الوصائل الى الرسائل المجلد 8

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

ص: 4

إشارة

والثاني : كما إذا حصل الشكّ باحتمال وجود النقيض لما قام عليه الدليل الشرعيّ احتمالاً مستندا إلى بعض الأسباب المجوّزة ، كما إذا كان مقتضى الدليل الشرعيّ إباحة شيء وحلّيّته ، لكن يحتمل قريبا بسبب بعض تلك الأسباب أنّه ممّا حرّمه الشارع .

ومنه جوائز الجائر ، ونكاح امرأة بلغك أنّها أرضعت معك الرضاع المحرّم ولم يثبت شرعا .

-------------------

( والثاني ) : أي : مورد الاحتياط المستحب فهو ( كما اذا حصل الشك ) في الحكم ( باحتمال وجود النقيض لما قام عليه الدّليل الشّرعي ) بأن كان هناك دليل شرعيّ على الحليّة ونحتمل وجود دليل آخر على الحرمة ، وانّما نحتمل هذا ( احتمالاً مستنداً الى بعض الأسباب المجوّزة ) للاحتمال عقلاً ( كما اذا كان مقتضى الدّليل الشرعيّ ) من مثل : « يد المسلم » ، « وسوق المسلمين » ، ونحوهما ( اباحة شيء وحليته ، لكن يحتمل قريباً ) نقيضه ( بسبب بعض تلك الأسباب ) المجوزة ( انّه ممّا حرّمه الشارع ) علينا .

( ومنه : جوائز الجائر ) فانّ مقتضى يده : الملكية سواء كان مسلماً أو كافراً ، اذ يد الكافر أيضاً أمارة على ملكيته ، ولذا يجوز لنا الاشتراء من الكفار اذا لم نعلم ان يدهم يد غصب ونحوه ، فيحل للأخذ ما أعطاه الجائر جائزة أو هبة أو ما أشبه ذلك ، ولكن من الواضح : انّه يحتمل فيه عقلاً كونه ممّا أخذه من الناس غصباً ،أو رشوة ، أو نهباً ، أو ما أشبه ذلك ، ممّا يعتاده الجائرون .

( ونكاح امرأة بلغك انّها أرضعت معك الرّضاع المحرّم ) بان كانت اختك من الرضاعة رضاعة جامعة لشرائط التحريم ( و ) لكن ( لم يثبت شرعاً ) انّها اختك من الرضاعة ، وذلك لعدم شهادة عدلين أو ماأشبه ذلك ، ممّا يوجب الاثبات

ص: 5

ومنه أيضا الدليل المرجوح في نظر الفقيه .

أمّا إذا لم يحصل ما يوجب الشكّ والرّيبة ، فانّه يعمل على ماظهر له من الأدلّة وإن احتمل النقيض في الواقع ولا يستحبّ له الاحتياط ،

-------------------

الشرعيّ ، فانّ من الواضح : انّه يحل نكاحها بمقتضى أصالة عدم الرضاع المحرّم ، لأنها كانت محللة ونشك في رضاعها الرضاع المحرّم ، فالأصل عدم رضاعها كذلك وانّ احتملنا الحرمة من جهة الرضاع الكامل ، فانّ الشارع لم يوجب لنا الاحتياط في أمثال هذه الشبهات الموضوعية .

وكهذين المثالين : ما لو اشترينا اللحم من مسلم ، أو من سوق المسلمين ، أو وجدناه في أرضهم حيث يحكم بحليته وانّ احتملنا حرمته بسبب عدم جريان الشرائط في تذكيته ، أ و احتملنا انّه لحم غير محلل كلحم الأرنب ونحوه .

( ومنه ) أي : من الثاني الذي يستحب الاحتياط فيه ( أيضاً : الدليل المرجوح في نظر الفقيه ) كما اذا دلّ خبر صحيح على حلية شيء ، وخبر آخر ضعيف بنظر الفقيه على حرمته ، فانّه يجوز له الافتاء والعمل طبق الخبر الأوّل الدال على الحلية وانّ استحب له الاحتياط في الفتوى والعمل ، لكن اذا أفتى بالاحتياط يجب انّ لا يفتي بالاحتياط الوجوبي ، بل يفتي بالاحتياط الاستحبابي - كما هو واضح - .

( أمّا اذا لم يحصل ما يوجب الشك والرّيبة ) بأن لم يكن هناك منشا عقلائي لاحتمال الحرمة اطلاقاً ، وانّ كان احتمال وهمي عليه ( فانه يعمل على ما ظهر له من الأدلة ) على الحلية ( وان احتمل النقيض ) للحلية بأن احتمل الحرمة ( في الواقع ) لكن مثل هذه الاحتمالات الوهمية لا يعتنى بها عقلا ولا شرعاً ( ولا يستحب له الاحتياط ) بمجرد هذا الاحتمال الموهوم

ص: 6

بل ربما كان مرجوحا لاستفاضة الأخبار بالنهي عن السؤال عند الشراء من سوق المسلمين » .

ثم ذكر الأمثلة للأقسام الثلاثة لوجوب الاحتياط ، أعني اشتباه الدليل وتردّده بين الوجوب والاستحباب وتعارض الدليلين وعدم النصّ ، قال : « ومن هذا القسم ما لم يرد فيه نصّ من الأحكام التي لا يعمّ به البلوى

-------------------

( بل ربما كان ) الاحتياط ( مرجوحاً ) وذلك ( لاستفاضة الأخبار بالنهي عن السؤل ) عن الحلية وعن توفر الشرائط ( عند الشراء من سوق المسلمين ) (1) .

هذا ( ثم ذكر ) المحدّث البحراني ( الأمثلة للأقسام الثلاثة لوجوب الاحتياط ) ممّا يشمل الشبهة الوجوبية ايضاً ، و ( أعني ) : من الاقسام الثلاثة مايلي :

أوّلاً : ( اشتباه الدليل ) بمعنى : اجماله ( وتردده بين الوجوب والاستحباب ) .

ثانياً : ( وتعارض الدليلين ) .

ثالثاً : ( وعدم النّص ) .

ثمّ ( قال : ومن هذا القسم ) أي : القسم الذي يجب فيه الاحتياط ممّا يشمل الشبهة الوجوبية والشبهة التحريمية ( ما لم يرد فيه نصّ من الأحكام ) با ٔ لم يكن هناك نص على الوجوب في الشبهة الوجوبية ، ولا نصّ على التحريم في الشبهة التحريمية ، وهذا ظاهر في انّ المحدّث البحراني يقول بوجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية الناشئة من فقد النصّ ، فانّ ما لم يرد فيه نص من الأحكام ( التي لا يعمّ به البلوى ) يجب فيه الاحتياط .

ص: 7


1- - الحدائق الناظرة : ج 1 ص 68 .

عند من لم يعتمد على البراءة الأصليّة ، فانّ الحكم فيه ما ذكرنا ، كما سلف » ، انتهى .

وممّن يظهر منه وجوب الاحتياط هنا المحدّث الاستراباديّ ، حيث حكي عنه في الفوائد المدنية أنّه قال : « إنّ التمسّك بالبراءة الأصليّة إنّما يجوز قبل إكمال الدين .

-------------------

أما ما يعم به البلوى فيستصحب البرائة الاصلية ، لأنه لو كان عام البلوى ولم يرد فيه نص على الوجوب أو على التحريم ، دل عدم النص على أن الشارع لا يريد فيه حكماً الزامياً ، ومن ذلك يظهر عرفاً : انّه مباح للمكلّف .

لكن تخصيص وجوب الاحتياط بصورة عدم عموم البلوى ، إنّما هو ( عند من لم يعتمد على البرائة الأصليّة ) وهم الأخباريون ، أما من يعتمد على البرائة الأصليّة وهم الاُصوليون فانهم يجرون البرائة ،سواء كان الحكم المشكوك فيه ممّا يعم به البلوى ام ممّا لا يعم به البلوى ؟ ( فانّ ) ما لا يعم به البلوى يكون ( الحكم فيه ما ذكرنا ) : من الاحتياط والتوقف ( كما سلف (1) ، انتهى ) كلام المحدِّث البحراني .

( وممّن يظهر منه وجوب الاحتياط هنا ) أي : في الشبهة الوجوبية من جهة عدم النص المعتبر ( : المحدّث الاسترابادي حيث حكي عنه في ) كتابه ( الفوائد المدنية انّه قال : انّ التمسك بالبرائة الأصليّة انّما يجوز قبل اكمال الدين ) فانّ في زمن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم قبل نزول آية : « اليَومَ أكمَلتُ لَكُم دينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم

ص: 8


1- - الحدائق الناظرة : ج 1 ص 70 .

وأمّا بعد تواتر الأخبار بأنّ كلّ واقعة يحتاج إليها الى يوم القيامة فيها خطاب قطعيّ من اللّه فلا يجوز قطعا .

وكيف يجوز وقد تواترت عنهم عليهم السلام ، وجوبُ التوقّف فيما لا يعلم حكمه معلّلين بأنّه بعد أن كملت الشريعة لا تخلو واقعة عن حكم قطعيّ وارد من اللّه تعالى ،

-------------------

نِعمَتي ، وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلامَ دِيناً » (1) اذا لم يعرف مسلم حكماً من الأحكام ، وانه هل هو واجب أو لا ؟ او هل هو محرم أو لا ؟ يجوز له التمسك بالبرائة الأصليّة .

( وأمّا بعد تواتر الأخبار بأن كلّ واقعة يحتاج اليها الى يوم القيامة فيها خطاب قطعي من اللّه ) كما قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « ما من شيء يقرّبكم الى الجنة ويبعّدكم عن النار الاّ وقَد أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم الى النار ويبعّدكم عن الجنة الاّ وقد نهيتكم عنه » (2) ( فلا يجوز ) العمل بالبرائة الأصليّة ( قطعاً ) بلا ريب .

( وكيف يجوز وقد تواترت عنهم عليهم السلام وجوب التّوقف فيما لا يعلم حكمه ؟ ) ممّا هو شامل للشبهة الوجوبية والشبهة التحريمية ( معللين بانّه بعد ان كملت الشّريعة لا تخلو واقعة عن حكم قطعي وارد من اللّه تعالى ) فاللازم البحث والفحص عنه ، فانّ ظفرنا به علمنا به ، وانّ لم نظفر به وجب علينا التوقف والاحتياط .

ص: 9


1- - سورة المائدة : الآية 3 .
2- - مستدرك الوسائل : ج13 ص27 ب10 ح14643 وقريب منه في الكافي اصول : ج2 ص74 ح2 ووسائل الشيعة : ج17 ص45 ب12 ح21939 وبحار الانوار : ج7 ص96 ب47 ح3 .

ومن حكم بغير ما أنزل اللّه تعالى فاولئك هم الكافرون .

ثم أقول : هذا المقام ممّا زلّت فيه أقدام أقوام من فحول العلماء ، فحريٌّ بنا أن نحقّق المقام ونوضّحه بتوفيق الملك العلاّم ودلالة أهل الذكر عليهم السلام .

فنقول : التمسّك بالبراءة الأصليّة إنّما يتمّ عند الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح الذاتيّين ،

-------------------

هذا ( و ) قد قال سبحانه : انّ ( من حكم بغير ما أنزل اللّه تعالى فأولئك هم الكافرون ) (1) ، ونص الآية :« وَمَن لَم يَحكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فأُولئِكَ هُم الكَافرُونَ» (2) وفي آية أخرى : « وَمَن لَم يَحكُم بِما أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظالِمُونَ »(3) .

وفي آية ثالثة : « وَمَن لَم يَحكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُم الفَاسِقُونَ » (4) .

إذن : فمن يعمل بالبرائة الاصلية في واقعة يكون ممّن لم يحكم بما أنزل اللّه ، أو حكم بغير ما أنزل اللّه .

قال المحدِّث الاسترابادي في تتمة كلامه السابق : ( ثمّ أقول : هذا المقام ) أي : مقام التمسك بالبرائة الأصليّة في الشبهة الوجوبية أو التحريمية ( ممّا زلّت فيه اقدام أقوام من فحول العلماء فحريّ ) أي : جديرٌ وحقيقٌ ( بنا أن نحقق المقام ونوضحه بتوفيق الملك العلاّم ، ودلالة أهل الذكر عليهم السلام ) ممّا ورد منهم من الأخبار ( فنقول ) : ان ( التمسّك بالبرائة الأصليّة ) في الشبهتين الوجوبية والتحريمية ( انّما يتم عند الاشاعرة المنكرين للحسن والقبح الذّاتيين ) فليس

ص: 10


1- - الفوائد المدنية : ص 138 .
2- - سورة المائدة : الآية 44 .
3- - سورة المائدة : الآية 45 .
4- - سورة المائدة : الآية 47 .

وكذلك عند من يقول بهما ولا يقول بالحرمة والوجوب الذاتيّين ، كما هو المستفاد من كلامهم عليهم السلام ، وهو الحقّ عندي .

-------------------

عندهم في الأشياء حسن ذاتي ولا قبح ذاتي ( وكذلك عند من يقول بهما ) أي : بالحسن والقبح الذاتيين ( ولا يقول بالحرمة والوجوب الذاتيين ) أي : يقول : لا تلازم بين الحسن والوجوب ولا بين القبح والحرمة ( كما هو ) أي : عدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ( المستفاد من كلامهم عليهم السلام ) حيث قالوا : « انّ دينَ اللّهِ لا يُصابُ بِالعقول (1) ، وانّه لا شيء أبعد من دين اللّه من العقل » (2) ( وهو الحق عندي ) .

أقول : هنا ثلاثة مذاهب :

الأوّل : انّه لا حسن عقلاً ولا قُبح كذلك في الأشياء ، بل الحسن ما حسّنه الشارع والقبح ما قبّحه الشارع ، وهذا مذهب الأشاعرة من العامة .

الثاني : انّ في الأشياء حسناً وقبحاً ولكن الأحكام الشرعية لا تتبع الحسن والقبح ، بل الأحكام تابعة لارادة المولى ، فمن الممكن أن يكون في الشيء حسن ويحرِّمه الشارع ،أو قبح ويوجبه الشارع ، وهذا مذهب جماعة من المعتزلة .

الثالث : انّ هناك حسناً وقبحاً ، وانّ الأحكام تابعة للحسن والقبح ، للملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل ، فانّه كلّ ما حكم به الشرع حكم به العقل ، وكلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، وهذا هو مذهب الشيعة الإمامية .

ص: 11


1- - مستدرك الوسائل : ج17 ص262 ب6 ح21289 ، كمال الدين : ص324 ح9 ، بحار الانوار : ج2 ص303 ب34 ح41 بالمعنى .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص192 ب13 ح33572 ، بحار الانوار : ج92 ص91 ب8 ح37 و ص94 ح45 بالمعنى .

ثمّ على هذين المذهبين إنّما يتمّ قبل إكمال الدين لابعده

-------------------

ثم قال المحدِّث الاسترابادي : انّه على القول الأوّل ،يمكن أن يقال بالبرائة في الشبهة الحكمية ، اذ لما لم يرى العقل حسناً ولا قبحاً في شيء فمن أين يحتمل التكليف الالزامي الوجوبي أو التحريمي حتى يحتاط فيه ؟ ، وعلى القول الثاني ، يمكن القول بالبرائة أيضاً ، اذ لا تلازم بين حكم الشرع وحكم العقل ، فمن الممكن أن يكون الشيء حسناً ولا يوجبه الشارع ، أو قبيحاً ولا يحرِّمه الشارع .

أمّا على القول الثالث : فلا يمكن القول بالبرائة ، بل يلزم القول بالاحتياط لاحتمال العقل في مورد الشبهة : حسَّنَهَا أو قَبَّحها ، فيلزم أن يحتاط فيها .

هذا ، لكن انا الاسترابادي أقول بالقول الثاني ، فانّه وانّ كان مقتضاه : البرائة ، الاّ اني أقول : انّ ذلك قبل اكمال الدين ، أما بعد اكماله حسب الآيات والرّوايات في زمن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فلابد من الاحتياط وذلك لوجود الحكم الواقعي قطعاً ، ولكن حيث لا نعلمه يلزم علينا الاحتياط لئلا نخالف الحكم الواقعي بسبب اجراء البرائة .

والى مذهبه هذا اشار بقوله : ( ثمّ على هذين المذهبين ) أي : مذهب من ينفي الحسن والقبح الذاتيين ، ومذهب من يقول بالحسن والقبح الذاتيين ، لكنه يقول لا ملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل ( إنّما يتمّ ) التمسك بالبرائة الأصليّة في الشبهات الحكمية الوجوبية والتحريمية ( قبل اكمال الدّين لا بعده ) .

وانّما يتم قبله لا بعده لأن كثيراً من الوقائع قبل اكمال الدين لم ينزل اللّه به حكماً شرعياً ، فكان من الممكن أن نقول بانتفاء الحرمة واقعاً في الشبهة الحكمية التحريمية ، أو بانتفاء الوجوب واقعاً في الشبهة الحكمية الوجوبية ، لكن بعد

ص: 12

إلاّ على مذهب من جوّز من العامّة خلوّ الواقعة عن حكم .

لا يقال : بقي هنا أصل آخر ، وهو أن يكون الخطاب الوارد في الواقعة موافقا للبراءة الأصليّة .

لأنّا نقول : هذا الكلام ممّا لا يرضى به لبيبٌ ،

-------------------

اكمال الدين والنص على ذلك في القران الحكيم : « اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم » (1) والتصريح من النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : بانّه « ما من شَيء يُقرِّبكم الى الجنة ...» (2) الى آخر الحديث المتقدِّم ، فقد جعل اللّه تعالى الحكم الشرعي لجميع الوقائع وأنزله على الرسول فلا يمكن أن نقول بانتفاء الحرمة أو الوجوب واقعاً ، بل اللازم علينا الاحتياط حتى لا نخالف ذلك الحكم الواقعي على تقديره ( الاّ على مذهب من جوّز من العامة خلو الواقعة عن حكم ) وهذا ما لا نقول به نحن .

( لا يقال : بقي هنا أصل آخر ) غير أصل البرائة - الذي لا نقول به نحن - ونتيجته هو البرائة أيضاً ( وهو : ) أي :هذا الأصل الآخر ( أن يكون الخطاب الوارد في الواقعة موافقاً للبرائة الأصليّة ) فانا نقول : انّ للتتن حكماً لكن مع ذلك لا يلزم الاحتياط لاحتمال أن يكون حكم التتن في الواقع الاباحة والحليّة ، فمجرد وجود الحكم للتتن في الواقع لا يستلزم انّ يكون ذلك الحكم : التحريم ، بل من الممكن أن يكون : الاباحة ، فمن أين يلزم الاحتياط ؟ .

( لأنا نقول : هذا الكلام ) وهو أصل التطابق بين البرائة والحكم الواقعي ( ممّا لا يرضى به لبيب ) فمن أين أن حكم التتن في الواقع :الحل ، حتى تكون البرائة

ص: 13


1- - سورة المائدة : الآية 3 .
2- - مستدرك الوسائل : ج13 ص27 ب10 ح14643 ، بحار الانوار : ج70 ص96 ب47 ح3 ، وقريب منه في الكافي اصول : ج2 ص74 ح2 ووسائل الشيعة : ج17 ص45 ب12 ح21939 .

لأنّ خطابه تعالى تابع للمصالح والحكم ، ومقتضيات الحكم والمصالح مختلفة - إلى أن قال : - هذا الكلام ممّا لا يرتاب في قبحه ، نظير أن يقال : انّ الأصل في الأجسام تساوي أن نسبة طبايعها إلى جهة السفل والعلو ،

-------------------

موافقة لذلك الحكم الواقعي ؟ وذلك ( لأن خطابه تعالى تابع للمصالح والحِكَم ) .

ثمّ اِنّ قوله : « الحكم » جمع حكمة ، والفرق بين المصلحة والحكمة : انّ المصلحة يقصد بها في مثل هذا المقام : المصلحة في ذات الشيء مثل : مصلحة وجوب غسل الميت لتطهيره من نجاسته بالموت ، والحكمة في قِبال المصلحة اذ انّها تطلق بملاحظة الاُمور الخارجية لا بملاحظة ذات الشيء ، مثل غسل جسد الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم لجريان السنة (1) أي : لضرب القانون مع انّه طاهر مطهر حيّاً وميتاً، وبهذا التعليل علّل عليّ عليه السلام غسل الرسول بعد موته مع انّه طاهر مطهر .

( و ) من المعلوم : انّ ( مقتضيات ) بصيغة اسم المفعول ( الحكم والمصالح مختلفة ) فلا دليل على انّ حكم التتن في الواقع : الحل ،حتى نقول بأصالة تطابق الواقع مع البرائة الأصليّة ، فانّه قد تقتضي الحكمة أو المصلحة الوجوب فلا يمكن اجراء البرائة ، وقد تقتضي الحكمة والمصلحة الحرمة فلا يمكن اجراء أصل البرائة ايضاً ( الى أن قال : هذا الكلام ممّا لا يرتاب في قبحه ) أحد ،والمراد بهذا الكلام : التطابق بين البرائة والحكم الواقعي في كلّ مورد شبهة .

وعليه : فهذا الكلام ( نظير أن يقال : انّ الأصل في الأجسام تساوي نسبة طبايعها الى جهة السّفل والعلو ) أي : أن الاجسام بطبيعتها لا ميل لها الى جانب

ص: 14


1- - وسائل الشيعة : ج2 ص477 ب1 ح2691 وفيه «وذا سنة» .

ومن المعلوم بطلان هذا المقال .

ثم أقول : هذا الحديث المتواتر بين الفريقين المشتمل على حصر الامور في الثلاثة ، وحديث « دع ما يريبك إلى مالا يريبك » ، ونظائرهما ، أخرج كلّ واقعة لم يكن حكمها بيّنا عن البراءة الأصليّة وأوجب التوقّف فيها .

-------------------

السفل ولا الى جانب العلو ، فهي لا تميل الى أحد الجانبين ( ومن المعلوم : بطلان هذا المقال ) لوضوح : انّ الجسم اذا كان خفيفاً كان مائلاً الى العلو كالنار والبخار واذا كان ثقيلاً كان مائلاً الى السفل كالحجر والمدر وكذلك في المقام فانّ الفعل انّ اشتمل على المصلحة وجب ، أو المفسدة حرم ،فلا يمكن أن يقال : انّه لا حكم في الواقع حتى يجري أصل البرائة في كلّ شبهة حكمية وجوبية أو تحريمية .

قال المحدّث المذكور : ( ثمّ أقول هذا الحديث المتواتر بين الفريقين المشتمل على حصر الاُمور في الثلاثة ) أي : في حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك (1) ( وحديث : « دَع ما يريبك الى ما لا يريبك » (2) ونظائرهما ) من أخبار الاحتياط والتوقف قد ( أخرج كلّ واقعة لم يكن حكمها بيّناً ) اخراجاً ( عن البرائة الأصليّة ، وأوجب التوقف فيها ) أي : في كلّ واقعة .

وعليه : فحاصل « أقول » في قول المحدِّث المذكور هو : انّه وانّ سلّمنا تطابق أصل البرائة مع الحكم الواقعي في الشبهتين : الوجوبية والتحريمية ،لكنا نقول :

ص: 15


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 ، الذكرى : ص138 ، الغارات : ص135 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33506 و ص170 ب12 ح33517 ، كنز الفوائد : ج1 ص351 .

ثمّ قال ، بعد أنّ الاحتياط قد يكون في محتمل الوجوب وقد يكون في محتمل الحرمة : « إنّ عادة العامّة والمتأخّرين من الخاصّة جرت بالتمسّك بالبراءة الأصليّة ، ولما أبطلنا جواز التمسّك بها في المقامين ، لعلمنا بأنّ اللّه أكمل لنا ديننا وعلمنا بأنّ كلّ واقعة يحتاج إليها ورد فيها خطاب قطعيّ من اللّه خال عن المعارض ،

-------------------

ان الشارع رفع هذا الأصل بايجابه التوقف في الشبهات .

( ثمّ قال بعد ) بيان ( انّ الاحتياط قد يكون في محتمل الوجوب وقد يكون في محتمل الحرمة : ) انّه يلزم علينا استثناء موردين من وجوب الاحتياط ،لأن الاحتياط لا يلزم في مورد يوجد فيه خبر قوي السند ظاهر في الندب ، وكذلك لا يلزم في مورد يوجد فيه خبر ضعيف السند دال على الوجوب ،وذلك لأن الخبر في المورد الأوّل ظاهر في عدم الوجوب والخبر حجّة ، والخبر في المورد الثاني وانّ كان ظاهراً في الوجوب ، الاّ انّ ضعف سنده مانع عن العمل به ، فيعمل في مورده بحديث الحجب ، ويقال أن وجوبه محجوب عنّا ، فالحكم بالوجوب موضوع عنا .

ثمّ قال : ( انّ عادة العامة والمتأخرين من الخاصة ) ويريد المحدّث الاسترابادي بالمتأخرين : الاُصوليين ( جرت بالتمسك بالبرائة الأصليّة ) في الشبهة الحكمية التحريمية والوجوبية ( ولما أبطلنا جواز التمسك بها ) أي : بالبرائة الأصليّة ( في المقامين ) : من محتمل الوجوب ومحتمل الحرمة ( لعلمنا بأنّ اللّه أكمل لنا ديننا ، وعلمنا بأنّ كلّ واقعة يحتاج اليها ورد فيها خطاب قطعي من اللّه خال عن المعارض ) .

وإنّما قال : « خال عن المعارض » لانّه اذا كان في مورد خبران متعارضان

ص: 16

وبأنّ كلَّ ما جاء به نبيّنا صلى اللّه عليه و آله وسلم مخزونٌ عند العترة الطاهرة عليهم السلام ، ولم يرخّصوا لنا في التمسّك بالبراءة الأصليّة ، بل أوجبوا التوقّف في كلّ مالم يعلم حكمه ، وأوجبوا الاحتياط في بعض صوره ، فعلينا أن نبيّن ما يجب أن يفعل في المقامين ، وسنحقّقه فيما يأتي إن شاء اللّه تعالى .

-------------------

لم يكن من اللّه سبحانه وتعالى فيه بيان لنا .

( و ) كذا لعلمنا ( بأن كلّ ما جاء به نبينا صلى اللّه عليه و آله وسلم مخزون عند العترة الطاهرة عليهم السلام ) وانّ لم يصل الينا فقد قال عليّ عليه السلام : علّمني رَسولُ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم الفَ بَابٍ مِنَ العِلمِ يَفتحُ لِي مِن كلّ بَابٍ ألفَ باب » (1) ( ولم يرخصوا ) عليهم السلام( لنا في التمسك بالبرائة الأصليّة ، بل أوجبوا التّوقف ) والاحتياط بقولهم : « فانّ الوقوفَ عِندَ الشُّبهةِ خَيرٌ مِن الاقتحامِ فِي الهَلَكَةِ » (2) ( في كلّ ما لم يعلم حكمه ) فلا يجوز لنا أن نحكم بشيء ( وأوجبوا الاحتياط ) في العمل ( في بعض صوره ) أي : صور الشك ،كما في صورة الشك في الحكم سواء كانت الشبهة وجوبية أو تحريمية ، بخلاف صورة الشك في الموضوع ، حيث انّ الأخباريين يَرون عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعية وجوبية كانت أو تحريمية .

إذن : ( فعلينا أن نبيّن ما يجب أن يفعل في المقامين ) أي : مقام محتمل الوجوب ومقام محتمل الحرمة في الشبهة الحكمية ( وسنحقّقه فيما يأتي انشاء اللّه تعالى ) .

ص: 17


1- - الخصال : ج2 ص647 ، تاريخ ابن كثير : ج7 ص360 ، تاريخ ابن عساكر : ج2 ح1003 ، بحار الانوار : ج22 ص462 .
2- - كما جاء في رواية الزهري والسكوني وعبد الأعلى انظر الكافي اصول : ج1 ص50 ح9 ، المحاسن : ص215 ح102 ، وسائل الشيعة : ج27 ص155 ب12 ح33465 وكما جاء في موثقة سعد بن زياد انظر تهذيب الاحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ، وسائل الشيعة : ج20 ص259 ب157 ح73 .

وذكر هناك ما حاصله : « وجوب الاحتياط عند تساوي احتمالي الأمر الوارد بين الوجوب والاستحباب ولو كان ظاهرا في الندب بنى على جواز الترك .

وكذا لو وردت رواية ضعيفة بوجوب شيء وتمسّك في ذلك بحديث : « ما حجب اللّه علمه » ، وحديث « رفع التسعة » ،

-------------------

ولا يخفى : انّ كلام المحدّث الاسترابادي من قوله قبل أسطر : « بعد انّ الاحتياط قد يكون ...» تكرار لما سبق منه ، وانّما أعاده المصنّف مقدمة لذكر الموردين السابقين : مورد ضعف السند في الخبر الدال على الوجوب ، ومورد ضعف الدلالة في الخبر القوي السند الذي استثناهما المحدِّث الاسترابادي من وجوب التوقف والاحتياط .

ثمّ الى هذا الاستثناء أشار المصنِّف بقوله : ( وذكر ) المحدِّث الاسترابادي ( هناك ) أي : في كتابه : الفوائد المدنية ( ما حاصله : وجوب الاحتياط عند ) اجمال الدليل بمعنى : ( تساوي احتماليّ الأمر الوارد بين الوجوب والاستحباب ) وهذا يجب فيه الاحتياط ( و ) أمّا ( لو كان ) الدليل ( ظاهراً في الندب بنى على جواز التّرك ) أي : ترك الاحتياط في مورده لأنّ الظواهر حجّة عند الاسترابادي ( وكذا ) يبنى على جواز الترك ( لو وردت رواية ضعيفة بوجوب شيء ) وهذان موردا الاستثناء ( وتمسَّك في ذلك ) أي : في عدم الاحتياط في مورد الخبرين : الخبر الضعيف السند ، أو الضعيف الدلالة ( بحديث : « ماحَجَبَ اللّهُ علمه ) عن العباد فهو موضوع عنهم » (1) ( وحديث : « رَفع التِسعة » ) حيث قال

ص: 18


1- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص 163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .

قال : وخرج عن تحتهما كلّ فعل وجوديّ لم يقطع بجوازه بحديث التثليث » .

أقول : قد عرفت فيما تقدّم في نقل كلام المحقق قدس سره ، أنّ التمسّك

-------------------

النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : « رُفِعَ عَن أُمَّتي تِسع : ما لا يعلمون ...» (1) الى آخره .

ثمّ ( قال ) المحدِّث الاسترابادي : ( وخروج عن تحتهما ) أي : خرج من عموم حديث « الحجب » وحديث « الرفع » ( كلّ فعل وجودي ) مشتبه الحرمة أي : ( لم يقطع بجوازه ) .

فلا يقال : أنّ عموم حديث الحجب وحديث الرفع شامل للشبهة التحريمية ، فكيف تقولون أنتم الاخباريون بوجوب الاحتياط فيها ؟ لأنا نقول : بأن الشبهة التحريمية خارجة عن تحت الحديثين المذكورين ( ب- ) سبب ( حديث التثليث ) (2) المتقدِّم حيث جاء فيه : « انّما الاُمور ثلاثة : أمرٌ بيّنٌ رشده فيتبع ، وأمرٌ بيّن غيّه فيجتنب ، وأمرٌ مشكلٌ يردُّ حكمه الى اللّه ورسوله » (3) .

انتهى كلام المحدّث الاسترابادي .

( أقول : ) أن البرائة التي يتمسك بها مشهور الاُصوليين ليست هي البرائة الاصلية كما تصوره المحدّث الاسترابادي ، بل هي أصل تعبدي وحكم ظاهري معناها : القطع بنفي تنجّز التكليف وان ثبت واقعاً ، وقد استدلوا لها بقبح العقاب بلا بيان ، فانّه كما ( قد عرفت فيما تقدّم في نقل كلام المحقق قدس سره : انّ التمسك

ص: 19


1- - تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 .
2- - الفوائد المدنية : ص 138 و ص 161 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

بأصل البراءة منوط بدليل عقليّ هو قبح التكليف بما لا طريق إلى العلم به .

وهذا لا دخل له لاكمال الدين وعدمه ، ولكون الحسنُ والقبح أو الوجوب والتحريم عقليّين أو شرعيّين في ذلك ، والعمدة فيما ذكره هذا المحدّث من أوّله إلى آخره تخيّلُه أنّ مذهبَ المجتهدين التمسّك بالبراءة الأصليّة لنفي الحكم الواقعيّ ولم أجد أحدا يستدلّ بها على ذلك .

-------------------

بأصل البرائة منوط بدليل عقلي هو : « قبح التكليف بما لا طريق الى العلم به » ) وذلك لقبح العقاب بلا بيان ، فاذا كان العقاب بلا بيان قبيحاً والمفروض انّه لم يصل البيان الى المكلّف كان له أن يجري البرائة .

( وهذا ) الدليل الذي ذكره المحققّ للبرائة وتبعه عليه غيره ( لا دخل له لاكمال الدين وعدمه ، ولا لكون الحسن والقبح ، أو الوجوب والتحريم عقليين أو شرعيين ) على ما ذكره المحدّث الاسترابادي ، اذ كلّ هذه الاُمور لا ربط لها ( في ذلك ) الذي ذكره الاصوليون من البرائة .

( و ) حينئذٍ لا يكون كلام المحدِّث الاسترابادي مربوطاً بمسألة البرائة ، ولا رداً على المشهور اذ ( العمدة فيما ذكره هذا المحدث من أوله الى آخره : تخيّله أنّ مذهب المجتهدين : التمسك بالبرائة الأصليّة لنفي الحكم الواقعي ) حيث قال في عبارته المتقدّمة : « لعلمنا بأن اللّه أكمل لنا ديننا ، وعلمنا بأنّ كلّ واقعة يحتاج اليها ورد فيها خطاب قطعي من اللّه خال عن المعارض ، وبأنّ كلّ ما جاء به نبيّنا مخزون عند العترة الطاهرة » ( ولم أجد أحداً يستدل بها ) أي بالبرائة ( على ذلك ) أي : على نفي الحكم واقعاً ، فانّ الاُصوليين لا يريدون نفي الحكم واقعاً ، وانّما يقولون :نتمسك بالبرائة لأنه حكم ظاهري قرّره العقل والشرع .

ص: 20

نعم ، قد عرفت سابقا أنّ ظاهرَ جماعة من الاماميّة جعل أصالة البراءة من الأدلة الظنّية ، كما تقدّم في المطلب الأوّل استظهارُ ذلك من صاحبي المعالم والزبدة ، لكنّ ماذكره من إكمال الدين لا ينفي حصول الظنّ ، لجواز دعوى أنّ المظنون بالاستصحاب او غيره موافقة ما جاء به النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم للبراءة ، وما ذكره من تبعيّة خطاب اللّه تعالى للحكم والمصالح لا ينافي ذلك .

-------------------

( نعم ، قد عرفت سابقاً : أن ظاهر جماعة من الإمامية جعل أصالة البرائة من الأدلة الظنّيّة ) الكاشفة عن الواقع ( كما تقدّم في المطلب الأوّل استظهار ذلك من صاحبي المعالم والزُبدة ) حيث جعلا البرائة أمارة ظنيّة معناها : الظنّ بنفي التكليف واقعاً ، واستدلالها باستصحاب البرائة الاصلية .

( لكن ما ذكره ) المحدّث الاسترابادي في الاعتراض عليهم : ( من اكمال الدين ) لا يتوجه اليهم أيضاً ، لانه ( لا ينفي ) استصحاب البرائة الاصلية في مورد الشك ، لأن اكمال الدين لا يثبت أن الخطاب الصادر في مورد الشك : واجب أو حرام حتى لا يبقى مجال لاستصحاب البرائة الاصلية .

كما أنه لا ينفي ( حصول الظنّ ) بالواقع من طريق استصحاب البرائة الاصلية ( لجواز دعوى : انّ المظنون بالاستصحاب أو غيره ) كقاعدة « عدم الدليل دليل العدم » ، وقاعدة « غلبة المباحات » المستفادتين من العقل والنقل ( موافقة ما جاء به النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم للبرائة ) الاصلية ( و ) حينئذٍ : فانّ ( ما ذكره ) هذا المحدِّث (: من) وجود الحُسن والقبح العقليين ، و ( تبعية خطاب اللّه تعالى للحكم والمصالح لا ينافي ذلك ) الظن الذي هو العمل بالبرائة ، لأنها مورثة للظنّ بالواقع ، فانّ المصلحة كما تكون في التكليف الالزامي وجوبا أو تحريماً في بعض الأفعال ،

ص: 21

لكنّ الانصاف : أنّ الاستصحاب لا يفيد الظنّ خصوصا في المقام ، كما سيجيء في محلّه ولا أمارة غيره يفيد الظنّ ، فالاعتراض على مثل هؤلاء إنّما هو منع حصول الظنّ ومنع اعتباره على تقدير الحصول ،

-------------------

كذلك تكون في البرائة في بعض الأفعال الاُخر ، وعليه : فالحكم الواقعي محفوظ ، فانّ كان الحكم الواقعي هو البرائة فهو ، وانّ كان الحكم الواقعي غير البرائة ، فمصلحة التسهيل ونحوه جعل التكليف الفعليّ : « البرائة » ، فالحكمان هنا الواقعي والبرائة بمنزلة الأحكام الأولية والأحكام الثانوية في سائر الموارد .

( لكن الانصاف أنّ ) كلام المعالم والزُبدة غير تام عندنا اذ ، ( الاستصحاب لا يفيد الظنّ ) ببقاء الحالة السابقة ، بل قد يظن الانسان بالبقاء ، وقد يظن بخلاف البقاء ، وقد يشك في البقاء وعدم البقاء ، فالظن ليس معياراً ( خصوصاً ) الظنّ الحاصل من الاستصحاب الذي نريد اجرائه ( في المقام ) وهو : استصحاب حال ما قبل الشرع لاثبات البرائة فيما بعد الشرع ( كما سيجيء ) عدم افادة الاستصحاب للظنّ ( في محلّه ) في بحث الاستصحاب انشاء اللّه تعالى .

وعليه : فكلام المعالم والزبدة غير تام ، اذ لا ظن حاصل من الاستصحاب ( ولا أمارة غيره ) أي : غير الاستصحاب ( يفيد الظنّ ) بالبرائة .

وكيف كان : فانّا لا نحتاج الى الظنّ حتى نتكلم حول انّه هل يحصل لنا الظنّ بالبرائة أو لا يحصل ؟ بل انا نجريالبرائة استناداً الى الأدلة الأربعة كما تقدّم الكلام فيها.

إذن : ( فالاعتراض ) من المحدِّث الاسترابادي ( على مثل هؤاء ) المتمسّكين باستصحاب البرائة ، مقدمة للظنّ بعدم التكليف ، وذلك في مورد عدم وجود الدليل على التحريم أو الوجوب ( انّما هو منع حصول الظنّ ) من الاستصحاب ( ومنع اعتباره ) أي : اعتبار مثل هذا الظن ( على تقدير الحصول ) لأنّ الظنّ لا دليل

ص: 22

ولا دخل لاكمال الدين وعدمه ، ولا للحسن والقبح العقليين في هذا المنع .

وكيف كان : فيظهر من المعارج القولُ بالاحتياط في المقام عن جماعة حيث قال : « الاحتياط غير لازم ، وصار آخرون إلى لزومه وفصّل آخرون » ، انتهى .

-------------------

على حجيّته ، وانّما يكون البناء على الحالة السابقة ممّا يسمّى بالاستصحاب مستنداً الى بناء العقلاء وبعض الرّوايات كما سيأتي انشاء اللّه تعالى .

هذا ( و ) من الواضح : انّه ( لا دخل لاكمال الدين وعدمه ولا للحسن والقبح العقليّين ) ولا للتلازم بين حكم العقل وحكم الشرع ، ولا لتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ( في هذ المنع ) أي : في منع قول صاحبي المعالم والزُبدة ، فنحن والمحدِّث الاسترابادي وان كنّا نشترك في الاشكال على المعالم والزُبدة الاّ أنّ اشكالنا من جهة واشكاله من جهه اُخرى ، وقد عرفت : عدم استقامة اشكاله .

( وكيف كان : فيظهر من المعارج القول بالاحتياط في المقام عن جماعة حيث قال : الاحتياط غير لازم ، وصار آخرون الى لزومه ، وفصّل آخرون (1) ، انتهى ) وهو ظاهر في انّ في المسألة ثلاثة أقوال : الأوّل : القول بلزوم الاحتياط في الشبهة الحكمية وجوبية كانت أو تحريمية ، الثاني : القول بعدم لزوم الاحتياط فيهما ، الثالث : القول بالتفصيل بين الشبهة التحريمية فيجب فيها الاحتياط ، والشبهة الوجوبية فلا يجب فيها الاحتياط .

ص: 23


1- - معارج الاصول : ص 216 .

وحكي عن المعالم نسبته إلى جماعة ، فالظاهر أنّ المسألة خلافيّة ، لكن لم يعرف القائل به بعينه ، وإن كان يظهر من الشيخ والسيّدين ، التمسّك به أحيانا ، لكن يعلم مذهبهم من أكثر المسائل ، والأقوى فيه جريان أصالة البراءة للأدلّة الأربعة المتقدّمة مضافا إلى الاجماع المركّب .

-------------------

( وحكي عن المعالم نسبته ) أي : نسبة الاحتياط في محتمل الوجوب ( الى جماعة ) من العلماء أيضاً .

وعليه : ( فالظاهر : انّ المسألة خلافية ،لكن لم يعرف القائل به بعينه وانّ كان يظهر من الشيخ والسّيدين التمسك به ) أي : بالاحتياط في بعض الموارد ( أحياناً ، لكن يعلم مذهبهم من أكثر المسائل ) التي تمسكوا فيها بالبرائة على انهم يقولون بالبرائة .

هذا ( والأقوى فيه ) أي : في المشتبه بالشبهة الوجوبية : ( جريان أصالة البرائة للأدلّة الأربعة المتقدّمة مضافاً الى الاجماع المركب ) فانّ كلّ من قال بجريان الاصل اجراه في الشبهتين : التحريمية والوجوبية ، وكلّ من لم يقل بجريان الأصل لا يجريه في الشبهتين ،فالتفصيل بين الشبهتين بجريان الأصل في الشبهة الوجوبية دون الشبهة التحريمية خرق للاجماع المركب .

لا يقال : قد نسب التفصيل في كلامي المعارج والمعالم الى جماعة ، فكيف يكون التفصيل خرقاً للاجماع المركب ؟ .

لأنه يقال : قد تقدّم منّا : انّه لم يعرف أحد بعينه قال بذلك ، والشاذ الذي قال به

لم يعلم هل أنّه من العامة أو الخاصة ؟ ومثله لا يضر الاجماع المركب .

ص: 24

وينبغي التنبيه على اُمور

الأوّل :

انّ محلّ الكلام في هذه المسألة هو احتمال الوجوب النفسيّ المستقلّ ، وأمّا إذا احتمل كون شيء واجبا لكونه جزءا أو شرطا لواجب آخر ، فهو داخل في الشك في المكلّف به ، وإن كان المختار

-------------------

هذا ( وينبغي التنبيه على اُمور ) تالية :

( الأوّل : انّ محلّ الكلام في هذه المسألة ) أي : في مسألة الشبهة الوجوبية الناشئة عن فقد النص ( هو احتمال الوجوب النفّسي المستقل ) كوجوب الصلاة على محمّد وآله عند ذكره صلى اللّه عليه و آله وسلم ،وكوجوب الدعاء عند رؤة الهلال ، وما أشبه ذلك من الواجبات النفسية المستقلة التي لم يعلم هل أمر الشارع بها حتى تكون واجبة ، أو ندب اليها حتى تكون مستحبة ؟ .

( وأمّا اذا احتمل كون شيء واجباً ) غيرياً ( لكونه جزءاً ) لواجب آخر كالسورة في الصلاة ،وجلسة الاستراحة ، وما أشبه ذلك ( أو شرطاً لواجب آخر ) كشرطية الوضوء للصلاة والطواف - حيث يشك الانسان اذا كان قد اغتسل غسلاً واجباً غير غُسل الجنابة في شرطية الوضوء لهذه الصلاة والطواف الذي اغتسل المكلّف قبلهما ( فهو داخل في الشك في المكلّف به ) اصطلاحاً ،لأنّ المكلّف به مردد بين الأقل والأكثر الارتباطيين فيجب عليه الاحتياط باتيانه .

هذا ( وان كان المختار ) عندنا : انّ هذا أيضاً يرجع الى الشك في التكليف لوضوح : انّ الأقل متيقن ، والزائد مشكوك في أصل التكليف فيه ، بينما الشك في المكلّف به خاص في المتباينين كالظهر والجمعة ، وما أشبه ذلك ، فالمختار

ص: 25

جريان أصل البراءة فيه أيضا ، كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى ، لكنّه خارج عن هذه المسألة الاتفاقيّة .

الثاني :

انّه لا إشكال في رجحان الاحتياط بالفعل حتّى فيما احتمل كراهته . والظاهر ترتّب الثواب عليه إذا اتى به لداعي احتمال المحبوبيّة ، لأنّه انقياد وإطاعة حكميّة .

والحكمُ بالثواب هنا

-------------------

في الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ( جريان أصل البرائة فيه ) أي : في الزائد ( أيضاً ، كما سيجيء انشاء اللّه تعالى ؛ لكنّه خارج عن هذه المسألة الاتفاقية ) لأنّ الاتقاق حاصل على جريان البرائة في الشبهة الوجوبية المستقلة ،بينما اختلفوا في الشبهة الوجوبية اذا كان المشكوك جزءاً أ و شرطاً .

الأمر : ( الثاني : انّه لا اشكال ) عقلاً ونقلاً ( في رجحان الاحتياط بالفعل ) في مشكوك الوجوب ، وذلك لأنه احراز للواقع والشارع مهتم بأحكامه ( حتى فيما احتمل كراهته ) وذلك لأنّ جلب المنفعة الملزمة أولى من دفع المفسدة غير الملزمة .

نعم ، يظهر من بعض الرّوايات : عدم رجحان الاحتياط في بعض الموارد المستلزم للحرج ، أو اختلال النظام ، أو الوسواس ، أو ما أشبه ذلك ، كما تقدّم الكلام فيه .

( والظاهر : ) في غير الموارد المرجوحة استقلال العقل على ( ترتّب الثواب عليه اذا أتى به لداعي احتمال المحبوبية ، لأنّه انقياد واطاعة حكميّة ) أي : انّ الاحتياط عند العقل والعقلاء في حكم الطاعة كما أنّ الاتيان بالمطلوب المعلوم طاعة حقيقية ( والحكم بالثواب هنا ) في الانقياد باتيان محتمل المحبوبية احتياطاً

ص: 26

أولى من الحكم بالعقل على تارك الاحتياط اللازم ، بناءا على انّه في حكم المعصية وإن لم يفعل محرّما واقعيّا .

وفي جريان ذلك في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب وجهان ، أقواهما العدم ،

-------------------

( أولى من الحكم بالعقاب على تارك الاحتياط اللازم ) كترك محتمل التحريم قبل الفحص فيما لم يكن في الواقع حراماً .

وانّما يكون أولى ( بناءاً على أنّه في حكم المعصية ) لأنه تجرٍّ وليس بمعصية ، كما قال : ( وان لم يفعل محرّماً واقعيّاً ) لفرض انّه لم يكن محرّماً في الواقع ، وانّما كان مأموراً بالفحص فلم يفحص وأقدم ، فيكون في حكم المعصية ، والاُولوية من جهة انّ اللّه سبحانه وتعالى سبقت رحمته غضبه ، وانّ الثواب فضل بينما العقاب عدل .

هذا ( وفي جريان ذلك ) أي : رجحان الاحتياط والثواب عليه ( في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب ) كالكراهة والاباحة ( وجهان ) أما دوران الأمر بين الوجوب والاستحباب فهو محبوب على كلّ حال لأنّه أما محبوب مع المنع من النّقيض ممّا يعبّر عنه بالوجوب أو محبوب بدون المنع من النقيض ممّا يعبَّر عنه بالاستحباب .

لكن الاحتياط في العبادات عند دورانها بين الوجوب وغير الاستحباب هل هو راجح أم لا فيه احتمالان : ( أقواهما العدم ) لأنّ الاحتياط معناه : احراز الواقع على تقدير ثبوته ؛ وهذا المعنى لا يتحقق الاّ في التوصليّات فاذا احتمل - مثلاً - وجوب الاستهلال ، فبمجرد الاستهلال يحرز الواقع على تقدير ثبوته ، فيكون الشخص مطيعاً للمولى بهذا الاحتياط ويثاب عليه لأنّه اطاعة حكمية - كما تقدَّم - .

ص: 27

لأنّ العبادة لابدّ فيها من نيّة التقرّب المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلاً او إجمالاً كما في كلّ من الصلوات الأربع عند اشتباه القبلة ، وما ذكرنا من ترتّب الثواب على هذا الفعل لا يوجبُ تعلّق الأمر به ،

-------------------

لكن مثل هذا لا يتحقق في التعبديات ( لأنّ العبادة لابدّ فيها من نية التقرب ) ونية القربة هي ( المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلاً ) وذلك بأن يعلم أن الظهر واجبة عليه ( أو اجمالاً ) بأن يعلم أن الواجب عليه : الظهر أو الجمعة ( كما في كلّ من الصلوات الأربع عند اشتباه القبلة ) فانّ الانسان الذي يشتبه في القبلة يحتاط بأربع صلوات الى اربع جهات ، لعلمه بأمر الشارع بالصلاة اجمالاً .

أما في المقام فلا يعلم بأمر الشارع بهذا الشيء لا تفصيلاً ولا اجمالاً ، لفرض دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب ، فكيف يأتي به بقصد القربة وهو لا يعلم بأن الشارع أمر به حتى يقصد فيه القربة ؟ أم كيف يأتي به بدون قصد القربة مع انّه لو أمر به الشارع لم يقع بدون القربة ما أمر به الشارع من العبادة لأن هيكل العبادة بدون قصد القربة ليست بعبادة ؟ .

( و ) حيث اشكل على القائلين بتحقق الاحتياط في العبادات - بهذا الاشكال - أجابوا عنه بوجوه ستة أشار اليها المصنِّف كما يلي :

الأوّل : نكتشف وجود الأمر بالدليل الاني ، لأنه لو أتى بمحتمل العبادة بقصد الاحتياط كان فيه الثواب ، وكلّ ما كان فيه الثواب فهو مقرّب قد تعلّق به الأمر، لكن هذا الجواب غيرُ تامٍ لما ذكره المصنِّف بقوله : انّ ( ما ذكرنا : من ترتّب الثواب على هذا الفعل لا يوجب تعلّق الأمر به ) فانّ الثواب انّما يكشف عن الأمر ويدل عليه اذا كان ثواباً ناشئاً عن الأمر ، لا ما إذا كان ثواباً ناشئاً عن الانقياد للشرع .

ص: 28

بل هو لأجل كونه انقيادا للشرع ، والعبد معه في حكم المطيع ، بل لا يسمّى ذلك ثوابا .

ودعوى : « أنّ العقل إذا استقلّ بحسن هذا الاتيان ثبت بحكم الملازمة الأمر به شرعا » ، مدفوعةٌ ، لما تقدّم في المطلب الأوّل ، من أنّ الأمر الشرعيَّ بهذا النحو من الانقياد كأمره بالانقياد الحقيقيّ والاطاعة

-------------------

ومن الواضح : انّ هذا الثواب ليس ناشئاً عن الأمر ( بل هو لأجل كونه ) أي كون الاحتياط ( انقياداً للشرع ، والعبد معه ) أي مع هذا الانقياد ( في حكم المطيع ) لا انّه مطيع حقيقة اذ الاطاعة الحقيقية انّما هي فيما إذا علم بالأمر ( بل لا يسمى ذلك ثواباً ) وانّما هو تفضّل وتكرّم إذ الثواب هو : ما يستحقه العبد في مقابل امتثال التكاليف المعلومة ، وهذا ليس من التكاليف المعلومة حسب الفرض .

( و ) الثاني : انكم ذكرتم انّ الاحتياط بحكم العقل حسن مطلقاً وهذا الاحتياط في محتمل العبادة ايضاً حسن عقلاً وقد ثبت انّه كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، فهذا الاحتياط حسنٌ شرعاً ، واذا ثبت حسنُه الشرعي كان فيه الأمر ، اذ الشارع يأمر بكل حسن كما انّه ينهى عن كلّ قبيح .

لكن هذا الجواب أيضاً غير مستقيم ، لأنّ ( دعوى : انّ العقلّ اذا استقلّ بحسن هذا الاتيان ) بمحتمل العبادة ( ثبت بحكم الملازمة ) بين الشرع والعقل ( الأمر به شرعاً ) .

هذه الدعوى ( مدفوعةٌ ) بأنّ الحُسن الشرعي من باب الأمر الارشادي لا من باب الأمر المولوي ، والأمر الارشادي لا يوجب اطاعته قُرباً ، ولا معصيته بُعداً ( لما تقدّم في المطلب الأوّل ) أي : البحث حول الشبهة التحريمية ( من أن الأمر الشرعي بهذا النحو من الانقياد ) الاحتياطي ( كأمره بالانقياد الحقيقي والاطاعة

ص: 29

الواقعيّة في معلوم التكليف إرشاديٌّ محضٌ ، لا يترتّب على موافقته ومخالفته أزيدُ ممّا يترتّب على نفس وجود المأمور به أو عدمه ، كما هو شأن الأوامر الارشاديّة ،

-------------------

الواقعية في معلوم التكليف ) مثل قوله تعالى : « أَطِيعُوا اللّهَ وَأطِيعُوا الرَّسُول » (1) ( وارشاديّ محض لا يترتب على موافقته ومخالفته أزيد ممّا يترتب على نفس وجود المأمور به أو عدمه ، كما هو شأن الأوامر الارشادية ) كأوامر الطبيب .

ومن الواضح : انّ الانسان لو أطاع أمر الطبيب وشرب الدواء ، لم يحصل الاّ على الصحة التي هي من توابع شرب الدواء ، لا من توابع اطاعة أمر الطبيب ، كما أنه اذا عصى أمر الطبيب لا يترتب عليه الاّ مضرة عدم شرب الدواء ، لا مضرة عدم اطاعة أمر الطبيب ،وكذا المصلي فانّه ينال منافع الصلاة اذا أتى بها ، كما أن تارك الصلاة يقع في مضرة تركها اذا تركها سواء كان هناك أمر بالطاعة أم لا ؟ يعني سواء قال سبحانه : « أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ » أم لم يقل ؟ فانّ العبد اذا أتى بالصلاة نال منافعها لا منافع أمر « أطيعوا اللّه » كما أنّه اذا ترك الصلاة نال مضرة تركها لا مضرة ترك « أطيعوا اللّه » .

وكذا بالنسبة الى أوامر الاحتياط : فانّ من يستهل في أول الشهر ينال منافع الاستهلال ، ومن يترك الاستهلال يقع في مضرة ترك الاستهلال على تقدير وجوبه واقعاً ، من غير فرق بين أن يكون أمر شرعي أو عقليّ بالاحتياط ، أم لم يكن أمر عقلي ، أو شرعي به ،كما هو شأن كلّ أمر ارشادي ، سواء كان ارشاداً

ص: 30


1- - سورة النساء : الآية 59 .

فلا إطاعة لهذا الأمر الارشاديّ ، ولا ينفع في جعل الشيء عبادة .

كما أنّ إطاعةَ الأوامر المتحققة لم تصر عبادةً بسبب الأمر الوارد بها في قوله تعالى : « أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول » .

-------------------

من العقل أو إرشاداً من الشرع .

وعليه : ( فلا إطاعة ) ولا مخالفة ( لهذا الأمر الارشادي ) بحسن الاحتياط ( ولا ينفع ) هذا الأمر الارشادي ( في جعل الشيء عبادة ) فانّ عبادية الدعاء عند رؤة الهلال لا تحصل بالأمر بالاحتياط وانّما إن كان له أمر واقعي كان عبادة ، والاّ لم يكن عبادة ، فكيف يتمكن أن يأتي المكلّف بالدعاء عند الهلال قربة الى اللّه مع انّه لا يعلم بالأمر الواقعي من اللّه سبحانه وتعالى فيه ، فيكون نسبته اليه سبحانه تشريعاً محرّماً .

( كما أن اطاعة الأوامر المتحققّه ) شرعاً ممّا نعلم بوجوبها ، كالأمر بالصلاة ، والصيام ، والحج ، والخمس ، وما أشبه ( لم تصر عبادةً بسبب الأمر الوارد بها ) أي : بالاطاعة ( في قوله تعالى : « أطِيعُوا اللّهَ وَأطيعوا الرسُول » (1) ) فانّ الأمر بالاطاعة لا بجعل الشيء عبادة ، بل عبادية الصلاة والصيام ونحوهما انّما هي بسبب الأمر بالصلاة كما في قوله سبحانه : « أَقِم الصَّلاةَ لِدلُوكِ الشَّمسِ » (2) والأمر بالصيام كما في قوله سبحانه : « كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ » (3) ونحوهما .

الثالث : انّا لا نحتاج في العبادة الى الأمر ، بل يكفي الحسن ، ولا شكّ في أن الاحتياط حسن كما اعترفتم به ،فالاستهلال لما كان حسناً - لاحتمال وجوبه فرضاً - كان عبادة ، والى هذا أشار المصنّف بقوله :

ص: 31


1- - سورة النساء : الآية 59 .
2- - سورة الاسراء : الآية 78 .
3- - سورة البقرة : الآية 183 .

ويحتمل الجريان بناءا على أنّ هذا المقدار من الحسن العقليّ يكفي في العبادة ومنع توقفها على ورود أمر بها ، بل يكفي الاتيان به لاحتمال كونه مطلوبا أو كون تركه مبغوضا .

ولذا استقرّت سيرة العلماء والصلحاء فتوىً وعملاً على إعادة العبادات لمجرّد الخروج من مخالفة النصوص الغير المعتبرة والفتاوى النادرة .

-------------------

( ويحتمل الجريان ) أي : جريان الاحتياط في العبادة المحتملة ( بناءاً على أن هذا المقدار من الحسن العقلي ) حيث أن العقل يرى حسن الاحتياط في كلّ ما يحتمل فيه الأمر ، عبادة كان أو غير عبادة ، وهذا ( يكفي في العبادة ، ومنع ) أي: نمنع ( توقفها ) أي : توقف العبادة ( على ورود أمر بها ) أي : بالعبادة .

لكن أشكل على هذا : بأن الحسن العقلي لا يجعل الشيء عبادة ،فانّ الحسن أعمّ من التوصلي والتعبّدي ولا يكون الأعم دليلاً على الأخص .

الرابع : انّا لا نشترط في العبادة قصد الأمر ( بل يكفي الاتيان به ) أي : بالشيء المحتمل العبادية ، وذلك ( لاحتمال كونه مطلوباً ) لدى المولى طلباً عبادياً ( أو كون تركه مبغوضاً ) لديه ، فليس المعتبر في العبادة خصوص قصد الأمر ، بل يكفي قصد احتماله عند الشك كما أنه في التوصليات يكفي احتمال الأمر بها في تحقق الاحتياط ، فانّ العقل يرى حسن ذلك ، وهذا الوجه هو الذي يعتمد عليه المشهور في حسن الاحتياط في العبادة المحتملة ( ولذا استقرّت سيرة العلماء والصلحاء فتوىً وعملاً على اعادة العبادات لمجرّد الخروج من مخالفة النّصوص غير المعتبرة والفتاوى النّادرة ) .

الخامس : وجود أوامر الاحتياط والاتقاء ، وانّ هذه الأوامر تشمل التوصليات

ص: 32

واستدلّ في الذكرى ، في خاتمة قضاء الفوائت ، على شرعيّة قضاء الصلوات لمجرّد احتمال خلل فيها موهوم بقوله تعالى : « فاتّقوا اللّهَ ما استطعتم » ، و « اتّقوا اللّهَ حَقَّ تقاته » ، وقوله : « والذينَ يُؤتُونَ ما آتَوا وَقُلُوبُهُم وَجِلَةٌ أنّهُم إلى رَبِّهِم راجِعُونَ » .

والتحقيق :

-------------------

والتعبديات ( و ) لذا ( استدل ) الشهيد الأوّل ( في الذكرى في خاتمة قضاء الفوائت على شرعيّة قضاء الصلوات ) احتياطاً ( لمجرد احتمال خلل فيها موهوم ) ذلك الخلل ، فاستدل له ( بقوله تعالى : « فَاتَّقُوا اللّهَ مَا استَطَعتُم » (1) و « اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ » (2) وقوله : « وَالَّذِينَ يُؤُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُم وَجِلَةٌ أَنَّهُم الَى رَبِّهِم رَاجِعون ) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيرَاتِ وَهُم لَهَا سَابِقُونَ » (3) الى غير ذلك من الآيات الدالّة على الاحتياط والاتقاء ، بتقريب انّها تدل على أن اتيان العمل خوفاً منه تعالى خير مطلوب .

ومن المعلوم : انّ الذي يقضي الصلاة المحتملة الخلل انّما يقضيها من باب الاتقاء والخوف من انّ تكون صلواته السابقة غير مقبولة ،عند اللّه تعالى .

( والتحقيق ) انّ هذاالجواب بنفسه لا يكفي الاّ اذا ضممنا اليه بعض الأجوبة السابقة ،وحينئذٍ نكون في غنى من هذا الجواب ،لأنّ بعض الأجوبة السابقة كافٍ في الاستدلال .

وانّما نقول : انّ كلام الشهيد وحده لا يكفي ، لأنّه مستلزم للدّور ، فانّ موضوع الاتقاء يلزم أن يثبت من الخارج ،اذ الحكم لا يثبت موضوعه ، فاذا أريد تحقيق

ص: 33


1- - سورة التغابن : الآية 16 .
2- - سورة آل عمران : الآية 102 .
3- - سورة المؤمنون : الآيات 60 - 61 .

أنّه إن قلنا بكفاية احتمال المطلوبيّة - في صحّة العبادة فيما لا يعلم المطلوبية - ولو إجمالاً فهو ، وإلاّ فما أورده قدس سره ، في الذكرى ، كأوامر الاحتياط ، لا يُجدي في صحّتها .

-------------------

الموضوع بسبب نفس أمر الاتقاء كان دوراً .

وبعبارة اُخرى : انّ الأمر موقوف على كونه احتياطاً وكونه احتياطاً ، موقوف على قصد القربة ، فاذا توقف صحة قصد القربة فيه على الأمر كان دوراً ، لتوقف الأمر على الأمر ، فهو مثل أنّ يقال : أكرم العالم ، فانّ العالم يجب أن يعرف من الخارج لا انّ يكون أكرم محققاً للعالم ، فانّه حينئذٍ دورٌ حيث انّ الاكرام يتوقف على كونه عالماً ، فاذا توقف كونه عالماً على أكرم لزم الدور .

وعليه : ف- ( انّه انّ قلنا بكفاية احتمال المطلوبيّة - في صحة العبادة فيما لا يعلم المطلوبيّة - ولو اجمالاً ) لأنّه إذا علم الانسان المطلوبية الاجمالية كالصلاة الى أربع جوانب فلا كلام في صحتها ، وانّما الكلام فيما اذا لم يعلم المطلوبية وانّما يحتملها كما في صلاة ليلة الرغائب - مثلاً - حيث لا يعلم مطلوبيتها لأن راويها عامي لا يعتمد عليه ، فاذا قلنا بصحة محتمل المطلوبية في مثل هذه الصلاة ( فهو ) اذ يصح حينئذٍ الاتيان بها بقصد العبادة .

لكن هذا لا يكون جواباً جديداً ، بل هو الجواب السابق الذي ذكرناه بقولنا في « الرابع » من الأجوبة : بل يكفي الاتيان به لاحتمال كونه مطلوباً أو كون تركه مبغوضاً .

( والاّ ) بأن لم نقل بكفاية احتمال المطلوبية في صحة العبادة ( فما أورده ) الشهيد ( قدس سره في الذكرى ،كأوامر الاحتياط لا يجدي في صحّتها ) أي : في صحة هذه العبادة المحتمل مطلوبيتها .

ص: 34

لأنّ موضوعَ التقوى والاحتياط الذي يتوقف عليه هذه الأوامر لا يتحقّقُ إلاّ بعد إتيان محتمل العبادة على وجه يجتمع فيه جميع ما يعتبر في العبادة حتّى نيّة التقرّب ، وإلاّ لم يكن احتياطا ، فلا يجوز أن تكون تلك الأوامر منشا للقربة المنويّة فيها ، اللّهم إلاّ أن يقالَ - بعد النقض بورود هذا الايراد

-------------------

وانّما لا يجدي لكونه مستلزماً للدور الذي نبهنا عليه ( لأنّ موضوع التّقوى والاحتياط ، الذي يتوقف عليه ) أي : على هذا الموضوع ( هذه الأوامر ، لا يتحقّق الاّ بعد اتيان محتمل العبادة على وجه يجتمع فيه ) أي : في محتمل العبادة ( جميع ما يعتبر في العبادة ) من الأجزاء والشرائط ، وفقد الموانع والقواطع ( حتى نيّة التقرب ) أيضا .

( وإلاّ لم يكن احتياطاً ) فانّه اذا لم يتحقق الموضوع بجميع أجزائه وشرائطه مع فقده لجميع الموانع والقواطع لا يكون احتياطا ، فالاحتياط في التطهير - مثلاً - يجب أن يكون بالماء المطلق ، فاذا لم يكن ماء ، أو لم يكن اطلاق ، لم يكن احتياط في التطهير .

وعليه : ( فلا يجوز أن تكون تلك الاوامر منشأً للقربة المنوية فيها ) أي : في هذه الاُمور المحتمل عباديتها ، لما عرفت من أنّه مستلزم للدّور ، فانّ الأمر يتوقف على تحقق موضوعه ، ولو توقف تحقق موضوعه على هذا الأمر لزم الدور .

لكن اشكال الدور غير وارد نقضاً وَحَلاً .

أما نقضاً : فكما قال : ( اللّهم الاّ أن يقال - بعد النقض بورود هذا الايراد

ص: 35

في الأوامر الواقعيّة بالعبادات ، مثل قوله : « أقِيمُوا الصّلاةَ وَآتُوا الزّكاةَ » ، حيث أنّ قصد القربة ممّا يعتبر في موضوع العبادة شطرا أو شرطا ، والمفروض ثبوت مشروعيّتها بهذا الأمر الوارد فيها -

-------------------

في الأوامر الواقعيّة بالعبادات مثل قوله : « وأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وآتُوا الزَّكَاةَ » (1) حيث أنّ قصد القربة ممّا يعتبر في موضوع العبادة شطراً أو شرطاً والمفروض ثبوت مشروعيّتها ) أي : مشروعية هذه العبادة ( بهذا الأمر الوارد فيها - ) اذ لولا الأمر بصلاة الظهر - مثلاً - لم يصح الاتيان بها بقصد القربة ، ولولا قصد القربة الذي هو جزء أو شرط من شروط صلاة الظهر لم يصح تعلق الأمر بها ، فما كان الجواب عن الدور في العبادة الواقعية يكون هو الجواب عنه في العبادة المحتملة الاحتياطية ؟ .

وان شئت قلت : أنّ قوله : صلّ الظهر - مثلاً - موضوعه : الأركان المخصوصة مع نية القربة بسائر الأجزاء والشرائط وفقد الموانع ، وصدور هذا الأمر من الشارع موقوف على تحقق الموضوع المذكور ، وتحققه موقوف على صدور الأمر المذكور ، اذ لو لم يصدر الأمر المذكور لا يشرّع نية القربة ،فيكون هذا دوراً ، فما كان الجواب عن هذا الدور في العبادة الواقعية يكون هو الجواب عن الدور في العبادة الاحتمالية ؟ .

وأما حلاً : فلأنا نقول : الأمر بصلاة الظهر ، أو الأمر بصلاة الاحتياط - مثلاً - قد تعلّق بهيكل العبادة : من الأجزاء والشرائط وفقد الموانع والقواطع ، من دون قصد القربة ، فلمّا تعلقّ الأمر بهذا الهيكل لزم أن نأتي به مع قصد القربة ، لأنا علمنا

ص: 36


1- - سورة البقرة : الآية 43 .

إنّ المرادَ مِنَ الاحتياط والاتقاء في هذه الأوامر هو مجرّدُ الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نيّة القربة ، فمعنى الاحتياط بالصلاة الاتيانُ بجميع ما يعتبر فيها عدا قصد القربة ، فأوامر الاحتياط يتعلّق بهذا الفعل .

وحينئذٍ : فيقصد المكلّفُ فيه التقرّبَ باطاعة هذا الأمر .

ومن هنا يتجه الفتوى باستحباب هذا الفعل ،

-------------------

من الخارج أن هذا الهيكل لا يؤى به الاّ بقصد القربة ، فيتوقف الأمر على الموضوع لكن لا يتوقف الموضوع على الأمر حتى يستلزم الدور ، كما قال :

( ان المراد من الاحتياط والاتقاء في هذه الأوامر : ) ليس معناهما الحقيقي الشامل لكلّ الأجزاء والشرائط حتى نية القربة ، بل ( هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نيّة القربة ) فاذا كانت للصلاة - مثلاً - عشرة أجزاء وشرائط وكان من جملتها نيّة القربة ، فالأمر يتعلق بتسعة منها ولم يتعلقّ بنيّة القربة .

وعليه : ( فمعنى الاحتياط بالصلاة : الاتيان بجميع ما يعتبر فيها عدا قصد القربة ، فأوامر الاحتياط يتعلق بهذا الفعل ) الهيكلي بدون قصد القربة ( وحينئذٍ ) بعد تعلق الأمر به ( فيقصد المكلّف فيه ) أي : في هذا الفعل ( التقرب بأطاعة هذا الأمر ) لأنّ المكلّف يعلم : انّه بدون قصد القربة لا يمكن أن يأتي بصلاة الظهر الحقيقية أو بصلاة الظهر الاحتياطية على ما عرفت .

( ومن هنا : ) أي : من انا ذكرنا : انّ أمر الاحتياط متعلق بتسعة أجزاء وهو الهيكل فقط بدون الجزء العاشر الذي هو قصد القربة ( يتجه ) من الفقيه ( الفتوى ) لمقلده ( باستحباب هذا الفعل ) من الصلاة الاحتياطية حتى

ص: 37

وإن لم يعلم المقلّد كونَ ذلك الفعل ممّا شكّ في كونها عبادةً ولم يأت به بداعي احتمال المطلوبيّة .

-------------------

( وان لم يعلم المقلّد كون ذلك الفعل ممّا شك في كونها عبادة ) بل انّه أتى ، بها بقصد العبادة جازما من دون أن يقصد احتمال كونها عبادة ( و ) كذا ان ( لم يأت ) المقلد ( به ) أي : بهذا الفعل الاحتياطي ( بداعي احتمال المطلوبية ) وانّما اتى به جازماً بمطلوبيته لا باحتمال مطلوبيته .

وعليه : فانّه إذا كان نية القربة - مثلاً - جزءاً من الموضوع ، كان على الفقيه أن يقول المقلّده : يستحب الدّعاء عند رؤة الهلال بقصد احتمال كونه عبادة ، لا أنه يطلق استحباب دعاء الهلال بلا ذكر قصد احتمال كونه عبادة ، فانّ اطلاقه للاستحباب يدل على أن نية القربة ليس جزءاً من الموضوع ، بل أمر الاحتياط متعلق بالهيكل فقط .

وانّما نقول ذلك لأنه قد يكون الاتيان بالمركب من الاجزاء التسعة إحتياطا فيقول الفقيه لمقلّده : ائت بهذا المركب ، وقد يكون الاتيان بالأجزاء العشرة إحتياطا فيقول له الفقيه : إئت بهذه الأجزاء التسعة منضمَّة مع احتمال المطلوبية لأن هذه العشرة حينئذٍ إحتياط ، فتسعة أجزاء من المركب متيقن المطلوبية والجزء العاشر محتمل المطلوبية ، فيلزم للمقلّد أن ينوي هنا هكذا ، لا أن ينوي المطلوبية في كلّ الأجزاء العشرة فهو مثل : أن يكون هناك عشر صلوات ، تسعة منها في ذمة الانسان يقيناً والعاشرة محتملة ،فانّه لا يصح أن يقال له : إئت بكل الصلوات العشر المتيقنة الفوت ، بل يقول : إئت بتسعة متيقنة وبعاشرة محتملة .

والحاصل : انّ الاحتياط انّما هو باتيان الهيكل لا انّ الاحتياط باتيان الهيكل

ص: 38

ولو اُريد بالاحتياط في هذه الأوامر معناه الحقيقيّ ، وهو إتيان الفعل لداعي احتمال المطلوبيّة لم يجز للمجتهد أن يفتي باستحبابه إلاّ مع التقييد باتيانه بداعي الاحتمال حتّى يصدق عليه عنوان الاحتياط مع استقرار سيرة أهل الفتوى على خلافه ، فعلم أنّ المقصود إتيان الفعل بجميع ما يعتبر فيه عدا نيّة الداعي .

-------------------

مع قصد القربة كما قال : ( ولو اُريد بالاحتياط في هذه الأوامر ) الاحتياطية ( : معناه الحقيقي ) أي : معنى الاحتياط حقيقة ( وهو : اتيان الفعل لداعي احتمال المطلوبية ، لم يجز للمجتهد أن يفتي ) لمقلّده ( باستحبابه ) أي : باستحباب هذا المركب من الأجزاء العشرة ( إلاّ مع التقييد باتيانه بداعي الاحتمال ) أي : يقول لمقلده : إئت بالصلاة الاحتياطية بداعي احتمال المطلوبية .

وعليه : فلا يصح للفقيه أن يقول في مثال الدّعاء عند الهلال يستحب الدّعاء عند رؤة الهلال ، بل اللازم أن يقول : يستحب الدّعاء عند الهلال بداعي احتمال الأمر الواقعي الموجب لمطلوبية الدّعاء .

وانّما يلزم على الفقيه أن يقول له بالنحو الثاني ( حتى يصدق عليه ) أي : على الاتيان بداعي الاحتمال ( عنوان الاحتياط ) .

هذا ( مع استقرار سيرة أهل الفتوى ) من الفقهاء ( على خلافه ) إذا لم يأت الفقهاء بلفظ الاحتمال في فتاواهم ، بل يفتون مطلقاً وبلا قيد قائلين : أنّ الدّعاء عند رؤة الهلال مستحب ( فعلم : أنّ المقصود ) بالإحتياط : ( اتيان الفعل بجميع ما يعتبر فيه ) من الأجزاء التسعة ( عدا نيّة الدّاعي ) وهو احتمال المحبوبية فانّ قصد الداعي ينضم إليه من الخارج ، لأنّا نعلم أنّ هذا الهيكل المشتمل على تسعة أجزاء لا يؤى به إحتياطا إلاّ إذا انضم إليه قصد الداعي ، وإلاّ فانّه إذا لم يقصد

ص: 39

ثمّ إنّ منشأ احتمال الوجوب ، إذا كان خبرا ضعيفا ، فلا حاجة إلى أخبار الاحتياط إثبات أنّ الأمر فيها للاستحباب الشرعيّ دون الارشاد العقليّ ، لورود بعض الأخبار باستحباب فعل كلّ ما يحتمل فيه الثواب .

كصحيحة هشام بن سالم المحكيّة عن المحاسن عن أبي عبد اللّه عليه السلام

-------------------

الداعي لم يأت بشيء اطلاقاً ، اذ بدون قصد الداعي لا يكون الهيكل عبادة إحتياطية .

السادس : كفاية روايات التسامح في أدلة السنن لجعل محتمل العبادة عبادة استحبابية إذا كان هناك فتوى من فقيه ، أو خبر ضعيف يدل عليه من غير حاجة لتصحيحه بالاحتياط ، فقد وردت روايات متعددة تدلّ على التسامح ، واليه اشار المصنِّف بقوله : ( ثمّ إنّ منشأ احتمال الوجوب إذا كان خبراً ضعيفاً ) أي : انّ الشبهة الوجوبية إذا كانت مستندة الى خبر ضعيف ، أو فتوى فقيه ، أو شهرة ، أو ما أشبه ذلك ( فلا حاجة ) في تصحيح محتمل العبادة بالإتيان به إحتياطا ( الى أخبار الاحتياط وإثبات أنّ الأمر فيها للإستحباب الشرّعي دون الارشاد العقليّ ) فانّا أثبتنا سابقاً حُسن الاحتياط في العبادة المحتملة بحمل أوامر الاحتياط فيها على أنها للاستحباب لا للارشاد ، إذ لو كان الأمر للارشاد لم يثبت الاستحباب .

هذا ، لكنا نقول هنا : انّه لا حاجة الى إثبات الأمر الاستحبابي في الاحتياط في الشبهة الوجوبية في العبادة ، وانّما تصحح الاحتياط هنا ( لورود بعض الأخبار باستحباب فعل كلّما يحتمل فيه الثواب ) سواء كان في الرواية الواردة أو في فتوى الفقيه تصريح بثواب كذا في طاعة كذا ، أم لم يكن تصريح بذلك وانّما كانت الرواية أو الفتوى تقول باستحباب عمل كذا .

( كصحيحة هشام بن سالم المحكيّة عن المحاسن عن أبي عبداللّه عليه السلام

ص: 40

قال : « مَن بلغه عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، شيء من الثواب فَعَمِلَه كانَ أجرُ ذلك له وإن كان رسولُ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم لم يقله » .

وعن البحار ، بعد ذكرها : « أنّ هذا الخبر من المشهورات رواه العامّة والخاصّة بأسانيد » .

والظاهر أنّ المراد من « شيء من الثواب » بقرينة ضمير « فعمله » وإضافة الأجر إليه

-------------------

قال : مَن بَلَغَهُ عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم شيء من الثّواب فَعَمِلَهُ كانَ أجرُ ذلكَ له وإن كان رَسولُ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم لم يقله ) (1) ومن المعلوم : انّ قول النبيّ في الصحيحة من باب المثال فكل الأئمة عليهم السلام قولهم قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم كما ثبت في باب الامامة .

( وعن البحار بعد ذكرها ) أي : ذكر هذه الصحيحة قال : ( « ان هذا الخبر من المشهورات رواه العامّة والخاصة بأسانيد » ) (2) متعددة .

( و ) إن قلت : ظاهر هذاالخبر ونحوه : انّ الشيء المستحب قد ثبت إستحبابه بدليل معتبر وانّما ورد في الرّواية الضعيفة انّ له كذا مقدار من الثواب كقصر في الجنة ونحوه ، لا أنّ الخبر يقول : انّ الشيء الفلاني مستحب ، أو مستحب وله ثواب .

قلت : ( الظاهر : انّ المراد من ) قوله : ( « شيء من الثواب » ، بقرينة ضمير « فعمله » ) إذ الثواب لا يعمل ، وانّما يعمل سبب الثواب وهو : صلاة كذا ، أو حج كذا ، أو صدقة كذا ، أو ما أشبه ذلك ( و ) بقرينة ( إضافة الأجر إليه ) فانّ الثواب لا أجر له ، وانّما الأجر للعمل ، فبهاتين القرينتين نعرف : انّ المراد من قوله

ص: 41


1- - المحاسن : ص25 ح1 بالمعنى ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص341 ، وسائل الشيعة : ج1 ص82 ب18 ح190 .
2- - بحار الانوار : ج2 ص256 ب30 ح3 .

هو الفعل المشتمل على الثواب .

وفي عدّة الداعي عن الكلينيّ قدس سره ، أنّه روى بطرقه عن الأئمة عليهم السلام : « أنّه من بلغه شيء من الخير فعمل به ، كان له من الثواب ما بلغه وإن لم يكن الأمر كما فعله » .

-------------------

« شيء من الثواب » ( هو : الفعل المشتمل على الثواب ) فيكون معنى الحديث : مَن بَلَغَه فعل له ثواب فعمل بذلك الفعل ، كان له أجر ذلك الفعل ، وحيث انّه ليس من المهم ذكر الثواب في الرواية وعدم ذكره ، نقول بأعمّيّة هذا الحديث لما ذكر فيه الثواب ولما لم يذكر .

مثلاً : قد يقول : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : صلّوا صلاة ليلة الرغائب ، وقد يقول : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : من صلّى صلاة ليلة الرغائب فله كذا من الثواب ،فانّ هذا الحديث وشبهه يشمل كليهما .

كما انّه لا فرق بين أن يكون هناك فتوى فقيه على استحباب كذا أو رواية ضعيفة تقول باستحباب كذا ، لأنّ فتوى الفقيه أيضاً كاشفة عن الرواية لولا قرينة خارجية بأنّها من استنباطه لا من الرواية ، وكذلك إذا قامت الشهرة على شيء .

( وفي عدّة الدّاعي عن الكليني قدس سره انّه روى بطرقه عن الأئمة عليهم السلام : « انّه من بلغه شيء من الخير فعمل به ، كان له من الثواب ما بلغه وإن لم يكن الأمر كما فعله » ) (1) بأن لم يثبت ذلك حقيقة عن الرسول والأئمة عليهم السلام وانّما اشتبه الراوي

أو تعمّد الخطأ .

ص: 42


1- - الكافي اصول : ج2 ص87 ح1 (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج1 ص82 ب18 ح189 .

وأرسل نحوه السيّد قدس سره ، في الاقبال عن الصادق عليه السلام ، إلاّ أنّ فيه : « كان له ذلك » ، والأخبار الواردة في هذا الباب كثيرة ، إلاّ أنّ ما ذكرناها أوضح دلالةً على ما نحن فيه ، وإن كان يورد عليه أيضا ، تارةً بأنّ ثبوت الأجر لا يدلّ على الاستحباب الشرعيّ .

-------------------

( وأرسل نحوه ) أي : نحو حديث عدّة الداعي ( السيّد ) ابن طاووس ( قدّس سّره في ) كتاب ( الاقبال عن الصادق عليه السلام ، إلاّ أن فيه : « كان له ذلك » (1) ، والأخبار الواردة في هذا الباب كثيرة ) يأتي ذكر جملة منها في رسالتنا المستقلة في التسامح الملحقة بآخر البحث انشاء اللّه تعالى .

( الاّ أن ما ذكرناها أوضح دلالة على ما نحن فيه ) من تصحيح العمل العباديالاحتياطي بهذه الروايات وذلك بتقريب : انّ أخبار « مَن بَلَغَ » تدلّ بالمطابقة على ثبوت الثواب ، ومن الواضح : انّ الثواب موقوف على وجود الأمر ، فتدل بالإلتزام على وجود أمر مولوي ندبي بإتيان الفعل الذي بلغ عليه الثواب ، وعلى هذا فيصح اتيان محتمل العبادة بداعي امتثال هذا الأمر ، فانّه إذا قال المولى لعبده : اذا اطعت العالم الفلاني أعطيك ديناراً ، فهم العرف من هذا الكلام انّ إطاعة العالم محبوب للمولى ومأمور به .

هذا ( وان كان يورد عليه ) أي : على الاستدلال بأخبار « مَن بَلَغَ » لتصحيح الاحتياط في العبادة المحتملة ( أيضاً ) أي : كما أورد على أوامر الاحتياط بانها لا تدل على المقصود ( تارةً : بأنّ ثبوت الأجر لا يدل على الاستحباب الشرعي )

ص: 43


1- - اقبال الاعمال : ج3 ص170 ، الاقبال : ص556 ، وسائل الشيعة : ج1 ص82 ب18 ح189 بالمعنى .

...

-------------------

لإمكان أن يكون الأجر تفضلياً كما في التوصليات .

وحاصل هذا الوجه : انّ هذه الأخبار لا تدل على أن الآتي بمحتمل العبادة امتثالاً للأمر يستحق الثواب ، حتى تدل هذه الأخبار بالالتزام على وجود أمر مولوي بمحتمل العبادة ليقال انّه يصح إتيان محتمل العبادة بداعي امتثاله ، بل غاية ما تدل عليه هذه الأخبار انّ الآتي بمحتمل العبادة من باب الاحتياط ينال ثواباً تفضلاً من اللّه سبحانه وتعالى .

ويؤّد ذلك : : قوله عليه السلام : « فعمله التماس ذلك الثواب » (1) ، وقوله في رواية اُخرى : « فعمله طلباً لقول النبي » (2) ، فلا تشمل هذه الأخبار محتمل العبادة الذي كلامنا فيه ؛ وذلك لعدم امكان الاحتياط في محتمل العبادة للإشكال المتقدِّم .

وان شئت قلت : انّ حاصل هذا الاشكال هو عدم الملازمة بين الثواب وبين الأمر ، فلا يدل وجود الثواب على وجود الأمر ، لجواز كون الثواب على الاطاعة الحكمية .

ثمّ لا يخفى : انّ مرادهم من التسامح في أدلة السنن : عدم اشتراطهم فيها ما اشترطوه في أدلة التكاليف الالزامية ، فانّ التكليف إذا كان الزامياً من واجب أو حرام يحتاج الى دليل معتبر ، أما إذا كان التكليف غير الزامي كالإستحباب والكراهة ، فلا يحتاج الى دليل معتبر ، بل يكفي فيه الخبر الضعيف ، وفتوى الفقيه ، والاجماع المنقول ، والشهرة ، وما أشبه ذلك .

ص: 44


1- - الاقبال : ص627 ، فلاح السائل : ص12 .
2- - المحاسن : ص25 بالمعنى ونظير ذلك في الوسائل ج1 ص81 ب18 ح185 .

وأُخرى بما تقدّم في أوامر الاحتياط من أنّ قصد القربة مأخوذ في الفعل المأمور به بهذه الأخبار ، فلا يجوز أن تكون هي المصحّحة لفعله فيختصّ موردها بصورة تحقق الاستحباب وكون البالغ هو الثواب الخاصّ فهو المتسامح فيه دون أصل شرعيّة الفعل .

-------------------

( و ) يورد عليه تارةً ( اخرى : بما تقدّم ) من الدور الذي ذكرناه ( في أوامر الاحتياط : من أنّ قصد القربة مأخوذ في الفعل المأمور به بهذه الأخبار ، فلا يجوز أن تكون ) الأخبار ( هي المصحّحة لفعله ) أي : لفعل محتمل العبادة ،لأنّه يستلزم الدّور ، فانّه لا قربة قبل أخبار « « مَن بَلَغَ » » لأنه لا أمر؛ فاذا لم يكن أمر لا يكون قربة ، فأخبار « « مَن بَلَغ » » تأتي بالقربة مع أن القربة يلزم أن تكون قبل هذه الأخبار ، اذ القربة مأخوذة في موضوع هذه الأخبار ، فهذه الأخبار متوقفة على وجود الموضوع وجزء من الموضوع هو القربة ،والقربة تتوقف على هذه الأخبار ، فهذه الأخبار تتوقف على هذه الأخبار ، وهو دور على ما تقدّم تقريبه .

وعليه : ( فيختص موردها ) أي : مورد أخبار « مَن بَلَغ » ( بصورة تحقق الاستحباب ) من قبل ، كما ورد : « صلّ صلاة الأعرابي » ( وكون البالغ هو الثواب الخاص ) بدليل آخر بأن قال بعد رواية صلّ صلاة الأعرابي : « من صلّى صلاة الأعرابي فله قصر في الجنة » ( فهو ) أي : ثبوت الثواب الخاص وهو القصر في الجنة في المثال يكون ( المتسامح فيه ) فانّ اللّه سبحانه وتعالى يعطي القصر وان لم يكن هذا الحديث : له قصر في الجنة ، قاله رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم .

هذا هو المتسامح فيه ( دون أصل شرعيّة الفعل ) فانّ شرعيّة الفعل لا تثبت

ص: 45

وثالثةً بظهورها فيما بلغ فيه الثواب المحض لا العقاب محضا أو مع الثواب .

لكن يردّ هذا منعُ الظهور مع إطلاق الخبر ، ويردّ ما قبله ما تقدّم في أوامر الاحتياط .

-------------------

بأحاديث « مَن بَلَغَ » ، وانّما الثواب يثبت بأحاديث « مَن بَلَغَ » فلا يمكن أن يكون أحاديث « مَن بَلَغَ » دليلاً على استحباب ما ورد فيه خبر ضعيف أو فتوى فقيه .

( و ) يورد عليه تارةً ( ثالثة ) : بأنّ هناك في « مَن بَلَغَ » ثلاثة أقسام من الخبر الضعيف ، وفتوى الفقيه ، وما أشبه :

الأوّل : ما قال : من صلّى صلاة الاعرابي - مثلاً - فله قصر في الجنة ، أو قال : صلّ صلاة الاعرابي - مثلاً - .

الثاني : ما قال : من ترك السواك - مثلاً - فعليه عقاب كذا .

الثالث : ما قال : من صلّى صلاة الليل - مثلاً - فله ثواب كذا ، ومن تركها فله عقاب كذا .

هذا ، بينما الايراد الثالث يقول : انّ حديث « مَن بَلَغ » يشمل القسم الأوّل فقط ، لأنّ ظاهره ما أثبت الثواب ، أو قال : إئت بكذا ممّا لازمه : انّ فيه الثواب وذلك ( بظهورها ) أي : ظهور أخبار « مَن بَلَغَ » ( فيما بلغ فيه الثواب المحض ،لا العقاب محضاً ، أو مع الثواب ) فكيف يقول الفقهاء بأن أخبار « مَن بَلَغَ » تشمل الأقسام الثلاثة كلها ؟ .

( لكن يردّ هذا ) الايراد الثالث ( منع الظهور مع اطلاق الخبر ) قوله : « منع » ، فاعل قوله : « يردّ » أي : انّ خبر « مَن بَلَغَ » مُطلق يشمل الأقسام الثلاثة ، فلا وجه لإدعاء ظهور الخبر المذكور في خصوص « مَا بلغ » ، من الثواب المحض ، دون

ص: 46

وأمّا الايرادُ الأوّلُ ، فالانصافُ أنّه لا يخلو عن وجه ، لأنّ الظاهر من هذه الأخبار كون العمل متفرعا على البلوغ وكونه الداعي على العمل .

-------------------

العقاب محضاً ، أو مع الثواب .

كما ( ويردّ ما قبله ) أي : ما قبل الايراد الثالث من الايرادين الاخرين ( ما تقدّم في أوامر الاحتياط ) : من انّ موضوع هذه الأخبار هو الهيكل فقط من دون قصد القربة ، فاذا انضم إليه الخبر الدال على ثبوت الثواب فيه ، المستلزم للأمر به ، يصير خيراً حقيقياً ، فيمكن اتيانه بنية امتثال هذا الأمر .

( وأمّا الايراد الاوّل ) الذي ذكره المصنِّف بقوله قبل صفحتين : « وان كان يورد عليه تارة بانّ ثبوت الاجر لا يدلّ على الاستحباب الشرعي » ( فالانصاف انّه لا يخلو عن وجه ) وذلك لأن أوامر « مَن بَلَغَ » للارشاد ، فلا يثبت الاستحباب الشرعي ( لأنّ الظاهر من هذه الأخبار كون العمل متفرّعاً على البلوغ وكونه ) أي : البلوغ هو ( الدّاعي على العمل ) .

وعليه : فالبلوغ ليس مستند العمل وانّما الأمر العقلي هو مستند العمل ، والبلوغ ارشاد اليه ، فانّ الأمر لمّا كان للإرشاد - لدلالة العقل على الاتيان بما يحتمل كونه أمر المولى لأنّه انقياد - كان الأمر الارشادي مستند العمل لا أدلة « مَن بَلَغَ » ، اذ هنا احتمالان :

الأوّل : انّ يثبت بأخبار « مَن بَلَغَ » أصل الثواب ، وهذا ممّا يدل عليه العقل لأنّه انقياد فلا حاجة الى أخبار « مَن بَلَغَ » .

الثاني : أن يثبت بأخبار « مَن بَلَغَ » خصوصية الثواب : كقصر في الجنة ونحوه ، وهذا وان لم يثبت بالعقل لأنّ العقل لا يدل على الخصوصية ، وانّما يدل على أصل ثواب الانقياد ، الاّ انّ الخصوصيات تفضّل ملزوم للأمر الارشادي

ص: 47

ويؤيّده تقييدُ العمل في غير واحد من تلك الأخبار بطلب قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم والتماس الثواب الموعود ، ومن المعلوم أنّ العقل مستقلّ باستحقاق هذا العامل المدحَ والثوابَ ، وحينئذٍ :

-------------------

كما في قوله تعالى : « مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشرُ أَمثَالِهَا » (1) فيكون حاصل من ذلك : انّ اخبار « مَن بَلَغَ » لا تكون الاّ ارشاداً ، والارشاد لا يثبت الاستحباب الذي ذكره المشهور .

هذا ، وقد أشار المصنِّف الى الاحتمال الأوّل بقوله فيما يأتي : فانّ كان الثابت في هذه الأخبار أصل الثواب ، كما وأشار الى الاحتمال الثاني بقوله : وان كان الثابت بهذه الأخبار خصوص الثواب البالغ .

( ويؤّده : ) أي : يؤد انّ المراد من اخبار « مَن بَلَغَ » : اتيان محتمل العبادة إحتياطا ، فيكون طاعة حكمية لا طاعة حقيقية حتى يترتب عليه الثواب ويكون الثواب كاشفاً عن الاستحباب بدليل « الإن » ( تقييد العمل في غير واحد من تلك الأخبار ) أي : أخبار « مَن بَلَغَ » ( بطلب قول النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم والتماس الثواب الموعود ) فهذه الأخبار واردة في موارد إمكان الاحتياط ولا تدل على أن اتيان المحتمل بداعي الأمر يترتب عليه ثواب الامتثال .

( ومن المعلوم : انّ العقل مستقلٌ باستحقاق هذا العامل المدح والثواب ) لأنّه انقياد والمنقاد عقلاً مثاب ، لأنّه ممدوح ،ومدح الشارع هو ثوابه ،كما انّ مدح العقل هو تحسينه .

( وحينئذٍ ) أي : حين كان الثواب ثواب الانقياد لا ثواب الاستحباب الكاشف

ص: 48


1- - سورة الانعام : الآية 160 .

فان كان الثابتُ في هذه الأخبار أصلَ الثواب كانت مؤكّدة لحكم العقل بالاستحقاق .

وأمّا طلبُ الشارع لهذا الفعل : فان كان على وجه الارشاد لأجل تحصيل هذا الثواب الموعود

-------------------

عن الأمر نقول : ( فان كان الثابت في هذه الأخبار أصل الثواب ) بأن يكون أخبار « مَن بَلَغَ » دالاً على أن من يَعمل بالشيء يُصيب في الجملة ثواباً ( كانت ) أخبار « مَن بَلَغَ » ( مؤدة لحكم العقل بالإستحقاق ) لأنّ العقل يدل على الاستحقاق الانقيادي والشرع أكد ذلك ، فيكون أوامر الشرع إرشادية ، والأوامر الارشادية لا تثبت الاستحباب ، وحيث ثبت أصل الثواب نقول :

ان أُريدَ كشف الأمر الارشادي بسبب هذا الثواب فهو تامٌ ، لكن الأمر الارشادي لا يثبت الاستحباب الذي يقول به المشهور ، لأنّ المشهور يقولون : بأن أوامر « مَن بَلَغَ » تثبت الاستحباب ،بينما هي مثل : « أَطِيعُوا اللّهَ » (1) فانّه أمر ارشادي وليس بمستحب أو واجب اذ لو كان : « أَطِيعُوا اللّهَ » مستحباً أو واجباً لكان له ثواب ، فيلزم أن يكون لمن صلّى ثوابان : ثواب الصلاة ، وثواب الاطاعة ، وهذا ما لا يقولون به .

وان اُريد كشف الأمر المولوي من أصل الثواب قلنا : انّ أصل الثواب ليس كاشفاً عن الأمر المولوي لما عرفت : من انّ الثواب محقق بسبب الانقياد .

والى هذين الوجهين أشار المصنِّف بقوله : ( وأما طلب الشارع لهذا الفعل ، فان كان على وجه الارشاد لأجل تحصيل هذا الثواب الموعود ) بسبب الاطاعة

ص: 49


1- - سورة النساء : الآية 59 ، سورة آل عمران : الآية 32 و الآية 132 ، سورة المائدة : الآية 92 .

فهو لازمٌ للاستحقاق المذكور وهو عين الأمر بالاحتياط .

وإن كان على وجه الطلب الشرعيّ المعبّر عنه بالاستحباب فهو غيرُ لازم للحكم بتنجّز الثواب ، لأنّ هذا الحكم تصديق لحكم العقل بتنجّزه ، فيشبه قوله تعالى : « وَمَن يُطع اللّهَ وَرَسولَه يدخله جَنّاتٍ تَجري » ،

-------------------

الحكمية ( فهو ) حقّ ، و ( لازم للاستحقاق المذكور ) فانّ العقل إذا حكم بالثواب ارشد الشرع اليه ( وهو عين الأمر بالاحتياط ) فانّ أمر الاحتياط يثاب عليه بما انّه إنقياد لا لأنّه أمر مولوي .

( وان كان على وجه الطلب الشرعي ) المولوي ( المعبّر عنه بالإستحباب ، فهو غير لازم للحكم بتنجز الثواب ) أي : انّ أوامر الاحتياط لا تدلّ على وجود الطلب الشرعي المولوي حتى يثبت الاستحباب بذلك ، لأنّه لا يستلزم الأمر المولوي تنجز الثواب حتى نقول : كلّما تحقق الثواب تحقق الأمر المولوي ، وذلك ( لأن هذا الحكم ) أي : حكم الشارع بتنجز الثواب حسب ما يستفاد من أخبار « مَن بَلَغَ » ( تصديق لحكم العقل بتنجزه ) أي : بتنجز الثواب ، فانّ العقل يقول بتنجز الثواب بسبب الانقياد ، فيكون الأمر الشرعي إرشاداً ولا يكون أمراً مولوياً .

وعليه : ( فيشبه ) أمر « مَن بَلَغَ » ( قوله تعالى : « وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدخِلهُ جَنَّاتٍ تَجرِي ) مِن تَحتِهَا الأنهَارُ » (1) وذلك من حيث أنّ الأمر بالاطاعة فيه أمر ارشادي الى نيل الثواب ، وكذا يكون الأمر في اخبار « مَن بَلَغَ » أمر ارشادي الى الثواب .

ص: 50


1- - سورة النساء : الآية 13 .

إلاّ أنّ هذا وعد على الاطاعة الحقيقيّة ، وما نحن فيه وعد على الاطاعة الحكميّة ، وهو الفعل الذي يعدّ معه العبد في حكم المطيع ، فهو من باب وعد الثواب على نيّة الخير التي يعدّ معها العبد في حكم المطيع من حيث الانقياد .

-------------------

( الاّ أنّ هذا وعد ) للثواب ( على الاطاعة الحقيقية ) وهي اطاعة اللّه والرسول ( وما نحن فيه ) من أوامر « مَن بَلَغَ » ( وعد ) للثواب ( على الاطاعة الحكمية ) والفرق بين الطاعة الحقيقية والطاعة الحكمية : انّ الطاعة الحقيقية متيقنة كصلاة الظهر ، بينما الطاعة الحكمية محتملة مثل أوامر « مَن بَلَغَ » .

ثم انّه عرّف الطاعة الحكمية بقوله : ( وهو الفعل الذي يُعدّ معه العبد في حكم المطيع ) فانّ الانسان إذا صلّى يكون مطيعاً حقيقياً ، أمّا إذا عمل حسب أخبار « مَن بَلَغَ » يكون في حكم المطيع ، لاحتمال أن لا يكون هنالك واقع للشيء الذي اثبتته أخبار « مَن بَلَغَ » .

إذن : ( فهو ) أي : وعد الثواب على الفعل الثابت بسبب أخبار « مَن بَلَغَ » ( من باب وعد الثواب على نية الخير ، التي يُعدّ معها العبد في حكم المطيع من حيث الانقياد ) فالثواب الذي يناله ثواب إنقياد وليس ثواب إطاعة .

انّ قلت : انّ اخبار « مَن بَلَغَ » اثبتت الثواب ، والثواب كاشفٌ عن الأمر المولوي؛ فاذا قال المولى : من سرّح لحيته كان له قصر في الجنّة - مثلاً - دلّ هذا الثواب على وجود الأمر بتسريح اللحية ، فكذلك بالنسبة الى أخبار « مَن بَلَغَ » فانها تثبت الثواب ، والثواب يدل على وجود الأمر المولوي ، واذا كان هناك امر مولوي كان الاستحباب .

ص: 51

وأمّا ما يتوهّم من : « أنّ استفادة الاستحباب الشرعي فيما نحن فيه . نظيرُ استفادة الاستحباب الشرعيّ من الأخبار الواردة في الموارد الكثيرة المقتصر فيها على ذكر الثواب للعمل ، مثل قوله عليه السلام : « من سرّح لحيته فله كذا » ، مدفوعٌ : بأنّ

-------------------

والى هذا الاشكال اشار المصنِّف بقوله :

( وأما ما يتوهم : ) أي : في تقرير دلالة أخبار « مَن بَلَغَ » على الاستحباب الشرعي الذي يقول به المشهور ( من أنّ استفادة الاستحباب الشرعي فيما نحن فيه ) أي : في باب « مَن بَلَغَ » ( نظير استفادة الاستحباب الشرعي من الأخبار الواردة في الموارد الكثيرة المقتصر فيها على ذكر الثواب للعمل ) بدون الأمر بتلك الأشياء يعني : انّ مجرد وجود الثواب كاشفٌ عن الأمر ( مثل قوله عليه السلام : من سرّح لحيته فله كذا ) (1) من الأجر ، فانّ الاستحباب كما يُستفاد من الأمر ، كذلك يستفاد من وجود الثواب ، ففي قوله : « مَن سَرّح لحيته » ، يستفاد الأمر من وجود الثواب ، فكذا وجود الثواب في أخبار « مَن بَلغ » يكشف عن وجود الأمر فيها .

هذا التوهم ( مدفوعٌ : بأنّ ) ترتب الثواب على قسمين :

الأوّل : ترتبه على الأمر ،وهذا يكون أمراً مولوياً .

الثاني : ترتبه على احتمال الأمر ، وهذا يكون أمراً ارشادياً .

أما قوله : « من سرّح لحيته » ، فقد رتّب الثواب على الأمر أي : تسريح اللحية فكأنّه قال : تسريح اللحية له ثواب كذا ، بخلاف أخبار « مَن بَلَغَ » فانّه رتّب الثواب

ص: 52


1- - الكافي فروع : ج6 ص489 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص128 ح321 ، وسائل الشيعة: ج2 ص126 ب76 ح169 وفي الجميع (بالمعنى) ، بحار الانوار : ج76 ص117 ب15 ح4 .

الاستفادة هناك باعتبار أنّ ترتّب الثواب لا يكون إلاّ مع الاطاعة حقيقةً أو حكما .

فمرجع تلك الأخبار إلى بيان الثواب على إطاعة اللّه سبحانه بهذا الفعل ، فهي تكشف عن تعلّق الأمر بها من الشارع ،

-------------------

على احتمال الأمر حيث قال عليه السلام : « التماس ذلك » (1) وقال عليه السلام : « طلب قول النبيّ » (2) ، ففرق بين الثواب في قوله : « مَن سَرّح » ،الكاشف عن الأمر المولوي ، وبين الثواب في قوله : « طلب قول النبي » ، الكاشف عن الأمر الارشادي .

وانّما يكون هذا التوهم مدفوعاً ،لانّه كما قال : ( الاستفادة هناك ) فيما ذكر فيه الثواب (باعتبار انّ ترتّب الثواب لا يكون إلاّ مع الاطاعة حقيقةً أو حكماً) .

ومعلوم : ان الاطاعة الحقيقية في الأوامر ، والاطاعة الحكمية في مورد الانقياد في مثل أخبار « مَن بَلَغَ » ، وحيث كان قوله : « من سرّح لحيته فله كذا » (3) من القسم الأوّل ، كان تسريح اللحية مأموراًبه ، بخلاف « مَن بَلَغَهُ ثواب على عمل » فانّه من القسم الثاني، فتكون طاعة حكمية ، والطاعة الحكمية لا تكشف عن الأمر.

إذن : ( فمرجع تلك الأخبار ) أي : أخبار « مَن سَرَّحَ لحيته » ، وما أشبه ( الى بيان الثواب على اطاعة اللّه سبحانه بهذا الفعل ، فهي ) أي : هذه الأخبار الواردة في مثل : تسريح اللحية ( تكشف عن تعلّق الأمر ) المولوي ( بها ) أي : بتلك الأفعال من قبيل تسريح اللحية ( من الشارع ) الجار متعلق بقوله : « الأمر » .

ص: 53


1- - الاقبال : ص627 ، فلاح السائل : ص12 .
2- - المحاسن : ص25 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج1 ص81 ب18 ح185 .
3- - الكافي فروع : ج6 ص489 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص128 ح321 ، وسائل الشيعة : ج2 ص126 ب76 ح1 (بالمعنى) ، بحار الانوار : ج76 ص117 ب15 ح4 .

فالثواب هناك لازم للأمر يستدلّ به عليه استدلالاً إنيّا ، ومثل ذلك استفادة الوجوب والتحريم ممّا اقتصر فيه على ذكر العقاب على الترك أو الفعل .

وأمّا الثواب الموعود في هذه الأخبار فهو باعتبار الاطاعة الحكميّة ،

-------------------

وعليه : ( فالثواب هناك ) في مثل قوله : «من سرّح لحيته» ( لازم للأمر يستدل به ) أي : بوجود الثواب (عليه) ، أي : على وجود الأمر ( إستدلالاً إنّياً ) وهو الانتقال من المعلوم الى العلة كالإستدلال من الدخان على وجود النار ، فاذا ترتب الثواب على الفعل ،يكون الثواب دليلاً على الأمر وان لم يكن أمر ، بأن لم يقل الشارع : سرّح لحيتك ، وانّما قال : مَن سَرّحَ لحيته كان له كذا .

( ومثل ذلك ) أي : مثل استفادة الأمر المولوي والاستحباب ممّا ذكر فيه الثواب ( استفادة الوجوب والتحريم ممّا ) أي : من الأدلة التي ( اقتصر فيه على ذكر العقاب على الترك ) بأن قال : « من ترك الحكم بما أنزل اللّه قذف به في النار » ( أو ) اقتصر فيه على ذكر العقاب على ( الفعل ) بأن قال : « من أكل الربا ملأ اللّه بطنه من النار » (1) ، فانه يكشف بدليل الانّ عن وجود الأمر المولوي بالوجوب في الأوّل ، والحرمة في الثاني .

( وأما الثواب ) عطف على قوله : « فالثواب هناك » : ( الموعود في هذه الأخبار ) أي : أخبار التسامح ( فهو باعتبار الاطاعة الحكميّة ) لأنّ هذه الأخبار لم تقل : انّ الثواب مترتّب على الشيء الفلاني ، بل تقول : الثواب مترتِّب على الالتماس والطلب ، ومن الواضح : انّ الالتماس والطلب احتمال .

ص: 54


1- - اعلام الدين : ص416 ، جامع الاخبار : ص145 ، وسائل الشيعة : ج18 ص122 ب1 ح23284 .

فهو لازم لنفس عمله المتفرّع على السماع واحتمال الصدق ولو لم يرد به أمر آخر أصلاً ، فلا يدلّ على طلب شرعيّ آخر .

نعم ، يلزم من الوعد على الثواب طلبٌ إرشاديّ لتحصيل ذلك الموعود .

والغرض من هذه الأوامر ، كأوامر الاحتياط ، تأييد حكم العقل

-------------------

إذن : ( فهو ) أي : الثواب ( لازم لنفس عمله المتفرّع على السماع واحتمال الصدق ولو لم يرد به ) أي : بذلك العمل ( أمرٌ ) مولوي ، فيكون أمراً إحتياطياً لا أمراً واقعياً ،اذ ليس في المقام أمر واقعي ( آخر ) حتى يكون الثواب مترتّباً على ذلك الأمر الواقعي بل يمكن أن لا يكون في الواقع شيء ( أصلاً فلا يدل ) هذا الثواب التسامحي ( على طلب شرعي آخر ) سوى ما احتملناه بأنّه قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم وعملناه طلباً لذلك .

( نعم ، يلزم من الوعد على الثواب ) في التماس ذلك الثواب ونحوه من أخبار « مَن بَلَغَ » ( طلب ) من المولى ، ( إرشادي ) الى حكم العقل ( لتحصيل ذلك ) الثواب ( الموعود ،والغرض من هذه الأوامر ، كأوامر الاحتياط ) المتقدّمة في باب الاحتياط مثل : « أَخُوكَ دينُكَ فاحتَط لِدينِكَ » (1) ، وما أَشبه فانّها ليست مولوية ، بل هي : ( تأييد حكم العقل ) بحسن الاحتياط وترتب الثواب على ذلك الاحتياط.

وعليه : فكما أن أوامر الاحتياط ليست مولوية وانّما هي إرشاد الى حكم العقل ، كذلك أوامر « مَن بَلَغَ » ليست مولوية ، وانّما ارشادية ، والأمر الارشادي لا يثبت الاستحباب الشرعي الذي يقول به المشهور ، فأوامر « مَن بَلَغَ » انّما هي

ص: 55


1- - الامالي للطوسي : ص110 ح168 ، الامالي للمفيد : ص283 المجلس الثالث والثلاثون ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

والترغيب في تحصيل ما وعد اللّه عباده المنقادين المعدودين بمنزلة المطيعين .

وإن كان الثابتُ بهذه الأخبار خصوصَ الثواب البالغ كما هو ظاهر بعضها فهو ، وإن كان مغايرا لحكم العقل باستحقاق أصل الثواب على هذا العمل ، بناءا على أنّ العقل لا يحكم باستحقاق ذلك

-------------------

لتأييد حكم العقل ( والترغيب في تحصيل ما وعد اللّه عباده المنقادين المعدودين بمنزلة المطيعين ) فانّ الانقياد نوعٌ من الاطاعة - عقلاً - وقوله « المعدودين » ، صفة لقوله : « المنقادين » .

الى هنا تمّ الكلام عن قوله سابقاً : « فان كان الثابت في هذه الأخبار أصل الثواب ...» ثم عطف على ذلك قوله : ( وان كان الثابت بهذه الأخبار ) أي : أخبار « مَن بَلَغَ » ( خصوص الثواب البالغ ) يعني : انّ الذي يطلب قول النبي يعطى الثواب الذي بلغه بخصوصه ،فاذا بلغه : « انّ مَن سَرّحَ لحيته » (1) - مثلاً - كان له قصر في الجنّة ثبت له خصوص القصر ، لا أصل ثواب الانقياد ( كما هو ظاهر بعضها ) فأنّ بعض هذه الأخبار تقول : كان له من الثواب ما بلغه ، يعني : إذا سَرّح لحيته فانّه يعطى قصراً ،لا انّه يعطى ثواباً في الجملة .

إذن : ( فهو ) أي : هذا الثواب الخاص وهو القصر ( وان كان مغايراً لحكم العقل باستحقاق أصل الثواب على هذا العمل ) لانّ العقل يدل على أصل الثواب لا على خصوصية القصر ، وأخبار « مَن بَلَغَ » تدلّ على خصوصية القصر ، وذلك ( بناءاً على انّ العقل ) يحكم باستحقاق أصل الثواب ، وانّه ( لا يحكم باستحقاق ذلك

ص: 56


1- - الكافي فروع : ج6 ص489 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص128 ح321 ، وسائل الشيعة : ج2 ص126 ب76 ح169 ، بحار الانوار : ج76 ص117 ب15 ح4 .

الثواب المسموع الداعي إلى الفعل ، بل قد يناقش في تسمية ما يستحقّه هذا العاملُ لمجرّد احتمال الأمر ثوابا وإن كان نوعا من الجزاء والعوض ، إلاّ أنّ مدلولَ هذه الأخبار إخبار عن تفضّل اللّه سبحانه على العامل بالثواب المسموع ، وهو أيضا ليس لازما لأمر شرعيّ هو الموجب لهذا الثواب ،

-------------------

الثواب المسموع الداعي الى الفعل ) الذي هو القصر في مثالنا .

( بل قد يناقش في تسمية ما يستحقه هذا العامل لمجرّد احتمال الأمر : ثواباً ) لأنّ الثواب هو العوض عن العمل الذي قرره الشارع في الواقع ، كالثواب على الصلاة والصوم ، والحج ، والزكاة ؛ وغيرها ، وهنا لم يقرر الشّارع تسرّيح اللحية في الواقع ، وانّما اشتبه الراوي او تعمّد الخطأ ، فما يعطيه الشارع لتسريح اللحية هو نوع من جزاء الانقياد ، لا انّه ثواب كما قال : ( وان كان ) ما يعطيه الشارع بالنسبة الى مَن بَلَغَ ( نوعاً من الجزاء والعوض ) لتعب هذا الانسان طلباً لقول النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم .

وعلى أي حال : فالثواب الخاص في « مَن بَلَغَ » وان لم يكن مؤداً لحكم العقل لأنّ العقل لا يدل على الثواب الخاص ( الاّ أنّ مدلول هذه الأخبار ) أي : أخبار « مَن بَلَغَ » ( إخبار عن تفضل اللّه سبحانه على العامل ) لأن العطاء في هذه الصورة تفضل محض ، فاللّه تعالى يتفضّل ( بالثواب المسموع ) وهو القصر - مثلاً - على تسريح اللحية .

( و ) عليه : فانّ هذا الثواب الخاص ( هو ايضاً ) كأصل الثواب ( ليس لازماً لأمر شرعي هوالموجب لهذا الثواب ) أي :كما انّ استحقاق أصل الثواب لا يحتاج الى أمر مولوي بالاحتياط ، وانّما يكون الأمر إرشاداً الى حكم العقل ، كذلك استحقاق الثواب البالغ وهو القصر لا يحتاج الى الأمر المولوي ، فلايدل الثواب الخاص

ص: 57

بل هُوَ نظير قوله تعالى : « مَن جَاءَ بالحَسَنةِ فَلَهُ عَشرُ أمثالِها » ، ملزومٌ لأمر إرشاديّ يستقلّ به العقلُ بتحصيل ذلك الثواب المضاعف .

والحاصلُ : أنّه كان ينبغي للمتوهّم

-------------------

على وجود الأمر المولوي حتى يدل ذلك الأمر المولوي على الاستحباب ( بل هو نظير قوله تعالى : « مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشرُ أَمثَالِهَا » (1) ) فيكون الثواب الخاص في أخبار « مَن بَلَغَ » ( ملزوم لأمر إرشادي يستقل به

العقلُ ) .

وانّما لم يكن الثواب الخاص لازماً لأمر مولوي ، لأن اللّه يعطي أصل الثواب للإنقياد ، وخصوصية الثواب تفضل محض ، كما انّه يعطي الثواب في الاطاعة للأمر المولوي ويضاعفه عشرة أضعاف تفضلاً محضاً ، فقد قال سبحانه : « مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشرُ أَمثَالِهَا » (2) .

وكيف كان : فالعقل مستقل ( بتحصيل ذلك الثواب ) اصله للإنقياد ، و ( المضاعف ) منه تفضلاً محضاً ، فلا أصل الثواب يدل على وجود الأمر المولوي ولا خصوصيته تدل على وجود الأمر المولوي ، بل الخصوصية تفضل من اللّه سبحانه وتعالى على أصل الامر الانقيادي والأمر الانقيادي إرشاد وليس بمولوي فلا يدل على الاستحباب كما يقوله المشهور .

( والحاصلُ : ) لا يقاس أخبار « مَن بَلَغَ » بمثل خبر « مَن سَرّح لحيته » ، بل يُقاس بمثل : « أطِيعُوا اللّهَ وَأطِيعُوا الرَّسُول » (3) ومثل : « مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشرُ أَمثَالِهَا » (4) ف- ( انّه كان ينبغي للمتوهم ) الذي يريد جعل أوامر « مَن بَلَغَ »

ص: 58


1- - سورة الانعام : الآية 160 .
2- - سورة الانعام : الآية 160 .
3- - سورة النساء : الآية 59 .
4- - سورة الانعام : الآية 160 .

أن يقيس ما نحن فيه بما ورد من الثواب على نيّة الخير ، لا على ماورد من الثواب في بيان المستحبّات .

ثمّ إنّ الثمرَة بين ما ذكرنا وبين الاستحباب الشرعيّ تظهرُ في ترتّب الآثار المترتبة على المستحبّات الشرعيّة ، مثل ارتفاع الحدث المترتّب على الوضوء المأمور به شرعا ،

-------------------

للاستحباب ( أن يقيس ما نحن فيه بما ورد من الثواب على نية الخير ) اذ وعد الثواب عليها وعدٌ بالثواب على الطاعة الحكمية ،كمافي أخبار « مَن بَلَغَ » فلا يكشف عن وجود أمر مولوي ، فانّ نية الخير كطلب قول النبي مثاب عليها من جهة الطاعة الحكمية لا من جهة الطاعة الحقيقية .

( لا ) انّه يقيس ما نحن فيه ( على ما ورد من الثواب في بيان المستحبات ) التي لا أمر صريح بها مثل قوله : « مَن سرَّح لِحيته فَلَه قَصرٌ فِي الجنة » (1) وغيره من الأمثلة ؛ فتحصل : انّه لا يمكن استفادة الاستحباب من أصل الثواب ،كما لا يمكن استفادة الاستحباب من خصوصية الثواب .

( ثمّ انّ الثمرة بين ما ذكرنا ) : من وجود الأمر الارشادي بسبب أخبار « مَن بَلَغَ » لا الأمر المولوي ( وبين الاستحباب الشرعي ) الذي يقول به المشهور حيث يقولون بدلالة أخبار « مَن بَلَغَ » على استحباب مُحتمل الوجوب - مثلاً - الثمرة ( تظهر في ترتب الآثار المترتبة على المستحبات الشرعيّة ) .

فعلى قولنا لا تترتب الآثار لكن على قول المشهور تترتب الآثار ( مثل : ارتفاع الحدث المترتّب على الوضوء المأمور به شرعاً ) فانّه إذا كان أمر بالوضوء ترتب

ص: 59


1- - الكافي فروع : ج6 ص489 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص128 ح321 ، وسائل الشيعة : ج2 ص126 ب76 ح169 ، بحار الانوار : ج76 ص117 ب15 ح4 .

فانّ مجرّد ورود خبر غير معتبر بالأمر به لا يوجبُ إلاّ استحقاق الثواب عليه ولا يترتّب عليه رفعُ الحدث ، فتأمّل .

-------------------

عليه رفع الحدث وجاز به الدخول في الصلاة ،اما إذا ثبت الوضوء بسبب أخبار « مَن بَلَغَ » فانّه لا يترتّب على مثل هذا الوضوء رفع الحدث حتى يجوز الدخول في الصلاة بسبب هذا الوضوء التسامحي .

وعليه : ( فان مجرّد ورود خبر غير معتبر بالأمر به ) أي : بالأمر بالوضوء - مثلاً - وجبر عدم اعتباره بأخبار « مَن بَلَغَ » ، فنتوضأ لأجل هذه الأخبار ( لا يوجب الاّ استحقاق الثواب عليه ) في الآخرة ثواباً تفضلياً على ما عرفت ( ولا يترتب عليه ) أي : على مثل هذا الوضوء الثابت بأخبار « مَن بَلَغَ » ( رفع الحدث ) فانّ رفع الحدث يترتب على الوضوء المأمور به شرعاً ، وهذا الوضوء التسامحي الوارد بسبب خبر ضعيف لا دليل على رفعه للحدث ، فلا يمكن الدخول في الصلاة بهذا الوضوء .

( فتأمّل ) ولعل الأمر بالتأمّل ، اشارة الى إمكان منع التلازم بين كون كلّ وضوء مستحب شرعاً رافعاً للحدث أيضاً ، اذ قد يتخلف عنه ، كاستحباب الوضوء للحائض ، ولنوم الجنب ونحوهما ، فانّ الأمر الحقيقي بالوضوء الوارد بخبر صحيح ، لا يدل على رفع الحدث ، وانّما يحتاج الى دليل يدل على انّ هذا الوضوء رافع للحدث .

لكن يمكن أن يقال : انّ رافعية الوضوء للحدث لا يحتاج الى دليل ، وانّما عدم رافعيته يحتاج الى الدليل ، ولذا اختار المصنّف في الفقه كون ارتفاع الحدث الأصغر لازم لطبيعة الوضوء في كل محل قابل له ، فاذا ورد دليل على انّ هذا الوضوء لا يرفع الحدث كوضوء الحائض وما أشبه ، فانّ ذلك استثناء .

ص: 60

وكذا الحكم باستحباب غسل المسترسل من اللحية في الوضوء من باب مجرّد الاحتياط لا يسوّغ جوازَ المسح ببلله ، بل يحتمل قويّا أن يمنع من المسح - مثلاً - وإن قلنا بصيرورته مستحبّا شرعيّا ،

-------------------

ثمّ انّ بعضهم ذكر ظهور ثمرة اُخرى بين القول باثبات التسامح للإستحباب الشرعي الذي يقول به المشهور ، وبين عدمه الذي يقول به المصنّف رحمه اللّه وهو انّه :

لو أثبت التسامح الاستحباب الشرعي ، تمكن المكلّف من قصد القربة والاّ لم يتمكن ، بل يلزم الاتيان بقصد الرجاء ، اذ ليس يصح أن يقصد في العمل التسامحي القربة بأن يقول أني أعمل هذا العمل يا مولاي قربة اليك ، إذ القربة انّما تكون فيما إذا أمر المولى وعلم به العبد وهنا لا دليل على الأمر .

( وكذا الحكم باستحباب غسل المسترسل من اللحية ) أي : الخارج منها عن حد الوجه ، بأن كان الرجل ذا لحية طويلة فانّه يستحب ( في الوضوء ) غسله ( من باب مجرّد الاحتياط ) لقيام دليل ضعيف عليه ، فيغسل المسترسل من باب التسامح ، وغسل المسترسل من باب التسامح ( لا يسوّغ جواز المسح ببلله ) إذا جف ماء يده وأراد المسح ، فانّ له عند الجفاف أن يأخذ للمسح من ببل بعض أعضاء وضوئه ، لكن ليس له حينئذٍ الأخذ من بلل مسترسل لحيته ، هذا على ما نختاره نحن الشيخ .

أما لو أمكن اثبات استحبابه الشرعي بملاحظة أخبار « مَن بَلَغَ » - كمايقول به المشهور - فيجوز المسح ببلل هذا المسترسل .

( بل يحتمل قوياً انّ يمنع من المسح - مثلاً - ) ببل المسترسل ( وان قلنا بصيرورته مستحباً شرعياً ) وذلك لأن استحباب غسله في الوضوء لا يجعله من أجزاء الوضوء، بل يمكن أن يكون حال بلل المسترسل من اللحية حال ماء الفم

ص: 61

فافهم .

-------------------

الباقي من المضمضة للوضوء ، أو ماء الأنف الباقي من الاستنشاق للوضوء فإنّه لا يصح أخذ البلل منه للمسح بل يلزم في صحة المسح به شرطان :

أولاً : إثبات استحباب غسل المسترسل من اللحية .

ثانياً : إثبات انّه جزء من أجزاء الوضوء .

( فافهم ) لعله اشارة الى انّ ظاهر اعتبار شيء في المركب : كونه جزءاً منه ، سواء كان جزءاً وجوبياً أم جزءاً استحبابياً ، فالأمر بغسل مسترسل اللحية دليل على انّه جزء من الوضوء .

هذا ، وقد قال في الأوثق : « يمكن انّ يستدل على كون مفاد أخبار التسامح هو الاستحباب الشرعي دون تأكيد حكم العقل لوجوه :

أحدها : انّ حملها مع كثرتها على ذلك بعيد جداً .

الثاني : انّ أكثر هذه الأخبار مطلقات لا دلالة فيها على اعتبار كون إتيان الفعل بداعي ادراك الثواب البالغ ، وما وقع فيه التقييد بذلك مُجمل لاحتمال كون المراد به : بيان كون الداعي الى العمل والمحرك للمكلف اليه ، لا اعتبار ذلك في كيفية الامتثال بأن يكون غاية مقصودة من الفعل ، والفرق بينهما واضح .

الثالث : انّ ظاهرها : استحقاق الثواب بالعمل ، فلو حملت على بيان حكم العقل وتأكيده لا يكون ترتب الثواب على وجه الاستحقاق ، بل على وجه التفضل من اللّه سبحانه ، لكون العبد معه في حكم المطيع والمنقاد .

الرابع : فهم الفقهاء وحكمهم بالإستحباب الشرعي لأجلها وهم من أهل اللسان .

الخامس : انّ ظاهر بعضها - كما اعترف به المصنّف - هو : استحقاق خصوص

ص: 62

...

-------------------

الثواب البالغ لا مطلقه والعقل لا يستقل به ، وحمله على التفضل أيضاً خلاف الظاهر » (1) .

انتهى وهو كلام متين ، ولذا نحن رأينا في الفقه أيضاً الاستحباب في الأوامر الايجابية ، والكراهة في النواهي السلبية ، واللّه المستعان .

* * *

ص: 63


1- - أوثق الوسائل : ص299 التسامح في أدلة السنن .

ص: 64

الوصائل الى الرسائل

ملحق الشارح : التسامح في أدلّة السنن

اشارة

ص: 65

ص: 66

...

-------------------

ثمّ انّه لا بأس بأن نذكر هنا رسالتنا المستقلة في التسامح .

فنقول وعلى اللّه التكلان :

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

والحمد للّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين .

وبعد : فقد وردت روايات متعددة تدل على التسامح ،ونحن ننقل هذه الأخبار عن كتاب جامع أحاديث الشيعة ، ونقول :

عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « مَن سَمِعَ شَيئاً من الثواب على شيء فصنعه ، كان له أجره وان لم يكن على ما بلغه » (1) .

وعن محمد بن مروان قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : « من بَلَغَهُ ثواب من اللّه عزّ وجلّ على عمل فَعَملَ ذَلكَ العمل التماس ذلك الثواب ،أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه » (2) .

وعن محمد بن يعقوب بطرقه الى الأئمة عليهم السلام : « انّ مَن بلَغَهُ شيء من الخَيرِ فَعَمَلَ بهِ ، كان لَهُ من الثَّواب ما بلغه وان لم يكن الأمر كما نقل اليه » (3) .

و عن صفوان عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « انّ مَن بلَغَه شيء من الخَير فعَمِل بهِ ، كان له أجر ذلك وان كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم لم يقله » (4) .

وعن هشام بن صفوان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « مَن بَلَغَهُ شَيءٌ مِن الثّواب على خَيرِ فَعَمَلَه ، كان لَهُ أجرُ ذلك وان كان رسول اللّه لم يقله » (5) .

ص: 67


1- - جامع أحاديث الشيعة : ج 1 ص 340 .
2- - جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص340 .
3- - جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص340 .
4- - جامع أحاديث الشيعة : ج 1 ص 341 .
5- - جامع أحاديث الشيعة : ج 1 ص 341 .

...

-------------------

وفي رواية اُخرى عن صفوان عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، انّه قال : مَن بَلَغَهُ شَيء من الخير فَعَملَ بِه ، كان له أجرُ ذلك وان كان رسول اللّه لم يقله » (1) .

وعن محمد بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « مَن بَلَغَهُ عن النبي شيء فيه الثواب ففعل ذلك طلباً لقول النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، كان له ذلك الثواب وان كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم لم يقله » (2) .

وعن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « مَن بَلَغَهُ عن النبيّ شيء من الثواب فعمله ، كان أجر ذلك له ، وان كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم لم يقله » (3) .

وعن جابر بن عبداللّه الأنصاري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : « مَن بَلَغَهُ من اللّه فضيلة فأخذ بها وعملَ بما فيها ايماناً باللّه ورجاءَ ثوابه ، أعطاهُ اللّه تعالى ذلك وان لم يكن كذلك » (4) ، لكن هذه الرواية مروية في عدّة الداعي من طرق العامة .

وكيف كان : فالظاهر : صحة ثلاثة من هذه الأخبار ، وحسن خبر واحد منها وبقية الأخبار لم يثبت صحتها وعدم صحتها .

ثم انّ في مسألة التسامح فوائد كثيرة ، وقد ذكر جملة منها الفقهاء والاُصوليون ، ونحن نشير اليها بايجاز :

الأوّل : إنّ كلاً من احتمال الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة ممّا ليس له سند معتبر يكون حجة على الحكم وداخلاً في التسامح باطلاق أدلته ، وان منع الاطلاق كفى الملاك ، وهل الاباحة كذلك لا يبعد ، لما ورد : « من انّ اللّه يحب أن

ص: 68


1- - جامع أحاديث الشيعة : ج 1 ص 341 .
2- - جامع أحاديث الشيعة : ج 1 ص 341 .
3- - جامع أحاديث الشيعة : ج 1 ص 341 .
4- - جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص 342 .

...

-------------------

يؤذ برخصه ، كما يحب أن يؤذ بعزائمه » (1) ، فاذا أباح خبر ضعيف شيئاً وكان الأصل على اباحته وعمله المكلّف رجاء محبوبيته عند اللّه من باب الأخذ برخصه أثيب ، لأنّ ما هو محبوب عند اللّه سبحانه وتعالى مثاب عليه .

الثاني : لا يشترط في الرواية الضعيفة أو ما أشبهها إفادتها الظن بل حتى ما افادت الشك والوهم فكذلك أيضاً ، فاذا دلّ الخبر على استحباب أخذ الأضفار يوم كذا؛ واحتمل المكلّف ذلك احتمالاً مشكوكاً أو موهوماً لظنه خلافه ، وعمله التماس ثوابه كان داخلاً في التسامح .

الثالث : إذا كانت الرواية في كتب العامة أو غير المسلمين ، فهل يشمله التسامح ؟ يحتمل العدم ،لعدم جريان السيرة على الأخذ بما أخذوه ، وأمّا رواية المشايخ بعض ما نقله أمثال أبي هريرة ومن أشبهه ، فلا يدل على أنهم أخذوه من هذه الجهة ، وإلاّ لأخذوا كلّ ما في كتبهم ، بل لعله كانت هناك قرينة تدل على الصحة ونحوها ، ويؤد ما ذكرناه نهيهم عليهم السلام ، عن الأخذ منهم .

الرابع : فتوى الفقيه ، والشهرة ، والاجماع المنقول ، والسيرة ، ونحوها كلها داخلة في التسامح .

الخامس : المركوز من الشرع في أذهان المتشرعة المسمى بالإرتكاز لا يبعد شمول التسامح له أيضا لانّه انعكاس عن أقوالهم وأعمالهم وتقريراتهم عليهم السلام ، علماً بأن نسبة الارتكاز الى السيرة نسبة العلة الى المعلول .

السادس : لو علم المقلِّد اشتباه الفقيه في مستنده لم يشمله دليل التسامح ، وكذا

ص: 69


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص108 ب105 ح263 و ج16 ص232 ب29 ح21441 ، بحار الأنوار : ج93 ص5 ب128 .

...

-------------------

إذا كان فتوى المجتهد بالإستحباب والكراهة من جهة قوله بصحة التسامح في الدلالة ، وكان المقلِّد من الأفاضل يرى عدم التسامح في ذلك ، فانّه حينئذٍ لا يجري دليل التسامح بالنسبة إليه .

السابع : لو قال فقيه بشيء ولم نجده في الفقه أصلاً ، أو ذكر رواية لم نجدها في كتب الحديث إطلاقاً ، لا يبعد شمول دليل التسامح له ، وذلك مثل ما ذكره العلامة « بن الأعسم » من آداب شرب الماء في قصيدته ، المبنية على تضمين الروايات فيها بقوله :

لا تعرضن بشربة على أحد *** وإن يكن يعرض عليك لا يرد

فانّ عدم عرض الماء حين شربه على أحد لم نعثر على رواية فيه مع انّا فحصنا عنه فحصاً بليغاً وسألنا أهل الاطلاع والفن عنه .

الثامن : يجوز للمقلِّد إذا كان فاضلاً في العلم الأخذ بقاعدة التسامح فيما لم يفت فيه مجتهده بشيء أو أفتى مجتهده بعدم الحرمة ممّا تيقن عدم الحرمة ورأى بعض الأخبار الضعاف في موردها بالإستحباب .

التاسع : الرواية الضعيفة - القائلة بالوجوب أو الحرمة : يجوز للمجتهد ، الفتوى طبقهما بالاستحباب في مورد رواية الوجوب ،والكراهة في مورد رواية الحرمة ؛ وذلك للتسامح بعد عدم ثبوت الوجوب والحرمة لضعف الرواية - فرضاً - .

العاشر : لو ورد دليل على الكراهة ،لكن كان تقريرهم عليهم السلام على الخلاف ، لم يستبعد عدم شمول التسامح للكراهة مثل : الرواية الضعيفة القائلة : « بأن مسجد المرأة بيتها » ، مع انهن كن يحضرن في المسجد الحرام و مسجد الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم طيلة صلاته في مكة والمدينة المنورة .

ص: 70

...

-------------------

الحادي عشر : لوكان خبران ضعيفان أحدهما يدل على الاستحباب والثاني على عدمه ،فهل يشمل التسامح الأوّل ؟ احتمالان وان كان لا يبعد الشمول على انّه من التسامح في التسامح ، أو نقول بشمول الملاك له على أقل تقدير .

الثاني عشر : هل يشمل التسامح ما ورد عن المعصومين عليهم السلام : من انّ الامام المهدي عجل اللّه تعالى فرجه إذا ظهر يعمل كذا أو يأمر بكذا من الأحكام التي ليست موجودة في أيدينا الآن ؟ لا يبعد ذلك للإطلاق ، الاّ إذا علمنا انّه من خصوصياته صلوات اللّه وسلامه عليه .

الثالث عشر : إذا اختلف في انّ الشيء الفلاني وارد عن المعصوم أو لا ؟ كبعض الأشعار المنسوبة الى الامام عليّ عليه أَفضل الصلاة والسلام فهل يشمله التسامح ؟ لا يبعد ولو من التسامح في التسامح أو من باب الملاك .

الرابع عشر : لا يبعد شمول التسامح لسائر ما ورد عن الأنبياء والأوصياء وللأحاديث القدسية أيضاً ؛ أما ما ينقل عن مثل سلمان الفارسي ، وأبي الفضل العباس ، والعقيلة زينب ، عليهم السلام فلا يبعد انصراف الاطلاقات عنها ، الاّ اذا كان كاشفاً عن سنة واردة .

نعم ، يُمكن الأخذ بأقوالهم وأفعالهم من باب التسامح في التسامح أو الملاك .

الخامس عشر : هل يتسامح في القضايا الشخصية المرتبطة بالمعصومين عليهم السلام من باب الأُسوة ، مثل ما ورد : من انّ الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، بعد خيبر أرسل مالاً الى كفار مكة لإستمالتهم وجلبهم نحو الاسلام ، أو سمح بالماء لمشركي بدر (1) ،

ص: 71


1- - راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج14 ص122 .

...

-------------------

أو ما أشبه ذلك ؛ بمعنى : انّ نعمل بعمل مناسب في مثل تلك الواقعة ؟ لا يبعد ذلك وان لم يكن عموم أو اطلاق .

السادس عشر : لو وردت روايتان متعارضتان ، إحداهما تقول بالإستحباب والاُخرى بالكراهة ،لم يبعد صحة العمل بأي منهما من باب التسامح والرجاء .

السابع عشر : العام والخاص ، والمطلق والمقيد غير الالزامي ، يستحب العام والمطلق فيه أيضاً لأن غير الالزامي لا يوجب التقييد والتخصيص ، كما إذا ورد : « زُر الحسين عليه السلام » (1) ، و « زر الحسين يوم عرفة » ، حيث يتسامح باتيان فرد المطلق غير المقيد كزيارة الحسين عليه السلام في غير يوم عرفة ، إتياناً بعنوان التسامح .

الثامن عشر : لو ورد حديثان ضعيفان أحدهما يقول بالاستحباب والآخر بالحرمة أو أحدهما يقول بالكراهة والآخر بالوجوب ،لم يستبعد جريان التسامح في كلا الطرفين .

التاسع عشر : لو وردت فتوى ورواية على طرفي المسألة ، لم يستبعد جريان التسامح فيهما أيضاً ،وكذلك بالنسبة الى الاجماعين المنقولين ، والشهرتين المتخالفتين ، والى غير ذلك .

العشرون : لا يجري التسامح في مثل المنام وفعل أحد الصلحاء بكذا ، كما في العروة الوثقى : من وضع الخاتم تحت لسان الميت لأن الصالح الفلاني فعله .

الواحد والعشرون : لو قال احد الصلحاء : بانّه رأى الحجّة عجل اللّه تعالى

ص: 72


1- - وسائل الشيعة : ج14 ص441 ب441 ح19556 .

...

-------------------

فرجه الشريف وهو يقول له كذا ، الظاهر : عدم جريان التسامح فيه ، لانصراف الأدلة عن مثله ، ولروايات التكذيب التي ظاهرها : التكذيب في نقل الفتاوى عن الامام المهدي عجل اللّه تعالى فرجه لا التكذيب لمجرّد ادعاء الرؤة ، والاّ فمن الواضح انّ جماعة من علمائنا الكرام تشرفوا بلقائه عليه السلام .

الثاني والعشرون : لو تردد المستحب الوارد في الرواية بين متباينين كما إذا وردت رواية ضعيفة باستحباب قص الأظفار مردداً بين يوم الخميس أو يوم الجمعة ممّا لم يعلم منه استحباب أي اليومين ، فاذا اتى به في اليومين فلا اشكال في حصول الثواب ، أما إذا أتى به في أحد اليومين فهل يكون مشمولاً للتسامح ؟ الظاهر : لا .

بمعنى : انّه لا يكون آتياً بالمستحب التسامحي في الوفاء بنذره إذانذر الاتيان بمستحب ؛ لأنّ قوله عليه السلام : « فعمله » (1) ، لا يصدق عليه .

الثالث والعشرون : إذا استفيد الملاك من الرواية الضعيفة ، كان بمنزلة ما فيه الرواية من باب التسامح كما إذا ورد استحباب الوضوء للنوم فانّ لم يكن قد توضأ يتيمم على لحافه ، فاستفيد وجود ملاكه في التيمم على وسادته .

الرابع والعشرون : إذا كانت رواية مُجملة لها قدر متيقن ، كان الاتيان بذلك القدر المتيقن مشمولاً لأدلة التسامح ، أما الاتيان بالزائد عن ذلك إذا كان الزائد مشكوكاً فيه ، فليس مشمولاً لأدلة التسامح .

الخامس والعشرون : احتمال وجود الدليل أو إحتمال المطلوبية ، لايدخل

ص: 73


1- - جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص341 .

...

-------------------

المسألة في التسامح الاّ إذا قيل بالتسامح في التسامح .

السادس والعشرون : لا يجري التسامح في الدلالة ، وفي جهة الصدور بل في السند أيضاً ، اللّهم الاّ إذا قيل بالتسامح في التسامح .

السابع والعشرون : قد تقدّم الكلام حول أنّه هل بهذه الأخبار يكون الشيء مستحباً كسائر المستحبات الشرعية أم لا ؟ اختلفوا فيه ، فجماعة على الأوّل ، وصاحب الذخيرة وتبعه آخرون على الثاني ، فقد قال بعد أن ذكر امكان التسامح في أدلة السنن بسبب الأخبار ما لفظه : « لا يخفى انّ هذا الوجه انّما يفيد مجرّد تردد الثواب على ذلك الفعل ، لا أنّه أمر شرعي يترتّب عليه الأحكام الوضعية المترتبة على الأحكام الواقعية » .

أقول : وكذا يأتي الاختلاف والكلام نفسه في باب الكراهة أيضاً .

الثامن والعشرون : لو دلّت رواية ضعيفة على أفضلية شيء على شيء ، كان الفضل أيضاً مشمولاً لأدلة التسامح .

التاسع والعشرون : من المعلوم أنّ الآثار الوضعية كالصحة والمرض - مثلاً - لا تترتب على الروايات الضعيفة ،فاذا ورد : انّ في أكل الجبن - مثلاً - صحة البدن أو ضرر له ، لا تكون الرواية سبباً لذلك ، لأنّه إرشاد محض ،بل الأمر كذلك في الرواية الصحيحة ،لمكان الارشاد كما عرفت ، والتكوين لا يثبت بالتشريع كما لا يثبت التشريع بالتكوين .

الثلاثون : إذا علمنا انّ فلاناً كذّاب وضّاع فهل يثبت الثواب بروايته شيئاً من ذلك للتسامح ، كما يقال بالنسبة الى من كان يضع الأَحاديث في فضل سور القرآن ؟ لا يبعد ذلك فيما لم نعلم بكذبه في هذا الحديث الخاص - مثلاً - فهو

ص: 74

...

-------------------

كأصل الصحة جارٍ حتى فيمن نعلم بفسقه وعدم مبالاته .

الواحد والثلاثون : التسامح كما يجري في الأحكام يجري في الموضوعات ايضاً ، قال الشيخ المرتضى قدس سره في رسالته التي دوّنها في التسامح في أدلة السنن ما لفظه : « هل يجوز التسامح في الرواية غير المعتبرة الدالة على تشخيص مصداق المستحب أو فتوى الفقيه بذلك ، فاذا ذكر بعض الأصحاب انّ هوداً وصالحاً على_'feنبينا وآله وعليهما السلام مدفونان في هذا المقام المتعارف الآن في وادي السلام في النجف الأشرف فهل يحكم باستحباب اتيان ذلك المقام لزيارتهما والحضور عندهما أم لا ؟ وكذا إذا وردت رواية بأنّ مدفن الرأس الشريف عند مرقد أمير المؤنين صلوات اللّه وسلامه عليه فهل يستحب زيارته هناك بالخصوص أم لا ؟.

وكذا لو قال عدلٌ واحد بكون هذا المكان مسجداً ، أو مدفنا لنبيّ أو ولي» (1) ؟.

التحقيق : أن يقال بعد عدم الاشكال في الاستحباب العقلي من باب الاحتياط وجلب المنفعة المحتملة : انّ الأخبار وان كانت ظاهرة في الشبهة الحكمية ، أعني : ما إذا كانت الرواية مثبتة لنفس الاستحباب لا لموضوعه ، الاّ أن الظاهر : جريان الحكم في محل الكلام بتنقيح المناط ، اذ من المعلوم : انّه لا فرق بين أن يعتمد على خبر الشخص في استحباب العمل الفلاني في هذا المكان من مسجد الكوفة - مثلاً - وبين أن يعتمد عليه في أن هذا المكان هو المكان الفلاني الذي علم انّه يستحب فيه العمل الفلاني ، مضافاً الى إمكان أن يقال : انّ الاخبار بالموضوع

ص: 75


1- - رسالة التسامح في أدلة السنن للانصاري .

...

-------------------

مستلزم للإخبار بالحكم ، بل قد يكون الغرض منه هو الاخبار بثبوت الحكم في هذا الموضوع الخاص .

نعم ، لو ترتب على الخبر المذكور حكم آخر غير الاستحباب ، فلا يترتب ذلك عليه لما عرفت ، فلو ثبت - مثلاً - استحباب الصلاة في المكان الذي يقال له مسجد فخبرالاستحباب لا يترتّب عليه ، فلا يجب إزالة النجاسة عنه ، ولا يجري الاعتكاف فيه ، الى غير ذلك ممّا هو واضح من المطالب المتقدّمة .

الثاني والثلاثون : التسامح لا يجري فيما إذا لم يأت المكلّف بشرطٍ أو جزءٍ عمداً ، أو أتى بالشيء لكن مع مانع أو قاطع ، كما إذا أتى بالصلاة المستحبة بدون الركوع أو مع الضحك في اثنائه ، وذلك لوضوح : انّه ليس مصداق بلوغ الثواب على العمل .

نعم ، إذا كان هذا المقدار من الشيء مقدوراً له دون سائر الخصوصيات ممّا يدخله في دليل الميسور ، شمله التسامح فيما كانت الرواية ضعيفة .

الثالث والثلاثون : لا فرق في شمول أدلة التسامح للتعبدي والتوصلي ، سواء المستقل ، كصلاة ركعتين وغير المستقل كالقنوت في الصلاة .

الرابع والثلاثون : هل يشمل أدلة التسامح الكفار ، كما إذا أتى الكافر بشيء مستحب شرعاً لرواية ضعيفة من باب التسامح ؟ لا يبعد ذلك لأن الأدلة تشمل كل مكلّف ، والكافر يخفف عنه كما ورد في باب عمل الخيرات عن الكافر الميت .

الخامس والثلاثون : الظاهر عدم شمول التسامح لكلمات من لا يعرف هل أنهم أنبياء أو أوصياء ، أو لا ؟ كما في كنفوشيوس وبوذا حيث يحتمل انهما من الأنبياء

ص: 76

...

-------------------

الذين حرّف دينهما ، وكذلك بالنسبة الى الكتب المحرّفة كالتوراة والانجيل الرائجين (1) ، فلا تسامح بالنسبة الى الكلمات الموجودة فيهما ، أما بالنسبة الى من عظَّمهم اللّه تعالى كلقمان ، فالظاهر : جريان التسامح بالنسبة اليه .

السادس والثلاثون : الصديقة فاطمة الزهراء عليهاالسلام كسائر المعصومين في جريان التسامح بالنسبة الى الروايات الواردة في فعلها ، أو قولها ، أو تقريرها ، حتى ولو كانت الروايات في غاية الضعف (2) ، وكذا ما ورد عن السيدة مريم اُم المسيح عليهماالسلام .

السابع والثلاثون : لو قال فقيه بالإستحباب التسامحي برهة من الزمن ثمّ عدل عنه ، فهل يشمله دليل التسامح بعد العدول ؟ احتمالان : من أن عدوله لا يبطل اجتهاده السابق إذ الاحتمال قائم على تغيّر اجتهاده ، ومن انّه بعد تغير الاجتهاد لا مستند لهذا المستحب اطلاقاً ، لكن لا يبعد الاول ،ولو من باب التسامح في التسامح .

الثامن والثلاثون : لا فرق في كون فتوى الفقيه منشئاً للتسامح بين حياته وموته ، لإطلاق الأدلة .

التاسع والثلاثون : لو عارض الاستحباب ضرر ونحوه ، كالغسل التسامحي الموجب للضرر ، لا يشمله أدلة التسامح ، بل من الواضح : انّ أدلة الضرر تسقط

ص: 77


1- - وقد ذكر الشارح بعض الملاحظات على الانجيل في كتابه الموسوم : ماذا في كتب النصارى .
2- - وقد ذكر الشارح بعض الأحكام المستنبطة من كلمات الزهراء وخطبها في كتابه القيّم « من فقه الزهراء » ويتألّف الكتاب من ستّة أجزاء طبع منه الأوّل والثاني .

...

-------------------

الاستحباب المقطوع به .

الأربعون : لا يختص التسامح بفعل الانسان لنفسه ، بل يشمل فعله للمولى عليه مجنوناً أو صغيراً ، وكذا بالنسبة الى ميّته ، كما إذا ورد بخبر ضعيف إستحباب غسل المولود ، أو تلقين الميت الى غير ذلك .

هذا آخر ما أردنا إيراده في هذه الرسالة التسامحية ، واللّه سبحانه أعلم بحقائق الاُمور .

«سُبحَانَ ربِّكَ رَبِّ العِزّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ، وَسَلاَمٌ على المرسلين ، والحمدُ للّه ربِّ العالمينَ ».

* * *

ص: 78

الثالث :

-------------------

التنبيه ( الثالث ) من تنبيهات مسألة الشبهة الوجوبية لفقدان النصّ ، وفيها على ماذكره المصنّف صورتان ، في الصورة الاُولى منهما قسمان :

القسم الأوّل : ما اذا شك في انّه هل يجب عليه شيء تعيينا أم لا ؟ كما اذا شك في انّ الاستهلال واجب أو ليس بواجب ؟ فالبرائة تقول بعدم الوجوب .

القسم الثاني : ما إذا شك في انّه هل يجب عليه شيء تعيينا أم لا ؟ لكن هذا التعيين على فرض الوجوب ليس من الأوّل ، بل من الأوّل كان عليه واجب مردّد بين شقين تخييرا ثم تعذّر أحد شقّيه ، فيشك هل انّه الآن واجب عليه تعيينا بالعرض أم لا ؟ .

مثلاً : إذا لم يتمكن الآن من العتق فيشك في انّه هل يجب عليه الاطعام من جهة شكه في انّه كان يجب عليه العتق أو الاطعام تخييرا ؟ فالاطعام حينئذٍ ممّا احتمل كونه واجبا تعيينيا عرضيا ، لا تعيينيا أوليا كالاستهلال الذي ذكرناه في القسم الاول .

الصورة الثانية : ما إذا شك - بعد العلم بواجب معيّن عليه - في انّه هل يجب عليه الشيء الفلاني ايضا أو هو مباح ؟ وعلى تقدير وجوبه هل يكون واجبا تخييريا بينه وبين ذلك الشيء المعلوم الوجوب أم لا ؟ فهنا شيئان : شيء معلوم الوجوب ، وشيء آخر مشكوك في انّه عدل لذلك الواجب حتى يكون واجبا تخييريا ، أو ليس عدلاً له حتى يكون مباحا ؟ .

مثلاً : إذا تعمّد الافطار في شهر رمضان ، فالكفارة هنا : الصيام واجب قطعا ، لكن يحتمل ان يكون مخيرا بين الصيام وبين الاطعام ، فيكون الشك في الاطعام هل هو واجب عدلاً ، أو مباح ؟ .

ص: 79

انّ الظاهر اختصاصُ أدلّة البراءة بصورة الشكّ في الوجوب التعيينيّ ، سواء كان أصليّا او عرضيّا ، كالواجب المخيّر المتعيّن لأجل الانحصار . أمّا لو شكّ في الوجوب التخييري والاباحة فلا تجري فيه أدلة البراءة ،

-------------------

أشار المصنِّف الى القسم الأوّل من الصورة الاُولى قائلاً :

( ان الظاهر : اختصاص أدلة البرائة بصورة الشّك في الوجوب التعييني ) بأن يشك الانسان في انّ الشيء الفلاني واجب تعيينا أم لا ؟ فالأصل هو : البرائة من الوجوب ( سواء كان ) التعيين ( أصليّا ) كما تقدّم في مثال الاستهلال حيث يشك الانسان في ان الاستهلال واجب أو ليس بواجب ؟ .

وأشار إلى القسم الثاني من الصورة الاُولى بقوله : ( أو عرضيّا ) أي : كان التعيين بالعرض بعد أن كان في الأصل واجبا تخييريا ، لكن تعذّر شق منه ، فتعيّن الشق الثاني ، فهو على قوله : ( كالواجب المخيّر المتعيّن لأجل الانحصار ) يعني : كان عليه في الأصل واجب تخييري فتعذر شق منه ، فبقي الشق الآخر واجبا متعينا .

وعلى أي حال : فالشك في هذين القسمين هو مجرى البرائة .

و ( أما ) الصورة الثانية وهي ما ( لو شك في الوجوب التخييري والاباحة ) فشيء واجب قطعا ، لكن شيء آخر يشك في انّه هل يجب حتى يكون عدل الشيء الأوّل ، أو ليس بواجب حتى يكون مباحا ؟ ( فلا تجري فيه أدلة البرائة ) فلا يقال الأصل البرائة عن الوجوب التخييري حتى تكون النتيجة : الوجوب التعييني للشيء الأوّل وعليه : ففي مثال الصيام والاطعام لا يقال : الأصل البرائة عن التخيير بينهما حتى يكون الصيام واجبا تعيينيا ، فإنّ أصل البرائة لا يشمل مثل ذلك .

ص: 80

لظهورها في عدم تعيين الشيء المجهول على المكلّف بحيث يلتزم به ويعاقب عليه .

-------------------

وانّما لا تجري أدلة البرائة في المقام ( لظهورها ) أي ظهور أدلة البرائة ( في عدم تعيين الشيء المجهول على المكلّف ) يعني : انّ الشيء المجهول الذي لا يعلم انّه واجب أو ليس بواجب ، حرام أو ليس بحرام ؟ هذا الشيء ينفيه البرائة ، فلا يتنجّز ( بحيث يُلتزَم به ) بصيغة المجهول ( ويعاقب عليه ) .

وقول المصنّف : « لظهورها » ، مقدمة أُولى ، وهناك مقدمة ثانية مطويّة في كلام المصنّف وهي : انّ البرائة في رفع التخيير ليست رافعة لوجوب مجهول .

وإن شئت قلت في بيان المقدمتين : ان البرائة ترفع الوجوب المجهول ، والشك في التخيير ليس من الوجوب المجهول ، فانّ المنساق من أدلة البرائة : نفي الضيق عن المكلّف في التكاليف المجهولة ، ولا ريب ان نفي الوجوب عن الفرد المشكوك لا يوجب توسعة على المكلّف ، بل يوجب التضييق عليه لأجل تعيين الاتيان بالفرد الآخر بسبب نفي وجوب الفرد المشكوك .

والحاصل : إنا اذا علمنا : انّ كفارة الافطار - مثلاً - الصيام ، وشككنا في انّ عدل الصيام : الاطعام أم لا ، فلا نتمكن أن نقول بجريان البرائة عن الاطعام ممّا يوجب تعيين الصيام عليه ، إذ لو جرت هذه البرائة أوجب تضييقا على المكلّف لحصر الواجب عليه في الصيام فقط ، والبرائة منّة ، وهي للتوسعة لا للتضييق .

( و ) لا يقال : نسلّم عدم جريان البرائة لرفع وجوب الاطعام في المثال ، لكن يمكن اجراء الاستصحاب بأن يقال : الاطعام لم يكن واجبا ، فاذا شككنا في انّه هل وجب عدلاً للصيام أم لا ؟ نستصحب عدم وجوبه .

ص: 81

وفي جريان أصالة عدم الوجوب تفصيلٌ ، لأنّه إذا كان الشكُّ في وجوبه في ضمن كلّيّ مشترك بينه وبين غيره أو وجوب ذلك الغير

-------------------

لأنه يقال : ( في جريان أصالة عدم الوجوب ) أي : استصحاب عدم الوجوب ( تفصيلٌ ) وهو ان الأقسام في المقام ثلاثة :

الأوّل : إذا علم وجوب الصيام لكن لا يعلم هل وجوبه بالخصوص أو في ضمن كلي يشمل الصيام والاطعام معا ؟ فاذا لم يعلم - مثلاً - بانّ المولى قال : صم أو قال : كفّر ، فانّه إذا قال : كفّر ؛ فالكفارة كلي يشمل الصيام والاطعام ، وهنا لا يجري استصحاب عدم الوجوب؛ إذ الوجوب متيقن؛ وإنّما لا نعلم وجوب الكلي أو الفرد .

الثاني : ان نعلم انّ المولى قال : « صم » ، لكن لا نعلم هل للصوم عدل واجب هو الاطعام وقد أوجبه المولى بأمر آخر أم لا ؟ وهنا يجري استصحاب عدم وجوب الاطعام .

الثالث : ان نعلم انّ الواجب هو الصيام فقط؛ ونعلم بأنّ الاطعام مسقط لهذا الواجب؛ لكن لا نعلم هل الاطعام عدل واجب للصيام أو مباح مسقط للصيام ؟ مثل اسقاط السفر المباح لصوم رمضان ، فالاستصحاب هنا يقول ليس الاطعام بواجب ، كما انّه إذا تعذر الصيام تقول البرائة : « لا يجب عليك الاطعام » .

وإلى القسم الأوّل اشار المصنِّف بقوله : ( لأنّه اذا كان الشك في وجوبه في ضمن كليّ ) شامل - في المثال - للصيام والاطعام كوجوب الكفارة بأن قال المولى : كفِّر ، فهو ( مشترك بينه وبين غيره ) فانّ قول المولى : « كفّر » مشترك بين الاطعام المشكوك وجوبه؛ وبين غيره وهو الصيام المعلوم الوجوب .

( أو وجوب ذلك الغير ) فقط بأن قال المولى : « صم » ولم يقل : « كفّر » ، فان

ص: 82

بالخصوص ، فيشكلُ جريان أصالة عدم الوجوب ، إذ ليس إلاّ وجوب واحد مردّد بين الكلّيّ والفرد ، فتعين هنا إجراء اصالة عدم سقوط ذلك الفرد المتيقّن الوجوب بفعل هذا المشكوك .

وأمّا إذا كان الشكُّ في إيجابه بالخصوص جرى أصالة عدم الوجوب وأصالة عدم لازمه الوضعيّ ، وهو سقوط الواجب المعلوم إذا شكّ في إسقاطه له .

-------------------

الصوم حينئذٍ يكون واجبا ( بالخصوص ) لأنّه ليس له فرد آخر في ضمن الكلي الواجب ( فيشكل جريان أصالة عدم الوجوب ) بالنسبة إلى الاطعام ( إذ ليس الاّ وجوب واحد ) في المقام ( مردّد بين الكلّي ) وهو : « كفِّر » ( والفرد ) وهو :

« صم » ، لأنّا نعلم انّ هناك واجب علينا ، لكن لا نعلم هل هذا الواجب هو الكلي الشامل للفردين أو الفرد الواحد ؟ .

إذن : ( فتعين هنا ) في هذا المثال الذي ذكرناه بقولنا : ان يشك الانسان في انّ المولى قال : « كفّر » ، أو قال : « صم » ، فانّه يتعيّن عليه ( إجراء اصالة عدم سقوط ذلك الفرد المتيقّن الوجوب ) كالصيام ( بفعل هذا المشكوك ) الوجوب كالاطعام .

والى القسم الثاني اشار بقوله : ( وأمّا إذا كان الشك في ايجابه بالخصوص ) بأن علمنا انّ المولى قال : « صم » ، ولم نعلم انّه قال في أمر آخر : « أو أطعم » حتى يكونان واجبين مخيرين ، أو يكون الصيام وحده واجبا معينا ( جرى أصالة عدم الوجوب ) للاطعام ( وأصالة عدم لازمه الوضعيّ ) أي العقلي ( وهو سقوط الواجب المعلوم ) من الصيام بفعل الاطعام المشكوك ( إذا شك في إسقاطه له ) لأنّا نعلم انّا إذا صمنا سقط عنّا الواجب ، لكن إذا أطعمنا نشك في انّه هل سقط عنّا

ص: 83

أمّا إذا قطع بكونه مُسقِطا للواجب المعلوم ، وشكّ في كونه واجبا مسقطا للواجب الآخر أو مباحا مسقطا لوجوبه ، نظير السفر المباح المسقط لوجوب الصوم ، فلا مَجرى للأصل إلاّ بالنسبة إلى طلبه ، وتجري أصالة البراءة عن وجوبه التعيينيّ بالعرض إذا فرض لتعذر ذلك الواجب الآخر .

-------------------

الواجب الذي هو الكفارة أم لا ؟ .

والى القسم الثالث أشار المصنِّف بقوله : ( أمّا إذا قطع بكونه مسقِطا للواجب المعلوم ، و ) لكن ( شك في كونه واجبا ) تخييريا - مثلاً - بين الاطعام والصيام ، فالاطعام لكونه واجبا تخييريا يكون ( مسقطا للواجب الآخر ) الذي علم وجوبه ، وهو الصيام في المثال .

( أو مباحا مسقطا لوجوبه ) أي : لوجوب الصيام في المثال المذكور ( نظير السفر المباح المسقط لوجوب الصوم ) في شهر رمضان ( فلا مجرى للأصل الاّ بالنسبة إلى طلبه ) اي : طلب الاطعام في المثال ، فاذا شككنا في انّ الاطعام أيضا واجب أو ليس بواجب ، نجري اصل عدم الوجوب بالنسبة إليه ، كما (وتجري أصالة البرائة عن وجوبه التعييني بالعرض إذا فرض) أي : إذا فرض انّ الاطعام تعيّن بالعرض لأنّ الصيام غير مقدور كما قال : ( لتعذر ذلك الواجب الآخر ) الذي هو الصيام في المثال .

والحاصل : انّ الأصل عدم وجوب الاطعام وجوبا تخييريا بينه وبين الصيام ، والأصل عدم اسقاط الاطعام للصيام في صورة القدرة على الصيام ، والأصل عدم كون الاطعام في مقام تعذر الصيام واجبا تعيينيا بالعرض .

ص: 84

وربما يتخيّلُ من هذا القبيل ما لو شكّ في وجوب الايتمام على من عجز عن القراءة وتعلّمها ، بناءا على رجوع المسألة إلى الشكّ في كون الايتمام مستحبّا مسقطا أو واجبا مخيّرا بينه وبين الصلاة مع القراءة .

فيدفعُ وجوبُه التخييريّ بالأصل .

لكنّ الظاهر أنّ المسألة ليست من هذا القبيل ،

-------------------

( وربّما يتخيل من هذا القبيل ) أي : من قبيل ما ثبت انّه مسقط للواجب ، لكنّه لا يعلم هل انّه واجب مسقط من قبيل الواجبين التخييريين أو انّه مستحب مسقط ؟ ( ما لو شك في وجوب الايتمام على من عجز عن القرائة و ) عجز عن ( تعلّمها ) بأن لم يتمكّن من التعلّم سواء كان العجز عن تعلّم الكل أو عن تعلّم البعض ( بناءا على رجوع المسألة إلى الشك في كون الايتمام ) أي : الصلاة جماعة بلا قراءة يكون ( مستحبا مسقطا ) للصلاة المنفردة مع القراءة ( أو واجبا مخيّرا بينه وبين الصلاة مع القراءة ) .

وعليه : فان كان الايتمام واجبا تخييريا وجب إذا تعذرت القراءة كما هي القاعدة في شقي الواجب التخييري ، فإنه اذا تعذر أحدهما وجب الاتيان بالآخرة ، أما إذا كان الايتمام مستحبا مسقطا لم يجب؛ بل يكفي للجاهل بالقراءة الكاملة أو الجاهل بأصل القراءة؛ أن يأتي بالانفراد بدون قراءة أو بالقراءة الناقصة ( فيدفع وجوبه التخييري بالأصل ) واذا لم يكن الايتمام واجبا تخييريا وانّما كان مستحبا مسقطا ، جاز لهذا الجاهل أن يأتي بالصلاة حسب ما يعرف فقط .

بل ( لكنّ الظاهر : أنّ المسألة ليست من هذا القبيل ) أي : من قبيل ما شك في انّه واجب مسقط أو مباح مسقط ، بل الواجب في المقام هو الايتمام لأنّ كل واحد من الانفراد والايتمام فرد من الكلي الواجب من الصلاة الصحيحة التي يريدها

ص: 85

لأنّ صلاة الجماعة فرد من الصلاة الواجبة ، فتتّصف بالوجوب لا محالة ، واتّصافها بالاستحباب من باب أفضل فردي الواجب ، فيختصّ بما إذا تمكّن المكلّف من غيره . فاذا عجز تعيّن وخرج عن الاستحباب ،

-------------------

الشارع من المكلّف ؛ فاذا تعذرت الصلاة بالقراءة الصحيحة لجهل المصلي بأصل القراءة أو بالقراءة الصحيحة؛ لزم أن يأتي بالفرد الآخر الممكن؛ كما هو الشأن في كل كلي يريده المولى وله أفراد ، فانه اذا تعذّر بعض الأفراد وجب على المكلّف أن يأتي بالبعض الآخر .

إذن ، فالنتيجة : وجوب الايتمام ( لأن صلاة الجماعة فرد من الصلاة الواجبة ) على نحو الكلية ( فتتّصف بالوجوب لا محالة ) فانّ كل أفراد الكلي يتصف بالوجوب على سبيل البدل .

( و ) ان قلت : فلماذا يقولون : انّ الجماعة مستحبة ؟ .

قلت : ( اتصافها بالإستحباب من باب أفضل فردي الواجب ) يعني : انّ الأفراد كلها واجبة ، لكن الجماعة أفضل تلك الأفراد؛ كما ان الصلاة كلها واجبة ، لكن الصلاة في المسجد أفضل تلك الأفراد .

والحاصل : ان صلاة الجماعة ، والصلاة في المسجد ، والصلاة أول الوقت ، واجبة تخييرا بينها وبين سائر الأفراد ؛ لكنّها مستحبة تعيينا بمعنى : أفضلية ثواب هذا الفرد عن سائر الأفراد الأخر ( فيختص ) أي : يختص هذا الاستحباب لصلاة الجماعة ( بما إذا تمكّن المكلّف من غيره ) من سائر الأفراد بأن تمكّن أن يأتي بالصلاة جماعة أو فرادى صلاة صحيحة ( فاذا عجز ) عن سائر الأفراد ( تعيّن وخرج عن الاستحباب ) .

نعم ، يعطى ثواب الجماعة لهذا الجاهل بالقراءة ، لأنّ التعذر عن صلاة المنفرد

ص: 86

كما إذا منعه مانع آخر عن الصلاة منفردا .

لكن يمكن منع تحقق العجز فيما نحن فيه ، فانّه يتمكّن من الصلاة منفردا بلا قراءة ،

-------------------

وعدم التعذر عنها لا يؤثر في كون الجماعة يثاب عليها ثوابا أكثر من ثواب صلاة المنفرد ؛ فيكون حال هذا الجاهل ( كما إذا منعه مانع آخر عن الصلاة منفردا ) بأن كان هناك مكره يقول : إذا صليت منفردا ضربت عنقك ، فانه يجب عليه أن يأتي بالصلاة جماعة ، لما عرفت : من ان الكلي المأمور به اذا تعذر فرد منه قام فرد آخر مكانه .

( لكن يمكن منع تحقق العجز ) عن صلاة المنفرد ( فيما نحن فيه ) فانّه إذا كان المأمور به كلي فتعذر فرد منه لزم فرد آخر ، أما إذا لم يتعذر لم يلزم فرد آخر ، وفي المقام لم يتعذر صلاة المنفرد بالنسبة إلى هذا الجاهل بالقراءة : فانّه يقدر منفردا على الصلاة الاضطرارية بلا قراءة أو بقراءة غير صحيحة ، ولا دليل على تقدّم الصلاة جماعة على الصلاة الاضطرارية .

فهو كما إذا تعذر الوضوء وتمكن من الغسل بأن كان المولى لا يعطيه الماء للوضوء ويعطيه للغسل ، فهل يتيمم هذا الشخص للصلاة تيمما بدلاً عن الوضوء ويصلي ، أو يلزم عليه أن يقرب زوجته حتى يصلي بالطهارة المائية ؟ فانّه من المستبعد أن يفتي أحد بتقدّم الصلاة بالغسل بهذه الكيفية على الصلاة بالتيمم ، لأنّ الصلاة بالطهارة غير متعذرة ، وانّما تنتقل الصلاة من الطهارة المائية الوضوئية إلى الصلاة بالطهارة الترابية ، فهل يقول أحد بأن كلي الطهارة المائية واجبة ، وحيث تتعذر بالوضوء الذي هو فرد منها نلزم بالطهارة المائية الغسلية التي هي فرد آخر ؟ .

وعليه : ( فانّه يتمكن من الصلاة منفردا بلا قراءة ) صحيحة أو بلا قراءة مطلقا

ص: 87

لسقوطها عنه بالتعذّر ، كسقوطها بالايتمام ، فتعيينُ أحدِ المسقطين يحتاجُ إلى دليل .

-------------------

( لسقوطها ) أي : القراءة أو القراءة الصحيحة ( عنه بالتعذر ، كسقوطها ) أي سقوط القراءة ( بالايتمام ) فانّ من يصلي مأموما جماعة أيضا تسقط القراءة عنه .

وعلى أيّ حال : فهذا الشخص لا يتمكن من القراءة سواء صلّى منفردا حيث يجهل القراءة ، أو صلّى جماعة حيث ان الشارع يمنعه عن القراءة في مثل الصلاة الجهرية التي يسمع المأموم صوت الإمام ، ولا دليل لنا على ان سقوط القراءة في الجماعة مقدَّم على سقوطها في صلاة المنفرد ، اذ كل واحد من الائتمام والتعذر مسقط للقراءة ولا دليل على تقدّم أحدهما على الآخر ( فتعيين أحد المسقطين يحتاج إلى دليل ) والدليل منتف في المقام .

وربّما يقال : هناك وجه آخر لعدم لزوم الجماعة على مثل هذا الجاهل بالقراءة وهو : انّه لو كان واجبا على الجاهل الجماعة لبيّنه المعصومون صلوات اللّه عليهم أجمعين مع كثرة المسلمين الذين لا يحسنون القراءة من أوّل الاسلام إلى زمان الإمام المهدي عجل اللّه تعالى فرجه ، بل قالوا ما يشير إلى الكفاية بدون الالماع إلى لزوم الجماعة ، كما في الكافي مسندا عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم انّه قال : « انّ الرجل الأعجمي من أمتي ليقرء القرآن بعجمية فترفعه الملائكة على عربية » (1) .

ويؤيد عدم وجوب الائتمام بالنسبة إلى الجاهل بالقراءة : انّه لو وجب في المقام لوجب ائتمام الأخرس أيضا ، لأنّ صلاة الأخرس بالجماعة أقل نقصا

ص: 88


1- - الكافي اصول : ج2 ص619 ح1 ، الجعفريات : ص227 ، وسائل الشيعة : ج6 ص221 ب30 ح7782.

قال فخر المحققين في الايضاح في شرح قول والده : « والأقرب وجوب الائتمام على الأمّيّ العاجز » : ووجهُ القرب تمكّنه من صلاة صحيحة القراءة ، ويحتمل عدمه ، لعموم نصّين :

أحدهما : الاكتفاء بما يحسن مع عدم التمكّن من التعلّم .

-------------------

من صلاته بنفسه ، لأنّ الإمام يتحمل قرائته ، بينما إذا هو صلّى لم يقرء هو ولم يتحمل أحد قرائته .

ثم إنّ المصنّف لمّا ذكر الاحتمالين المتقدمين : من وجوب الائتمام ، وعدم وجوبه بالنسبة إلى العاجز عن القراءة ، ذكر كلام العلامة وولده في هذه المسألة لتوضيح الاحتمالين أكثر فأكثر ، فقال :

( قال فخر المحققين في الايضاح في شرح قول والده ) الذي ذكره في كتاب القواعد ، فانّ العلامة كتب القواعد ، وفخر المحققين شرحه بما سماه : بايضاح القواعد ، قال : ( والأقرب وجوب الائتمام على الامّيّ العاجز ) الذي لا يعرف القراءة ولا يتمكن من تعليمها .

هذا هو كلام العلامة ، وقد شرحه فخر المحققين بقوله : ( ووجه القرب ) في نظر الوالد ( : تمكنه ) أي : تمكن العامي ( من صلاة صحيحة القراءة ) لأنّ المأموم لما يصلي مع الإمام جماعة يتحمل الإمام القرائة عنه ، كما ( ويحتمل ) بالنسبة إلى الاُمّي ( عدمه ) أي : عدم وجوب الائتمام ، بل له أن يأتي بالصلاة منفردا بدون قراءة أو بقراءة غير صحيحة ( لعموم نصّين ) في هذه المسألة :

( أحدهما : الاكتفاء بما يحسن مع عدم التمكّن من التعلّم ) فان هذا الجاهل بالقراءة والذي لا يتمكن من التعلّم يأتي بالصلاة بما يحسن ، أما إذا تمكن من التعلّم فالواجب عليه التعلّم مقدمة ، كما يلزم عليه تعلم سائر الامور المرتبطة

ص: 89

والثاني : ندبيّة الجماعة .

والأوّل أقوى ، لأنّه يقوم مقام القراءة اختيارا فيتعيّن عند الضرورة ، لأنّ كلّ بدل اختياريّ يجب عينا عند تعذّر مبدله ، وقد بيّن ذلك في الاصول .

ويحتمل العدم ، لأنّ قراءة الإمام مسقطة لوجوب القراءة على المأموم ، والتعذّر أيضا مُسقِط ، فاذا وجد أحد المسقطين للوجوب لم يجب الآخر ،

-------------------

بالصلاة ، فهذا النص شامل لصورة التمكن من الجماعة وعدم التمكن منها ، فيقتضي انّه لا يلزم على الاُمّي الجماعة .

( والثاني : ندبيّة الجماعة ) فانّ الأدلة الدالة على انّ الجماعة ندب ، شاملة لصورة التمكن من القرائة ولصورة عدم التمكن منها ، ممّا ينتج انّه مع عدم التمكن من القراءة أيضا الجماعة ندب فلا تجب على هذا الشخص الاُمّي .

( والأوّل : أقوى ) أي : وجوب الائتمام على هذا الجاهل بالقرائة أقوى في النظر ( لأنّه ) أي : لانّ الائتمام ( يقوم مقام القراءة اختيارا ) فانّ القادر على القراءة يأتي بالصلاة ولو منفردة ، أما الجاهل بها ( فيتعيّن ) عليه الجماعة ( عند الضرورة ) ، ومنها : عند عدم القدرة على القراءة ( لأنّ كل بدل اختياريّ يجب عينا عند تعذر مبدله ) كما هو شأن الكلي إذا كانت له أفراد يتمكن المكلّف من بعضها ولا يتمكن من بعضها الآخر ( وقد بين ذلك في الاصول ) مفصلاً فلا تصل النوبة إلى الانفراد بلا قراءة أو بقراءة مغلوطة .

( و ) لكن ( يحتمل العدم ) أي : عدم وجوب الائتمام بالنسبة إلى هذا الجاهل ( لأنّ قراءة الإمام مسقطة لوجوب القراءة عن المأموم ، والتعذّر أيضا مسقط ، فاذا وجد أحد المسقطين للوجوب لم يجب ) المسقط ( الآخر ) كما إذا تمكن المكلَّف من اسقاط صوم رمضان اما بالصيام واما بالسفر ، فانّه لا يجب عليه أن

ص: 90

إذ التقدير أنّ كلاًّ منهما سبب تامّ والمنشأ أنّ قراءة الإمام بدل أو مسقط » ، انتهى .

والمسألة محتاجة إلى التأمّل .

ثمّ إنّ الكلام في الشكّ في الوجوب الكفائيّ ، كوجوب ردّ السلام

-------------------

يأتي بالمسقط الأوّل ؛ بل جاز له أن يأتي بالمسقط الآخر ، وكذا إذا وجب على المتزوج اسقاط نفقة الزوجة عن عاتقه اما بالانفاق عليها أو بطلاقها؛ لم يجب عليه أن يأتي بالانفاق؛ بل له أن يأتي بالمسقط الآخر وهو الطلاق .

( إذ التقدير ) أي : المفروض ( أنّ كلاًّ منهما ) أي : من الائتمام والانفراد ( سبب تام ) لسقوط الصّلاة .

( والمنشأ ) أي : منشأ هذين الاحتمالين : وجوب الائتمام وعدم وجوبه ( انّ قراءة الإمام بدل ، أو مسقط ) (1) فانّ بعض الفقهاء قال : بأنّ قراءة الإمام بدل عن قراءة المأموم ، فيلزم عليه ائتمام الجاهل بالقراءة ، لأنّه إذا لم يتمكن من أحد البدلين وجب البدل الآخر ، وبعضهم قال بأن قراءة الإمام مسقط للقراءة عن المأموم ، فلا يلزم عليه الائتمام بل له أن يأتي بالصلاة منفردا ؛ لأن عجزه مسقط ، فيجوز اتيانه بأحد المسقطين على ما عرفت .

( إنتهى ) كلام فخر المحققين ( والمسألة محتاجة إلى التأمّل ) عند المصنِّف ، وانه هل يجب الائتمام على العاجز أو لا يجب عليه ؟ وحيث انّ المسألة فقهية نتركها للفقه وقد ذكرناها في شرح العروة .

( ثم إنّ الكلام في الشك في الوجوب الكفائي كوجوب ردّ السلام

ص: 91


1- - ايضاح الفوائد في شرح القواعد : ج1 ص154 .

على المصلّي إذا سُلِّم على جماعة وهو منهم ، يظهر ممّا ذكرنا ، فافهم .

-------------------

على المصلّي إذا سلّم ) إنسان ، ( على جماعة وهو ) أي : المصلي ( منهم ) أي من تلك الجماعة ( يظهر ممّا ذكرنا ) ه آنفا ، فانّ الكلام من أول التنبيه إلى هنا كان في الوجوب التخييري ، حيث قلنا انه لا يجري أصل البرائة على الوجوب التخييري ، لأنه إذا أجرينا أصل البرائة لزم الوجوب التعييني وهو تضييق على المكلّف ، والبرائة للتوسعة لا للتضييق .

أما الكلام في الوجوب الكفائي فهو مثل : جواب السلام فيما لو سلم انسان على جماعة كان أحدهم مصليا ، فهل يجب على هذا المصلي رد السلام كفاية ، أو انّه لمكان كونه في الصلاة لا يجب عليه الرد ، وانّما يجب الرد على غير المصلي من هؤلاء الجماعة ؟ بمعنى : انّه هل يتمكن المصلي أن يجري البرائة من وجوب الرد عليه ، أو لا يتمكن من ذلك ؟ .

لكن لا يخفى وجود الاختلاف بين المسألتين : التخييري ، والكفائي بما تفضيله يحتاج إلى الشرح ؛ فلا وجه لتنظير أحدهما بالآخر بالنسبة إلى جريان البرائة وعدمه .

ولعل المصنّف أشار الى هذا الفرق بقوله : ( فافهم ) كما ان الثمرة تظهر في بطلان صلاة المصلي إذا أجاب؛ وفي الوجوب على المصلي إذا لم يجبه سائر الجماعة .

هذا تمام الكلام في الشبهة الوجوبية لفقدان النص ، والكلام الآن في الشبهة الوجوبية لاجمال النص وهو ما أشار اليه المصنّف بقوله :

ص: 92

المسألة الثانية : فيما اشتبه حكمه الشرعيّ من جهة إجمال اللفظ

كما إذا قلنا باشتراك لفظ الأمر بين الوجوب والاستحباب أو الاباحة .

والمعروف هنا عدم وجوب الاحتياط . وقد تقدّم عن المحدّث العامليّ في الوسائل أنّه لا خلافَ في نفي الوجوب عند الشكّ في الوجوب ، ويشمله أيضا معقد إجماع المعارج ، لكن تقدّم من المعارج أيضا عند ذكر الخلاف في وجوب

-------------------

( المسألة الثانية : فيما اشتبه حكمه الشرعي من جهة اجمال اللفظ ) فلا يعلم هل انّه واجب أو ليس بواجب ؟ ( كما اذا قلنا باشتراك لفظ الأمر بين الوجوب والاستحباب أو ) بين الوجوب و ( الاباحة ) فانه لا يعلم هل ان الشيء واجب عليه أو مستحب ؟ أو لا يعلم هل انّ الشيء واجب عليه أو مباح ؟ فهي شبهة حكمية وجوبية ناشئة من اجمال النص ؟ .

( والمعروف هنا ) في هذه المسألة الثانية ( : عدم وجوب الاحتياط ) فلا يجب الاتيان بمحتمل الوجوب ( وقد تقدَّم عن المحدِّث العاملي في الوسائل : انه لا خلاف في نفي الوجوب عند الشك في الوجوب ) فانّ اطلاق كلامه يشمل ما كان الشك لفقد النص أو لاجمال النص .

( ويشمله أيضا معقد اجماع المعارج ) حيث ادعى الاجماع على عدم وجوب الاحتياط في المقام ( لكن تقدّم من المعارج أيضا عند ذكر الخلاف في وجوب

ص: 93

الاحتياط وجودُ القائل بوجوبه هنا .

وقد صرّح صاحب الحدائق تبعا للمحدّث الاستراباديّ بوجوب التوقف والاحتياط هنا قال في الحدائق ، بعد ذكر وجوب التوقف : « إنّ من يعتمد على أصالة البراءة يجعلها هنا مرجّحة للاستحباب ، وفيه :

أوّلاً : منعُ جواز الاعتماد على البرائة الأصليّة في الأحكام الشرعيّة .

-------------------

الاحتياط : وجود القائل بوجوبه ) لكنه حيث كان نادرا لم يعتن بخلافه ، ولذا ادعى المعارج الاجماع على عدم وجوب الاحتياط مع انه نقل وجوب الاحتياط فلما تقدّم ، حيث قال : وصار آخرون إلى لزومه ، فان كلام المعارج هناك يأتي ( هنا ) ايضا في الشبهة الوجوبية من جهة اجمال النص .

( و ) لكن ( قد صرّح صاحب الحدائق تبعا للمحدِّث الاسترابادي : بوجوب التوقف والاحتياط هنا ) أي : في صورة احتمال الوجوب في مقابل احتمال الاستحباب ( قال في الحدائق بعد ذكر وجوب التوقف ) في مورد الشك في الوجوب ( : إن من يعتمد على اصالة البرائة ) أي : من يقول بحجيّة استصحاب البرائة الثابتة قبل الشرع ، حيث ان بعضهم قال باستصحاب البرائة ، لأنّ قبل الشرع لم يكن وجوب ، فاذا شك في ان الوجوب حدث بعد الشرع أو لم يحدث ؟ استصحب عدم الوجوب .

وعليه : فالمعتمد على البرائة ( يجعلها ) أي يجعل البرائة الأصلية ( هنا ) أي : في مورد اجمال اللفظ المحتمل للوجوب والاستحباب ( مرجّحة للاستحباب ) فلا يقول فيه بالوجوب .

( وفيه أوّلاً : منع جواز الاعتماد على البرائة الأصلية في الاحكام الشرعيّة ) لأنّ الدين قد كمل وكل شيء ورد له حكم في الشريعة ، فلا نتمكن أن نستصحب

ص: 94

وثانيا : أنّ مرجع ذلك إلى أنّ اللّه تعالى حكم بالاستحباب لموافقة البراءة .

ومن المعلوم أنّ أحكام اللّه تعالى تابعة للمصالح والحِكم الخفيّة ، ولا يمكن أن يقال : إنّ مقتضى المصلحة موافقة البراءة الأصليّة ، فانّه رجم بالغيب وجرئة بلا ريب » ،

-------------------

حالة ما قبل الشرع إلى ما بعد الشرع .

( وثانيا : انّ مرجع ذلك ) أي : مرجع ترجيح الاستحباب بسبب البرائة الأصلية على الوجوب ( إلى انّ اللّه تعالى حكم بالاستحباب لموافقة ) الاستحباب مع ( البرائة ) الأصلية .

( ومن المعلوم : ان ) هذا غير صحيح ، لأنّ ( أحكام اللّه تعالى ) لا تتبع البرائة وعدم البرائة حتى نجعل البرائة موافقة لحكم اللّه ، فانّ أحكامه سبحانه ( تابعة للمصالح والحِكم الخفيّة ) الكامنة في ذوات الأشياء .

ومن المعلوم : انّ المصلحة تارةً توجب الالزام ، وتارةً توجب الاستحباب ، فلا يمكن ان نقول بالاستحباب مطلقا ( ولا يمكن أن يقال انّ مقتضى المصلحة : موافقة البرائة الأصلية ) حتى نقول : انّ المصلحة موافقة للاستحباب ( فانه رجم بالغيب ) ومعنى « الرجم بالغيب » هو : ان الانسان قد يرى الصيد فيرجمه بالحجارة فيصيبه ، وقد يكون الراجم اعمى أو يرجم في ظلام ، فيصيب صيدا ، فهو من الرجم بالغيب ، لانه اصاب ما كان غائبا عن حواسه ( وجرئة ) على المولى ( بلا ريب ) (1) لوضوح انّ المصلحة قد تقتضي الاستحباب وقد تقتضي

ص: 95


1- - الحدائق الناضرة : ج1 ص99 .

انتهى .

وفيه ما لايخفى ، فانّ القائلَ بالبراءة الأصليّة إن رجع إليها من باب حكم العقل بقبح العقاب من دون البيان فلا يرجعُ ذلك إلى دعوى كون حكم اللّه هو الاستحباب ، فضلاً عن تعليل ذلك بالبراءة الأصليّة ،

-------------------

الوجوب ، فكيف يجوز ان نقول : بأنّ المصلحة موافقة للبرائة الأصلية حتى تنتج الاستحباب .

( انتهى ) كلام صاحب الحدائق ( وفيه : ما لا يخفى ) لأنّ القائل بأصالة البرائة ان كان مستنده حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان؛ فانّه لا يقول بالاستحباب حتى يستشكل عليه الحدائق : بانه يرجح بها الاستحباب ، وإن كان مستنده حجيّة الظن الحاصل من استصحاب حالة ما قبل الشرع ، فاللازم على الحدائق ان يستشكل عليه : بأن هذا الظن ليس بحجّة ؛ لا انْ يستشكل عليه : بأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، فانّه أيّ ربط بين كلام ذلك القائل واشكال الحدائق ؟ .

وعليه : ( فانّ القائل بالبرائة الأصلية ) أي : استصحاب عدم التكليف الذي كان قبل الشرع ( إن رجع إليها ) أي : إلى البرائة الأصلية ، ( من باب حكم العقل بقبح العقاب من دون البيان ) كما سبق ( فلا يرجعُ ذلك ) أي : دليله بحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ( إلى دعوى كون حكم اللّه هو الاستحباب ) في المورد المشكوك وجوبه واستحبابه ( فضلاً عن تعليل ذلك بالبرائة الأصلية ) لوضوح : انّ مقصود القائل بالبرائة هو : عدم تنجّز التكليف على هذا الشاك؛ وانّه لا عقاب عليه؛ لا انّه يريد أن يجعل قبح العقاب بلا بيان مرجّحا للاستحباب ويقول باستحباب ذلك

ص: 96

وإن رجع إليها بدعوى حصول الظنّ فحديثُ تبعيّة الأحكام للمصالح وعدم تبعيّتها ، كما عليه الأشاعرة ، أجنبيٌّ عن ذلك ، إذ الواجب عليه إقامةُ الدليل على اعتبار هذا الظن المتعلق بحكم اللّه الواقعيّ الصادر عن المصلحة أو لا عنها على الخلاف .

وبالجملة : فلا أدري وجها للفرق بين ما لانصّ فيه وبين ما اُجمل فيه النصُّ ، سواء قلنا باعتبار هذا الأصل من باب حكم العقل أو من باب الظنّ ،

-------------------

الشيء المشكوك فيه .

( وإن رجع إليها ) أي : إلى البرائة الاصلية ( بدعوى حصول الظن ) بالبرائة من جهة استصحاب حالة ما قبل الشرع ( فحديث تبعية الأحكام للمصالح ) والمفاسد كما يقول بذلك المعتزلة والشيعة ( وعدم تبعيّتها ) أي : عدم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ( كما عليه الأشاعرة اجنبيٌ عن ذلك ) أي : عن حصول الظنّ وعدم حصوله ؛ فلا يرد عليه اشكال الحدائق وانّما يرد عليه : انّه من أين هذا الظن حجّة ؟ كما قال :

( اذ الواجب عليه : إقامةُ الدليل على اعتبار هذا الظن المتعلق بحكم اللّه الواقعي الصادر عن المصلحة ) كما يقوله المعتزلة ( أو لا عنها ) أي : لا عن المصلحة كما يقوله الأشاعرة ( على الخلاف ) بين المشربين في إنه هل حكم اللّه تابع للمصالح والمفاسد ، أو ليس بتابع للمصالح والمفاسد ؟ .

( وبالجملة : فلا أدري وجها للفرق بين ما لا نصّ فيه وبين ما أجمل فيه النصُّ ) في جريان البرائة في الشبهة الحكمية الوجوبية ، فانه ( سواء قلنا باعتبار هذا الأصل ) أي : أصل البرائة ( من باب حكم العقل ) بقبح العقاب بلا بيان ( أو من باب الظن ) واستصحاب البرائة السابقة على الشرع ، فان اللازم : القول بالبرائة

ص: 97

حتّى لو جُعِلَ مَناطُ الظنّ عمومَ البلوى ، فانّ عموم البلوى فيما نحن فيه يوجب الظنّ بعدم قرينة الوجوب مع الكلام المجمل المذكور وإلاّ لنقلت مع توفّر الدواعي ، بخلاف الاستحباب ، لعدم توفّر الداعي على نقله .

-------------------

في الشبهة الوجوبية سواء كان منشأ الشبهة فقدان النص أو اجمال النص .

وعليه : فانه ( حتى لو جُعِلَ مناطُ الظنّ عمومَ البلوى ) بأن قيل انّا نجري البرائة في الشبهة الوجوبية من جهة ان عدم الدليل في مسألة يعم بها البلوى دليل على العدم ، إذ لو كان لبان ، لا من جهة استصحاب حال ما قبل الشرع ( فانّ عموم البلوى فيما نحن فيه ) أي : في الشبهة الوجوبية من جهة اجمال النص ( يوجب الظن بعدم قرينة الوجوب ) إذ لو كانت قرينة لبانت ( مع الكلام المجمل المذكور ) الذي هو أمر مردد بين الوجوب والاستحباب وقوله : « مع » متعلق « بعدم قرينة » أي : لا قرينة مع الأمر الذي هو مجمل بين الوجوب والاستحباب .

( وإلاّ ) بأن كانت هناك قرينة ( لنقلت ) إلينا ( مع توفر الدواعي ) الى نقلها وشدة اهتمام المسلمين بنقل القرائن التي لها مدخلية في كلام الرسول أو الإمام عليهم السلام ، حيث انهم كانوا يضبطون الأحكام بكل دقة .

وإن قلت : ينتقض كلامكم هذا : بانّه لو كان يراد من الأمر : الاستحباب ، لكانت هناك قرينة الاستحباب أيضا ولنقله المسلمون إلينا .

قلت : ( بخلاف الاستحباب ، لعدم توفر الدّاعي على نقله ) لأن الاستحباب ليس حكما إلزاميا حتى تتوفر الدواعي على نقل قرائن الاستحباب ، بخلاف الوجوب حيث انّه حكم الزامي ، فاذا كان الأمر للوجوب لابد وان تكون قرينة على الوجوب ؛ واذا كانت قرينة لنقلت إلينا ، لكن لم تنقل القرينة فلا وجوب .

ص: 98

ثمّ إنّ ما ذكرنا من حسن الاحتياط جارٍ هُنا ، والكلام في استحبابه شرعا كما تقدّم .

نعم ، الأخبار المتقدمة فيمن بلغه الثواب لا يجري هنا ، لأنّ الأمر لو دار بين الوجوب والاباحة لم يدخل في مواردها ، لأنّ المفروض احتمال الاباحة ، فلا يعلم بلوغ الثواب .

-------------------

( ثمّ انّ ماذكرنا ) في مسألة الشبهة الوجوبية من جهة فقد النص ( من حسن الاحتياط ) عقلاً ( جارٍ هنا ) في الشبهة الوجوبية الحكمية من جهة اجمال النص ايضا ( والكلام في استحبابه ) أي استحباب الاحتياط ( شرعا ) بأن تكون أوامر الاحتياط الواردة في الشريعة مثل : « احتط لدينك » (1) ، ونحوه ، محمولاً على الاستحباب المولوي ، فهو ( كما تقدّم ) حيث استظهرنا هناك : انّ ظاهر الأوامر : الارشاد ، لا المولوية .

( نعم ، الأخبار المتقدِّمة فيمن بلغه الثواب ) على عمل فعمله رجاء ثوابه فإنه يعطى ذلك الثواب وإن لم يكن كما قاله رسول اللّه ( لا يجري هنا ) في الشبهة الحكمية الوجوبية فيما يدور الأمر بين الوجوب والاباحة ، لا فيما يدور الأمر بين الوجوب والاستحباب ، لأنه إذا دار الأمر بين الوجوب والاستحباب فلا شك في الثواب .

وانّما لا يجري هنا ( لأن الأمر لو دار بين الوجوب والاباحة لم يدخل في مواردها ) أي : في موارد أخبار « مَن بلغ » ( لأن المفروض احتمال الاباحة فلا يعلم بلوغ الثواب ) إذ المباح لا ثواب له ، لكنّا ذكرنا هناك : ان العمل بالاباحة

ص: 99


1- - الامالي للطوسي : ص110 ح168 ، الأمالي للمفيد : ص283 المجلس الثالث والثلاثون ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

وكذا لو دار بين الوجوب والكراهة ، ولو دار بين الوجوب والاستحباب لم يحتج إليها ، واللّه العالم .

المسألة الثالثة : فيما اشتبه حكمه الشرعيّ من جهة تعارض النصّين

وهنا مقامات ،

-------------------

لأجل ان اللّه سبحانه يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه ، أيضا فيه ثواب ، فيشمله أخبار « مَن بَلَغ » .

( وكذا لو دار بين الوجوب والكراهة ) لما عرفت : من انّه لا ثواب في الكراهة فلا يكون مصداقا لمن بلغه ثواب على عمل ، وحيث قد ذكرنا الكلام حول دوران الأمر بين الوجوب والكراهة هناك لا حاجة إلى تكراره .

هذا ( ولو دار بين الوجوب والاستحباب لم يحتج إليها ) أي : إلى أخبار « مَن بَلَغ » في حصول الثواب ، وذلك لوجود الثواب في اطاعة مثل هذا الأمر اما من جهة الوجوب واما من جهة الاستحباب ، لانّ الطلب متيقن وإن شك في كون الطلب على نحو المنع عن النقيض أو على نحو لا يمنع عن النقيض ( واللّه العالم ) بحقائق الأحكام .

( المسألة الثالثة : في ما اشتبه حكمه الشرعي من جهة تعارض النصّين ) : نص يقول بالوجوب ، ونص يقول بعدم الوجوب ، لأن كلامنا في الشبهة الحكمية الوجوبية ( وهنا مقامات ) من الكلام : مثل انه هل يجب عند تعارض النصّين التوقف والاحتياط ، أو لا يجب ؟ ومثل انه هل الاصل الموافق لاحد المتعارضين

ص: 100

لكنّ المقصودَ هنا إثباتُ عدم وجوب التوقف والاحتياط ، والمعروف عدم وجوبه هنا .

وما تقدّم في المسألة الثانية من نقل الوفاق والخلاف آتٍ هنا .

وقد صرّح المحدّثان المتقدّمان بوجوب التوقف

-------------------

يكون مرجحا أو يلزم الحكم بالتخيير - عقلاً - بين النصين تخييرا بدويا أو تخييرا استمراريا ؟ ومثل انه هل الاخبار تقتضي التخيير شرعا ، او التوقف والاحتياط ؟ فان الكلام في كل هذه المقامات يأتي في باب التعادل والتراجيح انشاء اللّه تعالى.

( لكن المقصود هنا ) في هذا المبحث من الشبهة الوجوبية هو ( : اثبات عدم وجوب التوقف والاحتياط ) فانّه إذا تعارض النصان : نص يدل على الوجوب ، ونص يدل على عدم الوجوب ، فلا يلزم على المكلّف أن يحتاط بالاتيان كما قال : ( والمعروف عدم وجوبه ) أي : الاحتياط ( هنا ) أي : في الشبهة الوجوبية من جهة تعارض النصين .

( وما تقدّم في المسألة الثانية من نقل الوفاق والخلاف آتٍ هنا ) أيضا ، فانه يقال : هل الجميع متفقون على عدم وجوب الاحتياط كما نقل المعارج : الاجماع على ذلك ، وكما قال الشيخ الحر : انّه لا خلاف في عدم الوجوب ؟ أو ان العلماء مختلفون في لزوم الاحتياط وعدمه كما ظهر من المعارج وجود هذا الخلاف ، فان بعضهم قال بوجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية الحكمية ، وكما ظهر وجوب الاحتياط من الاسترابادي وصاحب الحدائق .

هذا ( وقد صرح المحدثان المتقدِّمان ) الاسترابادي وصاحب الحدائق ( بوجوب التوقف ) عن العمل بأحد الخبرين المتعارضين الدال أحدهما

ص: 101

والاحتياط هنا ، ولا مدرك له سوى أخبار التوقف التي قد عرفت ما فيها من قصور الدلالة على الوجوب فيما نحن فيه ، مع أنّها أعمّ ممّا دلّ على التوسعة والتخيير .

وما دلّ على التوقف في خصوص المتعارضين وعدم العمل بواحد

-------------------

على الوجوب والآخر على عدم الوجوب ( و ) لزوم ( الاحتياط ) في العمل في هذا المورد ( هنا ، ولا مدرك له ) أي : لوجوب التوقف والاحتياط ( سوى أخبار التوقف ) .

وفيه أوّلاً : عدم كفاية دلالتها ، فانّها ( التي قد عرفت ما فيها من قصور الدلالة على الوجوب فيما نحن فيه ) لأنّ تلك الأخبار خاصة بصورة التمكن من ازالة الشبهة فانّها وردت في زمن الحضور حيث قال عليه السلام : « أرجِهِ حَتّى تَلقى إمامَك » (1) ، وقد تقدَّم نقل بعض هذه الأخبار .

ثانيا ( مع انّها ) أي : اخبار التوقف والاحتياط ( أعمّ ممّا دلّ على التوسعة والتخيير ) فانّ أخبار الاحتياط على فرض دلالتها على الوجوب حتى في زمن الغيبة تشمل كل صور الشبهة الأعم من فقدان النص أو اجماله أو تعارض النصين ، وأخبار التوسعة والتخيير تقول بالتخيير في مورد تعارض النصين ، فأخبار التخيير مخصصة لأخبار الاحتياط ، فلا يلزم الاحتياط في مورد تعارض النصين ، فتكون النتيجة البرائة .

( و ) ان قلت : انّ بعض أخبار التوقف خاصٌ بالمتعارضين .

قلت : ( ما دلّ على التوقف في خصوص المتعارضين وعدم العمل بواحد

ص: 102


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

منهما مختصٌّ أيضا بصورة التمكّن من إزالة الشبهة بالرجوع إلى الإمام عليه السلام .

وأمّا رواية غوالي اللئالي المتقدمة الآمِرَة بالاحتياط وإن كان أخصّ منها إلاّ أنك قد عرفتَ ما فيها مع إمكان حملها على صورة التمكّن من الاستعلام .

-------------------

منهما مختصٌ أيضا بصورة التمكن من ازالة الشبهة بالرّجوع إلى الإمام عليه السلام ) حيث قال عليه السلام : « أرجه حتّى تلقى امامَك » (1) .

وأما قول المصنّف : « أيضا » فمعناه : ان أخبار التوقف في خصوص المتعارضين حالها حال أخبار التوقف في مطلق الشبهة ، فانها خاصة بزمان الحضور ، أما زمان الغيبة فانه يرجع فيه الى اخبار التوسعة التي نتيجتها البرائة كما يقول به الاصوليون .

وحيث أجاب المصنِّف عن أخبار التوقف وقال : انها لا تدل على لزوم الاحتياط في الشبهة الوجوبية من جهة تعارض النصين ، أجاب عن خبر الغوالي الدال على الاحتياط ، ومن المعلوم : إنّ الاحتياط غير التوقف إذا ذكرا معا ، فإنّ التوقف يكون في الفتوى والاحتياط في العمل فقال : ( وأمّا رواية غوالي اللئالي المتقدمة الآمِرَة بالاحتياط وإن كان أخصّ منها ) أي : من سائر أخبار الاحتياط لوضوح اختصاص خبر الغوالي بالمتعارضين ( إلاّ أنك قد عرفت ما فيها ) من ضعف السند ( مع إمكان حملها على صورة التمكّن من الاستعلام ) لكون الزمان زمان الحضور ، فلا يشمل هذا الخبر زمان الغيبة

ص: 103


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام: ج6 ص302 ح52 ب22 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

ومنه يظهر عدم جواز التمسّك هنا بصحيحة ابن الحجّاج المتقدمة الواردة في جزاء الصيد ، بناءا على استظهار شمولها - باعتبار المناط - لما نحن فيه .

-------------------

بل الحكم في زمان الغيبة هو البرائة .

ثم انه قد يستدل على وجوب الاحتياط في مورد تعارض النصين بصحيحة ابن الحجاج المتقدِّمة ، حيث انّ مناط الصحيحة شامل للمقام ، فان الإمام عليه السلام قال : « إذا أصَبتُم بمثل هذا وَلَم تَدرُوا فَعَليكُم الاحتياط حتى تَسئلوا وَتعلمُوا » (1) فانه جعل مناط الاحتياط : التحيّر الحاصل من عدم العلم بالحكم ، والتحيّر شامل لتعارض النصّين أيضا .

هذا ، لكن المناط غير تام في المقام ، لأنّ الصحيحة مختصة بصورة التمكن من التشرف بلقاء الإمام عليه السلام بقرينة قوله عليه السلام : « حتى تسألوا » ومن المعلوم : ان كلامنا نحن الآن في حال الغيبة حيث يتعارض النصان .

وإلى هذا أشار المصنِّف بقوله : ( ومنه ) أي : من الجواب الذي أجبنا عن رواية الغوالي حيث قلنا : مع امكان حملها على صورة التمكن من الاستعلام ( يظهر عدم جواز التمسّك هنا ) في مورد تعارض النصين ( بصحيحة ابن الحجاج المتقدِّمة الواردة في جزاء الصيد ) وانّما يتمسك بها ( بناءا على استظهار شمولها ) أي : شمول صحيحة ابن الحجاج ( باعتبار المناط - لما نحن فيه ) قوله : « لما » ، متعلق بقوله : « شمولها » ، وعلى اي تقدير : فلا دليل في صورة تعارض النصين على التوقف والاحتياط .

ص: 104


1- - الكافي فروع : ج4 ص391 ح1 ، تهذيب الاحكام : ج5 ص466 ب16 ح277 ، وسائل الشيعة : ج13 ص46 ب18 ح17201 و ج27 ص154 ب12 ح33464 .

وممّا يدلّ على الأمر بالتخيير ، في خصوص ما نحن فيه من اشتباه الوجوب بغير الحرمة ، التوقيعُ المرويُّ في الاحتجاج عن الحميريّ ، حيث كتب إلى الصاحب عجّل اللّه فرجه : يسألني بعضُ الفقهاء عن المصلّي إذا قام مِنَ التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة ، هل يجبُ عليه أن يُكبّر ، فانّ بعضَ أصحابنا قال : لا يجبُ عليه تكبيرةٌ ويجوز أن يقول بحولِ اللّه وقوّته أقومُ وأقعدُ ، فكتب عليه السلام الجواب : في ذلك

-------------------

( وممّا يدلّ على الأمر بالتخيير في خصوص ما نحن فيه من ) الخبرين المتعارضين عند ( اشتباه الوجوب بغير الحرمة ) من الاستحباب أو الكراهة أو الاباحة أما اشتباه الوجوب بالحرمة فسيأتي الكلام فيه انشاء اللّه تعالى مفصلاً ، فان ممّا يدل عليه هو : ( التوقيع المروي في الاحتجاج عن الحميري ) والمراد بالتوقيع : كلمات الأئمة عليهم السلام في ذيل الرسائل التي كانت ترسل اليهم جوابا عن الاسئلة التي فيها ، فانّه يصطلح عليه : ب- « التوقيع » ( حيث كتب ) الحميري ( إلى الصّاحب ) أي : إلى صاحب الزمان ( عجل اللّه فرجه ) ما يلي : ( يسألني بعضُ الفقهاء عن المصلّي إذا قام مِنَ التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر ) والمراد بالوجوب هنا : الثبوت لأنّ الوجوب يستعمل للثبوت وللسقوط معا مثل : زيارة الحسين عليه السلام واجبة حيث يراد ثبوتها ، ومثل قوله سبحانه : « فَاذا وَجَبَت جُنُوبُها » (1) حيث يراد سقوطها ، والمراد : ان الانسان حال الانتقال إلى القيام هل يكبر أو لايكبر ؟ ( فانّ بعضَ أصحابنا قال : لا يجبُ عليه تكبيرة ، ويجوز أن يقول بحول اللّه وقوّته أقومُ وأقعدُ ؟ فكتب عليه السلام : الجواب في ذلك

ص: 105


1- - سورة الحج : الآية 36 .

حديثان .

أمّا أحدُهما : فانّه إذا انتقل عن حالة إلى أخرى فعليه التكبير .

وأمّا الحديثُ الآخَرُ : فانّه روي انّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ، ثمّ جلس ، ثمّ قام ، فليس عليه في القيام بعد القعود تكبيرٌ ، والتشهد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيّهما أخذتَ من باب التسليم كان صوابا » ، الخبر .

-------------------

حديثان ) شريفان :

( أما أحدُهما : فانّه إذا انتقل عن حالة إلى أخرى فعليه التكبير ) فان اطلاق هذا الحديث يشمل حال الانتقال إلى القيام أيضا ، فاذا أراد القيام يقول : « اللّه اكبر » حسب هذا الحديث .

( وأمّا الحديث الآخر : فانّه روي انّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ، ثم جلس ، ثم قام ) إلى الركعة الثانية - مثلاً - ( فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، والتشهد الأوّل يجري هذا المجرى ) أي : انّه لا تكبير بعد التشهد الأول لأجل القيام ، فاذا أراد القيام لا يكبر .

وحيث يبدو أن هذين الخبرين متعارضان قال عجل اللّه تعالى فرجه : ( وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا (1) ، الخبر ) .

والمراد بالتسليم : التسليم لأمرهم عليهم السلام ، حيث ان في مورد التعارض إذا لم يكن الإمام عليه السلام حاضرا ، يجوز للانسان أن يأخذ بأي من الخبرين المتعارضين ، فهذا التوقيع يدل على التخيير في المتعارضين ويكون في مقابل كلام المحدثين

ص: 106


1- - الاحتجاج : ص483 ، وسائل الشيعة : ج27 ص121 ب9 ح33372 ، الغيبة للطوسي : ص378 .

فانّ الحديث الثاني وإن كان أخصَّ من الأوّل وكان اللازمُ تخصيصَ الأوّل به والحكمَ بعدم وجوب التكبير ، إلاّ أنّ جوابه ، صلوات اللّه وسلامه عليه بالأخذ بأحد الحديثين من باب التسليم يدلُّ على أن الحديث الأوّل نقله الإمام عجل اللّه تعالى فرجه ، بالمعنى

-------------------

المتقدمين : الاسترابادي ، وصاحب الحدائق حيث قالا بوجوب التوقف والاحتياط .

إذن : ( فانّ الحديث الثاني ) وهو قوله : « فانه روي انه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية ...» ( وإن كان أخصَّ من الأوّل ) لأن الحديث الأول يدل على وجوب التكبير عند كل انتقال ، والحديث الثاني ينفي وجوب التكبير في الانتقال إلى القيام فقط ( وكان اللازم ) حسب ميزان تخصيص المطلق بالمقيد ( تخصيص الأوّل به ) أي : بالثاني ( والحكم بعدم وجوب التكبير ) حال الانتقال إلى القيام فقط ، ولزومه في سائر الانتقالات : من القيام إلى القعود ، أو من القعود إلى السجود ، أو ما أشبه ذلك .

( الاّ انّ جوابه صلوات اللّه وسلامه عليه بالأخذ بأحد الحديثين من باب التسليم ) للتقابل الذي جعله بينهما ( يدلُّ على ان ) النسبة بين الحديثين هو : التباين لا العموم والخصوص المطلق ، ممّا يظهر انه عجّل اللّه تعالى فرجه قد نقل الحديث الأوّل بالمعنى ، فلم يكن الحديث الأوّل عاما والثاني خاصا ، بل كان الاول أيضا خاصا بحيث يتباين مع الحديث الثاني بأن كانت عبارته - مثلاً - هكذا : كل انتقال وحتى الانتقال عن التشهد الاول فيه التكبير .

وعليه : فان ( الحديث الأوّل نقله الإمام عجّل اللّه تعالى فرجه بالمعنى ) لا أنه نقله باللفظ حتى تكون النسبة بينهما كما يبدو : العموم والخصوص المطلق ،

ص: 107

وأراد شموله لحالة الانتقال من القعود إلى القيام ، بحيث لايتمكن إرادة ما عدا هذا الفرد منه ، فأجاب عليه السلام بالتخيير .

ثمّ : إنّ وظيفة الإمام عليه السلام وإن كانت إزالة الشبهة عن الحكم الواقعيّ إلاّ أنّ هذا الجواب لعلّه تعليم طريق العمل عند التعارض مع عدم وجوب التكبير عنده في الواقع

-------------------

بل ( وأراد ) عليه السلام من قوله : « إذا انتقل عن حالة إلى أخرى فعليه التكبير » ( شموله ) لكل الحالات ، و ( لحالة الانتقال من القعود إلى القيام ، بحيث لا يتمكن ارادة ما عدا هذا الفرد منه ) وهذا الفرد هو عبارة عن الانتقال من القعود إلى القيام ، فيكون بين الخبرين تعارض ، ولا يتمكن المكلّف من الجمع بينهما للتباين ( فأجاب عليه السلام : بالتخيير ) وبذلك يظهر : انه ليس في التعارض التوقف وانّما فيه التخيير كما يقول به الاصوليون .

( ثم ) ان قلت : لماذا لم يبيّن الإمام الحكم الواقعي بأن يقول : يكبر أو يقول : لا يكبر ، فانّ التخيير من باب الجمع بين الخبرين هو حكم ظاهري ، والأئمة عليهم السلام شأنهم بيان الأحكام الواقعية ؟ .

قلت : ( انّ وظيفة الإمام عليه السلام وإن كانت ازالة الشبهة عن الحكم الواقعي ) وانه في الواقع هل هنا يلزم التكبير ، أو لا يلزم ؟ فانّ السائل لم يسأل عن الحكم الظاهري الكلي في المتعارضين حتى يجيبه بالتخيير ؛ بل سأل عن الحكم الواقعي المختص بالتكبير بعد التشهد ، فكان على الإمام أولاً وبالذات ان يجيب عن انه هل يكبِّر أو لا يكبِّر ؟ ( الاّ انّ هذا الجواب ) من الإمام عليه السلام : ( لعله تعليم طريق العمل عند التّعارض مع عدم وجوب التكبير عنده ) أي : عند الإمام ( في الواقع ) والحقيقة .

ص: 108

وليس فيه الاغراء بالجهل من حيث قصد الوجوب فيما ليس بواجب ولعله من جهة كفاية قصد القربة في العمل .

-------------------

( و ) ان قلت : إذن لا يلزم على هذا الانسان التكبير ؛ فكيف خيّره الإمام بين التكبير وعدمه ، مع انه اذا اختار التكبير ، كبّر بقصد الورود والثبوت ، وهو اغراء بالجهل من الإمام والعياذ باللّه ؟ .

قلت : ( ليس فيه الاغراء بالجهل من حيث قصد ) السائل ( الوجوب ) في التكبير ( فيما ليس ) التكبير ( بواجب ) عليه ، فانه إذا اختار المكلّف الخبر الدال على وجوب التكبير وأتى به ، لم يكن من الاغراء بالجهل في شيء وإن قصد به الوجوب ، وذلك لانّ المكلّف امّا ان يقصد القربة بالتكبير بلا ذكر الوجوب أو الاستحباب ، فالتكبير ذكر وهو جائز في أثناء الصلاة ولا يلزم أن يقصد المكلّف في كل جزء جزء انّه واجب أو مستحب وإما ان يقصد الوجوب بالتكبير ، فانّ هذا القصد لا بأس به ، لأنه من باب الاشتباه في التطبيق ، بمعنى : انّ المكلّف يريد الحكم الواقعي ويقصد ذلك فيتوهم انه واجب ، ومثل هذا التوهم ليس بمضر حيث قال : ( ولعله ) أي : لعل عدم لزوم الاغراء بالجهل ( من جهة كفاية قصد القربة في العمل ) .

وإن شئت قلت : ان الإمام عليه السلام رأى : ان يبين حكم كلّي التعارض عوض بيان الحكم الخاص بسؤال السائل ، ولعله كان لتقية أو ما أشبه ، وذلك لانّ العامة كانوا على وتيرة واحدة ، فاذا كانت الخاصة على وتيرة واحدة عرفوا بذلك ، فأراد الإمام عليه السلام ان يفرِّق بينهم لئلا يعرفوا فيؤخذوا بطريقتهم الخاصة المتخذة ، كما جاء في حديث آخر :

ص: 109

وكيف كان : فاذا ثبت التخيير بين دليلي وجوب الشيء على وجه الجزئيّة وعدمه ثبت فيما نحن فيه من تعارض الخبرين في ثبوت التكليف المستقلّ بالاجماع والأولويّة القطعيّة .

-------------------

« انا خالفت بينهم » (1) .

( و ) إن قلت : ان كلامنا في الخبرين المتعارضين في الواجب المستقل فانه هو مورد الاختلاف بين المحدثين وبين الاصوليين في ان العلاج هل هو التوقف كما يقوله المحدثان ، أو البرائة كما يقوله الاصوليون ؟ وخبر الحميري لا يكون دليلاً على كلام الاصوليين ، لأن التعارض فيه بين الخبرين في جزء الواجب ، كالتكبيرة التي هي جزء الصلاة ، فكيف يتعدى من جزء الواجب إلى الواجب المستقل ؟ .

قلت : ( كيف كان ) الجواب عن خبر الحميري نقول به في الجواب عن هذا الاشكال ( فاذا ثبت التخيير بين دليلي وجوب الشيء على وجه الجزئية وعدمه ) أي : عدم وجوب ذلك الشيء ، كوجوب التكبير وعدم وجوبه ، والتكبير جزء من الصلاة ( ثبت فيما نحن فيه من تعارض الخبرين في ثبوت التكليف المستقل ) بأن كان هناك خبران : أحدهما : يثبت التكليف المستقل كالدعاء عند رؤية الهلال ، والآخر : ينفيه ويقول بعدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال .

وعليه : فالتخيير الذي ثبت في خبر الحميري يثبت في الواجب المستقل أيضا ( بالاجماع والاولويّة القطعيّة ) والمراد بالاجماع : الاجماع المركب ، فانّ كل من قال بالبرائة في الجزء ؛ قال بالبرائة في المستقل ، وكل من قال بالتوقف في الجزء ؛ قال بالتوقف في المستقل ، فاذا ثبتت البرائة في الجزء بسبب خبر الحميري ؛ ثبتت

ص: 110


1- - عدّة الاُصول : ج1 ص130 .

ثمّ إنّ جماعة من الاصوليين ذكروا في باب التراجيح الخلاف في ترجيح الناقل والمقرّر ، وحكي عن الأكثر ترجيح الناقل

-------------------

البرائة في المستقل أيضا بالاجماع وعدم القول بالفصل ، وهذا ما يقول به الاصوليون ، إذ لا قائلَ بالتفصيل بين الجزء وبين المستقل .

وأما الأولوية : فلأن الشك في جزء الواجب كالتكبير في خبر الحميري أشبه شيء بالشك في المكلّف به ، فاذا كان حكم الشك في المكلّف به التخيير كان الحكم في الشك في الواجب المستقل كالدعاء عند رؤية الهلال التخيير بطريق أولى .

( ثم إنّ جماعة من الاصوليين ذكروا في باب التراجيح ) بين الأخبار أمرين مخالفين لما ذكرتم من التخيير وهما عبارة عما يلي :

اولاً : إنه اذا كان هناك خبران : أحدهما وفق الأصل ويسمّى بالمقرر ، والآخر خلاف الأصل ويسمّى بالناقل ، كان المقدّم الذي هو خلاف الأصل ، وأنتم تقولون في مورد التعارض بالتخيير ، وهذا خلاف قولهم بتقديم الناقل على المقرر ، كما انّه قال جماعة من الاُصوليين .

ثانيا : انه إذا كان هناك خبران : أحدهما يبيح الشيء كالتتن - مثلاً - والآخر يحرمه أو يوجبه ، يقدّم الذي فيه المنع أو الوجوب ، فكيف تقولون أنتم بانّه مخير بينهما ؟ .

والحاصل : هناك وجود ( الخلاف ) بين الاصوليين ( في ترجيح الناقل والمقرّر ، وحكي عن الأكثر ترجيح الناقل ) لا التخيير الذي ذكرتم أنتم بين الخبرين المتعارضين .

ص: 111

وذكروا تعارض الخبر المفيد للوجوب والمفيد للاباحة .

وذهب جماعة إلى ترجيح الأوّل وذكروا تعارض الخبر المفيد للاباحة والمفيد للحظر ، وحكي عن الأكثر ، بل الكلّ تقديمُ الحاظر ، ولعلّ هذا كلّه مع قطع النظر عن الأخبار .

-------------------

( وذكروا تعارض الخبر المفيد للوجوب والمفيد للاباحة ) واختلفوا فيهما ( و ) بالتالي ( ذهب جماعة إلى ترجيح الأوّل ) لا التخيير الذي ذكرتم أنتم هنا .

( وذكروا تعارض الخبر المفيد للاباحة والمفيد للحظر ، وحكي عن الأكثر ، بل الكلّ تقديم الحاضر ) على المبيح لا التخيير الذي ذكرتم أنتم ، فكيف تجمعون بين قولكم بالتخيير وبين أقوال الاصوليين بتقديم الناقل وتقديم المفيد للوجوب أو الحظر ؟ .

( و ) الجواب عن هذا الاشكال هو : انه يمكن الجمع بين كلامنا وكلام الاصوليين : بأنّ كلامهم في بيان انّ القاعدة الأوّلية ماذا تقتضي إذا كان هناك خبران متعارضان ؟ وكلامنا في أنّه قد وردت الأخبار بالتخيير بين المتعارضين وهي قاعدة ثانوية كما قال : ( لعل هذا ) الذي ذكره الاُصوليون ( كلّه ) : من تقديم الناقل ، وتقديم المفيد للوجوب أو الحظر ، انّما هو ( مع قطع النظر عن الأخبار ) الواردة في علاج المتعارضين وما تقتضيه من التخيير ، فلا تنافي إذن بين كلامنا بالتخيير وكلامهم .

ص: 112

المسألة الرابعة : دوران الأمر بين الوجوب وغيره من جهة الاشتباه في موضوع الحكم

ويدلّ عليه جميعُ ما تقدّم في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة من أدلّة البراءة عند الشكّ في التكليف .

-------------------

( المسألة الرابعة ) : في ( دوران الأمر بين الوجوب وغيره ) من الأحكام الثلاثة الأُخر ، أي : الاستحباب والكراهة والاباحة ، لا دوران الأمر بين الوجوب والحرمة فانّها مسألة مستقلة .

وانّما يدور الأمر بين الوجوب والأحكام الثلاثة الأُخر ( من جهة الاشتباه في موضوع الحكم ) والموضوع مرتبط بالعرف - وهو واضح - كما لو شك في انّه هل فاتت منه عشر صلوات أو عشرون صلاة ؟ .

( و ) هنا نقول بالبرائة أيضا سواء كان الشك بين الأقل والأكثر كالمثال المتقدّم أو الشك بين المتباينين ؛ كما إذا شك في مضي أربعة أشهر على زوجته حتى يجب وطيها ، أو لا حتى يستحب وطيها ؟ .

وانّما شك من جهة الاشتباه في الامور الخارجية مثل : انه لا يعلم هل صار أول الشهر الرابع أم لا ؟ ففي كلا المقامين تجري البرائة ، لانّه ( يدلّ عليه جميعُ ما تقدّم في الشبهة الموضوعية التحريمية : من أدلة البرائة عند الشك في التكليف ) وهو من الشك في التكليف ، إذ لا يعلم بوجوب الزائد على العشر المتيقنة ، كما لا يعلم بوجوب وطي المرأة .

ص: 113

وتقدّم فيها أيضا اندفاعُ توهّم أنّ التكليف إذا تعلّق بمفهوم وجب مقدّمةً لامتثال التكليف في جميع أفراده موافقته في كلّ ما يحتمل أن يكون فردا له .

-------------------

وقد تقدَّم الاستدلال للبرائة بالأدلة الأربعة : من الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، والعقل ( وتقدّم فيها ) أي : في الشبهة التحريمية ( أيضا اندفاعُ توهّم : انّ التكليف إذا تعلّق بمفهوم ) كلي ( وجب مقدّمةً لامتثال التكليف في جميع أفراده ) الواقعية ( موافقته ) أي : موافقة ذلك التكليف ، لانّ الكلي المتعلّق به التكليف يجب على الانسان ان يمتثل كل أفراده من باب المقدمة وقوله « موافقته » فاعل « وجب » وقوله « مقدمة » - بالنصب - أي : وجوبا مقدميا وذلك ( في كل ما يحتمل ان يكون فردا له ) .

حاصل الاشكال : انه يجب علينا قضاء كل الفوائت التي تعلقت بذمتنا ومقدمة للعلم بقضاء كل الفوائت يجب ان نأتي بكل ما يحتمل الفوت ، ومحتمل الفوت هي العشرة في مثالنا ، فنأتي بعشرين صلاة ، وكذا يجب على الزوج وطي زوجته في كل أربعة أشهر مرة ، ومقدمة لعلمه باتيان هذا الواجب يجب عليه وطيها في مورد شك فيه انّه على رأس أربعة أشهر أم لا ؟ .

وحاصل الجواب : ان العقلاء انّما يرون وجوب العمل فيما إذا علم العبد بالحكم وعلم بالموضوع ، علما تفصيليا أو علما اجماليا ، اما اذا لم يعلم بالحكم أو لم يعلم بالموضوع لا علما تفصيليا ولا علما اجماليا ، فالعقلاء يرون معاقبة هذا العبد على الترك قبيحا ، لأنّه عقاب بلا بيان ، وكذلك يرى الشارع ، ولأجله جعل البرائة لمن لم يعلم الموضوع أو الحكم ، بالأدلة العامة التي مرّ ذكرها مثل

ص: 114

ومن ذلك يعلم أنّه لا وجه للاستناد إلى قاعدة الاشتغال فيما إذا ترددت الفائتة بين الأقلّ والأكثر ، كصلاتين وصلاة واحدة ، بناءا على أنّ الأمر بقضاء جميع ما فات واقعا يقتضي لزومَ الاتيان بالأكثر من باب المقدّمة .

-------------------

قوله تعالى : « وَمَا كُنا مُعَذبينَ حَتّى نَبعَثَ رَسُولاً » (1) ومثل قوله عليه السلام : « كُلُّ شَيءٍ مُطلَقٌ حَتّى يَرِدَ فيهِ نَهيٌ » (2) وقوله عليه السلام : « مَا حَجَبَ اللّهُ عِلْمَهُ عَنِ العِبادِ فَهُوَ مَوضوعٌ عَنهُمُ » (3) إلى غير ذلك من الأدلة العامة الشاملة للموضوع والحكم .

( ومن ذلك ) أي : من دفع التوهم الذي تقدّم سابقا وبيّنّاه هنا مجملاً ( يعلم : انّه لا وجه للاستناد إلى قاعدة الاشتغال ) فقد استند إلى قاعدة الاشتغال من جهة علمه الاجمالي بأنه اما فاتته عشر صلوات أو عشرون صلاة ؟ وذلك ( فيما إذا ترددت الفائتة بين الأقل والأكثر ، كصلاتين وصلاة واحدة ) بان لم يعلم هل فاتته الظهران كلاهما ، أو الظهر وحدها ؟ .

وانّما استند إلى قاعدة الاشتغال ( بناءا على انّ الأمر بقضاء جميع ما فات واقعا ) من المكلّف ( يقتضي لزوم الاتيان بالأكثر من باب المقدمة ) وذلك لأنّه إذا أتى بعشر صلوات فقط لا يعلم انّه أتى بكل الفوائت ، فمقدمة لعلمه بالاتيان بكل الفوائت ، يجب عليه الاتيان بالاكثر - وهي العشرين في المثال - وكذا في مثال الوطي المتقدِّم .

وإن شئت قلت : ان الاشتغال اليقيني بحاجة إلى البرائة اليقينية ؛ وهذا الشخص

ص: 115


1- - سورة الاسراء : الآية 15 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 .

توضيحُ ذلك ، مضافا إلى ما تقدّم في الشبهة التحريميّة ، أنّ قوله : « إقضِ ما فاتَ » ، يوجب العلم التفصيليِّ بوجوب قضاء ما علم فوته ، وهو الأقل ، ولا يدلّ أصلاً على وجوب ما شكّ في فوته ، وليس

-------------------

قد اشتغلت ذمته يقينا بفوائت ، فيلزم عليه أن يحصل البرائة اليقينية ؛ وحصول البرائة اليقينية لا يكون إلاّ باتيان العشرين .

( توضيح ذلك ) الذي ذكرناه : من انّ هذا التوهم غير صحيح يتم ببيان امرين :

أولاً : ما أشار اليه المصنّف بقوله : ( مضافا إلى ما تقدّم في الشبهة التحريمية ) فقد مرّ هناك في الشبهة الموضوعية التحريمية مثل هذا التوهم أيضا وذلك فيما إذا علم حرمة الخمر وعلم انّ هذه الأواني العشر خمر ؛ لكنّه شك في الآنية الحادية عشرة انّها خمر أم لا ؟ قلنا هناك : انّه لا يجب الاجتناب عنها ، بل يجري البرائة .

ثانيا : ما أشار اليه : ( انّ قوله ) عليه السلام : ( اقض ما فاتَ ) وهذا هو معنى الحديث ؛ وإلاّ فنصّ الحديث كما يلي : « مَنْ فَاتَتهُ فَريضَةٌ فَليَقضِها كَما فَاتَتهُ » (1) ، وعلى كل حال : فانّ هذا الحديث ( يوجب العلم التفصيليّ بوجوب قضاء ما علم فوته ، و ) ما علم الانسان علما تفصيليا بفوته ( هو الأقل ) كعشر صلوات في المثال ( ولا يدلّ أصلاً على وجوب ما شك في فوته ) وهو الزائد على عشر صلوات ( وليس ) ما شك في فواته كالعشر المتممة للعشرين - في المثال - طرفا لعلم اجمالي غير منحل حتى يجب هذه العشر الزائدة من باب العلم الاجمالي .

وعليه : فليس ما نحن فيه من قبيل تردد الفائتة بين الظهر والعصر - مثلاً -

ص: 116


1- - غوالي اللئالي : ج2 ص54 ح143 و ج3 ص107 ح150 بالمعنى ، بحار الانوار : ج89 ص92 ب2 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج3 ص163 ب13 ح14 (بالمعنى) .

فعله مقدّمة لواجب حتّى يجب من باب المقدّمة .

فالأمر بقضاء ما فات واقعا لا يقتضي إلاّ وجوب المعلوم فواته ، لا من جهة دلالة اللفظ على المعلوم حتّى يقال إنّ اللفظ ناظر إلى الواقع من غير تقييد بالعلم ، بل من جهة أنّ الأمر بقضاء الفائت الواقعيّ لا يعدّ دليلاً إلاّ على ما علم صدق الفائت عليه ، وهذا لا يحتاج إلى مقدّمة ولا يعلم منه

-------------------

ليكون ( فعله مقدّمة لواجب حتى يجب من باب المقدّمة ) .

والحاصل : انّه لا علم تفصيلي ولا علم اجمالي بذلك الزائد على العشر صلوات المقطوع فوتها ( فالأمر بقضاء ما فات واقعا ) لأنّ الشارع يأمر بقضاء ما فات والألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية ، فالمراد : ما فات واقعا وجب قضائه ، لكن هذا الأمر ( لا يقتضي إلاّ وجوب المعلوم فواته ) وهو الأقل .

( لا ) يقال : مافات عبارة عمّا فات واقعا لا ما هو معلوم الفوات ، فمن أين تقيّدون « ما فات » في كلام الشارع بما علم فواته ؟ .

لأنا نقول : ليس التقييد بالعلم ( من جهة دلالة اللفظ ) أي : لفظ ما فات ( على المعلوم ) فقط ( حتى يقال : إنّ اللفظ ناظر إلى الواقع من غير تقييد بالعلم ) فانّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية لا المعاني المعلومة فقط ( بل من جهة انّ الأمر بقضاء الفائت الواقعي لا يعدّ دليلاً إلاّ على ما علم صدق الفائت عليه ) فما علم المكلّف انّه فائت فهو مكلّف به والأزيد من ذلك لا دليل على انّه مكلّف به فلا يجب عليه ، وانّما البرائة العقلية والشرعية تدل على عدم وجوب ذلك الزائد المشكوك فيه .

( وهذا ) اي : معلوم الفوت ( لا يحتاج إلى مقدّمة ) لأنّه ليس بمجهول مردد بين شيئين كما في تردد الواجب بين الظهر والجمعة ( ولا يعلم منه ) أي :

ص: 117

وجوب شيء آخر يحتاج إلى المقدّمة العلميّة .

والحاصل : أنّ المقدّمة العلميّة المتّصفة بالوجوب لا يكون إلاّ مع العلم الاجماليّ .

نعم ، لو اجرى في المقام أصالةُ عدم الاتيان بالفعل في الوقت فيجب قضاؤه

-------------------

من قوله : « اقض ما فات » (1) ( وجوب شيء آخر يحتاج إلى المقدمة العلميّة ) فانّه لا يقتضي تنجّز وجوب قضاء الفائت الواقعي معلوما كان أو مشكوكا أو مظنونا أو موهوما حتى يلزم على المكلّف الاتيان بكل المحتملات فيكون الزائد على الأصل من المحتملات فيجب الاتيان به .

( والحاصل : انّ المقدّمة العلمية المتّصفة بالوجوب لا يكون إلاّ مع العلم الاجمالي ) المردد بين متباينين بدون انحلال ، كما إذا تردد الواجب بين الظهر والجمعة فإنّه يكون مجرى قاعدة الاشتغال ، أمّا مانحن فيه فهو من تردد الأمر بين الأقل والأكثر ، والأقل متيقن دون الاكثر فانه مشكوك فيه فيجري فيه البرائة ، وبذلك ينحلّ العلم الاجمالي إلى ما يلزم وهو الأقل ، وإلى ما لايلزم وهو الأكثر .

( نعم ، لو اجرى في المقام ) أي : في مقام تردد الفائتة بين الأقل والأكثر وفي غيرها من الأمثلة ، كما إذا تردد في انّه هل يجب عليه اخراج خُمس مائتين أو اخراج خُمس ثلاثمائة ؟ أو انّه يجب عليه اعطاء زيد دينارا أو دينارين لأنّه استدان منه ، وتردد بين الدينار والدينارين فلو أجرى ( اصالةُ عدم الاتيان بالفعل في الوقت فيجب قضاؤه ) بأن يقال : وجبت عليه عشرون صلاة في أوقات الصلوات ولم يعلم انّه أتى بتلك العشرين ، فاللازم الاتيان بكل العشرين

ص: 118


1- - مستدرك الوسائل: ج3 ب28 ص144 ح3222 بالمعنى ، المقنعة: ص144 وفيه (يقضي ما فات) .

فله وجهٌ ، وسيجيء الكلام عليه .

هذا ، ولكنّ المشهور بين الأصحاب ، رضوان اللّه عليهم ، بل المقطوع به من المفيد إلى الشهيد الثاني أنّه لو لم يعلم كميّةَ ما فات قضى حتّى يَظُنَّ الفراغَ منها .

-------------------

من باب قاعدة الاشتغال ( فله وجه ) غير وجيه ، لأنّ مقتضى حيلولة الوقت انّه ليس بمكلّف بما ذهب وقته إلاّ بما تيقن انّه لم يأت به في الوقت ( وسيجيء الكلام عليه ) انشاء اللّه تعالى .

وعلى أيّ حال : فلا تجري قاعدة الاشتغال بالنسبة إلى الفوائت : كما لا تجري بالنسبة إلى الدين والخمس وغيرهما من سائر الأمثلة المرددة بين الأقل والاكثر .

نعم ، إذا وجبت عليه مائة صلاة استيجارية ، أو قضاء الأب ، أو ما أشبه ذلك ، وشك في انه هل أدّى منها عشرا - مثلاً - أو لم يؤد شيئا ؟ وجب الاتيان بالأكثر وإن احتمل ، أو ظنّ انّه أتى ببعضها ، وذلك للفرق بين ما نحن فيه من الفائتة حيث يشك في أصل الفوت فلا يجب الأكثر ، وبين قضاء الاب والصلاة الاستجارية حيث تيقن أوّلاً بالجميع وشك في الاتيان فيجب الاكثر ، ففي الفائتة مجرى البرائة وفي قضاء الأب والصلاة الاستيجارية مجرى الاشتغال .

( هذا ) الذي ذكرناه : من الاكتفاء بالأقل في الفائتة المشكوكة بين الأكثر والأقل هو مقتضى القاعدة - على ما عرفت - . ( ولكن المشهور بين الأصحاب رضوان اللّه عليهم ؛ بل المقطوع به من المفيد إلى الشهيد الثاني : انه لو لم يعلم كميّة ما فات ، قضى حتى يظنّ الفراغ منها ) فالاعتبار بظن الفراغ لا باتيان المتيقن والبرائة في الزائد عليه .

ص: 119

وظاهرُ ذلك ، خصوصا بملاحظة ما يظهر من استدلال بعضهم من كون الاكتفاء بالظنّ رخصةً وأنّ القاعدة تقتضي وجوب العلم بالفراغ ، كونُ الحكم على القاعدة .

قال في التذكرة : « لو فاتته صلوات معلومة العين غير معلومة العدد صلّى من تلك الصلوات إلى أن يغلب في ظنّه الوفاء لاشتغال الذمّة بالفائت ،

-------------------

( وظاهر ذلك ) الذي ذكروه : من لزوم الظن بالفراغ ( خصوصا بملاحظة ما يظهر من استدلال بعضهم ) على لزوم تحصيل الظن بالفراغ ( : من كون الاكتفاء بالظن رخصة ) وذلك فيما اذا كان في تحصيل العلم حرج ، فان الحرج مرفوع ، فاللازم الاكتفاء بالظن ( و ) الاّ فقد علمت : ( انّ القاعدة تقتضي وجوب العلم بالفراغ ) .

فان ظاهر هذا الاستدلال ( كون الحكم ) بقضاء الأكثر ( على القاعدة ) أي : طبق قاعدة الاشتغال ، فانهم يرون أولاً وبالذات : وجوب الاتيان بكل الفوائت المحتملة أي : العشرين في المثال ليحصل له العلم بالفراغ ، فاذا كان في تحصيل العلم بالفراغ حرج عليه ، اكتفى بمقدار يحصل معه الظن بالفراغ ، بأن يأتي بخمس عشرة صلاة - مثلاً - لا ان يكتفي بالاقل كما ذكرناه .

( قال ) العلامة ( في التذكرة : لو فاتته صلوات معلومة العين غير معلومة العدد ) كما اذا فاتته الصبح في أيام متعددة ، فعين الصلاة معلومة ، غير ان عددها مشكوك بين العشرين أو العشر صلوات ( صلّى من تلك الصلوات إلى أن يغلب في ظنّه الوفاء ) بكل تلك التي فاتته من الصلوات ، فانه قد يكون إذا صلّى خمس عشرة صلاة - مثلاً - ظن بانّه أتى بالقدر الفائت فيكفيه ذلك .

وانّما نقول : بانّه يجب الاتيان إلى الظن بالفراغ ( لاشتغال الذمة بالفائت )

ص: 120

فلا يحصل البراءة قطعا إلاّ بذلك ، ولو كانت واحدةً ولم يعلم العدد صلّى تلك الصلاة مكررا حتّى يظنّ الوفاء ، ثمّ احتمل في المسألة احتمالين آخرين : أحدهما تحصيل العلم ، لعدم البراءة إلاّ باليقين ، والثاني الأخذ بالقدر المعلوم ، لأنّ الظاهر أنّ المسلم لا يفوّت الصلاة

-------------------

قطعا ( فلا يحصل البرائة قطعا إلاّ بذلك ) أي : الاّ بالاتيان بتلك الفوائت بقدر الظن ، وهذه الكلية التي ذكرها العلامة شاملة للصلوات المتعددة ، كمن فاتته الصلوات اليومية الخمس مكررا ، أو ثلاث صلوات منها ، أو ما أشبه ، كما انها شاملة لما إذا كانت صلاة واحدة على ما مثلناه بصلاة الصبح ، وصرّح به العلامة أيضا بقوله : ( ولو كانت واحدة ) كصلاة المغرب - مثلاً - ( ولم يعلم العدد ) هل فاتته عشرون أو عشرة ؟ ( صلّى تلك الصلاة ) الواحدة ( مكررا حتى يظن الوفاء ) بما فاتته منها ، ممّا يدل على ان العلامة لا يكتفي إلا بالفراغ ، لا بالأقل الذي هو مقتضى البرائة واخترناه نحن المصنِّف .

( ثم احتمل ) العلامة ( في المسألة احتمالين آخرين ) ذكرهما بقوله :

( أحدهما : تحصيل العلم ) فاللازم أن يصلي حتى يعلم بالفراغ قطعا ( لعدم البرائة إلاّ باليقين ) فانّ الاشتغال اليقيني يقتضي البرائة اليقينية ، والبرائة اليقينية لا تكون إلاّ باتيان الأزيد كاملاً .

( والثاني : الأخذ بالقدر المعلوم ) وذلك لعدم جريان الاشتغال ، وانّما تجري البرائة في الزائد فيأتي بالقدر المتيقن ( لأنّ الظاهر : ان المسلم لا يفوّت الصلاة ) فظهور حال المسلم هو الذي يستدعي الاتيان بالأقل فيقدّم الظاهر على الأصل ، فانه اذا تعارض الأصل والظاهر قدمَ المشهورُ الأصلَ ؛ وبعض الفقهاء يقدِّم الظاهر .

ص: 121

ثمّ نسب كِلا الوجهين إلى الشافعيّة » ، انتهى .

وحكي هذا الكلام بعينه عن النهاية ، وصرّح الشهيدان بوجوب تحصيل العلم مع الامكان ، وصّرح في الرياض بأن مقتضى الأصل القضاء حتّى يحصل العلم بالوفاء تحصيلاً للبراءة اليقينيّة .

وقد سبقهم في هذا الاستدلال الشيخ قدس سره ، في التهذيب حيث قال : « أمّا ما يدلّ على أنّه يجب أن

-------------------

مثلاً : في الأماكن التي يعتاد البول فيها إذا ترشح على الانسان منها بلل ، فالأصل الطهارة والظاهر النجاسة ، وكذلك فيمن يعتاد الاشتراء بالنقد إذا شك ذات مرة هل انه اشترى من البقال نقدا ودفع له الثمن أو لم يؤدّ له الثمن ؟ فالأصل عدم أداء الثمن والظاهر أدائه ، إلى غير ذلك من الامثلة ( ثم نسب ) العلامة ( كلا الوجهين الى الشافعيّة (1) ، انتهى ) ما في التذكرة .

( وحكي هذا الكلام بعينه عن النهاية ) اي : نهاية العلامة ايضا .

( وصرّح الشهيدان بوجوب تحصيل العلم مع الامكان ) فيما اذا لم يكن مانع عقلي كعدم القدرة ، أو مانع شرعي كالحرج ، ممّا ظاهره : ان اللازم اجراء قاعدة الاشتغال ، لا البرائة .

( وصرّح في الرياض : بأن مقتضى الأصل ) أي : مقتضى قاعدة الاشتغال ( القضاء حتى يحصل العلم بالوفاء ) بكل ما فات منه ولو احتمالاً ( تحصيلاً للبرائة اليقينيّة ) التي هي مقتضى الاشتغال اليقيني .

( وقد سبقهم في هذا الاستدلال ) أي في الاستدلال على لزوم قضاء الأكثر بقاعدة الاشتغال ( الشيخ قدس سره في التهذيب حيث قال : أما ما يدل على انّه يجب أن

ص: 122


1- - تذكرة الفقهاء : ج1 .

يكثر منها فهو ما ثبت أنّ قضاء الفرائض واجب ، وإذا ثبت وجوبها ولا يمكنه أن يتخلّص من ذلك إلاّ بأن يستكثر منها وجب » ، انتهى .

وقد عرفت أنّ المورد من موارد جريان أصالة البراءة والأخذ بالأقلّ عند دوران الأمر بينه وبين الأكثر ، كما لو شكّ في مقدار الدين الذي يجب قضاؤه أو في أنّ الفائت منه صلاة العصر فقط أو هي مع الظهر ، فانّ الظاهر عدم إفتائهم بلزوم قضاء الظهر .

-------------------

يكثر منها ) أي : من صلاة القضاء حتى يعلم بالبرائة اليقينية ( فهو ما ثبت ان قضاء الفرائض واجب ، وإذا ثبت وجوبها ولا يمكنه أن يتخلّص من ذلك ) أي : من الوجوب الثابت عليه ( الاّ بأن يستكثر منها ) أي : من الصلاة ( وجب ) الاكثار ( انتهى ) كلام الشيخ في التهذيب .

هذا ( وقد عرفت : ان المورد ) يعني : مورد كلامنا وهو : « دوران الفائتة بين الأقل والأكثر » ( من موارد جريان اصالة البرائة والأخذ بالأقل عند دوران الأمر بينه ) أي : بين الأقل ( وبين الأكثر ) وذلك لانحلال العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل ، وشك بدوي بوجوب الأكثر ، والشك البدوي دائما مجرى البرائة لعدم البيان ؛ فيشمله دليل قبح العقاب بلا بيان .

مثاله : ( كما لو شك في مقدار الدين الذي يجب قضائه ) واداؤه عليه بين الأقل والأكثر ، وكذلك في باب الخمس ، وباب الزكاة ، وباب النفقة ، وما أشبه ( أو في انّ الفائت منه صلاة العصر فقط ، أو هي مع الظهر ، فان الظاهر ) من كلماتهم في أمثال هذه الأبواب ( : عدم افتائهم بلزوم قضاء الظهر ) لأنه انّما يعلم بقضاء العصر فقط ، أما قضاء الظهر فالاصل البرائة عنه بعد كون الوقت حائل .

ص: 123

وكذا ما لو تردّد في ما فات عن أبويه أو في ما تحمّله بالاجارة بين الأقلّ والأكثر .

وربّما يظهر من بعض المحققين الفرقُ بين هذه الأمثلة

-------------------

( وكذا ) لم يفتوا بوجوب الأكثر ( ما لو تردد فيما فات عن أبويه ) إذا كان يجب عليه القضاء عنهما ، كما في الولد الأكبر بالنسبة إلى الأب أو الأبوين ، او كان الاب قد اوصى بقضاء صلواته .

( أو فيما تحمّله بالاجارة ) وتردد ( بين الأقل والأكثر ) كالصلاة في المثال ، او الحج اذا تحمله بالاجارة أو بالنذر أو بهما أو بما أشبه ذلك وتردد بين حجتين أو ثلاث حجج ، أو الصوم بان نذره أياما وشك في انه ثلاثة أيام أو أربعة ؟ أو انه أفطر أياما من رمضان وشك في ان اللازم عليه قضاء خمسة أيام او سبعة ؟ إلى غير ذلك من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، فان المشهور قالوا بلزوم الاقل في كل هذه الموارد . وهناك أقوال ثلاثة أخر :

الأوّل : لزوم الأكثر ، ومستنده ما تقدّم : من قاعدة الاشتغال .

الثاني : لزوم الاتيان بقدر الظن ، ومستنده : قيام الظن مقام العلم عند تعذر العلم .

الثالث : التفصيل بين كون التردد ناتجا عن اهماله . كما اذا لم يكتبه ، أو كتبه في ورقة لكن أتلف الورقة عمدا . فانّه يجب عليه الأكثر ، وإلا وجب عليه الأقل ، أو بقدر الظن . ومستنده : انه لو كان الاتلاف عمدا - مثلاً - فهو السبب بعد تنجز التكليف عليه ؛ واحتمال التكليف المنجز منجزٌ ، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك .

( وربّما يظهر عن بعض المحققين ) وهو العلامة الطباطبائي في المصابيح قول خامس هو : ( الفرقُ بين هذه الأمثلة ) التي ذكرناها ممّا كان الشك فيها بين الأقل

ص: 124

وبين ما نحن فيه ، حيث حكي عنه ، في رد صاحب الذخيرة القائل بأنّ مقتضى القاعدة في المقام الرجوعُ إلى البراءة ، قال : « إنّ المكلّف حين علم بالفوائت صار مكلّفا بقضاء هذه الفائتة قطعا ، وكذا الحال في الفائتة الثانية والثالثة وهكذا .

-------------------

والأكثر دفعيا ، من دون سبق علم تفصيلي وعروض نسيان أو ما أشبه عليه ( وبين ما نحن فيه ) من الفوائت التي تفوت تدريجيا مع العلم بها تفصيلاً ، ثم عروض النسيان على المكلّف ، وهذا إنّما يكون فيما إذا علم المكلّف بالفائتة تلو الفائتة وإلا بان كان غافلاً او لم يكن يعرف ان عليه واجبا أصلاً ، لأنه كان جاهلاً قاصرا أو مقصرا ، ثم علم دفعة انه يجب عليه فوائت ؛ فانه ليس بمشمول لكلام السيد الطباطبائي : من ايجاب الأكثر أو بقدر الظن .

وإنّما يظهر الفرق من المصابيح ( حيث حكي عنه ، في ردّ ) السيد السبزواري ( صاحب الذخيرة القائل : بأنّ مقتضى القاعدة في المقام ) اي : في الشك بين الأقل والأكثر ( الرّجوع إلى البرائة ) فانّ السبزواري كالمشهور يقول باجراء البرائة عن الأكثر ولزوم الاتيان بالأقل .

( قال ) السيد الطباطبائي في رده ( : ان المكلّف حين علم بالفوائت ) كل في وقتها بأن كان عالما بها عامدا في تركها ( صار مكلفا بقضاء هذه الفائتة ) التي تركها ( قطعا ) لأنه شمله التكليف وقد تركه عمدا ( وكذا الحال في الفائتة الثانية ، والثالثة ، وهكذا ) من غير فرق في ذلك بين فوت عدد الصوم ، أو عدد الصلوات ، أو عدد الدنانير المدنية او غير ذلك .

وعلى كل حال : فالمشكوك على تقدير فوته منجز عليه ويجب عليه قضائه .

ص: 125

ومجرّد عروض النسيان كيف يرفع الحكم الثابت من الاطلاقات والاستصحاب بل الاجماع أيضا ؟ وأي شخص يحصل منه التأمّل في أنّه إلى ما قبل صدور النسيان كان مكلّفا ، وبمجرّد عروض النسيان يرتفع التكليف الثابت ؟ وإن أنكر حجيّة الاستصحاب فهو يسلّم أنّ الشغل اليقينيّ يستدعي البراءة اليقينيّة

-------------------

( ومجرد عروض النسيان كيف يرفع الحكم ) الذي قد تنجّز عليه : من وجوب قضاء العبادة واداء الدين ( الثابت من الاطلاقات ) مثل : « مَن فَاتَتهُ فَريضَةٌ فَليَقضِها كَما فَاتَتهُ » (1) في باب الصلاة والصيام ونحوهما ، ومثل « أدِّ دَينَكَ » فِي بَابِ الدُّيونِ وما أشبه ذلك ( و ) الثابت من ( الاستصحاب ) ايضا ، فانّ الاستصحاب يقتضي بقاء الطلب بعد خروج الوقت ، من غير فرق بين الصوم والصلاة وغيرهما ( بل الاجماع أيضا ) يقتضي ما ذكرناه .

( وأي شخص يحصل منه التأمّل في انه إلى ما قبل صدور النّسيان كان مكلفا ، وبمجرد عروض النسيان يرتفع التكليف الثابت وإن أنكر ) ذلك الشخص ( حجيّة الاستصحاب ) لانه ليس له يقين سابق ، مع انه يلزم أن يكون له حال ارادة الاستصحاب يقين سابق وشك لاحق ؛ فالاستصحاب وإن لم يكن يجري وانّما يجري الاطلاقات والاجماع .

( فهو ) أي : هذا الشخص ( يسلّم أنّ الشغل اليقيني يستدعي البرائة اليقينية ) .

لكن يمكن أن يقال في ردّ كلام السيد : ان للشخص ان ينكر ما ذكرتم ، لأنه قبل النسيان كان مكلّفا ، وأما بعد النسيان فليس بمكلّف لحديث الرفع ، كما انه

ص: 126


1- - بحار الانوار : ج89 ص92 ب2 ح10 ، غوالي اللئالي : ج2 ص54 ح143 و ج3 ص107 ح150 بالمعنى تهذيب الاحكام : ج3 ص163 ب13 ح4 (بالمعنى) .

- إلى أن قال - : نعم ، في الصورة التي يحصل للمكلّف علم إجماليّ باشتغال ذمّته بفوائت متعددة يعلم قطعا تعدّدها ، لكن لا يعلم مقدارها ، فانّه يمكن حينئذٍ أن يقال : لا نسلّم تحقق الشغل بأزيد من المقدار الذي تيقّنه - إلى أن قال - : والحاصل أنّ المكلّف إذا حصل له القطع باشتغال ذمّته بمتعدّد والتبس عليه ذلك كمّا ، وأمكنه الخروج عن عهدته ، فالأمر كما أفتى به الأصحاب ،

-------------------

لو كان عالما بشيء ثم جهله فانّ الجهل يرفعه ، وهكذا في مثل مالو اضطر ، أو أكره ، أو ألجيء ، ممّا يشمله حديث الرفع ونحوه ، مع وضوح وحدة السياق في مقاطع الحديث المذكور ، فكما يختلف قبل الاضطرار وبعده وقبل الاكراه وبعده كذلك يختلف قبل النسيان وبعده .

( إلى أن قال : نعم ، في الصورة التي يحصل للمكلّف علم إجمالي باشتغال ذمته بفوائت متعددة ) دفعة واحدة كما اذا علم بانّه صلّى وهو جنب صلوات متعددة بحيث ( يعلم قطعا تعددها ) أي : تعدد تلك الصلوات الفائتة ( لكن لا يعلم مقدارها فانّه يمكن حينئذٍ أن يقال : لا نسلّم تحقق الشغل بأزيد من المقدار الذي تيقنه ) .

وكذلك حال من علم دفعة بعد مرور مدة بوجوب الانفاق على زوجته ، ولم يعلم عدد الأيام التي لم ينفق عليها ، وكذا بالنسبة إلى قضاء صلوات أو صيام أبيه ، أو نذر صوم أيام وغفل عن نذره ثم تذكره دفعه وغير ذلك .

( إلى أن قال والحاصل : ان المكلّف إذا حصل له القطع باشتغال ذمّته ) بالتدريج يوما فيوما حتى علم ( ب- ) تكليف ( متعدد ، والتبس عليه ذلك كمّا ) من حيث العدد ( وأمكنه الخروج عن عهدته ، فالأمر كما أفتى به الأصحاب ) : من انّه

ص: 127

وإن لم يحصل ذلك بأن يكون ما علم به خصوص اثنتين أو ثلاث ، وأمّا أزيد من ذلك فلا ، بل احتمال احتمله . فالأمر كما ذكره في الذخيره .

ومن هنا لو لم يعلم أصلاً بمتعدد في فائتة وعلم أنّ صلاة صبح يومه فاتت ، وأمّا غيرها فلا يعلم ولا يظنّ فوته

-------------------

يأتي بالمشكوك بقدر ظنه أو حتى يعلم بالفراغ .

( وإن لم يحصل ذلك ) اي : القطع باشتغال ذمته تدريجيّا بل دفعيا ( بأن يكون ما علم به خصوص اثنتين أو ثلاث ) دفعة كما مثّلنا له ( وأما أزيد من ذلك فلا ) قطع له ( بل احتمال احتمله ، فالأمر كما ذكره في الذخيرة ) من اجراء البرائة عن الأكثر ولزوم الاتيان بالأقل .

ولا يخفى : ان قول السيد الطباطبائي : « كما » مقابل الكيف ، كما اذا شك في ان الذي فاته كان صلاة الصبح أو المغرب ؟ فان الاختلاف بينهما في الكيف لا الكم ، وحينئذٍ يلزم عليه الاتيان بهما لمكان العلم الاجمالي بين المتباينين المقتضي للاحتياط .

وكذا لو شك في ان الذي اصاب ثوبه هو البول أو الدم حيث ان إزالة الأوّل بالتطهير مرتين وإزالة الثاني بالتطهير مرة ، فيلزم عليه التطهير مرتين .

وهكذا إذا شك في انّه نذر أن يقرء سورة يس ، أو سورة التوحيد ؛ فان اللازم عليه قراءة السورتين ، ولا يقال انه اختلاف في الكم لأن آيات سورة يس أكثر من آيات سورة التوحيد ، فاللازم عليه أن يأتي بالأقل .

( ومن هنا ) اي : من أجل ما ذكرناه : من انه لو علم بالفوائت ونحوها دفعة ، لا تدريجا جرت البرائة في الأزيد ، ولزم الاتيان بالأقل ( لو لم يعلم أصلاً بمتعدد في فائتة ، وعلم انّ صلاة صبح يومه فاتت ، وأمّا غيرها فلا يعلم ولا يظن فوته

ص: 128

أصلاً ، فليس عليه إلاّ الفريضة الواحدة دون المحتمل لكونه شكّا بعد خروج الوقت ، والمفروض أنّه ليس عليه قضاؤها ، بل لعلّه المفتى به » ، انتهى كلامه رفع مقامه .

ويظهر النظرُ فيه ممّا ذكرناه سابقا ، ولا يحضرني الآنَ حكمٌ لأصحابنا بوجوب الاحتياط في نظير المقام ، بل الظاهر منهم إجراء البراءة في أمثال ما نحن فيه .

-------------------

أصلاً ) كما اذا شك في انّه هل فاتت منه صلاة صبحه أو صلاة صبحه وظهره معا - مثلاً - ؟ ( فليس عليه الاّ الفريضة الواحدة ) لأنها المتيقن ( دون المحتمل لكونه شكّا بعد خروج الوقت والمفروض انه ليس عليه قضائها ؛ بل لعلّه المفتى به ) (1) لأن الوقت حائل كما ذكر في بابه ( انتهى كلامه رفع مقامه ) .

هذا ( ويظهر النَظر فيه ممّا ذكرناه سابقا ) : من ان العلم الاجمالي ينحل إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي بوجوب الأكثر ؛ فيكون الأكثر مجرى البرائة كما ان دليل رفع النسيان يشمل صورتي : الدفعية والتدريجية معا .

( ولا يحضرني الآن حكمٌ لأصحابنا بوجوب الاحتياط في نظير المقام ) من موارد الشك بين الأقل والأكثر ( بل الظاهر منه : اجراء البرائة ) بالنسبة إلى الزائدة على الأقل المتيقن ( في أمثال ما نحن فيه ) كالشك في تطهير كل ثوبه وبدنه وداره وأثاثه ، لانه يشك في تنجسه كله أو قدر منه ؟ وفي الصوم والنذر ، وفي العهد واليمين ، وفي الدين والنفقة ، وفي الدية : بأن عليه دينارا أو دينارين ؟ وفي الجناية العمدية : بأن زيدا قطع يده وعمرا رجله ، أو زيدا قطع اليد والرجل ؟ وغير ذلك .

ص: 129


1- - ذخيرة المعاد في شرح الارشاد .

وربّما يوجّه الحكم بأنّ الأصل عدم الاتيان بالصلاة الواجبة فيترتب عليه وجوب القضاء إلاّ في صلاة علم الاتيان بها في وقته .

ودعوى : « ترتّب وجوب القضاء على صدق الفوت الغير الثابت بالأصل ، لا مجرّد عدم الاتيان

-------------------

( وربّما يوجّه الحكم ) أي : الحكم بوجوب الاتيان بالأكثر بثلاثة وجوه أخر :

الأوّل : الاستصحاب ، لأن الاستصحاب يقتضي عدم الاتيان بالمشكوك الزائد على المتيقن ، وأشار إليه بقوله : « بأن الأصل عدم الاتيان بالصلاة الواجبة » .

الثاني : قاعدة الاشتغال ، وأشار إليه بقوله : « وإن شئت تطبيق ذلك » .

الثالث : النص الوارد في النافلة ، فان مناطه شامل للمقام ، وأشار إليه بقوله : « وأضعف منه التمسك » .

والى الوجه الأوّل أشار المصنّف حيث قال : ( بأنّ الأصل : عدم الاتيان بالصلاة الواجبة ) فانّ المكلّف لمّا دخل عليه الوقت صباحا ، أو ظهرا ، أو مغربا ، وجبت عليه الصلاة وحيث لا يعلم انه أتى بها فالاستصحاب يقتضي عدم اتيانها ( فيترتب عليه وجوب القضاء ) سواء بالنسبة إلى الصلاة المظنونة الترك أو المظنونة الفعل ، أو المشكوكة الترك أو الفعل ( إلاّ في صلاة علم الاتيان بها في وقته ) أما في غير معلوم الاتيان فالواجب عليه أن يأتي به استصحابا .

( و ) إن قلت : الاستصحاب لا يفيد وجوب القضاء ، لأن القضاء متوقف على صدق الفوت ؛ واستصحاب عدم الاتيان لا يثبت الفوت لأنّه مثبت ، والاستصحاب المثبت ليس بحجّة ، فانّ ( دعوى ترتّب وجوب القضاء على صدق الفوت غير الثابت بالأصل ) لأنّ الأصل يثبت عدم الاتيان لا انه يثبت عنوانا وجوديا هو : الفوت ، فانه ( لا ) يترتب وجوب القضاء على ( مجرّد عدم الاتيان

ص: 130

الثابت بالأصل » ، ممنوعةٌ ، لما يظهر من الأخبار وكلمات الأصحاب من أنّ المراد بالفوت مجرّد الترك كما بيّناه في الفقه .

وأمّا ما دلّ على أنّ الشكّ في إتيان الصلاة بعد وقتها لا يعتدّ به فلا يشمل ما نحن فيه .

-------------------

الثابت بالأصل ) أي : باستصحاب عدم الاتيان ، حتى نستصحب عدم الاتيان ، فنرتِّب عليه وجوب القضاء ؟ .

قلت : الدعوى المذكورة ( ممنوعةٌ ) لأنّ القضاء انّما يكون لعدم الاتيان لا انه يتوقّف على صدق الفوت ، وقوله عليه السلام : « مَن فَاتَتهُ فَريضَةً » (1) يراد بها : عدم الاتيان بالفريضة ، لا انّ الفوت عنوان وجودي ، وانّما نقول بكفاية عدم الاتيان في وجوب القضاء ؛ ولا نحتاج إلى صدق الفوت ( لما يظهر من الأخبار وكلمات الأصحاب : من ان المراد بالفوت ) الذي هو موضوع وجوب القضاء ( : مجرّد الترك ) ولهذا يجب على الحائض ان تقضي الصوم مع انه لا يصدق الفوت بالنسبة اليها ، فان الفوت انّما يصدق مع وجود المقتضي ، والحائض لا مقتضي لصومها ، وانّما تركها الصيام أوجب القضاء عليها ( كما بيّناه في الفقه ) مفصلاً .

( و ) ان قلت : « الوقت حائل » يقول : ان الانسان اذا شك بعد خروج الوقت في انّه اتى بالصلاة أو لم يأت بها ، لا يعتني بشكه .

قلت : ( اما ما دلّ على ان الشك في اتيان الصلاة بعد وقتها لا يعتدّ به ، فلا يشمل ما نحن فيه ) من موارد العلم الاجمالي .

وعليه : فانّ مَن يقول بوجوب قضاء الزائد على القدر المتيقن يتمسك تارة

ص: 131


1- - غوالي اللئالي : ج2 ص54 ح143 و ج3 ص107 ح150 بالمعنى ، بحار الانوار : ج89 ص92 ب2 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج3 ص163 ب13 ح14 (بالمعنى) .

وإن شئت تطبيق ذلك على قاعدة الاحتياط اللازم ، فتوضيحُه أنّ القضاء وإن كان بأمر جديد إلاّ أنّ ذلك الأمر

-------------------

باستصحاب عدم الاتيان في الوقت مع انّه يسلم جريان البرائة في نفسها في المقام لكن يقول : ان الاستصحاب حاكم على البرائة .

وأخرى : بأن البرائة لا تجري أصلاً ، لأنّ الأداء والقضاء شيء واحد ، وانّما يكونان من باب تعدد المطلوب ، فالشارع يريد الصلاة على امتداد العمر ، ويريد أيضا ان تكون هذه الصلاة في الوقت ، فاذا صلاها في الوقت فهو ، وإلاّ لزم عليه الاتيان بها خارج الوقت ، وحيث لا يعلم هذا الشاك بين الأقل والأكثر هل انّه صلاها في الوقت أم لا ؟ لزم عليه اتيانها خارج الوقت .

وإلى الوجه الثاني أشار المصنِّف بقوله : ( وإن شئت تطبيق ذلك ) الذي مر : من وجوب قضاء الزائد المشكوك وعدم الاكتفاء بالأقل المتيقن ، اذ المفروض : انّ الأقل متيقن والزائد على الأقل مشكوك فيه تطبيقه ( على قاعدة الاحتياط اللازم ) فانّ الزائد ليس مجرى البرائة ، وانّما هو مجرى لقاعدة الاحتياط فيلزم الاتيان بذلك الزائد .

أما انه كيف يكون الزائد مجرى الاحتياط ؟ ( فتوضيحه : انّ القضاء وإن كان بأمر جديد ) مثل قوله عليه السلام : « مَن فَاتَتهُ فَريضَةً فليَقضِها كَما فَاتَتهُ » (1) ( إلاّ ) انّه ليس المراد من الأمر الجديد : انقطاع الأمر الأوّل كاملاً ليكون هناك أمران : أمر بالاداء ، وأمر بالقضاء ، حتى اذا شككنا في الأمر بالقضاء نقول بعدم وجود هذا الأمر الثاني ، بل المراد ( انّ ذلك الأمر ) الجديد الذي أداه بقوله « من فاتته فريضة »

ص: 132


1- - غوالي اللئالي : ج2 ص54 ح143 و ج3 ص107 ح150 بالمعنى ، بحار الانوار : ج89 ص92 ب2 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج3 ص163 ب13 ح14 (بالمعنى) .

كاشف عن استمرار مطلوبيّة الصلاة من عند دخول وقتها إلى آخر زمان التمكّن من المكلّف .

غاية الأمر كون هذا على سبيل تعدّد المطلوب بأن يكون الكلّيّ المشترك بين ما في الوقت وخارجه مطلوبا ، وكون إتيانه في الوقت مطلوبا آخر ، كما أنّ أداء الدين وردّ السلام واجب في أوّل أوقات الامكان ، ولو لم يفعل ففي الآن الثاني وهكذا .

-------------------

( كاشف عن استمرار مطلوبيّة الصّلاة من عند دخول وقتها إلى آخر زمان التمكّن من المكلّف ) أي : إلى آخر عمره ، فللشارع عندما يأمر بوجوب صلاة الظهر - مثلاً - مطلوبان : مطلوب أوّل : انه يأتي بها بين الحدين أي : بين الظهر والمغرب، ومطلوب ثان : انّه إذا لم يأت بها بين الحدين يأتي بها إلى آخر العمر .

و ( غاية الأمر : كون هذا ) الاستمرار المستفاد من الجمع بين الأمر السابق والأمر الجديد ( على سبيل تعدد المطلوب بأن يكون الكلّي المشترك بين ما في الوقت وخارجه مطلوبا ) أولاً وبالذات ( وكون اتيانه في الوقت مطلوبا آخر ) فاذا فات المطلوب الأوّل وهو بين الحدين يأتي بالمطلوب العام الذي هو ممتد إلى آخر العمر .

( كما أنّ أداء الدّين ورد السلام واجب في أول أوقات الامكان ، ولو لم يفعل ففي الآن الثاني ، وهكذا ) في الآن الثالث والرابع والخامس .

وكذلك الحج : فانّه واجب في عام الاستطاعة ، فان لم يفعل ففي العام الثاني ، فان لم يفعل ففي العام الثالث ، وهكذا .

وكذلك الصوم : فانه واجب في شهر رمضان ، فان لم يفعل ففيما بعده إلى شهر رمضان الثاني ، فان لم يفعل فالى آخر العمر .

ص: 133

وحينئذٍ : فاذا دخل الوقت وجب إبراء الذمّة عن ذلك الكلّي ، فاذا شكّ في براءة ذمّته بعد الوقت ، فمقتضى حكم العقل باقتضاء الشغل اليقينيّ للبراءة اليقينيّة وجوب الاتيان ، كما لو شكّ في البراءة قبل خروج الوقت ، وكما لو شكّ في أداء الدين الفوريّ ، فلا يقال : إنّ الطلب في الزمان الأوّل قد ارتفع بالعصيان ،

-------------------

وكذلك بالنسبة إلى صلة الرحم ، ووجوب أداء الأمانة ، وإعداد النفس للاقتصاص فيما إذا جنى على الغير بما فيه الاقتصاص ، وغير ذلك .

( وحينئذٍ ) أي : حين كان الأمر الجديد كاشفا عن استمرار الأمر الأوّل إلى آخر العمر ، وان الذي كان بين الحدين كان من باب تعدد المطلوب ( فاذا دخل الوقت وجب إبراء الذمّة عن ذلك الكلّي ) أي : كلي الصلاة التي أوجبها الشارع من أول الوقت إلى وقت الموت ( فاذا شك في برائة ذمّته بعد الوقت ، فمقتضى حكم العقل باقتضاء الشغل اليقينيّ للبرائة اليقينيّة : وجوب الاتيان ) بهذه الصلاة خارج الوقت ليتيقن بالبرائة .

إذن : فالشك خارج الوقت يكون ( كما لو شك في البرائة قبل خروج الوقت ) فانه كما يقتضي الامر بالصلاة : الاتيان بها في آخر الوقت اذا شك انه اتى بها في أول الوقت أو لم يأت بها ؟ كذلك بالنسبة إلى خارج الوقت ، فانّه يلزم الاتيان بها إذا شك انّه أتى بها في الوقت أم لا ؟ .

( و ) عليه : فيكون حال الصلاة خارج الوقت ( كما لو شك في أداء الدين الفوري ) فانّه يجب عليه الاتيان بعد انتهاء الفور أيضا .

إذن : ( فلا يقال : إنّ الطلب ) أي : طلب الصلاة ( في الزمان الأوّل ) وهو داخل الوقت ( قد ارتفع بالعصيان ) فانّ العصيان قد يرفع بعض التكاليف ، كما اذا اراد

ص: 134

ووجوده في الزمان الثاني مشكوك فيه ، وكذلك جواب السلام .

والحاصل : أنّ التكليف المتعدّد بالمطلق والمقيّد لا ينافي جريان الاستصحاب وقاعدة الاشتغال بالنسبة إلى المطلق فلا يكون المقام مجرى البراءة .

هذا ،

-------------------

المولى شرب الماء فأمر عبده فلم يحضر له الماء حتى شرب المولى الماء بنفسه ، فانّ الأمر سقط بالعصيان ولا يجب على العبد بعد ذلك ان يحضر الماء .

( و ) أيضا لا يقال : ان ( وجوده ) أي : وجود الطلب ( في الزمان الثاني مشكوك فيه ) حتى يكون الاصل عدمه ، فيجري البرائة من وجوب الاتيان بالصلاة خارج الوقت ؟ ( وكذلك ) حال ( جواب السلام ) وأداء الدين ، وما أشبه ذلك ممّا تقدّم بعض أمثلته .

( والحاصل : انّ التكليف المتعدّد بالمطلق والمقيّد ) حيث أمر المولى أولاً باتيان الصلاة إلى آخر العمر ، وأمر ثانيا بأتيانها بين الحدين ( لا ينافي جريان الاستصحاب ) فلا يقال : لا يجري الاستصحاب لأنّ المتيقن وهو الصلاة في الوقت مقطوع العدم ، ووجوب الصلاة بعد الوقت مشكوك الحدوث ؛ فلا يتم أركان الاستصحاب ؛ بل قد عرفت : ان اللازم اجراء الاستصحاب .

( و ) كذلك لا ينافي ( قاعدة الاشتغال بالنسبة الى المطلق ) لأنّ انقطاع التكليف بالنسبة إلى المقيّد بين الحدين لا ينافي بقاء المطلق الذي أراده المولى بالأمر الأوّل من أول الوقت إلى آخر العمر ( فلا يكون المقام ) الذي هو مجرى استصحاب التكليف ومجرى قاعدة الاشتغال ( مجرى البرائة ) من التكليف .

( هذا ) هو ما استدل به القائل بوجوب الاتيان بالزائد حيث تمسك تارةً

ص: 135

ولكنّ الانصاف : ضعف هذا التوجيه لو سلّم استناد الأصحاب إليه في المقام .

أمّا أوّلاً : فلأنّ من المحتمل بل الظاهر ، على القول بكون القضاء بأمر جديد ، كونُ كلّ من الأداء والقضاء تكليفا مغايرا للآخر ،

-------------------

بالاستصحاب ، واخرى باطلاق دليل وجوب الاتيان بالصلاة ( ولكن الانصاف ضعف هذا التوجيه ) لوجوب اتيان الزائد والاشتغال بالأكثر ، فانّه ( لو سلّم استناد الأصحاب إليه ) أي : إلى هذا التوجيه ( في المقام ) أي : في مورد دوران الفائتة بين الأقل والأكثر ، فمع التسليم يرد عليه مايلي :

( أمّا أوّلاً : ) فانه يرد على التوجيه الاخير خاصة ، اذ لا يخفى انّ هذه الايرادات الثلاثة التي أوردها المصنِّف على هذا التوجيه مختلفةٌ ، فالايرادُ الأوّل واردٌ على التوجيه الأخير خاصة ، والتوجيهان الأخيران مشتركان الورود على هذا وعلى سابقه ، فالمختص بالاخير هو ما أشار اليه بقوله : ( فلأنّ من المحتمل بل الظاهر ) من الأدلة ( على القول بكون القضاء بأمر جديد ) لا بالأمر الأوّل ، فانهم اختلفوا في انّ القضاء بأمر جديد أو بالأمر الأوّل ، فاختار المشهور : انّ القضاء بأمر جديد ، لانه اذا لم يكن أمر جديد لم يدل الدليل الأوّل على وجوب القضاء ، إذ الدليل الأوّل انّما يدل على الموقت والموقت غير المطلق .

وعليه : فالظاهر من الامر الجديد ( كون كلّ من الأداء والقضاء تكليفا مغايرا للآخر ) فليس من باب تعدد المطلوب كما كان في هذا التوجيه ، بل من باب الأمرين المتغايرين ، فانّ الأمر الجديد بقوله عليه السلام : « مَن فَاتَتهُ فَريضَةً فَليَقضِها كَما فاتَتهُ » (1) لا يكشف عن استمرار الأمر السابق ، وعن تعدد المطلوب في الأوّل

ص: 136


1- - غوالي اللئالي : ج2 ص54 ح143 و ج3 ص107 ح150 بالمعنى ، بحار الانوار : ج89 ص92 ب2 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج3 ص163 ب13 ح14 (بالمعنى) .

فهو من قبيل وجوب الشيء ووجوب تداركه بعد فوته ، كما يكشف عن ذلك تعلّق أمر الأداء بنفس الفعل وأمر القضاء به بوصف الفوت .

ويؤيّده بعض ما دلّ على أنّ لكلّ من الفرائض بدلاً وهو قضائه عدا الولاية ،

-------------------

ووحدة المطلوب في القضاء ليمكن اجراء الاشتغال عند الشك ، بل الأمر السابق قد انقطع بخروج الوقت ، والأمر الجديد تكليف حادث بتدارك الفائت .

إذن : ( فهو ) أي : الأداء والقضاء ( من قبيل وجوب الشيء ) مقيدا بوقت خاص ، أو شرط خاص ( ووجوب تداركه بعد فوته ) أي : فوت ذلك الوقت أو ذلك الشرط ، فالأمران في الأداء والقضاء من قبيل وجوب ذبح الشاة في الحج ، فان لم يتمكن صام عشرة أيام ، فهما أمران ، لا أمر واحد بالكلي الجامع بينهما حتى يكون اللازم أولاً الكلي المقيّد بالشاة ، فاذا لم يتحقق هذا الفرد يأتي بالكلي في ضمن الصيام ( كما يكشف عن ذلك : ) أي عن تعدد الأمر ، وانّهما من قبيل وجوب الشيء ووجوب تداركه بعد فوته : ( تعلق أمر الأداء ) « أقِم الصَّلاةَ لِدلوكِ الشَّمسِ ...» (1) ( بنفس الفعل ) كالظهر - مثلاً - ( وأمر القضاء به ) أي : بالفعل ( بوصف الفوت ) ولذا قال عليه السلام : « مَن فَاتَتهُ فَريضَةً فَليَقضِها كَما فاتَته » (2) فالأمر الجديد تكليف جديد بعد انقطاع التكليف الأوّل .

( ويؤيده : ) أي : يؤيد كونهما أمرين ، لا أمر واحد بالكلي ، ثم أمر آخر بفرد منه في الوقت من باب تعدد المطلوب : ( بعض مادل على انّ لكل من الفرائض ) كالصلاة والصيام والحج وغيرها ( بدلاً وهو قضائه عدا الولاية ) فانّ من لم يصل

ص: 137


1- - سورة الاسراء : الاية 78 .
2- - غوالي اللئالي : ج2 ص54 ح143 و ج3 ص107 ح150 بالمعنى ، بحار الانوار : ج89 ص92 ب2 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج3 ص163 ب13 ح14 (بالمعنى) .

لا من باب الأمر بالكلّيّ والأمر بفرد خاصّ ، منه كقوله : « صم ، وصم يوم الخميس » أو الأمر بالكلي والامر بتعجيله كردّ السلام ، وقضاء الدين

-------------------

في الوقت قضاها بعد الوقت ، ومن لم يصم رمضان قضاه في سائر الأشهر ، ومن لم يحج عام الاستطاعة أتى بالحج في سائر الأعوام ، ومن لم يأت بمنذوره بخصوصياته أتى به من دون تلك الخصوصيات .

أما الولاية للأئمة الطاهرين عليهم السلام فمن لم يأت بها فلا قضاء لها يتدارك بذلك القضاء ما فاته من الخير والأجر .

وجه التأييد : ان هذا الدليل جعل القضاء بدلاً وتداركا للمبدل الفائت ، ومن المعلوم : ان التدارك ليس نفس الشيء حتى يقال : ان الأداء من باب تعدد المطلوب والقضاء من باب المطلوب العام .

وعليه : فالاداء والقضاء أمران : بدل ومبدل منه ( لا من باب الأمر بالكلّي والأمر بفرد خاص منه ) حتى نستكشف من مثل : صل في الوقت ؛ وصل قضاءا ، كون الأمر السابق دالاً على الصلاة في الوقت من باب تعدد المطلوب ، والأمر الثاني دالاً على طلب الشارع مطلق الصلاة في الوقت وخارج الوقت ، وانّما يريده في الوقت من باب خصوصية في هذا الفرد ( كقوله : « صم ، وصم يوم الخميس » ) ممّا يدل على أنّ اصل الصوم مطلوب ، سواء كان في يوم الخميس أو في غير يوم الخميس ، وصوم يوم الخميس مطلوب مؤكد من باب تعدد المطلوب ، فانّ الأمر بالأداء والقضاء ليس من هذا القبيل .

( أو الأمر بالكلي والأمر بتعجيله كردّ السلام ، وقضاء الدّين ) فانّ رد السلام وأداء الدين مطلوبان مطلقا في أيّ زمان كان ؛ وتعجيلهما مطلوب آخر ، فاذا عجّلهما فورا فهو آتٍ بالمطلوب المتعدد .

ص: 138

فلا مجرى لقاعدة الاشتغال واستصحابه .

وأمّا ثانيا : فلأنّ منعَ عموم ما دلَّ على أنّ الشكّ في الاتيان بعد خروج الوقت ، لا يعتدّ به للمقام خال عن السند ،

-------------------

ولا يخفى : ان الفرق بين قول المصنِّف كقوله : صم ، وصم يوم الخميس ، وقوله : أو الأمر بالكلي ، هو : ان في المثال الأوّل : المطلوب الآكد هو الوقت الخاص أي : يوم الخميس ، بينما في المثال الثاني : المطلوب الآكد هو الفور لا زمان خاص .

وعليه : فاذا لم يكن الأداء والقضاء من باب تعدد المطلوب الذي ذكره الموجه لوجوب الأكثر في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الفائتة ( فلا مجرى لقاعدة الاشتغال واستصحابه ) أي : استصحاب الاشتغال بالنسبة إلى الأكثر ، لأنّ الأمر السابق قد انقطع والأمر الجديد مشكوك فيه ، ومثل ذلك لا يكون مجرى للاستصحاب ولا لقاعدة الاشتغال .

( وأمّا ثانيا : ) فلأنك قد عرفت : انّ الشارع بقوله : الوقت حائل ، جعل خروج الوقت حائلاً ، فاذا شك المكلّف بعد الوقت في انه اتى بالصلاة أو لم يأت بها بنى على انّه اتى بها والقائل بوجوب الأكثر يمنع من العمل بقاعدة : الوقت حائل ، مستدلاً بأن عمومها لا يشمل ما نحن فيه ، فيعترضه المصنّف بأن المنع هذا لا دليل عليه ويقول له : ( فلأنّ منعَ عموم مادلّ على ان الشك في الاتيان ) لا يعتنى به ( بعد خروج الوقت ، لا يعتدّ به للمقام ) ليس في محله .

وعليه : فان قولك بمنع شمول هذه القاعدة لما نحن فيه من البرائة في الأكثر ( خالٍ عن السّند ) لأنّ دليل عدم الاعتناء بالشك بعد الوقت ، يشمل عمومه صورة الشك في أصل الفوت ، والشك في فوت الأكثر ، والشك في انّه اتى به صحيحا أو سقيما ، فبأي دليل اخرجتم منه ما نحن فيه ؟ .

ص: 139

خصوصا مع اعتضاده بما دلّ على أنّ الشك في الشيء لا يعتنى به بعد تجاوزه ، مثل قوله عليه السلام : « إنّما الشكّ في شيء لم تجزه » ، ومع اعتضاده في بعض المقامات

-------------------

إذن : فقاعدة كون الوقت حائلاً حاكم على الاستصحاب وعلى قاعدة الاشتغال بعد خروج الوقت ( خصوصا مع اعتضاده ) أي : اعتضاد قاعدة الوقت حائل ( بما دلّ على انّ الشك في الشيء لا يعتنى به بعد تجاوزه ) فانّه يعمّ تجاوز المحل وتجاوز الوقت : فيلزم عدم الاعتناء به .

وإنّما لا يعتنى به لانه قد ورد في الشرع ان الشك بعد التجاوز لا يعتنى به ( مثل قوله عليه السلام : « إنّما الشك في شيء لم تجزه » (1) ) فاذا كان الشخص قد تجاوز الشيء كما إذا شك في الحمد وهو راكع ، أو شك في الركوع وهو ساجد ، أو شك في السجود وهو قائم فلا يعتني بشكه ، وانّما يعتني بشكه فيما إذا كان في اثناء الشيء كما إذا كان قائما قبل الركوع وشك في انّه قرء الحمد أم لا فانّه يأتي بالحمد ؛ وهكذا ، فالشك بعد الوقت من قبيل الشك بعد التجاوز ؛ وكما انّه لا يعتنى بالشك بعد التجاوز فكذلك لا يعتنى بالشك بعد خروج الوقت .

ولا يخفى : انّ في المقام ثلاث قواعد :

1 - قاعدة التجاوز وهي تقول : لا تعتن بالشك اذا جاوزت الشيء .

2 - قاعدة الفراغ وهي تقول : لا تعتن بالشك اذا فرغت من الشيء .

3 - قاعدة الوقت وهي تقول : لا تعتن بالشك اذا خرجت من الوقت .

( و ) عليه : فقاعدة : الوقت حائل ، حاكم على الاستصحاب والاشتغال خصوصا ( مع اعتضاده ) أي : اعتضاد : الوقت حائل ( في بعض المقامات ) كمقام

ص: 140


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص101 ب4 ح111 ، وسائل الشيعة : ج1 ص470 ب42 ح1244 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج8 ص237 ب23 ح10524 ، السرائر : ج3 ص554 .

بظهور حال المسلم في عدم ترك الصلاة .

وأمّا ثالثا : فلأنّه لو تمّ ذلك جرى فيما يقضيه عن أبويه إذا شكّ في مقدار ما فات منهما ، ولا أظنّهم يلتزمون بذلك ، وإن التزموا بأنّه إذا وجب على الميّت لجهله بما فاته

-------------------

احتماله للترك عمدا ( بظهور حال المسلم في عدم ترك الصلاة ) عمدا ، فان مقام احتمال الترك عمدا مناف لظهور حال المسلم .

وانّما قال في بعض المقامات ، لأنه ليس في كل المقامات كذلك ، ففي مثل مقام استناد احتمال الترك إلى النسيان لا ظهور لحال المسلم في عدم النسيان وان كان لدفع احتمال النسيان ظهور آخر ، وهو ظهور حال الانسان في عدم النسيان ، ولهذا يقولون : انّ ظاهر حال الانسان عدم النسيان ، والغلط ، والسهو ، وسبق اللسان ، وما أشبه ذلك .

( وأمّا ثالثا : فلأنّه لو تمّ ذلك ) الاستصحاب والاشتغال بالاكثر فيما نحن فيه من تردده في فائتته بين الأقل والأكثر ( جرى ) الاشتغال بالأكثر أيضا ( فيما يقضيه عن أبويه إذا شكّ في مقدار ما فات منهما ) بأنّه هل هو الأقل أو الأكثر ؟ فانّه يلزم عليهم أن يقولوا بوجوب القضاء الأكثر عن الأبوين ( ولا أظنّهم يلتزمون بذلك ) القول في القضاء عن الأبوين .

وانّما جعلنا التلازم بين المقامين : مقام القضاء عن نفسه ومقام القضاء عن أبويه ؛ لأنّ في كلا المقامين شك بين الأقل والأكثر ؛ فكما انّه في القضاء عن الأبوين لايلزم الأكثر ، كذلك في القضاء عن نفسه لا يلزم الأكثر .

هذا ( وإن إلتزموا بأنّه إذا وجب على الميت لجهله بما فاته ) بأن كان الأب - مثلاً - شاكا في انّه هل فات منه عشر صلوات أو خمس عشرة صلاة ومات قبل

ص: 141

مقدارٌ معيّن يعلم أو يظنّ معه البراءة وجب على الوليّ قضاء ذلك المقدار ، لوجوبه ظاهرا على الميّت ، بخلاف ما لم يعلم بوجوبه عليه .

وكيف كان : فالتوجيه المذكور ضعيف ، وأضعفُ منه التمسّك فيما

-------------------

أن يؤدّي هذه الصلوات ؟ فقد التزموا بأنه يجب على الولي الأكثر ، وذلك بأن يؤدي خمس عشرة صلاة ، فانه اذا وجب على الميت ( مقدار معين يعلم أو يظنّ معه البرائة ) فلم يقضها حتى مات ( وجب على الوليّ قضاء ذلك المقدار ) المعيّن الذي يوجب العلم أو الظنّ بالبرائة وهو الاكثر .

وانّما يجب على الولي اتيان الاكثر حينئذٍ ( لوجوبه ) أي : لوجوب ذلك المقدار الأكثر ( ظاهرا على الميت ) الذي شك في حال حياته بأن عليه عشر صلوات أو خمس عشرة صلاة على ما عرفت ؟ .

( بخلاف ما لم يعلم ) الأب الميت ( بوجوبه عليه ) فلا يجب حينئذٍ على الولي قضاء ذلك المقدار الذي يوجب العلم أو الظن بالبرائة ، وذلك لانه قد يعلم الميت بوجوب الفوائت عليه ويشك بين الاقل ، والأكثر ثم لايأتي بالقضاء حتى يموت ، فانّ الولي حينئذٍ يأتي بالأكثر لأنّ الاكثر كان واجبا على الميت حسب رأي هذا القائل بوجوب الأكثر ، وقد لا يعلم الميت بوجوب الفوائت عليه حتى يموت ويشك الولي في انّه هل يجب عليه الأكثر أو الأقل ؟ فانّه حينئذٍ يأتي الولي بالأقل .

( وكيف كان : فالتوجيه المذكور ) . لقاعدة الاشتغال دليلاً على الاتيان بالأكثر ( ضعيف ) لما عرفت : من ان أمر الأداء والقضاء ليس من باب المطلق والمقيد ، بل من باب الأمرين المستقلين .

والى الوجه الثالث اشار المصنِّف بقوله : ( واضعف منه ) اي : واضعف من التوجيه المذكور وهو : الحكم لأجل الاستصحاب والاشتغال بوجوب الاكثر فيما

ص: 142

نحن فيه بالنصّ الوارد في « أنّ من عليه من النافلة ما لايحصيه من كثرته قضى حتّى لا يدري كم صلّى من كثرته » ، بناءا على أنّ ذلك طريق لتدارك ما فات ولم يحص ، لا أنّه مختصّ بالنافلة ،

-------------------

اذا كان الشك في الفائتة بين الاقل والاكثر ، هو : ( التمسك فيما نحن فيه بالنصّ الوارد في « أنّ من عليه من النّافلة ما لا يحصيه من كثرته قضى حتى لا يدري كم صلى من كثرته » ) وهي صحيحة عبد اللّه بن سلام ، « عن ابي عبد اللّه عليه السلام قال : قلت له : أخبرني عن رجل عليه من صلاة النوافل ما لا يدري ما هو من كثرتها كيف يصنع ؟ قال : فليصلِّ حتى لا يدري كم صلى من كثرتها ، فيكون قد قضى بقدر ما عليه من ذلك ...» (1) .

استدل بهذا الخبر جمع على استحباب قضاء ما يغلب على الظن فواته من النوافل ، وقد استدل به ايضا القائلون بإتيان الاكثر في الفرائض ، ومن المعلوم : ان الاستدلال بهذا الخبر على الاتيان بالأكثر في الفريضة مع ان الخبر في النافلة انّما هو ( بناءا على انّ ) المفهوم من هذا الخبر عرفا هو : ان ( ذلك ) أي : القضاء بقدر لايحصى ممّا معناه : كون القضاء ليس بالقدر المتيقّن فقط ( طريق لتدارك ما فات ولم يحص ) وإن كان الفائت الفريضة ( لا انّه مختصّ بالنافلة ) .

والحاصل : انه قد فهم الملاك من هذا الخبر ، لأنه لا تفاوت عند الشك في الاقل والاكثر بين صلاة النافلة وصلاة الفريضة ، فاذا كان الحكم في النافلة ذلك فهو الحكم في الفريضة أيضا .

ص: 143


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص568 ح1573 ، الكافي فروع : ج3 ص454 ح13 ، تهذيب الأحكام : ج2 ص11 ح25 ، المحاسن : ص315 ح33 ، وسائل الشيعة : ج4 ص76 ب18 ح4553 وفي جميعها (بالمعنى) .

مع أنّ الاهتمام في النافلة بمراعاة الاحتياط يوجب ذلك في الفريضة بطريق أولى ، فتأمّل .

-------------------

( مع انّ الاهتمام في النافلة بمراعاة الاحتياط ) بالاتيان بالأكثر من القدر المتيقن ( يوجب ذلك ) أي : الاحتياط بالاتيان بأكثر من القدر المتيقن ( في الفريضة بطريق أولى ) لأنّ النافلة مع عدم وجوبها اذا لزم فيها الاتيان بالأزيد من القدر المتيقن ، لزم الاتيان بالأزيد من القدر المتيقن في الفريضة التي هي واجبة بالاولوية .

( فتأمّل ) لأنّ الأولوية ان تمت انّما تثبت الاستحباب في الفرائض دون الوجوب ، فلا يدل هذا الخبر على ماذكره المشهور : من انّه يأتي بالفريضة حتى يظن بالفراغ .

هذا ، بالاضافة إلى ان الرواية تدل على لزوم الاتيان بقدر ما لا يحصى ، لا بقدر الظن كما يدعيه من يشترط حصول الظنّ بالبرائة فيما اذا كان الشك في الفريضة الفائتة بين الأقل والأكثر ، ولا بقدر العلم كما يدّعيه من يشترط العلم بالبرائة في الفريضة الفائتة ، فالرواية على تقدير فهم الملاك منها وسحبها إلى الفريضة ، أيضا أجنبية عن قول من يشترط الظن أو العلم بالبرائة ، فلا يمكن أن تكون الرواية دليلاً لأحد القولين المذكورين .

ثم انّ الشيخ بعد أن ذكر في باب البرائة مطلبين : الأوّل : في دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب : من الاستحباب والكراهة والاباحة ، ثم قسم هذا المطلب إلى أربعة أقسام : فقدان النص ، أو اجماله ، أو تعارض النصين ، أو الامور الخارجية ، وهي الشبهة الموضوعية ، وبنى في الجميع على البرائة .

الثاني : في دوران الأمر بين الوجوب وغير الحرمة من الأحكام الثلاثة الاخر ،

ص: 144

المطلب الثالث : فيما دار الأمر فيه بين الوجوب والحرمة

اشارة

وفيه مسائل :

الاُولى :

في حكم دوران الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة عدم الدليل على تعيين أحدهما بعد قيام الدليل على أحدهما ، كما إذا اختلفت الاُمّة على قولين بحيث علم عدم الثالث .

-------------------

وقسمه أيضا إلى الأقسام الأربعة المذكورة ، وبنى في الجميع على البرائة أيضا ، ذكر هنا المطلب الثالث وتعرض فيه إلى دوران الأمر بين الوجوب والحرمة وقسمه أيضا إلى الأقسام الأربعة فقال :

المطلب الثالث

فيما دار الأمر فيه بين الوجوب والحرمة

( المطلب الثالث : فيما دار الأمر فيه بين الوجوب والحرمة ، وفيه ) أي : في هذا المطلب أيضا أربع ( مسائل ) : فقدان النص ، أو اجماله ، أو تعارضه ، أو الامور الخارجية .

المسألة ( الأولى : في حكم دوران الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة عدم الدليل على تعيين أحدهما ) بالذات ( بعد قيام الدليل على أحدهما ) على نحو الاجمال ( كما إذا اختلفت الاُمّة على قولين ) بأن ذهب بعض الاُمّة - مثلاً - إلى وجوب صلاة الجمعة وبعضُ الاُمّة إلى حرمتها في زمن الغيبة ( بحيث علم عدم الثالث ) اي : علم بسبب الاجماع المركب ، عدم جواز إحداث قول ثالث .

ص: 145

فلا ينبغي الاشكال في إجراء أصالة عدم كلّ من الوجوب والحرمة بمعنى نفي الآثار

-------------------

اما الدليل على أحد الحكمين للجمعة من الوجوب او الحرمة ، فلانّه قام الاجماع على ان حكم الجمعة ، إمّا الوجوب وإمّا الحرمة .

واما انّه لا يجوز قول سألت ، فلأنّ الحكم الثالث يخالف الاجماع المركب .

وأمّا انّ للجمعة حكما في الواقع من الوجوب أو الحرمة ، فلأنّه لا تخلو الواقعة عن حكم ثابت عند اللّه سبحانه وتعالى حسب قوله سبحانه : « اليَومُ أكمَلتُ لكُمُ دِينكُمُ » (1) وحسب قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « مَامِن شَيءٍ يُقرِّبُكُمُ إلى الجَنَّةِ وَيُبعِدُكُمُ عَن النَّار إلاّ وَقَد أمَرتُكُمُ بهِ ، وَمَا مِن شَيءٍ يُبعِدُكُم عَن الجَنَّةِ وَيُقَرِّبُكُم إلى النَّارِ إلاّ وَقَد نَهيتُكُمُ عَنهُ » (2) ( فلا ينبغي الاشكال في اجراء أصالة عدم كلّ من الوجوب والحرمة ) في المسألة المتردّدة بينهما ، لانه لا يعلم الوجوب فلا وجوب ، ولا يعلم الحرمة فلا حرمة من جهة استصحاب عدم الوجوب ، وعدم الحرمة ، ومن جهة قبح العقاب بلا بيان ، فالبرائة الشرعية والعقلية جارية في مانحن فيه من دوران الأمر بين المحذورين .

ومعنى جريان الأصل في كل واحد منهما ما ذكره بقوله ( بمعنى : نفي الآثار

ص: 146


1- - سورة المائدة : الآية 3 .
2- - مستدرك الوسائل : ج13 ص27 ب10 ح14643 وقريب منه في الكافي اصول : ج2 ص74 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص45 ب12 ح21939 .

المتعلقة بكلّ واحد منهما بالخصوص إذا لم يلزم مخالفة علم تفصيليّ ، بل ولو استلزم ذلك

-------------------

المتعلِّقة بكلّ واحد منهما بالخصوص ) فاذا كان أثر خاص بالوجوب لم يترتب ، وإذا كان أثر خاص بالحرمة لم يترتب ، أما إذا كان الأثر مشتركا بين الوجوب والحرمة فهو يترتب .

إذن : فقوله : « بالخصوص » لاخراج ما إذا كان الأثر مترتبا على كل من الوجوب والحرمة ، كما لو نذر انّه إذا كان عليه حكم إلزامي أعطى دينارا للفقير شكرا في الحكم الوجوبي وزجرا في الحكم التحريمي ، فانّه يعلم بلزوم إعطاء الدينار للفقير ، لأنّ إعطاء الدينار للفقير أثر مشترك بين كل من الوجوب والحرمة .

وإنّما يجري الأصلان أصل عدم الوجوب ، وأصل عدم الحرمة في المتردد بين الوجوب والحرمة ، ( إذا لم يلزم مخالفة علم تفصيلي ) فانّه قد يتولّد من العلم الاجمالي علم تفصيلي بالمخالفة فلم يجر الاصلان ، كما إذا انذر اعطاء هذا الدرهم المعين لزيد إذا فعل واجبا شكرا للّه تعالى على توفيقه لفعل الواجب ، وإعطاء هذا الدينار المعين لعمرو إذا فعل محرّما زجرا لنفسه بسبب اتيانه الحرام ، ثم علم بوجوب أو حرمة الجمعة ، فاذا أجرى فيها اصالة عدم الوجوب وأصالة عدم الحرمة كان معنى جريان الأصلين : عدم لزوم اعطاء الدرهم لزيد والدينار لعمرو ، فاذا اشترى بهما جارية علم تفصيلاً بأن الجارية لم تصبح حلالاً عليه بحيث يجوز له وطيها ، لأنّ بعضها لم يدخل في ملكه ، ومن المعلوم : ان الجارية المبعّضة لا يجوز وطيها قطعا فهو عالم تفصيلاً بحرمتها عليه .

هذا ( بل ) يجوز له اجراء الأصلين أصل عدم الوجوب لنفي آثار الوجوب ، واصل عدم الحرمة لنفي آثار الحرمة ( ولو استلزم ذلك ) أي : مخالفة العلم

ص: 147

على وجه تقدّم في أوّل الكتاب في فروع اعتبار العلم الاجماليّ .

وإنّما الكلام هنا في حكم الواقعة من حيث جريان أصالة البراءة وعدمه ، فانّ في المسألة وجوها ثلاثة : الحكمَ بالاباحة ظاهرا ، نظير ما يحتمل التحريم وغير الوجوب ، والتوقفَ بمعنى عدم الحكم بشيء لا ظاهرا ولا واقعا ،

-------------------

التفصيلي ( على وجه تقدَّم في أوّل الكتاب في فروع اعتبار العلم الاجمالي ) حيث قلنا هناك بجواز اجراء الأصل ولو استلزم مخالفة العلم التفصيلي ، فانّه قد ورد في الشرع موارد يوهم جواز مخالفة العلم التفصيلي المتولّد من العلم الاجمالي ، كما في درهمي الودعي ووجهنا هناك مخالفة العلم التفصيلي الثابت بالأدلة بتوجيهات ممّا لا داعي إلى تكرارها .

وبالجملة : فليس كلامنا هنا في اجراء أصل عدم الوجوب وأصل عدم الحرمة ، بمعنى : استصحابهما ( وانّما الكلام هنا في حكم الواقعة من حيث ) الاصول الأخر ، وانها هل تجري الأصول الأخر في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة أو لا تجري ؟ مثلاً : الكلام هنا في ( جريان أصالة البرائة وعدمه ) أي : عدم جريان أصالة البرائة في مورد دوران الأمر بين المحذورين ( فانّ في المسألة وجوها ثلاثة ) :

الأوّل : ( الحكم بالاباحة ظاهرا ، نظير ما يحتمل التحريم وغير الوجوب ) من الأحكام الثلاثة الأخر ، بأن يكون المقام مثل الشبهة التحريمية ، فانه كما تجري الاباحة الظاهرية في الشبهة التحريمية فكذلك تجري في مورد دوران الأمر بين المحذورين .

( و ) الثاني : ( التوقف بمعنى : عدم الحكم بشيء لا ظاهرا ولا واقعا ) امّا عدم

ص: 148

ومرجعه الى الغاء الشارع لكلا الاحتمالين فلا حرج في الفعل ولا في الترك بحكم العقل والا لزم الترجيح بلا مرجح ووجوب الأخذ باحدهما بعينه او لا بعينه .

-------------------

الحكم ظاهرا ، فلعدم مساعدة الدليل على الاباحة ، وأما عدم الحكم واقعا فلأن الحكم المحتمل في الواقع هو التخيير الواقعي الذي ذهب إليه الشيخ ، ونحن نرى فساد التخيير .

( ومرجعه ) أي : مرجع التوقف ( إلى إلغاء الشارع لكلا الاحتمالين ) : احتمال الوجوب واحتمال الحرمة ( فلا حرج في الفعل ولا في الترك بحكم العقل ) لأنّه إذا لم يثبت من الشارع ترجيح لأحدهما على الآخر ، حكم العقل بأن الشارع لا يريد منه أحدهما بالخصوص ( وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجح ) لانّهما متساويان شرعا في عدم الحكم بالوجوب والحرمة ، فكيف يرجح العقل الوجوب على الحرمة أو الحرمة على الوجوب ؟ وانّما العقل يرى في مثل هذا المقام عدم الحرج في الاتيان بأيهما .

( و ) الثالث : ( وجوب الأخذ بأحدهما بعينه ) وهو الحرمة ، فانّ بعضهم قال بتقديم الحرمة على الوجوب ، لأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ( أو لا بعينه ) أي : تخييرا بين الوجوب والحرمة ، فان شاء اخذ بالوجوب واتى به وإن شاء اخذ بالحرمة واجتنب عنه .

ثم ان التخيير قد يقال به ابتداءا بمعنى : انّه مخير ابتداءا ، فاذا عمل بأحدهما فعلاً أو تركا وجب الاستمرار على ما عمله أولاً ، وقد يقال بالتخيير استمرارا بمعنى : انّ له أن يأتي - مثلاً - في يوم جمعة بصلاة الجمعة ، وأن لا يأتي بها في يوم جمعة أخرى وهكذا .

ص: 149

ومحلّ هذه الوجوه مالو كان كلّ من الوجوب والتحريم توصّليّا بحيث يسقط بمجرّد الموافقة ، إذ لو كانا تعبديّين محتاجين إلى قصد امتثال التكليف

-------------------

هذا ، ولا يخفى : انّ المصنِّف قد أشار طيّ كلماته إلى وجوه ستة على النحو التالي :

الاول : الاباحة الظاهرية .

الثاني : التوقف عن الحكم الظاهري وعدم الحكم بشيء في مقام الظاهر .

الثالث : ترجيح جانب الحرمة .

الرابع : التخيير الابتدائي في الأخذ بأحد الاحتمالين .

الخامس : التخيير الاستمراري في الأخذ بأحد الاحتمالين مطلقا .

السادس : التخيير الاستمراري بشرط البناء عليه من أول الأمر ، فاذا لم يبن من أوّل الأمر على التخيير الاستمراري لزم عليه أن يأتي مستمرا بما بدء به من فعل أو ترك .

( ومحلّ هذه الوجوه ) التي ذكرناها في دوران الأمر بين المحذورين ( ما لو كان كل من الوجوب والتحريم توصليّا ) بحيث لم يحتج إلى قصد القربة ، كما إذا سلّم الصبي على المصلي ، فانّه يحتمل أن يكون رد السّلام عليه واجبا ، ويحتمل أن يكون حراما ، وهو ( بحيث يسقط بمجرد الموافقة ) من دون اعتبار قصد التقرب ، فانّ رد السّلام في المثال لا يحتاج إلى قصد التقرب ، وإنّما هو واجب توصلي يسقط بمجرد موافقته ، فانّ في مثل هذا المقام الدائر بين الوجوب والتحريم تجري الوجوه التي ذكرناها .

وانّما يكون محل الوجوه الستة التوصليين ( إذ لو كانا تعبديّين محتاجين إلى قصد امتثال التكليف ) في كل من الفعل والترك كما إذا فرضنا انّ الجهر بالبسملة

ص: 150

أو كان أحدهما المعيّن كذلك لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الاباحة ، لأنّه مخالفة قطعيّة في العمل .

وكيف كان : فقد يقال في محلّ الكلام

-------------------

في الصلاة الاخفاتية امّا حرام تعبدا ، وامّا واجب تعبدا ؛ ومعنى الواجب التعبدي : انّ الجهر بالبسملة يجب بقصد القربة حتى يكون المكلّف آتيا بتكليفه ؛ ومعنى الحرام التعبدي : انّ الاخفات بالبسملة يجب بقصد القربة ؛ فانّ بعض الأشياء حرام تعبدا ؛ مثل بعض محرمات الاحرام وبعض مفطرات الصيام كما حقق ذلك في كتابيّ : الصوم (1) والحج (2) .

( أو كان أحدهما المعيّن كذلك ) أي : تعبديا محتاجا إلى قصد القربة ، كما اذا دار أمر الجمعة بين الوجوب والحرمة ، فانها إذا كانت واجبة يلزم الاتيان بها بقصد القربة ، بينما إذا كانت حراما لم يلزم قصد القربة في تركها ، فانّه في هاتين الصورتين : صورة تعبدية كلا الطرفين ، أو توصلية طرف وتعبدية طرف آخر ( لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما ) أي : طرح الوجوب والحرمة ( والرجوع إلى الاباحة ) .

وانّما لا يجوز طرحهما ( لأنه مخالفة قطعيّة في العمل ) فانّه في التعبديين إذا لم يقصد القربة في كل من الفعل أو الترك فهو مخالف عملاً مخالفة قطعية ، لانه لم يأت بالتكليف ، وكذلك إذا أتى بالفعل بدون قصد القربة فلما كان الفعل تعبديا والترك توصليا فانه مخالف قطعا ، اذ لم يأت بالتكليف أيضا ، فلم يجر هذا الوجه من الوجوه الستة في التعبديين .

( وكيف كان ) محل جريان الوجوه ( فقد يقال في محل الكلام ) وهو دوران

ص: 151


1- - راجع موسوعة الفقه ، كتاب الصوم : ج 34 - 37 للشارح .
2- - راجع موسوعة الفقه ، كتاب الحج : ج 38 - 46 للشارح .

بالاباحة ظاهرا ، لعموم أدلّة الاباحة الظاهريّة ، مثل قولهم : « كلّ شيء لك حلال » ، وقولهم : « ما حجَبَ اللّهُ علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » ، فانّ كلاً من الوجوب والحرمة قد حجب عن العباد علمه ، وغير ذلك من أدلّته ، حتّى قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي أو أمر » ، على رواية الشيخ ،

-------------------

الأمر بين المحذورين في التوصليين ( بالاباحة ظاهرا ) لأن الاباحة هي الحكم الظاهري للشاك الذي لا يعلم بانّ الشيء الفلاني واجب أو حرام ( لعموم أدلّة الاباحة الظاهريّة ) الواردة في الشرع ممّا تقدّم جملة منها في باب البرائة ( مثل : قولهم ) عليهم السلام : ( « كُلُّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ » (1) ) فانّه يشمل دوران الأمر بين المحذورين أيضا .

( وقولهم ) عليهم السلام ( « ما حَجَبَ اللّهُ عِلمَهُ عَن العِبادِ فَهُوَ مَوضوعٌ عَنْهُمُ » (2) ) وتقريب الاستدلال بهذا الحديث هو ما ذكره بقوله : ( فانّ كلاً من الوجوب والحرمة قد حجب عن العباد علمه ) حسب الفرض ، فيكون كُلّ من الوجوب والحرمة موضوع عن العباد .

( وغير ذلك من أدلّته ) أي : أدلة الاباحة الظاهرية ( حتى قوله عليه السلام : كُلُّ شَيءٍ مُطلَقٌ حَتّى يَرِدَ فِيهِ نَهيٌ أو أمرٌ (3) - على رواية الشيخ - ) فانّ الشيخ روى الرواية على العبارة الثانية ، بخلاف غيره فقد رواها على العبارة الاولى .

ص: 152


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الأحكام : ج7 ص226 ب12 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .
3- - غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 ، غوالي اللئالي: ج3 ص166 ح60 وفيه عن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم .

إذ الظاهر ورود أحدهما تفصيلاً ، فيصدق هنا أنّه لم يرد أمر ولا نهي .

هذا كلّه ، مضافا إلى حكم العقل بقبح المؤاخذة على كلّ من الفعل والترك ، فانّ الجهل بأصل الوجوب

-------------------

لا يقال : المكلّف يعلم هنا بورود أمر أو نهي ، فلا يكون قوله : « كل شيء مطلق » شاملاً له .

لأنّه يقال : ليس المراد : ثبوت الحل إلى ورود أحدهما اجمالاً - كما فيما نحن فيه - إذ هذا الشاك لا يعلم انه ورد فيه الأمر أو النهي ( إذ الظاهر ) المنصرف من الحديث ثبوت الحل إلى ( ورود أحدهما ) معيّنا ( تفصيلاً ) لا اجمالاً ( فيصدق هنا ) فيما لم يعلم انّ الوارد هل هو الأمر أو النهي ؟ ( انّه لم يرد أمر ولا نهي ) على نحو التفصيل ، فيحكم بالحل حسب صدر الحديث الذي قال : « كل شيء مطلق » .

نعم ، على رواية الصدوق : « كُلُّ شَيءٍ مُطلَقٌ حَتّى يَرِدَ فِيهِ نَهيٌ » (1) تكون الرواية خاصة بالشبهة التحريميّة لأن الرواية مقيدة حينئذٍ بقوله عليه السلام : حتى يرد فيه نهي .

( هذا كلّه ) هو تقريب الاستدلال بأدلة البرائة الشرعية ( مضافا إلى حكم العقل بقبح المؤاخذة على كلّ من الفعل والترك ) فيما إذا لم يعلم المكلّف انّ المولى يريد الشيء أو يريد تركه ( فانّ الجهل بأصل الوجوب ) أي : فيما كان الشك في أصل التكليف ، لا ما إذا كان الشك في المكلّف به مع العلم بأصل التكليف ، كما في مورد دوران الأمر بين الظهر والجمعة ، فانّه إذا دار الأمر بين الظهر والجمعة يكون المكلّف متيقنا بالتكليف الالزامي الايجابي وانّما يشك في مصداق المكلّف به هل هو الظهر أو الجمعة ؟ فانّ في دوران الأمر بين الظهر والجمعة

ص: 153


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

علّة تامّة عقلاً بقبح العقاب على الترك من غير مدخليّة لانتفاء احتمال الحرمة فيه ، وكذا الجهل بأصل الحرمة ، وليس العلم بجنس التكليف المردّد بين نوعي الوجوب والحرمة ،

-------------------

يجب الاحتياط باتيانهما .

وكذا فيما إذا علم التحريم وانّما كان الشك في المكلّف به ، كما إذا علم بأن احدى زوجتيه حائض ، فانّه يجب عليه اجتنابهما لأنّه يعلم بالتحريم وانّما يشك في المصداق الخارجي لهذا التحريم .

وكيف كان : فالجهل بأصل الوجوب ( علّة تامّة عقلاً بقبح العقاب على التّرك ) سواء احتمل الحرمة ، كما في مورد دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، أو لم يحتمل الحرمة ، كما إذا شك في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ولم يحتمل معه حرمة الدعاء ، فيكون شكه في ان الدعاء واجب أو مستحب - مثلاً - علةً لقبح العقاب على تركه ( من غير مدخلية لانتفاء احتمال الحرمة فيه ) أي : في القبح المذكور وقوله : «من غير» متعلق بقوله : « علة تامة » ( وكذا الجهل بأصل الحرمة ) فانه علة تامة لقبح العقاب على الفعل من دون مدخلية لاحتمال الوجوب في القبح المزبور .

والحاصل : انّه إذا شك في الوجوب كان مخيرا بين الفعل والترك ، وإذا شك في التحريم كان مخيرا بين الفعل والترك سواء احتمل مع الوجوب الحرمة ومع الحرمة الوجوب أو لم يحتمل .

( و ) ان قلت : العالم بأن هذا الشيء أما واجب أو حرام يعلم جنس التكليف وهو الالزام ، فكيف يجري أصل البرائة من الوجوب ومن التحريم معا ؟ إذ معنى أصل البرائة عنهما : انّه لا الزام .

قلت : ( ليس العلم بجنس التكليف المردد بين نوعي الوجوب والحرمة ) فانّ

ص: 154

كالعلم بنوع التكليف المتعلّق بأمر مردّد ، حتّى يقال : إنّ التكليف في المقام معلوم إجمالاً .

وأمّا دعوى « وجوب الالتزام بحكم اللّه تعالى ، لعموم دليل وجوب الانقياد للشرع » ،

-------------------

الالزام جنس ، والوجوب والحرمة كل واحد منهما نوع لذلك الالزام ، فالوجوب إلزام الفعل ، والحرمة إلزام الترك ، فهو ليس ( كالعلم بنوع التكليف المتعلّق بأمر مردد ) كما إذا علم بوجوب صلاة عليه مرددة بين الظهر والجمعة ، أو علم بحرمة امرأة عليه مرددة بين هند وزينب بل بينهما فرق .

وعلى أي حال : فالشك في المكلّف به وجوبا يجب الاتيان بهما ، والشك في المكلّف به تحريما يجب تركهما ، وليس العلم بجنس التكليف المردد كالعلم بنوع التكليف ( حتى يقال : إنّ التكليف في المقام معلوم اجمالاً ) فكيف يجري البرائة عن كل من الوجوب والتحريم ؟ .

وإن شئت قلت : انّ العلم بجنس التكليف لا يفيد إلزاما على المكلّف لا إلزاما بالفعل ولا إلزاما بالترك ، بينما العلم بنوع التكليف يفيد الالزام على المكلّف ، فيجب عليه الاحتياط باتيانين في الشبهة الوجوبية ، وبتركين في الشبهة التحريمية .

( و ) إن قلت : لا يمكن اجراء الأصلين : « أصل عدم الوجوب » و « أصل عدم الحرمة » في ما تردد التوصلي بين الوجوب والحرمة ، لأنه إذا أجرى الأصلين كان معناه : انه لا يلتزم بحكم اللّه مع انّه يلزم الالتزام بحكم اللّه سبحانه وتعالى .

قلت : ( أمّا دعوى وجوب الالتزام بحكم اللّه تعالى ) فانه يجب الالتزام القلبي بحكمه سبحانه ( لعموم دليل وجوب الانقياد للشرع ) حيث ثبت ذلك

ص: 155

ففيها أنّ المراد بوجوب الالتزام : إن أُريد وجوب موافقة حكم اللّه فهو حاصل فيما نحن فيه ، فانّ في الفعل موافقة للوجوب ، وفي الترك موافقة للحرمة ، إذ المفروض عدم توقّف الموافقة في المقام على قصد الامتثال ؛ وإن أُريد وجوب الانقياد والتديّن

-------------------

من الكتاب والسنة والاجماع والعقل ، قال سبحانه : « فَلا وَرَبِكَ لا يُؤمِنُونَ حَتّى يُحكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لا يَجدُوا فِي أنفُسِهِم حَرجا ممّا قَضيتَ وَيُسلِّمُوا تَسليما » (1) إلى غير ذلك من الأدلة المذكورة في كتب الأحاديث وكتب الكلام .

( ففيها : ) أي : في هذه الدعوى : ( انّ المراد بوجوب الالتزام : ان أُريد وجوب موافقة حكم اللّه ) عملاً بأن يكون عمل الانسان موافقا لما أمر به اللّه سبحانه ( فهو حاصل فيما نحن فيه ، فانّ في الفعل موافقة للوجوب ، وفي الترك موافقة للحرمة ) لأنّ المكلّف إما أن يعمل وإما أن يترك .

وعلى أي حال : فالحكم الظاهري للمتردّد بين الوجوب والحرمة : التخيير ؛ وذلك لما سبق : من ان الانسان الذي يتردد عنده الشيء بين الوجوب والحرمة له ان يأخذ بأيهما شاء ، نصا لرواية التخيير ، وعقلاً لقبح العقاب بلا بيان .

لا يقال : انّه كيف يكون موافقا لحكم اللّه مع انّه لا يأتي بالفعل أو بالترك لاطاعة أمر اللّه .

لأنّه يقال : الموافقة هنا بمعنى الانطباق العملي ( إذ المفروض عدم توقّف الموافقة في المقام على قصد الامتثال ) لأنّه توصلي ، والتوصلي يتحقق بمجرد الفعل بدون قصد القربة .

( وإن أريد وجوب الانقياد والتدين ) قلبا ، بأن يكون الانسان خاضعا راضيا

ص: 156


1- - سورة النساء : الآية 65 .

بحكم اللّه فهو تابع للعلم بالحكم ، فان علم تفصيلاً وجب التديّن به كذلك ، وإن علم إجمالاً وجب التديّن بثبوته في الواقع ، ولا ينافي ذلك التديّن الحكم بإباحته ظاهرا ، إذ الحكم الظاهريّ لا يجوز أن يكون معلوم المخالفة تفصيلاً للحكم الواقعيّ من حيث العمل ، لا من حيث التديّن به .

-------------------

( بحكم اللّه ، فهو تابع للعلم بالحكم ) من حيث الاجمال والتفصيل .

( فان علم تفصيلاً ) بالحكم الوجوبي ، أو التحريمي ، أو الاستحبابي ، أو الكراهي ، أو الاباحي ( وجب التديّن به كذلك ) أي : تفصيلاً ، فانّه لا يجوز للإنسان أن يلتزم قلبا بعدم وجوب الصلاة ، أو بعدم حرمة الخمر ، أو بعدم كراهة النوم بين الطلوعين ، أو بعدم استحباب صلاة النافلة ، أو بعدم اباحة الماء مثلاً .

( وإن علم اجمالاً ) بأن الحكم إما هذا وإما ذاك ، كما اذا علم اجمالاً بانّ الواجب الظهر أو الجمعة ( وجب التّديّن بثبوته في الواقع ) على ما هو عليه في الواقع ، ففي مثل : صلاة الظهر والجمعة لا يلتزم بوجوب الظهر أو بوجوب الجمعة ، وانّما يلتزم بالوجوب المردد بينهما ، وفي المقام الذي هو من الدوران بين المحذورين يلتزم بأن هناك لزوم في أحد الجانبين ، ولا يلزم عليه أكثر من هذا ، بل التزامه بأنّه واجب أو بأنه حرام خلاف الالتزام بحكم اللّه سبحانه .

( و ) إن قلت : كيف يلتزم بأنه لازم واقعا إلتزاما قلبيا مع بنائه على اباحته الظاهرية عملاً ؟ .

قلت : ( لا ينافي ذلك التديّن ) الاجمالي ( الحكم بإباحته ظاهرا ) .

وانّما لم يكن تناف بينهما ( إذ الحكم الظاهريّ لا يجوز أن يكون معلوم المخالفة تفصيلاً للحكم الواقعيّ من حيث العمل لا من حيث التّديّن به ) فانّ العمل المخالف للالتزام فيما لا يمكن العمل على طبق الالتزام ليس بممنوع

ص: 157

...

-------------------

عند العقلاء ، فاذا علم الانسان اجمالاً بأن هذا الشيء إما واجب عليه أو حرام ، ولم يعلم احدهما بالخصوص ، فهو لا يتمكن من العمل على طبق ذلك الحكم الواقعي ، لكنّه يتمكن من الالتزام بأن هنا لازما في الواقع ، اما في ضمن الحرام أو في ضمن الواجب .

هذا ، ولكن لا يخفى : انه قد يستشكل على ذلك بأمرين :

الأوّل : ما ذكرناه سابقا : من انّه لا حكم في الظاهر اطلاقا ، وانّما هو تنجيز واعذار ، وإلاّ لم يمكن الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري ، فانَّ الحكم الظاهري وإن لم يكن يصل إلى مرتبة الحكم الواقعي ، لكن الحكم الواقعي يصل إلى مرتبة الحكم الظاهري فيتناقضان في مرحلة الظاهر .

الثاني : انه ما فائدة حكم لا يمكن العمل على طبقه ولو كان عدم الامكان ذلك من جهة جهل المكلّف ، فانّ المكلّف يسأل من المولى : لماذا أوجبت الوطي عليّ - مثلاً - في المرأة المرددة بين واجب الوطي وواجب الترك والحال ان ايجابك الواقعي لا يمكن أن يكون باعثا لي إلى الوطي ، مع العلم بانّه يجب أن يكون الحكم باعثا للعبد ؟ .

ثم انّه قد تقدّم من المصنِّف اشكالات على اجراء البرائة في دوران الأمر بين الوجوب والتحريم :

الأوّل : انّه كيف تجري البرائة وجنس التكليف معلوم ؟ وقد اجاب عنه بقوله : « وليس العلم بجنس التكليف ... كالعلم بنوع التكليف ...» .

الثاني : ان البرائة مخالفة للزوم الالتزام بحكم اللّه ؟ وقد أجاب عنه بقوله : « واما دعوى وجوب الالتزام ... ففيها ...» .

ص: 158

ومنه يظهر اندفاع ما يقال : « أنّ الالتزام وإن لم يكن واجبا بأحدهما إلاّ أنّ طرحهما والحكم بالاباحة طرح لحكم اللّه الواقعيّ وهو محرّم ، وعليه يبنى عدم جواز إحداث القول الثالث إذا اختلفت الاُمّة على قولين يعلم دخول الإمام عليه السلام في أحدهما » .

-------------------

الثالث : ان التديّن الاجمالي بأن الشيء حرام أو حلال مخالف للحكم بالاباحة ، ولا يخفى : ان هذا غير الاشكال الثاني إذ الاشكال الثاني لبيان السلب أي كيف تجرون البرائة عن الوجوب والحرمة ؟ وهذا الاشكال لبيان الايجاب أي : كيف تحكمون بالاباحة ؟ وقد أجاب عنه بقوله : « ولا ينافي ذلك التدين الحكم باباحته ظاهرا . . . » .

وحيث قد فرغ المصنِّف من الاشكالات الثلاثة شرع في الاشكال الرابع وحاصله : انا نسلم ان الالتزام بالحكم الواقعي ليس بواجب في باب دوران الأمر بين الوجوب والتحريم ، إلاّ ان الحكم بالاباحة بعد طرح الحكمين : الوجوبي والتحريمي ، مع ان أحدهما حكم اللّه في الواقع محرّم .

وإلى الاشكال الرابع هذا اشار المصنِّف بقوله : ( ومنه ) أي : من جواب الاشكال الثالث ( يظهر اندفاع ما يقال ) في وجه الاشكال الرابع : من ( انّ الالتزام وإن لم يكن واجبا بأحدهما ) أي : بالوجوب أو بالتحريم ، فيما إذا دار التكليف بين أحدهما ( إلاّ انّ طرحهما والحكم بالاباحة طرح لحكم اللّه الواقعي ، وهو ) أي : طرح حكم اللّه الواقعي ( محرّم ) شرعا .

( وعليه : ) أي : على تحريم طرح حكم اللّه الواقعي ( يبنى عدم جواز احداث القول الثالث إذا اختلفت الاُمّة على قولين يعلم دخول الإمام عليه السلام في أحدهما ) فانّ عدم جواز احداث القول الثالث كاشف عن تحريم طرح الحكم الواقعي

ص: 159

توضيحُ الاندفاع : إنّ المحرّم ، وهو الطّرح في مقام العمل ، غير متحقّق .

والواجبُ في مقام التديّن الالتزامُ بحكم اللّه على ما هو عليه في الواقع ، وهو أيضا متحقق في الواقع ،

-------------------

المردد بين الحكمين ، ولذلك نرى انّ الاجماع قام على حرمة طرح القولين واحداث القول الثالث ، معللين له : بانّه طرح لحكم اللّه الواقعي ، وهذه العلة شاملة لما نحن فيه أيضا ، لأنه إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة وقلنا بالاباحة ، كان معنى ذلك : انا طرحنا الحكمين وأخذنا بحكم ثالث .

( توضيحُ الاندفاع ) للاشكال الرابع يتم ببيان ثلاثة أمور :

الأوّل : طرح حكم اللّه الواقعي في مقام العمل وهذا غير معقول ، لأنّه أمّا فاعل وامّا تارك ، واحدهما مطابق للواقع ، فلم يكن طرح لحكم اللّه الواقعي عملاً .

الثاني : الالتزام بحكم اللّه الواقعي وهو موجود ، لأنّه ملتزم قلبا بما هو حكم اللّه سبحانه وان كان لا يعرف هل انّه الوجوب أو انّه الحرمة .

الثالث : الالتزام بأحد المحتملين ، مثل ان يلتزم بأنه واجب ، أو يلتزم بأنه حرام ، وهذا لا دليل عليه ، فاين الاشكال الذي ذكرتم بأن الاباحة طرح لحكم اللّه ؟.

والى بيان الأمر الأوّل أشار بقوله : ( ان المحرّم وهو الطّرح في مقام العمل ، غير متحقّق ) إذ الانسان امّا يختار الترك فيوافق الحرمة ، أو يختار الفعل فيوافق الوجوب ، وليس هذا طرحا ، وانّما يتحقق الطرح فيما اذا كان هناك ثلاثة وجوه فيطرح وجهين ويأخذ بالوجه الثالث ، والحال ان في المقام ليس الاّ وجهان متقابلان فقط .

والى بيان الامر الثاني اشار بقوله : ( والواجب في مقام التديّن ) هو ( : الالتزام بحكم اللّه على ما هو عليه في الواقع ، وهو أيضا متحقّق في الواقع ) لانّه يلتزم

ص: 160

فلم يبق إلاّ وجوب تعبّد المكلّف وتديّنه والتزامه بما يحتمل الموافقة للحكم الواقعي ، وهذا ممّا لا دليل على وجوبه أصلاً .

والحاصلُ : أنّ الواجب شرعا هو الالتزام والتديّن بما علم انّه حكم اللّه الواقعيّ ، ووجوب الالتزام بخصوص الوجوب بعينه أو الحرمة بعينها من اللوازم العقليّة للعلم العاديّ التفصيليّ يحصل من ضمّ صغرى معلومة تفصيلاً إلى تلك الكبرى ،

-------------------

بجنس التكليف ، وبأن الشارع الزم عليه شيئا في الواقع .

والى بيان الامر الثالث اشار بقوله : ( فلم يبق ) بعد هذين الاحتمالين المردودين . ( الاّ وجوب تعبّد المكلّف وتديّنه وإلتزامه بما يحتمل الموافقة للحكم الواقعي ) بأن يلتزم مثلاً بالوجوب ، أو يلتزم بالحرمة ( وهذا ممّا لا دليل على وجوبه أصلاً ) بل الدليل على خلافه ، فانّه كيف يلتزم بشيء لا يعلم انّه هو حكم اللّه في حقه ؟ .

( والحاصل : ) من قولنا : وهذا ممّا لا دليل على وجوبه أصلاً ، ان نقول في توضيحه : ( ان الواجب شرعا هو الالتزام والتديّن بما علم انه حكم اللّه الواقعي ، و ) الذي لا يعلم بان هذا الشيء واجب أو حرام ، لا يتمكن ان يلتزم فيه بحكم اللّه الواقعي ، إذ ( وجوب الالتزام بخصوص الوجوب بعينه ، أو الحرمة بعينها ، من اللوازم العقليّة للعلم العادي التّفصيلي ) فإذا علم المكلّف بأن الصلاة واجبة التزام بوجوبها ، واذا علم بأن الخمر حرام التزم بحرمتها وهذا الالتزام ( يحصل من ضم صغرى معلومة تفصيلاً ) فيما إذا علم وجوب الصلاة أو حرمة الخمر ( إلى تلك الكبرى ) الكلية ، وهي : وجوب الالتزام بحكم اللّه .

وعليه : فيتشكل قياس في الوجوب على هذا النحو : وجوب الصلاة حكم

ص: 161

فلا يعقل وجوده مع انتفائه ، وليس حكما شرعيا ثابتا في الواقع حتّى يجب مراعاته ولو مع الجهل التفصيليّ .

-------------------

اللّه ، وحكم اللّه يجب الالتزام به ، فوجوب الصلاة يجب الالتزام به ، ويتشكل قياس في الحرمة على هذا النحو : حرمة الخمر حكم اللّه ، وحكم اللّه يجب الالتزام به ، فحرمة الخمر يجب الالتزام به .

لكن ما نحن فيه : من دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، لا يمكن القول فيه : بأن الوجوب هو حكم اللّه ، ولا القول : بأن الحرمة هو حكم اللّه ، لأنّه لا يعلم أيهما حكم اللّه ؟ فلا تنضم هنا الكبرى الكلية المتقدمة إلى صغرى معلومة ( فلا يعقل وجوده ) أي : وجود الالتزام التفصيلي ( مع انتفائه ) أي : مع انتفاء إمكان ضم الصغرى المعلومة إلى الكبرى الكلية المذكورة .

( وليس ) وجوب الالتزام التفصيلي ( حكما شرعيا ثابتا في الواقع ) يعني : ان وجوب الالتزام بخصوص الوجوب أو بخصوص الحرمة لو لم يكن تابعا للعلم التفصيلي ، بأن كان واجبا واقعيا في عرض سائر الواجبات الواقعية التي يجب مراعاتها حتى مع الجهل التفصيلي أيضا ، كان اللازم في المقام هو وجوب الالتزام بخصوص أحدهما ، والحال انّه ليس كذلك ، فلا يجب الالتزام بخصوص احدهما .

وعليه : فالالتزام بحكم اللّه تابع للعلم التفصيلي بذلك الحكم ، والمفروض انّه لاعلم تفصيلي بالحكم الدائر بين كونه حراما أو واجبا - مثلاً - ؟ ولذا فلا لزوم للالتزام بأحدهما في صورة لا يعلم ان أيهما هو حكم اللّه ، فلا حكم معلوم في المقام ( حتى يجب مراعاته ) أي : مراعاة ذلك الحكم ( ولو مع الجهل التفصيلي ) لأنّه يجهل تفصيلاً انّه واجب ، كما يجهل تفصيلاً انّه حرام .

ص: 162

ومن هنا يبطل قياسُ ما نحن فيه ، بصورة تعارض الخبرين الجامعين لشرائط الحجيّة الدالّ أحدهما على الأمر والآخر على النهي ، كما هو مورد بعض الأخبار الواردة في تعارض الخبرين .

ولا يمكنُ أن يقال : إنّ المستفاد منه بتنقيح المناط وجوب الأخذ بأحد الحكمين

-------------------

وحيث قد عرفت الاشكال الرابع على الاباحة وجواب المصنِّف عنه ، شرع المصنِّف في الاشكال الخامس وهو : انه إذا كان هناك خبران متعارضان كلاهما حجّة لزم الأخذ بأحدهما ، وملاك الأخذ بأحد الخبرين آتٍ في المقام الذي هو دوران الأمر بين المحذورين ، فاذا شك بين الوجوب والحرمة لزم الأخذ بأحدهما ، ومن المعلوم : ان الأخذ بأحدهما ينافي الحكم بالاباحة .

والى الاشكال الخامس هذا وجوابه اشار بقوله : ( ومن هنا ) أي : ممّا تقدّم بيانه : من ان الواجب هو الأخذ بحكم اللّه الواقعي ، لا الأخذ بأحد الحكمين من الوجوب أو التحريم بخصوصه ( يبطل قياس ما نحن فيه ) من دوران الأمر بين المحذورين ( بصورة تعارض الخبرين الجامعين لشرائط الحجيّة الدّال أحدهما على الأمر والآخر على النّهي كما هو ) أي : الأخذ بالتخيير في الخبرين المتعارضين ( مورد بعض الأخبار الواردة في تعارض الخبرين ) حيث انّ الإمام عليه السلام قد خيّر بين الأخذ بهذا أو الأخذ بذاك ، فنقيس ما نحن فيه من دوران الأمر بين المحذورين على تعارض الخبرين .

( و ) ايضا ( لا يمكن أن يقال : إنّ المستفاد منه ) أي : من بعض الأخبار الواردة في تعارض الخبرين ( بتنقيح المناط : وجوب الأخذ بأحد الحكمين ) المتعارضين سواء كان في مورد الخبرين أو في مورد دوران الأمر بين المحذورين

ص: 163

وإن لم يكن على كلّ واحد منهما دليل معتبر معارض بدليل الآخر .

فانّه يمكنُ أن يقال : إنّ الوجه في حكم الشارع هناك بالأخذ بأحدهما هو أنّ الشارع أوجب الأخذ بكلّ من الخبرين المفروض استجماعهما لشرائط الحجيّة ، فاذا لم يمكن الأخذ بهما معا ، فلا بدّ من الأخذ بأحدهما .

-------------------

حتى ( وإن لم يكن على كل واحد منهما ) أي : من الحكمين ( دليل معتبر معارض بدليل الآخر ) وحينئذ فيشمل أخبار التخيير تعارض الخبرين ، كما يشمل تعارض الحكمين في دوران الأمر بين المحذورين أيضا ، لوحدة الملاك بين الصور الثلاث : من فقد النص ، أو اجماله ، أو تعارض النصين .

وإنما يبطل القياس ولا يمكن ان يقال ذلك ، لأنّ المناط ليس واحدا في الموارد الثلاثة حتى يقال : بأنّ مناط الخبرين آتٍ في دوران الأمر بين المحذورين الناشيء من فقد النص أو اجمال النص أيضا ( فانه يمكن أن يقال : إنّ الوجه في حكم الشارع هناك ) في تعارض الخبرين ( بالأخذ بأحدهما ) بالخصوص ( هو : ان الشارع أوجب الأخذ بكل من الخبرين المفروض استجماعهما لشرائط الحجيّة ، فاذا لم يمكن الأخذ بهما معا ) لفرض تعارضهما ( فلا بدّ من الأخذ بأحدهما ) .

وانّما يلزم الأخذ بأحدهما في تعارض الخبرين ، لان كلاً من العقل والنقل دلّ على حجيّة كل خبر جامع للشرائط بخصوصه ، فاذا لم يمكن الأخذ بخصوص هذا أو بخصوص ذاك لتعارضهما ، وجب الأخذ بأحدهما ، فلا يقاس بذلك ما دل على وجوب الأخذ بحكم اللّه تعالى ، فانه انّما يلزم الأخذ بحكم اللّه إذا كان حكمه سبحانه معلوما ، ومن الواضح : انّ في مورد دوران الأمر بين المحذورين لم يكن حكم اللّه واضحا .

ص: 164

وهذا تكليف شرعيّ في المسألة الاصوليّة غير التكليف المعلوم تعلّقه إجمالاً في المسألة الفرعيّة بواحد من الفعل والترك ، بل ولولا النصّ الحاكم هناك بالتخيير أمكن القولُ به من هذه الجهة ، بخلاف ما نحن فيه ، إذ لا تكليف إلاّ بالأخذ بما صدر واقعا في هذه الواقعة ،

-------------------

( وهذا ) أي : التخيير بين الخبرين ( تكليف شرعي في المسألة الاصوليّة ) أي : حجيّة الخبر ، وهو ( غير التكليف المعلوم تعلّقه اجمالاً في المسألة الفرعيّة بواحد من الفعل والتَّرك ) فانّ الحجيّة واللاحجيّة من المسائل الاصولية ، لانّ الاصولي يبحث عن الحجيّة واللاحجيّة ، أما التردد بين الوجوب والتحريم مثل تردد المرأة بين واجب الوطي لانّها طاهرة وقد مضى عليها أربعة أشهر وبين حرام الوطي لأنّها الآن في حالة حيض ، فهي مسألة فرعية ، والتخيير في المسألة الاصولية لا ينسحب إلى المسألة الفرعية التي نحن فيها ، فقياس دوران الأمر بين المحذورين بتعارض الخبرين غير ظاهر الوجه .

( بل ولولا النّص الحاكم هناك ) أي : في باب تعارض الخبرين ( بالتخيير ) شرعا ، حيث دلّ النص على التخيير بين الخبرين المتعارضين ( أمكن القول به ) أي : بالتخيير بين الخبرين عقلاً وذلك ( من هذه الجهة ) أي : من الجهة الاصولية وهي : حجيّة كل من الخبرين المتعارضين ، وحيث لا يمكن الأخذ بهما معا لتعارضهما فلابدّ من الأخذ بأحدهما .

( بخلاف ما نحن فيه ) من دوران الأمر بين المحذورين ، فانّه لا دليل على أن يأخذ الانسان بطرف خاص من الحرام أو الواجب منهما ( إذ لا تكليف إلاّ بالأخذ بما صدر واقعا في هذه الواقعة ) المرددة بين الوجوب والحرمة كوطي الزوجة ، فانّ العقل يرى لزوم الالتزام بأحكام اللّه الواقعية .

ص: 165

والالتزام به حاصل من غير حاجة إلى الأخذ بأحدهما بالخصوص .

ويشيرُ إلى ما ذكرنا من الوجه قوله عليه السلام في بعض تلك الأخبار : « بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك » .

وقوله عليه السلام : « من باب التسليم » إشارة إلى أنّه لمّا وجب

-------------------

هذا ( والالتزام به ) أي : بما صدر واقعا من الحكم ( حاصل ) هنا ، لانّ الزوج بالنسبة الى زوجته المرددة بين واجب الوطي وواجب الترك - مثلاً - يلتزم بما هو حكم اللّه في حقه بالنسبة إليها ، وذلك ( من غير حاجةٍ إلى الأخذ بأحدهما ) أي : بأحد من الوجوب والتحريم ( بالخصوص ) فسواء دلّ الخبر العلاجي أو لم يدل ، نقول بالتخيير في تعارض الخبرين ، أما في دوران الأمر بين المحذورين فلا بدّ من القول بالاباحة عقلاً ل- « قبح العقاب بلا بيان » ، وشرعا لقوله : « كل شيء مطلق » (1) ونحوه من الأخبار السابقة .

( ويشيرُ إلى ما ذكرنا من الوجه ) للتخيير في الخبرين المتعارضين وهو : وثاقة كل خبر في نفسه وكونه مشمولاً لأدلة الحجيّة دون ما نحن فيه ( قوله عليه السلام في بعض تلك الأخبار ) العلاجية : ( « بأيّهما أخذت من باب التّسليم وسعك » (2) ) أي : ان كل واحد منهما حجّة على المكلّف لكن حيث لايمكنه الاخذ بهما ، فله ان ياخذ بهذا من باب التسليم أو بذاك ، فانّ في الأخذ بأي منهما تسليم لهم عليهم السلام .

( و ) اما ( قوله عليه السلام : من باب التسليم ) فهو ( اشارة إلى انّه لمّا وجب

ص: 166


1- - غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص66 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص108 ب9 ح33339 .

على المكلّف التسليمُ بجميع ما يرد عليه بالطرق المعتبرة من أخبار الأئمة عليهم السلام - كما يظهر ذلك من الأخبار الواردة في باب التسليم لما يرد من الأئمة .

منها قوله : « لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا » ، وكان التسليم لكلا الخبرين الواردين بالطرق المعتبرة المتعارضين ممتنعا - وجب التسليمُ لأحدهما مخيّرا في تعيينه .

-------------------

على المكلّف التّسليم بجميع ما يرد عليه بالطرق المعتبرة من أخبار الأئمة عليهم السلام ) وجب عليه التسليم لأحدهما مخيرا لعدم امكانه التسليم لهما معا .

( كما يظهر ذلك ) أي : وجوب التسليم ( من الأخبار الواردة في باب التسليم لما يرد من الأئمة ) عليهم السلام ، والتي ( منها قوله ) عليه السلام : ( لا عُذرَ لأحدٍ مِن مَوَالينا فِي التَشكِيكِ فِيما يَرويهِ ) عَنّا ( ثُقاتُنا ) (1) .

وبالجملة : لما وجب على المكلّف التسليم لجميع ما يرد عنهم عليهم السلام ( وكان التسليم لكلا الخبرين الواردين بالطّرق المعتبرة المتعارضين ممتنعا ) لأنه حيث لم يتمكن من التسليم لما ورد من الخبرين المتعارضين مثل : « ثمن العَذَرَةِ سُحتٌ » (2) و « لا بَأسَ ببَيعِ العَذُرَةِ » (3) معا ( وجب التسليم لأحدهما مخيّرا في تعيينه ) وذلك بعد أن لم يكن هناك مرجح ، فيأخذ بالجواز مطلقا ، أو يأخذ بالتحريم مطلقا .

ص: 167


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج27 ص150 ب11 ح33455 ، بحار الانوار : ح50 ص318 ب4 ح15 ، رجال الكشي : ص536 .
2- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1و ح3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

ثمّ إنّ هذا الوجه ، وإن لم يخل عن مناقشة أو منع ، إلاّ أنّ مجرّد احتماله يصلح فارقا بين المقامين مانعا عن استفادة حكم ما نحن فيه من حكم الشارع بالتخيير في مقام التّعارض ،

-------------------

( ثم إنّ هذا الوجه ) الذي ذكرناه في الفرق بين تعارض الخبرين ، وبين دوران الأمر بين المحذورين ، ولاجله قلنا بأنه لا ينسحب التخيير الذي في الخبرين إلى دوران الأمر بين المحذورين ( وإن لم يخل عن مناقشة أو منع ) لأنّ الاخبار إذا كانت حجّة من باب الطريقية ، فبناء العقلاء ليس على التخيير في الطريقين المتعارضين ، بل طرح الطريقين والتماس طريق جديد .

( إلاّ انّ مجرّد احتماله ) أي : احتمال اعتبار كل من المتعارضين بالخصوص من باب السببية بأن يكون حجيّة الأخبار لذاتها ، لا بما انّها طريق إلى الواقع ، وإنّما من باب التسليم لأمر الشارع سواء كانت مطابقة للواقع أم لا ، كما أشير إليه في قوله عليه السلام : « بأيِّهما أخَذتَ مِن بابِ التَسليمِ وَسِعَكَ » (1) ( يصلح فارقا بين المقامين ) أي : مقام التعارض ومقام الدوران ، حتى لا يسحب ما في مورد التعارض بين الخبرين إلى مورد الدوران بين المحذورين ، وبذلك يكون مجرد هذا الاحتمال ( مانعا عن استفادة حكم ما نحن فيه ) من الدوران بين المحذورين ( من حكم الشارع بالتّخيير في مقام التّعارض ) بين الخبرين .

والحاصل : انّ الذي يرى عدم جواز التمسك بالاباحة في الدوران بين المحذورين ويقول بوجوب الأخذ بأحدهما ، قاس دوران الامر بين المحذورين بالخبرين المتعارضين حيث لا إباحة بين المتعارضين وانّما يلزم الأخذ بأحدهما ، فقال بلزوم الاخذ باحدهما في الدوران بين المحذورين أيضا ، فاجابه المصنِّف :

ص: 168


1- - الكافي اصول : ج1 ص66 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص108 ب9 ح33339 .

فافهم .

وبما ذكرنا يظهر حال قياس ما نحن فيه على حكم المقلّد عند اختلاف المجتهدين في الوجوب والحرمة .

-------------------

بأنه قياس مع الفارق .

( فافهم ) فانّه يمكن القول بتساوي دوران الامر بين المحذورين والخبرين المتعارضين ، إذ المحذوران هما من جهة الكشف عن الواقع وانه هل الواقع حرام أو حلال ؟ والخبران أيضا من جهة الكشف عن الواقع وانه هل هذا الخبر يطابق الواقع أو ذاك الخبر ؟ فما يجري في الخبرين من التخيير والأخذ بأحدهما حسب الروايات العلاجية يجري في المحذورين من التخيير والأخذ بأحدهما أيضا ، لا الحكم بالاباحة الذي ذكره المصنِّف .

ثم انّ المصنّف تعرّض لبيان الاشكال السادس على الاباحة ، وانه يلزم الأخذ بأحد المحذورين فيما إذا دار الأمر بينهما لا بالاباحة ، وذلك بقياس دوران الأمر بين المحذورين على فتوى المجتهدين المختلفين في شيء بين الوجوب والحرمة ، فانه كما يلزم على المقلد الأخذ بفتوى احد المجتهدين لا انّه مباح له أن يفعل أو يترك ، كذلك حال ما إذا دار الأمر بين المحذورين ، فعليه أن يأخذ بأحدهما لا انّه يباح له أن يفعل أو يترك ، فأجاب المصنِّف عنه بالفرق بين مقام التقليد ومقام دوران الأمر بين المحذورين .

والى الاشكال السّادس هذا وجوابه أشار بقوله : ( وبما ذكرنا ) من وجه التخيير في المتعارضين ممّا لا يأتي في الدوران بين الوجوب والحرمة ( يظهر حال قياس ما نحن فيه ) من دوران الأمر بين المحذورين ( على حكم المقلّد عند اختلاف المجتهدين ) المتساويين من جميع الجهات ( في الوجوب والحرمة ) فانهما

ص: 169

و

-------------------

إذا اختلفا لا يحق للمقلِّد الحكم بالاباحة ، وانّما يجب عليه ان يقلد هذا أو يقلد ذاك .

ولا يخفى : ان قياس ما نحن فيه باختلاف المجتهدين في الوجوب والحرمة ، قياس مع الفارق ، وذلك لأنّ وجوب أخذ المقلد بأحد القولين ليس من جهة رعاية الحكم الواقعي حتى يتعدى منه إلى ما نحن فيه من دوران الأمر بين المحذورين ، بل من جهة ان دليل حجيّة الفتوى دل على حجيّة كل من القولين بالخصوص ، وحيث لا يتمكن المقلد أخذ الفتويين معا لاختلافهما ، فلا بدّ من أخذ أحدهما ، أما ما نحن فيه فليس كذلك اذ دليل وجوب الأخذ بحكم اللّه لا يدل إلاّ على وجوب الأخذ بما هو حكم اللّه واقعا ، فاذا علم بالحكم الواقعي أخذ به وإذا لم يعلم بالحكم الواقعي فهو مخيّر ، لقبح العقاب بلا بيان ، وروايات البرائة ، وغيرهما .

لكن ربّما يقال في المجتهدين أيضا بجواز أخذ المقلد بقول هذا تارة وبذاك أخرى ، لأنّ حجيّة قولهما من باب رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة ، فان كان كلاهما أهل خبرة كما هو المفروض جاز له الرجوع إليهما في واقعتين .

( و ) ان قلت : كيف تقولون بالاباحة في دوران الأمر بين المحذورين ، مع ان هذا مخالف لما ذكروه في مسألة اختلاف الاُمّة على قولين ، حيث ذكروا في هذه المسألة : انّه لا يجوز إحداث القول الثالث ؟ وفيما نحن فيه إذا قال بعض الاُمّة : بأن الشيء الفلاني حرام ، وقال البعض الآخر : بانّه حلال ، وقلتم أنتم أيها المصنّف : انّه مباح ، كان من احداث القول الثالث ؟ .

قلت : كلامهم في عدم جواز احداث القول الثالث انّما هو اذا كان في القول

ص: 170

ما ذكروه في مسألة اختلاف الأمَّة لا يعلم شمولُه لما نحن فيه ممّا كان الرجوعُ إلى الثالث غير مخالف من حيث العمل لقول الإمام عليه السلام ، مع أنّ عدم جواز الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل ليس اتفاقيّا .

-------------------

الثالث مخالفة عملية للقولين ، كما لو قال بعض : بوجوب الجمعة ، والبعض الآخر : باستحبابها ، فانّه لا يجوز احداث القول الثالث بحرمتها ، أمّا إذا لم يكن في القول الثالث مخالفة عملية فلا بأس به ، وما نحن فيه من دوران الأمر بين المحذورين من هذا القبيل ، لأنّ القائل بالاباحة في مورد دوران الأمر بين المحذورين لا يخالف أحد القولين من حيث العمل ، لانه على كل حال إمّا أن يأتي بالشيء أو يتركه ، فاذا اتى به كان موافقا للواجب ، وإن لم يأت به كان موافقا للحرام .

وعليه : فان ( ما ذكروه في مسألة اختلاف الامّة ) على قولين : من انّه لا يجوز طرح القولين واحداث القول الثالث وقياس ما نحن فيه عليه ليس في محله لما يلي :

أولاً : انّه ( لا يعلم شموله لما نحن فيه ) من صورة دوران الأمر بين المحذورين ( ممّا كان الرجوعُ إلى الثالث غير مخالف من حيث العمل لقول الإمام عليه السلام ) فان ما ذكروه في مسألة اختلاف الامة خاص بما إذا كان في القول الثالث مخالفة عملية لكلا القولين ، دون ما لم يكن فيه مخالفة لهما .

ثانيا : ( مع انّ عدم جواز الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل ليس اتفاقيّا ) فان بعض الفقهاء قال في مورد اختلاف الاُمّة على قولين بجواز ان يطرح الفقيه كِلا القولين ويرجع إلى الأصل ، وما نحن فيه من مورد دوران الأمر بين المحذورين من هذا القبيل ، لأنّه يطرح كلاً من الوجوب والحرمة ويرجع

ص: 171

على أنّ ظاهر كلام الشيخ القائل بالتخيير ، كما سيجيء ، هو إرادة التخيير الواقعيّ المخالف لقول الإمام عليه السلام ، في المسألة .

ولذا اعترض عليه المحقق ، بأنّه لا ينفع التخيير فرارا

-------------------

إلى أصل الاباحة لقوله عليه السلام : « كُلُّ شَيءٍ مُطلَقٌ » (1) وما أشبه بالاضافة إلى الدليل العقلي على « قبح العقاب بلا بيان » وهو أصل - كما لا يخفى - .

ثالثا : إنّ قولهم بعدم جواز الرجوع إلى القول الثالث في مورد اختلاف الامة على قولين انّما هو لاعتبار ان هذا القول الثالث هو حكم واقعي ، ونحن لا نقول بأنّ الاباحة في مورد دوران الأمر بين المحذورين هو حكم واقعي ، بل نقول انه حكم ظاهري ، ولا دليل على عدم جواز الرجوع إلى الحكم الظاهري في مورد اختلاف الاُمّة على قولين .

وإلى الجواب الثالث هذا اشار المصنِّف بقوله : ( على أنّ ظاهر كلام الشيخ ) الطوسي رحمه اللّه ( القائل بالتّخيير ) في مورد اختلاف الامة على قولين ( كما سيجيء ، هو : إرادة التّخيير الواقعي المخالف لقول الإمام عليه السلام في المسألة ) فالمشهور الذين قالوا بأنّ التخيير لا يجوز في مورد اختلاف الاُمّة على قولين ، أرادوا به : التخيير الواقعي ، فلا يشمل كلامهم ما نحن فيه من دوران الأمر بين المحذورين ، لأنّا نقول في المقام بالتخيير الظاهري .

( ولذا ) أي : لأجل ان الشيخ أراد من كلامه : التخيير الواقعي ( اعترض عليه المحقق ) صاحب الشرائع ( : بأنه لا ينفع التخيير فرارا ) أي : لأجل الفرار

ص: 172


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

عن الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل ، لأن التخيير أيضا طرح لقول الإمام عليه السلام ، وإن انتصر للشيخ بعضٌ بأنّ

-------------------

عن الرجوع إلى الثالث المطابق للأصل ) وانّما لا ينفع ، لأنّ التخيير أيضا طرح لقول الإمام عليه السلام .

توضيح ذلك : قال بعض الفقهاء في مورد اختلاف الاُمّة على قولين : بأنّ للفقيه ان يطرح القولين ويرجع إلى الأصل ، فاعترض عليهم شيخ الطائفة : بأنّ الإمام عليه السلام مع أحد القولين ، فكيف يجوز طرح القولين والرجوع إلى الأصل مع انه مخالف لقول الإمام قطعا ؟ بل لابدّ من اختيار أحدهما ، بمعنى : ان الفقيه الثالث مخيّر بين أن يأخذ بهذا القول أو بذاك القول .

فاعترض عليه المحقق : بانّه كرٌّ على ما فرّ منه ( لأنّ التخيير أيضا طرح لقول الإمام عليه السلام ) فانّ الإمام أمّا يقول بالحرمة أو يقول بالحلية ، فاذا قلنا بأنّ الفقيه الثالث مخيّر بين الحرمة والحليّة كان قولاً ثالثا مخالفا لقول الإمام قطعا .

ومن المعلوم : انّ اعتراض المحقق على الشيخ مبني على ارادة الشيخ : التخيير الواقعي لا التخيير الظاهري ، لأنّ معنى التخيير الواقعي : كون الحكم في الواقع مخيرا فيه ، ومعلوم انّه لما كان الإمام مع أحد القولين لم يكن الحكم في الواقع مخيرا فيه ، بخلاف التخيير الظاهري ، فان معنى التخيير الظاهري : انّ المكلّف حيث كان مرددا بين الحكمين كان له اختيار أيهما شاء في مرحلة الظاهر عند جهله بالحكم الواقعي .

هذا ( وإن انتصر للشيخ بعضٌ ) وهو : سلطان العلماء في حاشية المعالم ، وصاحبا الفصول والقوانين ( : بأن ) مراد الشيخ : التخيير الظاهري لا التخيير الواقعي الذي فهمه المحقق من كلام الشيخ ، فقد قال هؤلاء المنتصرون للشيخ :

ص: 173

التخيير بين الحكمين ظاهرا أحدهما هو المقدار الممكن من الأخذ بقول الشارع في المقام .

لكنّ ظاهر كلام الشيخ قدس سره يأبى عن ذلك قال في العدّة :

« إذا اختلفت الاُمّة على قولين فلا يكون إجماعا ، ولأصحابنا في ذلك مذهبان :

منهم من يقول : إذا تكافى ء الفريقان ولم يكن مع أحدهما دليل يوجب العلم التفصيلي بأنّ المعصوم عليه السلام ، داخل فيه سقطا ووجب التمسّك

-------------------

ان مراده هو : ( التخيير بين الحكمين ظاهرا ، وأخذ أحدهما ) أي : أحد الحكمين ( هو المقدار الممكن من الأخذ بقول الشارع في المقام ) أي : في مقام اختلاف الاُمّة على قولين .

( لكنّ ظاهر كلام الشيخ قدس سره يأبى عن ذلك ) أي : عن ارادة التخيير الظاهري ، فانّ كلامه ظاهر في التخيير الواقعي ، وننقل كلامه ليظهر : ان ما ذكرناه هو الظاهر من كلامه ( قال في العدة : إذا اختلفت الاُمّة على قولين ) بأن قال بعضهم - مثلاً - بوجوب الجمعة ، وبعضهم : باستحبابها ( فلا يكون اجماعا ) بسيطا لأحد من القولين ، لوضوح : انّ الاُمّة لم تتفق على قول واحد ، بل هو من الاجماع المركب الذي ينفي القول الثالث كالقول بحرمة الجمعة - مثلاً - ( ولأصحابنا في ذلك مذهبان ) أي : طريقان في علاج هذا الاختلاف :

( منهم من يقول : اذا تكافى ء الفريقان ) بأن لم يكن لأحد الفريقين ترجيح على الفريق الآخر بالكثرة - مثلاً - ( ولم يكن مع أحدهما دليل يوجبُ العلم التفصيلي بأنّ المعصوم عليه السلام ، داخل فيه ) أي : في هذا الفريق ( سقطا ) المذهبان ( ووجب ) على المجتهد المتأخر المتردد بين هذين القولين ( التمسك

ص: 174

بمقتضى العقل من حظر أو إباحة على اختلاف مذاهبهم .

وهذا القول ليس بقويّ ، ثمّ علّله باطّراح قول الإمام عليه السلام ، قال : ولو جاز ذلك لجاز مع تعيين قول الإمام عليه السلام تركه والعمل بما في العقل .

-------------------

بمقتضى العقل ) أي : ما يقتضيه العقل ( من حظر أو اباحة ) فاذا كان قول بالحظر في مثل شرب التتن ، وقول بالاباحة ، والفقهاء بين من يقدّم الحظر ومن يقدّم الاباحة ، فاللازم أن يرى المجتهد المتأخر ان ايّ القولين يتطابق مع العقل والقاعدة فيقول به .

هذا ، فيما إذا كان القولان حرمة واباحة كما في المثال المتقدِّم ، وأمّا إذا كان القولان الوجوب والاباحة كما في الدعاء عند رؤية الهلال ، فاللازم أن يرى المجتهد المتأخر هل انّ العقل والقاعدة مع الاحتياط أو مع البرائة ؟ وأمّا إذا كان القولان الوجوب والحرمة كما في الزوجة المترددة بين واجب الوطي ومحرّم الوطي ، فاللازم أن يرى المجتهد المتأخر هل العقل والقاعدة على تقديم الحرمة كما يقول به بعض الفقهاء أو التخيير بينه وبين الوجوب ( على اختلاف مذاهبهم ) في هذه الموارد التي ذكرناها ( وهذا القول ليس بقويّ ) عندنا نحن شيخ الطائفة .

( ثمّ علّله باطّراح قول الإمام عليه السلام ) لأنّ اسقاط المجتهد للقولين والأخذ بقول ثالث خلاف قول الإمام ، وذلك ليس بجائز .

( قال : ولو جاز ذلك ) أي : طرح قوله عليه السلام المردد بين القولين ، ( لجاز مع تعيين قول الإمام عليه السلام ) بسبب إحدى الأدلة الأربعة ( تركه والعمل بما في العقل ) فانه أيّ فرق في ترك قول الإمام بين ما إذا علم به تفصيلاً أو علم به إجمالاً ؟ فانّ العقل يرى وجوب اتباع قول الإمام ان كان يعلمه تفصيلاً فتفصيلاً ، وإن كان يعلمه إجمالاً فإجمالاً ، حسب موازين الاحتياط فيأطراف العلم الاجمالي .

ص: 175

ومنهم من يقول : « نحن مخيّرون في العمل بأيّ القولين . وذلك يجري مجرى خبرين إذا تعارضا » ، انتهى .

ثمّ فرّع « على القول الأوّل جواز اتفاقهم بعد الاختلاف على قول واحد ، وعلى القول الثاني عدم جواز ذلك ، معللاً : بأنه يلزم من ذلك

-------------------

( ومنهم من يقول : نحن ) الذين ترددنا بين القولين فيما إذا اختلفت الاُمّة عليهما ( مخيّرون في العمل بأيّ القولين ، وذلك يجري مجرى خبرين إذا تعارضا ) (1) فكما انّه إذا تعارض خبران يتخير الانسان بين هذا الخبر وذاك الخبر ، كذلك إذا اختلفت الاُمّة على قولين ، يتخير الفقيه المتأخر بين أن يعمل بهذا القول أو بذاك القول ، ( انتهى ) كلام الشيخ في بيان المذهبين .

( ثم فرّع على القول الأوّل ) وهو : سقوط القولين والتمسك بمقتضى العقل ( جواز اتفاقهم ) أي : العلماء الذين اختلفوا على قولين ( بعد الاختلاف ) ذلك ان يتفقوا ( على قول واحد ) سواء كان ذلك القول الواحد أحد القولين أو قول ثالث ، وذلك لأنّ العمل بحكم العقل والقاعدة انّما هو حكم ظاهري في مقابل الجهل بصحة أحد القولين ، فاذا ظهر صحة أحد القولين وفساد القول الآخر ، رجع إلى قول واحد وتحقق الاجماع البسيط حينئذٍ بعدما كان الاجماع المركب على نفي القول الثالث حين كان في المسألة قولان .

( و ) فرّع ( على القول الثاني ) وهو : القول بالتخيير في العمل بأيّ من القولين ( عدم جواز ذلك ) أي : عدم جواز اتفاقهم على قول واحد بعد اختلافهم على قولين ( معللاً : بأنّه يلزم من ذلك ) أي : من الاتفاق على قول واحد بعد اختلافهم

ص: 176


1- - عدّة الاصول : ص250 .

بطلان القول الآخر ، وقد قلنا انهم مخيّرون في العمل .

ولو كان إجماعهم على أحدهما ، انتقض ذلك ، انتهى .

وما ذكره من التفريع أقوى شاهد على ارادة التخيير الواقعي ، وإن كان القول به لا يخلو عن الاشكال .

-------------------

على قولين ( بطلان القول الآخر ) الذي تركوه ( وقد قلنا انّهم مخيّرون في العمل ) ومعنى التخيير في العمل : صحة كلا القولين ، فكيف يجوز لهم أن يتفقهوا على ما يستلزم بطلان احد القولين ؟ .

( و ) عليه : فانه ( لو كان ) أي : حصل بعد اختلاف الاُمّة على قولين ( اجماعهم على أحدهما ) أي : احد القولين ( انتقض ذلك ) (1) التخيير الذي ذكرنا : انّه حكم المجتهد الثالث ، وذلك للمحذور المذكور ( انتهى ) ما في العدة .

هذا ( وما ذكره ) الشيخ ( من التّفريع ) على القول الثاني وهو التخيير حيث فرّع عليه : عدم جواز الاجماع على قول بعد الخلاف على قولين ( أقوى شاهد على ارادة التخيير الواقعي ) لأنّه إذا كان التخيير واقعيا لم يجز رفع اليد عنه ، بينما إذا كان التخيير ظاهريا جاز رفع اليد عنه اذا انكشف الواقع ، فالذين وجهوا كلام الشيخ بأن مراده : التخيير الظاهري توجيههم غير تام .

( وإن كان القول به ) أي : بالتخيير الواقعي كما اختاره الشيخ حسب ظاهر كلامه ( لا يخلو عن الاشكال ) لأنّه لا وجه لكون التخيير واقعيا بعد فرضنا موافقة الإمام مع أحد القولين لا على التعيين حيث يستدعي ذلك ان يكون التخيير ظاهريا لا واقعيا .

ولا يخفى : انّ في كلام الشيخ مواضيع للتأمّل ، فانّ مقتضى القاعدة : انّه

ص: 177


1- - عدّة الاصول : ص251 .

وكيف كان : فالظاهرُ بعد التأمّل في كلماتهم في باب الاجماع إرادتهم بطرح قول الإمام عليه السلام ، من حيث العمل ، فتأمّل .

ولكنّ الانصافَ : أنّ أدلّة الاباحة في محتمل الحرمة ينصرف إلى محتمل الحرمة وغير الوجوب

-------------------

لو اختلفت الاُمّة على قولين وكان للمجتهد المتأخر دليل على أحدهما أو على خلافهما اتبع دليله ، وإن لم يكن له دليل تخيّر بين القولين ، فاذا ظهر له دليل رفع اليد عن التخيير إلى ما ظهر لديه من الدليل .

( وكيف كان : فالظاهر بعد التأمّل في كلماتهم في باب الاجماع ، ارادتهم بطرح قول الإمام عليه السلام : من حيث العمل ) الخارجي ، فلا يشمل كلامهم ما نحن فيه من دوران الأمر بين المحذورين حيث قلنا بالاباحة؛ فانّ العمل بالاباحة لا يستلزم طرح قول الإمام عليه السلام عملاً لأنه ان فعل كان موافقا للوجوب ، وإن ترك كان موافقا للحرمة .

( فتأمّل ) فانّ بناء العقلاء في دوران الأمر بين المحذورين هو : العمل بأحدهما لا القول بالاباحة ، فانهم على الخصوص لا يقولون بالاباحة الاستمرارية ، لأنّ ذلك يسبب العلم بمخالفة الحكم الواقعي ، بينما في الأخذ بأحدهما فقط احتمال المخالفة دون العلم بالمخالفة .

ثم انّه حيث أثبت المصنّف إلى هنا : ان الحكم في الدوران بين المحذورين هو الرجوع إلى الاباحة أراد نقض ذلك فقال : ( ولكن الانصافَ : انّ أدلّة الاباحة في محتمل الحرمة ) من العقل والنقل ( ينصرف إلى محتمل الحرمة وغير الوجوب ) فلا تشمل أدلة الاباحة ما كان دائرا بين الحرمة والوجوب ، فان قوله عليه السلام :

ص: 178

وأدلّة نفي التكليف عمّا لم يعلم نوع التكليف لا يُفيد إلاّ عدمَ المؤاخذة على الترك والفعل

-------------------

« كُلُّ شَيءٍ مُطلَقٌ حَتّى يَرِدَ فِيهِ نَهيٌ » (1) وقوله عليه السلام : « كُلُّ شَيءٍ هُوَ لَكَ حَلالٌ حَتّى تَعرِفَ أنَّهُ حَرامٌ بعَينِهِ » (2) وما أشبه ، ظاهرها : دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب مثل : دوران الزوجة بين الطاهرة والحائض ، ودوران شرب التتن بين الحرمة والاباحة ، إلى غير ذلك .

أمّا دوران الأمر بين الحرمة والوجوب : كالمرأة المحتملة وجوب وطيها أو وجوب تركها ، والمنذور هو ترك الشاي أو شربه ، أو ما أشبه ذلك ، فليست هي أمثال هذه الفروع حتى تكون مشمولة لأدلة البرائة والاباحة .

( وأدلّة نفي التكليف عمّا لم يعلم نوع التكليف ) ظاهرة في مجرّد عدم العقاب على الفعل والترك ، وذلك كما قال : ( لايفيد الاّ عدم المؤاخذة على الترك والفعل ) دون اثبات الترك أو الفعل في دوران الأمر بين الترك تحريما والفعل وجوبا الذي نحن فيه .

والحاصل : إنّ في المقام نوعين من الأدلة :

الأوّل : ما دلّ على الاباحة مثل : « كلُّ شيء حلالٌ » (3) ، وهذا خاصٌ بالشبهة الدائرة بين الحرمة وبين غير الوجوب من الأحكام الثلاثة الأخر - على ما عرفت - .

الثاني : ما دلّ على نفي التكليف مثل : قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأدلة

ص: 179


1- - غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح20253 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 وفيهم (تعلم) بدل (تعرف) .
3- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح20253 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 (بالمعنى) .

وعدم تعيين الحرمة أو الوجوب .

وهذا المقدار لا ينافي وجوب الأخذ بأحدهما مخيّرا فيه .

نعم ، هذا الوجوب يحتاج إلى دليل وهو مفقود ، فاللازم هو التوقف وعدم الالتزام إلاّ بالحكم الواقعيّ على ما هو عليه في الواقع .

-------------------

الحُجب (1) ، والرفع (2) ، والسعة (3) ، وهذا يدل على أمرين : عدم المؤاخذة ( وعدم تعيين الحرمة أو الوجوب ) سواء في الشبهة التحريمية ، أو الشبهة الوجوبية ، أو فيما دار بين الوجوب والتحريم ( وهذا المقدار ) من عدم تعيين الوجوب أو الحرمة ( لا ينافي وجوب الأخذ بأحدهما مخيّرا فيه ) فاللازم القول بالأخذ بأحدهما مخيرا في الدوران بين المحذورين ، لا القول بالاباحة الذي اخترناه سابقا .

( نعم ، هذا الوجوب ) أي : وجوب الأخذ بأحدهما مخيرا ( يحتاج إلى دليل ) حتى لا يلزم منه القول بلا دليل ( وهو ) أي : الدليل على وجوب الأخذ بأحدهما مخيرا ( مفقود ، فاللازم ) حين لا دليل على الاباحة ، ولا دليل على التخيير فيما نحن فيه : من مورد دوران الامر بين المحذورين ( هو التوقّف وعدم الالتزام إلاّ بالحكم الواقعي ) إلتزاما قلبيا ( على ما هو عليه في الواقع ) .

هذا في مقام الالتزام ، وأمّا في مقام العمل : فلا حرج في الفعل ولا في الترك ، وذلك لحكم العقل : بأن الشيء ما لم يصل حكمه الى المكلّف لا حرج عليه

ص: 180


1- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .
2- - تحف العقول : ص50 ، التوحيد : ص353 ح24 ، الخصال : ص417 ح27 ، الاختصاص ص31 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .
3- - الكافي فروع : ج6 ص297 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج9 ص99 ب4 ح167 ، وسائل الشيعة : ج3 ص493 ب50 ح4270 ، المحاسن : ص452 ح365 ، غوالي اللئالي : ج1 ص424 ح105 ، مستدرك الوسائل : ج18 ص20 ب12 ح21886 .

ولا دليل على عدم جواز خلوّ الواقعة عن حكم ظاهريّ إذا لم يحتج إليه في العمل ، نظير ما لو دار الأمر بين الوجوب والاستحباب .

-------------------

في فعله وتركه ، فالمكلف في سعة من أن يفعل أو أن يترك ، وكون المكلّف في سعة من أن يفعل أو يترك ليس معناه : الاباحة الشرعية الظاهرية ، ولا معناه : وجوب الأخذ بأحد الحكمين تخييرا ، بل هو أمر ثالث غير الاباحة والتخيير .

( و ) إن قلت : على ما ذكرتم : من أنّه لا حكم ظاهري في المسألة ، لا الاباحة الظاهرية ، ولا التخيير الظاهري ، يلزم خلو الواقعة عن الحكم الظاهري .

قلت : لا بأس بذلك لأنه ( لا دليل على عدم جواز خلوّ الواقعة عن حكم ظاهري إذا لم يحتج إليه ) أي : الى ذلك الحكم الظاهري ( في العمل ) على أنّا نقول بوجود الحكم الواقعي في دوران الامر بين المحذورين وانّما يلزم عدم خلو الواقعة عن الحكم الواقعي وكذلك عدم خلوها عن الحكم الظاهري ، فيما اذا احتاج إليه في العمل .

بل انّا لانحتاج هنا الى الحكم الظاهري بعد حكم العقل بالسعة ، فالشارع أوكل الحكم في مثل هذا المقام من دوران الأمر بين المحذورين إلى العقل ، والعقل يرى السعة في ان يفعل أو أن يترك ، فمورد دوران الأمر بين المحذورين هو ( نظير مالو دار الأمر بين الوجوب والاستحباب ) فانّه لا يلزم على الشارع بيان انّه واجب أو مستحب ، لكفاية ايكاله الأمر إلى العقل الذي يرى مطلق الرجحان ، فلا حاجة إلى الالتزام بالوجوب أو الاستحباب ظاهرا .

وإلى هنا ظهر : انّ في دوران الأمر بين المحذورين مطلبين :

الأوّل : لزوم الالتزام القلبي بالحكم الواقعي .

الثاني : عدم الحكم بالاباحة ، ولا بوجوب الأخذ بأحدهما مخيرا ، وانّما يرى

ص: 181

هذا ، وقد مضى شطر من الكلام في ذلك في المقصد الأوّل من الكتاب عند التكلّم في فروع اعتبار القطع فراجع .

ثمّ على تقدير وجوب الأخذ ، هل يتعيّن الأخذُ بالحرمة أو يتخيّر بينه وبين الأخذ بالوجوب ؟ وجهان بل قولان :

يستدلّ على الأوّل ، بعد قاعدة الاحتياط حيث يدور الأمرُ بين التخيير والتعيين ،

-------------------

العقل لزوم التوقف عن الفتوى وجواز الأخذ بأيهما شاء .

( هذا ) مجمل الكلام في المسألة ( وقد مضى شطر من الكلام في ذلك ) الذي ذكرناه هنا ( في المقصد الأوّل من الكتاب عند التكلّم في فروع اعتبار القطع فراجع ) هناك .

( ثم ) انه اذا لم نقل بالاباحة الظاهرية ، ولم نقل باللاحرج العقلي في اختيار أيهما شاء ، فانّه ( على تقدير وجوب الأخذ ) بالتخيير وجوبا شرعيا ظاهريا ( هل يتعين الأخذ بالحرمة ) فقط كما قال به بعض ، أو يتعين الاخذ بالوجوب فقط وهو مالم يقل به أحد لانه لا وجه له ( أو يتخير بينه وبين الأخذ بالوجوب ؟ ) فيه ( وجهان بل قولان ) : قد ( يستدل على الأوّل ) منهما وهو : تعيين الأخذ بالحرمة بأدلة خمسة ، أشار المصنّف الى الأوّل منها بقوله : « بعد قاعدة الاحتياط » ، وإلى الثاني بقوله : « بظاهر ما دلّ على وجوب التوقف » ، وإلى الثالث بقوله : « وبأن دفع المفسدة أولى » ، وإلى الرابع بقوله : « ولأن افضاء الحرمة إلى مقصودها أتم » وإلى الخامس بقوله : « وبالاستقراء ثم بعد الاستدلال بها ردّها جميعا » .

فالأوّل ما ذكره بقوله : ( بعد قاعدة الاحتياط حيث يدور الأمر بين التخيير والتعيين ) فإنه اذا دار الأمر بين تعيين الأخذ بالحرمة وبين التخيير في الأخذ

ص: 182

بظاهر مادلّ على وجوب التوقّف عند الشبهة ، فانّ الظاهر من التوقّف ترك الدخول في الشبهة ، وبأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ،

-------------------

بالحرمة أو الوجوب ، كان مقتضى الاحتياط اللازم عند الشك في المكلّف به هو الأخذ بالحرمة ، وذلك لأنّ كفاية الحرمة يقينية ، وكفاية التخيير مشكوكة ، فاذا أخذ بالحرمة ، أخذ امّا بالمعيّن وامّا بأحد شقّي المخيّر ، وامّا إذا اخذ بالوجوب ، فلا يعلم انّه أخذ بما هو تكليفه قطعا .

إذن : فهو كالمريض اذا علم بأنّ المرهم الفلاني دواء جرحه قطعا ، واحتمل ان غيره أيضا دوائه ، فان العقل لا يسمح له بالرجوع من الأوّل إلى الثاني ، وكالسائق اذا علم بأن الشمال طريق إلى مقصده قطعا ، واحتمل ان الشرق يوصله إلى مقصده أيضا ، فانّ العقل يرى لزوم سلوك الشمال لا الشرق ، إلى غير ذلك من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير .

والثاني : ما أشار اليه ( بظاهر ما دلّ على وجوب التوقف عند الشبهة ) مثل قوله عليه السلام : « فَانَّ الوُقوفَ عِندَ الشُّبهَةِ خَيرٌ مِنَ الاقتِحامِ في الهَلكَةِ » (1) ( فانّ الظاهر من التوقف : ترك الدّخول في الشبهة ) ومعنى ترك الدخول : عدم العمل ، وعدم العمل يساوق التحريم .

( و ) الثالث : ما ذكره بقوله : ( بأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ) فان ما يدور أمره بين الوجوب والتحريم إذا كان واجبا كان فيه منفعة ، وإذا كان حراما كان فيه مفسدة ، فاذا كان دفع المفسدة أولى كان معناه : العمل على طبق التحريم .

ص: 183


1- - كرواية الزهري والسكوني وعبد الأعلى انظر الكافي اصول : ج1 ص50 ح9 ، المحاسن : ص215 ح102 ، وسائل الشيعة : ج27 ص155 ب12 ح33465 و ج27 ص171 ب12 ح33520 وكذا رواية مسعدة بن زياد انظر تهذيب الاحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ووسائل الشيعة : ج20 ص259 ب157 ح25573 و ج27 ص159 ب12 ح33478 .

لما عن النهاية : من « أنّ الغالب في الحرمة دفع مفسدة ملازمة للفعل وفي الوجوب تحصيل مصلحة لازمة للفعل ، واهتمام الشارع والعقلاء بدفع المفسدة أتمّ ويشهد له ما اُرسل عن أمير المؤمنين عليه السلام ، من : « انّ اجتناب السيّئات أولى من اكتساب الحسنات » ، وقوله عليه السلام : « أفضل من اكتساب

-------------------

وانّما نقول : بأن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ( لما عن النهاية ) للشيخ ( : من ان الغالب في الحرمة دفع مفسدة ملازمة للفعل ) فالخمر حرام ، لأن في شربها مفسدة ، والزنا حرام لأن في ارتكابه مفسدة ، وهكذا ( وفي الوجوب تحصيل مصلحة لازمة للفعل ) فالصلاة واجبة لما في الصلاة من المصلحة ، والزكاة واجبة لما في الزكاة من المصلحة ، وهكذا .

وانّما قال : الغالب ، لأنّ في الحرمة قد تكون المصلحة في نفس الترك لا ان المفسدة في الفعل ، كترك المسكر - مثلاً - فانّ فيه مصلحة صحة البدن ، كما ان في الوجوب قد تكون المفسدة في الترك لا المصلحة في الفعل كترك غسل الجنابة - مثلاً - فانه يوجب سقم البدن .

وعلى أي حال : ففي مورد دوران الأمر بين الوجوب والحرمة يكون الاخذ بالحرمة دفعا لمفسدة فعل الحرام ، أولى من الأخذ بالوجوب جلبا لمصلحة فعل الواجب ، فاذا دار الأمر - مثلاً - : بين وجوب وطي الزوجة وحرمته اجتنب عنه حتى لا يبتلى بمفسدة الوطي ، لا انّه يرتكبه جلبا لمصلحة الوطي ، لأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة عند العقلاء ( و ) ذلك لأنّ ( اهتمام الشارع والعقلاء بدفع المفسدة أتمّ ) عندهم من جلب المصلحة .

( ويشهد له ) أي : لكون دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ( ما ارسل عن أمير المؤمنين عليه السلام : من « ان اجتناب السيّئات أولى من اكتساب

ص: 184

الحسنات اجتناب السيئات » .

ولأنّ إفضاء الحرمة إلى مقصودها أتمّ من إفضاء الوجوب إلى مقصوده ، لأنّ مقصود الحرمة يتأتى بالترك ، سواء كان مع قصد ام غفلة ، بخلاف فعل الواجب » ،

-------------------

الحسنات » (1) ، وقوله عليه السلام : « افضلُ من إكتسابِ الحَسَناتِ اجتِنابُ السَّيئات » (2) ) فاذا علم ان في ذهابه الى بيت زيد لصلة الرّحم الواجب - مثلاً - انه سوف يبتلى بالزنا هناك ، كان ترك الذهاب لاجتناب سيئة الزنا أولى من الذهاب لاكتساب حسنة صلة الرحم .

( و ) الرابع : ما أشار اليه بقوله : ( لأن إفضاء الحرمة إلى مقصودها ) وهو الترك ( أتم من افضاء الوجوب إلى مقصوده ) والفعل ، اذ المقصود من التحريم هو الترك ، والمقصود من الايجاب هو الفعل ، والأوّل سهل الحصول بخلاف الثاني .

وانّما يكون أتم ( لأنّ مقصود الحرمة يتأتّى بالترك ) مطلقا ( سواء كان مع قصد أم غفلة ) في نوم أم في يقظة ( بخلاف فعل الواجب ) (3) فانّه يحتاج إلى الالتفات والقصد ، فترك الزنا - مثلاً - يمكن أن يكون عن علم وعمد وقدرة لانه يخاف اللّه تعالى ، ويمكن أن يكون عن غفلة أو شغل ، أو مانع منه ، كما اذا لم يعلم بأنّ هناك امرأة أو لانه مشغول عنها أو لأن نهرا أو جبلاً حائل بينهما ، أو ما اشبه ذلك ، أما فعل النكاح - مثلاً - فلا يقع إلاّ من عالم عامد قاصد خالٍ عن الموانع .

ولايخفى : انّ صورة القياس تكون هكذا : افضاء الحرمة أتم من افضاء الوجوب ، وكل ما كان أتم كان مقدّما في مورد دوران الأمر بينهما ، لأنّ العقلاء

ص: 185


1- - غرر الحكم : ص81 ح1559 .
2- - غرر الحكم : ص196 ح225 .
3- - النهاية : مخطوط .

انتهى .

وبالاستقراء ، بناءا على أنّ الغالب في موارد اشتباه مصاديق الواجب والحرام تغليب الشارع لجانب الحرمة ، ومثّلَ له بأيّام الاستظهار

-------------------

يرجّحون الأتم على غير الأتم ، والشارع بما انّه سيد العقلاء فلابدّ من انه يرجح الأتم على غيره - فالاخذ بالحرمة مقدّم على الوجوب ( انتهى ) الدليل الرابع على تقديم الاخذ بالحرمة .

( و ) الخامس : ما اشار اليه : ( بالاستقراء بناءا على انّ الغالب في موارد اشتباه مصاديق الواجب والحرام ) في الشبهات الموضوعية والحكمية ( تغليب الشارع لجانب الحرمة ) على الوجوب ( ومثّل له بأيام الاستظهار ) وهو عبارة عن : طلب المرأة ظهور حالها لتعرف هل انّ دمها حيض أم لا ؟ كما إذا كانت ذات عادة وقتية وعددية بأن ترى - مثلاً - في أول كل شهر خمسة أيام ، فاذا استمر الدم أكثر من خمسة ، فانّ بين الخمسة والعشرة تستظهر المرأة حالها بترك محرمات الحائض والاتيان بواجبات المستحاضة .

وعليه : فان تجاوز الدم عن العشرة تبين انّ الزائد عن الخمسة كان استحاضة ، وإذا انقطع على العشرة أو ما دون العشرة تبين انّ الزائد كان حيضا ، والشارع رجّح جانب الحيض فجعل على المرأة في الأيام الزائدة محرمات الحائض ، فاذا كان لها زوج - مثلاً - وأراد وطيها في أيام الاستظهار كان بالنسبة إليها من دوران الأمر بين الواجب والحرام ، لأن الواجب على المرأة القبول لمكان حق الزوج ، كما انه يحرم عليها القبول لاحتمال الحيض ، لكن الشارع أمرها بالامتناع عن القبول مما يكون معناه : ان الشارع رجّح التحريم على الوجوب .

ص: 186

وتحريم استعمال الماء المشتبه بالنجس .

ويضعّف الأخير بمنع الغلبة ، وما ذكر من الأمثلة مع عدم ثبوت الغلبة بها

-------------------

( و ) مثل له أيضا بمثال : ( تحريم استعمال الماء المشتبه بالنجس ) حيث انّ الأمر دائر فيه بين الواجب والحرام ، فانّ تحصيل الطهارة للصلاة واجب ، واستعمال الماء النجس في الطهارة محرم ، بمعنى : انّه لا يجوز له الوضوء بهذا الماء للصلاة ، ولذا قال الشارع في الانائين المشتبه أحدهما بالنجس : « يُهريقَهُما وَيَتَيَمَم » (1) ومعنى ذلك : تغليب جانب الحرمة على جانب الوجوب .

وكذا له أن يمثّل لذلك بأمثلة أخرى : مثل ما إذا لم يعلم الانسان وهو في شهر رمضان بأن الصوم واجب عليه لمكان شهر رمضان ، أو حرام عليه لمكان المرض الذي يخاف منه ؟ فانّ الفقهاء أفتوا بعدم الصوم عليه .

وكذا إذا شك الزوج بأن هذه هي زوجته التي مضى عليها أربعة أشهر حتى يجب عليه وطيها ، أو أجنبية عنه حتى يحرم عليه وطيها ؟ فاللازم عليه عدم وطيها إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة في مجال تغليب جانب الحرام على جانب الوجوب .

ثم بدأ المصنّف بردّ الأدلّة الخمسة بقوله : ( ويضعّف الأخير ) وهو الدليل الخامس ( بمنع الغلبة ) لوضوح : ان الغلبة لا تثبت بمورد وموردين وما أشبه ذلك ( وما ذكر من الأمثلة ) الثلاثة فانه يرد عليها مايلي :

أوّلاً : ( مع عدم ثبوت الغلبة بها ) لأنها في موارد معدودة ، والموارد المعدودة لا تثبت غلبة حتى تكون قاعدة كليّة .

ص: 187


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص229 ب10 ح45 ، الاستبصار : ج1 ص21 ب10 ح3 .

خارجٌ عن محلّ الكلام ، فانّ ترك العبادة في أيام الاستظهار ليس على سبيل الوجوب عند المشهور ، ولو قيل بالوجوب فلعله لمراعاة أصالة بقاء الحيض وحرمة العبادة .

وأمّا ترك غير ذات الوقت العبادة بمجرّد الرّؤية فهو للاطلاقات

-------------------

ثانيا : انه ( خارجٌ عن محلّ الكلام ) الذي هو من الدوران بين المحذورين ( فانّ ترك العبادة في أيّام الاستظهار ليس على سبيل الوجوب عند المشهور ) ولذا يقولون : على المرأة ان تحتاط في أيام استظهارها بالجمع بين تروك الحائض وأفعال المستحاضة ، وذلك لوجه ذكروه في الفقه لا يهمنا التعرّض له ، كما ان تحريم وطيها على الزوج ، لعله لمكان استصحاب الحيض .

هذا ( ولو قيل بالوجوب ) أي : بوجوب ترك العبادة وترك الوطي ( فلعله لمراعاة أصالة بقاء الحيض ) بمعنى : الاستصحاب ، والاستصحاب حجّة كما علم في موقعه ( و ) اصالة ( حرمة العبادة ) عليها بالاستصحاب ايضا ، بل الاصل في العبادة المشكوك تشريعها هو : الحرمة ، إذ العبادة لا تكون إلاّ بقصد القربة وقصد القربة لا يتأتى إلاّ مع العلم بالعبادية ، فاذا قصد القربة بلا علم بالعبادية كان تشريعا ، لأنه قد نسب إلى الشارع ما لم يعلم ان الشارع أمر به .

( و ) ان قلت : انّ الفقهاء قالوا : بأنّ المرأة اذا رأت الدم واحتملت انه حيض - في غير الوقتية - لزم عليها ترتيب أحكام الحيض ، مع انّ الأمر دائر بين وجوب العبادة ان لم يكن الدم حيضا ، وبين حرمة العبادة إذا كان الدم حيضا ، وبذلك فقد قدَّم الشارع الحرام على الواجب .

قلت : ( أما ترك غير ذات الوقت العبادة بمجرد الرّؤية ) للدم ( فهو ) لما يلي :

أولاً : ( للاطلاقات ) الدالة على ان كل دم تراه المرأة حيض إلاّ ما خرج بالدليل.

ص: 188

وقاعدة كلّما أمكن ، وإلاّ فأصالة الطهارة وعدم الحيض هي المرجع .

وأمّا ترك الانائين المشتبهين في الطهارة ، فليس من دوران الأمر بين الواجب والحرام ، لأنّ الظاهر ، كما ثبت في محلّه ، أنّ حرمة الطهارة بالماء النجس تشريعيّة لاذاتيّة ،

-------------------

( و ) ثانيا : لقاعدة الامكان المشهورة بينهم وهي : ( قاعدة : « كلّما أمكن ) أن يكون حيضا فهو حيض » وهذه القاعدة مستفادة من الأخبار .

( وإلاّ ) بأن لم تكن الاطلاقات ، ولم تكن قاعدة الامكان ( فأصالة الطّهارة وعدم الحيض هي المرجع ) هنا .

والحاصل : ان مقتضى الأصل الأولي هنا وهو : استصحاب الطهارة ، واستصحاب عدم الحيض يعيّن الوجوب ، ومقتضى الأصل الثانوي التعبدي بسبب الاطلاقات ، وقاعدة الامكان يعيّن الحرمة ، فلا يكون المثال من الدوران بين المحذورين ، بل هو نظير لما قالوا : من انّ الاصل الأولي في المعاملة البطلان ، والاصل الثانوي هو الصحة فلا يكون الامر في مقامنا هذا من باب تقديم الحرمة على الوجوب .

( وأما ترك الانائين المشتبهين في ) تحصيل ( الطهارة ) للغسل والوضوء ، (ف) الاستدلال به مردود بثلاثة وجوه :

الوجه الأوّل : ان هذا المثال ( ليس من دوران الأمر بين الواجب والحرام ) حتى يكون شاهدا لما نحن فيه ( لأن الظاهر - كما ثبت في محلّه : انّ حرمة الطهارة بالماء النجس تشريعيّة لا ذاتيّة ) أي : ليس حرمتها لأجل أمر الشارع بالعدم كشرب الخمر ، وانّما حرمتها من أجل عدم أمر الشارع بها ، فتكون الطهارة بالمشتبه تشريع ونسبة ما لم يأمر به الشارع اليه .

ص: 189

وإنّما منع من الطهارة مع الاشتباه لأجل النصّ ،

-------------------

إذن : فليس ترك الطهارة هنا لتقديم الحرمة ، بل لما قال : ( وانّما منع من الطّهارة ) بأحد المائين ( مع الاشتباه ، لأجل النصّ ) على عدم الانتفاع بهذا المشتبه فيما يشترط فيه الطهارة من الصلاة والطواف ونحوهما ، فلا يكون مثالاً لما نحن فيه .

والحاصل : ان حرمة الطهارة بالماء المشتبه بالنجس انّما هو من جهة عدم الأمر ، لا من جهة الأمر بالعدم ، فتكون الطهارة بالمشتبه محتمل الوجوب فقط بدون احتمال الحرمة ، فان تطهر بقصد الأمر كانت الطهارة حراما من جهة التشريع ، وأمّا لو تطهر بسبب احتمال الأمر كان احتياطا راجحا كسائر العبادات المحتملة التي يؤتى بها لاحتمال الأمر ، مثل : الصلاة إلى الجهات الأربع ، فانّ الصلاة باتجاه غير القبلة محرّم أمّا إذا جاء بها باحتمال الأمر كان احتياطا حسنا .

وعليه : فالمقام ليس من تقديم الحرمة على الوجوب وانّما المنع من جهة التشريع المرتفع بقصد الاحتياط ، ولذا ذكر بعض الفقهاء هنا : بانّ للمكلّف في صورة اشتباه الماء الطاهر بالنجس أن يتوضأ بأحد المائين ويصلي ، ثم يطهر مواضع الوضوء بالماء الثاني ويتوضأ به ويصلي ثانيا ، فيعلم انّه أتى بصلاة مع الطهارة المائية .

هذا ، لكن الشارع - كما ورد في الحديث - قال : « يُهريقَهُما وَيَتَيَمَم » (1) ولعله للتسهيل ، والاّ فمقتضى القاعدة ماذكره هؤلاء الفقهاء : من الوضوئين والصلاتين بشرط سعة الوقت وإمكان تطهير مواضع الوضوء بالماء الثاني والتوضي به ،

ص: 190


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص229 ب10 ح45 ، الاستبصار : ج1 ص21 ب10 ح3

مع أنّها لو كانت ذاتيّة .

فوجهُ ترك الواجب وهو الوضوء ثبوتُ البدل له وهو التيمّم . كما لو اشتبه إناء الذهب بغيره مع انحصار الماء في المشتبهين .

-------------------

وهكذا يكون الحال إن كان الواجب عليه مثل : غسل الجنابة ، وحيث انّ المسألة فقهية نكلها إلى موضعها .

الوجه الثاني لرد الاستدلال بالانائين ما أشار اليه بقوله : ( مع انها ) أي : ان حرمة الطهارة بالماء النجس ( لو كانت ذاتية ) أي : انّا لو سلّمنا ان حرمة الطهارة بالنجس حرام ذاتي لا حرام تشريعي - كما قلناه في الجواب الأوّل - لكنّا نجيب جوابا ثانيا وهو ما أشار اليه المصنِّف بقوله :

( فوجه ترك الواجب وهو الوضوء ) والغسل بالماء المشتبه بالنجس انّما هو لأجل ( ثبوت البدل له وهو : التيمم ) لأنّ الأمر في المقام دائر بين الوضوء بالمشتبه ممّا يسبب تنجيس البدن ، وبين ترك الوضوء وابقاء طهارة البدن ، وحيث ان للوضوء بدل وهو التيمم ، بخلاف طهارة البدن فانّه لا بدل له وجب تقديم الأوّل ، وهذا ليس من تقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب كما قاله المستدل .

إذن : فالمشتبه بالنجس بين الانائين يكون ( كما لو اشتبه إناء الذهب بغيره مع انحصار الماء في المشتبهين ) فاذا كان له انائان فيهما ماء ، أحدهما من الذهب ، والآخر من غير الذهب ، فانه يحرم استعمال الماء الذي في اناء الذهب ، وحيث لا يدري ان أيهما اناء الذهب يترك المائين ويتيمم بدل الوضوء ، وليس ذلك من باب تقديم الحرام على الواجب ، بل من باب انّ الواجبَ لهُ بدلٌ والحرامُ ليس له بدلٌ ، وكل ما كان له بدل يتنزّل من ذلك الشيء إلى البدل بخلاف ما ليس له بدل

ص: 191

وبالجملة : فالوضوء من جهة ثبوت البدل له لا يزاحم محرّما ، مع أنّ القائل بتغليب جانب الحرمة لا يقول بجواز المخالفة القطعيّة في الواجب لأجل تحصيل الموافقة القطعيّة في الحرام ،

-------------------

فانّه يجب البقاء عند ذلك الشيء الذي لا بدل له .

مثلاً : إذا قال المولى : أطعم مسكينا وإذا لم يكن لك طعام فأعطه دينارا ، وقال أيضا : صل رحمَك ، ثم دار الأمر بين الاطعام وصلة الرّحم ، يبقى صلة الرحم على وجوبه ، لانّه لا بدل له ، ويتنزل من وجوب الاطعام الى وجوب بدله وهو : اعطاء الدينار ، إذ في ذلك جمع بين الأمرين : أصل وبدل ، بينما إذا أطعم لم يتمكن من صلة الرحم ، ولا بدل لصلة الرحم ، فلم يبق إلاّ احد التكليفين .

( وبالجملة : فالوضوء من جهة ثبوت البدل له ، لا يزاحم محرّما ) ولذلك يقدّم الحرمة عليه ، لكن تقديم الحرمة هنا لثبوت البدل للواجب ، وهو لا يدل على تقديم الحرمة فيما لا بدل له ، فالقياس عليه قياس مع الفارق .

الوجه الثالث لرد الاستدلال بالانائين ما اشار اليه بقوله : ( مع أنّ القائل بتغليب

جانب الحرمة لا يقول بجواز المخالفة القطعيّة في الواجب ، لأجل تحصيل الموافقة القطعيّة في الحرام ) فانّ تغليب جانب الحرام انّما هو فيما اذا كان هناك شيء واحد محتمل التحريم وغير التحريم ، فالحرام فيه يقدّم على غيره للموافقة الاحتمالية ما في مثل الانائين ، فهناك شيئان - لا شيء واحد - والشيئان عبارة عن الحرام القطعي : وهو الوضوء بالنجس ، والواجب القطعي وهو الوضوء بالطاهر ، وترك الوضوء في المثال ليس من جهة تغليب الحرام ، لأن تغليب الحرام هنا غير جائز لما يستلزم من المخالفة القطعية للواجب القطعي ، بل تقديم ترك الوضوء هنا من جهة النص الخاص باهراقهما والتيمم .

ص: 192

لأنّ العلماء والعقلاء متفقون على عدم جواز ترك الواجب تحفّظا عن الوقوع في الحرام .

فهذا المثال أجنبيّ عمّا نحن فيه قطعا .

-------------------

وعليه : فلا يمكن أن يقال : ان في دوران الأمر بين المحذورين يقدّم الحرام كما لا يمكن ان يستدل لذلك بالانائين المشتبهين ( لأنّ العلماء والعقلاء متفقون على عدم جواز ترك الواجب تحفّظا عن الوقوع في الحرام ) فانّه إذا دار الامر بين حرام قطعي وواجب قطعي ، وقد اشتبه أحدهما بالآخر ، فاللازم أن يلاحظ الأهم منهما ويقدّم على المهم ، لا ان يقدّم جانب الحرام على الواجب مطلقا وهذا هو رأي علماء المسلمين ، بل هو رأي عقلاء العالم .

مثلاً : إذا دار الأمر بين حرام قطعي كالتصرّف في ملك الغير ، لأجل واجب قطعي كانقاذ الغريق ، قدم الواجب على الحرام لانّ الواجب هنا أهم ، وإذا دار الأمر بين حرام كالزنا ، وواجب كصلة الرحم وذلك فيما إذا علم بانّه إذا ذهب ليصل رحمه وقع هناك في الزنا قطعا ، قدّم الحرام على الواجب وترك صلة رحمه لانّ الحرام هنا اهم ، واذا دار الأمر بين حرام وواجب متساويين ، او لم يعلم الاهم منهما وإن احتمله في أحدهما ، كما لو دار الامر في التصرف في ملك الغير لانقاذ غريق مردد بين انه مسلم أو كافر حربي فانه يتخيّر في تقديم أيهما شاء ، إذن فلا تقديم للحرام على الواجب مطلقا .

وعليه : ( فهذا المثال ) اي : مثال الانائين المشتبهين بالنجس ( أجنبي عمّا نحن فيه قطعا ) فلا يمكن أن نقول في مورد دوران الأمر بين المحذورين بتقديم الحرام لأنّ الشارع قدّم الحرام في الانائين المشتبهين ، وهذا هو ثالث الوجوه الذي ردّ به المصنِّف تمثيلهم بالانائين المشتبهين في دليلهم الأخير .

ص: 193

ويضعّف ما قبله بأنّه يصلحُ وجها لعدم تعيين الوجوب لا لنفي التخيير .

وأمّا أولويّة دفع المفسدة فهي مسلّمة ،

-------------------

( ويضعّف ما قبله ) وهو دليلهم الرابع على تقديم الحرمة حيث قالوا : انّ افضاء الحرمة الى مقصودها اتم من افضاء الوجوب إلى مقصوده ( بأنّه ) على تقدير تمامية الصغرى ( يصلح وجها لعدم تعيين الوجوب ، لا لنفي التخيير ) لوضوح : انّ الأئميّة ليست ملزمة فلا تستطيع أن تنفي التخيير ، فانّ الأتم يوجب الأفضلية ولا يوجب التعيين ، حتى يقدّم الحرمة المحتملة على الوجوب المحتمل .

والحاصل : انّ هذا الدليل يقول : انّ الترك أفضل ، لا انّه يقول : ان الترك متعيّن ، فيبقى الكلام على ما ذكرناه نحن : من التخيير بين الفعل والترك في دوران الأمر بين المحذورين لا على ماذكره المستدل .

( وأمّا ) دليلهم الثالث : وهو ( أولويّة دفع المفسدة فهي مسلّمة ) لكن لا على نحو الكلية ، بل في الجملة ، فاذا علم شخص عادي - مثلاً - بانّه لو سافر صفع في سفره صفعة يعوّض عنها بدينار ، لم يكن دفع المفسدة بالنسبة إلى هذا الانسان أولى من جلب المنفعة ، ولذا نراه يسافر لجلب منفعة الدينار ، لا انّه يترك السفر لدفع مفسدة الصفع ، فاطلاق دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة غير ظاهر الوجه ، بل الكبرى : وهي دفع المفسدة أولى ، غير كلية .

هذا ، بالاضافة إلى الاشكال في الصغرى وهي : كون ما نحن فيه صغرى لكليّ دفع المفسدة أولى ، فانّ ما نحن فيه من دوران الأمر بين الواجب والحرام ليس من الدوران بين جلب المنفعة ودفع المفسدة ، حتى يكون صغرى لذلك الكلي

ص: 194

لكنّ المصلحة الفائتة بترك الواجب أيضا مفسدة وإلاّ لم يصلح للالزام ، إذ مجرّد فوت المنفعة عن الشخص وكون حاله بعد الفوت كحاله فيما قبل الفوت لا يصلح وجها لإلزام شيء على المكلّف ما لم يبلغ حدّا يكون في فواته مفسدة

-------------------

بل من الدوران بين مفسدتين : مفسدة ارتكاب الحرام ، ومفسدة ترك الواجب ، لأنّ في ترك الواجب مفسدة أيضا ، وإليه أشار المصنِّف بقوله : ( لكن المصلحة الفائتة بترك الواجب أيضا مفسدة ) كمفسدة ارتكاب الحرام ، فالأمر دائر بين مفسدتين ، لا مفسدة ومنفعة حتى يكون من صغريات هذه القاعدة .

( وإلاّ ) بأن لم تكن المصلحة الفائتة بترك الواجب مفسدة ايضا ليدور الأمر بين مفسدتين ، بل كان ترك الواجب مجرد فوات النفع كالمصلحة الفائتة بترك المستحب - مثلاً - لورد عليه ما يلي :

أوّلاً : انه ( لم يصلح للالزام ) اذ الالزام انّما يكون إذا كانت هناك مصلحة يُسبّب فوتها مفسدة للمكلّف ، كما اذا فاته - مثلاً - تحصيل المال فبقي جائعا عاريا ، أو بقي بلا سلاح ممّا يوجب هجوم العدو عليه وجرحه وقتله .

وإنّما يلزم ان يكون في الترك مفسدة أيضا ( إذ مجرّد فوت المنفعة عن الشخص ) عند ترك الفعل ( وكون حاله بعد الفوت كحاله فيما قبل الفوت ) لم يزدد مصلحة ولم ينقصه منفعة كما هو الحال في المستحبات والمكروهات ، فانّ التارك للمستحب والفاعل للمكروه لا يزداد شيئا ولا ينقصه شيء أيضا ، فان مجرّد فوت المنفعة ( لا يصلح ) ان يكون ( وجها ) وسببا ( لالزام شيء ) من قبل الشارع ( على المكلّف مالم يبلغ حدّا يكون في فواته مفسدة ) وهذا هو الايراد

ص: 195

وإلاّ لكان أصغرُ المحرّمات أعظمَ من ترك اهمّ الفرائض مع أنّه جعل ترك الصلاة أكبر الكبائر .

-------------------

الأوّل ، وأمّا الايراد الآخر فهو :

ثانيا : انّه يلزم بالاضافة الى ما مرّ من شمول الترك على المفسدة ان تكون هذه المفسدة ملزمة ايضا ( وإلاّ ) بان لم يكن في ترك الفعل مفسدة بل فوت مصلحة فقط ، أو كان في تركه مفسدة لكنّها غير ملزمة ( لكان أصغرُ المحرّمات أعظم من ترك أهمّ الفرائض ) فاذا كان - مثلاً - في ترك الصلاة فوت منفعة فقط بلا أن يكون فيها مفسدة ملزمة ، لزم أن يكون أصغر المحرّمات كحلق اللحية أعظمُ من ترك الصلاة ، لأنّه لم يكن في ترك الصلاة - حسب الفرض - مفسدة ملزمة ، بينما في حلق اللحية مفسدة ملزمة ( مع انه ) الضمير للشأن ( جعل ترك الصلاة أكبر الكبائر ) كما في الحديث الشريف : « الصَّلاةُ عَمودُ الدِّينِ إنْ قُبِلَت قُبِلَ مَا سِواها وَإن رُدَّت رُدَّ مَا سِواهَا » (1) .

لكن لا يخفى : انه ليس المراد من هذا الحديث : انّه حتى ولو دار الأمر بين الصلاة وبين القتل ، أو هتك العرض ، أو سلب الأموال ، تكون الصلاة مقدَّمة عليها فاذا أمره الجائر - مثلاً - بترك الصلاة أو القتل ، أو بترك الصلاة أو الزنا ، أو بترك الصّلاة أو سلب الاموال ، قدّم ترك الصلاة عليها .

لا يقال : ان القتل والزنا وسلب الاموال حرام وترك الصلاة حرام ، والثاني أهم من الأوّل ، فاللازم على المجبور أن لا يترك الثاني لاجل الأوّل .

لانّه يقال : لا منافاة بين أهمية الصلاة الدائمة وبين فقدها أهميتها ، فيما دار الامر بين فرد من الصلاة وبين فرد من الحرام .

ص: 196


1- - الأمالي للصدوق : ص641 .

وبما ذكر يبطل قياس ما نحن فيه على دوران الأمر بين فوت المنفعة الدنيويّة وترتّب المضرّة الدنيويّة ، فانّ فوات النفع من حيث هو نفع لا يوجب ضررا .

وأمّا الاخبار الدالّة على التوقّف ، فظاهرة فيما

-------------------

( وبما ذكر ) : من ان فوت الواجب فيه مفسدة أيضا لا فوات منفعة فقط ( يبطل قياس ما نحن فيه ) من دوران الأمر بينَ المحذورين ( على دوران الأمر بين فوت المنفعة الدنيويّة وترتب المضرّة الدنيويّة ) كما إذا كان في شرب السكنجبين مثلاً احتمالان : الأوّل : احتمال عدم النفع لو ترك شربه ، بأن لا يصل التارك لشربه إلى مصلحة النشاط في بدنه .

الثاني : احتمال الضرر لو شربه بأن يتعرّض بسبب شربه للحمى - مثلاً - .

هذا ، والعقلاء في مثل هذا المثال يتركون الشرب لرفع احتمال الضرر يعني : انهم يقدمون خوف الضرر على خوف فوات المصلحة ، والذي يقيس ما نحن فيه من دوران الأمر بين الواجب والحرام بهذا المثال يقول : انه يلزم تقديم الترك على الفعل كما في المثال ، لكنه كما عرفت انه قياس باطل .

وانّما يكون هذا القياس باطلاً لما قال : ( فانّ فوات النّفع من حيث هو نفع لا يوجب ضررا ) بينما قد عرفت : ان فوات مصلحة الواجب يوجب الضرر أيضا ، فيدور الأمر بين ضررين : ضرر ترك الواجب ، وضرر فعل الحرام ، بينما في المثال لا يدور الأمر بين ضررين وإنّما يدور بين ضرر وترك نفع .

( وأمّا الأخبار الدّالة على التوقّف ) وهو الدليل الثاني لمن قدم الحرام على الواجب فيما دار الأمر بين المحذورين ( ف- ) انها لا تشمل موارد دوران الأمر بين المحذورين ، إذ هي ( ظاهرة فيما ) دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب ،

ص: 197

لا يحتمل الضرر في تركه ، كما لا يخفى .

وظاهر كلام السيّد الشارح للوافية جريان أخبار الاحتياط أيضا في المقام ، وهو بعيد .

وأمّا قاعدة الاحتياط عند الشكّ في التخيير والتعيين

-------------------

مثل شرب التتن هل انّه حرام أو مباح بحيث ( لا يحتمل الضّرر في تركه ، كما لايخفى ) ؟ .

وعليه : فاذا احتمل الضرر في تركه أيضا ، كان في كل من الجانبين احتمال الضرر ، فكيف يعلل الأمر بالتوقف في قوله : « فانّ الوُقوفَ عِندَ الشُبهَةِ خَيرٌ منَ الاقتِحام فِي الهَلَكَةِ » (1) ممّا ظاهره ان في أحد الجانبين فقط هلكة وليس في الجانب الآخر هلكة فتختص هذه الأخبار حينئذٍ بما كان في الاقدام هلكة وليس في الترك هلكة ولا تشمل ما نحن فيه هذا هو ما نراه نحن في أخبار التوقف .

( و ) إن كان ( ظاهر كلام السّيّد الشّارح للوافية : جريان أخبار الاحتياط أيضا في المقام ) أي : في مقام دوران الأمر بين المحذورين ، كما انّها جارية في مقام دوران الأمر بين الحرام والمباح - مثلاً - ( وهو بعيد ) لوضوح : انّه لا يمكن الاحتياط في الدوران بين المحذورين بينما الشارع قال : بالاحتياط في الدوران بين الحرام والمباح - مثلاً - .

( وأمّا ) الدليل الأوّل لمن يقدّم الحرام على الواجب في الدوران بين المحذورين وهو : ( قاعدة الاحتياط عند الشّك في التّخيير والتّعيين ) على

ص: 198


1- - الكافي اصول : ج1 ص50 ح9 ، المحاسن : ص215 ح102 ، وسائل الشيعة : ج27 ص155 ب12 ح3346 و ص171 ب12 ح33520 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ، وسائل الشيعة : ج20 ص259 ب157 ح25573 .

فغيرُ جارٍ في أمثال المقام ، ممّا يكون الحاكم فيه العقل ، فانّ العقل إمّا أن يستقلّ بالتخيير ، وأمّا أن يستقلّ بالتعيين ، فليس في المقام شكّ على كلّ تقدير ، وإنّما الشكّ في الاحكام التوقيفية التي لا يدركها العقل .

-------------------

التقريب الذي تقدّم ( فغيرُ جارٍ في أمثال المقام ممّا يكون الحاكم فيه العقل ) لأنّ هذه القاعدة تجري فيما دار الأمر بين الواجب والحرام من جهة اجمال الدليل الشرعي بأن قال الشارع - مثلاً - : كفّر إذا أفطرت ، فانه يحتمل ان يراد بالكفارة :

الاطعام معينا ، ويحتمل ان يراد بها : الاطعام أو الصيام مخيرا ، فاذا دار الأمر بين تعيين الاطعام أو التخيير بينه وبين الصيام ، يُقدم الاطعام ، لأنّه إذا أطعم فقد علم بأنه كفّر ، بينما اذا صام لم يعلم بأنه حصلت الكفارة أم لا ؟ .

هذا ، لكن دوران الأمر بين التعيين والتخيير لا يكون في الأحكام العقلية ( فان العقل أما أن يستقل بالتّخيير ) فيحكم بأن في فوت المصلحة مفسدة أيضا ، فيكون المكلّف مخيرا بين هذا وذاك ( واما أن يستقل بالتعيين ) فيحكم بأن دفع المفسدة اولى ، فيتعين على المكلّف احدهما ( فليس في المقام شكّ على كلّ تقدير ) لا على تقدير استقلال العقل بالتخيير ، ولا على تقدير استقلال العقل بالتعيين ، وحيث لا يكون العقل شاكا بين التعيين والتخيير ، فلا يكون مجالاً للاحتياط والقول بأن العقل يأخذ بالتعيين في قِبال التخيير .

( وانّما الشّك ) في مورد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ( في الأحكام التوقيفيّة التي ) ذكرها الشارع حيث ( لا يدركها العقل ) كالمثال الذي تقدّم ، فانّ العقل لا يدرك انّ ما يمحي ذنب الافطار في شهر رمضان هل هو الاطعام معينا . أو الاطعام والصيام مخيّرا بينهما ؟ وعلى المفطر أن يأتي بالاطعام لأنّه يمحو الذنب الذي صار عليه بسبب الافطار ، بينما لا يعلم ان الصوم يمحو ذنبه أم لا ؟ .

ص: 199

إلاّ أن يقال : إنّ احتمالَ أن يرد من الشارع حكمٌ توقيفيّ في ترجيح جانب الحرمة ، ولو لاحتمال شمول أخبار التوقف لما نحن فيه ، كافٍ في الاحتياط والأخذ بالحرمة .

ثمّ لو قلنا بالتخيير ، فهل هو في ابتداء الأمر فلا يجوز له العدول عمّا اختار، أو استمر فله العدول مطلقا أو بشرط البناء على الاستمرار؟ وجوهٌ.

-------------------

( إلاّ أن يقال : إنّ ) العقل لا يتردد في أحكامه المستقلة الّتي لا ترتبط بالشرع اطلاقا ، لكنّه يتردد في احكامه غير المستقلة التي ترتبط بالشرع ، كما في دوران الأمر بين المحذورين حيث يتردد العقل بالنسبة اليه في ان الشارع هل يريد التحريم أو يريد الوجوب ؟ ومع ذلك فان العقل يحكم هنا بالامتثال قطعا اذا ترك ، ولا يحكم بالامتثال اذا فعل .

وإنّما يحكم العقل هنا على تعيين الاخذ بالترك لأجل ( احتمال أن يرد من الشارع حكمٌ توقيفي ) أي : حكم تعبدي ( في ترجيح جانب الحرمة ) على جانب الوجوب ( ولو ) كان ذلك الترجيح ( لاحتمال شمول أخبار التوقف لما نحن فيه ) من دوران الأمر بين المحذورين ، فيكون في الترك اطاعة قطعا ، بينما في الفعل لا يحرز ذلك ، وهذا الاحتمال ( كافٍ في الاحتياط والأخذ بالحرمة ) يعني : اذا احتملنا انّ اخبار الاحتياط تشمل دوران الأمر بين المحذورين أيضا كما قاله السيد ، فالعقل يحكم بتقديم الترك على الفعل من باب الاحتياط .

( ثم لو قلنا بالتخيير ) في دوران الأمر بين المحذورين لا يتعيّن الترك مقدما للحرام على الواجب ، كما قاله ذلك المستدلّ المتقدِّم ( فهل هو في ابتداء الأمر فلا يجوز له العدول عمّا اختار ) أوّلاً ( أو استمر ) التخيير ( فله العدول ) إمّا ( مطلقا ، أو بشرط البناء على الاستمرار ؟ وجوهٌ ) ثلاثة : ففي شرب التتن كل يوم

ص: 200

ويستدلّ للأوّل بقاعدة الاحتياط ، واستصحاب الحكم المختار ،

-------------------

- مثلاً - اذا دار أمره بين الحرمة أو الوجوب ، لاحتمال انّه دوائه الذي يموت بدونه ، ثلاثة اقوال :

الأوّل : انّه إذا اختار الترك أوّل يوم ، لزم عليه الترك إلى الأخير ، وإذا اختار الشرب أوّل يوم لزم عليه الشرب كل يوم إلى الأخير .

الثاني : انّه مخير في كل يوم بأن يترك أو يشرب .

الثالث : انّه إذا فعل أو ترك في أول يوم ، فان كان بانيا على الاستمرار في ذلك الترك أو الفعل الذي اختاره أوّلاً ، أو لم يبن على شيء جاز له العدول ، لانه لم يتعمَّد المخالفة القطعية من الأوّل ، ولا مؤاخذة على المخالفة القطعية الحاصلة فيما بعد ، وان كان بانيا على العدول من الأوّل ، لم يجز له العدول ، لانه قد تعمّد المخالفة القطعية من الأوّل وهو غير جائز ، فعليه الاستمرار على ما بدء به أوّلاً من فعل أو ترك .

( ويستدل للأوّل ) : وهو كون التخيير ابتدائيا ، فلا يجوز له العدول باُمور :

أولاً : ( بقاعدة الاحتياط ) في باب الشك في المكلّف به ، وذلك لدوران الأمر بين التعيين والتخيير ، لأنّه يحتمل أن يكون اللازم عليه أن يستمر فيما اختاره أولاً ، ويحتمل أن يكون مخيرا بين الفعل والترك ، فاذا دار الأمر بين التعيين والتخيير كانت قاعدة الاحتياط مع التعيين .

( و ) ثانيا : ( استصحاب الحكم المختار ) فانّه لما اختار أحد الأمرين وشك في المرة الثانية : بانّه هل يجوز له خلاف ما اختاره أوّلاً أم لا ؟ كان مقتضى

ص: 201

واستلزام العدول للمخالفة القطعيّة المانعة عن الرجوع الى الاباحة من أوّل الأمر .

ويضعّف الأخير بأنّ المخالفة القطعيّة في مثل ذلك لا دليل على حرمتها ،

-------------------

القاعدة : استصحاب ما اختاره أولاً فلا يجوز له العدول .

( و ) ثالثا : ( استلزام العدول للمخالفة القطعيّة ) العملية ، لوضوح : انّه إذا شرب مرة وترك مرة علم بأنه قد خالف الواقع ، بينما إذا استمر على حالة واحدة لم يعلم بانّه خالف الواقع ، والعقلاء يرون انّ المخالفة الاحتمالية مقدَّمة على المخالفة القطعية ( المانعة ) تلك المخالفة القطعية ( عن الرّجوع إلى الاباحة من أوّل الأمر ) فانّه لما كان في التخيير مخالفة قطعية لم نقل بالاباحة من أوّل الأمر ، ولولا هذا المحذور وهو المخالفة القطعية لقلنا بالاباحة من أوّل الأمر ، بمعنى : انّه مخير بين هذا وذاك فيما دار الأمر فيه بين المحذورين .

وعليه : فكما ان محذور المخالفة القطعية يمنع من الرجوع الى الاباحة من أوّل الأمر ، كذلك يمنع هذا المحذور عن استمرار التخيير فيما بعد ، اذ نتيجة الاباحة واستمرار التخيير واحدة ، وذلك لانّ استمرار التخيير هو عبارة أخرى عن الاباحة .

( ويضعَّف الأخير ) وهو الذي ذكرناه بقولنا : وثالثا استلزام العدول للمخالفة القطعية ( بأنّ المخالفة القطعيّة ) العملية ( في مثل ذلك ) من الأمور التدريجية ( لا دليل على حرمتها ) لانّ حرمة المخالفة العملية انّما هي في الامور الدفعية ، كما إذا علم بأن أحد الانائين نجس وفي دفعة واحدة شرب أحدهما ، وأراق الثاني .

وأمّا في الامور التدريجية التي للمكلّف مناص عن اطراف الشبهة فيها ، كما إذا

ص: 202

كما لو بدا للمجتهد في رأيه أو عدل المقلّد عن مجتهده بعذر من موت أو جنون أو فسق أو اختيار على القول بجوازه .

-------------------

علم ان زوجته حائض أول شهر أو وسطه فانّه يتجنبها في كلا الوقتين أما ما ليس كذلك ، مثل : ما نحن فيه من الدوران بين الفعل والترك حيث لا مناص من احدهما فلا دليل على الحرمة من عقل أو نقل ، بل ربّما كانت المخالفة القطعية أولى ، لأنّ فيها موافقة قطعية أيضا ، بخلاف المخالفة الاحتمالية ، ولذا ينصّف درهم الودعي المحتمل كونه لزيد أو لعمرو ، مع انّه مخالفة قطعية في نصف الدرهم ، وهذا يقدمه الشرع والعقل على اعطاء الدرهم لأحدهما مع انّ فيه موافقة احتمالية .

إذن : فالمقام هو ( كما لو بدا ) أي : ظهر الخلاف ( للمجتهد في رأيه ) السابق ، فعدل عنه إلى حكم جديد ، كما اذا كان يرى سابقا وجوب الجمعة ثم رأى حرمتها ( أو عدل المقلّد عن مجتهده بعذر : من موت ، أو جنون ، أو فسق ، أو اختيار ) فيما إذا قلنا بأنّ عدول المقلد عن مجتهد إلى مجتهد آخر اختيارا جائز شرعا ، ولهذا قال المصنِّف : ( على القول بجوازه ) اي : جواز العدول اختيارا .

وعليه : فان في هاتين الصورتين يحصل للمجتهد في تبدل رأيه ، وللمقلّد في تبدل مجتهده ، أو تبدل رأي مجتهده مخالفة قطعية ، لأنّ صلاة الجمعة اما واجبة واقعا ، أو محرمة واقعا ، فاذا عمل مدة بالوجوب ومدة بالحرمة ، فقد علم بالنتيجة انّه خالف الواقع قطعا ، لكن مع ذلك افتى الفقهاء بوجوب العمل بالرأي الجديد وان لزم منه المخالفة القطعية ولا يجوّزون له ان يبقى على الرأي الأوّل ، فما يقال في الجواب عن هاتين الصورتين نقوله في الجواب عمّا نحن فيه من دوران الأمر بين المحذورين إذا قلنا فيه بالتخيير الاستمراري .

ص: 203

ويضعّف الاستصحاب بمعارضة استصحاب التخيير الحاكم عليه .

ويضعّف قاعدة الاحتياط بما تقدّم من أنّ حكم العقل بالتخيير عقليٌّ لا احتمال فيه حتّى يجري فيه الاحتياط .

-------------------

( ويضعَّف ) دليلهم الثاني وهو : ( الاستصحاب ) أي : استصحاب الحكم الذي اختاره أوّلاً وعمل به ( بمعارضة استصحاب التخيير الحاكم عليه ) فانّ الاستصحاب الثاني لحكومته على الاستصحاب الأوّل يقدّم على الاستصحاب الأوّل ، كما قرر في كل استصحابين أحدهما حاكم والآخر محكوم ، وذلك لأنّ الشك في وجوب البقاء على الحكم الذي اختاره أولاً وعدم وجوب البقاء عليه مسبب عن الشك في استمرار التخيير وعدمه ، فاذا جرى استصحاب استمرار التخيير ، لم يبق شك في وجوب البقاء على الحكم الذي اختاره أولاً وعدم وجوبه ، لأنّ استصحاب التخيير سببي واستصحاب البقاء على الحكم الأوّل مسببي ، والاستصحاب السببي مقدَّم على الاستصحاب المسببي .

( ويضعّف ) دليلهم الأوّل وهو : ( قاعدة الاحتياط ) حيث ذكرنا : ان مقتضى الاحتياط في دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو التعيين ، فاذا بقي على الحكم الأوّل كان عاملاً بالتعيين ، وإذا رجع إلى حكم ثان كان عاملاً بالتخيير ، وكلّما دار الأمر بين التعيين والتخيير يقدَّم التعيين على التخيير ، فانه يضعّف ( بما تقدّم : من انّ حكم العقل بالتخيير ) انّما هو ( عقليّ ) لا شرعي ، والحكم العقلي ( لا احتمال فيه ) بين التعيين والتخيير ( حتى يجري فيه الاحتياط ) فانّ دوران الأمر بين التعيين والتخيير انّما يكون في الأحكام الشرعية التوقيفية لا في الأحكام

ص: 204

ومن ذلك يظهر عدم جريان استصحاب التخيير ، إذ لا إهمال في حكم العقل حتّى يشكّ في بقائه في الزمان الثاني .

فالأقوى هو التخيير الاستمراريّ ، لا للاستصحاب ، بل لحكم العقل في الزمان الثاني كما حكم به في الزّمان الأوّل .

-------------------

العقلية ، لأنّ العقل لا يتردد بين التعيين والتخيير ، وانّما يحكم جزما بالتعيين أو بالتخيير . ( و ) بعد الذي ذكرناه : من انّ العقل يرى التخيير في أمثال المقام ، لا حاجة إلى أن يقال باجراء استصحاب التخيير ، لأنّه انّما يجري استصحاب التخيير فيما إذا شك في التخيير وعدمه في الآن الثاني ، ونحن لا نشك في التخيير بعد أن العقل قاطعٌ بالتخيير في أمثال المقام .

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله : ( من ذلك ) أي : من عدم الترديد في حكم العقل حتى يحتاج الرجوع فيه إلى الاستصحاب أو نحوه ( يظهر عدم جريان استصحاب التخيير ) لاثبات استمرار التخيير في الآن الثاني والثالث وهكذا ( إذ لا إهمال في حكم العقل حتى يشك في بقائه في الزّمان الثاني ) والثالث ونحوه فنحتاج إلى استصحاب التخيير .

نعم ، لو قلنا بأنّ التخيير مستفاد من الأخبار وشككنا في الآن الثاني في انّ الاخبار هل تفيد التخيير ام لا ؟ نستصحب التخيير .

إذن : ( فالأقوى ) في صورة دوران الأمر بين المحذورين وتعدد الواقعة في الأزمنة المختلفة ( هو التخيير ) العقلي ( الاستمراري ) وقلنا انّه استمراري ( لا للاستصحاب ) أي : استصحاب التخيير على ما عرفت من انّه ليس هنا مجال الاستصحاب ( بل لحكم العقل في الزّمان الثاني ) والثالث والرابع وهكذا ( كما حكم به في الزّمان الأوّل ) لأنّه لا دليل على انّه إذا أخذ بأحد الحكمين

ص: 205

المسألة الثانية

إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة إجمال الدليل ، أمّا حكما ، كالأمر المردّد بين الايجاب والتهديد ،

-------------------

في الآن الأوّل أن يكون ملزما بالأخذ به في الآن الثاني والثالث وهكذا .

هذا تمام الكلام فيمن قال بالتعيين وفيمن قال بالتخيير مطلقا ، أما من قال بالتفصيل الذي أشار إليه المصنِّف سابقا بقوله : أو بشرط البناء على الاستمرار ، فقد استدل له - كما عرفت - بدليل ضعيف ، ولذا لم يتعرّض له ولجوابه المصنِّف ، اذ في دليلهم ذلك ما لا يخفى ، فانّ المخالفة التدريجية مع الالتزام في كل واقعة بأحد الحكمين الذي هو الحكم الواقعي عند اللّه لا دليل على حرمتها ، تعمّد بها من الأوّل أو لم يتعمدها ، بل قد عرفت : انّ المخالفة القطعية عند العقلاء أولى من المخالفة الاحتمالية كما في مسألة « درهمي الودعي » وغيرها ممّا ذكر في الفقه .

( المسألة الثانية ) من مسائل دوران الأمر بين المحذورين ، فقد كانت المسألة الأولى في دوران الأمر بين المحذورين من جهة فقد النص ، وهذه المسألة فيما ( إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة إجمال الدليل ) بأن كان الحكم مجملاً ، أو الموضوع مجملاً ، بحيث يسري إلى الحكم ؛ لوضوح : انّه إذا كان الموضوع مجملاً سرى إجماله إلى الحكم ، ولذا قال المصنِّف :

( أمّا حكما : كالأمر المردّد بين الايجاب والتهديد ) كما في قوله سبحانه : « إعمَلُوا مَاشِئتُمُ » (1) فهل هو أمرٌ بالسعة وانّ لكل انسان أن يعمل ما يشاء ، أو تهديد بانّه لا يجوز له أن يعمل ما يشاء وانّما عليه ان يتقيّد بحدود الشرع ؟ .

ص: 206


1- - سورة فصلت : الآية 40 .

أو موضوعا ، كما لو أمربالتحرّز عن أمر مردّد بين فعل الشيء وتركه ، فالحكم فيه كما في المسألة السابقة .

المسألة الثالثة

لو دار الأمر بين الوجوب والتحريم من جهة تعارض الأدلّة ، فالحكم هنا التخيير ،

-------------------

( أو موضوعا كما لو أمر بالتحرّز عن أمر مردّد بين فعل الشيء وتركه ) بأن قال - مثلاً - : تحرَّز من رغبة النكاح ، فانّ الرغبة اذا عدّيت بكلمة « في » كان معناها ان ينكح ويفيد الوجوب ، وإذا عدّيت بكلمة « عن » كان معناها أن لا ينكح ويفيد التحريم ، وكما إذا قال : « لا تُطلِّق في القُرء » ، ولم يعلم هل المراد : الحيض أو الطهر ، لأنّ اللفظ مشترك بينهما ؟ ( فالحكم فيه كما في المسألة السابقة ) أي : مسألة دوران الأمر بين المحذورين من الوجوب والحرمة لفقد النص ، حيث ذكرنا هناك : انّ الحكم هو : التخيير ابتداءا واستمرارا ، وهنا أيضا كذلك ، لأنّ الأدلة التي ذكرناها هناك تجري هنا أيضا .

( المسألة الثالثة ) من مسائل دوران الأمر بين المحذورين : ( لو دار الأمر بين الوجوب والتحريم من جهة تعارض الأدلّة ) كما إذا وردت رواية تقول : « ثَمَنُ العَذَرَةِ سُحتٌ » (1) ورواية تقول : « لا بَأسَ بِبَيعِ العَذَرَةِ » (2) ( فالحكم هنا التخيير ) إذا لم يكن هناك مرجح لأحد الطرفين .

ص: 207


1- - وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 ، تهديب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و ح3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

لاطلاق أدلته وخصوص بعض منها الوارد في خبرين ، أحدهما أمر ، والآخر نهي ، خلافاً للعلاّمة رحمه اللّه ،

-------------------

وإنّما يكون الحكم هو التخيير هنا ( لاطلاق أدلته ) أي : أدلة التخيير ، مثل قوله عليه السلام : « إذَن فَتَخَيَّر » (1) فانّ هذا الدليل يشمل صورة تعارض الخبرين ممّا يدل أحدهما على الوجوب والآخر على الاستحباب ، أو يدل أحدهما على التحريم والآخر على الكراهة ، أو يدل أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة .

( وخصوص بعض منها ) أي : من تلك الأدلة العلاجية ( الوارد ) ذلك البعض (في خبرين أحدهما أمر والآخر نهي) أي : ورد فيما نحن فيه من دوران الأمر بين المحذورين ، كما في خبر سماعة بن مهران حيث قال: « قُلت لابي عبد اللّه عليه السلام : يرد علينا حديثان : واحد يأمرنا بالأخذ به ، والآخر ينهانا عنه ...» (2) فانّ هذا صريح وظاهر في كون احد المحتملين هو الوجوب ، والمحتمل الآخر هو الحرمة.

وعليه : فيدل هذا البعض على ما نحن فيه بالظهور ، لا بالاطلاق الذي ذكرناه في بعض آخر من الاخبار العلاجية كما في خبر زُرارَة ، فانّ من الاخبار العلاجية المطلقة ، ما رواه زُرارَة عَن أبي جَعفر عليه السلام : حيث قال : « فقلتُ لَهُ جُعِلتُ فِداكَ يَأتِي عَنكُم الخَبرانِ وَالحَديثان المُتَعارِضانِ فَبأيِّهما آخذ ؟ الى ان يقول في آخره : فكيفَ أصنعُ ؟ فَقالَ عليه السلام : إذَن فَتَخَيَّر أحَدَهُمَا ...» (3) .

وعليه : فانّا نقول : بأنّ الحكم هنا هو التخيير وذلك ( خلافا للعلاّمة رحمه اللّه

ص: 208


1- - بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص122 ب9 ح33375 .
3- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 .

في النهاية وشارح المختصر والآمديّ ، مرجحاً لما ذكرنا سابقاً ولما هو أضعف منه .

وفي كون التخيير هنا بدوياً أو إستمرارّياً ، مطلقاً أو

-------------------

في النهاية ، وشارح المختصر ، والآمدِيّ ، مرجّحا ) كل واحد من هؤلاء ( مادل على النهي ) على غيره ، فلم يقولوا بالتخيير - كما قلنا به - وانّما قالوا بالتعيين لجانب الترك ، ولا يخفى : انّه بلاغيا يجوز ارجاع المفرد إلى الجمع وذلك باعتبار كل واحد ، مثل قوله سبحانه : « والملائكةُ بَعدَ ذلك ظَهيرٌ » (1) .

وانّما رجح هؤلاء جانب الترك ( لما ذكرنا سابقا ) من الوجوه الخمسة التي استدل بها جمع لترجيح جانب النهي على جانب الأمر ( ولما هو أضعف منه ) أي : ممّا ذكرناه من الوجوه المتقدِّمة وذلك باقامة دليل سادس على ترجيح النهي على الأمر ، وهو : انّ دلالة النهي أقوى من دلالة الأمر ، لأنّ النهي دال على انتفاء جميع الأفراد ، بينما الأمر يقتضي إيجاد فرد واحد ، فيكون النهي في مدلوله أقوى من الأمر في مدلوله فيقدّم .

لكنّك قد عرفت سابقا : ضعف الوجوه الخمسة ، وأمّا الوجه السادس هذا ، فهو أضعف من تلك الوجوه ، وذلك لأنّ كلاً من الأمر والنهي يمكن أن يكون متعلقه فردا ، ويمكن أن يكون متعلقة أفرادا ، وانّما يعرف خلاف ذلك بالقرائن فلا يكون هذا وجه اقوائية النهي .

( و ) لكن بناءا على ما اخترناه من التخيير هنا في باب دوران الأمر بين المحذورين لتعارض النصين - كما اخترناه في فقد النص واجماله - فالكلام ( في كون التخيير هنا ) هل يكون كما كان هناك ( بدويا ، أو استمراريّا مطلقا ، أو )

ص: 209


1- - سورة التحريم : الآية 4 .

مع البناء من أوّل الأمر على الاستمرار ، وجوه تقدّمت ، إلاّ أنه قد يتمسّك هنا للاستمرار بإطلاق الأخبار .

ويشكل بأنها مسوقه لبيان حكم المتحيّر في اوّل الأمر ، فلا تعرّضَ لها لحكمه بعد الأخذ بأحدهما .

نعم ، يمكن هنا استصحاب التخيير ، حيث أنه

-------------------

استمراريا ( مع البناء من أول الأمر على الاستمرار ، وجوهٌ ) ثلاثة قد ( تقدَّمت ) ومقتضى القاعدة فيها : استمرارية التخيير .

( الاّ انّه قد يتمسّك هنا ) في باب دوران الأمر بين المحذورين من جهة تعارض النصين ( للاستمرار ) أي : استمرار التخيير ( باطلاق الأخبار ) العلاجية ، بينما في السابق استدللنا على استمرار التخيير بحكم العقل .

( ويشكل ) هذا التمسك للاستمرار ( بأنّها ) أي : الاخبار العلاجية مجملة من هذه الجهة فليست مطلقة حتى تشمل الابتداء والاستمرار ، وحيث كانت مجملة فانّ القدر المتيقن منها هو : التخيير الابتدائي لا الاستمراري ، لأنها ( مسوقة لبيان حكم المتحيّر في أول الأمر ) فاذا أخذ المتحير بأحد الطرفين زال تحيره ، فلا يبقى موضوع للأخبار العلاجية في الآن الثاني حتى يتمسك بها .

وعليه : ( فلا تعرّض لها ) أي : لهذه الأخبار العلاجية ( لحكمه ) أي : لحكم المتحير من جهة تعارض النصين ( بعد الأخذ بأحدهما ) أي : بعد ان اختار احد الطرفين من الوجوب أو الحرمة .

( نعم ، يمكن هنا ) في باب الدوران بين المحذورين لتعارض الادلة ( استصحاب التخيير ) فقد كان في أوّل الأمر مخيرا بين الأمر والنهي ، فاذا شك في الآن الثاني هل انّه باقٍ على تخييره ام لا ؟ يستصحب التخيير ( حيث انّه ) أي :

ص: 210

ثبت بحكم الشرع القابل للاستمرار ، إلاّ أن يدّعى انّ موضوع المستصحب أو المتيقّن من موضوعه هو : المتحيّر ، وبعد الأخذ بأحدهما لا تحيّر ، فتأمل .

-------------------

التخيير قد ( ثبت بحكم الشرع القابل ) ذلك التخيير ( للاستمرار ) في الآنات الأُخر .

( إلاّ أن يدّعى انّ موضوع المستصحب ) اي التخيير ، اذ الاستصحاب يحتاج إلى موضوع وهو الشاك فيقال : الشاك في بقاء التخيير ، يستصحب التخيير ، فالشاك هو موضوع الاستصحاب ( أو ) يدّعى انّ ( المتيقّن من موضوعه ) اي : موضوع المستصحب هنا ( هو : المتحيّر ، وبعد الأخذ بأحدهما ) أي : أحد الطرفين من الوجوب أو التحريم ( لا تحيّر ) فينتفي الاستصحاب لانتفاء موضوعه ، اذ من الواضح ان بقاء الموضوع شرطٌ لجريان الاستصحاب ، وموضوع التخيير في الأخبار : اما هو الشاك ، أو المتحيّر ، والمتيقن منه هنا هو المتحير ، وبعد اختيار أحد الحكمين من الوجوب أو التحريم ينتفي التحير ، فاذا انتفى التحيّر فلا موضوع للاستصحاب فلا يمكن الاستصحاب .

( فتأمّل ) فانّه لا معنى لعدم جريان الاستصحاب في المقام ، إذ التحير ليس الاّ عدم العلم بالحكم فهو عبارة اخرى عن الشك ، فالشاك هو المتحير ، ومن المعلوم : إنّ عدم العلم بالحكم باقٍ حتى بعد الأخذ بأحد الطرفين ، فلا وجه لعدم جريان الاستصحاب ، خصوصا مع قوله عليه السلام : « بأيهِما أخَذتَ مِن بَابِ التَسليم وَسِعَكَ » (1) فانّه بعد الآن الأوّل يكون الأخذ بهذا أو بذاك من باب التسليم فكأنّه علّة للأخذ ؛ وهذه العلة كما هي موجودة في أوّل الأزمنة ، موجودة ايضا في

ص: 211


1- - الكافي اصول : ج1 ص66 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص108 ب9 ح33339 .

وسيتضح هذا في بحث الاستصحاب ، وعليه فاللازم الاستمرار على ما اختار ، لعدم ثبوت التخيير في الزمان الثاني .

المسألة الرابعة

لو دار الامر بين الوجوب والحرمة من جهة اشتباه الموضوع ، وقد مثّل بعضهم له باشتباه الحليلة الواجب وطيُها بالأصالة

-------------------

الأزمنة المتأخرة ( وسيتضح هذا ) البحث من ان التخيير ابتدائي أو استمراري ( في بحث الاستصحاب ) انشاء اللّه تعالى .

( وعليه : ) أي : بناءا على عدم بقاء موضوع التخيير وهو المتحير ( فاللاّزم الاستمرار على ما اختار ) من الفعل أو الترك اولاً ، فاذا اختار الوجوب بقي على الوجوب والفعل ، واذا اختار الحرمة بقي على الحرمة والترك ( لعدم ثبوت التخيير في الزّمان الثاني ) بل لا موضوع للتخيير - حسب الفرض - حتى يستصحب التخيير .

( المسألة الرابعة : لو دار الأمر بين الوجوب و ) بين ( الحرمة ، من جهة اشتباه الموضوع ) لا من جهة اشتباه الحكم ، لأنّه يعلم الحكم - مثلاً - لكنّه لا يعلم بأن هذا الموضوع داخل في هذا الحكم أو في ذاك الحكم .

( وقد مثّل بعضهم له : باشتباه الحليلة الواجب وطيُها بالأصالة ) لأنّ المشهور بين الفقهاء انّه يجب وطي الزوجة في كل أربعة أشهر مرة ، لكنّا أشكلنا في ذلك وقلنا : انّ مقتضى القاعدة : وجوب الوطي حسب ما تقتضيه المعاشرة بالمعروف ، لقوله سبحانه : « وَعَاشِروهُنَّ بِالمَعروفِ » (1) وقوله سبحانه : « فَامساك بِمَعروفٍ

ص: 212


1- - سورة النساء : الآية 19 .

أو لعارض من نذر أو غيره بالأجنبيّة ، وبالخلّ المحلوف على شربه المشتبه بالخمر .

ويرد على الأوّل : انّ الحكم في ذلك هو تحريم الوطي ، لاصالة عدم الزوجيّة بينهما وأصالة عدم وجوب الوطي .

-------------------

أو تَسرِيحٌ باحسانٍ » (1) على تفصيل ذكرناه في الفقه (2) ( أو ) الواجب وطيها ( لعارض من نذر أو غيره ) كالعهد واليمين ، فاذا اشتبهت ( بالأجنبيّة ) فانّه يدور الأمر في وطي هذه المرأة بين الوجوب والتحريم .

( و ) مثّل له ( بالخَلّ المحلوف على شربه المشتبه بالخمر ) حيث لايعلم انّه خَلّ محلوف على شربه فيجب شربه ، أو خمر فيحرم شربه .

( ويرد على الأوّل : انّ الحكم في ذلك هو : تحريم الوطي ) وذلك للأصل الموضوعي هنا المقّدم على الحكمي ، وهو ماذكره المصنّف بقوله ( لاصالة عدم الزوجيّة بينهما ) فانها لم تكن في الأوّل زوجة قطعاً ، والآن نشك في أنها صارت زوجة ام لا ، نستصحب عدم الزوجية فينتفي موضوع الزوجية ، وإذا انتفى الموضوع انتفى الحكم .

( وأصالة عدم وجوب الوطي ) أي نجري الاستصحاب الحكمي لو فرضنا عدم جريان الاستصحاب الموضوعي ، وذلك لتوارد الحالات المختلفة - مثلا - على الموضوع ، بأن كانت أجنبية ، ثم صارت زوجة ،ثم خرجت عن الزوجية وهكذا ، حيث لايعلم الآن الحالة السابقة وانّها هل هيالزوجية حتى يستصحبها ، أو عدمها حتى يستصحبه ، كما ذكروا مثل ذلك في باب توارد حالات الطهارة

ص: 213


1- - سورة البقرة : الآية 229 .
2- - للمزيد راجع موسوعة الفقه : ح62 - 68 كتاب النكاح للشارح .

وعلى الثاني : انّ الحكم عدم وجوب الشرب وعدم حرمته ، جمعا بين أصالتي : الاباحة وعدم الحلف على شربه .

والأولى فرض المثال فيما إذا وجب إكرام العدول وحرم إكرام الفسّاق ، واشتبه حال زيد من حيث الفسق والعدالة

-------------------

والحدث لمن شك فيهما وهو لايعلم السابق على الشك ، فانّه لايتمكن أن يستصحب الطهارة ولا الحدث .

( و ) يرد ( على الثاني : انّ الحكم عدم وجوب الشرب وعدم حرمته ) أيضا ، ( جمعا بين أصالتي : الاباحة ) الدالة على عدم حرمة الشرب وهو أصل حكمي ( وعدم الحلف على شربه ) الدال على عدم وجوب الشرب وهو اصل موضوعي ، فانّ الجمع بين هذين الأصلين ينتج : الحكم بعدم وجوب الشرب وعدم حرمته ، لانّ الاصل الموضوعي ينفي الوجوب ، والأصل الحكمي ينفي الحرمة .

هذا ، لكن لايخفى : انّه يمكن تصحيح المثالين على ماذكره ذلك البعض حتى لا يرد عليهما ايراد المصنِّف غير أن المثال ليس بمهم ، ولذا قال المصنِّف : ( والأولى : ) وهذه الكلمة قدتأتي بمعنى الأفضل وقد تأتي بمعنى التعيّن مثل قوله سبحانه : « أولى لك فأولى * ثمّ أولى لك فأولى » (1) حيث المراد منه : التعين هنا .

إذن : فالاولى : ( فرض المثال فيما إذا وجب اكرام العدول وحرم اكرام الفساق ، واشتبه حال زيد من حيث الفسق والعدالة ) ولم يكن له علم بحالته السابقة حتى يجري الاستصحاب ، كما اذا قال المولى : اكرم العدول من العلماء ، وقال ايضا لاتكرم الفساق من العلماء ، وكان هناك عالم لانعلم هل انّه من العدول حتى يجب

ص: 214


1- - سورة القيامه : الآيات 34 - 35 .

والحكم فيه ، كما في المسألة الأولى من عدم وجوب الاخذ بأحدهما في الظاهر ، بل هنا أولى ، إذ ليس فيه اطّراح لقول الإمام عليه السلام ، اذ ليس الاشتباه

في الحكم الشرعي الكلّي الذي بيّنه الإمام عليه السلام .

-------------------

اكرامه ، أو من الفساق حتى يحرم اكرامه ؟ فانّ في المقام شبهة موضوعية مردده بين محذورين .

( والحكم ) هنا ( فيه ) أي : فيما دار أمره بين الوجوب والحرمة لاجل اشتباه الموضوع هو ( كما في المسألة الاولى : من عدم وجوب الأخذ بأحدهما ) على التعيين بل الحكم فيه هو التخيير ( في الظاهر ) إذ لا دليل على هذا معيّنا ولا على ذاك .

هذا ، مع وحدة الواقعة ، أما لو كانت الواقعة متعددة . كما لو نذر بالنسبة الى زوجته نذرا لم يعلم انّه هل نذر وطيها كل ليلة جمعة ، أو نذر عدم وطيها كل ليلة جمعة ؟ فانّ الواقعة متعددة ، وهنا يأتي ما كان هناك من الاحتمالات السابقة من كون التخيير ابتدائيا ، أو استمراريا ، أو يلزم التفصيل مّما قد تقدّم بيانه في المسألة السابقة .

( بل هنا ) في المسألة الرابعة التخيير وعدم الأخذ بأحد الطرفين من الوجوب والتحريم على التعيين ( أولى ) من التخيير في مسألة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة لتعارض الأدلة ( إذ ليس فيه اطّراح لقول الإمام عليه السلام ) كما كان هناك ( إذ ) الاشتباه هنا انّما هو في الاُمور الخارجية ، و ( ليس الاشتباه في الحكم الشرعي الكلّي الذي بيّنه الإمام عليه السلام ) فلا يلزم من عدم الالتزام بوجوب اكرام زيد ، أو حرمة اكرام زيد ، طرح وجوب اكرام العدول أوطرح تحريم اكرام الفساق الذي أمر به المولى في قوله : « أكرم العدول من العلماء » وقوله : « لاتكرم الفساق منهم » .

ص: 215

وليس فيه أيضا مخالفة عمليّة معلومة اجمالاً ، مع انّ مخالفة المعلوم اجمالاً في العمل فوق حدّ الاحصاء في الشبهات الموضوعية .

-------------------

وعليه : فاذا جاز التخيير في تعارض الأدلة والحال انّ في التخيير هناك طرح لقول الإمام عليه السلام ، جاز التخيير في الشبهات الموضوعية التي ليس فيها طرح لقول الإمام بطريق أولى .

هذا ( وليس فيه أيضا مخالفة عمليّة معلومة اجمالاً ) اذ المخالفة احتمالية لفرض وحدة الواقعة ( مع انّ مخالفة المعلوم اجمالاً في العمل فوق حدّ الاحصاء في الشبهات الموضوعية ) وهي جائزة ، فكيف بما لم يكن فيه الاّ مخالفة احتمالية ؟ فجوازه بطريق أولى .

والحاصل : انّه لو اكرمنا زيدا أو لم نكرمه في مثال : اكرم العلماء ولا تكرم الفساق منهم لايكون في عملنا هذا الاّ مخالفة احتمالية ، والحال انّ المخالفة القطعية للعلم الاجمالي فيالشبهات الموضوعية كثيرة وجائزة ، فالمخالفة الاحتمالية تكون جائزة بطريق أولى ، وذلك مثل : الوصية حين الاختلاف عليها ، فأنها تنفد بمقدار الربع مع شهادة امرأة واحدة ، وبمقدار النصف مع شهادة امرأتين ، وهكذا ، مع العلم بأنّ في هذه مخالفة عملية قطعيّة ، فانّ الوصية اذا ثبتت ، فاللازم تنفيذ الكل ، وإذا لم تثبت ، فاللازم عدم تنفيذ شئ منها .

ومثل : جواز الاقتداء لكل من واجدي المني بصلاة الآخر حيث يعلم المأموم اجمالاً ببطلان صلاته أو بطلان صلاة إمامه .

ومثل : اعتراف الشخص بالسرقة مرة واحدة حيث لا تقطع يده مع انّه يؤذ منه المال ، فهو مخالفة قطعية ، إذ لو كان سارقا لزم قطع يده وأخذ المال منه ، ولو لم يكن سارقا لزم عدم قطع يده وعدم أخذ المال منه .

ص: 216

هذا تمام الكلام في المقامات الثلاثة أعني : دوران الأمر بين الوجوب وغير

-------------------

ومثل : طهارة البدن وبقاء الحدث عند التوضوء غفلة بأحد الانائين المشتبه بالنجس ، حيث انّه ان كان بالنجس فقد تنجس بدنه ولا وضوء عنده ، وان كان بالطاهر فقد أصبح على وضوء ، وبدنه طاهر أيضا .

ومثل الاقرار بالعين مرة لهذا ومرة لذاك ، حيث يقول الفقهاء : بانّه يجب عليه أن يعطي العين للأول والقيمة للثاني ، مع انّه خلاف المعلوم اجمالاً ، اذ لو كان اقراره الثاني صحيحا وجب اعطائه العين لا القيمة ، وإن كان باطلاً فلا وجه لاعطائه القيمة .

ومثل وجوب النفقة وحرمة الوطي لمن ادعى زوجية امرأة وانكرت هي ، وكذا اذا ادعت امرأة زوجيتها لرجل وأنكر هو ، فانّه يحرم عليها التزوج لمكان اقرارها ولا نفقة لها عليه ، لأنّ اقرار العقلاء على أنفسهم جائز ، لا لأنفسم مع انه نعلم اجمالاً ببطلان أحد الأمرين .

ومثل ان يدّعي أحد السيادة مع عدم الثبوت شرعا ، حيث لايعطى من سهم السادة ولا من الزّكاة .

ومثل درهمي الودعي حيث ينصَّف الدرهم الباقي بينهما ، مع انّه إما لهذا أو لذاك .

ومثل : إدعاء شخصين شيئا واحدا حيث ينصَّف في صورة اقامة كل منهما البينة على مدّعاه ، أو الحلف منهما على مدّعاهما مع انّ التنصيف مقطوع العدم ، حيث انّ الشيء المدعى إمّا هو لهذا أو لذاك ، إلى غيرها من الأمثلة الكثيرة .

( هذا تمام الكلام في المقامات الثلاثة ، أعني : دوران الأمر بين الوجوب وغير

ص: 217

الحرمة ، وعكسه ، ودوران الأمر بينهما .

وأما دوران الأمر بين ما عدا الوجوب والحرمة من الأحكام ، فيعلم بملاحظة ما ذكرنا .

وملخّصه : إنّ دوران الأمر بين طلب الفعل والتّرك وبين الاباحة نظير المقامين الأوّلين ، ودوران الأمر بين الاستحباب والكراهة نظير المقام الثالث .

-------------------

الحرمة ، وعكسه ) وهو : دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب ( ودوران الأمر بينهما ) أي بين الحرمة والوجوب . ( وأما دوران الأمر بين ما عدا الوجوب والحرمة من الأحكام ، فيعلم بملاحظة ما ذكرنا ) في دوران الأمر بين الوجوب وغير الحرمة ، أوبين الحرمة وغير الوجوب ، أو بين الحرمة والوجوب ، لأن الأدلة هنا كالأدلة هناك .

( وملخّصه : أنّ دوران الأمر بين طلب الفعل والتّرك وبين الاباحة نظير المقامين الأوّلين ) فانّ الدوران بين الاستحباب والاباحة هو نظير الشبهة الوجوبية ، والدوران بين الكراهة والاباحة هو نظير الشبهة التحريمية ( ودوران الأمر بين الاستحباب والكراهة نظير المقام الثالث ) من دوران الأمر بين الوجوب والحرمة .

وعليه : فلو دار الأمر بين الاستحباب والاباحة نقول بالاستحباب رجاءا ، وبالاباحة بمعنى : عدم الدليل على الاستحباب ، كما كنا نقول في الدوران بين الوجوب والاباحة بعدم الدليل على الوجوب وان كنا نقول بالاحتياط الاستحبابي هناك .

ولو دار الأمر بين الكراهة والاباحة نقول بالترك رجاءا ، وبالاباحة بمعنى : عدم الدليل على الكراهة ، كما كنا نقوله في دوران الأمر بين الحرمة والكراهة .

ص: 218

ولا إشكال في أصل هذا الحكم ، إلاّ أنّ أجراء أدلة البرائة في صورة الشك في الطّلب غير الالزامي فعلاً وتركا ، قد يستشكل فيه ، لأنّ ظاهر تلك الادلة نفي المؤاخذة والعقاب والمفروض انتفاؤهما في غير الواجب والحرام ، فتدبّر .

-------------------

ولو دار الامر بين الاستحباب والكراهة نقول بالتخيير كما كنا نقول به في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة وان كان لقائل أن يقول هنا بتقديم الكراهة ، كما كان يقول بعض هناك بتقديم التحريم ، وقد كنّا أشرنا إلى هذا المبحث في باب التسامح في أدلة السنن أيضا .

هذا ، ( ولا إشكال في أصل هذا الحكم ) بمعنى : انّه لا حرج في نفي الاستحباب والكراهة بأدلة البرائة للشاك بين الاستحباب والاباحة ، أو بين الكراهة والاباحة ، أو بين الاستحباب والكراهة أو التخيير فيها ، كما قلنا سابقا : انّه لاحرج في ذلك على الشاك بين الوجوب وعدمه ، وبين الحرمة وعدمها ، وبين الوجوب والحرمة .

( إلاّ أنّ إجراء أدلة البرائة في صورة الشك في الطّلب غير الالزامي فعلاً وتركا ، قد يستشكل فيه ) فلا يصح أن يكون دليل اللاحرج الذي ذكرناه هناك وهو أدلة البرائة ان يكون هنا دليل اللاحرج أيضا ، بل اللاحرج هنا انّما هو من جهة عدم الالزام في الاستحباب أو في الكراهة ، وذلك : ( لأنّ ظاهر تلك الادلة ) اي : أدلة البرائة هي : ( نفي المؤاخذة والعقاب ، والمفروض انتفاؤما ) اي : انتفاء المؤاخذة والعقاب هنا ( في غير الواجب والحرام ) .

( فتدبّر ) ولعله اشارة الى انّ أدلة البرائة شاملة هنا للاستحباب والكراهة أيضا

ص: 219

الموضع الثاني: في الشك في المكلّف به مع العلم بنوع التكليف بأن يعلم الحرمة أو الوجوب ، ويشتبه الحرام أو الواجب

اشارة

ومطالبه أيضا ثلاثة :

-------------------

مثل قوله عليه السلام : « كلُّ شيء مطلقٌ حتّى يَرِدَ فيه نهيٌ » (1) حيث انّ النهي التنزيهي كالنهي التحريمي مرفوع ، فلا كراهة كما لا حرمة ، وهكذا أدلة البرائة بالنسبة إلى رفع الاستحباب كأدلة البرائة بالنسبة إلى رفع الوجوب .

هذا تمام الكلام في الموضع الأوّل من مباحث البرائة وهو الشك في التكليف .

الموضع الثاني

في الشك في المكلّف به مع العلم بنوع التكليف بأن يعلم الحرمة أو الوجوب ، ويشتبه الحرام أو الواجب

( الموضع الثاني في الشك فى المكلّف به مع العلم بنوع التكليف ) فانّ الانسان قد يشك في انّه هل عليه تكليف من وجوب أو حرمة أم لا ؟ كما لو شك بانّ شرب التتن حرام أم لا ؟ أو الدعاء عند رؤة الهلال واجب أم لا ؟ .

وقد يعلم بالحرمة والوجوب وانمّا يشك في المكلّف به كما قال : ( بأن يعلم الحرمة أو الوجوب ويشتبه الحرام أو الواجب ) وذلك كما اذا علمنا بوجود الخمر في أحد الانائين ولم نعلم بأنّ الخمر في هذا الاناء أو في ذاك الاناء ، أو علم بوجوب وطي احدى زوجتيه هند أو دعد ، لكن لم يعلم بأنّ هند على رأس أربعة أشهر أو دَعَد ؟ .

( ومطالبه أيضا ثلاثة ) : أي : كما أنّ الشك في التكليف كانت مطالبهُ ثلاثة ،

ص: 220


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب22 ح33530 .

المطلب الأوّل: دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب ، ومسائله أربع :

المسألة الأولى
اشارة

لو علم التحريم وشك في الحرام من جهة اشتباه الموضوع الخارجي .

وانّما قدّمنا الشّبهة الموضوعّية هنا ، لاشتهار عنوانها في كلام العلماء ، بخلاف عنوان الشبهة الحكميّة .

-------------------

كذلك تكون مطالب الشك في المكلّف به وهي عبارة عن : الشك بين الحرام وغير الواجب ، والشك بين الواجب وغير الحرام ، والشك بين الواجب والحرام .

( المطلب الأوّل ) في ( دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب ، ومسائله أربع ) لأنّ منشأ الشك قد يكون فقد النصّ ، وقد يكون إجماله ، وقد يكون تعارضه ، وقد يكون اشتباهه للأمور الخارجية .

( المسألة الاولى : لو علم التّحريم وشكّ فيالحرام من جهة اشتباه الموضوع الخارجي ) كما اذا علم انّ احدى هاتين المرأتين اخته من الرضاعة حيث يحرم عليه نكاحها ، وسبب الاشتباه ليس اجمال النصّ ، أو فقده ، أو تعارض النصين ، وانّما سببه الأمور الخارجية ، لأنّه لايعلم انّ أمه أرضعت هذه أو تلك .

( وانّما قدّمنا الشّبهة الموضوعّية هنا ) في الشك فيالمكلّف به ، بخلاف الشك في التكليف حيث قدّمنا فيه الشبهة الحكمية ( لاشتهار عنوانها ) أي : عنوان الشبهة الموضوعية ( في كلام العلماء ، بخلاف عنوان الشبهة الحكميّة ) حيث انها في الشبهة في المكلّف به ليست مشهورة عندهم ، وقد ذكرها المصنّف في آخر هذا المبحث مجملاً .

ص: 221

ثم الحرام المشتبه بغيره ، إما مشتبه في أمور محصورة ، كما لو دار بين أمرين ، أو أمور محصورة ، ويسمى بالشبهة المحصورة وإمّا مشتبه في أمور غير محصورة .

أما الأوّل : فالكلام فيه يقع في مقامين :

أحدُهما : جواز ارتكاب كلا الامرين أو الأمور ، وطرح العلم الاجمالي وعدمه ، وبعبارة أُخرى : حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم وعدمها .

-------------------

( ثم الحرام المشتبه بغيره ، إما مشتبه في أمور محصورة ، كما لو دار بين أمرين ، أو أمور محصورة ) كما لو دار أمر الرضيعة بين أمرأتين أو بين عشرين امرأة - مثلاً - ( ويسمّى بالشبهة المحصورة ) اصطلاحا .

( وإمّا مشتبه فيأمور غير محصورة ) لكثرة الأطراف ، كما اذا علم بأن احدى بنات هذا البلد الكبير رضعت معه من أمه فصارت أخته من الرضاعة ، لكنّها غير محصورة لانتشار الاحتمال في مئات النساء .

( أما الأوّل ) : وهو الشبهة المحصورة ( فالكلام فيه يقع في مقامين ) على ما يلي :

( أحدُهما : جواز ارتكاب كلا الامرين أو الأمور وطرح العلم الاجمالي ) رأسا ، فكأنّه لا علم اجمالي له أصلاً ، كما اذا انحصرت الرضيعة بين اربع ، فانّه يتمكن من التزويج بكل الأربع ( وعدمه ) اي : انّه لا يجوز له طرح العلم الاجمالي رأسا ( وبعبارة أخرى : حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم ) اجمالاً ( وعدمها ) بمعنى عدم حرمة المخالفة القطعية ، فيجوز له المخالفة القطعية .

ص: 222

الثاني :

وجوبُ اجتناب الكلّ وعدمه ، وبعبارة اُخرى : وجوب الموافقة القطعية للتكليف المعلوم وعدمه .

أمّا المقام الأوّل :

فالحق فيه عدم الجواز وحرمة المخالفة القطعية ، وحكي عن ظاهر بعضٍ جوازها .

-------------------

( الثاني : وجوبُ اجتناب الكلّ وعدمه ) فاذا قلنا بوجوب اجتناب الكل لايجوز له التزويج بأي من الأربع ، وإذا قلنا بعدم وجوب اجتناب الكل جاز له التزويج ببعض الأربع لا بكلهنّ ( وبعبارة اُخرى : وجوب الموافقة القطعية للتكليف المعلوم وعدمه ) أي : عدم وجوب الموافقة القطعية .

والحاصل : هل يجب الاحتياط في جميع الاطراف ، أو يكفي الموافقة الاحتمالية بالاجتناب عن بعض الاطراف ، وقد تبين أن النتيجة لهذين المقامين ثلاثة أمور :

الأوّل : جواز التزويج بالكل .

الثاني : عدم جواز التزويج بأي من الأربع .

الثالث : جواز التزويج بالبعض دون البعض .

( أما المقام الأوّل ) وهو : جواز ارتكاب أطراف المحصورة وعدمه ( فالحق فيه عدم الجواز ) اي : عدم جواز ارتكاب كلا الأمرين أو الأمور في الشبهة المحصورة ( وحرمة المخالفة القطعية ، وحكي عن ظاهر بعضٍ جوازها ) قال الأوثق : انّ الأقوال في المقامين أربعة :

أحدها : ما اختاره المصنِّف ، وهو المشهور بين الأصحاب .

وثانيها : جواز ارتكاب الكل ، نقله المحقق القمي رحمه اللّه عن العلامة المجلسي

ص: 223

لنا على ذلك : وجود المقتضي للحرمة وعدم المانع عنها .

أما ثبوت المقتضي : فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان المشتبه ، فانّ قول الشارع : « اجتنب عن الخمر » ، يشمل الخمر الموجود المعلوم المشتبه بين الانائين أو أزيد .

-------------------

في أربعينه .

وثالثها : التخيير وأبقاء مايتحقق به ارتكاب الحرام ، ومال إليه المقدّس الأردبيلي ، واختاره جماعة ممّن تأخر عنه ، كصاحب المدارك والذخيرة ، والرّياض ، والقوانين ، والمناهج ، ونُسب أيضا الى الوحيد البهبهاني قدس سرهم .

ورابعها : القرعة واختاره ابن طاووس » (1) .

( لنا على ذلك : ) أي : عدم جواز ارتكاب كلا الأمرين أو الامور المحصورة ( وجود المقتضي للحرمة وعدم المانع عنها ) وحيث كان المقتضي موجودا بدون مانع أدّى أثره في عدم جواز الارتكاب .

( أما ثبوت المقتضي : فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان المشتبه ) فانّ عمومه يشمل اطراف العلم الاجمالي ، كما يشمل المعلوم الخارجي ( فانّ قول الشارع : « اجتنب عن الخمر » ، يشمل الخمر الموجود المعلوم ) تفصيلاً ، او ( المشتبه بين الأنائين أو أزيد ) فيما كانت الاطراف محصورةً ، كما يشمل الخمر المجهول أيضا ، إلاّ انّ الجهل فيه عذر ، وذلك لأنّ الالفاظ موضوعة للمعاني الواقعية كما سيأتي ، والمعاني الواقعية لافرق فيها من جهة علم الانسان بها اجمالاً أو تفصيلاً أو جهل الانسان بها ، لكنّه إذا كان جاهلاً بحيث ليس له حتى العلم الاجمالي يكون معذورا لرفع الجهل وعدم البيان .

ص: 224


1- - أوثق الوسائل : ص323 الشك في المكلّف به وأقسامه .

ولا وجه لتخصيصه بالخمر المعلوم تفصيلاً ، مع أنّه لو اختص الدّليل بالمعلوم تفصيلاً ، خرج الفرد المعلوم اجمالاً عن كونه حراما واقعيا ، ولا أظنّ أحدا يلتزم بذلك ، حتى من يقول بكون الألفاظ أسامي للأمور المعلومة ، فانّ الظاهر إرادتهم : الأعم من المعلوم اجمالاً .

وأمّا عدم المانع ، فلأنّ العقل لايمنع من

-------------------

( ولا وجه لتخصيصه ) أي تخصيص دليل « اجتنب عن الخمر » ( بالخمر المعلوم تفصيلاً ) فإنّ العلم والجهل لا مدخلية لهما في معاني الواقعية للألفاظ .

( مع ) أي : مضافا الى ( أنّه لو اختص الدّليل بالمعلوم تفصيلاً ) بأنّ سلّمنا وقلنا : أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني المعلومة تفصيلاً ( خرج الفرد المعلوم اجمالاً عن كونه حراما واقعيا ) لأنه يلزم حينئذ أن يكون المعلوم الاجمالي حلالاً واقعيا لخروجه عن الموضوع ، لفرض انّ الخمر موضوع للفرد المعلوم تفصيلاً ( ولا أظنّ أحدا يلتزم بذلك ) فيقول أنّ الخمر المشتبه بين طرفين أو أطراف محصورة ممّا يكون فيه العلم الاجمالي لايكون حراما ( حتى من يقول بكون الألفاظ أسامي للأمور المعلومة ) وضعا ، أو أنصرافا ( فإنّ الظاهر إرادتهم : ) أي : إرادة من يقول بكون الألفاظ أسامي للأمور المعلومة ، هو ( الأعم من المعلوم اجمالاً ) أو تفصيلاً .

وعلى أيّ حال : فالقائل بجواز المخالفة القطعيّة إنّما يقول بالحليّة الظاهرية من جهة توهم المانع عن الحرمة عقلاً أو نقلاً ، لا أنّه يقول بذلك من جهة عدم المقتضي ، فاللازم أن نتكلّم حول أنّه هل هناك مانع عن اقتضاء المقتضي أو ليس هناك مانع عن ذلك ؟ .

( وأمّا عدم المانع ) فهو أمّا عقلاً أو شرعا ، أمّا عقلاً ( فلأنّ العقل لايمنع من )

ص: 225

التكليف عموما أو خصوصا بالاجتناب عن عنوان الحرام المشتبه في أمرين أو أمور ، والعقاب على مخالفة هذا التكليف .

وأمّا الشرع فلم يرد فيه ما يصلح للمنع عدا ما ورد من قولهم عليهم السلام « كُلُّ شَيءٍ حَلالٌ حَتّى تَعرِفَ أنّهُ حَرامٌ بعَينِه » و

-------------------

تحريم الشارع المعلوم اجمالاً بسبب ( التكليف عموما ) مثل : قوله عليه السلام « ومَن أَخَذَ بالشُبُهات وَقَعَ فِي المُحرَّمات وَهَلَكَ مِن حَيثُ لايَعَلَمُ » (1) وغير ذلك من الأدلّة العامة الدالة على الاجتناب في الشبهات ، فتشمل ما نحن فيه ( أو خصوصا ) مثل قول الشارع : « اجتنب عن الخمر » المعلوم تفصيلاً أو اجمالاً - مثلاً - فالعقل لايرى مانعا من أن يكلف الشارع ( بالاجتناب عن عنوان الحرام ) كالخمر - مثلاً - ( المشتبه في أمرين أو أمور ) محصورة ( والعقاب على مخالفة هذا التكليف ) .

والحاصل : انّ قاعدة « قُبحِ العِقابِ بَلا بَيان » ، لا تجري في مورد العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة لوجود البيان الاجمالي عند العقل والعقلاء .

( وأمّا الشرع فلم يرد فيه ما يصلح للمنع ) فانه ليس لنا دليل شرعي على حليّة كلا المشتبهين ، أو المشتبهات في الشبهة المحصورة ، حتى يقال باعتبار العلم التفصيلي في موضوع الحرمة ( عدا ) أخبار البرائة المتقدّمة مثل : ( ما ورد من قولهم عليهم السلام « كُلُّ شَيءٍ حَلالٌ حَتّى تَعرِفَ أنّهُ حَرامٌ بعَينِه (2) » و ) قولهم عليهم السلام :

ص: 226


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 وقريب منه في نفس المصدر ح39 والمحاسن : ص495 ح596 .

« كُلُّ شَيءٍ فِيهِ حَلالٌ وحَرامٌ فَهُوَ لَكَ حَلالٌ حَتّى_'feتَعرِفَ الحَرامَ مِنهُ بعَينِهِ » ، وغير ذلك .

بناءا على أنّ هذه الأخبار ،

-------------------

( كُلُّ شَيءٍ فِيهِ حَلالٌ وحَرامٌ فَهُوَ لَكَ حَلالٌ حَتّى تَعرِفَ الحَرامَ مِنهُ بعَينِهِ (1) ) .

ولا يخفى : انّ قول المصنِّف « قولهم » انّما يراد الأعم من الفرد أو المجموع ، لانّه قد يطلق الفرد على المجموع وذلك باعتبار كل واحد واحد ، مثل : « فانظُر الى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَم يتَسَنَّهُ » (2) أي : كل واحد منهما ، وقد يطلق المجموع على الفرد ، وذلك باعتبار ان هذه الجماعة كلامهم ، مثل كلام هذا الفرد ، أو عمل هذا الفرد وكلامه كلام الجماعة وعملهم ، مثل قوله سبحانه : « الذين » وهو النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم « قال لهم الناس » - وهو نعيم بن مسعود الاشجعي - « : انّ الناسَ قد جَمَعوا لكُم فاخشوهم ...(3) » (4) ومثل قول أحدنا : الأطباء نصحوني بترك كذا ، أو بفعل كذا، أو المفسرون يقولون : كذا ، ويراد به فرد واحد من الأطباء ومن المفسرين .

( وغير ذلك ) من الأخبار التي تدل على حلية ما لم يعرف انه حرام ، مثل قوله عليه السلام : « كُلُّ شَيءٍ مُطلَقٌ حَتّى يَرِدَ فِيهِ نَهيٌ » (5) فان مانعيّة هذه الاخبار عن حرمة المعلوم اجمالاً في الشبهة المحصورة انّما هو ( بناءا على انّ هذه الأخبار ،

ص: 227


1- - الكافي : ج5 ص313 ح39 ، تهذيب الأحكام : ج9 ص79 ب4 ح72 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص341 ب2 ح4208 .
2- - سورة البقرة : الآية 259 .
3- - سورة آل عمران : الآية 173 .
4- - التذكرة باصول الفقه : ص33 ، كنز الفوائد : ج2 ص19 ، المناقب : ج3 ص5 ، تفسير القمّي : ج1 ص126 .
5- - غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 ، ج27 ص174 ب12 ح33530 .

كما دلّت على حلّية المشتبه مع عدم العلم الاجمالي وان كان محرّما في علم اللّه سبحانه ، كذلك دلّت على حلية المشتبه مع العلم الاجمالي .

ويؤيّده اطلاق الأمثلة المذكورة في بعض هذه الرّوايات ، مثل : الثوب المحتمل للسّرقة ، والمملوك المحتمل للحريّة ، والمرأة المحتملة للرضيعة ، فإنّ إطلاقها

-------------------

كما دلّت على حلّية المشتبه مع عدم العلم الاجمالي ) كما في الشبهة البدوية ، والشبهة غير المحصورة - على ما هو المشهور بين العلماء - ( وان كان ) ذلك المشتبه ( محرّما في علم اللّه سبحانه) واقعا ، لكن الأخبار كما دلّت على الحلية هناك ( كذلك دلّت على حلية المشتبه مع العلم الاجمالي ) هناك أيضا ، لأن هذه الأخبار تدل على اشتراط العلم التفصيلي في تنجيز التكليف ، والاقسام الثلاثة الأخر : من المحصورة ، وغير المحصورة ، والبدوية ، حيث لاعلم تفصيلي فيها ، فلا يتنجّز فيها التكليف حسب هذه الاخبار.

(ويؤيّده ) أي : يؤيد لزوم العلم التفصيلي في التحريم وأن العلم الاجمالي ليس موجبا للتحريم ( اطلاق الامثلة المذكورة في بعض هذه الرّوايات ) الدالة على الحلية مثل : رواية مسعدة بن صدقة ، فانّ الإمام عليه السلام ذكر بعد قوله : « كُلُّ شَيءٍ هُوَ لك حَلالٌ حَتى تَعلَم أنّهُ حَرامٌ بعَينِهِ » (1) أمثلة لهذه الكبرى الكلية فقال : ( مثل : الثوب المحتمل للسّرقة ، والمملوك المحتمل للحريّة ، والمرأة المحتملة للرضيعة ) فانّ هذه الامثلة التي ذكرها الإمام عليه السلام دليل على انّ الاحتمال لافرق فيه بين كونه بدويا أو مقرونا بالعلم الاجمالي ( فانّ اطلاقها ) أي : اطلاق هذه الامثلة

ص: 228


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

يشمل الاشتباه مع العلم الاجمالي بل الغالب ثبوت العلم الاجمالي ، لكن مع كون الشبهة غير محصورة .

ولكن هذه الاخبار وأمثالها لايصلح للمنع ، لأنها كما تدل على حليّة كلّ واحد من المشتبهين ، كذلك تدلّ على حرمة ذلك المعلوم إجمالاً ، لأنّه شيء علم حرمته .

-------------------

التي ذكرها الإمام ( يشمل الاشتباه ) البدوي والاشتباه ( مع العلم الاجمالي ) سواء كان العلم الاجمالي محصورا ، أو غير محصور .

( بل الغالب ثبوت العلم الاجمالي ) بوجود سرقة تباع في السوق ، أو مملوك يباع في السوق وهو حر واقعا ، أو امرأة رضيعة للانسان في ضمن نساء الجيران والاقرباء ، وما اشبه ذلك ( لكن مع كون الشبهة غير محصورة ) ثم اذا شملت المعلوم الاجمالي غير المحصور شملت المعلوم الاجمالي المحصور أيضا ، فانه لو كان العلم لا يؤثر في غير المحصور لا يؤثر في المحصور أيضا .

(و) الجواب عن هذا ما أشار اليه المصنِّف بقوله : ( لكن هذه الاخبار وامثالها ) من أخبار البرائة ( لايصلح للمنع ) عن مقتضى العلم الاجمالي ( لأنها كما تدل ) بمنطوقها ( على حلية كل واحد من المشتبهين ) اذ كل واحد من المشتبهين لم يعلم حرمته ، فيكون كالمشكوك بالشبهة البدوية ( كذلك تدلّ ) بمفهومها ( على حرمة ذلك المعلوم اجمالاً ) المردد بين الأمرين ، أو الاُمور المحصورة ( لأنّه شيء علم حرمته ) .

وعليه : فاذا قلنا بشمول أخبار البرائة للشبهة المحصورة ليجوز ارتكاب كِلا المشتبهين ، لزم التعارض بين منطوق هذه الاخبار مع مفهومها ، فمنطوقها يقول : لابأس بالارتكاب لأنك لاتعلم خمرية كل واحد واحد ، ومفهومها يقول :

ص: 229

فان قلت : انّ غاية الحل معرفة الحرام بشخصه ولم يتحقّق في المعلوم الاجمالي .

قلت : أما قوله عليه السلام : « كُلّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ حَتّى تَعلَمَ أنّهُ حَرامٌ بعينه » ، فلا

يدل على ماذكرت ،

-------------------

عليك بأس لأنك تعلم خمرا بينهما ، ولأجل أن لايقع تعارض ، يلزم تخصيص هذه الأخبار بالشبهة البدوية ، فلا تشمل الشبهة المحصورة .

( فإن قلت ) لاتعارض بين المنطوق والمفهوم في أخبار البرائة ، لأن المنطوق يقول : لابأس بارتكاب المشتبه ، والمفهوم يقول : الاّ اذا علمت به تفصيلاً ، ومن المعلوم : انه لاعلم تفصيلي في مورد العلم الاجمالي ، فلا تناقض ، إذ يكون المفهوم خاصا بالعلم التفصيلي دون العلم الاجمالي ، وذلك كما قال : ( انّ غاية الحل ) في هذه الاخبار ( معرفة الحرام بشخصه ) أي : بعينه ، لقوله عليه السلام : « حتى تعلم انه حرام بعينه » ( و ) العلم بشخص الحرام وعينه ( لم يتحقّق في المعلوم الاجمالي ) .

وعليه : فمنطوق هذه الأخبار يدل على حلية المشكوك في الشبهة البدوية ، وحلية المشكوك في الشبهة المحصورة ، المقرونة بالعلم الاجمالي ، لوضوح : انتفاء العلم التفصيلي في كلا المشتبهين ، أما شمول هذه الأخبار للشبهة غير المحصورة فلا إشكال فيه ، بل ربمّا يقال : انه من الشبهة البدوية على ماسيأتي تفصيل الكلام فيه .

( قلت : أما قوله عليه السلام: «كُلّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ حَتّى تَعلَمَ أنّهُ حَرامٌ بعينه» (1) فلا يدل على ما ذكرت ) : من انّ غاية الحل معرفة الحرام تفصيلاً ، حتى يكون

ص: 230


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 .

لانّ قوله عليه السلام : « بعينه » تأكيد للضمير جى ء به للاهتمام في اعتبار العلم . كما يقال : « رأيت زيدا بعينه » ، لدفع توهم وقوع الاشتباه في الرؤية . وإلاّ فكل شيء علم حرمته فقد علم حرمة نفسه .

-------------------

الحرام المشتبه بين انائين حلالاً ( لانّ قوله عليه السلام : « بعينه » تأكيد للضمير ) في قوله : « انه » ، وقد ( جيء به ) أي : بهذا التأكيد هنا ( للاهتمام في إعتبار العلم ) فيكون قوله : « حتى تعلم انه حرام بعينه » بمنزلة قوله : أحدهما المعين حرام ، لا بمنزلة : احدهما حرام عين الحرام .

وعليه : فهذه الجملة تكون : ( كما يقال : رأيت زيدا بعينه ) حيث انّ قيد « بعينه » لتأكيد أنّه رأى زيدا بنفس زيد ( لدفع توهم وقوع الاشتباه في الرؤية ) حتى لايتوهم السامع انّ المتكلم رأى شخصا آخر واشتبه في انه زيد ، أو رأى ابن زيد وسمّاه زيدا من باب المبالغة لأنهّما بمنزلة شخص واحد ، إذ ربما يقول الانسان : شربت عسلاً ويريد الماء ، لأنّ الماء الحلو بمنزلة العسل فيسميه عسلاً ، لكن اذا قال : شربت عسلاً بعينه ، أفاد انّه لم يشرب الماء ويسميه عسلاً مبالغة ، وانّما شرب عسل النحل .

( وإلاّ) بأن لم يكن المعنى ما ذكرناه : من أن قوله : « بعينه » ، بمنزلة قوله: أحدهما المعين حرام ، بل قلنا : انه بمنزلة أحدهما حرام عين الحرام ، كان الكلام بعيدا عن البلاغة ( فكل شيء علم حرمته فقد علم حرمة ) الشيء ( نفسه ) فانّ كل شيء كان حراما فهو حرام بنفسه ، فما فائدة قوله : « بعينه » في هذه الحال ؟ .

وإن شئت قلت : لو قال أحدهما المعين حرام كان له معنى ، أما لو قال : أحدهما حرام عين الحرام ، فلا يكون له معنى .

ثم إنّ المصنّف لتوضيح ان « بعينه » في الرواية ليس قيدا للحرام ، بل هو قيد

ص: 231

فاذا علم نجاسة إناء زيد وطهارة اناء عمرو ، فاشتبه الانائان ، فاناء زيد شيء علم حرمته بعينه .

نعم ، يتصف هذا المعلوم المعيّن بكونه لابعينه إذا أطلق عليه عنوان أحدهما ، فيقال : أحدهما لابعينه ، في مقابل أحدهما المعين عند القائل .

وأما قوله عليه السلام : «فهُوَ لَكَ حَلالٌ حَتّى تَعرِفَ الحَرامَ مِنهُ بعينِهِ » فله ظهور

-------------------

للضمير في قوله :« انه » قال : ( فاذا علم نجاسة اناء زيد وطهارة اناء عمرو ، فاشتبه الانائان ، فاناء زيد ) الذي علم حرمته ( شيء علم حرمته بعينه ) فلا حاجة الى أن يأتي بلفظ « بعينه » ، اذ بعد الاشتباه يعلم انّ اناء زيد بعينه حرام لكنّه لايعلم انّ أيهما الخارجي حرام ، فاذا كان لفظ « بعينه » لتقييد إناء زيد كان لغوا ، بخلاف ما إذا كان بمنزلة قولنا : أحدهما المعين ، إذ بعد الاشتباه لايعلم حرمة أحدهما المعين .

( نعم ، يتصف هذا المعلوم المعيّن ) اجمالاً ، لفرض انه يعلم بأن اناء زيد نجس، يتّصف ( بكونه لابعينه ) فكونه لابعينه وصف ( إذا أطلق عليه عنوان أحدهما) قلنا : أحدهما لابعينه حرام ، فانّه قد يكون أحدهما بعينه حراما ، وقد يكون أحدهما لابعينه حراما ، فاذا كان - مثلاً - اناء أحمر واناء أبيض ، والأحمر حرام ولم يعلم به بخصوصه ( فيقال : أحدهما ) حرام ( لابعينه ) أي : لاعلى التعيين ، ويقال ( في مقابل ) ذلك بأن علم به بخصوصه : ( أحدهما المعين عند القائل ) حرام ، فلا يكون المقصود من الاتصاف بهذا المعنى : انّ الحرمة قسمان : قسم بعينه وقسم لا بعينه ، بل المقصود: قسم متعين وقسم غير متعين .

( وأما قوله عليه السلام : « فهُوَ لَكَ حَلالٌ حَتّى تَعرِفَ الحَرامَ مِنهُ بعينِهِ » (1) فله ظهور

ص: 232


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح39 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص341 ب2 ح4208 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 (بالمعنى) وقريب منه في المحاسن : ص495 ح596 .

فيما ذكر ، حيث انّ قوله « بعينه » قيد للمعرفة ، فمؤدّاه اعتبار معرفة الحرام بشخصه ، ولايتحقق ذلك إلاّ إذا أمكنت الاشارة الحسّية إليه .

وأمّا إناء زيد المشتبه بإناء عمرو في المثال وإن كان معلوما بهذا العنوان ، إلا انّه مجهول باعتبار الاُمور المميّزة له في الخارج عن إناء عمرو ، فليس معروفا بشخصه .

-------------------

فيما ذكر ) من اشتراط العلم التفصيلي في وجوب الاجتناب ، فاذا لم يكن علم تفصيلي لم يجب الاجتناب حتى وان كان المشتبه محصورا في طرفين ، وهذا الظهور في الحديث الثاني من ( حيث انّ قوله ) عليه السلام ( « بعينه » ، قيد للمعرفة ) فيكون بمنزلة قوله : حتى تعرف الحرام بعين المعرفة ، ومن الواضح : انّ المعرفة بعينها لا تكون الاّ في العلم التفصيلي ، إذ في العلم الاجمالي لاتكون المعرفة بعينها .

وعليه : ( فمؤداه ) أي : مؤدى هذا الحديث ( اعتبار معرفة الحرام بشخصه ، ولايتحقق ذلك إلاّ إذا أمكنت الاشارة الحسّية إليه ) أي : إلى الحرام ، كما في موارد العلم التفصيلي ، حيث يتمكّن الانسان من الاشارة إلى الحرام بشخص الحرام .

( وأمّا إناء زيد المشتبه بإناء عمرو ) في كون أحدهما نجسا ، كما ( في المثال ) فانه ( وإن كان معلوما بهذا العنوان ) أي : بعنوان اناء زيد أو اناء عمرو ( إلا انّه مجهول باعتبار الاُمور المميّزة له في الخارج عن اناء عمرو ، فليس معروفا بشخصه ) فيكون ما ذكره المصنّف من الفرق بين قوله عليه السلام : « كُلُّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ حَتّى تَعلَمَ أنّهُ حَرامٌ بعَينِهِ » (1) ، وبين قوله عليه السلام : « كُلُّ شَيءٍ فيه حَلالٌ وَحَرامٌ فَهوَ

ص: 233


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

إلاّ انّ ابقاء الصحيحة على هذا الظهور يوجب المنافاة لما دلّ على حرمة ذلك العنوان المشتبه ، ومثل : قوله : « اجتنب عن الخمر » ، لأنّ الاذن في كِلا المشتبهين ينافي

-------------------

لَك حِلالٌ حَتّى تَعرِفَ الحَرامَ مِنهُ بعَينِهِ فَتَدَعَهُ » (1) هو على مايلي : ان لفظ « بعينه » في الرواية الأولى تأكيد للضمير في : « انه » الراجع إلى «الشيء» وقد جيء به للاهتمام في اعتبار العلم ، فلا يدل على اعتبار العلم التفصيلي في تنجيز الحرمة ، لانه بمنزلة قوله : كل شيء لك حلال حتى تعلم انه بعينه حرام ، بينما لفظ « بعينه » في الرواية الثانية قيد« للمعرفة» ، فيكون بمنزلة

«كُلُّ شَيءٍ فَيهَ حَلالٌ وَحَرامٌ فَهوَ لَك حِلالٌ حَتّى تَعرِفَ الحَرامَ بشَخصِهِ» ، ولاتتحقق المعرفة بشخص الحرام إلاّ اذا امكنت الاشارة الحسّية اليه .

ومن المعلوم : انّ في المشتبهين لايمكن الاشارة الحسّية إلى الحرام منهما ، فتدل الرواية بظاهرها على جواز ارتكاب كلا المشتبهين .

وان شئت قلت : إنّ الغاية في الرواية الأولى : معرفة حرمة الشيء وحرمته دائما تكون بعينه حتى المعلوم اجمالاً ، فلا معنى للاحتراز فلا يكون القيد « بعينه » احترازيا ، وأمّا في الرواية الثانية : فان معرفة الحرام قد تكون بعينه وشخصه ، وقد تكون لا بعينه وشخصه ، فيصح ان يكون قيد « بعينه » في الرواية احترازيا .

( إلاّ انّ ابقاء الصحيحة على هذا الظهور ) بمعنى : اشتراط العلم التفصيلي في الحرمة ( يوجب المنافاة لما دلّ على حرمة ذلك العنوان المشتبه ) بين الانائين ( ومثل : قوله ) عليه السلام : ( « اجتنب عن الخمر » ، لأنّ الاذن في كلا المشتبهين ينافي

ص: 234


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح39 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص341 ب2 ح4208 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح8 و ج9 ص79 ب4 ح72 ، وسائل الشيعة : ح17 ص88 ب4 ح22050 .

المنع عن عنوان مردّد بينهما ويوجب الحكم بعدم حرمة الخمر المعلوم إجمالاًفي متن الواقع ، وهو مّما يشهد الاتفاق والنص على خلافه حتى نفس هذه الاخبار ، حيث انّ مؤدّاها ثبوت الحرمة الواقعية للأمر المشتبه .

-------------------

المنع عن عنوان مردّد بينهما ) فانّ دليل حرمة الخمر شامل لما إذا كان الخمر معلوما لدى الشخص ، أو مجهولاً في محصور لديه .

( و ) ان قلت : ما هو المانع من ان يكون الخمر المعلوم تفصيلاً حراما ، والخمر المجهول كونه في هذا الاناء أو ذلك الاناء حلالاً ؟ .

قلت : لا مانع عقلي من ذلك ، وانّما المانع الشرعي وقف دون ذلك ، لأنّه (يوجب الحكم بعدم حرمة الخمر المعلوم اجمالاً ) فيكون الخمر بين الانائين حلالاً ( في متن الواقع، وهو مّما يشهد الاتفاق ) من العلماء ( والنص على خلافه) فإنّ العلماء كافة حتى من يقول بحلية الانائين انّما يقول بحليتها ظاهرا لا واقعا ، مع انه لو كان الحرام هو الخمر المقيد بالعلم لوجب أن يقول بالحلية الواقعية .

وأمّا النص فهو قوله عليه السلام : « يُهرِيقَهُمَا وَيَتَيَمَم » (1) فانه إذا كان الحكم مقيّدا بالعلم لم يكن وجه لاراقتهما ( حتى نفس هذه الاخبار ) الدالة على البرائة المقيدة بالعلم تدل على انّ الخمر الواقعي حرام ، لا انّ الخمر المعلوم بقيد العلم حرام ( حيث انّ مؤدّاها ) أي : مؤدّى هذه الأخبار الدالة على البرائة ( ثبوت الحرمة الواقعية للأمر المشتبه ) فإنّ « الخمر » اسم للخمر الواقعي كسائر الالفاظ الموضوعة للمعاني الواقعية ، فلا بدّ من كون الخمر الواقعي حراما مع قطع النظر عن العلم والجهل .

بل ظاهر هذه الرواية نفسها مع قطع النظر عن الجهة التي ذكرناها تدل على انّ

ص: 235


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص229 ب10 ح45 ، الاستبصار : ج1 ص21 ب10 ح3 .

فإن قلت : مخالفة الحكم الظّاهري للحكم الواقعي لا يوجب ارتفاع الواقعي ، كما في الشبهة

-------------------

الخمر بما هو خمر حرام ، سواء علم بكونه خمرا أم لا ، لأنّ قوله عليه السلام « حَتّى تَعرِفَ الحَرامَ مِنهُ » (1) ظاهر في انّ الأشياء بعضها حلال في الواقع وبعضها حرام في الواقع ، فالمشتبه يكون حلالاً ظاهرا لا واقعا حتى يعلم المكلّف الحرمة ، فيتنجز الواقع عليه .

والحاصل : هنا دليلان على حرمة الخمر المردد بين الانائين :

أولاً : انّ قوله : « الخمر حرام » (2) ظاهر في الحرمة ، سواء علمه تفصيلاً أم اجمالاً .

ثانيا : ان قوله : «حَتّى تَعرِفَ الحَرامَ مِنهُ » ظاهر في وجود الحرام والحلال في الواقع مع قطع النظر عن العلم والجهل ، فلا يكون الخمر المردد حلالاً ، وإذا كان الخمر المردد حراما وجب الاجتناب عن الانائين ( فان قلت : ) انّا نسلّم انّ الخمر الواقعي المردد بين الانائين حرام ، لكن نقول :

انه حرام واقعا وحلال ظاهرا ، ولا منافاة بين الحكمين : الواقعي والظاهري ، اذ (مخالفة الحكم الظّاهري للحكم الواقعي لا يوجب ارتفاع الواقعي ) فنبقي «الصحيحة » على ظاهرها ، ونقول : انّ الشارع حكم بحلية كلا المشتبهين ظاهرا وان حكم بحرمة الخمر المردد بينهما واقعا .

وعليه : فيكون الأمر في مورد العلم الاجمالي المحصور ( كما في الشبهة

ص: 236


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح39 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص341 ب2 ح4208 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح8 و ج9 ص79 ب4 ح72 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 .
2- - دعائم الاسلام : ج2 ص131 ح458 ، فقه الرضا : ص280 .

المجرّدة عن العلم الاجمالي ، مثلاً : قول الشارع : «اجتَنِب عَن الخمر » شامل للخمر الواقعي الذي لم يعلم به المكلّف ولو إجمالاً ، وحليته في الظاهر لا يوجب خروجه عن العموم المذكور حتى لايكون حراما واقعيا ، فلا ضير في التزام ذلك في الخمر الواقعي المعلوم اجمالاً .

قلت : الحكم الظاهري لا يقدح مخالفته للحكم الواقعي في نظر الحاكم

-------------------

المجرّدة عن العلم الاجمالي ) حيث يجتمع الحكمان : الواقعي بالحرمة ، والظاهري بالحلية ، فكما اذا لم يعلم المكلّف في الشبهة البدوية خمرية هذا الاناء شمله : « كُلُّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ » ، فهو حلال ظاهرا مع انه حرام واقعا ، لكونه خمرا حسب الفرض ، فكذلك يكون اذا لم يعلم المكلّف خمرية هذا الاناء في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي في الشبهة المحصورة .

( مثلاً : قول الشارع : « اجتَنِب عَن الخمر » شامل للخمر الواقعي الذي لم يعلم به المكلّف ولو إجمالاً ) بأن شك فيه شكا بدويا ( و ) مع ذلك فهو محكومٌ بالحلية ظاهرا بإتفاق الاصوليين والأخباريين ، لأنّ ( حليته في الظاهر لا يوجب خروجه عن العموم المذكور حتى لايكون حراما واقعيا ) فيجتمع في الشبهة البدوية الحرمة الواقعية والحليّة الظاهرية ( فلا ضير ) أي : فلا مانع ( في التزام ذلك في الخمر الواقعي المعلوم اجمالاً ) بين انائين أيضا ، فيكون الخمر الذي هو بينهما حرام واقعا وحلال ظاهرا .

( قلت : الحكم الظاهري لا يقدح مخالفته ) عملاً مقابل المخالفة الالتزامية (للحكم الواقعي في نظر الحاكم ) فانه لايقبح عقلاً جعل حكمين مختلفين : ظاهري وواقعي بملاكين ، فالحكم الواقعي بملاك المصلحة الواقعية ، والحكم الظاهري بمعنى مجرد المعذورية عن التكليف واقعا ، ذكرناه في أوّل الكتاب :

ص: 237

مع جهل المحكوم بالمخالفة ، لرجوع ذلك إلى معذورية المحكوم الجاهل ، كما في أصالة البرائة ، وإلى بدلية الحكم الظاهري عن الواقع أو كونه طريقا مجعولاً إليه على الوجهين في الطّرق الظاهرية المجعولة .

-------------------

من انّ التكاليف الظاهرية انّما : هي تنجيز واعذار ، لا أنّها احكام كالأحكام الواقعية، للتهافت بينهما ، أو بملاك جعل المصلحة السلوكية في الأحكام الظاهرية ليتدارك بها المصالح الواقعية ، كما ذكره المصنِّف في أوّل الكتاب .

وعليه: فلا منافاة بين جعل حكمين من الحاكم ( مع جهل المحكوم بالمخالفة ) أي : بمخالفة الحكم الظاهري للحكم الواقعي ، والاّ لرأى ذلك تناقضا، ولهذا يجعل الحاكم في موارد الشك البدوي أحكاما تخالف الواقع ( لرجوع ذلك ) الحكم الظاهري المخالف للحكم الواقعي ( إلى معذورية المحكوم الجاهل ، كما في أصالة البرائة ) في الشبهات البدوية ، وكما في موارد الاستصحاب ، بل في كل موارد مخالفة الاُصول والأمارات للواقع .

ولهذا قال المصنّف : ( وإلى بدلية الحكم الظاهري عن الواقع ) كما في موارد الأمارات الظنية المعتبرة ، سواء كان في الموضوعات كجعل الشاهدين حجّة ، أو في الأحكام كالأمارات المعتبرة شرعا ، مثل خبر الواحد ، والاجماع المنقول ، والشهرة ، وما أشبه ذلك ( أو كونه ) أي : الحكم الظاهري (طريقا مجعولاً إليه ) أي: إلى الواقع ( على الوجهين في الطّرق الظاهرية المجعولة ) .

والوجهان عبارة عن انّه : هل الحكم الظاهري بدلاً عن الحكم الواقعي في مورد المخالفة لأنّ الشارع يعطي لسلوك الطريق الظاهري مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع أو انه لا يعطي مصلحة للسلوك ، بل يكون السالك معذورا عن مخالفة الواقع ، لأنّ الشارع جعل الحكم الظاهري المخالف لمصلحة الواقع مع انه

ص: 238

وأمّا مع علم المحكوم بالمخالفة فيقبح من الجاهل جعل كلا الحكمين ، لأنّ العلم بالتحريم يقتضي وجوب الامتثال بالاجتناب عن ذلك المحرّم فاذنُ الشارع في فعله ينافي حكم العقل بوجوب الاطاعة .

-------------------

مفوّت لمصلحة الواقع لأجل التسهيل ونحوه ؟ .

ولا يخفى انّ الوجهين جاريان في الاُصول أيضا من غير فرق بين البرائة ، والاستصحاب ، والاحتياط ، والتخيير ، فتفكيك المصنّف بينهما ، بقوله في مورد البرائة : « لرجوع ذلك الى معذورية المحكوم ... » وفي غير مورد البرائة بقوله : «الى بدلية الحكم الظاهري ... » محل تأمّل .

هذا كله في موارد عدم علم المحكوم بالمخالفة ، كما في الشبهات البدوية ونحوها .

( وأمّا مع علم المحكوم بالمخالفة ) كما في موارد العلم الاجمالي المحصور ، لانّ العلم الاجمالي غير المحصور أيضا ملحق بالشبهات البدوية على ما أشرنا إليه سابقا ، فانّ المكلّف يعلم في هذه الموارد المحصورة انّ الحلية تكون مخالفة للواقع ( فيقبح ) عقلاً ( من الجاهل جعل كلا الحكمين ) فمرة يقول : بأنّ أحد هذين اللحمين حرام مثلاً ، ومرة يقول : انّ كليهما حلال ، وكذلك بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة ، وغير ذلك من موارد الشبهة المحصورة المقرونة بالعلم الاجمالي .

وانّما يقبح عقلاً ( لأنّ العلم بالتحريم يقتضي ) عقلاً ( وجوب الامتثال بالاجتناب عن ذلك المحرّم فاذن الشارع في فعله ) بأن يقول للمكلّف : لا بأس عليك ان ترتكب كلا المشتبهين - مثلاً - ( ينافي حكم العقل بوجوب الاطاعة ) لأنّه يكون اذنا في المعصية وتناقضا من المولى الحكيم .

ص: 239

فان قلت : اذن الشارع في فعل المحرّم مع علم المكلّف بتحريمه إنّما ينافي حكم العقل من حيث أنه اذن في المعصية والمخالفة ، وهو إنّما يقبح مع علم المكلّف بتحقيق المعصية حين ارتكابها .

والاذن في ارتكاب المشتبهين ليس كذلك

-------------------

لكن ربّما يقال : إنّ العمدة في الفرق بين مورد العلم الاجمالي ومورد الشبهة البدوية : هو ظواهر الأدلة ، والاّ فما تقدّم في مورد الشبهة البدوية من المصلحة السلوكية - مثلاً - يأتي في مورد العلم الاجمالي أيضا ، وهل هناك مانع من أن يقول الشارع في مورد العلم الاجمالي : لاتجتنب لأني أتدارك مصلحة الواقع ، كما قال الشارع بمثل ذلك في مورد درهمي الودعي ، وتقسيم الابل بين المدعيين في قصة علي أمير المؤمنين عليه السلام ، وارث الخنثى ، وغير ذلك من موارد قاعدة العدل ونحوها ؟ .

( فان قلت : ) أنكم قلتم : الاذن في الحرام مع علم المكلّف بالحرمة حين الارتكاب ، فيه محذور عقلي ، مع انه من الواضح : انّ المكلّف في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي إذا ارتكبها تدريجا لايعلم بفعله للحرام حال ارتكاب كل واحد واحد ، فلا محذور في اذن الشارع ، لأنه حينئذ يكون كالاذن في الشبهة البدوية ، كما قال : ( إذن الشارع في فعل المحرّم مع علم المكلّف بتحريمه إنّما ينافي حكم العقل من حيث انه إذن في المعصية والمخالفة ) وقد تقدّم : انه لا يتمكن الشارع من الاذن في المعصية والمخالفة ، لأنّه تناقض ( وهو ) أي إذن الشارع في فعل الحرام ( إنّما يقبح مع علم المكلّف بتحقيق المعصية حين ارتكابها ) أي : حين ارتكاب المعصية ، ومع ذلك يجوّز الشارع ارتكابها .

هذا ( و ) الحال ان ( الاذن في ارتكاب المشتبهين ليس كذلك ) أي : إذن بما

ص: 240

إذا كان على التدريج بل هو إذن في المخالفة مع عدم علم المكلّف بها الاّ بعدها ، وليس في العقل ما يقبّح ذلك والاّ يقبح الاذن في ارتكاب جميع المشتبهات بالشبهة غير المحصورة أو في ارتكاب مقدار يعلم عادة بكون الحرام فيها ،

-------------------

يعلم المكلّف بتحقيق المعصية حين ارتكابها ( إذا كان ) الارتكاب ( على التدرج ) بأن يشرب هذا الاناء مرة وذاك الاناء اخرى ، لا ما إذا إرتكبهما دفعة واحدة ، بأن يشرب أحدهما وفي نفس الحال يصب الآخر في أرض المسجد .

( بل هو ) أي : الاذن في ارتكاب المشتبهين على التدريج ( إذن في المخالفة مع عدم علم المكلّف بها) أي : بكونها مخالفة ( الاّ بعدها ) أي : الاّ بعد المخالفة ، فانّه بعد أن يشرب المائين تدريجيا يعلم بأنّه قد ارتكب حراما أمّا بشربه الأوّل وأمّا بشربه الثاني ( وليس في العقل ما يقبّح ذلك ) العلم بالمخالفة بعدالارتكاب .

وعلى أي حال : فانه لامانع عقلاً من ابقاء الصحيحة المتقدّمة ، المقيدة بكلمة « بعينه » على ظاهرها ، بأن يكون اذنا في ارتكاب المشتبهين لكن بحملها على صورة التدريج لا على صورة الدفعية .

( والاّ ) بأن كان الاذن في الشيء الذي يعلم المكلّف بعد تحققه انه معصية قبيحا ، لكان ( يقبح الاذن في ارتكاب جميع المشتبهات بالشبهة غير المحصورة ) كما إذا علم بأنّ سلعة أحد بقاليّ البلد محرّمة ، فانه يجوز له الاشتراء من أحدهما : في هذا اليوم ، ومن الثاني في يوم ثان ، وهكذا حتى يشتري من جميعهم تدريجيا، فيحصل له العلم بعد الاشتراء من جميعهم بأنّه قد ارتكب حراما ، مع انه لا يقول العلماء بحرمته ، ممّا يكون دليلاً على انّ العلم بالمخالفة بعد ارتكابها ليس بمحرَّم .

( أو ) يقبح الاذن ( في ارتكاب مقدار يعلم عادة بكون الحرام فيها) كما إذا علم

ص: 241

وفي ارتكاب الشبهة المجرّدة التي يعلم المولى اطلاع العبد بعد الفعل على كونه معصية ، وفي الحكم بالتخيير الاستمراريّ بين الخبرين ، أو فتوى المجتهدين .

قلت :

-------------------

في الشبهة غير المحصورة بأنّ خمسة من بقالي البلد بضاعتهم محرّمة ، فاشترى تدريجا من جميعهم الاّ اربعة منهم ، فانّه يقطع بعد الاشتراء من هؤلاء بانّه قد ارتكب محرّما واحدا في هذه الجملة ، ومع ذلك لا يقول الفقهاء بحرمته .

( و ) كذلك يقبح الاذن ( في ارتكاب الشبهة المجرّدة ) عن العلم الاجمالي محصورة وغير محصورة ، كما في الشبهة البدوية ( التي يعلم المولى : اطلاع العبد بعد الفعل على كونه معصية ) ومع ذلك لا يقولون بقبحه ، كما اذا علم العبد بعد - مثلاً - انّ أكل اللحم - مثلاً - الذي اشتراه من المسلم بأنّه كان مذبوحا بدون الشرائط .

( و ) كذلك يقبح إذن الشارع للمكلّف ( في الحكم بالتخيير الاستمراريّ بين الخبرين ، أو فتوى المجتهدين ) فانّ المجتهد إذا تبدّل رأيه وكذلك مقلده ، أو من تبدّل مجتهده مع تغيّر فتواهما وقد عمل بالأول مدة من الزمن ، ثم عمل بالثاني مدة اخرى ، فانه يعلم بأنّ أحدهما كان مخالفا للواقع ومع ذلك لا يقولون بقبحه .

وكذا يقبح إذن الشارع بالتخيير الاستمراري بين الخبرين ، فانه إذا كان هناك خبران متنافيان وأجاز الشارع العمل بأحدهما مخيرا فانّ المجتهد العامل بهذا تارةً وبذاك اخرى يعلم بأنّه خالف الواقع بعد عمله بالخبرين ، الى غيرها من الموارد المشابهة ومع ذلك لا يقول أحد بأنّ إذن الشارع قبيح في مثل هذه الامور .

( قلت ) : لا نسلم جواز إذن الشارع في التخيير الاستمراري بأن يبيح للمكلّف

ص: 242

إذنُ الشارع في أحد المشتبهين ينافي أيضا حكم العقل بوجوب امتثال التكليف المعلوم المتعلّق بالمصداق المشتبه لايجاب العقل حينئذ الاجتناب عن كلا المشتبهين .

-------------------

فعل هذا مرة وذاك اخرى ، فانّ ( إذنُ الشارع في أحد المشتبهين ) على سبيل التخيير الاستمراري ممّا يمكِّن المكلّف من ارتكاب كليهما تدريجا ( ينافي أيضا ) كما في صورة الأذن مع علم المكلَّف بالمخالفة حين الفعل ( حكم العقل بوجوب امتثال التكليف المعلوم ) حرمته ( المتعلّق بالمصداق المشتبه ) فلا فرق عند العقل والعقلاء بين المخالفة المعلومة حين ارتكابها ، وبين المخالفة المعلومة بعد ارتكابها .

وعليه : فلا يمكن أن يأذن الشارع في المشتبه الثاني ، كما لا يمكن أن يأذن في المشتبه الأوّل ، من غير فرق بين أن يكون الاذن بارتكابهما دفعة أو تدريجا ، وذلك ( لايجاب العقل حينئذ ) أي : حين العلم بالتكليف المتعلق بالمصداق المشتبه (الاجتناب عن كلا المشتبهين ) فانّ العقل إذا استقل بوجوب اطاعة التكليف المعلوم اجمالاً ، يستقل بوجوب اجتناب جميع الأطراف مقدمة للتكليف المعلوم بينهما ، سواء كان الارتكاب للطرفين دفعة أو تدريجا .

وأما ما ذكره من الأمثلة : من إذن الشارع بالارتكاب التدريجي في الشبهة البدوية مع علم العبد بعد ذلك احيانا ، أو تغير رأي المجتهد ، أو مجتهد المقلِّد ، أو التخيير الاستمراري في الروايات إلى غير ذلك من الامثلة ، فانه لابد أن يقال فيها: بأنّ الشارع رفع اليد فيهاعن حكمه الواقعي لمصلحة التسهيل ونحو ذلك .

والحاصل من الجواب : هذه الموارد انّما هي بالدليل ، فلا يقاس عليه ما نحن فيه الذي ليس فيه دليل :

ص: 243

نعم ، لو أذن الشارع في ارتكاب أحدهما مع جعل الآخر بدلاً عن الواقع « في الاجتزاء » بالاجتناب عنه جاز . فاذن الشارع في أحدهما لايحسن إلاّ بعد الأمر بالاجتناب عن الآخر بدلاً ظاهريا عن الحرام الواقعي ، فيكون المحرّم الظاهري هو أحدهما على التخيير ، وكذا المحلل الظّاهري ،

-------------------

( نعم ) لو ثبت بالدليل انّ الشارع أجاز التخيير الابتدائي ، كان ذلك دليلاً على جعل الشارع الآخر بدلاً عن الحرام الواقعي بين المشتبهين لمصلحة ، وذلك لايدل على جواز التخيير بينهما استمرارا ، فانه ( لو أذن الشارع في ارتكاب أحدهما مع جعل الآخر بدلاً عن الواقع « في الاجتزاء » بالاجتناب عنه جاز ) وقوله : « في الاجتزاء » ، متعلق بقوله « جعل الآخر بدلاً » ، بمعنى : إنّ الشارع جعل الذي يجتنب المكلّف عنه من بينهما بدلاً عن الحرام الواقعي .

وعليه : فاذا كان هناك انائان : أحدهما أبيض ، والآخر أصفر ، وأجاز الشارع ارتكاب أحدهما فارتكب المكلّف الأبيض ، كان معناه انّ الشارع جعل الأحمر بدلاً عن الحرام الواقعي ، ولو ارتكب الأحمر كان معناه : انّ الشارع جعل الأبيض بدلاً عن الحرام الواقعي ( فاذن الشارع في أحدهما لايحسن ) على سبيل التخيير الاستمراري حتى يشرب من هذا الاناء مرة ومن ذاك الاناء اخرى .

إذن : فالاذن لايحسن ( الاّ بعد الأمر بالاجتناب عن الآخر بدلاً ظاهريا عن الحرام الواقعي ) وإنّما جعل أحدهما بدلاً عن الحرام الواقعي لمصلحة التسهيل أو ما أشبه ( فيكون المحرّم الظاهري هو أحدهما على التخيير ) إبتداءا فقط .

( وكذا المحلل الظّاهري ) الذي أجاز الشارع ارتكابه للمكلَّف في التخيير الابتدائي جعله الشارع بدلاً عن الحلال الواقعي .

ص: 244

ويثبت المطلوب ، وهو حرمة المخالفة القطعيّه بفعل المشتبهين .

وحاصل معنى تلك الصّحيحة «انّ كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف انّ في ارتكابه فقط أو في ارتكابه المقرون مع ارتكاب غيره ارتكابا للحرام » ، والأوّل في العلم التفصيلي ، والثاني في العلم الاجمالي .

-------------------

هذا ( ويثبت المطلوب: وهو حرمة المخالفة القطعيّة بفعل المشتبهين ) تدريجا أو دفعة ، اذ إجازة أحدهما على سبيل البدل تخييرا ابتدائيا لاينافي ماذكرناه من حرمة المخالفة القطعية بارتكاب كليهما ، وعلى هذا ، فالشارع حرَّم شيئين :

الأوّل : الحرام المعلوم معيّنا ، كما إذا علمنا انّ الاناء الأبيض حرام .

الثاني : الحرام المردد الذي يرتكب المكلّف كليهما ، كما إذا علمنا انّ الاناء الأبيض أو الأحمر حرام ثم يشرب المكلّف كلا الانائين ، أمّا الحرام المردد الذي يرتكب المكلّف أحدهما، فلا بأس به إذا جعل الشارع للحرام الواقعي بينهما بدلاً.

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله : ( وحاصل معنى تلك الصّحيحة ) المشتملة على كلمة « بعينه » هو ( «انّ كل شيء فيه حلال وحرام ) كالمايع الذي فيه قسم خل، وقسم خمر ، وكان هناك انائان : اناء خمر ، واناء خل ( فهو لك حلال حتى تعرف انّ في ارتكابه فقط) ارتكابا حرام ، كما إذا تميز الخمر عن الخل وكان الخمر في الاناء الأبيض فارتكبه ، وهذا هو مورد العلم التفصيلي .

( أو ) تعرف انّ هذا أو مصاحبه خمر ، فانّ ( في ارتكابه ، المقرون مع ارتكاب غيره ، ارتكابا للحرام» ) أي : إن ارتكبهما جميعا علم بأنّه قد ارتكب الحرام ، وهذا هو مورد العلم الاجمالي كما قال : ( والأوّل في العلم التفصيلي ، والثاني في العلم الاجمالي ) وبهذا ظهر : انه لا يجوز للمكلّف ارتكاب كليهما ممّا يقطع بأنّه

ص: 245

فان قلت : إذا فرضنا المشتبهين ممّا لا يمكن ارتكابهما الاّ تدريجا ، ففي زمان ارتكاب أحدهما يتحقق الاجتناب عن الآخر قهرا ، فالمقصود من التخيير وهو : ترك أحدهما حاصل مع الاذن في ارتكاب كليهما ،

-------------------

ارتكب الحرام ، سواء ارتكبهما دفعة أو ارتكبهما تدريجا .

( فان قلت ) : إذا سلمتم بأنّه يجوز للشارع جعل البدل عن الواقع ، نقول : إذن يجوز التخيير الاستمراري في الامور التدريجية لذلك أيضا ، كوطي المرأتين اللتين أحديهما زوجته والأخرى أجنبية عنه واشتبهتا ، فانّه عندما يطأ الرجل هندا تكون ميسون بدلاً عن الحرام الواقعي ، وعندما يطأ ميسون بعد ذلك تكون هند بدلاً عن الحرام الواقعي ، فيجوز التخيير الاستمراري ، كما ذهبتم إلى جواز التخيير الابتدائي .

وعليه : فلا فرق بين إذن الشارع بالتخيير الابتدائي ، أو التخيير الاستمراري، فانه ( إذا فرضنا المشتبهين ممّا لا يمكن ارتكابهما الاّ تدريجا ) بأن لايكونا مثل الانائين الذين يمكن صب أحدهما في الآخر وارتكابهما دفعة ، أو مثل الانائين الذين يمكن شرب أحدهما وصب الآخر في المسجد في حالة واحدة ( ففي زمان ارتكاب أحدهما يتحقق الاجتناب عن الآخر قهرا ) لوضوح : انه لا يمكن وطي المرأتين في آن واحد ( فالمقصود من التخيير ) سواء الابتدائي أو الاستمراري ( وهو : ترك أحدهما ) عند ارتكاب الآخر للاذن فيه ( حاصل ) في التدريجي قهرا ( مع الاذن ) من الشارع ( في ارتكاب كليهما ) وذلك بأستمرار التخيير .

لا يقال : إنّ المكلّف من أول الأمر يقصد وطي كلتا المرأتين ، فلا يكون المتروك بدلاً عن الواقع لعدم قصد امتثال النهي فيه .

ص: 246

إذ لا يعتبر في ترك الحرام القصد ، فضلاً عن قصد الامتثال .

قلت : الاذن في فعلهما في هذه الصورة أيضا ينافيالأمر بالاجتناب عن العنوان الواقعي المحرّم ، لما تقدّم من أنّه مع وجود دليل حرمة ذلك العنوان المعلوم وجوده في المشتبهين ، لايصحّ الاذن في أحدهما ، إلا بعد المنع عن الآخر بدلاً عن المحرّم الواقعي .

-------------------

فانّه يقال : لا يضر مثل هذا القصد ، فانّه في التوصليات لا حاجة إلى قصد الفعل ولا إلى قصد الترك ، فلا مانع من ان يقصد كلتيهما ، كما لا مقتضي لأن يقصد ترك أحداهما ، فالفعل تدريجي والقصد لا يضر وجوده ولا عدمه ( إذ لا يعتبر في ترك الحرام القصد ) والاختبار ( فضلاً عن قصد الامتثال ) فالتارك لشرب الخمر مثلاً لا يحتاج إلى قصد ترك الشرب فضلاً عن ان يقصد الامتثال في ترك الشرب والامتثال عبارة عن : قصد الوجه وما أشبه ذلك .

( قلت ) : ليس المهم عند العقل ان يقدر المكلّف على ارتكابهما دفعة كالانائين ، أو لا يقدر كالمرأتين ، بل العقل يرى حرمة ارتكابهما ، سواء دفعة أو تدريجا ، فانّ ( الاذن في فعلهما في هذه الصورة ) أي : في صورة عدم امكان فعلهما دفعة ، والتمكن من فعلهما تدريجا ( أيضا ) كما في صورة امكان فعلهما دفعة ( ينافيالأمر ) من الشارع ( بالاجتناب عن العنوان الواقعي المحرّم ) .

وعليه : فلا يصح للشارع الاذن في ارتكابهما تدريجا ( لما تقدّم : من أنّه مع وجود دليل حرمة ذلك العنوان المعلوم وجوده في المشتبهين ) كالمرأة المحرمة المردد بين هند وميسون ( لايصحّ ) عقلاً ( الاذن في أحدهما ، إلاّ بعد المنع عن الآخر بدلاً عن المحرّم الواقعي ) من غير فرق بين الدفعي والتدريجي .

ص: 247

ومعناه المنع عن فعله بعده ؛ لأنّ هذا هو الذي يمكن أنّ يجعله الشارع بدلاً عن الحرام الواقعي ، حتى لاينافي أمره بالاجتناب عنه ، أمّا تركه في زمان فعل الآخر لا يصلح أن يكون بدلاً .

فحينئذ :

-------------------

( ومعناه ) أي : معنى المنع عن الآخر بدلاً عن المحرّم الواقعي ، هو ( المنع عن فعله بعده ) أبدا ، لا مجرد تركه قهرا زمان فعل الآخر ، فانّ هنا أمرا ونهيا : أمرٌ بجواز ارتكاب أحدهما ، ونهيٌ عن الآخر على سبيل التخيير الابتدائي لا الاستمراري ، ومعنى ذلك : أنّه يجب عليه ترك الآخر أبدا .

وإنّما يكون ذلك معناه ( لأنّ هذا) أي : المنع عن فعل الآخر أبدا ( هو الذي يمكن أنّ يجعله الشارع بدلاً عن الحرام الواقعي ) فلا يتحقق أبدا ( حتى لاينافي ) ارتكاب المكلّف لأحدهما ( أمره ) أي : أمر الشارع ( بالاجتناب عنه ) أي : عن ذلك العنوان الواقعي المردّد بينهما ، فجعلُ البدل لا ينافي الحرام الواقعي ، أمّا اجازة ارتكابهما ولو تدريجا فهو مناف للحرام الواقعي .

وإليه اشار بقوله : (أمّا ) مجرد ( تركه ) أي : ترك المكلّف أحدهما ( في زمان فعل الآخر ) فانّه ( لا يصلح أن يكون بدلاً ) فانّه لا بدلية في الواقع إذا ارتكبهما جميعا ، سواء ارتكبهما دفعة أو تدريجا ، فاذا قال الشارع : اجتنب عن الحرام الواقعي بين هذين المشتبهين ، ثم قال : ارتكب كل واحد منهما تدريجا ؛ حكم العقل التناقض الصريح بين نهيه واذنه ، فانّ التناقض كما يكون بين قوله : هذا أبيض وهو أسود ، كذلك يكون بين قوله : هذا ابيض وكلاهما أسود ؛ نعم لا يكون تناقض بين قوله : أحدهما أسود ، وبين قوله : أحدهما أبيض .

( فحينئذ ) أي : حين لا يجوز إذن الشارع بارتكاب كليهما استمرارا للتناقض

ص: 248

فان منع في هذه الصورة وعن واحد من الأمرين المتدرجين فيالوجود ، لم يجز ارتكاب الثاني بعد ارتكاب الأوّل ، والاّ لغي المنع المذكور .

فان قلت : الاذن في أحدهما يتوقف على المنع عن الآخر في نفس تلك الواقعة ، بأن يرتكبها دفعة ، والمفروض امتناع ذلك فيما نحن فيه

-------------------

( فان منع في هذه الصورة ) التدريجية ( وعن واحد من الأمرين المتدرجين فيالوجود ، لم يجز ارتكاب الثاني بعد ارتكاب الأوّل ، والاّ ) بأن جاز ارتكاب الثاني بعد ارتكاب الأوّل ( لغي المنع المذكور ) عن الحرام الواقعي المردد بينهما ، لأنّه لو ارتكب كليهما تدريجا كان مخالفة قطعية للحرام الواقعي ، وكان من التناقض الذي يستقل العقل بأنه لا يصدر من مثل الحكيم .

( فان قلت : ) انّه لا يمكن للشارع الاذن بارتكاب كليهما في مورد امكان الارتكاب الدفعي ، كشرب أحدهما وصب الآخر في المسجد ، لكن يمكن له الاذن بارتكاب أحدهما بدلاً عن الواقع ، لأنّه إذا أجاز كليهما كان معناه : أنّه أجاز مخالفة الواقع تفصيلاً ، أما في مورد عدم إمكان الارتكاب الدفعي ، كوطي الزوجتين التي احداهما في حالة العادة ، فانّه يمكن للشارع الاذن بارتكاب كليهما تدريجا، لأنّه إذا ارتكب أحدهما كان الآخر الذي لايتمكن من ارتكابه بدلاً عن الواقع .

وعليه ، فالصحيحة تبقى على ظاهرها ونخصصها بهذا المورد، لأن ( الاذن في أحدهما يتوقف على المنع عن الآخر في نفس تلك الواقعة ) التي يمكن فيها الارتكاب الدفعي ، حتى يبقى الآخر بدلاً عن الواقع ، وذلك ( بأن ) يمنع الشارع من أن ( يرتكبها ) أي : يرتكب الأطراف ( دفعة ) واحدة ( والمفروض امتناع ذلك ) الارتكاب الدفعي ( فيما نحن فيه ) ممّا يتعذَّر ارتكابهما دفعة ، كوطي

ص: 249

من غير حاجة الى المنع ، ولا يتوقف على المنع الآخر بعد ارتكاب الأوّل ، كما في التخيير الظّاهري الاستمراري .

قلت : تجويز ارتكابهما من أوّل الأمر ولو تدريجا، طرح لدليل حرمة الحرام الواقعي ، والتخيير الاستمراري في مثل ذلك ممنوع .

-------------------

الزوجتين في المثال ( من غير حاجة الى المنع ) عن الآخر الذي جعله الشارع بدلاً عن الواقع .

هذا (ولا يتوقف) الاذن في أحدهما (على المنع عن الآخر بعد ارتكاب الأوّل) لما عرفت : من أنّه إذا ارتكب أحدهما كان الآخر بدلاً عن الواقع تلقائيا ، فإذا ارتكب الثاني في زمان ثانٍ يكون الأوّل بدلاً عن الواقع تلقائيا ، فيكون حال المقام (كما في التخيير الظّاهري الاستمراري ) فكما أجاز الشارع العمل بأحد الخبرين وأحد القولين لمجتهدين استمرارا ، أجاز فيما نحن فيه أيضا وطي المرأتين تدريجا ، فإذا وطي هندا كانت دَعد بدلاً عن الواقع ، وإذا وطي دعدا كانت هندا بدلاً عن الواقع .

( قلت : تجويز ارتكابهما من أوّل الأمر ولو تدريجا ) بأنّ يأذن الشارع وطي المرأتين من أول الأمر ولكن تدريجا ، بأن يكون وطي هندا قبل وطي دعد - فرضا - فانّه ( طرح لدليل حرمة الحرام الواقعي ) اذ معنى ذلك : انّ الشارع قد أذن في المعصية ، فينافي حكم الشرع بالحرمة لحكم العقل بوجوب الطاعة .

( و ) أمّا النقض بالتخيير الظاهري الاستمراري ، فنقول : ( التخيير الاستمراري في مثل ذلك ) أي : في مورد العلم الاجمالي بالحرمة ( ممنوع ) فلا يكون التخيير الظاهري جائزا ، وذلك لأنّه ينافي حكم العقل بوجوب طاعة التكليف المعلوم

ص: 250

والمسلّم منه ما إذا لم يسبق بالتكليف المعيّن أو يسبق تكليف بالفعل حتى يكون المأتي به في كل دفعة بدلاً عن المتروك على تقدير وجوبه دون العكس ،

-------------------

اجمالاً ، كما ينافي حكم الشرع بأن الواقع أحد الأمرين أيضا ( والمسلّم منه ) أي : من التخيير ( : ما إذا لم يسبق بالتكليف المعيّن ) أي : لم يكن نوع التكليف معيّنا للمكلّف حتى يجب طاعته عقلاً وشرعا ، كما في اختلاف الخبرين أو اختلاف المجتهدين حيث لايعلم المكلّف أنّ هذا المجتهد على حق أو ذاك المجتهد ، وانّ هذا الخبر يطابق الواقع أو ذاك الخبر ، فلا يكون التكليف معيّنا عنده ، بخلاف مثل: وطي المرأة فانّه يعلم قبل وطي أيّ منهما حرمة وطي أحداهما .

( أو يسبق تكليف بالفعل ) لا بالترك ، بأن تكون الشبهة وجوبية ، وذلك مثل : مورد العلم الاجمالي بالوجوب المردد بين القصر والتمام ، أو الجمعة والظهر ، وقوله « أو يسبق » ، عطف على الجازم والمجزوم أي : ما إذا لم يسبق التكليف .

وعلى أي حال : فهذين الموردين ، وهما : الجهل بنوع التكليف ، والجهل بخصوصية التكليف مع كون التكليف بالفعل لا بالترك ، كما في الشبهة الوجوبية يجوز ارتكابهما تدريجا ، أما لو كان الجهل بخصوصية التكليف مع كون التكليف بالترك كما في الشبهة التحريمية مثل حرمة وطي الحائض المردد بين الزوجتين ، فلا يجوز إذن الشارع بارتكابهما تدريجا ، لأنّه إذن الشارع بارتكاب الحرام .

وعليه : فمع سبق التكليف بفعل أحدهما كما في الشبهة الوجوبية ، يجوز التخيير الاستمراري ، وذلك ( حتى يكون المأتي به في كل دفعة بدلاً عن المتروك على تقدير وجوبه ) أي : وجوب المتروك ( دون العكس ) أي : بأن يسبق تكليف بالترك كما في الشبهة التحريمية ، فلا يصح التخيير في مورد العلم الاجمالي

ص: 251

بأن يكون المتروك في زمان الاتيان بالآخر بدلاً عن المأتي به على تقدير حرمته ، وسيأتي تتمة ذلك في الشبهة غير المحصورة .

-------------------

بالحرمة ، وذلك ( بأن يكون المتروك في زمان الاتيان بالآخر بدلاً عن المأتي به على تقدير حرمته ) أي : حرمة المتروك كما في ترك وطي هند بدلاً عن دعد ، وترك وطي دعد بدلاً عن هند .

إذن : ففي مورد دوران الأمر بين القصر والتمام إذا قصّر يوما وأتمّ يوما آخر قطع بأنّه امتثل للأمر يوما ، وان قطع بأنّه خالفه يوما آخر ، وأما امتثال النهي فهو لايحصل إلاّ بترك الطبيعة المتوقف على الترك دائما ، وذلك لأنّ مجرد ترك الحرام في بعض الأحيان لايكون امتثالاً للنهي ، كما في مثال اشتباه الحائض بين زوجتيه ، فإنّه اذا وطي هذه مرة وتلك اخرى قطع بأنّه خالف النهي ، فظهر من ذلك : ان هناك فرقا بين الأمر بالفعل ، والنهي عن الفعل ، فيصح جعل المأتي به في كل واقعة بدلاً عن الواجب الواقعي في باب الفعل ، ولا يصح جعل المتروك في كل واقعة بدلاً عن الحرام الواقعي في باب الترك ( وسيأتي تتمة ذلك في الشبهة الغير المحصورة ) انشاء اللّه تعالى .

لكن لا يخفى : إنّ هذا الجواب غير كافٍ ، لأنّه إذا وجبت الجمعة أو الظهر ، فانّه يعلم بأنه ترك الواجب إذا أتى بهذه مرة وبتلك اخرى ، وترك الواجب حرام قطعا ، فاللازم أن يقال : في كل مورد ثبت التخيير الاستمراري كشف ذلك عن انّ الشارع رفع يده عن حكمه الواقعي لمصلحة ثانوية ، مثل : رفع الشارع يده عن النجس والحرام بسبب قاعدة الطهارة والحل ، مع وضوح : أنّه كثيرا ما يبتلي الانسان بالحرام والنجس بسبب عمله بهاتين القاعدتين .

ص: 252

فان قلت : إنّ المخالفة القطعيّة للعلم الاجمالي فوق حد الاحصاء في الشرعيات ، كما في الشبهة غير المحصورة ، وكما لو قال القائل في مقام الاقرار : هذا لزيد ، بل لعمرو فانّ الحاكم يأخذ المال لزيد وقيمته لعمرو ، مع أنّ أحدهما أخذٌ للمال بالباطل .

وكذا يجوز للثالث أن يأخذ المال من يد زيد وقيمته من يد عمرو ، مع علمه بأنّ أحد الأخذين تصرّف في مال الغير بغير إذنه ،

-------------------

( فان قلت : ) المخالفة القطعية بالنسبة الى التكليف المعلوم اجمالاً ، كما في وطي المرأتين تدريجا لا تضر ، اذ ( انّ المخالفة القطعيّة للعلم الاجمالي فوق حد الاحصاء في الشرعيات ، كما في الشبهة الغير المحصورة ) حيث ان جمعا من الفقهاء أفتوا بجواز ارتكاب جميع الاطراف تدريجا ، مع ان المرتكب للجميع يعلم بأنّه خالف الحرام الواقعي قطعا .

( وكما لو قال القائل في مقام الاقرار : هذا ) الشيء ( لزيد ، بل لعمرو ) حيث أنّه اعتراف بالمال لزيد ، وهو لعمرو ، واضرابه لا ينفع ، إذ الانكار بعد الاقرار غير نافع ، لكن مع ذلك ( فانّ الحاكم ) على ما افتى به غير واحد ( يأخذ المال لزيد وقيمته لعمرو ، مع أنّ أحدهما) أي : أحد الاخذين ( أخذٌ للمال بالباطل ) لوضوح : ان المال إن كان لزيد فليس قيمته لعمرو ، وإن كان لعمرو فليس لزيد ، فهو مخالفة قطعية من الحاكم المفتي ومن الآخذين اللذين يعلمان بأن أحدهما لا حق له .

( وكذايجوز للثالث أن يأخذ المال من يد زيد وقيمته من يد عمرو ، مع علمه ) أي : علم الثالث ( بأنّ أحد الأخذين تصرّف في مال الغير بغير إذنه ) فينقلب علمه الاجمالي الى العلم التفصيلي بالحرمة ، خصوصا إذا اشترى بالعين وبقيمته جارية

ص: 253

ولو قال : هذا لزيد ، بل لعمرو ، بل لخالد ، حيث أنّه يغرم لكل من عمرو وخالد تمام القيمة ، مع أنّ حكم الحاكم باشتغال ذمّته بقيمتين مخالف للواقع قطعا .

وأيّ فرق بين قوله عليه السلام : « إقرارُ العقلاء على أنفسهم جائزٌ » ، وبين أدلّة : حلّ مالم يعرف كونه حراما ؟

-------------------

- مثلاً - فانّه يعلم بحرمة وطيه للجارية ، أو ما أشبه ذلك ممّا اشترى بالمالين شيئا ، وتصرف في ذلك الشيء .

( و ) كما ( لو قال ) المقرّ : ( هذا ) المال ( لزيد ، بل لعمرو ، بل لخالد ، حيث انّه يغرم لكلّ من عمرو وخالد تمام القيمة ، مع أنّ حكم الحاكم باشتغال ذمّته بقيمتين مخالف للواقع قطعا ) .

وهكذا إذا تلف المال واعترف به لهذا مرة ولذاك أُخرى ، حيث يؤخذ منه مثلان : مثلٌ لهذا ، ومثلٌ لذاك في المثلي ، وقيمتان في القيمي ، أو مثل وقيمة ، فيما إذا لم يكن هناك الاّ مثل واحد ، فانّه يعطي المثل للأوّل ، ويعطي القيمة للثاني .

( و ) كما يجوز المخالفة القطعية في باب الاقرار ، كذلك يجوز في باب الحليّة والطهارة وما أشبه ، إذ ( أيّ فرق بين قوله 7 : « إقرارُ العقلاء على أنفسهم جائزٌ » (1) وبين ) قوله 7 : « كُلُّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ حَتَى تَعلَم أنّهُ حَرامٌ»(2) وغيره من (أدلّة: حلّ مالم يعرف كونه حراما؟) مثل: كُلُّ شَيءٍ مُطلَق حَتّى يَرِدَ فَيهِ نَهيٌ»(3)

ص: 254


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص223 ح104 و ج2 ص257 ح5 و ج3 ص442 ح5 ، وسائل الشيعة : ج23 ص184 ب3 ح29342 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
3- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 و ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

حتّى أنّ الأوّل يعّم الاقرارين المعلوم مخالفة أحدهما للواقع ، والثاني لا يعمُّ الشيئين المعلوم حرمةُ أحدهما .

وكذلك لو تداعيا عينا في موضوع ، يحكم بتنصيفها بينهما مع فرض العلم بأنّها ليست إلاّ لأحدهما .

وذكروا أيضا في باب الصّلح : أنّه لو كان لأحد الودعيّين درهم وللآخر درهمان ، فتلف عند الودعي أحدُ الدراهم ، فانه يقسّم أحد الدرهمين الباقيين بين المالكين ،

-------------------

فانه أيّ فرق بين النصّين : نص « اقرار العقلاء » ، ونص « حلية كل شيء » ( حتّى ان الأوّل ) وهو نص الاقرار ( يعّم الاقرارين المعلوم مخالفة أحدهما للواقع ، والثاني ) وهو نص الحليّة ( لا يعمّ الشيئين المعلوم حرمة أحدهما ) ؟ .

وعليه : فكما تقولون بشمول الاقرار للمعلوم حرمة أحدهما ، كذلك يلزم عليكم القول بشمول كل شيء حلال لما يعلم حرمة أحدهما كالمرأتين .

( وكذلك لو تداعيا عينا في موضوع ، يحكم بتنصيفها بينهما مع فرض العلم بأنّها ) أي : بأن هذه العين ( ليست إلاّ لأحدهما ) كما إذا ادّعى زيد وعمرو شاة وجاء كل واحد منهما بشاهدين ، أو حلف كل واحد منهما فيما لم يكن لهما شاهد ، أو لم يكن لهما شاهد ولم يحلفا ، فانّه يقسم الشاة بينهما مع انّا نعلم بأن الشاة إمّا لهذا وإمّا لذاك .

( وذكروا أيضا في باب الصّلح ) أي : في كتابه ( انّه لو كان لأحد الودعيّين ) أي: الذين أودعا الشيء عند انسان ثالث ( درهم وللآخر درهمان ، فتلف عند الودعي ) الذي هو أمين بلا تعدّ ولا تفريط ( أحدُ الدّراهم ) الثلاثة ( فانّه يقسّم أحد الدرهمين الباقيين بين المالكين ) لأنّ درهم واحد من الدرهمين الباقيين

ص: 255

مع العلم الاجمالي بأن دفع أحد النصفين دفع للمال الى غير صاحبه .

وكذا لو اختلف المتبايعان في المبيع أو الثمن ، وحكم بالتحالف وانفساخ البيع ، فانه يلزم مخالفة العلم الاجمالي ، بل التفصيلي في بعض الفروض ، كما لا يخفى .

-------------------

هو محل النزاع ، فيعطى لصاحب الاثنين درهم ، وينصّف الدرهم الثاني نصفين نصفه لهذا ونصفه لذاك ( مع العلم الاجمالي بأن دفع ) الحاكم أو الودعي « أحد النصّفين » لهذا والنصف الآخر لذاك ( دفع للمال إلى غير صاحبه ) لأنّ الدرهم إمّا لزيد وإمّا لعمرو ، فكيف ينصّفه بينهما ؟ .

وكذلك لو كان لاحد الودعيّين ديناران وللآخر ثلاثة دنانير ، وضاع عند الودعي دينار من الخمسة ، فانّه يعطي لصاحب الاثنين دينارا ، ولصاحب الثلاثة دينارين ، ويبقى الدينار الرابع ، فيقسّمه بينهما بالنسبة ، مع أنَّ الدينار الرابع إمّا لصاحب الاثنين وإمّا لصاحب الثلاثه قطعا .

( وكذا لو اختلف المتبايعان في المبيع ) هل هو فرس أو شاة ؟ ( أو الثمن ) هل هو دينار أو درهم ؟ ولم يكن لأحد الطرفين شاهد ( وحكم بالتحالف وانفساخ البيع ) فانّهما إذا حلفا انفسخ البيع وردّ مال كل منهما إلى صاحبه ( فانّه يلزم مخالفة العلم الاجمالي ) حيث يعلم الحاكم كما يعلم المتبايعان أنفسهما بأن البيع كان صحيحا وقد انتقل العوضان فكيف استرجع كل منهما ماله الذي انتقل بالبيع الى صاحبه قطعا ؟ .

وكيف كان : ففي جميع هذه الموارد يلزم مخالفة العلم الاجمالي ( بل التفصيلي في بعض الفروض ) كما ذكرنا في مثال انتقال الشيئيين إلى شخص ثالث ومثال الاختلاف في المبيع أو الثمن ( كما لا يخفى ) واذا جاز مخالفة العلم

ص: 256

قلت : أمّا الشبهة غير المحصورة فسيجيء وجه جواز المخالفة فيها .

-------------------

الاجمالي في هذه الموارد بل التفصيلي ، فلا مانع من جواز مخالفة العلم الاجمالي في مثل مورد الحائض المرددة بين الزوجتين وغير ذلك ممّا ذكرنا : بأنّه يجوز الارتكاب التدريجي فيها .

( قلت : ) أوّلاً : إنّا نناقش في الصغرى في بعض تلك المسائل المتقدِّمة حيث انّا لا نسلّم اعطاء العين لشخص وقيمتها لشخص آخر ، فيما إذا اعترف بالعين لهذا مرة ولذاك اخرى ، بل نقول : مقتضى قاعدة « العدل » تقسيم نفس العين بينهما بالتنصيف ، فانّ قاعدة « الاقرار » لا تشمل مثل هذا المورد .

ثانيا : انّا نقول في كل مورد ثبت خلاف العلم الاجمالي فيه : بأن ذلك المورد استثناء من الشارع من باب الأهم والمهم وما أشبه ذلك ممّا تقدَّم ، وقد مثَّلنا له بالمخالفة في الشبهة البدوية ، حيث يراعي الشارع فيها مصلحة التسهيل على الناس، فلا يتعدّى من المورد الذي استثناه الشارع إلى غيره من الموارد الاخر .

وحينئذ لايمكن أن يقال بجواز المخالفة القطعية للعلم الاجمالي في أي مورد اطلاقا ، إلاّ فيما استثناه الشارع بنفسه .

هذا ، أمّا أجوبة المصنّف ، ففي بعضها مناقشة ، فقد قال : ( أما الشبهة غير المحصورة : فسيجيء وجه جواز المخالفة فيها ) مع انّ بعض الفقهاء قالوا : لايجوز المخالفة فيها بارتكاب جميع الأطراف ، وانّما يجوز الارتكاب الا بقدر المعلوم بالاجمال ، فان علم - مثلاً - بأن سلعة أحد بقالي البلد محرّمة ، جاز الاشتراء الاّ من أحدهم ، وإن علم بأن بضاعة اثنين منهم محرّمة جاز الاشتراء الاّ من اثنين ، وهكذا .

ص: 257

وأمّا الحاكمُ فوظيفته أخذُ ما يستحقّه المحكوم له على المحكوم عليه بالأسباب الظّاهرية ، كالاقرار ، والحلف ، والبيّنة ، وغيرها . فهو قائم مقام المستحق في أخذ حقه ، ولا عبرة بعلمه الاجمالي .

نظير ذلك ما إذا أذن المفتي لكلّ واحد من واجدي المني في الثوب المشترك في دخول المسجد

-------------------

( وأمّا الحاكم فوظيفته ) أمران :

الأوّل : القضاء بين المتخاصمين والاكتفاء ببيان المحقّ منهما من المبطل .

الثاني : ( أخذ ما يستحقّه المحكوم له على المحكوم عليه ) استحقاقا ( بالأسباب الظّاهرية ، كالاقرار ، والحلف ، والبيّنة ، وغيرها ) من مثل : القسامة ، ونكول المترافعين ، والشواهد التي تكتنف بالكلام وبالقضية ، ممّا توجب كشف الحاكم الحق حسب الموازين الشرعية ( فهو ) أي : الحاكم هنا ( قائم مقام المستحق في أخذ حقه ) واعطائه للمستحق شرعا ، كالوكيل الذي يأخذ مال الموكل ويرسله إليه ( ولا عبرة بعلمه ) أي: بعلم الحاكم ( الاجمالي ) بأن أحد الطرفين مبطل .

ولا يخفى : انّ هذا معناه : انّ الشارع رفع اليد عن الواقع من أجل الموازين الظّاهرية - كما ذكرناه نحن - فهو استثناء لأجل النص الشرعي عليه ، فلا يتعدى مورده الى سائر الموارد .

و (نظير ذلك ) أي : نظير حكم القضاء ( ما إذا أذن المفتي لكلّ واحد من واجدي المني في الثوب المشترك في دخول المسجد ) مع أنّه يعلم أنّ أحدهما جنب وأنّ دخوله في المسجد محرّم في نفسه ، لكن حيث يعلم المفتي بأن لكل منهما أن يجري استصحاب الطهارة لنفسه ، جاز له أن يفتي بأن لكل واحد منهما

ص: 258

فانّه إنمّا يأذن كلاً منهما بملاحظة تكليفه في نفسه ، فلا يقال : إنّه يلزم من ذلك إذنُ الجنب في دخول المسجد وهو حرام .

وأمّا غير الحاكم ممّن اتفق له أخذ المالين من الشخصين المقرّ لهما

-------------------

الحق في دخول المسجد ، كما قال :

( فانّه إنمّا يأذن كلاً منهما بملاحظة تكليفه ) أي : تكليف المستفتي ( في نفسه) من غير نظر الى تكليف المفتي ، حيث ان كل واحد منهما يشك شكا بدويا في جنايته ، وفي حرمة دخوله المسجد ، وحرمة الصلاة والصوم عليه ، وما أشبه ذلك ، فتكليف كل منهما في نفسه الجواز ، لأصالة عدم الجنابة سواء بالنسبة إلى زيد أو بالنسبة إلى عمرو الذين وجدا المني في ثوبهما.

وكذلك الحال إذا علم الحاكم بأن زوجة أحدهما أخته من الرضاعة - مثلاً - أو حائض ، فاستفتاه كل منهما في مقاربة زوجته ، فانّه يفتي لكل واحد منهما بالجواز، لأنّه من الشك البدوي بالنسبة اليهما واستصحاب الحلية أيضا يعطي الجواز بالنسبة إلى كل منهما ، وبعد اجازة الشارع لمثل هذه المخالفة بالنسبة إلى الحاكم ( فلا يقال : أنّه يلزم من ذلك : إذن الجنب في دخول المسجد وهو حرام ) أو اذنه في وطي الزوجة وهي أخته من الرضاعة ، أو في حال الحيض ، أو ما أشبه ذلك .

وهكذا لو شك في مكان خارج عن البلد : بأنّه خارج عن حدّ الترخّص أم لا ، فانّه يفتي بالتمام للمسافر من البلد لاستصحاب التمام ، وبالقصر للراجع إلى البلد لاستصحاب القصر ، مع أنّه لو كان خارجا عن حدّ الترخص كانت صلاة المسافر من البلد باطلة ، ولو كان داخلاً في محل الترخص كان صلاة الراجع إلى البلد باطلة.

هذا ( وأمّا غير الحاكم ممّن اتفق له أخذ المالين من الشخصين المقرّ لهما

ص: 259

في مسألة الاقرار فلا نسلّم جواز أخذه لهما ولا لشيء منهما إلاّ إذا قلنا بأن ما يأخذه منهما يعامل معه معاملة الملك الواقعي ، نظير ما يملكه ظاهرا بتقليد أو اجتهاد يخالف لمذهب من يريد ترتيب الأثر ، بناءا على أنّ العبرة في ترتيب آثار الموضوعات الثابتة في الشريعة ، كالملكية ، والزوجيّة ، وغيرهما ،

-------------------

في مسألة الاقرار ) أو مسألة الصلح ( فلا نسلّم جواز أخذه لهما ) أي : للمالين ( ولا لشيء منهما ) فانّه قد يأخذ كل المالين ، وقد يأخذ من كل مال بعضه ، ممّا يوجب له العلم الاجمالي بأنّه استولى على الشيء الحرام .

( إلاّ إذا قلنا بأن ما يأخذه منهما يعامل معه معاملة الملك الواقعي ) بأن نقول أنّ الدليل على تقسيم الابل في قضاء علي أمير المؤمنين عليه السلام وشبهه دلّ على انّ حكم الشارع قد جعل المال نصفا بينهما ، ولولا حكم الشارع لكان كل المال لأحدهما، فيجوز حينئذ للثالث أخذ المال منهما ، حيث انّ المال صار ملكا لهما بسبب حكم الشارع ، فيترتَّب على المالين حكم الملك الواقعي ، وكذا إذا ورث أحدهما الآخر أو ورثهما ثالث حيث يجتمع عنده المالان .

وعليه : فيكون ذلك ( نظير ما يملكه ظاهرا بتقليد أو اجتهاد يخالف لمذهب من يريد ترتيب الأثر ) كما اذا أفتى أحد المجتهدين بصحة العقد بالفارسية ، وأفتى الآخر بعدم الصحة ، فانّ المقلدين الذين أجريا صفقة بيع ، وقد أجراه أحدهما بالعقد الفارسي والآخر بالعقد العربي يصبح المال لهما ويترتّب على المالين أحكام الملك الواقعي ، فهو استثناء عن لزوم موافقة العلم الاجمالي .

وإنّما يكون كذلك ( بناءا على أنّ العبرة في ترتيب آثار الموضوعات الثابتة في الشريعة ، كالملكية ، والزوجيّة ، وغيرهما ) كالرقية ، والحرية ، تكون العبرة

ص: 260

بصحتها عند المتلبس بها ، كالمالك والزوجين ، ما لم يعلم تفصيلاً من يريد ترتيب الأثر خلاف ذلك .

-------------------

( بصحتها ) أي : بصحة تلك الموضوعات ( عند المتلبس بها ) أي : بهذه الموضوعات ( كالمالك والزّوجين ) والعبد الذي استرق ، أو العبد الذي تحرر ، وهكذا .

وعليه : فانّه اذا صحّت الملكية عند المالك والزوجية عند الزوجين ، والرقية عند العبد ، والحرية عند الحر ، وهكذا كل عند نفسه بحسب الاجتهاد أو التقليد ، فللآخر ان يرتِّب على هذه الموضوعات الآثار الشرعية ، مثل : جواز الاشتراء وحرمة التزويج وغير ذلك من الأحكام .

وكذلك الحال فيما اذا أفتى أحد المجتهدين بحرمة الشاة المذبوحة بفري وَدَجٍ واحد، وأفتى الآخر بحليتها ، فانّه يحل لكل منهما أن يأكل من شاة الآخر ، وكذلك اذا اختلف مجتهداه وكان أحدهما يقول بالحرمة والآخر بالحلية فله الأكل منهما اذا كانت الشاة بعد باقية ، وقد ذكر صاحب الفصول في هذا المجال : انّ الواقعة الواحدة لا تتحمل اجتهادين وهو كلام متين جدا ، وتدل عليه السيرة المستمرة بين المتشرعة مع اختلاف الفقهاء في أمثال هذه الامور اختلافا كثيرا .

ثم إنّ المصنّف قيّد جواز ترتيب الآثار بقوله : ( ما لم يعلم تفصيلاً من يريد ترتيب الأثر خلاف ذلك ) كما ذكرنا في مثال اشتراء شخص ثالث منهما ، وانتقال المال من أحدهما إلى الآخر بسبب بيع أو أرث أو ما أشبه ، حيث يعلم تفصيلاً أنّه لا يحل له المالان .

لكنّك قد عرفت : انّ ظاهر الاستثناء الشرعي أنه يصح للثالث ترتيب الآثار أيضا ، وإلاّ فأي فرق بين المجتهد المفتي بفتويين وهو يعلم عدم مطابقة احداهما

ص: 261

ولذلك قيل بجواز الاقتداء في الظهرين بواجدي المني في صلاة واحدة ، بناءا على أنّ المناط في صحّة الاقتداء الصّحة عند المصلي ، ما لم يعلم تفصيلاً فساده .

-------------------

للواقع ، وبين الشخص الثالث المنتقل إليه المالان ، أو الشخص الثاني الذي انتقل إليه مال الأوّل بارث أو نحوه .

( ولذلك ) الذي ذكرناه بقولنا : « بناءا على ان العبرة في ترتيب آثار الموضوعات ..» ( قيل بجواز الاقتداء في الظهرين ) مثلاً : ( بواجدي المني ) بأن يصلي الظهر مع أحدهما ، والعصر مع الآخر ، فإنّ المأموم حينئذ يعلم بأن صلاة الظهر باطلة أو صلاة عصره لأنّه ترك الحمد والسورة عمدا ، فانّ الإمام إذا كان جُنبا لم تصح إمامته ولم تصح مأمومية المأموم به ، فيكون تركه الحمد والسورة مبطلاً لصلاته . بل ( في صلاة واحدة ) كما إذا صلى مع أحدهما ركعتين ثم مات أو أحدث ، فقام مقامه الآخر ، فإنّ هذه الصلاة مقطوع بأن إمامها واجد للمني في الجملة .

وإنّما قيل بجواز الاقتداء ( بناءا على أنّ المناط في صحّة الاقتداء : الصّحة عند المصلي ) فتصح صلاة الثالث ، ومن المعلوم : انّ صلاة واجد المني صحيح حسب تكليفه ، حيث يستصحب عدم الجنابة بالنسبة إليه ( ما لم يعلم تفصيلاً فساده ) أي : ما لم يعرف الشخص الثالث الجنب منهما تفصيلاً ، فإذا عرف جنابة أحدهما تفصيلاً بأن علم أنّ زيدا هو الجنب منهما ، فإنّه وإن كان زيد لايعرف أنّه جنب ، لا يصح للشخص الثالث الاقتداء بزيد .

نعم ، من يرى اشتراط احراز المأموم صحة صلاة الإمام ولو بالأصل ، فلا يجوز الائتمام بهما ولا بأحدهما إذ العلم بجناية أحدهما يمنع عن اجراء أصالة الصحة

ص: 262

وأما مسألة الصّلح ، فالحكم فيها تعبّدي ، وكأنّه صلح قهريّ بين المالكين ، أو يحمل على حصول الشركة بالاختلاط .

وقد ذكر بعض الأصحاب أنّ مقتضى القاعدة الرّجوع إلى القرعة .

وبالجملة : فلا بدّ من التّوجيه في جميع ماتوهّم جواز المخالفة القطعية الرّاجعة الى طرح دليل شرعيّ ،

-------------------

في صلاتهما ، لكن بناء الفقهاء على أنّ الصحيح عند الإمام كافٍ في جواز الاقتداء به ( وأما مسألة الصّلح ) في درهمي الودعي التي ورد بها النص وعمل به الفقهاء (فالحكم فيها تعبّدي وكأنّه صلح قهريّ بين المالكين ) بمعنى : ان نصف المال أو ما يقسم بالنسبة قد انتقل إلى غير مالكه بنقل اللّه سبحانه وتعالى فهو صلح من قبل مالك الملوك ، كما قد يكون صلحا من قبل المالك للمال لزيد وعمرو ونحوهما .

( أو يحمل على حصول الشركة بالاختلاط ) فكأنه اشترك الودعيان في مجموع الدراهم على سبيل الاشاعة ، حتى ان ما تلف يكون منهما ، وما بقي يكون منهما ، ومرجع هذين الحملين إلى ما ذكرناه : من الخروج بالدليل ، سواء الدليل الشرعي ام ان الدليل العرفي قام على الاشاعة والشارع قررها .

هذا ( وقد ذكر بعض الأصحاب أنّ مقتضى القاعدة الرّجوع إلى القرعة ) في الودعيين لا التنصيف ، وبقي هنا ممّا لم يذكره المصنِّف - وإن أشكل عليه في قوله : « ان قلت » - مسألة الاختلاف في الثمن أو المثمن ، فيكون ذلك استثناءا من الشارع ، كما ذكرناه في غيره ، أو انّه أمر عرفي قررّه الشارع .

( وبالجملة : فلا بدّ من التّوجيه في جميع ماتوهّم جواز المخالفة القطعية ) فيه ( الرّاجعة ) تلك المخالفة القطعية ( إلى طرح دليل شرعيّ ) أوّلي مثل قوله تعالى :

ص: 263

لأنّها كما عرفت ممّا يمنع عنها العقل والنقل ، خصوصا اذا قصد من ارتكاب المشتبهين التوصّل إلى الحرام ، وهذا ممّا لا تأمّل فيه ومن يظهر منه جواز الارتكاب فالظاهر : أنّه قصد غير هذه الصورة .

ومنه يظهر : ان إلزام - القائل بالجواز - بأنّ تجويز ذلك يفضي إلى إمكان التوصل إلى فعل جميع المحرّمات على وجه مباح ، بأن يجمع بين الحلال والحرام المعلومين

-------------------

« وَلاتَأكُلُوا أموالَكُم بينَكُم بالباطل » (1) وغيره من أدلة المحرمات ، فان كل هذه الموارد ، استثناء من الأدلة الأوّلية ، أما استثناء شرعي أولاً وبالذات ، وأمّا استثناء عرفي قررّ الشارع ذلك الاستثناء ( لأنّها كما عرفت ممّا يمنع عنها العقل ) فانّ المخالفة القطعية ممنوعة في العقل ( و ) في ( النقل ) من الأدلة الأولية الدالة على لزوم الاجتناب عن المحرمات ( خصوصا اذا قصد من ارتكاب المشتبهين التوصّل إلى الحرام ، وهذا ) قطعي التحريم ، و ( ممّا لا تأمل فيه ) من أحد .

( و ) أما ( من يظهر منه جواز الارتكاب ) للمشتبهين تدريجا ( فالظاهر : أنّه قصد غير هذه الصورة ) أي: صورة قصده ارتكاب المشتبهين للتوصل إلى الحرام .

( ومنه ) أي : من أنّ حرمة المخالفة مع القصد المذكور اتفاقي بين الأصحاب ، وان من يظهر منه جواز الارتكاب لا يقصد هذه الصورة ( يظهر : ان إلزام القائل بالجواز ) أي : من يقول بجواز ارتكاب المشتبهين تدريجا ( بأنّ تجويز ذلك ) الخلاف التدريجي ( يفضي ) وينتهي ( إلى إمكان التوصل إلى فعل جميع المحرّمات على وجه مباح ) وذلك ( بأن يجمع بين الحلال والحرام المعلومين

ص: 264


1- - سورة البقرة : الآية 188 .

تفصيلاً ، كالخمر والخلّ ، على وجه يوجب الاشتباه فيرتكبهما - محلُّ نظر ، خصوصا على ما مثلّ به من الجمع بين الأجنبيّة والزّوجة .

-------------------

تفصيلاً كالخمر والخلّ ) جمعا ( على وجه يوجب الاشتباه ) بينهما بأن لم يعرف الخل من الخمر منهما ( فيرتكبهما ) تدريجا ، فان هذا الالزام ( محلّ النظر ) بل غير لازم للقائل .

وانّما هو محل نظر لما عرفت : من ان أحدا لم يقل بجواز ارتكاب المشتبه بقصد التوصل إلى الحرام ، ( خصوصا على ما مثلّ به ) المستشكل ( من الجمع بين الأجنبيّة والزّوجة ) فإنّ القائل بجواز ارتكاب المشتبهين تدريجا أشكل عليه : بأنه على الجواز ، يجوز لشخص أن يجمع بين زوجته وأجنبية فيطأهما جميعا في ظلام ونحوه حتى لا يعرف عند الوطي أيتهما الزوجة وأيتهما الأجنبية ، كما أنّ له أن يجمع بين الزوجة وغلام ، أو تجمع المرأة بين الزوج والاجنبي ممّا هو بديهي التحريم شرعا .

بل وكذا له أن يجمع بين واجب القتل ومحرّم القتل في مكان لا يميّز بينهما فيقتلهما ، أو بين جائز الذبح في الشاة ومحرّم الذبح كالانسان المحقون الدم فيذبحهما في حال يكون حين الذبح لا يعلم بأن أيهما الانسان ، كما لو كان الذبح بواسطة الماكنة ، إلى غير ذلك من الامور المسلّمة حرمتها شرعا .

وانّما قلنا خصوصا وأنّه لا يرد هذا الاشكال على القائل بجواز الارتكاب التدريجي لما عرفت : من أنّ المخالفة على تقدير جوازها في سائر موارد العلم الاجمالي ، فانّه لايجوز ههنا في مثل هذه الأمثلة ، وذلك من جهة الأهمية في الفروج والدِّماء حتى وإن لم تقصد من الخلط بينهما التوصل إلى الحرام .

ص: 265

هذا كلّه فيما إذا كان الحرام المشتبه عنوانا واحدا مرددا بين أمرين .

وأما إذا كان مردّدا بين عنوانين ؛ كما مثّلنا سابقا بالعلم الاجمالي بأنّ أحد المايعين إمّا خمرٌ أو الآخر مغصوب ، فالظّاهر انّ حكمه كذلك .

إذ لافرق في عدم جواز المخالفة للدليل الشرعي بين كون ذلك الدليل معلوما بالتفصيل وكونه معلوما بالاجمال ،

-------------------

( هذا كلّه فيما إذا كان الحرام المشتبه عنوانا واحدا مرددا بين أمرين ) كما إذا لم يعلم أنّ الخمر في الاناء الأحمر أو في الاناء الأبيض ( وأما إذا كان مردّدا بين عنوانين كما مثّلنا ) له ( سابقا ) في مبحث القطع ( بالعلم الاجمالي بأنّ أحد المايعين إمّا خمرٌ أو الآخر مغصوب ) حيث انّه ليس المحرّم عنوانا واحدا ، بل دار الأمر بين الخمرية والمغصوبية ، أو دار أمر المرأة بين كونها زوجة بالحيض أو كونها أجنبية ( فالظّاهر انّ حكمه كذلك ) أي : تحرم المخالفة عقلاً وشرعا ، فلا يجوز له شرب الانائين حيث يعلم انّه شرب إمّا الخمر وإما المغصوب ، وكذلك لا يجوز له وطي المرأتين حيث يعلم انه إمّا وطي الزوجة في حالة الحيض وإمّا وطي الاجنبية .

وانّما يكون حكمه التحريم أيضا ( إذ لافرق ) عقلاً وشرعا ( في عدم جواز المخالفة للدليل الشرعي بين كون ذلك الدليل معلوما بالتفصيل ) مثل : « اجتنب عن الخمر » ، وقوله « للدليل » متعلق « بالمخالفة » (و) بين ( كونه معلوما بالاجمال ) مثل : اجتنب عن الخمر أو اجتنب عن الغصب ، فانّ العقل والعقلاء والمتشرِّعة لايفرِّقون في وجوب الاجتناب عن المشتبه ، سواء كان مشتبها بالخمر وحده ، أم مشتبها إمّا بالخمر وإمّا بالمغصوب ، فيلزم الاجتناب عن كِلا الانائين في كلتا الصورتين .

ص: 266

فان من ارتكب الانائين في المثال يعلم بأنه خالف دليلَ حرمة الخمر أو دليلَ حرمة المغصوب ، ولذا لو كان إناء واحد مرددا بين الخمر والمغصوب لم يجز ارتكابه ، مع أنه لايلزم منه الاّ مخالفة احد الدليلين لا بعينه ، وليس ذلك إلا من جهة أنّ مخالفة الدليل الشرعي محرّم عقلاً وشرعا ، سواء تعيّن للمكلف

-------------------

وانّما يلزم الاجتناب عنهما لانّه كما قال : ( فان من ارتكب الانائين في المثال ) أي : في مثال ما إذا علم ان أحدهما إمّا خمر وإمّا غصب ( يعلم بأنه خالف دليل حرمة الخمر أو دليل حرمة المغصوب ) .

ومن الواضح : انه لا فرق عند العقل والعقلاء ولا عند المتشرّعة الذين تلقوا فهمهم من الشرع في وجوب اجتناب الحرام بين الحرمة التفصلية والحرمة الاجمالية ، وفي الاجمالي بين أن يكون الحرام شيئا واحدا مرددا بين شيئين ، أو الحرام أحد أمرين مرددا بين شيئين .

( ولذا ) أي : لأجل عدم الفرق بين الفرضين ( لو كان إناء واحد مرددا بين الخمر والمغصوب لم يجز ارتكابه ) أيضا لانّه أي فرق بين الاناء الواحد المردّد بين الخمر والمغصوب ، وبين الانائين الذين يعلم المكلّف بأن أحدهما إمّا خمر وإمّا مغصوب ؟ ( مع انه لا يلزم منه الاّ مخالفة أحد الدليلين لا بعينه ) فانه اذا ارتكب المشتبه في المثال الثاني ، وهو ما إذا كان مرددا بين الخمر والمغصوب ، يعلم بأنه خالف إمّا دليل الخمر وإمّا دليل الغصب وهذه المخالفة محرّمة وان كان لا يعلم أنه خالف هذا الدليل أو ذاك الدليل ؟ .

( وليس ذلك ) أي : عدم الجواز بالنسبة إلى محتمل الخمرية والغصبية ( إلاّ من جهة انّ مخالفة الدليل الشرعي محرّم عقلاً وشرعا سواء تعيّن للمكلّف ) بأنّه

ص: 267

أو تردّد بين دليلين .

ويظهر من صاحب الحدائق التفصيلُ في باب الشبهة المحصورة بين كون المردّد بين المشتبهين فردا من عنوان فيجب الاجتناب عنه وبين كونه مردّدا بين عنوانين فلايجب .

فان أراد عدم وجوب

-------------------

خمر بين الاناء الأحمر أو الأبيض ( أو تردّد بين دليلين ) وان كان أحد الانائين إمّا خمر وإمّا غصب .

هذا حكم ما كان الجامع قريبا كما في مثال المردد بين الخمر والغصب ، وهو : شرب السائل ، فانّه محرّم وكذلك الحال لو كان الجامع بعيدا كما إذا تردد الأمر بين كون ما في الاناء خمرا ، أو ان زوجته في حال الحيض ، فانّه لا يجوز له أن يشرب هذا ويطأ هذه .

وكذا لو كان الجامع ابعد بأن تردد الأمر بين تكليف الزامي لم يعلم انه وجوب الجمعة ، أو حرمة وطي زوجته المحتمل حيضها فانّه إذا قطع بأحد الامرين اجمالاً ، وجب عليه الاتيان بالجمعة وترك الزوجة ، فلا يجوز له ان يترك الجمعة وأن يأتي المرأة ، لأنه يعلم حينئذ بأنّه خالف تكليفا إلزاميا موجها اليه ، وذلك ممّا يمنعه العقل والشرع .

هذا ( ويظهر من صاحب الحدائق ) هنا ( التفصيل في باب الشبهة المحصورة بين كون المردّد بين المشتبهين فردا من عنوان ) كما عرفت من مثال الخمر المردد بين كونه في الاناء الأبيض أو الاناء الأحمر ( فيجب الاجتناب عنه ) أي : عن ذلك العنوان الواحد بالاجتناب عن الانائين ( وبين كونه مرددا بين عنوانين ) كالخمر أو الغصب - مثلاً - ( فلا يجب ) الاجتناب عنه ( فان أراد ) الحدائق ( عدم وجوب

ص: 268

الاجتناب عن شيء منهما في الثاني وجواز ارتكابهما معا ، فظهر ضعفُه بما ذكرنا ، وإن أراد عدم وجوب الاحتياط فيه فسيجيء ما فيه .

وأمّا المقام الثاني

فالحق فيه : وجوبُ الاجتناب عن كلا المشتبهين وفاقا للمشهور ،

-------------------

الاجتناب عن شيء منهما في الثاني ) بأن يشرب الانائين الذين علم بأن أحدهما إمّا خمر وإمّا غصب ( وجواز ارتكابهما معا ، فظهر ضعفه بما ذكرنا ) من ان العقل والشرع متطابقان في عدم جواز الارتكاب ، سواء كان عنوانا واحدا أم عنوانين ؟ .

( وإن أراد عدم وجوب الاحتياط فيه ) بجواز ارتكاب أحدهما لا بجواز ارتكاب كليهما ( فسيجيء ما فيه ) وانه كما لايجوز ارتكاب كلا الانائين الذين يعلم اجمالاً بأن أحدهما خمر أو غصب ، كذلك لا يجوز ارتكاب أحدهما ، فانه ان طابق الواقع عوقب لأنه ارتكاب عمدي بعد وصول البيان .

ألا ترى انه لو علم العبد بأنّ مولاه أمره بأحد شيئين : إمّا بأن يشتري الطعام ، وإمّا بأن لا ينام ، فارتكب العبد كليهما عوقب قطعا ؛ وان ارتكب أحدهما عوقب أيضا ان خالف كلام المولى ، وليس في الشرع ما يدل على خلافه ، بل المتشرعة يرون أنفسهم ملزمين بوجوب الاطاعة كذلك .

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل وهو : حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم اجمالاً وعدمها .

(أما المقام الثاني ) : أي : وجوب الموافقة القطعية للمعلوم إجمالاً وعدمه (فالحق فيه : وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين وفاقا للمشهور ،

ص: 269

وفي المدارك : أنه مقطوع به في كلام الاصحاب ، ونسبه المحقق البهبهاني في فوائده إلى الأصحاب ، وعن المحقق المقدّس الكاظمي في شرح الوافية دعوى الاجماع صريحا ، وذهب جماعة إلى عدم وجوبه وحكي عن بعض القرعة .

لنا على ما ذكرنا أنه إذا ثبت كونُ أدلة تحريم المحرّمات شاملة للمعلوم إجمالاً

-------------------

وفي المدارك : انّه مقطوع به في كلام الاصحاب ) ومن المعلوم : إنّ هذه العبارات ظاهرة في الاجماع ( ونسبه المحقق البهبهاني في فوائده إلى الأصحاب ) وهذا أصرح في دعوى الاجماع من كلام المدارك .

( وعن المحقق المقدّس الكاظمي في شرح الوافية : دعوى الاجماع صريحا ) عليه ، فاذا شك في أنّ أي الانائين خمر هذا أو ذاك ؟ وجب الاجتناب عنهما .

( و ) لكن مع ذلك الاجماع الذي عرفته ( ذهب جماعة إلى عدم وجوبه ) أي : عدم وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين ، مما حاصله : أنه لايجب الموافقة القطعية .

( وحكي عن بعض ) قول ثالث وهو : ( القرعة ) فاذا لم يعلم أنّ هذا خمر أو ذاك ، أقرع بينهما فيجتنب عن أحدهما بالقرعة ويرتكب الآخر بها .

( لنا على ما ذكرنا ) من وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين وجوه ثلاثة ، ذكر المصنّف هنا وجها وذكر في آخر المبحث وجهين آخرين .

أمّا الوجه الذي ذكره هنا ، فهو : ( انه إذا ثبت كون أدلة تحريم المحرّمات ) مثل : اجتنب عن الخمر ( شاملة للمعلوم إجمالاً ) لأن الجهل انّما يكون بالنسبة إلى الذهن ، والألفاظ لم توضع للمعاني المعلومة ، فاذا قال المولى : اجتنب

ص: 270

ولم يكن هناك مانع عقلي أو شرعي من تنجيز التكليف به ، لزم بحكم العقل التحرّز عن ارتكاب ذلك المحرّم بالاجتناب عن كلا المشتبهين .

وبعبارة اخرى : التكليف بذلك المعلوم إجمالاً إن لم يكن ثابتا جازت المخالفة القطعيّة ، والمفروض في هذا المقام التسالمُ

-------------------

عن الخمر كان معناه : اجتنب عن الخمر الواقعي ، لا الخمر المعلومة الخمرية ، وكذلك اذا قال : صِلْ رحمك ، كان معناه : صِلْ رحمك الواقعي ، لا ان معناه رحمك المعلومة أنّها رحمك .

هذا من جهة وجود المقتضي ، فانّ المقتضي موجود .

( و ) أمّا عدم المانع فانّه ( لم يكن هناك مانع عقلي أو شرعي من تنجيز التكليف به ) أي بالمعلوم اجمالاً ، فاذا كان المقتضي موجودا والمانع مفقودا اثرت العلة التامة أثرها وهو تنجز التكليف هنا ، وذلك لأن العقل لا يرى مانعا عن تنجز التكليف المعلوم اجمالاً ، وأدلّة البرائة لاتشمل مورد العلم الاجمالي كما سبق في بحث البرائة .

وعليه : فاذا تم هذان الأمران : وجود المقتضي وعدم المانع ( لزم بحكم العقل : التحرّز عن ارتكاب ذلك المحرّم) المجهول خصوصيته، المعلوم أصله بالاجمال، ويكون التحرز ( بالاجتناب عن كلا المشتبهين ) : المحرّم الواقعي من باب أنّه حرام ، وغير المحرّم الواقعي ممّا اشتبه به من باب المقدمة العلمية ، إذ لو ارتكب أحدهما وصادف الواقع كان فيه العقاب .

( وبعبارة اخرى : التكليف بذلك المعلوم اجمالاً إن لم يكن ثابتا ) لقصور الأدلة - مثلاً - ( جازت المخالفة القطعيّة ) بأن يرتكب كلا الانائين ( و ) لكن (المفروض في هذا المقام ) الذي نحن فيه من وجوب الموافقة القطعية ( : التسالم

ص: 271

على حرمتها ، وإن كان ثابتا وجب الاحتياط فيه بحكم العقل ، إذ يحتمل أن يكون ما يرتكبه من المشتبهين هو الحرام الواقعي ، فيعاقب عليه ، لأنّ المفروض لمّا كان ثبوت التكليف بذلك المحرّم فلم يقبح العقابُ عليه إذا اتّفق إرتكابه ولو لم يعلم به حين الارتكاب .

-------------------

على حرمتها ) أي : حرمة المخالفة القطعية .

( وإن كان ) التكليف بذلك المعلوم اجمالاً (ثابتا ) لما عرفت : من وجود المقتضي وعدم المانع ( وجب الاحتياط فيه بحكم العقل ) بالاجتناب عن كِلا المشتبهين .

وانّما يلزم الاجتناب عن كليهما ( إذ يحتمل أن يكون ما يرتكبه من المشتبهين ) فيما لو ارتكب أحدهما فقط أن يكون ( هو الحرام الواقعي فيعاقب عليه ) فالعقل يستقل بوجوب دفع العقاب المحتمل في مورد العلم الاجمالي .

وانّما يعاقب المولى عليه مع المصادفة ( لأنّ المفروض لمّا كان ثبوت التكليف بذلك المحرّم ) لما عرفت : من وجود المقتضي وعدم المانع ( فلم يقبح العقاب عليه ) أي : على ما ارتكبه ( إذا اتّفق ارتكابه ) للحرام الواقعي بأن شرب أحد الانائين فكان في الواقع هو الخمر ( ولو لم يعلم ) المكلّف ( به ) أي : بأن ما يشربه هو ذلك المحرّم ( حين الارتكاب ) ومن المعلوم : إنّ دفع العقاب المحتمل الذي لا مؤّن منه عقلاً أو شرعا واجب عقلاً .

نعم ، إذا ارتكب أحدهما ولم يصادف الخمر في الواقع ، لم يكن عليه عقاب ، لأنه لم يشرب الخمر ، والمفروض إنّ الخمر حرام لا الماء الذي لم يعلم المكلّف انه خمر أو ماء ، الاّ انّه يكون تجريا والشيخ المصنّف قدس سره يرى عدم حرمة التجري كما تقدّم في أول الكتاب .

ص: 272

واختبر ذلك من حال العبد إذا قال له المولى : « اجتنب وتحرّز عن الخمر المردّد بين هذين الانائين » ، فأنك لا تكاد ترتاب في وجوب الاحتياط .

ولا فرق بين هذا الخطاب وبين أدلّة المحرّمات الثابتة في الشريعة الاّ العموم والخصوص .

فان قلت : اصالة الحلّ

-------------------

( واختبر ذلك ) أي : وجوب الاحتياط بالاجتناب عن كلا المشتبهين وأنه اذا ارتكب أحدهما وصادف الواقع عوقب عليه ( من حال العبد إذا قال له المولى : «اجتنب وتحرّز عن الخمر المردّد بين هذين الانائين ») فيما كان هناك انائان أحدهما خمر ، فقال له المولى : اجتنب عن الخمر الواقعي المردد بينهما ( فانك لا تكاد ترتاب في وجوب الاحتياط ) في الاجتناب عن كلا الانائان .

هذا ( ولا فرق بين هذا الخطاب ) من المولى لعبده ( وبين أدلة المحرّمات الثابتة في الشريعة ) حيث قال سبحانه : « إنَّما الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصابُ وَالأَزلامُ رِجسٌ مِن عَملِ الشَيطانِ فاجتَنِبوُهُ » (1) ( الاّ العموم والخصوص ) المطلق فانّ المولى في هذا المثال حرّم خصوص الخمر المردّد بين هذين الانائين ، والشرع حكم بحرمة كلّي الخمر سواء علم به تفصيلاً أو اجمالاً ، وكما يجب الاحتياط في مثال العبد وخصوص الخمر المردد بين الانائين ، كذلك يجب الاحتياط في الثاني وهو تحريم المولى الخمر الكلي ، إذ لا يرى العرف فرقا بين الأمرين .

(فان قلت : ) انكم ذكرتم وجود المقتضي للحرمة وعدم المانع من عقل أو شرع عنها ، لكنّا نقول : المانع موجود وهو : وجود أصالة الحل ، فانّ ( أصالة الحلّ

ص: 273


1- - سورة المائدة : الآية 90 .

في كلا المشتبهين جارية في نفسها ومعتبرة لولا المعارض ، وغاية ما يلزم في المقام تعارضُ الأصلين ، فيتخيّر في العمل في أحد المشتبهين ، ولا وجه لطرح كليهما .

قلت : أصالة الحلّ غير جارية هنا بعد فرض كون المحرّم الواقعي مكلفا بالاجتناب عنه ، منجّزا على ما هو مقتضى الخطاب بالاجتناب عنه

-------------------

في كلا المشتبهين جارية في نفسها ) أي : جارية لولا المعارض ، فانّ الأصل : حليّة هذا الاناء ، كما ان الأصل : حليّة ذاك الاناء أيضا ، اذ أصالة الحل جارية ( ومعتبرة ) في كل من الانائين ( لولا المعارض ) حيث انّ أصل الحل في هذا ، معارض بأصل الحل في ذاك ، لانّا نعلم اجمالاً بأنّ أحدهما حرام فلا نتمكن من اجراء أصلين فيهما .

( و ) عليه فانّ ( غاية ما يلزم في المقام ) في مورد اشتباه الحرام بين الانائين هو: ( تعارض الأصلين ) لأنّ أصل الحل في هذا الاناء معارض بأصل الحل في الاناء الآخر بعد العلم الاجمالي بحرمة أحدهما ( فيتخيّر في العمل في أحد المشتبهين ) لأنّه اذا لم يتمكن الانسان من العمل بكلا الأصلين ، فلا اقل من أن يعمل بأحدهما ، لأنّه القدر الممكن ( ولا وجه لطرح كليهما ) أي : كلا الاصلين ، فانّ العلم الاجمالي مانع عن جريانهما معا ، لا عن جريان أحدهما .

( قلت : ) ما ذكرتم : من وجود المانع غير صحيح ، لأن ( أصالة الحلّ غير جارية هنا ) أي : في مورد العلم الاجمالي ( بعد فرض كون المحرّم الواقعي مكلّفا بالاجتناب عنه ) تكليفا ( منجّزا ) عقلاً وشرعا كما عرفت ( على ما هو مقتضى الخطاب ) وقوله : « على » متعلق بقوله : « مكلفا » ( بالاجتناب عنه ) أي : عن المحرّم ، فيكون معنى ذلك : انّ مقتضى قوله : « اجتنب عن الخمر » وجوب

ص: 274

لأنّ مقتضى العقل في الاشتغال اليقيني بترك الحرام الواقعي هو الاحتياط والتحرّز عن كلا المشتبهين ، حتى لا يقع في محذور فعل الحرام . وهو معنى المرسل المرويّ في بعض كتب الفتاوى : « اترك مالا بأسَ به حذرا عمّا به البأسُ » ، فلا يبقى مجال للاذن في فعل أحدهما ،

-------------------

الاجتناب عن الخمر الواقعي ، سواء علم به المكلّف أو تردد بين انائين أو ما أشبه ، وذلك ( لأنّ مقتضى العقل في الاشتغال اليقيني بترك الحرام الواقعي ) قوله : «بترك » متعلق « بالاشتغال » ( هو : الاحتياط والتحرّز عن كلا المشتبهين حتى لا يقع في محذور فعل الحرام ) إذا صادف الواقع .

والحاصل : إنّ أدلة الحلّ ليست مانعة عن مقتضى العلم الاجمالي الذي هو الاجتناب عن كليهما ، بل ( وهو ) أي : الذي ذكرناه : من وجوب الاجتناب عن كليهما ( معنى المرسل المرويّ في بعض كتب الفتاوى ) كسرائر ابن ادريس رحمه اللّه : ( اترك مالا بأس به ) أي : الحلال ( حذرا عمّا به البأسُ ) (1) أي : الحرام ، فاذا اختلف الحرام بالحلال وجب ترك الحلال لئلا يقع في محذور الحرام .

وعليه : ( فلا يبقى مجال للاذن في فعل أحدهما ) كما لا يجوز ارتكاب كليهما، فإنّ ارتكاب كلا المشتبهين منافٍ لتنجز التكليف المعلوم اجمالاً - حسب ما عرفت - واجراء البرائة في أحدهما فقط منافٍ لقاعدة الاشتغال ، فانّ الاشتغال اليقيني بحاجة الى البرائة اليقينية ، والبرائة اليقينية لا تحصل الاّ بالاجتناب عن جميع الأطراف .

ص: 275


1- - اشارة الى الحديث الوارد عن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم حتى يدع مالا بأس به حذرا مما به البأس ، الصراط المستقيم : ج1 ص135 ، وقريب منه في تحف العقول : ص60 ، الالفين : ص312 ، مجموعة ورام : ج1 ص60 .

وسيجيء في باب الاستصحاب أيضا أن الحكم في تعارض كل أصلين اذا لم يكن أحدهما حاكما على الآخر هو : التساقط ، لا التخيير .

فان قلت :

-------------------

( وسيجيء ) إنشاء اللّه تعالى ( في باب الاستصحاب أيضا ) كما ذكرنا هنا : من ( ان الحكم في تعارض كلّ أصلين إذا لم يكن أحدهما حاكما على الآخر هو : التساقط ، لا التخيير ) فإذا كان هناك استصحابان ليس بينهما سببي أو مسببي يتساقطان ، كما إذا كان هناك انائان كلاهما طاهر ثم وقع نجس في أحدهما المردّد ، فانّه لا يجري استصحاب الطهارة في هذا الاناء ، كما لا يجري استصحاب الطهارة في ذاك الاناء ، بل يتساقط الاستصحابان .

نعم ، إذا كان أحد الأصلين حاكما على الآخر ، بأن كان الشك في مورد سببا للشك في مورد آخر ، فانّه يجري الأصل في الشك السببي ويطرح الآخر الذي هو شك مسببي ، كما إذا كانت يده نجسه فغسلها في حوض مسبوق بالكريّة ، ثم شك في كرّية الماء ، فإنّ استصحاب الكريّة هنا حاكم على استصحاب نجاسة اليد ، فيجري استصحاب كرّية الماء ويسقط بسببه استصحاب نجاسة اليد ، فيحكم بطهارة اليد .

( فان قلت : ) ممّا حاصله على قول الأوثق : « ان ظاهر قوله عليه السلام : « كل شيء لك حلال » (1) هو : إلغاء احتمال الحرمة فيما يحتملها والحلية ، والبناء على كونه محللاً في الواقع ، وهذا في الشبهات البدوية واضح ، لعدم منافاة البناء على حلية بعضها مع البناء على حلية الباقي ، لاحتمال حلية الجميع في نفس الأمر ، فيحكم

ص: 276


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

...

-------------------

في الجميع بكونها محللاً في الواقع بحسب تنزيل الشارع ، فانّ الشبهات البدوية المتكثرة كل واحد يحكم فيها بالحلية ، ويحتمل أنّ الجميع في نفس الأمر حلال ، وأمّا الشبهة المحصورة : فلأن العلم فيها لمّا كان حاصلاً بحرمة أحد المشتبهين أو الأكثر ما لم يصل إلى حدّ غير المحصور ، فالبناء على كون أحدهما حلالاً في الواقع يستلزم وجوب البناء على كون الآخر حراما لا محالة ، وحيث لا ترجيح للحكم بحلية أحدهما بالخصوص ، يحكم بذلك فيهما على التخيير ، وذلك لأنّ البناء على حلية بعض الأطراف وكونه الموضوع المحلل ، يستلزم عقلاً البناء على كون غيره هو الموضوع المحرّم ، فكل من الحرام والحلال يكون على البدل (1) .

ولا يخفى : ان الفرق بين « ان قلت » هذا وبين « ان قلت » السابق بعد كون مفاد الاثنين : التخيير في ارتكاب أحد المشتبهين على البدل هو : ان جعل البدل هناك مستفاد من الجمع بين أدلة الحل وتعارض الأصلين ، لا من نفس أدلة الحل وجوابه كما عرفت : حكومة الاشتغال على الحل ، وهنا : جعل البدل مستفاد من نفس أدلة الحل وحكومتها على قاعدة الاشتغال ، إذ مفادها: وجوب البناء على ان هذا هو الخل فيترتّب عليه الحلية ، وهذا يشتمل موارد الشبهة البدوية على سبيل الاستيعاب وشمول جميع أطراف الشبهة ، لما عرفت : من امكان البناء على احتمال أن يكون كل واحد من هذه الأواني المرددة بين الخل والخمر : خلاً ، كما يشمل موارد الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي على سبيل التخيير وشمول بعض أفراد الشبهة لأنّ البناء على كون أحدهما خلاً ، مستلزم للبناء على كون الثاني خمرا.

ص: 277


1- - أوثق الوسائل : ص329 لزوم الموافقة القطعية في الشبهة الموضوعية .

قوله « كلُّ شيء لَكَ حَلالٌ حتّى تَعرِفَ الحَرام » أو نحوه ، يستفاد منه : حليّة المشتبهات بالشبهة المجرّدة عن العلم الاجمالي جميعا ، وحلية المشتبهات المقرونة بالعلم الاجمالي على البدل ، لأن الرّخصة في كل شبهة مجرّدة لا تنافي الرّخصة في غيرها ، لاحتمال كون الجميع حلالاً في الواقع .

فالبناءُ على كون هذا

-------------------

وعليه : فان ( قوله ) عليه السلام: ( «كلُّ شيء لَكَ حَلالٌ حتّى تَعرِفَ الحَرام» (1) أو نحوه ) من سائر أدلة البرائة مثل : « كلُّ شيء مطلقٌ حتى يَرِدَ فيه نهيٌ » (2)

( يستفاد منه : حليّة المشتبهات بالشبهة المجرّدة عن العلم الاجمالي ) حلاً يشمل اطرافها ( جميعا ) أي : جميع أفراد الشبهة البدوية ( وحليّة المشتبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ) انّما يكون ( على البدل ) فاذا استعملنا أحدهما على انّه حلال ، يحرم استعمال الآخر ، لأنه يكون حينئذ بدلاً عن الحرام الواقعي ، وكذلك إذا عكسنا : بأن استعملنا الثاني على انه حلال ، فانه يحرم الأوّل بناءا على كونه بدلاً عن الحرام الواقعي .

وانّما يستفاد من الأدلة ذلك ( لأن الرّخصة في كل شبهة مجرّدة ) عن العلم الاجمالي ( لا تنافي الرّخصة في غيرها ) بالنسبة إلى باقي الشبهات البدوية المتعددة ( لاحتمال كون الجميع حلالاً في الواقع ) وكذا بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة فيما كانت شبهات بدوية متعددة هنا وهناك ( فالبناء على كون هذا

ص: 278


1- - فروع الكافي : ج5 ص313 ح40 مع تفاوت ، وقريب منه في المحاسن : ص495 ح596 وبحار الانوار : ج2 ص274 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

المشتبه بالخمر خلاً ، لاينافي البناء على كون المشتبه الآخر خلاً .

وأمّا الرّخصة في شبهة مقرونة بالعلم الاجمالي والبناء على كونه خلاًّ لمّا يستلزم وجوب البناء على كون المحرّم هو المشتبه الآخر ، فلا يجوز الرّخصة فيه جميعا .

نعم ، يجوز الرّخصة فيه بمعنى جواز ارتكابه والبناء على ان المحرّم غيره ، مثلاً الرخصة في ارتكاب أحد المشتبهين بالخمر مع العلم بكون أحدهما خمرا ،

-------------------

المشتبه بالخمر خلاً ، لاينافي البناء على كون المشتبه الآخر ) أيضا ( خلاً ) وكذلك بالنسبة الى المشتبه الثالث والرابع والخامس فيما كانت الشبهات بدوية .

( وأمّا الرّخصة في شبهة مقرونة بالعلم الاجمالي والبناء على كونه خلاً ) فيما إذا كان هنالك انائان أحدهما خل والآخر خمر ، فانّه ( لمّا ) كان ( يستلزم وجوب البناء على كون المحرّم هو المشتبه الآخر ) حتى يكون المشتبه الآخر إمّا خمرا في الواقع ، وإمّا بدلاً عن الخمر الواقعي في تحريم الشارع له ، ( فلا يجوز الرّخصة فيه جميعا ) بأن يأذن في استعمال هذا الاناء وذاك الاناء مع أنّه يعلم بأن أحدهما خمر .

( نعم ، يجوز الرّخصة فيه ) أي : في كل واحد من المشتبهين على سبيل البدل للتخيير ( بمعنى : جواز ارتكابه والبناء على ان المحرّم غيره ) أي : غير الذي ارتكبه ، ليكون المتروك هو البدل عن الحرام ،فاذا ترك الأوّل ( مثلاً ) كان الثاني بدلاً ، وإذا ترك الثاني كان الأوّل بدلاً ، كما في ( الرخصة في ارتكاب أحد المشتبهين بالخمر مع العلم بكون أحدهما خمرا ) والآخر خلاً أو ماءا .

ص: 279

فانّه لمّا علم من الأدلّة تحريم الخمر الواقعي ، ولو تردّد بين الأمرين كان معنى الرّخصة في ارتكاب أحدهما الاذن في البناء على عدم كونه هو الخمر المحرّم عليه ، وأنّ المحرّم غيره ، فكل منهما حلالٌ ، بمعنى جواز البناء على كون المحرّم غيره .

والحاصل :

-------------------

وعليه : ( فانّه لمّا علم من الأدلّة تحريم الخمر الواقعي ) لما تقدّم : من أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية ، فاذا قال المولى : الخمر حرام كان معناه : الخمر الواقعي حرام ( ولو تردّد بين الأمرين ) فالخمر المردد بين الانائين حرام وإن لم نعلم أنّ الاناء الأبيض خمر أو الاناء الأحمر ، فاذا رخّص أحدهما للتخيير ( كان معنى الرّخصة في ارتكاب أحدهما : الاذن في البناء على عدم كونه ) أي : كون الذي يرتكبه ( هو الخمر المحرّم عليه ، وانّ ) الخمر ( المحرّم ) عليه ( غيره ) أي : غير الذي ارتكبه ( فكل منهما حلال بمعنى : جواز البناء على كون المحرّم غيره ) .

هذا ( و ) لا يقال : إنّ شمول الرواية للشبهة البدوية والشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي استعمال للفظ في أكثر من معنى ، لأنه على ما ذكرتم : من أنّ أدلة الحل تدل على حلّية الشبهات البدوية تعيينا في كل الشبهات البدوية ، وحلية الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي تخييرا في بعضها دون بعض ،مستلزم لاستعمال اللفظي المعنيين وهو أمّا مستحيل كما يقوله الآخوند ، أو خلاف الظاهر كما يقوله المشهور ، ولا يصار إليه إلاّ بالقرينة ولا قرينة في المقام .

لأنّه يقال : ( الحاصل ) من دفع هذا الاشكال هو : أنّ اللفظ قد استعمل في معنى واحد كلّي ، وهو : ألغ احتمال الحرمة ، ولا زمه في الشبهات البدوية : حل

ص: 280

أنّ مقصود الشارع من هذه الأخبار ان يلغى - من طرفي الشك في حرمة الشيء وحليته - احتمال الحرمة ، ويجعل محتمل الحليّة في حكم متيقّنها . ولما كان في المشتبهين بالشبهة المحصورة شكٌ واحد ، ولم يكن فيه الاّ احتمالُ كون هذا حلالاً وذاك حراما واحتمال العكس ، كان الغاءُ احتمال الحرمة في أحدهما اعمالاً له في الآخر وبالعكس ، وكان الحكمُ الظّاهري في أحدهما بالحل : حكما ظاهريا بالحرمة في الآخر ، وليس معنى حلية كل

-------------------

الجميع لما عرفت : من عدم المنافاة ، وفي المقرون بالعلم الاجمالي : حل بعض الاطراف للتنافي ، كما قال : ( : أنّ مقصود الشارع من هذه الأخبار ) الدالة على الحلية هو ( ان يلغى - من طرفي الشك في حرمة الشيء وحليته - احتمال الحرمة ويجعل محتمل الحليّة في حكم متيقّنها ) أي متيقن الحلية ، فيكون حاصل هذه الأخبار : ألغ احتمال الحرمة .

( و ) عليه : فانّه ( لما كان في المشتبهين ) أو المشتبهات بالشبهة البدوية شك متعدد ، لأنّ كل واحد من أفراد تلك الشبهات البدوية مشكوك الحل والحرمة ، لكن بحيث لايكون البناء على حليّة أحدها منافيا للبناء على حلية الآخر : جرى الحل في جميعها .

بخلاف المشكوك ( بالشبهة المحصورة ) فانّه ( شك واحد ولم يكن فيه الاّ احتمال كون هذا حلالاً وذاك حراما ، واحتمال العكس ) بأن يكون ذاك حلالاً وهذا حراما ( كان الغاء احتمال الحرمة في أحدهما اعمالاً له ) أي : لاحتمال الحرمة ( في الآخر ، وبالعكس ) بأن كان اعمال احتمال الحرمة في أحدهما الغاءا لاحتمال الحرمة في الآخر ( وكان ) معنى ذلك : ان ( الحكم الظّاهري في أحدهما بالحل : حكما ظاهريا بالحرمة في الآخر ، و ) بعبارة اخرى : ( ليس معنى حلية كل

ص: 281

منهما الاّ الاذن في ارتكابه والغاءَ احتمال الحرمة فيه المستلزم لاعماله في الآخر .

فتأمل حتى لا يَتوهم أنّ استعمال قوله « كلُّ شيء لك حلالٌ » بالنسبة إلى الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، والشبهات المجرّدة ، استعمالٌ في معنيين .

-------------------

منهما ) أي : من المشتبهين في المقرون بالعلم الاجمالي المحصور ( الاّ الاذن في ارتكابه) أي : ارتكاب أحدهما ( والغاء احتمال الحرمة فيه ، المستلزم لاعماله ) أي : اعمال الحرمة ( في الآخر ) على ان يكون بدلاً عن الحرام الواقعي .

( فتأمل ) في الجواب الذي ذكرناه بقولنا : « والحاصل » ( حتى لا يتوهم ان استعمال قوله ) عليه السلام : ( « كل شيء لك حلال » (1) بالنسبة إلى الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، والشبهات المجرّدة ، استعمال في معنيين ) وهو لا يجوز ، اذ قد عرفت : إنّ اللفظ قد استعمل في معنى واحد كلي ، وهو : البناء على ان كل مشتبه موضوعا محلل ، وانّما التخييرية والتعيينية من لوازم خصوص المورد ، فان كان المورد شبهة بدوية ، كان كل واحد واحد حلالاً وإن كان المورد شبهة محصورة بالعلم الاجمالي كان المحلل بعضها دون بعض ، فدلالة الحديث على الحلية في الشبهة البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي على نسق واحد ، وانّما فهم التخيير في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي للعلم الخارجي بأن أحدهما حرام ، فيكون لازم الحكم بحلية أحد المشتبهين : الحكم بحرمة الآخر .

ص: 282


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ج9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

قلت : الظاهرُ من الأخبار المذكورة : البناء على حلّية محتمل التحريم والرّخصة فيه ، لا وجوب البناء على كونه هو الموضوع المحلّل ، و

-------------------

( قلت ) إنّ الاشكال كان مبنيا على مقدمتين :

الأولى : كون مقتضى الأخبار المذكورة هو : البناء على كون محتمل الحرمة هو الموضوع المحلل الواقعي .

الثانية : كون مقتضى البناء المذكور في أحد المشتبهين هو : البناء على كون المشتبه الآخر هو الموضوع المحرّم الواقعي ، والمصنّف منع كلتا المقدمتين .

أمّا منع المقدمة الأولى : فلانّ مقتضى الأخبار المذكورة هو : مجرد الرخصة في الارتكاب بمعنى عدم الحرمة في الظاهر ، فكأنه قال : محتمل التحريم حلال ، لا انه قال : لا تبن على كون أحد المشتبهين هو الموضوع المحلل حتى يستلزم كون الآخر هو الموضوع المحرم ، فكلام الشارع انّما هو في الحكم لا في الموضوع ، بينما المستشكل جعل كلام الشارع في الموضوع ، واليه أشار المصنّف بقوله : ( الظاهر من الأخبار المذكورة ) أي : أخبار الحل ( : البناء على حلّية محتمل التحريم والرّخصة فيه ) أي : في محتمل التحريم ( لا وجوب البناء على كونه ) أي: محتمل التحريم ( هو الموضوع المحلّل ) فالمستشكل حمل أدلة الحل على التصرّف في الموضوع ، وفرّع على ذلك : شمولها لمورد العلم الاجمالي وحكومتها على قاعدة الاشتغال كما بيناه ، ولكن ليس الأمر كذلك ، بل ظاهر هذه الأخبار الدالة على الحل : مجرد الحكم بحلية المشتبه ظاهرا من دون وجوب البناء على كونه هو الموضوع المحلل .

( و ) أمّا منع المقدمة الثانية ، فانّه لو سلمنا المقدمة الأولى فلا نسلم المقدمة الثانية ، وذلك لأنّ البناء على كون أحدهما هو الموضوع المحلل انّما يستلزم البناء

ص: 283

لو سلم فظاهرُها البناء على كون كل مشتبه كذلك .

وليس الأمر بالبناء على كون الآخر هو الخمر ، فليس في الروايات من البدليّة عين ولا أثر ، فتدبّر .

-------------------

على كون الآخر هو الموضوع المحرم ، من باب حكم العقل لأجل وحدة الشك ، والعلم اجمالاً بكون أحدهما حلالاً في الواقع والآخر حراما في الواقع ، لكن سيجيء في مبحث الاستصحاب - انشاء اللّه تعالى - عدم اثبات الاُصول اللوازم العقلية لمؤياتها نظير اثبات أحد الضدين بنفي الآخر .

وعليه : فاللازم في المقام إمّا إلغاء العلم الاجمالي إطلاقا والحكم بحلية كِلا المشتبهين لأجل الأخبار المذكورة الدالّة على الحل ، وأمّا القول بحرمة كل منهما لأجل ما ذكرناه من حكومة قاعدة الاشتغال على أصالة الحل في المشتبهين ، فليس في الروايات التي ذهب إليها المستشكل ما يدل على البدل شيء ، كما قال :

انه ( لو سلم ) كلام المستشكل في المقدمة الاولى ( فظاهرها البناء على كون كل مشتبه كذلك ) حلالاً .

( و ) من المعلوم : انه ( ليس الأمر بالبناء على كون ) أحد المشتبهين في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي خلاً ، أمرا بالبناء على كون المشتبه ( الآخر هو الخمر ) لوضوح : انّ الملازمة بين حليّة أحدهما وخمرية الآخر عقلية لا شرعية ، وأدلة الحل لا تثبت اللوازم العقلية ، فلا تدل هذه الروايات على انه إذا بنينا على خلية أحدهما يلزم ان نبني على خمرية الآخر بدلاً ( فليس في الروايات من البدليّة عين ولا أثر ) على ما عرفت ، فأين ما ذكرتم من أنّه يجوز ارتكاب أحد المشتبهين وترك الآخر بدلاً ؟ .

( فتدبّر ) ولعل وجهه : إنّ الأخبار تدل على حلية كلا المشتبهين في المقرونة

ص: 284

إحتجّ مَن جوّز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام والمنع عنه بوجهين :
الأوّل :

الأخبارُ الدالّةُ على حلّ ما لم يعلم حرمته التي تقدّم بعضها .

وإنّما منع من ارتكاب مقدار الحرام إمّا لاستلزامه للعلم بارتكاب الحرام وهو

-------------------

بالعلم الاجمالي ، لكنّا نخصص هذه الأخبار بالدليل العقلي هو : استحالة ان يقول الشارع التناقض ، فاللازم أن يكون أحد المشتبهين حراما جمعا بين الدليل الشرعي بالحل ، والدليل العقلي بأنّ الشارع لم يلغ الحرام في البين ، وحيث انه لم يخصص الأحمر للحل والأبيض للحرمة أو بالعكس ، نقول بالبدلية .

( إحتجّ مَن جوّز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام والمنع عنه ) أي : عن ذلك المقدار المحرم كما إذا كانت خمس أواني اثنان منها حرام ، ترك الاثنين وارتكب ثلاثة منها ، وإذا كانت الأواني عشرة وأربعة منها محرمة ، ارتكب ستة وترك منها أربعة ، وهكذا ، فقد احتج له ( بوجهين ) على ما يلي :

( الأوّل : الأخبار الدالة على حلّ ما لم يعلم حرمته التي تقدّم بعضها ) مثل قوله عليه السلام : « كُلُّ شيءٍ فيه حلالٌ وحرامٌ فهو لَكَ حلالٌ » (1) فهي تدل على حل الجميع ( وانّما منع من ارتكاب مقدار الحرام : إمّا لاستلزامه للعلم بارتكاب الحرام ) كما ذكره المحقق القمي رحمه اللّه حيث انّه لو ارتكب الاثنين فيما إذا كان أحدهما حراما ، علم بأنه ارتكب الحرام ( وهو ) أي : العلم بارتكاب الحرام

ص: 285


1- - من لا يحضره الفقيه : ج3 ص341 ب2 ح4208 ، غوالي اللئالي : ج3 ص465 ح16 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح8 و ج9 ص79 ب4 ح72 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 .

حرام ، وإمّا لما ذكره بعضهم من أنّ ارتكاب مجموع المشتبهين حرام لاشتماله على الحرام .

قال في توضيح ذلك : «انّ الشارع منع عن استعمال الحرام المعلوم ، وجوّز استعمال ما لم يعلم حرمته ، والمجموع من حيث المجموع معلوم الحرمة ولو باعتبار جزئه ، وكذا كل منهما بشرط الاجتماع مع الآخر فيجب اجتنابه ، وكلّ منهما بشرط الانفراد

-------------------

(حرام) فانه لا يجوز للانسان أن يفعل شيئا يعلم بأنّه ارتكب بذلك الشيء الحرام، سواء كان بالعلم التفصيلي أو بالعلم الاجمالي، لأنه خلاف طريقة العقلاء في الطاعة.

( وإمّا لما ذكره بعضهم ) وهو المحقق النَراقي ( : من أنّ ارتكاب مجموع المشتبهين حرام لاشتماله على الحرام ) ومعناه : إنّ المجموع المشتمل على جزء محرم يكون محرما ، فقد ( قال ) المحقق النراقي ( في توضيح ذلك : «انّ الشارع منع عن استعمال الحرام المعلوم ، وجوّز استعمال ما لم يعلم حرمته ) فالخل حلال والخمر حرام في الانائين المشتبهين ( والمجموع من حيث المجموع معلوم الحرمة ولو باعتبار جزئه ) الذي هو الخمر ( وكذا كل منهما بشرط الاجتماع مع الآخر ) يكون معلوم الحرمة ( فيجب اجتنابه ) .

ولا يخفى : ان الفرق بين قوله « المجموع من حيث المجموع » ، وبين قوله : «كل منهما بشرط الاجتماع » هو : انّ أطراف الشبهة ان لوحظت مجتمعة ، فتكون مركبا وحراما باعتبار جزئه ، وان لوحظت منفردة لكن بشرط انضمام الآخر ، فتكون مشروطا وحراما باعتبار حرمة واحد من الشرط أو المشروط ، فسواء كان الجزء حراما أم كان الشرط أو المشروط حراما يلزم الاجتناب عن المجموع من حيث المجموع .

( و ) أمّا ان كان ( كل منهما ) أي : من المشتبهين ( بشرط الانفراد ) أي :

ص: 286

مجهول الحرمة فيكون حلالاً ».

والجواب عن ذلك : انّ الأخبار المتقدمة على ما عرفت إمّا ان لا تشمل شيئا من المشتبهين ، وإمّا ان تشملهما جميعا .

-------------------

ارتكاب أحدهما دون الآخر ، وليس المراد بالشرط هنا : الشرط الاصطلاحي بل معناه : ان يعمل أحدهما منفردا ، وهو منفردا ( مجهول الحرمة ) لأنّه لايعلم ان هذا الشيء الذي ارتكبه حرام ( فيكون حلالاً » ) .

وعلى هذا ، يتم ماذكروه : من أن أحد المشتبهين حرام ارتكابه وأحد المشتبهين حلال ارتكابه ، فاذا اشتبه في اثنين يجوز ارتكاب أحدهما .

( والجواب عن ذلك : انّ الأخبار المتقدمة ) مثل: « كل شيء فيه حلال وحرام »(1) وما أشبه ، فهو ( على ما عرفت ) في المقام الاوّل : من ان تلك الاخبار اما لاتشمل كلا المشتبهين فكلاهما حلال ، واما لاتشمل المشتبهين أصلاً فكلاهما واجب الاجتناب بمقتضى العلم الاجمالي ، أمّا انه يحل احدهما ويحرم الآخر فلا دليل عليه .

والحاصل : إنّ الاخبار ( إمّا ان لا تشمل شيئا من المشتبهين ) لأن التكليف بالحرام المردد بينهما منجّز ، فاللازم اجتنابهما معا : اما الحرام فلأنه حرام ، واما الآخر فلأنه مقدمة علمية لاجتناب الحرام ( وإمّا أن تشملهما جميعا ) بناءا على اعتبار العلم التفصيلي في موضوع التكليف شرعا ، أو اشتراط العلم التفصيلي في تنجز التكليف عقلاً ، فتشمل تلك الاخبار كلا طرفي الشبهة ، فالتفصيل بين أحدهما بالحرمة ، وبين الآخر بالحلية ، لا دليل عليه .

ص: 287


1- - تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح8 ، ج9 ص79 ب4 ح72 ، الكافي فروع : ج5 ص313 ح39 ، غوالي اللئالي : ج3 ص465 ح16 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 .

وما ذكر من الوجهين لعدم جواز ارتكاب الأخير بعد ارتكاب الأوّل ، فغيرُ صالح للمنع .

أمّا « الأوّل » : فلأنه إن أريدَ : أنّ مجرّد تحصيل العلم بارتكاب الحرام حرام ، فلم يدلّ عليه .

نعم ، تحصيل العلم بارتكاب الغير للحرام حرام

-------------------

( و ) ان قلت : انّ الوجهين المذكورين عن الميرزا القمي ، والمحقق النراقي يوجبان تخصيص شمول الاخبار لكلا الطرفين .

قلت : ( ما ذكر من الوجهين لعدم جواز ارتكاب الأخير بعد ارتكاب الأوّل فغير صالح للمنع ) عن ارتكاب أحدهما .

( أمّا « الأوّل » ) الذي ذكره المحقق القمي ( فلأنه ) غير تام ، إذ مراد المحقق القمي لا يخلو من أحد وجوه ثلاثة : امّا حرمة تحصيل العلم بالمخالفة ، وامّا حرمة المخالفة المعلومة تفصيلاً ، وامّا حرمة المخالفة المعلومة مطلقا سواء كانت معلومة تفصيلاً أم اجمالاً ، وكل هذه الوجوه الثلاثة غير صالحة للمنع عن ارتكاب أحد المشتبهين .

والى هذه الوجوه وعدم صلاحيتها للمنع اشار المصنِّف بقوله : ( إن أريد : أنّ مجرّد تحصيل العلم بارتكاب الحرام حرام ، فلم يدلّ عليه ) دليل ، فإنّ الانسان اذا راجع ما سبق من أعماله ووجد حراما في تلك الاعمال ، فهل تحرم هذه المراجعة المنتهية إلى علمه بأنه فعل حراما ؟ لم يقل أحد بذلك ، لانه لم يدل على حرمته دليل من عقل ولا نقل .

( نعم ، تحصيل العلم بارتكاب الغير للحرام حرام ) وذلك بأن يفتّش الانسان في أحوال الآخرين حتى يطلّع على ما فعلوه من الحرام ، فتحصيل العلم بذلك

ص: 288

من حيث التجسس المنهي عنه وإن لم يحصل له العلم .

وإن أريدَ أنّ الممنوع عنه عقلاً من مخالفة احكام الشرع ، بل مطلق الموالي ، هي المخالفةُ العلميةُ ، دون الاحتمالية فانّها لا تعدّ عصيانا في العرف ، فعصيانُ الخطاب باجتناب الخمر المشتبه هو : ارتكابُ المجموع دون المحرّم الواقعي وإن لم يعرف حين الارتكاب ، وحاصله منع وجوب المقدّمة العلمية .

-------------------

الحرام ( من حيث التجسس المنهي عنه ) فقد قال سبحانه : « ولا تجَسَسُوا ... » (1) فان التجسّس حرام حتى ( وإن لم يحصل له العلم ) بأنه فعل حراما .

( وان اريد ) من منع ارتكاب أحدهما فقط : حرمة المخالفة المعلومة تفصيلاً لا اجمالاً بتقريب : ( أنّ الممنوع عنه عقلاً من مخالفة احكام الشرع بل مطلق الموالي هي : المخالفة العلمية ، دون الاحتمالية ) وان كانت مقرونة بالعلم الاجمالي ( فانّها لاتعدّ عصيانا في العرف ) بمعنى : ان العرف يرون : ان الواجب على العبد عدم مخالفة الأحكام المعلومة تفصيلاً ، امّا مخالفة الأحكام المعلومة اجمالاً ، فلا يرون بأسا بها .

وعليه : ( فعصيان الخطاب باجتناب الخمر المشتبه هو : ارتكاب المجموع ) فانه إذا ارتكب كلا الانائين علم بأنه خالف ، امّا اذا ارتكب أحدهما فلا يعلم بأنه ارتكب المحرّم ، فالحرام على هذا هو الحرام العلمي ( دون المحرّم الواقعي وان لم يعرف حين الارتكاب ) فانّ ما لم يعرف حرمته لايكون محرما لأنه مخالفة احتمالية ، وقد ذكرنا : انّ المحرم هو المخالفة المعلومة لا المخالفة الاحتمالية .

( وحاصله : منع وجوب المقدّمة العلمية ) فلا تجري قاعدة الاشتغال

ص: 289


1- - سورة الحجرات : الآية 12 .

ففيه ، مع إطباق العقلاء بل العلماء - كما حكي - على وجوب المقدّمة العلمية ، أنّه إن أريد من حرمة المخالفة العلمية حرمة المخالفة المعلومة حين المخالفة ، فهذا اعترافٌ بجواز ارتكاب المجموع تدريجا ، إذ لايحصل معه مخالفة معلومة تفصيلاً ،

-------------------

في وجوب الاجتناب عن الطرفين ، بل يحرم عليه أن يأتي بهما معا ، أما انه يأتي بأحدهما ولا يأتي بالآخر فلا بأس به .

( ففيه : ) أوّلاً : ( مع اطباق العقلاء بل العلماء - كما حكي - على وجوب المقدّمة العلمية ) لأنّ العقلاء والعلماء متفقون على تنجّز التكليف بالعلم الاجمالي بحيث يحرم مخالفته ، ويجب موافقته باجتناب كل الأطراف في الشبهة التحرمية ، وبالاتيان بكل الأطراف في الشبهة الوجوبية إذا لم يكن هناك محذور خارجي ، ألا ترى انه لو قال المولى لعبده : لا يدخل في مزرعتي ذئب وكان هناك ذئب وكلب ، رأى العقلاء وجوب طردهما على العبد إذا لم يشخص الكلب عن الذئب، ولو ترك أحدهما يدخل بستانه وكان في الواقع هو الذئب استحق العقاب، ولا يصح له ان يعتذر بعدم علمه بأنه ذئب بعد علمه الاجمالي بأن أحدهما ذئب .

ثانيا : ( أنّه إن أريد من حرمة المخالفة العلمية : حرمة المخالفة المعلومة حين المخالفة ) بمعنى : إنّ العلم الاجمالي يوجب تنجّز التكليف بحيث يحرم مخالفته تفصيلاً ، وذلك بأن يشرب أحد الانائين ويريق الآخر في المسجد دفعة واحدة ، لا ما اذا ارتكبهما تدريجا، فان كان هذا المعنى مراد المحقق القمي ( فهذا اعترافٌ) منه ( بجواز ارتكاب المجموع تدريجا ، إذ لايحصل معه مخالفة معلومة تفصيلاً ) لأن المفروض انه عندما يشرب هذا الاناء لا يعلم انه محرم تفصيلاً ، كما انه عندما يشرب ذاك الاناء لا يعلم أيضا انه محرّم تفصيلاً ، والحال ان المحقق القمّي

ص: 290

وان اريد منهما : حرمة المخالفة التي تعلّق العلم بها ولو بعدها فمرجعها إلى حرمة تحصيل العلم الذي يصير به المخالفة معلومة ، وقد عرفت منع حرمتها جدّا .

وممّا ذكرنا يظهر فساد « الوجه الثاني » .

فانّ حرمة المجموع إذا كان باعتبار جزئه غير المعيّن فضّم الجزء الآخر إليه لا دخل له في حرمته .

-------------------

لايقول بجواز ارتكابهما تدريجا .

ثالثا : ( وان اريد منهما : حرمة المخالفة التي تعلّق العلم بها ولو بعدها ) يعني :

انه يحرم على الانسان ان يعمل عملاً يعلم بحرمته ، سواء كان علمه بالحرمة في وقت العمل أو بعد العمل ، فان كان هذا المعنى مراد المحقق القمي ( فمرجعها ) أي : مرجع هذه الارادة ( إلى حرمة تحصيل العلم الذي يصير به المخالفة معلومة ) لأن هذا الكلام معناه : ان العلم الاجمالي لايوجب تنجز التكليف بالحرمة فلا يحرم مخالفته ، الاّ اذا حصل منه العلم بالمخالفة فهو حرام ( وقد عرفت منع حرمتها ) أي : حرمة المخالفة بهذا المعنى ( جدّا ) لما تقدّم : من انه لا دليل على ان حصول العلم بفعل الحرام من المحرمات .

( وممّا ذكرنا ) في رد الوجه الاول : من انه لا دليل على حرمة تحصيل العلم بالمخالفة ( يظهر : فساد « الوجه الثاني » ) الذي ذكره النراقي ( فانّ حرمة المجموع

إذا كان باعتبار جزئه غير المعيّن ) كما صرح به النراقي فيما تقدّم (فضّم الجزء الآخر إليه ) أي : إلى الجزء الاول ( لا دخل له في حرمته ) أي : في حرمة المجموع، اذ لا دخل للاجتماع في الحرمة وإنّما الجزء غير المعين المطابق للواقع محرّم سواء علم أو لم يعلم ، والجزء الآخر الذي هو محلل في الواقع يبقى محللاً

ص: 291

نعم ، له دخل في كون الحرام معلوم التحقّق ، فهي مقدّمة للعلم بارتكاب الحرام لا لنفسه ، فلا وجه لحرمتها بعد عدم حرمة العلم بارتكاب الحرام .

ومن ذلك يظهر فساد جعل الحرام كلاً منهما بشرط الاجتماع مع الآخر ،

-------------------

سواء علم به أو لم يعلم به .

( نعم ، له ) أي : للجزء الآخر غير المحرم المنضم إلى المحرم ( دخل في كون الحرام معلوم التّحقّق ، فهي مقدّمة للعلم بارتكاب الحرام لا ) ان الضم حرام ( لنفسه ) إذليس نفسه حراما حسب الفرض ، فانه لو استعمل كليهما علم بأنه عمل الحرام ، لا ان نفس الضم يكون حراما ، فالضم مقدمة للعلم بالحرام ، لا نفس الحرام .

والحاصل : انّ حكم النراقي بحرمة المجموع غير صحيح ، لوضوح : ان انضمام الجزء الآخر لا دخل له في حرمة الحرام ، وإنّما له دخل في تحقق الحرام خارجا ( فلا وجه لحرمتها ) أي : حرمة المقدمة ( بعد عدم حرمة العلم بارتكاب الحرام ) فانه قد تقدّم : ان مجرد حصول العلم بارتكاب الحرام ليس بمحرم ، فلا يكون المجموع حراما من جهة انه محصّل للعلم بارتكاب الحرام ، وحينئذ فليس له الحق ان يستعمل أحدهما ويترك الآخر ، بل يلزم الحكم : امّا بوجوب الموافقة القطعية بتركهما ، أو بجواز المخالفة القطعية بارتكابهما .

( ومن ذلك ) أي : من ان ضم الجزء الآخر لا دخل له في حرمة المجموع ، بل الضم له دخل في كون الحرام معلوم التحقق في الخارج ، وهذا كما عرفت : لا دليل على حرمته ( يظهر فساد جعل الحرام كلاً منهما بشرط الاجتماع مع الآخر ) الذي هو ثاني الاحتمالين في كلام النراقي ، فان حرمة المجموع إذا كان باعتبار حرمة احدهما ، فاشتراط الاجتماع لا دخل له في حرمته وان كان له دخل في كون الحرام

ص: 292

فانّ حرمته وإن كانت معلومة إلاّ أنّ الشرط شرط لوصف كونه معلوم التحقق لا لذات الحرام ، فلا يحرم ايجاد الاجتماع إلاّ إذا حرم جعل ذات الحرام معلومة التحقق ومرجعه إلى حرمة تحصيل العلم بالحرام .

-------------------

معلوم التحقق في الخارج .

والحاصل : إنّ الحلال لا يكون سببا لحرمة المجموع ولا شرطا أو مشروطا لحرمة المجموع ( فان حرمته ) أي : حرمة كل منهما بشرط الاجتماع مع الآخر ( وان كانت معلومة ) فان الانسان اذا جمع بين المشتبهين علم بأنه ارتكب حراما قطعا ( إلاّ انّ الشرط ) بالاجتماع ( شرط لوصف كونه ) أي : كون الحرام ( معلوم التحقق ) عند المرتكب ( لا لذات الحرام ) فانّ ذات الحرام إنّما تتحقق بارتكاب المحرم في الواقع ، لا بارتكاب المجتمع من الحرام والحلال ، سواء كان الاجتماع على نحو الجزء أو على نحو الشرط .

وعليه : ( فلا يحرم ايجاد الاجتماع إلاّ إذا حرم جعل ذات الحرام معلومة التحقق ) حتى يكون العلم بتحقق الحرام حراما ، لا ان ذات الحرام محرمة .

والحاصل : انّ حرمة كل منهما بشرط الاجتماع مع الآخر ، يرجع الى حرمة جعل الحرام معلوم التحقق ، وقد عرفت : انّ ذات الحرام حرام ، لا ان العلم بتحقيق الحرام حرام ، كما قال : ( ومرجعه إلى حرمة تحصيل العلم بالحرام ) الذي قد عرفت : انه غير ثابت .

نعم ، قد تقدّم : انه لا يجوز تحصيل العلم بارتكاب الغير للحرام ، لأنه داخل في التجسس المنهي عنه في الآية ، وكذلك في الروايات ، مثل : ما رَواه زُرارَة عن أبي جَعفر ، وعن أبي عبداللّه عليهماالسلام قال : « أقربُ ما يكونُ العَبد إلى الكُفر

ص: 293

الثاني :

ما دل ّ على جواز تناول الشبهة المحصورة ، فيجمع بينها على

-------------------

أن يُواخِي الرجلَ على الدِّينِ فَيحُصي عليه عَثَرَاتَهُ وَزَلاتَهُ ليُعَنِّفَهُ بها يوما ما » (1) .

وما رواه اسحاق بن عمار قال : « سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : يا معشر من اسلم بلسانه ولم يخلص الايمان إلى قلبه ، لا تذمّوُا المسلمين ولا تَتَبِعُوا عَوراتَهُم ، فانّه مَن تَتَبَّعَ عوراتَهُم تَتَبَّعَ اللّهُ عورتَهُ ، ومَن تتبَّع اللّهُ تعالى عورتَهُ يَفْضَحَهُ ولَو في بيتِهِ » (2) .

وما رواه زرارة عن ابي جعفر عليه السلام قال : « أقرب ما يكون العبد إلى الكفر: أن يواخي الرجلُ الرجلَ على الدين فيحصي عليه زلاته ليعيّره بها يوما ما»(3)، إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي ذكروها في باب حرمة التجسس(4)، لكن ذلك لا يرتبط بكلامنا الذي هو جواز أو عدم جواز ارتكاب بعض أطراف الشبهة المحصورة.

( الثاني ) ممّا استدل به القائل بجواز ارتكاب أحد المشتبهين دون الاخر هو : الجمع بين طائفتين من الاخبار ، احدى الطائفتين ظاهرة في جواز ارتكاب جميع اطراف الشبهة المحصورة ، والطائفة الثانية تقول باجتناب الحرام الواقعي سواء علم تفصيلاً أو اجمالاً ، فتخصص الطائفة الاولى ، فتكون النتيجة : جواز ارتكاب البعض وترك البعض الآخر بدلاً عن الحرام الواقعي المردد بينهما ، وذلك بأن ينظر الى ( ما دل ّ على جواز تناول الشبهة المحصورة ، فيجمع بينها على

ص: 294


1- - الاختصاص : ص227 ، المحاسن : ص104 ، مجموعة ورام : ج2 ص208 .
2- - مجموعة ورام : ج2 ص208 وفيه فمن يتبع عورة مؤمن .
3- - منية المريد : ص331 .
4- - وقد المع الشارح الى بعض تلك الروايات في طيات كتبه التالية : لماذا تأخر المسلمون ؟ ، الفقه الدولة الاسلامية ، الفقه المستقبل .

تقدير ظهوره في جواز تناول الجميع وبين ما دلّ على تحريم العنوان الواقعي ، بأنّ الشارع جعل بعض المحتملات بدلاً عن الحرام الواقعي ، فيكفي تركه في الامتثال الظاهري ، كما لو اكتفى بفعل الصلاة إلى بعض الجهات المشتبهة ورخّص في ترك الصلاة إلى بعضها .

وهذه الاخبار كثيرة :

منها : موثّقة سماعة : « قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام ، عن رجل أصابَ مالاً من عمّال بني اُمية ،

-------------------

تقدير ظهوره في جواز تناول الجميع ) ولم نقل انها ظاهرة في تناول وارتكاب البعض بل في ارتكاب الجميع ، ليصح التعارض ، فيجمع بينهما ( وبين ما دلّ على تحريم العنوان الواقعي ) جمعا ( بأنّ الشارع جعل بعض المحتملات بدلاً عن الحرام الواقعي ، فيكفي تركه في الامتثال الظاهري ) فاذا ترك البعض فقد امتثل ظاهرا الأمر بالاجتناب عن الحرام الواقعي .

( كما لو اكتفى ) الشارع في الشبهة المحصورة الوجوبية ( بفعل الصلاة إلى بعض الجهات المشتبهة ) بين الأربع ( ورخّص في ترك الصلاة إلى بعضها ) الآخر، فانّ معنى الترخيص : جعل البدل عن الواقع ، فيكون المكلّف مخيرا في أن يصلي صلاة واحدة الى احدى الجهات الأربع كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء ، خلافا للمشهور الذين ذهبوا إلى وجوب صلوات أربع إلى الجهات الأربع ( وهذه الأخبار كثيرة ) في الطائفة الاولى نذكر بعضها :

( منها : موثّقة سماعة : « قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام : عن رجل أصاب مالاً من عمّال بني اُمية ) فالذين كانوا في جهاز بني أمية من ولاة وقضاة وجباة ومن اشبههم كانوا يأخذون المال من الناس بالظلم لعدم مشروعية حكومة بني أمية ،

ص: 295

وهو يتصدق منه ، ويصل قرابته ، ويحج ، ليغفر له ما اكتسب ، ويقول : « ان الحسنات يذهبن السيئات » فقال عليه السلام : إنّ الخطيئة لا تكفّر الخطيئة ، وإنّ الحسنة تحبط الخطيئة ، ثم قال : ان كان خلط الحرامَ حلالاً فاختلطا جميعا فلم يعرف الحرام من الحلال ، فلا بأس » .

-------------------

وقد حصل هذا الرجل على بعض تلك الاموال ( وهو يتصدق منه ، ويصل قرابته ، ويحج ، ليغفر له ما اكتسب ) من تلك الأموال ( ويقول : « ان الحسنات يذهبن السيئات » (1) ) كما في الآية الكريمة ، فانّه حيث حصل على اموال حصلت عن طريق غير مشروع فهي سيئة بل سيئات ، والتصدق ، وصلة الرحم ، والحج ، حسنات ، فهذه الحسنات تسبب ذهاب تلك السيئات ، فهل هذا صحيح يابن رسول اللّه ؟ ( فقال عليه السلام : إنّ ) التصرف في هذا المال بنفسه أيضا حرام ، فقد عمل هذا الرجل حرامين : حرام الاكتساب ، وحرام الانفاق ، لأنه لايجوز للإنسان أن ينفق ما اكتسبه من الباطل ، فان ( الخطيئة لا تكفّر الخطيئة ) أي : ان الخطيئة لا تسبب ذهاب الخطيئة ( وانّ الحسنة تحبط الخطيئة ) فالصلاة ، والصوم والحج ، والانفاق من مال الحلال ، يسبب ذهاب سيئات الانسان حسب هذه الآية المباركة وغيرها من الروايات ، اما انه يرتكب خطيئة ليكفّر بها خطيئة أخرى فذلك غير تام ، بل يكون عليه خطيئتان : خطيئة الأخذ وخطيئة العطاء .

( ثم قال ) عليه السلام ( : ان كان ) هذا الرجل ( خلط الحرام حلالاً فاختلطا جميعا فلم يعرف الحرام من الحلال ، فلا بأس » ) (2) بتصرفه في بعض تلك الأموال ، كما إذا

ص: 296


1- - سورة هود : الآية 114 .
2- - وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22051 ، الكافي فروع : ج5 ص126 ح9 ( بالمعنى ) ، تهذيب الاحكام : ج6 ص369 ب22 ح189 ( بالمعنى ) ، مستطرفات السرائر : ص589 (بالمعنى) .

فان ظاهره : نفيُ البأس عن التصدّق ، والصّلة ، والحجّ ، من المال المختلط بالحرام وحصول الأجر في ذلك ، وليس فيه دلالة على جواز التصرف في الجميع .

ولو فرض ظهوره فيه صرف عنه بما دلّ على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي ، وهو مقتضي بنفسه

-------------------

كانت له اموال محللة من نفسه وأموال محرمة من عمله للظلمة واختلطا ، فانّه إذا تصرف في بعض تلك الأموال بقدر الحلال صدقة ، وصلة ، وحجا ، وما أشبه ذلك ، كان هذا التصرف منه جائزا .

ومحل الشاهد في هذا الخبر للمستدلين بجواز ارتكاب بعض المشتبهات دون بعض : الجملة الأخيرة منه ، وهو قوله عليه السلام : « ان كان خلط الحرام حلالاً ...» .

( فان ظاهره : نفيُ البأس عن التصدّق ، والصّلة ، والحجّ ، من المال المختلط بالحرام وحصول الأجر في ذلك ) أي : في هذه النفقات .

هذا ( و ) لكن الحديث ( ليس فيه دلالة على جواز التصرف في الجميع ) حتى يقال بأن هذه الرواية دليل من يقول بجواز ارتكاب جميع اطراف الشبهة المحصورة ( ولو فرض ظهوره ) أي : ظهور هذا الحديث ( فيه ) أي : في التصرف في جميع الأطراف المحرمة والمحللة ( صرف عنه ) أي : عن ظاهره والتصرف في الجميع ( بما دلّ ) من اخبار الطائفة الثانية ( على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي ) لما تقدّم : من ان الحرام الواقعي لا يصير حلالاً بالاختلاط سواء كان الاختلاط عمديا أو من غير عمد فيكون الجمع بين الطائفتين : جواز ارتكاب البعض .

( وهو ) أي : ما دل على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي (مقتضي بنفسه)

ص: 297

لحرمة التصرف في الكلّ ، فلا يجوز ورود الدليل على خلافها ومن جهة حكم العقل بلزوم الاحتياط لحرمة التصرّف في البعض المحتمل أيضا .

لكن عرفت : أنّه يجوز الاذن في ترك بعض المقدمات العلمية بجعل بعضها الآخر بدلاً ظاهريا عن ذي المقدمة .

-------------------

أي : مع قطع النظر عن ايجاب العقل الاحتياط في أطرف العلم الاجمالي ( لحرمة التصرف في الكلّ ) المختلط من الحرام والحلال ( فلا يجوز ورود الدليل على خلافها ) أي : خلاف ما تقتضيه من الحرمة (و) خلاف ما يقتضيه ( من جهة حكم العقل بلزوم الاحتياط لحرمة التصرف في البعض المحتمل أيضا ) فلا يجوز التصرف إذن لا في الكل ولا في البعض .

( لكن عرفت : انّه يجوز الاذن في ترك بعض المقدمات العلمية ) بأن يأذن الشارع بارتكاب البعض دون البعض ، وذلك ( بجعل ) الشارع ( بعضها الآخر بدلاً ظاهريا عن ذي المقدمة ) الذي هو الحرام الواقعي ، فيجمع بين الرواية المتقدمة ، وبين دليل حرمة العنوان المحرم بحملها على البعض وجعل البدل للحرام الواقعي .

ثم إنّ المصنّف ذكر رواية واحدة في هذا الباب ، وهناك روايات أُخر في باب الرّبا نظير هذه الرواية في جواز التصرف في بعض اطراف الشبهة المحصورة دون بعض ، ففي الصحيح أو الحسن ما رواه في الفقيه مرسلاً أيضا : « قال أبو عبداللّه عليه السلام : كلّ ربا أكلهُ الناسُ بجهالة ثمّ تابوا فانه يُقبلُ منهم إذا عُرِفَ منهم التوبة » (1) .

ص: 298


1- - الكافي فروع : ج5 ص145 ح4 ، الفقيه : ج3 ص275 ب2 ح3997 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص16 ب22 ح69 ، وسائل الشيعة : ج18 ص128 ب5 ح23302 .

...

-------------------

وقال عليه السلام : لو ان رجلاً وَرَثَ من أبيه مالاً وقد عَرَفَ انّ في ذلك المال ربا ولكن قد اختلط في التجارة بغيره فانه له حلال طيب فياكله فان عرف منه شيئا معزولاً أنه ربا فليأخذ رأس ماله وليُردَّ الرِّبا » (1) وزاد في الكافي والفقيه : « وايّما رجل أفاد مالاً كثيرا قد أكثر فيه من الرّبا فجَهَلَ ذلك ثمّ عَرَفَهُ بعد ، فأراد أن ينزعَهُ ، فيما مضى فله ، ويَدَعَهُ فيما يستأنف » (2) .

وعن الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : « أتى رجلٌ أبي ، فقال : إنّي ورثت مالاً وقد عَلِمتُ انّ صاحبه الذي ورثته منه قد كان يُرابي وقد اعترف انه فيه ربا فاستيقنتُ ذلك وليس يطيب لي حلاله لحال علمي فيه ؛ وقد سألتُ الفقهاء من أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا : لا يحّلُ من أجل ما فيه ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : إن كُنت تعلم ان فيه مالاً معروفا للربا وتعرف أهله فخذ رأس مالك ورُدّ ما سوى ذلك ؛ وان كان مختلفا فكُلهُ هنيئا مريئا ، فانّ المال مالك ، واجتنب ما كان يصنع صاحبه ، وانّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم قد وضع مامضى من الربا وحرّم عليهم ما بقي ، فمن جهله وسع لهُ جهله حتى يعرفهُ ، فإذا عرف تجريمه حرم عليه ووجبت عليه فيه العقوبة إذا ارتكبه ، كما يجب على من يأكل الرّبا» (3) .

إلى غير ذلك من الروايات التي بهذه المضامين ممّا جعلت جماعة من الفقهاء يذهبون الى حلية التصرف في الجميع : من المختلط بالربا وغيره ، وجماعة

ص: 299


1- - تهذيب الاحكام : ج7 ص16 ب22 ح69 وفيه فليرد الريادة .
2- - الكافي فروع : ج5 ص145 ح4 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص275 ب2 ح3997 ( بالمعنى ) ، وسائل الشيعة : ج18 ص128 ب5 ح23302 ( بالمعنى ) .
3- - الكافي فروع : ج5 ص145 ح5 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص276 ب2 ح3998 (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج18 ص128 ب5 ح23302 ( بالمعنى ) .

والجواب عن هذا الخبر : انّ ظاهره جواز التصرّف في الجميع ، لأنه يتصدق ، ويصل ، ويحج بالبعض ، ويمسك بالباقي ، فقد تصرّف في الجميع بصرف البعض وإمساك الباقي ، فلا بد إمّا من الأخذ به وتجويز المخالفة القطعيّة ، وإما من صرفه عن ظاهره ، وحينئذٍ فحمله على إرادة نفي البأس عن التصرّف في البعض وإن حرم

-------------------

من الفقهاء يذهبون إلى جواز التصرف في البعض دون البعض ، فقول الجماعة الاولى هو : دليل لمن أجاز المخالفة القطعية في أطراف الشبهة ، وقول الجماعة الثانية هو : دليل المقام ممّن يقولون بجواز ارتكاب البعض دون البعض .

( والجواب عن هذا الخبر ) أي : عن الموثّقة (1) المتقدِّمة : هو انه كيف استدللتم بها على جواز التصرف في البعض دون الجميع ؟ مع ( انّ ظاهره : جواز التصرّف في الجميع ، لأنه يتصدق ، ويصل ، ويحج بالبعض ، ويمسك بالباقي ، فقد تصرّف في الجميع بصرف البعض وإمساك الباقي ) فان تم ظاهر هذه الرواية فهو دليل لمن يقول بجواز ارتكاب جميع الأطراف ، وليس دليلاً لمن يقول بجواز ارتكاب البعض دون البعض كما تقدّم في كلام النراقي والمحقق القمي .

وعليه : ( فلا بد إمّا من الأخذ به ) أي بهذا الحديث ( وتجويز المخالفة القطعيّة) في الشبهة المحصورة ، والفرض ان المحقق القمي والنراقي لا يقولان بجواز المخالفة القطعيّة ( وإما من صرفه ) أي صرف هذا الحديث ( عن ظاهره ، وحينئذٍ ) أي : بعد صرفه عن ظاهره يكون فيه احتمالان : ( فحمله على ) الاحتمال الاول وهو : ( ارادة نفي البأس عن التصرّف في البعض وان حرم

ص: 300


1- - الكافي فروع : ج5 ص126 ح9 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص369 ب22 ح189 ، مستطرفات السرائر : ص589 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22051 .

عليه امساك مقدار الحرام ليس بأولى من حمل الحرام على حرام خاصّ يعذر فيه الجاهل ، كالرّبا ، بناءا على ما ورد في عدّة أخبار : من حليّة الرّبا الذي أخذ جهلاً ، ثمّ لم يعرف بعينه في المال المخلوط .

وبالجملة فالأخبار الواردة في حليّة ما لم يعلم حرمته على أصناف :

-------------------

عليه امساك مقدار الحرام ) كما فعله المستدل لجواز ارتكاب البعض في كل الشبهات (ليس بأولى من ) الاحتمال الثاني وهو : ( حمل الحرام على حرام خاصّ يعذر فيه الجاهل ) مما وردت به روايات خاصة ذكرنا بعضا منها فيما سبق ، فيكون جواز ارتكاب البعض خاصا بها ، لا عاما بكل الشبهات .

والحاصل : ان مراد الإمام عليه السلام من المشتبه والحرام الذي لا يمنع من التصرف في جميع اطرافه هو : بعض أنواع المشتبه بالحرام لا كلها ، وهو الذي دلّ عليه دليل خاص ( كالرّبا ، بناءا على ما ورد في عدة أخبار : من حليّة الرّبا الذي أخذ جهلاً ) بالحرمة ( ثمّ لم يعرف بعينه في المال المخلوط ) بأن يعلم الربا فيه من غير الربا ، فانّه في هذه الصورة يتصرف في الجميع ، فتحمل هذه الرواية على مثل هذا ولا تحمل على انه يجوز التصرف في البعض ويترك البعض ، ويكون المتروك بدلاً عن الحرام الواقعي .

لكن لا يخفى انّ هذه الرواية آبية عن حملها على مثل الربا ، لأن المفروض انه حصل على مال من الظلمة المجتمع من الحرام غالبا ، والأولى حملها على موردها من جوائز الظلمة ونحوها ، حيث أجاز الأئمة عليهم السلام التصرف في الجميع مع الاختلاط ، لا أن يكون الجميع حراما .

( وبالجملة : ف ) الخبر المتقدّم لا دلالة له على ما ذهب إليه القمي والنراقي ، وذلك لأن ( الأخبار الواردة في حليّة ما لم يعلم حرمته على أصناف ) ثلاثة :

ص: 301

منها : ما كان من قبيل قوله عليه السلام « كُلُّ شيء لَكَ حلالٌ حتى تَعرِفَ أنّه حرامٌ » .

وهذا الصنف لا يجوز الاستدلال به لمن لايرى جواز ارتكاب المشتبهين، لأن حملَ تلك الأخبار على الواحد لا بعينه في الشبهة المحصورة والآحاد المعينة في الشبهة المجرّدة من العلم الاجمالي والشبهة غير المحصورة، متعسّرٌ بل متعذّر ،

-------------------

( منها : ما كان من قبيل قوله عليه السلام « كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام » ) (1) وقوله عليه السلام : « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (2) ( وهذا الصنف لا يجوز الاستدلال به لمن ) يرى جواز ارتكاب احد المشتبهين ، و ( لا يرى جواز ارتكاب ) كلا ( المشتبهين ) .

وإنّما لا يجوز لهؤلاء الاستدلال به ( لانّ ) قاعدة الاشتغال في مورد العلم الاجمالي حاكمة على أمثال هذه الروايات - كما سبق - أو لان ( حمل تلك الأخبار على ) حلية ( الواحد لا بعينه في الشبهة المحصورة ، و ) على حلية (الآحاد المعينة ) الشاملة لجميع الأفراد ( في الشبهة المجرّدة من العلم الاجمالي والشبهة غير المحصورة ، متعسّر بل متعذّر ) لأنّه من الجمع بين المعنيين ، فان القول بحلية البعض في الشبهة المحصورة ، وبحلية الجميع في الشبهة البدوية والشبهة غير المحصورة لدليل واحد ، استعمال اللفظ في معنيين ، فمن يقول : بأن استعمال اللفظ في المعنيين متعسر يقول : هنا بالتعسر ، ومن يقول :

ص: 302


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 (بالمعنى) وقريب منه في نفس المصدر ح39 والمحاسن : ص495 ح596 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

فيجب حملها على صورة عدم التكليف الفعلي بالحرام الواقعي .

ومنها : ما دلّ على ارتكاب كلا المشتبهين في خصوص الشبهة المحصورة، مثل الخبر المتقدّم .

وهذا أيضا لا يلتزم المستدل بمضمونه ولا يجوز حمله على غير الشبهة المحصورة ، لأن مورده فيها ، فيجب حمله على أقرب المحتملين ،

-------------------

بأن استعمال اللفظ في المعنيين متعذر كالآخوند يقول هنا بالتعذّر .

وعليه : ( فيجب حملها ) أي هذه الاخبار ( على صورة عدم التكليف الفعلي بالحرام الواقعي ) كما في الشبهات البدوية وكذلك في الشبهات غير المحصورة ، حيث ان التكليف فيها لم يكن فعليا منجزا ، فيكون هذا الصنف من الروايات لا دلالة له على جواز ارتكاب البعض وترك البعض .

( ومنها : ) وهو الثاني من تلك الأصناف الثلاثة ( ما دلّ على ارتكاب كِلا المشتبهين في خصوص الشبهة المحصورة ، مثل الخبر المتقدم ) الظاهر في جواز ارتكاب جميع الأموال المشتبهة بالحرام ( وهذا ) الصنف ( أيضا لا يلتزم المستدل بمضمونه ) لأن المستدل يقول بجواز ارتكاب أحدهما لا كليهما ، وهذا يدل على جواز ارتكاب كليهما ( ولا يجوز حمله على غير الشبهة المحصورة ) حتى يقال : إنّ هذه الرواية في الشبهة غير المحصورة ممّا يكون الارتكاب فيها على حسب القواعد .

وانّما لايجوز ذلك ( لأن مورده ) أي : مورد هذا الصنف ( فيها ) أي : في الشبهة المحصورة لوضوح : ان اختلاط أموال هذا الرجل بالمال الذي أخذه من الظلمة واعوانهم يجعل أمواله من الشبهة المحصورة ( فيجب حمله ) أي : حمل هذا الصنف من الأخبار هنا ( على أقرب المحتملين ) التاليين :

ص: 303

من ارتكاب البعض مع ابقاء مقدار الحرام ومن وروده في مورد خاصّ ، كالرّبا ونحوه ، ممّا يمكن الالتزام بخروجه عن قاعدة الشبهة المحصورة .

ومن ذلك يعلم حال ما ورد في الرّبا من حلّ جميع المال المختلط به .

ومنها : ما دلّ على جواز أخذ ما علم

-------------------

أوّلاً : ( من ارتكاب البعض مع ابقاء مقدار الحرام ) ليصرفه في مجهول المالك، فيكون دليلاً للمستدل الذي يقول بجواز ارتكاب بعض الأطراف .

ثانيا : ( ومن وروده في مورد خاصّ ) بأن يقال : انه خارج عن القاعدة بالدليل ( كالرّبا ونحوه ) كما قالوا في ميتة السمك لو اختلط المذكّى منه بالميتة ، وكما قالوا في مورد أموال عمال الظلمة وما أشبه ذلك ( ممّا يمكن الالتزام بخروجه عن قاعدة الشبهة المحصورة ) بجهة دليل خاص .

والظاهر : انّ أموال عمّال الظلمة بعد التوبة ومن أخذ منهم ، وجوائز السلطان ، كلها من باب واحد خارجة عن القاعدة ، ولعله لمصلحة التسهيل ولزوم الحرج في وجوب الاجتناب ، فلا تكون الروايات الدالة على ذلك على نحو القاعدة الكلية حتى يستند إليها من قال بجواز ارتكاب بعض أطراف الشبهة المحصورة .

( ومن ذلك ) الذي ذكرناه في المحتمل الثاني من خروج بعض موارد الشبهة المحصورة عن القاعدة للدليل الخاص ، وعدم اطراده في جميع موارد الشبهة المحصورة ( يعلم حال ما ورد في الرّبا من حلّ جميع المال المختلط به ) فانّه محمول على انّ الربا في موارد خاصة قد اعتبر فيه العلم التفصيلي ، فلا يكون هذا الجزئي دليلاً للقاعدة الكلية التي استند اليها من قال بجواز الارتكاب في بعض أطراف الشبهة المحصورة .

( ومنها : ) وهو الثالث من تلك الاصناف الثلاثة ( ما دلّ على جواز أخذ ما علم

ص: 304

فيه الحرام اجمالاً ، كأخبار جواز الأخذ من العامل والسارق والسلطان .

وسيجيء حملُ جلّها أو كلّها على كون الحكم بالحلّ مستندا إلى كون الشيء مأخوذا من يد المسلم ، ومتفرّعا

-------------------

فيه الحرام اجمالاً ) والفرق بين هذا الصنف وسابقه ان ذلك كان يدل على جواز تصرّف صاحب المال الذي اختلط حلاله بحرامه ، وهذا يدل على جواز الأخذ ممّن اختلط حرامه بحلاله ( كأخبار جواز الأخذ من العامل ) للظلمة ( والسارق والسلطان ) مثل : رواية أبي بصير عن أحدهما عليهماالسلام قال : « سألت أحدهما عن شراء السرقة والخيانة ؟ فقال : لا ، إلاّ أن يكون قد اختلط معه غيره، فامّا السرقة بعينها فلا ، إلا أن يكون من متاع السلطان فلا بأس بذلك » (1) .

ورواية اسحاق بن عمار قال : « سألته عن الرجل يشتري من العامل وهو يظلم ؟ قال : يشتري منه ما لم يعلم أنّه ظلم فيه أحدا » (2) .

ورواية أبي عبيدة عن الباقر عليه السلام قال : « سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان من ابل الصدقة وغنمها وهو يعلم انهم يأخذون منهم أكثر من الحق الذي يجب عليه ؟ قال عليه السلام : ما الابل والغنم إلاّ مثل : الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه » (3) إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا الباب ( وسيجيء ) انشاء اللّه تعالى ( حملُ جلّها أو كلّها على كون الحكم بالحلّ مستندا إلى ) أمارة للحلّ ، وهي : ( كون الشيء مأخوذا من يد المسلم ومتفرّعا

ص: 305


1- - الكافي فروع : ج5 ص228 ح1 (بالمعنى) ، تهذيب الاحكام : ج6 ص374 ب22 ح209 و ج7 ص132 ب22 ح49 ، وسائل الشيعة : ج17 ص335 ب1 ح22695 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص238 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص375 ب22 ح214 و ج7 ص131 ب22 ح48 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص228 ح2 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص375 ب22 ح215 ، وسائل الشيعة : ج17 ص219 ب52 ح22376 ( مع تفاوت ) .

على تصرّفه المحمول على الصحّة عند الشّك .

فالخروج بهذه الأصناف من الأخبار ، عن القاعدة العقليّة الناشئة عمّا دلّ من الأدلة القطعيّة على وجوب الاجتناب عن العناوين المحرّمة الواقعية ، وهي وجوب دفع الضرر المقطوع به بين المشتبهين ، ووجوب إطاعة التكاليف المعلومة المتوقفة على الاجتناب عن كلا المشتبهين ،

-------------------

على تصرّفه ) أي : تصرف المسلم ( المحمول على الصحّة عند الشّك ) فلا تكون هذه الأخبار دليلاً على جواز التصرف في بعض أطراف الشبهة المحصورة .

وربمّا يقال : انّ وجه جواز التصرف في الأموال المأخوذة من العامل والسارق والسلطان هو كون بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء والعلم الاجمالي لايكون منجزا إذا خرج بعض أطرافه عن محل الابتلاء .

ولا يخفى : انّ قول المصنّف : من يد المسلم من باب المثال ، وإلاّ فقد ذكرنا سابقا : ان يد الكافر أيضا محكومة بالصحة حسب الأدلة ، وكثيرا ما يكون العامل كافرا ، كما كان ذلك في عمال بني اُمية وبني العباس حيث انّ جمعا منهم كانوا كفارا حسب التواريخ ، أو يكون السارق كافرا ، أو السلطان كافرا ، كما كان في تلك الأزمنة في بلاد الروم ، أو يكون في الحال الحاضر في بلاد الكفار .

وعلى أيّ حال : ( فالخروج بهذه الأصناف ) الثلاثة التي ذكرناها ( من الأخبار عن القاعدة العقليّة الناشئة عمّا دلّ من الأدلة القطعيّة على وجوب الاجتناب عن العناوين المحرّمة الواقعية ) مثل : عنوان الخمر ، وعنوان مال الغير ، وعنوان النجس ، وغير ذلك ( وهي : ) أي تلك القاعدة العقلية ( وجوب دفع الضرر المقطوع به بين المشتبهين ، ووجوب اطاعة التكاليف المعلومة ) وجوبا عقليا وشرعيا ( المتوقفة ) تلك الطاعة ( على الاجتناب عن كلا المشتبهين ،

ص: 306

مشكلٌ جدا، خصوصا مع اعتضاد القاعدة بوجهين آخرين ، هما كالدليل على المطلب .

أحدهما : الأخبار الدالّة على هذا المعنى .

منها : قوله عليه السلام : « ما اجتمع الحلال والحرام الاّ غلبَ الحرامُ الحلالَ » ، والمرسلُ المتقدّم : « أتركوا مالا بأسَ بهِ حَذرا

-------------------

مشكلٌ جدا ) و « مشكل » خبر لقوله : « فالخروج » .

والحاصل : انّ القاعدة العقلية والشرعية تدل على وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة ، فلا يمكن الخروج عن هذه القاعدة بواسطة هذه الاصناف الثلاثة من الاخبار التي منتهى دلالتها هو : انّ مواردها خارجة عن القاعدة العقلية والشرعية بالدليل الخاص ، فلا تكون هذه الطوائف دليلاً على جواز ارتكاب بعض أطراف الشبهة المحصورة كما ادعاه المستدل (خصوصا مع اعتضاد القاعدة ) العقلية والشرعية ( بوجهين آخرين ، هما كالدليل على المطلب ) الذي ذكرناه : من وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة مطلقا .

( أحدهما : الأخبار الدالة على هذا المعنى ) أي : على معنى وجوب الاجتناب عن جميع اطراف الشبهة وهي كثيره نذكر بعضها :

( منها قوله عليه السلام : « ما اجتمع الحلال والحرام الاّ غلبَ الحرامُ الحلالَ » (1) ) حيث يدل على انه إذا كان في شيء حرام وحلال ، وجب على الانسان الاجتناب عن جميع أطرافه ( والمُرْسَلُ المتقدّم ) عن السرائر ( : « أتركوا مالا بأسَ بهِ حَذرا

ص: 307


1- - غوالي اللئالي : ج2 ص132 ح358 وفيه ما اجتمع الحرام والحلال و ج3 ص466 ح17 ، السنن الكبرى : ج7 ص275 ، مستدرك الوسائل : ج13 ص68 ب4 ح14768 .

عمّا بهِ البأسُ » ، وضعفُها ينجبر بالشهرة المحقّقة ، والاجماع المدّعى في كلام من تقدّم .

ومنها : رواية ضريس عن السّمن والجُبُن في أرض المشركين قال : « أمّا ما علمتَ أنّه قد خلطه الحرامُ فلا تأكل ، وما لم تعلم فَكُلْ» ،

-------------------

عمّا بهِ البأسُ » ) (1) فانه يجب الاجتناب عن الماء حذرا من الخمر فيما إذا اشتبه الماء بالخمر ، وهكذا في سائر الأمثلة .

ان قلت : الرواية مرسلة ولا يصح الاعتضاد بها .

قلت : ( وضعفُها ) أي : ضعف الرواية الناشيء عن الارسال في سندها ( ينجبر بالشهرة المحقّقة ، والاجماع المدّعى في كلام من تقدّم ) ذكرهم ، وهم : صاحب المدارك ، والبهبهاني ، والكاظمي رحمهم اللّه ، بالاضافة إلى انها موجودة في سرائر ابن ادريس ، وابن ادريس لا يعمل إلاّ بالأخبار المعتبرة ممّا يكشف عن ان هذه المرسلة معتبْرة عنده وكفى به حجة .

( ومنها : رواية ضريس : عن السَّمن والجُبُن في أرض المشركين قال ) عليه السلام : ( « أمّا ما علمت انّه قد خلطه الحرام فلا تأكل ، وما لم تعلم فَكُلْ » (2) ) ونص الرواية هكذا : عن ضريس قال : « سألت أبا جعفر عليه السلام عن السمن والجُبن تجده في أرض المشركين والروم أنأكله ؟ فقال : ما علمت انّه خلطه الحرام فلا تأكل وما لم تعلم فكله حتى تعلم انّه حرام » اي : انهم ربّما يخلطون شحوم ذبايحهم

ص: 308


1- - اشارة الى الحديث الوارد عن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس انظر الصراط المستقيم : ج1 ص135 وقريب منه في تحف العقول : ص60 ، الالفين : ص312 ، مجموعة ورام : ج1 ص60 .
2- - وسائل الشيعة : ج24 ص236 ب64 ح30424 بالمعنى ، السرائر : ج3 ص590 ، تهذيب الاحكام : ج9 ص79 ب4 ح71 ( بالمعنى ) .

فانّ الخلط يصدق مع الاشتباه .

ورواية ابن سنان : « كل شيء حلالٌ ، حتى يجيئك شاهدان أنّ فيه الميتة » ،

-------------------

المحرّمة ، أو دسوم الخنازير بالسمن ، أو يجعلون أنفحتها المحرَّمة في الجبن ، فهل يجوز - مع ذلك - الاكل منها ، أو لايجوز ؟ .

وتقريب الاستدلال بهذا الخبر ماذكره المصنِّف بقوله : ( فانّ الخلط يصدق مع الاشتباه ) أيضا ، فلا يختص الخلط بالشبهة البدوية ، بأن يكون الشيء مختلطا وممتزجا بالميتة كما في الرواية من مثال الجبن والسمن ، بل يشمل الخلط مورد الاشتباه والترديد ، كما في الشبهة المحصورة ، المقرونة بالعلم الاجمالي بان هذا - مثلاً - هو الميتة أو ذاك فيما اذا كان هناك شيئان : أحدهما مذكى والآخر ميتة واشتبها ، فكما انه اذا علم في الشبهة البدوية بالميتة وجب اجتنابه ، كذلك اذا علم بالميتة ثم اشتبه في محصور .

لكن لا يخفى انّ هذا المعنى الذي ذكره المصنِّف خلاف الظاهر ، فانّ المنصرف من الخلط هنا هو : الامتزاج بمعنى الشبهة البدوية ، لا الاشتباه بمعنى الشبهة المحصورة المقرونة بالعلم الاجمالي .

( ورواية ابن سنان : « كل شيء حلال، حتى يجيئك شاهدان يشهدان ان فيه الميتة » (1) ) .

ولا يخفى : ان ظاهر هذا أيضا كظاهر سابقه منصرف الى الشبهة البدوية ، بمعنى : انّه ممتزج بالميتة ، لا انّه من الشبهة المحصورة ، المقرونة بالعلم الاجمالي

ص: 309


1- - الكافي فروع : ج6 ص339 ح2 ، وسائل الشيعة : ج25 ص118 ب61 ح31377 ، بحار الانوار: ج65 ص156 ح30 وفيهم عن (عبد اللّه بن سليمان) .

فانّه يصدق على مجموع قطعات اللحم : أن فيه الميتة .

ومنها : قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم في حديث التثليث : « وقع في المحرّمات وهلك من حيث لايعلم » بناءا على أنّ المراد بالهلاكة ما هو أثر للحرام ،

-------------------

وان قال المصنّف : ( فانّه يصدق على مجموع قطعات اللحم : ان فيه الميتة ) بأن كان هناك مذكى وآخر ميتة ، فاشتبه أحدهما بالآخر ، فانّه كما اذا جاء شاهدان في الشبهة البدوية على انه ميتة وجب اجتنابه ، كذلك اذا جاء شاهدان على ان هذا ميتة ، ثم اشتبه في محصور فانه يجب اجتنابه .

( ومنها : قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم في حديث التثليث « وقع في المحرّمات وهلك من حيث لايعلم » ) فان اخبار التثليث مروية عن النبي وعن الوصي وعن بعض الائمة صلوات اللّه عليهم أجمعين ، ففي مقبولة عمرو بن حنظلة قال عليه السلام : «انمّا الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتبع ، وأمر بيّن غيه فيجتنب ؛ وأمر مشكل يرد حكمه إلى اللّه ورسوله . قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ؛ فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ؛ ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم (1) » .

وإنّما يشمل الحديث ما نحن فيه ( بناءا على انّ المراد بالهلاكة ) في هذه الأخبار ( ما هو أثر للحرام ) عقابا كان أو ضررا دنيويا ؛ فانّ المراد بالهلاك فيها : ما هو الأعم من الدنيوي والأخروي ، فيشمل الشبهة البدوية حيث يترتب على ارتكاب الحرام في البدوية أثره من الضرر الدنيوي ، إذ للمحرمات غير المنجّزة

ص: 310


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 وفيهم ( ارتكب المحرمات ) ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

فان كان الحرام لم يتنجّز التكليف به ، فالهلاك المترتب عليه منقصة ذاتية ، وإن كان ممّا يتنجّز التكليفُ به ، كما فيما نحن فيه ، كان المترتّبُ عليه : هو العقابَ الأخرويَّ ، وحيث أنّ دفع العقاب المحتمل واجبٌ بحكم العقل وجب الاجتناب عن كل مشتبه بالشبهة المحصورة .

-------------------

اضرار فردية او اجتماعية دنيوية فقط ، ويشمل المقرونة بالعلم الاجمالي أيضا حيث يترتب على ارتكاب الحرام فيها اثر من الاضرار الدنيوية والعقاب الأخروي لتنجز التكليف فيها .

وعليه : ( فان كان الحرام لم يتنجّز التكليف به ) كما في الشبهة البدوية ، أو المقرونة بالعلم الاجمالي حيث بعض الأطراف خارجة عن محل الابتلاء ، أو وما أشبه ذلك ( فالهلاك المترتب عليه : منقصة ذاتية ) فقط ، فان من يفعل الحرام وإن كان شبهة بدوية يترتب عليه المفسدة الكامنة في الحرام ، حتى وإن كان قاطعا بأنه ليس بحرام .

( وإن كان ممّا يتنجّز التكليف به ، كما فيما نحن فيه ) من أطراف الشبهة المحصورة ( كان المترتبُ عليه : هو العقاب الأخرويّ ) بالاضافة إلى الاضرار الدنيوية ، لأنّ الحرام المعلموم اجمالاً أو تفصيلاً عند الفاعل يترتب عليه الضرران : في الدنيا المنقصة والمفسدة ، وفي الآخرة العقاب والمؤاخذة ، ( وحيث انّ دفع العقاب ) الاخروي ( المحتمل ) في اطراف العلم الاجمالي ( واجبٌ بحكم العقل ، وجب الاجتناب عن كل مشتبه بالشبهة المحصورة ) على ما تقدّم .

نعم ، إذا لم يصادف ما ارتكبه من أطراف الشبهة المحصورة الحرام الواقعي لم يكن إلاّ تجريا .

ص: 311

ولما كان دفع الضرر غير العقاب غير لازم اجماعا كان الاجتنابُ عن الشبهة المجردة ، غيرَ واجب ، بل مستحبّا .

وفائدة الاستدلال بمثل هذا الخبر معارضته لما يفرض من الدليل على جواز

-------------------

هذا ( ولما كان دفع الضرر غير العقاب ) من الأضرار الدنيوية ( غير لازم اجماعا ) كما عرفت في أدلة البرائة ( كان الاجتنابُ عن الشبهة المجردة ، غيرَ واجب ، بل مستحبّا ) فانّه يستحب للانسان الاجتناب عن الشبهات البدوية أيضا لاطلاق أدلة الاحتياط .

ثم لا يخفى : إنّ في المقام ثلاث طوائف من الأخبار :

الاولى : ما دلت على جواز ارتكاب بعض أطراف الشبهة المحصورة ، وهي الاصناف الثلاثة من الأخبار المتقدّمة التي ذكرها المصنّف بقوله : « وبالجملة فالأخبار ... على أصناف » .

الثانية : ما دلت على عدم الجواز وهي أخبار التثليث ، والنبويان .

الثالثة : ما دلت على وجوب الاجتناب عن العناوين المحرمة الشاملة للمعلوم والمجهول مثل : « اجتنب عن الخمر » ، و « لا يحل مال امرء إلاّ بطيب نفسه » ، وما أشبه ذلك .

وحيث يقع التعارض بين الطائفتين الأوليين وتتساقطان بالتعارض ، تبقى الطائفة الثالثة محكمة ، فاللازم الاجتناب عن كل عنوان محرم ، كالخمر والغصب ، ونحوهما ، سواء علم به تفصيلاً أو اجمالاً .

وإلى هذا أشار المصنِّف بقوله : ( وفائدة الاستدلال بمثل هذا الخبر ) من اخبار التثليث هو : ( معارضته ) أي : خبر التثليث ( لما يفرض : من الدليل على جواز

ص: 312

ارتكاب أحد المشتبهين مخيّرا وجعل الآخر بدلاً عن الحرام الواقعي ، فان مثلَ هذا الدليل لو فرض وجوده حاكمٌ على الأدلّة الدالّة على الاجتناب عن عنوان المحرّم الواقعي ، لكنه مُعارَض بمثل خبر التثليث وبالنَبويَّين

-------------------

ارتكاب أحد المشتبهين مخيّرا وجعل الآخر بدلاً عن الحرام الواقعي ) من الاصناف الثلاثة التي أشار اليها المصنِّف بقوله : « وبالجملة : فالاخبار الواردة في حلية مالم يعلم حرمته على اصناف » .

وعليه : ( فان مثلَ هذا الدليل ) وهو : ماتقدّم من الأصناف الثلاثة ( لو فرض وجوده ) أي : تمامية دلالته على جواز ارتكاب بعض أطراف المحصورة وترك بعض ليكون المتروك بدلاً عن الحرام الواقعي ( حاكمٌ على الأدلّة الدالّة على الاجتناب عن عنوان المحرّم الواقعي ) مثل : « اجتنب عن الخمر » ، و « اجتنب عن المغصوب » ، ونحو ذلك ، فيقع التعارض بين أدلة العناوين المحرمة الواقعية ؛ وبين الاصناف الثلاثة الدالة على جعل البدل عن الواقع بارتكاب بعض الأطراف وترك بعض الأطراف .

( لكنه ) أي : لكن هذا الدليل الذي هو عبارة عن الاصناف الثلاثة الدالة على حلية مالم يعلم حرمته ( معارض بمثل خبر التثليث (1) وبالنَبَويَّين ) المتقدِّمين وهما : قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « ما اجتمع الحلال والحرام ...» (2) وقوله : « ترك ما لابأس به ... » (3) فإذا تعارض معها وتساقطا تصل النوبة إلى ما دل من الأدلة على وجوب

ص: 313


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - غوالي اللئالي : ج3 ص466 ح17 ، السنن الكبرى : ج7 ص275 ، مستدرك الوسائل : ج13 ص68 ب4 ح14768 .
3- - اشارة الى الحديث الوارد عن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم : حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس انظر الصراط المستقيم : ج1 ص135 وقريب منه في تحف العقول : ص60 ، الالفين : ص312 ، مجموعة ورام : ج1 ص60 .

بل مخصَّص بهما .

لو فرض عمومه للشبهة الابتدائية ، فتسلّم تلك الأدلة .

-------------------

الاجتناب عن العناوين المحرمة الواقعية فتكون هي المحكمة ، فلا يبقى مجال لمن قال بجواز ارتكاب بعض أطراف الشبهة المحصورة بسبب الاصناف الثلاثة المتقدمة .

(بل ) هذا الدليل المركب من الاصناف الثلاثة لو خصصناه بالشبهة المحصورة ، فكما عرفت يعارضه خبر التثليث والنبويّان ، وان عمّمنا مادل من الاصناف الثلاثة الى الشبهة البدوية أيضا ، فهو ( مخصَّص بهما ) أي بخبر التثليث والنبويّين المتقدمين ، وذلك ( لو فرض عمومه للشبهة الابتدائية ) أيضا كما بيّناه ( فتسلّم تلك الأدلة ) الدالة على الاجتناب عن عنوان المحرم الواقعي لفرض ان الطائفَتين الأوليين : ما دل من الاصناف الثلاثة وما دل من أخبار التثليث يتعارضان فيتساقطان ، وتبقى أدلة المحرمات سالمة عن المعارض ممّا يقتضي وجوب الاجتناب عن جميع اطراف الشبهة المحصورة.

والحاصل : انّ ما دل على جواز ارتكاب أحد المشتبهين مخيرا وجعل الآخر بدلاً عن الحرام الواقعي من الاصناف الثلاثة التيذكرهاالمصنِّف بقوله : « وبالجملة...» معارض بخبر التثليث : « حرام بيّن ، وحلال بيّن ، وشبهات بين ذلك» وبالنبويين المتقدمين ، بل الاخبار الدالة على جواز ارتكاب أحد المشتبهين لو فرض عمومها للشبهة الابتدائية تكون عاما بالنسبة إلى خبر التثليث والنبويين ، وهما خاصان بالنسبة إليها لاعتبار اختصاصهما بالشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي، فيكونان مخصصين لها بالشبهة الابتدائية ، فيبقى خبر التثليث والنبويان يفيدان الاجتناب عن الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي .

ص: 314

والثاني : ما يستفاد من أخبار كثيرة من كون الاجتناب عن كلّ واحد من المشتبهين أمرا مسلّما مفروغا عنه بين الأئمة والشيعة بل العامة أيضا .

بل استدلّ صاحب الحدائق على أصل القاعدة باستقراء مواردها في الشريعة .

-------------------

هذا ، وفيبعض نسخ المتن كلمة : « فتأمّل » .

ولعله اشارة إلى انّه يلزم تقديم أخبار جواز الارتكاب لأحد المشتبهين في اطراف العلم الاجمالي على الطائفتين ، أي : ما دل على الاحتياط من خبر التثليث ، وما دل على وجوب الاجتناب عن العناوين المحرمة .

( والثاني ) : ممّا يعضد القاعدة العقلية الدالة على وجوب الاجتناب عن اطراف العلم الاجمالي ، فلا يبقى معه مجال للقول بجواز ارتكاب بعض الأطراف بدلاً عن الواقع ( ما يستفاد من ) التعليلات الموجودة في (أخبار كثيرة : من كون الاجتناب عن كلّ واحد من المشتبهين أمرا مسلّما مفروغا عنه بين الأئمة والشيعة، بل العامة أيضا ) فانّ هذه التعليلات تدل على وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة اطلاقا .

( بل استدلّ صاحب الحدائق على أصل القاعدة باستقراء مواردها في الشريعة) وكأنّه أراد من الاستقراء ما يستفاد العلم منه ، وإلاّ فالاستقراء الذي لايوجب العلم ليس بحجّة ، مضافا إلى انّ فيبعض الموارد خلاف ذلك ممّا يجعل الاستقراء غير تام ، كما ورد في وجوب قضاء ثلاث صلوات على من ترددت فائتته بين الرباعية والثلاثية والثنائية ، فانّه إذا صلى ثلاث صلوات بقصد ما في الذمة لايحصل به مراعاة الاحتياط بالنسبة إلى الجهر والاخفات، ولا بالنسبة إلى قصد الوجه عند من يشترط قصد الوجه والتمييز وما أشبه ذلك .

ص: 315

لكن الانصافَ عدمُ بلوغ ذلك حدّا يمكن الاعتماد عليه مستقلاً ، وإن كان ما يُستشمُّ منها قولاً وتقريرا من الروايات كثيرةٌ :

منها : ما ورد في المائين المشتبهين ، خصوصا مع فتوى الأصحاب بلاخلاف بينهم على وجوب الاجتناب عن استعمالهما مطلقا .

ومنها : ما ورد في الصلاة في الثوبين المشتبهين .

-------------------

هذا ، بالاضافة الى ما ذكره المصنِّف بقوله : ( لكن الانصاف عدمُ بلوغ ذلك ) الذي استقرئناه ( حدّا يمكن الاعتماد عليه مستقلاً ) حتى نفتي بوجوب الاحتياط في جميع الموارد مستندا إلى مثل هذا الاستقراء ( وإن كان ما يستشم منها قولاً وتقريرا من الروايات كثيرة ) فان التعليلات الموجودة في هذه الموارد المستقرء فيها ظاهرة فيكون الحكم بوجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة من المسلمات وربّما يقطع الفقيه بسبب ذلك بالقاعدة المذكورة .

( منها : ) أي : من تلك الروايات الكثيرة ( ما ورد في المائين المشتبهين ) بأنّه «يهريقهما ويتيمم » (1) ( خصوصا مع فتوى الأصحاب بلاخلاف بينهم على وجوب الاجتناب عن استعمالهما مطلقا ) بأن لا يستعمل كليهما ولا يستعمل أحدهما ، لكن قال بعض الفقهاء : بوجوب استعمالهما ، وذلك بأن يتوضأ أو يغتسل بأحدهما مع الامكان ، ثم يصلي ، وبعد ذلك يغسل جسده أو موضع أعضائه ويتوضأ أو يغتسل بالماء الثاني ويصلي صلاة ثانية ، فانّه يقطع حينئذ بأنه أدى صلاة بالطهارة المائية فلا تصل النوبة إلى الطهارة الترابية .

( ومنها : ما ورد في الصلاة في الثوبين المشتبهين ) وهي حسنة صفوان حيث

ص: 316


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص229 ب10 ح45 ، الاستبصار : ج1 ص21 ب10 ح3 .

ومنها : ماورد في وجوب غسل الثوب من الناحية التي يعلم بإصابة بعضها للنجاسة معلّلاً بقوله : « حتى يكون على يقين من طهارته » .

-------------------

سأل الإمام عليه السلام عن الصلاة في ثوبين أحدهما نجس واشتبه بالآخر ؟ فأمره الإمام بالصلاة في كل منهما على حدة ؛ فانّ هذا الخبر يدل على وجوب الاحتياط في جميع أطراف الشبهة ، ولو كان يجوز جعل البعض بدلاً عن الواقع ، لأفتاه الإمام باتيان صلاة واحدة في أحد الثوبين وجعل الثوب الآخر بدلاً عن النجس الواقعي ، كما انّه كان يفتيه في مورد الماء بأن يتوضأ بأحد المائين ويجعل الماء الآخر بدلاً عن النجس .

( ومنها : ماورد في وجوب غسل الثوب من الناحية التي يعلم باصابة بعضها للنجاسة ) وهي روايات كثيرة مثل ما عن أحدهما عليهماالسلام في حديث : « في المني يصيب الثوب ، فان عرفت مكانه فاغسله ، وان خفي عليك فاغسله كله (1) » .

وعن زُرارة قال : قلت : أصاب ثوبي دم رعاف ، أو غيره ، أو شيء من مني ، إلى أن قال : قلت : فاني قد علمت انّه قد أصابه ولم أدر اين هو فأغسله ؟ قال : تغسل من ثوبك الناحية التي ترى انه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك (2) » وهذا الحديث رواه زُرارة عن أبي جعفر عليه السلام أيضا ، وإليه أشار المصنِّف حين قال : ( معلّلاً بقوله : « حتى يكون على يقين من طهارته » ) .

وعن سماعة قال : « سألته عن بول الصبي يصيب الثوب ؟ فقال : اغسله ؛ قلت : فان لم أجد مكانه ؟ قال : اغسل الثوب كلّه (3) » .

ص: 317


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص267 ب12 ح71 ، وسائل الشيعة : ج3 ص402 ب7 ح3977 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص421 ب21 ح8 ، الاستبصار : ج1 ص183 ب109 ح13 ، وسائل الشيعة : ج3 ص402 ب7 ح3978 .
3- - تهذيب الاحكام : ج1 ص251 ب11 ح10 و ص267 ب12 ح72 ، الاستبصار : ج1 ص174 ب104 ح4 وسائل الشيعة : ج3 ص398 ب3 ح3969 .

فانّ وجوبَ تحصيل اليقين بالطهارة على ما يستفاد عن التعليل ، يدلّ على جريان أصالة الطهارة بعد العلم الاجماليّ بالنجاسة .

وهو الذي بَنيْنا عليه وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة وعدم جواز الرجوع فيها إلى أصالة الحلّ ، فانّه لو جرى أصالة الطهارة وأصالة الحلّ في بعض المشتبهين لم يكن للأحكام المذكورة وجه ولا للتعليل

-------------------

وعن عنبسة بن مصعب قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام ، عن المني يصيب الثوب فلا يدري أين مكانه ؟ قال : يغسله كلّه ، وان علم مكانه فليغسله (1) » إلى غيرها من الروايات التي ذكرها الوسائل والمستدرك في باب تنجس موضع من الثوب لم يعلم به بخصوصه .

وعليه : ( فانّ وجوبَ تحصيل اليقين بالطهارة على ما يستفاد عن التعليل ، يدلّ على جريان اصالة الطهارة ) في المواضع المشكوكة ( بعد العلم الاجماليّ بالنجاسة ) فلا يكون بعض المواضع بدلاً عن الواقع حتى يكون البعض الآخر محكوما بالطهارة ( و ) كون العلم الاجمالي مانعا عن اجراء الأصل ( هو الذي بَنيْنا عليه وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة ) بالاجتناب عن جميع الأطراف (وعدم جواز الرجوع فيها) أي: في هذه الشبهة (إلى اصالة الحلّ) أو اصالة الطهارة، أو ما أشبه ذلك.

وإنّما يكون العلم الاجمالي مانعا ، لانه كما قال : ( فانّه لو جرى اصالة الطهارة واصالة الحلّ في بعض المشتبهين ) كما ادعاه المحقق القمي والنَراقي ( لم يكن للأحكام المذكورة وجه ) إذ كان اللازم أن ينبّه الإمام عليه السلام على انّ بعض المواضع يجوز ارتكابه ، وانّما يجب الاجتناب عن بعض المواضع بقدر العلم ( ولا للتعليل

ص: 318


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص252 ب11 ح16 ، وسائل الشيعة : ج3 ص403 ب7 ح3080 و ص424 ب16 ح4056 .

في حكم الأخير بوجوب تحصيل اليقين بالطهارة بعد اليقين بالنجاسة .

ومنها: مادلّ على بيع الذبائح المختلط ميتها بمذكّاها من أهل الكتاب ، بناءا على حملها على ما لا يخالف عمومات حرمة بيع الميتة ، بأن يقصد بيع المذكى خاصّة أو مع مالا تحلّه الحياة من الميتة .

-------------------

في حكم الأخير ) أي : لم يكن وجه لتعليل الإمام عليه السلام وجوب غسل جميع النواحي المشكوكة ( بوجوب تحصيل اليقين بالطهارة بعد اليقين بالنجاسة ) حيث قال عليه السلام : حتى يكون على يقين من طهارته .

( ومنها : ما دلّ على ) جواز ( بيع الذبائح المختلط ميتها بمذكّاها من أهل الكتاب ) وفي حَسنتيالحلبي المروية في باب الأطعمة المحرمة من الوسائل : انّه لو اختلط المذكّى بالميتة يباع ممّن يستحل الميتة (1) ، فانه لو جاز ارتكاب كِلا المشتبهين كما احتمله بعض ، أو أحد المشتبهين ، لم يكن وجه لبيع المشتبه ممّن يستحل الميتة ، وانّما كان الإمام عليه السلام يأذن في أكلهما ، أو أكل أحدهما وجعل الآخر بدلاً عن الواقع .

لا يقال : انه لا يصح العمل بهذه الروايات من جهة منافاتها لعموم حرمة بيع الميتة ، فكيف تباع الميتة ولو للكافر ، مع انّ اللّه إذا حرم شيئا حرم ثمنه ؟ .

لأنه يقال : ( بناءا على حملها ) أي : حمل هذه الروايات ( على ما ) أي : على بيعه بنحو ( لا يخالف عمومات حرمة بيع الميتة ) وذلك ( بأن يقصد ) من بيع المجموع ( : بيع المذكّى خاصّة ، أو مع مالا تحلّه الحياة من الميتة ) من الشعر ، والوَبر ، وما أشبه .

لكن يمكن أن يقال : ان بيع الميتة انّما يحرم إذا كان المشتري مسلما ، أمّا إذا

ص: 319


1- - وسائل الشيعة : ج17 ص99 ب7 ح22080 و ج24 ص187 ب36 ح30308 ( بالمعنى ) .

وقد يستأنس له بما ورد من وجوب القرعة في قطيع الغنم المعلوم وجود الموطوء في بعضها ، وهي الرواية المحكيّة في جواب الإمام الجواد عليه السلام ، لسؤال يحيى بن أكثم عن قطيع غنم نزى الراعي على واحدة منها ، ثمّ أرسلها في الغنم ، حيث قال عليه السلام : يقسّم الغنم نصفين ثم يقرع بينهما ، فكلّ ما وقع السهم عليه ، قُسِّمَ غيرُه قسمين ، وهكذا حتى يبقى واحد

-------------------

كان كافرا فلا بأس ببيعها له وأكل ثمنها لقاعدة « الالزام » (1) ، ولذا جاز اخذ المرأة المطلّقة بدون شرائط الطلاق إذا طلقها من يرى ان الطلاق كذلك صحيح ، كالعامة، وجاز تقسيم ميراث العامي والمجوسي ومن اشبههما حسب ديانتهم وان كان ذلك غير صحيح في مذهب الشيعة ، وجاز أكل الميراث من العامي في مورد ليس له أكله إذا كان المورّث شيعيا ، كما في مثل العصبة ، ونحو ذلك ، على ما ذكروه في كتاب الميراث .

( وقد يستأنس له ) أي : لوجوب الاجتناب عن الجميع مالم يكن هناك دليل على جواز ارتكاب البعض ( بما ورد : من وجوب القرعة في قطيع الغنم المعلوم وجود الموطوء في بعضها ) فانّ القرعة نوع علاج وافراز للحَرام ، ممّا يدل على عدم جواز ارتكاب جميعها أو ارتكاب بعضها قبل القرعة ( وهي : الرواية المحكيّة في جواب الإمام الجواد عليه السلام لسؤال يحيى بن أكثم عن قطيع غنم نزى الراعي على واحدة منها ، ثمّ أرسلها في الغنم ) فضاعت بين الشياه ولم يعرفها بعينها ( حيث قال عليه السلام : يقسّم الغنم نصفين ثم يقرع بينهما ، فكلّ ما وقع السهم ) الدال على الحلية ( عليه ، قُسِّم غيرُه قسمين ، وهكذا حتى يبقى واحد ) فيكون هو

ص: 320


1- - عن هذه القاعدة راجع كتاب القواعد الفقهية للشارح .

ونجى الباقي » ، وهي حجّة القول بوجوب القرعة ، لكنّها لاتنهض لاثبات حكم مخالف للأصول .

-------------------

المحرَّم ( ونجى الباقي ) (1) بذلك .

مثلاً : لو كانت الشياه مائة يقسمها خمسين خمسين ، فيوقف قسما على يمينه وقسما على يساره ؛ ويكتب في رقعة حلال وفي رقعة حرام ، فيخرج احدى الرقعتين بقصد الجانب الأيمن - مثلاً - فان خرج الحلال قسّم اليسار قسمين ، وان خرج الحرام قسّم اليمين قسمين ، وهكذا حتى لا يبقى الاّ واحد ، وهذا القسم من القرعة هو أحد اقسام القرعة الممكنة وإلاّ أمكن التقسيم بغير هذا النحو كما ذكرناه في الفقه في هذا الباب ( وهي ) أي : هذه الرواية بالاضافة إلى مطلقات أدلة القرعة ، تكون ( حجّة القول بوجوب القرعة ) في هذا المورد .

( لكنّها ) أي : هذه الرواية ( لاتنهض لاثبات ) جواز القرعة في كل شبهة محصورة : كاللحمين المشتبهين ، أو الانائين المشتبهين ، أو المرأتين المشتبهتين، أو ما أشبه ذلك ممّا هو ( حكم مخالف للأصول ) مثل قاعدة الاشتغال ، فان اعتراض المشهور عن الرواية وعدم تعميمها لكل مورد من المشتبهين ، يجعل الرواية خاصة بموردها ، أو بالموارد التي هي من امثالها وبها دليل شرعا ، أو التي عمل بالقرعة فيها الفقهاء .

وانمّا لم يعملوا برواية القرعة ، لأنّ الأئمة عليهم السلام لم يقولوا بها في مثل الانائين المشتبهين ، والثوب الذي تنجس مقدار مجهول منه ، إلى غيرهما، كما لم يقولوا بالقرعة في مورد الماليات كإرث الخنثى ، والعين المتنازع فيها كالابل التي قضى

ص: 321


1- - تحف العقول : ص480 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج24 ص170 ب30 ح30264 ، وفيها عن الإمام الهادي عليهم السلام (بالمعنى) .

نعم ، هي دالّة على عدم جواز ارتكاب شيء منها قبل القرعة ، فان التكليف بالاجتناب عن الموطوئة الواقعيّة واجبٌ بالاجتناب عن الكلّ حتى يتميّز الحلال ولو بطريق شرعيّ .

هذا ، ولكنّ الانصافَ أنّ الرواية أدلّ على مطلب الخصم بناءا على حمل القرعة على الاستحباب ، إذ على قول المشهور لابدّ من طرح الرواية أو العمل بها في خصوص موردها .

-------------------

فيها أمير المؤمنين علي عليه السلام ، إلى غير ذلك ممّا يَظهر منه : انّ القرعة ليست عامة ، وانمّا خاصة بموارد مخصوصة ذكرها الأئمة عليهم السلام ، أو استفاد الفقهاء من كلماتهم عليهم السلام جريانها في تلك الموارد .

( نعم ، هي دالّة على عدم جواز ارتكاب شيء منها قبل القرعة ) فتدل هذه الرواية على عدم جواز ارتكاب جميع الأطراف ، ولا بعضها وجعل البعض الآخر بدلاً عن الواقع قبل القرعة ( فان ) ظاهر هذه الرواية : ان ( التكليف بالاجتناب عن الموطوئة الواقعيّة واجب ) وذلك ( بالاجتناب عن الكلّ حتى يتميّز الحلال ولو بطريق شرعيّ ) كالقرعة .

( هذا ) غاية ما يستدل بهذه الرواية على عدم جواز ارتكاب جميع الأطراف ولا بعضها في الشبهة المحصورة ( ولكنّ الانصاف : انّ الرواية أدلّ على مطلب الخصم ) وهو القول بجواز ارتكاب البعض ، من الدلالة على مطلب القائل بعدم الجواز ، وذلك ( بناءا على حمل القرعة على الاستحباب ) كما ذكره بعض ، فانّ رواية القرعة إن حملت على الاستحباب ، دلّت على جواز ارتكاب بعض الأطراف ولو بدون القرعة ، وانّما تكون الرواية أدلّ على الجواز ( اذ على قول المشهور لابدّ من طرح الرواية) لانّها للاستحباب (أو العمل بها في خصوص موردها) وهي افراز

ص: 322

وينبغي التنبيه على امور
الأوّل :

إنه لا فرق في وجوب الاجتناب عن المشتبه بالحرام بين كون المشتبهين مندرجين تحت حقيقة واحدة وغير ذلك ،

-------------------

الشاة المحرّمة وتعيينها بسبب دليل شرعي خارجي ، فالقرعة في هذا المورد تكون مثل الشاهدين إذا قاما على انّ الشاة الفلانية هي الموطوئة .

ثم لا يخفى : انّ المشتبه من موارد المنازعات المالية يكون المحكم فيها قاعدة العدل ، كما ذكرها صاحب الجواهر في كتاب الخمس ، وقد ذكرنا في الفقه تفصيل الكلام في ذلك (1) ، وامّا ما ظفرنا عليه من الروايات دليلاً للقاعدة من الموارد الخاصة في مختلف الأبواب ، فهي أكثر من ثلاث عشرة رواية ، ممّا يستفاد من جميعها قاعدة كلية هي : « قاعدة العدل » في الموارد المالية ، وهذا أيضا خارج عن مقتضى العلم الاجمالي لهذه الأدلة الخاصة .

( وينبغي التنبيه على امور ) راجعة الى بحث العلم الاجمالي ، وهي :

( الأوّل : إنه لا فرق في وجوب الاجتناب عن المشتبه بالحرام بين كون المشتبهين مندرجين تحت حقيقة واحدة ) كالمائين المعلوم نجاسة أحدهما حيث انهما مندرجان تحت النجاسة ، والمالين المغصوب أحدهما حيث انهما مندرجان تحت الغصب ( وغير ذلك ) بأن يكونا مندرجين تحت حقيقتين مثل : أن يكون أحدهما غصبا أو نجسا ، حيث انّ النجس والغصب لا يندرجان تحت حقيقة واحدة ، أو تكون المرأة مرددة بين كونها زوجة حائضا أو أجنبية ، فالوطي

ص: 323


1- - راجع موسوعة الفقه ج33 كتاب الخمس للشارح .

لعموم ما تقدّم من الأدلّة .

ويظهر من كلام صاحب الحدائق التفصيل ، فانه ذكر كلام صاحب المدارك في مقام تأييد ما قوّاه من عدم وجوب الاجتناب من المشتبهين .

وهو : « إنّ المستفاد من قواعد الأصحاب أنّه لو تعلق الشك بوقوع النجاسة في الاناء وخارجه لم يمنع من استعماله ، وهو مؤيد لما ذكرناه .

-------------------

في الحيض والزنا حقيقتان لا حقيقة واحدة ، بخلاف ما لو شك في ان احدى زوجتيه حائض ، أو احدى هاتين المرأتين أجنبية ، حيث انّهما داخلتان تحت حقيقة واحدة .

وانّما لا يكون في وجوب الاجتناب عن المشتبه فرق بين الحقيقية الواحدة والأكثر من الحقيقة الواحدة ( لعموم ما تقدّم من الأدلّة ) كقاعدة الاشتغال وما أشبه الدالة على وجوب الموافقة القطعية في الشبهة المحصورة بلا فرق بين كونها من حقيقة واحدة أو اكثر .

( ويظهر من كلام صاحب الحدائق التفصيل ) بين الحقيقة الواحدة والاكثر (فانه ) اي صاحب الحدائق ( ذكر كلام صاحب المدارك في مقام تأييد ما قوّاه ) صاحب المدارك نفسه ( : من عدم وجوب الاجتناب من المشتبهين ) أي : انّ صاحب المدارك قال بعدم وجوب الاجتناب عن المشتبهين ، ثم ذكر تأييدا لمختاره ، فنقل صاحب الحدائق هذا المؤيد في كتابه ( وهو : « انّ المستفاد من قواعد الأصحاب : انّه لو تعلق الشك بوقوع النجاسة في الاناء وخارجه لم يمنع من استعماله ) أي: من استعمال ما في داخل الاناء ( وهو مؤيد لما ذكرناه ) نحن صاحب المدارك : من عدم وجوب الاحتياط في المشتبهين ، إذ لو وجب الاحتياط في المشتبهين كان الواجب الاجتناب عمّا في داخل الاناء .

ص: 324

قال مجيبا عن ذلك :

أولاً : بأنّه من باب الشبهة غير المحصورة .

وثانيا : انّ القاعدة المذكورة انمّا يتعلق بالأفراد المندرجة تحت ماهيّة واحدة والجزئيات التي تحويها حقيقة واحدة ، إذا اشتبه طاهرها بنجسها وحلالها بحرامها ، فيفرّق فيها بين المحصور وغير المحصور بما

-------------------

ثمّ ( قال ) صاحب الحدائق بعد نقله كلام المدارك هذا حال كونه ( مجيبا عن ذلك ) أي : عن استدلال صاحب المدارك ورادّا له بما يلي :

( أولاً : بأنّه من باب الشبهة غير المحصورة ) وذلك لأنّ خارج الاناء المحتمل وقوع النجاسة فيه ، نقاط كثيرة من المكان فهو خارج من باب كون الشبهة غير محصورة ، أو من باب الخروج عن محل الابتلاء ، فلا يمكن أن يستدل به على عدم وجوب الاجتناب عن المشتبهين ممّا كان محصورا ومحل الابتلاء .

( وثانيا : انّ ) ما ذكره الأصحاب : من عدم وجوب الاحتياط في المثال المذكور وهو : وقوع النجاسة داخل الاناء أو خارجه ، ليس من جهة عدم وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة ، حتى يكون مؤيدا لمختار المدارك ، بل انمّا هو من جهة : ان ( القاعدة المذكورة ) وهي : وجوب الاحتياط في أطراف الشبهة المحصورة ( انمّا يتعلق بالأفراد المندرجة تحت ماهية واحدة ) كالنجاسة في أحد الانائين أو الغصب في احدهما لا ما كانت من ماهيتين مختلفتين .

( و ) عليه : فان ( الجزئيات التي تحويها حقيقة واحدة ، إذا اشتبه طاهرها بنجسها وحلالها بحرامها ) كالمائين الذين أحدهما طاهر والآخر نجس ، وكاللحمين الذين أحدهما حلال والآخر حرام ، وكالزوجتين اللتين احداهما في حال الحيض والاخرى طاهرة ( فيفرّق فيها بين المحصور وغير المحصور بما

ص: 325

تضمّنه تلك الأخبار ، لا وقوع الاشتباه كيف اتفق » ، انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه : - بعد منع كون ما حكاه صاحب المدارك عن الأصحاب مختصّا بغير المحصور ،

-------------------

تضمّنه تلك الأخبار ) فالشبهة المحصورة مشمولة لأخبار الاحتياط ، والشبهة غير المحصورة مشمولة لأخبار البرائة ( لا وقوع الاشتباه كيف اتفق» ) (1) بأن لم تكن أطراف الشبهة مندرجة تحت ماهية واحدة ، كما في مثال الاناء وخارجه ، وكالخمر والخل ، وكالمرأة الحائض أو غير الزوجة ، فانه لا يجب الاحتياط في المقام .

ولايخفى: انّ الأصل في هذه المسألة هي صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام : « عن رجل امتخط فصار الدم قطعا صغارا فأصاب انائه هل يصلح الوضوء منه ؟ فقال : ان لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس » (2) ، وقد استدل بها الشيخ على طهارة ما لا يدركها الطرف من النجاسة في المبسوط ، ومن الدم خاصة في الاستبصار ، وأجاب المشهور عن الرواية : بعدم دلالتها على اصابة الدم الماء ، اذ يراد بعدم الاستبانة في الرواية عدم العلم باصابته ، لاعدم ادراك الطرف الدم لأنه قد استهلك في الماء ( انتهى كلامه ) أي : صاحب الحدائق ( رفع مقامه ) وأعلى اللّه درجاته .

( وفيه ) أولاً : ( بعد منع كون ما حكاه صاحب المدارك عن الأصحاب مختصّا بغير المحصور ) بأن كان الشك في وقوع النجاسة في الماء أو في أطرافه ممّا

ص: 326


1- - الحدائق الناضرة : ج 1 ص 517 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص74 ح16 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص412 ب21 ح18 ، الاستبصار : ج1 ص23 ب10 ح12 ، غوالي اللئالي : ج3 ص22 ح57 ( وفيه عن الإمام الكاظم عليه السلام ) .

بل لو شكّ في وقوع النجاسة في الاناء أو ظهر الاناء ، فظاهرهم : الحكم بطهارة الماء أيضا .

كما يدلّ عليه تأويلهم لصحيحة علي بن جعفر الواردة في الدم غير المستبين في الماء بذلك -

-------------------

يوجب ان تكون الشبهة غير محصورة كما ذكره الحدائق ( بل لو شكّ في وقوع النجاسة في الاناء أو ظهر الاناء ، فظاهرهم : الحكم بطهارة الماء أيضا ) مع انّه محصور بين داخل الاناء وخارج الاناء ، فحكمهم بها ليس من جهة عدم انحصار الشبهة ؛ ولا من جهة اختلاف الماهية كما ذكرهما الحدائق ؛ ولا من جهة عدم وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة عند الأصحاب كما ذكره المدارك ، بل من جهة : انّ خارج الاناء خارج عن مورد الابتلاء ، فلا أثر للعلم الاجمالي .

ثم انّ الخارج من محل الابتلاء يتصور تارةً بالخروج القطعي ، كما إذا شك في نجاسة انائه أو نجاسة اناء شخص لا يتمكن من الوصول إليه ممّا هو بعيد عنه ألوف الفراسخ ، وأخرى بأن يكون قادرا عليه ، لكنّه لا يصح خطاب الشارع له من جهة انّه لا يستعمله اطلاقا ، كما لو شك في انّ القطرة وقعت في انائه أو على ورقة شجرة في داره ممّا لايستعمله اطلاقا ، ومثال الاناء وخارجه من قبيل الثاني على ما ذكره بعض .

( كما يدلّ عليه ) أي : على حكمهم بالطهارة ولو فرض الانحصار بين داخل الاناء وخارجه ( تأويلهم لصحيحة (1) علي بن جعفر ) المتقدِّمة ( الواردة في الدم غير المستبين في الماء ) فانهم أوّلوا هذه الصحيحة ( بذلك ) الذي ذكرناه : من انّ

ص: 327


1- - الكافي فروع : ج3 ص74 ح16 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص412 ب21 ح18 ، الاستبصار : ج1 ص23 ب10 ح12 ، غوالي اللئالي : ج3 ص22 ح57 ( وفيه عن الإمام الكاظم عليه السلام ) .

أنّه لا وجه لما ذكره من اختصاص القاعدة .

أمّا أوّلاً : فلعموم الأدلّة المذكورة خصوصا عمدتها ، وهي : أدلة الاجتناب من العناوين المحرّمة الواقعيّة ، كالنجس ، والخمر ، ومال الغير ، وغير ذلك بضميمة حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المحتمل .

-------------------

ظاهر الصحيحة الذي علق الحكم على الاستبانة : انّه لو لم يستبين لا حتمال أن الدم اصاب ظاهر الاناء ، فلا يجب الاجتناب عن داخل الاناء .

وفيه ثانيا : ( انه لا وجه لما ذكره ) الحدائق ( من اختصاص القاعدة ) أي : قاعدة وجوب الاحتياط بالافراد المندرجة تحت ماهية واحدة ، وذلك لما يلي :

( أمّا أوّلاً : فلعموم الأدلّة المذكورة ) لوجوب الاحتياط من الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، والعقل ، وقد ذكرنا : انّ الكتاب يدل أيضا على وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة ، وهو قوله سبحانه : « اجتنبوا كثيرا من الظّنّ انّ بعضَ الظّنّ

اثمٌ » (1) فانّ هذه الأدلة تشمل الأفراد المندرجة تحت ماهية واحدة ، أو تحت ماهيتين ، أو ماهيات ، كما إذا اشتبه أحد الانائين بانه نجس ، أو مغصوب ، أو محرّم الشرب ، لأنه - مثلاً - لبن حيوان محرّم اللحم ، وهكذا .

( خصوصا عمدتها ) أي : عمدة أدلة وجوب الاحتياط ( وهي : أدلة الاجتناب من العناوين المحرّمة الواقعيّة كالنجس ، والخمر ، ومال الغير ، وغير ذلك ) كلبن الحيوان المحرّم اللحم ( بضميمة حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المحتمل ) فان قوله عليه السلام : و « اجتنب عن النجس » ، و « اجتنب عن الخمر » ، و «اجتنب عن مال الغير » ، و «اجتنب عن لبن حيوان محرّم الأكل وان كان طاهرا»، يقتضي وجوب الاجتناب عن كل ما احتمل هذه الامور في صورة العلم الاجمالي ، سواء كان

ص: 328


1- - سورة الحجرات : الآية 12 .

وأمّا ثانيا : فلأنّه لا ضابطة لما ذكره من الاندراج تحت ماهيّة واحدة ، ولم يعلم الفرق بين تردّد النّجس بين ظاهر الاناء وباطنه ، أو بين الماء وقطعة من الأرض ، أو بين الماء ومايع آخر أو بين مايعين مختلفي الحقيقية وبين تردّده مابين مائين ، أو ثوبين ، أو مايعين متّحدي الحقيقة .

نعم ، هنا شيء آخر :

-------------------

الترديد في ماهية واحدة كمائين يعلم بنجاسة أحدهما ، أم مائين يعلم بأنّ أحدهما إمّا نجس أو مغصوب .

( وأمّا ثانيا : فلأنّه لا ضابطة لما ذكره من الاندراج تحت ماهيّة واحدة ) اذا لا دليل على مثل هذه الضابطة ، بالاضافة إلى انّه لم يعلم ان الماهية الواحدة يراد بها : الماهية الصنفية ، أو النوعية ، أو الجنسية القريبة ، أو الجنسية البعيدة ؟ (ولم يعلم ) وجه ( الفرق بين تردّد النّجس بين ظاهر الاناء وباطنه ، أو بين الماء وقطعة من الأرض ، أو بين الماء ومايع آخر ) كالخل ( أو بين مايعين مختلفي الحقيقية ) كالخل والدبس ، فانّ في كل هذه الامور يجب بحكم العقل والشرع على ماعرفت: الاجتناب عن جميع الاطراف اذ لا فرق بين ذلك ( وبين تردّده ) أي : تردد النجس ( مابين مائين ، أو ثوبين ، أو مايعين متّحدي الحقيقة ) كالخلين - مثلاً - فانّ العقل والنقل دلاّ على وجوب الاجتناب عن جميع هذه الشبهات المحصورة .

( نعم ، هنا شيء آخر ) وحاصل هذا الشيء هو : انّ الترديد والاشتباه قد يكون تارة في شخص الخطاب ، وأخرى في نوع الخطاب ، وثالثا : في جنس الخطاب ، فالترديد في شخص الخطاب : ما إذا حصل العلم الاجمالي بكون أحد الانائين خمرا ، فانّ خطاب : « اجتنب عن الخمر » معلوم ، لكن الترديد حاصل في شخصه الخارجي بالنسبة إلى هذا الاناء أو ذاك الاناء .

ص: 329

وهو : أنّه هل يشترط في العنوان المحرّم الواقعي

-------------------

والترديد في نوع الخطاب : ما إذا كان أحد المشتبهين ثوبا ، والآخر مكان سجود الانسان ، حيث يشترط في ثوب المصلي وكذا محل سجوده ان يكون طاهرا ، فان جنس الخطاب بوجوب الاجتناب عن النجس معلوم ، وانّما الاجمال في نوعه ، حيث لايعلم ان المحرَّم هو اللبس في حال الصلاة ، أو هو السجود على هذا المكان ، فانّه على تقدير نجاسة الثوب يحرم لبسه في حال الصلاة ، وعلى تقدير نجاسة المكان يحرم السجود عليه فليس في المقام خطاب جامع للنجس الواقعي ، إذ لا خطاب يشمل اللبس والسجدة ، بل العلم بالتكليف مستفاد من مجموع قول الشارع : « لا تلبس النجس في الصلاة » ، و « لا تسجد على النجس »، فانّهما إذا ألقيا إلى المكلّف علم : بأن المحرّم هو الجامع الذي تارة يكون في هذاالفرد ، وتارةً في الفرد الآخر .

والترديد في جنس الخطاب : ما إذا دار الأمر بين كون هذه المرأة أجنبية ، أو كون هذا المايع خمرا ،فانّ جنس الخطاب وهو : « لا تزن » أو : « لا تشرب الخمر » غير معلوم ، وان كان المعلوم من الخطابين لدى العقلاء وجوب الاجتناب عن الزنا وعن شرب الخمر .

ولا يخفى : ان هناك ترديدا رابعا وهو : معلومية أصل اللزوم دون معلومية كونه واجبا أو محرما ، كما لو تردد الأمر بين وجوب الجمعة أو حرمة الرضيعة التي رضعت معه عشر رضعات - مثلاً - .

والى هذا المعنى اشار المصنِّف عند بيانه الشيء الآخر بقوله : ( وهو : انّه هل يشترط في العنوان المحرّم الواقعي ) كالخمر مثلاً حيث ان الخمر محرم واقعا

ص: 330

أو النجس الواقعيالمردّد بين المشتبهين أن يكون على كلّ تقدير متعلّقا بحكم واحد أم لا ؟ .

مثلاً : إذا كان أحد المشتبهين ثوبا ، والآخر مسجدا ، حيث ان المحرّم في أحدهما اللبس ، وفي الآخر السّجدة ، فليس هنا خطابٌ جامعٌ للنّجس الواقعي ، بل العلم بالتكليف مستفاد من مجموع قول الشارع : « لا تَلبس النّجسَ في الصلاة ، ولا تسجُد على النّجس » .

-------------------

( أو النجس الواقعي ) كالبول فانّه نجس واقعا ( المردّد بين المشتبهين ) فيما علم بان أحد الانائين خمر ، أو علم بأن أحد الانائين بول ( أن يكون على كلّ تقدير متعلّقا بحكم واحد أم لا ؟ ) فانّه قد يكون هناك خطاب واحد متردد بين أن يكون في هذا الاناء أو ذاك الاناء ، كما إذا علمنا بأنّ أحدهما خمر والآخر ماء ، وقد يكون خطابان تردد التكليف بينهما كما قال :

( مثلاً : إذا كان أحد المشتبهين ثوبا ، والآخر مسجَدا ) - بفتح الجيم - والمراد به: محل السجود ( حيث ان المحرّم في أحدهما اللبس ، وفي الآخر السّجدة ) فانّه على تقدير نجاسة الثوب يحرم لبسه في الصلاة ، وعلى تقدير نجاسة المكان يحرم السجود عليه ( فليس هنا خطابٌ جامعٌ للنّجس الواقعي ) يشمل اللبس والسجود حتى يقبح مخالفة ذلك الخطاب الجامع ( بل العلم بالتكليف مستفاد من مجموع قول الشارع : « لا تَلبس النّجسَ في الصلاة ، ولا تسجُد على النّجس » ) ، فان العرف يستفيد من هذين الخطابين جامعا ، فكلّما خالف المكلّف أحدهما وطابق الواقع رأى العرف صحة عقوبته .

ومن المعلوم : ، انّ من هذا الباب مثال الاناء وخارجه ، لأنّ داخل الاناء يحرم شربه ان كان نجسا في الواقع ، وخارج الاناء يحرم ملامسته برطوبة في حال

ص: 331

وأولى من ذلك بالاشكال ما لو كان المحرّم على كل تقدير عنوانا غيره على التّقدير الآخر ، كما لو دار الأمر بين كون أحد المائعين نجسا وكون الآخر مال الغير لإمكان تكلّف إدراج الفرض الأوّل تحت خطاب الاجتناب عن النجس بخلاف الثاني ، وأولى من ذلك ما لو تردّد الأمر بين كون هذه المرأة أجنبية أو كون هذا المايع خمرا .

وتوهّمُ إدراج ذلك كلّه

-------------------

الصلاة ان كان هو النجس في الواقع .

( وأولى من ذلك بالاشكال ) في تنجّز العلم الاجمالي ( ما لو كان المحرّم على كل تقدير عنوانا غيره ) أي : غير ذلك العنوان ( على التّقدير الآخر ) فللحرام عنوانان ( كما لو دار الأمر بين كون أحد المائعين نجسا ، وكون الآخر مال الغير ) فانّه وان كان يحرم على كل تقدير ، لكن الحرام على تقدير النجاسة هو عنوان النجاسة ، والحرام على تقدير مال الغير هو عنوان الغصبية .

وانمّا قلنا: انّ هذه الصورة أولى بالاشكال (لإمكان تكلّف إدراج الفرض الأوّل) وهو تردد الأمر بين اللبس والسجدة (تحت خطاب الاجتناب عن النّجس) الشامل للنجس في الثوب أو في مكان السجود ، فهو عنوان واحد مردد بين الأمرين ( بخلاف ) الفرض ( الثاني ) وهو : كون أحد المايعين نجسا وكون الآخر مال الغير ، لأنّه لا عنوان واحد يجمع النجس والغصب فيهما معا .

( وأولى من ذلك ) في الاشكال ( ما لو تردّد الأمر بين كون هذه المرأة أجنبية ) يحرم وطيها ( أو كون هذا المايع خمرا ) فيحرم شربها ، حيث انّه لا جامع بين الوطي والشرب .

هذا ( وتوهّمُ ادراج ذلك كلّه ) أي : كل الفروض المذكورة التي ذكرنا الاشكال

ص: 332

في وجوب الاجتناب عن الحرام ، مدفوعٌ بأنّ الاجتناب عن الحرام عنوان ينتزع من الأدلّة المتعلقة بالعناوين الواقعيّة ، فالاعتبار بها لا به ،

-------------------

فيها حتى مثال المرأة والمايع ( في ) الخطاب التفصيلي وهو : ( وجوب الاجتناب عن الحرام ) فان الارتكاب على كل تقدير حرام ، سواء في المثال الأوّل ، أو الثاني، أو الثالث ، فيحرم المخالفة عقلاً وشرعا ، ( مدفوعٌ : بأنّ الاجتناب عن الحرام عنوان ينتزع من الأدلّة المتعلقة بالعناوين الواقعيّة ) وليس اجتنب عن الحرام عنوانا مولويا مستقلاً يشمل جميع الامثلة .

والحاصل : انّه لم يكن هناك من الشارع خطاب مولوي باجتنب عن الحرام ، حتى تكون هذه الأمثلة من باب الخطاب التفصيلي لذلك الخطاب الاجمالي وانّما ورد خطاب الشارع بعناوين مخصوصة مثل : « اجتنب عن النجس » ، و « اجتنب عن الخمر » ، و « اجتنب عن المرأة » ، وهكذا ، حيث انّه لاخطاب واحد وان كان ينتزع من المجموع خطاب واحد باجتنب عن الحرام ، بل وكذلك المثال الذي ذكرناه : من تردد الأمر بين الواجب والحرام ، فانّ الجامع فيه اعتباري وهو : التزم بالترك أو بالفعل ، وحينئذٍ ( فالاعتبار بها ) أي : بتلك الأدلة ( لا به ) أي : لا بالخطاب المنتزع من المجموع .

اللّهم إلاّ أن يقال : بأن هناك جوامع أيضا يمكن شمولها لجميع تلك الأمثلة مثل قوله سبحانه : « ما آتاكم الرّسول فخُذوه وما نهاكُم عنه فانتَهوا » (1) ، ومثل قوله سبحانه : « ثم لا يجدوا في أنفسِهم حرجا ممّا قضيت ويُسلّموا تسليما » (2) ، ومثل قوله سبحانه : « أطيعوا اللّه َ وأطيعوا الرّسولَ » (3) حيث الاطاعة شاملة

ص: 333


1- - سورة الحشر : الآية 7 .
2- - سورة النساء : الآية 65 .
3- - سورة النساء : الآية 59 .

كما لايخفى .

والأقوى أنّ المخالفة القطعيّة في جميع ذلك غير جائز ، ولا فرق عقلاً وعرفا في مخالفة نواهي الشرع بين العلم التفصيلي بخصوص ما خالفه وبين العلم الاجمالي بمخالفة أحد النهيين . ألا ترى أنّه لو ارتكب مايعا واحدا يعلم أنّه مال الغير أو نجس لم يعذر لجهله التفصيلي بما خالفه ، فكذا حال من ارتكب النظر إلى امرأة وشرب المايع في المثال الأخير .

-------------------

للأوامر والنواهي ( كما لا يخفى ) .

إذن : فالاحوط ، بل ( والأقوى انّ المخالفة القطعيّة في جميع ذلك غير جائز ) بأن يرتكب الانسان كلا طرفي الحرام ، أو يترك محتمل الوجوب ويأتي بمحتمل الحرمة ( ولا فرق عقلاً وعرفا ) بعد أن كان العرف هم ميزان الاطاعة والمعصية ( في مخالفة نواهي الشرع بين العلم التفصيلي بخصوص ما خالفه ) مثل ارتكاب المائين ، أو المايعين ، أو الثوب ومحل السجود ، فانّه مخالفة للخطاب التفصيلي القائل : لاتشرب النجس أو لاتشرب الخمر ، أو اجتنب عن النجس ( وبين العلم الاجمالي بمخالفة أحد النهيين ) كما في مثال التردّد بين النجاسة والغضبيّة ، وبين الأجنبية والخمرية ، بل وبين العلم الاجمالي بمخالفة نهي أو مخالفة أمر .

( ألا ترى : أنّه لو ارتكب مايعا واحدا يعلم ) حرمته ، لكنّه متردّد في ( انّه مال الغير أو نجس لم يعذر لجهله التفصيلي بما خالفه ) فلو إعتذر عن ارتكابه بأنّه لم يعلم بالخطاب تفصيلاً لم يعذره العقلاء والعرف ( فكذا حال من ارتكب النظر إلى امرأة وشرب المايع في المثال الأخير ) أو ترك الجمعة وتزوج بالرضيعة ، في المثال المتقدّم .

ص: 334

والحاصل : أنّ النواهي الشرعيّة بعد الاطلاع عليها بمنزلة نهي واحد عن عدّة امور .

فكما تقدّم : أنّه لا يجتمع نهي الشارع عن أمر واقعي واحد ، كالخمر مع الاذن في ارتكاب المايعين المردّد بينهما الخمر ، فكذا لا يجتمع النهي عن عدّة امور مع الاذن فى ارتكاب كلا الأمرين المعلوم وجود أحد تلك الامور فيهما .

وأما الموافقة القطعيّة : فالأقوى أيضا وجوبها ، لعدم جريان أدلة الحليّة ولا أدلة

-------------------

( والحاصل : انّ النواهي الشرعيّة بعد الاطلاع عليها بمنزلة نهي واحد عن عدّة امور ) وكذا بالنسبة الى الأوامر المتعددة أو بالنسبة إلى أمر ونهي ( فكما تقدّم : انّه لا يجتمع نهي الشارع عن أمر واقعي واحد ، كالخمر مع الاذن في ارتكاب المايعين المردّد بينهما الخمر ) لأنّه يستلزم التناقض ( فكذا لا يجتمع النهي عن عدّة امور مع الاذن في ارتكاب كلا الأمرين المعلوم وجود أحد تلك الامور فيهما) بأن ينهي عن شرب النجس وعن السجود على النجس - مثلا - ثم يأذن فيهما لو تردد الأمر بين أحدهما وكذلك الحال بالنسبة الى التردد بين أمر ونهي .

هذا كلّه هو تمام الكلام في حرمة المخالفة القطعية .

( وأما الموافقة القطعيّة : فالأقوى أيضا وجوبها) فلا يجوز له ارتكاب أحدهما ( لعدم جريان أدلة الحليّة ) مثل قوله عليه السلام : « كل شيء لَكَ حلال » (1) ( ولا أدلة

ص: 335


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

البرائة عقليّها ونقليّها .

وأما النقلية ، فلما تقدّم من استوائها بالنسبة إلى كلّ من المشتبهين ، وابقاؤهما يوجب التنافي مع أدلة تحريم العناوين الواقعيّة ، وابقاء واحد علي سبيل البدل

-------------------

البرائة عقليّها ) مثل : قبح العقاب بلابيان ( ونقليّها ) مثل : «رفع ما لايعلمون» (1) ، فانها لا تجري في المقام .

( وأما النقلية فلما تقدّم : من استوائها ) اي : الأدلّة النقليّة ( بالنسبة إلى كلّ من المشتبهين ) فانّ « رُفِعَ ما لا يعلمون » يشمل كلا الانائين ، لأنّ كل واحد منهما لايعلم انّه حرام ، وكذلك « كلّ شيء لَكَ حَلالٌ حَتى تعَرفَ انّه حرامٌ بعينه » (2) يشمل كل واحد منهما حيث لا يعلم الحرام بعينه ، فالدليل يشمل كلا المشتبهين بنسبة متساوية .

( و ) عليه : فاذا تساوت نسبة الأدلة من المشتبهين فما هو العلاج ؟ هل هو (ابقاؤهما) أي : المشتبهين تحت عموم ادلة الحل والبرائة وجريانها في كِلا المشتبهين ؟ ان كان ذلك ، فانّه ( يوجب التنافي مع أدلة تحريم العناوين الواقعيّة ، و ) ذلك لانّ المفروض انّا نعلم بوجود أحد تلك العناوين بين المشتبهين ، فان الشارع حيث قال : اجتنب عن النجس وعلمنا بوجود النجس بين الانائين لزم الاجتناب عن النجس منهما ، فاذا أجاز ارتكاب كليهما كان ذلك تناقضا ومستحيلاً .

أو هل العلاج هو : ( ابقاء واحد على سبيل البدل ) بأن ياذن له بارتكاب احد

ص: 336


1- - الاختصاص : ص31 ، الخصال : ص417 ح27 ، تحف العقول : ص50 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 ، التوحيد : ص353 ح24 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ( مع تفاوت ) وقريب منه في المحاسن : ص495 ح596 وبحار الانوار : ج2 ص274 .

غير جائز ، اذ بعد خروج كلّ منهما بالخصوص ، ليس الواحد لا بعينه فردا ثالثا يبقى تحت أصالة العموم .

وأما العقل ، فلمنع استقلاله في المقام بقبح مؤاخذة من ارتكب الحرام

-------------------

المشتبهين وترك الاُخر ، ان كان هذا فهو ( غير جائز ) أيضا ، لانه يكون في نظر المكلّف محتمل التناقض لاحتمال أن يصادف ما يستعمله للنجس الواقعي ، فيكون معناه : انّه قال تارةً : « استعمل » ، واخرى: « اجتنب ولاتستعمل » واحتمال التناقض كالتناقض مستحيل .

وإنّما لا يجوز ابقاء واحد على سبيل البدل ( اذ بعد خروج كلّ منهما بالخصوص ، ليس الواحد لا بعينه فردا ثالثا يبقى تحت أصالة العموم ) أي : عموم أدلة الحل والبرائة ، مثل : « كلّ شيء لَكَ حَلال » (1) فانّ مثل هذا العموم إنّما يشمل الشبهات البدوية أو غير المحصورة ، أو المحصورة إذا كان بعضها خارجا عن محل الابتلاء ، ولا يشمل مثل الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي إذا كان جميع أطرافها محل الابتلاء ، كما سبق الماع المصنِّف إلى ذلك من ردّ المحققين القميّ والنّراقي .

إذن : فلا يبقى الاّ اخراج المشتبهين من تحت عموم أدلة الحل والبرائة ، والقول بوجوب الموافقة القطعية فيهما .

( وأما العقل ) وهو : قبح العقاب بلا بيان ( فلمنع استقلاله في المقام ) اي : في الشبهة المحصورة عند تردد الخطاب بالاجتناب بين خطابين إمّا للنجاسة وإمّا للغصبية - مثلا - فالعقل لا يحكم ( بقبح مؤاخذة من ارتكب الحرام

ص: 337


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

المردد بين الأمرين ، بل الظاهر استقلال العقل في المقام - بعد عدم القبح المذكور - بوجوب دفع الضرر ، أعني العقاب المحتمل فى ارتكاب أحدهما .

وبالجملة : فالظاهر عدم التفكيك في هذا المقام بين المخالفة القطعيّة والمخالفة الاحتماليّة ، فإمّا ان تُجَوّز الاولّى وإمّا ان تُمنع الثانية .

-------------------

المردد بين الأمرين ) فانهّ إذا ارتكب المكلّف احدهما وصادف الحرام الواقعي لم يَرَ العقل قبحا في عقوبته .

( بل الظاهر : استقلال العقل في المقام - بعد عدم القبح المذكور - ) في الحكم ( بوجوب ) الموافقة القطعية ، وذلك بالاجتناب عن كليهما ، لانّ العقل يرى لزوم ( دفع الضرر ، أعني : العقاب المحتمل في ارتكاب أحدهما ) فانّه إذا ارتكب أحدهما احتمل مطابقته للواقع ، وإذا طابق الواقع المحرّم فلا يري العقل قبحا في عقابه ، والعقاب ضرر فيوجب العقل دفعه .

( وبالجملة : فالظاهر عدم التفكيك في هذا المقام ) وهو : ترددّ الخطاب بين الخطابين في الشبهة المحصورة ( بين المخالفة القطعيّة والمخالفة الاحتماليّة ، فامّا ان تُجَوّز الاولّى ) فيقال : بجواز المخالفة القطعية ، وذلك بناءا على عدم تنجّز التكليف بالعلم الاجمالي في صورة تردد الخطاب بين الخطابين ، فيجوز للمكلّف ارتكاب كليهما .

( وإمّا ان تُمنع ) بصيغة المجهول ( الثانية ) فيقال : بعدم جواز المخالفة الاحتمالية أيضا ، وذلك بناءا على تنجز العلم الاجمالي في المقام ، حيث ذكرنا : انّ العقل لا يقبِّح المؤاخذة على من ارتكب احدهما لو صادف الواقع المحرم ، وعين هذا الكلام يأتي أيضا في مورد دوران الأمر بين الوجوب والتحريم كما لا يخفى .

ص: 338

الثاني :

انّ وجوب الاجتناب عن كلّ من المشتبهين هل هو بمعنى لزوم الاحتراز عنه حذرا من الوقوع في المؤاخذة بمصادفة ما ارتكبه للحرام الواقعي ، فلا مؤاخذة الاّ على تقدير الوقوع في الحرام ، أو هو بمعنى لزوم الاحتراز عنه من حيث أنّه مشتبه ، فيستحقّ المؤاخذة بارتكاب أحدهما ، ولو لم يصادف الحرام .

-------------------

إذن : فلا تفكيك في الشبهة المحصورة بين القول بحرمة المخالفة القطعية وبين القول بوجوب الموافقة القطعية ، وحيث قد عرفت تفصيل ذلك فلا حاجة إلى تكراره .

( الثاني ) من التنبيهات : ( انّ وجوب الاجتناب عن كلّ من المشتبهين هل هو ) ارشادي ( بمعنى : لزوم الاحتراز عنه ) أي : عن كل من المشتبهين ( حذرا من الوقوع في المؤاخذة بمصادفة ما ارتكبه للحرام الواقعي ) فانّه إذا ارتكب أحدهما وصادف الواقع كان له عقاب الواقع لا عقاب ترك الاحتياط ، ولو لم يصادف الواقع لم يكن له عقاب بل كان تجرياً ، فمَن قال بحرمة التجري يقول بانّه حرام من جهة التجري ، ومن لم يقل بحرمة التجري كالمصنف لا يقول بحرمته ( فلا مؤاخذة ) إذن ( الاّ على تقدير الوقوع في الحرام ) وهذا هو معنى الارشادي .

(أو هو ) وجوب مولوي ولكن ثانوي لاوجوب أوّلي ( بمعنى : لزوم الاحتراز عنه من حيث انّه مشتبه ) ولازمه : حرمة الحلال الواقعي أيضا عند الاشتباه ، لكن لعنوان ثانوي هو : عنوان انّه مشتبه .

وعليه: ( فيستحقّ ) المرتكب لاحدهما العقاب و( المؤاخذة ب ) سبب ( بارتكاب أحدهما ، ولو لم يصادف الحرام ) الواقعي لانّه قد ارتكب المحرم

ص: 339

ولو ارتكبهما استحق عقابين ، فيه وجهان ، بل قولان : أقواهما الاول ، لأنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر بمعنى العقاب المحتمل ، بل المقطوع حكم ارشادي .

وكذا لو فرض أمر الشارع بالاجتناب عن عقاب محتمل أو مقطوع بقوله : «تحرّز عن الوقوع في معصية النهي عن الزنا » ، لم يكن إلاّ إرشاديّا ،

-------------------

بالعنوان الثانوي وهو المشتبه ( ولو ارتكبهما استحق عقابين ) : عقاب ارتكاب الحرام الواقعي ، وعقاب ارتكاب المشتبه .

( فيه وجهان ، بل قولان : أقواهما الأوّل ) وهو : انّه من باب الارشاد حذرا من الوقوع في الحرام . ( لأنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر بمعنى : العقاب المحتمل ) أو العقاب المظنون ( بل المقطوع ، حكم ارشادي ) لا مولوي حتى يكون العقاب على مخالفة ولو لم يصادف الواقع ، بل هو ارشادي ولا عقاب على مخالفته الاّ إذا صادف الواقع ، بأن كان ما ارتكبه حراما واقعيا .

وان شئت قلت : إنّ العقل يوجب الاجتناب عن كلا المشتبهين ، فاذا ارتكب الشخص أحدهما باحتمال انّه الحرام ، أو بظن انّه الحرام ، أو بقطع انّه الحرام ، ولكن لم يكن ما ارتكبه مصادفاً للحرام الواقعي لم يكن لما ارتكبه عقاب .

( وكذا لو فرض أمر الشارع بالاجتناب عن عقاب محتمل ) أو عقاب مظنون ( أو ) عقاب ( مقطوع ) أمرا ( بقوله : « تحرّز عن الوقوع في معصية النهي عن الزنا» لم يكن ) هذا الامر ( الاّ ارشاديّاً ) وانّما لم يكن إرشاديا ، لانه لو كان امرا مولوياً لزم أن يكون للمصادف عقابان عقاب الحرام ، وعقاب مخالفة النهي عن الوقوع في الحرام بمخالفة أمر الاحتياط ، ومن البديهي : انّه ليس لكلّ حرام عقابان ،بل عقاب واحد بدليل الكتاب والسنة والاجماع والعقل ، قال سبحانه :

ص: 340

ولم يترتب على موافقته ومخالفته سوى خاصيّة نفس المأمور به وتركه ، كما هو شأن الطلب الارشادي ، وإلى هذا المعنى أشار ، صلوات اللّه عليه ، بقوله : « اتركوا ما لا بأسَ به حذرا عمّا به البأسُ » ، وقوله : « من ارتكب الشبهات وقع في المُحرَّمات وهَلك

-------------------

« وَمَن جَاءَ بِالسيّئةِ فَلاَ يُجزَى الاَّ مثلَهَا » (1) .

( و ) معنى كونه إرشاديا : انه ( لم يترتب على موافقته ) أي : موافقة الأمر الاحتياطي ( ومخالفته سوى خاصيّة نفس المأمور به وتركه ) من النفع والثواب أو الضرر والعقاب ، فاذا أمر الطبيب - مثلا - المريض بشرب الدواء ، فانّه ان شربه نفعه ، وان لم يشربه ضرّه المرض من دون ان يكون لأمر الطبيب أثر فوق فائدة شرب الدواء وضرر تركه ( كما هو شأن الطّلب الارشادي ) سواء كان من المولى الحقيقي أم من المولى العرفي ، أم من أهل الخبرة في شئون السفر والحَضر، والزراعة والعمارة، والعلاج والدواء ، وغير ذلك .

( وإلى هذا المعنى ) أي : كون الأمر ارشادياً ( أشار صلوات اللّه عليه ، بقوله : « اتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس » (2) ) فانّ معنى هذه العبارة : ان البأس منحصر في الحرام الواقعي ، والحذر انمّا هو من جهة الحرام الواقعي ، فاذا خولف ترك من لا بأس به بارتكابه ولم يصادف الحرام لم يكن فيه بأس.

( وقوله ) صلوات اللّه عليه ( « من إرتكب الشبهات وقع في المُحرَّمات وهَلكَ

ص: 341


1- - سورة الانعام : الآية 160 .
2- - اشارة الى الحديث الوارد عن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم «حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس» انظر الصراط المستقيم : ج1 ص135 ، وقريب منه في تحف العقول : ص60 ، الالفين : 312 ، مجموعة ورام : ج1 ص60 .

من حيث لا يعلم » .

ومن هنا ظهر انّه لا فرق في ذلك بين الاستناد في وجوب الاجتناب الى حكم العقل وبين الاستناد فيه الى حكم الشرع بوجوب الاحتياط .

-------------------

من حيث لا يعلم » ) (1) فان ظاهر هذه العبارة : ان الهلكة انّما هي في الحرام الواقعي لا في المشتبه به ( ومن هنا ظهر : انّه لافرق في ذلك ) الذي ذكرناه : من ان وجوب الاجتناب عن المشتبهين ارشادي لا فرق فيه ( بين الاستناد في وجوب الاجتناب الى حكم العقل ) الذي يوجب دفع الضرر المحتمل ( وبين الاستناد فيه الى حكم الشرع بوجوب الاحتياط ) وذلك من جهة كونهما للارشاد فان اخبار الاحتياط ايضا ترشد الى عدم الوقوع في الحرام ولا تدل على حرمة المشتبه الذي كان في الواقع حلالاً كما سيأتي الالماع إلى ذلك .

ثم لا يخفى : انّه لم يقل أحد من الاصوليين بأن وجوب الاجتناب عن المشتبهين وجوب شرعي وانّما هو قول بعض الأخباريين فقط وذلك على ما نسبه الوحيد البهبهاني اليهم .

ثم إنّ المصنّف بعد أن ذكر انّ الأمر بالاحتياط ارشادي بمعنى : انّه ان ارتكب أحد المشتبهين ولم يصادف الواقع لم يكن فعله حراما ، أشكل على نفسه : بانّه إذا كان الظّن بالضرر الدنيوي لقوله : « لا ضرر ولا ضرار » (2) يوجب العقاب وان

ص: 342


1- - الكافي : اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص280 ح4 و ص292 ح2 و ص294 ح8 ، معاني الاخبار : ص281 ، غوالي اللئالي : ج1 ص309 ح18 ، نهج الحق : ص489 و ص495 و ص506 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص146 ب22 ح4 .

وأما حكمهم عليهم السلام بوجوب دفع الضرر المظنون شرعا واستحقاق العقاب على تركه وان لم يصادف الواقع فهو خارجٌ عمّا نحن فيه ، لأنّ الضرر الدنيوي ارتكابه مع العلم حرام شرعا .

والمفروض أن الظن في باب الضرر

-------------------

لم يصادف الواقع ، كما ذكره الفقهاء فكيف لا يكون الظن بأن أحد المشتبهين خمر موجبا للعقاب فيما إذا لم يصادف الواقع على ما ذكرتموه أنتم ؟ .

والجواب : إن هناك بين الضرر الدنيوي والضرر الاخروي ، وهو : ان الشارع جعل ظن الضرر الدنيوي محّرما بنفسه أي : موضوع الحرمة ، فيكون النهي عنه مولويا وذلك بملاحظة انّه إذا لم يجعله حراماً وقع الانسان في ضرر كثير ، بخلاف الظنّ بالحرمة الذي هو ضرر اُخروي فليس محرماً بنفسه فيكون النهي عنه ارشادياً.

والى هذا اشارالمصنِّف بقوله : ( وأما حكمهم عليهم السلام ) في الضرر الدنيوي ( بوجوب دفع الضرر المظنون شرعا واستحقاق العقاب على تركه ) أي : على ترك دفعه ( وان لم يصادف الواقع ) بأن لم يكن الضرر متحققا في الواقع ( فهو خارج عمّا نحن فيه ) فانه اذا ظنّ بأنّ إستعمال الماء - مثلا - يضره ومع ذلك استعمل الماء ، كان ذلك حراماً وموجباً للعقاب على ما ذكره العلماء حتى وان لم يكن في الواقع ضرر في استعمال الماء عليه .

وانّما كان خارجا عمّا نحن فيه فلا يقاس أحدهما بالأخر ( لأنّ الضرر الدنيوي ارتكابه مع العلم حرام شرعاً) فاذا علم الانسان بالضرر في استعمال الماء - مثلا - حرم شرعا ارتكابه وان لم يكن في الواقع ضرر بأن كان علمه جهلاً مركبا .

هذا ( والمفروض : ان ) الشارع جعل مطلق ( الظن في باب الضرر ) حجة ،

ص: 343

طريق شرعي إليه . فالمتقدم مع الظن كالمتقدم مع القطع مستحقٌ للعقاب ، كما لو ظنّ سائر المحرمات بالظن المعتبر .

-------------------

فهو ( طريق شرعي إليه ) أي : الى الضرر ( فالمتقدم ) على الضرر ( مع الظن ) بالضرر ( كالمتقدم مع القطع ) كلاهما ( مستحقٌ للعقاب ) في الآخرة .

وعليه : فان مطلق الظن بالضرر الدنيوي يكون في الحكم ( كما لو ظنّ سائر المحرمات بالظن المعتبر ) من الخبر الواحد ونحوه ، فانه كما جعل الشارع الظن المعتبر بحرمة المرأة الفلانية - مثلا - كالظن الحاصل بسبب الخبر أو الاجماع أو الشهرة أو ما أشبه ، طريقا للوصول الى الحرمة حتى إذا خالف هذا الظن فعل حراما ، وكذلك فيالمقام جعل الشارع مطلق الظن بالضرر طريقا للوصول إلى الحرمة فاذا خالفه فعل حراما .

لكن لا يخفى : انّه يرد عليه مايلي :

أولاً : انّه ليس الموجب للحرمة لمن قال به في باب الضرر : الظن فقط ، بل الاحتمال العقلائيولو كان وهماً ايضاً موجب للحكم الظاهري .

ثانيا : انّه لادليل على ان من ارتكب ما يظن بضرر ، ولو لم يكن ضررا في الواقع ان يكون قد فعل حراماً ، فمن أين قلتم : ان المرتكب لما قطع أو ظن أو احتمل ضرره ولم يطابق الواقع يكون مستحقاً للعقاب وفاعلاً للحرام ؟.

ثالثا : من أين تقولون : انّ من ارتكب ما ظن بحرمته ظناً معتبرا من سائر المحرمات انّه يكون فاعلاً للحرام اذا لم يصادف ظنّه الواقع ؟ .

نعم ، إذا صادف ظنّه الواقع كان فاعلاً للحرام ، لأنّه فعل الحرام المنجز عليه بسبب الظن المعتبر ، لكن لا يقاس الظن بالضرر المخالف للواقع ، بالظن بالحرام الموافق للواقع .

ص: 344

نعم ، لو شك في هذا الضرر يرجع إلى أصالة الاباحة وعدم الضرر ، لعدم استحالة ترخيص الشارع بالاقدام على الضرر الدنيوي المقطوع ، إذا كان في الترخيص مصلحة أخرويّة فيجوز ترخيصه بالاقدام على المحتمل لمصلحة ولو كانت تسهيل الأمر على المكلّف بوكول الاقدام على ارادته .

وهذا بخلاف الضرر الاُخروي ، فانّه على تقدير ثبوته واقعاً يقبح

-------------------

( نعم ، لو شك في هذا الضرر ) الدنيوي ، بان لم يعلم - مثلاً - انّ سلوك طريق بغداد موجب للضرر أو لم يكن موجبا للضرر ، فانّه ( يرجع إلى اصالة الاباحة و ) اصالة ( عدم الضرر ) لأن الضرر أمر حادث ، فاذا شك فيه كان الأصل عدمه ، فيكون مرجعه عموم أدلة الحل والبرائة .

فان قلت : إذا احتمل الضرر فالعقل يرى لزوم الاجتناب في ما كان الاحتمال عقلائيا ، فكيف يرى الشارع جواز الارتكاب بسبب اجراء البرائة ؟ .

قلت : أدلة البرائة مطلقة تشمل المقام ، ولا تلازم بين المنع العقل واجازة الشارع (لعدم استحالة ترخيص الشارع بالاقدام على الضرر الدنيوي المقطوع ) به ، فانّه حتى مع القطع بالضرر يمكن للشارع أن يأذن فيه ( إذا كان في الترخيص مصلحة أخرويّة ) فيكون ترخيص الشارع من باب الأهم والمهم ، كما أجاز الصدقات ونحوها ، مع انّ فيها الضرر الدنيوي ، وذلك لما فيها من المصالح الاُخروية .

وعليه : ( فيجوز ) للشارع تطريق اولى ( ترخيصه بالاقدام على المحتمل ) من الضرر بعد ترخيصه في المقطوع منه ( لمصلحة ولو كانت ) تلك المصلحة ( تسهيل الأمر على المكلّف بوكول الاقدام على ارادته ) فانّه إذا جاز ترخيص الشارع مع القطع بالضرر ، جاز ترخيصه مع احتمال الضرر بطريق اولى .

( وهذا بخلاف الضرر الاُخروي ، فانّه على تقدير ثبوته واقعاً يقبح

ص: 345

من الشارع الترخيصُ فيه .

نعم ، وجوب دفعه عقليّ ولو مع الشّك ، لكن لايترتب على ترك دفعه الاّ نفسه ، على تقدير ثبوته واقعا حتى أنّه لو قطع به ثم لم يدفعه واتفق عدمه واقعاً لم يعاقب عليه إلاّ من باب التجرّي ،

-------------------

من الشارع الترخيصُ فيه ) كما في أطراف الشبهة المحصورة ، حيث انّ ما يرتكبه إذا صادف الواقع يترتّب عليه الضرر الاخروي والعقاب ، مما يكون الترخيص فيه محتمل الضرر الدنيوي لا يلازم جواز ترخيص محتمل الضرر الاخروي .

لكن لا يخفى انه ليس معنى عدم ترخيص الشارع محتمل الضرر الاخروي حيث لا يرخص فيه : انّه لو ارتكبه يكون فيه العقاب مطلقاً ، بل يكون فيه العقاب إذا صادف الواقع ، فالنهي عن ارتكاب محتمل الضرر الاخروي ارشادي يدور امره مدار الواقع كأوامر الطبيب ، وقد أشار المصنِّف إلى هذا المعنى بقوله :

( نعم ، وجوب دفعه ) أي : محتمل الضرر الاُخروي ( عقليّ ولو مع الشّك ) كما في أطراف الشبهة المحصورة حيث يشك الانسان في انّ ايّ واحد منها يصادف الواقع .

( لكن ) حُكم العقل بوجوب الدفع هذا : ارشادي محض ( لا يترتب على ترك دفعه الاّ نفسه ) أي : نفس العقاب المحتمل وذلك ( على_'feتقدير ثبوته واقعا ) امّا اذا لم يكن العقاب ثابتا واقعا بأن كان الذي ارتكبه هو الحلال لم يكن عليه شيء .

إذن : فالمرتكب لأحد اطراف الشبهة ( حتى انّه لو قطع به ) اي : بالعقاب ( ثم لم يدفعه واتفق عدمه ) أي : عدم العقاب ( واقعاً لم يعاقب عليه الاّ من باب التجرّي ) لأنّ المفروض انّ العقاب دائر مدار الواقع وقد فرضنا انّه ارتكب الحلال

ص: 346

وقد تقدّم فيالمقصد الأوّل المتكفّل لبيان مسائل حجيّة القطع الكلام فيه وسيجيء أيضاً .

فان قلت : قد ذكر العدلية في الاستدلال على وجوب شكر المنعم : بانّ في تركه احتمال المضرّة وجعلوا ثمرة وجوب شكر المنعم وعدم وجوبه استحقاق العقاب على ترك الشكر لمن لم يبلغه دعوة نبي زمانه عليه السلام ،

-------------------

ولم يرتكب ما يصادف الواقع ( وقد تقدّم فيالمقصد الأوّل المتكفّل لبيان مسائل حجيّة القطع الكلام فيه ) أي : في التجري وانّه ليس يمحرم وانّما هو كاشف عن سوء سريرة المرتكب ( وسيجيء أيضاً ) تتمة الكلام انشاء اللّه تعالى .

ولا يخفى : إنّ في قول المصنِّف : « نعم » إلى هنا موارد للنظر نضرب عنها صفحا خوف الخروج عن مقصد الشرح .

( فان قلت : ) قولكم أيها الفقهاء هنا : بأن ارتكاب أحد المشتبهين إذا لم يصادف الحرام في الواقع لا عقاب عليه ، يخالف قول المتكلمين من العدلية ، حيث قالوا : بأنّ تارك شكر المنعم وان لم يصادف الواجب في الواقع ، بأن لم يجب عليه الشكر واقعا يعاقب عليه لحكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل كما قال :

( قد ذكر العدلية في الاستدلال على وجوب شكر المنعم : بانّ في تركه احتمال المضرّة ) الاخروية يعني : العقاب وهو دليل عقلي.

( وجعلوا ثمرة وجوب شكر المنعم وعدم وجوبه : استحقاق العقاب على ترك الشكر لمن لم يبلغه دعوة نبي زمانه عليه السلام ) أي : ان العدلية قالوا : بوجوب شكر المنعم وان من لم يشكره يستحق العقاب وان لم يصله التكليف الشرعي بوجوبه ، واستدلوا لذلك : بحكم العقل بوجوب دفع الضرر الاخروي المحتمل

ص: 347

فيدل ذلك على استحقاق العقاب بمجرّد ترك دفع الضرر الاخرويّ المحتمل .

قلت :

-------------------

في ترك الشكر ، كما استدللتم انتم لوجوب اجتناب المشتبه واستحقاق العقاب لمرتكبه مع انه لا وجوب شرعي عليه : بحكم العقل بوجوب دفع الضرر الاخروي المحتمل في ارتكاب المشتبه.

وعليه : ( فيدل ذلك ) الذي استدل به العدلية من حكم العقل بوحوب شكر المنعم ، الشبيه لما استدلتم عليه لوجوب اجتناب المشتبه ،يدل ( على استحقاق العقاب بمجرّد ترك دفع الضرر الاخرويّ المحتمل ) وان لم يصادف الواقع ، وهنا يتناقض مع ما ذكرتموه سابقاً : من ان الأمر الناشى ء من احتمال الضرر الآخروي ارشادي محض يدور مدار الواقع فلا يوجب ارتكاب المشتبه مطلقا العقاب ، بل يوجبه إذا صادف الواقع ؟ .

والحاصل : انّ العدلية يقولون : من خالف حكم العقل بوجوب شكر المنعم وترك الشكر استحق العقاب ، سواء صادف الواقع أم لا ، بأن كان الشكر في الواقع واجبا ، وكذا من خالف حكم العقل بوجوب اجتناب المشتبه فارتكب احد الاطراف استحق العقاب ، سواء صادف الواقع أم لا ، بأن كان ما ارتكبه في الواقع حراما أو لم يكن كذلك، بينما انتم تقولون انّه إذا لم يصادف الواقع لا عقاب عليه .

( قلت ) : كلا انّ العدلية لا يقولون بالعقاب إذا ترك الشكر وكان الشكر في الواقع غير واجب ، بل يقولون بالعقاب إذا كان الشكر في الواقع واجبا ، فيكون ارتكاب أحد المشتبهين وتارك الشكر كلاهما سيّان من هذه الجهة ، فان كان الشكر واجبا ، والمشتبه خمرا ثبت العقاب على تارك الشكر وعلى مرتكب أحد المشتبهين ، والاّ لا عقاب على أيّ منهما .

ص: 348

حكمهم باستحقاق العقاب على ترك الشكر بمجرّد احتمال الضرر في تركه لأجل مصادفة الاحتمال للواقع ، فانّ الشكر لمّا علمنا بوجوبه عند الشارع وترتّب العقاب على تركه . فاذا احتمل العاقل العقاب على تركه ، فان قلنا بحكومة العقل في مسألة دفع الضرر المحتمل صحّ عقابُ تارك الشكر - من أجل إتمام الحجّة عليه - بمخالفة عقلية ، وإلاّ فلا .

-------------------

وعليه : فانّ ( حكمهم باستحقاق العقاب على ترك الشكر بمجرّد احتمال الضرر ) الاخروي والعقاب ليس هو ( فيتركه ) أي : ترك الشكر مطلقاً ، بل ( لأجل مصادفة الاحتمال للواقع ) فانهم يقولون بالعقاب على ترك الشكر إذا صادف الواقع بأن كان الشكر واجباً لا مطلقاً .

أمّا ان الشكر واجب واقعاً أو ليس بواجب واقعاً فيظهر من دليل شرعي ، كما قال: ( فانّ الشكر لمّا علمنا ) من الخارج ( بوجوبه عند الشارع ) وذلك بعد وصول احكامه الينا ( و ) علمنا ( ترتّب العقاب على تركه ) أي : على ترك الشكر ، علمنا : ان الشكر واجب واقعا : وان العقاب ترتب على تاركه .

وعليه : ( فاذا احتمل العاقل ) الذي لم يصله حكم الشارع ( العقاب على تركه ، فان قلنا بحكومة العقل في مسألة دفع الضرر المحتمل ) كما يقول به العدلية خلافاً للأشاعرة حيث لا يقولون بحكم العقل ( صحّ عقاب تارك الشكر - من أجل إتمام الحجّة عليه - بمخالفة عقلية ) لان الشكر كان واجباً واقعاً ، وقد تمت الحجة على هذا الشخص بدلالة عقله عليه .

( والاّ ) بأن لم يحتمل العاقل العقاب على تركه ( فلا ) عقاب عليه لوضوح : قبح العقاب بلا بيان وإن صادف الواجب الواقعي .

ص: 349

فغرضهُم أنّ ثمرة حكومة العقل بدفع الضرر المحتمل إنّما تُظهر في الضرر الثابت شرعا مع عدم العلم به من طريق الشرع .

لا أنّ الشخص يعاقب بمخالفة العقل وإن لم يكن ضرر في الواقع ، وقد تقدّم في بعض مسائل الشبهة التحريّمية شطرٌ من الكلام في ذلك .

-------------------

إذن : ( فغرضهُم ) اي : غرض العدلية من كلامهم هذا هو : ( أنّ ثمرة حكومة العقل بدفع الضرر المحتمل انّما تُظهرَ ) في صورة المصادفة للواقع ، بأن كان الشكر في الواقع واجباً وقد احتمله العاقل احتمالاً عقلائياً ثم تركه ، فالنتيجة إذن تظهر كما قال : ( في الضرر الثابت شرعا ) أي : واقعا وقد احتمله عقلا ( مع عدم العلم به من طريق الشرع ) لعدم وصول أحكامه إليه ، ( لا ) ان مرادهم ( أنّ الشخص يعاقب بمخالفة العقل وإن لم يكن ضرر في الواقع ) .

وعليه : فحكم العقل بوجوب دفع العقاب المحتمل ارشادي محض ، وليس ممّا يترتب على تركه الضرر مطلقا صادف الواقع أم لم يصادفه ، فما قاله العدلية في وجوب الشكر المنعم ، هو ما قلناه نحن في وجوب اجتناب اطراف الشبهة المحصورة .

هذا ( وقد تقدّم في بعض مسائل الشبهة التحريّمية شطرٌ ) أي جزء ( من الكلام في ذلك ) عندما استدل القائلون بوجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية : بأخبار التوقّف والاحتياط وتثليث الأقسام ، حيث أجاب المصنّف عنها : بأنها للارشاد إلى حكم العقل وليست مولوية ، بمعنى : انه لو صادف الواقع وكان الواقع منجّزا عليه كما في أطراف الشبهة المحصورة فيالعلم الاجمالي وجب الاجتناب، والاّ لم يجب كما في الشبهة البدوية .

هذا هو تمام الكلام في الوجه الأوّل من الوجوه التي تمسكوا بها لاثبات حرمة

ص: 350

وقد يتمسّك لاثبات الحرمة في المقام بكونه تجرّيا ، فيكون قبيحا عقلاً فيحرم شرعا ، وقد تقدّم في فروع حجّية العلم : الكلامُ على حرمة التجرّي حتى مع القطع بالحرمة إذا كان مخالفا للواقع .

كما أفتى به في التذكرة فيما إذا اعتقد ضيق الوقت فأخّر وانكشف بقاء الوقت وإن تردّد في النهاية .

-------------------

ارتكاب أطراف الشبهة المحصورة المقرونة بالعلم الاجمالي ، سواء صادف الواقع أم لم يصادفه ، وكان حاصله : حكم العقل بدفع الضرر المحتمل وقد عرفت جوابه : بانّه ارشادي محض لا مولوي .

وحيث إنتهى المصنّف من الاستدلال بدليلهم الأوّل شرع في استدلال بدليلهم الثاني وهو ما ذكره بقوله : ( وقد يتمسّك لاثبات الحرمة ) لكل من أطراف الشبهة ( في المقام ) من الشبهة المحصورة وان لم يصادف الواقع ( : بكونه تجرّيا ، فيكون قبيحا عقلاً فيحرم شرعا ) للتلازم بين حكم العقل وحكم الشرع ، فكلّما قبّحه العقل حرّمه الشرع ، وكلّما حرّمه الشرع قبّحه العقل .

هذا ( و ) لكن ( قد تقدّم في فروع حجّية العلم : الكلامُ على حرمة التجرّي ) وذكرنا هناك : بأنّه لا دليل على حرمة التجرّي ( حتى مع القطع بالحرمة إذا كان مخالفاً للواقع ) فانّه مع المخالفة انّما يكشف عن سوء سريرة المتجري فقط فلا يكون حراماً.

( كما أفتى به ) أي : بعدم الحرمة ( في التذكرة فيما إذا اعتقد ضيق الوقت فأخّر ) الصلاة متجريا ولم يصلّها ( وانكشف بقاء الوقت ) ذلك ، قال العلامة : انّه لا يعاقب عليه ، لأنّه لم يكن الاّ تجرياً محضاً حيث لم يكن مصادفاً للواقع ( وإن تردّد ) العلامة من حيث الحرمة وعدم الحرمة في نفس هذه المسألة ( في ) كتابه ( النهاية ) .

ص: 351

وأضعفُ من ذلك التمسكُ بالأدلة الشرعية الدالة على الاحتياط ، لما تقدّم من أنّ الظاهر من مادّة الاحتياط التحرّز عن الوقوع في الحرام .

كما يوضّح ذلك النبويّان السّابقان ، وقولُهم صلوات اللّه عليهم : « إنّ الوقوفَ عندَ الشّبهةِ أولى من الاقتحام في الهلكة » .

-------------------

أمّا ثالث أدلتهم : فقد أشار اليه المصنِّف بقوله : ( وأضعف من ذلك ) الذي ذكرناه : « من التمسك بالتجرّي لحرمة أطراف الشبهة المحصورة ، هو : ( التمسك بالأدلة الشرعية الدالة على الاحتياط ) .

وانّما يكون أضعف ( لما تقدّم : من أن الظاهر من مادّة الاحتياط ) هو احراز الواقع ، و ( التحرّز عن الوقوع في الحرام ) فيكون التحريم وعدم التحريم دائرا مدار الواقع ، لأنّ معنى الاحتياط من حيث المادة : احراز الواقع ، وهذه المادة تقيّد هيئة الأمر في قوله عليه السلام : « احتط » الظاهرة في الوجوب ، فتصرفها عن الوجوب مطلقا الى الوجوب فيما إذا طابق الواقع ، بأن كان محرّما في الواقع .

( كما يوضّح ذلك ) أي : كون أمر الاحتياط للارشاد حذرا من عقاب الواقع لو صادف الواقع ( النبويّان السّابقان ) : « اتركوا ما لا بأس به » (1) و « من أخذ بالشبهات » (2) على ما ذكرنا هناك وجه كونهما ظاهرين في الارشاد المحض .

( وقولهم صلوات اللّه عليهم : « انّ الوقوفَ عندَ الشّبهة أولى من الاقتحام

ص: 352


1- - اشارة الى الحديث الوارد عن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم «حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس» انظر الصراط المستقيم : ج1 ص135 وقريب منه في تحف العقول : ص60 ، الالفين : ص312 ، مجموعة ورام : ج1 ص60 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .
الثالث :

إنّ وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين إنّما هو مع تنجّز التكليف بالحرام الواقعي على كلّ تقدير بأن يكون كلّ منهما بحيث لو فرض القطع بكونه الحرام كان التكليف منجّزا بالاجتناب ، فلو لم يكن كذلك بأن لم

-------------------

في الهلكة » ) (1) حيث قد تقدّم في أخبار الاحتياط : أنّ مثل هذه العبادة دالة على انّه إذا ارتكب الشبهة ولم يكن في الواقع هلكة لم يكن عليه عقاب .

( الثالث ) من التنبيهات : انّه لو كان أحد أطراف الشبهة المحصورة خارجاً عن محل الابتلاء ، فانه لم يتعلق التكليف بالطرف الداخل في محل الابتلاء ، وذلك لأنّه يكون حينئذ من الشك في التكليف ، لا الشك في المكلّف به كما قال :

( إنّ وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين ) من باب المقدمة لامتثال التكليف المنجّز بالعلم الاجمالي كما اخترناه نحن ( انّما هو مع تنجّز التكليف بالحرام الواقعي ) المعلوم بالاجمال ( على كل تقدير ) أي : سواء كان الحرام الواقعي في هذا الاناء أم في ذاك الاناء ( بأن يكون كلّ منهما بحيث لو فرض القطع بكونه الحرام ، كان التكليف منجّزا بالاجتناب ) عنه .

مثلا : إذا اشتبه الاناء النجس بالطاهر ، فان كان كل واحد من اطراف الشبهة قابلاً لان يتعلق به تكليف الشارع بالاجتناب عنه ، وإلاّ ، فلايجب الاجتناب عنه .

وعليه : ( فلو لم يكن ) كل واحد من اطراف الشبهة ( كذلك ، بأن لم

ص: 353


1- - وهي رواية سعد بن زياد التي رويت في تهذيب الاحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ووسائل الشيعة : ج20 ص259 ب157 ح25573 و ج27 ص159 ب12 ح33478 وكذا روى الزهري والسكوني وعبد الأعلى شبيه ذلك في الكافي اصول : ج1 ص50 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص155 ب12 ح33465 و ص171 ب12 ح33520 ، المحاسن : ص215 ح102 وفي الجميع خير بدل ( أولى ) .

يكلّف به أصلاً ، كما لو علم بوقوع قطرة من البول في أحد انائين أحدهما بول ، أو متنجس بالبول ، أو كثير لاينفعل بالنجاسة ، أو أحد ثوبين أحدهما نجس بتمامه لم يجب الاجتناب عن الآخر لعدم العلم بحدوث التكليف بالاجتناب عن ملاقي هذه القطرة ، إذ لو كان ملاقيها هو الاناء النّجس لم يحدث بسببه تكليف بالاجتناب أصلاً ، فالشكُّ في التكليف بالاجتناب عن الآخر شكٌّ في أصل التكليف ، لا المكلّف به .

-------------------

يكلّف به ) اي: بالاجتناب عنه على أحد التقديرين لعدم قابليته للتكليف ( أصلاً ، كما لو علم بوقوع قطرة من البول في احد انائين أحدهما بول ، أو متنجس بالبول ، أو كثير لاينفعل بالنجاسة ، أو أحد ثوبين أحدهما نجس بتمامه ) بحيث لا تؤثر النجاسة فيه شيئاً ، فانّه ( لم يجب الاجتناب عن الآخر ) اذ لو وقعت القطرة في الاناء النجس أو في الكُرّ لم يحدث تكليفاً ، لوضوح : انّ النجس لا يتنجس مرة ثانية ، كما ان الكُرّ لايتنجس بوقوع قطرة من النجس فيه .

وانّما لا يجب الاجتناب عن الآخر ( لعدم العلم بحدوث التكليف بالاجتناب عن ملاقي هذه القطرة ) فهو من الشك فيالتكليف لا من العلم بالتكليف والشك في المكلّف به ، ومن الواضح : إنّ الشك في التكليف مجرى للبرائة ، بخلاف الشك في المكلّف به ، فانّه مجرى للاحتياط .

وانّما لا علم بحدوث تكليف جديد بالاجتناب عن ملاقي قطرة النجس ( إذ لو كان ملاقيها ) أي : ملاقي قطرة النجس - مثلاً - ( هو الاناء النّجس ) أو الكّر ، أو غير ذلك ممّا ذكرناه في المثال ( لم يحدث بسببه تكليف بالاجتناب أصلاً ) لما عرفت: من أن النجس لايتنجس ، وأن الكرّ لا يتأثر ( فالشك في التكليف بالاجتناب عن الآخر ، شكّ في أصل التكليف لا المكلّف به ) .

ص: 354

وكذا لو كان التكليف في أحدهما معلوماً ، لكن لا على وجه التنجّز ، بل معلّقاً على تمكّن المكلّف منه ، فانّ ما لايمكّن المكلّف من ارتكابه لا يكلّف منجّزا بالاجتناب عنه ، كما لو علم وقوع النجاسة في أحد شيئين لا يتمكن المكلّف من ارتكاب واحد معيّن منهما ، فلا يجب الاجتناب عن الآخر ، لأنّ الشك في أصل تنجّز التّكليف ، لا في المكلّف به تكليفاً منجّزا .

-------------------

نعم ، إذا وقعت قطرة بول في هذا الاناء النجس بالدم أو ذاك الاناء الطاهر ، حدث التكليف قطعا ووجب الاجتناب عنهما، إذ النجس بالبول يحتاج إلى التطهير مرتين ، بينما النجس بالدم يحتاج إلى التطهير مرة ، وكذا يجب الاجتناب عنهما لو كان هذا الاناء نجساً بولوغ الخنزير - مثلاً - ثم ولغ كلب ولم يعلم في الطاهر أو في النجس بولوغ الخنزير، لكن ليس الكلام في مثل هذه الأمثلة - كما لايخفى - .

( وكذا ) لا يجب الاجتناب عن الآخر ( لو كان التكليف في أحدهما معلوماً ، لكن لا على وجه التنجّز ، بل معلّقاً على تمكّن المكلّف منه ) والقدرة على ارتكابه ( فانّ ما لا يمكّن المكلّف من ارتكابه ) فعلاً - عقلاً أو عرفاً - ( لا يكلّف منجّزا بالاجتناب عنه ) وذلك لأنّ العقل يرى فيه قبح تنجيز النهي على من لايقدر على الارتكاب فعلاً ، وكذلك بالنسبة إلى الاجتناب .

( كما لو علم وقوع النجاسة في أحد شيئين لا يتمكن المكلّف من ارتكاب واحد معيّن منهما ) لكونه في بلادٍ نائية - مثلاً - أو في كهف بعيد ، أو في بيت شخص لايصل إليه المكلّف اطلاقا ( فلا يجب الاجتناب عن الآخر ) الذي هو عند هذا المكلّف .

وانّما لا يجب الاجتناب عن الذي عنده ( لأنّ الشك في أصل تنجّز التّكليف ، لا في المكلّف به تكليفاً منجّزا ) فانه قد يتنجز التكليف ، لكن يكون الشك

ص: 355

وكذا لو كان ارتكاب الواحد المعيّن ممكن عقلاً ، لكنّ المكلّف أجنبىّ عنه وغير مبتلى به بحسب حاله ، كما إذا تردّد النّجس بين انائه وبين اناء الآخر لا دخل للمكلّف فيه اصلاً ، فانّ التكليفَ بالاجتناب عن هذا الاناء الآخر المتمكن عقلاً غيرُ منجّز عرفاً .

-------------------

في المكلّف به : بأنه هل هو هذا أو ذاك ؟ وقد يكون الشك في انّه هل تنجّز عليه التكليف أم لا ؟ .

مثلاً : لوكان دار زيد إلى جوار دار الملك ، ووقعت قطرة نجس إمّا في اناء زيد وإمّا في اناء الملك الذي لا يصل زيد إليه اصلاً ، فانّه يشك في توجه التكليف إليه بالاجتناب ، لا انّه يقطع بتوجه التكليف إليه ويشك في انّه هل هو الاجتناب عن انائه أو عن اناء الملك ؟ .

( وكذا ) لا يجب الاجتناب عن الآخر الذي هو عند المكلّف ( لو كان ارتكاب الواحد المعيّن ممكن عقلاً ، لكنّ المكلّف أجنبيّ عنه وغير مبتلى به بحسب حاله، كما إذا تردّد النّجس بين انائه وبين اناء الآخر ) أي : الشخص الآخر الذي ( لا دخل للمكلّف فيه أصلاً ) .

مثلا : إذا وقعت قطرة بول في انائه أو إناء جاره ، وكان إناء جاره ليس محل ابتلائه إطلاقاً وأن تمكن أن يذهب إلى جاره ويطلبه منه ، لكنّه عرفاً غير متمكن منه ، ( فانّ التكليفَ بالاجتناب عن هذا الاناء الآخر المتمكن عقلاً ) منه ، غير المتمكن منه عرفاً لخروجه عن محل ابتلائه ، لا يتعلق التكليف الشرعي باجتنابه ، فهو إذن ( غير منجّز عرفاً ) .

والفرق بين هذه الصورة والصورة السابقة : أنّ الصورة السابقة : كان يعدّ فيها المكلّف غير متمكن منه عقلاً لعدم التمكن من الوصول إليه وفي هذه الصورة يعدّ

ص: 356

ولهذا لا يحسن التكليف المنجّز بالاجتناب عن الطعام أو الثوب الذي ليس من شأن المكلّف الابتلاءُ به .

نعم ، يحسن الأمر بالاجتناب عنه مقيّدا بقوله : إذا اتفق لك الابتلاء بذلك بعارية أو بملك ، أو اباحة فاجتنب عنه .

والحاصل : أنّ النواهي المطلوب فيها حملُ المكلّف على الترك ، مختصّة بحكم العقل والعرف - بمن يعدّ مبتلىً بالواقعة المنهيّ عنها .

-------------------

فيها المكلّف غير متمكن منه عرفاً ، لخروجه عن محل ابتلائه .

( ولهذا لا يحسن التكليف المنجّز بالاجتناب عن الطعام أو الثّوب الذي ليس من شأن المكلّف الابتلاء به ) عقلاً أو عرفاً فلا يقال : اجتنب عن انائك او اناء الملك ، ولا عن انائك أو اناء جارك .

( نعم ، يحسن الأمر بالاجتناب عنه مقيّدا بقوله : إذا اتفق لك الابتلاء بذلك ) الاناء (بعارية ، أو بملك ، أو اباحة ) أو ما أشبه ذلك ( فاجتنب عنه ) لكنّه ما دام بعض أطراف الشبهة خارجاً عن محل الابتلاء ، امّا لعدم التمكن منه عقلاً وأمّا لعدم التمكن منه عرفاً ، فلا يحسن الأمر بالاجتناب عنه ، فيخل العلم الاجمالي إلى ما لم يتعلق به التكليف وهو الخارج ، والى شك بدوي في الذي عنده ، فيجري فيه البرائة .

( والحاصل : انّ النّواهي المطلوب فيها حملُ المكلّف على الترك ، مختصّة ) تلك النواهي (بحكم العقل والعرف - بمن يعدّ مبتلى بالواقعة المنهيّ عنها ) وكذلك في باب الأوامر ، فاذا علم بوجوب إطعام عليه ، لكن لا يعلم هل متعلّق الاطعام زيد أو عمرو ، وهو قادر على اطعام كل منهما في غير موارد ، مثل : « قاعدة العدل التي توجب لتضيف » ، وجب عليه أن يطعم كليهما ؟ .

ص: 357

ولذا يُعدُّ خطابُ غيره بالترك مستهجناً الاّ على وجه التقييد بصورة الابتلاء .

ولعلّ السرّ في ذلك : أنّ غير المبتلى تارك للمنهيّ عنه بنفس عدم ابتلائه ، فلا حاجة إلى نهيه ، فعند الاشتباه لا يعلم المكلّف بتنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي .

-------------------

أمّا إذا لم يتمكن عقلاً أو عرفاً من اطعام كليهما ، لأن عمرا - مثلاً - كان خارجاً عن متناول يده ، فانّه لا يجب عليه اطعام زيد أيضاً ، لأنّه من الشك في التكليف ، لا الشك في المكلّف به .

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه : من ان ما نحن فيه من الشك في التكليف ، لا من الشك في المكلّف به ( يُعدُّ خطابُ غيره ) أي : غير المبتلى ( بالترك مستهجناً ) لايصدر من العقلاء ( الاّ على وجه التقييد بصورة الابتلاء ) كما تقدّم بأن يقول : ان ابتليت بإناء الملك فاجتنب عنه ، أو ان ابتليت بإناء جارك فاجتنب عنه ، وهكذا .

وعليه : فلو علم اجمالاً ، بكون هند أو دعد اخته من الضاعة ، وكانت دعد خارجة عن محل ابتلائه لانّها متزوجة ، جاز له أن يتزوّج بهند لأنّه لا يعلم بتوجه تكليف بالتحريم إليه ، بينما إذا كانتا معا خليّتين وأمكن التزويج من كل واحدة منهما حرم التزويج بكل منهما ، لأنّه من الشك فيالمكلّف به للعلم بتوجه الخطاب إليه بالاجتناب .

( ولعلّ السرّ في ذلك ) الاستهجان ( : انّ غير المبتلى تارك للمنهيّ عنه بنفس عدم ابتلائه ، فلا حاجة إلى نهيه ، فعند الاشتباه ) بأن لم يعلم المكلّف انّ القطرة وقعت في انائه او اناء الملك - مثلاً - ( لا يعلم المكلّف بتنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي ) اذ كانت القطرة وقعت في إناء الملك لم يتوجه التكليف إليه اصلاً .

ص: 358

وهذا باب واسع ينحلّ به الاشكال عمّا علم من عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة في مواقع مثل : ما إذا علم اجمالاً بوقوع النجاسة في إنائه أو في موضع من الأرض التي لا يبتلى به المكلّف عادة أو بوقوع النجاسة في ثوبه أو ثوب الغير ، فانّ الثوبين لكل منهما من باب الشبهة المحصورة مع عدم وجوب اجتنابهما ،

-------------------

وعليه : فانّه حيث لم يعلم بتوجه التكليف إليه ، كان الأصل البرائة بالنسبة الى انائه .

وهكذا في كل أمرين كان أحدهما خارجاً عن محل الابتلاء من المرأتين أو المتاعين أحدهما مغصوب ، أوما أشبه ذلك .

( وهذا ) الذي ذكرناه : من ان شرط التكليف في مورد الاشتباه عدم الخروج عن محل الابتلاء ( باب واسع ينحلّ به الاشكال عمّا علم : من عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة في مواقع ) كثيرة ، فانهم ذكروا عدم وجوب الاجتناب فيها ، لكنّهم اختلفوا في وجه عدم إجتنابها مع أن العلم الاجمالي موجود فيها ، والجواب الصحيح هو : ما ذكرناه ، لا ما ذكره جماعة من وجود الأدلة الخاصة في أمثال هذه المقامات .

( مثل : ما إذا علم اجمالاً بوقوع النجاسة في إنائه أو في موضع من الأرض التي لا يبتلى به المكلّف عادة ) لا في صلاته من جهة سجدته ، ولا محل تيممه ، ولا باستعماله برطوبة ، ولا بالمشي عليه لأجل تطهير قدميه ، أو ما أشبه ذلك .

( أو ) مثل ما إذا علم إجمالاً ( بوقوع النجاسة في ثوبه أو ثوب الغير ، فانّ الثوبين لكل منهما ) أي : من الشخصين ( من باب الشبهة المحصورة ) وليست من الشبهة غير المحصورة ( مع عدم وجوب اجتنابهما ) للشخصين .

ص: 359

فاذا أجرى أحدهما في ثوبه أصالة الحلّ والطّهارة لم يعارض بجريانهما في ثوب غيره ، اذ لا يترتب على هذا المعارض ثمرة عمليّة للمكلّف يلزم من ترتبها مع العمل بذلك الأصل طرح تكليف متنجّز بالأمر المعلوم اجمالاً .

-------------------

وعليه : ( فاذا أجرى أحدهما في ثوبه أصالة الحلّ والطّهارة ، لم يعارض بجريانهما ) أي : بجريان أصالة الحل والطهارة ، ( في ثوب غيره ) ولذا يجوز لكل منهما أن يرتّب أثر الطهارة والحلية في محتمل النجاسة والغصبية بالنسبة إلى ثوبه ( اذ لا يترتب على هذا المعارض ثمرة عمليّة للمكلّف يلزم من ترتبها ) أي : ترتب تلك الثمرة العملية ( مع العمل بذلك الأصل ) أي : أصل الحل وأصل الطهارة ( طرح تكليف متنجّز ) على المكلّف يتعلق ( بالأمر المعلوم اجمالاً ).

وعليه : فانه وان كان هنا علم اجمالي بالنجاسة ، لكنّه غير منجز للتكليف على أحد منهما ، فيجري أصل الحل والطهارة في كل من الثوبين المشتبهين بلا معارض ، وذلك لوضوح : انّ الأصلين الجاريين في المشتبهين انّما يتعارضان إذا كان لكل منهما أثر ، بحيث إذا أجراهما المكلّف ترتب على اجرائهما طرح تكليف منجّز ، والمقام ليس كذلك ، فانّه لا يترتب من اجرائهما طرح تكليف منجز لما عرفت : من عدم تنجز التكليف هنا .

نعم ، إذا كان كلاهما محل ابتلاء شخص واحد فجريان الأصلين يترتب عليهما طرح تكليف منجز ، فيتساقطان ويكون المرجع هو العلم الاجمالي الذي بسبب الاحتياط .

وهكذا بالنسبة إلى الشبهة الوجوبية ، كما إذا علم المكلّف بوجوب الظهر أو الجمعة عليه ، وجب الاحتياط باتيانهما ، امّا إذا علم بفوات صلاة منه أو من صديقه فلا يجب القضاء على أحد منهما لجريان البرائة بالنسبة إلى كل منهما ،

ص: 360

ألا ترى انّ زوجة شخص لو شكّت في انّها هى المطلَّقة أو غيرها من ضرّاتها ؟ جاز لها ترتيب أحكام الزوجيّة على نفسها ولو شك الزّوج هذا الشك لم يجز له النظر إلى إحداهما . وليس ذلك الاّ لأنّ أصالة عدم تطليقه لكّل منهما متعارضان في حق الزوج بخلاف الزوجة ، فانّ أصالة عدم تطلّق ضرّتها لا يثمر لها ثمرة عمليّة .

نعم ، لو اتفق ترتب تكليف على زوجيّة ضرّتها دخلت في الشبهة

-------------------

لانّه من الشك في التكليف لا الشك في المكلّف به .

( الا ترى ) تأييدا لما ذكرناه : من عدم تنجّز التكليف في مورد الشك بالنسبة إلى شخصين ( انّ زوجة شخص لو شكّت في انّها هي المطلَّقة أو غيرها من ضرّاتها ؟ جاز لها ) استصحاب عدم طلاقها ، و ( ترتيب أحكام الزوجيّة على نفسها ) من المنام مع الزوج ، وأخذ النفقة من كيسه تقاصّاً ، وغير ذلك .

( و ) لكن ( لو شك الزّوج هذا الشك ) بالنسبة إلى زوجتيه بانّه هل طلق هذه أوتلك ؟ ( لم يجز له النظر إلى إحداهما ) بل يلزم عليه ان يحتاط في كلتيهما .

( وليس ذلك الاّ لأنّ أصالة عدم تطليقه لكلّ منهما متعارضان في حق الزوج ) لما يترتب عليهما من طرح التكليف المنجَّز ، فيتساقطان ويكون المرجع العمل حسب العلم الاجمالي .

( بخلاف الزوجة ) فانّه بالنسبة ءاليها لا يتعارض الأصلان حتى يتساقطان ( فانّ أصالة عدم تطلّق ضرّتها لا يثمر لها ثمرة عمليّة ) يلزم منه طرح تكليف منجز ، اذ لا تكليف منجَّز هنا لخروج تلك المرأة عن محل ابتلائها من هذه الجهة .

( نعم ، لو اتفق ترتب تكليف على زوجيّة ضرّتها دخلت في الشبهة

ص: 361

المحصورة ، ومثل ذلك كثير في الغاية .

ومما ذكرنا يندفع ما تقدّم من صاحب المدارك ، من الاستنهاض على ما اختاره : من عدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة ، بما يستفاد من الأصحاب من عدم وجوب الاجتناب

-------------------

المحصورة ) بالنسبة إلى هذه المرأة الشاكة ، لأنّها تعلم حينئذٍ بتوجه تكليف إليها إمّا من جهة نفسها أو من جهة ضرّتها ، كما لو نذرت الزوجة التصدق بدينار لو طلّقت هي أو طلّقت ضرّتها فانه لا يجوز لها استصحاب زوجيتّها واستصحاب زوجية ضرتها لما يترتب عليهما من طرح التكليف المنجز بسبب علمها بطلاق احداهما الموجب لتصدّقها بدينار بسبب النذر .

( ومثل ذلك ) الذي ذكرناه : من خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء ( كثير في الغاية ) ومعياره : انه إذا ترتّب ثمرة عملية على جريان الاصلين : من طرح تكليف منجّز ، فانه يتعارض الأصلان ويتساقطان ، وإذا لم تترتب ثمرة عملية عليهما جرى الأصلان بلا معارض .

مثلاً : إذا علم بأن صلاة الظهر فاتته أو فاتت أباه كان لكل منهما ان يجري اصل البرائة لنفسه .

امّا لو مات الأب وانتقلت فوائته إلى ذمة الابن حيث يجب على الابن الأكبر قضاء صلاة أبيه فانّه يلزم عليه الاتيان بتلك الصلاة بقصد مافي الذمة عن نفسه أو عن أبيه .

( ومما ذكرنا: يندفع ما تقدّم من صاحب المدارك من الاستنهاض ) والاستدلال ( على ما اختاره : من عدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة ) حيث قد تقدّم : ان صاحب المدارك لا يوجب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة ، وقد استدل لذلك ( بما يستفاد من الأصحاب : من عدم وجوب الاجتناب

ص: 362

عن الاناء الذي علم بوقوع النجاسة فيه أو في خارجه ، إذ لا يخفى أنّ خارج الاناء ، سواء كان ظهره أو الأرض القريبة منه ، ليس مّما يبتلى به المكلّف عادةً ، ولو فرض كون الخارج ممّا يسجد عليه المكلّف التزمنا وجوب الاجتناب عنهما ، للعلم الاجمالي بالتكليف المردّد بين حرمة الوضوء بالماء النجس ، وحرمة السجدة على الأرض النجسة .

ويؤيد ما ذكرنا

-------------------

عن الاناء الذي علم بوقوع النجاسة فيه أو في خارجه ) فاستدل بهذا المورد الخاص على عدم وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة كلياً .

وانمّا يندفع استدلال المدارك بما ذكرناه ( اذ لا يخفى ) ان عدم وجوب الاجتناب في مثال المدارك ليس من جهة عدم وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة ، بل من جهة الخروج عن محل الابتلاء ، وذلك ( انّ خارج الاناء ، سواء كان ظهره ) أي : ظهر الاناء ( أو الأرض القريبة منه ، ليس ممّا يبتلى به المكلّف عادةً ) فأحدهما خارج عن محل الابتلاء ، والآخر محل الابتلاء ، فيكون الشك بينهما من قبيل الشك في ان قطرة البول قَطَرَت في انائه أو في اناء الملك ؟ .

( و ) على هذا ، فانّه ( لو فرض كون الخارج ، ممّا يسجد عليه المكلّف ) أو مما يتيمم به ، أو يمشي عليه لأجل تطهير قدميه ، أو ما أشبه ذلك ( التزمنا وجوب الاجتناب عنهما ) أي : عن داخل الاناء وعن خارجه ، وذلك ( للعلم الاجمالي بالتكليف المردّد بين حرمة الوضوء بالماء النجس ، وحرمة السجدة على الأرض النجسة ) أوعدم طهارة قدميه بالمشي عليها ، أو عدم جواز التيمم بها ، الى غير ذلك من الأمثلة .

( ويؤيد ما ذكرنا ) : من انّه لا يجب الاحتياط إذا كان بعض الأطراف خارجاً

ص: 363

صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه عليهماالسلام الواردة فيمن رعف فامتخط فصار الدّمُ قِطَعاً صِغارا فاصابَ انائه ، هل يصح الوضوء منه ؟ فقال عليه السلام : إن لم يكن شيءٌ يستبينُ في الماء فلا بأس به وإن كان شيئاً بيّناً فلا » .

حيث استدل به الشيخ قدس سره ، على العفو عمّا لا يدركه الطّرفُ من الدّم وحملها المشهور على أنّ إصابة الاناء لا يستلزم إصابة الماء ، فالمراد أنّه مع عدم تبيّن شيء

-------------------

عن محل الابتلاء ( صحيحة علي بن جعفر عن أخيه ) موسى بن جعفر ( عليهماالسلام الواردة فيمن رعف ) بان خرج الدم من أنفه ( فامتخط ) أي : رمى ما في انفه من الدم بعنف ( فصار الدّم قِطَعاً صِغارا فاصابَ انائه، هل يصح الوضوء منه ؟) أي : من هذا الماء الذي يشك في وصول الدم إليه ام لا ؟ .

( فقال عليه السلام : ان لم يكن شيءٌ يستبينُ في الماء ) بأن لم يظهر أثر الدم في الماء ( فلا بأس به ) أي : بالوضوء منه ( وإن كان شيئاً بيّناً ) بان ظهر اثر الدم في الماء ( فلا ) (1) يتوضأ منه ( حيث استدل به ) أي : بهذا الحديث ( الشيخ قدس سره على العفو عمّا لا يدركه الطّرفُ من الدّم ) .

وكيف كان : فانّ الشيخ يري انّ الدم اذا وقع في الماء - مثلا - وكان من القلّة بحيث لا يدركه البصر فهو لاينجّس الماء ، سواء كان من دم الرُّعاف أم من غيره ، فانّ دم الرعاف من باب المثال .

( و ) لكن قد ( حملها ) أي : حمل هذه الصحيحة ( المشهور على أنّ إصابة الاناء ) في فرض المسألة ( لا يستلزم إصابة الماء ، فالمراد : انّه مع عدم تبيّن شيء

ص: 364


1- - الكافي فروع : ج3 ص74 ح16 ، غوالي اللئالي : ج3 ص22 ح57 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص412 ب21 ح18 ، الاستبصار : ج1 ص23 ب10 ح12 .

في الماء يحكم بطهارته .

ومعلومٌ أنّ ظهر الاناء وباطنه الحاوي للماء من الشبهة المحصورة .

وما ذكرناه واضح لمن تدبّر .

إلاّ أنّ الانصاف : أنّ تشخيص موارد الابتلاء لكلّ من المشتبهين وعدم الابتلاء إلاّ بواحد معيّن منهما كثيرا ما يخفى .

ألا ترى أنّه لو دار الأمر بين وقوع النجاسة على الثوب ، ووقوعها على ظهر طائر أو حيوان قريب منه

-------------------

في الماء ) ممّا يجعل المكلّف يشك في ان الدم أصاب الماء أو موضعاً آخر ، ففي هذه الصورة ( يحكم بطهارته ) لخروج الموضع الآخر عن محل ابتلائه .

( ومعلومٌ : انّ ظهر الاناء وباطنه الحاوي للماء ، من الشبهة المحصورة ) فعدم الاجتناب ليس لأنه من الشبهة غير المحصورة ، ولا لما ذكره شيخ الطائفة ، بل لما ذكرناه نحن من خروج ظهر الاناء عن محل الابتلاء ( وما ذكرناه ) هنا : من جواز استعمال الماء ، لأن بعض أطراف الشبهة خارج عن محل الابتلاء (واضح لمن تدبّر) .

نعم ، إذا كان الشك بين الماء وبين خارج الاناء وكان خارج الاناء محل ابتلائه ايضاً ، لانّه يلمسه بيد رطبة أو ما أشبه ذلك ، وجبَ الاحتياط بالاجتناب عنهما ، فلا يتوضأ بما في الاناء .

( الاّ انّ الانصاف : انّ تشخيص موارد الابتلاء لكلّ من المشتبهين ، وعدم الابتلاء إلاّ بواحد معيّن منهما ) أي : من المشتبهين ( كثيرا ما يخفى ) فانّ الكبرى وان كانت مسلّمة ، إلاّ انّ الصغريات قد تكون محل الشك ( ألا ترى انّه لو دار الأمر بين وقوع النجاسة على الثوب ، ووقوعها على ظهر طائر أو حيوان قريب منه

ص: 365

لايتّفق منه عادةً ابتلائه بالموضع النّجس منه ، لم يشكّ أحد في عدم وجوب الاجتناب عن الثّوب .

وأما لو كان الطّرف الآخر أرضاً لا يبعد ابتلاء المكلّف به في السجود والتيمّم وإن لم يحتج إلى ذلك فعلاً ، ففيه تأمّل .

والمعيارُ في ذلك وان كان صحّة التكليف بالاجتناب عنه على تقدير العلم بنجاسته ، وحسن ذلك من غير تقييد التكليف بصورة الابتلاء ، واتفاق صيرورته واقعة له ،

-------------------

لا يتّفق منه عادةً ابتلائه بالموضع النّجس منه ) أي : من ذلك الطائر أو الحيوان كالدجاجة أو كالهرّة فيالبيت ( لم يشك أحد في عدم وجوب الاجتناب عن الثّوب ) لأنّ ظَهر الطائر أو الحيوان خارج عن محل الابتلاء عادة .

( وأما لو كان الطّرف الآخر أرضاً ) فان كان ( لا يبعد ابتلاء المكلّف به في السجود والتيمّم ) ولو في المستقبل كصحن الدّار - مثلا - فهو ( وإن لم يحتج إلى ذلك فعلاً ) و إنّما يحتاج إليه مستقبلاً ، ( ففيه تأمّل ) بأنّه هل هو محل الابتلاء حتى يجب الاجتناب عنهما ، أو ليس محل الابتلاء حتى لايجب الاجتناب عن هذا الاناء الذي هو الطرف للارض ؟ .

( و ) على أيّ حال : فانّ ( المعيار في ذلك ) أي : في كون المشتبه محل الابتلاء حتى يجب الاجتناب أو خارجاً عن محل الابتلاء حتى لايجب ( وان كان ) هو : ( صحّة التّكليف بالاجتناب عنه على تقدير العلم بنجاسته ، وحسن ذلك ) أيضاً بأن يحسن التكليف بالاجتناب عنه عرفاً ( من غير تقييد التكليف بصورة الابتلاء ، و ) لا بصورة ( اتفاق صيرورته واقعة له ) .

مثلاً : قد يقول المولى : اجتنب عن الشيء الفلاني ولم يقيّد الاجتناب فيه

ص: 366

إلاّ انّ تشخيص ذلك مشكلٌ جدا .

نعم ، يمكن أن يقال عند الشك في حسن التكليف التنجيزي عرفا بالاجتناب وعدم حسنه الاّ معلقا : الأصل البرائة من التكليف المنجّز كما هو المقرّر في كلّ ما شكّ فيه في كون التكليف منجّزا ، أو معلقا على أمر محقّق العدم ،

-------------------

بشيء ، وقد يقول : اجتنب عن الشيء الفلاني إذا صار محل ابتلائك .

فالأول هو معيار الابتلاء والعلم الاجمالي يكون فيه منجّزا ، دون الثاني ، فانّه معيار الخارج عن محل الابتلاء ولا يكون العلم الاجمالي فيه منجزا .

(إلاّ انّ تشخيص ذلك ) المعيار الذي بيّناه : من صحة التكليف وحسنه عرفاً بلا تقييد ، وعدم صحته ( مشكلٌ جدا ) في بعض الموارد ، وان كان بعض الموارد واضحاً بانّه من محل الابتلاء ، وبعض الموارد واضحا بأنه خارج عن محل الابتلاء.

( نعم ، يمكن أن يقال عند الشك في حسن التكليف التنجيزي عرفا بالاجتناب وعدم حسنه الاّ معلقا : ) بأن شككنا انّه من موارد التنجيز أو من موارد التعليق أن يقال : أنّ ( الأصل : البرائة من التكليف المنجّز ) لأنّا لا نعلم هل تنجيز علينا التكليف بالاجتناب أم لا ؟ فالأصل عدم التنجيز لجريان البرائة عن التكليف ، فيجوز ارتكاب الطرف الآخر الذي هو محل الابتلاء قطعا .

وانّما يجوز حينئذٍ ارتكاب الطرف الآخر الذي هو محل الابتلاء لأنّه لمعونة الأصل يكون المشكوك الخروج خارجا عن محل الابتلاء ، فاذا خرج عن محل الابتلاء جرى في الطرف الآخر البرائة بلا معارض .

( كما هو ) أي : أصل البرائة من التكليف المنجّز يكون ( المقرّر في كلّ ما شكّ فيه في كون التكليف منجّزا ، أو معلقا على أمر محقّق العدم ) .

ص: 367

أو علم التعليق على أمر ، لكن شك في تحققه أو كون المتحقق من أفراده ، كما في المقام .

إلاّ أنّ هذا ليس بأوْلى من أن يُقال : إنّ الخطابات بالاجتناب عن المحرّمات مطلقة غير معلّقة ،

-------------------

مثلاً : إذا شك في انّ الحج وجب عليه ، أو وجوبه معلق على تخلية السرب المحقق عدمها ، حيث يحتمل احتمالاً عقلائيا بأن من الطريق من يمنعه عن المسير ، أو ما أشبه ذلك يجري البرائة من التكليف المنجز فلا يجب الحج عليه .

( أو علم التعليق على أمر لكن شك في تحققه ) أي : تحقق ذلك الأمر ، كما إذا علم بأن التكليف بالحج معلق على الاستطاعة ، لكنّه يشك في انه هل حصلت له الاستطاعة أو لم يحصل له بعد ؟ فيجري البرائة منه .

( أو ) علم التعليق على أمر ، وقد تحقق لكنّه يشك في ( كون المتحقق من أفراده ) أي : من أفراد ذلك الأمر أم لا ( كما في المقام ) فان تنجيز التكليف بالاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة معلّق على كونها محل ابتلائه ، لكنه يشك في أن هذا المحقق أفراد المبتلي به حتى يجب الاجتناب ، أم لا حتى لايجب الاجتناب ؟ فيجري البرائة ولا يجب عليه الاجتناب .

( الاّ انّ هذا ) الذي ذكرناه : من الرجوع إلى أصل البرائة في هذه الموارد ( ليس بأولى من أن يقال : ) ان اطلاقات التكليف تشمل المقام والشك يكون في الخروج ، فاللازم هو : العمل بالاطلاقات ، ولا تصل النوبة إلى أصل البرائة ؛ فانّ الأصل أصيل حيث لا دليل ، وذلك ( إنّ الخطابات بالاجتناب عن المحرّمات مطلقة غير معلّقة ) في تنجيزها على شيء مثل : لا تشرب الخمر .

هذا في الخطابات المطلقة ، وأما في الخطابات المعلقة مثل : « لا تُجامع

ص: 368

والمعلوم تقييدها بالابتلاء في موضع العلم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعلق بالابتلاء ، كما لو قال : « إجتنب عن ذلك الطعام النجس الموضوع قُدّامَ أمير البلد » ، مع عدم جريان العادة بابتلاء المكلّف به ، أو : « لاتصرّف في اللباس المغصوب الذي لبسه ذلك الملك أو الجارية التي غصبها الملك وجعلها من خواصّ نسوانه » ،

-------------------

زوجَتك ان كانت حائضا فهي وان كانت معلقة الا انّها مطلقة أيضا ، لأن مثل هذا الخطاب يرجع إلى : لا تجامع زوجتك في حال الحيض ، فاذا كانت له زوجتان احداهما محل ابتلائه والاُخرى نائية عنه ولا يصل إليها إلاّ بعد شهر - مثلاً - فانه إن شك في حيضيّة هذه أو تلك أصبحت هذه ممنوعة الوطي عليه ، فيما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي يخرجها منه .

( والمعلوم ) أي : القدر المتيقن من صحة التعليق انّما هو ( تقييدها ) أي : تقييد المطلقات ( بالابتلاء في موضع ) واحد فقط وهو صورة ( العلم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعلق بالابتلاء ) ففي هذه الصورة فقط يصح تقييد التكليف بالابتلاء ( كما لو قال: «إجتنب عن ذلك الطعام النجس الموضوع قُدّامَ أمير البلد» ) وهو ممّن لا يصل إلى الأمير اطلاقا لأنّه لا يتمكن من الوصول إليه أما عرفا ، أو (مع عدم جريان العادة بابتلاء المكلّف به ) فانّه يقبح مثل هذا التكليف بدون تقييده .

نعم ، يصح أن يقال له : اجتنب عن ذلك الطعام إذا ابتليت به ، فانه مع التقييد يرتفع قبح التكليف به .

( أو ) كما لو قال : ( « لا تصرّف في اللباس المغصوب الذي لبسه ذلك الملك أو ) لا تتصرّف في ( الجارية التي غصبها الملك وجعلها من خواصّ نسوانه » ) .

أو كما لو نهى المرأة التي تتوقع الزواج وتشك في انّها إمّا اخت الملك

ص: 369

مع عدم استحالة ابتلاء المكلّف بذلك كلّه عقلاً ولا عادةً إلاّ انّه بعيد الاتفاق .

وأما إذا شكّ في قبح التنجيز فيرجع إلى الاطلاقات .

فمرجع المسألة إلى أنّ المطلقَ المقيّدَ بقيد مشكوك التحقق في بعض الموارد لتعذر ضبط مفهومه على وجهٍ لا يخفى مصداق من مصاديقه ،

-------------------

من الرضاعة ، أو انّها اخت هذا الخاطب الذي قدم لزواجها .

هذا ( مع عدم استحالة ابتلاء المكلّف بذلك كلّه عقلاً ولا عادةً ) أي : ان الابتلاء بالطرف الآخر من الشبهة - في مفروضنا - ليس مستحيلاً عقلاً ، ولا مستحيلاً عادة ( إلاّ انّه بعيد الاتفاق ) والوقوع خارجا ، ومن الواضح : ان بعد الاتفاق غير الاستحالة العادية ففي هذه الصورة يرجع الى اصل البرائة من التكليف المنجّز ( وأما إذا شكّ ) في ان الطرف الآخر من المشتبه هل هو محل ابتلائه ام لا ؟ فمرجع شكّه إلى الشك ( في قبح التنجيز ) وعدم القبح ( فيرجع إلى الاطلاقات ) لأنّ الاطلاقات شاملة لكل فرد ما لم يعلم علما قطعيا بخروجه عن محل الابتلاء ، فلا تصل النوبة إلى أصل البرائة التي ذكرناها أولاً بقولنا : « نعم يمكن ان يقال عند الشك في حسن التكليف التنجيزي وعدم حسنه : بالبرائة » .

إذن ( فمرجع المسألة ) فيما نحن فيه وهي : هل انّ طرف المعلوم بالاجمال محل الابتلاء حتى يجب الاجتناب عن الطرف الآخر المبتلى به ، أو ليس هو ، محل الابتلاء حتى لا يجب الاجتناب عن الطرف المبتلى به ؟ مرجعه ( إلى انّ المطلقَ ) كقوله : « اجتنب عن النجس » ( المقيّدَ بقيد ) الابتلاء الذي هو ( مشكوك التحقق في بعض الموارد ) كالامثلة التي ذكرناها ، يجعله مشكوكا في جواز التمسك باطلاقه .

وانمّا يكون مشكوك التحقق في بعض الموارد ( لتعذر ضبط مفهومه ) أي : مفهوم ذلك القيد ( على وجه لا يخفى مصداق من مصاديقه ) على المكلّف

ص: 370

كما هو شأن أغلب المفاهيم العرفية ، هل يجوز التمسكُ به أو لا ؟ .

والأقوى : الجواز ، فيصير الأصلُ في المسألة وجوب الاجتناب ، إلاّ ما علم عدم تنجّز التكليف بأحد المشتبهين على تقدير العلم بكونه الحرام ، إلاّ أن يُقال :

-------------------

( كما هو ) أي : تعذر ضبط المفهوم ( شأن أغلب المفاهيم العرفية ) فانّ الماء وهو أظهر المفاهيم العرفية قد يشك في بعض مصاديقه مثل المياه الزاجية والكبريتية بأنّه هل يسمّى ماءا أم لا ؟ ففي مثله ( هل يجوز التمسك به ) أي : بذلك المطلق حتى يجب الاجتناب ( أو لا ) يجوز لسريان اجمال القيد إليه فيرجع فيه إلى البرائة ؟ .

ولا يخفى : انّ قوله : « هل يجوز » ، متعلق بقوله : «إلى انّ المطلق المقيّد» ؛ وجملة: « لتعذر ضبط مفهومه » إلى قوله : « العرفية » ، جملة معترضة بين المبتدأ والخبر .

هذا ( والأقوى : الجواز ) أي : جواز التمسك به ؛ لأنّ اجمال القيد لايسري إلى المطلق ، بل اللازم التمسك بالاطلاق حتى يعرف الخروج عنه قطعا ( فيصير الأصل في المسألة ) أي : مسألة الشبهة المحصورة المشكوك خروج بعض طرفيها ( وجوب الاجتناب ) من كلا الطرفين ( إلاّ ) في صورة العلم بالخروج وهو : ( ما ) إذا ( علم عدم تنجّز التكليف بأحد المشتبهين ) بأن كان أحدهما خارجا عن محل الابتلاء قطعا ( على تقدير العلم بكونه الحرام ) وقوله : « على » متعلق بقوله : « علم عدم تنجيز التكليف » .

والحاصل : انّه إذا علمنا بكون طرفه خارجا عن محل الابتلاء ، جاز لنا ارتكاب هذا الطرف المبتلى به ، أمّا إذا شككنا في انّه خارج أم لا ، فلا يجوز لنا ارتكاب هذا الطرف بل يجب اجتنابه ( الاّ ان يُقال : ) وهذا رجوع من المصنّف عن وجوب الاجتناب من جهة شمول إطلاق المنع إلى جواز الارتكاب وذلك لما

ص: 371

إنّ المستفاد من صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة كون الماء وظاهر الاناء من قبيل عدم تنجّز التكليف ، فيكون ذلك ضابطا في الابتلاء وعدمه ، اذ يبعد حملها على خروج ذلك عن قاعدة الشبهة المحصورة لأجل النصّ ، فافهم .

-------------------

يفهم من الصحيحة ، فالاطلاق إذن انّما لا يؤخذ به من جهة الصحيحة ، لا انّه لا يؤخذ به من جهة البرائة التي ذكرناها سابقا ، وذلك بتقريب أشار اليه بقوله : ( انّ المستفاد من صحيحة (1) علي بن جعفر المتقدّمة ) فيمن امتخَط فأصاب الدم انائه ( : كون الماء وظاهر الاناء من قبيل عدم تنجّز التكليف ) لأنّ ظهر الاناء من موارد الشك في الابتلاء لا من موارد القطع بعدم الابتلاء .

( فيكون ذلك ) المستفاد من الصحيحة ( ضابطا في الابتلاء وعدمه ) فكلّما كان احتمال ابتلائه مثل احتمال ابتلاء ظهر الاناء أو أضعف منه ، فهو ملحق بعدم الابتلاء ، وكلّما كان أقوى منه فهو ملحق بالابتلاء .

لا يقال : لا يمكن جعل الصحيحة قاعدة لهذا الأمر الذي ذكرتموه ، لاحتمال أن يكون مورد الصحيحة خارجا من جهة النص الخاص لا من جهة القاعدة الكلية .

لأنّه يقال : ما ذكرتموه ، خلاف ظاهر الصحيحة ( اذ يبعد حملها على خروج ذلك ) أي : خروج موردها ( عن قاعدة الشبهة المحصورة ) خروجا ( لأجل النصّ ) بأن يقال : ان مقتضى القاعدة عند الشك في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء هو الاحتياط ، وقد خرج هذا المورد الخاص وهو : مثال الماء وظهر الاناء من وجوب الاحتياط بسبب تعبّد شرعي وذلك لمكان هذه الصحيحة .

( فافهم ) ولعله اشارة إلى انّه لم يعلم كون المشكوك على ذلك هل هو

ص: 372


1- - الكافي فروع : ج3 ص74 ح16 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص412 ب21 ح18 ، الاستبصار : ج1 ص23 ب10 ح12 ، غوالي اللئالي : ج3 ص22 ح57 .
الرابع :

انّ الثابت في كل من المشتبهين لأجل العلم الاجمالي بوجود الحرام الواقعي فيهما هو وجوب الاجتناب ، لأنّه اللازم من باب المقدمة من التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي .

أمّا سائر الآثار الشرعية المترتبة على ذلك الحرام ، فلا يترتب عليهما ، لعدم جريان المقدمة فيها فيرجع فيها إلى الاُصول الجارية في كلّ من المشتبهين بالخصوص ،

-------------------

من موارد جريان البرائة ، أو من موارد جريان الاطلاق ، أو من موارد جريان الصحيحة ؟ وبالتالي لم يعلم هل انّه من موارد الشك في التكليف ، أو من موارد الشك في المكلّف به ؟ لكن لا يخفى : انّه في مثل هذا المورد حيث لا نعلم بالتكليف علما يقينيا فهو من موارد الشك في التكليف الذي مجراه البرائة ، واللّه العالم .

( الرابع ) من التنبيهات : ( انّ الثابت في كل ) واحد ( من المشتبهين ) أو من أطراف الشبهة المحصورة ( لأجل العلم الاجمالي بوجود الحرام الواقعي فيهما ) أو فيها ( هو ) الحكم التكليفي دون الوضعي ، أعني : ( وجوب الاجتناب ) فقط لا أكثر من ذلك ( لأنّه اللازم من باب المقدمة ) لزوما ناشئا ( من التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي ) الذي اشتبه بين الأفراد المحصورة .

( أمّا سائر الآثار الشرعية ) غير التكليفية من الضمان والحدّ والقصاص وغيرها ( المترتبة على ذلك الحرام ، فلا يترتب عليهما ) أي : على كل واحد من المشتبهين أو من المشبتهات ، وذلك ( لعدم جريان المقدمة فيها ) أي : في سائر الآثار ( فيرجع فيها إلى الاُصول ) العملية ( الجارية في كلّ من المشتبهين بالخصوص ) .

ص: 373

فارتكابُ أحد المشتبهين لا يوجبُ حدّ الخمر على المرتكب ، بل يجري أصالة عدم موجب الحدّ

-------------------

مثلاً : إذا تردّد المحقون الدم بين زيد وعمرو ، فانّه لا يجوز له الارتكاب من باب وجوب الاجتناب في أطراف الشبهة المحصورة ، لكن لو ارتكب قتل احدهما فان لم يطابق الواقع لم يكن الاّ تجريا ، ان طابق الواقع فقد فعل حراما ، لكنه لا يقتل به قودا ، كما انّه ليس عليه الدية إذا بقي على الجهل بأن المقتول كان محقون الدم أو مهدور الدم .

وكذا إذا شك في انّه هل أهاج الطير الذي هو للناس أو طيرا مباحا ، وذلك فيما إذا دار الأمر بين طيرين أحدهما مباح والآخر للناس ؟ فانّه لا يضمن قبل ان يعلم بانّه كان طير الغير .

وكذا إذا كانت امرأة مردّدة بين أن تكون دمية - كما يوجد في بعض بلاد الغرب الآن - أو زوجته ، فوطأ احداهما بلا انزال ، فانّه لا يجب عليه الغسل إذا لم ينكشف انّها امرأته ، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة .

نعم ، إذا فعل الأمرين المشتبهين وجب عليه تلك الآثار ، لأنّه قد حصل له علم تفصيلي بارتكابه ماله تلك الآثار .

وعليه : ( فارتكاب أحد المشتبهين ) بالخمر - مثلاً - بأن شرب أحدهما ، ( لا يوجب حدّ الخمر على المرتكب ، بل يجري أصالة عدم موجب الحدّ ) في حقه .

هذا ، ولو اشتبه الخمر والماء بين انائين: أحدهما أبيض والآخر أحمر فشربهما اثنان وذلك بأن شرب احدهما الابيض والآخر الأحمر ، فانّه لا يحدّ ايّ منهما ، أمّا إذا حصل القتل كذلك ، فانّ الحاكم الشرعي يأخذ منهما دية كاملة كل واحد نصف

ص: 374

ووجوبه .

هل يحكم بتنجس ملاقيه وجهان ، بل قولان مبنيّان على ان تنجس الملاقي إنّما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس ، بناءا على أنّ الاجتناب عن النجس يُراد به : ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط .

-------------------

الديّة ، وكذلك إذا أهاج الطائرين في المثال المقدّم ، فانّه يقسم بينهما الضمان لقاعدة العدل .

أمّا الحدّ والقصاص ، فلا يثبت بذلك لانّه كما قال : ( ووجوبه ) أي : الحد انّما هو على العالم العامد وهذا لا يصدق على أي منهما في الامثلة المتقدمة .

إذن : فالاحكام الوضعية لا تثبت على كل واحد من المشتبهين ومن الاحكام الوضعية : تنجسّ الملاقي ، والكلام فيه : انّه ( هل يحكم بتنجس ملاقيه ) أي : ملاقي أحد المشتبهين بالنجس ، كاليد التي تلاقي أحدهما أم لا ؟ .

قد يقال بتنجسه لشمول : اجتنب عن النجس له ايضا ، وقد يقال بعدم تنجسه لانّه حكم وضعي ( وجهان ، بل قولان مبنيّان على ) ما يلي :

أولاً : ( ان تنجس الملاقي ) للنجس ( انّما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس ) بأن كان معنى اجتنب عن النجس - الذي هو حكم تكليفي - : اجتنب عنه وعن ملاقيه ، وذلك ( بناءا على انّ الاجتناب عن النجس يراد به : ما يعمّ الاجتناب) عنه و ( عن ملاقيه ولو بوسائط ) كثيرة ومتعددة .

وعليه : فيكون الاجتناب عن النجس معناه : الابتعاد عنه بجميع انحاء استعماله ، وهو لا يحصل إلاّ بالاجتناب عنه وعن ملاقيه وعن ملاقي ملاقيه وهكذا ، فيكون وجوب اجتناب النجس ملازما لوجوب اجتناب ملاقيه تكليفا ، لا انه حكم وضعي ثبت بدليل خارجي .

ص: 375

ولذا استدل السيّد أبو المكارم في الغُنية على تنجس الماء القليل بملاقات النجاسة : بما دّل على وجوب هجر النجاسات في قوله تعالى : «وَالرُّجزَ فَاهجُر» .

ويدلّ عليه أيضا ما في بعض الأخبار من استدلاله ، على حرمة الطعام الذي مات فيه فأرة : ب « أنّ اللّهَ سُبحانَهُ حَرَّمَ الميتَةَ » ، فاذا حكم الشارع بوجوب هجر كلّ واحد من المشتبهين

-------------------

( ولذا ) أي : لاجل البناء على ان الاجتناب هو للاعم من النجس وملاقيه ( استدل السيّد أبو المكارم في الغُنية على تنجس الماء القليل بملاقات النجاسة : بما دّل على وجوب هجر النجاسات فيقوله تعالى : « وَ الرّجزَ فَاهجُر » (1) ) بناءا على انّ المراد من الرّجز : النجاسة ( ويدلّ عليه ) أي : على ان معنى الاجتناب عن النجس هو : الأعم من الاجتناب عنه وعن ملاقيه ولو بوسائط ( ايضا ) أي : مضافا إلى ان دليل وجوب الاجتناب عن النجس ظاهر في وجوب اجتنابه واجتناب ملاقيه ، فانه يدل عليه ( ما في بعض الأخبار من استدلاله ) عليه السلام ( على حرمة الطّعام الذي مات فيه فأرة : ب « أنّ اللّهَ سُبحانَهُ حَرَّمَ الميتَةَ ) (2) فمعنى حرمة الميتة : حرمة الميتة عينها وحرمة ملاقيها وهو الطعام في الخبر .

وعليه : ( فاذا حكم الشارع بوجوب هجر كلّ واحد من المشتبهين ) من باب المقدمة العلمية حيث أمر الشارع بالاحتياط (3) ، وبأن يهريقهما

ص: 376


1- - سورة المدّثر : الآية 5 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص420 ب21 ح46 ، الاستبصار : ج1 ص24 ب11 ح3 ، وسائل الشيعة : ج1 ص206 ب5 ح528 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص65 ب13 ح20767 .
3- - الامالي للطوسي : ص110 ح168 ، الامالي للمفيد : ص283 المجلس الثالث والثلاثون ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 وكصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج انظر الكافي = = فروع ج4 ص391 ح1 ووسائل الشيعة : ج27 ص154 ب12 ح33464 .

فقد حكم بوجوب هجر كلّ ما لاقاه .

وهذا معنى ما استدل به العلامة قدس سره في المنتهى على ذلك : بأنّ الشارع أعطاهما حكم النجس ، وإلاّ فلم يقل أحدٌ انّ كلاً من المشتبهين بحكم النجس في جميع آثاره ، وانّ الاجتناب عن النجس لا يُراد به الاّ الاجتناب عن العين ،

-------------------

ويتيمم (1) ، إلى غير ذلك ممّا سبق الاستدلال به لوجوب المقدمة العلمية ( فقد حكم بوجوب هجر كلّ ما لاقاه ) أي : لاقى احد المشتبهين ايضا لما عرفت من الملازمة ، فكما انّ حكم الشارع بالاجتناب عن النجس حكم بالاحتناب عن ملاقيه ، كذلك حكمه بالاحتناب عن كل واحد من المشتبهين حكم بالاجتناب عن ملاقي كل واحد منهما ( وهذا معنى ما استدل به العلامة قدس سره فيالمنتهى على ذلك ) أي : على تنجس ملاقي أحد المشتبهين ( بأنّ الشارع أعطاهما حكم النجس ) فاذا كان الشارع أعطاهما حكم النجس كان معنى ذلك : انّه كما ينجس ملاقي النجس المقطوع به ، كذلك ينجس ملاقي النجس المشتبه به ، فيجب الاجتناب عنه وعن ملاقيه .

( والاّ ) بأن لم يكن مقصود العلامة ما ذكرناه ( ف ) كلامه لا توجيه له ، اذ ( لم يقل أحدٌ : انّ كلاً من المشتبهين بحكم النجس في جميع آثاره ) حتى لا يكون هناك فرق بين النجس المعلوم والنجس المردّد بين هذا وذاك ، فيكون كل واحد من الأطراف حينئذٍ في حكم النجس المعلوم من جميع الجهات .

هذا هو أول القولين في حكم ملاقي النجس وهو نجاسته ( و) أما القول الثاني فهو : عدم نجاسته ، وذلك بناءا على ( انّ الاجتناب عن النجس لا يُراد به : الاّ الاجتناب عن العين ) أي : عين النجس نفسه ، لا عن ملاقيه أيضا لوضوح : انّه

ص: 377


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص229 ب10 ح45 ، الاستبصار : ج1 ص21 ب10 ح3 .

وتنجّس الملاقي للنجس حكم وضعي سببي يترتب على العنوان الواقعي من النجاسات ، نظير وجوب الحدّ للخمر .

فاذا شكّ في ثبوته للملاقي جرى فيه أصلُ الطهارة وأصلُ الاباحة .

والأقوى الثاني ،

-------------------

لا ملازمة بين وجوب الاجتناب عن النجس ولزوم الاجتناب عن ملاقيه ، فلا حكم تكليفي بالاجتناب ( و ) ذلك لان ( تنجّس الملاقي للنجس حكم وضعي ) قد ثبت بدليل خارجي ، فان الشارع كما حكم بالاجتناب عن النجس بدليل مستقل ، حكم ايضا بالاجتناب عن ملاقيه كذلك .

إذن : فالتنجس حكم وضعي ( سببي ) بمعنى : انّ الملاقاة سبب للتنجس لكن هذا التنجس للملاقي ( يترتب على العنوان الواقعي من النجاسات ) لا المشتبه بالنجس ، فانه إذا لاقى النجس شيء تنجّس ذلك الشيء ، وهذا هو حكم ثانٍ ، أمّا الحكم الأوّل : فهو الحكم بنجاسة عين البول - مثلاً - ( نظير وجوب الحدّ للخمر ) فانّه حدّ للخمر بذاتها ، امّا إذا اشتبه الخمر بغير الخمر وشرب أحد المشتبهين ، فلايترتب عليه الحد ، كما تقدّم .

وعليه : ( فاذا شكّ في ثبوته ) أي : ثبوت التنجس ( للملاقي ) - بالكسر - وانّما نشك في ثبوت نجاسة الملاقي للشك في نجاسة الملاقى - بالفتح - لأنّ المفروض : ان الملاقي لاقى أحد المشتبهين لا عين النجس ، فاذا شك ( جري فيه أصل الطهارة وأصل الاباحة ) لأنّه إذا كان نجسا كان حراما فاذا شككنا في النجاسة فالأصل الطهارة ، كما انّ الأصل الاباحة ، لكن لا يخفى : انّ أصل الطهارة لا يدع مجالاً لأصل الاباحة ، لأنّ الأمر بينهما سببي ومسببي .

( والأقوى : الثاني ) من القولين ، وهو : كون تنجس الملاقي حكما وضعيا ،

ص: 378

أمّا أوّلاً ، فلما ذكر .

وحاصله : منع ما في الغنية : من دلالة وجوب هجر النجس على وجوب الاجتناب عن ملاقي الرجز إذا لم يكن عليه أثر من ذلك الرجز ، فتنجسه حينئذٍ ليس إلاّ لمجرد تعبّد خاص .

-------------------

فلا يثبت الاّ بدليل مستقل ، وذلك لانّ نجاسة الملاقى - بالفتح - لاتسري إلى الملاقي - بالكسر - لعدم الملازمة ، بل ان للشارع حكمين : حكم بالنجاسة الملاقى ، وحكم بنجاسة الملاقي ، والشارع انّما يحكم بنجاسة الملاقي - بالكسر - إذا لاقى عين النجس ، لا المشتبه بالنجس وحيث انّ الملاقى - بالفتح - هو أحد المشتبهين، فلا نعلم بانّ الملاقي قد لاقى عين النجس ، لاحتمال انّه قد لاقى الطاهر ، فلم يكن الملاقي - بالكسر - محكوما بالنجاسة ، وذلك لما يلي :

( أمّا أوّلاً : فلما ذكر ) : من ان الاجتناب عن الشيء معناه : الاجتناب عن نفس ذلك الشيء ، لا الاجتناب عنه وعمّا يلاقيه ، فلا تلازم بين وجوب الاجتناب عن الشيء ووجوب الاجتناب عن ملاقيه ، فنجاسة الملاقي انّما هو بدليل خاص ، ولا دليل على النجاسة في مورد الملاقاة مع أحد طرفي الشبهة .

( وحاصله : منع ما في الغنية : من دلالة وجوب هجر النجس على وجوب الاجتناب عن ملاقي الرّجز إذا لم يكن عليه ) أي : على الملاقي - بالكسر - ( أثر من ذلك الرجز) فانه قد يتعدى الرّجز من الملاقى - بالفتح - إلى الملاقي - بالكسر - وفي هذه الصورة تحصل النجاسة ، كما إذا تعدّت قطرات من الخمر إلى الاناء الآخر حيث يشمل الاناء الآخر دليل : «ان ما يبلّ ميلاً منه ينجّس برميلاً من الماء» .

إذن: ( فتنجسه ) أي : تنجس ملاقي الرّجز ( حينئذٍ ) أي : حين نفي الملازمة بين نجاسة الملاقي ونجاسة الملاقى ( ليس الاّ لمجرد تعبّد خاص ) وهذا التعبّد

ص: 379

فاذا حكم الشارع بوجوب هجر المشتبه في الشبهة المحصورة ، فلا يدلّ على وجوب هجر مايلاقيه .

نعم ، قد يدلّ بواسطة بعض الأمارات الخارجيّة ، كما استفيد نجاسة البلل المشتبه الخارج قبل الاستبراء من أمر الشارع بالطهارة عقيبه ،

-------------------

الخاص موجود في ملاقاة النجس بعينه لا في ملاقاة أحد المشتبهين .

وعليه : ( فاذا حكم الشارع بوجوب هجر المشتبه في الشبهة المحصورة ) لدليل الاحتياط ، ولحكم العقل بوجوب الاجتناب عن المشتبهين ( فلا يدلّ على وجوب هجر مايلاقيه ) .

وان شئت تصوير القياس قلت : نجاسة الملاقي - بالكسر - حكم تعبدي ، وهذا الحكم التعبدي لا يثبت في ملاقي أحد طرفي الشبهة ، فنجاسة الملاقي لايثبت بملاقاة أحد المشتبهين .

ثم إنّ المصنّف حيث نفى وجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - الاّ بدليل خارجي أشكل على نفسه بأنّه إذا خرج من الانسان بعد البول وقبل الاستبراء بلل مشتبه لايعلم بانّه بول أو ليس ببول ، فهو من الشبهة البدوية ومجرى أصل البرائة ، لكنّ الشارع حكم بنجاسته تقديما لظاهر كون هذا البلل هو بقايا البول على اصل كونه طاهرا ، ففي هذه الصورة كيف تقولون بأنّ ملاقي هذا البلل المشتبه نجس مع انه قد لاقى المشتبه ؟ فأجاب عنه بقوله :

( نعم ، قد يدلّ ) وجوب هجر المشتبه على وجوب هجر ملاقيه ولكن لا بالملازمة ، بل ( بواسطة بعض الأمارات الخارجيّة ) وذلك ( كما استفيد نجاسة البلل المشتبه الخارج قبل الاستبراء من ) دليل مستقل هو : ( أمر الشارع بالطهارة عقيبه ) .

ص: 380

من جهة استظهار أنّ الشارع جعل هذا المورد من موارد تقديم الظاهر على الأصل ، فحكم بكون

-------------------

إذن : فالشارع حيث قال بوجوب الوضوء والتطهير من البلل الخارج بعد البول وقبل الاستبراء ، إكتشفنا نجاسته ، لكن ( من جهة ) دليل خارجي ، وهو ( استظهار : انّ الشارع جعل هذا المورد من موارد تقديم الظاهر على الأصل ) .

والحاصل : إنّ قياس ملاقي البلل المشتبه بملاقي أحد المشتبهين مع الفارق ، وذلك لأنّ البلل قبل الاستبراء ممّا تعارض فيه الأصل والظاهر ، فالأصل يقول بطهارته لانّه من الشبهة البدوية ، والظاهر يقول : بنجاسته لانه من بقايا البول ، فاذا أمر الشارع بالطهارة عقيب هذا البلل يستظهر من هذا الأمر : انّ الشارع جعل هذا المورد من موارد تقديم الظاهر على الأصل فيحكم بنجاسة البلل ، وحيث كان البلل نجسا يكون ملاقيه نجسا أيضا .

إذن : فمثل ما نحن فيه مثل ما إذا قامت البيّنة على نجاسة شيء من طرفي الشبهة المحصورة ، فانه يترتب على ما قامت عليه البيّنة جميع آثار النجس الواقعي ، وهكذا الحال إذا كان نجسا بالاستصحاب .

و عليه : فاذا علمنا علما وجدانيا بالبولية ، أو قال الشارع انّه نجس بسبب البيّنة، أو بسبب الاستصحاب ، أو بسبب تقديم الظاهر على الأصل ، كان ذلك محكوما بأحكام النجس ، ومن أحكام النجس : أن ملاقيه نجس ، وذلك بسبب النص الخاص لا بالملازمة ، وأين هذا من ملاقي أحد المشتبهين حيث لانعلم بنجاسته كما انّه لا دليل على ان الملاقي - بالفتح - نجس وانمّا يجب الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - من جهة العلم الاجمالي .

وعليه : فانّ الشارع قدّم في هذا المورد الظاهر على الأصل ( فحكم بكون

ص: 381

الخارج بولاً ، لا أنّه أوجب خصوص الوضوء بخروجه .

وبه يندفع تعجّبُ صاحب الحدائق ، من حكمهم بعدم النجاسة فيما نحن فيه وحكمهم بها في البلل ، مع كون كل منهما مشتبها حكم عليه ببعض أحكام النجاسة .

-------------------

الخارج بولاً ) تعبّدا ( لا انّه ) أي : الشارع ( أوجب خصوص الوضوء بخروجه ) أي : خروج البلل بأن رتب الوضوء على خروج البلل المشتبه ، دون ان يقول بنجاسة البلل حتى يقال : انّ البلل المشتبه ، ليس ببول فلا ينجس ملاقيه .

( وبه ) أي : بهذا الذي ذكرناه : من الفرق بين ملاقي البلل المشتبه وبين ملاقي أحد أطراف الشبهة ( يندفع تعجّبُ صاحب الحدائق من حكمهم ) أي : حكم الفقهاء ( بعدم النجاسة فيما نحن فيه ) من ملاقي أحد أطراف الشبهة ( وحكمهم بها) أي : بالنجاسة ( في البلل ) المشتبه ( مع كون كل منهما مشتبها حكم عليه ببعض أحكام النجاسة ) فقد حكم على البلل بوجوب الوضوء ، وحكم على أحد أطراف الشبهة بوجوب الاجتناب .

وحاصل تعجب صاحب الحدائق هو : انّه لماذا فرّق الأصحاب بين المشتبهين: المشتبه بالبول فحكموا بنجاسة ملاقيه ، والمشتبه في العلم الاجمالي فحكموا بعدم نجاسة ملاقيه ؟ .

وحاصل جواب المصنّف هو : انّ الفرق لأجل انّ الشارع حكم بنجاسة البلل المشتبه ، فملاقيه أيضا محكوم بالنجاسة ، بينما لم يحكم الشارع بنجاسة الطرف المشتبه في العلم الاجمالي ، فلا نقول بنجاسة ملاقية .

ثم انّ المصنّف ذكر عند قوله « والأقوى : الثاني » ما لفظه : « أمّا أوّلاً : فلما

ص: 382

وأمّا الرواية فهي رواية عمر بن شمر ، عن جابر الجعفيّ ، عن أبي جعفر عليه السلام : « أنّه أتاه رجل فقال له : وقعت فارةٌ في خابية فيها سَمنٌ أو زيتٌ ، فما ترى في أكله ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : لا تأكُلهُ ، فقال الرجلُ : الفأرة أهونُ عليّ من أن أترك طعامي لأجلها ؟ فقال له أبو جعفر عليه السلام : إنّك لم تستخفّ بالفارة، وانّما إستخففت بدينك، إنّ اللّه حرّمَ الميتَةَ مِن كُلِّ شيء » .

وجهُ الدلالة أنّه عليه السلام جعل ترك الاجتناب عن

-------------------

ذكر .. » ولم يذكر ، أمّا ثانيا وكأنّه جعل قوله : ( وأمّا الرواية ) بمنزلة وأمّا ثانيا .

وكيف كان : فالرواية التي توهّم دلالتها على الملازمة بين وجوب الاجتناب عن الشيء ووجوب الاجتناب عن ملاقيه ، حتى يدل على انّه إذا وجب الاجتناب عن طرفي الشبهة وجب الاجتناب عن ملاقي كل طرف ( فهي رواية عمر بن شمر عن جابر الجعفيّ عن أبي جعفر عليه السلام : « : أنّه أتاه رجل فقال له ) متسائلاً : ( وقعت فارةٌ في خابية ) والخابية : حِبّ كبير يُجعل ( فيها سَمنٌ أو زيتٌ ، فما ترى في أكله ؟ ) أي : أكل ذلك السَمن أو الزَيت هل يجوز إذا كانا مايعين - كما هو واضح - لأنّه إذا كانا جامدين أخذت الفارة وما حولها، وحلّ البقية كما في نصوص اُخر ؟ .

( فقال أبو جعفر عليه السلام : لا تأكُلهُ ، فقال الرجلُ : الفأرة أهونُ عليّ من أن أترك طعامي لأجلها ؟ فقال له أبو جعفر عليه السلام : انّك لم تستخفّ بالفارة ، وانّما استخففت بدينك ، انّ اللّه حرّمَ الميتَةَ من كُلِّ شيء » (1) ) فانّ هذا الكلام من الامام عليه السلام يدل على الملازمة بين وجوب الاجتناب عن الشيء ووجوب الاجتناب عن ملاقيه كما قال : ( وجهُ الدلالة : انّه عليه السلام جعل ترك الاجتناب عن

ص: 383


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص240 ب21 ح46 ، الاستبصار : ج1 ص24 ب11 ح3 ، وسائل الشيعة : ج1 ص206 ب5 ح528 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص65 ب13 ح20767 .

الطعام استخفافا بتحريم الميتة ، ولولا استلزامه لتحريم ملاقيه لم يكن أكل الطعام استخفافا بتحريم الميتة ، فوجوبُ الاجتناب عن شيء يستلزمُ وجوب الاجتناب عن ملاقيه .

لكن الرواية ضعيفة سندا ، مع أنّ الظاهر من الحرمة فيها : النجاسة ،

-------------------

الطعام استخفافا ) بالدين ، لاًنّ الدين هو الذي قال ( بتحريم الميتة ولولا استلزامه ) أي : استلزام تحريم الميتة ( لتحريم ملاقيه لم يكن أكل الطعام استخفافا ) بالدين الذي قال ( بتحريم الميتة ) .

وعليه : ( فوجوب الاجتناب عن شيء ) حسب هذه الرواية ( يستلزمُ وجوب الاجتناب عن ملاقيه ) أيضا ، وهذه الكبرى الكليّة تأتي فيما نحن فيه ، فاذا وجب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة، وجب الاجتناب عن ملاقي كل طرف أيضا .

( لكن الرواية ضعيفة ) فلا يصح الاستدلال بها ، وذلك من جهات :

أولاً : انّها ضعيفة ( سندا ) فلا يمكن الاستدلال بها لهذا البحث .

ثانيا : ( مع انّ الظاهر من الحرمة فيها : النجاسة ) لأنّه لو لم يكن المراد من الحرمة النجاسة ، لم يصح استدلال الامام عليه السلام بها ، لوضوح : ان ملاقي الحرام لايحرم فالهرة والسبع والتراب وغير ذلك مّما يحرم أكله ، لا يحرم أكل ملاقيه ، فلابد ان يراد من الرواية : انه لما كانت الفارة الميتة نجسة فنجاستها تتعدى إلى السَمن أو الزَيت .

إذن : فالرواية تدل على الملازمة بين نجاسة الشيء ونجاسة ملاقيه ، لكن حيث كانت نجاسة الميتة مشكوكة وان كان يحرم شرب المشتبه - من باب الاحتياط - الاّ انّه لايوجب التعدّي الى ملاقيه ، لأنّ التعدي انّما يكون في ملاقي

ص: 384

لأنّ مجرّد التحريم لا يدل على النجاسة فضلاً عن تنجّس الملاقي وارتكاب التخصيص في الرواية باخراج ماعدا النجاسات من المحرّمات كما ترى ،

-------------------

النجس اليقيني ، أو النحس الذي قام الدليل الشرعي على نجاسته ، من البيّنة أو الاستصحاب أو ما أشبه ذلك - على ماسبق - لا المشتبه بالنجس .

وعليه : فانّ الرواية تدل على النجاسة لا مجرد الحرمة كما عرفت ( لأنّ مجرّد التحريم لا يدل على النجاسة ) اذ كثير من الأشياء حرام وليس بنجس ( فضلاً عن تنجّس الملاقي ) لأنّ الحرام إذا لم يكن بنفسه نجسا فكيف ينجس ملاقيه .

إذن : فلابد من ارادة النجاسة من الحرام في الرواية ، فيكون حاصلها : انّ اللّه سبحانه وتعالى نجّسَ الميتَة ، وحيث انّ النجس ينجّس ملاقيه ، فملاقيه وهو السَمن والزَيت نجسٌ أيضا ، وهذا لا يرتبط بما نحن فيه من ملاقي المشتبه حتى يستدل بالرواية عليه .

ثالثا : انّه لو أخذنا بظاهر الرواية ولم نقل بأنّ المراد من الحرام النجاسة ، لزم التخيصيص المستهجَن في هذا العموم ، وذلك لأنّ المحرّمات كثيرة بينما المحرمات النجسة قليلة ، فلو أراد الإمام عليه السلام من : كل ملاقي الحرام حرام : أن ملاقي الحرام النجس نجس ، لزم تخصيص الأكثر ، لأنّ المحرّمات غير النجسة أكثر من المحرمات النجسة بكثير .

وعليه : فلو اريد من الرواية ذلك ، كان مثل مانحن فيه ، مثل أن يقال : « أكرم كل عالم » ويُراد به علماء النجوم فقط ، مع أنّ سائر العلماء أكثر من علماء النجوم بكثير .

وإلى هذا المعنى أشار المصنِّف بقوله : ( وارتكاب التخصيص في الرواية باخراج ماعدا النجاسات من المحرّمات كما ترى ) لأنه تخصيص للأكثر ، وهو مستهجن .

ص: 385

فالملازمة بين نجاسة الشيء وتنجّس ملاقيه ، لا حرمة الشيء وحرمة ملاقيه .

فان قلت : وجوبُ الاجتناب عن ملاقي المشتبه وإن لم يكن من حيث ملاقاته له ، إلاّ أنّه يصير كملاقيه في العلم الاجمالي بنجاسته أو نجاسة المشتبه الآخر ، فلا فرق بين المتلاقيين في كون كل منهما أحد طرفي الشبهة ،

-------------------

وعليه: ( فالملازمة ) المستفادة من الرواية انّما هي ( بين نجاسة الشيء وتنجّس ملاقيه ) ومن الواضح : انّ هذا لا نزاع فيه ( لا حرمة الشيء وحرمة ملاقيه ) الذي هو محل البحث حيث انكم قلتم ان طرفي الشبهة لما كان استعمالهما حراما ، حرم استعمال الملاقي لأيّ منهما أيضا .

وهنا حيث انهى المصنّف الكلام عن الدليل الأوّل لمن قال : بأنّ ملاقي طرف الشبهة نجس بدليل الملازمة بين حرمة الشيء وحرمة ملاقيه ، وفرغ رحمه اللّه عن جواب هذا الدليل ، شرع في بيان الدّليل الثاني لهم بقوله :

( فان قلت : وجوبُ الاجتناب عن ملاقي المشتبه وان لم يكن من حيث ملاقاته له ) كما ذكرناه في الدليل الأوّل وأجبنا عنه ( إلاّ انّه ) أي : الملاقي ( يصير كملاقيه في العلم الاجمالي بنجاسته أو نجاسة المشتبه الآخر ) أي : يحصل العلم الاجمالي بين الملاقي - بالكسر - أو طرف الملاقي - بالفتح - فاذا لاقت اليد - مثلاً - أحد الانائين أصبح للانسان علمان إجماليان :

الأوّل : علمه الاجمالي بنجاسة أحد الانائين .

الثاني : علمه الاجمالي بنجاسة يده أو الاناء الآخر الذي لم تلاقه يده ، فيجب الاجتناب هنا كما كان يجب هناك للعلم الاجمالي .

إذن : ( فلا فرق بين المتلاقيين في كون كل منهما أحد طرفي الشبهة ) أي :

ص: 386

فهو نظير ما إذا قسّم أحد المشتبهين قسمين وجعل كلّ قسم في إناء .

قلتُ : ليس الأمر كذلك ، لأنّ أصالة الطهارة والحلّ في الملاقي - بالكسر - سليمٌ عن معارضة أصالة طهارة المشتبه الآخر ، بخلاف أصالة الطهارة والحلّ في الملاقى - بالفتح - فانّها معارضة بها في المشتبه الآخر .

-------------------

الملاقي - بالكسر - والملاقى - بالفتح - فانّ هناك علمان اجماليان بين الملاقى - بالفتح - وطرفه ، وبين الملاقي - بالكسر - والمشتبه الآخر .

وعليه: ( فهو ) أي : التلاقي حينئذٍ يكون ( نظير ما إذا قسّم أحد المشتبهين قسمين وجعل كلّ قسم في ءاناء ) فكما انّه يحدث هناك علمان اجماليان ، فكذلك يحدث هنا بالنسبة إلى الملاقى وطرفه ، والملاقي والمشتبه الآخر .

( قلت ) : إنّا وإنْ سلَّمنا دخول الملاقي - بالكسر - في أطراف الشبهة مع طرف الملاقى - بالفتح - إلاّ انّا نمنع وجوب الاجتناب عن الملاقي ، وذلك لسلامة الأصل الجاري فيه عن المعارض ، فانّه يتعارض الأصلان في أطراف الشبهة - بين الملاقى وطرفه ويتساقطان ، فيبقى أصل الطهارة في الملاقي - بالكسر - بلامحذور ، اذ ليس له مقابل يعارضه .

إذن : ( ليس الأمر ) الذي ذكرتموه من وجود العلم الاجمالي بين الملاقي - بالكسر - وطرف الملاقى - بالفتح - ( كذلك ، لأنّ ) الملاقي وان كان كالملاقى في صيرورته أحد طرفي العلم الاجمالي ، الا انّ ( أصالة الطهارة والحلّ في الملاقي - بالكسر - سليمٌ عن معارضة أصالة طهارة ) وحلية ( المشتبه الآخر ) وهو طرف الملاقى - بالفتح - ( بخلاف أصالة الطهارة والحلّ في الملاقى - بالفتح - فانّها ) أي : أصالة الطهارة وأصالة الحل ( معارضة بها ) أي: بأصالة الطهارة وأصالة الحل ( في المشتبه الآخر) من الانائين .

ص: 387

والسّر في ذلك أنّ الشكَّ في الملاقي - بالكسر - ناشٍ عن الشبهة المتقوّمة بالمشتبهين ، فالأصلُ فيها أصلٌ في الشك السببيّ ، والأصل فيه أصلٌ في الشكّ المسبّبي .

وقد تقرّر في محلّه أنّ الأصل في الشّك

-------------------

( والسّر في ذلك ) أي : في تعارض الأصلين في الملاقى وطرفه وعدم تعارضهما في الملاقي وطرف الملاقى - بالفتح - هو : ( انّ الشكَّ في الملاقي - بالكسر - ناشٍ عن الشبهة المتقوّمة بالمشتبهين ) فاذا شككنا - مثلاً - في نجاسة اليد الملاقية لأحد الانائين كان الشك فيها ناشئا ومسببا عن الشك في الاناء الذي لاقته اليد ، فاذا جرى الأصل في الاناء سقط الأصل في اليد ، أمّا إذا لم يجر الاصل في الاناء لأنّه سقط بسبب معارضته بالأصل في الاناء الآخر ، جرى أصل الطهارة في اليد ولا معارض له .

والحاصل : ان الأصل في الاناء وفي اليد سببي ومسببي ، فكلّما جرى الأصل السببي لم يجر الأصل المسبّبي ، وكلّما لم يجر الأصل السببي جرى الاصل المسببي ، وحيث انّ الاصل السببي هنا معارض بمثله في الاناء الآخر فهما يتساقطان وبعد تساقطهما يجري الأصل في المسببي الذي هو اليد من دون معارض كما قال : ( فالأصل فيها ) أي : في الشبهة المحصورة بين طرفين - مثلا - ( أصلٌ في الشكّ السببيّ ، والأصل فيه ) أي : في الملاقي - بالكسر - ( أصلٌ في الشكّ المسبّبي ) ومقتضى القاعدة : تقديم الأصل السببي على الأصل المسببي ، إلاّ اذا كان هناك مانع من جريان الأصل السببي فتصل النوبة إلى الأصل المسبّبي .

هذا ( وقد تقرّر في محلّه ) من بحث تعارض الأصلين ( انّ الأصل في الشّك

ص: 388

السببيّ حاكمٌ على الأصل في الشكّ المسبّب ، سواء كان مخالفا له ، كما في أصالة طهارة الماء ، الحاكمة على أصالة نجاسة الثوب النجس ، المغسول به ، أم موافقا له ، كما في أصالة طهارة الماء الحاكمة على أصالة إباحة الشرب .

-------------------

السببيّ حاكم على الأصل في الشكّ المسبّب ) فانّ الشك السببي إذا جرى فيه الأصل كان رافعا للشك المسبّبي الذي هو موضوع الثاني .

وعليه : فلا يبقى مجال لاجراء الأصل المسبّبي مع وجود الأصل السببي ( سواء كان ) الأصل السببي ( مخالفا له ) أي : للأصل المسبّبي ( كما في أصالة طهارة الماء الحاكمة على أصالة نجاسة الثوب النجس ، المغسول به ) أي : بذلك الماء المشكوك ، فانه إذا كان هناك ماء مشكوك طهارته ونجاسته وكان ثوب نجس غسلناه به ، فهنا أصلان :

الأوّل : أصل طهارة الماء لقاعدة كل شيء لك طاهر .

الثاني : أصل نجاسة الثوب لاستصحاب نجاسته .

لكن أصالة طهارة الماء حاكمة على أصالة نجاسة الثوب ، لانّه لو كان الماء طاهرا - حسب ما قاله الشارع - لم يبق الثوب نجسا ، فلا يكون الثوب بعد الغسل بهذا الماء مشكوك الطهارة والنجاسة حتى نستصحب نجاسته فالأصل السببي الطهارة ، والأصل المسبّبي النجاسة ، والاول حاكم على الثاني ، فيكون الثوب طاهرا.

هذا إذا كان السببي مخالفا للمسببي ، وكذا إذا كان موافقا له ، فانه سواء كان السببي مخالفا ( أم موافقا له ، كما في أصالة طهارة الماء الحاكمة على أصالة إباحة الشرب ) فاذا كان هناك ماء مشكوك طهارته ونجاسته ، ومشكوك أيضا حليّة شربه

ص: 389

فما دام الأصل الحاكم الموافق أو المخالف يكون جاريا لم يجر الأصل المحكوم ، لأنّ الأوّل رافع شرعي للشكّ المسبّب ، وبمنزلة الدّليل بالنسبة إليه وإذا لم يجر الأصل الحاكم لمعارضته بمثله ، زال المانع من جريان الأصل في الشك المسبّب ، ووجب الرجوع إليه لأنّه

-------------------

وحرمته وجرى أصل الطهارة في الماء لم يبق شك في حليته ، فلا مجال لجريان أصالة الحلية .

وانّما لا مجال لأصالة الحلية لأنّ الأصل السببي الذي هو أصل طهارة الماء لايدع مجالاً للأصل المسبّبي الذي هو اصالة الحل ، فانّ أصل الحل انّما يجري عند الشك في الحلية ومع جريان اصالة طهارة الماء لم يبق شك في الحلية .

وعليه : ( فما دام الأصل الحاكم الموافق ) للأصل المحكوم كما في المثال الثاني ( أو المخالف ) للأصل المحكوم كما في المثال الأوّل ( يكون جاريا ) من دون مانع ( لم يجر الأصل المحكوم ، لأنّ الأوّل ) وهو الحاكم ( رافع شرعي للشّك المسبّب ، وبمنزلة الدّليل بالنسبة إليه ) أي : إلى الأصل المسبب ، فكما انّه إذا كان هناك دليل اجتهادي لا يبقى معه مجال للأصل العملي ، كذلك إذا كان أصل حاكم لم يبق معه مجال للأصل المحكوم .

( و ) لكن ( إذا لم يجر الأصل الحاكم لمعارضته بمثله ، زال المانع من جريان الأصل في الشك المسبّب ، ووجب الرجوع إليه ) أي : إلى الشك المسبّب ، وذلك كما نحن فيه ، اذ قد عرفت : عدم جريان أصالة الطهارة في هذا الاناء ولا في ذلك الاناء لتعارضهما ولتساقطهما ، فيبقى أصل الطهارة في الملاقي بلا محذور .

وانّما وجب الرجوع الى الاصل المسبّبي ( لأنّه ) أي : الأصل المسبّبي بعد

ص: 390

كالأصل بالنسبة إلى المتعارضين .

الا ترى أنّه يجب الرجوع عند تعارض أصالة الطهارة والنجاسة عند تتميم الماء النّجس كُرا بطاهر ، وعند غسل المحلّ النجس بمائين مشتبهين بالنجس

-------------------

تعارض الأصلين السبّبيين في الانائين يكون ( كالأصل بالنسبة إلى المتعارضين ) فكما ان الخبرين المتعارضين يتساقطان ويكون المرجع الأصل في المسالة ، كذلك يتساقط الأصلان في الانائين ويبقى الأصل المسبّبي بالنسبة إلى الملاقي - بالكسر - هو المرجع في العمل .

( ألا ترى ) في صورة تعارض الاستصحابين حيث يكون الرجوع إلى أصل آخر ( انّه يجب الرجوع عند تعارض أصالة الطهارة والنجاسة عند تتميم الماء النّجس كُرا بطاهر ) .

مثلاً : اذا كان هناك نصف كُرّ طاهر ، أضفناه الى نصف كُرّ نجس ، فصار معا كُرا، فشككنا فيه بأنه هل هو طاهر لاستصحاب طهارة ذاك النصف من الكُرّ ، أو نجس لاستصحاب نجاسة هذا النصف من الكُرّ ؟ فانّه يتعارض الاستصحابان ويكون المرجع اصالة الطهارة ، واصالة الطهارة في المقام مسبّب عن الشك في بقاء طهارة النصف الطاهر على طهارته ، والنصف النجس على نجاسته .

( و ) كذلك ( عند غسل المحلّ النجس بمائين مشتبهين بالنجس ) فانّه إذا كان هناك ماءان : أحدهما طاهر والآخر نجس وغسلنا بهما بالترتيب محلاً نجسا ولم نعلم هل الغسل الأوّل كان بالطاهر حتى يكون المحل نجسا ، أو بالنجس حتى يكون المحل طاهرا ؟ فانّ اصالة عدم تقدّم الغسل بالطاهر ، وعدم تقدّم الغسل بالنجس السببيّان يتساقطان لتعارضهما ، بعد التساقط يرجع إلى الاصل المسبّبي

ص: 391

إلى قاعدة الطهارة ، ولا تجعل القاعدة كأحد المتعارضين .

نعم ، ربّما يجعل معاضدا لأحدهما الموافق له

-------------------

أي : ( إلى قاعدة الطهارة ) في المحل ، فتجرى بلا معارض .

و ربّما يقال : انّ المحل صار طاهرا يقينا حين غسله بالماء الطاهر ثم لم نعلم هل صار نجسا أم لا ؟ فنستصحب طهارته .

( و) على أي حال : ( لا تجعل القاعدة ) أي : قاعدة الطهارة ( كأحد المتعارضين ) لأنّ القاعدة ليست في مرتبة المتعارضين بل مرتبتها متأخره عنهما ، ولذا تصل النوبة إلى القاعدة بعد سقوط الأصلين السببيّين بالتعارض .

وهنا لا بأس بأن نقول انّ الفقهاء اختلفوا في تتميم الماء النجس القليل بما يوجب كريّته الى ثلاثة أقوال :

الأوّل : ما ذهب إليه المشهور : من ان تتميم القليل النجس كُرّا سواء كان بالماء الطاهر أم بالماء النجس ، لا يوجب طهارته ، بل قالوا بانحصار طريق تطهيره باتصاله بالكُر ، أو الجاري ، أو المطر ، أو ما أشبه ذلك من المطهّرات .

الثاني : ما ذهب إليه السيد والشيخ على ما نسب اليهما : من كفاية تتميمه كُرّا بالماء الطاهر وعدم كفاية تتميمه بالماء النجس ، فان تمّم بالماء الطاهر طهر ، وإلاّ لم يطهر .

الثالث : ما ذهب إليه ابن ادريس من كفاية التتميم كُرّا مطلقا ، سواء كان التتميم بالماء الطاهر أم بالماء النجس ، وذلك على ما ذكر في محله من الفقه .

( نعم ، ربّما يجعل ) الأصل المسبّبي ( معاضدا ) ومؤيدا ( لأحدهما ) أي : لأحد المتعارضين ( الموافق له ) اي : للمسبّبي ، فاذا كان أحد الأصلين السببيّين موافقا للأصل المسبّبي ، يجعل الأصل المسبّبي معاضدا لذلك الأصل السببي

ص: 392

بزعم كونهما في مرتبة واحدة .

لكنّه توهّمٌ فاسدٌ ، ولذا لم يقل أحد في مسألة الشبهة المحصورة بتقديم أصالة الطهارة في المشتبه الملاقى - بالفتح - لاعتضادها بأصالة طهارة الملاقي - بالكسر - .

فالتحقيقُ في تعارض الأصلين مع اتحاد مرتبتهما

-------------------

الموافق له ، وذلك ( بزعم كونهما ) أي : السببي والمسبّبي ( في مرتبة واحدة ) .

وعليه : فيجعل أصل الطهارة معاضدا لاستصحاب الطهارة في تتميم الماء النجس كرا بطاهر فيطرح استصحاب النجاسة ، لأنّ استصحاب الطهارة السببي وأصل الطهارة المسبّبي متعاضدان ، فيحكم فيما نحن فيه بطهارة الملاقي - بالكسر - والملاقى - بالفتح - وبنجاسة المشتبه الآخر ، لأنّ أصل الطهارة في الملاقي والملاقى متعاضدان .

( لكنّه توهّمٌ فاسدٌ ) اذ تقدّم : انّ قاعدة الطهارة أصل مسبّبي وهو متأخّر رتبة عن الأصلين السببيّن المتعارضين فينحصر العلاج في اسقاط المتعارضين والرجوع إلى قاعدة الطهارة .

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه : من انّ الأصل السببي والمسبّبي لا يتعاضدان ( لم يقل أحد في مسألة الشبهة المحصورة : بتقديم أصالة الطهارة في المشتبه الملاقى - بالفتح - لاعتضادها بأصالة طهارة الملاقي - بالكسر - ) وذلك لأن الأصلين في المشتبهين يتساقطان ويكون المرجع : أصل الطهارة في الملاقي فقط .

وكيف كان : ( فالتحقيقُ في تعارض الأصلين مع اتحاد مرتبتهما ) كما تقدّم في المقام من الأمثلة المذكورة ، والتي منها : تعارض الأصلين في طرفي الشبهة المحصورة هو الرجوع إلى قاعدة الطهارة في الملاقي فقط .

ص: 393

لاتحاد الشبهة الموجبة لهما الرجوع إلى ما ورائهما : من الاُصول التي لو كان أحدهما سليما عن المعارض ، لم يرجع إليه ، سواء كان هذا الأصل مجانسا لهما أو من غير جنسهما ، كقاعدة الطهارة في المثالين ،

-------------------

وانّما يتعارض الأصلان مع اتحاد الرتبة ( لاتحاد الشبهة الموجبة لهما ) أي : للأصلين اوالاستصحابين وحينئذٍ فالتحقيق هو ( الرجوع إلى ما ورائهما : من ) قاعدة الطهارة في الملاقي بالنسبة إلى مانحن فيه .

وعليه ، فيكون المرجع بعد تساقط الأصلين المتعارضين إلى ( الاُصول التي لو كان أحدهما ) أي : أحد المتعارضين ( سليما عن المعارض ، لم يرجع إليه ) اي إلى هذا الثالث ، لأن مرتبة هذا الأصل الثالث متأخّر عن مرتبتهما ، فاذا سقط رجع إليه ، أمّا إذا لم يسقطا فلا .

إذن ، فالمرجع عند التعارض هو : الاصل المسبّبي ( سواء كان هذا الأصل ) المسبّبي ( مجانسا لهما ) أي : لذينك الأصلين المتعارضين ، بأن يكون كل من المسبّبي والسببيّان موردا لاصالة الطهارة - مثلاً - كما هو الأمر فيما نحن فيه ، حيث قد عرفت : أنّ الأصل المسبّبي الذي هو أصل الطهارة في الملاقي - بالكسر - موافق لمورد الأصلين السببيّين في الطهارة أيضا، ومع ذلك فانهما يتساقطان للتعارض ويبقى الأمر للأصل المسبّبي .

وكذا يكون المرجع هو الاصل المسبّبي وان لم يتوافق مع الاصلين السببيّين كما قال : ( أو من غير جنسهما ) بأن كان المسبّبي موردا للطهارة والسببيّين أحدهما موردا للنجاسة - مثلاً - وذلك ( كقاعدة الطهارة في المثالين ) الذين ذكرناهما بقولنا « ألا ترى : انه يجب الرجوع عند تعارض اصالة الطهارة والنجاسة عند تتميم الماء النجس كُرّا بطاهر ، وعند غسل المحل النجس بمائين مشتبهين

ص: 394

فافهم واغتنم .

وتمام الكلام في تعارض الاستصحابين إنْ شاء اللّه تعالى .

نعم ، لو حصل الأصل في هذا الملاقي - بالكسر - أصل آخر في مرتبته ، كما لو وجد معه ملاقي المشتبه الآخر كانا من الشبهة المحصورة ، ولو كان ملاقاة شيء لاحد المشتبهين قبل العلم الاجماليّ ، وفقد الملاقى - بالفتح - ثم حصل العلم الاجماليّ بنجاسة المشتبه الباقي أو المفقود ، قام ملاقيه مقامه في وجوب الاجتناب عنه وعن الباقي ،

-------------------

بالنجس ، إلى قاعدة الطهارة » ( فافهم واغتنم ) لما في الكلام من الدقّة .

هذا ( وتمام الكلام ) يأتي ( في تعارض الاستصحابين إنْ شاء اللّه تعالى ) باذنه وعونه .

( نعم ) ما ذكرناه من : الرجوع إلى أصالة الطهارة في الملاقي - بالكسر - انّما هو ( لو حصل الأصل ) الجاري ( في هذا الملاقي - بالكسر - أصل آخر في مرتبته ، كما لو وجد معه ملاقي المشتبه الآخر ) وذلك بأن لاقت اليد اليمنى ، مثلاً الاناء الذي في الطرف الأيمن ، ولاقت اليد اليسرى الاناء الذي في الطرف الأيسر ( كانا من الشبهة المحصورة ) فلا تجري أصالة الطهارة في اليد اليمنى ، لأنها في مرتبتها معارضة بأصالة الطهارة في اليد اليسرى ، فيجب الاجتناب عنهما كما كان يجب الاجتناب عن نفس الانائين .

( و) كذا يجب الاجتناب أيضا ( لو كان ملاقاة شيء ) كاليد - مثلاً - ( لاحد المشتبهين قبل العلم الاجماليّ ، و) بعد ( فقد الملاقى - بالفتح - ثم حصل العلم الاجماليّ بنجاسة المشتبه الباقي أو المفقود ، قام ملاقيه ) وهي اليد ( مقامه ) أي :

مقام المفقود ( في وجوب الاجتناب عنه وعن الباقي ) .

ص: 395

لأنّ أصالة الطّهارة في الملاقي - بالكسر - معارضة بأصالة الطهارة في المشتبه الاُخر ، لعدم جريان الأصل في المفقود حتّى يعارضه ، لما أشرنا إليه في الأمر الثالث : من عدم جريان الأصل فيما لا يبتلي به الملّكف ولا أثر له بالنسبة إليه .

-------------------

مثلاً : إذا كان هناك اناءان : أحدهما أبيض والآخر أحمر ولم يعلم بنجاسة أحدهما فلاقت يده الاناء الابيض فصب الاناء الأبيض في البحر وطهر الاناء ؛ وبعد ذلك علم اجمالاً بأن أحد الانائين إما الأبيض أو الأحمر كان نجسا فانّه يجب الاجتناب عن اليد وعن الاناء الأحمر ، لحصول العلم الاجمالي بين الملاقي - بالكسر - وبين طرف الملاقى وهو الاناء الأحمر .

وانّما يجب الاجتناب عنهما ( لأنّ أصالة الطّهارة في الملاقي - بالكسر - ) وهي اليد في المثال ( معارضة بأصالة الطهارة في المشتبه الاُخر ، لعدم جريان الأصل في المفقود حتّى يعارضه ) أي :يعارض جريان : الاصل في المشتبه الآخر، فانّ الاصل انّما يجري إذا كان له ثمر ، و لا ثمر لجريان الأصل في الاناء المفقود الذي صبّ في البحر ، وحيث لا يجري الأصل في المفقود قام الملاقي مقام المفقود في جريان الاصل فيه لكونه أصبح طرفا للعلم الاجمالي فيكون اصل الطهارة في اليد معارضا بأصل الطهارة في المشتبه الآخر ، فيجب الاجتناب عن اليد وعن المشتبه الآخر .

وانّما لا يعارضه ( لما اشرنا إليه في الامر الثالث : من عدم جريان الأصل فيما لايبتلي به المكلّف ) ومن المعلوم : أنّ الاناء المصبوب في البحر لايبتلى به المكلّف ( ولا اثر له ) اي لجريان الاصل في الطرف الذي صبّ في البحر ( بالنسبة إليه ) أي : الى المكلّف .

ص: 396

فمحصّلُ ما ذكرنا : أنّ العبرةَ في حكم الملاقي بكون أصالة طهارته سليمة أو معارضة .

ولو كان العلم الاجمالي قبل فقد الملاقى والملاقاة ، فَفُقِدَ ، فالظاهرُ طهارة الملاقي ووجوب الاجتناب عن صاحب الملاقى ، ولايخفى وجهه ،

-------------------

إذن : ( فمحصّلُ ما ذكرنا ) هناك هو : ( انّ العبرةَ في حكم الملاقي بكون أصالة طهارته سليمة ) عن المعارض كما في صورة بقاء المشتبهين ، فلا يجب الاجتناب عن الملاقي .

( أو معارضة ) بأصالة الطهارة في المشتبه الآخر كما في صورة فقد الملاقى - بالفتح - قبل العلم الاجمالي فيجري أصالة الطهارة في الملاقي وهي اليد ، وفي المشتبه الآخر وهو : طرف الملاقى فيتعارضان ويتساقطان فيجب الاجتناب عنهما للعلم الاجمالي بنجاسة أحدهما .

وكذلك الحال فيما إذا لاقت اليد اليمنى الاناء الابيض مثلاً ولاقت اليد اليسرى الاناء الاحمر ، فانه يتعارض الأصلان في اليدين فيتساقطان ويحكم بنجاسة الملاقيين ، كما كان يحكم بنجاسة الاصلين .

هذا لوكان فقد الملاقى - بالفتح - قبل العلم الاجمالي ( و) أما ( لو كان العلم الاجمالي ) بنجاسة احد الانائين ( قبل فقد الملاقى ) - بالفتح - ( والملاقاة ، فَفُقِدَ ) الملاقى - بالفتح - بعد ذلك بصبّه في البحر - مثلاً - ( فالظاهر : طهارة الملاقي ووجوب الاجتناب عن صاحب الملاقى ولايخفى وجهه ) أي : وجه طهارة الملاقي ووجوب الاجتناب عن المشتبه الآخر .

أمّا الحكم بوجوب الاجتناب عن المشتبه الآخر : فلأنّ وجوب الاجتناب عن طرفي الملاقى قد تنجّز قبل فقد الملاقى - بالفتح - فلا يرتفع بعد فقده لبقاء

ص: 397

فتأمل جيّدا .

-------------------

قاعدة الاشتغال بالنسبة إليه .

وأمّا الحكم بطهارة الملاقي - بالكسر - : فلأنّ وجوب اجتناب طرف الملاقى قبل فقد الملاقى - بالفتح - يوجب انحلال العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي تعبّدي بالنسبة إلى طرف الملاقى ، وشك بدوي بالنسبة إلى الملاقي - بالكسر - فتجري قاعدة الطهارة فيه .

( فتأمل جيّدا ) فانّ هذه المسائل مختلف فيها خصوصا ما ذكره : من كون الأصل في الشك السببي حاكم على الاصل المسبّبي فانه قد خالف فيه جماعة كما يظهر من المحقق القمّي في بعض كلماته وغيره ، وحيث ان تفصيل الكلام في هذه المباحث خارج عن مقصد الشرح نتركه إلى محله ، واللّه سبحانه العالم .

انتهى

الجزء الثامن ويليه الجزء

التاسع في تتمة المقام الأوّل في

تنبيهات المسألة الاُولى

وللّه الحمد

ص: 398

المحتويات

تتمّة المسألة الاُولى : عدم النص ... 5

تنبيهات

التنبيه الأوّل :... 25

التنبيه الثاني :... 26

رسالة الشارح في التسامح في أدلّة السنن ... 65

التنبيه الثالث :... 79

المسألة الثانية : اجمال اللفظ ... 93

المسألة الثالثة : تعارض النصّين ... 100

المسألة الرابعة : الاشتباه في موضوع الحكم ... 113

المطلب الثالث : دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ... 145

المسألة الاُولى : عدم الدليل ... 145

المسألة الثانية : اجمال الدليل ... 206

المسألة الثالثة : تعارض الأدلّة ... 207

المسألة الرابعة : اشتباه الموضوع ... 212

الموضع الثاني : الشك في المكلّف به ... 220

المطلب الأوّل : دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب ... 221

المسألة الاُولى : اشتباه الموضوع الخارجي ... 221

ص: 399

جواز ارتكاب الامرين ... 222

وجوب اجتناب الكل وعدمه ... 223

عدم جواز ارتكاب أطراف المحصورة ... 223

وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين ... 269

أدلّة مجوزين ارتكاب ما عدا مقدار الحرام ... 285

الدليل الأوّل : الأخبار ... 285

الدليل الثاني : الجمع بين الأخبار ... 294

تنبيهات

التنبيه الأوّل :... 323

التنبيه الثاني :... 339

التنبيه الثالث :... 353

التنبيه الرابع :... 373

المحتويات ... 399

ص: 400

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.