الوصائل الى الرسائل المجلد 9

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

الوصائل إلى الرسائل

تتمّة المقصد الثالث: «تتمّة البرائة»

اشارة

ص: 4

الخامس :

لو اضطر إلى ارتكاب بعض المحتملات ، فان كان بعضا معينا ، فالظاهرُ عدمُ وجوب الاجتناب عن الباقي إن كان الاضطرار قبل العلم الاجمالي أو معه ، لرجوعه إلى عدم تنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام

-------------------

( الخامس ) من التنبيهات : ( لو اضطر إلى ارتكاب بعض المحتملات ) من اطراف الشبهة المحصورة ، فانه قد يكون الاضطرار إلى البعض المعيّن ، كما لو كان أحد المشتبهين لبنا والآخر ماءًا واضطر الى اللبن لأنه - مثلاً - قد تسمّم وأمره الطبيب بشرب اللبن حيث يكون الاضطرار هنا الى المعيّن وقد يكون الاضطرار إلى البعض غير المعيّن : كما لو كان كلا المشتبهين لبنا حيث لايختلف اضطراره إلى هذا أو إلى ذاك ، فيكون الاضطرار إلى غير المعيّن .

وعليه : ( فان كان ) المضطر اليه ( بعضا معينا ) كما مثّلنا له ( فالظاهرُ : عدم وجوب الاجتناب عن الباقي ) فيجوز ارتكاب الجميع .

أمّا اللبن : فلأنه مضطر إليه .

وأمّا الماء : فلأنّه لا تكليف منجّز بالنسبة إليه تفصيلاً ولا اجمالاً .

هذا ، فيما ( ان كان الاضطرار قبل العلم الاجمالي أو معه ) بأن اضطر إلى شرب اللبن ثم علم بأن احد الانائين من اللبن أو الماء نجس ، أو كان اضطراره وعلمه بنجاسة أحدهما في وقت واحد .

وانّما قلنا بعدم وجوب الاجتناب عن الباقي وهو الماء في المثال ( لرجوعه ) أي : لرجوع الأمر في هذا المثال ( إلى عدم تنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام

ص: 5

الواقعي ، لاحتمال كون المحرّم هو المضطرّ إليه ، وقد عرفت توضيحه في الأمر المتقدّم .

وان كان بعده ، فالظاهرُ وجوبُ الاجتناب عن الآخر ، لانّ الإذنَ في ترك بعض المقدّمات العلميّة

-------------------

الواقعي ) وذلك ( لاحتمال كون المحرّم هو المضطرّ إليه ) فيرتفع التكليف بالنسبة الى المضطر اليه وهو اللبن ، ويبقى الماء مشكوك النجاسة ، فيكون من الشبهة البدوية وهو مجرى البرائة .

هذا ( وقد عرفت توضيحه في الأمر ) الثالث من التنبيهات في البحث ( المتقدّم ) حيث ذكرنا هناك : إنّ التكليف بالاجتناب عن المشتبهين انّما يتنجّز إذا كان كلّ من المشتبهين بحيث لو فرض القطع بكونه الحرام كان التكليف منجزا.

وأمّا إذا كان أحدهما كذلك دون الآخر ، وذلك اما للاضطرار أو لخروجه عن محل الابتلاء ، أو لعدم انفعاله كما في مثال الكُرّ والاناء ، فلا يتنجز التكليف فيه بالاجتناب لأنّ المفروض خروج أحدهما عن كونه كذلك ويبقى الآخر مشكوكا بالشك البدوي فتجري فيه البرائة .

هذا كله إذا كان الاضطرار إلى المعيّن قبل العلم الاجمالي أو مع العلم الاجمالي ( و ) أما ( ان كان ) الاضطرار الى المعيّن ( بعده ) أي : بعد العلم الاجمالي ، بان علم بنجاسة احد المشتبهين من الماء أو اللبن ، ثم اضطر إلى اللبن ( فالظاهر : وجوب الاجتناب عن الآخر ) وهو الماء في المثال .

وانّما يجب الاجتناب عن الآخر ( لانّ الإذنَ في ترك بعض المقدّمات العلميّة

ص: 6

بعد ملاحظة وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي يرجعُ إلى اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكليف بالاجتناب عن بعض المشتبهات .

ولو كان المضطرُّ اليه بعضا غير معيّن وجب الاجتنابُ عن الباقي وإن كان الاضطرار قبل العلم الاجمالي ، لأنّ العلم حاصل بحرمة واحد من

-------------------

بعد ملاحظة وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي ) بينهما حيث قد كلّف أوّلاً باجتناب الحرام الواقعي المشتبة بين اللبن والماء ، فاذا إذن له في ارتكاب اللبن لأنه صار مضطرا إليه ، فهذا الاذن ( يرجع إلى اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكليف بالاجتناب عن بعض المشتبهات ) لا الترخيص في كل المشتبهات .

وعليه : فانّه بعد تنجّز التكليف بالاجتناب للعلم الاجمالي بوجود النجس بين اللبن والماء إذا أذن له بارتكاب اللبن الذي هو بعض الأطراف لم يكن وجه لسقوط التكليف عن الطرف الآخر الذي هو الماء فيبقى على وجوبه .

هذا تمام الكلام فيما إذا كان الاضطرار الى أحدهما المعيّن .

( و ) أمّا ( لو كان المضطرُّ اليه بعضا غير معيّن ) كما مثلنا له بانائين من لبن حيث لا يختلف الحال في ان يشرب هذا أو ذاك ، فانه إذا اضطر المكلّف إلى أحدهما (وجب الاجتنابُ عن الباقي ) مطلقا سواء كان الاضطرار قبل العلم أم بعد العلم ، ولهذا فسّره بقوله : ( وإن كان الاضطرار قبل العلم الاجمالي ) بان اضطر الى شرب أحد اللبنين أولاً ، ثم علم بأن أحدهما نجس ، ففي كلتا الصورتين يجب الاجتناب عن الباقي .

وانّما يجب الاجتناب عن الباقي مطلقا ( لأنّ العلم حاصل بحرمة واحد من

ص: 7

امور لو علم حرمته تفصيلاً وجب الاجتناب عنه ، وترخيصُ بعضها على البدل موجبٌ لاكتفاء الامر بالاجتناب عن الباقي .

فان قلت : ترخيصُ ترك بعض المقدّمات دليلٌ على عدم إرادة الحرام الواقعي ، ولا تكليف بما عداه ، فلا مقتضي لوجوب الاجتناب عن الباقي .

قلت : المقدّمة العلميّة مقدّمة للعلم ،

-------------------

امور لو علم حرمته تفصيلاً وجب الاجتناب عنه ، و ) ذلك لفرض ان الاضطرار يرتفع بارتكاب ذلك البعض غير المعين ، فان ( ترخيص بعضها على البدل موجبٌ لاكتفاء الامر بالاجتناب عن الباقي ) .

وعليه : فان التكليف بالاجتناب قد تنجز فاذا أذن له بارتكاب البعض غير المعين ، وكان الاجتناب عن البعض الآخر باقيا على وجوبه ، اذ لا وجه لرفع اليد عنه .

( فان قلت : ترخيص ) الشارع في ( ترك بعض المقدّمات ) أذِنَ بارتكاب المضطر إليه المعين أو غير المعين ، معناه : رفع يده عن بعض المقدّمات العلمية للحرام الواقعي ، وهو ( دليلٌ على عدم إرادة ) الشارع اجتناب ( الحرام الواقعي ) وذلك للملازمة بين ارادة الشارع اجتناب الحرام الواقعي و وجوب المقدّمات .

( و ) عليه فاذا كان الترخيص في البعض ملازما لعدم التكليف بالواقع ، فلا تكليف رأسا ، اذ ( لا تكليف بما عداه ) أي : بما عدا الحرام الواقعي ، وحينئذٍ ( فلا مقتضي لوجوب الاجتناب عن الباقي ) فمن اين قلتم بوجوب اجتناب الباقي ؟ .

( قلت : المقدمّة العلميّة مقدّمة للعلم ) أي : مقدمة لعلم المكلّف بانّه قد اجتنب عن الحرام الواقعي وليست المقدمة مقدمة لنفس اجتناب الحرام الواقعي ، حتى

ص: 8

واللاّزم من الترخيص فيها عدم وجوب تحصيل العلم ، لا عدم وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي رأسا .

وحيث أنّ الحاكم بوجوب تحصيل العلم هو العقل ، بملاحظة تعلّق الطّلب الموجب للعقاب على المخالفة الحاصلة من ترك هذا المحتمل ، كان الترخيص المذكور موجبا للأمن من

-------------------

يكون رفع اليد عن بعض المقدمات دليلاً على اسقاط الشارع الحرام عن الحرمة .

( و ) عليه : فانّ ( اللاّزم من الترخيص فيها ) أي : في بعض المقدمات ( عدم وجوب تحصيل العلم ) بالاجتناب عن الحرام الواقعي ( لا عدم وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي رأسا ) .

إذن : فالشارع يريد اجتناب الحرام الواقعي بقدر الامكان ، فيبقى الباقي على وجوبه ، لانّ الاذن في ارتكاب أحدهما لا يدلّ على عدم وجوب الاجتناب رأسا، بل يدل على عدم وجوب تحصيل العلم بالاجتناب عن الحرام الواقعي والاكتفاء بالاجتناب الظني وهو يحصل بالاجتناب عن احدهما .

هذا ( وحيث انّ الحاكم بوجوب تحصيل العلم ) باجتناب الحرام الواقعي المتحقق باجتناب كلا المشتبهين ( هو العقل بملاحظة تعلّق الطّلب ) من الشارع بالاجتناب عن الحرام الواقعي ( الموجب للعقاب على المخالفة الحاصلة ) تلك المخالفة (من ترك) اجتناب ( هذا المحتمل ) معيّنا ، أومخيّرا بينه وبين المحتمل الآخر .

ومن المعلوم : إنّ الانسان اذا ترك الاجتناب عن هذا المحتمل أو عن ذاك المحتمل ، احتمل العقاب على هذه المخالفة ، ولذلك ( كان الترخيص المذكور ) من الشارع في ترك الاجتناب عن بعض المقدمات ( موجبا للأمن من

ص: 9

العقاب على المخالفة الحاصلة في ترك هذا الذي رخّص في تركه ، فيثبت من ذلك تكليف متوسط بين نفي التكليف رأسا وثبوته متعلّقا بالواقع على ما هو عليه .

وحاصله : ثبوت التكليف بالواقع من الطريق الذي رخّص الشارع في امتثاله منه ،

-------------------

العقاب على المخالفة الحاصلة ) احتمالاً ( في ترك ) الاجتناب عن ( هذا الذي رخّص في تركه ) الشارع فقط ، دون بقية الاطراف .

وعليه : فانّ الشارع سواء رخَّص في ترك المعين أو رخَّص في ترك أحَدهما على البدل ، فانّه ينحصر احتمال العقاب في المحتمل الآخر ، فيجب اجتنابه لا ان يترك الاجتناب عن كلا المشتبهين لأنّه اضطر الى أحدهما .

والحاصل : ان احتمال الحرام الواقعي باقٍ والعقل يرى لزوم اجتنابه ، لأنّ التكليف بالاجتناب منجّز ، والخارج عن محتمل العقاب هو المضطر إليه فقط ، فلا وجه لارتكاب غير المضطر إليه .

وعليه : ( فيثبت من ذلك ) أي : من تنجّز التكليف من جهة وإذن الشارع في ارتكاب أحدهما من جهة ثانية ( تكليف متوسط بين : نفي التكليف رأسا ) حتى يجوز له ارتكاب كليهما .

( وثبوته ) أي : ثبوت التكليف ( متعلّقا بالواقع على ما هو عليه ) حتى يلزم عليه اجتناب كليهما لا ، وانّما التكليف ثابت في الجملة ، كما انّه منفي في الجملة لا انّ كل التكليف ثابت ولا انّ كل التكليف منفي .

( وحاصله : ) أي : حاصل التكليف المتوسط هو : ( ثبوت التكليف بالواقع من الطريق الذي رخّص الشارع في امتثاله ) أي : امتثال ذلك الواقع ( منه ) أي :

ص: 10

وهو ترك باقي المحتملات .

وهذا نظير جميع الطرق الشرعيّة المجعولة للتكاليف الواقعيّة ، ومرجعه الى القناعة عن الواقع ببعض محتملاته معيّنا ، كما في الأخذ بالحالة السابقة في الاستصحاب ، أو مخيّرا

-------------------

من ذاك الطريق ( وهو ترك باقي المحتملات ) غير المضطر اليها ، فالمضطر إليه خارج والباقي داخل في التكليف .

( وهذا ) التكليف المتوسط لا بدع فيه ، اذ هو ( نظير جميع الطرق الشرعيّة المجعولة للتكاليف الواقعيّة ) فان الشارع يريد التكاليف الواقعية ، لكن جعل لها طرقا ، فما وافق الطريق ارادة الشارع من المكلّف ، وما لم يوافقها لم يرده على نحو التنجيز ، لاًنّ الشارع يريد الواقع الواصل لا الواقع مطلقا .

وعليه : فانّ معنى حجيّة الخبر - مثلاً - انك اذا احتملت كون الشيء في الواقع حراما أو حلالاً ، ثم قام الخبر على حليته أو حرمته ، كان معنى ذلك : انّ الشارع يريد الواقع من طريق الخبر سواء وافق الخبر الواقع أم لم يوافق الواقع ، وكذلك حال جميع الامور التي هي حجّة من قبل الشارع مثل : الظواهر ، والاجماع ، والشهرة المحققة ، والسيرة ، وغير ذلك ممّا ذكروه في محله .

( ومرجعه ) أي : مرجع التكليف المتوسط ( الى القناعة ) من الشارع ( عن الواقع ببعض محتملاته ) أي : محتملات الواقع ( معيّنا ) كما لو اضطر الى أحد المشتبهين معيّنا ، فانّه يأتي بذلك المشتبه المعين اضطرارا ويترك المشتبه الآخر .

و ( كما في الأخذ بالحالة السابقة في الاستصحاب ) وترك ما عداها ، فانّ الشارع قنع بها عن الواقع مع امكان أن يكون الواقع فيما عدا ذلك .

( أو مخيّرا ) كما اذا اضطر الى أحد المشتبهين لا على التَعيين ، فانّ الشارع

ص: 11

كما في موارد التخيير .

وممّا ذكرنا تبيّن أنّ مقتضى القاعدة عند انسداد باب العلم التفصيلي بالاحكام الشرعية وعدم وجوب تحصيل العلم الاجمالي فيها بالاحتياط ،

-------------------

اكتفى بامتثال الواقع بترك أحد المحتملين مخيّرا وارتكاب أحدهما من باب الاضطرار ، فان كان المتروك موافقا للواقع فبها ونعمت ، وان كان مخالفا فقد جعله الشارع بدلاً عن الواقع .

و ( كما في موارد التخيير ) بين الخبرين ، أو المجتهدين ، أو ما اشبه ذلك ، حيث أنّ الشارع اكتفى في امتثال الواقع باختيار أحدهما .

( وممّا ذكرنا ) في وجه ترك الاحتياط في بعض أطراف العلم الاجمالي لأجل الاضطرار ، وانه يلزم ان يكون الترك بقدر الاضطرار وهو لا يوجب سقوط التكليف بالنسبة الى باقي الأطراف ، يرد الاشكال الى الانسداديين القائلين بأنّه اذا لم يتمكن المكلّف من جميع المحتملات يأتي بالمظنون منها فقط ، مع ان مقتضى القاعدة : أن يأتي بالقدر الممكن الأعم من المظنونات .

وانّما يكون مقتضي القاعدة ذلك ، لانك قد عرفت : انّ الاضطرار يرفع الحكم بقدر الاضطرار لا أكثر من ذلك ، فان كانت المحتملات ألف حكم ولم يتمكن الاّ من خمسمائة وكان أربعمائة منها مظنونات ، فالازم أن يأتي بالخمسمائة ، وذلك باضافة مائة من غير المظنونات أيضا بالاربعمائة المظنونات فقط .

وانّما يكون اللازم ذلك لانه قد ( تبيّن أنّ مقتضى القاعدة عند انسداد باب العلم التفصيلي بالأحكام الشرعية ، وعدم وجوب تحصيل العلم الاجمالي فيها ) أي : في كل تلك الأحكام ( بالاحتياط ) التام ، وذلك باتيان جميع المحتملات ،

ص: 12

لمكان الحرج ، أو قيام الاجماع على عدم وجوبه، أن يرجعَ في ما عدا البعض المرخّص في ترك الاحتياط فيه ، أعني موارد الظنّ مطلقا أو في الجملة ، الى الاحتياط .

مع أنّ بناء أهل الاستدلال بدليل الانسداد بعد ابطال الاحتياط ووجوب العمل بالظّن مطلقا ، أو في الجملة ، على الخلاف بينهم على الرجوع

-------------------

فانه لايجب ( لمكان الحرج ) الحاصل من الاتيان بجميع المحتملات ( أو ) انه لايجب لاجل ( قيام الاجماع على عدم وجوبه ) أي : على عدم وجوب الاحتياط التام .

إذن : فالمقتضي هو : ( أن يرجعَ ) عند ذلك ( في ما عدا البعض المرخّص في ترك الاحتياط فيه ) والمرخّص هو : ما كان مستلزما للعسر أو الخروج أو قام الاجماع على انّه لا يلزم الاحتياط فيه ، كما قال : ( أعني ) من المرخّص فيه : ( موارد الظّن ) بعدم التكليف ، للحرج وما أشبه ( مطلقا ) حيث انه لا تكليف فيما لم يكن بمظنون سواء كان الظن قويا أم ضعيفا ( أو في الجملة ) بأن كان الظن بعدمه قويا ، فالمرجع يكون ( الى الاحتياط ) بالنسبة الى القدر الممكن ، لا ان يترك الاحتياط الى المظنونات فقط مع ان المظنونات اقل من القدر الممكن .

هذا ( مع انّ بناء أهل الاستدلال بدليل الانسداد بعد ابطال الاحتياط ) التام في كل المحتملات ( ووجوب العمل بالظّن ) في باب الاحكام ( مطلقا ) سواء كان الظن قويا أم ضعيفا ( أو في الجملة ) بأن كان وجوب العمل بالظن القوي فقط ، وذلك ( على الخلاف بينهم ) في انّ دليل الانسداد هل يوجب الاحتياط بالعمل بالظن القوي فقط ، أو بالظن الأعم من القوي والضعيف ؟ هو ( على الرجوع

ص: 13

في غير موارد الظن المعتبر الى الاصول الموجودة في تلك الموارد دون الاحتياط .

نعم ، لو قامَ بعد بطلان وجوب الاحتياط دليلٌ عقلي ، أو إجماع على وجوب كون الظنّ مطلقا ، أو في الجملة ، حجّة وطريقا في الاحكام الشّرعيّة ، أو منعوا أصالة وجوب الاحتياط عند الشك في المكلّف به ، صَحَّ ما جروا عليه

-------------------

في غير موارد الظن المعتبر الى الاصول الموجودة في تلك الموارد ) المشكوكة بخصوصها : من البرائة ، أو الاحتياط ، أو الاستصحاب، أو التخيير ( دون الاحتياط ) التام في كل المحتملات الذي أبطلوه .

إذن : فالانسداديون لا يقولون بالزوم الاحتياط بالقدر الممكن ، لأنه اذا كانت المظنونات بالنسبة الى الميسور من الاحتياط أقل من القدر الممكن لكان ينبغي حينئذٍ وجوبه العمل بقدر الميسور الذي هو فوق قدر الظن ، لا ان يعمل المكلّف بقدر الظن وان كان فوق قدر الظن ميسورا.

( نعم ، لو قام بعد بطلان وجوب الاحتياط ) التام ( دليلٌ عقلي أو اجماع على وجوب كون الظّن مطلقا ) قويا كان أو ضعيفا ( أو في الجملة ) بأن كان خصوص الظن القوي - مثلاً - ( حجّة وطريقا في الاحكام الشّرعيّة ) حتى يكون الظن هو محور الأخذ والرّد والعطاء والمنع .

( أو منعوا اصالة وجوب الاحتياط عند الشك في المكلّف به ) بأن أجازوا الرجوع الى البرائة ما لم يؤدّ الى المخالفة القطعية .

وحينئذٍ : فاذا تم أحد الامرين عند القائلين بالانسداد ( صَحَّ ما جروا عليه ) من العمل بالظن فقط دون القدر الميسور من الاحتمالات ، ولكنهم لم يقيموا دليلاً على ذلك .

والحاصل : انّه اذا كان دليل العمل بالظن : عدم لزوم الحرج من العمل بكل

ص: 14

من الرجوع في موارد عدم وجود هذا الطريق الى الاصول الجارية في مواردها .

لكنّك خبيرٌ بأنّه لم يقم ولم يقيموا على وجوب اتّباع المظنونات إلاّ بطلان الاحتياط ، مع اعتراف اكثرهم بأنّه الاصل في المسألة وعدم جواز ترجيح المرجوح .

-------------------

المحتملات ، لزم ترك ما يستلزم الحرج فقط لا ترك الأكثر ، بينما الذين يوجبون العمل بالظن فقط يقولون بأنه لا يلزم سائر المحتملات غير المظنونة وان لم يكن في الاتيان بغير المظنونة حرج .

نعم ، لو كان هناك دليل على العمل بالظن فقط بعد ابطال وجوب الاحتياط في جميع المحتملات فانه يصح ما جروا عليه ( من الرجوع في موارد عدم وجود هذا الطريق ) الظني ( الى الاصول الجارية في مواردها ) من الاستصحاب والبرائة وغيرهما .

هنا ( لكنّك خبيرٌ بأنّه لم يقم ، ولم يقيموا ) اي : القائلون بالانسداد ( على وجوب اتّباع المظنونات إلاّ ) دليلين فقط ، وهما كالتالي :

أولاً : ( بطلان الاحتياط ) التام في الكل ، ومن المعلوم : انّه لا تلازم بين بطلان الاحتياط في الكل ، وبين حجيّة المظنونات فقط ( مع اعتراف اكثرهم : بانّه ) اي : الاحتياط هو ( الاصل في المسألة ) أي : مسألة العلم الاجمالي ، فان الانسداديين يعترفون : بأن الأصل في مسألة العلم الاجمالي هو الاحتياط .

وعليه : فكيف تتركوا من ذلك الى المظنونات فقط مع انّ الاحتياط أوسع دائرة من المظنونات بعد اخراج مقدار الحرج منها ؟ .

( و ) ثانيا : انهم لم يقيموا على وجوب اتباع المظنونات بعد بطلان الاحتياط الاّ دليل ( عدم جواز ترجيح المرجوح ) على الراجح ، وذلك بان يترك الاحتياط

ص: 15

ومن المعلوم أنّ هذا لايفيد الاّ جواز مخالفة الاحتياط بموافقة الطرف الراجح في المظنون دون الموهوم ، ومقتضى هذالزوم الاحتياط في غير المظنونات .

السادس :

لو كان المشتبهاتُ ممّا يوجد تدريجا ، كما اذا كانت زوجةُ الرجل مضطربةً في حيضها ، بأن تنسى وقتها وإن حفظت عددها ،

-------------------

لتوهم عدم التكليف أو احتمال عدمه فانه لا يجوز .

( ومن المعلوم انّ هذا ) الدليل ( لا يفيد الاّ جواز مخالفة الاحتياط بموافقة الطرف الراجح في المظنون ) فقط فانّه اذا كان التكليف مظنون العدم ، جاز فيه مخالفة الاحتياط وتركه لموافقة الظن بعدم التكلّيف ( دون الموهوم ) فانه لايجوز ترك الاحتياط ومخالفته فيما اذا كان التكليف مشكوك العدم أو موهومه .

وعليه : فاذا دار الأمر بين المظنون والمرهوم اخذ بالمظنون وترك الموهوم ، ولكن ليس الامر كذلك في المشكوك ، فان الاخذ به ليس من ترجيح المرجوح ( و ) بذلك يكون ( مقتضى هذا ) الدليل وسابقه هو : ( لزوم الاحتياط في غير المظنونات ) أيضا على ما عرفت تفصيله .

( السادس ) من التنبيهات : ( لو كان المشتبهات ممّا يوجد تدريجا ، كما اذا كانت زوجةُ الرجل مضطربةً في حيضها ، بأن تنسى وقتها وان حفظت عددها ) وذلك فيما اذا كانت مبتلاة بسيلان الدم في تمام الشهر ، فان بعض هذا الدم حيض وبعض هذا الدم استحاضة بلا اشكال .

ص: 16

فتعلمُ اجمالاً أنّها حائض في الشهر ثلاثة أيام - مثلاً - فهل يجب على الزوج الاجتناب عنها في تمام الشهر ؟ ويجب على الزّوجة أيضا الامساكُ عن دخول المساجد وقراءة العزيمة تمام الشهر ، أم لا ؟ وكما اذا علم التاجرُ اجمالاً بابتلائه في يومه أو شهره بمعاملة ربويّة ، فهل يجب عليه الامساكُ عمّا لا يعرف حكمه من المعاملات في يومه أو شهره أم لا ؟ .

-------------------

وحينئذٍ : ( فتعلمُ اجمالاً أنّها حائض في الشهر ثلاثة أيام - مثلاً - ) لكنّها لا تعلم هل هو في أول الشهر ، أو في وسط الشهر، أو في آخره ، أو ما بين ذلك ؟ .

وعليه ( فهل يجب على الزوج الاجتناب عنها في تمام الشهر ؟ ويجب على الزّوجة أيضا الامساكُ عن دخول المساجد وقرائة العزيمة ) ومسّ كتابة القرآن وماأشبه ذلك في ( تمام الشهر ، أم لا ) يجب؟ وهذا البحث إنّما هو لمعرفة الحكم حسب مقتضى الاصل مع غض النظر عن الدليل الخاص، فان احكام المضطربة حتى مثل هذه مذكورة في الفقه حسب الروايات، أو مراجعة الاقران، أو ما اشبه ذلك .

( وكما اذا علم التاجرُ اجمالاً بابتلائه في يومه أو شهره بمعاملة ربويّة ) أو معاملة غير جائزة كمعاملة الميتة ، أو ما أشبه ذلك ( فهل يجب عليه الامساك عمّا لا يعرف حكمه من المعاملات ) أو لم يعرف موضوعه بان يعلم انه ميتة او مذكاة ، فهل يجب الامساك ( في يومه أو شهره أم لا ) يجب عليه الامساك بل يصح له التعامل طول الشهر ؟ .

في المسألة احتمالات اربعة :

الأول :الامساك طول الشهر وهو مقتضى العلم الاجمالي .

الثاني : الارتكاب طول الشهر وهو مقتضى خروج ما عدا الموجود بالفعل عن محل الابتلاء ، فان اول الشهر - مثلاً - وان كان احد الاطراف الاّ انه ما عدا أول

ص: 17

التحقيقُ أن يقال : إنّه لا فرق بين الموجودات فعلاً والموجودات تدريجا في وجوب الاجتناب عن الحرام المردّد بينهما إذا كان الابتلاء دفعةً ، وعدمِهِ

-------------------

الشهر خارج عن محل الابتلاء فيجري في اول الشهر أصل البرائة بلا معارض والجريان إنّما هو من الشك البدوي ، وهكذا في بقية أيام الشهر ، فيجوز حينئذٍ ارتكاب الجميع .

الثالث : التخيير الابتدائي أو الاستمراري في حصر الحرام بوقت خاص كأول الشهر - مثلاً - والجريان عليه او تغييره في الاشهر المتعددة ، أو المعاملات المتعددة ، وهو مقتضى الجمع بين حقه في التصرف وحق اللّه سبحانه تعالى في المنع .

الرابع : الارتكاب الى أن تبقي ثلاثة أيّام من الشهر ، او الى ان تبقى معاملة واحدة مجهولة ، حيث يحصل العلم بأن الحرام اما فيما سبق ، او في هذه الاخيرة ، وهو مقتضي كون العلم منجزا للتكليف .

وهناك بعض الاحتمالات الاخر مثل : القرعة والعمل بالظن ، وقاعدة الانصاف في موارده ، الى غير ذلك .

ولا يخفى : ان مثل هذا الأمر يأتي أيضا فيما اذا لم يقدر على القيام في الصلاة الاّ في ركعة واحدة - مثلاً - فهل يأتي بالركعة من قيّام أولاً أو يتخيّر بينها ؟ وكذا اذا لم يتمكن من صيام كل الشهر ، فهل يجوز أن يفطر أوّل الشهر أو اللازم تأخير الافطار الى وقت الاضطرار ؟ .

( التحقيقُ أن يقال : إنّه لا فرق بين الموجودات فعلاً ) أي : المجتمعات في الزمان ( والموجودات تدريجا ) أي : المتفرقات في أزمنة متعددة ( في وجوب الاجتناب عن الحرام المردّد بينهما إذا كان الابتلاء دفعةً ، وعدمِهِ ) أي : عدم كون الابتلاء دفعة بل تدريجا ، فانّه لا فرق بين الابتلاء الدفعي والتدريجي في وجوب

ص: 18

لاتحاد المناط في وجوب الاجتناب .

نعم ، قد يمنع الابتلاء دفعةً في التدريجيات ، كما في مثال الحيض ، فانّ تنجّز تكليف الزّوج بترك وطي الحائض قبل زمان حيضها ممنوع ، فانّ قول الشارع : « فَاعتَزِلُوا النِّسَاءَ في المَحِيضِ وَ لاَ تَقربُوهُنَّ حَتَّى

-------------------

الاجتناب عن الجميع .

وانّما لا فرق بينهما ( لاتحاد المناط في وجوب الاجتناب ) وهو : العلم الاجمالي وفعلية التكليف على التقديرين ، فانّ العقلاء لا يفرّقون في وجوب الاجتناب بين قول المولى : لا تشرب هذا الماء وتردد بين الماء في الاناء الأبيض أو الماء في الاناء الأحمر ، وبين قول المولى : لا تشرب هذا الماء، وترددّ بين ان قال له : لا تشربه هذا اليوم أو لا تشربه غدا .

كما ان الشأن كذلك في وجوب الاحتياط في باب الأوامر : بأن قال له المولى : صلّ هذا اليوم وتردّد بين الظهر أوالجمعة ، أو قال له : صلّ وتردّد في انّه يجب عليه الصلاة هذا اليوم أو الصلاة غدا ؟ .

وكذلك الحال في القسم الثالث : وهو ما اذا كان امر ونهي وتردّد بينهما هذا اليوم ، أو تردّد بينهما في كون هذا اليوم الأمر وغدا النهي - مثلاً - ؟ .

( نعم ، قد يمنع الابتلاء دفعةً في التدريجيات ) كمثال الحيض وما أشبه ذلك ، فيقال : بأنه لا يمكن فيها كون التكليف فعليا ، لان فعلية التكلّيف متوقفة على فعلية المكلّف به ولا فعلية للمكلف به ( كما في مثال الحيض ، فانّ تنجّز تكليف الزّوج بترك وطي الحايض قبل زمان حيضها ممنوع ) فلا تكليف فعليّ به .

وعليه: ( فانّ قول الشارع: « فَاعتَزِلُوا النِّسَاءَ في المَحِيضِ وَ لاَ تَقربُوهُنَّ حَتَّى

ص: 19

يَطهُرنَ » ، ظاهر في وجوب الكفّ عند الابتلاء بالحائض ، اذ التركُ قبل الابتلاء حاصلٌ بنفس عدم الابتلاء ، فلا يطلب بهذا الخطاب ، كما أنّه مختصّ بذوي الأزواج ، ولا يشمل العزّاب ، إلاّ على وجه التعليق ، فكذلك من لم يبتل بالمرأة الحائض .

ويشكل الفرق بين

-------------------

يَطهُرنَ » (1) ، ظاهر في وجوب الكفّ عند الابتلاء بالحايض ) لا انّه يشمل في الحال الحاضر الحيض المستقبل ، فانه لا يقال للخروج في شهر شعبان : يحرم عليك الوطي ويراد بذلك الوطي في شهر رمضان .

وإنّما يكون ظاهرا في وجوب الكف عند الابتلاء ( اذ التركُ قبل الابتلاء حاصلٌ بنفس عدم الابتلاء ) فانّ عدم وطي المرأة قبل الحيض أمر قهري في أنه لايكون وطيا في حال الحيض ( فلا يطلب بهذا الخطاب ) لأنه اذا طلب كان من تحصيل الحاصل .

والحاصل : ( كما أنّه ) اي : الخطاب بترك وطي الحائض ( مختصّ بذوي الأزواج ، و ) ذلك بان تكون له زوجة وهي حائض ، لا الذي ليس له زوجة ، أو له زوجة لكنها منقطعة - مثلاً - فانه لا يشمله الخطاب بترك وطيها ، وكذلك لا يشمله الخطاب بترك وطيها ان لم تكن حائضا بالفعل .

إذن : فالخطاب بترك وطي الحائض ( لايشمل العزّاب إلاّ على وجه التعليق ) وذلك بأن يقول ان ابتليت بزوجة حائض فاترك وطيها ، فانه كما يختص الخطاب بذوي الازواج ( فكذلك من ) تزوج وهو ( لم يبتل بالمرأة الحائض ) فانّه لايشمله الخطاب : ايضا الاّ على وجه التعليق .

( و ) لكن اذا قلنا بعدم تنجز التكليف بالنسبة الى الحيض ( يشكل الفرق بين

ص: 20


1- - سورة البقرة : الآية 222 .

هذا وبين ما اذا نذر ، أو حلف في ترك الوطي في ليلة خاصة ، ثم اشتبهت بين ليليتن أو أزيد .

ولكن الأظهر هنا وجوب الاحتياط ، وكذا في المثال الثاني من المثالين المتقدّمين .

وحيث قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة التدريجية ، فالظاهرُ جواز المخالفة القطعيّة ،

-------------------

هذا وبين ما اذا نذر أو حلف في ترك الوطي في ليلة خاصة ، ثم اشتبهت بين ليليتن أو أزيد ) فانّ الفقهاء يوجبون الاحتياط هنا ، مع ان شبهة عدم فعلية التكليف على كل تقدير آت في النذر والحلف ايضا .

هذا ( ولكن الأظهر هنا ) في باب النذر واخويه من العهد واليمين : ( وجوب الاحتياط ، وكذا في المثال الثاني من المثالين المتقدّمين ) وهي مسألة حرمة الرّبا التي يبتلي بها المكلّف في عدة معاملات في يومه او في عدة أيام .

وإنّما فرّق المصنِّف بين الأمرين ، لأنّ وجوب الوفاء بالنذر وحرمة الربّا ليسا متعلقين بزمان في الدليل الشرعي ، بل هما مطلقان ، مثل قوله تعالى « يُوفُونَ بالنَّذْرِ » (1) وقوله سبحانه : « يَا أيُّها الّذينَ آمَنُوا اتَّقوُا اللّهَ وَ ذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا » (2) بخلاف الوطي في حال الحيض ، فان حرمته مقيدة بالوقت الخاص ومن المعلوم : ان المشروط لا يتقدّم على شرطه .

( وحيث قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة التدريجية ) في مثل وطي الحائض ( فالظاهرُ : جواز المخالفة القطعيّة ) بالنسبة إلى الزوج والزوجة

ص: 21


1- - سورة الانسان : الآية 7 .
2- - سورة البقرة : الآية 278 .

لأنّ المفروض عدم تنجّز التكليف الواقعي بالنسبة إليه ، فالواجب الرجوع في كلّ مشتبه إلى الأصل الجاري فى خصوص ذلك المشتبه اباحة وتحريما .

فيرجع في المثال الأوّل إلى استصحاب الطهر إلى أن يبقى مقدار الحيض ، فيرجع فيه إلى اصالة الاباحة ، لعدم جريان استصحاب الطهر .

-------------------

( لأنّ المفروض عدم تنجّز التكليف الواقعي بالنّسبة إليه ) أي : إلى كل من الرجل والمرأة لما عرفت : من عدم كون التكليف فعليا على كل تقدير.

إذن : ( فالواجب : الرّجوع في كلّ مشتبه إلى الأصل الجاري في خصوص ذلك المشتبه ) وعدّ العلم الاجمالي كأن لم يكن ، فلا يجب الاحتياط البعضي ولا الكلي بل يرجع الى الاصل فيه ( اباحة وتحريما ) أي : سواء كان الاصل الجاري في خصوص ذلك المشتبه هو : الاباحة أم هو التحريم ، لانّه حيث يسقط مقتضى العلم الاجمالي يكون مسرحا للاصول .

وعليه : ( فيرجع في المثال الأوّل إلى استصحاب الطهر ) لليقين بالطهر أوّلاً ، والشك في المحيض لاحقا ، فتتم أركان الاستصحاب فيجري الطهر ، ( إلى أن يبقى مقدار الحيض ) وهو الأيام الأخيرة من الشهر ( فيرجع فيه ) اي : في ذلك المقدار الباقي ( إلى اصالة الاباحة ) لا الى اصالة الطهارة وذلك ( لعدم جريان استصحاب الطهر ) لليقين بارتفاع الطهر اما بالدم السابق أو بهذا الدم ، ومثل هذا لايكون مجالاً للاستصحاب .

وكذا لايجري استصحاب الحيض ايضا لعدم اليقين بالحيض ، كما انه لا يكفي استصحاب الطهر الى بقاء مقدار الحيض ، حتى نحكم بكون الباقي حيضا ، لان هذا من اللوازم العقلية، واللوازم العقلية لا تثبت بالاستصحاب كما حقّق في محله.

ص: 22

وفي المثال الثاني الى أصالة الاباحة والفساد ، فيحكم في كلّ معاملة يشكّ فى كونها ربويّة بعدم استحقاق العقاب على ايقاع عقدها ، وعدم ترتّب الأثر عليها ، لأنّ فساد الرّبا ليس دائرا مدار الحكم التكليفي ، ولذا يفسد في حق القاصر بالجهل

-------------------

( و ) يرجع ( في المثال الثاني ) وهو مثال الربا من حيث التكليف ( الى اصالة الاباحة ) حيث نشك في ان هذا العمل حرام أو حلال فالاصل الاباحة .

( و ) يرجع من حيث الوضع إلى أصالة ( الفساد ) من جهة الشك في الصحة والفساد الوضعيين ، والاصل عدم تحقّق المعاملة حتى يقوم الدليل على تحققها ، فانّ المعاملة أمر حادث اذا شك فيها فالاصل عدمها .

وعليه : ( فيحكم في كلّ معاملة يشكّ في كونها ربويّة بعدم استحقاق العقاب على ايقاع عقدها ) من حيث التكليف ، لجريان اصالة الاباحة ( وعدم ترتّب الأثر عليها ) من حيث الوضع فتكون كأن لم تكن .

وانّما يحكم بذلك ( لأنّ فساد الرّبا ليس دائرا مدار الحكم التكليفي ) حتى اذا قلنا بالاباحة نقول بالصحة ، واذا قلنا بالحرمة نقول بالفساد ، فانّ فساد المعاملة ليس من لوازم حرمتها ، كما ان صحة المعاملة ليست من لوازم اباحتها ، ولهذا نقول بصحة المعاملة وقت النداء وان كانت حراما .

هذا وقد تحقق في باب النواهي : ان تحريم المعاملة لا يدل على فسادها ، وكذلك العكس بالعكس ، لان كل واحد من الصحة والفساد ، والاباحة والحرمة حكم مستقل مستفاد من الدليل ، فلا تلازم بينهما .

( ولذا ) اي : لاجل ما ذكرناه : من ان فساد الربا ليس دائرا مدار الحرمة ( يفسد ) الربا ولايحرم ( في حق القاصر بالجهل ) اي : اذا كان لا يعرف حرمته لجهله جهلاً

ص: 23

والنسيان والصغر على وجهٍ ، وليس هنا مورد التمسّك بعموم صحّة العقود وإن قلنا بجواز التمسّك بالعام عند الشّكّ في مصداق ما خرج عنه ؛

-------------------

قصوريا ( والنسيان والصغر على وجهٍ ) وهو - كما قال به بعض - مبني على عدم كون الصغر مانعا عن صحة المعاملات .

وعليه : فاذا تعامل الصغير بالربا فسدت معاملته ، لكن لم تحرم عليه ، فان بين الفساد والحرمة عموم من وجه ، فقد يحرم ويفسد كمن عقد على أمّه عالما عامدا، فان نفس الصيغة محّرم اجرائها ، وقد يحرم ولايفسد كالبيع وقت النداء ، وقد يفسد ولا يحرم كالبيع الربوي للجاهل والمكرَه والناسي وما اشبه حسب ما يستفاد من الأدلة .

لا يقال : كيف تقولون بأنّ كل واحد من المعاملات التدريجية المحتملة للربا مباحة ، لكنها فاسدة من جهة استصحاب عدم انعقاد المعاملة مع ان المشهور : انّ الاصل في المعاملات المشكوك صحتها : الصحة لا الفساد ، وذلك لانه يشمله عموم : « أوفوا بالعقود » (1) ولا يعلم بالاستثناء فيه للشك في كونه ربا ، فهو حينئذٍ من التمسك بالعام فيما اذا كانت شبهة مصداقية بالنسبة الى الخاص وهو الاستثناء .

لأنّا نقول : هنا مورد التمسك باستصحاب البطلان لا بعموم « اوفوا بالعقود » ( و ) ذلك لانّه ( ليس هنا مورد التّمسّك بعموم صحة العقود وان قلنا بجواز التّمسّك بالعام عند الشّكّ في مصداق ما خرج عنه ) مثل ما اذا قال المولى : اكرم العلماء وقال : لا تكرم الفساق منهم ، ثم شك في فرد انه فاسق ام لا مع علمنا بانه عالم ، فانه يتمسك فيه بأكرم العلماء ، لانّ دخوله في اكرم العلماء مقطوع به

ص: 24


1- - سورة المائدة : الآية 1 .

للعلم بخروج بعض الشّبهات التدريجيّة عن العموم لفرض العلم بفساد بعضها ، فيسقط العام عن الظهور بالنّسبة إليها ويجب الرجوع إلى اصالة الفساد .

اللّهم إلاّ أنّ يقال : أنّ العلم الاجمالي بين المشتبهات التدريجيّة ، كما لايقدح فى اجراء الاصول العمليّة فيها ، كذلك لا يقدح في الاصول اللفظيّة ،

-------------------

وخروجه بسبب الفسق مشكوك .

وإنّما قلنا : انه ليس هنا مورد التمسك بعموم صحة العقود ( للعلم بخروج بعض الشّبهات التّدريجيّة عن العموم ) علما اجماليا ، فالمقام من قبيل اكرم العلماء ولاتكرم الفساق منهم ، ثم علمنا بان زيدا أو عمرا فاسق فانّه لا يجوز التمسك باكرم العلماء لاكرامهما لانه نعلم بخروج أحدهما .

وإنّما نعلم بخروج بعض الشبهات التدريجية من العموم ( لفرض العلم بفساد بعضها ) اي :بفساد بعض هذه المعاملات التدريجية ( فيسقط العام عن الظهور بالنّسبة إليها ) اي : الى تلك المشتبهات التي نعلم اجمالاً بوجوب الربّا في بعضها ( ويجب الرجوع إلى اصالة الفساد ) فانه اذا سقط العام يكون المرجع الاصول ، والاصول هنا هو : استصحاب الفساد .

( اللّهم إلاّ أنّ يقال : انّ العلم الاجمالي بين المشتبهات التدريجيّة كما لا يقدح في اجراء الاصول العمليّة فيها ) على ماذكرناه ( كذلك لا يقدح في ) اجراء ( الاصول اللّفظيّة ) ايضا ، لانّ المانع عن التمسك بالعام انّما يكون اذا كانت الاطراف دفعية مثل المثال السابق وهو ما لو قال : اكرم العلماء ولا تكرم الفساق ثم علمنا ان زيدا أو عمرا فاسق ؛ لا فيما اذا كانت الافراد تدريجيّة كالمعاملة الربوية في المثال .

ص: 25

فيمكن التّمسك فيما نحن فيه لصحّة كلّ واحد من المشتبهات بأصالة العموم ، لكنّ الظاهر الفرق بين الاصول اللفظية والعمليّة ، فتأمّل .

السابع :

قد عرفتَ أنّ المانع من إجراء الاصل في كلّ من المشتبهين بالشبهة المحصورة هو العلم الاجمالي بالتّكليف المعلّق بالمكلّف ، و

-------------------

وعليه: ( فيمكن التّمسك فيما نحن فيه ) من المعاملات التدريجية ( لصحّة كلّ واحد من المشتبهات بأصالة العموم ) ومن المعلوم : انّ أصالة العموم مقدمة على الاستصحاب ، لان الاصل أصيل حيث لا دليل .

( لكنّ الظاهر : الفرق بين الاصول اللفظية ) فلا تجري في اطراف الشبهة ( والعمليّة ) فتجري في أطراف الشبهة .

قال بعض المحشين في وجه الفرق : ان مبنى الاصول اللفظية على فهم العرف وامضاء الشارع لهم في فهمهم وهم متوقفون من العمل بالعموم في امثال المقام ، بخلاف الاصول العملية فانها تدور مدار عدم الفرق .

( فتأمّل ) ولعله اشارة الى عدم الفرق ، اذ الفرق المذكور غير تام ، فانه كما لاتجري الاصول اللّفظية في أطراف العلم الاجمالي المخصص للعام لاجل العلم الاجمالي ، كذلك لاتجري الاصول العملية لاجل العلم الاجمالي ايضا ، فانّ العلم الاجمالي مانع عن جريان كلّ من الاصول ، لفظية كانت أو عملية .

( السابع ) من التنبيهات : ( قد عرفتَ : انّ المانع من اجراء الاصل في كلّ من المشتبهين ) أو المشتبهات ( بالشبهة المحصورة هو : العلم الاجمالي بالتّكليف المعلّق بالمكلّف ، و ) ذلك لما مرّ : من تنجّز التكليف بسبب العلم ، سواء كان

ص: 26

هذا العلم قد ينشأ عن اشتباه المكلّف به ، كما في المشتبه بالخمر ، أو النجس أو غيرهما ، وقد يكون من جهة اشتباه المكلّف ، كما في الخنثى العالم إجمالاً بحرمة أحد لباسي الرجل والمرأة عليه .

وهذا من قبيل ما إذا علم انّ هذا الاناء خمر ، أو أنّ هذا الثوب مغصوب .

وقد عرفت في الأمر ألاوّل انّه لا فرق بين الخطاب الواحد المعلوم

-------------------

العلم اجماليا أم تفصيليا ، ويدل على ذلك العقل الحاكم بوجوب دفع الضرر المحتمل في كل واحد منهما ، والشرع الآمر بالاحتياط فيها.

ثم ان ( هذا العلم قد ينشأ عن اشتباه المكلّف به ، كما في المشتبه بالخمر ، أو النجس أو غيرهما ) بأن علم - مثلاً - أنّ احد الانائين خمر ، أو أنّ احدهما نجس، أو أنّ احدهما إمّا خمر وإمّا نجس ، الى غير ذلك .

( وقد يكون من جهة اشتباه المكلّف ، كما في الخنثى العالم اجمالاً بحرمة أحد لباسيّ الرجل والمرأة عليه ) وذلك حسب قول المشهور ، حيث قالوا : بانه يحرم على الرجل لباس المرأة ، ويحرم على المرأة لباس الرجل ، وهذا الخنثى يعلم بحرمة احد اللباسين عليه ، لانه يعلم بتوجه خطاب اليه :بأن لا تلبس ملابس النساء ، اولا تلبسي ملابس الرجال ، فيجب عليه الاحتياط بترك اللباسين .

( وهذا ) في الخنثى ( من قبيل ما إذا علم انّ هذا الاناء خمر ، أو انّ هذا الثوب مغصوب ) لما مرّ : من انه لا يلزم وحدة نوع التكليف ، فان نوع تكليف المرأة غير نوع تكليف الرجل ، لكن بعد العلم الاجمالي بأحد التكليفين يكون الواجب على الخنثى الاجتناب عنهما ، كما قال :

( وقد عرفت في الأمر الأوّل : انّه لا فرق ) عقلاً ( بين الخطاب الواحد المعلوم

ص: 27

وجود موضوعه بين المشتبهين وبين الخطابين المعلوم وجود موضوع أحدهما بين المشتبهين .

وعلى هذا ، فيحرم على الخنثى كشفُ كلّ من قبليه ، لأنّ أحدهما عورة قطعا ، والتكلّم مع الرجال والنّساء إلا لضرورة ، وكذا استماع صوتهما ، وان جاز للرجال والنساء استماع صوتها

-------------------

وجود موضوعه بين المشتبهين ) كالخمر الدائرة بين احد الانائين ( وبين الخطابين المعلوم وجود موضوع أحدهما بين المشتبهين ) كالخمر والغصب الّذين يعلم المكلّف وجود احدهما في موضوع واحد أو في موضوعين .

( وعلى هذا ، فيحرم على الخنثى كشفُ كلّ من قبليه ) سواء الرجولية منها أم الانوثية لمن يتخذه زوجا أو زوجة ، لانّ الرجل يحرم كشف قُبله للرجال لا لزوجته ، والمرأة يحرم كشف قُبلها للنساء ، لا لزوجها ، والخنثى يعلم اجمالاً بأنه مكلّف بأحدهما .

إذن : فلايجوز للخنثى كشف كل من قبليه لكل من الرجل وان اتخذه زوجا ، وللمرأة وان اتخذه زوجة ( لأنّ أحدهما عورة قطعا ) فيعلم اجمالاً يتوجه واحد من خطابي : « يَحفَظُوا فُرُوجَهُم » (1) و « يَحفَظنَ فُرُوجَهُنَّ » (2) اليه .

( و ) يحرم ايضا ( التكلّم ) اي : تكلم الخنثى ( مع الرجال والنّساء إلا لضرورة ) ان قلنا بحرمته ، لكن المشهور على عدم الحرمة ، ويدل عليه : تكلم النساء مع الرسول والائمة عليهم السلام وتكلمهم معهن .

( وكذا ) يحرم على الخنثى ( استماع صوتهما ) أي صوت كل من الرجل

ص: 28


1- - سورة النور : الآية 30 .
2- - سورة النور : الآية 31 .

بل النظر إليها ، لاصالة الحّل ، بناءا على عدم العموم في آية الغضّ للرجال ، وعدم جواز التمسّك بعموم آية حرمة إبداء الزينة على النساء ،

-------------------

والمرأة ان قلنا بالحرمة ، ولكن الشهور لايقولون بالحرمة ايضا .

هذا بالنسبة الى تكليف الخنثى ، وأمّا تكليف الاخرين بالنسبة الى الخنثى ، فكما قال : ( وان جاز للرجال والنساء استماع صوتها بل النظر إليها لاصالة الحّل ) وذلك لانهما بالنسبة الى الخنثى كواجدى المني في الثوب المشترك ، فانّ الرجال لايعلمون انّ الخنثى امراة ، والنساء لا يعلمن انه رجل ؛ ولذا كان لكل واحد من الرجل والمرأة اجراء اصل الحل بالنسبة الى استماع صوت الخنثى والنظر اليه .

ثم انّ المصنِّف جاء بلفظ « بل » الاضرابية ، لانّ جواز نظر كل من الرجل والمرأة الى الخنثى محل كلام ، امّا بالنسبة للرجل : فلانه اذا قلنا بعموم قوله تعالى : « يَغُضُّوا مِن اَبَصارهِم » لكل منظور اليه الاّ ما خرج ، حرم نظر الرجل الى الخنثى ، لانه لا يعلم ، بخروج الخنثى ، امّا اذا قلنا بأن الآية ليست بهذا الصدد ، وذلك ( بناءا على عدم العموم في آية الغضّ للرجال ) فلا تشمل النظر الى الخنثى ، اذ القدر المتيقن من دلالة الآية حرمة نظر الرجل الى النساء الاجنبيّات ، فيكون الاصل في النظر بالنسبة الى الخنثى هو الحلية .

( و ) اما بالنسبة للمرأة : فلانه ايضا لايجوز لها النظر الى الخنثى الاّ بناءا على ( عدم جواز التمسّك بعموم آية حرمة إبداء الزينة ) واظهارها للخنثى ( على النساء ) فان قوله تعالى : « لاَيُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ » (1) معناه : لايبدين زينتهن للرجال ، ولا تعلم المرأة ان الخنثى رجل فيجوز لها ابداء الزينة للخنثى ، واذا جاز لها ذلك جاز لها النظر الى الخنثى أيضا .

ص: 29


1- - سورة النور : الآية 31 .

لاشتباه مصادق المخصّص .

-------------------

والحاصل : لايقال : ان النظر لكل من الرجال والمرأة الى الخنثى غير جائز ، امّا عدم جواز نظر الرجل الى الخنثى : فلعموم « يغضّوا » الشامل لغضّ الرجل عن المرأة وعن الخنثى .

وامّا عدم جواز نظر المرأة الى الخنثى ، فلعموم « يغضضن » على التقريب السابق في « يغضّوا » ، ولعموم حرمة ابداء الزينة ، وذلك بتقريب : انّ حرمة ابداء الزينة جاءت من جهة حرمة نظر المرأة الى الغير ؛ فانه كلّما لم يجز لها ابداء الزينة لأحد لم يجز لها النظر اليه ، وحيث ان المرأة لايجوز لها ابداء الزينة للخنثى ، فلايجوز لها النظر اليه ايضا .

لانّه يقال : يجوز النظر لكل من الرجل والمرأة الى الخنثى .

أمّا جواز نظر الرجل الى الخنثى : فلعدم العموم في « يغضّوا » .

وأمّا جواز نظر للمرأة الى الخنثى : فلعدم عموم « يغضضن » وكذا لعدم جواز التمسك بعموم آية الزينة ، فان آية الزينة تشمل حرمة نظر المرأة الى الرجل ، للتلازم بين حرمة ابداء الزينة وحرمة نظرها اليه ، امّا حرمة ابداء المرأة زينتها للخنثى ، فلا تشمله حتى يكون نظرها الى الخنثى محرّما أيضا .

وانّما لايشمل عموم آية الزينة الخنثى ( لاشتباه مصادق المخصّص ) فانّ المرأة لاتعلم ان الخنثى رجل او امرأة ولعله امرأة ، فلايصح التمسك بالعام عندها ، فيجوز لها ابداء زينتها للخنثى ، كما يجوز لها النظر اليها .

هذا غاية ما وصل فهمنا اليه من كلام المصنِّف في إبداء الزينة .

ثم ان الأوثق ذكر هنا نكتة في اختلاف تعبير المصنِّف بين قوله « بناءا على عدم العموم في آية الغض للرجال » وبين قوله « وعدم جواز التمسك بعموم

ص: 30

...

-------------------

آية حرمة ابداء الزينة على النساء » من قوله سبحانه : « وَ قُل لِّلمُؤمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِن أَبصَارِهِنَّ ، وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ، وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنهَا ، وَليَضْرِبنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ، وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أو آبائهنّ أو آباء بعولتهِنَّ أو أبنائِهنَّ أو أبناء بعولتهنَّ أو إخوانهنَّ أو بني إخوانهنَّ أو بني أخواتهنَّ أَو نِسَائِهِنَّ ، أَو مَا مَلَكَت أَيَمانُهُنَّ... » (1) الى آخر الآية ، ما لفظه :

« ولا يذهب عليك : ان الأمر بوجوب الغض للنساء كآية الأمر بغض البصر للرجال ليس له عموم ، بخلاف النهي عن ابداء الزينة ؛ فانّ له عموما بقرينة الاستثناء ، ولذا غيّر اسلوب العبارة ؛ فبنى الأمر في الآية الاولى على عدم العموم ، وفي هذه على عدم جواز التمسك بالعموم في المقام نظرا الى كون الشبهة مصداقية ، وظاهره : تسليم العموم هنا خاصة . وكذا قد جعل بناء الاستدلال في الاولى على الأمر بالغض ، وهنا على حرمة ابداء الزينة مع الأمر بالغض أيضا ، فمقتضى العموم : حرمة النظر الى النساء على كل من الرجال والنساء ، واذا انضمت اليه حرمة نظر النساء الى الرجال ، كما هو مقتضى صدر الآية - لأنه وإن لم يكن له عموم كما تقدّم الاّ أن هذا متيقن منه - يثبت بمقتضى صدر الآية والمستثنى منه في ذيلها : حرمة نظر كل من الرجال والنساء الى النساء ، ونظر النساء الى الرجال ، وقد استثنى من ذلك جواز نظر النساء الى امثالهن .

وعليه : فاذا نظرت المرأة الى الخنثى ، فان كانت الخنثى مؤنثا في الواقع يكون هذا النظر حلالاً ، وان كان مذكرا كان حراما ، وحيث فرض تردّدهابينهما كانت الشبهة في الحكم لاجل الشبهة في مصداق موضوعه في الخارج ، فلا يجوز

ص: 31


1- - سورة النور : الآية 31 .

وكذا يحرم عليه التزويج والتزوّج ؛ لوجوب إحراز الرجوليّة في الزوج والانوثيّة في الزّوجة ، إذ الأصلُ عدم تأثير العقد و وجوب حفظ الفرج .

ويمكن أن يقال بعدم توجّه الخطابات التكليفيّة المختصّة إليها ، إمّا لانصرافها إلى غيرها ،

-------------------

التمسك بالعموم حينئذٍ ، وهذا غاية توجيه المقام » (1) الى آخر كلام الاوثق .

( وكذا ) من احكام الخنثى : انه ( يحرم عليه التزويج والتّزوج ) لانه يعلم اجمالاً بحرمة احدهما عليه ، وذلك ( لوجوب احراز الرجوليّة في الزوج والانوثيّة في الزّوجة ، إذ الأصل ) عند الشك في الموضوع يعني : رجولية الزوج أو انوثية الزوجة عدم صحة العقد ، لاحتمال ان يكون العقد بين رجلين ، او بين امرأتين ، فالاصل ( عدم تأثير العقد و وجوب حفظ الفرج ) فانّه لايجوز اباحة الفرج الاّ للزوجين .

ثم ان صاحب الحدائق مع انه يرى الاحتياط في الشبهة المحصورة ، قال بالبرائة في مسألة الخنثى بالنسبة الى التكاليف المختصة بالرجال أو بالنساء ، فلايجب الاحتياط على الخنثى احتياطا من جهة العلم الاجمالي ، وذكر لذلك وجهين :

الاول : انصراف التكاليف المختصة الى غير الخنثى .

الثاني : اشتراط التكاليف المختصة بمن يعلم تفصيلاً توجّه الخطاب اليه .

والى الوجه الاول اشار المصنِّف بقوله : ( ويمكن أن يقال بعدم توجّه الخطابات التّكليفيّة المختصّة ) بالرجال والنساء ( إليها ) اى : الى الخنثى ، وذلك ( امّا لانصرافها ) اي : انصراف تلك الخطابات ( إلى غيرها ) اي : الى غير الخنثى

ص: 32


1- - أوثق الوسائل : ص342 حصول المشتبهات تدريجيا .

خصوصا في حكم اللباس المستنبط ممّا دلّ على حرمة تشبّه كلّ من الرجل والمرأة بالآخر ، وإمّا لاشتراط التكليف بعلم المكلّف بتوجّه الخطاب اليه تفصيلاً ، وإن كان مردّدا بين خطابين موجّهين إليه تفصيلاً ، لأنّ الخطابين بشخص واحد

-------------------

من الاشخاص الذين هم معلوم رجولتهم أو انوثتهم ، فانه هو المستفاد في النصوص لكثرة اولئك وقلّة الخناثى .

( خصوصا في حكم اللباس المستنبط ممّا دلّ على حرمة تشبه كلّ من الرجل والمرأة بالآخر ) فانه منصرف الى تشبّه الرجال بالنساء وتشبّه النساء بالرجال ، امّا الخناثى فلا يشملهنّ تلك الخطابات .

وأشار الى الوجه الثاني بقوله : ( وامّا لاشتراط التكليف بعلم المكلّف بتوجّه الخطاب اليه تفصيلاً ) فانه يشترط في تنجّز التكليف ان يعلم المكلّف بأنّ الخطاب موجّه اليه ، فلا يكفي أن يعلم المكلّف اجمالاً بانه مخاطب إمّا بهذا الخطاب ، أو بذاك الخطاب ، كعلم الخنثى بتوجّه احد الخطابين اليه ، فانه لايتنجز التكليف في حقه .

وعليه : فالتكليف مشترط بالعلم بتوجه الخطاب التفصيلي الى المكلّف ( وإن كان ) الخطاب التفصيلي الموجّه الى المكلّف ( مردّدا بين خطابين موجّهين إليه تفصيلاً ) كما اذا علم بأنّه مخاطب إمّا باجتناب الخمر وإمّا باجتناب الغصب ، حيث يعلم ان هذا الاناء خمر أو غصب ، فانه يعلم تفصيلاً بتوجه الخطاب اليه ، وان كان متعلق الخطاب مردّدا بين الخمر والغصب فيتنجّز التكليف عليه .

وانّما يشترط في تنجز التكليف : العلم بتوجه الخطاب التفصيلي اليه وان كان مرددا بين خطابين ، كفاية العلم بالتوجه الاجمالي ( لأنّ الخطابين بشخص واحد

ص: 33

بمنزلة خطاب واحد بشيئين ، اذ لا فرق بين قوله : « اجتنب عن الخمر » و : « اجتنب عن مال الغير » ، وبين قوله : « اجتنب عن كليهما » ، بخلاف الخطابين الموجّهين إلى صنفين يعلم المكلّف دخوله تحت أحدهما .

لكن كلّ من الدعويين خصوصا الأخيرة

-------------------

بمنزلة خطاب واحد بشيئين ) فاذا تردّد الخطاب بين أمرين فتمسّك المكلّف بالبرائة ، علم بانه خالف خطابا تفصيليا ( اذ لافرق بين قوله : « اجتنب عن الخمر » و « اجتنب عن مال الغير » ، وبين قوله : « اجتنب عن كليهما » ).

وعليه : فكما يجب على المكلّف الاجتناب في الصورة الثانية فيما اذا قال : « اجتنب عن كليهما » حيث يعلم تفصيلاً بتوجه الخطاب اليه ، فكذلك يجب الاجتناب فيما كان الخطاب التفصيلي مردّدا بين خطابين موجّهين اليه كما في الصورة الاولى فيما اذا قال : « اجتنب عن الخمر ، واجتنب عن مال الغير » فان الخطابين الذين يعلم المكلّف توجههما اليه من الشرع يكونان بمنزلة خطاب واحد .

( بخلاف الخطابين الموجّهين إلى صنفين يعلم المكلّف دخوله تحت أحدهما ) كالخنثى حيث يعلم المكلّف انه داخل إمّا تحت خطاب الرجل وإمّا تحت خطاب المرأة ، فانه هنا لايرجع الخطابان الى خطاب واحد حتى يلزم مخالفة خطاب تفصيلي فيما لو تمسك الخنثى بالبرائة فيهما .

وعليه : فهو كما اذا قال المولى : العبيد من اهل النوبة يصلّون ، والعبيد من اهل الصقلية يصومون ، ولا يعلم هذا العبد انه من اهل ايّ البلدين ؟ فانه حيث لايعلم بتوجه ايّ الخطابين اليه يجري البرائة من الصلاة والصوم ولا شيء عليه .

هذا ( لكن كلّ من الدعويين خصوصا الأخيرة ) التي ذكرها بقوله : « وامّا

ص: 34

ضعيفة جدا ، فانّ دعوى عدم شمول ما دلّ على وجوب حفظ الفرج عن الزّنا والعورة عن النظر للخنثى ، كما ترى .

وكذا دعوى اشتراط التكليف بالعلم بتوجّه خطاب تفصيلي ، فانّ المناط في وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة عدمُ جواز إجراء أصل الاباحة في المشتبهين ،

-------------------

لاشتراط التكليف بعلم المكلّف ...» ( ضعيفة جدا ، فانّ دعوى عدم شمول ما دلّ على وجوب حفظ الفرج ) لكل من الرجل والانثى ( عن الزّنا ، والعورة عن النظر للخنثى ، كما ترى ) .

وإنّما قال بضعف كل من الدعويين ، لانه لا وجه للانصراف الذي هو أول دعويين الحدائق ، فان ندرة وجود مجهول الرجولية والانوثية وكثرة معلومهما لايوجب الانصراف ، وإنّما الذي يوجب الانصراف الى بعض الأفراد دون بعض ، هو كثرة الاستعمال وهي منتفية هنا .

ثم انه لوكان ندرة الوجود سببا للانصراف لم يجب على الخنثى ايّ تكليف ، لانّ التكاليف منصرفة الى الرجال والنساء من اول الصلاة الى آخر الديات على ماذكر .

( وكذا ) يكون ضعيفا ( دعوى اشتراط ) تنجّز ( التكليف بالعلم بتوجّه خطاب تفصيلي ) الى المكلّف بضميمة : ان الخنثى لايعلم بتوجه الخطاب التفصيلي اليه ممّا ذكره في دعواه الثانية ، فلايتنجّز التكليف في حقه .

وإنّما تكون هذه الدعوى ضعيفة ايضا لانه كما قال : ( فانّ المناط في وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة : عدم جواز اجراء أصل الاباحة في المشتبهين ) وهذا هو الميزان العقلي لوجوب الاطاعة ، ومناطه هو دفع الضرر المحتمل بعد

ص: 35

وهو ثابت فيما نحن فيه ، ضرورة عدم جواز جريان أصالة الحلّ في كشف كلّ من قبلي الخنثى ، للعلم بوجوب حفظ الفرج من النّظر والزّنا على كلّ أحد .

فمسألة الخنثى نظير المكلّف المردّد بين كونه مسافرا أو حاضرا ،

-------------------

حكم العقل بتنجز التكليف بالعلم الاجمالي على المكلّف ( وهو ) أي : المناط المذكور ( ثابت فيما نحن فيه ) من مسألة الخنثى .

وإنّما يكون المناط وجوب الاحتياط ثابت في الخنثى ( ضرورة عدم جواز جريان أصالة الحلّ في كشف كلّ من قبلي الخنثى ، للعلم بوجوب حفظ الفرج من النّظر والزّنا على كلّ أحد ) فان الخنثى لايشك أبدا في انه مقصود بخطاب حفظ فرجه إمّا من باب انه رجل ، وإمّا من باب انه امرأة ، ومن المعلوم : ان العقل مستقل بتنجّز التكليف بهذا العلم الاجمالي ؛ فيجب الاحتياط : ولا يجوز له اجراء أصالة الحل .

إذن : فالمقام من قبيل أن يقول المولى : يا أيها العبيد من أهل النوبة احفظوا فروجكم ، ويا أيها العبيد من اهل الصقلية احفظوا فروجكم ، ولا يعلم هذا العبد انه من اهل الصقلية أو من اهل النوبة ؟ فانه لايشك في وجوب حفظ فرجه ، لانّه سواء كان من هذا الصنف أو من ذاك الصنف ، فقد وجب عليه حفظ الفرج بالخطابين الصادرين من المولى .

وعليه : ( فمسألة الخنثى نظير المكلّف المردّد بين كونه مسافرا أو حاضرا ) في وجوب جمعه بين القصر والتمام ، لانّ المسافر مخاطب بالقصر ، والحاضر

ص: 36

لبعض الاشتباهات ، فلا يجوز له ترك العمل بخطابيهما .

-------------------

مخاطب بالتمام ، والتردّد بين كونه مسافرا أو حاضرا إنّما حصل له ( لبعض الاشتباهات ) الخارجية ، بأن كانت الشبهة موضوعية .

مثلاً : لو لم يعلم بأن الفاصلة بين بلده ومقصده هل هي ثمانية فراسخ ام لا ؟ فانّه يعلم اجمالاً بتوجه واحد من خطابي الحاضر والمسافر اليه ، فيكون التكليف بالصلاة منجزا عليه ، لكن المكلّف به مشكوك ، والشك في المكلّف به مورد الاحتياط ان امكن الاحتياط فيه ( فلا يجوز له ترك العمل بخطابيهما ) لما عرفت : من ان العقل يلزمه - من باب دفع الضرر المحتمل - بامتثال الخطابين .

هذا ، ولكنّا ألمعنا سابقا في هذا الكتاب وفي كتاب النكاح من الفقه : الى ان الخنثى المشكل ليس قسما ثالثا ، فهو مكلف بأحد التكليفين بعد كونه رجلاً أو امرأة .

إذن : فمختارنا هو : ان الخنثى مخيّر في ان يجعل نفسه من الرجال أو من النساء ، فيجري على نفسه كل تكاليف الرجل ، أو كل تكاليف المرأة .

وعلى غير الخنثى معاملة الخنثى حينئذٍ بما اختاره هو لنفسه من كونه رجلاً او امرأة ، ويدل عليه : « الناس مسلطون على أنفسهم » (1) وقد ذكر ذلك بعض الفقهاء ، كما يظهر من مبسوط الشيخ ، ولو لم نقل بذلك فلا اقل من القرعة الملحقة له بالرجال أو بالنساء .

ص: 37


1- - المستفاد من قوله تعالى : «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم» سورة الاحزاب : الآية : 6 .

الثامن :

انّ ظاهر كلام الأصحاب التسويةُ بين كون الأصل في كل واحد من المشتبهين في نفسه هو الحلّ أو الحرمة ، لأنّ المفروض : عدمُ جريان الأصل فيهما ،

-------------------

( الثامن : ) من التنبيهات انه ربمّا يتوهم : ان الرجوع الى الاحتياط الذي هو مقتضى العلم الاجمالي انّما يكون فيما اذا كان مقتضى الاصل في كل من المشتبهين - مع قطع النظر عن العلم الاجمالي - هو : الحلية ، فانّ في مثل هذا المقام يجب الاحتياط بالاجتناب عنهما ، كما اذا كان هناك اناءان طاهران ثم تنجس احدهما ، ففي هذه الصورة يقتضي العلم الاجمالي الاحتياط عنهما .

وامّا اذا كان مقتضى الاصل في كل من المشتبهين الحرمة ، فيجب اجتنابهما لا للعلم الاجمالي ، بل لأصالة الحرمة فيهما ، كما اذا كان هناك اناءان نجسان ثم طهّر أحدهما ، فانه يستصحب نجاسة هذا الاناء ونجاسة ذاك الاناء فيجب اجتنابهما لمقتضى أصل النجاسة ، لا لمقتضى العلم الاجمالي القاضي بالاحتياط .

لكن هذا التوهم ليس في محله وذلك كما قال : ( انّ ظاهر كلام الأصحاب ) حيث يستدلون للاحتياط بتعارض الأصلين وتساقطهما ( التسويةُ بين كون الأصل في كل واحد من المشتبهين في نفسه ) مع قطع النظر عن العلم الاجمالي ( هو الحلّ ) كمائين طاهرين علم بنجاسة أحدهما ، وزوجتين علم بطلاق احداهما وما أشبه ذلك . ( أو الحرمة ) كمائين نجسين علم بطهارة احدهما ، وكامرأتين اجنبيتين علم بتزويج احداهما .

وانّما قال الاصحاب بالتسوية بين كون الاصل : الحل أو الحرمة ( لأنّ المفروض : عدمُ جريان الأصل فيهما ) اي في طرفي العلم الاجمالي في كِلا

ص: 38

لأجل معارضته بالمثل ، فوجوده كعدمه .

ويمكن الفرقُ من المجوّزين لارتكاب ما عدا مقدار الحرام وتخصيص الجواز بالصورة الاُولى ، ويحكمون في الثّانية بعدم جواز الارتكاب ، بناءا على العمل بالأصل فيهما ، ولا يلزم هنا مخالفة قطعيّة في العمل ،

-------------------

الفرعين ، وذلك ( لأجل معارضته بالمثل ، فوجوده ) أي : الاصل ( كعدمه ) في انه لا اثر في كلا الفرعين ، فيكون الاجتناب فيهما واجبا لقاعدة الاحتياط .

هذا ( ويمكن الفرقُ من المجوّزين لارتكاب ما عدا مقدار الحرام ) حيث قد تقدّم : ان بعض الفقهاء يجوّزون ارتكاب ما عدا الحرام ، فاذا كان اناءان احدهما خمرا قالوا : بجواز شرب أحدهما ، واذا كانت امرأتان احداهما رضيعته قالوا بجواز التزويج باحداهما ( وتخصيص ) هذا ( الجواز بالصورة الاُولى ) فقط وهو ما كان الاصل فيهما الحل .

( و ) اما في الصورة الثانية : فانهم كما قال : ( يحكمون في الثّانية ) وهو ما كان الاصل فيهما الحرمة ( بعدم جواز الارتكاب ) لكل من المشتبهين .

وإنّما يكون هذا الفرق بينهما ( بناءا على العمل بالأصل فيهما ) أي : في الصورتين لابناءا على ما يقتضيه العلم الاجمالي فيهما .

والحاصل : القائلون بالاحتياط يقولون بالاحتياط في الصورتين : امّا القائلون بارتكاب ما عدا مقدار الحرام لدليل الاصل ، فيفرّقون بين الصورتين ، فيجوّزون الارتكاب لما عدا مقدار الحرام في الصورة الاولى عملاً بأصالة الحل والطهارة ويوجبون الاجتناب عن الجميع في الصورة الثانية عملاً بأصالة الحرمة والنجاسة في كلا المشتبهين ( و ) يقولون : انه ( لا يلزم هنا مخالفة قطعيّة في العمل ) اي : لايلزم من اجراء الاصلين في الصورتين مخالفة عملية وذلك واضح .

ص: 39

ولا دليلَ على حرمتها إذا لم يتعلق بالعمل ، خصوصا إذا وافق الاحتياط .

إلاّ أنّ استدلال بعض المجوّزين للارتكاب بالأخبار الدالّة على حلّية المال المختلط بالحرام ، ربّما يظهر منه :

-------------------

هذا من حيث المخالفة العملية هنا ، وأمّا من حيث المخالفة الالتزامية : فكما قال : ( ولا دليل على حرمتها ) اي : حرمة المخالفة ( إذا لم يتعلق بالعمل ) وانّما كان بالالتزام فقط ، فان أحد المشتبهين وان كان حلالاً وطاهرا في الواقع الاّ ان الحلال والطاهر يجوز تركه ، فاذا جاز تركه فاجراء اصالة الحرمة في كل من المشتبهين وتركهما معا لا يكون مخالفة عملية لحكم الشارع حتى يكون حراما ، بل يكون مخالفة التزامية حيث لم يلتزم المكلّف بالحل والطهارة ظاهرا ، ولكن لا دليل على حرمته فيكون جائزا .

وعليه : فالمخالفة الالتزامية جائزة ، كما سبق ايضا ( خصوصا إذا وافق الاحتياط ) كما في الصورة الثانية فانّ الأصل في كل من المشتبهين في الصورة الثانية هو : الحرمة والنجاسة فيكون العمل بالاصل فيها موافقا للاحتياط ، وتكون المخالفة الالتزامية فيها أخفّ مما لم يتوافق الاصل فيه مع الاحتياط كما في الصورة الاولى ، فان الاصل في كل من المشتبهين في الصورة الاولى هو : الحلية والطهارة .

ثم إنّ قول المصنِّف : « بناءاً » ، إنّما هو في قِبال ما اذا استفيد حكم الاحتياط في طرفي العلم الاجمالي من روايات الاحتياط ، لاتفرّق بين المشتبهين المسبوقين بالحل والطهارة ، وبين المسبوقين بالحرمة والنجاسة ، فلا يمكن لمن يستند بالروايات في باب العلم الاجماليان يقول بهذا التفصيل ، كما قال : ( إلاّ أنّ استدلال بعض المجوّزين للارتكاب ) لما عدا مقدار الحرام في اطراف العلم الاجمالي ( بالأخبار الدالّة على حليّة المال المختلط بالحرام ، ربّما يظهر منه :

ص: 40

التعميم ، وعلى التخصيص، فيخرج عن محلّ النزاع . كمالو علم بكون إحدى المرأتين أجنبيّة ، أو إحدى الذّبيحتين ميتة ،

-------------------

التعميم ) في جواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام الى كلتا الصورتين ، سواء صورة أصالة الحلية والطهارة فيهما ، ام صورة أصالة الحرمة والنجاسة فيهما ، فيكون النزاع بينهما في الصورتين .

وأمّا قول المصنّف : « ربما » ، فلعله اشارة الى ان مورد بعض الاخبار هو الصورة الاولى فقط ، وذلك بأن يكون مقتضى الاصل فيهما : الحل والطهارة ، كما هو اذا كان كل من المشتبهين في يد مسلم أو في سوق المسلمين وارضهم .

هذا بناءا على تعميم جواز الارتكاب لما عدا مقدار الحرام للصورتين ( و ) اما بناءا ( على التخصيص ) أي : تخصيص جواز الارتكاب لما عدا مقدار الحرام بالصورة الاولى ، وهو : ما اذا كان الأصل في اطراف العلم الاجمالي يقتضي الحل والطهارة فقط ( فيخرج ) به ما ذكر من الصورة الثانية وهي صورة كون الاصل في الاطراف يقتضي الحرمة والنجاسة ( عن محلّ النزاع ) .

وعليه : فلا تنازع بين الفريقين في الصورة الثانية ، فانّ كل من يحرّم الارتكاب أو يقول بجوازه لما عدا مقدار الحرام في الصورة الاولى ، يرى في الصورة الثانية حرمة الارتكاب .

أمّا امثلة الصورة الثانية فهي ( كما لو علم بكون إحدى المرأتين أجنبيّة ) فانّ الاصل في كل منهما هي الحرمة فيما اذا علم اجمالاً بأن احداهما صارت زوجة له.

( أو إحدى الذّبيحتين ميتة ) فانّ الاصل في كل من اللحمين في نفسه هو الحرمة لعدم كون الحيوان الحي مذكى ، فاذا ذكّيت احدى الذبيحتين واشتبهتا جرى اصالة الحرمة في كلا اللحمين .

ص: 41

أو أحدِ المالين مال الغير ، أو أحد الأسيرين محقونَ الدّم ، أو كان الاناءان معلومي النجاسة سابقا ، فَعُلِمَ طهارةُ أحدهما .

وربّما يقال : إنّ الظاهر أنّ محلّ الكلام في المحرّمات المالية ونحوها ، كالنجس ، لا في الأنفس والأعراض ، فيستظهر أنّه لم يقل أحدٌ فيها بجواز الارتكاب ، لانّ المنع في مثل ذلك ضروري .

-------------------

( أو أحد المالين مال الغير ) فانّ الاصل في كل مال : الحرمة فيما اذا كان المالان سابقا لغيره ثم صار احدهما له .

( أو أحد الأسيرين محقون الدّم ) فانّ الاصل في الانسان انه محترم الدم ، الاّ ما خرج عن ذلك بالمحاربة ونحوها ( أو كان الاناءان معلوميّ النجاسة سابقا فعُلِمَ طهارةُ أحدهما ) فانّ الاصل في كل منهما في نفسه هو النجاسة .

إذن : فهذه الموارد ونحوها خارجة عن محل النزاع ، اذ لا نزاع بين الفريقين : بين من يقول بوجوب الاجتناب عن كليهما ، ومن يقول بوحوب الاجتناب عن مقدار الحرام منهما فقط : وانّما النزاع بينهما في صورة جريان اصل الحل والطهارة في الاطراف فقط ( وربّما يقال ) والقائل هو المحقق القمي : ( إنّ الظاهر ) من كلمات العلماء : ( انّ محلّ الكلام ) اي : كلام المجوزين في ارتكاب ما عدا مقدار الحرام وكلام المانعين انّما هو ( في المحرّمات المالية ونحوها ، كالنجس ) والميتّة ( لا في الأنفس والأعراض ) والاموال العظيمة ، فان فيها يجب الاجتناب عن جميع الاطراف ، سواء كان الاصل الحلية فحرم بعضها ، ام الحرمة فحّل بعضها .

وعليه : ( فيستظهر انّه لم يقل أحدٌ فيها ) أي : في الأنفس والأعراض والأموال العظيمة ( بجواز الارتكاب ) لبعض اطرافها ( لانّ المنع في مثل ذلك ضروري ) شرعا وعقلاً .

ص: 42

التاسع :

إنّ المشتبه بأحد المشتبهين حكمه حكمهما ، لأنّ مقدّمة المقدّمة مقدّمة ، وهو ظاهر .

-------------------

وفيه نظر ؛ لأنّ من يقول بجواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام ، كلامه مطلق يشمل حتى الاعراض والدماء ، والاموال العظيمة : فانّ القائل بجواز الارتكاب لايفّرق بين الموارد إطلاقا.

( التاسع ) من التنبيهات ( : انّ المشتبه بأحد المشتبهين ) كما اذا كان هناك اناءان أحدهما أبيض ، والآخر أحمر ، ثم اشتبه الأبيض بأبيض آخر ، فلم يعلم ان ايهما هو المشتبه الاصلي وايهما هو المشتبه الفرعي ، فانه يكون ( حكمه حكمهما ) في وجوب الاجتناب .

وإنّما يكون حكمه كذلك ( لأنّ مقدّمة المقدّمة مقدّمة ، وهو ظاهر ) فان في قياس المساوات يشترط ان تكون المقدمة المطويّة صحيحة ، فيصح القياس فيها ، مثل : مقدمة المقدمة مقدمة ، مثل : جزء الجزء جزء ، وما اشبه ذلك ، بخلاف ما اذا لم تصح المقدمة المطوية مثل : الواحدة نصف الاثنين والاثنان نصف الاربعة ، فلا يصح الواحد نصف الاربعة ، لعدم صحة المقدمة المطوية وهي : نصف النصف نصف .

نعم ، اذا بلغ مورد الاشتباه في بعض الاطراف الى حدّ الشبهة غير المحصورة فانه لايجب الاجتناب فيها ، على ما سيأتي بحثه انشاء اللّه تعالى والحاصل : ان العلم الاجماليالمنجّز للتكليف الذي يتوقف تحصيله على الاجتناب عن المشتبهين اذا اشتبه احد هذين المشتبهين أو كلاهما بشيء آخر ، فانه يتوقف حينئذٍ العلم بالاجتناب عنه على اجتناب كل اطراف الشبهة .

ص: 43

...

-------------------

التنبيه العاشر : اذا اضطر المكلّف أو اكره على ارتكاب احد المشتبهين بين علمين اجماليين ، فان لم يكن أحدهما أهم الى حد المنع عن النقيض كان مخيّرا بينهما ، أمّا اذا كان احدهما أهم الى الحد المذكور ، لزم تقديم الأهم على المهم سواء في التحريم أم في الايجاب .

وعليه : فاذا اشتبه - مثلاً - خمر بين انائين ونجس بين انائين ، فانه يجب الاجتناب عن الاربعة ، لكن اذا اضطر الى ارتكاب اناء واحد منها ، فاللازم اختيار ارتكاب واحد من المشتبه بالنجس ، حيث ان النجس اضعف حرمة عن الخمر ، بدليل : ان في شرب الخمر عمدا الحدّ ، وفي شرب النجس التعزير .

هذا اذا اضطرّ الى واحد من الاربعة ، واما اذا اضطرّ الى اثنين منها ، فهل اللازم ارتكاب اثنين من الطرفين ، او اثنين من طرف النجس فقط ؟ احتمالان :

الأوّل : من جهة انه بعد الارتكاب لايعلم بارتكاب محّرم أصلاً لاحتمال انه ارتكب في كلّ من المشتبهين الحلال منه .

الثاني : من جهة ان احتمال ارتكاب الخمر يقاوم العلم بارتكاب النجس ، وربّما يكون احتمال حرام غليظ اولى بالترك من القطع بارتكاب حرام خفيف ، كما اذا احتمل ان يفترسه السبع لو بقي في الصحراء ، فانه اولى بالترك من الذهاب الى بيت اللصوص وهو يقطع بأنهم يجرحونه جرحا يحرم الاقدام عليه ابتداءاً ، وهذا بحث طويل نكتفي منه بهذا القدر ، وفي عكس مسألة التحريم مسألة الايجاب كما لا يخفى .

هذا ، وقد ذكرنا هذا التنبيه لتتميم التنبيهات عشرة كاملة ، واللّه العالم .

ثم ان المصنِّف حيث انتهى من الكلام في المقام الأوّل وهو الشبهة

ص: 44

المقام الثاني: في الشبهة غير المحصورة

اشارة

والمعروف فيها عدمُ وجوب الاجتناب ، ويدلّ عليه ، وجوه :

الأوّل :

الاجماع الظاهر المصّرح به في الرّوض عن جامع المقاصد ، وادّعاه صريحا المحقق البهبهاني في فوائده ، وزاد عليه : نفي الريب فيه ، وأنّ مدار المسلمين في الاعصار والأمصار عليه ،

-------------------

المحصورة ، بدأ الكلام في ( المقام الثاني : في الشبهة غير المحصورة ) وهذا اصطلاح اصطلحه الفقهاء على ما كثر اطراف الشبهة فيه ، كما اذا اشتبه النجس الذي علم به بالمكلّف بين كل بقالي المدينة ، فانه يجوز أن يشتري من بعضهم وان كان يعلم بنجاسة احدهم .

هذا ( والمعروف فيها ) اي : في الشبهة غير المحصورة ( : عدمُ وجوب الاجتناب ) فلا تجب الموافقة القطعية باجتناب الجميع ، أمّا المخالفة القطعية بان يشتري من الجميع : فسيأتي الكلام فيه في التنبيهات انشاء اللّه تعالى .

( ويدلّ عليه ) أي : على عدم وجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة ( وجوه ) ذكر المصنِّف منها ستة :

( الأوّل : الاجماع الظاهر ، المصّرح به في الرّوض ) وهو روض الجنان للشهيد الثاني ( عن جامع المقاصد ) للمحقق الثاني ( وادّعاه صريحا المحقق البهبهاني في فوائده ، وزاد عليه : نفي الرّيب فيه ) يعني قال : انّه اجماع بلا ريب ( و ) قال أيضا : ( أنّ مدار المسلمين في الاعصار والأمصار عليه ) أي : على عدم وجوب

ص: 45

وتبعه في دعوى الاجماع غيرُ واحد ممّن تأخّر عنه ، وزاد بعضهم دعوى الضرورة عليه في الجملة .

وبالجملة : فنقل الاجماع مستفيض ، وهو كافٍ في المسألة .

الثاني :

ما استدلّ به جماعة من لزوم المشقّة في الاجتناب ، ولعلّ المراد به لزومه في أغلب أفراد هذه الشبهة لأغلب أفراد المكلّفين ،

-------------------

الاجتناب في الشبهة غير المحصورة .

( وتبعه ) أي : تبع البهبهاني ( في دعوى الاجماع غيرُ واحد ممّن تأخّر عنه ، وزاد بعضهم : دعوى الضرورة عليه في الجملة ) والمراد في الضرورة ضرورة الدين ، لانّ كل المسلمين مع علمهم بوجود بعض المحرمات وبعض النجاسات فيما هو محل ابتلائهم نراهم لايرعوون عن ارتكاب بعض الاطراف .

( وبالجملة : فنقل الاجماع مستفيض ، وهو كافٍ في المسألة ) لانّ هذه الكثرة من الاجماعات توجب الظن الخاص بجواز ارتكاب بعض الاطراف .

( الثاني : ما استدلّ به جماعة ) من الفقهاء والاصوليين ( من لزوم المشقّة في الاجتناب ) فانه اذا اراد الانسان الاجتناب عن جميع اطراف الشبهة غير المحصورة وقع في مشقة عظيمة ، لكثرة علم الانسان بالنجاسة ، والغصبية ، وما اشبه ذلك في بعض ما هو محل ابتلائه ، فانه كثيرا ما يعلم الانسان بعدم التزام جميع الافراد الذين يذهب الى بيوتهم باخراج خمس اموالهم ، أو بعدم التزام جميعهم بالطهارة ، أو ما اشبه ذلك ، فاذا قلنا بانه يجب الاجتناب لزم الحرج ، والحرج منفي في الدين ( ولعلّ المراد به ) اي : بلزوم المشقة في الاجتناب (لزومه في أغلب أفراد هذه الشبهة لأغلب أفراد المكلّفين ) لا أن المراد : ان كل افراد الشبهة يكون

ص: 46

فيشمله عموم قوله تعالى : « يُريدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسرَ وَ لاَ يُريدُ بِكُمُ العُسرَ» وقوله تعالى : « مَا جَعَلَ عَلَيكُمَ في الدِّينِ مِن حَرَجِ » بناءا على أنّ المراد أنّ ما كان الغالبُ فيه الحرجَ على الغالب ، فهو يرتفع عن جميع المكلّفين ، حتّى مَن لا حرج بالنسبة إليه .

-------------------

في الاجتناب عنها حرج لكل افراد المكلفين ، لوضوح : انه ليس كل افراد الشبهة محلاً لابتلاء كل افراد المكلفين .

وحيث يلزم من اغلب افراد هذه الشبهة الحرج لأغلب افراد المكلفين ( فيشمله عموم قوله تعالى : « يُريدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسرَ وَ لاَ يُريدُ بِكُمُ العُسرَ » (1) وقوله تعالى : « مَا جَعَلَ عَلَيكُم في الدِّينِ مِن حَرَج » (2) ) وقد ذكرنا معنى الآيتين فيما سبق ، فلا حاجة الى تكراره ، ثم انه لمّا كان مقتضى هذا الدليل : رفع الاحتياط في الشبهات غير الحصورة التي يشق فيها الاحتياط بالنسبة الى بعض الناس ، لا في كل الشبهات بالنسبة الى كل الناس ، اشكلوا على هذا الدليل : بانه اخص من المدّعى ، فتصدى المصنِّف للجواب عنه بقوله : ( بناءا على أنّ المراد ) من ادلة نفي الحرج هو : ( أنّ ما كان الغالبُ فيه ) اي في التكليف ( الحرجَ على الغالب ) من الناس سواء كان تكليفا وجوبيا أم تحريميا ، واقعيا ام ظاهريا ( فهو يرتفع عن جميع المكلّفين حتّى مَن لا حرج بالنسبة إليه ) من المكلفين .

ولهذا قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك » (3) مع وضوح :

ص: 47


1- - سورة البقرة : الآية 185 .
2- - سورة الحج : الآية 78 .
3- - الكافي فروع : ج3 ص22 ح1 ، غوالي اللئالي : ج2 ص21 ح43 ، وسائل الشيعة : ج2 ص17 ب3 ح1346 و ص19 ب5 ح1354 .

وهذا المعنى وإن كان خلافَ الظاهر ، إلاّ أنّه يتعيّن الحمل عليه ، بمعونة ما ورد من إناطة الأحكام الشرعية وجودا وعدما بالعُسر والُيسر الغالبين.

-------------------

انّ السواك لايوجب المشقة على كل المكلفين ، بل على غالب المكلفين ، فالحرج على غالب المكلفين أوجب رفع وجوب السواك عن جميع المكلفين .

( وهذا المعنى وإن كان خلافَ الظاهر ) حيث ان المستفاد من رفع الحرج هو : الحرج الشخصي ، لا الحرج النوعي ، بمعنى : ان كل من يشق عليه امتثال تكليف من التكاليف في مورد من الموارد يرتفع عنه ذلك التكليف في ذلك المورد ، لا انّه مرفوع عن عامة المكلفين .

وعليه : فاذا كان في المدينة - مثلاً - مائة انسان وكان الوضوء يشق على خمسة وتسعين منهم ولا يشق على الخمسة الباقين ، وجب على اولئك الخمسة الوضوء ، وهكذا بالنسبة الى الصلاة من قيام ، والصوم ، والغسل ، وغير ذلك ، حتى اشتهر بينهم : ان رفع الحرج شخصي وليس بنوعي ، سوى ما ذكره الشارع بالنص مثل : « لولا أن أشق على اُمّتي » (1) ونحوه ، حيث ان المشقة النوعية فيها أوجبت رفع الشارع بنفسه التكليف عن كل المكلفين .

وعليه : ( الاّ انّه يتعين الحمل عليه ) اي : على النوعي بالاضافة الى الشخصي أيضا ( بمعونة ما ورد : من إناطة الأحكام الشرعية وجودا وعدما بالعُسر والُيسرالغالبين ) مثل قوله تعالى : « فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهر فَليَصُمهُ ، وَ مَن كَانَ مَريضا أو عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِّن أَيَّامٍ أخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسرَ وَ لاَ يُريدُ بِكُمُ العُسر » (2) فانّه

ص: 48


1- - الكافي فروع : ج3 ص22 ح1 ، غوالي اللئالي : ج2 ص21 ح43 ، وسائل الشيعة : ج2 ص17 ب3 ح1346 ، و ص19 ب5 ح1354 .
2- - سورة البقرة : الآية 185 .

...

-------------------

لا ريب ان الصوم في السفر وفي المرض مستلزم للعسر غالبا بالنسبة الى غالب الناس ، ولا كلّية له لا من جهة السفر والمرض ولا من جهة الاشخاص .

وقال سبحانه : « الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُم وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُم ضَعفا » (1) حيث رفع الحكم عن الجميع بواسطة ضعف البعض .

وفي النبوي المتقدِّم « لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك » (2) .

وفي صحيحة الفضيل بن يسار : « عن ابي عبد اللّه عليه السلام قال : في الرجل الجنب يغتسل فينتضح من الماء في الاناء ؟ فقال : لا بأس « « ما جَعَلَ عَليكم في الدِّينِ من حَرَج » (3) » (4) .

وصحيحة ابي بصير :« عن ابي عبد اللّه عليه السلام قال : سألته عن الجنب يجعل الركوة والتور فيدخل اصبعه فيه ؟ قال : ان كان يده قذرة فليهرقه وا ن كان لم يصبها قذر فليغسل منه ، هذا ممّا قال اللّه تعالى : « مَا جَعَلَ عَلَيكُم فِي الدِّينِ مِن حَرجٍ» (5) » (6) .

وفي رواية أخرى : « عن ابي عبد اللّه عليه السلام : انّا نسافر ، فربمّا بلينا بالغدير من المطر يكون الى جانب القرية ، فيكون فيه العذرة ويبول فيه الصبي ، وتبول فيه الدابة وتروث ؟ فقال عليه السلام : ان عَرَض في قلبك منه شيء فافعل هكذا - يعني

ص: 49


1- - سورة الانفال : الآية 66 .
2- - الكافي ج3 ص22 ح1 ، غوالي اللئالي : ج2 ص21 ح43 ، وسائل الشيعة : ج2 ص17 ب3 ح1346 و ص19 ب5 ح1354 .
3- - اشارة الى سورة الحج : الآية 78 .
4- - الكافي فروع : ج3 ص13 ح7 ، وسائل الشيعة : ج1 ص212 ب9 ح543 .
5- - سورة الحج : الآية 78 .
6- - تهذيب الاحكام : ج1 ص38 ب3 ح42 و ص229 ب10 ح44 ، الاستبصار ج1 ص20 ب10 ح1 ، وسائل الشيعة : ج1 ص154 ب8 ح385 .

وفي هذا الاستدلال نظر ، لأنّ أدلّة نفي العسر والحرج من الآيات والروايات لا تدلّ إلاّ على أنّ ما كان فيه ضيقٌ على مكلّف ، فهو مرتفع عنه .

وأمّا ارتفاع ما كان ضيقا على الأكثر عمّن هو عليه في غاية السّهولة ، فليس فيه امتنانٌ على أحد ، بل فيه تفويت مصلحة التّكليف من غير تداركها بالتّسهيل .

-------------------

أفرج الماء بيدك ثم توضّأ - فانّ الدين ليس بمضيّق وان اللّه عزوجل يقولُ : « ما جعل عليكم في الدين من حرج » (1) » (2) .

مضافا الى قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : «بعثت بالحَنيفية السهلة السمحة» (3) وقول الامام عليه السلام : « ان شيعتنا لأوسع ممّا بين ذه وذه ، وأشار بيده الى السماء والأرض » (4) الى غيرها من الآيات والرّوايات .

( وفي هذا الاستدلال نظر، لأنّ أدلّة نفي العسر والحرج من الآيات والروايات ) وكذا الاجماع والعقل قد وردت في مقام الامتنان ، فهي ( لا تدل الاّ على انّ ما كان فيه ضيقٌ على مكلّف ، فهو مرتفع عنه ) وذلك لانه يتدارك بمصلحة التسهيل .

( وامّا ارتفاع ما كان ضيقا على الأكثر عمّن هو ) اي التكليف ( عليه في غاية السّهولة ، فليس فيه امتنانٌ على أحد ) لانّ رفع التكليف عن الذي لا عسر فيه عليه بلا تدارك ، لا امتنان فيه له ولا لغيره ، فانه ليس منّة على زيد لو رفع التكليف عن عمرو ، ولذلك قال : ( بل فيه تفويت مصلحة التّكليف من غير تداركها بالتسهيل )

ص: 50


1- - سورة الحج : الآية 78 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص417 ب21 ح35 ، الاستبصار : ج1 ص22 ب10 ح10 ، وسائل الشيعة: ج1 ص163 ب9 ح404 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص494 ح1 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج15 ص144 .
4- - تأويل الآيات : ص176 ، بحار الانوار : ج60 ص46 ب30 ح27 بالمعنى .

وأمّا ما ورد من دوران الأحكام مدار السهولة على الأغلب ، فلا ينفع فيما نحن فيه ،

-------------------

اذ ليس الرفع تسهيلاً عليه ، حتى يتدارك مصلحة سقوط التكليف بمصلحة التسهيل .

مثلاً : في الوضوء مصالح ؛ فاذا عسر على انسان ، بدّله الشارع بالتيمّم ، امّا اذا لم يكن على انسان عسرا وتيمّم فاتته مصلحة الوضوء ، ولم يكن في رفع الوضوء عنه تسهيلاً عليه .

( وأمّا ما ورد : من ) الأدلة الدالة على ( دوران الأحكام مدار السهولة على الأغلب ، فلا ينفع فيما نحن فيه ) وذلك لان المنساق من تلك الادلة هو : بيان كيفية جعل الشارع الأحكام الكلية الواقعية .

وعليه : فانّ الشارع حين جعل الاحكام الواقعية لموضوعاتها الواقعية لاحظ عدم لزوم عسر على اغلب المكلفين في امتثالها ، وشمول هذه الاخبار للشبهة غير المحصورة انّما يتمّ اذا فرض كون عنوان الشبهة غير المحصورة موضوعا بحسب الواقع لوجوب الاجتناب حتى يلاحظ حينئذٍ في ثبوت هذا الحكم لهذا الموضوع : عدم لزوم عسر على الأغلب في أغلب مواردها ، والحال انّ الأمر ليس كذلك ، بل هذا العنوان انّما هو في كلمات العلماء لموضوعات متعدّدة قد اشتبه كل واحد منها بين أمور غير محصورة .

إذن : فجعل الشبهة غير المحصورة عنوانا في كلمات العلماء لهذه الموضوعات المتعددة ، انّما هو لاجل كونه جامعا لشتات جزئيات هذه الموضوعات ، ليتوصل به الى البحث عن هذه الموضوعات ، الموضوعات المشتبه وليس أكثر .

ص: 51

لأنّ الشبهة غير المحصورة ليست واقعة واحدة حُكِمَ فيها بحكم ، حتى يدّعى انّ الحكم بالاحتياط في أغلب مواردها عسرٌ على أغلب الناس ، فيرتفع حكم الاحتياط فيها مطلقا ، بل هي عنوان

-------------------

وعلى ايّ حال : فليس عنوان : الشبهة غير المحصورة من العناوين الموجودة في الآيات ، أو الروايات : أو الاجماع ، أو العقل ، حتى يقال : بانّه كلّما حصلت شبهة غير محصورة يكون التكليف فيها مرفوعا .

هذا ومن الواضح : انّه لايلزم من امتثال هذه الاحكام المتعلقة بالموضوعات المتعدّدة عسر وحرج على الأغلب ، والاّ لزم ذلك فيما لو فرض فيه العلم التفصيلي بهذه الموضوعات أيضا ، وهذا ممّا لا يقول به القائلون بجواز الارتكاب في اطراف الشبهة غير المحصورة .

والى هذا المعنى الذي ذكرناه في عدم نفع تلك الادلة لما نحن فيه اشار المصنّف : ( لأنّ الشبهة غير المحصورة ليست واقعة واحدة حُكِمَ فيها بحكم ) واحد مثل : ان يقول الشارع : اجتنب في الشبهة غير المحصورة أو يقول : لا تجتنب في الشبهة غير المحصورة ( حتى يدّعى : انّ الحكم بالاحتياط في أغلب مواردها عسرٌ على أغلب الناس ، فيرتفع حكم الاحتياط فيها ) اي : في كل تلك الموارد ( مطلقا ) أي : حتى في مورد عدم الحرج وبالنسبة الى من لا حرج عليه .

( بل هي ) اي : الشبهة غير المحصورة ( عنوان ) كلي اصطلح عليه الفقهاء وجعلوه قاعدة مصطيدة مثل قاعدة : « مَنْ مَلكَ شيئا ملكَ الاقرار به » ، وقاعدة « الخِراج بالضَمان » ، وقاعدة : « الفراغ » ، وقاعدة : « التجاوز » ، وغيرها من القواعد الفقهية المصطيدة من الروايات .

ص: 52

لموضوعات متعدّدة لأحكام متعدّدة ، والمقتضي للاحتياط في كلّ موضوع هو نفس الدليل الخاصّ التحريمي الموجود في ذلك الموضوع .

والمفروض : انّ ثبوت التحريم لذلك الموضوع مسلّم ،

-------------------

إذن : فالشبهة غير المحصورة عنوان ( لموضوعات متعدّدة لاحكام متعدّدة ) كالخمر المشتبه بين أواني غير محصورة ، والنجس المشتبه في امور غير محصورة ، والغصب المشتبه في امور غير محصورة ، والغصب المشتبه بين اشياء غير محصورة ، وهكذا الى ما لا يحصى .

( و) عليه : فالشبهة غير المحصورة ليست عنوانا لموضوع واحد يقتضي الاحتياط أو لا يقتضيه ، وإنّما هي عنوان لمواضيع كثيرة ذات احكام متعددة ويكون ( المقتضي للاحتياط في كلّ موضوع هو نفس الدليل الخاص التحريمي الموجود في ذلك الموضوع ) بشخصه .

مثلاً : المقتضي للاحتياط في الخمر المشتبه بين أواني غير محصورة هو نفس دليل تحريم الخمر ، مثل قوله سبحانه : « انَّمَا الخمرُ وَ المَيسِرُ وَ الأَنصَابُ وَالأزلامُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجتَنِبُوهُ » (1) والمقتضي للاحتياط في النجس المشتبه بين أمور غير محصورة هو قوله سبحانه : « وَ الرُّجزَ فَاهجُر » (2) والمقتضي للاحتياط في الغصب المشتبه بين امور غير محصورة هو قوله عليه السلام : « حرمة ماله كحرمة دمه » (3) الى غير ذلك من المحرمات التي تشتبه في غير المحصور .

هذا ( والمفروض : انّ ثبوت التحريم لذلك الموضوع مسلّم ) للتصريح به في

ص: 53


1- - سورة المائدة : الآية 90 .
2- - سورة المدثر : الآية 5 .
3- - الكافي اصول : ج2 ص359 ح2 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص569 ب2 ح4946 و ج4 ص377 ب2 ح5781 و ص418 ب2 ح5913 ، مجموعة ورام : ج2 ص65 ، اعلام الدين : ص201 ، تحف العقول: ص212 ، تفسير القمّي: ج1 ص291 ، كنز الفوائد: ج1 ص216 ، الاختصاص: ص342.

ولا يرد منه حرجٌ على الأغلب ، وأنّ الاجتناب في صورة اشتباهه ايضا في غاية اليسر ، فأيّ مدخل للاخبار الواردة في انّ الحكم الشرعي يتبع الأغلب في اليُسر والعُسر .

-------------------

الآيات والروايات ونحوهما .

( و ) المفروض أيضا : انّه ( لا يرد منه ) أي : من تحريم ذلك الموضوع ( حرجٌ على الأغلب ) من الناس حتى يرتفع رأسا .

( و ) كذا المفروض ( : انّ الاجتناب في صورة اشتباهه ايضا في غاية اليسر ) .

إذن : فلا عسر في الاجتناب حتى يرتفع التكليف به ، لانّ الغالب انّ الانسان لايبتلى بالشبهة في اطراف غير محصورة .

نعم ، لو لزم العسر أو الحرج في مورد ، يرتفع وجوب الاجتناب في ذلك المورد الخاص ، سواء علم بالحرام تفصيلاً ، كما اذا قطع بأنّ هذا بعينه خمر لكنّه اضطر الى ارتكابه ، أم اشتبه بين امور محصورة ؛ كما اذا كان الخمر بين انائين اضطر لشرب احدهما ؛ ام غير محصورة بأن كان الخمر مشتبها بين الوُف الأواني .

وعليه : ( فايّ مدخل ) مع ذلك ( للاخبار الواردة في انّ الحكم الشرعي يتبع الأغلب في اليُسر والعُسر ) وضعا ورفعا حتى يستدلّ بها لرفع الحكم في الشبهة غير المحصورة ؟ .

وان شئت قلت : ان ظاهر ادلة نفي العُسر والحَرج من الآيات والروايات هو : اعتبار العسر الشخصي الملحوظ بالنسبة الى احد المكلفين بالنسبة الى آحاد المسائل المبتلى بها ، فتكون النسبة بينها وبين المدعى عموما من وجه .

وإنّما تكون النسبة بينهما من وجه ، إذ ربّ مورد من موارد العُسر لادخل له في الشبهة غير المحصورة ، وربّ مورد من موارد الشبهة غير المحصورة لايلزم

ص: 54

وكأنّ المستدلّ بذلك جَعَلَ الشبهة غير المحصورة واقعةً واحدةً ، مقتضى الدليل فيها وجوب الاحتياط لولا العُسر ، لكن لمّا تعسّر الاحتياط في أغلب الموارد على أغلب الناس حكم بعدم وجوب الاحتياط كليّة .

-------------------

من الاحتياط فيه عسر على بعض المكلفين ولو بالنسبة الى بعض حالاته ، فجعل احدهما دليلاً على الآخر غير تام ، فهو مثل جعل وجود انسان في البيت دليلاً على وجود الابيض في البيت .

وعليه : فالدليل يجب ان يكون بقدر المدّعى أو اكبر منه ، بأن يقول - مثلاً - : الانسان في البيت لانّ الناطق في البيت ، أو يقول : الحيوان في البيت بدليل انّ انسان في البيت : امّا المباين فلا يكون دليلاً على مباينه ، كما لايكون احد العامّين من وجه دليلاً على الآخر .

هذا ( وكأنّ المستدلّ بذلك ) اي : كأن الذي استدل لعدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة : بدوران الاحكام مدار اليسر على الأغلب ، وقد ( جَعَلَ ) عنوان ( الشبهة غير المحصورة واقعةً واحدةً ) نظير نجاسة الخمر ، وحرمة الغصب ، وما اشبه ذلك ، فيكون (مقتضى الدليل فيها : وجوب الاحتياط لولا العُسر ) فكما ان السواك واقعة واحدة أوجب العُسر فيه عدم وجوبه ، كذلك الشبهة غير المحصورة واقعة واحدة أوجب العُسر عدم وجوب الاحتياط فيها .

إذن : فالاحتياط واجب في الشبهة غير المحصورة اوّلاً وبالذات ( لكن لمّا تعسّر الاحتياط في اغلب الموارد ) من هذه الشبهة ( على اغلب الناس حكم ) الشارع ( بعدم وجوب الاحتياط كليّة ) سواء بالنسبة الى من يعسر عليه الاحتياط

ص: 55

وفيه : أنّ دليل الاحتياط في كلّ فرد من الشبهة ليس الاّ دليلَ حرمة ذلك الموضوع .

نعم ، لو لزم الحرج من جريان حكم العنوان المحّرم الواقعي في خصوص مشتبهاته غير المحصورة على اغلب المكلفين في اغلب الاوقات كأن يدّعى أنّ الحكم بوجوب الاحتياط عن النجس الواقعي مع اشتباهه في امور غير محصورة يوجب الحَرج الغالبي أمكن التزام ارتفاع وجوب الاحتياط في خصوص النجاسة المشتبه .

-------------------

أم بالنسبة الى من لم يعسر الاحتياط عليه .

( و ) لكن ( فيه : انّ دليل الاحتياط في كلّ فرد من الشبهة ) غير المحصورة ( ليس الاّ دليلَ حرمة ذلك الموضوع ) لما عرفت : من ان الشارع لم يقل إحتط في الشبهة غير المحصورة حتى يكون عنوانا خاصا فيلاحظ فيه العسر واليسر الغالبيان ، بل قال الشارع : اجتنب عن الخمر، اجتنب عن الغصب ، اجتنب عن البول ، وهكذا ، فالشبهة غير المحصورة عنوان كلي لعشرات الاحكام التي يجب فيها الاجتناب بخصوصها .

( نعم ، لو لزم الحرج من جريان حكم العنوان المحّرم الواقعي في خصوص مشتبهاته ) اي : مشتبهات ذلك المحرّم الخاص بأن كانت الشبهة ، ( غير المحصورة ) فيه مما يلزم من اجتنابها الحرج ( على اغلب المكلفين في اغلب الاوقات ، كأن يدّعى : انّ الحكم بوجوب الاحتياط عن النجس الواقعي مع اشتباهه في امور غير محصورة يوجب الحَرج الغالبي ، امكن ) عند ذلك ( التزام ارتفاع وجوب الاحتياط في خصوص النجاسة المشتبه ) بالبول - مثلاً - دون سائر النجاسات .

ص: 56

لكن لا يتوهم من ذلك اطّرادُ الحكم بارتفاع التحريم في الخمر المشتبه بين مايعات غير محصورة ، والمرأة المحرّمة المشتبة في ناحية مخصوصة ، الى غير ذلك من المحّرمات .

ولعلّ كثيرا ممّن تمسك في هذا المقام بلزوم المشقة أراد المورد الخاص

-------------------

وانّما يكون هذا الحكم مختصا بالنجاسة ، المشتبهة ، دون غيرها ، لان نجاسة البول حكم ، ونجاسة الخمر حكم آخر ، ونجاسة الدم حكم ثالث وهكذا ، فالحرج في بعضها وان كان غالبيا لأغلب الناس الاّ انه لايوجب عدم الاحتياط في سائر النجاسات .

هذا ( لكن ) اذا قال الشارع ذلك بالنسبة الى النجاسة مطلقا كما هو ظاهر عبارة المصنِّف ، أو بالنسبة الى خصوص النجاسة المشتبة بالبول - مثلاً - كما لا يبعد ان يكون مراد المصنِّف ذلك ، فيجب ان ( لا يتوهم من ذلك ) اي : من ارتفاع الاحتياط في باب مطلق النجس أو في باب خصوص المشتبه لاجل العسر الغالب لأغلب الناس ( اطّرادُ الحكم بارتفاع التحريم في الخمر المشتبه بين مايعات غير محصورة ، والمرأة المحرّمة المشتبة في ناحية مخصوصة ) من نواحي بلد كبير .

( الى غير ذلك من المحّرمات ) التي لايلزم من الاجتناب عنها حين اشتباهها في امور غير محصورة عسر وحرج على الأغلب فلا يطّرد الحكم اليها حتى يقال : بأنّ كل غير محصور مرفوع حكمه .

( ولعلّ كثيرا ممّن تمسك في هذا المقام ) اي : في الشبهة غير المحصورة وقال فيها بعدم الاحتياط متمسكا ( بلزوم المشقة أراد المورد الخاص ) اي : اراد كل مورد مورد ، فان كل مورد يلزم منه المشقة يرتفع فيه الاحتياط ، وكل مورد لايلزم

ص: 57

كما ذكروا ذلك في الطّهارة والنّجاسة .

هذا كلّه ، مع أنّ لزوم الحرج في الاجتناب عن الشبهة غير المحصورة التي يقتضي الدليلُ المتقدّم وجوبَ الاحتياط فيها

-------------------

منه المشقة يكون الاحتياط فيه واجبا ، لا انّ الشبهة اذا صارت غير محصورة يرتفع الاحتياط فيها : مطلقا ولو لم يكن في بعضها عسر وحرج .

( كما ) يشهد لما قلناه : من ان ارادة كثير ممّن تمسك في هذا المقام بلزوم المشقة هو المورد الخاص لا مطلقا ، انهم ( ذكروا ذلك في ) باب ( الطّهارة والنّجاسة ) فقط دون سائر الابواب الفقهية مما يكشف انهم لايريدون تعدية العُسر من باب الطهارة الى باب الرضاع ؛ ومن باب الرضاع الى ابواب اُخر .

( هذا كلّه ) هو الاشكال الأوّل على من استدل بالدليل الثاني أعني : العسر والحرج لرفع وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة رفعا مطلقا أو في خصوص المشتبه .

( مع ) انّ هناك اشكالاً آخر يرد على هذا الاستدلال وهو انه ليس رفع الاحتياط من جهة العُسر والحرج كما استدل به المستدّل ، بل هو : لاّن جملة من الاطراف على الأغلب خارجة عن محل الابتلاء ، وقد عرفت سابقا : انه اذا كان بعض اطراف العلم الاجمالي حتى في المحصور ، خارجا عن محل الابتلاء جاز ارتكاب بعضها الآخر .

والى هذا المعنى اشار المصنِّف بقوله : ( انّ لزوم الحرج في الاجتناب عن الشبهة غير المحصورة التي يقتضي الدليلُ المتقدّم ) وهو دليل تحريم الحرام الواقعي المشتبه بينها المقتضي ( وجوب الاحتياط فيها ) اي : في الشبهة غير

ص: 58

ممنوعٌ .

ووجهه : أنّ كثيرا من الشبهات غير المحصورة لايكون جميعُ المحتملات مورد ابتلاء المكلّف ، ولا يجب الاحتياط في مثل هذه الشبهة وان كانت محصورةٌ كما أوضحناه سابقا .

وبعد إخراج هذا عن محل الكلام فالانصافُ منعُ غلبة التعسّر في الاجتناب .

-------------------

المحصورة ، فان لزوم الحرج فيها ( ممنوع ) اذ لا يلزم من الاجتناب عنها حرج .

( و وجهه : ) اي : وجه المنع من لزوم الحرج هو : ( انّ كثيرا من الشبهات غير المحصورة لايكون جميعُ المحتملات ) من تلك الشبهة ( مورد ابتلاء المكلّف ، و ) من المعلوم : انه ( لا يجب الاحتياط في مثل هذه الشبهة ) التي لايكون جميع اطرافها محلاً لابتلاء المكلّف حتى ( وان كانت محصورةٌ ) فكيف بما اذا كانت غير محصورة ( كما اوضحناه سابقا ) حيث اشترطنا تنجز التكليف في المحصورة بكون جميع الاطراف محل الابتلاء .

( وبعد اخراج هذا ) الكثير من اطراف الشبهة غير المحصورة الذي لايكون مورد الابتلاء ( عن محل الكلام فالانصافُ منعُ غلبة التعسّر في الاجتناب ) عن الباقي ، فلا مجال لملاحظة العُسر الغالب لرفع الاحتياط رأسا ، فاذا كانت موارد الشبهة غير المحصورة مائة - مثلاً - وكان خمسة وتسعون منها خارجا عن محل الابتلاء ؛ لم يكن العسر في الخمسة الباقية ، فكيف يمكن الاستدلال بالعُسر لاجل رفع الاحتياط في الخمسة الباقية ؟ .

ص: 59

الثالث :

الاخبار الدالّة على حليّة كلّ ما لم يعلم حرمته ، فانّها بظاهرها وإن عمّت الشبهة المحصورة الاّ أنّ مقتضى الجمع بينهماوبين ما دّل على وجوب الاجتناب بقول مطلق هو : حمل أخبار الرخصة على غير المحصورة ، وحمل اخبار المنع على المحصور .

-------------------

( الثالث ) من ادلّة عدم وجوب الاجتناب في غير المحصور : ( الاخبار الدالّة على حليّة كلّ ما لم يعلم حرمته ) مثل قوله عليه السلام : « كلّ شيء لَكَ حَلالٌ ، حتى تَعرف انّه حرامٌ بعينه » (1) و « كلّ شيء يكون فيه حرام و حلال ، فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه » (2) وغيرهما من الاخبار التي مرَّت جملة منها ، فانّها تشمل الشبهة البدوية ، والشبهة المحصورة وغير المحصورة كما قال :

( فانّها بظاهرها وان عمّت ) حتى ( الشبهة المحصورة الاّ انّ مقتضى الجمع بينهما وبين ما دّل على وجوب الاجتناب بقول مطلق ) مثل : روايات الاحتياط وما أشبه ( هو : حمل أخبار الرخصة على غير المحصورة ، وحمل أخبار المنع على المحصور ) لأنّ أخبار الحل تشمل الشبهة المحصورة وغير المحصورة ، وأخبار الاحتياط تشملهما أيضا فيتعارضان ، فيجمع بينهما بحمل كل منهما على القدر المتيقن منه ، فالمحصورة في أخبار الاحتياط ، وغير المحصورة في أخبار الحل .

ص: 60


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 (بالمعنى) وقريب منه ج39 والمحاسن : ص495 ح596 .
2- - تهذيب الاحكام : ج9 ص79 ب4 ح72 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص341 ب2 ح4208 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 .

وفيه أولاً : أنّ المستند في وجوب الاجتناب في المحصور اقتضاء دليل نفس الحرام المشتبه لذلك بضميمة حكم العقل ، وقد تقدّم بما لا مزيد عليه : أنّ أخبار حلّ الشبهة لايشمل صورة العلم الاجمالي بالحرام .

وثانيا : لو سلّمنا شمولها لصورة العلم الاجمالي

-------------------

( وفيه أولاً : انّ المستند في وجوب الاجتناب في المحصور : اقتضاء دليل نفس الحرام المشتبه لذلك ) اي : لوجوب الاجتناب ، لما تقدّم من ان قوله : اجتنب عن الخمر ، واجتنب عن الميتة ، واجتنب عن الغصب ، يشمل الموارد المعلومة اجمالاً .

ومن الواضح : ان الحرام معلوم اجمالاً في المحصورة وغير المحصورة ، فيجب الاجتناب عنه فيهما ، وذلك ( بضميمة حكم العقل ) بوجوب دفع الضرر المحتمل الجاري في كليهما .

إذن : فالمستند لوجوب الاحتياط في العلم الاجمالي ليس هو أخبار الاحتياط حتى يقال باختصاصها بالمحصورة في مقابل اختصاص أخبار الحّل بغير المحصورة للجمع بينهما ( و ) ذلك لانّه ( قد تقدّم بما لا مزيد عليه : إنّ أخبار حلّ الشبهة لا يشمل صورة العلم الاجمالي بالحرام ) اطلاقا لانها لو كانت شاملة لصورة العلم الاجمالي لوقع التعارض بين هذه الاخبار وبين ادلة المحّرمات ، بينما لا تعارض بين الطائفتين .

وإنّما لا تعارض بين الطائفتين لأنّ مقتضى أخبار الاحتياط : وجوب الاحتياط في المحصورة وغير المحصورة على حدّ سواء، ومقتضى أخبار الحل : حليّة الشبهة البدوية فقط على ما ذكرناه سابقا للقرائن الدالة على ذلك .

( وثانيا : لو سلّمنا شمولها ) اي : شمول اخبار الحل ( لصورة العلم الاجمالي

ص: 61

حتى يشمل الشبهة غير المحصورة ، لكنها تشمل المحصورة أيضا ، وأخبار وجوب الاجتناب مختصّة بغير الشبهة الابتدائية إجماعا ، فهي على عمومها للشبهة غير المحصورة أيضا أخصُّ مطلقا من أخبار الرّخصة .

-------------------

حتى يشمل الشبهة غير المحصورة ) التي هي محل الكلام ( لكنها تشمل المحصورة أيضا ) تعمّها فتشمل أخبار الحل شبهات ثلاث : المحصورة وغير المحصورة والبدوية ، بينما ( وأخبار وجوب الاجتناب مختصّة ) بصورة العلم الاجمالي ، اي : ( بغير الشبهة الابتدائية إجماعا ) فقد قام الاجماع على عدم وجوب الاجتناب في الشبهة البدوية كما ذكرناه سابقا ، فتختص أخبار الاحتياط بالشبهة المحصورة وغير المحصورة، فتقدّم فيهما على أخبار الحل .

والحاصل : انّه لو سلمنا شمول أخبار الحل لصورة العلم الاجمالي ، سواء الشبهة المحصورة أم غير المحصورة ، فانّ اللازم مع ذلك هو العمل باخبار وجوب الاحتياط وتقديمها على اخبار الحل في مورد العلم الاجمالي في كلتا الشبهتين المحصورة وغير المحصورة ، وذلك لانّ أخبار الاحتياط أخص من اخبار الحل ، فان اخبار الحل تشمل المحصورة وغير المحصورة والشبهة البدوية ، واخبار الاحتياط خاصة بالشبهة المحصورة وغير المحصورة ، فالجمع بينهما يقتضي تقديم أخبار الاحتياط في الشبهة المحصورة وغير المحصورة على اخبار الحل .

إذن : ( فهي ) اي : أخبار الاحتياط ( على عمومها ) وشمولها للشبهة المحصورة و ( للشبهة غير المحصورة ) تكون ( أيضا أخصُّ مطلقا من أخبار الرّخصة ) الدالة على الحل ، وذلك لما عرفت : من انّ اخبار الاحتياط تشمل

ص: 62

والحاصل : انّ أخبار الحلّ نصّ في الشبهة الابتدائية واخبارالاجتناب نصّ في الشبهة المحصورة، وكلا الطرفين ظاهران فيالشبهة غير المحصورة ، فاخراجها وادخالها في الآخر ليس جمعا ، بل ترجيحا بلا مرجّح ، الاّ ان يقال : إنّ أكثر أفراد الشبهة الابتدائية ترجع بالاخرة الى الشبهة غير المحصورة ،

-------------------

الشبهتين ، واخبار الحل البدوية تشمل الشبهات الثلاث ، فيقدّم الخاص وهو الاحتياط على العام وهو الحل فيعمل بالاحتياط في المحصورة وغير المحصورة ويترك الحل للبدوية .

( والحاصل : انّ أخبار الحلّ نصّ في الشبهة الابتدائية وأخبار الاجتناب نصّ في الشبهة المحصورة ، وكلا الطرفين ظاهران في الشبهة غير المحصورة ) وكأنّ هذا الكلام من المصنِّف اضراب عن كلامه السابق حيث قال : « انّ اخبار الاحتياط أخص مطلقا من اخبار الحل » فانّه بقوله : و « الحاصل » جعل بين هاتين الطائفتين من الاخبار عموما من وجه ، فيكون مادة التعارض هو الشبهة غير المحصورة .

وعليه : ( فاخراجها ) اي : عن اخبار الاحتياط ( وادخالها في الآخر ) اي : في اخبار الحل كما صنعه المستدل ( ليس جمعا ) بين الطائفتين ( بل ترجيحا بلا مرجّح ) لانّك قد عرفت : انّ كلاً من الطائفتين تشمل الشبهة غير المحصورة على حد سواء ، فلا وجه لترجيح احدى الطائفتين على الأخرى بالنسبة الى الشبهة غير المحصورة .

( الاّ ان يقال ) في تأييد المستدل لادخال الشبهة غير المحصورة في اخبار الحل : ( انّ أكثر افراد الشبهة الابتدائية ترجع بالاخرة الى الشبهة غير المحصورة ) فتكون الشبهة الابتدائية المحضة قليلة جدا .

ص: 63

لأنّا نعلم غالبا بوجود النّجس والحرام في الوقائع المجهولة غير المحصورة .

فلو أخرجت هذه الشبهة عن اخبار الحلّ لم يبق تحتها من الأفراد إلاّ النادر ، وهو لا يناسب مساق هذه الاخبار ، فتدبّر .

-------------------

وانّما ترجع الشبهة الابتدائية في الاكثر الى الشبهة غير المحصورة ( لانّا نعلم غالبا بوجود النّجس والحرام في الوقائع المجهولة غير المحصورة ) لوضوح : انّا شككنا في نجاسة بدننا ، أو ثوبنا ، أو شككنا في حرمة هذه المرأة اوتلك الذبيحة ، أو ما اشبه ذلك ، فليس شكنا هذا بدويا حاصلاً من دون علم اجمالي ، بل هو على الاغلب بملاحظة علمنا الاجمالي بوجود نجس وحرام كثير في البلاد ، فيكون غير محصورة .

( فلو أخرجت هذه الشبهة ) وهي الشبهة غير المحصورة ( عن اخبار الحلّ لم يبق تحتها من الأفراد إلاّ ) الشك البدوي ( النادر ) جدا ( وهو لا يناسب مساق هذه الاخبار ) الكثيرة الظاهرة في انّ الشبهة متعدّدة وكثيرة ، لا انّها قليلة .

والحاصل انّ القدر المتيقن في أخبار الحل وان كان هو الشك البدوي، إلاّ انه لما كان الشك البدوي الذي لايكون ضمن الشبهة غير المحصورة نادرا جدا، كان من المستبعد ان يراد بأخبار الحل على كثرتها خصوص هذه الافراد النادرة فقط، فاللازم ان نقول بشمول أخبار الحل للشبهة غير المحصورة أيضا كما ذكره المستدل .

( فتدبّر ) ولعل وجهه : ان الشبهة البدوية كثيرة جدا وليست نادرة ، فانا كثيرا ما نشك في انّه هل تنجس ثوبنا أو بدننا أو شيء ممّا يتعلق بنا ابتداءًا ، من دون علم اجمالي، ومع ذلك فانه لو فرضنا ان النسبة بين اخبار الحل واخبار الاحتياط

ص: 64

الرابع :

بعض الأخبار الدالّة على انّ مجرد العلم بوجود الحرام بين المشتبهات لايوجب الاجتناب عن جميع ما يحتمل كونه حراما .

مثل ما في محاسن البرقي عن أبي الجارود قال : سالتُ أبا جعفر عليه السلام عن الجُبُن ؟ فقلتُ : اخبرني من رأى انّه يجعل فيه الميتةُ ، فقال : أمن أجل مكان واحد يُجعَل فيه الميتةُ ، حُرِّمَ جَميعُ

-------------------

عموم من وجه ، فعند تعارضهما في الشبهة غير المحصورة ، يكون الجمع بينهما بتقديم أخبار الحل فيها كما قاله المستدل ، وحينئدٍ تكون اخبار الحل دليلاً على الحلّية فيالشبهة غير المحصورة .

( الرابع : ) من أدلة الحلية في الشبهة غير المحصورة هو : ( بعض الأخبار الدالّة على انّ مجرد العلم بوجود الحرام بين المشتبهات ) الكثيرة غير المحصورة ( لايوجب الاجتناب عن جميع ما يحتمل كونه حراما ) وذلك ( مثل ما في محاسن البرقي عن ابي الجارود قال : سالتُ أبا جعفر ) الباقر ( عليه السلام عن الجُبُن ؟ فقلتُ : إخبرني من رأى ) بعينيه ( انّه يجعل فيه الميتة ) لانّ الجُبن لايصلح الاّ بالأنفِخة .

ثم إنّ الانفخة قد تكون من الحيوان الحلال اللحم :فهو مذّكى وان كان من الميتة ، وقد تكون من الحيوان المحّرم اللحم فهو ميتة وان كان من المذكى ، فالانفخة من الحيوان المحلّل اللحم الذي مات بدون تذكية شرعية محللة كما ذكروا ذلك في محللات الميتة حيث قالوا : بأن الأنفِخة من الميتة من قبيل الشعر ، والعظم ، والقرن ، والظلف ، وغير ذلك .

( فقال ) عليه السلام في جوابه : ( أمن أجل مكان واحد يُجعَل فيه الميتةُ ، حُرِّمَ جَميعُ

ص: 65

ما في الارض ! فما علمتَ فيه ميتة فلا تاكلهُ ، وما لم تعلم فاشتر وبع وكُل ، واللّهِ اني لأعتَرضُ السُّوقَ وأشتري اللحم والسّمنَ والجُبُن ، واللّهِ ماأظن كُلّهُم يُسَمُّوُنَ ، هذه البريّة وهذه السّودانُ » ، الخبر .

فانّ قوله : « أمن أجلِ مكان واحد » الخبر ، ظاهرٌ في انّ مجرّد العلم بوجود الحرام لايوجب الاجتناب عن محتملاته .

وكذا قوله عليه السلام : « واللّه ما أظنّ كلّهم يسمّون » فانّ الظاهر

-------------------

ما في الارض ؟ ) مّما معناه : انه لا أثر للعلم الاجمالي المذكور في التحريم ، بل ( فما علمتَ ) تفصيلاً ان ( فيه ميتة فلا تأكلهُ ، وما لم تعلم فاشتر وبع وكُل ) .

ثم انّ الامام عليه السلام أكدّ قوله ذلك بسيرته عليها حيث قال : ( واللّهِ اني لأعتَرضُ السُّوقَ ) اي : ادخل السوق ( وأشتري اللحم والسّمنَ والجُبُنَّ واللّهِ ماأظن كُلّهُم يُسمّوُنَ ) حتى مثل ( هذه البّريّة ) الذين يسكنون البراري بعيدا عن العلم والعلماء ، فلا يعرفون الأحكام ولا يبالون بها اذا عرفوها ( وهذه السّودان ) (1) الذين يعيشون في الصحاري تحت وهج الشمس حتى إسودّت وجوههم منها ، فبقوا لايعلمون الاجام ولا يلتزمون بها ،الى آخر ( الخبر ) .

وعليه : ( فانّ قوله ) عليه السلام : ( « أمن أجلِ مكان واحد » ) الى اخر ( الخبر ، ظاهرٌ في انّ مجرّد العلم ) الاجمالي ( بوجود الحرام ) في امور كثيرة غير محصورة ( لايوجب الاجتناب عن محتملاته ) اي : عن محتملات ذلك العلم الاجمالي الكثير الاطراف .

( وكذا قوله عليه السلام : « واللّه ما أظنّ كلّهم يسمّون » ) ظاهر في ذلك ( فانّ الظاهر

ص: 66


1- - المحاسن : ص495 ح597 ، وسائل الشيعة : ج25 ص119 ب61 ح31380 بالمعنى .

منه إرادة العلم بعدم تسمية جماعة حين الذبح ، كالبّريّة والسودان ، الاّ ان يُدّعى انّ المراد انّ جعل الميتة في الجبن في مكان واحد لايوجب الاجتناب عن جبن غيره من الأماكن . ولا كلام في ذلك ، لا أنّه لا يوجب الاجتناب عن كلّ جبن يحتمل أن يكون من ذلك المكان ، فلا دخل له بالمدّعى .

وامّا قوله : « ما أظنّ كلّهم يسمّون » ، فالمراد منه عدم وجوب الظن ، أو القطع بالحليّة ،

-------------------

منه ) اي : من مثل هذه العبارة عرفا : ( إرادة العلم بعدم تسمية جماعة حين الذبح ، كالبّريّة والسودان ) فهو من قبيل العلم الاجمالي بالنجاسة والحرمة ، لا من قبيل عدم العلم .

( الاّ ان يُدّعى : انّ المراد ) منه هو : تحليل الامام الشبهة البدوية ، أو تحليل الامام الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي اذا كان بعض اطرافها خارجا عن محل الابتلاء ، فيكون مراده عليه السلام منه هو : ( انّ جعل الميتة في الجُبُن في مكان واحد ) كالعراق - مثلاً - ( لايوجب الاجتناب عن جُبن غيره من الأماكن ) كالحجاز - مثلاً - ( ولا كلام في ذلك ) لانّه من الشك البدوي ، فلا يكون الخبر متعرّضا للعلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة ( لا أنّه ) اي : لا ان مراد الامام هو : انّ جعل الميتة في الجبن في مكان ( لا يوجب الاجتناب عن كلّ جُبن يحتمل أن يكون من ذلك المكان ) فالامام عليه السلام في صدد نفي الاحتياط في الشك البدوي ، لا في مورد العلم الاجمالي غير المحصور ( فلا دخل له ) اي : لما ذكره عليه السلام على هذا ( بالمدّعى ) : من حلّية الشبهة غير المحصورة.

( وأمّا قوله ) عليه السلام : ( « ما أظنّ كلّهم يسمّون » فالمراد منه : عدم وجوب الظن، أو القطع بالحليّة ) في مورد يشك الانسان شكا بدويا في الحليّة وعدم الحليّة .

ص: 67

بل يكفي اخذها من سوق المسلمين ، بناءا على انّ السوق أمارة شرعية لحلّ الجُبن المأخوذ منه ، ولو من يد مجهول الاسلام . الاّ أن يقال : إنّ سوق المسلمين غير معتبر مع العلم الاجمالي بوجود الحرام ، فلا مسوّغ للإرتكاب إلاّ كون الشبهة غير محصورة ، فتأمل .

الخامس :

أصالة البرائة بناءا على انّ المانع من اجرائها

-------------------

( بل يكفي أخذها من سوق المسلمين بناءا على انّ السوق أمارة شرعية لحلّ الجُبن المأخوذ منه ) وكذا اللحم المأخوذ منه ، فان الانسان اذا أخذ شيئا من سوق المسلمين ( ولو من يد مجهول الاسلام ) فانّه يحكم عليه بالحلية ، كما ان الحال كذلك اذا أخذها من يد المسلم .

( الاّ أن يقال : انّ سوق المسلمين غير معتبر مع العلم الاجمالي بوجود الحرام ) فيه ، اذ العلم الاجمالي كما لايدع مجالاً للاصول العلمية كذلك لايدع مجالاً لسائر الأمارات ، كالسوق واليد ونحوهما ( فلا مسوّغ للارتكاب ) حينئذٍ ( الاّ كون الشبهة غير محصورة ) فتكون هذه الرواية دليلاً على عدم وجوب الاجتناب عن اطراف الشبهة غير المحصورة .

( فتأمل ) فانّا لانسلم بانّ حصول العلم الاجمالي بحرمة بعض ما في اسواق المسلمين يوجب اسقاط حجيّة السوق ، كما انّ وجود الحرام في يد المسلم لايوجب اسقاط حجيّة يده على ما قرّر في موضعه .

( الخامس ) من أدلة عدم وجوب الاحتياط في اطراف الشبهة غير المحصورة : (أصالة البرائة) الثابتة عقلاً ونقلاً (بناءاا على انّ المانع من اجرائها) اي : من اجراء

ص: 68

ليس الا العلم الاجمالي بوجود الحرام ، ولكنّه انّما يوجب الاجتناب عن محتملاته من باب المقدّمة العلمية التّي لايجب الاّ لأجل وجوب دفع الضرر ، وهو العقاب المحتمل في فعل كلّ واحد من المحتملات ، وهذا لايجري في المحتملات غير المحصورة ، ضرورة أنّ كثرة الاحتمال يُوجب عدم الاعتناء بالضّرر المعلوم وجوده بين المحتملات .

ألا ترى الفرق الواضح بين العلم بوجود السمّ في احد انائين أو واحد من ألفي إناء ،

-------------------

البرائة ( ليس الاّ العلم الاجمالي بوجود الحرام ) فانّ العلم الاجمالي هو الذي يمنع من اجراء البرائة ، لانّ العلم الاجمالي يصلح ان يكون بيانا ، فلا يكون العقاب معه عقابا من غير بيان .

( ولكنّه ) اي : لكن العلم الاجمالي ( انّما يوجب الاجتناب عن محتملاته ) اي: محتملات الحرام ( من باب المقدّمة العلمية ) المقدمةُ ( التّي لا يجب ) امتثالها ( الاّ لأجل وجوب دفع الضرر ) المحتمل ( وهو : العقاب المحتمل في فعل كلّ واحد من المحتملات ، وهذا ) اي : احتمال الضرر ( لايجري في المحتملات غير المحصورة ) .

وإنّما لايجري في محتملات غير المحصورة ( ضرورة ان كثرة الاحتمال يوجب عدم الاعتناء ) من العقلاء ( بالضّرر المعلوم وجوده بين المحتملات ) فدفع الضرر المحتمل لا يكون هنا دليلاً لوجوب الاجتناب .

( الا ترى الفرق الواضح بين العلم بوجود السمّ في احد انائين ) أو خمس أوانٍ، أو ما أشبه ذلك حيث ان احتمال السم في كل منها يكون بدرجة يوجب اجتناب العقلاء عن ارتكاب ايّ من اطراف هذا العلم ( أو ) بين ( واحد من ألفي

ص: 69

وكذلك بين قذف أحد الشخصين لابعينه وبين قذف واحد من أهل بلد ، فانّ الشخصين كِلاهما يتأثران بالأوّل ولايتأثر احدٌ من أهل البلد بالثاني .

وكذا الحال لو أُخبرَ شخصٌ بموت الشخص المردّد بين ولده وشخص واحد ، وبموت المردّد بين ولده وبين كلّ واحد من اهل بلده ، فانّه لايضطرب خاطره في الثاني أصلاً .

وإن شئت قلت : إنّ ارتكاب المحتمل في الشبهة غير المحصورة لا يكون

-------------------

إناء ) حيث ان احتمال السم فيها ضعيف جدا بحيث لايعتني به العقلاء .

( وكذلك بين قذف أحد الشخصين لابعينه ) بأن قال : أحد ذينك الرجلين زانٍ ( وبين قذف واحد من أهل بلد ) بأن قال واحد من أهالي البلد الفلاني زانٍ ( فانّ الشخصين كِلاهما يتأثران بالأوّل ) لقوة احتمال ان يكون هو الزاني في نظر العرف ( ولايتأثر احدٌ من أهل البلد بالثاني ) لانّ احتمال انطباق الزنّا على كل واحد واحد من مليون انسان - مثلاً - ضعيف جدا .

( وكذا الحال لو اُخبر شخصٌ بموت الشخص المردّد بين ولده وشخص واحد ) فانّه يتأثر كثيرا ( وبموت المردّد بين ولده وبين كلّ واحد من أهل بلده ، فانّه لايضطرب خاطره في الثاني أصلاً ) لضعف الاحتمال فيه .

ولهذا نرى العقلاء يسافرون بوسائل النقل الحديثة مع انه يحدث لواحد من كل الف منها حادث اصطدام - مثلاً - ونرى العقلاء يأكلون الجُبن مع انّه ما من يوم الاّ وبعض الناس يتسممون بسبب أكل الجبن ، الى غير ذلك من الأمثلة الدالة على ان العقلاء لا يعتنون بالضرر المحتمل اذا كان الاحتمال ضعيفا جدا ، وذلك بأن كان الضار غير منحصر ممّا يسمّى بالشبهة غير المحصورة .

( وان شئت قلت : انّ ارتكاب المحتمل في الشبهة غير المحصورة لا يكون

ص: 70

عند العقلاء ، إلاّ كارتكاب الشبهة غير المقرونة بالعلم الاجمالي .

وكأنّ ما ذكره الامام عليه السلام في الرواية المتقدّمة من قوله « أمن أجل مكان واحد » الخبر بناءا على الاستدلال به اشارة الى هذا المعنى ، حيث انّه جعَل كونَ حرمة الجبن في مكان واحد منشئا لحرمة جميع محتملاته غير المحصورة من المنكرات المعلومة عند العقلاء التي لا ينبغي للمخاطب ان يقبله ،

-------------------

عند العقلاء إلاّ كارتكاب الشبهة غير المقرونة بالعلم الاجمالي ) اي الشبهة البدوية ، فانّ احتمال الضرر في الشبهتين عند العقلاء بمنزلة واحدة في عدم الاعتناء بأيّ منهما .

( وكأنّ ما ذكره الامام عليه السلام في الرواية المتقدّمة ) في أكل الجُبن ( من قوله ) عليه السلام : ( أمن أجل مكان واحد ) (1) الى آخر ( الخبر ؟ بناءا على الاستدلال به ) اي : بهذا الحديث للشبهة غير المحصورة الاستدلال به - على ما تقدّم - للشبهة البدوية ، فانه بناءاا على ذلك يكون ما في الرواية تلك ( اشارة الى هذا المعنى ) الذي ذكرناه : من عدم اعتناء العقلاء بالشبهة اذا كانت الاطراف فيها غير محصورة .

وإنّما يكون فيها اشارة اليه ، لانه كما قال : ( حيث انّه ) اي : الامام عليه السلام بسبب استفهامه الانكاري ( جعَل كونَ حرمة الجبن في مكان واحد منشئا لحرمة جميع محتملاته غير المحصورة ) جعلها ( من المنكرات المعلومة ) والمسلّمة ( عند العقلاء ) ومن المنكرات ( التي لا ينبغي للمخاطب ) وهو السائل ( ان يقبله ) اي : بأن يقبل مثل هذا المنكر حتى يسأل عنه .

ص: 71


1- - المحاسن : ص495 ح597 ، وسائل الشيعة : ج25 ص119 ب61 ح31380 بالمعنى .

كما يشهد بذلك كلمة الاستفهام الانكاري ، لكن عرفت أنّ فيه احتمالاً آخر يتمّ معه الاستفهام الانكاري أيضا .

وحاصلُ هذا الوجه انّ العقل اذا لم يستقلّ بوجوب دفع العقاب المحتمل عند كثرة المحتملات ، فليس هنا ما يوجب على المكلّف الاجتناب من كل محتمل ، فيكون عقابُه حينئذٍ عقابا من دون برهان .

فعلم من ذلك أنّ الآمر

-------------------

( كما يشهد بذلك ) اي : بكونه من المنكرات المسلّمة لدى العقلاء ( كلمة الاستفهام الانكاري ) من الامام عليه السلام حيث قال : « أمن أجل مكان واحد ... ؟ » ( لكن عرفت انّ فيه ) اي : في الحديث ( احتمالاً آخر ) وهو : ان السائل سأل الامام عليه السلام عن الشبهة البدوية غير المقرونة بالعلم الاجمالي ، و ( يتم معه ) اي : مع هذا الاحتمال الثاني ( الاستفهام الانكاري أيضا ) اي : كان تماما على الاحتمال الأوّل ، فانه كما يستنكر العقلاء جعل حرمة بعض الجُبن في هذا المكان منشئا لحرمة الجُبن المشكوك نجاسته في مكان آخر ممّا يكون الشك فيه بدويا .

( وحاصلُ هذا الوجه ) وهو : الوجه الخامس الذي ذكرناه دليلاً لعدم وجوب الاحتياط في أطراف الشبهة غير المحصورة ، هو : ( انّ العقل اذا لم يستقلّ بوجوب دفع العقاب المحتمل عند كثرة المحتملات ) لضعف احتمال العقاب في كل من الاطراف الكثيرة ( فليس هنا ما يوجب على المكلّف الاجتناب من كل محتمل ) لانّه غير عقلائي ( فيكون عقابه حينئذٍ عقابا من دون برهان ) فيجري فيه البرائة ، لان وجوب دفع الضرر المحتمل انّما هو في الموارد العقلائية .

وعليه : (فعلم من ذلك) اي : من عدم استقلال العقل بدفع العقاب المحتمل اذا كان في أطراف شبهة في محصورة ( انّ ) الشارع ( الآمر ) بالاجتناب عن الخمر ،

ص: 72

اكتفى في المحرّم المعلوم إجمالاً بين المحتملات بعدم العلم التفصيلي باتيانه ، ولم يعتبر العلم بعدم اتيانه ، فتامّل .

السادس :

انّ الغالب عدم ابتلاء المكلّف إلاّ ببعض معيّن من محتملات الشبهة غير المحصورة ويكون الباقي خارجا عن محلّ ابتلائه ، وقد تقدّم عدم وجوب الاجتناب في مثله مع حصر الشبهة فضلاً عن غير المحصورة .

-------------------

والميتة ، وما اشبه ذلك ( اكتفى في المحرّم المعلوم إجمالاً بين المحتملات : بعدم العلم التفصيلي باتيانه ، ولم يعتبر العلم بعدم اتيانه ) اي : انّه يحرم المخالفة القطعية لا انّه يوجب الموافقة القطعية .

( فتأمّل ) ولعلّه اشارة الى « على الفرق دليل » عدم تمامية هذا الدليل ، لانّ العقل لايرى فرقا في وجوب الضرر المحتمل قويا كان الاحتياط أو ضعيفا الاّ اذا دلّ على الفرق دليل .

( السادس ) من أدلة عدم وجوب الاحتياط في اطراف الشبهة غير المحصورة هو : ( انّ الغالب عدم ابتلاء المكلّف الاّ ببعض معيّن من محتملات الشبهة غير المحصورة ويكون الباقي خارجا عن محلّ ابتلائه ) كما إذا كان واحد من بقالّي البلد يبيع الغصب - وهم مئات - فانّ الغالب عدم ابتلاء الانسان الاّ ببعضهم ( وقد تقدّم : عدم وجوب الاجتناب في مثله ) أي : فيما كان بعضه خارجا عن محل الابتلاء ( مع حصر الشبهة فضلاً عن غير المحصورة ) .

وإنّما قال : « فضلا » لما عرفت : من انّ الدليل على الاجتناب عن اطراف الشبهة غير المحصورة ضعيف ، لانّ العلم الاجمالي في اطرافها لايكون بيانا ،

ص: 73

هذا غايةُ ما يمكن أن يستدلّ به على حكم الشبهة غير المحصورة ، وقد عرفتَ أنّ أكثرها لا يخلو من منع أو قصور ، لكنّ المجموع منها لعلّه يفيد القطع أو الظّنّ بعدم وجوب الاحتياط في الجملة ، والمسألة فرعيّة يكتفى فيها بالظّن .

-------------------

وذلك من جهة ان احتمال الضرر فيهما غير عقلائي، فلا يكون معتنى به عند العقلاء .

ثم ان ( هذا ) الذي ذكرناه من الأدلة الستة ، هو : ( غاية ما يمكن ان يستدلّ به على حكم الشبهة غير المحصورة ) وهو : عدم الاجتناب عن اطرافها ( وقد عرفت : أنّ اكثرها لا يخلو من منع أو قصور ) ما عدا الاجماع ، حيث لم يستشكل ، عليه المصنِّف من بين هذه الأدلة الستة .

هذا ( لكنّ المجموع منها ) أي : من تلك الأدلة ( لعلّه يفيد القطع أو الظّنّ بعدم وجوب الاحتياط ) فيها ، من المعلوم : ان الظنّ الحاصل من هذه الأدلة يكون كافيا للاستناد اليه ( في الجملة ) أي : مع قطع النظر عن جواز المخالفة القطعيّة وعدم جوازها ، فانّ الكلام الآن في جواز المخالفة الاحتمالية في بعض أطراف الشبهة .

( و ) حيث انّ ( المسألة فرعيّة ) وليست بمسألة اصولية ( يكتفى فيها بالظّن ) لانّ الظن حجّة في المسألة الفرعية أما المسألة الاصولية فقد اختلفوا في حجيّة الظن فيها ، مثل : مسألة الاستصحاب ، والبرائة وما أشبههما من المسائل الاصولية ، وذلك لانّ المسائل الاصولية امور شاملة لكثير من المسائل الفرعية ، فالظنّ لايكون فيها حجّة بخلاف الظن في المسائل الفرعية فانّها حجّة فيها.

لا يقال : فاذا كانت مسألة الشبهةُ غير المحصورة مسئلة فرعية ، فلماذا ذكرتموها في الاصول ؟ .

ص: 74

إلاّ أنّ الكلام يقع في موارد

الأوّل :

في أنّه هل يجوزُ ارتكابُ جميع المشتبهات في غير المحصورة بحيث لايلزم العلم التفصيليّ ، أم يجب إبقاء مقدار الحرام ؟ .

ظاهرُ إطلاق القول بعدم وجوب الاجتناب هو الأوّل ،

-------------------

لانّه يُقال : ذكرناها من باب الاستطراد ( إلاّ أنّ الكلام يقع في موارد ) تخص الشبهة غير المحصورة وهي كما يلي .

( الأوّل : في أنّه هل يجوزُ ارتكابُ جميع المشتبهات في غير المحصورة ) وذلك ( بحيث لا يلزم العلم التفصيليّ ) منه بارتكاب الحرام ؟ اذ مع لزوم العلم التفصيلي بارتكاب الحرام يكون خارجا عن محل النزاع وممنوع بالاتفاق ، كما اذا اشترى من كل البقالين جبنا لضيوفه ، حيث يعلم تفصيلاً انه أطعم الحرام لضيوفه، وهذا علم تفصيلي لايجوز مثله عند احد ، بخلاف ما اذا لم يحصل له مثل هذا العلم ، كما اذا اشترى تدريجا في كل يوم من بقال حتى علم بعد سنة - مثلاً - بأنه استعمل الحرام يوما ما .

( أم يجب إبقاء مقدار الحرام ؟ ) كان ألف بقال في المدينة يبيع احدهم الحرام - مثلاً - جاز له ان يشتري دفعة أو تدريجا من تسعمائة وتسعة وتسعين منهم فقط دون الأخير ؟ .

( ظاهرُ إطلاق القول بعدم وجوب الاجتناب ) حيث انهم اطلقوا عدم وجوب الاجتناب في غير المحصور : ( هو الأوّل ) اي : انّه يجوز ارتكاب كل الاطراف ، لكن بحيث لايلزم منه العلم التفصيلي - كما ذكرناه - .

ص: 75

لكن يحتمل أن يكون مرادُهم عدمَ وجوب الاحتياط فيه في مقابلة الشبهة المحصورة التي قالوا فيها بوجوب الاجتناب ، وهذا غير بعيد عن مساق كلامهم ، فحينئذٍ لايعمّ معقد إجماعهم لحكم ارتكاب الكلّ ، الاّ أنّ الأخبار لو عمّت المقام دلّت على الجواز .

-------------------

وعليه : فاذا علم - مثلاً - بأنّ في أغنامه الكثيرة شاة مغضوبة لايجوز له بيعها جميعا في صفقة واحدة ، لانه يعلم حينئذٍ علما تفصيليا بوجود مال حرام مقابل الشاة المغصوبة في أمواله ، لكن يجوز له بيعها تدريجا .

هذا ( لكن يحتمل ان يكون مرادُهم ) من ( عدمَ وجوب الاحتياط فيه ) اي : في غير المحصور ليس هو جواز المخالفة القطعية في غير المحصور ، كما كان يجب الموافقة القطعية في المحصور بل هو ( في مقابلة الشبهة المحصورة التي قالوا فيها بوجوب الاجتناب ) اي : بوجوب الاحتياط ، فيكون قولهم : يجوز في غير المحصور مقابلاً لقولهم : لايجوز في المحصور ، وحيث كان في المحصور يجب الاجتناب عن جميع الاطراف ففي غير المحصور لايجب الاجتناب الاّ عن مقدار الحرام .

( وهذا ) الاحتمال : بأن يكون كلامهم في غير المحصور مقابل كلامهم في المحصور ( غير بعيد عن مساق كلامهم ) واذا كان كذلك ( فحينئذٍ لايعمّ معقد إجماعهم ) اي : اجماع القوم على عدم وجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة ( لحكم ارتكاب الكلّ ) بل الواجب ابقاء مقدار الحرام .

( الاّ انّ الأخبار ) الدالة على حلّية المشتبه ( لو عمّت المقام ) الذي هو مورد العلم الاجمالي ( دلّت على الجواز ) لارتكاب الكل، لانّه يصدق على كل من الاطراف انّه ممّا لم يعلم حرمته ، فيشمله « كلّ شيء لكَ حَلال حَتى تعرف انّه

ص: 76

وأمّا الوجهُ الخامس ، فالظاهر دلالته على جواز الارتكاب ، لكن مع عدم العزم على ذلك من اوّل الأمر ، وأمّا معه ، فالظاهر صدق المعصية عند مصادفة الحرام ، فيستحق العقاب .

فالأقوى في المسألة عدمُ جواز الارتكاب اذا قصد ذلك من اوّل الأمر ، فإنّ قصده ، قصد للمخالفة والمعصية ، فيستحقّ العقاب بمصادفة الحرام .

-------------------

حَرام » (1) وما أشبههه .

( وأمّا الوجهُ الخامس ) من الوجوه المتقدّمة لحلية الشبهة غير المحصورة ، وهو: اصالة البرائة على التقريب المتقدم ( فالظاهر : دلالته على جواز الارتكاب ) لكل الاطراف لما عرفت : من ضعف احتمال الضرر في كل واحد ، فلا يجب دفعه في شيء من الاطراف .

( لكن ) انّما يجوز ارتكاب جميع الاطراف ( مع عدم العزم على ذلك من اوّل الأمر ، وأمّا معه ) اي : مع العزم عليه ، كما اذا أتى الى بلد فيه مائة بقال فعزم على ان يشتري الجُبن كل يوم من بقال منهم وهو يعلم بأنّ احدهم يبيع الجُبن الذي فيه الميتة ( فالظاهر : صدق المعصية ) عرفا ( عند مصادفة الحرام ) .

وعليه : ( فيستحق العقاب ) عند مصادفة الحرام وان لم يستحق العقاب في صورة عدم المصادفة بل يكون تجريا فقط ، وقد عرفت : انّ التجري ليس بمحرّم.

إذن : ( فالأقوى في المسألة ) على فرض تمامية الدليل وقيامه على جواز ارتكاب الكل ، هو : ( عدمُ جواز الارتكاب ) للكل ( اذا قصد ذلك ) اي: ارتكاب الكل ( من أوّل الأمر ) لانّه قد عزم على ما هو مقطوع الضرر كما قال :

( فإنّ قصده ، قصد للمخالفة والمعصية ، فيستحق العقاب بمصادفة الحرام )

ص: 77


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ( بالمعنى ) .

والتحقيق : عدمُ جواز ارتكاب الكلّ ، لإستلزامه طرح الدليل الواقعي ، الدالّ على وجوب الاجتناب عن المحّرم الواقعي ، كالخمر في قوله : « اجتنب عن الخمر » ، لانّ هذا التكليفَ لايسقطُ من المكلّف مع علمه بوجود الخمر بين المشتبهات .

غايةُ ما ثبت في غير المحصور الاكتفاء في امتثاله بترك بعض المحتملات ، فيكون البعضُ المتروك بدلاً ظاهريا عن الحرام الواقعي ،

-------------------

لأنّه اذا صادف الحرام فقد فعله عالما عامدا ، سواء كان في الفرد الأوّل أم في الفرد الوسط أم في الفرد الأخير .

هذا تمام الكلام في وجه جواز ارتكاب الكّل وعدم جوازه .

( و ) لكن ( التحقيق ) عندنا هو : ( عدمُ جواز ارتكاب الكلّ ) ولزوم ابقاء مقدار الحرام ( لاستلزامه ) اي : ارتكاب الكل ( طرح الدليل الواقعي الدالّ على وجوب الاجتناب عن المحّرم الواقعي كالخمر ) فيما اذا ترددّت بين ما هو غير محصور حيث نهى عنها ( في قوله ) اي قول الشارع : ( « اجتنب عن الخمر » ) .

وانّما قلنا بعدم جواز ارتكاب الكل ( لانّ هذا التكليف ) بالاجتناب عن الخمر ( لايسقطُ من المكلّف مع علمه ) اي : على المكلّف ( بوجود الخمر بين المشتبهات ) غير المحصورة .

وعليه : فيجب الاحتياط بترك مقدار الحرام وان جاز ارتكاب سائر الاطراف ، وذلك لانّ ( غاية ما ثبت في غير المحصور ) بمقتضى الادلة التي ذكرناها هو : ( الاكتفاء في امتثاله ) اي : في امتثال التكليف ( بترك بعض المحتملات ) الذي ذلك البعض بقدر الحرام ( فيكون البعضُ المتروك بدلاً ظاهريا عن الحرام الواقعي ) فان صادف الواقع فهو ، وان لم يصادف كان بدلاً عنه .

ص: 78

والاّ فاخراج الخمر الموجود يقينا بين المشتبهات عن عموم قوله : « اجتنب عن كلّ خمر » اعتراف بعدم حرمته واقعا وهو معلوم البطلان .

هذا اذا قصد الجميع من أوّل الأمر لأنفسها ، ولو قصد نفس الحرام من ارتكاب الجميع فارتكب الكلّ مقدّمة له ، فالظاهر استحقاق العقاب للحرمة من اوّل الارتكاب بناءا على حرمة التّجري ، فصور ارتكاب الكلّ ثلاثة ، عرفت كلّها .

-------------------

( والاّ ) بأن قلنا بجواز ارتكاب الكل الذي معناه ارتكاب الخمر ( فاخراج الخمر الموجود يقينا بين المشتبهات عن عموم قوله ) اي : قول الشارع : ( « اجتنب عن كلّ خمر» اعتراف ) منّا ( بعدم حرمته ) اي : حرمة الخمر ( واقعا وهو معلوم البطلان ) .

وإنّما يكون معلوم البطلان لانّ قوله : « اجتنب عن الخمر » يشمل كل خمر ويتنجّز اجتنابه على الانسان في صورة علمه ، والمفروض انّه في كلتا الصورتين عالم بالخمر وان كانت أطراف المحصورة قليلة وأطراف غير المحصورة كثيرة ، فانّ مجرد هذا الفرق لايوجب سقوط الخمر عن الحرمة في غير المحصور ، وقد سبق : انّ العلم التفصيلي ليس مقيّدا لحرمة المحّرمات.

( هذا ) تمام الكلام في جواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام ( اذا قصد الجميع من أوّل الأمر لا نفسها ) اي : لا نفس الخمر ( و ) أمّا ( لو قصد نفس الحرام ) أي : شرب الخمر ( من ارتكاب الجميع ، فارتكب الكلّ مقدّمة له ، فالظاهر : استحقاق العقاب للحرمة من اوّل الارتكاب ) وان لم يصادف الحرام ولم يرتكب الكلّ ، وذلك ( بناءا على حرمة التّجري ) فانّ أول ما يرتكبه يكون تجريا .

وعليه : ( فصور ارتكاب الكلّ ) تدريجا ( ثلاثة ) ، قد ( عرفت كلّها ) :

ص: 79

الثاني :

اختلفت عبارات الأصحاب في بيان ضابط المحصور وغيره .

-------------------

الاولى : ارتكاب الكل تدريجا بدون ان يكون قصده من الأوّل ارتكاب الكل ، وقد عرفت : انّه يجوز بالنسبة الى ما عدا الخمر الواقعي ، فانّه يجب عليه استثناء مقدار الحرام ولو أخيرا.

الثانية : ارتكاب الكل تدريجا مع قصد ارتكاب الكل من أوّل الأمر ، فتتحقق المعصية بمصادفة الحرام وان ترك الباقي .

الثالثة : ارتكاب الكل تدريجا لكن قصده من أوّل الأمر ارتكاب الحرام ، وانّما يأتي بالمشتبهات مقدمة للتوصل الى ذلك الحرام ، فان قلنا بحرمة التجري كان من أوّل الأمر حراما ، وان لم نقل بحرمته كان المصادف للحرام حراما لا غيره وان كان غيره تجرّيا .

لكن ربّما يقال : القصد لا مدخلية له في الحرمة اطلاقا ، فان الذي يجوز له ارتكابه هو غير مقدار الحرام ، فان ارتكب الكل فقد ارتكب مقدار الحرام فيحرم المصادف دون غيره ، وان لم يرتكب الكل لم يفعل الحرام حتى وان صادف الواقع وكان قاصدا له ، فانه قد عرفت سابقا : عدم حرمة التجري عند المصنِّف وهذا هو الذي اخترناه أيضا ، خلافا لصاحب الكفاية الذي يرى حرمة التّجري .

( الثاني ) مما يخص الشبهة غير المحصورة هو : انه قد ( اختلفت عبارات الأصحاب في بيان ضابط المحصور وغيره ) فقد ذكر الفقهاء لغير المحصور ضوابط نذكرها مجملاً ، ثم نشرح عبارات المصنِّف فيها :

الأوّل : انّ غير المحصور : ما يعسر عدّهُ ، وزاد فيه بعضٌ : قيد في زمان قليل ، فقال ما يعسر عدّه في زمان قليل .

ص: 80

فعن الشهيد والمحقق الثانيين والميسيّ وصاحب المدارك أنّ المرجع فيه الى العرف ، فما كان غير محصور في العادة بمعنى أنّه يعسرُ عَدُّه ، لا ما امتنع عدّه ، لأنّ كلّ ما يوجد من الأعداد قابل للعدّ والحصر .

-------------------

الثاني : انّ غير المحصور : ما بلغ كثرة الاطراف فيه الى حدّ يوجب عدم اعتناء العقلاء بالعلم الاجمالي فيها .

الثالث : انّ غير المحصور : ما يعسر موافقتها القطعية .

الرابع : انّ غير المحصور : هو كون الشبهة ممّا يصدق عليه عرفا انّه غير محصور .

الخامس : كون كثرة الأطراف الى حدّ لايتمكن المكلّف عادة من ارتكاب جميعها بأكل أو شرب أو لبس أو نحو ذلك .

( فعن الشهيد والمحقق الثانيين، والميسيّ وصاحب المدارك : انّ المرجع فيه ) اي : في غير المحصور ( الى العرف ) فكل ما يراه العرف غير محصور لم يجب الاجتناب عن اطرافها ، وكل ما لم يروه كذلك وجب الاجتناب عن جميع أطرافها، وذلك لانّ غير المحصور ليس من الحقيقة الشرعية أو المتشرعية القديمة مثل الفاظ : الصلاة ، والصيام ، والحج ، والزكاة ، ونحوها ، ولا يُراد منه معناه اللغوي أعني : ما لا يمكن عدّه ، لاّن الموجودات كلها قابلة للحصر والعدّ .

إذن : علينا حينئذٍ مراجعة العرف لتحديد معناه بعد ما لم يكن له معنى لغوي ولا شرعي .

وعليه : ( فما كان ) بنظر العرف ( غير محصور في العادة بمعنى : انّه يعسرُ عَدُّه) كان ضابطا لغير المحصور الذي هو محل كلام الفقهاء ( لا ما امتنع عدّه ) .

وانّما قلنا : لا ما كان عدّه ممتنعا ( لانّ كلّ ما يوجد من الأعداد قابل للعدّ والحصر ) اذ الموجودات كلها قابلة لذلك ، الاّ العدد فانّه بنفسه ليس قابلاً للحصر

ص: 81

وفيه : مضافا الى انّه إنّما يتجه اذا كان الاعتماد في عدم وجوب الاجتناب على الاجماع المنقول على جواز الارتكاب في غير المحصور ، أو على تحصيل الاجماع من اتفاق من عبّر بهذه العبارة الكاشف عن إناطة الحكم في كلام المعصوم بها ،

-------------------

لانّه كلما تصور الانسان عددا امكن اضافة عدد في الوهم اليه .

( وفيه ) أولاً : ان جعل العرف مرجعا لمعرفة موضوع غير المحصور انّما يصح اذا ورد لفظ غير المحصور في آية أو رواية فنرجع فيه الى العرف لمعرفة موضوعه ، كما نرجع الى العرف لمعرفة موضوع الماء والتراب والشاة والكلب وما اشبه ذلك ممّا وقعت في الآيات والروايات موضوعا للاحكام ، ومن المعلوم انّه لا آية ولا رواية بهذا اللفظ ، نعم ، الاجماع ورد بهذا اللفظ ، لكنّه ليس من القوة بحيث يكون كالآية والرواية .

وفيه ثانيا : انه قد مثّل لغير المحصور بالألف وهو لا ينطبق على الضابط الذي ذكروه ، لوضوح : عدم العسر في عدّ الألف .

والى الاشكال الأوّل أشار المصنِّف بقوله : ( مضافا الى انّه ) اي : جعل العرف هو المرجع ( انّما يتجه اذا كان الاعتماد في عدم وجوب الاجتناب ) في غير المحصور ( على الاجماع المنقول على جواز الارتكاب في غير المحصور ) بأن كان الاجماع يقول : ان غير المحصور يجوز ارتكاب اطرافه فجاء لفظ : غير المحصور في مقعده ( أو على تحصيل الاجماع من اتفاق من عبّر بهذه العبارة ) اي : انّه وان لم يكن لفظ غير المحصور وجواز ارتكابه معقد الاجماع فلا اقل من ان يكون محصّل فتاوى جميع العلماء عليه ( الكاشف ) ذلك الاجماع ( عن إناطة الحكم ) اي : عدم الاجتناب ( في كلام المعصوم بها ) اي : بالشبهة غير المحصورة.

ص: 82

أنّ تعسّر العدّ غير متحقق فيما مثّلوا به لغير المحصور كالألف - مثلاً - فانّ عدّ الألف لا يعدّ عسرا .

وربّما قيّد المحقق الثاني عسر العدّ بزمان قصير ، قال في فوائد الشرايع ، كما عن حاشية الارشاد ، بعد أن ذكر أنّ غير المحصور من الحقائق العرفيّة : « إنّ طريق ضبطه أن يقال : لا ريب أنّه اذا اخذ مرتبة عُليا من مراتب العدد كألف - مثلاً - قطع بانّه ممّا لا يحصر ولا يعدّ عادة ، لعسر ذلك في الزمان القصير ،

-------------------

والى الاشكال الثاني أشار المصنِّف بقوله : ( انّ تعسّر العدّ غير متحقق فيما مثّلوا به لغير المحصور كالألف - مثلاً - فانّ عدّ الألف لا يعدّ عسرا ) لدى العرف .

هذا ( وربّما قيّد المحقق الثاني عسر العدّ بزمان قصير ) فغير المحصور حسب تعريفه : ما يعسر عدّه في زمان قصير ، وبهذا القيد يندفع الاشكال الثاني ، وذلك لعسر عدّ الألف في زمان قصير - كما هو واضح - .

وعليه : فان المحقق الثاني ( قال في فوائد الشرايع كما عن حاشية الارشاد ، بعد ان ذكر انّ غير المحصور ) الذي يصطلح عليه الفقهاء انّما هو ( من الحقائق العرفيّة ) لانّها ليست حقيقة شرعية ، ولا حقيقة لغوية ، ولا حقيقة متشرعية ، بل ولا حقيقة فقهائية ، لانّ الفقهاء المتقدميّن لم يصطلحوا على هذا اللفظ وانّما هو مختص بالفقهاء المتأخرين ، قال ما يلي :

( « إنّ طريق ضبطه أن يقال : لا ريب انّه اذا اخذ مرتبة عُليا من مراتب العدد كألف - مثلاً - قطع بانّه ممّا لا يحصر ولا يعدّ عادة، لعسر ذلك في الزمان القصير ) لانّ الانسان لا يتمكن من عدّ الألف واحدا واحدا حتى يصل الى تمامه في زمان قصير جدا .

ص: 83

فيجعل طرفا ، ويؤخذ مرتبة أخرى دنيا جدّا ، كالثلاثة يقطع بأنّها محصورة ، لسهولة عدّها في الزّمان اليسير .

وما بينهما من الوسائط كلّما جرى مجرى الطرف الأوّل اُلحِقَ به ، وكذا ما جرى الطرف الثاني اُلحِقَ به ، وما يفرض فيه الشك يعرض على القوانين والنظائر ،

-------------------

وعليه : ( فيجعل ) مثل الألف ( طرفا ) أعلى يقطع بانه غير محصور لعسر عدّه في الزمان القصير ( ويؤخذ مرتبة أخرى دنيا جدّا ) اي : مرتبة دانية من العدد ( كالثلاثة ، يقطع بانّها محصورة لسهولة عدّها في الزّمان اليسير ) القصير .

هذا بالنسبة الى المرتبتين العليا والدنيا ، وأما بالنسبة الى ما بينهما فكما قال ( وما بينهما من الوسائط كلّما جرى مجرى الطرف الأوّل ) اي: تشبّه بالألف في عسر العدّ كتسعمائة وثمانمائة وما أشبه ذلك ( اُلِحقَ به ) اي بالطرف الأعلى .

( وكذا ما جرى ) مجرى ( الطرف الثاني ) اي تشبّه بالثلاثة في يسر العدّ كالخمسة ، والتسعة وما أشبه ذلك ( اُلحِقَ به ) اي : بالطرف الأدنى .

( وما يفرض فيه الشك ) بانّه هل هو من المرتبة العليا أو من المرتبة الدّنيا كالاربعمائة والثلاثمائة وما أشبه ذلك ؟ فانّه ( يعرض ) ذلك المشكوك ( على القوانين ) الأولية والأمارات المجعولة شرعا ( والنظائر ) لذلك المشكوك من الامور الواضحة في العُسر واليُسر ، فيحكم في ذلك المشكوك بحكم نظيره عسرا ويسرا .

مثلاً : اذا علم بغصبية شاة واحدة من قطيع فيه مائتا رأس فشك في انّ هذا شبهة محصورة أو غير محصورة ، فانه يلاحظ نظائرها واشباهها ممّا يكون يقدر مائتين ، كاشتباه غصب واحد في مائتي ثوب ، أو مائتي اناء ، أو مائتي درهم

ص: 84

ويرجع فيه الى الغالب ، فان غلب على الظنّ إلحاقه بأحد الطرفين فذاك ، والاّ عمل فيه بالاستصحاب الى ان يعلم الناقل ، وبهذا ينضبط كلّ ما ليس بمحصور شرعا في أبواب الطّهارة ، والنكاح ، وغيرهما» .

-------------------

أو ما اشبه ذلك ، فيرى بحسب ما يغلب على ظنه : بانه هل يعدّ ذلك في نظر العرف عُسرا أو يسرا فيعمل عليه ، كما قال : ( ويرجع فيه الى الغالب ) اي : الغالب على الظنّ في انّه ملحق بالعُسر أو باليسر.

وانّما فسّرنا الغالب : بما يغلب على الظن ، لقرينة قوله بعد ذلك : ( فان غلب على الظنّ إلحاقه بأحد الطرفين ) من الألف أو الثلاثة ( فذاك ) الذي يجب أن يعمل به في كونه محصورا أو غير محصور .

( والاّ عمل فيه بالاستصحاب ) فان كان كلها حراما ثم حلّ جملة كبيرة منها ، كما اذا كانت أواني نجسة ثم طهرت اكثرها ، أو كان خبازون يبيعون الحرام لانّ الدولة تعطيهم المغصوب من الحنطة ، ثم رفض أغلبهم حنطة الحكومة واشتروا الحنطة من التجار ، فالاستصحاب يقتضي الحرمة بالنسبة الى الفرد المشكوك .

وان كان العكس : بأن كانت الأواني محللة ثم صار بعضها حراما ، والخبازون كانوا يبيعون الحلال ثم صار بعضهم يبيع الحرام ، فالاستصحاب يقتضي الحلّية ( الى ان يعلم الناقل ) من الاستصحاب الى مضادّه .

( وبهذا ) الترتيب الذي ذكرناه ( ينضبط كلّ ما ليس بمحصور شرعا في أبواب الطّهارة ، والنكاح ، وغيرهما ) كما اذا علم اجمالاً نجاسة آنية بين أواني كثيرة ، أو علم حرمة امرأة بين نساء كثيرات ، أو طهارة آنية بين أواني كثيرة ، أو حلية امرأة بين نساء كثيرات ، أو ما أشبه ذلك : من المغصوب والمباح ، والمحقون الدم ومهدور الدم ، ونحو هذه الأمور .

ص: 85

أقول : وللنّظر فيما ذكره قدس سره مجالٌ .

أما أوّلاً : فلأنّ جعل الألف من غير المحصور منافٍ لما عللّوا عدم وجوب الاجتناب به من لزوم العُسر في الاجتناب ، فانّا اذا فرضنا بيتا عشرين ذراعا في عشرين ذراع ، وعلم بنجاسة جزء يسير منه يصحّ السجود عليه ، نسبته الى البيت نسبة الواحد الى الألف ، فأيّ عُسر في الاجتناب عن هذا البيت والصّلاة في بيت آخر ؟ وأيّ فرق بين هذا الفرض

-------------------

هذا هو تمام الكلام من المحقق الثاني في ضابط المحصور وغير المحصور .

( أقول : وللنّظر فيما ذكره قدس سره مجالٌ ) واسع :

( أما أوّلاً : فلأنّ جعل الألف من غير المحصور منافٍ لما عللّوا عدم وجوب الاجتناب به : من لزوم العُسر في الاجتناب ، فانّا ) لو اخذنا مثالهم بالالف : وتعليلهم بلزوم الحرج الغالبي ، لوجدناهما متنافيين ، إذ كثيرا ما لا حرج في الاجتناب عن اطراف الألف .

مثلاً : ( اذا فرضنا بيتا عشرين ذراعا في عشرين ذراع ) ممّا حاصله اربعمائة ذراع ( وعلم بنجاسة جزء يسير منه ) بقدر ما ( يصحّ السجود عليه ) أو يمكن التيمم به ، ممّا يكون ( نسبته ) اي : نسبة ذلك الجزء ( الى البيت نسبة الواحد الى الألف ) وأحيانا نسبة الواحد الى ألفين ، أو ثلاثة آلاف ومع ذلك لا عسر في الاجتناب عنه كما قال : ( فاي عُسر في الاجتناب عن هذا البيت والصّلاة في بيت آخر ؟ ) لمن لم يسجن في هذا البيت ، فانه اذا سجن فيه ، كان التكليف ساقطا عنه من جهة الحصر والحبس .

( وايّ فرق بين هذا الفرض ) الذي يدخل بحسب كلام المحقق الثاني في غير

ص: 86

وبين أن يعلم بنجاسة ذراع منه أو ذراعين ممّا يوجب حصر الشّبهة ؟ فانّ سهولة الاجتناب وعسره لا يتفاوت بكون المعلوم إجمالاً ، قليلاً أو كثيرا ، وكذا لو فرضنا أوقيةً من الطعام يبلغ ألفَ حبّة ، بل أزيد ، يعلم بنجاسة أو غصبيّة حبّة منها ، فانّ جعل هذا من غير المحصور ينافي تعليل الرخصة فيه بتعسّر الاجتناب .

-------------------

المحصور ( وبين أن يعلم بنجاسة ذراع منه ) اي : من هذا البيت ( أو ذراعين ممّا يوجب حصر الشّبهة ؟ ) في عشرة أو عشرين أو ما اشبه ذلك مّما يدخل في المحصور .

وعليه : (فانّ سهولة الاجتناب وعسره لا يتفاوت بكون المعلوم إجمالاً ، قليلاً) نسبته كجزء من ألف جزء من البيت ( أو كثيرا ) نسبته كذراع أو ذراعين منه ، فانّ كليهما لا عُسر في الاجتناب عنهما ، فلماذا صار الاوّل غير محصور والثاني محصورا ؟ .

( وكذا لو فرضنا أُوقيةً من الطعام يبلغ ألفَ حبّة بل أزيد ، يعلم بنجاسة أو غصبيّة حبّة منها ، فانّ جعل هذا من غير المحصور ) لانّه واحد من الف أو اكثر وهو ممّا يعسر عدّه في زمان قصير ( ينافي تعليل الرخصة فيه بتعسّر الاجتناب ) لما عرفت : من انّه لا يتعسر الاجتناب عنه وان تعسر عدّه في زمان قصير ، فلا عسر في ترك هذا الطعام كله وأكل طعام غيره فيما اذا لم يكن مضطرا الى أكل هذا الطعام ، وامّا اذا كان مضطرا اليه فالحكم مرفوع بالاضطرار لا بعدم كونه محصورا .

لكن لا يخفى : انهم لما جعلوا المعيار هو العسر ، ارادوا من مثالهم بالألف كل مورد يكون الاجتناب فيه عن الألف مستلزما للعسر ، مثل : ما إذا كان في البلد الف خباز أو الف بقال وكان واحد من بين كل منهما يبيع الحرام - مثلاً - أو كانت

ص: 87

وأما ثانيا : فلأنّ ظنّ الفقيه بكون العدد المعيّن جاريا مجرى المحصور في سهولة الحصر ، أو مجرى غيره لا دليل عليه .

وأمّا ثالثا : فلعدم استقامة الرّجوع في مورد الشك الى

-------------------

النساء الف امراة وكان من بينهن واحدة هي رضيعته أو زوجة أبيه - مثلاً - أو ما اشبه ذلك ممّا يعسر الاجتناب فيه عن الجميع ، لا ما اذا لم يكن كذلك .

( وأما ثانيا : فلأنّ ظنّ الفقيه بكون العدد المعيّن جاريا مجرى المحصور في سهولة الحصر ، أو مجرى غيره ) اي : غير المحصور في عدم سهولة عدّة ( لا دليل عليه ) اي : انّ ماجعله المحقق من المرتبة العليا لغير المحصور ، والمرتبة الدنيا للمحصور ثم جعل ظنّ الفقيه هو المحكّم في الأعداد المتوسطة بين المرتبتين ، كما جعل الظن عند عرض المشكوك منهما على النظائر هو المحكمّ فيها ، غير تام لانّه يرد عليه : انّه لا دليل على حجيّة هذا الظن .

ولكن يمكن الجواب عن هذا الاشكال : بانّه لا اشكال في حجية الظنّ الذي يعمل عليه العقلاء في باب الموضوعات.

مثلاً : نراهم يركبون السيارة والطائرة والباخرة مع انّهم لا يعلمون بأنها توصلهم الى مقصدهم بسلام ، ويراجعون الطبيب مع عدم علمهم بانّه يصيب في معالجتهم ، ويجرون العملية الجراحية كذلك ، ويرسلون أولادهم الى المدارس مع عدم علمهم برجوعهم الى البيت سالمين ، والى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة العرفية ، فاشتراط اكثر من الظنّ في الموضوعات لا دليل عليه .

( وأمّا ثالثا : فلعدم استقامة ) ما ذكره قدس سره اخر كلامه : من ( الرّجوع في مورد الشك ) العارض للشبهة في انها تلحق بالمحصور أو بغير المحصور ( الى

ص: 88

الاستصحاب حتى يعلم الناقل ، لانّه إن اريد به استصحاب الحلّ والجواز ، كما هو الظاهر من كلامه ، ففيه : إنّ الوجهَ المقتضي لوجوب الاجتناب في المحصور - وهو وجوب المقدّمة العلميّة بعد العلم بحرمة الأمر الواقعي المردّد بين المشتبهات - قائمٌ بعينه في غير المحصور ، والمانع غيرُ معلوم ، فلا وجه للرجوع إلى الاستصحاب ،

-------------------

الاستصحاب حتى يعلم الناقل ) من الاستصحاب ، وذلك ( لانّه إن اريد به : استصحاب الحلّ والجواز كما هو الظاهر من كلامه ) مما قد تقدّم بيانه ( ففيه ) كما قال : ( أنّ ) الحالة السابقة من الحلّ والجواز التي يراد استصحابها في المورد المشكوك قد انتقضت بالعلم الاجمالي بوجود الحرام بينهما ، ودليل وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي في المورد المشكوك سواء ألحقناه بالمحصور أم بغير بالمحصور منجّز ، وذلك لانّ ( الوجه المقتضي لوجوب الاجتناب في المحصور وهو : وجوب المقدّمة العلميّة بعد العلم بحرمة الأمر الواقعي المردّد بين المشتبهات ) كالانائين ، والثلاثة والاربعة ، وما أشبه ذلك ( قائم بعينه في غير المحصور ) ايضا .

وعليه : فالمقتضي للاجتناب عن اطراف الشبهة في غير المحصور - كالمحصور - موجود ( والمانع ) عن اقتضائه حتى يصل الامر فيه الى الاستصحاب ( غيرُ معلوم ، فلا وجه ) إذن ( للرجوع إلى الاستصحاب ) في المورد المشكوك .

والحاصل : انّ العلم الاجمالي بوجود الحرام ، منجّز للتكليف بوجوب الاجتناب عن الاطراف ومانع عن جريان الاستصحاب فيها ، سواء كان العلم الاجمالي في اطراف غير المحصور ، أو في اطراف المحصور ، والمورد

ص: 89

الاّ أن يكون نظره الى ما ذكرنا في الدليل الخامس من أدلّة عدم وجوب الاجتناب ، من أنّ المقتضي لوجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة ، وهو حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل غيرُ موجود .

وحينئذٍ : فمرجع الشك في كون الشبهة محصورة أو غيرها الى الشك في وجود المقتضي للاجتناب ،

-------------------

المشكوك لايخلو من لحوقه إما بالمحصور أو بغير المحصور ، فيكون العلم الاجمالي فيه مانعا عن جريان الاستصحاب فيه ايضا .

لكن لا يخفى : ان هذا الاشكال ايضا غير تام لما ذكره المصنِّف بقوله : ( الاّ ان يكون نظره ) اي : المحقق الثاني قدّس اللّه سرّه ( الى ما ذكرنا في الدليل الخامس من أدلّة عدم وجوب الاجتناب ) في اطراف الشبهة غير المحصورة ( : من انّ المقتضي لوجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة ، وهو : حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل غير موجود ) .

وإنّما لم يكن المقتضي موجودا لان العلم الاجمالي انّما يوجب الاجتناب عن محتملات الحرام من باب المقدّمة العلمية التي لا تجب الاّ لاجل وجوب دفع الضرر وهو العقاب المحتمل في فعل كل واحد من المحتملات ، وهذا لا يجرى في المحتملات غير المحصورة ، ضرورة ان كثرة الاحتمال يوجب عدم الاعتناء بالضرر المعلوم وجوده بين المحتملات عند العقل والعقلاء .

( وحينئذٍ ) اي : حين كان نظر المحقق هنا ذلك ( فمرجع الشك في كون الشبهة محصورة أو غيرها الى الشك في وجود المقتضي للاجتناب ) والمقتضي للاجتناب هو كما - عرفت - : احتمال الضرر في ارتكاب بعض الاطراف .

لكنّ احتمال الضرر هنا موهون في غير المحصور لاجل كثرة الاطراف ،

ص: 90

ومعه يرجع الى أصالة الجواز .

لكنّك عرفت التأمّل في ذلك الدليل ، فالأقوى وجوب الرجوع مع الشك الى أصالة الاحتياط لوجود المقتضي وعدم المانع .

-------------------

فلا يعتني به العقلاء ، فيكون مرجع الشك في المورد المشكوك الى الشك في وجود المقتضي ( ومعه ) أي : مع الشك في وجود المقتضي لوجوب الاحتياط ( يرجع الى أصالة الجواز ) لانّه لا يعلم وجود المقتضي ، وكل ما لم يعلم وجود المقتضي فيه لا يترتب الأثر عليه .

( لكنّك عرفت التأمّل في ذلك الدليل ) اي : الدليل الخامس حيث قد تقدّم : انّ احتمال العقاب يقتضي الاحتياط مطلقا ، سواء في المحصور أو في غير المحصور، فيلزم عند الشك في المورد المشكوك بانه من الشبهة المحصورة أو غير المحصورة أن يعمل بالمقتضي ، كما قال : ( فالأقوى وجوب الرجوع مع الشك الى أصالة الاحتياط ) وذلك بالاجتناب عن جميع الاطراف ، لا الى استصحاب الحل والجواز .

وانّما كان الاقوى الاحتياط ( لوجود المقتضي ) للاحتياط في المورد المشكوك ( وعدم ) العلم بوجود ( المانع ) عن هذا المقتضي ، واذا كان المقتضي للاحتياط وهو : احتمال العقاب موجودا ، ولم نعلم بوجود المانع عن الاحتياط وهو : كثرة الاطراف الموهن لاحتمال العقاب كان اللازم تأثير المقتضي أثره .

إلاّ ان يقال : أن مرجع الشك في المورد المشكوك انه من المحصور أو من غير المحصور ، الى الشك في التكليف لا الشك في المكلّف به ، وذلك لما تقدّم : من إنّ العقلاء لا يعتنون بالعقاب المحتمل إلاّ اذا كان الاحتمال عقلائيا ، ومع الشك في كونه من المحصور أو من غير المحصور لا يكون الاحتمال عقلائيا .

ص: 91

وكيف كان : فما ذكروه من إحالة غير المحصور وتمييزه عن غيره الى العرف ، لا يوجبُ الاّ زيادة التحيّر في موارد الشك .

وقال كاشف اللثام في مسألة المكان المشتبه بالنّجس : « لعلّ الضابط أنّ ما يؤدّي اجتنابه الى ترك الصّلاة غالبا ، فهو غير محصور ،

-------------------

( وكيف كان :) فانه سواء قلنا بانّ المرجع عند الشك هو الاستصحاب كما قاله المحقق ، أم الاحتياط كما نراه نحن ( فما ذكروه : من إحالة ) تشخيص (غير المحصور وتمييزه عن غيره الى العرف ، لا يوجبُ الاّ زيادة التحيّر في موارد الشك).

لكن قد عرفت : ان هذا الاشكال غير تام ، اذ شأن مفهوم غير المحصور شأن جميع المفاهيم العرفية للموضوعات الخارجية ، فانه يرجع فيها الى العُرف وان كان يشك مع ذلك في بعض افرادها ، فان الماء وهو اظهر المفاهيم العرفية يشك في بعض أفراده .

ثم هل يوجد هناك موضوع خارجي لا يشك في شيء من أفراده ؟ نعم ، في الامور الرياضية لا يشك في شيء من أفرادها كالعدد والاشكال الهندسية ، وكذا في الامور الاصطلاحية التي جعلوا فيها مايكون حدّا خاصا للاصطلاح ، فانه لايشك فيها .

هذا ، وقد كان على المصنِّف أن يستشكل اشكالاً رابعا على المحقق ويقول : بانّه ما هو المعيار في قصر الزمان وطوله مع انّهما نسبيّان ، فساعة - مثلاً - من الزمان المحدّد بستين دقيقة قصير بالنسبة الى اليوم ، وطويل بالنسبة الى الدقيقة ، وهكذا .

( وقال كاشف اللثام في مسألة المكان المشتبه بالنّجس ) وانّه هل يمكن الصلاة عليه أو التيمم به ؟ أو هل يطهّر باطن القدم أو ما أشبه ذلك ؟ قال ( « لعلّ الضابط : انّ ما يؤدّي اجتنابه الى ترك الصّلاة غالبا ، فهو غير محصور ) فاذا

ص: 92

كما أنّ اجتناب شاة أو امرأة مشتبهة في صقع من الأرض يؤدّي الى الترك غالبا » ، انتهى واستصوبه في مفتاح الكرامة ، وفيه ما لايخفى من عدم الضبط .

-------------------

كان - مثلاً - في صحراء وسيعة يعلم بغصبية بعض نواحيها ، فانه اذا أراد الخروج منها للصلاة في أرض متيقّنة الحلية تطلع الشمس في صلاة الصبح ، أو تغرب الشمس في صلاة الظهرين ، فهذا غير محصور ( كما انّ اجتناب شاة أو امرأة مشتبهة في صقع من الارض يؤدّي الى الترك ) أي: الى ترك أَكل اللحم بالنسبة الى الشاة المشتبهة ، أو ترك الزواج بالنسبة الى المرأة المشتبهة ( غالبا » ، انتهى ) كلام كاشف اللثام ( واستصوبه في مفتاح الكرامة ) .

لكن ، حيث انّ هذا الكلام لا يكون شاملاً لجميع موارد الشبهة غير المحصورة قال بعضٌ مايلي : لعلّ مراده هو : انّ الضابط : بلوغ أطراف الشبهة الى حدّ يلزم غالبا من الاحتياط في اطرافها فوت المنفعة المقصودة من تلك الطبيعة شرعا مما فيه ضررا ، أو حرج ، أو هلاك ، أو فوت واجب ، أو ارتكاب محرّم مثلاً : فوات أكل اللحم اذا اراد الاجتناب عن اللحوم المشتبهة ، وفوات الزواج إذا اراد الاحتياط بترك النساء المحتملات ، أو فوات الصلاة إذا اراد التخلص من تلك الأرض المغصوبة أوفوات شرب الماء اذا اراد الاجتناب عن المياه المحتمل غصبية بعضها ، الى غير ذلك ، فيكون ما ذكره من مثال الشاة أو الامرأة هنا من باب المثال .

( وفيه ما لايخفى : من عدم الضبط ) فانّه وان كان هذا قد يتم فيما ذكرناه من الأمثلة المذكورة ، لكن اكثر الشبهات غير المحصورة تكون خارجة عن هذا الضابط ، وذلك لامكان الاستفادة غالبا من المماثل والمشابه لها الموجود

ص: 93

ويمكن ان يقال بملاحظة ما ذكرنا في الوجه الخامس : إنّ غير المحصور ما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم الى حيث لا يعتني العقلاء بالعلم الاجمالي الحاصل فيها ، ألا ترى أنّه لو نهى المولى عبده عن المعاملة مع زيد ، فعامل العبد مع واحد من أهل قرية كثيرة يعلم بوجود زيد فيها

-------------------

في مناطق اخرى ، أو الاستفادة من فرد آخر في نفس المنطقة لكن خارجا عن اطراف تلك الشبهة غير المحصورة .

وعليه : فلا يلزم في كثير من موارد الشبهة غير المحصورة فوات المنافع أو جلب المضار بسبب الاحتياط في اطرافها فلا يكون الضابط جامعا حينئذٍ .

والحاصل : إنّ التحديد المذكور أخصّ من الشيء الذي يُراد تحديده وهو : غير المحصور ، فهو من قبيل تعريف الحيوان بانّه انسان ، مع انّه يلزم التطابق بين الحدّ والمحدود ( ويمكن ان يقال ) في تحديد ضابط غير المحصور ( بملاحظة ما ذكرنا في الوجه الخامس : انّ غير المحصور ) وقوله « ان » ، نائب فاعل عن « ان يقال » ( ما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم الى حيث لا يعتني العقلاء بالعلم الاجمالي الحاصل فيها ) ومعلوم : ان عدم اعتنائهم يسقط العلم الاجمالي عن اقتضائه التكليف في اطراف الشبهة .

وعليه : فيكون الشك في اطراف غير المحصور من الشك في التكليف لا الشك في المكلّف به ، وذلك لأنّ العرف : المعيار في تطبيق المحرّمات مثل : اجتنب عن الخمر ، واجتنب عن الغصب ، واجتنب عن النجس ، وما أشبه ذلك ، فاذا لم ير العرف شمول تلك الأدلة لاطراف غير المحصور لم يجب الاجتناب عنها .

( الا ترى انّه لو نهى المولى عبده عن المعاملة مع زيد ، فعامل العبد مع واحد من أهل قرية كثيرة ) الأهل وهو ( يعلم ) اجمالاً ( بوجود زيد فيها ) اي : في تلك

ص: 94

لم يكن ملوما وان صادف زيدا .

وقد ذكرنا أنّ المعلوم بالاجمال قد يؤثّر مع قلّة الاحتمال ما لا يؤثّره مع الانتشار وكثرة الاحتمال ، كما قلناه في سبّ واحد مردّد بين اثنين أو ثلاثة ومردّد بين أهل بلدة .

ونحوه ما إذا علم إجمالاً بوجود بعض القرائن الصارفة المختفية لبعض ظواهر الكتاب والسنّة ، أو حصول النقل في بعض الألفاظ ،

-------------------

القرية ، فانه ( لم يكن ملوما ) من قبل العقلاء ( وان صادف ) طرف معاملته ( زيدا ) وذلك لما عرفت : من عدم اعتناء العقلاء بمثل هذا العلم الاجمالي .

وكذا لو نهاه عن الزواج بمن تزوجها والده ، فتزوّج إمراة من بلدة كثيرة الأَهل واتفق انّ المرأة التي تزوجها كانت زوجة والده سابقا ، لم ير العقلاء انّه خالف نهي المولى .

هذا ( وقد ذكرنا : انّ المعلوم بالاجمال قد يؤثر مع قلّة الاحتمال ما ) اي : تاثيرا ( لا يؤثره مع الانتشار وكثرة الاحتمال ) .

وإنّما لا يؤثر العلم الاجمالي مع كثرة الاحتمال لانّه يسقط عن الاقتضاء ، فلا يكون المرتكب مخالفا للنهي ( كما قلناه في سبّ واحد مردّد بين اثنين أو ثلاثة ) حيث انّ كل واحد منهم يتأثر به ( ومردّد بين أهل بلدة ) حيث انه لا يتأثر أحد منهم به ، وذلك لكثرة الاحتمال في الثاني دون الأَول.

( ونحوه ) اي : في عدم التأثير وان لم يكن نهي ( ما اذا علم إجمالاً بوجود بعض القرائن الصّارفة المختفية لبعض ظواهر الكتاب ، والسنّة ، أو حصول النقل في بعض الألفاظ ) أو اذا علمنا بأن المولى يريد خلاف الظاهر من بعض كلامه المنتشر في كلامٍ كثير ، أو أشبه ذلك ، فانه لا تأثيرا لهذا العلم الاجمالي لسقوطه عن الاقتضاء .

ص: 95

الى غير ذلك من الموارد التّي لايعتنى فيها بالعلوم الاجمالية المترتّب عليها الآثار المتعلّقة بالمعاش والمعاد في كل مقام .

وليعلم أنّ العبرة في المحتملات كثرة وقلّة بالوقائع التي يقع موردا للحكم بوجوب الاجتناب مع العلم التفصيلي بالحرام ، فاذا علم نجاسة أُرزّ محرّمة أو نجسة في ألف حبّة ، والمفروض أنّ تناول ألف حبّة من الاُرزّ في العادة بعشر لقمات ، فالحرام مردّد بين عشرة محتملات ، لا ألف محتمل ،

-------------------

وعليه : فان العلم الاجمالي بأنّ بعض ظواهر الكتاب ، أو السنة ، أو بعض كلام المولى أُريد منه خلاف ظاهره واختفت القرينة ، أو حصل نقل عن معناه اللغوي الى معنى آخر ، وأمثال ذلك ، فانّ العلم الاجمالي هذا لا يكون عند العقلاء مانعا عن العمل بتلك الظواهر ، بل لو لم يعمل العبد بتلك الظواهر كان ملوما عندهم .

وكذلك الحال فيما تقدَّم من مثال السفر بوسائل النقل ، مراجعة الطبيب ، ونحوهما .

( الى غير ذلك من الموارد ) الكثيرة ( التّي لايعتنى فيها بالعلوم الاجمالية المترتّب عليها ) أي : هذه العلوم الاجمالية ( الآثار المتعلّقة بالمعاش ) كما مثّلنا له بجملة من الأمثلة المتقدمة ( والمعاد ) كما مثّلنا له بظواهر الكتاب والسنة ( في كل مقام ) مّما يدل على ان العلم الاجمالي لا يقتضي العمل على طبقه مع كثرة الأطراف.

( وليعلم : انّ العبرة في المحتملات كثرة وقلّة ) في باب الشبهة غير المحصورة انّما هو (بالوقائع التي يقع موردا للحكم بوجوب الاجتناب مع العلم التفصيلي بالحرام) فليس المعيار بالوحدات المحرمة بسبب العلم الاجمالي وانّما المعيار بالوقائع .

وعليه: ( فاذا علم نجاسة اُرزّ محرّمة ، أو نجسة في ألف حبّة ، والمفروض : أنّ تناول ألف حبّة من الأرزّ في العادة بعشر لقمات ) أو عشرين لقمة - مثلاً - ( فالحرام مردّد بين عشرة محتملات ) أو عشرين محتمل ( لا ألف محتمل ) لما

ص: 96

لأنّ كلّ لقمة يكون فيها الحبّة يحرم أخذها لإشتمالها على مال الغير ، أو مضغها لكونه مضغا للنجس ، فكأنّه علِم إجمالاً بحرمة واحد من عشر لقمات .

نعم ، لو اتفق تناول الحبوب في مقام يكون تناول كلّ حبة واقعة مستقلّة كان له حكم غير المحصور ، وهذا غاية ما ذكروا ، أو يمكن أن يذكر في ضابط المحصور وغيره ، ومع ذلك فلم يحصل للنفس وثوقٌ بشيء منها .

-------------------

عرفت : من ان الميزان : الوقايع لا الأعداد التي فيها الحرام .

وانّما يكون العبرة بالوقائع ( لأنّ كلّ لقمة يكون فيها الحبّة ) تكون تلك اللقمة هي التي ( يحرم أخذها لإشتمالها على مال الغير ) فالحرام مردّد بين عشرة أو عشرين محتمل ( أو ) تكون هي التي يحرم ( مضغها ) وأكلها ( لكونه مضغا ) وأكلاً ( للنجس ) أو الغصب ( فكأنه عَلِمَ اجمالاً بحرمة واحد من عشر لقمات ) فتكون من المحصورة .

وعليه : فاذا انعكس الأمر بأن كانت الأعداد قليلة والوقائع كثيرة كما اذا كان له - مثلاً - عشر قطع من الارض مساحة كل قطعة منها ألف متر وكانت كلها محل ابتلائه فتنجس مقدار متر منها ، فان النجس يكون مردّدا بين عشرة آلاف لا بين عشرة ، فتكون الشبهة هنا من الشبهة غير المحصورة .

( نعم ، لو اتفق تناول الحبوب ) واحدا واحدا لا لقمة لقمة ( في مقام ) كما في تناول التين ونحوه ( يكون تناول كلّ حبة واقعة مستقلّة ) و ( كان له حكم غير المحصور ، وهذا ) كما لايخفى واضح .

هذا ( غاية ما ذكروا ، أو يمكن ان يذكر في ضابط المحصور وغيره ) اي : غير المحصور ( ومع ذلك فلم يحصل للنفس وثوقٌ بشيء منها ) اي : بشيء من هذه

ص: 97

فالأولى : الرجوعُ في موارد الشك الى حكم العقلاء بوجوب مراعاة العلم الاجمالي الموجود في ذلك المورد ، فانّ قوله : « اجتنب عن الخمر » لا فرق في دلالته على تنجّز التكليف بالاجتناب

-------------------

الضوابط حتى الضابطة الاخيرة التي جعلنا العبرة فيها بالوقائع ، واشرنا اليها بقولنا : « ويمكن ان يقال بملاحظة ما ذكرنا في الوجه الخامس » .

وانّما لم يثق المصنِّف بهذا الوجه ايضا بما تقدَّم : من انّ الخامس محل تأملّ عنده رحمه اللّه ، بالاضافة الى بقاء الشك في مقدار ما يعتني به العقلاء ومقدار ما لا يعتنون به مع وجود هذا الضابط ، فيكون الاشكال عليه كبرويا بمعنى : عدم كلية هذا الضابط ، لأن هناك موارد نشك في انّها من المحصور أو من غير بالمحصور .

لكنّا قد أجبنا عن هذا الاشكال فيما سبق : بانّه لابد منه ، للشك حتى في بعض افراد الماء مع انّه من اظهر المفاهيم العرفية فيكون الوجه الاخير حينئذٍ هو المتعيّن ضابطا للمحصور وغير المحصور .

لكن حيث يرى المصنِّف ورود هذا الاشكال قال : ( فالأولى ) بعد ورود الاشكال في الضابط الأَخير هو : الاكتفاء في ترك الاحتياط وجواز ارتكاب الاطراف بموارد نقطع فيها بكون الشبهة غير محصورة ، وأمّا التي نشك فيها ، فيجب ( الرجوعُ في موارد الشك الى حكم ) العقل و ( العقلاء بوجوب مراعاة العلم الاجمالي الموجود في ذلك المورد ) لا باستصحاب الحل والجواز الذي ذكره المحقق الثاني .

وعليه : ( فانّ قوله : « اجتنب عن الخمر » ) أو اجتنب عن الغصب ، أو اجتنب عن النجس ، أو ما أشبه ذلك ( لا فرق في دلالته على تنجّز التكليف بالاجتناب

ص: 98

عن الخمر بين الخمر المعلوم المردّد بين أمور محصورة ، وبين الموجود المردّد بين أمور غير محصورة .

غايةُ الأمر قيام الدليل في غير المحصور على اكتفاء الشارع عن الحرام الواقعي ببعض محتملاته ، كما تقدّم سابقا ، فاذا شك فى كون الشبهة محصورة أو غير محصورة شكّ في قيام الدليل على قيام بعض المحتملات مقام الحرام الواقعي في الاكتفاء عن امتثاله بترك ذلك البعض ، فيجب ترك جميع المحتملات لعدم الأمن من الوقوع في العقاب بارتكاب البعض .

-------------------

عن الخمر ) والنجس والغصب وغير ذلك ( بين الخمر المعلوم المردّد بين أمور محصورة ، وبين الموجود المردّد بين أمور غير محصورة ) لفرض انّ الخمر موجودٌ في الموردين ويجب الاجتناب عنه شرعا في كِلا الموردين .

( غايةُ الأمر قيام الدّليل في غير المحصور على اكتفاء الشارع عن الحرام الواقعي ببعض محتملاته ، كما تقدّم سابقا ) حيث ذكرنا : انّه لا يجوز ارتكاب الكل وانّما يلزم الابقاء على قدر الحرام .

وعليه : ( فاذا شك في كون الشبهة محصورة أو غير محصورة : شك في قيام الدليل على قيام بعض المحتملات مقام الحرام الواقعي ) قياما بدليّا ( في الاكتفاء عن امتثاله بترك ذلك البعض ) وحيث يشك في انّ الشارع جعل له البدل ام لا ( فيجب ترك جميع المحتملات ، لعدم الأمن من الوقوع في العقاب بارتكاب البعض ) وذلك لما تقدّم : من انّ العقل والعقلاء يرون وجوب الاجتناب عن الاطراف التي فيها بعض المحرمات .

ص: 99

الثالث :

اذا كان المردّد بين الامور غير المحصورة أفرادا كثيرة ، نسبة مجموعها الى المشتبهات كنسبة الشيء الى الامور المحصورة ، كما إذا علم بوجود خمسمائة شاة محرّمة في الف وخمسمائة شاة ، فانّ نسبة مجموع المحرّمات الى المشتبهات كنسبة الواحد الى الثلاثة ، فالظاهر أنّه ملحق بالشبهة المحصورة ؛

-------------------

هذا ولا يخفى : انّ الأمر في الواجب أيضا كذلك ، فانه اذا قال المولى : صلّ وتردّدت الصلاة بين الظهر والجمعة وجب التيان بهما ، أمّا اذا قال : أضف زيدا ، وتردّد زيد بين أهل قرية فيها ألف انسان ولم يتمكن من تحصيل زيد بشخصه أو تحصيل دائرة ضيقة كالأثنين والثلاثة فيها زيد ، فانه يسقط التكليف ، فلا يكون المقتضي بحيث يؤثر أثره كما ذكرناه في باب التحريم .

( الثالث ) مما يخص الشبهة غير المحصورة هو : انّه ( اذا كان ) الحرام ( المردّد بين الأمور غير المحصورة افرادا كثيرة ، نسبة مجموعها الى المشتبهات كنسبة الشيء ) الواحد ( الى الامور المحصورة ) ويسمّى في الاصطلاح : شبهة الكثير في الكثير .

( كما إذا علم بوجود خمسمائة شاة محرّمة في ألف وخمسمائة شاة ، فانّ نسبة مجموع المحرّمات ) وهي : الخمسائة ( الى المشتبهات ) وهي الألف وخمسمائة ( كنسبة الواحد الى الثلاثة ) لانسبة الواحد الى الألف وخمسمائة ، وذلك لانّه لايلاحظ نسبة كل حرام الى المجموع ، بل يلاحظ نسبة مجموع المحرّمات الى نسبة مجموع الأفراد .

وعليه : ( فالظاهر : انّه ) أي المشتبه الكثير في الكثير ( ملحق بالشبهة المحصورة ) من جهة : إنّ العقلاء يجتنبون عن كل الأفراد في مثل هذه النسبة

ص: 100

لأن الأمر متعلق بالاجتناب عن مجموع الخمسمائة في المثال ، ومحتملاتُ هذا الحرام المتباينة ثلاثةٌ ، فهو كاشتباه الواحد في الثلاثة .

وأمّا ماعدا هذه الثلاثة من الاحتمالات ، فهي احتمالات لا تنفك عن

-------------------

( لأن الأمر متعلق بالاجتناب عن مجموع الخمسمائة في المثال ، و ) نسبته واحد من ثلاثة ، فيكون من المحصور.

أمّا ( محتملات هذا الحرام ) من المشتبه الكثير في الكثير ، فيكون على قسمين :

الأوّل : محتملاته المتبانية ، وهي التي تحصّص الأطراف الى حصص متناسبة مع مقدار الحرام ومقدار غير الحرام من حيث المجموع ، وهذا لا يكون إلاّ بعد محاسبة النسبة بين مجموع الحرام الى مجموع الاطراف ، ثم اخراج العدد حسب تلك النسبة ، ونسبة الخمسمائة فيما نحن فيه الى المجموع وهي : الألف وخمسمائة ، نسبة واحد من ثلاثة - بمعنى : الثلث - فتكون كما قال المصنِّف :

المحتملات ( المتباينة ثلاثةٌ ) فقط ، لانّ احتمال الحرمة في كل واحد من هذه الشياة ، احتمال من ثلاثة احتمالات ، لا احتمال من ألف وخمسمائة احتمال .

إذن : ( فهو كاشتباه الواحد في الثلاثة ) فيتعارض احتمال الحرمة في كل منها مع الآخر ، لانّ الحرام هو أحد هذه الثلاثة فقط .

الثاني : محتملاته المتداخلة ، وهي التي يكون التحصيص فيها غير متناسب مع مقدار الحرام وغير الحرام من حيث المجموع ، وذلك بأن لايلاحظ النسبة بين مجموع الحرام الى مجموع الاطراف ، ولعدم ملاحظة النسبة في التحصيص تصبح المحتملات كثيرة ومشتملة على الحرام، فاذا اشتملت على الحرام فلا يتعارض احتمال الحرمة في كل منها مع الآخر لوجود الحرام في الآخر أيضا ، كما قال : ( وأمّا ماعدا هذه الثلاثة من الاحتمالات ، فهي احتمالات لا تنفك عن

ص: 101

الاشتمال على الحرام ، فلا تعارض احتمال الحرمة .

-------------------

الاشتمال على الحرام ، فلا تعارض احتمال الحرمة ) في كل منها الاحتمالات الاُخر لوجود الحرام فيها ايضا .

والحاصل : ان الواحد في الثلاثة التي هي نسبة المشتبه الى المجموع في المثال، يكون فيه ثلاثة احتمالات متعارضة ، كل منها خمسمائة ، فخمسمائة بيض، وخمسمائة سود ، وخمسمائة حمر - مثلاً - فيقع التعارض بينها كما يلي :

الأوّل : أن يكون الأبيض حراما دون الأسود والأحمر ، وهو في مثالنا : الخمسمائة البيض دون السود والحمر .

الثاني : ان يكون الأسود حراما دونهما ، وهو في مثالنا : الخمسمائة السود دون البيض والحمر .

والثالث : ان يكون الأحمر حراما دونهما ، وهو في مثالنا : الخمسمائة الحمر دون البيض والسود .

كما ان الحرام على هذه الاحتمالات الثلاثة يكون أحد الثلاثة مفرزا ، لانّ الحرام في مثالنا ليس اكثر من خمسمائة حتى يختلط بغيره .

بخلاف ما اذا لم نلاحظ هذه النسبة ، فانّ الاحتمالات تكون كثيرة مثل تحصيص المجموع الى خمس حصص كل حصة ثلاثمائة ، أو عشر حصص كل حصة مائة وخمسين ، وهكذا ممّا يكثر فيه الاحتمالات .

كما ان الحرام على هذه الاحتمالات يكون مختلطا ، لانّ الثلاثمائة ، أو المائة وخمسين ، وهكذا ما شابههما ليس مجموع الحرام حتى لا يختلط الحرام بغيره من الحصص ، ولذلك فانّ العقلاء لا يأخذون بهذه الاحتمالات ، بل يأخذون بالاحتمال الأوّل الذي هو احتمال الواحد من الثلاثة ممّا تكون النتيجة : ان

ص: 102

الرابع :

إنّما ذكرنا في « المطلب الأوّل » المتكفل لبيان حكم أقسام الشّك في الحرام مع العلم بالحرمة : « أنّ مسائله أربع :

الأولى منها : الشبهة الموضوعية » ، وأمّا الثلاث الاُخر : وهي ما إذا

-------------------

الخمسمائة في الف وخمسمائة من الشبهة المحصورة لا من غير المحصورة .

وبما ذكرناه : من المحصورة وغير المحصورة تبيّن انّ الاقسام في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي اربعة :

الاوّل : القليل في القليل كواحد في ثلاثة .

الثاني : الكثير في الكثير ، كخمسمائة في الف وخمسمائة .

الثالث : القليل في الكثير ، كثلاثة في ثلاثة آلاف .

الرابع : الكثير في القليل ، مثل : عشرة في احد عشر.

هذا ، ولا مناقشة في التسمية ، فلا يقال ان القسم الرابع لا يسمّى بالكثير في القليل ، لانّ المهم : المحتوى لا اللفظ .

( الرابع : ) من الامور الباقية في هذا المبحث والذي به يختم المصنِّف البحث في المطلب الأوّل من المطالب الثلاثة التي قسّم الشك في المكلّف به اليها هو ما أشار اليه بقوله : ( إنّما ذكرنا في « المطلب الأوّل » المتكفل لبيان حكم أقسام الشّك في الحرام مع العلم بالحرمة : ان مسائله اربع : ) وقد تناولت المسئلة ( الأولى منها : الشبهة الموضوعية » ) الناشئة عن اشتباه الامور الخارجية ، وذكرنا هناك : بأنّ رفع الشبهة فيها انّما يكون باستطراق باب العرف وهي : امّا محصورة أو غير محصورة ، وقد تقدّم الكلام حولها مفصلاً ، وبقي من المطلب الاول مسائل ثلاث اشار اليها بقوله : ( وأمّا الثلاث الاُخر وهي : ما إذا

ص: 103

اشتبه الحرامُ بغير الواجب ، لاشتباه الحكم من جهة عدم النص ، أو إجمال النص ، أو تعارض النصّين ، فحكمُها يظهرُ ممّا ذكرنا في الشبهة الموضوعية .

لكن أكثر ما يوجد من هذه الأقسام الثلاثة هو القسم الثاني ، كما إذا تردّد الغناء المحرّم بين مفهومين بينهما عموم من وجه ، فانّ مادّتي الافتراق من هذا القسم .

ومثل ما إذا ثبت بالدليل حرمة الأذان الثالث يوم الجمعة واختلف في

-------------------

اشتبه الحرام بغير الواجب ) من المستحب أو المكروه أو المباح ( لاشتباه الحكم من جهة عدم النص ، أو إجمال النص ، أو تعارض النصّين ، فحكمُها يظهرُ ممّا ذكرنا في الشبهة الموضوعية ) من الاحتياط وعدمه في المحصورة وغير المحصورة .

( لكن أكثر ما يوجد ) في الفقه ( من هذه الأقسام الثلاثة هو القسم الثاني ) وهو إجمال النص ( كما اذا تردّد الغناء المحرّم بين مفهومين ) فلم نعلم بانّ المحرّم هو الصوت المطرب ، أو الصوت المرجّع فيه ؟ .

ومن المعلوم : ان النسبة ( بينهما عموم من وجه ، فانّ ) مادة الاجتماع حرام قطعا وهو الصوت المطرب المرجّع فيه ، فيجب الاجتناب عنه بلا كلام .

وأمّا ( مادّتي الافتراق ) فيكونان ( من هذا القسم ) اي : من القسم الثاني وهو : اجمال النص ، فاذا قلنا بانه يجب الاحتياط في اجمال النص ، لانّ التكليف فيه معلوم ، وانّما الشك في المكلّف به ، فيجب الاحتياط فيهما بتركهما معا ، فيجتنب عن الصوت المطرب وعن الصوت المرجّع فيه ايضا .

( ومثل ما اذا ثبت بالدليل حرمة الأذان الثالث يوم الجمعة، واختلف في

ص: 104

تعيينه ، ومثل قوله ، صلى اللّه عليه و آله وسلم : « مَن جَدّد قَبرا أو مَثّلَ مثالاً فَقَد خَرَج عن الاسلام » حيث قرء : جدّد بالجيم ، والحاء المهملة ،

-------------------

تعيينه ) فقد ورد في التواريخ : انه اذا كان يوم الجمعة في زمن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم كان المؤذن يؤذّن أوّلاً أذان الاعلام ثم يؤذّن للصلاة والرسول حاضر في المسجد ؛ ثم تقام الصلاة ، كذلك كان في زمن ابيبكر وعمر ، امّا في زمن عثمان فانّ المؤذن كان يؤذّن أوّلاً أذان الاعلام ، ثم يؤذّن للصلاة ، لكن عثمان لم يخرج الى المسجد حتى يفرغ المؤذن من اذانه ثم كان عثمان يخرج متى شاء فيأمر بأذان آخر ويصلي بعدها ، وجرت عليه عادته حتى كان ذلك من جملة ما أثار نقمة المسلمين عليه لانّه أبدع الأذان الثالث على خلاف الرسول وخلاف من تقدَّمه .

وعليه : فيكون المراد من الأذان الثالث هو : الأذان المتوسّط بين الأذانين ، لكن مع ذلك اختلف في المراد بالأذان الثالث - كما يجده المتتبع في كتب الفقه هل هو أذان صلاة العصر ، أو الأذان الثالث ، أو الأذان الثاني ؟ وحيث كان من اشتباه الحرام بغير الواجب لأنّ الأذان من المستحبات - على المشهور - فيكون من مسألة اشتباه الحكم لاجمال النص .

( ومثل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « مَن جَدّد قَبرا أو مَثّلَ مِثالاً فقد خرج عن الاسلام » (1) حيث قرء : جدّد بالجيم ) ومعناه : تجديد القبر وتعميره بعد الاندراس .

( والحاء المهملة ) أي : بالحاء وهو من التحديد ومعناه تسنيم القبر كما كان

ص: 105


1- - المحاسن : ص612 ح33 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص459 ب23 ح142 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص189 ح579 ، وسائل الشيعة : ج5 ص306 ب173 ح66 وفيهم من الاسلام .

والخاء المعجمة ، وقرء جدّث بالجيم والثاء المثلّثة .

-------------------

يفعله المسيحيون قبل الاسلام .

( والخاء المعجمة ) اي : بالخاء وهو من التخديد ومعناه : خدّ القبر ونبشه .

( وقرء جدّث بالجيم والثاء المثلّثة ) ومعناه : احداث جدث جديد اي : قبر جديد ممّا يحتمل أن يراد منه اخراج الميت من قبره الأوّل ودفنه في القبر الثاني ، أو دفن ميت ثان في قبر الاول وجعله قبرا ثانيا ، اوايجاد قبر جديد ، فيكون المقام من إجمال النص .

وكيف كان : فقد روى هذه الرواية الشيخ والبرقي على ما حكي عنهما عن أميرالمؤمنين عليه السلام ، وقال فيه الوحيد البهبهاني : انه بالجيم عند الصفّار ، والحاء المهملة عند سعد بن عبد اللّه يعني : من سنّم قبرا من التسنيم الذي هو من طريقة العامة ، وبالخاء المعجمة عند المفيد ، وجدّث بالجيم والثاء المثلّثة عند البرقي والصدوق ، وقال : جميع ما ذكر داخل في معنى الحديث سوى قول المفيد .

ومن المحتمل ان يراد به : نبش القبر كما اختاره الصدوق في محكيّ الفقيه قال: « والذي أذهب اليه : ان جدّد بالجيم ، ومعناه : من نبش قبرا فقد جدّده واحوج الى تجديده فقد جعله جدثا محفورا » (1) .

وعن التهذيب : انّ المراد : أن يجُعل دفعة أخرى قبرا لانسان آخر ، فيكون محرّما لاستلزامه النبش (2) .

ص: 106


1- - راجع مَن لايحضره الفقيه : ج1 ص190 ح579 .
2- - راجع تهذيب الاحكام : ج1 ص459 ب23 ح142 .

المطلب الثاني : في اشتباه الواجب بغير الحرام

اشارة

وهو على قسمين : لأنّ الواجبَ امّا مردّد بين أمرين متنافيين ، كما إذا تردّد الأمر بين وجوب الظهر والجمعة ، في يوم الجمعة ، وبين القصر والاتمام في بعض المسائل .

-------------------

المطلب الثاني :

في اشتباه الواجب بغير الحرام

( المطلب الثاني ) من مطالب كتاب البرائة والاشتغال : في الشبهة الوجوبية ، فانّ المصنِّف رحمه اللّه ذكر في أَوّل أصالة الاشتغال : انّ البحث في الشك في المكلّف به يُذكر ضمن مطالب ، ثم أشار الى المطلب الأوّل بانّه في الشبهة التحريمة بمعنى : دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب ، ثم عقد للمطلب الأوّل أربع مسائل ، تعّرض في واحدة منها للشبهة الموضوعية التحريمية ، وفي ثلاثة منها للشبهة الحكمية التحريمية .

وأمّا هنا في هذا المطلب فيتعرّض المصنِّف لأحكام الشبهة الوجوبية ويجعل الكلام ( في اشتباه الواجب بغير الحرام ) من الأحكام الثلاثة الأخر ، وهي : المستحب والمكروه والمباح ( وهو ) اي : الشبهة هذه ( على قسمين ) وذلك كما يلي:

أوّلاً : ( لأنّ الواجب إمّا مردّد بين أمرين متنافيين ) ومتباينين ( كما إذا تردّد الأمر بين وجوب الظّهر والجمعة في يوم الجمعة ، و ) كما إذا تردّد الواجب ظهرا أو عصرا أو عشاءا ( بين القصر والاتمام في بعض المسائل ) وذلك كما إذا نوى إقامة عشرة أيام في مكان ؛ ثم خرج الى ما دون المسافة ورجع ؛ فهل يصلي القصر أو التمام ؟ فانّ للفقهاء أقوالاً في المسألة : من القصر مطلقا ، والاتمام مطلقا ، والجمع

ص: 107

وأمّا مردّد بين الأقل والأكثر ، كما إذا تردّدت الصلاة الواجبة بين ذات السورة وفاقدتها ، للشك في كون السورة جزءا .

وليس المثالان الأوّلان من الأقل والأكثر ، كما لا يخفى .

وإعلم أنّا لم نذكر في الشبهة التحريمية من الشك في المكلّف به صور دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، لأنّ مرجع الدوران بينهما في تلك الشبهة الى الشك في أصل التكليف ، لأن الأقل حينئذٍ

-------------------

بين القصر والاتمام احتياطا ، وبعض التفاصيل الأخر .

ثانيا : ( وأمّا ) انّ الواجب ( مردّد بين الأقل والأكثر ) الارتباطيين ( كما إذا تردّدت الصلاة الواجبة بين ذات السّورة وفاقدتها ، للشك في كون السّورة جزءا ) حيث قال بعض الفقهاء باستحباب السورة وعدم وجوبها .

( و ) قلت : المثالان الأولان أيضا من الاقل والاكثر ، لانّ الجمعة ركعتان والظهر أربع ركعات وكذا القصر والاتمام .

قلت: ( ليس المثالان الأوّلان من الأقل والأكثر كما لا يخفى ) لانّه وان كان بين ركعتين وأربع ركعات أقل واكثر ، والاّ انّ تقييد الاكثر بالاتصال ، والأقل بالانفصال، يجعلهما من المتباينين ، لانّهما حينئذٍ بشرط شيء وبشرط لا .

( وإعلم انّا ) ذكرنا في هذا المقام من الشبهة الوجوبية صور الدوران بين الأقل والاكثر ، بينهما ( لم نذكر في الشبهة التحريمية من الشك في المكلّف به ) فيما تعرضنا له سابقا ( صور دوران الأمر بين الأقل والأكثر ) وذلك كما إذا لم يعلم الجُنب بأنّ المحرّم عليه هل هو قرائة آية السجدة فقط ، أو تمام السورة لاختلاف الفقهاء في ذلك .

وانّما لم نذكرها هناك ( لأنّ مرجع الدوران بينهما في تلك الشبهة ) اي : التحريمية ( الى الشك في أصل التكليف ) لا في المكلّف به ( لأن الأقل حينئذٍ )

ص: 108

معلوم الحرمة ، والشك في حرمة الاكثر .

أمّا القسم الأوّل :

اشارة

فالكلامُ فيه يقع في مسائل ، على ما ذكرنا في أوّل الباب ، لانّه إمّا أن يشتبه الواجبُ بغير الحرام من جهة : عدم النص المعتبر ، أو إجماله أو تعارض النصّين أو من جهة اشتباه الموضوع .

أمّا الأولى :

فالكلام فيه إمّا في جواز المخالفة القطعيّة في غير ما علم باجماع أو ضرورة

-------------------

أي : في الفرض المذكور ( معلوم الحرمة ، والشك في حرمة الاكثر ) فيجري في الزائد البرائة ، لانه شك في التكليف بينهما كلامنا في الشك في المكلّف به .

وكيف كان : فلنرجع الى أصل التقسيم ، فنقول : ( امّا القسم الأوّل ) وهو دوران الأمر بين المتباينين ( فالكلامُ فيه يقع في مسائل ) أربع ( على ما ذكرنا في أوّل الباب ) من الشبهة التحريمية .

وانّما كانت المسائل اربع ( لانّه إمّا أن يشتبه الواجبُ بغير الحرام من جهة : عدم النص المعتبر ، أو إجماله ، أو تعارض النصين ) وهذه الثلاث من الشبهة الحكمية والتي تحتاج الى استطراق باب الشرع ( أو من جهة اشتباه الموضوع ) للامور الخارجية ممّا يحتاج الى استطراق باب العرف .

( أمّا ) المسألة ( الأولى ) وهي : اشتباه الواجب بغير الحرام من جهة عدم النص المعتبر : ( فالكلام فيه ) يقع في مقامين :

أوّلاً : ( أمّا في جواز المخالفة القطعيّة في غير ما علم باجماع أو ضرورة

ص: 109

حرمتُها ، كما في المثالين السابقين ، فانّ ترك الصلاة رأسا مخالف للإجماع، بل الضرورة ؛ وإمّا في وجوب الموافقة القطعيّة .

أمّا الأوّل : فالظاهر حرمة المخالفة القطعيّة ، لانّها معصية عند العقلاء ، فانّهم لا يفرّقون بين الخطاب المعلوم تفصيلاً أو إجمالاً

-------------------

حرمتها، كما في المثالين السابقين ، فانّ ترك الصلاة رأسا مخالف للإجماع ، بل الضرورة ) فانّه لا يجوز للانسان ان يترك القصر والاتمام معا أو يترك الجمعة والظهر معا في مورد الاشتباه بينهما .

وإنّما لا يجوز تركهما معا لقيام الاجماع ، بل لقيام الضرورة على انّه لا يجوز الخلوّ من الصلاتين في ذينك الموردين ، أمّا في سائر الموارد التي لا إجماع ولا ضرورة ، فيمكن القول بجواز المخالفة القطعية ، ولهذا مال الى الجواز بعضٌ ، كما سيأتي انشاء اللّه تعالى .

ثانيا : ( وامّا ) ان يكون الكلام ( في وجوب الموافقة القطعيّة ) فيكون البحث فيها : بأنّه هل يجب الاتيان بهما معا ، أو يكفي الاتيان بأحدهما فقط ؟ .

( أمّا الأوّل : ) وهو المخالفة القطعية ( فالظاهر حرمة المخالفة القطعيّة ) لوجود المقتضي وهو : الخطاب بالتكليف المشترك فيه العالم والجاهل عند المخطّئة ، وعدم المانع عقلاً ولا شرعا منه ، لانّ الجهل لا يكون مانعا عقلاً ، كما انّه لا يكون مانعا شرعا ، اذ لا دليل في الشرع على منع الجهل عن تأثير المقتضي .

وعليه : فالمخالفة القطعيّة بتركهما معا غير جائز ( لانّها معصية عند العقلاء ) وعند الشارع ايضا ، امّا عند الشارع فواضح ، واما عند العقلاء ( فانّهم لا يفرّقون بين الخطاب المعلوم تفصيلاً أوإجمالاً ) في غير المحصورة ، فانهم لا يفرّقون

ص: 110

في حرمة مخالفته ، وفي عدّها معصية .

ويظهر من المحقق الخوانساري دورانُ حرمة المخالفة مدارَ الاجماع ، وأنّ الحرمةَ في مثل الظهر والجمعة من جهته . ويظهر من الفاضل القمّي الميل إليه ، والأقوى : ما عرفت .

وأمّا الثّاني : ففيه قولان ، أقواهما الوجوب ، لوجود المقتضي وعدم المانع .

-------------------

( في حرمة مخالفته ، وفي عدّها ) اي : عدّ المخالفة ( معصية ) للمولى .

هذا ( ويظهر من المحقق الخوانساري : دوران حرمة المخالفة ) وجودا وعدما ( مدارَ الاجماع ) فان كان هناك اجماع حرُمت المخالفة ( و ) الاّ فلا تحرم المخالفة، وذلك ل- ( أنّ الحرمةَ في مثل الظهر والجمعة من جهته ) اي : من جهة الاجماع على انّه لا يجوز تركهما معا في يوم الجمعة - مثلاً - .

( ويظهر من الفاضل القمّي ) صاحب القوانين ( الميل إليه ) اي : الى قول الخوانساري ، ولعل وجهه : انّ التكليف بالمُجمل غير صحيح عند العقلاء ، فالمولى هو سيد العقلاء لا يكلّف بالمجُمل .

نعم ، اذا قام دليل خارجي على عدم جواز الاهمال رأسا بمعنى : عدم جواز المخالفة القطعية ، قلنا بذلك لأجل الدليل الخارجي ، لا لانّ مقتضي التكليف المجمل : الاتيان بأحدهما أو بهما معا .

هذا ( والأقوى : ما عرفت ) من : انّه لا دليل على جواز المخالفة القطعية .

( وأمّا الثّاني ) وهو : وجوب الاحتياط بالاتيان بهما معا ، بمعنى : وجوب الموافقة القطعية : ( ففيه قولان : أقواهما : الوجوب ) فانه اذا تردّد الأمر بين شيئين لعدم نص معتبر عليه ، وجب الاحتياط بالاتيان بهما معا ، وذلك ( لوجود المقتضي وعدم المانع ) كما أوضحناه .

ص: 111

أمّا الأوّل : فلأنّ وجوب الأمر المردّد ثابتٌ في الواقع ، والأمر به على وجه يعمّ العالم والجاهل ، صادرٌ عن الشّارع واصلٌ الى من علم به تفصيلاً ، اذ ليس موضوع الوجوب في الأوامر مختصّا بالعالم بها ، وإلاّ لزم الدّور ، كما ذكره العلاّمة في التحرير ، لأنّ العلمَ بالوجوب موقوفٌ على الوجوب فكيف يتوقف الوجوب عليه ؟ .

-------------------

( امّا الأوّل ) اي: وجود المقتضي ( فلأنّ وجوب الأمر المردّد ثابتٌ في الواقع ) لفرض : انّا نعلم بوجوب أحد الأمرين ، لانّ المولى قال : ائت بالظهر ، أو ائت بالجمعة - مثلاً - ( والأمر به ) اي : بالوجوب المردّد ( على وجه يعمّ العالم والجاهل ، صادرٌ عن الشّارع ) فإنّ الأمر لا يخصّ العالم كما انّه ( واصلٌ الى من علم به تفصيلاً ) فانّ الجاهل انّما لا يعلم الخصوصية ، أمّا أصل الأمر فيعلم به تفصيلاً فيتنجّز عليه .

وانّما قلنا بأن الأمر يعم العالم والجاهل ( اذ ليس موضوع الوجوب في الأوامر مختصّا بالعالم بها ) فانّ الأوامر والنواهي ليست مختصة بالعالمين بها ، وإنّما تعمّ العالمين وغير العالمين .

( والاّ ) بأن كانت مختصّة بالعالمين ( لزم الدّور ، كما ذكره العلاّمة ) رحمه اللّه ( في التحرير ) وذلك ( لأنّ العلمَ بالوجوب موقوفٌ على الوجوب ) نفسه ، اذ العلم بالشيء لا يمكن ان يكون بدون ذلك الشيء ، والاّ كان جهلاً مركبا ، لوضوح تبعية العلم للمعلوم ( فكيف يتوقف الوجوب عليه ؟ ) اي : على العلم به ؟ .

وإن شئت قلت : العلم بالتكليف متوقف على وجود التكليف ، فلو كان وجود التكليف متوقفا على العلم بالتكليف لزم الدّور .

لكن ربّما يقال : انّ هذا الدليل غير تام ، لأنّه يمكن رفع الدور بواسطة امرين

ص: 112

وأمّا المانع ، فلأنّ المتصوّر منه ليس إلاّ الجهل التفصيلي بالواجب وهو غير مانع عقلاً ولا نقلاً .

أمّا العقلُ ، فلأن حكمه بالعذر إن كان من جهة عجز الجاهل عن الاتيان بالواقع ، حتى يرجع الجهل الى فقد شرط من شروط وجود المأمور به ، فلا استقلالَ للعقل بذلك ،

-------------------

كما صوّره المتأخرون ، وقد ورد في الشرع موارد يختص التكليف بالعالم ، كما في القصر والاتمام ، والجهر والأخفات ، وجملة من مسائل الحج .

وكيف كان: فالتكليف يعم العالِم والجاهل لاطلاق أدلته، فلا خصوصية للعالم، خصوصا وان التكاليف تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية ، وهما لايختصان بالعالم ، وان الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية ، فاذا قال المولى : وجبت الصلاة ، كان معنى ذلك : انّ الصلاة ثابتة وجوبها سواء علم المكلّف بوجوب الصلاة أم لا ؟ لا أنّ الصلاة المعلومة واجبة ، وقد ألمعنا الى هذا الكلام في أوائل الكتاب .

( وأمّا ) الثاني وهو : عدم ( المانع ، فلأنّ المتصوّر منه ) اي : من المانع ( ليس إلاّ الجهل التفصيلي بالواجب ) بأن يقال : حيث انّه يجهل بخصوصية الواجب فلا تكليف ( وهو ) اي : الجهل التفصيلي بالواجب ( غير مانع عقلاً ولا نقلاً ) في التكليف .

( أمّا العقل : فلأن حكمه بالعذر ) اي : بمعذورية الجاهل ( إن كان من جهة عجز الجاهل عن الاتيان بالواقع ، حتى يرجع الجهل الى فقد شرط من شروط وجود المأمور به ) كالقدرة - مثلاً - لانّ من شرائط التكليف القدرة ( ف- ) نقول في جواب هذا :انّه ( لا استقلال للعقل بذلك ) .

وإنّما لا استقلال للعقل بذلك ، لانّ المكلّف قادر على الامتثال بطريق

ص: 113

كما يشهد به جواز التكليف بالمُجمل في الجملة ، كما اعترف به غير واحد ممّن قال بالبراءة فيما نحن فيه ، كما سيأتي .

وإن كان من جهة كونه غير قابل لتوجّه التكليف إليه

-------------------

الاحتياط ، وذلك بأن يأتي بكل الأطراف المحصورة ، فالقدرة موجودة مع الجهل التفصيلي أيضا .

( كما يشهد به ) اي : بعدم استقلال العقل بمعذورية الجاهل في صورة الجهل التفصيلي بخصوصيات الواجب ( جواز التكليف بالمُجمل في الجملة ) فانّا نرى انّ الشارع قد أمر بالصلاة الوسطى ، وبحرمة الغناء ، مع انّهم اختلفوا في انّ المراد بالصلاة الوسطى : هل هي صلاة الصبح أو الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء ؟ وكذلك اختلفوا في ان الغناء هل هو الصوت المرجّع فيه ، أو الصوت المطرب ؟ .

وانّما قال المصنّف : في الجملة ، لانّه لا يجوز التكليف بالمُجمل من جميع الجهات بأن يقول - مثلاً - : ائتني بشيء : ولم يقصد به مطلق الشيء حتى ينطبق على كل ما يسّمى شيئا ، أو يقول : اشتر لي ثوبا ولم يرد به ثوبا مطلقا ، بل يريد ثوبا خاصا لم يعرف المكلّف : هل هو الأبيض أو الأحمر أو الأسود أو الأزرق أو غير ذلك ؟ .

( كما اعترف به ) أي : بجواز التكليف بالمُجمل ( غير واحد ممّن قال بالبرائة فيما نحن فيه ) فانّ جماعة من القائلين بالبرائة في مقامنا هذا ، جوّزوا الأمر بالمجمل في مقام آخر فيسأل منهم : بانّه إذا جاز التكليف بالمجمل هناك ، فلماذا لا يجوز التكليف بالمجمل هنا ( كما سيأتي ) الكلام انشاء اللّه تعالى في انّ غير واحد ممّن قال بالبرائة فيما نحن فيه ، وقد اعترف بجواز التكليف بالمُجمل .

هذا ( وان كان ) حكم العقل بمعذورية الجاهل لا من جهة عجزه عن الواقع ، بل ( من جهة كونه غير قابل لتوجّه التكليف إليه ) بمعنى : اشتراط العلم التفصيلي

ص: 114

فهو أشدّ منعا ، وإلاّ لجاز إهمال المعلوم إجمالاً رأسا بالمخالفة القطعيّة ، فلا وجه لالتزام حرمة المخالفة القطعيّة ، وَلَقَبُحَ عِقابُ الجاهل المقصّر بترك الواجبات الواقعيّة وفعل المحرّمات ، كما هو المشهور .

-------------------

لوجود التكليف كاشتراط البلوغ والعقل والاختيار - مثلاً - ( فهو اشدّ منعا ) لانّا نرى ان العقلاء لا يشترطون في توجيه التكليف الى المكلّف علم المكلّف تفصيلاً .

( و إلاّ ) بأن كان العلم التفصيلي شرطا لتوجّه التكليف ( لجاز إهمال المعلوم إجمالاً رأسا بالمخالفة القطعيّة ) لفرض انّ التكليف غير موجّه الى الجاهل اطلاقا ، فيكون حال الجاهل حال الصبي والمجنون ، مع انّ القائل بجواز المخالفة القطعيّة لا يقول بأنّ الجاهل حاله حال الصبي والمجنون .

وعلى هذا : فلو جاز اهمال المعلوم بالاجمال رأسا ( فلا وجه لالتزام حرمة المخالفة القطعيّة ) مع انّ جماعة من الفقهاء يلتزمون بحرمة المخالفة القطعية ولايقولون بجوازها وان قالوا بجواز المخالفة الاحتمالية .

( وَ لَقَبُحَ عِقابُ الجاهل المقصّر بترك ) ذلك الجاهل المقصّر ( الواجبات الواقعيّة وفعل المحرّمات كما هو المشهور ) بانّه معاقب ، فانه لو كان العلم التفصيلي شرطا لتوجه التكليف ، لزم عدم توجه التكليف الى الجاهل ، ولزم قبح عقابه مطلقا قاصرا كان أو مقصرا ، مع انّا نرى انّ المشهور يقولون بجواز عقاب المقصّر ، ولا يعذِروُن الاّ الجاهل القاصر .

ثم انه اشكل على القائلين : بأنّ الجهل في صورة تردّد المكلّف به ، بين أمرين ينافي التكليف ، لانّه تكليف بما لا يطاق . اشكل عليهم : بأنّ الجاهل المقصّر مكلف قطعا ، فاراد بعض دفع هذا الاشكال ومعالجته : لانّ الجاهل المقصّر ليس مكلفا بالواقع ، بل هو مكلف برفع الجهل وذلك كما قال به :

ص: 115

ودعوى : « أنّ مرادهم تكليف الجاهل في حال الجهل برفع الجهل والاتيان بالواقع ، نظير تكليف الجُنب بالصّلاة حال الجنابة ، لا التكليف باتيانه مع وصف الجهل ، فلا تنافي بين كون الجهل مانعا والتكليف في حاله ، وانّما الكلام في تكليف الجاهل مع وصف الجهل ، لانّ المفروض فيما نحن فيه عجزه عن تحصيل العلم » ،

-------------------

( ودعوى : « أنّ مرادهم ) أي : مراد المشهور من تكليف الجاهل المقصّر باتيان الواقع حال الجهل انّما هو : ( تكليف الجاهل في حال الجهل برفع الجهل ، والاتيان بالواقع ) لا انّه مكلف بالواقع .

وعليه : فيكون تكليف الجاهل المقصّر ( نظير تكليف الجُنب بالصّلاة حال الجنابة ) فانّه لا تكليف له باتيان الصلاة في هذه الحال ، بل انّما يكلّف برفع الجنابة ، ثم الاتيان بالصلاة، وكذا الجاهل فان تكليفه برفع الجهل ثم الواقع ( لا التكليف باتيانه) اي : الواقع ( مع وصف الجهل ) حتى يكون تكليفا بما لا يطاق .

وعليه ( فلا تنافي بين كون الجهل مانعا ) عن تنجز التكليف بالواقع من جهة ( والتكليف في حاله ) اي : في حال الجهل من جهة اخرى ، وذلك بأن يكون مكلّفا برفع الجهل ثم الاتيان بالواقع ، فان هذا لا كلام فيه .

( وانّما الكلام ) فيما نحن فيه : ( في تكليف الجاهل مع وصف الجهل ) وهذا هو الشيء الذي ندّعي نحن استحالته لانّه تكليف بما لا يطاق .

وإنّما يكون تكليفا بما لا يطاق ( لانّ المفروض فيما نحن فيه : عجزه عن تحصيل العلم ) التفصيلي بالتكليف ، اذ هو انّما يعلم الشيء المردّد بين أمرين ولا يتمكن من تحصيل العلم التفصيلي بذلك الشيء ، فيكون تنجزّ التكليف بالنسبة اليه تكليفا بما لا يطاق .

ص: 116

مدفوعةٌ برجوعها حينئذٍ الى ما تقدّم من دعوى كون عدم الجهل من شروط وجود المأمور به نظير الجنابة ، وقد تقدّم بطلانها .

وأمّا النقلُ ، فليس فيه ما يدلّ على العذر ، لأنّ أدلّة البرائة غير جارية في المقام ، لا ستلزام إجرائها جواز المخالفة القطعيّة ، والكلام بعد فرض حرمتها .

-------------------

هذه الدعوى ( مدفوعةٌ ) وذلك ( برجوعها ) اي : رجوع هذه الدعوى (حينئذٍ) اي : حين كان الجاهل المقصّر مكلّفا برفع الجهل واتيان الواقع ( الى ما تقدّم : من دعوى كون عدم الجهل من شروط وجود المأمور به ) وقد أجبنا عنه : بانّ عدم الجهل ليس من شروط وجود المأمور به .

إذن : فليس العلم فيما نحن فيه ( نظير ) عدم ( الجنابة ) التي هي من شروط وجود الصلاة ( وقد تقدّم بطلانها ) اي : بطلان هذه الدعوى حيث قلنا : بان العلم التفصيلي ليس شرطا عقلاً لوجود المأمور به ، وذلك لما تقدَّم : من تمكن اتيان المكلّف بالواقع بسبب الاحتياط .

هذا تمام الكلام في انتفاء المانع عقلاً .

( وأمّا النقل : فليس فيه ما يدلّ على العذر ) وعلى انّه اذا جهل تفصيلاً يكون معذورا ، ولذلك نقول : بانّه يجب عليه الاحتياط ، انّه ليس بمعذور ( لأنّ أدلّة البرائة غير جارية في المقام ) اي : فيما إذا كان جاهلاً تفصيلاً بالحكم مع علمه الاجمالي .

وانّما لا تجري البرائة في المقام ( لا ستلزام إجرائها ) اي : البرائة ( جواز المخالفة القطعيّة ، والكلام ) إنّما هو ( بعد فرض حرمتها ) اي : حرمة المخالفة القطعية .

ص: 117

بل في بعض الأخبار ما يدل على وجوب الاحتياط .

مثل صحيحة عبد الرّحمان المتقدّمة في جزاء الصيد : « اذا أصبتُم مِثلَ هذا ولم تدروا ، فَعَليكُم بالاحتياط حتى تسألوا عنهُ فتعلمُوا » وغيرها .

فان قلت :

-------------------

إذن : فالبرائة لو شملت مورد العلم الاجمالي لدلّت على جواز ترك كل الأطراف ، اذ يصدق على كل واحد من الأطراف : انّه شيء لم يعلم وجوبه ، فتدل البرائة على جواز المخالفة القطعية ، وانّما يقول بجواز المخالفة الاحتمالية بترك بعض الاطراف دون بعض .

( بل في بعض الأخبار ما يدل على وجوب الاحتياط ) فيما اذا كان هناك علم اجمالي وجهل تفصيلي بالحكم ( مثل : صحيحة عبد الرّحمان المتقدّمة ) الواردة ( في جزاء الصيد ) حيث سئل عن صيدٍ أصابه رجلان محرمان ، فشك في انّه هل عليهما جزاء واحد ، أو على كل واحد منهما جزاء مستقل ؟ فقال له عليه السلام :

( « اذا أصبتُم مِثلَ هذا ولم تدروا ، فَعَليكُم بالاحتياط حتى تسألوا عنهُ فتعلمُوا » (1) ) ( وغيرها ) من أخبار الاحتياط ، فانّها تدل على انّ الجهل التفصيلي مع وجود العلم الاجمالي ليس بمجوّز للترك ، بل اللازم الاحتياط بالاتيان بجميع الاطراف .

( فان قلت ) : لا ملازمة بين العلم الاجمالي ووجوب الاطاعة ، إذ يجوز

ص: 118


1- - تهذيب الاحكام : ج5 ص466 ب16 ح277 ، الكافي فروع : ج4 ص391 ح1 ، وسائل الشيعة : ج13 ص46 ب18 ح17201 (وفيه عن علي) و ج27 ص154 ب12 ح33464 .

إنّ تجويز الشارع ترك أحد المحتملين والاكتفاء بالآخر يكشفُ عن عدم كون العلم الاجمالي علّة تامّة لوجوب الاطاعة ، كما أنّ عدم تجويز الشارع للمخالفة مع العلم التفصيلي دليلٌ على كون العلم التفصيليّ علّة تامة لوجوب الاطاعة .

وحينئذٍ : فلا ملازمة بين العلم الاجمالي ووجوب الاطاعة ، فيحتاج إثبات الوجوب الى دليل آخر غير العلم الاجمالي ، وحيث كان

-------------------

للمكلّف الاتيان بأحد الاطراف فقط ، وجعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع ، وهذا يدل على عدم كون العلم الاجمالي علة تامة لتنجز التكليف ، فانه ان كان العلم الاجمالي علة تامة لتنجز التكليف ، لزم الاتيان بكل الاطراف وذلك كما قال : ( إنّ تجويز الشارع ترك أحد المحتملين والاكتفاء بالآخر ) كما يذهب اليه من يقول بحرمة المخالفة القطعية ولا يقول بوجوب الموافقة القطعية ( يكشفُ عن عدم كون العلم الاجمالي علّة تامّة ) لتنجز التكليف حتى يكون العلم مقتضيا ( لوجوب الاطاعة ، كما انّ عدم تجويز الشارع للمخالفة مع العلم التفصيلي دليلٌ على كون العلم التفصيليّ علّة تامة ) لتنجّز التكليف، المقتضي (لوجوب الاطاعة).

و عليه : فان هناك فرقا بين العلم الاجمالي والعلم التفصيلي ، حيث يكون العلم التفصيلي علة تامة لتنجّز التكليف ، بينما لم يكن العلم الاجمالي علة تامة له.

( وحينئذٍ ) اي : حين لم يكن العلم الاجمالي علة تامة ( فلا ملازمة بين العلم الاجمالي ووجوب الاطاعة ) اذ التلازم انّما يكون لو كان العلم الاجمالي علة تامة بوجوب الاطاعة ، وحيث لا يكون العلم الاجمالي علة تامة ، فلا يكون وجوب الاطاعة .

إذن : ( فيحتاج إثبات الوجوب ) اي : وجوب للاطاعة ، المقتضي للاحتياط باتيان جميع الاطراف ( الى دليل آخر غير العلم الاجمالي ، وحيث كان ) ذلك

ص: 119

مفقودا فاصل البرائة يقتضي عدم وجوب الجمع وقبح العقاب على تركه لعدم البيان .

نعم ، لمّا كان تركُ الكلّ معصية عند العقلاء حكم بتحريمها ، ولا تدلّ حرمة المخالفة القطعيّة على وجوب الموافقة القطعيّة .

-------------------

الدليل الآخر ( مفقودا ) هنا ، والعلم الاجمالي وحده غير كاف ، لم يجب فيه الموافقة القطعية كما قال :-

( فاصل البرائة يقتضي عدم وجوب الجمع ) بين أطراف العلم الاجمالي ( و ) يقتضي أيضا ( قبح العقاب على تركه ) اي : ترك الجمع ( لعدم البيان ) فانّه حيث لا بيان لا يكون عقاب .

( نعم ، لمّا كان تركُ الكلّ معصية عند العقلاء ) وهو يكشف عن عليّة العلم الاجمالي لحرمة المخالفة القطعية ( حكم بتحريمها ) اي : بتحريم المخالفة القطعية بترك الجميع ( ولا تدلّ حرمة المخالفة القطعيّة على وجوب الموافقة القطعيّة ) إذ حرمة المخالفة القطعية معناه : انّه يحرم ترك كل الاطراف ، وليس معناه : أنه يجب الاتيان بكل الاطراف ، حتى تجب الموافقة القطعية .

والحاصل : انّه لا دليل على وجوب الموافقة القطعية التي اختارها المصنِّف ، اذ وجوب الموافقة القطعية إمّا مستفاد من أدلة المحرّمات الواقعية كالخمر المتردد بين اطراف الشبهة ، وإمّا مستفاد من بناء العقلاء على حرمة المخالفة القطعية .

وعليه : فان كان مستفادا من أدلة المحرمّات الواقعية : فانه يستلزم الموافقة القطعية ، والحال انّ الأدلة لا تفيد ذلك ، ولذا ذهب غير واحدٍ الى وجوب الموافقة الاحتمالية فقط .

وان كان مستفادا من بناء العقلاء على حرمة المخالفة القطعية : فانّه لا تلازم

ص: 120

قلت : العلم الاجماليّ كالتفصيلي علّة تامّة لتنجّز التكليف بالمعلوم ، إلاّ أنّ المعلوم اجمالاً يصلح لأن يجعل أحدُ محتمليه بدلاً عنه في الظاهر .

فكلّ مورد حكم الشارعُ بكفاية احد المحتملين للواقع ، إمّا تعيينا كحكمه بالاحتمال المطابق للحالة السابقة ،

-------------------

بين بناء العقلاء على حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية .

إن قلت ذلك ( قلت : ) انّ أدلة المحرّمات الواقعية هي التي تدل على وجوب الموافقة القطعية ، وانّ العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي ، الاّ انّ الشارع جعل في بعض الاماكن بدلاً عن الواقع باتيان احد الاطراف فقط ، فكلّما جعل الشارع البدل نقول بانّه لا يلزم الموافقة القطعية ، وكلّما لم يجعل الشارع البدل نقول فيه بلزوم الموافقة القطعية .

وعليه : فانّ ( العلم الاجماليّ كالتفصيلي علّة تامّة لتنجّز التكليف بالمعلوم ) عند العقلاء ( إلاّ انّ المعلوم اجمالاً يصلح لأن يجعل أحدُ محتمليه بدلاً عنه ) اي : عن ذلك المعلوم ( في الظاهر ) كما اذا حكم الشارع في بعض الموارد بجعل احد المحتملين بدلاً عن الواقع وأجاز ارتكاب المحتمل الآخر .

إذن : ( فكلّ مورد حكم الشارعُ بكفاية احد المحتملين للواقع ) قلنا فيه بعدم لزوم الموافقة القطعية ، علما بأن حكم الشارع يكون على قسمين :

الأوّل : ( اما تعيينا كحكمه بالاحتمال المطابق للحالة السابقة ) وذلك فيما اذا كان هناك حالة سابقة فيكون موردا للاستصحاب ، مثل ما تقدّم : من استصحاب القصر لمن جاء من السفر ، واستصحاب التمام لمن خرج الى السفر ، عند الشك في نقطة معينة بأنها خارجة عن حدّ الترخص ام لا ؟ فانّ الشارع جعل احد الاحتمالين بدلاً عن الواقع حيث يشك في ان تكليفه في هذه النقطة القصر مطلقا

ص: 121

وامّا تخييرا كما في موارد التخيير بين الاحتمالين فهو من باب الاكتفاء عن الواقع بذلك المحتمل ، لا الترخيص لترك الواقع - بلا بدل - في الجملة .

فانّ الواقع إذا علم به ، وعلم إرادة المولى بشى ء وصدور الخطاب عنه الى العبيد ، وان لم يصل اليهم ، لم يكن بدٌّ عن موافقته ،

-------------------

ذاهبا وجائيا أو التمام مطلقا ذاهبا وجائيا .

الثاني : ( وامّا تخييرا كما في موارد التخيير بين الاحتمالين ) كالتخيير بين الخبرين المتعارضين ، أو التخيير بين المجتهدين المتساويين .

وعليه : ( فهو ) اي : هذا الحكم من الشارع بجعل البدل تعيينا أو تخييرا ( من باب الاكتفاء عن الواقع بذلك المحتمل ) الذي قرره الشارع ( لا الترخيص لترك الواقع - بلا بدل - في الجملة ).

والحاصل : ان قوله « بلا بدل » جملة معترضة ، وقوله : في الجملة ، قيد لترك الواقع ، فيكون المعنى : انّ الشارع حين رخّص بترك أحد المحتملين جعل الآخر بدلاً عن الواقع ، لا انّه رخّصَ في ترك الواقع رأسا حتى يُقال : بانّ هذا دليل على عدم عليّة العلم الاجمالي للتنجيز فلا يجب الاحتياط ، بل الاحتياط واجب الاّ اذا جعل الشارع بدلاً عن الواقع .

وعليه : فوجوب الاحتياط متنجز ، للعلم الاجمالي بالتكليف ، فلا يحتاج الى دليل، وانّما المحتاج الى الدليل هو جعل البدل عن الواقع ( فانّ الواقع إذا علم به ، وعلم إرادة المولى بشيء وصدور الخطاب عنه الى العبيد وان لم يصل اليهم ، لم يكن بدٌّ عن موافقته ) اي : موافقة ذلك الواقع الذي علم به إجمالاً وهذا ما يحكم به العقل والعقلاء ، بل الشرع ايضا كما في الروايات المتقدّمة التي دلّت على وجوب الاحتياط.

ص: 122

إمّا حقيقة بالاحتياط ، وإمّا حكما بفعل ما جعله الشارعُ بدلاً عنه ، وقد تقدّم الاشارة الى ذلك في الشبهة المحصورة .

ومّما ذكرنا يظهر عدمُ جواز التمسك في المقام بأدلّة البرائة، مثل رواية الحجب والتوسعة ونحوهما ،

-------------------

إذن : فلا بدّ من موافقة الواقع ( إمّا حقيقة ) وذلك ( بالاحتياط ) المدرك للواقع قطعا ( وإمّا حكما ) وذلك ( بفعل ما جعله الشارعُ بدلاً عنه ) أي : عن الواقع ( وقد تقدّم الاشارة الى ذلك ) اي : الى لا بدِّية موافقة الواقع بحكم العقل والعقلاء مفصّلاً ( في الشبهة المحصورة ) فلا حاجة الى تكراره .

( ومّما ذكرنا : ) من انّ العلم الاجمالي علّة تامة للاطاعة كالعلم التفصيلي الاّ إذا جعل الشارع بعض الاطراف بدلاً عن الواقع في العلم الاجمالي ( يظهر عدمُ جواز التمسك في المقام ) اي : في نفي وجوب الاحتياط ( بأدلّة البرائة مثل : رواية الحجُب (1) والتوسعة (2) ونحوهما ) .

وقول المصنِّف : « ممّا ذكرنا » شروع في ردّ الدليل الثاني الذي استدل به القائلون على عدم وجوب الاحتياط ، فانّهم استدلوا لذلك بدليلين :

أحدهما : ان العلم الاجمالي ليس علة تامة للطاعة لانّه يستلزم منه تكليف ما لايطاق ، وقد مضى جوابه .

ص: 123


1- - انظر الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .
2- - المحاسن : ص452 ح365 ، الكافي اصول ج6 ص297 ح2 ، غوالي اللئالي : ج1 ص224 ح109 ، مستدرك الوسائل : ج18 ص20 ب12 ح21886 ، تهذيب الاحكام : ج9 ص99 ب4 ح167 .

لأنّ العمل بها في كلّ من الموردين بخصوصه يوجبُ طرحَها بالنسبة الى أحدهما المعيّن عند اللّه المعلوم وجوبه ، فانّ وجوب واحدة من الظهر والجمعة أو من القصر والاتمام ممّا لم يحجب اللّه علمه عنّا ،

-------------------

ثانيهما : انّ اخبار البرائة كرواية الحجب مانعة عن تأثير المقتضي للتكليف ، والمصنِّف بدأ يجيب عنه : بانّ أدلة البرائة لا تكون مانعة ، فلا يجوز التمسك بها .

وإنّما لا يجوز التمسك بها ( لانّ العمل بها ) اي : بأخبار البرائة ( في كلّ من الموردين بخصوصه ) اي : في كلا طرفي الشبهة ( يوجبُ طرحَها ) اي : طرح تلك الأدلة ( بالنسبة الى أحدهما المعيّن عند اللّه المعلوم وجوبه ) إذ وجوب أحدهما معلوم عند اللّه تعالى ، فاذا أعملنا أدلة البرائة في كل مورد من الموردين بخصوصه من غير نظر الى المورد الآخر ، كان معنى ذلك : طرح الحكم الواقعي وعدم لزوم العمل به .

وإنّما لايجوز التمسك هنا بمثل رواية الحجب ، لانه كما قال : ( فانّ وجوب واحدة من الظهر والجمعة ) في يوم الجمعة ( أو من القصر والاتمام ) في مورد يشتبه بينهما ، فلم يعلم انّ الواجب هذا أو ذلك ، فانه ( ممّا لم يحجب اللّه علمه عنّا ) فكيف نتمسك بأدلة البرائة ، ونقول : بانّه ممّا حجب اللّه علمه عنا ؟ .

نعم ، ان العلم بالخصوصية محجوب عنا ، لا العلم بالجامع فانّه معلوم عندنا ، فلا يمكن طرح الجامع ، فاذا تمسّكنا بأدلة البرائة في كل مورد مورد كان معناه : طرح الجامع ، وهو لا يجوز .

إذن : فانّا وان كنا في سعة من خصوصية هذا الفرد أو ذاك الفرد ، لان خصوصية هذا الفرد أو ذاك الفرد محجوبة عنّا ، الاّ انّ الجامع ليس محجوبا عنّا ، واذا لم يكن

ص: 124

فليس موضوعا عنّا ولسنا في سعة منه ، فلا بدّ إمّا من الحكم بعدم جريان هذه الاخبار في مثل المقام ممّا علم وجوب شيء إجمالاً ، وإمّا من الحكم بانّ شمولها للواحد المعيّن المعلوم وجوبُه ، ودلالتها بالمفهوم على عدم كونه موضوعا عن العباد ، وكونه محمولاً عليهم ، ومأخوذين به وملزمين عليه دليلٌ علميّ بضميمة حكم العقل بوجوب المقدّمة العلميّة على وجوب

-------------------

محجوبا عنّا ( فليس موضوعا عنّا ولسنا في سعة منه ) .

وعليه : فعند تعارض ترك الخصوصية المحجوبة وعدم ترك الجامع الذي ليس بمحجوب ( فلا بدّ إمّا من الحكم بعدم جريان هذه الاخبار في مثل المقام ممّا علم وجوب شيء إجمالاً ) فتختص الاخبار بجريانها في الشبهة البدوية لانّ كل خبر يوجب التعارض لا يكن الاستدلال به على هذا الطرف ولا على ذاك الطرف .

( وإمّا من الحكم : بانّ شمولها ) اي : شمول هذه الاخبار انّما هو ( للواحد المعيّن ) عند اللّه و ( المعلوم وجوبُه ) لديه تعالى وان كان غير معيّن عندنا .

هذا ، لكن حيث لا يمكن القول بالاول وهو : جريان الاخبار في المقام ، وذلك للزوم التعارض ، يلزم الذهاب الى الثاني وهو القول : بأن أخبار البرائة شاملة للواحد المعيّن عند اللّه ( ودلالتها بالمفهوم على عدم كونه موضوعا عن العباد ، وكونه محمولاً عليهم ، و ) كونهم ( مأخوذين به وملزمين عليه ) وهذا هو ( دليلٌ علميّ ) لنا .

وانّما هو دليل علمي ، لانا قد علمنا هذا الشيء ( بضميمة حكم العقل بوجوب المقدّمة العلميّة ) فانّه عند تنجّز التكليف بسبب العلم بانّ اللّه سبحانه وتعالى يريد احدهما منا ، وضم وجوب المقدمة العلمية اليه يكون دليلاً ( على وجوب

ص: 125

الاتيان بكل من الخصوصيّتين ، فالعلم بوجوب كلّ منهما لنفسه وان كان محجوبا عنّا ، إلاّ أنّ العلمَ بوجوبه من باب المقدمة ليس محجوبا عنّا ، ولا منافاة بين عدم وجوب الشيء ظاهرا لذاته ووجوبه ظاهرا من باب المقدّمة ، كما لاتنافي بين عدم الوجوب النفسي واقعا وثبوت الوجوب الغيري كذلك .

-------------------

الاتيان بكل من الخصوصيّتين ) احتياطا .

وعليه : فانّ منطوق دليل الحجب يدل على ان اللّه لا يريد الخصوصية لانّها محجوبة عنا ، ومفهومها يدل على وجوب احدهما المردّد لانّه شيء علمناه ، فاذا ضممنا المفهوم الى دليل العقل بوجوب المقدمة العلمية أفاد : وجوب الاحتياط باتيان كل واحد من الخصوصيّتين كما قال : ( فالعلم بوجوب كلّ منهما ) اي: من الخصوصيّتين ( لنفسه وان كان محجوبا عنّا ، الاّ أنّ العلمَ بوجوبه ) اي : بوجوب كل من الخصوصيّتين ( من باب المقدمة ليس محجوبا عنّا ) فالخصوصيته وان لم تكن مرادة للّه سبحانه وتعالى اوّلاً وبالذات ، الا انّها مرادة من جهة حكم العقل بالمقدمة العلميّة من باب الاحتياط .

هذا ( و ) من المعلوم : انّه ( لا منافاة بين عدم وجوب الشيء ظاهرا لذاته ووجوبه ظاهرا من باب المقدّمة ) وقد قيَّد المصنِّف الجملتين بقوله « ظاهرا » لانّ الكلام في مرحلة الظاهر ، وليس في مرحلة الواقع ، فان الحكم في مرحلة الواقع واحد والمفروض : انا لا نعلمه .

( كما لاتنافي بين عدم الوجوب النفسي واقعا وثبوت الوجوب الغيري كذلك ) اي : واقعا ، وذلك في مثل مقدمات العبادات وغيرها ، فانّها ليست واجبات نفسية بل هي واجبات غيرية .

ص: 126

واعلم أنّ المحقّق القمّي - بعدما حكى عن المحقّق الخوانساري الميل الى وجوب الاحتياط في مثل الظهر والجمعة والقصر والاتمام - قال :

« إنّ دقيق النّظر يقتضي خلافه ، فانّ التكليفَ بالمُجمل المحتمل لأفراد متعددة بارادة فرد معيّن عند الشارع مجهول عند المخاطب ، مستلزمٌ لتأخير البيان عن وقت الحاجة ، الذي اتفق أهلُ العدل على استحالته ،

-------------------

( واعلم انّ المحقّق القمّي ) رحمه اللّه صاحب القوانين ( بعدما حكى عن المحقّق الخوانساري الميل الى وجوب الاحتياط ) كما سيأتي انشاء اللّه تعالى نقل كلام الخوانساري ( في مثل الظهر والجمعة والقصر والاتمام - قال ) اي : المحقّق القمي بعد ذلك .

( « انّ دقيق النّظر يقتضي خلافه ) وانّه لا يجب الاحتياط ( فانّ التكليفَ بالمُجمل المحتمل لأفراد متعددة بارادة فرد معيّن عند الشارع مجهول عند المخاطب ) أي : بأن يرُيد الشارع فردا من المجمل لكنّه ليس معلوما عند المخاطب ( مستلزمٌ لتأخير البيان عن وقت الحاجة الذي اتفق أهلُ العدل على استحالته ) من الحكيم .

وعليه : فانّ الحكيم لا يمكن ان يريد شيئا يوم الجمعة ثم لا يبيّنه الاّ في يوم السبت ، والمقام من هذا القبيل ، لانّ المولى إذا أراد المجُمل ولم يبيّنه ، كان من تأخير البيان عن وقت الحاجة الذي لا يصدر من الحكيم ، فكيف بسيد الحكماء ؟ .

ان قلت : هناك موارد وقع التكليف فيها بالمجمل ، كما في مورد الظهر والجمعة ، والاتمام والقصر .

ص: 127

وكلُّ ما يدّعى كونه من هذا القبيل فيمكن منعه ، إذ غاية مايسلّم في القصر والاتمام ، والظهر والجمعة ، وأمثالها أنّ الاجماع وقع على أنّ من ترك الأمرين بأن لا يفعل شيئا منهما يستحق العقاب ، لا أنّ من ترك أحدهما المعيّن عند الشارع المُبهَم عندنا بان ترك فعلَهما مجتمعين يستحقّ العقاب » .

ونظير ذلك مطلق التكليف بالاحكام الشرعية ، سيّما في أمثال زماننا على مذهب أهل الحق من التخطئة ،

-------------------

قلت : ( وكلُّ ما يدّعى كونه من هذا القبيل ) اي : انّه تكليف بالمجُمل ( فيمكن منعه ) لانّ القاعدة العقلية غير قابلة للتخصيص ( إذ غاية ما يسلّم في القصر والاتمام ، والظهر والجمعة ، وأمثالها ) من موارد العلم الاجمالي ( أنّ الاجماع وقع على انّ من ترك الأمرين بأن لا يفعل شيئا منهما يستحق العقاب ) فالمخالفة القطعية إذن محرّمة .

( لا أنّ من ترك أحدهما المعيّن عند الشارع المُبهَم عندنا بأن ترك فعلَهما مجتمعين يستحقّ العقاب ) اي : انّ المخالفة القطعيّة محرَّمة لا انّ الموافقة القطعيّة واجبة كما ذكره المحقق الخوانساري .

( ونظير ذلك ) اي : القصر والاتمام ، والظهر والجمعة ، في عدم جواز ترك كل الاطراف وان لم يجب فعل كل الاطراف ( مطلق التكليف بالاحكام الشرعية ) بالنسبة الى مطلق اطراف الاحتمال ، ولا ( سيّما في أمثال زماننا ) الذي هو - عندنا نحن المحقق القمي - زمان الانسداد ، فانّا نعمل في المحتملات حسب الظن .

إذن : فنحن لا نترك كل المحتملات ، ولا يلزم أن نأتي بكل المحتملات ، وذلك ( على مذهب أهل الحق من التخطئة ) حيث يقولون : بانّ الحق واحد وانّما

ص: 128

فانّ التحقيق : أنّ الذي ثبت علينا بالدليل هو تحصيلُ ما يمكننا تحصيله من الأدلة الظنيّة ، لا تحصيلُ الحكم النفس الأمريّ في كل واقعة ، ولذا لم نقل بوجوب الاحتياط وترك العمل بالظنّ الاجتهادي من أوّل الأمر .

نعم ، لو فرض حصولُ الاجماع أو ورود النصّ على وجوب شيء معيّن عند اللّه تعالى مردّد عندنا بين أمور من دون اشتراط بالعلم به ،

-------------------

الطرق والأمارات تكون مؤدّية اليه ، بخلاف مذهب المصوّبة حيث يجعلون مؤدّيات الطرق والأمارات احكاما واقعية .

وعليه : ( فانّ التحقيق ) على هذا المذهب الحق ( : أنّ الذي ثبت علينا بالدليل هو : تحصيلُ ما يمكننا تحصيله من الأدلة الظنيّة ) الانسدادية ( لا تحصيل الحكم النفس الأمري في كل واقعة ) حتى يجب علينا الاحتياط بالاتيان بكل الطرق الحتمية في أدائها الى الواقع .

( ولذا ) اي : لأجل ما ذكرناه : من عدم وجوب الاحتياط ، وكفاية تحصيل الظنّ ( لم نقل ) عند الانسداد ( : بوجوب الاحتياط وترك العمل بالظنّ الاجتهادي ) وذلك بأن نترك العمل بالظن الاجتهادي ( من اوّل الأمر ) ونرجع للانسداد الى العمل بالاحتياط رأسا ، بخلاف من يرى وجوب تحصيل الواقع ، فانّه يقول بلزوم الاحتياط لا الرجوع الى الظن ، وإذا قال بالرجوع الى الظن دون الاحتياط ، فانّما هو من باب الحَرج ونحو ذلك .

( نعم ، لو فرض حصولُ الاجماع ، أو ورود النصّ ) أو قيام الضرورة ( على وجوب شيء معيّن عند اللّه تعالى ، مردّد عندنا بين أمور من دون اشتراط بالعلم به ) لانّه قد تعمّد فيه - مثلاً - لمصلحة ، وذلك كما اذا علمنا بأنّ الواجب إمّا الظهر أو الجمعة بالضرورة .

ص: 129

المستلزم ذلك الفرض لاسقاط قصد التعيين في الطاعة ، لتمّ ذلك .

ولكن لا يحسن قوله يعني المحقق الخوانساري - ، فلا يبعُد القول بوجوب الاحتياط حينئذٍ ، بل لابدّ من القول باليقين والجزم بالوجوب ، ولكن من اين هذا الفرضُ وأنّى يمكن اثباته » ،

-------------------

ومن المعلوم : ان الواجب المردّد لا يمكن الجزم به كما قال : ( المستلزم ذلك الفرض ) الذي فرضناه : من الاجماع ، أو ورود النص ، أو الضرورة عليه ( لاسقاط قصد التعيين في الطاعة ) بان لم يرد الشارع منّا تعيين الظهر أو الجمعة بالوجوب في النية ، ففي مثل هذه الصورة لا يكفي الظن باحدهما ، و ( لتمّ ذلك ) اي : وجوب الاحتياط ، لانّ المفروض : انّ الواجب هو الواقع ونحن لا نعلم به ، فيلزم علينا الاحتياط باتيان جميع الاطراف ، وحينئذٍ لا نتمكن من قصد التعيين .

( ولكن ) بناءا على وجود الاجماع ، أو الضرورة ، أو النص على إرادة حكم اللّه الواقعي في موردٍ ( لا يحسن قوله يعني : المحقق الخوانساري ) لعدم جزمه بوجوب الاحتياط حيث قال : ( فلا يبعد القول بوجوب الاحتياط حينئذٍ ) اي : حين تردد الوجوب بين امور يريد اللّه الواقع منّا حتما .

( بل لا بدّ ) للمحقق الخوانساري حينئذٍ ( من القول باليقين والجزم بالوجوب) اي : بوجوب الاحتياط ، لا أن يقول : « لا يبعد » .

( ولكن من اين هذا الفرض ؟ ) اي : فرض ارادة اللّه سبحانه وتعالى في شيء مجمل حكمه الواقعي منا ( وأنّى يمكن اثباته ؟ (1) ) فانّه لم ينعقد الاجماع ، وليس هناك نص ولا ضرورة بوجوب شيء مجمل يريده الشارع على كل حال ،

ص: 130


1- - القوانين المحكمة : ص267 .

انتهى كلامه رفع مقامه .

وما ذكره قدس سره ، قد وافق فيه بعض كلمات ذلك المحقّق التي ذكرها في مسألة الاستنجاء بالأحجار ، حيث قال بعد كلام له :

والحاصل : اذا ورد نص أو اجماع على وجوب شيء معيّن عندنا أو ثبوت حكم الى غاية معينة معلومة عندنا ، فلابدّ من الحكم بلزوم تحصيل اليقين أو الظن بوجود ذلك الشيء المعلوم حتى يتحقق

-------------------

حتى يجب الاحتياط في جميع الاطراف ( انتهى كلامه رفع مقامه ) .

والحاصل : انّ الخوانساري أوجب الاحتياط في جميع الاطراف ، والقمي اكتفى بالاتيان ببعض الأطراف ، فأشكل على الخوانساري بانّه لا يجب الاحتياط في جميع الاطراف ، الاّ في صورة فرض قيام الاجماع ، أو الضرورة أو النص على ارادة الواقع منا ، وهو مجرّد فرض لا واقع له .

هذا ( وما ذكره ) المحقق القمّي ( قدّس سرّه ) : من لزوم الاتيان ببعض الأطراف دون جميع الأطراف ، الاّ اذا كان هناك ضرورة ، أو اجماع ، أو نص على ارادة اللّه حكمه الواقعي فيجب الاتيان بكل الاطراف ، فانّ كلامه هذا ( قد وافق فيه بعض كلمات ذلك المحقّق ) اي : المحقق الخوانساري وذلك في كلماته ( التي ذكرها في مسألة الاستنجاء بالأحجار حيث قال بعد كلام له ) اي : للمحقق الخوانساري ما لفظه : ( والحاصل : اذا ورد نص ، أو اجماع ، على وجوب شيء معيّن عندنا ) كالواجبات المعيّنة مثل صلاة الظهر ، وصلاة العصر ، وما أشبه ذلك في غير يوم الجمعة ( أو ثبوت حكم الى غاية معينة معلومة عندنا ) كوجوب الصوم الى المغرب الحقيقي ( فلا بدّ من الحكم بلزوم تحصيل اليقين أو الظن ) المعتبر كشهادة عدلين - مثلاً - ( بوجود ذلك الشيء المعلوم حتى يتحقق

ص: 131

الامتثال - الى ان قال - : وكذا اذا ورد نص أو إجماع على وجوب شيء معيّن في الواقع مردّد في نظرنا بين أمور ، وعلم أنّ ذلك التكليف غير مشروط بشيء من العلم بذلك الشيء مثلاً ، أو على ثبوت حكم الى غاية معينة في الواقع مردّدة عندنا بين أشياء ، ويعلم أيضا عدم اشتراطه بالعلم وجب الحكم بوجوب تلك الأشياء المردّد فيها في نظرنا

-------------------

الامتثال ) لأنّ الامتثال متوقف على يقيننا أو ظننا الخاص باتياننا بذلك الشيء الذي أراده الشارع منّا ( الى ان قال : ) اي المحقق الخوانساري :

( وكذا اذا ورد نص أو إجماع على وجوب شيء معيّن في الواقع مردّد في نظرنا بين أمور ، وعلم انّ ذلك التكليف غير مشروط بشيء من العلم بذلك الشيء - مثلاً - ) كما اذا علمنا بأنّ الشارع يريد منّا - مثلاً - الصلاة الواقعية المردّدة بين الظهر والجمعة وعلمنا بان ارادته بالنسبة الينا غير مشروطة بعلمنا بالواقع ، فانّه يجب علينا حينئذٍ الاتيان بجميع الاطراف المحتملة التي نعلم انّ الواقع في احدها ، وذلك بأن نأتي - في المثال - بالجمعة والظهر معا في يوم الجمعة .

وكذا اذا ورد نص ( أو ) اجماع ( على ثبوت حكم الى غاية معينة في الواقع مردّدة عندنا بين أشياء ، ويعلم أيضا عدم اشتراطه بالعلم ) كما إذا تردّد غاية الصوم بين استتار الشمس أو زوال الحمرة ، وقد علمنا انّ الشارع يريد الواقع منّا ، فانّه يجب الاحتياط وعدم الافطار الى زوال الحمرة .

وانّما يجب الاحتياط والاتيان بكل الاطراف ، لانّه قد ( وجب الحكم بوجوب تلك الأشياء المردّد فيها ) التكليف الواقعي ( في نظرنا ) وقوله « في » متعلق بقول « المردّد فيها » ، بمعنى : انّ التكليف الواقعي حيث كان مرددا في نظرنا في جملة امور ، فانّه يجب علينا ان نأتي بكل تلك الامور حتى نعلم باتياننا بالحكم الواقعي .

ص: 132

وبقاء ذلك الحكم الى حصول تلك الاشياء .

ولا يكفي الاتيانُ بواحد منها في سقوط التكليف وكذا حصول شيء واحد من الاشياء في ارتفاع الحكم المعيّن - الى ان قال : - وأمّا اذا لم يكن كذلك ، بل ورد نصٌّ - مثلاً - على أنّ الواجب الشيء الفلاني ، ونصٌّ آخر على أنّ هذا الواجب شيء آخر ، أو ذهب بعضُ الأمّة الى وجوب شيء

-------------------

( و ) كذا في صورة ارادة الشارع غاية معيّنة ، فانّه يجب علينا ( بقاء ذلك الحكم ) الذي هو الصوم فيالمثال ( الى حصول تلك الاشياء ) التي يكون الواقع مردّدا بينها كالاستتار ، وزوال الحمرة .

هذا ( ولا يكفي الاتيانُ بواحد منها ) اي : من تلك الاشياء بأن يأتي بالظهر في مقابل الجمعة ، أو يأتي بالجمعة في مقابل الظهر في يوم الجمعة ( في سقوط التكليف ) عنا .

( وكذا ) لا يكفي ( حصول شيء واحد من الاشياء ) التي ترددت الغاية بينها بأن يتمّ الصوم الى الاستتار مثلاً ، فانّ ذلك لا يكفي ( في ارتفاع الحكم المعيّن ) لما عرفت : من انّ الشارع يريد الواقع ، سواء بين فردين : كالظهر والجمعة ، أم بين غايتين : كالاستتار والحمرة ، فانّه لا يكون لنا مُؤمِّن اذا لم نعمل بالجميع .

( الى ان قال ) المحقق الخوانساري : ( وأمّا اذا لم يكن كذلك ) اي : بأن لم يكن من باب الشبهة الموضوعية ولا من باب قيام الدليل على وجوب المُجمل غير المشروط بالعلم ( بل ورد نصٌّ - مثلاً - على انّ الواجب : الشيء الفلاني ) كصلاة الظهر في يوم الجمعة ( ونصٌّ آخرُ على انّ هذا الواجب شيء آخر ) كصلاة الجمعة في يوم الجمعة .

( أو ذهب بعضُ الأمّة الى وجوب شيء ) كإطعام عشرة مساكين في كفارة

ص: 133

وبعضٌ آخر الى وجوب شيء آخر دونه ، وظهر بالنّص والاجماع في الصّورتين : ترك ذينك الشيئين معا سببٌ لاستحقاق العقاب ، فحينئذٍ لم يظهر وجوبُ الاتيان بهما في تحقق الامتثال ، بل الظاهرُ الاكتفاء بواحد منهما ، سواء اشتركا في أمر أو تباينا بالكلّية ، وكذا الكلام في ثبوت الحكم إلى غاية معيّنة » ، انتهى كلامه رفع مقامه .

-------------------

اليمين ( وبعضٌ آخر الى وجوب شيء آخر دونه ) اي : غير الشيء الأوّل كتحرير رقبة ( وظهر بالنّص والاجماع في الصّورتين : ترك ذينك الشيئين معا سببٌ لاستحقاق العقاب ) أو قام بذلك الضرورة ( فحينئذٍ لم يظهر وجوبُ الاتيان بهما في تحقق الامتثال ) .

وانّما لم يظهر وجوب الاتيان بهما في صدق الامتثال وتحققه ، لما عرفت : من انّ التكليف في المجُمل قبيحُ ، فلا يجب الاتيان بكلا الشيئين : كالظهر والجمعة ، واطعام عشرة مساكين وتحرير رقبة مؤمنة .

( بل الظاهر : ) من جهة انّ المكلّف به شيء واحد ، منضما الى انّه لا يجب امتثال كليهما هو : ( الاكتفاء بواحد منهما ) إمّا تخييرا ابتدائيا ، وإمّا تخييرا استمراريا ( سواء اشتركا في أمر ) جامع بينهما كالصلاة الجامعة بين الظهر والجمعة ( أو تباينا بالكلّية ) كالاطعام والتحرير حيث لا جامع قريب يجمع بينهم ، فهما من المتباينين .

( وكذا الكلام في ثبوت الحكم إلى غاية معيّنة » (1) ) في الواقع مردّدة عندنا ، كما مثّلنا له سابقا بالغروب والمغرب بالنسبة الى الصيام ( انتهى كلامه رفع مقامه )

ص: 134


1- - مشارق الشموس في شرح الدروس : ص77 .

وأنت خبير بما في هذه الكلمات من النظر .

أمّا ما ذكره الفاضل القمي - من حديث التكليف بالمجمل ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة - فلا دخل له في المقام ، إذ لا إجمال في الخطاب أصلاً وإنّما طرءَ الاشتباه في المكلّف به من جهة تردّد ذلك الخطاب المبيّن بين أمرين ، وإزالة هذا التردّد العارض من جهة أسباب اختفاء الأحكام غير واجبة على الحكيم تعالى ، حتى يقبح تأخيره عن وقت الحاجة ،

-------------------

وقد ظهر من كلام المحقّق الخوانساري هذا : انّ الكلام المتقدّم للفاضل القمي كان مأخوذا منه .

هذا ( وانت خبير بما في هذه الكلمات ) لكلا المحقّقين ( من النظر ) والتأمل :

( أمّا ما ذكره الفاضل القمي : من حديث التكليف بالمجمل ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ، فلا دخل له في المقام ) أي : في مسألة تردّد الواجب لفقد النص ( إذ لا إجمال في الخطاب أصلاً ) من جهة الشارع .

وإنّما لا إجمال من جهته ، لانّ الشارع قال : صلّ الجمعة ، أو قال : صلّ الظهر ، وأيّا منهما قاله فهو مبيّن واضح ( وإنّما طرءَ الاشتباه في المكلّف به من جهة تردّد ذلك الخطاب المبيّن ) واقعا ( بين أمرين ) وذلك لفقد النص .

( و ) من المعلوم : ان ( إزالة هذا التردّد العارض من جهة أسباب اختفاء الأحكام ) مثل سبب عدم ضبط الرواة سهوهم ، أو ضياع المصادر واحراقها من قبل حكام الجور ، أو ما أشبه ذلك ، فان ازالتها ( غير واجبة على الحكيم تعالى ، حتى يقبح تأخيره عن وقت الحاجة ) .

كما انه ليس هو السبب في اختفائها ، لانّه تعالى خلق الانسان ومنحه حرية الاختيار للاختبار وجعل الكون دار أسباب لتكون ساحة للعمل ، فمن أخذ

ص: 135

بل يجب عند هذا الاختفاء الرجوعُ الى ما قرّره الشارع كلّية في الوقائع المختفية ، وإلاّ فما يقتضيه العقلُ من البرائة والاحتياط ،

-------------------

بالأسباب وعمل تقدّم ، ومن ترك الأسباب واتّكل على الأمل ، تأخر ، والمسلمون حيث انقلبوا على اعقابهم بعد الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ولم يتبعوا أهل بيته عليهم السلام ، وثب المنافقون على الخلافة فحرّفوا وبدّلوا ، حتى اختفت الاحكام بسبب المسلمين انفسهم .

وعليه : ففي هذه الصورة لا يجب البيان عليه سبحانه وتعالى حتى يقال : انّه من تأخير البيان عن وقت الحاجة ليكون قبيحا ، فانّ القبيح هو التكليف بالمجُمل اجمالاً مطلقا ، وامّا التكليف بالمجمل اجمالاً مردّدا بين شيئين فليس بقبيح ، كما انّه ليس هذا المقام من التكليف بالمجُمل ، وانّما التكليف بالمبيّن وقد صار مجُملاً بسبب الامور الخارجية .

إذن : فليس الاختقاء بسببه حتى يجب عليه بيانه ، فلا يصح القول : بانه حيث لا بيان فالمرجع البرائة (بل يجب عند هذا الاختفاء) العرضي بسبب الناس ( الرجوعُ الى ما قرّره الشارع كلّية في الوقائع المختفية ) فانّ للشارع في مثل هذه الوقائع التي اختفت بسبب الناس قواعد كلية ، كقاعدة البرائة والاحتياط ، فيجب الرجوع اليها .

( وإلاّ ) بأن فرض عدم وجود احكام كلية للشارع في مثل هذه الوقائع المختفية، وفرض احالة الناس الى عقولهم ( ف ) اللازم حينئذٍ ان نرجع الى ( ما يقتضيه العقلُ من البرائة والاحتياط ) العقليين ، فان استقل العقل بعدم تنجّز التكليف الاّ مع العلم التفصيلي ، كان المرجع البرائة ، وان استقل العقل بأن التكليف لايحتاج الى العلم التفصيلي ، بل يكفي فيه العلم الاجمالي ، فاللازم

ص: 136

ونحن ندّعي أنّ العقل حاكم بعد العلم بالوجوب والشّك في الواجب ، وعدم الدليل من الشارع على الأخذ بأحد الاحتمالين المعيّن أو المخيّر والاكتفاء به من الواقع بوجوب الاحتياط حذرا من ترك الواجب الواقعي ، وأين ذلك من مسألة التكليف بالمُجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة ؟

-------------------

العمل بالاحتياط .

هذا ( ونحن ندّعي : انّ العقل حاكم بعد العلم بالوجوب والشّك في الواجب ) أي : بأن كان التكليف واضحا وكان الشك في المكلّف به ( و ) بعد ( عدم الدليل من الشارع على الأخذ بأحد الاحتمالين المعيّن ) كما في موارد الاستصحاب ( أو المخيّر ) كما في موارد تعارض الخبرين أو الفتويين ( والاكتفاء به ) اي : بذلك المعيّن أو المخيّر بدلاً ( من الواقع ) فانّه بعد عدم هذه الامور يحكم العقل ( بوجوب الاحتياط ) في الجمع بين الأمرين .

وانّما يحكم العقل بوجوب الاحتياط ( حذرا من ترك الواجب الواقعي ) لانّه اذا أخذ بأحدهما احتمل انطباقه على الواقع ، واحتمل عدم انطباقه على الواقع ، فاذا كان غير منطبق على الواقع كان تاركا للواجب مع وصوله اليه في الجملة بين الأطراف المشتبهة .

وعليه : فلأجل رفع احتمال عدم المطابقة يستقل العقل بتنجّز التكليف بالعلم الاجمالي المقتضي لوجوب الاحتياط على ما عرفت ، ولا دليل شرعا أو عقلاً على كفاية أحدهما مخيّرا أو معيّنا .

( وأين ذلك ) الذي ذكرناه : من انّ الاجمال حدث بسبب الناس لا بسبب الشارع ( من مسألة التكليف بالمُجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة ؟ ) وعلى ماذكره المحقق القمي ، فانّ التكليف بالمجمل معناه : انّ الشارع أجمل في كلامه ،

ص: 137

مع أنّ التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت العمل ، لا دليل على قبحه ، اذا تمكّن المكلّف من إلاطاعة ولو بالاحتياط .

وأمّا ما ذكره تبعا للمحقق المذكور : « من تسليم وجوب الاحتياط إذا قام الدليلُ على وجوب شيء معيّن في الواقع

-------------------

وليس معناه : انّ الشارع بيّن كلامه وانّما حدث الاجمال بسبب الامور الخارجية .

هذا ( مع انّ التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت العمل ، لا دليل على قبحه اذا تمكّن المكلّف من إلاطاعة و لو بالاحتياط ) لانّه من الممكن أن تكون المصلحة في التكليف بالمجُمل ، فيكون المكلّف حينئذٍ مأمورا بالاحتياط ، كما إذا قال المولى : صلّ يوم الجمعة ولم يبين ان مراده من الصلاة أو الجمعة ؟ فيلزم على المكلّف حينئذٍ الاحتياط بالاتيان بهما معا .

نعم ، التكليف بالمجُمل من كل وجه كأن يقول المولى : ائتني بشيء والشيء يحتمل عشرات الآلاف من الاحتمالات ، قبيح بالنسبة الى المولى الحكيم ، بل ربّما لا يقبح هذا أيضا إذا علم المولى انّ المكلّف يفهم منه شيئا خاصا ، وان ذلك الشيء الخاص الذي يفهمه المكلّف لم يكن خلاف غرض المولى ، كما ورد من كتابة الإمام عليه السلام لاصحابه « جيم » فَفَهِمَ واحد منهم : الجنون ، وثانيهم : الذهاب الى الجبال ، وثالثهم : جلاء الوطن ، وغير ذلك .

هذا تمام الكلام في الاشكال الأوّل على المحقق القمي ، ثم شرع المصنِّف في الاشكال الثاني عليه بقوله : ( وأمّا ما ذكره تبعا للمحقق المذكور ) الخوانساري رحمه اللّه ( « من تسليم وجوب الاحتياط إذا قام الدليلُ على وجوب شيء معيّن في الواقع

ص: 138

غير مشروط بالعلم به » .

ففيه : أنّه اذا كان التكليف بالشيء قابلاً لأن يقع مشروطا بالعلم ، ولأن يقع منجّزا غير مشروط بالعلم بالشيء ، كان ذلك اعترافا بعدم قبح التكليف بالشي المعيّن المجهول ، فلا يكون العلم شرطا عقليّا .

-------------------

غير مشروط بالعلم به » ) علما تفصيليا ( ففيه ) كما قال :

( انّه اذا كان التكليف بالشيء ) المعيّن واقعا ، المجهول عند المكلّف ( قابلاً لأن يقع مشروطا بالعلم ولأن يقع منجّزا غير مشروط بالعلم بالشيء ) كأن يوجب المولى القرائة في الصلاة غير مشروط بالعلم بها ، ويوجب الجهر في القرائة في الصلاة الجهرية مشروطا بالعلم به - مثلاً - ( كان ذلك ) الاعتراف منهما بكون التكليف قابلاً للاشتراط بالعلم و عدمه ( اعترافا بعدم قبح التكليف بالشي المعيّن ) في الواقع ( المجهول ) عند المكلّف ، واعترافا بوجوب الاحتياط في هذه الصورة والاتيان بجميع الاطراف المشتبة .

وعليه : ( فلا يكون العلم ) التفصيلي باعترافهما ( شرطا عقليّا ) لتنجز التكليف ، فكيف ذهبا مع ذلك الى قبح التكليف بالمجمل ؟ .

والحاصل : انّ العَلَمين قالا أولاً : بأن التكليف بالمجمل قبيح ، ثم اعترافا بعد ذلك بامكان التكليف بالمجمل ، وقالا بانّه إذا كلّف المولى بالمجمل وجبَ على العبد الاحتياط ، ومن المعلوم : انّ كلامهم الثاني هذا يناقض كلامهما الاوّل .

لايقال : انّ كلامهما الثاني إنّما هو تخصيص لكلامهما الأوّل .

لانّه يقال : اذا كان التكليف بالمجمل قبيح عقلاً ، فهو غير قابل للتخصيص ، لانّ القضايا العقلية لا تخصيص فيها - كما قرّر في محله - .

هذا هو الاشكال الثاني على المحقق القمي والخوانساري ، ثم شرع المصنّف

ص: 139

وأمّا اشتراط التكليف به شرعا فهو غير معقول بالنسبة الى الخطاب الواقعي ، فان الخطاب الواقعي في يوم الجمعة ، سواء فرض قوله : « صلّ الظهر » أم فرض قوله : « صلّ الجمعة » لا يعقل أن يشترط بالعلم بهذا الحكم التفصيلي .

نعم ، بعد اختفاء هذا الخطاب المطلق يصح ان يَرِدَ

-------------------

في الاشكال الثالث بقوله :

( وأمّا اشتراط التكليف به ) اي : بالعلم ( شرعا ) بأن يكون الشارع حكم بحكم مشروط بالعلم به ( فهو غير معقول بالنسبة الى الخطاب الواقعي ) لانّه مستلزم للدور ، فاذا قال المولى : تجب الصلاة مشروطا بالعلم بها استلزم الدور ، لأنّ العلم بالوجوب لايكون الاّ بعد الوجوب ، والوجوب لا يكون الاّ بعد الموضوع ، فاذا أخذ العلم في الموضوع لزم توقف العلم على العلم كما قال .

( فان الخطاب الواقعي في يوم الجمعة سواء فرض قوله : « صلّ الظهر » ، أم فرض قوله « صلّ الجمعة » ، لا يعقل ان يشترط بالعلم بهذا الحكم التفصيلي ) أي: علما تفصيليا.

هذا ، ولكن يمكن أن يكون التقييد بالعلم بواسطة خطاب ثان ، كما قرّروه في نتيجة الاطلاق ، أو نتيجة التقييد .

إذن : فما ورد بالنسبة الى مثل الجهر والاخفات ، والقصر والاتمام ، وجملة من مسائل الحج وما سيذكره المصنِّف بقوله : « نعم » هو صغرى من صغريات ماذكرناه : من امكان التقييد بالعلم بخطاب ثان ، لا ان أمر التقييد منحصر فيما ذكره: من اختفاء الخطاب الأوّل فيأتي الخطاب الثاني بالاطلاق أو بالتقييد كما قال :

( نعم ، بعد اختفاء هذا الخطاب المطلق ) الذي لم يشترط بالعلم ( يصح ان يَرِدَ

ص: 140

خطاب مطلق ، كقوله : « اعمل بذلك الخطاب ولو كان عندك مجهولاً ، وائت بما فيه ولو كان غير معلوم » كما يصحّ أن يرد خطاب مشروط وأنّه : لا يجب عليك ما اختفى عليك من التكليف في يوم الجمعة ، وأنّ وجوب امتثاله عليك مشروط بعلمك به تفصيلاً . ومرجع الأوّل الى الأمر بالاحتياط ،

-------------------

خطاب ) آخر يقول بتقييد الخطاب الاوّل ، وذلك بأن يقول في الخطاب الثاني : ائت بالخطاب الاوّل اذا علمت .

أو يرد خطاب آخر ( مطلق ) يقول باطلاق الخطاب الاول ، وذلك بأن يقول في الخطاب الثاني ائت به سواء علمت ام لم تعلم ، ومعنى ائت به سواء علمت أم لم تعلم : انّه يجب عليك الاحتياط ( كقوله : « اعمل بذلك الخطاب ولو كان عندك مجهولاً وائت بما فيه ) أي : بما في ذلك الخطاب ( ولو كان غير معلوم » ) عندك ومعناه : انّه يجب عليك الاحتياط إذا لم تعلم بالخصوصية والتعيين .

( كما يصحّ ان يرد خطاب مشروط ) اي : خطاب دال على شرطية العلم التفصيلي في التنجيز ( و ) ذلك بأن يقول المولى في خطابه الثاني : ( انّه لا يجب عليك ما اختفى عليك من التكليف في يوم الجمعة ، وانّ وجوب امتثاله ) أي : التكليف الأوّل ( عليك مشروط بعلمك به تفصيلاً ) اي : انّه اذا لم تعلم بانّ التكليف يوم الجمعة هو الجمعة أو الظهر تفصيلاً ، فلا يجب عليك شيء من الصلاة اطلاقا .

( ومرجع الأوّل : ) وهو ما ذكره بقوله : « اعمل بذلك الخطاب ولو كان عندك مجهولاً » ( الى الأمر بالاحتياط ) كما هو واضح ، لانّه اذا كان عند مجهولاً لم يتمكن أن يأتي بعينه وانّما يتمكن ان يحتاط بالاتيان بجميع الاطراف .

ص: 141

ومرجع الثاني الى البرائة عن الكلّ إن أفاد نفي وجوب الواقع رأسا ، المستلزم لجواز المخالفة القطعية ، والى نفي ما علم إجمالاً لوجوبه وإن أفاد نفي وجوب القطع باتيانه ، وكفاية إتيان بعض ما يحتمله ، فمرجعه الى جعل البدل للواقع والبرائة عن إتيان الواقع على ما هو عليه .

-------------------

( ومرجع الثاني ) : وهو ما ذكره بقوله : « كما يصح ان يرد خطاب مشروط وانّه لايجب عليك ما اختفى عليك » ( الى البرائة عن الكلّ ) وعدم وجوب صلاة عليه لا الجمعة ولا الظهر إذا لم يعلم بالتكليف تفصيلاً .

وإنّما يكون مرجع الثاني الى البرائة ( ان أفاد ) الخطاب الثاني ( نفي وجوب الواقع رأسا ، المستلزم ) هذا النفي ( لجواز المخالفة القطعية، و ) مرجعه ( الى نفي ما علم اجمالاً لوجوبه ) فاللام متعلق ب- « نفي » و « ما علم اجمالاً » جملة معترضة ، فيكون معناه : « ومرجع الثاني بعبارة اخرى : الى نفي لوجوب ما علم به اجمالاً ، لأن الوجوب مشروط بالعلم التفصيلي ، والمفروض : انه لا علم تفصيلي له بالوجوب » .

( وان أفاد ) الخطاب الثاني ( نفي وجوب ) تحصيل ( القطع باتيانه ، وكفاية إتيان بعض ما يحتمله ، فمرجعه ) اي : مرجع هذا الخطاب الثاني ( الى جعل البدل للواقع والبرائة عن إتيان الواقع على ما هو عليه ) فيكتفي باتيان احد المحتملين معيّنا أو مخيّرا بينهما استمرارا أو ابتداءا على ما عرفت .

و الحاصل : ان الخطاب الثاني يكون على احد وجوه ثلاثة :

الاوّل : ان يقول المولى في خطابه الثاني : يجب عليك الاتيان بذلك المجُمل ، ونتيجه هذا الخطاب : الاحتياط التام .

الثاني : ان يقول في خطابه الثاني : ان التكليف مشروط بالعلم التفصيلي ،

ص: 142

لكن دليل البرائة على الوجه الاوّل ينافي العلم الاجمالي المعتبر بنفس أدلّة البرائة ، المغيّاة بالعلم ، وعلى الوجه الثاني غير موجود ،

-------------------

ونتيجة هذا الخطاب انّه لا يجب عليه شيء إطلاقا ، لفرض انّه لا علم تفصيلي بالتكليف الواقعي .

الثالث : ان يقول في خطابه الثاني ائت بأحد المحتملين ، والنتيجة حينئذٍ : أمر بين الأوّل والثاني وهو : وجوب الموافقة الاحتمالية ، فلا يجب الموافقة القطعية ، ولا يجوز ترك الأمرين لانّه مخالفة قطعية .

( لكن دليل البرائة على الوجه الأوّل ) اي : البرائة عن الكل ( ينافي العلم الاجمالي المعتبر بنفس أدلّة البرائة ، المغيّاة بالعلم ) وقوله : « بنفس » متعلق « بالمعتبر » ، فانّ جميع أدلة البرائة مغيّاة بالعلم مثل : « كُلّ شيء مُطلقٌ حَتّى يَردَ فيهِ نَهيٌ » (1) و « كَلّ شَيء حَلالٌ حَتّى تَعلَم انّهُ حَرامٌ » (2) و « كَلّ شَيء طَاهرٌ حَتّى تَعلَم انّهُ قَذِرٌ » (3) وما اشبه ذلك ، وظاهر الغاية هو : العلم الأعم من التفصيلي والاجمالي .

( و ) ايضا دليل البرائة ( على الوجه الثاني ) : وهو ما ذكره بقوله : « كفاية اتيان بعض ما يحتمله » ( غير موجود ) إذ ليس في أدلة البرائة ما يدل على بدلية

ص: 143


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
3- - مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح5318 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، المقنع : ص5 .

فيلزمُ من هذين الأمرين أعني وجوب مراعاة العلم الاجمالي ، وعدم وجود دليل على قيام أحد المحتملين مقام المعلوم إجمالاً أن يحكم العقل بوجوب الاحتياط ، إذ لا ثالث لذينك الأمرين ، فلا حاجة الى أمر الشارع بالاحتياط . ووجوب الاتيان بالواقع غيرُ مشروط بالعلم التفصيلي به ، مضافا الى ورود الأمر بالاحتياط في كثير من الموارد .

-------------------

أحدهما معيّنا أو مخيّرا عن الواقع .

وحيث سقط هذان الوجهان ، لم يبق الاّ الوجه الثالث وهو وجوب الاحتياط كما قال ( فيلزمُ من هذين الأمرين أعني : وجوب مراعاة العلم الاجمالي ، وعدم وجود دليل على قيام أحد المحتملين مقام المعلوم إجمالاً ) يلزم منهما ( أن يحكم العقل بوجوب الاحتياط ) باتيان جميع الأطراف ( إذ لا ثالث لذينك الأمرين ) وهما : عدم وجوب شيء اطلاقا ، أو وجوب أحدهما بدلاً عن الواقع .

وعليه : ( فلا حاجة الى أمر الشارع بالاحتياط . ووجوب الاتيان بالواقع غيرُ مشروط بالعلم التفصيلي به ) فانّه بعد خطاب الشارع بالتكليف وحكم العقل والعقلاء باتيان جميع الاطراف ، لانّه الطريق العرفي للامتثال ، لم يبق احتياج الى خطاب ثانٍ من الشارع بوجوب الاتيان بجميع الاطراف .

هذا ( مضافا الى ورود الأمر بالاحتياط في كثير من الموارد ) التي علم فيها التكليف واشتبه المكلّف به .

إذن : فهنا دليلان على الاحتياط : الخطاب الأوّل ، وأوامر الاحتياط ، وقد تقدَّم جملة من الموارد التي أمر الشارع فيها بالاحتياط مثل : «يُهرِيقُهُما وَ يَتَيمَّم » (1)

ص: 144


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص229 ب10 ح45 ، الاستبصار : ج1 ص21 ب10 ح3 .

وأمّا ما ذكره « من استلزم ذلك الفرض أعني تنجّز التكليف بالأمر المردّد من دون اشتراط بالعلم به لاسقاط قصد التعيين في الطاعة » .

ففيه : أنّ سقوط قصد التّعيين انّما حصل بمجرّد التردّد والاجمال في الواجب ،

-------------------

ورواية عبد الرّحمان (1) في جزاء الصيد وغيرهما ممّا لا حاجة الى تكرارها .

ثم ان المصنِّف حيث انتهى من الاشكال الثالث على المحقق القميّ شرع في بيان الاشكال الرابع بقوله :

( وامّا ما ذكره ) المحقق القمي ( « من استلزم ذلك الفرض أعني : تنجّز التكليف بالأمر المردّد من دون اشتراط بالعلم به ) اي : انّ التكليف بالأمر المردد منجّز على هذا الشخص وان لم يعلم به تفصيلاً ، وتنجّزه عليه مستلزم ( لاسقاط قصد التعيين في الطاعة » ) فانّ المحقق القمي ذكر في كلامه : انّه لو دلّ الاجماع أو النص على وجوب شيء معيّن مجهول ، من دون اشتراط العلم التفصيلي في تنجّزه وجب الاحتياط ، فيسقط قصد التعيين المعتبر في العبادة ، وكلامه هذا ظاهر في انّ سقوط قصد التعيين متفرِّع على تنجّز التكليف فاعترض عليه المصنِّف بقوله :

( ففيه : انّ سقوط قصد التّعيين انّما حصل بمجرّد التّردّد والاجمال في الواجب ) أي : ان سقوط قصد التعيين متفرِّع على مجرد الشك ، بلا حاجة الى تنجزّ التكليف لسقوطه فانه بمجرد ما يشك الانسان في التعيين يسقط قصد

ص: 145


1- - راجع الكافي فروع : ج4 ص391 ح1 ، تهذيب الاحكام : ج5 ص466 ب16 ح277 ، وسائل الشيعة : ج13 ص46 ب18 ح17201 وفيه (عن علي عليه السلام) و ج27 ص154 ب12 ح33464 .

سواء قلنا بالبرائة أو الاحتياط ، وليس لازما لتنجّز التكليف بالواقع وعدم اشتراطه بالعلم .

فان قلت : إذا سقط قصد التعيين لعدم التمكّن فبايّهما ينوي الوجوب والقربة ؟ .

-------------------

التعيين ، لانّ اعتبار التعيين في العبادة لو سُلم - كما ذكره جملة من العلماء - إنّما هو في صورة التمكن من التعيين ، وحيث لا يتمكن منه فانّه يسقط سواءً تنجز التكليف ام كان مجرّد الشك ، و ( سواء قلنا بالبرائة أو الاحتياط ) .

وعليه : فانّ هناك فرقا بين أن نقول : حيث تنجز التكليف سقط قصد التعيين ، وبين ان نقول حيث ترددنا في التكليف فقط على التردد في التكليف ( وليس ) سقوط قصد التعيين ( لازما ) ومتفرّعا ( لتنجّز التكليف بالواقع وعدم اشتراطه ) اي : عدم اشتراط التنجز ( بالعلم ) كما ذكره المحقق القمي رحمه اللّه .

و الحاصل من الاشكال الرابع هو : انّ سقوط قصد التعيين انّما حصل بمجرد التردد والاجمال في الواجب ، سواء قلنا فيه بالاحتياط ام قلنا فيه بالبرائة ، وليس هذا السقوط

لازما لتنجز التكليف بالواقع وعدم اشتراطه بالعلم ، كما قاله المحقق المذكور .

ثم انّ المصنّف لما فرغ من الاشكالات الاربعة على المحققين : الخوانساري والقمي ، شرع في اشكال ربّما يورد على المصنِّف حيث اختار الاحتياط في العبادة والاشكال هو : ان الاحتياط يُنافي قصد الوجه والتمييز ، فكيف تقولون بالاحتياط مع انّه مفوّت لقصد الوجه والتمييز المعتبر في العبادة ؟ قال :

( فان قلت : إذا سقط قصد التعيين لعدم التمكّن ) من قصد التعيين في باب الاحتياط ( فبايّهما ) أي : بأي من المشتبهين ( ينوي الوجوب والقربة ؟ ) فاذا تردّد الأمرين بين صلاة الظهر وصلاة الجمعة هل ينوي الوجوب والقربة بصلاة الظهر

ص: 146

قلت : له في ذلك طريقان :

أحدُهما : أن ينوي بكلّ منهما الوجوب والقربة ، لكونه بحكم العقل مأمورا بالاتيان بكل منهما .

وثانيهما : أن ينوي بكلّ منهما حصول الواجب به أو بصاحبه تقرّبا الى اللّه تعالى ، فيفعل كلاً منهما ،

-------------------

أو بصلاة الجمعة ؟ .

( قلت : له في ذلك ) اي : في تحصيل قصد الوجه والتمييز ( طريقان ) على النحو التالي :

( احدُهما : أن ينوي بكلّ منهما ) اي : بكل من صلاتي الظهر والجمعة - مثلاً - ( الوجوب والقربة ، لكونه ) اي : لكون المكلّف ( بحكم العقل ) والشرع ( مأمورا بالاتيان بكل منهما ) امّا بحكم العقل : فمن باب المقدمة العلمية ، فإنّ به احراز الواجب الواقعي حسب ما يأمر به العقل .

وأمّا بحكم الشرع فمن أجل قوله عليه السلام : «احتَط لِدينك » (1) فان به احراز الواجب الواقعي حسب ما يأمر به الشرع .

وعليه : فينوي الصلاة الظهر الوجوب والقربة ، كما ينوي لصلاة الجمعة الوجوب والقربة ايضا .

( وثانيهما : أن ينوي بكلّ منهما حصول الواجب ) الواقعي ( به أو بصاحبه ) اي: بالظهر أو بالجمعة ( تقرّبا الى اللّه تعالى ، فيفعل كلاً منهما ) بهذه النية بمعنى :

ص: 147


1- - الأمالي للطوسي : ص110 ح168 ، الأمالي للمفيد : ص283 المجلس الثالث والثلاثون ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

حصول الواجب الواقعي وتحصيله لوجوبه والتقرّب به الى اللّه تعالى ، فيقصد : أنّي أُصلّي الظهر ، لاجل تحقّق الفريضة الواقعية به ، أو بالجمعة التي أفعل بعدها أو فعلتُ قبلها قربة إلى اللّه ، وملخّصُ ذلك أنّي اُصلّي الظهر احتياطا قربة الى اللّه ، وهذا الوجه هو الذي ينبغي أن يقصد .

ولا يَردُ عليه أنّ المعتبر في العبادة قصدُ التقرّب والتعبّد بها بالخصوص ، ولا ريب أنّ كلاً

-------------------

انه ينوي حصول الواجب بهذا العمل أو بالعمل الآخر ( فيحصل الواجب الواقعي و ) يتم بذلك ( تحصيله لوجوبه ، والتقرّب به الى اللّه تعالى ) اي : انّ المكلّف يحصل بهذه الصورة على التكليف الواقعي بين الظهر والجمعة ، لانّ التكليف الواقعي واجب ، فيتقرّب به الى اللّه سبحانه .

وعليه : ( فيقصد : انّي أصلي الظهر ، لاجل تحقّق الفريضة الواقعية به ، أو بالجمعة التي أفعل ) تلك الجمعة ( بعدها ) اي : بعد صلاة الظهر ( أو فعلتُ قبلها ) وهذا الذي آتي به وبما بعده أو آتي به وبما قبله انّما يكون ( قربة الى اللّه ) تعالى .

( وملخصُ ذلك ) الذي يلزم أن ينويه هو : ( انّي اصلّي الظّهر احتياطا قربة الى اللّه ) واصلي الجمعة كذلك .

( وهذا الوجه ) أي : الوجه الثاني الذي ذكره المصنّف بقوله : « وثانيهما ان ينوي بكل منهما حصول الواجب » ( هو الذي ينبغي أن يقصد ) حين الاتيان بالصلاتين، لانّ المقصود من وجوبهما هو : احراز اتيان الواجب الواقعي لا الواجب الظاهري الذي كان يقتضيه الوجه الأوّل .

( ولا يَردُ عليه : ) اي : على هذا الوجه الثاني الذي اخترناه : ( انّ المعتبر في العبادة قصدُ التقرّب والتعبّد بها ) اي : بتلك العبادة ( بالخصوص ، ولا ريب انّ كلاً

ص: 148

من الصلاتين عبادةٌ ، فلا معنى لكون الدّاعي في كلّ منهما التقرّب المردّد بين تحققه به أو بصاحبه .

لأنّ القصد المذكور إنّما هو معتبر في العبادات الواقعيّة دون المقدّميّة.

وأمّا الوجه الاوّل ،

-------------------

من الصلاتين عبادةٌ ، فلا معنى لكون الدّاعي في كلّ منهما التقرّب المردّد بين تحققه به ) اي : بهذا الفرض كالظهر ( أو بصاحبه ) كالجمعة في المثال .

إذن : فانّ كُلاً من الصلاتين عبادة موقوفة على قصد الوجه والتقرب بها بخصوصها ، فاتيان الظهر والجمعة بنية تحقق التقرب والوجوب به أو بصاحبه معناه : عدم الاتيان بالواجب المتقرب به بهذا بالخصوص وبذاك بالخصوص .

وانّما لا يرد هذا الاشكال على ما اخترناه من الوجه الثاني ( لانّ القصد المذكور انّما هو معتبر في العبادات الواقعيّة دون المقدّميّة) فانّ العبادة اذا أحرز تعلق الأمر بخصوصها كصلاة المغرب - مثلاً - لزم الاتيان بها بقصد حصول التقرّب بها بالخصوص .

وأمّا اذا احتمل تعلق الأمر بهذه العبادة أو بتلك العبادة كالظهر والجمعة ، كما في موارد الشك والترديد بينهما ، فاللازم الاتيان بينهما بقصد احتمال حصول التقرب ، فيأتي بالظهر والجمعة بقصد حصول التقرب بالظهر أو بالجمعة بالجمعة أو بالظهر ، لانّ النية في هذه الصورة لا تصح الاّ على هذا الوجه .

وعليه : فاذا أراد الشارع من المكلّف الصلاة الواقعية بين الظهر والجمعة ، فلابّد للمكلّف من الاتيان بهما بهذا الوجه الذي ذكرناه ، لانّه لا يتمكن من قصد الوجه والقربة بخصوص هذه وبخصوص تلك .

( وأمّا الوجه الاوّل : ) وهو ما ذكره المصنّف بقوله : « أحدهما أن ينوي بكل

ص: 149

فيرد عليه : أنّ المقصود إحراز الوجه الواقعي ، وهوالوجوب الثابت في أحدهما المعيّن. ولايلزم من نيّة الوجوب المقدميّ قصدُه .

وأيضا فالقربة غير حاصلة بنفس فعل أحدهما

-------------------

منهما الوجوب والقربة » ( فيرد عليه : أنّ المقصود إحراز الوجه الواقعي وهو : الوجوب الثابت في أحدهما المعيّن ) عند اللّه سبحانه ، المجهول عندنا (ولا يلزم) أي : لا يتحقق ( من نيّة الوجوب المقدميّ قصدهُ ) اي : قصد الواجب الواقعي ، وذلك لأنّ هنا وجوبين :

أولاً : وجوب نفسي عبادي متعلّق بأحدهما ، وهذا الوجوب النفسي العبادي لايتأتّى الاّ بالنية التي ذكرناها في الوجه الثاني .

ثانيا : وجوب غيري ارشادي متعلق بكليهما من باب المقدمية والوجوب المقدمي وجوب ظاهري فاتيانهما بقصد خصوص وجوبهما لا يوجب احراز المقصود الذي هو اتيان الواجب الواقعي بقصد وجوبه ، وانّما احراز المقصود ، يكون بقصد الاتيان بالواقع بهذه الصلاة أو تلك الصلاة ، على ما ذكرناه في الوجه الثاني .

( وأيضا ) هنا وجه آخر لعدم صحة الوجه الأوّل وهو : انّ القربة انّما تتحقق لو كانت بداعي الوجوب ، فاذا لم تكن بداعي الوجوب ( فالقربة غير حاصلة بنفس فعل احدهما ) اي : بلا داعي الوجوب ، و هو واضح .

كما ان القربة غير حاصلة لو اتى بفعلهما معا بداعي الوجوب الواقعي ، لانّ المفروض : انّ الواجب الواقعي المردد بينهما ليس اكثر من واجب واحد .

وكذا تكون القربة غير حاصلة لو اتى بفعلهما معا بداعي الوجوب المقدّمي ،

ص: 150

ولو بملاحظة وجوبه الظاهري ، لانّ هذا الوجوب مقدميّ ، ومرجعه الى وجوب تحصيل العلم بفراغ الذمة ، ودفع احتمال ترتب ضرر العقاب بترك بعض منهما ، وهذا الوجوبُ إرشاديّ ، لا تقرّب فيه أصلاً ، نظير أوامر الاطاعة ، فانّ امتثالها لايوجبُ تقرّبا ، وانّما المقرّب نفسُ الاطاعة ، والمقرّب هنا أيضا

-------------------

كما قال : ( ولو بملاحظة وجوبه الظاهري ) المقدّمي ، وذلك ( لانّ هذا الوجوب ) الظاهري هو وجوب ( مقدميّ ، ومرجعه الى وجوب تحصيل العلم بفراغ الذمة ، ودفع احتمال ترتب ضرر العقاب بترك بعض منهما ) اي : من المحتملين .

( وهذا الوجوب ) المقدمي سواء استفيد من العقل الحاكم بالاتيان بأطراف المشتبه ، أم من الشرع القاضي بوجوب الاحتياط ( إرشاديّ ) محض ( لا تقرّب فيه أصلاً ) .

وإنّما لا تقرّب فيه لانه نظير أوامر الاطباء ، و ( نظير أوامر الاطاعة ) حيث قال سبحانه : « اَطيعُوا اللّهَ وأطيعوا الرسول » (1) فانّ اطاعة اللّه والرسول في هذا الأمر ارشادي محض ، لما تقدّم : من انه لو لم يكن ارشاديا لزم ان يكون لكل واجب ثوابان ولكل محرّم عقابان ولم يقل به أحد .

وعليه : ( فانّ امتثالها ) اي : امتثال أوامر الطاعة ( لا يوجبُ تقربا ، وانّما المقرّب نفسُ الاطاعة ) فاذا صلّى صلاة الصبح - مثلاً - تكون نفس الصلاة مقرّبة له الى اللّه، لا انّه حيث أطاع أمر « أطيعوا اللّه والرسول » تكون الاطاعة مقرّبة له .

هذا في أوامر الطاعة ( و ) امّا ما نحن فيه : فانّ ( المقرّب هنا أيضا ) في مورد

ص: 151


1- - سورة النساء : الآية 59 ، سورة المائدة : الآية 92 .

نفس الاطاعة الواقعية المردّدة بين الفعلين ، فافهم ، فانّه لا يخلو عن دقّة .

-------------------

الاحتياط باتيان صلاة الظهر والجمعة معا هو : ( نفس الاطاعة الواقعية المردّدة بين الفعلين ) لا الوجوب الظاهري لكل منهما .

و الحاصل : ان حكم العقل والشرع بوجوب الاتيان بكل من المحتملين لدفع الضرر المحتمل في الترك حكم ارشادي لايوجب إطاعته تقرّبا أصلاً ، بخلاف ايجاب الشارع الاحتياط في المقام ، فانّه يمكن ان يكون على الوجه الشرعي الظاهري المتعلّق بموضوع عدم العلم بالواقع .

وعليه : فيلزم فيما نحن فيه ان يقصد العبد :التقرب بالوجه الذي ذكرناه في ثاني الوجهين ، وهو عبارة عن : قصد الوجه الواقعي من الوجوب الثابت في احدهما المعيّن عند اللّه المجهول عندنا .

( فافهم ، فانّه لا يخلو عن دقّة ) وذلك لأنّ الوجوب اذا كان مولويا فهو ناشٍ عن مصلحة في نفس الفعل ، فان في نفس صلاة الصبح - مثلاً - مصلحة ، فيكون قصدها مقرّبا الى اللّه سبحانه ، وأمّا اذا كان الوجوب ارشاديا فهو لم ينشأ عن مصلحة في نفس الفعل ، بل انّما هو لمجرد الوصول الى الصلاة الواقعية المردّدة بين الظهر والجمعة ، فلا معنى لقصد التقرب بكل من الظهر والجمعة ، لأنّ هنا تقربا واحدا لا تقرّبين .

الى هنا فرغ المصنِّف عن جواب دليلين من أدلة القائلين بعدم وجوب الموافقة القطعية يعني : عدم وجوب الاحتياط ، بل التخيير فيما دار الامر بين المتباينين لفقد النص ، كما في مثال : الظهر والجمعة ، والقصر والاتمام ، والدليلان هما : منع العلّية ، ووجود المانع الشرعي لأخبار البرائة .

وحيث فرغ المصنِّف من الدليلين المذكورين وأجوبتهما ، شرع رحمه اللّه في بيان

ص: 152

وممّا ذكرنا يندفع توهّمُ أنّ الجمع بين المحتملين مستلزمٌ لاتيان غير الواجب على جهة العبادة ، لانّ قصدَ القربة المعتبر في الواجب الواقعيّ لازمُ المراعاة في كلا المحتملين ليقطع باحرازه في الواجب الواقعي .

ومن المعلوم : أنّ الاتيانَ بكل من المحتملين بوصف أنّها عبادة مقرّبة ،

-------------------

دليلهم الثالث والجواب عنه وهو : وجود المانع العقلي عن الاحتياط بمعنى : لزوم التشريع منه ، فقال في الجواب عنه :

( وممّا ذكرنا ) في الوجه الثاني لكيفية النية حيث قلنا : ان احراز الواقع مع قصد الوجه والقربة إنّما يكون هكذا : بأن ينوي بكل منهما حصول الواجب به أو بصاحبه قربة الى اللّه تعالى ، فيكون المقصود هو المعيّن عند اللّه المجهول عندنا ، ولا يتوقف إذن احراز الواقع على قصد الوجه والقربة في هذه مرة وفي تلك اخرى حتى يكون تشريعا محرما .

وعليه : فانه ( يندفع ) بما ذكرناه دليلهم الثالث وهو : ( توهمُ : انّ الجمع بين المحتملين ) باتيان الظهر والجمعة ( مستلزمٌ لاتيان غير الواجب ) اتيانا ( على جهة العبادة ) وهو تشريع محرّم .

وانّما يستلزم الاحتياط توهمهم : اتيان غير الواجب على جهة العبادة ( لأنّ قصدَ القربة المعتبر في الواجب الواقعي لازمُ المراعاة في كلا المحتملين ليقطع باحرازه ) اي : باحراز ذلك القصد ( في الواجب الواقعي ) واحرازه إنّما يتم بأن يأتي بالظهر بقصد القربة ، ويأتي بالجمعة بقصد القربة ، مع انّه يعلم انّ احدهما ليس واجبا ومقربا الى اللّه تعالى فيكون تشريعا .

( ومن المعلوم : انّ الاتيان بكل من المحتملين بوصف انّها عبادة مقرّبة ،

ص: 153

يوجبُ التشريع بالنسبة الى ما عدا الواجب الواقعي فيكون محرَّما ، فالاحتياط غير ممكن في العبادات ، وانّما يمكن في غيرها من جهة أنّ الاتيان بالمحتملين لايعتبر فيهما قصدُ التعيين والتقرّب ، لعدم اعتباره في الواجب المردّد ، فيأتي بكل منهما لاحتمال وجوبه .

ووجهُ اندفاع هذا التوهّم - مضافا الى أنّ غاية ما يلزم من ذلك

-------------------

يوجبُ التشريع بالنسبة الى ما عدا الواجب الواقعي ) فاذا فرضنا انّ صلاة الجمعة هي الواجبة ، فانّه عندما يقصد القربة بصلاة الظهر يكون تشريعا ( فيكون ) هذا القصد ( محرَّما ) .

وعليه: ( فالاحتياط غير ممكن في العبادات ) من جهة التشريع ( وانّما يمكن ) الاحتياط ( في غيرها ) اي : في غير العبادات من التوصّليات كما اذا شك في ان الواجب عليه غَسل هذا الثوب أو غَسل ذاك الثوب فيما إذا اشتبه النجس بين الثوبين وأراد في واحد منهما .

إذن : فالاحتياط انّما يمكن في التوصليات فقط ، وذلك ( من جهة : انّ الاتيان بالمحتملين لايعتبر فيهما قصدُ التعيين والتقرّب ، لعدم اعتباره ) اي : قصد التعيين

والتقرب ( في الواجب الواقعي المردّد ) بين المحتملين التوصليين ، كتطهيرا لنجس بين الثوبين ، فانه يتطهر بالغسل سواء قصد به التطهير أم لا ، بل وحتى اذا أسقطت الريح الثوب في الماء الكُرّ طهر ، لانه توصلي لا يعتبر فيه القصد .

وحيث لم يعتبر قصد القربة في التوصليات ( فيأتي بكل منهما ) اي : من التوصليين ( لاحتمال وجوبه ) بدون قصد قربة أو تعيين .

( و ) أمّا ( وجهُ اندفاع هذا التوهّم ) الذي هو دليلهم الثالث فيتم عبر أمرين :

الأوّل : ما أشار اليه بقوله : ( مضافا الى أنّ غاية ما يلزم من ذلك ) اي : من هذا

ص: 154

عدمُ التمكن من تمام الاحتياط في العبادات ، حتى من حيث مراعاة قصد التقرّب المعتبر في الواجب الواقعي من جهة استلزامه للتشريع المحرّم ، فيدور الأمرُ بين الاقتصار على أحد المحتملين وبين الاتيان بهما مهملاً ، لقصد التقرّب في الكلّ فرارا عن التشريع ، ولا شكّ أنّ الثّاني أولى لوجوب الموافقة القطعيّة بقدر الامكان .

فاذا لم يمكن الموافقة بمراعاة جميع ما يعتبر في الواجب الواقعي

-------------------

التوهم هو : ( عدمُ التمكن من تمام الاحتياط في العبادات ) اي : لا يمكن الاحتياط التام في العبادات احتياطا ( حتى من حيث مراعاة قصد التقرّب المعتبر في الواجب الواقعي ) وعدم التمكن من تمام الاحتياط إنّما هو ( من جهة استلزامه) اي : الاحتياط التام ( للتشريع المحرّم ) على ما ذكره المتوهم .

وعليه : فاذا لم يتمكن من الاحتياط التام ، والمفروض : حرمة المخالفة القطعية ( فيدور الأمر بين الاقتصار على أحد المحتملين ) من الظهر أو الجمعة والاتيان به بقصد احتمال التقرب ، كما هو مذهب القائلين بعدم وجوب الاحتياط ( وبين ) الاحتياط الناقص الذي هو عبارة عن ( الاتيان بهما ، مهملاً لقصد التقرّب في الكلّ) بأن لا يقصد التقرب لا بالظهر ولا بالجمعة ، فيهمل قصد التقرب فيهما (فرارا عن التشريع ) المحرّم .

( ولا شكّ أنّ الثّاني ) و هو : الاتيان بالصلاتين - مثلاً - مهملاً لقصد التقرب في الكلّ ( اولى ) من الاوّل الذي هو عبارة عن الاتيان بأحد الصلاتين .

وانّما كان الثاني أولى ( لوجوب الموافقة القطعيّة بقدر الامكان ، فاذا لم يمكن الموافقة ) القطعية الكاملة الحاصلة ( بمراعاة جميع ما يعتبر في الواجب الواقعي

ص: 155

في كلّ من المحتملين اكتفى بتحقّق ذات الواجب في ضمنهما ، أنّ اعتبار قصد التقربّ والتعبّد في العبادة الواجبة واقعا لايقتضي قصده في كلّ منهما ، كيف وهو غير ممكن ؟ وانّما يقتضي لوجوب قصد التقرّب والتعبّد في الواجب المردّد بينهما

-------------------

في كلّ من المحتملين ) لانه يستلزم التشريع اذا قصد القربة في كل منهما ( اكتفى ) بالموافقة القطعية الناقصة اكتفاءا ( بتحقّق ذات الواجب في ضمنهما ) اي : ضمن الصلاتين ، فانّه باتيانهما يتحقق ذات الواجب قطعا وان نقص قصد التعيين والقربة .

بخلاف ما إذا اكتفى بأحدهما فانّ الاتيان بذات الواجب يكون مشكوكا ، لاحتمال انّه اذا اتى بالظهر أن يكون الواجب في الواقع هو الجمعة ، واذا أتى بالجمعة أن يكون الواجب في الواقع الظهر .

وان شئت قلت : إنّ الآتي بأحدهما لايحرز انه أتى بذات الواجب ، وأما الآتي بهما معا ، فهو يحرز انه أتي بذات الواجب ، ومن المعلوم لدى العقلاء : ان الثاني أولى من الأوّل .

هذا هو الأمر الأوّل في وجه اندفاع التوهم المذكور .

الثاني : ( أنّ اعتبار قصد التقربّ والتعبّد في العبادة الواجبة واقعا ، لا يقتضي قصده في كلّ منهما ) وذلك لانّ المكلّف لا يعلم أن هذه عبادة ، وتلك عبادة حتى يقصد القربة في كل منهما ، ففي هذه الصورة ( كيف ) يقصد في كل منهما التقرب ( وهو غير ممكن ، و ) ذلك لعلمه بأنّ احدهما ليس بمقرِّب ؟.

نعم ، ( انّما يقتضي ) اعتبار قصد التقرّب ( لوجوب قصد التقرّب والتعبّد في الواجب ) الواقعي ( المردّد بينهما ) اي : بين المحتملين كالظهر والجمعة فيأتي

ص: 156

بأن يقصد في كلّ منهما : أنّي أفعله ليتحقق به أو بصاحبه التعبّدُ باتيان الواجب الواقعي .

وهذا الكلام بعينه جارٍ في قصد الوجه المعتبر في الواجب ، فانّه لا يعتبر قصد ذلك الوجه خاصة في خصوص كلّ منهما ، بأن يقصد أنّي اُصلّي الظهر لوجوبه ، ثم يقصد أنّي أصلّي الجمعة لوجوبها ، بل يقصد أنّي أصلّي الظهر ، لوجوب الأمر الواقعي المردّد بينه وبين الجمعة التي اُصلّيها بعد ذلك أو صلّيتها قبل ذلك .

-------------------

بهما معا بالطريقة التي ذكرناها سابقا ، وذلك ( بأن يقصد في كلّ منهما : انّي أفعله ليتحقق به أو بصاحبه ) من المشتبه الآخر التقرب و ( التعبّد باتيان الواجب الواقعي ) منهما ، وبذلك يكن قد قصد التقرّب بما هو واجب واقعا .

هذا تمام الكلام في التقرب .

( و ) أمّا قصد الوجه في العبادة من الوجوب أو الاستصحاب : فإنّ ( هذا الكلام بعينه ) سؤالاً وجوابا ( جارٍ في قصد الوجه المعتبر في الواجب ) الواقعي أيضا ، وذلك لان قصد التقرب وقصد الوجه مساقهما واحد من هذه الجهة ( فانّه لا يعتبر قصد ذلك الوجه خاصة ) كالوجوب ( في خصوص كلّ منهما ) أي : كل من الظهر والجمعة - مثلاً - .

وعليه : فاعتبار قصد الوجه لا يقتضي ( بأن يقصد : انّي اُصلّي الظهر لوجوبه ، ثم يقصد : انّي اُصلّي الجمعة لوجوبها ) فانّهما ليسا واجبين حتى يقصد الوجوب في كل واحد منهما ( بل يقصد : انّي اُصلّي الظهر ؛ لوجوب الأمر الواقعي المردّد بينه وبين الجمعة التي اُصلّيها بعد ذلك أو صلّيتها قبل ذلك ) وبهذا يحصل الاحتياط التام باتيان كلا المشتبهين مع قصد القربة وقصد الوجه .

ص: 157

والحاصل : أنّ نيّة الفعل هو قصده على الصّفة التي هو عليها ، التّي هو باعتبارها صار واجبا ، فلابدّ من ملاحظة ذلك في كلّ من المحتملين ، فإذا لاحظنا ذلك فيه وجدنا الصفة - التّي هو عليها الموجبة للحكم بوجوبه - هو احتمال تحقق الواجب المتعبّد به والمتقرّب به الى اللّه تعالى في ضمنه ، فيقصد هذا المعنى ،

-------------------

( والحاصل : ) انّ قصد التقرّب ، وكذلك قصد الوجه ، في العبادة المردّدة بين الظهر والجمعة ، لايتوقفان على اتيان كل من المحتملين : الظهر والجمعة ، بوصف كون كل منهما عبادة مقرّبة واجبة ، بل يكفي في ذلك مجرد الاتيان بكل منهما برجاء انّه الواقع المتقرب به لانّه الواجب اذ ليس المراد به الاّ اتيان الفعل بداعي الأمر وبداعي وجوبه ، وهو موجود هنا ، لانّ الأمر بالواجب الواقعي صار سببا لاتيانهما برجاء انّه الواقع ، من غير فرق في ذلك بين قصد الوجه وقصد القربة ،ذلك كما قال :

( انّ نيّة الفعل هو : قصده على الصّفة التي هو عليها ) من الوجوب ، وكونه مقربا ، وغير ذلك من الصفات ( التّي هو ) أي : ذلك الفعل ( باعتبارها ) اي : باعتبار تلك الصفة ( صار واجبا ) .

وعليه : ( فلابدّ من ملاحظة ذلك ) الوصف ( في كلّ من المحتملين ) كالظهر والجمعة ( فإذا لاحظنا ذلك فيه ) اي : في كل من المحتملين ( وجدنا الصفة - التّي هو عليها الموجبة للحكم بوجوبه - هو : احتمال تحقق الواجب المتعبّد به والمتقرّب به الى اللّه تعالى في ضمنه ، فيقصد هذا المعنى ) أي : كون أحدهما واجبا ، وكون أحدهما يتقرب به ، وبذلك يحصل الاحتياط التام ، فانّ هذه الصفة هي التي سببت الوجوب .

ص: 158

والزائد على هذا المعنى غير موجود فيه ، فلا معنى لقصد التقرّب في كل منهما بخصوصه ، حتى يَرِدَ أنّ التقرّب والتعّبد بما لم يتعبّد به الشارع تشريعٌ محرّمٌ .

نعم ، هذا الايراد متوجّه على ظاهر من اعتبر في كلّ من المحتملين قصد التقرّب والتعبّد به بالخصوص ، لكنّه مبنيّ أيضا على لزوم ذلك من الأمر الظاهري باتيان كلّ منهما ، فيكون كلّ منهما عبادة واجبة في مرحلة الظاهر .

-------------------

( والزائد على هذا المعنى ) بأن يقصد في كل منهما القربة والوجوب ( غير موجود فيه ) اي : في هذا المحتمل ( فلا معنى لقصد التقرّب في كل منهما ) اي : من الظهر ومن الجمعة ( بخصوصه ) فانّه لا يعقل مثل هذا القصد ( حتى يَرِدَ : انّ التقرّب والتعّبد بما لم يتعبّد به الشارع تشريعٌ محرّمٌ ) اذ لا يأتي اشكال التشريع في فرضنا الذي ذكرناه .

وعليه : فيندفع اشكال من اعترض على القائلين بالاحتياط ووجوب الجمع بينهما : بانّه تشريع محرّم .

( نعم ، هذا الايراد ) اي : لزوم التشريع ( متوجه على ظاهر من ) قال بالوجه الأوّل في كيفية النية بأن ( اعتبر في كل من المحتملين قصد التقرّب والتعبّد به بالخصوص ) فقال : انّه يلزم أن يأتي بالظهر بقصد انّه واجب ومتقرب به ، ويأتي بالجمعة بقصد انه واجب ومتقرّب بها ، فانّ أحدهما يكون تشريعا محرّما .

هذا ( لكنّه ) يمكن ان لا يلزم اشكال التشريع حتى على مختار من اعتبر القصد في كل من المحتملين بالخصوص ، و ذلك لانه ( مبنيّ أيضا على لزوم ذلك ) اي : لزوم قصد الوجه والقربة في كل منهما ( من ) جهة ( الأمر الظاهري باتيان كلّ منهما ، فيكون كلّ منهما عبادة واجبة في مرحلة الظاهر ) فانه كما لا يلزم التشريع

ص: 159

كما اذا شك في الوقت أنّه صلّى الظهر أم لا ؟ فانّه يجب عليه فعلها فينوي الوجوب والقربة وان احتمل كونها في الواقع لغوا غير مشروع .

فلا يرد عليه ايرادُ التشريع ، إذ التشريع إنّما يلزم لو قصد بكل منهما ، أنّه الواجبُ واقعا ، المتعبّدُ به في نفس الأمر .

-------------------

على مختارنا ، كذلك لايلزم التشريع على مختاره أيضا .

( كما اذا شك في الوقت : انّه صلّى الظهر أم لا ؟ فانّه يجب عليه فعلها ) اي : فعل الظهر ، لاستصحاب الاشتغال أو لأنّ دليل الوجوب يشمله ولا يعلم بسقوطه، فالاشتغال اليقيني يحتاج الى البرائة اليقينية ( فينوي الوجوب والقربة وان احتمل كونها ) أي : الصلاة ( في الواقع لغوا غير مشروع ) إذا قلنا بأنّ تكرار الصلاة لغو وغير مشروع .

و انّما ينوي الشاك في الصلاة وهو في الوقت الوجوب والقربة ، لانّ الظاهر : انّه المكلّف بالصلاة وان كان لايعلم بالواقع ، وما نحن فيه أيضا كذلك ، فانه يعلم بلزوم الاتيان بهاتين الصلاتين : الظهر والجمعة ، فيأتي بهما بقصد الوجوب والقربة ان كان لا يعلم بالواقع ، بل يحتمل ان يكون واحدا من صلاة الظهر أو صلاة الجمعة لغوا أو غير مشروع .

إذن : ( فلا يرد عليه ) أي : على من يعتبر في كل من المشتبهات : قصد الوجه والتقرب ( ايراد التشريع ) فانه ليس بتشريع ، لأنّ التشريع هو ما لا يكون واجبا لا في مرحلة الواقع ولا في مرحلة الظاهر ، والصلاتان واجبتان في مرحلة الظاهر ، كما قال :

( إذ التشريع انّما يلزم لو قصد بكل منهما ، انّه الواجبُ واقعا ، المتعبّد به في نفس الأمر ) والحال انّه لا ينوي هكذا ،انّما ينوي بكل منهما : انّه الواجب

ص: 160

ولكنّك عرفت أن مقتضى النظر الدقيق خلافُ هذا البناء ، وأنّ الامر المقدّمي خصوصا الموجود في المقدّمة العلميّة التي لا يكون الأمر بها إلاّ ارشاديا ، لا يوجبُ موافقته التقرّب ولا يصير منشئا لصيرورة الشيء من العبادات إذا لم يكن في نفسه منها .

-------------------

في الظاهر والمتعبّد به في الظاهر ، فيكون حال الصلاتين حال سائر ما يجب في الظاهر .

وحيث قال المصنِّف في دفع اشكال التشريع : لكنّه مبنيّ أيضا على لزوم ذلك ، أراد هنا العدول عنّه والاشارة الى ان هذا المبنى غير تام ، فقال :

( ولكنّك عرفت : ) عند قولنا يرد على الوجه الأوّل من كيفية النيّة كذا ( أن مقتضى النظر الدقيق : خلافُ هذا البناء ، وأنّ الأمر المقدّمي ) سواء كان مقدمة الوجود ، أم مقدمة الصحة ، أم مقدمة العلم ( خصوصا ) الأمر ( الموجود في المقدّمة العلميّة التي لا يكون الأمر بها الاّ ارشاديا ) لا دراك الواقع ، والأمر الارشادي ( لا يوجبُ موافقته التقرّب ولا يصير منشئا ) وسببا ( لصيرورة الشيء من العبادات ، اذا لم يكن في نفسه منها ) اي : من العبادات .

وعليه : فالمقدمة قد تكون مقدمة للامر بها بأمر مولوّي عبادي : كالوضوء ، والغسل ، وصلاة الظهر بالنسبة الى صلاة العصر حيث قال عليه السلام : «الاّ ان هذه قبل هذه » (1) فلا شك في صحة قصد التقرب بها ، بل بدون قصد التقرب لا تقع المقدمة وقد تكون المقدمة مقدمة للأمر بها بأمر مولوي غير عبادي مثل : رفع

ص: 161


1- - الكافي فروع : ج3 ص276 ح5 و ص281 ح12 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص27 ب23 ح29 ، الاستبصار: ج1 ص262 ب149 ح2 ، غوالي اللئالي: ج3 ص68 ح17 ، تفسير العياشي : ج2 ص310 ح143 .

وقد تقدّم في مسألة « التسامح في أدلّة السنن » ما يوضح حال الأمر بالاحتياط .

كما أنّه قد استوفينا في بحث « مقدمة الواجب » حال الأمر المقدّمي وعدم صيرورة المقدّمة بسببه عبادة ، وذكرنا ورود الاشكال من هذه الجهة على كون التيمم من العبادات

-------------------

الخبث للصلاة ، أو مقدمة للأمر بها بأمر ارشادي مثل ما نحن فيه ، ففي هاتين الصورتين الأخيرتين لا يوجب موافقة امرهما التقرب ، ولا يصير سببا لصيرورة الشيء من العبادات .

هذا ( وقد تقدّم في مسألة « التسامح في أدلّة السنن » : ما يوضح حال الأمر بالاحتياط ) حيث ذكرنا هناك مفصلاً : بأنّ الأمر بالمقدمة العلمية ليس الاّ للارشاد .

نعم ، لا اشكال في صحة أن يأتي الانسان بكل شيء غير محرّم ولا مكروه بقصد القربة ، ويثاب عليها حينئذٍ ، كما دلّ على ذلك بعض الروايات فيأكل بقصد القربة ، وينام بقصد القربة ، ويتخلّى بقصد القربة ، ويباشر زوجته بقصد القربة ، ويتنزّه بقصد القربة ، وهكذا ، وذلك لقوله عليه السلام : « ان لبدنك عليك حقا» لكن ذلك لا يوجب ان ينوي الانسان التقرّب العبادي مثل : نية الصلاة والصوم في هذه الامور .

( كما انّه قد استوفينا في بحث « مقدمة الواجب » حال الأمر المقدّمي وعدم صيرورة المقدّمة بسببه ) أي : بسبب الأمر المقدّمي ( عبادة ) مقرّبة اليه سبحانه ( وذكرنا ورود الاشكال من هذه الجهة ) اي : من جهة عدم تأثير الأمر المقدّمي في صيرورة المقدمة عبادة مقرّبة ( على كون التيمم من العبادات ) فكيف يكون

ص: 162

على تقدير عدم القول برجحانه في نفسه كالوضوء ، فانّه لا منشأ حينئذٍ لكونه منها إلاّ الأمر المقدّمي به من الشّارع .

-------------------

التيمم وهو أمر مقدّميمن العبادات ( على تقدير عدم القول برجحانه في نفسه كالوضوء ) ؟ .

أمّا إذا قلنا بأنّ التيمم راجح في نفسه ويكون حاله حال الوضوء والغسل ، فيكون من العبادات فلا يرد الاشكال على التيمم .

وأما وجه الاشكال : فهو انّه إذا لم يكن التيمم في نفسه من العبادات ، فوجوبه المقدّمي للصلاة والصوم والطواف وما أشبه لا يكفي من حيث قصد القربة ، فلماذا يشترط الفقهاء فيه قصد القربة .

وعليه : ( فانّه لا منشأ حينئذٍ لكونه ) اي : التيمم ( منها ) اي : من العبادات ( إلاّ الأمر المقدّمي به من الشّارع ) والأمر المقدّمي - كما عرفت - لا يكون منشأ للعبادية .

قال في تحر الفوائد: « لا اشكال في استحقاق الثواب بفعل المقدّمة فيما لو كانت عبادة في نفسها وجعلها الشارع من مقدّمات الواجب ، كما في الطهارة المائية من حيث رجحانها الذاتي لا من حيث اطاعة الأمر الغيري المعلق بها .

و أمّا الطهارة الترابية على القول بعدم كونها عبادة في نفسها بحيث يكون فعلها راجحا ومأمورا به من دون ملاحظة غاية من الغايات ، فيكون نقصا لما ذكرنا: من عدم تأثير امتثال الأمر الغيري في القرب واستحقاق الثواب ، فانّ كونها من العبادات ، وعدم سقوط أمرها الاّ بقصد التقرب من المسلّمات عندهم مع عدم تعلق أمر نفسي بها على هذا القول انحصار أمرها في الأمر الغيري .

هذا، ويمكن التفصّي عن الاشكال المذكور بالتزام رجحان ومصلحة نفسية لها

ص: 163

فان قلت : يمكن اثباتُ الوجوب الشرعيّ المصحّح لنية الوجه والقربة في المحتملين ، لانّ الاوّل منهما واجب بالاجماع ولو فرارا عن المخالفة القطعية ، والثاني واجب بحكم الاستصحاب المُثبت للوجوب الشرعي الظاهري ،

-------------------

لاتبلغ حدّا يؤثر في الأمر بها نفسا ، وانّما هي بمقدار تؤثر في المصلحة الملزمة بالنسبة الى غاياتها وتوجب ارتباطها بها ، كما في الركوع على القول بعدم كونه عبادة في نفسه كالسجود ، فانّ السجود عبادة في نفسه .

أقول : لكن الظاهر : انّ الركوع أيضا عبادة في نفسه لانّه نوع خضوع كالسجود ولهذا كانوا يركعون أمام كبرائهم ممّا ألغاه الاسلام حيث جعل الركوع كالسجود خاصا باللّه سبحانه .

( فان قلت : يمكن اثبات الوجوب الشرعيّ المصحّح لنية الوجه والقربة في المحتملين ) فيأتي بكل من الظهرالجمعة بنية القربة والوجوب ( لانّ الأوّل ) الذي يأتي به ( منهما ) اي : من المحتملين سواء كان ظهرا أم جمعة ( واجب بالاجماع ) فانّه يجب ( ولو فرارا عن المخالفة القطعية ) بمعنى : إنّ الشيء الذي يأتي به أولاً يكون فرارا عن المخالفة القطعية ، والفرار من المخالفة القطعية واجب .

إذن : فالذي يأتي به أولاً واجب على كل حال .

( والثاني ) : اي : المحتمل الذي يأتي به ثانيا من ظهر أو جمعة ، فانه ( واجب بحكم الاستصحاب المثبت للوجوب الشرعي الظاهري ) لانّه قبل الاتيان بالصلاة الاولى كانتا الصلاة واجبة عليه ، فاذا أتى بالاولى لم يعلم بكفاية هذه الصلاة عن الواقع ، فيستصحب بقاء وجوب الصلاة عليه ، فتكون الصلاة الثانية واجبة لمقتضى الاستصحاب ، كما قال :

ص: 164

فان مقتضى الاستصحاب بقاء الاشتغال وعدم الاتيان بالواجب الواقعي وبقاء وجوبه .

قلت : أمّا المحتمل المأتي به أولاً فليس واجبا في الشرع لخصوص كونه ظهرا أو جمعة ، وانّما وجب لاحتمال تحقق الواجب به الموجب للفرار عن المخالفة ، أو للقطع بالموافقة إذا أتى معه بالمحتمل الآخر . وعلى أيّ تقدير فمرجعه الى الأمر باحراز الواقع ولو احتمالاً .

-------------------

( فان مقتضى الاستصحاب : بقاء الاشتغال ، وعدم الاتيان بالواجب الواقعي ، وبقاء وجوبه ) لفرض انه لا يعلم انّ الصلاة الاولى هل هي الصلاة الواجبة أم لا ؟.

ان قلت ذلك ( قلت : أمّا المحتمل المأتي به أولاً ، فليس واجبا في الشرع لخصوص كونه ظهرا أو جمعة ) لان المفروض : انّ الواجب مردّد بينهما وليس معيّنا فيهما ، فما يأتي به اولاً لم يكن لانه وجب عليه بعينه ( وانّما وجب ) عليه ( لاحتمال تحقق الواجب به ، الموجب للفرار عن المخالفة ) القطعية ، كما قال به بعض حيث اكتفوا بالموافقة الاحتمالية .

( أو ) الموجب ( للقطع بالموافقة ) اي الموافقة القطعية كما قال به بعض آخر ، حيث التزموا بوجوب الموافقة القطعية ، وذلك يتم فيما ( اذا أتى معه بالمحتمل الآخر ) فانه باتيانه بالمحتملين يأتي بما أوجب اللّه سبحانه وتعالى عليه .

( وعلى ايّ تقدير ) من التقديرين : حرمة المخالفة القطعية ، او وجوب الموافقة القطعية ( فمرجعه ) اي : مرجع وجوب الأوّل ( الى الأمر باحراز الواقع ولو احتمالاً ) فيكون وجوبا مقدميا ارشاديا لا وجوبا نفسيا مولويا وقد عرفت : انّ الوجوب الارشادي المقدّمي لا قربة فيه .

ص: 165

وأمّا المحتمل الثاني فهو أيضا ليس الاّ بحكم العقل من باب المقدّمة .

وما ذكر من « استصحاب » فيه بعدَ منع جريان الاستصحاب في هذا المقام من جهة حكم العقل من اوّل الأمر بوجوب الجميع ، اذ بعد الاتيان بأحدهما يكون حكم العقل باقيا قطعا ، وإلاّ لم يكن حاكما بوجوب الجميع وهو خلاف الفرض ،

-------------------

( وأمّا المحتمل الثاني : فهو أيضا ليس الاّ بحكم العقل من باب المقدّمة ) العلمية ، فان من يرى وجوب الاحتياط يرى وجوب الاتيان بهما معا من باب المقدّمة العلميّة ، وقد عرفت : إنّ المقدمة العلمية لا تكون واجبة نفسا ، بل ارشادا، والواجب الارشادي لا قربة فيه .

( و ) أمّا ( ما ذكر من « استصحاب » ) اي : استصحاب الشغل بالنسبة الى الصلاة الثانية ، فان ( فيه ) ما يلي :

أوّلاً : ( بعد منع جريان الاستصحاب في هذا المقام ) منعا ( من جهة حكم العقل من اوّل الأمر : بوجوب الجميع ) اي : جميع المحتملات دفعا للضرر المحتمل ، فلا يكون الاتيان بالثانية من باب الاستصحاب .

وانّما لا يكون الاتيان بالثانية من باب الاستصحاب ( اذ بعد الاتيان بأحدهما يكون حكم العقل باقيا قطعا ) ولبقاء الحكم العقلي يأتي بالثانّية ، كما كان يأتي بالاولى لنفس الحكم العقلي ، فلا يكون الاتيان بالثانية من باب الاستصحاب .

( وإلاّ ) بأن لم يكن حكم العقل باقيا بالنسبة الى الثانية ( لم يكن ) العقل من الاول ( حاكما بوجوب الجميع ، وهو ) اي : عدم حاكمية العقل بوجوب الجميع من الاول ( خلاف الفرض ) .

إذن :فالعقل حاكم بوجوب الجميع من أوّل الأمر ، و هذا الحكم باقٍ الى انتهاء

ص: 166

أنّ مقتضى الاستصحاب وجوبُ البناء على بقاء الاشتغال حتى يحصل اليقين بارتفاعه ، أمّا وجوبُ تحصيل اليقين بارتفاعه فلا يدلّ عليه الاستصحاب ، وإنّما يدلّ عليه العقل المستقل بوجوب القطع بتفريغ الذمة عند اشتغالها ، وهذا معنى الاحتياط ، فمرجع الأمر اليه .

-------------------

الثاني ، فيكون حكم العقل بعد الاتيان بأحدى الصلاتين باقيا على حاله ، فلا يكون المورد موردا للاستصحاب .

وفيه ثانيا : ( أنّ مقتضى الاستصحاب : وجوبُ البناء على بقاء الاشتغال حتى يحصل اليقين بارتفاعه ، أمّا وجوبُ تحصيل اليقين ) بفعل المحتمل الثاني للتيقّن ( بارتفاعه ، فلا يدلّ عليه الاستصحاب ) .

وعليه : فانّ مقتضى الاستصحاب : وجوب البناء على بقاء الاشتغال ، ومن المعلوم : انّ بقاء الاشتغال ليس معناه كون المحتمل الثاني واجبا شرعيا الاّ على الأصل المثبت والاصل المثبت ليس بحّجة ، فانّ اثبات بقاء الوجوب لايلزم ان يكون ما يأتي به ثانيا هو الواجب الذي عليه ، فهو مثل أن يقال : يجب اكرام زيد ، ثم يكرم انسانا ويقول : حيث انّ اكرام زيد واجب فاكرام هذا الانسان واجب ايضا.

( وانّما يدل عليه ) اي : يدل على وجوب تحصيل اليقين بفعل المحتمل الثاني ( العقل المستقل بوجوب القطع بتفريغ الذمة عند اشتغالها ) فلا حاجة معه الى الاستصحاب ، لانّ الدليل العقلي الذي يوجب المحتمل الأوّل هو نفسه الدليل الذي يوجب المحتمل الثاني ( وهذا ) اي : الاتيان بالصلاة الثانية لدلالة العقل على وجوب الاتيان بها بعد الاتيان بالاولى هو ( معنى الاحتياط ) .

وعليه : ( فمرجع الأمر اليه ) اي : يكون الى الاحتياط واذا رجع الأمر فيما نحن

ص: 167

وأمّا استصحابُ وجوب ما وجب سابقا في الواقع ، أو استصحاب عدم الاتيان بالواجب الواقعيّ ، فشيء منهما لا يثبت وجوب المحتمل الثاني حتى يكون وجوبه شرعيا ، الاّ على تقدير القول بالاصول المثبتة

-------------------

فيه الى الاحتياط ، كان وجوب الثاني كوجوب الأوّل مقدّميا ارشاديا ، لا ذاتيا مولويا ، فلا يصح الاتيان بالثانية بقصد القربة المستقلة ، كما لا يصح اتيان الاُولى بقصد القربة المستقلة ، وانّما يأتي بهما بقصد الواقع الذي يتقرّب به بينهما ، كما تقدّم توضيحه .

ثم انّ الاستصحاب الممكن ذكره في المقام على ثلاثة اقسام :

الاوّل : ما ذكره المصنِّف من استصحاب وجوب البناء على بقاء الاشتغال .

الثاني : ما اشار اليه بقوله : ( وأمّا استصحاب ) الحكم اي : ( وجوب ما وجب سابقا في الواقع ) فانّه باتيان الصلاة الأولى وهي الظهر - مثلا - لا يعلم بانه قد أتى بما وجب عليه في الواقع ، فيستصحب بقاء وجوب ما وجب عليه في الواقع ، فيلزم عليه الاتيان بالصلاة الثانية .

الثالث : ما أشار اليه المصنّف بقوله : ( أو استصحاب ) الموضوع أي : ( عدم الاتيان بالواجب الواقعيّ ) فقد نستصحب الوجوب - كما مرّ - وقد نستصحب الواجب - كما نحن فيه - لا ثبات لزوم الاتيان بالمحتمل الثاني ، فيلزم عليه الاتيان بالصلاة الثانية .

لكن في هذين الاستصحابين اشكال أشار اليه بقوله : ( فشيء منهما لا يثبت وجوب المحتمل الثاني حتى يكون وجوبه شرعيا ) وذلك بأن نقول الوجوب باقٍ ، فهذا الثاني متصف بالوجوب ، أو نقول الواجب باقٍ ، فهذا الثاني هو الواجب ( الاّ على تقدير القول بالاصول المثبتة ) .

ص: 168

وهي منفيّة ، كما قرّر في محلّه .

ومن هنا ظهر الفرقُ بين ما نحن فيه وبين استصحاب عدم فعل الظهر وبقاء وجوبه على من شكّ في فعله ، فانّ الاستصحاب بنفسه مقتضٍ هناك لوجوب الاتيان بالظّهر الواجب في الشّرع على الوجه الموظّف : من قصد الوجوب والقربة وغيرهما .

-------------------

وانّما لا يثبت ذلك الاّ على القول بالاصل المثبت ، لاّن قولنا : فهذا الثاني متصف بالوجوب ، أو هذا الثاني هو الواجب ليس لازما شرعيا به ، بل هو من اللوازم العقلية ( وهي منفيّة ) لا تثبت بالاستصحاب الاّ على القول بالأصل المثبت والأصول المثبتة غير حجّة ، لانّ الأدلة الشرعية لحجيّة الاستصحاب لا تشملها ( كما قرّر في محلّه ) وسيأتي مفصلاً انشاء اللّه تعالى .

( ومن هنا ) أي : من انّ الاستصحاب المذكور على اقسامه لا يمكنه ان يثبت وجوب المحتمل الثاني بوجوب مولوي ، لما عرفت : من انّه مثبت ، وليس بحجّة ( ظهر الفرقُ بين ما نحن فيه ) من الاستصحاب الذي هو ليس بحجة ( وبين استصحاب عدم فعل الظهر وبقاء وجوبه على من شكّ في فعله ) الذي هو حجة.

والحاصل : انّ الانسان إذا شك في الظهر و هو في الوقت يستصحب بقاء الظهر عليه ، وهذا الاستصحاب حجة ، فيستشكل : بانّه ما هو الفارق بين هذا الاستصحاب الذي تقولون بانّه حجّة ، وبين الاستصحاب السابق ، حيث قلتم بأنّه مثبت وليس بحجّة ؟ .

والى الفارق أشار المصنّف بقوله : ( فانّ الاستصحاب بنفسه مقتضٍ هناك : لوجوب الاتيان بالظّهر الواجب في الشّرع على الوجه الموظّف : من قصد الوجوب والقربة وغيرهما ) أي : ان المقصود من استصحاب الظهر للشاك فيه

ص: 169

ثم إنّ الكلام فيما يتعلّق بفروع هذه المسالة يأتي في الشبهة

الموضوعيّة إن شاء اللّه تعالى .

المسألة الثانية

ما إذا اشتبه الواجب في الشريعة بغيره من جهة إجمال النصّ ،

-------------------

وهو في الوقت : اثبات نفس المستصحب أعني : عدم الاتيان بالظهر وبقاء وجوبها عليه ، وحيث انّه لم يأت بالظهر يلزم عليه الاتيان بها بمقتضى ما دل من اقامة الصلاة لدلوك الشمس الى غسق الليل .

أمّا الاستصحاب فيما نحن فيه بأقسامه الثلاثة ، فليس المقصود به : اثبات نفس المستصحب : الاشتغال بالواجب الواقعي أو عدم اتيانه ، أو بقاء وجوبه ، بل انّما يكون المقصود به : اثبات شيء آخر ملازم عقلاً للمستصحب المذكور أعني : وجوب اتيان بالمحتمل الآخر ، ومن الواضح : انّه فرق بين استصحاب شيء لاثبات شيء آخر ، فانّ الاستصحاب الأوّل حجّة ، بخلاف الاستصحاب الثاني ، فانه لا يكون حجّة ، لانه اصل مثبت .

( ثم انّ الكلام فيما يتعلّق بفروع هذه المسألة ) من ترّدد الواجب بين أمرين، أو اكثر من أمرين ، مع عدم النص على التعيين ( يأتي في الشبهة الموضوعيّة إن شاء اللّه تعالى) وذلك لان الكلام في فروع تلك المسألة وهذه المسألة من مساق واحد.

( المسألة الثانية : ) من المسائل الأربع لصور دوران الأمر بين الواجب وغير الحرام في المتباينين هو : ( ما إذا اشتبه الواجب في الشريعة بغيره ) اي : بغير الحرام من المستحب ، والمكروه ، والمباح ، وذلك (من جهة إجمال النصّ)

ص: 170

بأن يتعلّق التكليف الوجوبي بأمر مجمل ، كقوله : « ائتني بعين » ، وقوله تعالى : « حافظوا على الصلواتِ والصّلاة الوُسطى » بناءا على تردّد الصلاة الوسطى بين صلاة الجمعة كما في بعض الرّوايات ، وغيرها كما في بعض آخر .

-------------------

لا من جهة فقد النص كما كان في المسألة الأولى .

و أما مثاله فكما قال ( بأن يتعلّق التكليف الوجوبي بأمر مجمل كقوله : « ائتني بعين » ) ولا يعلم بأنّ المراد من العين : الذهب أو الفضة - مثلاً - ؟.

( و ) مثل ( قوله تعالى : « حافظوا على الصلواتِ والصّلاة الوُسطى » (1) بناءا على تردّد الصلاة الوسطى بين صلاة الجمعة كما في بعض الرّوايات ، وغيرها كما في بعض آخر ) من الروايات ، فانّهم اختلفوا في المراد بالصلاة الوسطى على أقوال :

الأوّل : ما نقل عن أكثر الامامية وهو المروي عن الباقر والصادق عليهماالسلام : من انّها صلاة الظهر ، وهي أوّل صلاة صلاها رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وسميت بالوسطى لانّها وسط النهار ووقت الحر في أيام الصيف ، فكانت شاقة على المسلمين ، وقد ورد في الحديث : « افضل الاعمال أحمزها» (2) ولأنها وسط بين صلاة الصبح وصلاة العصر .

الثاني : انّها العصر ، وقد قال به السيد المرتضى وإدّعى عليه اجماع الطائفة ، واستدل له بقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « مَن فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر اهله وماله » (3)

ص: 171


1- - سورة البقرة : الآية 238 .
2- - مفتاح الفلاح : ص45 ، بحار الانوار : ج70 ص191 ب53 ح2 و ج70 ص237 ب54 ح6 .
3- - غوالي اللئالي : ج1 ص129 ح5 و ج2 ص22 ح46 ، فقه القرآن : ج1 ص114 ، ثواب الاعمال : ص231 ، معاني الأخبار : ص171 ح1 ، بحار الانوار : ج82 ص217 ح34 ب1 وفي الاربعة الأواخر بالمعنى .

والظاهر أنّ الخلاف هنا بعينه الخلاف في المسألة الاُولى ،

-------------------

وفي رواية أخرى : « حبط عمله » وفي رواية ثالثة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم انه قال في يوم الأحزاب : « شغلونا عن الصلاة الوسطى : صلاة العصر » (1) .

الثالث : انّها صلاة الجمعة يوم الجمعة ، والظهر في سائر الأيام ، نقله الطبرسيفي مجَمع البيان عن علي عليه السلام .

وربمّا قيل : انّها المغرب ، لتوسطها بين صلاتين رباعيّتين .

وقيل : انها العشاء ، لأنها وسط بين صلاتين ثلاثية هي المغرب وثنائية هي الصبح .

وقيل : هي الصبح ، لانّها وسط بين الليل والنهار ، فانّها تكون في ساعة ليست من الليل ولا من النهار .

وأمّا قوله سبحانه آخر الآية : « وقُومُوا للّهِ قانتين » (2) فقد روي عن ابن عباس أنّ معناه : « داعين » ، والقنوت هو الدعاء في الصلاة حال القيام مع رفع اليدين ، وهذا هو الشائع عند الفقهاء، وهو المروي عن ابي جعفر وأبي عبد اللّه عليهماالسلام كما في مجمع البيان ، والكلام في ذلك طويل خارج عن مقصود الشرح (3) .

( والظاهر : انّ الخلاف هنا ) في المسألة الثانية ( بعينه ) هو ( الخلاف في المسألة الاُولى ) أي : مسألة تردد الأمر بين الوجوب وغير الحرمة من جهة فقد النص ، فإنّ المشهور فيها : حرمة المخالفة القطعية وان ظهر من المحققين

ص: 172


1- - فقه القرآن : ج1 ص164 ، سعد السعود : ص129 .
2- - سورة البقرة : الآية 238 .
3- - للمزيد راجع مجمع البيان : المجلد الثاني ص343 .

والمختار فيها هو المختار هناك ، بل هنا أولى ، لأنّ الخطاب هنا تفصيلاً متوجّهُ الى المكلّفين ، فتأمل .

وخروجُ الجاهل لا دليل عليه ،

-------------------

الخوانساري والقمي جوازها الى المخالفة الاحتمالية ، الاّ ان يقوم الاجماع أو النص أو الضرورة على حرمة ترك المجموع من حيث هو ، فاللازم الاتيان بهما معا.

( والمختار فيها ) هنا ( هو المختار هناك ) : من انّه تجب الموافقة القطعية ( بل هنا ) وجوب الموافقة القطعية ( أولى لأنّ الخطاب هنا تفصيلاً متوجّهُ الى المكلّفين ) كما في قوله تعالى : « « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » (1) » (2) فان الخطاب واضح وان كانت الصلاة الوسطى مردّدة بين مفهومين ، بخلاف مسألة فقد النص ، حيث انّه لا نص في المقام انّما يلزم العمل حسب القاعدة .

( فتأمل ) ولعل وجهه هو : انّ الأولوية هنا ممنوعة، لتساوي المسألتين من جهة علم المكلّف بوجوب تكليف عليه، وعدم علمه بأنّ تكليفه هل هو هذا أو ذاك ؟ .

( و ) ان قلت : الجاهل بالصّلاة الوسطى كيف يكلّف بوجوب الصلاة الوسطى عليه وهو لا يعلم بأنها الظهر أو الجمعة مع انّ تكليف الجاهل قبيح ، كما تقدّم مثل هذا الاشكال عن المحقق القمي في المسألة الأولى ؟.

قلت : ( خروجُ الجاهل لا دليل عليه ) فانّ الجاهل يشمله التكليف أيضا ،

ص: 173


1- - سورة البقرة : الآية 238 .
2- - مشارق الشموس في شرح الدروس : ص282 .

لعدم قبح تكليف الجاهل بالمراد من المأمور به إذا كان قادرا على استعلامه ، من دليل منفصل ، فمجرّدُ الجهل لا يقبح توجّه الخطاب .

ودعوى : « قبح توجيهه على العاجز عن استعلامه تفصيلاً ، القادر على الاحتياط فيه باتيان المحتملات » ، أيضا ممنوعةٌ ، لعدم القبح فيه أصلاً .

وما تقدّم من البعض - من منع التكليف بالمجمل ، لاتفاق « العدلية » على استحالة تأخير البيان - ، قد عرفتَ منع قبحه أولاً ،

-------------------

وذلك ( لعدم قبح تكليف الجاهل بالمراد من المأمور به ) اي : اذا كان جاهلاً بانّ المراد من الصلاة الوسطى - مثلاً - الظهر أو الجمعة ، فانه لا يقبح تكليفه بالوسطى ( إذا كان ) ذلك الجاهل ( قادرا على استعلامه ، من دليل منفصل ) مثل : الروايات الواردة في بيان المراد من الصلاة الوسطى ( فمجرّد الجهل لا يقبح توجّه الخطاب ) الى الجاهل الذي يتمكن من الاستعلام .

( ودعوى : « قبح توجيهه على العاجز عن استعلامه تفصيلاً ) بأن لا يتمكن من ان يعلم خصوصيته المراد ، لكنه ( القادر على الاحتياط فيه باتيان المحتملات » ) من الظهر والجمعة معا - مثلاً - فانّ دعوى قبح تكليفه ( أيضا ممنوعةٌ ، لعدم القبح فيه أصلاً ) كما هو واضح ، فانّ القبح انّما هو فيما إذا لم يعلم بشيء اطلاقا أو علم به اجمالاً لكنّه لم يتمكن من الاستعلام ولا من الاحتياط ، ومن الواضح انّ المقام ليس من ذلك .

هذا ( وما تقدّم من البعض ) هو المحقق القمي ( - من منع التكليف بالمجمل ، لاتفاق « العدلية » على استحالة تأخير البيان - ، قد عرفتَ منع قبحه أولاً ) حيث قلنا : بأنّه يتمكن من الاستعلام ، أو على الاقل انه يتمكن من الاحتياط

ص: 174

وكون الكلام فيما عرض له الاجمال ثانيا .

ثم إنّ المخالف في المسألة ممّن عثرنا عليه هو الفاضل القمّي قدس سره ، والمحقّق الخوانساري في ظاهر بعض كلماته ، لكنه ، قدس سره وافق المختار في ظاهر بعضها الآخر ، قال - في مسألة التوضّي بالماء المشتبه بالنّجس ، بعد كلام له في منع التكليف في العبادات إلاّ بما ثبت من أجزائها وشرائطها -

-------------------

( وكون الكلام فيما عرض له الاجمال ثانيا ) فانّ القبح إذا سلّمناه فهو انّما يكون فيما اذا كان إجماله ذاتيا ، لا ما إذا كان اجماله عرضيا بسبب اخفاء المغرضين - مثلاً - وحيث قد تقدَّم تفصيل ذلك في المسألة الأولى فلا حاجة الى تكراره .

( ثم إنّ المخالف في المسألة ) أي : مسألة وجوب الاحتياط فيما إذا اشتبه الواجب بغير الحرام من جهة اجمال النص ( ممّن عثرنا عليه هو : الفاضل القمّي قدس سره ، والمحقّق الخوانساري ) رحمه اللّه ، وذلك ( في ظاهر بعض كلماته ) أي : كلمات المحقق الخوانساري ( لكنه ) اي : المحقق الخوانساري ( قدس سره وافق المختار ) من الاحتياط باتيان كل اطراف الشبهة ( في ظاهر بعضها الآخر ) اي : في بعض كلماته الاخرى وافق مختارنا.

وانّما وافقنا لانه ( قال - في مسألة التوضّي بالماء المشتبه بالنّجس ) فيما كانت الشبهة محصورة بأن كان هناك انائان - مثلاً - اشتبه النجس بينهما ، قال ( بعد كلام له في منع التكليف في العبادات الاّ بما ثبت من أجزائها وشرائطها ) اي : انه قال بعدم التكليف بالأجزاء والشرائط المشكوكة في الأقل والأكثر الارتباطيين الاّ بما ثبت من الشارع انه جزء أو شرط .

وعليه : فالجزء المشكوك : كجلسة الاستراحة ، والشرط المشكوك : كاشتراط

ص: 175

ما لفظه : « نعم ، لو حصل يقين المكلّف بأمر ولم يظهر معنى ذلك الأمر ، بل يكون متردّدا بين اُمور ، فلايبعد القولُ بوجوب تلك الأمور جميعا حتى يحصل اليقين بالبرائة » ، انتهى .

ولكن التأمّل في كلامه يعطي عدم ظهور كلامه في الموافقة ، لانّ الخطاب المجمل الواصل إلينا لا يكون مجملاً للمخاطبين ، فتكليف المخاطبين بما هو مبيّن ، وامّا نحن معاشر الغائبين فلم يثبت اليقين ، بل ولا الظن بتكليفنا بذلك

-------------------

عدم البكاء في الصلاة - مثلاً - لا تكليف بها ، لانّها لم تثبت من الشارع .

قال المحقق الخوانساري في عنوان هذه المسألة ( ما لفظه نعم ، لو حصل يقين المكلّف بأمر ولم يظهر معنى ذلك الأمر ، بل يكون متردّدا بين اُمور ) كما إذا قال : ائت بالسورة وشك المكلّف في انّ المراد من السورة سورة قصيرة ، أو سورة طويلة من القرآن ( فلا يبعد القولُ بوجوب تلك الأمور جميعا حتى يحصل اليقين بالبرائة (1) ، انتهى ) كلامه الظاهر في انه يجب على المكلّف حينئذٍ أن يأتي بالسورة القصيرة والسورة الطويلة معا .

( ولكن التأمّل في كلامه ) أي : كلام المحقق الخوانساري ( يعطي عدم ظهور كلامه في الموافقة ) لما اخترناه : من وجوب الاحتياط باتيان جميع المحتملات ، وذلك ( لانّ الخطاب المجمل الواصل إلينا لا يكون مجملاً للمخاطبين ، فتكليف المخاطبين ) قد كان (بما هو مبيّن ) عندهم، ولذا يجب عليهم الاتيان بالمكلّف به.

( وأمّا نحن معاشر الغائبين فلم يثبت اليقين ، بل ولا الظن بتكليفنا بذلك

ص: 176


1- - مشارق الشموس في شرح الدروس : ص282 .

الخطاب ، فمن كلّف به لا إجمال فيه عنده ، ومن عرض له الاجمال لا دليل على تكليفه بالواقع المردّد ، لانّ اشتراك غير المخاطبين معهم فيما لم يتمكنوا من العلم به عينُ الدعوى .

-------------------

الخطاب ) اصلاً ، فلا يجب علينا الاتيان به فكيف بالاحتياط فيه ؟ .

توضيحه : انّ الخطاب الذي هو مجمل في نظرنا نحن الغائبين كان مبيّنا للحاضرين زمن الخطاب ، والخطاب المبيّن للحاضرين يجب عليهم ، امّا اشتراكنا نحن الغائبين معهم في مثل هذا الخطاب الذي صار مجملاً بالنسبة الينا فلا دليل عليه ، فنحن لسنا مكلّفين بذلك الخطاب حتى يجب علينا الاحتياط في أطراف الشبهة المرتبطة بذلك الخطاب .

إذن : ( فمن كلّف به ) أي : بذلك الخطاب من الحاضرين ، فانّه ( لا إجمال فيه عنده ) حتى يحتاط باتيان جميع الأطراف ( ومن عرض له الاجمال ) من الغائبين عن مجلس الخطاب ، فانّه ( لا دليل على تكليفه بالواقع المردّد ) حتى يحتاط باتيان جميع الاطراف ، وذلك لعدم توجّه الخطاب اليه .

وانّما لا دليل على تكليف غير المخاطبين ( لانّ اشتراك غير المخاطبين معهم ) أي : مع المخاطبين . ( فيما لم يتمكنوا ) اي : غير المخاطبين وهم الغائبون ( من العلم به ) تفصيلاً ( عينُ الدعوى ) لانّ القول : بانّ الغائب محكوم بحكم الحاضر ، فيما إذا كان الحاضر يعلم بالخطاب تفصيلاً ، مع ان الغائب لا يعلم به تفصيلاً هو أول الكلام .

وانّما يكون التكليف للغائبين أوّل الكلام ، لانه لا دليل على الاشتراك في مثل هذه الصورة ، وانّما دليل الاشتراك جار فيما إذا كان الخطاب مجُملاً بالنسبة الى الحاضرين والغائبين معا ، فانه يجب عليهم الاحتياط ، أو كان الخطاب مبيّنا

ص: 177

فالتحقيقُ أنّ هنا مسألتين :

إحداهما : اذا خوطب شخص بمجمل ، هل يجب عليه الاحتياط أو لا ؟ .

الثانية : أنّه إذا علم تكليف الحاضرين بأمر معلوم لهم تفصيلاً وفهموه من خطابٍ هو مجُمل بالنسبة إلينا معاشِرَ الغائبين : فهل يجبُ علينا تحصيلُ القطع بالاحتياط باتيان ذلك الأمر أم لا ؟ . والمحقق حكم بوجوب الاحتياط في الأوّل دون الثاني .

-------------------

بالنسبة الى الحاضرين والغائبين معا فيجب عليهم الاتيان بما هو مبيّن ، امّا إذا كان مبيّنا للحاضرين ومجُملاً للغائبين فلا دليل على اشتراكهم في ذلك حتى يجب على الغائبين الاحتياط فيه .

وعليه : ( فالتحقيقُ : انّ هنا مسألتين : ) كالتالي :

( إحداهما : اذا خوطب شخص بمجمل ، هل يجب عليه الاحتياط أو لا ؟ ) وهذا هو المورد الذي وافقنا فيه المحقق الخوانساري بوجوب الاحتياط فيه ، وهو يتصور على وجهين : لانه إمّا أن يكون الخطاب مجملاً للمخاطبين والغائبين معا ، وأمّا ان يكون مجملاً للغائبين فقط مع اشتراكهم للمخاطبين في الخطاب .

( الثانية : انّه إذا علم تكليف الحاضرين بأمر معلوم لهم تفصيلاً ) اي : بلا اجمال فيه ( وفهموه من خطابٍ ) كان ذلك الخطاب ( هو مجُمل بالنسبة إلينا معاشِرَ الغائبين : فهل يجبُ علينا ) نحن الغائبين ( تحصيل القطع بالاحتياط باتيان ذلك الأمر ، أم لا ؟ ) وذلك مع عدم اشتراك الغائبين مع المخاطبين في الخطاب .

( و ) كيف كان : فانّ ( المحقق ) الخوانساري ( حكم بوجوب الاحتياط في الأوّل ) أي : في المسألة الاولى فقط ( دون الثاني ) فلم يوافقنا في وجوب الاحتياط في المسألة الثانية ، وبالتالي لم يوافقنا في الجميع .

ص: 178

فظهر من ذلك انّ مسئلة إجمال النص إنّما يغاير المسألة السابقة ، أعني عدم النصّ فيما فرض خطاب مجمل متوجه الى المكلّف ، إمّا لكونه حاضرا عند صدور الخطاب ، وإمّا للقول باشتراك الغائبين مع الحاضرين في الخطاب ،

-------------------

وعليه : ( فظهر من ذلك ) التحقيق الذي ذكرناه فيما تقدّم : ( انّ مسئلة إجمال النص ) على صور ثلاث :

الاوُلى : صورة اجمال الخطاب للحاضر ، وهو يستلزم ان يكون مجملاً للغائب ايضا .

الثانية : صورة اجمال الخطاب للغائب دون الحاضر مع الحكم باشتراك الخطاب بين الغائب والحاضر .

الثالثة : صورة اجمال الخطاب للغائب وعدم اجماله للحاضر مع الحكم بعدم اشتراك الخطاب بين الغائب والحاضر .

و لا يخفى : إنّ المراد في هذه المسألة من إجمال النصّ : الصورتان الأوليان ، وأمّا الصورة الثانية ، فهي في الحقيقة داخلة في مسئلة عدم النص .

و الى هذا المعنى أشار المصنّف حيث قال : انّ مسئلة اجمال النص ( انّما يغاير المسألة السابقة ، اعني : عدم النصّ فيما فرض خطاب مجمل متوجه الى المكلّف ) وذلك يكون في الصورتين الأوليين فقط على ما سبق :

الصورة الاوُلى : ( اما لكونه حاضرا عند صدور الخطاب ) وكان نفس الخطاب مجملاً ، فلا يستفيد منه حتى الحاضر شيئا .

الصورة الثانية : ( وإما للقول باشتراك الغائبين مع الحاضرين في الخطاب ) مع ان الخطاب مبيّن للحاضرين ومجمل للغائبين .

ص: 179

أما اذا كان الخطاب للحاضرين وعرض له الاجمال بالنسبة الى الغائبين ، فالمسئلة من قبيل عدم النص لا إجمال النصّ ، إلاّ إنّك قد عرفت أنّ المختار فيهما وجوبُ الاحتياط ، فافهم .

-------------------

( أمّا ) الصورة الثالثة : وهي ما ( اذا كان الخطاب للحاضرين ) اي : مختصا بهم مع كونه مبيّنا لهم ( وعرض له الاجمال بالنسبة الى الغائبين ) لفقد القرائن الدالة على المراد من الخطاب ( فالمسئلة ) حينئذٍ تكون كما عرفت ( من قبيل عدم النص ، لا إجمال النّص ) .

وعليه : فالمحقق الخوانساري ليس مخالفا لمختارنا في هذه المسألة اعني : مسئلة اجمال النص وانّما مخالفته مختصة بالمسألة السابقة ، وهي مسئلة فقدان النص ، بخلاف المحقق القمي ، فانّه مخالف لمختارنا في كلتا المسئلتين .

( الاّ انّك قد عرفت : انّ المختار فيهما ) أي : في المسئلتين : مسئلة فقد النص ، ومسئلة اجمال النص بأيّ نحو من الأنحاء كان هو : ( وجوب الاحتياط ) وذلك للاشتغال اليقيني المحتاج الى البرائة اليقينية التي لا تحصل تلك البرائة الاّ بالاتيان

بجميع الأطراف في الشبهة الوجوبية ، أو ترك جميع الأطراف في الشبهة التحريمية .

( فافهم ) فانه كما قيل : يحتمل أن يكون اشارة الى ان كلام المحقّقين : القمي والخوانساري ، لم يكن صريحا في المخالفة حتى في المسألة السابقة وهو : عدم النص ، بل يحتمل موافقتهما للاصحاب في كلتا المسألتين ، الاّ أنهما يمنعان من العلم بالتكليف بالنسبة الى غير المخاطبين فيما كان للخطاب مدخلية في ثبوت التكليف ، فانّه إذا احتملنا ان للخطاب مدخلية في ثبوت التكليف ، اختص

ص: 180

...

-------------------

بالمخاطب ، ولم يكن الغائب شريكا مع الحاضر في الخطاب حتى يوجب اجمال النص الاحتياط على الغائب ايضا .

وعليه : فانا نعلم تارة باشتراك الخطاب بين الحاضر والغائب كأكثر الاحكام الشرعية ، حيث يشترك فيها الجميع .

وقد نعلم اخرى بعدم الاشتراك ، مثل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « لعن اللّه من تخلّف عن جيش اسامة » (1) و « نفّذوا جيش اسامة » (2) حيث نعلم بأن ذلك لم يكن تكليفا للغائبين الذين جائوا بعد الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم قطعا .

وهناك قسم ثالث : لا يعلم أنّ الخطاب من أيّ القسمين ؟ ففي هذا المقام يكون الأصل عدم تكليف الغائب لاصالة البرائة ، لا انّه مكلّف كالحاضر لكن حيث كان مجملاً بالنسبة اليه وجب عليه الاحتياط ، ولهذا لا يمكن القول بوجوب الاحتياط في صورة اجمال النص مطلقا ، بل انّما يجب الاحتياط في صورة اجمال النص بالنسبة الى الغائب فيما إذا علم انّه شريك مع الحاضر في التكليف ، سواء كان التكليف مبيّنا للحاضر ومجملاً للغائب ، أم كان مجملاً لهما معا ؟ .

نعم ، لو فرض قسم رابع وهو : اجماله بالنسبة الى الحاضر ، ووضوحه بالنسبة الى الغائب ، لم يكن الغائب مكلّفا بالاحتياط لفرض تبيّن التكليف بالنسبة اليه وان كان تكليف الحاضر الاحتياط لفرض كونه مجملاً عنده .

ص: 181


1- - نهج الحق : ص263 ، الملل والنحل للشهرستاني : ص6 ، الصراط المستقيم ج2 ص296 بالمعنى ، دعائم الاسلام : ج1 ص41 ، اثبات الهداة : ج2 ص383 .
2- - المناقب : ج1 ص176 ، دعائم الاسلام : ج1 ص41 ، اعلام الورى : ص133 ، قصص الانبياء للراوندي : ص358 .

المسألة الثالثة

ما إذا اشتبه الواجب بغيره لتكافؤ النصّين ، كما في بعض مسائل القصر والاتمام فالمشهور فيه التخيير ، لأخبار التخيير السليمة عن المعارض حتى ما دلّ على الأخذ بما فيه الاحتياط ، لانّ المفروض عدم موافقة شيء منهما للاحتياط ،

-------------------

(المسألة الثالثة : ) من المسائل الاربع صور دوران الأمر بين الواجب وغير الحرام ( ما إذا اشتبه الواجب بغيره ) اي : بغير الحرام ، المستحب والمباح والمكروه ، وذلك ( لتكافؤ النصّين ، كما في بعض مسائل القصر والاتمام ) .

مثلاً : اذا قصد مكانا يبعد أربعة فراسخ عن بلده فسار اليه وبات فيه أقل من عشرة ايام ، فانّ الاخبار الواردة في حكمه مختلفة ، والمشهور بحسب الفتوى في هذه الصورة : وجوب الاتمام ، بينما المشهور بحسب الرواية : وجوب القصر ، كما ذكر تفصيله في الفقة ، ففي مثل هذا المورد الذي تعارض فيه النصّان ما هو الحكم فيه ؟ .

قال المصنِّف : ( فالمشهور فيه ) اي : فيما اشتبه الواجب بغيره لتكافؤ النصين هو : ( التخيير ) بينهما ، وذلك ( لأخبار التخيير ، السليمة عن المعارض ) فانّه إذا لم يكن ترجيح لبعض الاخبار المتعارضة على بعض لزم التخيير لقوله عليه السلام « إذن فتخير » (1) ولا معارض لأخبار التخيير في صورة تعارض الخبرين ( حتى ما دلّ على الأخذ بما فيه الاحتياط ) فانه لم يكن معارضا لما دلّ على التخيير ( لانّ المفروض : عدم موافقة شيء منهما للاحتياط ) .

ص: 182


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

إلاّ أن يستظهر من تلك الأدلة مطلوبيّةُ الاحتياط عند تصادم الأدلّة ، لكن قد عرفت فيما تقدّم: انّ اخبار الاحتياط لا تقاوم سندا ولا دلالة لأخبار التخيير.

-------------------

إذن : فالخبر الدال على الأخذ بالاحتياط في صورة تعارض الخبرين ، انّما هو فيما اذا كان أحد المتعارضين موافقا للاحتياط دون الآخر ، فيرجّح ما وافق الاحتياط على ما لم يكن موافقا ، والمفروض : ان ما نحن فيه ليس كذلك ، بل كلاهما موافقان للاحتياط .

( الاّ أن يستظهر من تلك الأدلة ) الدالة على الاحتياط في صورة التعارض استظهارا من جهة الملاك على ( مطلوبيّةُ الاحتياط عند تصادم الأدلّة ) بتقريب : انّه اذا كان احدهما موافقا للاحتياط لزم الأخذ به ، واذا كانا معا على خلاف الاحتياط ، أو كانا معا على وفق الاحتياط ، فالأولى أن يؤخذ بالخبرين معا .

( لكن قد عرفت فيما تقدّم : انّ اخبار الاحتياط لا تقاوم سندا ولا دلالة لأخبار التخيير ) فأخبار التخيير هي المحكمة عند التعارض ، سواء وافق احدهما الاحتياط ام لا ، ويمكن ان يمثل لتعارض الأدلة : بما لو دلّ خبر على وجوب صلاة الجمعة عينا ، ودلّ خبر آخر على استحبابها .

هذا ، وربما يقال : ان هذه المسألة في الحقيقة خارجة عن مسألة البرائة والاشتغال لأن البحث في مسألة البرائة والاشتغال انّما هو من جهة مراعاة العلم الاجمالي وعدم مراعاته ، بينما البحث في هذا المسألة بحث التعارض وهو من مسائل التعادل والتراجيح وذكرها المصنِّف هنا استطرادا لاجل التعرّض لجميع صور الشك في المكلّف به وبيان المسألة هل هي من موارد الاحتياط أو من موارد التخيير ؟ ومن الواضح : انّ التخيير يكون في معنى البرائة ، كما ان الاحتياط يكون

ص: 183

المسألة الرابعة :

ما إذا اشتبه الواجب بغيره من جهة اشتباه الموضوع ، كما في صورة اشتباه الفائتة أو القبلة أو الماء المطلق ، والاقوى هنا أيضا وجوبُ الاحتياط ، كما في الشبهة المحصورة لعين ما مرّ فيها

-------------------

في معنى الاشتغال .

أمّا سائر ما يذكر في بحث تعارض النصين أعني : عين التخيير من التوقف ، أو التساقط ، أو ما أشبه ذلك ، فالمناسب ان يبحث عنها في مباحث التعادل والتراجيح ، ولذا لم يتعرّض لها المصنِّف هنا .

( المسألة الرابعة ) والأخيرة من المسائل الاربع لصور دوران الأمر بين الواجب وغير الحرام : ( ما إذا اشتبه الواجب بغيره من جهة اشتباه الموضوع ) وقد تقدّم : انّه يلزم فيه استطراق باب العرف ، فانّ العرف اذا عيّن الموضوع فبها ، والاّ لزم الاحتياط ، وذلك ( كما في صورة اشتباه الفائتة ) بين الصبح وأحد الظهرين وأحد المغربين ؟ .

( أو ) صورة اشتباه ( القبلة ) بين كونها ذات اليمين ، أو ذات الشمال ، أو طرف الأمام ، أو طرف الخلف ؟ .

( أو ) اشتباه ( الماء المطلق ) بين كونه في هذا الاناء ، أو في ذلك الاناء ؟ .

( والاقوى هنا أيضا ) في هذه المسألة الرابعة : وجوب الموافقة القطعية بمعنى: ( وجوبُ الاحتياط ) فيأتي بالصلوات كلها ، كما يصلي الى الجهات الاربع ويتوضا أو يغتسل بالمائين، فانه يجب الاحتياط هنا، ( كما في الشبهة المحصورة) التحريمية حيث قلنا بوجوبه هناك ، وذلك ( لعين ما مرّ فيها ) وهو : وجود المقتضي للتكليف وعدم المانع عنه كما قال :

ص: 184

من تعلق الخطاب بالفائتة واقعا مثلاً ، وإن لم يعلم تفصيلاً ، ومقتضاه ترتّبُ العقاب على تركها ولو مع الجهل .

وقضيّةُ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل وجوبُ المقدّمة العلمية ، والاحتياط بفعل جميع المحتملات .

وقد خالف في ذلك الفاضل القمّي رحمه اللّه ، فمنع وجوبَ الزائد على واحدة من المحتملات

-------------------

( من تعلق الخطاب بالفائتة واقعا - مثلاً - وان لم يعلم تفصيلاً ) فالمقتضي فيما نحن فيه وهو : علمه الاجمالي بالتكليف موجود والمانع مفقود ، فاللازم عليه ان يأتي بما يعلم برائة ذمته من التكليف ، سواء كان تكليفا مقدميّا كالماء المشتبه بين المطلق والمضاف يغسل بهما ثوبه الذي يريد الصلاة فيه ، أم كان التكليف نفسيا كمثال الفائتة .

( ومقتضاه ) اي : مقتضى وجوب الاحتياط هنا هو ( ترتّبُ العقاب على تركها ) اي ترك الشبهة المحصورة الوجوبية وعدم العمل بالاحتياط فيها ( ولو مع الجهل ) التفصيلي ، لأنّ المفروض : انّ التكليف معلوم ، وانّما الموضوع مشتبه بين هذا وذلك .

( و ) أيضا ( قضيّةُ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ) هو : ( وجوبُ المقدّمة العلمية ، و ) معنى وجوب المقدمة العلمية هو ( الاحتياط بفعل جميع المحتملات ) المحصورة ، فانّ العقل لا يسمح بالمخالفة القطعية ولا بالمخالفة الاحتمالية كما تقدّم الكلام في ذلك في بعض المسائل السابقة .

هذا ( و ) لكن ( قد خالف في ذلك الفاضل القمي رحمه اللّه ، فمنع وجوبَ الزائد على واحدة من المحتملات ) وقال - مثلاً - عليه ان يصلي صلاة واحدة

ص: 185

مستندا في ظاهر كلامه الى ما زعمه جامعا لجميع صور الشك في المكلّف به من قبح التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة .

وأنت خبيرٌ بأنّ الاشتباه في الموضوع ليس من التكليف بالمجمل في شيء ؛ لانّ المكلّف به مفهوم معيّن طرء الاشتباه في مصداقه لبعض العوارض الخارجيّة ، كالنسيان ونحوه ،

-------------------

في اشتباه القبلة ، وأن يصلي فائتة واحدة في اشتباه الفوائت ، وان يغسل ثوبه بواحد من الانائين ، ان يتوضأ بأحدهما وهكذا ( مستندا في ظاهر كلامه الى ما زعمه جامعا لجميع صور الشك في المكلّف به : من قبح التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة ) .

وعليه : فانّ المحقق لقمي تصوّر انّ العقل يمنع عن تنجزّ التكليف بالعلم الاجمالي حتى في الشبهة الموضوعية ، فقال بعدم وجوب الاتيان بكل المحتملات بل اكتفى باتيان احد المحتملات ، لانّ المتيقن من الاجماع هو : حرمة ترك المجموع ، لا انّه يجب المجموع .

( و ) لكن ( أنت خبيرٌ بأنّ الاشتباه في الموضوع ليس من التكليف بالمجمل في شيء ) فانّه على فرض تسليم كفاية اتيان المكلّف بأحد الأطراف فانّما هو فيما اذا كان التكليف مجملاً بينما لم يكن التكليف في الشبهة الموضوعية مجملاً، بل المجمل هو المكلّف به .

وانّما لم يكن من التكليف بالمجمل ( لانّ المكلّف به مفهوم معيّن طرء الاشتباه في مصداقه ) الخارجي ( لبعض العوارض الخارجيّة ، كالنسيان ونحوه ) من الجهل بالقبلة - مثلاً - لانه خرج الى الصحراء ، أو الجهل بالفائتة لانّه قد مضى عليها زمنا طويلاً ، أو ما أشبه ذلك .

ص: 186

والخطابُ الصادرُ لقضاء الفائتة عامٌ في المعلومة تفصيلاً والمجهولة ، ولا مخصّص له بالمعلومة لا من العقل ولا من النقل ، فيجب قضائها ، ويعاقب على تركها مع الجهل كما يعاقب مع العلم .

ويؤيّد ما ذكرنا

-------------------

هذا ( والخطابُ الصادرُ لقضاء الفائتة ) مثل قوله عليه السلام : « من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته » (1) ( عامٌ في المعلومة تفصيلاً والمجهولة ، ولامخصّص له بالمعلومة ) تفصيلاً ، لما تقدّم : من انّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية ، فقوله عليه السلام : « من فاتته فريضة » يعني ان فوت الفريضة يوجب القضاء ، سواء علم بها الانسان معيّنا أم لم يعلم بها معيّنا ، فان علم بها قضاها معيّنا ، وان لم يعلم بها قضى كل الاطراف المحتملة .

وإنّما يقضي كل الاطراف المحتملة ، لأنّ وجوب قضاء الفائتة لا مخصّص له بما إذا كانت الفائتة معلومةً ( لا من العقل ولا من النقل ) كما اشرنا اليه في بعض المسائل السابقة ( فيجب قضائها ) اي : تلك الفائتة ( ويعاقب على تركها مع الجهل ) التفصيلي بأن كانت الفائتة مردّدة بين أمور ( كما يعاقب مع العلم ) التفصيلي بالفائتة إذا تركها .

( ويؤيّد ما ذكرنا ) : من وجوب قضاء كل المحتملات في صورة العلم الاجمالي ما ورد من الخبر في هذا المجال ، وقال : « يؤيّد » ولم يقل : « بدل » ، لانّ الخبر الآتي إنّما هو في موضوع خاص وتعميمه لجميع موارد الشبهة يكون

ص: 187


1- - غوالي اللئالي : ج2 ص54 ح143 و ج3 ص107 ح150 ، تهذيب الاحكام : ج3 ص163 ب13 ح14 ، بحار الانوار : ج89 ص92 ب2 ح10 وما عدا الأوّل بالمعنى .

ما ورد من وجوب قضاء ثلاث صلوات على من فاتته فريضةٌ ، معلّلاً ذلك ببرائة الذمة على كل تقدير ،

-------------------

من جهة الملاك .

وربّما يقال : انّ وجه كونه مؤيّدا لا دليلاً : انّ الموافق للاحتياط هو القول بوجوب قضاء خمس صلوات من باب المقدمة ، كما اختاره أيضا بعض الفقهاء ، لا الاتيان بثلاث صلوات ، فالخبر أقرب الى_'feما ذكره المحقّق القمي مّما ذكره المصنِّف .

وكيف كان : فان المؤيّد لما ذكرناه هو : ( ما ورد من : وجوب قضاء ثلاث صلوات على من فاتته فريضةٌ ، معلّلاً ذلك ) في كلام الإمام عليه السلام ( ببرائة الذمة على كل تقدير ) (1) فقد روى المحاسن عن ابي عبد اللّه عليه السلام ما يلي :

انه سئل عن رجل نسي صلاة من الصلوات الخمس لا يدري أيّها هي ؟ قال عليه السلام : يصلي ثلاث ، وأربع ، وركعتين ، فان كانت الظهر والعصر والعشاء كان قد صلّى ؛ وان كان المغرب والغداة فقد صلّى (2) .

ومن المعلوم : انّ الشارع قد قنع في الاربع بواحدة ، وظاهر ذلك : التخيير بين الجهر والاخفات ، ولولا هذا النص لكان الواجب ان نقول بقضاء خمس أو اربع صلوات ، أمّا الخمس فمن جهة الوجه ، وأمّا الأربع فمن جهة عدم إشتراط الوجه مع إشتراط الجهر والاخفات .

وعليه : فان فهمنا الملاك من هذه الرواية جاز التعدّي منها الى الصلاة الفائتة

ص: 188


1- - تهذيب الاحكام : ج2 ص197 ب23 ح79 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج8 ص276 ب11 ح10646 .
2- - وسائل الشيعة : ج8 ص276 ب11 ح10646 .

فانّ ظاهر التعليل يفيد عموم مراعاة ذلك في كل مقام اشتبه عليه الواجب .

ولذا تعدّى المشهورُ عن مورد النص - وهو تردّد الفائتة بين رباعيّة وثلاثية وثنائيّة - الى الفريضةِ الفائتةِ من المسافر المردّدةِ بين ثنائية وثلاثيّة ، فاكتفوا فيها بصلاتين .

-------------------

عن المسافر ، المردّدة بين الثنائية والثلاثية ، فيصلّي صلاتين : ثنائية لكونها احدى الأربع ، وثلاثية لكونها مكان المغرب الفائتة احتمالاً ، وذلك كما قال :

( فانّ ظاهر التعليل ) في كلام الإمام عليه السلام بكفاية الثلاث لتفريغ الذمة ( يفيد عموم مراعاة ذلك ) اي : الاحتياط ( في كل مقام اشتبه عليه الواجب ) ولو في غير باب الصلاة ، كما إذا شك في انّه هل نذر صوم أول رجب أو أول شعبان ؟ فاللازم أن يصومهما .

( ولذا ) اي : لعموم التعليل ( تعدّى المشهور عن مورد النص ، وهو : تردّد الفائتة بين رباعيّة وثلاثية وثنائيّة ، الى الفريضةِ الفائتةِ من المسافر المردّدة بين ثنائية وثلاثية ، فاكتفوا فيها ) أي : في هذه الفائتة المرددة ( بصلاتين ) فقط على نحو ما ذكرناه .

كما ويتعدى الى موارد اُخر ، كالشك في انّه نذر صيام يوم أو صلاة الليل ، فانّه يجب عليه كلاهما ، أو شك في انّه نذر الحج أو نذر الاعتكاف ، فعليه أن يأتي بهما معا ، وهكذا .

ص: 189

وينبغي التنبيه على اُمور

الاوّل :

انّه يمكن القول بعدم وجوب الاحتياط في مسألة اشتباه القبلة ونحوها ممّا كان الاشتباه الموضوعي في شرط من شروط الواجب ، كالقبلة واللباس وما يصح السجود عليه وشبهها ، بناءا على دعوى سقوط هذه الشروط عند الاشتباه ،

-------------------

( و ) هنا ( ينبغي التنبيه على امور ) ترتبط بالبحث وهي عبارة عمّا يلي :

( الاوّل ) : قد يتوهّم عدم وجوب الاحتياط في موارد الشبهة الموضوعية فيما كان الشك في الشرائط والموانع مثل : القبلة ، وما يصح السجود عليه ، وما أشبه ذلك ، بدعوى : سقوط الشرط ونحوه عند عدم العلم به تفصيلاً ، فيأتي بالمشروط فاقدا للشرط أو واجدا للمانع ، وذلك كما قال :

( انّه يمكن القول : بعدم وجوب الاحتياط في مسألة اشتباه القبلة ونحوها ، ممّا كان الاشتباه الموضوعي في شرط من شروط الواجب ، كالقبلة ، واللباس ، وما يصح السجود عليه وشبهها ) من الشرائط والموانع ( بناءا على دعوى : سقوط هذه الشروط عند الاشتباه ) فيها .

وعليه : فان شرطية القبلة - مثلاً - في الصلاة انّما هي في مورد العلم بها تفصيلاً ؛ فتسقط الشرطية عند التردّد ، فيصح للمصلي الجاهل بجهة القبلة أن يصلي الى أحد الجهات .

نعم ، لا يمكن القول بذلك في مثل الطهارة : من الوضوء ، والغسل ، والتيمم ، التي ثبتت شرطيتها للصلاة على الاطلاق عالما كان المكلّف بها أم جاهلاً .

ص: 190

ولذا أسقط الحلّي وجوبَ الستر عند اشتباه الساتر الطاهر بالنجس وحَكَمَ بالصلاة عاريا بل النزاع فيما كان من هذا القبيل ينبغي أن يكون على هذا الوجه ، فانّ القائل بعدم وجوب الاحتياط ينبغي أن يقول بسقوط الشروط عند الجهل، لا بكفاية الفعل مع احتمال الشرط ، كالصلاة المحتمل وقوعها الى القبلة

-------------------

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه : من انّه يمكن القول بعدم وجوب الاحتياط في أمثال الشرط والمانع ( أسقط الحلّي) ابن إدريس رحمه اللّه ( وجوبَ الستر عند اشتباه الساتر الطاهر بالنجس ) وذلك فيما اذا كان له ثوبان أحدهما طاهر والآخر نجس ، فانّه قال : ليس الستر بشرط حينئذٍ ( وحَكَمَ بالصلاة عاريا ) بدون ستر اطلاقا .

لكن حيث كان النزاع في اصل الصلاة من كفاية الاتيان بأحد المحتملات وعدم كفايته ، وليس في الشروط والموانع ، أضرب عنه المصنِّف بقوله : ( بل النزاع فيما كان من هذا القبيل ، ينبغي أن يكون على هذا الوجه ) اي : ان النزاع إذا كان في موارد العلم الاجمالي في اصل الصلاة كتردّد الفائتة ، وجب تحريره في وجوب الاحتياط وعدمه ، أمّا اذا كان في الشرائط والموانع كتردّد القبلة و الساتر ، فينبغي أن يحرّر النزاع في انّه هل الشرط يسقط مع عدم العلم التفصيلي به أو لا يسقط ؟ .

وعليه : ( فانّ ) النزاع لمّا كان في سقوط الشرط وعدمه ، نقول : ان مَن قال بوجوب الاحتياط في مسئلة اشتباه القبلة ونحوها ، لابد ان يقول بعدم سقوط الشروط هنا ، كما ان ( القائل بعدم وجوب الاحتياط ) هناك ( ينبغي أن يقول بسقوط الشروط عند الجهل ) بها هنا ( لا بكفاية الفعل مع احتمال ) تحقق ( الشرط ، كالصلاة المحتمل وقوعها الى القبلة ) .

ص: 191

بدلاً عن القبلة الواقعيّة .

ثم الوجه في دعوى سقوط الشرط المجهول ، إما انصرافُ أدلّته الى صورة العلم به تفصيلاً ، كما في بعض الشروط ، نظير اشتراط الترتيب بين الفوائت ،

-------------------

إذن : فالقائل بالتخيير في باب الشروط والموانع ينبغي له ان يقول بسقوط القبلة ونحوها عند تردّدها في امور محصورة ، لا أن يقول بشرطيتها ثم يقول بكفاية الموافقة الاحتمالية واتيان صلاة واحدة الى جهة محتملة لأن تكون هي القبلة ، أو تكون ( بدلاً عن القبلة الواقعيّة ) .

قال الأوثق : انّه لا فرق في الاشتباه بين أن يكون في اصل الصلاة أو في مثل القبلة ، الاّ انّ المصنِّف قد إدّعى : انّ ما كان من قبيل الثاني ينبغي ان يقرّر النزاع في أصل ثبوت الشرطية وعدمه ؛ معلّلاً ذلك : بأنّ القائل بعدم وجوب الاحتياط ينبغي ان يقول بسقوط الشروط عند الجهل ، لا بكفاية الفعل مع احتمال الشرط ، ولعل الوجه فيه : انّ مرجع القول بالتخيير لاشتباه بعض الشروط : الى نفي الشرطية ، لعدم ترتب أثر على أحدهما بالخصوص ، بخلاف ما لو جهل أصل المكلّف به ، كالفائتة المردّدة بين الظهر والعصر ، فانّ أثر القول بالتخيير فيه هو : عدم جواز المخالفة القطعية (1) .

( ثم الوجه في دعوى سقوط الشرط المجهول ) بأن علم إجمالاً بأصل الشرط وجهل الخصوصية ، هو أحد وجهين :

الأوّل : ( إما انصراف أدلته ) اي : أدلة الشرط ( الى صورة العلم به ) اي : بالشرط ( تفصيلاً ، كما في بعض الشروط ، نظير اشتراط الترتيب بين الفوائت )

ص: 192


1- - أوثق الوسائل : ص356 فيما اشتبه الواجب بغيره من جهة اشتباه الموضوع .

وإما دوران الأمر بين إهمال هذا الشرط المجهول وإهمال شرط آخر ، وهو وجوب مقارنة العمل لوجهه بحيث يعلم بوجوب الواجب وندب المندوب حين فعله .

وهذا يتحقق مع القول بسقوط الشرط المجهول ،

-------------------

فانّ اشتراط الترتيب بين الفوائت انّما هو فيما إذا علم المكلّف بترتيب فوائته علما تفصيلاً ، امّا إذا جهل الترتيب فالشرط ساقط على ما ذكره غير واحد .

بخلاف من قال برعاية هذا الشرط حتى مع الجهل به ، فانه اوجب تكرار الصلاة بصورة يعلم منها تفصيلاً حصول الترتيب ، فاذا علم - مثلاً - بفوت صبح وظُهر منه ، ولم يعلم الترتيب ، قال : يأتي بثلاث صلوات : بصبحين وظهر وسطهما، أو بظهرين وصبح وسطهما ، وهكذا في سائر الفروض حتى يعلم بحصول الترتيب .

الثاني : ( وأمّا دوران الأمر بين إهمال هذا الشرط المجهول ) المردّد بين فردين، كما إذا تردّد الثوب النجس بين ثوبين ، فيدور امره بين ان يهمل شرط طهارة الساتر في الصلاة ويأتي بصلاة واحدة مجزوم بنيّتها ( و ) بين ( اهمال شرط آخر وهو : وجوب ) قصد التعيين والجزم بالنية ، فلا يلزم ( مقارنة العمل لوجهه ) من وجوب أو ندب أو ما أشبه ذلك ( بحيث يعلم بوجوب الواجب، وندب المندوب حين فعله ) اي : فعل الصلاة - مثلاً - .

( وهذا ) أي : وجوب مقارنة العمل لوجهه ، وبعبارة اخرى : احراز الشرط الآخر وهو : الجزم بالنية ( يتحقق مع القول بسقوط الشرط المجهول ) لانّه مع عدم سقوطه لا بّد من تكرار العمل ، ومع تكرار العمل ينتفي الجزم بالنية .

والحاصل : انّه إذا أراد الصلاة وكان له ثوبان اشتبه النجس بينهما ، فاللازم

ص: 193

وهذا هو الذي يظهر من كلام الحلّي .

وكلا الوجهين ضعيفان .

أمّا الاوّل : فلأنّ مفروض الكلام ما اذا ثبت الوجوب

-------------------

أمّا ان نقول : بأن شرط الطهارة في الساتر انّما هو مع العلم بالطهارة تفصيلاً ، لا مع تردّدها بين ثوبين ، وهنا حيث تردّدت يسقط شرط الطهارة ، وعليه أن يأتي بصلاة واحدة في احد الثوبين .

واما ان نقول : بأنّ شرط الطهارة في السّاتر واجب سواء علم بها تفصيلاً ، ام كانت مردّدة بين ثوبين ، وهنا حيث تردّدت يدور الامر بين احد شرطين : شرط الطهارة ، وشرط الجزم بالنية ، وحيث لا يمكن الجمع بينهما لزم اهمال احدهما .

وعليه : فاذا أهملنا شرط الطهارة ، كان عليه أن يصلي صلاة واحدة في أحد الثوبين ، ليحرز شرط الجزم بالنية ، واذا أهملنا شرط الجزم بالنية ، كان عليه ان يصلي صلاتين ليحرز شرط الطهارة .

( وهذا ) الوجه الثاني وهو : سقوط الشرط المجهول لاجل إحراز شرط الجزم بالنية ( هو الذي يظهر من كلام الحلّي ) ابن ادريس رحمه اللّه .

( و ) لكن ( كلا الوجهين ) لتوجيه دعوى سقوط الشرط المجهول : من انصراف الادلة ، ودوران الامر بين اهمال احد شرطين ( ضعيفان ) لانّا نقول : لا إنصراف للأدلة ، ولا دوران للأمر بين اسقاط أحد شرطين ، بل اللازم الاتيان بصلاتين في الثوبين .

( أمّا ) ضعف الوجه ( الاوّل : ) وهو انصراف الأدلة ( فلانّ مفروض الكلام ) في التردّد في باب الشبهة الموضوعية كالساتر في المثال ( ما اذا ثبت الوجوب

ص: 194

الواقعي للفعل بهذا الشرط ، وإلاّ لم يكن من الشك في المكلّف به ، للعلم حينئذٍ بعدم وجوب الصلاة الى القبلة الواقعية المجهولة بالنسبة الى الجاهل .

وأمّا الثاني : فلأنّ ما دلّ على وجوب مقارنة العمل بقصد وجهه والجزم مع النية

-------------------

الواقعي للفعل ) اي : لفعل الصلاة ( بهذا الشرط ) وهو شرط طهارة الساتر .

( والاّ لم يكن من الشك في المكلّف به ) فانّ كلامنا بعد ثبوت التكليف بوجوب الصلاة مع طهارة الساتر ، غير ان الساتر الطاهر اشتبه بين ثوبين ، فلم نعلم هل المكلّف به : الصلاة بهذا الثوب أو بذاك الثوب ؟ وكذا الكلام في اشتباه القبلة ، فانّه بعد ثبوت التكليف بوجوب الصلاة نحو القبلة ، لكن القبلة اشتبهت بين أطراف أربعة ، فلم نعلم هل المكلّف به : الصلاة الى هذه الجهة أو الى تلك الجهة ؟ وهكذا .

وعليه : فلا معنى لانصراف أدلة القبلة والساتر - مثلاً - الى صورة العلم بالقبلة والساتر ، وذلك ( للعلم حينئذٍ ) أي : حين القول بانصراف أدلة الشرط الى صورة العلم بالشرط تفصيلاً ( بعدم وجوب الصلاة الى القبلة الواقعية المجهولة بالنسبة الى الجاهل ) لفرض انصراف شرط القبلة الى العلم بالقبلة ، فلا يكون المقام من الشك في المكلّف به ، وهو : خلاف الفرض .

( وأمّا ) ضعف الوجه ( الثاني : ) وهو دوران الأمر بين إهمال هذا الشرط : طهارة الساتر ، أو شرط آخر : الجزم بالنية ( فلانّ ما دلّ ) من بناء العقلاء في تحقق الطاعة ( على وجوب مقارنة العمل بقصد وجهه والجزم مع النية ) به ، فانما هو بشرط القدرة عليه ، لا حتى مع العجز عنه .

ص: 195

إنّما يدلّ عليه مع التمكّن .

ومعنى التمكّن القدرةُ على الاتيان به مستجمعا للشرائط جازما بوجهه من الوجوب والندب حين الفعل ، أمّا مع العجز عن ذلك فهو المتعيّن للسقوط دون الشرط المجهول الذي أوجب العجز عن الجزم بالنيّة .

والسرّ في تعيينه للسقوط هو أنّه إنّما لوحظ اعتباره في الفعل المستجمع للشرائط ، وليس اشتراطه

-------------------

وعليه : فانّ العقلاء بنوا على ان أوامر الموالي لا تتحقق اطاعتها الاّ باتيانها مع الجزم بالنية لكن ( إنّما يدلّ عليه ) اي : على وجوب مقارنة العمل بقصد الوجه والجزم به ( مع التمكّن ) من قصد الوجه كذلك ( ومعنى التمكّن : القدرةُ على الاتيان به ) اي بالعمل ( مستجمعا للشرائط جازما بوجهه من الوجوب والندب حين الفعل ) فيأتي الانسان بالعمل الجامع للشرائط بهذا القصد جازما .

و ( أمّا مع العجز عن ذلك ) اي : عن الاتيان بالعمل مستجمعا للشرائط مع الجزم بالنية ، وذلك لدورانه بين أن يأتي به مستجمعا للشرائط دون الجزم بالنية ، أو ياتي به جازما بالنية دون الشرائط ، ففي هذه الصورة يقدّم وجوب استجماع الشرائط على الجزم بالنية فيتعيّن سقوط الجزم بالنيّة ، كما قال :

( فهو المتعيّن للسقوط ) اي : شرط الجزم بالنية ( دون الشرط المجهول الذي أوجب العجز عن الجزم بالنيّة ) فلا تسقط الطهارة ، وانّما يسقط الجزم بالنية ، فيأتي بصلاتين في الثوبين وان لم يجزم حين الاتيان بكل صلاة انّها هي الواجبة .

( والسرّ في تعيينه ) اي : تعيين الجزم بالنية ( للسقوط هو : انّه ) اي : الجزم بالنية ( إنّما لوحظ اعتباره في الفعل المستجمع للشرائط ) بمعنى : انّ مرحلة الجزم بالنية بعد مرحلة استجماع الفعل للشرائط ( وليس اشتراطه ) أي : اشتراط الجزم

ص: 196

في مرتبة سائر الشرائط ، بل متأخر عنه ، فاذا قيّد إعتباره بحال التمكّن سقط حالَ العجز ، يعني العجز عن إتيان الفعل الجامع للشرائط مجزوما به .

-------------------

بالنية ( في مرتبة سائر الشرائط ) كشرط القبلة وشرط الطهارة وما أشبه ( بل ) الجزم بالنية ( متأخر عنه ) وعن سائر الشرائط فيكون هو المتعين للسقوط .

وبعبارة اخرى : ان شرائط العبادة على قسمين :

الاوّل : ما لاحظها الشارع قبل الأمر بأن قال - مثلاً - : الصلاة ذات الاجزاء والشرائط ائت بها ، ويقُال لهذا القسم من الشرائط : شرائط المأمور به ، كالقبلة والستر ، والطهارة ، وما أشبه ذلك ، فانّ الشارع لاحظ الصلاة الجامعة لهذه الشرائط ثم أمر بها .

الثاني : الشرائط التي تكون متأخرة عن الأمر وتابعة له ، لانّها من آثار الأمر ، كقصد التعيين ، والوجه ، وما أشبه ذلك ، فانّه يلزم اتيان الصلاة الواجبة للشرائط بهذه القصود .

وعليه: ( فاذا قيّد إعتباره ) أي: اعتبار القسم الثاني من الشرائط ( بحال التمكّن ) من الاتيان بذات العبادة بشرائطها الأولية ( سقط ) ما ذكرناه : من الشرائط الثانوية والقصود التابعة للأمر ( حال العجز ، يعني : العجز عن إتيان الفعل الجامع للشرائط مجزوما به ) فاذا عجز الانسان عن الاتيان بالصلاة الجامعة للشرائط مجزوما بتلك الصلاة سقط الجزم ، ولم تسقط تلك الشرائط .

وبهذا ظهر : انّه لا انصراف في أدلة شرط الطهارة الى صورة العلم بها تفصيلاً ، ولا دوران للأمر بين إهمال هذا الشرط المجهول وإهمال شرط آخر وهو وجوب مقارنة العمل لوجهه ، بل هناك وجه واحد يلزم أن نقول به وهو : الاتيان بصلاتين في مثال الثوبين وإن لم يتمكن من قصد الجزم حين الاتيان بكل واحدة من هاتين الصلاتين .

ص: 197

الثاني :

إنّ النية في كلّ من الصلوات المتعدّدة على الوجه المتقدّم في مسألة الظهر والجمعة .

وحاصله : أنّه ينوي في كل منهما فعلهما احتياطا لإحراز الواجب الواقعيّ المردّد بينها وبين صاحبها تقرّبا الى اللّه ، على أن يكون القرب علّة للاحراز الذي جعل غاية للفعل .

-------------------

التنبيه ( الثاني : ) إذا تردد الواجب بين أمرين متباينين كالظهر والجمعة في يوم الجمعة - مثلاً - فقد تقدّم فيه القول بوجوب الاحتياط وانّ للنية فيه طريقين : أن ينوي بكل واحد منهما الوجوب والقربة ، أو ينوي الوجوب الواقعي المردّد بينهما، بان يقصد ما هو الثابت في نفس الأمر ، الحاصل في ضمن هذين الفعلين تقرّبا الى اللّه تعالى ، وقد ذكر المصنِّف هناك بطلان الطريق الأوّل وان المتعيّن هو الطريق الثاني .

اذا عرفت ذلك قلنا : ( انّ النية في كلّ من الصلوات المتعدّدة ) فيما اذا اشتبهت القبلة الى جهتين واكثر ، او اشتبه الساتر في ثوبين واكثر ، أو ما أشبه ذلك انّما هو ( على الوجه المتقدّم في مسألة الظهر والجمعة ) وذلك بأن يأتي بها جميعا بقصد ما هو الواقع منها.

( وحاصله : انّه ينوي في كل منهما فعلها احتياطا لإحراز الواجب الواقعيّ المردّد بينها ) اي : بين هذه الصلاة التي يصليها الى جهة اليمين - مثلاً - ( وبين صاحبها ) كالصلاة التي يصليها الى جهة الشمال ، وذلك فيما إذا تردّدت القبلة بين اليمين والشمال ، فيأتي بالصلاتين لاحراز الواجب الواقعي ( تقرّبا الى اللّه ) تعالى ( على ان يكون القرب علّة ) غائية ( للاحراز الذي جعل غاية للفعل ) فيقصد انّه

ص: 198

ويترتّب على هذا أنّه لا بدّ من أن يكون حين فعل أحدهما عازما على فعل الآخر ، إذ النية المذكورة لا تتحقق بدون ذلك ، فانّ من قصد الاقتصار على أحد الفعلين ليس قاصدا لإمتثال الواجب الواقعي على كلّ تقدير ، نعم ، هو قاصد لامتثاله على تقدير مصادفة هذا المحتمل له لا مطلقا ، وهذا غير كافٍ في العبادات المعلوم وقوع التعبّد بها .

-------------------

يأتي بهاتين الصلاتين لاحراز الواقع بينهما ، وإحراز الواقع انّما هو لحصول القرب اليه سبحانه .

( ويترتّب على هذا ) اي : على انّه يلزم ان تكون التي بهذه الكيفية ( انّه لا بّد من أن يكون حين فعل أحدهما عازما على فعل الآخر ، إذ النية المذكورة ) في الطريقة الثانية ( لا تتحقق بدون ذلك ) اي : بدون قصد الاتيان بكلا الصلاتين من الاول ، لانّ من لم يعزم على اتيان الصلاة الثانية حين اتيان الأولى لم يكن عازما لاحراز الواقع ولا جازما بالتقرب .

وعليه : فاذا عصى وأتى بأحدهما باحتمال الأمر والتقرّب من دون عزم على اتيان الآخر بعد ذلك ، لم يكف في حصول الاحتياط ورفع العصيان كما قال : ( فانّ من قصد الاقتصار على احد الفعلين ) فهو ( ليس قاصدا لإمتثال الواجب الواقعي على كلّ تقدير ) بينما يجب أن يكون قصده امتثال الواقع على كل تقدير .

( نعم ، هو قاصد لامتثاله ) اي : لامتثال الواقع ( على تقدير مصادفة هذا المحتمل له ) اي : للواقع ( لا مطلقا ) فانه حين يقصد الاقتصار على احد الفعلين لم يكن عازما على امتثال الواقع على كل تقدير بل على تقدير المصادفة ( وهذا غير كافٍ في العبادات المعلوم وقوع التعبّد بها ) علما اجماليا .

لكن يكون هذا كافيا عند من يقول بجواز اتيان كل واحد من المحتملين بقصد

ص: 199

نعم ، لو احتمل كون الشيء عبادة كغُسل الجنابة إن احتمل الجنابة اكتفي فيه بقصد الامتثال على تقدير تحقق الأمر به ، لكن ليس هنا تقدير آخر يُراد منه التعبّد على ذلك التقدير .

-------------------

الوجه والقربة ، وذلك بأن يقصد من الاول الاتيان بأحدهما دون الآخر ، فيأتي به قاصدا للوجه والقربة غير عازم على الاتيان بالآخر ، فان انكشف بعد الاتيان به انه كان مصادفا للواقع كفاه ، وان انكشف عدم مصادفته للواقع لم يكفه .

و كذا لم يكفه لو بقي الأمر مجهولاً فيلزمه الاتيان بالآخر ، وكذا لو إنتقل من ذلك المكان الى مكان كانت القبلة فيه معلومة ، فانه يلزمه الاتيان بصلاة الى القبلة، لانّه لم يحرز بتلك الصلاة اتيانه بالصلاة الواجبة عليه .

وحيث قال المصنِّف هنا : بعدم كفاية الاقتصار على أحد الفعلين في امتثال الواجب الواقعي ، كان محلاً لتوهم ورود نقض عليه : وهو انه كيف يكفي حينئذٍ لامتثال الواجب الواقعي بالاقتصار على اتيان غسل واحد في احتمال الجنابة - مثلاً - ؟ فأخذ المصنِّف في بيان هذا التوهم بقوله :

( نعم ، لو احتمل كون الشيء عبادة ) من دون علم اجمالي ( كغُسل الجنابة إن احتمل الجنابة ) - مثلاً - فانه يكفي الاتيان بغسل واحد قربة الى اللّه تعالى ، اي : ( اكتفي فيه بقصد الامتثال على تقدير تحقق الأمر به ) اي : بهذا الغسل الواحد ، بينما هناك لم يكف صلاة واحدة ؟ .

فأجاب عنه بقوله : ( لكن ) كفاية الغسل الواحد هنا من جهة انّه ( ليس هنا تقدير آخر يُراد منه ) اي : من ذلك التقدير الآخر ( التعبّد على ذلك التقدير ) ففي مثل : غسل الجنابة المحتملة تقدير واحد ، امّا في مثل القبلة المشتبهة أو الساتر المشتبه تقديران .

ص: 200

فغاية ما يمكن قصده هنا هو التعبّد على طريق الاحتمال ، بخلاف ما نحن فيه ممّا علم فيه ثبوت التعبّد بأحد الأمرين ، فانّه لابّد فيه من الجزم بالتعبّد .

-------------------

إذن : ( فغاية ما يمكن قصده هنا ) في الجنابة المحتملة ( هو التعبّد على طريق الاحتمال ) وذلك بأن يقصد : انّي امتثل بهذا الغسل أمر اللّه سبحانه وتعالى على تقدير تحقق الجنابة وفرض وقوعها .

( بخلاف ما نحن فيه ممّا علم فيه ثبوت التعبّد بأحد الأمرين ) كصلاتين الى القبلة المشتبهة ، أو في ثوبين مشتبهين ( فانّه لابّد فيه من الجزم بالتعبّد ) ومن المعلوم : ان الجزم بالتعبّد لا يحصل الاّ بأن ينوي الاتيان بهما من أول الأمر ، فان لم يقصد ذلك بل قصد الاتيان بواحد لم يصح .

و على هذا : فالمصنف مفصّل بين الشبهات البدوية والشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي في كيفية النية ، بتقرير : انّه إذا كان مورد الشبهُة من العبادات لا من التوصليات ، فانّه يكفي فيها مجرد قصد احتمال الأمر والمحبوبية ، هذا بالنسبة الى الشبهات البدوية ، وأمّا بالنسبة الى الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي فلايكفي ذلك فيها ، بل لابّد من قصد امتثال الأمر المعلوم بالاجمال على كل تقدير ، وذلك يتوقف على ان يكون المكلّف حال الاتيان بأحد المحتملين قاصدا للاتيان بالمحتمل الآخر .

لكن قد يقال : بعدم الفرق بين الشبهة البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي من هذه الجهة ، فكما يأتي بالغسل في احتمال الجنابة بقصد الامتثال على تقدير تحقق الجنابة ، كذلك يأتي بالغسل في العلم بالجنابة بماء أحد الانائين المشتبه احدهما بالمضاف بقصد الامتثال على تقدير تحقق الغسل بالماء المطلق ، فاذا

ص: 201

الثالث :

الظاهر أنّ وجوبَ كلّ من المحتملات عقليّ لا شرعيّ ؛ لانّ الحاكم بوجوبه ليس إلاّ العقل ، من باب وجوب دفع العقاب المحتمل على تقدير ترك أحد المحتملين ، حتى أنّه لو قلنا بدلالة أخبار الاحتياط أو الخبر المتقدّم في الفائتة على وجوب ذلك كان وجوبُه من باب الارشاد ،

-------------------

صادف الواقع كان مطيعا ، وإذا خالف الواقع كان عاصيا ، فلا وجه للقول ببطلان هذا الغسل إذا كان مطابقا للواقع .

التنبيه ( الثالث ) : في بيان إنّ وجوب الاحتياط والاتيان بالمحتملات ارشادي عقلي ، وليس بمولوي شرعي كما قال : -

( الظاهر: أنّ وجوبَ كلّ من المحتملات عقليّ لا شرعيّ، لانّ الحاكم بوجوبه ) أي : بوجوب كل من المحتملات ( ليس إلاّ العقل ) وذلك ( من باب وجوب دفع العقاب المحتمل على تقدير ترك أحد المحتملين ) أوالمحتملات بعدما تقدّم : من وجود المقتضي لتنجّز التكليف بالعلم الاجمالي وهو : الخطاب بتحريم الخمر أو الميتة ، أو وجوب الصلاة أو الصوم ، أو ما اشبه ذلك ، و عدم المانع عنه .

ان قلت : كيف يكون وجوب الاحتياط عقليا لا شرعيا ، مع وجود أخبار الاحتياط ؟ .

قلت : لا نسلم دلالة أخبار الاحتياط على الوجوب ، ثم ( حتى انّه لو قلنا بدلالة أخبار الاحتياط ، أو الخبر المتقدّم في الفائتة ) حيث تقدّم : من انّه إذا علم بفوات احدى فرائضه الخمس ، فعليه أن يأتي بثلاث صلوات : ثنائية ، وثلا ثية ، ورباعية ، فانّه يدل ( على وجوب ذلك ) اي : الاحتياط، قلنا: ( كان وجوبُه من باب الارشاد ) الى حكم العقل ، وليس مولويا .

ص: 202

وقد تقدّم الكلام في ذلك في فروع الاحتياط في الشك في التكليف .

وأمّا اثبات وجوب التكرار شرعا في ما نحن فيه بالاستصحاب وحرمة نقض اليقين بغير اليقين شرعا ، فقد

-------------------

وإنّما كان ذلك ارشادا الى حكم العقل ، لانّ كل ما حكم به العقل وأمر به الشرع ولم يكن ثواب على الأمر الشرعي ولا عقاب في تركه ، كان ذلك الأمر الشرعي ارشاديا ، فهو مثل أوامر الطاعة حيث لا ثواب عليها ولا عقاب في تركها ، وإنّما الثواب والعقاب على أمر الصلاة والصوم وما أشبه ذلك فعلاً أو تركا .

هذا ، وقد عرفت في باب الشبهة المحصورة : انّه لو أتى بالمحتملين - مثلاً - فهو انّما يثاب على التكليف الواقعي ، لا على الاحتمال الآخر الذي يأتي به احتياطا .

نعم ، له ثواب الانقياد ، لكن ثواب الانقياد هذا ليس من باب الثواب على نفس الشيء ، الذي هو المعيار لكون الشيء مولويا لا إرشاديا .

هذا ( وقد تقدّم الكلام في ذلك في فروع الاحتياط في الشك في التكليف ) حيث مرّ انّه لا فرق في كون أوامر الاحتياط ، أوامر عقلية لا شرعية ، والشرعية منها ارشادية محضة بين ان يكون مورد الاحتياط من الشك في التكليف أو الشك في المكلّف به .

( و ) ان قلت : سلّمنا انّ أوامر الاحتياط ارشادية ، لكنّا نقول : انّ وجوب تكرار الصلاة - مثلاً - باستصحاب شغل الذمة بعد الاتيان بالصلاة الاولى ، يجعل الامر بالاحتياط مولويا .

قلت : ( أمّا اثبات وجوب التكرار شرعا فيما نحن فيه بالاستصحاب ، وحرمة نقض اليقين بغير اليقين شرعا ، فقد ) سبق انّه لا يجعل أمر الاحتياط شرعيا

ص: 203

تقدّم في المسألة الاُولى عدم دلالة الاستصحاب على ذلك ، الاّ بناءا على أنّ المستصحب يترتّب عليه الامور الاتفاقية المقارنة معه ، وقد تقدّم إجمالاً ضعفُه ، وسيأتي تفصيلاً .

وعلى ما ذكرنا ، فلو ترك المصلّي المتحيّر في القبلة أو الناسي لفائتة جميع المحتملات لم يستحق إلاّ عقابا واحدا ، وكذا لو ترك أحد المحتملات واتفق مصادفتهة للواجب الواقعي ،

-------------------

فكيف به مولويا ؟ وذلك لما ( تقدّم في المسألة الاُولى ) : من ( عدم دلالة الاستصحاب على ذلك ) أي : على وجوب الاحتياط بتكرار الصلاة ( الاّ بناءا على ) الاصل المثبت ، وهو : ( انّ المستصحب يترتّب عليه الامور الاتفاقية المقارنة ) عقلاً ( معه ) أي : مع المستصحب ، فلم يترتب عليه أمر شرعي ، حتى يكون الاستصحاب فيه حجة .

هذا ( وقد تقدّم إجمالاً ضعفُه ، وسيأتي تفصيلاً ) انشاء اللّه تعالى في بحث الاستصحاب : بأن أدلة الاستصحاب لا تدل على حجيّة الاستصحاب المثبت ، وما نحن فيه منه ، لانّ وجوب الاتيان بالآخر ليس حكما شرعيا مترتبا على بقاء الشغل ، بل هو حكم عقلي ثابت بمجرد الاشتغال .

( وعلى ما ذكرنا ) : من أن أمر الاحتياط ارشادي محض ( فلو ترك المصلي المتحيّر في القبلة ، أو الناسي لفائتة ) من الفرائض الخمس ( جميع المحتملات ) عالما عامدا عصيانا ( لم يستحق إلاّ عقابا واحدا ) على ذلك ، لانّه ترك واجبا واحدا فقط .

( وكذا لو ترك أحد المحتملات واتفق مصادفته للواجب الواقعي ) فان الاتيان ببقيّة المحتملات كالثلاث بالنسبة الى القبلة ، و الاثنين بالنسبة الى ترك الفوائت ،

ص: 204

ولو لم يصادف لم يستحق عقابا من جهة مخالفة الأمر به ، نعم ، قد يقال باستحقاقه العقاب من جهة التجرّي ، وتمام الكلام فيه قد تقدّم .

الرابع :

لو انكشف مطابقة ما أتى به للواقع قبل فعل الباقي أجزء عنها ، لانّه صلّى الصلاة الواقعية قاصدا للتقرّب بها الى اللّه

-------------------

حيث لم تصادف الواقع ، لم توجب له ثوابا يدفع عقاب ترك المحتمل الاخير الذي صادف تركه ترك الواجب الواقعي ( ولو ) ترك كل الاحتمالات الاّ أحدها ، واتفق ان الذي أتى به قد صادف الواقع، فانه حيث ( لم يصادف ) ما تركه من بقية الاحتمالات ترك الواقع ( لم يستحق عقابا من جهة مخالفة الأمر به ) اي : بالاحتياط ، لفرض انّه اتى بما يجب عليه ولم يخالف الواقع ، فان المتروك كان غير الواقع .

( نعم ، قد يقال باستحقاقه العقاب من جهة التجرّي ) لانّ تكليفه العقلي كان الاتيان بكل الأطراف ، وهو لم يأت الاّ بأحدها ، فتركه لسائر الاطراف يكون تجريا على المولى .

هذا ( وتمام الكلام فيه ) اي : في التجري ( قد تقدّم ) في بحث القطع حيث ذكرنا هناك : ان التجري ليس بمحّرم ، وانّما يكشف عن خبث نية الفاعل ، فله قبح فاعلي وليس له قبح فعلي .

التنبيه ( الرابع : ) في بيان كفاية ما أتي به من المحتملات لو انكشف مطابقته للواقع ، قال : ( لو انكشف مطابقة ما اتى به للواقع قبل فعل الباقي ) كما لو صلّى الى جهةٍ وبعد الصلاة انكشف انّ صلاته التي أتى بها كانت باتجاه القبلة ( أجزء عنها) اي : عن الصلوات الأخر (لانّه صلّى الصلاة الواقعية قاصدا للتقرّب بها الى اللّه)

ص: 205

وإن لم يعلم حين الفعل أنّ المقرّب هو هذا الفعل ، إذ لا فرق بين أن يكون الجزم بالعمل ناشئا عن تكرار الفعل أو ناشئا عن انكشاف الحال .

-------------------

عزّوجل ، ولم يكن تكليفه الواقعي اكثرمن ذلك .

وإنّما لم يكن تكليفه اكثر من ذلك لانّ الصلوات الأُخر كانت مقدَّمة علمية في حال الجهل ، فلما انكشف الواقع سقطت المقدمة العلمية ، سواء كان الانكشاف علما بأن علم وجدانا ، ام علميا بأن قامت الشهود على ان صلاته كانت باتجاه القبلة .

وعليه : فان هذه الصلاة تُجزيه عن البقية ( وإن لم يعلم حين الفعل انّ المقرّب هو هذا الفعل ) لانّ العلم حال الفعل لا مدخلية له في التأثير في الواقع سلبا أو ايجابا .

وإنّما يجزي عنها ، لانه كما قال ( اذ لا فرق بين أن يكون الجزم بالعمل ناشئا عن تكرار الفعل ، أو ناشئا عن انكشاف الحال ) ولهذا لو انكشف في اثناء الصلاة - مثلاً - انّ غيرها هو الواجب جاز له ابطالها : وفي اثناء الصوم - مثلاً - جاز له ابطاله ولو كان بعد الظهر في محتمل قضاء شهر رمضان .

اما الحج فلا يجور له ابطاله في الاثناء ، لانّ الحج يجب اتمامه حتى وان كان مستحبا ، فكيف به لو كان واجبا ؟ ولذا فلو نذر الحج هذا العام أو العام الآتي ، ثم شك وذهب في العامين الى الحج ، وفي اثناء احدهما علم بأن هذا ليس هو المنذور ، فلا يجوز له أن يبطله .

نعم ، ربّما يقال : بجواز ابطاله ايضا ان كان قد حجّ على وجه التقييد ، اذ بالانكشاف يظهر : ان الحجّ هذا لم ينعقد من الاول رأسا ، فليس دفع اليه عنه في هذه الصورة ابطالاً للحج حتى يشمله دليل : « أتمُّوا الحَجَ والعُمرَةَ للّه » (1) .

ص: 206


1- - سورة البقرة : الآية 196 .
الخامس :

لو فرض محتملات الواجب غير محصورة لم يسقط الامتثال في الواجب المردّد باعتبار شرطه ، كالصلاة الى القبلة المجهولة

-------------------

ومنه يظهر : ما لو انكشف أثناء الاعتكاف انه لم يكن هو المنذور ، وكان الانكشاف في اليوم الثالث - مثلاً - فانه ان كان على وجه التقييد جاز رفع اليد عنه، والاّ لم يكن ذلك جائزا .

التنبيه ( الخامس ) في الشبهة الموضوعية الوجوبية : قد سبق في الشبهة الموضوعية التحريمية القول بعدم تأثير العلم الاجمالي فيها اذا كانت غير محصورة ، بخلاف الشبهة الموضوعية الوجوبية إذا كانت غير محصورة ، فانّ من اشتبه عليه الستر - مثلاً - وتردّد بين ثياب غير محصورة ، فليس له ان يترك الصلاة مطلقا ، أو يترك الصلاة مع الساتر مطلقا ، بل عليه ان يصلي ببعض هذه الثياب ، أمّا صلاة واحدة على الاحتمال ، أو صلوات متعدّدة ، بأن يبلغ حد العُسر والحَرج .

نعم ، لا تجب الموافقة القطعيّة بفعل جميع المحتملات الكثيرة الخارجة عن القدرة، فلا بدّ من التبعيض في الاحتياط والاتيان بالمقدار الممكن من المحتملات .

والى هذا الذي ذكرناه اشار المصنِّف حيث قال : ( لو فرض محتملات الواجب غير محصورة ، لم يسقط الامتثال في الواجب المردّد باعتبار شرطه ، كالصلاة الى القبلة المجهولة ) فيما لو فرض انّ محتملات الصلاة الواجبة عند اشتباه القبلة غير محصورة - مثلاً - لفرض عدم حصر الجهات في الدائرة التي يقف الانسان في نقطة منها ويريد التوجّه الى النقاط الموجودة في محيط الدائرة .

ص: 207

وشبهها قطعا ، اذ غاية الأمر سقوط الشرط ، فلا وجه لترك المشروط رأسا.

وأمّا في غيره ممّا كان نفسُ الواجب مردّدا ، فالظاهرُ أيضا عدم سقوطه ولو قلنا بجواز ارتكاب الكلّ في الشبهة غير المحصورة ؛

-------------------

لا يقال : انّه يكتفي بالاربع .

لانّه يقال : انّما هو للنص الخاص والمفروض انّه لا نص في المقام .

( وشبهها ) اي : شبه الصلاة الى القبلة المجهولة ، كالصلاة في الثياب المتعددة بأن كان له - مثلاً - ألف ثوب ، واحد منها فقط طاهر وقد اشتبه بينها ، فانه لا يكون ذلك سببا لسقوط الامتثال فيها ( قطعا ، اذ غاية الأمر : سقوط الشرط ) من ذلك المشروط ، فتسقط القبلة من الصلاة ، فيصلي بأيّ اتجاه شاء ، والطهارة من الساتر، فيصلي في واحد من تلك الثياب ، كما قال :

( فلا وجه لترك المشروط رأسا ) بأن يقال : انّه لا تكليف له بالصلاة بعد اشتباه القبلة ، أو اشتباه الساتر في غير المحصور .

و كذلك حال ما إذا كان له الف آنية أحدها نجس ، فليس له ان يترك الصلاة رأسا ، بل عليه أن يصلي مع الوضوء ببعض تلك الأواني .

هذا كله اذا كان الجهل بالشرط .

( وامّا في غيره ) بأن كان الجهل في غير الشرط ( ممّا كان نفسُ الواجب مردّدا ) كما اذا نذر صوم يوم معيّن فنسيه مع احتماله ذلك في كل ايام السنة ( فالظاهرُ أيضا : عدم سقوطه ) أي : عدم سقوط هذا الواجب المردّد في غير المحصور ، بل يجب عليه أن يصوم بعض ايام السنة .

وعليه : فان الواجب لا يجوز تركه هنا في الشبهة الوجوبية غير المحصورة ، حتى ( ولو قلنا بجواز ارتكاب الكلّ في الشبهة ) التحريمية ( غير المحصورة )

ص: 208

لانّ فعل الحرام لا يعلم هناك به إلاّ بعد الارتكاب ، بخلاف ترك الكلّ هنا ، فانّه يعلم به مخالفة الواجب الواقعي حين المخالفة .

-------------------

وذلك ( لانّ فعل الحرام لا يعلم هناك ) في الشبهة التحريمية ( به ) اي : بارتكاب الكل ( إلاّ بعد الارتكاب ) فلو شرب الاواني الألف كلّها علم بعد ذلك بانّه شرب الحرام .

( بخلاف ترك الكلّ هنا ) في الشبهة الوجوبية بان لا يصلي عند اشتباه الثوب الطاهر بين الف ثوب - مثلاً - ( فانّه يعلم به ) أي : بترك الكل وعدم الصلاة رأسا (مخالفة الواجب الواقعي حين المخالفة) .

والحاصل : انّ المخالفة القطعية في الشبهةُ التحريمية تكون تدريجية ، لانّ ارتكاب الكل يحصل تدريجا ، والمخالفة القطعيّة التدريجية لا يعلم بها الاّ بعد مخالفة الكل ، كما مثلنا له بشرب الأواني الألف تدريجيا ، فانّه بعد شرب الجميع يعلم بانّه قد خالف أمر : اجتنب الخمر - مثلاً - .

و امّا المخالفة القطعيّة في الشبهة الوجوبية ، فانّها تكون تفصيلية ، لانّ ترك الكل يحصل في آن واحد ، فاذا وجب عليه - مثلاً - شرب أحد تلك الأواني الألف ، فانّه حيث يترك الشرب في الآن الاوّل يتحقق ترك الكل ، ومن المعلوم : ان ترك الكل مخالفة تفصيلية وهو غير جائز عقلاً للعلم بالمخالفة حين المخالفة .

لكن لايخفى : انّ ما ذكره المصنِّف انّما يجري فيما إذا كانت الأفراد في الواجب المشكوك دفعية ، كمثال الأواني التي نذر أن يشرب أحدها فاشتبه بين الألف .

وأما اذا كانت الافراد في الواجب المشكوك تدريجية ، فانه لا يجري ما ذكره المصنِّف فيها ، وذلك كمثال من نذر صوم يوم معيّن من أيام السنة ، فاشتبه انه ايّ يوم كان ذلك ؟ فانه اذا ترك الصوم كل السنة ، لم يعلم بانّه خالف قطعا

ص: 209

وهل يجوز الاقتصار على واحد ، إذ به يندفع محذور المخالفة أم يجب الاتيان بما تيسّر من المحتملات ؟ وجهان : من أنّ التكليف باتيان الواقع ساقط ، فلا مقتضى لايجاب مقدّماته العلمية ، وانّما وجوب الاتيان بواحد فرارا من المخالفة القطعية ؛ ومن أنّ اللازمَ بعد الالتزام بحرمة مخالفة الواقع ، مراعاتُه مهما أمكن ،

-------------------

الاّ بعد انتهاء العام كله وذلك في اليوم الأخير من السنة .

( و ) كيف كان فلنرجع الى اصل البحث فنقول : ( هل يجوز الاقتصار على واحد ) من محتملات الوجوب ( اذ به ) اي : بذلك الواحد ( يندفع محذور المخالفة ) القطعية ؟ ( أم يجب الاتيان بما تيسّر من المحتملات ) ؟ .

مثلاً : اذا تردّد الثوب الطاهر في الف ثوب واراد الصلاة ، فهل يصلي صلاة واحدة فقط ، أو يصلي الى أن يصل الى حد العُسر والحرج ؟ ( وجهان ) .

أمّا الوجه الأوّل : وهو كفاية الواحدة فكما ذكره بقوله : ( من أنّ التكليف باتيان الواقع ساقط ) وذلك لما عرفت : من ان المقتضي لوجوب الاحتياط وان كان موجودا ، الاّ ان عدم الحصر يمنع عقلاً أو نقلاً عن وجوب احراز الواقع بالاحتياط باتيان جميع الاطراف .

وعليه : ( فلا مقتضى لايجاب مقدّماته العلمية ) أي : مقدمات الواقع ( وانّما وجوب الاتيان بواحد ) من الأطراف فقط وذلك ( فرارا من المخالفة القطعية ) فانه إذا أتى بصلاة واحدة لايقطع بالمخالفة ، فيكفي الاتيان بصلاة واحدة .

وامّا الوجه الثاني : وهو عدم كفاية الفرد الواحد ، بل وجوب الاتيان بما تيسّر من المحتملات الى حد العُسر والحرج ، فقد أشار اليه بقوله : ( ومن أنّ اللازم بعد الالتزام بحرمة مخالفة الواقع ، مراعاتُه ) أي مراعاة الواقع ، وذلك ( مهما أمكن )

ص: 210

وعليه بناء العقلاء في أوامرهم العرفيّة ، والاكتفاء بالواحد التخييري عن الواقع انّما يكون مع نصّ الشارع عليه ، وأمّا مع عدمه وفرض حكم العقل بوجوب مراعاة الواجب فيجب مراعاته حتى يقطع بعدم العقاب ، إمّا لحصول الواجب وإمّا

-------------------

أي : بأن يأتي به ما لم يقع في العسر والحرج .

وإنّما كان اللازم ذلك لانّ العلم بالتكليف يقتضي الاتيان بجميع الاطراف ، وانّما الرافع للتكليف هو العسر ، فاللازم الاتيان بما تيسّر من الأفراد وترك ما تعسّر ، فلا يقتصر على الفرد الواحد بل يأتي بما تيسّر له .

( وعليه ) أي : على الوجه الثاني وهو : لزوم الاتيان بالواقع حسب القدرة وترك مقدار العسر ، قام ( بناء العقلاء في أوامرهم العرفيّة ) فاذا قال المولى - مثلاً - : جئني بكتاب الرسائل من المكتبة ، وتردّد الكتاب عند العبد بين الف كتاب ولم يمكنه الاستعلام ، كان اللازم ان يأتي بما يقدر عليه من الكتب - اذا لم يكن هناك محذور خارجي في الاتيان بكتب كثيرة - لا أن يأتي بكتاب واحد فقط.

( و ) امّا ( الاكتفاء بالواحد التخييري عن الواقع ) فهو ( انّما يكون مع نصّ الشارع عليه ) اي : على كفاية الواحد مخيّرا ، والاّ فلا يكتفى به كما قال :

( وامّا مع عدمه ) اي مع عدم النص من الشارع على الاكتفاء بالواحد كما هو المفروض في المقام ، اذ لا دليل هنا على الاكتفاء بالواحد ، هذا من جهة ( وفرض حكم العقل بوجوب مراعاة الواجب ) لوجود المقتضي وعدم المانع من جهة اخرى ( فيجب مراعاته ) اي : الواجب من باب المقدمة العلمية ( حتى يقطع بعدم العقاب ) .

والقطع بعدم العقاب ( إمّا لحصول الواجب ) كما اذا امكن الاحتياط التام ( وإمّا

ص: 211

لسقوطه بعدم تيسّر الفعل ، وهذا لا يحصل الاّ بعد الاتيان بما تيسّر ، وهذا هو الأقوى .

-------------------

لسقوطه ) اي : سقوط الواجب ، وذلك ( بعدم تيسّر الفعل ) كما فيما نحن فيه حيث يعسر الاحتياط التام ، والعسر مسقط للتكليف .

إذن : فاللازم على العبد حينئذٍ تحصيل احد أمرين :

الاول : اما القطع بعدم العقاب من جهة ان الواجب قد حصل بسبب الاحتياط في جميع الاطراف .

الثاني : واما القطع بعدم العقاب من جهة ان الواجب قد سقط بالعسر ، والعسر مسقط للتكليف ( وهذا ) اي : سقوط التكليف بسبب العسر ( لا يحصل الاّ بعد الاتيان بما تيسّر ، وهذا هو الأقوى ) .

لكن ربّما يقال : ان اللازم هنا هو الاتيان بواحد منها فقط ، وذلك لانّ التكليف وضع حسب اليُسر العرفي ، كما ورد في روايات وجوب خمس صلوات مع انه قادر على الاكثر ، وصيام شهر واحد مع انه قادر على الاكثر ، وحج عام واحد مع انه قادر على الأكثر وما أشبه ذلك .

إذن : فالتكرار وان لم يكن عسرا شديدا ، الاّ انّه خلاف اليُسر العرفي ، ولذا قال جمع بكفاية صلاة واحدة فيما اشتبهت القبلة الى جهات اربع وقال الشارع : « يهريقهما ويتيمم » (1) مع انّه قادر على صلاتين بوضوئين ، كما ذكرناه سابقا وأفتى به بعض الفقهاء ، الى غير ذلك ، ومحل التفصيل : الفقه .

و ربّما يقال باحتمال ثالث هنا وهو : الاتيان بقدر الظن ، كما ذكر الفقهاء ذلك

ص: 212


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص229 ب10 ح45 ، الاستبصار : ج1 ص21 ب10 ح3 .

وهذا الحكم مطّرد في كلّ مورد وجد المانع من الاتيان ببعضٍ غير معيّنٍ من المحتملات ، ولو طرء المانع من بعضٍ معيّن منها ،

-------------------

فيمن عليه فوائت لا يحصي عددها ، وكما دل عليه ايضا بعض الأدلة .

هذا ، ولا يخفى : انّ الزيادة على الواحد لو قلنا بها ، فهي ليست في الماليات ، اذ في الماليات يلزم التقسيم ، كما إذا نذر ان يعطي دينارا لسيد خاص ، فاشتبه بين ألف سيد فعليه ان يقسمه بينهم ، كما ذكره الجواهر في كتاب الخمس ، وذكرناه نحن في مختلف أبواب الفقه بالمناسبة (1) .

( و ) كيف كان : فان ( هذا الحكم ) الذي ذكره المصنِّف وهو : وجوب الاتيان بما تيسّر ( مطّرد في كلّ مورد وجد المانع ) علما بأن المانع على قسمين : مانع عن بعض معيّن ، ومانع عن بعض غير معيّن .

اما لو طرء المانع ( من الاتيان ببعضٍ غير معيّنٍ من المحتملات ) فانه سواء كان المانع من الاتيان : العسر والحرج ، كما اذا تردّد الثوب الطاهر في الف ثوب وأراد الصلاة ، ام كان المانع شيئا آخر ، كما اذا منع الظالم عن الصلاة الاّ عن صلاة واحدة، تاركا اختيار هذه الصلاة الواحدة الى المصلّي ، فانّه يجب عليه الاتيان بالباقي غير المعيّن ، سواء كان طروّ المانع قبل العلم الاجمالي ام بعده .

وإنّما يجب عليه الاتيان بالباقي ، لأن التكليف قد تنجّز بسبب العلم الاجمالي بوجوب واحد منها ، وترخيص الشارع ترك بعضها ، يدل على اكتفائه باتيان الباقي غير المعيّن بدلاً عن الواقع .

( و ) اما ( لو طرء المانع من بعض معيّن منها ) لا عن بعض غير معيّن كما كان

ص: 213


1- - للتفصيل راجع موسوعة الفقه للشارح .

ففي الوجوب كما هو المشهور اشكالٌ من عدم العلم بوجود الواجب بين الباقي ، والأصل البرائة .

السادس :

هل يشترط في تحصيل العلم

-------------------

في القسم الأوّل ، وذلك بأن منع الظالم من الاتيان بالحج ، ثم علم العبد بأن عليه اما الحج أو الصيام ( ففي الوجوب كما هو المشهور ) للباقي غير الممنوع وهو الصوم في المثال ( اشكالٌ ) .

وإنّما في وجوبه اشكال ، لانّه من جهة : كون بناء العقلاء على مراعاة الواجب مهما امكن ، وبناؤهم متبع في باب الطاعة والمعصية ، فيجب إذن الاتيان بالباقي غير الممنوع.

و لانه ( من ) جهة : ( عدم العلم بوجود الواجب بين الباقي ) لاحتمال كون الممنوع هو الواجب ، فيكون الباقي من مورد الشك في التكليف ( والأصل ) عند الشك فيالتكليف : ( البرائة ) فلا يجب عليه إذن الاتيان بالباقي غير الممنوع .

هذا اذا كان طروّ المانع في البعض المعيّن قبل حصول العلم الاجمالي ، واما اذا كان العلم الاجمالي حاصلاً قبل طروّ المانع ، فاللازم عليه : ان يأتي بالباقي غير الممنوع ، لانّ ترخيص الشارع في ترك الممنوع بعد العلم الاجمالي بوجوب واحد منها ، يدل على اكتفائه بالبدل .

التنبيه ( السادس ) : في بيان انه هل يكفي الامتثال الاجمالي عند العلم الاجمالي بالتكليف ، أو يشترط الامتثال التفصيلي مع التمكن من الامتثال التفصيلي ، أو القدرة على اختيار الامتثال التفصيلي .

و الى هذا المعنى اشار المصنِّف بقوله : ( هل يشترط في تحصيل العلم

ص: 214

الاجمالي بالبرائة بالجمع بين المشتبهين عدمُ التمكّن من الامتثال التفصيلي بازالة الشبهة أو اختياره ما يعلم به البرائة تفصيلاً ، أم يجوز الاكتفاء به وإن تمكّن من ذلك ، فلايجوز إن قدر على تحصيل العلم

-------------------

الاجمالي بالبرائة ) وذلك عن طريق الامتثال الاجمالي وهو : الاحتياط ( بالجمع بين المشتبهين ) هل يشترط فيه ( عدم التمكّن من الامتثال التفصيلي ) وذلك ( بازالة الشبهة ) غير تحصيل العلم او الظن المعتبر ؟ .

وعليه : فيحتاط حينئذٍ لانه لا طريق له الى العلم التفصيلي ، حتى يتمكن من الامتثال التفصيلي ؟ .

( أو ) يشترط فيه عدم التمكن من ( اختياره ) اي : عدم تمكنه من اختيار الامتثال التفصيلي ، وذلك بتحصيل ( ما يعلم به البرائة تفصيلاً ) بأن يطهّر احد الثوبين المشتبهين ، فيصلّي فيه ، أو يصلّي في ثوب ثالث طاهر .

وعليه : فيحتاط حينئدٍ لا من أجل انه لا طريق له الى الامتثال التفصيلي ، بل من أجل انه غير متمكن من اختيار الامتثال التفصيلي ، بسبب انه - مثلاً - لا ثوب ثالث له ، أو لا ماء له حتى يطهّر به أحد الثوبين المشتبهين .

( أم ) لا يشترط فيه شيء من ذلك ، بل ( يجوز الاكتفاء به ) اي : بالعلم الاجمالي بالبرائة ، فيحتاط حينئذٍ ( وان تمكّن من ذلك ) اي : من العلم التفصيلي أو الظن المعتبر ، حتى يتمكن على آخره من الامتثال التفصيلي ؟ .

وعليه : فاذا قلنا بأنّ جواز الاحتياط مشروط بعدم التمكن من الامتثال التفصيلي ، وبعدم التمكن من اختيار الامتثال التفصيلي ( فلا يجوز ) له تحصيل العلم الاجمالي بالبرائة ( ان قدر على تحصيل العلم ) التفصيلي ، أو الظن المعتبر

ص: 215

بالقبلة أو تعيين الواجب الواقعي من القصر والاتمام أو الظهر والجمعة الامتثالُ بالجمع بين المشتبهات ؟ وجهان ، بل قولان ، ظاهرُ الأكثر الأوّل ، لوجوب اقتران الفعل المأمور به عندهم بوجه الأمر .

-------------------

( بالقبلة ، أو تعيين الواجب الواقعي من القصر والاتمام ، أو الظهر والجمعة ) بالاجتهاد ، أو بالرجوع الى المجتهد أو الى الرسالة العملية ، فيأتي بالامتثال التفصيلي .

إذن : فلا يجوز للمتمكن من الامتثال التفصيلي الاحتياط أي : ( الامتثالُ بالجمع بين المشتبهات ) .

هذا ولا يخفى : ان المسألة انّما هي بالنسبة الى التعبّديات كالصلاة والصيام ، والوضوء والغسل ، وما اشبه ذلك ، امّا التوصليات فلا يشك احد في كفاية الاحتياط والامتثال الاجمالي وان تمكن من العلم التفصيلي فيها .

وعليه : ففي المسألة ، ( وجهان : ) كما قال : ( بل قولان : ) فانّ بعضهم أجاز الاكتفاء بالامتثال الاجمالي ، وبعضهم لم يكتف به الاّ في صورة تعذّر الامتثال التفصيلي .

هذا ولكن ( ظاهرُ الاكثر : الاوّل ) اي : اشتراط جواز الاحتياط بعدم التمكن من العلم التفصيلي ، فلا يكفي الامتثال الاجمالي الذي هو عبارة اخرى عن الاحتياط مع التمكن من الامتثال التفصيلي ، بل ربّما ادعى الاجمال على عدم كفاية الاحتياط في العبادات فيما يتوقّف على التكرار مع التمكن من العلم التفصيلي أو الظن المعتبر .

وإنّما قال الاكثر بعدم كفاية الامتثال الاجمالي مع التمكّن من التفصيلي ( لوجوب اقتران الفعل المأمور به عندهم بوجه الأمر ) فحيث يتمكن المكلّف

ص: 216

وسيأتي الكلام في ذلك عند التعرّض لشروط البرائة والاحتياط إن شاء اللّه .

ويتفرّع على ذلك انّه لو قدر على العلم التفصيلي من بعض الجهات ، وعجز عنه من جهة أُخرى ، فالواجب مراعاة العلم التفصيلي من تلك الجهة فلا يجوز لِمَن قدر على الثوب الطاهر المتيقّن وعجز عن تعيين القبلة تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين الى اربع جهات ، لتمكنه من العلم التفصيلي

-------------------

من قصد الوجه ، لا يجوز له أن يأتي بما لا يتمكن من قصد الوجه فيه ( وسيأتي الكلام في ذلك عند التعرّض لشروط البرائة والاحتياط إن شاء اللّه ) تعالى .

( ويتفرّع على ذلك ) أي : القول الأوّل : من لزوم الامتثال التفصيلي مع التمكن منه ( انّه لو قدر على العلم التفصيلي من بعض الجهات ، وعجز عنه من جهة أُخرى ، فالواجب مراعاة العلم التفصيلي من تلك الجهة ) .

مثلاً : اذا اشتبهت القبلة بين اربع جهات ، واشتبه الثوب الطاهر بين ثوبين ، وهو يتمكن من الثوب الطاهر ولا يتمكن من العلم بالقبلة ، وجب عليه على هذا القول ان يصلي بالثوب الطاهر أربع صلوات فقط ، لا أن يحتاط في الثوبين المشتبهين فيصلي اربع صلوات في هذا المشتبه واربع صلوات في المشتبه الآخر.

وعليه : ( فلا يجوز لمن قدر على الثوب الطاهر المتيقّن ) تفصيلاً ، وذلك اما بتطهير احد الثوبين المشتبهين والصلاة فيه ، وامّا بالصلاة في ثوب طاهر ثالث ( و ) إن ( عجز عن تعيين القبلة ) المشتبهة عنده في اربع جهات ، فانه لا يجوز له ( تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين الى أربع جهات ) .

وإنّما لا يجوز له تكرار الصلاة في الثوبين ( لتمكنه من العلم التفصيلي

ص: 217

بالمأمور به من حيث طهارة الثوب وان لم يحصل مراعاة ذلك العلم التفصيلي على الاطلاق .

السابع :

لو كان الواجب المشتبه أمرين مترتّبين شرعا ، كالظهر والعصر المردّدين بين القصر والاتمام أو بين الجهات الأربع ، فهل يعتبر في صحة الدخول في محتملات

-------------------

بالمأمور به من حيث طهارة الثوب ) فيجب عليه مراعاة هذا المقدار ( وان لم يحصل مراعاة ذلك العلم التفصيلي على الاطلاق ) حتى من جهة القبلة .

هذا مع العلم بأنّ القائل بجواز الاحتياط مطلقا ، والقائل بجوازه مع عدم التمكن من العلم التفصيلي لا يفرّقان بين الشبهة الحكميّة والموضوعيّة ، وذلك لوحدة الملاك عند كل منهما في كلتا المسألتين .

التنبيه ( السابع ) : لوكان المعلوم بالاجمال امرين يترتب احدهما على الآخر شرعا ، كالظهر والعصر ، فاذا تردّد الأمر فيهما بين القصر والاتمام ، أو تردّد الأمر فيهما بين الجهات الاربع عند اشتباه القبلة - مثلاً - فهل يعتبر في صحة الدخول في محتملات العصر أن يكون بعد استيفاء جميع محتملات الظهر ، أو انّه لا يعتبر ذلك ، فيجوز له الاتيان بظهر ثم عصر الى اليمين ، ثم بظهر وعصر الى اليسار وهكذا ؟ وجهان ، بل قولان ، والى هذا المبحث اشار المصنِّف بقوله :

( لو كان الواجب المشتبه أمرين مترتّبين شرعا ، كالظهر والعصر المردّدين بين القصر والاتمام ، أو بين الجهات الأربع ) أو بين جهتين - مثلاً - كما إذا علم ان القبلة ذات اليمين أو ذات اليسار ( فهل يعتبر في صحة الدخول في محتملات

ص: 218

الواجب اللاحق الفراغُ اليقيني من الاوّل باتيان جميع محتملاته ، كما صرح به في الموجز، وشرحه والمسالك والروض والمقاصد العليّة ، أم يكفي فيه فعلُ بعض محتملات الاوّل ، بحيث يقطع بحصول الترتيب بعد الاتيان بمجموع محتملات المشتبهين ،

-------------------

الواجب اللاحق ) كالعصر في المثال ( الفراغُ اليقيني من الاوّل ) ام لا ؟.

و من المعلوم : ان الفراغ اليقيني إنّمايحصل ( باتيان جميع محتملاته ) أي : محتملات الظهر ، فاللازم عليه ان يصلي أولاً الظهر قصرا وتماما ، ثم يأتي بالعصر كذلك في اشتباه القصر والتمام ، وأن يأتي أولاً بالظهر في الجهات الأربع ثم بالعصر كذلك في اشتباه القبلة ، وذلك ( كما صرح به في الموجز ، وشرحه ، والمسالك والروض والمقاصد العليّة ) وغيرها من كتب الاصحاب .

( أم يكفي فيه ) أي : في الدخول في محتملات الواجب اللاحق ( فعلُ بعض محتملات الاوّل ، بحيث يقطع بحصول الترتيب بعد الاتيان بمجموع محتملات المشتبهين ) كما تقدَّم في مثالنا : من انّه يصلي الظهر والعصر معا الى جهة اليمين ،

ثم يصلي الظهر والعصر معا الى جهة الشمال ، وهكذا .

أمّا انه يصلي الظهر الى جهة اليمين والعصر الى جهة الشمال ، فانه لم يقل بجوازه أحد لانه حينئذٍ يعلم بفساد العصر على كل حال ، فانّ القبلة اذا كانت ذات اليمين فسد العصر ، لانّه كان الى خلاف القبلة ، واذا كان ذات الشمال فسد العصر أيضا ، لانّه لم يقع على الترتيب المقرّر في تقديم الظهر عليه ، لفرض فساد الظهر الذي صلاه الى ذات اليمين .

إذن : فالكلام ليس في هذا ، بل الكلام في كفاية ما مثلنا له من الاتيان بالظهرين

ص: 219

كما عن نهاية الاحكام والمدارك، فيأتي بظهر وعصر قصرا ، ثم بهما تماما قولان ، متفرّعان على القول المتقدّم في الأمر السادس ، من وجوب مراعاة العلم التفصيلي مع الامكان ، مبنيّان على انّه هل يجب مراعاة ذلك من جهة نفس الواجب ؟ .

-------------------

معا ( كما عن نهاية الاحكام والمدارك ، فيأتي بظهر وعصر قصرا ، ثم بهما تماما ) وكذا بالنسبة الى الجهات الاربع في اشتباه القبلة .

وعليه : ففي المسئلة ( قولان ) وهذان القولان ( متفرّعان على القول المتقدّم في الأمر السادس : من وجوب مراعاة العلم التفصيلي مع الامكان ) وعدم جواز الامتثال الاجمالي .

أما اذا قلنا بعدم وجوب مراعاته وكفاية الامتثال الاجمالي مع امكان التفصيلي ، فلا اشكال في انه يجوز الترتيب فيما نحن فيه، كما يجوز خلاف الترتيب، بمعنى : الاتيان بظهر وعصر الى جهة ، ثم الاتيان بظهر وعصر الى جهة ثانية ، وهكذا ، وذلك لانّه يحصل الامتثال الاجمالي بكلتا الصورتين : صورة التفريق ، وصورة الترتيب .

إذن : فالقولان مفرّعان على وجوب مراعاة العلم التفصيلي ، كما انهما ( مبنيّان على انّه هل يجب مراعاة ذلك ) اي : العلم التفصيلي ( من جهة نفس الواجب ؟ ) فيجب مراعاة العلم التفصيلي من جهة : ان تقليل محتملات الواجب بقلة التكرار مهما امكن مطلوب .

أو أنه يجب مراعاة ذلك لا من جهة نفس الواجب ، وإنّما من جهة نفس الخصوصية المشكوكة في العبادة ، فيجب مراعاة العلم التفصيلي من جهة : ان العلم بخصوصيات الواجب مهما امكن حتى وان لم يلزم من العلم التفصيلي تقليل محتملات الواجب مطلوب .

ص: 220

فلا يجب إلاّ اذا أوجب إهماله تردّدا في اصل الواجب ، كتكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين على اربع جهات ، فانّه يوجب تردّدا في الواجب زائدا على التردّد الحاصل من جهة إشتباه القبلة ، فكما يجب دفع التردّد مع الامكان كذلك يجب تقليله .

أمّا إذا لم يوجب إهماله تردّدا زائدا في الواجب ، فلا يجب ، كما في ما نحن فيه ، فانّ الاتيان بالعصر المقصورة بعد الظهر المقصورة

-------------------

فعلى القول بانّه يجب مراعاة العلم التفصيلي من جهة نفس الواجب ، وذلك لتقليل محتملاته مهما امكن نقول : ( فلا يجب ) مراعاة العلم التفصيلي ( إلاّ اذا أوجب إهماله ) اي : اهمال مراعاة العلم التفصيلي ازدياد محتملات نفس الواجب وكثرة تكراره بأن اوجب ( تردّدا في اصل الواجب ) .

و امّا مثاله : فهو ما ذكره المصنِّف بقوله : ( كتكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين على اربع جهات ) حيث يستلزم ثمان صلوات ( فانّه يوجب تردّدا في الواجب زائدا على التردّد الحاصل من جهة إشتباه القبلة ) لوضوح : انّ اشتباه القبلة يوجب تردّد الواجب بين أربع صلوات ، فاذا انضم الى تلك الأربع ، اشتباه الساتر في ثوبين ، أوجب تردّد الواجب بين ثمان صلوات .

وعليه : ( فكما يجب دفع التردّد ) في الامتثال رأسا ، وتحصيل الامتثال التفصيلي ( مع الامكان ) وذلك بأن يطهّر أحد ثوبيه المشتبهين حتى لا يكرّر الصلاة ( كذلك يجب تقليله ) أي : تقليل التردّد وقلة التكرار مهما امكن .

( أمّا إذا لم يوجب إهماله ) اي : اهمال مراعاة العلم التفصيلي ( تردّدا زائدا في الواجب ) وكثرة تكراره ( فلا يجب ) حينئذٍ مراعاته ( كما في ما نحن فيه ) من الظهرين ( فانّ الاتيان بالعصر المقصورة بعد الظهر المقصورة ) الى كل جهة جهة ،

ص: 221

لا يوجب تردّدا زائدا على التردّد الحاصل من جهة القصر والاتمام ، لانّ العصر المقصورة إن كانت مطابقة للواقع كانت واحدة لشرطها ، وهو الترتّب على الظهر ، وإن كانت مخالفة للواقع لم ينفع وقوعُها مترتّبة على الظهر الواقعيّة ؛ لأنّ الترتّب انّما هو بين الواجبين واقعا .

-------------------

فيصلي ظهرا وعصرا الى اليمين ، وظهرا وعصرا الى الشمال ، و هكذا ( لا يوجب تردّدا زائدا على التردّد الحاصل من جهة القصر والاتمام ) لانّه بالنتيجة يأتي بالظهر اربع مرات ، وبالعصر اربع مرات بلا زيادة .

وعليه : فانّ الاشتباه بين القصر والاتمام قد أوجب تردّد الظهر وكذلك العصر بين محتملين ، بينما الاشتباه في الترتيب لا يوجب زيادة المحتملات حتى يجب رفعه ، فلا يجب إذن مراعاته فيه .

وانّما لايجب مراعاته فيه ( لانّ العصر المقصورة إن كانت مطابقة للواقع ، كانت واحدة لشرطها ، وهو الترتّب على الظهر ) فاذا فرضنا إن القبلة في نقطةُ الجنوب - مثلاً - وصلّى صلاتين الى نقطة الجنوب ظهرا وعصرا ، فان العصر تقع صحيحة بعد الظهر الصحيحة .

هذا ( وان كانت مخالفة للواقع ) بأن كانت القبلة طرف الشمال - مثلاً - ( لم ينفع وقوعُها مترتّبة على الظهر الواقعيّة ) فانّه سواء صلّى الظهر قصرا ام تماما ، أولاً أم وسطا أم أخيرا، فانّ الصلاة الى جهة الشمال باطلة ، فالعصر ايضا تقع باطلة .

وانّما لا ينفع وقوعها هنا مترتبة ( لأنّ الترتّب ) النافع في أداء التكليف ( انّما هو بين الواجبين واقعا ) كما مثلّنا له بصلاة الظهر والعصر الى طرف الجنوب ، لا بين الواجبين ظاهرا من باب وجوب المقدمة العلمية .

ص: 222

ومن ذلك يظهر عدمُ جواز التمسك بأصالة بقاء الاشتغال بالظهر وعدم فعل الواجب الواقعي .

وذلك لانّ المترتبَ على بقاء الاشتغال وعدم فعل الواجب ، عدمُ جواز الاتيان بالعصر الواقعي ، وهو مسلّم ، ولذا لايجوز الاتيان حينئذٍ بجميع محتملات العصر .

-------------------

( ومن ذلك ) الذي ذكرناه في كون الترتب المقرّر شرعا هو : الترتب بين الواجبين الواقعييّن ، لا بين الواجبين الظاهريّين من باب المقدمة ( يظهر : عدمُ جواز التمسك بأصالة بقاء الاشتغال بالظهر وعدم فعل الواجب الواقعي ) الذي هو الظهر في المثال ، فانه لا يصح التمسك به لا بطال صلاة العصر .

و بعبارة اخرى : ان الدخول في العصر قبل اتيان الظهر غير مشروع ، ومقتضى استصحاب عدم الاتيان بالظهر - لانّه لا يعلم هل ان الظهر الى هذه الجهة ، وقعت صحيحة أو غير صحيحة ؟ - هو : عدم الاتيان بالظهر ، وهذا الاستصحاب يقتضي أن لا يأتي بالعصر وذلك رعاية للترتيب بينهما .

و الجواب : ان الترتيب هنا من باب الوجوب المقدمي ، وليس واجبا واقعيا حتى يصح فيه التمسك بالاستصحاب ( وذلك ) كما قال :

( لانّ المترتب على بقاء الاشتغال وعدم فعل الواجب : عدمُ جواز الاتيان بالعصر الواقعي ) فانّ العصر الواقعي لا يقع بعد الظهر الذي هو غير واقعي ( وهو ) أي : عدم جواز الاتيان بالعصر الواقعي قبل الاتيان بالظهر الواقعي ( مسلّم ) لا نزاع فيه ، فانّ أحدا لا يتوهم بانّه يجوز الاتيان بالعصر الواقعي عقيب الظهر غير الواقعي .

( ولذا لا يجوز الاتيان حينئذٍ ) اي : حين الاتيان بأحد محتملات الظهر ثم الاتيان ( بجميع محتملات العصر ) وذلك بأن يصلي الظهر مرة الى جهة واحدة ،

ص: 223

وهذا المحتمل غير معلوم أنّه العصر الواقعي ، والمصحّح لإتيان به هو المصحّح لإتيان محتمل الظهر المشترك معه في الشك وجريان الأصلين فيه ، أو ان الواجب مراعاة العلم التفصيلي من جهة نفس الخصوصيّة المشكوكة في العبادة ، وإن لم يوجب اهماله تردّدا في الواجب ،

-------------------

ثم يأتي بالعصر اربع مرات الى الجهات الاربع ، فانه لا يجوز قطعا .

( و ) لكن ( هذا المحتمل ) الواحد من العصر الذي صلاه الى جهة واحدة بعد أن صلّى الظهر اليها ( غير معلوم انّه العصر الواقعي ، و ) انّما هو عصر ظاهري ترتب على الظهر الظاهري ، لا انّه عصر واقعي ترتب على الظهر الظاهري حتى يقال باستصحاب عدم الاتيان بالظهر .

وعليه : فان ( المصحّح للأتيان به ) اي : بهذا العصر الظاهري ( هو المصحّح لإتيان محتمل الظهر ) من احتمال كون هذه الجهة جهة القبلة ( المشترك ) ذلك المحتمل الظهرية ( معه ) اي : مع المحتمل العصرية ( في الشك ) في انّه هل هو الى جهة القبلة أم لا ؟ ( و ) كذا المشترك معه أيضا من حيث ( وجريان الأصلين فيه ) اي : أصالة بقاء الاشتغال ، وأصالة عدم فعل الواجب الواقعي .

هذا تمام الكلام في الشق الأوّل من قول المصنِّف : « قولان ... مبنيان » واما الكلام في شقه الثاني فهو ما اشار اليه المصنِّف بقوله :

( أو ان الواجب مراعاة العلم التفصيلي من جهة نفس الخصوصيّة المشكوكة في العبادة ) فيجب مراعاة العلم التفصيلي من جهة : ان المطلوب هو : العلم بخصوصيّات الواجب مهما أمكن ، حتى ( وان لم يوجب اهماله ) اي : اهمال مراعاة العلم التفصيلي ازدياد محتملات نفس الواجب وكثرة تكراره ، بان لم يوجب ( تردّدا في الواجب ) .

ص: 224

فيجب على المكلّف العلم التفصيليُّ عند الاتيان بكون ما يأتي به هو نفس الواجب الواقعي .

فاذا تعذّر ذلك من بعض الجهات لم يعذر في إهماله من الجهة المتمكّنة .

فالواحب على العاجز عن تعيّن كون الصلاة قصرا أو اتماما العلم التفصيليُّ ، بكون المأتي به مترتّبا على الظهر ،

-------------------

وعليه : فان المكلّف فيما نحن فيه ، سواء اتى بالظهر والعصر معا الى كل جهةُ من الجهات الاربع ، ام اتى بالظهر الى اربع جهات ، ثم اتى بالعصر كذلك ، فانه بعد كل من هاتين الصورتين ، يعلم بأنه اتى بالعصر الواقعي بعد ظهر واقعي ، إلاّ ان في الصورة الاولى كان مراعاة العلم التفصيلي فيها من جهة نفس الواجب بايقاعه الى القبلة ، وفي الصورة الثانية كان مراعاته من جهة نفس الخصوصية المشكوكة في العبادة بايقاعها مترتبة ايضا .

إذن : فعلى القول بوجوب مراعاة العلم التفصيلي من جهة نفس الخصوصية المشكوكة في العبادة ، يجب الاتيان بالصلاة - كما في المثال - على الصورة الثانية ، ولا يكفي اتيانها على الصورة الاولى .

ولذلك قال : ( فيجب على المكلّف : العلم التفصيليّ عند الاتيان ، بكون ما يأتي به هو نفس الواجب الواقعي ) بلاتردد في خصوصياته ( فاذا تعذّر ذلك ) أي: تعذّر العلم التفصيلي ( من بعض الجهات ) كجهة القبلة ( لم يعذر في إهماله من الجهة المتمكّنة ) كجهة الترتيب بين الظهرين ، فانه يمكن رفع الترديد منها باتيان الظهر أولاً الى اربع جهات ، ثم الاتيان بالعصر كذلك .

إذن : ( فالواحب على العاجز عن تعيّن كون الصلاة قصرا أو اتماما : العلم التفصيليّ بكون المأتي به مترتّبا على الظهر ) وذلك بأن يأتي باحتمالي الظهر

ص: 225

ولا يكفي العلم بترتبه على تقدير صحته .

هذا كله مع تنجّز الأمر بالظهر والعصر دفعةً واحدةً في الوقت المشترك.

أمّا إذا تحقّق الأمر بالظهر فقط في الوقت المختصّ ففعل بعض محتملاته ، فيمكن أن يقال بعدم الجواز نظرا الى الشك في تحقّق الأمر بالعصر، فكيف يُقدّم على محتملاتها التي لا تجب الاّ مقدمة لها ،

-------------------

تماما وقصرا ، ثم باحتمالي العصر تماما وقصرا ( ولا يكفي العلم بترتبه ) اي : العصر لا علما تفصيليا ، بل احتمالاً ( على تقدير صحته ) كما اذا اتى بظهر تمام وعصر تمام ، ثم بظهر قصر وعصر قصر ، فانه حينئذٍ لا يقطع بالترتيب بينهما .

( هذا كله مع تنجّز الأمر بالظهر والعصر دفعةً واحدةً ) كما ( في الوقت المشترك ) بين الظهر والعصر ، بأن لم تكن الصلاتان في أول الوقت ولا في آخر الوقت ، ففيه كان الكلام: من وجوب مراعاة الواجب وخصوصياته او عدم وجوبه.

( أمّا إذا تحقّق الأمر بالظهر فقط ) كما ( في الوقت المختصّ ، ففعل بعض محتملاته ، فيمكن أن يقال بعدم الجواز ) اي : عدم جواز الدخول في محتمل العصر اطلاقا .

وإنّما يقال بعدم الجواز ( نظرا الى الشك في تحقّق الأمر بالعصر ، فكيف يُقدّم على محتملاتها التي لا تجب ) تلك المحتملات ( الاّ مقدمة لها ؟ ) اي : للعصر الواقعي ، فانّ العصر انّما يتحقق الأمر بها بعد دخول وقتها ، ولا يدخل وقتها الاّ بعد امكان الاتيان بالظهر بجميع مقدمات الظهر ، كالطهارة ، وتحصيل القبلة ، وما أشبه ذلك ، ومن تلك المقدمات : المقدمات العقلية أعني : الاحتياط باتيان جميع المشتبهات .

وعليه : فاذا لم يفرغ من الظهر بكل مقدماتها : من القصر والاتمام عند الشك فيهما ، او التكرار الى جهات أربع عند الاشتباه في القبلة ، أو غير ذلك ،

ص: 226

بل الأصل عدم الأمر ، فلا يشرع الدخول في مقدمات الفعل .

ويمكن أن يقال : إنّ أصالة عدم الأمر إنّما يقتضي عدم مشروعية الدخول في المأمور به ومحتملاته التي يحتمله على تقدير عدم الأمر واقعا ، كما اذا صلّى العصر الى غير الجهة التي صلّى الظهر ، وأمّا ما لا يحتمله الاّ على تقدير وجود الأمر ، فلا يقتضي الأصل المنع عنه ، كما لا يخفى .

-------------------

لم يدخل وقت العصر ، فاذا أتى بالعصر حينئذٍ وقعت باطلة ، لانّها في الوقت المختص بالظهر وليس في الوقت المشترك .

( بل ) حتى اذا شككنا في انّ وقت العصر دخل أو لم يدخل ، كان ( الأصل عدم الأمر ) بالعصر ( فلا يشرع الدخول في مقدمات الفعل ) اي : في مقدمات صلاة العصر بأن يأتي بأحد العصرين بعد احد الظهرين .

ثم ان المصنِّف بعد أن انتهى من قوله : فيمكن ان يقال ، شرع في الردّ عليه بقوله : ( ويمكن أن يقال : ) بانّه إذا صلّى الظهر تماما - مثلاً - وكان في الواقع صحيحا لان تكليفه كان هو التمام ، فقد دخل وقت العصر لانّه فرغ من الظهر ، فاذا صلّى_'feالعصر تماما كان في وقته ، فلا يكون العصر باطلاً وذلك كما قال :

( انّ أصالة عدم الأمر ) بالعصر ( انّما يقتضي عدم مشروعية الدخول في المأمور به ومحتملاته التي يحتمله : على تقدير عدم الأمر واقعا ) فاذا لم يكن امر واقعا لم يصح الدخول لا في العصر ولا في محتملاته من باب العلم الاجمالي والمقدمة العلمية ( كما اذا صلّى العصر الى غير الجهة التي صلى الظهر ) اليها .

( وأمّا ما لا يحتمله الاّ على تقدير وجود الأمر ) كما إذا صلّى العصر للجهة التي صلّى الظهر اليها ( فلا يقتضي الأصل المنع عنه ) حتى يكون العصر باطلاً ( كما لايخفى ) .

ص: 227

الثاني :

-------------------

وعلى هذا : فيجوز أن يأتي بالعصر بعد الظهر في أول الوقت حتى ولو كان الواجب عليه تكرار الصلاة ، كما في صورة اشتباه القبلة ، فيأتي بالظهرين الى كل جهة جهة ، وكما في صورة اشتباه التكليف بين القصر والتمام ، فيأتي بالعصر تماما بعد الظهر تماما ، وبالعصر قصرا بعد الظهر قصرا في أول الوقت ، وهكذا .

إذن : فلا فرق على هذا ، بين الوقت المختص والوقت المشترك .

المقام ( الثاني ) : من بحث الشبهة الوجوبية في الشك بين الاقل والأكثر ، ولايخفى انّ الأقل والأكثر على قسمين :

الأوّل : الأقل والأكثر الاستقلاليين .

الثاني : الأقل والأكثر الارتباطيين .

والفرق بينهما : ان الاقل والاكثر الاستقلاليين هو : ما لم يكن امتثال بعضه مرتبطا بامتثال البعض الآخر ، كالشك في انّه هل فاته صوم خمسة أيام من شهر رمضان أو اربعة ؟ أو هل فاتته خمس صلوات أو أربع صلوات ؟ وكالشك في انّه هل هو مديون لزيد اربعة دنانير أو خمسة دنانير ؟ أو هل انّه مديون لكل بقّالي البلد او لعدد معيّن منهم فقط - مثلاً - ؟ .

وعلى هذا : فينحل الواجب في الاقل والاكثر الاستقلاليين الى واجبات متعددة غير مرتبطة بعضها ببعض ، فاذا أتى - مثلاً - ببعض وأخلّ ببعض ، فقد امتثل بالنسبة الى ما أتى به وان عصى بالنسبة الى ما أخلّ به .

أمّا الأقل والأكثر الارتباطيين : فهو ما كان امتثال بعضه مرتبطا بامتثال البعض الآخر ، وذلك بأن كان المطلوب فيه هو المجموع من حيث المجموع بحيث إذا أتى بالجميع دون جزء واحد أو شرط واحد لم يمتثل أصلاً ، من غير فرق بين

ص: 228

فيما إذا دار الأمر في الواجب بين الأقلّ والأكثر ، ومرجعه الى الشك في جزئية شيء للمأمور به وعدمها ،

-------------------

ان يكون أبعاضه أُمورا وجودية : كالتكبير والركوع والسجود وما أشبه ذلك بالنسبة الى الصلاة .

أو يكون أبعاضه أمورا عدمية : كالكف عن الأكل والشرب وما أشبه ذلك بالنسبة الى الصيام .

أو يكون أبعاضه مركبا من امور وجودية وعدمية معا كالنية ولبس الثوب والتلبية ، فانها امور وجودية ، كالكف عن الصيد والطِيب و النساء فانّها امور عدمية بالنسبة الى الاحرام - مثلاً - .

و بذلك ظهر : انّ الأقل والاكثر الارتباطيين يجري في الوجودي وفي العدمي وفي المركب منهما ، كما ان الاستقلاليين أيضا كذلك ، فقد يكون بعض المحرمات غير مرتبط بعضها ببعض كالزّنا وشرب الخمر والغيبة ، وقد يكون بعضها مرتبط ببعض ، كما في النهي عن الغناء إذا دار أمره بنحو الشبهة الحكمية بين كونه هو الصوت المطرب مع الترجيع ، أو بلا ترجيع ، أو بلا طرب .

ثم ان الواجب الارتباطي يكون الأقل فيه معلوم الوجوب والأكثر مشكوك الوجوب ، أما الحرام الارتباطي فيكون الاكثر فيه معلوم الحرمة والأقل غير معلوم الحرمة .

هذا ، لكن المصنِّف لم يتعرّض لحال الحرام الارتباطي ، كما لم يتعرّض لحال بقية اقسام الأقل والأكثر ، وانّما اقتصر ( فيما إذا دار الأمر في الواجب بين الأقلّ والاكثر ) الارتباطيين فقال : ( ومرجعه الى الشك في جزئية شيء للمأمور به وعدمها ) اي : عدم جزئيّته له يعني : انّ الجزء المشكوك هل هو جزء أو ليس بجزء ؟ .

ص: 229

وهو على قسمين : لأنّ الجزء المشكوك إمّا جزء خارجي ، أو جزء ذهنيّ وهو القيد ، وهو على قسمين : لأنّ القيد إمّا منتزع من أمر خارجيّ مغاير للمأمور به في الوجود الخارجي ، فمرجع اعتبارُ ذلك القيد الى ايجاب ذلك الأمر الخارجي ، كالوضوء الذي يصير منشئا للطهارة ، المقيّد بها الصلاة ،

-------------------

( وهو ) اي الجزء المشكوك ( على قسمين : ) كالتالي : -

أولاً : ( لانّ الجزء المشكوك إمّا جزء خارجي ) كجلسة الاستراحة والاستعاذة فيأوّل الصلاة .

ثانيا : ( أو جزء ذهنيّ وهو القيد ) ثم ان القيد قد يكون قيدا وجوديا كتقيّد الصلاة بالطهارة ، وتقيّد الرقبة بالايمان ، وهذا يسمّى شرطا ، وقد يكون قيدا عدميا : كتقيّد الصلاة بعدم غصبية المكان ، وعدم نجاسة الساتر ، وهذا يسمّى مانعا ، أو كتقيّد الصلاة بعدم الضحك ، وعدم البكاء ، وهذا يسمّى قاطعا .

(وهو) اي : القيد كما عرفت يكون (على قسمين) ايضا ، وذلك (لأنّ القيد) كما قال :

أولاً : ( امّا منتزع من أمر خارجيّ مغاير للمأمور به في الوجود الخارجي ) مثل : انتزاع الطهارة من الوضوء ، فالصلاة مقيّدة بالطهارة ، والطهارة منتزعة من الوضوء الذي هو أمر خارجي مغاير للصلاة ( فمرجع اعتبارُ ذلك القيد ) يكون ( الى ايجاب ذلك الأمر الخارجي ) من قبل الشارع ( كالوضوء الذي يصير منشئا للطهارة ، المقيّد بها ) اي : بتلك الطهارة ( الصلاة ) ولذا ورد : « اذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة » (1) .

ص: 230


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص33 ح67 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص140 ب23 ح4 ، وسائل الشيعة : ج1 ص372 ب4 ح981 و ج2 ص203 ب14 ح1929 وفيهم وجب الطهور والصلاة .

وإمّا خصوصيّةٌ متحدة في الوجود مع المأمور به ، كما اذا دار الأمر بين وجوب مطلق الرقبة ، أو رقبة خاصة ، ومن ذلك دوران الامر بين إحدى الخصال وبين واحدة معيّنة منها .

والكلام في كلّ من القسمين في أربع مسائل :

-------------------

ثانيا : ( وامّا خصوصيّةٌ ) وكيفية ( متحدة في الوجود مع المأمور به ) وذلك كالصلاة الى القبلة ، أو الصلاة في الثوب المباح ، أو ( كما اذا دار الأمر بين وجوب مطلق الرقبة ، أو رقبة خاصة ) كالرقبة المؤمنة في كفارة الصيام - مثلاً - .

و من المعلوم : انّ الصلاة باتجاه القبلة ، والصلاة بالثوب الطاهر ، والرقبة المؤمنة ، هذه القيود كلّها كيفيّات متحدة في الوجود الخارجي مع المأمور به ، وليست مغايرة له .

( ومن ذلك ) اي : من القيد المتحد مع المأمور به : ( دوران الامر بين إحدى الخصال ، وبين واحدة معيّنة منها ) كما إذا شككنا في ان كفارة الصوم - مثلاً - هل هي مقيّدة بخصوص العتق ، أو انّها مخيّرة بين الثلاث : العتق والصيام والاطعام ؟ فيكون الشك فيها من الشك في القيد بمعنى : هل ان للعتق خصوصية في الكفارة ام لا ؟ .

و منه يظهر : ان الدوران بين التعيين والتخيير في كلامهم يرجع الى الشك الجزء الذهني المتحد مع المأمور به في الوجود الخارجي .

هذا ( والكلام في كلّ من القسمين ) المذكورين للجزء وفيما يتفرع على الثاني من قسمين أيضا حيث يكون المجموع بعد اسقاط المقسم ثلاثة اقسام ، فالكلام يقع في كل منها( في اربع مسائل ) وهي ما يشك فيه من جهة : عدم النص ،

ص: 231

أمّا مسائل القسم الاوّل: وهو الشك في الجزء الخارجيّ

فالاُولى منها :

أن يكون ذلك مع عدم النصّ المعتبر في المسألة فيكون ناشئا من ذهاب جماعة الى جزئية الأمر الفلاني ، كالاستعاذة قبل القرائة في الركعة الاُولى مثلاً ، على ما ذهب اليه بعض فقهائنا .

وقد اختلف في وجوب الاحتياط هنا ، فصرّح بعض متأخّري المتأخّرين بوجوبه ، وربّما يظهر من كلام بعض القدماء كالسيد والشيخ ،

-------------------

أو اجمال النص ، أو تعارض النصين ، أو اشتباه الموضوع الخارجي ، فالمسائل إذن اثنتا عشرة مسئلة .

( أمّا مسائل القسم الاوّل : وهو الشك في الجزء الخارجيّ ) فكما قال :

( فالاُولى منها: ان يكون ذلك ) اي: الشك ( مع عدم النصّ المعتبر في المسألة ، فيكون ) الشك ( ناشئا من ذهاب جماعة الى جزئية الأمر الفلاني ، كالاستعاذة قبل القرائة في الركعة الاُولى مثلاً ، على ما ذهب اليه بعض فقهائنا ) فانّ بعضهم أوجب الاستعاذة قبل القرائة ، وبعضهم لم يوجبها قبل القرائة ، وحيث ان النص مفقود في هذا المجال ، فنشك هل انّ الاستعاذة واجبة أو ليست بواجبة ؟ .

هذا من جهة منشاء الشك ( و ) أمّا من حيث الحكم : فانه ( قد اختلف في وجوب الاحتياط هنا ) اي : فيما كان الشك في جزئيته من جهة عدم النص ( فصرّح بعض متأخّري المتأخرين بوجوبه ) بل ( وربّما يظهر من كلام بعض القدماء كالسيد والشيخ ) : انّه واجب .

ص: 232

لكن لم يعلم كونه مذهبا لهما ، بل ظاهر كلماتهم الأُخَر خلافه ، وصريح جماعة إجراء أصالة البرائة وعدم وجوب الاحتياط ، والظاهر أنّه المشهور بين العامّة والخاصّة المتقدّمين منهم والمتاخّرين ، كما يظهر من تتبّع كتب القوم ، كالخلاف والسرائر وكتب الفاضلين والشهيدين والمحقق الثاني ومن تأخّر عنهم .

بل الانصاف : أنّه لم أعثر في كلمات من تقدّم على المحقّق السبزواري على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط ، وإن كان فيهم

-------------------

( لكن لم يعلم كونه مذهبا لهما ) أي : للسيد والشيخ ، لاحتمال انّهما استطرادا ذكرا الاحتياط لتأييد الدليل لمن قال بالوجوب ( بل ظاهر كلماتهم الأُخر : خلافه ) وانّه ليس بواجب ، ولذا احتملنا انّه ليس مذهبا لهما .

هذا ( وصريح جماعة ) آخرين : ( إجراء أصالة البرائة وعدم وجوب الاحتياط ) فلا يجب الاتيان بالاستعاذة - مثلاً - في الصلاة .

( والظاهر : انّه ) اي : عدم الوجوب هو ( المشهور بين العامّة والخاصّة ، المتقدّمين منهم والمتأخرين ، كما يظهر ) ذلك ( من تتبع كتب القوم ، كالخلاف ) للشيخ الطوسي ( والسرائر ) لابن ادريس الحلي ( وكتب الفاضلين ) المحقق والعلامة ( والشهيدين ) : الأوّل والثاني ( والمحقق الثاني ) صاحب جامع المقاصد ( ومن تأخّر عنهم ) من العلماء .

( بل الانصاف : انّه لم أعثر في كلمات من تقدّم على المحقّق السبزواري ) الذي كان قبل اربعمائة عام تقريبا ، لم أعثر فيهم ( على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط ) المشكوك فيها ( وان كان فيهم ) اي : في العلماء

ص: 233

من يختلف كلامه في ذلك ، كالسيّد والشيخ بل الشهيدين ، وكيف كان فالمختار جريان أصل البرائة .

لنا على ذلك حكمُ العقل وما ورد من النقل .

أمّا العقل :

فلاستقلاله بقبح مؤاخذة من كلّف بمركّب لم يعلم من أجزائه إلاّ عدّة أجزاء ، ويشك في أنّه هو هذا أو له جزء آخر ، وهو الشيء الفلاني ثم بذل جهده في طلب الدّليل على جزئية ذلك الأمر فلم يقتدر ، فأتى

-------------------

المتقدّمين ( من يختلف كلامه في ذلك ) ويتردّد في الوجوب وعدمه ( كالسيّد ) المرتضى ( والشيخ ) الطوسي ( بل الشهيدين ) ايضا .

( وكيف كان : فالمختار : جريان أصل البرائة ) فيما اذا شككنا في جزئية شيء للمأمور به من جهة عدم النص ، كما في الاستعاذة - مثلاً - .

( لنا على ذلك ) اي : دليلنا على جريان البرائة في الجزء المشكوك من الواجب الذي يدور امره بين الأقل والاكثر الارتباطيين : ( حكمُ العقل ، وما ورد من النقل ) فانّهما يدلان على البرائة .

( امّا العقل : فلاستقلاله بقبح مؤاخذة من كلّف بمركّب لم يعلم من أجزائه إلاّ عدّة أجزاء ، ويشك في انّه هو هذا ) أي : المركب التام ( أو له جزء آخر ، وهو الشيء الفلاني ) كما مثّلنا له بالاستعاذة قبل البسملة بالنسبة الى الصلاة .

( ثم ) ان هذا المكلّف الشاك في أجزاء المركب ( بذل جهده ) بالمقدار المطلوب ، لانّ للفحص مقدارا عقلائيا ، فاجتهد ( في طلب الدّليل على جزئية ذلك الأمر ) المشكوك ( فلم يقتدر ) أي : لم يعثر على ما يدل على جزئيته ( فأتى

ص: 234

بما علم وترك المشكوك ، خصوصا مع اعتراف المولى بانّي مانصبت لك عليه دلالة ، فانّ القائل بوجوب الاحتياط لاينبغي ان يفرّق في وجوبه بين ان يكون الآمِرُ لم ينصب دليلاً أو نصب واختفى ،

-------------------

بما علم وترك المشكوك ) وكان ذلك المشكوك في الواقع جزءا لكنّه لم يصل اليه ، فانه يقبح مؤاخذته به سواء نصب له المولى دليلاً ولم يصل اليه ، أم لم ينصب له المولى دليلاً أصلاً .

هذا ( خصوصا مع اعتراف المولى بأنّي مانصبت لك عليه دلالة ، فانّ ) قبح مؤاخذته على ترك هذا الجزء في هذه الصورة أوضح من صورة النصب والاختفاء .

وعليه : فتكون الصورتان مجرى للبرائة ، وذلك لانّ المعيار في تنجز التكليف هو الوصول الى العبد ، وفي كلتا الصورتين لم يصل الى العبد ، ولو أراده المولى منه لقال له : يجب عليك الاحتياط في كل جزء شككت في جزئيّته وان لم يصل اليك جزئيته ، لكن المولى لم يفعل ذلك إيضا ، فتثبت البرائة في كلتا الصورتين .

كما ان ( القائل بوجوب الاحتياط ، لا ينبغي ان يفرّق في وجوبه ) اي : وجوب الاحتياط في كلتا الصورتين أيضا اي : ( بين ان يكون الآمِرُ لم ينصب دليلاً ، أو نصب واختفى ) وذلك للعلم الاجمالي منّا بأن عدم وجود الدليل على الجزئية إمّا للاختفاء ، أو لعدم النصب ، والعلم الاجمالي هذا يقتضي الاحتياط في كلتا الصورتين .

ان قلت : سلّمنا قبح المؤاخذة على تقدير عدم النصب ، لكنّا لا نسلمه على تقدير النصب والاختفاء عنا ، فيلزم التفصيل بين الصورتين ، يعني : القول بوجوب الاحتياط في صورة النصب والاختفاء ، وجريان البرائة في صورة عدم النصب .

ص: 235

غاية الأمر أنّ ترك النصب من الآمِر قبيح ، وهذا لايرفع التكليف بالاحتياط عن المكلّف .

فان قلت : إنّ بناء العقلاء على وجوب الاحتياط في الأوامر العرفيّة الصادرة من الأطباء أو الموالي ،

-------------------

إذن : فلا يلزم من القول بالبرائة في احدى الصورتين ، القول بها في الصورة الاخرى ، كما لا يلزم من القول بالاحتياط في احدى الصورتين ، القول به في الصورة الاخرى .

قلت : التفصيل بين الصورتين غير تام ، لانّ مرجع الشك في كلتا الصورتين الى فقد الدليل على الجزئية واذا كان كذلك لزم ان تكون الصورتان متساويتين من حيث الحكم ، يعني : القول بالبرائة ، أو القول بالاحتياط .

نعم ( غاية الأمر ) انّه يرد على القول بالاحتياط في صورة عدم نصب الدليل : ( انّ ترك النصب من الآمِر قبيح ، و ) لكن بعد ما عرفت : من منجّزية التكليف بسبب العلم الاجمالي بكون فقد الدليل على الجزئية إمّا للاختفاء ، أو لعدم النصب ، وهو يقتضي الاحتياط ، فانّ ( هذا ) القبح لترك النصب على ما مرّ ( لايرفع التكليف بالاحتياط ) في هذه الصورة ( عن المكلّف ) .

هذا من جهة تساوي الصورتين بالنسبة الى القول بالاحتياط .

وأمّا تساويهما من جهة القول بالبرائة ، وهو الذي نقول به : فلأن العقل حاكم بقبح التكليف فيما إذا لم يصل الى المكلّف دليل على جزئية الجزء المشكوك - مثلاً - ، سواء كان عدم الوصول لعدم النصب ، أم للاختفاء ؟ .

( فان قلت : إنّ بناء العقلاء على وجوب الاحتياط ) عند الشك في الجزء ، بل وكذلك عند الشك في الشرط ( في الأوامر العرفيّة الصادرة من الأطباء أو الموالي )

ص: 236

فانّ الطبيب إذا أمر المريض بتركيب معجون ، فشك في جزئية شيء له مع العلم بانّه غير ضارّ له فتركه المريض مع قدرته عليه استحق اللومَ ، وكذا المولى إذا أمر عبده بذلك .

قلت : أمّا أوامر الطبيب فهي ارشادية ، ليس المطلوبُ فيها إلاّ احراز الخاصيّة المترتبة على ذلك المأمور به ، ولا يتكلم فيها

-------------------

الى المرضى أو العبيد ( فانّ الطبيب إذا أمر المريض بتركيب معجون ، فشك في جزئية شيء له مع العلم بأنّه غير ضارّ له ) فليس له أن يتركه .

وإنّما قلنا مع العلم بأنه لا يضره ، لانّ المفروض : عدم اضرار الجزء المشكوك بالمأمور به ، فالاستعاذة - مثلاً - لا تضر بالصلاة قطعا ، فاذا كان كذلك ( فتركه المريض مع قدرته عليه ، استحق اللوم ) اذا كان ذلك الذي تركه جزءا أو شرطا في الواقع يسبّب - مثلاً - عدم علاجه ، أو زيادة مرضه ، أو تلف عضوه ، أو موته .

( وكذا المولى اذا أمر عبده بذلك ) التركيب ، فشك العبد لكنّه لم يأت بذلك الجزء المشكوك ، فانّ الناس يذمّونه مع احتماله الجزئية .

وعليه : فاذا كان المتعارف من أوامر الطبيب وأوامر المولى هو هذا ، فالمتبع في أحكام الشرع هو ذلك أيضا ، لانّ طريقة الاطاعة الشرعية هي طريقة الاطاعة العرفية ، فيجب عند الشك في جزئية شيء الاتيان بذلك الجزء المشكوك .

ان قلت ذلك ( قلت : أمّا أوامر الطبيب ، فهي ارشادية ليس المطلوبُ فيها إلاّ احراز الخاصّية ) كإسهال الصفراء - مثلاً - على ما يأتي من مثال الشيخ له ، أو سائر الأدوية الموجبة لمعالجة الأمراض المختلفة ( المترتبة ) تلك الخاصية ( على ذلك المأمور به ) من الدواء المركب ( ولا يتكلم فيها ) اي : في أوامر

ص: 237

من حيث الاطاعة والمعصية ، ولذا لو كان بيان ذلك الدواء بجملة خبريّة غير طلبيّة

-------------------

الطبيب ( من حيث الاطاعة والمعصية ) كما يتكلم في أوامر المولى .

إذن : بين أوامر المولى الحقيقي وبين أوامر الأطباء فرق وهو : ان البحث في البرائة والاحتياط عند الشك في الجزء أو في الشرط ، انّما يكون في الأمر المولوي الذي قصد به إطاعة المولى باتيان المأمور به ، فانّ امتثال هذا الأمر طاعة وتركه معصية ، فيكون الكلام في ان هذا الجزء المشكوك هل يصح العقاب على تركه أم لا يصح ؟ .

بينما الأمر الارشادي الذي هو صادر عن الطبيب ، لا يقصد به طاعة لأحد بل يقصد به الوصول الى نتيجة ذلك المركّب المأمور به وهي صحة المريض ، وهذا خارج عن محل بحثنا ، اذ ليس امتثال الطبيب طاعة وتركه معصية حتى يبحث في أن الجزء المشكوك فيه يصح العقاب على تركه أم لا يصح .

وعليه : فالكلام في المولويّة هو : انّه هل العقلاء يوجبون الاتيان بالجزء المشكوك ام لا ؟ .

والكلام في الارشادية هو : انّه لو اُريد حصول غرض خاص من الأمر بمركب ، فهل العقلاء يحكمون بلزوم الاتيان بالجزء المشكوك جزئيته لذلك المركب أم لا ؟ .

وعليه : ففي الارشاديّة يرى العقل والعقلاء : لزوم الاحتياط والاتيان بالجزء المشكوك ، لانّ الغرض مترتب على الكامل إحتمالاً بينما هذا الكلام لا يأتي في المولوية ، فلا يقاس المولوية بالارشادية في وجوب الاتيان بالجزء المشكوك .

( ولذا ) اي : لانّ المقصود في الأوامر الارشادية هو : احراز خاصيّة مترتبة على المركب ، لا الطاعة للمولى فانه ( لو كان بيان ذلك الدواء بجملة خبرية غير طلبيّة )

ص: 238

كان اللازم مراعاة الاحتياط فيها وإن لم يترتّب على مخالفته وموافقته ثواب أو عقاب .

والكلام في المسألة من حيث قبح عقاب الآمر على مخالفة المجهول وعدمه.

وأمّا أوامرُ المولى الصادرة بقصد الاطاعة ، فيلتزم فيها بقبح المؤاخذة إذا عجز العبد عن تحصيل العلم بجزء ، فاطّلع عليه المولى وقدر على رفع جهله ،

-------------------

كما لو قال الطبيب : هذا المركب مسهل للصفراء أو نجد مثل هذه العبارة في كتاب ابن سينا ( كان اللازم مراعاة الاحتياط فيها ، وان لم يترتّب على مخالفته ) أي : مخالفة الخبر ( وموافقته ثواب أو عقاب ) .

وعليه : فاذا عدّد ابن سينا في كتابه القانون - مثلاً - : خمسة أجزاء لمسهل الصفراء ، وكان بعده اضطراب في الخط مما يورث الشك بوجود جزء سادس غير ضار اضافته الى الخمسة الأخر ، فان العقل يحكم هنا بوجوب ضمّه الى المركب لمن أراد معالجة الصفراء .

هذا ( و ) الحال انّ ( الكلام في المسألة ) اي : مسألة ما نحن فيه : من الشك في الجزء لفقد النص ليس من هذا البحث ، بل ( من حيث قبح عقاب الآمر على مخالفة ) الجزء ( المجهول وعدمه ) أي : عدم العقاب ، ومن المعلوم : انّ العقاب وعدمه مختصٌ بالأوامر المولوية لا الأوامر الارشادية .

إذن : فقياس المستشكل ما نحن فيه : من الأوامر المولوية بالأوامر الارشادية غير تام.

ولهذا قال المصنِّف : ( وأمّا أوامر المولى الصادرة بقصد الاطاعة ، فيلتزم فيها بقبح المؤاخذة ) على ترك ذلك الجزء ( إذا عجز العبد عن تحصيل العلم بجزء ، فاطّلع عليه ) اي : على ذلك العجز ( المولى وقدر على رفع جهله ) اي : جهل

ص: 239

ولو على بعض الوجوه غير المتعارفة ، إلاّ انّه اكتفى بالبيان المتعارف ، فاختفى على العبد لبعض العوارض .

نعم ، قد يأمر المولى بمركّب يعلم أنّ المقصود منه تحصيل عنوان يشك في حصوله اذا أتى بذلك المركّب بدون ذلك الجزء المشكوك ، كما إذا أمر بمعجون وعلم أنّ المقصود منه إسهال الصفراء ، بحيث كان هو

-------------------

العبد ( ولو على بعض الوجوه غير المتعارفة ) كأن يلقي في قلبه القاءا ، أو ما أشبه ذلك ( الاّ انّه اكتفى بالبيان المتعارف ، فاختفى على العبد لبعض العوارض ) كالنسيان - مثلاً - ففي هذه الصورة نلتزم بقبح المؤاخذة على تركه .

( نعم ) إذا كان الشيء المأمور به من قبل المولى من قبيل : العنوان والمحصّل ، وكان الشك في أجزاء المحصّل لذلك العنوان ، وجب الاحتياط بالاتيان بذلك الجزء المشكوك .

وإنّما يجب الاحتياط لو كان الشك في المحصل ، لانه يكون حينئذٍ من قبيل الشك في المكلّف به لا من قبيل الشك في أصل التكليف ، وذلك كما إذا علمنا : بأنّ مراد المولى من الصلاة : انارة النفس واحتملنا انّ الانارة لا تحصل الاّ بعشرة أجزاء بما فيها الجزء المشكوك كالاستعاذة في المثال ، فانّه يلزم علينا الاتيان بالاستعاذة ، لانّه حينئذٍ يكون من قبيل جزء الدواء المشكوك في أوامر الطبيب .

وعليه : فانه ( قد يأمر المولى ) أمرا كأمر الطبيب ( بمركّب يعلم انّ المقصود منه ) هو الارشاد الى ( تحصيل عنوان ) اي : خاصيّة وغرض ( يشك في حصوله ) أي : حصول ذلك العنوان ( اذا أتى بذلك المركّب بدون ذلك الجزء المشكوك ) فهنا يلزم الاتيان به حتى يحصل له العلم باتيان المأمور به .

( كما إذا أمر بمعجون وعلم أنّ المقصود منه : إسهال الصفراء بحيث كان هو )

ص: 240

المأمور به في الحقيقة ، أو علم أنّه الغرض من المأمور به ، فانّ تحصيل العلم بإتيان المأمور به لازم ، كما سيجيء فيالمسألة الرابعة .

فان قلت :

-------------------

اي : اسهال الصفراء ( المأمور به في الحقيقة ) بمعنى : انّه لم يكن الأمر حقيقة بهذه الأجزاء التي هي السبب ، وإنّما الأمر بالمسبّب وهو : تحصيل اسهال الصفراء.

( أو علم انّه ) اي : اسهال الصفراء هو الغاية و ( الغرض من المأمور به ) اي : من تركيب المعجون .

وعليه : فان اعلم بأن أحد الامرين هو مراد المولى من المأمور به ( فانّ تحصيل العلم ) حينئذٍ بتحقيق مقصود المولى وحصول غرضه الذي لايعلم الاّ ( بإتيان المأمور به ) في الحقيقة وهو اسهال الصفراء ( لازم كما سيجيء فيالمسألة الرابعة ) انشاء اللّه تعالى .

و على هذا : فاذا كان الشك في الجزء من قبيل الأقل والأكثر الارتباطيين ، لم يجب الاتيان بالجزء المشكوك ، وإذا كان من قبيل العنوان والمحصل فانّه يجب الاتيان به .

( فان قلت ) : كل الأوامر الشرعية من قبيل العنوان والمحصل ، اذ الشارع أمر بالعناوين مثل : عنوان الصلاة ، وعنوان الوضوء ، و عنوان الحج ، وما أشبه ، ولا نعلم حصول ذلك العنوان بدون الجزء المشكوك ، فيجب الاتيان بالمشكوك في كل الأوامر الشرعية .

أو قل : إنّ كل الأوامر الشرعية من قبيل ما يقصد به حصول غرض خاص ، كالنهي عن المنكر في الصلاة حيث قال سبحانه : «إنَّ الصَّلاَةَ تَنهَى عَن الفَحشَاءِ

ص: 241

إنّ الأوامر الشرعية كلّها من هذا القبيل لإبتنائها على مصالح في المأمور به ، فالمصلحة فيها إمّا من قبيل العنوان في المأمور به أو من قبيل الغرض .

وبتقرير آخر : المشهور بين العدلية

-------------------

وَالمُنكَر » (1) وكالتقوى في الصوم حيث قال سبحانه : «كُتِبَ عَلَيكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعلّكُم تَتَّقُونَ » (2) ولا نعلم حصول ذلك الغرض بدون اتيان بالجزء المشكوك ، فاللازم اجزاء الاحتياط في الجزء المشكوك لا البرائة .

والحاصل : انّ الاصل في الأوامر الشرعية كونها من قبيل العنوان والمحصل ومن قبيل ما يراد به غرض خاص ، وهو مجرى الاحتياط ، لا مجرى البرائة كما في باب الأقل والأكثر الارتباطيين ، وذلك ( إنّ الأوامر الشرعية كلّها من هذا القبيل ) الذي ذكرناه .

وإنّما تكون الأوامر الشرعية من ذلك ( لإبتنائها ) اي : الأوامر الشرعية ( على مصالح ) دنيوية وأخروية ( في المأمور به ) وتلك المصالح لا تتأتى الاّ باتيان جميع الأجزاء .

وعليه : ( فالمصلحة فيها ) اي : في الأوامر الشرعية على أحد وجوهين :

( إمّا من قبيل العنوان في المأمور به ) بأن يكون المأمور به في الحقيقة هو العنوان ، والأجزاء محصلة لذلك العنوان .

( أو من قبيل الغرض ) بأن يكون مراد المولى : العلة الغائية لهذه الاجزاء .

( وبتقرير آخر ) لهذا الاشكال ( المشهور بين العدلية ) من الشيعة والمعتزلة

ص: 242


1- - سورة العنكبوت : الآية 45 .
2- - سورة البقرة : الآية 183 .

أنّ الواجبات الشرعية إنّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقلية ، فاللّطف إمّا هو المأمور به حقيقة أو غرضٌ للآمِر ، فيجب تحصيل العلم بحصول اللّطف ، ولا يحصل إلاّ بإتيان كلّ ما شكّ في مدخليّته .

قلت : أوّلاً : مسألة البرائة والاحتياط غير مبنيّة على كون كلّ واجب فيه مصلحة وهو لطف

-------------------

هو : ( انّ الواجبات الشرعية انّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقلية ) وقوله : في الواجبات العقلية يعني بالنسبة الى الواجبات العقلية ، فانّ العقل يُلزم الانسان بالاتيان بما فيه صلاح دنياه وآخرته ، وحيث انّ العقل لا يصل بنفسه الى تلك المصالح ، فالشرع تلطّف على الانسان ببيان الأشياء التي توجب الوصول الى تلك المصالح .

إذن : ( فاللّطف ) اي : تحصيل الواجب الشرعيالمنطبق على الواجب العقلي ( إمّا هو المأمور به حقيقة ) كعنوان الصلاة ، لا الاجزاء الخارجية من التكبير الى التسليم ، وانّما الاجزاء الخارجية طريق لتحصيل العنوان الذي هو واجب عقلي وقد كشف عنه الشارع .

( أو غرضٌ للآمِر ) كالانارة الحاصلة من الصلاة ، فانها هي الغاية من الامر بهذه الاجزاء والشرائط المحققة لهذا المركب وهو الصلاة.

وعلى أي حال : ( فيجب تحصيل العلم بحصول اللّطف ، و ) العلم به ( لا يحصل الاّ بإتيان كل ّ ما شك في مدخليّته ) للمأمور به جزءا كان أو شرطا ، فيلزم الاتيان بالأكثر بمعنى : الاتيان بكل الاجزاء والشرائط متيقنها ومشكوكها ، وذلك لأنّ الاتيان بالعنوان أو بالغرض لا يحصل الاّ بالأكثر .

إن قلت ذلك ( قلت : أوّلاً : مسألة البرائة والاحتياط ) في الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ( غير مبنيّة على كون كلّ واجب فيه مصلحة ، وهو لطف

ص: 243

في غيره ، فنحن نتكلم فيها على مذهب الأشاعرة المنكرين للحُسن والقُبح ، أو على مذهب بعض العدليّة المكتفين بوجود المصلحة في الأمر وإن لم يكن في المأمور به .

-------------------

في غيره ) بمعنى : ان المسئلة ليست مبنيّة على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد حتى يشك انّ المصلحة تتأتى بالاقل أو بالاكثر ، وإنّما المسئلة مبنيّة على الطاعة والمعصية ، وان ترك الجزء المشكوك ممّا يستحق عليه العقاب أم لا ، فالكلام فيما نحن فيه : من البرائة والاحتياط مبني على الثاني لا على الاول .

و لهذا ( فنحن نتكلم فيها ) أي : في مسألة الشك في الأقل والاكثر الارتباطيين ( على مذهب الأشاعرة المنكرين للحُسن والقُبح ) العقليين ، فانّهم يقولون انّ التكاليف ليست معلولة للمصالح والمفاسد النفس الأمرية ، بل الأوامر والنواهي من اقتراح المولى ليمتحن عباده أيّهم يطيع وأيّهم يعصي ، فليس علينا ان نحصّل العنوان كما ليس علينا أن نحصّل الغرض .

( أو على مذهب بعض العدليّة ) كالمحقق الخوانساري ، والسيد الصدر ، وصاحب الفصول ، ومن تبعهم ( المكتفين بوجود المصلحة في الأمر وان لم يكن في المأمور به ) مصلحة ، كالتواضع للمولى ، والانقياد له ، وتوطين النفس على تحمل المشاق لنيل السعادة الأبدية والتقرّب اليه سبحانه ، وما اشبه ذلك .

و الحاصل : انّ في مسألة تبعيّة الاحكام للمصالح والمفاسد ثلاثة القوال :

الاوّل : قول الأشاعرة : بانّه لا مصلحة ولا مفسدة لا في الأمر ولا في المأمور به اطلاقا .

الثاني : انّ المصلحة والمفسدة موجودة في نفس الأمر فعلاً أو تركا ، لا في المأمور به .

ص: 244

وثانيا : إنّ نفس الفعل من حيث هو ليس لطفا ، ولذا لو اُتي به لا على وجه الامتثال لم يصح ولم يترتّب عليه لطف ولا أثر آخر

-------------------

الثالث : المصلحة والمفسدة موجودتان في المأمور به دون الامر .

هذا والاشكال وارد على القول الثالث ، لا على القولين الأولين ، فان المستشكل لا يتمكن ان يستشكل عليهما ، وانّما يتمكن ان يستشكل على المشهور القائلين بالقول الثالث ، وإذا استشكل عليهم قلنا في جوابه :

( وثانيا ) : انكم تقولون بلزوم الاتيان بالاكثر لتحصيل الغرض ، بينما الغرض المعلوم في المقام لا يمكن تحصيل القطع به على كل تقدير ، سواء على تقدير الاتيان بالأقل أم على تقدير الاتيان بالاكثر .

امّا على تقدير الاتيان بالاقل فلاحتمال دخل الأكثر في حصول الغرض .

وامّا على تقدير الاتيان بالاكثر : فلأن الاتيان بالزائد ان كان مع قصد الجزم بأمره تعالى ، فهو تشريع محرَّم ، والتشريع لا يفي بغرض المولى ، وان كان بدون هذا القصد ، فلا يقطع معه بحصول الغرض ، لاحتمال اعتبار قصد الوجه في تحقق الغرض وحصوله .

وعليه : فلا يجب علينا تحصيل اليقين بالغرض قطعا ، بل يجب علينا التحرّز من العقاب ، والتحرّز من العقاب يحصل بالاتيان بالأقل للعلم بوجوب الأقل ، وامّا الاكثر فاحتمال العقاب على تركه يدفع بأصل البرائة العقلية و الشرعية وذلك كما قال :

( انّ نفس الفعل ) بدون قصد الامتثال ( من حيث هو ، ليس لطفا ) في الواجب العقلي ( ولذا لو اُتي به ) أي : بنفس الفعل ( لا على وجه الامتثال ) لأمر المولى ، ( لم يصح ) عبادة ( ولم يترتّب عليه لطف ) فيالواجب العقلي ( ولا أثر آخر

ص: 245

من آثار العبادة الصحيحة ، بل اللطف إنّما هو في الاتيان به على وجه الامتثال ، وحينئذٍ فيحتمل ان يكون اللطف منحصرا في امتثاله التفصيليّ مع معرفة وجه الفعل ليوقع الفعل على وجهه ، فانّ من صرحّ من العدليّة بكون العبادات السمعيّة إنّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقليّة ، قد صرّح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه به .

وهذا متعذِّر فيما نحن فيه ،

-------------------

من آثار العبادة الصحيحة ) فانه لا يترتب شيء منها على ذات الفعل بلا قصد الامتثال كالثواب ، وارتفاع الدرجة ، والمحبوبية عند المولى ، وغير ذلك .

( بل اللطف ) على ما عرفت ( انّما هو في الاتيان به ) اي : بنفس العمل ( على وجه الامتثال ، وحينئذٍ ) اي : حين كان اللطف منحصرا في الاتيان بالفعل على وجه الامتثال ( فيحتمل ان يكون اللطف منحصرا في امتثاله التفصيلي ) ايضا، اي : ( مع معرفة وجه الفعل ) تفصيلاً بانّه واجب أو مستحب أو ما اشبه ، وذلك ( ليوقع الفعل على وجهه ) .

هذا ، وقد فرض فيما نحن فيه امتناع الامتثال التفصيلي ، لانّه لا يعلم هل انّ هذا الجزء المشكوك جزء أو ليس بجزء ؟ وإذا كان جزءا فهل هو واجب أو مستحب ؟ فيتنافى شرط الوجه مع الاتيان بالاكثر .

وعليه : ( فانّ من صرحّ من العدليّة بكون العبادات السمعيّة إنّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقليّة ) على المعنى الذي تقدّم لهذه الجملة ( قد صرّح ) أيضا ( بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ، ووجوب اقترانه ) أي : العبادة ( به ) اي : بالوجه ( وهذا متعذِّر فيما نحن فيه ) .

وإنّما يكون متعذرا لان مع الاتيان بالجزء المشكوك لا يتمكن من القطع بأن

ص: 246

لأنّ الآتي بالأكثر لا يعلم أنّه الواجب أو الأقل المتحقق في ضمه .

ولذا صرّح بعضهم كالعلامة ، ويظهر من آخر منهم وجوبُ تميّز الأجزاء الواجبة من المستحبات ليوقع كلاً على وجهه .

وبالجملة : فحصول اللطف بالفعل المأتي به من الجاهل فيما نحن فيه غير معلوم بل ظاهرهم عدمه ، فلم يبق عليه إلاّ التخلّصُ من تبعة مخالفة الأمر الموجّه اليه ، فانّ هذا واجب عقليّ في مقام الاطاعة والمعصية ، ولادخل له بمسألة اللطف ،

-------------------

المجموع واجب ، وذلك للشك في جزئية الاستعاذة - مثلاً - كما قال : ( لأنّ الآتي بالأكثر لا يعلم انّه الواجب أو ) ان الواجب هو ( الأقل المتحقق في ضمه ) اي : في ضمن الاكثر ؟ .

( ولذا ) اي : لاجل انّ الغرض لا يحصل الاّ مع قصد الوجه تفصيلاً ( صرّح بعضهم كالعلامة ، ويظهر من آخر منهم : وجوبُ تميّز الأجزاء الواجبة من المستحبات ، ليوقع كلاً ) من الأجزاء ( على وجهه ) بأن ينوي بالاستعاذة - مثلاً - الاستحباب ، وبالركوع الوجوب ، وهكذا .

( وبالجملة : فحصول اللطف ) وذلك ( بالفعل المأتي به من الجاهل فيما نحن فيه ، غير معلوم ) فانّ اتيانه الاكثر بمجرده من دون قصد الوجه تفصيلاً لالطف فيه.

( بل ظاهرهم : عدمه ) اي : عدم حصول اللطف بذلك ، حيث صرّحوا باعتبار القصد التفصيلي ، وقد عرفت : انّه غير ميسور فيما نحن فيه .

و على هذا : ( فلم يبق عليه ) اي : على المكلّف ( إلاّ التخلّصُ من تبعة مخالفة الأمر الموجّه اليه ، فانّ هذا ) التخلص هنا ( واجب عقليّ في مقام الاطاعة والمعصية ، ولا دخل له ) اي : للتخلص ( بمسألة اللطف ) فانّ الواجب علينا هو :

ص: 247

بل هو جارٍ على فرض عدم اللطف وعدم المصلحة في المأمور به رأسا .

وهذا التخلّصُ يحصل بالاتيان بما يعلم أنّ مع تركه يستحق العقاب والمؤاخذة ، وامّا الزائد فيقبح المؤاخذة عليه مع عدم البيان .

فان قلت : إنّ ما ذكر في وجوب الاحتياط في المتباينين بعينه موجود ، وهو أنّ المقتضي وهو تعلّق الوجوب الواقعيّ بالأمر الواقعي المردّد بين الاقل والأكثر

-------------------

الاطاعة لا الحصول على اللطف .

( بل هو ) اي : الوجوب العقلي بالتخلص من تبعة مخالفة الأمر الموجه الى المكلّف ( جارٍ على فرض عدم اللطف وعدم المصلحة في المأمور به رأسا ) كما قال به الأشعري ، أو بعض علمائنا الذين سبقت أسمائهم (1) .

( و ) من المعلوم : انّ ( هذا التخلصُ ) من العقاب ( يحصل بالاتيان بما يعلم انّ مع تركه يستحق العقاب والمؤاخذة ) وهو الأقل ( وأمّا الزائد ) على المتيقن وهو الجزء المشكوك ( ف ) قد عرفت : انّه ( يقبح المؤاخذة عليه مع عدم البيان ) والمفروض : انّه لا بيان بالنسبة الى الجزء المشكوك سواء كان في الواقع بيان ولم يصل الينا ، أم لم يكن في الواقع اصلاً .

( فان قلت : إنّ ما ذكر في وجوب الاحتياط في المتباينين بعينه موجود ، وهو : انّ المقتضي ) لوجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة الاحتمالية الموجب للاحتياط موجود هنا أيضا ( و هو : تعلّق الوجوب الواقعيّ بالأمر الواقعي ) اي : بالواجب الواقعي ( المردّد بين الأقل والأكثر ) ولاحراز الواجب الواقعي يلزم الاتيان بالاكثر .

ص: 248


1- - الخوانساري والسيد الصدر وصاحب الفصول قدس سرهم .

موجود ، والجهل التفصيلي به لايصلح مانعا ، لا عن المأمور به ولا عن توجّه الأمر ، كما تقدّم في المتباينين حرفا بحرف .

قلت : يختار هنا أنّ الجهل مانع عقليّ

-------------------

وعليه : فالمقتضي للاحتياط هنا في الاقل والاكثر ( موجود ) قطعا ، لان الوجوب فيه قد تعلق بالواجب الواقعي ، ولم يتعلق بالواجب المعلوم حتى يجري في الجزء المشكوك منه البرائة ، وقلنا : بأن الوجوب متعلّق بالواقع لا بالمعلوم ، لان تقييده بالعلم مستلزم للدّور الاّ أن يكون بأمرين ، والأمر الثاني ليس بموجود هنا .

هذا من طرف المقتضي وأمّا من طرف المانع فكما قال : ( والجهل التفصيلي به ) اي بخصوصية هذا الجانب أو الجانب الآخر من الأقل والأكثر ( لا يصلح مانعا، لا عن المأمور به ) حتى لا يمكن الاتيان بالمأمور به ( ولا عن توجّه الأمر ) حتى لا يمكن توجيه المولى الأمر الى عبده .

وعليه : فالمقتضي موجود والمانع مفقود ( كما تقدّم ) بيانه ( في المتباينين حرفا بحرف ) فيلزم الاتيان بالأكثر ، لانّه إذا أتى بالأكثر فقد أتى بالأقل أيضا ، امّا انّه إذا أتى بالأقل لم يأت بالأكثر ، فيكون من الموافقة الاحتمالية ، وقد عرفت : لزوم الموافقة القطعية .

ان قلت ذلك ( قلت : ) ليس الأقل والاكثر كالمتباينين بل بينهما فرق ، فانّ الجهل في المتباينين لم يكن مانعا على ما عرفت ، بينما الجهل في الأقل والأكثر مانع عن وجوب الأكثر ، لانّ العقل مستقل بقبح توجيه التكليف بالأكثر الى المكلّف مع جريان قبح العقاب بلا بيان ، لانّ الاكثر لا بيان له كما قال :

انه ( يختار هنا ) في باب الأقل والاكثر الارتباطيين ( : أنّ الجهل مانع عقليّ

ص: 249

عن توجّه التكليف بالمجهول الى المكلّف ، لحكم العقل بقبح المؤاخذة على ترك الأكثر المسبّب عن ترك الجزء المشكوك من دون بيان ، ولا يعارض بقبح المؤاخذة على ترك الأقلّ من حيث هو من دون بيان ، اذ يكفي في البيان المسوّغ للمؤاخذة عليه العلمُ التفصيلي ، بأنّه مطلوب للشارع بالاستقلال أو في ضمن الأكثر ، ومع هذا العلم لايقبح المؤاخذة .

-------------------

عن توجّه التكليف بالمجهول ) الذي هو الأكثر ( الى المكلّف ) فيكون الشك في الزائد على الأقل ، من الشك البدوي وذلك ( لحكم العقل بقبح المؤاخذة على ترك الأكثر المسبّب ) ذلك الترك ( عن ترك الجزء المشكوك ) فيكون مؤاخذة ( من دون بيان ) وهو قبيح .

ان قلت : ان الأقل من حيث الأقل لم يبيّن ايضا ، والاّ لم يقع طرفا للشك ، فيتعارض الطرفان ويتساقطان ، ويكون اللازم الاتيان بالأكثر ، كما ذكرناه في الأصلين المتعارضين في باب المتباينين .

قلت : ( ولا يعارض ) قبح المؤاخذة على ترك الاكثر ، ( بقبح المؤاخذة على ترك الأقل ، من حيث هو من دون بيان ) اي : انه لا تعارض هنا ، لانّ الاقل وان وقع طرفا للاكثر من حيث الترديد في انه واجب نفسي مستقل أو غيري في ضمن الأكثر ، الاّ انه مبيّن من حيث كونه مطلوبا للشارع على كل حال ، وهذا المقدار من البيان كافٍ كما قال :

( اذ يكفي في البيان المسوّغ للمؤاخذة عليه : العلم التفصيلي بانّه مطلوب للشارع ) على كل حال : اما ( بالاستقلال ، أو في ضمن الاكثر ) .

وعليه : فالأقل مطلوب للشارع على كل حال ( ومع هذا العلم ) التفصيلي بوجوب الأقل ( لا يقبح المؤاخذة ) على تركه ، فاذا ترك الاقل حينئذٍ كان تاركا

ص: 250

وما ذُكِرَ في المتباينين - سندا لمنع كون الجهل مانعا من استلزامه لجواز المخالفة القطعيّة ، وقبح خطاب الجاهل المقصّر ، وكونه معذورا بالنسبة الى الواقع ، مع أنّه خلاف المشهور ، أو المتفق عليه - غيرُ جارٍ فيما نحن فيه .

أمّا الاوّل :

-------------------

للواجب ، وليس الاكثر كذلك .

( و ) أمّا ( ما ذُكر في المتباينين ) من الآثار الفاسدة ليكون ( سندا لمنع كون الجهل مانعا ) عن توجه التكليف الى المكلّف ، وتلك الاثار الفاسدة : ( من ) قبيل ( استلزامه لجواز المخالفة القطعيّة ، و ) كذا استلزامه ( قبح خطاب الجاهل المقصّر ، وكونه معذورا بالنسبة الى الواقع ، مع انّه ) اي : الجاهل المقصّر معذور ( خلاف المشهور أو المتفق عليه ) لانّ الجهل لا يكون عذرا في المتباينين على ما عرفت .

وعليه : فانّ ما ذكر من المفاسد المترتّبة على كون الجهل مانعا عن التنجيز في باب المتباينين ( غيرُ جارٍ فيما نحن فيه ) من الأقل والأكثر .

إذن : فالجهل في الأقل والاكثر مانع وليس في المتباينين مانعا .

و الحاصل : انّ الجهل لا يكون عذرا بالنسبة الى المتباينين ، لانّه لو كان عذرا ، لزم منه جواز المخالفة القطعيّة وهو خلاف المقطوع به ، ولزم منه قبح عقاب الجاهل المقصّر وهو خلاف المتفق عليه الذي دلّ عليه الكتاب والسنة والاجماع والعقل ، بينمايكون الجهل عذرا فيما نحن فيه من الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، حيث لا يلزم منه شيء من المحذورين المذكورين .

( امّا ) المحذور ( الاوّل ) وهو : استلزامه جواز المخالفة القطعية ، فانه لايستلزم

ص: 251

فلأنّ عدم جواز المخالفة القطعية ، لكونها مخالفة معلومة بالتفصيل ، فانّ وجوب الأقل بمعنى استحقاق العقاب بتركه معلوم تفصيلاً وإن لم يعلم أنّ العقاب لاجل ترك نفسه أو لترك ما هو سبب في تركه وهو الاكثر .

فانّ هذا العلم غير معتبر

-------------------

جريان أصل البرائة فيما نحن فيه من الاقل والاكثر : مخالفة قطعية ، وذلك لانّ الاصل انّما يجري في الاكثر فقط ، ولا يجري في الاقل ، لانّ الاقل متيقن الوجوب على كل تقدير ، فلا يستلزم جريان الاصل في المشكوك فقط وهو الاكثر مخالفة قطعية .

بخلاف المتباينين : فانّ الاصل جار في كلا الطرفين ، فيستلزم جواز المخالفة القطعية ، وجريانه في أحد طرفي المتباينين ترجيح بلا مرجع ، ولذلك لا يجري الاصل في المتباينين ، ويجري في الاكثر عند الشك بين الاقل والاكثر لعدم استلزامه شيئا من المحذورين .

والى هذا المعنى اشار المصنِّف حيث قال : ( فلأنّ عدم جواز المخالفة القطعية لكونها مخالفة معلومة بالتفصيل ) فإنه لو اجرينا الأصل في أحد الطرفين وهو الأقل ، كان مخالفة معلومة بالتفصيل ، إذ الأقل واجب على كل تقدير ، فالأصل لايجري في الأقل ، واذا لم يجر الاصل في الاقل ، جرى في الاكثر محذور .

وعليه : ( فانّ وجوب الأقل بمعنى استحقاق العقاب بتركه معلوم تفصيلاً وإن لم يعلم إنّ العقاب لاجل ترك نفسه ) فيما إذا كان الأقل واجبا نفسيا ( أو لترك ما هو سبب في تركه وهو الاكثر ) فيما إذا كان الأقل واجبا غيريا .

وعليه : ( فانّ هذا العلم ) بوجه العقاب فيما لو ترك الاقل ، وهل انه لاجل ترك الوجوب النفسي للأقل ، أو لترك الوجوب الغيري للأقل ، هذا العلم ( غير معتبر

ص: 252

في إلزام العقل بوجوب الاتيان ، اذ مناطُ تحريك العقل الى فعل الواجبات وترك المحرّمات دفعُ العقاب ، ولا يفرّق في تحريكه بين علمه بأنّ العقاب لأجل هذا الشيء أو لما هو مستند اليه .

وأمّا عدمُ معذوريّة الجاهل المقصّر ،

-------------------

في إلزام العقل بوجوب الاتيان ) بالاقل ، فان العقل يحكم بوجوب الاقل علمنا بجهة العقاب على تركه أو لم نعلم .

وإنّما كان العلم بجهة العقاب على ترك الاقل غير معتبر في وجوب الاقل ( اذ مناطُ تحريك العقل الى فعل الواجبات وترك المحرّمات : دفعُ العقاب ، ولا يفرّق في تحريكه ) اي : تحريك العقل للتخلص من العقاب ( بين علمه ) اي : علم المكلّف ( بأنّ العقاب لأجل هذا الشيء ) لنفسه ( أو لما هو مستند اليه ) .

والحاصل : انّ احد طرفي الشبهة قطعي وجوب الاتيان به وهو الأقل ، فيكون الجهل بالطرف الآخر وهو الاكثر مانعا عن وجوبه ومسرحا لجريان البرائة العقليّة والشرعيّة فيه ، وليس كذلك حال الشبهة في المتباينين ، فلا يقاس باب الأقل والأكثر بباب المتباينين .

( وأمّا ) المحذور الثاني وهو : استلزامه قبح خطاب الجاهل المقصّر وكونه معذورا ، بينما ( عدمُ معذوريّة الجاهل المقصّر ) متفق عليه ، فانّه لايستلزم جريان أصل البرائة فيما نحن فيه من الاقل والاكثر : قبح خطاب الجاهل المقصّر وإعذاره على جهله ، وذلك لوجود القدر المتيقن في الاقل والاكثر ، وهو : الاقل ، فينحلّ العلم الاجمالي بالتكليف المردّد بينهما ، الى علم تفصيلي بوجوب الاقل ، وشك بدوي في الاكثر ، فيجري الاصل في الاكثر بلا محذور .

بخلاف العلم الاجمالي بوجود تكليفٍ مردّد بين متباينين ، فانّه لا ينحلّ العلم

ص: 253

فهو للوجه الذي لا يعذر من أجله الجاهل بنفس التكليف المستقلّ ، وهو العلم الاجمالي بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة ، وانّه لولاه لزم إخلال الشريعة ، لا العلم الاجمالي الموجود في المقام ،

-------------------

الاجمالي فيه ، كما لا ينحل العلم الاجمالي بالنسبة الى من يعلم اجمالاً بوجود تكاليف كثيرة في الواقع عليه ، وذلك لعدم وجود قدر متيقن فيهما ، فاذا لم يكن قدر متيقن فيهما ، استلزم جريان اصل البرائة فيهما محذور : اعذار الجاهل المقصّر المتفق على خلافه .

والى هذا المعنى اشار المصنِّف حيث قال : ( فهو ) اي : الجاهل المقصّر غير معذور ( للوجه الذي لا يعذر من أجله الجاهل بنفس التكليف المستقل ، و ) ذلك الوجه الذي لا يعذر من أجله الجاهل بنفس التكليف المستقل ( هو : العلم الاجمالي بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة ) والعلم الاجمالي مقتضٍ للتكليف ولا مانع عنه ، بينما المانع في الاقل والاكثر موجود .

هذا ، بالاضافة الى ان لعدم معذورية الجاهل المقصّر وجها آخر ، ليس ذلك الوجه جاريا في الأقل والاكثر ( و ) هو : ( انّه لولاه ) اي : لولا عدم معذورية الجاهل المقصّر ( لزم إخلال الشريعة ) ليترك العمل بالأحكام رأسا ، فكل انسان يترك تعلم الاحكام ويكون معذورا ، فتنهدم الشريعة .

هذا ولكن العلم الاجمالي بالنسبة الى المتباينين ، وكذا بالنسبة الى وجود تكاليف كثيرة في الشريعة مما يؤدّي اجراء البرائة فيهما الى محذور : إعذار الجاهل المقصّر ( لا ) يكون مثل ( العلم الاجمالي الموجود في المقام ) بين الأقل والاكثر للفرق بينهما .

إذن : فلا يقاس العلم الاجمالي الموجود في المقام ، بالعلم الاجمالي الموجود هناك.

ص: 254

إذ الموجود في المقام علمٌ تفصيليّ ، وهو وجوب الأقلّ ، بمعنى ترتب العقاب على تركه وشكّ في أصل وجوب الزائد ولو مقدّمة .

وبالجملة : فالعلم الاجمالي فيما نحن فيه غير مؤثر في وجوب الاحتياط ، لكون أحد طرفيه معلوم الالزام تفصيلاً ، والآخر مشكوك الالزام رأسا .

ودورانُ الالزام في الأقل بين كونه مقدّميّا أو نفسيّا لا يقدحُ في كونه معلوما بالتفصيل ، لما ذكرنا من أنّ العقل

-------------------

وإنّما لا يقاس به ( إذ الموجود في المقام علمٌ تفصيليّ وهو : وجوب الأقلّ بمعنى : ترتب العقاب على تركه ) لانّه يعلم انّ الأقل واجب على كل حال كما عرفت ( وشك في أصل وجوب الزائد ولو مقدّمة ) فانّ وجوب الزائد بالوجوب الذاتي مقطوع العدم ، وبالوجوب الغيري مشكوك فيه ، فيكون شكا في اصل وجوب الزائد يعني : شكا في التكليف ، والشك في التكليف مجرى البرائة .

( وبالجملة : فالعلم الاجمالي فيما نحن فيه غير مؤثر في وجوب الاحتياط ، لكون أحد طرفيه ) وهو الأقل ( معلوم الالزام تفصيلاً ، والآخر ) وهو الاكثر ( مشكوك الالزام رأسا ) فيكون ما نحن فيه من قبيل الأقل والأكثر الاستقلاليين ، لا من قبيل القطع بالتكليف بين المتباينين .

( و ) من الواضح : انّ ( دورانُ الالزام في الأقل بين كونه مقدّميّا ) اذا كان الاكثر واجبا ايضا ( أو نفسيّا ) إذا كان الأقل فقط واجبا ( لا يقدحُ في كونه معلوما بالتفصيل ) وأنّه يجب الاتيان به .

وانّما لا يقدح ذلك في كون الاقل معلوما بالتفصيل ( لما ذكرنا : من انّ العقل

ص: 255

يحكم بوجوب القيام بما علم إجمالاً أو تفصيلاً إلزام المولى به على أيّ وجه كان ، ويحكم بقبح المؤاخذة على ما شك في الزامه .

والمعلوم إلزامه تفصيلاً هو الأقل ، والمشكوك إلزامه رأسا هو الزائد ، والمعلوم الزامه اجمالاً هو الواجب النفسي المردّد بين الأقل والاكثر .

ولا عبرة به بعد انحلاله الى معلوم تفصيلي ومشكوك كما في كل معلوم إجمالي كان كذلك ، كما لو علم إجمالاً بكون أحد من الانائين الّذين احدهما المعيّن نجس خمرا ، فانّه يحكم

-------------------

يحكم بوجوب القيام بما علم إجمالاً ) كالمردّد بين المتباينين ( أو تفصيلاً ) كالأقل فيما نحن فيه ، فانّ العقل يحكم بوجوب ما علم ( إلزام المولى به ، على ايّ وجه كان ) ذلك الالزام سواء كان مقدّميا أم نفسيا ، وقول المصنِّف : « الزام المولى» مفعول لقوله : « علم اجمالاً » .

كما ( ويحكم ) العقل ( بقبح المؤاخذة على ما شك في الزامه ) كالاكثر فيما نحن فيه ، والاكثر في غير الارتباطيين وكالشبهة البدوية .

هذا ( والمعلوم إلزامه تفصيلاً هو الأقل ، والمشكوك إلزامه رأسا هو الزائد ، و ) كون ( المعلوم الزامه اجمالاً هو الواجب النفسي المردّد بين الأقل والاكثر ) غير ضار ( ولا عبرة به بعد انحلاله الى معلوم تفصيلي ) هو الأقل ( ومشكوك ) بدوي هو الأكثر ( كما في كل معلوم إجمالي كان كذلك ) اي : مردّد بين الأقل المعلوم والاكثر المشكوك .

( كما لو علم اجمالاً بكون أحد من الانائين الّذين احدهما المعيّن نجس : خمرا ) فاذا كان هناك انائان نعلم تفصيلاً بأن هذا نجس وذاك طاهر ، ثم علمنا اجمالاً بخمرية احدهما ( فانّه ) يجب الاجتناب عن المتيقن نجاسته ، و ( يحكم

ص: 256

بحلية الطاهر منهما ، والعلم الاجمالي بالخمر لا يؤثر في وجوب الاجتناب عنه .

ومّما ذكرنا يظهر أنّه يمكن التمسك في عدم وجوب الاكثر

-------------------

بحلية الطاهر منهما ، و العلم الاجمالي بالخمر ) في احد الانائين ( لا يؤثر في وجوب الاجتناب عنه ) اي : عن الطاهر وذلك لانّه مشكوك بدوا .

ولا يخفى : ان مثال المصنّف يجب ان يقرّر بهذه الصورة وهي : انا نعلم انّ الاناء الابيض طاهر وان الاناء الاحمر نجس نجاسة خمرية ، ثم علمنا علما ثانيا بأنّ احدهما خمر ، فانّ هذا العلم الثاني لا يؤثر في الاجتناب عن الاناء الابيض .

وإنّما قررنا المثال بهذه الصورة لانّه لو كانت النجاسة بغير الخمر كالبول - مثلاً - كان للعلم الثاني أثرا زائدا على مطلق النجاسة ، فيكون العلم الاجمالي المذكور مؤثر على كل تقدير ، سواء كان في ضمن الاناء النجس بالنجاسة البولية أم في ضمن الاناء الآخر الطاهر ، ولا مسرح للرجوع الى اصل البرائة في واحد منهما .

وعلى ايّ حال : فكما لا أثر للعلم الاجمالي بالنسبة الى الانائين لمعلومية أحدهما، كذلك لا أثر للعلم الاجمالي في الأقل والاكثر لمعلومية احدهما وهو الأقل .

( ومّما ذكرنا ) : من انّ الأقل متيقن وانّما المشكوك هو الاكثر ، فتجري أصالة عدم الاكثر من غير معارضته بعدم الأقل ( يظهر : انّه يمكن التمسك في عدم وجوب الاكثر ) باستصحاب نفي الحكم ، ومن المعلوم : ان الاستصحاب غير البرائة .

ص: 257

بأصالة عدم وجوبه ، فانّها سليمة في هذا المقام عن المعارضة بأصالة عدم وجوب الأقل ؛ لانّ وجوب الأقل معلوم تفصيلاً فلا يجري فيه الأصل ، وتردّدُ وجوبه بين الوجوب النفسيّ والغيري مع العلم التفصيلي بورود الخطاب التفصيلي بوجوبه بقوله : « وَرَبَّكَ فَكَبِّر » « وَ قُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ »

-------------------

وعليه : فنتمسك في عدم وجوب الاكثر ( بأصالة عدم وجوبه ، فانّها ) أي أصالة عدم الوجوب ( سليمة في هذا المقام ) اي : في باب الاقل والاكثر ( عن المعارضة بأصالة عدم وجوب الأقل ) فليس هما كالمتباينين حيث انّ الاستصحاب في كل واحد منهما معارض بالاستصحاب في الآخر .

وانّما يجري الاصل فيالاكثر بلا معارض ( لانّ وجوب الأقل معلوم تفصيلاً ) وان كان وجه وجوبه مجهولاً ، فلا نعلم هل انّه لنفسه ، أو لانّه مقدمة لغيره ، ومع ذلك ( فلا يجري فيه ) اي : في الأقل ( الاصل ) اي : استصحاب عدم وجوب الأقل حتى يقال : بانّ استصحاب عدم وجوب الاكثر معارض باستصحاب عدم وجوب الأقل فيتساقطان .

( و ) عليه : فانّ ( تردّد وجوبه ) اي : وجوب الأقل ( بين الوجوب النفسيّ ) إذا كان الأقل فقط واجبا ( والغيري ) إذا كان الأقل واجبا في ضمن الاكثر ( مع العلم التفصيلي بورود الخطاب التفصيلي بوجوبه ) اي : بوجوب الاقل من الآيات والروايات الدالة على الاجزاء في الصلاة ( بقوله : « وَ رَبَّكَ فَكَبِّر » (1) ) للتكبير ، ( « وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ » (2) ) للقنوت .

ص: 258


1- - سورة المدثر : الآية 3 .
2- - سورة البقرة : الآية 238 .

وقوله : « فَاقرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنهُ » وقوله : « اركَعُوا وَاسجُدُوا » وغير ذلك من الخطابات المتضمّنة للأمر بالأجزاء لايُوجبُ جريان أصالة عدم الوجوب ، وأصالة البرائة .

لكنّ الانصاف أنّ التمسّك بأصالة عدم وجوب الاكثر لا ينفع في المقام ، بل هو قليل الفائدة ، لانّه إن قُصِدَ به نفيُ أثر الوجوب الذي هو استحقاق العقاب بتركه ،

-------------------

( وقوله : «فَاقرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنهُ » (1) ) ، للقرائة .

( وقوله : « اركَعُوا وَ اسجُدُوا » (2) ) للركوع والسجود .

( وغير ذلك من الخطابات المتضمّنة للأمر بالأجزاء ) المتيقنة ، فانّه ( لايُوجبُ ) تردّد وجوب الاقل بين كونه نفسيا أو غيريا ( جريان ) الاستصحاب اي : ( أصالة عدم الوجوب ، و ) جريان ( أصالة البرائة ) العقلية والنقلية في الاقل .

إذن : فلا استصحاب بالنسبة الى الأقل ولا برائة ، اذ ليس هنا ما يعارض استصحاب عدم الاكثر ، ولا البرائة عن الاكثر من شيء .

( لكنّ الانصاف : أنّ التمسّك بأصالة عدم وجوب الاكثر لا ينفع في المقام ) . فلا أثر في استصحاب نفي الأكثر حتى يتمسك به ( بل هو ) اي : التمسك بأصالة عدم وجوب الاكثر هنا ( قليل الفائدة ) في نفسه ، وذلك لانّ الاحتمالات في فائدة هذا الاستصحاب هنا ثلاثة ، وكلّها غير مؤثرة :

أمّا الاحتمال الأوّل : فهو ما ذكره بقوله : ( لانّه ان قُصِدَ به ) اي : بالتمسّك بأصالة عدم وجوب الاكثر : ( نفي أثر الوجوب الذي هو : استحقاق العقاب بتركه )

ص: 259


1- - سورة المزمل : الآية 20 .
2- - سورة الحج : الآية 77 .

فهو ، وان كان غير معارض بأصالة عدم وجوب الأقل كما ذكرنا .

إلاّ أنّك قد عرفت فيما تقدّم في الشك في التكليف أنّ استصحاب عدم التكليف المستقل وجوبا أو تحريما لاينفع في دفع استحقاق العقاب على الترك أو الفعل ، لانّ عدم استحقاق العقاب ليس من آثار عدم الوجوب والحرمة الواقعيين حتى يحتاج الى إحرازهما بالاستصحاب ، بل يكفي فيه عدم العلم بهما ،

-------------------

أي : بترك الاكثر ( فهو ، وان كان غير معارض بأصالة عدم وجوب الأقل ) لوضوح: وجود العقاب بترك الأقل لان ّ الأقل متيقن ( كما ذكرنا ) سابقا : من انّ الأقل متيقن

فلا يجري استصحاب عدمه .

( إلاّ أنّك قد عرفت فيما تقدّم في الشك في التكليف : انّ استصحاب عدم التكليف المستقل وجوبا ) مثل : استصحاب عدم وجو ب الدعاء عند رؤية الهلال ( أو تحريما ) مثل : استصحاب عدم حرمة شرب التتن ( لاينفع في دفع استحقاق العقاب على الترك ) في مشتبه الوجوب ( أو الفعل ) في مشتبه الحرمة .

وانّما لا ينفع ذلك في دفعه ( لانّ عدم استحقاق العقاب ليس من آثار عدم الوجوب والحرمة الواقعيين حتى يحتاج ) في اثبات عدم استحقاق العقاب ( الى إحرازهما ) اي : احراز عدم الوجوب واحراز عدم الحرمة ( بالاستصحاب ، بل يكفي فيه ) اي: في عدم الا ستحقاق ( عدم العلم بهما ) اي : بالوجوب والحرمة .

ص: 260

فمجرّد الشك فيهما كافٍ في عدم استحقاق العقاب بحكم العقل القاطع ، وقد أشرنا الى ذلك عند التمسّك في حرمة العمل بالظّن بأصالة عدم حجيّته ، وقلنا إنّ الشك في حجيّته كافٍ في التحريم ، ولا يحتاج الى إحراز عدمها بالأصل .

وإن قُصِد به نفي الآثار المترتّبة على الوجوب النفسي المستقل ،

-------------------

إذن : ( فمجرّد الشك فيهما ) اي : في الوجوب والحرمة ( كافٍ في عدم استحقاق العقاب ) كفاية ( بحكم العقل القاطع ) فان العقل يحكم قاطعا بعدم استحقاق العقاب على ترك التكليف بمجرّد الشك فيه ، من دون حاجة الى استصحاب عدم التكليف ، والشك في وجوب الأكثر شك في التكليف فيكون الحكم فيه كذلك .

هذا ( وقد أشرنا الى ذلك ) أي : الى أنّ الأثر للشك فلا حاجة الى الاستصحاب ، وذلك في اوّل مباحث الظن ( عند التمسّك في حرمة العمل بالظّن بأصالة عدم حجيّته ) اي : عدم حجية الظن ( وقلنا ) هناك : ( انّ ) مجرد ( الشك في حجيّته كافٍ في التحريم ولا يحتاج ) التحريم ( الى إحراز عدمها ) اي : عدم الحجيّة احرازا ( بالأصل ) .

والحاصل : انّه إن أريد من اجراء استصحاب عدم وجوب الأكثر : نفي أثر الوجوب أعني : استحقاق العقاب ؟ فالاستصحاب غير جارٍ ، لكون عدم الاستحقاق مترتبا على مجرّد الشك في الوجوب ، فلا يحتاج في نفيه الى احراز عدمه حتى يتمسك باستصحاب العدم لنفي العقاب .

وأما الاحتمال الثاني للاستصحاب هنا فهو ما ذكره بقوله: ( وإن قُصِد به ) أي: بأصالة عدم وجوب الأكثر ( نفي الآثار المترتّبة على الوجوب النفسي المستقل )

ص: 261

فأصالة عدم هذا الوجوب في الأكثر معارضة بأصالة عدمه في الأقل ، فلا يبقى لهذا الأصل فائدة إلاّ في نفي ما عدا العقاب من الآثار المترتّبة على مطلق الوجوب الشامل للنفسي والغيري .

-------------------

بأن نجري استصحاب عدم وجوب الأكثر حتى لا يترتب الأثر المترتب على الوجوب النفسي المستقل .

مثلاً : لو كان أثر وجوب الجمعة وجوبا نفسيا مستقلاً : عدم وجوب الظهر ، فنجري استصحاب عدم الأكثر في الجمعة حيث نشك في أن الخطبة جزء من الجمعة أو ليست بجزء؟ حتى يترتب على هذا الاستصحاب : نفي ترتب اسقاط الظهر عليه ، فهذا الاستصحاب وان كان تاما إلاّ أنه معارض باستصحاب آخر ، كما أشار اليه بقوله : ( فأصالة عدم هذا الوجوب ) الذاتي الواقعي ( في الأكثر معارضة بأصالة عدمه في الأقل ) أيضا ، وإذا تعارض الاستصحابان فلا فائدة في جريان شيء منهما لأنّهما يتساقطان بالتعارض .

وبعبارة اُخرى : اسقاط الظهر من آثار الجمعة الواجبة واقعا وبالذات ، فاذا فرضنا دوران الجمعة بين الأقل والأكثر بأن احتملنا أن تكون الخطبة جزءا واحتملنا أن لا تكون الخطبة جزءا ، فاذا كانت الخطبة جزءا كان المأمور به هو الأكثر ، واذا لم تكن الخطبة جزءا كان المأمور به هو الأقل ، فيترتب على اجراء اصالة عدم وجوب الأكثر نفي ترتب اسقاط الظهر عليه ، لكنّ هذا الاستصحاب معارض بأصالة عدم وجوب الأقل ، فلا فائدة في جريانه .

وأما الاحتمال الثالث من احتمالات الاستصحاب هنا : فهو ما ذكره بقوله : ( فلا يبقى لهذا الأصل ) أي : استصحاب العدم ( فائدة إلاّ في نفي ما عدا العقاب : من الآثار المترتّبة على مطلق الوجوب الشامل للنفسي والغيري ) فاذا نذر - مثلاً -

ص: 262

ثم بما ذكرنا : من منع جريان الدليل العقلي - المتقدم في المتباينين - فيما نحن فيه تُقَدَرُ على منع سائر مايتمسك به ، لوجوب الاحتياط في هذا المقام : مثلُ استصحاب الاشتغال بعد الاتيان بالأقلّ ،

-------------------

التصدق بدينار عند اتيان الواجب ، معيّنا كان أو غير معيّن ، جاز اجراء اصالة عدم وجوب الأكثر لنفي ترتب الأثر المذكور عليه ، وهذا لا يعارض بأصالة عدم وجوب الأقل ، لأن وجوب الأقل متيقن وان تردد بين النفسي والغيري .

إلاّ ان هذا الأثر ليس بأثر فيما نحن فيه ، وإنما هو أثر في باب النذر والعهد واليمين وما أشبه مما لا يرتبط بمقامنا ، ولهذا قال المصنِّف في أوّل البحث انه قليل الفائدة .

( ثم بما ذكرنا : من منع جريان الدليل العقلي - المتقدم في المتباينين - فيما نحن فيه ) من الأقل والأكثر ، وذلك لأن الدليل العقلي المتقدّم في المتباينين كان يقول : انا مكلفون بالواجب ، ولا نعلم بالبرائة إلاّ بالاتيان بهما معا كما في مثال الظهر والجمعة ، فيلزم الاحتياط باتيانهما معا ، لكن نمنع هذا الدليل العقلي بين الأقل والأكثر ، لأن الأقل متيقن والأكثر مشكوك ، فيجري في المشكوك البرائة بدون معارضة بالأقل ، بينما في المتباينين كان الأصل في كل طرف معارض بالأصل في الطرف الآخر .

وعليه : فانه من منع الدليل العقلي القائل بالاحتياط هناك ( تُقَدَرُ على منع سائر ما يتمسك به لوجوب الاحتياط في هذا المقام ) أي : في مقام الأقل والأكثر ، وماتمسك به لوجوب الاحتياط هي أمور أشار اليها المصنِّف ليجيب عنها بقوله :

( مثل استصحاب الاشتغال بعد الاتيان بالأقلّ ) بتقريب : انه قبل الاتيان بالأقل كان مشغول الذمة بالتكليف ، فيستصحب هذا الاشتغال بعد الاتيان بالأقل ، فيلزم

ص: 263

وأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي وجوب تحصيل اليقين بالبرائة .

ومثل أدلّة اشتراك الغائبين مع الحاضرين في الأحكام المقتضية لاشتراكنا مَعاشِرَ الغائبين مع الحاضرين العالمين بالمكلّف به تفصيلاً .

ومثل وجوب دفع الضرر وهو العقاب المحتمل قطعا ، وبعبارة اُخرى ، وجوب المقدّمة العلمية للواجب .

-------------------

على المكلّف الاتيان بالأكثر ليعلم برائة ذمته .

( و ) مثل قاعدة الاشتغال وهي : ( أنّ الاشتغال اليقيني يقتضي وجوب تحصيل اليقين بالبرائة ) ومن الواضح : ان قاعدة الاشتغال غير استصحاب الاشتغال ، لان استصحاب الاشتغال سحب الحالة السابقة إلى الحال ، امّا الاشتغال فهو عبارة عما يترتب على مجرد الشك من دون ملاحظة الحالة السابقة .

( ومثل أدلّة اشتراك الغائبين مع الحاضرين في الأحكام المقتضية ) تلك الأدلة ( لاشتراكنا مَعاشِرَ الغائبين مع الحاضرين العالمين بالمكلّف به تفصيلاً ) فاذا كانوا عالمين تفصيلاً وجب عليهم الاتيان بالواجب الواقعي لعلمهم به تفصيلاً ، ونحن أيضا يجب علينا الاتيان بالواجب الواقعي ولا نعلم بأنا أتينا بالواجب الواقعي إلاّ إذا أتينا بالأكثر .

( ومثل وجوب دفع الضرر ) المحتمل ( وهو العقاب المحتمل ) فان دفعه واجب ( قطعا ) عقلاً ونقلاً ، والدفع لا يكون إلاّ بالاتيان بكلا المحتملين من الأقل والأكثر ، وإلاّ فلو أتينا بالأقل ، كان احتمال العقاب لتركنا الأكثر باقيا بعد احتمالنا إن الأكثر هو الواجب الواقعي .

( وبعبارة اُخرى : وجوب المقدمة العلمية للواجب ) الواقعي ، فيكون حال الأقل والأكثر في وجوب الاتيان بهما حال المتباينين ، حيث يجب الاتيان بهما مقدمة لاحراز الواجب المردّد بينهما .

ص: 264

ومثلُ أنّ قصد القربة غير ممكن بالاتيان بالأقل لعدم العلم بمطلوبيته في ذاته ، فلا يجوز الاقتصار عليه في العبادات ، بل لابدّ من الاتيان بالجزء المشكوك .

فان الأوّل مندفعٌ - مضافا إلى منع جريانه حتى في مورد وجوب الاحتياط ، كما تقدّم في المتباينين - بأنّ بقاء وجوب الأمر المردّد بين الأقلّ والأكثر بالاستصحاب لايُجدي بعد فرض كون وجود المتيقن قبل الشك غيرَ مُجدٍ في الاحتياط .

-------------------

( ومثلُ أنّ قصد القربة غير ممكن ) منه فيما لو عزم المكلّف ( بالاتيان بالأقل ) فقط ، لأن الذمة مشغولة قطعا بالعبادة ، ولا فراغ لها إلاّ باتيان تلك العبادة بقصد القربة ، والاتيان بالأقل بقصد القربة غير كاف ( لعدم العلم بمطلوبيته في ذاته ، فلايجوز الاقتصار عليه في العبادات ) بأن يأتي بالأقل فقط بقصد القربة ( بل لابدّ من الاتيان بالجزء المشكوك ) أيضا حتى يتمكن من قصد التقرب به .

ثم بدأ المصنِّف في الجواب عنها بقوله : ( فان الأوّل ) وهو استصحاب الاشتغال بعد الاتيان بالأقل ( مندفعٌ - مضافا إلى منع جريانه ) أي : جريان استصحاب الاشتغال ( حتى في مورد وجوب الاحتياط كما تقدّم في المتباينين - ) حيث قلنا هناك : بأنه لا تصل النوبة إلى استصحاب الاشتغال ، إذ العقل حاكم من أول الأمر بوجوب اتيان الكل ، فلا شك في المقام حتى يجري فيه الاستصحاب لعدم تمامية أركانه .

وعليه : فان استصحاب الاشتغال مندفع لقوله : ( بأنّ بقاء وجوب الأمر المردّد بين الأقلّ والأكثر بالاستصحاب ) هنا ( لا يُجدي ) ولا ينفع في وجوب الاحتياط ( بعد فرض كون وجود المتيقن قبل الشك غير مجدٍ في الاحتياط ) فان وجوب

ص: 265

نعم ، لو قلنا بالأصل المُثبت وأنّ استصحاب الاشتغال بعد الاتيان بالأقل يُثبت كون الواجب هو الأكثر ، فيجب الاتيان به ، أمكن الاستدلال بالاستصحاب .

لكن يمكن أن يقال : إنّا نفينا في الزّمان السابق وجوب الأكثر لقبح المؤاخذة من دون بيان ، فتعيّن الاشتغال بالأقل ، فهو منفي في الزمان السابق فكيف يثبت في الزّمان اللاّحق .

-------------------

الأمر المردد بين الأقل والأكثر كان قبل الاتيان بالأقل متيقنا ومع ذلك لم يكن مقتضيا لوجوب الاحتياط - لما سبق من إن الأقل متيقن والأكثر مشكوك - فكيف يصير مقتضيا للاحتياط بعد صيرورته مشكوكا بالاتيان بالأقل .

( نعم ، لو قلنا بالأصل المثبت و ) ذلك بتقريب : ( انّ استصحاب الاشتغال بعد الاتيان بالأقل يثبت كون الواجب ) واقعا ( هو الأكثر ، فيجب الاتيان به ) أي : بالأكثر ، فاذا قلنا بالأصل المثبت ( أمكن الاستدلال بالاستصحاب ) وذلك بأن يقال : نستصحب الاشتغال ، فيجب الاتيان بالأكثر خروجا عن الاشتغال .

( لكن يمكن أن يقال ) : ان الاستدلال بالاستصحاب حتى على القول بالأصل المثبت غير تام ، وذلك ( إنّا نفينا في الزّمان السابق ) أي : قبل الاتيان بالأقل ( وجوب الأكثر ) وإنما نفيناه ( لقبح المؤاخذة من دون بيان ) إذ كان الأكثر مشكوكا من أوّل الأمر والأقل متيقنا من أوّل الأمر ( فتعيّن الاشتغال بالأقل ) .

إذن : ( فهو ) أي : وجوب الأكثر ( منفي في الزمان السابق ) قبل الاتيان بالأقل ( فكيف يثبت ) وجوب الأكثر ( في الزّمان اللاّحق ) بعد الاتيان بالأقل ؟ فما لم يكن واجبا في السابق كيف يكون واجبا في اللاحق ؟ .

ص: 266

وأمّا الثاني ، فهو حاصل الدليل المتقدّم في المتباينين المتوهّم جريانه في المقام ، وقد عرفت الجواب ، وأنّ الاشتغال اليقيني إنّما هو بالأقل ، وغيره مشكوك فيه .

وأما الثالثُ ، ففيه أنّ مقتضى الاشتراك كون الغائبين والحاضرين على نهج واحد مع كونهما في العلم والجهل على صفة واحدة ، ولا ريب أنّ وجوب الاحتياط على الجاهل من الحاضرين فيما نحن فيه عين الدعوى .

-------------------

( وأمّا الثاني ) : أي : قاعدة الاشتغال ( فهو حاصل الدليل ) العقلي ( المتقدّم في المتباينين ) بتقريب : ان الأمر بالواقع المردد ثابت ، والمانع مفقود ، ولا يمكن الاتيان بالواقع المردد إلاّ بالاتيان بالمتباينين معا ( المتوهّم ) ذلك الدليل ( جريانه في المقام ) أي : في الشك بين الأقل والأكثر .

هذا ( وقد عرفت الجواب ) عنه ( وانّ الاشتغال اليقيني إنّما هو بالأقل ، وغيره ) أي : غير الأقل وهو الأكثر ( مشكوك فيه ) فلا دليل من العقل على وجوب كل من الأكثر والأقل بعد جريان البرائة من الأكثر ، فليس المقام كالمتباينين ، إذ لا وجود للمقتضي فيه .

( وأما الثالث ) : وهو أدلة اشتراك الغائبين مع الحاضرين في الأحكام ( ففيه : انّ مقتضى ) أدلة ( الاشتراك : كون الغائبين والحاضرين على نهج واحد ، مع كونهما في العلم والجهل على صفة واحدة ) يعني : ان الغائب الجاهل كالحاضر الجاهل ، والغائب العالم كالحاضر العالم سيّان في الحكم .

( ولا ريب انّ وجوب الاحتياط على الجاهل من الحاضرين فيما نحن فيه ) أي : في الأقل والأكثر ( عين الدعوى ) إذ لا دليل على وجوب الأكثر للحاضر الجاهل حتى نقول : بأن الغائب يكون كالحاضر محكوما بالأكثر ، بل الحاضر

ص: 267

وأمّا الرابع ، فلأن وجوب المقدّمة فرع وجوب ذي المقدّمة ، وهو الأمر المتردّد بين الأقل والأكثر ، وقد تقدّم أنّ وجوب المعلوم اجمالاً مع كون أحد طرفيه متيقّن الالزام من الشارع ولو بالالزام المقدميّ ، غير مؤثر في وجوب الاحتياط ، لكون الطرف غير المتيقّن وهو الأكثر فيما نحن فيه موردا لقاعدة البرائة ، كما مثّلنا له بالخمر المردّد بين الانائين أحدهما المعيّن نجسٌ .

نعم ، لو ثبت أنّ ذلك ، أعني تيقّن أحد طرفي المعلوم بالاجمال

-------------------

لو شك بين الأقل والأكثر كان حكمه الأقل لأدلة البرائة ، فالغائب أيضا يكون مثل الحاضر من هذه الجهة .

( وأمّا الرابع ) : وهو وجوب المقدمة العلمية للواجب الواقعي حيث ان الأقل والأكثر كالمتباينين ، وكما يجب الاتيان بالمتباينين كذلك يجب الاتيان بالأكثر ، لانّ به يحصل الاتيان بكل من الأقل والأكثر كما قال : ( فلأن وجوب المقدّمة ) العلمية ( فرع وجوب ذي المقدمة وهو ) أي : وجوب ذي المقدمة ( : الأمر المتردّد بين الأقل والأكثر ، وقد تقدّم : انّ وجوب المعلوم اجمالاً مع كون أحد طرفيه متيقّن الالزام من الشارع ) تيقنا قبل العلم الاجمالي ( ولو بالالزام المقدميّ ) أي : الزاما بالالزام المقدمي ( غير مؤثر في وجوب الاحتياط ) لاحراز الواقع .

وإنما كان غير مؤثر ( لكون الطرف غير المتيقّن وهو الأكثر فيما نحن فيه موردا لقاعدة البرائة ، كما مثّلنا له بالخمر المردّد بين الانائين أحدهما المعيّن نجسٌ ) وقد ذكرنا هناك ان المثال ليس على اطلاقه .

( نعم ، لو ثبت ) فرضا ( انّ ذلك ، أعني : تيقّن أحد طرفي المعلوم بالاجمال )

ص: 268

تفصيلاً وترتّب أثره عليه ، لايقدحُ في وجوب العمل بما يقتضيه من الاحتياط ، فيقال في المثال : إنّ التكليف بالاجتناب عن هذا الخمر المردّد بين الانائين يقتضي استحقاق العقاب على تناوله بتناول أيّ الانائين اتفق كونه خمرا ، فيجب الاحتياط بالاجتناب عنهما ، فكذلك فيما نحن فيه .

والدليل العقلي على البرائة من هذه الجهة يحتاجُ إلى مزيد تأمّل .

-------------------

تيقنا ( تفصيلاً ) بأن تيقن نجاسة هذا الاناء - مثلاً - ( وترتّب أثره عليه ) أي : ترتب أثر أحد الطرفين على الطرف الآخر ، كوجوب الاجتناب الذي هو أثر النجاسة ، فانه ( لا يقدح في وجوب العمل بما يقتضيه ) المعلوم بالاجمال ( من الاحتياط ) أي : ان تنجز أحد الطرفين لا يمنع من الاحتياط ، بل يجب الاحتياط حتى مع تيقّن أحد الطرفين .

وعليه : ( فيقال في المثال : إنّ التكليف بالاجتناب عن هذا الخمر المردّد بين الانائين يقتضي استحقاق العقاب على تناوله ) أي : تناول هذا الخمر المردّد ( بتناول أيّ الانائين اتفق كونه خمرا ) في الواقع ( فيجب الاحتياط بالاجتناب عنهما ، فكذلك فيما نحن فيه ) من الشك في وجوب الأقل والأكثر ، لكن قد عرفت : ان هذا مجرد فرض .

( و ) أمّا ( الدليل العقلي على البرائة ) وهو قبح العقاب بلا بيان ( من هذه الجهة ) أي : من جهة ان تيقن أحد الطرفين قبل العلم الاجمالي يوجب الاجتناب عنهما معا ، أو لايوجب الاجتناب عنهما معا فانه ( يحتاج إلى مزيد تأمّل ) حيث ذكرنا سابقا : ان التيقن السابق من جهة أحد الطرفين ، يوجب عدم تنجّز العلم الاجمالي ، لأنا نشك في التكليف الجديد شكا بدويا ، فالأصل عدمه .

كما إذا كان الاناء الأحمر خمرا والأبيض ماءا ، ثم وقعت قطرة خمر

ص: 269

وأمّا الخامس ، فلأنه يكفي في قصد القربة الاتيانُ بما علم من الشارع الالزامُ به ، وأداء تركه إلى استحقاق العقاب لأجل التخلص عن العقاب ، فانّ هذا المقدار كافٍ في نيّة القربة المعتبرة في العبادات ، حتى لو علم بأجزائها تفصيلاً .

بقي الكلام في أنّه كيف يقصد القربة باتيان الأقل ، مع عدم العلم بكونه مقرّبا

-------------------

في أحدهما ، فانا حيث نشك في ان هذه القطرة أوجبت لنا تكليفا جديدا أم لا ، لأنا نحتمل سقوطها في الاناء الأحمر الذي هو خمر ، فالأصل عدم التكليف الجديد ، ولذا يجوز لنا استعمال الاناء الأبيض .

( وامّا الخامس : ) وهو : انّ قصد القربة غير متمكن منه عند الاتيان بالأقل فقط ، وذلك لعدم العلم بمطلوبيته في ذاته ، فانه يدفع بقوله :

( فلأنه يكفي في قصد القربة الاتيان بما علم من الشارع الالزام به ، و ) الاتيان بما علم ( أداء تركه إلى استحقاق العقاب ) فيكفي في قصد القربة : اتيان ما تيقن وجوبه وهو الأقل ، فيأتي بالأقل ( لأجل التخلص عن العقاب ، فانّ ) من المعلوم بأن ( هذا المقدار كافٍ في نيّة القربة المعتبرة في العبادات حتى لو علم بأجزائها تفصيلاً ) .

إذن : فلا يتوقف قصد القربة على العلم بكونه مطلوبا نفسيا متعلقا بالأمر الأصلي ، لما عرفت : من كفاية العلم بمطلوبيته في الجملة ، وأداء تركه إلى استحقاق العقاب قطعا .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف مكررا حيث قال : ( بقي الكلام في أنّه كيف يقصد القربة باتيان الأقل ، مع عدم العلم بكونه ) أي : الأقل ( مقرّبا ؟ ) وذلك

ص: 270

لتردّده بين الواجب النفسي المقرّب والمقدّمي غير المقرّب ، فنقول : يكفي في قصد القربة ، قصد التخلصُ من العقاب ، فانها إحدى الغايات المذكورة في العبادات .

-------------------

( لتردّده بين الواجب النفسي المقرّب ) ان كان الوجوب قد تعلق بالأقل فقط ( والمقدّمي غير المقرّب ) ان كان وجوب الأقل ضمن الأكثر ( فنقول : يكفي في قصد القربة ، قصد التخلصُ من العقاب : فانها ) أي : نيّة التخلص من العقاب ( إحدى الغايات المذكورة في العبادات ) فانّ للقربة مراتب كالتالي :

الاولى : خوف النار .

الثانية : طمع الجنة .

الثالثة : إرادة تكميل النفس حتى إذا لم تكن جنة ولا نار ، فانّ العبادات تكمّل النفس .

الرابعة : إرادة جلب رضا اللّه سبحانه وتعالى .

الخامسة : ان يرى الانسان ان اللّه سبحانه وتعالى أهلاً للعبادة فيعبده حتى إذا لم تكن إحدى المراتب الأربع السابقة .

مثلاً : ان الانسان قد يعدو فرارا من الأسد ، وقد يعدو لأجل صيد غزال ، وقد يعدو لأجل تقوية عضلاته ، وقد يعدو لأجل أن يرضى عنه مولاه حيث أمره بالعدو ولم يكن إحدى الثلاثة السابقة ، وقد يعدو لأجل إنه يرى مولاه أهلاً لأن يعدو أمامه احتراما لمقامه .

ولا يخفى : انّ المرتبة الخامسة هي أعلى المراتب ، وقد أشار اليها الامام أمير المؤمنين عليه السلام في الكلمة المنسوبة اليه : «ما عبدتك طمعا في جنتك ، ولا خوفا

ص: 271

وأمّا الدليل النقليّ :

فهو الأخبار الدالّة على البرائة الواضحة سندا ودلالة . ولذا عوّل عليها في المسألة من جعل مقتضى العقل فيها وجوب الاحتياط بناءا على وجوب مراعاة العلم الاجمالي ، وإن كان الالزام في أحد طرفيه معلوما بالتفصيل ،

-------------------

من نارك ، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك » (1) ولا يخفى : ان كلمة الامام هذه لا تنافي قوله سبحانه : « يدعوننا رغبا ورهبا » (2) لان الامام يريد بيان انه لاتفوته عبادة اللّه حتى إذا لم تكن رغبة أو رهبة .

هذا تمام الكلام في الدليل العقلي على البرائة عن الأكثر في الأقل والأكثر الارتباطيين .

( وأمّّا الدليل النقليّ ) على ذلك ( فهو : الأخبار الدالّة على البرائة الواضحة سندا ) من جهة الحجيّة ( ودلالة ) من حيث ظهور الدلالة ( ولذا عوّل عليها ) أي : على هذه الأخبار ( في المسألة ) أي : مسألة البرائة من الأكثر ( من جعل مقتضى العقل فيها ) أي : في هذه المسألة ( وجوب الاحتياط ) .

وإنّما أوجب الاحتياط فيها من جهة العقل ( بناءا على وجوب مراعاة العلم الاجمالي ) عقلاً ( وإن كان الالزام في أحد طرفيه معلوما بالتفصيل ) فان هؤلاء يقولون : إنّ معلومية أحد الطرفين لا توجب انحلال العلم الاجمالي ، ولذا يجب عقلاً الاتيان بكلا الطرفين ، إلاّ ان هذه الأخبار لما كانت موجودة نقول بالبرائة عن الأكثر .

ص: 272


1- - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج10 ص157 بالمعنى وقريب منه في غوالي اللئالي : ج2 ص11 ح18 والالفين : ص128 .
2- - سورة الأنبياء : الآية 90 .

وقد تقدّم أكثر تلك الأخبار في الشك في التكليف التحريمي والوجوبي :

منها قوله عليه السلام : «ما حَجبَ اللّه ُ علمَهُ عن العباد ، فهو موضوعٌ عنهم» .

فانّ وجوب الجزء المشكوك محجوبٌ علمه عن العباد فهو موضوعٌ عنهم ، فدلّ على أنّ الجزء المشكوك وجوبه ، غير واجب على الجاهل ، كما دلّ على أنّ الشيء المشكوك وجوبه النفسي غير واجب في الظاهر على الجاهل .

ويمكن تقريبُ الاستدلال بأنّ وجوب الأكثر

-------------------

( وقد تقدّم أكثر تلك الأخبار في الشك في التكليف التحريمي والوجوبي ) أي: الشبهة الوجوبية والشبهة التحريمية ، لأنا قد ذكرنا هناك : ان الأصل في الشبهتين : البرائة .

( منها : ) أي : من تلك الأخبار المتقدمة ( قوله عليه السلام : «ما حَجبَ اللّه ُ علمَهُ عن العباد ، فهو موضوعٌ عنهم » (1) ؛ فانّ ) الاستدلال بهذه الرواية يكون بتقريب : ان ( وجوب الجزء المشكوك ) كالاستعاذة قبل القرائة - مثلاً - ( محجوبٌ علمه عن العباد فهو موضوعٌ عنهم . فدلّ ) هذا الحديث ( على انّ الجزء المشكوك وجوبه ، غير واجب على الجاهل ) الذي لا يعلم انه واجب أم لا ؟ .

( كما دلّ ) هذا الحديث ( على ان الشيء المشكوك وجوبه النفسي ) كالدعاء عند رؤية الهلال ( غير واجب في الظاهر على الجاهل ) فالحديث يشمل البرائة في الوجوب النفسي والوجوب الغيري معا .

( ويمكن تقريب الاستدلال ) بهذا الحديث : ( بأنّ وجوب الأكثر ) وهو

ص: 273


1- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .

مما حجب علمه فهو موضوع ، ولا يعارض بأنّ وجوب الأقل كذلك ، لانّ العلم بوجوبه المردّد بين النفسي والغيري غير محجوب ، فهو غير موضوع .

وقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « رُفِعَ عن أُمتي .. ما لايَعلمُونَ » ، فانّ وجوب الجزء المشكوك ممّا لم يعلم، فهو مرفوع عن المكلفين ، أو إنّ العقاب والمؤاخذة المترتبة على تعمّد ترك الجزء المشكوك الذي هو سبب لترك الكلّ مرفوعٌ

-------------------

الوجوب النفسي المشكوك فيه ( مما حجب علمه ، فهو موضوع ) عن العباد ( ولا يعارض بانّ وجوب الأقل كذلك ) أي : محجوب علمه أيضا ، فيكون موضوعا عنهم لأنهم لا يعلمون بوجوب الأقل بما هو أقل .

وإنما لا يعارض به ( لانّ العلم بوجوبه ) أي : بوجوب الأقل ( المردّد بين النفسي والغيري غير محجوب ، فهو غير موضوع ) عن العباد لعلمهم بوجوب اجزاء تسعة للصلاة ، وإنّما الشك في الجزء العاشر .

( وقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : «رُفِعَ عن أُمتي .. ما لايَعلمُونَ » (1) ) بتقريب أشار اليه بقوله : ( فانّ وجوب الجزء المشكوك ) وهو وجوب الأكثر ( ممّا لم يعلم، فهو مرفوع عن المكلفين ) بناءا على ان المرفوع هو الحكم ، أو الأعم من الحكم والموضوع والوضع .

( أو إنّ ) المرفوع هو ( العقاب والمؤاخذة المترتبة على تعمّد ترك ) الأكثر بترك ( الجزء المشكوك ) فيه ( الذي هو سبب لترك الكلّ ) لأن المفروض انهما ارتباطيان فاذا ترك جزءا منه فكأنما ترك الكل ، فان العقاب ( مرفوعٌ

ص: 274


1- - التوحيد : ص353 ح24 ، تحف العقول : ص50 ، الخصال : ص417 ح27 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

عن الجاهل ، إلى غير ذلك من أخبار البرائة الجارية في الشبهة الوجوبية .

وكان بعض مشايخنا قدس اللّه نفسه يدّعي ظهورها في نفي الوجوب النفسي المشكوك وعدم جريانها في الشكّ في الوجوب الغيري .

ولا يخفى على المتأمّل عدمُ الفرق بين الوجوبين في نفي ما يترتب عليه من استحقاق العقاب ، لأنّ ترك الواجب الغيري منشأ لاستحقاق العقاب ولو من جهة كونه منشئا لترك الواجب النفسي .

-------------------

عن الجاهل ) وذلك بناءا على ان المرفوع في حديث الرفع هو المؤاخذة فقط ، فيكون مرجع رفع المؤاخذة إلى رفع الحكم ، لأنّ الحكم لو كان كانت المؤاخذة ، فاذا لم تكن مؤاخذة كان دليلاً على عدم الحكم .

( إلى غير ذلك من أخبار البرائة الجارية في الشبهة الوجوبية ، و ) التي قد تقدَّمت حيث ( كان بعض مشايخنا قدس اللّه نفسه ) وهو شريف العلماء ( يدّعي ظهورها في نفي الوجوب النفسي المشكوك ) مثل : دعاء رؤية الهلال ( وعدم جريانها في الشكّ في الوجوب الغيري ) مثل ما نحن فيه ، لأنه من الشك في وجوب الجزء ، ووجوب الجزء غيري .

( ولا يخفى على المتأمّل : عدم الفرق بين الوجوبين ) : النفسي والغيري ( في نفي ما يترتب عليه من استحقاق العقاب ) فان الحديث يدل على ان من ترك الواجب المشكوك فيه لا يستحق العقاب ، واطلاقه يشمل الواجب النفسي والواجب الغيري ( لأنّ ترك الواجب الغيري منشأ لاستحقاق العقاب ) أيضا ، كما ان ترك الواجب النفسي يوجب العقاب ( ولو من جهة كونه منشئا لترك الواجب النفسي ) فان من يترك الواجب الغيري الذي هو مقدمة للواجب النفسي يكون تاركا للواجب النفسي حقيقة .

ص: 275

نعم ، لو كان الظاهرُ من الأخبار نفي العقاب المترتّب على ترك الشيء من حيث خصوص ذاته ، أمكن دعوى ظهورها فيما ادّعى ، مع إمكان أن يقال: إنّ العقاب على ترك الجزء أيضا من حيث خصوص ذاته ، لانّ ترك الجزء عين ترك الكلّ ، فافهم .

-------------------

وعليه : فان مفاد هذه الأخبار هو نفي العقاب لمن يترك الواجب النفسي ، وترك الواجب الغيري يؤدي أيضا إلى ترك الواجب النفسي ، لان من لم يأت في الصلاة بجزء من أجزائها كان كتارك الصلاة نفسها ، فيصح التمسك بهذا الخبر لنفي وجوب الجزء ، وذلك امّا لأنه تارك للوجوب الغيري كما استقر بناه ، أو أنه تارك للوجوب النفسي على ما ذكره شريف العلماء .

( نعم ، لو كان الظاهر من الأخبار ) أي : أخبار البرائة ( نفي العقاب المترتّب على ترك الشيء من حيث خصوص ذاته ) أي : من حيث كونه واجبا نفسيا ( أمكن دعوى ظهورها ) أي : ظهور تلك الأخبار ( فيما ادّعى ) واستظهره شريف العلماء ، غير انك عرفت : ان الأخبار أعم من الواجب النفسي والواجب الغيري .

( مع امكان ان يقال : إنّ ) الظهور المزبور أيضا لا ينفع شريف العلماء ، لأن ( العقاب على ترك الجزء ) يكون ( أيضا من حيث خصوص ذاته ) فان ترك الجزء أيضا ترك للواجب النفسي لما ذكره المصنِّف بقوله : ( لانّ ترك الجزء عين ترك الكلّ ) إذ الوجوب النفسي منتشر على الأجزاء فكل جزء له حصة من الوجوب النفسي ، فيصح التمسك في نفي وجوبه بظهور أخبار البرائة في نفي العقاب المترتب على ترك الشيء بما هو هو .

( فافهم ) فان شريف العلماء يريد بالوجوب النفسي : الوجوب النفسي الكلي، لا الوجوب النفسي الجزئي ، الذي اكتسبه كل جزء جزء من ذلك الوجوب .

ص: 276

هذا كلّه إن جعلنا المرفوع والموضوع في الروايات خصوص المؤاخذة .

وأمّا لو عمّمناه لمطلق الآثار الشرعية المترتبة على الشيء المجهول كانت الدلالة أوضح ،

-------------------

( هذا كلّه ) : من عدم الفرق بين الواجب النفسي والغيري في نفي ما يترتب عليه من استحقاق العقاب ، ومن دعوى شريف العلماء ظهور أخبار البرائة في نفي الوجوب النفسي المشكوك ، لا الأعم من الوجوب النفسي والوجوب الغيري ( إن جعلنا المرفوع ) في قوله : رفع ( والموضوع ) في قوله : « وضع » ، فان المرفوع والموضوع يؤدّيان معنى واحدا ، وهو : عدم التكليف ، وقد ذكرنا الفرق بينهما في أوائل الشرح .

وعليه : فان ذلك كله إنّما يكون لو جعلنا الرفع والوضع ( في الروايات خصوص المؤاخذة ) فانه قد تقدّم في أوّل بحث البرائة في مسألة الشبهة التحريمية البدوية : ان المقدّر في هذه الرواية باعتبار دلالة الاقتضاء أحد احتمالات ثلاثة :

الأوّل : أن يكون المقدر جميع الآثار في كل واحد من التسعة .

الثاني : أن يكون في كل منها ما هو الأثر الظاهر فيه .

الثالث : تقدير المؤاخذة في الكل .

هذا ( وامّا لو عمّمناه ) أي : عمّمنا المرفوع أو الموضوع في الرواية ( لمطلق الآثار الشرعية المترتبة على الشيء المجهول ) من الجزئية ، والشرطية ، وفساد الصلاة ، والصوم ، ووجوب الاعادة ، وسائر الآثار المجعولة شرعا ( كانت الدلالة أوضح ) لأن مدلول الرواية حينئذ رفع جميع الآثار الشرعية ، ومن الواضح : ان من جملة تلك الآثار الشرعية الوجوب الغيري المبحوث عنه في المقام .

ص: 277

لكن سيأتي ما في ذلك .

ثم إنّه لو فرضنا عدم تماميّة الدّليل العقلي المتقدّم ، بل كان العقل حاكما بوجوب الاحتياط ومراعاة حال العلم الاجمالي بالتكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر ، كانت هذه الأخبار كافية في المطلب ، حاكمة على ذلك الدليل العقلي ، لأن الشارع أخبر بنفي العقاب على ترك الأكثر لو كان واجبا في الواقع ، فلا يقتضي العقل وجوبه من باب الاحتياط الراجع إلى وجوب دفع العقاب المحتمل .

-------------------

( لكن سيأتي ما في ذلك ) من منع العموم ، وان ظاهر الرواية هو : منع المؤاخذة فقط ، لكنّا كما عرفت قد ذكرنا في أول بحث البرائة : ان مقتضى القاعدة هو العموم .

( ثم انّه لو فرضنا عدم تماميّة الدّليل العقلي المتقدّم ) لجريان البرائة عن الأكثر، والدليل هو : قبح العقاب بلا بيان ( بل كان العقل حاكما بوجوب الاحتياط ومراعاة حال العلم الاجمالي بالتكليف المردّد بين الأقل والأكثر ) لتوهم ان التردد بين الأقل والأكثر كالتردد بين المتباينين ، فانه مع ذلك ( كانت هذه الأخبار ) الدالة على البرائة ( كافية في المطلب ) أي : في البرائة ، و ( حاكمة ) أيضا ( على ذلك الدليل العقلي ) القائل بالاحتياط .

وإنما تكون أخبار البرائة حاكمة عليه ، ( لأن الشارع أخبر بنفي العقاب على ترك الأكثر لو كان ) الأكثر ( واجبا في الواقع ) .

وعليه : ( فلا يقتضي العقل وجوبه ) أي : وجوب الأكثر ( من باب الاحتياط الراجع إلى وجوب دفع العقاب المحتمل ) لأن العقل إنما يوجب الاتيان بالأكثر من باب دفع العقاب المحتمل ، والشارع بسبب هذه الأخبار يقول : انه لا عقاب

ص: 278

وقد توهّم بعضُ المعاصرين عكس ذلك ، وحكومة أدلة الاحتياط على هذه الأخبار ، فقال : « لا نسلّم حجب العلم في المقام لوجود الدليل في المقام ، وهي أصالة الاشتغال في الأجزاء والشرائط المشكوكة .

-------------------

محتمل في ترك الأكثر .

إذن : فحال المقام حال ما إذا تردّد النجس بين ثوبين ، فقامت البينة على طهارة أحدهما ، فان هذه البينة وهو دليل شرعي يمنع احتمال العقاب في هذا الثوب الذي قامت البينة على طهارته ، وفي المقام أيضا كذلك ، فانّ إذن الشارع في إرتكاب الأكثر بقوله : « رفع ... ما لا يعلمون » (1) وما أشبه ، يرفع احتمال العقاب فينتفي موضوع حكم العقل ويبقى الواجب منحصرا في الأقل .

هذا ( وقد توهّم بعضُ المعاصرين ) وهو صاحب الفصول قدس سره ( عكس ذلك ) الذي ذكرناه : من حكومة روايات البرائة على الدليل العقلي القائل بوجوب الأكثر ( و ) العكس هو ما بيّنه : من ( حكومة أدلة الاحتياط على هذه الأخبار ) فأدلة البرائة تقول : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » ، ودليل الاحتياط يقول : « لم يحجب اللّه العلم » ، حيث قد أوجب الاحتياط ( فقال : «لا نسلّم حجب العلم في المقام ) أي : عند التردد بين الأقل والأكثر الارتباطيين .

وإنّما قال ذلك ( لوجود الدليل في المقام ) على الاحتياط ( وهي : أصالة الاشتغال في الأجزاء والشرائط المشكوكة ) والاشتغال اليقيني بالمركب من الأجزاء والشرائط يقتضي البرائة اليقينية باتيان كل الأجزاء والشرائط المشكوكة ،

ص: 279


1- - وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 ، تحف العقول : ص50 ، الخصال : ص417 ح27، التوحيد : ص353 ح24 .

ثم قال : لأنّ ما كان لنا طريق إليه في الظاهر لايصدق في حقّه الحجب قطعا وإلاّ لدلّت هذه الرواية على عدم حجيّة الأدلة الظنّية ، كخبر الواحد وشهادة العدلين ، وغيرهما .

قال : ولو التزم تخصيصها بما دلّ على حجيّة تلك الطرق ،

-------------------

فلا حجب حتى يكون مشمولاً لما حجب اللّه .

( ثم قال : لأنّ ما كان لنا طريق إليه في الظاهر، لا يصدق في حقّه الحجب قطعا ) فان الوجوب الواقعي وان كان مشكوكا في انه الأقل أو الأكثر ، إلاّ ان الوجوب الظاهري للأكثر بسبب دليل الاشتغال طريق إلى الواقع ، فيثبت به الوجوب الظاهري للأكثر ، فلا يصدق معه الحجب يقينا .

( وإلاّ ) بأن صدق الحجب مع الطريق الظاهري فرضا ( لدلّت هذه الرواية ) أي: رواية الحجب ( على عدم حجيّة الأدلة الظنّية كخبر الواحد ، وشهادة العدلين ، وغيرهما ) من الاجماع المنقول ، والشهرة ، وظواهر الألفاظ ، وما أشبه ذلك .

وإنّما يستلزم ذلك لأن خبر الواحد - مثلاً - إنما هو حجة في صورة عدم العلم بالواقع والمفروض : ان الاشتغال طريق إلى الواقع ، فاذا قام خبر واحد على اباحة التتن - مثلاً - لا يمكننا أن نأخذ به ، بل يلزم ان نأخذ بالاشتغال لأنه طريق إلى الواقع بحرمة التتن ، ومعه لا يبقى مجال للأخذ بالخبر المبيح له ، لأن الخبر المبيح له إنما يكون حجّة فيما إذا لم يكن طريق إلى الواقع ، وقد فرض ان الاشتغال طريق إلى الواقع .

ولذلك ( قال : ولو التزم ) القائل بتقديم أدلة البرائة على دليل الاحتياط ( تخصيصها ) أي : تخصيص أدلة البرائة ( بما دلّ على حجيّة تلك الطرق ) كآية

ص: 280

تعيّن تخصيصها أيضا بما دلّ على حجيّة أصالة الاشتغال من عمومات أدلّة الاستصحاب ، ووجوب المقدمة العلميّة .

ثم قال : والتحقيق التمسّك بهذه الأخبار

-------------------

النبأ الدالة على حجية خبر العادل (1) ، وحديث : « دع الشاذ النادر ، فان المجمع عليه لا ريب فيه » (2) الدال على حجية الاجماع والشهرة ، إلى غيرهما من الأدلة الدالة على حجية الطرق الخاصة فانه ان التزم بتخصيصها هناك ( تعيّن تخصيصها ) هنا( أيضا بما دلّ على حجيّة اصالة الاشتغال من عمومات أدلّة الاستصحاب ، و ) من ( وجوب المقدمة العلميّة ) .

وإنّما يلزم تخصيص أدلة البرائة بما دل على حجية الاشتغال وبما دل على وجوب المقدمة العلمية أيضا ، لأنّ أدلة حجية الاستصحاب عامة أو مطلقة فتفيد حجية استصحاب الاشتغال في كل مكان ، سواء كان قبل الاتيان بالأقل أم بعد الاتيان بالأقل ، كما ان ما دل على وجوب المقدمة العلمية يدل على لزوم الاتيان بالأكثر حتى بعد الاتيان بالأقل فيلزم تخصيص أدلة البرائة بهما أيضا .

والحاصل : انه كما تخصص أخبار البرائة بأدلة الأمارات والطرق ، كذلك يلزم أن تخصص أدلة البرائة بما دل على حجية الاشتغال : من استصحاب الاشتغال ، ومن وجوب المقدمة العلمية ، وغير ذلك .

( ثم قال ) صاحب الفصول : ( والتحقيق : التمسّك بهذه الأخبار ) أي : أخبار

ص: 281


1- - اشارة الى سورة الحجرات : الآية 6 .
2- - بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 .

على نفي الحكم الوضعيّ وهي الجزئية والشرطيّة » ، انتهى .

-------------------

البرائة ( على نفي الحكم الوضعيّ وهي الجزئية والشرطيّة ) (1) ونحوهما كالمانعية والقاطعية .

وعليه : فانه وان لم يصحّح التمسك بهذه الأخبار على نفي الحكم التكليفي حيث ان الجزء المشكوك مشكوك من جهة الحكم التكليفي وهو الوجوب ومن جهة الحكم الوضعي وهو الجزئية ، واخبار البرائة وان لم تنفع من جهة نفي الوجوب ، لأن أصالة الاشتغال المقتضية للوجوب حاكمة على أخبار البرائة ، إلاّ ان أخبار البرائة تنفع من جهة نفي الجزئية عن الجزء المشكوك لعدم معارضتها من جهة الجزئية مع دليل الاشتغال ، إذ الاشتغال مقتضاه : مجرد الوجوب دون الجزئية ، فاخبار البرائة تكون حاكمة عليها من هذه الجهة ( انتهى ) كلامه رفع مقامه .

ولا بأس ان ننقل هنا كلام صاحب الفصول الذي ذكره في الصحيح والأعم زيادة للفائدة واليك نصه : «السابع من أدلة البرائة : عموم قوله عليه السلام في الموثق : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (2) وغير ذلك مما يفيد مفاده كالصحيح : « رفع عن أُمتي تسعة » (3) وعدّ منها « ما لا يعلمون » ومثله قوله عليه السلام : « من عمل بما علم كفي ما لم يعلم » (4) ، فان لفظة : ما ، للعموم ، فيتناول حكم

ص: 282


1- - الفصول الفردية : ص50 ، بحر الفوائد : ج2 ص161 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 ، التوحيد : ص413 ح9 .
3- - تحف العقول : ص50 ، الخصال : ص417 ح27 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769، التوحيد : ص353 ح24 .
4- - ثواب الاعمال : ص133 ، التوحيد : ص416 ح17 ، مشكاة الانوار : ص139 ، اعلام الدين : = = ص389 ، وسائل الشيعة : ج27 ص164 ب12 ح33498 .

...

-------------------

الجزء والشرط أيضا .

لا يقال : لا نسلم حجب العلم في المقام ، لقيام الدليل وهو : أصل الاشتغال على وجوب الاتيان بالأجزاء والشرائط المشكوكة .

لأنا نقول : المراد : حجب العلم بالحكم الواقعي ، وإلاّ فلا حجب في الحكم الظاهري .

وفيه نظر : لأن ما كان لنا اليه طريق ولو في الظاهر لا يصدق في حقه حجب العلم قطعا ، وإلاّ لدلت هذه الرواية على عدم حجية الأدلة الظاهرية ، كخبر الواحد، وشهادة العدلين ، والاستصحاب ، وغير ذلك مما يفيد العلم في الظاهر فقط ، ولو التزم تخصيصها بما دل على حجية تلك الطرق تعيّن تخصيصها أيضا بما دل على حجية اصالة بقاء الاشتغال من عمومات أدلة الاستصحاب ، ووجوب المقدمة العلمية .

بل التحقيق عندي ان يتمسك بالروايات المذكورة باعتبار دلالتها على نفي الحكم الوضعي نظرا إلى حجب العلم وانتفائه بالنسبة إلى جزئية الجزء المشكوك وشرطية الشرط المشكوك ، فيكون بمقتضى النص موضوعا ومرفوعا عنا في الظاهر ونكون مكفيّين عنه ، فلا تكليف به لأن ما ثبت عدم جزئيته أو عدم شرطيته في الظاهر لا يجب الاتيان به في الظاهر قطعا ، كما لو قام عليه نص بالخصوص ، فأصل الاشتغال ووجوب المقدمة العلمية لا يثبتان الجزئية والشرطية في الظاهر ، بل مجرد بقاء الاشتغال وعدم البرائة في الظاهر يثبتانهما .

ص: 283

أقول :

-------------------

وبالجملة : فمقتضى عموم هذه الروايات : ان ماهية العبادات عبارة عن الأجزاء المعلومة بشرائطها المعلومة ، فيتبيّن موارد التكليف ويرتفع عنه الابهام والاجمال وينتفي الاشكال ، ولو تشبث مانع بضعف عموم الموصولة وادعى : إن المتبادر منها بقرينة ظاهر الوضع والرفع ، إنما هو الحكم التكليفي فقط ، أمكن دفعه بما يلي :

أولاً : بأن الوضع والرفع لا اختصاص لهما بالحكم التكليفي فان المراد رفع فعلية الحكم ووضعها ، وهو صالح للتعميم إلى القسمين ، فيكون التخصيص تهكما .

وثانيا : بأن من الاصول المتداولة المعروفة ما يعبّرون عنه : بأصالة العدم ، وعدم الدليل دليل العدم ، فيستعملونه في نفي الحكم التكليفي والوضعي ، ونحن قد تصفّحنا فلم نجد لهذا الأصل مستندا غير عموم هذه الأخبار ، فيتعين تعميمها إلى الحكم الوضعي ولو بمساعدة أفهامهم ، وحينئذ فيتناول الجزئية والشرطية المبحوث عنهما في المقام .

ولك أن تقول : بأن ضعف شمول الرواية للمقام منجبرة بالشهرة العظيمة التي كادت أن تكون اجماعا على ما حكاه الفاضل المعاصر ، وربما يظهر أيضا بالتصفح في مصنفاتهم والتتبع في مطاوي كلماتهم ، إلى ان قال : ولنا في المقام كلام آخر يأتي بيانه في الأدلة العقلية » (1) انتهى كلام الفصول .

( أقول ) : قد عرفت : ان صاحب الفصول قال بحكومة دليل الاشتغال على

ص: 284


1- - الفصول الفردية : ص50 .

قد ذكرنا في المتباينين وفيما نحن فيه أنّ استصحاب الاشتغال لا يُثبت لزومَ الاحتياط، إلاّ على القول باعتبار الأصل المُثبت الذي لا نقول به وفاقا لهذا الفاضل ، وأنّ العمدة في وجوب الاحتياط هو حكم العقل بوجوب إحراز محتملات الواجب الواقعي بعد اثبات تنجّز التكليف وأنّه المؤاخذ به والمعاقب على تركه ولو حين الجهل به ، وتردّده بين متباينين ، أو الأقلّ أو الأكثر .

-------------------

دليل البرائة ، ونحن نقول : دليل الاشتغال لا يجري في المقام أصلاً ، لأنه ( قد ذكرنا في المتباينين وفيما نحن فيه ) من الأقل والأكثر ( أنّ استصحاب الاشتغال لايُثبت لزوم الاحتياط ) وذلك لان الاستصحاب إنما يثبت اللوازم الشرعية ووجوب تحصيل اليقين بالبرائة من اللوازم العقلية للاشتغال فلا يثبت بالاستصحاب ، ( إلاّ على القول باعتبار الأصل المُثبت الذي لا نقول به وفاقا ) منّا ( لهذا الفاضل ) وهو صاحب الفصول ، فانه أيضا لا يقول بالأصل المثبت .

هذا ( و ) قد ذكرنا أيضا : ( أن العمدة في وجوب الاحتياط ) في المتباينين قطعا ، وفي الأقل والأكثر عند من يقول بلزوم الاحتياط فيه باتيان الأكثر ( هو ) قاعدة الاشتغال ، لا استصحاب الاشتغال ، وقد تقدّم الفرق بين القاعدة وبين الاستصحاب .

أما قاعدة الاشتغال فهي : ( حكم العقل بوجوب إحراز محتملات الواجب الواقعي بعد اثبات تنجّز التكليف ) بسبب العلم الاجمالي ( وأنّه ) أي : الواجب الواقعي ( والمؤاخذ به والمعاقب على تركه ولو حين الجهل ) التفصيلي ( به ) أي : بذلك الواجب الواقعي ( وتردّده ) أي : تردد ذلك الواجب الواقعي ( بين متباينين ، أو الأقلّ أو الأكثر ) عند من يرى لزوم الاحتياط بالاتيان بالأكثر .

ص: 285

ولا ريب أنّ ذلك الحكم مبناه وجوب دفع العقاب المحتمل على ترك ما يتركه المكلّف .

وحينئذٍ : فاذا أخبر الشارع - في قوله : « ما حجب اللّه » وقوله : « رُفِعَ عن أمتي » وغيرهما - بأنّ اللّه سبحانه لا يُعاقِبُ على ترك ما لم يعلم جزئيّته ، فقد ارتفع احتمال العقاب في ترك ذلك المشكوك وحصل الأمن منه ،

-------------------

( و ) إنما نقول بعدم جريان قاعدة الاشتغال في الأقل والأكثر ، لانه ( لا ريب أنّ ذلك الحكم ) أي : الاشتغال ( مبناه وجوب دفع العقاب المحتمل على ترك ما يتركه المكلّف ) من الأكثر .

( وحينئذ ) أي : حين كان مبناه ذلك ( فاذا أخبر الشارع - في قوله : « ما حجب اللّه » ) عن العباد فهو موضوع عنهم » (1) ( وقوله : « رُفِعَ عن أمتي » ) ما لايعلمون » (2) ( وغيرهما - ) مثل : « الناس في سعة ما لايعلمون » (3) حيث أخبر فيها ( بأنّ اللّه سبحانه لا يُعاقِبُ على ترك ما لم يعلم جزئيّته ) أو شرطيته ( فقد ارتفع احتمال العقاب في ترك ذلك المشكوك ) جزئيته أو شرطيته (وحصل الأمن منه ) أي : من العقاب على تركه .

ص: 286


1- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .
2- - الخصال : ص417 ح27 ، التوحيد : ص353 ح24 ، تحف العقول : ص50 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .
3- - غوالي اللئالي : ج1 ص424 ح109 ، مستدرك الوسائل : ج18 ص20 ب12 ح21886 وفيهما ما لم يعلموا ونظير ذلك ورد في الكافي ( فروع ) : ج6 ص297 ح2 ، المحاسن : ص452 ح365 ، تهذيب الاحكام : ج9 ص99 ب4 ح167 .

فلا يجري فيه حكم العقل بوجوب دفع العقاب المحتمل .

نظير ما إذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الصلاة إلى جهة خاصة من الجهات لو فرض كونها القبلة الواقعية ، فانّه يخرج بذلك عن باب المقدمة ، لانّ المفروض أنّ تركها لايفضي إلى العقاب .

-------------------

وعليه : ( فلا يجري فيه ) أي : في هذا الجزء أو الشرط المشكوك ( حكم العقل بوجوب دفع العقاب المحتمل ) ويكون ( نظير ما إذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الصلاة إلى جهة خاصة من الجهات ) فانه إذا تردد أمر القبلة بين أربع جهات ، وجب عليه من باب المقدمة العلمية ان يأتي بأربع صلوات ، لكن اذا قامت البينة على ان جهة الجنوب ليست قبلة قطعا صلّى إلى ثلاث جهات آخر فقط ولم يجب عليه الاتيان بالصلاة إلى جهة الجنوب حتى ( لو فرض كونها القبلة الواقعية ) وذلك لأن الشارع جعل البينة حجة ، وقد قامت على خلافه .

وعليه : ( فانّه ) أي الاتيان بالصلاة إلى الجهة الخاصة ( يخرج بذلك عن باب المقدمة ، لانّ المفروض ان تركها ) أي : ترك الصلاة إلى الجهة الخاصة التي قامت بالبينة على عدم كونها قبلة ( لا يفضي إلى العقاب ) لحصول المؤمّن حيث جعل الشارع البينة - مثلاً - حجة بقوله عليه السلام : «والأشياء كلها على ذلك حتى تستبين أو تقوم به البينة » (1) .

والحاصل : ان العقل يحكم بوجوب احراز محتملات الواجب الواقعي المردد بين الأقل والأكثر ، أو المردد بين المتباينين كاحراز محتملات القبلة عند اشتباهها،

ص: 287


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

نعم ، لو كان مستند الاحتياط أخبار الاحتياط كان لحكومة تلك الاخبار على أخبار البرائة وجهٌ أشرنا اليه في الشبهة التحريمية من أقسام الشك في التكليف .

-------------------

وهذا الوجوب مبني على وجوب دفع العقاب المحتمل في ترك كل من هذه الجهات ، فاذا فرض ترخيص الشارع في ترك بعضها ، كان هذا الترخيص واردا على حكم العقل ، لارتفاع احتمال العقاب من هذه الجهة .

وكذلك لما قال الشارع : « رفع ... ما لا يعلمون » (1) كان الأكثر المحتمل مأمون الجانب ، فلا عقاب عليه ، فلا يلزم الاتيان بالأكثر وإنما يجب الاتيان بالأقل للقطع بأنّه المكلّف به .

( نعم ، لو كان مستند الاحتياط اخبار الاحتياط ) مثل : «احتط لدينك» لا الدليل العقلي الدال على الاحتياط ( كان لحكومة تلك الاخبار ) أي : اخبار الاحتياط ( على اخبار البرائة وجهٌ أشرنا اليه في الشبهة التحريمية من أقسام الشك في التكليف ) لكن صاحب الفصول لم يقل بحكومة اخبار الاحتياط على اخبار البرائة ، وإنّما قال بحكومة الدليل العقلي للاحتياط على اخبار البرائة .

وعليه : فان مستند الاحتياط ان كان هو استصحاب الاشتغال ، فقد عرفت : انه مثبت والاستصحاب المثبت ليس بحجة حتى باعتراف من الفصول نفسه ، وان كان هو قاعدة الاشتغال ، فقد مرّ : ان قاعدة الاشتغال محكومة في مقابل أخبار البرائة .

وإن كان هو اخبار الاحتياط فقد سبق : ان اخبار الاحتياط إرشادية تؤكد حكم

ص: 288


1- - تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 ح27 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

وممّا ذكرنا يظهر حكومة هذه الاخبار على استصحاب الاشتغال على تقدير القول بالأصل المُثبِت أيضا ، كما أشرنا اليه سابقا ، لأنّه إذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الأكثر الذي حجب العلم بوجوبه

-------------------

العقل بوجوب دفع العقاب المحتمل ، فهي أيضا محكومة في مقابل اخبار البرائة الدالة على ان الشارع لا يؤاخذ بالشيء المجهول ، ( وممّا ذكرنا ) من حكومة اخبار البرائة على قاعدة الاشتغال في باب الشك بين الأقل والأكثر ، وانّه مسرح لقاعدة الاشتغال مع اخبار البرائة ( يظهر حكومة هذه الاخبار ) أي : اخبار البرائة ( على استصحاب الاشتغال على تقدير القول بالأصل المثبت أيضا ، كما أشرنا اليه سابقا ) حيث قلنا : بأن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان وارد على استصحاب الاشتغال ، لانّ الاشتغال المعلوم اجمالاً قد تعيّن في الأقل وانتفى عن الأكثر ، فلا اشتغال يشك في بقائه بعد الاتيان بالأقل حتى يستصحب ذلك الاشتغال ؟ .

إذن : فاستصحاب الاشتغال لا يمكن الاعتماد عليه في ايجاب الأكثر من جهتين :

الاُولى : من جهة إنّ استصحاب الاشتغال مثبت ، والأصل المثبت ليس بحجة .

الثانية : من جهة ان اخبار البرائة حاكمة على استصحاب الاشتغال حتى على فرض تسليم حجية الأصل المثبت .

وعليه : فالمرجع في الأكثر عند الشك يكون هو البرائة لا الاشتغال ( لأنّه إذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الأكثر الذي حجب العلم بوجوبه ) لقوله : «ما حجب اللّه علمه عن العباد»(1) ولقوله: «رفع... ما لا يعلمون»(2) وما أشبه ذلك

ص: 289


1- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .
2- - تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال ، ص417 ح24 ، وسائل الشيعة : = = ج15 ص369 ب56 ح20769 .

كان المستصحبُ ، وهو الاشتغال المعلوم سابقا ، غيرَ متيقن إلاّ بالنسبة إلى الأقل ، وقد ارتفع باتيانه ، واحتمال بقاء الاشتغال حينئذ من جهة الأكثر منفي بحكم هذه الأخبار .

وبالجملة : فما ذكره من حكومة أدلة الاشتغال على هذه الأخبار ضعيف جدا ، نظرا إلى ما تقدّم .

وأضعف من ذلك أنّه رحمه اللّه عدلَ من أجل هذه الحكومة التي زعمها لأدلة الاحتياط على هذه

-------------------

( كان المستصحب ، وهو الاشتغال المعلوم سابقا ، غير متيقن إلاّ بالنسبة إلى الأقل ) فيكون الأقل من أول الأمر هو الواجب فقط لتعيّن الاشتغال به ( وقد ارتفع باتيانه ) فلا اشتغال حتى يستصحب ( و ) ان قلت : بعد الاتيان بالأقل يحتمل بقاء الاشتغال بالأكثر ، لاحتمال وجوبه ، فيلزم الاتيان بالأكثر .

قلت : ( احتمال بقاء الاشتغال حينئذ ) أي : بعد الاتيان بالأقل اشتغالاً ( من جهة الأكثر ، منفي ) من أول الأمر ( بحكم هذه الأخبار ) الدالة على البرائة .

( وبالجملة : فما ذكره ) صاحب الفصول : ( من حكومة أدلة الاشتغال على هذه الأخبار ) الدالة على البرائة ( ضعيف جدا ، نظرا إلى ما تقدّم ) : من ان الأمر بالعكس وهو : ان أدلة البرائة حاكمة على أدلة الاشتغال .

( وأضعف من ذلك ) الذي ذكره : من حكومة دليل الاشتغال على أخبار البرائة ( انّه رحمه اللّه عدلَ من أجل هذه الحكومة التي زعمها لأدلة الاحتياط على هذه

ص: 290

الاخبار ، عن الاستدلال بها لمذهب المشهور ، من حيث نفي الحكم التكليفي إلى التمسك بها في نفي الحكم الوضعي ، أعني : جزئية الشيء المشكوك أو شرطيته ، وزعم أنّ ماهيّة المأمور به تبيّن ظاهرا كونها الأقل بضميمة نفي جزئية المشكوك ويحكم بذلك على أصالة الاشتغال .

قال في توضيح ذلك : « إنّ مقتضى هذه الروايات أنّ ماهيّات العبادات عبارة عن الأجزاء المعلومة

-------------------

الاخبار ) كما عرفت : من انه تصور أنّ أدلة الاحتياط بيان ، ومع وجود البيان لايصدق الحجب ونحوه .

ثم انه لأجل تصوره هذا ، عدل ( عن الاستدلال بها ) أي : باخبار البرائة ( لمذهب المشهور ) القائلين بعدم وجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط المشكوكة لاخبار البرائة ، فانه عدل عن الاستدلال بها ( من حيث نفي الحكم التكليفي إلى التمسك بها ) أي : بأخبار البرائة ( في نفي الحكم الوضعي ، أعني : جزئية الشيء المشكوك ) وقوله : « المشكوك » ، صفة لقوله : « جزئية » يعني : الجزء المشكوك ( أو شرطيته ) .

وعليه : فان المشهور استدلوا بأخبار البرائة على البرائة من طريق نفي الحكم التكليفي ، بينما صاحب الفصول عدل عن ذلك واستدل باخبار البرائة على البرائة من طريق نفي الحكم الوضعي ( وزعم انّ ماهيّة المأمور به تبيّن ظاهرا كونها الأقل بضميمة نفي جزئية المشكوك ) فلا مجرى للاشتغال ( ويحكم بذلك ) أي : بدليل البرائة بعد تبيّن الماهية ( على أصالة الاشتغال ) فتكون أدلة البرائة حاكمة على أصل الاشتغال .

ثمّ ( قال في توضيح ذلك : « إنّ مقتضى هذه الروايات ) أي روايات البرائة ( : أنّ ماهيّات العبادات عبارة عن الأجزاء المعلومة ) لا الأجزاء المشكوكة كالأكثر

ص: 291

بشرائطها المعلومة ، فيتبيّن مورد التكليف ويرتفع منها الاجمال والابهام » .

ثم أيّد هذا المعنى ، بل استدلّ عليه بفهم العلماء منها ذلك حيث قال : « انّ من الاصول المعروفة عندهم

-------------------

( بشرائطها المعلومة ، فيتبيّن مورد التكليف ) وهو الأقل ( ويرتفع منها ) أي : من ماهية العبادات ( الاجمال والابهام » ) (1) بذلك .

( ثم أيّد هذا المعنى ) الذي ذكره : من انّ اخبار البرائة حاكمة على دليل الاشتغال من جهة نفيها للحكم الوضعي من الجزئية والشرطية بفهم الأصحاب .

( بل استدل عليه بفهم العلماء منها ذلك ) أي : نفي الحكم الوضعي حيث قال في عبارته المتقدمة من الفصول : « ولك ان تقول : بأن ضعف شمول الرواية للمقام منجبرة بالشهرة العظيمة » إلى آخر كلامه .

والحاصل من كلام الفصول هو : انّ العلماء كما فهموا من هذه الروايات نفي الحكم التكليفي وجوبيا كان كالدعاء عند رؤية الهلال ، أو تحريميا كشرب التتن ، كذلك فهموا من هذه الروايات نفي الحكم الوضعي كالجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية .

ثم انّ ترديد المصنِّف في قوله : ثم أيد هذا المعنى ، بل استدل عليه ، إنما هو للترديد في كلام صاحب الفصول ، فانه قد جعل فهم العلماء في بعض كلامه مؤيدا ، وفي بعض كلامه الآخر دليلاً مستقلاً ( حيث قال ) رحمه اللّه : ( انّ من الاصول المعروفة عندهم ) أي : عند العلماء الأصلين التاليين :

ص: 292


1- - الفصول الغروية : ص50 .

ما يعبّر عنه بأصالة العدم ، وعدم الدليل دليل العدم ، ويستعملونه في نفي الحكم التكليفي والوضعي ، ونحن قد تصفحنا ، فلم نجد لهذا الأصل مستندا يمكن التمسكُ له غير عموم هذه الأخبار ، فتعيّن تعميمها للحكم الوضعي ولو بمساعدة أفهامهم ، فيتناول

-------------------

الأوّل : ( ما يعبّر عنه : بأصالة العدم ) فكل شيء حادث إنما يكون حدوثه بعد عدمه ، فاذا شككنا في شيء انه قد حدث أم لا ، كان الأصل العدم .

( و ) الثاني : ( عدم الدليل دليل العدم ) فاذا لم نجد دليلاً على شيء مع انه لو كان لبان ، كان عدم وجداننا دليلاً على عدم وجوده .

هذا ( ويستعملونه ) أي : كلاً من الأصلين المذكورين ( في نفي الحكم التكليفي ) فيقولون - مثلاً - : الأصل عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، أو الأصل عدم حرمة شرب التتن لأنهما حادثان لم يدل عليهما دليل ، أو لأنه لو كان عليهما دليل لبان ، لكن حيث لا دليل واضح عليهما فلا وجوب لهما .

( و ) كذا يستعملونه في نفي الحكم ( الوضعي ) فيقولون - مثلاً - : الأصل عدم جزئية جلسة الاستراحة للصلاة ، أو الأصل عدم ناقضية المذي للوضوء ، لأنهما حادثان لا دليل عليهما ، أو لأنه لو كانت الجلسة جزءا أو المذي ناقضا لكان على ذلك دليل ، لكنّا لم نجد دليلاً فلا يكون المذي ناقضا ، ولا الجلسة واجبة .

( ونحن قد تصفحنا ، فلم نجد لهذا الأصل ) أي : لكل واحد من الأصلين المذكورين ( مستندا يمكن التمسك له غير عموم هذه الأخبار ) أي : أخبار البرائة، فأخبار البرائة هي المستند لهذين الأصلين ( فتعيّن تعميمها ) أي : تعميم أخبار البرائة ( للحكم الوضعي ) اضافة إلى شمولها للحكم التكليفي .

وعليه : فيكون التعميم للحكم الوضعي ( ولو بمساعدة افهامهم ، فيتناول

ص: 293

الجزئي المبحوث عنها في المقام » ، انتهى .

أقول : أمّا ما ادّعاه من عموم تلك الأخبار لنفي غير الحكم الالزامي التكليفي ، فلولا عدوله عنه في باب البرائة والاحتياط من الأدلة العقلية لذكرنا بعضَ ما فيه من منع العموم أولاً ، ومنع كون الجزئية أمرا مجعولاً شرعيا غير الحكم التكليفيّ وهو إيجاب المركب المشتمل على ذلك الجزء ثانيا .

-------------------

الجزئي المبحوث عنها في المقام ) (1) أي : في باب الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ( انتهى ) كلامه رفع مقامه .

( أقول : أمّا ما ادّعاه من عموم تلك الأخبار لنفي غير الحكم الالزامي التكليفي ) أي : لنفي الحكم الوضعي ( فلولا عدوله عنه في باب البرائة والاحتياط من الأدلة العقلية ) حيث قد تقدّم كلام صاحب الفصول رحمه اللّه ، وانه عدل عن ادعائه هذا ، فلولا ذلك ( لذكرنا بعض ما فيه : من منع العموم أولاً ) كما اعترف هو به .

( ومنع كون الجزئية أمرا مجعولاً شرعيا غير الحكم التكليفيّ ) فان المصنِّف يرى ان الأحكام الوضعية ليست أمرا مجعولاً كالأحكام التكليفية ، بل يرى الأحكام الواردة من الشارع هي الأحكام الخمسة المعروفة فقط ، والأحكام الوضعية يراها اُمورا منتزعة منها ، فالجزئية - مثلاً - منتزعة من حكم تكليفي ( وهو : إيجاب المركب المشتمل على ذلك الجزء ) فاذا قال الشارع - مثلاً - : الصلاة تكبيرة وقرائة وركوع وسجود ، انتزع من هذا الأمر المركب ، الجزئية لكل واحد من هذه الاُمور ، فلا يتم كلام الفصول ذلك ( ثانيا ) .

ص: 294


1- - الفصول الغروية : ص50 .

وأمّا ما استشهد به من فهم الأصحاب وما ظهر له بالتصفح ، ففيه، أنّ : ما يظهر للمتصفّح في هذا المقام أنّ العلماء لم يستندوا في الأصلين المذكورين إلى هذه الأخبار .

أمّا أصل العدم ، فهو الجاري عندهم في غير الأحكام الشرعية أيضا من الأحكام اللفظية ، كأصالة عدم القرينة وغيرها فكيف يستند فيه بالأخبار المتقدمة ؟ .

وأمّا عدم الدليل دليل العدم ، فالمستند فيه عندهم شيء آخر ،

-------------------

هذا ( وأمّا ما استشهد به من فهم الأصحاب وما ظهر له بالتصفح ) في كلماتهم ( ففيه : أنّ ما يظهر للمتصفّح في هذا المقام ) أي : مقام كلماتهم حول الأصلين الذين ذكرهما ( أنّ العلماء لم يستندوا في الأصلين المذكورين إلى هذه الأخبار ) أي : إلى أخبار البرائة حتى يقال بأنهم فهموا من هذه الأخبار العموم .

( أمّا أصل العدم : فهو الجاري عندهم في ) نفي الأحكام الشرعية التكليفية والوضعية عند من يرى الأصالة في الأحكام الوضعية ، و ( غير الأحكام الشرعية أيضا : من الأحكام اللفظية كأصالة عدم القرينة وغيرها ) من أصالة عدم النقل ، وأصالة عدم الاضمار ، وما أشبه ذلك .

وعليه : ( فكيف يستند فيه بالأخبار المتقدمة ؟ ) أي بأخبار البرائة ، مع ان أصل عدم القرينة ، أو أصل عدم المجازية ، أو أصل عدم الاشتراك ، أو ما أشبه ذلك ، لاربط لها بالتكليف حتى يقال : ان الأصل البرائة ، ولا يبعد ان يكون أصل العدم مستندا عندهم إلى أدلة الاستصحاب في باب الأحكام ، وإلى بناء العقلاء في باب الألفاظ .

( وأمّا عدم الدليل دليل العدم ، فالمستند فيه عندهم شيء آخر ) غير اخبار

ص: 295

ذكره كلّ مَن تعرّض لهذه القاعدة ، كالشيخ وابن زهرة والفاضلين والشهيد وغيرهم ، ولا اختصاص له بالحكم التكليفي والوضعي .

وبالجملة : فلم نعثر على من يستدلّ بهذه الأخبار في هذين الأصلين : أمّا روايةُ الحجب ونظائرها ، فظاهرٌ .

-------------------

البرائة وهو حصول القطع في باب اُصول الدين ، فانهم يقولون بأن مدّعي النبوة إذا لم يأت بمعجزة تدل على صدقه ، فانه يحصل من عدم الدليل على نبوته القطع بعدم نبوته ، ويقولون بمثل ذلك في بعض الأحكام مما يكون المناط فيه الظن ، فيقولون : ان عدم الدليل يوجب الظن بالعدم .

وعليه : فان عدم الدليل دليل العدم ، قد ( ذكره كلّ مَن تعرّض لهذه القاعدة ) أي: قاعدة عدم الدليل دليل العدم ( كالشيخ وابن زهرة والفاضلين والشهيد وغيرهم ، ولا اختصاص له بالحكم التكليفي والوضعي ) وذلك لأنه يعمهما ويعمّ غيرهما .

( وبالجملة : فلم نعثر على مَن يستدلّ بهذه الأخبار في هذين الأصلين ) الذين ذكر صاحب الفصول إن مستندهما هو أخبار البرائة .

( أمّا روايةُ الحجب (1) ونظائرها ) كرواية السعة (2) ( فظاهرٌ ) أي : في عدم تمسك الأصحاب بها للمقام ، وذلك لأنهم لم يفهموا منها ما ذكره من رفع الحكم الوضعي ، بل انهم استدلوا بها على رفع الحكم التكليفي فقط .

ص: 296


1- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .
2- - الكافي اصول : ج6 ص297 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج9 ص99 ب4 ح167 ، غوالي اللئالي : ج1 ص424 ح109 ، المحاسن : ص425 ح365 ، مستدرك الوسائل : ج18 ص20 ب12 ح21886 .

وأمّا النبويُّ المتضمّنُ لرفع الخطأ والنّسيان وما لا يعلمون ، فأصحابنا بين من يدّعي ظهورها في رفع المؤاخذة ولا ينفي به غير الحكم التكليفي ، كأخواته من رواية الحجب وغيرها ، وهو المحكيّ عن أكثر الاصوليين ، وبين من يتعدّى عن ذلك إلى الأحكام غير التكليفيّة ، لكن في موارد وجود الدليل على ثبوت ذلك الحكم وعدم جريان الأصلين المذكورين ، بحيث لولا النبويّ لقالوا بثبوت ذلك الحكم .

-------------------

( وامّا النبويّ (1) المتضمّن لرفع الخطأ والنّسيان وما لا يعلمون ، فأصحابنا بين من يدّعي ظهورها في رفع المؤاخذة ) كالمصنف رحمه اللّه ( ولا ينفي به غير الحكم التكليفي ) لانه إذا لم تكن مؤاخذة لم يكن حكم تكليفي ، فيكون النبوي عندهم ( كأخواته من رواية الحجب وغيرها ) مما تقدّم ( و ) دلالتها على رفع المؤاخذة ( هو المحكيّ عن أكثر الاصوليين ) .

وعليه : فأصحابنا بين مدّع ظهور الاخبار في نفي الحكم التكليفي فقط ( وبين من يتعدى عن ذلك ) أي : عن كونها رافعة للحكم التكليفي فقط ( إلى ) نفي ( الأحكام غير التكليفيّة ) أيضا كنفي الجزئية والشرطية ، والحدود والقصاص ، وغير ذلك .

( لكن ) ذلك إنما يكون منهم ( في موارد وجود الدليل على ثبوت ذلك الحكم ) غير التكليفي ( وعدم جريان الأصلين المذكورين ) فيه .

وعليه : فمورد النبوي ما إذا كان هناك دليل عام شامل لهذه الاُمور التسعة وغيرها ( بحيث لولا النبويّ لقالوا بثبوت ذلك الحكم ) فقوله سبحانه :

ص: 297


1- - تحف العقول : ص50 ، الخصال : ص417 ح27 ، التوحيد : ص353 ح24 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

ونظرهم في ذلك إلى أنّ النبويّ ، بناءا على عمومه لنفي الحكم الوضعي، حاكمٌ على تلك الأدلة المثبتة لذلك الحكم الوضعي .

ومع ما عرفت ، كيف يدّعي أنّ مستند الأصلين المذكورين

-------------------

« وجزاء سيئة سيئة مثلها » (1) شامل للعامد والخاطئوالناسي ، غير ان حديث الرفع يرفع هذا الحكم عن الناسي والخاطئ، وقوله عليه السلام : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (2) شامل لكل الصور ، غير ان الناسي مرفوع الحكم بسبب حديث الرفع ، إلى غير ذلك .

وبذلك تبيّن : ان النبوي لا يكون دليلاً على الأصلين المذكورين ، لأنّ بين النبوي وبين الأصلين المذكورين تباينا ، إذ مورد الأصلين هو ما لا يكون فيه دليل، ومورد حديث الرفع هو ما كان هناك فيه دليل ، لكن حديث الرفع يرفعه .

( ونظرهم في ذلك ) أي : فيما ذكروه : من انه يلزم أن يكون هناك دليل بحيث لولا حديث الرفع لكان ذلك الدليل محكما ، فيؤخذ - مثلاً - بدليل : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» غير ان حديث الرفع يرفع ذلك في مورد النسيان فنظرهم ( إلى انّ النبويّ بناءا على عمومه لنفي الحكم الوضعي ) ورفعه لجزئية السورة في الصلاة ( حاكمٌ على تلك الأدلة المثبتة لذلك الحكم الوضعي ) القائلة بأن الفاتحة جزء الصلاة : وما أشبه ذلك .

( ومع ما عرفت ) من تباين المورد بين حديث الرفع ، وبين الأصلين المذكورين ( كيف يدّعي ) صاحب الفصول ( انّ مستند الأصلين المذكورين

ص: 298


1- - سورة الشورى : الآية 40 .
2- - مفتاح الفلاح : ص202 ، غوالي اللئالي : ج3 ص82 ح65 .

المتّفق عليهما هو هذه الروايات التي ذهب الأكثر إلى اختصاصها بنفي المؤاخذة .

نعم ، يمكن التمسّكُ بها أيضا في مورد جريان الأصلين المذكورين ، بناءا على أنّ صدق رفع أثر هذه الاُمور ، أعني : الخطأ والنسيان وأخواتهما ، كما يحصلُ بوجود المقتضي لذلك الأمر تحقيقا ، كما في موارد ثبوت الدليل المثبت لذلك الأثر ، الشامل لصورة الخطأ والنسيان ، كذلك يحصل بتوهم ثبوت المقتضي ،

-------------------

المتّفق عليهما هو هذه الروايات ) أي : روايات الرفع ( التي ذهب الأكثر إلى اختصاصها بنفي المؤاخذة ) فقط ؟ ومن الواضح : انه لا يكون المباين دليلاً لمباينه .

( نعم ، يمكن التمسّك بها ) أي : بروايات الرفع ( أيضا ) كما يتمسك بها في رفع الحكم ورفع الوضع ( في مورد جريان الأصلين المذكورين ) فيكون لبعض الموارد دليلان : دليل الرفع ، ودليل أصل العدم .

وإنّما يمكن التمسك بها أيضا ( بناءا على أنّ صدق رفع أثر هذه الاُمور أعني : الخطأ والنسيان وأخواتهما ، كما يحصل بوجود المقتضي لذلك الأمر تحقيقا ) أي : وجودا تحقيقيا ، بأن يكون هناك مقتضي كامل للحكم ، غير ان الخطأ والنسيان وأخواتهما يرفع ذلك المقتضي .

( كما في موارد ثبوت الدليل ، المثبت لذلك الأثر ، الشامل لصورة الخطأ والنسيان ) وأخواتهما ، فالمقتضي لأن تكون الفاتحة - مثلاً - جزءا من الصلاة موجود ، لكن حديث الرفع يرفع هذا المقتضي بالنسبة إلى الناسي وشبهه .

إذن : فكما يحصل صدق الرفع بوجود المقتضي لذلك الأمر ( كذلك يحصل بتوهم ثبوت المقتضي ) له ، بأن لم يكن هناك مقتضي أصلاً ، وإنما يتوهم وجود

ص: 299

ولو لم يكن عليه دليل ولا له مقتض محقّق ،

-------------------

المقتضي لما يراه العقل من صحة تنجيز الشارع للتكليف بملاحظة المصالح والمفاسد الموجودة في تلك الأفعال .

مثلاً : يرى العقل صحة تنجيز التكليف على الخاطئوالناسي لأجل إيجاب التحفّظ ، أو لأجل إيجاب الاحتياط ، أو لأجل إثبات القضاء والاعادة والكفارة وما أشبه ذلك ، إلاّ ان الشارع بسبب هذه الرواية رفع الأثر عن هذه الاُمور ، فيتحقق بذلك فيما نحن فيه دليل : « رفع... ما لايعلمون » ، و « عدم الدليل دليل العدم » كلاهما .

والحاصل : ان « رفع ... ما لا يعلمون » يشمل ما لولا الرفع لكان ثابتا بالدليل ، كما مثّلنا له بقوله : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» ويشمل أيضا ما لولا الرفع لم يكن ثابتا مثل : وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، فان الدعاء ليس بواجب حتى لو لم يرد حديث الرفع .

لا يقال : فكيف تقولون انه مرفوع مع ان ظاهر الرفع : هو رفع الشيء الثابت ؟ .

لأنه يقال : المراد بالرفع ما كان له مقتضٍ للاثبات ، كالدعاء عند رؤية الهلال ، فان له مقتضٍ ، لأنه شكر للّه سبحانه على الشهر الجديد ، فيكون موردا لاجتماع الدليلين فيه : حديث الرفع ، وأصالة العدم .

إذن : فالدعاء عند رؤية الهلال مرفوع الوجوب حتى ( ولو لم يكن عليه دليل ) يدل على اثباته ( ولا له مقتض محقّق ) في الخارج بسبب دليل ، إذ لا دليل خارجا على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال يشمل إطلاقه الناسي وغير الناسي حتى يقال: انه رفع بدليل رفع النسيان .

ص: 300

لكن تصادقَ بعض موارد الأصلين والرواية مع تباينهما الجزئي لا يدلّ على استناد لهما بها ، بل يدلّ على العدم .

-------------------

( لكن تصادق بعض موارد الأصلين والرواية ) وذلك في موارد توهم ثبوت المقتضي كما ذكرناه ( مع تباينهما الجزئي ) من جهة وجود مادة الافتراق في هذه الجهة ومادة الافتراق في تلك الجهة ( لا يدل على استناد لهما ) أي : للأصلين ( بها ) أي : بأحاديث الرفع ( بل يدلّ على العدم ) أي : عدم استناد أحد الأمرين إلى الآخر .

والحاصل : ان النسبة بين الأصلين وبين روايات الرفع إمّا التباين ، والمتباينان لا يمكن أن يكون أحدهما دليلاً على الآخر ، وإمّا عموم من وجه ، والعامان من وجه أيضا لا يمكن أن يكون أحدهما دليلاً على الآخر ، فلا يصح أن يقال في البيت أبيض لأنّ فيه انسانا ، أو ان في البيت انسانا لأنّ فيه أبيض ، مع انه بين الانسان والأبيض عموم من وجه ، فيلزم أن يكون هناك دليل بحيث لولا حديث الرفع لكان ذلك الدليل محكما .

وأمّا تصوير نسبة العموم من وجه هنا ، فكما يلي : أما مادة اجتماع الأصلين فهو: مورد توهم المقتضي - مثلاً - كالدعاء عند رؤية الهلال على ما عرفت ، وأما مادة الافتراق من جهة دليل الرفع فهو : مورد «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» - مثلاً - حيث يشمل الناسي للقرائة دليل الرفع ، ولا يشمله أصل العدم ، إذ لا أصل للعدم بعد قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (1) وأما مادة الافتراق من جهة عدم الدليل فهو: مورد الاصول اللفظية - مثلاً - كأصالة عدم القرينة ، وعدم النقل ، وعدم

ص: 301


1- - مفتاح الفلاح : ص202 ، غوالي اللئالي : ج3 ص82 ح65 .

ثمّ إنّ في الملازمة - التي صرّح بها في قوله : «وإلاّ لدلّت هذه الأخبار على نفي حجيّة الطرق الظنيّة كخبر الواحد وغيره» - منعا واضحا ، ليس هنا محلّ ذكره ، فافهم .

-------------------

التخصيص ، وغير ذلك ، حيث يشملها دليل العدم ولا يشملها دليل الرفع .

( ثمّ إنّ في الملازمة - التي صرّح بها ) الفصول ( في قوله : « وإلاّ لدلّت هذه الأخبار على نفي حجيّة الطرق الظنيّة : كخبر الواحد وغيره» - منعا واضحا ، ليس هنا محلّ ذكره ) فان صاحب الفصول بعد أن ذكر تقديم أدلة الاحتياط على أدلة البرائة ، قال : ولو كانت أدلة البرائة مقدمة على أدلة الاحتياط ، لكانت مقدمة على الأمارات الظنية أيضا ، والتالي فاسد ، فالمقدّم مثله ، فرده الشيخ بالفرق بين أدلة الاحتياط والأمارات الظنية بما حاصله : إنّ دليل الأمارات يكشف عن الواقع ، فاذا قام الدليل على وجوب صلاة الجمعة لم يبق مجال للشك في صلاة الجمعة ، فلا يكون محلاً لدليل البرائة ، إذ دليل البرائة إنما هو في الشك ، والخبر الواحد قد يرفع الشك بينما دليل الاحتياط لايكشف عن الواقع ، وإنما يوجب الاحتياط لدفع العقاب المحتمل ، وأدلة البرائة تقول لا عقاب محتمل فلا يكون محلاً لدليل الاحتياط ، ولذا يكون دليل البرائة محكوما بدليل الأمارات ، وحاكما على دليل الاحتياط ، فلا يقاس أحدهما بالآخر كما فعله الفصول .

( فافهم ) ولعله إشارة إلى ان ظاهر حديث الرفع : رفع جميع الآثار ، فان حذف المتعلق يفيد العموم ، لا خصوص المؤاخذة ، أو إشارة إلى ان ظاهر الرفع : الرفع حقيقة لا الرفع للتوهم كما ذكره بقوله : كذلك يحصل بتوهم ثبوت المقتضي .

ثم ان الذي نستظهره في الرفع - بعد القول بشمول جميع الآثار على ما نراه -

ص: 302

واعلم أنّ هنا اُصولاً ربما يتمسك بها على المختار :

منها : أصالة عدم وجوب الأكثر ، وقد عرفت سابقا حالها.

ومنها : أصالة عدم وجوب شيء المشكوك في جزئيته ،

-------------------

هو : إمّا بملاحظة ما كان على الاُمم السابقة فرفع عن هذه الاُمة ، وأمّا بملاحظة اقتضاء المقتضي كما ذكره المصنِّف ، وإمّا بملاحظة اثبات القلم التكليف في حق المكلفين حتى إذا وصل إلى الناسي والجاهل ومن أشبههما رفع عنهم تشبيها للمعقول بالمحسوس ، من قبيل : « رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ » (1) ومحل الكلام فيه غير هذا المكان .

( واعلم أنّ هنا ) في الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين ( اصولاً ربما يتمسك بها على المختار ) أي : القول بالبرائة عن الأكثر لكنها غير تامة .

( منها : أصالة عدم وجوب الأكثر ، وقد عرفت سابقا حالها ) باسهاب حين قال المصنِّف ما خلاصته : لكن الانصاف انّ التمسك بأصالة عدم وجوب الأكثر غير نافع في المقام ، بل هو قليل الفائدة لأنّ نفي العقاب لا يحتاج إلى هذا الأصل ، بل يكفي فيه مجرد الشك في وجوب الأكثر ، مضافا إلى ان الاستصحاب لا ينفي الأثر العقلي لانه مثبت ، ونفي الأثر الشرعي المترتب على خصوص وجوبه النفسي معارض بأصالة عدم كون الأقل واجبا نفسيا ، والأثر الشرعي المترتب على مطلق وجوبه نادر جدا ، فأصالة عدم وجوب الأكثر قليل الفائدة بل غير نافع .

( ومنها : أصالة عدم وجوب الشيء المشكوك في جزئيّته ) فاذا شككنا - مثلاً -

ص: 303


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص45 ب4 ح81 ، بحار الانوار : ج5 ص303 ب14 ح13 ، غوالي اللئالي : ج3 ص528 ح3 بالمعنى .

حاله حال سابقه بل أردء ، لأنّ الحادث المجعول هو وجوب المركّب المشتمل عليه ، فوجوب الجزء في ضمن الكلّ عين وجوب الكلّ ، ووجوبه المقدّمي بمعنى اللاّبدّية لازم له غير حادث بحدوث مغاير ، كزوجيّة الأربعة ،

-------------------

بأن الاستعاذة قبل القرائة جزء من الصلاة أم لا ، فالأصل عدم جزئيته ( وحاله ) أي: حال هذا الأصل ( حال سابقه ) في البطلان ( بل أردء ، لأنّ الحادث المجعول هو : وجوب المركّب المشتمل عليه ، فوجوب الجزء في ضمن الكلّ عين وجوب الكلّ ) إذ ليس للجزء وجوب آخر غير وجوب الكل ، فمرجعه إلى أصالة عدم وجوب الأكثر وهو الأصل السابق وقد عرفت جوابه .

( و ) ان قلت : لا نريد بأصالة عدم وجوب الجزء المشكوك الوجوب النفسي الذي هو عين الكل ، بل نريد وجوبه المقدمي .

قلت : ( وجوبه المقدّمي بمعنى اللاّبدّية ، لازم له غير حادث بحدوث مغاير ) فان الوجوب المقدمي وغير النفسي له معنيان :

الأوّل : الوجوب اللغوي بمعنى اللابدية الواقعية وهو : إنّ ذا المقدمة إذا اريد حصوله فلابد أن يحصل من طريق المقدمة ، وهذا من لوازم المقدمية ، بل من مقوماتها ( كزوجيّة الأربعة ) فإنّ وجوب الجزء بهذا المعنى لا يجري فيه أصل العدم ، لانه تابع للمقدمة ، فان حصلت حصل ، وان لم تحصل لم يحصل ، فكما لا يجري الأصل في عدم زوجية الأربعة كذلك لا يجري الأصل في لابدّية المقدمة.

الثاني : الوجوب العقلي بمعنى الملازمة العقلية وهو : ان الأمر بالشيء يدل على وجوب مقدمته بالدلالة الالتزامية فان وجوب الجزء بهذا المعنى وان كان

ص: 304

وبمعنى الطلب الغيري حادث مغاير، لكن لايترتّب عليه أثر يجدي فيما نحن فيه ، إلاّ على القول باعتبار الأصل المثبت ، ليثبت بذلك كون الماهية هي الأوّل .

ومنها : أصالة عدم جزئية الشيء المشكوك .

-------------------

حادثا إلاّ أنّ الأصل لا يجري فيه ، لأنه مثبت ، كما قال المصنِّف : ( وبمعنى الطلب الغيري حادث مغاير ) فيمكن أن يكون مسرحا للأصل ( لكن لا يترتّب عليه أثر يجدي فيما نحن فيه ، إلاّ على القول باعتبار الأصل المثبت ، ليثبت بذلك ) أي : بجريان الأصل بهذا المعنى ( كون الماهية هي الأوّل ) ومن المعلوم : إنّ الأصل المثبت ليس بحجة كما ثبت في موضعه .

إذن : فأصالة عدم وجوب هذا الجزء كالاستعاذة - مثلاً - لا يترتب عليه أثر فيما نحن فيه من الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ، إلاّ تعيين الماهية في الأقل ، وهو: أثر عقلي يتوقف اثباته على حجية الأصل المثبت ، وقد عرفت : انه ليس بحجة .

وانّما قال المصنِّف : انه أردء ، لان وجوب الأكثر من الحوادث المسبوقة بالعدم ، بينما وجوب الجزء على بعض المعاني يكون من اللوازم الذاتية كزوجية الأربعة ، وهي كما عرفت : ليست من الحوادث المسبوقة بالعدم .

( ومنها : أصالة عدم جزئية الشيء المشكوك ) والمراد بالجزئية هنا ، هو : المعنى المعروف بالحكم الوضعي الذي اختلف في كونه مجعولاً بجعل على حدة كما هو المشهور ، أو منتزع من الحكم التكليفي كما يراه المصنِّف ، فيكون المراد بالأصل هنا : أصالة عدم هذا المعنى .

ولا يخفى : إنّ الفرق بين ما ذكره المصنِّف هنا بقوله : أصالة عدم جزئية الشيء

ص: 305

وفيه : أنّ جزئية الشيء المشكوك ، كالسورة للمركّب الواقعي وعدمها ، ليست أمرا حادثا مسبوقا بالعدم .

-------------------

المشكوك ، وبين ما تقدّم من قوله : اصالة عدم وجوب الشيء المشكوك هو : إنّ ما تقدّم كان في صدد استصحاب عدم الوجوب وهو : عدم الحكم ، وهذا في صدد استصحاب عدم ذات الجزء وهو : عدم الموضوع .

هذا ، وقد شقّق المصنِّف فيما تقدّم الوجوب وهو الحكم في الجزء إلى احتمالات ثلاثة :

الأوّل : وجوبه حال كونه جزءا من الكل .

الثاني : وجوبه المقدمي بمعنى اللابدية الواقعية في الاتيان بالكل .

الثالث : وجوبه الغيري العارض له مع ملاحظته في نفسه وكونه مقدمة للاتيان بالكل ، وقد عرفت جواب هذه الاحتمالات الثلاثة .

ثم ان المصنِّف بعد ذلك شقق ذات الجزء وهو : الموضوع فيما نحن فيه إلى احتمالات ثلاثة أيضا ، فأشار إلى الاحتمال الأوّل حين قال : ومنها : اصالة عدم جزئية الشيء المشكوك وقد مضى شرحه ، ثم أجاب عنه بما يلي :

( وفيه : إنّ جزئية الشيء المشكوك ، كالسورة للمركّب الواقعي وعدمها ، ليست أمرا حادثا مسبوقا بالعدم ) يعني : انه ان اريد باصالة عدم الجزئية : اصالة عدم كون المشكوك من أجزاء المركب فهو غير تام على كل تقدير ، لان الجزئية قبل جعل المركب يقيني الانتفاء بسبب انتفاء المركب ، فلا معنى لاستصحابه بعد جعل المركب ، والجزئية بعد جعل المركب ليست أمرا حادثا مسبوقا بالعدم حتى تنفى بالأصل عند الشك فيها ، بل هي منتزعة من وجوب المركّب ، فان وجب الأكثر فالاستعاذة جزء ، وإلاّ فليست جزءا ، فلا مورد للاستصحاب بهذا المعنى

ص: 306

وإن اريد أصالة عدم صيرورة السورة جزءً المركب المأمور به ، ليثبت بذلك خلوّ المركّب المأمور به منه ، ومرجعه إلى أصالة عدم الأمر بما يكون هذا جزءا منه ؛ ففيه : ما مرّ من انّه أصل مثبت .

وإن اريد أصالة عدم دخل هذا المشكوك في المركّب عند اختراعه

-------------------

على التقديرين .

ثم أشار إلى الاحتمال الثاني بقوله : ( وإن اريد : أصالة عدم صيرورة السورة جزء المركب المأمور به ) بمعنى : ان الأصل عدم تعلق أمر الشارع بالمركب الذي تكون السورة جزءا منه ، فلم يتعلق الوجوب بهذا الجزء وهو السورة منضما إلى سائر الأجزاء ( ليثبت بذلك ) أي : بأصالة العدم ( خلوّ المركّب المأمور به منه ) أي: من هذا الجزء المشكوك ، كخلوّ الصلاة من السورة - مثلاً - فيما إذا شك في ان السورة واجبة في الصلاة أم لا ؟ .

( ومرجعه ) أي : مرجع هذا الأصل ( إلى أصالة عدم الأمر بما يكون هذا جزءا منه ) بما يرجع إلى أصالة عدم وجوب الأكثر ، فانا إذا علمنا اجمالاً تعلق أمر الشارع امّا بمركب مشتمل على السورة ، وامّا بمركب خال من السورة ، فاصالة عدم الأوّل يثبت الثاني .

( ففيه : ما مرّ من انّه أصل مثبت ) مضافا إلى ان مثل هذا الأصل معارض بالمثل، فالأصلان فيهما من قبيل ان يقال : الأصل عدم الليل فهو نهار ، أو الأصل عدم النهار فهو ليل ، وذلك فيما إذا شك في انه ليل أو نهار حيث ان أصل عدم كونه ليلاً معارض بأصل عدم كونه نهارا .

ثم أشار المصنِّف إلى الاحتمال الثالث بقوله : ( وإن اريد أصالة عدم دخل هذا المشكوك ) جزئيته ، كالسورة فيما مثلنا له من الصلاة ( في المركّب عند اختراعه )

ص: 307

له ، الذي هو عبارة عن ملاحظة عدّة الأجزاء غير مرتبطة في نفسها شيئا واحدا ، ومرجعها إلى أصالة عدم ملاحظة هذا الشيء مع المركب المأمور به شيئا واحدا ، فانّ الماهيّات المركّبة لمّا كان تركّبها جعليّا حاصلاً بالاعتبار ، وإلاّ فهي أجزاء لا ارتباط بينها في أنفسها ولا وحدة يجمعها إلاّ باعتبار معتبر ،

-------------------

أي : عند اختراع الشارع - مثلاً - ( له ) أي : لهذا المركب ( الذي هو عبارة عن ملاحظة عدّة الأجزاء غير المرتبطة في نفسها شيئا واحدا ) فالشارع جعل الصلاة - مثلاً - عبارة عن عدة أجزاء : من تكبيرة الأحرام إلى السلام ، وهي أمور غير مرتبطة بعضها ببعض ، فالتكبيرة والقرائة ، والركوع والسجود ، والتشهد والسلام ، وما أشبه ذلك » امور متفرقة قد اعتبرها الشارع شيئا واحدا .

( و ) هذه الأصالة يكون ( مرجعها إلى أصالة عدم ملاحظة هذا الشيء مع المركب المأمور به شيئا واحدا ) إذ من الواضح : ان الملاحظة شيء مسبوق بالعدم ، ونحن نعلم بملاحظة تسعة أشياء ولا نعلم ملاحظة الشيء العاشر بل نشك فيه ، والأصل هو عدم ملاحظته .

وعليه : ( فانّ الماهيّات المركّبة ) بجعل الشارع كأجزاء العبادات ونحوها ( لمّا كان تركّبها جعليّا حاصلاً بالاعتبار ، وإلاّ ) بأن لم يحصل فيها تركيب اعتباري ( فهي أجزاء ) متفرقة متشتة ( لا ارتباط بينها في أنفسها ، ولا وحدة يجمعها إلاّ باعتبار معتبر ) وهذا هو حال كل المركبات الاعتبارية التي ليس لها مدخلية في واقع الأمر ، فانّ المركب قد يكون مركبا واقعيا كأجزاء الدواء المسبّب للصحة ، وقد يكون مركبا اعتباريا كأجزاء اعتبارية جمعها المعتبر فجعلها شيئا واحدا مؤثرا أثر كذا .

ص: 308

توقّف جزئيّة شيء لها على ملاحظته معها واعتبارها مع هذا الشيء أمرا واحدا ، فمعنى جزئية السورة للصلاة ملاحظة السورة مع باقي الأجزاء شيئا واحدا ، وهذا معنى اختراع الماهيات وكونها مجعولة .

فالجعل والاختراع فيها من حيث التصوّر والملاحظة ، لا من حيث الحكم

-------------------

مثلاً : ورق النقد الذي يجمع الألوان المختلفة : من الأخضر والأحمر والأصفر بكيفية خاصة ، ليست اُمورا واقعية تؤثر في قيمة الورق الذي يسمى دينارا - مثلاً - بازاء الأشياء العينية الخارجية ، وإنّما هي مجرد اعتبار ، فيصح للمعتبر أن يجعل مكان الأخضر الأزرق ، ومكان الأحمر البنفسجي ، ومكان الأصفر الأبيض ، وهكذا ، كما يصح للشارع أن يجعل مكان القرائة الدعاء ، ومكان الركوع السجود ، ومكان التشهد السلام ، وهكذا .

وعليه : فانه حيث كانت المركبات الاعتبارية بالجعل فقد ( توقّف جزئيّة شيء لها ) أي : لتلك المركبات ( على ملاحظته ) أي : ملاحظة ذلك الشيء ( معها واعتبارها ) أي تلك الأجزاء ( مع هذا الشيء أمرا واحدا ، فمعنى جزئية السورة للصلاة : ملاحظة السورة مع باقي الأجزاء شيئا واحدا ، وهذا معنى اختراع الماهيات وكونها مجعولة ) .

إذن : ( فالجعل والاختراع فيها ) أي : في المركبات الاعتبارية إنما هو ( من حيث التصوّر والملاحظة ، لا من حيث ) جعل ( الحكم ) فان الشارع لا يقول - مثلاً - : جعلت التكبيرة جزء الصلاة ، وإنما تكون التكبيرة جزءا باعتبار أمره بهذا المركب الخاص .

إذن : فجعل المركب إنّما هو عبارة عن اعتبار الوحدة بين امور لا ربط بينها ،

ص: 309

حتى يكون الجزئية حكما شرعيا وضعيا في مقابل الحكم التكليفي ، كما اشتهر في ألسنة جماعة ، إلاّ ان يريدوا بالحكم الوضعي هذا المعنى .

وتمام الكلام يأتي في باب الاستصحاب عند ذكر التفصيل بين الأحكام الوضعية والأحكام التكليفيّة .

ثم إنّه إذا شك في الجزئية بالمعنى المذكور ، فالأصل عدمها ، فاذا ثبت عدمها

-------------------

لا أنه عبارة عن الحكم بجزئية هذا وذاك ( حتى يكون الجزئية حكما شرعيا وضعيا في مقابل الحكم التكليفي ، كما اشتهر في ألسنة جماعة ) من ان الحكم إمّا وضعي أو تكليفي ، وقد عرفت : ان المصنّف إنّما يقول بالحكم التكليفي فقط وينتزع الحكم الوضعي من الحكم التكليفي .

( إلاّ ان يريدوا بالحكم الوضعي هذا المعنى ) الذي ذكرناه : من التصور وملاحظة المعتبر ، لا شيئا في مقابل الحكم التكليفي ، فمرادهم بالحكم الوضعي : مجرد اعتبار الوحدة بين أشياء متفرقة ، لا الحكم بجزئية السورة وجزئية الركوع وجزئية السلام - مثلاً - .

هذا ( وتمام الكلام ) في انه هل الحكم الوضعي مجعول أم لا؟ ( يأتي في باب الاستصحاب عند ذكر التفصيل بين الأحكام الوضعية والأحكام التكليفيّة ) ان شاء اللّه تعالى .

( ثم انّه إذا شك في الجزئية بالمعنى المذكور ، فالأصل عدمها ) أي : الأصل عدم ملاحظة هذا الجزء المشكوك كالسورة - مثلاً - عند اعتبار الوحدة ، فانا نعلم إنّ الشارع اعتبر الوحدة بين تسعة أجزاء ولا نعلم هل جعل الوحدة أيضا لهذا الجزء العاشر المشكوك الجزئية كالسورة في المثال أم لا ؟ ( فاذا ثبت عدمها

ص: 310

في الظاهر يترتب عليه كون الماهية المأمور بها في الأقل ؛ لأن تعيين الماهيّة في الأقل يحتاج إلى جنس وجودي ، وهي الأجزاء المعلومة ، وفصل عدمي ، هو عدم جزئية غيرها وعدم ملاحظته معها ، والجنس موجود بالفرض والفصل ثابت بالأصل ، فتعيّن المأمور به ، فله وجهٌ .

-------------------

في الظاهر ) بسبب الاستصحاب فانه ( يترتب عليه ) أي : على عدم كون هذا المشكوك جزءا ( كون الماهية المأمور بها في الأقل ) .

لا يقال : ان هذا أصل مثبت ( لأن ) تعيين الماهية في الأقل بأصالة عدم جزئية المشكوك لا يتم إلاّ على القول بالأصل المثبت .

لانه يقال : ( تعيين الماهيّة في الأقل يحتاج إلى جنس وجودي ، وهي : الأجزاء المعلومة ) الوجوب ، كالتسعة في المثال ( وفصل عدمي ، هو : عدم جزئية غيرها) أي : غير الأجزاء التسعة وهو الجزء العاشر المشكوك ( وعدم ملاحظته معها ) أي: مع الاجزاء التسعة عند الاعتبار .

هذا ( والجنس موجود بالفرض ، والفصل ثابت بالأصل ، فتعيّن المأمور به ) في تسعة أجزاء ، فتكون هذه التسعة معلومة بالوجدان ، والجزء العاشر منفي بالأصل ، فيكون المأمور به هو الأقل دون أن يكون مثبتا ، وذلك لان المقصود من استصحاب عدم الجزئية هو نفي الجزئية فقط لا اثبات كون المأمور به هو الأقل حتى يكون أصلاً مثبتا .

وعليه : فان أريد من اصالة عدم الجزئية : عدم ملاحظة هذا المشكوك في المركب ( فله وجه ) لانه إذا ثبت عدم جزئية المشكوك بالأصل وانضم إلى هذا الأصل جزئية سائر الأجزاء المعلومة وجدانا ، تم كون المأمور به هو الأقل .

ولا يخفى : ان الفرق بين الاحتمالات الثلاثة التي ذكرها المصنِّف من قوله :

ص: 311

إلاّ أن يقال : جزئية الشيء مرجعها إلى ملاحظة المركب منه ومن الباقي شيئا واحدا ، كما أنّ عدم جزئيته راجع إلى ملاحظة غيره من الأجزاء شيئا واحدا ، فجزئية الشيء وكلية المركب المشتمل عليه مجعولٌ بجعل واحد ،

-------------------

« أصالة عدم جزئية الشيء المشكوك » ، وقوله : « وان اريد أصالة عدم صيرورة السورة جزء المركب » ، وقوله : « وان اريد أصالة عدم دخل هذا المشكوك في المركب » هو مايلي :

الأوّل معناه : ان المشكوك ليس بجزء .

الثاني معناه : ان المشكوك لم يتعلق الأمر به منضما إلى سائر الأجزاء .

الثالث معناه : ان المشكوك لم يعتبر الشارع الوحدة بينه وبين سائر الاجزاء .

( إلاّ أن يقال ) في رد قوله : فله وجه بما حاصله : ان ما ذكرتموه للتخلص من الأصل المثبت في تعيين الأقل حيث قلتم : ان المركب فيما نحن فيه عبارة عن أمر وجودي هو الأمر بالتسعة - مثلاً - وقد ثبت بالوجدان ، وأمر عدمي هو عدم الجزء العاشر وقد ثبت بالأصل فيتعيّن الأمر بالتسعة ، فانه ليس تاما ، وذلك لأن المركب من التسعة عبارة عن ملاحظة الشارع التسعة شيئا واحدا ، فاذا أردتم اثبات هذا بالأصل كان من الأصل المثبت كما قال :

( جزئية الشيء مرجعها إلى ملاحظة ) المشرّع ( المركب منه ومن الباقي شيئا واحدا ) وذلك بأن يلاحظ العشرة - مثلاً - شيئا واحدا ( كما أنّ عدم جزئيته راجع إلى ملاحظة غيره من الأجزاء شيئا واحدا ) أي : من دون هذا العاشر المشكوك ، وذلك بأن يلاحظ التسعة شيئا واحدا ( فجزئية الشيء وكلية المركب المشتمل عليه مجعول بجعل واحد ) وهو ملاحظة العشرة شيئا واحدا ، فانه إذا لاحظ العشرة شيئا واحدا انتزع من هذه الملاحظة : كلية العشرة ، وجزئية السورة .

ص: 312

فالشك في جزئية الشيء شك في كليّة الأكثر ، ونفي جزئية الشيء نفي لكلّيته ، فاثباتُ كلّية الأقل بذلك اثباتٌ لأحد الضدّين بنفي الآخر ، وليس أولى من العكس .

ومنه يظهر عدمُ جواز التمسك بأصالة عدم التفات الآمِر حين تصوّر المركب إلى هذا الجزء حتى يكون بالملاحظة شيئا واحدا مركبا من ذلك

-------------------

إذن : ( فالشك في جزئية الشيء شك في كلّية الأكثر ، ونفي جزئية الشيء ) بالأصل كما ذكرتم ( نفي لكلّيته ) أي : لكلية الأكثر ، فليس هناك جنس وفصل تتخلصون بهما من الأصل المثبت ، بل يرد عليه ما يلي :

أولاً : انه مثبت ، كما قال : ( فاثبات كليّة الأقل بذلك ) أي : بالأصل النافي للأكثر ( اثباتٌ لأحد الضدّين بنفي الآخر ) لانه عبارة اُخرى عن انه : ليس الأكثر ، إذن فهو الأقل ، وهذا مثبت .

( و ) ثانيا : ان هذا ( ليس أولى من العكس ) بأن يقال : انه ليس الأقل ، إذن فهو الأكثر ، لانه كما يمكن أن يقال : الأصل عدم ملاحظة العشرة شيئا واحدا فيتعين كلية الأقل ، كذلك يمكن أن يقال : الأصل عدم ملاحظة التسعة شيئا واحدا ، فيتعين كلية الأكثر ، وكلاهما من اثبات الضد بنفي الضد الآخر ، وقد عرفت : انه مثبت ومعارض أيضا .

( ومنه ) أي : مما ذكرناه في رد الوجه من الاحتمال الثالث بقولنا : إلاّ أن يقال جزئية الشيء مرجعها إلى ملاحظة المركب منه ومن الباقي شيئا واحدا ( يظهر : عدم جواز التمسك بأصالة عدم التفات الآمر حين تصوّر المركب إلى هذا الجزء ) العاشر المشكوك فيه ( حتى يكون بالملاحظة شيئا واحدا مركبا من ذلك ) الجزء

ص: 313

ومن باقي الاجزاء ، لأنّ هذا أيضا لا يثبت أنّه اعتبر التركيب بالنسبة إلى باقي الأجزاء .

هذا ، مع أنّ أصالة عدم الالتفات لا يجري بالنسبة إلى الشارع المنزّه عن الغفلة ، بل لا يجري مطلقا فيما دار أمر الجزء بين كونه جزءا واجبا أو جزءا مستحبا

-------------------

المشكوك ( ومن باقي الاجزاء ) المعلومة .

ولا يخفى : ان هذا هو احتمال رابع احتمله المصنِّف مضافا إلى الاحتمالات الثلاثة التي احتملها في تشقيق ذات الجزء ، وهو الموضوع فيما نحن فيه ، وذلك لما قد عرفت : من ان الترتيب في الاعتباريات عبارة عن : اعتبره ، فأمر به ، فصار جزءا ، ولكن قبل هذه الاُمور الثلاثة أمر رابع وهو كما قيل : التفت اليه ، فاعتبره ، فأمر به ، فصار جزءا ، فاذا شككنا في التفات المعتبر وعدم التفاته فالأصل عدم الالتفات .

وإنما ظهر من الاشكال على الاحتمال الثالث الاشكال على الاحتمال الرابع ( لأنّ هذا أيضا لا يثبت انّه ) أي : ان المعتبر التفت و ( اعتبر التركيب بالنسبة إلى باقي الأجزاء ) إلاّ على القول بالأصل المثبت ، وذلك لأن الجزئية مرجعها إلى ان المعتبر قد التفت إلى العشرة ، والشك فيها شك في التفاته إلى العشرة ونفيها بالأصل نفي للالتفات إلى العشرة فهو إذن التفت إلى التسعة ، ومن المعلوم : ان اثبات الالتفات إلى التسعة بنفي الالتفات إلى العشرة اثبات لأحد الضدين بنفي الضد الآخر ، وهو مثبت .

( هذا ، مع ) انه يرد عليه إشكال آخر وهو : ( أنّ أصالة عدم الالتفات لا يجري بالنسبة إلى الشارع المنزّه عن الغفلة ، بل لا يجري مطلقا ) حتى بالنسبة إلى غير الشارع ( فيما دار أمر الجزء بين كونه جزءا واجبا أو جزءا مستحبا ) لانه لا اشكال

ص: 314

لحصول الالتفات فيه قطعا ، فتأمّل .

المسألة الثانية :

ما إذا كان الشكّ في الجزئيّة ناشئا من إجمال الدليل ، كما إذا علّق الوجوب في الدليل اللفظي بلفظ مردد بأحد أسباب الاجمال

-------------------

في ان الاستعاذة قبل القرائة ، والسورة بعد الفاتحة ، وجلسة الاستراحة بعد السجدة ، كلّها أما مستحبة أو واجبة ، ومن المعلوم : تنافي فرض جزء واجبا أو مستحبا مع عدم الالتفات اليه .

إذن : فلا يمكن اجراء أصل عدم الالتفات إلى الجزء المشكوك حتى بالنسبة إلى غير الشارع ( لحصول الالتفات فيه قطعا ) فلا مسرح للأصل .

( فتأمّل ) ولعله إشارة إلى عدم ورود الاشكال الأخير على الاحتمال الرابع ، وذلك لأن البحث الاصولي كالبحث المنطقي يكون على نحو الكلية ، فليس الكلام خاصا بما يعتبره الشارع ، بل الكلام يعم كل معتبر ، وإذا عمّ كل معتبر كان الاشكال الأخير غير وارد لاحتمال الغفلة عن الجزء العاشر وعدم الالتفات اليه مستقلاً ، نعم ، نستثني الشارع المقدس من هذه الكلية للأدلة العقلية والنقلية القائمة على ذلك .

وحيث انتهى المصنِّف من الكلام في المسألة الاُولى وهي الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين من جهة فقد النص ، شرع في بيان الثانية فقال :

( المسألة الثانية ) وهي : ( ما إذا كان الشكّ في الجزئية ناشئا من اجمال الدليل ) وذلك ( كما إذا علّق الوجوب في الدليل اللفظي بلفظ مردد بأحد أسباب الاجمال ) فانّ الاجمال قد يكون بسبب النقل أو الاشتراك ، وقد يكون بسبب

ص: 315

بين مركّبين يدخل أقلّهما جزءا تحت الأكثر ، بحيث يكون الآتي بالأكثر آتيا بالأقل .

والاجمال قد يكون في المعنى العرفي ، كأن وجب في الغسل غسل ظاهر البدن ، فيشك في أنّ الجزء الفلاني كباطن الاُذن أو عكنة البطن من الظاهر أو الباطن ،

-------------------

الاختلاف في المعنى ، كالاجمال ( بين مركّبين يدخل أقلّهما جزءا تحت الأكثر ، بحيث يكون الآتي بالأكثر آتيا بالأقل ) .

والحاصل : ان الترديد بين الأقل والأكثر يكون على نحوين :

الأوّل : على نحو التباين ، كالقصر والاتمام ، والاحتياط فيه باتيانهما جميعا ، لانّ القصر هو الركعتان بشرط لا ، والاتمام هو الركعتان بشرط شيء ، فالآتي بالتمام لا يكون آتيا بالقصر ، فيكون الاحتياط في اتيانهما معا .

الثاني : على نحو التداخل كتردد الصلاة بين عشرة أجزاء أو تسعة والاحتياط فيه باتيان الأكثر ، لأن الجزء العاشر كالاستعاذة - مثلاً - سواء كان واجبا أم كان مستحبا لم يكن ضارا بالصلاة حتى ولو كانت الصلاة ذات تسعة أجزاء ، فانّ الآتي بالأكثر يكون آتيا بالأقل في ضمن الأكثر أيضا .

هذا ( والاجمال قد يكون في المعنى العرفي ) أي : في غير الاُمور الشرعية ( كأن وجب في الغسل غسل ظاهر البدن ، فيشك في ان الجزء الفلاني كباطن الاُذُن ) الذي يرى بالعين ، هل هو من الظاهر أو الباطن؟ ( أو عكنة البطن ) وهي التلافيف التي تقع بعضها على بعض في بطن بعض الناس هل هي ( من الظاهر أو الباطن ) فاذا كان من الظاهر وجب غسله عند الغسل ، وإذا كان من الباطن لم يجب غسله عند الغسل .

ص: 316

وقد يكون في المعنى الشرعي ، كالأوامر المتعلّقة ، في الكتاب والسنّة بالصلاة وأمثالها ، بناءا على أنّ هذه الألفاظ موضوعة للماهيّة الصحيحة يعني الجامعة لجميع الأجزاء الواقعية .

والأقوى هنا أيضا جريان أصالة البرائة ، لعين ما أسلفناه في سابقه من العقل والنقل .

وربّما يتخيّل جريانُ قاعدة الاشتغال هنا

-------------------

( وقد يكون ) الاجمال ( في المعنى الشرعي ، كالأوامر المتعلّقة ، في الكتاب والسنّة بالصلاة وأمثالها ) ومن المعلوم : ان الاجمال إنّما يكون فيها ( بناءا على أنّ هذه الألفاظ موضوعة للماهية الصحيحة يعني : الجامعة لجميع الأجزاء الواقعية ) فان الصحيحي يرى ان الأجزاء الواقعية هي التي تسمى بالصلاة ، فاذا شك الصحيحي في ان ماهية الصلاة مركّبة من تسعة أجزاء أو من عشرة أجزاء ، فالشك في جزئية الشيء شك في صدق الصلاة على فاقد الجزء ، وأمّا بناءا على الأعمى فلا اجمال في فاقد الجزء العاشر ، لانه يسمى صلاة على كل حال ، سواء كانت صحيحة أم باطلة .

هذا ( والأقوى هنا أيضا ) فيما كان الشك في الجزئية ناشئا من اجمال الدليل و ( جريان أصالة البرائة ، لعين ما أسلفناه في سابقه ) من مورد فقد النص الذي ذكرنا تفصيله في المسألة الاُولى واستدللنا عليه فيها ( من العقل والنقل ) فانّ العقل يرى قبح العقاب بلا بيان ، كما ان النقل يقول «رفع ... ما لا يعلمون» (1) .

( وربّما يتخيّل جريان قاعدة الاشتغال هنا ) أي : في مورد اجمال النص

ص: 317


1- - تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 ح27 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

وإن جرت أصالة البرائة في المسألة المتقدمة ، لفقد الخطاب التفصيلي المتعلق بالأمر المجمل في تلك المسألة ، ووجوده هنا ، فيجب الاحتياط بالجمع بين محتملات الواجب المجمل ،

-------------------

( وإن جرت أصالة البرائة في المسألة المتقدمة ) أي : مسألة فقد النص ، وذلك ( لفقد الخطاب التفصيلي المتعلّق بالأمر المجمل في تلك المسألة ، ووجوده هنا ) أي: وجود الخطاب التفصيلي هنا فاذا اختلفت الأمة - مثلاً - على قولين ، وكان النص مجملاً بين الأقل والأكثر الارتباطيين جرى أصل الاشتغال ، بخلاف ما إذا لم يكن نص حيث تجري البرائة ، لان الخطاب التفصيلي المتعلق بما هو مجمل عندنا مفقود في مسألة فقد النص .

وعليه : فان في مسألة اجمال النص ، مثل قوله تعالى : «أقيموا الصلاة» (1) النص موجود ، غير انا نشك مثلاً في ان الصلاة هل هي ذات أجزاء عشرة أو ذات أجزاء تسعة ؟ (فيجب الاحتياط) فيها (بالجمع بين محتملات الواجب المجمل) .

وعليه : فيلزم ان نأتي بالصلاة ذات الأجزاء العشرة ، وذلك لأن الخطاب التفصيلي الموجود هنا : « أقيموا الصلاة » قاطع للعذر إذا لم نأت بالجزء العاشر ، لوضوح: ان العقل لا يحكم هنا بقبح العقاب ، ولا يصدق : «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (2) كما لا يصدق : « رفع ... ما لا يعلمون » (3) إلى غير

ص: 318


1- - سورة البقرة : الآية 43 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .
3- - تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 ح27 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

كما هو الشأن في كلّ خطاب تعلّق بأمر مجمل .

ولذا فرّعوا على القول بوضع الألفاظ للصحيح ، كما هو المشهور ، وجوبَ الاحتياط في أجزاء العبادات وعدم جواز إجراء أصل البرائة فيها .

وفيه : أنّ وجوب الاحتياط في المجمل المردّد بين الأقلّ والأكثر ممنوعٌ ، لأنّ المتيقنَ من مدلول هذا

-------------------

ذلك من أدلة البرائة .

( كما هو الشأن في كلّ خطاب تعلّق بأمر مجمل ) سواء تردد بين متباينين ، أم تردد بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، فانه يجب على المكلّف الاتيان بهما جميعا ، بلا فرق بين الموردين .

( ولذا ) أي : لوجوب الاحتياط في كل خطاب تفصيلي تعلق بمجمل كالأقل والأكثر ( فرّعوا على القول بوضع الألفاظ للصحيح ) فان الألفاظ إذا كانت موضوعة للصحيح من المعاني لزم اجمال خطاب العبادات ( كما هو المشهور ) حيث ذهبوا إلى القول بالصحيح لا الأعم فانهم فرّعوا عليه ( وجوب الاحتياط في أجزاء العبادات ، وعدم جواز اجراء أصل البرائة فيها ) أي : في الأجزاء المشكوك في جزئيتها .

( وفيه : ) ان هناك فرقا بين المتباينين وبين الأقل والأكثر ، حيث يجب الاحتياط في المتباينين بخلاف الأقل والأكثر ، فانه مجرى البرائة ، وذلك ( أنّ وجوب الاحتياط في المجمل المردّد بين الأقلّ والأكثر ممنوعٌ ) لانحلال العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل ، وشك بدوي في الأكثر ، فيكون الجزء العاشر المشكوك موردا للبرائة .

وإنما يكون وجوب الاحتياط هنا ممنوعا ( لان المتيقنَ من مدلول هذا

ص: 319

الخطاب وجوبُ الأقلّ بالوجوب المردّد بين النفسي والمقدمي ، فلا محيص عن الاتيان به ، لأنّ تركه مستلزم للعقاب .

وأمّا وجوب الأكثر فلم يعلم من هذا الخطاب فيبقى مشكوكا ، فيجيء فيه مامرّ من الدليل العقلي والنقليّ .

والحاصل : أنّ مناط وجوب الاحتياط عدمُ جريان أدلّة البرائة في واحد معيّن من المحتملين ،

-------------------

الخطاب ) مثل خطاب : « أقيموا الصلاة » (1) حيث تردد بين أجزاء عشرة واجزاء تسعة ( وجوب الأقلّ بالوجوب المردّد بين النفسي والمقدمي ) فاذا كان الواجب هو تسعة فقط فوجوب التسعة نفسي ، وإذا كان الواجب هو عشرة أجزاء فوجوب التسعة وجوب مقدمي .

وعليه : فالتسعة وهو الأقل معلوم الوجوب على كل حال ، وإذا كان كذلك ( فلا محيص عن الاتيان به ) أي : بالأقل ( لأنّ تركه مستلزم للعقاب ) على كل حال سواء كان الواجب هو الأقل أم هو الأكثر ( وامّا وجوب الأكثر فلم يعلم من هذا الخطاب ) أي : من خطاب : « أقيموا الصلاة » (2) - مثلاً - ( فيبقى مشكوكا ، فيجيء فيه ما مرّ من الدليل العقلي والنقليّ ) الدال على البرائة فيه .

( والحاصل : انّ مناط وجوب الاحتياط ) ليس هو الخطاب وعدمه حتى يقال في المسألة السابقة وهي فقد النص : لا خطاب ، فلذا يكون البرائة ، وفي مسألة اجمال النص الخطاب موجود فلذا يكون الاحتياط .

بل المناط هو : ( عدم جريان أدلّة البرائة في واحد معيّن من المحتملين )

ص: 320


1- - سورة البقرة : الآية 43 .
2- - سورة البقرة : الآية 43 .

لمعارضته بجريانها في المحتمل الآخر ، حتى يخرج المسألة بذلك عن مورد البرائة ، ويجب الاحتياط فيها ، لأجل تردّد الواجب المستحق على تركه العقابُ بين أمرين لا تعيّن لأحدهما ، من غير فرق في ذلك بين وجود خطاب تفصيلي في المسألة متعلّق بالمجمل وبين وجود خطاب مردّد بين خطابين ، وإذا فقد المناطُ المذكورُ

-------------------

وذلك للتعارض والتساقط كما في المتباينين حيث قال المصنِّف فيه : ( لمعارضته بجريانها في المحتمل الآخر ، حتى يخرج المسألة بذلك ) أي : بسبب مانعية العلم الاجمالي الموجب للتعارض في طرفي المتباينين ( عن مورد البرائة ، ويجب الاحتياط فيها ) أي : في تلك المسألة الدائرة بين المتباينين ( لأجل تردّد الواجب المستحق على تركه العقاب بين أمرين لا تعيّن لأحدهما ) .

ثم انه كلّما تحقق مثل ذلك ، لزم فيه الاحتياط ( من غير فرق في ذلك بين وجود خطاب تفصيلي في المسألة متعلق بالمجمل ) مثل وجود : « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » (1) بعد تردد صلاة الوسطى مثلاً بين الظهر والعصر ( وبين وجود خطاب مردد بين خطابين ) مثل مورد فقد النص الذي ذكرناه في المسألة السابقة ، حيث ان هناك خطابا عاما لكنه لا ينفع لفقد النص في ان هذه المسألة من هذا الخطاب أو من خطاب آخر .

مثلاً : إذا شك في حرمة التتن لأجل فقد النص ، فالخطاب العام بقوله : «لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » (2) لا ينفع بعد فقد النص الخاص في خصوص التتن .

( و ) عليه : فانه ( إذا فقد المناط المذكور ) وهو مناط وجوب الاحتياط

ص: 321


1- - سورة البقرة : الآية 238 .
2- - سورة البقرة : الآية 195 .

وأمكن البرائة في واحد معيّن لم يجب الاحتياط ، من غير فرق بين الخطاب التفصيليّ وغيره .

فان قلت :

-------------------

( وأمكن البرائة في واحد معيّن ) من الطرفين ، وذلك لانحلال العلم الاجمالي كما في الأقل والأكثر الارتباطيين فانه ( لم يجب الاحتياط ) وإنما يأخذ بالأقل ويترك الأكثر ( من غير فرق بين الخطاب التفصيليّ ) كقوله تعالى : « أقيموا الصلاة »(1) ( وغيره ) كما في صورة فقد النص على ما عرفت .

فتحصّل من جواب المصنِّف : ان مناط الاحتياط هو : عدم جريان أدلة البرائة في أحد المحتملين أو المحتملات لتعارض الاُصول فيها كما في المتباينين ، فانه إذا شك بين الظهر والجمعة وكان هناك خطاب ، لم يكن مما حجب اللّه علمه عن العباد حتى يكون موضوعا عنهم ، فلا يجري البرائة ، لان البرائة في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ، وفي كليهما مخالفة قطعية بالنسبة إلى الخطاب التفصيلي المتعلّق بأحدهما ، فيجب الاحتياط باتيان كلا الجانبين لأجل تردد الواجب بين الطرفين .

أما إذا لم يكن الأمر كذلك ، كما في الشبهة بين الأقل والأكثر الارتباطيين فيجري البرائة ، لان جريان البرائة في الأكثر غير معارض بجريان البرائة في الأقل ، إذ لا تجري البرائة في الأقل بعد علمنا بوجوب الأقل على كل حال ، فلا يجب الاحتياط من غير فرق بين وجود الخطاب كما فيما نحن فيه ، أو عدم وجود الخطاب كما في المسألة السابقة التي هي عبارة عن فقد النص .

( فان قلت : ) ان الشارع يريد منا الصلاة قطعا ، وقد تردد مصداقه بين الأقل

ص: 322


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

إذا كان متعلّقُ الخطاب مجملاً ، فقد تنجّز التكليف بمراد الشارع من اللفظ ، فيجب القطع بالاتيان بمراده واستحق العقاب على تركه مع وصف كونه مجملاً ،

-------------------

والأكثر ولا نعلم انه يتحقق بالأقل ، فاللازم ان نحتاط ونأتي بالأكثر ، كما إذا أراد المريض ان يشرب الدواء الجامع وتردد الدواء بين الأقل والأكثر ، فانه إذا أتى بالأقل لا يعلم بانه شرب الدواء الجامع .

وبعبارة اُخرى : انه يلزم الاحتياط فيما إذا كان هناك خطاب متعلق بما كان بحسب المفهوم مبيّنا ، لكن متعلقه مجمل مردد بين الأقل والأكثر ، فيلزم الاتيان بالأكثر لتحصيل اليقين بالبرائة ، لان المفروض : تنجّز التكليف بمفهوم مبيّن تفصيلاً ، وإنّما الشك في تحققه في الخارج بالأقل ، فمقتضى عدم تحققه إلاّ بالأكثر ، بقاء الاشتغال وعدم الاكتفاء بالأقل .

ومنه يظهر : الفرق بين مسألة عدم النص ، فالبرائة ، ومسألة اجمال النص ، فالاحتياط .

وعليه : فانه ( إذا كان متعلّق الخطاب مجملاً ، فقد تنجّز التكليف بمراد الشارع من اللفظ ) لانا نعلم إنه يلزم علينا الاتيان بمراد الشارع .

إذن : ( فيجب القطع بالاتيان بمراده ) ولا يكفي الاحتمال باتيانه ، وكلما كان النص مجملاً كان من هذا القبيل ، لان الشارع أراد من لفظ الصلاة - مثلاً - معنى خاصا وقد أمر بذلك المعنى ، فالمأمور به هو عنوان المراد من الصلاة ، وهو مفهوم مبيّن، فاذا شككنا في ان محصله هو الأقل أو الأكثر ، وجب علينا الاحتياط باتيان الأكثر حتى نقطع باتياننا بالمراد .

( و ) كذا قد ( استحق العقاب على تركه ) أي : ترك المراد ( مع وصف كونه مجملاً )

ص: 323

وعدم القناعة باحتمال تحصيل المراد واحتمال الخروج عن استحقاق العقاب .

قلت : التكليف ليس متعلّقا بمفهوم المراد من اللفظ ومدلوله حتى يكون من قبيل التكليف بالمفهوم المبيّن ، المشتبه مصداقه بين أمرين ، حتى يجب الاحتياط فيه

-------------------

من حيث المحصّل ، حيث لا نعلم ان المحصل لهذا المراد هو الأقل أو الأكثر ( و ) ذلك بعد ( عدم القناعة باحتمال تحصيل المراد واحتمال الخروج عن استحقاق العقاب ) فانه يلزم بعد تنجز التكليف بالمراد ، القطع بتحصيل المراد ، والقطع بالخروج عن استحقاق العقاب ، وذلك لا يكون إلاّ بالاحتياط والاتيان بالأكثر ، وقوله : « وعدم القناعة » ، عطف على قوله : « بالاتيان بمراده » .

إن قلت ذلك ( قلت : ) ان التكليف لم يتعلق بمفهوم الألفاظ حتى يقال : ان متعلق التكليف مبيّن مفهوما وهو المراد للشارع ، ومجمل مصداقا وهو المتردد بين الأقل والأكثر ، فتكون الشبهة شبهة مصداقية في الأقل والأكثر الارتباطيين فيجب فيها الاحتياط ، بل نفس المأمور به في المقام مردد بين الأقل والأكثر ، ومن المعلوم : ان المرجع في كون المأمور به هو الأقل أو الأكثر : البرائة من الأكثر ، لما تقدّم من الأدلة العقلية والنقلية على ذلك ، كما قال : إنّ ( التكليف ليس متعلقا بمفهوم المراد ) بأن يقول الشارع - مثلاً - : أئت بمرادي ( من اللفظ ) أي : من لفظ الصلاة ( ومدلوله ) أي : مدلول اللفظ ( حتى يكون من قبيل التكليف بالمفهوم المبيّن ، المشتبه مصداقه بين أمرين حتى يجب الاحتياط فيه ) فانه ليس ما نحن فيه من قبيل الصلاة الوسطى حيث مفهومه مبيّن ، ومصداقه مشتبه - مثلاً - بين الظهر والعصر ، حتى يقال : بأنه يجب الاحتياط حيثما

ص: 324

ولو كان المصداق مردّدا بين الأقلّ والأكثر نظرا إلى وجوب القطع بحصول المفهوم المعيّن المطلوب من العبد ، كما سيجيء في المسألة الرابعة ، وإنّما هو متعلق بمصداق المراد والمدلول ، لأنه الموضوع له اللفظ والمستعمل فيه واتصافه بمفهوم المراد

-------------------

كان المفهوم مبيّنا ( ولو كان المصداق مرددا بين الأقل والأكثر ) .

وإنما يجب الاحتياط في التكليف المبيّن ، المشتبه المصداق ( نظرا إلى وجوب القطع بحصول المفهوم المعيّن المطلوب من العبد ، كما سيجيء في المسألة الرابعة ) ان شاء اللّه تعالى من بحث العنوان والمحصل ، فانه كلما تعلق الأمر بالعنوان وشك في محصله بين كونه هو الأقل أو الأكثر وجب الاتيان بالأكثر ، حتى يعلم بتحقق العنوان المطلوب .

لكن التكليف فيما نحن فيه لم يكن متعلقا بمفهوم المراد ومدلوله ( وإنما هو ) أي : التكليف ( متعلق بمصداق المراد والمدلول ) وهو الفعل الخارجي الخاص المردد بين الأقل والأكثر ( لأنه ) أي : المصداق هو ( الموضوع له اللفظ والمستعمل فيه ) فاللفظ موضوع للمصداق الخارجي ومستعمل فيه ، لا انه موضوع للمراد ومستعمل فيه .

وعليه : فلا يكون ما نحن فيه من قبيل الخطاب بالمبيّن ، المردد مصداقه بين المتباينين ، أو بين الأقل والأكثر ، لوضوح : ان معنى الصلاة ليس هو عنوان المراد حتى يكون مفهوما مبيّنا ، بل معنى الصلاة هو الفعل الخارجي الخاص الذي تردد بين الأقل والأكثر ، وحيثما تردد بين الأقل والأكثر يكون الاتيان بالأقل كافيا ، لأنه المتيقن بعد انحلال العلم الاجمالي .

( و ) اما ( اتصافه ) أي اتصاف هذا الفعل الخاص الخارجي ( بمفهوم المراد )

ص: 325

والمدلول بعد الوضع والاستعمال ، فنفس متعلق التكليف مردد بين الأقلّ والأكثر ، لا مصداقه .

ونظير هذا ، توهّم أنّه إذا كان اللفظ في العبادات موضوعا للصحيح ، والصحيح مردّد مصداقه بين الأقلّ والأكثر ، فيجب فيه الاحتياط ، ويندفع بانّه خلط بين الوضع للمفهوم والمصداق ،

-------------------

حيث يقال : ان الصلاة الخارجية مراد الشارع ( و ) اتصافه بمفهوم ( المدلول ) أيضا ، فانما هو ( بعد الوضع والاستعمال ) .

وعليه : فانه إذا وضع لفظ لمعنى ، اتصف ذلك المعنى بمفهوم الموضوع له ، وإذا استعمل فيه اتصف بمفهوم المستعمل فيه ، وإذا كان مرادا اتصف بمفهوم المراد ، والترتيب بين الثلاثة هكذا : موضوع له ، فمراد ، فمستعمل فيه ، لانه يوضع أولاً ، ثم يريده المتكلم ، ثم يستعمل اللفظ فيه ، وحينئذ ( فنفس متعلّق التكليف مردد بين الأقلّ والأكثر ، لا مصداقه ) فلا يجب فيه الاحتياط ، بل يجري فيه البرائة من الأكثر .

( ونظير هذا ) الذي صورناه من توهم ان المأمور به هو عنوان المراد ، مما يوجب الاحتياط عند الشك في الأقل والأكثر ( توهّم انّه إذا كان اللفظ في العبادات موضوعا للصحيح ، والصحيح ) مفهوم مبيّن عند العرف ( مردّد مصداقه بين الأقلّ والأكثر ، فيجب فيه الاحتياط ) باتيان الأكثر .

( ويندفع ) هذا التوهم الأخير في باب الصحيح والأعم : ( بانّه خلط بين الوضع للمفهوم والمصداق ) فان لفظ الصلاة - مثلاً - المردّد بين الأقل والأكثر لم يوضع لمفهوم الصحيح حتى يجب الاتيان بكل شيء نحتمل ان له دخل في صحته ، بل هو موضوع لمصداق الصحيح من الصلاة وهو الفعل الخاص الخارجي ، ويتصف

ص: 326

فافهم .

وأمّا ما ذكره بعض متأخّري المتأخّرين من أنّه «الثمرة بين القول بوضع ألفاظ العبادات للصحيح وبين وضعها للأعم » ،

-------------------

ذلك الفعل الخارجي بالصحة بملاحظة تمامية الأجزاء ، وبالفساد بالنقص فيها ، فاذا كان موضوعا للفعل الخاص الخارجي وشككنا فيه بين الأقل والأكثر ، أتينا بالأقل لجريان البرائة عن الزائد .

( فافهم ) حتى لا تستشكل بانه لا يمكن وضع اللفظ لمصداق الصحيح ، معلّلاً ذلك بأن الصحة متأخرة عن الوضع والأمر والامتثال ، لانّ الصحة بمعنى : موافقة الأمر أو اسقاط القضاء ، فلا يعقل أخذها في مفهوم اللفظ ، وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ، لا يستشكل بذلك ، لانّ المقصود من الصحة هنا : كون الماهية على النحو الذي قررها الشارع عليه : من الترتيب بين أجزائها واشتمالها على كيفياتها الحاصلة من الشرائط ، وهذه الماهية إذا تعلق الأمر بها وأتى بها المكلّف على الترتيب والشرائط والكيفية ، اتّصفت بالصحة بمعناها المصطلح عليه .

ثم انه لما ذكر المصنِّف ان الوضع للصحيح لا يستلزم الاحتياط ، وإنما يجري البرائة عند الشك فيه بين الأقل والأكثر ، كان محلاً لان يرد عليه ما قاله المحقق البهبهاني : من ان لازم الوضع للصحيح هو القول بالاحتياط لا بالبرائة فأجاب عنه بقوله : ( وأمّا ما ذكره بعض متأخري المتأخّرين ) وهو البهبهاني رحمه اللّه ( من إنّه ) أي: الاحتياط واللا احتياط هو ( «الثمرة بين القول بوضع ألفاظ العبادات للصحيح ، وبين وضعها للأعم» ) فتكون الثمرة على القول بالصحيح المستلزم لاجمال الخطاب : وجوب الاحتياط في الشك بين الأقل والأكثر ، وعلى القول بالأعم المستلزم لاطلاق الخطاب : اجراء البرائة فيه ، وهذا ما ينافي قول المصنِّف

ص: 327

فغرضه بيان الثمرة على مختاره من وجوب الاحتياط في الشك في الجزئية ، لا أنّ كل من قال بوضع الألفاظ للصحيحة فهو قائلٌ بوجوب الاحتياط وعدم جواز إجراء أصل البرائة في أجزاء العبادات .

كيف ! والمشهور مع قولهم بالوضع للصحيحة قد ملئوا طواميرهم من اجراء الأصل عند الشك في الجزئية والشرطيّة ، بحيث لا يتوهّم من كلامهم أنّ مرادَهم بالأصل غير أصالة البرائة ؟ .

-------------------

بأن الوضع للصحيح لا يستلزم الاحتياط ، ولذلك أجاب عنه بقوله :

( فغرضه ) أي : غرض البهبهاني مما ذكره إنما هو ( بيان الثمرة على مختاره : من وجوب الاحتياط ) فان البهبهاني يرى انّ القول بالصحيح ، يستلزم القول بالاحتياط ( في الشك في الجزئية ) والشرطية ، لانه يراه من الشك في العنوان والمحصل ، فيجب احراز العنوان ولا يكون إلاّ بالاحتياط .

( لا انّ كل من قال بوضع الألفاظ للصحيحة فهو قائلٌ بوجوب الاحتياط وعدم جواز إجراء أصل البرائة في أجزاء العبادات ) وشرائطها ، حتى يكون كلام البهبهاني هذا بالنتيجة شاهدا على وجوب الاحتياط عند اجمال النص والخطاب .

و ( كيف ) يقول البهبهاني بذلك ( و ) الحال ان ( المشهور مع قولهم بالوضع للصحيحة قد ملئوا طواميرهم من اجراء الأصل عند الشك في الجزئية والشرطيّة ) والمانعية والقاطعية ( بحيث لا يتوهّم من كلامهم أنّ مرادهم بالأصل غير أصالة البرائة ) فقد قال تلميذه المحقق القمي رحمه اللّه ما مفاده : انه يظهر من كلمات المتقدّمين من العلماء وكذلك المتأخرين منهم : انه لا خلاف في اجراء أصل البرائة في الاجزاء عند الشك في الزيادة والنقيصة .

ص: 328

والتحقيق : أنّ ما ذكروه ثمرةً للقولين من وجوب الاحتياط على القول بوضع الألفاظ للصحيح ، وعدمه على القول بوضعها للأعم محلُّ نظر .

أمّا الأوّل : فلما عرفت : أن غاية ما يلزم من القول بالوضع للصحيح كون هذه الألفاظ مجملة ، وقد عرفت أن المختار والمشهور في المجمل المردّد بين الأقلّ والأكثر عدم وجوب الاحتياط .

وأمّا الثاني : فوجه النظر

-------------------

( والتحقيق ) عندنا : ( انّ ما ذكروه ثمرةً للقولين : من وجوب الاحتياط على القول بوضع الألفاظ للصحيح ) الموجب لاجمال اللفظ ( وعدمه ) أي : عدم وجوب الاحتياط ( على القول بوضعها للأعم ) الموجب لعدم الاجمال ، لان اللفظ يكون حينئذ مطلقا ، فان ما ذكروه من الثمرة ( محلُّ نظر ) في كلا شقّيه .

( أمّا الأوّل : ) وهو وجوب الاحتياط على القول بوضع الألفاظ للصحيح ( فلما عرفت : ان غاية ما يلزم من القول بالوضع للصحيح : كون هذه الألفاظ ) للعبادات ( مجملة ، وقد عرفت : ان المختار والمشهور في المجمل المردّد بين الأقلّ والأكثر : عدم وجوب الاحتياط ) .

والحاصل : ان المناط في وجوب الاحتياط على ما تقدّم إنما هو انتفاء القدر المتيقن مثل : تعلق الأمر بمفهوم مردّد بين فردين كالمتباينين ، أو ما في حكم المتباينين كالقصر والتمام ، أو مثل تعلق الأمر بالعنوان مما لا يعرف حصوله إلاّ باتيان جميع الخصوصيات ، وهو المعبر عنه في كلامهم : بالعنوان والمحصل ، وما نحن فيه ليس من أحد الأمرين .

( وأمّا الثاني : ) وهو البرائة على القول بوضع الألفاظ للأعم ( فوجه النظر

ص: 329

موقوف على توضيح ما ذكروه من وجه ترتّب تلك الثمرة ، أعني عدم لزوم الاحتياط على القول بوضع اللفظ للأعم ، وهو أنّه إذا قلنا بأنّ المعنى الموضوع له اللفظ هو الصحيح ، كان كل جزء من أجزاء العبادة مقوّما لصدق حقيقة معنى لفظ الصلاة ، فالشكُّ في جزئية شيء شك في صدق الصلاة ، فلا إطلاق للفظ الصلاة على هذا القول بالنسبة إلى واجد الأجزاء وفاقد بعضها ، لأنّ الفاقد ليست بصلاة ، فالشكّ في كون المأتيّ به فاقدا أو واجدا شكٌّ في كونها صلاة أو ليست بها .

-------------------

موقوف على توضيح ما ذكروه من وجه ترتّب تلك الثمرة ، أعني : عدم لزوم الاحتياط على القول بوضع اللفظ للأعم ) فاذا أوضحنا ذلك بحثنا حول وجه النظر فيه .

هذا ( و ) التوضيح ( هو : انّه إذا قلنا بأنّ المعنى الموضوع له اللفظ هو : الصحيح ) أي : الجامع للأجزاء والشرائط ( كان كل جزء من أجزاء العبادة مقوّما لصدق حقيقة معنى لفظ الصلاة ) فانه لا يطلق لفظ الصلاة حينئذ إطلاقا حقيقيا على فاقد شيء من الأجزاء والشرائط ، فاللازم أن تجتمع كل الأجزاء والشرائط حتى يطلق عليها لفظ الصلاة .

إذن : ( فالشكّ في جزئية شيء ) أو شرطية شيء للصلاة ( شك في صدق الصلاة ) من دون ذلك الجزء أو الشرط المشكوك ( فلا إطلاق للفظ الصلاة على هذا القول ) الصحيحي ( بالنسبة إلى واجد ) جميع ( الأجزاء وفاقد بعضها ، لأنّ الفاقد ليست بصلاة ) عند الصحيحي، ( فالشك في كون المأتيّ به فاقدا أو واجدا) للجزء والشرط ( شك في كونها صلاة أو ليست بها ) أي : بصلاة ، فيتوهم انه يجب الاحتياط في كل جزء وشرط ايجابا ، وعن كل مانع وقاطع سلبا حتى يحرز

ص: 330

وأمّا إذا قلنا بأنّ الموضوع له هو القدر المشترك بين الواجد لجميع الأجزاء والفاقد لبعضها نظير السرير الموضوع للأعم من جامع أجزائه ومن فاقد بعضها غير المقوّم لحقيقته ، بحيث لا يخل فقده لصدق اسم السرير على الباقي - كان لفظُ الصلاة من الألفاظ المطلقة الصادقة على الصحيحة والفاسدة .

-------------------

عنوان المأمور به .

لكن قد عرفت دفع هذا التوهم : بأن الواجب ليس هو عنوان المأمور به ، أو عنوان المراد ، أو ما أشبه ذلك ، حتى يجب الاتيان بكل محتمل المدخلية من الشرائط والأجزاء ، وترك كل محتمل الضرر من الموانع والقواطع .

( وأمّا إذا قلنا بأنّ الموضوع له هو ) معظم الأجزاء ، كما عن المحقق الاصفهاني أو الأركان المخصوصة ، كما عن المحقق القمي ( القدر المشترك بين ) الصحيح ( الواجد لجميع الأجزاء ) والشرائط ( و ) الفاسد ( الفاقد لبعضها ) فتكون الماهيات المخترعة الاعتبارية ذات الأجزاء والشرائط حينئذ ( نظير السرير الموضوع للأعم من جامع أجزائه ومن فاقد بعضها ) الذي ذلك البعض ( غير المقوّم لحقيقته ) أي : حقيقة السرير ( بحيث لا يخل فقده ) أي : فقد ذلك البعض ( لصدق اسم السرير على الباقي ) .

مثلاً : إذا فقد السرير بعض الأعواد ، والعضادة ، أو ما أشبه ذلك فان هذه المفقودات لا تضر بصدق اسم السرير ، بخلاف ما إذا فقد المقعد ، أو القوائم ، أو ما أشبه ذلك .

وعلى هذا : ان قلنا بوضع اللفظ للأعم ( كان لفظ الصلاة من الألفاظ المطلقة الصادقة على الصحيحة ) التامة الأجزاء والشرائط ( والفاسدة ) الفاقدة لبعض

ص: 331

فاذا أريد بقوله : « أقيموا الصلاة » فردٌ مشتملٌ على جزء زائد على مسمّى الصلاة ، كالصلاة مع السورة كان ذلك تقييدا للمطلق .

وهكذا إذا أريد المشتملة على جزء آخر كالقيام ، كان ذلك تقييدا آخر للمطلق ، فارادة الصلاة الجامعة لجميع الأجزاء تحتاج إلى تقييدات بعدد الأجزاء الزائدة على ما يتوقف عليها صدقُ مسمّى الصلاة .

-------------------

الأجزاء والشرائط ، فتكون الصلاة حينئذ حالها حال السرير الذي يطلق على الصحيح والمعيب معا .

وعليه : ( فاذا أريد بقوله : « أقيموا الصلاة » (1) فردٌ مشتملٌ على جزء زائد على مسمّى الصلاة ) أي : زائد على الأركان ( كالصلاة مع السورة ) حيث ان السورة ليست من مقوّمات الصلاة وأركانها ( كان ذلك تقييدا للمطلق ) لأن الصلاة على القول بالأعم تشمل الواجدة للسورة والفاقدة لها .

( وهكذا إذا أريد ) من الصلاة ( المشتملة على جزء آخر كالقيام ، كان ذلك تقييدا آخر للمطلق ) لان المفروض ان الصلاة تصدق على الصلاة من قيام والصلاة من جلوس وهكذا ( فارادة الصلاة ) الصحيحة أي : ( الجامعة لجميع الأجزاء ) والشرائط ( تحتاج إلى تقييدات بعدد الأجزاء الزائدة ) زيادة ( على ما يتوقف عليها صدق مسمّى الصلاة ) .

إذن : فمسمّى الصلاة هو : ما يصدق على الأركان أو على معظم الأجزاء ، فاذا أريد زيادة جزء ، أو شرط ، أو ما أشبه ذلك ، كان بحاجة إلى تقييد ، فتكون الصلاة مثل الرقبة الصادقة على العبد عالما أو جاهلاً ، مؤمنا أو كافرا ، كبيرا أو صغيرا ،

ص: 332


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

أما القدرُ الذي يتوقف عليه صدق الصلاة ، فهي من مقومات معنى المطلق ، لا من القيود المقسّمة له .

وحينئذ : فاذا شك في جزئية شيء للصلاة، فان شكّ في كونه جزءا مقوّما لنفس المطلق ، فالشك فيه راجع إلى الشك في صدق اسم الصلاة ، ولايجوز فيه اجراء البرائة ، لوجوب القطع بتحقيق

-------------------

رجلاً أو امرأة ، فكلّما زيد قيد كان تقييدا لاطلاق الرقبة ، لا ان ذلك القيد له مدخلية في صدق اسم الرقبة ، وهكذا تكون الصلاة ، فاذا شككنا في زيادة تقييد وعدمه ، فالأصل عدمه .

( أما القدر الذي يتوقف عليه صدق الصلاة ) من الأركان المخصوصة ، أو معظم الأجزاء ( فهي من مقومات معنى المطلق ، لا من القيود المقسّمة له ) أي : للصلاة ، فالركوع والسجود في الصلاة - مثلاً - من مقومات معنى الصلاة ، إذ بدونهما لا تصح الصلاة ، أمّا مثل السورة وذكر الركوع فهما من القيود المقسّمة للصلاة ، لان الصلاة تنقسم إلى ذات السورة وبدون السورة ، كما انها تنقسم إلى ذات الذكر في الركوع وبدون الذكر في الركوع وهكذا ، كالمملوكية فانها مقوّم لمعنى الرقية ، امّا الايمان ، والذكورة وما أشبه ذلك ، فهي قيود مقسّمة للرقبة إلى مؤمنة وكافرة ، ورجل وامرأة ، وغير ذلك .

( وحينئذ ) أي : حين كان بعض الأجزاء والشرائط مقوّما وبعضها مقسّما ( فاذا شك في جزئية شيء للصلاة ) أو شرطية شيء للصلاة ( فان شكّ في كونه جزءا مقوّما لنفس المطلق ) كالركوع والسجود ، أو شرطا مقوما له كالطهارة والقبلة ( فالشك فيه راجع إلى الشك في صدق اسم الصلاة ، ولا يجوز فيه ) أي : في هذا الجزء أو الشرط المشكوك ( اجراء البرائة ، لوجوب القطع بتحقيق

ص: 333

مفهوم الصلاة - كما أشرنا اليه فيما سبق - ولا إجراءُ أصالة إطلاق اللفظ وعدم تقييده ، لانّه فرع صدق المطلق على الخالي من ذلك المشكوك .

-------------------

مفهوم الصلاة ، كما أشرنا اليه فيما سبق ) قبل أسطر حيث قلنا :

ان المعنى الموضوع له اللفظ ان قلنا هو الصحيح ، كان كل جزء من أجزاء العبادة مقوّما لصدق معنى لفظ الصلاة حقيقة ، فيكون الشك في جزئية شيء شك في صدق الصلاة ، فيجب الاحتياط ليتحقق مفهوم الصلاة كما اختاره المحقق البهبهاني هناك .

( و ) إن قلت : إذا لم يجز التمسك بالأصل العملي كالبرائة بالنسبة إلى هذا الجزء أو الشرط الذي له مدخلية في تحقق الاسم ، تمسكنا بالأصل اللفظي كالاطلاق لنفي الجزء أو الشرط المشكوك .

قلت : ( لا ) يجوز أيضا ، ( اجراء ) الأصل اللفظي مثل : ( أصالة إطلاق اللفظ ) أي : لفظ الصلاة في الرواية والآية ( وعدم تقييده ) بقيد زائد على الأركان ، أو على معظم الأجزاء .

وإنّما لا يجوز اجراء الأصل اللفظي ( لانّه فرع صدق المطلق على الخالي من ذلك المشكوك ) فلا يجوز التمسك باطلاق : « أقيموا الصلاة » (1) إذا شك في صدق الصلاة على الفاقد لذلك الجزء أو الشرط ، كالصلاة الفاقدة للركوع والسجود ، أو الطهارة والقبلة ، وإنما يجوز التمسك باطلاق : « أقيموا الصلاة » إذا أحرز انه صلاة وشك في تقييده ببعض القيود ، مثل : الشك في وجوب الاستعاذة ، أو وجوب جلسة الاستراحة ، أو ما أشبه ذلك .

ص: 334


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

فحكم هذا المشكوك عند القائل بالأعمّ ، حكمُ جميع الأجزاء عند القائل بالصحيح .

وأمّا إن عُلِمَ أنّه ليس من مقوّمات حقيقة الصلاة ، بل هو على تقدير اعتباره وكونه جزءا في الواقع ليس إلاّ من الأجزاء التي يقيّد معنى اللفظ بها ، لكون اللفظ موضوعا للأعم من واجده وفاقده .

-------------------

وعليه : فحال : « أقيموا الصلاة » حال : « اعتق رقبة » في انه يجوز التمسك باطلاق اعتق رقبة إذا أحرز مملوكية شخص وشك في تقييده بالايمان أو الذكورة أو ما أشبه ذلك ، دون ما إذا شك في أصل مملوكيته وهل انه حر أو عبد ؟ .

إذن : ( فحكم هذا المشكوك ) جزءا أو شرطا حيث يكون دخيلاً في صدق الاسم ( عند القائل بالأعمّ ، حكمُ جميع الأجزاء عند القائل بالصحيح ) فكما ان القائل بالصحيح إذا شك في جزئية شيء أو شرطيته كان شكه في صدق الصلاة على فاقده ، إذ كل جزء وشرط يكون مقوّما عنده ، فلا يتمكن من اجراء اصالة البرائة ، ولا اصالة الاطلاق ، لان الصلاة عنده عنوان ، وشكه في المحصل فيجب عليه الاحتياط ليحرز حصول عنوان الصلاة ، كذلك الأعمّي فانه إذا شك في جزء مقوّم أو شرط مقوّم فلا يتمكن من اجراء البرائة ولا التمسك بالاطلاق فيه .

( وامّا إن عُلِمَ انّه ) أي : ان مشكوك الجزئية أو مشكوك الشرطية ( ليس من مقوّمات حقيقة الصلاة ، بل هو على تقدير اعتباره وكونه جزءا ) أو شرطا ( في الواقع ليس إلاّ من الأجزاء ) أو من الشرائط ( التي يقيّد معنى اللفظ بها ، لكون اللفظ موضوعا للأعم من واجده وفاقده ) فيجري فيه أصل عدم كون المطلوب مقيدا بهذا المشكوك .

وعليه : فاذا لم يكن للجزء أو الشرط المشكوك مدخلية في صدق اسم الصلاة،

ص: 335

وحينئذٍ : فالشكّ في اعتباره وجزئيّته راجع إلى الشك في تقييد إطلاق الصلاة في: « أقيموا الصلاة » بهذا الشيء ، بأن يراد منه مثلاً : أقيموا الصلاة المشتملةَ على جلسة الاستراحة .

ومن المعلوم : أنّ الشك في التقييد يرجع فيه إلى أصالة الاطلاق وعدم التقييد ، فيحكم بأنّ مطلوب الآمر غير مقيد بوجود هذا المشكوك ، وبأنّ الامتثال يحصل بدونه ،

-------------------

كالاستعاذة جزءا ، أو التدقيق في القبلة شرطا ، فانه على تقدير اعتباره ليس مقوّما لماهية الصلاة عند الأعمّي بل هو مقيّد لها ، لان الأعمّي يرى ان الصلاة اسم للأعم من واجدها وفاقدها ، فتكون الاستعاذة ، وكذا التدقيق في القبلة من قبيل الايمان في الرقبة لا من قبيل الملكية .

( وحينئذ ) أي : حين لم يكن الجزء أو الشرط من مقومات حقيقة الصلاة ( فالشك في اعتباره وجزئيّته ) أو الشك في شرطيته ( راجع إلى الشك في تقييد اطلاق الصلاة في: « أقيموا الصلاة » (1) بهذا الشيء ) المشكوك . ( بأن يراد منه مثلاً: أقيموا الصلاة المشتملة على جلسة الاستراحة ) أو على التدقيق في القبلة ( ومن المعلوم : انّ الشك في التقييد يرجع فيه إلى اصالة الاطلاق وعدم التقييد ) لانّ التقييد خلاف الأصل ، وكل ما شك فيه فالأصل عدمه .

وعليه : ( فيحكم بأنّ مطلوب الآمر : غير مقيد بوجود هذا المشكوك ) من جلسة الاستراحة أو التدقيق في القبلة .

( وبأن الامتثال يحصل بدونه ) أي : بدون هذا الجزء أو الشرط المشكوك الذي

ص: 336


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

وأنّ هذا المشكوك غير معتبر في الامتثال ، وهذا معنى نفي جزئيّته بمقتضى الاطلاق .

نعم ، هنا توهّمٌ ، نظير ما ذكرناه سابقا ، من الخلط بين المفهوم والمصداق ، وهو توهّم : «أنّه إذا قام الاجماعُ بل الضرورةُ على أنّ الشارع لا يأمر بالفاسدة ؛ لأنّ الفاسد ما خالف المأمور به ، فكيف يكون مأمورا به ؟ فقد ثبت تقييدُ الصلاة

-------------------

ليس له مدخلية في صدق اسم الصلاة .

( وأنّ هذا المشكوك ) جزءا أو شرطا ( غير معتبر في الامتثال وهذا معنى نفي جزئيته ) ونفي شرطيته ( بمقتضى الاطلاق ) على القول بالأعم .

( نعم ، هنا ) بناءا على القول بأن الفاظ العبادة أسامي للأعم ( توّهم نظير ما ذكرناه سابقا : من الخلط بين المفهوم والمصداق ) حيث توهم هناك بناءا على القول بأن الألفاظ موضوعة للصحيح ما بيّناه بقولنا : فان قلت إذا كان متعلق الخطاب مجملاً ، فقد تنجز التكليف بمراد الشارع من اللفظ ، فيجب القطع بالاتيان بمراده ، وأجبنا عنه بقولنا : قلت التكليف ليس متعلقا بمفهوم المراد من اللفظ ومدلوله ، وإنما هو متعلق بمصداق المراد ومدلوله .

( و ) ذلك التوهم هنا على القول بالأعم ( هو توهّم : أنّه إذا قام الاجماع بل الضرورة ) من المسلمين كافة ( على أنّ الشارع لا يأمر بالفاسدة ، لانّ الفاسد ما خالف المأمور به ، فكيف يكون مأمورا به ؟ ) فان من المعلوم : ان الفاسد لا يكون مأمورا به حتى وأن قلنا بان أسامي العبادات للأعم .

إذن : ( فقد ثبت ) بالاجماع والضرورة حيث قاما على ( تقييد الصلاة ) التي هي

ص: 337

دفعةً واحدةً بكونها صحيحةً جامعةً لجميع الأجزاء .

فكلّما شكّ في جزئية شيء كان راجعا إلى الشك في تحقق العنوان المقيد المأمور به ، فيجب الاحتياط ليقطع بتحقق ذلك العنوان على تقييده ؛ لانّه كما يجب القطع بحصول نفس العنوان وهو الصلاة ، فلابد من إتيان

-------------------

مراد الشارع في : « أقيموا الصلاة » (1) ونحوه ( دفعةً واحدةً ) بقيد واحد مبيّن بسبب الاجماع ونحوه ( بكونها صحيحة جامعة لجميع الأجزاء ) والشرائط ، فاقدة لجميع الموانع والقواطع .

مثلاً : الصلاة وان كانت اسما للأعم إلاّ انها حيث وقعت مأمورا بها تكون مقيدة بالصحة ، فأقيموا الصلاة : مأخوذ من الكتاب ، وكونها صحيحة : مأخوذ من الاجماع والضرورة ، فيلزم الاتيان بالصلاة الصحيحة سواء قلنا بأن ألفاظ العبادات أسامي للصحيح ، أم للأعم .

وعليه : ( فكلّما شكّ في جزئية شيء ) أو شرطيته ( كان راجعا إلى الشك في تحقق العنوان المقيد المأمور به ) وهو في مثالنا : الصلاة الصحيحة المأمور بها على الأعم ( فيجب الاحتياط ) باتيان ذلك الجزء أو الشرط المشكوك ، وعدم الاتيان بذلك المانع أو القاطع .

وإنّما يجب الاحتياط ( ليقطع ) المكلّف ( بتحقق ذلك العنوان على تقييده ) أي : عنوان الصلاة المقيّد بوصف الصحة ، وذلك ( لانّه كما يجب القطع بحصول نفس العنوان وهو الصلاة ) عند المحقق البهبهاني ومن تبعه ( فلابد من إتيان

ص: 338


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

كلّ ما يحتمل دخله في تحققها كما أشرنا اليه ، كذلك يجب القطعُ بتحصيل القيد المعلوم الذي قيّد به العنوان .

كما لو قال : «اعتِق مَملوكا مؤمنا» ، فانّه يجب القطعُ بحصول الايمان ، كما يقطع بكونه مملوكا» .

ودفعه : يظهر مما ذكرناه ، من أنّ الصلاة لم تقيّد بمفهوم الصحيحة وهو الجامع لجميع الأجزاء ، وإنّما قيّد بما علم من الأدلة الخارجية اعتبارُه ،

-------------------

كلّ ما يحتمل دخله في تحققها ، كما أشرنا اليه ) سابقا .

وعليه : فكما ان الصلاة بناءا على القول بالصحيح من قبيل العنوان والمحصل ، ولا يحصل العنوان إلاّ بالاتيان بكل ما له دخل من جزء أو شرط مشكوك فيه ، فيجب الاحتياط للقطع بتحصيل عنوان الصلاة ( كذلك يجب القطع بتحصيل القيد المعلوم ) وهو الصحة ( الذي قيّد به العنوان ) أي : عنوان الصلاة بناءا على القول بالأعم .

( كما لو قال : «اعتق مملوكا مؤمنا» ، فانّه يجب القَطعُ بحصول الايمان ) حتى يكون ممتثلاً لأمر : اعتق ، وذلك ( كما يقطع بكونه مملوكا ) أي : كما ان المملوكية يلزم القطع بها لتحقق العنوان ، كذلك الايمان يلزم القطع به لتحقق قيد العنوان .

( ودفعه ) أي : دفع هذا التوهم ( يظهر مما ذكرناه : من انّ الصلاة لم تقيّد بمفهوم الصحيحة ) فان المولى لم يقل : ائت بالصلاة الصحيحة ( وهو الجامع لجميع الأجزاء ) والشرائط ( وإنّما قيّد بما علم من الأدلة الخارجية اعتباره ) أي : ان اعتبار تلك الأجزاء والشرائط وفقد الموانع والقواطع إنّما ثبت تقيّد الصلاة بها من الأدلة الخارجية ، لا من مفهوم الصلاة .

إذن : فليس القيد هو مفهوم الصحيحة حتى يقال : بأن مفهوم الصحيحة أمر

ص: 339

فالعلم بعدم إرادة الفاسد يراد به العلمُ بعدم إرادة هذه المصاديق الفاقدة للاُمور التي دلّ الدليلُ على تقييد الصلاة بها ، لا أنّ مفهوم الفاسدة خرج عن المطلق وبقي مفهوم الصحيحة ، فكلّما شكّ في صدق الصحيحة والفاسدة وجب الرجوعُ إلى الاحتياط لاحراز مفهوم الصحيحة .

وهذه المغالطة

-------------------

مبيّن يجب احرازه بالاحتياط ، بل القيد مما قام الدليل الخارجي على اعتباره ، كقرائة السورة ، وجلسة الاستراحة ، والاستعاذة ، وغيرها ، فاذا كان هذا القيد نفسه مرددا بين الأقل والأكثر ، كان اللازم الاتيان بالأقل ، لانه واجب على كل تقدير ، امّا الأكثر فيرجع فيه إلى اصالة البرائة إذا فرض عدم الاطلاق ، وإلى الاطلاق إذا فرض وجوده .

وعليه : ( فالعلم بعدم إرادة الفاسد يراد به العلم بعدم إرادة هذه المصاديق ) من الصلاة ( الفاقدة للاُمور ) المذكورة ، كالسورة والاستعاذة ، وجلسة الاستراحة ، وغيرها من الاُمور ( التي دلّ الدليل على تقييد الصلاة بها ) من الأدلة الخارجية الدالة على كل جزء جزء ، وشرط شرط ، وكذا الدالة على الموانع والقواطع .

( لا انّ مفهوم الفاسدة خرج عن المطلق وبقي مفهوم الصحيحة ) داخلاً في المطلق المأمور به ، وهو مفهوم مبيّن مردد مصداقه بين الأقل والأكثر ، حتى يجب الاتيان بالأكثر لاحراز المفهوم كما قال : ( فكلّما شكّ في صدق الصحيحة والفاسدة ، وجب الرجوع إلى الاحتياط لاحراز مفهوم الصحيحة ) لكن ليس الأمر كذلك حتى يكون كل ما شك في صدق الصحيحة وجب الاحتياط لاحرازها .

( وهذه المغالطة ) أي : الخلط بين مفهوم الصحيحة ومصداق الصحيحة حيث قلنا: ان مفهوم الصحيحة ليس هو الواجب ، وإنما مصداق الصحيحة هو الذي

ص: 340

جاريةٌ في جميع المطلقات ، بأن يقال : إنّ المراد بالمأمور به في قوله : « إعتِق رَقَبَةً » ليس إلاّ الجامع لشروط الصحة ، لأنّ الفاقد للشروط غير مراد قطعا .

فكلّما شك في شرطية شيء كان شكا في تحقّق العنوان الجامع للشرائط ، فيجبُ الاحتياطُ، للقطع باحرازه .

وبالجملة : فاندفاعُ هذا التوهّم غيرُ خفيّ بأدنى التفات ،

-------------------

يجب الاتيان به ( جاريةٌ في جميع المطلقات ) ووجه جريان المغالطة في كل المطلقات هو ما ذكره بقوله :

( بأن يقال : انّ المراد بالمأمور به في قوله : « اعتق رقبةً » ليس إلاّ الجامع لشروط الصحة ) فيلزم الاتيان بالرقبة الصحيحة الجامعة للشرائط ( لأنّ الفاقد للشروط غير مراد قطعا ) ومفهوم الصحيح مبيّن غير انه لما تردد مصداقه بين الأقل والأكثر، لزم الاتيان بالأكثر .

وعليه : ( فكلّما شك في شرطية شيء ) في الرقبة كالايمان والذكورة وما أشبه ذلك من الشروط المشكوكة ( كان شكا في تحقّق العنوان الجامع للشرائط ) فاذا لم نراع تلك الشروط لم نعلم بتحقق ذلك العنوان المأمور به ( فيجب الاحتياط ) بعتق رقبة جامعة لكل الشروط المشكوكة ، وذلك ( للقطع باحرازه ) أي : احراز تحقق ذلك العنوان ، لانه من العنوان والمحصل .

( وبالجملة : فاندفاع هذا التوهّم غير خفيّ بأدنى التفات ) إلى ما ذكرناه ، لان القيد في العتق ليس هو مفهوم الصحيح حتى يقال : بأن الصحيح عنوان ، فيلزم ان نأتي به، بل القيد في العتق من الايمان والذكورة ، وما أشبه ذلك ، قد ثبت بالأدلة الخارجية فرضا ، فاذا كان نفس هذا القيد مجملاً مرددا بين الأقل والأكثر جرى

ص: 341

فنرجع إلى المقصود ، ونقول : إذا عرفت أنّ ألفاظ العبادات على القول بوضعها للأعمّ كغيرها من المطلقات كان لها حكمها ،

-------------------

فيه البرائة عن الأكثر ولزم الاتيان بالأقل .

هذا هو توضيح ما ذكرناه قبل صفحة من الرسائل تقريبا حيث قلنا : وامّا الثاني : فوجه النظر موقوف على توضيح ما ذكروه من وجه ترتب تلك الثمرة أعني : عدم لزوم الاحتياط على القول بوضع اللفظ للأعم ، وحيث أوضحنا ذلك ( فنرجع إلى المقصود ) منه هنا ، وهو : البحث حول وجه النظر في الثمرة على القولين : الصحيح والأعم مع ان البرائة عن الأكثر نتيجة كلا القولين لا الاحتياط وان ذكر المحقق البهبهاني الاحتياط على القول بالصحيح في كلامه المتقدّم .

وحاصل ما بحثه المصنِّف في الثمرة بين الصحيح والأعم ، هو ما أشار اليه في أخير هذه المسألة : من لزوم الاجمال على القول بكون ألفاظ العبادات أسامي للصحيح ، وأمّا على القول بكونها اسامي للأعم فليست مجملة ، بل يمكن القول بأنها مبيّنة ، فعلى الصحيح يتمسك بالبرائة أو الاحتياط على الاختلاف ، حيث ان بعضهم مع قوله بالصحيح يتمسك بالبرائة وبعضهم يتمسك بالاحتياط ، وامّا على الأعم فيتمسك بالبرائة مطلقا ، إلاّ في الأجزاء والشرائط التي لها دخل في صدق اسم العبادة .

( و ) عليه : فانا ( نقول : إذا عرفت أنّ ألفاظ العبادات على القول بوضعها للأعم كغيرها من المطلقات كان لها حكمها ) فيكون القياس هكذا : لفظ العبادة من المطلقات ، والمطلق له حكمه ، وحكمه هو التمسك بالاطلاق بشروط ثلاثة :

الاول : أن لا يكون المولى في مقام الاهمال والاجمال ، بل في مقام البيان .

الثاني : ان لا يكون هناك في المسألة قدر متيقن .

ص: 342

ومن المعلوم أنّ المطلق ليس يجوز دائما التمسكُ به باطلاقه ، بل له شروط ، كأن لا يكون واردا في مقام حكم القضيّة المهملة بحيث لا يكون المقامُ مقامَ بيان ، ألا ترى أنّه لو راجع المريضُ الطبيبَ ، فقال له في غير وقت الحاجة : « لابدّ لك من شرب الدواء والمسهل » ، فهل يجوز للمريض أن يأخذ باطلاق الدواء والمسهل ؟ .

-------------------

الثالث : ان لا ينصب المولى قرينة على الخلاف .

وإلى الشروط الثلاثة أشار المصنِّف بقوله : ( ومن المعلوم : أنّ المطلق ليس يجوز دائما التمسك به ) أي : بالمطلق ( باطلاقه ) تمسكا لنفي كل جزء وشرط مشكوك ( بل له ) أي : للتمسك باطلاق المطلق ( شروط ) مذكورة في باب المطلق والمقيد وهي الشروط الثلاثة التي أشرنا اليها هنا : ( كأن لا يكون واردا في مقام ) بيان ( حكم القضيّة المهملة ) أي : لا يكون المولى في مقام الاجمال والاهمال ( بحيث لا يكون المقام مقام بيان ) فانه إذا كان المولى في مقام الاهمال والاجمال ، ولم يكن في مقام البيان لم يصح التمسك باطلاق المطلق في نفي شرط أو جزء مشكوك .

( ألا ترى انّه لو راجع المريض الطبيب ، فقال له في غير وقت الحاجة ) إلى الدواء ، كما إذا راجعه يوم الجمعة - مثلاً - وكان عليه ان يشرب الدواء يوم السبت لئلا يلزم منه تأخير البيان عن وقت الحاجة فقال له الطبيب : ( « لابدّ لك من شرب الدواء والمسهل » ، فهل يجوز للمريض ان يأخذ باطلاق الدواء والمسهل ؟ ) ويشرب أيّ دواء كان ، أو أيّ مسهل شاء؟ فانه إذا فعل ذلك لامه العقلاء محتجّين: بأن الطبيب كان في مقام الاهمال والاجمال ، ولم يكن في مقام البيان حتى يجوز له الأخذ باطلاقه .

ص: 343

وكذا لو قال المولى لعبده : « يجب عليك المسافرة غدا » .

وبالجملة : فحيث لا يقبح من المتكلّم ذكر اللفظ المجمل لعدم كونه إلاّ في مقام هذا المقدار من البيان ، لا يجوزُ أن يدفع القيود المحتملة للمطلق بالأصل ؛ لأنّ جريان الأصل لا يُثْبِتُ الاطلاق وعدم إرادة القيد ، إلاّ بضميمة أنّه إذا فرض - ولو بحكم الأصل - عدم ذكر القيد وجب إرادةُ الأعمّ من المقيّد وإلاّ قبُح التكليف ، لعدم البيان ،

-------------------

( وكذا لو قال المولى لعبده : « يجب عليك المسافرة غدا » ) فانه لا يجوز للعبد الأخذ بالاطلاق والسفر إلى أيّ مكان شاء ، وبأية وسيلة أراد ، فانه إذا فعل ذلك لامه العقلاء قائلين : بأن المولى لم يكن في مقام البيان حتى يجوز ذلك الأخذ باطلاق كلامه .

( وبالجملة : فحيث لا يقبح من المتكلم ذكر اللفظ المجمل لعدم كونه ) أي : المتكلم ( إلاّ في مقام هذا المقدار من البيان ) الاهمالي أو الاجمالي ، فانه ( لا يجوز ان يدفع القيود المحتملة للمطلق ) دفعا ( بالأصل ) فانّ الأصل العقلائي غير جارٍ في المقام ، لا أصل الاطلاق ، ولا أصل عدم القيد ، وذلك ( لانّ جريان الأصل لا يُثِبتُ الاطلاق ) حتى يتمسك به في دفع القيود والخصوصيات المشكوك فيها .

( و ) كذا جريان الأصل لا يثبت ( عدم إرادة القيد ، إلاّ بضميمة انّه إذا فرض - ولو بحكم الأصل - عدم ذكر القيد : وجب إرادة الأعم من المقيّد ، وإلاّ ) بأن لم يكن كذلك ، كان من التكليف بلا بيان ، وقد عرفت : ( قبح التكليف ) حسب الفرض ( لعدم البيان ) وذلك لأنّ أصالة عدم ذكر القيد بمنزلة الصغرى ، ولا يثبت بمجردها إرادة الاطلاق ، بل لابد من ضم الكبرى اليها وهي : قبح التكليف

ص: 344

فاذا فرض العلم بعدم كونه في مقام البيان لم يقبح الاخلال بذكر القيد مع إرادته في الواقع .

والذي يقتضيه التدبّر في جميع المطلقات الواردة في الكتاب في مقام الأمر بالعبادة كونُها في غير مقام بيان كيفية الصلاة .

فان قوله تعالى: « أقيموا الصلاة »

-------------------

بلا بيان، فان المتكلّم يقبح منه ارادة شيء مع عدم بيانه له ، لانه تكليف بما لا يطاق .

ومن الواضح : ان هذه الكبرى إنما تتم إذا كان المتكلم في مقام البيان ، لا أن يكون في مقام الاهمال والاجمال .

وعليه : ( فاذا فرض العلم بعدم كونه في مقام البيان لم يقبح ) من المولى ( الاخلال بذكر القيد مع إرادته ) أي : مع إرادة المولى القيد ( في الواقع ) فاذا تحققت هذه الكلية التي ذكرناها وهي : ان المولى إذا لم يكن في مقام البيان لايجوز التمسك باطلاق كلامه، قلنا: من صغريات هذه الكلية، ان المولى الحقيقي لم يكن في مقام البيان عند ذكره لألفاظ العبادات ، فلا يجوز إذن التمسك باطلاق ماورد من ألفاظ العبادات في الكتاب والسنة .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف بقوله : ( والذي يقتضيه التدبّر في جميع المطلقات ) والعمومات ( الواردة في الكتاب ) والسنة ( في مقام الأمر بالعبادة ) من الصلاة والصيام والحج وغيرها ( كونها في غير مقام بيان كيفية الصلاة ) ولا كيفية الصيام ، والحج ، وسائر العبادات ، وإنما هي في مقام بيان أصل التشريع وتأكيد الأمر بها .

ويدل على ذلك ما نذكره من الأمثلة : ( فان قوله تعالى : « أقيموا الصلاة »(1)

ص: 345


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

إنّما هو في مقام بيان تأكيد الأمر بالصلاة والمحافظة عليها ، نظير قوله : « مَن تَركَ الصلاةَ فهو كذا وكذا » ، و « أنّ صلاةً فريضةً خيرٌ من عشرينَ أو ألف حِجّة » .

نظير تأكيد الطبيب على المريض في شرب الدواء ، إمّا قبل بيانه له حتى يكون إشارة إلى ما يفصّله له حين العمل ، وإمّا بعد البيان له حتى يكون إشارةً إلى المعهود المبيّن له في غير هذا الخطاب .

-------------------

إنما هو في مقام بيان تأكيد الأمر بالصلاة والمحافظة عليها ) فالآية المباركة تكون ( نظير قوله ) عليه السلام : ( «مَن تَركَ الصلاةَ فهو كذا وكذا» (1) ، و ) نظير قوله عليه السلام : ( « أنّ صلاة فريضة خيرٌ من عشرين (2) أو ألف حجّة (3) » ) .

إذن : فالآية والرواية هما ( نظير تأكيد الطبيب على المريض في شرب الدواء ) مثل أن يقول الطبيب للمريض : لابد لك من شرب الدواء ، فهذا القول من الطبيب سواء كان قبل بيانه لجزئيات الدواء أم بعد بيانه لها ، ليس له اطلاق كما قال : ( امّا قبل بيانه ) أي : بيان الدواء ( له ) أي : للمريض ( حتى يكون إشارة إلى ما يفصّله له حين العمل ، وامّا بعد البيان له حتى يكون إشارةً إلى المعهود المبيّن له في غير هذا الخطاب ) .

والأوامرُ الواردة بالعبادات فيه ، كالصلاة والصوم والحجّ ، كلُّها على

ص: 346


1- - لقد ورد في الكافي اصول : ج2 ص287 ح24 ومن لا يحضره الفقيه : ج3 ص564 ب2 ح4932 ووسائل الشيعة : ج15 ص320 ب46 ح20629 «من ترك الصلاة متعمدا فقد بريء من ذمّة اللّه وذمة رسوله» .
2- - انظر الكافي فروع : ج3 ص260 ح7 ، غوالي اللئالي : ج1 ص319 ح47 ، روضة الواعظين : ص318 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص236 ب12 ح4 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص209 ح630 و ص221 ب2 ح2237 .
3- - انظر تهذيب الاحكام : ج2 ص240 ب12 ح22 ، وسائل الشيعة : ج4 ص40 ب10 ح4460 .

أحد الوجهين ، والغالب فيها الثاني .

-------------------

مثلاً : راجع المريض الطبيب صباح يوم الجمعة فقال له الطبيب : لابد لك من شرب الدواء ، وراجعه عصر يوم الجمعة فقال له : اشرب العنّاب الأحمر والعنّاب الأسود والبنفسج والنّبات مخلوطا ثم راجعه صباح يوم السبت فقال له : لابد من ان تشرب الدواء ، فان ما قاله صباح يوم الجمعة كان إشارة إلى ما سوف يفصله عصرا ، وما قاله صباح يوم السبت كان إشارة إلى ما فصله عصر أمس .

وعلى كلا التقديرين فقوله قبل العصر وبعد العصر ليس اشارة إجمالية إلى الدواء بدون ان يكون له تفصيل حتى يتمسك المريض باطلاقه .

( و ) عليه : فاذا عرفت ذلك في الدواء نقول : ( الأوامر الواردة بالعبادات فيه ) أي : في الشرع ( كالصلاة والصوم والحجّ ، كلُّها على أحد الوجهين ) السابقين ، فانها وردت إمّا قبل البيان ، وإمّا بعد البيان ( والغالب فيها الثاني ) بأن كان ورود الأوامر بالعبادات بعد بيان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم لها .

إذن : فلا يمكن التمسك باطلاق : « أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة » (1) ولا باطلاق : « وللّه على الناس حج البيت » (2) ولا باطلاق : « كتب عليكم الصيام»(3) ولا باطلاق سائر آيات الأحكام ، لانها كما قلنا : ليست في مقام بيان الكيفية ، بل في مقام أصل التشريع والتأكيد عليها ، وإنما أوكل بيان الكيفية فيها إلى رسوله ومن بعده إلى أهل بيت رسوله صلوات اللّه عليهم أجمعين ، حتى تواتر

ص: 347


1- - سورة البقرة : الآية 43 .
2- - سورة آل عمران : الآية 97 .
3- - سورة البقرة : الآية 183 .

وقد ذكر موانعُ اُخَر لسقوط إطلاقات العبادات عن قابلية التمسك فيها باصالة الاطلاق وعدم التقييد ، ولكنها قابلة للدفع

-------------------

عن الفريقين قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : «اني مخلّف فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا» (1) وفي زمان الغيبة إلى الفقهاء المراجع حسب التوقيع الشريف : « أما الحوادث الواقعة » (2) .

هذا ( وقد ذكر موانع اُخُر لسقوط إطلاقات العبادات عن قابلية التمسك فيها ) غير الموانع الثلاثة التي ذكرناها : وقالوا : بأن هذه الموانع الاُخر تمنع من التمسك في العبادات ( باصالة الاطلاق ، و ) من التمسك بأصالة ( عدم التقييد ) فمع وجود أحدها لايمكن التمسك بهما ( ولكنها ) أي: تلك الموانع المذكورة (قابلة للدفع ) فانها ليست كما ذكر تمنع من التمسك باطلاقات ، وإنما التي تمنع منه هي الثلاثة التي ذكرناها فقط .

ثم ان من الموانع التي ذكروها هي : ان ألفاظ العبادات منصرفة إلى خصوص الصحيحة ، فتكون بالنسبة إلى الأعم مجملة لا إطلاق لها حتى يتمسك به .

ومن الموانع : ان إطلاقات الكتاب ورد فيها تقييدات كثيرة ، وذلك يسبّب سقوطها عن الحجية .

ومن الموانع : كونه في مقام بيان جهة خاصة فقط كما في قوله سبحانه : « فكُلُوا ممّا أمسكن عليكُم » (3) فانه في مقام بيان حلّية الصيد فقط ، فلا يمكن التمسّك

ص: 348


1- - معاني الاخبار : ص91 ، كمال الدين : ص247 ، المسائل الجارودية : ص42 ، المناقب : ج2 ص41 ، عيون اخبار الرضا : ص62 ، كشف الغمّة : ج1 ص43 ، متشابه القرآن : ج2 ص35 ، الارشاد : ج1 ص180 ، بحار الانوار : ج5 ص68 ب2 ح1 ، ارشاد القلوب : ص340 .
2- - كمال الدين : ص440 ب45 ح4 ، منتخب الانوار المضيئة : ص122 ، وسائل الشيعة : ج27 ص140 ب9 ح33424 .
3- - سورة المائدة : الآية 4 .

أو غير مطّردة في جميع المقامات ، وعمدةُ الوهن لها ما ذكرناه .

فحينئذٍ : إذا شك في جزئية شيء لعبادة لم يكن هناك ما يثبت به عدم الجزئية من أصالة عدم التقييد ، بل الحكمُ هنا هو الحكم على مذهب القائل بالوضع للصحيح في رجوعه إلى وجوب الاحتياط

-------------------

باطلاق الآية لاثبات طهارة موضع العض ، وغير ذلك من الموانع التي ذكروها لعدم التمسك بالاطلاق ، لكنها كما لا يخفى امّا قابلة للدفع ( أو غير مطّردة في جميع المقامات ) فالعمدة من الموانع هي الثلاثة التي ذكرناها فقط ، وقد ذكرت في الكتب الاصولية في باب الاطلاق والتقييد .

( و ) كيف كان : فان ( عمدة الوهن لها ) أي : للاطلاقات هو ( ما ذكرناه ) من قولنا قبل عدة صفحات : ومن المعلوم ان المطلق ليس يجوز دائما التمسك به باطلاقه، بل له شروط، كأن لا يكون واردا في مقام حكم القضية المهملة ، إلى آخره .

( فحينئذٍ ) أي : حين كان واردا في مقام الاهمال والاجمال كألفاظ العبادات في الكتاب والسنة ، فانه ( إذا شك في جزئية شيء لعبادة ) كجلسة الاستراحة للصلاة مثلاً ( لم يكن هناك ما يثبت به عدم الجزئية : من أصالة عدم التقييد ) لانّ الألفاظ

مجملة ، فلا يجري فيها أصالة عدم التقييد ، إذ أصالة عدم التقييد إنّما تجري في المطلق لا في المجمل .

( بل الحكم هنا ) فيما ورد من ألفاظ العبادات في الآيات والروايات على مذهب الأعمّي : ( هو الحكم على مذهب القائل بالوضع للصحيح : في رجوعه إلى وجوب الاحتياط ) والاتيان بالأكثر ، وذلك على ما قاله البهبهاني وجماعة لاحراز العنوان واليقين بالفراغ فيما إذا كان الشك في جزء أو شرط في باب العبادات .

ص: 349

أو أصالة البرائة ، على الخلاف في المسألة .

فالذي ينبغي أن يقال في ثمرة الخلاف بين الصحيحي والأعمّي هو لزوم الاجمال على القول بالصحيح ، وحكم المجمل هو مبنيٌ على الخلاف في وجوب الاحتياط ، أو جريان أصالة البرائة وإمكان البيان والحكم بعدم الجزئية ، لأصالة عدم التقييد على القول بالأعم ،

-------------------

( أو ) الرجوع إلى ( أصالة البرائة ) كما هو مختار مشهور القائلين بالصحيح ، وذلك ( على الخلاف في المسألة ) أي : مسألة الشك في وجوب الأقل أو الأكثر .

والحاصل : إنّ الأعمّي كالصحيحي في باب الشك في الجزء والشرط ، فبعض من الطائفتين قال بجريان اصالة الاشتغال ووجوب الاتيان بذلك الجزء أو الشرط المشكوك ، وبعض من الطائفتين قال بجريان أصالة البرائة وعدم وجوب الاتيان بذلك الجزء أو الشرط المشكوك ، فلا ثمرة إذن بين الصحيحي والأعمّي .

ثم بعد ان عرفت بطلان هذه الثمرة نقول : ( فالذي ينبغي أن يقال في ثمرة الخلاف بين الصحيحي والأعمّي هو : لزوم الاجمال على القول بالصحيح ) في باب ألفاظ العبادات ( وحكم المجمل هو ) كما عرفت : ( مبنيٌ على الخلاف في وجوب الاحتياط ، أو جريان أصالة البرائة ) .

هذا على القول بالصحيح ، وأمّا على القول بالأعم ، فكما قال : ( وإمكان البيان والحكم بعدم الجزئية لأصالة عدم التقييد على القول بالأعم ) أي : ان الأعمى يقول : ان ألفاظ العبادات ليست مجملة ، بل يمكن أن يقال : انها مبيّنة لان الشارع أراد ما يصدق عليه الصلاة ، فاذا صدقت الصلاة على الفاقدة للجزء أو الشرط

ص: 350

فافهم .

-------------------

المشكوك ، كفى في التمسك باطلاق : « أقيموا الصلاة » (1) لدفع ما شك في جزئيته أو شرطيته .

وان شئت بيان الثمرة ، قلت : ان القول بالصحيح مستلزم قطعا لاجمال الخطاب ، وإذا كان الخطاب مجملاً ، فحكمه الاحتياط أو البرائة على الخلاف بين القائلين بالصحيح كما عرفت ، واما على القول بالأعم فلا يستلزم كون الاطلاقات واردة في مقام الاجمال حتى يمنع من التمسك بالاطلاق ، فيجوز للأعمي التمسك بالاطلاق في نفي الجزء أو الشرط المشكوك فيكون الصحيحي قولان ، بينما للأعمّي قول واحد فقط وهو البرائة .

( فافهم ) فان المصنِّف قال على الصحيح فاجمال وحكمه الخلاف بين الاحتياط والبرائة ، وعلى الأعم فامكان البيان وحكمه البرائة ، ومن المعلوم : أن مجرد الامكان لا ينفع الواقع ، فما ذكره من الثمرة ليست بثمرة عملية بل مجرد فرق علمي .

وقال بعض المحشين : ان قوله : « فافهم » إشارة إلى ان هذه الثمرة ليست ثمرة مثمرة في الفقه ، ومجرد الثمرة العلمية لا يناسبه عنوان هذا المبحث الطويل في اصول الفقه مع عدم كونه مفيدا في مقام استنباط مسائله أصلاً .

هذا ، ولا يخفى انهم قد ذكروا للثمرة بين الصحيح والأعم وجوها :

منها : ان الألفاظ على القول بوضعها للماهيات الصحيحة الجامعة لجميع الأجزاء والشرائط ، تكون مدلولاتها مجملة ، فلابد عند الشك في شرطية شيء أو جزئيته بعد اليأس عن الدليل من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل العملي من البرائة أو الاشتغال .

ص: 351


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

المسألة الثالثة :

فيما إذا تعارض نصّان متكافئان في جزئية شيء لشيء وعدمها ، كأن يدلّ أحدهما على جزئية السورة والآخرُ على عدمها .

ومقتضى إطلاق أكثر الأصحاب القولَ بالتخيير بعد التكافؤ

-------------------

وإنما يرجع فيها إلى الأصل العملي لانها حينئذ تجري مجرى الأدلة اللبية في عدم اطلاقها ، وكما ان المرجع في الأدلة اللبية : الاُصول العملية ، فكذلك في المقام ، بينما على القول بوضعها للأعم تكون كألفاظ المعاملات مدلولاتها أمور بيّنة من حيث الصدق العرفي ، فيرجع إلى اطلاقها عند الشك في شرط أو جزء بعد احراز صدق الماهية .

ومنها : جواز اجراء الأصل في الجزء والشرط المشكوك فيهما على القول بالأعم وعدمه ، ووجوب الاحتياط فقط على القول بالصحيح .

ومنها : ما ذكره المحقق القمي من ان الثمرة تظهر في النذر ، فلو نذر أحد ان يعطي شيئا لمن يراه يصلي فرأى من يصلي ، جاز اعطاء النذر له وبرئت ذمته ، لصدق الصلاة عليها سواء كانت صحيحة أم فاسدة؟ بينما على القول بالصحيح لايجوز اعطاؤه إلاّ إذا علم بصحة صلاته ، وغير ذلك من الثمرات التي ذكروها بين الصحيح والأعم ، لكن غالبها لا يخلو عن مناقشة .

( المسألة الثالثة ) من مسائل دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين : ( فيما إذا تعارض نصان متكافئان في جزئية شيء لشيء وعدمها ، كأن يدلّ أحدهما على جزئية السورة والآخر على عدمها ) بالنسبة إلى الصلاة ( ومقتضى اطلاق أكثرالأصحاب القول بالتخيير بعد التكافؤ ) بين النصين سندا ، ودلالة ، وجهة

ص: 352

ثبوتُ التخيير هنا .

لكن ينبغي ان يُحمَل هذا الحكمُ منهم على ما إذا لم يكن هناك اطلاقٌ يقتضي أصالة عدم تقييده عدمَ جزئية هذا المشكوك ، كأن يكون هناك اطلاقٌ معتبرٌ للأمر بالصلاة بقول مطلق ، وإلاّ فالمرجع بعد التكافؤ إلى هذا المطلق ،

-------------------

صدور هو : ( ثبوت التخيير هنا ) أيضا ، لان المقام من صغريات تلك الكبرى الكلية ، وقوله : « ثبوت التخيير » خبر لقوله : « ومقتضى إطلاق أكثر الأصحاب » .

( لكن ينبغي ان يُحمَل هذا الحكم ) أي : حكم التخيير ( منهم على ما إذا لم يكن هناك اطلاقٌ ) معتبر ( يقتضي أصالة عدم تقييده : عدمَ جزئية هذا المشكوك) في انه من العبادة أو ليس من العبادة ( كأن يكون هناك اطلاقٌ معتبرٌ للأمر بالصلاة بقول مطلق ) وإنما كان هناك خبران فقط أحدهما يدل على جزئية السورة ، والآخر يدل على عدم جزئيتها ولم يكن عندنا اطلاق معتبر .

( وإلاّ ) بأن كان هناك إطلاق معتبر ( فالمرجع بعد التكافؤ إلى هذا المطلق ) لأن المتكافئين يتساقطان فيرجع في الحكم إلى دليل ثالث وهو الاطلاق في المقام ، لانّ الشك في الأقل والأكثر قد يكون مع خلو المسألة من اطلاق معتبر ، وقد يكون مع وجود اطلاق معتبر ، فاذا قبلنا : إن قوله سبحانه : « أقيموا الصلاة » (1) في مقام الاطلاق ، ثم ورد دليلان : أحدهما يقول : بان السورة جزء ، والآخر يقول: بان السورة ليست بجزء ، فانهما بعد تعارضهما يتساقطان ، ويكون المرجع دليل: « أقيموا الصلاة » ممّا تكون النتيجة : انه لا احتياج للسورة .

ص: 353


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

لسلامته عن المقيّد بعد ابتلاء مايصح لتقيده بمعارض مكافيء .

وهذا الفرضُ خارجٌ عن موضوع المسألة ، لانّها كأمثالها من مسائل هذا المقصد مفروضةٌ فيما إذا لم يكن دليلٌ اجتهاديٌ سليمٌ عن المعارض متكفّلاً لحكم المسألة حتى تكون موردا للاُصول العمليّة .

-------------------

لا يقال : بعد فرض دليل خاص مقيّد للصلاة بالسورة يلزم تقييد المطلق ، فكيف يكون المطلق مرجعا ؟ .

لأنه يقال : المفروض ان المقيّد مبتلى بالمعارض فيتساقطان؛ ويبقى المطلق سالما عن التقييد ، فنأخذ به كما قال :

( لسلامته ) أي : المطلق ( عن المقيّد بعد ابتلاء مايصح لتقيده ) أي : لتقيد المطلق وهو الخبر القائل : بان السورة جزء من الصلاة ( بمعارض مكافيء ) وهو الخبر القائل بأنّ السورة ليست بجزء ، فانه بعد تعارض الدال على الجزئية الصالح في نفسه لتقييد « أقيموا الصلاة » مع الخبر الدال على عدم جزئية السورة وتساقطهما يبقى المطلق سليما عن التقييد .

( وهذا الفرض ) وهو وجود اطلاق معتبر فيما نحن فيه ( خارجٌ عن موضوع المسألة ) أي : مسألة الشك في الأقل والأكثر .

وإنما يكون خارجا عن المسألة ( لانّها كأمثالها من مسائل هذا المقصد ) الواردة في الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين ( مفروضةٌ فيما إذا لم يكن دليلٌ اجتهاديٌ سليمٌ عن المعارض متكفّلاً لحكم المسألة حتى تكون موردا للاُصول العمليّة ) فإنّ مبحثنا في الاصول العملية ، وإذا كان في المقام دليل اجتهادي يكون خارجا عن مبحثنا .

ومن الواضح : ان الاطلاق المعتبر هو من الأدلة الاجتهادية ، فلا مسرح معه

ص: 354

فان قلت : فايُّ فرق بين وجود هذا المطلق وعدمه ؟ وما المانع من الحكم بالتخيير هنا ؟ كما لو لم يكن مطلقٌ .

-------------------

للاصول العملية كالتخيير بين المتعارضين .

وحيث قد تقدَّم : من اطلاق حكم التخيير فيما لو كان هناك نصّان متعارضان يقول أحدهما : بأنّ السورة جزء ، وثانيهما : بأنّ السورة ليست بجزء ، أشكل عليه المصنِّف : بأنّ الحكم بالتخيير صحيح ، لكن لا على إطلاقه ، بل بشرط عدم وجود مطلق في البين ، وإلاّ فلا تخيير .

ثم أعقبه بقوله : ان قلت ، ليشير إلى ان هذا التقييد غير صحيح ، لأنه ان كان حكم المتكافئين التساقط : فالمكلف مخيّر بين الاتيان بالسورة وعدم الاتيان بها؛ إذ المطلق لازمه التخيير بين الخصوصيات؛ فاذا قال الشارع : « أقيموا الصلاة » تخيّر المكلّف بين أن يأتي بالصلاة مع السورة أو بدونها .

وإن كان حكم المتكافئين التخيير لا التساقط ، فالمكلف أيضا مخيّر بين الاتيان بالسورة وعدم الاتيان بها سواء وجد المطلق أم لا ، إذ لو أخذنا بالمطلق كان معناه : إنّا قدّمنا الخبر الموافق للمطلق ، وهو خلاف الفرض القائل بأنّ الخبرين الخاصين لا يقدّم أحدهما على الآخر .

والحاصل : ان تقييد المصنِّف حكم التخيير بين الخبرين المتعارضين بعدم وجود مطلق في المسألة غير تام .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف بقوله : ( فان قلت : فايُّ فرق بين وجود هذا المطلق وعدمه؟ ) أي : عدم وجود المطلق ( وما المانع من الحكم بالتخيير هنا؟ ) أي : مع وجود اطلاق معتبر ( كما لو لم يكن مطلقٌ ) معتبر رأسا ، فوجود المطلق وعدمه سيّان كما قال :

ص: 355

فانّ حكم المتكافئين إن كان هو التساقطَ ، حتى أنّ المقيّد المبتلى بمثله بمنزلة العدم فيبقى المطلق سالما ، كان اللازمُ في صورة عدم وجود المطلق التي حكم فيها بالتخيير هو التساقطَ والرجوعَ إلى الأصل المؤسّس فيما لا نصّ فيه واجماله من البرائة أو الاحتياط على الخلاف .

-------------------

( فانّ حكم المتكافئين ان كان هو التساقط ) كما قاله بعض في باب تعارض الخبرين المتكافئين ، فاللازم اسقاطهما معا والرجوع إلى غيرهما ( حتى أنّ المقيّد ) بصيغة اسم الفاعل ( المبتلى بمثله ) لفرض ان أحد الخبرين يقول بوجوب السورة فيقيّد اطلاق : « أقيموا الصلاة » (1) وأحد الخبرين لا يقول بوجوب السورة فينفي تقييده ، فيكون المقيّد والنافي ( بمنزلة العدم ) لانهما يتساقطان حسب الفرض ( فيبقى المطلق سالما ) من التعارض فيرجع اليه .

ومن المعلوم : ان الرجوع إلى أصالة الاطلاق يوجب كون الحكم أيضا : التخيير بين الاتيان بالسورة ، وعدم الاتيان بها .

وعليه : فان كان حكم المتكافئين التساقط ( كان اللازم في صورة عدم وجود المطلق ) أيضا ( التي حكم فيها بالتخيير ) لانه إذا لم يكن مطلقٌ ، فالخبران يتعارضان ويتخير المكلّف بينهما فيكون اللازم فيها أيضا ( هو التساقط والرجوع إلى الأصل ) العملي ( المؤسّس ) بصيغة اسم المفعول بمعنى : الأصل الذي أسس ( فيما لا نصّ فيه و ) كذا في ( اجماله ) أي : في اجمال النص ، فيرجع فيهما إلى الأصل العملي ( من البرائة أو الاحتياط على الخلاف ) الموجود بين العلماء في الأصل المؤسس .

ص: 356


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

وان كان حكمُهما التخييرَ ، كما هو المشهور نصّا وفتوىً ، كان اللازمُ عند تعارض المقيّد للمطلق الموجود بمثله الحكم بالتخيير هنا ، لا تعيين الرجوع إلى المطلق الذي هو بمنزلة تعيين العمل بالخبر المعارض للمقيّد.

قلتُ :

-------------------

والحاصل : انه كما يرجع في مسألة ما لا نص فيه ومسألة اجمال النص إلى الأصل العملي ، كذلك يرجع إلى الأصل العملي في مسألة تعارض النصين .

هذا ( وان كان حكمهما ) أي : الخبران المتكافئان ( : التخيير ، كما هو المشهور نصّا وفتوىً ، كان اللازم عند تعارض المقيّد ) وهو الخبر الدال على جزئية السورة ( للمطلق الموجود ) أعني : « أقيموا الصلاة »(1) ( بمثله ) أي : بمثل الخبر المقيّد ، وهو الخبر النافي لجزئية السورة ( الحكم بالتخيير هنا ، لا ) التساقط و ( تعيين الرجوع إلى المطلق الذي هو ) أي : الرجوع إلى المطلق ( بمنزلة تعيين العمل بالخبر المعارض للمقيّد ) .

وإنّما كان اللازم الحكم بالتخيير هنا أيضا لوضوح : انه لو تمسكنا باطلاق الخطاب في : « أقيموا الصلاة » كان معناه : عدم لزوم الاتيان بالسورة ، فيكون قد قدّمنا الخبر النافي على الخبر المثبت ، وهو خلاف فرض انهما متكافئان لا يؤخذ لا بهذا ولا بذاك .

ولا يخفى : ان في عبارة المصنِّف نوعا من الغموض حتى قال بعض المحشين بالتشويش في العبارة لكنّا فسرناها كما استظهرنا ، واللّه العالم .

ان قلت ذلك ( قلت ) : ان الاشكال على المصنِّف : بأنّ تقييده لحكم التخيير

ص: 357


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

أمّا لو قلنا بأنّ المتعارضين مع وجود المطلق غيرُ متكافئين ، لانّ موافقة أحدهما للمطلق الموجود مرجحٌ له ، فيؤخذ به ويطرح الآخرُ ، فلا إشكال في الحكم وفي خروج مورده عن محل الكلام .

-------------------

غير تام ، ليس في محله ، بل هو تام لانّه : إمّا ان نقول : بان وجود المطلق يوجب عدم تكافؤ الخبرين وانه يجب ان يؤخذ بالخبر الموافق للمطلق ، فلا تخيير ، وامّا ان نقول : بأنّ الخبرين يتكافئان ، والمطلق مرجح ، فلا تخيير أيضا .

وإنّما نقول في صورة وجود المطلق المعتبر بأنّ المطلق مرجّح ، لانصراف أدلة التخيير في الخبرين المتكافئين إلى صورة عدم وجود دليل شرعي ، ومن المعلوم: ان المطلق دليل شرعي ، فيكون تقييد المصنِّف حكمهم بالتخيير في الخبرين المتعارضين الدال أحدهما على جزئية السورة - مثلاً - والآخر على عدم جزئيتها تقييدا بشرط عدم وجود مطلق في البين تام ، كما قال : ( امّا لو قلنا : بأنّ المتعارضين مع وجود المطلق ) المعتبر يجعل الأدلة الواردة ثلاثة: مطلق وخبران متعارضان ، فيكونان معه ( غير متكافئين ، لانّ موافقة أحدهما للمطلق الموجود مرجح له ، فيؤخذ به ) أي : بالخبر الموافق للمطلق ( ويطرح الآخر ) وهو الخبر المخالف للمطلق .

وعليه : ( فلا اشكال في الحكم ) الذي ذكرناه : من التمسك بالمطلق وعدم التخيير بين المتكافئين .

( و ) كذلك لا اشكال ( في خروج مورده ) أي : مورد هذا الفرض ( عن محل الكلام ) إذ البحث إنما هو في المتعارضين المتكافئين ، وإذا كان المطلق يسند أحدهما؛ فالمتعارضان ليسا متكافئين لما عرفت : من ان الخبر الموافق للمطلق راجح على الخبر الذي يخالف المطلق .

ص: 358

وإن قلنا : إنّهما متكافئان ، والمطلق مرجعٌ لا مرجّحٌ ، نظرا إلى كون أصالة عدم التقييد تعبّديا ، لا من باب الظهور النوعيّ ؛

-------------------

هذا ( وان قلنا : إنّهما متكافئان ، والمطلق مرجعٌ ) بعد تساقطهما ( لا مرجّحٌ ) لأحدهما على الآخر ، وذلك ( نظرا إلى كون أصالة عدم التقييد ) إنّما يكون أصلاً ( تعبّديّا ) من العقلاء ( لا من باب ) الظن و ( الظهور النوعي ) لاختلافهم في ان حجيّة أصالة الاطلاق هل هي من باب حصول الظن النوعي بارادة ظاهر اللفظ ، لانّ نوع السامعين يحصل لهم من ظاهر لفظ المطلق : الظن بأنّ المتكلم أراد الاطلاق ، أو من باب التعبد العقلائي وان لم يحصل هناك ظن نوعي وإنما بنى العقلاء على ذلك لتمشية أمورهم في المكالمات والمفاهمات؟ .

فعلى الأوّل وهو : كون حجيّة الاطلاق من باب الظن النوعي ، يكون الخطاب الذي يظن من ظاهره ارادة الاطلاق ، مؤيدا للخبر النافي للجزئية ، لانّ الخبر النافي للجزئية يقول : انه ليس بجزء ، والاطلاق يقول : انه يجوز الاتيان به بدون ذلك الجزء ، فيكون الخبر النافي للجزئية لأجل موافقة الاطلاق راجحا على الخبر الدال على الجزئية لانّ خبر الجزئية حينئذ ينافي الاطلاق ، فلا تكافؤ إذن بين الخبرين الخاصين حتى يحكم بالتخيير .

وعلى الثاني وهو : كون حجية الاطلاق تعبّد عقلائي ، لا يكون المطلق مؤيدا للخبر ، النافي للجزئية ، إذ الأصل التعبدي لا يكون مرجحا لأحد الخبرين على الآخر ، كما سيأتي تفصيل ذلك في باب التعارض ان شاء اللّه تعالى ، بل يكون الاطلاق حينئذ حاكما على أخبار التخيير ، لانّ أخبار التخيير تدل على التخيير بين الخبرين المتعارضين إذا لم يكن هناك دليل اجتهادي ، وحيث ان في المقام دليلاً اجتهاديا وهو المطلق ، فلا يكون محلاً لاخبار التخيير ، بل يكون المطلق

ص: 359

فوجهُ عدم شمول أخبار التخيير لهذا القسم من المتكافئين دعوى ظهور اختصاص تلك الأخبار بصورة عدم وجود الدليل الشرعي في تلك الواقعة ، وأنّها مسوقةٌ لبيان عدم جواز طرح قول الشارع في تلك الواقعة والرجوع إلى الاُصول العقليّة والنقليّة المقرّرة لحكم صورة فقدان قول الشارع فيها .

والمفروض وجودُ قول الشارع هنا ، ولو بضميمة أصالة الاطلاق

-------------------

هو المرجع بعد تساقط الخبرين الخاصين الدال أحدهما على جزئية السورة والآخر على عدم جزئيتها .

إذن : ( فوجه عدم شمول أخبار التخيير لهذا القسم من المتكافئين ) وهما : المتكافئان مع وجود مطلق بينهما ، هو : ( دعوى ظهور اختصاص تلك الأخبار ) أي : أخبار التخيير ( بصورة عدم وجود الدليل الشرعي في تلك الواقعة ) التي تعارض فيها خبران متكافئان ( وانّها ) أي : اخبار التخيير ( مسوقةٌ لبيان عدم جواز طرح قول الشارع في تلك الواقعة والرجوع إلى الاُصول العقليّة والنقليّة ) العملية ( المقرّرة لحكم صورة فقدان قول الشارع فيها ) أي : في تلك الواقعة ولو كالمطلق - مثلاً - .

وعليه : فإنّ أخبار التخيير خاصة بصورة عدم وجود قول من الشارع في المسألة (والمفروض وجود قول الشارع هنا ) لان المفروض وجود المطلق مثل قوله سبحانه: « أقيموا الصلاة » (1) فلا مسرح معه للتخيير بين الخبرين الخاصين، بل يسقط الخبران ويكون المطلق هو المرجع ( ولو بضميمة أصالة الاطلاق

ص: 360


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

المتعبّد بها عند الشكّ في المقيّد .

والفرق بين هذا الأصل وبين تلك الاُصول الممنوع في هذه الأخبار عن الرجوع إليها وترك المتكافئين ، هُو أنّ تلك الاُصول عمليّة فرعيّة مقرّرة لبيان العمل في المسألة الفرعيّة عند فقد الدليل الشرعي فيها ، وهذا الأصل مقرّرٌ لاثبات كون الشيء وهو المطلق دليلاً وحجّة عند فقد ما يدلّ على عدم ذلك .

-------------------

المتعبّد بها ) أي : بهذه الأصالة ( عند الشك في المقيّد ) حيث قد تقدّم : من التعبد العقلائي في حجية أصالة الاطلاق .

( و ) لا يقال : انكم تقدِّمون أخبار التخيير على الاُصول العملية فيما إذا دار الأمر بينهما ، مع انكم إذا دار الأمر بين أخبار التخيير وبين الاُصول اللفظية ، تقدِّمون الاُصول اللفظية كأصالة الاطلاق على أخبار التخيير ، فهذا الفرق لماذا ؟

لانه يقال : ( الفرق بين هذا الأصل ) اللفظي ( وبين تلك الاُصول ) العملية ( الممنوع في هذه الأخبار عن الرجوع اليها وترك المتكافئين ) حيث انه لا نعتمد على الاُصول العملية ونقول بتساقط الخبرين المتكافئين ( هو ) ما أشار اليه بقوله : ( أنّ تلك الاُصول ) العملية كالبرائة والاحتياط والاستصحاب وما أشبه ( عمليّة فرعيّة مقرّرة لبيان العمل في المسألة الفرعيّة عند فقد الدليل الشرعي فيها ) فاذا لم يكن هناك دليل شرعي في مسألة عملية كانت الاُصول العملية هي المرجع ( و ) ليس الأمر مع وجود ( هذا الأصل ) اللفظي كذلك ، فانه ( مقرّرٌ لاثبات كون الشيء وهو المطلق دليلاً وحجّة ) شرعية ( عند فقد ما يدلّ على عدم ذلك ) الاطلاق من الأدلة المقيدة .

والحاصل : ان الاُصول العملية لا تجري إلاّ مع فقد الدليل الاجتهادي ، وأخبار

ص: 361

فالتخييرُ مع جريان هذا الأصل تخييرٌ مع وجود الدليل الشرعي المعيّن لحكم المسألة المتعارض فيها النصّان . بخلاف التخيير مع جريان تلك الاُصول ، فانّه تخييرٌ بين المتكافئين عند فقد دليل ثالث في موردهما .

هذا ، ولكن الانصاف : إنّ أخبار التخيير حاكمةٌ على هذا الأصل وإن كان جاريا في المسألة الاُصولية ،

-------------------

التخيير تجعل أحد الخبرين المتعارضين دليلاً اجتهاديا ، ومعلوم انه لا يبقى مع الدليل الاجتهادي مسرح للاُصول العملية ، بينما الاطلاق اللفظي هو بنفسه دليل اجتهادي ، فلا يبقى معه مسرح لأخبار التخيير ، لأنّ أخبار التخيير إنما هي حكم المتحير والاطلاق بنفسه يزيل التحيّر .

إذن : ( فالتخيير مع جريان هذا الأصل ) اللفظي وهو الاطلاق ( تخييرٌ مع وجود الدليل الشرعي ) المخرج عن التحيّر ، وحيث لا تحيّر لم يكن التخيير مرجعا ، بل المرجع هو الاطلاق ( المعيّن لحكم المسألة المتعارض فيها النصان ) فيلزم اسقاط النصين والرجوع إلى المطلق .

( بخلاف التخيير مع جريان تلك الاُصول ) العملية ( فانّه تخييرٌ بين المتكافئين عند فقد دليل ثالث ) كالاطلاق - مثلاً - ( في موردهما ) فيلزم فيه تقديم التخيير على تلك الاصول العملية .

وان شئت قلت : ان الاُصول العملية ليست في مرتبة الخبرين المتكافئين ، فلابد من العمل بأحدهما الذي هو التخيير .

( هذا ) تمام الكلام في وجه تقديم المطلق على الخبرين المتكافئين .

( ولكن الانصاف : أنّ أخبار التخيير حاكمة على هذا الأصل ) أيضا وهو أصالة الاطلاق ( وإن كان ) هذا الأصل اللفظي ( جاريا في المسألة الاُصولية ) لا الفرعية .

ص: 362

كما أنّها حاكمة على تلك الاُصول الجارية في المسألة الفرعية ؛ لأنّ مؤداها بيانُ حجية أحد المتعارضين كمؤدّى أدلة حجّية الاخبار ، فهي دلالة على مسألة اصولية ، وليس مضمونُها حكما عمليّا صرفا ، ومن المعلوم حكومتها

-------------------

وإنّما يجري هذا الأصل اللفظي في الاُصول لانه يثبت كون المطلق دليلاً وحجة ، ومسألة الحجية وعدم الحجية من المسائل الاُصولية لا الفرعية ، ومع ذلك فان أخبار التخيير تكون حاكمة عليه ( كما أنّها ) أي : اخبار التخيير كانت ( حاكمة على تلك الاُصول ) العملية ( الجارية في المسألة الفرعية ) فان الاُصول العملية تجري عند الشك في الفروع كحلية وحرمة شرب التتن - مثلاً - ووجوب وعدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وما أشبه ذلك من المسائل الفرعية التي لا دليل عليها .

والحاصل : إنّ أخبار التخيير حاكمة على الاُصول العملية والاُصول اللفظية معا، فتكون أخبار التخيير مقدَّمة على المطلقات ، لا ان المطلقات مقدَّمة على أخبار التخيير .

وإنما تكون أخبار التخيير مقدمة على المطلقات ( لأنّ مؤداها ) أي : مؤدى أخبار التخيير ( بيان حجية أحد المتعارضين ) فيكون مؤدّاها ( كمؤدّى أدلة حجّية الاخبار ) وكما ان ما دلّ على حجية الخبر الواحد يكون مقدَّما على المطلق ، ولذا يقيّدون المطلق بالخبر الواحد ، كذلك ما دل على التخيير يكون مقدَّما على المطلق ، فاذا كان مطلق وكان خبران متعارضان يقدِّمون التخيير بين الخبرين على ذلك المطلق .

إذن : ( فهي ) أي : اخبار التخيير يكون لمؤدّاها ( دلالة على مسألة اصولية ) لانها تثبت حجية أحد الخبرين ، واثبات الحجية وعدم الحجية مسألة اُصولية ، فليست أخبار التخيير مسألة فرعية بحتة ( وليس مضمونها حكما عمليّا صرفا ) حتى يقدّم المطلق عليها ( ومن المعلوم : حكومتها ) أي : حكومة أخبار التخيير

ص: 363

على مثل هذا الأصل .

فلا فرق بين أن يَرد في مورد هذا الدليل المطلق : « إعمل بالخبر الفلاني المُقَيِّد لهذا المطلق » وبين قوله : « إعمل بأحد هذين المُقَيِّد أحدُهما له » .

فالظاهر : أنّ حكم المشهور في المقام بالرجوع إلى المطلق ، وعدم التخيير

-------------------

حينئذ ( على مثل هذا الأصل ) اللفظي وهو الاطلاق .

وعليه : فان أصالة الاطلاق وان كانت تثبت حجية المطلق إلاّ انها مشروطة بعدم وجود المقيّد ، فاذا كان هناك خبر يقيّد المطلق قدّم على المطلق ، كذلك أخبار التخيير إذا تعارض خبران وكان هناك مطلق ، قدمت على المطلق .

إذن : ( فلا فرق بين أن يَرد في مورد هذا الدليل المطلق ) مثل : « أقيموا الصلاة » (1) دليل يقول : ( « إعمل بالخبر الفلاني المُقَيِّد لهذا المطلق » ) مثل : خبر زرارة الدالّ على وجوب جلسة الاستراحة المقيّد لاطلاق الصلاة ( وبين قوله : « إعمل بأحد هذين ) الخبرين ( المُقَيِّد أحدهما له » ) أي : لاطلاق الصلاة ، وذلك بأن يقول : اعمل بأحد هذين الخبرين المتكافئين الدال أحدهما على وجوب السورة والآخر على عدم وجوب السورة .

( ف ) ان قلت : إذن يلزم على قولكم هذا تقديم المتعارضين على المطلق ، فكيف يقول المشهور بسقوط المتعارضين والأخذ بالاطلاق ؟ .

قلت : ( الظاهر : أنّ حكم المشهور في المقام ) أي : فيما إذا كان في مسألة خبران متكافئان وكان هناك مطلق أيضا ، فان حكمهم ( بالرجوع إلى المطلق وعدم التخيير ) بين الخبرين المتكافئين ، لم يكن من باب سقوط المتعارضين

ص: 364


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

مبنيٌّ على ما هو المشهور فتوىً ونصّا من ترجيح أحد المتعارضين بالمطلق ، أو العام ، الموجود في تلك المسألة ، كما يظهر من ملاحظة النصوص والفتاوى .

وسيأتي توضيحُ ما هو الحقّ من المسلكين في باب التعادل والترجيح إنشاء اللّه تعالى .

-------------------

والأخذ بالاطلاق ، بل انه ( مبنيٌّ على ما هو المشهور فتوىً ونصّا : من ترجيح أحد المتعارضين ب ) سبب ( المطلق ، أو العام ، الموجود في تلك المسألة ) فيكون المطلق ، أو العام ، مرجحا لا مرجعا ( كما يظهر من ملاحظة النصوص والفتاوى ).

والحاصل من الاشكال والجواب هو : ان أخبار التخيير حاكمة على اصالة الاطلاق وبعد حكومتها عليها لا وجه لحكم المشهور في المقام بالرجوع إلى المطلق ، فانه لا مسرح لأصل الاطلاق بعد وجود أخبار التخيير .

والجواب : ان حكم المشهور في المقام بالرجوع إلى المطلق وعدم عملهم بأخبار التخيير ، مبني على ما هو مشهور بينهم : من ترجيح أحد المتعارضين بسبب مطلق أو عام موجود في تلك المسألة ، فيكون الخبر الموافق للمطلق أو العام راجحا على الخبر المخالف لهما ، فيؤخذ به لارجحيته على المخالف ، فيكون الرجوع إلى المطلق ، أو العام من باب المرجحية ، فلا يبقى معهما مورد لأخبار التخيير ، لأن أخبار التخيير إنما تكون حاكمة في مورد عدم المرجح والمفروض وجود المرجح في المقام .

( وسيأتي توضيح ما هو الحق من المسلكين ) أي : كون المطلق هل هو مرجع عند تعارض الخبرين ، أو مرجّح لأحدهما على الآخر ، وذلك ( في باب التعادل والترجيح ان شاء اللّه تعالى ) وهو البحث الأخير من الكتاب .

ص: 365

المسألة الرابعة :

فيما إذا شك في جزئيّة شيء للمأمور به من جهة الشبهة في الموضوع الخارجي ، كما إذا أمر بمفهوم مبيّن مردّد مصداقُه بين الأقل والأكثر ، ومنه ما إذا وجب صوم شهر هلالي - وهو ما بين الهلالين - فشك في أنّه ثلاثون أو ناقص ، ومثل ما أمر بالطهور لأجل الصلاة ، أعني الفعل الرافع للحدث أو المبيح للصلاة ، فشكّ في جزئية شيء للوضوء أو الغسل الرافعين .

-------------------

( المسألة الرابعة ) من مسائل دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين : ( فيما إذا شك في جزئيّة شيء للمأمور به من جهة الشبهة في الموضوع الخارجي ) الذي يلزم فيه استطراق باب العرف ، لا باب الشرع كالذي كان في المسائل الثلاث المتقدمة : من فقدان النص أو اجماله أو تعارضه ، وذلك ( كما إذا أمر بمفهوم مبيّن مردّد مصداقه بين الأقل والأكثر ) الارتباطيين .

( ومنه ) أي : من هذا القسم من الشك ( ما إذا وجب صوم شهر هلالي ) بسبب النذر - مثلاً - ( وهو ) أي : الشهر الهلالي مفهوم مبيّن لانه ( ما بين الهلالين ، فشك في ) مصداقه الخارجي لوجود السحاب في السماء ( انّه ثلاثون أو ناقص ) فلم يعلم انتهاء الشهر بتسعة وعشرين يوما حتى يفطر غدا ، أو بثلاثين حتى يصوم غدا ، والمفروض : ان الواجب ارتباطي لانّ نذره وحدة واحدة بحيث إذا لم يصم آخر الشهر على تقدير كون الشهر ثلاثين يوما ، لم يف بنذره ويلزمه الحنث والكفارة .

( ومثل : ما أمر بالطهور لأجل الصلاة ) فانه مفهوم مبيّن ( أعني : الفعل الرافع للحدث ، أو المبيح للصلاة ، فشكّ ) في مصداقه الخارجي هل هو الأقل أو الأكثر؟ لانه اشتبه ( في جزئية شيء للوضوء أو الغسل الرافعين ) بالشبهة الموضوعية ،

ص: 366

واللازم في المقام الاحتياط ، لأنّ المفروض تنجّزُ التكليف بمفهوم مبيّن معلوم تفصيلاً ، وإنّما الشك في تحقّقه بالأقلّ ، فمقتضى أصالة عدم تحققه وبقاء الاشتغال عدم الاكتفاء به ولزوم الاتيان بالأكثر .

ولا يجري هنا ما تقدّم من الدليل العقلي والنقلي

-------------------

كما إذا شك في ان اصبعه الزائدة جزء من اليد أم لا ؟ أو ان جلدة متدلية في بدنه جزء من البدن أم لا ؟ .

أمّا من استشكل على المصنِّف : بأنّ ما ذكره من مثال الطهور لأجل الصلاة إنما هو مثال للشبهة الحكمية ، فانه مستبعد جدا ان يذكر المصنِّف مثالاً للشبهة الحكمية في محل الشبهة الموضوعية .

( و ) كيف كان : فان ( اللازم في المقام الاحتياط ) والاتيان بالأكثر ( لانّ المفروض: تنجّز التكليف بمفهوم مبيّن معلوم تفصيلاً ، وإنّما الشك في تحققه بالأقلّ ) فان مفهوم الشهر في المثال الأوّل مبيّن ، كما ان مفهوم الطهور في المثال الثاني مبيّن أيضا ، وإنما الشك في الاُمور الخارجية الطارئة التي يستطرق فيها باب العرف .

وعليه : ( فمقتضى أصالة عدم تحققه ) أي : تحقق ذلك المفهوم المبيّن ( وبقاء الاشتغال ) إذا لم يصم اليوم المشكوك ولم يغسل الجلدة الزائدة بعد تنجّز التكليف هو : ( عدم الاكتفاء به ولزوم الاتيان بالأكثر ) لانه يكون نظير كما تقدّم : من أمر الطبيب بشرب مسهل الصفراء ، فشك المريض في ان المسهل مركب من خمسة أجزاء أو ستة؟ حيث يرى العقل والعقلاء لزوم الاحتياط بالاتيان بالسادس، لانه بدون السادس لم يعلم انه أتى بمسهل الصفراء .

هذا ( ولا يجري هنا ما تقدّم ) في الشبهة الحكمية ( من الدليل العقلي والنقلي

ص: 367

الدالّ على البرائة ، لانّ البيانَ الذي لابدّ منه في التكليف قد وصل من الشارع ، فلا يقبح المؤاخذة على ترك ما بيّنه تفصيلاً ، فاذا شك في تحققه في الخارج فالأصلُ عدمُه ، والعقل أيضا يحكم بوجوب القطع باحراز ما علم وجوبُه تفصيلاً ، أعني : المفهوم المعيّن المأمور به ، ألا ترى أنّه لو شك في وجود باقي الأجزاء المعلومة ، كأن لم يعلم أنّه أتى بها أم لا ، كان مقتضى العقل والاستصحاب وجوبَ الاتيان بها .

-------------------

الدالّ على البرائة ) .

وإنما لا يجري دليل البرائة هنا ( لانّ البيان الذي لابدّ منه في التكليف قد وصل من الشارع ) فالمفهوم حسب الفرض مبيّن ، وإنّما الاشتباه في بعض الاُمور الخارجية ( فلا يقبح المؤاخذة على ترك ما بيّنه تفصيلاً ) إذا لم يأت بالأكثر .

وعليه : ( فاذا شك في تحققه في الخارج فالأصل عدمه ) أي : عدم تحقق ذلك المفهوم المبيّن خارجا لو أتى بالأقل .

هذا ( والعقل أيضا ) أي : كالاستصحاب وقاعدة الاشتغال ( يحكم ) حكما بالاستقلال ( بوجوب القطع باحراز ما علم وجوبه تفصيلاً ) وما علم وجوبه هو ما فسره المصنِّف بقوله : ( أعني : المفهوم المعيّن المأمور به ) فيلزم حينئذ الاحتياط والاتيان بالأكثر لاحراز ما علم وجوبه .

( ألا ترى : انّه لو شك في وجود باقي الأجزاء المعلومة كأن لم يعلم انّه أتى بها أم لا ، كان مقتضى العقل والاستصحاب : وجوب الاتيان بها ) أي : بتلك الأجزاء المعلومة ، فكذا الأجزاء المشكوكة .

وعليه : فاذا لم يعلم انه صام تسعة وعشرين يوما أو أقل ، أو شك في انه مسح رأسه أم لا ، فانه كما يجب الاتيان بالتاسع والعشرين ، وبمسح الرأس الذين هما

ص: 368

والفارق بين ما نحن فيه وبين الشبهة الحكميّة من المسائل المتقدّمة التي حكمنا فيها بالبرائة ، هو أنّ نفس التكليف فيها مردّد بين اختصاصه بالمعلوم وجوبه تفصيلاً وبين تعلقه بالمشكوك .

وهذا الترديدُ لا حكمَ له بمقتضى العقل ، لانّ مرجعه إلى المؤاخذة على ترك المشكوك ، وهي قبيحة بحكم العقل .

فالعقلُ والنقل الدالاّن على البرائة ، مبيّنان لتعلّق التكليف لما عداه من أول الأمر في مرحلة الظاهر .

-------------------

من الأجزاء المعلومة كذلك يجب الاتيان بما إذا شك في الثلاثين وفي غسل الجلدة الزائدة الذين هما من الأجزاء المشكوكة .

( والفارق بين ما نحن فيه ) من الشبهة الموضوعية حيث قلنا بوجوب الاحتياط والاتيان بالأكثر فيها ( وبين الشبهة الحكميّة ) حيث قلنا بعدم وجوب الاحتياط والاتيان بالأقل فيها ، وذلك فيما مرّ ( من المسائل المتقدّمة التي حكمنا فيها بالبرائة ) من فقد النص أو اجماله أو تعارض النصين ( هو ) ما يلي :

( أنّ نفس التكليف فيها ) أي : في الشبهة الحكمية ( مردّد بين اختصاصه بالمعلوم وجوبه تفصيلاً وبين تعلقه بالمشكوك ، وهذا الترديد لا حكم له بمقتضى العقل ، لانّ مرجعه ) إذا قيل بوجوب الاحتياط فيه ( إلى المؤاخذة على ترك المشكوك ، وهي ) أي : المؤاخذة هنا ( قبيحة بحكم العقل ) والنقل .

وإنما تقبح المؤاخذة لانه كما قال : ( فالعقل والنقل الدالان على البرائة ، مبيّنان لتعلق التكليف لما عداه ) أي : لما عدا المشكوك في باب الشبهة الحكمية ( من أول الأمر ) وذلك ( في مرحلة الظاهر ) لانّه لما كان نفس المكلّف به من أول الأمر مرددا بين الأقل والأكثر ، حكم العقل والنقل بتعيّن الأقل من الأوّل تعيّنا ظاهريا ،

ص: 369

وأمّا ما نحن فيه فمتعلّقُ التكليف فيه مبيّنٌ معلوم تفصيلاً ، لا تصرّف للعقل والنقل فيه ، وإنّما الشك في تحققه في الخارج باتيان الأجزاء المعلومة ، والعقل والنقل المذكوران لا يثبتان تحققه في الخارج ، بل الأصل عدم تحققه ، والعقل أيضا مستقلٌّ بوجوب الاحتياط مع الشك في التحقّق .

-------------------

والتكليف هو العمل بهذا الظاهر فيأتي في الشبهة الحكمية بالأقل ويجري البرائة عن الزائد المشكوك فيه .

( وأمّا ما نحن فيه ) من الشبهة الموضوعية : ( فمتعلّق التكليف فيه مبيّن ) من أول الأمر ( معلوم تفصيلاً ، لا تصرّف للعقل والنقل فيه ) فلا موضع للأصل العقلي أو النقلي بالبرائة عن الزائد في باب الشبهة الموضوعية ( وإنما الشك في تحققه في الخارج باتيان الأجزاء المعلومة ) إذ بعد الاتيان بالأجزاء المعلومة من دون ذلك الجزء المشكوك فيه يشك انه هل تحقق المكلّف به أم لم يتحقق ؟ .

هذا ( والعقل والنقل المذكوران ) الدالان على البرائة ( لا يثبتان تحققه ) أي : المكلّف به ( في الخارج ) لانه مثبت .

وعليه : فنفي المؤاخذة على ترك المشكوك فيما نحن فيه لا يثبت تحقق المأمور به بالأقل إلاّ على القول بالأصل المثبت لعدم كونه من الآثار الشرعية له ، وذلك لما قد عرفت : من انه من الشك في المكلّف به لا الشك في التكليف .

( بل الأصل عدم تحققه ) أي : المكلّف به عند الاتيان بالأقل ( والعقل أيضا مستقلٌّ بوجوب الاحتياط مع الشك في التحقّق ) في باب المكلّف به ، فيلزم فيه الاتيان بالأكثر .

ثم ان المصنِّف جعل الشك في الأقل والأكثر على قسمين : الشك في الجزء ، والشك في القيد ، فقال في صدر المسألة ما لفظه : الثاني : فيما إذا دار الأمر

ص: 370

وأمّا القسم الثاني: وهو الشك في كون الشيء قيدا للمأمور به

اشارة

فقد عرفت أنّه على قسمين ، لأن القيد قد يكون منشأه فعلاً خارجيا مغايرا للمقيّد في الوجود الخارجيّ ، كالطهارة الناشئة من الوضوء ، وقد يكون قيدا متحدا معه في الوجود الخارجيّ .

-------------------

في الواجب بين الأقل والأكثر ، ومرجعه إلى الشك في جزئية شيء للمأمور به وعدمها، وهو على قسمين : لان جزء المشكوك إمّا جزء خارجي ، أو جزء ذهني وهو القيد ، وهو على قسمين لانّ القيد إمّا منتزع من أمر خارجي مغاير للمأمور به في الوجود الخارجي ، فمرجع اعتبار ذلك القيد إلى ايجاب ذلك الأمر الخارجي ، كالوضوء الذي يصير منشئا للطهارة المقيّد بها الصلاة ، وامّا خصوصية متحدة في الوجود مع المأمور به ، كما إذا دار الأمر بين وجوب مطلق الرقبة أو رقبة خاصة ، وحيث فرغ عن القسم الأوّل قال : ( وأمّا القسم الثاني : وهو الشك في ) الجزء الذهني ، ولا يراد به كون الجزء في الذهن فقط بلا انطباق على الخارج ، بل المراد : ( كون الشيء قيدا للمأمور به ، فقد عرفت : أنّه على قسمين ) :

الأوّل : ( لأن القيد قد يكون منشأه فعلاً خارجيا مغايرا للمقيّد في الوجود الخارجيّ ، كالطهارة الناشئة من الوضوء ) فان الوضوء أمر خارجي وتشترط الصلاة بهذه الطهارة الناتجة من هذا الوضوء .

الثاني : ( وقد يكون قيدا متحدا معه ) أي : مع المقيّد ( في الوجود الخارجيّ ) كالإيمان في الرقبة ، حيث ان الايمان في الرقبة ليس شيئا خارجيا ، وإنما هو صفة من صفات الرقبة .

ص: 371

أمّا الأوّل : فالكلام فيه هو الكلام فيما تقدّم ، فلا نطيل بالاعادة .

وأمّا الثاني فالظاهرُ اتحادُ حكمهما .

-------------------

هذا ، ولا يخفى : ان الأوثق قال : ان الشروط على أقسام ، ثم ذكر القسمين المذكورين في المتن إلى أن قال : « وثالثها : ما كان خصوصية متحدة مع المأمور به كما في القسم الثاني ، إلاّ ان الخصوصية هناك مذكورة في ذاتها ، وهنا ناشئة من تضادّ المأمور به لتكليف نفسي ، كحرمة لبس الحرير للرجال ، لأنّ شرطية عدم كون اللباس حرير في الصلاة ناشئة من عدم جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ولو مع تعدد الجهة ، وهذا القسم خارج عن محل النزاع كما سيصرّح به » (1) .

( امّا الأوّل ) وهو : ما كان منشأ القيد فعلاً خارجيا مغايرا للمقيّد خارجا ، كالطهارة في الصلاة ( فالكلام فيه هو الكلام فيما تقدّم ) لانه من الأقل والأكثر ، فيكون حاله حال الجزء الخارجي في جريان البرائة من الأكثر ، لانحلال العلم الاجمالي إلى أقل متيقن وأكثر مشكوك فيه ، ولذلك ( فلا نطيل بالاعادة ) فيه لعدم وجود شيء جديد هنا خارجا عن المبحث المتقدم في الأقل والأكثر .

( وامّا الثاني ) وهو : ما كان القيد متحدا مع المقيّد خارجا كالايمان في الرقبة ، وفيه قولان، المصنِّف على انه كالقسم الأوّل في جريان البرائة، ولذا قال: ( فالظاهر اتحاد حكمهما ) فحكم الثاني في البرائة عند المصنِّف يكون كالأوّل ، لأن الشك في القيد بكلا قسميه داخل في الأقل والأكثر ، فيكون حاله حال الجزء الخارجي في جريان البرائة .

ص: 372


1- - أوثق الوسائل : ص374 الشك في كون الشيء قيدا للمأمور به على قسمين بتصرف .

وقد يفرّق بينهما بإلحاق الأوّل بالشك في الجزئية دون الثاني ، نظرا إلى جريان العقل والنقل الدالّين على عدم المؤاخذة على ما لم يعلم من الشارع المؤاخذة عليه في الأوّل ، فانّ وجوب الوضوء إذا لم يعلم المؤاخذة عليه كان التكليف به ولو مقدمة منفيّا بحكم العقل والنقل ، والمفروض أنّ الشرط الشرعي إنّما انتزع من الأمر بالوضوء في الشريعة ،

-------------------

لكن المحكي عن العلامة وتبعه المحقق القمي هو التفصيل بينهما ، وذلك بإلحاق الأوّل بالأقل والأكثر حيث يجري فيه البرائة عن الأكثر ، وإلحاق الثاني بالمتباينين حيث يجب فيه الاتيان بالأكثر .

وإلى هذا أشار المصنِّف بقوله : ( وقد يفرّق بينهما بإلحاق الأوّل ) كالطهارة في الصلاة إذا شككنا في انها واجبة أم لا ( بالشك في الجزئية ) حيث تجري البرائة فيه ( دون الثاني ) كالايمان في الرقبة حيث يجري فيه الاشتغال .

ثم استدل لهذا التفصيل بما ذكره المصنِّف بقوله : ( نظرا إلى جريان العقل والنقل الدالّين على عدم المؤاخذة على ما لم يعلم من الشارع المؤاخذة عليه في الأوّل ) كالطهارة في الصلاة ( فانّ وجوب الوضوء إذا لم يعلم المؤاخذة عليه كان التكليف به ولو مقدمة ) للطهارة الواقعية التي يحتمل أن يكون شرطا للصلاة ( منفيّا بحكم العقل والنقل ) لقبح العقاب بلا بيان ، ولجريان أدلة البرائة ، فان المتيقن وهو الصلاة يجب الاتيان بها وامّا المشكوك وهو الوضوء فتجري فيه البرائة .

هذا ( والمفروض : أنّ الشرط الشرعي ) هنا وهو الطهارة في الصلاة ( إنّما انتزع من الأمر بالوضوء في الشريعة ) حيث قال سبحانه : « فاغسلوا وجوهكم

ص: 373

فينتفي بانتفاء منشأ انتزاعه في الظاهر .

وأمّا ما كان متحدا مع المقيّد في الوجود الخارجيّ كالايمان في الرقبة المؤمنة ، فليس مما يتعلّق به وجوبٌ وإلزامٌ مغايرٌ لوجوب أصل الفعل ولو مقدمة ، فلا يندرج فيما حجب اللّه علمه عن العباد .

-------------------

وأيديكم إلى المرافق » (1) فالطهارة في الصلاة منتزعة من هذا الشرط ( فينتفي بانتفاء منشأ انتزاعه في الظاهر ) فاذا أجرينا البرائة عن الوضوء وسقط الوضوء عن الوجوب لا تكون الطهارة شرطا في الصلاة .

( وأمّا ما كان متحدا مع المقيّد في الوجود الخارجيّ كالايمان في الرقبة المؤمنة ) وذلك كما إذا شككنا في ان الرقبة الواجب عتقها هل يشترط أن تكون مؤمنة أم لا ؟ ( فليس مما يتعلّق به وجوبٌ وإلزامٌ مغايرٌ لوجوب أصل الفعل ) الذي هو العتق .

وإنما لايتعلق به وجوب مغاير للأصل لأنّ الايمان ليس شيئا مغايرا للرقبة خارجا، بل هو صفة من صفات الرقبة متحد معها ، فيكون الحكم متعلقا بنفس المقيّد دون القيد ، أما القيد وهو الايمان فلا يتعلق به وجوب مغاير لوجوب العتق ( ولو مقدمة ) أي : ان الايمان لا يتعلق به وجوب مقدمي ، كما لا يتعلق به وجوب ذاتي أيضا .

وعليه : ( فلا يندرج ) القيد المذكور عند الشك في وجوب المطلق من عتق الرقبة أو المقيّد بكونها مؤمنة ( فيما حجب اللّه علمه عن العباد ) (2) حتى يقال :

ص: 374


1- - سورة المائدة : الآية 6 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .

والحاصل : إنّ أدلة البرائه من العقل والنقل إنما ينفي الكلفةَ الزائدة الحاصلة من فعل المشكوك والعقاب المترتب على تركه ، مع اتيان ما هو معلوم الوجوب تفصيلاً ، فان الآتي بالصلاة بدون التسليم المشكوك وجوبه ، معذورٌ في ترك التسليم لجهله . وأمّا الآتي بالرقبة الكافرة فلم يأت في الخارج بما هو معلوم له تفصيلاً حتى

-------------------

باجراء البرائة عن القيد ولزوم المقيّد ، وذلك لما عرفت : من ان الواجب هو نفس المقيد بما هو هو لا مع قيده حتى يتصور هنا متيقن هو المقيّد ، ومشكوك هو القيد ، فيقال : بأن القيد مندرج فيما « حجب عمله » و « فيما لا يعلمون » وما أشبه ذلك من أدلة ، البرائة فينفى بها .

( والحاصل : انّ أدلة البرائة من العقل والنقل إنما ينفي الكلفة الزائدة الحاصلة من فعل المشكوك ) كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة إذا شككنا في وجوبه وعدم وجوبه ( و ) ينفي ( العقاب المترتب على تركه مع اتيان ما هو معلوم الوجوب تفصيلاً ) فيما إذا كان له وجود منحاز عن وجود المتيقن ( فان الآتي بالصلاة بدون التسليم المشكوك وجوبه ، معذور في ترك التسليم لجهله ) لان هناك أمرين : الصلاة بدون التسليم ، والتسليم ، أمّا الصلاة فهي متيقنة بخلاف التسليم فانه مشكوك ، فيأتي بما علم وجوبه تفصيلاً ويترك مشكوك الوجوب .

وهكذا حال الوضوء والصلاة ، وما أشبه ذلك .

( وأمّا الآتي بالرقبة الكافرة فلم يأت في الخارج بما هو معلوم له تفصيلاً حتى

ص: 375

يكون معذورا في الزائد المجهول ، بل هو تاركٌ للمأمور به رأسا .

وبالجملة : فالمطلق والمقيّد من قبيل المتباينين ، لا الأقل والأكثر .

وكان هذا هو السرّ فيما ذكره بعض القائلين بالبرائة عند الشك في الشرطية والجزئية ، كالمحقق القمّي قدس سره في باب المطلق والمقيّد ، من تأييد استدلال العلامة قدس سره في النهاية - على وجوبِ حمل المطلق على المقيّد

-------------------

يكون معذورا في الزائد المجهول ، بل هو تاركٌ للمأمور به رأسا ) إذ على تقدير وجوب المقيّد ليس الواجب مركبا من قدر متيقن هو الرقبة وشرط مشكوك هو الايمان حتى يكون الآتي بالرقبة الكافرة آتيا بالمتيقن وتاركا للمشكوك بل الواجب هو نفس الرقبة المقيدة بالايمان ، فاذا أتى بالرقبة الكافرة لم يأت بشيء أصلاً ، لا انه أتى بالمتيقن وترك المشكوك .

( وبالجملة : فالمطلق والمقيّد من قبيل المتباينين ) حيث لا قدر مشترك بينهما، فاذا أتى بالرقبة الكافرة لم يأت بشيء ، واذا أتى بالرقبة المؤمنة أتى بكل شيء ، فاذا شككنا في انه هل يشترط الايمان أم لا؟ يلزم ان نأتي بالرقبة المؤمنة حتى نتيقن باتيان التكليف ( لا ) انه من قبيل ( الأقل والأكثر ) الارتباطيين حتى يكون الواجب فيه مركبا من متيقن ومشكوك .

( وكان هذا ) أي : كون المطلق والمقيد من قبيل المتباينين لا الأقل والأكثر ( هو السرّ فيما ذكره بعض القائلين بالبرائة عند الشك في الشرطية والجزئية ) علما بأن المراد من الشرط هو الشرط الخارج ، كالوضوء الخارج عن حقيقة الصلاة ، فلا يشمل كلام ذلك البعض مثل شرط الايمان لأنّ هذا يسمّى قيدا .

وعليه : فما ذكره ذلك البعض ( كالمحقق القمّي قدس سره في باب المطلق والمقيّد : من تأييد استدلال العلامة قدس سره في النهاية - على وجوب حمل المطلق على المقيّد

ص: 376

بقاعدة الاشتغال ، وردّ ما اعترض عليه بعدم العلم بالشغل حتى يستدعي العلم بالبرائة بقوله :

« وفيه : أنّ المكلّف به حينئذ هو المردّد بين كونه نفس المقيد أو المطلق ،

-------------------

بقاعدة الاشتغال ، و ) القول بتماميته ، فهو لأجل جعله من المتباينين لا من الأقل والأكثر .

والحاصل : قال العلامة في باب المطلق والمقيّد عند الشك في انه هل يكفي الاتيان بالمطلق ، أو يلزم الاتيان بالمقيّد؟ انه يلزم الاتيان بالمقيد لوجوب الاحتياط بحمل المطلق على المقيّد ، مستدلاً لذلك : بأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البرائة اليقينية ، فانه إذا أتى بالمطلق لم يعلم بالبرائة اليقينية ، بخلاف ما إذا أتى بالمقيّد ، فوافقه المحقق القمي رحمه اللّه في قوله ذلك في باب المطلق والمقيد ، مع انه يقول بالبرائة في باب الجزء والشرط .

ثم ( ردّ ما اعترض عليه ) أي : على استدلال العلامة من الاشكال : ( بعدم العلم بالشغل حتى يستدعي العلم بالبرائة ) فان بعض المعترضين على العلامة قال مستشكلاً : بأن اليقين بالاشتغال إنما هو بالنسبة إلى المطلق وهو الرقبة في المثال ، لا الايمان حتى يجب العلم بالبرائة عنه ، فرده المحقق القمي ( بقوله : « وفيه ) مايلي :

( ان المكلّف به حينئذ ) أي : حين دار الأمر بين المطلق والمقيد ( هو المردد بين كونه نفس المقيد أو المطلق ) بمعنى : انه على تقدير كون الواجب هو المقيد ، فالواجب : نفس الرقبة المقيدة بالايمان ، لا الرقبة والايمان حتى يكون حالهما حال الصلاة والوضوء ، بأن يكون هناك متيقن ومشكوك ويكون الآتي بالرقبة

ص: 377

ونعلم أنّا مكلفون بأحدهما ، لاشتغال الذمة بالمجمل ، ولا يحصل البرائة إلاّ بالمقيد - إلى أن قال : - وليس هنا قدرٌ مشتركٌ يقينيٌّ يحكم بنفي الزائد عنه بالأصل ، لانّ الجنس الموجود في ضمن المقيّد لا ينفك عن الفصل ، ولا تفارق لهما ، فليتأمل » انتهى .

-------------------

الكافرة آت بالمتيقن ، بل هو على تقدير لزوم الايمان آت بالمباين ( و ) ذلك لانّا ( نعلم انا مكلفون بأحدهما ) إمّا المطلق المباين ، أو المقيّد المباين ( لاشتغال الذمة بالمجمل ، ولا يحصل البرائة إلاّ بالمقيد ) فاذا أعتقنا رقبة كافرة لم نعلم بأنّا أتينا بشيء من الواجب ( إلى أن قال : وليس هنا ) فيما فرضناه من المطلق والمقيد ( قدرٌ مشتركٌ ) بين المطلق والمقيد ( يقينيٌّ ) حتى ( يحكم بنفي الزائد عنه بالأصل ) فانه ليس الواجب هو الرقبة والايمان ، حتى يكون الرقبة كالصلاة والايمان كالوضوء ، فيكون الرقبة المشتركة بين المؤمنة والكافرة متيقنة ، والايمان مشكوكا ، فيلزم الاتيان بالقدر المتيقن ، وينفى المشكوك بالأصل .

وإنما لا يكون هنا قدرا مشتركا ( لانّ الجنس ) وهو الرقبة ( الموجود في ضمن المقيّد ) أي : في ضمن الرقبة المؤمنة ( لا ينفك عن الفصل ) الذي هو الايمان ( ولا تفارق لهما ) حتى يجعل ذلك قدرا مشتركا متيقنا .

( فليتأمل » (1) ) حتى لا يتوهم ان الرقبة المؤمنة حالها حال الصلاة مع الطهارة ، فينحل العلم الاجمالي فيها إلى يقين تفصيلي وشك بدوي .

( انتهى ) كلام المحقق القمي في تأييد العلامة الحلي قدس سرهما .

ص: 378


1- - القوانين المحكمة : ص175 .

هذا ، ولكن الانصاف : عدمُ خلوّ المذكور عن النظر ، فانه لا بأس بنفي القيود المشكوكة للمأمور به بأدلة البرائة من العقل والنقل ، لأن المنفيَّ فيها الالزامُ بما لا يعلم ورفعُ كلفته .

ولا ريب أنّ التكليف بالمقيّد مشتملٌ على كلفة زائدة وإلزام زائد على ما في التكليف بالمطلق ، وإن لم يزد المقيّد الموجود في الخارج على المطلق الموجود في الخارج ،

-------------------

( هذا ) تمام الكلام من المحقق القمي في تقريب وجوب الاتيان بالأكثر في مثل الرقبة المؤمنة .

( ولكن الانصاف عدم خلوّ المذكور ) في كلامه رحمه اللّه ( عن النظر ، فانه لا بأس بنفي القيود المشكوكة للمأمور به بأدلة البرائة من العقل والنقل ) فالذي يعتق رقبة كافرة يحق له ان يقول للمولى : انك لم تبيّن لزوم كون الرقبة مؤمنة ، ولذا لا أستحِق العقاب ، لأنه من العقاب بلا بيان ، ويشملني أيضا أدلة البرائة : من « رفع ما لا يعلمون » و « ما حجب اللّه » بالنسبة إلى ايمان الرقبة ( لأن المنفيّ فيها ) أي : في أدلة البرائة هو : ( الالزام بما لا يعلم ورفع كلفته ) أي : كلفة المشكوك ومشقته .

هذا ( ولا ريب : إنّ التكليف بالمقيّد مشتملٌ على كلفة زائدة والزام زائد على ما في التكليف بالمطلق ) لوضوح : ان القيد كلفة زائدة حتى ( وإن لم يزد المقيّد الموجود في الخارج على المطلق الموجود في الخارج ) شيئا ، لأنّ المطلق متحقق في ضمن الرقبة ، كما ان المقيد متحقق في ضمن الرقبة ، فليس هناك أقل وأكثر كمي وإنما أقل وأكثر كيفي ولكن حتى هذا المقدار من وجوب المقيد فيه ضيق وكلفة ولو من باب كل ما كثر قيوده قلّ وجوده ، فيرفعها أدلة البرائة .

ولهذا نرى ان العرف يحكم في المقيد بوجوب شيئين : الرقبة ، والايمان ،

ص: 379

ولا فرق عند التأمل بين اتيان الرقبة الكافرة واتيان الصلاة بدون الوضوء .

مع أنّ ما ذكره - من تغاير وجود منشأ حصول الشرط مع وجود المشروط في الوضوء ، واتحادهما في الرقبة المؤمنة - كلام ظاهريّ ، فان الصلاة حال الطهارة بمنزلة الرقبة المؤمنة في كون كلّ منهما أمرا واحدا في مقابل الفرد الفاقد للشرط .

-------------------

بينما في المطلق يحكم بوجوب شيء واحد ، ومن المعلوم : ان العرف هو المعيار في فهم هذه الاُمور ، لا الدقة الفلسفية .

( و ) حينئذ : ( لا فرق عند التأمل بين اتيان الرقبة الكافرة واتيان الصلاة بدون الوضوء ) فكما ان الطهارة زيادة في الصلاة ومع ذلك قال المحقق القمي بنفيها عند الشك فيها ، فكذلك الايمان زيادة في الرقبة ، فاللازم ان يقول بنفيها عند الشك فيها أيضا .

وان شئت قلت : انه ان كان مناط الأقل والأكثر هو الكم ، فالمثالان كلاهما من المتباينين لا الأقل والأكثر ، وان كان هو الأعم من الكم والكيف فهما معا من الأقل والأكثر الكيفي ، فلا فرق بين الطهارة والايمان فيما ذكره .

وإلى هذا أشار المصنِّف بقوله : ( مع أنّ ما ذكره ) المحقق القمي ( : من تغاير وجود منشأ حصول الشرط مع وجود المشروط في الوضوء ، واتحادهما في الرقبة المؤمنة ، كلام ظاهريّ ) لا حقيقة له ( فان الصلاة حال الطهارة بمنزلة الرقبة المؤمنة في كون كلّ منهما أمرا واحدا ) خارجا بمعنى : انهما ( في مقابل الفرد الفاقد للشرط ) من الصلاة بلا وضوء أو الرقبة بلا ايمان .

بل يمكن أن يقال : إنّ الطهارة منشؤها الوضوء الخارجي ، والايمان منشؤه

ص: 380

وأمّا وجوب ايجاد الوضوء مقدمةً لتحصيل ذلك المقيّد في الخارج ، فهو أمر يتفق بالنسبة إلى الفاقد للطهارة .

ونظيره قد يتفقُ في الرقبة المؤمنة حيث انّه قد يجب بعض المقدمات لتحصيلها في الخارج ،

-------------------

الشهادتين ، ومن المعلوم : ان الشهادتين أمر خارجي أيضا ، فمن حيث المنشأ كلاهما خارج ، ومن حيث الصفة كلاهما داخل ، لانّ الصلاة ملونة بلون الطهارة ، والرقبة ملونة بلون الايمان ، فأي فرق بينهما حتى نجري البرائة بالنسبة إلى الطهارة ، ولا نجريها بالنسبة إلى الايمان ؟ .

لا يقال : الوضوء خارجا واجب مقدمة ليتلوّن الصلاة بلون الطهارة ، وهذا يكشف عن ان الوضوء أمر زائد فاذا شك فيه كان الأصل عدمه ، بخلاف تلون الرقبة بالايمان ، فليس هناك شيء خارجي زائد حتى تجري البرائة من ذلك الشيء الخارجي عند الشك فيه .

لأنّه يقال : إذا لم يكن للشخص وضوء وجب يتوضأ ، وإذا كان له وضوء لم يجب ، كذلك الرقبة ، فانه إذا كان للرقبة إيمان لم يجب شيء آخر ، وإذا لم يكن له إيمان وجب هدايته حتى يؤمن .

وإلى هذا الاشكال والجواب أشار المصنِّف بقوله : ( وامّا وجوب ايجاد الوضوء مقدمةً لتحصيل ذلك المقيّد ) من الصلاة بطهارة ( في الخارج ، فهو أمر ) قد ( يتفق بالنسبة إلى الفاقد للطهارة ) فلا يستلزم دائما ان يتوضأ الانسان مقدمة للصلاة ، لانه ربما كان متوضئا قبل الصلاة فيؤمر بالصلاة بدون ان يؤمر بالوضوء .

( ونظيره قد يتفق في الرقبة المؤمنة حيث انّه قد يجب بعض المقدمات لتحصيلها ) أي : لتحصيل الرقبة المؤمنة ( في الخارج ) مثل تحصيل الثمن وغير

ص: 381

بل قد يجب السعي في هداية الرقبة الكافرة إلى الايمان مع التمكن ، إذا لم يوجد غيرُها وانحصر الواجب في العتق .

وبالجملة : فالأمر بالمشروط بشيء لا يقتضي بنفسه إيجاد أمر زائد مغاير له في الوجود الخارجي ، بل قد يتفق وقد لا يتفق ، وأمّا الواجد للشرط فهو لا يزيد في الوجود الخارجي على الفاقد له .

فالفرقُ

-------------------

ذلك ( بل قد يجب السعي في هداية الرقبة الكافرة إلى الايمان مع التمكن ) من هدايته .

ومن الواضح : إنّ السعي في هداية الرقبة الكافرة مقدمة لحصول الايمان بالنسبة إلى الرقبة الفاقدة ، وذلك فيما ( إذا لم يوجد غيرها ) أي : غير الرقبة الكافرة ( وانحصر الواجب في العتق ) فقط بأن لم يكن له بدل من صوم أو اطعام أو نحوهما .

( وبالجملة ) نقول : ( فالأمر بالمشروط بشيء ) كالصلاة بشرط الطهارة والرقبة بشرط الايمان ( لا يقتضي بنفسه إيجاد أمر زائد مغاير له في الوجود الخارجي ) كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، والسعي لهداية الرقبة بالنسبة إلى الكافرة ( بل قد يتفق وقد لا يتفق ) كما ذكرنا مثالهما .

هذا بالنسبة إلى الفاقد للشرط ( وأما الواجد للشرط ) بأن كان الانسان متطهرا قبلاً ، والرقبة كانت مؤمنة قبلاً ( فهو لا يزيد في الوجود الخارجي على الفاقد له ) لوضوح : ان الصلاة مع الطهارة والصلاة من دون طهارة متساويان من حيث العمل الخارجي ، كما ان عتق الرقبة المؤمنة والرقبة الكافرة أيضا متساويان من حيث العمل الخارجي وإذا كانا متساويين ( فالفرق ) الذي ذكره المحقق القمّي

ص: 382

بين الشروط فاسدٌ جدا ؛ فالتحقيق : أنّ حكم الشرط بجميع أقسامه واحد ، سواء ألحقناه بالجزء أم بالمتباينين .

وأمّا ما ذكره المحقق القمي رحمه اللّه ، فلا ينطبق على ما ذكره في باب البرائة والاحتياط ، من إجراء البرائة حتى في المتباينين

-------------------

( بين الشروط ) كشرط الطهارة وشرط الايمان ( فاسد جدا ) إذ لا معنى محصل له.

إذن : ( فالتحقيق : إنّ حكم الشرط بجميع أقسامه ) الثلاثة على ما نقلناه أول المبحث عن الأوثق ( واحد ، سواء الحقناه ) أي : الشرط ( بالجزء أم بالمتباينين ) .

وعليه : فاذا كان مناط القلة والكثرة : الكم الخارجي فهما مفقودان في كِلا المثالين : الصلاة والرقبة ، فيلحقان بالمتباينين في وجوب الاحتياط والاتيان بالوضوء وبالرقبة المؤمنة ، فلا تجري البرائة فيهما ، وان كان مناط القلة والكثرة بحسب الكيف فهما موجودان في كليهما ، فيلزم جريان البرائة فيهما بلا فرق بين المثالين وان فرّق بينهما المحقق القمي .

ثم إنّ المصنّف شرع بعد ذلك في بيان اشكال آخر على المحقق القمي وهو : ان مختاره رحمه اللّه في الشك في المكلّف به - على ما تقدّم نقله عنه - هو : البرائة حتى في المتباينين ، وغاية ما يمكن هنا في القسم الثاني من الشروط كالايمان في الرقبة هو الحاقه من حيث الحكم بالمتباينين ، فلا يجتمع حينئذ قول المحقق القمي بالاشتغال في هذا القسم من الشرط مع قوله بالبرائة في المتباينين ، فان بينهما تدافعا واضحا .

وإلى هذا أشار المصنِّف بقوله : ( وامّا ما ذكره المحقق القمي قدس سره ) : من ان مقتضى قاعدة الاشتغال : اتيان المقيد في مثل الرقبة المؤمنة . ( فلا ينطبق على ما ذكره في باب البرائة والاحتياط : من اجراء البرائة حتى في المتباينين ) كما ذكرنا

ص: 383

فضلاً عن غيره ، فراجع .

وممّا ذكرنا يظهر الكلام في ما لو دار الأمر بين التخيير والتعيين ، كما لو دار الواجب في كفارة رمضان بين خصوص العتق للقادر عليه ، وبين إحدى الخصال الثلاث .

-------------------

تفصيل كلامه هناك ( فضلاً عن غيره ) أي : المطلق والمقيد ( فراجع ) كلامه وكلامنا هناك حتى تعرف التدافع بين كلاميه .

ثم لا يخفى : انه قد تكلمنا إلى هنا في امور ثلاثة :

الأوّل : الشك في الجزئية .

الثاني : الشك في الشرطية التي لها منشأ انتزاع في الخارج كالصلاة والوضوء .

الثالث : الشك في الشرطية التي ليس لها منشأ انتزاع في الخارج بأن كان متحدا مع المأمور به ، كالرقبة والايمان مما يكون متعلق الوجوب فيها كلي الرقبة ويكون تعلقه في المقام الامتثال بالفرد المؤمن تعيينا ، أو بأيّ فرد شاء تخييرا من باب العقل ، فيكون الشك في التعيين والتخيير فيها عقليا .

هذا ويبقى الكلام في أمر رابع وهو : ما كان الشك فيه أشار المصنِّف بقوله :

( وممّا ذكرنا ) في الأمر الثالث وهو الشك في انه هل يشترط عتق الرقبة بالايمان أم لا ؟ بمعنى التخيير والتعيين العقلي ( يظهر الكلام في ما لو دار الأمر بين التخيير والتعيين ) الشرعي ( كما لو دار الواجب في كفارة رمضان بين خصوص العتق للقادر عليه ، وبين إحدى الخصال الثلاث ) من العتق والاطعام والصيام ، فإنّ متعلق الوجوب في باب عتق الرقبة كلي ، وتعلقه في مقام الامتثال بالفرد المؤمن من الرقبة - مثلاً - عقلي ، بخلاف المقام ، فان المتعلق فيه نفس الفرد دون الكلي ، لانا نعلم بأن الكلي واجب وإنما نشك في ان الشارع أوجب

ص: 384

فانّ في الحاق ذلك بالأقل والأكثر ، فيكون نظير دوران الأمر بين المطلق والمقيد أو بالمتباينين وجهين ، بل قولين :

-------------------

خصوص هذا الفرد من الكلي أو أي فرد من أفراده الثلاثة ؟ .

أما الأوّل : وهو قول الشارع : اعتق رقبة ، فحيث نشك في وجوب عتق المؤمن من الرقبة أو ان كلي الرقبة باق على حقيقته ومع بقائه يجوز عتق أيّ فرد من افراده، فاذا شككنا فان الأصل فيه : انّ كلي الرقبة باق على حاله ، إلاّ إذا دلّ دليل على خصوص المؤمن منها .

وأمّا الثاني : وهو قول الشارع بوجوب الكفارة من الخصال الثلاث فانا نعلم بأنّ الشارع عيّن افراد الكلي : من الصيام والاطعام والعتق ، لكنا نشك في انه هل يلزم عين أحدها وهي الرقبة للقادر ، أو يجوز حتى للقادر ما شاء من الثلاثة ؟ فاذا شككنا فالأصل فيه ان كلاً من الخصال الثلاثة جائز أيضا ، إلاّ إذا دل الدليل على خصوص أحدها .

وعليه : ( فإنّ في الحاق ذلك ) الذي دار الأمر فيه بين التخيير والتعيين الشرعي مثل خصال الكفارة ( بالأقل والأكثر ) فنقول : ان في التعيين كلفة زائدة على الكلفة في التخيير ، فالأصل التخيير لانه القدر المتيقن ، إلاّ إذا دل على التعيين دليل ( فيكون نظير دوران الأمر بين المطلق والمقيد ) في زيادة الكلفة في المقيّد وقلتها في المطلق فيجري فيه البرائة من الزائد .

( أو ) الحاق ذلك ( بالمتباينين ) فنقول : بعدم وجود قدر مشترك معلوم حتى يجب على كل حال ، وزائد مشكوك حتى ينفى بالأصل ، فيلزم فيه الاحتياط والاتيان بخصوص العتق للقادر عليه ، فان فيه ( وجهين بل قولين ) كما قال :

ص: 385

من عدم جريان أدلة البرائة فيالمعيّن ، لانّه معارضٌ بجريانها في الواحد المخيّر ، وليس بينهما قدر مشترك خارجي أو ذهني يُعْلَم تفصيلاً وجوبه فَيُشَكُّ في جزء زائد خارجي أو ذهني .

-------------------

( من عدم جريان أدلة البرائة في المعيّن ) وهو العتق في المثال ( لانه معارضٌ بجريانها في الواحد المخيّر ) فان أصالة عدم ايجاب الشارع خصوص العتق معارض بأصالة عدم إيجابه إحدى الخصال الثلاث ، لأنّ الايجاب شيء حادث لم نعلم هل تعلق بالفرد أو بالخصال؟ فأصالة عدم تعلقه بهذا يعارض أصالة عدم تعلقه بالآخر .

هذا ( وليس بينهما قدر مشترك خارجي أو ذهني يُعْلَم تفصيلاً وجوبه ) أي : وجوب ذلك القدر المشترك ( فَيُشَكُّ في جزء زائد خارجي أو ذهني ) على ذلك القدر المشترك ، فيجري أصل العدم بالنسبة إلى ذلك الجزء الخارجي أو الذهني الزائد ، فانه كما قال ليس بينهما قدر مشترك حتى يجري في الزائد البرائة .

وإنّما لم يكن بينهما قدر مشترك لأن اختيار العتق يباين اختيار الاطعام أو الصيام تباينا في الخارج وفي الذهن معا ، وليس مثل الصلاة مع السورة والصلاة بدون السورة ، لوضوح : إنّ الأجزاء التسعة المتيقنة قدر مشترك بين الصلاتين اشتراكا خارجيا ، وهذا القدر المشترك معلوم الوجوب ، والسورة أمر زائد خارجي مشكوك فيه فيجري أصل البرائة بالنسبة إلى السورة ويؤتى بالأجزاء التسعة المتيقنة .

كما ان العتق في مقابل الصيام والاطعام من الخصال ليس من قبيل الرقبة المؤمنة والرقبة الكافرة ، حتى يقال : الرقبة جنس معلوم الوجوب مشترك اشتراكا ذهنيا بين الرقبتين فيجب لانه القدر المتيقن ، والايمان أمر زائد ذهني مشكوك

ص: 386

ومن أنّ الالزام بخصوص أحدهما كلفة زائدة على الالزام بأحدهما في الجملة ، وهو ضيق على المكلّف ، وحيث لم يعلم المكلّف بتلك الكلفة فهي موضوعة عن المكلّف بحكم « ما حجب اللّه علمه عن العِباد » وحيث لم يعلم بذلك الضيق فهو في سعة منه ، بحكم : « الناسُ في سعة

-------------------

فيه ، فيجري البرائة منه ، فانّ ما نحن فيه ليس كذلك ، بل هو ملحق بالمتباينين لانتفاء القدر المشترك بينهما ، فلا يكون الشيء المشكوك زائدا خارجيا أو ذهنيا حتى يجري فيه البرائة .

هذا وجه إلحاق ما دار أمره بين التخيير والتعيين شرعا بالمتباينين ، وأمّا وجه إلحاقه بالأقل والأكثر فهو ما أشار اليه بقوله : ( ومن أنّ الالزام بخصوص أحدهما ) أي : العتق في قبال الصيام والاطعام ( كلفة زائدة على الالزام بأحدهما في الجملة ) أي : بواحد من الثلاثة : العتق والصيام والاطعام ، ( وهو ) أي : الالزام بخصوص أحدهما ( ضيق على المكلّف ، وحيث لم يعلم المكلّف بتلك الكلفة ) لان المتيقن هو الجامع بين الخصال الثلاث ( فهي ) أي : هذه الكلفة الزائدة المشكوكة ( موضوعة عن المكلّف بحكم: « ما حجب اللّه علمه عن العِباد » (1) ) وبحكم : « رفع ... ما لا يعلمون » (2) وما أشبه ذلك .

( وحيث لم يعلم بذلك الضيق فهو في سعة منه ، بحكم : « الناس في سعة

ص: 387


1- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .
2- - تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 ح27 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

ما لم يعلموا » .

وأمّا وجوب الواحد المردّد بين المعيّن والمخيّر فيه فهو معلوم ، فليس موضوعا عنه ولا هو في سعة من جهته ، والمسألة في غاية الاشكال ، لعدم الجزم باستقلال العقل بالبرائة عن التعيين بعد العلم الاجمالي وعدم كون المعيّن المشكوك فيه أمرا خارجا عن المكلّف به مأخوذا فيه على وجه الشطريّة أو الشرطيّة ،

-------------------

ما لم يعلموا » (1) ) فتنفى الكلفة الزائدة بالأصل ويبقى الجامع .

(وأمّا وجوب الواحد المردّد بين المعيّن والمخيّر فيه) بمعنى: وجوب أحدهما على سبيل التخيير ( فهو معلوم ، فليس موضوعا عنه ) لانّ الموضوع عن العبد هو ما لا يعلم ، وهذا ما يعلمه ( ولا هو في سعة من جهته ) أيضا لفرض علمه به .

وعلى ما ذكرناه من الوجهين المتكافئين حيث قلنا : من عدم جريان أدلة البرائة، وقلنا : ومن ان الالزام بخصوص أحدهما كلفة زائدة ( والمسألة في غاية الاشكال ، لعدم الجزم باستقلال العقل بالبرائة عن التعيين بعد العلم الاجمالي ) بوجوب الأمر المردّد بين المعيّن والمخيّر .

هذا من جهة ( وعدم كون المعيّن المشكوك فيه أمرا خارجا عن المكلّف به مأخوذا فيه على وجه الشطريّة أو الشرطيّة ) من جهة اُخرى ، والشطر : هو الجزء ، والشرط : هو ما يكون المكلّف به ، مشروطا به كالطهارة في الصلاة ، وكالايمان في الرقبة ، فان العتق ليس كالسورة خارجا عن المكلّف به مأخوذا فيه على نحو الجزئية ، كما انه ليس كالطهارة خارجا عن المكلّف به مأخوذا فيه على نحو

ص: 388


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص424 ح109 ، مستدرك الوسائل : ج18 ص20 ب12 ح21886 .

بل هو على تقديره عينُ المكلّف به ، والاخبار غير منصرفة إلى نفي التعيين ؛ لأنه في معنى نفي الواحد المعيّن ، فيعارضُ بنفي الواحد المخيّر.

فلعل الحكم بوجوب الاحتياط والحاقه بالمتباينين لا يخلو عن قوة ، بل الحكم في الشرط وإلحاقه بالجزء لا يخلو عن اشكال ، لكن الأقوى فيه الالحاقُ .

-------------------

الشرطية ( بل هو ) أي : العتق ( على تقديره ) أي : على تقدير التعيين ( عين المكلّف به ) ولذلك فالمسألة مشكلة جدا .

هذا كله حكم العقل في التعيين والتخيير عند المصنِّف ( و ) أما حكم الشرع في التعيين والتخيير ، فان ( الأخبار ) الدالة على البرائة ( غير منصرفة إلى نفي التعيين ) أي : لا تشمل ذلك ( لأنّه ) أي : نفي التعيين ( في معنى : نفي الواحد المعيّن ) فاذا انتفى الواحد المعيّن كان المكلّف مخيّرا ( فيعارض بنفي الواحد المخيّر ) وإذا تعارض الأمران تساقطا .

وحينئذ : ( فلعل الحكم بوجوب الاحتياط والحاقه بالمتباينين لا يخلو عن قوة ) فيلزم الاتيان بالواحد المعيّن لما تقدّم : من ان اختيار العتق يباين اختيار الاطعام أو الصيام ( بل الحكم في الشرط وإلحاقه بالجزء لا يخلو عن اشكال ) فاللازم : الاحتياط .

( لكن الأقوى فيه : الالحاق ) بالجزء لما عرفت : من وجود قدر مشترك متيقن يجب على كل حال ، وزائد مشكوك فيه ينفى بالأصل ، وذلك من غير فرق بين أن يكون الزائد خارجيا كالسورة ، أو ذهنيا كالايمان .

والحاصل : إنّ الكلفة الزائدة في كل من الجزء والشرط منفية بالأصل

ص: 389

فالمسائل الأربع في الشرط حكمها حكم مسائل الجزء ، فراجع .

ثمّ إنّ مرجع الشك في المانعية إلى الشك في شرطية عدمه .

-------------------

عقلاً ونقلاً ( فالمسائل الأربع في الشرط ) : من فقد النص ، أو اجماله ، أو تعارضه ، أو كون الشك من جهة الاُمور الخارجية ( حكمها حكم مسائل الجزء ) من غير تفاوت اطلاقا ( فراجع ) مسائل الجزء حتى تعرف إنّ مسائل الشرط مثلها طابق النعل بالنعل .

هذا تمام الكلام في الشك في الشرط .

أمّا الشك في المانع كالحدث ، أو القاطع كالبكاء بدون صوت ، فهو كما إذا شككنا بأنّه هل يشترطان في صلاة الميت - مثلاً - أو ان الأصل ينفيهما بان لا يكون الحدث مانعا أو البكاء قاطعا لصلاة الميت؟ احتمالان وان كان مقتضى القاعدة : أصالة عدم المانعية ، وعدم القاطعية ، والفرق بين المانع والقاطع - كما قيل - هو : ان عدم الشيء ان كان بنفسه شرطا في المركب كالحدث بالنسبة إلى الصلاة فهو مانع ، وان كان اعتباره من جهة ان وجوده مخل بالهيئة الاتصالية التي هي من شرائط الصلاة فهو قاطع .

وإلى هذا أشار المصنِّف بقوله : ( ثم ان مرجع الشك في المانعية إلى الشك في شرطية عدمه ) من حيث جريان البرائة فيهما ، فاذا قلنا : الحدث مانع عن الصلاة كان معناه : ان عدم الحدث شرط للصلاة ، فيكون الشك في مانعية شيء - كالشك في شرطية شيء - مرجعه الى البرائة ، وهذا الكلام من المصنِّف دفع لما ربما يتوهم في المقام من الفرق بين الشك في الشرط ووجوب احرازه بالاحتياط ، وبين الشك في المانع ودفعه بأصل العدم ، فيمكن للقائل بالاحتياط في الشرط أن يقول بعدم وجوب الاحتياط في المانع ، لتمسكه فيه بأصالة البرائة .

ص: 390

وأمّا الشك في القاطعية ، بان يعلم أنّ عدم الشيء لا مدخل له في العبادة إلاّ من جهة قطعه للهيئة الاتصالية المعتبرة في نظر الشارع فالحكم فيه استصحاب الهيئة الاتصالية وعدم خروج الأجزاء السابقة عن قابلية صيرورتها أجزاءا فعلية ؛ وسيتضح بعد ذلك إن شاء اللّه .

ثم إنّ الشك في الجزئية أو الشرطية

-------------------

( وأمّا الشك في القاطعية ، بأن يعلم ان عدم الشيء لا مدخل له في العبادة إلاّ من جهة قطعه للهيئة الاتصالية المعتبرة في نظر الشارع ) في مثل الصلاة ، وقد قال بعض المحشين : ان القاطع فرد من المانع في الحقيقة ، إلاّ ان المانع يقال لما يمنع أصل الفعل ، والقاطع لما يمنع الهيئة الاتصالية التي قررها الشارع .

وعلى أي حال : فلازم المانعية : انه لابد من احراز عدمه قبل الدخول في العمل، بخلاف القاطعية فانها لا تتحقق إلاّ بعد الدخول في العمل .

وكيف كان : فاذا شككنا في القاطع ( فالحكم فيه استصحاب الهيئة الاتصالية وعدم خروج الأجزاء السابقة عن قابلية صيرورتها أجزاءا فعلية ) فان الأجزاء السابقة لولا هذا المحتمل القاطعية ، كانت صالحة لان تكون أجزاءا فعلية للصلاة بلحوق سائر الأجزاء بها ، فاذا شككنا في قاطعية شيء نستصحب تلك الصلاحية للأجزاء السابقة .

إذن : فالاستصحاب يجري عند الشك في القاطع ، لكن الاستصحاب لا يجري عند الشك في المانع ( وسيتضح بعد ذلك ان شاء اللّه ) تعالى ، فانه حيث لا مجال للشرح في تحقيق هذه الاُمور هنا بأكثر من هذا ندعها لموضعها .

( ثم ان الشك في الجزئية أو الشرطية ) على قسمين : الاول : ما ينشأ عن فقدان النص أو اجماله أو تعارضه أو اشتباه الموضوع على ما سبق .

ص: 391

قد ينشأ عن الشك في حكم تكليفي نفسيّ ، فيصير أصالة البرائة في ذلك الحكم التكليفي حاكما على الأصل في الشرطية والجزئية ، فيخرج عن موضوع مسألة الاحتياط والبرائة ، فيحكم بما يقتضيه الأصل الحاكم من وجوب ذلك المشكوك في شرطيّته أو عدم وجوبه .

-------------------

الثاني : ما أشار اليه بقوله : ( قد ينشأ عن الشك في حكم تكليفي نفسيّ ) كما إذا شك في كون عدم شيء شرطا للصلاة أم لا من جهة شكه في حرمته ، فاذا نفينا الحرمة بالأصل انتفت الشرطية لانّ الشك في الشرطية مسبب عن ذلك الشك في الحكم التكليفي .

مثلاً : الغصب ولبس الحرير والتزيّن بالذهب للرجال وغيرها من المحرمات النفسية عدمها شرط للصلاة ، وذلك من باب امتناع اجتماع الأمر والنهي ، لكن إذا شك - مثلاً - في لبس الحرير عند الخوف الشديد - في غير الحرب - مما يوجب تقوية القلب ، فالشك في الحرمة يكون منشئا للشك في ان عدمه شرط في الصلاة أم لا؟ ( فيصير أصالة البرائة في ذلك الحكم التكليفي حاكما على الأصل في الشرطية والجزئية ) لتقدم الأصل في الشك السببي على الأصل في الشك المسببي كما علم في موضعه .

وعليه : ( فيخرج عن موضوع مسألة الاحتياط والبرائة ) إذ لا وجه للبحث في أنّ الأصل في هذا الشرط هو البرائة أو الاحتياط بعد جريان الأمر في السبب ، بل اللازم التكلم في نفس السبب المشكوك والبحث في انه حرام أم لا ؟ .

وحينئذ : ( فيحكم بما يقتضيه الأصل الحاكم ) هنا : ( من وجوب ذلك المشكوك في شرطيّته ) أي : وجوب ترك الحرير في حال شدة الخوف - مثلاً - كما يقول به الاخباريون ( أو عدم وجوبه ) كما هو مذهب الاصوليين ، وحيث لم

ص: 392

وينبغي التنبيه على امور متعلقة بالجزء والشرط

الأوّل :

إذا ثبت جزئيّة شيء وشك في ركنيّته ، فهل الأصلُ كونُه ركنا أو عدم كونه كذلك ، أو مبنيٌّ على مسألة البرائة والاحتياط في الشك في الجزئية ، أو التبعيض بين أحكام الركن فيحكم ببعضها وينفى بعضها الآخر ؟ وجوهٌ ،

-------------------

يكن تركه واجبا لا يكون عدمه شرطا للصلاة فتصح الصلاة فيه .

هذا ( وينبغي التنبيه على امور متعلقة بالجزء والشرط ) سواء كان وجوده شرطا أم وجوده مانعا على ما تقدّم :

( الأوّل : إذا ثبت جزئيّة شيء وشك في ركنيّته ، فهل الأصل كونه ركنا؟ ) والركن في اصطلاحهم ما يوجب زيادته أو نقصه بطلان العمل ، عمدا كان أو سهوا ، جهلاً تقصيريا كان أو قصوريا ، وغير ذلك ؟ .

( أو عدم كونه كذلك ) أي : ركنا؟ .

( أو مبنيّ على مسألة البرائة والاحتياط في الشك في الجزئية ) فما نقوله هناك نقول به هنا ؟ ( أو التبعيض بين أحكام الركن فيحكم ببعضها وينفى بعضها الآخر؟ وجوهٌ ) :

الأوّل : هو ما اختاره المصنِّف : من كون مقتضى الأصل الركنية على ما سيأتي .

الثاني : هو ما اختاره بعض : من كون الأصل عدم الركنية .

الثالث : هو ما نقل عن صاحب المطالع : من ابتناء الأصل في المقام على مسألة البرائة والاحتياط في الشك في الجزئية ، لأنّ النزاع في المقام يرجع في الحقيقة

ص: 393

لا نعرف الحق منها إلاّ بعد معرفة معنى الركن ، فنقول :

إنّ الركن في اللغة والعرف معروفٌ ، وليس له في الأخبار ذكرٌ حتى يتعرّض لمعناه في زمان صدور تلك الأخبار ،

-------------------

إلى ان ذلك الجزء جزء في حال الغفلة والنسيان أم لا ، فمن بنى في تلك المسألة على البرائة فمقتضى الأصل عدم الركنية ، ومن بنى في تلك المسألة على الاحتياط فمقتضى الأصل هو الركنية .

الرابع : هو ما حكي عن المفاتيح : من التفصيل بين ما كان لدليل العبادة التي شك في ركنية جزئها اطلاق مع كون دليل الجزء مجملاً ، فالأصل عدم الركنية ، لأنّ المرجع عند الشك اطلاق المطلق ، والمفروض ان دليل الجزء مجمل ، وبين ما لم يكن له اطلاق فالأصل هو الركنية .

الخامس : هو ما فصّله بعض : من التبعيض بين أحكام الركن بالنسبة إلى الزيادة والنقيصة .

وهذه الوجوه ( لا نعرف الحق منها إلاّ بعد معرفة معنى الركن ) إذ التحقيق في الحكم لا يمكن إلاّ بعد التحقيق في موضوعه ( فنقول : ان الركن في اللغة والعرف معروفٌ ) فإنّ الركن فيهما يطلق على ما به قوام الشيء كالحائط بالنسبة إلى السقف ، واللحم بالنسبة إلى ماء اللحم ، وما أشبه ذلك ( وليس له في الأخبار ) المرتبطة بما نحن فيه ( ذكرٌ حتى يتعرّض لمعناه في زمان صدور تلك الأخبار ) وما ورد في بعض الأخبار من ذكر الركن مثل ما ورد في زيارة وارث : « أشهد أنك من دعائم الدين وأركان المؤمنين » (1) فليس من محل البحث .

ص: 394


1- - بحار الانوار : ج101 ص200 ب18 ح32 ، الدعاء والزيارة : ص697 للشارح .

بل هو اصطلاحٌ خاصٌ للفقهاء ، وقد اختلفوا في تعريفه بين من قال : بأنّه ما تبطل العبادةُ بنقصه عمدا وسهوا ، وبين من عطف على النقص زيادتَه ، والأولُ أوفق بالمعنى اللغوي والعرفي .

وحينئذٍ : فكلُّ جزء ثبت في الشرع بطلانُ العبادة بالاخلال في طرف النقيصة

-------------------

( بل هو اصطلاح ) جديد ( خاص للفقهاء ) والاصوليين ( وقد اختلفوا في تعريفه بين من قال : بأنّه ما تبطل العبادة بنقصه عمدا وسهوا ) فالمدار النقص ، أما الزيادة فلم يتعرّض له هذا القائل ( وبين من عطف على النقص زيادته ) فعرّف الركن : بانه ما تبطل العبادة بزيادته أو نقيصته عمدا وسهوا .

قال في الأوثق : قد حكي هنا تعريفان آخران : أحدهما : ان الركن ما تقوّمت به المهية وهو المطابق لمعناه العرفي ، وعليه : فغير الركن بقرينة المقابلة : ما لم تنتف المهية بانتفائه .

الثاني : ان الركن هو ما كان مدار صدق اسم المركب على وجوده (1) .

قال المصنِّف : ( والأوّل ) وهو ما تبطل العبادة بنقصه عمدا أو سهوا ( أوفق بالمعنى اللغوي والعرفي ) لوضوح : انه لا يبطل السقف - مثلاً - بزيادة أركانه ، وإنما البطلان يكون بالنقيصة فقط .

( وحينئذ ) أي : حين كان للركن هذان التعريفان ( فكلُّ جزء ثبت في الشرع ) بدليل من كتاب أو سنة أو اجماع أو عقل مع ثبوت الملازمة بين العقل والشرع ( بطلان العبادة بالاخلال ) به عمدا أو سهوا ( في طرف النقيصة ) على القول

ص: 395


1- - أوثق الوسائل : ص376 و ص377 حكم الاختلال بالجزء الثابت شرعا وما يقتضيه الاصل .

أو فيه وفي طرف الزيادة ، فهو ركنٌ .

فالمهمّ بيانُ حكم الاخلال بالجزء في طرف النقيصة أو الزيادة ، وأنّه إذا ثبت جزئيته ، فهل الأصلُ يقتضي بطلان المركب بنقصه سهوا كما يبطل عمدا وإلاّ لم يكن جزءا ؟ .

-------------------

الاوّل ( أو فيه وفي طرف الزيادة ) على القول الثاني ( فهو ركنٌ ) .

ولازم ذلك : ان كل جزء ثبت بالدليل عدم بطلان العبادة بالاخلال به نقصا أو زيادة ، فهو ليس بركن .

أمّا كل جزء لم يثبت فيه أحد الأمرين بالدليل يعني : لم يثبت ان زيادته ونقيصته مخل أو ليس بمخل فهو مشكوك الركنية ، فلابد في ذلك المشكوك من الرجوع إلى القواعد الأولية لمعرفته ، فيكون البحث في الركن على ذلك ليس مهما ، وإنما المهم أن نذكر موازين الشرع في أن الاختلال بالجزء بعد ثبوت جزئيته هل يضر أو لا يضر؟ كما قال :

( فالمهمّ : بيان حكم الاخلال بالجزء في طرف النقيصة ، أو الزيادة ) ومن الواضح : انه إذا كان النقص أو الزيادة موجبا للبطلان ، فالجمع بينهما يوجبه بطريق أولى .

وكيف كان : فالمهم هنا بيان حكم الاخلال بالجزء ( وأنّه إذا ثبت جزئيته فهل الأصل يقتضي بطلان المركب بنقصه سهوا كما يبطل عمدا ؟ ) لوضوح إبطال النقيصة العمدية ( وإلاّ لم يكن جزءا ؟ ) فان كل شيء جعل جزءا لشيء عبادة أو معاملة ، أو حتى في الاُمور العرفية إذا لم يؤت به لم يتحقق ذلك الشيء المركب .

ص: 396

فهنا مسائل ثلاث : بطلان العبادة بتركه سهوا ، وبطلانها بزيادته عمدا، وبطلانها بزيادته سهوا .

-------------------

إذن : ( فهنا مسائل ثلاث ) كما يلي :

( بطلان العبادة بتركه سهوا ) امّا تركه عمدا فقد عرفت : انه مبطل قطعا .

( وبطلانها بزيادته عمدا ) لا سهوا .

( وبطلانها بزيادته سهوا ) والمراد بالسهو كما تقدّم : أعم من الجهل والغفلة والنسيان وما أشبه ذلك .

انتهى الجزء التاسع

ويليه الجزء العاشر في المسألة الاولى

في بطلان العبادة بترك الجزء سهوا

وله الحمد والشكر

ص: 397

ص: 398

المحتويات

التنبيه الخامس : ... 5

التنبيه السادس : ... 16

التنبيه السابع : ... 26

التنبيه الثامن : ... 38

التنبيه التاسع : ... 43

المقام الثاني في الشبهة غير المحصورة... 45

أدلة عدم وجوب الاجتناب

الدليل الأوّل : الاجماع ... 45

الدليل الثاني : لزوم المشقّة في الاجتناب ... 46

الدليل الثالث : الأخبار الدالّة على الحليّة ... 60

الدليل الرابع : الأخبار الأخرى 65

الدليل الخامس : أصالة البرائة ... 68

الدليل السادس : عدم ابتلاء المكلّف ... 73

بحوث في الشبهة غير المحصورة

الأوّل : ارتكاب جميع المشتبهات ... 75

الثاني : تعيين الضابط في المحصورة ... 80

الثالث : شبهة الكثير في الكثير ... 100

الرابع : مسائل الشّك في الحرام مع العلم بالحرمة ... 103

المطلب الثاني في اشتباه الواجب بغير الحرام... 107

القسم الأوّل : دوران الأمر بين المتباينين ... 109

ص: 399

المسألة الاُولى : الاشتباه من جهة عدم النص ... 109

المسألة الثانية : الاشتباه من جهة اجمال النص ... 170

المسألة الثالثة : الاشتباه من جهة تكافؤ النصّين ... 182

المسألة الرابعة : الاشتباه من جهة اشتباه الموضوع ... 184

تنبيهات

التنبيه الأوّل : ... 190

التنبيه الثاني : ... 198

التنبيه الثالث : ... 202

التنبيه الرابع : ... 205

التنبيه الخامس : ... 207

التنبيه السادس : ... 214

التنبيه السابع : ... 218

دوران الواجب بين الأقل والأكثر ... 228

مسائل القسم الأوّل

المسألة الاُولى : ... 232

الدليل الأوّل لجريان البرائة في الجزء المشكوك ... 234

الدليل الثاني لجريان البرائة في الجزء المشكوك ... 272

المسألة الثانية : ... 315

المسألة الثالثة : ... 352

المسألة الرابعة : ... 366

القسم الثاني : الشك في كون الشيء قيدا للمأمور به ... 371

تنبيهات

التنبيه الأوّل : ... 393

المحتويات ... 399

ص: 400

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.