا : ( إلى نفي وقوع كل منهما ) أي : من الملاقاة والكرّية ( في زمان يحتمل عدم وقوعه فيه ) أي : في ذلك الزمان ( و ) التقارن ( هو مقتضى ورود النجاسة على ما هو كرّ حال الملاقاة ، فلا يتنجس ) الكرّ ( به » (1) ) أي : بالورود المذكور ( انتهى ) كلام الفصول .

( وفيه ) أولاً : ان التقارن أمر وجودي عند العرف وليس أمرا عدميا ، فاذا كان وجوديا لا يمكن اثباته بالأصل ، حتى بناءا على مذهب الفصول القائل بعدم حجية الأصل المثبت ، فالأصل إذن لا يثبت إلاّ اللوازم الشرعية ، والتقارن ليس من اللوازم الشرعية .

وثانيا : سلمنا ثبوت التقارن بالأصل لكنه لا ينفع لاثبات طهارة الماء ، لأنه يمكن أن يقال : بأن التقارن موجب لانفعال الماء ، لأن علة الحكم بعدم الانفعال

ص: 357


1- - الفصول الغروية : ص354 .

أنّ تقارن ورود النجاسة والكرّية موجب لانفعال الماء ، لأن الكرّية مانعة عن الانفعال بما يلاقيه بعد الكرّية على ما هو مقتضى قوله عليه السلام : «إذا كان الماء قَدَر كرّ لم ينجّسه شيء » ، فان الضمير المنصوب راجع إلى الكرّ المفروض الكرّية ، فاذا حصلت الكرّية حال الملاقاة كان المفروض للملاقاة غير كرّ ، فهو نظير ما إذا حصلت الكرّية بنفس الملاقاة فيما إذا تمّم الماء النجس كرّا بطاهر والحكم فيه النجاسة، إلاّ أنّ ظاهر المشهور فيما نحن فيه

-------------------

إنّما هو الكرّية السابقة ، فلابدّ من حصولها أولاً حتى يترتب عليه المعلول ، امّا إذا تقارنا لم تكن الكرّية سابقة حتى لا يتنجس كما قال :

( انّ تقارن ورود النجاسة والكرّية موجب لانفعال الماء ، لأن الكرّية مانعة عن الانفعال بما يلاقيه ) بشرط ان يكون الملاقاة ( بعد الكرّية ، على ما هو مقتضى قوله عليه السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (1) ، فان الضمير المنصوب ) في قوله : لم ينجسه ( راجع إلى الكرّ ) أي : الماء ( المفروض الكرّية ) قبل الملاقاة .

وعليه : ( فاذا حصلت الكرّية حال الملاقاة كان المفروض للملاقاة غير كرّ ) لأنه لايعقل تقارن الكرّية مع الملاقاة ( فهو نظير ما إذا حصلت الكرّية بنفس الملاقاة ) وذلك ( فيما إذا تمّم الماء النجس كرّا بطاهر ، و ) كما يكون حكم هذا الماء هو النجاسة ، كذلك يكون ( الحكم فيه ) أي : في الماء الذي تقارن فيه الكرّية والملاقاة هو ( النجاسة ) أيضا .

( إلاّ انّ ظاهر المشهور فيما نحن فيه ) من تقارن الكرّية والنجاسة هو :

ص: 358


1- - الكافي فروع : ج3 ص2 ح1 و ح2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص150 ب6 ح118 ، الاستبصار : ج1 ص6 ب1 ح1 ، الأمالي للصدوق : 646 ، وسائل الشيعة : ج1 ص158 ب9 ح391 .

الحكم بالطهارة .

بل إدّعى المرتضى قدس سره عليه الاجماع حيث استدل بالاجماع على طهارة كرّ رُئي فيه نجاسةٌ لم يعلم تقدّم وقوعها على الكرّية على كفاية تتميم النجس كرّا في زوال نجاسته .

-------------------

( الحكم بالطهارة ) فانه لا يتنجس الملاقي بسبب النجاسة إذا تقارنت الملاقاة والكرّية ( بل إدّعى المرتضى قدس سره عليه الاجماع ) ولا يخفى ان هناك مسألتين :

الاُولى : ان الماء النجس ، المتمم بالطاهر حتى صار كرّا ، هل هو طاهر أو نجس ؟ يرى السيد طهارته ، ويمكن تقريبه : بأن الماء الطاهر يستصحب طهارته، والماء النجس يستصحب نجاسته ، وحيث لا يمكن ان يكون للماء الواحد حكمان : نصفه طاهر ، ونصفه نجس ، لأنه خلاف ما فهمه المتشرعة من الشرع ، فيتساقط الاستصحابان ويكون المرجع أصل الطهارة .

الثانية : ما إذا تواردت الكرّية والنجاسة في لحظة واحدة بأن تقارن الأمران ، فالمقتضي للطهارة الكرّية ، والمقتضي للنجاسة الملاقاة ، فيتساقط المقتضيان ويكون المرجع أصل الطهارة .

وعليه : فالملاك في المتمّم كرّا موجود في تقارن الملاقاة والكرّية ( حيث استدل ) السيد ( بالاجماع على طهارة كرّ رُئي فيه نجاسة لم يعلم تقدّم وقوعها على الكرّية ) كما لم يعلم تأخر وقوعها عن الكرّية ، فانه حيث كانت هذه المسألة إجماعية استدل السيد بها ( على كفاية تتميم النجس كرّا ) بطاهر ( في زوال نجاسته ) .

وإنّما استدل بالاجماع هناك على طهارته هنا لأن ملاك الاجماع في المسألة الاُولى موجود بنفسه في المسألة الثانية أيضا .

ص: 359

وردّه الفاضلان وغيرهما : بأنّ الحكم بالطهارة هنا لأجل الشك في ثبوت النجس ، لأن الشك مرجعه إلى الشك في كون الملاقاة مؤثرة ، لوقوعها قبل الكرّية ، أو غير مؤثرة .

لكنّه يُشكل ، بناءا على أنّ الملاقاة سببٌ للانفعال والكرّية مانعة ، فاذا علم بوقوع السبب في زمان ولم يعلم فيه وجود المانع ، وجب الحكم بالمسبّب ،

-------------------

( وردّه الفاضلان ) : المحقق والعلامة ( وغيرهما : بأنّ الحكم بالطهارة هنا ) في مسألة تقارن الكرّية والنجاسة إنّما هو ( لأجل الشك في ثبوت النجس ، لأن الشك ) في انه هل تنجس بسبب تقارن النجاسة والكرّية أم لا ، يكون ( مرجعه إلى الشك في كون الملاقاة مؤثرة ، لوقوعها قبل الكرّية ، أو غير مؤثرة ) لوقوعها مقارنا للكرية أو بعدها ، وهذه العلة لا تنسحب إلى الماء النجس المتمم بطاهر حتى صار كرّا .

وعليه : فان مقتضى القاعدة فيما نحن فيه هو : الطهارة ، وفي مثال التتميم هو : النجاسة .

وإنّما يكون المقتضى فيهما ذلك لأن الملاقاة إنّما تقتضي النجاسة إذا حصلت قبل الكرّية ، وحصول النجاسة قبل الكرية مشكوك ، فرفعها للطهارة مشكوك فيحكم ببقاء الطهارة على التقريب الذي ذكرناه ، وامّا المتمم كرا فلا ينسحب فيه هذه العلة ، لأن الشك إنّما هو في زوال النجاسة بالتتميم فيحكم ببقائها .

( لكنّه ) أي : حكم المشهور بالطهارة عند تقارن النجاسة والكرّية ( يُشكل ، بناءا على انّ الملاقاة سبب للانفعال والكرّية مانعة ، فاذا علم بوقوع السبب في زمان ولم يعلم فيه وجود المانع ، وجب الحكم بالمسبّب ) الذي هو النجاسة

ص: 360

إلاّ أنّ الاكتفاء بوجود السبب من دون إحراز عدم المانع ولو بالأصل محل تأمل ، فتأمل .

الثاني : أن لا يتضرر بأعمالها مسلم ،

-------------------

وقد تقدّم: ان الشك في المانع يكون في حكم العلم بعدم المانع .

هذا ( إلاّ انّ الاكتفاء بوجود السبب من دون إحراز عدم المانع ولو بالأصل محل تأمل ) فان تأثير المقتضي موقوف على إحراز عدم المانع ولو بالأصل ، وعدم المانع فيما نحن فيه غير محرز ، لأن أصالة عدم المانع لا يثبت عدم تقدّم الكرّية إلاّ على القول بالأصل المثبت .

( فتأمل ) ولعل وجهه : ان عدم العلم بالمانع في حكم العلم بعدم المانع وذلك لبناء العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال المانع مع إحراز المقتضي ، فلا حاجة حينئذ إلى احراز عدم المانع ولو بالأصل .

ثم لا يخفى : انهم قد اختلفوا في ان الماء النجس ، المتمم بطاهر حتى أصبح كرا ، أو الماء الطاهر ، المتمم بنجس حتى أصبح كرا هل هو طاهر بعد التتميم أم لا ؟ .

وجه الطهارة ما ذكرناه ، ووجه النجاسة : انّ الماء النجس لابد ان يتصل بالكر ، أو بالمطر ، وما أشبه حتى يطهر ، وهذا لم يتصل بشيء من ذلك ولذا ذهب غير واحد من الفقهاء إلى القول بنجاسته كما حكي عن الشرائع ، والمعتبر ، والتحرير ، والمنتهى ، والمختلف ، والقواعد ، والذكرى ، وكشف اللثام ، والجواهر ، وغيرها ، وتفصيل الكلام في مسألتي : التقارن والتتميم كرا في الفقه .

( الثاني ) من شروط البرائة التي ذكرها الفاضل التوني : ( أن لا يتضرر بأعمالها ) أي : بأعمال البرائة ( مسلم ) وينبغي ان يضاف إليه : ومن هو محترم

ص: 361

كما لو فتح إنسان قفص طائر فطار، أو حبس شاة فمات ولدُها ، أو أمسك رجلاً فهرب دابته ، فانّ إعمال البرائة فيها يوجبُ تضرّر المالك ، فيحتمل اندراجه في قاعدة الاتلاف وعموم قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « لا ضرر ولا ضِرار » ،

-------------------

المال والعرض والدم ، كالذمي والمعاهد ونحوهما ، لأن الجميع في هذه الجهة بحكم واحد .

( كما لو فتح إنسان قفص طائر فطار ) الطائر ( أو حبس شاة فمات ولدها ) أو وضع قربة السمن في الشمس فذاب السمن وأريق ( أو أمسك رجلاً فهرب دابته ) إلى غير ذلك ، لا كلام في انه لو كان متعمدا لاستحق العقاب والتعزير عليه ، وإنّما الكلام في انه إضافة إلى ذلك هل هو ضامن لأنه أضر بالغير ، أم له ان يجري البرائة لأنه لم يباشر الضرر ؟ .

هذا ، ولا يخفى : ان اجراء البرائة هنا يضر بالغير كما قال : ( فانّ إعمال البرائة فيها يوجب تضرّر المالك ) وقد عرفت : ان من شرط البرائة ان لا يتضرر بإعمالها غيره من محترم المال والعرض والدم .

وعليه : ( فيحتمل اندراجه ) أي : اندراج كل واحد من هذه الأمثلة لأنها من الضرر بالتسبيب ، لا بالمباشرة حتى يقطع باندراجها ، بل يحتمل اندراجها ( في قاعدة الاتلاف ) وهي « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » ( وعموم قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » (1) ) .

إذن : فعلى هذا الضار ان ينفي الضرر بالضمان للقيمة ونحوها .

ص: 362


1- - الكافي فروع : ج5 ص280 ح4 و ص292 ح2 و ص294 ح8 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص164 ب22 ح4 ، غوالي اللئالي : ج1 ص309 ح18 و ص183 ح11 ، معاني الاخبار : ص281 ، نهج الحق : ص489 و ص495 و ص506 .

لأنّ المراد نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع ، وإلاّ فالضرر غير منفي ، فلا علم حينئذ ولا ظن بأن الواقعة غير منصوصة ، فلا يتحقق شرط التمسك بالأصل من فقدان النصّ ، بل يحصل القطع بتعلّق حكم شرعي بالضار ، ولكن لايعلم أنّه مجرد التعزير

-------------------

وإنّما عليه الضمان ( لأنّ المراد ) من ( نفي الضرر ) ليس هو نفي وجوده ، بل تركه ( من غير جبران بحسب الشرع ، وإلاّ فالضرر غير منفي ) لوجوده بكثرة بين المسلمين ، فأدلة نفي الضرر وان نفت نفس الضرر ، إلاّ ان وجود الضرر بين المسلمين قرينة على ان المراد من نفيه هو : الضرر غير المتدارك .

إذن : ( ف ) في هكذا موارد بناءا على ان المنفي هو : الضرر غير المتدارك ، لايجوز للضار إجراء البرائة من دون فحص عن الدليل لاحتمال وجود دليل يبيّن ما يجب عليه من التدارك ، فيرجع هذا الشرط وهو : ان لا يتضرر من اعمال البرائة غيره إلى ما سبق من اشتراط البرائة بالفحص واليأس ، إذ ( لا علم حينئذ ولا ظن بأن الواقعة ) المذكورة في الأمثلة المتقدمة ( غير منصوصة ) .

وإنّما لا علم ولا ظن بعدم النص لاحتمال ان « لا ضرر » و « من أتلف » وما أشبه يشمل هذه الوقايع من الأمثلة ( فلا يتحقق شرط التمسك بالأصل ) أي : أصل البرائة ( من فقدان النصّ ) لأن النص موجود .

وعليه : فليس المقام إذن مما لا نص فيه حتى يجري فيه البرائة ، بل المقام مما فيه العلم الاجمالي بلزوم الضار شيئا كما قال : ( بل يحصل القطع بتعلق حكم شرعي بالضار ) مردّد بين كونه هو التعزير والعقاب خاصة ، أو الضمان خاصة ، أو كلاهما .

إذن : فهو يعلم بتوجه حكم اليه ( ولكن لا يعلم ) هل ( انّه مجرد التعزير )

ص: 363

أو الضمان أو هما معا ، فينبغي له تحصيل العلم بالبرائة ولو بالصلح » .

ويرد عليه : أنّه إن كان قاعدة نفي الضرر معتبرة في مورد الأصل ، كان دليلاً ، كسائر الأدلّة الاجتهادية الحاكمة على البرائة ، وإلاّ فلا معنى للتوقف في الواقعة

-------------------

في الدنيا والعقاب في الآخرة ( أو الضمان ) فقط ( أو هما معا ) أي : التعزير والضمان وحينئذ ( فينبغي له تحصيل العلم بالبرائة ) لأن الاشتغال اليقيني يستدعي البرائة اليقينية ( ولو بالصلح » (1) ) مع المتضرر .

( ويرد عليه : ) بالاضافة إلى انه قد يقطع بعدم التعزير والعقاب ، كما في صدور هذه الأفعال عن الصبي ، أو المجنون ، أو غير العامد - : ان هذا ليس من شروط البرائة ، فان قاعدة « نفي الضرر » ، وكذا قاعدة « الاتلاف » يتقدّمان على أقوى الأمارات ، فكيف بالاُصول العملية وخاصة أصل البرائة منها كما قال :

( أنّه إن كان قاعدة نفي الضرر ) وقاعدة : « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » ( معتبرة في مورد الأصل ) بأن تكون مشرّعة في مورد أصل البرائة ، كما هو الصحة ، فان قاعدتي الاتلاف والاضرار ظاهرتان في شمول المباشر والمسبب معا ، فلا يدعان مجالاً للشك حتى يكون المقام من مورد الأصل .

وعليه : فاذا اعتبر كذلك ( كان دليلاً كسائر الأدلّة الاجتهادية الحاكمة على البرائة ) فان كل الأدلة الاجتهادية تتقدم الاُصول العملية على ما عرفت .

( وإلاّ ) بأن قلنا باجمال قاعدة الاتلاف ، وقاعدة نفي الضرر بالنسبة إلى غير المباشر ، وان ظهورهما في الانسان المباشر للاتلاف فقط ، دون الانسان الذي هو سبب فينتفي الدليل بالنسبة اليه ، وإذا انتفى الدليل ( فلا معنى للتوقف في الواقعة

ص: 364


1- - الوافية : مخطوط .

وترك العمل بالبرائة ، ومجرّدُ إحتمال إندراج الواقعة في قاعدة الاتلاف والضرر لا يوجب رفع اليد عن الأصل .

والمعلوم تعلّقه بالضّار فيما نحن فيه هو : الاثم والتعزير إن كان متعمّدا ، وإلاّ فلايعلم وجوب شيء عليه ، فلا وجه لوجوب تحصيل العلم بالبرائة ولو بالصلح .

-------------------

وترك العمل بالبرائة ) فيها حينئذ .

( و ) ان قلت : احتمال إندراج الواقعة في القاعدة يوجب رفع اليد عن البرائة .

قلت : ( مجرّد إحتمال إندراج الواقعة في قاعدة الاتلاف والضرر لا يوجب رفع اليد عن الأصل ) أي : البرائة فان موارد إجمال النص ، كموارد فقدان النص يكون المحكم فيها بعد الفحص هو البرائة .

والحاصل : ان الأمثلة المذكورة ان كانت مشمولة لقاعدة الاتلاف والضرر فلا مجال لأصل البرائة ، وان لم تكن مشمولة أو شككنا في شمول القاعدة لها كان المحكم هو : البرائة ، فلم يكن ما ذكره الفاضل التوني هنا على ما إدعاه هو من شرائط اجراء البرائة .

( و ) امّا ما ذكره هنا من العلم الاجمالي المردد بين اُمور ثلاثة : التعزير والعقاب خاصة ، أو الضمان خاصة ، أو كلاهما فهو غير تام ، لوضوح ان ( المعلوم تعلّقه بالضّار فيما نحن فيه هو : الاثم والتعزير إن كان متعمدا ) في فعله ذلك ( وإلاّ فلايعلم وجوب شيء عليه ) أي : على الضارّ ، وإذا كان الاشتغال مشكوكا ( فلا وجه لوجوب تحصيل العلم بالبرائة ولو بالصلح ) .

وعليه : فقد ظهر من كل ذلك : ان محصَّل كلام الفاضل التوني أمران :

الأوّل : انّ الأمثلة المذكورة هي ممّا توجب الضرر على المالك ، فيحتمل

ص: 365

وبالجملة : فلا يعلم وجه صحيح لما ذكره في خصوص أدلة الضرر ، كما لا وجه لما ذكره في تخصيص مجرى الأصل بما إذا لم يكن جزء عبادة ، بناءا على أنّ المثبت لأجزاء العبادة هو النص ،

-------------------

اندراجها تحت قاعدتي : الاتلاف والضرر ، فتكون مما فيه نص ولا تكون مجالاً للبرائة ، فأورد عليه المصنِّف بقوله : ويرد عليه : انه ان كان قاعدة نفي الضرر معتبرة في مورد الأصل كان دليلاً ، وإلاّ فلا معنى للتوقف عن العمل بالأصل .

الثاني : انه يعلم إجمالاً بتعلق حكم شرعي بالضار ، ولكن لا يعلم هل هو مجرد التعزير ، أو الضمان ، أو هما معا؟ ومع هذا العلم الاجمالي لا تجري البرائة ، فيلزم تحصيل العلم ببرائة الذمة ولو بالصلح ، فأورد عليه المصنِّف بقوله : والمعلوم تعلقه بالضار فيما نحن فيه هو : الاثم والتعزير ان كان متعمدا ، وإلاّ فلا شيء عليه .

( وبالجملة : فلا يعلم وجه صحيح لما ذكره ) الفاضل التوني ( في خصوص أدلة الضرر ) إذ لا خصوصية لأدلة الضرر ، بل الميزان في جميع الموارد انه ان وجد دليل إجتهادي كان الدليل الاجتهادي محكما ، وان لم يوجد دليل اجتهادي كانت البرائة وسائر الاُصول محكمة فلا خصوصية لا للأمثله التي ذكرها ولا للبرائة.

( كما لا وجه لما ذكره ) الفاضل التوني هنا من شرط ثالث لجريان البرائة حيث ذكر هنا ( في تخصيص مجرى الأصل ) أي : خصص جريان أصل البرائة ( بما إذا لم يكن جزء عبادة ، بناءا على انّ المثبت لأجزاء العبادة هو النص ) .

وعليه : فان الفاضل التوني جعل من شرائط البرائة ان لا يكون المشكوك جزء عبادة كالسورة - مثلاً - والذي دعاه إلى اشتراط هذا الشرط هو : ان ماهية العبادة إنّما تثبت بالنص من الشارع ، فلا تكون حينئذ مجرى للبرائة .

ص: 366

فان النص قد يصير مجملاً وقد لا يكون نص في المسألة .

فان قلنا بجريان الأصل وعدم العبرة بالعلم بثبوت التكليف المردد بين الأقل والأكثر فلا مانع منه ، وإلاّ فلا مقتضى له ، وقد قدّمنا ما عندنا في المسألة .

قاعدة لا ضَرر

وحيث جرى ذكرُ حديث نفي الضرر والضرار ، ناسب بسط الكلام في ذلك في الجملة

-------------------

وإنّما لا وجه لهذا الشرط من الفاضل التوني ، لما ذكره المصنِّف بقوله : ( فان النص قد يصير مجملاً ) فلا يعلم المراد منه ( وقد لا يكون نص في المسألة ) أصلاً ، وفي الصورتين ( فان قلنا بجريان الأصل وعدم العبرة بالعلم بثبوت التكليف ) ذلك التكليف ( المردد بين الأقل والأكثر ) الارتباطيين كما في الصلاة مثلاً ( فلا مانع منه ) أي : من إجراء أصل البرائة لما سبق : من ان الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين هو مجرى البرائة بالنسبة إلى الأكثر .

( وإلاّ ) بأن لم نقل بالبرائة ، بل قلنا بوجوب الاحتياط في الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين ( فلا مقتضى له ) أي : لأصل البرائة هنا ، لأنا نرى الاحتياط فيه .

هذا ( وقد قدّمنا ما عندنا في المسألة ) أي : في مسألة الجزئية والشرطية في العبادة وقلنا بجريان البرائة فيها ، وذلك على التفصيل الذي تقدّم .

قاعدة لا ضرر ( وحيث جرى ذكر حديث نفي الضرر والضرار ، ناسب بسط الكلام في ذلك في الجملة ) فان هذه القاعدة هي قاعدة مهمة وقد تمسك بها الفقهاء من أول الفقه

ص: 367

فنقول : قد إدّعى فخر الدين في الايضاح ، في باب الرهن : تواتر الأخبار على نفي الضرر والضرار ، فلا نتعرّض من الأخبار الواردة في ذلك إلاّ لما هو أصح ما في الباب سندا وأوضحه دلالة ، وهي الروايات المتضمنة لقصّة

-------------------

إلى آخره .

ثم ان المصنِّف قدس سره بحث هنا تارة : في مدارك هذه القاعدة واُخرى : في معنى اللفظين الواردين فيها من الضرر والضرار ، وثالثة : في معنى نفي الضرر والضرار ، ورابعة : في نسبة هذه القاعدة مع سائر العمومات ، وخامسة : في إشكالات التمسك بها .

( فنقول ) : يدل على حرمة الضرر والضرار بالاضافة إلى الاجماع القطعي ، والعقل المستقل ، الكتاب ، والسنة .

أمّا الكتاب : فآيات مثل قوله سبحانه : « لا تضارّ والدة بولدها ولا مولود له بولده » (1) وقوله سبحانه : « ولا يضارّ كاتب ولا شهيد » (2) وقوله سبحانه : « ولا تضارّوهن لتضيّقوا عليهن » (3) إلى غيرها .

وأمّا السنة : فانه ( قد إدّعى فخر الدين في الايضاح في باب الرهن : تواتر الأخبار على نفي الضرر والضرار ) في كتب الحديث والفقه من السنة والشيعة ، ولذلك ( فلا نتعرّض من الأخبار الواردة في ذلك إلاّ لما هو أصح ما في الباب سندا وأوضحه دلالة ) ولعلها هي الرواية الاُولى التي رويت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم في هذا الباب .

( و ) عليه : فان أصح الروايات هنا ( هي الروايات المتضمنة لقصّة

ص: 368


1- - سورة البقرة : الآية 233 .
2- - سورة البقرة : الآية 282 .
3- - سورة الطلاق : الآية 6 .

سمَرَةَ بن جُندَب مع الأنصاري ، وهي : ما رواه غير واحد عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام :

« إنّ سَمُرَة بن جُندَب كان له عذقٌ ، وكان طريقه إليه في جوف منزل لرجل من الأنصار ،

-------------------

سمرة بن جندب ) الذي كان من أصحاب رسول اللّه ، ولكن كان شقيّا في زمانه ، حيث قصته مع الأنصاري في العذق ، وقصته في ضرب ناقة الرسول على رأسها وشجّها حتى خرجت الناقة إلى الرسول تشتكيه ، كما كان شقيا بعد زمانه ، فان معاوية بذل له مالاً كثيرا ، يقال : انه مائة ألف درهم مقابل جعل رواية عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم في تفسير آية : « ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد اللّه على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام » (1) بأنها نزلت في علي عليه السلام ، وبأن آية : « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات اللّه واللّه رؤوف بالعباد » (2) نزلت في ابن ملجم وقد كان في زمان يزيد مدير شرطة ابن زياد في الكوفة وكان يحرّض الناس على الخروج إلى قتال الحسين عليه السلام حين أمر ابن زياد .

وعلى أي حال : فقصته ( مع الأنصاري ) مورد كلامنا هنا ( وهي : ما رواه غير واحد عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام : « أنّ سَمُرَةَ بن جُندَب كان له عذقٌ ) والعذق عبارة عن النخلة المثمرة ( وكان طريقه إليه في جوف منزل لرجل من الأنصار ) فقد تعارف في ذلك الزمان بيع البستان ، أو الدار فيها أشجار ، باستثناء شجرة أو أشجار منها ، فكان مالك الشجر يضطر بعد ذلك للذهاب إلى شجرة أن يدخل بيوت الناس وبساتينهم ومعلوم : ان ذلك لا يسوّغ له الدخول بلا إذن .

ص: 369


1- - سورة البقرة : الآية 204 .
2- - سورة البقرة : الآية 207 .

وكان يجيء ويدخل إلى عذقه بغير إذن من الأنصاري . فقال الأنصاري : ياسمرة ! لا تزال تفجأنا على حال لا نحبُّ أن تفجأنا عليها ، فاذا دخلت فاستأذن . فقال : لا أستأذن في طريقي إلى عذقي . فشكاه الأنصاري إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فأتاه ، فقال له صلى اللّه عليه و آله وسلم : إنّ فلانا قد شكاك وزَعَم أنّك تَمُرّ عليه وعلى أهله بغير إذنه ، فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل ، فقال : يارسول اللّه ، استأذن في طريقي إلى عذقي؟ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : خلِّ عنه ولك عذقٌ في مكان كذا . قال : لا ، قال : فلك اثنان ، فقال : لا اُريد ، فجعل صلى اللّه عليه و آله وسلم يزيد حتى بلغ عشر أعذُقٍ ، فقال صلى اللّه عليه و آله وسلم :

-------------------

هذا ( و ) لكن سمرة ( كان يجئويدخل إلى عذقه بغير إذن من الأنصاري ، فقال الأنصاري ) لسمرة يوما : ( ياسمرة لا تزال تفجأنا على حال لا نحبّ أن تفجأنا عليها ) لدخولك بلا إذن ( فاذا دخلت فاستأذن ) ثم اُدخل .

( فقال ) سمرة : ( لا أستأذن في طريقي إلى عذقي ، فشكاه الأنصاري إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فأتاه ) أي : أتى سمرة الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ( فقال له ) الرسول ( صلى اللّه عليه و آله وسلم : إنّ فلانا قد شكاك وزعم انّك تمرّ عليه وعلى أهله بغير إذنه ، فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل ) منزله .

( فقال : يارسول اللّه ، استأذن في طريقي إلى عذقي؟ ) هذا ما لا يكون .

( فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : ) إذن ( خلِّ عنه ) أي : ارفع يدك عن عذقك ( ولك عذقٌ في مكان كذا ) يريد الرسول بذلك أن يعوّضه عذقا مكان عذقه حتى يكون عذق سمرة للأنصاري - مثلاً - .

( قال : ) سمرة ( لا ، قال : ) الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( فلك اثنان ، فقال لا اُريد ، فجعل صلى اللّه عليه و آله وسلم يزيد حتى بلغ عشر أعذُقٍ ، فقال ) رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم لسمرة

ص: 370

خلّ عنه ، ولك عشر أعذُق في مكان كذا ، فأبى ، فقال : خلّ عنه ولك بها عذقٌ في الجنة . فقال : لا اُريد . فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : إنّك رجلٌ مضارٌّ ، لا ضرر ولا ضِرار على مؤمن ، قال عليه السلام : ثم أمر بها رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فقُلِعت ، ثم رُمِي بها اليه . وقال له الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم : انطلِق واغرسها حيث شئت » ، الخبر .

وفي رواية اُخرى موثّقة : « أن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، وفي آخرها قال : رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم للأنصاري : إذهب فاقلَعها وارم بها إليه ، فانّه لا ضرر ولا ضِرار » ، الخبر .

-------------------

( خلّ عنه ، ولك عشر أعذق في مكان كذا ، فأبى ) سمرة .

( فقال ) صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( خلّ عنه ولك بها عذقٌ في الجنة ، فقال : لا اُريد ) .

وهنا لما رفض سمرة كل هذه الحلول ظهر انه يصرّ على أذى جاره ( فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : إنك رجلٌ مُضارٌّ ، لا ضرر ولا ضِرار على مؤمن ، قال عليه السلام : ثم أمر بها رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فقُلِعت ، ثم رُمِي بها اليه ، وقال له الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم : انطلق واغرسها حيث شئت » (1) الخبر ) .

هذا ( وفي رواية اُخرى موثّقة : « أن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، وفي آخرها قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم للأنصاري: إذهب فاقلعها وارم بها إليه، فانّه لا ضرر ولا ضرار» (2) الخبر).

ص: 371


1- - الكافي فروع : ج5 ص294 ح8 ، وسائل الشيعة : ج25 ص428 ب12 ح32281 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص292 ح2 ، تهذيب الأحكام : ج7 ص146 ب22 ح36 ، وسائل الشيعة : ج25 ص429 ب12 ح32281 .

...

-------------------

ثم إنّ الأوثق قد جمع جملة من الروايات الدالة على ذلك ، نذكرها تباعا ، ففي رواية العيون : «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : ليس منا من غش مسلما أو ضره أو ماكره» (1).

وفي رواية طلحة بن زيد عن الصادق عليه السلام : « ان الجار كالنفس غير مضار ولا آثم » (2) .

وفي رواية عقبة بن خالد عن الصادق عليه السلام قال: «قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال: لا ضرر ولا ضرار»(3) .

وعن هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبداللّه عليه السلام : « في رجل شهد بعيرا مريضا وهو يباع فاشتراه رجل بعشرة دراهم ، فجاء واشترك فيه رجلاً بدرهمين بالرأس والجلد ، فقضى : ان البعير برى ء فبلغ ثمنه دنانير ، قال : لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ ، فان قال : لا أُريد إلاّ الرأس والجلد ، فليس له ذلك هذا الضرار ، وقد اُعطي حقه إذا اُعطي الخمس » (4) .

وعن محمد بن الحسين قال : « كتبت إليه - يعني أبا محمد - عليه السلام رجل كان له رحىً على نهر قرية ، والقرية لرجل ، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر ويعطّل هذه الرحى ، أ له ذلك أم لا ؟ فوقّع عليه السلام : يتقي اللّه ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضرّ أخاه المؤمن » (5) .

ص: 372


1- - عيون اخبار الرضا : ص29 ح26 ، تحف العقول : ص42 ، صحيفة الرضا : ص43 ح13 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص666 ح2 و ج5 ( فروع ) ص31 ح5 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص140 ب22 ح5 و ج7 ص146 ب22 ح35 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص280 ح4 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص164 ب22 ح4 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص76 ب2 ح3368 .
4- - الكافي فروع : ج5 ص293 ح4 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص79 ب22 ح55 و ص82 ب22 ح65 .
5- - الكافي فروع : ج5 ص293 ح5 .

وأمّا معنى اللفظين ، فقال في الصحاح : « الضرُّ خلافُ النفع ، وقد ضرَّهُ وضارَّهُ بمعنى ، والإسمُ الضَّرر ، ثم قال : والضِّرار : المُضارَّة » .

وعن النهاية الأثيريّة : في الحديث : « لا ضَرر

-------------------

وعن عقبة بن خالد عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : « قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم بين أهل المدينة في مشارب النخل : انه لا يمنع نفع البئر ، وبين أهل البادية : انه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء ، فقال ، لا ضرر ولا ضرار » (1) .

وفي جملة من الروايات ان « من أضرّ بشيء من طريق المسلمين فهو ضامن » (2) .

( وأمّا معنى اللفظين ) : الضرر والضرار ( فقال في الصحاح : « الضرُّ ) بالفتح ( خلافُ النفع ) والظاهر : انه خلاف لا نفع ولا ضرر أيضا ، فان من يسافر لأجل تجارة قد يتضرر ، وقد ينتفع ، وقد لا يتضرر ولا ينتفع ( وقد ضرَّهُ وضارَّهُ بمعنى ) : واحد ( والإسم ) أي : اسم المصدر : ( الضَّرر ) .

ولا يخفى : ان الفرق بين المصدر واسم المصدر هو : ان المصدر يدل على الحدث المنسوب إلى الفاعل كالاغتسال بمعنى : فعل الغسل ، وامّا اسم المصدر : فيدل على الحالة الحاصلة من المصدر كالغسل فانه صورة وهيئة لما يأتي به المغتسل ، وكذلك التوضي والوضوء .

( ثم قال : والضّرار : المُضارَّة » (3) ) فيكون كالقتال والمقاتلة .

( وعن النهاية الأثيريّة ) أي : نهاية ابن الأثير انه قال : ( في الحديث : « لا ضرر

ص: 373


1- - الكافي فروع : ج5 ص293 ح6 .
2- - الكافي فروع : ج7 ص350 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج10 ص240 ب4 ح38 و ص231 ب4 ح44 ، من لا يحضره الفقيه : ج4 ص155 ب2 ح3546 .
3- - الصحاح : ج2 ص719 و ص720 مادة ضرر .

ولا ضِرار في الاسلام » . الضرُّ ضد النفع ، ضرّه يضرّه ضرّا وضِرارا ، وأضرَّ به يُضِرُّهُ إضرارا ، فمعنى قوله : لا ضرر : لا يَضُرُّ الرجلُ أخاه فينقصه شيئا من حقّه ، والضرارُ فِعالٌ من الضرّ ، أي : لا يجازية على إضراره بادخال الضرر عليه ، والضرر فعل الواحد ، والضِرار فعل الاثنين ، والضرر ابتداء الفعل ، والضرار الجزاء عليه . وقيل : الضررُ ما تضرُّ به صاحبَك وتنتفعُ أنت به ، والضرارُ أن تَضُرَّهُ بغير أن تنتفع .

-------------------

ولا ضِرار في الاسلام » (1) : الضرُّ ضد النفع ، ضرّه يضرّه ضرّا وضِرارا . وأضرَّ به يُضِرُّهُ إضرارا ) كل ذلك مستعمل ( فمعنى قوله : لا ضرر : لا يَضُرُّ الرجلُ أخاه فينقصه شيئا من حقّه ) والحق هنا يراد به الأعم من المال والجسم والعرض وما أشبه .

( والضرارُ ) مصدر على وزن : ( فِعالٌ ) من ضارب يضارب مضاربة وضرابا وضيرابا ، وهكذا : ضارر يضارر مضاررة وضرارا وضيرارا ( من الضرّ ، أي : لا يجازية على إضراره بادخال الضرر عليه ) فالمعنى الذي ذكره النهاية هو : انه إذا أضر إنسان إنسانا ، فلا يجوز لذلك الانسان المعتدى عليه ان يضرّ الضار .

( والضرر فعل الواحد ، والضِرار فعل الاثنين ) مثل : القتل والقتال ( والضرر ابتداء الفعل ، والضرار الجزاء عليه ) .

ثم قال النهاية : ( وقيل : الضررُ ما تضرُّ به صاحبَك وتنتفعُ أنت به ، والضرارُ أن تَضُرَّهُ بغير أن تنتفع ) ولكن هذا القيل لا شاهد عليه من إنصراف ونحوه .

ص: 374


1- - معاني الاخبار : ص281 ، مصباح الكفعمي : ص346 ، وسائل الشيعة : ج26 ص14 ب1 ح32382 ، نهج الحق ص489 و ص506 .

وقيل : هما بمعنى . والتكرار للتأكيد » ، انتهى .

وعن المصباح : « ضرّه يضرّه » من باب قتل : إذا فَعَلَ به مكروها ، وأضرّ به ، يتعدى بنفسه ثلاثيا والباء رباعيا ، والاسم الضررُ ، وقد يطلق على نقص في الأعيان ، وضارَّهُ يُضارّه مضارّة وضِرارا ، يعني : ضرّه » ، انتهى .

وفي القاموس : الضرر ضد النفع ، وضارّه يضارّه ضِرارا . ثم قال : والضررُ سوء الحال ، ثم قال :

-------------------

( وقيل : هما بمعنى ) واحد بلا فرق بين ان تقول : ضرّ أو ضارّ ( والتكرار ) في الحديث : « لا ضرر ولا ضرار » إنّما هو ( للتأكيد » (1) ، انتهى ) كلام النهاية .

( وعن المصباح : « ضرّه يضرّه » من باب قتل ، إذا فعل به مكروها وأضرّ به ) ذلك المكروه ، كما إذا ألقى متاعه في البحر ، لا مطلق المكروه ، فان من أحزن إنسانا لا يقال : انه ضره .

وهو ( يتعدى بنفسه ثلاثيا ) فيقال : ضرّه ( والباء رباعيا ) فيقال : أضرّ به ، فيكون من باب الأفعال حينئذ ( والاسم ) أي : اسم المصدر ( الضررُ ) .

هذا ( وقد يطلق على نقص في الأعيان ) وذلك من باب إستعمال الكلي في بعض افراده لأن نقص العين نوع من الضرر ، كما ان جرح الجسم نوع من الضرر أيضا ( وضارَّهُ يُضارّه مضارّة وضِرارا ، يعني : ضرّه » (2) انتهى ) فيكون حينئذ باب المفاعلة والمجرد بمعنى واحد .

( وفي القاموس : الضرر ضد النفع ، وضارّه يضارّه ضرارا ) فهو مضار ( ثم قال: والضررُ سوء الحال ) وهو معنى ملازم لكثير من افراد الضرر كما لا يخفى ،

ص: 375


1- - النهاية : ج3 ص81 مادة ضرر .
2- - المصباح المنير : ص360 .

والضرارُ : الضيق » ، انتهى .

إذا عرفت ما ذكرنا ،

-------------------

وإلاّ فسوء الحال لا يسمى في العرف ضررا ( ثم قال : ) القاموس ( والضرارُ : الضيق »(1) ، انتهى ) .

هذا ، لكن الظاهر : ان المفاعلة ليست بمعنى المجرد ، بل المراد بها فعل الاثنين ، غير انها قد تطلق على الواحد من باب التلازم الغالبي ، فان من أضرّ بانسان اضرّ به ذلك الانسان غالبا .

وكذا مثله قوله سبحانه : « قاتلهم اللّه » (2) حيث ان طبيعة القتل هو ان يكون له ردّ ، وقوله سبحانه : « يخادعون اللّه وهو خادعهم » (3) وقوله سبحانه : « وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به » (4) .

وهكذا قوله : سافرت ، حيث ان السفر ذهاب ومجئ، وسامحت زيدا حيث ان السماح من جانب يلازمه غالبا السماح من الجانب الآخر ، ومن ذكر لهما معنى واحدا أراد نتيجة الاستعمال لا إنهما بمعنى واحد ، فقد اشتهر : ان زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، وهو كذلك عند التتبع .

( إذا عرفت ما ذكرنا ) من مدرك هذه القاعدة ، ومن معنى اللفظين : « ضرر ، وضرار » ، ففي الرواية نقول : ان عمدة الاحتمالات في معنى هذا الحديث ثلاثة ، وسائر الاحتمالات ترجع إليها .

أمّا الاحتمال الأوَّل فهو ما أشار إليه المصنِّف بقوله :

ص: 376


1- - القاموس المحيط : ج2 ص550 مادة الضرّ .
2- - سورة التوبة : الآية 30 ، سورة المنافقون : الآية 4 .
3- - سورة النساء : الآية 142 .
4- - سورة النحل : الآية 126 .

فاعلم : إنّ المعنى بعد تعذّر ارادة الحقيقة عدم تشريع الضرر ، بمعنى : أنّ الشارع لم يشرع حكما يلزم منه ضررٌ على أحد ، تكليفيا كان أو وضعيا ، فلزوم البيع من الغبن حكمٌ يلزم منه ضررٌ على المغبون ، فينتفي بالخبر ، وكذلك لزوم البيع من غير شفعة للشريك . وكذلك وجوب الوضوء على من لا يجد الماء إلاّ بثمن كثير ،

-------------------

( فاعلم : إنّ المعنى بعد تعذّر ارادة الحقيقة ) إذ ظاهر « لا ضرر » انه لا وجود للضرر في الخارج مثل لا رجل في الدار حيث ان معناه : لا وجود للرجل في الدار ، لكن حيث ان الضرر في ا لخارج موجود قطعا ، فاللازم ان يراد من لا ضرر : المعنى المجازي وهو : كما قال :

( عدم تشريع الضرر ، بمعنى : انّ الشارع لم يشرع حكما يلزم منه ضرر على أحد ، تكليفيا كان ) ذلك الحكم ، كوجوب الوضوء والغسل والصلاة والصوم والحج وما أشبه ذلك ( أو وضعيا ) بناءا على ان الوضع غير التكليف على ما سبق الالماع إلى القولين في المسألة .

وعليه : ( فلزوم البيع من الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون فينتفي ) اللزوم ( بالخبر ) أي : بقوله : « لا ضرر ولا ضرار » فيكون للمغبون حق الفسخ .

( وكذلك لزوم البيع من غير شفعة للشريك ) يلزم منه تضرر الشريك ، فينتفي اللزوم بالخبر ويكون للشريك حق فسخ البيع ، وقد تمسك الامام عليه السلام بهذه الرواية لثبوت الشفعة .

( وكذلك وجوب الوضوء على من لا يجد الماء إلاّ بثمن كثير ) فانه ضرر عليه فيرفعه الخبر ، فلا يجب عليه الوضوء ، وإنّما يجوز له التيمم ، وهكذا بالنسبة إلى الغسل والتيمم .

ص: 377

وكذلك سلطنة المالك على الدخول إلى عذقه ، واباحته له من دون استيذان من الأنصاري ،وكذلك حرمة الترافع إلى حكّام الجور إذا توقف أخذُ الحق عليه .

ومنه : برائة ذمة الضارّ عن تدارك ما أدخله من الضرر ، إذ كما أنّ تشريع حكم يحدثُ معه الضررُ منفيٌّ بالخبر ، كذلك تشريع ما يبقى معه الضرر الحادث ، بل يجب أن يكون الحكم المشروع في تلك الواقعة

-------------------

( وكذلك سلطنة المالك على الدخول إلى عذقه واباحته ) أي : اباحة الشارع الدخول ( له ) أي : للمالك ( من دون استيذان من الأنصاري ) فان في هذا التسليط نوع ضرر لأن الضرر قد يكون دينيا ، وقد يكون ماليا ، وقد يكون عرضيا ، وقد يكون جسميا ، وقد يكون روحيا ، كما إذا سقاه دواءً فصار معتوها ، فانه لم يتضرر جسمه ، وإنّما تضرر روحه ، وسمرة كان يضر الأنصاري عرضيا .

( وكذلك ) بسبب « لا ضرر » يرتفع ( حرمة الترافع إلى حكّام الجور إذا توقف أخذ الحق عليه ) لأن الشارع إذا حرّم الرجوع إلى حكام الجور للتقاضي عندهم في حين لم يتمكن صاحب الحق ان ينقذ حقه من الظالم إلاّ بالرجوع إليهم كان الشارع قد أضره بسبب ذلك .

( ومنه : برائة ذمة الضارّ عن تدارك ما أدخله من الضرر ) على المتضرر ، فان الشارع إذا قال : ان الضارّ برئالذمة كان معناه : ان الشارع أضر المتضرر بسبب البرائة ذمة الضار ( إذ كما انّ تشريع حكم يحدث معه الضرر ) على ما مرّ من الأمثلة المتقدمة ( منفيّ بالخبر ، كذلك تشريع ما يبقى معه الضرر الحادث ) يكون منفيا بالخبر أيضا ، ومنه حكم الشارع ببرائة ذمة الضار كما عرفت .

( بل يجب ان يكون الحكم المشروع في تلك الواقعة ) التي أضر فيها إنسان

ص: 378

على وجه يتدارك ذلك الضرر كأن لم يحدث .

إلاّ أنّه قد ينافي هذا قوله : « لا ضِرار » بناءا على أنّ معنى الضرار : المجازاة على الضرر .

وكذا لو كان بمعنى : المضارّة ، التي هي من فعل الاثنين ، لأن فعل الثاني منهما ضرر قد نفي بالفقرة الاُولى ، فالضرارُ المنفي بالفقرة الثانية

-------------------

إنسانيا آخر ، ان يكون الحكم فيها ( على وجه ) الضمان - مثلاً - بحيث ( يتدارك ذلك الضرر ) حتى يكون الضرر الوارد ( كأن لم يحدث ) وهذا إنّما يكون إذا حكم الشارع بضمان الضار .

( إلاّ انّه قد ينافي هذا ) المعنى وهو : حكم الشارع بضمان الضار ( قوله : « لا ضرار » بناءا على انّ معنى الضرار : المجازاة على الضرر ) فانه لو كان معنى « لا ضرار » : انه لا يحق لانسان ان يجازي على الضرر ، لزم في المثال الأخير تعارض لا ضرر ولا ضرار .

وإنّما يلزم تعارضهما لأن الصدر يدل على عدم برائة ذمة الضار ووجوب الغرامة عليه ، والذيل يدل على ان المتضرر يحرم عليه أخذ الغرامة .

( وكذا لو كان ) الضرار ( بمعنى : المضارّة ، التي هي من فعل الاثنين ) فانه لو كان معنى « لا ضرار » عدم مضارة أحدهما للآخر ، لزم منه تعارض لا ضرر ولا ضرار في المثال الأخير أيضا .

وإنّما يلزم تعارضهما على هذا المعنى أيضا ( لأن فعل الثاني منهما ) وهو : المتضرر إذا أخذ الغرامة مثلاً من الضار ، فانه ( ضرر قد نفي بالفقرة الاُولى ) من وقله : « لا ضرر » المفيدة لوجوب ردّ الضرر بضرر مثله ( فالضرار المنفي بالفقرة الثانية ) من قوله : « لا ضرار » المفيدة لحرمة رد الضرر بضرر مثله

ص: 379

إنّما يحصلُ بفعل الثاني ، وكأنّ من فسره بالجزاء على الضرر أخذَهُ من هذا المعنى ، لا على أنّه معنى مستقلّ .

-------------------

( إنّما يحصل بفعل الثاني ) أي : بردّ المتضرر الضرر على الضار فيحصل التعارض بين الصدر القائل بوجوب ردّ الضرر ، والذيل القائل بحرمة ردّ الضرر بضرر مثله .

( وكأنّ من فسره ) أي : فسر « الضرار » في الرواية بالمعنى الأوّل أي : ( بالجزاء على الضرر أخذه ) أي : أخذ هذا التفسير ( من هذا المعنى ) أي : من معنى المضارة التي هي بين اثنين ، فهذا المعنى هو نفس المعنى الأوّل ( لا على انّه معنى مستقلّ ) .

هذا ، لكنك قد عرفت المعنى الذي ذكرناه ، وان الضرار غير الضرر ، فان الظاهر من : « لا ضرر ولا ضرار » انه لا يحق لانسان ان يضر غيره ، كما لا يضر اللّه سبحانه وتعالى الانسان بتشريع حكم ضرري عليه .

وكذا لا يحق لنفرين ان يضر أحدهما الآخر ، لأن المفاعلة بين الاثنين ، وهذا ليس بمعنى عدم الجزاء على الضرر حتى يقال : انه ينافي قوله سبحانه : «وجزاؤا سيئةٍ سيئةٌ مثلها » (1) وينافي قوله سبحانه : « فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » (2) بل معناه : عدم تشاغل نفرين في اضرار الآخر كشخصين إذا التقيا بسيفيهما حيث قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « القاتل والمقتول في النار » (3) ، وهذا غير ما إذا ضرب أحد شخصا بسيف حيث ان للمضروب حق القصاص وليس في النار .

ص: 380


1- - سورة الشورى : الآية 40 .
2- - سورة البقرة : الآية 194 .
3- - تهذيب الاحكام : ج6 ص174 ب22 ح25 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج15 ص148 ب67 ح5184 (بالمعنى) .

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.