الوصائل الى الرسائل المجلد 7

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

ص: 4

إشارة

والمرادُ بالتفكّر ابتلاء الأنبياء عليهم السلام ، بأهل الوسوسة ، لا غير ذلك ، كما حكى اللّه عن الوليد بن المُغيرة : « إنّه فكَّر وَقَدَّرَ فقُتِلَ كَيفَ قَدَّرَ » ، فافهم .

-------------------

( والمراد بالتفكرّ : إبتلاء الأنبياء ) والأئمة عليهم السلام ( بأهل الوسوسة ) من الناس الذي يشككون في الأنبياء وفي دعوتهم ، وفي الأئمة الطاهرين والأولياء المقربين .

وعلى هذا ، فيكون معنى هذا الحديث هو ما ذكره الصدوق ( لا غير ذلك ) فان الانبياء معصومون ولا يكون فيهم شيء من الصفات السّيئة .

وأما ابتلاء الأنبياء بأهل الوسوسة : فهو (كما حكى اللّه عن الوليد بن المُغيرة) انه دخل مجلس قومه وقال : أتزعمون انّ مُحمّداً مجنونٌ وَلم يَرَ مِنهُ جنونٌ ، أو كاهِنٌ ولم يُحدّث كما يحدثه الكهنة ، أو شاعر ولم يَرَ منه الشعر ، أو كاذب وهو مشهور بالصدق والأمانة ؟ قالت قريش : فماذا نقول فيه فاخذ يفكر في الجواب ويقدر التهمة تقديراً كما قال عنه تعالى : ( « إنه فكّر وَقَدَّرَ » ) أي : انّه جعل نسبة الكذب إلى النبي تقديراً خاصاً ، وقال : إنّه ساحرٌ ، فتوعّده اللّه بالعذاب حيث قال سبحانه ( « فَقُتِلَ » ) أي : قَتَلَهُ اللّه ، وهذا من الدعاء على الوليد ، وليس معناه الأخبار ، وإنما معناه : التهديد بالموت والبوار ، ثم العقاب والعذاب على أنه ( « كيف قدّر »(1) ) (2) وهذا إظهار للتعجب منه بأنّه كيف استطاع ان يطعن النبي بما يُناسب أذهان السذج من الناس حيث قال : انّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ساحر .

( فافهم ) فان هذا التفسير الذي ذكره الصدوق وإنْ كان حسناً من جهة تنزيه

ص: 5


1- - سورة المدثر : الآيات 18 - 19 .
2- - الخصال : ص89 ح27 .

قد خرجنا في الكلام في النبوي الشريف عمّا يقتضيه وضعُ الرّسالة .

ومنها : قوله عليه السلام : « ما حَجَبَ اللّهُ عِلمَهُ عَن العِبادِ فَهُوَ مَوضوعٌ عَنهُم » .

فانّ المحجوب حرمةُ شرب التتن ، فهي موضوعة عن العباد .

وفيه : أنّ الظاهر ممّا حجبَ اللّهُ تعالى علمَهُ

-------------------

الأنبياء ، إلاّ انّه خلافُ ظاهر الرواية .

أقول : وقد ذكرنا سابقاً معنىً مناسباً للرواية لا يُنافي ظاهرها .

ثم انّ المصنّف قال : ( قد خرجنا في الكلام في النبوي الشريف عمّا يقتضيه وضع الرّسالة ) فانّ مقتضى هذه الرسالة : الاكتفاء بتحقيق فقرة : « رُفِعَ مَالا يَعلَمُون » لأنّها هي محل الكلام في انها هل تدل على البرائة ، أو لا تدل عليها أمّا ؟ سائر الفقرات فانّما ذكرناها إستطراداً .

( ومنها ) أي : من الروايات التي استدل بها للبرائة ( قوله عليه السلام : ما حَجَبَ اللّه ُ عِلْمَهُ عَنِ العِبادِ فَهُوَ موضوعٌ عَنهُم ) (1) ووجهُ تقريبُ الرّواية للدلالةِ على البرائة هو : ما ذكره المصنّف بقوله : ( فانّ المحجوب : حُرمَةُ شرب التتن ، فهي موضوعةٌ عن العباد ) وكذلك المحجوب : وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، فهو موضوع عن العباد ، هذا في الشُبهة الحكمية ، وكذا في الشبهة الموضوعية ، كما إذا كان حيوان لم نعرف انّه كلب أو شاة ، ولم يُؤدّ الفحص إلى نتيجة ، فهو موضوع عن العباد ، لأنّ اللّه حَجَبَ علمَه أي : علم كونه شاة أو كلباً .

( وفيه : انّ الظّاهر ممّا حجبَ اللّه ُ علمَه ) بقرينة نسبة الحُجب إلى اللّه سبحانه

ص: 6


1- - التوحيد : ص413 ح9 ، الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .

ما لم يبيّنه للعباد ، لا مابيّنه واختفى عليهم من معصية من عصى اللّه في كتمان الحق أو ستره ، فالرواية مساوقة لما وَرَدَ عن مولانا أمير

-------------------

وتعالى ( مالم يبّينه للعباد ، لا ما بيّنه واختفى عليهم من معصية من عصى اللّه في كتمان الحق أو ستره ) وتبديله الى الباطل ، إذ قد يكتم الانسان الحق ولا يبوح به وقد يُصادر الحقَ وينشر مكانه الباطل .

وعليه : فاذا كان اللّه هو الحاجب ، كان الحكم موضوعاً عنهم ، أمّا إذا بيّن اللّه سبحانه الحكم وإنّما لم يصل إلينا بسبب الاخفاء الصادر عن الأئمة عليهم السلام تقية ، أو بسبب انّ المخالفين أحرقوا الكتب ، وقتلوا الرواة ، وما أشبه ذلك ، فهو ليس ممّا حجبه اللّه ، وإنّما الحجب صار بسبب العصاة ومن أشبههم .

ثم الظاهر من الكتاب والسنة : انّ كل الأحكام قد بيّنها اللّه سبحانه وتعالى في القرآن الحكيم كما في قوله تعالى « اليَومُ أكمَلتُ لكُم دِينَكُم » (1) .

وكما في الرّواية المروية عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم في حَجة الوداع حيث قالَ : « مَامِنْ شَيءٍ يُقرِّبكُم من الجَنّةِ ، وَيُباعدكُم من النَار ، إلا وَقَدْ أَمرتكُم بهِ ، وَما مِنْ شيءٍ يُقرِّبكُم من النار وَيُباعدكُم من الجَنّةِ إلاّ وَقَد نهَيتُكُم عَنه » (2) .

هذا ، والنبي صلى اللّه عليه و آله وسلم قد بَين كثيراً من الأحكام للأوصياء من بعده ، لكنّ الناس حالوا دون إفادة الأوصياء تلك الأحكام .

وعليه : ( فالرّواية مُساوقة ) أي : مرادفةٌ في الدلالة ( لما ورد عن مولانا أمير

ص: 7


1- - سورة المائدة : الآية 3 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص74 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص45 ب12 ح21939 ، بحار الانوار : ج70 ص96 ب47 ح3 وقريب منه في أعلام الدين : ص342 ح31 ومستدرك الوسائل : ج13 ص27 ب10 ح14643 .

المؤمنين عليه السلام : « إنّ اللّهَ تعالى حَدَّ حُدُودا فلا تَعتَدُوها ، وفَرَضَ فَرائِضَ فلا تَعصُوها ، وسَكَتَّ عَن أشياءَ ، لم يَسكُت عَنها نِسيانا فَلا تتكلّفُوها ، رَحمَةً مِنَ اللّهِ لَكُم » .

-------------------

المؤمنين عليه السلام : إِنَّ اللّه تَعالى حَدَّ حُدوُداً فَلا تَعتَدوُها ، وَفَرضَ فَرائِضَ فَلا تَعصُوها ، وَسَكَتَ عَنْ أشياءَ ، لمْ يسكُت عَنها نِسياّناً ) بل سكت عنها مصلحةً (فَلا تَتَكَلفوُها) أي : لا تُسببّوا لأنفسكم المشقة في امتثالها ، وذلك ( رحمةً مِنَ اللّه ِ لكُم ) (1) أي : إن سكوته من جهة الرحمة عليكم حتى لا تقعوا في المشقة .

ولا يخفى : انّ جملة : « وضع عليه » معناها : أثبته عليه وكلفه به ، أمّا جملة « وضع عنه » فمعناها : رفع عنه ولم يكلفه به ، وفي الحديث : موضوع عنهم ، أي : مرفوع عنهم ، وقد تقدَّم منّا : الفرقُ بين الوَضع والرَّفع ، ، فلا داعي إلى تكراره .

لكن لا يبعد أنْ يكون الحديث دالاً على البرائة ، ولعلّ نسبة السكوت والحجب إلى اللّه تعالى يكون من جهة نسبة كلِّ شيء إليه حتى الاضلال ، فانّ الكفارَ والمخالفينَ حين لم يؤمنوا وأصروا على كفرهِم وخلافهم تركهم اللّه ليفعلوا ما شاءوا إمتحاناً لهُم ، وللأنبياء ، والأئمة ، والمؤمنين ، فمنعوا الأنبياء والأئمة والرواة : عن بيان الأحكام كما قال سبحانه : « فَردّوُا أَيديهُم فِي أَفواهِهِم»(2) ، وقوله تعالى : « وَكَذلكَ جَعَلنا لِكُلّ نَبي عَدوّاً شَياطِينَ الإنسِ والجِنّ»(3) الى غير ذلك .

ويؤيد هذا المعنى انه لو لم يبّين اللّه حكماً لم يكلف الناس بذلك الحكم

ص: 8


1- - غوالي اللئالي: ج3 ص548 ح15، وسائل الشيعة: ج27 ص175 ب12 ح33531، من لا يحضره الفقيه: ج4 ص74 ب12 ح5149، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج18 ص267 ب102 بالمعنى.
2- - سورة ابراهيم : الآية 9 .
3- - سورة الانعام : الآية 112 .

...

-------------------

فهو يكون تأكيداً لا تأسيساً - ويكون الحكم تأكيداً إن قالَ بهِ العقل ، وتأسيساً انْ تفرد به الشرع - .

ومن المعلوم : انّ التأسيس هو مقتصى الكلام لا التأكيد إلاّ إذا كان قرينةً على التأكيد ، ولا قرينة في المقام .

ثم ان معنى كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام هو : انّ اللّه قد جعل لكلّ من البيع ، والرّهن ، والنكاح ، وغيرها من الاُمور حدوداً وشرائط ، فلا يصح التعدي عن تلك الحدود .

مثلاً : حكم اللّه تعالى : انّه يلزم عدم مجهولية العوضين في البيع ، وعدم مجهولية الزوجين في النكاح ، وهكذا في سائر المعاملات ، فانّ لها شرائط اذا تعدّاها الانسان وقعت منه باطلة غير صحيحة .

كما فرض اللّه الصلاة والصيام والحَج ، والزكاة ، ونحوها من العبادات وجعل لها حدوداً وشرائط ، فلا يجوز للانسان عصيانها وتركها ، أو الزيادة والنقيصة فيها بما يوجب بطلانها .

كما انّ اللّه سَكَتَ عن وقتِ القيامة ، ووَقت ظهور المهدي عجل اللّه تعالى فرجه ، وسكت عن بيان إنّ إبراهيم أفضل أم نوح ، إلى غير ذلك ، فالذي ينبغي للانسان هو أن لا يتكلَّف معرفة وقت ظهور أو القيامة أو فضيلة هذا على ذاك ، أو ذاك على هذا ، وهكذا .

ولا يخفى : انَّ هناكَ فرقاً بين حديث الحجب ، وحديث علي أمير المؤمنين عليه السلام فان الثاني - بعد بيان الجملتين : من الفرائض والحدود - لا يفيد إلاّ سكوته تعالى عن الاشياء الخارجة عن الأحكام ، وليس عن الأحكام ، فانّ

ص: 9

ومنها : قوله عليه السلام : « الناسُ في سَعَة ما لا يَعلَمُوا » .

فانّ كلمة « ما » إمّا موصولة اضيف إليها السعة وإمّا مصدريّة ظرفيّة ، وعلى التقديرين يثبت المطلوب .

وفيه : ما تقدّم في الآيات

-------------------

الأحكام قد بينها ، بخلاف حديث الحجب ، فليس فيه هذه القرينة ، فيشتمل الأحكام أيضاً ، ولهذا لا نرى بأساً بالاستدلال بحديث الحجب على البرائة ، كما استدل به كثير من الاصوليين ( ومنها ) أي : من الروايات التي استدل بها للبرائة (قوله عليه السلام : « النّاسُ فِي سَعَةِ مَالا يَعلَموُا » (1) وفي قرائة هذه الجملة إحتمالان أشار اليهما المصنّف بقوله : ( فانّ كلمة « ما » امّا موصولة أضيف إليها السّعة) فيكون معناه : الناسُ في سعةِ الحكم الذي لا يعلمونَه ، أو المراد : ب- « ما » أعم من الحكم والموضوع ، أي : في سعة الشيء الذي لا يعلمونه موضوعاً كان أو حكماً ، ولايخفى : انّ هذا المعنى أنسب بالحديث لأنّه مقتضى الاطلاق .

( وإمّا مصدرية ظرفية ) فتكون « ما » بمعنى : « ما دام » ، ويكون التقدير : الناس في سعةٍ - بالتنوين - ما دام لا يعلمون ، وحيث حُذِفَ متعلق لا يعلمون ، وحذفُ المتَعلّق يُفيدُ العموم ، يكون أعم من الحكم والموضوع .

( وعلى التقديرين يثبت المطلوب ) وهو : انّه لا حرمةَ على الانسان ولا وجوبَ فيما إذا كان الشك في الشيء من الشك البدوي غير المقرون بالعلم الاجمالي . ( وفيه : ) انّه لا يدل على البرائة وذلك لأجل ( ما تقدّم في الآيات :

ص: 10


1- - مستدرك الوسائل : ج18 ص20 ب12 ح21886 ، غوالي اللئالي : ج1 ص424 ح109 وقريب منه في المحاسن : ص452 ح365 والكافي فروع : ج6 ص297 ح2 وتهذيب الاحكام : ج9 ص99 ب4 ح167 ووسائل الشيعة : ج3 ص493 ب50 ح4270 .

من أنّ الاخباريين لا ينكرون عدم وجوب الاحتياط على من لم يعمل بوجوب الاحتياط من العقل والنقل بعد التأمّل والتتبّع .

ومنها : رواية عبد الأعلى عن الصادق عليه السلام : « قال : سألتُهُ عَمَّن لم يَعرِف شَيئا ، هَل عَلَيهِ شَيء ؟ قال : لا » .

بناءا على أنّ المراد بالشيء الأوّل

-------------------

من أنّ الاخباريين لا ينكرون عدم وجوب الاحتياط على من لم يعمل بوجوب الاحتياط من العقل والنقل ) بشرط انْ يكون عدم علمه ( بعد التأمّل والتتبّع ) بل إنهم يدّعون : انهم يعلمون بوجوب الاحتياط بدليل العقل والنقل ، فلا يكون مَورد الاحتياط ممّا لا يعلمون .

نعم ، دليلُ الأخباريين انْ تَمَّ لم يكن الخبر دالاً على البرائة ، لأَنّ دليل الأخباريين وارد ، على هذا الخبر ، لكن دليلهم لا يتم - كما سيأتي - فهذا الخبر يكون دالاًّ على البرائة في الشبهة الموضوعيّة والحكميّة ، والتكليفيّة والوضعيّة ، تحريميّة كانت أو وجوبيّة .

( ومنها ) أي : من الروايات التي استدل بها للبرائة ( رواية عَبد الأَعلى عن الصّادق عليه السلام قال : سألتُه عَمَّنْ لَم يَعرِف شيئاً ، هَلْ عَلَيهِ شَيء؟ قال : لا )(1)

ولا يخفى : انّ «شيء» في آخر السؤال يشمل ، العقاب والاستحقاق ، والاعادة ، والقضاء ، والكفارة ، والحَدّ ، وغير ذلك للاطلاق ، فاللازم أن لا يكون عليه شيء إذا كان غير العالم بأن لم يعرف شيئاً .

وكيف كان : فهذا الحديث من أدلة البرائة ( بناءاً على أنّ المراد بالشيء الأوّل :

ص: 11


1- - الكافي ( اصول ) : ج1 ص164 ح2 .

فرد معيّن مفروض في الخارج حتّى لا يفيد العموم في النفي ، فيكون المراد : هل عليه شيء في خصوص ذلك الشيء المجهول ، وأمّا بناءا على إرادة العموم ، فظاهرُه السؤال عن القاصر الذي لا يدرك شيئا .

ومنها : قوله عليه السلام : « أيّما امرء رَكب

-------------------

فرد ) أي : شيء ( معين مفروض في الخارج ) يعني : انه سَأل عما إذا لم يعلم الانسان - مثلاً - وجوب الجمعة ، أو حرمة التتن ، هل عليه شيء من الوجوب والحرمة ؟ فقال عليه السلام : لا ، لا شيء عليه ، ممّا يدلُ على البرائة .

هذا إذا أخذنا : « لم يعرف شيئاً » بمعنى الفرد ( حتى لا يفيد العموم في النفي ) يعني : انّه لا يعرف شيئاً خاصاً ، لا انّه لا يعرف شيئاً أصلاً ( فيكون المُراد : هل عليه شيء في خصوص ذلك الشيء المجهول؟ ) فقال عليه السلام : لا .

( وأمّا بناءاً على إرادة العموم ) من قوله : « لم يعرف شيئاً » لانه نكرةٌ في سياق النَفي ، والنكرة في سياق النفي تُفيد العُموم ( فظاهره ) إنّما هو ( السؤال عن القاصر الذي ) يعيش في كهوف الجبالِ ، أو منقطع من الأرض ، أو جزيرة نائية ، فهو ( لا يدرك شيئاً ) من الأحكام ، فلا يكون الحديث دالاً على البرائة .

لكن يُمكن أن يُقال : انّه على العموم أيضاً يدلّ على البرائة ، فانّ مَن لا يعرف شيئاً إطلاقاً ملاكه يأتي فيمن لا يعرف شيئاً بالخصوص ، وبذلك يظهر وجهُ النظر في قولِ الأوثق حيث قال : « انّما لم يتعرّض المصنّف لرد هذه الرواية لوضوح ضَعفِ دلالتِها ، لعدم دلالتها على البرائةِ سواء اُريد بالشيء : شيء معين ، أو غير معين » .

( وَمنها : ) أي : من الروايات التي استدل بها للبرائة ( قوله عليه السلام : أيّما امرءٍ رَكِبَ

ص: 12

أمرا بِجَهالَةٍ فلا شَيء عَلَيهِ » .

وفيه : أنّ الظاهِرَ من الرواية ونظائرها من قولك : « فلانٌ عَمِلَ كذا بجهالة » ، هو اعتقادُ الصواب أو الغفلة عن الواقع ، فلا يعمّ صورة التردّد في كون فعله صوابا أو خطأ .

-------------------

أمراً بجَهالةٍ فلا شيء عَليهِ ) (1) ذكره الإمام عليه السلام في باب الحَج فيمن حَج مُحرماً في ثوب مخيط ، لكنّه من باب المورد فلا يخصص الوارد ، بل هوَ عامٌ يشمل الشُبهة الوجوبية والتَحريمية ، والحكمية والموضوعيّة ، فيكون من أدلة البرائة .

لكنّ المصنّف حيث لم يرتَضِ بدلالةِ هذه الرواية على البرائة ، أَشكَلَ على دلالتها بقوله : ( وفيه : انّ الظّاهر من الرّواية ونظائرها من قولكَ : فلانٌ عَمِل كذا بجهالة ، هو : إعتقاد الصّواب ) في عمله بأن يكون جَهلاً مُركَباً ، ( أو الغفلة عن الواقع ) بأنْ كان غافلاً غفلةً مُطلقَة ( فلا يَعّم صورة ) الجهل البسيط المقترن بالشك و ( التردد في كون فعله صواباً أو خطأً ) .

فانّ الجاهل قد يكون غافلاً محضاً ، وقد يكون جاهلاً مركباً ، وقد يكون جاهلاً بسيطاً ، والأولان لَيسا من محل الكلام ، وانّما الثالث هو محلِ البَحث في البرائة لكن حيث يرى المصنّف انّ هذه الرواية ظاهرةٌ في الأولين لا في الأخير الذي هو محل البحث أخرج الرواية عن الدلالة على البرائة فيما نحن فيه .

وربّما إستُدِلَ للمصنّف بأنّ سببية الغفلة والجَهل المركب أقوى للارتكاب من سببية الجهل البسيط للإرتكاب ، إذ الشاك كثيراً ما يَخاف من الارتكاب بخلاف

ص: 13


1- - تهذيب الاحكام : ج5 ص72 ب1 ح47 وفيه أي رجل ، وسائل الشيعة : ج8 ص248 ب30 ح10558 و ج12 ص489 ب45 ح16861 .

ويؤيّده أنّ تعميمَ الجهالة بصورة التردّد ، يُحوِجُ الكلامَ إلى التخصيص بالشاكّ الغير المقصّر ، وسياقه يأبى عن التخصيص ، فتأمّل .

-------------------

الغافل والجاهل المركب .

لكنّ هذا لا يتمكن أن يُخصص عُموم الرواية بالأولين فقط حتى وان قال المصنّف : ( ويؤيّده ) أي : يؤيد التخصيص الذي إستظهرناه من الرواية ( : انّ تعميمَ الجهالة ) في الرواية ( بصورة التردد ، يُحوجُ الكلامَ إلى التّخصيص بالشاك غير المقصِّر ) لوضوح انّ المقصِّر في الفحص غير معذور . ويدل عليه ما في الحديث من انّه يقال في القيامة لغير العامل المعتذر بعدم العلم : « هَلاّ تَعَلَمْتَ » (1) كما وَرَدَ ذلك في تفسير قوله سبحانه : « وَقِفوهُم إنَّهُم مَسئولوُن » (2) .

( وسياقه ) أي : وسياق هذا الخبر ( يأبى عن التخصيص ) فقد ذكرَ بَعضٌ وجهُ الاباء : بأنّ الخبر ظاهرٌ في أنّ الجهالة عِلّةٌ للمعذورية ، وحينئذٍ كلّما وُجدَت الجَهالة ، كانت عذراً سواء كانتْ عن قصور أو تقصير .

( فتأمّل ) وكأنّ في التأمّل هذا اشارة الى وجود إشكالين في الكلام :

الأوّل : انّه من أينَ إباؤه عن التخصيص؟ بل ربّما يُقال : انّ ظاهره : الجاهل القاصر ، فهو مثل : « ما لا يَعلَمُون » المنصرف إمّا إلى القاصر ، أو يكون أعم ، لكنْ يخُصَص بالقاصر حسبَ الأدلةِ الاخَر ، الدالة على انّ المقصِّر غير معذور .

الثاني : انه لو خُصِّص الحديث بالغافل والجاهل المركب ، كانَ مخصّصاً أيضاً بما إذا لم تكن الغفلة والجهل المركب عن تقصير ، وإلاّ لم يكن معذوراً ، وذلك على ما هو بناؤهم في الكلام والفقه والاصول .

ص: 14


1- - انظر الامالي للمفيد : ص292 .
2- - سورة الصافات : الآية 24 .

ومنها : قوله عليه السلام « إنّ اللّه تَعالى يَحتَجُّ على العِباد بما آتاهم وعرّفهم » .

وفيه : أنّ مدلوله ، كما عرفتَ في الآيات وغير واحد من الأخبار ، ممّا لا ينكره الأخباريّون .

ومنها : قوله عليه السلام في مُرسلَةِ الفقيه :

-------------------

( ومنها ) أي : من الروايات التي استدل بها للبرائة ( قوله عليه السلام : إنّ اللّه تعالى يَحتَجُّ على العِبادِ بما آتاهُم وَعَرّفَهُم ) (1) بتقريب : انّ حكم التتن المجهول وحكم الدّعاء عند رؤية الهلال المجهول ، ليس ممّا أعطى اللّه علمه للعباد ، وإلاّ لم يكن مجهولاً لهم .

هذا ، ولكنّ المصنّف لم يَرتَض دلالة هذه الرواية فاشكل على دلالتها قائلاً : ( وفيه : أنّ مدلوله ، كما عرفت في الآيات وغير واحد من الأخبار : ممّا لا ينكره الاخباريون ) فانهم يدّعون العلم بالحكم الشرعي في مثل التتن ، والدعاء عند رؤية الهلال ، وهو : وجوب الاحتياط ، وحيث علموا فللّه عليهم حُجة ، لأنّه قد آتاهم وعرّفهم وجوب الاحتياط .

لكن الجواب عن هذا الاشكال هو : إنّ أدلة الأخباريين لا تقوم حُجّة على وجوب الاحتياط كما قرر في محله ، فدلالة هذه الرواية على البرائة أيضاً لا غُبار عليها .

( ومنها : ) أي : من الروايات التي استدل بها للبرائة ( قوله عليه السلام في ) روايةٍ ( مُرسَلةٍ ) منقُولَةٍ في كتاب من لا يحضره ( الفقيه ) والرواية وان كانت مُرسلة لكنّها مّما يعتمد عليها ، لأن الصدوق ضَمَنَ حُجيّة ما في كتابه هذا ، وقوله عليه السلام

ص: 15


1- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح4 .

« كلُّ شيء مُطلَقٌ حَتّى يَرِدَ فِيهِ نَهيٌ ».

استدلّ به الصدوق قدس سره على جواز القنوت بالفارسيّة واستند إليه في أماليه حيث جعل إباحة الأشياء حتّى يثبتَ الحَظرُ مِن دين الاماميّة .

ودلالته على المطلب أوضح من الكلّ .

-------------------

بحسب هذه الرواية هو : ( كُلُّ شيءٍ مُطلقٌ حَتى يَرِدَ فِيه نَهيٌ ) (1) ومعنى المطلق انه غير موقوف فإذا شَكَ الانسان في ان التتن مطلق أو منهي عنه ، كان مقتضى القاعدة انّه مُطلق وليس بمنهي عنه ، وكذا بالنسبة إلى ترك الدعاء عنه رؤية الهلال .

هذا ، وقد ( استدلّ به ) أي : بهذا الحديث ( الصدوق قدس سره على جواز القنوت بالفارسيّة ) لأنه قال : حيث لم يرد بالنسبة الى القنوت بالفارسية نهي فهو اذن جائزٌ كما ( واستند إليه في أماليه حيث جعل إباحة الأشياء حتّى يثبت الحَظرُ من دين الاماميّة ) أي : إنّ الصدوق في كتاب أماليه جَعَلَ من دين الإمامية كون الأصل في الأشياء : الاباحة حتى يثبت المنع ، ومستندُه في ذلك هذا الخبر فكلّما شكَ في شيء انّه جائز أو محظور ، جاز للإنسان إرتكابه .

( ودلالته ) أي : دلالة هذا الخبر ( على المطلب ) أي : على الاباحة في الشبهة التحريميّة ، وانّه لا يجب الاحتياط فيها عند المصنّف ( أوضح من الكُلّ ) أي : من كل الروايات المتقدّمة .

ص: 16


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

وظاهره عدم وجوب الاحتياط ، لانّ الظاهر إرادة ورود النهي في الشيء من حيث هو ، لا من حيث كونه مجهول الحكم .

-------------------

( و ) ذلك لأنك قد عرفتَ ما أشكله المصنّف عليها وان كُنا لم نَرَ فِيها شيئاً من الاشكالات المذكورة ، وقد ألمعنا إلى الجواب عنها عند كُلِ روايةٍ رواية .

وعلى كُلِ حالٍ ، فالمصنف : على انّ هذه الرواية أوضحُ دلالةً من كلّ الروايات المتقدمة إذ ( ظاهره : عدم وجوب الاحتياط ، لأنّ الظاهر إرادة ورود النهي في الشيء من حيث هو ، لا من حيث كونه مجهول الحكم ) فإنّ الحديث يدلُ على انّ الاشياء بذاتها مباح قبل ورود النهي من الشارع ووصول ذلك النهي إلى المكلّف وحيث لم يرد في التتن - مثلاً - نهيٌ ولم يصل إلى المكلّف حرمته فهو مُباحٌ .

هذا ، وفي بعض نُسخ الحديث « حَتى يرد فيه أمرٌ أو نهي » فيكون أوضح دلالة على الشبهة التحريميّة والوجوبية معاً .

وعلى كل حال : فالظاهر ان التتن - مثلاً - بحسب هذا الحديث مطلق ومباح بذاته ، لا انّه مطلق ومباح من حيث كونه مجهول الحكم ، وأدلة الاحتياط تحكم بوجوب الاحتياط في مجهول الحكم ، فيقع التعارض بين أدلة الاحتياط وهذا الحديث ، إذا أدلة الاحتياط تقول : مجهول الحكم يحتاط فيه ، وهذا الحديث يقول : ذات الشيء مُباح ، وذات الشيء مُباح ، أعمُّ من كونهِ مجهول الحكم أو غير مجهول ، فيقع التعارض في مجهول الحكم فهو مثل أن يقول : الحيوان نام ، ويقول : الانسان ليس بنام ، إذ يقع التعارض بينهما في الانسان .

ص: 17

فان تمّ ما سيأتي من أدلّة الاحتياط دلالةً وسندا ، وجَبَ ملاحظةُ التعارض بينها وبين هذه الرواية وأمثالها ممّا يدلّ على عدم وجوب الاحتياط ، ثمّ الرجوع إلى ما يقتضيه قاعدةُ التعارض .

وقد يحتجّ بصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج : « فيمن تزوّج امرأة في عدّتها اَهيَ لا تحَلُّ لَهُ أبدا قال : أمّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعد ما ينقضي عدّتها ،

-------------------

وعليه : ( فان تَمَّ ما سيأتي من أدلة الاحتياط دلالةً وسنداً ، وجَبَ ملاحظة التعارض بينها ) أي : بين أدلة الاحتياط ( وبين هذه الرّواية وأمثالها ممّا يدلّ على عدم وجوب الاحتياط ) في مجهول الحكم لما عرفت : من انّ أدلة الاحتياط تدلُ على حرمة الشيء من حيث كونه مجهول الحكم ، وهذه الرواية تدلُ على عدم وجوب الاحتياط ، إذ ذات كلُ شيء مباح سواء كان مجهول الحكم أو لم يكن مجهول الحكم ، فمجهول الحكم يكون مورد التعارض .

( ثم ) اذا تعارض الدليلان لزم ( الرجوع إلى ما يقتضيه قاعدة التعارض ) من الترجيح لهذا الجانب أو ذاك الجانب ، وإذا لم يكن مرجح في البين جرى التخيير بينهما ، فتكون النتيجة : عدم وجوب الاحتياط لأن التخيير بين الاحتياط وعدمه معناه : ان للمكلّف أن لا يحتاط وعدمه معناه . ان للمكلّف أن لايحتاط .

( وقد يحتج ) للبرائة في الشبهة التحريميّة ( بصحيحةِ عبد الرّحمن بن الحجّاح فيمن تزوّج إمرأة في عِدَتِها أَهِيَ لا تَحلُّ لَهُ أبداً؟ ) أي : انّها محرمةٌ عليه تَحريماً أبدياً ، حتى انّه إذا إنقضت عدتها أيضاً تكون محرّمة ولا يجوز له أن يأخذها ويتزوج بها ؟ ( قال : أمّا إذا كان بجهالة فليزوّجها ) أي : فيجوز لَهُ نكاحَها ولا تكون عليه محرمة أبداً وذلك ( بعد ما ينقضي عدّتها ) ثم انه عليه السلام بَيّنَ وجه

ص: 18

فقد يعذر الناسُ في الجهالة بما هو أعظمُ من ذلك ، قُلتُ : بأيّ الجهالتين أعذر ، بجهالته أنّ ذلك محرّم عليه ، أم بجهالته أنها في عدّة؟ قال : إحدى الجهالتين أهونُ من الاُخرى ، الجهالة بأن اللّه تعالى حرّمَ عليه ذلك . وذلك لأنّه لا يقدر معها على الاحتياط .

-------------------

جواز النكاح في العِدة قائلاً : ( فقد يعذر النّاس في الجَهالة بِما هُو أعظمُ مِنْ ذلك ) أي : بجهالةٍ أعظمُ من جَهالة أنّ المرأة في العِدة وأنّ النكاح محرّم في العِدة ، فإنَّ قَتْلَ المؤمن خَطأ ، ونكاح ذاتِ البَعل خطأً والكفُر خطأً ، وغير ذلك ، معذور فيها ، فانّ القاتل في المثال لايُقتَل ، والنكاح في المثال لا يُحَد ، والذي كَفَر خَطأً لا يُجري عَليه أحكام الكُفر : من إنفصال زوجته ، وتقسيم ماله ، ووجوب قتلِه .

قال : ( قُلتُ ) يا سيدي ( بأي الجهالتين اُعذر؟ ) أي : أكثر معذورية فهو من باب التفضيل ( بجهالته انّ ذلك ) أي : النكاح في العدة ( محرّم عليه ) وهو الجهل بالحكم ( أم بجهالته أنّها في عدّة ) وهو الجهل بالموضوع ؟ .

( قال : إحدى الجهالتين أهون من الاُخرى ) أي : انّ الرجل معذور في كِلتا الجَهالتين ، لكنْ إحداهما أَهونُ من الاُخرى .

ثم إنّه بَيّن أهون الجهالتين بقوله عليه السلام : ( الجهالة بأنَّ اللّه َ تعالى حَرّمَ عَليهِ ذلك ) أهون ، فهو بهذه الجهالة الحكمية أعذر ، من الجهالة بانّها في العِدة ، أي : من الجَهالة الموضوعية .

( وذلك ) أي : وجه كون الجهالة بالحكم أهونُ ( لأنّه ) أي : لأنّ هذا الجاهل بالحكم ( لا يقدر معها ) أي : مع هذه الجهالة ( على الاحتياط ) فإنّ الانسان إذا لم يَعلم إنّ البول نجس - مثلاً - لا يتمكن من الفحص والاجتناب ، لفرض انّه غافل عن حكم البول ، ومن الواضح : انّ الغافل لا تكليف عليه امّا انّه اذا علم ان البول

ص: 19

قلت : فهو في الاُخرى معذور ، قال عليه السلام : نعم ، إذا إنقضت عدّتها فهو معذور في أن يزوّجها » .

-------------------

نجس فهو يتمكن أن يجتنب عن كل رطوبة إحتياطاً ، لعلمه بأنّ إحدى هذه الرطوبات - مثلاً - نجسة حتى ولو كانَ بعضها خارجاً عن مقدوره ، أو عن محلِ ابتلائهِ ، أو كان مُضطراً إليها ، أوما أشبهَ ذلك ، فانّه يتمكن من اجتنابها إحتياطاً ، فالاحتياط هو فرع العلم ، فاذا فقد العلم إنتفى الاحتياط معه .

قال : ( قلت فهو في الاُخرى ) أي : في الجَهالة بأنّها في العِدّة ، وهو الجهل الموضوعي ( معذور ) أيضاً ، كما كان معذوراً في الجهل الحكمي ؟ ( قال عليه السلام : نعم ، إذا إنقضت عدّتها فهو معذور في أن يزوّجها ) (1) .

ونُمثل لذلكَ بمثال خارجي وهو : إنّ الانسان اذا كان غافلاً كون الحَيّة سامةٌ ، فهو لا يتمكن من الاجتناب عنها ، أما إذا علم بأن الحيّة سامةُ لكنّه لا يعلم ان الحية ما هي من الحيوانات ، فانّه يتمكن من الاجتناب عن كل حيوان وإن كان غافلا عن إنّ هذا الحيوان الذي يراه هي حية أم لا ؟ .

وظاهر هذا الحديث هو : الجَهل بأنّ المعتدّة محرّمة ، والجهل بأنّ هذه المرأة في العِدّة ، وكلا الجهلين شايع خصوصاً في الناس الذين يسكنون القرى والأرياف البعيدةِ عن أهل العلم بل رأينا بَعضاً يجهلون حرمة الجمع بين الاختين ، وزواج الخامسة ، والجمع بين ام الزوجة وبنتها ، حرمة تمتع المرأة التي لها زوج وغير ذلك من محرمات النكاح بل قد رأينا بعضهم قد تزوجوا كذلك حتى إذا نبهوا تركوا .

ص: 20


1- - الكافي فروع : ج5 ص427 ح3 ، نوادر القمّي : ص110 ح271 .

وفيه : أنّ الجهلَ بكونها في العِدّة إن كان مع العلم بالعدّة في الجملة ، والشكّ في إنقضائها ، فان كان الشكّ في أصل الانقضاء مع العلم بمقدارها ، فهو شبهة في الموضوع خارج عمّا نحن فيه ، مع أنّ مقتضى الاستصحاب المركوز في الأذهان عدم الجواز .

-------------------

( وفيه : ) انّه لا يمكن الاستدلال بهذا الخبر على المطلوب وهو : البرائة في الشبهة الحكميّة التحريميّة ، كالبرائة عن حرمة تزويج المعتَدَّة ، وعدم استحقاق العقاب على هذا التزويج الذي أراد الاُصوليّون الاستدلال به على البرائةِ مُطلقاً ، وذلك ( انّ الجَهل بكونها في العِدّة ) بأن كان الزوج جاهلاً بانّ هذه المرأة في العِدة وتزوجها ، له اقسام اربعة :

القسم الأوّل : ( ان كان مع العلم بالعدّة ) اي : ان الزوج كان يعلم الحكم بأن المعتدة يحرم تزويجها ، وكان يعلم الموضوع أيضاً بان المرأة في العدة ( في الجملة ، و ) انّما كان ( الشّك في انقضائها ) أي : في إنقضاء العدة عنها ( فإن كان الشّكّ في أصل الانقضاء مع العلم بمقدارها ) بأنْ عَلِمَ مثلاً : انّ العِدة ثلاثة أشهر ، لكنّه لا يعلم هل انها انقضت او لم تنقض بعد ؟ .

ففي دلالة الخبر على البرائة في هذا القسم وهو القسم الأوّل إشكالان :

الاشكال الاول : ( فهو شبهة في الموضوع خارج عَمّا نحنُ فيه ) لأنّه يكون الخبر دالاً على المَعذوريةِ في الشبهة الموضوعية ، ولا يستلزم من ذلك ، المعذورية في الشبهة الحكمية التي كلامنا فيها الآن أيضاً .

الاشكال الثاني : ( مع إنّ مقتضى الاستصحاب المركوز في الأذهان : عدم الجواز ) لأنّ الانسان إذا عَلِمَ بأنّ المرأة في العِدة ولم يعلم إنقضائها ، يلزم عليه الاستصحاب ولا يجوز له التزويج بها ، فلا يكون حينئذ معذوراً .

ص: 21

ومنه يعلم أنّه لو كان الشكّ في مقدار العدّة فهو شبهة حكميّة قصّر في السؤال عنها ، فهو ليس معذورا إتفاقا ، لأصالة بقاء العِدّة وأحكامها ، بل في رواية اُخرى أنّه : « إذا عَلِمَت أنّ عليها العِدّةَ لَزِمَتها الحُجَةُ » ،

-------------------

الثاني : ( ومنه ) أي : من القسم الأوّل وهو : المؤاخذة بهذا التزويج - الذي هو شبهة موضوعية لوجود الاستصحاب في بقاء العدّة ( يعلم انّه لو كان الشّكّ في مقدار العدّة ) بأن لم يكن يعلم هل انّ العِدة ثلاثة أشهر أو شهران ؟ ( فهو شبهة حكميّة قصّر في السّؤال عنها ، فهو ليس معذوراً إتفاقاً ) بين العُلماء وذلك لأمرين :

الأمر الأوّل : انه قصرّ في السؤال عن مقدار العِدة ، لان مقدار العدة ممّا يرتبط بالشارع ، فهو من الشبهة الحكميّة ، والشبهة الحكميّة لا يجوز إرتكابها إتفاقاً إلاّ بعد الفحص والسؤال حتى اليأس ، وكل تقصير في ذلك يُوجب عدم المعذورية .

الأمر الثاني : ( لأصالة بقاء العِدّة وأحكامها ) من حرمة التزويج وغير ذلك عند الشك في أنّ العدة شهران أو ثلاثة ؟ وذلك للاستصحاب ( بل في رواية أخرى ، انّه : إذا عَلَمت ) المرأة ( انّ عليها العِدّة لزمتها الحُجّة ) (1) أي : لم يكن لها عذر في التزويج عند علمها بالعدة والشك في مقدارها أو في إنقضاء ذلك المقدار .

وذلك لبقاء العدة بالاستصحاب ، وحيث لا فرق بين الرجل والمرأة في ذلك ، كان اللازم القول بعدم معذورية الرّجل إذا علم ان على المرأة العدة ومع ذلك تزوجها .

ص: 22


1- - الكافي فروع : ج7 ص192 ح2 ، وسائل الشيعة : ج28 ص127 ب27 ح34385 .

فالمراد من المعذوريّة ، عدم حرمتها عليه مؤيّدا لا من حيث المؤاخذة .

ويشهد له أيضا قوله عليه السلام بعد قوله : « نعم إذا انقضت عدّتها » فهو مَعذورٌ في أن يزوّجها .

وكذا مع الجهل بأصل العِدّة ،

-------------------

وعلى هذا : ( فالمراد من المعذوريّة ) عند الجهل بالِعدة التي ذكرها الإمام عليه السلام هو ( : عدم حرمتها عليه مؤبّداً ) وهذا حكم وضعي لا يرتبط بما نحن فيه ، فالحديث ( لا ) يدل على المطلوب الذي هو إثبات البرائة والمعذورية ( من حيث المؤاخَذة ) والحكم التكليفي ، فانّ - مطلوب الاصوليين : إثبات البرائة المعذورية للشاك ، بينما الحديث يثبت عدم الحرمة الأبدية ، فلا يكون دليلاً على البرائة .

( ويشهدُ لَهُ ) أي : لِما ذكرناهُ : من انّ المراد مِنَ المعذورية هنا : الحُكم الوَضعي ، لا الحُكم التكليفي ( أيضاً ) أي : بالاضافة إلى شهادة الرواية المتقدمة على عدم المعذورية في الحكم التكليفي وهي : « انّه اذا علمت انّ عليها العدة لزمتها الحجة » ( قوله عليه السلام بعد قوله : نعم ) فانه يشهد لما ذكرناه انّه عليه السلام قال ( :إذا انقضت عدّتها ، فَهوَ معذورٌ في أن يزوّجها ) (1) ممّا يدلُ على انّ الكلام في المعذورية بالنسبة للحكم الوضعي ، لا المعذورية بالنسبة للحكم التكليفي والبرائة .

القسم الثالث : ( وكذا ) لا يعذر الرجل المتزوج للمرأة في العدة كما لم يكن المتزوج في القسم الثاني معذوراً ، لو تزوّجها ( مع الجهل بأصل العدّة ) بأن لم يكن الرجل هنا في القسم الثالث يعلم : انّ على المرأة عدّة يحرم التزويج بها

ص: 23


1- - الكافي فروع : ج5 ص427 ح3 ، نوادر القمي : ص110 ح271 .

لوجوب الفَحص وأصالة عدم تأثير العقد ، خصوصا مع وضوح الحكم بين المسلمين الكاشف عن تقصير الجاهل .

هذا إن كان ملتفتا شاكّا ،

-------------------

في العِدة وتزوجها ، وإنّما لا يعذر لوجهين :

الوجه الأوّل : ( لوجوب الفَحص ) في الشبهة الحُكمية ، والمفروض ان الشبهة حكمية في المقام .

الوجه الثاني : ( وأصالة عدم تأثير العقد ) فانّ المرأة كانت محرّمة عليه ، اذا عَقَدَ عليها يشك في انّ هذا العقد هل أثَّرَ في الاباحة أو لم يُؤثر ؟ الأَصلُ : عدم التأثير في إباحتها عليه وبقائها أجنبية عنه .

ثم انه كيف يصح معذورية الجاهل بالحكم ( خصوصاً مع وضوح الحكم بين المسلمين ) فانهّم يعلمون ان التزويج في العِدة حرام ( الكاشف عن تقصير الجاهل ) في السؤال ؟ .

وهذا مؤيد آخر يؤيد انّ الرواية في صَدَد معذورية الجَاهل من حيث الحرمة الأبدية والحكم الوضعي ، لامن حيث المؤاخذة والحرمة التي هي حُكم تكليفي ، فلا تكون الرواية دليلاً على البرائة حتى يستشهد بها الاصوليّون .

ولا يخفى : انَّ (هذا) الذي ذكرناه في الأقسام الثلاثة من الجهل بالعدّة ، وقلنا : بعدم صَحة حمل الرواية فيها على المعذورية من حيث المؤاخذة فانّه مؤاخذ ومستحق للعقاب ، لانّه شك فلم يستصحب العدة في الشبهة الموضوعية ، ولم يفحص عنها في الشبهة الحكمية بل قلنا : انّ الرواية محمولة فيها على المعذورية من حيث الحرمة الأبدية ، فان المرأة هذه لا تكون على مثل هذا الرجل حرام أبداً هذا الحكم في الاقسام الثلاثة انّما هو (إن كان ملتفتاً شاكاً) بأنْ كان جاهلاً جهلاً بسيطاً.

ص: 24

وإن كان غافلاً أو معتقدا للجواز فَهُو خارجٌ عن مسألة البراءة ، لعدم قدرته على الاحتياط .

وعليه

-------------------

( و ) ، أمّا القسم الرابع هو : ( إن كان غافلاً ) اطلاقاً عن الحكم والموضوع ( أو معتقداً للجواز ) بأنْ كان جاهلاً جَهلاً مُركباً ( فهُوَ خارجُ عن مسألة البرائة ، لعدم قدرته على الاحتياط ) فإن الغافل لا يكلَّف بالفحص ، لانه لا يعقل تكليفه ، فلا يتمكن من الاحتياط والجاهل المركب أيضاً كذلك ، لانّه يقطع بأنّ المرأة ليست في العِدة ، ويقطع بأنّ المرأة التي في العدة لا حرمة له في تزويجها فيكون خارجاً عن محل البحث .

وعليه : فاذا حملنا الرواية على الغافل أو الجاهل المركب ، خرجت الرواية عن مورد كلام الاُصوليين والأخباريين ، لأن كلامهما في مورد إمكان الاحتياط فيقول الاخباريون عندها : بالاحتياط ، والاُصوليون بالبرائة ، بينما الغافل والجاهل المركب لا يتمكنا من الاحتياط ولا يتمكنان من إجراء البرائة ، إذ لو تعلقت القدرة بأحد الطرفين تعلقت بالطرف الآخر أيضاً أمّا إذا لم تتعلق القدرة بطرف فلا تتعلق بالطرف الآخر .

مثلاً : القادر على الحركة إنّما يكون قادراً إذا كان قادراً على كل مِن الحركة والسكون حيث هُما ضِدان ، فيقال له حينئذٍ : قادر ، أما إذا لم يقدر على الحركة فليس بقادر على السكون أيضاً ، كما انّه إذا لم يكن قادراً على السكون لم يكن قادراً على الحركة ، أيضاً ، فهو ليس بقادر إطلاقاً ، والبرائة والاحتياط ضِدان ، فاذا لم يقدر على أحدهما لم يقدر على الآخر .

( وعليه ) أي : على هذا الفرض وهو : كون الرجل جاهلاً مركباً ، أو غافلاً

ص: 25

يحمل تعليل معذوريّة الجاهل بالتحريم بقوله عليه السلام : « لأنّه لا يقدر ، الخ » ، وإن كان تخصيصُ الجاهل بالحرمة بهذا التعليل يدلُّ على قدرة الجاهل بالعِدّة على الاحتياط ، فلا يجوز حمله على الغافل ،

-------------------

( يحمل تعليل معذورية الجاهل بالتحريم ) في الحديث والتعليل هو ما أشار اليه ( بقوله عليه السلام : « لأنّه لا يقدر ، الخ » ) فانّ الإمام عليه السلام قال : « لأنّه لا يقدر مَعَ الجَهالةِ على الاحتياط » وعدم القدرة على الاحتياط انمّا يكون في الجاهل المركب أو في الغافل ، أما الجاهل البسيط الملتفت ، فلا شَكَ في انّه قادرُ على الاحتياط .

والحاصل : إن كان الزوج جاهلاً مركباً أو غافلاً لم يكن مورداً للبرائة ، فلا يمكن الاستدلال بهذه الرواية على البرائة ، وإن كان جاهلاً بسيطاً ملتفتاً لم يتم قوله عليه السلام : « لأنه لا يقدر » اذ هو - كما عرفت - قادر وحيث قال عليه السلام : « انه لايقدر » ، يلزم حمل الرواية على الجاهل المركب أو الغافل .

وعلى أي حال : فظاهر الرواية ينفي الاستدلال بها على البرائة ( وإن ) وصلية ( كان تخصيص الجاهل بالحرمة ) أي : الجاهل بالحكم ( بهذا التعليل ) بقوله : « لأنه لا يقدر » ( يدل ) بالمفهوم ( على قُدرَةِ الجَاهِل بالعِدّة ) وهو الجاهل بالموضوع ( على الاحتياط ) لأن الإمام عليه السلام قد قابل بين الجاهلِ بالموضوع والجاهلِ بالحُكم ، ثم نفى التَمكن من الاحتياط بالنسبة إلى الجاهل بالحكم ، ممّا يدلُ على ان الجاهل بالموضوع قادرٌ على الاحتياط .

إذن : ( فلا يجوز حمله ) أي : حمل الجاهل بالعِدة ( على الغافل ) لأن الغافل لا يقدر على الاحتياط .

والحاصل : ان الإمام عليه السلام حكم : بأن الجهل بالحرمة وهو الجهل بالحكم أهون وعَلَلَهُ بأنّه لا يقدر على الاحتياط ، ومعنى ذلك : ان الجاهل بالعدة وهو الجاهل

ص: 26

إلاّ أنّه إشكال يَردُ على الرواية على كلّ تقدير .

ومحصّله لزوم التفكيك بين الجهالتين ، فتدبّر فيه وفي دفعه .

-------------------

بالموضوع ، يقدر على الاحتياط .

لكن هذا لا يَتُم إلا بفرض الجَهل بالحرمة جهلاً مركباً أو غفلة ، مع فرض الجهل بالعِدة جهلاً بسيطاً لا غير ، وقد تقدَّم : انّ الجاهل البسيط لا يُعذر من حيث المؤاخذة في شيء من صور الجَهل بالعِدة ، بل يُعذر من حيث الحُرمة الأَبدية فلا حرمة أبدية للمرأةِ عليه .

( إلاّ انّه ) أي تخصيص عدم القدرة على الاحتياط بما إذا كان جاهلاً بالحكم ممّا كانت شبهة الرجل شبهة حكمية ( إشكال يَردُ على الرّواية على كل تقدير ) أي : سواء قلنا بانّ المُراد من الرواية : الجَهل بالعِدة بشبهة موضوعية كما تقدمت ، أو انّ المراد : بشبهة حكميّة ، لأنهما لا يتمكنان من الاحتياط .

( ومحصّله ) أي : محصل هذا الاشكال هو ( : لزوم التفكيك بين الجهالتين ) والتفكيك خلافُ السياق ، فانَّ فرض الجهل بالحرمة مركباً وغفلة ، ممّا لا يمكن معه الاحتياط ، وفرض الجهل بالعِدة بسيطاً يُمكن فيه الاحتياط ، والحال انّه يُمكن في كل من الجهلين أن يكون بسيطاً ، أو مركباً ، وغفلة خلاف السياق .

( فتدبّر فيه ) أي : في الاشكال الذي ذكرناه ( وفي دفعه ) فانّه قد دفع هذا الاشكال بعض بمالا يوجب إختلاف السياق وهو كما قال :

انه عليه السلام أرادَ من الجَهل في الموضعين : مَعناه العام الشامل لكُل أقسام الجهل ، إلا انّ الغالب في الجهل بالحرمة هو المرُكب أو الغفلة ، إذ الملتفت إلى هذا الحكم لا يبقى في الجهل والشك لوضوحه بين المسلمين ، فيفحص عنه ويصل بالنتيجة

ص: 27

وقد يُستدلّ على المطلب ، أخذا من الشهيد في الذكرى ، بقوله عليه السلام : « كُلُّ شيءٍ فيهِ حَلالٌ وَحَرامٌ فَهُوَ لَكَ حَلالٌ حَتّى تَعرِفَ الحرَامَ منه بِعَينِهِ فَتَدَعَهُ » .

-------------------

إلى الحرمة ، بخلاف الجهل بالعدة ، فإنّ الغالب فيه هو الشك ، لأن المتعارف هو النظر والتأمّل الدقيق في خصوصيات المرأة التي يُراد نكاحها ، وعندئذ يتوجه الذهن قهراً إلى حالها من حيث العدة وعدمها .

إذن : فتنزيل الجهل بالعدة على المتردد ، والجهل بالحرمة على الغافل ، ليس مستلزماً للتفكيك في الجهالة ، بل الجهل في كلا الموردين بمعنى عدم العلم ، وانّما الخلاف في الموردين ناشيء من الخصوصية في هذا المورد وفي ذاك المورد .

( وقد يُستدل على المطلب ) أي : البرائة في الشبهة التحريمية والمستدل هو الفاضل التوُني في الوافِية ، وتَبِعَهُ السيد الصدر شارحُ الوافِية ، كما انّ الفاضل النَراقي في مَناهج الاُصول إستدل بهذاالحديث من وجوه متعددة ، والكل ( أخذاً من الشهيد ) الأوّل حيث استدل للبرائة ( في الذكرى ، بقوله عليه السلام : كُلُّ شيء فِيهِ حَلالُ وَحَرامٌ فَهُوَ لَكَ حَلالُ حَتّى تَعرِفَ الحَرامَ مِنهُ بعَينِهِ فَتَدَعهُ ) (1) أي : فتتركه .

ومن المعلوم : ان الانسان لا يعلم حرمة شرب التتن بعينه ، فلا يكون التتن عليه حراماً ، بل يمكن أن يقال بمثل ذلك في الشبهة الوجوبية أيضاً ، فانّ الانسان لا يعلم حرمة ترك الدعاء عند رؤية الهِلال بعينه ، فالترك لا يكون حراماً بل هو مُباحٌ له .

ص: 28


1- - تهذيب الاحكام : ج9 ص79 ب4 ح72 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص341 ب2 ح4208 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 ، الذكرى : ص5 .

وتقريبُ الاستدلال ، كما في شرح الوافية : « أنّ معنى الحديث أنّ كلَّ فعل من الأفعال التي تتّصف بالحلِّ والحرمة ، وكذا كُلّ عين ممّا يتعلّق به فعلُ المكلّف وَيتّصف بالحِلّ والحرمة إذا لم يعلم الحكم الخاصّ به من الحلّ والحُرمة فَهوَ حَلالٌ .

فخرج ما لا يتّصف بهما جميعا من الأفعال الاضطراريّة والأعيان التي لا يتعلّق بها فعل المكلّف وما علم أنّه حَلالٌ لا حرام فيه

-------------------

( وتقريب الاستدلال ) بهذا الحديث ( كما في شرح الوافِية ) للسّيد الصَدر حيث شرح وافية الفاضل التوُني فقال : ( أنّ معنى الحديث : أنّ كُلَ فِعلٍ مِنَ الأفعالِ الّتي تتصف ) أي : القابلة للاتصاف ( بالحِلّ والحرمة ) كالمشي ، فانّه قابل ، ليتصف بالحِلِّ ، لأنّه للترويح عن النفس ، وبالحرمة لأنّه سَفر معصية لقتل مُسلمٍ - مثلاً - .

( وكذا كُلُ عينٍ ممّا يتعلّق به فعلُ المكلّف ويَتّصف بالحِلَ والحرمة ) كالخمر حيث يتعلق به شرب المكلَّف ، وقابلٌ لأن يكون حَراماً ، لأنّه لا ضرورة إليه ، وقابل أن يكون حلالاً لأنه مضطر إلى شربه ، فانه ( إذا لم يعلم الحكم الخاص به من الحِلَّ والحُرمةِ ) بأن شَك في انَه حلالٌ أو حَرامٌ ( فهُو حلالٌ ) للانسان الشاك .

إذن : ( فخرج مالا يتّصف بهما جميعاً ) لأنا ذكرنا : انّه يجب أن يكون قابلاً للاتصاف بالحِلِّ والحرمة ، فالشيء غير القابل للاتصاف ، خارج عمّا ذكرناه ( من الأفعال الاضطراريّة ) ككون الانسان في الحيز ، والتنفس ، وحركة المرتعش ، ونحو ذلك ( والأعيان الّتي لا يتعلق بها فعل المكلّف ) مثل : الشمس ، والقمر ، والنجوم السيارة ، ونحوها .

( و ) كذلك خرج ما لا شك في حكمه أي : ( ما علم انّه حَلالٌ لا حَرام فِيِه ،

ص: 29

أو حرامٌ لا حَلال فيهِ ، وليس الغرضُ من ذكر الوصف مجرّدَ الاحتراز ، بل هو مع بيان ما فيه الاشتباه .

فصار الحاصل : أنّ ما إشتبه حكمه وكان محتملاً لأن يكون حلالاً ، ولأن يكون حراما فَهُوَ حَلالُ ، سواء عَلِمَ حُكم كُلّي فَوقَهُ أو تحتهُ

-------------------

أو حَرامٌ لاحَلال فِيهِ ) كالماء الذي هو حلال لا حرام فيه ، وكون بعض أفراد الماء حَراماً لا يضرّ بالمثال ، وكذلك كالخمر الّتي هي حرام لا حلال فيه ، وكون بعض أقسام الخمر للمضطر حلالاً لايضر بالمثال أيضاً .

( وليس الغرض من ذكر الوصف ) أي : قوله عليه السلام : « فيه حلال وحرام » ( :مُجرد الاحتراز ) فقط ممّا ذكرناه من القسمين أي : ما لايتعلق به حكم أو لا شك في حكمه ( بل هو ) أي : الاحتراز ( مع ) أي : بالاضافة إلى ( بيان ما فيه الاشتباه )

ان للوصف أمرٌ سَلبي وهو : الاحتراز ، وأمرٌ إيجابي وهو هُنا : بيان أنّ موضوع الحِلية الظاهرية هو : ما إشتبه حليته وحرمته ، أما سائر الأحكام من المستحب ، والمكروه ، والمباح ، فَليس الكلام فيها .

( فصار الحاصل ) من الوصف المذكور في الرواية ( : انّ ما إشتبه حكمه ) ولم يعلم انه حلالٌ أو حرامٌ ( وكان محتملاً لأن يكون حلالاً ، ولأن يكون حراماً ) وقوله « وكان » ، بيان لقوله : « ما اشتبه حكمه » ، فانّ هذا الموضوع المُحتمل للأمرين ، يكون موضوعاً للحكم الظاهري ، وهو ما أشار إليه بقوله : ( فهُوَ حَلال ، سواء عَلِمَ حُكم كُليّ فوقه ) أي : فوق ذلك المشتبه ( أو تحته ) أي : تحت ذلك المشتبه .

وعليه : فانّه قد يعلم كليّ الفوق ، كما إذا رأى لَحماً ولم يعلم انه حرامٌ أو حَلالٌ بينَما يعلم كليّ لحم المذكى وانّه حلالٌ ، وكليّ لحم الميتة وانّه حرام ، فهو يعلم

ص: 30

بحيث لو فرض العلم باندراجه تحته أو تَحقّقهِ في ضمنه لعلم حكمه أم لا .

وبعبارة أُخرى : إنّ كلّ شيء فيه الحلال والحرام عندكَ ، بمعنى أنّك تقسمه إلى هذين وتحكم عليه بأحدهما لا على التعيين

-------------------

الكليّين ، لكنّه لا يعلم هل هذا فرد يندرج تحت هذا الكليّ أو ذاك الكليّ ؟ .

وقد يعلم كليّ التحت ، كما إذا علم انّ الخمر حرامٌ والخَل حَلالٌ ، لكنّه يجهل كليّ الفوق فلا يعلم إنّ المايع الشامل لهما هل الأصل فيه الحرمة وخرج منه الخَل ؟ أو الأصل فيه الحِلية وخرج منه الخَمر ؟ .

ويُفيد معرفة كليّ الفوق في ان المشتبه الذي لا يعلم انه حلال أو حرام ، كالشرب المصنوع من الخشب - مثلاً - ممّا لا إسكار فيه بانه اذا كان الأصل في المايع الحرمة فهُو حَرامّ ، وإذا كان الأصل الحِلية فهُوَ حَلالٌ ، وذلك كما قال المصنّف : ( بحيث لو فرض العلم باندراجه ) أي : إندراج هذه المشتبه ( تحته ) أي : تحت الكليّ ( أو تَحقُقِهِ في ضمنه ) أي : في ضمن الكلي ( لعلم حكمه ) من الكليّ الفوق أو من الكليّ التحت ، فاذا علم - مثلاً - ان هذا اللحم مندرجٌ في المذكى لعلم حليته ، أو انّه مندرجٌ في المِيتة لعلم حرمته ، وكذا لو علم تحقق هذا المايع في ضِمن الخَل علم حليته ، أو في ضِمن الخمر لعلم حرمته .

( أم لا ) عطف على قوله : « بحيث لو فرض العلم باندراجه لعلم حكمه » ، بمعنى : انّه لو فرض العلم باندارجه أيضاً لا يعلم حكمه ، وذلك كما في الشبهه الحكمية كحرمة التتن - مثلاً - حيث لا يعلم هل أنّ التتن حرام أو ليس بحرام ؟ فقد ذكر للشبهة الموضوعية فرضين ، وللشبهة الحكمية فرضاً واحداً .

( وبعبارة اخرى : إنّ كل شيء فيهِ الحَلال والحرام عندكَ ، بمعنى : أنّك تقسمه إلى هذين ) القسمين : الحَرام والحَلال ( وتحكم عليه بأحدِهما لا على التعيين )

ص: 31

ولا تدري المُعيّن منهما ، فَهُو لَكَ حَلالٌ .

فيقال حينئذٍ : الرواية صادقة على مثل اللحم المشتري من السوق المحتمل للمذكّى والميتة ، وعلى شرب التتن ، وعلى لحم الحَمير ، إن لم نقل بوضوحه وشككنا فيه ، لأنّ يصدق على كلّ منها أنّه شيء فيه حَلالٌ وحَرامٌ عندنا ، بمعنى أنّه يجوز لنا أن نجعله مقسما لحكمين فنقول : هو إمّا حلال وإمّا حرام ،

-------------------

لأنك لا تدري هل هذا حرامُ أو حلال ؟ ( ولا تدري المُعين منهما ، فهُوَ لكَ حَلال ، فيُقال حينئذٍ : الرّواية صادقة على ) الشبهات الموضوعية ( مثل اللّحم المشترى من السوق المحتمل للمذكى والميتة ) فيما إذا لم يكن هناك علم بأنّه سوُق مسلم أو كافر ، وإلاّ كان اللحم محكوماً في سوق المسلم بالتذكية ، وفي سوق الكافر بعدم التذكية .

( و ) صادقة أيضاً ( على ) الشبهات الحكمية مثل : ( شرب التتن ، وعلى لحم الحَمير ، إنْ لم نقل بوضوحه ) وأما إذا قلنا بوضوحه وعلمنا بأنّه حَلالِ أو حرام فهو خارج عن مثال الشبهة الحكمية ( وشككنا فيه ) وهذا عطف بيان لقوله : « إن لم نقل بوضوحه » ، يعني : إن شككنا في لحم الحِمار ، ولم يكن عندنا واضحا، فهو مثال لِما نحنُ فيهِ ، ويكون كشرب التتن في كونِه من الشبهةِ الحُكميةِ .

وانّما نقول : بأنّ الرواية تشمل الشبهات الموضوعية والشبهات الحكميّة معاً ( لأنّه يصدق على كل منها ) أي : من الأمثلة المذكورة ( : انّه شيء فيه حَلالٌ وحَرامٌ عندنا ، بمعنى : انّه يجوز لنا أن نجعله ) أي : نجعل كلّ واحد من الأمثلة المذكورة ( مقسماً لحكمين ) بنحو الترديد ( فنقول : هو : إمّا حلال وامّا حرام ) في الشبهة الموضوعية .

ص: 32

وإنّه يكون من جملة الأفعال التي يكون بعضُ أنواعها وأصنافها حلالاً وبعضُها حراما واشتركت في أنّ الحكم الشرعيّ المتعلّق بها غير معلوم » ، انتهى .

أقول : الظاهر أنّ المراد بالشيء ليس هو خصوص المشتبه ، كاللحم المشترى ولحم الحمير على ما مَثَّلَهُ بهما ،

-------------------

( و ) ل- ( انّه يكون من جملة الأفعال التي يكون بعض أنواعها وأصنافها حلالاً وبعضها حراماً ) كشرب التتن ، حيث ان بعض أقسام الشرب حلال ، كشرب مسحوق البنفسج للدواء ، وبعض أقسامها حرام كشرب البنج ، وهذا مثال للشبهة الحكمية .

هذا ( و ) قد ( إشتركت ) الأمثلة المذكورة ( في انّ الحكم الشرعي المتعلّق بها غير معلوم ) (1) الحلية أو الحرمة .

( إنتهى ) كلام السيد الصدر الذي أراد أن يُبيّن : انّ هذه الرواية تشمل الشبهات الحكمية والشبهات الموضوعية معا ، فاذا شك في شيء انّه حلال أو حرام ، سواء كانت الشبهة موضوعية أو حكمية ، فالأصل البرائة ، كما هو مشرب الاصوليين .

( أقول ) : انّ المصنّف أشكل على كلام السيد الصدر بإشكالين :

الأول : ما أشار اليه بقول : ( الظاهر : أنّ المراد بالشيء ) في قوله عليه السلام : « كُلّ شيء ...» ( ليس هو خصوص المشتبه ) على نحو الجزئية ممّاله حكم واحد ( كاللحم المشترى ) مِنْ السوقِ ( ولحم الحَمير على ما مَثّله ) أي : مثلَ السيد الصدر الشيء في الرواية ( بهما ) .

ص: 33


1- - شرح الوافية : مخطوط .

إذ لا يستقيم إرجاع الضمير في « منه » إليهما ، لكن لفظة « منه » ليس في بعض النسخ .

-------------------

وإنّما نقول بأنّه ليس المرُاد بالشيء خصوص المشتبه ( إذ لا يستقيم إرجاع الضمير في « منه » اليهما ) أي : إلى مثل اللحم المشترى ، ولحم الحَمير ، كما جَاءَ في كلام السيد الصَدر .

وحاصلُ الاشكال : إن قوله : « منه » ، في الرواية يرجع إلى الكلي ، لأنه بمعنى : البعض لا الى الشخصي ، فيقال مثلاً : المايع منه حلالُ ومنهُ حَرام ، ولا يُقال : هذا الاناء منه حَلالُ ومنه حرام ، كما لا يقال : التتن الكليّ منه حرام ومنه حلال ، لأنّ التتن الكليّ له حكمْ واحد ، فيكون المراد بقوله عليه السلام : « كُلّ شيء » : الكلي الذي فيه قسمان ، لا الجزئي ، ولا الكلي الذي له قسم واحد .

نعم ، يمكن أن يُراد بكلّ شيء : الجزئي ، ويُراد ب- « منه » : الكليّ ، وذلك على سبيل الاستخدام ، فيكون لفظ شيء قد استعمل في معنى ، وضميره في معنى آخر ، وهذا مايصطلح عليه بالاستخدام في علم البلاغة ، كقول الشاعر :

إذا نَزَلُ السَماء بأرضِ قَومٍ***رَعيناهُ وإنْ كانُوا غِضاباً

فهو كما إذا قلت : هذا المايع في هذا الاناء الأحمر حرامٌ ، وهذا المايع في الاناء الأبيض حلالٌ ، ثم قلت : وكليّ المايع لك حلال حتى تعرف انّه حرام .

هذا ( لكن ) الذي يرفع النزاع هو : ان ( لفظة « منه » ليس في بعض النسخ ) (1)

كما ان الاستخدام خلاف الظاهر ، فلا يصار إليه إلاّ بالقرينة ، .

الثاني من اشكالي المصنّف على السيد الصدر هو : ما أشار إليه بقوله :

ص: 34


1- - كرواية الغوالي : ج3 ص465 ح16 .

وأيضا : الظاهر أنّ المراد بقوله عليه السلام : « فيه حلال وحرام » كونُه منقسما إليهما ، ووجود القسمين فيه بالفعل لا مردّدا بينهما ، إذ لا تقسيم مع الترديد أصلاً ، لا ذهنا ولا خارجا ، وكون الشيء منقسما لحكمين ، كما ذكره المستدِلّ ، لم يعلم له معنى محصّل ، خصوصا مع قوله قدس سره « أنّه يجوز لنا

-------------------

( وأيضاً ) حاصله : انّ قوله عليه السلام : « فيه حلال وحرام » للتقسيم مثل الانسان أبيض وأسود ، لا للترديد مثل زيد اما عالم أو جاهل ، والسيد الصدر قال بأنه للترديد ، فاشكل عليه المصنّف وقال :

( الظاهر : انّ المراد بقوله عليه السلام : « فيه حلالٌ وحَرامٌ » كونه ) أي : كون الشيء هنا ( منقسماً إليهما ، ووجود القسمين فيه بالفعل ) فقسم حَلالّ وقسم حرامٌ ، كاللحم الذي قسمٌ منهُ حلالٌ وهو لحم الغنَم ، وقسم مِنهُ حرامٌ وَهُو لحمُ الخنزير ( لا مردداً بينهما ) أي : ليس المُراد إحتمال الحرمة وإحتمال الحليّة ( إذا لاتقسيم مع الترديد أصلاً لا ذهناً ولا خارجاً ) فليس معنى المردد : انّه في الذهن منقسم ، أو في الخارج منقسم ، بل معنى المردد : انّه في الخارج شيء واحد ، وفي الذهن لا يعلم انه هكذا أو هكذا ؟ .

( وكون الشيء ) المردد ( منقسماً لحكمين ) حلالٌ وحرامٌ ( كما ذكره المستدِلّ، لم يعلم له معنى محصَّل) قوله : «لم يعلم» ، خبر لقوله : «وكون الشيء» .

وانّما لم يعلم له معنى محصّل ، لأن ما ذكره من الترديد بين كون شيء واحد حلالاً أو حراماً ، هو من الترديد ، لا من التقسيم ، لأن التقسيم انّمايكون إذا كان لشيء قسمان ، لا إذا كان فيه إحتمالان ، فان الترديد يكون في شيء واحد مجهول محتمل لان يكون حراماً أو حلالاً .

وهذا الاشكال يكون قوياً على الصدر ( خصوصاً مع قوله قدس سره : « أنّه يجوز لنا

ص: 35

ذلك » ، لأنّ التقسيم إلى الحكمين ، الذي هو في الحقيقة ترديد لا تقسيم ، أمرٌ لازمٌ قهريّ ، لا جائز لنا .

وعلى ما ذكرنا فالمعنى - واللّه العالم - أنّ كُلَّ كلّيّ فيهِ قسم حلال وقسم حرام ، كمطلق لحم الغنم المشترك بين المذكّى والميتة ، فهذا الكلّيّ لك حلال إلى أن تعرف القسم الحرام معيّنا في الخارج فتدعه .

-------------------

ذلك » ) وانّما قال خصوصاً ( لأنّ التقسيم إلى الحكمين ، الّذي ) قسمّ الصدر المردد اليه ( هو في الحقيقة ترديد لا تقسيم ) والترديد في الشيء المشتبه ( أمرٌ لازمٌ قهريّ ، لاجائز لنا ) كما عبَّر عنه السيد الصدر قدس سره .

وعليه : فالتعبير ب- « يجوز لنا » كالتعبير بكون الشيء مقسماً لحكمين ، غير ظاهر المعنى .

أقول : لا يخفى : انّ بعض إشكالات المصنِّف عليه غير ظاهر .

( وعلى ما ذكرنا ) : من المراد بالشيء : الكلي ، لا الشخصي ، وانّ ظاهر القضية : وجود الحَلال والحَرام فعلاً على نحو التقسيم ، لا على نحو الترديد ، ( فالمعنى ) للحديث يكون ( واللّه العالم : انّ كُلَ كلّيُ فيهِ قسم حلال وقسم حرام ، كمطلق لحم الغنم المشترك بين المذكى والميتة ) وكذلك العصير المغلي بين قسم حرام لم يذهب ثُلُثاه ، وقسم حلال ذهب ثُلثاه ، إلى غير ذلك ( فهذا الكّلي لك حلال ) أفراده ( إلى أن تعرف القسم الحرام ) من ذلك الكليّ ( معينّاً في الخارج فتَدَعَهُ ) أي : تتركه .

وعليه : فلحم الغنم الذي لا يعرف إنّه حرامٌ أو حلالٌ ، ولم يكن هُناكَ أصلٌ أو أمارة ، على أحد الطرفين : محكومٌ بالحِلية ، وهكذا بالنسبة إلى سائر الشُبهات الموضوعيّة .

ص: 36

وعلى الاستخدام يكون المراد : أنّ كلّ جزئيّ خارجيّ في نوعه القسمان المذكوران فذلك الجزئيّ لك حَلالٌ حتّى تعرفَ القسم الحرام من ذلك الكلّيّ في الخارج فتدعه ، وعلى أيّ تقدير : فالرواية مختصّة بالشبهة في الموضوع .

-------------------

هذا بناءاً على تفسير الشيء في الرواية بالمعنى الكليّ .

( و ) اما ( على الاستخدام ) وهو عطف على قوله : « وعلى ما ذكرنا » ، فهو : بأن يراد بالشيء في كلام الإمام عليه السلام : خصوص المشتبه ، بالضمير في « فيه » ، و « منه » : الكليّ ، على نحو الاستخدام ، حيث ذكرنا : انّ المحتمل في الرواية معنيان ، وإن كان المعنى الاستخدامي خلافُ الظاهر ، وذلك كما قال :

( يكون المراد : انّ كلّ جزئيّ خارجيّ ) كاللحكم المردد بين كونه مذكّى أو مِيتة ( في نوعه القسمان المذكوران ) « في نوعه » خبر ، « والقسمان المذكوران » مبتدأ أي : كان هذا اللحم الخارجي له نوع فوقه وفي ذلك النوع قسمان : قسم مُحرمٌ كالميتة وقسم مُحَلّلٌ كالمذكى ( فذلك الجزئي ) الخارجي المشتبة بأنّه من هذا النوع أو من ذاك النوع ( لكَ حلالّ حتى تعرفَ القسم الحرام من ذلك الكلّي في الخارج ) بأن تعرف انّ هذا الشخصي من النوع الحرام الميتة ، لا من النوع الحلال المذكى ( فتدعه ) .

( وعلى أي تقدير ) سواء قلنا : بأن المراد بالشيء : الكليّ ، أو قلنا : بانّ المراد منه : الجزئي على المعنيين الذين عرفتهما ( فالرّواية مختصّة بالشّبهة في الموضوع ) لا الشبهة في الحكم الذي هو محل الكلام في باب البرائة ، فالرواية إذن لا تدلّ على البرائة في الشبهات الحكميّة .

ثم انّ المصنّف كرّر للتأكيد ما ذكره من الاشكالين على شارح الوافية بقوله :

ص: 37

وأمّا ما ذكره المستدلّ - من أنّ المراد من وجود الحَلال والحَرام فيه احتماله وصلاحيته لهما - فهو مخالفٌ لظاهر القضيّة ولضمير « منه » ولو على الاستخدام .

-------------------

( وأمّا ما ذكره المستدلّ : من انّ المراد من وجود الحَلال والحَرام فيه ) ليس تقسيمه إليهما ، بل ( احتماله ) أي : احتمال المشتبه ( وصلاحيته ) أي : صلاحية المشتبه ( لهما ) أي : للحلية والحرمة ، حيث انّ المستدلّ أرجَع التقسيم إلى الترديد ( فهو ) غير تام لما يلي :

أولاً : انه ( مخالفٌ لظاهر القضيّة ) كما عرفت : من انّ ظاهر القضية وجود الحَلال والحَرام فِعلاً ، لا احتمال الحرام والحلال ترديداً .

( و ) ثانياً : انّه مخالف ( لضمير « منه » ) لأن لفظة « من » للتبعيض ، والتبعيض ظاهر في وجود القسمين فعلاً ، فلايمكن إرجاع الضمير في « منه » إلى المشتبه المحتمل للحِلّ والحرمة ، لأن المشتبه المردد بين الحلال والحرام ليس فيه قسمان فيكون إرجاعه إليه غير جائز ( ولو على الاستخدام ) بأنْ يُراد من الشيء : المشتبه ، ومن ضمير « منه » النوع استخداماً حتى يكون المعنى : ان المشتبه الذي فيه احتمالان ، لَكَ حلالٌ حتى تَعرفَ القسم الحَرام من نوعهِ .

وعلى أي حال : فالحديث في نظر المصنّف مختصٌ بالشبهةِ الموضوعيّةِ ولا يشمل الشبهةِ الحكميةِ ، لكنّ الظاهر : شمولهُ لَهُما ، فهذا اللحم الشخصي الخارجي الذي لم يعلم انّه من المِيتة أو المذكى لَكَ حَلال وهو شبهة موضوعية ، وهذا اللحم الكليّ للغراب الذي لم يعلم انه حلال أو حرام - حيث في كليّ اللحم حلال كلحم الحمام ، وحرام كلحم الطاوُوس - هو لكَ حلال ، وهو شبهة حكمية ، وهذا هو الذي أشار إليه النَراقي ، وإنْ كان في بعض كلام النَراقي تأمّل ذكره المصنّف .

ص: 38

ثم الظاهر : أنّ ذكر هذا القيد مع تمام الكلام بدونه - كما في قوله عليه السلام في رواية اُخرى : « كُلُّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ حَتّى تَعرِف أنّه حَرامٌ » - بيانُ منشأ الاشتباه جهة الحكمية

-------------------

( ثم ) بدأ المصنّف يمّهد لِرَدّ النَراقي الذي فَسر الحديث بتفسير لم يرتضهِ المصنّف فقال ( الظاهر : انّ ذكر هذا القيد ) أي : قيد فيه حلال وحرام في الرواية ( مع تمام الكلام بدونه ) أي : بدون هذا القيد ، لأنّه يصحّ أنْ يُقال : كلُ شيء لَكَ حلالٌ ، حَتى تَعرف انّه حرامٌ ( كما ) لم يذكر هذا القيد ( في قوله عليه السلام في رواية أخرى : كُلّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ حَتى تَعرِفَ انّهُ حَرامٌ ) إنّما هو لأجل (بيان منشأ الاشتباه) وسببه .

فإنّه قد يكون منشأ الاشتباه في هذا اللحم الخارجي بانّه حرام أو حلال ، هو : ان في كليّ لحم الغنم مُذكى وميتة ، وهذا ما أشار إليه هذا الحديث وقال : بانّه حلال ، فيختص الحديث بالحلية الظاهرية في الشبهة الموضوعية .

وقد يكون منشأ الاشتباه هو عدم العلم بالحكم الكليّ الذي جَعَلَهُ الشارع ، كما إذا لم يعلم ، إنّ الغراب حرّمهُ الشارع أو حَلّله ، فمنشأ هذا الاشتباه في الغُراب ليس هو وجود القسمين ، وانّما هو لأنا لا نعلم هل انّ الغُراب حرّمه الشارع أو حلّله ؟ فيكون من ( جهة الحكمية ) فلا يشمله هذا الحديث .

لكنْ يمكن أن يقال : انّ منشأ الاشتباه في الغُراب أيضاً وجود القسمين من الطير : الطير الحَلال ، والطير الحَرام ، ولم يعلم : إنّ الشارع حَرَّمَ الغُراب كالطيور المحرمة ، أو حلّلها كالطيور المُحللة ؟ فيكون الاختلاف بين الروايتين من

ص: 39

الذي يعلم من قوله عليه السلام : « حتى تعرف » .

وكما أنّ الاحتراز عن المذكورات في كلام المستَدلّ أيضا يحصل بذلك .

-------------------

اختلاف التعبير ، لا لأجل الاختلاف في الشُبهةِ الموضوعيّة والشُبهةِ الحُكميةِ ، كما ذكره المصنّف .

ثم انّ المصنّف ذكر : انّ ( الذي ) إستفاده من دلالة القيد : « فيه حلال وحرام » في الرواية على انّه لبيان منشأ الاشتباه وسببه ، فيختص بالحكم الظاهري في الشبهة الموضوعية بان ذلك ( يعلم ) أيضاً ( من قولهِ عليه السلام : « حتى تعرف » ) فإنّ حتى تعرف : دليلُ على إرادة الحِليّة الظاهرية في الشبهة الموضوعية فان الحلية الظاهرية إنّما هي في صورة الاشتباه في الموضوع الخارجي ، لا في الحكم ، إذ منشأ الاشتباه في الحكم فقدان النص ، أو إهماله ، أو تعارضه ، ولا يجري فيه البرائة إلا بَعدَ الفحص واليأس ، وهذا ما لم يتعرض له هذا الحديث .

( وكما أنّ الاحتراز عن المذكورات في كلام المستَدِلّ أيضاً يحصل بذلك ) ومراده « بذلك » : هو قيد فيه حلال وحرام ، والمراد من « المذكورات في كلام المستدل » : هو ما تقدَّم من قوله : فخرج ما لا يَتَصف بهما جميعاً : من الأفعال الاضطرارية ، والأعيان التي لا يتعلقّ بها فعل المكلّف ، وما عُلِمَ انّه حلال لا حرام فيه ، أو حرامٌ لا حلال فيه .

والحاصل : انّ المصنّف قد ذكرَ لقيد « فيه حلال وحرام » أمرين :

الأَول : إنَّ هذا القيد هو احتراز عن المذكورات .

الثاني : أنّه بيان لسبب الاشتباه ومنشأه .

ثمّ انّ المصنّف بعد ذكر من التمهيد لِرَد النَراقي ، ذكرَ وجه الرَّد بقوله

ص: 40

ومنه ، يظهر فسادُ ما انتصر به بعضُ المعاصرين للمستدلّ ، بعد الاعتراف بما ذكرنا من ظهور القضيّة في الانقسام الفعليّ ، فلا يشمل مثل شرب التتن من : « أنّا نفرض شيئا له قسمان حلال وحرام واشتبه قسم ثالث منه ، كاللحم ، فانّه شيء فيه حلال وهو لحم الغَنم وحرام وهو لحم الخنزير ، فهذا الكلّيّ

-------------------

ب- ( ومنه ) أي : من أنّ قوله عليه السلام : « فيه حلال وحرام » بَيانٌ لمنشأ الشُبهة ، فيختص بالشبهة الموضوعيّة ولا يشمل الشبهة الحكميّة ( يَظهر فساد ما انتصر به بعض المعاصرين ) وهو النَراقي ، فقد انتصر ( للمستدل ) وهو السَيد الصَدر ( بعد الاعتراف ) من هذا المعاصر ( بما ذكرنا : من ظهور القضيّة في الانقسام الفعلي ، فلا يشمل مثل شرب التتن ) الذي ليس فيه الانقسام الفعلي ، ممّا يدل على ان هذا المعاصر لم يَرتض بالترديد الذي ذكره السيد الصدر .

ولا يخفى : انّ استثنائه لشرب التتن أيضاً محل تأمّل لِما تقدّم : من انّه يُمكن تصوير الانقسام فيه ، فان قسماً من الشرب حلال ، وقسماً منه حرام ، وقسماً لايعلم حكمه ، فهناك - مثلاً- ثلاث سيجارات : أحدها : حُشي بنجاً فهُوَ حرام ، والآخر : حُشي بالبنفسج فهو حلال ، والثالث : لا نعلم انه حلال أو حرام فهو حلال بمقتضى الرواية .

ثم بيّن المصنّف كيفية إنتصار هذا المعاصر بقوله : ( من انّا نفرض شيئاً له قسمان : حلالٌ وحرام ، واشتبه قسم ثالث منه ) بالشبهة الحكمية التي هي محل الكلام بين الاُصوليين والأخباريين ، والاُصوليون يستدلون بهذا الحديث على حليتها ( كاللّحم ) الكليّ ( فانّه شيء فيه حلال وهو لحم الغَنم ، وحرام وهو لحم الخنزير ) وقسم ثالث يشتبه بأنّه حلال أو حرامٌ كَلحم الحِمار ( فهذا الكلّي

ص: 41

المنقسم حلال ، فيكون لحم الحمار حلالاً حتّى تَعرف حرمته » .

وجه الفساد : أنّ وجودَ القسمين في اللحم ليس منشأً لاشتباه لحم الحمار ولا دخل له في هذا الحكم أصلاً ، ولا في تحقق الموضوع ،

-------------------

المنقسم : حلال ، فيكون لحم الحمار حلالاً حتى تعرف حرمته ) (1) فتتركه .

( وجه الفساد ) لكلام النراقي هو : ( ان ) قوله عليه السلام في الخبر المُتَقَدِم : فيه حلالٌ وحرامٌ ، إنما هو بيان لسبب الشبهة ، و ( وجود القسمين في اللحم ليس منشأ لاشتباه لحم الحِمار ) فانّ القسمين لو كانا معاً حلالاً أو كانا معاً حراماً لشككنا أيضاً في لحم الحمار .

وإنّما نشك في لحم الحمار ، لفقد النصّ ، أو لإهماله ، أو لتعارضه ، فلا تشمل الرواية مثل لحم الحِمار ( ولا دخل له ) أي : لوجود القسمين ( في هذا الحكم ) بحلية لحم الحِمار ( أصلاً ) . فانّ من الواضح : ان حلية الغَنم وحرمة الخنزير ، لا يؤثران في حكم الشرع بحلية لحم الحِمار ( ولا ) دخل لهذين القسمين ( في تحقق الموضوع ) للحكم بالحلية ، إذ موضوع الحكم بالحلّية هو : الشك الناشيء ، من فقدان النص ، أو اهمال النّص ، أو تعارض النصين وليس هو وجود القسمين في الشيء .

لكنْ ربّما يُقال : انّ في كلام المصنِّف نظر ، فانّ لوجود القسمين دخل في الشك في القسم الثالث ، فانّه إذا علمنا انّ للشارع في الطيور حلالاً وحراماً ، وعرفنا الحلال في الحَمام ، والحرام في الطاووس ، ولم نعرف قسماً ثالثاً فشككنا في انّه من أي منهما كان له دخل ، فهو كما إذا علمنا بأنّ للشارع في لحم الغنم

ص: 42


1- - مناهج الاحكام للنراقي : ص214 ، بحر الفوائد : ح2 ص22 .

وتقييدَ الموضوع بقيد أجنبيّ لا دخل له في الحكم ولا في تحقّق الموضوع مع خروج بعض الأفراد منه ، مثل شرب التتن ، حتّى احتاج هذا المنتصرُ إلى إلحاق مثله بلحم الحمار وشبهه ، ممّا يوجد في نوعه قسمان معلومان بالاجماع

-------------------

حلالاً هو المذكى ، وحراماً هو الميتة ، ولم نعرف قسماً ثالثاً فشككنا انّه من أي منهما ، فمنشأ الشك في القسم الثالث في المثالين هو وجود القسمين ، وإلاّ لوكان كل الطيور حلالاً ، أو كل الطيور حراماً ، لم نكن نشك في القسم الثالث ، وهو الغُراب ، كما انّه كذلك لو كان كل اللحوم للأغنام حلالاً ، أو كل اللحوم للأغنام حراماً .

( وتقييد ) هذا مبتدءٌ خَبَره « مستهجن » يأتي فيما بعد مما حاصله : ان تقييد الإمام عليه السلام ( الموضوع ) في الخبر المتقدّم ، والموضوع ، هو : كل شيء ( بقيد أجنبي ) والمراد : انّه اجنبيٌّ عن الموضوع وعن الحكم حيث قال عليه السلام : فيهِ حَلالُ وَحَرامٌ ( لا دخل له ) اي لهذا القيد ( في الحكم ) أي : في حلية لحم الحِمار ( ولا في تحقيق الموضوع ) أي : الشك في لحم الحِمار ، لأنّه نشك في لحم الحِمار فنقول : بالحلية حسب ما قاله النَراقي وغيره .

هذا ( مع خروج بعض الأفراد منه ) أي : هناك قسمٌ ليس من هذا القَبيل باعتراف النَراقي نفسه ( مثل : شرب التتن ) إذ النَراقي انّما أَلْحَقَ شرب التتن بالحِمار في المثال ليساوي الاجماع ، لا انه جعله من نفس « كل شيء فيه حلالٌ وحرامٌ » ( حتى احتاج هذا المنتصر ) وهو النَراقي ( إلى إلحاق مثله ) أي : مثل التتن ( بلحم الحِمار وشبهه ، ممّا يوجد فيه نوعه قسمان معلومان ) .

فان النَراقي ألحق التتن بلحم الحِمار لا بشمول الدليل للتتن ، بل ( بالاجماع

ص: 43

المركّب مستهجنٌ جدّا لا ينبغي صدورُه من متكلّم فضلاً عن الإمام عليه السلام .

هذا ، مع أنّ اللازم ممّا ذكر عدمُ الحاجة إلى الاجماع المركّب ، فانّ الشربَ فيه قسمان : شرب الماء

-------------------

المركّب ) وهو : ان كلّ مَنْ قال بحلية لحم الحِمار قال بجواز شرب التتن ، وكل من قال بحرمة لحم الحِمار قال بحرمةِ شرب التتن ، فليس لنا ان نفصِّلَ بينهما فنقول بحلية لحم الحِمار وحرمة شرب التتن .

وحيث انّ الرواية شملت حلية لحم الحِمار ، فلا بّد ان نقول بحلية جواز شرب التتن .

وعليه : فهذا التقييد ( مستهجن جداً لا ينبغي صدوره من متكلم ) عادي ( فضلاً عن الإمام عليه السلام ) فإنّ الإمام لو قصدَ شمول الرواية للشبهةِ الحكميةِ لم يذكر القيد الذي لا ينفع في باب هذه الشبهة بل يُوجب خروج بعض افراد الشبهة ، مثل : شرب التتن ، فانه لو أراد شمول الرواية للشبهة الحكمية كان اللازم أن يقول : كل شيء حلال حتى تعرف انّه حرام ، كما ورد في رواية اخرى ، وعلى هذا : فالرواية السابقة المقيدة بقوله : فيه حلال وحرام خاصة بالشبهة الموضوعية ولا تشمل الشبهة الحكمية .

( هذا ) هو الاشكال الأوّل من المصنّف على النَراقي ، واما الاشكال الثاني عليه - والظاهر انه وارد عليه ، كما ألمَعنا إليه سابقاً - فهو ما أشار إليه بقوله : ( مع انّ اللازم ممّا ذكر ) حيث فرضنا شيئاً له قسمان : حلال وحرام ، كما فرضنا بالنسبة إلى لحم الحمار فانّه مشتبه بين قسمين حلالُ هو الغَنم ، وحَرامٌ هو الخنزير فاللازم منه ( عدم الحاجة إلى الاجماع المركّب ) في حكم التتن أيضاً وذلك بفرض القسمين فيه كما قال : ( فان الشرب ) كليٌّ ( فيه قسمان : شرب الماء ،

ص: 44

وشرب البنج وشرب التتن كلحم الحمار بعينه ، وهكذا جميع الأفعال المجهولة الحكم .

وأمّا الفرقُ بين الشرب واللحم بأنّ الشرب جنس بعيد لشرب التتن بخلاف اللحم ، فممّا لا ينبغي أن يُصغى إليه .

-------------------

وشرب البنج ) والأوّل : حلال كلحم الغنم ، والثاني : حرام كلحم الخنزير .

( وشرب التتن ) الذي هو القسم الثالث يكون حينئذٍ ( كلحم الحمار بعينه ) فإنّه مشكوك بانّهُ حلالٌ أو حرامٌ ، فاللازم أن يكون التتن كلحم الحِمار في الحلية ، لأنه قسم ثالث داخل في كليّ الشرب ، كما ان لحم الحِمار قسم ثالث داخل في كليّ اللحم .

( وهكذا ) يمكن فرض القسمين لا في التتن فقط بل في ( جميع الأفعال المجهولة الحكم ) .

لا يقال : فرقٌ بين التتن ولحم الحِمار ، إذ اللحم كليّ قريب للغنم والخنزير والحِمار ، بخلاف الشرب فهو كليّ بعيد ، إذ الشرب له قِسمان :

شرب المايع ، والتدخين الذي يصطلح عليه بالشرب أيضاً ، والتدخين له أقسام ، فيدخل لحم الحِمار في كلّي اللحم ، لانّه جنسٌ قريب إلى لحم الحِمار ، بخلاف شرب التتن فانّه لا يدخل في كليّ الشرب لأنه جنس بعيد بالنسبة اليه .

لأنه يُقال : ( وأمّا الفرق بين الشرب واللّحم : بأنّ الشرب جنس بعيد لشرب التتن ) وشرب البنج مثلاً ( بخلاف اللحم ، فممّا لا ينبغي انْ يُصغى إليه ) لوضوح : عدم الفرق بين القريب والبعيد ، إذ للتتن أيضاً جنس قريب وهو التدخين كما تقدّم : من انّه على ثلاثة اقسام : قسم محرمٌ هو : التدخين بالبنج ، وقسم مُحلل

ص: 45

هذا كلّه ، مضافا إلى أنّ الظاهر من قوله عليه السلام : « حَتّى تَعرِفَ الحَرامَ مِنهُ » ، معرفةُ ذلك الحرام الذي فرض وجوده في الشيء ، ومعلوم أنّ معرفة لحم الخنزير وحرمته لا يكون غاية لحلّيّة لحم الحِمار .

-------------------

وهو : التدخين بالبنفسج ، لأنّه نافع لبعض الأمراض ، وقسم مشكوك فيه وهو : التدخين بالتتن .

وعليه : فلو أَغمضنا النظر عن أصل الاشكال الذي ذكرناه على النَراقي ، فلا ينبغي الفرق بين التتن ولحم الحمار ، وفي شمول الرواية لهما ، كما لا حاجة في إدخال التتن في حكم الاباحة بما ذكره من الاجماع المركب .

( هذا كلّه ) هو أول الاشكالين على النراقي ، حيث أشرنا إليه بقولنا : وجه الفساد : ان وجود القسمين في اللحم ليس منشأً لاشتباه لحم الحِمار ، وهناك إشكال آخر على النَراقي أشارَ إليه المصنّف بقوله :

( مضافاً إلى انّ الظاهر من قوله عليه السلام : « حَتّى تَعَرِفَ الحَرامَ مِنه » : معرفة ذلك الحرام الذي فرض وجوده في الشيء ) فانّ المصنّف إستظهر من الرواية : انّ هذا اللحم حَلالٌ حتى تَعرِفَ انّه غير مُذكى ، فهناك لَحمانً : مُذكى وميِتة ، الأوّل :

حلال ، والثاني : حرامٌ ، والثالثً : لا يُعرف انّه حلالٌ أو حرامٌ ، فيحكم بحليته حتى يعرف انّه من الميتة الذي هو القسم الحرام من القسمين .

وعليه : فاذا شَك الانسان في لحم ، فهو لَهُ حلال حتى يعرف انّه داخل في القسم الثاني الذي هو الميتة ، وليس كذلك لحم الحِمار ، فانّه لا يكون له حلالاً حتى يعرف انّه لحم الخنزير ، لانه واضح ( ومعلوم انّ معرفة لحم الخنزير وحرمته لا يكون غاية لحلّية لحم الحِمار ) فانّه لا يعقل أن يقال اللحم الذي فيه حلال كالغنم ، وحرام كالخنزير ، هو لَكَ حلال عند الشك في لحم الحِمار حتى تعرف

ص: 46

وقد اورَدَ على الاستدلال :

-------------------

انّه حرام لكونه لحم الخنزيز .

لكنْ يمكن أنْ يُقال في ردّ هذا الاشكال بما يلي :

أوّلاً : من أين لزوم دخول اللحم المشكوك في العنوان الثاني حتى يشمله الخبر ، بل الخبر يشمل ذلك كما يشمل مالم يكن اللحم المشكوك داخلاً في أحد القسمين ؟ .

وثانياً : من المُمكن أنْ يُقال على تقدير القسمين أيضاً : انَّ ما خلقه اللّه من اللحوم قسم منه حلال وقسم منه حرام ، فاذا شك في لحم الحِمار يحكم بحليته حتى يعلم بكونه داخلاً في القسم الحرام .

وإلى هنا إنتهى كلام المصنّف في الاشكال على النَراقي الذي جَعل الخبر أعمّ من الشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية ، حيث انّ المصنّف يرى انّ الخَبر لا يشمل إلا الشبهة الموضوعيّة فقط ، فلا يكون دليلاً على البرائة التي ذكرها الاصوليون ، وإستشهدوا بهذا الخبر له .

ثم انّ المحقق القميّ أشكلَ على الاصوليين الذين جَعلوُا الخبرَ دليلاً على البرائة في الشبهة الحكميةِ بالاضافةِ الى كونهِ دليلاً على البرائة في الشبهة الموضوعيّة : بأنّه يلزم من شمول الخبر للقسمين من الشبهة استعمال اللفظ في معنيين ، فتارةً يُراد بقوله : « فيه حلال وحرام » الشبهة الحكمية أي : ما يحتمل انّه حلال أو حرام كالتتن ، وتارةً يُراد به : الشبهة الموضوعيّة أي : ما لا يعلم انّه مذكى أو ميتة ، وإنّما يكون إستعمالاً للفظ في معنيين ، لأنّه تارة يكون بمعنى الترديد ، وأخرى بمعنى التقسيم ، والى هذا الاشكال أشار المصنّف بقوله : ( وقد أورَدَ ) المحقق القميّ ( على الاستدلال ) أي : استدلال السيد الصدر بهذه الرواية

ص: 47

« بلزوم استعمال قوله عليه السلام : « فيه حَلالٌ وحرامٌ » ، في معنيين ، أحدُهما أنّه قابلٌ للاتصاف بهما .

وبعبارة أُخرى : يمكن تعلّق الحكم الشرعيّ به ليخرج ما لا يقبل الاتصاف بشيء منهما ، والثاني ، أنّه منقسم إليهما ،

-------------------

على البرائة في الشبهة الحكمية إضافة إلى شمول الرواية للشبهة الموضوعيّة ( بلزوم إستعمال قوله عليه السلام : « فيهِ حلالٌ وحرامٌ » في معنيين ) ومن المعلوم : ان إستعمال اللفظ في معنيين ، إما محال كما قاله الآخوند ، وإما خلافُ الظاهر فيحتاج إلى قرينة ولا قرينة في المقام كما قاله مشهور الاصوليين وأما المعنيين : فهما عبارة عمّا يلي :

( أحدهُما : انّه ) أي : انّ قوله عليه السلام : « كل شيء » ( قابلٌ للاتصاف بهما ) أي : بالحلال والحرام بمعنى الترديد .

( وبعبارة أُخرى : يمكن تعلق الحكم الشرعي ) من الحلال والحرام ( به ) أي : بقوله : « كل شيء » ( ليخرج ما لا يقبل الاتصاف بشيء منهما ) أي : ما لا يقبل الحكم الشرعي أصلاً ، كالأفعال الاضطرارية ، والأعيان التي لا يتعلق بها فعل المكلَّف - كما تقدَّم في كلام السيد الصدر - .

وعلى هذا : فقوله : « فيه حلال وحرام » هو بمعنى الترديد كشرب التتن ، وهي الشبهة الحكمية .

( والثاني : انّه ) أي : ان قوله عليه السلام : « كُلّ شيء » ( منقسم إليهما ) أي : إلى الحلال والحرام فيكون هناك قسمٌ حلالٌ كالمذكى ، وقسمٌ حرامٌ كالميتة ولا قسم مشكوك الموضوع ، فلا يعلم انّه داخل في القسم الحرام أو في القسم الحلال وهو الشبهة الموضوعية فيخرج بهذا المعنى ما علم انه حلال لا حرام فيه أو حرامٌ

ص: 48

ويوجد النوعان فيه إمّا في نفس الأمر أو عندنا ، وهو غير جائز ، وبلزوم استعمال قوله عليه السلام : « حَتّى تَعرِفَ الحَرامَ مِنهُ بعَينهِ » ، في المعنيين أيضا ، لأنّ المراد حتّى تعرف من الادلّة الشرعيّة إذا اريد معرفة الحكم المشتبه وتعرف من الخارج من بيّنة أو غيرها

-------------------

لا حلال فيه ، كما ذكره السيد الصدر أيضاً .

( و ) بعبارة أخرى : كل شيء فيه حلال وحرام يعني : ( يوجد النوعان فيه أمّا في نفس الأمر ) أي : فعلاً هو منقسم الى قسمين ، ولا نعلم انّ هذا المشكوك داخل في القسم الحرام ، أو في القسم الحلال ، كما في الشبهات الموضوعية من مثال المذكى والميتة واللحم المشكوك بينهما .

( أو عندنا ) أي : انا نتردد في ان هذا المشكوك حلال أو حرام بدون وجود القسمين فيه ، كما في الشبهات الحكمية .

( وهو ) أي : استعمال اللفظ في أكثر من معنى ( غير جائز ) .

هذا هو الاشكال الأوّل من المحققّ القميّ على السيد الصدر ، وله اشكال ثانٍ عليه ، وهو : ان استعمال اللفظ في معنيين يلزم أيضاً في قوله عليه السلام : « حتى تعرف الحرام » فانّه يكون حينئذٍ بمعنى : أن تعرف انّه داخل في القسم الحرام كما في الميتة والمذكى في الشبهة الموضوعيّة ، وتعرف انّ حكمه الحرمة من الخارج كما في التتن في الشبهة الحكميّة ، وإلى هذا الاشكال الثاني أشار المصنّف بقوله :

( وبلزوم إستعمال قوله عليه السلام : « حتى تعرف الحرامَ منه بعينهُ » في المعنيين أيضاً ) وذلك غير جائز ( لأن المراد : حتى تعرف ) الحرمة ( من الأدلّة الشرعيّة إذا اريد معرفة الحكم المشتبه ) في الشبهات الحكمية ( وتعرف من الخارج : من بيّنة أو غيرها ) كاخبار ذي اليد ، وسوق المسلمين وأرضهم ، وما أشبه ذلك

ص: 49

الحرمة ، إذا أُريد معرفة الموضوع المشتبه فليتأمّل » ، انتهى .

وليته أمر بالتأمّل في الايراد الأوّل أيضا ، ويمكن إرجاعه إليهما معا ، وهو الأولى .

هذه جملة ما استدلّ به من الأخبار .

والانصافُ : ظهورُ بعضها في الدلالة على عدم وجوب الاحتياط فيما

-------------------

( الحرمة ، إذا أريد معرفة الموضوع المشتبه ) في الشبهات الموضوعية .

ثم قال المحقّق القميّ : ( فليتأمّل ) إشارة إلى انّه ممُكن دفع الاشكال الثاني : بأنّ المعرفة قد استعملت في معنى واحد وهو العلم ، إلاّ أن طرق المعرفة مختلفةٌ ، فربّما تكون المعرفة من الدليل الشرعي ، وربّما تكون المعرفة من الامور الخارجية وعليه : فالإشكال الثاني عند المحقق القميّ أيضاً وارد على السيد الصدر ( إنتهى ) كلام المحقّق القميّ أعلى اللّه مقامه :

قال المصنّف رحمه اللّه : ( وليته ) أي : ليت المحقق القميّ ( أَمَرَ بالتأمّل في الايراد الأوّل أيضاً ) بأنّه من الممكن أن يكون قوله عليه السلام : « فيه حلال وحرام » قد استعمل في معنى واحد وهو ما فيه الاشتباه الاّ انّ ما فيه الاشتباه قد يكون منشأه : إجمال النّص، أو فقدانه، أو تعارض النصين ، وقد يكون منشأة : الامور الخارجية .

هذا ( ويمكن إرجاعه ) أي : إرجاع التأمّل الذي امر به المحقّق القميّ ( إليهما ) أي : إلى كِلا الا يرادين ( معاً ، وهو الأولى ) أي : ارجاع التأمّل إلى كلا الايرادين يكون أولى هكذا ذكر بعض الشراح والمحشين وجه التأمّل في كلام المصنّف ، لكن لنا في كون مراد المصنّف من التأمّل ما ذكروه تأمّل .

وكيف كان : فانّ (هذه جملة ما استدل به من الأخبار) على البرائة .

( والانصاف : ظهور بعضها في الدلالة على عدم وجوب الاحتياط فيما

ص: 50

لا نصّ فيه في الشبهة بحيث لو فرض تماميّةُ الأخبار الآتية للاحتياط وقعت المعارضة بينهما . لكن بعضها غير دالّ إلاّ على عدم وجوب الاحتياط لو لم يرد أمرٌ عامٌّ به ، فلا تعارض ما سيجيء من أخبار الاحتياط لو نهضت للحجّيّة سندا ودلالة .

-------------------

لانصّ فيه في الشبهة ) الحكمية مثل قوله عليه السلام : « كل شيء مُطلقٌ حَتى يَرِدَ فِيهِ النَهي » (1) وغير ذلك ( بحيث لو فُرضَ تمامّية الأخبار الآتية للاحتياط ) ممّا استدل بها الأخباريون للاحتياط في الشبهة التحريمية ( وقعت المعارضة بينهما ) لأن كلّ شيء مطلق يقول : مالم يكن نهي فهو حلال ، وخبر الاحتياط يقول : يلزم الاحتياط وإن لم يكن نهي .

( لكن بعضها ) أي : بعض أخبار البرائة ( غير دال إلاّ على عدم وجوب الاحتياط لو لم يرد أمر عامّ به ) أي بالاحتياط ( فلا تعارض ) هذه الأخبار الدالة على البرائة ( ما سيجيء من أخبار الاحتياط لو نهضت ) أخبار الاحتياط (للحجّية) بأنْ تمت دلالتها ، وسندها ، وجهة صدورها بحيث كانت كما قال : حجّة (سنداً و) نصّاً ، أو ظاهراً ( دلالة ) وصادِرَة لأجل بيان الحكم الواقعي لا للتقية ونحوها .

بل يلزم أن يقال حينئذٍ : انّ أخبار الاحتياط حاكمةّ على هذهِ الأخبار الدالة على البرائة كما سيجيء ، وإلى هنا تمّ الاستدلال بالآيات والأخبار على البرائة .

ص: 51


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

وأمّا الاجماع فتقريره على وجهين :

الأوّل : دعوى إجماع العلماء كلّهم من المجتهدين والأخباريّين على أنّ الحكمَ - فيما لم يَرد فيه دليلٌ عقليّ أو نقليّ على تحريمه من حيث أنّه مجهول الحكم - هي البراءة وعدمُ العقاب على الفعل .

وهذا الوجهُ لا ينفعُ إلاّ بعد عدم تماميّة ما ذكر من الدّليل العقليّ والنقليّ للحظر والاحتياط ، وهو نظير حكم العقل الآتي .

-------------------

( وأمّا الاجماع فتقريره على وجهين ) بالنحو التالي :

( الأوّل : دعوى إجماع العُلماء كلّهم من المجتهدين والأخباريين على انّ الحكم ) العلميّ ( فيما لم يَرد فيه دليلٌ ) عام أو خاص ( عقليّ أو نقليّ على تحريمه ) أي : تحريم الشيء المشكوك في انّه حرامٌ أو حلالٌ ( من حيث انّه مجهول الحكم : هي البرائة وعدم العقاب على الفعل ) .

الضمير : « هي » راجع ، إلى قوله : « الحكم » ، وانّما انّث الضمير باعتبار البرائة ، فانّ الضمير الذي يتوسط بين مُذكر ومؤنث يجوز فيه التذكير والتأنيث .

( وهذا الوجه ) من الاجماع الذي هو إجماع فرضي ( لا ينفع إلاّ بعد عدم تمامية ماذكر : من الدّليل العقليّ والنّقليّ للحظر والاحتياط ) إذ لو تمّ ما استدل به الأخباريون على الاحتياط من العقل أو النقل ، لم يكن مجال لهذا الاجماع .

( وهو ) أي : هذا الاجماع الفرضي يكون ( نظير حكم العقل الآتي ) فيما بعد ، الدال على البرائة ، فانّ العقل انّما يدل على البرائة إذا لم يكن دليل للاحتياط ، أما إذا كان هناك دليل على الاحتياط لم يكن مجال لحكم العقل .

ص: 52

الثاني : دعوى الاجماع على أنّ الحكم - فيما لم يرد دليل على تحريمه من حيث هو - عدمُ وجوب الاحتياط وجواز الارتكاب .

وتحصيلُ الاجماع بهذا النحو من وجوه :

الأوّل : ملاحظةُ فتاوى العلماء في موارد الفقه فانّك لا تكادُ تجدُ من زمانِ المحدّثين إلى زمان أرباب التّصنيف في الفتوى من يعتمد على حرمة شيء من الأفعال بمجرّد الاحتياط .

-------------------

( الثاني : دعوى الاجماع ) الحدسي الذي لا يضره مخالفة الأخباريين ، فانّ الاجماع الحدسي عبارة عن : اتفاق جماعة من العلماء ينتقل الذهن من اتفاقهم إلى رأي المعصوم عليه السلام ، ولا يحتاج مثل هذا الاجماع إلى اتفاق الكل كما ذكر في مبحث الاجماع ، وهذا الاجماع إنّما هو ( على انّ الحكم فيما لم يرد ) فيه ( دليل ) خاص أو عام ( على تحريمه ) واقعاً ( من حيث هو ) فانّ شرب التتن من حيث هو ، له حكمُ ، ومن حيث انه مشكوك ، له حكم ، وحكمه ( : عدم وجوب الاحتياط وجواز الارتكاب ) وذلك للبرائة .

( وتحصيل الاجماع بهذا النحو ) أي : الاجماع الكاشف عن قول المعصوم عليه السلام حدساً ( من وجوه ) تالية :

( الأوّل : ملاحظة فتاوى العلماء في موارد الفقه ) والاصول ، وهذا يسمى : بالاجماع المحصَّل في قِبال الاجماع المنقول ، الذي ينقله فقيه واحد أو أصولي واحد ( فإنّكَ لا تكادُ تجدُ من زمانِ المحدّثين ) وهم أصحاب الأئمة عليهم السلام وتابعيهم الذّين كتبُوا الأحاديث ( إلى زمان أرباب التصنيف في الفتوى : من يعتمد على حرمة شيء من الأفعال بمجرد الاحتياط ) .

فلا ترى أحداً من مثل : شيخ الطائفة ، والمُفيد ، والمرتضى ، وابن البَرّاج ،

ص: 53

نعم ، ربما يذكرونه في طيّ الاستدلال في جميع الموارد ، حتّى في الشبهة الوجوبيّة التي إعترف القائلون بالاحتياط بعدم وجوبه فيها .

ولا بأس بالاشارة إلى من وجدنا في كلماتهم ما هو ظاهر في هذا القول .

فمنهم ثقةُ الاسلام الكلينيّ رحمه اللّه ، حيث صَرَّح في ديباجة الكافي ب- « أنّ الحكمَ فيما إختلف فيه الأخبار التخييرُ » .

-------------------

وغيرهم يعتمد في الحكم بالحرمة على الاحتياط ، وانّما يستندون في الحرمة كاستنادهم في الوجوب إلى الأدلة الأربعة .

( نعم ، ربّما يذكرونه ) أي : يذكرون الاحتياط ( في طيّ الاستدلال في جميع الموارد ، حتى في الشبهة الوجوبيّة التي اعترف القائلون بالاحتياط ) في الشبهة التحريميّة وهم الأخباريون ( بعدم وجوبه فيها ) أي : بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية .

وعلى اي حال : فذكرهم للاحتياط انّما هو للتأييد لا للاستناد ، سواء ذكر الاحتياط في الشبهة الوجوبية أو في الشبهة التحريميّة .

ثم انّ المصنّف تَطرّق لذكر بعض كلماتِهم فقال : ( ولا بأس بالاشارة إلى من وجدنا في كلماتهم ماهو ظاهر في هذا القول ) أي : القول بالبرائة فيما لم يكن على حرمته دليل صريح من الأدلة الأربعة ( فمنهم : ثقة الاسلام الكُليني رحمه اللّه حيث صَرَّح في ديباجة الكافي : بانّ الحكم فيما إختلف فيه الأخبار ) اي اختلف بالتعارض هو ( : التخيير ) فاذا ورد - مثلاً - خبر بقول : « ثمن العذرة سُحتٌ » (1) ،

ص: 54


1- - تهذيب الأحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة: ج17 ص175 ب20 ح22284 .

ولم يلزم الاحتياط مع ما ورد من الأخبار بوجوب الاحتياط فيما تعارض فيه النصّان ، وما لم يرد فيه نصّ بوجوبه في خصوص ما لا نصّ فيه ، فالظاهرُ أنّ كلّ من قال بعدم وجوب الاحتياط هناك قال به هنا .

-------------------

وخبر آخر يقول : « لا بأس ببيع العذرة » (1) يكون المكلّف مخيراً بين الأمرين .

هذا ( ولم يلزم ) الكليني رحمه اللّه ( الاحتياط ) في باب تعارض الأخبار ( مع ما ورد من الأخبار بوجوب الاحتياط فيما تعارض فيه النصّان ) فقد قال الامام عليه السلام في مورد تعارض الأخبار : « خُذ بما وافَقَ الاحتياط منهُما » .

( و ) حيث ( ما لم يرد فيه نصّ بوجوبه ) أي : بوجوب الاحتياط ( في خصوص ما لا نصّ فيه ) يكون حال ما لا نصّ فيه مثل حال تعارض الأخبار ، فكما في مورد تعارض الأخبار ، كذلك لا احتياط في مورد عدم النصّ .

ثم إنّ الكليني رحمه اللّه لما قال : بالبرائة في صورة التعارض ، ولم يعمل بما ورد فيها من النص الخاص بالاحتياط ، لا بد وان يقول : بالبرائة في صورة فقدان النّص الذي هو محل البحث ، بطريق أولى ، والأولوية من جهة : انّ في مورد تعارض النصين يوجد نَصٌ بالتحريم ، وفي مورد فقدان النص ، لا يوجد نص بالتحريم ، فاذا كان الحكم بالبرائة في مورد يكون فيه نص على التحريم ، كان الحكم بالبرائة في المورد الذي لا نص فيه بطريق أولى .

وعليه : ( فالظاهر : انّ كل مَن قال بعدم وجوب الاحتياط هناك ) في تعارض النصين ( قال به ) أي : بعدم وجوب الاحتياط ( هنا ) أي : في صورة فقدان النص ،

ص: 55


1- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 و ح3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

ومنهم الصدوقُ رحمه اللّه ، فانّه قال : « إعتقادُنا أنّ الأشياء على الاباحة حتّى يَرِدَ النهيُ » . ويظهرُ من هذا موافقةُ والده ومشايخه ، لأنّه لا يعبّر بمثل هذه العبارة مع مخالفته لهم ، بل ربما يقول : « الذي أعتقده واُفتي به » ، واستظهر من عبارته هذه أنّه من دين الإماميّة .

وأمّا السيّدان ، فقد صرّحا باستقلال العقل بإباحة ما لا طريق إلى كونه مفسدةً

-------------------

ومن الواضح : ان صورة فقدان النص تشمل صورة إجمال النص ولو بالمِلاك .

( ومنهم الصدوق رحمه اللّه ) فانّ كلامه ظاهر بالبرائة فيما لا نصّ على تحريمه أيضاً ( فانّه قال : إعتقادنا انّ الاشياء ، على الاباحة حتّى يرد النهي ) فانّ هذا الكلام نص على انه إذا لم يكن نهي كان محَلاً للاباحة ، والاباحة عبارة أُخرى عن البرائة .

( ويظهر من هذا ) حيث قال : اعتقادنا ( : موافقة والده ومشايخه ) أيضاً على القول بالبرائة فيما لا نص فيه ( لأنّه لا يعبّر بمثل هذه العبارة ) وهي قوله : اعتقادنا ( مع مخالفته ) أي : الصدوق ( لهم ) أي : لوالده ومشايخه .

( بل ربّما يقول ) الصدوق رحمه اللّه فيما يتفرّد به : ان ( الذي اعتقده وأُفتي به ، و ) ربّما يقول : اني ( استظهر من عبارتهِ هذه : انه ) أي : كون الاشياء على الاباحة ، ما لم يكن هناكَ دليلٌ خاص أو عامٌ على التحريم فاستظهر منه ، واعتقد بانّه ( من دين الاماميّة ) وذلك لتعارف قوله : اعتقادنا فيما إذا طابق نظره نظر والده ومشايخه ، لا ما تفرد به : انّه من دين الامامية .

( وامّا السّيدان ) : المُرتضى ، وابن زُهرة ، ( فقد صَرَّحا : باستقلال العقل بإباحة ما لا طريق إلى كونه مفسدة ) كشرب التتن في الشبهة الحكميّة ، واللحم المشتبه بين المذكى والميتة في الشبهة الموضوعية .

ص: 56

وصرّحا أيضا في مسألة العمل بخبر الواحد أنّه متى فَرضنا عدمَ الدليل على حكم الواقعة رجعنا فيها إلى حكم العقل .

وأمّا الشيخُ قدس سره ، فانّه وإن ذهب وفاقا لشيخه المفيد قدس سره ، إلى أنّ الأصلَ في الأشياء من طريق العقل الواقف ، إلاّ أنّه صَرّح في العدة ب- « أنّ حكمَ الأشياء من طريق العقل وإن كان هو الوقف ، لكنّهُ لا يمتنعُ أن يدلّ دليل سمعيّ على أنّ الأشياء على الاباحة بعد أن كانت على الوقف ، بل عندنا الأمرُ كذلك وإليه نذهب » ، انتهى .

وأمّا من تأخّر عن الشيخ ، كالحِلّيّ والمحقّق والعلاّمة والشهيدين وغيرهم ، فحكمهُم بالبراءة يعلمُ من مراجعة كتبهم .

-------------------

( وصرّحا أيضاً في مسألة العمل بخبر الواحد : انه متى فَرضنا عدم الدليل ) ومرادهما بالدليل : الكتاب ، والسُنّة ، والاجماع ( على حكم الواقعة رجعنا فيها إلى حكم العقل ) وقد تقدّم منهما انَّ حكم العقل عندهما هو الاباحة .

( وأمّا الشيخ قدس سره : فانّه وإن ذهب وفاقاً لشيخه المفيد قدس سره إلى انّ الأصل في الأشياء من طريق العقل : الواقف ) في الحكم : لا الحظر ، ولا الاباحة ( إلاّ انه صَرّح في العدة : بان حكم الاشياء من طريق العقل وان كان هو الوقف ، لكنّه لا يمتنع ان يدل دليل سمعي ) أي : شرعي ( على انّ الأشياءَ على الاباحة بعد أنْ كانت على الوقف ) عقلاً ( بل عندنا الأمر كذلك وإليه نذهب ، انتهى ) فالأصل الأولي . بحكم العقل ، وإنْ كان الوقف ، إلاّ ان المستفاد من الدليل السمعي هو الاباحة .

( وأمّا من تأخر عن الشيخ : كالحِلّي ، والمحقّق ، والعلاّمة ، والشهيدين ، وغيرهم ، فحكمهم بالبرائة ) في الشبهة الحكمية ( يعلم مِن مراجعة كتبهِم ) فانّهم حَكمُوا بالبرائة في الشبهة التحريميّة .

ص: 57

وبالجملة : فلا نعرفُ قائلاً معروفا بالاحتياط ، وإن كان ظاهر المعارج نسبته إلى جماعة .

ثمّ إنّه ربما نُسب إلى المحقّق قدس سره ، رجوعه عمّا في المعارج إلى ما في المعتبَر من التفصيل بين ما يعمّ به البلوى وغيره ، وأنّه لا يقول بالبراءة في الثاني . وسيجيء الكلام في هذه النسبة بعد ذكر الأدلّة إن شاء اللّه تعالى .

وممّا ذكنا يظهرُ أنّ تخصيصَ بعض القول بالبراءة بمتأخّري الإماميّة مخالفٌ للواقع ،

-------------------

( وبالجملة : فلا نعرف قائلاً معروفاً بالاحتياط ، وانْ كان ظاهر المعارج ) للمحقّق ( نسبته ) أي : نسبة القول بالاحتياط ( إلى جماعة ) ولعلهم كانوا من العلماء الذين لم يصل الينا تأليفهم ، أو لم تكن لهم تأليفات .

( ثم انّه ربّما نُسب إلى المحقق قدس سره رجوعه ) أي : رجوع المحقّق ( عمّا في المعارج إلى ما في المُعتَبر من التفصيل ) فانّ الناسب قال : ان المحقق وانْ اختار في المَعارج : البرائة ، لكنّه عَدَلَ في المعتَبَر عنه الى التفصيل ( بين ما يعمّ به البلوى ) أي : يكثر به الابتلاء ( وغيره ، وانّه لا يقول بالبرائة في الثاني ) أي : فيما لا يكثر الابتلاء به ، وانّما يقول بالبرائة في الأول الذي يعمّ به البلوى .

( وسيجيء الكلام في ) بُطلان ( هذه النسبة بعد ذكر الأدلّة إن شاء اللّه تعالى ) الكاشفة عن ان المحقّق باقٍ على قوله في المعارج : من أن الأصل البرائة .

( ومما ذكرنا ) : من ذهاب المتقدمين والمتأخرين إلى الحكم بالبرائة في الشبهة التحريميّة ( يظهر : انّ تخصيص بعض ) الفقهاء ( القول بالبرائة بمتأخري الإماميّة ) فقط دون متقدميهم ( مخالفٌ للواقع ) إذ قد عَرفت : انّ الإماميّة

ص: 58

وكأنّه ناش عمّا راى من السيّد رحمه اللّه ، والشيخ رحمه اللّه ، من التمسّك بالاحتياط في كثير من الموارد . ويؤيّده ما في المعارج من نسبةِ القول برفع الاحتياط على الاطلاق إلى جماعةٍ .

الثاني : الاجماعات المنقولة والشهرة المحقّقة ، فانّها قد تفيد القطع بالاتفاق .

وممّن استظهر منه دعوى ذلك ، الصدوق رحمه اللّه ، في عبارته المتقدّمة عن إعتقاداته .

-------------------

من المتقدمين والمتأخرين مطبقون على القول بالبرائة .

( وكأنه ) أي : كأن نسبة التخصيص بالمتأخرين ( ناش عَمّا رَأى ) هذا الناسب ( من السيد رحمه اللّه والشيخ رحمه اللّه من التمسّك بالاحتياط في كثير من الموارد ) التي ارتأوا الحَظر فيها ، وذلك من باب التأييد والاستناد لما رأوه ، لا من باب وجوب الاحتياط .

( ويؤيده ) أي : يؤيد كون التخصيص بالمتأخرين خلاف الواقع ( : ما في المَعارج : من نسبةِ القَول برفع الاحتياط على الاطلاق إلى جَماعةٍ ) أي : انّ المَعارج نَسبَ القول بالاحتياط إلى جماعةٍ فقط ، ممّا ظاهره : ان المشهور يقول بالبرائة ، وقوله : رفع الاحتياط ، بمعنى : نسبته ، لأن النسبة إذا كانت إلى جماعة سابقة تسمّى رفعاً ، ولهذا تسمّى الرواية الساقطة بعض اسنادها بالمرفُوعَة .

( الثاني ) من وجوه دعوى الاجماع ( : الاجماعات المنقولة ) في كلمات الأصحاب ( والشهرة المحقّقة ) التي يجدها الانسان عند مراجعة كلماتهم ( فانّها قد تفيد القطع بالاتفاق ) من جميع العلماء .

( وممّن استظهر منه دعوى ذلك ) . اي : الاجماع المذكور ، هو ( الصدوق رحمه اللّه ، في عبارته المتقدّمة عن ) كتاب ( إعتقاداته ) حيث قال رحمه اللّه : اعتقادنا : انّ الأشياء

ص: 59

وممّن إدّعى اتفاقَ المحصلين عليه الحلّيُّ في أوّل السرائر حيث قال ، بعد ذكر الكتاب والسنّة والاجماع : « إنّه إذا فقدت الثلاثة ، فالمعتَمدُ في المسألة الشرعيّة عند المحقّقين الباحثين عن مأخذ الشريعة التمسّكُ بدليل العقل » ، انتهى .

ومراده بدليل العقل ، كما يظهر من تتبّع كتابه ، هو أصل البراءة .

وممّن ادّعى إطباق العلماء المحقّقُ في المعارج في باب الاستصحاب ، وعنه في المسائل المصريّة أيضا في توجيه نسبة السيّد إلى مذهبنا جواز

-------------------

على الاباحة فانّ هذا إجماع منقول على البرائة .

( وممّن ادّعى اتفاق المحصّلين ) أي : اجماع العلماء ( عليه ) أي : على القول بالبرائة هو : ابن ادريس ( الحلّي في أوّل السرائر حيث قال ، بعد ذكر الكتاب والسّنة والاجماع ) وانّها أدلة للأحكام : ( انّه إذا فقدت الثلاثة ، فالمعتَمد في المسألة الشرّعيّة عند المحققين الباحثين عن مأخذ الشريعة ) أي : عن مدركها ( التَمسك بدليل العقل ، انتهى ) .

هذا ولم يرد ابن إدريس من دليل العقل ما يذكره المتأخرون من الأدلة العقليّة في الأحكام الشرعيّة مطلقاً ، بل كما ذكره المصنّف : ( ومراده بدليل العقل ، كما يظهر من تتبع كتابه : هو أصل البرائة ) فانّ الحلي رحمه اللّه من عادتهِ الرّجوع إلى البرائة عند فقد الثلاثة ، والجمع بين هذين الكلامين منه ، يدل على ان مراده من دليل العقل : البرائة .

( وممّن إدعى إطباق العلماء : المحقّق في المَعارج في باب الاستصحاب ) كما رأيناه في كتابه ( و ) نقل ( عنه ) أي : عن المحقّق ( في ) رسالته المُسمات باسم : ( المسائل المصرّيّة أيضاً في توجيه نسبة السّيد ) المرتضى ( إلى مذهبنا : جواز

ص: 60

إزالة النجاسة بالمضاف مع عدم ورود نصّ فيه :

« إنّ من أصلنا العملَ بالأصل ، حتّى يثبت الناقل ولم يثبت المنع عن إزالة النجاسة بالمايعات » .

فلولا كونُ الأصل إجماعيّا ، لم يحسن من المحقّق قدس سره ، جعله وجها لنسبة مقتضاه إلى مذهبنا .

وأمّا الشهرةُ

-------------------

ازالة النّجاسة بالمضاف مع عدم ورود نصّ فيه ) .

فانّ السيد المرتضى قال : ومن مذهبنا جواز ازالة النجاسة بالمضاف ، فأثار هذا الكلام السؤال بانّه : كيف ينسب السيد الى المذهب ما لا نصّ فيه؟ فاجاب المحقق عنه : بأنّ هذه الدعوى ليست مبتنية على تتبع الأدلة من الكتاب ، أو السنّة ، بل ( ان من أصلنا : ) أي : من قواعد الشيعة الإمامية ( العمل بالأصل ) أي : البرائة ( حتّى يثبت النّاقل ) أي : المانع عن ذلك الأصل ( ولم يثبت المنع عن إزالة النّجاسة بالمايعات ) المضافة ، فيدل اصل البرائة هذا على كفاية الازالة بالمضاف .

ولا يخفى : انّ ما ذكره وإنْ كان محلُ نظر صُغرىً ، إلا انّ مرادنا بالاستدلال على الحكم بالأصل ، هو : أنْ يتمسك بالأصل حيث لا يجد الدليل .

قال الشيخ المصنّف قدس سره : ( فلولا كون الأصل إجماعيّاً ، لم يحسن من المحقّق قدس سره جعله ) أي : جعل الأصل ( وجهاً ) أي : توجيهاً ( لنسبة ) السيد رحمه اللّه ( مقتضاه ) أي : مقتضى الأصل وهو : جواز إزالة النجاسة بالمايعات (إلى مذهبنا) .

وعليه : فهذه كلّها إجماعات منقولة تدل على انّ عملهم يكون على البرائة في مورد فقدان النص .

( وأمّا الشهرة ) في المسألة ، فقد ذكرنا : انّها شهرة محققة على انهم يعملون

ص: 61

فانّما تتحقّق بعد التتبّع في كلمات الأصحاب ، خصوصا في الكتب الفقهيّة . ويكفي في تحقّقها ذهابُ من ذكرنا من القدماء والمتأخّرين .

الثالث : الاجماع العمليّ الكاشف عن رضا المعصوم عليه السلام ،

-------------------

بالبرائة عند فقد النص ( فانّما تتحقق بعد التّتّبع في كلمات الأصحاب ، خصوصاً في الكتب الفقهيّة ) كما انّ بعضاً منها يوجد أيضاً في الكتب الاصولية ، أو في الكتب الاعتقادية .

( ويكفي في تحقّقها ) أي : الشهرة ( ذهاب من ذكرنا ) أسمائهم في الاجماع (من القدماء المتأخرين) إليها ، فانّه إذا لم يحصل لنا من تتبع أقوالهم إجماع في المسألة فلا أقل من حصول الشهرة المحققة عليها .

ولا يخفى : انّ المُراد بالشهرة هنا : الشهرة الفتوائيّة لا الشهرة الروائيّة ، وقد ذهبَ جمعٌ من العلماء الى ان حجيّة الشهرة لقوله عليه السلام : « خُذ بما اشتهر بين أصحابِكَ وَدَعْ الشَاذَ النَادِرَ ، فَانَّ المُجمَعَ عَليهِ لا رَيبَ فِيهِ » (1) إذ التعليل يدل على عموم حجيّة الشهرة ، وإنْ لم تكن الشهرة في الرواية ، فانّ الشهرة الروائيّة كانت مورداً للحديث المذكور ، والمَورد لا يخُصص الوارد .

إلى هنا تحقق وجود الاجماع المحصَّل ، والاجماع المنقول ، والشهرة على انّ البرائة هي المحكمة في الشبهة الحكمية التحريمية .

(الثالث) من وجوه الاجماع : ( الاجماع العمليّ ) أي : انهم أجمعوا في عملهم على التمسك بالبرائة ( الكاشف عن رِضا المعصوم عليه السلام ) فانّ عمل الأتباع

ص: 62


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

فانّ سيرةَ المسلمين من أوّل الشريعة بل في كلّ شريعة على عدم الالتزام والالزام بترك ما يحتمل ورود النهي عنه من الشارع بعد الفحص وعدم الوجدان ، وأنّ طريقة الشارع كان تبليغ المحرّمات دون المباحات وليس ذلك إلاّ لعدم إحتياج الرخصة في الفعل إلى البيان ، وكفاية عدم وجدان النهي فيها .

-------------------

المقيّدين بالعمل بأقوال المتبوعين ، يدلّ على ان المتبوع راضٍ بذلكَ ، وإلاّ بأن لم يكن راضياً ، لما عمل الأتباع به .

( فانّ سيرة المسلمين من أوّل الشريعة ) اي : من زمن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، الى يومنا هذا ( بل في كلّ شريعة ) وقانون من القوانين الوضعية المتعارفة في العالم غير المتدين جارٍ ( على عدم الالتزام ) بأنّفسهم ( والالزام ) لغيرهم ( بترك ما يحتمل ورود النهي عنه من الشارع بعد الفحص وعدم الوجدان ) فانّ احتمالهم ورود النهي لا يكفي لديهم للعمل بالاحتياط ، بل إنّهم مع إحتمالهم ورد النهي إذا فحصوا ولم يجدوا عملوا بالبرائة .

( و ) ممّا يؤيد ذلك ( ان طريقة الشارع كان تبليغ المحرّمات دون المباحات ) كقوله تعالى : « حُرّمت عَليكُم الميتَةُ ، وَالدَمُ ، وَلحمُ الخنزير ، وَما أُهِلَ لغَير اللّه بهِ ، وَالمنخَنقَةُ ، والموقُوذَة ، والمُتَرَدّيةُ ، وَالنَطيحَةُ ، وَمَا أَكَل السَبعُ إلاّ ما ذَكيتُم ، وَماذُبِحَ على النُّصُبِ ، وأن تَستَقسِمُوا بالأزلام ، ذلكم فِسقٌ ...» (1) .

(وليس ذلك إلاّ لعدم إحتياج الرخصة) من الشارع وإلاباحة (في الفعل إلى البيان ، و كفاية عدم وجدان النّهي فيها ) من الشارع ، وعلى ذلك جرت سيرة المسلمين .

ص: 63


1- - سورة المائدة : الآية 3 .

قال المحقّق رحمه اللّه ، على ما حكي عنه : « إنّ اهل الشرائع كافّة لا يخطِّئون من بادَرَ إلى تناول شيء من المشتبهات ، سواء علم الاذن فيها من الشرع أم لم يعلم ، ولا يوجِبُونَ عليه عند تناول شيء من المأكول والمشروب أن يعلم التنصيص على إباحته ، ويعذرونه في كثير من المحرّمات إذا تناولها من غير علم ،

-------------------

وهذا الكلام لسنا أوّل من قاله ، وانّما سَبَقَنا إليه غيرنا ، فقد ( قال المحقّق رحمه اللّه ، على ما حُكي عنهُ : انّ أهل الشرائع كافةً لا يُخطّئون مَنْ بادَرَ الى تناول شيء من

المشتبهات ) والمبادرة يُراد بها : الارتكاب ، المُسابقة ( سواء علم الاذن فيها من الشرع ، أم لم يعلم ) .

فانّ المتشرعة لايفرّقون بين ماهو معلوم الاباحة من الشرع ، وبين ماهو مشكوك الاباحة منه ، فيتناولون الشيء المشكوك الاباحة كما يتناولون الشيالمعلوم سواء كان في الأكل ، أو الشرب ، أو اللباس ، أو المسكن ، أو المركب ، أو الزوجة ، أو غير ذلك .

( ولا يوجِبوُنَ عليه ) أي : على المتناول ( عند تناول شيء من المأكول ، والمشروب ) والملبوس ، والمنكوح ، والمسكون ، وغيرها ( ان يعلم التنصيص على اباحته ) فلا يقولون : انّه يجب عليك العلمَ بالاباحة ، بل يقولون : انه يكفيك احتمال الاباحة إنْ لم يكن نصّ على التحريم .

كما ( ويعذرونه في كثير من المحرّمات إذا تناولها من غير علم ) بأنّ كان قاصِراً فتناول محرَّماً من المحرمات ، فلا يقولون له : انّ القاعدة اجتناب الشيء حتى تثبت الاباحة ، بل يقولون له : ان القاعدة التناول الا أن يثبت التحريم .

ص: 64

ولو كانت محظورة لأسرعوا إلى تخطئته حتّى يعلم الاذن » ، انتهى .

أقول : إن كان الغرضُ ممّا ذكر من عدم التخطئة بيانَ قبح مؤاخذةِ الجاهل بالتحريم ، فهو حَسنٌ مع عدم بلوغ وجوب الاحتياط عليه من الشارع ، لكنّه راجع إلى الدليل العقليّ الآتي ، ولا ينبغي

-------------------

هذا ( ولو كانت ) المشتبهات المحتمله للتحريم ( محظورة ) أي : ممنوعة عند المتشرعة ( لأسرعوا إلى تخطئته حتى يعلم الاذن ، إنتهى ) كلام المحقّق .

( أقول ) : هل انّ مبنى كلام المحقّق في الشارع ، وانّه يقبح عليه مؤاخذة الجاهل بالحكم مع جهله بوجوب الاحتياط أيضاً كما اذا كان الشخص جاهلاً بأن التتن - مثلاً - حرامٌ عليه ، وجاهلاً بأنّه يلزم عليه الاحتياط في الشبهة التحريمية؟

انْ كان هذا مبنى كلامه ، فيَردُ عَليه : ان اللازم على المحققّ حينئذٍ أن يجعل هذا دليلاً عقلياً لأن كافة العقلاء على ذلك وليس أهل الشرائع فقط .

أو : ان مبنى كلام المحقّق في المكلّف ، وانّه لا يجب عليه دفع الضرر المحتمل ؟ ان كان هذا مبنى كلامه ، فسيجيء البحث عن ان العقل هل يحكم بوجوب دفع الضرر المحتمل ، أو لا يحكم بوجوبه انشاء اللّه تعالى .

والى المبنى الاوّل اشار المصنّف بقوله : ( إن كان الغرض ) للمحقق ( ممّا ذكر : من عدم التخطئة ) لمن يبادر الى تناول المشتبهات هو : ( بيان قبح مؤاخذةِ الجاهل بالتحريم ؟ ) أي : انّ الشارع يَقْبُح عليه أنْ يُعاقبَ الجاهل بالتحريم ( فهو حَسنُ مع عدم بلوغ وجوب الاحتياط عليه ) أي : على الجاهل ( من الشارع ) أي : انّ العبد لم يبلغه الحكم ولم يبلغه وجوب الاحتياط عند جهله بالحكم .

( لكنّه ) أي : قبح مؤاخذةِ الجاهل ( راجع إلى الدّليل العقلي الآتي ، ولا ينبغي

ص: 65

الاستشهاد له بخصوص أهل الشرائع ، بل بناء كافّة العقلاء وإن لم يكونوا من أهلِ الشرائع على قبح ذلك .

وإن كان الغرضُ منه أنّ بناء العقلاء على تجويز الارتكاب مع قطع النظر عن ملاحظة قبح مؤاخذة الجاهل ، حتّى لو فرض عدم قبحها لفرض العقاب من اللوازم القهريّة لفعل الحرام - مثلاً -

-------------------

الاستشهاد له بخصوص أهل الشرائع ) كما فعله المحقّق ، حيث استدل على ذلك بخصوص أهل الشرائع ( بل بناء كافّة العقلاء ) حتى ( وإن لم يكونوُا من أهلِ الشرائع : على قُبح ذلك ) أي : قبح العِقاب بدون البيان والى المبنى الثاني اشار المصنّف بقوله : ( وان كان الغرض منه ) أي : غرض المحقّق من هذا الكلام ( : انّ بناء العقلاء على تجويز الارتكاب مع قطع النظر عن ملاحظة قبح مؤاخذة الجاهل ) أي : بناء العقلاء على ان للعبد أن يرتكب ما لم يعلم حرمته ( حتى لو فرض عدم قبحها ) أي : قبح المؤاخذة فانّ كلا منا ليس في الشارع وانّه يوأخذ أو لا يؤاخذ ، أو يقبح مؤاخذته أولا يقبح مؤاخذته ، بل كلامنا في العبد من حيث انّه يجوز له ارتكاب ماهو محتمل الضرر أو لا يجوز له ذلك؟ .

إنْ قلت : كيف يتصور ويفرض عدم قبح مؤاخذة الجاهل عقلاً؟ بعبارة اخرى : كيف يُمكن أن نقول : بأن مؤاخذة الجاهل جائزة ؟ .

قلت : ( لفرض العقاب من اللوازم القهرية لفعل الحرام - مثلاً - ) فإنّ بعضهم قالوا : بأنّ العقاب تابعٌ لفعل الحرام ، فحال العقاب حال السُكر من اللوازم القهرية لشرب الخمر ، فانّ شارب الخمر سواء شربها عمداً أو جهلاً لابد وأن يَسكر ، وبعضٌ قالوا : بأن الانسان إذا ارتكب الحرام يعاقب ، لأن العقاب ثمرةُ الحرام سواء كان فاعل الحرام قاصراً أو مقصراً .

ص: 66

أو فرض المولى في التكاليف العرفيّة ممّن يؤاخذ على الحرام ولو صدر جهلاً لم يزل بناؤهم على ذلك ، فهو مبنيّ على عدم وجوب دفع الضرر المُحتمل ، وسيجيء الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى .

-------------------

( أو فرض المولى ) مولى اعتباطياً لا يعمل بموازين العقل ( في التكاليف العرفيّة ) بأن كان المولى ( ممن يؤاخذ على الحرام ولو صدر جهلاً ) كما هو الغالب في قوانين عالم اليوم التي وضَعَها مَنْ يُسمون أنفسهم بالعقلاء ، فانّ من يدخل البلد - مثلاً - بدون إجازة الدولة ، يعاقبونه بالسجن أو الغَرامة وإنْ لم يكن يعلم ذلك الداخل بقانون البلد ، إلى غير ذلك من قوانينهم الكثيرة التي تشمل العالم والجاهل والقاصر والمقصر ، وعليه : فلو فرض بناء العقلاء على جواز الارتكاب ، فانّه ( لم يزل بناؤهم على ذلك ) أي على تحويز الارتكاب وقوله : « لم يزل » ، جواب قوله : « لو فرض » .

وكيف كان : فانْ كان غرض المحقّق : انّ العقلاء يُجوّزوُن إرتكاب الجاهل ولو فرضنا انّه لا يقبح عقابه ومؤاخذته ( فهو مبنيٌّ على عدمِ وجوبِ دفع الضرر المُحتمل ) وانّه هل لمِنْ يُريد الارتكاب ، جواز الارتكاب عقلاً إذا احتمل الضرر أو عدم جواز الارتكاب؟ ( وسيجيءُ الكلامُ فيه ) أي : في وجوبِ أو عدمِ وجوب دفع الضرر المُحتمل ( إن شاء اللّه تعالى ) في بَحث الشك في المكلَّف به .

ولعل الأوجه في هذا الباب هو : ان دفع الضرر المُحتمل انّما لا يجب إن كان الضَرر المحتمل قليلاً ، أو كان من باب الأهم والمُهم ، كما إذا احتمل الغَني خسارةَ درهم ، أو احتمل راكب السفينة الغَرق ، والاّ فانّ العقل يحكم بوجوبه .

ثم ان المصنّف بعد أنْ ذكر الكتاب والسنّة والاجماع دليلاً على البرائة في الشبهة التحريميّة ، شرعَ في الدّليل الرابع فقال :

ص: 67

الرابع من الأدلّة : حكم العقل بقبح العقاب على شيء من دون بيان التكليف

ويشهد له حكمُ العقلاء كافّة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما يعترف بعدم إعلامه أصلاً بتحريمه .

ودعوى : « أنّ حُكمَ العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيانٌ عقليٌّ ، فلا يقبح بعده المؤاخذة » ،

-------------------

( والرّابع من الأدلة ) على البرائة في الشبهة التحريميّة : ( حكمُ العقل بقبح العقاب على شيء ، من دون بيان التكليف ) فإنّ المولى إذا لم يُبين التكليف وجوبياً أو تحريماً ، يقبحُ عَقلاً عقوبة المرتكب ، فعدم البيّان هو موضوع البرائة العقليّة ( ويشهد له ) أي : يشهد لحكم العقل هو ( : حكم العقلاء كافة : بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما ) أي : فعل الحرام الذي ارتكبه العبد ، ممّا ( يعترف ) المولى ( بعدم إعلامه أصلاً ) أي : بعدم إعلام المولى العبد ( بتحريمه ) أي : بتحريم ذلك الفعل ، فاذا اعترف المولى : انّه لم يبين لعبده الحكم اصلاً ، أو بينه لكن لم يصل إلى العبد ، ولم يوجب عليه الاحتياط ، فانّ العقلاء يَرون عقاب المولى لمثل هذا العبد في ارتكابه للمحرم الواقعي قبيحاً .

إن قلت : انّه حيث يلزم دفع الضرر المحتمل ، وعقل العبد يقول به ، فليحتمل العبد الضرر في ارتكاب شيء كان هذا الأمر العقلي بياناً فلو ارتكبه الا يقبح عقاب المولى له كما قال المصنّف : ( ودعوى : انّ حُكمَ العقل بوجوبِ دفع الضَّرر المُحتَمل بيانٌ عقليٌّ ، فلايَقبح بعدَهُ ) ، أي : بَعدَ هذا البيان العقليّ ( المؤاخذةُ )

ص: 68

مدفوعةٌ : بأنّ الحكمَ المذكور على تقدير ثبوته لا يكونُ بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه ، وإنّما هو بيان لقاعدة كليّة ظاهريّة وإن لم يكن

-------------------

من المولى لعبدِهِ ، والحاصل ان دفع الضرر المحتمل بيان ، فاذا ارتكبَ العبد ماهو محتمل الضرر ، وعاقَبَهُ المولى عليه لم يكن من المولى عقاب بلا بيان ، بل كان العقاب مع البيان العقلي ، ولا فرق في البيان بين كونهِ شَرعياً أو عقليّاً .

قلت : هذه الدعوى ( مدفوعةٌ ) وذلك لأنّ في المَقام قاعدتين :

الاُولى : « قُبح العِقابِ بَلا بَيان » .

الثانية : « دَفع الضَرر المُحتمل واجبٌ » .

لكنّ القاعدة الاولى لا تَدعُ مَجالاً للقاعدةِ الثانية ، لأن الضررَ المحتمل يرتفع بسبب عدم البَيان ، فلا يحتمل العَبد الضرر ، إذ يقول العبد للمولى : إنّك لم تُبيّن ، فلم أحتمل الضَرر ، وعليه : فالدعوى مدفوعة ( ب- ) سبب ( انّ الحكم المذكور ) أي : دفع الضرر المحتمل ( على تقدير ثبوته ) وحكم العقل بوجوبه ( لا يكون بياناً للتكليف المجهول المعاقَب عليه ) إذ اللازم على المولى : إما أنْ يُبيّن انّ التتن حرامُ ، واما أن يُوجب الاحتياط حتى يكون الاحتياط بياناً ، وحيث لم يبيّن حرمة التتن ، ولا وجوب الاحتياط ، فلا بيان من المولى ، وإذ لم يكن بيان ، فلا يخاف العبد الضرر المحتمل .

إذن : فليس وجوب دفع الضرر المحتمل بياناً واقعياً للتكليف المجهول ( وإنما هو ) أي : وجوب دفع الضرر المحتمل ( بيان لقاعدة كلية ظاهرية ) إذ العقل قد يبيّن قاعدة واقعيّة مثل : حرمة ظلم الناس ، وقد يبيّن قاعدة ظاهرية مثل : وجوب دفع الضرر المحتمل ، ووجوب الاحتياط في أطراف الشبهة ( وإن لم يكن

ص: 69

في مورده تكليف في الواقع ، فلو تمّت عُوقِبَ على مخالفتها وإن لم يكن تكليفٌ في الواقع ، لا على التكليف المحتمل على فرض وجوده

-------------------

في مورده ) أي : في مورد هذا الحكم العقلي ( تكليف في الواقع ) أي : حكماً واقعياً بالاجتناب عنه - مثلاً - .

فانّ العقل يقول اجتنب عن الانائين الذين أحدهما : سمُ ، ومعنى ذلك : اجتنب عن الاناء الأحمر وعن الاناء الأبيض ، فلو اجتنب عن الاناء الأحمر كان هذا حُكماً عقليّاً ظاهرياً ، لانّه قد لا يكون السم في مورد الاناء الأحمر ، وكذا إذا قال : إدفع الضرر المحتمل ، حيث سمع بأنّ في السفر الكذائي ضرراً ، فسافر ولم يكن في الواقع ذلك الضرر المذكور ، فانّه لا تكليف له في الواقع ، وانّما يصل إلى المقصد بسلام ، ولهذا كان مثل هذا الحكم العقلي حكماً ظاهرياً لا حكماً واقعياً .

وعليه : ( فلو تمت ) قاعدة دفع الضرر المحتمل وقلنا : انّ العقل يحكم بهذه القاعدة الظاهرية ( عُوقِبَ على مخالفتها ) أي : على مخالفة هذه القاعدة الظاهرية ، لا على مخالفةِ الواقع ، لفرض انّه لم يكن في الاناء الذي شَربه سم حتى يَضره الواقع ، وكذا لم يكن في الطريق ضرر حتى يتضرر بمخالفة الواقع ، فدفع الضرر المحتمل تكليفُ ظاهري ، ويعاقب لو خالفه حتى ( وان لم يكن تكليف في الواقع ) في مورده باجتناب التتن - مثلاً - .

( لا ) انّه يعاقب ( على التكليف المحتمل على فرض وجوده ) أي : وجود ذلك التكليف المحتمل يعني : انه لو كان التتن في الواقع حراماً ، لم يكن العقاب على شرب التتن لانّه لم يصله حرمة التتن وانّما يكون العقاب على انّه لماذا خالف وجوب دفع الضرر المحتمل ؟ .

ص: 70

فلا تصلح القاعدة لورودها على قاعدة القبح المذكورة ، بل قاعدة القبح واردة عليها ، لأنّها فرع احتمال الضرر ، أعني العقاب ، ولا احتمال بعد حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان ، فمورد قاعدة دفع العقاب المحتمل هو ما ثبت العقاب فيه ببيان الشارع للتكليف فتردّد المكلّف به بين أمرين ، كما في الشبهة المحصورة وما يشبهها ،

-------------------

وعلى هذا : ( فلا تصلح القاعدة ) أي : قاعدة دفع الضرر المحتمل ( لورودها على قاعدة القبح المذكورة ) أي : قاعدة قبح العقاب بلا بيان ( بل قاعدة القبح واردة عليها ) أي : على دفع الضرر المحتمل ، فانّه لما قبح العقاب بلا بيان ، والمولى لم يبين حرمة التتن لا بالصراحة ولا بإيجاب الاحتياط ، فلا احتمال للضرر حتى يجب دفع الضرر المحتمل ، وذلك ( لأنها ) أي : قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ( فرع إحتمال الضّرر ) الاخروي ( أعني : العقاب ، ولا احتمال بعد حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان ) على ما عرفت .

إذن : ( فمورد قاعدة دفع العقاب المحتمل هو : ما ثبت العقاب فيه ببيان الشارع للتكليف ) أو بيانه وجوب الاحتياط ، أما لو شك في التكليف بعد الفحص وعدم الظفر بالحكم الشرعي ، وكذا عدم الظفر بوجوب الاحتياط ، فلا عِقاب فيه قطعاً .

وإنّما يكون العقاب محتملاً فيما إذا بيّنَ الشارع التكليف فخالفه ، أو بينَ الشارع التكليف ( فتردّد المكلّف به بين أمرين ، كما في الشبهة المحصورة ) سواء كان الاشتباه في الامور الخارجية ، كالانائين المشتبهين ممّا يُسمّى بالشبهة الموضوعيّة ، أو كان الاشتباه بين حكمين إلزاميين ممّا يسمّى بالشبهة الحكميّة كالاشتباه بين وجوب الظهر أو الجمعة ( وما يشبهها ) أي : ما يشبه الشبهة المحصورة ، كالشبهة التي أمر الشارع بالاجتناب عنها ، كما في الدِماء ، والفروج ،

ص: 71

هذا كلّه إن اُريد بالضرر العقابُ .

وإن اريد بها مضرّةٌ أُخرى غيرُ العقاب التي لا يتوقف ترتّبها على العلم ، فهو وإن كان محتملاً ، لا يرتفع إحتماله بقبح العقاب من غير بيان ، إلاّ أنّ الشبهة من هذه الجهة موضوعيّة لا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين .

-------------------

والأموال ، على ما ذكروا من وجوب الاحتياط فيها .

( هذا كله ) أي : كون قاعدة القبح وارداً على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ( إن أريد بالضرر : العقاب ) الاخروي ، وقد تبيّن : انّه لا عقاب في الآخرة ، لانّه لا بيان .

( و ) أما ( إن أريد بها ) أي : بقاعدة دفع الضرر المحتمل ( مضرة أخرى غير العقاب ) كالأضرارَ الدنيوية ، مثل : ضرَر شرب الخمر على صحته وسلامته أو المضرات الاخروية غير العقاب مثل : كون جمود العين سبباً لقسوة القلب ، وقسوة القلب مانعة عن الارتقاءات المعنوية ، فلا ترتفع به .

إذن : فالمضرات الاُخر ، كالآثار الوضعية ( التي لا يتوقف ترتبها على العلم ) بالحرمة ، لوضوح : ان السكر يعرض الانسان إذا شرب الخمر ، سواء علم بأنّها خمر أم لا ، وكذلك إذا جمدت عينه بقسوة قلبه وقساوة القلب مانعةٌ عن الارتفاعات المعنويّة ( فهو وإنْ كان محتملاً ، لا يرتفع إحتماله بقبح العقاب من غير بيان ، إلاّ انّ الشبهة من هذه الجهة موضوعيّة لا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين ) .

والحاصل : ان قولكم : شرب التتن فيه ضرر محتمل ، ودفع الضرر المحتمل

ص: 72

...

-------------------

واجب بحكم العقل ، إن أردتم بالضرر المحتمل : العقاب ، فقد تبيّن انّه لا عقاب عليه ، وإن أردتم بالضرر المحتمل : المضرات الدنيوية ، ككون شرب التتن موجباً لبعض الأمراض ، فهذه شبهة موضوعية لأنا لا نعلم هل ان في التتن ضرراً بالغاً أو لا ، والشبهة الموضوعية لا يجب الاحتياط فيها عند كل من الاصوليين والأخباريين .

وعليه : فلا يتمكن الأخباري أن يقول : ان احتمال الضرر الدنيوي - مثلاً - في التتن ، يوجب الاحتياط فيه بعدم شربه .

وانّما قلنا ضرراً بالغاً ، لأنّ الضرر غير البالغ لا يجب دفعه ، ولذا قام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وكذا فاطمة عليهاالسلام في العبادةِ حَتى تَوَرَمَتْ قَدَماهُما ، وسافر الحَسن عليه السلام إلى الحج راجلاً حتى قرُحَتْ رجله ، واشتَغَل السَّجاد والكاظِم عليهماالسلام بالعبادة حتى صارا كالشِن البالي ، إلى غير ذلك .

وكذا يجوز للانسان بلا إشكال أن يمشي في الشمس - مثلاً - وإن سبَّبَ ذلك صداعه ، وهذا مبحث فصلناه في قاعدة لا ضرر .

هذا ، وقد أفتى جماعة من الفقهاء : بأن الضرر في الصوم الواجب - مثلاً - اذا كان بالغاً حرم الصوم ، وإن كان الضرر قليلاً وجب الصوم ، وإن كان الضرر معتداً به غير بالغ ، تخيّر بين الصيام وعدم الصيام ، مثلاً : إنّه اذا صام اصيب بصداع خفيف مقدار ساعة ، فانّه يجب عليه الصوم . وقد يُصاب - بصداع شديد أسبوعاً فانّه يحرم عليه الصوم ، وقد يُصاب يوماً بصداع غير خفيف فانّه يجوز له أن يصوم ويجوز له ان يفطر ويقضي .

وكذلك قالوا بالنسبة إلى الوضوء ، والغُسل ، والقيام في الصلاة ، وغير ذلك

ص: 73

فلو ثبت وجوب دفع المضرّة المحتملة لكان هذا مشترك الورود . فلابدّ على كلا القولين إمّا من منع وجوب الدفع وإمّا من دعوى ترخيص الشارع وإذنه فيما شك في كونه من مصاديق الضرر ،

-------------------

من الأحكام الشرعية ، والسر في ذلك : ان « لا ضرر » يرفع الضرر الكثير ، أما الضرر المتوسط فيتعارض مع دليل ذلك الحكم ، وأما الضرر الخفيف فيتقدّم دليل ذلك الحكم على دليل لا ضرر ، على بحث ذكروه في « الفقه » .

وعلى أي حال : ( فلو ثبت وجوب دفع المضرة المحتملة ) غير العقاب الاُخروي ( لكان هذا ) الوجوب ( مشترك الورود ) علينا نحن الاصوليين ، وعلى الأخباريين أيضاً ، لأن الاصوليين لا يوجبون دفع الضرر المحتمل في الشبهة الحكمية ولا في الشبهة الموضوعية وجوبيةً كانت أو تحريميّة ، والأخباريين لا يوجبُون دفع الضرر المحتمل في الشبهة الموضوعيّة مطلقاً وفي الشبهة الحكمية الوجوبية منها فقط دون التحريميّة ، كالشك في وجوب الدعاء عند رؤية الهِلال ، أو وجوب الصلاة على محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم عند ذكر إسمَه .

( فلابدّ على كلا القولين : ) قول الاُصوليين وقول الاخباريين من معالجة الأمر بأحد أمرين : ( إما من منع وجوب الدفع ) للضرر المحتمل غير العقاب الاُخروي ( وأمّا من دعوى ترخيص الشارع واذنه فيما شك في كونه من مصاديق الضرر ) أي : ان المشكوك كونه مصداقاً للضرر يجب دفعه عقلاً ، إلاّ انّ الشارع أَذِنَ في ارتكابه ، ومعنى الاذن في ارتكابه : انه لو كان في الواقع ضرر تداركه الشارع بمصلحة على قدره .

مثلاً: إذا احتمل العبدُ انّ في سفرهِ ضرراً بمقدار عشرة دنانير يأخذه العَشّار منه، منعَهُ العقل عن السفر ، فاذا أجاز المولى له السَفر ، كان معنى ذلك : ان المولى

ص: 74

وسيجيء توضيحه في الشبهة الموضوعيّة إنشاء اللّه تعالى .

ثمّ إنّه ذكر السيّد أبو المكارم قدس سره ، في الغنية : « أنّ التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليفٌ بما لا يطاق » ، وتبعه بعضُ من تأخّر عنه فاستدلّ به في مسألة البراءة ، والظاهرُ أنّ المراد به ما لا يطاق الامتثال به وإتيانه بقصد الطاعة ،

-------------------

اما يعلم انّ العَشار لا يأخذ منه الدنانير فلا يتضرر العبد واما يعلم انّ العَشار يأخذ منه الدنانير ، لكنّه يتداركه بالتعويض عنها ، هذا ( وسيجيء توضيحه في الشبهة الموضوعيّة إنشاء اللّه ) تعالى .

( ثم انّه ذكر السيد أبو المكارم ) وهو : ابن زُهرة ( قدس سره في الغُنية ) دليلاً عقلياً آخر على البَرائة غير ما تقدَّم من قُبح العقاب بلا بَيان ، وهو : ( انّ التكليف بما لا طريّق إلى العلم به تكليف بما لا يُطاق ) وَمِنَ الواضح : انّ التكليف بمالا يُطاق مَحالٌ ، فاللازم الحكم بالبرائة في الشبهة الحكمية التحريميّة ، بل في كلّ الشُبهات الأربع : من الموضوعية ، والحكمية ، والتحريميّة ، والوجوبيّة .

( وتبعه بعضُ مَن تأخر عنه ) كالمحقق وغيره ( فاستدل به في مسأله البرائة ) وقال - مثلا - : إنّ تكليف الجاهل بالاجتناب عن التتن في الشبهة الحكمية أو بالاجتناب عن اللحم المشكوك كونه مُذكى أو ميتة في الشبهة الموضوعيّة ، تكليف بمالا يُطاق والتكليف بما لا يُطاق ممتنع من الشارع فيكون حكمه البرائة .

ولكنْ حيث ان التكليف بالاجتناب ممّا يُطاق ،لا مما لا يُطاق ، فسره المصنّف بقوله : ( والظاهر : انّ المراد به : ما لا يطاق الا متثال به واتيانه بقصد الطّاعة ) لا مالا يطاق الاتيان به ، كالطيران إلى السماء بلا وسيلة ، أو جمع النقيضين ، فمعنى كلامهم هو : ان الجاهل لا يقدر على ترك التتن بقصد الاطاعة حتى يحصل

ص: 75

كما صرّح به جماعة من الخاصّة والعامّة في دليل اشتراط التكليف بالعلم ، وإلاّ فنفس الفعل لا يصير ممّا لا يطاق بمجرّد عدم العلم بالتكليف .

و

-------------------

على الامتثال ، وذلك لأنّ قصد الطاعة لا يمكن في حق مَن لم يصل إليه إنّ المولى اراد منه ترك التتن .

( كما صرّح به ) أي : بأنّ المُراد بما لا يطاق هو : الامتثال بقصد الطاعة ( جماعة من الخَاصّة والعامّة في دليل إشتراط التكليف بالعلم ) فقد قالوا : ان تنجيز التكليف مشروطٌ بالعلم ، إذ لولا العلم لما أمكن الامتثال وقصد الطاعة .

( وإلاّ ) بانْ لم يكن مراد هؤلاء ذلك الذي ذكرناه من المعنى : ( ف- ) واضح : ان ( نفس الفعل ) أي : مجرد إتيان الواجب وترك الحرام المحتملين ، كالدعاء عند رؤية الهلال المحتمل الوجوب ، وترك التتن المحتمل الحرمة ( لا يصير مما لايطاق بمجرّد عدم العلم بالتكليف ) بهما .

( و ) لا يقال : كيف حملتم كلام إبن زهرة على قولكم : الاتيان بقصد الطاعة - كما تقدّم - والحال انّ كلامه محتمل لأربعة أمور :

الأوّل : انّه يريد : ما ذكرتم من المعنى .

الثاني : انّه يريد : ان مُطلقَ صدور الفعل عن الجاهل بالتكليف محالٌ ولو بدون قصد الطاعة .

الثالث : انّه يريد : إنّ االاتيان بالتكليف برجاء كونهِ مَطلوباً مَحالٌ .

الرابع : انّه يريد : إنّ صدورَ الفعل من الجاهل أحياناً صَدفة لا لداعي التكليف محالٌ .

وحيث انّ كلامَهُ محتمل لهذه الاُمور الأربعة ، فما الداعي لحمل كلامه

ص: 76

إحتمالُ : « كون الغَرض من التكليف مطلقَ

-------------------

على الأمر الأوّل الذي بينتموه ؟ .

لأنّه يقال : الاحتمالات الثلاثة الاُخر ، لا يمكن أن تكون مراداً لأبن زُهرة ، إذ يرد على الثاني والثالث منها : ان المولى إنْ أمر بالاحتياط في صورة شك العبد بالتكليف ، كفى في تحريك العبد إلى الطاعة ، وإن لم يأمره بالاحتياط ، فالتكليف المشكوك لا ينفع في التحريك لا تحريكاً قطعياً كما في الثاني ، ولا تحريكاً رجائياً كما في الثالث .

قال الآخوند رحمه اللّه : وذلك حيث انّه لا يعقل أن يكون التكليف المجهول باعثاً وداعياً إلى المأمور به ، وزاجراً ومانعاً عن المنهي عنه ، ومجرد الفعل أو الترك بدون أن يكون الأمر أو النهي داعيا أو زاجراً لا يكاد أن يكون إمتثالاً ، مع إنَّ الغرضَ من التكليف مطلقاً ولو توصلياً هو الامتثال بحيث لو لم يكن للمكلَّف من قبل نفسه بَعثُ أو زَجرّ صار هو باعثه أو زاجره ، ولا ينافي ذلك سقوط التكليف في التوصليات بمجرّد الفعل أو الترك كما لا يخفى ، انتهى .

ويرد على الرابع : ان التكليف بقصد اتيان العبد أحياناً صدفة عبث ، لأن العبد قد يترك التتن بنفسه أحياناً وصدفة فلا داعي لمثل هذا التكليف .

هذا ، وقد أشار المصنّف إلى الثاني بقوله : « واحتمال كون الغرض ...» ، وإلى الثالث بقوله : « أو يكون الغرض ...» ، وإلى الرابع بقوله : « وصدور الفعل ...» .

ثم أجاب عن الثاني والثالث بقوله : « مدفوع ..» .

وعن الرابع بقوله : « لا يمكن أن يكون ...» .

وعلى أيّ حال : فان ( احتمال كون الغرض من التكليف ) في كلام ابن زهرة : حيث قال : ان التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق هو : ( مطلق

ص: 77

صدور الفِعل ولو مع عدم قصد الاطاعة ، أو يكون الغرضُ من التكليف مع الشكّ فيه إتيانَ الفعل بداعي حصول الانقياد بقصد الاتيان بمجرّد إحتمال كونه مطلوبا للآمر .

وهذا ، ممكن من الشاكّ وإن لم يمكن من الغافل » ، مدفوعٌ ؛ بأنّه إن قام دليل على وجوب إتيان الشاكّ في التكليف بالفعل لاحتمال المطلوبيّة ،

-------------------

صدور الفعل ولو مع عدم قصد الاطاعة ) كما في التوصليات .

( أو : يكون الغرض من التكليف مع الشك فيه ) أيّ : مع ان العبد شاك في ان المولى كلّفه أو لم يكلفه هو : ( اتيان الفعل ) في محتمل الوجوب ، أو الترك في محتمل التحريم ( بداعي حصول الانقياد بقصد الاتيان بمجرّد احتمال كونه مطلوباً للآمر ) وذلك رجاءاً بأن يكون مقصود الشارع هو تحريم التتن ، وايجاب الدعاء عند رؤة الهلال .

مثلا : ان الشاك في هذا الحرام ذاك في ذلك الواجب ، يلتزم بترك الأوّل ، وفعل الثاني من باب الرجاء والاحتياط ( وهذا ) أيّ : الرجاء والاحتياط ( ممكن من الشاك وان لم يمكن من الغافل ) ومن الجاهل جهلاً مركباً .

وعليه : فهذان الوجهان : الثاني والثالث من احتمالات كلام الغنية ( مدفوع : بانّه ان قام دليل ) من الخارج ( على وجوب اتيان الشّاك في التكليف ) بأن يقول الدليل الخارجي للشاك في التكليف : « احتط لدينك » (1) أي : يجب عليك الاتيان ( بالفعل لاحتمال المطلوبية ) رجاءاً ، ويجب عليك ترك الفعل لاحتمال

ص: 78


1- - الامالي للطوسي ص110 ح168 ، الامالي للمفيد : ص283 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

أغنى ذلك من التكليف بنفس الفعل وإلاّ لم ينفع التكليف المشكوك في تحصيل الغرض المذكور .

والحاصلُ : أنّ التكليفَ المجهولَ لا يصلح ، لكون الغرض منه الحمل على الفعل مطلقا ، وصدور الفعل من الفاعل أحيانا لا لداعي التكليف ، لا يمكنُ أَنْ يكون غرضا للتكليف .

-------------------

المبغوضية احتياطاً ( أعني ذلك من التكليف بنفس الفعل ) فان دليل الاحتياط يكفي في تكليف الشاك بترك التتن - مثلاً - أو بفعل الدّعاء عند رؤة الهلال ، فلا حاجة إلى توجّه نفس التكليف الواقعيّ لكلّ من ترك التتن وفعل الدعاء إلى الشاك .

( والاّ ) بان لم يقم دليل من الخارج يقول بوجوب الاحتياط ، فانه ( لم ينفع التكليف المشكوك ) بنفسه ( في تحصيل الغرض المذكور ) : من حمل العبد وتحريكه نحو التكليف الواقعيّ المجهول ، فان التكليف الواقعيّ المجهول ما دام كونه مجهولاً ومشكوكاً ما لم يقم عليه دليل خارجي بالاحتياط لا يكون بنفسه محركاً للفعل رجاءاً والترك احتياطاً ، كما عرفت ذلك في كلام الآخوند .

( والحاصل ) من هذه الصور الثلاث التي اخترنا منها الصورة الأولى ، ورددنا الصورتين الباقيتين ( : انّ التكليف المجهول لا يصلح ، لكون الغرض منه الحمل على الفعل مطلقاً ) أي : لا يعقل كون التكليف المجهول محركاً للعبد نحو الفعل والترك لا تعبداً ولا توصلاً ولا احتياطاً ولا رجاءاً .

ثمّ المصنّف أشار إلى الاحتمال الرابع لكلام الغنية وبعدها تعرّض لجوابه بقوله : ( وصدور الفعل من الفاعل احياناً ) وصدفه ( لا لداعي التكليف ، لا يمكن ان يكون غرضاً للتكليف ) .

ص: 79

وإعلم : أنّ هذا الدليل العقليّ ، كبعض ما تقدَّم من الأدلّة النقليّة ، معلّقٌ على عدم تماميّة أدلّة الاحتياط فلا يثبت به إلاّ الأصل في مسألة البراءة ولا يعدّ من أدلّتها بحيث تعارض أخبار الاحتياط .

-------------------

فلو قيل : ان الغرض من تكليف الجاهل : صدور الدعاء ، أو ترك التتن على نحو القضية الاتفاقية ، أي : اتفاقاً وصدفة يصدر منه الفعل والترك وذلك من دون توجه الشاك إلى التكليف ، ومن دون أن يكون التكليف المجهول محركاً ، كما في سائر المباحات ، حيث ان الانسان قد يرتكبه وقد لا يرتكبه صدفة .

قلنا : جعل هذا الأمر الأحياني والاتفاقي غرضاً للتكليف عبث ، لوضوح : ان الدعاء قد يحصل أحياناً صدفة والتتن قد يترك أحياناً صدفة ، سواء كان في الواقع تكليف أم لم يكن ؟ .

وعليه : فلا يمكن أن يكون مراد ابن زهرة ومن تبعه من كلامه : بان التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق ، الاّ ما ذكرناه : من الاحتمال الأوّل وهو : ان مراده : الامتثال به واتيانه بقصد الطاعة .

( واعلم : انّ هذا الدليل العقلي ) الذي ذكره ابن زهرة ( كبعض ما تقدّم من الأدلّة النقلية ) من الكتاب والسنّة والاجماع ( معلّق على عدم تمامية أدلّة الاحتياط) ومع تماميتها لا يبقى مجال لهذا الدليل ، اذ موضوع هذا الدليل هو : التكليف بما لا طريق إلى العلم به ، والحال ان دليل الاحتياط يكون سبباً للعلم .

وعليه : ( فلا يثبت به ) أيّ بهذا الدليل العقليّ الذي أقامه ابن زهرة ( الاّ الأصل في مسألة البرائة ) أيّ : ان هذا الدليل العقليّ يدل على البرائة فيما اذا لم يكن هناك دليل على خلاف البرائة ( ولا يعدّ من أدلتها ) أيّ : من ادلة البرائة ، كما للاحتياط ادلة ( بحيث تعارض أخبار الاحتياط ) .

ص: 80

وقد يستدلّ على البراءة بوجوه غير ناهضة

منها : استصحاب البراءة المتيقنة حال الصغر والجنون .

وفيه ، أنَّ الاستدلال به مبنيّ على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ

-------------------

فانّ هذه القاعدة العقلية لوكانت دليلاً منجزاً في باب البرائة وتقول بأن التكليف في باب الشكّ في الشبهة التحريمية أو الوجوبية هو : البرائة ، لكان هذا الدليل معارضاً لأدلة وجوب الاحتياط ، لأن دليلاً يقول بالبرائة ، ودليلاً يقول بالاحتياط ، الا انّ هذا الدليل العقلي ليس هكذا ، وإنّما هو معلق على عدم البيان ، فاذا بَيَّنَ المولى وجوب الاحتياط إنسحب هذا الدليل العقلي عن الميدان ، كما ذكرنا مثله في الدليل العقلي المتقدّم .

( وقد يستدلّ على البرائة بوجوه غير ناهضة ) للحجيّة واثبات البرائة .

( منها : استصحاب البرائة المتيقّنة حال الصغر والجنون ) فانّ الصغير يقيناً غير مكلّف ، فاذا شكَّ بعد الكبر :بأنه هل كلّف بحرمة شرب التتن - مثلاً - فالأصل عدم التّكليف ، وكذا لو كان مجنوناً فانه غير مكلّف قطعاً ، فاذا أفاقَ وشكَّ في انّه هل كلّف بترك التتن أم لا ، فالأصل عدم التّكليف .

( وفيه : انّ الاستدلال به ) أيّ : بالاستصحاب على البرائة ( مبنيّ على إعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ) أيّ إنّا اذا استدللنا بالاستصحاب على البرائة ، كانت البرائة حجّة من باب الأمارة الظنّية ، والحال انّه سيأتي انشاء اللّه تعالى : ان الاستصحاب ليس حجّة من باب الأمارة الظنيّة .

هذا بالاضافة إلى انّ حال الصغر والجنون يختلف عن حال الكبر والافاقة ،

ص: 81

فيدخل أصل البراءة بذلك في الأمارات الدالّة على الحكم الواقعيّ دون الاصول المثبتة للأحكام الظاهرية . وسيجيء عدمُ اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ انشاء اللّه .

وأمّا لو قلنا باعتباره من باب الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشكّ ، فلا ينفعُ في المقام ،

-------------------

مع انّه يلزم في الاستصحاب بقاء الموضوع وهنا قد اختلف .

وعلى هذا : ( فيدخل أصل البرائة بذلك ) أيّ : باثباتنا أصل البرائة بسب الاستصحاب ( في الأمارات ) لأن الاستصحاب أمارة كاشفة عن الواقع ، فاذا كان أصل البرائة حجّة من باب الاستصحاب ، كان أصل البرائة أيضاً من الأمارات ( الدالّة على الحكم الواقعي ) فتكون البرائة عن التكليف أمارة وحدها ( دون الاُصول ) التعبدية ( المثبتة للأحكام الظّاهريّة ) لأن الاصل كما تقدّم يثبت الأحكام الظاهرية سواء كان احتياطاً أو تخييراً .

( و ) فيه : عدم صحة المبنى وهو : كون الاستصحاب حجّة من باب الظنّ ، إذ ( سيجيء عدم إعتبار الاستصحاب من باب الظنّ انشاء اللّه ) تعالى ، فلا تكون البرائة حجّة من باب الاستصحاب الظنيّ .

( وأمّا لو قلنا باعتباره ) أيّ : الاستصحاب ( من باب الأخبار الناهية عن نقض ) وابطال ( اليقين بالشك ) كما ورد هذا اللفظ في الروايات من قولهم عليهم السلام « لا تَنقض اليَقينَ بالشّكِ » (1) ( فلا ينفع ) أيّ : الاستصحاب ( في المقام ) لإثبات

ص: 82


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 ، بحار الانوار : ج2 ص281 ح53 .

لأنّ الثابت بها ترتّب اللوازم المجعولة الشرعيّة على المستصحب ، والمستصحب هنا ليس إلاّ براءة الذمّة من التكليف وعدم المنع من الفعل وعدم استحقاق العقاب عليه .

والمطلوبُ في الآن اللاحق هو القطعُ بعدم ترتّب العقاب على الفعل او ما يستلزم ذلك ،

-------------------

البرائة ( لأنّ ) المقدار ( الثابت بها ) أي : بأخبار الاستصحاب ( ترتب اللوازم المجعولة الشرعيّة على المستصحب ) دون اللوازم العقلية والعرفية والعادية والمستصحب هنا في باب البرائة لا أثر له شرعاً .

والحاصل : انكم تقولون : باثبات البرائة باستصحاب حال الصغر والجنون ، ونحن نقول : إن أردتم : الاستصحاب الذي هو حجّة من باب الظنّ ؟ ففيه : إنّ الاستصحاب حجّة من باب الاخبار لا من باب الظنّ ، وان اردتم الاستصحاب الذي هو حجّة من باب الاخبار ، ففيه : انّه وان كان صحيحاً ، الاّ ان الاستصحاب حينئذ لا يثبت البرائة لأنّ ( المستصحب هنا ) في باب البرائة الذي هو التيقن بالبرائة حال الصغر والجنون ( ليس الاّ ) ثلاثة اُمور :

الأوّل : ( برائة الذمّة من التكليف ) .

الثاني : ( وعدم المنع من الفعل ) .

الثالث : ( وعدم استحقاق العقاب عليه ) أيّ : على الفعل .

( والمطلوب في الآن اللاحق ) بعد ان بلغ الصبي أو أفاق المجنون ( هو القطع بعدم ترتّب العقاب على الفعل ) أي : على فعل شرب التتن مثلاً ( أو ما يستلزم ذلك ) أيّ : يلزم ان نقطع بعدم العقاب ، أو نقطع بالجواز الذي هو مستلزم للقطع بعدم العقاب .

ص: 83

إذ لو لم يقطع بالعدم واحتَمَلَ العقاب احتاج إلى انضمام حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان إليه ، حتّى يأمن العقل من العقاب ، ومعه لا حاجة إلى الاستصحاب وملاحظة الحالة السابقة .

ومن المعلوم أنّ المطلوب المذكور لا يترتّب على المستصحبات المذكورة ، لأنّ عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم

-------------------

وإنّما نحتاج إلى القطع بعدم العقاب ، لأنّ الأخباريين يقولون باحتمال العقاب ، ولذا يوجبُون الاحتياط في شرب التتن ، والاُصوليّون يقولون في المقابل بالقطع بعدم العقاب ، فعليهم أن يثبتوا القطع بعدم العقاب .

( اذ لو لم يقطع بالعدم ) أيّ : بعدم العقاب ( واحتمل العقاب ) بعد الاستصحاب كما كان العقاب محتملاً قبل الاستصحاب ( أحتاج ) الاُصوليون ( إلى انضمام حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان اليه ) أيّ : إلى الاستصحاب حتّى يتمكنوا من مقاومة الأَخباريين الذين يقولون باحتمال العقاب ، و ( حتى يأمن العقل من العقاب ) بعد الاستصحاب .

( ومعه ) أيّ : مع الاحتياج إلى قبح العقاب من غير بيان ( لا حاجة إلى الاستصحاب وملاحظة الحالة السابقة ) فانّ اثبات البرائة بالاستصحاب يخرج البرائة عن كونها اصلاً مستقلاً ويجعلها صغرى من صغريات الاستصحاب ، والاستصحاب لا يدفع احتمال العقاب حسب الفرض .

اذا تمهَّدَ ما ذكرناه نقول : ( ومن المعلوم : أنّ المطلوب المذكور ) أيّ : القطع بعدم العقاب ( لا يترتب على المستصحبات المذكورة ) أيّ : استصحاب برائة الذمة من التّكليف ، واستصحاب عدم المنع من الفعل ، وإستصحاب عدم استحقاق العقاب عليه ( لأنّ عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم

ص: 84

المجعولة الشرعيّة حتّى يحكم به الشارع في الظاهر .

وأمّا الاذنُ والترخيصُ في الفعل ، فهو وإن كان أمرا قابلاً للجعل ويستلزم انتفاء العقاب واقعا إلاّ أنّ الاذن الشرعيّ ليس لازما شرعيا للمستصحبات المذكورة ، بل هو من المقارنات ،

-------------------

المجعولة الشرعيّة حتى يحكم به ) أي : بهذا العدم ( الشرع في الظاهر ) بسبب قوله عليه السلام : « لا تَنقُض اليَقينَ بالشَّك » (1) إذ القطع بالعقاب أو بعدم العقاب من حالات النفس - فانّ الانسان يقطع أو لا يقطع بسبب الأسباب الخارجية - وحالات النفس أمر تكويني لا تشريعي ، والاستصحاب إنّما يثبت الأمر التشريعيّ لا الأمر التكويني .

( وأمّا الاذن والترخيص في الفعل ) بمعنى : انّ الشارع أجاز شرب التتن - مثلاً - ( فهو وان كان ) الجواز ( أمراً قابلاً للجعل ) لأن الجواز أحد الأحكام الخمسة الشرعيّة ( ويستلزم انتفاء العقاب واقعا ) لوضوح : أنّه لا عقاب على الجائز ، فاذا تمكن الاستصحاب من اثبات الجواز ، تمكن من اثبات عدم العقاب الذي هو مطلوب الاُصوليّين مقابل احتمال العقاب الذي هو مطلوب الأخباريين .

( الاّ أنّ الاذن الشرعيّ ليس لازماً شرعياً للمستصحبات ) الثلاثة ( المذكورة ) سابقاً : من برائة الذمة من التّكليف ، وعدم المنع من الفعل ، وعدم استحقاق العقاب عليه ( بل هو من المقارنات ) الاتفاقية لها .

وإنّما يكون الاذن الشرعي والجواز من المقارنات الاتفاقية للمستصحبات

ص: 85


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 ، بحار الانوار : ج2 ص281 ح53 .

...

-------------------

الثلاثة لا لازماً شرعياً لها لامكان خلُوّ الفعل عن الاحكام الخمسة ، كما هو الحال في فعل الصغير والمجنون والنائم ، فانّه لا تلازم اصلاً بين البرائة حال الصغر والجنون والنوم ، وبين الجواز ، لانّ البرائة هنا بمعنى : عدم التّكليف ، لا بمعنى الجواز والاذن الشرعيّ .

لا يقال : انّه في حال الصغر كان يجوز له شرب التتن ، والآن بعد الكبر يجوز له ذلك أيضاً .

لانه يقال : حال الصغر لا تكليف عليه ، لا انه كان جائزاً له شرب التتن ، فانّ الجواز هو أحد الاحكام الخمسة لا عدم التكليف فانّ عدم التكليف ليس أحد الأحكام الخمسة ، اذ الصغير ، والمجنون ، والنائم ، لا تكليف عليهم لا أنّه يجوز لهم شرب التتن ، او ترك الدعاء - مثلاً - .

بعبارة اُخرى : انّ البرائة لها لازمان :

1 - عدم التكليف .

2 - الجواز والاذن الشرعيّ .

فاذا اثبتنا البرائة ، لا يثبت الجواز ، لانّه قد يكون المراد من البرائة : عدم التكليف ، كما في الصغير ، والمجنون ، والنائم .

نعم ، يثبت الجواز بواسطة أمر خارجي وهو : علمنا الاجمالي بانّ الفعل حال الكبر ، والافاقة ، واليَقظة ، لا يخلو من أحد الأحكام الخمسة ، فاذا نَفَينا عدم التّكليف الذي هو أحد لازميّ البرائة بسبب علمنا الاجمالي بذلك ، ثبت اللازم الآخر للبرائة وهو : الجَواز وإلى هذا اشار المصنّف بقوله :

ص: 86

حيث أنّ عدمَ المنع عن الفعل ، بعد العلم إجمالاً بعدم خلوّ فعل المكلّف عن أحد الأحكام اخمسة ، لا ينفكّ عن كونه مرخّصا فيه . فهو نظير إثبات وجود أحد الضدّين بنفي الآخر بأصالة العدم .

ومن هنا

-------------------

( حيث انّ ) المستصحبات الثلاثة : من ( عدم ) التّكليف ، وعدم العقاب ، وعدم ( المنع عن الفعل ، بعد العلم اجمالاً بعدم خلوّ فعل المكلّف عن أحد الأحكام الخمسة ) في حال ما بعد البلوغ ، وما بعد الجنون والنوم ( لا ينفك ) عقلاً ( عن كونه ) أيّ : عن كون الفعل ( مرخّصاً فيه ) أيّ : جائزاً قد أذن الشارع به .

( فهو ) أي : ترتب الجواز على المستصحبات المذكورة واثبات الاذن الشرعي بها ، يكون حينئذً - حسب ما فصلناه - : ( نظير إثبات وجود أحد الضدّين بنفي ) الضد ( الآخر ) نفياً ، ( بأصالة العدم ) فكما ان انتفاء أحد الضدّين مقارن لوجود الضد الآخر ، لا أنّه اثر شرعي للضد الآخر ، كذلك انتفاء عدم التّكليف مقارن لوجود الجواز ، لا أنّه أثر شرعي له ، حتى يثبت بسبب الاستصحاب ، إذ قد عرفت : أنّ اللوازم العقليّة ، واللوازم العرفيّة ، واللوازم العاديّة ، لا يثبت شيء منها بالاستصحاب ، فكيف بالمقارنات فانّها لا تثبت بالاستصحاب حتى عند القائلين بالاصل المثبت .

( ومن هنا ) بدأ المصنّف في الاشكال على كلام صاحب الفصول الآتي ، وتوضيحه : انه قد تبينّ ممّا تقدّم : انّه لو سلّمنا أمرين ، لم نتمكن من اجراء استصحاب عدم التكليف في شرب التتن حال الصغر ، لاثبات جواز شرب التتن وعدم العقاب على شربه حال الكبر :

الأوّل : أنّ الاستصحاب ليس حجّة من باب الظنّ اذ لو كان حجّة من باب الظنّ

ص: 87

تبيّن : أنّ استدلالَ بعض من اعترف : بما ذكرنا - من عدم اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ، وعدم إثباته إلاّ اللوازم الشرعيّة في هذا المقام باستصحاب البراءة - منظورٌ فيه .

-------------------

لكان أمارة ، فنتمكن من اثبات لوازمه العقليّة والعاديّة والعرفيّة به لأن الظنّ كاشف والمكشوف يثبت لوازمه .

الثاني : أنّ الاستصحاب الذي هو حجّة من باب الأخبار لا يثبت به الاّ اللوازم الشرعية فقط ، كما سيأتي تفصيله انشاء اللّه تعالى في باب الاستصحاب ، وعليه فالذي يسلّم الأمرين لا يتمكن من اثبات الجواز لشرب التتن بسبب استصحاب عدم التكليف حال الصغر ، وصاحب الفصول ممن يسلّم ذلك ، فيكون استدلاله باستصحاب عدم التكليف لاثبات الجواز غير تام .

إنْ قلت : حال الصغر لم يكن عليه تكليف فحال الكبر ايضاً لا تكليف عليه ، وبمجرد انه ثبت عدم التكليف في حال الكبر يثبت عدم العقاب ، لأنّ العقاب تابع للتكليف، فيثبت مطلوب الاُصوليين: من البرائة عن حرمة شرب التتن حال الكبر .

قلت : لا تكليف حال الصغر من باب انّه لا قابليّة له للتكليف ولا تكليف حال الكبر من باب اجازة الشارع ، فالموضوع مختلف ويشترط في الاستصحاب وحدة الموضوع .

وممّا ذكرناه ( تبيّن : انّ استدلال بعض من اعترف بما ذكرنا ) وذلك البعض هو صاحب الفُصول ، وما ذكرنا عبارة عن الأمرين المذكورين ( : من عدم اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ، وعدم اثباته ) أيّ : اثبات الاستصحاب الذي هو أصل وليس بأمارة ( الاّ اللوازم الشرعيّة في هذا المقام ) أيّ : مقام البرائة ، استدلالاً

( باستصحاب البرائة ، منظور فيه ) لما عرفت : من أنّ الاستصحاب حجّة من باب

ص: 88

نعم ، من قال باعتباره من باب الظنّ ، او أنّه يثبت بالاستصحاب من باب التعبّد كلّما لا ينفكّ عن المستصحب لو كان معلوم البقاء ولو لم يكن من اللوازم الشرعيّة ، فلا بأس بتمسّكه به ، مع أنّه يمكن النظر فيه ، بناءا على ما سيجيء من اشتراط العلم ببقاء الموضوع في الاستصحاب .

-------------------

الروايات ، وعدم العقاب من أحكام العقل ، فلا يكون ثابتاً بعدم التّكليف .

( نعم ، من قال باعتباره ) أيّ : الاستصحاب ( من باب الظنّ ، أو ) قال : ( انّه يثبت بالاستصحاب من باب التعبد ) أي : من باب الروايات لا من باب الظنّ ( كلّما لا ينفكّ عن المستصحب لو كان معلوم البقاء ) أي : كان متيقناً بقاؤ ( ولو لم يكن من اللّوازم الشرعيّة ) بأن كان من اللوازم العقليّة ، او العاديّة ، او العرفيّة ، او المقارنات الاتفاقية ، وحينئذٍ ( فلا بأس بتمسّكه به ) أي : تمسك هذا القائل : باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ وانّه أمارة ، أو بانّ الاستصحاب وان كان من باب الأخبار يثبت كل اللوازم ، الأعم من المقارنات ، فانّ له ان يتمسك لاثبات البرائة باستصحابها .

( مع انّه يمكن النظر فيه بناءاً على ما سيجيء : من اشتراط العلم ببقاء الموضوع في الاستصحاب ) وهذا اشكال آخر غير الاشكالين الأولين ، فقد قلنا : أنّ الاستصحاب حجّة من باب الأخبار لا من باب الظنّ ، وقلنا : ان الاستصحاب الحجّة من باب الأخبار لا يثبت الا اللوازم الشرعيّة ، ونقول ايضاً أنّ من شروط الاستصحاب : وحدة الموضوع في القضية المتيقّنة والقضية المشكوكة ، وفي المقام هذا الشرط مفقود ، فلا يجري الاستصحاب فيه لأن الموضوع في حال الصغر وحال الكبر ليس واحداً ، كما أشرنا اليه سابقاً .

ص: 89

وموضوعُ البراءة في السابق ومناطها هو الصغيرُ الغير القابل للتكليف ، فانسحابها في القابل أشبهُ بالقياس من الاستصحاب ، فتأمّل .

-------------------

( و ) ذلك لان ( موضوع البرائة في السّابق ) حال الصغر ( ومناطها : ) أي : ملاك البرائة في حال الصغر ( هو الصغير غير القابل للتكليف ) وقد تبدل بعد البلوغ بالكبر ( فانسحابها ) أيّ : انسحاب البرائة من حال الصغر ( في القابل ) للتكليف حال الكبر ( أشبه بالقياس من الاستصحاب ) لأنه مثل أن يقال : ان هذا الكبير كان في وقت تراباً ، ولما كان تراباً لم يكن له حكم ، والحال لما تبدل إلى الانسان لم يكن له حكم ، فكما ان مثل ذلك ليس بصحيح ، كذلك استصحاب حال الصغر إلى حال الكبر لا يكون صحيحاً .

( فتأمّل ) لعله اشارة إلى انّ الصبي المراهق قابل للتكليف ، والاستصحاب عند بلوغه واحد لموضوعه السابق حال المراهقة ، ولا نريد نحو استصحاب حال عدم تمييزه ممّا عمره يوم واحد وما أشبه ذلك ، حتّى يقال : هو من إنسحاب الحكم من موضوع إلى موضوع آخر .

وإلى هذا أشار من قال : بأنّ الموضوع وأن تبدّل عقلاً الاّ ان العرف يسامحون ويحكمون بان الشخص اليوم عين الشخص في الأمس ، وأن الشخص في ساعة قبل البلوغ عين الشخص في ساعة بعد البلوغ ، وتغييره بالصغر والكبر شرعاً تغيير حال عندَهُم لا تغيير ذات ، ومن الواضح : انّ الخطابات الشرعيّة منزلة على فهم العُرف ولا مانع من الاستصحاب .

لكن هذا إن تمّ ، فانّما يتم في الصغير والكبير لا في المجنون والصاحي كما هو واضح .

ص: 90

وبالجملة ، فأصلُ البراءة أَظهرُ عِندَ القائلين بها والمنكرين لها من أن يحتاج إلى الاستصحاب .

ومنها : أنّ الاحتياط عَسِرٌ منفيٌّ وجوبُه .

وفيه : أنّ تعسّره ليس إلاّ من حيث كثرة موارده . فهي ممنوعة ، لأنَّ

-------------------

( وبالجملة ، فأصل البرائة أظهر عند القائلين بها ) من الاُصوليين ( والمنكرين لها ) من الأخباريين ( من أن يحتاج إلى الاستصحاب ) لأنّهما متفِقان على دلالة الأدلة الأربعة على البرائة عند عدم البيان من دون الحاجة إلى استصحاب البرائة ، ويفترقان في أنّ الأخباريين يدّعون وجود البَيان من جهة ورود أدلة الاحتياط ، ولذا يعملون بالاحتياط ، والاُصوليين يرون عدم وجود البيان ، وانّ أدلة الاحتياط ليست بياناً بحيث يدفع « قبح العِقاب بلا بيان » ولذا يعملون بالبرائة .

( ومنها ) : أيّ : من الوجوه التي استدلّ بها على البرائة هو : ( انّ الاحتياط عسرٌ منفيٌّ وجوبه ) في الكتاب والسنّة والاجماع ، بل والعقل في الجملة ، فقد قال سبحانه : « ما جَعَلَ عَلَيْكُم فِي الدِّين مِن حَرَج » (1) وقال تعالى : « يُريد اللّه بكُمُ اليُسرَ ولا يُريدُ بِكُمُ العُسرَ ...» (2) .

وحيث كان العُسر والحَرج منفيين ، فلا يجب الاحتياط ، وحيث لا يجب الاحتياط يكون مجرى للبرائة .

( وفيه : انّ تعسّره ) أيّ : تعسر الاحتياط ( ليس الاّ من حيث كثرة موارده ) لأنّ موارد الاحتياط لو كانت قليلة لم يكن عُسر أو حرج في الاحتياط ( فهي ) أيّ : الكثرة ( ممنوعة ) فانا لا نسلم كثرة موارد الاحتياط ( لأن

ص: 91


1- - سورة الحج : الآية 78 .
2- - سورة البقرة : الآية 185 .

مجراها عند الأخباريّين مواردُ فقد النصّ على الحرمة وتعارض النصوص من غير مرجّح منصوص ، وهي ليست بحيث يفضي الاحتياط فيها إلى الحرج ،

-------------------

مجراها ) أيّ : محل جريان قاعدة الاحتياط ( عند الأخباريين : موارد فقد النص على الحرمة ) مثل : شرب التتن ، فانه لا نص في حرمته .

أو اجمال النص مثل « يَطهَرن » (1) في الآية المباركة ، حيث لا نعلم هل هو بالتشديد ليكون بمعنى التَطهّر من الحيض بالاغتسال ، أو بالتخفيف ليكون بمعنى النظافة من الدم فحسب ؟ ( وتعارض النّصوص من غير مرجّح منصوص ) مثل ما اذا قلنا بالتعارض بين قوله: «لابَأسَ بِبَيعِ العَذرَة» (2) وقوله «ثَمَنُ العَذَرَةِ سُحْت» (3) ولم يكن هناك مرجّح منصوص .

وإنّما وصف المصنّف المرجح : بالمنصوص ، لأن الأخباريين لا يرون الترجيح ، الاّ بالمرجّح المنصوص ، بخلاف جملة من الاُصوليين فانّهم يقولون : بانّ كل مرجح يقدم خبراً على خبر ، فيما اذا كان هناك أخبار متعارضة .

وعلى أيّ حال : فقدان النص ، واجماله ، وتعارض النصين من غير مرجّح ( وهي ) أيّ : هذه الموارد ( ليست بحيث يفضي الاحتياط فيها ) أيّ : في هذه الموارد ( إلى الحرج ) ولذا نرى : ان الأخباريين المحتاطين لا يَقَعُون في عُسرٍ ولا حرج ، وكذلك لايقع في العُسر والحَرج الذين يتبعونهم من المقلدين لهم .

ص: 92


1- - سورة البقرة : الآية 185 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح3 ، وسائل الشيعة: ج17 ص175 ب40 ح22285 .
3- - تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .

وعند المجتهدين مواردُ فقد الظنون الخاصّة ، وهي عند الأكثر ليست بحيث يؤدّي الاقتصار عليها والعمل فيما عداها على الاحتياط إلى الحَرج .

ولو فرض لبعضهم قلّة الظنون الخاصّة ، فلابدّ له

-------------------

( و ) مجرى قاعدة الاحتياط ( عند المجتهدين ) الذين لا يقولون بوجوب الاحتياط عند فقد النّص أو إجماله أو تعارض النصوص ( موارد فقد الظنون الخاصة ) وهي قليلة جداً ، فلو عمل المجتهدون بالاحتياط في هذه الموارد القليلة لا يلزم منه عسر ولا حَرج .

والمراد بالظنون الخاصة : ظواهر الكتاب الحكيم ، والأخبار ، والاجماعات المنقولة ، والشهرات ، والأدلة العقلية المورثة للظنّ ( و ) من المعلوم : ( هي ) أيّ : هذه الظنون ( عند الأكثر ) من المجتهدين ( ليست بحيث يؤّي الاقتصار عليها ) أيّ : على هذه الظنون ( والعمل فيما عداها على الاحتياط ) فيها ، فان ذلك لا يؤّي ( إلى الحرج ) .

وبالجملة : المجتهدون يعملون بالظنون الخاصة وهي مستوعبة لأكثر الفقه ، وتبقى موارد قليلة لا ظنون خاصة فيها ، فاذا أراد المجتهدون العمل في هذه الموارد القليلة بالاحتياط لا يستلزم عليهم عُسراً ولا حَرجاً ، كما لا يستلزم على مقلديهم العُسر والحَرج بالاحتياط في هذه الموارد القليلة .

( ولو فرض لبعضهم ) أيّ : لبعض المجتهدين ( قلة الظنون الخاصة ) لانحصار الظنون الخاصة التي هي حجة بخبر العادل الضابط الامامي دون الاجماع والشهرة ونحوهما ( ف- ) لا يلزم أيضاً عليه حرج ، لأنّه يقول : بالانسداد ، وبسبب الانسداد يعمل بكل ظنّ ، فلا تبقى موارد لا ظنّ انسدادي فيها إلاّ قليلاً جداً .

وإنّما يعمل بالظنّ الانسدادي لانّه ( لابدّ له ) أيّ : لهذا البعض الذي فرض قلّة

ص: 93

من العمل بالظنّ الغير المنصوص على حجّيّته حذرا من لزوم محذور الحرج ، ويتّضح ذلك بما ذكروه في دليل الانسداد ، الذي أقاموه على وجوب التعدي من الظنون المخصوصة فراجع .

ومنها : أنّ الاحتياط قد يتعذّر ، كما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة .

-------------------

ظنونه الخاصة ( من العمل بالظنّ غير المنصوص على حجّيته ) وهو الظن الانسدادي ( حذراً من لزوم محذور الحرج ) فانّ القائلين بالانسداد يفرّون من الحرج إلى الظنّ المطلق ويجعلونَ من مقدمات الانسداد : لزوم الحرج من عدم العمل بالظنّ المطلق .

( ويتضح ذلك ) أيّ : يعمل بالظنون غير المنصوص على حجيتها ( بما ذكروه ) أي : ذكره المجتهدون ( في دليل الانسداد ، الذي أقاموه على وجوب التعدّي من الظنون المخصوصة ) إلى الظّنون المطلقة ( فراجع ) كلماتهم كما قدّمنا ذلك في بحث الانسداد .

وعلى أيّ حال : فالمجتهدون على قسمين : منهم من يعمل بالظنون الخاصة ، ويراها كافية ، ومنهم من يعمل بالظّنون الخاصة ولا يراها كافيه فيضم اليها الظنون الانسدادية ، وبعد العمل بهذين الظنين ، تبقى موارد الاحتياط قليلة جداً ، بحيث لايلزم من العمل بالاحتياط في هذه الموارد عسر ولا حرج ، وحينئذٍ فلا يكون العسر دليلاً على البرائة كما اراده المستدل .

( ومنها : ) أيّ : من الأدلة التي أقاموها للبرائة : هو ( أنّ الاحتياط قد يتعذّر )

فلا يتمكن الانسان من الاحتياط ( كما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة ) بان لم نعلم - مثلاً- هل ان صلاة الجمعة واجبة أو محرَّمة ؟ .

ص: 94

وفيه : ما لا يخفى ، ولم أَرَ ذكره إلاّ في كلام شاذّ لا يُعبأ به .

احتجّ للقول الثاني - وهو وجوب الكفّ عمّا يحتمل الحرمة - بالأدلّة الثلاثة :

فمن الكتاب طائفتان :

احديهما : ما دلّ على النهي عن القول بغير علم ،

-------------------

( وفيه : ما لايخفى ) من الاشكال ، لوضوح : ان محل البحث هو ما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب : من الاستحباب ، والكراهة ، والاباحة حيث الاحتياط في مثل هذه الموارد ممكن غير متعذر ( و ) لذا ( لم أَرَ ذكره ) أي : ذكر هذا الدليل للبرائة ( الاّ في كلام شاذّ لا يُعبأ به ) ، هذا تمام الكلام في أدلة القائلين بالبرائة .

وأما أدلة القائلين بالاحتياط :

فقد ( احتج للقول الثاني وهو : وجوب الكفّ عمّا يحتمل الحرمة ) الذي ذهب اليه الأخباريون ( بالأدلّة الثلاثة ) : الكتاب ، والسنة ، والعقل ، ولم يستدلوا بالدليل الرابع وهو الاجماع .

( فمن الكتاب طائفتان ) على ما يلي : ( احديهما : ما دلّ على النهي عن القول بغير علم ) مثل قوله سبحانه : « قُل ءَ اللّهُ أذِنَ لَكُم أم عَلى اللّهِ تَفتَرُونَ » (1) وقوله سبحانه : « لا تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بهِ عِلمٌ » (2) وقوله سبحانه : « وَمَا لَهُم بِذلِكَ مِن عِلمٍ إن هُم الاّ يَظُنُّونَ » (3) وقوله سبحانه : «وَمَا لَهُم بِه مِن عِلم إن يَتَّبِعُونَ

ص: 95


1- - سورة يونس : الآية 59 .
2- - سورة الاسراء : الآية 36 .
3- - سورة الجاثية : الآية 24 .

فانّ الحكمَ بترخيص الشارع لمحتمل الحرمة قولٌ عَليه بغير علم وافتراءٌ ، حيث انّه لم يؤذن فيه . ولا يرد ذلك على أهل الاحتياط ، لأنّهم لا يحكمون بالحرمة ، وإنّما يتركون لاحتمال الحرمة ، وهذا بخلاف الارتكاب ،

-------------------

إلاّ الظَّنَّ »(1) ، وقوله سبحانه : « أتَقُولُونَ عَلى اللّهِ مَا لا تَعلَمُونَ » (2) الى غير ذلك .

( فانّ الحكمَ بترخيص الشارع لمحتمل الحرمة ) حيث انّ الاُصوليين يقولون : بأنّ الشارع رخَّصَ في محتمل الحرمة ولذلك يَجرُونَ البرائة ، هو : ( قولٌ عليه ) أي : على الشارع ( بغير علم وافتراءٌ ) عليه ، وذلك غير جائز ( حيث انّه ) أي : هذا الحكم بالبرائة ( لم يؤن فيه ) شرعاً بدلالة الآيات الناهية .

( و ) انّ قلت : إنّ الاخباريين أيضاً كذلك لانهم يقولون بالاحتياط في الشبهة الحكمية من دون علم ، وهو افتراء لأنّ الشارع لم يقل بالاحتياط فيها .

قلت : ( لا يرد ذلك ) الاشكال ( على أهل الاحتياط ) وذلك ( لأنهم لا يحكمون بالحرمة ) حتى يقال بأنّ القول بالحرمة أيضاً افتراء على اللّه ( وانّما يتركون ) الشبهة التحريمية ( لاحتمال الحرمة ) فيها ، فاذا احتملوا الحرمة في التتن - مثلاً - تركوا شربه ، لاأنّهم يقولون بانّه حرام .

( وهذا ) أي : عمل الاخباريين بالترك ( بخلاف الارتكاب ) الذي يعمله

ص: 96


1- - سورة النجم : الآية 28 .
2- - سورة يونس : الآية 68 .

فانّه لا يكون إلاّ بعد الحكم بالرخصة ، والعمل على الاباحة .

والاُخرى : مادلّ بظاهره على لزوم الاحتياط ، والاتّقاء ، والتورّع ، مثل ما ذكره الشهيد رحمه اللّه ، في الذكرى في خاتمة قضاء الفوائت للدلالة على مشروعيّة الاحتياط في قضاء ما فعلت من الصلاة المحتملة للفساد .

-------------------

الاُصوليون ( فانّه لا يكون إلاّ بعد الحكم بالرخصة ، و ) يكون ( العمل ) من الاُصوليين بناءاً ( على الاباحة ) فانّ الاباحة متوقّفة على اجازة الشارع ، بينما الترك وعدم الارتكاب لم يتوقف على إذن الشارع ، اذ يجوز ترك المباح .

لكن ربّما يردُ على ذلك : إنّ الاخباريين يقولون بوجوب الاحتياط ، فيكون قولاً على الشارع بغير علم الاّ أن يقول الأخباريون : بأن دليل الاحتياط هو مستندهم ، فيردّ عليهم الاُصوليون : بأنّ أدلة البرائة هي مستندهم أيضاً .

( و ) الطائفة ( الاُخرى ) من الأدلة التي استدلّ بها الأخباريون من الكتاب العزيز على الاحتياط هو : ( ما دلّ بظاهره على لزوم الاحتياط ، والاتّقاء ، والتورّع ) والفرق بين هذه الثلاثة وان كان المآل واحداً هو : انّ الاحتياط من احاطة الأمر بشيء بحيث لا يوصل اليه كالحائط حول البيت ، والاتقاء من الوقاية وحفظ النفس من الشيء ، والتورّع هو الاجتناب عن الشيء ، فالاتقاء والتورّع وجهان لشيء واحد .

( مثل ما ذكره الشهيد رحمه اللّه في الذكرى في خاتمة قضاء الفوائت للدلالة ) أي : ذكرها دليلاً ( على مشروعية الاحتياط في قضاء ما فُعلَت ) بصيغة المجهول ( من الصلاة المحتملة للفساد ) في الواقع ، أي : يجوز للانسان انّ يقضي صلاته التي صلاها واحتمل فسادها وان لم يكن هناك دليلٌ شرعيّ على فسادها .

ص: 97

وهي قوله تعالى : « واتّقُوا اللّه حَقَّ تُقاتِهِ» « وَجاهِدُوا في اللّه حَقَّ جِهادِهِ » .

أقول : ونحوهما في الدلالة على وجوب الاحتياط : « فاتّقوا اللّه ما استطعتم » وقوله تعالى : « ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة » وقوله تعالى : « فان تنازعتم في شيء فردّوه الى اللّه والرّسول » .

والجواب : أمّا عن الآيات الناهية عن القول

-------------------

واستدل على ذلك بالمُطلَقات ( وهي قوله تعالى : « اتّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ » (1) وقوله تعالى : « وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقَّ جهادِهِ » (2) ) .

قال المصنّف : ( أقول : ونحوهما ) أي : نحو الآيتين السابقتين ( في الدلالة على وجوب الاحتياط ) وقضاء ما احتمل فساده من الصلاة للاحتياط قوله سبحانه : (« فاتَّقُوا اللّهَ مااستَطعتُم » (3) وقوله تعالى : « وَلا تُلقُوا بأيدِيكُم الى التَّهلُكَةِ » (4) وقوله تعالى : ( « فان تَنَازَعتُمُ في شيءٍ» ) يعني : تنازعتُم في شيء انّه هل هو حلال أو حرام ؟ ( « فَردُّوه الى اللّه والرَّسول » ) (5) والرّد الى اللّه هو الرجوع الى كتابه ، والرّد الى الرسول هو الرجوع الى سنته ، ومعنى ذلك : أنه لاحق لكم في أن تحكموا بالحلية أو بالحرمة بلا دليل ، وعلى هذا : فلا يجوز للاُصوليين أن يحكموا بالاباحة فيما لم يعلموا انّه حرام أو حلال كشرب التتن - مثلاً - ؟ .

( والجواب أمّا عن ) الطائفة الاولى من الآيات وهي : ( الآيات الناهية عن القول

ص: 98


1- - سورة آل عمران : الآية 102 .
2- - سورة الحج : الآية 78 .
3- - سورة التغابن : الآية 16 .
4- - سورة البقرة : الآية 195 .
5- - سورة النساء : الآية 59 .

بغير علم - مضافا إلى النقض بشبهةِ الوجوب ، والشبهة في الموضوع - فبأنّ فعلَ الشيء المشتبه حكمه ، إتكالاً على قبح العقاب من غير بيان ، المتفق عليه بين المجتهدين والاخباريين ، ليسَ من ذلك .

-------------------

بغير علم مضافاً الى النقض ) على الاخباريين المستدلّين بهذه الآيات ، نقضاً ( بشبهة الوجوب ، والشبهة في الموضوع ) فانّ الاخباريين يقولون : بعدم لزوم العمل في الشبهة الوجوبية كالدعاء عند رؤة الهلال ، ويقولون أيضاً : بعدم لزوم العمل في الشبهة الموضوعية ، سواء كان فعلاً أو تركاً ، فقول الاخباريين بالبرائة في الشبهة الوجوبية وفي الشبهة الموضوعية وجوبية كانت أو تحريمية أيضاً تشريع .

فما أجاب به الاخباريون عن هذه الشبهات الثلاث ، نُجيبُ به نحن عن الشبهة التحريمية ، وذلك لانّ الآيات الناهية مطلقة تشمل الشبهة الوجوبية والتحريمية سواء الموضوعية منها والحكمية .

كما ونجيب الاخباريين بالاضافة الى هذا الجواب النقضي بالجواب الحلي ، وهو ما أشار اليه المصنّف بقوله : ( فبأنّ فعل الشيء المشتبة حكمه ) كشرب التتن - مثلاً - ( اتكالاً على ) أدلة البرائة : من الكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل ، مثل ( قبح العقاب من غير بيان ، المتفق عليه ) أي : على هذا القبح ( بين المجتهدين والاخباريين ، ليس من ذلك ) أي : ليس قولاً بغير علم ليكون تشريعاً محرماً ، بل هو قول بالعلم ، لأنّ الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، والعقل ، هي المستند للقول بالبرائة عند المجتهدين في الشبهات الأربع ، وعند الاخباريين في الشبهات الثلاث أي : الشبهة الموضوعية بقسميها ، والشبهة الحكمية الوجوبية فقط .

ص: 99

وأمّا عمّا عدا آية التهلكة ، فبمنع منافاة الارتكاب للتقوى والمجاهدَة ، مع أنّ غايتها الدلالة على الرّجحان على ما استشهد به الشهيد رحمه اللّه .

وأمّا عن آية التهلكة ، فبأنّ الهلاك بمعنى العقاب معلومُ العدم ،

-------------------

( وأما ) الجواب ( عمّا ) تقدّم في الطائفة الثانية من الآيات فنقول : اما ( عدا آية التهلكة ، فبمنع منافاة الارتكاب ) هنا في الشبهة التحريمية ( للتقوى والمجاهدة ) لأنّ التقوى عبارة عن ترك الحرام ، لا ترك المشتبه ، والمجاهدة عبارة عن جهاد النفس في عدم ارتكاب الحرام لا ارتكاب المشتبه ، خصوصاً وقد تقدّمت الأدلة الدالة على انّ الشارع أجاز ارتكاب المشتبه .

( مع انّ ) هناك جواباً ثانياً عمّا عدا آية التهلكة وهو : ان ( غايتها : الدلالة على الرّجحان ) بمعنى : ان الاتقاء والمجاهدة الكاملين مستحبان شرعاً لا انّهما واجبان ، وذلك ( على ما استشهد به الشهيد رحمه اللّه ) فانّ الشهيد الأوّل انّما استشهد بالآيتين على مشروعية القضاء لا على وجوبه ، فلا دلالة في الآيات على ما يذكره الأخباريون : من ان الشبهة التحريمية يحرم ارتكابها .

بل ان في مثل آية : « فَاتَقُوا اللّهَ ما استَطَعتُم » (1) دلالة على الاستحباب ، اذ لو كان المراد بالتقوى هنا : التقوى الواجبة ، كانت واجبة مطلقاً ، لا بقدر الاستطاعة العرفية التي هي ظاهر الآية .

( وأما ) الجواب ( عن آية التهلكة ، فبأنّ الهلاك بمعنى : العقاب معلوم العدم ) لما تقدّم من الأدلة الأربعة التي تدل على انّ الشبهة التحريمية ليست محرّمة العمل ، لوضوح : قبح العقاب من دون بيان .

ص: 100


1- - سورة التغابن : الآية 16 .

وبمعنى غيره تكون الشبهة موضوعيّة لا يجب فيها الاجتنابُ بالاتفاق .

ومن السنّة طوائف :

إحداها : مادلّ على حرمة القول والعمل بغير العلم

-------------------

( و ) اما الهلاك ( بمعنى غيره ) أي : غير العقاب بان اريد بالتهلكة في الآية المباركة : التهلكة الدنيوية ، كالأضرار التي لا يحرم تحملها ، فانّها وان كانت موجودة إحتمالاً ، الاّ أنّها ( تكون الشبهة موضوعية ) فانّا وان احتملنا الضرر الدنيوي في شرب التتن - مثلاً - لكن الشبهة حينئذٍ موضوعية لا حكمية ، والشبهة الموضوعية ( لا يجب فيها الاجتناب بالاتفاق ) بين الاُصوليين والاخباريين ، فانّهما يقولان بجواز الارتكاب فيها .

( و ) استدل الأخباريون ( من السنة ) لوجوب الاجتناب في الشبهة التحريمية بأربع ( طوائف ) من الأخبار : ( احداها : ما دلّ على حرمة القول والعمل بغير العلم ) مثل قوله عليه السلام في عدّ القضاة وانّهم أربعة اصناف ، ثلاثة منهم في النار وواحد في الجنة ، « رَجُلٌ قَضى بجور وهو يعلم ، فهو في النّار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم ، فهو في النّار ، ورجل قضى بالحق وهو لايعلم ، فهو في النّار ، ورجل قضى بالحق وهو يعلم ، فهو في الجنّة (1) ، فالناجي فقط هو الذي قضى بالحقّ وهو يعلم ، فيكون القاضي بالاباحة بلا علم في النار حتى وان طابق الواقع .

ص: 101


1- - الكافي فروع : ج7 ص407 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص22 ب4 ح33105 .

وقد ظهرَ جوابها ممّا ذكر في الآيات .

الثانية : ما دلّ على وجوب التوقف عند الشبهة وعدم العلم ، وهي لا تُحصى كثرةً ، وظاهرُ التوقف المطلق السكونُ وعدمُ المضيّ ، فيكون كناية عن عدم الحركة بارتكاب الفعل ، وهو محصّل قوله عليه السلام ، في بعض تلك الأخبار : « الوقوفُ عِندَ الشُبهات خيرٌ مِنَ الاقتحام في الهَلكاتِ » .

-------------------

( و ) كيف كان : فانّه ( قد ظهر جوابها ) أي : جواب هذه الطائفة من السنة ( ممّا ذكر في الآيات ) المتقدّمة ، فانّ القائل بالبرائة انّما يستند الى الأدلة الأربعة ، فلا يكون من قبيل القول والعمل بغير علم .

( الثانية : ما دلّ على وجوب التوقف عند الشبهة وعدم العلم ) عطف على « الشبهة » ( وهي لا تحصى كثرة ، وظاهرُ التوقف المطلق ) في مثل قوله عليه السلام « قِف عِندَ الشُبهَةِ » حيث لم يبين فيه مفعول « قف » وانّه هل يُراد به التوقف في الافتاء بالحكم الواقعي ، أو التوقف في الافتاء بالحكم الظاهري أو التوقف في العمل بمعنى : ( السكون وعدم المضيّ ) فاذا لم يعلم - مثلاً - ان التتن حرام أو حلال ، يقف ولا يمضي في شربه .

والحاصل : ان حذف متعلق « قف » يفيد العموم ( فيكون ) التوقف ( كناية عن عدم الحركة بارتكاب الفعل ، وهو ) أي : عدم الحركة بالارتكاب في الشبهة التحريمية ( محصّل قوله عليه السلام ، في بعض تلك الأخبار : « الوقوف عند الشُبهات خيرٌ من الاقتحام في الهَلَكاتِ » (1) ) ومعنى الاقتحام : الدخول في الشيء الذي

ص: 102


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص107 ب9 ح33334 .

فلا يَردُ على الاستدلال : أنّ التوقفَ في الحكم الواقعيّ مُسلّمٌ عند كِلا الفريقين ، والافتاء بالحكم الظاهري منعاً وترخيصاً مشترك كذلك ، والتوقف في العمل لا معنى له ،

-------------------

لا يحمد عقباه .

ثمّ إنّ المصنّف أشار الى إشكال أورده الفاضل النراقي وصاحب القوانين على هذه الرواية ، وحاصله : إنّ المراد من التوقف ان كان هو التوقف عن الحكم الواقعي وعدم اختيار الاباحة والحرمة الواقعيين ، فمن المعلوم : إنّ الاصوليين والاخباريين كلاهما متوقفان ، لأن كلاً منهما يقول : لا أعلم بالحكم الواقعي .

وان كان المراد هو التوقف عن الحكم الظاهري فلم يتوقف فيه أحد منهما ، لأنّ الاُصوليين يقولون بالبرائة ، والاخباريين يقولون بالاحتياط .

وإن كان المراد هو التوقف في العمل أي : عدم اختيار الفعل ولا الترك ، فهو غير معقول ، اذ النقيضان لا يمكن ارتفاعهما .

وقد أجاب المصنّف عن هذا الاشكال بقوله : إنّ المراد بالتوقف هوعدم الحركة بارتكاب الفعل على ما هو المحصل من الحديث السابق ( فلا يردُ على الاستدلال ) بهذا الخبر ( :انّ التوقف في الحكم الواقعي مسلّمٌ عند كِلا الفريقين ) من الاخباريين والاُصوليين ( والافتاء بالحكم الظاهري منعاً وترخيصاً مشترك كذلك ) ومسلّم عند كِلا الفريقين ، لأنّ الاخباريين يقولون بالمنع والاُصوليين بالترخيص ( والتوقف في العمل لا معنى له ) لأنّه يوجب رفع النقيضين وهو محال.

ص: 103

فنذكر بعضَ تلك الأخبار تيمّنا :

منها : مقبولة عُمر بن حَنظلة عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، وفيها بعد ذكر المرجّحات : « إذا كان كذلك فَأرجهِ حتّى تلقى إمامَك ، فانّ الوقوفَ عند الشبهات خيرٌ من الاقتحام في الهلكات » .

-------------------

وعلى أي حال : ( فنذكر بعض تلك الأخبار ) الدالة على وجوب التوقف عند الشبهة وعدم العلم ( تيمّناً ) لأنّ ذكر الأخبار يوجب اليُمن والبَركةِ وان كنّا لا نحتاج الى ذكرها هنا ، لأنّها مذكورة في كثير من كتب الأحاديث .

( منها : مقبولة عُمر بن حَنظَلَة ) التي تلقاها الأصحاب بالقبول ، وقد وردت هذه المقبولة في علاج الخبرين المتعارضين الواردين عنهما عليهماالسلام وهي : ( عن

أبي عبداللّه عليه السلام ، وفيها : بعد ذكر المرجّحات : اذا كان كذلك ) أي : لم يوجد مرجّح لهذا الخبر على ذلك الخبر ، ولا لذلك الخبر على هذا الخبر ( فَأرجِهِ ) أي : أخِّر تعيين الحق من الخبرين ( حتى تلقى إمامَك ) .

ومن الواضح : إنّ الرواية مختصةٌ بحال حضور الائمة عليهم السلام ، والشاهد في الجملة الأخيرة من الخبر وهو قوله عليه السلام : ( فان الوقُوفَ عِندَ الشُبهات خَيرٌ منَ الاقتحام في الهَلَكات ) (1) فانّ القول والعمل بغير علم ، اقتحام في الهلكة ، وان كان قوله وعمله مطابقاً للواقع ، كما عرفت ذلك في أصناف القضاة (2) ، أمّا اذا

ص: 104


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص107 ب33334 .
2- - التي رواها الكافي فروع : ج7 ص407 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص22 ب4 ح33105 .

ونحوها صحيحةُ جَميل بن دَرّاج عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، وزاد فيها : « إنّ على كل حَقّ حَقيقةً ، وعلى كلّ صَوابٍ نورا ، فَما وافَق كتابَ اللّهِ فخذُوه ، وما

خالَفَ كتابَ اللّهِ فدعُوهُ » .

-------------------

توقف فلم يشرب التتن - مثلاً - فانّه لا محذور فيه عليه .

وقوله : « خير » في الحديث ليس بمعنى « أفضل » ، بل مثل قوله سبحانه وتعالى : « أوْلى لَكَ فأوْلى * ثُمَّ أوْلى لَكَ فأوْلى » (1) وقوله تعالى : « أفَمَن يُلقى في النَّار خَيرٌ أم من يَأتِي آمِناً يَومَ القِيامَةِ » (2) .

( ونحوها ) أي : نحو مقبولة عمر بن حنظلة ( صحيحةُ جَميل بن دَرّاج عن أبي عبداللّه عليه السلام ، وزادَ فيها ) بعد قوله : « انّ الوقوف عند الشبهات خير ...» ( : ان على كلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صوابٍ نوراً ، فَما وافق كتابَ اللّهِ فَخذُوه ، وما خَالَفَ كتابَ اللّهِ فَدَعُوه ) (3) .

أقول : الحقّ والصواب عبارةٌ عن شيء واحد ، ولعل الفرق بينهما : ان الحقيقة في الأخبار هو الصواب في الانشاء ، فاذا قال : الانبياء معصومون ، كان حقاً ، لأنّ هذا الكلام له حقيقة أيّ واقع في الخارج ، واذا قال « صل » ، كان صواباً ، لأنّه يقرِّب الانسان الى اللّه تعالى ، وان لم يكن أمراً خارجياً حتى يكون له حقيقة أو لا يكون له حقيقة .

وحيث إنّ الحقائق فطريّة يعرف الانسان الحق بما يعرفه من حقيقته ، فيعرف - مثلاً - ان محمّداً صلى اللّه عليه و آله وسلم رسولُ اللّه ، للعلائم التي تدلّ على حقيقته صلى اللّه عليه و آله وسلم ،

ص: 105


1- - سورة القيامة : الآيات 34 - 35 .
2- - سورة فصّلت : الآية 40 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص69 ح1 و ج2 ص54 ح4 ، وسائل الشيعة : ج27 ص119 ب9 ح33368.

وفي روايات الزهريّ والسَكونيّ وعبد الأعلى : « الوقوفُ عند الشُبهةِ خيرٌ منَ الاقتحامِ في الهَلَكةِ ، وتَرككَ حَديثا لم تَروه خيرٌ من روايتِكَ حديثا لم تحصه » .

-------------------

بينما ليس لمسيلمة الكذاب حقيقة ، ولذا يعرف الانسان انّه ليس بحق وانّه كاذب في إدعائه .

« والنور » : عبارة عن المظهر للأشياء مادياً أو معنوياً ، « والصواب » يظهره نور معنوي يلقى في قلب الانسان بسبب سماعه للصواب ، أو رؤته له أو ما أشبه ذلك .

كما إنّ الظاهر من قول الإمام عليه السلام في آخر الخبر : « فَما وافَق كتابَ اللّهِ فخذُوه ...» انّه من باب بيان بعض الصغريات ، لوضوح : انّ موافق الكتاب حقٌ وصوابٌ ، والكتاب حقيقته ونوره هو المائز بين الحق والباطل ، وأما ما خالف الكتاب فلا حقيقة له ولا نور .

( وفي روايات الزهريّ ، والسكوني ، وعبد الأعلى ) قال عليه السلام : ( الوقوفُ عندَ الشُبهةِ خيرٌ من الاقتِحام في الهَلَكَةِ ، وتَرككَ حَديثاً لم تَروه ) بمعنى : انّك لم تَروه بطريق معتبر ( خيرٌ من روايتكَ حَديثاً لم تُحصِه ) (1) وقوله عليه السلام : « وتركك ...» لعلّه أيضاً من صغريات ما ذكره على نحو الكبرى الكلّية في قوله : « الوقوفُ عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهَلَكَةِ » ومعنى تتمة الحديث : انّ ترك رواية غير معتبرة أفضل من نقل أحاديث لا تحصى ، يريد الانسان بها الاكثار من الحديث ،

ص: 106


1- - الكافي اصول : ج1 ص50 ح9 ، المحاسن : ص215 ح102 ، وسائل الشيعة : ج27 ص155 ب12 ح33465 و ص171 ب12 ح33520 .

ورواية أبي شَيبة عن أحدهما عليهماالسلام ، وموثّقة سَعد بن زياد عَن جعفر ، عن أبيه عن آبائه عليهم السلام ، عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : « إنّه قال : لا تُجامعُوا في النكاح على الشبهة ، وقِفُوا عندَ الشبهةِ - إلى أن قال - فانّ الوقوفَ عندَ الشبهةِ خيرُ من الاقتحام في الهَلَكة » .

-------------------

ومعنى « خير » : هو الذي تقدَّم ، لا بمعنى الأفضلية .

( ورواية أبي شيبة (1) عن أحدهما عليهماالسلام ) أي : عن الامام الباقر وعن الامام الصادق عليهماالسلام ، فانّه كثيراً ما كان يسمع الراوي رواية عن أحدهما ثم ينسى انّه عن أيّ واحد منهما ، فيقول : عن أحدهما ، كما انه قد يقول الراوي - مثلاً - : عن أحدهم ، وذلك اذا نسي انّه من أي واحد من الائمة الطاهرين عليهم السلام .

( وموثقةِ سعد بن زياد عن جَعفر ) الصادق عليه السلام ( عن أبيه عن آبائه عليهم السلام عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم انه قال : لا تُجامعُوا في النكاح على الشبهة ) أي : لا تقتربُوا من المرأة التي لا تعلمون حليتها وحرمتها ، لشبهة موضوعية ، أو شبهة حكمية ( وقِفُوا عندَ الشُبهة الى أن قال ) صلى اللّه عليه و آله وسلم ( : فانّ الوقوفَ عندَ الشُبهةِ خَيرٌ من الاقتحامِ في الهَلَكةِ ) (2) وقد تقدّم معنى قوله « خير من الاقتحام في الهلكة » .

ثم انّه ربّما يتوهم : انّ هذه الأخبار لا تدل على وجوب الاحتياط ، لأنّ كلمة « خير » في هذه الأخبار ظاهرة في الاستحباب ؛ فاجاب عنه المصنّف

ص: 107


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص158 ب12 ح33476 .
2- - تهذيب الأحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ، وسائل الشيعة : ج20 ص259 ب157 ح25573 و ج27 ص159 ب12 ح33478 وفي الجميع عن مسعدة .

وتوهّمُ ظهور هذا الخبر المستفيض في الاستحباب مدفوعٌ بملاحظة أنّ الاقتحام في الهلكة لا خيرَ فيه أصلاً ، مع أنّ جعلَه تعليلاً لوجوب الارجاء في المقبولة وتمهيدا لوجوب طرح ما خالفَ الكتاب في الصحيحة قرينةٌ على المطلوب .

-------------------

بقوله ( وتوهّم ظهور هذا الخبر المستفيض في الاستحباب مدفوع ) لوجهين :

الوجه الأوّل : ( بملاحظة انّ الاقتحام في الهلكة لا خيرَ فيه أصلاً ) فانّ قوله عليه السلام : « الوقوفُ عندَ الشُبهةِ خَيرٌ من الاقتحامِ في الهَلَكَةِ » يدل على ان المراد ب- « الخير » : الوجوب لا الفضل والاستحباب ، لأنّ الاقتحام في الهلكة لا خير فيه أصلاً ، فالمراد : انّ تمام الخير وكل الخير انّما هو في الوقوف عند الشبهة ، فيكون واجباً ، مثل قوله سُبحانه : « أوْلى لَكَ فَأوْلى » (1) فانّ ذهاب الكافر الى النار له كلّ الأولوية والتعيّن ، لا انّه أولى من دخوله في الجنّة .

الوجه الثاني : ما أشار اليه بقوله : ( مع انّ جعله تعليلاً لوجوب الارجاء في المقبولة ) لقوله عليه السلام : « فأرجه حتى تلقى إمامك ، فانّ الوقوفَ عندَ الشُبهات خيرٌ منَ الاقتحام في الهَلَكات » (2) ( و ) كذا جعله ( تمهيداً لوجوب طرح ما خالف الكتاب في الصحيحة ) حيث قال عليه السلام في صحيحة جَميل : « فَما وافَقَ كتاب اللّه فخُذوه وما خَالَفَ كتابَ اللّهِ فَدَعُوه » (3) ( قرينة على المطلوب ) الذي هو وجوب

ص: 108


1- - سورة القيامة : الآية 34 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص107 ب9 ح33334 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص69 ح1 و ج2 ص54 ح4 ، وسائل الشيعة : ج27 ص119 ب9 ح33368 .

فمساقُهُ مساقُ قول القائل : « أتركُ الأكل يَوما خيرٌ من أن أُمنَعَ منه سنةً ».

وقوله عليه السلام في مقام وجوب الصبر حتّى يتيقن الوقت : « لأن اُصلّي بعد الوقت أحبُّ إليّ من أن اُصلّي قبل الوقت » .

وقوله عليه السلام في مقام التقيّة :

-------------------

الاحتياط لا استحبابه .

وذلك لأنّ أرجهِ ، باعتبار كونه أمراً ، ظاهرٌ في الوجوب ، كما انّ طرح ما خالف الكتاب لمقتضى الأمر : فدعوه واجب ايضاً ، فيكون الوقوف الذي هو علّة للارجاء الواجب واجباً ، اذ لا يمكن أن تكون العلّة مستحبة والمعلول واجباً ، وكذا يكون الوقوف الذي هو مقدمة لطرح ما خالف الكتاب الواجب واجباً ايضاً ، لانّ مقدمة الواجب واجب .

إذن : ( فمساقه ) أي : مساق هذا الكلام ( مساقُ قول القائل : أترُك الأكلَ يَوماً ، خيرٌ من أن أُمنَعَ مِنهُ سنة ) وقوله : « أترُك » بصيغة المتكلِّم ، أي : لأن أمتنع من الأكل في يوم بسبب مرض أو نحوه ، خيرٌ من أن آكل واُبتلى بالمرض حتى يجب عليّ الامتناع من الأكل سنة ( و ) مساق ( قوله عليه السلام في مقام وجوب الصبر حتى يتيقن الوقت ) في أوقات الصلوات ( لأنّ ) - بفتحتين - وهي أن مصدرية ( اُصلي بعد الوقت أحبّ إليّ من أن اُصلي قبل الوقت ) (1) ، مما يكون تأويله بالمصدر : الصلاة بعد الوقت أحبّ اليَّ من الصلاة قبلَ الوقت ، مع وضوح : إنّ المحبوبية كلها في الصلاة في الوقت ، ولا محبوبية في الصلاة قبل الوقت ( و ) مساق ( قوله عليه السلام في مقام التقية ) : حيث كان الامام الصادق عليه السلام قد أفطر آخر يوم من

ص: 109


1- - وسائل الشيعة : ج4 ص169 ب13 ح4820 بالمعنى .

« لأن أفطِرَ يَوما مِن شَهرِ رَمَضانَ فأقضِيَهُ أحبُّ إليّ مِن أن يُضرَبَ عُنُقي » .

ونظيرُه في أخبار الشبهة ، قولُ عليّ عليه السلام ، في وصيّته لابنه : « أمسِك عن طريقٍ إذا خِفتَ ضلاله ، فانّ الكفّ عِندَه خَيرٌ من الضّلال

-------------------

شهر رمضان تقية ، لأنّ العيد ثبت عند المنصور العباسي ولم يثبت عند الإمام ، وعلم انّه اذا لم يفطر موافقة للمنصور ،قتله المنصور : فأفطر وقال : ( لأن ) بالفتحتين وهي أن مصدرية ( أفطر يوماً من ) آخر ( شهر رمضان ، فأقضيه ) بعد ذلك ( أحبُّ اليّ من أن يُضربَ عُنُقي ) (1) واذا أوّلناه بالمصدر صار هكذا : الافطار أحبّ اليّ من القتل .

لكن لا يخفى : انّ جماعة من الفقهاء قالوا بعدم وجوب القضاء ، لأنّه حكم التقية ، كما اذا أفطر قبل الغروب الشرعي تقية ، أو صلى بوضوء منكوس ، أو خالف العامة ، الى غير ذلك ، فانّ الصيام في الاوّل صحيح ، والصلاة في الثاني كذلك ، فقول الامام : « فأقضيه » ، من باب الاستحباب لا من باب الوجوب ، بسبب القرائن الخارجية .

( ونظيرُه في أخبار الشبهة ) أي : نظير الخبر المستفيض القائل : وقفوا عند الشبهة في مساقه مساق الأمثلة المذكورة من الدلالة على وجوب الوقوف ، لا استحبابه ، ( قول عليّ عليه السلام في وصيته لابنه : أمسك عن طريقٍ اذا خِفتَ ضَلاله ) ولعلّ المراد من الطريق : الأعم من الطريق المعنوي والطريق الخارجي .

ثمّ علّل عليه السلام الامساك بقوله : ( فانّ الكفّ ) أي : الوقوف وعدم السلوك ( عنده ) أي : عند ذلك الطريق الذي يخاف الانسان ضلاله ( خيرٌ من الضلال )

ص: 110


1- - الكافي فروع : ج4 ص83 ح9 ، وسائل الشيعة : ج10 ص132 ب57 ح13034 .

وخَيرٌ مِن رُكوب الأهوال » .

ومنها : موثّقةُ حمزة بن الطيّار : « إنّه عَرَضَ على أبي عبد اللّه عليه السلام بعضَ خُطَبِ أبيه عليه السلام ، حتّى إذا بلغ موضعا منها ، قال له : كُفَّ واسكُت ، ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السلام : إنّه لا يسعكم فيما نزل عليكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفُّ عَنهُ والتَّثبُّتُ

-------------------

الدنيوي في الطرق البرية والبحرية ، وخيرٌ من الضلال الديني في الطرق الشرعيّة ( وخير من ركوب الأهوال ) (1) والتعرض للمخاوف والأخطار والوقوع فيها ، ومن المعلوم : إنّ الوقوف عن مثل هذا الطريق واجب وليس مستحباً وأفضل .

( ومنها ) أي : من جملة الأخبار الدالة على لزوم الاحتياط ووجوب التوقف مما استدل به الأخباريون ( : موثقة حمزة بن الطيّار : انّه ) أي انّ حمزة ( عرض على أبي عبداللّه ) الصادق ( عليه السلام بعض خُطبَ أبيه ) الباقر ( عليه السلام ) ليرى صحة النسبة من سقمها ، فأخذ يقرءها عليه ( حتى اذا بلغ موضعاً منها ، قال له : كُفَّ واسكُت ) ولعله كان لأجل ان تلك القطعة التي أراد حمزة قرائتها لم تكن صحيحة النسبة الى الامام الباقر عليه السلام .

( ثمّ قال أبو عبداللّه عليه السلام انّه لا يسعكم ) أي : لا يحق لكم ( فيما نزل عليكم مما لا تعلمون ) : أي : في قضية نزلت بكم لا تعلمون ما هو حكمها أو صحتها من سقمها ، فلا يسعكم ( الاّ الكفّ عنه ) أي : التوقف فيه ( والتثبّت ) أي : الفحص

ص: 111


1- - نهج البلاغة : الكتاب 31 ، تحف العقول : ص68 ، وسائل الشيعة : ج27 ص160 ب12 ح33484 بالمعنى .

والرّدُّ إلى أئمة الهدى عليهم السلام ، حتّى يحملوكم فيه إلى القصد ويجلو عنكم فيه العَمى ويعرّفوكم فيه الحقّ ، قال اللّه تعالى : « فاسألوا أهلَ الذِّكرِ إنْ كُنتُم لا تَعلَمُون » .

ومنها : روايةُ جميل عن الصادق عن آبائه عليهم السلام : « إنّه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : « الامورُ ثلاثةٌ ، أمرٌ بيّنٌ لَكَ رُشدُه فاتّبعه، وأمرٌ بَيّنٌ لَكَ غَيُّهُ فَاجتَنِبهُ، وأمرٌ اختُلِفَ فيه

-------------------

عن حكمه ، وصحته من سقمه ( والرَّدُ الى ائمة الهدى عليهم السلام ) عند التمكن من الوصول اليهم عليهم السلام ، وانّما لا يسعكم الاّ ذلك فلقوله عليه السلام : ( حتى يحملوكم ) ويوقفوكم ( فيه ) أي : فيما لا تعلمون حكمه وانه صحيح أو غير صحيح ( الى القصد ) أي : الطريق المستقيم ببيان الحقّ فيه والصحيح منه ( ويجلو ) أي : يكشف ( عنكم فيه العمى ) حيث انّ الانسان الذي يسلك ما لا يعلم الحقّ فيه من الباطل يكون كالأعمى غير انّ هناك أعمى خارجي ، وهذا اعمى معنوي ( ويعرّفوكم فيه الحقّ ، قال اللّه تعالى : « فاسئَلُوا أهلَ الذِّكر ان كُنتُم لا تَعلَمُونَ » (1) » (2) وأظهر مصاديق اهل الذكر هم الائمة عليهم السلام .

( ومنها روايةُ جميل عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام انّه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : الاُمور ثلاثة ، أمرٌ بيّنٌ لكَ رُشده ) كوجوب الصلاة اليومية ،وهذا ( فاتّبعه ) وإعمل به ( وأمر بيّنٌ لكَ غَيُّه ) وانّه غير صحيح كصلاة التراويح وهذا ( فاجتَنبهُ ) ولا تأتِ به ( وأمرٌ اختُلفَ فيهِ ) كشرب التتن - مثلاً - في التوصليات ، وكصلاة خمس ركعات متواليات بسلام واحد - مثلاً - في العبادات ، كما أفتى

ص: 112


1- - سورة الانبياء : الآية 7 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص50 ح10 .

فَرُدَّه إلى اللّه عزّ وجلّ».

ومنها : روايةُ جابرُ عن أبي جعفر عليه السلام ، في وصيّته لأصحابه : « إذا اشتَبَه الأمرُ عَلَيكُمُ ، فَقِفُوا عِندَهُ وَرُدُّوهُ إلينا ، حتّى نَشرَحَ لكم مِن ذلك ما شرح اللّه لنا » .

ومنها : روايةُ زُرارة عن أبي جعفر عليه السلام : « حَقُّ اللّه عَلى العِبادِ أن يقولوا

-------------------

به العلاّمة فيمن نذّر أن يُصلي كذلك ، فانّ العلامة يرى وجوب مثل هذه الصلاة لمكان النذر ، والمشهور قالوا بعدم جواز مثل هذه الصلاة وبطلان النذر .

وعليه : فاذا اتفق لك أمرٌ مختلف فيه ( فرُدَّهُ الى اللّه عزّ وجلّ ) (1) أي : توقف فيه وراجع الكتاب والسنّة لترى هل فيه ما يؤد ذلك أو ليس فيه ما يؤده ؟ وهذا معنى الرّد الى اللّه، كما انّه قد يكون المراد من قوله عليه السلام في مُوثقة حمزة : «والرّد الى ائمة الهدى»(2) هو هذا المعنى أي : مراجعة سيرتهم وسُنتهم ممّا ثبت انّه سيرتهم ، وسنتهم عليهم السلام.

( ومنها : روايةُ جابر عن أبي جعفر عليه السلام ، في وصيته لأصحابه ) انّه قال : ( اذا اشتبه الأمرُ عليكم ، فقِفُوا عندَهُ ورُدّوه الينا ، حتى نشرَح لكُم من ذلك مَا شرحَ اللّهُ لنا ) (3) ونبيّن لكم حكمه ، وصحته من سقمه .

( ومنها : رواية زُرارة عن أبي جَعفر عليه السلام : حَقُّ اللّهِ على العباد : أن يَقُولوا

ص: 113


1- - من لا يحضره الفقيه : ج4 ص400 ب2 ح5858 ، الخصال : ص153 ح 189 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج27 ص162 ب12 ح33491 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص50 ح10 .
3- - الأمالي للطوسي : ص232 ح410 ، وسائل الشيعة : ج27 ص168 ب12 ح33511 .

ما يَعلَمونَ ، ويَقِفُوا عِندَ ما لا يَعلَمُونَ » .

وقوله عليه السلام ، في رواية المسمعيّ الواردة في اختلاف الحديثين : « وما لم تجدُوا في شَيءٍ من هذهِ الوجُوه فردّوا إلينا عِلمَهُ فَنَحنُ أولى بِذلِكَ ، ولا تَقُولوا فِيهِ بآرائِكُم . وَعَليكُم الكفَّ والتثبّتَ والوقُوفَ ، وأنتم طالِبون باحثُون حتّى يأتيكُم البيانُ مِن عِندِنا » إلى غير ذلك ممّا ظاهره وجوب التوقف .

والجواب :

-------------------

ما يَعلَمون ، وَيقِفُوا عندَ ما لايعلَمُون ) (1) بأن لا يقولوا فيه شيئاً من أنفسهم .

( وقوله عليه السلام ، في رواية المسمعي الواردة في اختلاف الحديثين ) وتعارضهما ، قال : ( وما لم تَجدُوا في شيءٍ من هذهِ الوجُوه ) بان لم يكن في احد الحديثين المتعارضين شيء من المرجحات ( فردّوا الينا علمَهُ ، فنحنُ أولى بذلك ولا تَقُولوا فيه بآرائكم ، وعليكُم الكفَّ ، والتثبّتَ ، والوقُوف ، وأنتُم طالِبون باحثون حتى يأتيكُم البيان من عندنا ) (2) وذلك في صورة التمكن من الوصول الينا ( الى غير ذلك ممّا ظاهره : وجوب التوقف ) كما يقول به الاخباريون في الشبهة التحريمية ، فلا يجوز القول بالبرائة كما يحكم به الاُصوليون .

هذا بعض الكلام في روايات الشبهة الدالة على وجوب الاحتياط .

( والجواب ) عن هذه الطائفة الثانية من الأخبار ، التي استشهد بها الأخباريون على الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية : إن هذه الطائفة على أقسام ثلاثة ،

ص: 114


1- - الكافي اصول : ج1 ص43 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص23 ب4 ح33108 .
2- - عيون أخبار الرضا : ج2 ص21 ح45 ، وسائل الشيعة : ج27 ص165 ب12 ح33499 .

أنّ بعضَ هذه الأخبار مختصٌّ بما إذا كان المضيُّ في الشبهة اقتحاما في الهلكة ، ولا يكون ذلك إلاّ مع عدم معذوريّة الفاعل ، لأجل القدرة على إزالة الشبهة بالرجوع إلى الإمام عليه السلام ، أو إلى الطرق المنصوبة عنه عليه السلام ،

-------------------

وكلها لا دلالة فيها على وجوب الاحتياط :

القسم الأول : ما دلّ على انّ ارتكاب المشتبه يوجب الهلكة .

وفيه : انّه إذا أمكن مراجعة الامام عليه السلام أو الطرق المنصوبة ، فانّه لا يجوز للانسان أن يرتكب المشتبه وكلام الاُصوليين انّما هو فيما اذا لم يكن أحد الأمرين : بان لم يتمكن المكلّف من مراجعة الامام ، ولم تكن هناك طرق منصوبة تدلّ على خلاف البرائة ، فانّه في هذه الصورة يستند في العمل على البرائة .

القسم الثاني : ما دلّ على عدم جواز الاعتماد في أُصول الدين على الظنون المجردة عن الأدلة ، وعلى الاستنباطات الاحتمالية .

وفيه : انّ هذا لا شك في عدم جوازه ، ولا يقول الاُصوليون بجواز مثل ذلك ، وانّما كلامهم في الفروع الفقهية .

القسم الثالث : ما دلّ على استحباب الاحتياط ورجحانه .

وفيه : انّ هذا القسم لا دلالة فيه على مقالة الاخباريين بوجوب الاحتياط .

ثم انّ المصنّف أشار الى القسم الأول وجوابه بقوله : ( انّ بعضَ هذه الأخبار مختصٌّ بما اذا كان المضيُّ في الشبهة اقتحاماً في الهلكة ) بأن كان في مورد يستقل العقل فيه أيضاً بعدم المضي ( ولا يكون ذلك ) أي : من هذا المورد ( الاّ مع عدم معذورية الفاعل ) في المضيّ فيه ، وانّما لايكون معذوراً ( لأجل القدرة على ازالة الشبهة بالرجوع الى الإمام عليه السلام ، أو إلى الطرق المنصوبة عنه عليه السلام ) فانّ الامام اذا كان حاضراً رجع الناس إليه في أحكامهم ، وإذا كان حاضراً أو غائباً وكانت هناك

ص: 115

كما هو ظاهر المقبولة ، وموثّقة حمزة بن الطيّار ، ورواية جابر ، ورواية المسمعيّ ، وبعضَها واردٌ في مقام النهي عن ذلك ، لاتّكاله في الامور العمليّة على الاستنباطات العقليّة الظنّيّة ، أو لكون المسألة من الاعتقاديّات ، كصفات اللّه تعالى ورسوله صلى اللّه عليه و آله وسلم والأئمة ،

-------------------

طرق منصوبة تدل على الأحكام ، وجب الرجوع الى تلك الطرق في استفادة الأحكام منها أيضاً ( كما هو ظاهر المقبولة ) حيث قال عليه السلام : « فأرجه حتى تلقى إمامَكَ » (1) ، ( وموثقة حمزة بن الطيّار ) حيث قال عليه السلام : « التثبت والرّد الى أئمة الهدى » (2) ، ( ورواية جابر ) حيث قال عليه السلام : « ردّوه الينا » (3) ، (ورواية المسمعيّ) حيث قال عليه السلام : « فردّوا إلينا علمه » (4) .

وأشار الى القسم الثاني وجوابه بقوله : ( وبعضها وارد في مقام النهي عن ذلك ) أي : عن المضي في الشبهات ، ومضيّه فيها انّما هو ( لإتكاله ) واعتماده ( في الاُمور العملية على الاستنباطات العقليّة الظنية ) كالقياس والاستحسان في الفروع الفقهية ( أو لكون المسألة من الاعتقاديات كصفات اللّه تعالى ، و ) معرفة ( رسوله صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والأئمة ) الطاهرين من أهل بيته عليهم السلام ، اذ الاعتقاديات يلزم الاستناد فيها الى العلم ، فاذا لم يستند فيها الى العلم وانّما استند فيها الى الظن ،

ص: 116


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص107 ب9 ح33334 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص50 ح10 .
3- - الأمالي للطوسي : ص232 ح410 ، وسائل الشيعة : ج27 ص168 ب12 ح33511 .
4- - عيون أخبار الرضا : ج2 ص21 ح45 ، وسائل الشيعة : ج27 ص165 ب12 ح33499 .

كما يظهر من قوله عليه السلام ، في رواية زُرارة : « لو أنّ العِبادَ إذا جَهِلُوا وَقَفُوا وَلم يَجحَدُوا لم يَكفُرُوا » ، والتوقفُ في هذه المقامات واجبٌ .

-------------------

كان اقتحاماً في الهلكة .

ويظهر الأوّل وهو الاعتماد على الاستنباطات الظنية غير الحجّة من جملة من الروايات ، منها : قول أمير المؤنين عليه السلام في مقام ذم أهل البدع وأتباعهم الذين لا يعتمدون على الكتاب والسنّة، ولا على أئمة الهدى عليهم السلام حيث قال : «لايقتفون أثر نبيّ ، ولا يقتدون بعَمل وصي ، يعملون في الشبهات ، ويسيرون في الشهوات، المعروفُ منهم ما عَرَّفوا، والمنكرُ عندهم ما انكرُوا، ومفرّهم في المعضلات الى أنفسهم ، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم ...» (1) ، الى آخر الحديث .

و ( كما يظهر ) الثاني وهو الاعتماد في الاعتقاديات على الظنون والشبهات ( من قوله عليه السلام ، في رواية زُرارة : لو أنّ العبادَ اذا جَهِلُوا ) شيئاً من المعتقدات الاُصولية ولم يعرفوا طريق الحق فيها ( وَقَفُوا ولم يَجحَدُوا ) ذلك الشيء الذي لم يعرفوه من صفات اللّه تعالى ورسوله والائمة الطاهرين عليهم السلام ( لم يَكفُرُوا ) (2) لأنّ الكفر انّما يأتي من الجحود والانكار لأُصول الدين .

( و ) من المعلوم : انّ ( التوقف في هذه المقامات ) التي ذكرناها في القسم الثاني من أخبار الاحتياط التي تمسك بها الأخباريون ( واجبٌ ) عقلاً وشرعاً ، فانّه

ص: 117


1- - الكافي روضة : ج8 ص64 ح22 (بالمعنى) ، نهج البلاغة : كتاب 88 ، وسائل الشيعة : ج27 ص160 ب12 ح33483 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص388 ح19 ، وسائل الشيعة : ج27 ص158 ب12 ح33474 ، المحاسن: ص216 ح103 .

وبعضَها ظاهرٌ في الاستحباب ، مثل قوله عليه السلام : « أورَعُ النّاس مَن وَقَفَ عِندَ الشُبهةِ » ، وقول أمير المؤمنين عليه السلام : « مَن تَرَكَ ما اشتبه عليه مِنَ الاثم فهو لما استبان له أتركُ والمعاصي حِمى اللّه ،

-------------------

لا يجوز للانسان الاعتماد على الظنون المجردة عن الدليل في الفروع ، ولا على الأدلة الظنية في الاعتقاديات .

وأشار الى القسم الثالث وجوابه بقوله : ( وبعضها ظاهرٌ في الاستحباب ) فلا يدل على وجوب الاحتياط الذي يقول به الأخباريون ( مثل قوله عليه السلام : أورعُ الناس مَنْ وَقَفَ عند الشُبهة ) (1) فانّ الأورعيّة مستحبة وليست بواجبة ، وانّما الواجب هو الورع والتجنب عن المحرمات .

( وقول أمير المؤنين عليه السلام : من تَركَ ما اشتبه عليه مِنَ الاثمِ ، فَهُوَ لما استبان لَهُ أترك ) فانّ من يترك المشتبه يترك المستبين من الحرام قطعاً ، وهذا مثل أن يقول عليه السلام من يأتي بالمستحبات يأتي بالواجبات بطريق أولى ، ومن يترك المكروهات يترك المحرمات بطريق أولى ، والى هذا المعنى يُشير ما روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم من انّه قال : « نِعمَ العبد صُهيب لو لم يخف اللّه لم يعصه » (2) ، أي : فكيف به وهو يخافه فانّه لا يعصيه بطريق أولى ؟ .

ثمّ قال أمير المؤنين عليه السلام : ( والمعاصي حِمى اللّه ) والحمى : هو المكان الذي يحميه ملك أو رئيس أو نحوهما ، ويمنعون دخول الناس فيه ، والاقتراب منه ،

ص: 118


1- - الخصال : ج1 ص16 ح56 ، وسائل الشيعة : ج27 ص165 ب12 ح33501 و ص162 ب12 ح33492 .
2- - السيوطي : ج2 ص164 باب لو ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج12 ص151 .

فَمن يَرتَع حَولَها يُوشِكُ أن يَدخُلَها » . وفي رواية النعمان بن بشير قال : « سَمِعتُ رَسُولَ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم يقول : لِكُلّ مَلِك حِمى ، وحِمى اللّه حلالُهُ وحرامُه والمُشتَبِهاتُ بَينَ ذلِكَ . لو أنّ راعيا رعى إلى جانِبِ الحِمى لم يَثبُت غَنَمُهُ أن يَقَعَ في وَسَطِهِ ، فَدَعُوا المُشتَبِهاتِ » .

وقوله عليه السلام : « مَن اتّقى الشبهات فَقَد استبرأ لدينه » .

-------------------

ويجعلونه منطقة محرّمة و مخطورة ( فمن يَرتَع ) أي : يأتي بأغنامه ( حَولَها ) أي : حول تلك المنطقة المحرّمة : لحمى ( يُوشكُ أن يَدخُلَها ) (1) ويقع فيها .

ومن الواضح : انّ المحرّم هو دخول الحمى لا الرعي حول الحمى ، فاذا لم يعلم الانسان ان ارتكاب هذا الشيء - كشرب التتن مثلاً - معصية للّه سبحانه وتعالى كان من حول الحمى لا من الحمى ، ليكون واجب ا لاجتناب .

( وفي رواية النعمان بن بشير قال : سَمِعتُ رَسُولَ اللّهِ صلى اللّه عليه و آله وسلم يقول : لكُلِّ مَلِك حِمى ، وحِمى اللّه حلالُهُ وحرامُه والمُشتَبهاتُ بَينَ ذلِكَ ) أي :بين الحَلال والحَرام، ومن المعلوم : انّ بين الحرام والحلال ليس حراماً ليكون واجب الاجتناب .

ثم قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( لو أنّ راعياً رعى الى جانب الحمى لم يَثبُت غَنَمهُ أن يَقَع في وَسَطِهِ ، فَدَعُوا المُشتَبِهاتُ ) (2) والمراد من الوسط هنا : داخله ، لا الوسط الحقيقي ( وقوله عليه السلام : من اتّقى الشبهات فَقَد استَبرأ لدِينه ) (3) بكسر الدال - بمعنى :

ص: 119


1- - من لا يحضره الفقيه : ج4 ص74 ب2 ح5149 ، وسائل الشيعة : ج27 ص161 ب12 ح33490 و ص175 ب12 ح33531 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص323 ، غوالي الئالي : ج3 ص548 ح15 .
2- - الأمالي للطوسي : ص381 ح818 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33508 .
3- - غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح41 ، الذكرى : 138 ، وسائل الشيعة : ج27 ص173 ب12 ح33527.

وملخّصُ الجواب : عن تلك الأخبار أنّه لا ينبغي الشكّ في كون الأمر فيها للإرشاد ، من قبيل أوامر الأطباء المقصود منها عدمُ الوقوع في المضارّ ،

-------------------

انّه نزّه دينه عن ارتكاب الحرام .

ومن المعلوم ان تنزيه الدين عن الحرام بمعنى حفظه عن الحرام ، لا ان المشتبه هو الحرام ، ليكون واجب الاجتناب .

( وملخص الجواب عن تلك الأخبار ) الآمرة بالاحتياط ونحوه ( : انّهِ لا ينبغي الشكّ في كون الأمر فيها للارشاد ، من قبيل أوامر الأطباء المقصود منها : عدم الوقوع في المضارّ ) فانّ الأوامر والنواهي قد تكون مولوية ، وهي ما كانت المصلحة في نفس متعلق التكليف مثل : « أقم الصلاة » ، و « لا تشرب الخمر » ، حيث ان في الصلاة مصلحة ، وفي الخمر مفسدة من جهة الأمر والنهي ، فلو لم يأمر المولى بالصلاة ولم ينه عن شرب الخمر لم يكن هناك مصلحة أو مفسدة من جهة الأمر والنهي ، لانّه لا أمر ولا نهي .

وقد تكون الأوامر والنواهي ارشادية ، فاذا خالف الشخص الأمر والنهي لا يصيبه ، عقاب وانّما الثواب والعقاب في المأمور به سواء كان أمرٌ ونهي أم لا ، مثل أوامر الطبيب ونواهيه ، فاذا قال الطبيب : كُلّ الرّمان واترك أكلَ السمّ ، فانّ المصلحة والمفسدة في نفس الرّمان والسم ، لا في أمر الطبيب ، فانه سواء كان أمرٌ أو لم يكن أمرٌ تكون المصلحة في أكل الرّمان والمفسدة في أكل السم ولا مصلحة ومفسدة في مخالفة الطبيب أو موافقته .

وعليه : فاذا قال المولى : صَل ولا تشرب ، كان في أمره ونهيه مصلحة ومفسدة بحيث لولا أمره ونهيه لم تكن تلك المصلحة والمفسدة ، بخلاف ما اذا قال : احتط فليس في نفس الاحتياط بما هو إحتياط مصلحة حتى اذا طابق الواقع تكون

ص: 120

إذ قد تبيّن فيها حكمة طلب التوقف ، ولا يترتّب على مخالفته عقابٌ ، غير ما يترتّب على ارتكاب الشبهة أحيانا من الهلاك المحتمل فيها ،

-------------------

مصلحتان ، كما ليس في تركه مفسدة حتى اذاصادف الواقع تكون مفسدتان ، وانّما المصلحة فيما يحرز بالاحتياط ، والمفسدة فيما تأتي بسبب ترك الاحتياط .

مثلاً : اذا احتاط بغسل يديه في صورة تنجسّ احداهما ، فانّه لا مصلحة في الاحتياط ، وانّما في غسل اليد النجسة واقعاً ، واذا لم يحتط بترك وطى الزوجتين اللتين احديهما حائض ، فالمفسدة في وطي الحائض لا في ترك الاحتياط بما هو احتياط ، واذا تبين ذلك قلنا : ان الأمر بالاحتياط في هذه الروايات للارشاد لا للمولوية .

وانّما نقول : ان الأمر فيها للارشاد مع ان الأصل في الأوامر هو : المولوية ( اذ قد تبيّن فيها حكمة طلب التوقف ، و ) هي النجاة من الهلكة المحتملة ، لأنّ من يترك الاحتياط يحتمل الوقوع في الهلكة ، لا انّه يقطع بها ، وقد عرفت : ان الأمر الارشادي ( لا يترتّب على مخالفته عقابٌ ، غير ما يترتب على ارتكاب الشبهة أحياناً ) أي : على تقدير مصادفة الشبهة للواقع ( من الهلاك المحتمل فيها ) قوله : « من » بيان لقوله : « ما يترتب » ، والضمير : « ها » ، في قوله : « فيها » عائد إلى « الشبهة » .

وعليه : فاذا قال المولى : احتط بترك شرب الانائين الذين أحدهما خمر ، فخالف العبد وشرب أحدهما ، فان كان ما شربه خمراً في الواقع ، عوقب لشرب الخمر لا لترك الاحتياط ، وان لم يصادف ما شربه الخمر ، بأن شرب الماء لم يعاقب بشيء ، وانّما كان عمله تجرّياً ، والتجرّي - كما مرّ في الجزء الأول من الكتاب - كاشفٌ عن القبح الفاعلي وليس محرّماً ، اذ ليس فيه قبح فعليّ .

ص: 121

فالمطلوبُ في تلك الأخبار تركُ التعرّض للهلاك المحتمل في ارتكاب الشبهة .

فان كان ذلك الهلاكُ المحتملُ من قبيل : العقاب الاُخرويّ ، كما لو كان التكليفُ متحققا فعلاً في موارد الشبهة المحصورة ونحوها ، أو كان المكلّفُ قادرا على الفحص وإزالة الشبهة بالرجوع إلى الامام عليه السلام ، أو

-------------------

إذن : ( فالمطلوب في تلك الأخبار ) الآمرة بالاحتياط والتوقف وما أشبه ( ترك التعرّض للهلاك المحتمل في ارتكاب الشبهة ) وهذا هو الشيء الذي يدل عليه العقل أيضاً بلا حاجة الى الأخبار ، وانّما الأخبار مؤدة للعقل ، فاذا علم الانسان بأنّ أحد الانائين سم ، أمر عقله بالاجتناب عنهما ، لا أن الأمر العقلي هو للمصلحة والمفسدة في ذات الأمر والنهي ، وانّما هو لترك التعرض للهلاك المحتمل في ارتكاب الشبهة ، إذا صادف الواقع بأن شرب السمّ واقعاً .

وعليه : ( فان كان ذلك الهلاك المحتمل من قبيل : العقاب الاُخروي ، كما لو ) أمر الشارع بالاجتناب ، فخالفه وصادف الواقع ، وذلك بأن ( كان التكليف متحققاً فِعلاً في موارد الشبهة المحصورة ) بأن كان هناك اناءان أحدهما خمر ، فشرب أحد الانائين وصادق الخمر ( ونحوها ) أي : نحو موارد الشبهة المحصورة ممّا يلزم الاجتناب ، كالاحتياط الواجب في الأموال ، والفروج ، والدماء ، وان لم تكن الشبهة محصورة .

( أو كان المكلّف قادراً على الفحص ) في الشبهة البدوية الحكمية ، كما لو شك في ان التتن حرام أو حلال ( و ) كان المكلّف قادراً على ( ازالة الشبهة بالرجوع الى الإمام عليه السلام ) كما في زمن الحضور ( أو ) بالرجوع إلى

ص: 122

الطرق المنصوبة، أو كانت الشبهة من العقائد، أو الغوامض التي لم يُرد من الشرع التديّنَ به بغير علم وبصيرة، بل نهى عن ذلك بقوله عليه السلام: « إنّ اللّهَ سَكَتَ عَن أشياء ، لم يَسكُت عنها نِسيانا ، فلا تتكلّفوها ، رحمةً منَ اللّهِ لَكُم » ،

-------------------

( الطرق المنصوبة ) كما اذا تمكن من الرجوع الى الكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل ، أو تمكن المقلد من الرجوع الى رسالة المجتهد ، أو الى المجتهد نفسه .

( أو كانت الشبهة من العقائد ، أو الغوامض ) الاُصولية ، كمسائل الجبر والتفويض ، والقضاء والقدر ، وعدم سهو المعصوم ، فان اللازم على الانسان أن يعتقد بهذه الاُمور اعتقاداً قاطعاً عن علم أو دليل ، فاذا لم يعتقد بها عن علم ، أو دليل علمي كان مخطئاً ، لأن الغوامض من المسائل الاُصولية هي ( التي لم يُرد من الشرع التديّن به بغير علم وبصيرة ) فقد قال سبحانه : « فَاعلَم انَّهُ لا الهَ الاّ اللّه » (1) وغيره من الأدلة الدالةِ على وجوب العلم فيها .

( بل نهى عن ذلك ) أي : عن التدين بها بغير علم ( بقوله عليه السلام : إنّ اللّهَ سَكتَ عن أشياءَ لَم يسكت عَنها نِسياناً ، فَلا تتكلَّفُوها ) أي : لا تلقوا أنفسكم في مشقة معرفتها ( رَحمَةً من اللّهِ لَكُم ) (2) فانه لو وجب على الانسان معرفة خصوصيات المبدء قبل الخلقة وحين الخلقة وبعد الخلقة ، وأسماء الأنبياء وأوصيائهم ، وخصوصياتهم ، وخصوصيات الموت ، والبرزخ ، والقيامة ، والجنّة والنار ، وغيرها ممّا تستوعب ملايين الصفحات ، لوقع الانسان في أعظم مشقة .

ص: 123


1- - سورة محمّد : الآية 19 .
2- - غوالي اللئالي : ج3 ص548 ح15 ، من لا يحضره الفقيه : ج4 ص74 ب2 ح5149 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج27 ص175 ب12 ح33531 .

فربّما يوقع تكلّف التديّن فيه بالاعتبارات العقليّة والشواذ النقليّة الى العقاب بل الى الخلود فيه ، إذا وقع التقصيرُ في مقدّمات تحصيل المعرفة في تلك المسألة : ففي هذه المقامات ونحوها يكون التوقفُ لازما عقلاً وشرعا من باب الارشاد ، كأوامر الطبيب ، بترك المضارّ .

-------------------

بل أكثر من ذلك ، ( فربّما يوقع تكلّف التديّن فيه ) أي : لو تكلف الانسان التدين بتلك الخصوصيات والمزايا ( بالاعتبارات العقليّة ) والاستحسانات الفكرية ، لأنّ غالب ما ذكره بعض الحكماء ليس الاّ استحساناً وتكلفاً ( والشواذ النقلية ) أي : استند في تدينه إلى بعض الروايات الشاذة فإن هذا التكلف ينتهي أحياناً ( إلى العقاب ) في الآخرة ان كان ذلك التدين محرّماً ( بل الى الخلود فيه ) أي : في العقاب الدائم ان كان كفراً .

كما لو انتهى الى التدين بأن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم سهى في صلاته ، إستناداً إلى بعض الروايات الشاذة التي وردت تقيةً ، لأنّ العامّة يقولون بذلك فانّه محرّمٌ قطعاً ، وان انتهى الى التدين بعدم المعاد الجسماني استناداً إلى بعض الاستحسانات العقليّة التي ذكرها بعض الحكماء ، فانه يوجب الكفر الموجب للخلود في العقاب وذلك فيما ( اذا وقع التقصير في مقدمات تحصيل المعرفة في تلك المسألة ) فلا يمكن أن يقال : انّه علم والعلم حجّة بنفسه ، فانّ العلم اذا وقع التقصير في مقدماته يكون وبالاً على الانسان .

وعليه : ( ففي هذه المقامات ) التي ذكرناها من قولنا : « في موارد الشبهة المحصورة » إلى هنا ( ونحوها ) كالافتاء بالرأي ، والاستحسان ، والقياس ، وما أشبه ذلك ( يكون التوقف لازماً عقلاً وشرعاً ) لكن أوامر الاحتياط في كلام الشارع انّما هو ( من باب الارشاد ، كأوامر الطبيب ، بترك المضارّ ) فلا دلالة

ص: 124

وإن كان الهلاكُ المحتملُ مفسدةً أُخرى غيرَ العقاب ، سواء كانت دينيّة ، كصيرورة المكلّف بارتكاب الشبهة أقربَ إلى ارتكاب المعصية ، كما دلّ عليه غير واحد من الأخبار المتقدّمة ، ام دنيويّة ، كالاحتراز عن أموال الظَلَمة ،

-------------------

في أخبار الاحتياط على الوجوب كما يقوله الأخباريون : بأنّ « احتط » معناه : انه واجب عليك الاحتياط بحيث لو تركت تكون فاعلاً للمحرّم .

(و) أما (إن كان الهلاكُ المحتملُ) في ارتكاب المشتبه (مفسدة اُخرى غير العقاب) الاُخروي فقد اتفق الأخباريون والاُصوليون على جواز الارتكاب في الشبهة الموضوعية، وجوبية كانت أو تحريمية، وفي الشبهة الوجوبية بعد الفحص ، مع انّه يحتمل في هذه الثلاثة المضار الدنيوية ، وكذا المضار الدينية غير العقوبة الاُخروية .

وعليه : فانّه ( سواء كانت ) المفسدة المحتملة ( دينيّة ، كصيرورة المكلّف بإرتكاب الشبهة أقرب إلى ارتكاب المعصية ) اليقينية ( كما دلّ عليه غير واحد من الأخبار المتقدّمة ) حيث قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « لو انّ راعياً رعى حَولَ الحِمى أوشكَ أن يَقَعَ في وسطه » (1) ، وغير ذلك ، فانّ هذا خطر ديني كما هو واضح .

( أم دنيويّة ، كالإحتراز عن أموال الظلمة ) فانّه مستحسن إذا لم يعلم الانسان انّ هذا المال بنفسه محرّمٌ ، وذلك لأنّ عدم الاحتراز عن مثل هذه الأموال يوجب قسوة القلب ، وقصر العمر ، والذلّة في الحياة الدنيا ، لأن لكل شيء أثره وان لم يكن الانسان يعلم بأنّه ذلك الشيء فان من يشرب الخمر بظن انّه ماء - مثلاً -

ص: 125


1- - الامالي للطوسي : ص381 ح818 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33508 (بالمعنى) .

فمجرّدُ احتماله لا يوجبُ العقابَ على فعلِه لو فرض حرمتُهُ واقعا .

والمفروضُ أنّ الأمر بالتوقّف في هذه الشبهة لا يفيد إستحقاق العقاب على مخالفته ، لأنّ المفروض كونه للارشاد ، فيكون المقصودُ منه التخويفَ عن لحوق غير العقاب من المضارّ المحتملة ، فاجتنابُ هذه الشبهة لا يصيرُ واجبا شرعيّا بمعنى ترتّب العقاب على ارتكابه .

-------------------

يصله السكر وان لم يكن معاقباً عليه في الآخرة .

إذن : ( فمجرّدُ إحتماله ) أي : احتمال هذا الفساد الذي تقدّم في قوله : « وان كان الهلاك المحتمل مفسدة اُخرى غير العقاب » ( لا يوجبُ العقاب ) الاُخروي ( على فعله ) أي : فعل ذلك المحتمل فساده ، ( لو فرض حرمتُهُ واقعاً ) فلا يجب التوقف عن أمثال هذه الأشياء ، لوضوح : ان الشبهة من هذه الجهة شبهة موضوعية ، وقد إتفق الاُصوليون والأخباريون على جواز ارتكابها ، لانّه من مصاديق القاعدة الكلية القائلة بقبح العقاب بلا بيان ، والمفروض انّه لم يكن بيان في الأمر .

( و ) كذالك ( المفروض انّ الأمر بالتوقف في هذه الشبهة ) الموضوعية ( لا يفيد استحقاق العقاب على مخالفته ) لما تقدّم من ان أوامر الاحتياط ليست مولوية ( لأن المفروض كونه للارشاد ) كأوامر الطبيب ( فيكون المقصود منه ) أي : من الأمر بالتوقف في أخبار الاحتياط ( التخويف عن لحوق غير العقاب من المضارّ المحتملة ) .

وعليه:( فاجتناب هذه الشبهة لا يصير واجباً شرعيّاً بمعنى : ترتب العقاب على ارتكابه ) لا في الشبهة الحكمية الوجوبية ، ولا في الشبهة الموضوعية تحريمية

ص: 126

وما نحنُ فيه ، وهي الشبهة الحكميّة التحريميّة ، من هذا القبيل ، لأنّ الهلكة المحتملة فيها لا تكون هي المؤاخذة الأُخرويّة باتفاق الأخباريّين ، لاعترافهم بقبح المؤاخذة على مجرّد مخالفة الحرمة الواقعيّة المجهولة وإن زعموا ثبوت العقاب من جهة بيان التكليف في الشبهة بأوامر التوقف .

فاذا لم يكن المحتمل فيها

-------------------

كانت أو وجوبية ( وما نحنُ فيه ، وهي : الشبهة الحكميّة التحريميّة من هذا القبيل ) أي : من قبيل الشبهات الثلاث ايضاً ( لأنّ الهلكة المحتملة فيها لا تكون هي المؤخذة الاُخرويّة ) أي : العقاب ( باتفاق الأخباريين ) والاُصوليين ( لاعترافهم : بقبح المؤخذة على مجرّد مخالفة الحرمة الواقعيّة المجهولة ) فانّ الأخباريين والاُصوليين كلاهما متفقان على هذا الأمر .

والحاصل : إنّ الاخباريين يقولون : بأن التكليف الواقعي حيث لم يصل الى المكلّف بحسب الفرض لم يكن عقاب عليه ، لقبح العقاب بلا بيان ، وانّما يكون العقاب على مخالفة أوامر الاحتياط ، والاُصوليون أجابوا عن ذلك : بأن أوامر الاحتياط ارشادية والأمر الارشادي لا عقاب عليه ، كما تقدّم ، فالاُصوليون والأخباريون متفقون على عدم العقاب على التكليف الواقعي لقبح العقاب ، على المجهول بلا بيان .

هذا ( وإن ) كان الأخباريون ( زعموا ثبوت العقاب من جهة بيان التكليف فيالشبهة ) التحريمية ( بأوامر التوقف ) وأخبار الاحتياط وقوله : « بأوامر » أي : بسبب أوامر التوقف ، فالعقاب عندهم لمخالفة أوامر الاحتياط لا لمخالفة التكاليف الواقعية غير الواصلة .

وعلى ما ذكرناه : ( فاذا لم يكن المحتمل فيها ) أي : في الشبهة التحريمية

ص: 127

هو العقاب الأُخرويّ كان حالها حال الشبهة الموضوعيّة ، كأموال الظلمة والشبهة الوجوبيّة ، في أنّه لا يحتمل فيها إلاّ غير العقاب من المضارّ والمفروضُ كونُ الأمر بالتوقف فيها للارشاد والتخويف عن تلك المضرّة المحتملة .

وبالجملة : فمفادُ هذه الأخبار بأسرها التحرّز عن الهلَكة المحتملة ،

-------------------

( هو العقاب الاُخرويّ ) بل كان المحتمل : المضارّ الاُخرى ( كان حالها ) أي : حال الشبهة التحريمية ( حال الشبهة الموضوعية ، كأموال الظلمة ) في المثال المتقدِّم ( والشبهة الوجوبية ، في انّه لا يحتمل فيها ) أي : في هذه الشبهات الثلاث

الموضوعية وجوبية وتحريمية ، والحكمية وجوبية ( إلاّ غير العقاب من المضارّ ) وقوله : « من » بيان لقوله : « غير » .

( و ) من المعلوم : إن احتمال الضرر غير العقاب ، لا يوجب الاجتناب شرعاً ولا عقلاً ، كما لا يوجب العقاب في الآخرة ، لانّ ( المفروض كون الأمر بالتوقف فيها ) أي : في الشبهة التحريمية ( للارشاد والتخويف عن تلك المضرّة المحتملة ) التي هي ليست بالعقاب الاُخروي الواجب الاجتناب عنه .

( وبالجملة : فمفادُ هذه الأخبار ) أي : اخبار الاحتياط والتوقف ( بأسرها ) أي : بأجمعها ( التحرز عن الهلكة المحتملة ) فاذا دلّ دليل من الخارج على أن الهلكة المحتملة : هو العقاب ، وجب الاجتناب كما في الشبهة المحصورة ، واُصول الدين ، والأموال ، والفروج ، والدماء ، ممّا يجب فيها الاحتياط ، واذا لم يدل دليل على أنّ الهلكة المحتملة هو العقاب ، بل دل قبح العقاب بلا بيان على عدم العقاب ، فكانت الهلكة المحتملة سائر المضرات ، لم يجب الاجتناب ، من غير فرق بين الشبهة الموضوعية أو الحكمية الوجوبية ، أو التحريمية .

ص: 128

فلابدّ من إحراز احتمال الهلكة عقابا كان أو غيره .

وعلى تقدير إحراز هذا الاحتمال لا إشكالَ ولا خلافَ في وجوب التحرّز عنه إذا كان المحتمل عقابا ، واستحبابهِ إذا كان غيره ، فهذه الأخبار لا تنفع في إحداث هذا الاحتمال ولا في حكمه .

فان قلت :

-------------------

وعليه : ( فلابدّ من احراز احتمال الهلكة ) من الخارج لا من نفس دليل الاحتياط ( عقاباً كان ) تلك الهلكة ( أو غيره ) من سائر المضرات .

( وعلى تقدير احراز هذا الاحتمال ) من الخارج ، لا حاجة إلى هذه الأخبار ، لأن الأوامر في هذه الأخبار ليست مولوية .

والحاصل : انّه ( لا إشكالَ ) عقلاً وشرعاً ( ولا خلافَ ) من الاُصوليين والأخباريين ( في وجوب التحرّز عنه ) أي : عن الهلاك المحتمل ( إذا كان المحتمل عقاباً ) في الموارد التي ذكرناها من المحصورة ونحوها ( و ) لا اشكال ولا خلاف أيضاً في ( إستحبابهِ ) أي : في إستحباب التحرز ( إذا كان ) الهلاك المحتمل ( غيره ) أي :غير العقاب .

وعلى هذا : ( فهذه الأخبار ) الدالة على الاحتياط والتوقف ( لا تنفع في إحداث هذا الاحتمال ) وهو : الهلكة ( ولا في حكمه ) وهو وجوب التحرز فيما كان المحتمل عقاباً واستحبابه فيما كان غير العقاب ، وانّما تفيد هذه الأخبار التأكيد فقط .

( فان قلت ) : الظاهر من هذه الأخبار المشتملة على لفظ « الهلكة » : الهلاك الاخروي لا سائر المضرات ، فتدل هذه الأخبار على انّ الشارع يريد التكاليف المجهولة من العبيد وان لم تكن واصلة اليهم ، ولكن حيث يقبح العقاب بلا بيان

ص: 129

إنّ المستفاد منها احتمال التهلكة في كلّ محتمل التكليف ، والمتبادر من التهلكة في الأحكام الشرعيّة الدينيّة هي الاُخرويّة ، فتكشف هذه الأخبار عن عدم سقوط عقاب التكاليف المجهولة

-------------------

جَعلَ الشارع الاحتياط واجباً طريقياً الى تلك التكاليف ، فتكون حال الشبهة التحريمية حال المعلوم ، بالاجمال المردد بين أطراف محصورة حيث يجب فيها الاحتياط ، وذلك كما قال : ( انّ المستفاد منها ) أي : من أخبار الاحتياط والتوقف ، هو ( احتمال التهلكة في كلّ محتمل التكليف والمتبادر من التهلكة في الأحكام الشرعيّة الدينيّة ) في مقابل الأحكام الأخلاقية ، مثل أن يقول : « هَلَكَ مَن أكلَ طعامه وحده » (1) ، أو « هَلَكَ من سافر وحده » (2) ، أو « هَلَكَ من نام في سطح بغير محجّر » (3) ، أو ما أشبه ذلك من الأحكام الاخلاقيّة ( هي الاُخروية ) أي : العقاب في الآخرة ، لأنّ عمدة نظر الشارع هو : تجنّب الناس عن العقاب في الآخرة ( فتكشف هذه الأخبار ) الآمرة بالاحتياط والتوقف ( عن عدم سقوط عقاب التكاليف المجهولة ) .

وانّما لا تسقط ، لأنّ الشارع أمر بالاحتياط ، فاذا خالف الاحتياط وطابق الواقع

ص: 130


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص287 ، مكارم الاخلاق : ص31 ، تحف العقول : ص448 ، بحار الانوار : ج16 ص246 ب9 ح35 و ج77 ص166 ب7 ح2 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج2 ص276 ب2 ح2432 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج11 ص410 ب3 ح15126 (بالمعنى) .
3- - من لا يحضره الفقيه : ج3 ص557 ب2 ح4914 و ج4 ص357 ب2 ح5762 ، وسائل الشيعة : ج5 ص315 ب7 ح6650 بالمعنى و ج15 ص345 ب49 ح20700 .

لأجل الجهل ، ولازم ذلك إيجاب الشارع الاحتياط ، إذ الاقتصار في العقاب على نفس التكاليف المختفية من دون تكليف ظاهريّ بالاحتياط قبيحٌ .

قلت : إيجابُ الاحتياط إن كان مقدّمة للتحرّز عن العقاب الواقعيّ

-------------------

كان معاقباً ، وأما إحتمال السقوط فانّه ( لأجل الجهل ) بتلك الأحكام ، لكن هذا الاحتمال مرتفع بايجاب الاحتياط .

( ولازم ذلك ) أي : لازم عدم سقوط عقاب التكاليف المجهولة : هو ( إيجاب الشارع الاحتياط ) حتى اذا لم يعمل العبد بالاحتياط كان غير معذور ( إذ الاقتصار في العقاب على نفس التكاليف المختفية من دون تكليف ظاهري بالاحتياط قبيح ) فانّ الشارع إمّا أن يبيّن الحكم ويوصله إلى العبد ، وإمّا أن يوجب الاحتياط ، فاذا لم يكن أحد الأمرين لم يكن العقاب في الآخرة .

وإنّما قال : ظاهري ، لوضوح : انّ الاحتياط ليس هو تكليفاً واقعياً ، بل انّه تكليف في الظاهر لأجل التحفّظ على الواقع المجهول .

( قلت ) : لو سلّمنا تبادر خصوص العقاب من لفظ الهلكة ، نقول : انّ أمر الشارع بالاحتياط : هل هو لأجل كون الاحتياط مقدمة للتكليف المجهول ، فيكون العقاب على التكليف لا على ترك الاحتياط ؟ ففيه : انّ الاخباريين يعترفون بأن التكليف المجهول لا عقاب عليه .

أو هو لأجل الاحتياط نفسه ، بأن كان الاحتياط واجباً نفسياً ؟ وفيه : ان لازم هذا أن يكون العقاب على ترك الاحتياط ، والحال ان الأخبار ظاهرة في كون العقاب على ترك التكليف الواقعي لا على ترك الاحتياط .

والى هذا اشار المصنّف ، وقال : ( إيجاب ) الشارع ( الاحتياط ان كان مقدّمة للتحرّز عن العقاب الواقعي ) فالاحتياط ليس له شأن إيجاباً ، ولا سلباً ، وإنّما هو

ص: 131

فهو مستلزم لترتّب العقاب على التكليف المجهول وهو قبيح ، كما اعترف به ، وإن كان حكما ظاهريّا نفسيّا فالهلكة الأُخرويّة مترتّبة على مخالفته ، لا مخالفة الواقع .

وصريحُ الأخبار إرادةُ الهلكة الموجودة في الواقع على تقدير الحرمة الواقعيّة .

-------------------

وعاء للتحفظ على الواقع ، فاذا ترك الاحتياط ووقع في مخالفة الواقع عوقب على ترك الواقع ( فهو مستلزم لترتّب العقاب على التكليف المجهول وهو قبيح ، كما اعترف به ) المستشكل حيث قال : « الاقتصار في العقاب على نفس التكليف المختفية قبيح » والاخباريون أيضاً يقولون بأن العقاب ليس على التكليف المجهول ، اذ كيف يمكن العقاب على التكليف المجهول مع أن العقل مستقل بقبحه ؟ .

( وإن كان ) ايجاب الشارع الاحتياط ( حكماً ظاهرياً نفسيّاً ) بأن يكون إيجاب الاحتياط مثل ايجاب الصلاة ، والصوم ، وما أشبه ، فلا يكون ايجاب الاحتياط مقدمياً وارشادياً ، بل يكون حكماً نفسياً مستقلاً ( فالهلكة الاُخرويّة مترتبة على مخالفته ، لا مخالفة الواقع ) أي : ان ايجاب الاحتياط ان كان أمراً نفسياً ، كان لازمه : انه لو ترك الاحتياط ان يعاقبه المولى على انّه ترك الاحتياط ، لا أن يعاقبه على انه تركَ الواقع .

هذا ( و ) الحال إنّ ( صريح الأخبار ) الآمرة بالاحتياط والتوقف وما أشبه ( ارادة الهلكة الموجودة في الواقع على تقدير الحرمة الواقعيّة ) وحيث لا يكون العقاب لا على ترك الاحتياط ولا على ترك الواقع المجهول ، فاللازم أن نقول : ان الاحتياط ليس بواجب وانّما هو مستحب والمحكَّم في المقام البرائة كما يقوله

ص: 132

هذا كلّه ، مضافا إلى دوران الأمر في هذه الأخبار بين حملها على ما ذكرنا وبين ارتكاب التخصيص فيها بإخراج الشبهة الوجوبيّة والموضوعيّة .

وما ذكرنا أولى .

-------------------

الاُصوليون .

( هذا كله ) هو الجواب عن سؤل ان قلت ( مضافاً إلى ) انّه لو قلنا بوجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية التحريمية بسبب هذه الأخبار ، لزم تخصيص الأكثر في هذه الأخبار ، وتخصيص الأكثر مستهجن كما لا يخفى ، اذ الأخبار مطلقة تشمل الشبهة بأقسامها الاربعة : الوجوبية والتحريمية ، الموضوعية والحكمية ، فاذا خرج ثلاثة منها ، عن هذه الأخبار وهي : الوجوبية موضوعية أو حكمية ، والموضوعية التحريمية - إذ لا عقاب لهذ الثلاثة باتفاق الكل - فبقاء الشبهة الحكمية التحريمية داخلة في هذه الأخبار يوجب الاستهجان .

وهذا هو مثل أن يقول المولى : « أكرم العلماء » ، والعلماء أربعة ، ثم يخرج منهم ثلاثة ، فبقاء عالم واحد تحت قوله : « أكرم العلماء » مستهجن ، أما إذا حملنا هذه الأخبار على الارشاد فلا يلزم مثل هذا التخصيص المستهجن .

والحاصل : ( دوران الأمر في هذه الأخبار ) الدالة على الاحتياط والتوقف ( بين حملها على ما ذكرنا ) من الارشاد الذي ذهب إليه الاُصوليون حيث قالوا : إن الاحتياط مستحب وانّما المحكَّم هو البرائة ، ( وبين : ارتكاب التخصيص فيها ) أي : في هذه الأخبار ( باخراج الشبهة الوجوبيّة ) مطلقاً من الموضوعية والحكمية ( والموضوعية ) التحريمية ممّا معناه تخصيص الأكثر وهو مستهجن ( و ) عليه : فلا يبقى الاّ ( ما ذكرنا ) : من الحمل على الارشاد وهو ( أولى ) من وجوه :

أولاً : لأنّه يلزم تخصيص الأكثر .

ص: 133

وحينئذٍ : فخيريّةُ الوقوف عند الشبهة من الاقتحام في الهلكة أعمُّ من الرّجحان المانع من النقيض ومن غير المانع منه . فهي قضيّة تستعمل في المقامين ، وقد استعملها الأئمة عليهم السلام ، كذلك .

فمن موارد استعمالها في مقام لزوم التوقف : مقبولةُ عُمر بن حَنظَلَة التي جُعلت هذه القضيّةُ فيها علّة لوجوب التوقف في الخبرين المتعارضين عند فقد المرجّح ؛

-------------------

ثانياً : لأنه يلزم اخراج المورد ، فانّ مورد بعضها : الشبهة الموضوعية ، كرواية النكاح على الشبهة ، ومن الواضح : إنّ الأخباريين لا يقولون بوجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعية .

ثالثاً : هذه الأخبار آبية عن التخصيص ، لأنها في بيان مقام الضابط العقلي ، ولهذا قد مثّل الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم بمن رعى حَولَ الحِمى .

( وحينئذٍ ) أي : حين ثم أولوية ما ذكرناه من المعنى الارشادي لهذه الأخبار ( فخيرية الوقوف عند الشُبهة مِن الاقتحامِ في الهَلكةِ ) كما ورد في هذه الأخبار ( أعمُّ من الرّجحان المانع من النقيض ) وهو الوجوب ، كما في مورد العلم الاجماليّ ونحوه ممّا ذكرناه سابقاً ( ومن غير المانع منه ) أي : من النقيض وهو الاستحباب ، فيكون المراد بهذه الأحاديث : الأعم من الوجوب والاستحباب .

إذن : ( فهي ) أي : خيرية الوقوف ( قضية تستعمل في المقامين ) أي : في مقام الوجوب ومقام الاستحباب ( وقد إستعملها ) أي : الخيرية ( الائمة عليهم السلام ، كذلك ) في المقامين ( فمن موارد إستعمالها في مقام لزوم التوقف ) أي : الوجوب والمنع من النقيض ( مقبولة عُمر بن حَنظَلة التي جُعلت هذه القضيّةُ فيها علّة لوجوب التوقف في الخبرين المتعارضين عند فقد المرجّح ) حيث قال عليه السلام : « فَأرجِه

ص: 134

وصحيحةُ جميل المتقدّمة التي جُعلت القضيّةُ فيها تمهيدا لوجوب طرح ما خالف كتاب اللّه .

ومن موارد استعمالها في غير اللازم : روايةُ الزهريّ المتقدّمة ، التي جعلت القضيّةُ فيها تمهيدا لترك رواية الخبر غير المعلوم صدورُه أو دلالته ،

-------------------

حَتى تَلقى إمامَك ، فانّ الوقوفَ عندَ الشُبهات خيرٌ من الاقتحام في الهَلَكات » (1) إذ من الواضح : ان المتمكن من الوصول الى الامام عليه السلام اذا كان عنده خبران متعارضان من دون مرجح لأحدهما على الآخر ، يلزم عليه التوقف حتى يرى الامام ، فاذا لم يتوقف وعمل بأحدهما وخالف الواقع كان معاقباً .

( وصحيحة جميل المتقدّمة التي جعلت القضية فيها تمهيدا لوجوب طرح ما خالف كتاب اللّه ) حيث قال عليه السلام في الصحيحة بعد قوله : « الوقوفُ عندَ الشبهات خَير ، إنّ على كلّ حقٍّ حقيقةً وعلى كلّ صوابٍ نوراً ، فما وافق كتاب اللّه فخُذُوه وما خالفَ كتابَ اللّهِ فدعوه » (2) لأن الإمام عليه السلام جعل خيرية الوقوف عند الشبهة مقدّمة للأخذ بما وافق كتاب اللّه وطرح ما خالف كتاب اللّه ، وحيث ان الأخذ بما وافق كتاب اللّه واجب ، وطرح ما خالف كتاب اللّه واجب ، يكون مقدمته وهو الوقوف أيضاً واجب ( ومن موارد استعمالها ) أي : استعمال خيرية الوقوف ( في غير اللازم ) أي : الارشاد والندب ( رواية الزهريّ المتقدّمة ، التي جعلت القضيّة فيها تمهيداً لترك رواية الخبر غير المعلوم صدوره أو دلالته ) حيث

ص: 135


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص107 ب9 ح33334 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص69 ح1 و ج2 ص54 ح4 ، وسائل الشيعة : ج27 ص119 ب9 ح33368 .

فانّ من المعلوم رجحانُ ذلك لا لزومُه .

وموثّقة سعد بن زياد المتقدّمة التي فيها قولُ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : « لا تُجامِعُوا في النكاح على الشُبهةِ وقفوا عند الشبهة » ، فانّ مولانا الصادق عليه السلام ، فسرّه في تلك الموثّقة بقوله عليه السلام : « إذا بَلَغَكَ أنّك قد رضعتَ من لبنها ، او أنّها لَكَ محرّمة ،

-------------------

قال عليه السلام : « الوقوف عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهَلكَةِ ، وتركك حديثاً لم تروه خَيرٌ من روايتك حديثاً لم تحصه » (1) فان قولَه عليه السلام : « الوقوف عند الشبهة خير » ، ثم قوله : « وتركك حديثاً لم تروه » تفريعاً على الوقوف عند الشبهة ، ودليل على رجحان الخيرية لا وجوبها .

( فان من المعلوم رجحان ذلك ) الترك واستحبابه ( لا لزومه ) واذا كان الترك مستحباً ، فمقدمته وهي قوله : « الوقوف خير » تكون مستحبة أيضاً ، لأنّ مقدمة المستحب مستحب ، فمقدمة صلاة الظهر - مثلاً - واجبة ، أمّا مقدمة صلاة النافلة فمستحبة .

( وموثقة سعد بن زياد المتقدِّمة التي فيها قولُ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : «لاتُجامِعُوا في النكاح على الشبهةِ وقفوا عندَ الشبهة » ، فانّ مولانا الصادق عليه السلام فسره ) أي : فسر لفظ النكاح ( في تلك الموثقة بقوله ) أي : بقول الصادق ( عليه السلام : اذا بَلغَك انّك قد رَضعتَ من لبنها ، أو انها لك محرّمة ) من جهة نسب أو جهة مصاهرة

ص: 136


1- - الكافي اصول : ج1 ص50 ح9 ، المحاسن : ص215 ح102 ، وسائل الشيعة : ج27 ص155 ب12 ح33465 .

وما أشبه ذلك ، فانّ الوقوف عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهلكة » الخبر .

ومن المعلوم أنّ الاحترازَ عن نكاح ما في الرواية من النسبة المشتبهة غيرُ لازم باتفاق الاخباريّين ، لكونها شبهة موضوعيّة ولأصالة عدم تحقق مانع النكاح .

وقد يجاب عن أخبار التوقف بوجوه غير خالية عن النظر :

-------------------

(

وما أشبه ذلك ) من محرّمات النكاح مثل : انها بنت أخ ، أو بنت أخت زوجتك أو أنك طلقتها ثلاثاً بدون محلّل ( فانّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهَلكة ) (1) الى آخر ( الخبر ) المتقدّم .

( ومن المعلوم : انّ الاحتراز عن نكاح ما في الرواية من النسبة المشتَبهة ) نسبية كانت أو رضاعية ، أو مصاهرة ، أو نحو ذلك ( غير لازم باتفاق الأخباريّين ، لكونها شبهة موضوعية ) والشبهة الموضوعية لا يلتزم الأخباريون بالاحتياط فيها بل ( ولاصالة عدم تحقق مانع النكاح ) لأنّ النكاح جائز الاّ ما خرج ، فاذا لم نعلم بأن المورد المشكوك ممّا خرج ، فاللازم التمسك بالعام .

والحاصل من هذا الجواب : إنّ أخبار البرائة صريحة وأخبار الاحتياط محتملة ، لأن يراد بها الوجوب أو الاستحباب ، فاللازم تقديم الأخبار الصريحة على هذه الأخبار المحتملة .

هذا ( وقد يجاب عن أخبار التوقف بوجوه غير خالية عن النظر ) عندنا .

ص: 137


1- - تهذيب الأحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ، وسائل الشيعة : ج20 ص259 ب157 ح25537 و ج27 ص159 ب12 ح33478 .

منها : إنّ ظاهرَ أخبار التوقف حرمةُ الحكم والفتوى من غير علم ونحن نقول بمقتضاها ، ولكن ندّعي علمَنا بالحكم الظاهريّ وهي الاباحة لأدلّة البراءة .

وفيه : إنّ المرادَ بالتوقف - كما يشهد سياق تلك الأخبار وموارد أكثرها -

-------------------

( منها : إن ظاهر أخبار التوقف حرمةُ الحكم والفتوى من غير علم ) فالروايات التي تقول : توقف عند الشبهة أو احتط فيها معناها : إنه لا يجوز لَكَ أن تحكم حكماً واقعياً أو ظاهرياً بالبرائة من دون علم ( ونحن ) الاُصوليين ( نقول بمقتضاها ) أي : بمقتضى تلك الأخبار أيضاً ، فنقول يحرم على الشخص الفتوى بالحكم الظاهري أو الواقعيّ من دون علم ، فانّه حرام بالأدلة الأربعة ( ولكن ندّعي : علمَنا بالحكم الظاهريّ وهي الاباحة لأدلة البرائة ) فيكون حكمنا بالبرائة عن علم لا من دون علم .

( وفيه : إنّ ) اختصاص التوقف بالفتوى والحكم ، دون التوقف في العمل لا وجه له ، فانّ ( المراد بالتوقف ) في تلك الأخبار على ما هو المتبادر منه عند اطلاقه عرفاً ( كما يشهد سياق تلك الأخبار ) الآمرة بالاحتياط ، والتوقف ، حيث جعل الإمام عليه السلام التوقف مقابلاً للاقتحام بقوله عليه السلام : « فانّ الوقوف عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهلكة » (1) ( و ) كذا يشهد ( موارد أكثرها ) مثل قولهم عليهم السلام : « بطرح مخالف الكتاب » (2) ، « وترك

ص: 138


1- - تهذيب الاحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ، وسائل الشيعة : ج20 ص259 ب157 ح25537 و ج27 ص159 ب12 ح33478 .
2- - صحيحة جميل بن دراج عن الصادق عليه السلام : انظر الكافي اصول : ج1 ص69 ح1 و ج2 ص54 ح4 ، وسائل الشيعة : ج27 ص119 ب9 ح23368 .

هو التوقفُ في العمل في مقابل المضيّ فيه على حسب الارادة الذي هو الاقتحام في الهلكة ، لا التوقف في الحكم .

نعم ، قد يشمله من حيث كون الحكم عملاً مشتبها ، لا من حيث كونه حكما في شبهة ،

-------------------

الرواية » (1) ، « وترك النكاح » (2) ، الى غيرذلك ( هو التوقف في العمل ) بمعنى : ان لا يتحرك الانسان نحو المشتبه - كالتتن مثلاً - بالحليّة ، لا قولاً ، ولا كتابة ، ولا ارتكاباً .

وعليه : فيكون التوقف ( في مقابل المضيّ فيه على حسب الارادة ) فلا يمضى في حليّة المشتبه لا بالقول بأن يفتي بالحليّة ، ولا بالكتابة بأن يكتب في رسالته انه حلال ، ولا بالارتكاب بان يشرب التتن - مثلاً - ( الذي هو الاقتحام في الهلكة ) فان الأخبار تدل على حرمة كلّ مضيٍ في ذلك المشتبه ( لا التوقف في الحكم ) والفتوى فقط كما ذكره المستدل .

( نعم ، قد يشمله ) أي : إن التوقف يشمل الحكم أيضاً ( من حيث كون الحكم عملاً مشتبهاً ، لا من حيث كونه حكماً في شبهة ) فانّه لا يجوز أن يعمل الانسان عملاً مشتبهاً ، فشرب التتن عمل مشتبه فهو محرّم ، وكذلك الحكم بالبرائة عمل مشتبَه فهو محرّم وذلك لأنه لا يعرف هل ان حكمه هذا مطابق للواقع ، أو غير مطابق ؟ .

ص: 139


1- - كرواية الزهري والسكوني وعبد الاعلى ، انظر الكافي اصول : ج1 ص50 ح9 ، المحاسن : ص215 ح102 ، وسائل الشيعة : ج27 ص155 ب12 ح33465 و ص171 ب12 ح33520 .
2- - كموثقة مسعدة بن زياد ، انظر تهذيب الاحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ، وسائل الشيعة : ج27 ص159 ب12 ح33478 و ج20 ص259 ب157 ح25573 .

فوجوبُ التوقف عبارةٌ عن ترك العمل المشتبه الحكم .

-------------------

كما انه لا يعلم هل ان شرب التتن عمل جائز في الواقع أو ليس بجائز ؟ والشارع يريد التوقف عن شرب التتن ، سواء كان بالقول أو بالكتابة ، أو بالتدخين .

وعليه : ( فوجوب التوقف عبارة عن ترك العمل المشتبه الحكم ) وهذا هو مراد الأخباريين لا خصوص التوقف في الفتوى فقط ، بأن يجوز الشرب ولا يجوز الفتوى ، وهذا هو جواب القوانين وصاحب الفصول الذي لم يرتضه المصنِّف وأشكل عليه بما ذكره .

أقول : لا يخفى : إنّ بعض الأخبار يدل على ما ذكره القوانين والفصول ، وإن كان بعض الأخبار يدل على ما ذكره المصنِّف : - أيضا - حيث التوقف في تلك الأخبار أعمّ من القول والعمل .

أما الأخبار الدالة على كلام المحقق القمي في القوانين فمثل ما روي عن أبي الحسن موسى عليه السلام حيث قال في جملتها : « ومَا لكم والقياس ؟ انّما هَلَكَ من قَبلِكُم بالقياس ، ثمّ قال : اذا جائكم ما تعلمون فقولوا به ، واذا جائكم ما لاتعلمون فَها وأهوى بيده إلى فيه » (1) ومعنى ذلك : اسكتوا ولا تحكموا .

وحسنة هشام بن سالم قال : قلت لابي عبد اللّه عليه السلام : « ما حقّ اللّه على خَلقه ؟ فقال عليه السلام : أن يقولوا ما يعلمون ويكفوا عمّا لا يعلمون ، فاذا فعلوا ذلك فقد أدّوا الى اللّه حقه » (2) فانّ الكفّ في مقابل القول هو عدم الحكم والفتوى .

ص: 140


1- - الكافي اصول : ج1 ص57 ح13 .
2- - بحار الانوار : ج2 ص118 ب16 ح20 ، المحاسن : ص204 وفيه عن زرارة .

ومنها : أنّها ضعيفة السند .

ومنها : إنّها في مقام المنع عن العمل بالقياس وأنّه يجب التوقف عن القول إذا لم يكن هناك نصّ عن أهل بيت الوحي عليهم السلام .

وفي كلا الجوابين مالا يخفى على من يراجع تلك الأخبار .

-------------------

ورواية زرارة : « لو أن العباد اذا جَهِلوا وَقَفوا وَلَم يَجحَدوا لم يكفروا » (1) ، ومن المعلوم : انّ الجُحُود عبارة عن الانكار بالقول .

( ومنها ) أي : من الأجوبة التي لم يرتَضِها المصنِّف ( انّها ) أي : أخبار الاحتياط والتوقف ( ضعيفة السند ) . فلا يعمل عليها ، لأنّها ليست بحجّة ، فتبقى روايات البرائة خالية عن المعارض ، وسيأتي في الجواب الآتي الاشكال على هذا الجواب انشاء اللّه تعالى .

( ومنها ) أي : من الأجوبة التي لم يرتضها المصنِّف أيضاً ( انّها ) أي : اخبار الاحتياط والتوقف ( في مقام المنع عن العمل بالقياس ، وأنه يجب التوقف عن القول ) فلا يجوز تعيين الحكم الواقعيّ أو الظاهريّ بسبب القياس ، لأن القياس محرّم عمله في الشريعة ( إذا لم يكن هناك نص عن أهل بيت الوحي عليهم السلام ) سواء كان نصّاً عامّاً أو نصّاً خاصّاً .

وهذان الجوابان ذكرهما المحقق القمي ، فقال المصنِّف في ردّهما : ( وفي كِلا الجوابين ما لا يخفى على من يراجع تلك الأخبار ) الواردة في الاحتياط ، وذلك لما يلي :

ص: 141


1- - الكافي اصول : ج2 ص388 ح19 ، المحاسن : ص216 ح103 ، وسائل الشيعة : ج27 ص158 ب12 ح33474 .

ومنها : إنّها معارضة بأخبار البراءة ، وهي أقوى سندا ودلالة واعتضادا بالكتاب والسنّة والعقل ، وغايةُ الأمر التكافؤ ،

-------------------

أولاً : لأنها واصلة حدّ التواتر ، وبعد وصول الخبر حدّ التواتر لا يسأل عن سنده ، بالاضافة الى أن في بعض الروايات ما هو صحيح السند أو نحو الصحيح .

ثانياً : لأنّ كون جميع هذه الروايات في مقام المنع عن العمل بالقياس غير صحيح ، فانّ بعض هذه الروايات وإن كان كذلك إلاّ انّ بعضها الآخر ليس في مقام المنع عن العمل بالقياس ، ولعل المحقق القمي أراد البعض في الجوابين لا الكل .

( ومنها ) أي : من الأجوبة عن أخبار التوقف والاحتياط ( انها معارضة بأخبار البرائة وهي ) أي : أخبار البرائة ( أقوى سنداً ) لصحة كثير منها .

( ودلالةً ) لظهورها في البرائة ، بل بعض أخبار البرائة نصّ في الدلالة عليها .

( واعتضاداً بالكتاب ) حيث قد عرفت : إنّ جملة من آيات الكتاب تدلّ على البرائة (والسنّة) الواردة عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم كحديث الرفع (1) ، وقد نقلنا أيضاً بعض الروايات الاُخر ، المروية عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم بطريق الائمة (2) من أهل بيته عليهم السلام .

( والعقل ) لوضوح حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فانّ قُبحَ العِقاب بَلا بَيان يؤد أخبار البرائة .

ثمّ انّ المصنِّف لم يذكر الاجماع ، وذلك لوجود المناقشة في الاجماع ، فانّه

ص: 142


1- - راجع تحف العقول : ص50 .
2- - راجع الاختصاص : ص31 و الخصال : ص417 ، ح27 والتوحيد : ص353 ح24 و وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

فيرجع فيها إلى ما تعارض فيه النصّان ، والمختار فيه التخيير ، فيرجع إلى أصل البراءة .

-------------------

لا إجماع في المسألة ، وان تقدّم من بعض : نقل الاجماع على البرائة .

أو لأنه لم يذكر الاجماع لما ذكره بعضهم من انه لو تمّ الاجماع لكان أخبار البرائة محفوفة بالقرينة القطعية ، فلا يبقى مجال لتعارضها بأخبار التوقف حتى يقال : بأنهما متعارضان ، إذ الاجماع يجعل أخبار التوقف مصروفة عن ظاهرها .

( وغايةُ الأمر : التكافؤ) يعني : انّا نقول أولاً : بأنّ أخبار البرائة أقوى ، واذا سلمنا عدم الأقوائية في أخبار البرائة قلنا : بأن الطائفتين من الأخبار متعارضتان من دون ترجيح ( فيرجع فيها ) أي : في المعارضة المذكورَة ( الى ما تعارض فيه النصّان ) أي : الى الادلة التي تدل على انه لو تعارض نصان فالترجيح ان كان هناك مرجّح ، فانّ لم يكن مرجح فالتخيير .

وحيث قد عرفت : بانا نقول أولاً : بترجيح أخبار البرائة ثم على تقدير التكافؤ نقول : ( والمختار فيه ) أي : في مورد تعارض الخبرين وتكافؤما ( التخيير ، فيرجع إلى أصل البرائة ) أي : انّا نختار البرائة حين يجيز الشارع لنا التخيير بين الأخذ بهذه الطائفة أو بتلك الطائفة .

والحاصل : إن القائل بالبرائة يقول : ان بين الطائفتين من أخبار البرائة وأخبار الاحتياط تعارضا فيرجّح أخبار البرائة على أخبار الاحتياط لوجوه :

أولاً : لقوة السند في أخبار البرائة .

ثانيا : لأقوائية الدلالة في اخبار البرائة من دلالة أخبار الاحتياط .

ثالثاً : لأن أخبار البرائة مؤدة بالكتاب والسنّة والعقل ، بل قد عرفت تأييدها بالاجماع أيضاً .

ص: 143

وفيه : أنّ مقتضى أكثر أدلّة البراءة المتقدّمة - وهي جميع آيات الكتاب والعقل وأكثر السنّة وبعض تقريرات الاجماع

-------------------

ثمّ ان المصنِّف أشكل عليه بما حاصله يرجع إلى ست اشكالات فقال : ( وفيه ) مايلي :

الأوّل : انه لا تعارض بين الطائفتين على الأغلب لأن أغلب أخبار التوقف مقدَّمة على أخبار البرائة ، اذ أخبار البرائة تقول بالبرائة فيما لا حكم ظاهري ولا حكم واقعي في المقام ، وأخبار التوقف تقول : إنّ الحكم الظاهري هو التوقف فيرتفع موضوع البرائة .

الثاني : انّه لا أقوائية لسند أخبار البرائة من أخبار التوقف للتكافؤ السندي بين الطائفتين ، ولو في الجملة .

الثالث : انّه لا أقوائية في دلالة أخبار البرائة على أخبار التوقف ، بل الأقوائية بالعكس كما عرفت في الأشكال الأول .

الرابع : انه على تقدير التعارض لا مجال للتخيير ، بل اللازم الأخذ بأخبار التوقف من جهة انّ هذه الأخبار مخالفة للعامّة ، بينما أخبار البرائة موافقة للعامة .

الخامس : انّ العمل عند التعارض والتساوي ليس التخيير ، بل الاحتياط .

السادس : انّه على تقدير التخيير ، لا يضر الأخباريين ، لأنهم يقولون : انّا نختار الاحتياط كما يقول الاُصوليّون : انّا نختار البرائة ، فلا يكون التعارض والتخيير رداً للأخباريين .

والحاصل : (ان مقتضى أكثر أدلة البرائة المتقدمة وهي) عبارة عن (جميع آيات الكتاب ، والعقل ، وأكثر السنّة ، وبعض تقريرات الاجماع ) وهو التقرير الأول

ص: 144

عدم استحقاق العقاب على مخالفة الحكم الذي لا يعلمه المكلّف .

ومن المعلوم أنّ هذا من مستقلاّت العقل الذي لا يدلّ أخبار التوقف ولا غيرها من الأدلّة النقليّة على خلافه ، وإنّما تثبت أخبار التوقف بعد الاعتراف بتماميّتها على ما هو المفروض تكليفا ظاهريّا بوجوب الكفّ وترك المضيّ عند الشبهة والأدلّة المذكورة لا تنفي هذا المطلب ، فتلك الأدلّة بالنسبة إلى هذه الأخبار من قبيل الأصل بالنسبة إلى الدليل ، فلا معنى لأخذ الترجيح بينهما ،

-------------------

من تقريري الاجماع المسمى بالاجماع الفرضي هو : ( عدم استحقاق العقاب على مخالفة الحكم الذي لا يعلمه المكلّف ) فان أكثر أدلة البرائة تدل على البرائة فيما اذا لم يوجد البيان عموماً أو خصوصاً .

( ومن المعلوم : انّ هذا ) أي : عدم العقاب على مخالفة التكليف المجهول ( من مستقلات العقل ، الذي لا يدلّ أخبار التوقف ولا غيرها من الأدلة النقليّة على خلافه ) فانّ أخبار الاحتياط لا تردّ قبح العقاب بلا بيان ( وانّما تثبت أخبار التوقف بعد الاعتراف بتماميّتها على ما هو المفروض ) سنداً ودلالة ( تكليفاً ظاهرياً بوجوب الكفّ ، وترك المضيّ عند الشبهة ) فتكون أخبار التوقف بياناً عامّاً للتكليف ( والأدلة المذكورة ) التي اقاموها للبرائة ( لا تنفي هذا المطلب ) لانّ ادلّة البرائة مشروطة بعدم البيان ، وأخبار التوقف تدل على وجود البيان .

وعليه : ( فتلك الأدلة ) الدالة على البرائة تكون ( بالنسبة إلى هذه الأخبار ) الدالة على التوقف ( من قبيل الأصل بالنسبة الى الدليل ) حيث انّ الدليل يرفع الأصل ، فأخبار البرائة أصل ، وأخبار الاحتياط دليل ( فلا معنى لأخذ الترجيح بينهما ) أي : بين أدلة البرائة وأدلة الاحتياط بعد ذلك لعدم تعارضهما .

ص: 145

وما يبقى من السنّة من قبيل قوله عليه السلام : « كلُّ شيءٍ مطلقٌ » لا تكافيء أخبار التوقف ، لكونها أكثر وأصحّ سندا .

وأمّا قوّةُ الدلالة في أخبار البراءة فلم يعلم ، وظاهر أنّ الكتاب والعقل لا ينافي وجوبَ التوقف .

-------------------

لكن عدم التعارض هذا وتقدّم أدلة الاحتياط على أدلة البرائة هو حال الأكثر ( وما يبقى من السنّة ) دليلاً على البرائة ( من قبيل قوله عليه السلام : كلّ شيء مطلق ) (1) فهي وان كانت تعارض أدلة الاحتياط بدون أن يكون أدلة الاحتياط حاكمة عليها الاّ انّها ( لا تكافيء أخبار التوقف لكونها ) أي : أخبار التوقف ( أكثر ) عدداً ( وأصح سنداً ) فتتقدم أخبار التوقف على ما بقي من السنة دليلاً على البرائة كقوله عليه السلام : « كلُّ شيءٍ مُطلقٌ » .

بل يمكن أن يقال : إنّ الجملة الأخيرة من هذا الخبر وهي قوله عليه السلام : « حتى يرد فيه نهي » ، تدل على تقدّم أخبار التوقف ، لانّ من المعلوم : ان النهي أعم من النهي العام أو النهي الخاص ، وأخبار التوقف تدل على النهي ، فتكون أخبار التوقف مقدمة على قوله عليه السلام : « مطلق » من جهة الدلالة أيضاً .

( وأما قوة الدلالة في أخبار البرائة ) على ما ادعاه الاُصوليون ( فلم يعلم ) إذ قد عَرِفتَ : انّ أخبار التوقف واردةٌ على أخبار البرائة ، فأخبار التوقف أقوى دلالة .

( و ) أما ما ذكره الاُصوليون : من اعتضاد أخبار البرائة بالكتاب والعقل ، فهو وان كان تاماً الاّ انه ( ظاهر ) في ( أنّ الكتاب والعقل لا ينافي وجوب التوقف ) بعد

ص: 146


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص166 و ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

وأمّا ما ذكره من الرجوع إلى التخيير مع التكافؤ ، فيمكن للخصم منعُ التكافؤ ، لأنّ أخبار الاحتياط مخالفة للعامّة ، لا تفاقهم - كما قيل - على البراءة ومنع التخيير على تقدير التكافؤ ، لأنّ الحكمَ في تعارض النصّين الاحتياطُ مع أنّ التخيير لا يضرّه ، لأنّه يختار أدلّة وجوب الاحتراز عن الشبهات .

-------------------

وجود البيان الحاصل بسبب أخبار التوقف .

( وأمّا ما ذكره ) الاُصوليون في الجواب عن أخبار الاحتياط ( من الرجوع الى التخيير مع ) فرض ( التكافؤ) بين أخبار البرائة وأخبار الاحتياط ( فيمكن للخصم ) من الأخباريين الجواب عنه بما يلي :

أولاً : ( منع التكافؤ فان الخصم يرجّح أخبار التوقف على أخبار البرائة ( لأن أخبار الاحتياط مخالفة للعامّة ، لاتفاقهم ) أي : اتفاق العامّة ( - كما قيل - على البرائة ) وقد ذكر في أخبار الترجيح : إنّ مخالفة العامة من المرجّحات .

ثانيا : ( ومنع التخيير على تقدير التكافؤ) بين الطائفتين ( لأن الحكم ) عند جمع من العلماء ( في تعارض النصين ) الأخذ بما وافق ( الاحتياط ) وواضح : ان الاحتياط موافق للأخباريين .

ثالثا : ( مع ان التخيير لا يضرّه ) أي : لا يضر الأخباريين ، الذين عبّر عنهم المصنِّف بالخصم ( لأنه يختار أدلة وجوب الاحتراز عن الشبهات ) فلا يتمكن الاُصوليون من رد الأخباريين ، لما عرفت : من أن الأخباريين يقولون للأصولييّن : أنتم تختارون البرائة ، ونحن نختار الاحتياط .

لكن لا يخفى : ان بعضاً ممّا ذكره المصنِّف هنا في تقوية التوقف والاحتياط محل تأمل ، وكأنه رحمه اللّه أراد المناقشة وتقوية ذهن الطالب ، لا الاستدلال ، والاّ فهو

ص: 147

ومنها : أنّ أخبارَ البراءة أخصّ ، لاختصاصها بمجهول الحلّيّة والحرمة ، وأخبار التوقف تشمل كلّ شبهة فتخصّص بأخبار البراءة .

-------------------

أيضاً مخالف لجملة مما ذكره .

( ومنها : ) أي : من الأجوبة التي ذكروها عن أخبار التوقف ما أجاب به الفاضل النراقي وهو : ( إنّ أخبار البرائة أخصّ ) من أخبار التوقف فأخبار البرائة تخصّص أخبار التوقف ( لإختصاصها ) أي : اختصاص أخبار البرائة ( بمجهول الحليّة والحرمة ) أي : الشبهة التحريمية .

مثلاً قوله عليه السلام : « كلّ شيء فِيهِ حَلالٌ وَحَرامٌ فَهو لَكَ حَلالٌ » (1) .

وقوله « كُلّ شيءٍ مُطلَقُ حَتى يَردَ فِيهِ نَهيٌ » (2) إلى غيرهما ، ظاهرة في الشبهة التحريمية ، بينما قوله « إحتَط لِدينِك » (3) ونحوه أعمّ من الشبهات الأربع : الموضوعية والحكميّة ، والوجوبيّة والتحريميّة ، فأخبار البرائة في الشبهة التحريميّة تخصِّص أخبار التوقف والاحتياط الشاملة للشبهة التحريميّة وغيرها .

( و ) عليه : فان ( أخبارَ التوقف تشمل كلّ شبهة فتُخصِّص ) أخبار التوقف ( بأخبار البرائة ) وقوله : « فتُخَصّص » بصيغة المجهول .

ص: 148


1- - بحار الانوار : ج2 ص274 ، المحاسن : ص495 ح596 بالمعنى .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .
3- - الأمالي للطوسي : ص110 ح168 ، الأمالي للمفيد : ص283 المجلس الثالث والثلاثون ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

وفيه : ما تقدَّم ، من أنّ أكثر أدلّة البراءة بالاضافة إلى هذه الأخبار من قبيل الأصل والدليل ، وما يبقى فإن كان ظاهرُه الاختصاصَ بالشبهة الحكميّة التحريميّة ، مثل قوله عليه السلام : « كلّ شيءٍ مُطلقٌ حَتّى يَرِدَ فيهِ نَهيٌ » ،

فيوجد في أدلّة التوقف ما لا يكون أعمّ منه ،

-------------------

( وفيه ما تقدَّم : من أنّ أكثر أدلة البرائة بالاضافة ) وبالنسبة ( إلى هذه الأخبار ) الدالة على الاحتياط والتوقف ( من قبيل الأصل والدليل ) فأخبار التوقف كالدليل ، وأخبار البرائة كالأصل ، والأصل أصيل حيث لا دليل ، فاللازم تقدّم أخبار التوقف على أدلة البرائة .

( وما يبقى ) من أدلة البرائة كقوله عليه السلام : « كلُّ شيءٍ مُطلقٌ حَتى يَردَ فِيهِ نَهيٌ » حيث تقدّم سابقاً ، انّ هذا الحديث يعارض أحاديث التوقف ( فان كان ظاهرُه : الاختصاص بالشبهة الحكميّة التحريميّة مثل قوله عليه السلام « كلّ شيء مُطلقٌ حَتى يَردَ فِيهِ نَهي »(1) ) لا مثل الرواية الاُخرى التي ورد فيها : « كلّ شيءٍ مُطلقٌ ، حَتى يَردَ فِيهِ أمرٌ أو نَهيٌ » حيث ذكرنا : ان هذه الرواية رويت بصورتين ( فيوجد في أدلة التوقف ما لا يكون أعمّ منه ) أي : أعمّ من « كلّ شيء مطلق » حتى يقال : ان كل شيء مطلق يخصّصه ؛ وذلك لأنّ قوله عليه السلام : « كلّ شيءٍ مُطلقٌ » خاص بالشبهة التحريميّة ، الناشئة من فقدان النص أو إجمالة ، لا ما كانت ناشئة من تعارض النصّين ، بينما في أخبار التوقف ما ورد في باب تعارض النصين فيكون أعم منه فلا يكون قوله عليه السلام : « كلّ شيءٍ مطلق » أخصّ منه ، اذ في مورد تعارض النصّين

ص: 149


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

فانّ ما ورد فيه نهيٌ معارضٌ بما دلّ على الاباحة غيرُ داخل في هذا الخبر ويشمله أخبارُ التوقف ، فاذا وجَب التوقف هنا وجب فيما لا نصّ فيه بالاجماع المركّب ،

-------------------

أخبار التوقف يشمله ، « وكل شيء مطلق » لا يشمله ، فلا يكون بين الطائفتين عموم مطلق حتى يكون « كلُّ شَيءٍ مُطلق » أخصّ ممّا ورد في تعارض النصين .

وعليه : فلا يعامل مع أخبار البرائة معاملة الخاص ، ومع أخبار التوقف معاملة العام كما ذكره النراقي ( فانّ ما ورد فيه نهيٌ معارض بما دل على الاباحة ) يعني : انه اذا كان هناك نصّان متعارضان أحدهما يقول بحرمة التتن ، والآخر يقول بحليّة التتن ، فانّه وان كانت الشبهة تحريمية ، الاّ انه ( غير داخل في هذا الخبر ) أي : في خبر « كلُّ شيءٍ مُطلقٌ حَتى يَردَ فِيهِ نهيٌ » ( و ) انّما ( يشمله أخبار التوقف ، فاذا وجب التوقف هنا ) عند تعارض النصّين ( وجب ) التوقف أيضاً ( فيما لا نصّ فيه ) وكذا فيما كان النصّ فيه مُجملاً ، وذلك ( بالاجماع المركّب ) ، فانه لم يفصل احد بين اقسام الشبهة التحريمية ، فاذا وجب التوقف في بعضها ، وجب في جميعها .

والحاصل : إنّ ما ورد فيه « أمر ونهيٌ » متعارضان لا يشمله « كلُّ شيءٍ مطلق » ، ويشمله بعض أخبار التوقف ، فالطائفة الاولى تقول : توقف حيث يتعارض الأمر والنهي ، والطائفة الثانية تقول : أمض حيث إحتملت النهي ، فليست الطائفة الثانية مخصصة للطائفة الاولى ، فكيف يقول النراقي رحمه اللّه : ان « كلّ شيءٍ مُطلقٌ » مخصص لأخبار التوقف ؟ .

إذا عرفت ذلك نقول : اذا وجَبَ التوقف في المتعارضين وجب التوقف فيما لا نص فيه من الشبهة التحريمية بالاجماع المركب ، اذ الاُمّة لم تفصّل بين أنواع

ص: 150

فتأمّل .

-------------------

الشبهات التحريمية ، فان بعضهم يقول بأن الشبهات التحريمية مطلقاً يتوقف فيها كالأخباريين ، وبعضهم يقول بانّ الشبهات التحريمية مطلقاً يمضي فيها كالاُصوليين ، فاذا وجب التوقف في البعض وجب التوقف في الجميع .

( فتأمّل ) اذ يمكن أن يتخذ الاجماع المركب دليلاً للعكس أي : للبرائة بأن يقال : اذا حكم بالبرائة فيما لا نصّ فيه أو فيه إجمال النص لشمول هذه الرواية لهما حكم بالبرائة فيما تعارض فيه النصّان ، لعدم القول بالفصل .

هذا هو الاشكال الأول الذي أشكله المصنّف على النراقي القائل : « بانّ أدلة البرائة أخصّ مطلقاً من أدلة التوقف » ، ثم انّه أشكل عليه باشكال آخر وهو : ان بين « كلُّ شيءٍ مُطلقٌ » وبين « أخبار التوقف » تبايناً لا عموماً مطلقاً- كما قاله النراقي - وذلك لأنّ « كلّ شيءٍ مطلق » يقول في الشبهة التحريمية : أمض ، واخبار التوقف تقول في محتمل الحرمة : توقف ، فيكون بينهما تعارض .

ثمّ حيث أن مرجع الشبهة الوجوبية والشبهة الاعتقادية الى الشبهة التحريمية ، يقع التعارض بين « كلُّ شيءٍ مُطلق » ، وبين كلّ مورد يشمله أخبار التوقف .

مثلاً : أخبار التوقف تقول : توقف عن عمل يحتمل حرمته ، كشرب التتن ، وكذا عن حكم يحتمل حرمته ، كالحكم بالبرائة في الشبهة الوجوبية ، وكذا عن اعتقاد يحتمل حرمته ، كتوصيف اللّه سبحانه وتعالى بأنه مبتهج ، فانّ قسماً من الحكماء قال : بأنه يوصف بذلك فهو سبحانه في غاية الابتهاج والفرح ، لعلمه بأنه الأله الواحد العالم القادر المتّصف بسائر صفات الكمال ، وقسماً منهم قال : بأنه لايوصف بذلك ، اذ لعل الابتهاج من صفات البشر فلا يوصف به سبحانه كما لايوصف بأنه عاقل ، وعلى هذا فبين الطائفين تباين .

ص: 151

مع أنّ جميع موارد الشبهة التي أمر فيها بالتوقف لا يخلو من أن يكون شيئا محتمل الحرمة ، سواء كان عملاً أم حكما أم إعتقادا ، فتأمّل .

-------------------

وإلى هذا الاشكال أشار المصنِّف بقوله : ( مع ان جميع موارد الشبهة ) أي : الشبهة التحريميّة ، والشبهة الوجوبيّة ، والشبهة الاعتقاديّة ( التي أمر فيها بالتوقف لا يخلو من أن يكون شيئاً محتمل الحرمة ) فطائفة تقول : ان محتمل الحرمة يتوقف فيها وطائفة تقول : ان محتمل الحرمة يجري فيها البرائة ( سواء كان ) محتمل الحرمة ( عملاً ) مثل : شرب التتن الذي يحتمل حرمته وحليته .

( أم حكماً ) مثل : الحكم بالبرائة في الشبهة الوجوبيّة ، لأنّا لا نعلم ان حكمنا بالبرائة في هذه الشبهة يحرم أو يجوز ؟ .

( أم اعتقاداً ) كما عرفت في المثال بتوصيف اللّه سبحانه وتعالى بأنه مبتهج .

( فتأمل ) لعله اشارة الى أن أخبار التوقف منصرفة الى خصوص الشبهة التحريمية ، لا التي مرجعها الى الشبهة التحريمية ، اذ يمكن ارجاع كل شبهة إلى الشبهة التحريمية ، فإنّ دعاء الهلال - مثلاً - شبهة وجوبية مع أنه يمكن ارجاعها الى الشبهة التحريمية ، بأن نقول الدعاء اذا كان واجباً حرم تركه ، لكن مثل الدعاء عند رؤة الهلال المشكوك وجوبه وعدم وجوبه ، لا يسمى شبهة تحريميّة ، فلا يشمله روايات التوقف ، ويمكن أن يكون اشارة إلى ان النراقي رحمه اللّه انّما تكلم في حديث البرائة الذي رواه الشيخ الطوسي رحمه اللّه وهو قوله : « كلّ شيءٍ فيه حَلالٌ وَحَرامٌ فَهوَ لَكَ حَلالٌ حَتى تَعرفَ الحَرام بعَينهِ » (1) لا الحديث الذي رواه

ص: 152


1- - تهذيب الاحكام : ج9 ص79 ب4 ح72 ، غوالي اللئالي : ج3 ص465 ح16 ، المحاسن : ص495 ح596 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 .

والتحقيق في الجواب ما ذكرنا .

الثالثة : ما دلّ على وجوب الاحتياط وهي كثيرة :

منها : صحيحةُ عبد الرحمن بن الحَجّاج : « قال : سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن رجلين أصابا صَيدا

-------------------

الصدوق عليه الرحمة من قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (1) فلا يرد عليه اشكال المصنِّف .

وعلى أيّ حال : فحيث عرفت الاشكال في كلام النراقي نقول : ( والتحقيق في الجواب ) عن أخبار التوقف هو ( : ما ذكرنا ) : من حمل تلك الأخبار على الارشاد وقد عرفت تفصيله .

هذا تمام الكلام في الطائفة الثانية من الطوائف الأربع التي ذكرنا : ان الأخباريين استدلوا بها لوجوب التوقف في الشبهة التحريميّة .

وحيث انتهى الكلام من ذلك شرع المصنِّف في بيان الطائفة الثالثة ، فقال :

( الثالثة ) من تلك الطوائف الأربع ( ما دلّ على وجوب الاحتياط ، وهي كثيرة ) جداً .

( منها : صحيحة عبد الرحمان بن الحجّاج قال : سألت أبا الحسن عليه السلام ) ، موسى بن جعفر ( عن رجلين أصابا صيداً ) والمراد بالاصابة : إما القتل ، أو الصيد ، فانّ في الحج يحرم الصيد كما يحرم القتل ، وكذلك يحرم التنفير وما اشبه ذلك

ص: 153


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

وَهُما محرمانِ ، الجزاء بينهما أو على كلّ واحدٍ منهما جزاء ؟ قال : بل عليهما أن يَجزيَ كلُّ واحد منهما الصَّيدَ ، فقلتُ : إنّ بعضَ أصحابنا سألني عن ذلك ، فَلَم أدرِ ما عَلَيهِ . قال : إذا أصبتُم بمثل هذا ولم تَدرُوا فَعَلَيكُم الاحتياطَ حتّى تَسألوا وتَعلَمُوا » .

-------------------

ممّا هو مفصَّل في الفقه ( وهما مُحرِمان ، الجزاء بينهما ؟ ) أي : عليهما كفارة واحدة ، كلٌّ يعطي نصف الكفارة ( أو على كلّ واحد منهما جزاء ؟ ) أي : مستقل ، فهما يعطيان كفارتين .

( قال : بل عليهما أنّ يَجريَ كلُّ واحد منهما الصّيد ) أ ي : عليهما كفارتان ، ويفهم من هذا : انّه اذا كانوا ثلاثة أو أربعه أو خمسة كان كذلك ، فكل واحد منهما يعطي كفارة مستقلة ، وليس مثل القتل ، فانه اذا قتل انسانان شخصاً واحداً كان على_'feكل واحد منهما نصف الدية ، واذا كان القتلة ثلاثة كان على كل واحد منهما ثلث الدية ، وهكذا .

( فقلت : انّ بعض أصحابنا ) من الشيعة التابعين لكم ( سألني عن ذلك فَلَم أدرِ ما عَلَيهِ ) حيث لم أعلم ان عليهما كفارة واحدة أو عليهما كفارتان ؟ .

( قال ) عليه السلام : ( اذا أصبتم بمثل هذا ) أي : ابتليتم بمثل هذاالسؤل ( ولم تدروا ) ما هو حكمه ( فَعَلَيكُم الاحتياط حتى تسألوا وتَعلَمُوا ) (1) بتقريب : انّ الامام عليه السلام أمر بالاحتياط في كلّ مكان لايدري الانسان حكمه ، والشبهة التحريمية من ذلك ، فان الانسان إذا لم يعلم حرمة شرب التتن وعدم حرمته عليه بالاحتياط ،

ص: 154


1- - الكافي فروع : ج4 ص391 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص154 ب12 ح33464 .

ومنها : موثّقةُ عبد اللّه بن وضّاح ، على الأقوى : « قال : كتبتُ إلى العبد الصالح : يتوارى عنّا القُرصُ ويُقبِلُ الليلُ ويزيدُ الليلُ ارتفاعا ويستُر عنّا الشمسُ ويرتفعُ فوقَ الجبل حمرةٌ ويؤذّنُ عندنا المؤذّنون ، فأصلّي

-------------------

والاحتياط يقتضي عدم الشرب .

( ومنها : موثقةُ عبداللّه بن وضّاح على الأقوى ) أي : كون هذا الخبر موثقاً أقوى لوثاقة ابن الوضاح وفاقاً للنجاشي ، وخلافاً لابن الضغائري ، حيث ان ابن الغضائري يرى أن عبداللّه بن وضاح ضعيف ، فالرواية تكون ضعيفة .

ولا يخفى : ان ابن الغضائري يطعن في كثير من الرواة ، ولهذا أعرض جماعة كبيرة من العلماء عن تضعيفاته ( قال : كتبتُ الى العبد الصالح ) موسى بن جعفر عليهماالسلام ، وانّما قال : (العبد الصالح) للتقية ، فان التقية كانت من الشدّة بحيث لا يتمكن كثير من الشيعة ان يذكر اسم الامام عليه السلام ، ولهذا كانوا يطلقون عليه العبد الصالح فكتب اليه يسأله :

( يتوارى ) أي : يستتر ( عنّا القُرصُ ) أي : قرص الشمس في جهة المغرب ( ويُقبِلُ الليلُ ) بظلامهِ في الافق ( ويزيد الليل ارتفاعاً ) وظلاماً ( ويستر عنا الشمس ، ويرتفع فوقَ الجبل حمرةٌ ) لأنّ المنطقة كانت جبلية : والشمس اذا استترت وراء الجبل لا يعلم هل أنها غابت عن الافق أو لم تغب عن الافق ؟ وانّما يرى حُمرة فوق الجبل ولم يعلم انّها حمرة الشمس الباقية فوق الاُفق ، أو حُمرة بعد غروب الشمس عن الافق .

ثم كتب : ( ويؤِّن عندنا المؤّنون ) علامة على الغروب ( ف- ) هل ( أصلي

ص: 155

حينئذٍ واُفطِرُ إن كنتُ صائما او أنتظِرُ حتّى تَذهَبَ الحُمرَةُ التي فَوقَ الجَبلِ ؟ فكتَبَ عليه السلام : أرى لك أن تَنتَظِرَ حتّى تَذهَبَ الحُمرَةُ وتَأخُذَ بالحائطة لدينك » .

فان الظاهرَ أنّ قوله عليه السلام : « تأخذ » بيانُ مناط الحكم . كما في قولك للمخاطب : « أرى لك أن توفّي دينك وتخلّصَ نفسك » ؛ فتدلّ على لزوم

-------------------

حينئذٍ ) صلاة المغرب ؟ ( وأُفْطِرُ إن كنتُ صائماً ؟ أو أنتظِر حَتى تَذهَبَ الحُمرَةُ التي فوق الجَبلِ ) وأقطع بأن الشمس نزلت عن الافق ؟ .

( فَكتبَ عليه السلام ، أرى لك أن تَنتَظِر حَتّى تَذهَبَ الحُمرَة وتأخُذَ بالحائطةِ لدينك ) (1) أي : خذ الاحتياط في أمر دينك ، فانه حيث لم يعلم بأن صلاة المغرب يجوز أدائها أو يحرم أدائها - لأنه يحرم إتيان الصلاة قبل وقتها - أمره الإمام بالاحتياط ممّا يدل على ان الشبهة التحريميّة توجب الاحتياط .

( فان الظاهر : ان قوله عليه السلام ) : أرى لك أن ( تأخذ ) بالحائطة ليس معناه : ان تأخذ بالاحتياط في هذه المسألة فقط ، بل ذكر الإمام صغرى من كبرى كلية ، وهو : وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية ، وحيث ان هذا مصداق من مصاديق الشبهة التحريميّة أمره الامام بالاحتياط فيه .

وعليه : فقول الامام هذا ( بيان مناط الحكم ) فان مناط الحكم الكليّ منطبق على هذه المسألة الجزئية ، فيكون قوله عليه السلام هذا ، نظير محاوراتنا العرفية ( كما في قولك للمخاطب : أرى لك أن توفي دينك وتخلّص نفسك ) فانه ليس خاصاً بهذا المورد ، بل يدل على وجوب وفاء الدين مطلقاً ( فتدل ) الرواية ( على لزوم

ص: 156


1- - تهذيب الأحكام : ج2 ص259 ب13 ح68 ، الاستبصار: ج1 ص264 ب149 ح13 ، وسائل الشيعة : ج4 ص177 ب16 ح4840 و ج10 ص124 ب52 ح13015 .

الاحتياط مطلقا .

ومنها : ما عن أمالي المفيد الثاني ولد الشيخ ، بسند كالصحيح ، عن مولانا أبي الحسن الرضا عليه السلام : « قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام لكُميل بن زياد : أخُوكَ دِينُكَ فَاحتَط لِدينِكَ بما شِئتَ » .

وليس في السند إلاّ عليّ بن محمّد الكاتب الذي روى عنه المفيد .

ومنها : ما عن خطّ الشهيد في حديث طويل عن عنوان البصريّ

-------------------

الاحتياط مطلقاً ) أي : سواء في هذه المسألة أو سائر المسائل من موارد الشبهة التحريمية ، كما يقول به الأخباريون .

( ومنها : ما عن أمالي المفيد الثاني ولد الشيخ بسند كالصحيح عن مولانا أبي الحسن الرضا عليه السلام ، قال : قال أمير المؤنين عليه السلام لكُمَيل بن زياد : أخوكَ دينُكَ فاحتَط لدِينِكَ بما شئتَ ) (1) وانّما قال : « اخوكَ » ؛ لأن الأخ يسند الانسان في الحياة ويحفظه من الأخطار ، وكذلك الدين يسند الانسان ويحفظه ، والانسان الذي لا دين له معرَّض للقلق والأخطار .

هذا ( وليس في السند ) أي : في سند هذه الرواية انسان رمي بالضعف ( الاّ علي بن محمد الكاتب الذي روى عنه المفيد رحمه اللّه ) وهو المفيد الثاني ابن الشيخ الطوسي ، فيدل رواية المفيد عنه انه ثقة ، اذ لا يروي المفيد الثاني الاّ عن الثقة .

( ومنها : ما عن خط الشهيد ) الأول رحمه اللّه ( في حديث طويل عن عنوان البصريّ

ص: 157


1- - الأمالي للطوسي: ص110 ح168 ، الأمالي للمفيد : ص283 المجلس الثالث والثلاثون ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

عن أبي عبد اللّه عليه السلام يقول فيه : « سَل العلماء ما جَهِلتَ وإيّاكَ أن تسألهُم تعنُّتا وتَجربة ، وإيّاك أن تَعمَلَ برأيك شَيئا ، وَخُذِ الاحتياطَ في جميع امورك ما تَجِدُ إليه سَبِيلاً ، وَاهرب مِنَ الفُتيا هَرَبَكَ مِنَ الأسَد ، ولا تجعل

رقبَتك عَتَبَةً لِلنّاسِ » .

ومنها : ما أرسله الشهيد رحمه اللّه ، وحكى عن الفريقين

-------------------

عن أبي عبد اللّه عليه السلام يقول فيه : فاسأَل العلماء ما جَهلتَ ، وَإيّاكَ أن تَسألَهمُ تَعَنُّتاً ) بأن تسألهم لا للتعلّم ، بل لجهة التلبيس عليهم وطلب زلتهم ، كما يفعله الجاهلون بموازين الأخلاق .

( و ) اياك أن تسألهم ( تجربةً ) بان تسألهم لتستظهر أنّه عالم أو ليس بعالم ، فانّما التجربة صالحة بالنسبة الى العلماء الذين يشك في علمهم وعدم علمهم ، وليست بصالحة بالنسبة الى العلماء المعروفين بالعلم .

( وايّاك أن تَعمَل برأيك شيئاً ) رأياً قياسياً كان ، أو رأياً استحسانياً ، أو رأياً مستنداً الى المصالح المرسلة ، أو ما أشبه ذلك ، ممّا لم يكن من الكتاب والسنّة والاجماع والعقل ( وَخُذ الاحتياط في جميع اُمورك ما تَجِدُ إليه سَبيلاً ) أي : ما دام تجد إلى الاحتياط طريقاً ( واهرَب مِنَ الفُتيا ) أي : الفتيا غير المستندة الى الأدلّة الأربعة ( هَرَبَك مِنَ الأسَد ) فانّ الأسد يفسد دنيا الانسان والفتيا الفاسدة تفسد دنيا الانسان وآخرته ( ولا تجعل رقَبتك عَتَبَة للنّاسِ ) (1) يعبرون عليها إلى الجنّة وانت تكون من أهل النار بسبب فتياك بغير الحق .

( ومنها : ما أرسله الشهيد ) الأوّل ( وحكى عن الفريقين ) السنّة والشيعة

ص: 158


1- - مشكاة الأنوار : ص328 ، وسائل الشيعة : ج27 ص172 ب12 ح33524 .

من قوله : « دَع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك ، فانّك لم تَجِد فَقدَ شيء تركته لِلّهِ عزّ وجلّ » .

ومنها : ما أرسله الشهيد رحمه اللّه ، أيضا من قوله عليه السلام : « لك أن تنظر الجَزمَ وَتأخُذَ بالحائطة لِدينِكَ » .

-------------------

( من قوله ) صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( دع ما يُريبك ) أي : اترك ما تشك في جوازه وعدم جوازه ( الى ما لا يُريبك ) يعني : اعمل بما لا شك فيه ، فاذا كان - مثلاً - شرب التتن مشكوك الحرمة ، وعدم شربه معلوم الجواز ، فدع شرب التتن المشكوك إلى عدم الشرب المعلوم الجواز .

هذا ، فيما إذا كان الشك وعدم الشك في طرف شيء واحد ، وكذا اذا كان في طرف شيئين ، كما اذا كان الوطي - مثلاً - في أثناء العشرة مشكوكاً فيه لاحتمال كونها في الحيض ، وبعد العشرة معلوم الجواز لإنتفاء ذلك الاحتمال ، فليترك الزوج الوطي في أثناء العشرة الى ما بعد العشرة .

ثمّ قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( فانّك لم تجد فَقدَ شيء تركته للّه عزّ وجلّ ) (1) اذ الشيء الذي يتركه الانسان خوفاً من اللّه عزوجلّ يجده في الدنيا قبل الآخرة ، فانّ اللّه سبحانه وتعالى يعطيه ثواب الدنيا وحُسنَ ثواب الآخرة .

(ومنها : ما أرسله الشهيد) الأوّل ( رحمه اللّه أيضاً من قوله عليه السلام : لك أن تنظر بالجَزمَ ) أي : تعمل بما تقطع بجوازه ( وتأخُذَ بالحائطة لِدينِكَ ) (2) فيما لا جزم لك فيه .

ص: 159


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 ، الذكرى : ص138 ، كنز الفوائد : ج1 ص351 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33506 و ص170 ب12 ح33517 ، الغارات : ص135 ، بحار الانوار : ج2 ص260 .
2- - غوالي اللئالي : ج1 ص395 .

ومنها : ما أرسله عنهم عليهم السلام : « ليسَ بِناكِبٍ عَن الصِّراطِ مَن سَلَكَ سَبيلَ الاحتياط » .

والجواب : أمّا عن « الصحيحة » ، فبعدم الدلالة ،

-------------------

( ومنها : ما أرسله ) الشهيد الأول أيضاً ( عنهم عليهم السلام حيث قالوا : ( ليسَ بناكِبٍ ) أي : بمنحرف ( عن الصِّراط ) السَوي ( من سَلكَ سبيلَ الاحتياط ) (1) .

فانّ مَنْ لم يسلك سبيل الاحتياط يحتمل أن يكون ناكباً عن الصراط ، أما من سلكَ سبيل الاحتياط فانّه على الجادةِ المستقيمة .

( والجواب ) عن هذه الطائفة الثالثة من الأخبار التي استدل بها الأخباريون على وجوب الاحتياط هو : إن رواياتهم هذه لا تدلّ على لزوم الاحتياط في الشبهة التحريميّة ، وذلك كما قال : ( أمّا عن « الصحيحة » ) التي رواها ابن الحجّاج في جزاء الصّيد(2) ( فبعدم الدلالة ) لهذه الرواية على مقصد الأخباريين من الاحتياط ، ومُجمل ما ذكره المصنّف هو : انّه ماذا أراد الإمام عليه السلام من قوله ذلك ؟ هل اراد منه :أنكم ان لم تعلموا بان كفارة الصيد كاملة على كلّ منهما أو نصف كفارة فتكون المسئلة على هذا الاحتمال من الشّك بين الأقل والأكثر ، وفي الشك بين الأقل والأكثر لا احتياط بل يلزم الأقل ويجري البرائة عن الأكثر .

أو أراد عليه السلام : « انكم إنْ سئلتم عن مسألة ولم تَدرُوا جوابها فَعَليكم بالاحتياط » ، وهذا ما لا شك فيه ، فان الانسان لا يجوز له أن يفتي بشيء لا يعلمه ،

ص: 160


1- - بحار الأنوار : ج108 ص119 و ص187 بالمعنى و ص187 (بيان) ، جامع احاديث الشيعة : ج1 ص90 .
2- - الكافي فروع : ج4 ص391 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص154 ب12 ح33464 .

لأنّ المشارَ إليه في قوله عليه السلام : « بمثل هذا » إمّا نفسُ واقعة الصيد ، وإمّا أن يكون السؤال عن حكمها .

وعلى الأوّل : فان جعلنا الموردَ من قبيل الشك في التكليف ، بمعنى أنّ

-------------------

وعلى هذا التقدير تخرج هذه الرواية عن كونها دليلاً على الاحتياط الذي ذكره الأخباريون في الشبهة التحريمية ، وانّما قال : « لا دلالة للصحيحة » ( لأنّ المشار إليه في قوله عليه السلام : « بمثل هذا » ، إما نفسُ واقعة الصيد ) بمعنى : انّه اذا وقعتم في مسألة لا تعلمون ان الواجب فيها هل هو الأقل أو الأكثر ؟ كما اذا لم تعلموا بان عليكم دين خمسة دنانير أو عشرة ، أو عليكم صيام ثلاثة أيام أو سبعة ، أو عليكم صلاة عشرين يوماً أو صلاة ثلاثين ؟ ( وإمّا أن يكون السؤل عن حكمها ) أي : إذا سئلتم عن مسألة لاتدرون حكم المسألة ، كما في مورد الصحيحة حيث ان السائل سأل عن حكم الصيد وهو لا يعلم الحكم .

( وعلى الأول ) : وهو أن يكون المراد : عدم العلم بأن جزاء الصيد هل هو النصف أو كفارة واحدة ؟ فهنا يحتمل أمران :

أولاً : ان يكون شكاً في التّكليف ، بأن كان من قبيل الأقل والأكثر الاستقلاليين ، كالأمثلة التي ذكرناها .

ثانياً : أن يكون شكاً في المكلّف به ، بأن كان الشك بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، كما انّه اذا لم يعلم هل فاتته صلاة الصبح حتى تجب عليه ركعتان ، أو صلاة الظهر حتى تجب عليه أربع ركعات ؟ فانّه وان كان شكاً بين الأقل والأكثر ، لأنّ الركعتين والأربع أقل وأكثر ، الاّ انهما من الأقل والأكثر الارتباطيين .

وعليه : ( فان جعلنا الموردَ من قبيل الشك في التكليف ) كما مثلنا له بالأمثلة الثلاثة السابقة في الدَّين والصلاة والصيام ، ( بمعنى : انّ

ص: 161

وجوب نصف الجزاء على كلّ واحد متيقن ويشكّ في وجوب النصف الآخر عليه ، فيكونُ من قبيل وجوب أداء الدين المردّد بين الأقل والأكثر ، وقضاء الفوائت المردّدة ، والاحتياطُ في مثل هذا غيرُ لازم بالاتفاق ، لأنّه شكّ في الوجوب ، وعلى تقدير قولنا بوجوب الاحتياط في مورد الرواية وأمثاله ممّا ثبت التكليف فيه في الجملة ، لأجل هذه الصحيحة وغيرها ،

-------------------

وجوب نصف الجزاء على كلّ واحد متيقن ، ويشك في وجوب النصف الآخر عليه ، فيكون ) الحكم في جزاء الصيد ( من قبيل ) الأقل والأكثر الاستقلاليين مثل : ( وجوب اداء الدين المردّد بين الأقل والأكثر ، وقضاء الفوائت المردّدة ) بين الأقل والأكثر ، إلى غير ذلك منَ الأمثلة في باب الشك بين الأقل والأكثر الاستقلايين ، فيكون الأقل يقينياً ، والأكثر شكاً في أصل التكليف .

( و ) من المعلوم عند الاُصوليين والاخباريين جميعاً : ان ( الاحتياط في مثل هذا ) أي : الشك بين الأقل والأكثر الاستقلايين ( غير لازم بالاتفاق ، لأنّه شك في الوجوب ) فقد وجب عليه نصف الصيد ويشك في ان النصف الآخر هل يجب عليه أيضاً ام لا ؟ فالاصل عدم وجوب النصف الآخر عليه .

( وعلى تقدير قولنا بوجوب الاحتياط في مورد الرواية وأمثاله مما ثبت التّكليف فيه في الجملة ) بأن قلنا بأنه يجب الاحتياط في الشك في الأقل والأكثر الاستقلاليين ، فاذا شك - مثلاً - في ان الفائتة منه ثلاثة أو خمسة وجب عليه الخمسة ، أو انّ الصيام الفائت منه يومان أو أربعة وجب عليه أربعة ، أو أنه مديون لزيد ديناراً أو دينارين ؟ وجب عليه ديناران ، وذلك ( لأجل هذه الصحيحة وغيرها ) فانه اذا قلنا بذلك ورد عليه اشكالان :

ص: 162

لم يَكن ما نحن فيه من الشبهة مماثلاً له ، لعدم ثبوت التكليف فيه رأسا .

وإن جعلنا الموردَ من قبيل الشكّ في متعلّق التكليف ، وهو المكلّف به ،

-------------------

أولاً : ( لم يكن ما نحن فيه من الشبهة مُماثلاً له ) أي : مُماثلاً لمورد الرّواية ، لأن كلامنا في الشبهة التحريميّة ، ومورد الرّواية : الشبهة الوجوبيّة .

ثانيا : انّ كَلامنا في الشبهة التحريميّة شبهة بدوية ، ومورد الرواية الشبهة الوجوبيّة شبهة مقرونة بالعلم الاجماليّ في الجملة .

وانّما لم يكن مشابها لمورد الرواية ( لعدم ثبوت التكليف فيه ) أي : فيما نحن فيه ( رأساً ) واطلاقاً ، فانّ الشك في حرمة التتن شك بدوي محضٌ لا يشمله الصحيحة ، فلا تكون الصحيحة دليلاً على ما نحن فيه .

والحاصل : ان الشبهة التحريمية البدوية التي كلامنا فيها ليست مُماثلة للرواية الدالة على الشبهة الوجوبية المقرونة بالعلم الاجماليّ ، لأنه يعلم إجمالاً بأنّ الواجب عليه إما نصف الجزاء ، أو كل الجزاء ، بينما في شرب التتن لا علم له اطلاقاً بالتحريم ، وانّما الشبهة فيه بدوية .

هذا ( وان جعلنا الموردَ ) أي : مورد الرواية ( من قبيل الشك في متعلق التكليف وهو المكلّف به ) وهذا عطف على قوله : « وعلى الأوّل » ، فان جعلنا المورد من قبيل الشك في التّكليف حيث قسّمنا الاحتمال الأوّل في الرواية الى هذين القسمين : بان يكون شكاً في التّكليف ، وقد عرفت حكمه ، وان يكون شكاً في المكلّف به ، بأن نعلم التكليف ، ولا نعلم ان المكلّف به هل هو هذا أو ذلك ؟ فيكون مورد الرواية كما إذا علم الانسان بوجوب صلاة عليه ظهر الجمعة لكنّه لا يعلم هل انّ الواجب عليه هو الظهر أو الجمعة ؟ .

وانّما يكون مسألة الصيد من الشك في متعلق التكليف أي : المكلّف به

ص: 163

لكون الأقلّ على تقدير وجوب الأكثر غيرَ واجب بالاستقلال ، نظير وجوب التسليم في الصلاة ، فالاحتياطُ فيها وإن كان مذهبَ جماعة من المجتهدين أيضا ، إلاّ أنّ ما نحن فيه من الشبهة الحكميّة التحريميّة ليس مثلاً لمورد الرواية ، لأنّ الشكّ فيه في أصل التكليف .

-------------------

( لكون الأقل على تقدير وجوب الأكثر غير واجب بالاستقلال ) لأنه ارتباطي فاذا أعطى نصف الجزاء وكان الواجب عليه جزاءاً كاملاً ، لم يفعل أي شيء ( نظير وجوب التسليم في الصلاة ) فانّه اذا شك في كون الصلاة ذات عشرة أجزاء عاشرها التسليم ، أو ذات تسعة أجزاء ، فلا يجب التسليم ، فهو من الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين فاذا أتى بالصلاة ذات التسعة أجزاء وكان الواجب عليه عشرة لم يأت بالصلاة اطلاقاً .

وعليه : ( فالإحتياط فيها ) أي : في هذه الشبهة الدائرة بين الأقل والأكثر الارتباطيين ( وان كان مذهب ) جميع الأخباريين و ( جماعة من المجتهدين أيضاً ) حيث أوجب جماعة من المجتهدين الاحتياط باتيان الأكثر فيما إذا كان الشك بين الأكثر والأقل الارتباطيين . ( إلاّ إنّ ما نحن فيه من الشبهة الحكميّة التحريميّة ) كشرب التتن الذي لا نعلم انه حرام أوليس بحرام ( ليس مثلاً لمورد الرواية ) .

وانّما لا يكون مثلاً لمورد الرواية ( لأن الشك فيه ) أي : فيما نحن فيه ( في أصل التّكليف ) وانه هل يحرم شرب التتن أم لا ؟ بخلاف مورد الرواية فانّ الشك فيه بعد العلم بوجوب شيء حيث يشك في أن الشيء هو الأقل أو الأكثر ؟ فلا تكون الرواية دليلاً على ما نحن فيه من الاحتياط في الشبهة التحريميّة الذي يقول به الاخباريون .

ص: 164

هذا مع أنّ ظاهر الرواية التمكّنُ من استعلام حكم الواقعة بالسؤال والتعلّم فيما بعد ، ولا مضايقة عن القول بوجوب الاحتياط في هذه الواقعة الشخصيّة ، حتّى يتعلم المسألة لما تستقبل من الوقائع .

ومنه يظهر : أنّه إن كان المشار إليه ب- « هذا » هو السؤال عن حكم الواقعة - كما هو الثاني من شقيّ الترديد -

-------------------

( هذا ) بعض الجواب عن الصحيحة ( مع أن ظاهر الرواية ) حيث قال عليه السلام : حتى تسألوا وتعلموا هو : صورة ( التمكن من استعلام حكم الواقعة بالسؤل والتعلّم ) من الإمام عليه السلام أو من العلماء العارفين بحكم المسألة ، فالرواية إنّما هي في حق من يتمكن من العلم ( فيما بعد ، ولا مضايقة عن القول بوجوب الاحتياط في هذه الواقعة الشخصية ) التي يبتلى بها المكلّف ويتمكن من الاستعلام ، فانه قبل الاستعلام يجب عليه الاحتياط (حتى يتعلم المسألة لما تستقبل من الوقائع) .

وعليه : فالرواية لا ترتبط بما نحن فيه ، إذا المفروض في الشبهة التحريميّة : عدم التمكن من التعلم ، فيجري هنا البرائة وان كان الاحتياط هو حكم من يتمكن من التعلم .

( ومنه ) أي : مما ذكرناه : من ان ظاهر الرواية : صورة التمكن من الاستعلام ، فلا ترتبط الرواية بما نحن فيه من صورة عدم التمكن من الاستعلام ( يظهر : انّه إن كان المشار اليه ب- « هذا » ) في قوله عليه السلام : « اذا اصبتم بمثل هذا »(1) ( هو السؤل عن حكم الواقعة ، كما هو الثاني من شقي الترديد ) حيث قال المصنّف : أن المشار اليه في قوله : « بمثل هذا » اما نفس واقعة الصيد ، واما أن يكون السؤل عن حكمها فانه على تقدير السؤل عن الحكم ، ما يكون المراد من الاحتياط الذي أمر

ص: 165


1- - الكافي فروع : ج4 ص391 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص154 ب12 ح33464 .

فان اريد بالاحتياط فيه الافتاءُ لم ينفع فيما نحن فيه ، وإن اريد من الاحتياط الاحترازُ عن الفتوى فيها أصلاً حتّى بالاحتياط فكذلك .

-------------------

به الإمام عليه السلام ؟ احتمالان ، اشار الى الأول بقوله :

( فانّ اُريد بالاحتياط فيه ) أي : في حكم الواقعة ( الافتاء ) وقوله : « الافتاء » نائب فاعل لقوله : « اريد » بمعنى : إنّه إن كان مراده عليه السلام : انه اذا أصبتم بمثل هذا السؤل الذي لا تدرون جوابه فعليكم أن تفتوا بوجوب الاحتياط ، ومن الواضح : إنّ الاحتياط في مثل المقام هو وجوب كفارة كاملة على كل من الاثنين الذين أصابا بالصيد .

فان كان هذا هو المراد ، فانّه ( لم ينفع فيما نحن فيه ) من حكم الشبهة التحريمية لوضوح : ان الافتاء بالاحتياط في واقعة لا يعلم المسؤل حكمها حتى يتعلم بالرجوع إلى الإمام أو إلى العالم ، حيث أمره الإمام بالاحتياط فيالافتاء ، لايدل على انّ كلّ شبهة تحريميّة وان لم يتمكن من التعلم يجب على الانسان الاحتياط فيها .

هذا ، اذا أريد بالاحتياط : الفتوى بالاحتياط ، يعني : ان يقول للسائل : إحتاطوا باعطاء كل واحد منكما كفارة كاملة .

وأشار الى الاحتمال الثاني بقوله : ( وإن اُريد من الاحتياط : الاحتراز عن الفتوى فيها ) أي : في هذه المسألة ، بمعنى : ان الإمام عليه السلام قال للراوي : عليك أن تحتاط ولا تفتي في المسألة بشيء ( أصلاً ، حتى بالاحتياط ) يعني : إن الإمام قد يقول للراوي : أفتِ بالاحتياط ، وقد يقول للراوي : لا تفتِ بشيء وأمسك حتى عن الفتوى بالاحتياط ، فان كان المراد منه هذا ( فكذلك ) لا ينفعنا لما نحن فيه من حكم الشبهة التحريميّة ، لوضوح : ان وجوب التوقف عن الافتاء عند التمكن من الاستعلام لا يدل على وجوب الاحتياط عند عدم التمكن من الاستعلام ، بل تبقى

ص: 166

وأمّا عن « الموثّقة » : فبأنّ ظاهرها الاستحبابُ .

والظاهرُ أنّ مراده الاحتياط من حيث الشبهة الموضوعيّة ، لاحتمال عدم استتار القرص وكون الحمرة المرتفعة أمارةً عليها ،

-------------------

أدلة البرائة خالية عن المعارض ، فيلزم حينئذٍ أن نقول بأن في الشبهة التحريميّة تجري البرائة وليست الصحيحة شاملة لما نحن فيه .

( وأما ) الجواب ( عن المُوثقة ) أي : موثقة عبداللّه بن وَضاح (1) ، الذي سأل عن الشك في استتار القرص ، وانّه هل يجوز له ان يصليّ أو أن يفطر أم لا ؟ ( فبأنّ ظاهرها : ) حيث قال له الإمام عليه السلام : أرى لك أن تنتظر هو : ( الاستحباب ) لأنه إذا كان ذلك واجباً كان الإمام يفتي باللزوم ، فأذا سأل انسان من الإمام عن الدم - مثلا - لا يقول له الإمام : أرى لك أن تجتنب عنه ،وانّما يقول له : الدم نجس .

( والظاهر : انّ مراده ) عليه السلام : ( الاحتياط من حيث الشبهة الموضوعيّة ) فان السائل لم يكن له شبهة حكمية وان الغروب يحصل بماذا ، وانّما كان شاكاً في الموضوع وانه هل حصل الغروب أم لا ؟ وذلك لحيلولة الجبل بينه وبين الشمس ، حيث قال السائل : ويستر عنا الشمس ويرتفع فوق الجبل حُمرة .

وعليه : فالسائل يعرف الحكم وانّما يشك في الموضوع ( لإحتمال عدم استتار القرص وكون الحمرة المرتفعة ) في طرف المغرب فوق الجبل ( أمارة عليها ) أي : على الشمس وانها باقية فوق الاُفق ، وان النور هو نور الشمس الظاهر في الافق ، كما يحتمل أن تكون الحُمرة هي الحُمرة المغربية الظاهرة بعد غروب

ص: 167


1- - تهذيب الأحكام : ج2 ص259 ب13 ح68 ، الاستبصار : ج1 ص264 ب149 ح13 ، وسائل الشيعة : ج4 ص177 ب16 ح4840 و ج10 ص124 ب52 ح13015 .

لأنّ إرادةَ الاحتياط في الشبهة الحكميّة بعيدةٌ عن منصب الإمام عليه السلام ، لأنّه لايقرّر الجاهل بالحكم على جهله .

ولا ريبَ أنّ الانتظار مع الشكّ في الاستتار واجبٌ ، لأنّه مقتضى استصحاب عدم الليل والاشتغال بالصوم وقاعدة الاشتغال بالصلاة .

-------------------

الشمس ، فان هناك حُمرتان : حُمرة الشمس وحُمرة تظهر بعد غروب الشمس .

وانّما قلنا : ان الشبهة موضوعيّة ( لأنّ ارادة الاحتياط في الشبهة الحكميّة بعيدة عن منصب الإمام عليه السلام ) فان الإمام إذا سئل عن الكلب أنجسٌ هو ، أو طاهر ، لا يقول الإمام إحتط ، لكن إذا سئل عن حيوان شرب من الاناء ، لا يعلم انّه شاة أو كلب يقول الإمام : إحتط ، ويكون إحتياطه إستحبابياً ، فسؤل الراوي كان من الشبهة الموضوعية ، وهو : هل تحقق وقت الصلاة أم لا بظهور الحُمرة فوق الجبل ، لا عن الشبهة الحكميّة بانه لا يدري هل وقت الصلاة والافطار المغرب أو الغروب ؟ .

وانّما قلنا: الاحتياط في الشبهة الحكميّة بعيد عن منصب الإمام (لأنّه) أي: الإمام عليه السلام (لا يقرر) أي : لا يبقي (الجاهل بالحكم على جَهلِه) وانّما يُبيّن له الحكم .

والحاصل : انّ الشبهةَ موضوعيّةٌ ، ولا إشكال في عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة ، فانّ الاخباريين والاُصوليين متفقان على عدم وجوب الاحتياط في مثل هذه الشبهة ، وحيث ان الاستصحاب هنا مُحكمٌ وليس المقام كالشبهة الموضوعيّة البدوية ، نقول : بوجوب الصَبر حتى يتيقن بالمغرب ، فالإحتياط في هذه الرواية بمعنى الصبر إلى التيقن ، لا الاحتياط الاصطلاحي .

( و ) لهذا قال المصنّف : ( لا ريب ان الانتظار ) حتى يتيقن بدخول المغرب ، والاحتياط ( مع الشك في الاستتار واجب ، لأنّه مقتضى استصحاب عدم الليل ، و ) استصحاب ( الاشتغال بالصوم ، وقاعدة الاشتغال بالصلاة ) فانّه يلزم أن يتيقن

ص: 168

فالمخاطبُ بالأخذ بالحائطة هو الشاكُّ في براءة ذمّته عن الصوم والصلاة ، ويتعدّى منه إلى كلّ شاكّ في براءة ذمّته عمّا يجب عليه يقينا ، لا مطلق الشاكّ ،

-------------------

الانسان بالليل حتى يفطر ، ويلزم أن يتيقن بالليل حتى يُصلي المغربين ، فيكون الاحتياط في المقام واجب لمكان الاستصحاب ، وإلاّ فظاهر الرواية لولا ما ذكرناه هو الاستحباب .

وعليه : فقد تبين ان الحديث لا يكون دليلاً على وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية ، وذلك لما يلي :

أولاً : الشبهة موضوعيّة .

ثانياً : انّها وجوبيّة .

ثالثا : ان ظاهر الرواية ، إستحباب الاحتياط ، لولا الاستصحاب .

رابعاً : انّه على تقدير الوجوب انّما هو في مكان يجري فيه الاستصحاب لوجود حالة سابقة في الشبهة البدوية التي هي محلُ الكلام .

إذن : ( فالمخاطب بالأخذ بالحائِطة هو : الشاك في برائة ذمته عن الصوم والصلاة ) لا الشاك شبهة بدوية تحريميّة ، اذ قد عرفت : انّ هناك استصحاباً يقتضي الحكم بالنهار حتى يثبت الليل ( ويتعدى منه ) أي : من مورد هذه الرواية ( إلى كل شاك في برائة ذمته عمّا يجب عليه يقيناً ) بان كان مورداً للاستصحاب ، فانّه لا يجوز نقض الحالة السابقة ، مثلا : اذا شك الرجل في انّ المرأة صارت زوجته ام لا ، أو شكت المرأة في انّ الرجل صار زوجاً لها أم لا ؟ أو شك في ان المكان المغصوب صار مباحاً أم لا ؟ او شك في ان مورثة مات حتى يرثه ام لا ؟ الى غير ذلك مما يجري فيه إستصحاب ( لا مطلق الشاك ) ليشمل ما نحن فيه

ص: 169

لأنّ الشاكّ في الموضوع الخارجيّ مع عدم تيقن التكليف لا يجبُ عليه الاحتياطُ باتفاق من الاخباريّين أيضا .

-------------------

من الشبهة البدوية التحريميّة ( لأنّ الشاك في الموضوع الخارجيّ مع عدم تيقن التّكليف ) بحيث لم يكن هناك إستصحاب ( لا يجب عليه الاحتياط باتفاق من الاخباريين أيضاً ) كما إتفق عليه الاُصوليون .

والحاصل : ان مورد الرواية خاص بقضية الغروب ، والتعميم المستفاد منها عرفاً انّما هو فيما كان الاستصحاب يقتضي الاحتياط كالأمثلة المتقدمة ، أما اذا لم يكن إستصحاب سابق كالشك في حرمة التتن فهو غير مشمول لهذه الرواية ، فلا يتمكن الأخباريون أن يستدلوا بها للاحتياط في الشبهة التحريميّة .

ثم لا يخفى : ان المشهور عند العامة كفاية استتار القرص في الافطار وصلاة المغرب ، والمشهور بين الشيعة لزوم المغرب في كلا الأمرين ، فان العامة يرون كفاية نزول الشمس عن الاُفق الحسي ، والشيعة يرون لزوم نزولها عن الاُفق الحقيقي أي : نصف الكرة الأرضية .

أمّا علامة نزولها عن الاُفق الحقيقي فهو : ظهور الحُمرة المشرقية من طرف المشرق حتى اذا جازت هذه الحُمرة قمة الرأس إلى طرف المغرب كان ذلك علامة نزول الشمس عن الاُفق الحقيقي وسقوطها تحت الأرض ، فتصح حينئذٍ صلاة المغرب ويجوز إفطار الصائم .

هذا هو المشهور ،لكن بعض الشيعة ذهب إلى رأي العامة في كفاية استتار القرص من الاُفق الحسي ، فبمجرد ان لم ير الانسان الشمس في الصحراء جاز له الافطار والصلاة ، والمصنّف الى الحال يتكلم في توجيه الرواية على مذهب هذا البعض الموافق للعامة ، ومن هنا شرع في معنى الرواية على مذهب مشهور

ص: 170

هذا كلّه على تقدير القول بكفاية استتار القرص في الغروب وكون الحمرة غير الحمرة المشرقيّة ، ويحتمل بعيدا أن يُراد من الحمرة ، الحمرةُ المشرقيّةُ التي لابدّ من زوالها في تحقق الغروب .

وتعليله حينئذٍ بالاحتياط ،

-------------------

الشيعة فقال : ( هذا كلّه على تقدير القول بكفاية استتار القرص في الغروب وكون ) المراد من ( الحُمرة ) في الرواية التي ذكر انّها ترتفع فوق الجبل ( غير الحُمرة المشرقية ) التي تظهر من جانب المشرق وتأتي إلى قمة الرأس ثم تميل نحو المغرب ، فانه عند ميلان الحُمرة المشرقية يتحقق المغرب عند مشهور الشيعة ، وانّما كان المراد من الحُمرة في الرواية : الحمرة المغربية التي ترافق الشمس وهي تغرب .

( ويحتمل بعيداً أنّ يراد من الحُمرة ) في الرواية ( : الحُمرة المشرقية التي لابد من زوالها في تحقق الغروب ) الشرعيّ الذي هو المغرب الحقيقي عند مشهور الشيعة .

ان قلت : ان كان معيار جواز الصلاة والافطار : « الحمرة المشرقية » ، فلماذا أفتى الإمام عليه السلام السائل بالاحتياط ، فانه كان ينبغي له بيان ذلك صريحاً ؟ .

قلت : لعله كان لأجل التقية من العامة حتى اذا استشكلوا على السائل : بانه لماذا تؤر افطارك وصلاتك مع ان القرص قد غاب ؟ أجابهم : بأني غير متيقن بالغروب فاحتاط لديني .

( وتعليله ) أي : تعليل الإمام الانتظار ( حينئذٍ ) أي : حين أراد بالحمرة التي لابدّ من زوالها الحمرة المشرقية ( بالاحتياط ) حيث قال عليه السلام : « أرى لك أن تنتظر

ص: 171

وإن كان بعيدا عن منصب الإمام عليه السلام ، كما لايخفى ، إلاّ أنّه يمكن أن يكون هذا النحوُ من التعبير لأجل التقيّة ، لايهام أنّ الوجه في التأخير هو حصول الجزم باستتار القرص وزوال احتمال عدمه ، لا انّ المغرب لا يدخل مع تحقق الاستتار .

-------------------

حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك » (1) ، فان تعليل هذا بالاحتياط ( وان كان بعيداً عن منصب الإمام عليه السلام ) إذ كان من حقّ المطلب أن يبيّن الإمام ان الغروب لايحصل الاّبذهاب الحمرة المشرقيّة ( كما لا يخفى ) لأن الأئمة عليهم السلام انّما نصّبهم اللّه سبحانه وتعالى لبيان الأحكام .

( إلاّ إنّه يمكن أن يكون هذا النحو من التعبير لأجل التقية ) من المخالفين ( لإيهام ) أي : ان هذا التعبير يوقع في وهم العامة ( انّ الوجه في التأخير هو : حصول الجزم باستتار القرص وزوال احتمال عدمه ) أي :عدم الاستتار ( لا إن ) الوجه في التأخير هو : ان ( المغرب لا يدخل مع تحقق الاستتار ) وانّما يدخل بغروب الشمس من الاُفق الحقيقي .

ويؤد كون الإمام في مقام التقية : انه عليه السلام قال : « أرى لك » ، فان هذا اللفظ ظاهر في الاستحباب ، مع أنه يجب على السائل الانتظار حتى يدخل المغرب اذ بدون زوال الحُمرة المشرقية عن قمه الرأس لا يجوز الافطار والصلاة ، فلولا التقية كان عليه السلام يقول : يجب عليك الانتظار ، فقوله : « أرى لك » في مقام الوجوب مشعر بالتقية حيث ان الإمام ما كان يريد ردّ العامة رداً صريحاً ، فهو مثل أن

ص: 172


1- - تهذيب الأحكام : ج2 ص259 ب13 ح68 ، الاستبصار : ج1 ص264 ب149 ح13 ، وسائل الشيعة : ج4 ص177 ب16 ح4840 و ج10 ص124 ب52 ح13015 .

كما أنّ قوله : « أرى لك » ، يستشمّ منه رائحة الاستحباب ، فلعلّ التعبيرَ به مع وجوب التأخير من جهة التقيّة .

وحينئذٍ : فتوجيه الحكم بالاحتياط لا يدلّ إلاّ على رجحانه .

-------------------

يقول عليه السلام : أرى لك أن لا تصلي صلاة التراويح ، لأنك تعبان ، فانه تقية من مَنْ يرى صلاة التراويح ولولا التقية لكان يقول : لا يجوز صلاة التراويح .

( كما أن قوله ) عليه السلام : ( « أرى لك » يستشم منه رائحة الاستحباب ( فلعل التعبير به ) أي : بما ظاهره الاستحباب ( مع وجوب التأخير ) كما هو مذهب المشهور عند الشيعة ( من جهة التقية ) على ما عرفت وجهه .

( وحينئذٍ ) أي : إذا كان قوله : « أرى لك » ، ظاهراً في الاستحباب ( فتوجيه الحكم بالاحتياط ) أي : تعليل الإمام إستحباب الانتظار بقوله : وتأخذ بالحائطة ( لا يدل الاّ على رجحانه ) أي : رجحان الاحتياط ، لأنّ علة المستحب مستحب ، فكأن الإمام عليه السلام قال : يستحب الانتظار لأنه إحتياط ، فاذا كان المعلول وهو الانتظار مستحباً ، يكون العلة وهو الاحتياط مستحباً ، فلا يمكن أن يستدل بهذه الرواية على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية ، كما أراده الأخباريون .

وإن شئت قلت : إنّ الاحتياط في مورد الموثقة وإن كان واجباً لاستصحاب النهار على ما عرفت إلاّ ان التعبير به لما كان لاجل التقية لابد أن يراد به الاستحباب لعدم اندفاع التقية إلاّ به ، كما عرفت تفصيله .

وعلى أي حال : فالرواية لا تدل على مذهب الأخباريين ، لانّها اما لبيان حكم الشبهة الموضوعيّة ، وقد تقدّم ان الأخباريين أيضاً يقولون بعدم وجوب الاحتياط فيها ، أو لبيان الشبهة الحكميّة فيرد عليه ما يلي : أولاً : ان الرواية في مورد وجود الاستصحاب لا الشبهة البدوية التحريميه التي هي محل الكلام .

ص: 173

وأمّا عن رواية الأمالي ، فبعدم دلالتها على الوجوب ، للزوم إخراج أكثر موارد الشبهة ، وهي الشبهة الموضوعيّة مطلقا والحكميّة الوجوبيّة .

-------------------

ثانياً : ان ظاهر الرواية : الاستحباب لأجل التقية لا الوجوب ، فلا تدل الرواية على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية .

( وأمّا ) الجواب ( عن رواية الأمالي ) المتقدمة حيث قال عليه السلام : « أخُوكَ دينُك فاحتَط لدِينكَ » (1) فانه يلزم حملها على مطلق الرجحان لأننا اذا حملنا هذه الرواية على وجوب الاحتياط خرج منها موارد استحباب الاحتياط ، وان حملناها على الاستحباب خرج منها موارد وجوب الاحتياط ، وذلك ما أشار اليه المصنّف بقوله ( فبعدم دلالتها على الوجوب ، للزوم اخراج أكثر موارد الشبهة ) من تحت الرواية وخروج الأكثر من تحت العام أو المطلق مستهجن .

أمّا خروج أكثر موارد الرواية فهو ما أشار اليه بقوله : ( وهي ) أي : الموارد الخارجة عبارة عن ( الشبهة الموضوعيّة مطلقاً ) وجوبية كانت أو تحريميّة ( والحكميّة الوجوبية ) وقد عرفت : ان الأخباريين والاُصوليين متفقون على خروج هذه الشبهات الثلاث عن وجوب الاحتياط .

هذا ، مضافاً إلى اشكال آخر ذكره بعضهم ، وهو : انّ هذه الرواية آبية عن التخصيص ؛ لوضوح : ان حصر الأخوة في الدين يقتضي الاحتفاظ عليه في كلّ زمان ومكان ، وحياطته من كل زيادة ونقصان وانّما نقول بالحصر ، لأنه قدّم أخوك وذلك مشعر بالحصر فهو مثل قوله : «الشاعر زيد» .

ص: 174


1- - الأمالي للطوسي : ص110 ح168 ، الأمالي للمفيد : ص283 المجلس الثالث والثلاثون ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

والحملُ على الاستحباب أيضا مستلزمٌ لاخراج موارد وجوب الاحتياط ، فيحمل على الارشاد او على الطلب المشترك بين الوجوب والندب .

وحينئذٍ: فلا ينافي وجوبه في بعض الموارد وعدمَ لزومه في بعض آخر،

-------------------

( والحمل على الاستحباب ) أي : حمل الرواية على إستحباب الاحتياط ( أيضاً مستلزم لاخراج موارد وجوب الاحتياط ) كموارد الشك في المكلّف به ، والشك قبل الفحص ، والشبهة البدوية في الدماء ، والفروج ، والأموال ، ونحو ذلك ، وقد عرفت : أنها آبية عن التخصيص أيضاً .

وحيث لم نتمكن من حمل الرواية على الوجوب فقط ، أو على الاستحباب فقط ( فيحمل على الارشاد ) والارشاد مشترك بين الوجوب والندب ، فنستكشف انه واجب أو ندب من الخارج ، إذ قد عرفت سابقاً : ان الأمر الارشادي ليس فيه ثواب وعقاب بنفسه ، وانّما الثواب والعقاب في متعلقه ، فهو مثل قول الطبيب : « إشرب الدواء » حيث يجب أن نعرف من الخارج هل هذا الدواء واجب شربه أو مستحب شربه ؟ ( أو ) يحمل ( على الطلب ) المولوي لا الارشادي ، ولكن الطلب المولوي ( المشترك بين الوجوب والندب ) فهو مثل قوله : « إغتسل للجمعة والجنابة » حيث انه يميّز من الخارج ان غسل الجمعة مستحب وأن غسل الجنابة واجب .

( وحينئذٍ ) أي : حين حملنا الأمر بالاحتياط في هذه الرواية على الارشاد ، أو على الطلب المشترك بين الوجوب والندب ( فلا ينافي ) كل من الارشاد أو الاشتراك . ( وجوبه ) أي : وجوب الاحتياط ( في بعض الموارد ) كالموارد التي ذكرناها : من الشك في المكلّف به ، الى آخره ( وعدم لزومه في بعض آخر ) كالشبهة البدوية ، والمقرونة بالعلم الاجمالي التي بعض أطرافها خارج أو مضطر

ص: 175

لأنّ تأكّد الطلب الارشاديّ وعدمه بحسب المصلحة الموجودة في الفعل ، لأنّ الاحتياط هو الاحتراز عن موارد احتمال المضرّة ، فيختلف رضاء المرشد بتركه وعدم رضائه بحسب مراتب المضرّة كما أنّ الأمر في الأوامر الواردة في إطاعة اللّه ورسوله للارشاد المشترك بين فعل الواجبات وفعل المندوبات ،

-------------------

اليه أو ما أشبه .

وانّما قلنا : بأنه لا ينافي وجوبه في بعض الموارد وعدم لزومه في بعض آخر ( لأن تأكد الطلب الارشادي ) إلى حد المنع من النقيض ( وعدمه ) أي : عدم التأكد حتى يكون متعلقه مستحباً انّما هو ( بحسب المصلحة الموجودة في الفعل ) الخارجي الذي هو متعلق الطلب ، فاذا كان الفعل ممنوعاً فنقيضه يكون واجباً ، واذا لم يكن ممنوعاً فنقيضه يكون مستحباً ، ففي التتن مثلاً يستحب الاحتياط لانه من الشبهة البدوية خارجاً ، اما الاناءان المشتبهان فيجب الاحتياط فيهما لانهما في الخارج من المقرون بالعلم الاجمالي .

وإنّما لا يتنافى ( لأن الاحتياط هو الاحتراز عن موارد إحتمال المضرة ، فيختلف رضاء المرشد ) بصيغة اسم الفاعل ( بتركه ) أي : ترك الاحتراز ( وعدم رضائه ) بتركه ( بحسب مراتب المضرة ) فان كانت المضره كثيرة لايرضى المولى بترك الاحتياط ، واذا كانت المضرة قليلة رضي المولى بتركه ، فيكون الأمر بالاحتياط في المشتبهات للارشاد ( كما ان الأمر في الأوامر الواردة في إطاعة اللّه ورسوله للارشاد ، المشترك بين فعل الواجبات وفعل المندوبات ) فأوامر طاعة اللّه يراد بها الوجوب فيما كان متعلق الطاعة واجباً ، ويراد بها الندب فيما كان متعلق الطاعة مندوباً .

ص: 176

هذا ، والذي يقتضيه دقيق النظر أنّ الأمر المذكور بالاحتياط لخصوص الطلب الغير الالزاميّ ، لأنّ المقصود منه بيان أعلى مراتب الاحتياط لا جميع مراتبها ولا المقدار الواجب .

والمرادُ من قوله : « بما شئت » ، ليس التعميمَ من حيث

-------------------

وحيث تقدّم بعض الكلام في الأوامر الارشادية ، وانه لماذا يكون قوله تعالى : « أطيعُوا اللّهَ وأطيعُوا الرَّسول » (1) أمرا إرشادياً لا مولوياً ، فلا داعي إلى تكراره هنا.

( هذا ) هو الذي قد يستظهر من الرواية وإن المراد من الأمر بالاحتياط : الارشاد ليعم الاحتياط الواجب والمستحب ( و ) لكن ( الذي يقتضيه دقيق النظر : ان الأمر المذكور بالاحتياط ) في قوله عليه السلام : « إحتط لدينك » (2) ، هو ( لخصوص الطلب غير الالزامي ) فهو اما استحبابي ، واما ارشادي إلى المستحب ( لأنّ المقصود منه : بيان أعلى مراتب الاحتياط ) وأعلى المراتب مستحب كما لايخفى.

( لا ) ان المقصود منه بيان ( جميع مراتبها ) أي : مراتب الاحتياط ، فان جميع مراتب الاحتياط مشتمل على الواجب والمستحب ( ولا المقدار الواجب ) الذي هو في أمثال الشك في المكلّف به ، وفي الأموال ، والاعراض ، والدماء ، وما اشبه ذلك ، فان محتملات هذه الرواية ثلاثة : أعلى المراتب وهو المستحب فقط ، وجميع المراتب المشتمل على الواجب والمستحب ، والمقدار الواجب فقط .

( والمراد من قوله : « بما شئت » ) في أخير الرواية ( : ليس التعميم من حيث

ص: 177


1- - سورة النساء : الآية 59 .
2- - الأمالي للطوسي : ص110 ح168 ، الأمالي للمفيد : ص283 المجلس الثالث والثلاثون ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

القلّة والكثرة والتفويض إلى مشيّة الشخص ، لأنّ هذا كلّه مُنافٍ لجعله بمنزلة الأخ ، بل المرادُ أنّ أيّ مرتبة من الاحتياط شئتها فهي في محلّها ، وليس هُنا مرتبة من الاحتياط لا يستحسنُ بالنسبة إلى الدين ، لأنّه بمنزلة الأخ الذي هو لك وليس بمنزلة سائر الامور لايستحسنُ فيها بعضُ مراتب الاحتياط ، كالمال

-------------------

القلّة والكثرة والتفويض الى مشية الشخص ) ليكون بمعنى قوله : من شاء استقل ومن شاء استكثر ، بل المراد منه خصوص المستحب .

وإنّما يكون المراد منه : خصوص الاحتياط المستحب ( لأن هذا كله ) أي : إرادة جميع المراتب ، أو المقدار الواجب والتفويض إلى مشية الشخص قلة وكثرة ( منافٍ لجعله ) أي : لجعل الدين ( بمنزلة الأخ ) في قوله عليه السلام : « أخُوكَ دينُك » فهو بمنزلة أن يقال : أخوك هذا العالم فاحترمه بما شئت ، حيث ان ظاهره : الاحترامات المستحبة ، لا الاحترامات الواجبة ، والاّ لم يقل بما شئت فيكون صدر الحديث قرينة لذيله ( بل المراد انّ أي مرتبة من ) المراتب العالية المستحبة من ( الاحتياط شئتها ) فاعملها ( فهي في محلها ، و ) حَسنة في نفسها .

ان قلت : إنّ بعض مراتب الاحتياط لا يكون مستحباً ولا حسناً فكيف أمر الإمام عليه السلام بالاحتياط مطلقاً ؟ .

قلت : ( ليس هنا مرتبة من الاحتياط لا يستحسن بالنسبة إلى الدين ) فكل مرتبة عالية من الاحتياط مستحسن في الدين ، حتى يحفظ حفظا دقيقا ، وذلك ( لانه ) أي : الدين ( بمنزلة الاخ الذي هو لك ) من اُمك وأبيك ( وليس ) الدين ( بمنزلة سائر الاُمور ) حتى ( لا يستحسن فيها بعض مراتب الاحتياط ) .

إذن : فليس الدين ( كالمال ) حيث لا يستحسن الدقة الشديدة في حفظه ،

ص: 178

وما عدا الأخ من الرجال ، فهو بمنزلة قوله تعالى : « فَاتّقُوا اللّهَ ما استَطَعتُم » .

وممّا ذكرنا يظهرُ الجوابُ عن سائر الأخبار

-------------------

ومنع حق اللّه والناس منه احتياطاً عليه ، فانه من الخسّة والبخل وحب الدنيا ( و ) كذا لا يشبه ( ما عدا الأخ من الرجال ) لأن رعاية أعلى مراتب الثقة فيما عدا الأخ يكون من التذلل والتخوف والوسوسة ، بينما الدين ليس كذلك بل هو كالأخ يستحب فيه جميع المراتب العالية من الحفظ والاحتياط .

وعليه : ( فهو ) أي : هذا الحديث يكون في حسن الاحتياط ( بمنزلة قوله تعالى : « فَاتَّقُوا اللّه مَا استَطَعتُم » (1)) ، حيث يستحسن كل مراتب التقوى العالية في الاُمور ، حتى ان عامل البناء لو نفض ملابسه من ذرات جص صاحب الدار عند انتهاء عمله حذراً من بقاء بعض الجص عليها ، الذي هو مال الناس ، كان في محله ، وانّ مشتري اللحم لو لم يمس اللحم ليقول للقصاب : اقطع لي من هذا للحم ، حذراً من التصرف في مقدار قليل من الدسم من مال الناس كان حسناً .

ومن الواضح : انّه لا يراد منه : الاحتياط المنجر إلى الوسوسة ، أو ما كان هو الوسوسة بعينه ، لانه لا يسمى بعد ذلك احتياطاً ، بل هو في طريق الانحراف أو في الانحراف نفسه ، بينما الاحتياط هو الاستقامة فهما متقابلان .

وعلى أي حال : فلا يكون هذا الخبر دليلاً للأخباريين على مطلوبهم لا ينحو أن يراد به و جوب الاحتياط فقط ، ولا بنحو ان يراد به الأعم من الاحتياط الواجب والمستحب .

( وممّا ذكرنا ) في الأجوبة السابقة ( : يظهر الجواب عن سائر الأخبار

ص: 179


1- - سورة التغابن : الآية 16 .

المتقدّمة مع ضعف السند في الجميع .

نعم ، يظهرُ من المحقق ، في المعارج اعتبارُ إسناد النبويّ : « دع ما يريبك » ، حيث اقتصر في ردّه على : « أنّه خبرٌ واحدٌ لا يُعَوَّلُ عليه في الاصول ، وأنّ إلزام المكلّف بالأثقل مظنّة الريبة » .

-------------------

المتقدِّمة ) من انها تحمل على الارشاد ، أو على القدر المشترك من الأمر المولوي ، هذا ( مع ضعف السند في الجميع ) كما هو واضح ، فان أكثرها مرسل لا يعتمد على اسنادها .

( نعم ، يظهر من المحقق في المعارج : اعتبار اسناد النبويّ ) وقوله : « اسناد » ، بصيغة الجمع ، فكأن له اسناداً متعددة ، والنبويّ هو : ( « دع ما يريبك » (1) حيث ) انّ المحقق لم يضّعف سنده ، بل ( اقتصر في ردّه ) أي : في ردّ دلالة النبويّ والاستدلال به لوجوب الاحتياط ( على ) وجهين :

أحدهما : ( انّه خبرٌ واحد لا يُعَوَّل عليه في الاُصول ) أي : في اُصول الفقه ، لأن الاُصول أهم من الفقه حيث يبنى عليها مسائل فقهية كثيرة ، بينما الرواية الواردة في الفقه لا يبنى عليها مسائل بتلك الكثرة .

( و ) ثانيهما : ( ان إلزام المكلّف بالأثقل ) وهو أن يحتاط بما شاء ، فان الاحتياط الكثير ثقيل على الانسان ، فيكون بنفسه ( مظنة الريبة ) (2) أي : ممّا فيه ريب لاحتمال عدم رضا اللّه سبحانه وتعالى بمشقة عباده بهذه الكيفية ولذا

ص: 180


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 ، الذكرى ص138 ، كنز الفوائد : ج1 ص351 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح13506 و ص170 ب12 ح33517 ، الغارات : ص135 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج6 ص62.
2- - معارج الاصول : ص217 .

وما ذكره محلُّ تأمّل ، منع كون المسألة اُصوليّة ،

-------------------

قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « ان هذا الدين رفيق فأوغل فيه برفق فان المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى » (1) ( وما ذكره ) المحقق في الاشكال على هذه الرواية ( محل تأمل ) من عدة وجوه :

أوّلاً : ( منع كون المسألة اُصولية ) وذلك لأن الاحتياط من عوارض فعل المكلّف بلا واسطة ، فيكون البحث فيه من المسائل الفرعية ، لا من القواعد الاُصولية الكلية - على ما ذكر في تعريف المسائل الفقهية والاُصولية - فهو تماماً مثل قوله : « أوفوا بالعقود » (2) وقوله عليه السلام : « لا ضرر ولا ضرار » (3) وليس مثل : ان الأمر واجب ، وان النهي دال على الكف ، فقولنا - مثلاً - : الاحتياط في الصلاة مستحب ، هو كقولنا : القنوت في الصلاة مستحب ، وليس كقولنا : كل مشتبه الحكم الواقعي باحتمال كونه حراماً في الواقع يكون حلالاً في الظاهر .

إن قلت : يمكن أن يكون الاحتياط حكماً كليّاً ، ويمكن أن يكون الاحتياط حكماً فرعياً ، وذلك كما ذكرتم في المثال ، فلم جعلتموه من الأحكام الفرعية ، لا من المسائل الكلية الاُصولية ؟ .

قلت : إمكان كونه من الأحكام الفرعية كاف فيما ذكرناه ، فان الاحتياط على أي

ص: 181


1- - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج2 ص94 ، وسائل الشيعة : ج1 ص110 ب26 ح270 وفيه «متين» بدل «رفيق» .
2- - سورة المائدة : الآية 1 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص280 ح4 و ص292 ح2 و ص294 ح8 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص164 ب22 ح4 ، غوالي اللئالي : ج1 ص309 ح18 وص183 ح11 ، معاني الاخبار : ص281 ، نهج الحق : ص489 و ص495 و ص506 .

ثم منعِ كون النبويّ من الأخبار الآحاد المجرّدة ، لأنّ مضمونه ، وهو ترك الشبهة ، يمكن دعوى تواتره ثمّ منع عدم اعتبار أخبار الآحاد في المسألة الاُصوليّة ، وما ذكره : من « أنّ إلزام المكلّف بالأثقل ، الخ » ، فيه :

-------------------

حال من عوارض فعل المكلّف بلا واسطة ، لا من عوارض الأدلة ليكون البحث فيه من الاصول .

ثانياً : ( ثمّ منع كون النبوي من الأخبار الآحاد المجردة ) وذلك ( لأنّ مضمونه وهو ترك الشبهة يمكن دعوى تواتره ) والمتواتر المضمون لا يصطلح عليه : بأنه خبر واحد .

ثالثا : ( ثمّ منع عدم اعتبار أخبار الآحاد في المسألة الاُصولية ) لأنّ المسائل الاُصولية ليست من المسائل الاعتقادية حتى يمنع عنها وانّما يمنع عن أخبار الآحاد في المسائل الاعتقادية ، والاّ فانّ : « لا تنقضُ اليقينَ بالشكّ » (1) و « رُفعَ ما لا يَعلَمُون » (2) و « إذن فتخير » (3) كلها تفيد المسائل الاُصولية ، وهي أخبار آحاد يعتمد الاُصوليون عليها في المسائل الاُصولية .

رابعاً : ( وما ذكره ) المحقق ( : « من أنّ الزام المكلّف بالأثقل » إلى آخره ، فيه )

ص: 182


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
2- - الخصال : ص417 ، التوحيد : ص353 ح24 ، تحف العقول : ص50 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 ، الاختصاص : ص31 .
3- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ب229 ، جامع احاديث الشيعة : ج1 ص255 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 .

أنّ الالزام من هذا الأمر، فلا ريب فيه .

الرابعة : أخبار التثليث المرويّة عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم والوصيّ وبعض

الأئمة عليهم السلام .

-------------------

ما فيه وذلك ( انّ الالزام ) بالاحتياط الأكثر إنّما جاء ( من هذا الأمر ) « دع ما يُريبُك » (1) ( فلا ريب فيه ) أي : في هذا الالزام ، ولا يكون مظنة الرّيبة ، لان الحديث وارد في دفع الريب الذي كان قبل أمره عليه السلام : « دع ما يُريبُك » فلا يشمل نفسه حتى يقال : ان الزام المكلّف بالاثقل الحاصل من الاحتياط ممّا فيه ريب فيلزم تركه الاّ ان يقال : انه يشمل نفسه بالمناط ونحوه ، كما قالوا في مثل : كل خبري صادق وشبهه ، لكن ربما يقال : ان الالزام بالأثقل أفضل بدليل : « أفضل الأعمال أحمزها » (2) ، وفي الجمع بين : « يُريدُ اللّه بكُم اليُسر »(3) ونحوه ، وبين : « أَفضل الأَعمال أَحمَزها » ونحوه ، كلام لا يناسب الشرح .

الطائفة ( الرابعة ) : مما استدلّ به الأخباريون لوجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكميّة ( أخبار التثليث ) التي قسمت الامور إلى ثلاثة اقسام ، وهي ( المروية عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والوصي ) علي أمير المؤنين ( عليه السلام ، وبعض الأئمة عليهم السلام ) كما سيأتي انشاء اللّه تعالى .

ص: 183


1- - الذكرى : ص138 ، الغارات : ص135 ، غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33506 و ص170 ب12 ح33517 ، كنز الفوائد : ج1 ص351 .
2- - مفتاح الفلاح : ص45 ، بحار الانوار : ج7 ص191 ب53 ح2 و ج70 ص237 ب54 ح6 .
3- - سورة البقرة : الآية 185 .

ففي مقبولة عمر بن حنظلة - الواردة في الخبرين المتعارضين - بعد الأمر بالأخذ بالمشهور منهما وترك الشاذّ النادر ، معلّلاً بقوله : « فانّ المُجمَعَ عليه لا ريبَ فيه »، وقوله: «إنّما الامورُ ثلاثةٌ ، أمرٌ بَيّنٌ رُشدُهُ فَيُتَّبعُ ، وأمرٌ بَيّنٌ غَيُّهُ فَيُجْتَنَبُ، وأمرٌ مشكِلٌ يُرَدُّ حُكمُهُ إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ صلى اللّه عليه و آله وسلم .

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : حلالٌ بيّنٌ وحرامٌ بيّنٌ

-------------------

( ففي مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في الخبرين المتعارضين بعد الأمر بالأخذ بالمشهور منهما ) أي : من الخبرين ( وترك الشاذ النادر ، معللاً بقوله : فان المُجمع عليه ) أي : المشهور ( لا رَيب فيه ) لأنه عليه السلام قال : « خُذ بما اشتَهر بين أصحابك ، وَدَع الشّاذَ النادر ، فانّ المُجمعَ عليهِ لا رَيبَ فيه » ( و ) ذلك بعد ( قوله ) عليه السلام : ( انّما الاُمور ثلاثة ) كالتالي : ( أمرٌ بيّنٌ رُشدُه ) وواضح جوازه ( فَيُتّبَع ) ويعمل به ، كالمباحات ونحوها ( وأمرٌ بيّن غيّه ) وواضح فساده والغي ضد الرشد ، كالمحرّمات ونحوها ، ( فيُجتَنَبُ ) عنه ولا يعمل به ، وهذان لا مشكل فيهما .

( وأمرٌ مشكِلٌ ) كالخبر الشاذ الذي لا يعلم هل انه صادر عنهم ، أوليس بصادر عنهم ؟ وشرب التتن الذي لا يعلم هل انه حلال أو حرام فانه ( يرد حكمه إلى اللّه ورسوله صلى اللّه عليه و آله وسلم ) وذلك : بان يرجع الى كتاب اللّه ليرى هل يوجد حكمه فيه أم لا ؟ فاذا لم يكن في ظاهر كتاب اللّه ردّ إلى سنة الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ليرى هل يوجد حكمه في الروايات الواردة قولاً أو فعلاً أو تقريراً ام لا ؟ .

ثم ذكر بعد هاتين الجملتين كمافي المقبولة قوله عليه السلام : ( قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : حلالٌ بيّن ) وواضح ، والحلال يشمل أحكاماً ثلاثة : المستحب ، والمكروه ، والمباح .

( وحرامٌ بيّن ) وواضح وهو يشمل المحرّم ، كشرب الخمر ، والواجب

ص: 184

وشُبهاتٌ بَينَ ذلك ، فَمنَ تَرَكَ الشُّبَهاتِ نجا مِنَ المُحرَّماتِ ، وَمَن أخذَ بالشُّبهاتِ وقع في المحرمات وهَلَكَ مِن حَيثُ لا يَعلَمُ » .

وجه الدلالة : أنَّ الإمام عليه السلام ، أوجب طرح الشاذّ معلّلاً بأنّ المجمع عليه لاريب فيه ، والمراد أنّ الشاذّ فيه الريبُ ،

-------------------

كالصلاة ، لأن ترك الواجب حرام أيضاً .

( وشُبهَات بين ذلك ) لم يعرف انّها حرام أو حلال ، فكأن هذه الشبهة بين هذا وذاك ، ( فَمن تَركَ الشُبهاتِ نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشُبهاتِ وَقَعَ في المُحرَّماتِ ) الواقعية بدون علم بانّه حرام ( وَهَلكَ من حَيثُ لا يَعلَمُ ) (1) لفرض انه مشتبه عنده وليس مثل الخمر حراماً واضحاً .

إذن : فهذا الخبر يدل على وجوب ترك المشتبه ، وشرب التتن - مثلا - حيث كان مشتبه الحكم فيلزم تركه ، وقول الإمام عليه السلام : « المُجمع عليه من الحلال البيّن يؤذ به ، والشاذ من المشتبه يجب طرحه » دليل على ان كلّ مشتبه واجب الطرح ، ومن المعلوم ان شرب التتن مشتبه الحكم لانه لا يعلم هل هو حلال أو حرام ؟ فالواجب تركه كما يقول به الأخباريون .

وإلى وجه الاستدلال هذا ، اشار المصنِّف بقوله : ( وجه الدلالة ) في هذا الخبر على وجوب ترك الشبهة الحكمية ( انّ الإمام عليه السلام أوجب طرح الشاذ ) من الأخبار التي لم يروها المشهور ( معلّلاً : بأن المُجمَع عليه لا ريب فيه ، والمراد ) من مفهوم هذه الجملة : « فان المُجمع عليه لا ريب فيه » هو : ( ان الشاذ فيه الريب ،

ص: 185


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

لا أنّ الشهرة يجعل الشاذّ ممّا لا ريب في بطلانه ، وإلاّ لم يكن معنى لتأخير الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالأعدليّة والأصدقيّة والأورعيّة ، ولا لفرض الراوي الشهرة في كلا الخبرين ،

-------------------

لا ) أي : ليس مفهوم هذا : ( انّ الشهرة ) في أحد الخبرين ( يجعل الشاذ ممّا لا ريب في بطلانه ) فهذا الخبر يقول : ان بعض الأخبار مثل : شرب الماء ظاهر الحليّة وهو الخبر المشهور ، وبعض الأخبار مثل : شرب التتن غير ظاهر الحليّة وهو الخبر الشاذ ، لا ان الخبر الشاذ حكمه حكم الخمر ، ظاهر الحرمة .

والحاصل : إنّ الخبر المشهور ليس مقطوع الصحة ، كما ان الخبر الشاذ ليس مقطوع البطلان ، والاّ فلو كان الخبر المشهور مقطوع الصحة لم يبق كلام في ترجيحه على الشاذ ، كما ان الشاذ لو كان مقطوع البطلان لم يبق كلام في احتمال جواز العمل به ، بل الخبر المشهور ، بالنسبة إلى الشاذ مما لا ريب فيه ، والخبر الشاذ بالنسبة الى المشهور مما فيه الريب .

وإلى هذا المعنى أشار بقوله : ( وإلاّ لم يكن معنى لتأخير الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالأعدلية والأصدقية والأورعية ) فان الإمام عليه السلام ذكر الترجيح بالشهرة بعد المرجحات المذكورة ، فلو كان المشهور مقطوع الصحة ، أو الشاذ مقطوع البطلان ، كان اللازم أن يؤذ بالمشهور أولاً وبالذات ويترك الشاذ أولاً وبالذات ، لا أنه أولا نرجّح أحدهما على الآخر بالأعدلية ، أو الأصدقية ، أو الأورعية ، ثّم اذا لم تكن هذه المرجحات نأخذ بالمشهور من الخبرين .

( ولا ) معنى أيضاً ( لفرض الراوي الشهرة في كلا الخبرين ) إذ لا يمكن القطع بكلا الخبرين لأنه محال ،بينما الراوي فرض الشهرة في كلا الخبرين حيث قال وهو يسأل الإمام عليه السلام : « فان كان الخبران عنكم مشهورين » .

ص: 186

ولا لتثليث الامور ، ثمّ الاستشهاد بتثليث النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم .

والحاصل : أنّ الناظر في الرواية يقطع بأنّ الشاذّ ممّا فيه الريب فيجب طرحه ، وهو الأمر المشكل الذي أوجب الإمام ردّه إلى اللّه ورسوله .

فيعلم من ذلك كلّه أنّ الاستشهاد بقول رسول اللّه في التثليث لا يستقيم إلاّ مع وجوب الاحتياط والاجتناب عن الشبهات ،

-------------------

( ولا ) معنى ( لتثليث الاُمور ) فانّه اذاكان المشهور معلوم الصحة والشاذ معلوم البطلان ، لم يكن وجه لجعل الإمام الامور ثلاثة ، فانّ الإمام جعل الاُمور ثلاثة ليدخل الشاذ فيما فيه الريب ، ولو كان ما فيه الريب ظاهر البطلان ، لم يحتج إلى جعل الاُمور ثلاثة . ( ثمّ الاستشهاد بتثليث النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ) وهذا عطف على قوله : « ولا لتثليث الاُمور » ، أي : ولم يكن وجه الاستشهاد الإمام بتثليث النبيّ .

وعليه : فلابدّ أن يقال : بأن الشاذ ممّا فيه ريب ، وانه أمرٌ مشكل ، وان حكمه غير معلوم ، فيلزم أن يترك لأنه ممّا فيه الرّيب .

( والحاصل : إنّ الناظر في الرواية ) المتقدِّمة ( يقطع بأن ) المشهور ممّا لا ريب نسبي فيه ، وان ( الشاذ ممّا فيه الريب ) النسبي ، لا ان المشهور مقطوع الصحة ، والشاذ مقطوع البطلان .

وحيث إنّ الشاذ ممّا فيه الريب ( فيجب طرحه ) كما ذكره الإمام عليه السلام ( وهو ) أي : الشاذ ( الأمر المشكل الذي أوجب الإمام ) عليه السلام ، في تثليثه للأقسام ، ( ردّه إلى اللّه ورسوله ) ليعلم حكمه منهما ( فيعلم من ذلك كلّه ) أي : يعلم من ان الإمام جعل الشاذ ممّا فيه الريب ومن الأمر المشكل ، وأوجب طرحه ، ورد حكمه إلى اللّه والرسول ( : ان الاستشهاد ) من الإمام عليه السلام ( بقول رسول اللّه ) صلى اللّه عليه و آله وسلم ( في التثليث : لا يستقيم الاّ مع وجوب الاحتياط والاجتناب عن الشبهات ) كلّها .

ص: 187

مضافا إلى دلالة قوله : « نجى من المحرّمات » ، بناءا على أنّ تخلّص النفس من المحرّمات واجب ، وقوله : « وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم » .

-------------------

إذن : فالقرائن المذكورة في كلام الإمام عليه السلام تدلّ على ان كلام الرسول دال على وجوب ترك الشبهة ، والاّ لم يصح أن يستشهد الإمام بكلام الرسول إذا لم يجب طرح الشاذ الذي فيه الريب والشك ، فيستفاد من كلام الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم قاعدة كليّة تقول : انه كل ما لم يكن أمر بيّن رشده وأمرٌ بيّن غيّه ، يجب تركه ، كما يترك الخبر الشاذ ، لأنه ليس بين الرشد ولا بيّن الغي .

هذا هو تمام الكلام في الوجه الأول من الأوجه الثلاثة في هذه الرواية الدالة - بحسب قول الاخباريين - على وجوب الاحتياط بترك الشبهة التحريمية ، وحاصله : إستشهاد الإمام عليه السلام بكلام الرسول .

الوجه الثاني : ما أشار اليه المصنِّف بقوله : ( مضافاً إلى دلالة قوله : « نجى من المحرمات » ) فانه انّما يدل هذا الكلام على وجوب ترك الشبهة ( بناءاً على ان تخلّص النفس من المحرمات واجب ) .

إن قلت : لا إشكال في وجوب تخلص النفس من المحرمات ، فلماذا قال المصنِّف بناءاً على وجوبه ؟ .

قلت : أراد به المحرمات المحتملة لا المقطوعة ، فتخلص النفس من شرب الخمر واجب قطعاً ، أما تخلص النفس من الاجتناب عن أحد الانائين الذين أحدهما خمر ، فليس بمقطوع الوجوب ، ولذا قال بعض الفقهاء بجواز ارتكاب أحد الانائين .

( و ) الوجه الثالث : ما أشار اليه المصنِّف بقوله : ( قوله ) عليه السلام : ( وقع في المحرّمات وهَلَكَ من حيث لا يعلم ) فان هذه الجملة تدل على ان ارتكاب

ص: 188

ودون هذا في الظهور ، النبويُّ المرويُّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، في كلام طويل ، وقد تقدّم في أخبار التوقف ، وكذا مرسلة الصدوق عن أمير المؤمنين عليه السلام .

-------------------

المشتبه ، وقوع في الهلكة ، والمتبادر من الهلكة : الهلكة الاُخروية والعقاب الاُخروي .

ثم لا يخفى : ان بعض المحشين قال : إنّ قول المصنِّف : لا ان الشهرة يجعل الشاذ مما لا ريب في بطلانه ، هو تعريض بصاحب الفصول الذي قال : ان الخبر المشهور يجعل الشاذ مقطوع البطلان .

ثم إنّ المصنّف تعرّض لبقية أخبار التثليث ، فقال : ( ودون هذا ) الخبر المتقدّم من أخبار التثليث وهو مقبولة عمرو بن حنظلة ( في الظهور ) وجعل هذا الخبر دون الخبر السابق في الظهور ، لعدم انضمام استشهاد الإمام عليه السلام بكلام النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ( النبويّ المروي عن أبي عبداللّه عليه السلام في كلام طويل ، وقد تقدّم في أخبار التوقف ) وهو رواية جميل بن صالح حيث قال عليه السلام فيها : الاُمور ثلاثة : إلى أن قال : « وأمرٌ اختلف فيه فردّه إلى اللّه عز وجل » (1) .

( وكذا مرسلة الصدوق عن أمير المؤنين عليه السلام ) حيث قال : « حلالٌ بيّن ، وحرامٌ بيّن ، وشبهاتٌ بين ذلك » (2) ، فهذه جملة من روايات التثليث التي

ص: 189


1- - من لا يحضره الفقيه : ج4 ص400 ب2 ح5858 ، الخصال : ص153 ح189 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج27 ص162 ب12 ح33491 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج4 ص74 ب2 ح5149 ، غوالي اللئالي : ج3 ص548 ح15 ، وسائل الشيعة : ج27 ص175 ب12 ح33531 .

والجواب عنه : ما ذكرنا سابقا ، من أنّ الأمر بالاجتناب عن الشبهة إرشاديٌّ للتحرز عن المضرّة المحتملة فيها ، فقد يكون المضرّة عقابا ، وحينئذٍ فالاجتناب لازم ، وقد يكون مضرّة أُخرى ، فلا عقابَ على ارتكابها على تقدير الوقوع في الهلكة ،

-------------------

استشهد بها الأخباريون لأجل إيجاب الاحتياط في الشبهات التحريمية الحكمية .

( والجواب عنه ) أي : عن خبر التثليث ( ما ذكرنا سابقاً ) في الجواب عن أخبار التوقف ، والاحتياط ( : من أن الأمر بالاجتناب عن الشبهة ارشاديٌ ) أو مولوي : مشترك بين الوجوب والاستحباب : وهو ( للتحرز عن المضرّة المحتملة فيها ) فيكون مثل أمر الطبيب بناءاً على أن يكون ارشادياً ، وأما بناءاً على أن يكون مولوياً مشتركاً فهو ليس دليلاً على التحريم ، إذا الأمر المشترك لا يدل على الالزام ، سواء كان مشتركاً بين الواجب وغير الواجب ، فلا الزام فيه فعلاً ، أو كان مشتركاً بين الحرام وغير الحرام ، فلا الزام فيه تركاً .

وعلى كل حال : فالمصنّف صبّ كلامه على الارشادية ، وقال : ( فقد يكون المضرة ) المحتملة في الأمر الارشادي ( عقاباً ) كما في صورة الشك في المكلّف به ، والشك في التّكليف قبل الفحص الممكن ، والشك في الاُمور المهمة كالدماء ، والفروج والأموال ( وحينئذٍ فالاجتناب لازم ) لأن العقل والشرع متطابقان على الاجتناب عن مثل هذه الاُمور لأن الضرر فيها عبارة عن : العقاب الاُخروي الذي لا طاقة لأحد بتحمل القليل منه ، فكيف بالكثير ؟ اعاذنا اللّه وجميع المؤنين منه .

( وقد يكون مضرة اُخرى ، فلا عقاب على ارتكابها ) أي : على ارتكاب تلك الشبهة ( على تقدير الوقوع في الهلكة ) مثل : المضرات الدنيوية ، أو عدم رفع

ص: 190

كالمشتبه بالحرام حيث لا يحتمل فيه الوقوع في العقاب على تقدير الحرمة اتفاقا ، لقبح العقاب على الحكم الواقعيّ المجهول باعتراف الأخباريين أيضا ، كما تقدّم .

وإذا تبيّن لك أنّ المقصودَ من الأمر بطرح الشبهات ليس خصوصَ الالزامي ، فيكفي حينئذ في مناسبة ذكر كلام النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، المسوق للارشاد أنّه إذا كان الاجتنابُ من المشتبه بالحرام راجحا ، تفصّيا عن الوقوع في مفسدة الحرام ، فكذلك طرح الخبر الشاذّ واجب ،

-------------------

الدرجات في الآخرة ، أو ما أشبه ذلك مما هو بنائهم عليه في الشبهة الوجوبية الحكمية ، والموضوعية وجوبية أو تحريمية ، لأنهم متفقون على انه لا يحتمل فيها عقاب على التكليف المشكوك ، واليه اشار بقوله :

( كالمشتبه بالحرام ) في الشبهة الموضوعية ( حيث لا يحتمل فيه الوقوع في العقاب على تقدير الحرمة اتفاقاً ) من الأخباريين والاُصوليين على انه لا عقاب في الشبهة الموضوعية التحريمية ( لقبح العقاب على الحكم الواقعي المجهول باعتراف الأخباريين أيضاً كما تقدّم ) الاّ انهم يقولون : إنّ الشبهة إذا كانت حكمية يكون في ارتكابها العقاب بالأدلة الخاصة ( وإذا تبيّن لك إنّ المقصود من الأمر بطرح الشبهات ) في الرواية المتقدّمة ( : ليس خصوص ) الطلب ( الالزامي ) فلا يكون أخبار التثليث دليلاً للأخباريين ( ف- ) نقول : ( يكفي حينئذٍ ) أي : حين لم يكن المقصود خصوص الالزامي ( في مناسبة ذكر ) الإمام عليه السلام ( كلام النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم المسوق للارشاد ) أي : يكفي فيه ( انه ) الضمير للشأن ( اذا كان الاجتناب من المشتبه بالحرام راجحاً ) بنحو الارشاد المشترك بين الالزامي وغيره ( تفصّياً عن الوقوع في مفسدة الحرام ، فكذلك طرح الخبر الشاذ ، واجب ) .

ص: 191

لوجوب التحرّي عند تعارض الخبرين في تحصيل ما هو أبعدُ من الريب ، وأقربُ إلى الحقّ ، إذ لو قصّر في ذلك وأخذ بالخبر الذي فيه الريبُ احتمل أن يكون قد أخذ بغير ما هو الحجّة له ، فيكون الحكمُ به

-------------------

والحاصل : ان خبر التثليث في كلام النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم لمطلق الرّجحان ، فلا يكون دليلاً على لزوم التجنب في المشتبه بالحرمة ، بل قد يكون لازماً كما في الشبهة الحكمية التحريمية ، وقد لا يكون لازماً كما في الشبهة الحكمية الوجوبية ، أو الموضوعية التحريمية والوجوبية .

ان قلت : انه إذا كان كذلك ، فلا دلالة في خبر النبي على لزوم طرح الشاذ ، فكيف إستدل الإمام عليه السلام بقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم ، لطرح الخبر الشاذ ؟ .

قلت : طرح الخبر الشاذ انّما هو لعلمنا من الخارج : بان الرّجحان في كلام النبيّ أعم من الواجب والمستحب ، فينطبق وجوبه على الخبر الشاذ ، اذ الخبر الذي يؤذ به يلزم أن يكون قطعيّ الحجية ، والخبر الشاذ لا حجية له قطعاً ، فهو مثل : أن يقال : « اغتسل عند كل حدث » ، فانه يشمل الواجب ويشمل المستحب مثل : قتل « السام أبرص » ثم علمنا خارجاً بأن غسل الجنابة واجب ، فانّا نحمل « إغتسل عند كل حدث » على الوجوب ، فيما اذا أجنَب الشخص .

إذن : فاللازم في الخبرين المتعارضين تشخيص الحجّة منهما وذلك ( لوجوب التحرّي عند تعارض الخبرين في تحصيل ما هو أبعد من الرَّيب وأقرب إلى الحق ) .

وإنّما يلزم التحري ( اذ لو قصّر في ذلك ) أي : في الفحص عن الحق من الخبرين ( وأخذ بالخبر الذي فيه الرَّيب ) الذي هو شاذ ( احتمل أن يكون قد أخذ بغير ما هو الحجّة له ) أي : للمكلّف ( فيكون الحكم به ) أي : الحكم على طبق

ص: 192

حكما من غير الطرق المنصوبة من قبل الشارع ، فتأمّل .

ويؤيّد ما ذكرنا من أن النبويّ ليس واردا في مقام الالزام بترك الشبهات امورٌ : أحدها : عمومُ الشبهات

-------------------

هذا الخبر الشاذ ( حكماً من غير الطرق المنصوبة من قبل الشارع ) فيكون الأخذ بالخبر الشاذ محتملاً للعقاب ، ويجب دفع هذا الاحتمال بارشاد العقل وبسبب القرائن الخارجية المذكورة في باب التعادل والتراجيح .

( فتأمّل ) فانه يمكن أن يكون اشارة إلى ان ظاهر خبر النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : الوجوب الاّ ان الادلة الخارجية تصرفها عن وجوبه في الشبهة الموضوعية وجوبية أو تحريمية ، والحكمية الوجوبية ، فيبقى النبويّ المذكور دليلاً للأخباريين .

( ويؤد ما ذكرنا : من أن النبويّ ليس وارداً في مقام الالزام بترك الشبهات ) وانّما هو في مقام رجحان ترك الشبهات الشامل للرّجحان الواجب والرجحان المندوب ( اُمورٌ ) تالية :

( أحدها : عموم الشبهات ) التي وردت في قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « وشُبهاتٌ بين ذلك » فتشمل : الشبهة اللازمة الترك ، والشبهة الراجحة الترك .

لا يقال : الجمع المحلّى يفيد العموم ، مثل : « الرجال » . و « شبهات » في كلام النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ليس محلّى باللاّم ، فلا يفيد العموم .

لأنه يقال : انّا ذكرنا في الاُصول : انّه حتى المفرد المجرد من اللام يفيد العموم اذا كان في مقام بيان الطبيعة مثل « حسنة » في قوله تعالى : « رَبّنا آتنا في الدُّنيا حسَنَةً وَفي الآخرةِ حَسَنةً » (1) .

ص: 193


1- - سورة البقرة : الآية 201 .

للشبهة الموضوعيّة التحريميّة التي اعترف الأخباريّون بعدم وجوب الاجتناب عنها ، وتخصيصُه بالشبهة الحكميّة ، مع أنّه إخراج لأكثر الأفراد ، مُنافٍ للسياقَ ، فانّ سياقَ الرواية آبٍ عن التخصيص ، لأنه ظاهر في الحصر ،

-------------------

ومثل : قولهم : « تمرة خير من جرادة » (1) ونحوهما .

وعليه « فالشبهات » في كلامه صلى اللّه عليه و آله وسلم عامة شاملة ( للشبهة الموضوعيّة التحريميّة ) كالشيء المردد بين كونه حراماً أو حلالاً ، طاهراً أو نجساً ، كما في الماء الذي يترشّح على الانسان في الشارع حيث لا يعلم انه طاهر أو نجس ، او اللحم الذي لا يعلم الانسان انه حرام أو حلال ، وذلك فيما اذا لم يكن هنالك أصل أو دليل على أحدهما وغير ذلك من الامثلة (التي اعترف الاخباريون بعدم وجوب الاجتناب عنها) مع انّها مشمولة للشبهات التي وردت في كلام النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم .

( و ) اّن قلت : ان الأخباريين يقولون بأن الشبهات التي وردت في كلام النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم خاصة بالشبهة التحريمية .

قلت : ( تخصيصه ) أي : تخصيص النبوي ( بالشبهة الحكميّة ) التحريميّة ( مع انه اخراج لأكثر الأفراد ) لأنه يوجب خروج الأقسام الثلاثة الاُخر من الشبهات ، التي اتفق الاخباريون والاُصوليون على عدم وجوب الاجتناب فيها ( منافٍ للسياق ) فالتخصيص خلاف الظاهر ، لأن الظاهر محكم بسبب السياق ( فانّ سياق الرواية ) أي : رواية النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ( آبٍ عن التخصيص ) .

وإنّما كان السياق آبٍ عن التخصيص ( لأنه ظاهر في الحصر ) ، حيث

ص: 194


1- - وسائل الشيعة : ج13 ص76 ب37 ح172 ، فقه الرضا : ص228 .

وليس الشبهة الموضوعيّة من الحلال البيّن .

ولو بنى على كونها منه لأجل أدلّة جواز ارتكابها ، قلنا بمثله في الشبهة الحكميّة .

-------------------

قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « إنّما الاُمور ثلاثة » ( وليس الشبهة الموضوعية من الحلال البيّن ) حتى يقال : ان هذه الشبهة داخلة في قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « حلال بيّن » فاذا لم يكن من الشبهات التي بين الأمرين ، تكون الشبهة الموضوعية قسماً رابعاً ، وهو منافٍ لكلمة « انّما » في قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم « انّما الاُمور ثلاثة » .

والحاصل : انّه لو قال الأخباريون : نخصّص أخبار التثليث بالشبهة الحكميّة التحريميّة ، نقول يَردُ عليه محذوران :

الأوّل : انّه مستلزم لتخصيص الأكثر وذلك مستهجنٌ كما عرفت .

الثاني : انّه خلاف لحصر النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم الأقسام في ثلاثة ، لانّا نقول للأخباريين : هل الشبهة الموضوعية داخلة في الحلال البيّن ، أو في الحرام البيّن ؟ وحيث لا يتمكن الأخباريون أن يقولوا : انّها داخلة في واحد منهما ، اذ الشبهة ليست حلالاً بيّناً والاّ لم تكن شبهة ، وليست حراماً بيّنا ؛ لأن الأخباريين لا يقولون بحرمتها ، فيبقى : اما أن تدخل في « شبهات بين ذلك » فيثبت مطلوب الاُصوليين : من وجود شبهة راجحة الترك لا لازمة الترك ، واما أن تكون قسماً رابعاً ، وهو خلاف جعل النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم الاُمور على ثلاثة أقسام .

( ولو بنى ) الأخباريون ( على كونها ) أي : الشبهة الموضوعية ( منه ) أي : من الحلال البيّن ( لأجل أدلة جواز ارتكابها ) حيث هناك ما يدل على جواز ارتكاب الشبهة الموضوعية ( قلنا : بمثله في الشبهة الحكمية ) أيضاً ، وذلك لما مرَّ من أدلة

البرائة ، فانّها تدل على ان الشبهة الحكمية تحريمية كانت أو وجوبية من الحلال

ص: 195

...

-------------------

البيّن ، فيختص قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « شبهات بين ذلك » بباب الشك في المكلّف به ، والامور المهمة من : الأعراض ، والدماء ، والأموال .

ولا بأس بالاشارة هنا الى ان كثيراً من كلمات المصنّف وكذا من قبله : كصاحبيّ القوانين ، والفصول ومن بعدهم ، انّما هي ردود على قول صاحب الوسائل ، حيث انّه بعد نقل المرسلة المتقدمة قال ما لفظه : أقول : هذا يحتمل وجوها :

أحدها : الحمل على التقية ، لأنّ العامة يقولون بحجّية الأصل ، فيضعف عن مقاومة ما سبق من أخبار الاحتياط مضافاً الى كونه خبراً واحداً لا يعارض المتواتر .

ثانيها : الحمل على الخطاب الشرعيّ خاصة يعني : انّ كل لفظ ورَد في الخطابات الشرعية يتعيّن حمله على اطلاقه ، وعمومه ، حتى يرد فيه نهي يخصّص بعض الأفراد ، أو يقيّد بعض اطلاقه ، فقوله عليه السلام - مثلاً - : « كلُّ ماءٍ طاهر حتى تعلم انّه قذرٌ » (1) يحملُ على اطلاقه ، حتى اذا ورد النهي عن استعمال كل واحد من الانائين ، اذا نجس أحدهما واشتبها تعين تقييده بغير هذه الصورة ، وبهذا استدل الصدوق على جواز القنوت بالفارسية ، لأنّ الأوامر بالقنوت مطلقة عامة ، ولم يرد نهي عن القنوت بالفارسية يخرجها عن اطلاقها .

ثالثها : التخصيص بما ليس من نفس الأحكام الشرعية ، وان كان من

ص: 196


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .

...

-------------------

موضوعاتها ومتعلقاتها ، كما اذا شك في جوائز الظالم ، انها مغصوبة ام لا ؟ .

رابعها : انّ النهي يشمل النهي العام والخاص ، والنهي العام بلغنا وهو : النهي عن ارتكاب الشبهات في نفس الأحكام ، والآمر بالتوقف والاحتياط فيها وفي كلّ ما لا نص فيه .

خامسها : أن يكون مخصوصاً بما قبل كمال الشريعة وتمامها ، وأما بعد ذلك فلم يبق شيء على حكم البرائة الأصلية .

سادسها : ان يكون مخصوصاً بمن لم يبلغه أحاديث النهي عن ارتكاب الشبهات والأمر بالاحتياط لما مرّ ، ولاستحالة تكليف الغافل عقلاً ونقلاً .

سابعها : أن يكون مخصوصاً بما لا يحتمل التحريم ، بل علمت اباحته وحصل الشك في وجوبه فهو مطلق حتى يرد فيه نهي عن تركه ، لأنّ المستفاد من الأحاديث هنا : عدم وجوب الاحتياط بمجرد احتمال الوجوب وان كان راجحاً حيث لا يحتمل التحريم .

ثامنها : أن يكون مخصوصاً بالأشياء المبهمة التي يعم بها البلوى ، ويعلم انّه لو كان فيها حكم مخالف للأصل لنقل ، كما يفهم من قول علي عليه السلام : « واعلم يا بنيّ انّه لو كان اله آخر لأتتك رُسُله ولرأيت آثار مملكته » (1) وقد صرّح بنحو ذلك المحقق في المعتبر وغيره ، انتهى كلامه رفع مقامه .

ص: 197


1- - تحف العقول : ص72 ، وسائل الشيعة : ج27 ص175 ب12 بيان ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج16 ص77 (بالمعنى) .

الثاني : أنّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، رتّب على ارتكاب الشبهات الوقوعَ في المحرّمات والهلاك من حيث لا يعلم ، والمرادُ منها جنسُ الشبهة ، لأنه في مقام بيان ما تردّد بين الحلال والحرام ،

-------------------

أقول : لا يخفى ما في جملة من احتمالاته المذكورة : من كونها خلاف الظاهر بدون قرينة ، هذا مع الغض عن اشكالات المصنّف وسائر الاُصوليين .

( الثاني ) من مؤدات كون النبوي ليس وارداً في مقام الالزام بترك الشبهات ، بل الأعم من الوجوب والاستحباب : ( انّه صلى اللّه عليه و آله وسلم رتّب على ارتكاب الشبهات : الوقوعَ في المحرمات ، والهلاك من حيث لا يعلم ) حيث قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم » (1) فنسأل : ما المراد من الشبهات ؟ .

فان كان المراد : مجموع الشبهات فهو لا يعقل لأنه لا يمكن أن يرتكب انسان كلّ الشبهات ، وان كان المراد : جنس الشبهات ، فمن الواضح انّه ليس ارتكاب كل شبهة موجباً للهلاك الاُخروي لوضوح عدم حرمة ارتكاب كثير من الشبهات لعدم مصادفتها للواقع المحرم ، فاللازم أن يحمل النهي على الأعم من الحرمة والندب فلا يكون دليلاً للأخباريين .

( و ) توضيحه : ان ( المراد منها ) أي : من الشبهات في كلامه صلى اللّه عليه و آله وسلم هو : ( جنس الشبهة ) وذلك ( لأنّه ) صلى اللّه عليه و آله وسلم ( في مقام بيان ما تردد بين الحلال والحرام ) أي : ما كان مردداً بينهما ، ومن الواضح : ان المراد بكل واحد

ص: 198


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

لا في مقام التحذير عن ارتكاب المجموع . مع أنّه ينافي استشهاد الإمام عليه السلام .

ومن المعلوم أنّ ارتكابَ جنس الشبهة لا يوجبُ الوقوع في الحرام ولا الهلاك من حيث لا يعلم إلاّ على مجاز المشارفة ،

-------------------

من الحلال والحرام في النّبوي هو الجنس ، فكذلك يكون المراد من الشبهات التي هي واسطة بين الحلال والحرام ، هو : الجنس ايضاً ( لا ) انّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ( في مقام التحذير عن ارتكاب المجموع ) من حيث المجموع لما تقدّم : من انّه غير معقول .

( مع انّه ) لو كان المراد من الشبهات : المجموع من حيث المجموع ، لكان ( ينافي استشهاد الإمام عليه السلام ) به على وجوب ترك شبهة واحدة ، وهو الخبر الشاذ لأن الإمام عليه السلام استشهد بالنبوي على انّه لو كان هناك خبر شاذ وجب تركه فاذا كان المراد من النبوي : ترك مجموع الشبهات ، لم يكن مناسباً للاستشهاد به .

هذا ( ومن المعلوم : ان ارتكابَ جنس الشبهة ) أي : ايّة شبهة كانت ( لا يوجبُ الوقوع في الحرام ، ولا الهلاك من حيث لا يعلم الاّ على مجاز المشارفة ) . ومجاز المشارفة عبارة عن كو ن الصفة لم تتحقق في الشيء بعد ، ولكنها تطلق على ما سيتصف بها قريباً .

مثلاً : قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « مَن قَتَلَ قتيلاً فلَه سلبه » (1) من مجاز المشارفة ، لانّه حيث يشرف ذاك الشخص المقتول على القتل يسمى قتيلاً وان كان بعد حياً ، فيكون معنى حديث النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم على هذا : انّ الانسان بارتكاب كل فرد من افراد

ص: 199


1- - بحار الانوار : ج41 ص72 ب106 ح3 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج14 ص166 .

كما يدلّ عليه بعضُ ما مضى وما يأتي من الأخبار . فالاستدلالُ موقوفٌ على إثبات كبرى ، وهي أنّ الاشرافَ على الوقوع في الحرام والهلاك من حيث لا يعلم محرّمٌ من دون سبق علم به أصلاً .

الثالث :

-------------------

الشبهة يكون مشرفاً على الوقوع في الحرام الواقعي ، لأن من كانت عادته ارتكاب الشبهات ، لابدّ وان يرتكب المحرمات الواقعية أيضاً ، لا أن ارتكاب كلّ شبهة مشرف على الحرام ( كما يدل عليه بعضُ ما مضى ) من الحديث كقوله عليه السلام : « المعاصي حمى اللّه فَمن يَرتَع حَولَها يُوشَك أن يدخلها » (1) ، ( وما يأتي من الأخبار ) في هذا المجال في الأمر الثالث .

وعليه : ( فالاستدلال ) من الاخباريين بالنبوي على وجوب اجتناب الشبهة التحريمية ( موقوف على اثبات كبرى ) كليّة ( وهي : ان الاشراف على الوقوع في الحرام والهلاك من حيث لا يعلم محرمٌ ) وهذا ما لا يلتزم به حتى الاخباريين في الشبهات الثلاث ، أي : فيما عدا الشبهة الحكمية التحريمية وذلك ( من دون سبق علم به أصلاً ) أي : بأن يكون من الشك البدوي لا المقرون بالعلم الاجماليّ .

وعليه : فاذا لم يمكن حمل النبوي على لزوم الاجتناب ، لابدّ وان يُحمل على الارشاد المشترك بين لازم الترك وراجح الترك ، فلا يكون دليلاً للأخباريين على مطلوبهم .

( الثالث ) : من مؤدات كون النبوي ليس وارداً في مقام الالزام بترك الشبهات ،

ص: 200


1- - من لا يحضره الفقيه : ج4 ص74 ب2 ح5149 ، غوالي اللئالي : ج3 ص548 ح15 ، وسائل الشيعة : ج27 ص175 ب12 ح33531 .

الأخبار المساوقة لهذا الخبر الشريف الظاهرة في الاستحباب لقرائن مذكورة فيها :

منها : قولُ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، في رواية النعمان ، وقد تقدّم في أخبار التوقف .

ومنها : قولُ أمير المؤمنين عليه السلام ، في مرسلة الصدوق أنّه خطب وقال : « حلالٌ بيّنٌ وحرامٌ بيّنٌ وشُبُهاتٌ بين ذلك . فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبانَ له أترَكُ ، والمعاصي حِمى اللّه ، فَمَن يَرتَع حَولَها يُوشِكُ أن يَدخُلَها » .

-------------------

وانّما هو للأعم من الالزام والاستحباب : ( الأخبار المساوقة ) والمرادفة في اللفظ والمعنى ( لهذا الخبر الشريف ) المتقدم عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ( الظاهرة ) أي : تلك الأخبار المساوقة ( في الاستحباب ، لقرائن مذكورة فيها ) أي : في تلك الأخبار .

(منها : قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم في رواية النعمان ، وقد تقدّم في أخبار التوقف ) حيث قال : « سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم يقول : لكلِّ مَلكٍ حِمى وَحِمى اللّه حلاله وحرامه ، والمشتبهات بين ذلك ، لو أنّ راعياً رعى الى جانب الحِمى لم يثبت غنمه أن يقع في وسطه ، فدعوا المشتبهات » (1) .

( ومنها : قول أميرُ المؤنين عليه السلام في مرسلة الصدوق : انّه خطب وقال : حلال بيّنٌ ، وحرام بيّنٌ ، وشبهاتٌ بين ذلك ، فمَن تركَ ما اشتبه عليه من الأثم ، فهو لما استبان له أتركُ ، والمعاصي حمى اللّه ، فمَن يَرتَع حولَها يُوشك أن يدخُلَها ) (2)

ص: 201


1- - الامالي للطوسي : ص381 ح818 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33508 .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج4 ص74 ب2 ح5149 ، غوالي اللئالي : ج3 ص548 ح15 ، وسائل الشيعة : ج27 ص175 ب12 ح33531 .

ومنها : روايةُ أبي جعفر الباقر عليه السلام : « قال : قال جدّي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم في حديث يأمر بترك الشبهات بين الحلال والحرام : مَن رَعى غَنَمَهُ قُربَ الحِمى نازَعَتهُ نَفسُهُ إلى أن يرعاها في الحِمى . ألا وإنّ لكلِّ مَلِكٍ حِمى ، وإنّ حِمَى اللّه مَحارِمُهُ .

ومنها : ماورد من : « أنّ في حَلال الدّنيا حِسابا وفي حَرامها عِقابا وفي الشّبُهاتِ عِتابا » .

-------------------

وحيث قد تقدّم وجه ظهورهما في الاستحباب لا داعي الى تكراره .

( ومنها رواية أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : قال جدي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم في حديث يأمر بترك الشبهات بين الحلال والحرام : من رَعى غنَمه قُربَ الحِمى نازَعتهُ نَفسُهُ ) أي : طلبت نفسه منه ( الى ان يرعاها ) أي : يرعى غنمه ( في الحِمى ) وقد تقدّم معنى « الحِمى » ، ثم قال : ( ألا وانّ لكل ملكٍ حِمى وان حِمى اللّه محارمه ) (1) فانّه من المعلوم ان الرعي حول الحمى ليس بمحرّم عند الملوك والأمراء ، وانّما المحرّم عندهم هو الرعي في نفس الحمى ، فالنهي عن الرعي حول الحمى للتنزيه ولئلاّ يقع في الحِمى ، لا انّه محرم بنفسه .

( ومنها : ما ورد من انّ في حَلال الدنيا حِساباً ، وفي حرامها عقاباً ، وفي الشُبهات عتاباً ) (2) ومن الواضح : انّ العتاب غير العقاب ، فيدل على انّ ارتكاب الشبهات لا يوجب العقاب .

ص: 202


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص169 ب12 ح33515 ، كنز الفوائد : ج1 ص352 .
2- - كفاية الأثر : ص227 ، بحار الانوار : ج44 ص139 ب22 ب22 ح6 .

ومنها : روايةُ فضيل بن عياض : « قال : قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام : مَنِ الوَرعُ مِنَ النّاسِ ؟ قال : الذي يَتَورّعُ عَن مَحارِمِ اللّهِ وَيَجتَنِبُ هؤلاء ، فاذا لم يتّق الشّبُهاتِ وَقَعَ في الحَرام وَهُوَ لا يُعرِفُهُ » .

وأمّا العقل فتقريره بوجهين :

اشارة

-------------------

( ومنها : رواية فُضيل بن عياض قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : من الوَرعُ مِنَ النّاسِ ؟ ) وهذا للاستفهام ، بمعنى أي الناس يكونون ورعِين متقين ؟ .

( قال : الذي يَتَورّعُ عن محارِم اللّه ، ويَجتَنبُ هؤاء ) الظلمة وعُمالهم وأموالهم ، لأن في الاختلاف اليهم والتصرف في أموالهم أو تناولها شبهات ( فاذا لم يتّق الشُبهاتَ وَقَعَ في الحرام ) الواقعي ( وهو لايَعرِفُهُ ) (1) أي : من غير علمه بذلك ، وهذا الخبر يدل على ان الشبهة ليست محرّمة بذاتها ، وانّما هي مقدمة للوقوع في الحرام، فلو كانت الشبهة حراماً بنفسها لم يحتج الى ان يستدل الإمام عليه السلام للنهي عنها بأنها تنتهي الى الحرام . وحيث انتهى المصنّف من الدليلين الأولين للأخباريين وهما : الكتاب والسنّة ، شرع في بيان الدليل الثالث لهم وبيان رده فقال :

( وأما العقل ) فان الأخباريين قد استدلوا بالكتاب والسنة فقالوا : بأنهما يدلان على وجوب الاحتياط الشرعيّ ، واستدلوا بالعقل وقالوا : بأنّه يدل على وجوب الاحتياط العقليّ ، وفي الشبهة التحريمية الحكمية قالوا : بانه يجب الاجتناب شرعاً وعقلاً اما انّه كيف يكون ذلك ؟ ( فتقريره بوجهين ) كما قال :

ص: 203


1- - معاني الأخبار : ص252 ح1 ، تفسير العياشي : ج1 ص360 ، وسائل الشيعة : ج16 ص258 ب37 ح21506 و ج27 ص162 ب12 ح33493 .

أحدهما :

انّا نعلمُ إجمالاً قبل مراجعة الأدلّة الشرعيّة بمحرّمات كثيرة يجب -

بمقتضى قوله تعالى : « وما نهيكم عنه فانتهوا » ونحوه ، - الخروجُ عن عهدة تركها

-------------------

( أحدهما ) : قاعدة الاشتغال وذلك ( انا نعلم اجمالاً ) بالضرورة ( قبل مراجعة الأدلّة الشرعيّة : بمحرّمات كثيرة ) فان كلّ مسلم يعرف : انّ في الشرع محرمات كثيرة ( يجب بمقتضى قوله تعالى : « وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فانتَهُوا » (1) ونحوه ) من الآيات والأخبار والعقل ( الخروجُ عن عهدة تركها ) وذلك بأن يترك جميع تلك المحرمات .

هذا ، ولعله كان من الاُولى أن لايذكر المصنّف الآية المباركة ضمن الدليل ، لوضوح : ان الدليل المركب من العقل والشرع لا يسمّى عقلياً كما لا يسمّى شرعياً ايضاً ، بل هو مركب منهما ، كما انّ الباب المركب من الحديد والخشب لا يسمى باحدهما خاصة .

وقد ذكرنا في بعض الشروح السابقة أن قول المشهور : ان النتيجة تتبع أخسّ المقدمتين غير دقيق ، اذ النتيجة تابعة لكلتا المقدمتين ، فلا تختص بالمقدمة الأخس ولا بالمقدمة الأرفع ، بل هي بينهما .

مثلاً: اذا كان البناء الحديدي يبقى عشر سنوات والبناء الخشبي يبقى أربع سنوات، فاذا ركب البناء منهما على التساوي ، بأن يكون كلّ من الحديد والخشب فيه نصفاً ، يبقى سبع سنوات ، اذ لا وجه لان تكون النتيجة تابعة لهذا وحده أو لذاك وحده .

ص: 204


1- - سورة الحشر : الآية 7 .

على وجه اليقين بالاجتناب او اليقين بعدم العقاب ، لأنّ الاشتغال اليقينيّ يستدعي البراءة اليقينية باتفاق المجتهدين والأخباريين وبعد مراجعة الأدلّة والعمل بها لا يقطعُ بالخروج عن جميع تلك المحرّمات الواقعيّة ،

-------------------

وعلى كلّ حال : فحيث نعلم بوجود محرمات كثيرة ، يجب علينا ان نتركها جميعاً ، لوضوح : انّ التكليف كما يتنجّز بالعلم التفصلي كذلك يتنجّز بالعلم الاجمالي ، والخروج عن عهدة الترك يكون على وجهين :

الأول : ( على وجه ) يحصل معه ( اليقين بالاجتناب ) وذلك بأن نترك كل ما يحتمل حرمته حتى نتيقن بأنا اجتنبنا عن تلك المحرمات .

الثاني : ( أو ) تكون على وجه يحصل معه ( اليقين بعدم العقاب ) وذلك بان نرتكب فقط ما قام الدليل المعتبر على حليته : كراهة ، أو استحباباً ، أو اباحة ، فان الكل حلال ، فاذا علمنا بالدليل المعتبر قطعنا بعدم العقاب فيما ارتكبناه .

هذا وانّما نحتاج الى اليقين بالاجتناب ، أو اليقين بعدم العقاب ( لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البرائة اليقينية ) فانّه اذا علم الانسان بأنه كُلِّف لا يكون له مخرج عن ذلك التكليف الاّ اذا علم بالبرائة يقيناً أو قام عنده دليل معتبر ولو لم يتيقن بمضمونه ، وذلك ( باتفاق المجتهدين والأخباريين ) جميعاً ، قوله : « باتفاق » ، متعلق بقوله « الاشتغال اليقيني يستدعي البرائة اليقينية » .

( و ) من الواضح : انّه ( بعد مراجعة الأدلة ) الشرعية والاطلاع على جملة من المحرمات ( والعمل بها ) أي : بترك تلك المحرمات المقطوعة ( لا يقطع بالخروج عن جميع تلك المحرمات الواقعية ) لأنا نحتمل انّ المحرمات - مثلاً - مائة والذي ظفرنا عليها تسعون ، فكيف نقطع بالخروج عن جميع تلك المحرمات ؟ .

ص: 205

فلابد من اجتناب كلّ ما يحتمل أن يكون منها إذا لم يكن هناك دليل شرعيّ على حلّيّته ، إذ مع هذا الدليل نقطع بعدم العقاب على تقدير حرمته واقعا .

فان قلت : بعد مراجعة الأدلّة يعلمُ تفصيلاً بحرمة امور كثيرة ولا يعلمُ إجمالاً بوجود ما عداها فالاشتغال بما عدا المعلوم بالتفصيل غير متيقّن ، حتّى يجب الاحتياط . وبعبارة أُخرى : العلم الاجماليّ قبل الرجوع إلى الأدلّة ، وأمّا بعده فليس هنا علم إجماليّ .

-------------------

وحينئذٍ: ( فلابدّ من ) الاحتياط ب- ( اجتناب كل ما يحتمل أن يكون منها ) أي : من تلك المحرمات ( اذا لم يكن هناك دليل شرعيّ على حليته ) أمّا اذا قام دليل شرعيّ على حليته فلا يلزم الاجتناب عنه ( اذ مع هذا الدليل ) الشرعيّ القائم على حليته ( نقطع بعدم العقاب على تقدير حرمته واقعاً ) فيثبت بهذا مراد الأخباريين القائلين : بلزوم إجتناب محتمل التحريم في الشبهة الحكمية .

( فان قلت ) : اذا علمنا بوجود محرمات واطلعنا على مائة محرم - مثلاً - فمن أين لنا انّ المحرمات التي نحن مكلفون بها أكثر من تلك المائة ؟ فلا اشتغال يقيني بالأكثر حتى يلزم البرائة اليقينية عن ذلك الأكثر ، فانه ( بعد مراجعة الأدلة يعلم تفصيلاً بحرمة اُمور كثيرة ) مثلاً : مائة محرّم ( ولا يعلم اجمالاً بوجود ما عداها ) أي : ما عدا هذه المائة ( فالاشتغال بما عدا المعلوم بالتفصيل غير متيقن حتى يجب الاحتياط ) في الزائد على تلك المائة - مثلاً - .

( وبعبارة اُخرى : العلم الاجمالي ) إنّما هو ( قبل الرجوع الى الأدلة ) التي حصلنا بسبب تلك الأدلة على مائة محرم ( وأما بعده ) أي : بعد الرجوع الى الأدلة ( فليس هنا علم اجماليّ ) بالأكثر من ذلك الذي علمناه من المائة في المثال ، لانحلال العلم الاجمالي الى علم تفصيلي بالنسبة الى المائة ، وشك بدوي بالنسبة

ص: 206

قلت : إن اُريدَ من الأدلّة ما يوجب العلم بالحكم الواقعيّ الأوّلي ، فكلّ مراجع في « الفقه » يعلمُ أنّ ذلك غير ميسر ، لأنّ سند الأخبار لو فرض قطعيّا لكن دلالتها ظنيّة ،

-------------------

الى الزائد ، فنجري في الزائد البرائة ، فلا يستقيم حينئذٍ دليلكم : من انّ الاشتغال اليقيني يحتاج الى البرائة اليقينية .

( قلت ) : اذا كنا نحصل على قدر المعلوم بالاجمال من الأدلة تم كلامكم ، لكنا لا نحصل على قدر المعلوم بالاجمال ، اذ الذي نحصل عليه انّما هو بسبب ظواهر الأدلة الظنيّة ، والأدلة الظنّية لا توجب انحلال العلم ، فهو مثل ان نعلم اّنا مكلفون باعطاء دينار لانسان اسمه عليّ ، ثم حصل الظنّ بأن ذلك الانسان هو علي بن الحسين ، فهل نعلم ان عليّ بن الحسين هو الدائن ؟ كلا ، وانّما نظنّ انّه هو الدائن .

وعليه : فالعلم الاجماليّ باقٍ على حاله ، ولم ينحل باعطاء الدينار لعليّ بن الحسين ، ويجب علينا ان نعمل بهذا الظن لقيام الدليل على وجوب العمل به ، لكن بالاضافة الى هذا المظنون يلزم علينا ان نجتنب كل محتمل الحرمة ، فهو مثل لزوم اعطاء كل عليّ دينارا حتى نتيقن ببرائة الذمة . وكيف كان : فانه ( ان اُريدَ من الأدلة ) التي بسببها ينحل العلم الاجمالي ( : ما يوجب العلم بالحكم الواقعي الأولي ) وبذلك ينحل العلم الاجمالي ؟ .

( ف- ) فيه : ان ( كلّ مُراجع في « الفقه » يعلم : ان ذلك غير ميسر ) لوضوح : ان الأدلة الظنية لا توجب العلم بالمحرمات ، بل الأدلة انّما توجب الظن بها على الأغلب ، فانّه وان كان الظن حجّة لكنّه ليس علماً ( لأن سند الأخبار لو فرض قطعياً ، لكن دلالتها ظنّية ) ومن المعلوم : انّه انّما يحصل العلم بسبب الأخبار

ص: 207

وإن اُريدَ منها ما يعمّ الدليل الظنّيَ المعتبر من الشارع فمراجعتها لا يوجب اليقين بالبراءة من ذلك التكليف المعلوم إجمالاً ، إذ ليس معنى اعتبار الدليل الظنّي إلاّ وجوب الأخذ بمضمونه ، فان كان تحريما صار ذلك كأنّه أحد المحرّمات ، وان كان تحليلاً كان اللازمُ منه عدَم العقاب على فعله وإن كان في الواقع من المحرّمات .

وهذا المعنى لا يوجبُ انحصار المحرّمات الواقعيّة في مضامين تلك الأدلّة حتّى يحصل العلمُ بالبراءة

-------------------

اذا كان قطعي السند ، وقطعي الدلالة ، وقطعي المضمون .

( وان اُريد منها ) أي : من الأدلة التي توجب انحلال العلم ( : ما يعمّ الدليل الظنيّ المعتبر من الشارع ) بأن يقال : ان الظنّ بالمحرمات يوجب انحلال العلم الاجمالي بها ؟ .

( ف- ) فيه : ان ( مراجعتها ) أي : مراجعة تلك الأدلة الظنية المعتبرة عند الشارع ( لايوجب ) انحلال العلم الاجمالي ب- ( اليقين بالبرائة من ذلك التكليف المعلوم اجمالاً ) وإنّما لا يوجب الانحلال ( اذ ليس معنى اعتبار الدليل الظنّي الاّ وجوب الأخذ بمضمونه ) والأخذ بمضمون الظنون لا يوجب علماً بالواقع حتى يطرد ذلك العلم الاجمالي بوجود المحرمات ( فان كان ) متعلق الظنّ ( تحريماً ، صار ذلك كأنّه أحد المحرّمات ، وان كان تحليلاً ، كان اللازم منه عدم العقاب على فعله ، وان كان في الواقع من المحرمات ) .

وبالنتيجة : لا يحصل العلم بمتعلق الظن حتى يسبب هذا العلم انحلال العلم الاجماليّ ( و ) ذلك لأنّ ( هذا المعنى ) الذي ذكرناه في الظن المعتبر ( لا يوجب انحصار المحرّمات الواقعية من مضامين تلك الأدلة حتى يحصل العلم بالبرائة )

ص: 208

بموافقتها ، بل ولا يحصل الظنّ بالبراءة عن جميع المحرّمات المعلومة إجمالاً .

وليس الظنّ التفصيليّ بحرمة جملة من الأفعال كالعلم التفصيليّ بها ، لأنّ العلمَ التفصيليّ بنفسه منافٍ لذلك العلم الاجماليّ والظنَّ غير منافٍ له ، لا بنفسه

-------------------

عن التكاليف الواقعية علماً بالبرائة ( ب- ) سبب ( موافقتها ) لتلك الأدلة .

وعليه : فالظنّ بالمحرمات لا يوجب انحلال العلم الاجمالي بوجود المحرمات الواقعية ( بل ولا يحصل الظنّ بالبرائة عن جميع المحرمات ) الواقعية التي نعلم بانها اجمالاً مائة - مثلاً - لأنا نحتمل وجود محرمات أزيد من المائة .

ومن المعلوم : ان الظنّ لا يطرد الاحتمال ، فاذا وجدت المائة في مؤيات الأمارات المظنونة لا يظن بالبرائة عن جميع المحرمات ، ( المعلومة إجمالاً ) كما لا يظن بالبرائة عن المحرمات المحتملة الأُخر .

( و ) ان قلت : أليس الظن المعتبر كالعلم ، فاذا كان كالعلم كان حال الظن المعتبر حال العلم في انحلال العلم الاجمالي بالمحرمات ؟ .

قلت : ( ليس الظن التفصيلي بحرمة جملة من الأفعال ) المحرمة وهي المائة - مثلاً - ( كالعلم التفصيلي بها ) أي : بتلك المائة من المحرمات ( لأن العلم التفصيلي بنفسه منافٍ لذلك العلم الاجمالي ) فانّ المحرمات المعلومة تفصيلاً عين المحرمات المعلومة اجمالاً ، بخلاف الظنّ بالمحرمات ، فانّ الظنّ بالمحرمات تفصيلاً ليس عين المحرمات المعلومة اجمالاً .

والحاصل : ان العلم يطرد العلم ، أما الظنّ فلا يطرد العلم ( و ) ذلك لأن ( الظن غير مناف له ) أي : لذلك المعلوم بالاجمال ( لا بنفسه ) لاحتمال أن يكون هناك

ص: 209

ولا بملاحظة اعتباره شرعا على الوجه المذكور .

نعم ، لو اعتبر الشارع هذه الأدلّة بحيث انقلب التكليف إلى العمل بمؤدّاها بحيث يكون هو المكلّف به كان ما عدا ما تضمّنته الأدلّة من محتملات التحريم خارجا عن المكلّف به ، فلا يجب الاحتياط فيها .

-------------------

محرمات في الواقع لم يصل الظن اليها ( ولا بملاحظة اعتباره شرعاً على الوجه المذكور ) .

والمراد بالوجه المذكور : ما ذكره قبل أسطر بقوله « ليس معنى اعتبار الدليل الظنيّ الاّ وجوب الأخذ بمضمونه ، فان كان تحريماً ، صار ذلك كأنه أحد المحرمات ، وان كان تحليلاً كان اللازم منه عدم العقاب على فعله ، وان كان في الواقع من المحرمات » ، وعلى هذا : فالظن ليس شأنه الاّ ذلك فلا يكون طارداً للعلم الاجمالي .

( نعم ، لو اعتبر الشارع هذه الادلة ) الظنية على نحو السببية لا الطريقية ، ومعنى السببية ما ذكره المصنّف بقوله : ( بحيث انقلب التكليف ) الواقعي ( الى العمل بمودّاها ) أي : بمودّى هذه الأدلة الظنية عند مخالفتها للواقع ( بحيث يكون هو المكلّف به ) بعد قيام الدليل ، وذلك بأن يسقط سائر الواقعيات عن كونها واقعيات عند عدم قيام الدليل عليها ( كان ما عدا ما تضمّنته الأدلة ) الظنية ( من محتملات التحريم ) حينئذٍ ( خارجاً عن المكلّف به ) بعد عدم قيام الدليل على تلك المحتملات التحريم .

وعليه : ( فلا يجب الاحتياط فيها ) أي : في تلك المحتملات التحريم ، وذلك لأنّ العلم الاجماليّ قد سقط بعد قيام الأدلة ، وبعد فرض كون الشارع لا يريد الواقعيات وانّما يريد هذه الأدلة فقط ، فانّ الشارع قد أثبت في الواقع

ص: 210

وبالجملة : فما نحن فيه بمنزلة قطيع غنم يعلم إجمالاً بوجود محرّمات فيها ، ثمّ قامت البيّنة على تحريم جملة منها وتحليل جملة ، وبقي الشكّ في جملة ثالثة ، لانّ مجرّد قيام البيّنة على تحريم البعض لا يوجب العلم ولا الظنّ بالبراءة من جميع المحرمّات .

نعم ، لو اعتبر الشارع البيّنة في المقام ، بمعنى أنّه أمر بتشخيص

-------------------

- مثلاً - حرمة الخمر ، والخنزير ، والميتة ، فاذا قام الدليل على حرمة الأولين فقط ، وقال الشارع : كلّما لم يقم عليه دليل ليس حراماً ، فان الميتة تسقط عن الحرمة واقعاً ، وحينئذٍ : يكون الدليل الظني المعتبر سبباً لانحلال العلم الاجمالي ، لكن هذا تصويب لا نقول به .

( وبالجملة : فما نحن فيه ) من التكاليف التي يعلم الانسان بوجود حلال وحرام فيها ( بمنزلة قطيع غنم يعلم اجمالاً بوجود محرمات فيها ) لأنها موطوءات - مثلاً - ( ثم قامت البينة على تحريم جملة منها ) كالأغنام البيض ( وتحليل جملة ) كالأغنام السود ، ( وبقي الشك في جملة ثالثة ) كالأغنام الصفر .

وإنّما يبقى الشك في جملة ثالثة ( لأنّ مجرد قيام البينة على تحريم البعض لا يوجب العلم ، ولا الظن بالبرائة من جميع المحرمات ) فان تكاليف الشريعة لو كانت ألفاً - مثلاً - وعلمنا بأن مائة منها محرمة ، فاذا قام الخبر المعتبر على تحريم مائة خاصة من بين الألف ، لم يوجب ذلك انحلال العلم الاجمالي ، لاحتمال ان بعض هذا الخارج عن المائة محرم أيضاً ، لاشتباه الخبر في التعيين وان كان الخبر معتبراً اذ الخبر لا يوجب أكثر من الظن ، فلم ينحل العلم الاجمالي .

( نعم ، لو اعتبر الشارع البيّنة في المقام ) أي : قال الشارع : ان المحرمات الواقعية انحصرت في مؤّيات البينة ( بمعنى : انّه ) أي : الشارع ( أمر بتشخيص

ص: 211

المحرّمات المعلومة وجودا وعدما بهذا الطريق ، رجع التكليف إلى وجوب اجتناب ما قام عليه البيّنة ، لا الحرام الواقعيّ .

والجواب : أوّلاً :

-------------------

المحرّمات المعلومة ) بالعلم الاجمالي ( وجوداً وعدماً بهذا الطريق ) فيكون معنى جعل الشارع البينة حجّة : انّ مؤّيات البينة هو الواقع وما سوى مؤّياتها حلال وهو ما ذكرناه : من انهُ تصويب وباطل عندنا .

فاذا كان كذلك ( رجع التكليف الى وجوب اجتناب ما قام عليه البينة ، لا الحرام الواقعي ) فيكون الشارع حينئذٍ قد رفع يده عن الحرام الواقعي ، وجعل مؤى البينة محرماً فقط ، فاذا علمنا بمؤى البينة حصل لنا اليقين بالبرائة ، لأن ذلك يوجب العلم بأن المحرم هو مؤى البينات فقط وأما غير مؤّى البينات فليس محرّماً .

ولا يخفى : أن قولنا : « نعم » الى آخره ليس على طريق المخطئة بل على طريق المصوبة ، وهو مردود عندنا ،فيكون مردوديته دليلاً مؤداً للأخباريين القائلين بوجوب الاجتناب في الشبهة التحريمية وان قامت الأدلة على تحريم جملة من الاشياء .

( والجواب ) عن هذا الاشكال بما يلي :

( أولاً ) : ان الشارع حيث جعل الأحكام الواقعية وجعل الطرق للأداء اليها ، فهو يتصور على ثلاثة أقسام :

الأول : ان يريد الواقع فقط .

الثاني : ان يريد الطريق فقط .

الثالث : ان يريد الواقع الذي أدّى اليه الطريق .

ص: 212

منعُ تعلّق تكليف غير القادر على تحصيل العلم إلاّ بما أدّى إليه الطرق الغير العلميّة المنصوبة له ، فهو مكلّفٌ بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق ، لا بالواقع من حيث هو ، ولا مؤدى هذه الطرق من حيث هو حتّى يلزم التصويبُ أو ما يشبهه ،

-------------------

أمّا الاول : فهو لا يكون اذ التكليف غير الواصل عبث ، واما الثاني : فهو خلاف أدلة اشتراك الحكم بين العالم والجاهل ، فهو تصويب باطل ، فلا يبقى الاّ الثالث .

واذا قلنا بالثالث ، فالعلم الاجمالي بوجود محرمات في الواقع ينحل بقيام الطريق على جملة من المحرمات ، لانّا لا نعلم بعد قيام هذه الطرق على هذه الجملة ، هل بقي في الواقع شيء حرّمه الشارع ام لا ؟ .

والى هذه الاقسام اشار المصنِّف وقال ب- ( منع تعلق تكليف غير القادر ) أي : من لم يقدر ( على تحصيل العلم ) بالمحرمات الواقعية ( الاّ بما ادّى اليه الطرق غير العلمية المنصوبة له ) من قبل الشارع ( فهو ) أي : المكلّف العاجز عن الواقع ( مكلّف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق ) المنصوبة له .

( لا ) ان العاجز مكلّف ( بالواقع من حيث هو ) واقع ، سواء أدّى اليه الطريق أو لم يؤي اليه ، لما عرفت : من أنّ الواقع الذي لم يؤ اليه الطريق اذا كلف به الانسان كان عبثاً .

( ولا ) ان العاجز مكلف بحسب ( مؤى هذه الطرق من حيث هو ) وان لم يصادف الواقع ( حتى يلزم التصويب ) الذي يقول به العامّة ( أو مايشبهه ) أي : يشبه التصويب كقول الاشاعرة : بأن الأحكام الواقعية مختصة بالعالمين ولم تشرّع الاّ لهم ، والمعتزلة : بأن الحكم الواقعي مشترك بين العالم والجاهل ، الاّ أنّ الأمارة ان صادفت الواقع يكون الواقع منجّزاً على الجاهل كالعالم ، وان خالفت الأمارة

ص: 213

لأنّ ما ذكرناه هو المتحصل من ثبوت الأحكام الواقعيّة للعالم وغيره وثبوت التكليف بالعمل بالطرق ، وتوضيحه في محلّه . وحينئذٍ فلا يكون ما شكّ في تحريمه ممّا هو مكلّف به فعلاً على تقدير حرمته واقعا .

-------------------

الواقع ينقلب الحكم الواقعي الى المؤى ، وهذا الأخير هو مراد المصنِّف بقوله : « أو ما يشبهه » .

وانّما قلنا : انّ العاجز عن الواقع غير مكلف بالواقع - وهو القسم الاول ممّا يتصور من جعل الأحكام وجعل الطرق - ولا بمؤّى هذه الطرق من حيث هو - وهو القسم الثاني منه - ( لان ما ذكرناه ) من القسم الثالث وهو : ان الانسان مكلف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق ( هو المتحصّل من ثبوت الأحكام الواقعية للعالم وغيره ) لما دلت عليه الأدلة من اشتراك العالم والجاهل في الأحكام ، فيبطل التصويب بكلا قسميه .

( و ) هو المتحصّل أيضاً من ( ثبوت التكليف بالعمل بالطرق ) التي جعلها الشارع للتأدية الى تلك الأحكام الواقعية المشتركة بين العالم والجاهل ، المستلزم ذلك لجعل البدل ( وتوضيحه ) أي : توضيح هذا القسم الثالث تمّ ( في محله ) ومكانه .

( وحينئذٍ ) أي : حين كان الانسان مكلفاً بالواقع لكن من طريق الأدلة والأمارات لا بالواقع البحت ولا بالطريق البحت ( فلا يكون ما شك في تحريمه ممّا هو مكلّف به فعلاً على تقدير حرمته واقعاً ) أي : ليس الانسان مكلفاً بالواقع الذي لم يصل اليه .

وعليه : فتنحصر المحرّمات في مؤيات الطرق ، فيكون ما حصل عليه بسبب الظن من المحرمات موجباً لانحلال العلم الاجمالي بالمحرمات الواقعية ،

ص: 214

وثانيا ، سلّمنا التكليف الفعليّ بالمحرّمات الواقعيّة ، إلاّ أنّ من المقرّر في الشبهة المحصورة ، كما سيجيء إنشاء اللّه ، أنّه إذا ثبت في الشبهات المحصورة وجوبُ الاجتناب عن جملة منها لدليل آخر غير التكليف المتعلّق بالمعلوم الاجماليّ اقتصر في الاجتناب على ذلك القدر ،

-------------------

فلا يحتمل الحرمة بعد ذلك في غير مؤيات الطرق حتى يقول الأخباريون : يلزم الاجتناب عن كل محتمل الحرمة كشرب التتن تحصيلاً للبرائة اليقينية من العلم الاجمالي بوجود محرمات في الشريعية ، اذ بعد عدم احتمالنا لحرمة خارجة عن الذي ادّى اليه الطرق ينحل العلم الاجمالي المذكور .

هذا تمام الكلام في ان الظن التفصيلي بحرمة جملة من الاُمور ، هو كالعلم التفصيلي بها يوجب انحلال العلم الاجمالي .

( وثانياً : سلمنا ) ان الظن التفصيلي ليس كالعلم التفصيلي موجباً للانحلال ، وذلك لانا نقبل ( التكليف الفعلي بالمحرمات الواقعية ) حتى بعد جعل الأمارات والطرق ( الاّ أنّ ) هذا العلم الاجمالي بوجود محرمات في الشريعة غير مؤر .

وانّما يكون هذا العلم الاجمالي غير مؤر ، بل هو كالجهل رأساً في انّه لا يوجب احتياطاً ، لأنّ (من المقرر في الشبهة المحصورة كما سيجيء انشاء اللّه) تعالى ( انّه اذا ثبت في الشبهات المحصورة وجوب الاجتناب عن جملة منها لدليل آخر غير التكليف المتعلق بالمعلوم الاجمالي اقتصر في الاجتناب على ذلك القدر ) .

مثلا : اذا كان هناك اناءان أحدهما نجس وهو الاناء الأحمر ، والآخر طاهر وهو الاناء الأبيض ، ثم وقعت قطرة نجس في أحدهما ، فانّه لا يوجب الحكم بنجاسة الأبيض اذ لم نعلم بانّ هذه القطرة احدثت لنا تكليفاً جديداً ، وذلك لاحتمال

ص: 215

لاحتمال كون المعلوم الاجماليّ هو هذا المقدار المعلوم حرمته تفصيلاً ، فأصالةُ الحلّ في البعض الآخر غير معارَضَةٌ بالمثل ،

-------------------

أن تكون تلك القطرة وقعت في الاناء الأحمر النجس سابقاً ، والعلم الاجمالي إنّما يوجب الاجتناب عن جميع اطرافه فيما اذا علمنا انّه أحدث تكليفاً جديداً .

والى ذلك أشار المصنِّف بقوله : ( لاحتمال كون المعلوم الاجمالي هو هذا المقدار المعلوم حرمته تفصيلاً ) بأن ينطبق الحرام الجديد وهو النجاسة بسبب وقوع قطرة نجسة على ذلك الذي علمنا انّه نجس سابقاً .

وعليه : ( فاصالة الحلّ في البعض الآخر ) وهو الاناء الأبيض في المثال ( غير معارَضَةٌ بالمثل ) فان العلم الاجمالي انّما يؤر اذا تعارض اصلان ، أصلٌ في هذا الطرف ، وأصل في ذاك الطرف ، كما اذا كان هناك اناءان كلاهما طاهر ، ثم وقعت قطرة نجس في أحدهما ، فان أصل الطهارة في الاناء الأبيض معارض بأصل الطهارة في الاناء الأحمر ، فيتساقط الأصلان ويلزم الاجتناب عن كلا الانائين تحصيلاً للعلم الاجمالي .

ولكن ليس كذلك اذا علم بنجاسة الاناء الأحمر سابقاً قبل أن تقع القطرة في أحدهما ، لأن أصل الطهارة في الاناء الابيض لا يعارض بأصل الطهارة في الاناء الأحمر ، لأنّا نعلم ان الاناء الأحمر نجس فكيف يجري فيه أصل الطهارة ؟ .

هذا فيما اذا كان العلم بنجاسة الاناء الأحمر قبل ان تقطر القطرة ، وكذا اذا كان الاناءان طاهرين فقطرت في أحدهما قطرة لم نعلم انها قطرت في أي منهما ، لكن قامت البينة على انها قطرت في الاناء الأحمر ، فانّ قيام البينة يوجب انحلال العلم الاجمالي والحكم بطهارة الاناء الأبيض .

ص: 216

سواء كان ذلك الدليلُ سابقا على العلم الاجماليّ ، كما إذا علم نجاسة أحد الانائين تفصيلاً ، فوقع قذرة في أحدهما المجهول ، فانّه لا يجب الاجتناب عن الآخر ، لأن حرمة أحدهما معلومة تفصيلاً ، ام كان لاحقا ، كما في مثال الغنم المذكور ، فانّ العلم الاجماليّ غير ثابت بعد العلم التفصيليّ بحرمة بعضها بواسطة وجوب العمل بالبيّنة ، وسيجيء توضيحه إنشاء اللّه تعالى ، وما نحن فيه من هذا القبيل .

-------------------

ولهذا وصف المصنّف عدم التعارض بالمثل بقوله ( سواء كان ذلك الدليل ) الآخر الموجب لاجتناب بعض أطراف العلم الاجمالي ( سابقاً على العلم الاجمالي ، كما اذا علم ) أولاً ( نجاسة أحد الانائين تفصيلاً ) كنجاسة الاناء الأحمر في مثالنا ( فوقع ) بعد ذلك ( قذرة في أحدهما المجهول ، فانّه ) أي : بوقوع هذا القذر في أحدهما المجهول ( لا يجب الاجتناب عن الآخر ) وهو الاناء الأبيض في مثالنا ، وذلك لاصالة الطهارة الجارية في الاناء الأبيض السلمية عن المعارض ، ( لأنّ حرمة أحدهما معلومة تفصيلاً ) فالعلم الاجمالي غير مؤر على ما عرفت .

( أم كان لاحقاً ، كما في مثال الغنم المذكور ) ومثال الانائين المذكورين ( فان العلم الاجمالي ) الموجود قبل قيام البينة على أن أحدهما نجس ( غير ثابت ) ولا مؤر ( بعد العلم التفصيلي بحرمة بعضها ) كالاناء الأحمر في المثال وذلك ( بواسطة وجوب العمل بالبينة ) الذي أقامها الشارع مقام العلم ( وسيجيء توضيحه انشاء اللّه تعالى ) فيما بعد .

( وما نحن فيه من هذا القبيل ) فانّ ماذكرناه كان على نحو الكبرى الكلية في باب العلم الاجمالي ، وحيث قد عرفت الكبرى نقول في انطباقها على ما نحن فيه من العلم الاجمالي بوجود محرمات في الشريعة ، ثم قيام الأمارة بتعيين تلك

ص: 217

الوجه الثاني :

انّ الأصل في الأفعال الغير الضروريّة الحظرُ . كما نسب إلى طائفة من الاماميّة ، فيعمل به حتى يثبت من الشرع الاباحة ،

-------------------

المحرمات : انّه كما ذكرناه في مثال : قطرة نجس قطرت في أحد الانائين ، ثم قامت البينة بنجاسة الاناء الأحمر حيث ينحلّ بها العلم الاجمالي .

وانّما قلنا : انّه كمثال القطرة لانّ العلم الاجمالي بحرمة جملة من الاُمور ثابت قبل مراجعة الأدلة ، وبأداء تلك الأدلة الى حرمة الامور المذكورة ينحل العلم الاجمالي في المحرمات بسبب قيام الأدلة عليها الكاشفة عن سبق المحرمات على العلم الاجمالي ، فتكون كالبينة القائمة على حرمة الاناء الأحمر الكاشفة عن سبق حرمة الاناء الأحمر على وقوع قطرة النجس في أحدهما .

( الوجه الثاني ) من الدليلين العقليين الذين أقامهما الأخباريون على وجوب الاجتناب في الشبهة التحريمية الحكمية : ( انّ الأصل ) أي : القاعدة العقلية ( في الأفعال غير الضرورية ) وقال : غير الضرورية ، لانّ الضرورية سواء كانت تكوينية كالكون في الحيز وكالتنفس ، ام عقلية كالأكل وكالشرب الضروريين حكمها الجواز ، اما غير الضرورية فحكها عند الاخباريين : ( الحظر ) أي : المنع ، لأنّ العقل يرى ان الكون ملك للغير فلا يجوز التصرّف فيه الاّ باذن مالكه .

( كما نسب ) هذا القول بالحظر ( الى طائفة من الإماميّة ) أيضاً ، وقد ذهب اليه جماعة من غير الإماميّة أيضاً .

وعليه : ( فيعمل به ) أي : بهذا الأصل ( حتى يثبت من الشرع الاباحة )

ص: 218

ولم يرد الاباحة فيما لا نصّ فيه . وما ورد على تقدير تسليم دلالته ، مُعارَضٌ بما ورد من الأمر بالتوقف والاحتياط ، فالمرجع إلى الأصل .

-------------------

في الموارد الخاصة من قبيل قوله تعالى : « أحَلَّ اللّهُ البَيعَ » (1) .

وقوله تعالى : « وَاُحِلَّ لَكُم ما وَراءَ ذلِكُم » (2) .

الى غير ذلك من الأدلة الكلية أو الأدلة الجزئية الدالة على الاباحة فالأدلة الجزئية مثل حلية البيع ، والأدلة الكلية مثل : ما دلّ على البرائة في الشبهة الموضوعية تحريمية أو وجوبية ، وما دل على البرائة في الشبهة الحكمية الوجوبية ، وفي غيرها ممّا لا دليل على البرائة فيه ، يكون التصرّف فيه من التصرف في ملك الغير ، فشرب التتن - مثلاً - تصرف في ملك الغير ويحتمل فيه العقاب الاُخروي ما لم يرد نص باباحته ( ولم يرد الاباحة فيما لا نص فيه ) من الشبهة الحكمية التحريمية - كشرب التتن في المثال - حتى يجوز ارتكابه ، فيبقى تحت الأصل .

( وما ورد ) من أدلة البرائة والاباحة الشاملة للشبهة الحكمية التحريمية ، ففيها ما يلي :

أولاً : لا نسلم دلالة تلك الأدلة على البرائة .

ثانياً : ( على تقدير تسليم دلالته ، معارضٌ بما ورد من الأمر بالتوقف والاحتياط ) فيتساقطان ونبقى بلا دليل شرعي خاص على الاباحة ولا على الحظر ( فالمرجع ) حينئذٍ يكون ( الى الأصل ) الذي ذكرناه وهو : الحظر .

ص: 219


1- - سورة البقرة : الآية 275 .
2- - سورة النساء : الآية 24 .

ولو نزلنا عن ذلك فالوقفُ ، كما عليه الشيخان ، واحتجّ عليه في العدّة بأنّ الاقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالاقدام على ما يعلم المفسدة فيه .

وقد جزم بهذه القضيّة السيّد أبو المكارم في الغنية ، وإن قال بأصالة

-------------------

ثالثاً : ( ولو نزلنا عن ذلك ) ولم نقل انّ الأصل في الأشياء الحظر ( ف- ) اللازم ان نقول : ب- ( الوقف ) أي : التوقف ( كما عليه ) أي : على الوقف ( الشيخان ) والمراد بهما : الشيخ المفيد والشيخ الطوسي .

ومن المعلوم : ان نتيجة الوقف هو نتيجة الحظر في العمل ، وانّما الفارق بينهما : انّ الأول يقول شرب التتن حرام ، والثاني يقول : شرب التتن لا اعلم انّه حرام أو حلال ، لكن اللازم ان لا نشربه .

( واحتج عليه ) أي : على الحظر الشيخ ( في العدة بأنّ الاقدام على ما لا يؤن المفسدة فيه كالاقدام على ما يعلم المفسدة فيه ) فانّ العقل يرى وجوب الاجتناب عن شيئين :

الأول: الاجتناب عمّا يقطع فيه المفسدة، كالطريق الذي يعلم بأنّ فيه اسداً - مثلاً - .

الثاني : الاجتناب عمّا لا يأمن وجود المفسدة فيه كالطريق الذي لا يعلم هل فيه أسد أو ليس فيه أسد؟ فاذا لم يأمن عدم وجود المفسدة فيه يرى العقل الاجتناب عنه.

( وقد جزم بهذه القضية ) أي : قضية كون الاقدام على محتمل المفسدة ، كالاقدام على مقطوع المفسدة ( السيد أبو المكارم في الغنية ) فانّه متفق مع شيخ الطائفة على هذه القضية أولاً وبالذات ( وان قال بأصالة

ص: 220

الاباحة ، كالسيّد المرتضى ، تعويلاً على قاعدة اللطف وأنّه لو كان في الفعل مفسدةٌ لوجب على الحكيم بيانُه ، لكن ردّها في العدّة بأنّه قد يكون المفسدة في الاعلام ويكون المصلحة في كون الفعل على الوقف .

والجواب : بعد تسليم استقلال العقل بدفع الضرر ،

-------------------

الاباحة ، كالسيد المرتضى ) القائل باصالة الاباحة ثانياً وبالعرض .

وانّما قال بأصالة الاباحة ( تعويلاً على قاعدة اللطف ) فقاعدة اللطف عندهما مخرجة عن أصالة الحظر ، التي يقولان بها أولاً وبالذات ( و ) المراد بقاعدة اللطف : ( انّه لو كان في الفعل مفسدة لوجب على الحكيم بيانه ) فلما لم يبيّن ، دلّ ذلك على عدم وجود المفسدة في الفعل .

( لكن ردها ) أي : رد الشيخ قاعدة اللطف المذكورة هنا ( في العدة بأنّه قد يكون المفسدة في الاعلام ، ويكون المصلحة في كون الفعل على الوقف ) أي : ان الشارع لا يبيّن لأن في بيانه مفسدة ، فعدم البيان انّما هو لوجود المفسدة في البيان ، لا لعدم المفسدة في الشيء ، فلا يدل عدم البيان على عدم المفسدة .

مثلا : الظالم يريد قتل زيد وفي سفر زيد مفسدة : هي خسارة الف دينار ، لكن المولى لا يقول له : لا تسافر ، لأنه اذا قال له : لا تسافر ، علم الظالم وجود زيد في البلد فيأتي ليلاً ويقتله ، ولذا لا يبين المولى لزوم عدم سفره ، فعدم بيان المولى بوجود المفسدة في السفر لا يكون معناه : انّه لا مفسدة في السفر .

( والجواب : ) أولاً : انّا لا نسلم الحظر ، فانّ العقل يدل على ان المولى في غاية الكرم ، فلا مانع عنده من التصرّف في الكون تصرفاً غير ضار بأحد ، فاذا ثبت عدم تضرر أحد في التصرّف ثبتت الاباحة العقلية .

ثانياً : انا نقول : ( بعد تسليم استقلال العقل بدفع الضرر ) المحتمل بمعنى :

ص: 221

أنّه إن اُريد ما يتعلقُ بأمر الآخرة من العقاب فيجبُ على الحكيم تعالى بيانُه ، فهو مع عدم البيان مأمونٌ ، وإن اريد غيره ممّا لا يدخل في عنوان المؤاخذة من اللوازم المترتبة مع الجهل أيضا ، فوجوبُ دفعها غيرُ لازم عقلاً ، إذ العقلُ لا يحكمُ بوجوب الاحتراز عن الضرر الدنيويّ المقطوع إذا كان لبعض الدواعي النفسانيّة ،

-------------------

ان العقل يرى وجوب دفع الضرر المحتمل كما يرى وجوب دفع الضرر المقطوع به ، ولعل قول المصنِّف بعد التسليم : انّما اراد أن يشير الى ان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ليست كلية ؛ وذلك لما نرى من اقدام العقلاء على الاضرار حتى الكثير منها .

ثمّ بعد التسليم نقول : ( انّه ان اُريد ) بالضرر المحتمل : الواجب الدفع وهو : ( ما يتعلق بأمر الآخرة من العقاب ) بأن احتمل بأنّ في شرب التتن - مثلاً - عذاباً في الآخرة ، ( فيجب على الحكيم تعالى بيانه ) لقبح العقاب بلا بيان عقلاً وشرعا - على ما تقدّم - ( فهو ) أي ، العقاب ( مع عدم البيان مأمونٌ ) فلا احتمال للضرر الاُخروي ( وان اريد غيره ) أي : غير العقاب الاخروي من الضرر المحتمل بان كان ( ممّا لا يدخل في عنوان المؤخذة ) الاُخروية بل كان ( من اللوازم المترتبة ) على المحرمات الواقعية حتى ( مع الجهل أيضاً ) مثل المرض المترتب على شرب الخمر وما أشبه ذلك ( فوجوب دفعها غير لازم عقلاً ) فانّ القاعدة العقلية القائلة بوجوب دفع الضرر المحتمل لا تجري في كل مكان ( اذ العقل لا يحكم بوجوب الاحتراز عن الضرر الدنيوي المقطوع ) به ( اذا كان لبعض الدواعي النفسانية ) والتراجيح العقلائية .

مثلاً : تراهم يركبون البحار مع احتمال الغرق ، لكون ذلك عندهم أهم ، بأن كان

ص: 222

وقد جوّز الشارع بل أمر به في بعض الموارد .

وعلى تقدير الاستقلال فليس ممّا يترتب عليه العقاب ، لكونه من باب الشبهة الموضوعيّة ،

-------------------

لأجل التجارة المربحة ، أو لأجل السياحة المفرحة ، أو ما أشبه ذلك ، وهذا بالنسبة الى الاضرار الكثيرة الدنيوية ، فكيف بالأضرار القليلة ؟ ولهذا ترى البعض يمشون في الشمس وان كان يوجب صداع رأسهم ، ويمشون حفاة وان كان يوجب ذلك جرح أرجلهم ، الى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة .

( وقد جوّز الشارع ، بل أمر به في بعض الموارد ) فانّ الشارع أمر بكثير مما فيه الضرر ، وذلك من باب الأهم والمهم ، أو ما أشبه ، فقد أمر بالخمس ، والزكاة ، والجهاد ، والقصاص ، والحدود ، والالتزام بالقوانين التي فيها ضرر مالي على الانسان ، مثل نفقة الزوجة والأقرباء ، الى غير ذلك ، والعقل أيضاً يؤده .

( وعلى تقدير الاستقلال ) بأن سلمنا : ان العقل يرى وجوب دفع الضرر المحتمل ( ف- ) نقول : ( ليس ) هذا الحكم العقليّ ( ممّا يترتب عليه العقاب ) في صورة الشك في الضرر ( لكونه من باب الشبهة الموضوعية ) فان في شرب التتن - مثلاً - جهتان :

الجهة الاُولى : احتمال التحريم وهذه شبهة حكمية ، اختلف فيها الأخباريون والاُصوليون ، فالأخباريون على الاحتياط ، والاُصوليون على البرائة .

الجهة الثانية : احتمال الضرر الدنيوي المستلزم لاحتمال الحرمة ، كاحتمال أن يكون ضاراً بصحة الانسان ، أو ضاراً بماله ، أو ما أشبه ذلك ، واحتمال الضرر

ص: 223

لأنّ المحرّم هو مفهوم الاضرار ، وصدقه في هذا المقام مشكوك ، كصدق المسكر المعلوم التحريم على هذا المايع الخاصّ ، والشبهة الموضوعيّة لا يجب الاجتناب عنها باتفاق الأخباريّين أيضا ، وسيجيء تتمة الكلام في الشبهة الموضوعيّة إنشاء اللّه تعالى .

-------------------

الدنيوي شبهة موضوعية تحريمية ، وقد تقدّم : ان الشبهة الموضوعية يتفق فيها الأخباريون والاُصوليون على عدم وجوب الاجتناب .

وإنّما لا يترتب عليه العقاب ( لأن المحرّم ) عقلاً ( هو مفهوم الاضرار ، وصدقه) أي : صدق مفهوم الاضرار ( في هذا المقام ) أي : في الأعمال المحتملة الضرر مثل شرب التتن ( مشكوك ) فيه ( ك- ) الشك في ( صدق المسكر المعلوم التحريم على هذا المايع الخاص ) .

وعليه : فان الاُصوليين والأخباريين وان اتفقوا على تحريم شرب المسكر ، الاّ انّه اذا شك في أن هذا المائع الخاص في هذا الاناء الخاص هل هو مسكر أم ليس بمسكر من باب الشبهة الموضوعية ؟ فلا يقول أحد من الأخباريين والاُصوليين بوجوب الاجتناب عنه ، لأنه شبهة موضوعية ( والشبهة الموضوعية لا يجب الاجتناب عنها باتفاق الأخباريين أيضاً ) أي : كالاصوليين .

( وسيجيء تتمة الكلام في الشبهة الموضوعية انشاء اللّه تعالى ) كما وقد ظهر : انّ الدليل الثاني للعقل كالدليل العقليّ الأول للأخباريين لا يقوم أيضاً بالدلالة على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية .

ص: 224

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل :

المحكيَّ عن المحقق التفصيلُ في اعتبار أصل البراءة بين ما يعمّ به البلوى وغيره ، فيعتبر في الأوّل دون الثاني . ولا بدّ من حكاية كلامه قدس سره ، في المعتبر والمعارج حتّى يتضح حال النسبة .

-------------------

هذا ( وينبغي التنبيه على اُمور ) :

الأمر ( الأول ) : قد تقدّم الكلام : بانّ في الشبهة الحكمية التحريمية

قولان :

الأول : البرائة وهو مقالة الاُصوليين .

الثاني : الاحتياط وهو مقالة الأخباريين .

وهناك قول ثالث نسبه بعض الى المحقق ، وهو التفصيل بين ما يعم به البلوى ، فلا يلزم فيه الاحتياط ، بل يجري فيه البرائة كما يقول به الاُصوليون ، وبين ما لا يعم به البلوى ، فيلزم فيه الاحتياط كما يقول به الأخباريون ، والمصنّف أراد بيان بطلان نسبة هذا القول الى المحقق فقال : ( المحكيّ عن المحقق ) صاحب الشرائع ( : التفصيل في اعتبار أصل البرائة بين ما يعم به البلوى ) أي : يبتلي الانسان به كثيراً ( وغيره ) أ ي : ما لا يبتلي الانسان به كثيراً (فيعتبر) أصل البرائة ( في الأوّل ) وهو ما يعم به البلوى ( دون الثاني ) وهو ما لا يعلم به البلوى .

ثم قال : ( ولابد من حكاية كلامه قدس سره في المعتبر والمعارج حتى يتضح حال النسبة ) وانها نسبة غير صحيحة ، فان المحقق قائل بالبرائة مطلقاً كسائر

ص: 225

قال في المعتبر : « الثالثُ ، يعني من أدلّة العقل ، الاستصحابُ ، وأقسامه ثلاثة :

الأوّلُ : استصحابُ حال العقل ، وهو التمسّك بالبراءة الأصليّة كما يقال : الوتر ليس واجبا ،

-------------------

الاُصوليين وذلك لأنه ( قال في المعتبر : الثالث : يعني : من أدلة العقل ، الاستصحاب ) .

أقول : ذكر المحقق ان مستند الأحكام خمسة : الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، ودليل العقل والاستصحاب ، ثمّ اعتبر الكتاب أولاً ، والسنة ثانياً ، وألحق الاجماع بالسنة ، حيث قال : « وأما الاجماع فعندنا هو حجّة بانضمام المعصوم ، فلو خلا المائة من فقهائنا عن قوله عليه السلام لما كان حجّة ولو حصل في اثنين لكان قولهما حجّة لا باعتبار اتفاقهما ، بل باعتبار قوله عليه السلام ، انتهى ، ثم اعتبر دليل العقل ثالثا ، ثم ذكر الاستصحاب وألحقه تارةً بالشرع الذي هو داخل في الكتاب والسنة ، وتارة بالعقل .

فتحصّل : ان الأدلة عند المحقق ثلاثة فقط ، وكأنّ المصنِّف بهذا الاعتبار قال ما قاله ، فلا يستشكل عليه ، بأنّ المحقق جعل مدرك الأحكام خمسة ، فلماذا قال المصنِّف بأنه جعله ثلاثة ؟ وكيف كان : فقد ذكر المحقق الاستصحاب ( و ) جعل ( اقسامه ثلاثة ) على النحو التالي :

( الأول : استصحاب حال العقل ) بأن كان في السابق قد حكم العقل بشيء فنستصحبه ( وهو التمسك بالبرائة الأصلية ) أي : البرائة قبل الشرع ، أو البرائة حال الصغر والجنون ونحوهما ، وذلك ( كما يقال ) عندما نشك في التكليف ( : الوتر ليس واجباً ) علينا ، فيما اذا شك في أن صلاة الوتر هل تجب علينا

ص: 226

لأنّ الأصل براءة الذمّة ، ومنه أنَ يختلف العلماء في حكم الدية المردّدة بين الأقل والأكثر ، كما في دية عين الدابّة المتردّدة بين النصف والربع - إلى أن قال :

الثاني : أن يقال : عدم الدليل على كذا فيجب انتفائه . وهذا يصحّ فيما يعلم أنّه لو كان هنا دليل لظفر به ، أمّا لا مع ذلك

-------------------

كما كانت تجب على النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ؟ .

فنقول : انّها لا تجب علينا ووجوبها على النبيّ إنّما كان من اختصاصاته صلى اللّه عليه و آله وسلم وذلك ( لأن الأصل ) أي : السابق على الشرع ( برائة الذمة ) من الوتر ، فنستصحب تلك البرائة .

( ومنه ) أي : من استصحاب حال العقل : ما لو تردّد المكلّف بين الأقل والأكثر ، فانّ الأقل واجب قطعاً ، أما الزائد على الأقل فيشك في وجوبه ، فيقال : البرائة كانت اولاً ، فنستصحب البرائة ، مثل ( أن يختلف العلماء في حكم الدية المردّدة بين الأقل والأكثر ، كما في دية عين الدابة المترددة ) تلك الدية ( بين النصف ) أي : نصف قيمة الدابة كما قال به بعض ( والربع ) الذي قال به البعض الآخر ، ( الى أن قال ) المحقق :

( الثاني ) من الأقسام الثلاثة للاستصحاب هو : استصحاب حال العقل أيضاً ، وذلك ب- ( أن يقال : عدم الدليل على كذا ) مثلاً : عدم الدليل على حرمة شرب التتن ( فيجب انتفائه ) فلا يكون حراماً .

( وهذا ) أي : كون عدم الدليل دليل على العدم انّما ( يصحّ فيما ) يعم به البلوى بحيث ( يعلم انّه لو كان هنا ) ك ( دليل لظفر به ) عادة ( اما لا مع ذلك ) أي :

ص: 227

فيجب التوقف ، ولا يكون ذلك الاستدلال حجّة ، ومنه القول بالاباحة ، لعدم دليل الوجوب والحظر .

الثالث : استصحاب حال الشرع ،

-------------------

لا مع عموم الابتلاء ، كما اذا شذّ الابتلاء به ( فيجب التوقف ، و ) لكن ( لا يكون ذلك الاستدلال ) بعدم الدليل ( حجة ) فيه حتى يصحّ الاستناد اليه .

( ومنه ) أي : من هذا القسم الثاني من الاستصحاب ( : القول بالاباحة ) عند الشك في التكليف ، سواء كان شكاً في الشبهة الوجوبية أو الشبهة التحريمية ( لعدم دليل الوجوب والحظر ) فيقال : انّه لا دليل على وجوب الدعاء عند رؤة الهلال فهو مباح ، ولا دليل على حرمة شرب التتن فهو مباح ايضاً .

ومن هذا الكلام يظهر : انّ المحقق لا يفصّل في البرائة بين ما يعم به البلوى وما لا يعم به البلوى ، وانّما يفصل في قاعدة عدم الدليل ، وان عدم الدليل انّما يكون حجّة فيما يعم به البلوى ، وليس حجّة فيما لا يعم به البلوى ، فلا يتمسك بهذا الدليل لأجل البرائة فيما لا يعم به البلوى بل يتمسك بأدلة اُخرى للبرائة فيه ، وعلى أي حال : فهو كسائر الاُصوليين قائل بالبرائة مطلقاً .

ثم قال المحقق في بيانه لأقسام الاستصحاب : ( الثالث : استصحاب حال الشرع ) بأن يكون هناك شيء مشروع في الزمان الأوّل ، ثمّ لا نعلم هل انّه في الزمان الثاني باقٍ أم لا ؟ فنستصحب ذلك ، كما اذا كان في الصباح متطهراً ، ثم شك في انّه هل أحدث أم لا ؟ حيث يستصحب الطهارة ، أو تعلم المرأة بانّها كانت في الصباح حائضاً ، ثم لا تعلم هل الحيض مستمر أم لا ؟ فانها تستصحب الحيض ،

ص: 228

فاختار أنّه ليس بحجة » ، انتهى موضع الحاجة من كلامه قدس سره .

وذكر في المعارج ، على ما حكي عنه : « أنّ الأصل خلوّ الذمّة عن الشواغل الشرعيّة ، فاذا ادّعى مدّع حكما شرعيّا جاز لخصمه أن يتمسّك بالبراءة الأصليّة ، فيقول : لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان عليه دلالةٌ شرعيّة ، لكن ليس كذلك ، فيجب نفيه ، وهذا الدليل لا يتمّ

-------------------

وهكذا ( فاختار انّه ليس بحجة ) (1) وسيأتي الكلام حول مذهب المحقق بالنسبة الى الاستصحاب في موضعه انشاء اللّه تعالى .

( انتهى موضع الحاجة من كلامه قدس سره ) وقد عرفت : انّه لا يفصّل بين أقسام الشبهة الحكمية التحريمية ، وانّما يجري في الكل البرائة .

هذا ( وذكر في المعارج ، على ما حكي عنه : ان الأصل ) أي : القاعدة ( خلوّ الذمة عن الشواغل الشرعية ) أي : الذمة لا تكون مشغولة بواجب أو محرَّم شرعيّ بدون العلم أ و الدليل على ذلك .

وعليه : ( فاذا ادّعى مدّع حكماً شرعيّاً ) بأن قال - مثلاً - التتن حرام ، أو قال الدعاء عند رؤة الهلال واجب ( جاز لخصمه ) الذي لا يقول بمقالته ( أن يتمسك بالبرائة الأصلية ، فيقول ) التتن ليس بحرام ، والدعاء عند رؤة الهلال ليس بواجب بدليل انّه ( لو كان ذلك الحكم ثابتاً لكان عليه دلالة شرعية ، لكن ليس كذلك ) أي : ليس هناك دليل على هذا الحكم التحريمي في التتن ، والوجوبي في الدعاء ( فيجب نفيه ) والبرائة منه .

( و ) لكن ( هذا الدليل ) أي : جعل عدم الدليل دليلاً على العدم ( لا يتم

ص: 229


1- - المعتبر : ص6 .

إلاّ ببيان مقدّمتين :

إحديهما : أنّه لا دلالة عليه شرعا بأن ينضبط طرق الاستدلالات الشرعيّة وتبيّن عدم دلالتها عليه .

والثانية : أن يبيّن أنّه لو كان هذا الحكم ثابتا لكان عليه إحدى تلك الدلائل ، لأنّه لو لم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ، وهو تكليف بما لا يطاق ، ولو كانت عليه دلالة غير تلك الأدلّة لما كانت الدلالات منحصرة فيها ،

-------------------

الاّ ببيان مقدمتين ) على النحو التالي :

( احديهما : انّه لا دلالة عليه شرعاً ) ويكون ذلك ( بأن ينضبط طرق الاستدلالات الشرعية ) وينحصر في الكتاب والسنة والاجماع والعقل - مثلاً - ( وتبيّن عدم دلالتها ) أي : تلك الادلة ( عليه ) أي : على حرمة التتن - مثلاً - وحينئذٍ يكون عدم الدليل دليلاً على العدم ، فهو مثل أن يكون للمدرسة غرف أربع بلا وجود مرفق آخر للمدرسة ، فاذا لم يجد الانسان زيداً في تلك الغرف دل ذلك على عدم وجوده في المدرسة أصلاً .

( والثانية : أن يُبيّن انّه لو كان هذا الحكم ثابتاً لكان عليه احدى تلك الدلائل ، لأنه لو لم يكن عليه دلالة ) ولم يبين الشارع حرمة للتتن ، ولا وجوباً للدعاء ، لاببيان خاص ولا ببيان عام ( لزم التكليف ) من الشارع ( بما لا طريق للمكلّف الى العلم به ، وهو تكليف بما لا يطاق ) والتكليف بما لا يطاق لا يصدر من الحكيم قطعاً .

هذا ( ولو كانت عليه دلالة غير تلك الأدلة ) التي ذكرناها من الكتاب والسنة والاجماع والعقل والاستصحاب ( لما كانت الدلالات منحصرة فيها ) أي :

ص: 230

لكنّا بينّا انحصار الأحكام في تلك الطرق ، وعند ذلك يتمّ كون ذلك دليلاً على نفي الحكم » ، انتهى .

وحكي عن المحدّث الاستراباديّ في فوائده :

-------------------

في هذه الأدلة التي ذكرناها .

( لكنّا بيّنا انحصار الأحكام في تلك الطرق ) الخمسة .

( وعند ذلك ) أي : عند تمام المقدمتين المذكورتين ( يتم كون ذلك ) أي : كون عدم الدليل ( دليلاً على نفي الحكم (1) ، انتهى ) كلام المحقق قدس سره ، وقد تبيّن : ان هذه العبارة من المحقق في المعارج كعبارته في المعتبر لا تدل على تفصيله في الشبهة الحكمية بين ما هو محل الابتلاء فالأصل البرائة ، وما ليس محل الابتلاء فالأصل الاحتياط .

( وحُكي عن المحدّث الاسترابادي في فوائده ) انّه فهم من كلام المحقق التفصيل الذي نسب اليه : من الحكم بالبرائة في الشبهة التحريمية التي تعم بها البلوى دون ما لاتعم بها البلوى ، فانّ فيما لا تعم به البلوى يلزم الاحتياط ، وعلله : بانّه اذا عمّت البلوى به ولم يرد التحريم عنهم عليهم السلام فيه ، دلّ عدم ورود التحريم على العدم ، بخلاف ما لا تعم به البلوى من الشبهات التحريمية .

نعم ، على مسلك العامة لا فرق في البرائة بين كون الشبهة ممّا يعم بها البلوى ، وغيرها ، لأنهم يرون انّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم بيّن كل الأحكام لكل الأفراد ، فاذا لم نعلم بتحريم شيء معناه : لا تحريم له ، سواء كان ممّا يعم به البلوى أم لا ، بخلاف الشيعة الذي يرون ان جملة من الأحكام بينّها الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم لعليّ عليه السلام فقط ،

ص: 231


1- - معارج الاُصول : ص212 .

« أنّ تحقيق هذا الكلام هو أنّ المحدّث الماهر إذا تتبّع الأحاديث المرويّة عنهم عليهم السلام في مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر ، لعموم البلوى بها ، فاذا لم يظفر بحديثٍ دلّ على ذلك الحكم ينبغي أن يحكم قطعاً عادياً بعدمه ،

-------------------

لانّه هو الخليفة من بعده ، وعليه بيان ما لم يبيّنه الرسول للناس .

وأجاب المصنّف عن هذا التفصيل : بأنه لا نسلم حرمة الشبهة التحريمية بعد عدم وصول دليل على تحريمها ، اذ اللازم في التكليف أن يوصل المولى الحكم الى العبد بدليل أو أصل ، فاذا لم يصل ، لم يكن تكليف ، من غير فرق بين أن تكون الشبهة ممّا يعم بها البلوى ، أو غير ما يعم بها البلوى ، كما قال بذلك الاُصوليون فانّهم يجرون البرائة في الشبهة التحريمية مطلقاً .

وعلى أي حال : ففي التفصيل المذكور ما يلي :

أولاً : لم يقل به المحقق - كما عرفت - .

ثانياً : لا دليل عليه ، وان ذكره المحدث الاسترابادي ونسبه الى المحقق .

هذا ، و قد ذكر المحدث المذكور : ( ان تحقيق هذا الكلام ) الذي ذكره المحقق مفصلاً في مسألة البرائة ( هو : ان المحدّث الماهر اذا تتبع الأحاديث المروية عنهم عليهم السلام في مسألة ) كانت معروفة لدى الناس ومحل ابتلائهم بحيث ( لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر ) بين أصحاب الأئمة عليهم السلام وذلك ( لعموم

البلوى بها ) أي : بتلك المسألة .

وعليه : ( فاذا لم يظفر بحديث دلّ على ذلك الحكم ) المخالف للأصل ( ينبغي أن يحكم قطعاً عادياً بعدمه ) أي: يطمئن الانسان الى انّه لا حكم خلاف الأصل في تلك المسألة، والاّ لبينّوه، ولسأل الرواة عنهم عليهم السلام .

ص: 232

لأنّ جمّا غفيرا من أفاضل علمائنا أربعة آلاف منهم تلامذة الصادق عليه السلام -

كما في المعتبر - كانوا ملازمين لأئمّتنا عليهم السلام ، في مدّة تزيد على ثلثمائة سنة وكان همّهم وهمّ الائمة ، إظهار الدين عندهم وتأليفهم كلّما يسمعون منهم في الاصول ، لئلا يحتاج الشيعة إلى سلوك طريق العامّة ،

-------------------

وإنّما يقطع بالعدم ( لأن جمّاً غفيراً من أفاضل علمائنا أربعة آلاف منهم ) أي : من أولئك الأفاضل هم ( تلامذة الصادق عليه السلام ) والباقون منهم تلامذة سائر الأئمة ، وقد ذكرنا نحن في كتاب : « الحرية الاسلامية » (1) جملة كبيرة من تلامذتهم عليهم السلام.

( كما في المعتبر ) حيث ذكر المحقق فيه ذلك ، فان كثيراً من علمائنا ( كانوا ملازمين لأئمتنا عليهم السلام في مدة ) حضور الائمة عليهم السلام بين الناس ، سواء حضوراً ظاهراً كالامامين الصادقين عليهم السلام ، أو حضوراً مشوباً بشيء من الاستتار ، كما في زمان الإمام المهدي عليه السلام في غيبته الصغرى ، وتلك المدة ( تزيد على ثلثمائة سنة ، وكان همّهم وهمّ الائمة إظهار الدين عندهم ، وتأليفهم ) عطف على « اظهار الدين » ، أي : كان همّ أصحاب الائمة عليهم السلام أن يؤّفوا ويكتبوا ( كلّما يسمعون منهم في الاُصول ) الأربعمائة التي هي مذكورة في كتبنا ، حيث أنهم كتبوا ما سمعوه منهم في أربعمائة كتاب وسموها : ب- « الاُصول الأربعمائة » .

وإنّما كتبوا هذه المؤفات ( لئلا يحتاج الشيعة الى سلوك طريق العامة )

ص: 233


1- - وهو من الكتب التي ألّفها الشارح في العراق عام 1380ه وطبع عام 1409ه من قبل دار الفردوس في لبنان .

وليعمل بما في تلك الاصول في زمان الغيبة الكبرى . فانّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم والأئمة ، لم يضيّعوا مَن في أصلاب الرجال من شيعتهم ، كما في الروايات المتقدّمة . ففي مثل تلك الصورة يجوز التمسّك بأنّ نفي ظهور دليل على حكم مخالف للأصل دليل على عدم ذلك الحكم في الواقع - إلى أن قال - ولا يجوز التمسّك به

-------------------

من العمل بالقياس ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، والرأي ، وما أشبه ذلك ، مما يؤي الى تمويه الحقّ والانحراف عن الدين .

( وليعمل ) الشيعة ( بما في تلك الاُصول ) الأربعمائة ( في زمان الغيبة الكبرى ) حيث انهم عليهم السلام أخبروا بأن للمهدي عليه السلام غيبتان : غيبة صغرى تربوا على سبعين عاماً ، وغيبة كبرى تمتد طويلاً الى أن يظهره اللّه سبحانه وتعالى ليملأ به الأرض قسطاً وعدلاً بعد ان ملئت ظلماً وجوراً .

وعليه : ( فان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم والأئمة ) عليهم السلام ( لم يضيّعوا من في أصلاب الرجال من شيعتهم كما في الروايات المتقدمة ) عن كتاب الفوائد المدنية ، ولهذا أمروا اصحابهم بكتابة أحاديثهم وبحفظها حتى تصل الى الشيعة في العصور المتأخرة .

إذن : ( ففي مثل تلك الصورة ) أي : صورة عموم البلوى بالشبهة ، ولم يكن من الائمة عليهم السلام شيء خلاف الأصل فيها ( يجوز التمسك ) في اثبات البرائة وعدم الحكم بالتحريم ، تمسكاً ( بأن نفي ظهور دليل على حكم مخالف للأصل ) في المسألة العامة البلوى ( دليل ) شرعي ( على عدم ذلك الحكم في الواقع ) فلم يكن في تلك المسألة حكم يخالف الأصل ، فيتمسك بالبرائة فيها .

( الى أن قال ) المحدّث الاسترابادي ( ولا يجوز التمسك به ) أي : بكون عدم

ص: 234

في غير المسألة المفروضة إلاّ عند العامّة القائلين بأنّه صلى اللّه عليه و آله وسلم أظهر عند أصحابه كلّما جاء به وتوفرت الدواعي على جهة واحدة على نشره وما خصّ صلى اللّه عليه و آله وسلم أحدا بتعليم شيء لم يُظهِره عند غيره ، ولم يقع بعده ما اقتضى اختفاء ما جاء به » ،

-------------------

الدليل دليلاً على العدم لأثبات البرائة ( في غير المسألة المفروضة ) وهي الكثيرة الابتلاء ( الاّ عند العامة القائلين : بأنه صلى اللّه عليه و آله وسلم أظهر عند ) جميع ( أصحابه كلما جاء به ) مما يعم به البلوى ، وممّا لا يعم به البلوى .

( و ) القائلين : بأنه قد ( توفرت الدواعي على جهة واحدة على نشره ) أي : على نشر كلّما جاء به ، وتلك الجهة الواحدة هي جهة كلّ المسلمين .

( و ) القائلين أيضاً : بانه ( ما خصّ صلى اللّه عليه و آله وسلم أحداً بتعليم شيء لم يظهره عند غيره ) فمن الممتنع اختفاء أي حكم من الأحكام ، سواء كان مما يعم به البلوى أو مما لم يعم به البلوى .

( و ) القائلين أيضاً : بانه ( لم يقع بعده ) صلى اللّه عليه و آله وسلم ( ما اقتضى اختفاء ما جاء به ) (1) من الأحكام .

بخلاف الشيعة الذين يقولون : بأنه صلى اللّه عليه و آله وسلم خصّ علياً عليه السلام بأحكام كثيرة لم يكن له وقت بيانها واظهارها لجميع الناس ، فقد علمه ألف باب من العلم يفتتح من كل باب ألف باب (2) .

ص: 235


1- - الفوائد المدنية : ص140 .
2- - الخصال : ص647 ح35 ، تاريخ ابن كثير : ج7 ص360 ، تاريخ ابن عساكر : المجلد الثاني في ترجمة الإمام علي ح1003 .

انتهى .

أقولُ : المرادُ بالدليل المصحّح للتكليف ، حتّى لا يلزم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى

-------------------

كما ان الشيعة يقولون بما يقوله القرآن : « وَمَا مُحمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ الرُّسُلُ ، أفإن ماتَ أو قُتِلَ انقلَبتُم على أعقابِكُم » (1) من انّه بعد الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم صارت الفتنة مما اقتضى اختفاء كثير مما جاء به الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم اما عناداً ، وإما خوفاً .

وعليه : فالفرق عند هذا المحدّث بين الشيعة والعامة هو : ان العامة يرون ان كلّ حكم لم يصل من الرسول يجوز فيه البرائة ، بينما الشيعة يخصون ذلك بما يعم به البلوى .

( انتهى ) كلام المحدّث الاسترابادي في وجه التفصيل بالبرائة فيما يعم به البلوى من الشبهة الحكمية التحريمية ، وبالاحتياط فيما لا يعم به البلوى منها .

( أقول ) : انّ المحقق لا يريد التفصيل بين الشبهة الحكمية التي تعم بها البلوى ولم يرد فيها نص حيث البرائة ، وبين الشبهة الحكمية التي لا تعم بها البلوى حيث الاحتياط ، بل يريد المحقق التمسك بأصالة البرائة بحكم العقل بقبح العقاب بما لا يطاق ، وقبح العقاب من دون بيان ، فالتكليف عنده غير منجّز مطلقاً سواء كان مما يعم به البلوى بالشبهة أم لا يعم البلوى بها .

وعليه : فان ( المراد بالدليل المصحّح للتكليف ) الذي يصح للمولى ان يكلف العبد بسبب ذلك الدليل ( حتى لا يلزم ) منه ( التكليف بما لا طريق للمكلف الى

ص: 236


1- - سورة آل عمران : الآية 144 .

العلم به ، هو ما تيسّر للمكلّف الوصولُ إليه والاستفادةُ منه ، فلا فرقَ بين ما لم يكن في الواقع دليل شأني أصلاً او كان ولم يتمكّن المكلّف من الوصول إليه او يمكن لكن بمشقّة رافعة للتكليف ، او تيسّر ولم يتمّ دلالتهُ في نظر المستدلّ ، فانّ الحكم الفعليّ في جميع هذه الصور قبيحٌ على

-------------------

العلم به ) أي : لا يلزم التكليف بما لا يطاق ( هو ) ما يلي :

أولاً : ( ما تيسّر للمكلّف الوصول اليه ) أي : الى ذلك الدليل .

( و ) ثانياً : ماتيسّر للمكلّف ( الاستفادة منه ) بأن تم دلالة ذلك الدليل على مراد المولى .

إذن : ( فلا فرق بين ما لم يكن في الواقع دليل شأني اصلاً ) حيث لا تكليف ( أو كان ولم يتمكن المكلّف من الوصول اليه ) حيث انه لا تمكن للمكلف من الوصول الى ذلك ، وحينئذٍ اذا كلفه المولى وعاقبه على الترك بدون ايجاب الاحتياط عليه ، كان ذلك من المولى قبيحاً عقلاً .

( أو يمكن ) الوصول اليه ( لكن بمشقة رافعة للتكليف ) فإن المولى رفع مثل هذا الفحص عنه لدليل العُسر والحَرج والضرر وما اشبه .

( أو تيسر ولم يتم دلالته في نظر المستدل ) لما عرفت : من لزوم تمام دلالة الدليل في نظر المستدل .

بل ينبغي أن يقال أيضاً : بعدم التكليف فيما اذا لم يتم جهة صدوره في نظر المستدل وذلك بأن كان نظره بان الحكم صدر تقية .

و عليه : ( فان الحكم الفعلي ) أي : تنجز التكليف على مثل هذا المكلّف ( في جميع هذه الصور ) التي ذكرناها ( قبيح ) عقلاً وشرعاً ، لأنه كل ما حكم به العقل حكم به الشرع ، بالاضافة الى ما تقدّم من الآيات والروايات والاجماع ( على

ص: 237

ما صرّح به المحقق قدس سره ، في كلامه السابق ، سواء قلنا بأنَّ وراء الحكم الفعليّ حكما آخر يسمّى حكما واقعيّا وحكما شأنيّا على ما هو مقتضى مذهب المخطّئة ، أم قلنا بأنّه ليس وراءه حكم آخر ، للاتفاق على أنّ مناط الثواب والعقاب ومدار التكليف هو الحكم الفعليّ .

وحينئذٍ : فكلّ ما تتبّع المستنبط في الأدلّة الشرعيّة في نظره

-------------------

ما صرح به المحقق قدس سره في كلامه السابق ) حيث قال : « ان أهل الشرائع كافة لايخطّئون من بادر الى تناول شيء من المشتبهات » الى آخر كلامه .

إذن : فاللازم في تحقق التكليف الذي ان تركه العبد استحق العقاب هو : وجود دليل جامع للشرائط ، وأما مجرد وجوب التكليف في الواقع فانه لا يسبب تكليفاً على العبد ، ولقد تقدّم منّا : ان التكليف غير الواصل يمكن أن لا يكون تكليفاً اذا لم يكن له أثر ، لأنه لغو ( سواء قلنا : بأن وراء الحكم الفعليّ حكم آخر يسمى حكماً واقعياً وحكماً شأنياً على ما هو مقتضى مذهب المخطئة - ) حيث انهم يقولون : ان للّه سبحانه في كل واقعة حكماً قد يصل اليه المكلّف وقد لا يصل اليه ( أم قلنا : بأنه ليس ورائه حكم آخر ) على ما هو مذهب المصوبة .

وانّما قلنا بأن الحكم الفعلي في جميع هذه الصور قبيح ( للاتفاق ) من الأخباريين والاُصوليين ( على ان مناط الثواب والعقاب ومدار التكليف هو : الحكم الفعليّ ) فحيث لا حكم فعليّ لا تكليف ، وحيث لا تكليف لا ثواب ولا عقاب .

( وحينئذٍ ) أي : حين كان المدارفي التكليف والثواب والعقاب هو الحكم الفعلي ( فكلّما تتبع المستنبط في الأدلة الشرعيّة ) بأن لاحظ الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، وسائر الأدلة الشرعية المعتبرة ( في نظره ) أي : في نظر المتتبع

ص: 238

إلى أن علم من نفسه عدم تكليفه بأزيد من هذا المقدار من التتبّع ، ولم يجد فيها ما يدلّ على حكم مخالف للأصل ، صحّ له دعوى القطع بانتفاء الحكم الفعليّ ، ولا فرق في ذلك بين العامّ البلوى وغيره ، ولا بين العامّة والخاصّة ، ولا بين المخطّئة والمصوّبة ، ولا بين المجتهدين والاخباريّين ، ولا بين أحكام الشرع وغيرها من أحكام سائر الشرائع وسائر الموالي بالنسبة إلى عبيدهم .

-------------------

( الى ان علم من نفسه : عدم تكليفه بأزيد من هذا المقدار من التتبع ) لأنه علم بأنه لا يصل الى شيء ، أ و علم بأن الزائد مشقة لا يريد الشارع منه .

( ولم يجد فيها ما يدل على حكم مخالف للأصل ) الذي هو الاباحة ، كما اذا لم يجد في الأدلة حرمة شرب التتن ، أو لم يجد في الأدلة وجوب الدعاء عند رؤة الهلال ( صح له ) أي : لهذا المتتبع المستنبط ( دعوى ) البرائة وعدم التكليف ، والبرائة تفيد ( القطع بانتفاء الحكم الفعلي ) على هذا المستنبط المتتبع .

( ولا فرق في ذلك ) أي : لعدم التكليف بعد عدم ظفره ( بين العام البلوى وغيره ، ولا بين العامة والخاصة ، ولا بين المخطئة والمصوّبة ، ولا بين المجتهدين والاخباريين ) لأن الجميع متفقون على ان الثواب والعقاب بدون البيان قبيح لا يصدر منه سبحانه غير أن الأخباريين يقولون بوجود البيان : وهو الدليل العام من أخبار التوقف والاحتياط والتثليث الدال على ان الشبهة التحريمية يجب الاجتناب عنها .

( و ) كذلك ( لا ) فرق فيما ذكرناه : من انه لا تكليف فعليّ ( بين أحكام الشرع وغيرها من أحكام سائر الشرائع ) السماوية .

( و ) كذا لا فرق بين المولى الحقيقي وهو اللّه سبحانه وتعالى وبين ( سائر الموالي بالنسبة الى عبيدهم ) لأنّ ذلك حكم عقليّ فطري يعترف به الجميع .

ص: 239

هذا ، بالنسبة إلى الحكم الفعليّ . وأمّا بالنسبة إلى الحكم الواقعيّ النازل به جبرئيل على النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، لو سمّيناه حكما بالنسبة إلى الكلّ ، فلا يجوز الاستدلال على نفيه بما ذكره المحقق قدس سره ، من لزوم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ، لأنّ المفروض عدم إناطة التكليف به .

-------------------

ثمّ ان ( هذا ) الذي استدل به المحقق : من ان عدم الدليل دليل على العدم فالمحكم البرائة ، انّما يتم ( بالنسبة الى ) نفي ( الحكم الفعلي ) وانه لا حكم فعليّ بالنسبة الى هذا المكلّف .

( وأما بالنسبة الى الحكم الواقعي النازل به جبرئيل على النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم لو سميناه حكماً بالنسبة الى الكل ) وقال المصنّف : لو سميناه حكماً ، لأنه لا يسمّى حكماً بدون الوصول ، فان الشارع لم يحكم به وان كان فيه الاقتضاء ، اذ لو حكم بما لا أثر له لعدم وصوله ، كان لغواً لا يصدر من العاقل فكيف من سيد العقلاء ؟ .

وعليه : ( فلا يجوز الاستدلال على نفيه ) أي : على نفي ذلك الحكم الواقعي الذي ليس بفعلي عن المكلّف ( بما ذكره المحقق قدس سره : من لزوم التكليف بما لا طريق للمكلف الى العلم به ) ومن انّه تكليف بما لا يطاق وعقاب بلا بيان .

وإنّما لا يجوز ذلك ( لأن المفروض عدم اناطة ) الثواب والعقاب ، والمدح والذم ، و ( التكليف به ) أي بالحكم الواقعي الذي لم يصل الى العبد فان التكليف الواقعي الذي لا يريده المولى من العبد وجوده وعدم وجوده سواء ، فانه لا يلزم من مجرد التكليف الواقعي على القول بالتكليف الواقعي غير الواصل ان يكون تكليفاً بما لا يطاق امتثاله ، أو عقاب بلا بيان ، أو ثواباً بلا وجه .

وممّا تقدّم ظهر : انه ليس وجه البرائة هو : مسألة عموم البلوى ، بل عدم الوصول بشرائطه ، دون ان يختلف فيه عموم البلوى وعدمه .

ص: 240

نعم ، قد يظنّ من عدم وجدان الدليل عليه بعدمه بعموم البلوى به ، لا بمجرّده ، بل مع ظنّ عدم المانع عن نشره في أوّل الأمر من الشارع او من خلفائه او من وصل إليه . لكن هذا الظنّ لا دليل على اعتباره ،

-------------------

( نعم ) عموم البلوى بضميمة عدم المانع من نشر الحكم يفيد الظنّ بالعدم ، لكن هذا الظن ليس بحجّة كسائر الظنون التي لا دليل على اعتباره ، فانّ المكلّف ( قد يظن من عدم وجدان الدليل عليه ) أي : على الحكم ( بعدمه ) أي : بعدم الحكم ، فعدم الدليل دليل على العدم ( ب- ) سبب ( عموم البلوى به ) أي : بالحكم ، فانه لو كان لبان .

ومن المعلوم : ان عموم البلوى وحده لا يوجب الظن بعدم الحكم ، ولذا قال المصنّف : ( لا بمجرده ) أي : لا بمجرّد عموم البلوى ( بل مع ظن عدم المانع عن نشره ) أيضاً فعدم الدليل ليس دليلاً ظنياً على العدم ، وانّما له شرطان :

الأول : عموم البلوى .

الثاني : ظن عدم المانع من النشر ( في أول الأمر من الشارع ، أو من خلفائه ، أو من وصل اليه ) الحكم ، بأن نظن بعدم المانع من النشر في أول الاسلام من الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم وذلك - مثلاً - لمصلحة توجب السكوت ونظن بعدم المانع من النشر بالنسبة الى أوصيائه الاثني عشر عليهم السلام ، وذلك للتقية - مثلاً - وقد يكون المانع من النشر هم الصحابة والتابعون والرواة من جهة الخوف ، أو الخيانه ، أو ما أشبه ذلك .

وعليه : فاذا ظننا بعدم المانع منضماً الى كون الحكم عام البلوى فانا نظن حينئذٍ بعدم الحكم .

( لكن هذا الظن لا دليل على اعتباره ) حتى يستدل به على البرائة .

ص: 241

ولا دخل له بأصل البراءة التي هي من الأدلّة العقليّة ، ولا بمسألة التكليف بما لا يطاق ، ولا بكلام المحقق ، فما تخيّله المحدّث تحقيقا لكلام المحقق ، مع أنّه غير تامّ في نفسه ، أجنبيٌّ عنه بالمرّة .

-------------------

( ولا دخل له ) أي : لهذا الظن ( بأصل البرائة التي هي من الأدلة العقلية ) فان أصل البرائة في المقام من الأدلة العقلية التي تقول بقبح التكليف والمؤخذة عليه بلا بيان ، وهذا الظن بانتفاء التكليف لا دخل له بأصل البرائة .

( ولا بمسألة التكليف بما لا يطاق ) لوضوح : ان الظن بانتفاء التكليف في الواقع إنّما هو من اجل عدم الدليل ، لا من باب لزوم التكليف بما لا يطاق الذي تقدّم من المحقق رحمه اللّه .

( ولا بكلام المحقق ) لأنك قد عرفت : ان المحقق تمسك في البرائة بحكم العقل حيث قال : لأنه لولم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق للمكلف إلى العلم به ، وهو تكليف بما لا يطاق ، فالمحقّق تمسك بدليل العقل للبرائة لا بالظن المذكور .

وعلى هذا : ( فما تخيّله المحدِّث ) الاسترابادي ( تحقيقا لكلام المحقق ) وانّ المحقق يفصل بين ما يعم به البلوى فيجري البرائة فيه ، وبين غيره فلا يجري البرائة فيه ( مع انّه غير تام في نفسه ، أجنبي عنه بالمرّة ) لانّه كما عرفت : ليس كلام المحقق تفصيلاً بين ما يعم به البلوى وغيره .

وانّما لم يكن تاما في نفسه ، لانّ فيه ما يلي :

أولاً : انّه يمكن عموم البلوى ولا يظن المكلّف منه بالبرائة ، كما يمكن عدم عموم البلوى ويظن المكلّف بالبرائة ، فلا تلازم بين الأمرين .

ثانيا : انّه قد تقدّم : انّ عموم البلوى لا يفيد الظن إلاّ بضميمة عدم المانع

ص: 242

نعم ، قد يستفاد من استصحاب البراءة السابقة الظنُّ بها فيما بعد الشرع ، كما سيجيء عن بعضهم . لكن لا من باب لزوم التكليف بما لا يطاق الذي ذكره المحقق .

ومن هنا

-------------------

من النشر ، لا أنّه وحده مفيد للظن بالبرائة .

ثالثا : انّه على تقدير حصول الظن ليس بحجّة إذ لا دليل من العقل أو النقل على حجيّة مثل هذا الظن .

( نعم ، قد يستفاد من استصحاب البرائة السابقة ) الذي أشار اليه المحقق في كلامه ، حيث ان الانسان يتمكن من استصحاب البرائة قبل الشرع بأن يقول : ان التتن لم يكن حراماً قبل الشرع ، وبعد الشرع لا نعلم بحرمته ، فالاستصحاب يقتضي عدم حرمته ، أو استصحاب حال الجنون والصغر ، حيث ان التتن في حالهما لم يكن محرماً ، فاذا أفاق المجنون وكبر الصغير يستصحب عدم حرمة التتن ، فانه يستفاد من هذا الاستصحاب ( الظن بها ) أي : بالبرائة ( فيما بعد الشرع ) وفيما بعد البلوغ والافاقة .

( كما سيجيء عن بعضهم ) انشاء اللّه تعالى حيث انهم ذكروا : انّ البرائة مستندة الى هذا الظن الاستصحابي ( لكن لا من باب لزوم التكليف بما لا يطاق ) فان سبب الظن بالبرائة حينئذٍ الاستصحاب ، لا لزوم التكليف بما لا يطاق ( الذي ذكره المحقق ) مستدلاً بهذا الدليل على البرائة .

( ومن هنا ) أي : ممّا ذكرناه : من ان الفرق بين عدم الدليل دليل العدم ، وبين استصحاب البرائة ، الذين ذكرهما المحقّق ليس الاّ فرقاً اعتبارياً ، لأنّ في الدليل

الأول لا يلاحظ الحالة السابقة ، وفي الثاني يلاحظ الحالة السابقة ، والحالة السابقة

ص: 243

يُعلَمُ أنّ تغاير القسمين الأوّلين للاستصحاب في كلامه باعتبار كيفيّة الاستدلال ، حيث أنّ مناطَ الاستدلال في هذا القسم الملازمةُ بين عدم الدليل وعدم الحكم مع قطع النظر عن ملاحظة الحالة

-------------------

وعدم الدليل ، كلاهما موجودان في محل واحد ويفيدان البرائة بتفاوت ملاحظة الحالة السابقة وعدم ملاحظتها .

ولذا قال المصنّف : ومنه ( يعلم ان تغاير القسمين الأولين للأستصحاب في كلامه : باعتبار كيفية الاستدلال ) اذ قد عرفت : ان المحقّق جعل في المعتبر أقسام الاستصحاب الجاري في الأحكام ثلاثة أقسام : استصحاب حال العقل ، وقاعدة عدم الدليل ، واستصحاب حال الشرع .

والأولان مشتركان في الظن بالبرائة في مورد البرائة ، فانّه اذا كان في السابق برائة ، ولم نعلم هل تبدّل الأمر من البرائة الى الاشتغال أو لم يتبدل ؟ نستصحب البرائة ، وقد جعلهما المحقق قسمين لأمرين :

الأول : ان مناط الاستدلال في « عدم الدليل دليل العدم » هو : الملازمة ، ومناط الاستدلال في « الاستصحاب » هو : الحالة السابقة .

الثاني : ان بين الدليلين المذكورين عموماً من وجه ، حيث تجري الملازمة سواء كانت حالة سابقة أم لا ، ويجري الاستصحاب سواء كانت ملازمة ام لا ، فانّه ربّما كانت الحالة السابقة ولا ملازمة ، كما فيما لا يعم به البلوى ، وربّما كانت الملازمة ولا حالة سابقة .

وأشار المصنّف الى الأمر السابق بقوله : ( حيث ان مناط الاستدلال في هذا القسم ) الثاني من الاستصحاب الذي ذكره المحقّق هو ( الملازمة ) عرفاً وعادة ( بين عدم الدليل وعدم الحكم ) في الواقع ( مع قطع النظر عن ملاحظة الحالة

ص: 244

السابقة ، فجعلُه من أقسام الاستصحاب مبنيٌّ على إرادة مطلق الحكم على طبق الحالة السابقة عند الشكّ ولو لدليل آخر غير الاتكال على الحالة السابقة ، فيجري فيما لم يعلم فيه الحالة السابقة ؛ ومناطَ الاستدلال في القسم الأوّل ملاحظةُ الحالة السابقة حتى مع عدم العلم بعدم الدليل على الحكم .

ويشهد لما ذكرنا من المغايرة الاعتباريّة انّ الشيخ لم يقل بوجوب مضيّ المتيمّم الواجد للماء في أثناء

-------------------

السابقة ) .

إن قلت : اذا كان المناط هو الملازمة ، فلماذا جعل المحقق عدم الدليل من أقسام الاستصحاب ؟ .

قلت : ( فجعله ) أي : جعل عدم الدليل في كلام المحقق ( من أقسام الاستصحاب ) مع ما قد عرفت : من أن بينهما عموم من وجه ( مبني على ارادة مطلق الحكم على طبق الحالة السابقة عند الشك ولو لدليل آخر غير الاتكال على الحالة السابقة ) فالاستصحاب موجود في المورد وان لم يجعل دليلاً ، وانّما جعل الدليل الملازمة المذكورة .

وكيف كان : ( فيجري ) هذا الدليل وهو الملازمة ( فيما لم يعلم فيه الحالة السابقة ) وفيما علم فيه الحالة السابقة ( ومناط الاستدلال في القسم الأوّل ) الذي هو الاستصحاب ( ملاحظة الحالة السابقة حتى مع عدم العلم بعدم الدليل على الحكم ) أ ي : في صورة عدم وجود الملازمة بين كون عدم الدليل دليل العدم .

( ويشهد لما ذكرنا : من المغايرة الاعتبارية ) بين الاستصحاب وبين عدم الدليل دليل العدم ( :ان الشيخ لم يقل بوجوب مضي المتيمم الواجد للماء في أثناء

ص: 245

صلاته لأجل الاستصحاب ، وقال به لأجل أنّ عدم الدليل دليل العدم .

نعم ، هذا القسم الثاني أعمّ موردا من الأوّل ، لجريانه في الأحكام العقليّة وغيرها ، كما ذكره جماعة من الاصوليّين .

-------------------

صلاته ) لم يقل به ( لأجل الاستصحاب ) أي : استصحاب كفاية التيمم الثابت قبل وجدان الماء ( وقال به لأجل ان عدم الدليل ) على انتقاض التيمم ( دليل العدم ) .

فان الشيخ قال : الفاقد للماء اذا وقف للصلاة متيمماً ، ثم وجد الماء في أثناء الصلاة يتم صلاته ، ولا تنقض صلاته لأجل وجدان الماء ، بدليل انّه لا دليل من الشرع على الانتقاض ، فلم يستدل الشيخ باستصحاب بقاء التيمم ، ممّا يتبين منه : انّهما أمران لا أمر واحد .

هذا تمام الكلام في الأمر الأول من الفارق بين الاستصحاب وبين الملازمة .

وأشار الى الفارق الثاني الذي ذكرناه :من كون النسبة بين الدليلين عموماً من وجه بقوله : ( نعم ، هذا القسم الثاني ) وهو الملازمة يكون ( أعم مورداً من الأوّل ) الذي هو الاستصحاب فان بينهما عموماً من وجه ( لجريانه ) أي : جريان قانون عدم الدليل دليل العدم ( في الأحكام العقلية وغيرها ) أي :غير الأحكام العقلية ( كما ذكره جماعة من الاُصوليين ) حيث انهم قالوا : بجريان قاعدة : عدم الدليل دليل العدم ، في المسائل الفقهية والاُصولية والكلامية .

ثمّ الظاهر : ان مراده ب« الأحكام العقلية » هو من أمثال : عدم الدليل على التخصيص أو التقييد دليل العدم ، وذلك فيما اذا كان عام أو مطلق لم نعلم بأنهما هل قيّدا بشيء أم لا ؟ الى غير ذلك ، فان عدم الدليل دليل العدم ، يجري في امثال هذه الاُمور ، بينما لايجري الاستصحاب فيما لم يكن له حالة سابقة أو لم نعلم هل كان له حالة سابقة أم لا ؟ .

ص: 246

والحاصل : أنّها لا ينبغي الشكّ في أنّ بناء المحقق ، قدس سره ، على التمسّك بالبراءة الأصليّة مع الشكّ في الحرمة ، كما يظهر من تتبّع فتاواه في المعتبر .

الثاني :

مقتضى الأدلّة المتقدّمة كونُ الحكم الظاهريّ في الفعل المشتبه الحكم

-------------------

( والحاصل : انها ) الضمير للشأن والقصة ( لا ينبغي الشك في ان بناء المحقق قدس سره على التمسك بالبرائة الأصلية مع الشك في الحرمة ) من غير فرق بين ما يعم به البلوى وما لا يعم به البلوى ، فليس هو على ما قاله المحدّث الاسترابادي : من انّه مفصل بينهما ( كما يظهر من تتبع فتاواه في المعتبر ) فنسبة التفصيل اليه في غير محله . هذا تمام الكلام في التنبيه الأول .

التنبيه ( الثاني : ) ان مفاد ما ذكرناه من أدلة البرائة : الاباحة الظاهرية ، بمعنى الاصل ، فان قوله عليه السلام « كُلّ شَيء مُطلَق » (1) ونحوه ، يفيدها ، سواء ظن بالاباحة الواقعية ، أم ظن بالحرمة الواقعية أم لم يظن بشيء منهما ، اذ الظن لا اعتبار به ، فلا يكون حجّية البرائة لحجّية الظن ليكون أمارة ، بل حجّية البرائة لعدم القطع باشتغال الذمة بالتكليف فيكون اصلاً عملياً ، كما قال :

( مقتضى الأدلة المتقدمة ) مثل « كُلّ شيء مُطلَق » ونحوه ( كون الحكم الظاهري في الفعل المشتبه الحكم ) من الشبهة التحريمية حيث انها محل الكلام

ص: 247


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

هي الاباحة من غير ملاحظة الظنّ بعدم تحريمه في الواقع .

فهذا الأصلُ يفيدُ القطعَ بعدم اشتغال الذمّة ، لا الظنّ بعدم الحكم واقعا ، ولو أفاده لم يكن معتبرا، إلاّ أنّ الذي يظهر من جماعة كونُه من الأدلّة الظنيّة ،

-------------------

( هي : الاباحة ) الشرعية بمعنى الأصل أي : ( من غير ملاحظة الظنّ بعدم تحريمه في الواقع ) حتى يكون أمارة ، فانّه وان ظننا بتحريمه واقعاً ، أو ظننا بعدم تحريمه ، أولم نظن بشيء ، فلا اعتبار بهذه الظنون ايجاباً وسلبا في حجّية البرائة حتى تكون البرائة أمارة ، فالبرائة اصل من الاصول العملية .

وعليه : ( فهذا الأصل ) أي : أصل البرائة ( يفيد القطع بعدم اشتغال الذمة ) فعلاً ، لأنّه التكليف العملي للانسان ، فان حكم البرائة ايضاً تكليف - كما لا يخفى - .

( لا ) انّ اصل البرائة يفيد ( الظن بعدم الحكم واقعاً ) ليكون أمارة وذلك لما عرفت : من انّه قد يظن بعدم الحكم واقعاً ، وقد يظن بالحكم واقعاً ، وقد لا يظن بشيء منهما ( ولو ) فرض انّه قد ( أفاده ) أي : افاد الظن بعدم الحكم واقعاً ( لم يكن معتبراً ) هذا الظن لما تقدّم من : « انَّ الظَّنّ لا يُغنِي مِنَ الحَقّ شَيئاً » (1) كما في القرآن الحكيم ، فلايكون البرائة أمارة ، بل اصلاً .

( الاّ ان الذي يظهر من جماعة ) من الأصحاب اللذين سوف نذكر انشاء اللّه اسماء بعضهم ( كونه ) أي : كون اصل البرائة ( من الأدلة الظنية ) عندهم ، فيكون عندهم أمارة لا أصلا .

ص: 248


1- - سورة النجم : الآية 28 .

منهم صاحب المعالم ، عند دفع الاعتراض عن بعض مقدّمات الدليل الرابع الذي ذكره لحجّيّة الخبر الواحد ، ومنهم شيخنا البهائيّ قدس سره .

ولعلّ هذا هو المشهورُ بين الاصوليين ، حيث لا يتمسّكون فيه إلاّ باستصحاب البراءة السابقة ، بل ظاهر المحقق ، في المعارج الاطباقُ على التمسّك بالبراءة

-------------------

( منهم : صاحب المعالم عند دفع الاعتراض عن بعض مقدمات الدليل الرّابع الذي ذكره لحجيّة الخبر الواحد ) فانّ صاحب المعالم استدل لحجيّة خبر الواحد بآية النفر ، وآية النبأ ، والاجماع ، وجعل دليل الانسداد دليلاً رابعاً ، لافادة حجّية خبر الواحد ، وذكر للانسداد مقدمات جعل أولها : انسداد باب العلم بالأحكام ، واستدل له دفعاً لتوهم الاعتراض : بأن الأدلة لا تفيد الاّ الظن ، فكذااصالة البرائة لاتفيد الاّ الظنّ ممّا يظهر منه : انّه يرى البرائة أمارة لا أصلاً ، على خلاف ما نراه نحن ، حيث نرى البرائة أصلاً .

والحاصل : ان حجيّة البرائة عند صاحب المعالم من باب الظن .

( ومنهم : شيخنا البهائي قدس سره ) فانّه يرى ان حجيّة البرائة من باب الظنّ ، فهي عنده أمارة وليست اصلاً .

( ولعلّ هذا هو المشهور بين الاُصوليين ) القدامى ( حيث لا يتمسكون فيه ) أي : في أصل البرائة ( الاّ باستصحاب البرائة السابقة ) فان الاستصحاب عندهم هو « ابقاء ما ظنّ ببقائه » ، فيكون حجية الاستصحاب عندهم باعتبار حجيّة هذا الظن .

( بل ظاهر المحقق في المعارج الاطباق ) من العلماء ( على التمسك بالبرائة

ص: 249

الأصليّة حتّى يثبت الناقل ، وظاهره ، أنّ اعتمادهم في الحكم بالبراءة على كونها هي الحالة السابقة الأصليّة .

والتحقيقُ : أنّه لو فرض حصول الظنّ من الحالة السابقة فلا يعتبر ، والاجماع ليس على اعتبار هذا الظنّ ، وإنّما هو على العمل على طبق الحالة السابقة ولا يحتاج إليه بعد قيام الأخبار المتقدّمة وحكم العقل .

-------------------

الأصلية حتى يثبت الناقل ) من تلك البرائة الى تكليف مخالف للبرائة : من وجوب أو حرمة ، والمراد بالبرائة الأصلية : هي البرائة قبل الشرع ، أو البرائة في حال الصغر والجنون - مثلاً - .

( وظاهره : ان اعتمادهم في الحكم بالبرائة على كونها ) أي : كون البرائة ( هي الحالة السابقة الأصلية ) فيظن ببقاء تلك الحالة الى أن يثبت خلافها ( والتحقيق انّه ) ليس بأمارة لما يلي :

أولاً : انّه لا يحصل الظن بالبقاء في كثير من موارد الاستصحاب .

ثانياً : ( لو فرض حصول الظن من الحالة السابقة ) لبقاء تلك الحالة الى الحالة اللاحقة ( فلا يعتبر ) هذا الظنّ ، فانّ الظن بالبقاء لا اعتبار به وجوداً ولا عدماً ( والاجماع ) من العقلاء على حجيّة الاستصحاب ( ليس على اعتبار هذا الظن ) ليكون أمارة بدليل أنهم يستصحبون ، ولو لم يحصل لهم ظن ( وانّما هو على ) مجرد ( العمل على طبق الحالة السابقة ) أي : انّ العقلاء مُجمعون على ابقاء الحالة السابقة على ما كان ، سواء حصل لهم ظن أم لا ، وليس اجماعاً منهم على انه لكونه ظناً يكون حجة .

بل ( ولا يحتاج اليه ) أي : الى هذا الظن ، ولا الى الاجماع المذكور من العقلاء ( بعد قيام الأخبار المتقدمة ) الدالة على البرائة ( و ) بعد ( حكم العقل ) بقبح

ص: 250

الثالث :

لا إشكال في رجحان الاحتياط عقلاً ونقلاً ، كما يستفاد من الأخبار المذكورة وغيرها .

وهل الأوامر الشرعيّة للاستحباب ، فيثاب عليه وإن لم يحصل به الاجتناب عن الحرام الواقعيّ ،

-------------------

العقاب بلا بيان ، فهما دليلان كافيان لأثبات البرائة والاباحة الظاهرية ، فيما لم يصل من الشارع حكم فيه ، سواء كانت شبهة حكمية تحريمية أو حكمية وجوبية أو موضوعية وجوبية أو تحريمية على ما عرفت .

التنبيه ( الثالث ) : هل أوامر الاحتياط ارشادية بحتة ، فلا ثواب في فعلها اطلاقاً ، كمثل أوامر الطبيب ؟ أو مولوية استحبابية ، فاذا وافقها الانسان أُثيب على الموافقة ، وان لم يكن الاحتياط موافقاً للواقع ؟ .

هذا ، ومن المعلوم : انّه ( لا اشكال في رجحان الاحتياط عقلاً ونقلاً كما يستفاد من الأخبار المذكورة وغيرها ) فان الأخبار والعقل دلاّ على رجحان الاحتياط ( و ) لكن الكلام في انّه ( هل الأوامر الشرعية للإستحباب ؟ ) بعد وضوح : ان الأوامر العقلية ارشادية بحتة ، وانّما الكلام في الأوامر الواردة في الشرع بالإحتياط والتوقف وما أشبه ذلك .

فان كانت تلك الأوامر للاستحباب ( فيثاب عليه ) أي : على امتثال تلك الأوامر الشرعية ( وان لم يحصل به ) أي : بسبب الاحتياط ( الاجتناب عن الحرام الواقعي ) فالإنسان الذي يجتنب عن شرب التتن - مثلاً - هل يثاب عليه لانه أطاع

ص: 251

او غيري ، بمعنى كونه مطلوبا لأجل التحرّز عن الهلكة المحتملة والاطمئنان بعدم وقوعه فيها ، فيكون الأمرُ به إرشاديا لا يترتّبُ على موافقته ومخالفته سوى الخاصيّة المترتبة على الفعل او الترك ، نظير أوامر الطبيب ، ونظير الأمر بالاشهاد عند المعاملة لئلا يقع التنازع

-------------------

امر الاحتياط وان كان التتن في الواقع مباحاً ، أو لا يثاب عليه لأنّه في اطاعة أمر الطبيب لا ثواب في نفس هذه الطاعة ؟ .

( أو غيري ) مقدمي ، و هذا عطف على قوله : « الأوامر الشرعية للاستحباب » ( بمعنى : كونه ) أي : كون الاحتياط ( مطلوباً لأجل التحرز عن الهلكة المحتملة ) وقد تقدّم سابقاً : ان المراد بالهلكة المحتملة غير العقاب ، لأنه لا عقاب على مخالفة أمر الاحتياط ، اذ المحكّم في المسألة : البرائة .

( و ) انّما يكون الاحتياط مطلوباً لاجل ( الاطمئنان بعدم وقوعه فيها ) أي : في الهلكة المحتملة ( فيكون الأمر به ) أي : بالاحتياط ( ارشادياً لا يترتب على موافقته ومخالفته سوى الخاصية المترتّبة على الفعل أو الترك ) فهو مثل الذي يوجر في حلقه الدواء حيث يترتّب على ذلك صحته الجسدية ، فيكون أوامر الاحتياط على الارشادية ( نظير أوامر الطبيب ) الذي ليس في الأمر مصلحة ذاتية .

( ونظير الأمر بالاشهاد عند المعاملة ، لئلا يقع التنازع ) حيث قال سبحانه : « وأشهِدُوا إذا تَبايَعتُم » (1) فان الاشهاد بنفسه ليس ذا مصلحة ، وانّما المصلحة في متعلقه ، وهو عدم التنازع بعده ، وكذلك حاله حال الكتابة بالنسبة الى المعاملات ، فالكتابة بنفسها لا مصلحة فيها ، وانّما المصلحة في متعلقها .

ص: 252


1- - سورة البقرة : الآية 282 .

وجهان ، من ظاهر الأمر بعد فرض عدم إرادة الوجوب ، ومن سياق جلّ الأخبار الواردة في ذلك ، فانّ الظاهر منها كونها مؤكّدة لحكم العقل بالاحتياط .

والظاهر أنّ حكم العقل بالاحتياط من حيث هو احتياط على تقدير كونه إلزاميّا لمحض الاطمئنان ؛ لدفع احتمال العقاب .

وكما إذا تيقّن بالضرر

-------------------

وعليه : فالأوامر الشرعية بالاحتياط يحتمل فيها ( وجهان ) وهذا جواب قوله : « وهل الأوامر الشرعية للاستحباب ... أو غيري ؟ » فانّ هنالك قولين ووجهين :

( من ظاهر الأمر بعد فرض عدم ارادة الوجوب ) فانّ ظاهر الأمر : الوجوب ، فاذا صرفناه عن الوجوب للأدلّة الاُخر ، يلزم أن نحمله على الأقرب الى المعنى الظاهر ، وهو : الاستحباب المولوي ، فيثاب مطيع أمر الاحتياط .

( ومن سياق جلّ الأخبار الواردة في ذلك ، فانّ الظاهر منها ) أي : الظاهر من تلك الأخبار ( : كونها مؤدة لحكم العقل بالاحتياط ) فان الأخبار تأكيدية وليست بتأسيسية ، لأنّ العقل قبل هذه الأخبار يقول بحسن الاحتياط .

هذا ( والظاهر : ان حكم العقل بالاحتياط من حيث هو إحتياط على تقدير كونه الزامياً ) أي : على تقدير كون أمر العقل بالاحتياط الزامياً ( لمحض ) الارشاد ، و ( الاطمئنان ، لدفع احتمال العقاب ) فكما ان أمر العقل ارشادي ، كذلك يكون أمر الشرع التابع له ، لأنّه كلّما حكم به العقل حكم به الشرع . ( وكما اذا تيقن بالضرر ) هذا مبتدء خبره قوله : « فكذلك طلبه » ، مما حاصله : ان العقل كما يلزم الانسان بالاطاعة حتى لا يقع في العقاب الاُخروي ، كذلك يندب العقل الانسان الى الاطاعة حتى لا يقع في المحذور الدنيوي ، فكلا هذين الأمرين للعقل

ص: 253

يكون إلزامُ العقل لمحض الفرار عن العقاب المتيقن ، فكذلك طلبهُ الغير الالزاميُّ إذا احتمل الضرر ، بل وكما أنّ أمر الشارع بالاطاعة في قوله تعالى : « أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول »لمحض الارشاد ، لئلاّ يقع العبدُ في عقاب المعصية ويفوته ثوابُ الطاعة ولا يترتب على مخالفته سوى ذلك ،

-------------------

ارشادي ، لكن الأول : ارشادي لازم ، والثاني : ارشادي مندوب .

وعليه : فاذا تيقن الانسان بالضرر الاُخروي فيما اذا خالف الواجبات أو المحرمات المعلومة تفصيلاً أ و اجمالاً ( يكون الزام العقل ) بالاطاعة ، حتى لايقع في محذور ، ترك الواجب أو فعل المحرم ؛ وذلك ( لمحض الفرار عن العقاب المتيقن ) في الآخرة ( فكذلك طلبه ) أي : طلب العقل ( غير الالزامي اذا احتمل ) الانسان ( الضرر ) الذي هو ليس بعقاب وإنّما مفسدة دنيوية في فعل شيء أو ترك شيء يكون غير الزامي ، فامر العقل قد يكون واجباً ، وقد يكون مستحباً ( بل ) أمر الشرع كذلك .

واليه أشار المصنِّف بقوله : ( وكما ان أمر الشارع بالاطاعة ) بالواجبات والمحرمات المعلومة اجمالاً أو تفصيلاً ( في قوله تعالى : « أطيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرَّسُولَ » (1) لمحض الارشاد ، لئلا يقع العبد في عقاب المعصية ) الاُخروية ( ويفوته ثواب الطاعة ) الاُخروية .

هذا ( ولا يترتب على مخالفته سوى ذلك ) فانّ الانسان الذي يخالف « أطيعُوا اللّه » ليس عليه عقابان : عقاب ترك الصلاة ، وعقاب ترك « أطيعُوا اللّه » كما انّه اذا صلّى لايكون له ثوابان : ثواب « أطيعُوا اللّه » وثواب اتيان الصلاة .

ص: 254


1- - سورة النساء : الآية 59 .

فكذلك أمرُه بالأخذ بما يأمن معه من الضررُ لا يترتبُ على موافقته سوى الأمان المذكور ، ولا على مخالفته سوى الوقوع في الحرام الواقعيّ على تقدير تحققه .

ويشهدُ لما ذكرنا أنّ ظاهر الأخبار حصر حكمة الاجتناب عن الشبهة في التفصّي عن الهلكة الواقعيّة لئلا يقع فيها من حيث لا يعلم

-------------------

( فكذلك أمره ) أي : أمر الشارع في أخبار الاحتياط ( بالأخذ بما يأمن معه من الضرر ) فانّه ( لا يترتب على موافقته سوى الامان المذكور ) أي : انّه لمحض الطلب الارشادي الى ما في متعلق الاحتياط ، فاذا كان في متعلقه ثواب أو عقاب وصل الانسان اليهما ، واذا لم يكن في متعلقه ثواب أو عقاب لم يكن له شيء من الأمان في متعلقه ( ولا ) يترتب ( على مخالفته سوى الوقوع في الحرام الواقعي ) والاّ فأمر الاحتياط لا شأن له اطلاقاً .

وانّما يقع المخالف في الحرام الواقعي ( على تقدير تحققه ) أي : تحقق ذلك الحرام في الواقع ، فالارشاد الشرعي في اوامر الاحتياط الشرعية كالأرشاد العقلي في أوامر الاحتياط العقلية في انّه ، لا ثواب ولا عقاب في فعل الاحتياط ولا في ترك الاحتياط بنفسه .

( ويشهد لما ذكرنا : ) من كون الأوامر الشرعية الاحتياطية للارشاد ( ان ظاهر الأخبار ) الدالة على الاحتياط ( حصر حكمة الاجتناب عن الشبهة : في التفصّي عن الهلكة الواقعية ) فهي أوامر ارشادية ، فائدتها : النجاة من الهلكة الواقعية ان كانت هناك هلكة في الواقع تترتب على المخالفة .

وانّما كانت حكمة الاجتناب التفصّي ( لئلا يقع ) المكلّف ( فيها ) أي : في تلك الهلكة الواقعية ( من حيث لا يعلم ) لفرض : ان المكلّف لا يعلم ان هناك

ص: 255

واقترانه مع الاجتناب عن الحرام المعلوم في كونه ورعا .

ومن المعلوم أنّ الأمر باجتناب المحرّمات في هذه الأخبار ليس إلاّ للارشاد ، لا يترتب على موافقتها سوى الخاصيّة الموجودة في المأمور به ، وهو الاجتناب عن الحرام او فوتها . فكذلك الأمر باجتناب الشبهة لا يترتب على موافقته سوى ما يترتب على نفس الاجتناب لو لم يأمر به الشارع ،

-------------------

هلكة ، والاّ فاذا علم ان هناك هلكة ، لم يكن من الاحتياط في شيء بل كان من الاطاعة للشيء المعلوم .

( و ) يشهد لكون الأوامر ارشادية أيضاً ( اقترانه ) أي : اقتران الاجتناب عن الشبهة في الروايات ( مع الاجتناب عن الحرام المعلوم في كونه ورعاً ) فان الشارع جعل اجتناب الشبهة مقارناً لاجتناب الحرام ، فيما تقدّم من حديث فضيل حيث سأل أبي عبداللّه عليه السلام عن الورع من الناس ؟ فقال عليه السلام : الذي يتورع من محارم اللّه ويجتنب هؤاء ، فاذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه .

( ومن المعلوم : ان الأمر باجتناب المحرمات ) المعلومة اجمالاً أو تفصيلاً الوارد ( في هذه الأخبار ) حال هذا الأمر حال الأمر بالاطاعة ( ليس الاّ للارشاد ، لا يترتب على موافقتها سوى الخاصية الموجودة في المأمور به ) الذي هو شأن الأمر الارشادي ( و ) المراد بالمأمور به : ( هو الاجتناب عن الحرام أو فوتها ) فان أطاع نجا من العقاب ، وان لم يطع وقع في العقاب وفاتته خاصية الاجتناب .

( فكذلك الأمر باجتناب الشبهة لا يترتب على موافقته ) أي : موافقة ذلك الأمر أو مخالفته ( سوى ما يترتب على نفس الاجتناب ) وعدم الاجتناب ( لو لم يأمر به الشارع ) فالحسن وعدم الحسن في ذات الشيء ، سواء أمر به المولى أو لم يأمر به ، كما ان الحسن وعدم الحسن في ذات الدواء سواء أمر به الطبيب أو لم يأمر به .

ص: 256

بل فعله المكلّف حذرا من الوقوع في الحرام .

ولا يبعد التزامُ ترتّب الثواب عليه ، من حيث أنّه انقياد وإطاعة حكميّة ، فيكون حينئذٍ حال الاحتياط والأمر به حالَ نفس الاطاعة الحقيقيّة ، والأمر بها في كون الأمر لا يزيد فيه على ما ثبت فيه من المدح او الثواب لولا الأمر .

-------------------

وعليه : فالاجتناب في نفسه حسن وان لم يأمر الشارع به ( بل فعله ) أي : فعل ذلك الاجتناب ( المكلّف حذراً من الوقوع في الحرام ) فانه حسن ، وأمر الشارع لا يزيد هذا شيئاً ، كما ان أمر الطبيب لا يزيد الدواء شيئاً ، فالدواء يترتب عليه فائدته اذا شربه الانسان ، سواء أمر به الطبيب أو لم يأمر به الطبيب ( و ) بهذا ظهر : ان أمر الاحتياط ، ارشادي لا مولوي .

نعم ، ( لا يبعد التزام ترتّب الثواب عليه من حيث انه انقياد واطاعة حكمية ) فيترتب الثواب على هذا الاجتناب كما يترتّب الثواب على ترك شرب الخمر لان كليهما اطاعة ، فكما ان ترك شرب الخمر يوجب صدق الطاعة اطاعة حقيقية ، كذلك ترك شرب التتن يوجب صدق الطاعة لكنه طاعة حكمية .

( فيكون حينئذٍ ) أي : حين كانت الأوامر الشرعية التي وردت في الاحتياط والتوقف وما أشبه للارشاد لا للمولوية ، وقلنا بترتب الثواب على نفس الاحتياط لا على موافقة الأوامر الاحتياطية ( حال الاحتياط والأمر به حال نفس الاطاعة الحقيقية والأمر بها ) .

إذن : فالاحتياط بموازات الاطاعة والأمر بالاحتياط في موازات الأمر بالطاعة ( في كون الأمر ) بالاحتياط ( لا يزيد فيه ) أي : في الاحتياط ( على ما ثبت فيه من المدح أو الثواب لولا الأمر ) فسواء كان أمر أو لم يكن أمر ، يكون الاحتياط حسناً ، والأمر حينئذٍ يكون للارشاد فقط ، فكما انّه لو اجتنب انسان الشبهات يكون

ص: 257

هذا ، ولكنّ الظاهرَ من بعض الأخبار المتقدمة ، مثل قوله عليه السلام : « من ارتكب الشبهات نازعته نفسه إلى أن يقع في المحرّمات » ،

-------------------

ممدوحاً وان لم يكن أمر بالاحتياط ، كذلك اذا كان أمر بالاحتياط .

وعليه : فلا يكون الأمر بالاحتياط موجباً للثواب ، بل هو للارشاد المحضّ ، وانّما الموجب للثواب هو فعل الاحتياط بنفسه ، فيكون حال المقام حال من يشرب الدواء احتياطاً بدون أمر الطبيب حيث انه ممدوح ، فاذا أمر الطبيب لا يكون اطاعة أمر الطبيب موجباً للمدح ، بل كان ارشاداً محضاً .

وعليه : فالاُمور ثلاثة :

الأول : الأوامر المولوية وفي اطاعتها الثواب .

الثاني : الأوامر الارشادية وليس في اطاعتها الثواب .

الثالث : الاحتياط وفيه الثواب سواء كان له أمر ارشادي أو لم يكن هناك أمر ارشادي .

( هذا ) تمام الكلام في الاحتمالين الأولين وهما : أن يكون الأمر بالاحتياط مولوياً ، أو يكون الأمر بالاحتياط ارشادياً ولا ثواب في الأمر وانّما الثواب في نفس الاحتياط .

( ولكن الظاهر من بعض الأخبار المتقدّمة ) وجود الثواب بنفس الأوامر الاحتياطية كسائر الأوامر المولوية ( مثل : قوله عليه السلام : « مَن ارتكبَ الشُّبهات نازعته نَفسه الى أن يَقعَ في المُحرّمات » (1) ) الالهية .

ص: 258


1- - كنز الفوائد : ج1 ص352 ، الاحتجاج : ص355 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج27 ص169 ب12 ح33515 ( بالمعنى) .

وقوله : « من ترك الشبهات كان لما استبان له من الاثم أترك » ، وقوله : « من يرتع حول الحِمى اوشك أن يقع فيه » ، هو كونُ الأمر به للاستحباب ، وحكمته أن لا يهون عليه ارتكابُ المحرّمات المعلومة ، ولازمُ ذلك استحقاقُ الثواب على إطاعة أوامر الاحتياط مضافا إلى الثواب المترتب على نفسه .

-------------------

( وقوله ) عليه السلام : ( « مَنْ تَرَكَ الشّبهات كان لِما استَبان لَهُ من الاثم أترَك » (1) ) أي : بطريق اولى ، ( وقوله ) عليه السلام : ( « مَن يَرتع حَول الحِمى أو شك أن يَقع فيه » ) الى سائر ما يشبه هذه الروايات (2) ، فان الظاهر منها ( هو كون الأمر به للاستحباب ) المولوي ، مثل سائر الأوامر المولوية التي يكون متعلقها مستحباً .

( وحكمته ) أي : حكمة هذا الأمر المولوي الموجب للثواب في اطاعة الأمر ( : أن لا يهون عليه ارتكاب المحرّمات المعلومة ) فان ارتكاب الشبهات يقرّب الشخص من ارتكاب المحرّمات المعلومة ، ويهوّنها في نظره ، فيتجرّأ على ارتكابها ، والنفس المتجرّية توجب الانحطاط والتقهقر .

إذن : فيرجح الاحتياط رجحاناً مولوياً لا ارشادياً محضاً ( ولازم ذلك : استحقاق الثواب على اطاعة أوامر الاحتياط ) أيضاً أي : ( مضافاً الى الثّواب المترتب على نفسه ) أي : على نفس الاحتياط ، فاذا احتاط الشخص وصادف الواقع اُثيب ثوابان : ثواب الاحتياط ، وثواب المتعلق .

ص: 259


1- - من لا يحضره الفقيه : ج4 ص74 ب2 ح5149 ، غوالي اللئالي : ج3 ص548 ح15 ، وسائل الشيعة : ج27 ص175 ب12 ح33531 و ص161 ب12 ح33490 بالمعنى .
2- - كرواية أبي جعفر ، انظر وسائل الشيعة : ج27 ص169 ب12 ح13515 وكنز الفوائد : ج1 ص352 .

ثمّ لا فرقَ فيما ذكرنا من حسن الاحتياط بالترك بين أفراد المسألة حتّى في مورد دوران الأمر بين الاستحباب والتحريم ، بناءا على أن دفع المفسدة الملزمة للترك أولى من جلب المصلحة الغير الملزمة

-------------------

مثلاً : لو اقتضى الاحتياط : الدّعاء عند رؤة الهلال ، فدعا عندها اعطي ثوابان : ثواب الدعاء المفروض انّه الواقع ، وثواب الاحتياط ، اما اذا لم يصادف الواقع ، بأن لم يكن الدعاء عند رؤة الهلال راجحاً في الواقع ، اعطي ثواب واحد وهو ثواب الاحتياط .

( ثمّ لا فرق فيما ذكرنا من حسن الاحتياط بالترك بين أفراد المسألة ، حتى في مورد دوران الأمر بين الاستحباب والتحريم ) أي : مطلقاً فان افراد المسألة سبعة :

الأول : الدوران بين الحرمة والاستحباب .

الثاني : الدوران بين الحرمة والكراهة .

الثالث : الدوران بين الحرمة والاباحة .

الرابع والخامس والسادس : الدوران بين ثلاثة منها ، ولها ثلاث صور .

السابع : الدوران بين كل الأربعة .

لا يقال : ان الدوران بين الاستحباب والتحريم ، يكون من دوران الأمر بين المحذورين ، لأنّ الاستحباب راجح الفعل والتحريم راجح الترك .

لأنّه يقال : انّما نقول بحسن الاحتياط في هذه الصورة ( بناءاً على ان دفع المفسدة الملزمة للترك ، أولى من جلب المصلحة غير الملزمة ) فان المفسدة القوية أولى دفعها من جلب المنفعة الضعيفة .

مثلاً : اذا دار الأمر بين أن يكون الغريق انساناً يجب انقاذه ، أو حيواناً مؤذياً

ص: 260

وظهور الأخبار المتقدّمة في ذلك أيضا .

و لا يتوهّم : « أنّه يلزم من ذلك عدم حسن الاحتياط فيما احتمل كونه من العبادات المستحبّة بل حسن الاحتياط بتركه » ، إذ لا ينفكّ ذلك

-------------------

-

لكن أذيته ليست بحد التحريم - يكره انقاذه ، فانّ الاحتياط في الانقاذ ، وفي عكسه بأن دار الامر بين كون الغريق كافراً محرّم الانقاذ أو حيواناً مستحب الانقاذ ، فان الاحتياط في ترك الانقاذ .

( و ) بناءاً على ( ظهور الأخبار المتقدّمة في ذلك أيضاً ) أي : ان اخبار الاحتياط شامل لدوران الأمر بين الاستحباب والتحريم ، بل وكذلك شامل لدوران الأمر بين الكراهة والوجوب .

( و ) لا يقال : اذا دار أمر العبادة بين التحريم والاستحباب ، كالأذان في بعض الصلوات المستحبة ، وصلاة ليلة الرغائب ، حيث ورد بهما بعض الروايات الضعيفة ، لم يكن الاحتياط في الفعل ، اذ الاتيان بالعبادة غير الواردة قطعاً تشريع محرم .

لأنّه يقال : يأتي بالعبادة رجاءاً ، والرجاء في قِبال التشريع ، اذ التشريع معناه النسبة الى المولى ، والرّجاء معناه : عدم النسبة ، بل يأتي بالعبادة لاحتمال ارادة المولى ، فاذا ذهب زيدا - مثلاً - الى دار عمرو قائلاً له : انك طلبتني يكذبه عمرو ، اما اذا قال : احتملت انك تريدني ، لا يكذبه عمرو ، بل يستحسنه العقلاء .

والى هذا الاشكال والجواب أشار المصنِّف بقوله : ( لا يتوهم انه يلزم من ذلك ) أي حسن الاحتياط بالترك ( عدم حسن الاحتياط ) بالفعل ( فيما احتمل كونه من العبادات المستحبة ، بل حسن الاحتياط بتركه ) فيدور امره بين الحرمة والاستحباب ، فيكون الاحتياط في الترك لا في الفعل . ( اذ لا ينفك ذلك ) أي :

ص: 261

عن احتمال كون فعله تشريعا محرّما ، لأنّ حرمة التشريع تابعة لتحققه . ومع إتيان ما احتمل كونها عبادة لداعي هذا الاحتمال لا يتحقق موضوعُ التشريع . ولذا قد يجب الاحتياط مع هذا الاحتمال ، كما في الصلاة إلى أربع جهات وفي الثوبين المشتبهين وغيرهما ، وسيجيء زيادةُ توضيح لذلك إنشاء اللّه تعالى .

-------------------

احتمال كونه عبادة ( عن احتمال كون فعله تشريعاً محرّماً ) فاللازم الترك لتغليب جانب الحرام على جانب الاستحباب .

وانّما قلنا : لا يتوهم ( لأنّ حرمة التشريع تابعة لتحققه ) أي : تحقق موضوع التشريع ، فانّ الاحكام تابعة لموضوعاتها ( و ) التشريع لا يتحقق في المقام ، اذ ( مع اتيان ما احتمل كونها عبادة لداعي هذا الاحتمال ) ورجاء طلب المولى لها لا جازماً بأن المولى أمر بها ( لا يتحقق موضوع التشريع ) لما عرفت : من ان التشريع هو النسبة الى المولى ، وهذا ليس بنسبة وانّما بالرجاء والاحتمال .

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه : من ان الرجاء في مقابل التشريع فالرجاء لا بأس به ( قد يجب الاحتياط مع هذا الاحتمال ) أي : مع احتمال الحرمة ( كما في الصلاة الى أربع جهات ) مع وضوح : ان الصلاة الى دبر القبلة محرّمة ( و ) كذا ( في الثوبين المشتبهين وغيرهما ) من موارد العلم الاجمالي الذي احد طرفيه محرّم ، كالصلاة بوضوئين من مائين أحدهما مضاف ، حيث ان الصلاة بلا طهور محرمة ، ففي الحديث ، « أما يَخاف الذي يُصلي من غَير طهور أن يَخسِفَ اللّهُ بهِ الأرضَ » .

هذا ( وسيجيء زيادة توضيح لذلك انشاء اللّه تعالى ) .

ص: 262

الرابع :

نسب الوحيد البهبهاني قدس سره ، إلى الأخباريّين مذاهبَ أربعة فيما لا نصّ فيه : التوقف ، والاحتياط ، والحرمة الظاهريّة ، والحرمة الواقعيّة ، فيحتمل رجوعُها إلى معنى واحد وكون اختلافها في التعبير ،

-------------------

نعم ، لو دار الأمر بين واجب وحرام ، فلا احتياط في احد الطرفين بل التخيير .

اللّهم الاّ اذا كان أحدهما أهم لا بحد المنع عن النقيض ، فانّه يحتاط باتيان الأهم ، أما اذا كان على حدّ المنع من النقيض وجب قطعاً ، كما اذا دار امر الغريق بين كونه مرجع تقليد يثلم موته في الاسلام ثلمة ، أو كافر عادي يحرم انقاذه ، لأنه يحارب المسلمين محاربة ضعيفة ، فانّه يقدّم الانقاذ ، وفي عكسه من دوران الأمر بين مسلم عادي ورئيس الكفار الذي يهدم الاسلام لو بقي فيقدم ترك الانقاذ .

التنبيه ( الرابع : نسب الوحيد البهبهاني قدس سره الى الأخباريين مذاهب أربعة فيما لا نص فيه ) من الشبهة الحكمية التحريمية ، لما عرفت سابقاً من ان الاختلاف بين الاُصوليين والأخباريين في هذه الشبهة فقط ، أما في غيرها من الشبهات الثلاث الاُخر : حكمية وجوبية ، أو موضوعية وجوبية ، أو تحريمية ، فالكل متفقون على البرائة فيها .

والمذاهب الأربعة هي : ( التوقف ، والاحتياط ، والحرمة الظاهرّية ، والحرمة الواقعيّة ) فان كلّ طائفة من الأخباريين عبّر بأحد هذه التعبيرات ( فيحتمل رجوعها الى معنى واحد ) بأن يكون من الاختلاف في اللفظ وارادة الجميع معنى واحداً ( وكون اختلافها في التعبير ) فقط .

ص: 263

لأجل اختلاف ما ركنوا إليه من أدلّة القول بوجوب اجتناب الشبهة : فبعضهمُ ركن إلى أخبار التوقف ، وآخَرُ إلى أخبار الاحتياط ، وثالثٌ إلى أوامر ترك الشبهات مقدّمةً لتجنّب المحرّمات ، كحديث التثليث ،

-------------------

وانّما اختلفوا في التعبير ( لأجل اختلاف ما ركنوا ) واستندوا ( اليه من ادلة القول بوجوب اجتناب الشبهة ) التحريمية ( فبعضهم ركن الى أخبار التوقف ) كقوله عليه السلام : « الوقوفُ عِندَ الشُّبهةِ خَير من الاقتِحام في الهَلَكةِ» (1) ولذا عبّر بالتوقف ( و ) ركن بعض ( آخر الى أخبار الاحتياط ) ولذا عبّر بالاحتياط لقوله عليه السلام : « أخُوكَ دينُك فاحتَط لدِينكَ بما شِئتَ » (2) .

( و ) ركن بعض ( ثالث الى أوامر ترك الشبهات مقدّمة لتجنب المحرّمات كحديث التثليث ) في قوله عليه السلام : « مَن تَركَ الشُّبهات نَجى من المُحرَّمات » (3) ، فالترك مقدمة للحرام الواقعي المحتمل ، فيكون حكماً ظاهرياً من الشارع

ص: 264


1- - كرواية الزهري والسكوني وعبد الأعلى ، انظر الكافي اصول : ج1 ص50 ح9 ، المحاسن : ص215 ح102 ، وسائل الشيعة : ج27 ص155 ب12 ح33465 ، وكرواية مسعدة بن زياد في نكاح الشبهة ، انظر تهذيب الاحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ، و وسائل الشيعة : ج27 ص159 ب12 ح33478 .
2- - الأمالي للطوسي : ص110 ح168 ، الأمالي للمفيد : ص283 المجلس الثالث والثلاثون ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

ورابعٌ إلى أوامر ترك المشتبهات من حيث أنّها مشتبهات ، فانّ هذا الموضوع في نفسه حكمه الواقعيّ الحرمة .

-------------------

بالوجوب ، مثل : ايجاب الشارع اراقة الانائين الذين أحدهما نجس ، فان اراقة غير النجس الواقعي واجبة ظاهراً لا واقعاً لفرض انّه ليس بنجس ، وكذا وجوب اجتناب امرأتين احديهما ليست زوجته وإحديهما زوجته واشتبهتا ، فانّ وجوب اجتناب الزوجة ظاهري لا واقعي .

( و ) ركن بعض ( رابع الى أوامر ترك المشتبهات من حيث انها مشتبهات ) فيكون التحريم واقعياً ، لأن ظاهر بعض الأخبار كما تقدّم : ان ارتكاب الشبهة اقتحام في الهلكة ، وقد عرفت : انّ المنصرف من الهلكة العقاب الاُخروي ، فيكون مثل هذه الأخبار ظاهرة في الحرمة الواقعية ( فانّ هذا الموضوع في نفسه حكمهُ الواقعي الحرمة ) .

وإنّما قال هؤاء بالحرمة الواقعية لمثل موثقة حمزة بن الطيّار فانّه عرض على أبي عبد اللّه عليه السلام بعض خُطب أبيه عليه السلام حتى اذا بلغ موضعاً منها قال له : « كُفّ واسكت » ، ثم قال ابو عبداللّه عليه السلام : « انّه لا يسعكم فيما نزل بكم ممّا لا تعلمون الاّ الكف عنه والتثبت ، والرّد الى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه الى القصد ويجلو عنكم فيه العمى ويعرّفوكم فيه الحق ، قال اللّه تعالى : « فاسئَلوا أهلَ الذِّكر إن كُنتُم لا تَعلَمُون » (1) » (2) ، ولمثل قوله عليه السلام : « حَقّ اللّهِ على العبادِ أن يقولوا ما يعلَمُون ويقفوا عندَ ما لا يَعلَمُون » (3) .

ص: 265


1- - سورة النحل : الآية 43 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص50 ح10 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص43 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص23 ب4 ح33108 .

والأظهر أنّ التوقف أعمُّ بحسب المورد من الاحتياط ، لشموله الأحكام المشتبهة في الأموال والأعراض والنفوس

-------------------

والحاصل أنّ الكل أراد معنى واحداً ، ولكن باعتبارات مختلفة ، فان من عبّر بالتوقف ، اعتبر ان الاجتناب : توقف عن الاقتحام في الهلكة .

ومن عبّر بالاحتياط اعتبر ان الاجتناب : أخذ بالأمر الذي لا ريب فيه .

ومن عبّر بالحرمة ظاهراً فباعتبار ان التتن - مثلاً - له حكم واقعي لا يعلمه ، وانّما حكمه الظاهري الاجتناب ، ومن عبّر بالحرمة واقعاً فباعتبار ان المشتبه أيضاً من المحرمات ، فانّ المشتبه وان كان له حكم واقعي على خلافه أولاً وبالذات ، لكن ذلك الحكم الواقعي لعدم وصوله الى المكلّف غير منجّز عليه ، فالحكم الواقعي الثانوي لهذا المكلّف هو التحريم ، كحالة الاضطرار والكراهة ونحوهما ، حيث ان الحكم الواقعي يسقط عندها ويكون الحكم الثانوي واقعياً .

( والاظهر : أن ) هذه الأقوال ليست عبارات شتّى لأمر واحد ، بل هي مختلفة معنى ايضاً ، فانّ بين التوقف والاحتياط - مثلاً - عموم من وجه ، فالتوقف يشمل ما لايمكن فيه الاحتياط كدوران الأمر بين المحذورين ، اذ اللازم في مثل هذا المقام : الصلح أو القرعة في الماليات ونحوها ، كما ان الاحتياط يشمل ما لا يمكن فيه التوقف ، لأن الاحتياط يشمل محتمل التحريم ، ومحتمل الوجوب ، والاخباريون لا يقولون بالتوقف في محتمل الوجوب .

وعليه : فان ( التوقف ) أي : عدم الاقتحام في الهلكة المحتملة ( أعم بحسب المورد من الاحتياط لشموله ) أي : شمول التوقف كل ( الأحكام المشتبهة في الأموال والأعراض والنفوس ) فاذا تردد مال بين أن يكون لزيد أو لعمرو ، أو امرأة بين أن تكون زوجة ز يد أو زوجة عمرو ، أو ولد بين أن يكون ابناً لزيد أو لعمرو ،

ص: 266

ممّا يجب فيها الصلح او القرعة ، فمن عبّر به أراد وجوب التوقف في جميع الوقائع الخالية عن النصّ العامّ والخاصّ .

والاحتياطُ أعمُّ من موارد احتمال التحريم ، فمن عبّر به أراد الأعمّ من محتمل التحريم ومحتمل الوجوب ، مثل وجوب السورة او وجوب الجزاء

-------------------

فان هذه الموارد كلها لا يمكن الاحتياط فيها ، بينما يمكن التوقف عندها بمعنى : ترك الاقتحام في الهلكة .

فان قلت : فماذا يصنع من تردّد في هذه الموارد ؟ .

قلت : هذه الموارد وأمثالها ( ممّا ) لا يمكن فيها الاحتياط ( يجب فيها الصلح أو القرعة ) بما فيه الصلح القهري الذي قال به الجواهر وغيره .

وربما يقال في بعض الموارد بأمر ثالث وهو : اجبار الحاكم المتنازعين في زوجة ، أو المتنازعتين في زوج على الطلاق ، أو اجبار الحاكم المتنازعين في تولية الوقف بالتقسيم بأن يكون سنة بيد هذا وسنة بيد ذاك ، الى غير ذلك .

إذن : ( فمن عبّر به ) أي : بالتوقف ( أراد وجوب التوقّف ) بعدم المضي وعدم الاقتحام في الهلكة ( في جميع الوقائع الخالية عن النص العام والخاص ) سواء أمكن الاحتياط أم لا ، ومن الواضح : انه يلزم خلوّ الواقعة عن نص عام أو نص خاص ، والاّ لم يكن من المشتبه في شيء .

هذا هو وجه أعميّة التوقف عن الاحتياط .

( والاحتياط أعم من موارد احتمال التحريم ، فمن عبّر به ) أي : بالاحتياط ( أراد : الأعم من محتمل التحريم ومحتمل الوجوب ) فمحتمل الحرمة كالشبهة التحريمية الحكمية ، ومحتمل الوجوب ( مثل وجوب السورة ) في باب الأقل والأكثر الارتباطيين ( أو وجوب الجزاء ) والكفارة على نفرين صادا صيداً واحداً ،

ص: 267

المردّد بين نصف الصيد وكلّه .

وأمّا الحرمة الظاهريّة والواقعيّة فيحتمل الفرق بينهما : بأنّ المعبّر بالأُولى قد لاحظ الحرمة من حيث عروضها لموضوع محكوم بحكم واقعيّ ، فالحرمة ظاهريّة ، والمعبّر بالثانية قد لاحظها من حيث عروضها لمشتبه الحكم ، وهو موضوع من الموضوعات الواقعيّة ، فالحرمة واقعيّة ، أو

-------------------

فهل عليهما كفارتان أو كفارة واحدة بالتنصيف ؟ فيكون المقام من الأمر ( المردد بين نصف الصيد وكلّه ) في باب الأقل والأكثر الاستقلاليين .

والحاصل : ان بعض موارد الاحتياط فيه التوقف ، والبعض الآخر ليس فيه التوقف ، فهو أعمّ من التوقف ، فهذا هو وجه اعميّة الاحتياط عن التوقف .

( وأما ) الفرق بين ( الحرمة الظاهرية و ) الحرمة ( الواقعية فيحتمل ) أن يكون ( الفرق بينهما ) على مايلي :

أولاً : ( : بأنّ المعبِّر بالأولى ، قد لاحظ الحرمة من حيث عروضها لموضوع محكوم بحكم واقعي ) كما تقدّم : من ان شرب التتن قطعاً محكوم بحكم واقعي ، لكن حيث لا نعلم ذلك الحكم ، جعل الشارع له حكماً ظاهرياً هو : حرمة الاقتحام (فالحرمة ظاهرية) لشرب التتن في قِبال الحكم الواقعي المجهول عندنا.

( والمعبّر بالثانية ) أي : بالحرمة الواقعية ( قد لاحظها ) أي : لاحظ الحرمة ( من حيث عروضها لمشتبه الحكم ) فحكم التتن حكماً ثانوياً هو الحرمة فيما اذا كان التتن مشتبه الحكم ( وهو ) أي : المشتبه الحكم بما هو ( موضوع من الموضوعات الواقعيّة ، فالحرمة واقعية ) له .

ثانياً : ( أو ) يحتمل ان يكون الفرق بينهما بكون المعبّر بالحرمة الظاهرية من المخطئة القائلين : باحتمال الحلية في الواقع ، والمعبّر بالحرمة الواقعية من

ص: 268

بملاحظة أنّه إذا منع الشارعُ المكلّف ، من حيث انّه جاهل بالحكم من الفعل ، فلا يعقل إباحته له واقعا ، لأنّ معنى الاباحة الاذن والترخيص ، فتأمّل .

ويحتمل الفرق بأنّ القائل بالحرمة الظاهريّة يحتمل أن يكون الحكمُ في الواقع هي الاباحة ، إلاّ أنّ أدلّة الاجتناب عن الشبهات حرمتها ظاهرا ، والقائل بالحرمة الواقعيّة إنّما يتمسّك في ذلك بأصالة الحظر في الأشياء من باب قبح التصرّف فيما يختصّ بالغير بغير إذنه .

-------------------

المصوبة القائلين : بامتناع اجتماع الحكم الواقعي والظاهري وذلك ( بملاحظة : انّه اذا منع الشارع المكلّف من حيث انّه جاهل بالحكم من الفعل ، فلا يعقل اباحته له واقعاً ، لأن معنى الاباحة : الاذن والترخيص ) .

ومن الواضح : ان المنع والترخيص متناقضان ، فالعالم له الاباحة والجاهل له الحرمة ، فهو مثل ما يقال : من أن العالم عليه الجهر في صلاة الصبح ، والجاهل يجوز له الاخفات ، ولهذا لو أخفت الجاهل لم يكن عليه اعادة ولا قضاء .

( فتأمّل ) فانّه خلاف اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل .

ثالثاً : ( ويحتمل الفرق ) بين الحرمة الظاهرية والحرمة الواقعية ( بأن القائل بالحرمة الظاهرية يحتمل أن يكون الحكم في الواقع : هي الاباحة ، الاّ أن أدلّة الاجتناب عن الشبهات حرمتها ظاهراً . والقائل بالحرمة الواقعية انّما يتمسك في ذلك باصالة الحظر في الأشياء ) فالقائل بالتحريم واقعاً يذهب الى ان الأصل في الأشياء الحظر ، فيحرم واقعاً ، والقائل بالتحريم ظاهراً يذهب الى أن الأصل في الأشياء الاباحة ، لكن حيث قال الشارع : « احتط » يحرم ظاهراً .

وانّما يكون الأصل في الأشياء الحظر ( من باب قبح التصرف فيما يختص بالغير ، بغير اذنه ) والتتن من مُلك اللّه سبحانه وتعالى الذي له كلّ شيء في

ص: 269

ويحتمل الفرق بأنّ معنى الحرمة الظاهريّة حرمة الشيء في الظاهر فيعاقب عليه مطلقا وإن كان مباحا في الواقع .

والقائل بالحرمة الواقعيّة يقول بأنّه لا حرمة ظاهرا أصلاً ، فان كان في الواقع حراما استحقّ المؤاخذة عليه وإلاّ فلا ، وليس معناها أنّ المشتبه حرام واقعا ، بل معناه أنّه ليس فيه إلاّ الحرمة الواقعيّة على تقدير

-------------------

الكون ، ولم نعلم انّه اباحة لنا ، فهو محرم علينا واقعاً .

ثمّ ان هذا الاحتمال الثالث من الفرق بين الظاهري والواقعي كان من جهة الدليل ، بينما الاحتمال الأول كان الفرق فيه من جهة الموضوع ، والاحتمال الثاني كان الفرق فيه من حيث المكلّف وتقسيمه الى جاهل وعالم ، وهناك احتمال رابع يكون الفرق فيه من حيث العقاب ، فمن يقول بالحرمة الظاهرية يرى عقاب الشارب وان كان مباحاً واقعاً ، ومن يقول بالحرمة الواقعية يرى عدم العقاب اذا كان مباحاً واقعاً . والى هذا الاحتمال الرابع أشار المصنِّف بقوله : ( ويحتمل الفرق: بانّ معنى الحرمة الظاهرية : حرمة الشيء في الظاهر ، فيعاقب عليه مطلقاً ) أي (وان كان مباحاً في الواقع) وذلك لأن الأخبار أوجبت في المشتبهات الاجتناب ، فاذا لم يجتنبها الانسان عاقبه المولى عليها وان كانت في الواقع مباحاً ، لانّه خالف الأمر المولوي الذي أمره بالاجتناب .

( والقائل بالحرمة الواقعية يقول : بأنّه لا حرمة ظاهراً أصلاً ) وانّما المعيار الواقع (فان كان في الواقع حراماً ، استحق المؤخذة عليه ، والاّ فلا) مؤخذة عليه .

( وليس معناها ) أي : الحرمة الواقعية ( :ان المشتبه حرام واقعاً ) اذ الشيء لا يتغير عمّا عليه في الواقع بالعلم والجهل ( بل معناه ) أي : معنى قول القائل بالحرمة الواقعية ( :انه ليس فيه ) أي : في المشتبه ( الاّ الحرمة الواقعية على تقدير

ص: 270

ثبوتها ، فانّ هذا أحد الأقوال للأخباريّين في المسألة ، على ماذكره العلاّمة الوحيد المتقدّم ، في موضع آخر ، حيث قال ، بعد ردّ خبر التثليث المتقدّم : ب- « أنّه لا يدلّ على الحظر ووجوب التوقف ، بل مقتضاه أنّ من ارتكب الشبهة واتفق كونه حراما في الواقع يهلك لا مطلقا ،

-------------------

ثبوتها ) أي : على تقدير ثبوت الحرمة للتتن في الواقع .

وعليه : ( فان هذا ) أي : العقاب على تقدير الحرمة الواقعية لا مطلقاً ( أحد الأقوال للأخباريين في المسألة على ما ذكره العلاّمة الوحيد ) البهبهاني ( المتقدّم ) ذكره ( في موضع آخر ) من كتابه غير الموضع الذي نسب فيه الى الأخباريين مذاهب أربعة ( حيث قال ) الوحيد ( بعد ردّ خبر التثليث المتقدّم ) الذي جعل الأشياء بين : حَرامٌ بيّن ، وَحَلالٌ بيّن ، وشُبهات بَين ذلكَ (1) ( : بأنّه لا يدلّ على الحظر ووجوب التوقف ) على نحو الأمر الشرعي المولوي ، حتى يكون العقاب على مخالفته مطلقاً .

( بل مقتضاه ) أي : مقتضى خبر التثليث : الارشاد بمعنى : ( أنّ من ارتكب الشبهة واتفق كونه حراماً في الواقع يهلك ، لا مطلقاً ) فانّ مرتكب الشبهة لا يهلك لو ارتكب الشبهة التي لم تكن حراماً في الواقع ، لأنه في الحقيقة مرتكب للحلال وهو لا يعلم انه حلال .

ص: 271


1- - كمقبولة عمر بن حنظلة في الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 و مرسلة الصدوق في من لا يحضره الفقيه : ج4 ص74 ب2 ح5149 و وسائل الشيعة : ج27 ص161 ب12 ح33490 و ص175 ب12 ح33531 .

ويخطر بخاطري أنّ من الاخباريّين من يقول بهذاالمعنى » ، انتهى .

ولعلّ هذا القائل اعتمد في ذلك على ماذكرنا سابقا ، من أنّ الأمر العقليّ والنقليّ بالاحتياط للارشاد ، من قبيل أوامر الطبيب ، لا يترتب على موافقتها ومخالفتها عدا ما يترتب على نفس الفعل المأمور به أو تركه لو لم يكن أمر .

نعم ، الارشاد على مذهب هذا الشخص على وجه اللزوم ، كما في بعض أوامر الطبيب ،

-------------------

ثمّ قال الوحيد بعد ذلك : ( ويخطر بخاطري أنّ من الأخباريين من يقول بهذا المعنى ، انتهى ) كلام الوحيد البهبهاني رحمه اللّه .

وكيف كان : فقد قال المصنّف : ( ولعل هذا القائل ) بالحرمة الواقعية من الأخباريين حيث قال : انه بمعنى : ان اتفق كونه حراماً في الواقع يهلك المرتكب ، لا انه يهلك مطلقاً وان كان حلالاً في الواقع .

( اعتمد في ذلك ) أي : في قوله هذا ( على ما ذكرنا سابقا : من ان الامر العقلي والنقلي بالاحتياط : للارشاد ) لا للمولوية .

وعليه : فأوامر الاحتياط انّما هي ( من قبيل أوامر الطبيب ، لا يترتب على موافقتها ) أي : على موافقة أوامر الطبيب ( ومخالفتها ، عدا ما يترتب على نفس الفعل المأمور به ) أي : شرب الدواء من الصحة - مثلاً - ( أو تركه ) أي : ترك شرب الدواء من بقاء المرض - مثلاً - من دون ان يكون لنفس الامر أثر ، كما قال : ( لو لم يكن أمر ) أصلاً .

( نعم ، الارشاد على مذهب هذا الشخص ) من الأخباريين القائل بالحرمة الواقعية بهذا المعنى ، انّما هو ( على وجه اللّزوم كما في بعض أوامر الطبيب ،

ص: 272

لا للأولويّة ، كما اختاره القائلون بالبراءة .

وأمّا ما يترتب على نفس الاحتياط فليس إلاّ التخلّصَ من الهلاك المحتمل في الفعل .

نعم ، فاعلهُ يستحقّ المدحَ من حيث تركه لما يحتمل أن يكون تركه مطلوبا عند المولى ، ففيه نوعٌ من الانقياد

-------------------

لا للأولوية كما اختاره القائلون بالبرائة ) فانّهم يقولون بانها للارشاد على وجه الرجحان لا على وجه اللزوم .

وان شئت قلت : انّ هذا القائل يرى المرتكب فاعلاً للحرام ان كان التتن - مثلاً - في الواقع حراماً ، أو متجرّياً ان كان التتن في الواقع حلالاً ، بينما الاُصولي يرى المرتكب غيرُ عاصٍ ولا مُتجر اطلاقاً ، وانّما يقول بالثواب فقط للمحتاط بعدم شرب التتن .

ثمّ انّه قد تقدّم : انّ الأمر بالاحتياط ، إمّا ارشاد لزوميّ أو ارشاد استحبابي أو مولوي ، هذا في الأمر نفسه ، أما في الاحتياط نفسه بأن إحتاط الشخص فلم يشرب التتن أو لم يحتط فشربها ، فما لهذا الشخص اذا ترك التتن ؟ وماذا عليه اذا شربه ؟ .

هذا ما أراده المصنّف بقوله : ( وأما ما يترتب على نفس الاحتياط ) بأن ترك شرب التتن - مثلاً - حذراً من الوقوع في الحرام ( فليس الاّ التخلص من الهلاك المحتمل في الفعل ) فاذا كان التتن حرام واقعاً فشربه هلك ، وإذا لم يشربه لم يهلك .

( نعم ، فاعله ) أي : فاعل الاحتياط الذي ترك شرب التتن - مثلاً - ( يستحق المدح من حيث تركه لما يحتمل أن يكون تركه مطلوباً عند المولى ، ففيه ) أي : في الاحتياط ( نوع من الانقياد ) والطاعة .

ص: 273

ويستحقّ عليه المدح والثواب . وأمّا تركه فليس فيه إلاّ التجرّي بارتكاب ما يحتمل أن يكون مبغوضا للمولى ، ولا دليل على حرمة التجرّي على هذا الوجه واستحقاق العقاب عليه .

بل عرفت في مسألة حجّيّة العلم المناقشة في حرمة التجرّي بما هو أعظمُ من ذلك ، كأن يكون الشيء مقطوع الحرمة بالجهل المركّب

-------------------

ومن المعلوم : انّ امتثال التكاليف المعلومة ، طاعة حقيقية ، أما امتثال مثل أمر الاحتياط فيما لم يكن التتن حراماً في الواقع فهو انقياد ، والانقياد حسنٌ ( ويستحق عليه المدح ) عند العقلاء ، بل ( والثواب ) أيضاً على ما تقدمت الاشارة اليه .

( وأما تركه ) أي ترك الاحتياط بأن شرب التتن - مثلاً - ( فليس فيه الاّ التجري بارتكاب ما يحتمل أن يكون مبغوضاً للمولى ) فان التتن اذا كان حلالاً واقعاً ومشتبها ظاهراً فشربه الشخص فقد ارتكب محتمل الحرمة ، ويكون متجرياً ( ولا دليل على حرمة التجري على هذا الوجه واستحقاق العقاب عليه ) أي : على فعل محتمل الحرمة بدون أن يكون حراماً في الواقع لأنّا قد سبق منّا في أول الكتاب أن التجري ليس بحرام .

( بل عرفت في مسألة حجّية العلم ) من مباحث القطع في أول الكتاب ( المناقشة في حرمة التجري بما هو أعظم من ذلك ) فاذا كان التجري الأعظم ليس بمحرّم ولا مسقط عن العدالة - مثلاً - فالتجري الأصغر بطريق أولى ليس بمحرم .

والتجري الأعظم هو ما ذكره بقوله : ( كأن يكون الشيء مقطوع الحرمة بالجهل المركب ) بينما هو لم يكن في الواقع حراماً ، فانّه لو فعله لم يكن مستحقاً للعقاب ، وانّما كان متجرياً وله قبح فاعلي لا فعليّ ، فهو مثل من ينوي السوء

ص: 274

ولا يلزم من تسليم استحقاق الثواب على الانقياد بفعل الاحتياط استحقاق العقاب بترك الاحتياط والتجرّي بالاقدام على ما يحتمل كونه مبغوضا ، وسيأتي تتمة توضيح ذلك في الشبهة المحصورة إنشاء اللّه تعالى .

-------------------

ولا يعمله ، فله قبح فاعلي وليس له قبح فعليّ .

ان قلت : بناءاً على قولكم : لا حرمة في التجري بارتكاب محتمل الحرمة الذي هو حلال في الواقع يلزم ان لا يكون في عدم ارتكابه ثواب ، فكيف تقولون : بأن في الاحتياط ثواباً ، مع انّه بين الثواب والعقاب تلازم في طرفيّ أمر واحد ؟ فانّ من صلّى يثاب ومن ترك يعاقَب ، ومن شرب الخمر يعاقب ، ومن ترك الشرب يثاب ، كما ورد في الحديث ، وهكذا .

قلت : ( ولا يلزم من تسليم استحقاق الثّواب على الانقياد بفعل الاحتياط ) وقوله : « بفعل » متعلق بقوله : « الانقياد » ، أي : لو انقاد فاحتاط لا يلزم منه ( استحقاق العقاب بترك الاحتياط والتّجري ) و « استحقاق » فاعل « لا يلزم » وذلك لعدم التلازم بينهما .

وعليه : فان من يتجرء ( بالاقدام على ما يحتمل كونه مبغوضاً ) لا يعاقب عليه ، والسبب هو : انّ الانقياد عنوان غير عنوان الاطاعة ، والتلازم انّما هو بين الطرفين

في عنوان الاطاعة والمعصية ، والانقياد خارج عن مثل ذلك العنوان ، وقد دلّ الدليل على الثواب عليه ، بينما لم يدل الدليل على حرمة التجري والعقاب عليه ، ولا غرابة ، فكثيراً ما يكون ثواب على طرف ولا عقاب على طرفه الآخر ، كالفاعل للمستحب يثاب بينما التارك له لا يعاقب .

هذا ، ( وسيأتي تتمة توضيح ذلك في الشبهة المحصورة انشاء اللّه تعالى ) .

ص: 275

الخامس :

-------------------

أما الدليل في الثواب على الانقياد ، فهو التحسين عقلاً الملازم للتحسين شرعاً ، لقاعدة الملازمة وتحسين الشرع هو ثوابه ، قال سبحانه : « لِلّذينَ أحْسَنوا الْحُسنى وَزيادَةٌ » (1) مضافاً الى مثل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « اِنَّما الأعمالُ بِالنيّات » (2) وما أشبه ذلك ، ممّا هو كثير في الأحاديث الكريمة .

التنبيه ( الخامس ) : لا يخفى : انّه لو كان أصلان في شيئين أحدهما في الموضوع والآخر في الحكم ، قدّم الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي ، ولا يبقى مجال للأصل الحكمي أصلاً ، فاذا كان هناك ماء لانعلم بانّه طاهر أو نجس وغسلنا به ثوباً نجساً ، فهناك أصلان : الأول : الأصل الجاري في الماء وهو الطهارة ، لفرض : انّه كان سابقاً طاهراً ، فنجري استصحاب الطهارة فيه .

الثاني : الأصل الجاري في الثوب وهو بقائه على النجاسة .

لكن اذا أجرينا الأصل الموضوعي في الماء ثبت كون الماء طاهراً ، ومن المعلوم : انّ الماء الطاهر يطهِّر النجس ، فلا يبقى مجال للشك في طهارة الثوب حتى يمكن التمسك في الثوب ، باستصحاب بقاء نجاسته ، وهذا ما يصطلحون

ص: 276


1- - سورة يونس : الآية 26 .
2- - تهذيب الأحكام : ج1 ص83 ب4 ح67 و ج4 ص186 ب1 ح2 ، وسائل الشيعة : ج1 ص48 ب5 ح89 و ج6 ص5 ب1 ح7197 و ح7198 و ج10 ص13 ب2 ح12713 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص90 ب5 ح58 .

انّ أصالة الاباحة في مشتبه الحكم إنّما هو مع عدم أصل موضوعيّ حاكم عليها ، فلو شك في حلّ أكل حيوان مع العلم بقبوله التذكية

-------------------

عليه : بالأصل السببي والمسببي ، فالأصل السببي جارٍ في الموضوع ، والأصل المسببي جارٍ في الحكم ، وكلّما جري الأصل السببي لا يبقى مجال لجريان الأصل المسببي على ما سيأتي في باب الاستصحاب انشاء اللّه تعالى .

وعلى هذا ، فاذا ذبحنا حيواناً بشرائط الذبح مع علمنا بأن ذلك الحيوان قابل للتذكية ، لا نشك بعد ذلك في طهارة هذا الحيوان الميّت بعد ذبحه ، أما اذا ذبحنا حيواناً ولا نعلم بأنه قابل للتذكية ، أم لا ؟ كما اذا ذبحنا قرداً فانّه لا نتمكن أن نحكم بطهارة ميتته بعد ذبحه ، لأن الحيوان بعد الموت بدون علم بتذكيته نجس ، فأصل النجاسة يبقى ولا حاكم عليه حتى نقول بطهارة ميتة القرد - مثلاً - بعد ذبحه .

وبذلك ظهر : ( انّ اصالة الاباحة في مشتبه الحكم ) أي : في الشبهة الحكمية التحريمية التي هي محل بحثنا في باب البرائة ( انّما هو مع عدم أصل موضوعي حاكم عليها ) أي : على أصالة الاباحة فاذا كان لم يبق مجال للاباحة .

فلو شككنا في حِلّ مال كان سابقاً للغير ولم نعلم بانتقاله الينا ، أو كونه في بيت من تضمنته الآية ، أو ما أشبه ذلك ، لا نحكم بحليته لاصالة بقاء حرمته ، فأصل بقاء الحرمة لا يدع مجالاً للحلّية المستفادة من أدلّة البرائة .

وهكذا ، لو شككنا في حليّة امراة كانت محرّمة علينا من جهة أن الوكيل نكحها أم لا ، كان الأصل حرمتها ، لأنها كانت محرّمة ونشك في حليتها ، واذا جرى هذا الأصل لم يجر اصالة الاباحة ، فأصالة الاباحة متوقفة على عدم جريان أصل الحرمة .

وعلى هذا ( فلو شك في حلّ أكل الحيوان مع العلم بقبوله التذكية ) كخروف

ص: 277

جرى أصالة الحلّ ، وإن شكّ فيه من جهة الشكّ في قبوله للتذكية فالحكمُ الحرمةُ ، لأصالة عدم التذكية ، لأنّ من شرائطها قابليّة المحلّ وهي مشكوكة ، فيحكم بعدمها وكون الحيوان ميتة .

-------------------

شرب لبن كلب لا نعلم هل انّه حرام بذلك كالجلاّل أو لم يحرم ؟ ( جرى اصالة الحلّ ) لأنه كان حلالاً قبل الشرب ، فلم نعلم بحرمته بسبب الشرب .

( وانّ شك فيه ) أي : في الحِلّ ( من جهة الشك في قبوله للتذكية ) اذ الحيوان على ثلاثة أقسام :

قسم قابل للتذكية كالشاة .

وقسم غير قابل للتذكية كالكلب .

وقسم مشكوك فيه كالحيوان المتولِّد من كلب وشاة ، فان كان يشبه الكلب حكم بعدم صلاحيته للتذكية ، وانّ كان يشبه الشاة حكم بصلاحيته للتذكية ، وان كان شبيهاً بالخنزير فكالأول ، أو شبيهاً بالغزال فكالثاني ، وان لم يشبه شيئاً من الأربعة ( فالحكم الحرمة لاصالة عدم التذكية ) .

وانّما يكون الحكم الحرمة ( لأن من شرائطها ) أي : من شرائط التذكية ( قابلية المحلّ ) للتذكية ، فانّ التذكية انّما تتحقق في الحيوان باُمور : كأن يكون الذابح مسلماً ، وآلة الذبح حديداً ، وأن يوجَّه الحيوان الى القبلة ، وان يُذكر اسم اللّه عليه ، وان يكون قابلاً للتذكية ( وهي ) أي قابليته للتذكية حسب الفرض ( مشكوكة ، فيحكم بعدمها ) أي : بعدم التذكية .

( و ) بذلك يحكم ب- ( كون الحيوان ميتة ) لانّه من الشك في بعض شرائط التذكية ، وكلّما شك في شرط منها ، فالأصل عدم تحقق التذكية ، كما لو شك في انّ الآلة كانت حديداً أو خشباً ، أو انّه ذبح الى القبلة أم لا ، أو انّ الذابح كان مسلماً

ص: 278

ويظهرُ من المحقق والشهيد الثانيين ، فيما إذا شكّ في حيوان متولّد من طاهر ونجس لا يتبعهما في الاسم وليس له مماثل ، أنّ الأصلَ فيه الطهارة والحرمة .

-------------------

أم لا ، وهكذا فيكون هذا الحيوان المتولِّد منهما بعد الذبح محكوماً بحرمته ونجاسته .

( ويظهر من المحقق والشهيد الثانيين فيما اذا شك في حيوان متولّد من طاهر ونجس ) كالمتولِّد من الكلب والشاة في المثال المتقدّم ، و ( لا يتبعهما في الاسم ) بأن لا يسمّى شاة ولا كلباً ( وليس له مماثل ) معلوم الحكم ، فلم يكن كالخنزير المعلوم النجاسة والحرمة ، ولا كالغزال المعلوم الطهارة والحليّة قالا : ( انّ الأصل فيه : الطهارة والحرمة ) فهو لا يؤل لحمه لكنّه طاهر .

قال الشهيد الثاني في مقام عدّ أقسام النجاسات : « الكلب والخنزير البرّيان وأجزائهما وان لم تحلّها الحياة ، وما تولّد منهما وان باينهما في الاسم وأما المتولد من أحدهما وطاهر فانّه يتبع في الحكم الاسم ولو لغيرهما ، فان انتفى المماثل ، فالأقوى طهارته وان حرم لحمه للأصل فيهما » وقريب منه كلام المحقق الثاني .

لكنه لا يخفى : انّ الحرمة والنجاسة هي القاعدة في مثل هذا الحيوان المشكوك التذكية ، لأن الأصل عدم التذكية ، وكل حيوان مات بدون تذكية شرعية حرم لحمه ويكون نجس ، وأصالة عدم التذكية لا تدع مجالاً لاصالة الطهارة ، لأن أصل الطهارة مسببي وأصل عدم التذكية سببي ، وكلّما جرى الأصل السببي لم يكن مجال للأصل المسببي - على ما عرفت - .

ثم الكلام في انّه لماذا الأصل الحرمة ؟ ذكر المصنّف لها وجوهاً أشار الى أوّلها

ص: 279

فإن كان الوجه فيه أصالة عدم التذكية ، فانّما يحسنُ مع الشكّ في قبول التذكية وعدم عموم يدلّ على جواز تذكية كلّ حيوان إلاّ ما خرج ، كما ادّعاه بعض .

وإن كان الوجهُ فيه أصالةَ

-------------------

بقوله : ( وان كان الوجه فيه ) أي : في كون الأصل في هذا الحيوان الحرمة ( اصالة عدم التذكية ) لأنا لا نعلم هل ذكيّ أم لا ؟ ( فانّما يحسن ) هذا الوجه ( مع الشك في قبول التذكية وعدم عموم ) في النص ( يدل على جواز تذكية كل حيوان الاّ ما خرج كما ادعاه ) أي : ادعى هذا العموم ( بعض ) حيث قال بأن الأصل في كل حيوان انّه يذكى الاّ ما خرج بالدليل ، كالكلب والخنزير ، فهذا الحيوان المشتبه داخل في هذا العموم .

ثم انهم استدلوا لذلك ببعض الروايات ، مثل رواية ابن مسلم عن الباقر عليه السلام : انه سأل عن سباع الطير والوحش حتى ذكر القَنافذ والخَفاش والحَمير والبِغال ، فقال : ليس الحرام إلاّ ما حرَّم اللّه في كتابه (1) ، وهذا الحديث يحتمل التقية ، لأنّ العامة يرون حلية كل حيوان الاّ الخنزير ، وحتى في الكلب اختلفوا بين محلّل ومحرّم .

ويحتمل انّ يراد به : نفي تحريم التذكية ، فكل حيوان على هذا ، يصح تذكيته الاّ ما خرج بالدليل ، لأن الكتاب لم يحرم تذكية أي حيوان ، فعند الشك في الحلّ والحرمة تجري اصالة الحل ، ويؤد هذا الاحتمال أصالة عدم التقية .

ثمّ أشار الى ثانيها بقوله : ( وان كان الوجه فيه ) أي : في أصل الحرمة ( اصالة

ص: 280


1- - تهذيب الاحكام : ج9 ص42 ب4 ح176 بالمعنى ، تفسير العياشي : ج1 ص382 ح118 وفيه عن (حريز) ، وسائل الشيعة : ج24 ص123 ب5 ح30136 .

حرمة لحمه قبل التذكية ، ففيه ، أنّ الحرمة قبل التذكية لأجل كونه من الميتة ، فاذا فرض إثبات جواز تذكيته خرج عن الميتة فيحتاج حرمته الى موضوع آخر ، ولو شكّ في قبول التذكية رجع الى الوجه السابق .

-------------------

حرمة لحمه قبل التذكية ) وذلك لأنّ أكل اللحم قبل الذبح كان حراماً ، فنستصحب تلك الحرمة ، والفرق بين هذا وبين السابق ، أن السابق يقول : لا يُذكّى ، وهذا يقول : لم نعلم انّه ذكّي أم لا ؟ فنستصحب عدم تذكيته .

( ففيه : انّ الحرمة قبل التذكية لأجل كونه ) أي : كون لحم هذا الحيوان ( من الميتة ) فانّ الانسان اذا قَطَعَ لحم حيوان حيّ ، كانت تلك القطعة ميتة ( فاذا فرض ) بسبب العمومات التي تقدّم بعضها ( اثبات جواز تذكيته ) بالشرائط الشرعية ( خرج عن الميتة ) ولا يصح حينئذٍ استصحابه لتغير الموضوع ، فان الحرمة حال الحياة كانت لكونه حياً ، والحرمة حال الممات انّ كانت فهي لأجل انّ الحيوان لا يذكى ، ومع اختلاف الموضوع لا يجري الاستصحاب كما قرّر في موضعه .

وعليه : ( فيحتاج حرمته الى موضوع آخر ) أي : ان قلنا : انّه بعد الموت حرام لا يمكن الاستناد في حرمته الى الاستصحاب حال الحياة ، بل يلزم أن يكون هناك دليل آخر لحرمته ، مثل انّه غير قابل للتذكية ، ولا دليل آخر عليه .

( ولو شك في قبول التذكية ) أي : وانّ كان استصحاب الحرمة لاجل الشك في قبول التذكية بأن يقال : انّه في حال الحياة لم يذك ، فلا نعلم انّه بما صنعناه من ذبحه ذكّي أم لا ؟ فنستصحب حرمته لعدم ذكاته ( رجع ) استصحاب الحرمة هذا ( الى الوجه السّابق ) أي : الى اصالة عدم قابليته للتذكية ، وقد مرّ جوابه .

ص: 281

وكيف كان ، فلا يعرف وجه لرفع اليد عن أصالة الحلّ والاباحة .

نعم ، ذكر شارحُ الروضة وجها آخر ، ونقله بعضُ محشّيها عن الشهيد في القواعد ، قال شارح الروضة : « إنّ كلاًّ من النجاسات والمحلّلات محصورة ، فاذا لم يدخل في المحصور منها كان الأصل طهارته وحرمة لحمه ، وهو ظاهر » ، انتهى .

ويمكن منعُ حصر المحلّلات بل المحرّمات محصورة ،

-------------------

( وكيف كان : فلا يعرف وجه لرفع اليد عن اصالة الحلّ والاباحة ) في هذا الحيوان المتولد بين طاهر ونجس .

ثمّ أشار المصنّف الى ثالث الوجوه بقوله : ( نعم ، ذكر شارح الروضة ) وهو الفاضل الهندي الذي كتب شرحاً على كتاب شرح اللمعة ، وله كتاب آخر اسمه « كشف اللثام » ويعرف به ، فانّه ذكر ( وجهاً آخر ) ، لحرمة هذا الحيوان المتولد بين الطاهر والنجس ( ونقله ) أي : نقل ذلك الوجه ( بعض محشيها ) أي : بعض محشي الرّوضة ( عن الشهيد ) الأول ( في القواعد ) (1) فان للشهيد الأول كتاباً يسمى : « القواعد » ، والوجه الآخر هو ما يلي :

( قال شارح الروضة : انّ كلاً من النجاسات والمحلّلات محصورة ) بمعنى : انّا لم نجد الاّ نجاسة اُمور معينة كالعشرة مثلاً ، وحليّة اُمور خاصة كالانعام الثلاثة مثلاً ( فاذا ) شككنا في غير هذه الاُمور المعينة ممّا ( لم يدخل في المحصور منها ، كان الأصل : طهارته وحرمة لحمه وهو ظاهر ، انتهى ) .

هذا ، ( ويمكن منع حصر المحلّلات ، بل المحرمات محصورة ) :

ص: 282


1- - تمهيد القواعد : ص37 .

والعقل والنقل دلّ على إباحة مالم يعلم حرمته ، ولذا يتمسّكون كثيرا بأصالة الحلّ في باب الأطعمة والأشربة .

ولو قيل : إنّ الحلّ إنّما علّق ، في قوله تعالى : « قل أحِلَّ لكُم الطّيّبات » المفيد للحصر في مقام الجواب عن الاستفهام ،

-------------------

قال سبحانه : « اُحلّ لَكُمُ الطيّبات » (1) وقال سبحانه : « خَلَقَ لَكُم ما فِي الأرضِ جَميعاً » (2) وقال سبحانه : « واُحِلَّ لَكُم ما وَراءَ ذلكُم » (3) الى غيرها من الآيات والروايات الكثيرة الدالة على اصالة الحلية في كلّ شيء الاّ ما خرج .

نعم ، قوله : « انّ النجاسات محصورة » تام ، فانّ الأصل في الأشياء الطهارة الاّ ما خرج .

والحاصل : انّ النجاسات والمحرمات محصورة في الشريعة وما عدا مابُيّن فيها من النجاسة والحرمة يحكم بطهارته وحليته ، فلا دليل على حرمة هذا الحيوان المتولّد بين الكلب والشاة .

( و ) عليه : فان كلاً من ( العقل والنقل دل على اباحة ما لم يعلم حرمته ولذا ) الذي ذكرناه : من عدم حصر المباحات فيما علم اباحته نرى الفقهاء ( يتمسكون كثيراً بأصالة الحلّ في باب الاطعمة والاشربة ) .

ثم اشار المصنّف الى رابع الوجوه بقوله : ( ولو قيل : انّ الحلّ انّما علق في قوله تعالى : « قُل أُحِلَّ لَكم الطَّيبات » (4) ) على الطيّب ( المفيد ) ذلك التعليق ( للحصر في مقام الجواب عن الاستفهام ) .

ص: 283


1- - سورة المائدة : الآية 4 .
2- - سورة البقرة : الآية 29 .
3- - سورة النساء : الآية 24 .
4- - سورة المائدة : الآية 4 .

فكلُّ ما شك في كونه طيّبا ، فالأصلُ عدمُ إحلال الشارع له .

قلنا : إنّ التحريم محمول في القرآن على الخبائث والفواحش ، فاذا شكّ فيه فالأصل عدم التحريم ،

-------------------

فان في الآية استفهام قال سبحانه : « يَسئَلُونَك ماذا أُحلّ لَهُم قُل أُحِلَّ لَكُم الطّيّباتُ

» (1) فهو مثل : انّ يقول ماذا أشتري ؟ فيقول : التفاح ، فانّه يدل على الحصر ، فلا يقال : انّه من مفهوم اللقب .

وعليه : ( فكلّما شك في كونه طيباً ، فالأصل عدم احلال الشارع له ) اذ لو قلنا : انّه طيب فهو حلال ، كان من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فيكون مثل ما اذا قال : اكرم العالم ، ولم نعلم انّ زيداً عالم ، أو ليس بعالم ، فنكرمه تمسكاً بأكرم العالم .

لو قيل ذلك ( قلنا ) : هذا الاستدلال باطل لوجوه ثلاثة :

الأول : ( انّ التحريم محمول في القرآن على الخبائث ) والمراد بالخبيث : امّا ما ينفّر الطبع ، وإما ما يضر ، ( والفواحش ) ما يكون فاحشاً ومتعدياً في القبح ، حيث قال سبحانه : « وَيُحرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبائِثَ » (2) .

وقال سبحانه : « قُل انّما حَرَّم ربّي الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ » (3) والحرمة في المقام منحصرة في الخبيث .

وعليه : ( فاذا شك فيه ) أي : في شيء انّه خبيث أم لا ؟ » ( فالاصل عدم التحريم ) فانّه اذا شككنا في شيء انّه خبيث أو ليس بخبيث ، ثم تمسكنا بحرمته

ص: 284


1- - سورة المائدة : الآية 4 .
2- - سورة الاعراف : الآية 157 .
3- - سورة الاعراف : الآية 33 .

ومع تعارض الأصلين يرجع إلى أصالة الاباحة ، وعموم قوله تعالى : « قل لا أجد فيما أوحِيَ إليّ » ، وقوله عليه السلام : « ليس الحرامُ إلاّ ما حرّم اللّه » ،

-------------------

بقوله سبحانه : « ويُحرِّمُ علَيهم الخَبائِث » (1) كان من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية .

( و ) انّ قلت : في المقام يتعارض أصلان ، أصل عدم الحليّة للشك في الطيّب ، وأصل عدم الحرمة للشك في الخباثة ، فلا نتمكن من استعمال هذا الحيوان المردّد بين الشاة والكلب .

قلت : ( مع تعارض الأصلين ) المذكورين ( يرجع الى أصالة الاباحة ) لأنّ الاصلين يتساقطان ، فنرجع الى الأصل الذي هو فوقهما .

( و ) الى ( عموم قوله : « قُل لا أجِدُ فِيما أُوحِيَ إليّ ) مُحرَّماً على طاعِم يَطعَمُه ، إلاّ أن يكُونَ ميتةً ، أو دَماً مسفُوحاً ، أو لحمَ خِنزيرٍ » (2) فالمستثنى منه في الآية المباركة يشمل محل الكلام .

( و ) الى ( قوله عليه السلام : « ليس الحرام الاّ ما حرّم اللّه » ) في كتابه ، وذلك فيما تقدّم من رواية ابن مسلم عن الباقر عليه السلام ، انّه سأل عن سباع الطير والوحش حتى ذكر القنافذ والخفاش والحمير والبغال ، فقال : « ليس الحرام الاّ ما حرّم اللّه في كتابه » (3) بناءاً على ارادة استعماله في الأكل ونحوه ، لا أن يراد به تحريم التذكية

ص: 285


1- - سورة الأعراف : الآية 157 .
2- - سورة الانعام : الآية 145 .
3- - تهذيب الأحكام : ج9 ص42 ب4 ح176 بالمعنى ، تفسير العياشي : ج1 ص382 ح118 وفيه عن (حريز) ، وسائل الشيعة : ج24 ص123 ب5 ح30136 .

مع أنّه يمكن فرض كون الحيوان ممّا ثبت كونه طيّبا ، بل الطيّب ما لا يستقذر ، فهو أمر عدميّ يمكن إحرازه بالأصل عند الشك ، فتدبّر .

-------------------

على المعنى الذي ذكرناه سابقاً .

الوجه الثاني من وجوه بطلان الدليل الرابع : ما أشار اليه بقوله : ( مع انّه يمكن فرض كَون الحيوان ممّا ثبت كونه طيّباً ) لأن الطيب والخبيث عنوانان عرفيان علق عليهما الحكم .

فاذا رأينا العرف يقولون : انّ هذا الحيوان طيب يكفي في الحكم بحليته ، فان الموضوعات تؤذ من العرف والأحكام تؤذ من الشرع ، والطيّب سواء كان بمعنى ما لا يتنفّر منه الطبع ، أو بمعنى ما لا يضر فهو شيء يعرفه العرف .

فاذا قال العرف : هذا شيء طيّب كفى في الحكم بحليته ، سواء كان من اللحوم أو غير اللحوم .

الثالث : انّ الطيّب ليس بأمر وجودي حتى لا يمكن احرازه بالأصل ( بل الطيّب ما لا يستقذر ) عرفاً ، أو ما لا يضر - على ما عرفت - ( فهو أمر عدمي يمكن احرازه بالأصل عند الشك ) فاذا شككنا انّ هذا الشيء قذرا أم لا ؟ نقول : انّه ليس بقذر ، لأنّ القذر أمر وجودي ، وفي الاُمور الوجودية لا يجري الاستصحاب ، بخلاف الاُمور العدمية فيجري أصل عدم الخباثة فيحكم بالحل بمقتضى الآية المباركة .

( فتدّبر ) حيث ارجاع كثير من الاُمور الوجودية الى الاُمور العدمية ، فيجري الاستصحاب فيها .

ص: 286

السادس :

حكي عن بعض الاخباريين كلام لا يخلو إيراده عن فائدة وهو :

« أنه هل يجوّز أحد أن يقف عبدٌ من عباد اللّه تعالى ، فيقال له : بما كنت تعمل في الأحكام الشرعيّة . فيقول : كنت أعمل بقول المعصوم وأقتفي أثره وما ثبت من المعلوم . فان اشتبه عليّ شيء عملتُ بالاحتياط . فيزلّ قدمُ هذا العبد عن الصراط ويقابل بالاهانة والاحباط فيؤمر به إلى النار ويحرم مرافقه الأبرار . هيهات هيهات أن يكون أهل التسامح والتساهل

-------------------

التنبيه ( السادس : حكي عن بعض الأخباريّين ) وهو السيد نعمة اللّه الجزائري رحمه اللّه ( كلام لا يخلو ايراده عن فائدة ) لأنّه تعرّض لنقد البرائة التي يقول بها الاُصوليون ( وهو انّه هل يجوّز أحد ) من العقلاء ( أن يقف ) في القيامة للحساب ( عبد من عباد اللّه تعالى ، فيقال له : بما كنت تعمل في الأحكام الشرعية ؟ فيقول : كنت أعمل بقول المعصوم واقتفي أثره ) أي : اتّبع ما وصل اِليّ من قول المعصوم أو فعله أو تقريره .

( و ) كنت أعمل بكل ( ما ثبت من المعلوم ) فانّ بعض الاشياء بيّن رشده كأكل لحم الشاة فأرتكِبَهُ ، وبعضها بيّن غيّه كأكل لحم الخنزير فأجتنبه ، وبعضها مشتبه ( فان اشتبه عليّ شيء ) كشرب التتن ودعاء الهلال - مثلاً - (عملت بالإحتياط ) في هذا المشتبه ، ومع ذلك ( فيزلّ قدمُ هذا العبد عن الصراط ويقابل بالاهانة والاحباط ) لعمله ( فيؤر به الى النار ويحرم مرافقة الأبرار ) .

كلا لا يكون هكذا ( هيهات هيهات أن يكون أهل التسامح والتساهل

ص: 287

في الدين في الجنّة مخلدين وأهل الاحتياط في النار معذّبين » ، انتهى كلامه .

أقول : لا يخفى على العوامّ فضلاً عن غيرهم أنّ أحدا لا يقول بحرمة الاحتياط ولا ينكر حسنه وأنّه سبيل النجاة ، وأمّا الافتاء بوجوب الاحتياط فلا إشكال في أنّه غير مطابق للاحتياط ، لاحتمال

-------------------

في الدين ) كالعامل بالبرائة ( في الجنة مخلدين ، وأهل الاحتياط في النار معذّبين ، انتهى كلامه ) رفع مقامه .

( أقول ) : ان كان السيد الجزائري يريد بكلامه هذا : حسن العمل بالاحتياط فهو في محله ، لأنّ الاحتياط حسن على كلّ حال ، وان كان يريد به حسن الفتوى بالاحتياط ، فهو ليس في محله ، لانّ الاحتياط هنا في ترك الفتوى بالاحتياط .

هذا بالاضافة الى ما سيأتي في أخير كلام المصنّف من الالماع الى انّ الأصل في الشريعة اليُسر دون العُسر ، قال تعالى : « يُريدُ اللّهُ بِكُم اليُسر وَلا يُريدُ بِكُم العُسْرَ » (1) ومن الواضح : انّ الاحتياط في الموارد المشتبهة من العُسر وليس من اليسر .

وعلى أيّ حال : فانّه ( لا يخفى على العوام فضلاً عن غيرهم انّ أحداً لا يقول بحرمة ) العمل على ( الاحتياط ولا ينكر حسنه وانّه سبيل النّجاة ) لأنّ الاحتياط حَسَنٌ على كل حال .

( وأمّا الافتاء بوجوب الاحتياط ) بمعنى انّ الفقيه يفتي لمقلديه بوجوب الاحتياط ( فلا اشكال في ) عدم حُسنِه و ( انّه غير مطابق للإحتياط ، لاحتمال

ص: 288


1- - سورة البقرة : الآية 185 .

حرمته ، فان ثبت وجوب الافتاء فالأمر يدور بين الوجوب والتحريم ، وإلاّ فالاحتياط في ترك الفتوى ، وحينئذٍ فيحكم الجاهل بما يحكم به عقله ، فان التفت إلى قبح العقاب من غير بيان لم يكن عليه بأس في ارتكاب المشتبه ،

-------------------

حرمته ) فانّه كيف يفتي الانسان بشيء يحتمل حرمته ؟ واذا أراد الفقيه أن يحتاط فيما لم يعلم انّ الحكم فيه هل هو البرائة ، أو الاحتياط ؟ فعليه أن لا يفتي بشيء ، لا أن يفتي بالاحتياط ، وذلك لأن الافتاء امّا هو واجب على الفقيه ، أو غير واجب ، وفي كلا التقديرين محذور ، أشار الى الاول بقوله :

( فان ثبت وجوب الافتاء ) على الفقيه ( فالأمر يدور بين الوجوب والتحريم ) لأنّ الشارع اِن أوجبَ الاحتياط كان الواجب على الفقيه أن يفتي بالإحتياط ، وان حكم بالبرائة فالواجب على الفقيه أن يفتي بالبرائة ، ويحرم عليه الافتاء بالإحتياط .

ثمّ اشار الى الثاني بقوله : ( والاّ ) بان لم يثبت وجوب الافتاء عليه ، ( فالاحتياط في ترك الفتوى ) بالاحتياط .

وانّ شئت قلت : انّ ثبت لدى المستنبط البرائة أو الاحتياط أفتى به ، وانّ لم يثبت لديه أحدهما ، فان وجب عليه الافتاء كان من دوران الأمر بين المحذورين ويكون من التخيير ، وانّ لم يثبت عليه وجوب الافتاء فالاحتياط أن لا يفتي أصلاً .

( وحينئذٍ ) أي : حين لم يفت الفقيه بشيء ، لأنّه لا يجب عليه الافتاء ( فيحكم الجاهل بما يحكم به عقله ) اذ لا مجال لمن يريد العمل ولا فتوى للمستنبط في المسألة الاّ من الرجوع الى عقله ( فان التفت الى قبح العقاب من غير بيان ) أي : دلّه عقله على ذلك ( لم يكن عليه بأس في ارتكاب المشتبه ) لأن العقل حجّة

ص: 289

وإن لم يلتفت إليه واحتمل العقاب كان مجبولاً على الالتزام بتركه . كمن احتمل أنّ فيما يريد سلوكه من الطريق سَبُعا .

وعلى كلّ تقدير فلا ينفع قول الأخباريّين له إنّ العقل يحكم بوجوب الاحتياط من باب وجوب دفع الضرر المحتمل ، ولا قول الاصوليّ له إنّ العقل يحكم بنفي البأس مع الاشتباه .

-------------------

باطنة كما انّ الأنبياء والائمة عليهم السلام حجة ظاهرة (1) .

( وان لم يلتفت اليه ) أي : الى قبح العقاب من غير بيان ( واحتمل العقاب ، كان مجبولاً على الالتزام بتركه ) ومجبولاً أي : محكوماً بالجبلة والفطرة على ذلك ، فهو ( كمن احتمل أن فيما يريد سلوكه من الطريق سبعاً ) فانّ فطرته تدله على وجوب الاجتناب عن ذلك الطريق .

( وعلى كل تقدير : فلا ينفع قول الأخباريين له ) أي : للجاهل ( : انّ العقل يحكم بوجوب الاحتياط من باب وجوب دفع الضّرر المحتمل ، ولا قول الاُصولي له : انّ العقل يحكم بنفي البأس ) والبرائة ( مع الاشتباه ) وذلك لأنّ المفروض انّ هذا الجاهل لا يتمكن من استفتاء العالم الفرض انّ العالم يمتنع عن الجواب ، فيكون هذا الجاهل مجبوراً الى الرجوع الى عقله .

ومن الواضح : انّه لا فرق بين عقل العالم وعقل الجاهل فيما يرجع فيه الى حكم العقل ، ولا يتعبد أحد بعقل الآخر ، وكون الفقيه أهل خبرة دون الجاهل

ص: 290


1- - اشارة الى الحديث « انّ للّه على الناس حجّتان ، حجّة ظاهرة وحجّة باطنة ، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة ، وأمّا الباطنة فالعقول » بحار الأنوار : ج1 ص137 ب4 ح30 ، وورد شبيه ذلك في الكافي اصول : ج1 ص16 ح12 .

وبالجملة : فالمجتهدون لا ينكرون على العامل بالاحتياط ، والافتاء بوجوبه من الأخباريّين نظير الافتاء بالبراءة من المجتهدين ، ولا متيقن من الأمرين في البين ،

-------------------

لا ينفع عند تضارب الفقيهين ، فهو كما اذا سأل الجاهل عن طريق النجف فقال أحد السائقين الخبيرين : انّ الطريق من طرف الشرق ، وقال الآخر : انّه من طرف الغرب ، فهل ينفع قول أحدهما بحجّة انّه عالم وانّ السائل جاهل ؟ .

( وبالجملة : فالمجتهدون لا ينكرون على العامل بالاحتياط ) علمه على الاحتياط ما دام لم يستلزم وسوسة ونحو ذلك ( والافتاء بوجوبه من الاخباريين نظير الافتاء بالبرائة من المجتهدين ) فكل من الأخباريين والمجتهدين يفتي بالاحتياط أوبالبرائة من باب الأدلة التي يراها دالة على مذهبه ، ولا يحق لأحد منهما الاشكال على الآخر : بأنّه لماذا يسلك هذا المسلك بعد اقتناعه بوجود الأدلة على مسلكه .

نعم ، لكل واحد منهما البحث مع الآخر حتى يظهر انّ الحق في هذا الجانب أو في ذاك الجانب ولا يصح لاحد منهما انّ يتهم الآخر بالتساهل في الدين ، أو التشدّد فيه .

هذا ( ولا متيقن من الأمرين في البين ) لوضوح : انّه لو كان متيقناً لم يذهب الطائفة الثانية الى خلاف ذلك المتيقن ، وانّما كل طرف يستظهر من الأدلة ما يختاره .

لا يقال : الافتاء بالاحتياط مطابق للاحتياط لأنّه ان كان شرب التتن في الواقع حراماً مثلاً فقد سلم المحتاط من محذور الحرام ، وان كان حلالاً لم يكن في تركه محذور ، لأن الحلال يختار الانسان بين فعله وتركه بمجرد ارادته .

ص: 291

ومفاسد الالتزام بالاحتياط ليست بأقلّ من مفاسد ارتكاب المشتبه ، كما لايخفى .

فما ذكره هذا الأخباريّ من الانكار لم يعلم توجّهه إلى أحد ، واللّه العالم وهو الحاكم .

-------------------

لأنه يقال : ( ومفاسد ) الالزام و ( الالتزام بالاحتياط ليست بأقل من مفاسد ارتكاب المشتبه كما لا يخفى ) لما تقدّم : من انّ الشرع مبنيّ على التسهيل .

قال سبحانه : ( ما جَعَلَ عَلَيكُم فِي الدّينِ مِن حرج ) (1) وقال سبحانه : ( يُريدُ اللّهُ بِكُم اليُسر ولا يُريدُ بِكُم العُسر ) (2) .

هذا ، مضافاً الى انّ التشديد على الناس يوجب التنفّر عن الدين ، فالتسهيل أقرب ، وفي رواية : « انّ الأمر على شيعَتِنا أوسعُ ممّا بين ذِه وذِه ، وقد أشار الإمام عليه السلام الى السماء والأرض » (3) ، وقال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « انّ هذا الدِّين رَفيق فأوغل فيهِ برفق ، فانّ المنبتَ لا أرضاً قطع و لا ظهراً أبقى » (4) .

وعليه : ( فما ذكره هذا الأخباري من الانكار ) أي : الاستفهام الانكاري المتقدّم منه بقوله : « هيهات هيهات أن يكون أهل التساهل في الدين في الجنّة مخلّدين ، وأهل الاحتياط في النار معذّبين » ، ( لم يعلم توجهه الى أحد ، واللّه العالم وهو الحاكم ) .

ص: 292


1- - سورة الحج : الآية 78 .
2- - سورة البقرة : الآية 185 .
3- - تأويل الآيات : ص176 بالمعنى ، بحار الانوار : ج60 ص46 ب30 ح27 .
4- - وسائل الشيعة : ج1 ص110 ب26 ح270 بالمعنى ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج2 ص94 وفيه (متين) بدل (رفيق ) .

المسألة الثانية : ما إذا كان دوران حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب من جهة إجمال النصّ

إمّا بأن يكون اللفظُ الدالُّ على الحكم مجملاً ، كالنهي المجرّد عن القرينة إذا قلنا باشتراكة لفظا بين الحرمة والكراهة ،

-------------------

« فصل »

هذا ، بالاضافة اِلى نقض كلامه بالشبهة الموضوعيّة وجوبيّة أو تحريميّة ، والشبهة الحكمية الوجوبية ، فاذا قيل له بوجوب الاحتياط في هذه الثلاث ، فما أجاب عنها كان هو جواب الاُصولي في الشبهة الحكمية التحريمية .

قد تقدّم : انّ الشك في الشبهة التحريمية ينقسم الى أربعة مسائل ، لأن الشك امّا من جهة : فقدان النص ، أو اجمال النص ، أو تعارض النصّين ، أو الاُمور الخارجيّة ، وقد تقدّم الكلام في المسألة الاُولى التي هي عبارة عن الشك من جهة فقدان النص ، وبقي الكلام في الأقسام الثلاثة الاُخر فنقول :

اما ( المسألة الثانية ) من المسائل الأربع فهي : ( ما اذا كان دوران حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب من جهة اجمال النّص ) بأن علمنا انّ هذا الشيء إمّا حرام أو مستحب أو مكروه ، أو مباح ؟ .

والاجمال ( إما بأن يكون اللفظ الدال على الحكم ) والمراد بالحكم : الحرمة وغير الوجوب ( مجملاً ، كالنهي المجرد عن القرينة ) الدالة على انّه هل قصد به الحرمة أو الكراهة - مثلاً - وذلك فيما ( اذا قلنا باشتراكه ) أي : باشتراك النهي ( لفظاً بين الحرمة والكراهة ) فان بعض الاُصوليين يرون النهي مشتركاً بين الحرمة

ص: 293

وإمّا بأن يكون الدالّ على متعلق الحكم كذلك ، سواء كان الاجمالُ في وضعه كالغناء إذا قلنا باجماله فيكون المشكوك في كونه غناءا محتملَ الحرمة ،

-------------------

والكراهة ، لاستعماله تارةً في الحرمة واُخرى في الكراهة ، فاذا ورد نهي ولم نعرف من القرينة الخارجية انّ المراد به الحرمة أو الكراهة كان مجملاً ، فيدور الأمر بين أن يكون الشيء الفلاني المتعلق بهذا النهي حراماً أو مكروهاً .

وكذلك الحال اذا قلنا بأنّ النهي ليس مشتركاً لفظياً بين الحرمة والكراهة ، وإنّما هو مشترك معنوي بينهما ، أو انّه موضوع للحرمة ويغلب استعماله في الكراهة ، أو موضوع للكراهة ويغلب استعماله في الحرمة .

( وأما بأن يكون الدال على متعلق الحكم كذلك ) أي : مجملاً ، وذلك بأن لم يكن اللفظ الدال على الحكم مجملاً ، وانّما يكون اللفظ الدال على موضوع الحكم مجملاً مردداً بين أمرين ، فانّه اذا كان المتعلق مجملاً سرى الاجمال منه الى الحكم .

مثلاً : اذا قال : لا تكرم الفاسق ، وشك في انّ المراد منه كلّ أقسام الفسق صغيرة وكبيرة ، أو مرتكب الكبيرة فقط ؟ فيكون حرمة اكرام مرتكب الصغيرة مشكوكاً ، وذلك لاجمال متعلق التكليف وموضوعه ، فيسري اجمال الموضوع الى الحكم ، فيكون الحكم مجملاً مشتبهاً فيه ( سواء كان الاجمال في وضعه ) اللّغوي ( كالغناء اذا قلنا باجماله ) فانّ اللغويين اختلفوا في معناه وانّه هل هو الصوت المطرب ، أو الصوت المرجّع فيه ، أو الصوت الجامع لهما ؟ .

وعليه : ( فيكون المشكوك في كونه غناءاً ) وهما المعنيان الأوّلان ( محتمل الحرمة ) لأن المتيقن هو الصوت المطرب المرجّع فيه ، أما الصوت المطرب وحده ، أوالمرجّع فيه وحده فهو محتمل الحرمة ، فيرجع فيه الى البرائة .

ص: 294

أم كان الاجمالُ في المراد منه ، كما إذا شكّ في شمول الخمر للخمر الغير المسكر ولم يكن هناك إطلاق يؤخذ به ، والحكم في ذلك كلّه كما في المسألة الاُولى ، والأدلّة المذكورة من الطرفين جارية هنا .

-------------------

والحاصل : انّ الأمر انّما يكون فيما إذا كان هناك قدر متيقن وقدرٌ زائد على ذلك القدر المتيقن ، فالقدر المتيقن يؤذ به ، والقدر الزائد يكون مشكوكاً فيه ويكون حكمه البرائة لا الاحتياط .

( أم كان الاجمال في المراد منه ) من جهة الشك في أنّ المولى هل أراد المعنى الحقيقي والمجازي ، أو الحقيقي فقط ؟ أو المولى أراد المعنى المنقول منه والمنقول اليه ، أو أراد أحدهما فقط ؟ أو كان اللفظ مشككاً ، له أفراد مختلفة في الجَلاء والخَفاء ، فلم يعلم هل المولى أراد الافراد الخفية أيضاً أو أراد الافراد الجلية فقط ؟ .

( كما اذا شك في شمول الخمر للخمر غير المسكر ولم يكن هناك اطلاق يؤذ به ) فانّه اذا كان اطلاق أخذ به قطعاً ، فلو أن خمراً ازيل اسكاره بالشمس أو الهواء أو بالوسائل الطبيّة ، فهل يبقى حراماً أو لا ؟ وذلك فيما اذا لم يكن استصحاب ونحوه ، أما اذا كان استصحاب ونحوه فهو واضح .

والحاصل : إنّ الشك في هذا المقام ناتج من الشك في انّ المولى كم أراد من هذا الموضوع ؟ هل أراد بعض الأفراد ، أو أراد جميع الأفراد ؟ .

( والحكم في ذلك كلّه ) من الاجمال لجهة الاشتراك في اللفظ ، أو الاشتراك في متعلق الحكم ، أو في خفاء المراد ( كما في المسألة الاُولى ) وهو : جريان البرائة عن التحريم في الجميع ( والأدلة المذكورة من الطرفين ) : الأخباري والاُصولي ( جارية هنا ) أيضاً كما كانت جارية في المسألة الاُولى ، وهو :

ص: 295

وربّما يتوهّمُ : أنّ الاجمال إذا كان في متعلّق الحكم ، كالغناء وشرب الخمر الغير المسكر ، كان ذلك داخلاً في الشبهة في طريق الحكم ، وهو فاسدٌ .

-------------------

مورد فقدان النص .

( وربّما يتوهم : انّ الاجمال اذا كان في متعلق الحكم ) وموضوعه ( كالغناء ، وشرب الخمر غير المسكر ، كان ذلك داخلاً في الشبهة في طريق الحكم ) أي : شبهة موضوعية وليست شبهة حكمية ، فاللازم أن يذكر ذلك في مسألة الشبهة الموضوعية لا في مسألة الشبهة الحكمية ، فلماذا ذكره المصنّف في هذا المقام الذي هو بحث الشبهة الحكمية ؟ .

( و ) لكن هذا التوهّم ( هو فاسد ) لوضوح : انّ مناط الشبهة الحكمية انّ تكون الشبهة ناشئة من فقدان النص ، أو اجماله ، أو تعارضه ، فيحتاج المكلّف فيها الى استطراق باب الشارع ، بينما مناط الشبهة الموضوعية أن تكون الشبهة ناشئة عن اشتباه الاُمور الخارجية والمكلّف محتاج فيها الى استطراق باب العُرف .

ومن المعلوم : إنّ الشبهة في الغناء والخمر محتاج الى استطراق باب الشارع ، لأنا لا نعلم هل الشارع حكم بتحريم كل خمر وكل غناء ، أو حكم بتحريم بعض منهما ؟ .

ولو راجعنا العرف فيهما لم يعرف الجواب ، وانّما الشارع هو الذي يعرف الجواب عنهما ، فالشبهة فيهما شبهة حكمية وليست شبهة موضوعية .

ص: 296

المسألة الثالثة : أن يدور حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب من جهة تعارض النصّين وعدم ثبوت ما يكون مرجّحا لأحدهما

والأقوى فيه أيضا عدمُ وجوب الاحتياط ، لعدم الدليل عليه ، عداما تقدّم من الوجوه التي عرفت حالها ، وبعض ما ورد في خصوص تعارض النصّين ،

-------------------

( المسألة الثالثة : أن يدور حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب من جهة تعارض النصّين ) بأن يكون هناك نصان : أحدهما : يدل على الحرمة ، والآخر : يدل على الاستحباب ، أو الكراهة ، أو الاباحة ( وعدم ثبوت ما يكون مرجّحاً لأحدهما ) أي : لأحد النصين على الآخر ، بأن لم يكن لأحدهما من حيث السند ، أو الدلالة ، أو جهة الصدور ، أو المضمون ، مزية ملزمة ، اذ المزية اذا لم تكن ملزمة لم تكن مزية في هذا الباب ، فاذا تعارض النصان ولم يكن لأحدهما مرجّح على الآخر ، عملنا بالبرائة فيجوز لنا أن نعمل بهذا أو بذاك .

ولهذا قال المصنّف : ( والأقوى فيه أيضاً عدم وجوب الاحتياط ) والعمل فيه بالبرائة ، وذلك ( لعدم الدليل عليه ) أي : على الاحتياط في تعارض النصين ( عدا ما تقدّم من الوجوه التي عرفت حالها ) من أدلة التوقف عند الشبهة والاحتياط ، وقد تقدّم : عدم دلالتها على الاحتياط الذي يقول به الأخباريون ( و ) عدا ( بعض ما ورد في خصوص تعارض النصين ) حيث انّ بعض الروايات الواردة في تعارض النصين دالّ على الاحتياط .

ص: 297

مثل ما في غوالي اللئالي من مرفوعة العلامة ، إلى زرارة عن مولانا أبي جعفر عليه السلام ، « قال : قلتُ : جُعِلتُ فداك ! يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان ، فبأيّهما نعمل ؟ فقال : يا زرارةُ ! خُذ بما اشتَهَرَ بَينَ أصحابك وَاترك الشّاذَّ النادِرِ ،

-------------------

وعليه : فدليل الأخباريين بالاحتياط في المقام منحصر في هذين الأمرين :

الأوّل : الأدلة السابقة التي ذكرناها .

الثاني : بعض الروايات الواردة بالاحتياط في صورة تعارض النصين مع عدم مزية لأحدهما على الآخر .

( مثل : ما في غوالي اللئالي ) والظاهر : انّه بالغين كما هو المشهور لا بالعين كما ذكره المحدِّث النوري رحمه اللّه ( من مرفوعة العلاّمة الى زُرارة عن مولانا ابي جعفر عليه السلام قال : قلت : جُعلتُ فداك يأتي عنكم الخَبران أو الحَديثان ) ولعلّ الفرق بينهما : إنّ الخبر يراد به : النقل عن رسول اللّه ، أو عن الأنبياء والاولياء السابقين أو عن اللّه سبحانه وتعالى .

وانّ الحديث يراد به : ما قاله الائمة المعصومون من الأحكام فان الإمام عليه السلام قد يقول : قال رسول اللّه ، كذا ، فهذا خبر ، وقد يقول : انّ الحكم كذا ، فهذا حديث ، لأنه حادث وجديد وليس بخبر ، فاذا جائنا ( المتعارضان فبايّهما نعمل ؟ فقال ) عليه السلام : ( يا زُرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك واترك الشاذ النّادر ) .

والظاهر انّ قوله : « النادر » ، عطف بيان على « الشاذ » ، لا أن المراد « الشاذ » في قِبال « النادر » ، لأنهما قد يطلق أحدهما على الآخر ، وقد يُراد بكل واحد منهما

ص: 298

فقلتُ : يا سيّديّ ! إنّهما معا مشهوران مرويّان مأثوران عنكم ، فقال : خُذ بما يقول أعدلهُما عِندَك وأوثُقهُما في نفسك فقلتُ : إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان عندي فقال : اُنظُر ما وافق منهما مذهبَ العامّة فاتركه وخُذ بما خالفهُم ، فانّ الحقَّ فيما خالفهم ، قلت : ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيفَ نَصنَعُ ؟ قال : خذ بما فيه الحائطةُ لدينك

-------------------

معنى خاصاً ، كأن يُقال : الشيخ المرتضى عالمٌ نادرٌ في الفقه ، ولا يُقال : انّه شاذ ، وانّما يقال : الشاذ لمن خرج عن الطريقة المستقيمة فيقال : الشلمغاني شاذٌ .

وعلى أي حال : يقول زُرارة : ( فقلت : يا سيدي انّهما معاً مشهوران مروّيان مأثوران عنكم ) فبأيهما نأخذ بعد كونهما مشهورين معاً ؟ .

( فقال ) عليه السلام : ( خُذ بما يقول أعدلهما عندَك وأوثقهما في نفسك ، فقلت : انّهما معاً عدلان مرضيان موثقان عندي ) فبأيهما نأخذ ؟ .

( فقال : انظر ما وافق منهما مذهب العامة فاتركه ، وخذ بما خالفهم فان الحق فيما خالفهم ) والسّر فيه : انّهم كانوا يتعمدون ما هو خلاف الائمة عليهم السلام - كما لا يخفى على من راجع التاريخ - فكان ما يخالفهم هو قول الائمة عليهم السلام ، وسيأتي الالماع اليه في باب التعادل والتراجيح انشاء اللّه تعالى .

( قلت : ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف نصنع ؟ ) مثلاً : خبر يقول بوجوب الجمعة ، وآخر بحرمتها ، والعامة لهم في المسألة أيضاً نفس القولين ، أو أن العامة يقولون بالاستحباب ممّا يخالف الروايتين معاً ؟ .

( قال ) عليه السلام : ( خُذ بما فيه الحائِطَةِ لدينك ) وهذه الفقرة هي محلّ الكلام بين الاخباريين والاُصوليين في انّه هل يجب الاحتياط حينئذٍ كما يقوله الاخباريون

ص: 299

وَاترُك ما خالفَ الاحتياط ، فقلتُ : إنّهما موافقان للاحتياط او مخالفان ، فكيف أصنَعُ ، قال : إذن فتخيّر أحَدَهُما فَتأخُذُ به وتَدَعُ الآخَرَ » ، الحديث .

وهذه الرواية وإن كانت أخصَّ من أخبار التخيير ،

-------------------

أو العمل على البرائة كما يقوله الاُصوليون ؟ .

ثم اضاف عليه السلام : ( واترك ما خالف الاحتياط ) فاذا قال أحدهما بحرمة شرب التتن - مثلاً - وقال الآخر باباحته ، فانّ الاحتياط في الترك .

( فقلت : انهما موافقان للاحتياط ) بان يدل أحدهما على وجوب الظهر - مثلاً - والآخر على وجوب الجمعة ، فان الاتيان بالظهر احتياط ، لأنّه مقطوع عدم الحرمة ، وكذلك الاتيان بالجمعة احتياط لأنّه مقطوع عدم الحرمة .

( أو مخالفان ) للاحتياط ، بأن يدل أحدهما على استحباب الفعل ، والآخر على كراهته ، مع قيام دليل غير معتبر على وجوبه أو على حرمته ، فالاستحباب والكراهة كلاهما مخالفان للاحتياط الذي هو الاتيان قطعاً لوجوبه ، أو الترك قطعاً لحرمته ، وعليه : ( فكيف أصنع ) حينئذٍ ؟ .

( قال ) عليه السلام : ( إذن فتخير أحدهُما فتأخذ به وتدعُ الآخر (1) ، الحديث . وهذه الرواية وان كانت أخصّ من ) سائر ( أخبار التخيير ) لذكر الاحتياط في هذا الخبر دون سائر الأخبار ، وكلّما كانت القيود أكثر كان الخبر أخصّ - كما هو واضح - فاذا قال خبر : « أكرم العالم » ، وقال آخر : « أكرم العالم العادل » ، كان الخبر الثاني أخص من الخبر الاول .

ص: 300


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

إلاّ أنّها ضعيفةُ السند : وقد طعن صاحبُ الحدائق فيها وفي كتاب الغوالي وصاحبه ، فقال : « إنّ الرّواية المذكورة لم نقف عليها في غير كتاب الغوالي ، مع ما هي عليها من الارسال ، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار والاهمال وخلط غثّها بسمينها وصحيحها بسقيمها ، كما لا يخفى على من لاحظ الكتاب المذكور » ، انتهى .

-------------------

وكيف كان : فاذا كان هذا الخبر أخصّ كان اللازم انّ يكون العمل بالاحتياط مقدَّماً على التخيير الذي معناه البرائة ، فيكون ظاهر هذا الخبر مع الأخباريين القائلين بالاحتياط في صورة تعارض النصين اذا أمكن الاحتياط ، لا البرائة الذي يقول به الاُصوليون .

هذا ( الاّ انّها ضعيفة السند ) فلا يمكن العمل بها ( وقد طعن ) المحدّث البحراني ( صاحب الحدائق فيها ) أي : في هذه الرواية ، فصاحب الحدائق وهو اخباري اذا طعن في رواية ، كان طعن غيره من الاُصوليين فيها بطريق أولى ، ممّا يدل على عدم امكان الاعتماد على هذا الخبر .

( و ) كما طعن صاحب الحدائق في الرواية طعن ( في كتاب الغوالي ، و ) في ( صاحبه ) وهو ابن أبي جمهور الأحسائي ( فقال : انّ الرواية المذكورة لم نقف عليها في غير كتاب الغوالي ، مع ماهي عليها من الارسال ، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه ) وهو الأحسائي رحمه اللّه ( الى التساهل في نقل الأخبار والاهمال ، وخلط غثّها بسمينها وصحيحها بسقيمها - كما لا يخفى على من لاحظ الكتاب المذكور (1) - انتهى ) كلام البحراني .

ص: 301


1- - الحدائق الناظرة : ج1 ص99 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص303 .

ثمّ إذا لم نقل بوجوب الاحتياط ، ففي كون أصل البراءة مرجّحا لما يوافقه او كون الحكم الوقف أو التساقط والرجوع إلى الأصل أو التخيير بين الخبرين في أوّل الأمر

-------------------

وعليه : فهذا الخبر لا يصلح ان يكون مستنداً للأخباريين القائلين بالاحتياط في مورد تعارض النصين ، لكن التحقيق يدلّ على عدم مثل هذا الضعف الذي ذكره البحراني ، لا في الكتاب ولا في أخباره ، ولا في هذا الخبر بالذات كما يظهر ذلك لمن راجع كتاب المستدرك للحاج نوري وغيره .

( ثمّ اذا لم نقل بوجوب الاحتياط ) في الخبرين المتعارضين كما يقوله الأخباريون ( ففي ) الأمر في باب تعارض الخبرين احتمالات :

الأوّل : ( كون أصل البرائة مرجّحاً لما يوافقه ) فاذا كان هناك خبران أحدهما موافق لأصل البرائة ، والآخر مخالف له ، فالبرائة ترجّح الخبر الموافق لها .

الثاني : ( أو كون الحكم : الوقف ) فلا نحكم لا بمضمون هذا الخبر ولا بمضمون ذلك الخبر ، وانّما نلتمس دليلاً آخر : كالقرعة احياناً ، أو التنصيف للماليات أحياناً ، أو الزام الحاكم بالطلاق ، كمااذا اختلفا في زوجة ، أو اختلف الاختان في انّ أيتهما زوجة هذا الرجل أحياناً ، أو بالصلح الاجباري من الحاكم أحياناً الى غير ذلك من المحتملات الأوّلية .

الثالث : ( أو التساقط والرجوع الى الأصل ) أي : البرائة ، وذلك بأن يحكم بعدم حجيّة شيء من المتعارضين ، وهذا غير ما ذكرناه : من كون البرائة مرجحاً فانّه قد نجعل البرائة مرجحاً وقد نجعلها مرجعاً .

الرابع : ( أو التخيير بين الخبرين في أوّل الأمر ) بأن يختار العمل باحدهما ويبقى على ما اختاره أولاً ، فاذا كان هناك خبران أحدهما يقول بوجوب الجمعة

ص: 302

أو دائما وجوهٌ ، ليس هنا محلّ ذكرها ، فانّ المقصود هنا نفي وجوب الاحتياط ، واللّه العالم .

بقي هنا شيء :

-------------------

-

مثلاً - والآخر بحرمتها ، فاذا اخترنا من الأوّل الوجوب نبقى الى الأخير على الوجوب فنؤّيها ، وإذا اخترنا أولاً الحرمة نبقى الى الأخير على الحرمة ، فلا نؤيها اطلاقاً .

الخامس : ( أو دائما ) بمعنى انّه يجوز له أن يختار العمل بأحدهما تارة ، وبالآخر اُخرى ، ففي يوم جمعة - مثلاً - يصلي الجمعة وفي يوم جمعة اُخرى يصلي الظهر ، وهكذا .

ثم انّ لهذه الاحتمالات ( وجوه ليس هنا محلّ ذكرها ) وانّما محل ذكرها في باب التعادل والتراجيح ( فانّ المقصود هنا نفي وجوب الاحتياط ) الذي يقول به الأخباريون واثبات البرائة الذي يقول به الاُصوليون ، لا بيان الوجوه المتقدّمة المحتملة ، كما انّه ليس هذا المكان مبحث تفصيل الكلام في خبر الغوالي المتقدِّم ( واللّه العالم ) بخفايا الاُمور .

ثمّ انّه ( بقي هنا شيء ) في مسألة البرائة والاحتياط ، وهذا الشيء مركب من ثلاثة اُمور :

الأمر الأوّل : انّه لو كان هناك خبران أحدهما موافق للأصل ويسمى بالمقرِّر ، والآخر مخالف للأصل ويسمّى بالناقل ، فالمشهور تقديم المخالف ، وسمّي ب« الناقل » ، لأنه ينقل الأمر من الحكم بالأصل ، الى حكم جديد .

الثاني : انّه لو كان احد الخبرين يدل على الاباحة ، والآخر يدل على الحظر ، فالمشهور قالوا بتقديم الحظر على الاباحة ، ومن المعلوم : انّ المسألة الثانية

ص: 303

وهو أنّ الاصوليين عنونوا في باب التراجيح الخلافَ في تقديم الخبر الموافق للأصل على المخالف ، ونسب تقديم المخالف وهو المسمّى بالناقل إلى أكثر الاصوليين ، بل إلى جمهورهم منهم العلامة قدس سره ، وعنونوا أيضا مسألة تقديم الخبر الدالّ على الاباحة على الدالّ على الحظر

-------------------

أخصّ من الاُولى ، لأن الحظر قد يوافق الأصل وقد لا يوافقه ، فالحظر في المرأة المشكوك جواز وطيها - مثلاً - يوافق الأصل ، حيث انّ الأصل حرمة المرأة الاّ ما علم بجواز وطيها بينما قد يكون الحظر ولا يكون الأصل كحظر شرب التتن فانّه لا أصل يوافق هذ الحظر .

الثالث : بيان ما يرد على الجمع بين المسئلتين واقوال الاصوليين من اشكالات وردها.

( و ) اذا عرفت ذلك قلنا : انّ الشيء الباقي هنا بين مسألة البرائة والاحتياط ( هو : ان الاُصوليين ) القائلين بالبرائة ( عنوَنُوا في باب التراجيح ) فيما اذا وافق أحد الخبرين اصل البرائة ، وخالفه أحد الخبرين : ( الخلاف في تقديم الخبر الموافق للأصل على المخالف ) وقد عرفت : انّ الموافق للأصل يُسمّى بالمقرر ، لأنه يثبت حكم العقل للبرائة ، ويقرّره .

( ونسب تقديم المخالف وهو المسمّى بالناقل ) لما عرفت : من انّه ينقل الحكم عن الاصل الى غير جهة الاصل بسبب الشرع ( الى أكثر الاُصوليين ، بل الى جمهورهم ) أ ي : الى الاكثرية القريبة من الاتفاق ، والذي ( منهم ، العلامة قدس سره ) حيث نسب هذا القول الى أكثر الاصوليين .

( وعنونُوا أيضاً مسألة تقديم الخبر الدال على الاباحة ، على الدّال على الحظر )

ص: 304

والخلاف فيه ، ونسب تقديم الحاظر على المبيح إلى المشهور ، بل يظهر من المحكيّ عن بعضهم عدمُ الخلاف في ذلك .

والخلاف في المسألة الاُولى ينافي الوفاق في الثانية ،

-------------------

اذا تعارضا ، بأن دلّ أحد الخبرين على الاباحة ، والآخر على الحظر ( و ) عنونوا (الخلاف فيه) ايضاً ، بانّه هل يقدَّم الخبر الدال على الاباحة أو يقدم الخبر الدال على الحظر ؟ .

( ونسب تقديم الحاظر على المبيح الى المشهور ، بل يظهر من المحكي عن بعضهم ، وهو الفاضل الجواد على ما حكي عنه في بعض الحواشي والشروح ( عدم الخلاف في ذلك ) وان كل الاُصوليين يقولون بتقديم الحاظر على المبيح .

( و ) اذا جمعنا بين هاتين المسألتين وأقوال الاُصوليين فيها يرد عليهم ثلاثة ايرادات :

الايراد الأوّل : انّ ( الخلاف في المسألة الاُولى ينافي الوفاق في الثانية ) حيث قد عرفت من الفاضل الجواد : عدم الخلاف في المسألة الثانية ، بينما ثبت الخلاف في الاولى ، مع أن المسألة الثانية من مصاديق المسألة الاُولى - كما عرفت - فكيف يمكن الخلاف في مسألة والاتفاق في مسألة ؟

ووجه المنافاة : انّ الحاظر فرد من الناقل ، والمبيح فرد من المقرر ، فكيف يمكن أن يكون تقديم الحاظر على المبيح وفاقياً ، وتقديم الناقل على المقرر أكثرياً ؟ بل لابدّ أن يكون كل قائل في المسألة الاولى بتقديم الناقل على المقرر ، قائل في المسألة الثانية بتقديم الحاظر على المبيح .

أما الايراد الثاني : فهو أن قول الأكثر في المسألتين المتقدمتين أي : « تقديم الناقل على المقرر » ، و « تقديم الحاظر على المبيح » ينافي عملهم في الفقه ،

ص: 305

كما أنّ قول الأكثر فيهما مخالف لما يشاهد من عمل علمائنا على عدم تقديم المخالف للأصل ، بل التخيير أو الرجوع إلى الأصل الذي هو وجوب الاحتياط عند الأخباريّين والبراءة عند المجتهدين حتّى العلاّمة ، مضافا إلى ذهاب جماعة من أصحابنا في المسألتين إلى التخيير .

ويمكن أن يقال :

-------------------

حيث انهم في مورد دوران الأمر بين الخبرين يقولون بالتخيير أو بالبرائة ، فلم يقدّموا الناقل والحاظر كما قالوا في الاصول .

والى هذا الايراد الثاني أشار المصنّف بقوله : ( كما انّ قول الأكثر فيهما ) أي : في المسألتين المذكورتين في الاُصول ( مخالف لما يشاهد من عمل علمائنا على عدم تقديم المخالف للأصل ) والمخالف للأصل هو المسمّى بالناقل والحاظر ( بل ) انّهم يرَونَ في باب التعارض ( التخيير أو الرجوع الى الاصل ) وفسّر الأصل بقوله : ( الذي هو وجوب الاحتياط عند الأخباريين والبرائة عند المجتهدين حتى العلاّمة ) المشتهر بتقديم الناقل على المقرر ، فكيف يرجعون في الفقه الى الأصل ، وفي الاُصول الى خلاف الأصل الذي يسمى بالناقل والحاظر ؟ .

أما الايراد الثالث : فهو انّ جماعة من الاصحاب لم يقولوا في الاُصول بتقديم الناقل والحاظر ، ولا بتقديم المقرر والمبيح ، بل قالوا بالتخيير ، ومن الواضح : انّ هذا منافٍ ما تقدَّم عنهم من الوفاق على تقديم الحاظر .

والى هذا الايراد الثالث أشار بقوله : ( مضافاً الى ذهاب جماعة من أصحابنا في المسألتين ) المتقدمتين ( الى التخيير ) بين أن يعمل بهذا الخبر أو بذاك الخبر ، لا أنه يقدّم الناقل والحاظر على المقرر والمبيح .

هذا ( ويمكن أن يقال ) في جواب الاشكال الأوّل : انّه لا منافاة بين المسألتين ،

ص: 306

إنّ مرادَهُم من الأصل في مسألة الناقل والمقرّر أصالةُ البراءة من الوجوب ، لا أصالةُ الاباحة ، فيفارق مسألةَ تعارض المبيح والحاضر ، أو إنّ حكم أصحابُنا بالتخيير او الاحتياط ، لأجل الأخبار الواردة ، لا لمقتضى نفس مدلولي الخبرين من حيث هما فيفارق المسألتين .

-------------------

وذلك لأن مسألة المقرّر والناقل خاص بالشبهة الوجوبية ، ومسألة المبيح والحاظر خاص بالشبهة التحريمية ، فالمسألة الاُولى مختلف فيها ، والمسألة الثانية متفق عليها فلا منافاة بين المسألتين ، وذلك كما قال : ( ان مرادَهُم من الأصل في مسألة الناقل والمقرر : أصالة البرائة من الوجوب ، لا أصالة الاباحة ) في مسألة الحاظر والمبيح ، فمسألة الحاظر والمبيح خاصة بالشبهة التحريمية على ما عرفت ( فيفارق مسألة تعارض ) الناقل والمقرر مسألة تعارض ( المبيح والحاظر ) فلا يكون بين المسألتين عموم وخصوص مطلق كما ذكره المستشكل .

( أو ) يمكن أن يقال في جواب الايراد الثاني : ( ان حكم أصحابنا بالتخيير أو الاحتياط لأجل الاخبار الواردة ) في مسألة التعارض ، ولهذا قالوا بذلك في الفقه ، وفي الاُصول قالوا بتقديم الناقل والحاظر لملاحظة الرّجحان الموجودة في نفس مدلول الدليل ، فمسألة الناقل والحاظر بملاحظة نفس مدلول الدليل ، ومسألة التخيير أو الاحتياط بملاحظة الأخبار الواردة في تعارض الخبرين ( لا لمقتضى نفس مدلولي الخبرين من حيث هما ) .

وعليه : فان لم يكن هناك أخبار بالتخيير أو الاحتياط قلنا : مقتضى نفس مدلول الخبرين من حيث هما تقديم الناقل والحاظر ، فلا منافاة بين قولهم في الاُصول وعملهم في الفروع ( فيفارق المسألتين ) و يرتفع بذلك الايرادات الثلاثة .

ص: 307

لكن هذا الوجه قد يأباه مقتضى أدلّتهم ، فلاحظ وتأمّل .

المسألة الرابعة : دوران الحكم بين الحرمة وغير الوجوب ، مع كون الشكّ في الواقعة الجزئية لأجل الاشتباه في بعض الامور الخارجيّة

اشارة

كما إذا شكّ في حرمة شرب مايع أو إباحته ، للتردّد في أنّه خلّ أو خمر ،

-------------------

( لكن هذا الوجه قد يأباه مقتضى أدلتهم ) فأنهم قد استدلوا لترجيح الناقل على المقرّر : بأن الأصل في الكلام التأسيس والناقل تأسيس بخلاف المقرر فانه تأكيد ، ومن الواضح : انّ هذا الاستدلال يشمل ما كان الناقل وجوبياً أو تحريمياً فلا وجه لتخصيص الناقل والمقرر بالشبهة الوجوبية .

كما انهم استدلوا للتخيير : بانّه مقتضى حجيّة الخبرين ، وعدم امكان العمل بهما معاً وعدم جواز تركهما معاً بمعنى : انّ التخيير هو مقتضى الأصل الأوّلي ، لا انّه بمقتضى الأخبار (فلاحظ ، وتأمل) فانّه لا يَبعُد أن يُقال بوقوع شبه تدافع في كلماتهم .

( المسألة الرابعة ) من مسائل البرائة : ( دوران الحكم بين الحرمة وغير الوجوب ) بأن يدور بين الحرمة وبين واحد من الاستحباب ، أو الكراهة ، أو الاباحة ( مع كون الشك في الواقعة الجزئية لأجل الاشتباه في بعض الاُمور الخارجية ) غير المرتبط بالشرع بل مرتبط بالعُرف ، حيث يلزم فيه استطراق باب العرف على ما ذكرناه سابقاً في مناط الشبهة الموضوعية .

( كما اذا شك في حرمة شرب مايع أو اباحته ، للتردّد في أنّه خلّ أو خمر ،

ص: 308

وفي حرمة لحم ، لتردّد بين كونه من الشاة أو من الأرنب .

والظاهرُ عدمُ الخلاف في أنّ مقتضى الأصل في الاباحة ، للأخبار الكثيرة في ذلك ، مثل قوله عليه السلام : « كلّ شيء لك حلالٌ حتّى تعلمَ أنّه حرام ، وكلُّ شيء

-------------------

وفي حرمة لحم ، للتردد بين كونه من الشاة أو من الأرنب ) فانّه من الواضح انّ الحكم الكليّ بالنسبة الى شرب الخل أو الخمر ، وبالنسبة الى أكل الشاة أو الأرنب معلوم ، وانّما الشك في هذا الجزئي الخارجي الذي هو مصداق لأحد تلك الكليات ، فانه اذا راجع الشرع فيه وسأله : هل هذا خمرا أو خلّ ، شاة أو أرنب ؟ أجابه الشارع : انّه لا يرتبط بي وانّما يجب عليك تحقيقه من الخارج ، ولو أجاب الشارع ، فانّما هو تفضل منه ، لا أنه تكليفه الأوّلي كما هو في بيان الأحكام .

ومن الواضح : انّ الشبهة الموضوعية ليست منحصرة باللحم والمايع ، بل هي كذلك بالنسبة الى الأُخت من الرّضاعة في انّها هل اكملت الرّضاع حتى تحرم أو لم تكمله ؟ وهل هذا ولد زيد أو ولد عمر ؟ وما أشبه ذلك من الاُمور الجزئية المشتبهة التي كلياتها معلومة من الشرع .

( والظاهر عدم الخلاف ) بين الاُصوليين والأخباريين ( في أن مقتضى الأصل فيه : « الاباحة » ) وان كان يستحسن فيها الاحتياط أيضاً اذا لم ينجر الى الوسوسة ،

أو يسبب اختلال النظام العام ، أو النظام الخاص ، على ما تقدّمت الاشارة اليه . وانّما قال الجميع فيه بالاباحة ( للأخبار الكثيرة في ذلك ) أي : في الشبهة الموضوعية ( مثل قوله عليه السلام : كلّ شيء لَكَ حلالٌ حَتى تعلَم انّه حرامٌ (1) ، وكلّ شيء

ص: 309


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص266 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

فيه حلال وحرام فهو لك حلال » .

واستدلّ العلاّمة ، في التذكرة على ذلك برواية مسعدة بن صدقة :

« كلُّ شيء لك حَلالٌ حتّى تَعلَمَ أنّه حرامٌ بعينه فَتَدَعَهُ

-------------------

فيه حلالٌ وَحرامٌ فَهو لكَ حَلالَ ) (1) .

وانّما قلنا بحسن الاحتياط فيه أيضاً لاطلاقات جملة من الأدلة المتقدّمة مثل قوله عليه السلام : «دَع ما يُريبُك اِلى ما لا يُريبُك » (2) .

وقوله عليه السلام : « ما اجتمع حَلالٌ وحرامٌ ، الا غلّب اللّهُ الحرامَ على الحَلال » (3) .

( واستدل العلاّمة في التذكرة على ذلك ) أي : على البرائة في الشبهة الموضوعية التحريمية ( برواية مَسعدة بن صدقة ) عن الصادق عليه السلام : ( كلّ شيء لك حلالٌ حتى تعلم انّه حرام بعينه ) فلا يفيد علمك بحرمة شيء في الجملة : كما في الشبهة غير المحصورة حيث يعلم الانسان غالباً بأن بعض أشياء السوق سرقة ، أو نجس ، أو ما أشبه ذلك ، فانّ هذا العلم لا يفيد لزوم الاجتناب .

وأما في الشبهة المحصورة فهناك دليل وارد على رواية مسعدة يدل على لزوم الاجتناب عن الطرفين - مثلا - ، وعليه : فاذا علمت الحرام بعينه ( فتَدَعهُ ) أي :

ص: 310


1- - المحاسن : ص495 ح596 وقريب منه في تهذيب الاحكام : ج9 ص79 ب4 ح72 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 ، غوالي اللئالي : ج3 ص465 ح16 .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33506 و ص170 ب12 ح33517 ، كنز الفوائد : ج1 ص351 ، الذكرى : ص138 ، الغارات : ص135 ، غوالي اللئالي : ج1 ص394 ح40 .
3- - مستدرك الوسائل : ج13 ص68 ب4 ح14768 غوالي اللئالي : ج2 ص132 ح358 و ج3 ص466 ح17 بالمعنى .

مِن قِبَلِ نَفسِكَ ، وذلك مثلُ الثوبِ يكونُ عليك ولعلّه سرقةٌ والعبدِ يكونَ عندك لعلّه حرٌّ قد باع نَفسَه ، او قُهِرَ فَبِيعَ ،

-------------------

تدع ما علمتَ انّه حرام بعينه ( من قِبَلِ نفسِك ) بلا احتياج الى دليل آخر ، فانّ العلم كافٍ في تنجيز الحكم على الانسان .

نعم ، ربّما يُقال في القاضي بأنه لا يتمكن أن يقضي بعلمه ، أما مطلقاً في كل الاُمور أو في الجملة ، كما في حدّ الزنا ونحوه على ما ذكر في موضعه ، ويستدل على ذلك : بان « ما عِز » لما اعترف عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ثلاث مرات بالزّنا وعلمَ الرّسول ذلك منه ، لم يَجرِ عليه الحدّ انتظاراً للاعتراف الرابع ، وكذلك لما

اعترفت تلك المرأة عند علي عليه السلام بالزّنا ، لم يجر عليها الحد الى ثلاث مرات وانّما اجراه عليها في المرّة الرابعة ، الى غير ذلك ، وهذه المسألة مفصلة في محلها في باب القضاء (1) .

( وذلك ) أي : الشيء حلال حتى تعلم انّه حرام ( مثل الثوب يكون عليك ولعله سرقة ) قد سرقه البائع مثلاً فباعه عليك أو سرقه الواهب فوهبه اليك ، الى غير ذلك .

( والعبد يكون عندك ولعله حرٌّ قد باع نَفسَهُ ) فانّ الأحرار ربّما كانوا يبيعون أنفسهم تخلصاً من النفقة التي كانوا يعجزون عنها ، والمسيحيين ربّما كانوا يبيعون أنفسهم ويبذلون ثمنها للكنيسة خدمة لدينهم ، الى غير ذلك ممّا هو مذكور في محله .

( أو قُهِرَ فَبِيعَ ) أي : قهره المولى الظاهري فباعه وهو لم يتمكن من أن يقول

ص: 311


1- - للمزيد راجع موسوعة الفقه ج84 - 85 كتاب القضاء للشارح .

او خُدِعَ فَبِيعَ ، أو امرأةٍ تَحتَكَ وَهِيَ أُختُكَ او رضِيعَتُكَ والأشياءُ كلُّها على هذا حتّى يستبينَ لك غيرُ هذا او تَقُومَ بِهِ البَيِّنَةُ » .

وتبعه عليه جماعةٌ من المتأخرّين ، ولا إشكالَ في ظهور

-------------------

اني لستُ بعبد أو تمكن من ذلك لكنّه لم يسمع منه ، حيث انّ جمعاً من الفقهاء ذهبوا الى انّه لا يقبل قول العبد في انّه حر إذا لم نعلم حريته ورقيته ، وذلك لمثل خبر حمزة بن حمران قال : قلت لابي عبد اللّه عليه السلام : أدخل السوق فأُريد أن اشتري الجارية فتقول انيّ حرّة ؟ فقال : اشترها الاّ أن تكون لها بينة ، والمسألة معنونة مفصلاً في الفقه .

( أو خُدِعَ ) بأن قيل له مثلاً : نبيعك حتى تنتفع بالثمن ثم اهرب أنت بنفسك ، أو ان هذا الشخص من أهل الخير يعتق العبيد فنبيعك وبعد البيع يعتقك ونستفيد من ثمنك ( فَبِيعَ ) أو وهب أو ما أشبه ذلك .

( أو امرأةٍ تحتَك وهي أختُكَ أَو رضيعَتُك ) لأنّ أباهما تزوج امرأتين في بلدين فلم يعرف أحدهما الآخر فتزوجا أمّا مثال الرّضاع فواضح .

( والأشياءُ كلُّها على هذا ) أي : على الحلّ الظاهري ( حتى يَستَبِينَ لَكَ غيرُ هذا ) استبانة علميّة بسبب القرائن ونحوها ( أو تَقُوم به البيّنة ) (1) من الشهود العدول بحسب الموازين الشرعية .

( وتبعه ) أي : تبع العلامة رحمه اللّه ( عليه ) أي : على الاستدلال بهذا الحديث للحل الظاهري ( جماعةٌ من المتأخرين ) عن العلامة . هذا ( ولا اشكالَ في ظهور

ص: 312


1- - فروع الكافي : ج 5 ص 313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح20253 .

صدرها في المدّعى إلاّ انَّ الأمثلة المذكورة فيها ليس الحلُّ فيها مستندا إلى أصالة الحلّيّة ، فانّ الثوب والعبد إن لوحظا باعتبار اليد عليهما حُكِمَ بحلّ التصرّف فيهما لأجل اليد ، وإن لوحظا مع قطع النظر عن اليد كان الأصلُ فيهما حرمةَ التصرّف ، لأصالة بقاء الثوب على ملك الغير وأصالة الحرّيّة في الانسان المشكوك في رقّيّته .

-------------------

صدرها في المدعى ) : من حلية ما شك في حليته ، لأنّ الامام عليه السلام قال : « كُلُّ شَيءٍ لَك حَلالٌ حَتى تَعلَم انَّه حرامٌ بِعَينِه » ، فان جعل الغاية بقوله « حَتى تعلم » ، يدلُّ على انّه قبل العلم يكون حلالاً ظاهرياً ( الاّ ان الأمثلة المذكورة فيها ليس الحل فيها مستنداً الى اصالة الحليّة ) بل المنساق من الرواية : ان الحليّة فيها مستندة الى قاعدة اليد ، ولهذا قدمّه المصنّف في شقّي احتمالية بقوله :

( فان الثوب والعبد ، ان لوحظا باعتبار اليد عليهما ، حكم بحل التصرف فيهما لأجل اليد ) لا لأجل أصالة الحل في الشبهة الموضوعية التحريمية ، اذ ظاهر يد البائع كونه صحيح التصرف ، وكذلك الحال ان وهبهما ذو اليد ، أو ما أشبه ذلك .

( وان لوحظا مع قطع النظر عن اليد ) كما اذا باع الرئيس المتنفذ شخصاً أو شيئاً ليس تحت يده فتسلّم المشتري ذلك الشخص أو الشيء وهو لا يعلم ان الرئيس باع مال نفسه أو مال غيره ( كان الأصل فيهما حرمة التصرف ، لاصالة بقاء الثوب على ملك الغير ، وأصالة الحرّية في الانسان المشكوك في رقيّته ) فلا مجرى للأصل الظاهري بالحل حينئذٍ ، لتقدُّم أصل الحرمة على أصل الحِلّ ، لأنهما من السببي والمسببي ، وقد تقدَّم انّ الأصل السببي مقدَّم على الاصل المسببي .

أما كون الأصل في الانسان الحرية ، فلجملة من الروايات ، مثل صحيحة عبد اللّه بن سنان قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : « كان عليّ بن أبي طالب عليه السلام

ص: 313

وكذا الزوجةُ إن لوحظ فيها أصل عدم تحقق النسب او الرّضاع . فالحلّيّة مستندة إليه ، وإن قُطِعَ النظرُ عن هذا الأصل فالأصلُ عدمُ تأثير العقد فيها ، فيحرم وطيها .

وبالجملة ، فهذه الأمثلة الثلاثة بملاحظة الأصل الأوّليّ محكومة بالحرمة ، والحكم بحلّيّتها إنّما هو من حيث الأصل الموضوعي الثانويّ ،

-------------------

يقول : الناسُ كُلّهم أحرارٌ الاّ من أقرَّ على نفسهِ بالعبوديةِ هو مدرك من عَبدٍ أوأمةٍ ، ومن شهد عليه بالرّق صَغيراً كان أو كبيراً » (1) ، الى غير ذلك .

( وكذا الزوجة ) لا مجال لاصالة الحل فيها ، لأنها ( ان لوحظ فيها أصل عدم تحقق النسب أو الرضاع ) اذ النسب والرضاع أمران حادثان ، فاذا شك فيهما فالأصل عدمهما ( فالحليّة مستندة اليه ) أي : الى استصحاب عدم النسب والرضاع ، فلا يبقى مجال بعد ذلك لاصل الحل .

( وان قُطِعَ النظرُ عن هذا الأصل ) بأن لم يكن اركان الاستصحاب تاماً ولم يجر الاستصحاب السببي ، ( فالأصل عدم تأثير العقد فيها ) أي : في الحليّة ( فيحرم وطيها ) فلا يكون مجال لأصل الحل الذي هو محل كلامنا .

( وبالجملة فهذه الأمثلة الثلاثة ) المذكورة في رواية مَسعدَة بن صَدقَة ( بملاحظة الأصل الأوّلي ) الحاكم على أصالة الحِلّ ( محكومة بالحرمة ) على ما عرفت ( والحكم بحليتها انّما هو من حيث الأصل الموضوعي الثّانوي ) مثل : « دليل اليد » و « أصالة عدم تحقق مانع من النكاح » .

ص: 314


1- - الكافي فروع : ج6 ص195 ح5 ، تهذيب الاحكام : ج8 ص235 ب36 ح78 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص141 ب2 ح3515 .

فالحلّ غير مستند إلى أصالة الاباحة في شيء منها .

هذا ، ولكن في الأخبار المتقدمة بل جميع الأدلّة المتقدّمة من الكتاب والعقل كفايةٌ ، مع أنّ صدرها وذيلها ظاهرة في المدّعى .

-------------------

وعليه : ( فالحل غير مستند الى اصالة الاباحة في شيء منها ) فلا تكون هذه الأمثلة من صغريات : « كلُّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ حَتّى تَعلَمَ اَنَّه حَرامٌ بِعَينه » (1) الذي ذكره الامام عليه السلام كقاعدة كلّيّة في صدر هذا الحديث ، فاللازم اما أن يُصرف الصدر عن ظاهرة وأما أن يُصرف الذيل عن ظاهره .

أما صرف الصدر عن ظاهره فهو أن يقال : انّ الصدر ليس في مقام بيان أصالة الحِلِّ التي هي محل الكلام ، بل لبيان التكليف العملي في أمثال الموارد الثلاثة ، وأما صرف الذيل فهو ان يقال : انّ الأمثلة المذكورة ليست من باب صغريات القاعدة الكلية في الصدر ، والتمثيل لاصالة الحلّ بل انّها من باب التقريب والتنظير فقط .

( هذا ، ولكن في الأخبار المتقدّمة ) التي ذكرناها في الشبهة الحكميّة والموضوعيّة ( بل جميع الأدلة المتقدّمة من الكتاب والعقل ) بل والاجماع على البرائة بالتقرير الذي ذكرناه هناك ( كفاية ) في الدلالة على البرائة في الشبهة الموضوعية التحريمية ، حتى مع فرض عدم دلالة رواية مَسعَدَة على ذلك . ( مع انّ صدرها ) أي : صدر هذه الرواية وهو قوله عليه السلام : « كُلُّ شيءٍ لَكَ حَلاَل ...» ( وذيلها ) أي : قوله عليه السلام : « والأشياءُ كلّها على ذلك » ( ظاهرة في المدعى ) أي :

ص: 315


1- - الكافي فروع : ج5 ص33 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 .

وتوهّمُ : « عدم جريان قبح التكليف بلا بيان هنا ، نظرا إلى أنّ الشارع بيّن حكم الخمر ، مثلاً ، فيجب حينئذٍ اجتناب كلّ ما يحتمل كونه خمرا من باب المقدّمة العلميّة ، فالعقل لا يقبّح العقاب خصوصا على تقدير مصادفة الحرام » ،

-------------------

في دلالة هذه الرواية على أصالة الحل في الشبهات الموضوعية التحريمية ، فتكون الأمثلة المذكورة من باب التقريب والتنظير على ما عرفت .

وقوله : « ظاهرة » بتأنيث الضمير من باب الكسب مثل قول الشاعر : كما شرعت صدر القناة من الدم .

( وتوهمُ ) ان اللاّزم الاجتناب عن الشبهة الموضوعية التحريمية وان لم يجب الاجتناب عن الشبهة التحريمية الحكمية للأدلة المتقدّمة على البرائة في الشبهة التحريمية الحكمية .

وانّما يجب الاجتناب عن الشبهة الموضوعية التحريمية ، ل- ( عدم جريان قبح التكليف بلا بيان هنا ) في باب الشبهة الموضوعية التحريمية ( نظراً الى أنّ الشارع بيّن حكم الخمر مثلاً فيجب حينئذٍ اجتناب ) المكلّف عن ( كلّ ما يحتمل كونه خمراً من باب المقدمة العلميّة ) لامتثال التكليف في جميع الأفراد الواقعية ، فان الخمر لما حرمت بكلّ أفرادها وتردد أمرها بين أن تكون في هذه الأواني العشر أو في الأكثر منها وهو الحادي عشر مثلاً كان اللازم بحكم العقل الاجتناب عن هذا الأخير أيضاً حتى يعلم بانّه اجتنب الخمر اطلاقاً ، فالخمر المحتمل على تقدير كونه في الواقع خمراً ، قد بيّن وجوب اجتنابه في النص .

وعليه : ( فالعقل لا يقبح العقاب ) على ارتكاب هذا المشتبه حتى فيما اذا لم يصادف الواقع ، لأنّه تجرأ على المولى ، و (خصوصاً على تقدير مصادفة الحرام)؛

ص: 316

مدفوعٌ

-------------------

فان العبد ارتكب حراماً بعد بيان المولى وجوب الاجتناب عليه من كلّ الاُمور المحتملة ، بل بناء العقلاء على الاجتناب في أمثاله .

فاذا قال الطبيب للمريض مثلا يضرك لحم الإبل فاتركه ، وعلم المريض بأنّ هذه اللحوم الثلاثة لحم الإبل وشك في اللحم الرابع ، فان العقلاء يتجنّبون عنه حذراً من الوقوع في المحذور ، وكذلك فيما إذا علم الانسان بأن هذه الأواني سم وشك في إناء آخر هل انّه سم أم لا ؟ فانّه يتجنبه حذراً من الوقوع في محذوره .

هذا التوهم ( مدفوعٌ ) لأنّ الحكم انّما يتنجَّز على الانسان ، ويصح العقاب على مخالفته بأمرين :

الأول : العلم بالحكم علماً وجدانياً ، أو ان يكون هناك طريق الى الحكم : من الخبر الصحيح ، وما أشبه ذلك .

الثاني : العلم بالموضوع ، أو أن يكون هناك أمارة على الموضوع : من بيّنة ونحوها .

فحينئذٍ يقال مثلاً هذا خمر وكل خمر حرام ، سواء كان العلم بالحكم وكذلك بالموضوع علماً إجمالياً أو علماً تفصيلياً ، وذلك على ما قرّر في باب القطع : من أن العلم الاجمالي أيضاً منجّز بشروطه المذكورة ، وبدون هذين العلمين لا يكون الحكم منجزاً على الانسان سواء علم بالموضوع دون الحكم ، أو بالحكم دون الموضوع .

وعليه : فمن عَرفَ الخمر لكنّه لا يعلم انّه حرام ، ولم يقم عنده طريق معتبر ، لا يحق للعقلاء عقوبته ، وكذا من عرف الحرمة ، لكنّه لا يعلم ان هذا المايع خمر ، ولم يقم على خمريته أَمارة معتبرة ، فالحكم لا يتنجّز على الانسان ولا يصح

ص: 317

بأنّ النهي عن الخمر يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلاً والمعلومة إجمالاً المتردد بين محصور .

والأوّل لا يحتاج إلى مقدّمة علميّة والثاني يتوقف على الاجتناب من أطراف الشبهة لا غير .

-------------------

عقوبته على المخالفة عندما لم يصله بيان ، سواء في الموضوع أو في الحكم .

نعم ، البيان في الحكم من المولى ، والبيان في الموضوع من الطرق المقرّرة .

وعلى هذا يُمكن أن يقال في جواب الاشكال : ( بأنّ النهي عن الخمر يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلاً والمعلومة اجمالاً ) فيما اذا كان العلم الاجمالي منجّزاً ، لا ما اذا كان بعض الأفراد خارجاً عن محل الابتلاء ، أو مضطراً اليه ، أو ما أشبه ذلك ، ممّا فصل في العلم الاجمالي .

( والعلم الاجمالي انّما يكون منجّزاً ومصححاً للعقوبة على مخالفته ، اذا كان ذلك الفرد المنهي عنه كالخمر في المثال هو ( المتردّد بين محصور ، و ) ذلك لصدق وصول البيان المنجّز على الانسان فيه ، فيكون أفراد الخمر المنهي عنه على قسمين :

( الأول : ) وهو ما اذا كان معلوماً تفصيلاً ، فهو ( لا يحتاج الى مقدمة علميّة ) بل يتجنب عن ذلك الفرد المعلوم .

( والثاني : ) وهو ما اذا كان معلوماً اجمالاً ، فهو ( يتوقف على الاجتناب من أطراف الشبهة لا غير ) فاذا تردد نجس بين انائين يجب الاجتناب عن ذينك الانائين ، لاعن إناءٍ ثالث يحتمل انّه نجس وليس بطرف للعلم الاجمالي ، فان العلم باجتناب النجس الموجود بين الانائين انّما يتوقف على اجتنابهما فقط دون الإناء الثالث المشكوك في كونه نجساً أم لا ؟ .

ص: 318

وأمّا ما احتمل كونه خمرا من دون علم إجماليّ ، فلم يعلم من النهي تحريمُه وليس مقدّمةً للعلم باجتناب فرد محرّم يحسن العقاب عليه ، فلا فرق بعد فرض عدم العلم بحرمته ولا بتحريم خمر يتوقف العلم

-------------------

( و ) عليه : فانّ النهي عن الخمر يُوجب تنجّز حرمة الخمر المعلوم بأحد الوجهين ( أما ما احتمل كونه خمراً من دون علم اجمالي ) منجّز في البين وقد عرفت موازين التنجيز ( فلم يعلم من النهي تحريمُه ) حتى على تقدير كونه خمراً في الواقع ، وذلك لعدم حصول البيان المنجّز على المكلّف ( وليس مقدمة للعلم باجتناب فرد محرّم يحسن العقاب عليه ) أي: انّه لم يعلم بالتفصيل ولا بالاجمال .

وأما مثال لحم الابل والسم ، فليس ممّا نحن فيه ، لأن الكلام في العقاب الاُخروي لا في الاضرار الدنيوية المحتملة والا فيلزم الاجتناب حتى في الشبهة البدوية ، وهذا ما لا يقول به أحد .

هذا ، بالاضافة الى ان العقلاء لا يجتنبون عن مثل ذلك ، والاّ لزم اجتنابهم عن ركوب البَرّ ، والبَحر ، والجَوّ ، لاحتمال الخطر فيها ، بل الخطر في مثل ركوب الجوّ كثير جداً ، لاحتمال سقوط الطائرة ، ومع ذلك نرى الطائرات وهي مستمرة في حمل المسافرين الى مختلف بلاد العالم ، ولزم اجتنابهم عن كثير من المأكولات لاحتمال الأضرار الجسدية فيها ، واجتنابهم التجارة لاحتمال الأضرار المالية فيها ، والى غير ذلك .

وحيث قد عرفت : انّه لا دليل على الاجتناب اذا لم يكن هناك علم بالموضوع ، أو علم بالحكم تفصيلاً أو أجمالاً ، أو ما يقوم مقام العلم ، من الخبر الصحيح ، أو البينة ، أو ما أشبه ( فلا فرق بعد فرض عدم العلم ) تفصيلاً ( بحرمته ) أي : بحرمة محتمل الخمريّة ( ولا ) أي : عدم العلم اجمالاً ( بتحريم خمر يتوقف العلم

ص: 319

باجتنابه على اجتنابه بين هذا الفرد المشتبه وبين الموضوع الكلّيّ المشتبه حكمه كشرب التتن في قبح العقاب عليه .

وما ذكر من التوهّم جارٍ فيه أيضا ،

-------------------

باجتنابه ) أي : على اجتناب ذلك الخمر ( على اجتنابه ) أي : على اجتناب محتمل الخمريّة .

وعليه : فانّه لا فرق حينئذٍ ( بين هذا الفرد المشتبه ) انّه خمر أو ليس بخمر ولا علم تفصيلي ، ولا اجمالي على انه خمر ( وبين الموضوع الكليّ المشتبه حكمه ) بأن كان مشكوك الحكم وان كان معلوم الموضوع ، والشك في حكمه انّما هو لفقد النّص أو اجماله أو تعارضه ( كشرب التتن في قبح العقاب عليه ) فانّه اذا علم انه تتن لكنه لا يعلم حرمته لا علماً اجماليّاً ولا علماً تفصيلياً وشربه ، قَبُحَ العقاب عليه عند العقلاء ، وقد دلّ على قبح العقاب قوله سبحانه : « وَمَا كُنَّا مُعذِّبينَ حَتَّى نَبعثَ رَسُولاً» (1) ، وقوله عليه السلام : « والأشياءُ كُلّها على ذلكَ حَتَّى تَستَبينَ ، أَو تَقومَ بِه البيِّنة » (2) بالاضافة الى الاجماع وسائر الادلّة التي تقدمت في الشبهة الحكمية التحريميّة، فانّه لا فرق في قبح العقاب بين أن لا يعلم الحكم أو أن لا يعلم الموضوع .

( وما ذكر من التوهّم ) الّذي تقدّم في قولنا : « وتوهّم عدم جريان قبح التكليف بلا بيان هنا ..» ( جارٍ فيه ) أي في الموضوع الكليّ المشتبه حكمه كشرب التتن ( أيضاً ) لأن الكلام فيهما واحد ، فكما ان توهم وجوب البيان في الشبهة

ص: 320


1- - سورة الاسراء : الآية 15 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 (بالمعنى) .

لأنّ العمومات الدالّة على حرمة الخبائث والفواحش « وما نهيكم عَنهُ فَانتَهُوا » يدلّ على حرمة امور واقعيّة يحتمل كون شرب التتن منها .

ومنشأ التوهّم المذكور ملاحظةُ تعلّق الحكم

-------------------

الموضوعية من جهة قول الشارع : « اجتنب عن الخمر » لا يدع مجالاً لجريان قاعدة « قبح العقاب بلا بيان » ، في الخمر المشتبه كذلك توهم وجوب البيان في الشبهة الحكمية من جهة العمومات الدالّة على المحرمات ، لا يدع مجالاً لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الشبهة الحكمية أيضاً .

وانّما لا تجري القاعدة في الشبهة الحكمية أيضاً ( لأن العمومات الدالة على حرمة الخبائث والفواحش ) وقوله تعالى : ( « وَما نَهَاكُم عَنهُ فانتَهُوا » (1) ) جارٍ في محتمل التحريم كشرب التتن بالنسبة الى الخبائث ، والتزويج بمن ارتضعت معه عشر رضعات بالنسبة الى الفواحش ، وشرب العصير التمري الذي ليس بخبيث ولا فاحشة ، وانّما يحتمل دخوله في : « وَمَا نَهاكُم عَنه » .

وعليه : فانّ كل واحد من هذه العمومات ( يدل على حرمة اُمور واقعيّة ) من الخبيث الواقعي ، والفاحشة الواقعية ، والمنهي عنه الواقعي ، و ( يحتمل كون شرب التتن منها ) فيجب اجتنابه مقدمة للعلم بامتثال التكليف في جميع الافراد الواقعيّة وكذلك بالنسبة الى التزويج وشرب العصير على ما ذكرناه .

( ومنشأ التوهّم المذكور ) في الشبهة الحكمية باحتمال دخول هذه الاُمور في تلك العمومات ( ملاحظة تعلّق الحكم ) أي : حكم التحريم والاجتناب والنهي

ص: 321


1- - سورة الحشر : الآية 7 .

بكلّيّ مردّد بين مقدار معلوم وبين أكثر منه ، فيتخيّل أنّ الترديد في المكلّف به مع العلم بالتكليف فيجب الاحتياط .

ونظيرُ هذا التوهّم قد وقع في الشبهة الوجوبيّة حيث تخيّل أنّ دوران مافات من الصلاة بين الأقلّ والأكثر موجبٌ للاحتياط من باب وجوب المقدّمة العلميّة ،

-------------------

( بكليّ مردّد بين مقدار معلوم ) كالخبائث المعلومة ، والفواحش المعلومة ، والمنهيّات المعلومة ( وبين أكثر منه ) كالتتن والمثالين الآخرين ( فيتخيّل ) أي : المتوهّم ( ان الترديد ) انّما هو ( في المكلّف به مع العلم بالتكليف ) فلا يكون من الشك في التكليف فتجري البرائة بل من الشك في المكلّف به ( فيجب الاحتياط ) لانّ الشكّ في المكلّف به موجبٌ للاحتياط المانع هذا الاحتياط من جريان قاعدة القبح .

لكن قد تقدّم جواب هذا الاشكال : بانّ البيان انّما يحصل بالعلم بالحكم والموضوع معاً علماً اجمالياً أو تفصيلياً ، ولا علم اجمالي ولا تفصيلي في المقام ، كما انّه ليس في المقام ما هو بمنزلة العلم ، كالخبر الواحد الصحيح ، والبيّنة ، وما أشبه ، وحيث لا علم فلا يكون الشك في المكلّف به ، بل انّما هو شك في التكليف ، والشكّ في التكليف مجراه البرائة .

( ونظيرُ هذا التوهّم ) الحاصل في الشبهة التحريمية الحكمية والموضوعية مع سبق الكلام فيهما ( قد وقع في الشبهة الوجوبية ) الموضوعية ، وكذلك في الشبهة الوجوبية الحكمية ، ففي الموضوعية ( حيث تخيّل ان دوران ما فات من الصلاة بين الأقلّ والأكثر موجب للاحتياط من باب وجوب المقدمة العلمية ) لأن الشارع

ص: 322

وقد عرفت ، وسيأتي اندفاعه .

-------------------

قال في بيان وجوب قضاء ما فات : « مَنْ فَاتَته فَريضةٌ فليقضِها كما فاتته » (1) وهو بيان للحكم الكليّ ، وهذا الحكم الكليّ بيان لجميع الأفراد الواقعيّة .

وعليه : فاذا شك في أنّ الذي فاته خمس أو عشر وجب عليه قضاء العشر ، لأنّ التكليف معلوم ، والمكلّف به مردّد بين الأقل والأكثر ، فيجب الاتيان بالأكثر مقدمة للعلم بامتثال التكليف في جميع الأفراد الواقعيّة ، وكذلك بالنسبة الى الشبهة الحكمية الوجوبية ، كما اذا شك في وجوب الدعاء عليه عنه رؤة الهلال بعد ورود العمومات الموجبة للأفراد الواقعية مثل قوله تعالى : « مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذوه » (2) وغير ذلك على التقريب المتقدّم .

( وقد عرفت وسيأتي اندفاعه ) وحاصل الاندفاع : انّه من الشك في التكليف وليس من الشك في المكلّف به ، لأنّا نعلم بالأقل ونشك في الأكثر ، فيكون الأكثر مجرى البرائة ، وذلك لعدم وجود العلم الاجمالي .

أمّا بالنسبة الى قضاء ما فات ، فهناك أقوال :

الأول : وجوب الأكثر .

الثاني : كفاية الأقل .

الثالث : الاتيان بالقدر المظنون الذي يكون في الغالب بين الأقل والأكثر .

الرابع : انّه لو نسى لتسامحه اذا كتب فوائته في ورقة ثم ألقاها في الماء عَمداً ، فاللازم عليه الأكثر : لأن احتمال التكليف المنجّز منجّزٌ والاّ فالأقل .

ص: 323


1- - غوالي اللئالي : ج2 ص54 ح143 ، تهذيب الاحكام : ج3 ص163 ب13 ح14 بالمعنى ، بحار الانوار : ج89 ص92 ب2 ح10 (بالمعنى) .
2- - سورة الحشر : الآية 7 .

فان قلت : انّ الضررَ محتملٌ في هذا الفرد المشتبه ، لاحتمال كونه محرّما ، فيجب دفعه .

قلنا : إن اُريدَ بالضرر العقابُ وما يجري مجراه من الامور الاُخرويّة فهو مأمون بحكم العقل بقبح العقاب من غير بيان ، وإن اُريدَ ما لا يدفع العقل ترتّبه من غير بيان ، كما في المضارّ الدنيويّة ،

-------------------

الخامس : الفرق بين أن يكون القضاء بالأمر الأول فيجب الأكثر ، وأن يكون بأمر جديد فيجب الأقل ، وتفصيل الكلام في الفقه .

( فان قلت ) : انه يلزم الاتيان بالأكثر في الشبهة الوجوبية ، وترك الأكثر في الشبهة التحريمية ، ل- ( ان الضرر محتمل في هذا الفرد المشتبه ، لاحتمال كونه محرّماً فيجب دفعه ) في الشبهة التحريمية كشرب محتمل الخمريّة وشرب التتن ولاحتمال كونه واجباً فيجب فعله في الشبهة الوجوبية كالدعاء عند رؤة الهلال وكالإِتيان بالفائتة المحتملة ، فالبيان الشرعيّ وان لم يكن موجوداً الاّ أن البيان العقليّ موجود باحتمال الضرر ، وكلّما حكم به العقل حكم به الشرع .

( قلنا : ان أُريد بالضّرر : العقاب وما يجري مجراه من الاُمور الاُخرويّة ) كالصعوبات بعد الموت ، وانحطاط الدرجة والوقوع في العِتاب ، وما أشبه ذلك ( فهو مأمون بحكم العقل بقبح العقاب من غير بيان ) فانا لا نسلم انّ الضرر المحتمل الاُخروي المبيّن عدمه من الشارع يجب دفعه ، فان قاعدة قبح العقاب من غير بيان حاكمة على وجوب دفع الضرر الاُخروي اطلاقاً .

( وان اُريدَ ما لا يدفع العقل ترتّبه من غير بيان كما في المضار الدنيويّة ) فانها آثار وضعية للأشياء تترتب عليها ، سواء علم بها الانسان أو لو يعلم ، عصى أو لم يعص ؟ فشارب الخمر يتعرّض للسكر سواء شربها عالماً بها أو جاهلاً ، ناسياً

ص: 324

فوجوبُ دفعِه عقلاً لو سُلّم كما تقدّم من الشيخ وجماعة لم يُسَلّم وجوبُه شرعا ، لأنّ الشارع صرّح بحلّيّة كلما لم يعلم حرمته ، فلا عقابَ عليه ، كيف وقد يحكم الشرع بجواز ارتكاب الضرر القطعيّ الغير المتعلّق بأمر المعاد ، كما هو المفروض في الضرر المحتمل في المقام .

-------------------

أو شاكاً وحتى لو أُوجِرَ في حلقه ، وكذلك حال تارك الواجب ، حيث تفوته المصلحة أو يقع في المفسدة وان كان تركه عن جهل أو نسيان أو الجاء كمن لم يركب السفينة عند الشاطى ء حيث يرتفع ماء البحر في الليل فيغرقه ، أو يأتي الحيوان فيأكله ، أو ما أشبه ذلك .

وعليه : ( ف- ) فنقول أولاً : لا يجب دفعه عقلاً ، الاّ اذا كان الضرر كثيراً ولم يعارض بشيءٍ أهمّ منه ، ولذا يخاطر العقلاء بركوب البحر وما أشبه لأرباح هي أهم في نظرهم من هذه الأضرار والمخاطر .

ونقول ثانياً : على فرض التنزّل ( وجوب دفعه عقلاً لو سلم كما تقدّم من الشيخ وجماعة لم يُسلّم وجوبُه شرعاً ، لأن الشارع صرّح بحلية كلّما لم يعلم حرمته ، فلا ) أثر شرعي على الارتكاب في محتمل الحرمة ، أو الاجتناب في محتمل الوجوب من ( عقاب ) أو غيره ( عليه ) .

هذا ، و ( كيف ) يكون ممنوعاً شرعاً ، ( و ) الحال ( قد يحكم الشرع ) بملاحظة مصالح اُخروية أو دنيوية أهمّ ( بجواز ارتكاب الضّرر القطعي غير المتعلق بأمر المعاد ) كالجهاد الموجب للجرح والقتل وتسليم النفس للشهادة والقصاص ، وبذل المال خمساً وزكاة وما أشبه ذلك ( كما هو ) أي : كون الضرر دنيوياً ( المفروض في الضرر المحتمل في المقام ) أي : في ارتكاب محتمل الحرمة ، أو في اجتناب محتمل الوجوب .

ص: 325

فان قيل : نختار أوّلاً : احتمالَ الضرر المتعلق بامور الآخرة ، والعقل لا يدفع ترتّبه من دون بيان ، لاحتمال المصلحة في عدم البيان ووكول الأمر إلى ما يقتضيه العقل ، كما صرّح به في العدّة في جواب ما ذكره القائلون بأصالة الاباحة ،

-------------------

وعلى أي حال : فلا دليل على لزوم الاتيان بالزائد من المقطوع في الشبهة الوجوبية ، ولا في وجوب الترك بالنسبة الى الزائد في الشبهة التحريمية .

( فان قيل ) : اذا شرب المكلّف محتمل الخمريّة ، قلتم أنتم : حيث لم يبيّن الشارع حرمته ، فلا عقاب عليه ، وذلك لقاعدة قبح العقاب من غير بيان .

قلنا : نحن نحتمل العقاب هنا ، فان الشارع انّما لم يبيّنه لمحذور في البيان وقد أَوكَلَ الشارع الأمرَ فيه الى العقل القائل بدفع الضرر المحتمل ، فيعاقبه يوم القيامة استناداً الى مخالفة عقله .

وعليه : فانّا ( نختار أوّلاً ) : بأن المراد من احتمال الضرر : ليس احتمال الضرر الدنيوي في شرب المايع المحتمل كونه خمراً ، بل ( احتمال الضرر المتعلّق بأمور الآخرة ) .

ان قلت : احتمال الضرر الاُُخروي مشمول أيضاً لقبح العقاب بلا بيان .

قلت : ( والعقل لا يدفع ترتبه ) أي : ترتب الضّرر المتعلّق بأُمور الآخرة ( من دون بيان ، لاحتمال المصلحة في عدم البيان ووكول ) الشارع ( الأمر الى ما يقتضيه العقل ) وحينئذٍ لا يحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فيحكم العقل بلزوم الاحتياط عن هذا الفرد المشكوك حرمته من المايع ، وذلك دفعاً للعقاب المحتمل وان كان العقاب من غير بيان .

( كما صرّح به ) أي : بهذا الذي ذكرناه بقولنا : « احتمال الضّرر المتعلّق باُمور الآخرة ...» الشيخ ( في العدّة في جواب ما ذكره القائلون بأصالة الاباحة ) فانّ

ص: 326

من أنّه لو كان هناك في الفعل مضرّة آجلة لبيّنها .

وثانيا : نختار المضرّة الدنيويّة ، وتحريمه ثابت شرعا ، لقوله تعالى : « وَلا تُلقُوا بَأيدِيكُم إلى التَهلُكَةِ » ، كما استدلّ به الشيخ أيضا في العدّة

على دفع أصالة الاباحة ، وهذا الدليل ومثله

-------------------

جماعة قالوا بأصالة الاباحة في الاشياء مستندين الى قبح العقاب من غير بيان ، وقالوا ( من انّه لو كان هناك ) أي : في مورد الشبهة ( في الفعل مضرّة آجلة ) أي : أخرويّة ( ليبيّنها ) الشارع ، فحيث لم يبيّنها فلا عقاب .

وردّهم الشيخ : بامكان أن يكون محذور في بيان الشارع فقد أَوكَلَ الشارع بيانه الى العقل ، والعقل يدل على التحريم لكونه ضرراً محتملاً ، والضرر المحتمل يرى العقل وجوب دفعه .

( وثانياً : نختار ) بان المراد من احتمال الضّرر في الشبهة ( : المضرّة الدنيوية ، و ) أنتم قلتم ان احتمال هذا الضرر وان كان محرزاً بالعقل ، لكنّه لا يجب دفعه شرعاً ، لأنّ الشارع أذِنَ فيه بقوله سبحانه : « وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولاً » (1) وبسائر أدلّة البرائة .

قلنا : ذلك ممنوع ، لأنّ ( تحريمه ثابت شرعاً ، لقوله تعالى : « وَلاَ تُلقُوا بِأيديكُم الَى التَّهلُكَةِ » (2) كما استدلّ به الشيخ أيضاً في العدّة : على دفع أصالة الاباحة ) فان الشيخ استدل لردّ القائل بأصالة الاباحة بآية : «ولا تُلْقُوا بِأَيدِيكُم الَى التَّهلُكَةِ »بناءاً على انّ التَهلُكَةِ تشمل الدنيويّة والاخرويّة .

( وهذا الدليل ) أي : الآية المباركة ( ومثله ) من الأدلّة الدالة على تحريم الشارع

ص: 327


1- - سورة الاسراء : الآية 15 .
2- - سورة البقرة : الآية 195 .

رافع للحلّيّة الثابتة بقولهم : « كُلُّ شَيء لَكَ حَلالٌ حتّى تَعرِفَ أنّه حَرامٌ » .

قلت : لو سلمنا احتمال المصلحة في عدم بيان الضرر الاُخروي ،

-------------------

القاء النفس في الضرر الدنيوي ( رافع للحليّة الثابتة بقولهم ) عليه السلام : ( كُلُّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ حَتّى تَعرف انّه حَرامٌ ) (1) .

( وانّما كانت آية التهلكة رافعة لدليل الحلّ ، لأن دليل الحِلّ مُغَيّا بقوله عليه السلام : « حتى تعرفَ الحرامَ » ومع حكم العقل والشرع بوجوب دفع الضرر الدنيوي المحتمل يعرف الحرمة ، فيرتفع الحلّ لحصول الغاية ، فان حكم الغاية دائماً مخالف لحكم المُغَيّا .

فاذا قال : « سَلامٌ هِي حَتى مَطلَع الفَجرِ » (2) كان معنى ذلك : انّه بعد مطلع الفجر ينتهي الحكم الثابت قبله ، الاّ اذا كان هناك دليل على الدخول مثل قوله : أكلتُ السمكةَ حتى رأسها على ما ذكره الادباء والاصوليون في موضعه .

ان قلت ذلك ؟ ( قلت : ) أوّلاً : لا نسلم جواز عقاب الآخرة بدون البيان وان كان عدم البيان لوجود محذور في البيان ، وذلك للنّصّ في قوله سبحانه : « وَمَا كُنَّا مُعَذِّبينَ حَتّى نَبعَثَ رَسُولاً » (3) على عدم العقاب اطلاقاً بدون البيان ، سواء كان عدم البيان فيه لمحذور أو بدون محذور ، فان اللّه سبحانه وتعالى لا يعذِّب الاّ بعد البيان .

ثانياً: ( لو سلمنا احتمال المصلحة في عدم بيان الضرر الاُخروي) من الشارع

ص: 328


1- - وقريب من هذا الحديث في الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 و ح39 والمحاسن : ص495 ح596 .
2- - سورة القدر : الآية 5 .
3- - سورة الاسراء : الآية 15 .

إلاّ أنّ قولَهُم عليهم السلام : « كلُّ شيء لك حلالٌ » بيانٌ لعدم الضرر الاُخرويّ ، وأمّا الضررُ الغير الاُخرويّ ، فوجوبُ دفع المشكوك منه ممنوعٌ ، وآية التهلكة مختصة بمظنّة الهلاك

-------------------

( الاّ ان قولهم عليهم السلام : « كلُّ شيءٍ لَك حلال » بيان لعدم الضرر الاُخروي ) فنطمئن بعدم العقاب الاُخروي ، فقوله عليه السلام : « كُلُّ شَيءٍ لَكَ حَلاَلٌ » ينفي التّهلكة ، لا أن آية التهلكة تنفي قوله عليه السلام « كلُّ شَيءٍ لَكَ حَلاَلٌ » .

( وأما الضرر غير الاُخروي ، فوجوب دفع المشكوك منه ممنوع ) كما تقدّم قبل أسطر ( وآية التهلكة ) الذي زعمه المستشكل رافعة للحل الثابت بقوله عليه السلام : « كلُّ شيءٍ لَكَ حَلاَلٌ » ( مختصّة بمظنة الهلاك ) فلا تشمل احتمال الهلاك .

وعليه : فاذا علم بالضرر الدنيوي وجب الاجتناب ، وكذا اذا ظنّ به ظناً عقلائياً ، وذلك للاجماع ونحوه ، على أن الظن في باب الضرر قائم مقام العلم ، أما اذا لم يكن علم ولا ظن عقلائي بالضرر فلا حرمة في الارتكاب فيكون مورد « التهلكة » العلم والظن ، ومورد « كلُ شَيءٍ لَكَ حَلاَلٌ » صورة احتمال الضرر بلا علم ولا ظن وكلامنا الآن في احتمال الضرر ، وذلك بأن نحتمل كون هذا المانع خمراً فلا يجب الاجتناب عنه بحكم رواية : « كلُّ شَيءٍ لَكَ حَلاَلٌ » .

هذا ، ولكن ربّما يُقال : على كلام المصنِّف يلزم أن يكون احتمال الضرر أيضاً مانعاً من ارتكاب المشتبه وان كان وهماً ، ولذا قالوا : بأن الذي يحتمل - مثلاً - ضرر الوضوء ، أو الغسل ، أ و الصوم ، يتيمم ، ويفطر اذا كان الاحتمال عقلائياً ، ولعل الأوثق اشار الى هذا الاشكال حيث قال :

« لعل الوجه في كلام المصنِّف : - مختصة بمظنة الهلاك - هو فهم العلماء لما قيل كما هو ظاهر المصنِّف هنا ايضاً : من استقرار بنائهم على عدم وجوب دفع

ص: 329

وقد صرّح الفقهاء في باب المسافر بأنّ سلوك الطريق الذي يظنّ معه العطب معصيةٌ ، دون مطلق ما يحتمل فيه ذلك . وكذا في باب التيمم والافطار لم يرخّصوا إلاّ مع ظنّ الضرر الموجب لحرمة العبادة دون الشكّ .

نعم ، ذكر قليل من متأخّري المتأخّرين انسحاب حكم الافطار والتيمّم مع الشكّ أيضا ،

-------------------

الضرر المحتمل ، والاّ فتعليق الحكم بالهلكة الواقعيّة يقتضي : وجوب الاجتناب عن الهلكة المحتملة أيضاً » (1) .

ثم أن المصنِّف رحمه اللّه أيّد كَون احتمال الضرر ليس محرّم الارتكاب ، بل الظنّ بالضرر هو المحرّم ارتكابه بقوله : ( وقد صرّح الفقهاء في باب المسافر : بأنّ سلوك الطريق الذي يظن معه العَطَب ) و« العَطَب » على وزن « فَرَس » ، بمعنى الهلاك أما نفساً بأن يقتل ، أو عضواً بأن يقطع يده ، أو قوة بأن يذهب نور بصره - مثلاً - فسلوكه ( معصية ، دون مطلق ما يحتمل فيه ذلك ) ، فيكون سفره حراماً عند الظن بالعطب ، لا في صورة مجرد الاحتمال .

( وكذا ) صرّح الفقهاء ( في باب التيمم والافطار ) : بانّ المبيح للتيمم هو الظن بالضرر في الوضوء أو الغسل ، والمبيح للافطار هو الظنّ بالضرر من الصوم ، و ( لم يرخّصوا الاّ مع ظنّ الضرر الموجب لحرمة العبادة ، دون الشك ) والوهم .

( نعم ، ذكر قليل من متأخري المتأخرين انسحاب ) أي : جريان ( حكم الافطار والتيمم مع الشك أيضاً ) بل احتمال الضرر - كما عرفت سابقاً -

ص: 330


1- - أوثق الوسائل : ص288 الحكم بعدم وجوب الاحتياط عقلاً لاينافي حسن الاحتياط .

لكن لا من جهة حرمة ارتكاب مشكوك الضرر ، بل لدعوى تعلّق الحكم في الأدلّة بخوف الضرر الصادق مع الشكّ ، بل مع بعض أفراد الوهم أيضا .

لكنّ الانصاف إلزام العقل بدفع الضرر المشكوك فيه ، كالحكم بدفع الضرر المتيقن كما يعلم بالوجدان عند وجود مايع محتمل السمّيّة إذا فرض تساوي الاحتمالين من جميع الوجوه ، لكن

-------------------

( لكن لا من جهة حرمة ارتكاب مشكوك الضرر ، بل لدعوى تعلّق الحكم ) بوجوب الافطار والتيمم ( في الأدلة بخوف الضرر الصادق مع الشك ، بل بعض أفراد الوهم أيضاً ) وهو الوهم الموجب لتوقف العقلاء عن المسير ، لأن الوهم قد يكون عقلائياً ، فلا يسير العقلاء في مورد الوهم ، وقد لا يكون عقلائياً ، فيسير .

ثمّ انه حيث نفى المصنِّف اعتناء العقلاء بالضرر المشكوك فيه ، اذ العقلاء يرتكِبُونَ مشكوك الضرر ، رجع عن نفيه ذلك بقوله : ( لكنّ الإِنصاف : الزام العقل بدفع الضرر ) الدنيوي ( المشكوك فيه ، كالحكم ) من العقل ( بدفع الضرر المتيقّن ) وذلك للفرق بين الدليل العقلي والدليل الشرعي ، فان الدليل الشرعيّ لا يفيد الاّ وجوب دفع الضرر الدنيوي المقطوع أو المظنون ، أما العقل فيرى وجوب دفع الضرر حتى المشكوك منه .

( كما يعلم بالوجدان عند وجود مايع محتمل السمّية ) فان مجرد احتمال السمّ في المايع وان لم يكن علماً ولا ظناً ، يوجب اجتناب العقلاء عنه ، ففرق بين حكم العقل وحكم الشرع .

وعليه : فانّه ( اذا فُرض تساوي الاحتمالين من جميع الوجوه ) في المايع المحتمل وجود السم فيه ، نرى العقلاء يجتنبون عنه ولا يتناولونه .

( لكن ) لا يخفى : انّ ايجاب العقل دفع الضرر المقطوع والمظنون ،

ص: 331

حكم العقل بوجوب دفع الضرر المتيقن إنّما هو بملاحظة نفس الضرر الدنيويّ من حيث هو ، كما يحكم بوجوب دفع الاُخروي كذلك : إلاّ أنّه قد يتّحد مع الضرر الدنيويّ عنوان يترتب

-------------------

أو المشكوك والموهوم انّما هو فيما اذا كان العقلاء يرون دفع الضرر الموهوم كما في الاُمور المهمّة باّن قال الطبيب للمريض - مثلاً - اذا غسلت وجهك احتمل عمى عينك احتمالاً واحداً في عشرة ، فان هذا الاحتمال موهوم لكن العقلاء يعتنون به .

والاعتناء بهذا الاحتمال انّما هو فيما اذا لم يكن نفع يساوي الضرر أو يزيد عليه ، والاّ فقد يبيحه الشارع في كلّ الأقسام الأربعة لذلك النفع المصادف لهذا الضّرر ، فليس حكم العقل بدفع الضرر المشكوك مطلقاً على ما ذكرناه في قولنا : « والانصاف الزام العقل بدفع الضرر . . . » ولذا نقول : « كلُّ شيءٍ لَكَ حَلاَلٌ » يشمل الضّرر المشكوك والموهوم ، فلا تشملهما آية التهلكة بخلاف من قال : بان آية التهلكة تدفع رواية « كلُّ شَيءٍ لَكَ حَلاَلٌ » .

وانّما نقول بتقديم « كُلُّ شَيءٍ لَكَ حَلاَلٌ » على آية التّهلكة في المشكوك والموهوم ، لأنّا لو قدّمنا آية التهلكة لم يبق لقوله « كُلُّ شَيءٍ لَكَ حَلاَلٌ » موردٌ .

وعليه : فانّ ( حكم العقل بوجوب دفع الضرر المتيقّن ) والمظنون ، أو المشكوك والموهم ( انّما هو بملاحظة نفس الضرر الدنيوي من حيث هو ) ضرر أي : انا اذا لاحظنا الضرر بما هو ضرر يرى العقل وجوب دفع هذه الاضرار الأربعة ( كما يحكم ) العقل ( بوجوب دفع ) الضرر ( الاُخروي كذلك ) أي : من حيث هو ضرر في كلّ أقسامه الأربعة .

( الاّ انه قد يتّحد مع الضرر الدنيوي ) في كلّ أقسامه الأربعة ( عنوان يترتب

ص: 332

عليه نفع اُخرويّ ، فلا يستقلّ العقلُ بوجوب دفعه ، ولذا لا ينكر العقل أمر الشارع بتسليم النفس للحدود والقصاص وتعريضِها له في الجهاد والاكراه على القتل او على الارتداد .

وحينئذٍ : فالضرر الدنيويّ المقطوع يجوز أن يبيحه الشارع لمصلحة ،

-------------------

عليه ) أي : على ذلك العنوان ( نفع ) دنيوي كالتجارة المربحة ، أو ( اُخروي ) بالفوز بالجنة كفارة الذنوب وارتفاع الدرجة ( فلا يستقل العقل بوجوب دفعه ) أي : دفع هذا الضرر الدنيوي أو الاُخروي ، وذلك للتساوي بين الضرر والربح ، أو زيادة الربح على الضرر ( ولذا لا ينكر العقل أمر الشارع بتسليم النفس للحدود والقصاص وتعريضها ) أي : تعريض النفس ( له ) أي : للضرر ( في الجهاد ، والاكراه على القتل أو على الارتداد ) فانّه اذا أُكره الانسان على قتل الغير لا يجوز له قتله ، بل عليه أن يتحمّل الضرر وان كان الضرر هو القتل ، وذلك لأنّه لا تقيّة في الدّماء كما هو المشهور بين الفقهاء ، وكذا لو أُكره على الارتداد ، يجوز له ترك الارتداد وتحمّل الضرر وان كان قتلاً ، ويجوز له ايضاً فعل الارتداد تقية حيث قال سبحانه : « اِلاّ مَنْ أُكرِهَ وقَلبُهُ مُطمئنٌّ بِالإيمانِ »(1) .

( وحينئذٍ ) أي : حين قلنا : بأن ايجاب العقل دفع الضرر انّما هو فيما اذا لم يكن معارض بنفع مساو أو بنفع أهمّ ( فالضرر الدنيوي المقطوع ، يجوز أن يبيحه الشارع لمصلحة ) كما تقدّم من الأمثلة المذكورة بل وكذلك العقل قبل الشرع يبيح أيضاً مثل هذا الضّرر المقطوع اذا كان ذلك الضّرر مصادفاً لمصلحة أهمّ أو لمصلحة مساوية للضرر .

ص: 333


1- - سورة النحل : الآية 106 .

فاباحته للضرر المشكوك لمصلحة الترخيص على العباد أو لغيرها من المصالح ، أولى بالجواز .

-------------------

وعليه : فان كان بالنسبة الى الضرر المقطوع هكذا ( فاباحته ) أي : الشارع ، بل العقل أيضاً كما ذكرنا ( للضّرر المشكوك ) اباحة ( لمصلحة ) مثل مصلحة : ( الترخيص على العباد ، أو لغيرها من المصالح ، أولى بالجواز ) فقد قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « لَولاَ أَنْ أَشقَ عَلى اُمتي لأَمَرتهُم بِالسواك » (1) .

وفي رواية مروية عنه صلى اللّه عليه و آله وسلم انّه قال مخاطباً لعائشة : « لَولا قومُكِ حَدِيُثوا عَهدٍ بِالإِسلام لَهدَّمتُ الكعبة وَلَجَعَلتُ لَهَا بَابَينِ » (2) .

وقوله الآخر فيما يروى عنه : « ان جماعة من اصحابه تآمروا على قتله في ليلة العقبة لكنّه عفا عنهم ولم يقتلهم لئلا يقول الناس : نصر رسول اللّه قوم حتى اذا قوي أمره قتلهم » (3) ممّا يدل على انّ المصلحة المساوية أو الأهم قد توجب رفع الحكم .

وبذلك تبيّن حال الأقسام الأربعة للضرر العقلي والشرعي ، وكل واحد ربّما ينطبق عليه نفع عقليّ أو شرعي ، فاذا كان ذلك النفع مساوياً للضرر أو أهمّ ، أباح

ص: 334


1- - الكافي فروع : ج3 ص22 ح1 ، غوالي اللئالي : ج2 ص21 ح43 ، وسائل الشيعة : ج2 ص17 ب3 ح1346 و ج19 ب5 ح1354 .
2- - سفينة البحار : ج6 ص577 باب العين بعده الياء ، العمدة : ص317 ح532 حديث حريق الكعبة بالمعنى ، السيوطي : ص95 باب ابتداء .
3- - للاطلاع على سلوكيات الرسول الأكرم صلى اللّه عليه و آله وسلم راجع كتاب « لأوّل مرّة في تاريخ العالم » ، وكتاب « اسلوب حكومة الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم والإمام أمير المؤمنين عليه السلام » وكتاب «السبيل الى انهاض المسلمين » للشارح .

فان قلت : إذا فرضنا قيام أمارة غير معتبرة على الحرمة فيظنّ الضرر فيجب دفعه

-------------------

العقل والشرع ذلك الضرر .

ومن الواضح : ان المصالح المنطبقة على الأضرار الجابرة لها ، قد يدركها العقل من دون حاجة الى تذكر الشرع ، كشرب المسكر للتداوي في الأمراض المهلكة ونحوها ، وقد لا يدركه الاّ بتذكير الشرع مثل : اذن الشرع بارتكاب الشبهة مستنداً الى قوله تعالى : « يُريدُ اللّهُ بكُمُ اليُسرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ » (1) والى قوله سبحانه :« مَا جَعَلَ عَلَيكُم فَي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » (2) وما أشبه ذلك .

هذا ، ولكنّ الكلام الآن في الثبوت لا في مقام الاثبات .

ثمّ انّ المصنِّف ذكر أوّلاً : عدم لزوم دفع الضرر المشكوك ، وبعدها أنصف وقال : « لكن الانصاف وجوب دفع الضرر المشكوك » ثم عدل الآن الى بيان وجه آخر للكلام الأول وانه لا يلزم دفع الضرر المشكوك ، فأشار اليه بقوله :

( فان قلت : ) : أن الضرر المظنون ولو بظن غير معتبر ، واجب الدفع ، وحيث ان حال الشك حال الظنّ ، فاللازم أن يكون الضرر المشكوك واجب الدفع أيضاً ، فانه ( اذا فرضنا قيام أمارة غير معتبرة ) كالخبر الواحد ( على الحرمة ، فيظن الضرر ، فيجب دفعه ) كما إذا قام شاهد واحد بأن هذا الإناء خمر وظننّا صحة قوله ، فانّه لا يلزم الاجتناب عنه شرعاً ، لأنّ الموضوعات تحتاج في اثباتها الى شاهدين ، والمفروض انّه شاهد واحد ، فلا يكون قوله حجّة في كونه خمراً ، لكن مع ذلك يجب الاجتناب عن هذا الاناء من جهة الظن بالضرر .

ص: 335


1- - سورة البقرة : الآية 185 .
2- - سورة الحج : الآية 78 .

مع انعقاد الاجماع على عدم الفرق بين الشكّ والظنّ الغير المعتبر .

قلنا : الظنّ بالحرمة لا يستلزم الظنّ بالضرر ، أمّا الاخرويّ فلأنّ المفروض عدم البيان فيقبح ، وأمّا الدنيوي فلأنّ الحرمة لا تلازم الضرر الدنيويّ ، بل القطع بها أيضا لا يلازمه ،

-------------------

وعليه : فالظنّ بالضرر كافٍ في وجوب الاجتناب - على ما عرفت - وذلك بضميمة قوله : ( مع انعقاد الاجماع على عدم الفرق بين الشك والظنّ غير المعتبر ) فانه اذا وجب اجتناب الاناء في صورة الظنّ بالضرر وجب اجتنابه في صورة الشك لعدم القول بالفصل .

وإن شئت قلت : الشّك كالظنّ والظنّ واجب الاجتناب ، فالشك أيضاً كذلك والنتيجة : انه اذا شككنا في إناءٍ انّه خمر أم لا ؟ وجب الاجتناب عنه .

هذا هو مدعى من يقول من الأخباريين بوجوب الاجتناب في الشبهة الموضوعية غير المقرونة بالعلم الاجمالي ، فينفيه الاُصوليون بقولهم : ( قلنا ) : انكم قستم الشك بالضرر على الظنّ بالضرر ، حيث قلتم : ان الظن بالضرر يأتي من الظنّ بأن الاناء خمر ، لكن قولكم هذا غير تامٍ ، اذا الظنّ بانّ الاناء خمر لا يستلزم الظن بالضّرر .

وعليه : فانّ ( الظنّ بالحرمة لا يستلزم الظن بالضرر ، أمّا ) الضرر ( الاُخروي ، فلأنّ المفروض عدم البيان فيقبح ) العقاب عليه لعدم اعتبار هذا الظنّ في اثبات الحرمة ، فلا بيان في البين ، وحيث لا بيان ، فلا يكون العقاب مظنوناً بل ولا موهوماً لأنه إذا لم يكن بيان فلا عقاب قطعاً .

( وأمّا ) الضرر ( الدنيوي ، فلأن الحرمة لا تلازم الضرر الدنيوي ) اذ لا دليل على التلازم بينهما ( بل القطع بها ) أي : بالحرمة ( أيضاً لا يلازمه ) أي : الضرر

ص: 336

لاحتمال انحصار المفسدة فيما يتعلق بالامور الاُخروية .

ولو فرض حصول الظّنّ بالضرر الدنيويّ فلا محيص عن التزام حرمته ، كسائر ما ظنّ فيه الضرر الدنيويّ من الحركات والسكنات .

-------------------

الدنيوي ( لاحتمال انحصار المفسدة فيما يتعلق بالأُمور الاُخروية ) فلا تلازم بين القطع بالحرمة ، ولا الظنّ بالحرمة ، ولا الشك في الحرمة ، مع الظنّ أو القطع أو الشك في الضرر الدنيوي .

وعليه : فاذا شككنا في الحرمة في الاناء المشكوك خمريته نحتمل الضرر الدنيوي ، لا انه نقطع بالضرر الدنيوي أو نظن به حتى يقال : اذا ظننتم بالحرمة وجب عليكم الترك لظنّكم حيئنذٍ بالضّرر الدنيوي الّذي يجب الاجتناب عنه ، فمن أين تثبتون انّ الاناء المشكوك الخمريّة يجب الاجتناب عنه ؟ .

( ولو فرض حصول الظنّ بالضرر الدنيوي ) في بعض موارد قيام ظن غير معتبر على الخمرية ( فلا محيصَ عن التزام حرمته ) أي : حرمة ذلك المظنون ضرره ( كسائر ما ظن فيه الضرر الدنيوي من الحركات والسَكنات ) .

والحاصل : انّه اذا سلّمنا انّ كلّ مظنون الضرريّة ضرراً دنيوياً يجب الاجتناب عنه ، فلا نسلّم انّ كلّ مظنون الحرمة يجب اجتنابه ، لامكان الظنّ بالحرمة دون الظنّ بالضرر الدنيوي ، فاذا لم يجب الاجتناب عن مظنون الحرمة لم يجب الاجتناب عن مشكوك الحرمة بطريق أولى .

ص: 337

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل :

انّ محلّ الكلام في الشبهة الموضوعيّة المحكومة بالاباحة ما إذا لم يكن أصلٌ موضوعيٌّ يقضي بالحرمة ، فمثلُ المرأة المترددة بين الزوجة والأجنبيّة خارجٌ عن محلّ الكلام ، لأنّ أصالةَ عدم العلاقة الزوجيّة المقتضية للحرمة بل استصحاب الحرمة حاكمةٌ على أصالة الاباحة .

-------------------

هذا : ( وينبغي التنبيه على اُمور ) تالية :

( الأول : ان محلّ الكلام في الشبهة الموضوعية المحكومة بالاباحة ) أي : نقول بالاباحة في الشبهة الموضوعية ( ما اذا لم يكن أصل موضوعي ) جارٍ في الموضوع ( يقتضي بالحرمة ) فاذا كان هناك أصل موضوعي يقتضي الحرمة لم يكن محكوماً بالاباحة ، كالمايع المردّد بين الخلّ والخمر فيما لم يكن سابقاً خمراً حتى يستصحب خمريّته أو خلاً حتى يستصحب خليته ، لأنه اذا جرى الاستصحاب لم يكن مجال لبرائته أيضا ، لأنّ الاستصحاب كاشف ولو في الجملة ، بينما البرائة حكم ما ليس له حكم .

وعلى هذا : ( فمثل المرأة المترددة بين الزوجة والأجنبيّة خارج عن محل الكلام ) فلا تجري أصالة الاباحة فيها حتى يجوز وطيها .

وكذلك المرأة المردّدة بين المحرم وغير المحرم لا يجوز النظر اليها ( لأن أصالة عدم العلاقة الزّوجية ، المقتضية للحرمة ، بل استصحاب ) نفس ( الحرمة حاكمة على اصالة الاباحة ) وذلك ، لأنّ الشك في حليتها مسبّب عن الشك في ارتفاع الحرمة السابقة ، فان هذه المرأة بذاتها كانت محرمة على هذا الرجل قبل

ص: 338

ونحوها المال المردّد بين مال نفسه وملك الغير مع سبق ملك الغير له .

-------------------

العقد قطعاً ، فيشك في انّه هل عرض العقد حتى حلّت له أم لا ؟ فيجري أصل عدم الزوجية أو يستصحب الحرمة الذي هو استصحاب حكمي ، واذا جرى الاستصحاب الأوّل أو الاستصحاب الثاني لم يكن مجال لأصل الحلّ ، وذلك لأنّ الاستصحاب يرفع موضوع الشبهة فلا مجال للحكم بحلها .

وكذلك المرأة التي لا يعلم هل انّها من ذوات المحرم أم لا ؟ اذ المحرمية في مثل أمّ الزوجة وبنت الزوجة وما أشبه : من زوجة الأب أو زوجة الابن أمرٌ طارىٌ فاذا لم نعلم طروها فالأصل العدم .

وربّمايقال في غيرهن كاحتماله انّها اخته أو اُمه أو من أشبه : بجريان استصحاب العدم الأزلي ، أو يقال : انّ بناء العقلاء في النسب : العدم الاّ ما علم بوجوب النسب فيه ، فاذا قال : اعط كلّ قرشي كذا ، لا يجوز له الاعطاء بدون تحقق قرشيته كما ذكروا في مسألة الحيض ونحوه .

ومثل : جريان الاستصحاب الموضوعي ممّا لا يدع مجالاً لأصل الحلّ ، ما لو شك في جواز اراقة هذا الدّم حيث اشتبه انّه كافر أو مسلم .

وممّا تقدّم ظهر : ان قول المصنِّف اذا لم يكن أصل موضوعي انّما هو من باب المثال ، لأن الأصل الحكمي أيضاً كذلك لا يدع مجالاً لاصالة الحلّ والاباحة .

( ونحوها : المال المردّد بين مال نفسه وملك الغير ، مع سبق ملك الغير له ) بخلاف ما اذا كان المال مردداً بين المباح وكونه ملك الغير ، فان في الأوّل : لا يجوز أجراء اصالة الحل والبرائة ، اذ الشّك في حله مسبب عن الشك في الشراء والهبة ونحوهما الرافع للحرمة ، فيستصحب عدم الشراء ، أو عدم الهبة ، أو نحوهما ، فاذا جرى هذا الاستصحاب لم يكن مجال لجريان أصالة الحل .

ص: 339

وأمّا مع عدم سبق ملك أحد عليه ، فلا ينبغي الاشكال في عدم ترتّب أحكام ملكه عليه من جواز بيعه ونحوه ممّا يعتبر فيه تحقق الماليّة .

وأمّا إباحة التصرّفات الغير المترتبة في الأدلّة على ماله وملكه فيمكن القولُ به للأصل ،

-------------------

( وأما مع عدم سبق ملك أحد عليه ) كما اذا لا نعلم بانّ هذا المال من المباح أو من ملك الغير ( فلا ينبغي الاشكال في عدم ترتب أحكام ملكه عليه : من جواز بيعه ونحوه ممّا يعتبر فيه تحقق المالية ) لأنه « لا بيع الاّ في ملك » كما في النّص ونحوه غيره .

نعم ، يُمكن أن يقال : بجواز أخذه لنفسه ، لاصالة عدم صيرورته ملكاً للغير فيما اذا لم يكن عليه آثار الملكية ، فاذا حازه جاز له بيعه ونحوه .

لا يقال : انّما يجوز حيازة المباح ، ولا يعلم انّ هذا مباح .

لأنّه يقال : كلّ ما ليس ملكاً للغير فهو مباح ، اذ أصل سبب الملك : الحيازة ، فالحيازة تُوجب الدخول في الملك ، كما ان الاعراض عن الشيء يوجب الخروج عن الملك ، فاذا شكّ في انّه هل صار مُلكاً للغير بالحيازة أم لا ؟ فالاصل عدمها ، ويتحقق بذلك موضوع المباح ، فاذا تحقق موضوع المباح جاز له قصد الحيازة ، فاذا قصد حيازته صار ملكه ، واذا صار ملكه جاز له اجراء البيع ، ونحوه عليه .

هذا بالنسبة الى جواز بيع المال المردّد بين كونه مال نفسه ومال الغير ( وأما إباحة التصرّفات غير المترتّبة في الأدلّة على ماله وملكه ) مثل شرب الماء والجلوس في الأرض ونحوهما ، حيث ليس هناك دليل على انّه لا يجوز الشرب الاّ من مال نفسه ، ولا يجوز الجلوس الاّ في ملك نفسه ( فيمكن القول به ) أي : بالجواز ، وذلك ( للاصل ) أي : اصل الاباحة والحليّة فيها .

ص: 340

ويمكن عدمُه ، لأنّ الحلّيّة في الأملاك لا بدّ لها من سبب محلّل بالاستقراء ، ولقوله عليه السلام : « لا يَحِلّ مالٌ إلاّ من حَيثُ أحلّه اللّهُ » .

-------------------

وعليه : فالتصرّفات الّتي دلّ الدليل على توقفها على الملك ، كالبيع ، والعتق ، والوطئ ، وما أشبه ، لا تكون جائزة لاصالة عدم تحقق الملك الاّ بالحيازة فيما يصح حيازته وهذا الأصل السببي حاكم على اصالة الحل لما عرفت : من انّه يمنع موضوع اصالة الحل الذي هو المشتبه ، لأنّ جريان الاستصحاب يخرجه عن موضوع المشتبه .

وأما التصرفات التي لا تتوقف على الملك ، كالأكل والجلوس وما أشبه فهي جائزة لأنّ أصالة عدم كونه مُلكاً له لا يضرّ في مثل هذ التصرّفات ، لعدم التلازم بين الملكية ، وأي تصرّف من التصرّفات .

هذا ( ويمكن عدمُه ) أي : عدم جواز هذه التصرفات ، أيضاً ، كما لا يجوز الوطي ونحوه ، وذلك لما يلي :

أوّلاً : ( لأن الحلّية في الأملاك لابدّ لها من سبب محلّل بالاستقراء ) فانّه باستقراء الأحكام الشرعية علمنا : انّ الحلية في التصرف في الأملاك لابدّ لها من سبب ، والأسباب هي عبارة عن البيع ، والرّهن ، والاجارة ، والهبة ، والمزارعة ، والمضاربة، والمساقات وما أشبه ذلك، لا نعلم هنا بوجود شيء من هذه الاسباب.

ثانياً ( ولقوله عليه السلام : لا يَحِلّ مالٌ الاّ مِن حَيثُ أَحلَّهُ اللّهُ ) (1) أي : من سبب أحلّ اللّه ذلك المال بذلك السبب .

ص: 341


1- - الكافي اصول : ج1 ص548 ح25 ، غوالي اللئالي : ج3 ص126 ، وسائل الشيعة : ج27 ص156 ب12 ح33471 وفيه «وبه» بدل «حيث» ، المقنعة : ص283 (بالمعنى) .

ومبنى الوجهين أنّ اباحة التصرّف هي المحتاجةُ إلى السبب

-------------------

فكما انّ الملكية تتوقف على أحد الأسباب المعهودة : من الحيازة ، أو الارث ، أو الانتقال الى الشخص بعقد أو إيقاع أو ما أشبه ذلك ، كذلك حليّة التصرفات تتوقف بمقتضى الاستقراء على أحد الأسباب المعهودة المحلّلة : من حق التحجير - وان احتملنا نحن في الفقه : انّ تحجير الأرض الموات يُوجب الملكية ، لا جواز التصرف فحسب كما هو المشهور (1) ، وحقّ المارّة ، والنثار في الأعراس ، والضِيافة ، وإعراض المالك ، أو إعراض من بيده الإعراض ، كالمتولّي الذي يَحق له الاعراض في مثل الحصير البالي ، والثوب الخَلق ، وما أشبه ذلك .

وعليه : فلا يحلّ التصرف بدون هذه الأسباب ، وحيث لم نعلم بأحد هذه الأسباب لم يجز التصرف ، كما اذا لم نعلم بأحد أسباب الملك لم يجز التصرفات المتوقفة على الملك من البيع وما أشبه .

لكن ربّما يُقال : انّ قوله عليه السلام « لا يَحِل مالٌ الاّ من حَيث أحلَّه اللّه » لا يدل على المنع ، لأنّه متعرض للحكم ، والدليل على الحكم لا يكون دليلاً على الموضوع وجوداً ولا عدماً ، فاذا قال : «أكرم العالم» لايكون أكرم معيّناً لكون زيد عالماً أو

ليس بعالم ، فالاستدلال بأكرم العالم على انّ زيداً عالم ، أو على ان زيداً ليس بعالم لا وجه له .

( ومبنى الوجهين ) أي : وجه الحليّة حيثُ قلنا « يمكن القول به » ، وعدم الحليّة حيث قلنا : « ويمكن عدمه » ، التحقيق في الأصل الذي هو كبرى كلية لهذه الصغرى الجزئية فهل ( ان اباحة التصرّف هي المحتاجة الى السّبب ) المحلّل :

ص: 342


1- - انظر موسوعة الفقه ج80 كتاب احياء الموات للشارح .

فيحرم مع عدمه ولو بالأصل وأنّ حرمةَ التصرّف محمولةٌ في الأدلّة على ملك الغير ، فمع عدم تملّك الغير ولو بالأصل ينتفي الحرمة .

ومن قبيل ما لا يجري فيه أصالة الاباحة اللحمُ المردّدُ بين المذكّى والميتة ، فانّ أصالةَ عدم التذكية المقتضية للحرمة والنجاسة

-------------------

من مختلف الأسباب كالملكية ، أو الاذن من المالك ، والاذن من الشارع كحق المارّة ، وبيوت من تضمنته الآية ، وما أشبه ذلك ( فيحرم مع عدمه ) أي : عدم ذلك السبب ؟ ( ولو ) كان ذلك العدم ( ب- ) سبب ( الأصل ) فاللازم في جواز التصرف أحد الأسباب المحللة .

( وانّ حرمةَ التّصرّف محمولةٌ في الأدلة على ملك الغير ) أو نحوه كالتصرف في الوقف وما أشبه ( فمع عدم تملّك الغير ولو بالأصل ينتفي الحرمة ) فيجوز التصرّف في هذا الشيء المردّد بين كونه مال نفسه أو مال غيره .

والحاصل : انّه هل الأصل حرمة التصرف الاّ ما خرج ، أو اباحة التصرف الاّ ما خرج ؟ والمسألة الفرعيّة الجزئية التي ذكرناها : من أنّه لا يعلم هل هو ملكه أو ملك الغير من صغريات هذه الكبرى الكلّية .

أما اذا تردّد في ملك الغير انّه مباح له أم لا : اباحة مالكية ؟ كما اذا لم يعلم هل أنّه من نثار العرس أ م لا ؟ أو اباحة شرعيّة كما اذا لم يعلم هل انّه من موضوع حق المارّة وبيوت من تضمنته الآية أم لا ؟ فالأصل عدم جواز التصرّف لاستصحاب عدم اباحة المالك أو الشارع هذا الشيء له ، ذكر هذا الفقهاء في بابه وأَلمعَ اليها العروة في المجلد الثاني ، والمقصود من ذكره هنا : الاشارة الى الأصل في المسألة لا الخصوصيّات الفقهية .

( ومن قبيل ما لا يجري فيه أصالة الاباحة ) لوجود الأصل الحاكم عليها ( اللّحم المردّد بين المذكى والميتة ، فان أصالة عدم التذكية المقتضية للحرمة والنجاسة

ص: 343

حاكمةٌ على اصالتي الاباحة والطهارة .

وربما يتخيّل خلاف ذلك ، تارةً لعدم حجيّة استصحاب عدم التذكية ، واُخرى لمعارضة أصالة عدم التذكية بأصالة عدم الموت

-------------------

حاكمة على اصالتي الاباحة والطهارة ) وانّما نقول انّ أصالة عدم التذكية مقتضية للحرمة والنجاسة ، لأنه علم من الشرع التّلازم بينهما ، خلافاً لمَا تقدَّم عن الشهيد

والمحقّق حيث جعلوا التفكيك بينهما ، فقالوا بحرمة اللّحم وبطهارته .

( وربّما يتخيّل خلاف ذلك ) أي : عدم حكومة أصالة عدم التذكية على أصل الاباحة وأصل الطهارة وذلك ( تارةً لعدم حجيّة استصحاب عدم التذكية ) كما نقل عن المدارك ، فاذا لم يجر اصالة عدم التذكية كان المقام من الشبهة في الطهارة أو الاباحة ؛ فيجري فيه قوله عليه السلام : « كُلُّ شَيءٍ طَاهِرٌ حَتَّى تَعلم اَنَّه قَذِرٌ » (1) وقوله عليه السلام : « كلّ شَيءٍ لَكَ حَلاَلٌ حَتَّى تَعرفَ انَّه حَرَامٌ » (2) .

( واُخرى لمعارضة أصالة عدم التّذكية باصالة عدم الموت ) حتف الأنف ، وهذه عبارة مروية عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ولعلّه لأنّ المذكى تخرج روحه من أوداجه ، وغير المذكى تخرج روحه من أنفه ، وهذا من باب الغالب ، والاّ فالحيوان الذي ذبح بدون الشرائط الشرعيّة أو جرح جرحاً قاتلاً يكون أيضاً ميتة ، كما ان الميتة لا يلزم خروج روحها عن أنفها ، اذ من الممكن سد أنفها والضغط عليها حتى تموت ، كما كان يفعله خلفاء الجَور بأعدائهم ممّا هو مذكور

ص: 344


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .
2- - وقريب من هذا الحديث في الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 و ح39 والمحاسن : ص495 ح596 .

والحرمة والنجاسة من أحكام الميتة .

والأوّلُ : مبنيٌّ على عدم حجّيّة الاستصحاب ولو في الامور العدميّة .

-------------------

في التواريخ .

وعلى أي حال : فالموت حتف الأنف كناية عن الموت الطبيعي أي : بدون ذبح أو جرح أو قتل أو ما أشبه ذلك ( والحرمة والنجاسة من أحكام الميّتة ) فاذا تردّد الأمر بين أن يكون ميتة أو مذكى ،لا نتمكن أن نرتّب عليه أحكام الميتة من الحرمة والنجاسة كما لا نتمكن أن نرتّب عليه أحكام المذكى من الحليّة والطهارة ، فيتساقط الأصلان الموضوعيّان ، ونرجع الى الاصل الحكمي وهو : أصالة الحل المستفادة من قوله عليه السلام : « كلّ شيءٍ فِيهِ حَلاَلٌ وَحَرَامٌ فَهُو لَكَ حَلاَلٌ » (1) وقوله : « كلّ شيءٍ مُطلَقٌ » (2) وما أشبه ذلك ممّا تقدّم في أدّلة البرائة .

( والأوّل ) : أي : عدم حجيّة استصحاب عدم التذكية ( مبنيّ على عدم حجيّة الاستصحاب ولو في الاُمور العدميّة ) فانّ جماعة قالوا بعدم حجية الاستصحاب مطلقاً ، لا في الاُمور الوجودية ، ولا في الاُمور العدمية ، وجماعة قالوا بعدم حجيّة الاستصحاب في الاُمور الوجودية فقط ، أما في الاُمور العدميّة فيجري فيها الاستصحاب .

مثلاً : اذا لم يكن زيداً بالغاً وشككنا في بلوغه ، فالأصل عدم البلوغ ، هذا في

ص: 345


1- - من لا يحضره الفقيه : ج3 ص341 ب4 ح4208 ، تهذيب الأحكام : ج7 ص226 ب21 ح8 ، غوالي اللئالي: ج3 ص465 ح16 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 ، بحار الانوار : ج2 ص274 بالمعنى .
2- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

والثاني مدفوعٌ ، أوّلاً : بأنّه يكفي في الحكم بالحرمة عدم التذكية ولو بالأصل ، ولا يتوقف على ثبوت الموت حتّى ينفى

-------------------

الأمر العدمي ، واذا كان زيد حياً وشككنا في بقائه حياً فالأصل بقائه حياً ، وهذا في الأمر الوجودي ، ويترتب على كلّ من الأصلين اُمور شرعية ، فانّه اذا لم يكن بالغاً لا تجب عليه الصلاة والصّيام ونحوهما ، واذا كان حيّاً يترتب عليه وجوب الاتفاق على زوجته ، وعدم جواز تقسيم أمواله ، أو تزويج نسائه ، كما لا يجوز له أن يتزوج فيما اذا شك في موت زوجته باختها أو الخامسة ، أو ما أشبه ذلك .

وكيف كان : فالأول : مبني على عدم حجيّة الاستصحاب وهو غير تامّ ، لأنّ الاستصحاب - كما يأتي - حجّة في الاُمور الوجودية والعدمية ، بل جريان الاستصحاب في الاُمور العدمية مُجمع عليه كما نُسب الى بعضهم وانّما الخلاف في الاستصحاب في الأمر الوجودي .

( والثاني ) : أي : تعارض الاستصحابين الذي ذكره بقوله : « واُخرى لمعارضة أصالة عدم التذكية باصالة عدم الموت » ( مدفوع ) لما يلي :

( أوّلاً : بأنه يكفي في الحكم بالحرمة ) والنجاسة ( عدم التذكية ولو بالأصل ) فان المستشكل ذكر : « ان حكم الحرمة والنجاسة يتوقف على الموت حتف الأنف » أي : على أمر وجودي ، وحيث نشك في هذا الأمر الوجودي لا نتمكن من استصحابه ، لأنا لا نعلم انه مات حتف أنفه .

وفيه : ان حكم الحرمة والنجاسة لا يتوقف على الموت حتف الأنف بل يتوقف على عدم التذكية ، وعدم التذكية محرز بالأصل ، فاذا شككنا في التذكية نقول : الأصل عدم التذكية واذا أجرينا اصالة عدم التذكية ، ترتب على هذا الاصل الحرمة والنجاسة ( ولا يتوقف على ثبوت الموت ) حتف الأنف ( حتى ينفى )

ص: 346

بانتفائه ولو بحكم الأصل ، والدليلُ عليه استثناء « ما ذكّيتم » من قوله « وما أكَلَ السَّبُعُ » ، فلم يبح الشارعُ إلاّ ما ذُكّي ،

-------------------

الحكم بالحرمة والنجاسة ( بانتفائه ) أي : بانتفاء الموت ( ولو بحكم الاصل ) « لو » : وصلية مرتبطة بقوله : « بانتفائه » .

والحاصل : ان الحلّ والطّهارة ، والحرمة والنجاسة مترتبان على أمرين : أحدهما : وجودي وهو : المذكى المترتّب عليه الحل والطهارة والآخر عدمي وهو : غير المذكى المترتب عليه الحرمة والنجاسة .

ومن الواضح : ان غير المذكى من قبيل الاعدام فيستصحب ، وليس المذكى والميتة من قبيل الضدّين حتى يلزم فيهما التعارض الأصلين وتساقطهما ، فهما من قبيل الأبيض وغير الابيض ، لا من قبيل الأبيض والأسود .

( والدليلُ عليه ) أي : على أن التذكية وجودي ، والموت حتف الأنف عدمي ( استثناء « ما ذكيتم » ) في القرآن الحكيم ، ( من قوله ) تعالى : ( « وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ » (1) فلم يبح الشارع الاّ ما ذكّي ) لوضوح : ان الوجود لا يستثنى الاّ من العدم ، كما ان العدم لا يستثنى الاّ من الوجود ، فيقال : لم يأتني أحد الاّ زيد ، كما يقال : جائني القوم الاّ زيداً ، ولا يستثنى من الوجود وجود ، فلا يقال : جائني عمرو الاّ زيداً ، ومعنى الآية المباركة : يحرم كل حيوان زهق روحه ، الاّ ما ذكّيتم فتدل الآية على أن المذكى وجودي وما قبله وهو المستثنى منه عدمي ، فاذا شكّ في التذكية كان الأصل عدمها .

والحاصل : انّ الميتة هو غير المذكى ، لا أن الميتة عنوان ، والمذكى عنوان

ص: 347


1- - سورة المائدة : الآية 3 .

وإناطةُ إباحة الأكل بما ذكر اسمُ اللّه عليه وغيره من الامور الوجوديّة المعتبرة في التذكية ، فاذا انتفى بعضها ولو بحكم الأصل انتفت الاباحة .

-------------------

آخر ، حتى يكونا أمرين وجوديين متقابلين كالأبيض والأسود على ما عرفت .

لا يقال : يظهر من بعض الآيات والروايات : ان الموت وجودي أيضاً كقوله سبحانه : « الَّذِي خَلَقَ المَوتَ والحَيَاةَ لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلاً » (1) وكقوله عليه السلام على ما جاء في بعض الروايات من ان الموت يؤى به يوم القيامة على صورة كبش فيذبح ما بين النّار والجنّة ، ثم يقال لأهل النار : خلودٌ ولا موت ، ويقال لأهل الجنة خلودٌ ولا موت .

فانّه يقال : كون الموت وجوديّاً على فرض تسليمه بأن لم تكن الآية والرّواية كناية ،لا ينافي ترتب الأحكام الشرعية من النجاسة والحرمة على الأمر العدمي وهو : عدم التذكية ، وكلامنا الآن في الأحكام الشرعية لا في حقيقة الموت والحياة .

هذا ( واناطةُ اباحة الأكل بما ذكر اسم اللّهِ عليه ، وغيره من الاُمور الوجودية المعتبرة في التذكية ) في قوله سبحانه : « وَما لَكُم ألاّ تَأكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ اللّهِ عَليه » (2) وقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « ما أهريقَ دم وذكرَ اسمُ اللّهِ عَليهِ ، فَكُلُوا منهُ مَاخَلا السّنّ والظّفر » (3) الى غير ذلك من الروايات التي بهذه المضامين ( فاذا انتفى بعضها ولو بحكم الاصل انتفت الاباحة ) إذ تعليق الاباحة بهذه الشروط ظاهر في حرمة ما ليس كذلك ، ولا يهم أن تسمّى ميتة أو لا تسمى به ، وقول المصنِّف :

ص: 348


1- - سورة الملك : الآية 2 .
2- - سورة الانعام : الآية 119 .
3- - غوالي اللئالي : ج3 ص457 بالمعنى .

وثانيا : أنّ الميتة عبارة عن غير المذكّى ، إذ ليست الميتةُ خصوصَ ما مات حَتفَ أنفه ، بل كلُّ زهاق روح انتفى فيه شرطٌ من شروط التذكية فهي ميتةٌ شرعا .

وتمام الكلام في الفقه .

-------------------

« واناطة » عطف على قوله : « استثناء ما ذكّيتم » .

( وثانياً ) : اذا سلّمنا انّ موضوع الحلّ والطهارة : المذكى ، وموضوع الحرمة والنجاسة : الميتة ، لم ينفع القائل بتعارض الاستصحابين ، اذ ( انّ الميتة عبارة عن غير المذكّى ) لا أنّه أمر وجودي كما أراده القائل حيث قال : الميتة أمرٌ عدمي والمذكى أمرٌ وجودي فاذا لم نعلم بانّ الحيوان مات بهذه الكيفية أو بهذه الكيفية ، تعارض الاستصحابان وتساقطا ، فلا يمكن اثبات الحرمة والنجاسة كما لا يمكن اثبات الطهارة والحلّية .

( اذ ليست الميتةُ خصوصَ ما مات حتفَ أنفه ) موتاً طبيعياً أو بالسمّ وما أشبه ( بل كلّ زهاق روح انتفى فيه شرطٌ من شروط التذكية فهي ميتةٌ شرعاً ) فالميتة أمرٌ عدمي لا أمرٌ وجودي فيصحّ استصحاب عدم التذكية ، ولا يعارضه استصحاب عدم الموت ، فكلّما حصلت الشرائط حلّت وطهرت ، وكلّما حصلت الشرائط ، وكلّما لم تحصل الشرائط ولو بفقد شرط واحد حرمت ونجست ، سواء مات حتف الأنف أو مات بالذبح بدون بعض الشروط .

وعليه: فقد تحقق مما ذكرناه في الميتة والمذكى: انه كل ما لم يعلم ان الحيوان من أيّهما كان الأصل عدم التذكية، فيترتب على هذا الاصل النّجاسة والحرمة.

نعم ، يشترط أن لا يكون من يد مسلم، أو في أرضه أو في سوق المسلمين، أو ما أشبه ذلك ، مما قرّره الشارع من الأمارات ( وتمام الكلام في الفقه ) .

ص: 349

الثاني :

إنّ الشيخ الحرّ ، أورد في بعض كلماته اعتراضا على معاشر الاخباريين ، وحاصله أنّه ما الفرق بين الشبهة في نفس الحكم وبين الشبهة في طريقه ،

-------------------

التنبيه ( الثاني ) : لا يخفى ان الاُصوليين قسّموا الشّبهة الى قسمين :

الأول : الشبهة الحكميّة ، وهو الاشتباه في الحكم الكليّ الناشيء من فقدان النصّ ، أو أجماله ، أو تعارضه ، سواء كانت الشبهة بلا واسطة ، كالشكّ في وجوب صلاة الجمعة أو حرمة العصير الزبيبي ، أو مع الواسطة ، كالشكّ في حرمة التتن للشّكّ في دخوله في الخبائث ، وكالشّكّ في وجوب الصوم المنذور في السفر للشك في دخوله في « يوفُون بالنَّذر » (1) لكن الحُرّ رحمه اللّه جعل الشبهة بالواسطة قسماً ثالثاً ، ولم يجعله من الشبهة الحكمية ، بينما هو أيضاً من الشبهة الحكمية ، كما هو واضح .

القسم الثاني : الشبهة الموضوعيّة التي منشؤا اشتباه الاُمور الخارجيّة ، وتحتاج في رفعها الى استطراق باب العرف .

ثمّ إنّ في كلام الحرّ مواضع للتأمّل ذكر المصنّف جملة منهابعد أن ذكر كلام الحرّ بقوله : ( ان الشيخ الحرّ أورد في بعض كلماته اعتراضاً على ) أصحابه ( معاشر الأخباريين ، وحاصله : انّه ما الفرق بين الشبهة في نفس الحكم وبين الشبهة في طريقه ؟ ) .

والمراد بالشبهة في نفس الحكم : الشبهة الحكمية ، وبالشبهة في طريق

ص: 350


1- - سورة الانسان : الآية 7 .

حيث أوجبتم الاحتياط في الاوّل دون الثاني ؟ وأجاب بما لفظه :

« إنّ حدَّ الشبهة في الحكم ما اشتبه حكمه الشرعيّ ، أعني الاباحة . وحدَّ الشبهة في طريق الحكم الشرعيّ ما اشتبه موضوعُ الحكم ، كاللحم المشترى من السوق لا يعلم أنّه مذكّى أو ميتة ، مع العلم بحكم المذكّى والميتة ، ويستفاد هذا التقسيم من أحاديث الائمة ومن وجوه عقلية مؤيّدة لتلك الأخبار ، ويأتي بعضها إنشاء اللّه تعالى ،

-------------------

الحكم : الشبهة الموضوعيّة ( حيث أوجبتم الاحتياط في الأول دون الثاني ) مع انّ كليهما شبهة تقتضي القاعدة الاحتياط فيهما معاً أو البرائة فيهما معاً ؟ .

( وأجاب بما لفظه : ان حدّ الشبهة في الحكم ) أي : الشبهة الحكمية ( ما إشتبه حكمه الشرعي أعني : الاباحة ) بأن لم نعلم أنّ الشارع هل أباح هذا الشيء أو حرّمه ؟ ( وحدّ الشبهة في طريق الحكم الشرعي ) أي : الشبهة الموضوعيّة ( وما اشتبه موضوع الحكم ) بأن علمنا أنّ هناك حلالاً وحراماً ، لكن لا نعلم هل هذا المصداق من المصداق الحلال أو من المصداق الحرام ؟ ( كاللحم المشترى من السوق لا يعلم انّه مذكى أو ميتة مع العلم بحكم المذكى والميتة ) وانّ المذكى حلال والميتة حرام .

( ويستفاد هذا التقسيم ) أي : وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية ، وعدمه أي : الحليّة والبرائة في الشبهة الموضوعيّة ( من أحاديث الائمة ) عليهم السلام ( ومن وجوه عقلية مؤدة لتلك الأخبار ) مثل « قُبح العقابِ بلا بيان » بالنسبة الى الشبهة الموضوعيّة ، ومثل : « دفع الضرر المحتمل » بالنسبة الى الشبهة الحكمية ( ويأتي بعضها ) أي بعض هذه الأحاديث والوجوه العقليّة ( انشاء اللّه تعالى ) فيما بعد .

ص: 351

وقسمٌ متردّدٌ بين القسمين ، وهي الأفراد التي ليست بظاهرة الفرديّة لبعض الأنواع ، وليس اشتباهها بسبب شيء من الامور الدنيويّة كاختلاط الحلال بالحرام ، بل اشتباهها لأمر ذاتيّ ، أعني اشتباه صنفها في نفسها ، كبعض أفراد الغناء الذي قد ثبت تحريم نوعه واشتبه انواعه في أفراد يسيرة وبعض افراد الخبائث الذي ثبت تحريم نوعه واشتبه بعض

-------------------

( وقسمٌ متردّدٌ بين القسمين ) وهذا هو القسم الثالث الذي اضافه الحرّ رحمه اللّه ( وهي ) الشبهة في ( الأفراد التي ليست بظاهرة الفردية لبعض الأنواع ) بأن لم يعلم هل هذا من الحرام أو من الحلال ؟ كالخمر غير المسكر مثلاً حيث لا نعلم هل انّه من مطلقات المايعات المحللّة ، أو من مطلقات الخمر المحرم ؟ ( وليس اشتباهها بسبب شيء من الاُمور الدنيوية كاختلاط الحلال بالحرام ) فانّه ليس كاللحم المشترى من السوق لا نعلم انّه من الحرام الميتة أو من الحلال المذكى .

( بل اشتباهها لأمر ذاتي أعني : اشتباه صنفها في نفسها ) أي :انّ صنف هذا الشيء مشتبه هل هو حلالٌ أو حرامٌ ؟ مثل الخمر غير المسكر ، فانّا نعلم أنّ الخمر المسكر حرام ، ونعلم انّ سائر المايعات مثلاً حلال ، لكن لا نعلم هل انّ الشارع حرَّم الخمر غير المسكر والحَقَهُ بالخمر المسكر ، أو لم يحرِّمه والحقه بسائر المايعات ؟ .

وهكذا في الأمثلة الاُخرى ( كبعض أفراد الغناء الذي قد ثبت تحريم نوعه ) لأنّا نعلم انّ الغناء في الجملة حرام ( واشتبه أنواعه في أفراد يسيرة ) كالصوت المطرب فقط ، والصوت المرجّع فيه فقط ، والصوت الجامع لهما ، فانّ الجامع نعلم بحرمته ، أما لو كان مطرباً وحده ، أو مرجّعاً فيه وحده ، فلا نعلم بحرمته .

( وبعض أفراد ) أي : أصناف ( الخبائث الذي ثبت تحريم نوعه واشتبه بعض

ص: 352

أفراده ، حتى اختلف العقلاء فيها ، ومنها شرب التتن .

وهذا النوع يظهرُ من الأخبار دخوله في الشبهات التي ورد الأمر باجتنابها .

وهذه التفاصيل يُستفاد من مجموع الأحاديث ، ونذكر ممّا يدلّ على ذلك وجوها ، منها قوله عليه السلام : « كلُّ شيء فيه حلالٌ وحرامٌ فهو لك حلالٌ » ،

-------------------

أفراده ) أي : بعض أفراد ذلك النوع ( حتى اختلف العقلاء فيها ) أي في هذه الاصناف ، فلا يعلمون أنّه داخل في الخبائث حتى يحرم ،أو ليس بداخل في الخبائث حتى لا يحرم .

( ومنها ) أي : من تلك الأصناف التي اختلف العقلاء في دخولها في هذا الكليّ أو ذاك الكليّ ( شرب التتن ) حيث لا يعلم انّه خبيث فيحرم ، أو ليس خبيثاً فلا يحرم ( وهذا النوع ) الثالث كما مثّلناه في شرب التتن ( يظهر من الأخبار دخوله في الشبهات التي ورد الأمر باجتنابها ) فانّ الأخبار الآمرة باجتناب الشبهات تشمل مثل شرب التتن .

( وهذه التفاصيل ) التي ذكرناها وجعلنا في بعضها البرائة ، وفي بعضها الاحتياط ( يُستفاد من مجموع الأحاديث ) الواردة في الباب بعد ضَمّ بعضها الى بعض وملاحظة وجوه الجمع بينها ( ونذكر ممّا يدل على ذلك ) أي : بعض الاحكام التي ذكرناها للأقسام الثلاثة المتقدمة ( وجوهاً ) من الروايات ومن الأدلة العقلية .

( منها : قوله عليه السلام : « كلُّ شيءٍ فيهِ حلالٌ وحرامٌ فهو لَكَ حَلالٌ » (1) ) ،

ص: 353


1- - من لا يحضره الفقيه : ج3 ص341 ب2 ح4208 ، تهذيب الأحكام : ج9 ص79 ب4 ح72 ، المحاسن: ص495 ح596 ، غوالي اللئالي : ج3 ص465 ح16 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 .

فهذا وأشباهه صادق على الشبهة في طريق الحكم إلى أن قال وإذا حصل الشكّ في تحريم الميتة لم يصدق عليها أنّ فيها حلالاً وحراما » .

أقول : كان مطلبُه أنّ هذه الرواية وأمثالها مخصّصة لعموم ما دلّ على وجوب التوقف والاحتياط في مطلق الشبهة ، وإلاّ فجريان أصالة الاباحة في الشبهة الموضوعيّة لا ينفي جريانها في الشبهة الحكمية ،

-------------------

فهذا وأشباهه صادقٌ على الشبهة في طريق الحكم ) أي : الشبهة الموضوعيّة ولهذا حللنا نحن الحرّ الشبهة الموضوعيّة ، فلا يجب الاحتياط فيها ، بل هي مجرى البرائة ( الى انّ قال ) رحمه اللّه في بيان عدم صدق هذا الحديث على الشبهة الحكمية : ( واذا حصل الشك في تحريم الميتة ) فرضاً ( لم يصد ق عليها أن فيها حلالاً وحراماً ) (1) فهذا الحديث يشمل الشبهة الموضوعيّة دون الشبهة الحكمية .

( أقول : كأنّ مطلبه ) أي : الحرّ رحمه اللّه ( ان ) أخبار الاحتياط مطلقة شاملة لجميع أنواع الشبهة : في الحكم ، أو الموضوع ، أو التكليف ، أو المكلّف به ، و ( هذه الرواية وأمثالها ) أي : رواية : « كلُّ شيءٍ فيه حلالٌ وَحرامٌ » ورواية : « كلُّ شيءٍ لَكَ حَلالٌ » وما أشبه ذلك ( مخصّصة لعموم ما دلّ على وجوب التوقف والاحتياط في مطلق الشبهة ) حيث انّ تلك الأخبار المطلقة قد خصِّصت بهذه الأخبار بالنسبة الى الشبهة الموضوعيّة ، فالشبهة الموضوعيّة خارجة عن وجوب التوقف والاحتياط .

( والاّ ) أي : وان لم يكن مطلب الحرّ رحمه اللّه ذلك الذي ذكرناه ( فجريان أصالة الاباحة في الشبهة الموضوعيّة لا ينفي جريانها في الشبهة الحكمية ) فلو أنّ

ص: 354


1- - الفوائد الطوسية : ص 518 .

مع أنّ سياق أخبار التوقف والاحتياط يأبى عن التخصيص من حيث اشتمالها على العلّة العقليّة لحسن التوقف والاحتياط ، أعني الحذر من الوقوع في الحرام والهلكة .

-------------------

الحرّ رحمه اللّه اراد انّ « كُلَّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ » ونحوه يصدق في الشبهة الموضوعيّة يشكل عليه : بانّه يشمل الشبهة الحكمية أيضا ، فلابدّ وأن يقول بما ذكرناه من انّ أخبار الحليّة تخصص أخبار الاحتياط ، فتكون النتيجة : انّ أخبار الاحتياط للحكمية وأخبار الحلّ للموضوعية .

هذا ( مع أن سياق أخبار التوقف والاحتياط يأبى عن التخصيص ) فانّه على قوله ، يلزم أن يكون أخبار الاحتياط أعمّ وأخبار الحلِّ أخص ، وأن أخبار الحلّ مخصِّصة لأخبار الاحتياط ، والحال انّ أخبار الاحتياط لا يمكن تخصيصها عقلاً ( من حيث اشتمالها ) أي : أخبار الاحتياط ( على العلة العقلية لحسن التوقف والاحتياط ، أعني : الحذر من الوقوع في الحرام والهلكة ) حيث قال عليه السلام : « مَنْ أَخَذَ بِالشُّبُهات وَقَعَ في المحرمات وَهَلَكَ مِن حَيثُ لاَ يَعلَم » (1) وقوله عليه السلام : « الوقوف عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهلكة » (2) وما اشبه ذلك .

ص: 355


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 .
2- - كرواية الزهري والسكوني وعبد الأعلى ، انظر الكافي اصول : ج1 ص50 ح9 ، المحاسن : ص215 ح102 ، وسائل الشيعة : ج27 ص155 ب12 ح33465 و ص171 ب12 ح33520 ، ورواية مسعدة بن زياد انظر تهذيب الاحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ، وسائل الشيعة : ج27 ص159 ب12 ح33478 .

فحملها على الاستحباب أولى .

ثم قال : « ومنها : قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : حلالٌ بيّنٌ وحرامٌ بيّنٌ وشبهاتٌ ، وهذا إنّما ينطبق على الشبهة في نفس

-------------------

ولا يعقل أن يقال : الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة الاّ في الشبهة الموضوعيّة ، فانّ تعليل الحكم بعلة عقليّة يجعل الحكم جارياً في جميع الأفراد وآبياً عن تخصيص الحكم ببعض الأفراد ، لأنّ ذلك يوجب وقوع التهافت بين العلّة وبين التخصيص ، فهل يصح أن يقال مثلاً الظلم حرام لأنّه خسة النفس الاّ ظلم الانسان جاره؟

أو يقال : الاحسان حسن لأنه يوجب رفعة النفس الاّ إحسان الانسان لأولاده ؟ .

وعلى هذا ( فحملها ) أي : حمل أخبار الاحتياط من أول الأمر ( على الاستحباب أولى ) وذلك بأن يقال : أن أخبار الاحتياط تدلّ على مطلق طلب الاحتياط ، وانّه حسن على كلّ حال ، سواء في الشبهة الحكمية ، أو الشبهة الموضوعيّة ، أو الشبهة البدوية ، أو الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي ، لكن دلّ الدليل من الخارج عقلاً وشرعاً على أن في بعض الموارد يجب هذا الاحتياط مثل موارد العلم الاجمالي ، ومثل الشبهة الحكمية قبل الفحص ، الى غير ذلك .

( ثمّ قال ) الحرّ رحمه اللّه : ( ومنها : ) أي : من الروايات التي يستفاد منها التفاصيل التي ذكرناها ( قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « حلالٌ بيّنٌ ، وحرامٌ بيّنٌ ، وشبهاتٌ » ) بَينَ ذلك ، فَمَن تَرَكَ الشّبُهات نَجَا مِنَ المحرَّمات ، وَمَن ارتكبَ الشُّبُهات وَقعَ فِي المحرَّمات وَهلكَ من حيثُ لاَ يَعلَم » (1) ( وهذا انّما ينطبق على الشبهة في نفس

ص: 356


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الأحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح3334 .

الحكم وإلاّ لم يكن الحلال البيّن ولا الحرام البيّن ولا يعلم أحدهما من الآخر إلاّ علاّم الغيوب ، وهذا ظاهرٌ واضح » .

أقول :

-------------------

الحكم ) أي : الشبهة الحكمية ، فلا يشمل الشبهة الموضوعيّة ، ولهذا نقول : بأن الشبهة الموضوعيّة لا يجب الاجتناب فيها .

( والاّ لم يكن الحلال البيّن ولا الحرام البيّن ، ولا يعلم أحدهما من الآخر الاّ علاّم الغيوب ) فانّه لو لم يكن المراد بخبر « التثليث » ما ذكرناه من الاختصاص بالشبهة الحكمية ، بل كان لبيان حال الموضوعات أيضاً ، لم يصح تثليث الاُمور لعدم علم احد بالحلال البيّن والحرام البيّن ، وذلك لأنّه ما من جزئي خارجي الاّ ويحتمل فيه الحرمة من جهة من الجهات .

مثلاً : الماء الحلال مشتبه ،لانّه يحتمل أن يكون للناس وقد غصب ، كما يغصب بعض من بعض الأَنهار والآبار وما أشبه ذلك ،وكذلك كون هذه الدار مغصوبة مشتبه أيضاً ، لاحتمال أن يكون الغاصب والمغصوب منه قد تراضيا بجهة من الجهات ، وهكذا في سائر الموضوعات ( وهذا ظاهرٌ واضح ) (1) فاللازم أن نخصِّص احاديث التثليث بالشبهات الحكمية .

( أقول : ) هذا الاستدلال محل نظر من وجهين :

الأوّل : انّ الشبهة الحكمية الوجوبية لا يجب فيها الاحتياط باتفاق العلماء ، فلو التزَمنا من الأوّل بدلالة هذه الأخبار على وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية الأعم من الوجوبية والتحريمية ،لزم تخصيصها بالشبهة الحكمية الوجوبية ، ومن

ص: 357


1- - الفوائد الطوسية : ص 519 .

فيه مضافا إلى ما ذكرنا من إباء سياق الخبر عن التخصيص أنّ رواية التثليث التي هي العمدة من أدلّتهم ظاهرةٌ في حصر ما يبتلى به المكلّف من الأفعال في ثلاثة : فان كانت عامّةً للشبهة الموضوعيّة أيضا صحّ الحصر ، وإن اختصّت بالشبهة الحكميّة كان الفرد الخارجيّ المردّد بين الحلال والحرام

-------------------

الواضح : انّ أخبار التثليث آبية عن التخصيص ، ولذا اعترض عليه المصنّف بقوله : و ( فيه مضافا إلى ما ذكرنا من إباء سياق الخبر عن التخصيص : ) لأنّ اقتصار أخبار التثليث على الشبهات الحكمية مع ان عِلَلَها شاملةٌ للشبهات الموضوعية مستلزم لتخصيصها ، وذلك غير معقول كما تقدّم فاللازم من أول الأمر أن نقول : انّ المراد بأخبار التثليث حُسن الاحتياط لا وجوبه .

ومن المعلوم : انّ حسن الاحتياط جارٍ في جميع الموارد من الشبهة الحكمية والموضوعيّة ، الوجوبية والتحريمية .

الوجه الثاني : ( انّ رواية التثليث التي هي العمدة من أدلتهم ) أي : أدلة الأخباريين القائلين بالاجتناب في الشبهة الحكمية ( ظاهرة في حصر ما يبتلى به المكلّف من الأفعال في ثلاثة ) اقسام : قسم حلال واضح ، وقسم حرام واضح ، وقسم مشتبه ( فان كانت ) روايات التثليث ( عامة للشبهة الموضوعيّة أيضاً ، صح الحصر ) إذ لايبقى قسمٌ رابع خارجٌ عن أخبار التثليث ، سواء كانت موضوعية أو حكمية ، ووجوبية أو تحريمية .

( وان اختصّت ) روايات التثليث ( بالشبهة الحكمية ) كما ذكره الحرّ رحمه اللّه ، ( كان الفرد الخارجي ) أي : الشبهة الموضوعيّة ( المردد بين الحلال والحرام ) مثل ما إذا لم يعلم هل أن زوجته جائزة الوطي أو محرمة الوطي للدم الذي تراه

ص: 358

قسما رابعا ، لأنّه ليس حلالاً بيّنا ولا حراما بيّنا ولا مشتبه الحكم .

ولو استشهد بما قبل النبويّ من قول الصادق عليه السلام : « إنّما الامور ثلاثة » ، كان ذلك أظهر في الاختصاص بالشبهة الحكميّة ، إذ المحصورُ في هذه الفقرة الامورُ التي يرجع فيها إلى بيان الشارع ، فلا يرد إخلاله بكون الفرد الخارجيّ المشتبه أمرا رابعا للثلاثة .

-------------------

مردداً بين دم البكارة ودم الحيض ؟فانّه يكون هذا الفرد المردّد ( قسماً رابعاً ، لأنّه ليس حلالاً بيّناً ولا حراماً بيّناً ،ولا مشتبه الحكم ) لأن روايات التثليث خاصة على قول الحرّ بالشبهة الحكمية وهذه شبهة موضوعية .

هذا ( ولو استشهد ) الحرّ رحمه اللّه على كون روايات التثليث خاصة بالشبهة الحكمية ( بما قبل النبويّ من قول الصادق عليه السلام : « انّما الاُمور ثلاثة » ) : أمرٌ بيّن رشده فيتَّبع ، وأمرٌ بيّن غيّه فيجتَنب ، وأمرٌ مُشكل يُردّ حكمه الى اللّه ورسُوله » (1) ( كان ذلك أظهر في الاختصاص بالشبهة الحكمية ) لأنّه قد نصّ في هذه الرواية بأنّه يردّ حكمه الى اللّه ورسوله ، فتكون الشبهة حكمية لا موضوعية ( اذ المحصور في هذه الفقرة ) بقرينة « يردّ حكمه الى اللّه ورسوله » خصوص ( الاُمور التي يرجع فيها الى بيان الشارع ) فانّ الأحكام التي يسأل من الشارع ،منها بيّن الرشد ، ومنها بيّن الغي ، ومنها مشتبه ، وقد تقدّم : انّ الشبهات الموضوعيّة لا يرجع فيها الى الشارع ، وإنّما الى العرف .

وعليه : ( فلا يرد اخلاله بكون الفرد الخارجي المشتبه أمراً رابعاً للثلاثة ) أي :

ص: 359


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 .

وأمّا ما ذكره : « من المانع لشمول النبويّ للشبهة الموضوعيّة من أنّه لا يعلم الحلال من الحرام إلاّ علاّم الغيوب » ، ففيه : أنّه إن اريد عدم وجودهما ، ففيه ما لا يخفى ، وإن اريد ندرتهما ، ففيه أنّ الندرة تمنع من اختصاص النبويّ بالنادر لا من شموله له ،

-------------------

لا يستشكل عليه بما ذكرناه : من انّ الرواية غير حاصرة ، لأنّ له أن يجيب : بأن الرواية بقرينة « يرد حكمه » في صدد الشبهة الحكمية فقط ، بخلاف استدلاله بروايات « التثليث » التي عرفت انّها أعمّ من الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية ، فمن أراد اخراج الشبهة الموضوعيّة منها ،لزمه عدم كون الروايات حاصرة .

( وأما ما ذكره ) الحرّ رحمه اللّه ( من المانع ) العقلي ( لشمول النبوي للشبهة الموضوعيّة : من ) ان الحلال والحرام دائماً مشتبهان ، وانه ليس هناك حلال بيّن ، أو حرام بيّن ، ل- ( انه لا يعلم الحلال من الحرام الاّ علاّم الغيوب ) وقد مثّلنا لذلك سابقاً ( ففيه ) ما اشار اليه بقوله : ( انّه ان اُريد عدم وجودهما ، ففيه ما لا يخفى ) لوضوح أن أشياء كثيرة من الموضوعات محلّلة : كالمياه ، وأراضي الموات ، والأسماك ، والطيور ، والوحوش ، والغابات ، والأتربة ، وغير ذلك من المحللات القطعية الكثيرة ، كما أن هناك الكثير من المحرمات القطعية مثل : الزنا ، والخمر ، والقمار ،وعبادة الاصنام ، وغير ذلك .

( وان اُريد ندرتهما ) أي : ندرة الحلال البيّن والحرام البيّن ( ففيه ) :

أولاً : عدم الندرة كما عرفت .

ثانياً : ( ان الندرة تمنع من اختصاص النبوي بالنادر ، لا من شموله له ) فانّ النبوي لا يمكن أن يختص بالأمور الموضوعيّة لندرة الحلال البيّن والحرام البينّ ، لا أنه

ص: 360

مع أنّ دعوى كون الحلال البيّن من حيث الحكم أكثَر من الحلال البيّن من حيث الموضوع قابلةٌ للمنع ، بل المحرّمات الخارجيّة المعلومة أكثر بمراتب من المحرّمات الكلّيّة المعلوم تحريمها .

-------------------

لايمكن أن يشمل الموضوعيّة في ضمن شموله للحكمية أيضاً ، فان النبوي شامل لكلتيهما .

مثلاً : اذا كان هناك ألف عالم في الفقه ، وخمسة علماء في الاُصول ، فقال المولى : أكرم العلماء ، لم يختص قول المولى بعلماء الاُصول ، لأن عالم الاُصول نادر ، وحمل كلام المولى على النادر خلاف اسلوب المحاورة ،أما اذا قلنا انّه شامل لكل من علماء الفقه والاُصول فلا محذور فيه .

( مع ) انّ هناك إشكالاً ثالثاً على كلامكم ، فان تخصيصكم رواية التثليث بالشبهات الحكمية من جهة ندرة كون الحلال البيّن والحرام البيّن في الاُمور الموضوعيّة ،ممّا يكون معنى كلامكم : عدم ندرة الحلال البيّن والحرام البيّن في الاُمور الحكمية غير تام ، بل المحرّمات الموضوعيّة الخارجيّة البيّنة أكثر من المحرّمات الكلية الحكمية البيّنة ،فالمليارات من أفراد القمار ، والخمر ، والزنا ، والسرقة ، والرّبا ، كلّها من المحرّمات الخارجيّة الموضوعيّة البينة ، وليس المحرمات الكلية البينة بهذا المقدار الكثير ، فقد ذكر بعضهم : انّ كلّ المحرّمات الشرعية تقارب السبعمائة فقط .

وعليه : ف- ( ان دعوى كون الحلال البيّن من حيث الحكم ، أكثر من الحلال البيّن من حيث الموضوع ، قابلة للمنع ) فليس أحدهما نادراً والآخر غير نادر ( بل المحرّمات الخارجيّة ) الموضوعيّة ( المعلومة أكثر بمراتب من المحرمات الكلية المعلوم تحريمها) أي: من اُصول المحرمات ممّا هي حكمية وليست بموضوعية.

ص: 361

ثم قال : « ومنها : ما ورد من الأمر البليغ باجتناب ما يحتمل الحرمة والاباحة بسبب تعارض الأدلّة وعدم النصّ ،

-------------------

( ثم قال : ومنها : ) أي : من الأدلة الشرعية ،التي يستفاد منها التفصيل بالبرائة في الشبهة الموضوعيّة والاحتياط في غيرها ( ما ورد من الأمر البليغ باجتناب ما يحتمل : الحرمة : والاباحة بسبب تعارض الادلة ) فانّ في بعض الروايات : بانّه اذا تعارضت الأدلة يحتاط ،كمافي مرفوعة زُرارة حيث يَسأل من الإمام الباقر عليه السلام عن الخبرين المتعارضين ويقول : « قلت : ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين ، فكيف أصنع ؟ قال : إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر ، قلت : فانّهما معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان له ، فكيف أصنع ؟ فقال : إذن فتخير أحدهما فتأخذ به ودع الآخر » (1) ، فان هذا الخبر دليل على الاحتياط في الشبهة الحكمية حيث انّ السؤل والجواب منصبّان على الشبهة الحكمية لا الموضوعيّة ، فان شأن الإمام عليه السلام بيان الأحكام ، والراوي إنّما سأل عن تعارض الخبرين ، وتعارض الخبرين إنّما يكون في الأحكام لا في الموضوعات .

( وعدم النص ) أي : ما ورد من الأمر البليغ باجتناب ما يحتمل الحرمة والاباحة بسبب عدم النص ، كالأخبار الآمرة بالتوقف والاحتياط حتى يأتي منهم البيان ، مثل قوله عليه السلام : « أَرجِهِ حَتَّى تَلقى إمامَكَ » (2) وما أشبه ذلك ممّا تقدّم جملة منها .

ص: 362


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ح57 ب29 ، جامع احاديث الشيعة : ج1 ص255 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

وذلك واضح الدلالة على اشتباه نفس الحكم الشرعيّ » .

أقول : ما دلّ على التخيير والتوسعة مع التعارض وعلى الاباحة مع عدم ورود النهي ، وإن لم يكن في الكثرة بمقدار أدلّة التوقف والاحتياط ، إلاّ أنّ الانصاف أنّ دلالتها على الاباحة والرخصة أظهر من دلالة تلك الأخبار على وجوب الاجتناب .

-------------------

( وذلك ) الذي ذكرناه في تعارض النصين وفقدان النص ( واضح الدلالة على اشتباه نفس الحكم الشرعي ) (1) لأن نفس الحكم هو الذي يكون في مورد فقد النص أو تعارض النصين .

( أقول : ) في الشبهة الحكمية وان ورد الدليل على التوقف والاحتياط مع فقد النص أو تعارض النصين ، كما ذكره الشيخ الحرّ رحمه اللّه ، الاّ انّ ما ورد بالتوقف أو الاحتياط معارض بما دل على التوسعة والبرائة ، والجمع بين الدليلين يوجب حمل التوقف والاحتياط على الاستحباب في غير مورد الشك في المكلّف به ، ونحوه ، ممّا يجب فيه الاحتياط ، فدليل الحّر معارض بأقوى منه .

وعليه : فان ( ما دّل على التخيير والتوسعة مع التعارض ) بين النصين ( وعلى الاباحة مع عدم ورود النهي ) وهو فقدان النص ( وان لم يكن في الكثرة بمقدار أدلة التوقف والاحتياط ) لأنّ ما دل على أدلة التوقف والاحتياط أكثر عدداً مما دل على التخيير والتوسعة ، ( الاّ أن الانصاف أنّ دلالتها ) أي : دلالة أخبار التخيير والتوسعة ( على الاباحة والرّخصة ، أظهر من دلالة تلك الأخبار ) أي اخبار الاحتياط والتوقف ( على وجوب الاجتناب ) لأنّه مقتضى الجمع بينهما ، اذ لو

ص: 363


1- - الفوائد الطوسية : ص 519 .

قال : « ومنها : أنّ ذلك وجهٌ للجمع بين الأخبار لا يكادُ يوجد وجهٌ أقربُ منه » .

أقول : مقتضى الانصاف أنّ حمل أدلّة الاحتياط على الرجحان المطلق أقربُ ممّا ذكره ، ثمّ قال : « ومنها أنّ الشبهة في نفس الحكم يسئل عنها الإمام عليه السلام ، بخلاف الشبهة في طريق الحكم ، لعدم وجوب السؤال عنه ، بل علمهم بجميع أفراده غير معلوم أو معلوم العدم ، لأنّه

-------------------

علمنا بأخبار التوقف لم يبق مجال لأخبار التخيير والتوسعة ، بينما اذا علمنا بأخبار التخيير والتوسعة يمكن حمل أخبار التوقف والاحتياط على الاستحباب .

ثمّ ( قال : ومنها : ) أي : من الادلة التي يستفاد منها التفصيل بالبرائة في الشبهة الموضوعيّة ، والاحتياط في غيرها ( ان ذلك ) التفصيل المذكور هو ( وجه للجمع بين الأخبار ) المتعارضة الدالّة على الاحتياط والبرائة إذ ( لا يكاد يوجد وجه أقرب منه ) أي : من هذا الجمع .

( أقول : مقتضى الانصاف : انّ حمل أدلة الاحتياط على الرّجحان المطلق أقرب ممّا ذكره ) الشيخ الحرّ من الجمع المذكور .

( ثمّ قال : ومنها : ) أي : من الأدلة التي يستفاد منها التفصيل بالبرائة في الشبهة الموضوعيّة ، والاحتياط في غيرها ( ان الشبهة في نفس الحكم يسئل عنها الإمام عليه السلام ، بخلاف الشبهة في طريق الحكم ) أي : الشبهة الموضوعيّة ، وذلك ( لعدم وجوب السؤل عنه ) أي : عن الإمام عليه السلام في الشبهة الموضوعيّة عند التمكن حتى يجب الاحتياط عند التعذر .

( بل علمهم بجميع أفراده ) أي : أفراد المشتبه من الموضوعات الخارجيّة على كثرتها علماً حضورياً ( غير معلوم ، أو معلوم العدم ، لأنّه ) أي : العلم الحضوري

ص: 364

من علم الغيب فلا يعلمه إلاّ اللّه وإن كانوا يعلمون منه ما يحتاجون إليه وإذا شاؤوا أن يعلموا شيئا علموه » ، انتهى .

أقول : ما ذكره من الفرق لا مدخل له ، فانّ طريق الحكم لا يجب الفحص عنه وإزالة الشبهة فيه ، لا من الإمام عليه السلام ولا من غيره من الطرق

-------------------

بجميعها ( من علم الغيب فلا يعلمه الاّ اللّه وإن كانوا يعلمون منه ما يحتاجون اليه ، واذا شاؤوا ان يعلموا شيئاً علموه (1) ، انتهى ) .

ولا يخفى : انّ قول الحرّ رحمه اللّه : وان كانوا أي : النبيّ والائمة صلوات اللّه عليهم أجمعين يعلمون منه ما يحتاجون اليه ، وكذا قوله : وإذا شاؤوا أن يعلموا شيئاً علموه ، ينقض قوله : بل علمهم بجميع أفراده غير معلوم ، أو معلوم العدم ، فانهم عليهم السلام باذن اللّه يعلمون كلّما شاؤا من الغيب لقوله سبحانه : « عالِمُ الغَيبِ فَلاَ يُظهِرُ عَلَى غَيبِهِ أحَدا * إلاّ مَنِ ارتَضَى مِن رَسُولٍ » (2) .

( أقول ) وجوب السؤل عن الإمام عليه السلام في الشبهة الحكمية دون الشبهة الموضوعيّة وان كان صحيحاً ، الاّ انّه لا يوجب تقييد الطائفتين المطلقتين من الأخبار حتى يقال : انّ أخبار التوقف للحكمية ، وأخبار البرائة للموضوعية ، وذلك لأنّ ( ما ذكره من الفرق لا مدخل له ) في التقسيم الذي ذكره الحرّ .

وعليه : ( فان طريق الحكم لا يجب الفحص عنه ) أي : لايجب على الانسان الفحص في الشبهة الموضوعيّة (و) لا يجب فيه (ازالة الشبهة فيه، لا من الإمام عليه السلام ولا من غيره من الطّرق ) وذلك على مبنى المصنّف ممّا سيأتي في التنبيه الرابع انشاء اللّه تعالى : من انّه لا يجب الفحص في الشبهة الموضوعيّة حتى

ص: 365


1- - الفوائد الطوسية : ص 20 .
2- - سورة الجن : الآيات 26 - 27 .

الممكن منها .

والرجوع إلى الإمام عليه السلام ، إنّما يجب فيما تعلّق التكليف فيه بالواقع على وجه لا يعذر الجاهل المتمكّن من العلم . وأمّا مسألة مقدار معلومات الإمام عليه السلام من حيث العموم والخصوص وكيفيّة علمه بها من حيث توقفه على مشيّتهم أو على التفاتهم إلى نفس الشيء

-------------------

في ( الممكن منها ) .

هذا ، لكن سيأتي منّا : انّه يجب الفحص في الشبهة الموضوعيّة كما يجب الفحص في الشبهة الحكمية ، الاّ ما خرج من الموضوعات : كالطهارة والنجاسة ، والحليّة والحرمة ، ولذا قال جماعة من الفقهاء : يجب على الانسان الفحص عن بلوغ ماله حدّ النصاب وعدمه في باب الزكاة ، وانّه مستطيع أم لا في باب الحج ؟ وان ماله تعلق به الخمس أم لا في باب الخمس ؟ وانّه هل يتمكن من الصوم أم لا في باب الصوم ؟ وانّه هل يضره الماء أم لا في باب الوضوء والغسل ؟ الى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة .

( والرجوع الى الإمام عليه السلام انّما يجب فيما ) أي : في الأحكام التي ( تعلق التكليف فيه بالواقع على وجه لا يعذر الجاهل المتمكّن من العلم ) أو العلميّ ، فانّه إذا أردنا أن نعرف حكم الغراب هل هو حلال أو حرام ؟ أو حكم وجوب صلاة الجمعة وعدم وجوبها ، أو ما أشبه ذلك ، وجب علينا الرجوع الى الإمام انّ كان حاضراً ، والرجوع الى الأخبار والكتاب والاجماع والعقل في حال غيبته عليه السلام.

( وأما مسألة مقدار معلومات الإمام عليه السلام من حيث العموم والخصوص ) وانّها كم هي ؟ وهل هي محيطة بكل الجزئيات أو ببعضها ؟ ( وكيفية علمه بها ) أي : بتلك المعلومات ( من حيث توقفه على مشيتهم ، أو على التفاتهم الى نفس

ص: 366

أو عدم توقفه على ذلك ، فلا يكاد يظهر من الأخبار المختلفة في ذلك ما يطمئنّ به النفس ، فالأولى وكولُ علم ذلك إليهم ، صلوات اللّه عليهم أجمعين .

-------------------

الشيء ، أو عدم توقفه على ذلك ) بأن يكون علمهم حضوريا حاضرا لديهم دائماً ( فلا يكاد يظهر من الأخبار المختلفة في ذلك ) أي : في باب علمهم عليهم السلام ( ما يطمئن به النفس ، فالأولى : وكول علم ذلك اليهم صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين ) فانهم أعلم بمقدار علمهم وبكيفيّته .

لكن قال بعض : بأنّ علمهم محيط بجميع الكليات والجزئيات والكبير والصغير من حيث الكمية ، وهو حاضر لديهم دائماً من حيث الكيفية وكذلك قدرتهم ، فهم كعزرائيل عليه السلام الذي لا يفوته شخص حضر أجله أو لم يحضر ، بل ربّما يقال : انّ لهم عليهم السلام مكانة كونية وقدرة عامّة سارية في جميع ذرات الكون كسريان قوة الجاذبة فيها ، غير انّ الجاذبة ليست مشرفة وقادرة ، وهم عليهم السلام مشرفون قادرون باذن اللّه تعالى ، ولذا ورد في الحديث : « لولا الحجة لساخت الأرض » (1) قيل : وهذا هو مقتضى كون النبيّ والإمام خليفة اللّه سبحانه .

نعم ، من البديهي انّ علم اللّه وقدرته مستندان الى ذاته تعالى ، أمّا علمهم وقدرتهم فهما مستندان الى اللّه تعالى لا من ذواتهم ، وهذا هو مقتضى كونهم شهوداً على الجميع ، ومقتضى ما في الأدعية مثل دعاء أيام رجب حيث جاء فيه : « أسألك بما نطَقَ فيهم من مشيّتك فجعلتهم معادنَ لِكلمَاتِكَ وأركانا لتوحيدك وآياتك ومقاماتِكَ، الَّتي لاَ تَعطيل لَهَا فِي كُلِّ مَكَان ، يَعرفُكَ بِهَا مَن عَرفك ، لاَ فَرقَ

ص: 367


1- - علل الشرائع : ص198 ، بصائر الدرجات : ص488 ، عيون اخبار الرضا : ص272 ، كمال الدين : ص204 ، غيبة النعماني : ص141 .

ثم قال : « ومنها : أنّ اجتناب الشبهة في نفس الحكم أمرٌ ممكن مقدور ، لأنّ أنواعه محصورة ، بخلاف الشبهة في طريق الحكم ، فاجتنابها غير ممكن ، لما أشرنا إليه من عدم وجود الحلال البيّن ولزوم تكليف ما لا يطاق .

والاجتناب عمّا يزيد على قدر الضرورة حرج عظيم وعسر شديد ،

-------------------

بَينَكَ وَبَينَها إلاَّ أنّهم عِبادُكَ وخلقُك ، فَتقُها وَرتقُهَا بِيدكَ ، بدؤُها مِنكَ وَعَودُها اليكَ ، أعضادٌ وأشهادٌ ومناةٌ وأذوادٌ وحفظةٌ وروّادٌ ، فبهم ملأت سماءكَ وأرضكَ حتّى ظهرَ أنْ لا إلهَ إلاّ أنت » (1) وفي دعاء آخر: «فبكم يجبر المهيض ، ويشفى المريض، وما تزداد الأرحام وما تغيض» (2) الى غير ذلك ممّا موضعه علم الكلام .

( ثمّ قال : ومنها ) أي : من الأدلة التي يستفاد منها التفصيل المذكور : وهو البرائة في الشبهة الموضوعيّة ، والاحتياط في الحكمية ( : ان اجتناب الشبهة في نفس الحكم أمرٌ ممكن مقدور ، لأنّ أنواعه محصورة ) فموارد الشبهة الحكمية قليلة كشرب التتن والدّعاء عند الهلال فيمكن الاحتياط فيها ( بخلاف الشبهة في طريق الحكم ، فاجتنابها غير ممكن لما أشرنا اليه من عدم وجود الحلال البيّن ) في كثير من الموضوعات ( ولزوم تكليف ما لا يطاق ) امتثاله ، وقد تقدّم : انّه انّما يكون ممّا لا يطاق : لانّ التكليف بالشيء الذي لا يعلمه الانسان تكليف بما لا يطاق .

( و ) انّ قلت : انّه يرتكب بقدر الضرورة ، ويجتنب ما عدا ذلك في الشبهات الموضوعيّة .

قلت : ( الاجتناب عمّا يزيد على قدر الضرورة حرجٌ عظيم وعُسرٌ شديد

ص: 368


1- - مفاتيح الجنان: ص188 أدعية أيام رجب، ط دار الاضواء، الدعاء والزيارة للشارح : ص281.
2- - مفاتيح الجنان : ص190 الزيارة الرجبية .

لاستلزامه الاقتصار في اليوم والليلة على لقمة واحدة وترك جميع الانتفاعات » ، انتهى .

اقول : لا ريبَ أنّ أكثر الشبهات الموضوعيّة لا يخلو من أمارات الحلّ والحرمة ، كيد المسلم والسوق وأصالة الطهارة وقول المدّعي بلا معارض والاصول العدميّة

-------------------

لاستلزامه الاقتصار في اليوم والليلة على لقمة واحدة وترك جميع الانتفاعات ) (1) بالمساكن والملابس والمشارب والمطاعم والمراكب والمناكح وغيرها ، وهذا ضروري البطلان عند المتشرعة ، وخلاف سيرة المسلمين منذ فجر الاسلام الى اليوم .

والحاصل : إنّ الاحتياط في الشبهات الحكمية لا يلزم منه محذور لقلة الشبهة ، بخلاف الاحتياط في الشبهات الموضوعيّة فانها كثيرة جداً ،بل سارية في كلّ الموضوعات على ما ذكره الشيخ الحرّ سابقاً ، فيلزم منه محذور اختلال النظام وأشد أنواع العسر والحَرَج ، ولذا أَوجب الشارع الاحتياط في الشبهة الحكمية دون الشبهة الموضوعيّة ( إنتهى ) كلامه .

( أقول ) لا نسلِّم كثرة المشتبه في الشبهات الموضوعيّة اذ ( لا ريب انّ أكثر الشبهات الموضوعيّة لايخلو عن أمارات الحلّ والحرمة ، كيَدِ المسلم ، والسوق ، وأصالة الطهارة ، وقول المدّعيّ بلا معارض ، و ) البينة بلا معارض ، وقول أهل الخبرة ، وما أشبه ذلك ممّا هو كثير .

وكذا لا تخلو عن ( الاُصول العدمية ) مثل : أصالة عدم الزوجية ، وأصالة عدم

ص: 369


1- - الفوائد الطوسية : ص 519 .

المجمع عليها عند المجتهدين والاخباريين على ما صرّح به المحدّث الاستراباديّ ، كما سيجيء نقل كلامه في الاستصحاب ، وبالجملة فلا يلزم حرج من الاجتناب في الموارد الخالية عن هذه الأمارات لقلّتها .

قال : « ومنها : أنّ اجتناب الحرام واجب عقلاً ونقلاً ،

-------------------

الطلاق ، وأصالة عدم الموت ، وأصالة عدم التذكية ، وما أشبه ذلك ممّا هو جارٍ في الفقه من أوّله الى آخره .

ومن المعلوم : انّ الاُصول العدميّة هو ( المجمع عليها عند المجتهدين والأخباريين على ما صرّح به المحدِّث الاسترابادي كما سيجيء نقل كلامه في الاستصحاب ) فانّ الكثرة الكبيرة جداً من الشبهات الموضوعيّة واجدة لأمارة الحلّ أو الحرمة ، وهي مقدمة على أصل الاحتياط الذي اختاره الأخباريون ، وعلى البرائة التي اختارها الاُصوليون ، لأنّ الأمارة حاكمة على الاُصول ، كما سيأتي تفصيله انشاء اللّه تعالى .

( وبالجملة : فلا يلزم حرج من الاجتناب في الموارد الخالية عن هذه الأمارات ) من الشبهات الموضوعيّة ( لقلتها ) أي : لقلة تلك الموارد ، فلا يتم كلام الحرّ حيث قال : بأنّ الشارع أَباح الشبهة الموضوعيّة لكثرة مواردها وأوجب الاحتياط في الشبهة الحكمية لقلة مواردها .

وعليه : فاللازم أن نقول بالبرائة في كلتا الشبهتين : الحكمية والموضوعيّة ، أو بالإحتياط في كلتيهما ، وقد عرفت : انّ مقتضى القاعدة : البرائة ، لأن الجمع بين الطائفتين من الأخبار يقتضي ذلك .

( قال : ومنها ) أي : من الشواهد على الجمع الذي ذكرناه بين الشبهة الحكمية فالاحتياط ، والشبهة الموضوعيّة فالبرائة ( : انّ اجتناب الحرام واجب عقلاً ونقلاً )

ص: 370

ولا يتمّ إلاّ باجتناب ما يحتمل التحريم ممّا اشتبه حكمه الشرعيّ ومن الأفراد الغير الظاهرة الفرديّة ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به وكان مقدورا فهو واجب ، إلى غير ذلك من الوجوه ، وإن امكن المناقشة في بعضها ، فمجموعُها في مثل ذلك كافٍ شافٍ في هذا

-------------------

لأنّ العقل يرى وجوب اطاعة المولى والنقل كذلك ، فقد ورد متواتراً في الآيات والروايات وجوب الاجتناب عن المحرمات ، لأن من لم يجتنب عن المحرّمات يعاقب في الدنيا والآخرة ( ولا يتم ) الاجتناب عن كلّ حرام واقعي ( الاّ باجتناب ما يحتمل التحريم ممّا اشتبه حكمه الشرعي ) كالتتن وكالغُراب حيث لا نعلم هل هو حرام أو حلال ؟ .

( و ) كذا بالاجتناب ( من الأفراد غير الظاهرة الفردية ) وذلك فيما كان الشك بين الأقلّ والأكثر كما تقدّم من مثال الغناء ، حيث نعلم انّ المطرب المرجّع فيه حرام ، ونشّك في انّ الزائد على ذلك كالمطرب وحده ، والمرجّع فيه وحده ، هل هو حرام أو حلال ؟ فحيث حرّم الشارع الغناء يجب الاجتناب عن جميع أفراده المتيقنة والمشكوك فيها .

والحاصل : انّ الاجتناب عن الحرام واجب ( وما لا يتم الواجب الاّ به وكان مقدوراً فهو واجب ) ومن الواضح : انّه لا يتم الاجتناب عن جميع المحرّمات الاّ بالإجتناب عن المحرّمات المحتملة ، كالتتن والغناء وما أشبه ذلك .

ثم قال الشيخ الحرّ : ( الى غير ذلك من الوجوه ) التي تؤد ما ذكرناه : من تقسيم الشبهة الى الحكمية والموضوعيّة والتفصيل بين حكمهما ، فانّه ( وان أمكن المناقشة في بعضها ) لا يضرنا ذلك ( فمجموعها في مثل ذلك ) التفصيل الذي ذكرناه بين الشبهتين : الحكمية والموضوعيّة دليل ( كافٍ شافٍ في هذا

ص: 371

المقام واللّه أعلم بحقايق الأحكام » ، انتهى .

أقول : الدليل المذكور أولى بالدلالة على وجوب الاجتناب من الشبهة في طريق الحكم ،

-------------------

المقام ، واللّه أعلم بحقائق الأحكام (1) ، انتهى ) كلام الحرّ رحمه اللّه تعالى .

( أقول : ) اذا تمَّ ما ذكره : من وجوب الاجتناب عن محتمل الحرمة في الشبهة الحكمية من باب المقدمة لزم عليه أن يقول باجتناب محتمل التحريم في الشبهة الموضوعيّة أيضاً لأنه مقدمة ، فانّ الشارع حيث قال : الخمر حرام ، وكانت هناك افراد محتملة الخمرية ، فانّه لا يحصل لنا العلم باجتناب الخمر الاّ باجتناب كل الأفراد المتيقنة والمحتملة ، بل الاجتناب في الشبهة الموضوعيّة أولى من الاجتناب في الشبهة الحكمية ، لأنَّا لا نعلم بحرمة التتن أصلاً ، أما الخمر فانّا نعلم بحرمته يقيناً .

وعليه : فلا يوجد في الشبهة الحكمية كالتتن حرام مقطوع به ومقدمة حرام مشكوكة ، بخلاف الشبهة الموضوعيّة فانّه يوجد فيها حرام مقطوع به ومقدمة حرام مشكوكة ، فان الحرام المتيقن ما قاله الشارع : من انّ الخمر حرام ، ومقدمته المشكوكة : الأفراد المحتملة الخمرية .

إذن : ف- ( الدليل المذكور ) الذي أقامه الحرّ من وجوب اجتناب محتمل الحرمة من باب المقدمة العلمية لاجتناب كل حرام واقعي اذا كان دليلاً بالنسبة الى الشبهة الحكمية فهو ( أولى بالدلالة على وجوب الاجتناب من الشبهة في طريق الحكم ) أي : الشبهة الموضوعيّة ، لانّ هناك علم بوجوب اجتناب كلّ حرام واقعي ، وهنا

ص: 372


1- - الفوائد الطوسية : ص520 .

بل لو تمّ لم يتمّ إلاّ فيه ، لأنّ وجوب الاجتناب عن الحرام لم يثبت إلاّ بدليل حرمة ذلك الشيء او أمر وجوب إطاعة الأوامر والنواهي ، ممّا ورد في الشرع وحكم به العقل . فهي كلّها تابعة لتحقق الموضوع ، أعني الأمر والنهي ، والمفروض الشكّ في تحقق النهي .

-------------------

لا علم بوجوب اجتناب التتن مثلاً فللخمر الواقعي مقدّمة علمية وهو محتمل الخمرية ، بينما ليس لشرب التتن حرمة واقعية نعلمها حتى يجب الاجتناب عن أفرادها المحتملة مقدّمة لمحرَّم واقعي .

( بل لو تمّ ) هذا الدليل في نفسه ( لم يتم الاّ فيه ) أي : في الشبهة في طريق الحكم وهي الشبهة الموضوعيّة لا في الشبهة في الحكم ، وذلك ( لأنّ وجوب الاجتناب عن الحرام لم يثبت الاّ بدليل حرمة ذلك الشيء ) كحرمة الخمر ( أو أمر وجوب إطاعة الأوامر والنّواهي ممّا ورد في الشرع ) حيث قال سبحانه : « أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ » (1) وقال سبحانه : « وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا » (2) ( وحكم به العقل ) لأنّ العقل حاكمٌ بوجوب الطاعة والاجتناب عن المعصية .

وعليه : ( فهي ) أي : دليل الحرمة ، والأمر بوجوب الطاعة ( كلّها تابعة لتحقق الموضوع أعني : الأمر والنهي ) بأن نعلم بالأمر كالأمر بالاجتناب عن الخمر ، وأن نعلم بالنهي كالنهي عن شرب الخمر ( و ) الحال انّ ( المفروض الشك في تحقّق النهي ) بالنسبة الى الشبهة الحكمية كشرب التتن ، فانا لا نعلم بحرمته والنهي عنه لا تفصيلاً ولا اجمالاً ، فأين دليل الحرمة والأمر بوجوب طاعة النهي حتى يثبت وجوب اجتناب الحرام ، فيقال : بأنّه يجب اجتناب المشبته وهو التتن من باب

ص: 373


1- - سورة النساء : الآية 59 .
2- - سورة الحشر : الآية 7 .

وحينئذٍ : فاذا فرض عدم الدليل على الحرمة ، فأين وجوب ذي المقدّمة حتّى يثبت وجوبها .

نعم ، يمكنُ أن يقالَ في الشبهة في طريق الحكم ، بعد ما قام الدليل على

-------------------

المقدمة لذلك الحرام ؟ .

والحاصل : انّه لا يوجد ذو المقدمة في المقام حتى يُقال بوجوب مقدمته ، بخلاف محتمل الخمرية ، فانّ هناك ذي المقدمة موجود ، وهو ما قاله الشارع من وجوب اجتناب الخمر ، فاذا شككنا في ثالث انّه خمر أو ليس بخمر ، أمكن أن يُقال : انّه يجب الاجتناب عن هذا الفرد المشكوك مقدمة .

( وحينئذٍ : فاذا فرض عدم الدليل على الحرمة ) لشرب التتن مثلاً في الشبهة الحكمية فلا حرام حتى يجب الاجتناب عنه كما قال : ( فأين وجوب ذي المقدمة ) أي : وجوب إجتناب الحرام ؟ اذ ليس هناك حرام يجب الاجتناب عنه وأفراد محتملة التحريم ( حتى يثبت وجوبها ) أي : وجوب المقدمة بالاجتناب عن هذه الافراد المحتملة التحريم مقدمة لاجتناب الحرام .

لا يقال : يُمكن تصور المقدمة وذي المقدمة في الشبهة التحريمية أيضاً ، وذلك لانّ الشارع أراد منّا ترك كل حرام ، والعلم بترك كل حرام انّما يحصل لنا إذا تركنا مثل التتن شرباً ، والغُراب أكلاً ، فالشبهة الحكمية تكون مقدّمة للمحرّمات التي يريد الشارع منّا تركها .

لأنّه يقال : ترك كل حرام ، ليس عنواناً خاصاً في الشريعة ، وانّما المراد منّا هو ترك الخمر ، والقمار ، والرّبا ، وما أشبه ذلك ، وترك التتن ليس مقدمة لأي منها .

( نعم ، يمكن أن يقال ) بتمامية الدليل الذي أقامه الحرّ ( في الشبهة في طريق الحكم ) أي : في الشبهة الموضوعيّة ، وذلك بأن يقال ( بعدما قام الدّليل على

ص: 374

حرمة الخمر ، يثبتُ وجوبُ الاجتناب عن جميع أفرادها الواقعيّة ، ولا يحصل العلم بموافقة هذا الأمر العامّ إلاّ بالاجتناب عن كلّ ما احتمل حرمته .

لكنّك عرفت الجواب عنه سابقا ، وأنّ التكليف بذي المقدّمة غير محرز إلاّ بالعلم التفصيليّ او الاجمالي .

فالاجتناب عمّا يحتمل الحرمة احتمالاً مجرّدا عن العلم الاجماليّ لا يجب نفسا ولا مقدّمةً ،

-------------------

حرمة الخمر : يثبت وجوب الاجتناب عن جميع أفرادها الواقعية ) سواء المعلومة منها ، أم المجهولة على تقدير وجودها ( ولا يحصل العلم بموافقة هذا الأمر العام ) وهو : الاجتناب عن كل أفراد الخمر الواقعية ( الاّ بالاجتناب عن كلّ ما احتمل حرمته ) وخمريته ، وبهذا يكون الترك لمحتمل الخمرية مقدمة لترك كلّ أفراد الخمر .

( لكنّك عرفت الجواب عنه سابقاً ) في المسألة الرابعة بما حاصله : انّ التكليف انّما ينجز بالعلم بالصغرى والكبرى معاً ، فاذا علمنا بالكبرى ولم نعلم بالصغرى لم يثبت التكليف ( و ) ذلك ل- ( أن التكليف بذي المقدمة غير محرز الاّ بالعلم التفصيليّ أو الاجماليّ ) يعني : يلزم أن نعلم أنّ هذا خمر فنجتنبه ،أو نعلم انّ الخمر بين هذين الانائين في صورة العلم الاجماليّ فنجتنب هذا وذاك .

وعليه : ( فالإجتناب عمّا يحتمل ) فيه ( الحرمة إحتمالاً مجرّداً عن العلم الاجمالي لا يجب نفساً ) لعدم العلم التفصيلي بحرمته حتى يكون الاجتناب عنه واجباً نفساً ( ولا مقدمة ) لأنه لا علم اجمالي بأنّ الخمر في هذا أو في ذاك ، لفرض انّه شبهة بدوية ، فإنّا اذا علمنا بحرمة عشرة أواني ولم نعلم بحرمة الاناء

ص: 375

واللّهُ العالم .

الثالث :

انّه لا شكّ في حكم العقل والنقل برجحان الاحتياط مطلقا ، حتّى فيما كان هناك أمارة على الحلّ

-------------------

الحادي عشر ، فلا علم فيه تفصيلاً ولا اجمالاً ، ولما لم يكن لا علم تفصيلي ولا اجماليّ فيه ، لم يجب الاجتناب عنه ( واللّه العالم ) .

وعلى هذا : فأدلة البرائة محكَّمة في مثل هذا الفرد المشكوك خمريته شكاً بدوياً من دون علم اجمالي ولا تفصيليّ .

التنبيه ( الثالث : ) لا ريب في رجحان الاحتياط اذ الاحتياط حسن على كلّ حال ، لكن حيث يلازم الاحتياط التام محذور اختلال النظام وغيره حاولوا الخروج من تلك المحاذير بذكر احتمالات ، فقالوا : نترك الاحتياط فيما يخل بالنظام ونأخذ بالإحتياط فيما لا يخل به ، أو نجعل ذلك بحسب الاحتمالات قوة في الظنّ وضعفاً فيه ، أو بحسب الأهمية واللاأهمية من جهة المحتمل ، أو بحسب اختلاف وجود الأمارة وعدم وجودها ، احتمالات أربعة تعرّض لها المصنّف حيث قال : ( انّه لاشك في حكم العقل والنّقل برجحان الاحتياط مطلقاً حتى فيما كان هناك أمارة على الحلّ ) من يَدٍ وسُوق وغيرهما .

مثلاً : اذا أصاب ثوب الانسان في السوق رَشحٌ من مايع يحتمل انّه بول ويحتمل انّه ليس ببول ، فانّه يشمله قوله عليه السلام : « كلّ شيء لَكَ طاهرٌ » (1) لكنه من

ص: 376


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .

مغنية عن أصالة الاباحة ، إلاّ أنّه لا ريب في أنّ الاحتياط في الجميع موجب لاختلال النظام ، كما ذكره المحدّث المتقدّم ، بل يلزم أزيد ممّا ذكره فلا يجوز الأمر به من الحكيم ، لمنافاته للغرض

-------------------

المستحسن الاحتياط بغسله ، وكذا لو أخذ لحماً من يد مسلم غير ملتزم ممّا يشك في انّه مذكّى أو ليس بمذكى ، فانّه من الأفضل أن يحتاط الانسان بالاجتناب عن مثل هذا اللحم مع وجود قوله عليه السلام : « كلّ شيء لَكَ حلالٌ » (1) علماً بأنّ الأمارة في الشبهات الموضوعيّة كاليد وسوق المسلمين ( مغنية عن أصالة الاباحة ) لأنك قد عرفت : انّ الأمارة دليلٌ ، والأصل أصيل حيث لا دليل ، فانّه مادامت الأمارة موجودة فلا تصل النوبة الى الاصل .

( الاّ انّه لا ريب في أنّ الاحتياط في الجميع ) أي : في جميع الموارد من الشبهة الموضوعيّة والحكمية ،الوجوبية منهما والتحريمية ( موجب لاختلال النّظام كما ذكره المحدِّث المتقدِّم ) وهو الشيخ الحرّ العامليّ رحمه اللّه ( بل يلزم أزيد ممّا ذكره ) إذا أراد الانسان الاحتياط التام لأنّه شيء لا يُطاق ( فلا يجوز الأمر به ) أي : باستحباب الاحتياط في الكلّ ( من الحكيم ) تعالى ، كما أن العقل لا يحبِّذ مثل هذا الاحتياط .

وانّما لا يأمر به الحكيم ( لمنافاته للغرض ) وهو بقاء النظام ، كما انّ العقل لا يحبِّذه لأن العقل يرى انّ وجوب حفظ النظام أهم من كلّ شيء ، من غير فرق بين النظام العام لكلّ المجتمع ، أو النظام الخاص لفرد واحد ، فانّ اختلال النظام سواء كان عاماً أو خاصاً منفورمنه شرعاً وعقلاً ، وحيث لا نتمكن من الاحتياط

ص: 377


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

والتبعيض بحسب الموارد واستحباب الاحتياط حتى يلزم الاختلال أيضا مشكل لأن تحديده في غاية العُسر ، فيحتمل التبعيض بحسب الاحتمالات ، فيحتاط في المظنونات ، وأمّا المشكوكاتُ فضلاً عن انضمام الموهومات إليها ، فالاحتياطُ فيها حرج

-------------------

التام فلابدّ من التبعيض في الاحتياط بأحد وجوه أربعة :

الأوّل : التبعيض بحسب الموارد بأن نقول : نحتاط حتى يلزم الاختلال للنظام ، فما قبل الاختلال حسن وما بعد الاختلال ممنوع ( و ) لكن ( التّبعيض بحسب الموارد واستحباب الاحتياط حتّى يلزم الاختلال أيضاً مشكلٌ ) لا يمكن القول به ، فانّه اذا كان هناك ألف احتياط مثلاً وقلنا انّ لكل انسان أن يحتاط الى حدّ اختلال نظامه كان مشكلاً ، وانّما كان هذا مشكلاً ( لأن تحديده ) أي : استحباب الاحتياط بلزوم الاختلال ( في غاية العسر ) لأنا لا نعلم أي حدّ من الاحتياط لا يستلزم الاختلال ؟ هل هو الاحتياط الى حد مائة ، أو الى حدّ مائتين ، أو الى حدّ خمسمائة ، أو الى حدّ تسعمائة ، أو غير ذلك ؟ .

ومن المعلوم أيضاً : اختلاف الناس في مقدار ما يؤي من الاحتياط الى إختلال نظامهم ، فهل هو بهذا القدر أو بذاك القدر ؟ فلا يمكن للشارع ولا للعقل أن يجعل الاختلال ميزاناً لاستحباب الاحتياط وعدم استحبابه .

الثاني : ما أَشار اليه بقوله : ( فيحتمل التبعيض بحسب الاحتمالات ) قوةً وضعفاً وتوسطاً ( فيحتاط في المظنونات ) أي : في مظنون الحرمة دون غيره ، فالتتن - مثلاً - والغراب ، والبُصاق ، كل هذا محتمل التحريم ، لكن التتن مظنون التحريم ، والغراب مشكوك التحريم ،والبصاق موهوم التحريم ، فيحتاط في الأول دون الباقي .

( وأما المشكوكات فضلاً عن إنضمام الموهومات اليها فالاحتياط فيها حرج

ص: 378

مخلّ بالنظام .

ويدلّ على هذا العقلُ بعد ملاحظةِ حسن الاحتياط مطلقا واستلزامِ كليته الاختلال ويحتمل التبعيض بحسب المحتملات ، فالحرام المحتمل إذا كان من الامور المهمّة في نظر الشارع ، كالدماء والفروج ، بل مطلق حقوق الناس بالنسبة إلى حقوق اللّه تعالى يحتاط فيه والا فلا .

-------------------

مخلّ بالنظام ) وهكذا بالنسبة الى الشبهات الموضوعيّة ، فاذا كان هناك مثلاً ثلاث أواني أحدها أبيض مظنون الخمرية ، والآخر أحمر مشكوك الخمرية ، والثالث أصفر موهم الخمرية ، فانّه يترك مظنون الخمرية دون المشكوك والموهوم .

( ويدل على هذا ) التبعيض ( : العقلُ بعد ملاحظةِ حسن الاحتياط مطلقاً ) على ما عرفت ( واستلزام كليته ) أي : كلية الاحتياط ( الاختلال ) في النظام ، مضافاً الى أن الاحتياط في مشكوك الحرمة وموهومها دون مظنونها ترجيح للمرجوح على الراجح ، فيتعيّن تقديم مظنون الحرمة على مشكوكها وموهومها ، غير انّه لما كان أصل الاحتياط مستحباً لا واجباً ، كان ترجيح الموهوم والمشكوك على المظنون خلاف الأفضل ، لا أن اللازم ترجيح المظنون على المشكوك والموهوم .

الثالث : ما أشار اليه المصنِّف بقوله : ( ويحتمل التبعيض بحسب المحتملات ) من حيث الأهم والمهم ( فالحرام المحتمل إذا كان من الاُمور المهمة في نظر الشارع كالدّماء والفروج ، بل مطلق حقوق النّاس ) مالاً كان أو غير مال ، فانّ حقوق الناس أهم ( بالنسبة الى حقوق اللّه تعالى يحتاط فيه ، والاّ ) بأن لم يكن بتلك الأهمية ( فلا ) يحتاط فيه .

مثلاً : لو كان هناك في صفوف الكفار المحاربين كافر يحتمل كونه ذمياً احتاط بعدم قتله ، ولو كانت هناك امرأة يحتمل كونها رضيعته احتاط بعدم الزواج منها ،

ص: 379

ويدلّ على هذا جميعُ ما ورد من التأكيد في أمر النكاح ، وأنّه شديد ، وأنّه يكون منه الولد .

منها : ما تقدّم من قوله عليه السلام : « لا تجامعوا على النكاح بالشبهة » قال عليه السلام: « فاذا بلغك انّ امرأة أرضعتك إلى أن قال : إنّ الوقوف عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهلكة » .

-------------------

ولو كان هناك ماء ظاهر في انّه مباح لكن يحتمل كونه مال الناس إحتاط في عدم التصرف فيه ، فانّه يحتاط في هذه الاُمور الثلاثة ويترك الاحتياط فيما لو احتمل أن عليه صلاة أو صوم أو حج حيث انّ هذه الثلاثة الأخيرة من حقوق اللّه سبحانه وتعالى .

وعليه : فاذا دار الأمر بين الاحتياط في حقوق اللّه أو في حقوق الناس ، قدّم الاحتياط في حقوق الناس ، وذلك لأن حق الناس حقان : حق الناس وحق اللّه ، بينما حق اللّه شيء واحد وهو حق اللّه فقط .

( ويدلّ على هذا ) التبعيض بحسب المحتملات من حيث الأهمية وعدمها ( جميع ما ورد من التأكيدات في ) الدّماء ، والأموال ،وكذا التأكيد في ( أمر النكاح ، وانّه شديد ، وانه يكون منه الولد ) والذي ( منها ) أي : من هذه الروايات الواردة في التشديد في أمر النكاح ( ما تقدّم من قوله عليه السلام : « لا تُجامعُوا على النكاح بالشبهة » (1) ، قال عليه السلام : فاذا بلغكَ ) بطريق غير معتبر ( انّ امرأة أرضعتك الى أن قال ) عليه السلام : ( :انّ الوقوفَ عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام فِي الهَلكةِ ).

هذا، وإذا تعارض الأمر بين الاحتياط في الدِّماء والأموال والفروج ، قدَّم الاحتياط في

ص: 380


1- - تهذيب الأحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ، وسائل الشيعة : ج20 ص259 ب157 ح25573 و ج27 ص159 ب12 ح33478 .

وقد تُعارَضُ هذه بما دلّ على عدم وجوب السؤال والتوبيخ عليه وعدم قبول قول من يدّعي حرمة المعقود مطلقا أو بشرط عدم كونه ثقةً ، وغير ذلك .

-------------------

الدِّماء عليهما ، واذا تعارض بين الفروج والأموال قدّم الاحتياط في الفروج على الأموال ، أ ما التعارض في الدّماء بين مثل قطع اليد وبين الزّنا ، فهل يقدّم الاحتياط في هذا ، أو وفي ذاك ، أو يتخير ؟ احتمالات ، والبحث فيها مربوط بالفقه .

( وقد تُعارَضُ هذه ) الروايات الدالّة على حسن الاحتياط في النكاح ( بما دل على عدم وجوب السؤال ) من المرأة التي يُراد الزواج منها بأنّهامتزوجة أو ليست متزوجة ، أو ما أشبه ذلك ، بل ( والتّوبيخ عليه ) أي على السؤل من المرأة عند نكاحها ( وعدم قبول قول من يدعي حرمة المعقودة ) فانّه لا يقبل قوله ( مطلقاً ، أو ) لا يقبل قوله ( بشرط عدم كونه ) أي : المدعي ( ثقة ) فانّ بعض الأخبار تقول : بانّه لا يقبل قول من يدَّعي حرمة المعقودة إطلاقاً ، وبعض الأخبار تقول بانّه لا يقبل قول من يدّعي حرمة المعقودة إذا كان المدعي ثقة ( وغير ذلك ) ممّا يدل على عدم الاحتياط في أمر النكاح ، فكيف يمكن الجمع بين هاتين الطائفتين : طائفة تأمر بالإحتياط وطائفة تأمر بعدم السؤل ، مع وضوح انّ عدم السؤل خلاف الاحتياط ؟ .

واليك جملةٌ من الروايات الواردة في الاحتياط في باب النكاح : « فعن شُعيب الحَداد قال : قلت لأبي عبدِ اللّه عليه السلام : رَجلٌ من مَواليكَ يُقرئُكَ السّلام وقد أرادَ أن يَتَزوج إمراة وقد وافقَته وأعجَبه بعض شأنِها ، وقد كانَ لهَا زوجٌ فطلَّقها على غَير السُّنَّة ، وقد كره أن يُقدم على تزويجها حتى يستأمُركَ فتكون أنتَ تأمره ؟ فقال أبو عبداللّه عليه السلام : هُو الفَرج وأمرُ الفَرج شديد ومنه يكونُ الوَلد ونَحن نحتاطُ فيهِ فلا يَتَزَوّجَها » (1) ، ولا يخفى انّ هذه الرواية بالنسبة الى كون الطلاق واقعاً

ص: 381


1- - الكافي فروع: ج5 ص423 ح2 ، تهذيب الاحكام: ج7 ص470 ب36 ح93 ، الاستبصار: ج3 = = ص293 ب170 ح11 ، وسائل الشيعة : ج20 ص258 ب157 ح25572 .

...

-------------------

من الزوج العامي يكون على سبيل الكراهة ، وأما اذا كان هذا الطلاق من الزوج الامامي ، فالتزويج بمثل هذه المرأة محرّم على ما ذكر تفصيله في الفقه .

« وعن مَسعدة بن زياد عن جعفر عن آبائه عليهم السلام : انّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : لا تُجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة ، يقول : إذا بَلَغَكَ أنت قد رضعت من لبنها وانّها لك محرم وما أشبه ذلك ،فانّ الوقوف عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهلكة » (1) ، « وعن العَلاء بن سيابة قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام : عن امرأة وكّلت رجلاً بأن يُزوجها من رجل ؟ - الى أن قال - : فقال عليه السلام : انّ النكاح أَحرى وأَحرى ان يحتاط فيه وهو فرج ومنه يكون الولد » (2) الى غير ذلك .

أما روايات النهي عن السؤل عند النكاح ، فمثل ما روي عن الصادق عليه السلام « قلت : اني تزوجت امرأة متعة فوقع في نفسي انّ لها زوجاً ففتشت عن ذلك فوجدت لها زوجاً ، قال : ولم فتشت ؟ » (3) .

وفي رواية اُخرى عنه عليه السلام قال : « قيلَ لَهُ : انّ فلاناً تزوجَ إمراةً متعة فقيلَ لَهُ : انّ

ص: 382


1- - تهذيب الاحكام : ج7 ص474 ب36 ح112 ، وسائل الشيعة : ج20 ص259 ب157 ح25573 و ج27 ص159 ب12 ح33478 .
2- - تهذيب الاحكام : ج6 ص215 ب22 ح5 بالمعنى ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص84 ب2 ح3383 ، وسائل الشيعة : ج2 ص259 ب57 ح25574 و ج19 ص163 ب2 ح24364 .
3- - وسائل الشيعة : ج21 ص31 ب10 ح26444 .

وفيه : أنّ مساقَها التسهيلُ و

-------------------

لهَا زوجاً فسأَلَها ، فقال أبو عبداللّه عليه السلام : وَلِمَ سَأَلَها ؟ » (1) .

وفي رواية الأشعري قال : « قُلتُ للرِّضَا عليه السلام : الرَجلُ يتزوج بالمرأة فيقعُ فِي قَلبِهِ أنّ لها زَوجاً ، فقال : ومَا عَلَيهِ ، أَرأيتَ لَو سأَلها البيّنة كان يَجدُ مَن يَشهدُ أن لَيسَ لهَا زَوجٌ ؟ » (2) .

« وعن بن حَنظلة قال : قُلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام : انّي تَزوجتُ امرأةً فسأَلتُ عَنها فقيلَ فِيها ، فقالَ : أَنتَ لم سأَلتَ أيضاً لَيس عَلَيكُم التَفتيش ؟ » (3) .

« وعن سماعة قال : سأَلته عن رَجلٍ تزوجَ جاريةً أو تَمتَعَ بها فحدَّثَه رَجلٌ ثِقةٌ أَو غَير الثقة فقالَ : انّ هذِهِ إمرأتي وَلَيست لي بَيِّنة ، فقال : إن كان ثِقة فلا يَقربها ، وإن كان غَيرُ ثِقة فلا يَقبل منه » (4) .

( وفيه : ) انّا نقول في ردّ توهم التعارض بين الطائفتين : ( ان مساقها ) أي : مساق الروايات الدالة على عدم السؤل ، والتوبيخ عليه ، هو ( التسهيل ) فانّ الأخبار المانعة عن الاحتياط انّما تمنع عن الاحتياط لأجل التسهيل على العباد ( و ) التسهيل حسنٌ في نفسه . قال سبحانه :« يُريدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ العُسرَ » (5) وقال سبحانه : « مَا جَعَلَ عَلَيكُم في الدِّينِ مِن حَرَج » (6) فالروايات إذن

ص: 383


1- - تهذيب الاحكام : ج7 ص253 ب21 ح18 ، وسائل الشيعة : ج21 ص31 ب10 ح26445 .
2- - تهذيب الاحكام : ج7 ص253 ب21 ح19 ، وسائل الشيعة : ج21 ص32 ب10 ح26446 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص569 ح55 ، وسائل الشيعة : ج20 ص301 ب25 ح25676 .
4- - تهذيب الاحكام : ج7 ص461 ب36 ح53 ، وسائل الشيعة : ج20 ص300 ب23 ح25672 .
5- - سورة البقرة : الآية 185 .
6- - سورة الحج : الآية 78 .

عدمُ وجوب الاحتياط فلا ينافي الاستحبابَ ، ويحتمل التبعيض بين مورد الأمارة على الاباحة وموارد لا يوجد إلاّ أصالة الاباحة ، فيحمل ما ورد من الاجتناب عن الشبهات والوقوف عند الشبهات على الثاني دون الأوّل ، لعدم صدق الشبهة بعد الأمارة الشرعيّة على الاباحة ، فانّ الأمارات في

-------------------

تدلّ على ( عدم وجوب الاحتياط فلا ينافي الاستحباب ) .

ويُمكن أن يقال : انّ عدم السؤل من جهة انّه خلاف حمل فعل المسلم على الصحيح ، وحمله على الصحيح أولى من الاحتياط ، لأنّ الحمل يوجب قوة ثقة الناس بعضهم ببعض وهي تفيد قوة الاجتماع الذي هو مبعث كل خير ، ولو حسن السؤل عن المرأة لحسن السؤل عن الرجل فيما اذا أراد نكاح امرأة دواماً بانّه متزوج أربعاً أم لا ؟ ولحَسُن السؤل عن البايع والمشتري بانّهما غصباً المثمن والثمن أم لا ؟ ولحَسُن السؤل عن الراهن والمرتهن عن مثل ذلك ، والى غيرها وغيرها ممّا يوجب هدم الاجماع .

الرابع : ما ذكره بقوله : ( ويحتمل التبعيض بين موارد ) توجد فيها ( الأمارة على الاباحة ) من يد ، وسوق ، وأرض مسلم ، ونحو ذلك ( وموارد لا يوجد ) فيها ( الاّ أصالة الاباحة ) وحيث انّ الأصل أضعف من الأمارة ( فيحمل ما ورد من ) استحباب ( الاجتناب عن الشبهات ) الموضوعيّة ( و ) كذا ما ورد من ( الوقوف عند الشبهات على الثاني ) أي : في مورد يوجد فيه أصالة الاباحة ( دون الأوّل ) أي : دون الشبهات التي فيها أمارة الحلّ .

وانّما يحمل على ذلك ( لعدم صدق الشبهة بعد الأمارة الشّرعية على الاباحة ، فانّ ) الشارع حيث جعل الأمارة على الحلّ حجة ، لم يَبق معها مجال للعمل بالأخبار الآمرة بالتوقف والاحتياط ، اذ ( الأمارات في

ص: 384

الموضوعات بمنزلة الأدلّة في الأحكام مزيلة للشبهة ، خصوصا إذا كان المراد من الشبهة ما يتحيّر في حكمه ، ولا بيانَ من الشارع لا عموما ولا خصوصا بالنسبة إليه ، دونَ مطلق ما فيه الاحتمال ،

-------------------

الموضوعات بمنزلة الأدلة في الأحكام مزيلة للشبهة ) فكما انّ الأدلة في الأحكام من ظاهر الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، والعقل تزيل الشبهة بالنسبة الى الأحكام ، كذلك الأمارات القائمة على الموضوعات كاليد ، والسوق ، والأرض ، والبينة ، وما أشبه ذلك تزيل الشبهة بالنسبة الى الموضوعات .

( خصوصاً إذا كان المراد من الشبهة : ما يتحيّر في حكمه ، ولا بيان من الشارع لا عموماً ولا خصوصاً بالنسبة اليه ) لفرض انّه لاتحيّر في الحكم حينئذٍ بعد وجود الأمارة التي هي بيان شرعي ، فاذا قال الشارع : السوق حجة كان ذلك بياناً فلا حاجة الى الاحتياط ، لأن الاحتياط في حال التحيّر وبعد أمارية السوق لا تحيّر.

هذا بالنسبة الى الأمارات التي بيّنها الشارع بَياناً عاماً كالسوق ، واليد ، ونحوهما ، وامّا بالنسبة الى الأمارات التي بينّها الشارع بيانا خاصا فلا يوجد الاّ في عصر الحضور ، كما إذا ورد بطريق زُرارة انّ يُونس بن عبدالرّحمان ثقة ، فانّه لا مجال للاحتياط بترك خبر يونس .

هذا لو كان المُراد بالشبهة : مايتحيّر فيها ( دونَ مطلق ما فيه الاحتمال ) وقوله :

«دون» عطف على قوله : « ما يتحيّر في حكمه » فانّ حمل ما ورد من استحباب الاحتياط في الشبهات على مورد لا يوجد فيه الاّ أصالة الاباحة يكون آكد فيما إذا قلنا : بأنّ الشبهة في الروايات يُراد بها : ما يتحيّر الانسان فيها ، لا ما اذا كان المراد بها : ما يحتمل خلافه ، فانّه لو كان المراد بالشبهة : ما يحتمل خلافه ، فلا آكديّة في إستحباب الاحتياط في مورد الاصل لوجود احتمال الخلاف في مورد الأمارة

ص: 385

وهذا بخلاف أصالة الاباحة ، فانّها حكم في مورد الشبهة لا مزيلة لها .

هذا ، ولكن أدلّة الاحتياط لا ينحصر فيما ذكر فيه لفظ الشبهة ، بل العقل مستقلّ بحسن الاحتياط مطلقا .

-------------------

أيضا ، ولذلك قلنا : خصوصاً إذا كان المراد من الشبهة : ما يتحيّر في حكمه ، فانّه على فرض التحيّر يكون الاحتياط في مورد الاصل أولى من الاحتياط في مورد الأمارة ، لأن مورد الأصل فيه تحيّر بخلاف مورد الأمارة حيث لا تحيّر فيه .

ولا يخفى : انّ المراد من التحيّر وعدم التحيّر : النسبيّ منهما ، وإلاّ ففي كلّ من الأصل والأمارة تحيّر في الحكم الواقعي وانّ لم يكن تحير بالنسبة الى الحكم الظاهري .

( و ) عليه : فان ( هذا ) الذي ذكرناه : من انّه لا إحتياط في مورد الأمارة ، انّما هو لأنّ الأمارة تزيل الشبهة ( بخلاف أصالة الاباحة فانّها حكم ) ظاهري ( في مورد الشبهة لأنّ الشارع يقول : إذا شككت فأجرِ أصل الحل ، أو أصل الطهارة ، أو ما أشبه ، فهي ( لا ) تكون ( مزيلة لها ) أي : للشبهة ، بخلاف الأمارة ، اذ الأمارة تقول : الواقع هكذا فلا شبهة لك ،بينما الأصل يقول : إذا كان لك شك وشبهة في الواقع فابن على العمل بهذا الأصل ، ولهذا يستحسن العمل بالإحتياط في مورد الأصل ولا يستحسن في مورد الأمارة فيما إذا لم يتمكن الانسان من العمل بالاحتياط فيهما ودار الأمر بين ترك الاحتياط في مورد الاصل أو ترك الاحتياط في مورد الأمارة .

( هذا ) هو وجه التفصيل بين الاحتياط في مورد الأصل والاحتياط في مورد الأمارة ( ولكن أدلة الاحتياط لا ينحصر فيما ذكر فيه لفظ الشبهة ) حتى يقال : مورد الأصل فيه شبهة ، ومورد الأمارة ليس فيه شبهة ( بل العقل مستقل بحسن الاحتياط مطلقاً ) وهو يشمل الموضوع الذي عليه الأصل أو الأمارة .

ص: 386

فالأولى الحكمُ برجحان الاحتياط في كل موضع لا يلزم منه الحرام ، وما ذكر من أنّ تحديد الاستحباب بصورة لزوم الاختلال عسر ، فهو إنّما يقدح في وجوب الاحتياط لا في حسنه .

الرابع :

إباحةُ ما يحتمل الحرمة

-------------------

وعليه : ( فالأولى ) من هذه الاحتمالات الأربعة التي ذكرناها في كيفية تبعيض الاحتياط الاستحبابي في الشبهة الموضوعيّة : التبعيض الأول ، وهو : ( الحكم برجحان الاحتياط في كلّ موضع لا يلزم منه الحرام ) من الوسواس أو اختلال النظام ، أو ما أشبه ذلك .

( و ) إن قلت : قد ذكرتُم سابقاً انّ تحديد الاستحباب بصورة لزوم الاختلال عسر ، فكيف رجعتُم الى تحديده بهذه الصورة ؟ .

قلت : ( ما ذكر من انّ تحديد الاستحباب بصورة لزوم الاختلال عسرٌ ، فهو انّما يقدح في وجوب الاحتياط لا في حُسنه ) لأنّ العسر انّما يرفع الوجوب لا الاستحباب ، فانّا ان ذكرنا أنّه يجب الاحتياط الى الحد المذكور كان عسراً ، والعُسر رافع للحكم الالزامي ، وأما إذا قلنا : انّه يستحب الاحتياط الى حدّ العسر ، فانّه لا عُسر فيه ، ليرفع العُسر الاستحباب ، لأن الاستحباب ليس حكماً إلزامياً اذ التكليف الاستحبابي أمرٌ سهلٌ جعلَه الشارع بيد المكلّف ، فلا وجه لرفعه ، بخلاف التكليف الوجوبي فانّه حَرجٌ منفيّ بالدليل .

التنبيه ( الرّابع : ) في عدم لزوم الفحص لاجراء البرائة في الشبهة الموضوعيّة مع لزومه في اجرائها في الشبهة الحكمية ، كما قال : ( اباحةُ ما يحتمل الحرمة ) في الشبهات الموضوعيّة ، كما اذا لم نعلم هل هذا المايع خمر أو لا ؟ أو هذا الجلد

ص: 387

غيرُ مختصّة بالعاجز عن الاستعلام ، بل يَشمل القادر على تحصيل العلم بالواقع . لعموم أدلّته من العقل والنقل .

وقوله عليه السلام ، في ذيل رواية مسعدة بن صدقة : « والأشياءُ كلُّها على هذا حتّى يستبينَ لك غيرُه او تَقُومَ بِهِ البيّنةُ » ،

-------------------

صناعي أو من حيوان غير مذكى ؟ وما أشبه ذلك ( غير مختصة بالعاجز عن الاستعلام ، بل يشمل القادر على تحصيل العلم بالواقع ) أيضاً فلا يلزم على الانسان أن يفحص لتحصيل العلم بأنّ هذا خمر أو لا ؟ أو هذا مصنوع أو من الحيوان ؟ .

وانّما يشمل القادر على تحصيل العلم أيضاً ( لعموم أَدلّته ) أي : أدلة الاباحة ( من العقل ) الذي يقول بقبح عقاب الجاهل بالموضوع مطلقاً ، لأنّه من العقاب بلا بيان ( والنّقل ) مثل قوله عليه السلام : « كُلُّ شَيءٍ فِيه حلالٌ وحرامٌ فَهُوَ لَكَ حَلاَلٌ حَتَّى تَعرفَ الحَرام منهُ بعَينِه فَتَدعه » (1) ( وقوله عليه السلام ،في ذيل رواية مَسعدة بن صدقة : والأشياءُ كلّها على هذا ) أي : على الحليّة والجواز ( حَتَّى يَستبينَ لَكَ غَيرُه ) أي : غير الحلّ والجواز من الحرمة والمنع ( أو تَقُومَ بِهِ ) أي : بالحرمة والمنع (البيّنةُ)(2).

أقول : من الممكن أن يُراد بالاستبانة : العلم كما في قوله سبحانه : « حَتَّى يَتَبيَّن لَكم الخَيطُ الأبيَضُ منَ الخَيطِ الأسوَدِ» (3) ولعل الاتيان به من باب الاستفعال لرعاية

ص: 388


1- - من لا يحضره الفقيه: ج3 ص341 ب2 ح4208 ، تهذيب الأحكام : ج9 ص79 ب4 ح72 ، المحاسن : ص495 ح596 ، غوالي اللئالي : ج3 ص465 ح16 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص373 ب33 ح12 .
3- - سورة البقرة : الآية 187 .

فانّ ظاهره حصول الاستبانة وقيام البيّنة لا بالتحصيل ، وقوله « هو لك حلال حتّى يجيئك شاهدان » ، لكن هذا وأشباهه ، مثل قوله عليه السلام في اللحم المشترى من السوق « كُل وَلا تَسأل » ، وقوله عليه السلام : « ليس عليكم المسألةُ ، إنّ الخوارجَ ضَيَّقُوا ،

-------------------

نكتة أدبية فيه ، وهي : انّ الشيء بنفسه يطلب الظهور ، كناية عن استعداده لذلك من غير احتياج الى الدقة العقلية كما أن المراد بالبينّة : امامعناها الشرعي أي : الشهود أو معناها اللغوي أي : الحجّة .

وعليه : ( فانّ ظاهره ) أي : ظاهر هذا الحديث ، انّ الأشياء حلال الى زمان ( حصول الاستبانة وقيام البينة ) يعني : أن يحصل البيان بنفسه وكذلك الشهود ولو على سبيل الاتفاق ( لا بالتحصيل ) أي : لا يجب تحصيلهما بالفحص وما أشبه .

( وقوله ) عليه السلام في السؤل عن أكل الجُبن : ( « هوَ لَكَ حَلاَلٌ حَتَّى يَجيئَك شاهدان » ) (1) على سبيل الاتفاق يشهدان لك : بأنّ فيه الميتة ، ممّا يكون معناه : عدم لزوم الفحص والاستعلام عن حرمته ( لكن هذا وأشباهه ) من الرّوايات (مثل قوله عليه السلام في اللحم المشترى من السوق : « كُل ولا تَسأَل » (2) ، وقوله عليه السلام : «ليسَ عليكُم المسألةُ انّ الخوارجَ ضَيَّقُوا » (3) ) أي : على أنفسهم بالفحص والاجتناب

ص: 389


1- - الكافي فروع : ج6 ص339 ح2 ، وسائل الشيعة : ج25 ص118 ب61 ح31377 ، بحار الانوار : ج65 ص156 ح30 .
2- - الاستبصار : ج4 ص75 ب48 ح1 ، قرب الاسناد : ص47 ، وسائل الشيعة : ج24 ص70 ب29 ح30023 بالمعنى .
3- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص257 ح791 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص368 ب13 ح61 ، قرب = = الاسناد : ص171 ، وسائل الشيعة : ج4 ص456 ب55 ح5706 .

وقوله عليه السلام في حكاية المنقطعة التي تبيّن لها زوج : «لم سألتَ » واردةٌ في موارد وجود الأمارة الشرعيّة على الحلّيّة ، فلا تشمل ما نحن فيه ،

-------------------

عمّا أحلّه اللّه ، كما قال سبحانه : « فَبِظُلمٍ مِنَ الَّذينَ هَادُوا حَرَّمنَا عَلَيهِم » (1) ( وقوله عليه السلام في حكاية المنقطعة التي تَبَيَّنَ ) انّ ( لها زوج ) بعد فحص الرجل عن انّها متزوجة أم لا ، قال عليه السلام ( « لم سألت » ؟ ) (2) فانّ هذه كلها ( واردة في موارد وجود الأمارة الشرعّية على الحليّة ) مثل : السوق ، وأصالة الصحة في عمل المسلم ، وما أشبه ذلك .

إذن : ( فلا تشمل ) هذه الأخبار ( ما نحن فيه ) وهو ما لم تكن فيه أمارة شرعية على الحل مع القدرة على الاستعلام ، بل لا يبعد لزوم الاستعلام في غير ما جرت العادة فيه على عدم الاستعلام ممّا يكشف عن وجود سيرة أو مثلها عليه .

مثلاً : الشاب الذي يتعارف احتلامه في كلّ اسبوع مرة ، هل له انّ يصلي بدون استعلام ويصوم شهر رمضان بدونه ؟ وكذا بالنسبة الى المرأة التي تحيض في كل شهر مرة ؟ وبالنسبة الى تاجر يحتمل انّ له أرباحاً ممّا يجب عليه الخمس ،أو تجب عليه الزكاة ،أو الحج ، أو يشك انّ لزيد عليه عشرون أو ثلاثون درهماً وهو يتمكن من الاستعلام ؟ أو يشك أن القنّينة التي أخذها ممّن يبيع الخمر وسائر الشرابت هي خمر أو شربت ؟ الى غير ذلك .

وإنّما قلنا : لا يبعد لزوم الاستعلام لان الأدلة التي ذكروها في باب الفحص في

ص: 390


1- - سورة النساء : الآية 160 .
2- - وسائل الشيعة : ج20 ص301 ب25 ح25676 .

إلاّ أنّ المسألة غير خلافيّة مع كفاية الاطلاقات .

المطلب الثاني

اشارة

في دوران حكم الفعل بين الوجوب وغير الحرمة من الأحكام وفيه أيضا مسائل :

-------------------

الأحكام بعينها آتية في الموضوعات ، فانّ الفحص الذي هو الطريق العقلائي في باب اطاعة المولى كما هو جارٍ في الأحكام جارٍ في الموضوعات أيضاً .

هذا ( الاّ انّ المسألة ) أي : اجراء البرائة في الشبهات الموضوعية مُجمع عليها ، فهي أولاً : ( غير خلافيّة ) وثانياً : ( مع كفاية الاطلاقات ) دليلاً عليها ، مثل قوله عليه السلام : «كلّ شيء لَكَ حَلال» ، وقوله عليه السلام : «والأشياءُ كلّها على ذلكَ» (1) .

ثم لا يخفى : انّ المصنِّف قد ذكر في ابتداء هذا المبحث :انّه سيبيّن أحكام الشك في ضمن مطالب :

الأول : دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب من الأحكام الثلاثة الباقية .

الثاني : دوران الأمر بين الوجوب وغير التحريم من الأحكام الثلاثة الاُخر .

الثالث : دوران الأمر بين الوجوب والتحريم .

المطلب الثاني

وحيث انتهى من المطلب الأوّل شرع في الثاني فقال : ( المطلب الثاني في دوران حكم الفعل بين الوحوب وغير الحرمة من الأحكام ) الثلاثة الباقية : من الاستحباب ، والكراهة ، والاباحة ( وفيه ايضاً مسائل ) اربع :

ص: 391


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح20253 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب23 ح12 .

الاولى : فيما اشتبه حكمه الشرعيّ الكلّيّ من جهة عدم النصّ المعتبر

كما إذا ورد خبر ضعيف أو فتوى جماعة بوجوب فعل ، كالدعاء عند رؤية الهلال ، وكالاستهلال في رمضان وغير ذلك ، والمعروف من الأخباريين هنا موافقة المجتهدين في العمل بأصالة البراءة وعدم وجوب الاحتياط .

-------------------

( الاُولى : فيما اشتبه حكمه الشرعيّ الكلّي من جهة عدم النّص المعتبر ) عليه وذلك ( كما اذا ورد خبر ضعيف أو فتوى جماعة بوجوب فعل ) أو كانت هناك سيرة محتملة ، أو مناط غير مقطوع به ، أو ما أشبه ذلك ممّا ليس بحجة شرعية الاّ انّها توجب الشبهة (كالدّعاء عند رؤة الهلال ، وكالاستهلال في رمضان وغير ذلك) ممّا ذكر جمع : بأنها واجبات ، وانكر آخرون وجوبها ، فصارت منشأ شبهة للفقيه .

( والمعروف من الأخباريين هنا : موافقة المجتهدين في العمل بأصالة البرائة وعدم وجوب الاحتياط ) .

فالشبهة التحريمية إنّما يحتاط فيها عند الأخباريين ، وأما الشبهة الوجوبية فلا وجوب للاحتياط فيها ، لان كلّ الفقهاء من الأخباريين والاُصوليين يجرون فيها البرائة ، ويدل على ذلك مقالاتهم التي سنذكر جملة

ص: 392

قال المحدّث الحرّ العامليّ في باب القضاء من الوسائل « إنّهُ لا خلافَ في نفي الوجوب عند الشكّ إلاّ إذا علمنا اشتغال الذمّة بعبادة معيّنة وحصل الشكّ بين الفردين ، كالقصر والاتمام والظهر والجمعة وجزاء واحد للصيد او اثنين ونحو ذلك ، فانّه يجب الجمع بين العبادتين ، لتحريم تركهما معا للنصّ وتحريم الجزم بوجوب أحدهما لا بعينه

-------------------

منها : ( قال المحدّث الحرّ العامليّ في باب القضاء ) أي : كتاب القضاء والشهادات ( من الوسائل : انّه لا خلاف في نفي الوجوب عند الشك ) في وجوب فعل ( الاّ اذا ) كان الشك في المكلّف به بأن ( علمنا اشتغال الذّمة بعبادة معينّة وحصل الشك بين الفردين ) هل هذا واجب أو ذاك ؟ ( كالقصر والاتمام ) في بعض موارد السفر ( والظهر والجمعة ) في يوم الجمعة وهذان المثالان من المتباينين ( وجزاء واحد للصّيد أو اثنين ) فيما إذا اصطاد اثنان صيداً واحداً ، فهل الواجب على كلّ واحد منهما نصف الجزاء ، أو جزاء كامل ؟ ( ونحو ذلك ) كوجوب جلسة الاستراحة وعدمه في الصلاة ؟ وهذان المثالان من الأقل والأكثر الاستقلالي في الأوّل والارتباطي في الثاني .

وعليه : ( فانّه يجب الجمع بين العبادتين ) في مثال المتباينين ، والاتيان بالأكثر في مثال الأقل والاكثر، وذلك لانّه من الشك في المكلّف به لا الشك في التكليف ، فانا إنّما نقول بجريان البرائة في الشبهة الوجوبية اذا كان الشك في التكليف .

وانّما قلنا بوجوب الجمع بين العبادتين ( لتحريم تركهما معاً ، للنص ) المُجمل بوجوب احدهما من جهة ( وتحريم الجزم بوجوب احدهما لا بعينه )

ص: 393

عملاً بأحاديث الاحتياط » ، انتهى موضع الحاجة .

وقال المحدّث البحرانيّ في مقدّمات كتابه ، بعد تقسيم أصل البراءة إلى قسمين : « أحدهما : أنّها عبارة عن نفي وجوب فعل وجوديّ ، بمعنى أنّ الأصل عدم الوجوب حتّى يقوم دليل على الوجوب .

وهذا القسم لا خلاف في صحّة الاستدلال به ، إذ لم يقل أحد إنّ الأصل الوجوب » ، وقال في محكيّ كتابه المسمّى بالدّرر النجفيّة :

-------------------

من جهة اُخرى فانّه يحرم الحكم بوجوب أحدهما المخيّر ، فنجمع بين العبادتين ( عملاً بأحاديث الاحتياط ، انتهى موضع الحاجة ) من كلام الحرّ في الوسائل .

( وقال المحدّث البحراني ) الشيخ يوسف رحمه اللّه ( في مقدّمات كتابه ) الحدائق ( بعد تقسيم أصل البرائة الى قسمين ) قال : ( أحدهما : انها ) أي : البرائة ( عبارة عن نفي وجوب فعل وجودي بمعنى : انّ الأصل عدم الوجوب حتى يقوم دليل على الوجوب ) أي : بأن كانت الشبهة حكمية وجوبية في مقابل القسم الثاني الذي ذكره : بأنّها عبارة عن نفي وجوب الترك بمعنى أصالة عدم الحرمة في الشبهة الحكمية التحريمية .

ثمّ قال : ( وهذا القسم ) الأوّل من قسمي البرائة ( لا خلاف في صحة الاستدلال به ) في الشبهة الوجوبية عند الجميع ( اذ لم يقل أحد انّ الأصل الوجوب ) (1) فالاجماع قائم في هذا المقام على البرائة في الشبهة الوجوبية ، بينما القسم الثاني وهو البرائة من الحرمة محل خلاف بين الأخباريين والاُصوليين .

( وقال ) المحدِّث البحراني أيضاً ( في محكي كتابه المسمى بالدّرر النجفيّة :

ص: 394


1- - الحدائق الناضرة : ج 1 ص 43 .

« إن كان الحكم المشكوك دليله هو الوجوب فلا خلاف ولا إشكال في انتفائه حتّى يظهر دليله لاستلزام التكليف بدون دليل الحرجَ والتكليفَ بما لا يطاق » ، انتهى .

لكنّه قدس سره ، في مسألة وجوب الاحتياط

-------------------

انّ كان الحكم المشكوك دليله ) يعني : نشك في أنّ له دليلاً أو ليس له دليل ، انّ كان ( هو الوجوب ) أي : بأن كانت الشبهة حكمية وجوبية ، لا تحريمية (فلا خلاف ولا اشكال في انتفائه) أي : في انتفاء الوجوب بالأصل ، لأن الأصل عدم الوجوب اذ الوجوب أمر حادث لم نعلم انّه حدث أم لا فنحكم بعدمه طبق الأصل ( حتى يظهر دليله ) .

وانّما نحكم بعدمه طبق الأصل ( لاستلزام التكليف بدون الدّليل : الحرج ) اذ لو أردنا أن نحتاط في الشبهات الوجوبية لزمنا احتياطات كثيرة حيث نحتمل وجوب اُمور عديدة مثل :« التصدق » ، و« حق الحصاد » ، و« زيارة الإمام الحسين عليه السلام » و « الأمر بالمعروف المندوب » و« الاتيان بكل مستحب ولو مرة في العمر » ، الى غير ذلك من محتمل الوجوب في مختلف أبواب الفقه لأجل الأوامر الواردة فيها ممّا ظاهرها الوجوب ، ولم يستظهر العلماء منها الوجوب .

ومن الواضح : انّ الاحتياط في كلّ ذلك يوجب أشد انواع الحرج ( والتكليف بما لا يطاق ) (1) امتثاله ، لأنه كيف يمكن امتثال أمر لم يعلم بوجود ذلك الأمر ( انتهى ) كلام المحدّث البحراني المحكي عنه .

( لكنه قدس سره في مسألة وجوب الاحتياط ) أفتى بالاحتياط في الشبهة الوجوبية

ص: 395


1- - الدّرر النجفيّة : ص 25 .

قال بعد القطع برجحان الاحتياط : « إنّ منه ما يكون واجبا ومنه ما يكون مستحبّا ، فالأوّل كما إذا تردّد المكلّف في الحكم ، إمّا لتعارض الأدلّة ، او لتشابهها وعدم وضوح دلالتها ، او لعدم الدليل بالكلّيّة ، بناءا على نفي البراءة الأصليّة ، او لكون ذلك الفرد مشكوكا في اندراجه تحت بعض الكلّيّات المعلومة

-------------------

فانّه ( قال بعد القطع برجحان الاحتياط ) سواء كان واجباً أو مُستحباً ( : ان منه ما يكون واجباً ، ومنه ما يكون مستحباً ، فالأوّل : كما إذا تردد المكلّف في الحكم ) سواء كان حكماً وجوبياً أو تحريمياً .

وأما التردد فهو ( إمّا لتعارض الأدلّة ) بأن يدل أحد الدليلين على الوجوب والدليل الآخر على الحرمة كما حصل مثل : هذا الاختلاف في صلاة الجمعة في عصر الغيبة .

( أو لتشابهها ) أي : تشابه الأدلّة ممّا يسبب اجمالها ( وعدم وضوح دلالتها ) كما اذا كانت مرددة بين المتباينين .

( أو لعدم الدّليل بالكلّية ) كما في صورة فقد النص المعتبر - مثلاً - على الدعاء عند رؤة الهلال في الشبهة الوجوبية ، وعلى شرب التتن في الشبهة التحريمية .

ولا يخفى : انّ هذا الكلام من المحدّث البحراني دال على انّه يلزم الاحتياط في الشبهة الوجوبية ، وذلك ( بناءاً على نفي البرائة الأصليّة ) أي : اذا لم نقل بأن مثل هذه الصورة الثالثة وهو : فقد الدليل ، مورد للبرائة ، فانّ الانسان كان غير مكلّف قبل الشرع ، فاذا جاء الشرع لم يعلم هل انّه كلّف بشيء أو لم يكلف ، فيستصحب عدم التكليف .

( أو لكون ذلك الفرد مشكوكاً في اندراجه تحت بعض الكليّات المعلومة

ص: 396

الحكم أو نحو ذلك .

-------------------

الحكم ) بأن لم يكن الأمر من المتباينين بل من الأقل والأكثر ، كالمثال السابق الذي ذكرناه : بأنا نعلم بأن الخمر شامل للمسكر قطعاً ، لكن لا نعلم هل انّه يشمل الذي فقد اسكاره أم لا ؟ فانّ هذا الفرد - وهو الخمر الذي لا يسكر - مشكوك في اندراجه تحت حرمة الخمر .

( أو نحو ذلك ) كما اذا كان الحكم على فرد مع احتمال انّ ملاكه آت في الكلي الشامل لذلك الفرد وغيره ، كما اذا قال : أكرم علماء الفقه ، واحتملنا أن ملاكه آت في علماء الكلام .

انتهى الجزء السابع

ويليه الجزء الثامن

في تتمة أقوال الاخباريين

بالبرائة في الشبهة الوجوبية

ونحمده على آلائه ونعمائه

ص: 397

ص: 398

المحتويات

تتمّة استدلال الاُصوليين بالسنّة... 5

الثالث : الاجماع ... 52

الرابع : العقل ... 68

أدلّة اخرى للبرائة ... 81

أدلّة الإخباريين ... 95

الأوّل : الكتاب ... 95

الثاني : السنّة ... 101

الثالث : العقل ... 203

الوجه الأوّل : قاعدة الاشتغال ... 204

الوجه الثاني : القاعدة العقليّة ... 218

تنبيهات

التنبيه الأوّل : ... 225

التنبيه الثاني : ... 247

التنبيه الثالث : ... 251

التنبيه الرابع : ... 263

التنبيه الخامس : ... 276

التنبيه السادس : ... 287

ص: 399

المسألة الثانية : اجمال النص ... 293

المسألة الثالثة : تعارض النصّين ... 297

المسألة الرابعة : الاشتباه في بعض الاُمور الخارجية ... 308

تنبيهات

التنبيه الأوّل : ... 338

التنبيه الثاني ... 350

التنبيه الثالث : ... 376

التنبيه الرابع : ... 387

المطلب الثاني : دوران الفعل بين الوجوب وغير الحرمة ... 391

المسألة الاولى : عدم النص ... 392

المحتويات ... 398

ص: 400

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.