الوصائل الى الرسائل المجلد 5

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

ص: 4

الوصائل الى الرسائل

تتمّة المقصد الثاني: «تتمّة بحث الانسداد»

اشارة

ص: 5

ص: 6

والجواب : عن هذا الوجه أنّ أدلّة نفي العسر ، سيّما البالغ منه حدّ إختلال النظام ، والاضرار باُمور المعاش والمعاد ، لا فرقَ فيها بينَ ما يكون بسبب يسند عرفاً الى الشارع ، وهو

-------------------

ثم لا يخفى : إنّ عسر الاجتهاد في زماننا - هذا - بخلاف الأزمنة السابقة كزمان شيخ الطائفة وابن ادريس ومن أشبههما - نشأ بسببّ كثرة الاحتمالات التي أبداها الفقهاء في مختلف أبواب الفقه ، فهو مثل ما اذا كان كتاب الطب منحصراً في قانون ابن سينا فانّ الشخص كان يصير طبيباً بقرائته ، أما اذا جاء بعده مائة طبيب ، وكتب كلّ منهم كتاباً فهل يعذر الطبيب في جهله اذا لم يقرأ الاّ كتاب ابن سينا ؟ .

لا يقال : يكفينا الكتاب والسنّة ، فنرجع إليهما كما رجع شيخ الطائفة اليهما .

لأنّه يقال : لا حقّ لنا في الاكتفاء بالرجوع اليهما دون الرجوع الى إجتهادات أعاظم الفقهاء حولهما ، اذ لو فرض عدم توصل شيخ الطائفة الى الحكم بعد رجوعه اليهما ، كان معذوراً عند العقل والعقلاء ، لأنّه لم يملك أكثر من ذلك ، بخلاف ما اذا جهلنا الحكم ، فالشارع الحكيم يقول لنا : أنتَ كُنتَ تملك التوَصل الى الحكم فلماذا تركته ؟ .

وعليه : فمثل الاجتهاد اليوم مثل كلّ علم ينمو ، حيث المتأخر يملك أكثر ممّا يملك المتقدّم ، فلا يُعذَر المتأخر في جهله وتخطبه ، وإن كان المتقدَّم يُعذر في ذلك .

( والجواب عن هذا الوجه : إنّ أدلّة نفي العُسر سيّما البالغ منه ) أي : من العُسر ( حدّ إختلال النظام ، والاضرار باُمور المعاش والمعاد ) بأنّ يكون العُسر والحَرج شديدين ، فانّه ( لافرق فيها ) أي : في أدلة نفي العسر ( بين ما يكون بسبّب يسند عرفاً الى الشارع ، وهو ) أن يكون الشارع بنفسه قد سبّب ذلك ، كما إذا جعل

ص: 7

الذي اُريد بقولهم عليهم السلام : « ما غَلَبَ اللّهُ علَيهِ فاللّه أولى بالعُذرِ » ، وبينَ ما يكون مسنداً الى غيره .

ووجوبُ صوم الدّهر على ناذرة اذا كان فيه مشقّة لا يتحملّ عادةً ممنوعٌ.

وكذا أمثالها من المشي الى بيت اللّه جلّ ذكره ، وإحياء

-------------------

صلاة حرجيّة ، أو صوماً حرجيّاً ، وهكذا ، فان هذا والعُسر المسند الى الشارع ، هو ( الذّي اُريد بقولهم عليهم السلام :« ما غَلبَ اللّهُ عَليهِ فاللّه أولى بالعُذر » ) (1) .

وعليه : فان معنى هذاالحديث : هو إن ما سبّب اللّه عُسره أو استحالته ، فانّ اللّه يَعذر الانسان في تركه ، كما اذا جاءت صاعقة فجففت المياه ، فاللّه لا يريد من الانسان الطهارة المائية ، أو جاء مرض فتمرض الانسان بحيث لا يتمكن من القيام في الصلاة أو الصيام ، فاللّه لا يريد القيام في الصلاة أو الصيام منه ، وفي هذا الحديث دلالة على سقوط العُسر الذي لم يكن الانسان هو السبب فيه .

وعليه : فلا فرق بين ذلك ( وبين ما يكون ) العُسر ( مسنداً الى غيره ) لأنّ كليهما عُسر ، واطلاق أدلة نفي العُسر يرفع كليهما .

( و ) أما ما قيل : من إنّ الناذر اذا أوجب على نفسه شيء ، وجب عليه مع إنّه عُسر ، ممّا يدل على أنّ العسر المرفوع هو العسر الآتي من قبل الشارع ، لا من قبل العبد نفسه ، فنقول في جوابه : ( وجوب صوم الدّهر على ناذره ، اذا كان فيه مشقّة لا يتحملّ عادة ممنوعٌ ) فلا نقول : بوجوب صوم الدهر وإن أوجب الناذر ذلك الصوم على نفسه ، فان أدلة النذر منصرفة على مثل ذلك ، أو أنّ أدلة العُسر مخصّصة لمثل ذلك ( وكذا أمثالها من المشي الى بيت اللّه جلّ ذكره ، وإحياء

ص: 8


1- - الكافي فروع : ج3 ص412 ح1 وقريب منه في علل الشرائع : ص271 والمناقب : ج2 ص36 .

الليالي ، وغيرهما ، مع إمكان أن يقال بانّ ما ألزمه المكلّف على نفسه من المشاقَ خارج من العمومات ، لا ما كان السببُ فيه نفس المكلّف ، فيفرّق بين الجنابة متعمداً فلا يجب الغُسلُ مع المشقّة ، وبين اجازة النفس للمشاق ،

-------------------

اللّيالي وغيرهما ) فانّ دليل نفي العُسر يرفع كل ذلك .

هذا ( مع إمكان أن يقال ) بجواب آخر غير الجواب الأوّل ، فان في كلام المصنّف الأول الذي بينّه بقوله : والجواب عن هذا الوجه ، أراد بيان أنّ العُسر مطلقاً مرفوع ، سواء كان من قبل الشارع ، أم من قبل المكلَّف ، وفي هذا الجواب يريد بيان إنّ العُسر الآتي من قبل المكلّف قسمان : قسمٌ منه مرفوع ، كما اذا أجنب وكان الغُسل مشقةً عليه حيث هذا الغُسل مرفوع ، ويبدّله بالتيمم ، لانّ الشارع أوجب الغُسل بعد الجنابة ، لا إن العقلاء فعلوا ذلك .

وقسمٌ ليس بمرفوع ، كالإجارة الشاقة حيث إنّ العقلاء أوجبوا العمل عليه والشارع أمضاه ، لا انّ الشارع جعله كما جعل غُسل الجنابة .

وعليه : فالجواب هنا بالتفصيل : ( بأنّ ما الزمه المكلّف على نفسه من المشاق ، خارج من العمومات ) أي : من عمومات أدلة نفي العُسر ( لا ما كان السبّب فيه نفس المكلّف ، فيفرّق بين الجنابة متعمّداً فلا يجب الغُسل مع المشقة ) لأنّ المكلّف لم يلزم وجوب الغُسل على نفسه ، بل اجنبَ وإنّما الشارع هو الذي أوجبَ الغُسل اذا تحقق هذا الموضوع ، وحيث إنّ الشارع لا يوجب الحكم الشاق ، لا يوجب عليه الغُسل بل يبدّله بالتيمم .

( وبين إجازة النفس للمشاق ) فانّ المكلَّف - هو الذي ألزم الأمر الشاق على نفسه ، من دون مدخلية للشارع ، والعقلاء هم الذين يوجبون العمل بالاجازة على

ص: 9

فإنّ الحكمَ في الأوّل تأسيسٌ من الشارع وفي الثاني إمضاءٌ لما ألزمه المكلّفُ على نفسه ، فتأمل .

وأمّا الاجتهادُ الواجبُ كفايةً عن إنسدادا باب العلم ، فمع أنّه شيء يقضي بوجوبه الأدّلة القطعيّة ، فلا ينظر الى تعسره وتيسّره .

فهو ليس أمراً حرجاً خصوصاً بالنسبة الى أهله ، فانّ مزاولة العُلوم لأهلها ليس بأشقّ من أكثر المشاغل الصّعبة التي يتحملّها النّاسُ لمعاشهم .

-------------------

هذا الشخص والشارع أمضاه .

وعليه : ( فانّ الحكم في الأوّل : ) أي : الغُسل ( تأسيس من الشارع ، وفي الثاني : ) أي الاجارة ( إمضاء لما ألزمه المكلّف على نفسه ) فينهما فرق في أنّ احدهما مرفوع ، والآخر غير مرفوع .

( فتأملّ ) ولعله إشارة الى أنّه لا يفرق بين القسمين بعد أن الشارع أوجب الغُسل وأمضى الاجارة ، فالشارع بالتالي هو السبب في المشقة .

( وأمّا الاجتهاد الواجب كفاية عند إنسدادا باب العلم ،فمع انّه ) أوّلاً : ( شيء يقضي بوجوبه الأدلّة القطعيّة ، فلا ينظر الى تعسره وتيسّره ) كما لا ينظر الى ما يكون عُسراً وهو واجب شرعاً ، كالجهاد ونحوه .

وثانياً : ( فهو ليس أمراً حَرجاً ، خصوصاً بالنّسبة الى أهله ) من طلبة العلم الذّين يُحبون الاجتهاد قربةً الى اللّه سبحانه وتعالى تحصيلاً لرضاه وثوابه ( فانَّ مزاولة العلوم لأهلها ، ليس بأشق من أكثر المشاغل الصعّبة التي يتحمّلها الناس لمعاشهم ) إذ الاجتهاد أسهل من عمل البنّاء والنجّار والحدّاد ، وما اشبه ذلك .

نعم ، في الاجتهاد جُهدٌ فكري ، وفي تلك الاُمور جهد بدني ، وحيث أنّ الفكر

ص: 10

وكيف كان فلا يقاسُ عليه .

وأمّا عملُ العباد بالاحتياط ومراقبة ما هو أحوط الأمرين أو الاُمور في الوقائع الشخصيّة اذا دار الأمر فيها بين الاحتياطات المتعارضة ،فانّ هذا دُونَهُ خَرطُ القَتاد ، إذ أوقات المجتهد لا تفي بتمييز موارد الاحتياطات ، ثمّ إرشاد المقلَّدين الى ترجيح بعض الاحتياطات على بعض ، عند تعارضها في الموارد الشخصيّة التي يتّفِق للمقلّدين .

-------------------

وراء الاجتهاد ، والفكر افضل من العمل البدني ، كان الاجتهاد أفضل ، كما ان الأمر كذلك بالنسبة الى الطب ، والهندسة ، ونحوهما ، فانّها افضل من الأعمال البدنية ، وقد ذكرنا في كتاب : « الفقه الاقتصاد » (1) تفصيل هذا الامر .

( وكيف كان : فلا يقاس ) الاحتياط عند الانسداد ( عليه ) أي : على الاجتهاد ، حتى يقال : انّه كما يجب الاجتهاد ، مع عسره يجب الاحتياط مع عسره .

( وأمّا عمل العباد بالاحتياط ) عند الانسداد ( ومراقبة ما هو أحوط الأمرين ، أو الاُمور في الوقائع الشخصيّة ) لكلّ مكلّف مكلّف ، ( اذا دار الأمر فيها ) أي : في الوقائع الشخصيّة ( بين الاحتياطات المتعارضة ، فانّ هذا ) الاحتياط ( دونَه ) وأسهل منه ( خرط القتاد ) فلا ينبغي أن يقاس على الاجتهاد ويقال : كما انّ الاجتهاد عُسرٌ ومع ذلك واجب كذلك الاحتياط عند الانسداد عسر لكنّه واجب .

( إذ أوقات المجتهد لاتفي بتمييز موارد الاحتياطات ) من أول الفقه الى آخر الفقه ( ثمّ إرشاد المقلَّدين الى ترجيح بعض الاحتياطات على بعض عندتعارضها في الموارد الشخصيّة التي يتفق للمقلدين ) كما اذا كان آخر الوقت ، ودار أمر

ص: 11


1- - موسوعة الفقه : ج107 - 108 للشارح .

كما مثّلنا لك سابقاً بالماء المستَعمل في رفع الحَدث الأكبر .

وقد يرد الاحتياط بوجوه اُخر غير ما ذكرنا من الاجماع والحَرج .

منها : إنّه لا دليل على وجوب الاحتياط وأنّ الاحتياط أمرٌ مستحبّ اذا لم يوجب إلغاء الحقوق الواجبة .

وفيه :

-------------------

الصلاة بين قرائة السورة فيها ، فيقع بعض الصلاة خارج الوقت ، فهما احتياطان متعارضان يحتاج الفقيه الى ترجيح هذا على ذاك أو بالعكس .

و ( كما مثّلنا لك سابقا ) في الاحتياطات المتعارضة ( بالماء المستَعمل في رفع الحدث الأكبر ) ممّا لا داعي الى تكراره .

هذا ( وقد يردّ ) لزوم ( الاحتياط ) عند الانسداد ( بوجوه اُخر غير ما ذكرنا من الاجماع ، والحرج ) ممّا تقدّم ، وقد اشار اليها المصنّف بقوله : ( منها : إنّه لا دليل على وجوب الاحتياط ، وإنّ الاحتياط أمرٌ مستحب اذا لم يوجب إلغاء الحقوق الواجبة ) كما إذا علم بانّه مديون لأحد شخصين من دون تعيين فالغاء الاحتياط ، والاستناد الى أصالة البرائة بالنسبة الىّ كلّ واحد منهما يوجب الغاء حق واجب عليه ، وكذا إذا أوجب الاحتياط في الصلاة تكرارها في ثياب متعدة بعضها نجس ممّا يوجب عدم تمكنه من تحصيل المعاش الواجب لزوجته وسائر واجبي النفقة عليه .

( وفيه : ) إذا لوحظ الاحتياط في كلّ واقعة واقعة وحدها وفي نفسها بدون إرتباطها بسائر الوقائع فلا بأس بالقول بعدم وجوب الاحتياط فيها ، لجريان البرائة في كل واقعة واقعة ، أما اذا لوحظ كل الوقائع معاً فمقتضى العلم الاجمالي الناشيء من الانسداد - لأن الكلام على فرض الانسداد - هو لزوم الاحتياط في الجميع .

ص: 12

إن أُريد أنّه لا دليل على وجوبه في كلّ واقعة اذا لوحطت مع قطع النظر عن العلم الاجمالي بوجود التكليف بينها وبين الوقائع الاُخر فهو مسلّمٌ بمعنى أنّ كلّ واقعة ليست ممّا يقتضي الجهلُ فيها بنفسها للاحتياط بل الشّكّ فيها إن رجع الى التكليف ، - كما في شرب التتن ووجوب الدّعاء عند رؤة الهلال - لم يجب فيها الاحتياط ، وإن رجع الى تعيين المكلّف به ، كالشّك فيالقصر والإتمام والظهر والجمعة ، وكالشك في مدخليّة شيء في العبادات ،

-------------------

إذن : ( إن اُريد ) باستحباب الاحتياط : ( انّه لا دليل على وجوبه ) أي : الاحتياط ( في كلّ واقعة اذا لوحظت ) وحدها ، اي : ( مع قطع النظر عن العلم الاجمالي ) الناشيء من الانسداد ( بوجود التكليف بينها وبين الوقائع الاُخر ، فهو ) اي :عدم وجوب الاحتياط فيها ( مسلّم بمعنى : إن كل واقعة ) بوحدها ( ليست ممّا يقتضي الجَهل فيها بنفسها ) مستقلاً ( للاحتياط ) الجار والمجرور متعلق ب«يقتضي» .

( بل الشك فيها ) أي : في الواقعة ( إنّ رجع الى التكليف ، كما في شرب التتن) في الشك التحريمي ( ووجوب الدعاء عند رؤية الهلال ) في الشك الوجوبي ( لم يجب فيها ) أي : في كل واقعة ( الاحتياط ) لأنّه من الشك في التكليف ، والشّك في التكليف مجرى البرائة .

( وإن رجع الى تعيين المكلّف به ) مع العلم بالتكليف ( كالشك في القصر والاتمام ، والظّهر والجمعة ) حيث يعلم الانسان بوجوب صلاة عليه لكنّه لا يعلم هل انّها قصر أو تمام ، أو انّها ظهر أو جمعة ؟ .

( وكالشّك في مدخلّية شيء في العبادات ) جزءاً أو شرطاً ، بأن شّك مثلاً - في انّه هل يجب جلسة الاستراحة في الصلاة ؟ أو انّه هل يجب عدم نية القطع

ص: 13

بناءا على وجوب الاحتياط فيما شّك في مدخليّته وجب فيها الاحتياط ، لكن وجوب الاحتياط في ما نحن فيه في الوقائع المجهولة من جهة العلم الاجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات فيها ، وإن كان الشكّ في نفس الواقعة ، شكّاً في التكليف .

ولذا ذكرنا سابقاً أنّ الاحتياط هو مقتضى القاعدة الأوّلية عند إنسداد باب العلم .

-------------------

والقاطع في الصوم ، وهكذا .

وذلك ( بناءاً على وجوب الاحتياط فيما شك في مدخليّته ) أي : بأن لا نقول بالبرائة في الشك في الجزء والشرط في المركّب الارتباطي ، فعند ذلك ( وجب فيها الاحتياط ) لأنّه مقتضى العلم الاجمالي .

( لكن وجوب الاحتياط فيما نحن فيه في الوقائع المجهولة ) حيث إنسدّ باب العلم ، ونحن نعلم بوجود أحكام كثيرة في المشكوكات والمظنونات والموهومات ( من جهة العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات فيها ) أي : في الوقائع المجهولة ، فانّه ( وإن كان الشكّ في نفس الواقعة ) الشخصّية مثل الدعاء عند رؤية الهلال ، أو شرب التتن ، ( شكاً في التكليف ) لكنّه لا يلاحظ كل واقعة واقعة حتى يكون المجرى : البرائة ، بل إنّما يلاحظ الاحكام مجموعة - كما سبق الاشارة اليه - .

( ولذا ذكرنا سابقاً : انّ الاحتياط هو مقتضى القاعدة الأوليّة عند إنسداد باب العلم ) فلا يقال : إنّ كل واقعةٍ واقعة مشكوك ، فاللازم جريان البرائة ، فان المشهور قالوا بوجوب الاحتياط في كل إطراف العلم ، وإن قال بعض : بإنّه لا يلزم الاّ الموافقة الاحتمالية بالعمل ببعض إطراف العلم لا كل الأطراف ، وبعض : بأنّه

ص: 14

نعم ، من لا يوجب الاحتياط حتى مع العلم الاجمالي بالتكليف فهو يستريح عن كلفة الجواب عن الاحتياط .

ومنها : إنّ العملَ بالاحتياط مخالفٌ للإحتياط ، لانّ مذهبّ جماعة من العلماء بل المشهور بينهم إعتبارٌ معرفة الوجه بمعنى تمييز الواجب عن المستحبّ إجتهاداً أو تقليداً .

قال في الارشاد ، في أوائل الصلاة : « يجب معرفةُ واجب أفعال الصلاة من

-------------------

لا يلزم شيء اطلاقاً ، فالعلم الاجمالي لا يلزم موافقته القطعيّة ولا موافقته الاحتمالية .

( نعم ، من لا يوجب الاحتياط حتى مع العلم الاجمالي بالتكليف ، فهو يستريح عن كلفة الجواب عن الاحتياط ) لأنّه يقول : إنّا وإن كنّا نعلم بوجود واجبات ومحرّمات ، الاّ إنّ علم اجمالي في أطراف الظنون والشكوك والأوهام ، والعلم الاجمالي لا يلزم موافقته اطلاقاً .

( ومنها ) أي : من الايرادات على الاحتياط عند الانسداد ( :إنّ العمل بالاحتياط مخالفٌ للإحتياط ) وإذا كان العمل بالاحتياط مخالفاً للاحتياط ، فاللازم تركه لا فعله ( لأنّ مذهبَ جماعة من العلماء بل المشهور بينهم ) خصوصاً القدماء (إعتبارُ معرفِة الوجه) عند إتيان الانسان بالعبادة والوجه ( بمعنى تمييز الواجب عن المستحب اجتهاداً أو تقليداً ) فالذي يشرع فيالصلاة يلزم عليه أن يعرف إنّ الحَمد واجبٌ والقنوت مستحب وهكذا ، ويدلّ على ذلك تصريحاتهم في الكتب الفقهية في باب العبادات .

مثلاً : ( قال في الارشاد في أوائل الصلاة : يجب معرفة واجب أفعال الصلاة من

ص: 15

مندوبها وإيقاع كلّ منهما على وجهه » .

وحينئذٍ : ففي الاحتياط إخلالٌ بمعرفة الوجه التي أفتى جماعةٌ بوجوبها وباطلاق بطلان عبادة تارك طريقيّ الاجتهاد والتقليد .

وفيه : أوّلاً : أنّ معرفةَ الوجه ممّا يمكنُ ، للمتأملّ في الادلّة وفي إطلاقات العبادة

-------------------

مندوبها ، وإيقاع كلّ منهما على وجهه ) فإذا أراد قراءة الحمَد يجب عليه أن ينوي الوجوب ، وإذا أراد القنوت يجب عليه نيّة النّدب ، وهكذا .

( وحينئذٍ ) أ¨ : حين كان معرفة الوجه واجبة في العبادات ( ففي الاحتياط إخلال بمعرفة الوجه التي افتى جماعةٌ : بوجوبها ، وبإطلاق بطلان عبادة تارك طريقيّ الاجتهاد والتقليد ) وإن كان آتياً بالاحتياط ، فانّه اذا لم يعلم - مثلاً - ان جلسة الاستراحة واجبة أو مستحبة ، لا يجوز أن يأتي بها ، لانّه لا يتمكن أن ينوي بها الوجوب ولا الاستحباب ، لانّه لا يعلم هذا أو ذاك ، وهكذا في سائر أبواب الاحتياطات ، فالاحتياط بإتيان جميع المظنونات والمشكوكات والموهومات عند إنسداد باب العلم خلاف الاحتياط فلا يجوز .

( وفيه أولاً : ان معرفة الوجه ) أي : لزوم أن يعرف المكلّف الوجه فيما يأتي به من العبادات وأن أي شيء منها واجب وأيّ شيء منها مستحب ( ممّا يمكنُ للمتأمّل في الأدلّة ) نفيها فان سكوت الكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل عنها ، يدلّ على العدم ، وإنّه لو وجَب الوجه لزم التنبيه عليه ، فعدم التنبيه دليل العدم .

( وفي اطلاقات العبادة ) مثل قوله تعالى :«أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمسِ الى غَسَقِ

ص: 16

وفي سيرة المُسلمين وفي سيرة النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم والائمّة عليهم السلام مع الناس ، الجزمُ بعدم اعتبارها حتى مع التمكّن من المعرفة العلميّة .

ولذا ذكر المحقّق قدس سره كما في المدارك في باب الوضوء : « إنّ ما حقّقه المتكلّمون من وجوب ايقاع الفعل لوجهه

-------------------

اللّيل»(1) وقوله تعالى :«كُتبَ عَليكمُ الصَّيام كَمَا كُتِبَ على الَّذينَ مِنَ قَبلِكمُ» (2) وقوله سبحانه :«وَللّهِ على النّاسِ حجُّ البيتِ مَنْ إستَطاع إليهِ سَبِيلاً» (3) الى غير ذلك .

( وفي سيرة المُسلمين ) حيث جَرت سيرتهم على عدم قصد الوجه في الصلاة وغيرها .

( وفي سيرة النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم والائمة عليهم السلام مع الناس ) فانّهم بيّنوا للناس الأجزاء ، والشرائط ، والموانع ، والقواطع ، ولم يذكروا الوجه .

وعليه : فالمتأمّل يحصل له ( الجزم بعدم إعتبارها ) أي : عدم إعتبار معرفة الوجه ( حتى مع التمكن من المعرفة العلمّية ) فانّ الانسان الذي يعلم انّ الحمد واجبٌ والقنوت مستحبٌ ، لا يلزم أن ينوي الوجوب عند قراءة الحمَد ، ولا الندّب عند القنوت .

( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه : من عدم اعتبار قصد الوجه حتى مع التمكن من المعرفة العلميّة ( ذكر المحققّ قدس سره كما ) نقل عنه ( في المدارك في باب الوضوء ) من ( انّ ما حققّه المتكلّمون : من وجوب إيقاع الفعل لوجهه ) يعني : إنّه يقصد

ص: 17


1- - سورة الاسراء : الآية 78 .
2- - سورة البقرة: الآية 183 .
3- - سورة آل عمران : الآية 97 .

أو وجه وجوبه كلام شعريّ » وتمامُ الكلام في غير هذا المقام .

وثانياً : لو سلّمنا وجوبَ المعرفة أو احتمال وجوبها الموجب للإحتياط ، فانّما هو مع التمكّن من المعرفة العلميّة .

أما مع عدم التمكّن فلا دليل عليه

-------------------

الوجوب اذا كان واجباً ، او الندّب اذا كان ندباً .

( أو وجه وجوبه ) بمعنى : الاتيان بالفعل الواجب أو المندوب بقصد كون وجوبه أو إستحبابه لطفاً ، أو الاتيان بقصد الشكر ، أو لأجل أمر اللّه سبحانه وتعالى ، أو جميع ذلك - على ما ذكره الشهيد الثاني ، وغيره - فان كلّ ذلك ( كلام شعريّ ) تخيلي ، وليس كلاماً برهانياً ، والمراد بالشعر : ما ذكره المنطقيون في الصناعات الخمس .

وعليه : فلا يجب أن يأتي الانسان بالحَمد في الصلاة بقصد إنّه واجب ، ولا بقصد إنّه شكر للّه سبحانه وتعالى ، ولا بقصد إنّه واجب شكراً للّه تعالى بالجَمع بين الأمرين ، وهكذا .

( وتمام الكلام ) في عدم لزوم الوجه ياتي إنشاء اللّه ( في غير هذا المقام ) من الاُصول ، اذ ليس مقامه هنا - كما هو واضح - .

( وثانياً : لو سلّمنا وجوب المعرفة ، أو احتمال وجوبها ) بأن كانت الأدلة الدالة على وجوب المعرفة غير كافية لافادة الوجوب ، بل تكفي لاحتمال الوجوب ( الموجب ) ذلك لاحتمال ( للاحتياط ، فانّما هو مع التمكن من المعرفة العلميّة ) بانّ يتمكن الانسان من تحصيل العلم بأنّ الحَمد - مثلاً - واجب ، وإنّ القنوت مستحب .

( أما مع عدم التمكّن ) من المعرفة العلميّة ( فلا دليل عليه ) أي : على وجوب

ص: 18

قطعاً ، لأنّ إعتبار معرفة الوجهِ إن كان لتوقّف نيّة الوجه عليها ، فلا يخفى أنه لا يجدي المعرفة الظنيّة في نيّة الوجه ، فانّ مجرّد الظنّ بوجوب شيء لا يتأتى معه القصد لوجوبه ، اذ لابدّ من الجزم بالنيّة ، ولو اكتفى بمجرّد الظنّ بالوجوب ولو لم يكن نيّة حقيقةً فهو ممّا لا يفي بوجوبه ما ذكروه في اشتراط نيّة الوجه .

-------------------

المعرفة ( قطعاً ، لأنّ إعتبار معرفة الوجه إن كان ،لتوقفّ نيّة الوجه عليها ) اي : على المعرفة العلمية بمعنى : إنّ الانسان يجب عليه أن يعرف الوجه ، حتى يتمكن من أن ينوي الوجه عند إرادة الصلاة وسائر العبادات .

وعليه : ( فلا يخفى : إنّه لا يُجدي المعرفة الظنيّة في نيّة الوجه ) فانّ الانسان اذا ظنّ الوجوب ، أو ظنّ الاستحباب ، لم يكف هذا الظنّ في أن ينوي الوجه ، فاذا ظنّ - مثلاً - بانّ جلسة الاستراحة واجبة ، فهل يتمكن أن يقول في قلبه : انّي آتي بجلسة الاستراحة التي هي واجبة ؟ .

( فانّ مجرد الظّن بوجوب شيء لا يتأتى معه القصد لوجوبه ) فانّ الانسان اذا لم يعرف الوجوب ، كيف ينوي الوجوب ؟ ولو نواه فرضاً كانت نيته اعتباطاً ( اذ لابدّ من الجزم بالنيّة ) اذ بدون الجزم بالنيّة لا تصدق العبادة فكما يحتاج الى الجزم بالنسبة الى ذات العبادة كذلك يحتاج الى الجزم بسائر خصوصياتها ، والتي من تلك الخصوصيات الوجه .

( ولو ) قلت : ( إكتفى بمجرّد الظنّ بالوجوب ولو لم يكن نيّة حقيقةً ) بان يقول المصلّي : آتي بجلسة الاستراحة بظنّ الوجوب .

قلت : هذا غير كاف ( فهو ممّا لا يفي بوجوبه ) اي : بوجوب الوجه ، ويدلّ عليه ( ما ذكروه في اشتراط نية الوجه ) فانّ دليلهم على لزوم نيّة الوجه ، يدلّ على

ص: 19

نعم ، لو كان الظنّ المذكور ممّا ثبت وجوبُ العمل به ، تحقق معه نيّة الوجه الظاهريّ على سبيل الجزم ، لكنّ الكلام بعدُ في وجوب العمل بالظنّ ، فالتحقيقُ إنّ الظنّ بالوجه اذا لم يثبت حجّيته فهو كالشكّ فيه لا وجهَ لمراعاة نيّة الوجه معه أصلاً .

-------------------

لزوم أن يأتي بالوجه قاطعاً لا ظانا .

( نعم ) لو قيل : بأنّه كلّما لزم علماً قام مقامه بالظنّ ، فنية الوجوب كانت لازمة علماً بأن يعلم المصلّي انها واجبة ، والحال حيث لا يعلم بالوجوب يكفي ظنّاً بأن ينوي المصلّي - مثلاً - أجلس جلسة الاستراحة لظنّ وجوبها ، فانّه ( لو كان الظنّ المذكور ممّا ثبت وجوب العمل به ) أي : بهذا الظن ( تحقق معه نيّة الوجه الظاهري على سبيل الجزم ) .

قلنا : ( لكن الكلام بعدُ في وجوب العمل بالظنّ ) فان ثبت العمل بالظنّ وإنّه يقوم مقام العلم ، تمكن أن يأتي بالوجه الظنّي ، لكن ذلك لم يثبت بعدُ ، ولذا قال بعض المحشّين : فوجوب العمل بالظنّ يتوقف على بطلان الاحتياط ، فلو توقف بطلان الاحتياط على وجوب العمل بالظنّ لزم الدّور المصرَّح .

ثم إنّ الدّليل على ما ذكره من قوله : « لا يفي بوجوبه ما ذكروه » الخ ، هو ما ذكره كاشف اللّثام ، حيث قال : الوجوب والنّدب ، والأداء والقضاء إنّما يجبان يعني : يجب قصدهما في الصلاة لأنّها إنّما تتعين بهما .

وحاصله : إنّ إعتبار قصد الوجه ، إنّما هو لتمييز المأتي به عن غيره حيث يكون مشتركاً ، ومن الواضح : انّ الظنّ لا يكفي في ذلك التمييز ( فالتحقيق أنّ الظنّ بالوجه اذا لم يثبت حجيته ) أي : حجيّة هذا الظنّ ( فهو كالشّك فيه ) أي : في الوجه ، و ( لا وجه لمراعاة نيّة الوجه معه ) أي : مع الظنّ ( اصلاً ) فانّ الظنّ

ص: 20

وإن كانَ إعتبارُها لأجل توقّف الامتثال التفصيلي المطلوب عقلاً وشرعاً عليه - ولذا اجمعوا ظاهراً على عدم كفاية الامتثال الاجمالي مع التمكّن عن التفصيلي بأن يتمكنّ من الصلاة الى القبلة في مكان ويصلّي في مكان آخر غير معلوم القبلة الى أربع جهات أو يصلي في ثوبين مشتبهين أو أكثر ، مرّتين أو اكثر ، مع امكان صلاة واحدة في ثوب معلوم الطّهارة ،

-------------------

والشكّ سيّان في إنّه لا يعمل بأي منهما .

(وإنّ كان إعتبارها) أي: إعتبار معرفة الوجه - وهذا عطف على قوله : « لأنّ اعتبار معرفة الوجه إن كان لتوقف نية الوجه عليها » الخ - ( لأجل توقّف الامتثال التفصيلي المطلوب عقلاً وشرعاً عليه ) أي : أن يعرف ذلك ، فانّ الانسان اذا لم يعرف شيئاً لم يتمكن من الامتثال التفصيلي لذلك الشيء ، والامتثال التفصيلي مطلوب عقلاً ، لأنّ العقل يلزم العَبد بان يمتثل إمتثالاً تفصيلياً ما أمره المولى مع تمكنه ، كما أن الشرع إتَّبع العقل في ذلك من باب الارشاد ، لا من باب انّه امرٌ مولوي .

( ولذا ) أي : لاجل ما ذكرناه : من لزوم الامتثال التفصيلي عقلاً وشرعاً ( أجمعوا ظاهراً ) أي : على الظاهر أنهم اجمعوا ( :على عدم كفاية الامتثال الاجمالي مع التمكّن عن التفصيلي ، بانّ ) يقدّم التفصيلي على الاجمالي ، وإنّما يلتجأ الى الاجمالي اذا لم يتمكّن من التفصيلي ، فلو كان ( يتمكن من الصلاة الى القبلة في مكان ، ويصلّي في مكان آخر غير معلوم القبلة الى أربع جهات ) فانّه لا يجوز الثاني مع التمكن من الأول .

وكذلك فيما ذكره من المثال الآخر بقول : ( أو يصلّي في ثوبين مشتبهين أو أكثر ، مرّتين أو أكثر ، مع امكان صلاة واحدة في ثوب معلوم الطّهارة ) فانّه يلزم عليه أن يصليّ في الثوب الطاهر المعلوم الطهارة ، دون أن يأتي بصلاتين في

ص: 21

الى غير ذلك - .

ففيه : إنّ ذلك انّما هو مع التمكّن من العلم التفصيليّ .

وأمّا مع عدم التمكّن منه ، كما فيما نحن فيه ، فلا دليل على ترجيح الامتثال التفصيلي الظنّي على الامتثال الاجمالي العلمي ، اذ لا دليل على ترجيح صلاة واحدة في مكان الى جهة مظنونة على الصلاة المكرّرة في مكان مشتبه الجهة ،

-------------------

ثوبين مشتبهين احدهما طاهر .

( الى غير ذلك ) من الامثلة ، كما اذا كان هناك مائان أحدهما مضاف ، وماء مقطوع الاطلاق ، فانّه لا يجوز للانسان الغُسل أو الوضوء بذينك المائين وهو قادر على انّ يغتسل أو يتوضأ بالماء المعلوم الاطلاق .

لكن لا يخفى : إن هذا لو قلنا به فانّما هو في العبادات المحتاجة الى قصد القربة ، والاّ فتطهير يده بمائين احدهما مضاد مع تمكنه من الماء المطلق لا بأس به .

( ففيه : ) هذا جواب قوله : وإن كان إعتبارها لأجل توقف الامتثال التفصيلي ( إنّ ذلك ) أي : تقدّم الامتثال التفصيلي على الامتثال الاجمالي ( إنّما هو مع التمكّن من العلم التفصيلي ) كما ذكره في الامثلة المتقدّمة .

( وأمّا مع عدم التمكّن منه ) أي : من العلم التفصيلي ( كما فيما نحن فيه ) حيث المفروض انسداد باب العلم ( فلا دليل على ترجيح الامتثال التفصيلي الظني على الامتثال الاجمالي العلمي ) .

فلو دار العلم بين إمتثال تفصيلي ظنّي ، أو امتثال اجمالي علمي ، فلا دليل على تقدّم الظنّي على العلمي ( اذ لا دليل على ترجيح صلاة واحدة في مكان الى جهة مظنونة ، على الصلاة المكّررة في مكان مشتبه الجهة ) فاذا ظنّ - مثلاً - بأنّ جهة

ص: 22

بل بناء العقلاء في إطاعاتهم العرفيّة على ترجيح العلم الاجمالي على الظنّ التفصيليّ .

وبالجملة ، فعدمُ جواز الاحتياط مع التمكّن من تحصيل الظنّ ممّا لم يقم له وجهٌ ؛ فان كان ولابدّ من اثبات العمل بالظنّ فهو بعد تجويز الاحتياط والاعتراف برجحانه وكونه مستحباً ، بل لا يبعد ترجيح الاحتياط على الظن الخاصّ الذي قام الدليلُ عليه بالخصوص ،

-------------------

الجنوب القبلة ، وعلم أنّه اذا صلى الى اربع جهات أدرك القبلة قطعاً ، فلا دليل على تقدّم الصلاة الى جهة الجنوب من الصلاة الى أربع جهات ، وهكذا في سائر موارد الدّوران بين الظنّ وبين العلم الاجمالي .

( بل بناء العقلاء في إطاعاتهم العرفية على ترجيح العلم الاجمالي على الظنّ التفصيلي ) ولا دليل على انّ الشارع قد غيّر هذه الطريقة ، فاللازم أن تكون الطريقة الشرعيّة في الامتثال الشرعي ، كالطريقة العرفيّة في الامتثال العرفي .

( وبالجملة : فعدمُ جواز الاحتياط مع التمكّن من تحصيل الظنّ ، ممّا لم يَقُم له وجه ) عقليّ ولا شرعيّ .

وعليه : ( فانّ كان ولابدّ من إثبات العمل بالظنّ ) وإنّه بعد إنسداد باب العلم يعمل بالظن ( فهو ) أي : اثبات العمل بالظنّ ، يكون ( بعد تجويز الاحتياط ، والاعتراف برجحانه ) أي : رُجحان الاحتياط ( وكونه مستحباً ) أي : محبوباً .

( بل لا يبعد ترجيح الاحتياط على الظنّ الخاص الذّي قام الدّليل عليه بالخصوص ) كما اذا كان في الصحراء ولم يعلم جهة القبلة ، فقام شاهدان على إنّ جهة القبلة : الجنوب ، فانّه يرجّح الصلاة الى أربع جهات على الصلاة الى الجهة التي قامت عليها البيّنة .

ص: 23

فتأمّل .

نعم ، الاحتياط مع التمكّن من العلم التفصيلي في العبادات ممّا انعقد الاجماع ظاهراً على عدم جوازه ، كما أشرنا اليه في أول الرّسالة ، في مسألة إعتبار العلم الاجمالي وأنّه كالتفصيليّ من جميع الجهات أم لا ، فراجع .

ومما ذكرنا ظهرَ أنّ القائل بانسداد باب العلم وانحصار المناط في مطلق الظنّ ليس له أنّ يتأملّ في صحّة عبادة تارك طريقيّ

-------------------

( فتأمل ) ولعلّ وجهه : انّ الظنّ الخاص كالعلم ، وكما لا يجوز تقديم الاحتياط على العلم ، كذلك لا يجوز تقديم الاحتياط على الظنّ الخاص ، ففَرقَ بين الظنّ الخاص والظنّ الانسدادي ، فلا يتم ما ذكره المصنّف بقوله : ب«لا يبعد ترجيح الاحتياط على الظنّ الخاص » .

وعلى أي حال : فالاحتياط ليس ممنوعاً مع وجود الظنّ العام أو الظنّ الخاص .

( نعم ، الاحتياط مع التمكّن من العلم التفصيلي في العبادات ، ممّا انعقد الاجماع ) إنعقاداً ( ظاهراً ) لأنّا لا نقطع بوجود هذا الاجماع أيضاً ( على عدم جوازه ) أي : الاحتياط ( كما أشرنا اليه في أوّل الرّسالة في مسألة إعتبار العلم الاجمالي ، وانّه كالتفصيلي مع جميع الجهات أم لا ؟ ) فقد سَبق : إنّ العلم الاجمالي ليس كالعلم التفصيليّ من جميع الجهات ، بل العلم التفصيلي يُقدَّم على الاحتياط بخلاف العلم الاجمالي ( فراجع ) ما اشرنا اليه هناك .

( وممّا ذكرنا : ظهر أنّ القائل بإنسداد باب العلم ) بالإحكام وإنّه ليس هناك علمٌ ولا علمي بغالب الاحكام الشرعيّة ( وانحصار المناط في مطلق الظنّ ) وإنّه يلزم أن نعمل بالظنّ العام في الأحكام ( ليس له أن يتأمل في صحّة عبادة تارك طريقّي

ص: 24

الاجتهاد والتقليد اذا أخذ بالاحتياط ، لانّه لم يبطل عند إنسداد باب العلم الاّ وجوبُ الاحتياط ، لا جوازه أو رجحانه .

فالأخذُ بالظنّ عنده وترك الاحتياط عنده من باب الترخيص ورفع العُسر والحَرج ، لا من باب العزيمة .

-------------------

الاجتهاد والتقليد اذا أخذ بالاحتياط ) فانّ لازم قوله هذا ، إنّه يجوز للإنسان أن يحتاط بين فتاوى الفقهاء ، فلا يأخذ طريق الاجتهاد حتى يجتهد ، فيكون ظاناً بالأحكام ولا طريق التقليد فيقلّد بما يوجب ظنّه بالأحكام .

وإنّما له أن يأخذ بالاحتياط ( لأنّه لم يبطل ) فاعله ما يأتي من قوله : الاّ وجوب الاحتياط ( - عند إنسداد باب العلم - الاّ وجوب الاحتياط لا جوازه أو رجحانه ) والضمير« أن »يعودان الى الاحتياط .

( فالأخذ بالظنّ عنده وترك الاحتياط عنده ) أي : عند الانسدادي ( من باب الترخيص ورفع العُسر والحَرج ، لا من باب العزيمة ) كما هو الشأن في جميع أقسام العُسر والحَرج ، حيث يجوز للإنسان أن يترك الحكم الحَرجي ، لا أنّه يجب عليه .

نعم ، فيما اذا كان الحَرج والعُسر بحيث لا يرضى به الشارع اطلاقاً ، يكون الأمر من باب العزيمة لا الرّخصة ، كما اذا كان الصوم عليه عُسراً شديداً بحيث يوّدّي الى فقدِ بصره أو ما اشبه ذلك ، فانّه لا يجوز له الصوم ، ولذا قَسَّمَ الفُقهاء الصوم الى : واجب ، وحرام ، وجائز ، لانّه قد يكون ترك الصوم رخصة وقد يكون ترك الصوم عَزيمة .

ثم حيث أشكل المستشكل على الاحتياط بأنّه ينافي قصد الوجه ردَّه المصّنف بما يلي :

أوّلاً : إنّه لا دليل على لزوم الوجه .

ص: 25

وثالثا : سلّمنا تقديم الامتثال التفصيليّ ولو كان ظنيّاً على الاجماليّ ، ولو كان علميّاً ، لكنّ الجمعَ ممكنٌ بين تحصيل الظّن ، في المسألة ومعرفة الوجه ظنّاً والقصد على وجه الاعتقاد الظنيّ والعمل على الاحتياط .

مثلاً ، اذا حصل الظنّ بوجوب القصر في ذهاب أربعة فراسخ ، فيأتي بالقصر بالنيّة الظنيّة الوجوبية ويأتي بالاتمام بقصد القربة إحتياطا .

وكذلك اذا حصل الظنّ بعدم وجوب السورة في الصلاة ، فينوي الصلاة الخالية عن السورة على وجه الوجوب ،

-------------------

ثانياً : إنّه على تقدير لزومه ، إنّما فيما اذا علم الوجه ، لا ما اذا جهله كحالة الانسداد .

( وثالثاً : ) إنّه يمكن للمكلّف أن يجمع بين الاحتياط وبين قصد الوجه ، فيجمع بين الاحتياط في العمل وبين العمل بالظن ، كما قال : ( سلّمنا تقديم الامتثال التفصيلي ولو كان ظنيّاً ، على الاجمالي ولو كان علميّاً لكن الجمع ممكنٌ بين تحصيل الظنّ في المسألة ) حسب الانسداد ( ومعرفة الوجه ظنّاً والقصد ) اليه ، أي : الى ذلك الوجه ( على وجه الاعتقاد الظني و ) بين ( العمل على الاحتياط ) فالعمل بالظنّ الانسدادي لا ينافي الاحتياط عملاً .

( مثلاً : اذا حصل الظنّ بوجوب القصر في ذهاب أربعة فراسخ ) ورجوع أربعة فراسخ ، وانّه لا يحتاج القصر الى ذهاب ثمانية فراسخ امتداداً ( فيأتي بالقصر بالنيّة الظنّية الوجوبيّة ) حسب الظنّ الانسدادي ( ويأتي بالاتمام بقصد القربة احتياطاً ) وبذلك يجمع بين الظنّ والاحتياط .

( وكذلك اذا حصل الظنّ بعدم وجوب السورة في الصلاة ، فينوي الصّلاة الخالية عن السورة على وجه الوجوب ) أي : إنّ الصلاة الخالية عن السورة واجبة

ص: 26

ثم يأتي بالسورة قربة الى اللّه للاحتياط .

ورابعاً : لو أغمضنا عن جميع ما ذكرنا فنقول : إنّ الظنّ إذا لم يثبت حجّيته فقد كان اللازمُ بمقتضى العلم الاجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات في الوقائع المشتبهة هو الاحتياط ، كما عرفت سابقاً . فاذا وجب الاحتياط حصل معرفةُ وجه العبادة وهو الوجوبُ ، وتأتي نيّة الوجه الظاهريّ كما تأتي في جميع الموارد التي يفتي فيها الفقهاء بالوجوب من

-------------------

( ثم يأتي بالسورة قربة الى اللّه تعالى للإحتياط ) فانّه جمع بين العمل بالظنّ ، وبين العمل بالاحتياط .

( ورابعاً : لو أغمضنا عن جيع ما ذكرنا ) من الوجوه الثلاث في رد إشكال لمستشكل على الاحتياط بأنّه ينافي الوجه .

( فنقول : ) إنّكم قلتم : لا تأتي الانسدادي بالاحتياط لأنّه ينافي الوجه ، فيعمل بالعمل الظنيّ ليحرز الوجه ، ونحن نقول : إذا أتى الانسدادي بالظّن فالوجه ظاهري لا واقعي ، ومع الاحتياط أيضاً يكون الوجه ظاهرياً لا واقعياً ، فأي فرق بين العمل بالظّن أو بالاحتياط من جهة الوجه ؟ .

وذلك ( إنّ الظّن إذا لم يثبت حجّيته ، فقد كان اللازم بمقتضى العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات في الوقائع المشتبهة : هو الاحتياط - كما عرفت سابقاً - ) لأنّ الانسان إذا لم يتمكن من الامتثال التفصيلي ، وجَب عليه الامتثال الاجمالي بالاحتياط في أطرافه ( فاذا وجب الاحتياط حصل معرفة وجه العبادة : وهو الوجوب ) لأنّه وجب عليه الاحتياط حينئذ .

( و ) بذلك ( تأتي نيّة الوجه الظّاهري ) حينما علم بالوجوب ( كما تأتي في جميع الموارد التي يفتي فيها الفقهاء بالوجوب من

ص: 27

باب الاحتياط وإستصحاب الاشتغال ، فتأمّل .

فتحصّل ممّا ذكرنا أن العمدةَ في ردّ الاحتياط هو ماتقدّم من الاجماع ولزوم العُسر دون غيرهما ، إلاّ أنّ هناك شيئاً ينبغي أن ينبّه عليه ، وهو

-------------------

باب الاحتياط واستصحاب الاشتغال ) فانّه كما يأتي الوجه في الاحتياط وفي الاستصحاب الفقهائي ، كذلك يأتي في الاحتياط الانسدادي .

والحاصل : إنّه يمكن قصد الوجه مع الاحتياط ، وإن كان هو الوجه الظاهري لا الواقعي ، كما يمكن مع العمل بالظّن ذلك ، إذ مع وجوب الاحتياط يجب الفعل أو الترك فيأتي بالفعل أو يتركه بهذا الوجه الظاهري ، وفي باب الظن الانسدادي لا يتمكن أن يحصل الانسان أكثر من الوجه الظاهري ، فكما يكفي في باب الظّن الوجه الظاهري ، كذلك يكفي في باب الاحتياط الوجه الظاهري .

( فتأمّل ) قال الآشتياني في وجه التأمل : قد يناقش في هذا الوجه الرابع : بأن وجوب كل من المحتملين أو المحتملات في موارد العلم الاجمالي وجوب عقلي ارشادي محض ، لا دخل له بوجوب المعلوم بالاجمال في حكم الشارع ، فقصد هذا الوجوب كمعرفته ليس قصداً للوجوب الواقعي يقيناً ، كما إن معرفته ليست معرفة له ، فلا يجُدي على القول بوجوب معرفة الوجه أو قصد الوجه جداً.

( فتحصّل ممّا ذكرنا : انّ العمدة في ردّ الاحتياط ) وإنّه لا يجب الاحتياط عند إنسداد باب العلم والعلميّ بإتيان جميع المظنونات والمشكوكات والموهومات ( هو ما تقدّم : من الاجماع ولزوم العُسر ، دون غيرهما ) ممّا ذكروه لردّ الاحتياط .

( إلاّ أنّ هناك شيئاً ينبغي أن ينبّه عليه ، وهو ) ما حاصله : إن القائلين بالانسداد يقولون بحجّية الظّن المطلق كالعلم ، وبترك المشكوكات والموهومات رأساً ، والحال إنّ ما إستدلّوا به من الاجماع والعُسر على عدم الاحتياط التام في جميع

ص: 28

أنّ نفي الاحتياط بالاجماع والعسر لا يُثبت إلاّ أنّه لا يجب مراعاة جميع الاحتمالات مظنونها ومشكوكها وموهومها .

ويندفع العُسر بترخيص موافقة الظنون المخالفة للاحتياط كلاً أو بعضاً بمعنى عدم وجوب مراعاة الاحتمالات الموهومة ،

-------------------

المظنونات والمشكوكات والموهومات ، لا يدل إلاّ على ترك الاحتياط بقدر العُسر ، فإذا كان هناك الف مسألة - مثلاً - ثلثها مظنونات ، وثلثها موهومات ، وثلثها

مشكوكات ، وكان العُسر في الثلث فقط ، ترَكَ الموهومات وأتى بالمظنونات والمشكوكات ، أو في السُدس فقط ، ترك نصف الموهومات وأتى بالمظنونات والمشكوكات ، ونصف الموهومات ، أو في الثلثان فقط ، ترك الموهومات والمشكوكات معاً ، وهكذا .

إذن : فلا يكون نتيجة دليل الانسداد العمل بالظّن ، بل ترك العُسر من العمل بالاحتياط المطلق ، ويعمل بما بقي ، سواء كان ما بقي مظنوناً فقط أو مع المشكوكات أو مع بعض الموهومات أيضاً .

هذا بعض ما ذكره المصنّف ، ويأتي بعضه الآخر فيما بعد إنشاء اللّه تعالى ، أما ما ذكره الآن فهو : ( انّ نفي الاحتياط بالاجماع والعُسر لا يثبت ) هذا الظن ( إلاّ انّه لايجب مراعاة جميع الاحتمالات مظنونها ومشكوكها وموهومها ) .

( ويندفع العُسر ) عن المكلّف ( بترخيص ) المكلَّف ( موافقة الظّنون المخالفة للاحتياط كلاً أو بعضاً ) فاذا لم يكن عُسر في كل الظّنون عمل بكل الظنون ، وإذا كان في كل الظنون عُسر عمل ببعض الظّنون القوية وترك الظّنون الضعيفة .

وعليه : فليس رفع العُسر دليلاً لحجية الظنّ مطلقاً ، بل هو ( بمعنى : عدم وجوب مراعاة الاحتمالات الموهومة ) التي هي تقابل الظّنون ، فإذا ظن - مثلاً -

ص: 29

لأنّها الأولى بالاهمال .

إذا ساغ لدفع الحرج تركُ الاحتياط في مقدار مّا من المحتملات يندفع به العُسر ، ويبقى الاحتياط على حاله في الزائد على هذا المقدار . لما تقرّر في مسألة الاحتياط ، من أنّه إذا كان مقتضى الاحتياط هو الاتيان بمحتملات وقام الدّليل الشرعيّ على عدم وجوب إتيان بعض المحتملات في الظاهر ،

-------------------

بألف حكم وجوبي ، فإن في طرف هذه الظّنون ألف وهم وجوبي أيضاً ، مثل إنّه ظنّ بوجوب الجمعة ووهم وجوب الظهر ، فانّه يأتي بالجمعة لمكان الظّنّ ويترك الظهر لمكان الوهم ، لأن إتيانه بألفي حكم عُسر ، فإن لم يكن عُسر في الألفين الزم الاتيان بالجميع .

وإنّما يترك الوجوبات الموهومة ويأتي بالوجوبات المظنونة فقط ( لأنّها ) أي : الاحتمالات الموهومة هي ( الأولى بالاهمال ، إذا ساغ - لدفع الحرج - ترك الاحتياط ) « وترك الاحتياط » : فاعل « ساغ » أي : إذا جاز ترك الاحتياط ( في مقدار مّا من المحتملات ، يندفع به ) أي : بترك الاحتياط في ذلك المقدار ( العُسر ) فاعل « يندفع » ( ويبقى الاحتياط على حاله في الزائد على هذا المقدار ).

وإنّما نقول : بأنّ دليل الاحتياط لا يثبت الظنّ وإنّما يسقط العُسر فقط ، ولذا يسقط بعض الظنّ أيضاً ، وقد يثبت بعض الشك أيضاً ( لِما تقرر في مسألة الاحتياط : من انّه إذا كان مقتضى الاحتياط هو الاتيان بمحتملات ) عدة ( وقام الدّليل الشرعي على عدم وجوب إتيان بعض المحتملات في الظّاهر ) أي لا واقعاً .

وإنّما قال في الظاهر : لأنه من المحتمل الوجوب في الواقع بالنسبة الى هذا

ص: 30

تعيّن مراعاة الاحتياط في باقي المحتملات ولم يسقط وجوب الاحتياط رأساً.

توضيحُ ما ذكرنا : إنّا نفرض المشتبهات التي علم إجمالاً بوجود الواجبات الكثيرة فيها بين مظنونات الوجوب ومشكوكات الوجوب وموهومات الوجوب ، وكان الاتيانُ بالكلّ عسراً أو قام الاجماع على عدم وجوب الاحتياط في الجميع تعيّن تركُ الاحتياط وإهماله في موهومات الوجوب ،

-------------------

الذي يريد تركه ، كما إذا كان له عشرة ثياب أحدها طاهر ، لكنّه لا يتمكن من عشر صلوات في كل الثياب لمكان العُسر ، وإنّما يتمكن من تسع صلوات ، فاذا أتى بتسع صلوات كانت العاشرة لا جل العسر غير واجبة في الظاهر ، لكن من المحتمل وجوبها في الواقع ، بأن كان الثوب العاشر هو الطاهر ، والذي كان يكلّف بالصلاة فيه لو كان عالماً بالواقع .

إذن : ففي صورة عُسر بعض المحتملات ( تعيّن مراعاة الاحتياط في باقي المحتملات ، ولم يسقط وجوب الاحتياط رأساً ) فان العُسر بقدره يسقط من الموهومات والمشكوكات وحتى من المظنونات ، لا إنّه يجعل الظنّ حجّة مطلقاً ، كما يدعيه من يقول بحجّية الظّن الانسدادي .

( توضيح ما ذكرنا : إنّا نفرض المشتبهات الّتي علم إجمالاً بوجود الواجبات ) والمحرمات ( الكثيرة فيها ، بين مظنونات الوجوب ، ومشكوكات الوجوب ، وموهومات الوجوب ) وكذلك بالنسبة إلى مظنونات التحريم ومشكوكاته وموهوماته ( وكان الاتيان بالكلّ عَسِراً ، أو قام الاجماع على عدم وجوب الاحتياط في الجميع ) بأن قام الاجماع على نفي الاحتياط لا على حجّية الظّن مطلقاً ( تعّين ترك الاحتياط وإهماله في موهومات الوجوب ) فقط إذا كان ترك

ص: 31

بمعنى أنّه اذا تعلّق ظنّ بعدم الوجوب لم يجب الاتيان .

وليس هذا معنى حجّية الظنّ ، لأنّ الفرق - بين المعنى المذكور ، وهو أنّ مظنون عدم الوجوب لا يجب الاتيان به ، وبين حجّية الظنّ بمعنى كونه في الشريعة معياراً لامتثال التكاليف الواقعية نفياً وإثباتاً .

وبعبارة اخرى : الفرقُ بين تبعيض الاحتياط في الموارد المشتبهة وبين جعل الظن فيها حجّة - هُو أنّ الظنّ إذا كان حجّة في الشرع ، كان الحكمُ في الواقعة الخالية عنه الرجوع إلى ما يقتضيه الأصلُ في تلك الواقعة

-------------------

الموهومات ينفي العسر ، أما المشكوكات والمظنونات فيأتي بهما لعدم العسر فيهما .

وإنّما قلنا : يتعين ترك الاحتياط في الموهومات ( بمعنى : انّه إذا تعلّق ظنّ بعدم الوجوب ، لم يجب الاتيان ) كما مثلنا له بالظنّ بوجوب الجمعة ، والوهم بوجوب الظهر ، فانّه يأتي بمظنون الوجوب ويترك موهوم الوجوب .

( وليس هذا ) الترك للعُسر ، هو ( معنى حجّية الظنّ ) كما عرفت ( لأنّ الفرق بين المعنى المذكور وهو : إنّ مظنون عدم الوجوب لا يجب الاتيان به ، وبين حجّية الظّن بمعنى : كونه في الشريعة معياراً لامتثال التكاليف الواقعية نفياً واثباتاً ) فيكون الظّنّ قائماً مقام العلم فإنّ الفَرقَ بينهما واضح .

( وبعبارة أخرى : الفرق بين تبعيض الاحتياط في الموارد المشتبهة ، وبين جعل الظّن فيها حجّةً ) حيث إنّ الأول ، ملازم لترك العُسر ، والثاني ، لا يلازم ترك العُسر ( هو : إنّ الظّن إذا كان حجّة في الشرع ، كان الحكم في الواقعة الخالية عنه : الرّجوع إلى ما يقتضيه الأصل في تلك الواقعة ) فكما إنّه في حال الانفتاح يرجع

ص: 32

من دون التفات إلى العلم الاجماليّ بوجود التكاليف الكثيرة بين المشتبهات إذ حال الظنّ حينئذ كحال العلم التفصيليّ والظن الخاصّ بالوقائع ، فيكون الوقائع بين معلومة الوجوب تفصيلاً أو ما هو بمنزلة المعلوم وبين مشكوكة الوجوب رأساً .

-------------------

الى الأصل فيما لم يكن علم ، كذلك إذا كان الظّن حجّة في حال الانسداد يلزم الرجوع الى الأصل إذا لم يكن ظنّ .

هذا هو معنى حجّية الظّنّ بقول مطلق في حال الانسداد ، ولكن ليس الأمر كذلك وإنّما يلزم نفي الأحكام بقدر العُسر فقط ، فاذا لم يكن ظنّ لكل كان العمل بالشك أو الوهم غير عسير ، لزم العمل بهما لا العمل بالأصل .

والحاصل : إنّا نعمل بالظنّ ونترك ما سواه ( من دون التفات إلى العلم الاجمالي بوجود التكاليف الكثيرة بين المشتبهات ) وإن لم يكن عسر في غير المظنونات أيضاً ( إذ حال الظّن حينئذ ) أي : إذا كان الظنّ حجة في الشرع ( كحال العلم التفصيليّ و ) كحال ( الظّن الخاص بالوقائع ) كالخبر الواحد عند من يراه حجة ، فكما نأخذ بالخبر ونترك ما سواه للاصول ، ونأخذ بالعلم ونعمل فيما سواه بالاصول ، كذلك إذا كان الظّنّ حجّة نأخذ بالظّن ونعمل بالاصول فيما سوى المظنونات .

وعليه : ( ف ) كما انّه ( يكون الوقائع بين معلومة الوجوب تفصيلاً ، أو ما هو بمنزلة المعلوم ) فيما إذا كان خبر الواحد حجّة ( وبين مشكوكة الوجوب رأساً ) ويرجع في مشكوك الوجوب إلى البرائة في موردي : العلم ، وما كان بمنزلة العلم ، يكون الظنّ حينئذ كذلك ، بأن يكون المظنون حجّة ، وفيما عدا المظنون يرجع

ص: 33

وأمّا إذا لم يكن الظنُّ حجّةً - بل كان غاية الأمر ، بعد قيام الاجماع ونفي الحَرج على عدم لزوم الاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة التي عُلِمَ إجمالاً بوجود التكاليف بينها ، عدم وجوب الاحتياط بالاتيان بما ظُنَ عدمُ وجوبه ، لأنّ ملاحظة الاحتياط في موهومات الوجوب خلافُ الاجماع وموجبٌ للعسر - كان اللازمُ في الواقعة الخالية عن الظنّ الرجوعَ الى ما يقتضيه العلم الاجمالي -

-------------------

الى البرائة .

( وأما إذا لم يكن الظّن حجّة ) لأنّه لا دليل على حجّية الظّن ( بل كان غاية الأمر - بعد قيام الاجماع ، ونفي الحَرج على عدم لزوم الاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة ) من الوقائع ( التي علم إجمالاً بوجود التكاليف بينها - عدم وجوب الاحتياط ) و« عدم » خبر قوله : « بلّ كان غاية الأمر » أي : غاية الأمر : عدم وجود الاحتياط ( بالاتيان بما ظنّ عدم وجوبه ) أي : بالموهومات ، كما مثّلنا له سابقاً بالظّن بعدم وجوب الظهر في يوم الجمعة .

وعليه : فمعنى عدم وجوب الاحتياط : انّه لا يأتي بالظهر الموهوم وجوبه ( لأن ملاحظة الاحتياط في موهومات الوجوب خلاف الاجماع ، وموجب للعُسر ) فالاجماع والعسر يرفعان الاحتياط في الموهومات ، فإذا كانت المظنونات يجب العمل بها فالموهومات لا يجب العمل بها .

ثم يبقى العمل بالمشكوكات لأنّ المشكوكات طرف للاحتياط والعلم الاجمالي أيضاً ، وهو ما أشار اليه بقوله : ( كان اللازم في الواقعة الخالية عن الظّن ) أي : الظن بعدم التكليف ، سواء ظنّ بالتكليف أو شك فيه ، والمراد هنا : الشك في التكليف ، فاللازم حينئذ في المشكوكات ( الرّجوع الى ما يقتضيه العلم الاجمالي

ص: 34

المذكور من الاحتياط ، لأنّ سقوط الاحتياط في سلسلة الموهومات لا يقتضي سقوطه في المشكوكات ، لاندفاع الحرج بذلك .

وحاصلُ ذلك : انّ مقتضى القاعدة العقلّية والنقليّة لزومُ الامتثال العلميّ التفصيليّ للأحكام والتكاليف المعلومة إجمالاً .

ومع تعذّره يتعيّن الامتثال العلميّ الاجماليّ ، وهو الاحتياط المطلق .

ومع تعذّره لو دار الأمرُ بين الامتثال الظنّيّ في الكلّ وبين

-------------------

المذكور : من الاحتياط ) .

إذن : فليس كما قلتم أنتم الانسداديون : بأنّ اللازم : الظّن فقط ، بلّ اللازم : الظن والشك معاً لأنَّ كُلاً من الظنّ والشك طرف للعلم الاجمالي ، وذلك ( لأنّ سقوط الاحتياط في سلسلة الموهومات ) للاجماع والعسر ( لا يقتضي سقوطه ) أي سقوط الاحتياط ( في المشكوكات ) وإنّما لا يسقط في المشكوكات ( لاندفاع الحرَج بذلك ) أي : بسقوط الاحتياط في سلسلة الموهومات .

( وحاصل ذلك : ) أي الدّليل العقلي في كيفية الامتثال ( إنّ مقتضى القاعدة العقليّة والنقليّة : لزوم الامتثال العلميّ التفصيليّ للأحكام ، و ) لزوم إتيان ( التكاليف المعلومة إجمالاً ) لأنّا نعلم إجمالاً بأحكام كثيرة ، ثم نرجع إلى الامتثال العلمي التفصيلي فنجده بقدر الكفاية ، وهذا أول المراحل .

( ومع تعذره ) أي : تعذر الامتثال العلمي التفصيلي بأن لم يكن بقدر الكفاية ( يتعيّن الامتثال العلميّ الاجماليّ ، وهو الاحتياط المطلق ) في جميع المظنونات والمشكوكات والموهومات ، وهذا ثاني المراحل .

( ومع تعذّره ) لأنّ الانسان لايتمكن من الاحتياط المطلَق ( لو دار الأمر بين الامتثال الظّني في الكل ) بأن يعمل بالظنّ فقط ويترك المشكوك والموهوم ( وبين

ص: 35

الامتثال العلميّ الاجماليّ في البعض ، والظنّيّ في الباقي كان الثاني هو المتعيّن عقلاً ونقلاً .

ففيما نحن فيه إذا تعذّر الاحتياط الكلّيّ ودار الأمرُ بين إلغائه بالمرّة والاكتفاء بالاطاعة الظنيّة وبين إعماله في المشكوكات والمظنونات وإلغائه في الموهومات كان الثاني هو المتعيّن .

ودعوى لزوم الحرج أيضاً من الاحتياط في المشكوكات ، خلافُ الانصاف ،

-------------------

الامتثال العلمي الاجمالي في البعض ، والظّنّي في الباقي ) بأن يعمل بالظّنّ والشك ، ويترك الوهم فقط ( كان الثاني هو المتعيّن عقلاً ونقلاً ) وذلك لأنّ العلم الاجمالي يلزمه بالاحتياط مادام لم يكن عُسراً ، والاحتياط ممكن في المظنونات والمشكوكات ، فلماذا يُترَك في المشكوكات ؟ .

وعليه : فليس مقتضى دليل الانسداد : حجّية الظّنّ فقط ، بلّ حجّية المظنونات والمشكوكات وترك الموهومات فقط .

إذن : ( ففيما نحن فيه ) حيث إنسد باب العلم والعلمي ( إذا تعذّر الاحتياط الكلّي ) في جميع الموهومات والمشكوكات والمظنونات (ودار الامر بين إلغائه) أي : الاحتياط ( بالمرّة ، والاكتفاء بالاطاعة الظّنية ) فقط ( وبين إعماله ) أي : الاحتياط ( في المشكوكات والمظنونات ، وإلغائه ) أي : الاحتياط ( في الموهومات ، كان الثاني ) وهو : إعمال الاحتياط في المشكوكات والمظنونات ( هو المتعّين ) لِما عرفت : من إنّه مقتضى الاحتياط .

( ودعوى لزوم الحرَج أيضاً من الاحتياط في المشكوكات ) فاللازم الاحتياط في المظنونات فقط وترك الموهومات والمشكوكات ( خلاف الانصاف ) .

ص: 36

لقّلة المشكوكات ، لأنّ الغالبَ حصول الظنّ إمّا بالوجوب وإمّا بالعدم .

اللّهم إلاّ أن يدّعى قيامُ الاجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات أيضاً .

وحاصله : دعوى أنّ الشارع لا يريد الامتثال العلميّ الاجماليّ في التكاليف الواقعّية المشتبهة بين الوقائع .

فيكون حاصل الاجماع دعوى إنعقاده على أنّه لا يجب شرعاً إلا طاعة العلميّة الاجماليّة في الوقائع المشتبهة مطلقاً ، لا في الكلّ ولا في البعض .

-------------------

وإنّما كان خلاف الانصاف ( لقلة المشكوكات ) .

وإنّماكانت المشكوكات قليلة ( لأن الغالب حصول الظّنّ إمّا بالوجوب وإمّا بالعدم ) وهكذا حصول الظّنّ إمّا بالحرمة ، وإمّا بعدم الحرمة .

( اللّهم إلاّ أن يدّعى قيام الاجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات أيضاً ) وحينئذ يكون دليل الانسداديين بضميمة الاجماع دالاً عليب حجّية الظّن فقط ، من دون أن يكون الواجب على الانسان العمل بالمشكوكات أيضاً .

( وحاصله : ) أي : حاصل الاجماع المذكور ( دعوى انّ الشارع لا يريد الامتثال العلمي الاجمالي في التكاليف الواقعية المشتبهة بين الوقائع ) وإنّما يريد الشارع الامتثال العلمي الاجمالي في التكاليف التي هي مشتبهة بين المشكوكات أو بين الموهومات فلا يريدها الشارع .

وعليه : ( فيكون حاصل الاجماع : دعوى انعقاده ) أي : إنعقاد الاجماع ( على انّه لا يجب شرعاً ) الاحتياط التام وهو : ( الاطاعة العلميّة الاجماليّة في الوقائع المشتبهة مطلقاً ) فلا يريد الشارع كل الوقائع المشكوكة ( لا في الكل ) الشامل للموهومات والمشكوكات والمظنونات ( ولا في البعض ) الشامل للمشكوكات

ص: 37

وحينئذٍ : تعّين الانتقال إلى الاطاعة الظنيّة .

لكن الانصافَ : أنّ دعواه مشكلة جدّاً وإن كان تحققه مظنوناً بالظنّ القويّ ، لكن لا ينفع مالم ينته إلى حدّ العلم .

فان قلت :

-------------------

والموهومات ، فكأنّ الشارع قال : لا أُريدُ منكَ كُلّ التكاليف الواقعية حتى تحتاط في جميع المظنونات والمشكوكات والموهومات ، ولا أريد منك التكاليف الواقعية التي هي مشتبهة في المشكوكات والموهومات .

( وحينئذ ) أي : حين بطل الاحتياط المطلَق ، وبطل الاحتياط في المشكوكات والموهومات ( تَعيّن الانتقال إلى الاطاعة الظنيّة ) فما ظنّ وجوبه فعله ، وما ظنّ حرمته تركه ، أما ما شك في وجوبه أو حرمته ، أو توهم وجوبه أو حرمته ، فلا يعمل به .

هذا ( لكنّ الانصاف إنّ دعواه ) للاجماع هذه ( مشكلة جداً وإن كان تحقّقه ) أي : تحقق مثل هذا الاجماع ( مظنونا بالظّنّ القوي ، لكن لا ينفع ) مثل هذا الظن القوي ( مالم ينته الى حدّ العلم ) لأنّه إثبات لحجّية الظّنّ بالظّنّ ، وهو مصادرة - كما لا يخفى - إذ معناه : إنّ اللازم هو العمل بالظّنّ فقط لأناّ نظن بوجود الاجماع، ومن المعلوم : إنّ الدليل إذا كان عين المدعى كان مصادرة .

( فان قلت : ) إذا قام الاجماع على بطلان وجوب الاحتياط في المشكوكات والموهومات ، فاللازم الظنّ ببطلان الاحتياط فيهما ويكون المرجع في المشكوكات والموهومات : الاُصول الجارية في مورد الموهومات والمشكوكات ، لأنّ العلم الاجمالي سقط بواسطة الاجماع ، فتكون الاصول العمليّة مظنونة الاعتبار في المشكوكات والموهومات ، إذ لا فرق في نتيجة

ص: 38

إذا ظُنَّ بعدم وجوب الاحتياط في المشكوكات ، فقد ظُنّ بأنّ المرجعَ في كلّ مورد منها إلى ما يقتضيه الأصل الجاري في ذلك المورد ، فتصير الاُصول مظنونّة الاعتبار في المسائل المشكوكة .

فالمظنون في تلك المسائل عدمُ وجوب الواقع فيها على المكلّف وكفاية الرّجوع إلى الاُصول .

وسيجيء أنّه لا فرق في الظنّ الثابت حجّيتّه بدليل الانسداد بين الظنّ المتعلّق بالواقع وبين الظن ّ المتعلّق بكون شيء طريقاً إلى الواقع

-------------------

الانسداد - كما سيأتي إنشاء اللّه تعالى - بين الظّنّ بالحكم أو الظّنّ بالطريق .

ومن المعلوم : إنّ الظّنّ بالاُصول العمليّة ظنّ بالطرّيق ، فأنّه قد يظنّ انّ اللازم - مثلاً - صلاة الجمعة، وقد يظنّ إنّ الاستصحاب حجّة ، والاستصحاب يقول ببقاء وجوب الجمعة منذ زمان الرسول الى هذا اليوم ، فالنتيجة : وجوب الجمعة أيضاً .

وعليه : فانّه ( إذا ظُنَ بعدم وجوب الاحتياط في المشكوكات ، فقد ظنّ بانّ المرجع في كل مورد منها ) أي : من المشكوكات ( إلى ما يقتضيه الأصل الجاري في ذلك المورد ) من البرائة ، أو الاحتياط ، أو الاستصحاب ، أو التخيير ( فتصير الاُصول ) الأربعة هذه ( مظنونة الاعتبار في المسائل المشكوكة ) التي قد شك في حكمها بانّها واجبة أو ليست بواجبة ، أو إنّها محرمة أو ليست بمحرمة ؟ .

إذن : ( فالمظنون في تلك المسائل ) المشكوكة ، هو : ( عدم وجوب الواقع فيها على المكلّف ) فلا يريد الشارع الواقع منه ( وكفاية الرّجوع الى الاُصول ) العملية فيها .

هذا ( وسيجيء : انّه لا فرق في الظن الثابت حجّيته بدليل الانسداد ، بين الظن المتعلق بالواقع وبين الظنّ المتعلّق بكون شيء طريقاً الى الواقع ) كالظّن بأنّ خبر

ص: 39

وكون العمل به مُجزياً عن الواقع وبدلاً عنه ولو تخلّف عن الواقع .

قلت :

-------------------

الواحد حجّة ، أو الشهرة ، أو الاجماع حجّة ، أو إنّ الاُصول يلزم العمل بها ( و ) بين الظنّ المتعلق ب- ( كون العمل به مجزياً عن الواقع وبدلاً عنه ) كالظنّ - مثلاً - بوجوب الجمعة ، حتى ( ولو تخلّف عن الواقع ) هذا الظنّ .

والحاصل لان قلت هو : إنّه لو قام الاجماع على عدم وجوب الاحتياط لزم منه الرّجوع في المشكوكات والموهومات الى الاُصول ، والاُصول في المشكوكات والموهومات مظنونة الاعتبار ، فيكون الظنّ حجّة مطلقاً : في المظنونات للانسداد ، وفي المشكوكات والموهومات لجريان الأصل المستند ذلك الأصل الى الاجماع ، ومن المعلوم : إن الاجماع ظني الاعتبار ، ففي الكل يكون المرجع : الظنّ .

( قلت : ) هذا الكلام منكم يبطل كون حجّية الظن من باب الانسداد لأنه صار الظّن حجّة من جهة الاجماع المذكور ، إذ العمل بالاصول في المسائل المشكوكة والموهومة فرع عدم العلم الاجمالي فيها ، فانّه لو كان في المسائل المشكوكة والموهومة علم إجمالي ، لم يرجع فيها الى الاصول ، بلّ كان اللازم فيها : الاحتياط.

والعلم الاجمالي إنّما يرتفع إذا وجدت الحجّة في جملة من المسائل ، وذلك بان يكون هناك في بعض المسائل حجّة كافية ، دون بعضها الآخر ، فتكون تلك المسائل التي لا حجّة فيها مسرحاً للأصول ، ومن المعلوم : إنّ الحجّة الكافية - بحسب الفرض - ليست إلاّ الظّنّ الانسدادي .

والحاصل : إن الاجماع على الاُصول في المشكوكات والموهومات معناه :

ص: 40

مرجع الاجماع ، قطعيّاً أو ظنيّاً ، على الرجوع في المشكوكات الى الاصول هو الاجماع على وجود الحجّة الكافية في المسائل التي إنسدّ فيها باب العلم حتى تكون المسائل الخالية عنها موارد للاُصول .

ومرجع هذا إلى دعوى الاجماع على حجّية الظنّ بعد الانسداد .

-------------------

الاجماع على حجّية الظّن في غير المشكوكات ، فان ( مرجع الاجماع ) سواء كان ( قطعيّاً أو ظنيّاً على الرّجوع في المشكوكات الى الاُصول : هو الاجماع على وجود الحجّة الكافية في المسائل التي إنسدّ فيها باب العلم ، حتّى تكون المسائل الخالية عنها ) أي : عن الحجّة الكافية ( موارد للأصول ) فانّ الاُصول إنّما تجري فيما لا حجّة ، ولازمه : أن توجد الحجّة في بعض المسائل دون البعض الآخر .

( ومرجع هذا ) أي : مرجع وجود الحجّة الكافية في غير المشكوكات والموهومات ( إلى دعوى الاجماع على حجّية الظن بعد الانسداد ) لا بسبب الانسداد .

والحاصل إنّ الظنّ يكون حجّة لكن لا بالاستناد الى الدّليل الانسدادي ، بل بالاستناد الى الاجماع المذكور ، ولهذا قال الآخوند رحمه اللّه في حاشيته على الرّسائل : « انّه إثبات حجّية الظّن بغير دليل الانسداد ، وهو ليس بالمراد ، وإن شئت قلت : ان حاصل كلام الشيخ في قوله « قلت » : إنّكم إذا إدّعيتم الاجماع على الرجوع الى الاصول في المشكوكات والموهومات كان إجماعكم هذا مبطلاً لدليل الانسداد ، لأنّ الاجماع المذكور يدلّ على حجّية الظّن في المظنونات ، لا انّ الظّن يكون حجّة حينئذ بدليل الانسداد » .

هذا ولا يخفى : انّ الكلامَ في المقام طويل - كما يظهر من حواشي الآخوند ، والآشتياني ، والأوثق ، وغيرهم - وانّما اكتفينا بهذا القدر لعدم التشويش

ص: 41

فان قلت : إذا لم يقم في موارد الشك ما ظنّ طريقيّته ، لم يجب الاحتياط في ذلك المورد من جهة كونه أحد محتملات الواجبات أو المحرّمات الواقعية وإن حكم بوجوب الاحتياط من جهة إقتضاء القاعدة في نفس المسألة ؛ كما لو كان الشكّ فيه في المكلّف به .

-------------------

على ذهن الطالب .

( فان قلت ) في موارد الشكّ - بالمعنى المصطلح - بالحكم ، لا احتياط قطعا من جهة العلم الاجمالي العام ، وذلك للاجماع على عدم الاحتياط في موارد الشك ، فاذا ظنّ بعدم الحكم كان أولى بعدم الاحتياط ، لانّ الظنّ حجّة في حال الانسداد .

بالاضافة الى انّه لو كان شك إصطلاحي فلا حكم للمشكوك ، لاجل الاجماع ، فاذا ظنّ بعدم الحكم كان أولى بعدم لزوم الاحتياط ، فانّه ( إذا لم يقم في موارد الشك ) الاصطلاحي ( ما ظنّ طريقيّته ) الى الواقع ( لم يجب الاحتياط في ذلك المورد من جهة كونه : أحد محتملات الواجبات أو المحرمات الواقعية ) فانّ الاحتياط إنّما يكون من جهة العلم الاجمالي العام ، وإنّما لا يجب الاحتياط للاجماع الذي سيأتي نقله .

وعليه : فالإحتياط لا يجب من تلك الجهة ( وإن حكم بوجوب الاحتياط من جهة إقتضاء القاعدة في نفس المسألة ، كما لو كان الشّك فيه ) أي : في ذلك المورد ( في المكلّف به ) فاذا شك في وجوب الجمعة ، لم يكن مقتضى العلم الاجمالي العام - بوجود أحكام في الفقه من أوله الى آخره - هو الاحتياط وإن لزم الاحتياط بالاتيان بالجمعة والظهر معاً ، من جهة انّه يعلم وجوب صلاة عليه في يوم الجمعة ويشك في إنّ المكلّف به هل هو الظهر أو الجمعة ؟ .

ص: 42

وهذا إجماعٌ من العلماء ، حيث لم يحتط أحدٌ منهم في مورد الشكّ من جهة إحتمال كونه من الواجبات والمحرّمات الواقعيّة ، وإن إحتاط الاخباريّون في الشبهة التحريميّة من جهة مجرّد إحتمال التحريم ، فاذا كان عدمُ وجوب الاحتياط إجماعيّاً مع عدم قيام ما يظنّ طريقيتّه على عدم الوجوب ، فمع قيامه لا يجب الاحتياط بالأولويّة القطعيّة .

-------------------

( وهذا ) الذي ذكرناه : من انّه لا يجب الاحتياط في موارد الشك ( إجماع من العلماء ، حيث لم يحتط أحد منهم في مورد الشّك ) إحتياطاً ( من جهة إحتمال كونه من الواجبات والمحرّمات الواقعيّة ) بل انّهم يَجرُون البرائة ( وإن إحتاط الاخباريون في الشّبهة التّحريميّة ) لا في الشبهة الوجوبيّة .

مثلاً : إذا شك في انّ التبغ حرام أم لا ؟ الاخباريون يحتاطون بالترك ، أمّا إذا شك في انّ الدّعاء عند رؤية الهلال واجب أم لا ؟ فالاخباريون لا يحتاطون بالاتيان .

وأما الاصوليون فمجمعون على انّه لا إحتياط إطلاقاً ، لا في الشبهة التحريمية ولا في الشبهة الوجوبيّة .

والحاصل : انّ الاخباريين يحتاطون في الشبهة التحريميّة ( من جهة مجرّد إحتمال التحّريم ) وإن لم يكن علم إجمالي ، وإنّما يحتاطون بجهة بعض الأخبار التي ذكروا إنّهم إستظهروا منها الاحتياط في الشبهات التحريمية .

وعليه : ( فإذا كان عدم وجوب الاحتياط إجماعيّاً مع عدم قيام ما يظنّ طريقيته على عدم الوجوب ) أي : في مورد الشك الاصطلاحي ( فمع قيامه ) أي : قيام ما يظنّ طريقيته على عدم الوجوب ( لا يجب الاحتياط بالأولويّة القطعيّة ) فانّه إذا ظنّ بعدم الحكم ، فهو أولى بعدم الاحتياط ممّا إذا شك في الحكم .

ص: 43

قلتُ : العلماء إنّما لم يذهبوا الى الاحتياط في موارد الشك ، لعدم العلم الاجماليّ لهم بالتكاليف ، بلّ الوقائع لهم بين معلوم التكليف تفصيلاً أو مظنون لهم بالظنّ الخاصّ وبين مشكوك التكليف رأساً؛ ولا يجب الاحتياطُ في ذلك عند المجتهدين بل عند غيرهم في الشبهة الوجوبيّة .

والحاصلُ : أنّ موضوعَ عمل العلماء القائلين بانفتاح باب العلم أو الظنّ

-------------------

( قلت : ) الاجماع الذي إدعيتموه ، ليس مورده ما نحن فيه - وهو حال الانسداد - بل مورده حال الانفتاح ، فسحبه الى مورد الانسداد يكون بلا مجوّز ، فان ( العلماء إنّما لم يذهبوا الى الاحتياط في موارد الشكّ ، لعدم العلم الاجمالي لهم بالتّكاليف ) فانّ العلم الاجمالي العام منحل عندهم الى أطراف معلومة الحكم وأطراف مشكوكة ، ففي معلومة الحكم يعملون حسب ذلك الحكم ، وفي الأطراف المشكوكة يعملون بالبرائة ، كما قال : ( بلّ الوقائع لهم بين معلوم التكليف تفصيلاً أو مظنون لهم بالظّن الخاص ) كالخبر الواحد ، والاجماع ، وما أشبه ذلك ممّا هو حجّة ( وبين مشكوك التكليف رأساً ) ومشكوك التكليف في هذه الحالة هو مجرى البرائة ( ولا يجب الاحتياط في ذلك ) أي : في مشكوك التكليف ( عند المجتهدين ) مطلقاً ، لا في الشبهة التحريمية ولا في الشبهة الوجوبية .

( بل عند غيرهم ) من الاخباريين أيضاً ( في الشبّهة الوجوبيّة ) فانّ الاخباريين وإن قالوا بوجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية ، لكنهّم متفقون مع المجتهدين في عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية .

( والحاصل : انّ موضوع عمل العلماء القائلين بانفتاح باب العلم أو الظّن

ص: 44

الخاصّ مغاير لموضوع عمل القائلين بالانسداد؛ وقد نبّهنا على ذلك غير مرّة في بطلان التمسّك على بطلان البراءة والاحتياط بمخالفتهما لِعمَل العلماء ، فراجع .

ويحصل ممّا ذكر إشكالٌ آخرٌ أيضاً من جهة أنّ نفي الاحتياط بلزوم العُسر لا يوجب كون الظنّ حجّة ناهضة لتخصيص العمومات الثابتة بالظنون الخاصّة

-------------------

الخاص ، مغاير لموضوع عمل القائلين بالانسداد ) فلا يمكن سحب إجماعهم الذي هو في حال الانفتاح الى حال الانسداد ( وقد نبّهنا على ذلك ) التغاير وعدم الانسحاب ( غير مرّة في بطلان التمسك على بطلان البرائة والاحتياط بمخالفتهما لعمل العلماء ) وقلنا : بانّ عمل العلماء إنّما هو في حال الانفتاح ، فلا ينسحب الى حال الانسداد ( فراجع ) ما ذكرناه غير مرة مفصلاً .

والحاصل من الاشكال بأن قلت : انّ الظّنّ حجّة ، كما انّ الخبر الواحد حجّة على مدعى الانسدادي ، وحاصل جواب الشيخ ب« قلت » : انّه لم يثبت بذلك كون الظّنّ حجّة .

( ويحصل ممّا ذكر ) آنفاً : من انّه لا دليل على كون الظّن حجّة شرعاً حتى يكون كالخبر الواحد ( إشكالٌ آخرٌ أيضاً ) وهو : انّ معنى حجّية الظّنّ الّذي يدّعيه الانسدادي : إنّ الظّن في حال الانسدادي يكون - كالخبر الواحد إذا قلنا بحجيته - مخصصاً ومقيّداً ومبيّناً للعام والمطلق والمجمل وما أشبه ، والحال إن ذلك لا يثبت بدليل الانسداد .

وعليه : فهذا الاشكال هو ( من جهة انّ نفي الاحتياط ب- ) سبب ( لزوم العُسر لا يوجب كون الظّنّ حجّة ناهضة لتخصيص العمومات الثّابتة بالظنون الخاصّة )

ص: 45

ومخالفة سائر الظواهر الموجودة فيها .

ودعوى : « أنّ بابَ العلم والظنّ الخاصّ إذا فرض إنسداده سقط عموماتُ الكتاب والسنّة المتواترة وخبر الواحد الثابت حُجّيتّه بالخصوص عن الاعتبار للعلم الاجماليّ بمخالفة ظواهر أكثرها لمراد المتكلم ، فلا يبقى ظاهرٌ منها على حاله حتى يكون الظنّ الموجود على خلافه من باب المخصّص والمقيّد » ،

-------------------

أي : الاصول اللفظية : كالعام والمطلق والمُجمل ، وما أشبه ( و ) ل- ( مخالفة سائر الظواهر الموجودة فيها ) أي في الظّنون الخاصة .

مثلاً : لا يكون الظّن سبباً لحمل الأمر الظاهر في الوجوب على الاستحباب ، والنهي الظاهر في التحريم على الكراهة ، الى غير ذلك ممّا إذا كان الخبر حجّة عمل بكل ذلك .

( ودعوى ) إنّا لا نحتاج الى جعل الظّن بمنزلة الخبر الواحد في الامور المذكورة ، لأنه إذا حصل الانسداد لم تكن هناك ظواهر حجّة حتى تحتاج الى التخصيص والتقليد والصرف عن الظاهر الى غير الظاهر ، وذلك كما قال : ( انّ باب العلم والظّنّ الخاص إذا فرض إنسداده ، سقط عمومات الكتاب ، والسّنة المتواترة ، وخبر الواحد الثابت حجّيته بالخصوص ) سقوطاً ( عن الاعتبار ) .

وإنّما تسقط هذه الظواهر ( للعلم الاجمالي بمخالفة ظواهر أكثرها لمراد المتكلم ) فانّ ذلك السقوط هو مقتضى العلم الاجمالي المخالف لهذه الظواهر (فلا يبقى ظاهر منها) أي : من عمومات الكتاب والسنّة وما أشبه ( على حاله ) في الظهور ( حتى يكون الظّن الموجود على خلافه من باب المخصّص والمقيّد ) ومن باب صرف الظاهر عن ظاهره الى غير ظاهر ، مثل : صرف الأمر الى

ص: 46

مجازفةٌ ، إذ لا علم ولا ظنّ بطروّ مخالفة الظاهر في غير الخطابات التي علم إجمالها بالخصوص . مثل : « وأقيموا الصلاة » ، « وللّه على الناس حِجُّ البيت » ، وشبههما .

-------------------

الاستحباب و النهي الى الكراهة .

لكن هذه الدعوى ( مجازفة ) غير صحيحة ، اذ الخطابات الشرعيّة في الكتاب والسنّة على قسمين : الأول : ما صار مجملاً بسبب وجود تخصيص أو تقييد ، أو خلاف ظاهر يرجع الى بعضها ولا نعلم الى أيّ منها ؟ فيصير الجميع مجملاً .

مثلاً : إذا قال المولى : أكرم العلماء ، ثم قال : أكرم الزّهاد ، ثم قال : لا تكرم الفُساق ، فاشتبه الأمر بانّه هل إستثنى الفسّاق من العلماء ، أو من الزّهاد ؟ فيكون وجوب الاكرام مجملاً بالنسبة الى أفراد كل من العنوانين ، وفي هذا القسم يكون كلام المدعي تاماً لانّه لا ظاهر حتى يستشكل الشيخ عليه : بأن الظن الانسدادي لا يتمكن من تخصيص أو تقييد أو صرف العمومات والمطلقات والظواهر عن ظواهرها .

القسم الثاني : مالم يصر مجملاً ، وهذا القسم لا يتمكن الظنّ الانسدادي من تقييده وتخصيصه ، وفي هذا القسم يرد إشكال الشيخ على القائل : بانّ الظّنّ الانسدادي يقوم مقام العلم والعلمي في حال الانسداد ( إذ لا علم ولا ظنّ بطروّ مخالفة الظاهر في غير الخطابات التي علم إجمالها بالخصوص مثل : « وأَقيمُوا الصَلاة » (1) « وَلِلهِ عَلى النَاسِ حِجُّ البَيتِ » (2) وشبههما ) فانّ مثل هاتين الآيتين قد علم إجمالهما ، لكثرة التخصيصات والتقييدات بالنسبة الى الصلاة والحجّ ونحوهما .

ص: 47


1- - سورة النور : الآية 56 0
2- - سورة آل عمران : الآية 97 0

وأمّا كثيرٌ من العمومات التي لا نعلم باجمال كلّ منها ، فلا يعلم ولا يظنُّ بثبوت المجمل بينها ، لأجل طروّ التخصيص في بعضها . وسيجيء بيان ذلك عند التعرّض لحال نتيجة المقدّمات إنشاء اللّه تعالى ؛ هذا كلّه حال الاحتياط في جميع الوقائع .

وأمّا الرجوعُ في كل واقعة إلى ما يقتضيه الأصل في تلك الواقعة ، من غير التفات الى العلم الاجماليّ بوجود الواجبات والمحرمات بين الوقائع ، بأن يلاحظ

-------------------

( وأمّا كثير من العمومات التي لا نعلم بإجمال كلّ منها ، فلا يعلم ولا يظنّ بثبوت المجمل بينها لأجل طروّ التخصيص في بعضها ) وحيث لم تكن هذه العمومات مجملة فهي باقية على إطلاقاتها وعموماتها ، فلا يتمكن الظّن الانسدادي من تخصيصها أو تقييدها أو صرف ظواهرها ، مثل صرف ظواهر الأمر من الوجوب الى الاستحباب .

هذا ، وقد أشار المصنّف الى القسم الأوّل من القسمين بقوله : « في غير الخطابات التي علم إجمالها » ، وأشار الى القسم الثاني بقوله : « وأمّا كثير من العمومات » .

( وسيجيء بيان ذلك عند التعرّض لحال نتيجة المقدّمات إنشاء اللّه تعالى ، هذا كله حال الاحتياط في جميع الوقائع ) وقد عرفت : إنّه غير واجب ، أو غير جائز إذا إستلزم إختلال النظام بعد أن سدّ باب العلم والعلمي بالأحكام .

(وأمّا الرّجوع في كل واقعة) واقعة (الى ما يقتضيه الأصل) العملي (في تلك الواقعة) من الاُصول الأربعة (من غير التفات الى العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات بين الوقائع ، بأن) لا يلاحظ العلم الاجمالي العام ، وإنما (يلاحظ

ص: 48

نفسُ الواقعة : فان كان فيها حكم سابق يحتمل بقاؤه إستصحب ، كالماء المتغيّر بعد زوال التغيّر . وإلاّ فان كان الشكّ في أصل التكليف ، كشرب التتن ، أجرى البراءة ، وإن كان الشك في تعيين المكلّف به ، مثل القصر والاتمام : فان أمكن الاحتياط وجب ، والاّ تخيّر ، كما إذا كان الشكّ في تعيين التكليف الالزاميّ ، كما إذا دار الأمرُ بين الوجوب والتحريم .

-------------------

نفس الواقعة ) منفردة عن سائر الوقائع .

( فان كان فيها حكم سابق يحتمل بقاؤه ) بأن كَمَّلَ أركان الاستصحاب ( إستصحب ، كالماء المتغيّر بعد زوال التغيّر ) حيث نجري إستصحاب النجاسة .

( وإلاّ ) يكن له حالة سابقة بأن لم تتم أركان الاستصحاب ( فان كان الشّك في أصل التكليف كشرب التتن أجرى البرائة ) وكذلك بالنسبة الى الشك في وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، فانّه يجري البرائة عن الوجوب أيضاً .

( وإن كان الشّك في تعيين المكلّف به ) بعد العلم بأصل التكليف ( مثل القصر والاتمام ) بأن شك المكلّف هل إنّ تكليفه القصر أو التمام ؟ ( فان أمكن الاحتياط ، وجَب ) مقدّمة لأداء التكليف المعلوم إجمالاً .

( وإلاّ ) بأن لم يمكن الاحتياط ( تخيّر ، كما إذا كان الشّك في تعيين التكليف الالزامي ، كما إذا دار الأمر بين الوجوب والتحريم ) حيث لايتمكن من الجمع بينهما ، فيتخير أحدهما من الاتيان وعدمه .

وكذا يتخيّر أحدهما إذا كان شكه بين أمرين ، من دون أن يكون أحدهما واجباً والآخر حراماً ، بل كانا واجبين أو محرّمين ، لكنّه لايتمكن من الجمع بينهما ، كما لو شك في وجوب كونه في كربلاء يوم عرفة أو كونه في عرفات ؟ .

ص: 49

ويردّ هذا الوجهَ انّ العلم الاجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات يمنع عن إجراء البراءة والاستصحاب المخالف للإحتياط ، بل وكذا العلم الاجماليّ بوجود غير الواجبات والمحرّمات في الاستصحابات المطابقة للإحتياط يمنع من العمل بالاستصحابات من حيث إنّها إستصحابات ، وإن كان لايمنع من العمل بها من حيث الاحتياط ،

-------------------

( ويردّ هذا الوجه : إنّ العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات ، يمنع عن اجراء البرائة ، والاستصحاب المخالف للاحتياط ) إذ لايجوز إجراء البرائة في أطراف العلم الاجمالي ، كما إنّه لايجوز إجراء الاستصحاب المخالف للاحتياط في أطرافه ، لأنّ العلم الاجمالي يقتضي الاشتغال لا البرائة والاحتياط لا خلاف الاحتياط .

( بل وكذا العلم الاجمالي بوجود غير الواجبات والمحرّمات في الاستصحابات المطابقة للاحتياط ، يمنع من العمل بالاستصحابات من حيث أنّها إستصحابات وان كان لايمنع من العمل بها من حيث الاحتياط ) وانّما يمنع من العمل بالاستصحابات من حيث إنّها إستصحابات ، لأنّ اليقين الّذي ينقض به اليقين أعم من الاجمالي والتفصيلي ، كما قرر ذلك في باب الاستصحاب .

مثلاً : إذا علم بعدم وجوب أحد أمرين : إمّا عدم وجوب صلاة الجمعة ، وإما عدم وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، فكيف يتمكن من إستصحاب وجوب هذه ووجوب هذا ؟ فان الاستصحاب لايجري في أطراف العلم الاجمالي لاسلباً ولا إيجاباً .

إن قلت : لانقول : بالإستصحاب ، وإنّما نقول : بالاحتياط ، فيحتاط في إتيان صلاة الجمعة ، وفي إتيان الدّعاء عند رؤية الهلال ، وكذا في غير ذلك

ص: 50

لكنّ الاحتياط في جميع ذلك يوجب العُسر .

وبالجملة ، فالعملُ بالاُصول النافية للتكليف في مواردها مستلزمٌ للمخالفة القطعيّة الكثيرة ، وبالاُصول المُثبتة للتكليف من الاحتياط والاستصحاب مستلزمٌ للحرج .

وهذا لكثرة المشتبهات في المقامين ، كما لا يخفى على المتأمّل .

وأمّا رجوعُ هذا الجاهل الذي إنسد عليه بابُ العلم في المسائل المشتبهة إلى فتوى

-------------------

من الأحكام الكثيرة .

قلت : ( لكن الاحتياط في جميع ذلك يُوجب العُسر ) والحَرج - كما قُرّر سابقاً - .

( وبالجملة : فالعمل بالاُصول النافية للتكليف في مواردها ) أي : في موارد الاُصول مثل : البرائة وإستصحاب العدم ( مستلزم للمخالفة القطعيّة الكثيرة ) وذلك ممّا لا يجوز .

( و ) العمل ( بالاُصول المثبتة للتكليف : من الاحتياط والاستصحاب ) المثبت للتكليف ( مستلزم للحَرج ) والعُسر - كما عرفت - .

( و ) عليه : فان ( هذا ) الذي ذكرناه : من المخالفة القطعيّة والحَرج ، إنّما هو ( لكثرة المشتبهات في المقامين ) في مقام الاُصول النافية ومقام الاُصول المثبتة ( كما لايخفى على المتأمّل ) لسِعة دائرة الابتلاء بالمسائل الفقهية من أوّل الفقه الى آخره .

( وأمّا رجوع هذا الجاهل ) الذي هو عالم في الحقيقة ، وإنّما يجهل بالأحكام لأنّه ( الّذي إنسدّ عليه باب العلم في المسائل المشتبهة ) بأن يرجع ( إلى فتوى

ص: 51

العالم بها وتقليده فيها ، فهو باطلٌ لوجهين : أحدُهما الاجماعُ القطعيُّ .

والثاني : أنّ الجاهل الذي وظيفته الرجوع إلى العالم هو الجاهل العاجز عن الفحص ، وأمّا الجاهل الذي يبذل الجهدَ وشاهَدَ مستَندَ العالم وغلّطه في إستناده إليه وإعتقاده عنه ، فلا دليلَ على حجّية فتواه بالنسبة إليه ، وليست فتواه من الطرق المقرّرة لهذا الجاهل .

فان من يخطئالقائل بحجيّة الخبر الواحد في فهم دلالة آية النبأ عليها ، كيف يجوز له متابعتهُ ؟ وأيّ مزيّة له عليه ؟

-------------------

العالم بها ) أي : بتلك المسائل ، وهو المجتهد الانفتاحي ( وتقليده : فيها ، فهو باطل لوجهين ) كما يلي : ( أحدهما : الاجماع القطعيّ ) فانّ أحد المجتهدين لا يجوز له الرجوع الى المجتهد الآخر قطعاً .

( والثاني : انّ الجاهل الّذي وظيفته الرّجوع الى العالم ، هو الجاهل العاجز عن الفحص ) عن الأدلة ( وأمّا الجاهل الّذي يبذل الجهد ، وشاهد مستَنَدَ العالم ، وغلّطه ) أي : غلّط العالم في إستناده الى هذا المستند ، فهو يغلّطه ( في إستناده إليه ) أي : إلى هذا المستند ( و ) في ( إعتقاده عنه ) أي : عن هذا المستند (فلا دليل على حجّية فتواه بالنسبة اليه ) أي : فتوى الانفتاحي بالنسبة الى الانسدادي ( وليست فتواه من الطرق المقررّة لهذا الجاهل ) الذي هو إنسدادي وإن كان عالماً.

( فإنّ من يخطّئالقائل بحجّية الخبر الواحد في فهم دلالة آية النبأ عليها ) ويقول بأنَّ آية النبأ لا دلالة لها على حجّية خبر الثقة أو خبر العادل ( كيف يجوز له ) أي : لهذا المخطّئ( متابعته ؟ ) أي : متابعة من يرى دلالة الآية ؟ .

ثم ( وأي مزيّة له ) أي : للانفتاحي ( عليه ؟ ) أي : على الانسدادي ، فان

ص: 52

حتّى يجب رجوُعه إليه ولا يجب العكس .

وهذا هو الوجه فيما أجمع عليه العلماء ، من أنّ المجتهد إذا لم يجد دليلاً في المسألة على التكليف كان حكمه الرّجوع إلى البراءة ، لا إلى مَنْ يعتقد وجود الدّليل على التكليف .

والحاصلُ : أنّ إعتقادَ المجتهد ليس حجةً على مجتهد آخر خال عن الاعتقاد ، وأدلّةُ وجوب رجوع الجاهل إلى العالم يُرادُ بها غير ذلك ،

-------------------

كُلاًّ منهما مجتهد كامل الاجتهاد ، فلا مزيّة للانفتاحي على الانسدادي ( حتى يجب رجوعه ) أي : الانسدادي ( إليه ) أي : الانفتاحي ( ولايجب العكس ) بأن يقال : إنّه يلزم على الانفتاحي أن يرجع الى الانسدادي .

( وهذا هو الوجه فيما أجمع عليه العلماء : من انّ المجتهد إذا لم يجد دليلاً في المسألة على التكليف ، كان حكمه الرّجوع الى البرائة ، لا إلى من يعتقد وجود الدّليل على التكليف ) في تلك المسألة .

مثلاً : إذا فحص المجتهد ولم يجد دليلاً على وجوب صلاة الجمعة ، وكان هناك مجتهد آخر يستفاد وجوب صلاة الجمعة من الآية والرواية ، فانّه يرجع إلى البرائة ، لا إلى هذا المجتهد الذي يرى الوجوب .

( والحاصل : إنّ إعتقاد المجتهد ليس حجّة على مجتهد آخر خال عن الاعتقاد ) المذكور ، ولو كان هذا المجتهد المعتقد أعلم ، لأنّ غير الأعلم يرى خطأه فكيف يتبعه ؟ .

( و ) أما ( أدلة وجوب رجوع الجاهل إلى العالم ) فانّه ( يراد بها ) أي : بتلك الأدلة ( غير ذلك ) . الذي نحن بصدده ، فان تلك الأدلّة لاتشمل رجوع المجتهد

ص: 53

لا مجرّد غير المعتقد ولو كان أعلم بالحكم .

ولا فرق بين المجتهدَين المختلفين في الاعتقاد وبين المجتهدَين اللّذين أحدهما إعتقد الحكمَ عن دلالة والآخر إعتقد فساد الدّلالة ، فلا يحصل له إعتقاد .

وهذا شيء مطّرد في باب مطلق رجوع الجاهل إلى العالم ، شاهداً كان أو مفتياً أو غيرهما .

-------------------

الى المجتهد ، بلّ هي تخص الجاهل ( لا مجرّد غير المعتقد ) فانّ الأدلّة لا تدل على رجوع غير المعتقد إلى المعتقد (ولو كان) ذلك المعتقد ( أعلم بالحكم ) منه.

( ولا فرق بين المجتهدَين المختلفين في الاعتقاد ، وبين المجتهدَين اللّذين أحدهما ، إعتقد الحكم عن دلالة ، والآخر إعتقد فساد تلك الدّلالة ) وخطأه فيها ( فلا يحصل له إعتقاد ) بها ، فانّه كما لايجوز رجوع المجتهد الّذي يرى وجوب الجمعة ، الى المجتهد الذي يرى حرمة الجمعة ، كذلك لايجوز رجوع المجتهد الذي يرى وجوب الجمعة لدلالة الآية المباركة عليها ، الى الآخر الذي يعتقد فساد تلك الدلالة .

وإن شئت قلت : إنّ المجتهد لايرجع أحدهما إلى الآخر ، سواء تطابقا في الايجاب أو في السلب ، أو أحدهما موجب والآخر سالب ، لأنّ أدلّة رجوع الجاهل الى العالم لاتشمل أمثال ذلك ، لأنّه ليس أحدهما بجاهل ، وإن إختلفا في الرأي والاعتقاد .

( وهذا ) الذي قلناه : من عدم الرجوع ، ليس خاصاً بالمجتهدين ، بل هو ( شيء مطّرد في باب مطلق رجوع الجاهل إلى العالم ، شاهداً كان أو مفتياً ، أو غيرهما ) كالمقوّم في باب التقويمات ، فانّه لايرجع العالم إلى العالم على ما عرفت .

ص: 54

المقدّمة الرابعة

في أنّه إذا وجب التعرضُ لامتثال الأحكام المشتبهة ولم يجز إهمالها بالمرّة كما هو مقتضي المقدّمة الثانية ، وثبت عدمُ وجوب كون الامتثال على وجه الاحتياط وعدم جواز الرجوع فيه الى الاصول الشرعيّة ، كما هو مقتضى المقدّمة الثالثة : تعيّن بحكم العقل التعرّضُ لامتثالها على وجه الظنّ بالواقع فيها ، إذ ليس بعد الامتثال العلميّ والظنّي بالظنّ الخاصّ المعتبر في الشريعة إمتثالٌ مقدمٌ على الامتثال الظنّي .

-------------------

( المقدّمة الرّابعة : في انّه إذا وجب التعرّض لامتثال الأحكام المشتبهة ، ولم يجز إهمالها بالمرّة ) لأنّه يوجب الخروج عن الدّين ( كما هو مقتضى المقدّمة الثانية ) وقد تقدّم بيانها .

( وثبت عدم وجوب كون الامتثال على وجه الاحتياط ) لأنّه يوجب العُسر والحَرج ، أو إختلال النظام .

( و ) ثبت أيضاً ( عدم جواز الرجوع فيه ) أي : في الامتثال ( إلى الاُصول الشرعيّة ) أو فتوى الفقيه الانفتاحي ( كما هو مقتضى المقدمة الثالثة ) على ما تقدّم.

إذن : ( تعيّن بحكم العقل التّعرض لامتثالها على وجه الظّن بالواقع فيها ) أي : في تلك الأحكام ، وسيأتي إنشاء اللّه الكلام فيما إذا كان الظنّ بالطريق لا ظنّاً بالواقع ( إذ ليس بعد الامتثال العلميّ والظّنّي بالظّن الخاص المعتبر في الشريعة ) كالخبر الواحد إذا قلنا بحجيته ( إمتثال ) وهو : إسم ليس ( مقدمٌ على الامتثال الظّني ) كالقرعة ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، والقياس ، وما أشبه ذلك ، فلم يَبق إلاّ الامتثال الظّني .

ص: 55

توضيح ذلك : أنّه إذا وجب عقلاً أو شرعاً التعرّضُ لإمتثال الحكم الشرعي فله مراتبُ أربع .

الأولى : الامتثال العلميُّ التفصيليّ ، وهو أنّ يأتي بما يعلم تفصيلاً أنّه هو المكلّفُ به ، وفي معناه ما إذا ثبت كونه هو المكلّف به بالطريق الشرعيّ وإن لم يُفِدْ العلم ولا الظنّ ، كالأصول الجارية في مواردها وفتوى المجتهد بالنسبة إلى الجاهل العاجز عن الاجتهاد .

-------------------

( توضيح ذلك : انّه إذا وجب عقلاً أو شرعاً التعرّض لامتثال الحكم الشرعيّ ، فله مراتب أربع ) بحسب مايراه العقل الحاكم في باب الاطاعة ؛ والشرع لو قال بذلك فانّما هو من باب الارشاد .

( الأولى : الامتثال العلميّ التفصيليّ ) بأن يعلم انّه حكم المولى فيتبعه ( وهو : أن يأتي بما يعلم تفصيلاً انّه هو المكلّف به ) فيأتي به عن علم ، ( وفي معناه ) أي : في معنى الامتثال العلميّ التفصيلي ( ما إذا ثبت كونه هو المكلَّف به بالطّريق الشرعيّ ) الذي يعبّر عنه بالظنون الخاصّة ، كالظّنّ بحجّية خبر الواحد ، وما أشبه .

( وإن لم يُفِد العلم ولا الظّنّ ) أي : ظنّاً شخصياً ( كالأصول الجارية في مواردها ) فانّ الانسان المجتهد يجب عليه أن يتّبع الأخبار ، ويتّبع الاُصول في الموارد التي ليست فيها خبر ( و ) كذلك يجب على الانسان الجاهل إتّباع ( فتوى المجتهد بالنّسبة الى الجاهل العاجز عن الاجتهاد ) فان العقلاء يُلزمون الجاهل على أن يَرجِعَ إلى العالم ، والشارع لم يحدث طريقاً جديداً ، بل قرّر الطريق العقلائي .

نعم ، أضاف شروطاً الى شروط العقلاء كأن يكون العالم رجلاً ، عادلاً ، طاهر المولد ، إلى غير ذلك ممّا ذكروه في باب التقليد .

ص: 56

الثانية : الامتثال العلميّ الاجماليّ ، وهو يحصل بالاحتياط .

الثالثة : الامتثال الظنيّ ، هو أن يأتي بما يظنّ أنّه المكلّف به .

الرابعة : الامتثال الاحتماليّ ، كالتعبّد بأحد طرفيّ المسألة من الوجوب والتحريم أو التعبّد ببعض محتملات المكلّف به عند عدم وجوب الاحتياط أو عدم إمكانه .

-------------------

( الثانية : الامتثال العلميّ الاجمالي ، وهو يحصل بالاحتياط ) لكن لاينبغيالاشكال في انّه في غير العبادات يجوز الاحتياط إذا لم يكن محذور خارجي ، فإذا قال المولى : إئت بكتاب الكفاية وهو يتمكن من معرفته تفصيلاً ، جاز له أن يأتي بكتابين يعلم بأنّ أحدهما كفاية .

نعم ، فيما إذا قال : أسقِ الحديقة ، لم يجز له أن يسقيها بمائين يعلم إنّ أحدهما حلوّ إذا كانت الحديقة تتضرّر بكثرة الماء ، أو بالماء المالح ، إلى غير ذلك من الأمثلة التي فيها محذور خارجي .

( الثالثة : الامتثال الظّني ، وهو أن يأتي بما يظنّ أنّه المكلَّف به ) أو بما يظنّ أنّه التكليف ، فإذا ظنّ بأنّ الجمعة واجبة أتى بها دون الظهر ، وإذا ظنّ بأنّ التكليف الحرمة والوجوب لم يأت بالشيء .

( الرابعة : الامتثال الاحتمالي ، كالتعبّد بأحد طرفيّ المسألة من الوجوب والتحريم ) مع عدم كون أحد الطرفين مظنوناً - كما هو المفروض - وعدم وجوب الاحتياط ، أو عدم جوازه ( أو التعبّد ببعض محتملات المكلّف به عند عدم وجوب الاحتياط ، أو عدم إمكانه ) أي : إمكان الاحتياط ، أو إيجابه إختلال النظام ونحوه .

ومثال التعبّد ببعض محتملات المكلّف به : هو كما إذا كان له خمسون ثوباً

ص: 57

وهذه المراتب مترتّبة لايجوز بحكم العقل العدولُ عن سابقتها إلى لاحقتها إلاّ مع تعذّرها ، على إشكال في الأوّلين تقدّم في أوّل الكتاب .

وحينئذٍ : فاذا تعذّرت المرتبة الأُولى ولم تجب الثانيةُ تعيّنت الثالثةُ ، ولا يجوز الاكتفاء بالرّابعة .

فاندفع بذلك : ما زعمه بعضُ من تصدّى لردّ دليل الانسداد بأنّه

-------------------

أحدها طاهر فقط ، حيث لايتمكن من الاتيان بخمسين صلاة ، فيأتي بالميسور من تلك الصلوات .

( وهذه المراتب ) الأربع ( مترتّبة ) بمعنى : انّه ( لايجوز بحكم العقل العدول عن سابقتها الى لاحقتها ، إلاّ مع تعذرها ) أي : مع تعذر السابقة ، وذلك ( على إشكال في الأوّلين ، تقدَّم في أوّل الكتاب ) وقد ألمعنا إليه هاهنا : بأنّه يجوز الاتيان بالإجمالي مع الامكان من التفصيليّ فيى غير العبادات قطعاً ، وفي العبادات أيضاً على التفصيل المتقدّم .

( وحينئذ : فإذا تعذّرت المرتبة الأولى ولم تجب الثّانية تعيّنت الثالثة ) وهي : الاتيان بالتكليف الظّني ، أو المكلّف به الظّنيّ ( ولايجوز الاكتفاء بالرّابعة ) من الامتثال الاحتمالي مع وجود الظّنّ ، كما إنّه لايجوز الاتيان بالموهوم مع وجود المظنون ، فإذا ظنّ بوجوب الجمعة لم يأت بالظهر وهو موهوم .

وكذا إذا كان المولى يريد إشتراء دار ، وهناك ثلاثة دور ، فالدّار الواسعة مظنون إرادة المولى لها ، والدار الضيّقة موهوم إرادة المولى لها ، أمّا الدار المتوسطة فمشكوك انّه يريدها أو لايريدها ، فانّه لايشتريها والحال إنّ الظّن موجودٌ .

( فاندفع بذلك مازعمه بعضُ من تصدّى لردّ دليل الانسداد ) فردّه ( :بأنّه

ص: 58

لا يلزم من إبطال الرّجوع إلى البراءة ووجوب العمل بالإحتياط وجوبُ العمل بالظّن ، لجواز أن يكون المرجع شيئاً آخر لانعلمه ، مثل القرعة والتقليد أو غيرهما ممّا لانعلمه .

فعلى المستدلّ سدُّ هذه الاحتمالات ، والمانع يكفيه الاحتمال .

توضيحُ الاندفاع - بعد الاغماض عن الاجماع على عدم الرجوع إلى القرعة وما بعدها - أنّ مجرّدَ إحتمال كون شيء غير الظّنّ طريقاً شرعيّاً لايوجب العدول عن الظنّ إليه ، لأنّ الأخذَ بمقابل المظنون قبيحٌ في مقام

-------------------

لا يلزم من إبطال الرّجوع إلى البرائة ، و ) إبطال ( وجوب العمل بالإحتياط ) لا يلزم منه ( وجوب العمل بالظّن ، لجواز أن يكون المرجع ) في الاطاعة ( شيئاً آخر لانعلمه ) نحن بعينه ، وإن كنّا نحتمله إحتمالاً ( مثل القرعة والتقليد أو غيرهما ممّا لا نعلمه ) كالإستحسانات ، والمصالح المرسلة ، والقياس ، وما أشبه ذلك .

قال : ( فعلى المستدِّل ، سَدُّ هذه الاحتمالات ، و ) ذلك لأن ( المانع يكفيه الاحتمال ) فانّا نحتمل كون اللازم العمل بشيء آخر ، كالقرعة ونحوها ، لا العمل بالظّن ، فمن يريد إثبات العمل بالظّن فعليه الاثبات ، أما نحن المانعين ، فيكفينا الاحتمال .

( توضيح الاندفاع ) - إنّا - نحن المدّعين للزوم الأخذ بالظّن ، لنا دليل وهو العقل بحسب المراتب التي ذكرناها ، فالمانع الذي يقول بغير الظّن عليه الاثبات ، فإنّه ( بعد الأَماض عن الاجماع على عدم الرجوع الى القرعة وما بعدها ) من التقليد ، والمصالح المرسلة ، ونحوها ، نقول : ( إنّ مجرّد إحتمال كون شيء غير الظّنّ طريقاً شرعياً لايوجب العدول عن الظّن اليه ) .

وإنّما لايوجب العدول عن الظّنّ اليه ( لأنّ الأخذ بمقابل المظنون قبيح في مقام

ص: 59

إمتثال الواقع وإن قام عليه مايحتمل أن يكون طريقاً شرعيّاً ، إذ مجرّد الاحتمال لايجدي في طرح الطّرف المظنون ، فانّ العدولَ عن الظنّ إلى الوهم والشكّ قبيحٌ .

-------------------

إمتثال الواقع ) حيث الأمر دائر بين الشّك والظّن والوَهم ، والعقل والعقلاء يقدِّمون الظنّ عليهما - كما عرفت - ( وإن قام عليه ) أي : على غير المظنون ( مايحتمل أن يكون طريقاً شرعيّاً ) مثل : « القُرعَةُ لِكُلِّ أَمرٍ مُشكِل » (1) وقوله سبحانه : « يَأخُذُوا بِأحْسَنِها » (2) في مقام الاستحسان ، إلى غير ذلك من الأدلة التي ذكروها لغير الظّن ( إذ مجرّد الاحتمال ) غير المدعوم بالدلّيل القطعي ( لايجدي في طرح الطّرف المظنون ) .

وإنّما لايجدي لأنّه قال : ( فانّ العدول عن الظّنّ الى الوهم والشّك قبيح ) عقلاً وعقلائياً .

والفرق بين العقليّ والعقلائي : إنّ مايراه العقل لايجوز خلافه ، أمّا مايراه العقلاء فيجوز خلافه .

مثلاً : العقل يرى إستحالة إجتماع النقيضين أو عدم جواز كفران النعم ، والعقلاء يَرَوْنَ - مثلاً - السَير عن طرف اليمين في الشوارع ، فلهم أن يبدّلوا ذلك إلى السير من طرف اليسار ، فكُلّ عقلٍ عقلائيّ ، أمّا ليس كُلّ عقلائي بعقليّ ، فانّ العقلاء لايجوّزون خلاف العقل ، لكنّ العقل يجوّز خلاف العقلاء ، فبينهما عموم مُطلَق .

ص: 60


1- - تهذيب الاحكام : ج9 ص258 ب4 ح13 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص92 ب2 ح3389 ، بحار الأنوار : ج91 ص234 ب2 ح7 ، فتح الابواب : ص292 ، غوالي اللئالي : ج2 ص112 و ص285 و ج3 ص512 .
2- - سورة الاعراف : الآية 145 .

والحاصلُ : أنّه كما لايحتاج الامتثال العلميّ إلى جعل جاعل ، فكذلك الامتثال الظنّي بعد تعذّر الامتثال العلميّ وفرض عدم سقوط الامتثال .

وإندفع بما ذكرنا أيضاً ما ربّما يتوهّمُ من التنافي بين التزام بقاء التكليف في الوقائع المجهولة الحكم وعدم إرتفاعه بالجهل وبين التزام العمل بالظنّ نظراً إلى أنّ التكليف بالواقع لو فرض بقاؤه فلا يُجدي غير الاحتياط وإحراز الواقع في إمتثاله .

توضيحُ الاندفاع :

-------------------

( والحاصل : إنّه كما لايحتاج الامتثال العلميّ إلى جعل جاعل ) ولو جعله كان إرشاداً محضاً ( فكذلك الامتثال الظّني بعد تعذر الامتثال العلميّ وفرض عدم سقوط الامتثال ) بأنّ كان الامتثال واجباً ولم يكن طريق علمي ، فانّ العقل والعقلاء يرجعون فيه إلى الظّنّ بلا جعل جاعل .

كما ( وإندفع بما ذكرنا أيضاً ) من كون الظّنّ طريقاً عقلياً بعد تعذّر الامتثال العلمي وفرض عدم سقوط الامتثال ( ما ربّما يتوهم من التّنافي بين التزام بقاء التكليف في الوقائع المجهولة الحكم ) « والحكم » فاعل « المجهولة » ( وعدم إرتفاعه ) أي : التكليف ( بالجهل ) فانّ الجهل لايرفع التكليف ( وبين إلتزام العمل بالظّن ) .

وإنّما زعم التنافي بين الأَمرين ( نظراً إلى أنّ التكليف بالواقع لو فرض بقاؤه ، فلايُجدي غير الاحتياط وإحراز الواقع في إمتثاله ) فيكون الاحتياط لازماً لا الرجوع الى الظنّ ، وذلك بحسب ماتقدّم من المراتب ، حيث إنّه إذا تَعذَّر العلم ، وهي المرتبة الأولى صارت المرحلة للمرتبة الثانية ، وهي الامتثال الاجمالي بالإحتياط .

( توضيح الاندفاع ) وخلاصته : بانّه لاينافي بقاء التكليف مع عدم وجوب

ص: 61

إنّ المراد من بقاء التكليف بالواقع نظير التزام بقاء التكليف فيما تردّد الأمرُ بين محذورين من حيث الحكم أو من حيث الموضوع بحيث لايمكن الاحتياط ، فانّ الحكم بالتخيير لاينافي التزام بقاء التكليف ، فيقال : إنّ الأخذَ بأحدهما لايُجدي في إمتثال الواقع ،

-------------------

الاحتياط ، وذلك كما قال : ( إنّ المراد من بقاء التكليف بالواقع ) هو ( : نظير التزام بقاء التكليف فيما تردّد الأمر بين محذورين ) فإنّه لايراد به لزوم إحراز الواقع بما هو واقع ، بل اللازم أن يأتي بشيء ، بمعنى أنّه لم يسقط الحكم إطلاقاً .

فإنّه إذا تردد الأمر بين محذورين ( من حيث الحكم ) بأن لم يعلم إنّ صلاة الجمعة واجبة أو محرمة ؟ ( أو من حيث الموضوع ) كما إذا تردّدت المرأة بين محلوفة الوطي ، أو محلوفة عدم الوطي ( بحيث لايمكن الاحتياط ) بالجمع بين الأمرين لأنّهما في طرفي نقيض ( فانّ الحكم بالتخيير لاينافي إلتزام بقاء التكليف ) إذ لو لم يكن تكليف جاز أن يترك في جمعة : الظهر ، ويأتي في جمعة ثانية بها ، كما إنّه جاز أن يترك الوطي ليلة ويطأ ليلة .

هذا لو لم يبق تكليف ، أمّا إذا قلنا ببقاء التكليف مع التخيير ( فيقال : ) أي : حتى يقال : ( إنّ الأخذ بأحدهما لايُجدي في إمتثال الواقع ) وذلك لأنّ المقصود من بقاء التكليف : انّه باق في الجملة ، لا أنّه يجب أن يأتي الانسان بما يطابقه قطعاً .

إذن : فالإلتزام ببقاء التكليف بالواقع مع كفاية الامتثال الظّني ، يكون نظير الالتزام ببقاء التكليف في جميع موارد الامارات المعتبرة الشرعيّة ، والظّنون الخاصة ، وموارد الاُصول ، الّتي لايقطع المكلّف مع الأخذ بها بأنّه أتى بالواقع

ص: 62

لأنّ المراد ببقاء التكليف عدمُ السقوط رأساً بحيث لايعاقب عند ترك المحتملات ، كُلاّ ، بل العقل يستقلّ بإستحقاق العقاب عند الترك رأساً ، نظير جميع الوقائع المشتبهة فيما نحن فيه نظيرُ إشتباه الواجب بين الظهر والجمعة في يوم الجمعة بحيث يقطع بالعقاب بتركهما معاً مع عدم إمكان الاحتياط أو كونه عُسراً قد نصّ الشارع على نفيه مع وجود الظن بأحدهما ، فإنّه

-------------------

الأوّلي ( لأنّ المراد ببقاء التكليف : عدم السقوط رأساً ، بحيث لايعاقب عند ترك المحتملات كُلاً ) لو فرض إمكان ترك المحتملات كُلاً ، أو كما ذكرناه في المثال : بأن يطأ ليلة ويترك ليلة ، ويصلي الظهر يوماً والجمعة يوماً .

وقوله : « لأنّ المراد » علّة ودليل لقوله : « لا ينافي التزام بقاء التكليف » .

( بل العقل يستقل بإستحقاق العقاب عند التّرك رأساً ) فيما يمكن الجمع والمخالفة القطعية في ليلةٍ وليلة ويوم جمعة ويوم جمعة ف- ( نظير جميع الوقائع المشتبهة فيما نحن فيه ، نظير إشتباه الواجب بين الظهر والجمعة في يوم الجمعة بحيث يقطع بالعقاب بتركهما معاً مع عدم إمكان الاحتياط ) لأنّه لا قدرة له - مثلاً -

على الاحتياط ( أو كونه عُسراً قد نصّ الشارع على نفيه ) .

مثل قوله تعالى : « ماجَعَلَ عَلَيكُم في الدِّينِ مِن حَرَج » (1) .

وقوله تعالى : « يُرِيدُ اللّه ُ بِكُمُ اليُسرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ » (2) .

( مع وجود الظّنّ بأحدهما ) أي : بأحد من الجمعة والظهر ( فانّه ) حينئذ

ص: 63


1- - سورة الحج : الآية 78 .
2- - سورة البقرة : الآية 185 .

يدور الأمرُ بين العمل بالظّنّ والتخيير والعمل بالموهوم .

فإنّ إيجابَ العمل بكلّ من الثلاثة وإن لم يُحرَز به الواقعُ ، إلاّ أنّ العمل بالظنّ أَقربُ إلى الواقع من العمل بالموهوم والتخييّر فيجب عقلاً ، فافهم .

ولا فرقَ في قبح طرح الطرف الراجح والأخذ بالمرجوح بين أن يقوم على المرجوح مايحتمل أن يكون طريقاً معتبراً شرعاً وبين أن لا يقوم ،

-------------------

(

يدور الأمر بين العمل بالظّنّ ) بأن يأتي بالمظنون .

( والتخيير ) بأن يتخير بين أن يأتي بهذا أو بذاك .

( والعمل بالموهوم ) بأنّ يأتي بالذي هو في قِبال المظنون .

( فانّ إيجاب العمل بكلّ من الثلاثة ) ظنّاً أو تخييراً ، أو وَهماً ( وإن لم يُحرزَ به الواقع ، إلاّ إنّ العمل بالظّنّ أقرب إلى الواقع من العمل بالموهوم والتخّيير ) عند العقلاء .

وعليه : ( فيجب ) العمل بالمظنون ( عقلاً ) وعقلائياً .

( فافهم ) لعله إشارة إلى إنّ التخييّر عبارة أخرى عن جواز العمل بالموهوم ، فليس الأمر دائراً بين ثلاثة أشياء ، بل بين إثنين ، إذ لايقول أحد بأنّه يعمل بالموهوم ولا يعمل بالمظنون .

هذا ( ولا فرق في قُبح طرح الطّرف الرّاجح والأخذ بالمرجوح ، بين أن يقوم على المرجوح مايحتمل أن يكون طريقاً معتبراً شرعاً ، وبين أن لا يقوم ) عليه ذلك ، كما إذا كان الظّن على وجوب الجمعة ، والوهم على عدم وجوبها ، لكن كان يؤيد الوهم الشهرة الّتي يحتمل إنّها طريق معتبر شرعاً ، فانّ إحتمال طريقيّة الشهرة لايسبّب تساوي الموهوم مع المظنون ، فضلاً عن أن يسبّب ترجيح الموهوم على المظنون .

ص: 64

لأنّ العدول عن الظنّ إلى الوهم قبيح ، ولو باحتمال كون الطرف الموهوم واجب الأخذ شرعاً ، حيث قام عليه مايحتمل كونه طريقاً .

نعم ، لو قام على الطرف الموهوم ما يظنّ كونه طريقاً معتبراً شرعيّاً ودار الأمرُ بين تحصيل الظنّ بالواقع وبين تحصيل الظّنّ بالطريق المعتبر الشرعيّ ، ففيه كلامٌ سيأتي إنشاء اللّه تعالى .

والحاصل : أنّه - بعد ما ثبت بحكم المقدّمة الثانية

-------------------

وذلك : لأنّ إحتمال الطريقيّة ممّا لم يجعله العقلاء دليلاً ولا مؤيداً ( لأنّ العدول عن الظنّ إلى الوهم قبيحٌ ولو ) كان العدول ( بإحتمال كون الطرف الموهوم واجب الأخذ شرعاً ) وإنّما يحتمل كونه واجب الأخذ شرعاً ( حيث قام عليه ) أي : على الموهوم ( مايحتمل كونه طريقاً ) كالشهرة في المثال الذي ذكرناه .

( نعم ، لو قام على الطّرف الموهوم مايظنّ كونه طريقاً معتبراً شرعيّاً ) كما إذا ظنّ وجوب الجمعة وقام الاجماع على حرمة الجمعة ، والاجماع ممّا يظنّ كونه طريقاً معتبراً شرعاً ( ودار الأمر بين تحصيل الظّنّ بالواقع ) كوجوب الجمعة ( وبين تحصيل الظّن بالطريق المعتبر الشرعيّ ) كالظنّ بحجّية الاجماع ، والمفروض انّ الاجماع قام على حرمةِ الجمعة حتى وقع التعارض بين الظّنين : الظّنّ بالحكم والظّنّ بالطريق .

( ففيه كلام سيأتي إنشاء اللّه تعالى ) وانّه هل يقدّم الظنّ بالواقع ، أو الظنّ بالطّريق عند التعارض ، أو يتساويان ؟ .

( والحاصل : انّه بعد ماثبت بحكم المقدّمة الثانية ) وهي : عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة على كثرتها ، وترك التعرّض لامتثالها بنحو من الانحاء ، فيحكم

ص: 65

وجوبُ التعرّض لامتثال المجهولات بنحو من الانحاء وحرمةُ إهمالها وفرضها كالمعدوم ، وثبت بحكم المقدّمة الثالثة عدمُ وجوب إمتثال المجهولات بالاحتياط وعدمُ جواز الرّجوع في إمتثالها إلى الاُصول الجارية في نفس تلك المسائل ولا إلى فتوى من يدّعي إنفتاح باب العلم بها - تعيّن وجوبُ تحصيل الظنّ بالواقع فيها وموافقته ، ولايجوز قبل تحصيل الظنّ الاكتفاء بالأخذ بأحد طرفيّ المسألة ،

-------------------

العقل ب( وجوب التعرّض لامتثال المجهولات بنحو من الأنحاء وحرمة إهمالها وفرضها ) أي : الأحكام المجهولة ( كالمعدوم ) وانّه لا حكم على المكلّف .

( وثبت بحكم المقدّمة الثّالثة : عدم وجوب إمتثال المجهولات بالإحتياط ) لأنّه عُسرٌ وحَرجٌ ، بل بعض أقسام الاحتياط متعذّر ، كالذي يسبّب إختلال النظام ونحوه .

( وعدم جواز الرجوع في إمتثالها الى الاصول الجارية في نفس تلك المسائل ) من الاستصحاب ، والبرائة ، والتخيير ، والاحتياط .

( ولا إلى فتوى من يدّعي إنفتاح باب العلم بها ) أي : بتلك المجهولات .

وعليه : فان بعد هذه المقدمات ، قد ( تعيّن وجوب تحصيل الظنّ بالواقع فيها ) أي : في المجهولات ( وموافقته ) أي : موافقة الظنّ .

( ولا يجوز قبل تحصيل الظنّ الاكتفاء بالأخذ بأحد طرفيّ المسألة ) من دون الفحص والبحث بما يوجب تحصيل الظنّ بأحد طرفي المسألة .

ص: 66

ولا بعدَ تحصيل الظنّ الأخذُ بالطرف الموهوم ، لقبح الاكتفاء في مقام الامتثال بالشكّ والوهم مع التمكّن من الظنّ ،كما يقبح الاكتفاء بالظنّ مع التمكّن من العلم ، ولايجوز أيضاً الاعتناء بما يحتمل أن يكون طريقاً معتبراً مع عدم إفادته للظنّ ، لعدم خروجه عن الامتثال الشكّيّ أو الوهميّ .

هذا خلاصةُ الكلام في مقدّمات دليل الانسداد المنتجة لوجوب العمل بالظّنّ في الجملة .

-------------------

( ولا ) يجوز ( بعد تحصيل الظّنّ ، الأخذ بالطّرف الموهوم ، لقبح الاكتفاء في مقام الامتثال بالشّك والوهم مع التمكن من الظّنّ ) لِما تَقَدَم : من إنّ العقلاء يقدّمون الظّنّ على الشك والوهم ( كما يقبح الاكتفاء بالظّنّ مع التمكن من العلم ) والعلميّ لِما قد عرفت : من إنّ العلمي يقوم مقام العلم أيضاً .

( ولا يجوز أيضاً الاعتناء بما يحتمل أن يكون طريقاً معتبراً مع عدم إفادته للظّنّ ) كالشهرة في المثال المتقدّم ( لعدم خروجه ) أي : الحكم الّذي قام عليه محتمل الّطريق ، كحرمة صلاة الجمعة في المثال المتقدّم ، فإنّه لايخرج بقيام الّطريق المحتمل عليه ( عن الامتثال الشّكي أو الوهمي ) إذ الاحتمال لايخرج عن كونه شكّاً أو وهماً .

( هذا خلاصة الكلام في مقدمات دليل الانسداد ، المنتجة لوجوب العمل بالظّنّ في الجملة ) وسيأتي إنشاء اللّه تعالى في التنبيهات : إنّ مقدمات دليل الانسداد هل تنتج الكلّية أو الاهمال ؟ وإذا أنتجت الاهمال ، فانّا نحتاج الى مقدمات أُخر لإفادة النتيجة المعيَّنة .

ص: 67

وينبغي التنبيه على أُمور

الأوّل :

إنّك قد عرفتَ أنّ قضيّة المقدّمات المذكورة وجوبُ الامتثال الظنّيّ للأحكام المجهولة ، فاعلم أنّه لافرق في الامتثال الظنيّ بين تحصيل الظنّ بالحكم الفرعيّ الواقعيّ ، كأنّ يحصل من شهرة القدماء الظنُّ بنجاسة العصير العنبيّ ، وبين تحصيل الظنّ بالحكم الفرعيّ الظاهريّ ، كأن يحصل من أمارة الظنّ بحجّية أمر لايفيد الظنّ ، كالقرعة مثلاً .

-------------------

ثم أشار إلى التنبيهات بقوله : ( وينبغي التنبيه على أُمور ) مرتبطة ببحث الانسداد :

( الأوّل : إنّك قد عرفتَ : إنّ قضية المقدّمات المذكورة : وجوب الامتثال الظّني للأحكام المجهولة ، فاعلم ) إنّهم إختلفوا في إنّ مقدمات دليل الانسداد هل تُفيد حجّية الظّنّ بالحكم فقط، أو حجّية الظّنّ بالطّريق فقط، أو حجّية الظّنّ بأيهما حصل؟.

فالأول : مختار الشيخ البهائي والمحقّق القميّ وصاحب الرياض ، والثاني : مختار الشيخ أسدُ اللّه التُستري ، وتلميذيه : الأخوين صاحب هداية المُسترشدين والفُصول ، والثالث : مختار المصنّف وجملة من المحقّقين .

ولهذا قال المصنّف : ( انّه لافرق في الامتثال الظّني ) الّذي يراه العقلاء عند الانسداد ( بين تحصيل الظّن بالحكم الفرعيّ الواقعيّ ، كأن يحصل من شهرة القدماء : الظنّ بنجاسة العصير العنبي ) فانّ الظّن وصل الى الحكم ، ( وبين تحصيل الظّن بالحكم الفرعيّ الظاهريّ كأن يحصل من أمارة : الظّنّ بحجيّة أمرٍ لايفيد الظنّ ) بالحكم الواقعي ( كالقرعة مثلاً ) كأن يظّن المجتهد بحجّية القرعة ، ثم أقرع بالنسبة الى العصير العنبي، والقُرعة أفادت نجاسة العصير العنبي

ص: 68

فاذا ظنّ حجيّة القرعة حصل الامتثال الظنّي في مورد القرعة ، وإن لم يحصل ظنّ بالحكم الواقعيّ ، إلاّ أنّه حصل ظنّ ببراءة ذمّة المكلّف في الواقعة الخاصّة ، وليس الواقع بما هو واقع مقصوداً للمكلّف إلاّ من حيث كون تحقّقه مبرءاً للذّمّة .

فكما أنّه لا فرق في مقام التمكّن من العِلم بين تحصيل العلم بنفس الواقع وبين تحصيل العلم بموافقة طريق عُلِمَ كونُ سلوكه مبرءاً للذمّة في نظر الشارع ،

-------------------

بدون أن يظنّ المقترع بنجاسته .

( فاذا ظنّ ) المجتهد ( حجّية القرعة ) وهي طريق الى الحكم ( حصل الامتثال الظّني في مورد القرعة وإن لم يحصل ظّن بالحكم الواقعي ) أي : لم يظنّ بنجاسة العصير العنبي ( إلاّ أنّه حصل ظنّ ببرائة ذمّة المكلّف في الواقعة الخاصة ) وهي العصير العنبي .

وإنّما سماه ظاهرياً : لأنّه لم يظنّ بالنّجاسة ، لكن حيث أدّت القرعة الى النّجاسة ، يتمكن المجتهد أن يقول : الّظاهر إنّه نجس .

وإستدَّل المصنّف لاثبات عدم الفرق في الّظنّ ، بين الّظنّ بالواقع أو الّظنّ بالطريق بقوله : ( وليس الواقع - بما هو واقع - مقصوداً للمكلَّف إلاّ من حيث كون تحققّه مُبرئاً للذمة ) فان مقصود المكلَّف أولاً وبالذات برائة الذمة ، لا الواقع بما هو واقع ، فانّه يريد المؤمِّن من العقاب ، والمؤمِّن هو برائة ذمته .

( فكما انّه لافرق في مقام التمكّن من العلم ) بأن لم يكن إنسداد ( بين تحصيل العلم بنفس الواقع ، وبين تحصيل العلم بموافقة طريق عُلِمَ كون سلوكه مبرءاً للذّمة في نظر الشّارع ) كما إذا كان - مثلاً في حال الانفتاح - خبر الواحد حجّة ،

ص: 69

فكذا لا فرقُ عند تعذّر العلم بين الظنّ بتحقّق الواقع وبين الظنّ ببراءة الذمّة في نظر الشارع .

وقد خالف في هذا التعميم فريقان : أحدهما : من يرى أنّ مقدّمات دليل الانسداد لا تُثبِتُ إلاّ إعتبار الظنّ وحجّيّته في كون الشيء طريقاً مبرءاً للذمّة في نظر الشارع ولا يثبت إعتباره في نفس الحكم الفرعيّ ، زعماً منهم عدمَ نهوض المقدّمات المذكورة لاثبات حجّية الظنّ في نفس الأحكام الفرعيّة ،

-------------------

فلا فرق عند المكلَّف بين أن يعلم بوجوب الجمعة ، أو يقوم الخبر الواحد بوجوبها ، فانّه في الحالين إذا أتى بالجمعة برئت ذمته عن التكلّيف عند العقلاء .

( فكذا لا فرق عند تعذّر العلم ) للإنسداد ، حيث يقوم الظّنّ مقام العلم ( بين الظّنّ بتحقق الواقع وبين الظّنّ ببرائة الذمّة في نظر الشّارع ) بسبب وصول الطريق المظنون الى ذلك الحكم كما مثلنا في القرعة .

( وقد خالف في هذا التعميم ) بين الظّنّ بالطّريق ، والظّنّ بالواقع ( فريقان ) من الأصحاب :

( أحدهما : من يرى : إنّ مقدّمات دليل الانسداد لا تُثبِتُ إلاّ إعتبار الظّنّ وحجّيته) أي : حجّية الظّنّ ( في كون الشيء طريقاً ) شرعياً ( مبرئاً للذّمّة في نظر الشّارع ) أي : الظّنّ بالطّريق ( ولا يثبت إعتباره ) أي : الظّنّ ( في نفس الحكم الفرعي ) فإذا ظنّ بنجاسة العصير العنبي لاينفع هذا الظنّ ، أمّا إذا ظنّ بحجّية القرعة ، فأقرع ، وخرجت القرعة على نجاسة العصير العنبي ، وجب عليه الاجتناب عنه .

( زعماً منهم ) أي : من هذا الفريق ( عدم نهوض المقدّمات المذكورة ) للإنسداد ( لاثبات حجّية الظّنّ في نفس الأحكام الفرعيّة ) .

ص: 70

إمّا مطلقاً أو بعد العلم الاجماليّ بنصب الشارع طرقاً للأحكام الفرعيّة .

الثاني : مقابلُ هذا ، وهو من يرى انّ المقدّمات المذكورة ، لا تثبتُ إلاّ إعتبارَ الظنّ في نفس الأحكام الفرعيّة .

وأمّا الظنّ بكون الشيء طريقاً مُبرءاً للذمّة فهو ظنّ في المسألة الاصوليّة لم يثبت إعتباره فيها من دليل الانسداد ، لجريانها في المسائل الفرعيّة دون الاصوليّة .

وأمّا الطائفة الاُولى فقد ذكروا لذلك وجهين :

-------------------

والحاصل : إن الظنّ بالأصول حجّة ، وليس الظن بالفروع حجّة ( إمّا مطلقاً ) سواء علم إجمالاً بنصب الشارع طرقاً للأحكام الفرعية ، أم لا ( أو بعد العلم الاجمالي بنصب الشارع طرقاً للأحكام الفرعيّة ) وقد عرفت : إنّ هذا القول هو قول التُستري وتلميذيّه .

الفريق ( الثّاني : مقابل هذا ) الفريق الأول ( وهو من يرى : إنّ المقدّمات المذكورة ) للانسداد ( لاتُثبت إلاّ اعتبار الظّنّ في نفس الأحكام الفرعيّة ) كالظّنّ بنجاسة العصير العنبي .

( وأما الظّنّ بكون الشيء طريقاً مبرءاً للذّمة ) كالظّنّ بحجّية القرعة ( فهو ظنّ في المسألة الاصوليّة ) والظّنّ في المسألة الاصولية ( لم يثبت إعتباره فيها ) أي : في المسألة الاصولية ( من دليل الانسداد لجريانها في المسائل الفرعيّة دون الاصوليّة ) وهذا مختار الشيخ البهائي ، والمحقّق القمّي، وصاحب الرياض - كما مر - .

هذا ، وقد عرفت : إنّ مقتضى دليل الانسداد حجّية الظنّ الأعم من الظنّ بالحكم الفرعي أو بالمسألة الاصوليّة ، أي : الطّريق المؤدّي الى الأحكام الفرعيّة .

( وأمّا الطائفة الاُولى ) وهم التُستري وتلميذاه : ( فقد ذكروا لذلك وجهين )

ص: 71

أحدهما :

وهو الذي اقتصر عليه بعضهم - مالفظه : « إنّا كما نقطعُ بأنّا مكلّفون في زماننا هذا تكليفاً فعليّاً بأحكام فرعيّة كثيرة ، لاسبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع ولا بطريق معيّن يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه ، أو قيام طريقه مقامَ القطع ولو عند تعذّره، كذلك نقطعُ بأنّ الشارعَ قد جعل لنا إلى تلك الأحكام

-------------------

كما يلي : ( أحدهما : وهو الذي إقتصر عليه بعضهم ) وهو صاحب الفصول ( ما لفظه ) كالتالي : ( إنّا كما نقطع بأنّا مكلَّفون في زماننا هذا تكليفاً فعليّاً بأحكام فرعيّة كثيرة ) لأن من ضروريّات الدّين : إنّ المسلمين مكلّفون الى يوم القيامة بأحكام فرعيّة من الصّلاة الى الديّات ، و ( لاسبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان الى تحصيل كثير منها بالقطع ) لوضوح : إنّا لانقطع بكثير من الأحكام (ولا بطريق معيّن يقطع من السّمع بحكم الشارع بقيامه ) أي : قيام ذلك الطّريق .

(أو قيام طريقه) أي طريق الطريق ( مقام القطع ولو عند تعذّره ) أي : تعذر القطع .

مثلاً : لاقطع لنا بوجوب صلاة الجمعة ، كما لاقطع لنا بحجيّة الخبر الواحد الّذي يدلّ على وجوب صلاة الجمعة ، لأنا لم نسمع من الإمام الصادق عليه السلام انّه يقول : إن خبر الواحد قائم مقام القطع .

وكذا لاقطع لنا بحجّية الشهرة الّتي قالت بحجّية خبر الواحد الّدال ذلك الخبر الواحد على وجوب صلاة الجمعة .

وقوله : « ولو عند تعذّره » ،يرد بذلك : انّ ذلك الطريق في طول القطع ، يعني : إذا تعذّر القطع قام ذلك الّطريق مقامه ، وليس في عرضه .

( كذلك نقطعُ بأنّ الشارعَ قد جعل لنا إلى تلك الأحكام ) التي يريدها منّا

ص: 72

طُرُقاً مخصوصة وكلّفنا تكليفاً فعليّاً بالرجّوع إليها في معرفتها .

ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد ، وهو القطع بأنّا مكلّفون تكليفاً فعليّاً بالعمل بمؤدّى طُرقُ مخصوصة .

وحيث انّه لاسبيل غالباً إلى تعيينها بالقطع ولا بطريق نقطع عن السمع بقيامه بالخصوص أو قيام طريقه ، كذلك مقام القطع ولو بعد تعذّره ،

-------------------

من أوّل الفقه الى آخر الفقه ( طُرقاً مخصوصة وكلّفنا تكليفاً فعلياً بالرّجوع إليها ) أي : الى تلك الطرق ( في معرفتها ) أي : في معرفة تلك الاحكام .

( ومرجع هذين القطعين ) أي : القطع بأنّا مكلّفون ، والقطع بأنّ الشّارع قد جعل الى تلك الأحكام طرقا ( عند التحقيق ) أي : في المآل ( إلى أمر واحد ، وهو : القطع بأنّا مكلّفون تكليفاً فعليّاً بالعمل بمؤدّى طرق مخصوصة ) .

فكأن الشارع قال : إني إريد منكم الأحكام ، وأريد منكم تلك الأحكام من هذه الطرق المخصوصة ، كما لو قال المولى : أريد منك أيّها العبد حوائج وأريد أن تعلم بتلك الحوائج من طريق خادمي فلان .

( وحيث إنّه لاسبيل غالباً الى تعيينها ) أي : تعيين تلك الطرق ( بالقطع ) فانّا لانقطع بأنّ خبر الواحد حجّة .

( ولا بطريق نقطع عن السّمع بقيامه بالخصوص ) مقام القطع .

( أو قيام طريقه كذلك ) أي : بالخصوص ( مقام القطع ولو بعد تعذّره ) أي : تعذر القطع بتعيين تلك الطرق المخصوصة .

والحاصل : فإنّا لانقطع بأنّ الطريق إلى الأحكام هو الخبر الواحد ، ولم نسمع من الامام الصادق عليه السلام : إنّ خبر الواحد حجّة ، ولانقطع بحجّية الشهرة الّتي تقول

ص: 73

فلا ريب أنّ الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنّما هو الرّجوعُ في تعيين تلك الطرق إلى الظنّ الفعليّ الذي لا دليل على عدم حجّيّته ، لأنّه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع ممّا عداه » .

وفيه ، أوّلاً :

-------------------

بحجّية خبر الواحد .

وعليه : فإذا إنتفت قطعيّة هذه الأمور الثلاثة ( فلاريب أنّ الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنّما هو : الرّجوع في تعيين تلك الطرق ) لمعرفة الأحكام ( إلى الظّنّ الفعليّ ) وقوله : « الى » ، متعلق بقوله : « الرجوع » .

ثم الرجوع الى الظنّ ( الذي لادليل على عدم حجّيّته ) وذلك بأن لايكون كالظّن القياسي ، والاستحساني ، والمصالح المرسلة ، وما أشبه ذلك ممّا لم يكن طريقاً ، لأنّه نَصَّ الدليل على عدمه .

وإنّما كان الظّنّ الفعلي طريقاً الى تلك الأحكام ( لأنّه أقرب الى العلم ، والى إصابة الواقع ممّا عداه ) (1) أي : ممّا عدا الظّنّ من الشّك ، والوهم ، والقرعة ، وغير ذلك ممّا تقدّم ذكرها في قبال الظّنّ .

وحاصل هذا الدليل الّذي ذكره الفصول : إنّ الشارع يريد الأحكام ، ويريد أن نصل إليها بطرق مخصوصة ، وحيث لانعلم بتلك الطرق يجب علينا أن نتبّع الظّن بتلك الّطرق ، لأن الظّنّ يقوم مقام العلم .

( وفيه ، أوّلاً : ) إنّه لادليل لنا على انّ الشارع يريد الوصول الى أحكامه بطرق مخصوصة نصب الشارع تلك الّطرق ، وإنّما الشارع يريد الوصول الى تلك

ص: 74


1- - الفصول الغَرويّة : ص 275 .

إمكانُ منع نصب الشارع طُرُقاً خاصّةً للأحكام الواقعيّة وافية بها ، كيف وإلاّ لكان وضوحُ تلك الطرق كالشمس في رابعة النّهار ، لتوفّر الدّواعي بين المسلمين على ضبطها ، لاحتياج كلّ مكلّف إلى معرفتها أكثر من حاجتهِ إلى مسئلة صلواته الخَمس ، وإحتمالُ اختفائها مع ذلك - لعروض دواعي الاختفاء ، اذ ليس الحاجةُ إلى معرفة الطريق أكثر

-------------------

الأحكام بالطّرق العقلائية ، لأنّه لادليل على إنّ الشّارع أحدث طرقاً جديدة ل- ( إمكان منع نصب الشّارع طُرُقاً خاصة للأحكام الواقعيّة ) التي يريدها منّا ، تكون تلك الطّرق ( وافية بها ) أي : بأحكامه الواقعية .

( كيف وإلاّ ) أي : بان كان الشّارع نصب طرقاً خاصّة ( لكان وضوح تلك الطّرق كالشمس في رابعة النّهار ) أي : الشمس في الساعة الرابعة من النهار بعد طلوعها من المشرق ، فان ذلك وقت جلائها من جهة عدم إختفائها بغبار الافق عند الطلوع ، وعدم وصولها الى الظهيرة وبعدها حيث تحول الأشعة بينها وبين الانسان ، وبعض يقرأه : رائعة النهار - بالهمزة قبل العين - أي : في حال الريعان وغاية الظّهور .

وإنّما نقول : إنّ الشارع إذا نصب الطرق كانت تلك الطرق واضحة جداً ( لتوفّر الدّواعي بين المسلمين على ضبطها ) أي : ضبط تلك الطرق ( لاحتياج كلّ مكلّف الى معرفتها ) أي : معرفة تلك الطرق ( أكثر من حاجته الى مسألة صلواته الخمس ) لاحتياج كل مكلّف الى تلك الّطرق في الصّلاة وفي غير الصّلاة ، فالاحتياج الى تلك الطّرق يكون أكثر من الاحتياج الى الصّلوات الخمس .

( وإحتمال إختفائها ) أي : تلك الطّرق ( مع ذلك ) أي : مع كثرة الاحتياج إليها انّما هو ( لعروض دواعي الاختفاء ، اذ ليس الحاجة الى معرفة الطريق أكثر

ص: 75

من الحاجة إلى معرفة المرجع بعد النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، - مدفوعٌ بالفرق بينهما ، كما لايخفى .

وكيف كان : فيكفي في ردّ الاستدلال إحتمالُ عدم نصب الطريق الخاصّ للأحكام وإرجاع إمتثالها إلى ما يحكم به العقلاء وجرى عليه ديدنهم في إمتثال أحكام الملوك والموالي

-------------------

من الحاجة الى معرفة المرجع بعد النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ) ومع ذلك إختفى المرجع بعد النبي ، بما إنقسم المسلمون فيه الى يومنا هذا الى أقسام .

هذا الاحتمال ( مدفوع بالفرق بينهما كما لايخفى ) فانّ إختفاء المرجع كان لشهوة الحكم والرئاسة ، بخلاف اختفاء الّطريق فانّه لاداعي لهذا الاختفاء .

إن قلت : فكيف إختفى علينا وضوء الرّسول صلى اللّه عليه و آله وسلم في انّه هل كان يتوضأ منكوساً أو مستوياً ، مع انّه توضأ بين المسلمين مدة ثلاث وعشرين سنة ، وليس في الاختفاء هذا جهة رئاسة وشهوة ؟ .

قلت : سبب الاختفاء هو : انّ ،« الى » في قوله تعالى : « الى المرافق » (1) آية الغسل أو المغسول ؟ وليس في مسألة طريق الأحكام هذا السبب حتى يختفي كما إختفى الوضوء بالنّسبة الى اليدين .

( وكيف كان : فيكفي في ردّ الاستدلال ، إحتمال عدم نصب الطريق الخاص للأحكام ) من قبل الشارع ( وإرجاع إمتثالها ) أي : الأحكام ( الى ما يحكم به العقلاء ) في كل الأعصار والأمصار ( وجرى عليه ديدنهم ) ودأبهم ( في إمتثال أحكام الملوك والموالي ) فانّ الأمم والعبيد يتّبعون أوامر حكامهم والموالي

ص: 76


1- - سورة المائدة : الآية 6 .

مع العلم بعدم نصب الطريق الخاصّ للأحكام ، من الرّجوع إلى العلم الحاصل من تواتر النقل عن صاحب الحكم أو باجتماع جماعة من أصحابه على عمل خاصّ أو بالرجوع الى الظنّ الاطمئناني الذي يسكن إليه النفسُ ويطلق عليه العلمُ عُرفاَ ، ولو تسامُحاً ، في إلغاء إحتمال الخلاف .

وهو الذي يحتمل حملُ كلام السيّد عليه ، حيث إدّعى إنفتاح باب العلم ،

-------------------

حسب الميزان العقلائي ( مع العلم ) أي : مع علم هؤلاء الأمم والعبيد ( بعدم نصب الطريق الخاص للأحكام ) الصادرة من الملوك والموالي .

بل يتّبعون الطُرق المتعارفة ( من الرّجوع الى العلم الحاصل من تواتر النقل عن صاحب الحكم ) « من » : متعلق بقوله : « جرى عليه ديدنهم » .

( أو بإجتماع جماعة من أصحابه على عمل خاص ) يكشف ذلك عن رِضا أولئك الملوك والموالي بهذا العمل الخاص .

( أو بالرّجوع إلى الظّنّ الاطمئنانيالّذي يسكن إليه النفس ) فيما إذا لم يكن علم ولا إجتماع جماعة من أصحابه على عمل خاص .

( و ) الظن الاطمئناني هو الّذي ( يطلق عليه العلم عرفاً ولو تسامحاً في إلغاء إحتمال الخلاف ) فانّه بالنسبة الى الظنّ الاطمئناني وإن إحتمل الخلاف ، إلاّ انّ العقلاء يلغون هذا الاحتمال ويسمون الظنّ علماً من باب التسامح .

( و ) هذا الذي قلناه : من إطلاق العلم على الظّنّ تسامحاً ( هو الذي يحتمل حمل كلام السيّد عليه ، حيث إدّعى إنفتاح باب العلم ) بأن يحمل العلم في كلامه على مايشمل الظّنّ الاطمئناني لأنَّ العقلاء يسمون الظنّ الاطمئناني ، علماً ، وهذا ماتقدَّم ذكره عن السيّد في باب حجّية خبر الواحد .

ص: 77

هذا حال المجتهد .

وأمّا المقلّد ، فلا كلامَ في نصب الطريق الخاصّ له ، وهو فتوى مجتهده ، مع إحتمال عدم النصّب في حقّه أيضاً ، فيكون رجوعُه الى المجتهد من باب الرّجوع إلى أهل الخبرة المركوز في أذهان جميع العقلاء ، ويكون بعض ما ورد من الشارع في هذا الباب تقريراً لهم ، لا تأسيساً .

-------------------

و ( هذا حال المجتهد ) في كيفية وصوله الى أحكام الّشارع .

( وأمّا المقلّد ) الذي لانصيب له من العلم ، ولايكلّف بتحصيل العلم بالأحكام الشّرعية وإنّما أجاز له الشّارع تقليد العالم ( فلا كلام في نصب الطريق الخاص له ) أي : لهذا المقلِّد ( وهو فتوى مجتهده ) حيث قال عليه السلام : « فَللعَوام أن يُقلّدوه » (1).

( مع إحتمال عدم النّصب في حقه ) أي : في حقّ المقلّد ( أيضاً ) كالمجتهد ( فيكون رجوعه الى المجتهد من باب الرّجوع الى أهل الخبرة ، المركوز في أذهان جميع العقلاء ) فانّ العقلاء يرون في كل الأبواب ، رجوع غير أهل الخبرة الى أهل الخبرة في مختلف شئونهم من الّطب ، والهِندسة ، والتقويم ، وغير ذلك .

( ويكون بعض ما ورد من الشّارع في هذا الباب ) أي : في باب التّقليد ، كالرّواية المتقدمة ( تقريراً لهم ) أي : للعقلاء ، بمعنى : انّ الشّارع لم يحدث طريقاً جديداً بالنسبة الى الجهال في رجوعهم الى أهل الخبرة ، وإنّما قرر الطّريق العقلائي ، ف- ( لا ) يكون رجوع المقلّد الى المجتهد ( تأسيساً ) بل تقريراً وتأكيداً .

ص: 78


1- - الاحتجاج : ص458 ، وسائل الشيعة : ج27 ص131 ب10 ح33401 ، بحار الانوار : ج2 ص88 ب14 ح12 .

وبالجملة : فمن المُحتمل قريباً إحالةُ الشارع للعباد في طريق إمتثال الأحكام إلى ما هو المتعارف بينهم في إمتثال أحكامهم العرفيّة من الرّجوع إلى العلم أو الظنّ الاطمئناني .

فاذا فُقِد تَعيّن الرّجوعُ أيضا بحكم العقلاء إلى الظنّ الاطمئنانيّ ، كما أنّه لو فُقِدَ - والعياذ باللّه - الأماراتُ المفيدة لمطلق الظنّ ، تَعيّن الامتثالُ بأخذ أحد طرفيّ الاحتمال فراراً عن المخالفة القطعيّة والاعراض عن التكاليف الالهيّة .

-------------------

( وبالجملة : فمن المحتمل قريباً : إحالةُ الشّارع للعباد في طريق إمتثال الأحكام إلى ما هو المتعارف بينهم في إمتثال أحكامهم العرفيّة من الرّجوع ) «من»: متعلق بقوله : « المتعارف » فانّهم يرجعون ( إلى العلم ) أوّلاً وبالذّات ( أو الظّنّ الاطمئناني ) ثانياً إذا لم يكن علم .

( فاذا فُقِدَ ) العلم والظّنّ الاطمئناني ( تعيّن الرجوع أيضاً بحكم العقلاء إلى الظّنّ غير الاطمئناني ) بالنسبة الى المجتهد ، وبالنسبة الى المقلِّد الرجوع الى أهل الخبرة ، سواء كان أهل الخبرة يدّعون إنفتاح باب العلم أم إنسداده .

( كما انّه لو فُقِدَ - والعياذُ باللّه - الأمارات المفيدة لمطلق الظّنّ ) أيضاً بأن وقع المكلَّف في مكان لايصل الى العلم ، ولا الى كتاب فيه أحكام المسائل الشرعية ، وإتفقت له مسألة لايعلم ماذا حكم له الشارع فيها ، كما إذا احتلم ولم يكن له ماء ولاتراب في السفينة ، فشك في انّه هل يتيممّ على الخشب ، أو يصلي فاقد الطهورين ، أو لايصلي أصلاً ؟ .

( تعيّن ) عند العقل والعقلاء ( الامتثال بأخذ أحد طرفيّ الاحتمال فراراً عن المخالفة القطعيّة و ) فراراً عن ( الاعراض عن التكاليف الالهية ) بأنّ العقل يلزم

ص: 79

فظهر ممّا ذكرنا إندفاعُ ما يقال من أنّ منعَ نصب الطّريق لايُجامِعُ القولَ ببقاء الأحكام الواقعيّة ، إذ بقاء التكليف من دون نصب طريق إليها ظاهر البطلان .

توضيحُ الاندفاع : أنّ التكليفَ إنّما يقبح مع عدم ثبوت الطريق رأساً ، ولو بحكم العقل الحاكم بالعمل بالظنّ ، مع عدم الطريق الخاصّ أو مع ثبوته وعدم رضى الشارع بسلوكه ، وإلاّ فلا يقبح التكليفُ مع عدم الطّريق الخاصّ وحكم القعل بمطلق الظنّ ورضى الشارع به .

-------------------

الانسان بأخذ أحد الاحتمالات إذا لم يكن ظنّ .

( فظهر ممّا ذكرنا : إندفاع ما يقال : من ) إنّه كيف يكلّفنا الشّارع أحكامه ، والحال انّه لاينصب لتلك الأحكام طريقاً ؟ .

وجه الاشكال : ( انّ منع نصب الطّريق ) من الشارع لأحكامه ( لايجامِعُ القولَ ببقاء الأحكام الواقعيّة ) وإنّما لايجامع مع ذلك ( إذ بقاء التكليف من دون نصب طريق اليها ظاهر البطلان ) فكذا يقول المستشكل .

لكن هذا الاشكال غير وارد بل مندفع ، و( توضيح الاندفاع : انّ التكليف إنّما يقبح مع عدم ثبوت الطريق رأساً ولو بحكم العقل ) بأنّ لايكون هناك طريق لا عقلي ولا شرعي ، والحال إنّ العقل في المقام هو ( الحاكم بالعمل بالظّنّ مع عدم الطّريق الخاصّ ) من قبل الشارع ( أو مع ثبوته ) أي : ثبوت الطريق الخاص كالقياس ، ( وعدم رضى الشّارع بسلوكه ) لما دلّ على عدم جواز العمل بالقياس .

( وإلاّ ) بأن كان هناك طريق عقلي لم يمنع الشّارع عن سلوكه ( فلا يقبح التّكليف مع عدم الطريق الخاصّ وحكم العقل بمطلق الظّنّ ورضى الشّارع به ) أي : حكم العقل برضى الشّارع ، وإنّما يحكم العقل برضى الشّارع بمطلق الظنّ ،

ص: 80

ولذا إعترف هذا المستدِّل على أنّ الشارع لم ينصب طريقاً خاصّاً يرُجَع اليه عند إنسداد باب العلم في تعيين الطرق الشرعيّة مع بقاء التكليف بها.

وربّما يُستشهد للعلم الاجماليّ بنصب الطريق بأنّ المعلوم من سيرة العُلماء في إستنباطهم هو إتفاقهم على طريق خاصّ وإن اختلفوا

-------------------

لِما تقدّم من مقدمات الانسداد .

( ولذا ) الّذي ذكرناه : من إمكان بقاء الأحكام مع عدم نصب الشّارع طريقاً اليها اذا كان هناك طريق عقلي لم يمنع الشّارع عنه ( إعترف هذا المستدِّل ) وهو صاحب الفصول ( على ان الشّارع لم ينصب طريقاً خاصّاً يرجع إليه عند إنسداد باب العلم في تعيين الطرق الشّرعيّة ) « في » :متعلق بقوله : « طريقاً » ، أي : لم يقل الشارع : انّ الطريق الى الطريق ماهو ؟ مثل أن يقول : إذا إنسدّ عليك باب العلم فعليك بعدول المسلمين فاسألهم : ماهو الطريق الى الأحكام ؟ ( مع بقاء التكليف بها ) أي : بتلك الطرق الشرعية ، فانّ صاحب الفصول يقول : إنّ الانسان ليس مكلَّفاً بالأحكام ، وإنّما هو مكلَّف بالّطرق إلى تلك الأحكام .

( و ) حيث منع المصنّف جعل الشّارع طريقاً خاصاً الى أحكامه ، أُشكِلَ عليه : بأنّا نعلم عِلماً إجمالياً بأن الشّارع نصب الطريق وإن نعرف ذلك الطريق بعينه فقال : ( ربّما يستشهد للعلم الاجمالي بنصب الطريق ) من قبل الشارع ( بإنّ المعلوم من سيرة العلماء في إستنباطهم ) أي : سيرة كل واحد منهم في إستنباطهم الأحكام الشّرعية من طرق خاصة ( هو إتفاقهم على طريق خاصّ ) فانّه يظهر منه إن الشارع قد جعل الطريق الخاص .

وإنّما إختلفوا في الصغرى لافي أصل إنّ الشارع جعل الطريق( وان إختلفوا

ص: 81

في تعيينه .

وهو ممنوعُ ، أوّلاً ،بأنّ جماعة من أصحابنا ، كالسيّد رحمه اللّه وبعض من تقدّم عليه وتأخّر عنه ، منعوا نصبَ الطّريق الخاصّ رأساً بل احاله بعضهم .

وثانياً ، لو أغمضنا من مخالفة السيّد وأتباعه ، لكن مجرّدُ قول كلّ من العلماء بحجّية طريق خاصّ أدّى إليه نظره لا يوجب العلم الاجمالي بأنّ بعضَ هذه الطرق منصوبة ، لجواز خطأ كلّ واحد فيما أدى اليه نظره .

-------------------

في تعيينه ) أي : في تعيين ذلك الطّريق ، فبعضهم جعل الطريق : الكتاب والسنّة والاجماع والعقل ، وبعضهم جعل الطّريق : الكتاب والسنّة فقط ، وبعضهم جعل الطّريق : الخبر فقط .

( وهو ) أي : إتفاق العلماء على إنّ الشارع نصب طريقاً خاصاً( ممنوع ) فليس لهم مثل هذا الاتفاق وذلك لامور :

( أولاّ : بأنّ جماعة من أصحابنا كالسيّد ) المرتضى ( رحمه اللّه ، وبعض من تقدّم عليه وتأخر عنه ، منعوا نصب الطريق الخاص رأساً ) وقالوا : بأنّ العلم هو الطريق الى الأحكام كما هو طريق سائر العبيد بالنّسبة الى سائر الموالي .

( بل أحاله بعضهم ) وقال بانّ نصب الشّارع طريقاً خاصاً محال ، وهذا البعض هو إبن قِبة ، فانّه يظهر من دليله : منع إمكان نصب الطّريق من الشارع ، لأنّه يستلزم تحليل الحرام ، وتحريم الحلال ، الى غير ذلك ممّا تقدّم في أوّل الكتاب .

( وثانياً : لو أغمضنا عن مخالفة السّيد وأتباعه ) عن نصب الشارع لأي طريق إطلاقاً( لكن مجرد قول كلّ من العلماء بحجّية طريق خاصّ أدّى اليه نظره ، لا يوجب العلم الاجمالي بأنّ بعض هذه الطرق منصوبة )من الشارع ( لجواز خطأ كل واحد ) من العلماء ( فيما أدّى اليه نظره ) فمن أين يقولون بالقدر المشترك ؟ .

ص: 82

وإختلاف الفتاوى في الخصوصيات لا يكشف عن تحقّق القدر المشترك ، إلاّ اذا كان اختلافهم راجعاً الى التعيين على وجه ينبيء عن اتفاقهم على قدر مشترك ، نظير الأخبار المختلفة في الوقائع المختلفة ، فانّها لا توجب تواتر القدر المشترك الاّ اذا علم من أخبارهم كونُ الاختلاف راجعاً الى التعيين وقد تحقّق ذلك في باب التواتر الاجمالي والاجماع المركّب ،

-------------------

مثلاً : اذا قال عبدٌ : أنّ مولاي يريد كتاب الكفاية ، وقال عبدٌ آخر : انّه يريد كتاب الرّسائل ، وقال عبدٌ ثالث : انّه يريد كتاب المَكاسب ، فان هذا يتصور على قسمين : القسم الأوّل : انّ كلّهم يقولون : بأنّ المولى أراد كتاباً ، لكنّهم اختلفوا في المصداق .

القسم الثاني : إنّ العبد الأوّل يقول : انّ المولى اذا لم يرد الكفاية لا يريد كتاباً آخر ، وهكذا يقول كلّ واحد من العبدين الآخرين ، فانّ الاتفاق على القَدر المشترك انّما يصح على التقدير الأوّل دون التقدير الثاني .

( و ) عليه : ف- ( إختلاف الفتاوى في الخصوصيّات ، لا يكشف عن تحقّق القدر المشترك ) بين الجميع بأن يريد كلّهم القدر المشترك وإنّما اختلفوا في المصداق ( إلاّ اذا كان اختلافهم راجعاً الى التعيين ) للمصداق ( على وجه ينبيء عن اتفاقهم على قدر مشترك ) فهو ( نظير الأخبار المختلفة في الوقائع المختلفة ، فانّها لا توجب تواتر القدر المشترك ) بين الجميع( إلاّ اذا علم من أخبارهم كون الاختلاف راجعاً الى التعيين ) للمصداق .

( وقد تحققّ ذلك ) أي : اذا علم من أخبارهم كون الاختلاف راجعاً الى التعيين للمصداق ( في باب التواتر الاجمالي والاجماع المركب ) فالتواتر الاجمالي إنّما

ص: 83

...

-------------------

يتحقق اذا كان الجميع يريدون القدر المشترك مع انّ كل واحد يقول : انّ القدر المشترك كان في ضمن خصوصيّة .

مثلاً : جماعة كلهم يريدون بيان شجاعة علي عليه السلام ، لكن أحدهم يقول : إنّ الشجاعة تحققت في ضمن غزوة بدر ، والثاني يقول : إنّ الشّجاعة تحقّقت ضمن حرب اُحد ، والثالث يقول : إنّ الشجاعة تحقّقت في ضمن فتح خيبر ، فانّه يحصل تواتر إجمالي بأنّه عليه السلام شجاع .

أمّا اذا قال أحدهم : إنّ زيداً قتل إنساناً وانّه لم يفعل غير ذلك إطلاقاً ، وقال الثاني : إنّ زيداً قتل سبعاً ولم يفعل غير ذلك إطلاقاً ، وقال الثالث : إنّه قتل حيّة ولم يفعل غير ذلك إطلاقاً ، فاذا سئلوا : هل أنّ زيداً شجاع ؟ أجابوا : بانّه لا نعلم لاحتمال انّه جبان لكن قتل شيئاً من باب القضية الاتفاقية ، فان هذه الأخبار لا توجب التواتر الاجمالي على شجاعة زيد .

وكذلك الحال في الاجماع المركب ، فانّهم قد يتفقون على الجامع ، لكن كلٌّ في ضمن خصوصيّة ، وهذا يوجب الاجماع المركّب الذي لا يجوز مخالفته .

وقد لا يتفقون على الجامع ، وإنّما كل واحد يفتي بشيء ويقول : انّه لولا فتواى لم يكن حكم اصلاً ، كما اذا قال أحدهم - مثلاً - : لولا وجوب الجمعة لاحكم للجمعة إقتضائياً ، وقال الآخر : لولا فتوى بوجوب الجمعة لم يكن للجمعة حكم اقتضائي ، فانّ بمثل هذه الفتاوى ، لا يثبت الاجماع المركب على حكم اقتضائي للجمعة حتى لا يجوز للعالم الثالث أن يقول بالتخيير مثلاً .

ص: 84

وربما يُجعل تحقّق الاجماع على المنع عن العمل بالقياس وشبهه ولو مع إنسداد باب العلم كاشفاً عن أنّ المرجع إنّما هو طريق خاصّ .

ويُنتقَض : - أوّلاً : بأنّه مستلزم لكون المرجع في تعيين الطريق أيضاً طريقاً خاصاً للاجماع على المنع عن العمل فيه بالقياس .

-------------------

( وربّما ) يستدلّ من قال : بأنّ الشارع جعل طريقاً خاصاً الى أحكامه : بمنع الشارع عن العمل بالقياس ، فان هذا المنع يدلّ على إنّه جعل طريقاً خاصاً الى أحكامه ، مثل من يقول لولده : لا تسلك طريق الشّرق ، فان كلامه هذا ظاهر : في انّه قد جعل له طريقاً خاصاً : من الغرب ، أو الشّمال ، أو الجنوب - مثلاً - ف( يجعل تحقّق الاجماع على المنع عن العمل بالقياس وشبهه ) كالإستحسان ، والمصالح المرسلة ( ولو مع إنسدادا باب العلم ) حيث لا يجوز سلوك هذه الطرق مطلقاً ( كاشفاً عن أنّ المرجع إنّما هو طريق خاص )نَصَبه الشارع طريقاً الى إحكامه .

( ويُنتقض أوّلاً : بانّه مستلزم لكون المرجع في تعيين الطريق ايضاً طريقاً خاصا ) فيكون الشارع جعل الطريق وطريق الطريق أيضاً ( للاجماع على المنع عن العمل فيه ) أي : في طريق الطريق ( بالقياس ) أيضاً : فانّ القياس لا يجوز العمل به لا في تعيين الطريق الى الحكم ، ولا في تعيين طريق الطّريق ، مثل أنّ يقوم القياس على وجوب الجمعة ، أو أن يقوم القياس على حجّية خبر الواحد الذي هو طريق الى وجوب الجمعة .

والحاصل : إنكم تقولون : إنّ الشارع جعل طريقاً الى الحكم بدليل نفي القياس ، ونحن ننقضه : بأنّ لازم ذلك أن يجعل الشارع طريق الطريق أيضاً ، بدليل انّه نفى العمل بالقياس في تعيين الطريق ، ممّا لازمه ، إن جعل الشارع طريق الطريق ايضاً ، والحال إنّكم لا تقولون بجعل الشارع طريق الطريق .

ص: 85

ويُحَلُّ ثانياً : بانّ مرجع هذا الى الاشكال الآتي في خروج القياس عن مقتضى دليل الانسداد ، فيدفع بأحد الوجوه الآتية .

فان قلت : ثبوتُ الطّريق اجمالاً مما لا مجال لانكاره ، حتى على مذهب من يقول بالظنّ المطلق فانّ غايةَ الأمر أنّه يجعل مطلقُ الظنّ طريقا

-------------------

( ويُحَل ثانياً : بانّ مرجعَ هذا )أي : هذا الاشكال ( الى الاشكال الآتي في خروج القياس عن مقتضى دليل الانسداد )فانّه يأتي : إنّه اذا كان الظّن حجّة ، فكيف لا يجوز العمل بالقياس ، والحال أنّ القياس أيضاً يوجب الظنّ ؟ .

( فيدفع ) هذا الاشكال( بأحد الوجوه الآتية )هناك ، ويمكن أن نقول : انّ خلاصة حلّ المصنّف هو : إنّ السلب لا يستلزم الايجاب ، فانّ الشارع سلب العمل بالقياس ، وسلب العمل بالقياس ليس معناه : إنّه جعل طريقاً خاصاً بنفسه ، اذ لعلّه وكلَّ الأمر الى العقل والعقلاء في كيفية إطاعة الموالي والسّادة ، فليس منع الشارع من العمل بالقياس كاشفاً عن إنّ المرجع إنّما هو طريق خاص جعله الشارع .

( فان قلت : ) أنتم تعترفون في جوابكم الحلّي : بانّ الشارع قرّر الطريق الخاص وهو : طريق العقلاء ، وهذا ما نقوله نحن حيث نقول : إنّ نفي الشارع العمل بالقياس دليل على جعله طريقاً خاصاً ، لكن بمعنى : انّه قرّر طريق العقلاء لا انّه جعل طريقاً بنفسه غير طريق العقلاء .

وعليه : فانّ ( ثبوت الطريق إجمالاً ) من قبل الشارع ( ممّا لا مجال لانكاره حتى على مذهب من يقول بالظنّ المطلق ) اذ الظنّ المطلق مجعول للشارع إمّا جعلاً ابتدائياً ، وإمّا جعلاً تقريرياً ، لانّ الظنّ هو الطريق العقلائي والشارع قرره( فانّ غاية الأمر أنّه يجعل) الشارع ( مطلق الظّن ) في حال الانسداد ( طريقاً

ص: 86

عقليّاً رضي به الشارع ، فنصبُ الشارع للطرّيق بالمعنى الأعم من الجعل والتقرير معلومٌ .

قلت : هذه مغالطة ،

-------------------

عقليّاً رضي به الشارع ) .

وعليه : ( فنصب الشارع للطرّيق بالمعنى الأعمّ من الجعل والتقّرير معلوم ) ونفي القياس يدل على إنّ الشارع جعل طريقاً ، لكن هل إنّ المجعول طريق مستقل عن الطرق العقلائية ، أو أنّ المجعول هو تقرير لطريق العقلاء ؟ .

وبذلك يصح ما ذكرناه من الاشكال حيث قلنا : ربما يجعل تحققّ الاجماع على المنع عن العمل بالقياس وشبهه - ولو مع إنسداد باب العلم - كاشفاً عن إنّ المرجع إنّما هو طريق خاص ، اذ القياس لا يجوز العمل به ، لا في حال الانفتاح ولا في حال الانسداد .

( قلت : )إنّكم قلتم : إنّ الشارع عينّ طريقاً قطعاً بدليل نفي القياس ، وقلتم : إنّ الطريق المعيّن هو طريق خاص كالخبر ، أو طريق عام كالظنّ المطلق ، وهذا الكلام منكم غير تام ، إذ القياس الذي منعه الشارع إنّ كان لمنعه معنى ، فالمعنى : هو إنّ الطريق الخاص جعله الشارع في مكان القياس الممنوع ، لا إنّ الشارع جعل الطريق الخاص ، أو الطّريق العام ، لأنّ رفع كل شيء يلازم - على فرضكم - جعل ما يقابله .

مثلاً : إذا قال : لازيد في الدار ، كان لازمه : عمرو في الدار ، لا إنّ لازمه أمّا عمر في الدار أو دابة، لأنّ الدّابة ليست قسيماً لزيد حتى اذا رفع زيد يوضع مكانّه الدابة، فرفع القياس الذي هو طريق خاص ، يلزمه جعل الخبر الذي هو طريق خاص ، إذن (هذه مغالطة) منكم حيث أخذتم العام مكان الخاص، وهو غلط بعينه ،

ص: 87

فانّ مطلقّ الظنّ ليس طريقاً في عرض الطّرق المجعولة حتى يتردّد الأمر بين كون الطّريق هو مطلق الظنّ أو طريقاً آخر مجعولاً ، بل الطّريق العقلي بالنسبة الى الطريق الجعلي كالأصل بالنسبة الى الدليل . إن وُجَد الطّريق الجعليّ لم يحكم العقل بكون الظنّ طريقاً ، لأنّ الظنّ بالواقع لا يعمل به في مقابلة القطع ببراءة الذّمة ، وان لم يُوجد كان طريقاً ، لأنّ احتمال البراءة لسلوك الطريق المحتمل لا يُلتَفتُ اليه مع الظنّ بالواقع .

-------------------

( فان مطلق الظّن ليس طريقاً في عرض الطّرق المجعولة ) كالخبر ، والشهرة ، والاجماع المنقول ، وما أشبه ( حتى يتردّد الأمر بين كون الطريق هو مطلق الظنّ أو طريقا آخر مجعولاً ) على ما ذكرتم في «إنّ قلت» .

( بل الطّريق العقلي ) الذي هو الظنّ المطلق ( بالنسبة الى الطريق الجعليّ ) الذي هو الخبر الواحد ونحوه ( كالاصل بالنسبة الى الدّليل ) فكما أنه ما دام الدليل موجودا لا تصل النوبة الى الاصل ،كالبرائة ونحوها ، كذلك ما دام الطّريق الجعليّ موجودا لا تصل النوبة الى الطريق العقلي .

فانّه ( إن وجد الطّريق الجعليّ لم يحكم العقل بكون الظنّ طريقاً ) وإنّما لا يحكم ( لأنّ الظنّ بالواقع لا يعمل به في مقابلة القطع ببرائة الذمة ) الذي حصل هذا القطع بسبّب العمل بالطريق المجعول ، فانّ الانسان اذا عمل بالطريق المجعول قطع ببرائة الذمة ، أمّا اذا عمل بالظنّ بالواقع فانّه لا يقطع ببرائة الذمّة ، بل يظن ببرائة الذمة ، لأنّ الظنّ لا يولّد الاّ الظنّ .

هذا ( وإنّ لم يوجد ) الطريق الجعلي ( كان ) الظنّ بالواقع ( طريقاً ) عاماً ( لأنّ إحتمال البراءة لسلوك الطريق المحتمل ) الذي هو مشكوك الطريقية ، كالقرعة ونحوها ( لا يُلتفت اليه مع الظنّ بالواقع ) .

ص: 88

فمجرّد عدم ثبوت الطريق الجعليّ ، كما في ما نحن فيه ، كافٍ في حكم العقل بكون مطلق الظنّ طريقاً وعلى كلّ حال : فتردّدُ الأمر بين مطلق الظنّ وطريق خاصّ آخر ممّا لا معنى له .

وثانياً : سلّمنا نصبَ الطّريق ، لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم .

-------------------

والحاصل : انّه اذا ظنّ بالواقع لزم سلوكه ، ولا تصل النوبة الى إحتمال الواقع بالطريق المشكوك كالقرعة ونحوها ، اذ المرتب : هو الطريق الخاص أولاً ، ثم الطريق العام وهو الظنّ المطلق ثانياً ، ثم تصل النوبة الى المشكوك الطريقية .

إذن : ( فمجرد عدم ثبوت الطريق الجعليّ ) الخاص ( كما فيما نحن فيه ) حيث الانسداد ( كافٍ في حكم العقل بكون مطلق الظنّ طريقاً ) ولا يكون حنيئذٍ الظنّ المطلق في عرض الطّريق الخاص الجعلي .

( وعلى كلّ حال : فتردّد الأمر بين مطلق الظنّ وطريق خاصّ آخر ، ممّا لا معنى له ) فانّه لا معنى لما ذكرته في قولك : «فان قلت» .

وإنّما لا معنى له ، لأنّ مطلق الظنّ ليس في عرض الطرق الخاصة ، كي يتردّد الأمر بين الطرق الخاصة وبين الظنّ المطلق ، بل الظنّ المطلق في طول الطّريق الخاص .

ثم إنّ المصنّف قال قبل أكثر من صفحة في رد صاحب الفصول ما لفظه :

وفيه ، أوّلاً : إن كان منع نصب الشارع طرقاً خاصة للأحكام الواقعيّة وافية بها ، وحيث أتم الاشكال الأوّل أجاب هنا جواباً ثانياً على الفصول بقوله :

( وثانياً : سلّمنا نصب الطريق ) من قبل الشارع ( لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم ) إذ من الممكن إنّ الشارع يجعل الطريق ، لكن الطريق يختفي علينا .

ص: 89

بيان ذلك : إنّ ما حكم بطريقيّته لعلّهُ قسمٌ من الأخبار ليس منه بأيدينا اليوم الاّ قليلٌ كأن يكون الطريق المنصوب هو الخبر المفيد للإطمئنان الفعليّ بالصدور الذي كان كثيراً في الزمان السابق لكثرة القرائن ، ولا ريب في ندرة هذا القسم في هذا الزمان أو خبر العادل أو الثقة الثابت عدالته أو وثاقته بالقطع أو البيّنة الشرعيّة أو الشياع ، مع إفادته الظنّ الفعليّ بالحكم .

ويمكن دعوى ندرة هذا القسم في هذا الزمان ،

-------------------

( بيان ذلك ) أي : بيان إنّ الطريق المجعول من الشارع غير معلوم لنا ، بل مُختفٍ علينا هو : ( إنّ ما حكم ) الشارع ( بطريقيّته ، لعَلّهُ قُسمٌ من الأخبار ، ليس منه بأيدينا اليوم الاّ قليل ) لا يكفي لأغلب الفقه .

وذلك ( كأن يكون الطريق المنصوب هو الخبر المفيد للإطمئنان الفعلي بالصّدور ) لا الاطمئنان النوعي ، ومثل هذا الخبر المفيد للإطمئنان الفعلي ( الذي كان كثيراً في الزّمان السّابق ) المعاصر لزمان الأئمة الطّاهرين ، وزمان الغيبة الصغرى - مثلاً - وكان ( لكثرة القرائن ) يوجب اطمئنان الفقهاء بصحة الخبر .

( ولا ريب فيندرة هذا القسم في هذا الزمان ) الذي إبتعدنا فيه عن تلك القرائن الحالية والمقالية ، وما أشبه .

( أو خبر العادل ، أو الثّقة الثّابت عدالته أو وثاقته بالقطع أو البيّنة الشرعيّة أو الشياع ، مع إفادته ) أي خبر العادل أو الثقة أو الشياع ( الظنّ الفعلي بالحكم ) للمجتهد ، فانّ المجتهد اذا رأى خبر العادل أو الثقة أو الشياع على ما وصفناه ، ظنّ ظنّاً فعليّاً بالحكم الواقعي .

( ويمكن دعوى ندرة هذا القسم في هذا الزمان ) ايضاً ،كما قلنا بندرة القسم

ص: 90

إذ غاية الأمر أن نجد الرّاوي في الكتب الرجاليّة محكيَّ التعديل بوسائط عديدة ، من مثل الكشيّ والنجاشيّ وغيرهما .

ومن المعلوم أنّ مثل هذا لا تُعدُّ بيّنة شرعيّة ، ولهذا لا يعمل بمثله في الحقوق .

ودعوى حجّية مثل ذلك بالإجماع ممنوعةً ، بل المسلّم إنّ الخبر المعدلّ بمثل هذا حجّة بالاتفاق العملي .

-------------------

الأوّل ، وإنّما كان هذا القسم نادراً ايضاً ( اذ غاية الأمر ، أن نجد الرّاوي في الكتب الرجالية ، محكيّ التعديل بوسائط عديدة من مثل الكشيّ ، والنَجاشيّ ، وغيرهما ) فانّ الكشي والنَجاشي إنّما كان بعد غيبة الإمام المهدي عليه السلام ، فمن أين لأمثالهما إن يعدل أو يوثق من روى عن الإمام الصادق أو الإمام الباقر أو الإمام الرّضا ، او غيرهم من المعصومين عليهم السلام فان تعديلهم وتوثيقهم ليس الاّ بوسائط، ومثل ذلك لا يوجب القطع للمجتهد ، ولا حصول البيّنة الشرعيّة له بعدالة أولئك الرواة أو وثاقتهم .

( ومن المعلوم : إنّ مثل هذا ) الذي يذكره الكشي والنَجاشي بعد مائتي سنة أو ما أشبه ( لا تُعَدُّ بينّة شرعيّة ، ولهذا لا يعمل بمثله في الحقوق . ) فاذا كان - مثلاً - تنازع بين زيد وعمرو في دار قديمة فأتى زيد ببينّة تقول : إنّا سمعنا عن آبائنا جيلاً بعد جيل : أنّ الدار لزيد : وكان بين هذه البيّنة وبين بناء الدار فاصلة مائتي سنة - مثلاً - فانّ الحاكم لا يقبل مثل هذه الشهادة ، لانصراف أدلة الشهادة الشرعيّة عن مثل هذه الشهادة التي يفصلها زمان بعيد عن الملكية لأجداد زيد .

( ودعوى حجّية مثل ذلك ) أي : الخبر المعدّل ، أو المزكّى ، أو الموثَّق بوسائط ( بالاجماع ، ممنوعة ) فانّه لا إجماع في المقام ( بل المسلّم : إنّ خبر المعدّل بمثل هذا حجّة بالاتفاق العملي ) أي إنّهم جميعاً عملوا بهذه الأخبار

ص: 91

لكن قد عرفت سابقاً عند تقرير الاجماع على حجّية الخبر الواحد إنّ مثل هذا الاتفاق العملي لا يُجدي في الكشف عن قول الحجّة ، مع أنّ مثل هذا الخبر في غاية القلّة ، خصوصاً إذا إنضّم اليه إفادة الظنّ الفعليّ .

-------------------

لكن وجه عملهم غير معلوم ، اذ المسلّم هو عمل الفقهاء بالخبر المعدّل ، أمّا ما هو حجّية التعديل المحكي ولو بوسائط ، فذلك غير معلوم ؟ .

والفرق بين هذين الأمرين : إنّ الاوّل وهو الاتفاق العملي ، لا يدلّ على الثاني وهو : وجه العمل ، لاحتمال أن يكون اجماعهم من جهة وجود قرائن في الأخبار المعدّلة ، أو إنّهم يقولون بحجّية مطلق الظنّ وحيث ظنوا بالأخبار المعدّلة .

قالوا بحجّيتها ، فانّ الأوّل عام ، والثاني خاصٌ ، ولا يدل العام على الخاص .

وذلك لأنّ الاتفاق على العمل لا دلالة له على جهة العمل ، فان من يقول بجواز الصلاة خلف زيد - مثلاً - كان كلامه هذا لا يدلّ على إنّ الجواز من جهة الوثاقة أو العدالة ، أو خوف سيفه وسوطه ، أو غير ذلك .

( لكن قد عَرِفت سابقاً عند تقرير الاجماع على حجّية الخبر الواحد : إنّ مثل هذا الاتفاق العملي ) دون القولي ، فانّ إتفاقهم هذا ليس قولياً بل هو عملي ، حيث نراهم يعملون بالخبر الواحد ، فانّه ( لا يجدي ) هذا الاجماع ( في الكشف عن قول الحجّة ) وانّ الإمام عليه السلام أجاز العمل بالخبر الواحد ، وذلك لإحتمال أن يكون عمل بعضهم به من جهة الظنّ ، أو من جهة القرائن ، أو ما أشبه ذلك .

( مع انّ مثل هذا الخبر ) المعدّل بالوسائط ( في غاية القلّة ) والقليل لاينفعنا ، لأننا نريد كثرة من الأحكام من أول الفقه الى آخر الفقه ، فوجود هذا الخبر القليل غير مُغنِ لنا ممّا يسبب الاحتياج الى طريق آخر ( خصوصاً اذا إنضمّ اليه ) أي الى التعديل بوسائط ، شرط ( إفادة الظنّ الفعليّ ) بأن قلنا : بأنّ الخبر يجب أن يكون

ص: 92

وثالثاً : سلّمنا نصبَ الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنّيّة ، من أقسام الخبر والاجماع المنقول والشهرة ، وظهور الاجماع والاستقراء والأولويّة الظنيّة ، الاّ أنّ اللازم من ذلك هو الأخذُ بما هو المتيقن من هذه .

-------------------

معدَّلاً ولو بوسائط وأن يفيد ظناً فعليّاً ، فانّه كلّما كثرت القيود قلّ الوجود .

ثم انّ الفصول حيث قال بنصب الشّارع للطريق ، أشكل عليه المصنّف باُمور :

أوّلاً : انه لا دليل على نصبه .

وثانياً : انّه لو فرض نصبه ، فلا دليل على انّه وصل الينا .

( وثالثاً : سلمنا نصب الطريق ) لكل الأحكام من قبل الشارع ( ووجوده ) أي : وجود ذلك الطّريق ( في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنيّة ) وأنّ الطريق وصل الينا أيضاً ولم يختفِ علينا ، ثم فسّر المصنّف الطرق الظنيّة بقوله :

( من أقسام الخبر ) المتواتر ، والخبر الواحد الصحيح ، والحسن والضعيف ، وما اشبه ( والاجماع المنقول ، والشهرة ، وظهور الاجماع ) .

والفرق بين الاجماع وظهور الاجماع : إنّ الاجماع يقيني ، أمّا ظهور الاجماع فهو مستظهر أي : أنّا نستظهر وجود الاجماع ولا نقطع بوجوده .

( والاستقراء ، والأولويّة الظنيّة ، الاّ انّ اللازم من ذلك : هو الأخذ بما هو المتيقن من هذه ) الطرق ، لا بجميع هذه الطرق ، كما هو ظاهر كلام صاحب الفصول .

وإنّما يلزم الأخذ بالمتيقن فقط ، لأنّ غير المتيقن مورد أصالة حرمة العمل بما لم يعلم أنّه من المولى .

ص: 93

فان وفى بغالب الأحكام اقتصر عليه ، وإلاّ فالميتقنُ من الباقي .

مثلاً ، الخبرُ الصحيح والاجماعُ المنقول ميتقنٌ بالنسبة الى الشهرة وما بعدها من الأمارات إذ لم يقل أحدٌ بحجّية الشهرة وما بعدها دون الخبر الصحيح والاجماع المنقول ، فلا معنى لتعيين الطريق بالظنّ بعد وجود القدر المتيقن ووجوب الرّجوع في المشكوك الى اصالة حرمة العمل .

نعم ، لو احتيج الى العمل باحدى إمارتين وإحتمل نصبُ كلّ منهما ،

-------------------

( فان وفى ) المتيقن ( بغالب الأحكام ) التي نحتاج اليها لنعمل في غير الغالب بالاُصول ( إقتصر عليه ) أي على ذلك المتيقن ( وإلاّ ) بأن لم يف المتيقن بغالب الأحكام ( فالمتيقن من الباقي ) لأنّنا يلزم علينا التدرج ، فبالأول ، المتيقن من الجميع ، وبالثاني ، المتيقن من الباقي ، وهكذا .

( مثلاً : الخبر الصحيح ، والاجماع المنقول متيقن ) كونهما طريقاً ( بالنسبة الى الشهرة وما بعدها من الأمارات ) أي ظهور الاجماع ، والاستقراء ، والأولويّة الظنيّة ، وما أشبهها ( اذ لم يقل أحد بحجّية الشهرة وما بعدها دون الخبر الصحيح والاجماع المنقول ) بينما عكسه ثابت ، فانّ جماعة قالوا : بأنّ الخبر الصحيح والاجماع المنقول حجّة ، ولم يقولوا بحجّية الشهرة وما بعدها من الأمارات .

وعليه : ( فلا معنى لتعيين الطريق بالظنّ بعد وجود القدر المتيقن ووجوب الرّجوع في المشكوك الى اصالة حرمة العمل ) فما ذكره الفصول من إن الظنّ بالطريق كافٍ غير تامٍ ، بل اللازم عليه أن يقول : إنّ المتيقن من الطرق كافٍ في العمل ، لا أنّ المظنون من الطرق يلزم العمل به .

( نعم ، لو احتيج الى العمل بإحدى إمارتين ) متكافئتين من حيث القوة والضعف ( وإحتمل نصب كل منهما ) بأن لم يكن أحدهما متيقناً بالنسبة

ص: 94

صحّ تعيينه بالظنّ بعد الاغماض عمّا سيجيء من الجواب .

ورابعاً : سلّمنا عدمّ وجود القدر المتيقن ، لكنّ اللازمَ من ذلك وجوب الاحتياط ، لأنّه مقدمٌ على العمل بالظنّ ، لما عرفتَ من تقديم الامتثال العلميّ على الظنّ ، اللّهم إلاّ أن يدلّ دليل على عدم وجوبه ، وهو في المقام مفقود .

-------------------

الى الآخر ، وكان أحدهما في عرض الآخر لا في طوله ( صحّ تعيينه ) أي : تعيين احدهما على الآخر ( بالظنّ ، بعد الاغماض عمّا سيجيء من الجواب ) عليه ضمن قوله : ورابعاً إنشاء اللّه تعالى .

( ورابعاً : سلّمنا عدم وجود القدر المتيقن ) بين الطرق الواصلة إلينا ( لكن اللازم من ذلك : وجوب الاحتياط ) بالعمل بالجميع ( لأنّه ) أي : العمل بالإحتياط ( مقدّم على العمل بالظنّ ، لما عرفت : من تقديم الامتثال العلمي ) ولو اجمالاً ( على الظنّ ) وهذا الجواب : من تَقدَّم الاحتياط على العمل بالظنّ ، هو الذي أشار اليه المصنّف حين قال قبل قليل : بعد الاغماض عمّا سيجى ء من الجواب .

( اللّهم إلاّ أن يدلّ دليل على عدم وجوبه ) أي : عدم وجوب الاحتياط ( وهو ) أي الدّليل على عدم وجوب الاحتياط ، ( في المقام مفقود ) اذ الاحتياط إنّما لا يلزم اذا كان عُسراً وحَرجاً .

ومن المعلوم : إن الطرق المذكورة الى الأحكام : من الخبر ، والاجماع ، والشهرة ، وما أشبهها لا يوجب العمل بها عُسراً ولا حَرجاً ، لانّها محدودة بما ذكرها الفقهاء في الفقه ولا يستلزم من العمل بها عُسراً ، كما هو واضح .

ص: 95

ودعوى : « إنّ الأمر دائر بين الواجب والحرام ، لأنّ العمل بما ليس طريقاً حرام » ، مدفوعةٌ : بانّ حرمة العمل بما ليس طريقاً اذا لم يكن على وجه التشريع غيرُ محرّم ، والعمل بكلّ ما يحتمل الطريقيّة رجاء أن يكون هذا هو الطريق لا حرمة فيه من جهة التشريع .

نعم ،

-------------------

( و ) حيث إنّ المصنّف ادّعى الاحتياط بين الطرق يكون مقدّماً على العمل بالطرق المظنونة ، في مقابل الطرق المشكوكة أو الموهومة .

أشكل عليه : ب- ( دعوى إنّ الأمر دائر بين الواجب والحرام ، لأنّ العمل بما ليس طريقاً حرام ) فلا يمكن الاحتياط بجميع الطرق ، لأنّ المكلّف يعلم إنّ بعض الطرق يحرم العمل بها ، وإنّما يجوز العمل ببعض الطرق الاُخر ، وحيث سقط الاحتياط ، صارت النوبة للعمل بالظنّ .

قال هذه الدعوى ( مدفوعة بأنّ حرمة العمل بما ليس طريقاً اذا لم يكن على وجه التشريع غير محرّم ) فانّ التشريع محرم ، أمّا الاحتياط فهو في قبال التشريع ( والعمل بكلّ ما يحتمل الطريقيّة رجاء أن يكون هذا هو الطريق ، لا حرمة فيه من جهة التشريع ) فليس أمر الاحتياط دائراً بين الواجب والحرام وانّما الاحتياط حسنٌ على كل حال ، مثلاً : اذا نقل أحد الرّاويين عن الصادق عليه السلام : إنّ صلاة الجمعة واجبة ، وروى الآخر : إن صلاة الظهر يوم الجمعة واجبة ، والمكلّف يعلم خطأ أحدهما ، فانّه اذا أتى بالصلاتين برجاء المطلوبيّة؛ لم يكن فاعلاً للحرام ، لكن لو قصد التشريع ونسب الصلاتين الى المولى ، كان فاعلاً للحرام من جهة التشريع - كما ذكرناه في المباحث السابقة - .

( نعم ) اذا لم يكن بقصد التشريع لم يكن حراماً ، لكن يحتمل الحرمة أيضاً

ص: 96

قد عرفت إنّ حرمته مع عدم قصد التشريع إنّما هي من جهة أنّ فيه طرحاً للاُصول المعتبرة من دون حجّة شرعيّة .

وهذا ايضاً غيرُ لازم في المقام ، لأنّ موردّ العمل بالطريق المحتمل إن كان الاُصول على طبقه

-------------------

في الاحتياط من جهة اُخرى ، حيث ( قد عرفت : إنّ حرمته ) أي : الاحتياط ( مع عدم قصد التشريع إنّما هي ) أي : الحرمة ( من جهة إنّ فيه ) أي : في الاحتياط ، ( طرحاً للاُصول المعتبرة من دون حجّة شرعيّة ) وطرح الاُصول المعتبرة أيضاً لا يجوز .

( وهذا ) أي : طرح الاُصول المعتبرة ( أيضاً غير لازم في المقام ) إلاّ نادراً لأنّ الأصل إن كان موافقاً للاحتياط كما اذا كان الأصل يقتضي استصحاب الحكم كاستصحاب صلاة الجمعة ، والاحتياط يقتضي الفعل كإتيان الجمعة والظهر معاً ، فانّ الأصل هذا لا ينافي الاحتياط .

وإن كان الأصل مخالفاً للاحتياط ، فان كان مثل : أصل البرائة أو أصل التخيير ، حيث الاحتياط يقول بالاتيان والبرائة تقول بعدم الاتيان ، أو التخيير يقول بانّه مخيّر ، فذلك ايضاً غير ضار ، اذ البرائة لا تحتمّ عدم الاتيان بل تقول بانّه لايلزم عليك الاتيان كما إنّ التخيير يقول بمثل ذلك .

وإن كان الأصل المخالف للاحتياط مثل الاستصحاب المخالف ، كما اذا كان مقتضى الاحتياط الاتيان بصلاة الجمعة ، ومقتضى الاستصحاب حرمة صلاة الجمعة ، فهنا لا يمكن الاحتياط ، فلا يعمل فيه بالطريق وانّما يعمل بالأصل المعتبر الذي هو الاستصحاب ، وهذا ما ذكرناه بقولنا : إلاّ نادراً ويشير اليه المصنّف في آخر هذا المبحث حيث يقول اذا لم يعارضه الاحتياط في المسألة الفرعية وانّما يكون كذلك ( لأنّ مورد العمل بالطريق المحتمل إن كان الاصول

ص: 97

فلا مخالفة ، وإنّ كان مخالفا للاُصول : فان كان مخالفاً للاستصحاب النافي للتكليف فلا إشكال ، لعدم حجّية الاستصحاب بعد العلم بأنّ بعضً الأمارات الموجودة على خلافه معتبرةٌ عند الشارع ، وإن كان مخالفاً للإحتياط ، فحيئذٍ يُعملُ بالاحتياط في المسألة الفرعيّة ، وكذا لو كان مخالفاً للاستصحاب المثبتِ للتكليف .

فحاصلُ الأمر يرجعُ الى العمل بالإحتياط في المسألة الاُصوليّة ، أعني

-------------------

على طبقه ، فلا مخالفة ) كما عرفت .

( وإنّ كان مخالفاً للاُصول ، فان كان ) مورد العمل ( مخالفاً للاستصحاب النافي للتكليف ) بانّ اقتضى الاستصحاب العدم ، واقتضى الاحتياط الوجود ( فلا اشكال ) في هذا المقام ( لعدم حجّية الاستصحاب ، بعد العلم بأنّ بعض الأمارات الموجودة على خلافه ) أي على خلاف الاستصحاب ، تكون ( معتبرة عند الشّارع ) كاستصحاب الطهارة في الانائين الذين كانا طاهرين فتنجّس أحدهما ، فانّه لا يجوز الاستصحاب في اي من الانائين ، لانّ الاستصحاب لا يجري في اطراف العلم الاجمالي .

( وإن كان ) مورد العمل بالطريق ( مخالفاً للاحتياط ، فحينئذ يعمل بالاحتياط في المسألة الفرعيّة ) فالمسألة الفرعيّة مثل : وجوب الجمعة ، والمسألة الاُصولية مثل : حجّية الاستصحاب .

( وكذا لو كان ) الطريق ( مخالفاً للإستصحاب المثبت للتكليف ) كما اذا كان الاستصحاب على وجوب الجمعة ، ولكن قام الطريق على عدم وجوبها .

( فحاصل الأمر : يرجع الى العمل بالاحتياط في المسألة الاُصولية ، اعني :

ص: 98

نصبُ الطريق اذا لم يعارضه الاحتياط في المسألة الفرعيّة ، فالعمل مطلقاً على الاحتياط .

اللّهم إلاّ أن يقال إنّه يلزم الحرجُ من الاحتياط في موارد جريان الاحتياط في نفس المسألة ، كالشكّ في الجزئيّة وفي موارد الاستصحابات المثبتة للتكليف والنافية له بعد العلم الاجماليّ بوجوب العمل في بعضها على

-------------------

نصب الطريق اذا لم يعارضه الاحتياط في المسألة الفرعيّة ) فاذا عارضه الاحتياط في المسألة الفرعيّة ، قدَّم الاحتياط في المسألة الفرعيّة ، على الاحتياط في المسألة الاُصولية .

وعلى هذا : ( فالعمل مطلقاً ) أي : سواء في مسألة نصب الطريق ، أو المسألة الفرعية ( على الاحتياط ) فثبت ما ذكرناه : من وجوب العمل بالاحتياط ، لكن ربمّا يكون الاحتياط بالعمل بالمسألة الاُصولية ، وربّما يكون الاحتياط في العمل بالمسألة الفرعيّة .

( اللّهم إلاّ أن يقال : انّه يلزم الحرج من الاحتياط في موارد جريان الاحتياط في نفس المسألة ) الفرعيّة ( كالشك في الجزئية ) حيث إنّ الاحتياط يقتضي الاتيان بذلك الجزء المشكوك مع أنّ الاستصحاب يقتضي عدم الجزئية .

( وفي موارد الاستصحابات المثبتة للتكليف ) مثل الاستصحاب لوجوب الجمعة حيث كانت واجبة سابقاً ، سواء وافق هذا الاستصحاب المثبت ، الطريق أو خالفه .

( و ) كذا في موارد الاستصحابات ( النّافية له ) أي للتكليف ، فانّ الاستصحاب وإن نفى التكليف إلاّ أنّه يلزم الاتيان به من جهة الاحتياط .

ولذا قال المصنّف : ( بعد العلم الاجماليّ بوجوب العمل في بعضها على

ص: 99

خلاف الحالة السابقة ، اذ يصير حينئذٍ كالشبهة المحصورة ، فتأمل .

وخامساً : سلمّنا العلم الاجمالي بوجوب الطريق المجعول وعدم المتيقنّ وعدم وجوب الاحتياط .

-------------------

خلاف الحالة السابقة ) بمعنى : أنّه يلزم حسب العلم الاجمالي الاتيان بالتكليف وإن كان الاستصحاب في بعض الاطراف على عدم التكليف .

وانّما يلزم الاحتياط ( اذ يصير حينئذ كالشبهة المحصورة ) فانّه يلزم الاحتياط في جميع الأطراف ، وان كان علم بأنّ بعض الاطراف ليس له حكم .

وإنّما قال : كالشبهة المحصورة ، لأنّ المورد من الشبهة غير المحصورة ، لكثرة الأحكام الثابتة على المكلّف من أول الفقه الى آخره ، لكن مع ذلك يلزم عليه الاحتياط ايضاً من جهة علمه بكثرة التكاليف الثابتة عليه في ضمن الطرق والأمارات والاُصول .

( فتأمّل ) ولعل وجهه : منع لزوم الحَرج هنا ، لأنّ المسلّم من لزوم الحَرج العمل بالاحتياط الكلي ، باتيان كل محتمل الوجوب ، وترك كلّ محتمل الحرمة ، سواء كان من جهة الظنّ او الشك أو الوهم ، بينما ليس الأمر هنا كذلك ، لانّه إنّما يكون دائرة الاحتياط في الطرق والاُصول والأمارات فقط لا مطلقاً .

( وخامساً : سلّمنا العلم الاجماليّ بوجوب الطريق المجعول ) من قبل الشارع ، وان الشّارع جعل لأحكامه طريقاً ، ولم يكتف بالطرق العقلائية .

( و ) سلّمنا ( عدم المتيقّن ) من بين الطرق المحتملة الجعل ، مثل الخبر الواحد ، والاجماع المنقول ، والشهرة ، والأولويّة ، وما اشبه؛ وقلنا : بأنّ جميعها متساوية وليس بعضها متيقناً .

( و ) سلّمنا ( عدم وجوب الاحتياط ) وذلك بالعمل بجميع الطرق التي

ص: 100

لكن نقول : إنّ ذلك لايوجب تعيين العمل بالظنّ في مسألة تعيين الطريق فقط ، بل هو مجوز له كما يجوز العمل بالظنّ في المسألة الفرعيّة .

وذلك ، لأن الطريق المعلوم نصبهُ إجمالاً ، إن كان منصوباً حتى حال إنفتاح باب العلم ، فيكون هو في عرض الواقع مبرءاً للذّمة ،

-------------------

هي اطراف العلم الاجماليّ .

( لكن نقول : إنّ ذلك ) أي : جعل الطريق ( لا يوجب تعيين العمل بالظنّ في مسألة تعيين الطريق فقط ) الذي ذكره الفصول ، حيث قال : بان اللازم علينا أن نعمل بالظنّ بالطريق ، لا أن نعمل بالظّن بالواقع .

( بل هو ) أي : جعل الشارع الطريق ( مجوز له ) أي للمكلف؛ بمعنى : انّه يجوز له أن يعمل بالظنّ في مسألة الطريق ( كما يجوز العمل بالظنّ في المسألة الفرعيّة ) أي بالحكم ، فإذا ظن بوجوب صلاة الجمعة عمل بهذا الظّن كما إنّه اذا ظنّ بأنّ الشهرة حجّة ، وقد أدت الشهرة الى صلاة الجمعة أخذ بمقتضى الشهر ، فصلى الجمعة وإن لم يظنّ بوجوب صلاة الجمعة .

( وذلك ) الذي ذكرناه : من أنّه يجوز العمل بالظنّ بالطّريق ، وبالظنّ بالمسألة الفرعيّة ، انّما هو ( لأنّ الطريق المعلوم نصبه اجمالاً ) كالشهرة مثلاً ( إن كان منصوباً حتى حال إنفتاح باب العلم ) بأنّ قال الشارع : يجوز لك تحصيل العلم على الواقع . كما يجوز لك أن تعمل حسب الشهرة - مثلاً - .

( فيكون هو ) أي : الطريق المجعول ( في عرض الواقع ، مبرءاً للذمة ) فسواء علم الانسان بوجوب صلاة الجمعة ، أو قامت الشهرة على وجوبها وإن لم يعلم بالوجوب ، فصلاها كفاه ذلك في برائة ذمته .

ص: 101

بشرط العلم به ، كالواقع المعلوم .

مثلاً ، اذا فرضنا حجّية الخبر مع الانفتاح ، تخيّر المكلَّفُ بين امتثال ما علم كونُه حكماً واقعياً بتحصيل العلم به وبين إمتثال مؤدّى الطريق المجعول الذي علم جعله بمنزلة الواقع ، فكلّ من الواقع ومُؤدى الطريق مُبرء مع العلم به ، فاذا انسدّ باب العلم التفصيليّ بأحدهما تعيّن الآخر ،

-------------------

لكن ( بشرط العلم به ، كالواقع المعلوم ) أي : بشرط أن يعلم المكلَّف بأنّ الشهرة مجعولة للشّارع ، لانّ معنى جعل الشارع الشّهرة حجّة حتى في حال التمكّن من العلم : إنّه يجوز له الأخذ بالشهرة في عرض العلم .

( مثلاً : اذا فرضنا حجيّة الخبر مع الانفتاح ، تخيّر المكلّف بين إمتثال ما علم كونه حكماً واقعيّاً ) بأن يمتثله ( بتحصيل العلم به ) أي : بذلك الواقع ( وبين إمتثال مؤدى الطريق المجعول ) أي : مؤدّى الذي قام على الواقع ( الذي علم جعله ) اي جعل الشارع هذا الخبر ( بمنزلة الواقع ) لأنّ معنى إنّ الخبر حجّة : إنّه اذا قام الخبر على شيء ، كان ذلك الشيء بمنزلة الواقع .

وعليه : ( فكل من الواقع ومؤدّى الطريق مبرءٌ مع العلم به ) أي بجعل ذلك الطريق فانّه سواء علم بالواقع ، أو علم بانّه مؤدّى الطريق وإن لم يعلم بانّه الواقع - كما اذا قام الخبر على وجوب الجمعة - كفاه ذلك في الامتثال وإن لم يعلم بانّ الجمعة واجبة واقعاً .

( فاذا إنسدّ باب العلم التفصيلي بأحدهما ) أي : بالواقع أو بالخبر ( تعيّن الآخر ) فاذا لم يعلم الانسان - مثلاً - الواقع ، تعيّن الخبر ، واذا لم يعلم الانسان الخبر ، تعيّن الواقع وذلك هو مقتضى الأمر التخييري فإنّه اذا تمكن منهما كفى كل واحد منهما ، واذا لم يتمكن من أحدهما لزم أنّ يأتي بالآخر .

ص: 102

وإذا إنسدّ بابُ العلم التفصيليّ بهما تعيّن العملُ فيهما بالظنّ ، فلا فرق بين الظنّ بالواقع والظنّ بمؤدّى الطريق في كون كلّ واحد إمتثالاً ظنيّاً .

وإن كان ذلك الطريقُ منصوباً عند إنسداد باب العلم بالواقع ، فنقول : إنّ تقديمه حينئذٍ على العمل بالظنّ إنّما هو مع العلم به وتمييزه عن غيره ،

-------------------

( واذا إنسدّ باب العلم التفصيليّ بهما ) بان لم يعلم بالواقع ، ولم يعلم بالخبر المؤدّي الى الواقع ( تعيّن العمل فيهما بالظنّ ) فانّه حينئذٍ لا فرق بين أن يظنّ بالواقع فيأتي به ، أو يظنّ بحجّية الخبر فيأتي بمؤدّى الخبر ، وذلك لِما عرفت : من الاجماع على عدم وجوب الاحتياط حسب العلم الاجمالي بأن يأتي بكلا الأمرين : الواقع المظنون ، ومؤدّى الخبر المظنون .

وعليه : فاذا إنسدّ باب العلم ( فلا فرق بين الظنّ بالواقع و ) بين ( الظنّ بمؤدّى الطريق ) أي : لا فرق ( في كون كل واحد إمتثالاً ظنيّاً ) على حد سواء .

(وإن كان ذلك الطّريق منصوباً عند إنسداد باب العلم بالواقع ) وهذا عطف على قوله : « ان كان منصوباً حتى حال إنفتاح العلم » وذلك بأن قال الشارع : اعمل حسب علمك بالواقع فقط ، فاذا إنسدّ عليك باب العلم فاعمل بالخبر ، فجعل الخبر في طول الواقع لا في عرضه ( فنقول : إنّ تقديمه ) أي : تقديم هذا الخبر الذي جعله الشارع في حال الانسداد ( حينئذٍ ) أي : حينَ إنسداد باب العلم ، فانّه مقدّم ( على العمل بالظنّ ) المطلق ، فاذا كان هناك خبر مجعول فيحال الانسداد ، وظنّ بالواقع ، كان اللازم أن يعمل بالخبر لا بالظنّ .

و ( إنّما هو ) أي : إنّما يلزم العمل بالخبر لا بالظنّ ( مع العلم به ) أي : بالخبر المجعول ( وتمييزه عن غيره ) تفصيلاً ، بأن لم يحصل لنا علم اجمالي بانّ الشارع جعل لنا طريقاً مجعولاً حال الانسداد ، ولكن لا نعلم هل إن الطريق المجعول

ص: 103

إذ حينئذٍ يحكم العقل بعدم جواز العمل بمطلق الظنّ مع وجود هذا الطريق المعلوم ، اذ فيه عدول عن الامتثال القطعي الى الظنّي وكذا مع العلم الاجماليّ ، بناءا على أن الامتثال التفصيلي مقدّم على الاجماليّ أو لأنّ الاحتياط يُوجب الحَرج المؤدّي الى الاختلال . أما مع إنسداد باب العلم بهذا الطريق وعدم تميّزه عن غيره

-------------------

هو الخبر ، أو الشهرة ، أو الاجماع المنقول ؟ .

وإنّما نقول بتقديم الخبر على الظنّ في هذه الصورة ( اذ حينئذٍ يحكم العقل بعدم جواز العمل بمطلق الظنّ مع وجود هذا الطريق المعلوم ) لأنّ الظنّ مرتبته متأخرة عن العلم ، فيقدَّم العلم بالطريق على الظنّ به .

( اذ ) لو لم يعمل بالطريق المعلوم وعمل بالظنّ ، كان ( فيه عدول عن الامتثال القطعي الى الظنيّ ) وقد عرفت تقدّم الامتثال العلمي على الامتثال الظنّي بالظنّ المطلق .

( وكذا مع العلم الاجمالي ) يعني : كما لا يجوز العمل بالظنّ بالواقع مع العلم التفصيلي بالطريق المجعول ، كذلك لا يجوز الاكتفاء بالعلم الاجمالي بتحصيل الواقع بالعمل بالإحتياط مع الطريق المعلوم وذلك ( بناءاً على أن الامتثال التفصيلي ) وإنّ كان ظنيا ( مقدّم على الاجمالي ) وإن كان علميّاً .

( أو ) وهذا عطف على قوله : « بناءاً » ( لأنّ الاحتياط يوجب الحَرج المؤدّي الى الاختلال ) والاحتياط المؤدّي الى الاختلال ساقط قطعاً .

( أما مع إنسداد باب العلم بهذا الطّريق ، وعدم تميّزه عن غيره ) بأن كان الطريق المجعل مجهولاً لنا تفصيلاً واجمالاً بحيث لا نعلمه تفصيلاً ولا اجمالاً

ص: 104

إلاّ باعمال مطلق الظنّ ، فالعقل لا يحكم بتقديم إحراز الطريق بمطلق الظنّ على احراز الواقع بمطلق الظنّ .

وكأنّ المستدلٌ توهم إنّ مجرّد نصبَ الطريق ولو مع عروض الاشتباه فيه موجبٌ لصرف التكليف عن الواقع الى العمل بمُؤدّى الطريق كما ينبى ء عنه قوله . وحاصل القطعين الى أمر واحد ، وهو التكليف الفعليّ بالعمل بمؤدّى الطرق ، وسيأتي مزيد توضيح لإندفاع هذا التوهم إنشاء اللّه تعالى .

-------------------

( إلاّ باعمال مطلق الظنّ ) الانسدادي ( فالعقل لا يحكم بتقديم احراز الطّريق بمطلق الظنّ على احراز الواقع بمطلق الظّن ) بل العقل يرى : إنّ الظنّ بالطّريق كالظنّ بالواقع ، والظنّ بالواقع كالظنّ بالطريق وبأيهما عمل كان مجزياً .

هذا ( وكأنّ المستدِّل ) وهو صاحب الفصول القائل : بأنّه يلزم العلم بالظنّ بالطّريق لا الظّن بالواقع ( توهمّ إنّ مجرّد نصبَ الطريق ولو مع عروض الاشتباه فيه ) أي : في ذلك الطّريق ( موجب لصرف التكليف عن الواقع الى العمل بمؤدّى الطريق ) بمعنى إنّه اذا جعل الشارع حكماً وجعل له طريقاً ، فانّ اللازم على المكلّف أن يعمل بذلك الطريق فقط .

( كما ينبى ء عنه ) أي : عن هذا التوهم ( قوله : وحاصل القطعين الى أمر واحد ، وهو : التكليف الفعليّ بالعمل بمؤدّى الطرق ) بينما هذا الشيء غير صحيح ، لأنّ العقل يرى : عدم الفرق عند الانسداد بين أن يعمل بالظنّ بالطّريق ، أو أن يعمل بالظنّ بالواقع ، ( وسيأتي مزيد توضيح لاندفاع هذا التّوهم إنشاء اللّه تعالى ) بعد صفحتين تقريباً حيث يشير المصنّف اليه بقوله : والحاصل : « انّه فرق بين أن يكون مرجع نصب هذه الطرق الى قول الشارع » الى آخر كلامه .

ص: 105

فان قلت : نحن نرى أنّه اذا عيّن الشارع طريقاً للواقع عندإنسداد باب العلم به ،ثم انسدّ بابُ العلم بذلك الطريق كان البناء على العمل بالظنّ في الطريق ، دون نفس الواقع . الاّ ترى أنّ المقلّد يعمل بالظنّ في تعيين المجتهد لا في نفس الحكم الواقعيّ ، والقاضي يعملُ بالظنّ في تحصيل الطرق المنصوبة لقطع المرافعات ، لا في تحصيل الحقّ الواقعي بين المتخاصمين .

قلت : فرقٌ بين ما نحن فيه وبين المثالين ، فانّ الظنون الحاصلة للمقلد والقاضي في المثالين بالنسبة الى

-------------------

( فان قلت ) تأييداً لكلام الفصول القائل : بأنّ اللازم حال الانسداد العمل بالظنّ بالطّريق ، لا الظنّ بالواقع ( نحن نرى انّه اذا عينّ الشارع طريقاً للواقع عند إنسداد باب العلم به ) أي : بالواقع ( ثمّ إنسدّ باب العلم بذلك الطريق ، كان البناء ) من العقلاء ( على العمل بالظنّ في الطريق ، دون ) العمل بالظنّ في ( نفس الواقع ) لأنّ الواقع عندهم قد إنحصر في الطريق المعين .

( ألا ترى ) شاهداً لذلك ( انّ المقلّد يعمل بالظنّ في تعيين المجتهد ) والحال إنّ المجتهد طريق ، و ( لا ) يعمل بالظنّ ( في نفس الحكم الواقعي ) الذي هو عليه .

( والقاضي يعمل بالظنّ في تحصيل الطرق المنصوبة لقطع المرافعات ) مثل الصلح ، أو القرعة ، أو قاعدة العدل ، أو ما أشبه ، وهذه كلّها طرق الى الواقع ( لا في تحصيل الحقّ الواقعيّ بين المتخاصمين ) وانّه هل الحقّ لهذا أو لذاك في كلّ المخاصمات الماليّة ، وغير المالية ؟ .

( قلت : فرق بين ما نحن فيه وبين المثالين ) المذكورين من المقلد والقاضي ( فانّ الظنّون الحاصلة للمقلّد والقاضي في المثالين ) المذكورين ( بالنسبة الى

ص: 106

الواقع اُمور غير مضبوطة كثيرة المخالفة للواقع مع قيام الاجماع على عدم جواز العمل بها ، كالقياس ،

-------------------

الواقع اُمور غير مضبوطة ، كثيرة المخالفة للواقع ) فكيف يتمكن المقلد من الظنّون بالاحكام الواقعيّة من أول الطهارة الى آخر الديّات ؟ أم كيف يتمكن القاضي من الظنّ بمعرفة واقع المتخاصمين ، وإن الحق في الواقع لأيهما ؟ .

هذا ( مع قيام الاجماع على عدم جواز العمل بها ) أي بالظنّون الحاصلة للمقلّد والقاضي ( كالقياس ) فكما أنّ الاجماع قام على عدم جواز العمل بالقياس ، كذلك قام الاجماع على عدم جواز عمل العامي بالظنّون ، المرتبطة بالأحكام الشرعيّة ، فلا يصح قياس ما نحن فيه على ظنّ القاضي والمقلّد للفرق من وجوه :

الاوّل : قيام الاجماع على عدم الاعتداد بظنّ القاضي في تعيين الواقع بين المتخاصمين ، وكذا ظنّ المقلّد في تعيين الأحكام الواقعيّة ، بخلاف ظنّ المجتهد فيما نحن فيه .

الثّاني : إنّ ظنّ القاضي والمقلّد بالنسبة الى تعيين الواقع وتعيين الطريق مختلف ، لأن الظن بتعيين الواقع بين المتخاصمين ، وتعيين الأحكام الواقعية ، حاصل من اُمور غير مضبوطة كثيرة المخالفة ، وإتباعها للقاضي يستلزم اضطراب القضاء اذ كثيراً ما يظنّ القاضي بانّ الحق مع احدهما مع إنّ الأمارات الشرعيّة على خلاف ظنّه ، عمل بظنّه لزم اضطراب القضاء في القضايا الشخصيّة ، فتارة يحكم على حسب البيّنة ، وتارة على خلاف البيّنة .

وكذا بالنسبة الى اليمين ، وسائر الأمارات كاليد ، ونحوها ، وهذا خلاف دَيدَن العقلاء في الزوم التنسيق في الاُمور الحيوية العامة .

وكذا يلزم اضطراب الأحكام بالنسبة الى المقلّد فمرة يظنّ بأنّ الواجب صلاة

ص: 107

بخلاف ظنونهما المعمولة في تعيين الطريق ، فانّها حاصلة من أمارات مُنضبطة غالبة المطابقة لم يدلّ دليل بالخصوص على عدم جواز العمل به .

-------------------

الجمعة ، ومرّة إنّه الظهر ، وثالثة إنّه مخيّر بينهما ، وهكذا بين المقلّدين المختلفين من أول الفقه الى آخره .

الثالث : إنّ الشارع في نصب الطرق للقاضي في القضاء ، والحاكم في الحكومة لم يلاحظ الواقع بما هو واقع ، بل جعل المناط هو مؤديات الطرق المخصوصة حيث قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « إنَما أَقضِي بَينَكُم بالبيّناتِ والأيمان » (1) ، الى غير ذلك ، ومقتضى ما جعله الشارع عند إنسداد باب العلم بالطّرق : هو إعمال الظّنّ بالطرق دون الواقع ، بخلاف ما نحن فيه من أمر المجتهد .

ولا يخفى : إنّا ذكرنا في كتاب : « الفقه الحقوق » انّه هل العبرة بروح القانون أو جسم القانون إذا تخالفا ؟ وانّه هل يلزم العمل حسب علم القاضي أو حسب الدليل إذا تخالفا ؟ .

وعليه : فظنون المقلّد والقاضي بالواقع ساقطة ( بخلاف ظنونهما المعمولة في تعيين الطريق ، فانّها حاصلة من أمارات منضبطة غالبة المطابقة ) و ( لم يدلّ دليل بالخصوص على عدم جواز العمل به ) أي : بتلك الظّنون ، وإنما جاء بضمير المفرد في : « به » باعتبار كل ظنّ ظنّ ، مثل قوله سبحانه : « والمَلائِكَةُ بَعدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ » (2) وقوله سبحانه : « لَم يَتَسَنّه ... » (3) .

ص: 108


1- - الكافي فروع : ج7 ص414 ب29 ح6 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص229 ب22 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص232 ب2 ح33663 .
2- - سورة التحريم : الآية 4 .
3- - سورة البقرة : الآية 259 .

فالمثال المطابق لما نحن فيه أن تكون الظنون المعمولة في تعيين الطّريق بعينها هي المعمولة في تحصيل الواقع ، لا يُوجد بينهما فرقٌ من جهة العلم الاجماليّ بكثرة مخالفة احداهما للواقع ، ولا من جهة منع الشارع عن إحداهما بالخصوص .

كما إنّا لو فرضنا إنّ الظنون المعمولة في نصب الطريق على العكس في المثالين كان المتعيّنُ العملَ بالظنّ في نفس الواقع دون الطريق .

فما ذكرنا من العمل على الظنّ ، سواء تعلّق بالطريق أم بنفس الواقع ،

-------------------

إذن : ( فالمثال المطابق لما نحن فيه ) من ظنّ المجتهد ( أن تكون الظّنون المعمولة في تعيين الطّريق بعينها هي المعمولة في تحصيل الواقع ، لا يوجد بينهما فرق ) يعني : انّ الظّنّ بالطّريق يكون مثل الظّنّ بالواقع في مقدار إحتمال الموافقة والمخالفة فيهما للواقع ، حيث لا فرق بين الظّنين ، لا ( من جهة العلم الاجمالي بكثرة مخالفة احداهما للواقع ، ولا من جهة منع الشّارع عن احداهما بالخصوص ) .

فانّ الشارع - كما فرضنا - منع المقلّد والقاضي من العمل بظنونهما المرتبطة بالواقع وأمرهما بالعمل بظنونهما في تعيين الطريق الذي هو المجتهد ، والتي هي الطرق المنصوبة لقطع المرافعات .

هذا ( كما إنّا لو فرضنا انّ الظّنون المعمولة في نصب الطريق على العكس في المثالين ) بأن كان الظّنّ بالطّريق أكثر مخالفة من الظنّ بالواقع وكان الظنّ بالطريقين منهيّاً عنه من الشارع ، فانّه حينئذ ( كان المتعيّن العمل بالظّنّ في نفس الواقع دون الطريق ) لعدم تكافؤ الظّنين في هذه الصورة .

( فما ذكرنا : من العمل على الظّنّ سواء تعلّق بالطريق أم بنفس الواقع ) في باب

ص: 109

فانّما هو مع مساواتهما من جميع الجهات ، فانّا لو فرضنا أنّ المقلّد يقدر على إعمال نظير الظنون التي يعملها لتعيين المجتهد في الأحكام الشرعيّة مع قدرة الفحص عمّا يعارضها على الوجه المعتبر في العمل بالظنّ ، لم يجب عليه العملُ بالظنّ في تعيين المجتهد ، بل وجب عليه العملُ بظنّه في تعيين الحكم الواقعيّ .

وكذا القاضي إذا شَهِدَ عنده عادل واحد بالحقّ لا يعمل به ،

-------------------

المجتهد الذي إنسدّ عليه باب العلم والعلميّ ( فانّما هو مع مساواتهما من جميع الجهات ) بأن تساوى العمل على الظّن بالواقع ، والعمل على الظّنّ بالطريق ، فلا فرق في وجوب إتيانه بصلاة الجمعة بين أن يظنّ بأنّ الجمعة واجبة ، أو يظنّ بأنّ خبر الواحد حجّة وقد قام الخبر الواحد على وجوب الجمعة .

( فانّا لو فرضنا : انّ المقلّد يقدر على إعمال نظير الظّنون التي يعملها لتعيين المجتهد ) أي : يقدر عليها ( في الأحكام الشّرعيّة مع قدرة الفحص عمّا يعارضها ) أي : يعارض هذه الظّنون ( على الوجه المعتبر في العمل بالظّن ) لأنّ العمل بالظّنّ يحتاج الى الفحص حتى يظنّ بالواقع ، ثم الفحص عمّا يعارض هذا الظّنّ .

فان مثل هذا المقلّد ( لم يجب عليه العمل بالظنّ في تعيين المجتهد ) فقط ( بل وجب عليه ) وجوبا تخييريا ( العمل بظنّه في تعيين الحكم الواقعيّ ) فيكون مخيّراً بين أن يعمل بالظّنّ بالمجتهد ، أو بالظّنّ بالواقع .

( وكذا القاضي إذا اشَهِدَ عنده عادل واحد بالحقّ ، لا يعمل به ) لأنّ العادل الواحد لا يثبت به الحق ، قال سبحانه : « واستَشهِدُوا شَهِيدَينِ مِن رِجالِكُم » (1) .

ص: 110


1- - سورة البقرة : الآية 282 .

وإذا أخبره هذا العادل بعينه بطريق قطع هذه المخاصمة يأخذ به . فانّما هو لأجل قدرته على الاجتهاد في مسائل الطريق بإعمال الظنون وبذل الجهد في المعارضات ودفعها ، بخلاف الظنّ ، بحقيّة أحد المتخاصمين ، فانّه ممّا يَصعُبُ الاجتهادُ وبذلُ الوسع في فهم الحقّ من المتخاصمين ، لعدم إنضباط الأمارات في الوقائع الشخصيّة وعدم قدرة المجتهد على الاحاطة بها حتّى يأخذ بالاُخرى .

-------------------

( وإذا أخبره هذا العادل بعينه بطريق قطع هذه المخاصمة ) كما إذا أخبره عن الامام عليه السلام بأنه يقضي بالنِّكول فقط من دون أن يردّ اليمين على المدّعي ، ( يأخذبه ) .

وإنّما لا يعمل بشهادة العادل الواحد القائل بالحق ، ويعمل بخبر القائل بطريق قطع المخاصمة ( فانّما هو لأجل قدرته ) أي : القاضي ( على الاجتهاد في مسائل الطريق ، بإعمال الظّنون وبذل الجهد في المعارضات ودفعها ) أي : دفع تلك المعارضات بالنسبة الى انّه هل يقضي بالنّكول ، أو يحتاج مع النَكول الى ردّ اليمين على المدعي ، أو غير ذلك ؟ .

( بخلاف الظّنّ بحقيّة أحد المتخاصمين ) وانّ هذه الدّار المتنازع عليها لزيد أو لبكر وإن شهد عادل واحد بأنّها لزيد ( فانّه ممّا يصعبُ الاجتهاد وبذل الوسع في فهم الحقّ من المتخاصمين ) في انّ الحقّ مع أيهما ؟ .

وإنّما يصعب الاجتهاد ( لعدم إنضباط الأمارات في الوقائع الشّخصيّة وعدم قدرة المجتهد على الاحاطة بها ) أي : بتلك الأمارات ، ( حتّى يأخذ بالاُخرى ) والأوفق منها .

فالأمارة في كون الدّار - مثلاً - لهذا أو لذاك في مائة قضية متماثلة ترفع

ص: 111

وكما ان المقلّد عاجز عن الاجتهاد في المسألة الكلّيّة ، كذلك القاضي عاجز عن الاجتهاد في الوقائع الشخصيّة ، فتأمّل .

هذا ، مع إمكان أنّ يقال :

-------------------

الى الحاكم ، وليست بأمارة واحدة ، فقد تكون الأمارة الشياع ، وقد تكون بظهور علائم الحق على وجه أحد الطرفين ، كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : « ما نوى إمرء شيئا إلاّ وَظَهَر عَلى صَفحاتِ وَجهِهِ وَفَلَتاتِ لَسانِه » (1) .

وقد تكون لأجل إن أحدهما مبطل واضح ، لانّه لا يبالي - مثلاً - بأكل أموال النّاس بالباطل .

وقد تكون لأجل إن أحد المدّعين - مثلاً - جديد في البلد لم يعرف بعد ، والآخر قديم يُعرف بالأمانة ، الى غير ذلك من القرائن المكتنفة بالقضايا الشخصية .

( وكما إنّ المقلد عاجز عن الاجتهاد في المسألة الكلّية ) من أول الطهارة الى آخر الديّات ( كذلك القاضي عاجز عن الاجتهاد في الوقائع الشخصية ) من مئات القضايات التي ترفع اليه .

( فتأمّل ) ولعلّه إشارة الى أنّ دليل الانسداد لا يدل على حجّية الظّن في الموضوعات الخارجيّة كما سيأتي - إنشاء اللّه - بعض الكلام في ذلك ، فيكون عدم تمكن القاضي من إعمال الظّنّ بالنسبة الى القضايا الشخصية من هذه الجهة ، لا من جهة إنّ الوقائع الشخصيّة غير منضبطة القرائن .

( هذا مع إمكان أن يقال : ) إن ما ذكرناه في الوجه الثالث من وجوه الفرق بين

ص: 112


1- - بحار الانوار : ج68 ص316 ب25 ح4 ، نهج البلاغة : قصار الحكم : ص26 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج18 ص137 ب26 .

إن مسألة عمل القاضي بالظنّ في الطريق مغايرةٌ لمسألتنا ، من جهة أنّ الشارع لم يلاحظ الواقع في نصب الطريق وأعرضَ عنه ، وجَعَلَ مَدار قطع الخصومة على الطرق التعبّديّة ، مثل الاقرار والبينّة واليمين والنكول والقرعة وشبهها ، بخلاف الطرق المنصوبة للمجتهد على الأحكام الواقعيّة ، فانّ الظاهر إن مبناها على الكشف الغالبي عن الواقع ، ووجه تخصيصها

-------------------

المفتي والقاضي وهو ( إنّ مسألة عمل القاضي بالظّن في الطريق ، مغايرة لمسألتنا) من إعمال المجتهد الظّنّ في الطريق ، وهذه المغايرة ( من جهة انّ الشارع لم يلاحظ الواقع في نصب الطريق وأعرض عنه ) أي : عن الواقع ( وجعل مدار قطع الخصومة على الطرق التعبديّة ) .

وإنّما أعرض الشّارع عن الواقع - مع انّ الواقع هو المناط - لجهة مسألة الأهم والمهم ، فقد عرفت : إنّه إذا وكلّ الشّارع الأمر الى الواقع إضطرب القضاء ، لاختلاف آراء القضاة المتعددين ، بل القاضي الواحد في قضايا متعددة ، فتارة يحكم هكذا ، وأخرى يحكم ضده ، بخلاف ما إذا عبَّد الشارع القاضي بالطرق الخاصة ( مثل الاقرار ، والبيّنة ، واليمين ، والنّكول ، والقرعة ، وشبهها ) كالقَسامة في باب القتل ، وكذلك في كون الاعتبار بتعدد الجُنّاة لا بتعدد الجنيات وهكذا .

وهذا ( بخلاف الطرق المنصوبة للمجتهد على الأحكام الواقعيّة ) فالشارع جعل المعيار في هذا المقام الواقع ( فانّ الظّاهر : إنّ مبناها ) أي : مبنى الطرق المنصوب للمجتهد ( على الكشف الغالبيّ عن الواقع ) فلم يقدّم الشّارع الطّريق على الواقع بالنسبة الى المجتهد .

( ووجه تخصيصها ) أي : الطرق المنصوبة للمجتهد على الأحكام الواقعيّة

ص: 113

من بين سائر الأمارات كونها أغلبَ مطابقةً ، وكون غيرها غير غالب المطابقة ، بل غالب المخالفة . كما ينبى ء عنه ما ورد في العمل بالعقول في دين اللّه : « وإنّه لَيسَ شَيءٌ أبعدَ عَن دِينِ اللّه ِ مِنْ عُقولِ الرّجالِ ، وإنّ ما يُفسِده أكثرُ مِمّا يُصلِحه ، وانّ الدّين يُمحَقُ بالقياس ، ونحو ذلك » .

ولا ريبَ أنّ المقصودَ من نصب الطريق إذا كان غلبةَ الوصول إلى الواقع لخصوصيّة فيها من بين سائر الأمارات ،

-------------------

( من بين سائر الأمارات ) حيث الاعتبار في سائر الأمارات بالطريق ، والاعتبار في المجتهد على الواقع ، ( كونها ) أي : الطرق المنصوبة للمجتهد ( أغلب مطابقة ) للواقع ( وكون غيرها ) أي : سائر الأمارات ( غير غالب المطابقة ) للواقع ( بل غالب المخالفة ) للواقع .

( كما ينبى ء عنه ) أي : عن لزوم إتباع الطريق بالنسبة الى سائر الأمارات ( ما ورد في العمل بالعقول في دين اللّه ، وإنّه لَيسَ شَيءٌ أَبعَدَ عَن دِينِ اللّه ِ مِن عُقولِ الرِّجالِ ، وإنّ ما يُفسده ) العامل بعقله لا بالطرق المقررة شرعاً ، ( أَكثَر مِمّا يُصلِحُه ) الدّال على غلبة عدم المطابقة ( وإنّ الدِّينَ يُمحَقُ بالقياس) (1) لأنّ القياس لا يصيب الواقع على الأغلب ( ونحو ذلك ) من الرّوايات في هذا الباب .

( ولا ريب إنّ المقصود من نصب الطريق إذا كان غلبة الوصول الى الواقع لخصوصيّة فيها ) أي : في ذلك الطريق المنصوب ( من بين سائر الأمارات ) حيث إن هناك أمارات على الواقع لكن هذا الطريق المنصوب يغلب سائر الأمارات

ص: 114


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص192 ب13 ح33572 .

ثمّ إنسدّ بابُ العلم بذلك الطريق المنصوب والتجأ إلى إعمال سائر الأمارات التي لم يعتبرها الشارعُ في نفس الحكم لوجود الأوفق منها بالواقع ، فلا فرقَ بين إعمال هذه الأمارات في تعين ذلك الطريق وبين إعمالها في نفس الحكم الواقعي .

-------------------

في الوصول الى الواقع كالخبر ، فانّه غالب الوصول من بين الأمارات الأُخر ، من الشهرة ، والاجماع المنقول ، والأولويّة ، وما أشبه ذلك .

( ثمّ ) انّه إذا ( إنسد باب العلم بذلك الطّريق المنصوب ) بأن لم يتمكن من العلم بالخبر الذي نصبه الشارع طريقاً الى إحكامه ( والتجأ ) أي : المكلّف ( الى إعمال سائر الأمارات التي لم يعتبرها الشارع ) لأن هناك ما هو أقرب في الوصول الى الواقع منها ، كما لو إلتجأ بعد الخبر الى العمل بالشهرة ، أو الاجماع المنقول ، أو الأولويّة ( في نفس الحكم ) « في » : متعلق ب- : « اعمال » ، أي : إنّ المكلّف أعمل هذه الأمارات للوصول الى الحكم .

وإنما لم يعتبرها الشارع ( لوجود الأوفق منها بالواقع ) فانّ المفروض إن الخبر أوفق من سائر الأمارات في الوصول الى الواقع ، ولذا إعتبر الشارع الخبر ولم يعتبر سائر الأمارات .

وحينئذ : لمّا إنسدّ الطريق الى الخبر ( فلا فرق بين إعمال هذه الامارات ) التي لم يعتبرها الشّارع ( في تعيين ذلك الطريق ) « في » : متعلق ب- : « اعمال » أي : إنّ الأمارات التي تدل على الخبر ( وبين إعمالها في نفس الحكم الواقعي ) .

فاذا قامت الشّهرة - مثلاً - على إنّ الاستحسان طريق ، والاستحسان قال بوجوب صلاة الجمعة ، كان كما إذا قامت الشّهرة على وجوب الجمعة ، وهذا هو معنى تساوي الظّنّ الانسدادي على الطريق أو على الواقع .

ص: 115

بل الظاهر إن إعمالها في نفس الواقع أولى لإحراز المصلحة الأوليّة التي هي أحقّ بالمراعاة من مصلحة نصب الطريق ، فانّ غاية ما في نصب الطريق من المصلحة ما به يُتَدارك المفسدة المُترتّبة على مخالفة الواقع اللاّزمة من العمل بذلك الطريق ، لا إدراك المصلحة الواقعيّة . ولهذا إتفق العقلُ والنقلُ على ترجيح الاحتياط على تحصيل الواقع بالطريق

-------------------

( بل الظاهر ) لدى العقل والعقلاء ( إنّ إعمالها ) أي : الأمارات غير المنصوبة شرعاً التي إضطّر المكلَّف إليها ( في نفس الواقع ، أولى لاحراز المصلحة الأولية ، التي هي أحق بالمراعاة عن مصلحة نصب الطّريق ) فاذا حصلنا على الشهرة الّتي تدلّ على وجوب الجمعة ، كان أولى من أن نحصل على الشّهرة التي تدلّ على إنّ الاستحسان طريق .

( فانّ غاية ما في نصب الطريق من المصلحة ، ما به يتدارك المفسدة المترتّبة على مخالفة الواقع اللاّزمة ) تلك المخالفة ( من العمل بذلك الطريق ، لا إدراك المصلحة الواقعيّة ) فانا إذا حصلنا على الشّهرة بوجوب الجمعة وعملنا بالشهرة أحرزنا مصلحة صلاة الجمعة ، بينما إذا حصلنا على الشهرة القائلة بأنّ الاستحسان طريق، فانّه إذا لم يكن الاستحسان طريقاً ووقعنا بسبب الشّهرة في مفسدة ترك الواقع ، كانت المصلحة التي أحرزناها بسبب عملنا بالشّهرة هو : تدارك المفسدة بمصلحة سلوك الطريق ، وذلك للمصلحة السلوكيّة التي قال بها الشيخ في أول الكتاب .

وإنّما قال : فان غاية ما في نصب الطريق . . . لأنه ربّما لا تكون مصلحة سلوكيّة أيضاً ، فانّ المشهور لا يقولون بالمصلحة السلوكيّة إطلاقاً .

( ولهذا ) الّذي ذكرناه من قولنا : الظّاهر إنّ إعمال الأمارة في نفس الواقع أولى الى آخره ( إتفق العقل والنقل على ترجيح الاحتياط على تحصيل الواقع بالطّريق

ص: 116

المنصوب في غير العبادات ممّا لا يعتبر فيه نية الوجه إتفاقاً ، بل الحقّ ذلك فيها أيضاً ، كما مرّت الاشارة إليه في إبطال وجوب الاحتياط .

-------------------

المنصوب ) ولو معلوماً .

فانّه إذا دار الامر بين الأخذ بقول الشاهد على انّ ماء الاناء الأبيض مطلق ، بعد العلم بأن أحد المائين في الاناء الابيض أو الأحمر مضاف ، فإن الاحتياط بغسل الشيء النجس بكليهما أولى عند العقل والعقلاء وعند الشرع - الّذي قال : « احتَط لدِيِنكَ بما شِئت » (1) - من غسله بالماء الّذي قام الشاهد على إنّه مطلق فقط ، وليست هذه الأولويّة إلاّ لأنّ تحرّي الواقع أولى من تحرّي الطّريق .

لكن ترجيح الاحتياط إنّما هو ( في غير العبادات ، ممّا لا يعتبر فيه نيّة الوجه إتّفاقاً ) بين العلماء على انّ الاحتياط أولى من سلوك الطريق .

( بل الحقّ ذلك ) أي : تقدّم الاحتياط على سلوك الطريق المنصوب ( فيها ) أي : في العبادات ( أيضاً ، كما مرّت الاشارة إليه في إبطال وجوب الاحتياط ) فراجع .

وعليه : فاذا دار الأمر بين صلاتين في ثوبين أحدهما طاهر والأخر نجس حتى يحرز الواقع قطعاً ، وبين صلاة واحدة في ثوب قام الشاهد على إنّه طاهر ، كان الاحتياط بالصّلاة في ثوبين أولى من الصّلاة في ثوب واحد قام الشاهد على طهارته ، لأنّ الاحتياط معلوم الوصول إلى الواقع بينما ما قام عليه الطّريق لا يعلم وصوله الى الواقع ، فلربّما لم يصب الواقع وإنّما يكون المكلَّف معذوراً إذا سلك

ص: 117


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 ، الامالي للمفيد : ص283 ، الامالي للطوسي : ص110 ح168 .

فان قلت : العملُ بالظّنّ في الطريق عملٌ بالظنّ في الامتثال الظاهريّ والواقعيّ ، لأنّ الفرضَ إفادةُ الطريق للظنّ بالواقع ، بخلاف غير ما ظُنّ طريقيّته ، فانّه ظنّ بالواقع وليس ظنّاً بتحقق الامتثال في الظاهر ، بل الامتثال الظاهريّ مشكوكٌ أو موهومٌ بحسب إحتمال إعتبار ذلك الظنّ .

-------------------

هذا الطّريق .

إذن : فنقول للفصول : انّ اللاّزم تحصيل الظّن بالطريق ، لا الظّنّ بالواقع ، هو خلاف العقل والعقلاء والشرع .

( فان قلت : ) اللازم العمل بالظّن بالطريق - كما يقوله الفصول - لا العمل بالظّنّ بالواقع ، لأنّ ( العمل بالظّنّ في الطّريق ، عمل بالظّن في الامتثال الظّاهري والواقعيّ ) .

أمّا الظاهري : فلأنه ظنّ بالطريق .

وأما الواقعي : ف- ( لأنّ الفرض إفادةُ الطريق للظّن بالواقع ) فاذا طننّا بأنّ الخبر

طريق وعملنا بالخبر ، فانّا نظنّ بالواقع أيضاً .

( بخلاف غير ما ظنّ طريقيّته ، فانّه ظنّ بالواقع ) فقط ( وليس ظنّاً بتحقّق الامتثال في الظّاهر ) فانّه إذا ظنّ بوجوب صلاة الجمعة وأتى بها ، فانّه ظنّ بالواقع وبالامتثال الواقعي ، وليس ظنّاً بالامتثال الظاهري لعدم تحقق الامتثال بسبّب الطريق ( بل الامتثال الظاهري مشكوك أو موهوم بحسب إحتمال إعتبار ذلك الظنّ ) .

مثلاً : إذا ظنّ في حال الانسداد بأنّ الخبر فقط طريق ، كان معناه : الوهم بأنّ الشهرة طريق ، أو معناه : الشك في انّ الشهّرة طريق أم لا ؟ فاذا عمل بالشهرة التي قامت على وجوب الظهر كان تاركاً للعمل بالظّنّ وآخذاً بالعمل بالوهم أو الشك

ص: 118

قلت : أوّلاً : إنّ هذا خروجٌ عن الفرض ، لأنّ مبنى الاستدلال المتقدّم على وجوب العمل بالظنّ في الطريق وإن لم يكن الطريقُ مفيداً للظنّ به أصلاً .

نعم ، قد إتفق في الخارج أنّ الأمور التي يُعلَم بوجود الطريق فيها إجمالاً مفيدةٌ للظنّ شخصاً أو نوعاً ، لا انّ مناط الاستدلال إتّباع الظنّ بالطريق المفيد للظنّ بالواقع .

-------------------

فيما إذا قام الخبر على وجوب الجمعة .

ومن المعلوم : إنّ العمل بالظّنّ بالطريق ، أولى من العمل بالوهم أو بالشك بالطريق ، فكيف تقولون - أنتم أيّها الشيخ - بتقديم الظّنّ بالواقع على الظّنّ بالطريق ؟ أو تقولون بتساويهما ؟ .

( قلت : أولاً : إنّ هذا ) الّذي ذكرتموه : من إنّ الظّنّ بالطّريق ظنّ بالواقع أيضاً ، بخلاف الظنّ بالواقع ، فانّه ليس ظناً بالطّريق ( خروج عن الفرض ) الذي فيه كلامنا الآن .

وذلك ( لأنّ مبنى الاستدلال المتقدّم ) - إنّما هو ( على وجوب العمل بالظّنّ في الطريق وإن لم يكن الطريق مفيداً للظّنّ به ) أي : بالواقع ( أصلاً ) فانّ صاحب الفصول يقول : إنّه إذا كان هناك ظنّان : ظنّ بالطريق ، وظنّ بالواقع ، فاللازم الأخذ بالظّنّ بالطريق ، سواء ظنّ بالواقع أم لا .

( نعم ، قد إتفق في الخارج ) أي : في القضيّة الخارجيّة ( إنّ الأمور التي يُعلَم بوجود الطريق فيها إجمالاً ، مفيدة للظّن شخصاً أو نوعاً ) بالظّنّ بالواقع ( لا انّ مناط الاستدلال ) الذي هو إتباع الظّنّ بالطريق ( اتباع الظن بالطريق المفيد للظّنّ بالواقع ) .

والحاصل : انّ الفصول يقول : إذا ظننّت بالطريق إتبعه سواء ظننّت بالواقع ،

ص: 119

وثانياً : إنّ هذا يرجع إلى ترجيح بعض الأمارات الظنّية على بعض بإعتبار الظنّ باعتبار بعضها شرعاً دون الآخر ، بعد الاعتراف بأنّ مؤدّى دليل الانسداد حجّية الظنّ بالواقع لا بالطريق .

وسيجئ الكلامُ في أنّ نتيجةَ دليل

-------------------

أم لا ، والمستشكل ب- : « ان قلت » يقول : إذا ظننّت بالطريق ظننّت بالواقع ، ومن المعلوم : إنّه ليس كل ما ظنّ الانسان بالطريق ظنّ بالواقع .

( وثانياً : ) إنّ الظّنّ بالواقع إن لم يكن معتبراً كان وجوده كعدمه ، إذ المعيار الوحيد - بنظر هذا القائل - هو الظّنّ بالطّريق فقط ، وعليه : فلماذا رجّح الظّنّ بالطّريق لأنّه ظنّ بالواقع حيث قال : العمل بالظّن في الطريق عمل بالظّن في الامتثال الظاهري والواقعي ؟ ف- ( انّ هذا ) الكلام منه ( يرجع الى ترجيح بعض الأمارات الظّنية ) التي هي الظّن بالطريق ( على بعض ) وهو الظّنّ بالواقع .

وإنّما يرجّح الظّنّ بالطريق على الظّنّ بالواقع ( بإعتبار الظّنّ باعتبار بعضها شرعاً دون الآخر ) يعني : أنّ القائل قال : إنّا نظنّ بإعتبار الظّنّ بالطريق شرعاً ، ولا نظنّ بإعتبار الظّنّ بالواقع شرعاً ( بعد الاعتراف ) منه ( بأنّ مؤدّى دليل الانسداد حجّية الظّنّ بالواقع لا بالطريق ) .

ثم إنّ الفصول الذي يقول بحجّية الظّنّ بالطريق لا الظّنّ بالواقع يترتب على كلامه هذا : إلغاء بحث جارٍ بين الانسداديين يأتي عن قريب إنشاء اللّه في إنّ نتيجة دليل الانسداد مطلقة أو مهملة .

وإنّما يلزم إلغاء هذا البحث لأن الاطلاق والاهمال يأتيان في الظّنّ بالواقع ، لا الظّنّ بالطريق ، فان الظّنّ بالطريق ليس فيه إطلاق أو إهمال .

والى هذا المعنى : أشار المصنّف بقوله : ( وسيجئالكلام في انّ نتيجة دليل

ص: 120

الانسداد على تقدير إفادته إعتبارَ الظنّ بنفس الحكم كلّيةٌ بحيث لا يرجّح بعضُ الظنون على بعض أو مهملةٌ بحيث يجب الترجيحُ بين الظنون ، ثمّ التعميمُ مع فقد المرجّح ؟ .

والاستدلالُ المذكور مبنيّ على إنكار ذلك كلّه ، وأنّ دليلَ الانسداد جارٍ في مسألة تعيين الطّريق وهي المسئلة الأصوليّة ، لا في نفس الأحكام الواقعيّة الفرعيّة ، بناءا منه على أنّ الأحكام الواقعّية بعد نصب الطّريق ليست مكلّفاً بها تكليفاً فعلياً إلاّ بشرط قيام الطرق عليها ،

-------------------

الانسداد على تقدير إفادته إعتبار الظّنّ بنفس الحكم ، كليّة ، بحيث لا يرجّح بعض الظنون على بعض ) وإنّما الاعتبار بما أدّى اليه الظنّ قويّاً كان أو ضعيفاً ( أو مهملة بحيث يجب الترجيح بين الظنون ) إذا كان هناك مرجّح ( ثم التعميم ) لكل الظّنّون ( مع فقد المرّجح ) ؟ .

فانّه سيأتي - إنشاء اللّه تعالى - بعد أربع صفحات تقريباً ، قول المصنّف : فهنا مقامات .

الأوّل : في كون نتيجة دليل الانسداد مهملة أو معينة ، ومراده بالمعينة : الكليّة ،

كما سيظهر إنشاء اللّه تعالى .

( والاستدلال المذكور ) لصاحب الفصول ( مبنيّ على إنكار ذلك كلّه ) أي : كون النتيجة مهملة أو مطلقة ( وأنّ دليل الانسداد جارٍ في مسألة تعيين الطريق ، وهي المسألة الاُصولية ، لا في نفس الأحكام الواقعية الفرعيّة ) .

هذا هو كلام الفصول ( بناءاً منه على إنّ الأحكام الواقعيّة بعد نصب الطّريق ليست مكلّفاً بها تكليفاً فعليّاً إلاّ بشرط قيام الطّرق عليها ) كما إذا قال المولى لعَبدِه: إني أريد مِنكَ أموراً ، لكن أريدها منك عن طريق خادمي هذا ، حيث قيّدَ

ص: 121

فالمكلّفُ به في الحقيقة مؤدّياتُ تلك الطرق ، لا الأحكام الواقعيّة من حيث هي .

وقد عرفتَ ممّا ذكرناه أنّ نصبَ هذه الطرق ليست إلاّ لأجل كشفها الغالبيّ عن الواقع ومطابقتها له : فاذا دار الأمر بين إعمال الظنّ في تعيينها أو في تعيين الواقع ولم يكن رجحانْ للأول .

ثمّ إذا فرضنا أنّ نصبَها ليس لمجرّد الكشف ، بل لأجل مصلحة يتدارك بها مصلحةُ الواقع ،

-------------------

أحكامه بالطريق الذي هو خادمه ، فلا يريد أحكامه عن غير هذا الطريق .

وعليه : ( فالمكلّف به في الحقيقة ) - على قول الفصول - هو ( مؤدّيات تلك الطرق ، لا الأحكام الواقعيّة من حيث هي ) أحكام واقعية .

هذا ( وقد عرفت ممّا ذكرناه ) قبل صفحة تقريباً : عدم تماميّة كلام الفصول ، وذلك ( انّ نصب هذه الطّرق ليست إلاّ لأجل كشفها الغلبيّ عن الواقع ، ومطابقتها له ) لا إنّ الطرق تقيد الأحكام الواقعيّة ، ( فاذا دار الأمر بين إعمال الظنّ في تعيينها) أي : في تعيين الطرق ( أو في تعيين الواقع ، ولم يكن رجحان للأوّل ) أي : الظّنّ في تعيين الطرق ، على الثاني ، أي الظّنّ في تعيين الواقع .

ولهذا نرى : إنّه لا فرق بين الظّنّ بالطّرق أو الظّنّ بالواقع ، وإن أشرنا قبل نصف صفحة تقريباً الى انّ الظّاهر : انّ إعمالها في نفس الواقع أولى ، لاحراز المصلحة الأوليّة الّتي هي أحق بالمراعاة من مصلحة نصب الطّريق .

وعلى أي : حال : فان نصب الطرق إنّما هو لأجل الكشف الغالبي عن الواقع .

( ثم إذا فرضنا : إنّ نصبَها ليس لمجرّد الكشف ) عن الواقع ( بل لأجل مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع ) كالتسهيل في أصالة الطّهارة ، وما أشبه ذلك

ص: 122

لكن ليس مفادُ نصبها تقييدَ الواقع بها وإعتبارَ مساعدتها في إرادة الواقع ، بل مؤدّى وجوب العمل بها جعلُها عينَ الواقع ولو بحُكم الشارع ، لا قيداً له .

والحاصلُ : أنّه فرقٌ بَيْنَ أنْ يَكون مَرجِعُ نَصْب هذه الطُرق إلى قَوْل الشارِع : « لا أريدُ مِنْ الواقع إلاّ ما ساعَدَ عليه ذلك الطريقُ » ،

-------------------

( لكن ليس مفاد نصبها ) أي : نصب الطرق ( تقييد الواقع بها ) أي : بهذه الطرق ( وإعتبار مساعدتها في إرادة الواقع ) .

وقوله : « واعتبار » عطفٌ على قوله « تقييد » أي : ليس مفاد نصبها : ان الشارع اعتبر مساعدة الطرق في إرادة الواقع ، بحيث إذا لم تكن تلك الطرق لا يريد الشارع الواقع ( بل مؤدّى وجوب العمل بها ) أي : بالطرق ( جعلها عَينَ الواقع ولو بحكم الشارع ، لا قيداً له ) أي : لا قيداً للواقع .

وذلك لأن مجرّد ملاحظة الشّارع المصلحة في أمره بسلوك الامار الكاشفة عن الواقع - مضافاً إلى كشفها - لا يقتضي رفع اليد عن الواقع ، بلّ غاية ما يلزمه : تدارك ما فات من مصلحة الواقع من جهة سلوكها ، فانّه ربّما كان العبد يدرك الواقع إذا لم ينصب الشارع هذا الطريق ، فنصب الطريق فوّت عليه الواقع ، فيلزم على الشارع أن يتدارك مصلحة الواقع ، وذلك في كلام طويل ذكرناه في أوّل الكتاب في باب المصلحة السلوكية .

وعلى أي حال : فأين هذا من إعراض الشارع عن الواقع رأساً ، وإرادته الطريق فقط .

( والحاصل : انّه فرق بين أن يكون مرجِعُ نصب هذه الطّرق ) من قبل الشارع ( الى قول الشارع : لا أريد من الواقع إلاّ ما ساعد عليه ذلك الطريق ) فيكون

ص: 123

فَينْحَصِر التكليفُ الفعليّ حينئذٍ في مؤدّيات الطريق ، ولا زمُه إهمالُ ما لم يؤدّ اليه الطريقُ مِنَ الواقع ، سَواءْ إنفَتحَ بابُ العِلمِ بالطريق أَمْ إنسدّ ، وَبينَ أَنْ يَكون التكليفُ الفعليّ بالواقع باقياً على حاله ، إلاّ أنّ الشارع حَكَمَ بِوجوبِ البناء على كَونْ مؤدّى الطريق هو ذلك الواقع فمُؤدّى هذه الطُرق واقعٌ جَعليّ ؛ فاذا إنسدّ طريقُ العِلم إليه ودار الأمرُ بَيْنَ الظنّ بالواقع الحقيقيّ وبَيْنَ الظنّ بما جَعَلَهُ الشارع واقعاً ، فلا ترجيحَ ، إذ الترجيح

-------------------

الطريق مقيّداً بالواقع ، والواقع مقيّداً بالطريق ( فينحصر التكليف الفعلي ) للمكلّف ( حينئذ ) أي : حين قول الشارع ذلك ( في مؤدّيات الطريق ) فقط .

( ولازمه ) أي : لازم هذا القول من الشارع : ( إهمال ما لم يؤدّ اليه الطريق من الواقع ، سواء إنفتح باب العلم بالطريق أم إنسدّ ) فاذا قال الشّارع : أريد أحكامي من طريق الخبر الواحد فقط ، كان معناه : انّه لا يريد حكماً لم يأت من طريق الخبر الواحد ، سواء كان في حال الانفتاح أو حال الانسداد .

( وبين أن يكون التكليف الفعلي ) على المكلّف ( بالواقع باقياً على حاله ) وأنّ الشّارع يريد الواقع ( إلاّ انّ الشّارع حكم : بوجوب البناء على كون مؤدّى الطريق هو ذلك الواقع ) بأن كان الشارع يريد الواقع ، ومع ذلك ويريد انّه إذا أدّى الخبر الى خلاف الواقع أن يكون ذلك واقعاً تنزيليا .

وعليه : ( فمؤدى هذه الطرق واقع جعلي ) تنزيلي ( فاذا إنسدّ طريق العلم اليه) أي : الى الواقعي ( ودار الأمر بين الظّن بالواقع الحقيقي ، وبين الظّنّ بما جعله الشّارع واقعاً ، فلا ترجيح ) بين الواقع الحقيقي وبين الواقع التنزيلي لأن المفروض : انّ الشارع جعل الواقع التنزيلي ، نازلاً منزلة الواقع الحقيقي .

وإنّما لا يكون ترجيح ( إذ الترجيح ) الذي قال به صاحب الفصول

ص: 124

مبنيّ على إغماضِ الشارع عَن الواقع ، وبذلك ظَهَرَ ما في قَول هذا المستدّل : من « أنّ التَسويةَ بَيْنَ الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق إنّما يَحسُنُ لو كان أداءُ التكليف المتعلّق بكلّ مِنَ الفعلِ والطريق المقرّر مستقلاً ، لقيام الظّن في كُلّ مِن التَكْليفَين حينئذٍ مقامَ العلم به مَعَ قَطْعِ النظر عن الآخر .

وأما لو كان أحدُ التكليفَين مَنوطاً بالآخر مقيّداً له ، فمجرّدُ حصول الظنّ بأحدهما دون حصول الظنّ بالآخر المقيّد له

-------------------

( مبنيّ على إغماض الشّارع عن الواقع ، وبذلك ) الذي قلنا : من عدم تقييد الواقع بالطريق وعدم الاغماض عن الواقع المجرد عن الطريق ( ظهر ما في قول هذا المستدّل ) وهو صاحب الفصول ( من ) نظر ، وهو :

( انّ التسوية بين الظّنّ بالواقع والظّنّ بالطّريق ) بأن يكون كل واحد منهما كافياً في أداء التكليف ( انّما يحسنُ لو كان ، أداء التكليف المتعلق بكلّ من الفعل ) يعني : الواقع ( والطريق المقرّر ) الى الواقع ( مستقلاً ) بأن لا يفرّق عند الشّارع ظنّ المكلّف بالواقع ، أو الظنّ بالطّريق ( لقيام الظّن في كلّ من التكليفين حينئذٍ ) أي حين إستقلال كل واحد من الظّنّ بالطريق ، أو الظنّ بالواقع ( مقام العلم به ، مع قطع النّظر عن الآخر ) فاذا ظنّ بالطريق كفى ، وإذا ظنّ بالواقع كفى .

( وأمّا لو كان أحد التكليفين ) من الواقع والطريق ( منوطاً بالآخر ) كما يرى صاحب الفصول الواقع منوطاً بالطريق ، والطريق ( مقيّداً له ) أي : للواقع ، فان بنظر صاحب الفصول : انّ الشّارع لا يريد الواقع بما هو واقع ، وإنّما يريد الواقع الذي هو مؤدّى الطريق .

وعليه : ( فمجرد حصول الظّنّ بأحدهما ) وهو الواقع ( دون حصول الظنّ بالآخر ) وهو الطريق ( المقيّد له ) أي : الطريق الذي هو مقيد للواقع ، فانّه

ص: 125

لا يقتضي الحكمّ بالبراءة . وحصولُ البراءة في حصول العلم بأداء الواقع إنّما هو لِحُصول الأمرين به ، نظراً إلى أداء الواقع وكونه مِن الوجه المقرر لِكَوْن العلم طريقاً إلى الواقع في العقل والشرع؛ فلو كا الظنّ بالواقع ظنّاً بالطريق جرى ذلك فيه أيضاً، لكنّه ليس كذلك ، ولذا لا يَحْكُم بالبراءة معه »،

-------------------

( لا يقتضي الحكم بالبرائة ) إذا جاء به المكلّف ، لأنه ظنّ بالواقع من دون أنّ يقوم عليه طريق ، بينما كان يلزم عليه أن يأتي بالواقع الذي قام الطريق عليه .

( و ) إن قلت : كما انّ الواقع إذا حصل العلم به كفى في البرائة بلا إحتياج الى العلم بالطريق كذلك الظنّ فانّه إذا حصل الظّنّ بالواقع ، كفى في البرائة بلا إحتياج الى الظّنّ بالطريق أيضاً .

قلت : ( حصول البرائة في حصول العلم بأداء الواقع ، إنّما هو لحصول الأمرين ) من الواقع والطريق ( به ) أي : بسبب العلم بالواقع .

وإنّما يحصل الامران بسبب العلم بالواقع ( نظراً الى أداء الواقع ، وكونه ) أي : إداء الواقع ( من الوجه المقرر ) .

وإنّما كان بالوجه المقرر ( لكون العلم طريقاً الى الواقع في العقل والشرع ) فانّ العلم طريق عقلي وطريق شرعي .

وعليه : ( فلو كان الظّنّ بالواقع ، ظنّاً بالطريق ) أيضاً ( جرى ذلك ) أي : حصول البرائة ( فيه ) أي : في الظّنّ بالواقع ( أيضاً ) أي : كالعلم .

( لكنه ليس كذلك ) فان الظّنّ بالواقع ليس ظنّاً بالطريق ( ولذا لا يحكم بالبرائة معه ) (1) أي : مع الظّنّ بالواقع .

ص: 126


1- - هداية المسترشدين : ص393 .

انتهى .

الوجه الثاني :

ما ذَكَرَهُ بعضُ المحققين مِن المُعاصرين مع الوجه الأوّل وَبعْض الوجوه الأخر ،

-------------------

والحاصل : إنّ العلم بالواقع علم بالطريق ، لفرض إنّ الشارع جعله طريقاً الى الواقع ، بينما ليس الظّنّ بالواقع ظنّاً بالطريق ، فاذا ظنّ بالواقع وعمل به لم يكن هناك ظنّ بالطريق ، بخلاف الظنّ بالطريق ، فانّه ظنّ بالواقع .

هذا ، وقد عرفت الاشكال فيما ذكره صاحب الفصول وانّه يتساوى الظّنّ بالواقع والظّنّ بالطريق ، بل الظّنّ بالواقع أولى من الظّنّ بالطريق ( إنتهى ) كلام الفصول .

( الوجه الثاني ) من وجهي لزوم الظّنّ بالطريق وانّه لا يكفي الظّنّ بالواقع : ( ما ذكره بعض المحققّين من المعاصرين ) وهو الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية ، فانّه ذكر هذا الوجه الثاني ( مع الوجه الأول ) الذي إستفاده منه صاحب الفصول ونقلناه نحن عن الفصول ( وبعض الوجوه الاخر ) .

ويمكن أن يلّخص هذا الوجه : بانّا نحتاج الى الظّنّ ببرائة الذمة ، لا الظّنّ بأداء الواقع ، لأنّ المطلوب منّا : برائة الذمة ، أمّا الظّنّ بأداء الواقع فلا يكفي ، إذ من الممكن أن يأتي الانسان بما يظنّ إنّه واقع ولا يّظنّ ببرائة ذمته ، لاحتمال انّ الشّارع يريد منه شيئاً فوق أداء الواقع .

ويمكن تأييده بما ورد في باب القضاء : من « رَجُلٌ قَضى بالحَقِ وَهو لا يَعلم » (1) حيث إنّ القاضي أدّى الواقع ، لكن الشارع لا يكتفي بذلك الواقع

ص: 127


1- - الكافي فروع : ج7 ص407 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص22 ب4 ح33105 .

قال : « لا ريبَ في كوننا مكَلَّفين بالأَحكام الشرعية ، ولم يسقط عنّا التكليف بالأحكام الشرعيّة في الجملة ، وأنّ الواجبَ علينا أوّلاً هو تحصيل العلم بتفريغ الذمّةِ في حُكْمِ المكلّفِ بأن يُقطَعَ مَعهُ بحكمه بتفريغ ذمّتنا عمّا كُلِفنا به وسقوط التكليفِ عَنّا سَواء حَصَلَ العِلمُ منه بأداء الواقع

-------------------

في برائة ذمته ، كما يمكن تأييد ذلك أيضاً بما ورد : من إنّ « مَن فَسَّرَ القُران بِرَأيِهِ فَأصابَ فَقَد أخطَأ » (1) .

وحيث إنّ المطلوب : برائة الذّمة ، فان تمكن من البرائة بالعلم فهو ، والاّ بأن إنسدّ باب العلم ، فاللازم الظّنّ ببرائة الذّمة ، فاذا سلك الطريق المظنون إكتفى العقل بالبرائة ، أمّا اذا ظنّ بالواقع فلا يكتفي العقل ببرائته عن التكليف .

ولهذا ( قال ) صاحب الحاشية أوّلاً : ( لا ريب في كوننا مكلّفين بالأحكام الشرعيّة ، ولم يسقط عنّا التكليف بالأحكام الشرعيّة في الجملة ) والمراد من قوله: « في الجملة » انّه يجب علينا : إما الواقع وإمّا مؤديات الطرق بحسب القدرة .

( و ) ثانياً : ( إنّ الواجب علينا أوّلاً : هو تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم المكلِّف ) - بالكسر - أي : المولى ، فإنّه يجب على المكلَّف - بالفتح - العلم بأنّ ذمته فرغت من حكم الشّارع ، وذلك ( بأن يقطع معه ) أي : مع العلم ( بحكمه ) أي : بحكم المولى قطعاً ( بتفريغ ذمّتنا عمّا كلّفنا به ) من الأحكام .

( و ) ثالثاً : ( سقوط التكليف عنّا ) مع القطع بتفريغ الذمة مسلَّم ( سواء حصل العلم منه ) أي : من القطع بتفريغ الذمة ( بأداء الواقع ) أي : نعلم بأداء الواقع

ص: 128


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص205 ب13 ح33610 وفيه « فاصاب الحق » ، تفسيرالصافي : ج1 ص21 .

أو لا ، حَسبَ ما مرّ تفصيلُ القول فيه .

وحينئذٍ ، فنقول : إنْ صحّ لنا تحصيلُ العلم بتفريغ الذمّة في حُكْمِ الشارع فلا اشكال في وجوبه وحصول البراءة ، وإنْ إنسدّ علينا سَبيلُ العلم به كان الواجبُ علينا تحصيل الظنّ بالبراءة في حكمه؛ إذ هو الأقربُ إلى العلم به فتعين الأخذ به عند التنزّل مِن العلم في حُكْمِ العقل بعد إنسداد سبيل العلم به والقطع ببقاء التكليف ،

-------------------

( أو لا ، حسب ما مرّ تفصيل القول فيه ) وسيأتي من المصنّف - إنشاء اللّه - بيانه مجدداً .

( وحينئذ ) أي : حين تمت الأُمور الثلاثة المذكورة( فنقول : إن صحّ لنا تحصيل العلم بتفريغ الذّمّة في حكم الشّارع ) « في » : متعلق بقوله : « تحصيل » وذلك بأن نحصِّل العلم بحكم الشّارع فنعمل به ، فنقطع بفراغ ذمتنا .

وإنّما نحصّل العلم إذا كانت الطرق المقررة معلومة لنا ( فلا إشكال في وجوبه ) أي : وجوب تحصيل العلم بتفريغ الذّمة ( وحصول البرائة ) أي : وجوب تحصيل البرائة .

( وإن إنسدّ علينا سبيل العلم به ) أي : بتفريغ الذّمة ( كان الواجب علينا تحصيل الظنّ بالبرائة في حكمه ) أي : في حكم المكلِّف - بالكسر - وهو الشارع ( إذ ) الظّنّ ( هو الأقرب الى العلم به ) أي : بتفريغ الذمة .

إذن : ( فتعيّن الأخذ به ) أي : بالظّنّ ( عند التنزّل من العلم في حكم العقل ) وقوله : «في حكم العقل» ، متعلق بقوله : «فتعين» ، أي : تعين بحكم العقل الأخذ بالظنّ إذا لم يكن لنا علم ، وذلك ( بعد إنسداد سبيل العلم به ، والقطع ببقاء التكليف ) فانّه إذا إنسدّ باب العلم أوّلاً ، وعلمنا ببقاء التكليف ثانياً ، وجب علينا

ص: 129

دون ما يحصل معه الظنّ بأداء الواقع ، كما يدّعيه القائل بأصالة حجّية الظنّ .

وبينهما بَونٌ بَعيدٌ ، إذ المعتبرُ في الوجه الأوّل هو الأخذُ بما يُظَنُّ كونهُ حجةً بقيام دليل ظنّيّ على حجّيته ، سواء حَصَلَ منه الظنّ بالواقع أو لا .

وفي الوجه الثاني لا يلزم حصولُ الظنّ بالبراءة في حُكْمِ الشارع ، إذ لا يَستلزم مجرّدُ الظنّ بالواقع الظنَّ باكتفاء المكلِّف بذلك الظنّ في العمل ، سيّما بعد النهي عن إتّباع الظنّ .

-------------------

تحصيل الظّنّ بفراغ الذمة .

( دون ما يحصل معه الظّنّ بأداء الواقع ) يعني : لا يكتفي أن نظنّ بأداء الواقع ( كما يدّعيه القائل بأصالة حجّية الظّنّ ) من مشهور الانسداديين الذين يقولون بأنّه يكفي الظّنّ بأداء الواقع .

( وبينهما ) أي : بين تحصيل الظّنّ بأداء الواقع وتحصيل الظّنّ ببرائة الذّمة ( بَونٌ بعيد ، إذ المعتبر في الوجه الأوّل ) وهو الظّنّ بالبرائة ( هو الأخذ بما يظنّ كونه حجّة بقيام دليل ظنّي على حجّيته ) كالأخذ - مثلاً - بالخبر الّذي يظنّ كونه حجّة ، لأنّه قام الدّليل الظني - كالشهرة مثلاً - على حجّيته فان الأخذ به ، مظنَّة للبرائة ( سواء حصل منه الظّنّ بالواقع أو لا ) لأنّا مكلَّفون أوّلاً بالعلم ببرائة الذّمة ، فاذا لم يكن علم ، فإنّا مكلّفون بالظنّ ببرائة الذمة .

( وفي الوجه الثاني : ) وهو ما ذكره بقوله : دون ما يحصل معه الظّنّ بأداء الواقع ( لا يلزم حصول الظنّ بالبرائة في حكم الشّارع ) لأنّ الظّنّ بالواقع لا يلازم الظنّ بالبرائة ( إذ لا يستلزم مجّرد الظّنّ بالواقع الظّنّ باكتفاء المكلِّف ) - بالكسر - أي : المولى ( بذلك الظّنّ ) بالواقع ( في العمل ، سيّما بعد النّهي عن إتّباع الظّنّ )

ص: 130

فاذا تعيّن تحصيلُ ذلك بمقتضى العقل ، يلزمُ إعتبارُ أمر آخر يظنّ معه رضى المكلِفِ بالعمل به . وليس ذلك إلاّ الدّليل الظنّي الدال على حجّيته؛ فكلّ طريق قام ظنّ على حجّيته عند الشارع ، يكون حجّةً دون ما لم يقم عليه ذلك انتهى بألفاظه .

وأشار بقوله : «حسب ما مرّ تفصيل القول فيه» إلى ما ذَكَرَه سابقاً في مقدّمات هذا المطلب ، حيث قال - في المقدّمة الرابعة من تلك

-------------------

وقد سَبقَ مِنّا مثالين ، لأنّ الظّنّ بالواقع لا يكفي ، بل يلزم الظّنّ بالطريق .

( فاذا تعيّن تحصيل ذلك ) أي : الطريق المجعول ( بمقتضى العقل ، يلزم إعتبار أمر آخر يظنّ معه رضى المكلِّف بالعمل به ) وهو الظّنّ بالطّريق إذا لا يكفي الشك والوهم ( وليس ذلك ) أي : الأمر الآخر ، الذي يظنّ معه رضى المكلَّف بالعمل به ( إلا الدّليل الظّنّي الدّال على حجّيته ) كما مثّلنا له بالشّهرة التي هي دليل ظنّي تقوم على حجّية خبر الواحد .

وعلى هذا : ( فكلّ طريق قام ظنّ على حجّيته عند الشّارع ، يكون حجّة ) ويلزم علينا العمل به ( دون ما لم يقم عليه ذلك ) (1) ظنّ بالحجّية ( إنتهى ) كلام صاحب الحاشية ( بألفاظه ) ممّا حصله : إنّه لدى الانسداد يجب الظّنّ بالطريق ، ولا يكفي الظّنّ بالواقع .

هذا ( وأشار بقوله : حسب ما مرّ تفصيل القول فيه ، الى ما ذكره سابقاً في مقدّمات هذا المطلب ) ببيان ما ذكرناه نحن بقولنا : وثالثاً : سقوط التكليف عنّا سواء حصل العلم منه بأداء الواقع أم لا ( حيث قال في المقدّمة الرابعة من تلك

ص: 131


1- - هداية المسترشدين : ص391 .

المقدّمات - :

«انّ المناط في وجوب الأخذ بالعلم وتحصيل اليقين من الدّليل : هل هو اليقينُ بمصادفة الأحكام الواقعيّة الأوليّة إلاّ أن يَقُوم دليل على الاكتفاء بغيره ؟ .

أو أنّ الواجبَ أوّلاً هو تحصيلُ اليقين بتحصيل الأحكام وأداء الأعمال على وجهٍ أراده الشارعُ في الظاهر ، وحَكَمَ معه قطعاً بتفريغ ذمتّنا ، بملاحظة الطُرق المقرّرة لِمعرفتها بمّا جَعَلَها وسيلة للوصول إليها ، سواء علم بمطابقة الواقع أو ظنّ ذلك ، أوْ لَمْ يَحْصَل شيء منهما ؟

-------------------

المقدّمات ) الانسدادية ( : انّ المناط في وجوب الأخذ بالعلم وتحصيل اليقين من الدّليل ، هل هو اليقين بمصادفة الأحكام الواقعيّة الأوليّة ؟ ) بأن يكون الواجب علينا العلم بالأحكام ( إلاّ أن يقوم دليل على الاكتفاء بغيره ) فيكون قيام الدليل على الاكتفاء بغيره إستثناءا عن الواجب الأوّلي .

( أو أنّ الواجب ، أوّلاً : هو : تحصيل اليقين بتحصيل الأحكام ، وأداء الأعمال على وجه إرادة الشّارع في الظاهر ؟ ) من دون أن نكون نحن مكلّفين بالواقع ، وإنّما نكون مكلّفين بمؤديات الطرق ، ( و ) تحصيل ( حكم ) الشارع ( معه ) أي : مع هذا اليقين ( قطعاً بتفريغ ذمّتنا ) وذلك العلم والحكم انّما يحصل لنا ( بملاحظة الطرق المقررّة لمعرفتها ) أي : لمعرفة الأحكام ( بما جعلها ) اي : جعل الشّارع الطرق وسيلة للوصول الى أحكامه ، فالطرق هي ( وسيلة للوصول اليها ) أي : الى تلك الأحكام .

وحينئذ : فاللازم عليه سلوك الطريق ( سواء علم بمطابقة الواقع أو ظنّ ذلك ، أو لم يحصل شيء منهما ) أي : شيء من العلم والظّنّ ، حيث إنّا مكلّفون بسلوك

ص: 132

وجهان .

الذي يقتضيه التحقيقُ الثاني ، فانّه القدرُ الذي يَحْكُم العقلُ بوجوبه ودّلت الأدّلةُ المتقدّمةُ على إعتباره .

ولو حَصَل العلمُ بها على الوجه المذكور ، لَمْ يَحكم العقلُ بوجوب تحصيل العلم بما في الواقع ، ولم يَقْض شيء مِن الأدّلة الشرعيّة بوجوب تحصيل شيء آخر وراء ذلك ، بَلْ الادلّة الشرعيّة قائمة على

-------------------

الطريق ولا شأن لنا بالواقع .

( وجهان ) جواب قوله : هل هو اليقين بمصادفة الأحكام الى آخره ؟ .

أما ( الذي يقتضيه التحقيق ) عند صاحب الحاشية ، فهو ( الثاني : ) أي : انّا مكلفون بسلوك الطريق ، سواء طابق الواقع أم لم يطابق ، ولسنا مكلفين بالعلم بتحصيل الواقع ، وإذا إنسدّ العلم فلسنا مكلّفين بتحصيل الظّنّ بالواقع ( فانّه القدر الّذي يحكم العقل بوجوبه ، ودلّت الأدلّة المتقدّمة ) من العقل والشرع ( على إعتباره ) أي : إعتبار الطريق دون الواقع .

( ولو حصل العلم بها ) أي : ببرائة الذمة ( على الوجه المذكور ) أي : بسلوك الطريق ( لم يحكم العقل ) بعد ذلك ( بوجوب تحصيل العلم بما في الواقع ) لأنّ الواقع ليس مكلّفاً به ( ولم يقض شيء من الأدلة الشّرعية بوجوب تحصيل شيء آخر وراء ذلك ) أي : وراء سلوك الطريق .

أقول : وهنا سؤال عن المصنّف وهو : انّه إن أراد نفي الدلالة على الوجوب التعييني فهو مسلم ، أما إذا أراد نفي الوجوب التخييري ، فقد عرفت : انّه كما يصح العلم بالطريق أو بالواقع كذلك يصح الظّنّ بالطريق أو بالواقع .

وعلى أي حال : فقد قال صاحب الحاشية : ( بل الأدلة الشّرعية قائمة على

ص: 133

خلاف ذلك إذ لَمْ يُبينَ الشريعةُ من أوّل الأمر على وجوب تحصيل كلّ من الأحكام الواقعيّة على سبيل القطع واليقين ، ولَم يَقع التكليفُ به حينَ إنفتاح سبيل العلم بالواقع .

وفي ملاحظة طريقة السلف مَنْ زمن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم والأئمة عليهم السلام كفايةٌ في ذلك ، اذ لم يوجب النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم على جميع مَنْ في بلده مِنَ الرّجال والنِسوان السماعَ منه في تبليغ الأحكام ، أو حصول التواتر لآحادهم بالنسبة إلى آحاد

-------------------

خلاف ذلك ) أي : الأدلة ليست ساكتة ، وانّما هي قائمة على عدم وجوب تحصيل شيء آخر وراء تحصيل البرائة ( إذ لم يبين الشّريعة من أوّل الأمر ) منذ زمان الرّسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ( على وجوب تحصيل كلّ من الأحكام الواقعيّة على سبيل القطع واليقين ) وإنّما أراد الشّارع : العلم بفراغ الذّمة .

( ولم يقع التّكليف به ) أي : بالأحكام الواقعية من الشارع ( حين إنفتاح سبيل العلم بالواقع ) فكيف عند الانسداد ؟ فانّه مع إنفتاح سبيل العلم - كما في زمان المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين - لم يرد الشّارع من المكلفين العلم بالواقع، وإنّما أراد العلم بفراغ الذّمة فقط .

هذا ( وفي ملاحظة طريق السلف ) من المسلمين ( من زمن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم والأئمة عليهم السلام كفاية في ذلك ) وتأييد لما ذكرناه : من انّه لم يقع التكليف حال إنفتاح سبيل العلم بالواقع .

وانّما يدّل طريقة السّلف على الاكتفاء بالطريق لا بالواقع ( إذ لم يوجب النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم على جميع من في بلده من الرّجال والنِسوان السّماعَ منه في تبليغ الأحكام ، أو حصول التواتر لآحادهم ) أي : لآحاد المسلمين ( بالنسبة إلى آحاد

ص: 134

الأحكام ، أو قيامَ القرينة القاطعة على عَدَم تَعمّد الكَذِب أو الغَلط في الفهم أو في سماع اللفظ ، بَلْ لو سَمعوه مِن الثقة إكتفوا به» ، انتهى .

ثم شَرَع في إبطال دعوى حصول العلم بقول الثّقة مطلقاً - إلى أن قال : «فتحصّل

-------------------

الأحكام ) بأن يلزم النبي عليهم أن يسمعوا منه ، أو أن يحصلوا على التواتر .

( أو قيام القرينة القاطعة على عدم تعمّد الكذب ، أو الغلط في الفهم ) من السائل ( أو في سماع اللّفظ ) من الناقل ، وذلك بأن يقطعوا أنّهم سمعوا اللّفظ صحيحاً ويقطعوا بأنّهم فهموا من اللّفظ معناه الّذي أراده الرسول والأئمة عليهم السلام ( بل لو سمعوه من الثقة ، إكتفوا به ) (1) وهذا يدلّ على جواز الاعتماد على الطّريق دون الواقع .

لكن فيه ما ذكرناه سابقاً : من ان هذا يدل على الجواز ، لا على انّ الامر منحصر بالطريق حتّى إذا حصل العلم بالواقع لم يكتف به ، وإذا سقط العلم بالواقع قام الظّنّ مقامه ، فكما انّه كان يصح لهم أن يعتمدوا على العلم بالطريق أو العلم بالواقع ، كذلك يصح للانسداديين أن يظنّوا بالطريق ، أو يظنوا بالواقع - كما - سيأتي الاشارة اليه من المصنّف إنشاء اللّه تعالى - ( إنتهى ) كلام صاحب الحاشية .

( ثمّ شرع ) صاحب الحاشية ( في إبطال دعوى حصول العلم بقول الثقة مطلقاً) أي : ولو بدون القرينة ، لوضوح انّ الانسان لا يحصل له العلم بقول الثقة ، وإنّما يحصل له الحجّة من قول الثقة ( الى ان قال ) صاحب الحاشية : ( فتحصل

ص: 135


1- - هداية المسترشدين : ص384 .

ممّا قرّرناه أنّ العلم الذي هو مناط التكليف أوّلاً هو العلمُ بالأحكام من الوجه المقرّر لمعرفتها والوصول إليها ، والواجب بالنسبة إلى العمل هو إدائه على وجه يُقطعُ معه بتفريغ الذمّة في حُكْم الشرع ، سواء حَصَل العلمُ بأدائه على طبق الواقع أو على طبق الطريق المقرّر من الشارع ، وإن لم يُعلَمَ أو لَمْ يظنّ بمطابقتها للواقع .

وبعبارة اُخرى ، لا بدّ مِن معرفة أداء المكلّف به على وجه اليقين أو على وجهٍ منتهٍ إلى اليقين ،

-------------------

ممّا قررناه : انّ العلم الذي هو مناط ) تحصيل ( التكليف أوّلاً هو : العلم بالأحكام من الوجه المقرر لمعرفتها ) اي : معرفة تلك الأحكام ( والوصول اليها ) من ذلك الوجه المقرر .

( و ) أيضاً ( الواجب بالنسبة الى العمل هو : إدائه ) أي : أداء العمل ( على وجه يقطع معه بتفريغ الذّمة في حكم الشرع ) بأن يعلم الحكم ، ثم يعلم بتفريغ ذمته ( سواء حصل العلم بأدائه على طبق الواقع ، أو على طبق الطريق المقرّر من الشّارع وإن لم يعلم أو لم يظنّ بمطابقتها ) أي : الأعمال الّتي جاء بها على طبق المقرر ، بانّها مطابقة ( للواقع ) فانّه ليس مكلَّفاً بالواقع ، وانّما هو مكلَّف على أن يأتي بالأعمال على طبق الطريق .

( وبعبارة أخرى : لابدّ من معرفة ) المكلّف ( أداء المكلّف به ) أي : الحكم ( على وجه اليقين ) بأن يتيقن بأنّه أتى بالمكلّف به ( أو على وجه منتهٍ الى اليقين ) كأن يأتي به حسب خبر زرارة وهو متيقن إنّ خبر زرارة حجّة .

وبعبارة أخرى : إن الانسان يجب عليه الاتيان بما يبرى ء ذمته علماً أو علميّاً

ص: 136

مِن غَيْر فَرْق بَيْنَ الوجهين ولا ترتيب بينهما ، ولو لَم يَظْهر طريق مقرر من الشارع لمعرفتها تعيّن الأخذُ بالعلم بالواقع على حسب إمكانه ، إذ هو طريق إلى الواقع بحكم العقل مِنْ غَيْر تَوقف لإيصاله إلى الواقع الى بيان الشرع ، بخلاف غَيْره مِن الطّرق المقرّرة» ، إنتهى كَلامُه ، رُفِعَ مَقامُه .

أقول : ما ذَكَرَهُ في مقدّمات مَطْلَبه مِن عَدَمْ الفَرق بَيْنَ عِلْم المكلّف بأداء

-------------------

(

من غير فرق بين الوجهين ، ولا ترتيب بينهما ) أي : بين العلم والعلمي - على ما ذكرناه - ( ولو لم يظهر طريق مقرّر من الشّارع لمعرفتها ) أي : لمعرفة الأحكام ( تعيّن الأخذ بالعلم بالواقع على حسب إمكانه ، إذ هو ) اي : العلم ( طريق الى الواقع بحكم العقل ) .

والحاصل : إن ظهر من الشّارع انّه جعل طريقاً ، سلك المكلّف ذلك الطريق ، وان لم يظهر من الشّارع جعل طريق ، لزم على المكلّف الأخذ بالعلم بالحكم حسب ما يقرره العقل ، فانّ العقل يرى إنّ العلم طريق الى الواقع ( من غير توقف لا يصاله ) أي : إيصال العلم ( الى الواقع الى بيان الشّرع ) لأنّ العلم طريق ذاتي لا يحتاج الى جعل من الشّارع ( بخلاف غيره ) أي : غير العلم ( من الطُرق المقرّرة ) (1) فان تلك الطرق المقرّرة تحتاج الى جعل الشّارع ، سواء تأسيساً أو إمضاءاً للّطرق العقلائية .

( إنتهى كلامه رفع مقامه ) ممّا حاصله : إنّ الظّنّ الانسدادي إنما كان حجّة إذا كان ظنّاً بالطريق ، وليس بحجّة إذا كان ظنّاً بالواقع .

( أقول : ما ذكره في مقدّمات مطلبه : من عدم الفرق بين علم المكلّف بأداء

ص: 137


1- - هداية المسترشدين : ص384 .

الواقع على ما هو عليه وبَيْنَ العِلْم بأدائه مِن الطَريق المقرّر ممّا لا اشكال فيه .

نعم ، ما جَزَمَ به - من أنّ المناطّ في تحصيل العلم أوّلاً هو العلمً بتفريغ الذمّة دون أداء الواقع على ما هو عليه - فيه : انّ تفريغَ الذمّة عمّا إشتَغَلَت به إمّا بفعل نَفْس ما أراده الشارع في ضِمْن الأوامر الواقعيّة وإمّا بفعل ما حَكَم حكماً جَعْليّاً بأنّه نفسُ المراد ، وهو مضمون الطُرق المجعولة ،

-------------------

الواقع على ما هو عليه ، وبين العلم بأدائه من الطريق المقرّر ) شرعاً ( ممّا لا اشكال فيه ) فانّ الانسان سواء سأل الامام الصّادق عليه السلام ، العالم بالحكم الواقعي ، أو سأل زُرارة الذي جعله الشّارع طريقاً الى احكامه ، يكون قد حصل على برائة الذمة .

( نعم ، ما جزم به ) صاحب الحاشية ( من انّ المناط في تحصيل العلم أوّلاً هو : العلم بتفريغ الذّمة ، دون أداء الواقع على ما هو عليه ) أي : ما هو عليه الواقع .

ف- ( فيه : ) انّه غير تام ، إذ اللاّزم أن يأتي الانسان بالواقع المعلوم علماً وجدانياً ، أو بالواقع المعلوم علماً تنزيليّاً جعليّاً ، وذلك لأنّ الشّارع جعل مفاد كلام زُرارة واقعاً جعليّاً تنزيلياً ، فالمكلَّف مخير بين أن يعمل بهذا أو بذاك ، ف- ( انّ تفريغ الذمة عمّا إشتغلت به ) من الاحكام ، يمكن على وجهين :

الأول : ( إمّا بفعل نفس ما أراده الشارع في ضمن الأوامر الواقعيّة ) بأن يعلم بالحكم الواقعي فيعمل به ، فتفرغ ذمته .

الثاني : ( وامّا بفعل ما حكم حكماً جعلياً : بانّه نفس المراد وهو : ) أي : ما حكم حكماً جعلياً ( مضمون الطرق المجعولة ) .

ص: 138

فتفريغُ الذمّة بهذا على مذهب المُخَطِئة مِن حيث إنّه نَفس المراد الواقعيّ بجعل الشارع ، لا مِن حيث انّه شيء مستقلّ في مقابل المراد الواقعيّ ، فضلاً عن أن يكون هو المناط في لزوم تحصيل العلم واليقين .

والحاصل : أنّ مضمونَ الأوامر الواقعيّة المتعلقة بأفعال المكلفيّن مرادٌ واقعيّ حقيقي .

ومضمون الأوامر الظاهريّة المتعلّقة بالعمل بالطُرق المقرّرة ذلك

-------------------

وعليه : ( فتفريغ الذّمة بهذا ) النحو الثاني ( على مذهب المخّطئة ) ومذهب من لا يرى التصويب ، انّما هو ( من حيث انّه ) أي : مضمون الطرق ، هو ( نفس المراد الواقعي ) لكن تنزيلاً ، و ( بجعل الشارع ) فانّ الشّارع قد نزَّل مضمون الطرق منزلة الواقع جعلاً .

( لا من حيث انّه شيء مستقل في مقابل المراد الواقعي ) حتى يكون الأمر واقعاً مخيراً بين الواقع ومضمون الطرق ، بل إنّ مضمون الطرق عبارة أُخرى عن الواقع التنزيلي ( فضلاً عن أن يكون هو ) أي : مضمون الطرق ( المناط في لزوم تحصيل العلم واليقين ) فانّ مضمون الطرق ليس في عرض الواقع ، فضلاً عن أن يكون أفضل من الواقع .

( والحاصل : انّ مضمون الأوامر الواقعيّة المتعلّقة بأفعال المكلفين ، مراد واقعي حقيقي ) للمولى ، لأنّ مضمون الأوامر هي التي فيها المصالح ، ومضمون النواهي هي التي فيها المفاسد ، والمولى إنّما يريد الاتيان بالمصالح والترك للمفاسد .

هذا ( ومضمون الأوامر الظاهريّة المتعلّقة بالعمل بالطرق المقررة ) هو ( ذلك

ص: 139

المراد الواقعيّ ، لكنْ على سبيل الجَعْل ، لا الحقيقة .

وقد اعترف المحقق المذكور ، حيث عبّر عنه بأداء الواقع مِن الطريق المجعول ، فأداءُ كلّ مِن الواقع الحقيقيّ والواقع الجعليّ ، لا يكون بِنَفْسِه إمتثالاً وإطاعة للأمر المتعلّق به مالم يَحْصَل العلم به .

نعم ، لو كان كلّ مِن الأمرين المتعلّقين بالادائين ممّا لا يُعْتَبَر في سقوطه قصدُ الاطاعة والامتثال ، كان مجرّدُ كلّ منهما مسقطاً للأمرين مِن دون إمتثال .

-------------------

المراد الواقعي ، لكن على سبيل الجعل لا الحقيقة ) فان المولى أوّلاً وبالذات يريد الواقع ، كصلاة الجمعة ، فلما وصل الطريق الى وجوب الظهر ، نزّل المولى الظهر منزلة الجمعة ، لا انّ الظّهر حينئذ يكون في عرض الجمعة ، فضلاً عن أن يكون الظهر هو المراد دون الجمعة .

( وقد إعترف المحقّق المذكور ) وهو صاحب الحاشية ( حيث عبّر عنه ) أي : عن مضمون الطرق ( بأداء الواقع من الطريق المجعول ) وانّ المولى يريد أداء العبد الواقع الذي هو متعلق إرادة المولى ( فأداء كلّ من الواقع الحقيقي والواقع الجعلي ، لا يكون بنفسه إمتثالاً وإطاعة للأمر المتعلّق به ) أي : بذلك الواقع ( مالم يحصل العلم به ) أي : بذلك الواقع ، فانّ العبد إذا لم يقصد الاطاعة لم يكن ممتثلاً لأمر المولى ، سواء أدّى الواقع الحقيقي أو أدّى الواقع الجعلي التنزيلي .

( نعم ، لو كان كلّ من الأمرين المتعلّقين بالادائين ) حيث قال المولى : أدّوا الواقع الحقيقي ، وقال : أدّوا الواقع الجعلي ( ممّا لا يعتبر في سقوطه قصد الاطاعة والامتثال ) بل كان من التوصليّات الذي يراد وقوعه في الخارج فقط ( كان مجرّد كلّ منهما مسقطاً للأمرين من دون إمتثال ) .

ص: 140

وأمّا الامتثال للأمر بهما فلا يَحْصَلُ إلاّ مع العلم .

ثم إنّ هذين الأمرين مع التمكّن مِن إمتثالهما يكون المكلّف مخيّراً في إمتثال أيّهما ، بمعنى أنّ المكلّف مخيرٌ بينَ تحصيل العلم بالواقع فيتعيّن عليه وينتفي موضع الأمر الآخر ، إذ المفروض كونُه ظاهريّاً قد اُخذ في موضوعهِ عَدمُ العلم بالواقع ،

-------------------

فاذا طَهّر الانسان يده بالماء المطلق - وهو واقع حقيقي - طهرت يده وإن لم يقصد الامتثال ، وكذلك إذا كان الماء مستصحب الاطلاق وطهّر يده به - وهو واقع تنزيلي - طهرت يده في الظاهر وإن كان مضافاً في الواقع ، فان الطهارة تحصل لليد واقعاً أو ظاهراً وإن لم يقصد الاطاعة والامتثال .

( وأمّا الامتثال للأَمر بهما ) أي : بالواقع الحقيقي ، والواقع الجعلي ( فلا يحصل إلاّ مع العلم ) إذ بدون العلم لا يقصد الامتثال حتى يحصل الامتثال .

( ثم إنّ هذين الأمرين ) الأمر بالواقع الحقيقي ، والأمر بالواقع الجعلي ( مع التمكن من إمتثالهما ) بامكان تحصيل العلم بمتعلقهما ( يكون المكلّف مخيّراً في إمتثال أيّهما ) شاء .

( بمعنى : انّ المكلّف مخيّر بين تحصيل العلم بالواقع ) كأن يسأل الامام الصادق عليه السلام بنفسه ( فيتعيّن عليه ، وينتفي موضع الأمر الآخر ) .

مثلاً : إذا سأل من الامام الصّادق عليه السلام عن الواجب يوم الجمعة ؟ فقال له الامام انّ الواجب هو الجمعة فأدّى الجمعة ، لم يكن مجال للسؤال عن زرارة وهو الطريق الجعلي ( إذ المفروض كونه ) أي : الامر الآخر ، أمراً ( ظاهرياً ، قد أخذ في موضعه عدم العلم بالواقع ) وقد حصل له العلم بالواقع بسبب سؤاله من الإمام الصّادق

عليه السلام .

ص: 141

وبينَ ترك تحصيل الواقع وإمتثال الأمرالظاهريّ هذا مع التمكّن من إمتثالهما .

وأمّا لو تَعذّر عليه إمتثالُ أحدهما تعيّن إمتثالُ الآخر ، كما لو عَجزَ عَنْ تحصيل العلم بالواقع وتمكّن مِنْ سلوك الطريق المقرّر لكونه معلوماً له ، أو إنعكس الأمر بأن تمكّن من العلم وإنسدّ عليه بابُ سلوك الطريق المقرّر لعدم العلم به ،

-------------------

( وبين ترك تحصيل الواقع وإمتثال الأمر الظاهري ) بأن يسأل زرارة ويعمل على قول زرارة ، وإن كان قول زرارة في بعض الأحيان يخالف الواقع فيؤدي - مثلاً - الى وجوب الظّهر دون الجمعة .

وإنّما يكون المكلّف مخيّراً بينهما ، لأنّ الواقع : هو المكلّف به أوّلاً وبالذات ، والطريق الظاهري : هو الذي قرره الشارع وجعله له بمنزلة الواقع ، ( هذا مع التمكن من إمتثالهما ) بأن تمكّن من السؤال عن الإمام الصّادق عليه السلام أو عن زُرارة .

( وأما لو تعذّر عليه إمتثال أحدهما ، تعيّن ) عليه ( إمتثال الآخر ، كما ) إذا لم يتمكن أن يسأل الامام ، فانّه يتعين عليه السؤال من زرارة ، أو إذا لم يتمكن من السؤال من زرارة ، تعيّن عليه ان يسأل من الإمام ، وذلك فيما ( لو عجز عن تحصيل العلم بالواقع ، وتمكّن من سلوك الطّريق المقرّر ، لكونه ) أي : الطريق المقرر ( معلوماً له ) فيعمل بالطريق منحصراً .

( أو إنعكس الأمر، بأن تمكّن من العلم وإنسّد عليه باب - سلوك الطريق المقرّر ) كما إذا تمكن من السؤال عن الامام ، ولم يتمكن من سؤال زرارة ( لعدم العلم به ) أي : لأنّه لا يعلم بالطريق المقرّر، فاللاّزم عليه أن يسأل الإمام الصّادق عليه السلام .

ص: 142

ولو عَجَز عنهما معاً قام الظنُّ بهما مقامَ العلم بهما بحكم العقل .

فترجيحُ الظنّ بسلوك الطريق على الظنّ بسلوك الواقع لم يُعلم وجهُه بَلْ الظنّ بالواقع أولى في مَقام الامتثال ، لِما أشرنا إليه سابقاً مِن حُكم العقل والنقل بأولويّة إحراز الواقع .

هذا في الطريق المجعول في عَرض العلم بأن أذن في سلوكه مع التمكّن من العلم .

-------------------

( ولو عجز عنهما ) أي : عن العلم بالواقع ، والعلم بالطريق المقرر ( معاً ، قام الظّن بهما ، مقام العلم بهما ، بحكم العقل ) فهو مخيّر بين الظّنّ بقول الامام الصّادق ، أو الظّنّ بقول زرارة .

وعليه : ( فترجيح الظّنّ بسلوك الطريق ) الذي قاله صاحب الحاشية ( على الظّن بسلوك الواقع ) بأن يلزم عليه الظّنّ بقول زُرارة ، ولا يكفيه الظّنّ بقول الامام الصّادق عليه السلام ( لم يعلم وجهه ، بل الظّنّ بالواقع أولى في مقام الامتثال ) .

فإنّه إذا دار الأمر بين ان يظنّ بقول الامام ، أو أن يظّن بقول زُرارة ، كان الأولى أن يظنّ بقول الإمام ( لِما أشرنا اليه سابقاً : من حكم العقل والنقل بأولوّية إحراز الواقع ) لأنّ الواقع هو الأصل ، امّا إحراز البدل ، فهو بدل عن الواقع ، فيكون إحراز الأصل أولى من إحراز البدل ، ولو كانا في عرض واحد - على ما عرفت - .

( هذا ) الذي : ذكرناه : من كفاية الظّنّ بالواقع والظّنّ بالطريق ، وانّ أحدهما في عرض الآخر انّما هو ( في الطريق المجعول في عرض العلم ، بأن أذن ) الشارع ( في سلوكه ) أي : سلوك الطريق المجعول ( مع التمكن من العلم ) بأن قال له الامام الصادق عليه السلام : لك أن تراجعني بنفسي ، أو أن تراجع زُرارة .

ص: 143

وأمّا إذا نَصبه بشرط العَجز عن تحصيل العلم فهو أيضاً كذلك ، ضرورةَ أنّ القائم مقامَ تحصيل العلم الموجب للأطاعة الواقعيّة عند تَعذّره هي الاطاعة الظاهريّة المتوقفة على العلم بسلوك الطريق المجعول ، لا على مجرّد سلوكه .

والحاصلُ : أنّ سلوك الطريق المجعول مطلقاً أو عند تَعذّر العلم

-------------------

( وأمّا إذا نصبه بشرط العجز عن تحصيل العلم ) بالواقع ( فهو أيضاً كذلك ) أي : يعتبر في سقوط أمره : حصول الامتثال المتوقف على العلم ، الاّ فيما لا يعتبر في سقوطه قصد الاطاعة والامتثال - على ما مرّ قبل سطور - وذلك ( ضرورة انّ القائم مقام تحصيل العلم الموجب للاطاعة الواقعيّة عند تعذّره ) أي : عند تعذر العلم ( هي الاطاعة الظّاهريّة ، المتوقفة على العلم بسلوك الطريق المجعول ، لا على مجرّد سلوكه ) إلاّ فيما لا يعتبر في سقوطه قصد الاطاعة - على ما سبق - .

( والحاصل ) من كل ما مضى أمران : - .

الاوّل : انّ سلوك الطريق المجعول في عرض الواقع ، فللمكلّف أن يعمل بالواقع ، أو بالطريق المجعول .

الثاني : انّ برائة الذمة لو إحتاجت الى قصد الطاعة لم تتحقق إلاّ بعد العلم ، فاذا لم يكن علم فالظّنّ يقوم مقام العلّم ، وإذا لم تحتج البرائة الى قصد الطاعة ، كان مجرد الاتيان بالواقع الحقيقي أو الواقع التنزيلي موجباً للبرائة وإن لم يعلم به المكلّف ، كمن يغسل يده بالماء وهو لا يعلم انّه تكليفه ، فان يده تطهر بذلك .

وإن شئت قلت : انّ فراغ الذمّة تابع للاتيان وان لم يعلم ، امّا العلم بفراغ الذمة فهو تابع للعلم بالشيء ، إذ بدون العلم بالشيء كيف يعلم بالفراغ من ذلك الشيء ؟ ف- ( إنّ سلوك الطّريق المجعول مطلقاً ، او عند تعذّر العلم ) إنّما هو

ص: 144

في مقابل العمل بالواقع ؛ فكما أنّ العملَ بالواقع مع قطع النظر عن العلم لا يوجبُ إمتثالاً وإنّما يوجبُ فَراغَ الذمّة من المأمور به واقعاً لو لم يؤخذ فيه تحقّقُه على وجه الامتثال ، فكذلك سلوك الطريق المجعول .

فكلٌ منهما موجبٌ لبراءة الذمّة واقعاً وإن لم يعلم بحصوله ، بل ولو إعتقد عدم حصوله .

وأمّا العلمٌ بالفراغ المعتبر في الاطاعة ، فلا يتحقق في شيء منهما

-------------------

( في مقابل العمل بالواقع ) فانّه قد يكون العمل بالواقع ، وقد يكون العمل بالطريق ، سواء تعذّر العلم أم لا ، أو عند تعذر العلم فقط .

وعليه : فقد يقول المولى : إعمل بالواقع ، وقد يقول : إعمل بالطريق إذا تعذر العلم بالواقع ، وقد يقول : إعمل بالطريق ولو قدرت على العلم بالواقع .

إذن : ( فكما انّ العمل بالواقع - مع قطع النّظر عن العلم - لا يوجب إمتثالاً ، وإنّما يوجب فراغ الذّمّة من المأمور به واقعاً ) كما ذكرنا في مثال تطهير اليد ( لو لم يؤخذ فيه ) أي : في المأمور به ( تحققّه على وجه الامتثال ) لا ما إذا أخذ في المأمور به الامتثال ، فانّه لا يتحقق الاّ مع العلم ( فكذلك سلوك الطريق المجعول ) يوجب فراغ الذّمة بدون العلم ، ولكنّه لا يوجب الامتثال فاذا اريد الامتثال ، فاللازم أن يعلم بذلك .

وعليه : ( فكلّ منهما ) أي : من الواقع ومن الطريق المجعول ( موُجب لبرائة الذّمة واقعاً ) إذا أتى بهما ( وإن لم يعلم بحصوله ) أي : بحصول الامتثال ( بل ولو إعتقد عدم حصوله ) فانّ الانسان الذي يغسل يده بالماء ، تطهر يده وإن تصور أنه لم تطهر ، معتقداً بعدم الطهارة من باب الجهل المركب .

( وأمّا العلم بالفراغ المعتبر في الاطاعة ، فلا يتحقّق في شيء منهما ) أي :

ص: 145

إلاّ بعد العلم أو الظنّ القائم مقامه .

فالحكمُ - بأنّ الظنّ بسلوك الطريق المجعولُ يوُجِبَ الظنّ بفراغ الذِمَّة ، بخلاف الظنّ بأداء الواقع ، فانّه لا يوجب الظنّ بفراغ الذمة ، إلاّ إذا ثَبَتَ حُجّية ذلك الظنّ ، وإلاّ فربما يُظنّ بأداء الواقع من طريق يُعلَمُ بعدم حجّيّته - تَحَكُّمٌ صِرفٌ .

-------------------

من العلم بالواقع ، أو سلوك الطريق المجعول ( إلاّ بعد العلم ، أو الظّنّ القائم مقامه ) أي : مقام العلم .

إذن : ( فالحكم ) الذي ذكره المحشّي ( بأنّ الظن بسلوك الطريق المجعول يوجب الظنّ بفراغ الذّمة ، بخلاف الظّن بأداء الواقع فانّه لا يوجب الظّنّ بفراغ الذّمة ) مثلاً : إذا ظنّ المكلّف بأنّ خبر الواحد طريق ، وقام الخبر الواحد على وجوب الجمعة فصلاها ، فانّه يظّن بفراغ الذّمة ، أمّا إذا ظنّ المكلّف بأن صلاة الجمعة واجبة فصلاها ، فانّه لم يظنّ بفراغ الذّمة ( إلاّ إذا ثبت حجّية ذلك الظّنّ ) بالواقع ، وإذا ثبت حجّية هذا الظنّ كان الظّنّ طريقاً ، فيكون قد عمل على الطريق لا على الواقع المجرد عن الطّريق .

( وإلاّ فربّما يظنّ بأداء الواقع من طريق يعلم بعدم حجّيته ) كما إذا ظنّ بأداء الواقع من طريق القياس ، بان قام القياس - مثلاً - على وجوب الجمعة فأدّى الجمعة ، فانّه أداء للواقع من طريق القياس الّذي يعلم عدم حجّيته .

وعليه : فالحكم الذي ذكره المحشي ( تحكمٌ صِرف ) هذا خبر قوله : فالحكم بأنّ الظّنّ بسلوك الطريق المجعول يوجب الظنّ الى آخره .

وإنّما كان تحكماً لما عرفت : من تساوي سلوك الطريق ، والعمل بالواقع ، فانّ كل واحد منهما موجب لبرائة الذّمة .

ص: 146

ومنشأ ما ذكره قدس سره

-------------------

والمتحصّل : انّ كلام المحشي في الموردين ، كلاهما لا يخلوان من نظر :

الأوّل قوله : اللاّزم الظنّ بالفراغ ، بينما اللاّزم الظّنّ بإتيان الواقع .

الثاني : الظّنّ بالطّريق ظنّ بالفراغ ، دون الظنّ بالواقع فانّه ليس ظنّاً بالفراغ ، بينما الظنّ بالواقع أيضاً ظنّ بالفراغ .

وإن شئت قلت : انّ كلام المحشي - ثانياً - : بالفرق بين الظّنّ بالواقع ، والظّنّ بالطريق ، بأنّ الأول : لا يستلزم الظّنّ بالفراغ ، بخلاف الثاني : فانّه يستلزم الظّنّ

بالفراغ ، غير ظاهر الوجه ، لِما عرفت : من كون مؤدّى الطّريق بمنزلة الواقع ، والعلم به بمنزلة العلم بالواقع ، فلو كان الظّنّ بالطريق مستلزماً للظنّ بالفراغ ،

فالظّنّ بالواقع أولى بذلك ، فانّه لا فرق بينهما من جهة الامتثال في مقام الامتثال ، ومن جهة الظّنّ بالفراغ مقام الظنّ بالفراغ .

( ومنشأ ما ذكره ) صاحب الحاشية ( قدّس سرّه ) من لزوم الظنّ بالطريق بعد الانسداد ، وعدم كفاية الظّنّ بالواقع ، وهو إنّ هناك ثلاثة أمور :

1 - العلم بوجوب صلاة الجمعة ، والعلم طريق عقلي .

2 - قيام الخبر على وجوب صلاة الجمعة ، والخبر طريق شرعي .

3 - كون الخبر في عرض العلم .

وبعد الانسداد يمكن ثلاثة ظنون :

الأوّل : الظّنّ بالعلم ، ولا معنى له .

الثاني : الظّنّ بالواقع ، ولا يوجب الظنّ بالفراغ ، إذ سلوك الواقع ليس علّة تامة للفراغ .

الثّالث : الظّنّ بالطّريق المجعول ، فيلزم إتباعه لفرض كونه ظنّاً بالعلّة التامة

ص: 147

تَخيّل أنّ نفسَ سلوك الطريق الشرعيّ المجعول ، في مقابل سلوك الطريق العقلّي الغير المجعول ، وهو العلم بالواقع الذي هو سبب تامّ لبراءة الذمّة ، فيكون هو أيضاً كذلك ، فيكون الظّنّ بالسلوك ظنّاً بالبراءة ، بخلاف الظنّ بالواقع ، لأنّ نفسَ أداء الواقع ليس سبباً تامّاً للبراءة ، حتىّ يَحْصَل من الظنّ به الظنُّ بالبراءة ، فقد قاس الطريق الشرعيّ بالطريق العقليّ .

-------------------

للفراغ .

وإنّما لا يوجب الظنّ بالواقع : الفراغ ، لأنّ العلم هو الطريق الى الواقع ، لا الظّنّ ، ف- ( تخيّل انّ نفس سلوك الطّريق الشّرعي المجعول ، في مقابل سلوك الطريق العقلي الغير المجعول ، وهو ) أي : الطّريق العقلي ( : العلم بالواقع الذي هو ) أي : العلم ( سبب تام لبرائة الذّمة ، فيكون هو ) أي : الخبر المجعول الذي هو في عرض العلم ( أيضاً كذلك ) أي : سبب تام للبرائة .

وعليه : ( فيكون الظّنّ بالسّلوك ظنّاً بالبرائة ، بخلاف الظّنّ بالواقع ) فانّه ليس ظنّاً بالبرائة ( لأنّ نفس أداء الواقع ليس سبباً تاماً للبرائة ) لما عرفت : من إنّ العلم بالواقع سبب تام للبرائة ، لا نفس أداء الواقع ( حتى يحصل من الظن به ) أي : بالواقع ( الظّنّ بالبرائة ) .

وعلى هذا : ( فقد قاس ) صاحب الحاشية ( الطريق الشرعي بالطريق العقلي ) في كونه سبباً تاماً لبرائة الذمة .

قال : الأوثق في تقريب زعم صاحب الحاشية : « وكأن المستدِّل قد زعم انّ نفس سلوك الطريق المجعول ، في عرض سلوك الطريق العقلي غير المجعول ، وهو العلم بالواقع الذي هو سبب تام للعلم بالفراغ ، فيكون نفس سلوك الطريق الشرعي أيضاً كذلك .

ص: 148

وأنت خبيرٌ بأنّ الطريق الشرعيّ لا يتّصف بالطريقيّة فعلاً ، إلاّ بعد العلم تفصيلاً ، وإلاّ فسلوكه ، أعني مجرّد تطيبق الأعمال عليه مع قطع النظر عن حكم الشارع لغوّ صرفٌ ، ولذلك أطلنا الكلامَ في أنّ سلوك الطريق المجعول في مقابل العمل بالواقع ،

-------------------

وبعد إنسداد باب العلم بالواقع والطريق ، لا معنى لتعلق الظّنّ بالعلم ، وأمّا تعلقه ، بالواقع فهو لا يستلزم الظّن بالفراغ ، لفرض عدم كون محض سلوك الواقع علّة تامة للفراغ ، حتى يستلزم الظّنّ به للظّن به ، بخلاف الظّنّ بالطّريق المجعول ، لفرض كونه ظنّاً بالعلة التامة للفراغ » (1) .

هذا ، ( وأنت خبير بأنّ ) الطريق الشرعي ، وهو الخبر ليس في عرض العلم بالواقع ، وانّما الخبر في عرض نفس الواقع ، لأنّ الخبر واقع تنزيلي .

وعليه : فكما انّ العلم بالواقع موجب للفراغ ، كذلك العلم بالخبر ، فاذا سقط العلم قام الظّنّ مقامه ، سواء الظّنّ بالواقع أو الظّنّ بالخبر ، ف- ( الطريق الشرعي لا يتّصف بالطريقيّة فعلاً ، إلاّ بعد العلم تفصيلاً ) بأن يعلم المكلّف الخبر .

( وإلاّ فسلوكه ) أي : سلوك الطريق الشرعي ( أعني مجرد تطبيق الأعمال عليه ) أي : على الخبر الذي هو طريق شرعي ( مع قطع النظر عن حكم الشّارع ) بتنزيله منزلة العلم ( لغوٌ صرف ) إذ لا يكون واقع تنزيلي الاّ بعد حكم الشارع بأنّ الخبر طريق .

( ولذلك اطلنا الكلام في أنّ سلوك الطريق المجعول ، في مقابل العمل بالواقع ) يعني : هناك واقع وخبر وهما متقابلان ، والواقع واقع ، والخبر واقع

ص: 149


1- - أوثق الوسائل : ص217 نقد كلام بعض المحققين في لزوم تحصيل العلم بتفريغ الذمة .

لا في مقابلة العلم بالعمل بالواقع ، ويلزم من ذلك كونُ كلّ من العلم والظنّ المتعلّق بأحدهما في مقابل المتعلّق بالآخر .

فدعوى : «انّ الظّن بسلوك الطريق يستلزمُ الظنّ بالفراغ ، بخلاف الظنّ باتيان الواقع» ، فاسدةٌ .

هذا كلّه ، مع

-------------------

تنزيلي ( لا في مقابلة العلم بالعمل بالواقع ) فانّه ليس الخبر في مقابل العلم وعرضه ، بل في مقابل الواقع وعرضه .

( ويلزم من ذلك ، كون كلّ من العلم والظنّ المتعلّق بأحدهما ) أي : بالواقع أو بالخبر ( في مقابل المتعلّق بالآخر ) فالعلم بالخبر كالعلم بالواقع ، والظنّ بالخبر كالظنّ بالواقع .

وعليه : ( فدعوى انّ الظّن بسلوك الطريق يستلزم الظنّ بالفراغ ، بخلاف الظنّ باتيان الواقع ، فاسدةٌ ) لما عرفت : من انّه كما يكون الظنّ بالخبر كافياً ، كذلك الظنّ بالواقع .

وتوضيح جواب المصنّف بلفظ الأوثق : انّه لا ريب أنّ نفس سلوك الطريق المجعول من دون علم به ، لا يترتب عليه تحقق الامتثال أصلاً ، حتى يكون في عرض العلم بالواقع .

نعم ، يترتّب عليه سقوط الأمر في التوصليّات ، كما يترتّب ذلك على سلوك نفس الواقع من دون علم به حين سلوكه ، فمؤدّى الطريق في عرض الواقع ، والعلم به في عرض العلم بالواقع ، والامتثال إنّما يترتب على العلمين ، والظنّ ايضاً إنّما يقوم مقامهما عند تعذرهما دون المعلومين .

( هذا كلّه ، مع ) فرض أنّ الشارع جعل الخبر ، فيكون الخبر في عرض الواقع ،

ص: 150

ما عَلِمتَ سابقاً في ردّ الوجه الأوّل من إمكان منَعُ جَعل الشارع طريقاً الى الأحكام ، وانّما اقتصر على الطرق المُنجعِلة عند العقلاء وهو العلم ثمّ على الظنّ الاطمئناني .

ثمّ إنّك حيث عرفتَ أنّ مآل هذا القول الى أخذ نتيجة دليل الانسداد بالنسبة الى المسائل الاُصولية وهي حجّية الأمارات المحتملة للحجّية ، لا بالنسبة الى نَفس الفروع .

فاعلم أنّ في مقابله قول آخر لِغَير واحد من مشايخنا المعاصرين قدس سرهم ، وهو عدمُ جريان دليل الانسداد على وجه يَشمل مثل هذه المسألة الاُصولية ، اعني حجّية الأمارات المحتملة ،

-------------------

مع ( ما علمت سابقاً في ردّ الوجه الأوّل : من إمكان منع جعل الشارع طريقاً الى الأحكام ) إطلاقاً ( وإنّما إقتصر ) الشارع ( على الطرق المنجعلة عند العقلاء ، وهو : العلم ، ثم على الظنّ الاطمئناني ) فيكون العلم بالواقع ، وكذلك الظنّ بالواقع ، عند فقد العلم موجباً للبرائة .

( ثمّ إنّك حيث عرفت : انّ مآل هذا القول ) اي : قول صاحب الحاشية : بانّ الظنّ بالطريق حجة ، لا الظنّ بالواقع ( الى أخذ نتيجة دليل الانسداد بالنسبة الى المسائل الاُصولية ، وهي : حجّية الأمارات المحتملة للحجّية ) من باب الظنّ ، أو الوهم ، أو الشكّ ( لا بالنسبة الى نفس الفروع ) فاذا ظنّ بأن خبر الواحد حجّة عمل به ، أما اذا ظنّ بأنّ صلاة الجمعة واجبة لا يصليها .

هذا ( فاعلم : انّ في مقابله قول آخر لغير واحد من مشايخنا المعاصرين قدس سرهم ، وهو : عدم جريان دليل الانسداد على وجه يشمل مثل هذه المسألة الاُصولية ، اعني :حجّية الأمارات المحتملة ) فالظنّ إنّما هو حجّة فيما اذا تعلّق بالفروع ،

ص: 151

وهذا هو القول الذي ذكرنا في أوّل التنبيه : انّه ذهب اليه فريقٌ ، وسيأتي الكلامُ فيه عند التكلّم في حجيّة الظنّ المتعلّق بالمسائل الاُصولية إن شاء اللّه تعالى .

ثمّ إعلم : انّ بعضً مَنْ لاخِبْرَةَ له ، لمّا لمْ يفهم من دليل الانسداد الاّ ما تلقنَ من لسان بعض مشايخه وظاهر عبارة كِتاب القوانين ، رَدّ القولَ الذي ذكرناه أوّلاً عن بعض المعاصرين ، مِن حجّية الظنّ في الطريق ، لا في نَفس الأحكام بمخالفته لإجماع العلماء

-------------------

لا ما اذا تعلّق بالاُصول ( وهذا هو القول الذي ذكرنا في أوّل التنبّيه : انّة ذهب اليه فريق ، وسيأتي الكلام فيه عند التكلّم في حجّية الظنّ المتعلّق بالمسائل الاُصولية إنشاء اللّه تعالى ) .

فتحقق من ذلك انّ هناك قولين متقابلين :

الأوّل : أنّ نتيجة الانسداد : حجّية الظنّ المتعلّق بالفروع .

الثانيّ : أن نتيجة دليل الانسداد : حجّية الظنّ الذي تعلّق بالاُصول .

هذا ، ولكن قول المصنّف هو :حجّية الظنّ ، سواء كان بالنسبة الى المسائل الاُصولية ، أو المسائل الفرعيّة .

( ثمّ إعلم أنّ بعض من لا خبرة له ) بدقائق الاُصول ( لمّا لم يفهم من دليل الانسداد الاّ ما تلّقنَ من لسان بعض مشايخه ، وظاهر عبارة كتاب القوانين ) تصوّر : إنّ في المسألة قولين فقط ، لا ثلاثة أقوال ، ولذلك ( ردّ القول الذي ذكرناه أولاً عن بعض المعاصرين : من حجّية الظنّ في الطريق ، لا في نفس الأحكام ) وهو ما ذكره التُستري ، وصاحب الفصول ، وصاحب الحاشية .

قال هذا الذي هو قليل الخبرة : إنّ هذا القول مردود ( بمخالفته لاجماع العلماء

ص: 152

حيث زَعم أنّهم بينَ من يُعمم دليل الانسداد لجميع المسائل العلميّة اُصولية أو فقهية كصاحب القوانين ، وبينَ من يَخصصه بالمسائل الفرعيّة ، فالقولُ بعكس هذا خرق للاجماع المركّب .

ويدفعه : انّ المسألة لَيست من التوقيفيّات التي يَدخلها الاجماع المركّب ، مع أنّ دعواه في مثل هذه المسائل المستحدثة بشِعةٌ جداً ، بل المسألة عقليّة ، فاذا فرض استقلال العقل بلزوم العمل بالظنّ في مسألة تعيين الطُرق ، فلا معنى لردّه بالاجماع المركب .

-------------------

حيث زعم أنهم ) أي : العلماء ( بين مَن يعمّم دليل الانسداد لجميع المسائل العلمية اُصولية أو فقهية كصاحب القوانين ) حيث يرى : أنّ دليل الانسداد يفيد حجّية الظنّ ، سواء تعلّق بالمسائل الاُصولية ، أو بالمسائل الفقهية ( وبين من يخصّصه بالمسائل الفرعيّة ) فقط ، فليس الظنّ حجّة في المسائل الاُصولية .

وعليه : ( فالقول بعكس هذا ) وهو حجّية الظنّ في المسائل الاُصولية فقط ( خرق للاجماع المركّب ) وهو ممّا لا يجوز .

( ويدفعه ) أي : يدفع قول هذا الذي لا خبرة له ( : انّ المسألة ليست من التّوقيفيات التي يدخلها الاجماع المركّب ) فانّ الاجماع المركّب إنّما هو حجّة في المسائل الفرعيّة ، لا في مثل هذه المسائل الاُصولية المرتبطة بالعقل والعقلاء .

( مع انّ دعواه في مثل هذه المسائل المستحدثة بشعة جداً ) اذ المسائل المستحدثة إتّفاق العلماء فيها لا يكشف عن قول المعصوم ، أو عن دليل معتبر لم يصل الينا .

( بل المسألة عقليّة ، فاذا فرض إستقلال العقل بلزوم العمل بالظنّ في مسألة تعيين الطرق ، فلا معنى لردّه بالاجماع المركّب ) كما إنّه لا معنى لردّه بالاجماع

ص: 153

فلا سبيل الى ردّه الاّ بمنع جريان حكم العقل وجريان مقدمات الانسداد في خصوصها ، كما عرفته منّا ، أو فيها أو في ضمن مطلق الأحكام الشرعيّة، كما فعَله غيرُ واحد من مشايخنا .

الأمر الثاني :

اشارة

وَهو أهمّ الاُمور في هذا الباب ، أنّ نتيجة دليل الانسداد :

-------------------

البسيط أو بالشهرة المحققة ، أو بالسيرة ، أو ما أشبه ذلك .

( فلا سبيل الى ردّه ) أي : رد هذا القول الذي يخصص حجّية الظنّ بما اذا كان متعلقاً بالاُصول ( الاّ بمنع جريان حكم العقل ، وجريان مقدّمات الانسداد في خصوصها ) أي : في خصوص المسائل الاُصولية . ( كما عرفته منّا ) حيث ذكرنا : أنّ مقدّمات الانسداد إنّما يدل على حجية الظنّ في مطلق المسائل اُصولية كانت أو فرعية ( أو ) منع جريان مقدمات الانسداد ( فيها ) أي : في الاصول ، لأنّ المقدّمات خاصّة بالفروع .

( أو ) منع جريان المقدّمات إطلاقاً ( في ضمن مطلق الأحكام الشّرعيّة ، كما فعله غير واحد من مشايخنا ) حيث قال : بانّ مقدّمات الانسداد لا تجري أصلاً للقول بالانفتاح ، فقد منع جريانها في الاصول من جهة منع أصل دليل الانسداد .

والحاصل : انّ منع كلام التُستري ، وصاحبي الحاشية الفصول ، انّما يكون بأحد هذه الوجوه الثلاثة ، لا بما ذكره بعض من لا خبرة له من المنع بسبب الاجماع المركّب .

( الأمر الثاني ) من الاُمور التي ينبغي التنبيه عليها بعد بحث اصل الانسداد : ( وهو أهمّ الاُمور في هذا الباب ) اي : باب الانسداد ( إنّ نتيجة دليل الانسداد ،

ص: 154

هل هي قضيةٌ مهُملةٌ من حيث أساب الظنّ ، فلا يَعمّ الحكم لجميع الأمارات الموجبة للظنّ إلاّ بعد ثبوت معمّمٍ من لزوم ترجيح بلا مرجحّ ، أو إجماع مركّب ، أو غير ذلك ، أو قضيّة كلّيةٌ لا تحتاجُ في التعميم الى شيء ؟ وعلى التقدير الأوّل ، فهل ثبت المرجّح لبعض الأسباب على بعض ، أم لم يثبت وعلى التقدير الثاني ؟ أعني كون القضيّة كليّة ،

-------------------

هل هي قضيّة مُهملة من حيث أسباب الظنّ ؟ ) أم لا ؟ .

ثم بينّ أسباب الظنّ بقوله ( فلا يعمّ الحكم ) الذي هو حجّية الظنّ بعد الانسداد ( لجميع الأمارات الموجبة للظنّ ، الاّ بعد ثبوت معمّم ) فانّ الانسداد انّما يدلّ على حجّية الظنّ في الجملة ، فيلزم لتعميم الظنّ الى كلّ اسبابه ، أن يكون هناك معمم : ( من لزوم ترجيح بلا مرجحّ ، ) فانا اذا قلنا : بانّ بعض الظنّ حجّة دون بعض ، لزم الترجيح بلا مرجحّ ، اذ الظنون مطلقاً حجّة بعد الانسداد .

( أو إجماع مركّب ، أو غير ذلك ) ولا يخفى : انّ الاجماع المركّب إنّما يكون على تقدير صحة المقدمات فهو اجماع تقديري ، لا اجماع فعلي ، كما ذكرنا مثل ذلك في بحث الاجماع ، كما لا يخفى .

( أو قضيّة كليّة ) بمعنى : أن مقدّمات الانسداد تفيد حجّية الظنّ من أيّ سبب حصل ، ف- ( لا تحتاج في التعميمّ الى شيء ) آخر .

( وعلى التقدير الأول ) وهو إهمال النتيجة ( فهل ثبت المرجّح لبعض الأسباب على بعض ، أم لم يثبت ؟ ) مثل إنّه هل ثبت ترجيح الظنّ الحاصل من الخبر على الظنّ الحاصل من الشهرة أم لم يثبت مثل هذا الترجيح ؟ .

( وعلى التقدير الثاني ) وهو اطلاق النتيجة ( أعني : كون القضية كلّية ) تشمل

ص: 155

فكيف توجيهُ خروج القياس ، مع أنّ الدليل العقليّ لا يقبل التخصيص .

فهنا مقامات :

الأوّل :

في كَون نتيجة دليل الانسداد مهملة أو معيّنة .

-------------------

كل الظنّون ( فكيف ) يتم ( توجيه خروج القياس ، مع أنّ الدليل العقلي لايقبل التخصيص ؟ ) فالعقل يرى حجيّة الظنّ عند الانسداد ، والظنّ يشمل الظنّ القياسي وغير القياسي - معاً - فكيف يخرج الانسداديون الظنّ القياسي ويقولون : بانّه لا يعمل به في حال الانسداد ؟ .

وإنّما نقول بان الدليل العقلي لا يقبل التخصيص ، لأنّ العقل يعيّن موضوع حكمه ، ثم يحكم على ذلك الموضوع ، ومن الواضح : إنّ بعد تعيين الموضوع لا معنى لتخصيصه .

مثلاً : العقل يرى إنّ كل عدد هو نصف مجموع حاشيته ، فهل هذا الحكم العقلي قابل للتخصيص ، بانّ يقال إنّ العدد عشرة - مثلاً - ليس كذلك ؟ .

وكذا إذا حكم العقل : بانّ مساحة المربع تحصل من ضرب أحد اضلاعه في الضلع المجاور له ، سواء في المربع التام التربيع ، أو في المربع المستطيل ، فهل يمكن أن يقال : إنّ هذا الحكم العقلي لا يجري في المربع الكذائي ؟ .

وهكذا اذا حكم العقل : بانّ الظّلم قبيح ، فهل يمكن أن يقال : انّ الظلم الفلاني ليس بقبيح ؟ والى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة .

( فهنا ) في هذا الأمر الثاني من تنبيهات الانسداد ( مقامات ) على النحو التالي : ( الأوّل : في كون نتيجة الانسداد مهملة أو معينّة ) .

ص: 156

والتحقيق : أنّه لا إشكال في أنّ المقدّمات السابقة التي حاصِلها بقاءُ التكليف ، وعدمُ التمكّن من العلم ، وعدمُ وجوب الاحتياط ، وعدمُ جواز الرّجوع الى القاعدة التي يقتضيها المَقام اذا جَرتْ في مسألة تعيّن وجوب العمل بأيّ ظنّ حَصَل في تلك المسألة من أيّ سبب .

وهذا الظنّ كالعلم في عدم الفَرق فياعتبار بينَ الأسباب والموارد والأشخاص ،

-------------------

( والتحقيق : انّه لا إشكال في أنّ المقدّمات السّابقة ) المذكورة في أول بحث الانسداد ( التي حاصلها : بقاء التكليف ، وعدم التمكن من العلم ، وعدم وجوب الاحتياط وعدم جواز الرجوع الى القاعدة التي يقتضيها المقام ) في كلّ مسألة ، فانّه لا تجري فيها الاصول بحسب ما تقتضيها المسألة من : البرائة ، أو الاستصحاب ، أو التخيير ، أو الاحتياط .

وكذا لا يجوز الرجوع فيها الى التقليد ، أو القرعة ، أو ما أشبه ذلك .

فانّه ( اذا جرت في مسألة ) هذه المقدّمات ( تعيّن وجوب العمل بأي ظنّ حصل في تلك المسألة من أيّ سبب ) كان ذلك الظنّ ، كما اذا حصل الظن بخبر الواحد من ظاهر الكتاب ، أو من الشهرة ، أو الاجماع المنقول ، أو الأولويّة القطعيّة .

( وهذا الظنّ كالعلم ) عام من جميع الحيثيات ( في عدم الفرق في اعتبار بين الأسباب ) كما ذكرنا امثلة لها .

( و ) عام بين ( الموارد ) من العبادات ، أو المعاملات ، أو الدّيات ، أو القضاء ، أو الارث ، أو غير ذلك .

( و ) عام بين ( الاشخاص ) من مرتب الظنّ ، بأن يكون الظنّ قوياً ، أو ضعيفاً ،

ص: 157

وهذا ثابت بالإجماع وبالعقل .

وقد سَلَك هذا المسلكَ صاحبُ القوانين ، حيث أنّه أبطَلَ البراءة في كلّ مسألة من غير ملاحظة

-------------------

فانّ حاله حال العلم في حال الانفتاح حيث لا فرق فيه بين الأسباب والموارد والأشخاص .

( وهذا ) أي : اطلاق النتيجة وكليتها بعد ثبوت المقدّمات المذكورة ( ثابت بالاجماع ) والمراد : الاجماع التقديري ، لا الاجماع الفعلي ، لأنّ الانفتاحين لا يقولون بالانسداد اصلاً حتى يختلفون في اطلاق النتيجة أو أهمالها .

قال في الأوثق :« لا يخفى : إنّ دعوى الاجماع في المسائل العقليّة ، سيما غير المعنونة منها في كلمات القدماء ممّا لا وجه له ، اللّهم ، الاّ أن يريد منه مجردّ الاتفاق بدعوى الاستكشاف بحكم عقولنا عن حكم جميع ذوي الأسباب » (1) .

هذا ، وكأنّ الأوثق أراد بهذا الكلام جواب بعض المحشين الذين إستشكلوا على المصنّف : بانّ التمسك بالاجماع هنا ينافي رده على صاحب الضوابط فيما سبق ، حيث نقل هذا المحشي : انّ مراد المصنّف بقوله : إعلم انّ بعض من لا خبرة له ، هو صاحب الضوابط .

( و ) ثابت أيضاً ( بالعقل ) حيث إنّ العقل بعد تماميّة المقدّمات المذكورة ، لا يرى فرقاً بين الأسباب والموارد والاشخاص .

( وقد سلك هذا المسلك ) أي : التمسك بالاجماع والعقل لكون النتيجة كليّة لا مهملة ( صاحب القوانين ، حيث انّه أبطل البرائة في كلّ مسألة من غير ملاحظة

ص: 158


1- - أوثق الوسائل : ص219 نتيجة دليل الانسداد هل هي مهملة أو معيّنة .

لزوم الخروج عن الدّين ، وأبطل لزوم الاحتياط كذلك مع قَطعِ النظر عن لزوم الحَرج .

ويَظْهر أيضاً من صاحبَيّ المعالم والزُبدة ، بناءا على اقتضاء ما ذكراه لإثبات حجّية خبر الواحد للعمل بمطلق الظنّ ، فلاحِظ .

-------------------

لزوم الخروج عن الدّين ) بمعنى : أنّ البرائة لا تجري في مسائل ، وإن لم تلزم البرائة الخروج عن الدّين .

( وأبطل لزوم الاحتياط كذلك ) أي : في كلّ مسألة ( مع قطع النّظر عن لزوم الحرج ) بمعنى : انّه وإن لم يلزم الحرج فلا يحتاط في المسائل في اطراف العلم الاجمالي .

( ويظهر ايضاً من صاحبيّ المعالم والزُّبدة بناءاً على اقتضاء ما ذكراه لاثبات حجّية خبر الواحد للعمل بمطلق الظنّ ) فانّهما يزعمان ان مطلق الظنّ حجّة ويقولان : بانّ خبر الواحد إنّما هو حجّة ، لأنّه من صغريات مطلق الظنّ ممّا يدل على أنّ مطلق الظنّ حجّة ، فالنتيجة مطلقة لا مهملة ( فلاحظ ) كلامهم .

وتوضيح ذلك : انّ صاحب القوانين يقول : إنّ حجّية أصالة البرائة انّما هي من جهة إفادة هذا الاصل الظنّ ، فاذا كان ظن على خلاف البرائة ، لم تكن أصالة البرائة حجّة ، ويقول أيضاً : انّه لا يجب الاحتياط في موارد العلم الاجمالي ، اذ العلم الاجمالي إنّما يمنع المخالفة القطعيّة ولا يوجب الموافقة القطعيّة ، وعليه : فالعمل بالبراءة لا يجوز من جهة عدم حجّية البرائة مع وجود الظنّ على خلاف البرائة ، والعمل بالاحتياط لا يلزم في اطراف العلم الاجمالي لما سبق .

هذا هو رأي القوانين ، أمّا نظر غيره فهو : انّ البرائة لا تجري في حال الانسداد ، لأنّه يوجب الخروج عن الدّين ، والاحتياط لا يلزم ، لانّه عُسْر وحَرج .

ص: 159

لكنّك قد عرفت ممّا سَبق أنّه لا دليل على مَنْع جريان أصالة البراءة وأصالة الاحتياط والاستصحاب المطابق لأحدهما في كلّ مورد مورد من مواردها بالخصوص .

إنّما الممنوع جريانُها في جميع المسائل ، للزوم

-------------------

إذا عرفت انّ في المسألة رأيين قلنا : انّ صاحب القوانين يقول بعموم نتيجة الانسداد لكل ظنّ ، وذلك من جهة : الاجماع على حجيّة الظنّ مطلقا حال الانسداد ومن جهة : أنّ العقل في حال الانسداد لا يرى فرقاً بين الظنّون .

أمّا الرأي الآخر في قِبال القوانين : فيرى عموم النتيجة ، من جهة : عدم جريان البرائة ، وعدم لزوم الاحتياط في حال الانسداد ، فاذا لم يكن برائة ولا احتياط ، لم يكنُ بُدّ من الظنّ ، فالظّن حجّة مطلقاً .

وأمّا صاحبا ، الزُبدة والمعالم : فانهما يقولان بحجيّة مطلق الظنّ ، ويزعمان أنّ الخبر الواحد حجّة من باب انّه من صغريات مطلق الظنّ ، وعلى هذا فهما يقولان : باطلاق حجّية الظنّ في حال الانسداد مطلقة لا مهملة .

إذن : فنتيجة دليل الانسداد مطلقة لا مهملة .

( لكنّك قد عرفت ممّا سبق : انّه لا دليل على منع جريان أصالة البرائة ، وأصالة الاحتياط ، والاستصحاب المطابق لأحدهما ) أي : للبرائة أو للاحتياط ( في كلّ مورد مورد من مواردها بالخصوص ) أي : موارد البرائة ، والاحتياط ، والاستصحاب المطابق لهما ، فقول القوانين : انّه لا تجري البرائة ، ولا الاحتياط ، والا الاستصحاب الموافق لهما غير تام .

( إنّما الممنوع ) من جريان البرائة هو : ( جريانها في جميع المسائل ، للزوم

ص: 160

المخالفة القطعيّة الكثيرة ولزوم الحرج عن الاحتياط .

وهذا المقدار لا يُثبت إلاّ وجوبَ العمل بالظنّ في الجملة ، من دون تعميم بحسب الأسباب ولا بحسب الموارد ولا بحسب مرتبة الظنّ .

وحينئذٍ فنقول :

-------------------

المخالفة القطعيّة الكثيرة ) لأنّا اذا أجرينا البرائة في جميع مسائل الفقه ، من أول الطهارة الى الدّيات ، حصل لنا العلم بمخالفات كثيرة ، والأصل لا يجري مع العلم بمخالفات كثيرة .

( و ) إنّما الممنوع من الاحتياط هو : ( لزوم الحَرج عن الاحتياط ) فانّا اذا أردنا إجراء الاحتياط ، من أوّل الفقه الى آخره ، لزم الحرج الأكيد والعُسر الشديد .

( وهذا المقدار ) الذي يوجب جريان البرائة فيما لا يستلزم الخروج عن الدّين ويوجب جريان الاحتياط ، لأنّه لا يستلزم العُسر ، ( لا يثبت الاّ وجوب العمل بالظنّ في الجملة ، من دون تعميم ) لما لا يستلزم ذلك ، فنعمل بالظنّ فقط في القدر الذي يوجب الخروج عن الدّين في البرائة ويوجب العُسر والحرج في الاحتياط .

والحاصل : انّ القدر الموجب للخروج عن الدّين أو العُسر ، يعمل فيه بالظنّ ، أما في غير هذا القدر فيعمل بالبراءة اذا كان الشّك في التكليف ، وبالاحتياط اذا كان الشّك في المكلّف ، فلا يكون الظنّ حجّة مطلقاً بحيث يكون عاماً ( بحسب الأسباب ولا بحسب الموارد ، ولا بحسب مرتبة الظنّ ) واشخاصه - كما مرّ سابقاً -.

( وحينئذٍ ) حيث لا يتم دليل القوانين ، ولا دليل صاحبي المعالم والزبُدة ( فنقول : ) بعد أنّ لم يثبت حجّية الظنّ مطلقاً من كلام الأعلام الثلاثة : هل نحن نرى الاطلاق أو الاهمال في نتيجة دليل الانسداد ؟ .

ص: 161

إنّه إمّا أن يقرّر دليلُ الانسداد على وجه يكون كاشفاً عن حكم الشارع بلزوم العمل بالظنّ ، بانّ يقال : إنّ بقاء التكليف - مع العلم بأنّ الشارع لم يَعذُرنا في ترك التعرّض لها وإهمالها ، مع عدم ايجاب الاحتياط علينا وعدم بيان طريق مجعول فيها - يكشفُ عن أنّ الظنّ جائز العمل وانّ العمل به ماض ، عند الشارع وانّه لا يُعاقبنا على ترك واجب اذا ظنّ بعدم وجوبه ولا بفعل محرّم اذا ظُنّ بعدم تحريمه .

-------------------

وذلك ( انّه إمّا أن يقرر دليل الانسداد على وجه يكون كاشفاً عن حكم الشّارع بلزوم العمل بالظنّ ) وهذا ما يسمى بالكشف ( بأنّ يقال : إنّ بقاء التكّليف مع العلم بأنّ الشارع لم يعذرنا في ترك التعرّض لها وإهمالها ) ولا يخفى : إنّ قوله : « مع العلم » عطف بيان لقوله : «بقاء التكليف» ، وحيث قصد من التكليف : الأحكام الشرعيّة ، جاء بالضمير المؤث في قوله : «لها وإهمالها» .

( مع عدم إيجاب الاحتياط علينا ) حيث إنّ الشارع لم يوجب الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي من أول الفقه الى آخره لما عرفت : من أنّه يوجب إختلال النظّام ، أو العُسر الاكيد والحَرج الشّديد .

( وعدم بيان طريق مجعول فيها ) أي : في أحكامه بأن يقول مثلاً : إعملوا بالاولويات ، أو بالقياسات ، أو بالشهرات ، أو بما اشبه ذلك .

فانّه ( يكشف ) أي : بقاء التكليف ( عن انّ الظنّ جائز العمل ) في حال الانسداد ( وانّ العمل به ) أي : بالظنّ ( ماض عند الشارع ، وانّه لا يعاقبنا على ترك واجب اذا ظنّ بعدم وجوبه ) فتركناه ( ولا بفعل محّرم اذا ظنّ بعدم تحريمه ) فعملنا بذلك المحرم الواقعي الذي ادى الظنّ على خلافه .

ص: 162

فحجّيةُ الظنّ على هذا التقرير تعبّدٌ شرعيّ كَشفَ عنه العقلُ من جهة دوران الأمر بين اُمور كلّها باطلة سواه ، فالاستدلالُ عليه من باب الاستدلال على تعيين احد طرفيّ المنفصلة أو اطرافها بنفي الباقي ، فيقال : أنّ الشارع إمّا أن أعرض عن هذه التكاليف المعلومة إجمالاً ، أو أراد الامتثال بها على العلم ، أو اراد الامتثال المعلوم إجمالاً ، أو أراد إمتثالها

-------------------

وعليه : ( فحجيّة الظنّ على هذا التقرير ) أي : تقرير الكشف . ( تعبّد شرعي كشف عنه العقل ) فانّ العقل كاشف بسبب هذه المقدّمات التي ذكرناها عن أنّ الشارع جعل الظنّ حجّة ( من جهة دوران الأمر بين اُمور كلّها باطلة سواه ) أي : سوى الظن .

والاُمور الباطلة المذكورة عبارة عن : عدم التكليف ، أو وجوب الاحتياط ، أو نصب طريق مجعول .

إذن : ( فالاستدلال عليه ) أي : على الظنّ في حال الانسداد ( من باب الاستدلال على تعيين احد طرفي المنفصلة ، أو أطرافها بنفي الباقي ) مثل أنّ يقال : العدد إمّا زوج ، وإمّا فرد ، لكن العدد في هذا المكان ليس بزوج فهو فرد .

هذا بالنسبة الى احد الطرفين ، وأمّا بالنسبة الى احد الاطراف فيقال : كان في الدار اما زيد أو عمرو أو بكر ، لكن زيداً وعمراً ليسا في الدار قطعاً ، فلا يبقى إلاّ أنّ يكون في الدار بكر .

وتقريب المنفصلة في المقام ، وهو ما ذكره المصّنف بقوله : ( فيقال : انّ الشّارع اما أن أعرض عن هذه التكاليف المعلومة إجمالاً ) رأساً .

( أو أراد الامتثال بها ) أي : بهذه التكاليف ( على العلم ) بانّ نعلم بتلك التكاليف فنؤدّيها ، ( أو أراد الامتثال المعلوم اجمالاً ) بالاحتياط؛ ( أو أراد إمتثالها

ص: 163

من طريق خاص تعبّدي ، أو أراد إمتثالها الظني ، وما عدا الأخير باطل ، فتعيّن هو .

وإمّا أن يقرّر على وجه يكون العقلُ منشأللحكم بوجوب الامتثال الظنّي، بمعنى حُسن المعاقبة على تركه وقبح المطالبة بأزيد منه ،كما يحكم بوجوب تحصيل العلم وعدم كفاية الظنّ عند التمكّن من تحصيل العلم .

-------------------

من طريق خاصّ تعبّدي ) جعله الشارع ، ( أو أراد إمتثالها الظنّي ) فقط .

( و ) معلوم انّ ( ما عدا الأخير ) من الاحتمالات الأربعة المتقدمة ( باطل ) لأنه لا اعراض للشّارع عن أحكامه قطعاً ، واطاعة التكاليف بالعلم الوجداني في كلّ تكليف تكليف غير حاصل لنا ، والامتثال الاجمالي بالاحتياط موجب لاختلال النظام والعُسر والحَرج ، والشارع لم يجعل طريقاً خاصاً ، إذن ( فتعين هو ) أي : العمل بالظنّ .

وعليه : فان مقتضى هذا الاستدلال الكشفي هو : حجّية الظنّ مطلقاً من حيث الأسباب والموارد والمراتب - كما سيأتي الالماع اليه إنشاء اللّه تعالى - .

( وأمّا أن يقررّ على وجه يكون العقل منشأ للحكم بوجوب الامتثال الظني ) وهذا ما يصطلح عليه : بانّ نتيجة دليل الانسداد الحكومة ( بمعنى : حُسن المعاقبة ) من المولى ( على تركه ) أي : على ترك العبد العمل بالظنّ ( وقبح المطالبة ) من المولى عن العبد ( بأزيد منه ) أي : بأزيد من الظنّ ، كأن يطالبه بالاحتياط ، أو نحو ذلك .

( كما يحكم ) العقل ( بوجوب تحصيل العلم ، وعدم كفاية الظنّ عند التّمكن من تحصيل العلم ) ففي حال الانفتاح يطلب العقل العلم ، وفي حال الانسداد الظنّ .

ص: 164

فهذا الحكمُ العقليّ ليس من مجعولات الشارع ، إذ كما أنّ نفسَ وجوب الاطاعة وحرمة المعصية بعد تحقق الأمر والنهي من الشارع ليس من الأحكام المجعولة من الشارع ، بَل شيء يَستقلّ به العقلُ لاعلى وجه الكشف ، فكذلك كيفيّة الاطاعة وأنّه يكفي فيها الظنّ بتحصيل مراد الشارع في مَقام ويعتبر فيها العلمُ بتحصيل المراد في مَقام آخر امّا تفصيلاً أو إجمالاً .

وتوهّمُ : «انّه يلزم على هذا إنفكاكُ حكم العقل عن حكم الشرع» ،

-------------------

وعليه : ( فهذا الحكم العقلي ليس من مجعولات الشّارع ) لأنّ العقل يرى انّ هذا طريق الاطاعة ، لا انّ الشّارع جعل الظّنّ طريق الاطاعة .

( إذ كما انّ نفس وجوب الاطاعة وحرمة المعصية بعد تحقّق الأمر والنهي من الشّارع ، ليس ) ذلك الوجوب وتلك الحرمة ( من الأحكام المجعولة من الشارع ، بل شيء يستقلّ به العقل لا على وجه الكشف ) فانّ الشّارع بعد أن أمر ونهى ، قال العقل :أطع أمره واترك نهيه ( فكذلك كيفيّة الاطاعة وانّه يكفي فيها ) أي : في الاطاعة . ( الظّنّ بتحصيل مراد الشارع في مقامٍ ) وهو : مقام الانسداد .

كما ( ويعتبر فيها العلم بتحصيل المراد في مقام آخر ) أي : في صورة التمكن من العلم ، وذلك ( إمّا تفصيلاً ) كما إذا تمكّن العبد من العلم التفصيلي ولم يكن فيه عُسر ولا حرج ( أو إجمالاً ) كما إذا لم يتمكن العبد من العلم التفصيلي وكان له علم إجمالي ، ولم يستلزم الاطاعة في أطراف العلم الاجمالي عُسرا وحَرجا .

( وتوهّم : انّه يلزم على هذا ) أي : على كون نتيجة دليل الانسداد الحكومة ، لا الكشف . ( إنفكاك حكم العقل عن حكم الشّرع ) مع انّه كل ما حكم به العقل حكم به الشّرع ، فكيف تقولون : بانّ نتيجة الانسداد حجّية الظّنّ مطلقا

ص: 165

مدفوعٌ بما قرّرنا في محلّه ، من أنّ التلازم بين الحُكمَين إنّما هو مع قابليّة المورد لهما .

أمّا لو كان قابلاً لحكم العقل دون الشرع فلا ، كما في الاطاعة والمعصية ، فانّهما لا يَقبلان لورود حكم الشرع عليهما بالوجوب والتحريم الشرعيّين بأن يريد فعل الأولى وترك الثانية بارادة مستقلّة غير إرادة فعل المأمور به وتَرْك المنهيّ عنه

-------------------

على الحكومة ، لا على الكشف ؟ .

هذا التوهم ( مدفوع بما قرّرنا في محلّه : من انّ التلازم بين الحكمين ) العقل والشّرع ( إنّما هو مع قابليّة المورد لهما ) بأن يكون حكما شرعيا وحكما عقليا .

( أمّا لو كان قابلاً لحكم العقل دون الشّرع فلا ، كما في الاطاعة والمعصية ) إذ في باب الاطاعة والمعصية ، الحاكم الوحيد هو العقل ، ولا مدخلية للشرع فيهما ، ولهذا ( فانّهما ) أي : باب الاطاعة والمعصية ( لا يقبلان لورود حكم الشرع عليهما بالوجوب والتّحريم الشّرعيّين ، بأن يريد ) المولى ( فعل الأولى ) أي : الطاعة ( وترك الثّانية ) أي المعصية ، ( بارادة مستقلّة غير إرادة فعل المأمور به وترك المنهيّ عنه ) .

مثلاً إذا قال المولى : صلّ ، وقال : لا تشرب الخمر ، ثم قال بعد ذلك : أطعني ، فان قوله : أطعني ، إرشاد الى حكم العقل ، وليس فيه ثواب ولا عقاب ، مع قطع النظر عن ثواب الصّلاة وعقاب شرب الخمر ، لا انّه تكليف جديد .

وإلاّ فلو كان قوله : «أطعني» تكليفا جديدا ، لزم أن يكون للمصلي ثوابان : ثواب أصل الصلاة ، وثواب الاطاعة ، ولشارب الخمر عقابان : عقاب شرب الخمر ، وعقاب المعصية .

ص: 166

الحاصلة ، بالأمر والنهي ، حتى انّه لو صرّح بوجوب الاطاعة وتحريم المعصية ، كان الأمر والنهي للارشاد لا للتكليف ، اذ لا يترتبّ على مخالفة هذا الأمر والنهي الاّ ما يترتّب على ذات المأمور به ، والمنهي عنه ، أعني نفس الاطاعة والمعصية .

وهذا نفسُ دليل الارشاد ، كما في أوامر الطبيب .

-------------------

ومن البديهي : انّه ليس للطاعة الواحدة ثوابان ، ولا للعقوبة الواحدة عقابان ، فللمولى ارادة واحدة بفعل المأمور به ، وترك المنهي عنه ( الحاصلة بالأمر والنهيّ ) لا أنّ له إرادتين : إرادة بالنسبة الى فعل المأمور به وترك المنهي عنه ، وإرادة بالنسبة الى الطاعة .

هذا ( حتى انه لو صرّح بوجوب الاطاعة ) كما قال سبحانه : « اَطِيعُوا اللّه وأطِيعوا الرَّسول واوْلي الأمر منكمُ »(1) ( وتحريم المعصية ) كما قال سبحانه : « وَما نهاكُم عنهُ فانتهُوا »(2) ( كان الأمر والنّهي ) في أطيعوا وإنتهوا ( للارشاد ، لا للتكليف ) فأمره ونهيه ارشاد الى حكم العقل ، لا انّه تكليف جديد .

ويدلّ على انّه ليس بتكليف جديد ما ذكره بقوله ( اذ لا يترتبّ على مخالفة هذا الأمر والنّهي إلاّ ما يترتّب على ذات المأمور به والمنهي عنه ، أعني : نفس الاطاعة والمعصية ) للصلاة وشرب الخمر ، فليس هناك طاعتان ومعصيتان .

( وهذا نفس دليل الارشاد ) فانّ الأوامر الارشادية لاطاعة ولا معصية في فعلها أو تركها ، وانّما تكون النتيجة لنفس الفعل والترك ( كما في أوامر الطّبيب ) فانّ الطبيب ، اذا قال : اشرب هذا الدواء ، فان اطاعه لم يكن لطاعة أمر الطبيب ثواب ،

ص: 167


1- - سورة النساء : الآية 59 .
2- - سورة الحشر : الآية 7 .

ولذا لا يحسن من الحكيم عقاب آخر او ثواب آخر غير ما يترتب على نفس المأمور به والمنّهي عنه فعلاً أو تركاً من الثواب والعقاب .

ثمّ إنّ هذين التقريرين مشتركان في الدلالة على التعميم من حيث الموارد يعني المسائل ، اذ على الأوّل يدّعى الاجماع القطعيّ على أنّ العمل بالظنّ لا يفرّق فيه بين أبواب الفقه ،

-------------------

وإنّما تكون النتيجة الحسنة لفعل شرب الدواء ، واذا عصاه لم يكن لعصيان أمر الطبيب عقاب ، وإنّما تكون النتيجة السيئة لنفس ترك شرب الدواء .

( ولذا ) أي : لأجل انّه ليس الأمر الاطاعة والمعصية ثواب وعقاب ( لا يحسن ) بل يقبح ( من الحكيم عقاب آخر ، أو ثواب آخر ، غير ما يترتب على نفس المأمور به والمنّهي عنه فعلاً أو تركاً من الثواب والعقاب ) وإنّما لا يحسن ثواب آخر ، أو يقبح الثواب الآخر ،لأنّه خلاف الحكمة .

نعم ، يصح أنّ يتفضل المولى بثواب آخر ، الاّ أن يكون على نحو الأجر ، فاذا استأجر أجيراً بدرهم ، ثم اعطاه درهمين وقال : إنّ كلا الدرهمين أجرة كان عملاً قبيحاً ، لأنّ الدرهم الثاني يكون من وضع الشيء في غير موضعه ، وأمّا اذا أعطاه درهماً اجراً ودرهماً تفضلاً لم يكن قبيحاً .

( ثمّ إنّ هذين التقريرين ) الكشف والحكومة ( مشتركان في الدّلالة على التعميم ) في النتيجة ( من حيث الموارد يعني المسائل ) فان نتيجة دليل الانسداد - سواء قلنا : بانّه يفيد الكشف ، أو يفيد الحكومة - العمل بالظنّ في كل المسائل من أول الفقه الى آخره اذا ظنّ بها .

( اذ على الاوّل : ) وهو الكشف ( يدّعى الاجماع القطعي على انّ العمل بالظنّ لا يفرّق فيه بين أبواب الفقه ) اذ لا وجه للفرق بعد عموم الدّليل لكلّ الابواب .

ص: 168

وعلى الثاني يقال إنّ العقل مستقل بعدم الفَرق في باب الاطاعة والمعصية بَينَ واجبات الفروع من أوّل الفقه الى آخره ولا بَين محرّماتها كذلك فيبقى التعميم من جهتيّ الاسباب ومرتبة الظنّ ، فنقول : أمّا التقرير الثاني ، فهو يقتضي التعميم والكلّية من حيث الأسباب ، اذ العقل لا يفرّق في باب الاطاعة الظنيّة بين أسباب الظنّ ، بل هو من هذه الجهة نظير العلم لا يقصد منه الاّ الانكشاف .

-------------------

( وعلى الثاني : ) وهو الحكومة ( يقال : انّ العقل مستقل بعدم الفرق في باب الاطاعة والمعصية بين واجبات الفروع ) أي : الفروع الواجبة ( من أولّ الفقه الى آخره ، ولا بين محرّماتها ) أي : الفروع المحرمة ( كذلك ) أي : من أول الفقه الى آخره .

( فيبقى التعميم من جهتيّ : الأسباب ، ومرتبة الظنّ ) فهل أنّ الظنّ من كل الأسباب حجّة ، أو من أسباب خاصة ؟ وهل أن الظنّ بكل مراتبه القوية والضعيفة والمتوسطة حجّة ، أو بعض مراتبه ؟ .

( فنقول : اما التقرير الثاني ) الذي هو الحكومة : ( فهو يقتضي التّعميم والكلّية من حيث الأسباب ، اذ العقل لا يفرّق في باب الاطاعة الظنيّة بين أسباب الظنّ ) فحيثما حصل الظنّ كان حجّة ، سواء حصل من الكتاب ، أو السنّة ، أو الاجماع ، أو العقل ، أو الاولوية ، أو ما أشبه ذلك .

( بل هو ) أي الظنّ ( من هذه الجهة ) أي : من جهة الاسباب ، ( نظير العلم ، لا يقصد منه الاّ الانكشاف ) فكما أنّ العلم حجّة ، لأنّه كاشف عن الواقع كشفاً قطعياً من غير نظر الى اسباب العلم ، كذلك الظنّ في حال الانسداد حجّة من غير نظر الى أسباب الظنّ ، لأن له كشفاً ناقصاً في زمان عدم وجود الكشف التام

ص: 169

وأمّا من جهة مرتبة الانكشاف قوةً وضَعفاً فلا تعميمَ في النتيجة ، إذ لايلزمُ من بطلان كلّيّة العمل بالاصول التي هي طرق شرعيّة الخروجُ عنها بالكليّة ، بل يُمْكِن الفرقُ في مواردها بين الظنّ القويّ البالغ حدَّ سكون النفس في مقابلها فيُؤخَذ به وبين ما دونه فيؤخذ بها .

-------------------

يقوم مقامه .

( وأمّا من جهة مرتبة الانكشاف قوّة وضعفاً ، فلا تعميم في النتيجة ) حتى يكون الظنّ مطلقاً قوّياً كان أو ضعيفاً حجّة ، ( إذ لايلزم من بطلان كليّة العمل بالأصول ) ، بطلان الجزئية أيضاً ، فانّ السلب الكلّي لايلازم السلب الجزئي .

فاذا قلنا : ليس كلّ النّاس في البلد ، لم يكن معناه ليس بعض الناس في البلد .

وعليه : فبطلان كليّة العمل بالاصول ( التي هي ) أي : تلك الاصول ( طرق شرعيّة ) لايلزم من بطلان هذه الكلّية ( الخروج عنها ) أي : عن الاصول ( بالكلّيّة ) فانّا وان قلنا في مقدمات الانسداد : بانّ العمل بالبرائة يوجب الخروج عن الدّين ، والعمل بالاحتياط يوجب العُسر والحَرج ، لكن ذاك فيما إذا عملنا بالبرائة والاحتياط كلية ، أما إذا عملنا بهما في موارد الظّنّ الضعيف ، وعملنا بالظّنّ القوي في موارد وجود الظّن القويّ ، فلا يلزم خروجاً عن الدّين ولاعُسراً ولاحرجاً .

وعليه : فلا يلزم العمل بكل مراتب الظّنّ قوة وضعفاً ( بل يمكن الفرق في مواردها بين الظّنّ القوي البالغ حدّ سكون النّفس في مقابلها ) أي : في مقابل هذه الموارد ، فيسكن النفس وفق هذا الظّنّ ، في مقابل الوهم الذّي لايسكن النفس فيه ( فيؤخذ به ) أي : بهذا الظّنّ القوي ( وبين مادونه ) أي : مادون الظّنّ القوي كالظّنّ الضعيّف ( فيؤخذ بها ) أي : بالاصول .

ص: 170

وأمّا التقريرُ الأوّلُ فالإهمالُ فيه ثابتٌ من جهة الأسباب ومن جهة المرتبة .

وإذا عرفت ذلك ، فنقول : الحقّ في تقرير دليل الانسداد هو التقرير الثاني ،

-------------------

( وأمّا التقرير الأوّل ) الذّي هو الكشف : ( فالاهمال فيه ثابت من جهة الأسباب ، ومن جهة المرتبة ) وذلك بعد ثبوت الانسداد في أغلب الأحكام ، وبقاء التكليف ، وبطلان وجوب الاحتياط كليّة ، وبطلان جواز العمل بالاصول وسائر الطرق التعبدية ، كالقرعة ، والاولوية ، وماأشبه ، فانّه ليس للعقل أن يستكشف بملاحظة هذه المقدمات : انّ كون الظّنّ حجّة عند الشّارع مطلقاً من غير فرق بين أسبابه ومراتبه .

فانّه بعد عزل العقل عن الحكومة ، يكشف العقل عن انّ الشّارع جعل الظنّ في الجملة حجّة ، أمّا انّ كل مراتب الظّنّ وكل أسباب الظّنّ يكون حجّة ، فليس للعقل كشف ذلك عن الشّرع .

ومن الواضح : انّ هذا مبنيّ على انّ القدر الثابت من مقدمات دليل الانسداد هو بطلان كلّي وجوب العمل بالاحتياط ، وكذا كلي جواز العمل بالاصول ، والاّ فعلى فرض ثبوت بطلانهما إطلاقاً ، فلا ريب انّ المنكشف عند العقل حينئذٍ حجيّة الظنّ مطلقا من دون فرق بين اسبابه ومراتبه ، إذ لا مناص من العمل بالظّنّ حينئذ في موارد وجود الظّنّ مطلقاً ، ولايكون فرق بين الأسباب والموارد والمراتب .

( وإذا عرفت ذلك ) من ان النتيجة اما كشف ، أو حكومة ، وانّه على الكشف تكون النتيجة امّا كليّة أو جزئية ، وعلى الحكومة تكون النتيجة أيضاً امّا كليّة أو جزئية ( فنقول : الحقّ في تقرير دليل الانسداد هو التقرير الثّاني ) أي : الحكومة

ص: 171

وأنّ التقرير على وجه الكشف فاسدٌ .

أمّا أوّلاً : فلأنّ المقدّماتِ المذكورة لاتستلزمُ جَعلَ الشارع للظنَّ مطلقاً أو بشرط حصوله من أسباب خاصّة حجّةً ، لجواز أن لايجعل الشارعُ طريقاً للامتثال بعد تعذّر العلم أصلاً .

بل عرفتَ في الوجه الاوّل من الايراد على القول باعتبار الظنّ في الطريق أنّ ذلك غيرُ بعيد .

وهو أيضاً طريق العقلاء في التكاليف العرفيّة ، حيث يعملون بالظّنّ في تكاليفهم العرفيّة مع القطع بعدم جعل طريق لها من جانب الموالي ، ولايجب على الموالي نصب

-------------------

( وانّ التقرير على وجه الكشف فاسدٌ ) من وجوه :

( أمّا أوّلاً : فلأنّ المقدّمات المذكورة لاتستلزم جعل الشّارع للظّنّ مطلقاً ) من أيّ سبب ( أو بشرط حصوله من أسباب خاصّة حجّة ، لجواز أن لايجعل الشارع طريقاً للامتثال بعد تعذر العلم أصلاً ) بل يَكِلُ الأمرَ الى العرف ، كما إنّ الموالي لايجعلون الطرق غالباً لأوامرهم ، بل يَكِلوُن ذلك الى العقلاء والعرف .

( بل عرفت في الوجه الأوّل من الايراد على القول باعتبار الظّنّ في الطريق ) أي : قول القائل : بانّ الظّنّ بالطريق حجّة ، لا الظنّ بالأحكام ( انّ ذلك ) أي : عدم جعل الشّارع طريقاً للأمتثال ( غير بعيد ) منه .

( وهو ) أي : عدم الجعل ( أيضاً طريق العقلاء في التكاليف العرفيّة ) من الموالي الى العبيد ( حيث يعملون بالظّنّ في تكاليفهم العرفيّة ، مع القطع بعدم جعل طريق لها من جانب الموالي ) فانّ العبيد يعملون بأوامر الموالي حسب العلم ، فاذا لم يكن لهم علم عملوا حسب الظنّ ( ولا يجب على الموالي نصب

ص: 172

الطريق عند تعذّر العلم .

نعم ، يجب عليهم الرضا بحكم العقل ويقبح عليهم المؤاخذةُ على مخالفة الواقع الذي يؤدّي إليه الامتثال الظنّيُّ ، إلاّ أن يقال : إنّ مجرّدَ إمكان

ذلك ما لم يَحْصَل العلمُ به لايقدحُ في إهمال النتيجة وإجمالها ، فتأمّل .

-------------------

الطريق عند تعذر العلم ) من العبيد بأوامر مواليهم .

( نعم ، يجب عليهم ) أي : على الموالي ( الرّضا بحكم العقل ، ويقبح عليهم المؤاخذة على مخالفة الواقع ، الذّي يؤدي اليه ) أي : يؤديّ الى ذلك الخلاف للواقع ( الامتثال الظّنّي ) من العبيد .

فإذا كان الواقع - مثلاً - وجوب مجيئهم في هذا اليوم الى دار المولى ، ولكن ظنوا عدم لزوم المجيء فلم يأتوا ، فانّه لايعاقبهم المولى ، لأنه يقبح عند العقلاء مؤاخذتهم على عملهم بالظّنّ - حين تعذّر العلم عليهم - وإن كان الظّنّ على خلاف الواقع .

( إلاّ أن يقال : انّ مجرّد إمكان ذلك ) أي : عدم الجعل ( مالم يحصل العلم به ) أي : بعدم الجعل ( لايقدح في إهمال النّتيجة وإجمالها ) وعدم كليّتها .

فانّ مجرد إحتمال عدم جعل الشارع الطريق بعد الانسداد إذا لم يحصل العلم بعدم الجعل ، لايقدح في إهمال النتيجة ، ولايضر بإجمالها ، وما ذكرناه سابقاً : من انّه على الحكومة تكون النتيجة عامّة من حيث الأسباب غير صحيح ، إذ إمكان عدم الجعل لايدل على أنّ الظّنّ من كل سبب حجّة ، فانّ العقل يحتمل انّ الشّارع جعل بعض الأسباب حجّة دون بعض .

نعم ، لو علم بانّ الشّارع لم يجعل طريقاً إطلاقاً ، كشف العقل ان الظّنّ من كل سبب حجّة ( فتأمل ) .

ص: 173

وإمّا ثانياً : فلاّنه إذا بني على كشف المقدّمات المذكورة عن جعل الظنّ على وجه الاهمال والاجمال صحّ المنعُ الذي أورده بعضُ المتعرّضين لردّ هذا الدليل ،

-------------------

قال الأوثق : « ضَعفُ « إلاّ أن يُقال » ظاهر ، إذ الفرض انّ إهمال النتيجّة مبنّي على الكشف ، ولا رَيب انّ كشف العقل وإدراكه لجعل الشّارع الظّنّ حجّة ، لايمكن إلاّ بعد إنتفاء إحتمال إحالة الشّارع المكلّفين الى طريقة العقلاء ، ومجرد إحتماله كافٍ فيمنع كشف العقل وإدراكه» (1) .

( وأمّا ثانياً : ) فانّه إذا لم نقل بالحكومة وقلنا بانّ مقدمات الانسداد تكشف عن حجّية الظّنّ ، كان لقائل أن يقول : يحتمل أن يكون الشّارع جعل غير الظّنّ حجّة ، مثل إستحسان أكثرية العلماء لحكم مّا ، كما نَجد ذلك في مجالس الأمم غير الاسلامية ، حيث انّهم يعملون بأكثرية الآراء في أحكامهم ، أو ما أشبه ذلك ، ممّا يحتمل أن يجعله الشّارع حجّة فيما لم يجعل الظّنّ حجّة ، وإذا جاء هذا الاحتمال بَطُل كون الظّنّ حجّة .

( فلأنّه إذا بني على كشف المقدّمات المذكورة عن جعل الظنّ على وجه الاهمال والاجمال ) حجّة ، لا على الحكومة ( صحّ المنع الذّي أورده بعض المعترضين لردّ هذا الدّليل ) أي : دليل الانسداد ، فان الفاضل النراقي أَشكَل على دليل الانسداد : بانّه من أين القطع بانّ الشّارع جعل الظنّ حجّة ، بل يحتمل أن يكون الشّارع جعل غير الظّنّ حجّة .

وعليه : فإذا قلنا بالحكومة ، لا يأتي إيراد النَراقي ، أمّا إذا قلنا بالكَشف ، جاء

ص: 174


1- - أوثق الوسائل : ص221 فساد دليل الانسداد على وجه الكشف .

وقد أشرنا إليه سابقاً .

وحاصله : أنّه كما يحتمل أن يكون الشارعُ قد جعل لنا مطلقَ الظنّ أو الظنَّ في الجملة المتردّد بين الكلّ والبعض المردّد بين الابعاض ، كذلك يحتمل أن يكون قد جعل لنا شيئاً آخر حُجّةً من دون إعتبار إفادته الظنّ ،

-------------------

إيراده ، وهو : انّه يحتمل أن يكون الشّارع جعل شيئاً آخر غير الظّن حجّة ، لاأنّه جعل الظّنّ حجّة ، ( وقد أشرنا اليه سابقاً ) أي : الى مالايقدر الكَشفي على جوابه ، وإنّما يقدر الحكومي على جوابه .

( وحاصله : ) أي : حاصل إشكال النَراقي على الانسداد هو : ( انّه كما يحتمل أن يكون الشارع قد جعل لنا مطلق الظّن ) أي : الظّنّ مطلقاً ( أو الظّنّ في الجملة ) أي : على وجه الاهمال والاجمال ( المتردّد ) صفة لقوله : في الجملة ( بين الكلّ والبعض ) لأنّا نحتمل إنّ الشّارع جعل كلّ الظّنون حجّة ، ونحتمل انّه جعل بعض الظّنون حجّة ( المردّد ) ذلك البعض أيضاً ( بين الابعاض ) هناك ثلاثة إحتمالات :

الأول : إنّه جعل الظنون كلها جحّة .

الثاني : إنّه جعل بعض الظّنون حجّة ، وذلك البعض يحتمل أن يكون هو الظّنّ القويّ فقط .

الثالث : ان يكون ذلك البعض هو الظنّ القوي والمتوسط فقط دون الظنّ الضعيف .

وعليه : فكما يحتمل جعل ذلك ( كذلك يحتمل أن يكون قد جعل لنا شيئاً آخر حُجّة ، من دون إعتبار إفادته الظّنّ ) كما مثّلنا له بجعل رأي أكثرية العلماء حجّة في الأحكام .

ص: 175

لأنّه أمرٌ ممكن غَيْرُ مستحيل .

والمفروض عدمُ إستقلال العقل بحكم في هذا المَقام ، فَمِنْ أينَ يَثبت جعلُ الظنّ في الجملة دون شيء آخر ، ولم يكن لهذا المنع دفعٌ أصلاً ، إلاّ أن يدّعى الاجماعُ على عدم نصب شيء آخر غير الظنّ في الجملة ، فتأمّل .

-------------------

وانّما قلنا باحتمال ذلك ( لأنّه أمرٌ ممكن غير مستحيل ) إذ لادليل على إستحالته .

هذا ( والمفروض : عدم إستقلال العقل بحكم في هذا المقام ) لأنّ الكلام هنا على الكشف لا على الحكومة .

وعليه : ( فمن أين يثبت جعل الظّنّ في الجملة دون شيء آخر ) يجعله حجّة في حال الانسداد ؟ .

وإذ أشكل النَراقي بهذا الاشكال ، لم نتمكن من رده على الكشف ( ولم يكن لهذا المنع ) من الفاضل النَراقي ( دفع أصلاً ، إلاّ أن يدّعى الاجماع على عدم نصب شيء آخر غير الظّنّ في الجملة ) ومعنى في الجملة هنا : إمّا مطلقاً ، وإمّا بعضاً .

( فتأمل ) ولعله إشارة الى ما سيأتي إنشاء اللّه تعالى من الاشكال على قوله وثالثاً : بانّه لو تمسك بالاجماع ، لم يمكن تسمية هذا الدليل الانسدادي عقلياً لأنّ الاجماع شرعي لاعقلي ، والدليل المستند الى الاجماع يكون دليلاً شرعيا ، والمفروض : انّ دليل الانسداد من لأدلة العقلية ، وربمّا يقال في وجه فتأمل شيءٌ آخر لايهم التعرّض له .

ص: 176

وأمّا ثالثاً : فلأنّه لو صحّ كونُ النتيجة مهملةً مجملةً لم ينفع أصلاً إن بقيت على إجمالها ، وإن عُينِّتَ فامّا أن تُعيّن في ضِمنِ كُلّ الأسباب وإمّا أن تُعيّن في ضمن بعضها المُعيّن ، وسيجيء عدمُ تماميّة شيء من هذين إلاّ بضميمة الاجماع ، فيرجع الأمرُ بالأخَرَةِ الى دعوى الاجماع على حجيّة مطلق الظنّ بعد الانسداد ،

-------------------

( وأمّا ثالثاً : فلأنه لو ) كانت نتيجة الانسداد الكشف ، كان دليل الانسداد شرعياً لاعقلياً ، فلماذا يسمونه عقلياً ؟ وذلك لأنّه على تقدير الكشف ، لاتكون النتيجة إلا مهملة ، فيحتاج في تعميمها الى الاجماع ، والاجماع ، دليل شرعي ، وما يستند الى الدليل الشرعي يكون شرعياً لا عقلياً .

وعليه : فان ( صح كون النتيجة مهملة مجملة ، لم ينفع أصلاً إن بقيت على إجمالها ) لأنّ الاجمال لايدل على إن أي الظنون حجّة حتى يتمسك به .

( وان عيّنت ) النتيجة بعد الاهمال ( فامّا ان تُعيّن في ضمن كلّ الأسباب ) بأن يكون حاصل إلانسداد والدليل المعيّن هو : ان كل أسباب الظنون حجّة .

( وامّا أن تعيّن ) النتيجة ( في ضمن بعضها المعيّن ) أي : بعض الظنون المعيّنة الحاصلة من أسباب خاصة : كالكِتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل فقط ، لاسائر الظنون .

( وسيجيء عدم تماميّة شيء من هذين ) أي : من أن تعيّن في ضمن كل الأسباب ، أو ان تعيّن في ضمن بعضها المعيّن ( إلاّ بضميمة الاجماع ) فان اللازم تدخيل الاجماع في تحصيل النتيجة ( فيرجع الأمر بالأخرة الى دعوى الاجماع على حجّية مطلق الظنّ بعد الانسداد ) لأنّا إحتجنا في المعيّن الى الاجماع .

ص: 177

فتسميتُه دليلاً عقليّاً لايظهرُ له وجهٌ عدا كون الملازمة بين تلك المقدّمات الشرعيّة ونتيجتها عقلّية ، وهذا جارٍ في جميع الأدلّة السمعيّة ، كما لا يخفى .

المقام الثاني :

في أنه على أحد التقريرين السابقين هل يحكم بتعميم الظنّ من حيث الأسباب و المرتبة ، أم لا ؟ .

فنقول : أمّا على تقدير كون العقل كاشفاً عن حكم الشارع بحجّية الظنّ

-------------------

إذن : ( فتسميته دليلاً عقليّاً ، لايظهر له وجه ) تام ( عدا كون الملازمة بين تلك المقدّمات الشّرعيّة ونتيجتها عقلية ) بمعنى : إن تلك المقدمات الشّرعية تعطي نتيجة عقلية ( وهذا جارٍ في جميع الأدلّة السّمعيّة كما لايخفى ) فانّ نتائج الأدلة السّمعيّة تكون عقلية ، لأنّ إنتاج الكبرى والصغرى للنتيجة عقلي قطعاً .

لكنّه كما ترى ، فان لازمة ان نسمّي الادلة من أوّل الفقه الى آخر الفقه بانّها عقلية ، وذلك واضح البطلان ، وانّما يلزم ذلك لأن إنتاج الأشكال الأربعة لنتائجها عقلي ، وإن كانت المقدمتان : الصغرى والكبرى غير عقلية ، ولا يخفى : انّ هذا الاشكال أشبه بالاشكال اللّفظي من الاشكال العمقي .

ولما تمّ المقام الاوّل وهو : هل ان دليل الانسداد يعطي الكشف أو الحكومة ؟ نقول : ( المقام الثّاني : في انّه على أحد التقريرين السّابقين ) وهما : الكشف والحكومة ( هل يحكم بتعميم الظّنّ من حيث الأسباب والمرتبة ، أم لا ؟ ) بل تكون النتيجة مهملة من حيث الأسباب والمرتبة .

( فنقول : امّا على تقدير كون العقل كاشفاً عن حكم الشّارع بحجّية الظّنّ

ص: 178

في الجملة ، فقد عرفت انّ الاهمال بحسب الأسباب وبحسب المرتبة ، ويذكر للتعميم من جهتهما وجوه .

الأوّل : عدم المرجّح لبعضها على بعض ، فيثبت التعميم ، لبطلان الترجيح بلا مرجّح ، والاجماع على بطلان التخيير .

والتعميم بهذا الوجه يحتاج الى ذكر ما يصلح أن يكون مُرجحاً وإبطاله ،

-------------------

في الجملة ) أي : انّ بعض الظّنّون حجّة ( فقد عرفت : انّ الاهمال بحسب الأسباب ، وبحسب المرتبة ) كليهما ( ويذكر للتعميم من جهتهما ) اي : من جهة الأسباب والمرتبة ( وجوه ) على النحو التالي :

( الأوّل : عدم المرّجح لبعضها على بعض ، فيثبت التعميم ، لبطلان الترجيح بلا مرّجح ، والاجماع على بطلان التخيير ) بين أفراد الظنون عند العمل .

قال في الأوثق في وجه التعميم : « لأنّه مع إهمال النتيجة وعدم المرجّح ، أمّا أن يبنى على التخيير بين أفراد الظنون في مقام العمل ، فهو خلاف الاجماع ، وأمّا أن يبنى على التعيين ، وحينئذٍ : امّا أن يقال : انّ الحجّة منها ما هو معيّن عند اللّه مبهم عندنا ، فهو مستلزم للتكليف بالمجهول ، وهو قبيح من الشارع الحكيم ، وإمّا أن يقال : انّ الحجّة منها ما نختاره للعمل ، وهو مستلزم للترجيح بلا مرجح ، فلابّد حينئذٍ من الحكم بحجّية جميعها بفقد المرجح لبعضها » (1) .

ولا يخفى عليك ضعف هذا الدليل ممّالا يسع المجال لذكره .

هذا ( و ) لكن ( التعميم بهذا الوجه ، يحتاج الى ذكر ما يصلح أنّ يكون مرجحاً وإبطاله ) أي: إبطال المرجح ، لأنّه اذا كان هناك مرجّح ، لم تصل النوبة الى التعميم.

ص: 179


1- - أوثق الوسائل : ص221 فساد دليل الانسداد على وجه الكشف .

ولِيُعلم أنّه لا بدّ أن يكون المعّينُ والمرجّحُ معيّناً لبعض كافٍ بحيث لايلزمُ من الرجوع بعد الالتزام به الى الاصول محذورٌ ، والاّ فوجوده لا يُجدي .

إذا تمهّد هذا فنقول : ما يصلح أنّ يكون معيّناً أو مرجحّاً أحدُ اُمور ثلاثة :

الأوّل : من هذاالاُمور كونُ بعض الظنون متيقناًبالنسبة الى الباقي ، بمعنى كونه واجب العمل قطعاً على كلّ تقدير ،

-------------------

( وليعلم : أنّه لابدّ أن يكون المعين ) - بالكسر - ( والمرجّح ) والفرق بينهما : أنّ المعيِّن يعين ، والمرجح يقول : هذا ارجح من غيره ( معيّناً لبعض كافٍ بحيث لا يلزم من الرّجوع بعد الالتزام به ) أي : بهذا البعض المعيّن ( الى الاُصول محذور ) مثل الخروج عن الدّين أو ما اشبه ذلك .

( وإلاّ فوجوده ) أي : هذا البعض المعيّن أو المرجحّ ( لايجدي ) لأنّه بعد معرفة البعض المعيّن أو المرجَّح - بالفتح - يكون العلم الاجمالي باقياً ممّا نحتاج معه الى الانسداد ، لانّ العلم الاجمالي هو الذي سبب إحتياجنا الى الانسداد وهذا الاحتياج باق .

( إذا تمهّد هذا فنقول : ما يصلح أن يكون معيّناً أو مرجحاً ) لبعض الظنون ممّا يكفي بالنسبة الى علمنا الاجمالي ، هو ( أحد اُمور ثلاثة ) كما يلي :

( الأوّل : من هذه الاُمور : كون بعض الظنون متيقنّاً بالنسبة الى الباقي ، بمعنى :

كونه واجب العمل قطعاً على كل تقدير ) أي : تقدير وجوب العمل بجميع الظنون ، وتقدير وجوب العمل ببعض الظنون .

مثلاً : اذا قال المولى : أكرم العلماء فانّه يحتمل إرادة كل عالم حتى عالم الهِندسة ، والطب ، والفلك ، وما اشبه ، ويحتمل إرادة خصوص علماء الفقه ، فعلماء الفقه متيقنون على كل تقدير ، لأنّه سواء كان العالم عاماً او خاصاً ، فالفقهاء

ص: 180

فيؤخذ به ويطرح الباقي ، للشكّ في حجّيته .

وبعبارة اُخرى : يقتصرُ في القضيّة المهملة المخالفة للأصل على المتيقن ، وإهمالُ النتيجة حينئذٍ من حيث الكم فقط ، لتردّده بين الأقلّ المعيّن والأكثر .

ولا يتوهّمُ : « أنّ هذا المقدار المتيقن حينئذٍ من الظّنون الخاصّة ، للقطع التفصيلّي بحجّيّته » ،

-------------------

مقصودون للمولى في وجوب الاكرام ( فيؤخذ به ) أي : بالمتيقن ( ويطرح الباقي ) ، الذي ليس بمتيقن ( للشّك في حجيّته ) أي :في حجّية الباقي ومشكوك الحجّية يجري فيه أصالة عدم الحجّية .

( وبعبارة اُخرى : يقتصر في القضية المهملة المخالفة للأصل ) اي : حجّية الظنّ في الجملة ، فان الحجّية مخالفة للأصل ( على المتيقّن ) من أنّه حجّة ، حتى يخرج بسبب اليقين عن أصالة عدم الحجّية .

( وإهمال النتيجة حينئذٍ ) أي : حين وجود القدر المتيقن ، ( من حيث الكم فقط ) لوضوح : انّه مع وجود القدر المتيقن ، يكون الاهمال بالنسبة الى ذلك الزائد على المتيقن لا محالة ، اذ القدر المتيقن متيقن ، فلا إهمال بالنسبة اليه ، وذلك ( لترددّه ) أي : تردد الظنّ الذي هو حجّة ( بين الأقل المعيّن ، والأكثر ) المشكوك فيه .

( ولا يتوهم : انّ هذا المقدار المتيقن حينئذٍ ) أي : بعد الانسداد ، ودوران الأمر بين الأقل المتيقن ، وبين الاكثر غير المتيقن ( من الظنّون الخاصة ، للقطع التفصيليّ بحجّيته ) على كل تقدير سواء تقدير كون جميع الظنّون حجّة ، أم تقدير كون هذا الظنّ الخاص الذي هو المتيقن حجّة .

ص: 181

لاندفاعه : بانّ المراد بالظنّ الخاصّ ما علمَ حجيّته بغير دليل الانسداد ، فتأمل .

الثاني : كونُ بعض الظنون أقوى من بعض فيتعيّن العملُ عليه ، للزوم الاقتصار في مخالفة الاحتياط اللازم فى كلّ واحد من محتملات التكاليف الواقعيّة من الواجبات والمحرّمات على القدر المتيقن ، وهو ما كان الاحتمال الموافق للإحتياط فيه في غاية البُعد ،

-------------------

وإنّما لا يتوهم ( لاندفاعه : بانّ المراد بالظّن الخاص : ما عُلِمَ حجيّته بغير دليل الانسداد ) ومن المعلوم : انّ القدر المتيقن في المقام إنّما علم حجّيته بسبب دليل الانسداد ، فلا يكون المتيقن من باب الظنون الخاصّة .

( فتأمل ) ولعلّه اشارة الى انّ القدر المتيقن لم يثبت بدليل الانسداد ، بل هو معلوم ، سواء قلنا بالإنسداد أم لا .

( الثاني : ) من الوجوه الثلاثة مما يصلح أن يكون معينّاً أو مرجحاً : ( كون بعض الظنّون أقوى من بعض ) وإنّ لم يكن متيقناً بالنسبة الى الباقي ، لأنّ القدر المتيقن غير القدر المرجّح ( فيتعيّن العمل عليه ) اي : على هذا الأقوى .

وذلك ( للزوم الاقتصار في مخالفة الاحتياط اللازم في كلّ واحد من محتملات التكاليف الواقعيّة ، من الواجبات والمحرّمات ) لأنّ هناك علماً إجمالياً كبيراً من أوّل الفقه الى آخر وهذا العلم الاجمالي يقتضي الاتيان بكل محتمل الوجوب وترك كل محتمل التحريم ، فيلزم الاقتصار في مخالفته . ( على القدر المتيقّن ) منه ( وهو : ما كان الاحتمال الموافق للاحتياط فيه ) ضمير « فيه » عائد الى : « ما » في قوله : ما كان الاحتمال ( في غاية البُعد ) .

فانّه كلّما كان الظنّ قويّاً عمل على الظنّ ، وكلّما كان الظنّ ضعيفاً لا يعمل

ص: 182

فانّه كلما ضعف الاحتمال الموافقُ للاحتياط كان إرتكابه أهون .

الثالثُ : كونُ بعض الظنّون مظنون الحُجيّة ، فانّه في مقام دوران الأمر بينه وبين غيره يكون أولى من غيره ،

-------------------

على ذلك الظنّ .

مثلاً : اذا كان ظنّان : ظنّ قوي بوجوب صلاة الجمعة ، وظنّ ضعيف بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وكان الاحتياط بالجمع بينهما عُسراً على المكلّف ، فاذا دار الأمر بين العمل بأحد الظنّين ، عمل بظنّ وجوب الصّلاة لا بظنّ وجوب الدعاء ، لأنّ احتمال وجوب الدعاء الموافق للاحتياط في غاية البُعد بينما إحتمال وجوب الصلاة في غاية القرب .

( فانّه كلّما ضعف الاحتمال الموافق للاحتياط كان إرتكابه أهون ) ومعنى الارتكاب في مثالنا : إن يترك الدعاء فلا يوافق فيه الاحتياط ، فانّ الاحتياط يقول باتيان الدعاء .

( الثالث : ) ممّا يصلح أن يكون معيّناً أو مرجّحاً لبعض الظّنون على بعض : ( كون بعض الظنون مظنون الحجّية ) بينما بعض الظنون الآخر ليس كذلك ( فانّه في مقام دوران الأمر بينه وبين غيره ) ممّا لايكون مظنون الحجّية ( يكون أولى من غيره ) .

مثلاً : هناك ظنّان : ظنّ بوجوب صلاة الجمعة ، وهذا الظنّ يظنّ المكلفّ بانّه حجّة ، لانّه مستند الى خبر العادل ، وخبر العادل يظنّ بانّ الشارع قرره في حال الانسداد ، وظنّ آخر بوجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، وهذا الظنّ لا يظن المكلّف إنّه حجّة ، لأنّه مستند الى الشهرة ، والشهرة لا يظنّ المكلّف بانّ الشارع جعلها طريقاً ، فانّه عند تعسر الاحتياط باتيان الصلاة والدعاء معاً ، يقدّم الصلاة

ص: 183

إما لكونه اقرب الى الحجّية ، من غيره ، ومعلومٌ أنّ القضية المهملة المجملة تُحملُ ، بعد صَرفها الى البعض بحكم العقل على ما هو أقربُ محتملاتها الى الواقع ، وإمّا لانّه أقربَ الى احراز مصلحة الواقع ، لأنّ المفروض رجحانُ مطابقته للواقع ، لانّ المفروض كونه من الامارات المفيدة للظنّ بالواقع ورجحان كونه بدلاً عن الواقع ،

-------------------

للظنّ بالصلاة ، ولكون هذا الظنّ مظنون الحجّية ، فقد اجتمع في الصلاة ظنّان بالنتيجة ، بينما الدعاء ليس فيه إلاّ ظن واحد .

وإنّما يقدّم مظنون الحجّية على غيره ( إمّا لكونه ) أي : كون مظنون الحجّية ( أقرب الى الحجيّة من غيره ) ولم يقل أقرب الى الواقع لعدم لزوم أن يكون أقرب لاحتمال كون الظّن الذي لم يظنّ حجّية أقوى ، فيكون ذلك الظنّ الأقوى أقرب الى الواقع .

( ومعلوم : أنّ القضية المهملة المجملة ) أي : حجّية الظنّ ( تحمل بعد صرفها ) أي : صرف تلك القضية المهملة ( الى البعض ) صرفاً ( بحكم العقل ، على ما هو أقرب محتملاتها الى الواقع ) فانّ البعض الذي هو أقرب الى الحجيّة ، هو أقرب محتملات القضية الى الواقع .

( وامّا لأنّه اقرب الى إحراز مصلحة الواقع ، لأنّ المفروض رجحان مطابقته للواقع ) لكونه مظنون الحجّية ( لأنّ المفروض : كونه من الأمارات المفيدة للظنّ بالواقع ) فانّ الخبر الذي دل على وجوب صلاة الجمعة أمارة تفيد الظّن بالواقع .

( ورجحان كونه بدلاً عن الواقع ) لا يخفى : إنّ هذه جملة مستأنفة وليست عطفاً على سابقها ، ومعناها : أنّ الخبر الواحد يرجح أن يكون بدلاً عن الواقع لو لم يصادف الواقع ، لأنّ الشارع جعل الخبر واقعاً تنزيلياً .

ص: 184

لأنّ المفروض الظنّ بكونه طريقاً قائماً مقامَ الواقع ، بحيث يتدارك مصلحة الواقع على تقدير مخالفته له ، فاحتمالُ مخالفة هذه الأمارات للواقع ، ولبِدلهِ موهوم في موهوم ، بخلاف احتمال مخالفة سائر الأمارات للواقع ، لأنّها على تقدير مخالفتها للواقع ، لايظنّ كونُها بدلاً عن الواقع .

-------------------

وإنّما يرجح كونه بدلاً عن الواقع ( لأنّ المفروض : الظنّ بكونه طريقاً قائماً مقام الواقع ، بحيث يتدارك مصلحة الواقع على تقدير مخالفته له ) اي للواقع ، وذلك على ما سبق في أوّل الكتاب من المصلحة السلوكية .

( فاحتمال مخالفة هذه الأمارات للواقع ولبِدَله ، موهوم في موهوم ) بينما الظنّ الذي لا يظن بحجيّته يكون في إحتمال مخالفته موهوم واحد .

والى هذا أشار بقوله : ( بخلاف إحتمال مخالفة سائر الأمارات للواقع ) أي : الأمارات التي لا يظن بحجيتها ( لأنّها ) اي : تلك الأمارات ( على تقدير مخالفتها للواقع ، لا يظنّ كونها بدلاً عن الواقع ) فاذا كان في الظنّ بصلاة الجمعة ظنّان : ظنّ بأنه واقع وظنّ بانّه على تقدير أنّه لم يكن واقعاً كان واقعاً تنزيلياً ، وكان في الظنّ بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ظن واحد فقط ، وهو : الظنّ بأنّه واقع ، لكن اذا لم يكن واقعاً لم يكن ظنّ بانّه بدل من الواقع، قدّم العقل الظنين على الظنّ الواحد.

وعليه : فيقدّم صلاة الجمعة على الدّعاء عند رؤية الهلال ، كلما دار الأمر بينهما ولم يتمكن من الجمع بينهما لتعسر أو تعذر .

هذا ، ولا يخفى : انّ المصّنف قد كرّر جملة :« لأنّ المفروض »ثلاث مرات :

الأولى : علّة لاقرب .

الثانية : علّة لرجحان المطابقة للواقع .

الثالثة : علّة لرجحان كونه بدلاً .

ص: 185

ونظيرُ ذلك : ما لو تعلّقَ غَرضُ المريض بدواء تعذّر الاطلاعُ العلميّ عليه ، فدار الأمرُ بين دوائين : احدهما يظنّ انّه ذلك الدّواء ، وعلى تقدير كونه غيره يظنّ كونُه بدلاً عنه في جميع الخواصّ .

والآخر يظنّ أنّه ذلك الدواء ، لكن لا يظنّ أنّه على تقدير المخالفة بدل عنه ، ومعلومٌ بالضرورة انّ العمل بالأوّل أولى .

ثمّ

-------------------

ثم إنّ المصنّف مثَّل للظنّين والظنّ الواحد ، وإنّ الظنيّن مقدّم على الظنّ الواحدبقوله : ( ونظير ذلك ما لو تعلق غرض المريض بدواء تعذر الاطّلاع العلمي عليه ، فدار الأمر بين دوائين احدهما يظن أنّه ذلك الدواء ) الذي هو شفاء لمرضه ( وعلى تقدير كونه غيره ، يظن كونه بدلاً عنه في جميع الخواص ) .

كما يقال : إنّ التَرنجبين بدل عن الشيرخِشت ، فأحد الدوائين يظن أنّه الشير خِشت ، ويظنّ أنّه على تقدير أنّه لم يكن الشيِرخشت كان التَرنجَبين .

( والآخر يظنّ انه ذلك الدّواء لكن لا يظنّ انّه على تقدير المخالفة بدل عنه ) كما اذا كان الدواء الآخر يظنّ انّه الشيِرخشت ، أما اذا لم يكن هو الشيِرخِشت فانّه يكون شيئاً تافهاً لا يرتبط بمرضه .

( ومعلوم بالضرورة : أنّ العمل بالأول أولى ) عند العقل والعقلاء ، لأنّ الأول فيه ظنّان ، بينما في الثاني ظنّ واحد .

( ثمّ ) إنّ ذا الظنّين قد يكون معلوماً ، كما اذا كان الخبر ذا ظنين ، فهو أرجح من الشهرة ذات الظنّ الواحد ، وقد يكون ذو الظنين دائراً بين اُمور ، فيأتي المكلّف بأحد هذه الاُمور ، لا بالأمر الواحد ذي الظنّ الواحد ، اذ الا ءتيان بأحد تلك الاُمور أقرب الى الواقع ، لأنّه إمّا ظنّ واحد ، أو ظنان ، أما الاتيان بذي الواحد لا يحتمل

ص: 186

انّ البعض المظنون الحجّية قد يُعلمُ بالتفصيل ، كما اذا ظنّ حجّية الخبر المزكّى رواتهُ بعد واحد أو حجّية الاجماع المنقول ، وقد يعلم اجمالاً وجودُه بين أمارات ، فالعملُ بهذه الأمارات أرجحُ من غيرها الخارج من محتملات ذلك المظنون الاعتبار . وهذا كما لو ظنّ عدمُ حجّية بعض الأمارات ، كالأولويّة ، والشهرة والاستقراء وفتوى الجماعة الموجبة للظنّ ، فإنّا اذا فرضنا نتيجة دليل الانسداد مجملةً مردّدةً بين هذه الاُمور وغيرها

-------------------

فيه أن يكون ذا ظنّين .

وذلك ( انّ البعض المظنون الحجّية ) وهو ذو الظنين - على ما ذكرناه - ( قد يعلم بالتفصيل ، كما اذا ظنّ حجّية الخبر المزكى رواته بعدل واحد ، أو حجّية الاجماع المنقول ) فانّه مقدّم على الظنّ بالواقع فيما اذا كان ذا ظنّ واحد ، فلم يكن مظنون الحجّية .

( وقد يعلم اجمالاً ) أي : المظنون الحجّية يعلم إجمالاً ( وجوده بين أمارات ) متعددة ( فالعمل بهذه الأمارات أرجح من غيرها ) ذلك الغير ( الخارج عن محتملات ذلك المظنون الاعتبار ) بأن يكون ذا ظنّ واحد .

( وهذا كما لو ظنّ عدم حجّية بعض الأمارات : كالأولويّة والشهرة والاستقراء وفتوى الجماعة الموجبة للظنّ ) الواحد ، بينما هناك الخبر ، والاجماع المنقول ، وأحدهما يحتمل أن يكون ذا ظنين ، فانّه يعمل بالخبر أو بالاجماع ، ويترك الأولويّة ، والشهرة ، والاستقراء ، وفتوى الجماعة .

وإنّما يقدّم أحد الاثنين على أحد الأربعة لما ذكره المصنّف بقوله : ( فانّا إذا فرضنا نتيجة دليل الانسداد مجملة مردّدة بين هذه الاُمور ) الأربعة ( وغيرها )

ص: 187

وفرضنا الظنّ بعدم حجّية هذه ،لزَم من ذلك الظنّ بأنّ الحجّة في غيرها وإن كان مردداً بين ابعاض ذلك الغَير ، فكان الاخذُ بالغَير أولى من الأخذ بها ، لِعَين ما تقدّم وإن لم يَكنُ بين أبعاض ذلك الغَير مرجّح ، فافهم .

-------------------

كالاثنين في مثالنا ، أي : الخبر والاجماع المنقول : ( وفرضنا الظنّ بعدم حجّية هذه ) الأربعة ( لزم من ذلك ، الظنّ بأنّ الحجّة في غيرها ) أي : في غير الأربعة .

هذا ( وإنّ كان ) ذلك الغير الذي قال المصنّف : غيرها ( مردّداً بين أبعاض ذلك الغير ) اي : بين الخبر والاجماع المنقول في مثالنا ( فكان الأخذ بالغير ) من الخبر والاجماع ( أولى من الأخذ بها ) اي : بهذه الأربعة : من الأولويّة ، والشهرة والاستقراء ، وفتوى الجماعة .

وإنّما كان أولى ( لعين ما تقدّم ) من قولنا : إنّ بعض المظنون الحجّية قد يعلم بالتفصيل ، وقد يعلم اجمالاً ، وإنّ الاجمال مقدّم على ما لا يظن حجّيته ( وإنّ لم يكن بين ابعاض ذلك الغير مرجّح ) بانّ لم يكن ترجيح للخبر على الاجماع ، ولا للاجماع على الخبر .

لكن يلزم علينا أن نأخذ بما يسنده الخبر ، أو يسنده الاجماع ، لا أنّ نأخذ بما يسنده الاولويّة ، أو الشهرة ، أو الاستقراء ، أو فتوى الجماعة .

( فافهم ) ولعله إشارة الى انّه لا إطلاق في تقديم أحد المحتملين من ذي الظنّين على ذي الظنّ الواحد ، فانّه ربما يقدم العقلاء ذا الظنّ الواحد ، كما اذا كان له رجحان لا يوجد لأحد محتملي ذي الظنّين ، فانّه اذا عمل بذي الظنّ الواحد ، أحرز المكلّف ذلك الرجّحان ، بينما أذا عمل بأحد محتملي ذي الظنين فاته ذلك الرجّحان .

مثلاً : الدّعاء عند رؤية الهلال ذو ظنّ واحد ، لكنّه أرجح بسبب السيرة

ص: 188

هذه غايةُ ما يُمكن أن يقال في ترجيح بعض الظنون على بعض .

لكن نقول : إنّ المُسلّم من هذه في الترجيح لا ينفعُ ، والذي ينفع غيرُ مسلّم كونُه مرجّحاً .

توضيح ذلك : هو أنّ« المرجحّ الأوّل » - وهو تيقّن البعض بالنسبة الى الباقي - وإنّ كان من المرّجحات ، بل لا يقال له المرجّح ، لكونه معلومَ الحجّية تفصيلاً وَغَيرهُ مشكوك الحجّية فيبقى تحت الأصل ؛ لكنّه لا ينفع ، لقلّته وعدم كفايته ، لأنّ القدر المتيقّن من هذه الأمارات هو الخبر الذي

-------------------

أما الظهر والجمعة فانّه وان كان احدهما ذا ظنين ، لكنّه اذا أتى بأحدهما إحتمل أنه حصل على ظنّ واحد ، بدون الرجحان الذي كان في الدعاء .

( هذه غاية ما يمكن أن يقال في ترجيح بعض الظنّون على بعض ) فيما كانت النتيجة مهملة .

( لكن نقول : إنّ المسلّم من هذه ) الترجيحات الثلاثة ( في الترجيح ، لاينفع ) أي : لا ينفع في ترجيح بعض الظنون على بعض ( والذي ينفع ) في الترجيح ( غير مسلّم كونه مرجّحاً ) حتى يمكن الاعتماد عليه .

و ( توضيح ذلك : هو إنّ المرجّح الأوّل ، وهو :تيقّن البعض بالنسبة الى الباقي ) بان يكون ظنّ متيقناً وظنّ مشكوكاً ( وان كان من المرجّحات ، بل لا يقال له المرجّح ، لكونه معلوم الحجيّة تفصيلاً ) فان المتيقن معناه : إنّه حجّة قطعاً ( وغيره ) أي : غير المتيقن ( مشكوك الحجّية فيبقى تحت الأصل ) لأنّ الأصل في مشكوك الحجّية عدم الحجّية .

( لكنه لا ينفع ) هذا المتيقن وذلك ( لقلّته وعدم كفايته ) بمعظم الأحكام التي هي محل إبتلاء المكلّف ( لأنّ القدر المتيقنّ من هذه الأمارات هو الخبر الذي )

ص: 189

زُكّي جميعُ رواته بعَدلين ، ولم يُعملّ في تصحيح رجاله ولا في تمييز مشتركاته بظنّ اضعف نوعاً من سائر الأمارات الاُخر ولم يُوهَن لمعارضة شيء منها ،

-------------------

جمع خمسة شرائط :

الأوّل : ( زكيّ جميع رواته بعدلين ) من باب الشهادة ، لأنّه يعتبر في الشهادة على الموضوعات نفران .

الثاني : ( ولم يعمل في تصحيح رجاله ، ولا في تمييز مشتركاته ) كأبي بَصير - مثلاً - فانّه مشترك بين القوي والضعيف ، أو الصحيح والفاسد المذهب .

فيجب ان لايعمل في التصحيح والتمييز ( بظنّ أضعف نوعاً ) أي : ضعفاً نوعياً ( من سائر الأمارات الأخر ) المعارضة لهذا الحكم الّذي قام عليه هذا الخبر المزكى المصحح ، لأنّه اخذا صححت رجاله وميزت مشتركاته بظنّ أضعف ، صار هذا الخبر أضعف من تلك الأمارات الاُخر ، فانّ النتيجة تابعة لأخس المقدمتين .

مثلاً : هنا خبر يدلّ على وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة وزكيّت رجاله بعدلين ، لكن في رجاله رجل إسمه سالم وسالم مشترك بين القوي والضعيف ، وهناك إنسان ضعيف يقول : إنّ سالم هذا هو القوي لا الضعيف .

وفي قِبال هذا الخبر أمارة اخرى تدل على وجوب الظهر يوم الجمعة ، لكن في طريق تلك الأمارة ليس مثل هذا الانسان الضعيف ، فان تلك الأمارة تكون أقوى من هذا الخبر بالنتيجة .

الثالث : ( ولم يوهن ) هذا الخبر القوي ( لمعارضة شيء منها ) أي من الأمارات فانّه ربّما يوهن الخبر بالمعارضة كمعارضة الشهرة مثلاً .

ص: 190

وكان معمولاً به عند الأصحاب كلاً أو جُلاً ، ومفيداً للظنّ الاطمئناني بالصّدور ، إذ لاريبَ أنّه كلّما إنتفى أحدُ هذه الأُمور الخمسة في خبر ، إحتمل كون غَيره حجّةً دونه ، فلا يكون متيقّن الحجّية على كلّ تقدير .

وأمّا عدمُ كفايته لندرته فهو واضحٌ ، مع أنّه لو كان بنفسه كثيراً كافياً ، لكن يَعلم إجمالاً بوجود مخصّصات كثيرة ومقيّدات له في الأمارات الاُخّر ، فيكون نظير ظواهر الكتاب في

-------------------

الرابع : ( وكان معمولاً به عند الأصحاب كُلاً أو جُلاً ) لأنّ الخبر المعرض عنه غير حجّة على ماقرره جماعة من الفقهاء والاصوليين - .

الخامس : ( ومفيداً للظنّ الاطمئناني بالصدور ) اذ بعض العلماء إشترطوا وجود الظن في حجّية الظواهر .

( إذ لاريب انّه كلّما إنتفى أحد هذه الأمور الخمسة في خبر ، إحتمل كون غيره حجّة دونه ) أي دون هذا الخبر الّذي إنتفى أحد هذه الأمور الخمسة فيه ( فلا يكون ) هذا الخبر المنتفي فيه بعض هذه الامور الخمسة ( متيقن الحجّية على كلّ تقدير ) أي : على تقدير حجّية الكلّ وحجية البعض ، لأن البعض إذا كان حجّة دون البعض الآخر ، إحتمل أن يكون الحجّة غيره .

( وأمّا عدم كفايته ) أي : عدم كفاية المتيقن الحجّية ( لندرته ، فهو واضح ) لأنّ مثل هذا الخبر الجامع لهذه الشروط الخمسة قليل جداً ( مع انّه لو كان بنفسه كثيراً كافياً ) باعتبار عموماتها وإطلاقاتها ( لكن يعلم إجمالاً بوجود مخصّصات كثيرة ومقيّدات له ) أي : لمثل هذا الخبر ( في الأمارات الاُخر ) .

وعليه : ( فيكون ) هذا الخبر الكافي بنفسه والكثير ( نظير ظواهر الكتاب في

ص: 191

عدم جواز التمسك بها مع قطع النظر عن غيرها ، إلاّ أن يؤخذ بعد الحاجة إلى التعدّي منها بما هو متيقن بالاضافة إلى مابقي ، فتأمّل .

وإمّا « المرجّح الثاني » ، وهو كونُ بعضها أقوى ظناً من الباقي ، ففيه : أنّ ضبط مرتبة خاصّةٍ لهَ مُتعسّرٌ أو متعذّر ، لأنّ القوّة والضعف اضافيّان ،

-------------------

عدم جواز التمسّك بها مع قطع النظر عن غيرها ) أي عن غير تلك الظواهر ، إذ ظواهر الكتاب إنّما تكون حجّة إذا لم تكن مخصصة أو مقيدة أو ما أشبه ذلك .

( إلا أن يؤخذ بعد الحاجة الى التعدي منها بما هو متيقّن بالاضافة الى مابقي ) فاذا كنّا نحتاج - مثلاً - الى ألف حكم وتيقّناً بسبعمائة منها . فالثلثمائة الباقية قد نتيقّن بمائتين منها ، لكن لايقيناً مطلقاً بل بالنسبة الى المائة الباقية! وهكذا ، فيكون المتيقن المطلق هو الأوّل ، والمتيقن بالنسبة هو الثاني ، وهكذا .

( فتأمّل ) لعل وجهه : انّ المتيقن الاضافي لاينفع فيما نحن فيه ، إذ غاية الأمر انّه أرجح من غيره بمعنى ان الجامع لكل القيود متيقن مطلق! امّا الجامع لبعض القيود فهو أرجح من فاقد هذه القيود .

مثلاً : ذو القيود الأربعة أرجح من ذي القيود الثلاثة ، وذو القيود الثلاثة أرجح من ذي القيود الأقل لكنّه في حدّ ذاته مشكوك الاعتبار نظراً الى فقدانه لبعض القيود ، فالمفيد انّما هو المتيقن المطلق ، لا المتيقن النسبي المسمّى بالمتيقن الاضافي .

( وأما المرجّح الثاني : وهو كون بعضها ) أي : بعض الظنون ( أقوى ظنّاً من الباقي ، ففيه ) : أولاً :

( ان ضبط مرتبة خاصّة له ) أي : للأقوى ( متعسّر أو متعذر ، لأنّ القوة والضعف إضافيّان ) ولا ميزان لضبطهما .

ص: 192

وليس تعارض القويّ مع الضعيف هنا في متعلّق واحد حتى يذهب الظنّ من الأضعف ويبقى في الأمارة الأُخرى . نعم يوجد مرتبة خاصّة ، وهو الظنّ الاطمئناني الملحق بالعلم حكماً ،

-------------------

مثلاً : من يتمكن من حمل مائة منّ قوي بالنسبة الى من يتمكن من حمل خمسين ! بينما نفس من يتمكن من حمل المائة ضعيف بالنسبة الى من يتمكن من حمل مائة وخمسين ، وهكذا من يتمكن من حمل خمسين قوي بالنسبة الى من يتمكن من حمل عشرة .

وفيه ثانياً : ما أشار اليه بقوله : ( وليس تعارض القوي مع الضعيف هنا في متعلّق واحد ! حتى يذهب الظّنّ من الأضعف ويبقى في الأمارة الاُخرى ) القوية ، فانّه لا يمكن حصول الظنّين في متعلق واحد حتى يذهب الظنّ من الاضعف ويبقى في الأقوى .

مثلاً : إذا كان ظنّ قوي بوجوب صلاة الجمعة وعلمٌ ضعيف بوجوب صلاة الظهر ، فالقوي يجعل الظنّ الضعيف وهماً ، لعدم إمكان إجتماع ظنٌّ وشكٌ ، فكيف بظنّ وظن ؟ .

أمّا في المقام فليس ظنّان في مورد واحد ، حتى يجعل القوي منهما الضعيف وهماً ، بل ظنّ بوجوب صلاة الجمعة ، وظنّ آخر بحرمة شرب التبغ - مثلاً- ، ونحن حيث لانتمكن من الاحتياط - فرضاً - يلزم علينا أن نأخذ بأحد الظنين .

( نعم ) إستثناء من قوله : انّ ضبط مرتبة خاصة له متعسر أو متعذر ( يوجد مرتبة خاصّة ) من الظّنون ليس فيها تعذر أو تعسر ( وهو : الظّنّ الاطمئناني الملحق بالعلم حكماً ) فانّه كما يجب على الانسان إتّباع العلم ، كذلك يجب عليه إتّباع الظّن الاطمئناني .

ص: 193

بل موضوعاً ، لكنّه نادر التحقّق .

مع أنّ كونَ القوّة معيّنة للقضيّة المجملة محلّ منع ، إذ لايستحيلُ أن يعتبر الشارعُ في حال الانسداد ظنّاً يكون أضعفَ من غيره ، كما هو المشاهد في الظنون الخاصّة ، فانّها ليست على الاطلاق أقوى من غيرها بالبديهة .

وما تقدّم في تقريب مرجّحيّة القوة إنّما هو مع كون إيجاب العمل بالظنّ

-------------------

( بل ) هو ملحق بالعلم - ( موضوعاً ) لأنّ الظنّ الاطمئناني يطلق عليه العلم ، فان العلم في لسان العرف أعمّ من القاطع للنقيض والاطمئناني ( لكنّه نادر التحقق ) .

وفيه ثالثاً : ما أشار اليه بقوله : ( مع انّ كون القوّة معيّنة للقضيّة المجملة ) حيث انّ نتيجة الانسداد حجّية الظنّ في الجملة ( محلّ منع ) .

وانّما كان محل منع ( إذ لايستحيل أن يعتبر الشارع في حال الانسداد ظنّاً يكون أضعف من غيره ) بأن يترك الشارع الظّنّ الأقوى ويأخذ بالظّنّ الأضعف ( كما هو المشاهد في الظنون الخاصّة فانّها ليست على الاطلاق أقوى من غيرها بالبديهة ) .

مثلاً : الظّنّ عن الخبر ليس أقوى من الظنّ عن الشهرة ، مع انّ الأول حجّة دون الثاني ، بل كثيراً مايكون الظّنّ القياسي أقوى في نظر الانسان من الظّنّ الخبري ، كما في قصة أَبان بالنسبة الى ديّة الأصابع في المرأة والرجل ، وغير ذلك .

( و ) ان قلت تقدّم منكم عند نفي تعميم النتيجة - من جهة مرتبة الانكشاف قوة وضعفاً - على تقدير حكومة العقل : أن حكمتم بإمكان الفرق بين الظّنّ القوي والضعيف ، فلماذا تركتم ذلك هنا ؟ .

قلت : ( ماتقدّم في تقريب مرحجيّة القوّة إنّما هو مع كون إيجاب العمل بالظّنّ

ص: 194

عند إنسداد باب العلم من منشئات العقل وأحكامه .

وأمّا على تقدير كشف مقدّمات الانسداد - عن أنّ الشارع جَعل الظنّ حجّةً في الجملة وتردّد أمرُه في أنظارنا بين الكلّ والأبعاض - فلا يلزم من كون بعضها أقوى كونُه هو المجعول حجّةً ، لأنّا قد وجدنا تعبّد الشارع بالظنّ الأضعف وطرح الأقوى في موارد كثيرة .

-------------------

عند إنسداد باب العلم ، من منشئات العقل وأحكامه ) أي : كون دليل الانسداد مفيداً للحكومة ، فانّ العقل يقدم الظّنّ القوي على الظنّ الضعيف مطلقاً .

( وأمّا على تقدير كشف مقدّمات الانسداد عن انّ الشارع جعل الظنّ حجّة في الجملة ) أي : لم يجعله حجّة مطلقاً ( وتردّد أمره في أنظارنا بين الكل والابعاض ) بأن يكون كل الظّنون حجّة أو بعض الظّنون حجّة بفرض النتيجة على الاهمال والاجمال ( فلا يلزم من كون بعضها أقوى ، كونه هو المجعول حجّة ) فقياس الكشف على الحكومة قياس مع الفارق .

( لأنّا قد وجدنا تعبّد الشارع بالظّنّ الأضعف وطرح الأقوى في موارد كثيرة ) .

مثلاً : قال الشارع : « كُلُ شَيءٍ حَلال » (1) وقال : « كُلُّ شَيءٍ طاهِرٌ » (2) وقال : « البَيّنَةُ على المُدّعي وَاليَمينُ على مَنْ أنكَر » (3) وقال : « كَذّب سَمعَكَ

ص: 195


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ج40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .
3- - فقه القرآن : ج2 ص12 ، غوالي اللئالي : ج1 ص244 ح172 و ج2 ص258 ح10 ، الوسيلة : ص218 ، الصوارم المهرقة : ص150 ، وسائل الشيعة : ج27 ص233 ب2 ح33665 .

وأمّا « المرجّحُ الثالثُ » - وهو الظنّ بإعتبار بعض فيؤخذُ به لأحد الوجهين المتقدّمين - ففيه ، مع أنّ الوجه الثاني لايفيد لزوم التقديم ، بل أولويّته : أنّ الترجيحَ على هذا الوجه

-------------------

وَبَصَرَكَ عَن أَخيكَ » (1) وقال : « إقرارُ العُقلاءِ على أَنفُسِهِم جائز » (2) وهكذا ، مع إنّه كثيراً ما نظنّ بخلاف هذه الأمور ظنّاً قوياً ، فانّه قد نظنّ بحرمة الشيء ونجاسته ، وإنّ البينة مشتبهة في الشهادة ، وانّ الحالف يكذب أو يشتبه ، وإنّ مارآه بَصرنا وسَمِعَهُ سمعنا أقوى ممّا يدّعيه الأخ ، وانّ المقر كاذب لجهة من الجهات ، والى غير ذلك .

( وأمّا المرجح الثالث : وهو الظنّ بإعتبار بعض ) دون بعض فاذا كان هناك ظنّ واحد ، وهناك ظنّان فذو الظنيّن مقدّم على ذي الظّنّ الواحد ( فيؤخذ به ) أي : بمظنون الاعتبار ( لأحد الوجهين المتقدّمين ) ممّا ذكرناه في أوّل الثالث بقولنا : امّا لكونه أقرب الى الحجية من غيره ، وإمّا لأنّه أقرب لمصلحة الواقع .

( ففيه مع انّ الوجه الثاني ) وهو : كونه أقرب الى إحراز مصلحة الواقع ( - لايفيد لزوم التقديم ، بل أولويّته - ) وفرق بين اللزوم والأولويّة ، فان اللزوم لازم بينما الأولويّة راجحة ، فانّ العقل لايحكم بأزيد من انّ الذي له أولوية أرجح ، لا إنّه لازم إلاّ إذا كانت أولوية واصلة الى حدّ المنع من النقيض ، والمفروض انّه لاتصل الى ذلك .

ففيه : ( ان الترجيح على هذا الوجه ) أي : الوجه الثاني وهو : كونه أقرب إلى

ص: 196


1- - الكافي روضة : ج8 ص147 ح125 ، ثواب الأعمال : ص295 ح1 ، وسائل الشيعة : ج12 ص295 ب157 ح16343 ، بحار الأنوار : ج75 ص214 ب65 ح11 و ص255 ب66 ح40 .
2- - غوالي اللئالي : ج1 ص223 ح104 و ج2 ص257 ح5 و ج3 ص442 ح5 ، وسائل الشيعة : ج23 ص184 ب3 ح29342 .

يَشبه الترجيح بالقوّة والضعف ، في أنّ مَداره على الأقرب إلى الواقع ، وحينئذٍ إذا فرضنا كون الظنّ الذي لم يظنّ بحجّيتّه أقوى ظنّاً بمراتب من الظنّ الذي ظنّ حجّيتّه ، فليس بناء العقلاء على ترجيح الثاني ، فيرجع الأمر الى لزوم ملاحظة الموارد الخاصّة وعدم وجود ضابطة كليّة بحيث يؤخذ بها في ترجيح الظنّ المظنون الاعتبار .

نعم ، لو فرض تساوي أبعاض الظنون دائماً من حيث القوة والضعف ،

-------------------

إحراز مصلحة الواقع ( يشبه الترجيح بالقوّة والضعف ، في انّ مداره على الأقرب إلى الواقع ، وحينئذ ) إذا صار المناط هو الأقرب الى الواقع فانّه ( إذا فرضنا كون الظّن الذي لم يظنّ بحجّيته ) أي : ذو الظنّ الواحد ( أقوى ظنّاً بمراتب ، من الظّنّ الذي ظنّ حجّيته ) أي : من ذي الظّنين ( فليس بناء العقلاء على ترجيح الثاني ) وإنّما بنائهم على ترجيح الأقوى منهما إذا كان هناك أقوى ، وإلاّ فالتساوي والتخيير بينهما ، مثلاً : صلاة الجمعة ذات الظنّ الواحد ! لكن في الدرجة التسعين من الظنّ ، ودعاء رؤية الهلال ذو الظنين ، لكن كلّ ظنّ منهم في الدرجة الأربعين ، فيكون الأوّل أقوى ، لأنّه بتسعين في مقابل ما بثمانين .

وعليه : ( فيرجع الأمر إلى لزوم ملاحظة الموارد الخاصة وعدم وجود ضابطة كليّة بحيث يؤخذ بها ) أي : بتلك الضابطة ( في ترجيح الظّنّ المظنون الاعتبار ) على الظنّ الّذي لم يظنّ باعتباره .

( نعم ، لو فرض تساوي أبعاض الظنون دائماً من حيث القوة والضعف ) بأن كان ظنّ صلاة الجمعة وظنّ الدعاء متساويين وفي رتبة واحدة قوة وضعفاً ، لكن أضيف على ظنّ صلاة الجمعة : كونه مظنون الحجّية ، دون الدعاء فليس الظنّ به

ص: 197

كان ذلك المرجّحُ بنفسه منضبطاً ، ولكنّ الفرض مستبعد بل مستحيل ، مع أنّ اللازم على هذا أن لايعمل بكلّ مظنون الحجّية ، بل بما ظنّ حجّيته بظنّ قد ظنّ حجّيته، لأنّه أبعد من مخالفة الواقع وبدله بناءا على التقرير المتقدّم.

-------------------

مظنون الحجّية ( كان ذلك المرجّح ) وهو الظّنّ المظنون الاعتبار ( بنفسه منضبطاً ).

هذا ( ولكن ) فيه أوّلاً : ان ( الفرض مستبعد ) لأنّه يستبعد التساوي من حيث القوة والضعف في كل الظنون المتعارضة ( بل مستحيل ) عادة .

وفيه ثانياً : ( مع انّ اللازم على هذا ) أي : على ترجيح الظّنّ المظنون الاعتبار على الظّن الّذي ليس بمظنون الاعتبار ( أن لايعمل بكلّ مظنون الحجّية ، بل بما ظنَّ حجيته بظنّ قد ظنّ حجيته ) .

مثلاً : ظنّ بصلاة الجمعة ، عن الخبر المظنون حجّية ذلك الخبر ، وانّما ظنّ حجّية الخبر ، لأنّ الاجماع - مثلاً - قام على حجّية الخبر ، فهناك ثلاثة ظنون ، فيكون ماله ثلاث ظنون أقوى ممّا له ظنّان ، كما إنّ ماله ظنّان أقوى ممّا له ظنّ واحد .

وإنّما يقدّم ذو الثلاثة ظنون ( لأنّه أبعد من مخالفة الواقع ، وبدله ) أي : من مخالفة بدل الواقع ، على ماتقدّم : من انّ مايحتمل أن يكون واقعاً ، وإذا لم يكن واقع كان بدل الواقع ، أقرب ممّا يكون واقعاً ، وإذا لم يكن واقع كان مخالفاً للواقع ، وذلك ( بناءاً على التقرير المتقدّم ) من ان مظنون الحجّية أولى من غيره .

والحاصل : انّه أوّلاً : قد يكون ذو الظنّ الواحد أقوى ، فليس الاعتبار بذي الظنين مطلقاً .

وثانياً : انّ اللازم من المرجح الثالث أن يؤخذ بذي الثلاثة ظنون في قِبال ذي الظنين ، لا أن يؤخذ بذي الظنين إطلاقاً حتى يتساوى ذو الظنين وذو الثلاثة ظنون.

ص: 198

وإمّا الوجه الأوّل المذكور في تقريب ترجيح مظنون الاعتبار على غيره.

ففيه :

أوّلاً : أنّه لا أمارة تفيد الظنّ بحجّية أمارة على الاطلاق ، فان أكثر ما أُقيم على حجّيته الأدلة من الأمارات الظنّية المبحوث عنها الخبرُ الصحيحُ ، ومعلومٌ عند المصنّف أنّ شيئاً ممّا ذكروه لحجّيته لايوجب الظنّ بها على الاطلاق .

-------------------

( وأمّا الوجه الأوّل المذكور في تقريب ترجيح مظنون الاعتبار على غيره ، ففيه : ) إنّه مركب من صغرى هي : « وجود أمارة توجب الظن بأمارة اخرى » وكبرى هي : « انّه كلّما ظنّ بأمارة أُخرى كانت تلك الأمارة حجّة » .

ولكن يرد على الصغرى : انّه لا أمارة تفيد الظنّ بأمارة اخرى ، وعلى الكبرى : انّه على فرض إفادة أمارة الظّنّ بأمارة اخرى لا دليل على حجّية مثل هذا الظنّ ، وقد أشار المصنّف الى منع الصغرى بقول :

( أوّلاً : انّه لا أمارة تفيد الظّنّ بحجّية أمارة على الاطلاق ) أي : انّه مطلقاً ليس لنا هكذا أمارة تفيد الظّنّ بحجيّة أمارة أخرى ، ( فان أكثر ما أقيم على حجّيته ) الضمير في حجّيته راجع الى « ما » ( الأدلة من الأمارات الظّنية المبحوث عنها الخبر الصحيح ) أي : انّ الخبر الصحيح هو أكثر ما أقيم على حجّيته الأدلة .

( ومعلوم عند المنصف : إنّ شيئاً ممّا ذكروه لحجيته ) أي : الأدلة الّتي أقاموها على حجّية الخبر الصحيح ( لا يوجب الظّنّ بها على الاطلاق ) أي : لاتوجب تلك الأمارات الظنّ بالأخبار الصحيحة مطلقاً ، بل الأمارات القائمة على حجّية الخبر الصحيح ، توجب الظن بحجّية قسم خاص من الخبر ، وهو : الخبر الجامع للقيود الخمسة المذكورة قبل صفحة تقريباً .

ص: 199

وثانياً : إنّه لا دليل على إعتبار مطلق الظنّ في مسألة تعيين هذا الظنّ المجمل .

وقد توهّم غيرُ واحد أنّه ليس المراد إعتبار مطلق الظنّ وحجّيته في مسألة تعيين القضيّة المهملة ، وإنّما المقصودُ ترجيحُ بعضها على بعض.

فقال بعضهم في توضيح لزوم الأخذ بمظنون الاعتبار ، بعد الاعتراف بأنّه ليس المقصودُ هنا إثباتَ حجّية الظنون المظنونة الاعتبار بالأمارات الظنيّة

-------------------

( وثانياً : ) نمنع الكبرى ، وذلك ( انّه لا دليل على إعتبار مطلق الظنّ في مسألة تعيين هذا الظنّ ) أي : أيّ دليل على إعتبار مطلق الظّن في ترجيح ظنّ إنسدادي على ظنّ آخر ، فإن الظنّ ( المجمل ) الّذي هو نتيجة الانسداد أفراده متساوية من حيث انّه لادليل على تقديم ظنّ على ظنّ ، فيبقى على إجماله .

( وقد توهّم غير واحد : انّه ليس المراد إعتبار مطلق الظّنّ ) أي : لانقول : انّ الظّنّ بالظّنّ معتبر ، بل نقول : انّه مرجّح على الظنّ الذي لايظنّ باعتباره ، فليس المراد إعتبار مطلق الظّنّ ( وحجّيته في مسألة تعيين القضيّة المهملة ) حتى يلزم إثبات حجّية الظّنّ المطلق به .

( وإنّما المقصود ترجيح بعضها ) أي : بعض الظنون ( على بعض ) وهو ترجيح الظنون المرجّحة ، على الظنون التي ليست مرجّحة ، ويكون الترجيح أي : بالظنّ بأنّ هذا الظنّ حجّة .

( فقال بعضهم ) وهو الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية رحمه اللّه ( في توضيح لزوم الأخذ بمظنون الاعتبار بعد الاعتراف : بانّه ليس المقصود هنا إثبات حجّية الظّنون المظنونة الاعتبار بالأمارات الظنية ) « بالأمارات » متعلق بقوله : « إثبات »

ص: 200

القائمة عليها ، ليكون الاتّكالُ في حجّيتها على مجرّد الظنّ .

ثم إنّ الدّليل العقليّ المثبت لحجّيتها هو الدليل العقليّ المذكور .

والحاصل من تلك الأمارات الظنيّة هو ترجيح بعض الظنون على البعض ، فيمنع ذلك من إرجاع القضيّة المهملة إلى الكليّة ، بل يقتصر في مفاد القضيّة المهملة على تلك الجملة .

-------------------

( القائمة عليها ) أي : على الظنون المظنونة الاعتبار ( ليكون الاتكال في حجّيتها على مجرّد الظنّ ) حتى يشكل بأنّه لادليل على حجّية المظنون الاعتبار ، دون الظنون التي لايظنّ بحجيتها .

فانّه قال مالفظه : ( ثمّ انّ الدّليل العقلي المثبت لحجّيتها ) أي : لحجّية الظنون المظنونة الاعتبار ( هو الدليل العقلي المذكور ) أي : دليل الانسداد .

( والحاصل : من تلك الأمارات الظنّية ) الدالة على حجّية بعض الظّنون ( هو : ترجيح بعض الظّنون على البعض ) وذلك بترجيح الظّنون المظنونة الاعتبار ، على الظنون التي ليست بمظنونة الاعتبار ( فيمنع ذلك ) أي : ترجيح بعض الظنون على بعض ( من إرجاع القضيّة المهملة ) التي أنتجتها مقدّمات دليل الانسداد ( الى الكلية ) .

والحاصل : إنّ الظّنّ المظنون الاعتبار مقدّم على غيره ، لا أنّ ذلك يوجب حجّية كل الظنون ، فالنتيجة المهملة تعيّن في بعض الظّنون ، لا أنَّ المهملة تعمّم الى كل الظنون ( بل يقتصر في مقاد القضيّة المهملة ) التي هي نتيجة الانسداد ( على تلك الجملة ) من الظنون التي ظنّ باعتبارها .

ص: 201

فالظنّ المفروض إنّما يبعث على صرف مفاد الدّليل المذكور إلى ذلك وعدم صرفه إلى سائر الظنون نظراً الى حصول القوّة بالنسبة إليها ، لإنضمام الظنّ بحجّيتها إلى الظنّ بالواقع .

فاذا قطع العقل بحجّية الظنّ بالقضيّة المهملة ، ثم وجد الحجّية متساوية بالنظر الى الجميع حكم بحجّية الكلّ .

وأمّا إذا وجدها مختلفةً وكان جملةٌ منها أقربَ الى الحجية من الباقي

-------------------

( فالظّنّ المفروض ) وهو الظّنّ بحجّية بعض الظنون ( انّما يبعث على صرفَ مفاد الدّليل المذكور ) وهو دليل الانسداد ( الى ذلك ) البعض الذي ظنّ باعتباره ( وعدم صرفه ) أي : الدليل المذكور ( الى سائر الظنون ) فلايجعل الدليل المذكور كل الظّنون حجّة ( نظراً الى حصول القوّة بالنّسبة اليها ) فانّ الظنون المظنونة الاعتبار ، أقوى من الظنون التي ليس على إعتبارها ظنّ .

وإنّما تحصل القوة بالنسبة الى هكذا ظنّ ( لانضمام الظّنّ بحجّيتها الى الظن بالواقع ) فيجتمع هناك ظنّان : ظنّ بوجوب صلاة الجمعة ، وظن بأنّ هذا الظّنّ معتبر لاستفادته من الخبر - مثلاً - .

وعليه : ( فاذا قطع العقل بحجية الظّنّ بالقضية المهملة ) أي : بنحو القضية المهملة ، لأن العقل قاطع في حال الانسداد بأن الظنّ حجّة في الجملة ( ثم وجد الحجّية متساوية بالنّظر الى الجميع ) أي : الى جميع الظنون ( حكم بحجّية الكل ) وتساوي كل الظّنون في الحجّية .

( وأما إذا وجدها مختلفة ) أي : وجد العقل الظنون التي هي نتيجة الانسداد مختلفة من حيث القوة والضعف ( وكان جملة منها أقرب الى الحجّية من الباقي ،

ص: 202

نظراً الى الظنّ بحجيّتها دون الباقي ، فلا محالة تقدّم المظنونُ على المشكوك والمشكوك على الموهوم في مقام الحيرة والجهالة ، فليس الظنُّ مثبتاً لحجيّة ذلك الظنّ ، وإنّما هو قاض بتقديم جانب الحجّية في تلك الظنون ، فينصرف إليه ماقضى به الدّليل المذكور .

-------------------

نظراً الى الظّنّ بحجّيتها دون الباقي ) من الظنون لأن الباقي لايظن بحجّيتها (فلا محالة تقدّم المظنون ) إعتباره ( على المشكوك ) إعتباره ( والمشكوك على الموهوم في مقام الحيرة والجهالة ) .

فانّ الانسان إذا كان حائراً في تكليفه وجاهلاً به ، قدم الظنون المظنونة الاعتبار على الظنون المشكوكة الاعتبار ، وقدّم المشكوكة الاعتبار على الظنون الموهومة الاعتبار .

( فليس الظّنّ مثبتاً لحجيّة ذلك الظنّ ) المظنون الاعتبار ( وإنّما هو ) أي : الظنّ ( قاض بتقديم جانب الحجّية في تلك الظّنون ) أي الظنون المظنونة الاعتبار ( فينصرف اليه ) أي : الى تلك الظنون ( ماقضى به الدليل المذكور ) أي : دليل الانسداد .

ثم لايخفى : انّ الضمائر في كلام المصنّف والشيخ محمد تقي وغيرهما قد تطابق اللّفظ ، وقد لاتطابقه بل تطابق المعنى ، فقول صاحب الحاشية هنا : « إليه » راجع الى « الظنون » باعتبار انّه يرجع الى كل ظنّ ظنّ ، كقوله سبحانه : « فانظر إلى طَعامِكَ وَشَرابِك لم يَتَسَنَّهُ » (1) .

وقوله سبحانه : « وَالمَلائِكَةُ بَعدَ ذلِكَ ظَهيرٌ » (2) .

ص: 203


1- - سورة البقرة : الآية 259 .
2- - سورة التحريم : الآية 4 .

ثم إعترض : على نفسه ، بأنّ صرف الدّليل إليها إن كان على وجه اليقين تمّ ما ذكر ، وإلاّ كان إتكالاً على الظنّ .

والحاصل أنّه لاقطع لصرف الدّليل إلى تلك الظنون .

ثمّ أجاب : بأنّ الاتكال ليس على الظنّ بحجّيتها ،

-------------------

وقد قال بعضهم : الأمر في التذكير والتأنيث سهلة بتأنيث سهلة يريد بذلك : إنّ القضية سهلة ، كما يقال : الرّهن وثيقة ، لأنّه مأوّل بعين وثيقة ، الى غير ذلك ممّا هو معروف في الأدب .

فتحصَّل : انّ كلام المصنّف في قوله وثانياً : انّه لا دليل على انّه لو ظنّ باعتبار ظنّ كان ذلك الظّنّ حجّة دون سائر الظنون .

وجواب الشيخ محمد تقي : انّا لانقول بحجيّة الظنّ المظنون الاعتبار ، وإنّما نقول : بأنّه أرجح من غيره ، فاذا كانت نتيجة الانسداد مهملة ، ورأينا انّ بعض الظّنون يظنّ باعتباره دون بعض ، قدّم الظنّ المظنون الاعتبار على الظنّ الذي ليس بمظنون الاعتبار .

( ثم إعترض ) الشيخ محمد تقي ( على نفسه : بأنّ صرف الدليل اليها ) أي الى تلك الظنون المظنونة الاعتبار ( ان كان ) الصرف ( على وجه اليقين ، تمّ ماذكر ) من ترجيح مظنون الاعتبار على غيره ( وإلاّ ) بأن لم يوجب اليقين ( كان إتكالاً على الظنّ ) لأنّ نتيجة دليل الانسداد مهملة ، فالاتكال على إعتبار خصوص الظنون المظنونة الاعتبار إتكال على الظنّ ، ولم يثبت بعد إعتبار مطلق الظّنّ .

( والحاصل : انّه لاقطع لصرف الدّليل ) أي : دليل الانسداد ( الى تلك الظّنون ) أي : الى الظّنون التي ظنّ باعتبارها .

( ثم أجاب : بأنّ الاتكال ليس على الظنّ بحجّيتها ) أي : بحجّية تلك الظنون

ص: 204

ولا على الظنّ بترجيح تلك الظنون على غيرها ، بل التعويل على القطع بالترجيح .

وتوضيحه : أنّ قضيّة دليل الانسداد حجّية الظنّ على سبيل الاهمال ، فيدور الأمر بين القول بحجّية الجميع أو البعض ، ثم الأمر في البعض يدور بين المظنون وغيره ، وقضيةُ العقل في الدوران بين الكلّ والبعض هو الاقتصار على البعض أخذاً بالمتيقّن .

-------------------

المظنونة الاعتبار ( ولا على الظنّ بترجيح تلك الظّنون على غيرها ) فانّه لاقطع بحجّية الظّنون المظنونة الاعتبار ، وكذلك لاقطع بأنّ الظنون المظنونة الاعتبار أرجح من سائر الظنون ( بل التعويل ) والاعتماد في ترجيح مظنون الاعتبار على سائر الظنون ( على القطع بالترجيح ) فان ظنيّة المرجّح لاتنافي قطعيّة الترجيح .

مثلاً : الشهرة يظنّ بأنّها مرِّجح ، فاذا قامت الشهرة على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، نقطع بأنّ الدعاء مرجّح بالفتح .

قال الشيخ محمد تقي : ( وتوضيحه ) أي : توضيح الجواب ( :ان قضيّة دليل الانسداد حجّية الظّنّ على سبيل الاهمال ) أي : انّ الظنّ في الجملة حُجة ( فيدور الأمر بين القول بحجّية الجميع أو البعض ) لأنّه يحتمل حجّية جميع الظّنون ، ويحتمل حجّية بعض الظنون .

( ثمّ الأمر في البعض ) إذا قلنا بحجّية البعض فقط ( يدور بين المظنون ) الاعتبار ( وغيره ) بأن نأخذ بمظنون الاعتبار ، أو نأخذ بسائر الظنون التي ليست بمظنونة الاعتبار ( وقضيّة العقل ) أي مقتضاه ( في الدوران بين الكلّ والبعض هو : الاقتصار على البعض ) .

وإنّما كان قضية العقل الاقتصار على البعض ( أخذاً بالمتيقن ) لأنّ البعض

ص: 205

ولذا قال علماء الميزان : المهملة في قوّة الجزئية .

ولو لم يتعيّن البعضُ في المقام ودارت الحجّية بينه وبين سائر الأبعاض من غير تفاوت في نظر العقل ، لزم الحكمُ بحجّية الكلّ ، لبطلان الترجيح من غير مرجّح .

وأمّا لو كانت حجّيةُ البعض ممّا فيه الكفاية مظنونةً

-------------------

متيقن ، أمّا الكلّ فليس بمتيقن ، والأصل عدم حجّية ماعدا المتيقن .

( ولذا ) أي : لأجل ماذكرناه من انّ في دوران الأمر بين الكلّ والبعض يقتصر على البعض ( قال علماء الميزان ) والمنطق ( : المهملة في قوة الجزئية ) ولا يخفى : انّ مرادهم في عالم الاثبات وإن كان في عالم الثبوت لما كانت كليّة .

مثلاً : لو قال : « تَمرةٌ خَيرٌ من جرادة » (1) ، كان معناه المقطوع به : انّ بعض التمر خير من بعض الجراد ، وإن أمكن أن يكون في الواقع كلّ تمرة خير من جرادة .

( ولو لم يتعيّن البعض ) الذي هو حجّة ( في المقام ) أي : في مقام الانسداد ( ودارت الحجّية بينه ) أي : بين هذا البعض ( وبين سائر الأبعاض ، من غير تفاوت في نظر العقل ) بين هذا البعض وسائر الأبعاض ( لزم الحكم بحجّية الكلّ ) .

إنما مايلزم القول بحجّية الكل ( لبطلان الترجيح من غير مرجّح ) لفرض انّه لاترجيح لبعض الظنون على البعض .

( وامّا لو كانت حجّية البعض ممّا فيه الكفاية ) بمعظم الأحكام ( مظنونة ) خبر

ص: 206


1- - فقه الرضا : ص228 ، وسائل الشيعة : ج13 ص76 ب37 ح17269 .

بخصوصه بخلاف الباقي ، كان ذلك أقرب الى الحجّية من غيره ممّا لم يقم على حجّيتّه دليلٌ ، فيتعيّن عند العقل الأخذُ به دون غيره ، فانّ الرّجحان حينئذٍ قطعيّ وجداني ، والترجيحُ من جهته ليس ترجيحاً بمرجّح ظنيّ ، وإن كان ظنّاً بحجّية تلك الظنون ، فانّ كون المرجّح ظنّاً لايقتضي كَون الترجيح ظنّياً ، وهو ظاهر » ، انتهى كلامه رفع مقامه .

أقول : قد عرفتَ سابقاً أنّ مقدّمات دليل الانسداد ، إمّا أن تجعل كاشفةً عن كون الظنّ في الجملة حجّةً علينا

-------------------

حجّية البعض ( بخصوصه ، بخلاف الباقي ) من الظنون ( كان ذلك ) المظنون الحجّية ( أقرب الى الحجّية من غيره ) أي : الباقي ( ممّا لم يقم على حجّيته دليل ).

فانّه إذا كان هناك مظنون الحجّية وغير مظنون الحجّية ( فيتعيّن عند العقل الأخذ به ) أي بمظنون الحجّية ( دون غيره ) أي : ماسوى مظنون الحجّية ، فانّه لايؤخذ بما سواه .

( فان الرّجحان حينئذ قطعي وجداني ، والترجيح من جهته ) أي : من جهة الرّجحان القطعي ( ليس ترجيحاً بمرجّح ظنّي وإن كان ) أي : المرجّح ( ظنّاً بحجّية تلك الظنون ) المظنونة الاعتبار ( فانّ كون المرجّح ظنّاً ، لايقتضي كون الترجيح ظنيّاً ، وهو ظاهر ) (1) فانّ الترجيح مقطوع به ، لكن المرجّح هو الظنّ ( إنتهى كلامه رفع مقامه ) .

( أقول : ) كلام المحقّق صاحب الحاشية غير تام ، إذ ( قد عرفت سابقاً : إنّ مقدّمات دليل الانسداد ، إمّا أن تُجعَل كاشفة عن كون الظّن في الجملة حجّة علينا

ص: 207


1- - هداية المسترشدين : ص 394 .

بحكم الشارع ، كما يشعر به قوله : « كان بعضُ الظنون أقربَ إلى الحجّية من الباقي » ، وامّا أن يجعل منشأ لحكم العقل بتعيّن إطاعة اللّه سبحانه حين الانسداد على وجه الظنّ ، كما يشعر به قوله نظراً إلى حصول القوّة لتلك الجملة ، لإنضمام الظنّ بحجّيتها إلى الظنّ بالواقع .

-------------------

بحكم الشارع ) فتكون النتيجة على الكشف ( كما يشعر به قوله ) أي : قول صاحب الحاشية في عبارته المتقدّمة ( كان بعض الظّنون أقرب الى الحجّية من الباقي ) فإنّ القرب والبُعد يكون عند الاستكشاف ، والاستكشاف يكون لحكم الشرع ، فان العقل يحكم لا انّه يستكشف .

( وأما أن يجعل ) تلك المقدمات ( منشأ لحكم العقل بتعيّن إطاعة اللّه سبحانه حين الانسداد على وجه الظّن ) وهذا مايسمى بالحكومة ( كما يشعر به قوله ) أي : قول صاحب الحاشية ( نظراً الى حصول القوة لتلك الجملة لإنضمام الظّنّ بحجّيتها الى الظّنّ بالواقع ) فانّ قوة الظنّ بالواقع ، يشعر أن الأقربية الى الواقع ، هي مناط حجّية الظنّ حسب حكم العقل .

قال الأوثق : « الاشعار في المقام الأول : من جهة إعتبار الأقربية الى الحجيّة ، لأنّه يشعر بكون المستكشف عنه بدليل الانسداد هي الحجّية عند الشارع ، وفي المقام الثاني : من جهة إعتبار قوة الظّنّ بالواقع لأنّه يشعر بكون المدار في العمل والترجيح هي الأقربية الى الواقع التي هي مناط حكم العقل على القول بالحكومة » (1) .

ص: 208


1- - أوثق الوسائل : ص224 مرجحات بعض الظنون .

فعلى الأوّل ، إذا كان الظنّ المذكور مردّداً بين الكلّ والبعض إقتصرَ على البعض ، كما ذكره ، لأنّه المتيقّن .

وأمّا إذا تردّد ذلك البعضُ بين الأبعاض ، فالمعيّنُ لأحد المحتملين أو المحتملات لايكونُ إلاّ بما يقطع بحجّيته ، كما أنّه إذا إحتمل في الواقعة الوجوب والحرمة لايمكن ترجيحُ أحدهما بمجرّد الظنّ به ، إلاّ بعد إثبات حجّية ذلك الظنّ .

-------------------

( فعلى الأوّل : ) الذي هو الكشف ( إذا كان الظن المذكور ) الذي هو حجّة حسب مقدمات الانسداد ( مردّداً بين الكلّ والبعض ) بأن لم نعلم هل كلّ الظنون حجّة ، أو بعض الظّنون حجّة ؟ ( إقتصر على البعض ، كما ذكره ) صاحب الحاشية ( لأنّه المتيقن ) فان البعض داخل على كل حال ، وأما الزائد على ذلك البعض فهو مشكوك ، والأصل في المشكوك عدم الحجّية .

( وأمّا إذا تردّد ذلك البعض بين الأبعاض ) بأن لم نعلم هل الظنّ الخبري حجّة ، أو الظّن المستند الى الشهرة ، أو الظن المستند الى الاجماع ، أو غير ذلك ؟

( فالمُعَين ) بصيغة إسم الفاعل ( لأحد المحتملين ) إذا كان إحتمال الحجّية مردداً بين إثنين فقط ( أو المحتملات ) إذا كان إحتمال الحجّية مردداً بين أكثر من إحتمالين ( لايكون إلاّ بما يقطع بحجّيته ) لأنّ الأصل عدم الحجّية إلاّ بما علم حجيّته .

( كما انّه إذا إحتمل في الواقعة : الوجوب والحرمة ) كصلاة الجمعة حيث قال جماعة : بوجوبها تعييناً أو تخييراً ، وقال جماعة : بحرمتها ، فانّه ( لايمكن ترجيح أحدهما بمجرد الظّنّ به ، إلاّ بعد إثبات حجّية ذلك الظّن ) وإذا كان حجّة كان معنى ذلك : إنّه مقطوع الحجّية .

ص: 209

بل التحقيقُ : انّ المرجّحَ لأحد الدّليلين عند التعارض كالمعيّن لأحد الاحتمالين يتوقفُ على القطع بإعتباره عقلاً أو نقلاً ، وإلاّ فأصالة عدم إعتبار الظنّ لافرقَ في مجراها بين جَعْله دليلاً وجَعْله مرجّحاً ، هذا مع أنّ الظنّ المفروض إنّما قام على حجّية بعض الظنون في الواقع من حيث الخصوص ، لا على تعيين الثابت حجّيته بدليل الانسداد ،

-------------------

( بل التحقيق : انّ المرجّح لأحد الدّليلين عند التعارض ، كالمعيّن لأحد الاحتمالين ) هنا على حدّ سواء ، فان كل واحد منهما ( يتوقف على القطع باعتباره عقلاً أو نقلاً ) .

وإنّما قال : بل التحقيق ، لإفادته عموم الأمر لكل مرجّح ، لا خصوص المقام ، فهو إضراب من الخاص الى العام ، وعلى أي حال : فاللازم القطع بالتعميم أو الترجيح .

( وإلاّ ) بأن لم يكن قطع ( فأصالة عدم إعتبار الظنّ لافرق في مجراها ) أي : في مجرى هذه الأصالة ( بين جعله ) أي : الظن ( دليلاً ، وجعله مرجّحاً ، هذا ) أولاً ، حيث لايمكن الترجيح بالظنّ لأنّ الظنّ ليس بمقطوع المرجحية .

( مع انّ ) هنا إشكالاً ثانياً على الترجيح بالظنّ وهو : انّه لو فرض الترجيح بالظّن لم يكن هذا الظنّ المرجّح حجّة من باب دليل الانسداد ، بل من باب دليل آخر خارجي ، فهو ظنّ خاصٌ لا ظنّ عام بدليل الانسداد ، فان ( الظنّ المفروض إنّما قام على حجّية بعض الظنون في الواقع من حيث الخصوص ، لا على تعيين الثابت حجّيته بدليل الانسداد ) حتى يصير الظنّ مرجّحاً .

قال في الأوثق : توضيح قوله : « مع انّ الظّنّ المفروض » هو : انّ الشارع قد يجعل الطّريق مع قطع النظر عن إنسداد باب العلم بالواقع ، لأجل خصوصية

ص: 210

فتأمّل .

وأمّا على الثاني ، فالعقلُ إنّما يحكمُ بوجوب الاطاعة على الوجه الأقرب إلى الواقع فاذا فرضنا إنّ مشكوكَ الاعتبار يحصل منه ظنّ بالواقع أقوى ممّا يحصل من الظنّ المظنون الاعتبار كان الأوّلُ أولى بالحجّية في نظر العقل .

-------------------

لاحظها الشارع فيه ، وقد يجعل الطّريق لأجل إنسداد باب العلم بالواقع ، بأن كان الانسداد علّة لجعله ، وما تعلّق الظنّ بحجّيته إنّما هو من قبيل الأوّل ، وما كشفت عنه مقدمات دليل الانسداد إجمالاً من قبيل الثاني ، فكيف يجعل الظنّ بالأوّل مرجّحاً للثاني في مقام إجمال النتيجة وإهمالها ؟ (1) .

( فتأمل ) ولعله إشارة إلى انّ الانسداد ينتج : انّ الظنّ حجّة ولايهمه بَعد ذلك أن يكون هناك دليل خاص أيضاً بحجّية هذا الظنّ الانسدادي ، كدلالة آية ورواية على حكم ، مع عدم تنافي دلالة الآية لدلالة الرواية .

( وأما على الثاني : ) الحكومة ( فالعقل إنّما يحكم بوجوب الاطاعة على الوجه الأقرب الى الواقع ) لأن العقل يرى : إنّ الواقع هو المحور ، فكلّما كان الأمر أقرب اليه كان أوجب في الاطاعة .

( فاذا فرضنا انّ مشكوك الاعتبار ) بأن لم يظنّ إعتباره ( يحصل منه ظنّ بالواقع، أقوى ممّا يحصل من الظّنّ المظنون الاعتبار ، كان الأوّل ) أي مشكوك الاعتبار ( أولى بالحجّية في نظر العقل ) من الثاني الّذي هو مظنون الاعتبار .

ص: 211


1- - أوثق الوسائل : ص224 مرجحات بعض الظنون .

ولذا قال صاحب المعالم : « إنّ العقل قاضٍ بأنّ الظنّ إذا كان له جهات متعدّدة متفاوتة بالقوّة والضعف ، فالعدولُ عن القويّ منها إلى الضعيف قبيحٌ » ، انتهى .

نعم ، لو كان قيامُ الظنّ على حجّية بعضها ممّا يوجب قوّتها في نظر العقل ، لأنّها جامعة لإدراك الواقع أو بدله على سبيل الظنّ بخلافه ،

-------------------

( ولذا ) أي : لأجل ماذكرناه : من أنّ الاعتبار بالأقوى ، لا كون الاعتبار بظنّ الاعتبار ( قال صاحب المعالم : انّ العقل قاضٍ بأنّ الظّن إذا كان له جهات متعددة متفاوتة بالقوّة والضعف ) كما إذا كان خبر قوياً من حيث السند ضعيفاً من حيث الدلالة ، وخبر آخر بالعكس ، وخبر ثالث قوياً فيهما ضعيفاً في جهة الصدور أو كان خبر قوياً من جهة الشهرة ضعيفاً من جهة القواعد الأوليّة ، وخبر آخر بالعكس ، وهكذا ( فالعدول عن القوي منها الى الضعيف قبيح (1) ، إنتهى ) كلام المعالم .

اللّهم إلاّ إذا كانت جهات القوة والضعف متعارضة ، ولم يكن بعض الظنون أقوى من بعض فللمكلَّف الأخذ بأيهما شاء على التخيير إذا لم يكن هناك تعيين .

( نعم ، لو كان قيام الظّنّ على حجّية بعضها ، ممّا يوجب قوتها ) أي : قوة ذلك البعض ( في نظر العقل ، لأنّها ) أي : ذلك البعض ( جامعة لادراك الواقع ، أو بدله ) إدراكاً ( على سبيل الظنّ ) كان راجحاً على غيره .

( بخلافه ) أي : بخلاف البعض الذي لم يظنّ حجيّته ، فانّه ظنّ بادراك الواقع دون بدل الواقع على تقدير المخالفة للواقع فيكون مرجوحاً .

ص: 212


1- - معالم الدين : ص193 .

رجع الترجيحُ به إلى ماذكرنا سابقاً وذكرنا ما فيه .

وحاصلُ الكلام يرجعُ إلى أنّ الظنّ بالإعتبار إنّما يكونُ صارفاً للقضيّة إلى ماقام عليه من الظنون إذا حصل القطع بحجّيته في تعيين الاحتمالات أو صار موجباً لكون الاطاعة بمقتضاها أتمَّ ، لجمعها بين الظنّ بالواقع والظنّ بالبدل .

والأوّلُ موقوفٌ على حجيّة مطلق الظنّ .

-------------------

لكن إذا قلنا ذلك ( رجع الترجيح به الى ماذكرنا سابقاً ، وذكرنا مافيه ) وقد مثّلنا له بالشِير خِشت والتَرنجَبين ودواء آخر ، إذا لم يكن شِير خِشت فليكن ترنجبين ، وقد قلنا إنّ التَرنجَبين بدل عن الشِير خِشت .

( وحاصل الكلام ) في الرّد لصاحب الحاشية ( يرجع الى انّ الظنّ بالاعتبار ، إنّما يكون صارفاً للقضيّة ) المهملة التي هي نتيجة دليل الانسداد ( الى ماقام عليه من الظنون ) الانسدادية ( إذا حصل القطع بحجّيته ) أي : حجيّة ماقام عليه من الظنون ( في تعيين الاحتمالات ) على تقدير الكشف .

( أو صار موجباً لكون الاطاعة بمقتضاها ) أي : بمقتضى تلك الظنون ( أتمّ ، لجمعها بين الظّنّ بالواقع والظّنّ بالبدل ) على تقدير الحكومة .

وعليه : فالظّنّ بالإعتبار - سواء على تقدير الكشف أو الحكومة يجعل مظنون الاعتبار حجّة دون سواه .

( والأوّل : ) وهو ماإذا حصل القطع بحجّيته في تعيين الاحتمالات ( موقوف على حجّية مطلق الظّنّ ) والحال انَّ الكلام الآن في انّ مطلق الظّنّ أم لا ، فكيف يتمسك بالظّنّ على حجّية بعض الظنون ؟ .

ص: 213

والثاني لا إطّرادَ له ، لأنّه قد يعارضها قوّةُ المشكوك الاعتبار .

وربّما التزم بالأوّل بعضُ من أنكر حجيّة مطلق الظنّ ، وأورد إلزاماً على القائلين بمطلق الظنّ ، فقال كما يقولون :

« يجب علينا في كلّ واقعة البناءُ على حكم ، ولعدم كونه معلوماً لنا يجبُ في تعيينه العملُ بالظنّ ،

-------------------

( والثاني : ) وهو ما أشار اليه المصنّف بقوله : أو صار موجباً لكون الاطاعة بمقتضاها أتم ، لجمعها بين الظنّ بالواقع والظنّ بالبدل ( لا إطّراد له ) إذ ليس كل مظنون الاعتبار أقوى من غيره ، ( لأنّه قد يعارضها ) أي يعارض هذه الظنون المظنونة الاعتبار ، ( قوة ) الظن ( المشكوك الاعتبار ) فيتساويان ، أو يقدّم مشكوك الاعتبار على مظنون الاعتبار ، لما عرفت : من انّ الملاك بالقوة لابظنّ الاعتبار .

( وربّما التزم بالأوّل : ) وهو : انّ الظنّ بالاعتبار يكون صارفاً للقضية المهملة الى ماقام عليه من الظنون ( بعض من أنكر حجّية مطلق الظّنّ ) هوالفاضل النراقي ( وأورد الزاماً على القائلين بمطلق الظنّ ) في الفروع ، بمعنى :انّه ليس مطلق الظن حجّة ، لأنّ القضية المهملة في نتيجة الانسداد منصرفة الى الظنون المظنونة الاعتبار لا مطلقاً .

( فقال - كما يقولون - ) أي : الفقهاء والمتكلّمون : ( :يجب علينا في كل واقعة ، البناء على حكم ) لأنَّ كل واقعة فيها حكم من اللّه سبحانه وتعالى ( ولعدم كونه ) أي : ذلك الحكم ( معلوماً لنا ) علماً تفصيلياً ( يجب في تعيينه العمل بالظنّ ) فكل ماظننا انّه حكم اللّه عملنا به ، وكلّما شككنا أو وهمنا انّه حكم اللّه لم نعمل به .

ص: 214

فكذا نقول ، بعدما وجب علينا العملُ بالظنّ ولم نعلم تعيينه : يجب علينا في تعيين هذا الظنّ العملُ بالظنّ » .

ثمّ إعترض على نفسه ، بما حاصله : « إنّ وجوبَ العمل بمظنون الحجّية لا ينفي غيره ، - فقال : - قلنا : نعم ، ولكن لايكون حينئذٍ دليل على حجّية ظنّ آخر ، إذ بعد ثبوت حجّية الظنّ المظنون الحجّية ينفتح بابُ الأحكام ولايجري دليلك فيه ويبقى تحت أصالة عدم الحجّية » .

وفيه : أنّه إذا إلتزم ، باقتضاء مقدّمات الانسداد

-------------------

( فكذا نقول بعدما وجب علينا العمل بالظّنّ ولم نعلم تعيينه - يجب علينا في تعيين هذا الظنّ العمل بالظّنّ ) بأن تكون الظنون التي نريد العمل بها مظنونة الاعتبار ، فيكون قسم خاص من الظّنّ حجّة ، لا كل ظنّ حجّة .

( ثم إعترض على نفسه بما حاصله : انّ وجوب العمل بمظنون الحجّية لاينفي غيره ) من مشكوك الاعتبار وموهومة ، فانّا نعمل بالظنّ مطلقاً ، سواء كان مظنون الاعتبار ، أو مشكوك الاعتبار ، أو موهوم الاعتبار .

( فقال : قلنا ) في جواب هذا الاعتراض ( :نعم ، ولكن لايكون حينئذ دليل على حجّية ظنّ آخر ) غير مظنون الاعتبار ( إذ بعد ثبوت حجّية الظنّ المظنون الحجّية ، ينفتح باب الاحكام ) علينا ( ولايجري دليلك فيه ) أي : في الظنّ الآخر الذي ليس بمظنون الاعتبار ( ويبقى ) ذلك الظنّ الآخر ( تحت أصالة عدم الحجّية ) (1) .

هذا ( وفيه : ) أي : في كلامه تدافع ، إذ ( انّه إذا التزم باقتضاء مقدّمات الانسداد ،

ص: 215


1- - عوائد الأيام : ص139 .

مع فرض عدم المرجّح ، العملَ بمطلق الظنّ في الفروع دَخَلَ الظنّ المشكوك الاعتبار وموهومه ، فلا موردَ للترجيح والتعيين حتى يعيّن بمطلق الظنّ ، لأنّ الحاجة إلى التعيين بمطلق الظنّ فرعُ عدم العمل بمطلق الظنّ .

وبعبارة أُخرى : إما أن يكون مطلقُ الظنّ حجّةً وإمّا لا .

فعلى الأوّل لا موردَ للتعيين والترجيح ، وعلى الثاني لايجوز الترجيحُ

-------------------

مع فرض عدم المرجّح ) لبعض الظنّون على بعض التزم على ( العمل بمطلق الظّن في الفروع ) وانّه كلّما حصل ظنّ وجب العمل به ، فيكون قد ( دخل الظّنّ المشكوك الاعتبار وموهومه ) أي : موهوم الاعتبار فيما يلزم العمل به من الظنون .

وعليه : ( فلا مورد للترجيح والتعيين ) إطلاقاً ( حتى يعيّن ) بعض الظنون ( بمطلق الظّنّ ) ويقال : بأنّ الظّنّ المظنون الاعتبار حجّة ، دون سائر الظنون من مشكوك الاعتبار وموهوم الاعتبار .

وذلك ( لأنّ الحاجة الى التعيين بمطلق الظنّ ، فرع عدم العمل بمطلق الظّنّ ) فاذا لم يجب العمل بمطلق الظّنّ ، لزم علينا التفكيك والتفريق في الظنون ، أمّا إذا وجب علينا العمل بمطلق الظّن ، فلا موضع للتفريق والتمييز ولا لتعيين بعض الظنون دون بعض .

( وبعبارة أُخرى : امّا ان يكون مطلق الظنّ حجّة ، وإمّا لا ) يكون مطلق الظنّ حجّة .

( فعلى الأوّل : ) وهو أن يكون مطلق الظنّ حجّة ( لا مورد للتعيين والترجيح ) لبعض الظنون على بعض .

( وعلى الثاني ) وهو أن لا يكون مطلق الظنون حجّة ( لا يجوز الترجيح

ص: 216

بمطلق الظنّ ، فالترجيحُ بمطلق الظنّ ساقطٌ على كلّ تقدير .

وليس للمعترض القلبُ بأنّه إن ثبت حجّيّةُ مطلق الظّن تعيّن ترجيحُ مظنون الاعتبار به ، إذ على تقدير ثبوت حجّيّة مطلق الظنّ لايتعقّل ترجيحُ حتى يتعيّن الترجيحُ بمطلق الظنّ .

ثمّ انّ لهذا المعترض كلاماً في ترجيح مظنون الاعتبار بمطلق الظنّ - لا من حيث حجّية مطلق الظنّ حتى يقال : انّ بعد ثبوتها لاموردَ للترجيح - لا بأس بالإشارة إليه

-------------------

بمطلق الظنّ ) بأن يكون الظنّ بالاعتبار ، موجبا للرّجحان .

وعليه : ( فالترجيح بمطلق الظنّ ساقطٌ على كل تقدير ) سواء على تقدير مطلق الظنّ ، أو عدم مطلق الظنّ .

( وليس للمعترض ) وهو النراقي رحمه اللّه ( القلب ) للاشكال علينا ( : بأنه إن ثبت حجّية مطلق الظّن ، تَعَيّن ترجيح مظنون الاعتبار به ) أي : بمطلق الظن .

( إذ ) يرد عليه بأنّا نقول : ( على تقدير ثبوت حجّية مطلق الظّن ، لايتعقل ترجيح ) أصلاً ، لأنَّ الحاجة الى الترجيح إنّما يكون فيما إذا كان بعض الظنون حجّة ، أما إذا كان كل الظنون حجّة ، فلا معنى للترجيح ( حتى يتعين الترجيح بمطلق الظّن ) إنتهى .

( ثمّ إنّ لهذا المعترض ) وهو النَراقي ( كلاماً في ترجيح المظنون الاعتبار بمطلق الطّن ) أي : قال بترجيح المظنون الاعتبار ، وإن كان ذلك الاعتبار بسبب مطلق الظنّ ، ولكن ( لا من حيث حجّية مطلق الظنّ ، حتى يقال : إن بعد ثبوتها ) أي ثبوت حجّية مطلق الظنّ ( لا مورد للترجيح ) .

بل قال بترجيح مظنون الاعتبار بسبب آخر ، ف- ( لابأس بالاشارة اليه ) أي :

ص: 217

وإلى ما وقع فيه الخلط والغفلة منه في المراد بالترجيح هنا .

فقال : معترضاً على القائل بما قدّمنا ، من أنّ ترجيحَ أحد المحتملين عين تعيينه بالاستدلال ، بقوله : « إنّ هذا القائل خَلَطَ بين ترجيح الشيء وتعيينه ولم يعرف الفَرقَ بينهما ، ولبيان هذا المطلب نقدّم مقدّمةً ، ثم نجيبُ عن كلامه ، وهي إنّه لا ريبَ في بطلان الترجيح

-------------------

الى كلام هذا المعترض ( والى ما وقع فيه الخَلط والغفلة منه في المراد بالترجيح هنا ) فانّه حمل الترجيح على سكون النفس الى المظنون الحجّية ، بما لايكون مثل هذا السكون في مشكوك الحجّية ، أو موهوم الحجّية من دون أن يحكم بالتعيين .

وإنّما قال بسكون النفس الى ماكان مظنون الحجيّة ، وعدم سكون النفس الى ماليس بمظنون الحجّية ولم يقل بأنّ مظنون الحجّية مرجّح ، لأن الظنّ بالحجّية ليس مرجَّحاً من باب الحجّية الشرعية ، ولا من قبل الشارع ، كما إنّه لايثبت تعيين الظنّ بالظّن المطلق قبل إثبات حجيّته .

لكن من الواضح : انّ هذا خلط بين الترجيح وبين سكون النفس ، فانّ سكون النفس في أي شيء حصل بسبب . العلم العادي للانسان والعلم حجّة بنفسه .

( فقال : معترضاً على القائل بما قدّمنا ) سابقاً ( من ان ترجيح أحد المحتملين عين تعيينه ) وذلك ( بالاستدلال بقوله : إنّ هذا القائل ) الذي قال : بأنّ ترجيح أحد المحتملين عين تعيينه ( خلط بين ترجيح الشيء وتعيينه ، ولم يعرف الفرق بينهما ) أي : بين التعيين والترجيح .

( ولبيان هذا المطلب ) وهو الفارق بين التعيين والترجيح ( نقدم مقدّمة ، ثم نجيب عن كلامه وهي ) أي تلك المقدمة ( انّه لاريب في بطلان الترجيح

ص: 218

بلا مرجّح ، فانّه ممّا يَحكم بقبحه العقلُ والعرف والعادة ، بل يقولون بإمتناعه الذاتيّ كالترجيح بلا مرجّح .

والمرادُ بالترجيح بلا مرجّح هو سكونُ النفس إلى أحد الطرفين والميلُ اليه من غير مرجّح وإن لم يحكم بتعيينه وجوباً .

-------------------

بلا مرجّح ، فانّه ممّا يحكم بقبحه العقل والعُرف والعادة ) والفرق بين العُرف والعادة : إنّ العرف مايراه الناس وإن لم يكن له سابقة ، بينما العادة ماله سابقة .

مثلاً : إذا إجتمع الناس على لزوم مرور السيارات من اليمين فوضع الناس للسيارات هذا القانون كان عرفاً ، فاذا ساروا على ذلك مدة من الزمن صارَ عادة .

( بل يقولون بامتناعه الذاتي ، كالترجيح بلا مرجّح ) والفرق بين الترجيّح بلا مرجّح ، والترجّح بلا مرجح ، إن الترجيح بلا مرجّح هو إن العاقل يرجّح أحد شيئين متساويين على الثاني ، بينما الترجّح بلا مرجّح هو عبارة عن أن يترجّح شيء بنفسه على شيء آخر .

مثلاً : كفتا ميزان متساويتان تترجّح إحداهما على الأُخرى بلا هبوب ريح أو غيره ، فهذا يسمى ترجّحاً بلا مرجّح ، بينما إذا الانسان الجائع رجَّح أكل قرص على قرص والقرصان متساويان ، كان ترجيحاً بلا مرجّح .

ومن المعلوم ان الترجّح بلا مرجّح محال ، لأنّه يساوق وجود المعلول بدون العلة بينما الترجيح بلا مرجّح إختلفوا في إمكانه أو إستحالته ، كما يظهر ذلك لمن راجع الكلام والحكمة .

( والمراد بالترجيح بلا مرجّح ، هو : سكون النفس إلى أحد الطرفين والميل إليه من غير مرجّح ، وإن لم يحكم ) النفس ( بتعيينه ) أي بتعيين ذلك المرجَّح - بالفتح - ( وجوباً ) وعلى نحو اللزوم فانّ من يأكل أحد القرصين تسكن نفسه

ص: 219

وأمّا الحكمُ بذلك فهو أمرٌ آخر وراء ذلك .

ثمّ أوضح ذلك بأمثلة : منها أنّه لو دار أمرُ العَبدِ في أحكام السلطان المرسلة إليه بين أمور وكان بعضها مظنوناً بظنّ لم يُعلمَ حجّيّتهُ من طرف السلطان ، صحّ له ترجيحُ المظنون ولا يجوز له الحكمُ بلزوم ذلك .

ومنها أنّه لو أُقدِمَ إلى أحد طعامان أحدُهما ألذّ من الآخر فاختار عليه لم يرتكب ترجيحاً بلا مرجّح ، وإن لم يلزم أكلُ الألذ ، ولكن لو حكم بلزوم الأكل لابدّ من

-------------------

إلى هذا القرص الذي أخذه للأكل وإن لم يحكم بأنّه متعين عليه أكله دون القرص الآخر .

( وأمّا الحكم بذلك ) أي : بوجوب التعيين ( فهو أمرٌ آخر وراء ذلك ) أي : وراء الترجيح وسكون النفس .

( ثمّ أوضح ) النَراقي ( ذلك ) الفرق بين الترجيح والتعيين ( بأمثلة ) على النحو التالي .

( منها : انّه لو دار أمرُ العبد في أحكام السّلطان المرسلة ) تلك الأحكام ( إليه ) أي : الى العبد ( بين أُمور ، وكان بعضها مظنوناً بظنّ لم يعلم حجّيته من طرف السلطان ، صحّ له ) أي : للعبد ( ترجيح المظنون ) فهذا ترجيّحٌ ( ولايجوز له الحكم بلزوم ذلك ) وهذا تعيين ، فهناك فرق بين الترجيح والتعيين .

( ومنها : انه لو أُقدِمَ إلى أحدٍ طعامان أحدهما ألذّ من الآخر فاختار عليه ) أي : إختار الألذّ على غير الألذّ ، ( لم يرتكب ترجيحاً بلا مرجّح ، وان لم يلزم أكل الألذ ) فتقديم الألذّ ترجيح وليس بتعيين ( ولكن لو حكم بلزوم الأكل لابد من

ص: 220

تحقيق دليل عليه ، ولايكفي مجرّد الألذيّة .

نعم ، لو كان أحدُهما مضراً صحَ الحكمُ باللزوم .

ثمّ قال : وبالجملة ، فالحكمُ بلا دليل غير الترجيح بلا مرجّح ، فالمرجّح غير الدّليل ، والأوّل يكون في مقام الميل والعمل ، والثاني يكون فيمقام التصديق والحكم .

ثم قال : أن ليس المرادُ أنّه يجب العملُ بالظنّ المظنون الحجّية وأنّ الذي يجب العمل به بعد إنسداد باب العلم .

-------------------

تحقيق دليل عليه ) أي : على هذا اللزوم ( ولايكفي مجرّد الألذّية ) للتعيين .

والحاصل انَّ أكل الألذّ ترجيح وليس بتعيين .

( نعم ، لو كان أحدهما مُضرّاً ، صحّ الحكم باللزوم ) فيكون هذا تعييناً لا ترجيحاً .

( ثمّ قال : وبالجملة فالحكم بلا دليل ، غير الترجيح بلا مرجّح ) إذ الحكم بلا دليل معناه : انّه لا دليل ، بينما الترجيح بلا مرجّح معناه : انّ هناك دليلاً على الأعم من الفردين لكنّه يرجّح أحدهما على الآخر لسكون النفس في المرجَّح - بالفتح - وميله إليه .

وعلى هذا : ( فالمرجّح غير الدليل ، والأول : يكون في مقام الميل والعمل ) فيسمى ترجيحاً .

( والثاني : يكون في مقام التصديق والحكم ) فيكون تعييناً ، وما نحن فيه إذا أخذنا بمظنون الاعتبار ، رجّحناه ولم نكن عيّناه .

( ثمّ قال : إن ليس المراد : انّه يجب العمل بالظّن المظنون الحجّية ) وهو الظنّ الذي قام على حجيته ظن آخر ( وإن الذّي يجب العمل به بعد إنسداد باب العلم )

ص: 221

بل مراده أنّه - بعدما وَجَبَ على المكلّف ، لإنسداد باب العلم وبقاء التكليف ، العملُ بالظن ، ولا يعلم أيُّ ظنّ لو عمل بالظنّ المظنون حجّيتّه - أيّ نقض يُلزمُ عليه . فان قلتَ : ترجيحٌ بلا مرجّح فقد غلطتَ غلطاً ظاهراً ، وإن كان غيره ، فبينّه حتّى ينظر » ، إنتهى كلامه رفع مقامه .

-------------------

فانّه لم يكن هذا مراده حتى يشكل عليه .

( بل مراده ) أي : مراد من يقدّم الظّن المظنون الاعتبار على الظّن المشكوك الاعتبار ، أو الموهوم الاعتبار ( أنّه بعدما وجب على المكلّف - لإنسداد باب العلم وبقاء التكليف - العمل بالظّن ) .

« العمل » : فاعل « وجب » أي : وجب العمل بالظّن على المكلّف ، لأنّ باب العلم إنسد عليه ( ولا يعلم ) أن ( أي ظنّ ) يعمل به ( لو عَمِلَ بالظّن المظنون حجّيته أي نَقض يُلزَمُ عليه ؟ ) وهذا هو مدعانا : من انّ الظّن المظنون الاعتبار هو المقدّم على غيره .

قال : ( فان قلت : ) بأن تقديم الظّن المظنون الاعتبار ، على الظّن المشكوك الاعتبار ، أو الظّن الموهوم الاعتبار ، هو ( ترجيح بلا مرجّح ، فقد غلطت غلطاً ظاهراً ) لأنّه من باب سكون النفس بالظّن المظنون الاعتبار لا من باب الترجيح .

( وإن كان غيره ) أي : غير الترجّيح بلا مرجّح ( فبيّنه حتى ينظر ) (1) هل هو صحيح أو لا ؟ ( إنتهى كلامه رفع مقامه ) .

وحاصله : انَّ النَراقي رحمه اللّه لايقدّم الظّن المظنون الاعتبار ، من جهة ان الظّن بالاعتبار حجّة ، بل يقدّمه من جهة ميل النفس وسكونها الى الظّن المظنون

ص: 222


1- - عوائد الأيام : ص139 .

أقول : لايخفى أنّه ليس المرادُ من أصل دليل الانسداد إلاّ وجوبَ العمل بالظنّ ، فاذا فرض أنّ هذا الواجب تردّد بين ظنون ، فلا غَرضَ إلاّ في تعيينه ، بحيث يحكمُ بأنّ هذا هو الذي يجب العملُ به شرعاً ، حتّى يبني المجتهدُ عليه في مقام العمل ويلتزم بمؤدّاه على أنّه حكم شرعيّ من الشارع .

وأمّا دواعي إرتكاب بعض الظنون دون بعض فهي مختلفة غير منضبطة :

-------------------

الاعتبار ، دون سائر الظنون .

( أقول : لايخفى ) إن كلامه رحمه اللّه غير تام ، لأنه إذا جاز العمل بأي واحد من الظّنين : المظنون الاعتبار وغيره ، كما يجوز أكل الطعام الألذّ وغيره في مثاله ، لم يكن يلزم على المكلّف بعد الانسداد : العمل بمظنون الاعتبار خاصة ، والحال إنّ كلام من يقول بأنّه يلزم العمل بمظنون الاعتبار خاصة ، إنّما هو في لزوم ذلك وتعيينه لافي ترجيحه بميل النفس وهواها .

وذلك كما قال : ( انّه ليس المراد من أصل دليل الانسداد إلاّ وجوب العمل بالظّن ، فاذا فرض إنّ هذا الواجب تردّد بين ظنون ) مظنونة الاعتبار ، وظنون ليست كذلك ( فلا غرض ) للمكلّف ( إلاّ في تعيينه ) أي : تعيين بعض الظنون عن بعض ( بحيث يحكم بأنّ هذا ) المعيّن ( هو الّذي يجب العمل به شرعاً حتى يبني المجتهد عليه ) أي : على هذا الظّن المظنون الاعتبار ( في مقام العمل ويلتزم بمؤداه على انّه حكم شرعيّ من الشارع ) فان هذا هو المراد من تعيين العمل ببعض الظنون دون بعض .

( وأمّا دواعي إرتكاب بعض الظنون دون بعض ) لاُمور لاترجع الى التعيين ( فهي مختلفة غير منضبطة ) لأنّ الميول النفسانية تختلف ، فقد يريد الانسان

ص: 223

فقد يكون الداعي إلى الاختيار موجوداً في موهوم الاعتبار لغرض من الأغراض ، وقد يكون في مظنون الاعتبار ، فليس الكلامُ إلاّ في أنّ الظنّ بحجّيّة بعض الظنون هل يوجبُ الأخذ بذلك الظنّ شرعاً ، بحيث يكون الآخذُ بغيره لداع من الدواعي مُعاقَباً عند اللّه في تَرك ماهو وظيفته من سلوك الطريق .

وبعبارة أُخرى : هل يجوز شرعاً أن يعمل المجتهدُ بغير مظنون الاعتبار أم لايجوز ؟ .

-------------------

أكل الطعام الألذّ ، وقد يريد أكل الطعام غير الألذّ ، لأنّه يجد الطعام الثاني أخف على معدته ، أو لأنّه لايسبب له تثبيطاً في عمله ، أو ما أشبه ذلك ، كما أشار اليه بقوله :

( فقد يكون الداعي إلى الاختيار ) لظنّ دون ظنّ ( موجوداً في موهوم الاعتبار لغرض من الأغراض ، وقد يكون ) الداعي ( في مظنون الاعتبار ) أيضاً كذلك كما قد يكون في مشكوك الاعتبار .

وعليه : ( فليس الكلام ) الآن حين نريد تعيين بعض الظنون بعد قيام دليل الانسداد ( إلاّ في ان الظّن بحجّية بعض الظنون ، هل يوجب الآخذ بذلك الظّن شرعاً بحيث يكون الآخذُ بغيره لداع من الدواعي ) كداعي التسهيل وما أشبه ( معاقباً عند اللّه ) تعالى ( في ترك ماهو وظيفته من سلوك الطريق ؟ ) الذي هو الظّن المظنون الاعتبار .

( وبعبارة اُخرى : هل يجوز شرعاً أن يعمل المجتهد بغير مظنون الاعتبار ، أم لايجوز ) إلاّ أن يعمل بما هو مظنون الاعتبار ؟ ، فالمعيار هذا ، لا أن الانسان يأخذ مظنون الاعتبار من باب الميول النفسانية ونحوها .

ص: 224

إن قلت : لايجوز شرعاً .

قلنا : فما الدّليل الشرعيّ بعد جواز العمل بالظنّ في الجملة على أنّ تلك المهملة غير هذه الجزئية .

وإن قلتَ : يجوز ، لكن بدلاً عن مظنون الاعتبار ، لاجمعاً بينهما ، فهذا هو التخيير الذي إلتزم المُعمِّم ببطلانه .

وإن قلت : يجوز جَمعاً بينهما فهذا هو مطلبُ المعمِّم .

-------------------

( إن قلت : لايجوز شرعاً ) العمل بغير المظنون ، لأنّ الظّنّ المظنون الاعتبار أقرب الى الواقع من الظّنّ الّذي ليس مظنون الاعتبار . ( قلنا : فما الدليل الشرعي بعد جواز العمل بالظنّ في الجملة ) أيُّ ظنّ كان ، بعد ان انتجت مقدمات الانسداد حجّية الظنّ ( على أن تلك المهملة غير هذه الجزئية ) فان النتيجة المهملة ليس معناها : انه يلزم ان يأخذ بمظنون الاعتبار .

وان شئت قلت : ان النتيجة ان كانت مهملة ، فلا يعيّن الظّن بالاعتبار بعض الظنون دون بعض ، وإن كانت النتيجة مطلقة فكل الظنون على حدّ سواء ، فمن أين ان مظنون الاعتبار يجب أن يؤخذ به لا غيره ؟ .

( وإن قلت : يجوز ) الأخذ بغير مظنون الاعتبار ( لكن بدلاً عن مظنون الاعتبار ، لاجمعاً بينهما ) .

قلت : ( فهذا هو التخيير الذي التزم المعمِّم ببطلانه ) لأنّ معنى ذلك : انّ لك أن تأخذ بمظنون الاعتبار أو بغير مظنون الاعتبار ، لكن غير مظنون الاعتبار بدلاً عن مظنون الاعتبار .

( وإن قلت : يجوز ، جمعاً بينهما ) بلا بدلية أحدهما عن الآخر ( فهذا هو مطلب المعمِّم ) بينما أنت تقول : انّه يلزم ترجيح مظنون الاعتبار على غير

ص: 225

فليس المرادُ بالمرجّح مايكون داعياً إلى إرادة أحد الطرفين ، بل المراد مايكون دليلاً على حكم الشارع .

ومن المعلوم أنّ هذا الحكم الوجوبيّ لايكون إلاّ عن حجّة شرعيّة ، فلو كان هي مجرّد الظنّ بوجوب العمل بذلك البعض ، فقد لزم العملُ بمطلق الظنّ عند إشتباه الحكم

-------------------

مظنون الاعتبار .

وحاصل ان قلت الثلاثة : ان الأمر دائر بين الأخذ بسائر الظنون ، وبين الأخذ بسائرها بدلاً عن المظنون الاعتبار ، وبين الأخذ بكلا الظنّين على حدّ سواء .

فالأول : لماذا وبأي دليل ؟ .

والثاني : هو التخيير بينهما .

والثالث : هو التعميم لهما .

والتخيير والتعميم ، لايقول بهما من يلزم ترجيح مظنون الاعتبار على غيره .

وعلى كلّ حال : ( فليس المراد بالمرجّح : مايكون داعياً إلى إرادة أحد الطرفين ) كما ذكره النَراقي بدون أن يكون ملزماً لأحدهما على الآخر ، بل بمجرد ميل النفس وسكوتها إلى أحد الطرفين ( بل المراد مايكون دليلاً على حكم الشارع ) بلزوم تقديم هذا الطرف على ذاك .

( ومن المعلوم : ان هذا الحكم الوجوبي لايكون إلاّ عن حجّة شرعية ) فانّ الانسداد لم يدلّ على التقديم ، فاللازم ان يكون هناك حجّة شرعية خارجية تدل على تقديم مظنون الاعتبار على غير مظنون الاعتبار .

( فلو كان هي ) أي الحجّة الشرعية ( مجرّد الظّن بوجوب العمل بذلك البعض ) المظنون الاعتبار ( فقد لزم العمل بمطلق الظّن عند إشتباه الحكم

ص: 226

الشرعيّ .

فإذا جاز ذلك في هذا المقام لِمَ لا يجوز في سائر المقامات ؟ فلم قُلتُم إنّ نتيجة دليل الانسداد حجّيّة الظنّ في الجملة ؟ .

وبعبارة اُخرى : لو إقتضى إنسداد باب العلم في الأحكام تعيينَ الأحكام المجهولة بمطلق الظنّ ، فَلِمَ منعتم إفادة ذلك الدّليل إلاّ لإثبات حجّية الظنّ في الجملة ، وإنّ إقتضى تعيينَ الأحكام بالظنّ في الجملة لم يوجب إنسدادُ باب العلم في تعيين الظنّ في الجملة الذي وَجَبَ العملُ به بمقتضى الانسداد العملَ في تعيينه بمطلق الظنّ .

-------------------

الشرعي ) لأن مطلق الظّن حينئذ يكون حجّة ، وعليه : فالظّن بالاعتبار يقدم مظنون الاعتبار على غيره .

( فاذا جاز ذلك ) أي : العلم بمطلق الظنّ ( في هذا المقام ) أي في مقام الترجيح ( لِمَ لايجوز في سائر المقامات ) فيكون كل ظنّ حجّة ، وإذا جاز في سائر المقامات ( فلم قلتم إن نتيجة دليل الانسداد حجّية الظّن في الجملة ) لا في الكلية.

( وبعبارة اُخرى : لو إقتضى إنسداد باب العلم في الأحكام ، تعيين الاحكام المجهولة بمطلق الظّن ) حتى جعلتم بسببه مظنون الاعتبار حجّة ( فلم منعتم إفادة ذلك الدليل ) أي : دليل الانسداد ( إلاّ لإثبات حجّية الظّن في الجملة ) وقلتم إن مظنون الاعتبار فقط حجّة ، ولم تقولوا بحجّية الظّن مطلقاً ؟ .

( وإن إقتضى تعيين الأحكام بالظّن في الجملة ) بأن لم يكن الظّن مطلقاً حجّة ( لم يوجب إنسداد باب العلم - في تعيين الظّن في الجملة الذي وجب العمل به بمقتضى الانسداد - العمل في تعيينه بمطلق الظّن ) « العمل » فاعل « لم يوجب » أي : لم يوجب إنسداد باب العلم العمل في تعيين الظّن بمطلق الظن ، حتى يكون

ص: 227

وحاصلُ الكلام : أنّ المرادَ من المرجّح هنا هو المعيّنُ والدّليلُ الملزم من جانب الشارع ليس إلاّ .

فإن كان في المقام شيء غير الظنّ فليذكر ، وإن كان مجرّد الظنّ فلم تثبت حجّية مطلق الظنّ .

فَثَبَتَ مِن جميع ذلك أنّ الكلام ليس في المرجّح للفعل ، بل المطلوبُ المرجّحُ للحكم بأنّ الشارع أَوجَب بَعْدَ الانسداد العمل بهذا دون ذاك .

وممّا ذكرنا : يظهرُ ما في آخر

-------------------

الظّن المطلقُ مرجّحاً لبعض الظّنون على بعض .

( وحاصل الكلام ) في ردّ النَراقي ( : ان المراد من المرجّح ) لبعض الظنون على بعض ( هنا ) في باب الانسداد ( هو المعيّن والدليل الملزم من جانب الشارع ليس إلاّ ) فالميل النفساني وسكون النفس من المعينات .

( فان كان في المقام ) الذي قلتم بأن الظّن المظنون الاعتبار مقدّم على غيره ( شيء غير الظّن ) الموجب لتقديم ظنّ على ظنّ ( فليذكر ) حتى نرى ان ذلك المرجح ما هو ؟ .

( وإن كان ) المرجّح والملزم والمعيّن لبعض الظنون على بعض ( مجرّد الظّن ، فلم تثبت حجّية مطلق الظّن ) حتى يكون الظّن مرجحاً .

( فثبت من جميع ذلك : إن الكلام ليس في المرجّح للفعل ) الذي يفعله الشخص بالميل النفساني والسكون الاطمئناني كما قاله النَراقي ( بل المطلوبُ المرجّحُ للحكم بأنّ الشارع أَوجَب بَعْدَ الانسداد العمل بهذا ) المظنون الاعتبار ( دون ذاك ) الذّي لم يظن إعتباره .

( وممّا ذكرنا ) من ان الظّن بالاعتبار لايكون مرجِّحاً قطعياً ( يظهرُ ما في آخر

ص: 228

كلام البعض المتقدّم ذِكْرُه في توضيح مطلبه ، من أنّ كون المرجّح ظنّاً لا يقتضي كونَ الترجيح ظنيّاً . فانّا نقول : إنّ كون المرجّح قطعياً لايقتضي ذلك ، بل إن قام الدليل على إعتبار ذلك المرجّح شرعاً كان الترجيح به قطعيّاً ، وإلاّ فليس ظنيّاً أيضاً .

ثمّ إنّ ما ذكره الأخيرُ في مقدّمته ، من أنّ الترجيح بلا مرجّح قبيح ، بل محال ، يظهرُ منه خلطٌ بين الترجيح بلا مرجّح في الايجاد والتكوين وبينه

-------------------

كلام البعض المتقدّم ذِكْرُه ) وهو الشيخ محمد تقي رحمه اللّه ( في توضيح مطلبه : من أنّ كون المرجّح ظنّاً لايقتضي كونَ الترجيح ظنيّاً ) وهذا ما ذكره في آخر كلامه حيث نقله المصنّف عنه قبل صفحتين ونصف تقريباً .

( فانّا نقول ) في ردّ الشيخ محمد تقي : ( إن كون المرجّح قطعياً ) أي : كون المرجح متحقق الوجود قطعاً ( لايقتضي ذلك ) أي : لايقتضي الترجيح ، لان وجود الرّجحان لايستلزم ان يكون الشارع جعله مرجحاً ( بل إن قام الدليلُ على إعتبار ذلك المرجح شرعاً ، كان الترجيح به قطعيّاً ، وإلاّ فليس ظنيّاً أيضاً ) .

إذ القطع بانّ قسماً خاصاً من الخبر في حال إنسداد ، وهو الجامع للقيود الخمسة التي ذكرناها سابقاً ، راجح على باقي أقسام الخبر ، لايقتضي أن يكون الترجيح بهذا قطعياً ، بلّ ولا ظنيناً إلاّ أن يقوم دليل من الشارع يقول : قدّم هذا الظّن - الذي هو مظنون الاعتبار ، أو هو مقطوع الاعتبار - على غيره .

( ثمّ إن ما ذكره الأخيرُ ) أي : النَراقي ( في مقدّمته : من انّ الترجيح بلا مرجّح قبيح ، بل محال ، يظهرُ منه خلط بين الترجيح بلا مرجّح في الايجاد والتكوين ) بأن يكون هناك شيئان متساويان كلّ قابل للوجود فيوجد الخالق أحدهما دون الآخر ، فانّه خلاف الحكمة ، وخلاف الحكمة محال على الحكيم ( وبينه ) أي :

ص: 229

في مقام الالزام والتكليف . فانّ الأوّل محال ، لا قبيح ، والثاني قبيح ، لا محال.

فالاضرابُ في كلامه عن القبيح إلى الاستحالة لاموردَ له ، فافهم .

فَثَبَت ممّا ذكرنا أنّ تعيينَ الظنّ في الجملة مِن بَيْنَ الظنون بالظنّ غيرُ مستقيم .

وفي حُكْمِه مالو عيّن بعض الظنون لأجل الظنّ بعدم حجّية ما سواه ،

-------------------

بين الترجيح بلا مرجح ( في مقام الالزام والتكليف ) .

وإنّما كان خلطاً ( ف- ) لاجل ( أنّ الأوّل : محال ، لاقبيح ) لما عرفت ، وربّما يقال : بأنّه إذا لم يكن هذا ترجيحاً كان من وجود المعلول بدون العلة التامّة وذلك محال .

( والثاني : قبيح ، لامحال ) لأنّه خلاف ما يليق عقلاً .

وعليه : ( فالاضراب في كلامه ) أي النَراقي ( عن القبيح الى الاستحالة لا مورد له ) إذ لكلّ من الاستحالة والقبح مورد غير مورد الآخر .

( فافهم ) ولعلّة إشارة الى أن كليهما بالنسبة الى الحكيم محال - لأنّ التكوين والتشريع كليهما بحاجة الى العلة - وبالنسبة الى غير الحكيم قبيح ، والكلام في المقام طويل جداً محلّه علم الكلام والحكمة ، ولذا نضرب عنه صفحاً .

( فثبت ممّا ذكرنا : إنّ تعيين الظّن ) بعد الانسداد تعييناً ( في الجملة من بين الظنون ) بأن نقول : إنّ الظّن في الجملة حجّة لا أن كل ظنّ حجّة ويعيّن ذلك الظّن من بين الظّنون ( بالظّن ) بأن يكون الحجّة : الظّن المظنون الاعتبار ، فهو ( غير مستقيم ) .

( وفي حكمه ) أي في حكم تعييّن الظّن الذي قلنا إنّه غير مستقيم ( مالو عيّن بعض الظنون ، لأجل الظنّ بعدم حجّية ما سواه ) مثلا : نقول : الظنون على أربعة

ص: 230

كالأولويّة والاستقراء بل الشهرة ، حيث أنّ المشهور على عدم إعتبارها ، بل لا يبعد دخول الأوّلين تحت القياس المنهيّ عنه ، بل النهيُ عن العمل بالأولى منهما واردٌ في قضيّة « أبان » المتضمّنة لحكم دية أصابع المرأة .

فانّه بذلك أنّ الظنّ المعتبر بحكم الانسداد في ماعدا هذه الثلاثة .

وقد ظهر ضعفُ ذلك ممّا ذكرنا من عدم إستقامة تعيين القضيّة المهملة بالظنّ .

-------------------

أقسام ، لكن ثلاثة منها منفية فالرابع هو الحجّة ( كالأولوية والاستقراء ، بل الشهرة ، حيث إن المشهور على عدم إعتبارها ) أي : على عدم إعتبار هذه الظنون الثلاثة : الأولويّة ، والاستقراء ، والشهرة .

لكن لايخفى ان نفي الشهرة بالشهرة محل تأمّل .

( بل لايبعد دخول الأوّلين ) الأولويّة والاستقراء ( تحت القياس المنهيّ عنه ) لأنه نوع قياس ، فلا تحتاج الى الشهرة في نفيهما .

( بل النّهي عن العمل بالأولى منهما ) أي : بالأولوية ( وارد في قضية أَبان المتضمّنة لحكم ديّة أصابع المرأة ) وحيث قد تقدّمت الرّواية والاستدلال بها في أوّل الكتاب فلا حاجة الى إعادتهما .

وعليه : ( فانّه يظنّ بذلك ) أي : بعدم إعتبار الاُمور الثلاثة ، و ( ان الظّن المعتبر بحكم الانسداد ، فيما عدا هذه الثلاثة ) : الأولويّة والاستقراء والشهرة . ( وقد ظهر ضعف ذلك ) أي : تعيين الظّن بسبب نفي غيره ( ممّا ذكرنا : من عدم إستقامة تعيين القضيّة المهملة بالظّن ) فانّ الظّن سواء كان ظنّاً باعتبار شيء أو ظنّاً بعدم إعتبار شيء آخر - ممّا يثبت إعتبار غيره - ليس بحجّة حتى يعيّن بعض الظنون دون بعض .

ص: 231

ونزيد هنا أنّ دعوى حصول على عدم إعتبار هذه الامور ممنوعةٌ ، لأنّ مستند الشهرة على عدم إعتبارها ليس إلاّ عدمَ الدّليل عند المشهور على إعتبارها ، فيبقى تحت الأصل ، لالكونها منهيّاً عنها بالخصوص ، كالقياس ، ومثلُ هذه الشهرة المستندة إلى الاصل لايوجبُ الظنّ بالواقع .

وأمّا دعوى كون الأوّلين قياساً ، فنكذّبه بعمل

-------------------

( ونزيد هنا : إن دعوى حصول الظّن على عدم إعتبار هذه الاُمور ممنوعة ) . فأوّلاً قلنا : انّه لو حصل الظّن بعدم إعتبار الثلاثة ، لم يكن هذا الظّن حجّة على أن الظّن المعتبر ، هو غير هذه الثلاثة .

وحالاً نقول : انّه لايحصل الظّن بعدم إعتبار هذه الثلاثة ، بل نتيجة الانسداد أن الظّن حجّة ولو كان الظّن الحاصل من هذه الثلاثة .

( لان مستند الشهرة على عدم إعتبارها ) أي : عدم إعتبار هذه الثلاثة ( ليس إلاّ عدم الدّليل عند المشهور على إعتبارها ) أي : انَّ المشهور يقولون انّه لا دليل على إعتبار هذه الثلاثة ( فيبقى تحت الأصل ) حيث انّ الأصل عدم الحجيّة ، فاذا شككنا في حجيّة هذه الثلاثة ، فالأصل عدم حجيّتها ( لا لكونها ) أي : هذه الثلاثة ( منهيّاً عنها بالخصوص كالقياس ) .

والحاصل : ان هذه الثلاثة لا دليل على حجيتها : لا انّ هناك دليلاً على عدم حجيتها حتى تكون هذه الثلاثة كالقياس المنهي عنه .

( ومثل هذه الشهرة ) على عدم إعتبار الثلاثة ( المستندة الى الاصل ، لا يوجب الظنّ بالواقع ) فانّ المشهور إنّما يقولون بعدم حجيّة هذه الثلاثة من جهة الأصل ، والأصل لايوجب الظنّ بالواقع حتى نظنّ بأن هذه الثلاثة ليس بحجّة .

( وأمّا دعوى كون الأولين قياسا ) وهما : الأولويّة والاستقراء ( فنكذّبه بعمل

ص: 232

غير واحد من أصحابنا عليهما . بل الأولويّة قد عمل بها غيرُ واحد من أهل الظنون الخاصّة في بعض الموارد .

ومنه يظهر الوهنُ في دلالة قضيّة « أبان » على حرمة العمل عليها بالخصوص ،

-------------------

غير واحد من أصحابنا عليهما ) فانّ غير واحد من الأصحاب قالوا بحجية هذين الاثنين عند الانسداد .

( بل الأولويّة قد عمل بها غير واحد من أهل الظنون الخاصّة في بعض الموارد ) كالشهيد الثاني ، وصاحب المَعالم ، وغيرهما ، فانّهم يَرَونَ ان الاستقراء والأولويّة حجّة حتى في حال الانفتاح . أمّا الأولويّة ، فلأنها من جهة الملاك المقطوع به ، كما في قوله تعالى : « ولا تَقُل لَهُما أُفٍ » (1) المفيدة لحرمة شتمهما وضربهما وإهانتهما وطردهما . وأما الاستقراء : فلعمل العبيد عليه في أوامر الموالي ، والشارع لم يحدث طريقة جديدة ، فاذا كان المولى - مثلاً - يستصحب عبده كلّ يوم الى محله فلم يحضر العبد يوماً ، معتذراً بأنه لم يقل له المولى أنت كلّ يوم ، رأى العقلاء إستحقاق العبد للعقاب حيث يقولون له : ألَمْ يستصحبك في الأيام السابقة ؟وهذا ليس الاّ الاستقراء ،الى غير ذلك من الامثلة .

( ومنه ) أي : من عمل العقلاء ، بالأولويّة عند الانسداد ، بل عند الانفتاح أيضاً كما نقلناه عن جملة من أصحابنا - ( يظهر الوهن في دلالة قضية أَبان على حرمة العمل عليها ) أي على الأولويّة ( بالخصوص ) فكيف بحال الانسداد ؟ .

ص: 233


1- - سورة الاسراء : الآية 23 .

فلا يبقى ظنٌ من الرّواية بحرمة العمل عليها بالخصوص .

ولو فرض ذلك دخل الأولويّةُ فيما قام الدّليل على عدم إعتباره ، لأنّ حجيّة الظنّ الحاصل من رواية أبان متيقن الاعتبار بالنسبة إلى الأولويّة؛ فحجّيتها مع عدم حجّية الخبر الدالّ على المنع عنها غير محتملة ، فتأمّل .

-------------------

وحيث كان الوهنُ في دلالة الرواية ( فلا يبقى ظنّ من الرواية بحرمة العمل عليها ) أي : على الأولويّة ( بالخصوص ) فكيف بحال الانسداد ؟ .

والوهن انّما يكون من جهة انّه لاأولوية في الرّواية بعد قاعدة : كون المرأة نصف الرجل ، ففهم أَبان من الرواية الأولويّة كان فهماً على خلاف فهم العقلاء ، فالنقص في فهم أَبان لا في عدم حجيّة الأولويّة . ( ولو فرض ذلك ) أي : فرض كون الظّن بحرمة العمل بالأولوية مستفاداً من رواية أَبان . ( دخل الأولويّة فيما قام الدّليل على عدم إعتباره ) الضمير يرجع الى « ما » ( لأن حجّية الظّن الحاصل من رواية أَبان متيقنّ الاعتبار ، بالنسبة الى الأولويّة ) فان خبر أَبان وهو حجّة شرعاً دال على عدم جواز الأخذ بالأولوية ، فيكون خبر أَبان كالخبر الدال على عدم حجية القياس ، فالظّن الحاصل من الأولويّة منع الشارع عن العمل به ، كما أن الظنّ الحاصل من القياس منع الشارع عن العمل به .

( فحجّيتها ) أي : حجّية الأولية ( مع عدم حجّية الخبر الدال على المنع عنها ) أي : عن الاوّلوية ، والمراد بالخبر : هو خبر أَبان ( غير محتملة ) فلا يصح أن نَردَّ حجّية خبر أَبان لاجل حجيّة الأولويّة ، من ان خبر أَبان منع عن الأولويّة .

( فتأمل ) لعلّه إشارة الى الأولويّة لها من القوة ، بحيث لايتمكن خبر أبان من منعها حتى تكون الأولويّة غير حجّة ، فحال الأولويّة حال خبر الواحد ، حيث إن

ص: 234

ثمّ بعد ما عرفت من عدم إستقامة تعيين القضيّة المهملة بمطلق الظنّ ، فاعلم : أنّه قد يصحّ تعيينها بالظنّ في مواضع :

أحدُها : أن يكون الظنّ القائمُ على حجّيّة بعض الظنون من المتيقن إعتباره بعد الانسداد ، إمّا مطلقاً ، كما إذا قام فردٌ من الخبر الصحيح المُتَيَقنَ إعتباره مِن بَيْنَ سائر الأخبار وسائر الأمارات على حجّية بعض ما دونه ،

-------------------

لخبر الواحد من القوة بحيث لايتمكن خبر من المنع عن حجيته حتى يكون خبر الواحد غير حجّة . ( ثمّ بعد ما عرفت : من عدم إستقامة تعيين القضيّة المهملة بمطلق الظنّ ) أي : ان الظّن لا يعيّن بعض الظنون ، دون بعض حتى يكون الظّن المظنون الاعتبار حجّة دون الظّن الذي لم يظن باعتباره ( فاعلم انّه قد يصح تعيينها ) أي : تعيين القضية المهملة ( بالظّن في مواضع ) فيكون الظّن معيناً للظّن : ( أحدها أن يكون الظّن القائم على حجية بعض الظّنون من المتيقن إعتباره بعد الانسداد ) فان المتيقن من نتيجة دليل الانسداد على القول بالكشف على قسمين :

قسم متيقن حقيقي وهو ما كان إعتباره على الاطلاق متيقناً قطعاً . وقسم متيقن إضافي - سيشير المصنّف اليه - وهو ما كان إعتباره متيقناً بالاضافة .

فالاول : ( إما مطلقاً كما إذا قام فرد من الخبر الصحيح المتيقن إعتباره من بين سائر الأخبار وسائر الأمارات ) أي : إنّه يقيني بين سائر الأخبار وسائر الأمارات حيث انّ سائر الأخبار وسائر الأمارات محتمل الحجّية ، بينما هذا الخبر متيقن لتوفر الشروط الخمسة المذكورة سابقاً فيه ، فقام ( على حجّية بعض ما دونه ) . مثلاً : إذا قام الخبر الصحيح الأَعلائي ، على حجية خبر الثقة الذي هو دون

ص: 235

فانّه يصير حينئذٍ متيقّن الاعتبار ، لأجل قيام الظنّ المتيقّن الاعتبار على إعتباره .

لكن هذا مبنيّ على عدم الفرق في حجّية الظنّ بين كونه من المسائل الفرعيّة وكونه في المسائل الاُصولية ، وإلاّ فلو قلنا إنَّ الظنّ في الجملة ، الذي قضى به مقدمات دليل الانسداد ، إنما هو المتعلّقُ بالمسائل الفرعيّة دون غيرها ،

-------------------

الخبر الصحيح الاعلائي ( فانّه ) الضمير عائد الى « ما » ( يصير حينئذ متيقّن الاعتبار ) لان خبر الثقة بقيام الخبر الصحيح على حجّيته يكون متيقن الاعتبار أيضاً ، وذلك كما قال ( لاجل قيام الظّن المتيقن الاعتبار على إعتباره ) . وعليه : فظّن معتبر ، عيّن ظنّاً مشكوك الاعتبار ، فيكون ذلك الظّن المشكوك أيضاً معتبراً . ( لكن هذا مبنّي على عدم الفرق في حجّية الظّن ، بين كونه في المسائل الفرعيّة ، وكونه في المسائل الاُصوليّة ) . مثلاً : إذا قال الخبر : الدّعاء واجب عند رؤية الهلال ، كان هذا قائماً على مسألة فرعية ، أما إذا قال الخبر : الشهرة حجّة ، فهو قائم على مسألة اُصولية ، فالخبر المتيقن الاعتبار الذي يقول بأن خبر الثقة حجّة ، يكون من الظّن القائم على مسألة اُصولية لأنّ مسألة الحجّية واللاحجّية من المسائل الاُصولية ، لا من الأحكام الخمسة حتى تكون مسألة فرعية .

( وإلاّ ) يعني : إن لم نقل بأنّ الظّن الانسدادي حجّة في المسائل الاصولية ( فلو قلنا : إنّ الظّن في الجملة الذي قضى به مقدمات دليل الانسداد إنّما هو المتعلّق بالمسائل الفرعيّة دون غيرها ) من المسائل الاصولية ، فالظّن في المسائل الفرعية

ص: 236

فالقدر المتيقن انّما هو متيقنٌ بالنسبة الى الفروع لاغير .

وممّا ذكرنا سابقاً ، من عدم الفَرق بين تَعَلُّق الظنّ بِنَفْس الحكم الفرعيّ وبين تَعَلّقه بما جعل طريقاً إليه ، إنّما هو بناء على ما هو التحقيق من تقرير مقدمات الانسداد على وجه يوجب حكومة العقل دون كَشْفِه عن جَعْلِ الشارع ، والقدر المتيقن مبنيّ على الكشف ،

-------------------

حجّة ، لا في المسائل الاصولية .

وعليه : ( فالقدر المتيقن ) من حجّية الخبر الصحيح ( إنّما هو متيقن بالنسبة الى الفروع لاغير ) وحينئذ فاذا قام الخبر المتيقن حجّيته على حجية خبر الثقة - مثلاً -

فانّه لا يسبِّب هذا الظّن المتيقن ، حجّية خبر الثقة ، لانّه قام على مسألة اُصولية ، وقد عرفت : ان الظّن في المسألة الاُصولية ليس بحجّة على هذا المبنى .

( و ) إن قلت : انّكم ذكرتم سابقاً : من انّه لافرق في الظّن الانسدادي بين الظّن بالفروع والظّن بالمسائل الاُصولية ، فكيف تقولون هنا بأن الظّن بالمسائل الاصولية ليس بحجّة ؟ .

قلت : ( مما ذكرنا سابقاً : من عدم الفرق بين تعلُّق الظّن بنفس الحكم الفرعي ، وبين تعلّقه بما جعل طريقاً إليه ) أي : المسألة الاصولية ( انّما هو بناءاً على ما هو التحقيق من تقرير مقدمات الانسداد على وجه يوجب حكومة العقل ، دون كشفه عن جعل الشارع ) .

فاذا قلنا بالحكومة ، لم يكن فرق بين الظّن المتعلِّق بالمسائل الاُصولية وبين الظّن المتعلِّق بالمسائل الفرعية .

وأمّا اذا قلنا بالكشف ، فالقدر المتيقن من حجية الظّن الانسدادي انّما هو الظّن المتعلق بالمسائل الفرعية ، واليه أشار بقوله : ( والقدر المتيقن مبنيّ على الكشف

ص: 237

كما سيجيء . إلا أن يدّعى إنّ القدر المتيقن في الفروع هو متيقن في المسائل الاُصولية أيضاً .

وأما بالاضافة إلى ما قام على إعتباره إذا ثبت حجّية ذلك الظنّ القائم . كما لو قام الاجماعُ المنقول على حجّية الاستقراء مثلاً ، فانّه يصير بعد إثبات حجّية الاجماع المنقول ببعض الوجوه ظنّاً معتبراً .

ويُلحق به ما هو متيقنٌ بالنسبة إليه كالشهرة ، إذا

-------------------

كما سيجيء ) فلا منافاة بين كلامنا هنا وكلامنا سابقاً .

والحاصل : انّه على الحكومة يكون الظّن حجّة مطلقاً ، سواء تعلق بمسألة اُصولية أو فرعية ، امّا بناءاً على الكشف ، فالظّن حجّة في المسألة الفرعية فقط .

( إلاّ أن يدّعى : ان القدر المتيقن في الفروع هو متيقن في المسائل الاُصولية أيضاً ) فاذا كان المتيقن من الخبر ذي الخمسة الشروط السابقة حجّة على الفروع ، كان حجّة على المسألة الاصولية أيضاً ، لان الملاك في المسألتين واحد .

( وأما بالاضافة الى ما قام على إعتباره إذا ثبت حجّية ذلك الظنّ القائم ) وهذا عطف على قوله : « امّا مطلقاً » أي : كون المتيقن نسبياً وبالاضافة الى شيء آخر ، بأن يكون الشيء الثاني حجّة قطعاً بالنسبة الى الشيء الأول ، بمعنى : انّه إذا كان الشيء الاول حجّة فالشيء الثاني يكون حجّة يقيناً .

( كما لو قام الاجماع المنقول على حجيّة الاستقراء - مثلاً - فانّه يصير بعد اثبات حُجيّة الاجماع المنقول ببعض الوجوه ) الدالة على حجّية إجماع المنقول ( ظنّاً معتبراً ) خبر قوله : « فانّه يصير » .

( ويلحق به ) أي : بالاستقراء ( ما هو متيقن بالنسبة اليه ) أي الى الاستقراء ، فانّه إذا كان الاستقراء حجّة كان ذلك الشيء حجّة بطريق أولى ( كالشهرة إذا

ص: 238

كانت متيقنة الاعتبار بالنسبة إلى الاستقراء بحيث لا يحتمل اعتبارهُ دُونها .

الثاني : أن يكون الظنُّ القائمُ على حجّية ظنّ متحّداً لا تعدّد فيه ،

-------------------

كانت ) الشهرة ( متيقنة الاعتبار بالنسبة الى الاستقراء بحيث لايحتمل إعتباره ) أي الاستقراء ( دونها ) أي : دون الشهرة .

فانّه قد قام الاجماع المنقول الذي هو حجّة إنسدادي على حجية الشهرة ، لكن لامباشرة ، بل بسبب انّ الاجماع جعل الاستقراء حجّة ، والشهرة أولى بالحجّية من الاستقراء فاذا كان الاستقراء حجّة ، كانت الشهرة حجّة بطريق أولى .

( الثاني ) ممّا يصح تعيينه بسبب الظّن : ( أن يكون الظّن القائم على حجّية ظنّ متحّداً لا تعدّد فيه ) فان الأقسام ثلاثة :

الاوّل : أمارة واحدة على ظنّ واحد ، كالشهرة القائمة على الخبر .

الثاني : أمارات متعددة على جملة من الظنون ، كالشهرة على الخبر ، والاجماع المنقول على الأولويّة ، وهكذا .

الثالث : أمارة واحدة على جملة من الظنون مثل الشهرة على الخبر والأولويّة والاجماع المنقول .

وما ذكره المصنّف هو القسم الأول ، فاذا كان هناك ظنون متعددة بعد الانسداد ، كظنّ خبري ، وظنّ إجماعي وظنّ أولي ، وقلنا : بانّه لايجب العمل بالكل إحتياطاً ، لانّ الاحتياط عسرٌ ، أو لايجوز لانّه مُخّل بالنظام ، فاذا قامت الشهرة الموجبة للظنّ على الظّن الخبري أخذ بالظنّ الخبري وإن كان ظّنّ الشهرة من أضعف الظنون لانّه في تعيين تلك الطرق الثلاثة تجري مقدمات الانسداد .

فنقول : لايلزم كل الثلاثة ، ولايترك كل الثلاثة .

ص: 239

كما إذا كان مظنونُ الاعتبار منحصراً فيما قام أمارة واحدة على حجّيته ، فانّه يعمل به في تعيين المُتّبع وإن كان أضعَف الظنون ، لأنّه إذ إنسدّ بابُ العلم في مسألة تعييّن ما هو المتّبع بعد الانسداد ولم يجز الرجوع فيها إلى الاصول حتّى الاحتياط ، كما سيجيء ، تعيّنَ الرجوعُ إلى الظنّ الموجود في المسألة ، فيؤخذ به ، لما عرفت من أنّ كلّ مسألةٍ إنسدّ فيها بابُ العلم وفُرِضَ عدمُ صحّة الرجوع فيها إلى مقتضى الاصول ، تَعيّن بحكم العقل العملُ بأيّ ظنّ وجد

-------------------

وأمّا انّه لا يلزم كل الثلاثة ، فلأن الاحتياط غير واجب ، أو غير جائز .

أمّا انّه لايترك كل الثلاثة فلأنّه يوجب الخروج عن الدّين ، فاللازم أن نرجع الى بعض هذه الظنون فنرجّح هذه البعض بسبب الظنّ به .

( كما إذا كان مظنون الاعتبار ) كالخبر ( منحصراً فيما قام أمارة واحدة على حجّيته ) كالشهرة بأن قامت الشهرة على الخبر ، فالخبر مظنون ( فانّه يعمل به ) أي : بالظّن القائم ( في تعيين المُتّبع ) بصيغة المفعول .

والمراد بالمُتبع : هو مظنون الاعتبار كالخبر في مثالنا ، فيؤخذ به ( وان كان ) المُتبع ( أضعف الظّنون ، لانّه إذا إنسد باب العلم في مسألة تعييّن ما هو المُتَبع ) - بالفتح - ( بعد الانسداد ولم يجز الرّجوع فيها ) أي : في المسألة ( الى الاصول حتى الاحتياط ) لأنّه حَرجٌ ، أو يوجب إختلال النظام ( كما سيجيء ) من انّه لا يجوز الرّجوع في المسألة الى الاحتياط .

وعليه : فقد ( تعيّن الرجوع الى الظّن الموجود في المسألة ، فيؤخذ به ) أي : بالظّن ، وذلك ( لِما عرفت : من أنّ كلّ مسألة إنسد فيها باب العلم ، وفرض عدم صحّة الرجوع فيها الى مقتضى الاصول تعيّن بحكم العقل : العمل بأي ظنّ وجد

ص: 240

في تلك المسألة .

الثالث : أنّ يتعدّد الظنونُ في مسالٔة تعيين المتّبع بعد الانسداد بحيث يقوم كلّ واحد منها على إعتبار طائفة من الأمارات كافية في الفقه .

لكن يكون هذه الظنون القائمة كلّها في مرتبة لايكون إعتبارُ بعضها مظنوناً .

-------------------

في تلك المسألة ) وأن كان من أضعف الظّنون .

فانّه لمّا إنسدّ باب العلم بترجيح الخبر ، أو الاوّلوية ، أو الاجماع المنقول بعضها على بعض ، كان اللازم أن نأخذ بالترجيح الظني ، والمفروض : انّ الظّن الذي يستند الى الشهرة قام على ترجيح الخبر ، فيكون الخبر مظنون الاعتبار .

وأما القِسمان الآخران ، وهو : ما إذا كانت أمارات على جملة من الظنون ، أو كانت أمارة واحدة على جملة من الظنون ، فسيأتي الكلام فيهما في ثالث المصنّف إنشاء اللّه تعالى .

( الثالث : أن يتعدّد الظّنون في مسألة تعيين المُتّبع ) - بالفتح - ( بعد الانسداد ) أي : الظّن الذي يجب إتباعه بعد أن انسد باب العلم ( بحيث يقوم كل واحد منها ) أي : من تلك الظّنون ( على إعتبار طائفة من الأمارات ) وتكون تلك الأمارات ( كافية في الفقه ) أي : كافية بمعظم الفقه ، وذلك مثلناه في الثاني بأن قامت الشهرة على الخبر ، والاجماع المنقول على الأولويّة ، وهكذا .

( لكن يكون هذه الظنون القائمة كلها في مرتبة ) واحدة بحيث ( لايكون إعتبار بعضها مظنوناً ) دون البعض الآخر ، بل يكون كلّها مشكوك الاعتبار ، أو موهوم الاعتبار ، أو مظنون الاعتبار ، فانّه ان كان بينها فرقٌ بأن كان بعضها مظنون الاعتبار ، وبعضها مشكوك الاعتبار ، وبعضها موهوم الاعتبار ، قدّم البعض

ص: 241

فحينئذٍ: إذا وجب بحكم مقدّمات الانسداد في مسألة تعيين المتّبع الرجوعُ فيها إلى الظنّ في الجملة ، والمفروضُ تساوي الظنون الموجودة في تلك المسألة وعدم المرجّح لبعضها ، وجب الأخذُ بالكلّ بعد بطلان التخيير بالاجماع وتعسّر ضبطُ البعض الذي لايلزم العُسرُ من الاحتياط فيه .

-------------------

المظنون على المشكوك والمشكوك على الموهوم .

وعليه : ( فحينئذ ) أي : حين تعدد الظّنون في مسألة تعيين المُتبع مع تساوي مرتبة تلك الظّنون ( إذا وجب بحكم مقدّمات الانسداد في مسألة تعيين المتّبع : الرّجوع فيها ) أي : في مسألة تعيين المتّبع ( الى الظّن في الجملة ) بأن نقول : كما تجري مقدّمات الانسداد في تعيين الحكم ، كذلك تجري في تعيين الطريق الى الحكم ، فهل الطريق : الشهرة التي هي طريق الى الخبر ، أو الطريق : الاجماع المنقول الذي هو طريق الى الأولويّة ؟ .

وحيث لايمكن الاحتياط في الجميع من المظنون والمشكوك والموهوم ولا البرائة ، ولا التقليد ، ولا القرعة ، ولا ما أشبه ذلك ، فاللازم ترجيح المظنون سواء من طريق الشهرة أو الاجماع للتساوي فيؤخذ بالكل ، كما قال : ( والمفروض : تساوي الظنون الموجودة في تلك المسألة ) أي : مسألة تعيين المتّبع ( وعدم المرجّح لبعضها ) على بعض ( وجب الأخذ بالكل بعد بطلان التخيير ) بين هذه الظنون وذلك أولاً : ( بالاجماع ) فانّه باطل إجماعاً .

( و ) ثانياً : ( تعسّر ضبط البعض ، الذي لايلزم العُسر من الاحتياط فيه ) فانّا لو أردنا الاحتياط في هذه المعينّات - بالكسر - كالشهرة والاجماع المنقول في مثالنا ، إحتياطاً لايلزم منه عُسر على المكلّف ، صح ذلك الاحتياط ، لكن حيث يكون

ص: 242

فالذي ينبغي أن يقال : على تقدير صحّة تقرير دليل الانسداد على وجه الكشف ، إنّ اللازمَ على هذا ، أوّلاً ، هو الاقتصارُ على المتيقن من الظنون ، وهل يلحق به كُلّما قام المتقين على إعتباره ؟ وجهان ، أقواهما العدم ، كما تقدّم ، إذ بناءا على هذا التقرير لانسلّمُ كشفَ العقل بواسطة مقدّمات الانسداد

-------------------

ضبط المعِين - بالكسر - الذي لايستلزم العُسر ، هو بنفسه عسُر ، فيلزم ترك الضبط ، وترك الضبط إنّما يكون بإتباع المعِينات - بالكسر .

إذا عرفت ذلك نقول : الى هنا كان الكلام في إن مطلق المعِيّن - الكسر - حجّة ، ومن قوله : فالذي ينبغي ، يكون الكلام في تعيين بعض الظنون ، وهو الذي ذكر الثالث لأجله .

وعليه : ( فالذي ينبغي أن يقال على تقدير صحة تقرير دليل الانسداد على وجه الكشف ) لا الحكومة ( ان اللازم على هذا ) أي : على تقرير الكشف مايلي : ( أولاً : هو الاقتصار على المتيقن من الظّنون ) وهو الظّن المتعلق بالفروع ، لا بالاصول ( وهل يحلق به ) أي : بالمتيقن ( كلما قام المتيقن على إعتباره ؟ ) أي : كما إن المتيقن من ظنون الفروع حجّة ، هل المتيقن إذا قام على إعتبار ظنّ يكون ذلك المتيقن أيضاً حجّة ؟ مثلاً : المتيقن من الظنون : وجوب الجمعة ، لا وجوب الدّعاء عند رؤية الهِلال ، وهذا هو المتيقن في الفروع وهو حجّة بلا إشكال لكن الخبر ، أو الاجماع المنقول ، أو الشهرة ، أو الأولويّة ، التي كلها مظنونات إذا كان بينها متيقن الاعتبار ، فهل هذا المتيقن حجّة أيضاً .

( وجهان : أقواهما العدم ) فليس متيقن الاعتبار بحجّة ( كما تقدّم ، إذ بناءاً على هذا التقرير ) وهو الكشف ( لانسلم كشف العقل بواسطة مقدّمات الانسداد

ص: 243

إلاّ عن إعتبار الظنّ في الجملة في الفروع دون الاصول ، والظنّ بحجّية الأمارة الفلانيّة ظنُّ بالمسألة الاُصوليّة .

نعم ، مقتضى تقرير الدّليل على وجه حكومة العقل أنّه لافرقَ بين تعلّق الظنّ بالحكم الفرعيّ أو بحجّية طريق .

ثمّ إن كان القدرُ المتيقنُ كافياً في الفقه ، بمعنى أنّه لايلزم من العمل بالأصول في مجاريها المحذورُ اللازُم على تقدير الاقتصار على المعلومات ، فهو ،

-------------------

الاّ عن إعتبار الظّن في الجملة ) أي : ليس كلّ الظنون بل المتيقن منها ( في الفروع دون الاصول ) حجّة فقط .

( و ) من الواضح : ان ( الظّن بحجّية الأمارة الفلانية ، ظنٌّ بالمسألة الاصولية ) وليس ظنّاً بالمسألة الفرعية ، حتى يكون حجّة ، وعليه : فالمتيقن من الظنون المتعلِّقة بالفروع حجّة ، لا المتيقن من الظنون المتعلِّقة بالمسائل الاصولية .

( نعم ، مقتضى تقرير الدليل ) أي : دليل الانسداد ( على وجه حكومة العقل ) بأنّ الظّن حجّة هو : ( انّه لا فرق بين تعلّق الظّن بالحكم الفرعيّ ، أو بحجّية طريق ) لأن العقل يرى ان الظّن حجّة ، ولايهم بعد حصول الظّن بين أن يكون الظّن متعلقاً بالأصل أو بالفرع .

( ثمّ ) على تقدير الحكومة ( ان اكان القدر المتيقن كافيا في الفقه ، بمعنى : انّه لايلزم من العمل بالاصول في مجاريها ) أي : مجاري الاصول ( المحذور اللازم على تقدير الاقتصار على المعلومات ) فقط ، من الخروج عن الدّين إذا أجرينا البرائة ، أو العُسر والحَرج ، وإذا أجرينا الاحتياط - مثلاً - ( فهو ) أي : حينئذٍ نعمل بالمتيقن فقط .

ص: 244

وإلاّ فالواجبُ الأخذُ بما هو المتيقنُ من الأمارات الباقية الثابتة بالنسبة إلى غيرها .

فان كفى في الفقه بالمعنى الذي ذكرنا فهو ، وإلاّ فيؤخذ بما هو المتيقن بالنسبة ، وهكذا .

ثمّ لو فرضنا عدمَ القدر المتيقن بين الأمارات او عدم كفاية ما هو القدر المتيقن مطلقاً أو بالنسبة :

-------------------

( والاّ ) أي : بأن كان إجراء الاصول مستلزماً لأحد المحذورين المذكورين ( فالواجب الأخذ بما هو المتيقن من الأمارات الباقية الثابتة بالنسبة الى غيرها ) أي : بالنسبة الى الأمارات التي هي في الدرجة الثالثة .

مثلاً : لنفرض ان الظنّ قام على حجية الخبر ، فهو القدر المتيقن تيقناً إطلاقياً من الظنون في الاصول ، فان كفى الخبر بمعظم الفقه فهو ، وان لم يكف أخذنا بالاجماع في تعيين بقية الأحكام ، لأن الاجماع متيقن نسبي وان لم يكن متيقناً مطلقاً كالخبر ، وإنّما كان الاجماع متيقنا نسبياً ، لانّه بالنسبة الى الأولويّة متيقن فالأولوية في الدرجة الثالثة .

( فان كفى ) المتيقن النسبي ( في الفقه بالمعنى الذي ذكرنا ) من انّه لا يلزم من العمل بالاصول في مجاريها المحذور اللازم على تقدير الاقتصار على المعلومات ( فهو ، وإلاّ فيؤخذ بما هو المتيقن بالنسبة ) كالأولوية التي هي في درجة ثالثة في مثالنا ، ونترك الدرجة الرابعة كالشهرة - مثلاً - ( وهكذا ) حتى ننتهي الى ما يكفي بمعظم الفقه .

( ثم لو فرضنا عدم القدر المتيقّن بين الأمارات ) بأن كانت الجميع متساوية ( أو عدم كفاية ما هو القدر المتيقن مطلقاً ) وهو المتيقن الأول ( أو بالنسبة ) أي :

ص: 245

فان لم يكن على شيء منها أمارةٌ ، فاللازمُ الأخذُ بالكلّ ، لبطلان التخيير بالاجماع وبطلان طرح الكلّ بالفرض وفقد المرجّح ، فتعيّن الجميع .

وإن قام على بعضها أمارة : فان كانت أمارةً واحدةً ، كما إذا قامت الشهرة على حجّية جملة من الأمارات ، كان اللازمُ الأخذ بها ، لتعيّن الرجوع إلى الشهرة في تعيين المتّبع من بين الظنون ،

-------------------

المتيقن ، فالمتيقن ( فان لم يكن على شيء منها أمارة ) معينة ( فاللازم الأخذ بالكل ) أي : بكل تلك الأمارات القائمة على الأحكام ( لبطلان التخيير ) بين الأمارات ( بالاجماع ) فان المكلّف ليس مخيراً بين أن يأخذ بهذه الأمارة أو بتلك الأمارة .

( وبطلان طرح الكل بالفرض ) لانّ المفروض : إنّا لو طرحنا كل الأمارات لزم امّا الخروج عن الدّين ، أو العُسر والحَرج الناشيء من الاحتياط أو ما أشبه ذلك من الاُمور الباطلة .

( وفقد المرجّح ) لها ، لانّه لامرجح لبعض الأمارات على بعض .

إذن : ( فتعيّن ) الأخذ ب- ( الجميع ) كما وقد ظهر : انّه ربّما يعيّن بعض الأمارات ، فيكون بعض الأمارات مظنون الاعتبار دون البعض الآخر .

( وإن قام على بعضها ) أي بعض تلك الأمارات ( أمارة : ) بأن حصل الظّن المظنون الاعتبار ( فان كانت أمارة واحدة ، كما إذا قامت الشهرة على حجّية جملة من الأمارات ) كالخبر الواحد ، والأولويّة ، والاجماع المنقول ، وما أشبه ( كان اللازم الأخذ بها ) أي : بتلك الجملة ( لتعيّن الرّجوع الى الشهرة في تعيين المتّبع من بين الظّنون ) .

وانّما يتعين الرجوع اليها ، لان الظنّ المظنون الاعتبار مقدّم على غيره

ص: 246

وإن كانت أماراتٍ متعدّدةً قامت كلُّ واحدة منها على حجّية ظنّ مع الحاجة إلى جميع تلك الظنون في الفقه وعدم كفاية بعضها عُمِلَ بها .

ولا فَرق حينئذٍ بين تساوي تلك الأمارات القائمة من حيث الظنّ بالاعتبار والعدم وبين تفاوتها في ذلك .

وأمّا لو قامت كلّ واحدة منها على مقدار

-------------------

- على ماسبق - .

( وان كانت أمارات متعدّدة ، قامت كلّ واحدة منها على حجّية ظنّ ، مع الحاجة الى جميع تلك الظنون في الفقه ، وعدم كفاية بعضها ) أي : بعض تلك الظنون ( عُمِل بها ) أي : بتلك الأمارات المتعددة جميعاً ، كما إذا قامت الشهرة على الخبر ، والاجماع المحصل على السيرة ، وهكذا .

( ولا فرق حينئذ ) أي : حين كانت أمارات متعددة ، قامت لكل واحدة منها على حجّية ظنّ خاص ( بين تساوي تلك الأمارات القائمة ) على حجيّة الظنون ( من حيث الظن بالاعتبار والعدم ) أي : عدم الظّن بالاعتبار ، بان الظّن باعتبار الأمارات القائمة أو لا نظنّ باعتبارها ( وبين تفاوتها ) أي : تفاوت تلك الأمارات القائمة ، بأن نظنّ باعتبار البعض ، ولانظن باعتبار البعض الآخر ( في ذلك ) اسم الاشارة راجع الى الظّن .

وانّما لافرق ، لان المفروض : الاحتياج الى الجميع في الوفاء بمعظم الفقه حيث قلنا : مع الحاجة الى جميع تلك الظنون ، وعليه : فلا فرق بين أن تكون كلها متساوية في الاعتبار ، أو كلها متساوية في عدم الظّن بالاعتبار ، أو مختلفة : بأن يظن باعتبار بعضها دون اعتبار بعض .

( وأمّا لو قامت كل واحدة منها ) أي : من تلك الأمارات ( على مقدار

ص: 247

من الأمارات كافٍ في الفقه : فان لم تتفاوت الأماراتُ القائمةُ في الظنّ بالأعتبار وجب الأخذُ بالكلّ ، كالأمارة الواحدة لفقد المرجّح ، وإن تفاوتت : فما قام متيقّنٌ الاعتبار او مظنونُ الاعتبار على إعتباره يصير معينّاً ، كما إذا قام الاجماع المنقول بناءا على كونه مظنون الاعتبار على حجّية أمارة غير مظنونة الاعتبار وقامت تلك الأمارة ،

-------------------

من الأمارات ، كافٍ ) ذلك المقدار ( في الفقه ) كما إذا قامت الشهرة على حجّية الخبر العادل فقط ، وقام الاجماع المنقول على حجّية الأولويّة القطعيّة فقط ، وهكذا .

( فان لم تتفاوت الأمارات القائمة في الظّن بالاعتبار ) وذلك بأن كان الجميع مظنون الاعتبار ، أو كان الجميع غير مظنون الاعتبار ( وجب الأخذ بالكل ، كالأمارة الواحدة ، لفقد المرجّح ) فكما انّه إذا كانت أمارة واحدة قائمة على جملة من الأمارات نأخذ بتلك الجملة ، كذلك إذا كانت أمارات متعددة قامت كلّ واحدة على مقدار من الأمارات .

( وان تفاوتت ) أي : الأمارات القائمة تفاوتت في الظّن بالاعتبار ( فما قام متيقن الاعتبار او مظنون الاعتبار على إعتباره ، يصير معيّناً ) لاستناده الى اليقين ، أو الى الظّن الذي هو الملجأ عند الانسداد .

( كما إذا قام الاجماع المنقول بناءاً على كونه مظنون الاعتبار على حجّية أمارة غير مظنونة الاعتبار ) مثلاً : خبر غير الامامي غير مظنون الاعتبار ، لكن قام الاجماع المنقول على إعتباره ( وقامت تلك الأمارة ) على الحكم .

والمراد بتلك الأمارة : هي الأمارة غير مظنون الاعتبار ، كما إذا قام خبر غير الإمامي على وجوب صلاة الجمعة - مثلاً - وقام الاجماع المنقول على حجّية خبر

ص: 248

فانها تتعيّن بذلك .

هذا كلّه على تقدير كون دليل الانسداد كاشفاً .

وأمّا ، على ما هو المختار من كونه حاكماً ، فسيجيء الكلامُ فيه بعد الفراغ عن المعمّمات التي ذكروها لتعميم النتيجة ، إن شاء اللّه تعالى .

إذا عرفت ذلك ، فاللازم على المجتهد أن يتأمّل في الأمارات ، حتّى يعرفَ المتيقن منها حقيقةً أو بالاضافة الى غيرها ،

-------------------

غير الامامي ( فانّها ) أي : الأمارة غير مظنونة الاعتبار ، كخبر غير الامامي في مثالنا ( تتعيّن بذلك ) أي : بالاجماع المنقول الذي كان في كلامنا .

( هذا كلّه على تقدير كون دليل الانسداد كاشفاً ) حيث انّ الكشف في الجملة ، لا أنّه كاشف على الاطلاق ، كما ألمعنا الى ذلك سابقاً .

( وأمّا على ماهو المختار من كونه ) أي : دليل الانسداد ( حاكماً ) أي : انّه بعد تمامية المقدّمات ، يكون العقل حاكماً بحجّية الظنّ ( فسيجئالكلام فيه بعد الفراغ عن المعمّمات التي ذكروها لتعميم النتيجة إنشاء اللّه تعالى ) فانّ النتيجة إذا كانت مهملة إحتجنا الى تعميم حجّية الظّن بسبب معمّم خارجي ، إذ دليل الانسداد بنفسه لايدُل على التعميم .

( إذا عرفت ذلك ) الذي ذكرناه : من وجود المتيقن وعدم وجوده ، ووجود المتيقن ، فالمتيقن وعدم وجوده ، الى غير ذلك ( فاللازم على المجتهد أن يتأمّل في الأمارات حتى يعرف المتيقن منها حقيقة ) أي : تيقناً حقيقياً على كل حال ( أو بالإضافة الى غيرها ) أي : المتيقن فالمتيقن ، ففيما إذا كان المتيقن كافياً بمعظم الفقه فهو ، وإلاّ إحتاج الى المتيقن .

ص: 249

ويُحصّلَ مايمكن تحصيله من الأمارات القائمة على حجّية تلك الأمارات ، ويميّز بين تلك الأمارات القائمة من حيث التساوي والتفاوت من حيث الظنّ بحجّية بعضها من أمارة أُخرى ، ويعرفَ كفايةَ ما أُحرِزَ إعتبارُه من تلك الأمارات وعدمَ كفايته في الفقه .

وهذا يحتاجُ الى سير مسائل الفقه إجمالاً حتى يعرف أنّ القدر المتيقن من الأخبار ، لايكفي مثلاً في الفقه بحيث يرجع ، في موارد خلت عن هذا الخبر ، إلى الاصول التي يقتضيها الجهلُ بالحكم في ذلك المورد .

-------------------

( و ) على المجتهد أن ( يحصّل مايمكن تحصيله من الأمارات القائمة على حجّية تلك الأمارات ) فالخبر - مثلاً- الذي يدلّ على الحكم أمارة ، والاجماع الذي قام على حجّية الخبر : أمارة قامت على حجّية أمارة أُخرى .

( و ) عليه بعد ذلك ان ( يميز بين تلك الأمارات القائمة ، من حيث التساوي والتفاوت ) تساوياً ، أو تفاوتاً ( من حيث الظّن بحجّية بعضها من أمارة أُخرى ) وعدم ذلك .

( و ) انّما يلزم على المجتهد ماذكرناه ، كي ( يعرف كفاية ما احرز إعتباره من تلك الأمارات ، وعدم كفايته في الفقه ) لأنّ المقصود المهم للمجتهد : معرفة قدر كافٍ من الفقه ، يسبب إنحلال العلم الاجمالي بالتكاليف الواجبة على الناس .

( وهذا ) اللازم على المجتهد ممّا ذكرناه ( يحتاج الى سير ) الفقيه في ( مسائل الفقه إجمالاً ) من أول الطهارة الى آخر الدّيات ( حتى يعرف انّ القدر المتيقن من الأخبار لايكفي - مثلاً - في الفقه ، بحيث يرجع في موارد خلت عن هذا الخبر ) والمراد بالخبر : الجنس ( الى الاصول التي يقتضيها الجهل بالحكم في ذلك المورد ) .

ص: 250

وأنّه إذا إنضمّ اليه قسمٌ آخر من الخبر ، لكونه متيقناً إضافيّاً ، أو لكونه مظنون الاعتبار بظنّ متبّع ، هل يكفي أم لا ؟ فليس له الفتوى على وجه يوجب طرحَ سائر الظنون حتى يعرفَ كفاية ما أحرزه من جهة اليقين أو الظنّ المتّبع . وفقّنا اللّه للإجتهاد الذّي هُو أشدُّ من طُول الجِهاد ، بحقِّ مُحمّد وآله الأمجاد .

-------------------

وذلك لأن الاصول انّما تجري في موارد لم يكن فيها خبر ممّا يجهل الفقيه حكم ذلك المورد ، فيرجع فيه الى الاصول الأربعة كل في موضعه .

( و ) حتى يعرف ( انّه إذا إنضمّ اليه قسم آخر من الخبر ، لكونه متيقناً إضافيّاً أو لكونه مظنون الاعتبار بظّن متّبع ، هل يكفي أم لا ) فخبر العادل - مثلاً- متيقن الاعتبار ، فاذا كفى بمعظم الفقه فهو ، وإلاّ ضمّ إليه خبر الثقة ، وخبر الثقة مظنون الاعتبار ، فان كان الخبران معاً يكفيان بمعظم الفقه فهو ، وإلاّ ضُمّ اليهما خبر الممدوح بدون تعديل أو وثاقة ، وهكذا .

( فليس له ) أي : للفقيه ( الفتوى على وجه يوجب طرح سائر الظنون ) بمجرد عدم وجود المتقين - مثلاً- ( حتى يعرف كفاية ما أحرزه من جهة اليقين ، أو الظّن المتّبع ) فاذا ظهرت له الكفاية جاز له طرح سائر الظنون ، وإلاّ لم يجز له ذلك .

( وفّقنا اللّه ) سبحانه وتعالى ( للإجتهاد الّذي هو أشد من طول الجهاد بحق محمّد وآله الأمجاد ) وقد ورد في الحديث : « مِدادُ العُلَماءِ أفضَلُ مِن دِمَاءِ الشُهَداءِ » (1) وذلك لأنّ الاجتهاد أصعب من الجهاد ، ولأنّ الاجتهاد يبقى ثمره اذا كان مكتوباً أو نحوه ، بينما المجاهدون يذهبون بدون ذكر إذا لم يسجّل

ص: 251


1- - منية المريد : ص341 ، من لا يحضره الفقيه : ج4 ص398 ب2 ح5853 . ففيه يرجّح .

الثاني : من طرق التعميم ماسلكه غير واحد من المعاصرين من عدم الكفاية ، حيث إعترفوا - بعد تقسيم الظنون الى مظنون الاعتبار ومشكوكه وموهومه - بأنّ مقتضى القاعدة بعد إهمال النتيجة الاقتصارُ على مظنون الاعتبار ، ثمّ على المشكوك ، ثمّ يتسرّى إلى الموهوم .

لكنّ الظنون المظنونة الاعتبار غير كافية ، إمّا بأنفسها ، بناءا على إنحصارها في الأخبار الصحيحة بتزكية عدلين ،

-------------------

المجتهدون جهادهم وآثار جهادهم ، واللّه الموفق المستعان .

هذا هو أوّل الوجوه ممّا ذكره قبل صفحات بما عبارته : « المقام الثاني : في انّه على أحد التقريرين السابقين هل يحكم بتعميم الظنّ من حيث الاسباب والمرتبة ام لا » ، الى ان قال : « ويذكر للتعميم من جهتهما وجوه : الأوّل : عدم المرجّح » الى

آخر عبارته ، ثم إنتقل الى الثاني فقال :

( الثاني : من طرق التعميم ) لنتيجة دليل الانسداد تعميماً للمظنون الاعتبار ، والمشكوك الاعتبار ، والموهوم الاعتبار ( ما سلكه غير واحد من المعاصرين من ) جهة ( عدم الكفاية ) لمظنون الاعتبار ، فاللازم التعميم ( حيث إعترفوا بعد تقسيم الظنون الى : مظنون الاعتبار ، ومشكوكه ، وموهومه ، بأنّ مقتضى القاعدة بعد إهمال النتيجة ) لدليل الانسداد ( الاقتصار على مظنون الاعتبار ) فقط .

( ثمّ ) ان لم يكف ف- ( على المشكوك ) الاعتبار ( ثمّ ) إن لم يكف ( يتسرّى الى الموهوم ) الاعتبار .

هذا ( لكن الظنون المظنونة الاعتبار غير كافية ) بمعظم الأحكام ( اما بأنفسها بناءاً على إنحصارها في الأخبار الصحيحة بتزكية عدلين ) فانّ من المعلوم : ان الأخبار الصحيحة بتزكية العدلين في كلّ الرواة ، قليلة جداً .

ص: 252

وإمّا لأجل العلم الاجماليّ بمخالفة كثير من ظواهرها للمعاني الظاهرة منها ووجود ما يظنّ منه ذلك في الظنّون المشكوكة الاعتبار .

فلا يجوز التمسّكُ بتلك الظواهر ، للعلم الاجماليّ المذكور ، فيكون حالها حال ظاهر الكتاب والسُنّة المتواترة في عدم الوفاء بِمُعْظَم الأحكام .

فلا بدّ من التَسرّي ، بمقتضى قاعدة الانسداد ولزوم المحذور من الرجوع إالى الاصول ، الى الظنون المشكوكة الاعتبار

-------------------

( وأما لاجل العلم الاجمالي بمخالفة كثير من ظواهرها للمعاني الظاهرة منها ) أي : إن الأحكام الظاهرة منها مخالفة لما أُريد منها ، لأن هذه الأخبار مخصصة ، أو مقيّدة ، أو مجاز ، فظواهرها شيء والمراد منها شيء آخر .

( ووجود ما يظنّ منه ) الضمير راجع الى « ما » في : « ما يظن » ( ذلك ) أي : ذلك الخلاف ( في الظنون المشكوكة الاعتبار ) « وفي » متعلق « بوجود » أي : يوجد فيما يشك إعتباره مخصصاً ومقيّداً وقرينة مجاز ، للأخبار التي يجب العمل بها ، حيث علمنا علماً إجمالياً بمخالفة كثير من ظواهرها للمراد منها .

وعليه : ( فلايجوز التمسّك بتلك الظواهر ) أي : بظواهر الأخبار بدون الفحص عن الظنون المشكوكة المخصّصة والمقيّدة وقرائن المجاز .

وإنّما لايجوز التمسك بتلك الظواهر ( للعلم الاجمالي المذكور فيكون حالها ) أي : حال هذه الأخبار المظنونة الاعتبار ( حال ظاهر الكتاب والسنّة المتواترة في عدم الوفاء بمعظم الأحكام ) وذلك إما من جهة قلّتها بانفسها ، واما من جهة العلم الاجمالي بمخالفة ظواهر كثير منها للمراد منها .

( فلابدّ من التسري - بمقتضى قاعدة الانسداد ، ولزوم المحذور من الرّجوع الى الاصول - الى الظنون المشكوكة الاعتبار ) « الى الظنون » متعلق ب- « التسري » ،

ص: 253

التي دلّت على إرادة خلاف الظاهر في ظواهر مظنون الاعتبار ، فيعملُ بما هو من مشكوك الاعتبار مخصّص لعمومات مظنون الاعتبار ومقيّد لاطلاقاته وقرائن لمجازاته .

فاذا وجب العملُ بهذه الطائفة من مشكوك الاعتبار ، ثبت وجوبُ العمل لغيرها ممّا ليس فيها معارضةٌ لظواهر الأمارات المظنونة الاعتبار ، بالاجماع على عدم الفرق بين أفراد مشكوك الاعتبار ،

-------------------

لأنه قد إنسدّ باب العلم ولايمكن الرجوع الى الاصول ، فلا بّد من الذهاب الى الظنون المشكوكة الاعتبار ( التي دلّت ) تلك الظنون المشكوكة الاعتبار ( على ارادة خلاف الظاهر في ظواهر مظنون الاعتبار ) .

وعليه : ( فيعمل بما هو من مشكوك الاعتبار ) فان مشكوك الاعتبار ( مخصّص لعمومات مظنون الاعتبار ، ومقيّد لاطلاقاته ، وقرائن لمجازاته ) فانّ في مظنون الاعتبار : عمومات ، ومطلقات ، ومجازات ، وفي الظنون المشكوكة الاعتبار : مقيدة ومخصصة لها ، وقرينة لمجازاتها فنعمّم . الظن الذي هو حجّة من مظنون الاعتبار الى مشكوك الاعتبار .

هذا تعميم ، وهناك تعميم آخر أشار إليه بقوله : ( فاذا وجب العمل بهذه الطائفة من مشكوك الاعتبار ) التي هي مخصصة ومقيدة أو قرائن مجاز ( ثبت وجوب العمل لغيرها ) أي : لغير هذه الطائفة من مشكوك الاعتبار ( ممّا ليس فيها معارضة لظواهر الأمارات المظنونة الاعتبار ) .

وإنّما ثبت وجوب العمل ( بالاجماع على عدم الفرق بين أفراد مشكوك الاعتبار ) سواء كان معارضاً لمظنون الاعتبار ، أم لم يكن معارضاً لمظنون الاعتبار ، وهذا هو التعميم الثاني .

ص: 254

فانّ أحداً لم يفرّق بين الخَبر الحَسَن المعارض لاطلاق الصحيح وبين خبر حَسَن آخر غير معارض لخبر صحيح ، بل بالأولويّة القطعيّة ، لأنّه إذا وجب العملُ بمشكوك الاعتبار الذي له معارضة لظاهر مظنون الاعتبار ، فالعملُ بما ليس له معارض أولى .

ثمّ نقول : إنّ في ظواهر مشكوك الاعتبار موارد كثيرة يُعْلَم إجمالاً بعدم إرادة المعاني الظاهرة ، والكاشفُ عن ذلك ظنّاً هي الأمارات الموهومة الاعتبار .

فنعمل بتلك الأمارات ،

-------------------

وعليه : ( فانّ أحداً لم يفرِّق بين الخبر الحَسَن المعارض لاطلاق الصّحيح ، وبين خبر حَسَن آخر غير معارض لخبر صحيح ) والمفروض : إنّ الخبر الحَسن من مشكوك الاعتبار ، والخبر الصحيح من مظنون الاعتبار .

( بل بالأولوية القطعيّة ) في خبر حَسن آخر ، فانّه إذا عمل بخبر حَسنٌ معارض ، فالاولى ان يعمل بخبر حَسنٍ غير معارض ( لأنه إذا وَجَبَ العمل بمشكوك الاعتبار الذي له معارضة لظاهر مظنون الاعتبار ، فالعمل بما ليس له معارض أولى ) إذ الحَسن المعارض إذا كان حجّة ، فالحَسن غير المعارض حجّة بطريق أولى .

( ثمّ ) بعد تعميم الظنون من مظنون الاعتبار الى مشكوك الاعتبار ، يصل النوبة الى تعميم آخر ، وهو : التعميم الى موهوم الاعتبار ، وقد أشار إليه بقوله :

( نقول : انّ في ظواهر مشكوك الاعتبار موارد كثيرة يعلم إجمالاً بعدم إرادة المعاني الظاهرة ) منها ( والكاشف عن ذلك ) أي : عن عدم ارادة الظاهر منها كشفاً ( ظنّاً ، هي : الامارات الموهومة الاعتبار ، فنعمل بتلك الأمارات ) الموهومة

ص: 255

ثمّ نعمل بباقي أفراد الموهوم الاعتبار بالاجماع المركّب ، حيث أنّ أحداً لم يفرق بين الشهرة المعارضة للخبر الحَسن بالعموم والخصوص وبين غير المعارض له ، بل بالأولويّة ، كما عرفت .

أقول : الانصاف : أنّ التعميم بهذا الطريق أضعفُ من التخصيص بمظنون الاعتبار ،

-------------------

الاعتبار ، وبعد العمل بموهوم الاعتبار الكاشف ، ننقل الكلام الى تعميم رابع ، وهو ما أشار اليه بقوله : ( ثمّ نعمل بباقي أفراد الموهوم الاعتبار ) الذي ليس بكاشف .

وإنّما نعمل بهذا الباقي ( بالاجماع المركّب حيث أن اُحداً لم يفرّق بين الشهرة المعارضة للخبر الحَسن ) معارضة ( بالعموم والخصوص ) أي : لا بالتّباين ( وبين غير المعارض له ) أي : للخبر الحَسن ، والمفروض : إن الشهرة موهومة الاعتبار ومع ذلك لايفرق أحد بينهما .

( بل بالأولويّة ) القطعيّة ( كما عرفت ) حين قلنا : بانّه إذا وجب العمل المشكوك الاعتبار الذي له معارضة لظاهر مظنون الاعتبار ، فالعمل بما ليس له معارض أولى ، فان نفس هذه الأولوية تأتي في موهوم الاعتبار ، فيقال : إذا وجَب العمل بموهوم الاعتبار الذي له معارضة بظاهر مشكوك الاعتبار بما ليس له معارضة أولى .

( أقول : الانصاف ان التعميم بهذا الطريق ) أي : الطريق الثاني الذي سلكه غير واحد من المعاصرين وذكرنا تفصيله الى هنا ( أضعف من التخصيص بمظنون الاعتبار ) أي : بمخصص القضية المهملة ، وتعيين تلك القضية بالظنون التي ظنّ إعتبارها ، بأن يكون مظنون الاعتبار ، مخصصاً للنتيجة المهملة ، فاذا لم تخصص

ص: 256

لأنّ هذا المعمِّم قد جمع ضِعفَ القولين ، حيث إعترف بأنّ مقتضى القاعدة ، لولا عدم الكفاية ، الاقتصارُ على مظنون الاعتبار .

وقد عرفتَ أنّه لا دليل على إعتبار مطلق الظنّ بالاعتبار إلاّ إذا ثبت جوازُ العمل بمطلق الظنّ عند إنسداد باب العلم .

-------------------

النتيجة بمظنون الاعتبار ، كان اللازم عدم التعميم بهذا الطريق أيضاً .

وإنّما كان أضعف ( لأن هذا المعمّم قد جمع ضِعفَ القولين ) الذّين احدهما : ان الاصل في القضية المهملة الاقتصار على القدر المتيقن ، وقد عرفت سابقاً إنّه ضعيف .

وثانيهما : إنّ المتيقن من هذه الجملة هو مظنون الاعتبار ، وقد عرفت ايضاً أنّه ضعيف ( حيث إعترف ) هذا المعمم في كلامه السابق عندما قال : لكن الظنون المظنونة الاعتبار غير كافية ، فقد إعترف ( بانّ مقتضى القاعدة لولا ) جهة ( عدم الكفاية : الاقتصار على مظنون الاعتبار ) أي : كان اللازم الاقتصار على مظنون الاعتبار ، لكن لم يكن كافياً ، فتمسكنا بمشكوك الاعتبار وموهومه .

( وقد عرفت : انّه لا دليل على إعتبار مطلق الظّن بالاعتبار ، إلاّ اذا ثبت جواز العمل بمطلق الظنّ ) أي عرفت ذلك في رَدِّ لزوم الاقتصار على مظنون الاعتبار الذي كان يخصِّص الظنون بما ظنّ إعتباره .

ومن المعلوم : إنّه إذا ثبت العمل بمطلق الظنّ ، لم يكن وجه للتخصيص بمظنون الاعتبار ( عند إنسداد باب العلم ) .

وبذلك ظهر : إنّه لا وجه لهذا التعميم الذي ذكره بقوله : الثاني من طرق التعميم ما سلكه غير واحد من المعاصرين ...الخ .

هذا تمام الكلام في الاشكال الأوّل على المعمم ذكره المصنّف بقوله :

ص: 257

وأما ما ذكره من التعميم لعدم الكفاية .

ففية ، أوّلاً : أنّه مبنيّ على زعم كون مظنون الاعتبار منحصراً في الخبر الصحيح بتزكية عدلين .

وليس كذلك ، بل الأماراتُ الظنّيّةُ من الشهرة وما دلّ على إعتبار قول الثقة ، مضاماً إلى ما استفيد من سيرة القدماء في العمل بما يوجب سكون النفس من الرّوايات وفي تشخيص أحوال الرواة ،

-------------------

« أقول الانصاف » .

ثم أشكل المصنّف عليه إشكالاً ثانياً بقوله :

( وأمّا ما ذكره من التعميم لعدم الكفاية ) حيث قال : لكن الظنون المظنونة الاعتبار غير كافية ( ففيه أولاً : إنّهُ مبنيّ على زعم كون مظنون الاعتبار منحصراً في الخبر الصحيح بتزكية عدلين ) كما ذكره هو بنفسه .

لكن ( وليس كذلك ) إذ مظنون الاعتبار ليس منحصراً في الخبر الصحيح بتزكية عدلين ( بل الأمارات الظنّية من الشهرة ) مثل قوله عليه السلام : « خُذ بما إشتَهرَ بَينَ أصحابِكَ » (1) . ( وما دلّ على إعتبار قول الثقة ) مثل قوله عليه السلام : « لاعُذرَ لأحَدٍ مِن مَوالينا فِي التَشكِيكِ فيِما يَروِيهِ عَنّا ثُقاتُنا » (2) .

( مضافاً الى ما استُفيد من سيرة القدماء في العمل بما يوجب سكون النفس من الرّوايات ، وفي تشخيص أحوال الرّواة ) لانه طريق عقلائي لم يثبت ردعه

ص: 258


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 .
2- - وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج27 ص150 ب11 ح33455 ، بحار الانوار : ج50 ص318 ب4 ح15 ، رجال الكشّي : ص536 .

يُوجبُ الظنّ القويّ بحجّية الخبر الصحيح بتزكية عدل واحد ، والخبر الموثّق ، والضعيف المنُجَبِر بالشهرة من حيث الرواية .

ومن المعلوم كفايةُ ذلك وعدمُ لزوم محذور من الرجوع في موارد فقد تلك الأمارات إلى الأصول .

وثانياً : أنّ العلم الاجماليّ الذي إدّعاه يرجعُ حاصله إلى العلم بمطابقة بعض مشكوكات الاعتبار للواقع من جهة

-------------------

من الشارع وإذا لم يثبت الردع ، ثبت إمضاء الشارع له ، لانّ الردع لو كان لَبانَ .

وعليه : فانّ ذلك كلّه ( يوجب الظّن القويّ بحجّية الخبر الصحيح بتزكية عدل واحد ، والخبر المُوثّق ، و ) الخبر ( الضَعيف المنجبِّر بالشهرة من حيث الرواية ) أي : مقابل الشهرة الفتوائية ، فانّ الشهرة الروائية قال غير واحد من الفقهاء بحجّيتها بخلاف شهرة الفتوى ، فانّها ليست حجّة عند المعظم .

( ومن المعلوم : كفاية ذلك ) الذي ذكرناه من الأمارات الظّنية الكثيرة بمعظم الأحكام ( وعدم لزوم محذور من الرّجوع في موارد فقد تلك الأمارات الى الاصول ) سواء رجعنا الى أصل البرائة فانّه لايلزم الخروج عن الدّين ، أو رجعنا الى أصل الاحتياط ، فانّه لايوجب إختلالاً للنظام أو عُسراً وحَرجاً .

( وثانياً ) إنّ قوله : « فاذا وجب العمل بهذه الطائفة من مشكوك الاعتبار ثبت وجوب العمل بغيرها ممّا ليس فيه معارضة لظواهر الأمارات » ، الى آخر كلامه ، غير تام ، وذلك ( انّ العلم الاجمالي الذي إدعاه ) حيث قال : لاجل العلم الاجمالي بمخالفة كثير من ظواهرها للمعاني الظاهرة منها .

( يرجع حاصله الى العلم بمطابقة بعض مشكوكات الاعتبار للواقع من جهة

ص: 259

كشفها عن المرادات في مظنونات الاعتبار .

ومن المعلوم أن العملَ بها لأجل ذلك لايوجبُ التعديّ إلى ماليس فيه هذه العلّة ، أعني مشكوكات الاعتبار الغير الكاشفة عن مرادات مظنونات الاعتبار .

فان العلم الاجماليّ بوجود شهرات متعددة مقيّدة لاطلاق الأخبار أو مخصصة لعموماتها لايُوجبُ التَعدّي إلى الشهرات الغير المزاحمة للأخبار بتقييد أو تخصيص ، فضلاً عن التسرّي إلى الاستقراء والأولويّة .

-------------------

كشفها عن المرادات في مظنونات الاعتبار ) فانّ مشكوكات الاعتبار مطابقة للواقع ، ومخصصة أو مقيدة ، أو قرائن مجاز لمظنونات الاعتبار .

هذا ( ومن المعلوم : ان العمل بها ) أي : بمشكوكات الاعتبار ( لأجل ذلك ) أي : لأجل كشفها عن المراد في مظنون الاعتبار ( لايوجب التعدّي ) من هذه المشكوكات الاعتبار المخصصة والمقيدة والقرائن ( الى ماليس فيه هذه العلّة ) من الكشف عن المراد ( أعني : مشكوكات الاعتبار غير الكاشفة عن مرادات مظنونات الاعتبار ) إذ كيف يقاس غير الكاشف على الكاشف ؟ .

( فان العلم الاجمالي بوجود شهرات متعددة مقيّدة لاطلاق الأخبار ، أو مخصصة لعموماتها ) أو قرائن لمجازاتها ( لايوجب التعدّي الى الشهرات غير المزاحمة للأخبار ) فان « الأخبار » متعلق ب« مزاحمة » ( بتقييد ، أو تخصيص ) أو قرينة ، وقوله : « بتقييد » متعلق ب- « التعدي » .

وعليه : لا يتعدى من المقيِّد والمخصص الى غيرهما ( فضلاً عن التّسري الى الاستقراء والأولوية ) إذ الشهرة ليست كلّها حجّة ، فضلاً عن أن تكون الاستقراءات والأولويات أيضاً حجّة وهما أضعف من الشهرة .

ص: 260

ودعوى الاجماع لايخفى ما فيها ، لأنّ الحُكمَ بالحجيّة في القسم الاوّل لعلّة غير مطرّدة في القسم الثاني حكم عقلي يعلم بعد تعرّض الامام عليه السلام له قولاً أو فعلاً ، إلاّ من باب تقرير حكم العقل ، والمفروضُ عدمُ جريان حكم العقل في غير مورد العلّة ، وهي وجود العلم الاجماليّ ،

ومن ذلك : يُعرَفُ الكَلامُ في دعوى الأولويّة ، فانّ المناط في العمل بالقسم الأوّل إذا كان هو العلم الاجماليّ ، فكيف يتعدّى

-------------------

( ودعوى الاجماع ) بالتعدي ، كما إدعاه القائل بالتعميم ( لايخفى ما فيها ) أي في هذه الدعوى ( لأنّ الحكمُ بالحجّية في القسم الأول ) المزاحمة ( لعلة ) متعلق ب- « الحجيّة » أي : ان الحجّية انّما هي العلة ( غير مطّردة في القسم الثاني ) أي : غير المزاحمة ( حكم عقليّ ) خبر قوله : « لأن الحكم » .

وعليه : فالحكم بالحجّية حكم عقلي وهو ( يعلم بعدم تعرّض الامام عليه السلام له قولاً أو فعلاً ) فان الامام عليه السلام الذي تعرّض لهذا الحكم العقلي بقوله أو بفعله ، لم يتعرّض له ( إلاّ من باب تقرير حكم العقل ، والمفروض : عدم جريان حكم العقل في غير مورد العلّة ، وهي ) أي : العلّة ( : وجود العلم الاجمالي ) فكيف يتعدى من مورد الحكم العلم الاجمالي الى غير مورد العلم الاجمالي ؟ .

( ومن ذلك ) الذي ذكرناه : بأنّه لايتعدى من مشكوك الاعتبار الكاشف الى مشكوك الاعتبار غير الكاشف ( يعرف الكلام في دعوى الأولوية ) حيث قال : ان الكاشف لو كان حجّة فغير الكاشف أولى بالحجّية ، مستدِّلاً بأنّ غير المزاحم أولى بالحجّية من المزاحم .

وإنّما يعرف الكلام في ذلك ، لِما أشار اليه بقوله : ( فانّ المناط في العمل بالقسم الأوّل ) أي : المزاحم ( إذا كان هو العلم الاجمالي ، فكيف يتعدى

ص: 261

إلى ما لايوجد فيه المناط فضلاً عن كونه أولى .

وكأنّ متوهّمَ الاجماع رأى أنّ أحداً من العلماء لم يفرّق بين أفراد الخبر الحَسن وأفراد الشُهرة ، ولم يَعلم أنّ الوجهَ عندهم ثُبوتُ الدّليل عليهما مطلقاً أو نفيه كذلك ، لأنهم أهلُ الظنون الخاصّة ، بل لو إدّعى الاجماعُ - على أن كلّ من عمل بجملة من الأخبار الحِسان أو الشهرات لأجل العلم الاجماليّ بمطابقة بعضها للواقع ، لم يعمل بالباقي الخالي عن هذا العلم الاجماليّ - كان في محلّه .

-------------------

الى ما لايوجد فيه المناط ) وهو غير المزاحم ( فضلاً عن كونه ) أي : مالا يوجد فيه المناط ان يكون ( أولى ) ممّا فيه المناط ؟ .

( وكأن متوهّم الاجماع ) الذي إدعى الاجماع على أن غير الكاشف مثل الكاشف ( رأى أنّ أحداً من العلماء لم يُفرِّق بين أفراد الخبر الحَسنَ ، وأفراد الشهرة ) فكلّ خبر حسن جائز ، وكل شهرة يجوز العمل بها ، فلم يفرِّق بين الخبر المزاحم والخبر غير المزاحم ، والشهرة المزاحمة والشهرة غير المزاحمة .

هذا ( ولم يعلم أن الوجه عندهم ) في عدم التفرقة ( ثبوت الدّليل عليهما مطلقا ) أي : على الخبر الحَسن والشهرة ( أو نفيه ) أي : نفي الدليل عليهما ( كذلك ) أي : مطلقاً ، فالخبر مطلقاً حجّة أو ليست بحجّة والشهرة مطلقاً حجّة أو ليست بحجّة ، وذلك ( لأنهم أهل الظنون الخاصة ) فسحبُ هذا المتوهم كلامهم إلى باب الانسداد في غير محله ، لأن باب الانسداد لايقاس بباب الانفتاح .

( بل لو إدّعى الاجماع على أن كلّ من عمل بجملة من الأخبار الحِسان ، أو الشهرات ، لأجل العلم الاجمالي بمطابقة بعضها للواقع ، لم يعمل بالباقي الخالي عن هذا العلم الاجمالي ، كان ) إدعاء هذا الاجماع ( في محلّه ) فاللازم العمل

ص: 262

الثالث : من طرق التعميم ماذكره بعض مشايخنا « طاب ثراه » ، من قاعدة الاشتِغال بناءا على أنّ الثابت من دليل

-------------------

بالأخبار الحِسان والشهرات بقدر العلم الاجمالي فقط ، لمطابقة بعضها للواقع دون سائر أخبار الحِسان وبقية الشهرات ، بل وما كان خارجاً عن المزاحم .

فهنا ثلاثة أقسام : الأوّل : جملة من الأخبار والشهرات بعضها مطابقة للواقع .

الثاني : الأعم من هذه الجملة ومن سائر المزاحمات التي لاعلم إجمالي بمطابقة بعضها للواقع .

الثالث : الأعم من الأولين وما ليس بمزاحم .

هذا ، والدليل إنّما دلّ على حجّية الأوّل ، لا الثاني ، فكيف بالثالث ؟ .

وعليه : فالمتوهم عمّم العمل الى كل أخبار الحِسان والشهرات ، والمصنّف يخصصه بما فيه علم الاجمالي ، ومطابقة الواقع ، ويقول لايعم العمل بالخبر والشهرة حتى المعارض الذي لاعلم إجمالي فيه ، فكيف بما هو خارج عن المعارضة إطلاقاً ؟ .

( الثالث : من طرق التعميم ) في نتيجة دليل الانسداد ، لو قلنا بأنّ النتيجة مُهملة وليست مطلقة ( ماذكره بعض مشايخنا طاب ثراه ) وهو المحقّق شريف العلماء ( : من قاعدة الاشتغال ) فانّه بعد أن علم إجمالاً بوجوب طريق منصوب من قبل الشارع كافٍ لمعظم الفقه ، وهذا الطريق موجود فيما بأيدينا من الأمارات كالخبر ، والاجماع المنقول والاجماع المحصّل والشهرة والأولوية ، وما أشبه ذلك ، وجَب بحكم العقل : الاحتياط في جميعها تحصيلاً للجزم بسلوك الطريق المنصوب .

وإنّما نحتاج في هذا التعميم الى قاعدة الاشتغال ( بناءاً على أن الثابت من دليل

ص: 263

الانسداد وجوبُ العمل بالظنّ في الجملة .

فاذا لم يَكُنْ قدرٌ متيقن كافٍ في الفقه وَجَبَ العَملُ بكلّ ظنّ .

ومَنْعُ جريان قاعدة الاشتغال هُنا - لكون ماعدا واجب العمل من الظنون مُحرّمَ العمل - فقد عَرِفت الجواب عنه في بعض أجوبة الدّليل الأوّل من أدلّة إعتبار الظنّ بالطريق .

-------------------

الانسداد : وجوب العمل بالظّن في الجملة ) حيث أن نتيجة دليل الانسداد مُهملة ، وليست بمطلقة ، فانّه إذا كانت مطلقة لم نحتج الى التعميم ، وانّما نحتاج الى التعميم إذا كانت النتيجة مهملة .

وعليه : ( فاذا لم يكن قدر متيقن كافٍ في الفقه ، وَجَبَ العمل بكلّ ظنّ ) سواء كان مظنون الاعتبار ، أو مشكوك الاعتبار ، أو موهوم الاعتبار ، وسواء كان في الاصول أو في الفروع حتى يكفي الظّن بمعظم الفقه الذي نحن مكلفون بالعمل به .

( و ) ان قلت : الاشتغال لايجري فيما إذا كان بعض الأطراف محرّم العمل ، فاذا علم الانسان بأنّه يحرم العمل ، بأحد الطرق - مثلاً- الخبر الواحد ، أو القياس ، أو

الاستحسان ، أو الأولوية ، أو ما أشبه ذلك ، لم يجز له أن يعمل بكلّ هذه الطرق ، لأنّه لايجوز تحصيل الواقع بالطّريق المحرم .

وعليه : فاذا إحتاط في كل هذه الطرق ، علم بأنّه عمل بطريق محرّم ، وذلك ل- ( منع جريان قاعدة الاشتغال هنا ، لكون ماعدا واجب العمل من الظنون ، محرّم العمل ) حيث إن الأصل حُرمة العمل بالظّن كما تقدّم في أوّل الكتاب .

قلت : ( فقد عرفت الجواب عنه في بعض أجوبة الدليل الأوّل من أدلّة إعتبار الظنّ بالطريق ) حيث قال المصنّف هناك : ودعوى ان الأمر دائر بين الواجب

ص: 264

ولكنّ فيه : أنّ قاعدةَ الاشتغال في مسألة العمل بالظنّ معارضةٌ في بعض الموارد بقاعدة الاشتغال في المسألة الفرعيّة . كما إذا إقتضى الاحتياطُ في الفروع وجوبَ السورة ، وكان ظنٌ مشكوكُ الاعتبار على عدم وجوبها ، فانّه يجبُ مراعاة قاعدة الاحتياط في الفروع وقراءة السورة لاحتمال وجوبها .

ولا ينافيه الاحتياطُ في المسألة الاُصولية ،

-------------------

والحرام لأن العمل بما ليس طريقاً حرام ، مدفوعة : بأنّ العمل بما ليس طريقاً إذا لم يكن على وجه التشريع غير محرّم والعمل بكلّ مايحتمل الطريقية رجاء ان يكون هذا هو الطريق لاحرمة فيه من جهة التشريع ، إنتهى نصّ كلامه .

( ولكن فيه : انّ قاعدة الاشتغال ) لاتوجب تعميم الظن على ما يدعيه المعمّم ، فان قاعدة الاشتغال ( في مسألة العمل بالظّن ) وهي المسألة الاُصولية ( معارضة في بعض الموارد بقاعدة الاشتغال في المسألة الفرعيّة ) واذا تعارضتا تساقطتا .

( كما إذا اقتضى الاحتياط في الفروع وجوب السورة ) في الصلاة ( وكان ظنّ مشكوك الاعتبار على عدم وجوبها ) أي : وجوب السورة ( فانّه ) مقتضى هذا الظّن المشكوك أن لايأتي بالسورة ، لكن ( يجب مراعاة قاعدة الاحتياط في الفروع وقرائة السورة ) ولايعتنى بالظّن المشكوك الاعتبار القائل بعدم الوجوب وهو الظّن في المسألة الاُصولية ( لاحتمال وجوبها ) أي : السورة .

إذن : فالقاعدة لاتقتضي حجّية الظنّ على الاطلاق ( ولاينافيه الاحتياط في المسألة الاُصولية ) أي : لاينافي الاحتياط في الفروع بقرائة السورة ، الاحتياط في المسألة الاُصولية بالعمل بالظّن المشكوك الاعتبار الذي يقول بعدم وجوبها .

ص: 265

لأنّ الحكم الاصوليّ المعلوم بالاجمال - وهو وجوبُ العمل بالظنّ القائم على عدم الوجوب - معناه وجوبُ العمل على وجه ينطبق مع عدم الوجوب ، ويكفي فيه أنّ يقع الفعل لا على وجه الوجوب .

ولاتنافي بين الاحتياط بفعل السورة لاحتمال الوجوب وكونه لا على وجه الوجو ب الواقعيّ .

وتوضيحُ ذلك : أنّ معنى وجوب العمل بالظّنّ وجوبُ تطبيق عمله عليه .

فاذا فرضنا أنّه يدلّ على عدم وجوب شيء ، فليس معنى وجوب العمل به

-------------------

وذلك ( لأن الحكم الاصولي المعلوم بالاجمال وهو : وجوب العمل بالظّن القائم على عدم الوجوب ) للسورة ( معناه : وجوب العمل على وجه ينطبق مع عدم الوجوب ) للسورة ( ويكفي فيه ) أي : في هذا الوجه المنطبق على عدم الوجوب ( أن يقع الفعل ) أي : فعل السورة ( لا على وجه الوجوب ) بأن لايقصد حين إتيان السورة الوجوب .

( ولا تنافي بين الاحتياط بفعل السورة ) حسب الاحتياط في الفروع ( لاحتمال الوجوب و ) بين ( كونه لا على وجه الوجوب الواقعي ) وهو مقتضى الاحتياط في المسألة الاُصولية وفي إتيان السورة بهذا النحو جمع بين المسألة الاُصولية والمسألة الفرعية .

( وتوضيح ذلك ) أي : عدم المنافاة ( ان معنى وجوب العمل بالظّن : وجوب تطبيق عمله عليه ) أي : على طبق الظنّ .

( فاذا فرضنا انّه يدلّ على عدم وجوب شيء ، فليس معنى وجوب العمل به )

ص: 266

إلاّ أنّه لايتعيّن عليه ذلك الفعلُ .

فإذا إختار فعلَ ذلك فيجب أن يقع الفعلُ لا على وجه الوجوب ، كما لو لم يكن هذا الظنّ وكان غير واجب بمقتضى الأصل ، لا أنّه يجبُ أن يقع على وجه عدم الوجوب ، إذ لايعتبر في الأفعال الغير الواجبة قصدُ عدم الوجوب .

نعم ، يجب التشرّع والتدّين بعدم الوجوب ، سواء فعله أو تركه

-------------------

أي : بالظّن ( إلاّ انّه لا يتعيّن عليه ذلك الفعل ) كفعل السورة في المقام .

( فاذا إختار ) المكلَّف ( فعل ذلك ) كالسورة ( فيجب ان يقع الفعل لا على وجه الوجوب ) فيأتي بالسورة لابقصد الوجوب ( كما لو لم يكن هذا الظّن ) إلانسدادي ( وكان غير واجب بمقتضى الأصل ) فاذا لم تكن السورة واجبة بمقتضى أصالة عدم الوجوب ، فانّ عدم وجوبها لايتنافي مع الاتيان بها ، لأن غير الواجب يجوز الاتيان به .

وكذلك الحال إذا قام الظنّ الانسدادي على عدم وجوب السورة ، فانّه يجوز الاتيان بها لكن حين الاتيان بالسورة لايقصد الوجوب .

( لا انّه يجب أن يقع على وجه عدم الوجوب ) « هذا » عطف على قوله « فيجب أن يقع الفعل لا على وجه الوجوب » ، ومعناه : انّه لايقصد الوجوب ، لا أنّه يقصد عدم الوجوب ( إذ لا يعتبر في الأفعال غير الواجبة قصد عدم الوجوب ) حتى يقال : بانّ يأتي بالسورة بقصد عدم الوجوب بل يكفي أن يأتي بها لا بقصد الوجوب .

( نعم ، يجب التشرّع والتّدين بعدم الوجوب ) بمعنى : الالتزام القلبي بأنّ السورة ليست واجبة ( سواء فعله أو تركه ) أي : سواء أتى بالسورة أو ترك

ص: 267

من باب وجوب التديّن بجميع ما علم من الشرع .

وحينئذٍ : فاذا تردّد الظنّ الواجبُ العمل المذكور بين ظنون تعلّقت بعدم وجوب أُمور ، فمعنى وجوب ملاحظة ذلك الظَنّ المُجمل المعلوم إجمالاً وجوب أن لايكونَ فعلُه لهذه الأمور على وجه الوجوب .

كما لو لم تكن هذه الظنونُ وكانت هذه الأُمور مباحةً بحكم الأصل ، ولذا

-------------------

السورة ، فانّه يلتزم قلباً بأنّها ليست واجبة ، وذلك ( من باب وجوب التديّن بجميع ما علم من الشرع ) ويقوم مقام العلم الظنّ في حال الانسداد .

( وحينئذ ) أي : حين لم يقصد الوجوب بالسورة لا أنّه قصد عدم الوجوب ( فاذا تردد الظّن الواجب العمل المذكور ) أي : الظنّ في المسألة الاُصولية ( بين ظنون تعلقت بعدم وجوب امور ) وتلك الظنون عبارة ، عن ظنون مظنونة الاعتبار ، ومشكوكة الاعتبار ، وموهومة الاعتبار ( فمعنى وجوب ملاحظة ذلك الظّن المجمل المعلوم إجمالاً : وجوب ان لايكون فعله لهذه الاُمور على وجه الوجوب ) وقوله :« وجوب » ، خبر قوله : ف- « معنى » .

والحاصل : ان الظّن لو تعلّق بعدم وجوب اُمور ، وكان يعارضه علم إجمالي بوجوب أحد هذه الأشياء فمعنى وجوب ملاحظة الظنّ الاصولي المتعلّق بأحد هذه الاُمور إجمالاً : وجوب أن لايكون فعله لهذه الامور على وجه الوجوب ( كما لو لم تكن هذه الظنون ، وكانت هذه الاُمور مباحة بحكم الأصل ) .

والحاصل إنّه كما يقول اصل عدم الوجوب لايجب عليك ولايقول لا تأتِ بهِ كذلك إذا كان علم إجمالي بعدم وجوب أحد اُمور كان معنى هذا العلم لايجب عليك تلك الاُمور ولايقول العلم الاجمالي : لا تأتِ بتلك الأمور .

(ولذا) أي : المعتبر : ان لا يأتي بالفعل على وجه الوجوب ، لا أنّ لا يأتي بالفعل

ص: 268

يستحبّ الاحتياط وإتيان الفعل ، لاحتمال أنّه واجب .

ثمّ إذا فرض العلم الاجماليّ من الخارج بوجوب أحد هذه الأشياء على وجه يجب الاحتياط والجَمعُ بَيَن تِلكَ الأُمور . فيجبُ على المكلّف الالتزام بفعل كلّ واحد منها لاحتمال أن يكون هو الواجب . وما إقتضاه الظنُّ القائمُ على عدم وجوبه من وجوب أن يكون فعله لا على وجه الوجوب باقٍ بحاله .

-------------------

إطلاقاً ( يستحب ) عقلاً ( الاحتياط وإتيان الفعل ) كالسورة في المثال ( لاحتمال انّه واجب ) فقد جمع بين الظنّ في المسألة الاُصولية والظّن في المسألة الفرعية .

( ثمّ ) بعد الظّن الذي تعلّق بعدم وجوب اُمور ظنّاً في المسألة الاُصولية ( إذا فرض العلم الاجماليّ من الخارج ) أي : من دليل خارج ( بوجوب أحد هذه الأشياء على وجه يجب الاحتياط والجمع بين تلك الاُمور ) كالظّن بوجوب السورة في مثالنا ( فيجب على المكلّف الالتزام بفعل كلّ واحد منها ) .

ومعنى الالتزام : مجرد الاتيان الخارجي بالفعل ( لاحتمال ان يكون هو الواجب ) فيأتي بذلك إحتياطاً ، لكن لا يأتيه بقصد الوجوب لينافي الظنّ في المسألة الاُصولية .

( وما إقتضاه الظّن القائم على عدم وجوبه ) هذا مبتدأ خبره قوله : « باق بحاله » ( من وجوب ان يكون فعله لا على وجه الوجوب ) قوله : « من » بيان لقوله : « ما اقتضاه » والمعنى : إذا الظنّ القائم على عدم الوجوب يقتضي أن يكون فعله لا على وجه الوجوب فالظنّ القائم على عدم وجوب السورة ( باق بحاله ) .

والحاصل : ان الظّن الاصولي باقٍ بحاله وإن أتى بالسورة خارجاً لابقصد الوجوب .

ثم ان المصنّف إستدل على ماذكره بقوله : ماإقتضاه الظنّ باق بحاله

ص: 269

لأنّ الاحتياط في الجميع لايقتضي إتيانَ كلّ منها بعنوان الوجوب الواقعي ، بل بعنوان أنّه محتمل الوجوب ، والظنّ القائم على عدم وجوبه لايمنع من لزوم إتيانه على هذا الوجه .

كما أنّه لو فرضنا ظنّاً معتبراً معلوماً بالتفصيل ، كظاهر الكتاب ، دلَّ على عدم وجوب شيء لم يناف مؤدّاه لاستحباب الاتيان بهذا الشيء لإحتمال الوجوب .

هذا ،

-------------------

بقوله: ( لأن الاحتياط في الجميع ) بالاتيان بتلك الامور التي يعلم خارجاً بوجوب أحدها ( لايقتضي إتيان كل منها ) أي : من جميع الافراد الذي يعلم إجمالاً بوجوب أحدها ( بعنوان الوجوب الواقعي ،بل ) يأتي بها ( بعنوان انّه محتمل الوجوب ) .

هذا من جهة الاحتياط في المسألة الفرعية وأمّا الاحتياط في المسألة الاُصولية فقد ذكره المصنّف بقوله : ( والظن القائم على عدم وجوبه ، لايمنع من لزوم إتيانه على هذا الوجه ) أي : بعنوان انّه محتمل الوجوب ، فقد جمع بين الاحتياط في مسألة الاُصولية ، والاحتياط في المسألة الفرعية .

( كما انّه لو فرضنا ظنّا معتبراً معلوماً بالتفصيل كظاهر الكتاب ، دلّ على عدم وجوب شيء ، لم يناف مؤدّاه ) أي : مودّى هذا الظنّ المعتبر ( لاستحباب الاتيان بهذا الشيء لاحتمال الوجوب ) فانّه قد ظهر ممّا ذكرناه : إمكان الجمع بين الظنّ في الاصول ، وبين الظنّ في الفروع ، وإن كان يترائى ان الظّن في الفروع منافٍ للظنّ في الاصول .

لايقال : ( هذا ) الذي ذكرتم : من الجمع بين المسألة الاُصولية والمسألة الفرعية لايقول به المشهور ، بل المشهور يقولون : بتقديم قاعدة الاحتياط في المسألة

ص: 270

وأمّا ما قرعَ سمعكَ - من تقديم قاعدة الاحتياط في المسألة الاُصوليّة على الاحتياط في المسألة الفرعيّة أو تعارضهما - فليس في مثل المقام .

بل مثالُ الأوّل منهما ما إذا كان العملُ بالاحتياط في المسألة الاُصوليّة مزيلاً للشكّ الموجب للاحتياط في المسألة الفرعيّة .

-------------------

الاصولية على الاحتياط في المسألة الفرعية ، أو يقولون : بأنّ الاحتياطَين يعتارضان ويتساقطان ، لا انّه يجمع بين الاحتياطين كما ذكرتم أنتم .

لأنه يقال : ( وأمّا ما قرع سمعكَ من تقديم قاعدة الاحتياط في المسألة الاصولية على الاحتياط في المسألة الفرعيّة ، أو تعارضهما ) وتساقطهما ( فليس في مثل المقام ) الذي يمكن فيه الجمع بين القاعدتين ، فهناك موارد ثلاثة :

مورد تقديم المسألة الاصولية على الفرعية .

مورد التعارض بين المسألة الاصولية والمسألة الفرعية .

مورد الجمع .

وعلى أي حال : فما أراده المعمم لنتيجة دليل الانسداد من إطلاق التعميم لم يتم ( بل ) التعميم انّما هو في صورة عدم تعارض المسألة الاصولية بالمسألة الفرعية .

( مثال الأوّل ) : وهو تقديم قاعدة الاحتياط في المسألة الاصولية على الاحتياط في المسألة الفرعية ( منهما ) أي : من التقديم والتعارض ( ما إذا كان العمل بالاحتياط في المسألة الاصولية ، مُزيلاً للشك الموجب للاحتياط في المسألة الفرعية ) فانّه انّما يحتاط في المسألة الفرعية لأجل الشك ، فاذا أَزالَ الشّكُ الاحتياط في المسألة الاصولية ، لم يبق مورد للاحتياط في المسألة الفرعية .

ص: 271

كما إذا تردّد الواجبُ بين القَصر والاتمام ودلّ على أحدهما أمارةٌ من الأمارات التي يُعلَمُ إجمالاً بوجوب العمل ببعضها ، فانّه إذا قلنا بوجوب العمل بهذه الأمارات يصير حجّة معيّنةً لإحدى الصلاتين .

إلاّ أن يقال : إن الاحتياط في المسألة الاصوليّة إنّما يقتضي إتيانها لانَفيَ غيرها ، فالصلاة الأُخرى حكمُها حُكم السورة في عدم جواز اتيانها على وجه الوجوب ، فلا ينافي وجوب إتيانها لاحتمال الوجوب ، فيصير

-------------------

( كما إذا تردد الواجب بين القصر والاتمام ) وذلك في المسافر من مَحَلّ الاقامة الى مادون أربعة فراسخ ، فانّه يتردد بين أن يبقى على تمامه ، أو يقصر ( و دلّ على أحدهما ) من القصر أو التمام ( أمارة من الامارات التي يعلم إجمالاً بوجوب العمل ببعضها ) بأن كانت هناك أمارات يعلم المكلّف بأنّه يجب العمل ببعض هذه الأمارات : كالاجماع المنقول ، والشهرة والأولوية ، وما أشبه ، وإحدى هذه الأمارات دلّت على القصر - مثلاً - .

( فانّه إذا قلنا : بوجوب العمل بهذه الأمارات ) من باب الاحتياط في المسألة الاصولية ( يصير ) هذا الواجب العمل به من الأمارة ( حجّة معيّنة لإحدى الصلاتين ) فلا مجال للاحتياط بإتيان الصلاتين حينئذ ، لأنّ الشك قد إرتفع بسبب الأمارة .

( إلاّ أن يقال : ) لبقاء الاحتياط في الفرع المذكور ( ان الاحتياط في المسألة الاصولية ، إنّما يقتضي إتيانها ) أي : إتيان الصلاة التي دلّت الامارة عليها ( لانفي غيرها ) كصلاة التمام في الفرع المذكور ( فالصلاة الاُخرى ) كالتمام في فرعنا ( حكمها حكم السورة في عدم جواز إتيانها على وجه الوجوب ) كما تقدّم ( فلاينافي وجوب إتيانها لإحتمال الوجوب ، فيصير

ص: 272

نظيرَ مانَحنُ فيه .

وأمّا الثاني : وهو موردُ المعارضة - فهو كما إذا علمنا إجمالاً بحرمة شيء من بين أشياء ، ودلّت على وجوب كلّ منها اماراتٌ نعلمُ إجمالاً بحجّية إحداها ، فانّ مقتضى هذا وجوبُ الاتيان بالجميع ، ومقتضى ذلك تركُ الجميع ، فافهم .

-------------------

نظير مانحن فيه ) أي : تصير مسألة السورة فيما تقدّم ، نظير مانحن فيه من مسألة القصر والتمام .

( وأمّا الثاني : وهو مورد المعارضة ) بين المسألة الأُصولية والمسألة الفرعية ( فهو كما إذا علمنا إجمالاً بحرمة شيء من بين أشياء ودلّت على وجوب كل منها امارات نعمل إجمالاً بحجّية إحداها ) مثلاً : دلّ الاجماع على وجوب صلاة الجمعة ، والأولوية على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال والشهرة على وجوب جَلَسَة الاستراحة ، لكن دلّ دليل على حرمة إحدى المذكورات ( فان مقتضى هذا ) العلم الاجمالي بالوجوب في المثال المذكور ( وجوب الاتيان بالجميع ، ومقتضى ذلك ) العلم بالحرمة ( ترك الجميع ) إحتياطاً .

( فافهم ) لعله إشارة الى انّه لافرق بين مسألتي السورة والقصر والتمام ، فمسألة القصر والتمام نظير مسألة السورة ، وعليه فكلتا المسألتين من وادٍ واحد ، فان القائل بوجوب الاحتياط عند الشك في الأجزاء والشرائط إنّما يقول مع الشك في السورة .

مثلاً : إنّ التكليف بالصلاة في الجملة ثابت والشك إنّما هو في المكلَّف به وهو إن الصلاة هل هي مركَبة من تسعةِ أجزاء أو من عشرة أجزاء ؟ والقصر والتمام من هذا القبيل لأنّ التكليف ثابت ، وإنّما المكلَّف به لايعلم إنّه قصر أو تمام .

ص: 273

وأمّا دعوى « أنّه إذا ثبت وجوبُ العمل بكلّ ظنّ في مقابل غير الاحتياط من الاصول وجب العملُ به في مقابل الاحتياط للاجماع المركّب » ، فقد عرفتَ شناعته .

فان قلت :

-------------------

وإن قلت : الظّن الاصولي يقدَّم على المسألة الفرعية الاحتياطية ، لأنه كما يقدّم الظّن على البرائة والتخيير ، والاستصحاب ، كذلك يقدّم على الاحتياط ، وعليه فما تقدّم ممّا قَرعَ سمعنا هو الصحيح ، وقول المصنّف : فليس في مثل المقام ، غير تام .

قلت : ( وأمّا دعوى : انّه إذا ثبت وجوب العمل بكلّ ظنّ في مقابل غير الاحتياط من الاصول ) العملية : كالبرائة ، والتخيير ، والاستصحاب ( وَجَبَ العمل به ) أي : بالظنّ ( في مقابل الاحتياط ) أيضاً ( للاجماع المركّب ) بأنّه إما يجب الاحتياط مطلقاً ، وإما لايجب مطلقاً .

( فقد عرفت شناعته ) في آخر التنبيه السابق ، وكذا فيما أورده ثانياً على المعمم الثاني ، وذلك لعدم وجود علّة الحكم فسحبه في غير مورد العلّة غير صحيح ، لأنّه لا علّة للحكم بالتقديم في الاحتياط .

بل لو إدعى الاجماع : على أن كلّ من حكم بالتقديم في مقابل غير الاحتياط من الاصول ، لعلّه غير مطردة في مقابل الاحتياط ، لم يحكم بالتقديم في مقابله ، كان في محله كما نص على ذلك المصنّف السابق .

( فان قلت ) مقتضى كلامكم : إنّا نعمل بالاحتياط في المسألة الفرعية كالقصر والتمام حسب ماذكرتم ، وأيضاً نعمل بالاحتياط في الظّن في المسألة الاصولية حسب ماتقدّم ، وهذا جمع بين الاحتياطين وهو موجب للعُسر .

ص: 274

إذا عملنا في مقابل الاحتياط بكلّ ظنّ يقتضي التكليف وعملنا في مورد الاحتياط بالاحتياط لزم العُسرُ والحَرج ، إذ يجمع حينئذٍ بين كلّ مظنون الوجوب وكلّ مشكوك الوجوب أو موهوم الوجوب مع كونه مطابقاً للاحتياط اللازم . فاذا فرض لزومُ العُسر من مراعاة الاحتياطين معاً في الفقه تعيّن رفعه بعدم وجوب الاحتياط في مقابل الظنّ .

فاذا فرضنا هذا الظنُّ مجملاً لزم العمل بكل ظنّ ممّا يقتضي الظنّ بالتكليف إحتياطاً ، وامّا الظنون المخالفة للاحتياط اللازم فيُعمَلُ بها فراراً عن لزوم العُسر .

-------------------

وذلك لأنّا ( اذا عملنا في مقابل الاحتياط بكل ظنّ يقتضي التكليف ) في المسألة الاصولية ( وعملنا في مورد الاحتياط بالاحتياط ) في المسألة الفرعية ( لزم العُسر والحَرج ، إذ يجمع حينئذ بين كلّ مظنون الوجوب ، وكلّ مشكوك الوجوب أو موهوم الوجوب ، مع كونه ) أي : الوجوب ( مطابقاً للاحتياط اللازم ) أي : مع كون الوجوب في كلّ من مشكوك الوجوب ، وموهوم الوجوب مطابقاً للاحتياط اللازم .

( فاذا فرض لزوم العُسر من مراعاة الاحتياطين ) الاحتياط في الظنّ الموافق له ، والظنّ المخالف له ( معاً في الفقه ) متعلق بالعُسر بمعنى : لزوم العُسر في الفقه ( تعيّن رفعه ) أي : رفع العُسر ( بعدم وجوب الاحتياط في مقابل الظّن ) فارتفع الاحتياط في الظنّ المخالف له ، أي : موهوم الوجوب .

( فاذا فرضنا هذا الظنّ مجملاً ) لإقتضاء دليل الانسداد : الاهمال ( لزم العمل بكلّ ظنّ ممّا يقتضي الظّن بالتكليف إحتياطاً ، وأمّا الظنون المخالفة للاحتياط اللازم ، فيعمل بها فراراً عن لزوم العُسر ) .

ص: 275

قلت : رفعُ العُسر يمكنُ بالعمل ببعضها ، فما المعمِّم ؟ فيرجع الأمرُ إلى أنّ قاعدة الاشتغال لاينفع ولا يتم في الظنون المخالفة للاحتياط ، لأنّك عرفت أنّه لايثبت وجوب التسرّي إليها فضلاً عن التَعميم فيها ، لأنّ التَسرّي إليها كان للزوم العُسر ، فافهم .

-------------------

والحاصل : ان المعمِّم قال : بأن الظّن مطلقاً حجّة في مظنون الاعتبار ومشكوكه ، وموهومه ، والشيخ أورد عليه : بأنّه ربّما يعمل بالاحتياط في المسألة الفرعية ، فلا تعميم في حجّة الظّن .

وفي « إن قلت » قال : بأنّه لايمكن العمل بالاحتياط في المسألة الفرعية ، لأنّه يلزم العُسر من الجمع بين الاحتياطين : الاحتياط في المسألة الاصولية ، والاحتياط في المسألة الفرعية فأجاب عنه بقوله :

( قلت : رفع العُسر يمكن بالعمل ببعضها ) أي : ببعض الظنون المخالفة للاحتياط اللازم ( فما المعمِّم ) للظنّ ؟ .

إذن : ( فيرجع الأمر الى أن قاعدة الاشتغال ) أي : المعممة لكل الظنون (لا ينفع ولايتمّ في الظّنون المخالفة للاحتياط ) في المسألة الفرعية ، فان الاحتياط في المسألة الفرعية يمنع عن الاحتياط في المسألة الاصولية بتعميم قاعدة الاشتغال ( لأنّك عرفت : إنّه لايثبت وجوب التسرّي إليها ) أي : الى الظنون المخالفة للاحتياط ( فضلاً عن التعميم فيها ، لأن التسرّي إليها كان للزوم العُسر ) لا لقاعدة الاشتغال .

( فافهم ) لعلّه إشارة الى إنّ الاحتياط في المسألة الاصولية مقدّم على الاحتياط في المسألة الفرعية ، لأن المسألة الاصولية رافعة للشكّ الذي هو موضوع للاحتياط في المسألة الفرعية ، وقد تقدّم ذلك من المصنّف .

ص: 276

هذا كلّه على تقدير تقرير مقدّمات دليل الانسداد على وجه يكشف عن حكم الشارع بوجوب العمل بالظّنّ في الجملة .

وقد عَرفتَ أنّ التحقيق خلاف هذا التقرير ، وقد عرفتُ أيضاً ماينبغي سلوكه على تقدير تماميّته من وجوب إعتبار المتيقن حقيقةً أو بالاضافة ، ثمّ ملاحظة مظنون الاعتبار بالتفصيل الذي تقدّم في آخر المعمِّم الأوّل من المعممّات الثلاثة .

وأمّا على تقدير تقريرها على وجه يوجب حكومةَ العقل - بوجوب الاطاعة الظنيّة والفرار عن المخالفة الظنيّة

-------------------

( هذا كلّه على تقدير تقرير مقدّمات دليل الانسداد ، على وجه يكشف عن حكم الشارع بوجوب العمل بالظّن في الجملة ) ممّا تكون النتيجة مهملة ، فيحتاج الأمر الى التعميم ، وقد ذكرنا ثلاث معمّمات لتعميميّ النتيجة وتكلمنا حول كل واحد منها بإسهاب .

( وقد عرفت أن التحقيق خلاف هذا التقرير ) أي : خلاف تقرير الكشف ، وإنّ الصحيح هو الحكومة .

( وقد عرفت أيضاً : ماينبغي سلوكه على تقدير تماميته ) أي : تمامية هذا التقرير الكشفي : ( من وجوب إعتبار المتيقن حقيقة ، أو بالاضافة ) أي : المتيقن فالمتيقن ( ثمّ ملاحظة مظنون الاعتبار ، بالتفصيل الذي تقدّم في آخر المعمّم الأوّل من المعمّمات الثلاثة ) وإنّه إن كفى مظنون الاعتبار فهو ، وإلاّ أخذ من غيره .

( وأمّا على تقدير تقريرها ) أي : تقرير مقدّمات الانسداد ( على وجه يوجب حكومة العقل بوجوب الاطاعة الظنّية ) الذي قويناه نحن ، فانّه يجب بحكم العقل : الاطاعة الظنيّة ( والفرار عن المخالفة الظنية ) بأن لانخالف مانظنه حكماً

ص: 277

وأنّه يقبح من الشارع تعالى إرادة أزيد من ذلك - كما يقبح من المكلّف الاكتفاء بما دون ذلك - فالتعميمُ وعدمُه لايتصوّر بالنسبة إلى الأسباب ، لاستقلال العقل بعدم الفرق فيما إذا كان المقصودُ الانكشافَ الظنّي بين الأسباب المحصّلة له .

كما لا فرق فيما إذا كان المقصودُ الانكشافَ الجزميَّ بين أسبابه ، وإنّما يتصوّر من حيث مرتبة الظنّ

-------------------

( وانّه يقبح من الشارع تعالى إرادة أزيد من ذلك ) أي : من الموافقة الظنية ( كما يقبح من المكلّف الاكتفاء بما دون ذلك ) بأن لا يعمل بالظنّ .

وعليه : ( فالتعميم ) في النتيجة لكل الظنون ( وعدمه ) أي : عدم التعميم ( لايتصور بالنسبة إلى الأسباب ) أي : اسباب الظنون ، فان الظّن قد يحصل من الخبر ، أو من ظاهر الآية ، أو من الاجماع المنقول أو المحصل ، أو السيرة ، أو الأولوية ، أو غيرها ، فكل الأسباب المؤدية الى الظّن لا فرق فيها ( لاستقلال العقل بعدم الفرق فيما إذا كان المقصود الانكشاف الظنيّ بين الأسباب المحصّلة له ) للانكشاف الظني .

وقوله : « بين الاسباب » متعلق : « بعدم الفرق » فان منظور العقل في حال الانسداد : الظّن ، فالظّن من أي سبب حصل يكون حجّة .

( كما لافرق فيما إذا كان المقصود : الانكشاف الجزميّ ) بالعلم ( بين أسبابه ) أي : بين أسباب الانكشاف في حال العلم ، فكما ان العلم إذا حصل للانسان في حال الانفتاح لا فرق عنده بين أسباب العلم ، كذلك إذا حصل له الظنّ في حال الانسداد لا فرق عنده بين أسباب الظنّ .

( وإنّما يتصور ) التعميم وعدمه على الحكومة ( من حيث مرتبة الظّن

ص: 278

ووجوب الاقتصار على الظنّ القويّ الذي يرتفع معه التحيّرُ عرفاً .

بيانُ ذلك : أنّ الثابتَ من مقدّمتي بقاء التكليف وعدم التمكّن من العلم التفصيليّ هو وجوبُ الامتثال الاجماليّ بالاحتياط في إتيان كلّ مايحتمل الوجوب ، وترك كلّ مايحتمل الحرمة .

لكنّ المقدّمة الثالثة النافية للاحتياط إنّما أبطلت وجوبه على وجه الموجبة الكلّية بأن يحتاط في كلّ واقعة قابلة للاحتياط

-------------------

ووجوب الاقتصار على الظّن القوي الذي يرتفع معه التحيّر عرفاً ) فمع كفاية الظّن القوي بمعظم الفقه ، يعمل بالظّن القوي ويترك الظّن الضعيف .

( بيان ذلك ) أي : إن التعميم وعدمه يتصور بالنسبة الى مرتبة الظنّ على الحكومة ( انّ الثابت من مقدمتي بقاء التكليف ، وعدم التمكّن من العلم التفصيلي ) حيث هما مقدمتان للانسداد ، فمقدمة تقول : ان التكليف باق الى يومنا هذا ، ومقدمة تقول : إنّا لا نتمكن من العلم التفصيلي .

فالثابت من هاتين المقدمتين ( هو : وجوب الامتثال الاجمالي بالاحتياط في إتيان كل مايحتمل الوجوب ، وترك كل مايحتمل الحرمة ) فان العقل يوجب الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي حتى يعلم الانسان ببرائة ذمته من التكليف الذي كلّفه به المولى .

هذا ( لكن المقدّمة الثالثة النافية للاحتياط ) حيث إن الاحتياط يوجب العُسر والحرج ( إنّما أبطلت وجوبه ) أي : وجوب الاحتياط ( على وجه الموجبة الكلية ) .

ومعنى إبطاله على وجه الموجبة الكلية : ( بأن يحتاط في كلّ واقعة قابلة للاحتياط ) فانّه لما كان عسرةً أو حرجاً ، لم يلزم العمل بالاحتياط الى حدّ العُسر

ص: 279

أو يرجع إلى الأصل كذلك .

ومن المعلوم أنّ إبطال الموجبة الكلّية لايستلزم صدق السالبة الكلّية .

وحينئذٍ : فلا يثبتُ من ذلك إلاّ وجوبُ العمل بالظنّ على خلاف الاحتياط والاصول في الجملة .

-------------------

والحَرج ، أما العمل بالاحتياط في جملة من الأطراف بحيث لايصل الى العُسر والحَرج ، فالمقدمة الثالثة لم تبطل مثل هذا الاحتياط .

( أو يرجع الى الأصل كذلك ) أي : بأن يرجع الى الأصل في كل واقعة من الوقائع المحتملة ، فانّ ذلك أيضاً باطل على وجه الموجبة الكلية ، لأنّ ذلك يوجب الخروج عن الدّين ، أما الرجوع الى الأصول بمقدار لايستلزم الخروج عن الدّين فلم تدّل المقدمة الثالثة على بطلان ذلك .

( ومن المعلوم : انّ إبطال الموجبة الكلية لايستلزم صدق السالبة الكليّة ) لأن إبطال الموجبة الكلّية قد يصدق مع السالبة الكلّية وقد يصدق مع السالبة الجزئية ، فاذا قلنا - مثلاً - ليس كل انسان بعاقل ، لم يكن معناه : كلّ إنسان مجنون مطلقاً ، بل معناه : بعض الانسان مجنون ، وقد يكون معناه كلياً ، كقوله سبحانه : « إنَّ اللّه ُ لايُحبُ كُلَّ مُختالٍ فَخُورٍ » (1) أي : ان يُحب كل واحد واحد منهم .

( وحينئذ ) أي : حين لم يستلزم إبطال الموجبة الكلية صدق السالبة الكلية ( فلايثبت من ذلك ) أي : من إبطال الموجبة الكلية ( إلاّ وجوب العمل بالظّن على خلاف الاحتياط و ) على خلاف ( الأُصول في الجملة ) أي : يعمل بالظّن على خلاف الاحتياط فيما يكون الاحتياط موجباً للعُسر والحَرج ، ويعمل بالظّن

ص: 280


1- - سورة لقمان : الآية 18 .

ثم إنّ العقل حاكمُ بأنّ الظنّ القويّ الاطمئناني أقربُ إلى العلم عند تَعذّره ، وإنّه إذا لم يمكن القطعُ باطاعةِ مراد الشارع وترك مايكرهه وجب تحصيلُ ذلك بالظنّ الأقرب الى العلم .

وحينئذٍ : فكلّ واقعة تقتضي الاحتياط الخاصّ بنفس المسألة أو الاحتياط العامَّ من جهة كونها إحدى المسائل التي نقطعُ بتحقّق التكليف فيها

-------------------

على خلاف الاصول فيما يكون الاصول موجباً للخروج عن الدّين ، فيكون قد عمل بالظّن في الجملة .

( ثمّ إنّ العقل حاكم : بأنّ الظنّ القوي الاطمئناني أقرب الى العلم عند تعذّره ) أي : تعذر العلم فانّه حيث لم يلزم العمل بكلّ الظنون ، فاللازم بحكم العقل أن يعمل بالظّن القوي الاطمئناني ( وانّه إذا لم يمكن القطع باطاعة مراد الشارع وترك مايكرهه ) الشارع ( وجب تحصيل ذلك ) أي : مراد الشارع ( بالظّن الأقرب الى العلم ) لا كلّ ظنّ .

( وحينئذ ) أي : حين وجوب تحصيل الظّن الأقرب لا كلّ ظنّ تنقسم الوقائع الى ثلاثة أقسام : القسم الأول : ما أشار اليه بقوله : ( فكلّ واقعة تقتضي ) تلك الواقعة ( الاحتياط الخاص ) المرتبط ( بنفس المسألة ) لأنّه من الشّك في المكلّف به ( أو الاحتياط العام من جهة كونها ) أي : تلك الواقعة ( إحدى المسائل التي نقطع بتحقق التكليف فيها ) أي : في تلك المسائل ، وذلك من جهة الانسداد .

والحاصل : مايقتضي الاحتياط سواء كان إحتياطاً خاصاً لأنّه من شك في المكلّف به أو إحتياطاً عاماً لأنّه أحد أطراف العلم الاجمالي من أول الفقه الى آخر

ص: 281

إن قام على خلاف مقتضى الاحتياط أمارة ظنيّة توجب الاطمئنان بمطابقة الواقع ، تركنا الاحتياط وأخذنا بها .

وكلُّ واقعةٍ ليست فيها أمارةٌ كذلك نعملُ فيها بالاحتياط ، سواء لم يوجد أمارةٌ أصلاً كالوقائع المشكوكة أو كانت ولم تبلغ مرتبة الاطمئنان .

وكلُّ واقعة لم يمكن فيها الاحتياط تعيّن التخييرُ في الأوّل والعملُ بالظنّ في الثاني

-------------------

الفقه ( ان قام على خلاف مقتضى الاحتياط أمارة ) و « أمارة : » فاعل « قام » ( ظنّية توجب ) أي : تلك الأمارة ( الاطمئنان بمطابقة الواقع ، تركنا الاحتياط وأخذنا بها ) أي : بتلك الأمارة الظنية .

والحاصل : ان كلّ واقعة تقتضي الاحتياط خاصاً ، أو عاماً إن قام على خلاف الاحتياط دليل ، تركنا الاحتياط وأخذنا بذلك الدليل .

الثاني : ( وكلّ واقعة ليست فيها أمارة كذلك ) أي : توجب الاطمئنان بمطابقة الواقع ( نعمل فيها ) أي في تلك الواقعة ( بالاحتياط ، سواء لم يوجد أمارة اصلاً ، كالوقائع المشكوكة ، أو كانت ) الامارة ( ولم تبلغ مرتبة الاطمئنان ) .

الثالث : ( وكلّ واقعة لم يمكن فيها الاحتياط ، تعيّن التخيير . في الأوّل ) ، والمرادُ : ب- « الأول » : قوله : « لم يوجد أمارة أصلاً كالوقائع المشكوكة » ( والعمل بالظّن في الثاني ) والمراد ب- « الثاني » قوله : « أو كانت ولم تبلغ مرتبة الاطمئنان » .

والحاصل : انّه ان كان الواجب : العمل بالظّن الأقرب كان المورد على ثلاثة أقسام : الأوّل : ان يكون هناك على خلاف الظّن أمارة وفي هذا يعمل بالأمارة .

الثاني : ان يكون بدون أمارة لكن يمكن الاحتياط ، وفي هذا يعمل بالاحتياط .

ص: 282

وإن كان في غاية الضَعف ، لأنّ الموافقة الظنّية أولى من غيرها .

والمفروضُ عدمُ جريان البراءة والاستصحاب ، لانتقاضهما بالعلم الاجماليّ . فلم يبق من الأصول إلاّ التخييرُ ، ومحلّهُ عدم رجحان أحد الاحتمالين ، وإلاّ فيؤخذ بالراجح .

ونتيجةُ هذا هو الاحتياط في المشكوكات والمظنونات بالظنّ الغير الاطمئناني إن أمكن وإلاّ فبالاُصول والعملُ بالظنّ في الوقائع

-------------------

الثالث : مالايمكن الاحتياط ايضاً ، فاذا تساوى الطرفان ، كان التخيير ، وان كان هناك ظنّ عمل بالظّن ( وان كان ) ذلك الظّن ( في غاية الضعف ) .

وإنّما يعمل بالظّن الضعيف ( لأنّ الموافقة الظنيّة أولى من غيرها ) والعقل يحكم : بأنّ الظّن مقدّم على الوهم والشك .

( و ) إن قلت : لماذا تعملون بالظّن ولاتجرون البرائة أو الاستصحاب ؟ .

قلت : ( المفروض : عدم جريان البرائة والاستصحاب ، لإنتقاضهما بالعلم الاجمالي ) فانّ أطراف العلم الاجمالي لايجري فيها البرائة ولا الاستصحاب - كما قرّر في محلّهما - .

إذن : ( فلم يبق من الاصول إلاّ التخيير ) بأن يخيَّر الانسان بين هذا الطرف وذاك الطرف ( ومحلّه ) أي : محل التخيير ( عدم رجحان أحد الاحتمالين ) وهو الشك البحت ( وإلاّ فيؤخذ بالرّاجح ) ولو كان ضعيفاً جداً - كما ذكرناه - .

( ونتيجة هذا ) الذي ذكرناه من الأقسام الثلاثة ( هو : الاحتياط في المشكوكات والمظنونات بالظّن غير الاطمئناني إن أمكن ) الاحتياط ( وإلاّ ) بأن لم يمكن الاحتياط ( فبالأصول ) أي : لابّد من العمل بالاُصول ( والعمل بالظّن في الوقائع

ص: 283

المظنونة بالظنّ الاطمئناني .

فاذا عمل المكلّف قطع بأنّه لم يترك القطع بالموافقة الغير الواجب على المكلّف من جهة العُسر إلاّ إلى الموافقة الاطمئنانيّة ، فيكون مدار العمل على العلم بالبراءة والظنّ الاطمئنانيّ بها .

وإمّا موردُ التخيير ، فالعملُ فيه على الظنّ الموجود في المسألة وإن كان ضعيفاً فهو خارجَ عن الكلام ، لأنّ العقلَ لا يحكمُ فيه بالاحتياط حتّى يكون التنزّل منه إلى شيء آخر ، بل التخييرُ أو العملُ بالظنّ

-------------------

المظنونة بالظنّ الاطمئناني ) « والعمل » : عطف على : « الاحتياط » ، فيكون نتيجة ما اخترناه هو : الاحتياط عند الشك والظّن غير الاطمئناني ، والعمل بالظّن الاطمئناني .

( فاذا عمل المكلّف ) بما ذكرناه من الأمرين : الاحتياط والظّن الاطمئناني ( قطع بأنّه لم يترك القطع بالموافقة غير الواجب على المكلّف ) و « غير » : صفة الموافقة و « على المكلّف » : متعلق ب- « الواجب » وذلك ( من جهة العُسر ) وهو متعلق بقوله « غير الواجب » بمعنى : انّه ليس بواجب لأنّه عُسر .

وعليه : فتركه للموافقة القطعية ليس ( إلاّ الى الموافقة الاطمئنانية ) أي : لم يترك القطع بالموافقة ، الاّ الى الموافقة الاطمئنانية ( فيكون مدار العمل : على العلم بالبرائة ، والظّن الاطمئناني بها ) أي بالبرائة .

( وأمّا مورد التخيير ، فالعمل فيه على الظّن الموجود في المسألة وإن كان ضعيفاً فهو خارج عن الكلام ) .

وإنّما كان خارجاً عن الكلام ( لأنّ العقل لايحكم فيه بالاحتياط حتى يكون التنزّل منه ) أي : من الاحتياط ( الى شيء آخر ، بل التخيير أو العمل بالظّن

ص: 284

الموجود تنزّل من العلم التفصيليّ إليهما بلا واسطة .

وإن شئت قلت : إنّ العمل في الفقه في مورد الانسداد على الظنّ الاطمئناني ومطلق الظنّ والتخيير ، كلٌّ في مورد خاصّ ، وهذا هو الذي يحكم به العقل المستقلّ .

-------------------

الموجود ، تنزّل من العلم التفصيلي إليهما بلا واسطة ) فانّه ليس تنزلاً من العلم التفصيلي الى العلم الاجمالي ، ثم منه الى غيره .

وإنّما لايكون تنزل بواسطة ، لأن العقل فيما لايمكن فيه الاحتياط ، لايحكم بتحصيل العلم الاجمالي بالبرائة فيه كما يلغى وجوبه بالاجماع ، ثم يتنزل منه الى غيره ، بل العقل يتنزل راساً من العلم التفصيلي اليهما .

( وان شئت قلت : ) في نتيجة الأقسام الثلاثة التي ذكرناها : ( ان العمل في الفقه في موارد الانسداد ) لباب العلم يكون كالتالي :

أولاً : ( على الظّن الاطمئناني ، و ) هو المسمى : بالعلم العرفي .

ثانياً : على ( مطلق الظنّ ، و ) لو كان غير إطمئناني ، بل ولو كان في غاية الضعف .

ثالثاً : على ( التخيير ) وذلك ( كلّ فيمورد خاص ) على ماعرفت .

( وهذا هو الذي يحكم به العقل المستقل ) لأن العقل يرى وجوب العمل بالاطمئنان إذا لم يكن علم ، فاذا لم يكن إطمئنان يرى العمل بالظنّ لأنّه أرجح ، فاذا لم يكن ظنّ يرى التخيير .

وهناك رابع لم يذكره المصنّف وهو الاحتياط فانّه قد يكون التكليف العقلي هو الاحتياط دون الثلاثة التي ذكرها .

ص: 285

وقد سَبَقَ لذلك مثالٌ في الخارج : وهو ما إذا عَلمنا بوجود شِياةٍ محرّمةٍ في قطيع ، وكان أقسامُ القطيع بحسب إحتمال كونها مصداقاً للمحرّمات خمسةً ، قسمٌ منها يظنّ كونها مُحَرَّمة بالظنّ القوي الاطمئناني ، لا أن المحرَّم مُنحَصرٌ فيه ، وقسم منها يظنّ ذلك فيها بظنّ قريب من الشك والتحيّر ،

-------------------

( وقد سَبَقَ لذلك ) أي للظّن الانسدادي ( مثال في الخارج وهو : ماإذا علمنا بوجود شياه محرّمة في قطيع ) والمصنّف إنّما مَثّلَ بهذا المثال لإفادة أنّه كما أنّ العمل بالظّن في هذا المثال ليس لأجل الانسداد ، بل لما يذكره فيما بعد : من انّه تبعيض في الاحتياط تخلّصاً من العُسر والحَرج ، كذلك يكون مانحن فيه من العمل في الفقه .

( و ) حاصل المثال : إنّه إذا ( كان أقسام القطيع بحسب إحتمال كونها مصداقاً للمحرّمات خمسة ) فانّ هذا التقسيم الخماسي أمر طبيعي إذ هناك الظنّ القوي ، والظّن الضعيف ، وفي مقابلهما : الوَهم الضعيف ، والوَهم القوي .

والخامس : الشك حيث لاترجيح لجانب إطلاقاً .

ف- ( قسم منها : يظنّ كونها محرّمة بالظّن القويّ الاطمئناني لا أن المحرَّم منحصرٌ فيه ) لأنّه إذا كان المحرم منحصراً في هذا القسم بهذا الظّن لايكون في قِباله إلاّ قسم واحد ، وهو : الوَهم الضعيف فقط ، فلا تتحقق الأقسام الأربعة الباقية كلها .

( وقسم منها : يظنّ ذلك فيها بظنّ قريب من الشك والتحيّر ) أي : بظنّ أقل قوة من القسم الأوّل ، فاذا كان القسم الأول - مثلاً - تسعين في المائة ، فهذا القسم يكون ثمانين في المائة .

ص: 286

وثالث يشكّ في كونها محرّمة ، وقسمُ منها في مقابل الظنّ الأوّل ، وقسمٌ منها موهوماً في مقابل الظنّ الثاني .

ثم فرضنا في المشكوكات ، وهذا القسمُ من الموهومات مايحتمل ان يكون واجب الارتكاب . وحينئذٍ فمقتضى الاحتياط وجوبُ إجتناب الجميع ممّا لايحتمل الوجوب .

فاذا إنتفى وجوبُ الاحتياط لأجل العُسر واحتيج إلى إرتكاب موهوم الحرمة كان إرتكاب الموهوم في مقابل الظنّ الاطمئناني أولى من الكلّ ، فيبني على العمل به ،

-------------------

( وثالث : يشك في كونها محرّمة ) أم لا ؟ وهذا القسم المتوسط بين الظنيّن : القوي والضعيف ، والوهمين : الضعيف والقوي .

( وقسم منها : في مقابل الظنّ الأوّل ) فيكون وَهماً ضعيفاً .

( وقسم منها موهوماً في مقابل الظّن الثاني ) فيكون وهماً قوياً فهذه أقسام خمسة .

( ثمّ فرضنا في المشكوكات ، وهذا القسم من الموهومات ) أي : في قسمين من هذه الأقسام الخمسة ( مايحتمل أن يكون واجب الارتكاب ) لنذر أو نحوه ( وحينئذٍ : فمقتضى الاحتياط ) العقلي في إطاعة أمر المولى ( وجوب إجتناب الجميع ممّا لايحتمل الوجوب ) بأن يحتاط في الأقسام الثلاثة أيضاً .

( فاذا إنتفى وجوب الاحتياط لأجل العُسر ، واحتيج الى إرتكاب موهوم الحرمة ، كان إرتكاب الموهوم في مقابل الظنّ الاطمئناني أولى من الكلّ ) لأنّه مظنون الاباحة بالظّن الاطمئناني ( فيبني على العمل به ) أي : بالموهوم الذي هو في مقابل الظنّ القوي .

ص: 287

ويتخيّر في المشكوك الذي يحتمل الوجوب ، ويعمل بمطلق الظنّ في المظنون منه .

لكنّك خبيرٌ بأنّ هذا ليس من حجّية مطلق الظنّ ولا الظنّ الاطمئنانيّ في شيء ، لأنّ معنى حجّيته ان يكون دليلاً في الفقه ، بحيث يرجع في موارد وجوده إليه لا إلى غيره ، وفي موارد الخلوِّ عنه بمقتضى الأصل الذي يقتضيه .

-------------------

كما ( ويتخير في المشكوك الذي يحتمل الوجوب ) والحرمة ، لأنّ الطرفين متساويان فيه ، فإنّه لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة ، كان من دوران الأمر بين المحذورين ممّا لايمكن الاحتياط فيه ، ولا مرجّح لأحد الطرفين على الآخر ، فيتخيّر في المشكوك بين أن يأتي به أَو لا يأتي به .

هذا ( ويعمل بمطلق الظنّ في المظنون منه ) أي : من محتمل الوجوب ، فصارت المحتملات من حيث العمل على ثلاثة أقسام : لازم الاحتياط ، مخير بين الاتيان وعدمه ، راجع الارتكاب .

( لكنّك خبير بأن هذا ) الذي ذكرناه من الأقسام الثلاثة في العمل ( ليس من حجّية مطلق الظّن ، ولا الظّن الاطمئناني في شيء ) فان الدليل الذي ذكرناه لايدل على إنّه يجب العمل بالظّن الاطمئناني ولا إنّه يجب العمل بمطلق الظنّ .

وإنّما لم يكن من حجّية مطلق الظّن ، ولا الظّن الاطمئناني ( لأن معنى حجّيته ) أي حجّية الظنّ ( أن يكون دليلاً في الفقه بحيث يرجع في موارد وجوده اليه ، لا إلى غيره ) والضمائر في : « وجوده » ، و « اليه » و « غيره » ، كلها يعود الى « الدليل » ( وفي موارد الخلوّ عنه ) أي : عن هذا الدليل يرجع ( بمقتضى الأصل الذي يقتضيه ) ذلك المورد .

ص: 288

والظنُّ هنا ليس كذلك ، إذ العملُ ، إمّا في مَوارِدِ وُجُودِهِ ، فيما طابق منه الاحتياط فالعملُ على الاحتياط ، لا عليه ، إذ لايدلّ على ذلك مقدّماتُ الانسداد ، وفيما خالف الاحتياط لايُعوّلُ عليه إلاّ بمقدار مخالفة الاحتياط لدفع العُسر ، وإلاّ فلو فرض فيه جهة أخرى لم يكن معتبراً

-------------------

هذا ( و ) لكن ( الظّن هنا ) في الأقسام الخمسة ( ليس كذلك ) بحيث يرجع في موارد وجوده إليه لا الى غيره ، وفي موارد الخلوّ عنه الى مقتضى الأصل الذي يقتضيه .

وعليه ، فقد ظَهر ممّا ذكرناه من المثال ما يلي :

أولاً : إنّ الظّن الذي يلزم العمل به بعد الانسداد ليس هو كل الظنون .

ثانياً : إنّه ليس العمل بهذا البعض من الظنون من باب الانسداد ، بلّ من باب التبعيض في الاحتياط دفعاً للحَرج كما قال : ( إذ العمل امّا في موارد وجوده ) أي وجود الظنّ ( فيما طابق منه الاحتياط ) بأن كان الظنّ مطابقاً للاحتياط ( فالعمل ) يكون ( على الاحتياط ، لا عليه ) أي : لا على هذا الظنّ .

وإنّما يقتضي الاحتياط العمل به ( إذ لايدلّ على ذلك ) أي : على هذا الظّن ( مقدّمات الانسداد ) فانّه سواء كانت المقدمات أو لم تكن المقدمات ، فالاحتياط يقتضي العمل على هذا الظّن .

( وفيما خالف الاحتياط لايُعوّل عليه ) أي : على هذا الظنّ ( إلاّ بمقدار مخالفة الاحتياط لدفع العُسر ) بمعنى إنا نترك الاحتياط لأنّه عُسر ، لا لأنّ الظنّ على خلافه .

( وإلاّ فلو فرض فيه جهة أُخرى ) بأن كان ذا ثلاث جهات ( لم يكن معتبراً

ص: 289

من تلك الجهة ، كما لو دار الأمرُ بين شرطيّة شيء وإباحته وإستحبابه فظنّ باستحبابه ، فانّه لايدل مقدّماتُ دليل الانسداد إلاّ على عدم وجوب الاحتياط في ذلك الشيء والأخذ بالظنّ في عدم وجوبه لا في إثبات إستحبابه .

وإمّا في مواردِ عَدَمِه ، وهو الشك ، فلايجوز العملُ إلاّ بالاحتياط الكليّ الحاصل من احتمال كون الواقعة عن موارد التكليف المعلومة إجمالاً وإن كان لايقتضيه نفسُ المسألة .

-------------------

من تلك الجهة كما لو دار الأَمر بين شرطية شيء ، وإباحته ، وإستحبابه ، فظنّ باستحبابه ، فانّه لايدّل مقدّمات دليل الانسداد إلاّ على عدم وجوب الاحتياط في ذلك الشيء ، والأخذِ بالظّن في عدم وجوبه ) « والأخذ : » مبتدأ ، وخبره : « في عدم » .

( لا في إثبات إستحبابه ) أي : انّ مقدمات دليل الانسداد لا يثبت إستحبابه والحال انّه لو كان الظّن حجّة ، لكان اللازم نفي الأمرين الآخرين ، كما إذا كان مكان هذا الظنّ ، الخبر الذي هو حجّة ، حيث انّه يثبت مظنونه وينفي ماعداه .

( وأمّا في موارد عدمه ) أي : عدم الظّن ، بأن لم يكن المكلّف ظانّاً بل كان شاكاً ، وقوله : « وأما في موارد عدمه » ، عطف على ماذكره قبل أسطر من قوله : « إذ العمل في موارد وجوده » .

( وهو الشك ) وهذا بيان لموارد عدم الظنّ ( فلايجوز العمل إلاّ بالاحتياط الكليّ ، الحاصل من إحتمال كون الواقعة عن موارد التكليف المعلومة إجمالاً ) من أول الفقه الى آخر الفقه فانّنا إنّما نعمل بالاحتياط في المشكوكات من جهة العلم الاجمالي ( وإن كان لايقتضيه نفس المسألة ) الخاصة .

ص: 290

كما إذا شكّ في حرمة عصير التمر أو وجوب الاستقبال بالمحتضر ، بل العملُ على هذا الوجه تبعيضٌ في الاحتياط وطرحه في بعض الموارد دفعاً للحرج ، ثمّ يعيّن العقلُ للطرح البعضَ الذي يكون وجودُ التكليف فيها إحتمالاً

-------------------

( كما إذا شك في حرمة عَصير التمر ، أو وجوب الاستقبال بالمحتضر ) أي : شك في هذا وحده ، أو شك في ذاك وحده ، وليس المراد بالعلم الاجمالي بحرمة عصير التمر أو وجوب الاستقبال ، فانّه إذا كان الشك في حرمة العصير - مثلاً - كان مقتضى البرائة إنّه لا حرمة فيه ، لكن حيث العلم الاجمالي الكلي من أول الفقه الى آخر الفقه وجب علينا أن نعمل بكل محتمل الوجوب بالاتيان به وبكل محتمل الحرمة بتركه .

وعليه : فانّه يحتاط بترك عصير التمر ، وبوجوب الاستقبال بالمحتضر لا انّه يتمكن من إجراء البرائة فيهما ، فيشرب ويترك إستقبال المحتضر .

ومن المعلوم انّه لو كان الظّن حجّة ولم يكن في الموردين ظنّ ، كان مجرى للبرائة بينما الآن وليس الظّن حجّة ، لزم العمل بالاحتياط في حرمة العصير فيجتنبه ، ووجوب الاستقبال فيأتي به .

وعلى أي حال : فليس العمل به من باب الانسداد ( بل العمل على هذا الوجه ) بالظّن فيما ذكره المصنّف بقوله : « أما » « وأمّا » ( تبعيض في الاحتياط وطرحه ) أي : طرح الاحتياط ( في بعض الموارد دفعاً للحَرج ) وليس العمل بالظّن من باب إن الظّن حجّة ، بل من باب الانسداد .

( ثمّ ) إذا صار القرار على العمل بالظّن وطرح الاحتياط في موارد العُسر والحَرج ( يعيّن العقل للطرح : البعض الذي يكون وجود التكليف فيها إحتمالاً

ص: 291

ضعيفاً في الغاية .

فان قلت : إنّ العمل بالاحتياط في المشكوكات منضمّةً إلى المظنونات يوجبُ العُسرَ فضلاً عن إنضمام العمل به في الموهومات المقابلة للظنّ الغير القويّ ، فيثبت وجوب العمل بمطلق الظنّ ووجوب الرّجوع في المشكوكات إلى مقتضى الأصل .

وهذا مساوٍ في المعنى لحجّيّة الظنّ المطلق ،

-------------------

ضعيفاً في الغاية ) فإذا دار الأمر في مورد الطرح بين طرح الظّن القوي أو الظنّ الضعيف ، نطرح الظنّ الضعيف ، لأنّ طرحه أولى - عقلاً - من طرح الظنّ القوي .

وحيث ذكر المصنّف : ان العمل إنّما هو على الاحتياط وليس على الظنّ ، أشكل عليه المستشكل بما يأتي من قوله : إن قلت : ان العمل بالتالي يكون على الظن ، فيثبت قول الانسدادي : من إن العمل في حال الانسداد يكون على الظنّ ، ولم يثبت قولكم : بأن العمل في حال الانسداد يكون على الاحتياط ، والى هذا الاشكال أشار بقوله : ( فان قلت : ان العمل بالاحتياط في المشكوكات منضمّةً الى المظنونات ) بالظّن القوي ، أو الظنّ الضعيف ( يوجب العُسر ، فضلاً عن إنضمام العمل به ) أي : بالاحتياط ( في الموهومات المقابلة للظّن غير القوي ) .

وحيث كان العمل بكل ذلك موجباً للعُسر ، والعُسر مرفوع ( فيثبت وجوب العمل بمطلق الظنّ ) قوياً كان أو ضعيفاً من جهة ( ووجوب الرّجوع في المشكوكات الى مقتضى الأصل ) من جهة أُخرى .

( وهذا ) التبعيض في العمل : بين الرّجوع الى الأصل ، والرجوع الى الظّن ( مساوٍ في المعنى لحجّية الظنّ المطلق ) لأن معنى حجّية الظنّ المطلق :

ص: 292

وإن كان حقيقةً تبعيضاً في الاحتياط الكلّي ، لكنّه لايقدحُ بعد عدم الفرق في العمل .

قلت : لانُسلّمُ لزومَ الحرج من مراعاة الاحتياط في المظنونات بالظنّ

-------------------

إنّ الانسان يعمل بالظّن المطلق وفي غير الظنّ المطلق يعمل بالأصل ، وأَنتم الّذين ذكرتم إن ذلك مقتضى الاحتياط ذكرتم أيضاً نفس ذلك ( وإن كان حقيقة تبعيضاً في الاحتياط الكلّي ) لأن العمل على وِفق مظنونات التكليف من حيث الاحتياط ، لا من حيث إنّها مظنونات .

( لكنّه لا يقدح ) هذا التبعيض في الاحتياط لأنّه ممّا يرجع الى العمل بالظّن المطلق في غير المشكوكات ( بعد عدم الفرق في العمل ) .

وعليه : المصنّف قسّم الأمر الى أقسام خمسة : المظنونات قوياً وضعيفاً ، والموهومات قوياً وضعيفاً ، والمشكوكات ، فقال برفع اليد عن الاحتياط في واحد منها ، - وهو : الموهومات بالوهم الضعيف في مقابل الظنّ الاطمئناني بنفي التكليف - بعد لزومه العُسر لو إحتاط في الأربعة الباقية .

وقال : أيضاً : انّ ذلك لاينطبق على حجّية الظنّ لأنّه على تقدير حجّية الظنّ يكون المَرجِع في المشكوكات : الأصل ، وفي الموهومات بالوهم القوي ، يكون المرجع : الأصل المطابق للظّن بعدم التكليف ، لا الاحتياط بالعمل بالظّن بالتكليف .

وأشكل عليه في «إن قلت» : بأنّ العمل بالاحتياط في المشكوكات منضمَّة الى المظنونات يوجب العُسر فضلاً عن إنضمام العمل به في الموهومات المقابلة للظّن غير القوي ، فيثبت وجوب العمل بمطلق الظنّ في آخره فأجاب المصنّف عنه بقوله : ( قلت : لانسلّم لزوم الحَرج من مراعاة الاحتياط في المظنونات بالظّن

ص: 293

الغير القوي في نفي التكليف فضلاَ عن لزومه من الاحتياط في المشكوكات فقط بعد الموهومات .

وذلك ، لأنّ حصول الظنّ الاطمئنانيّ غير عزيزٌ في الأخبار وغيره ، واما في غيرها فلأنّه كثيراً مّا يحصلُ الاطمئنان من الشهرة والاجماع المنقول والاستقراء والأولويّة .

وأمّا الأخبارُ ، فلأنّ الظنّ المبحوث عنه في هذا المقام هو الظنّ بصدور المتن ، وهو يحصل غالباً من خبر من يوثق بصدقه ولو في خصوص الرّواية

-------------------

غير القوي في نفي التكليف فضلاً عن لزومه من الاحتياط في المشكوكات فقط بعد الموهومات ) أي : موهومات عدم التكليف .

وإنّما لانسلّم ذلك ، لِما ذكره بقوله : ( وذلك لأنّ حصول الظنّ الاطمئناني غير عزيز في الأخبار ، وغيرها ) من الأدلة : كان الاجماع المنقول ، والشهرة والسيرة ، وما أشبه ( وأما في غيرها ) أي غير الأخبار ( فلأنّه كثيراً ما يحصل الاطمئنان من الشهرة ، والاجماع المنقول ، والاستقراء ، والأولويّة ) كما هو واضح ، فانّ هذه الأمور توجب إطمئنان الفقيه بالحكم غالباً .

( وأمّا الأخبار ، فلأن الظنّ المبحوث عنه في هذا المقام ) أي : الظنّ الذي نريده في الأخبار ( هو الظّن بصدور المتن ) لأنّ في الخبر نحتاج الى ثلاث أُمور : المتن ، والدلالة ، وجهة الصدور ، ومعنى جهة الصدور : إنّ الخبر هل هو صادر للتقية أو لبيان حكم الواقع .

( وهو ) أي الظنّ بصدور المتن ( يحصل غالباً من خبر مَنْ يوثق بصدقه ولو في خصوص الرّواية ) لأن الانسان قد يثق بصدق إنسان مطلقاً وقد يثق بصدق

ص: 294

وإن لم يكن إماميّاً أو ثقةً على الاطلاق ، إذ ربّما يتسامح في غير الرّوايات بما لايتسامح فيها .

وأمّا إحتمالُ الارسال ، فمخالفٌ لظاهر كلام الراوي ، وهو داخلٌ في ظواهر الألفاظ ، فلا يعتبر فيها إفادة الظنّ فضلاً عن الاطمئنان منه .

-------------------

شخص في هذا الخبر الخاص وإن لم يكن صادقاً في سائر أخباره .

وإنّما يثق بصدقه في هذا الخبر الخاص ، لقرائن تكتنف بكلامه ( وان لم يكن ) الضمير يرجع الى : من يوثق ، أي : الراوي لم يكن ( إمامياً أو ثقة على الاطلاق ) أي : انّه ليس في كلّ إخباراته ثقة ، وإنّما يكون في هذا الخبر ثقة .

( إذ ربّما يتسامح في غير الرّوايات بما لايتسامح فيها ) كما هو شأن غالب من له تديّن في الجملة ، فانّه ينقل كل خبر عادي بدون التثبت فيه ، أما الأخبار عنهم عليهم السلام فلا ينقلها إلا عن تثبت لمكان دينه وعلمه بان الخبر عنهم عليهم السلام إذا لم يكن مورد الاطمئنان يكون ورائه العقاب .

( و ) إن قلت : كيف يطمئن بصدور المتن وفي مُتون كثير من الأخبار إرسال ، والارسال يوجب عدم الظّنّ بالصدور ؟ .

قلت : ( أمّا إحتمال الارسال ) في الخبر ( فمخالف لظاهر كلام الراوي ) فانّ الظاهر من كلام الانسان الذي ينقل الخبر عن شخص هو : إنّه سمعه منه بلا واسطة ، وبدون أن يكون هناك بينه وبين المروي عنه واسطة .

( و ) من المعلوم : إنّه ( هو ) أي : هذا الظاهر الذي ذكرناه ( داخل في ظواهر الألفاظ ، فلا يعتبر فيها إفادة الظّن فضلاً عن الاطمئنان منه ) أي : من الظنّ ، فانّ الظواهر حجّة عند العقلاء سواء ظنوا أم لم يظنّوا .

ص: 295

فلو فرض عدمُ حصول الظنّ بالصدور لأجل عدم الظنّ بالاسناد ، لم يقدح في إعتبار ذلك الخبر ، لأنّ الجهة التي يعتبر فيها إفادة الظنّ الاطمئنانيّ هو جهةُ صدق الراوي في إخباره عمّن يروي عنه . وأمّا أنّ إخباره بلا واسطة فهو ظهور لفظيّ لا بأسَ بعدم إفادته للظنّ ، فيكون صدورُ المتن غيرَ مظنون أصلاً ، لأنّ النتيجة تابعة لأخَسّ المقدّمتين .

-------------------

وعليه : ( فلو فرض عدم حصول الظنّ بالصدور لأجل عدم الظنّ بالاسناد ) والاسناد هو مقابل الارسال ( لم يقدح ) عدم حصول الظنّ بالصدور ( في إعتبار ذلك الخبر ، لأن الجهة التي يعتبر فيها ) أي : في تلك الجهة ( إفادة الظنّ الاطمئناني هو جهة صِدق الراوي في أخباره عمّن يروي عنه ) فانّه يلزم ان نعلم بان الراوي صادق في هذا الخبر خاصة ، أو في جميع إخباراته عامة .

( وأمّا ان إخباره بلا واسطة ، فهو ظهور لفظيّ) الظّن ( لابأس بعدم إفادته للظنّ ) .

والحاصل : إنّ الظنّ يحتاج إليه في المتن لا في السَنَد ( فيكون صدور المتن غير مظنون أصلاً ) الفاء في قوله : فيكون ، تفريع على عدم إفادة الخبر للظنّ من حيث إحتمال الارسال .

وعليه : فانّا لانحتاج الى الظّن في عدم الارسال ، لأنّ ظاهره : انّه غير مرسل ، بل مُسند ( لأنّ النتيجة تابعة لأخَسّ المقدّمتين ) فإذا إحتجنا في الدلالة الى الظّن وفي عدم الارسال كُنّا لانحتاج الى الظّن لم يحتج الخبر الى الظّن بالاسناد .

ولايخفى : إنّا ناقشنا في هذه الجملة سابقاً ، وقلنا : إن النتيجة تابعة لكلتا المقدمتين : بعضاً عن هذه وبعضاً عن تلك ، فالسقف المبني على الطين ضعيف والسقف المبني على الآخر قوي والسقف المبني عليهما فيه نصف الضعف

ص: 296

وبالجملة : فدعوى « كثرة الظنون الاطمئنانيّة في الأخبار وغيرها من الامارات بحيث لايحتاج إلى مادونها ولا يلزمُ من الرّجوع في الموارد الخالية عنها إلى الاُصول محذورٌ وإن كان هناك ظنون لاتبلغ مرتبة الاطمئنان » ، قريبةٌ جداً .

إلاّ أنّه يحتاج الى مزيد تتبّع في الرّوايات وأحوال الرواة وفتاوى العلماء .

وكيف كان : فلا أرى الظنَّ الاطمئنانيّ الحاصل من الأخبار وغيرها

-------------------

ونصف القوة ، وهكذا في سائر القياسات ، فلا يصح أن يقال : إن السقف المبني على الآخر والطين معاً تابع للطين فقط .

( وبالجملة : فدعوى كثرة الظنون الاطمئنانية في الأخبار وغيرها ) الحاصلة ، تلك الظنون الاطمئنانية ( من الامارات بحيث لايحتاج الى مادونها ) أي : مادون الامارات ( ولا يلزم من الرجوع في الموارد الخالية عنها ) أي : عن الامارات ( الى الاصول ) الأربعة ( محذور وإن كان هناك ظنون لاتبلغ مرتبة الاطمئنان ) فان هذه الدعوى ( قريبة جداً ) .

وقوله : « قريبة » خبر لقوله : « فدعوى » : « محذور » فاعل لقوله : « لايلزم » .

( إلاّ انّه ) أي : حصول الظنون الاطمئنانية بالقدر الكافي بمعظم الفقه ( يحتاج الى مزيد تتبّع في الروايات وأحوال الرّواة ، وفتاوى العلماء ) والشهرات ، والسيرات ، والأولويات ، وما أشبه حتى يحصل بإستعانة ما ذكر من التتبع ، الظنون الاطمئنانية الكثيرة الوافية بمعظم الفقه .

( وكيف كان : فلا أرى الظّن الاطمئناني الحاصل من الأخبار وغيرها

ص: 297

من الأمارات أقلَّ عدداً من الأخبار المصحّحة بعدلين ، بل لعلّ هذه أكثر .

ثم إنّ الظنَّ الاطمئناني من إمارة أو امارات إذا تَعلّق بحجّية أمارة ظنيّة كانت في حكم الاطمئنان وإن لم تُفده ، بناءا على ماتقدّم من عدم الفرق بين الظنّ بالحكم والظنّ بالطريق ، إلاّ أن يدّعيَ مُدّع قلّتَها بالنسبةِ الى نفسه ،

-------------------

من الأمارات ) كالإجماعات ، والشهرات ، والسيرات والأولويات ، وما أشبه ( أقل عدداً من الأخبار المصححة بعدلين ، بل لعلّ هذه أكثر ) ولهذا فالفقهاء يطمئنون غالباً بأكثر من المسائل الفقهية من هذه الأمارات التي ذكرناها وإن لم يكن في أكثرها أخبار مصححة بعدلين .

( ثمّ إنّ ) المصنّف لتتميم الاشكال على ان قلت القائل : بأن العمل بالاحتياط يوجب العُسر ، بعد أن ذكر : إنّ الظّن الاطمئناني بالأحكام يَفي بمعظم الفقه قال : إن هناك ظنّاً آخر أيضاً وهو : الظنّ بالأمارات وإن لم يستلزم الظن بالحكم وهذان الظنّان بإنضمام أحدهما الى الآخر يفيان بمعظم الفقه ، وإليه أشار بقوله : فانّ ( الظّن الاطمئناني من أمارة أو أمارات ، إذا تعلق بحجيّة أمارة ظنّية ) كما إذا ظننّا من أمارة بحجّية الأولوية ، أو الشهرة أو السيرة ، أو الاجماع المنقول ( كانت ) تلك الأمارة الظنية ( في حكم الاطمئنان ) بالحكم ( وإن لم تفده ) أي : لم تفد هذه الأمارة الظنيّة التي هي ظنّ إطمئناني - ظنّاً إطمئنانيّاً بالطريق - ظنّاً إطمئنانياً بالحكم ( بناءاً على ماتقدّم من عدم الفرق بين الظنّ بالحكم والظّن بالطريق ) في حال إنسداد باب العلم بمعظم الأحكام .

( إلاّ أن يدّعي مدّعٍ قلّتها بالنسبة الى نفسه ) أي : قلة الظنون الاطمئنانية بالنسبة الى نفس هذا المدّعي ، كما إذا إدعى صاحب القوانين ان الظنون الاطمئنانية

ص: 298

لعدم الاطمئنان له غالباً من الأمارات القويّة وعدم ثبوت حجّية أمارة بها أيضاً .

وحينئذٍ : فيتعيّن في حقه التعدّي منه إلى مطلق الظنّ .

وأمّا العملُ في المشكوكات بما يقتضيه الأصلُ في المورد ، فلم يثبت ، بل اللازم بقاؤه على الاحتياط نظراً إلى كون المشكوكات من المحتملات التي يعلم إجمالاً بتحقّق التكليف فيها وجوباً وتحريماً .

ولا عسر في الاحتياط فيها نظراً إلى قلّة

-------------------

بالنسبة لنفسه قليلة ( لعدم الاطمئنان له ) أي : لهذا المدّعي ( غالباً من الأمارات القويّة ، وعدم ثبوت حجّية أمارة بها أيضاً ) أي : بتلك الأمارات فلا له ظنّ بالأحكام بالقدر الكافي ، ولا يرى الظّن بالطريق حجّة .

( وحينئذ : فيتعيّن في حقّه ) أي : حق هذا المجتهد الانسدادي كصاحب القوانين في المثال ( التعدّي منه الى مطلق الظنّ ) لأنّه لم يحصل على القدر الكافي من الظنّ الاطمئناني .

( وأما العمل في المشكوكات بما يقتضيه الأصل في المورد ) أي : في كل مورد مورد ( فلم يثبت ) إذ يلزم على مثل هذا المجتهد أن يعمل في مورد المشكوكات أيضاً بالاحتياط كما قال : ( بل اللازم بقاؤه ) أي : بقاء المشكوك ( على الاحتياط ، نظراً الى كون المشكوكات من المحتملات ، التي يعلم إجمالاً بتحقّق التكليف فيها وجوباً وتحريماً ) من أول الفقه الى آخر الفقه ، فانه يلزم عليه أن يحتاط في المظنونات والمشكوكات والموهومات جميعاً ، حتى يحصل على التكليف .

( ولا عُسر في الاحتياط فيها ) أي : في المشكوكات ( نظراً الى قلة

ص: 299

المشكوكات ، لأنّ أغلب المسائل يحصل فيها الظنّ بأحد الطرفين ، كما لايخفى .

مع أنّ الفرقَ بين الاحتياط في جميعها والعمل بالاصول الجارية في خصوص مواردها إنّما تظهرُ في الاُصول المخالفة للاحتياط .

ولا ريبَ أنّ العُسر لايحدث بالاحتياط فيها ،

-------------------

المشكوكات ،لأن أغلب المسائل يحصل فيها الظّن بأحد الطرفين كما لايخفى ) ظنّا قوياً أو ظنّاً ضعيفاً ، فالمشكوكات قليلة ، وإذا كانت قليلة لم يكن عُسر في الاحتياط فيها .

هذا ( مع ) تقريب آخر لوجه وجوب العمل بالاحتياط في المشكوكات ، وعدم لزوم العُسر من الاحتياط فيها ، فانّ الوجه الأول كان ملخصه : قلّة المشكوكات ، وهذا الوجه يقول : إنّ الاحتياط إنّما هو في الاصول النافية للتكليف لا الاصول المثبتة .

وحاصل التقريب : إن الاصول قد تكون مثبتة للتكليف ، وهذا يلزم العمل فيها بالاحتياط كإستصحاب التكليف ، وقد تكون أُصولاً نافية للتكليف كالبرائة والاستصحاب النافي للتكليف .

وذلك ( إن الفرق بين الاحتياط في جميعها ) أي : جميع المشكوكات ( والعمل بالاصول الجارية في خصوص مواردها ) أي : موارد المشكوكات ( إنّما تظهر في الاصول المخالفة للاحتياط ) وقد مثّلنا لذلك بالاستصحاب النافي للتكليف والبرائة ، ومن الواضح : انّ التخيير ليس ممّا يوجب تكليفاً أو يدفع تكليفاً .

( ولا ريب ان العُسر لايحدث بالاحتياط فيها ) أي : في الأُصول المخالفة

ص: 300

خصوصاً مع كون مقتضى الاحتياط في شبهة التحريم التَركَ ، وهو غيرُ موُجب للعُسر .

وحينئذٍ : فلا يثبت المدّعى من حجّية الظنّ وكونه دليلاً بحيث يرجع في موارد عدمه إلى الأصل ، بل يثبت عدم وجوب الاحتياط في المظنونات .

والحاصلُ : انّ العملَ بالظنّ من باب الاحتياط لايخرج المشكوكات عن حكم الاحتياط الكليّ الثابت بمقتضى العلم الاجماليّ في الوقائع .

نعم ، لو ثبت بحكم العقل أنّ الظنَّ عند إنسداد باب العلم مرجّحٌ

-------------------

للاحتياط ( خصوصاً مع كون مقتضى الاحتياط في شبهة التحريم : الترك و ) الترك ( هو غير موجب للعسر ) لانّ الترك ليس عملاً حتى يوجب العُسر .

( وحينئذٍ ) أي : حين لزم العمل بالاحتياط في المشكوكات ، لقلتها ، ولما ذكرناه من قولنا : مع انّ الفرق الى آخره ( فلايثبت المدّعى من حجّية الظنّ ) مطلقاً وإنّما ثبت لزوم الاحتياط ( وكونه دليلاً ) أي : لم يثبت كون الظنّ دليلاً ( بحيث يرجع في موارد عدمه ) أي : عدم الظنّ ( الى الأصل ، بل يثبت عدم وجوب الاحتياط في المظنونات ) فقط ، وأما غير المظنونات فاللازم العمل فيها بالاحتياط .

( والحاصل انّ العمل بالظّن من باب الاحتياط ، لايخرج المشكوكات عن حكم الاحتياط الكلي الثابت بمقتضى العلم الاجمالي في الوقائع ) من أول الفقه الى آخر الفقه ، والاحتياط الكلي في مقابل الاحتياط الجزئي في المكلّف به في المسائل الفرعية خاصة .

( نعم ) إستثناء من قوله . « والحاصل » ، أي : ان اللازم العمل بالاحتياط في المشكوكات ، إلاّ ( لوثبت بحكم العقل : إنّ الظّنّ عند إنسداد باب العلم مرجّح

ص: 301

في الأحكام الشرعيّة نفياً وإثباتاً ، كالعلم ، إنقلب التكليف إلى الظنّ ، وحكمنا بأنّ الشارع لايريد إلاّ الامتثال الظنّي وحيث لا ظنّ كما في المشكوكات ، فالمرجع إلى الاُصول الموجودة في خصوصيّات المقام ، فيكون كما لو إنفتح باب العلم أو الظنّ الخاصّ ، فيصير لزومُ العُسر حكمةً في عدم ملاحظة الشارع العلمَ الاجماليَّ في الامتثال بعد تعذّر التفصيليّ ، لا علّةً حتّى يدور الحكمُ مدارها .

ولكنّ الانصافَ : أنّ المقدّمات المذكورة لاتنتج هذه النتيجة ،

-------------------

في الاحكام الشّرعية نفياً وإثباتاً ، كالعلم ) كما قال بعض : بأنّ اللازم أوّلاً : العلم ، ثمّ الظّنّ .

فاذا ثبت ذلك ( إنقلب التكليف ) الفعلي عند تعذر العلم ( الى الظنّ ، وحكمنا ) عطف على قوله : « انقلب » ( بأنّ الشّارع لايريد إلاّ الامتثال الظنّي ، وحيث لاظنّ كما في المشكوكات ، فالمرجع الى الاُصول الموجودة في خصوصيات المقام ) من البرائة ، والاستصحاب ، والاحتياط ، والتخيير ، كل في مورده ( فيكون ) الظنّ الانسدادي ( كما لو إنفتح باب العلم ، أو الظنّ الخاص ) حجّة للإثبات والنفي .

وعليه : ( فيصير لزوم العُسر ، حكمة في عدم ملاحظة الشارع العلم الاجماليّ في الامتثال بعد تعذّر التفصيلي ) فلا يلزم الاحتياط في المشكوكات وان كانت طرف العلم الاجمالي ( لا علّةً حتى يدور الحكم مدارها ) فانّ الشارع لايريد العمل بالعلم الاجمالي ، وإنّما يريد العمل بالظنّ الانسدادي سواء كان في العمل بالعلم الاجمالي في المشكوكات عُسر أم لا .

هذا ( ولكن الانصاف : انّ المقدّمات المذكورة لاتنتج هذه النتيجة ) من : انّ

ص: 302

كما يظهر لِمَن راجعها ، وتأمّلها .

نعم ، لو ثبت أنّ الاحتياط في المشكوكات يوجب العُسر ثبتت النتيجة المذكورة ، لكن عرفت فساد دعواه في الغاية ، كدعوى ان العلم الاجمالي المقتضي للاحتياط الكلّيّ إنّما هو في موارد الأمارات دون المشكوكات ، فلا مقتضي فيها للعدول عمّا يقتضيه الاُصول الخاصّة في مواردها ، فانّ هذه الدعوى ، يكذّبها ثبوتُ العلم الاجماليّ بالتكليف الالزامي قبل إستقصاء الأمارات ، بل قبل الاطّلاع عليها ،

-------------------

الظنّ الانسدادي حجّة وإن لم يكن عُسر في العمل بالمشكوكات ( كما يظهر لِمَن راجعها وتأمّلها ) بل يدور حجيّة الظنّ مدار العُسر وجوداً وعدماً ، فحيث لا عُسر في العمل بالمشكوكات لزم العمل بها ، وإذا لزم منه عُسر سقط العُسر .

( نعم ، لو ثبت إنّ الاحتياط في المشكوكات يوجب العُسر ، ثبتت النتيجة المذكورة ) أي : عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات ، لأن الاحتياط يوجب العُسر ، والعُسر مرفوع فلا إحتياط فيها .

( لكن عرفت :فساد دعواه ) أي دعوى هذا الثبوت ( في الغاية ) إذ ليس الاحتياط في كل مشكوك موجباً للعُسر بالبديهة .

( كدعوى : إن العلم الاجمالي المقتضي للإحتياط الكلّي ، إنّما هو في موارد الأمارات دون المشكوكات ) فان هذه الدعوى فاسدة أيضاً .

وعليه : ( فلا مقتضي فيها ) أي في المشكوكات ( للعدول عمّا يقتضيه الاصول الخاصة في مواردها ) الى الظنّ الانسدادي ( فانّ هذه الدّعوى يكذّبها ثبوت العلم الاجمالي بالتكليف الالزامي قبل إستقصاء الأمارات ) في المشكوكات أيضاً ( بل قبل الاطّلاع عليها ) أي : على الأمارات ، فكيف يكون العلم الاجمالي خاصاً

ص: 303

وقد مرّ تضعيفه سابقاً ، فتأمّل فيه ، فانّ إدّعاء ذلك ليس كلّ البعيد .

ثمّ إنّ نظيرَ هذا الاشكال الوارد في المشكوكات من حيث الرّجوع فيها بعد العمل بالظنّ إلى الاُصول العمليّة واردٌ فيها ، من حيث الرجوع فيها بعد العمل بالظنّ الى الاصول اللفظيّة الجارية في ظواهر الكتاب والسنّة المتواترة والأخبار المتيقن كونُها ظنوناً خاصةً .

-------------------

بموارد الأمارات ، مع انّ المكلَّف لم يطّلع على تلك الأمارات ، والحال انّ العلم لايعقل قبل الاطلاع ؟ .

هذا ( وقد مرّ تضعيفه سابقاً ، فتأمّل فيه ، فانّ إدّعاء ذلك ) أي : إدعاء إن العلم

الاجمالي المقتضي للإحتياط الكلي إنّما هو في مورد الأمارات ( ليس كلّ البعيد ) بل هو قريب .

( ثم إنّ نظير هذا الاشكال الوارد في المشكوكات ، من حيث الرّجوع فيها ) أي : في تلك المشكوكات ( بعد العمل بالظنّ ) « بالظّنّ » ، متعلق بقوله : « العمل » ( الى الاصول العمليّة ) « الى » : متعلق بقوله : « الرجوع » ( وارد فيها ) أي : في المشكوكات ( من حيث الرّجوع فيها بعد العمل بالظّن الى الأُصول اللفظيّة الجارية في ظواهر الكتاب والسّنة المتواترة ) كأصل العموم ، وأصل الاطلاق ، وأصل الحقيقة وما أشبه ذلك ( والأخبار المتيقّن كونها ) أي : كون تلك الأخبار ( ظنوناً خاصة ) وهي حجّة بالأدلة الخاصة لا بدليل الانسداد .

وعليه : فالأصول اللفظية كالأصول العملية كلاهما يرد عليهما الاشكال ، فانّ معنى حجّية الظّنّ : هو جواز الرّجوع في موارد فقده الى الاصول اللّفظية إن وجدت ، وإلاّ فإلى الاُصول العمليّة .

مثلاً : إذا لم يظنّ بأنّ الرّبابين الزوجين الذين زواجهما بالمتعة حرام ، يرجع

ص: 304

توضيحه : انّ من مقدّمات دليل الانسداد إثبات عدم جواز العمل بأكثر

-------------------

فيه الى أصالة الحِلّ ، وهو أصل لفظي حيث قال عليه السلام : « كُلُ شيء لَكَ حَلالٌ » (1) ، فإطلاقه يشمل المقام إن كانت أصالة الحِلّ جارية في المقام ، وإن لم تكن المسألة مجرى أصل الحِلّ ، رجعنا فيها الى أصل البرائة عن الحرمة ، وكما إنّ الاشكال المتقدّم وارد على الأصل العملي ، كذلك يرد نفس هذا الاشكال على أصل الحِلّ الذي هو ظاهر الرواية المتقدِّمة .

والاشكال هو : انّه لايجوز التمسك بكثير من الظواهر ، لأنّها مخصصة ، أو مقيدة ، أو مجاز ، فالظواهر صارت مجملة ، ولايمكن التمسك بالاحتياط في تلك الظواهر كلها ، لأن ذلك يوجب العُسر والحَرج .

إذن : فاللازم التبعيض في الاحتياط ، لا أن نعمل بالظنّ مطلقاً بسبب مقدّمات الانسداد ، ذلك لِما تقدّم في الاصول العملية : من انّ تبعيض الاحتياط لا يساوي العمل بالظنّ ، حتى يكون الظنّ حجّة بحيث يخصِّص بالظنّ العموم ، أو يقيّد بالظّنّ الاطلاق ، أو يكون الظّنّ قرينة المجاز ، ولا يندفع هذا الاشكال إلاّ بما ذكرناه سابقاً : من انّ نتيجة دليل الانسداد حجّية الظّنّ كالعلم ، ليرتفع الاجمال في الظواهر ، فيكون الظنّ في حال الانسداد كالعلم في حال الانفتاح .

( توضيحه ) اي : توضيح هذا الاشكال الوارد على الظواهر ، كما كان واردا على الاصول العمليّة ( انّ من مقدمات دليل الانسداد إثبات عدم جواز العمل بأكثر

ص: 305


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .

تلك الظواهر ، للعلم الاجماليّ بمخالفة ظواهرها في كثير من الموارد ، فتصير مجملة لاتصلح للاستدلال .

فاذا فرضنا رجوعَ الأمر إلى تركِ الاحتياط في المظنونات أو في المشكوكات أيضاً ، وجواز العمل بالظنّ المخالف للاحتياط وبالأصل المخالف للاحتياط ، فما الذي أخرج تلك الظواهر عن الاجمال حتّى يصحّ بها الاستدلال في المشكوكات ، إذ لم يثبت كون الظنّ مرجِعاً ، كالعلم ، بحيث يكفي في الرجوع إلى الظواهر عدمُ الظنّ بالمخالفة ؟ .

-------------------

تلك الظواهر ) الواردة في الكتاب والسنة ، وإنما لايعمل بأكثر تلك الظواهر ( للعلم الاجمالي بمخالفة ظواهرها ) أي ظواهر الكتاب والسنة ( في كثير من الموارد ) بسبب التقييد ، أو التخصيص ، أو قرينة المجاز ( فتصير ) تلك الظواهر كلها ( مجملة لاتصلح للاستدلال ) .

وعليه : فاللازم الرّجوع الى الاحتياط في جميعها .

( فإذا فرضنا رجوع الأمر الى ترك الاحتياط في المظنونات ، أو في المشكوكات أيضاً ) بناءاً على لزوم الحَرج في الاحتياط فيهما ( وجواز العمل بالظنّ المخالف للإحتياط ) في المشكوكات ( وبالأصل المخالف للإحتياط ) أي : الأصل العملي ومعنى ذلك : أن نأخذ بالظّنّ المخالف للإحتياط في الظاهر من الكتاب والسنّة ، فإذا لم يكن ظنّ مخالف للإحتياط عملنا بالأصل المقتضي للبرائة مثلاً .

وعليه : ( فما الذي أخرج تلك الظّواهر عن الاجمال ، حتى يصحّ بها الاستدلال في المشكوكات إذ لم يثبت كون الظّنّ مرجِعاً كالعلم ، بحيث يكفي في الرجوع الى الظواهر عدم الظنّ بالمخالفة ؟ ) يعني : إذا فرضنا انّا لا نتمكن من الاحتياط في ظواهر الكتاب والسنة لأنّه يوجب العُسر والحَرج ، فالظواهر تبقى مجملة ، فكيف

ص: 306

مثلاً إذا أردنا التمسّك ب- « اُوفوا بالعقود » ، لإثبات صحّة عقدٍ إنعقدت أمارةٌ ، كالشهرة أو الاجماع المنقول ، على فسادها . قيل : لايجوز التَمسّكُ بعمومه ، للعلم الاجماليّ بخروج كثير من العقود عن هذا العموم لانعلمُ تفصيلها .

ثمّ إذا ثبت وجوبُ العمل بالظنّ من جهة عدم إمكان الاحتياط في

-------------------

نعمل بالظنّ في توضيح المُجمل ، إذا لم يثبت حجّية الظنّ في حال الانسداد وانّه كالعلم حال الانفتاح ؟ .

وعليه : فتكون الظواهر اللّفظية التي عرض عليها الاجمال كالاصول العمليّة ، وكما لايصح إجراء أصل البرائة في المشكوكات في الاصول العمليّة ، كذلك لايجوز العمل بالظواهر المجملة بسبب الاُصول اللّفظية .

( مثلاً : إذا أردنا التّمسّك ب- « أوفُوا بالعُقودِ » (1) لإثبات صحة عقدٍ إنعقدت أمارة كالشهرة ، أو الاجماع المنقول ، على فسادها ) وقوله : « أمارة » ، فاعل لقوله : « انعقدت » ، ومثال ذلك : عقد الكالي بالكالي ، حيث إنعقدت الشهرة ، أو الاجماع المنقول على فساده ، فاذا أردنا أن نتمسك ب- « أوفُوا بالعقود » لإثبات صحته ( قيل ) لنا : ( لايجوز التمسّك بعمومه ) أي : عموم « أوفُوا بالعقود » .

وإنّما لايصح التمسك بعموم « اوفُوا بالعقود » لصحة هذا العقد ( للعلم الاجماليّ بخروج كثير من العقود عن هذا العموم لانعلم تفصيلها ) أي : تفصيل تلك العقود الخارجة ، وبذلك صار « أوفُوا بالعُقود » مجملاً .

( ثمّ إذا ثبت وجوب العمل بالظنّ من جهة عدم إمكان الاحتياط في

ص: 307


1- - سورة المائدة : الآية 1 .

بعض الموارد وكون الاحتياط في جميع موارد إمكانه مستلزماً للحرج ، فاذا شكّ في صحّة عقد لم يقم على حكمه أمارة ظنيّة ، قيل : إنّ الواجبَ الرجوعُ إلى عموم الآية ، ولايخفى أنّ إجمالها لايرتفع بمجرّد حكم العقل بعدم وجوب الاحتياط فيما ظنّ فيه بعدم التكليف .

ودفعُ هذا - كالاشكال السابق -

-------------------

بعض الموارد ) لأنّه يوجب إختلال النظام ( وكون الاحتياط في جميع موارد إمكانه مستلزماً للحَرج ) فالاحتياط التام في الظواهر غير ممكن ، والاحتياط الممكن غير واجب لوجود الحَرج .

وعليه : ( فإذا شك في صحّة عقد لم يقم على حكمه أمارة ظنيّة ) لأنّه من المشكوكات ، ( قيل ) لنا : ( إنّ الواجب الرّجوع الى عموم الآية ) ، أي : آية « أَوفُوا بالعُقود ».

( ولايخفى : إنّ إجمالها ) أي : إجمال الآية حسب ماذكرناه ( لايرتفع بمجرد حكم العقل بعدم وجوب الاحتياط فيما ظنّ فيه بعدم التّكليف ) .

هذا ، وقد تقدّم الفرق في العمل بالظّنّ ، بين كونه من باب الحجّية حتى يكون مخصصاً ، ومقيداً ، وقرينة مجاز ، وبين كونه من باب الفرار من لزوم العُسر والحَرج ، فانّه إذا فرض كون العمل بالظّن لأجل الفرار من لزوم العُسر الحاصل من العمل بالاحتياط الكلي ، لا لأجل حجّية الظنّ شرعاً ، فالعمل بالظنون المخالفة للظواهر بالتخصيص ، أو التقييد ، أو قرينة المجاز ، لأجل دفع العُسر ، لايوجب إرتفاع العلم الاجمالي المذكور حتى يصح التمسك بالظواهر في موارد الشك .

( ودفع هذا ) الاشكال في الظواهر اللفظية ( كالاشكال السّابق ) في الاصول

ص: 308

منحصرٌ في أن يكون نتيجةُ دليل الانسداد حجّية الظنّ كالعلم ، ليرتفع الاجمال في الظواهر ، لقيامه في كثير من مواردها من جهة إرتفاع العلم الاجماليّ ، كما لو علم تفصيلاً بعض تلك الموارد بحيث لايبقى علمٌ إجمالاً في الباقي ، أو يدّعى أنّ العلمَ الاجماليّ الحاصل في تلك الظواهر إنّما هو بملاحظة موارد الأمارات ، فلا يقدح في المشكوكات ، سواء ثبت حجّية الظنّ أم لا .

وأنت خبيرٌ بأنّ

-------------------

العمليّة ( منحصر في أن يكون نتيجة دليل الانسداد : حجّية الظنّ كالعلم ) منتهى الفرق : إنّ العلم حجّة في حال الانفتاح ، والظنّ حجّة في حال الانسداد حيث لا علم.

وإنّما يكون الظّنّ حجّة ( ليرتفع الاجمال في الظواهر ، لقيامه ) أي : الظنّ ( في كثير من مواردها ) أي : موارد العلم الاجمالي ( من جهة إرتفاع العلم الاجمالي ) به ، وقوله : « من جهة » ، متعلق بقوله : « ليرتفع » .

( كما لو علم تفصيلاً بعض تلك الموارد بحيث لايبقى علمٌ إجمالاً في الباقي ) فيكون الظنّ في حال الانسداد كالعلم حجّة ، لا انّه من باب وجود العُسر في الاحتياط .

( أو يدّعى : انّ العلم الاجمالي الحاصل في تلك الظواهر ) من الكتاب والسنة قد حصل بسبب كثرة التخصيصات ، والتقييدات ، والمجازات ، كما قال : ( إنّما هو بملاحظة موارد الأمارات ) أي : انّ موارد الأمارات حصل فيها العلم الاجمالي ( فلايقدح ) هذا العلم الاجمالي ( في المشكوكات ) التي ليست موارد للامارات ( سواء ثبت حجّية الظنّ أم لا ) .

هذا ( وأنت خبير بأنّ ) كلا الجوابين : أي قوله : « ودفع هذا كالإشكال السابق

ص: 309

دعوى النتيجة على الوجه المذكور يكذّبها مقدّماتُ دليل الانسداد .

ودعوى : « إختصاص المعلوم إجمالاً من مخالفة الظواهر بموارد الأمارات » ، مضعّفةٌ بأنّ هذا العلم حاصل من دون ملاحظة الأمارات ومواردها .

وقد تَقدّم سابقاً انّ المعيارَ في دخولِ طائفة من المحتملات في أطراف

-------------------

منحصر ...» وقوله : « أو يدّعى إنّ العلم الاجمالي الحاصل ...» غير تامّين ، لأن ( دعوى النتيجة على الوجه المذكور ، يكذّبها مقدّمات دليل الانسداد ) فانّ دليل الانسداد ينتج عدم لزوم الاحتياط التام ، لا انّه ينتج كون الظنّ مطلقاً حجّة .

هذا هو الاشكال على الجواب الأول من قول المصنّف : « ودفع هذا كالاشكال السابق ...» .

ثم أشار المصنّف الى الاشكال على الجواب الثاني من قوله : أو يدّعي العلم الاجمالي بقوله : ( ودعوى إختصاص المعلوم إجمالاً من مخالفة الظواهر بموارد الأمارات ) فقط دون المشكوكات ، فهذه الدعوى ( مضعّفة : بأنّ هذا العلم حاصل من دون ملاحظة الأمارات ومواردها ) فانّك إذا لم تعلم موارد الأمارات كيف يمكن أن تدعي انّ العلم الاجمالي حاصل في موارد الأمارات فقط ؟ فهو مثل أن يقول إنسان : الكتاب في الدار وهو لايعلم بوجود الدار أصلاً .

وعليه : فالعلم الاجمالي بمخالفة الظواهر لو كان مختصاً بموارد الأمارات ، لكان اللازم ارتفاع هذا العلم الاجمالي بالعمل بالامارات ، والحال انّه ليس كذلك ، لبقاء العلم الاجمالي مع ملاحظة الظواهر مع المشكوكات أيضاً .

هذا ( وقد تقدّم سابقاً : انّ المعيار في دخول طائفة من المحتملات في أطراف

ص: 310

العلم الاجماليّ لنراعي فيها حكمه وعدم دخوله هو تبديل طائفة من محتملات المعلوم لها دخلٌ في العلم الاجماليّ بهذه الطائفة المشكوك دخولها ، فان حصل العلمُ الاجمالي كانت من أطراف العلم ، وإلاّ فلا .

-------------------

العلم الاجمالي لنراعي فيها ) أي : في تلك الطائفة ( حكمه ) اي : حكم العلم الاجمالي ( وعدم دخوله ) أي : عدم دخول تلك الطائفة في العلم الاجمالي ، المعيار ( هو : تبديل طائفة من محتملات المعلوم ، لها ) أي : لتلك الطائفة ( دخل في العلم الاجمالي بهذه الطائفة المشكوك دخولها ) وقوله : « بهذه » متعلق بقوله : « تبديل » ، أي : تبدل طائفة بطائفة .

( فان حصل العلم الاجمالي ، كانت ) الطائفة الثانية ( من أطراف العلم ) الاجمالي ( وإلاّ ، فلا ) تكون من أطراف العلم الاجمالي .

وفيما نحن فيه لو أبدل جملة من موارد الأمارات بحيث إرتفع العلم الاجمالي عنها بموارد المشكوكات ، لبقي العلم الاجمالي أيضاً .

مثلاً : إذا علمنا بأن عشرة شياة موطوئة ضاعت في قطيع فيه مائة شاة ، بعضها أبيض ، وبعضها أصفر ، وبعضها أسود ، وعلمنا بأنّ الشياة العشرة ليست في الأسود ، فاذا أخذنا من الأبيض والأحمر عشرة ، وجعلنا مكانها عشرة من الأسود ، لم يبق العلم الاجمالي ، لاحتمال انّ المحرّمات كانت في الأبيض والأصفر فقط ، وقد أخذناها بحسب الاحتمال ، فهذا دليل على انّ الأسود ليس من أطراف العلم الاجمالي .

أمّا لو لم نعلم بأنّ العشرة في أيٍ من الشياة المائة ، فاذا أخذنا عشرة من الأبيض والأصفر وجعلنا مكانها الأسود ، بقي العلم الاجمالي على حاله فيتبين من ذلك إنّ الأسود أيضاً من أطراف العلم الاجمالي .

ص: 311

وقد يُدفَعُ الاشكالان بدعوى قيام الاجماع بل الضرورة على أنّ المرجع في المشكوكات إلى العمل بالاصول اللفظيّة إن كانت ، وإلاّ فالى الاُصول العمليّة .

وفيه : أنّ هذا الاجماع مع ملاحظة الاُصول في أنفسها ، وأمّا مع طروّ العلم الاجماليّ بمخالفتها في كثير من الموارد غاية الكثرة ، فالإجماعُ ، على سقوط العمل بالاُصول مطلقاً ، لا على ثبوته .

-------------------

( وقد يدفع الاشكالان ) وهما : إشكال الرّجوع في المشكوكات الى الاُصول العمليّة ، وإشكال الرّجوع في المشكوكات الى الظواهر ( بدعوى قيام الاجماع ، بل الضّرورة ) من الدّين ( على انّ المرجع في المشكوكات الى العمل بالاُصول اللّفظية إن كانت ) أصول لفظية هي المقام كالعموم ، والاطلاق ، وما أشبه ، ( وإلاّ ، فالى الاُصول العمليّة ) من البرائة ، والاستصحاب ، والتخيير ، والاحتياط ان لم يكن هناك أصلٌ لفظي .

( وفيه : إنّ هذا الاجماع مع ملاحظة الاُصول في أنفسها ) أي : إنّه إذا كان هناك أصل ولم يكن معارضاً بالعلم الاجمالي ، فما ذكرتم : من المراجعة الى الاُصول اللّفظية أولاً ، ثم الى الاصول العمليّة ثانياً هو الصحيح .

( وأمّا مع طروّ العلم الاجمالي بمخالفتها ) أي : بمخالفة الاصول اللّفظية والاُصول العمليّة ( في كثير من الموارد غاية الكثرة ) فانّا نعلم علماً إجمالياً بأنّ الاُصول اللّفظيّة والاصول العمليّة قد خُولِفَت في كثير من الموارد ، تلك الموارد في غاية الكثرة ( فالإجماع على سقوط العمل بالاصول مطلقاً ) أصلاً عملياً كان أو أصلاً لفظياً ( لا على ثبوته ) الضمير عائد الى العمل بالاُصول .

ص: 312

ثمّ إنّ هذا العلم الاجماليّ وإن كان حاصلاً لكلّ أحد قبل تمييز الأدلّة عن غيرها ، إلاّ أنّ من تعينّت له الأدلّة وقام الدّليل القطعيّ عنده على بعض الظنون عَمِلَ بمؤدّاها وصار المعلومُ بالاجمال عنده معلوماً بالتفصيل .

كما إذا نُصِبَ أمارةٌ طريقاً لتعيين المحرّمات في القطيع الذي عُلِمَ بحرمة كثير من شياتها ، فانّه يعلم بمقتضى الأمارة ، ثمّ يرجع في مورد فقدها إلى أصالة الحِلّ ، لأنّ المعلوم إجمالاً صار معلوماً بالتفصيل ،

-------------------

( ثمّ إنّ هذا العلم الاجمالي ) بمخالفة الاصول في كثير من الموارد ( وان كان حاصلاً لكل أحد قبل تمييز الأدلة عن غيرها ) فان العلم الاجمالي حاصل قبل أن يميز المكلّف الأدلة ، فاذا تميزت الأدلة وكانت بالقدر الكافي لمعظم الفقه ، سقط العلم الاجمالي .

( إلاّ انّ من تعيّنت له الأدلّة ) على موارد الحكم الذي كلّف بذلك الحكم ( وقام الدّليل القطعيّ عنده على بعض الظّنون ) بأن كانت الظنون حجّة عنده بالقدر الكافي بالأحكام ( عَمِلَ بمؤداها ) أي : بمؤدّى تلك الظنون ( وصار المعلوم بالاجمال عنده معلوماً بالتفصيل ) إذا كان البعض المعين بسبب الأدلة بقدر المعلوم بالاجمال ، فان الزائد على ذلك يكون مجرى لأصل البرائة .

( كما إذا نصب أمارة طريقاً لتعيين المحرّمات في القطيع ، الّذي علم بحرمة كثير من شياتها ) بأن قال الخبر وهو أمارة : إنّ طريق تعيين الشياه المحرمة : القرعة ، فان الأمارة لمّا عينت القرعة ( فانّه يعمل بمقتضى الأمارة ) أي : الأمارة المعيّنة - بالكسر - .

( ثم يرجع في مورد فقدها ) أي : فقد تلك الأمارة ( الى أصالة الحِلّ ، لأنّ المعلوم إجمالاً صار معلوماً بالتفصيل ) علماً وجدانياً ، أو علماً تنزيلياً

ص: 313

والحرامُ الزائدُ عليه غيرُ معلوم التحقّق في أوّل الأمر .

وأمّا مَن لم يقم عنده الدليلُ على أمارة ، إلاّ أنّه ثبت له عدمُ وجوب الاحتياط والعملُ بالأمارات ، لا من حيث أنّها أدلّة ، بل من حيث أنّها مخالفة للاحتياط وتركَ الاحتياط فيها موجِبٌ لإندفاع العُسر ، فلا دافعَ لذلك العلم الاجماليّ لهذا الشخص بالنسبة الى المشكوكات .

-------------------

( والحرام الزائد عليه ) أي : على ذلك المعلوم بالتفصيل ( غير معلوم التّحقق في أوّل الأمر ) فالشك بدوي بالنسبة الى الزائد .

مثلاً : إذا كان له علم إجمالي بحرمة مائة شاة من مجموع قطيع فيه مائة وخمسون شاة ، والقرعة عيّنت المائة ، فانّ الزائد على تلك المائة يكون مجرى لأصالة الحِلّ ، لأنّه لم يعلم من أوّل الأمر حرمة أكثر من مائة .

( وأمّا من لم يقم عنده الدّليل على ) حجّية ( أمارة ) كمن لم يقم عنده الخبر الواحد على حجّية القرعة لتعيين الشياة المحرمة ( إلاّ انّه ثبت له عدم وجوب الاحتياط ) لأنّه متعذّر ، أو متعسّر ( و ) ثبت له ( العمل بالأمارات لا من حيث إنّها أدلّة ، بل من حيث انّها مخالفة للاحتياط ) فترك الاحتياط ليدفع العُسر .

( و ) إنّما يعمل بالأمارة المخالفة للاحتياط ، لأن ( ترك الاحتياط فيها ) أي : في مورد تلك الأمارات ( موجب لاندفاع العُسر ) فانّه إذا عمل بكل موارد العلم الاجمالي لزم العُسر ، أمّا إذا عمل بالعلم الاجمالي في غير مورد الأمارة الدالّة على عدم العمل بالاحتياط ، إندفع العُسر .

وعليه : ( فلا دافع لذلك العلم الاجمالي ) المقتضي للاحتياط ( لهذا الشخص بالنسبة الى المشكوكات ) فانّه يلزم عليه أن يعمل في المشكوكات بالاحتياط ، وهذا ما أشرنا اليه سابقاً : من انّ الاقسام خمسة ، وإنّ المشكوكات يكون مورداً للاحتياط .

ص: 314

فعلم ممّا ذكرنا أنّ مقدّمات دليل الانسداد على تقرير الحكومة وإن كانت تامةً في الانتاج إلاّ انّ نتيجتَها لا تفي بالمقصود من حجّية الظنّ وجعلِهِ كالعلم أو كالظنّ الخاصّ .

وأمّا على تقرير الكشف فالمستنتجُ منها وإن كان عينَ المقصود إلاّ أنّ الاشكالَ والنظَر بل المنعَ في إستنتاج تلك النتيجة .

-------------------

( فعلم ممّا ذكرنا : انّ مقدّمات دليل الانسداد على تقرير الحكومة وإن كانت تامة ) من جهة كونها تفيد كليّة النتيجة من جهة الأسباب ، فانّ الظّنّ عند الانسداد

من أيّ سبب حصل كان حجّة ، كما إنّ العلم حال الانفتاح من أيّ سبب حصل كان حجّة .

إذن : فمقدمات الانسداد على تقرير الحكومة تامة ( في الانتاج ، إلاّ انّ نتيجتها لاتفي بالمقصود من حجّية الظّنّ وجعله كالعلم ، أو كالظّنّ الخاص ) في كونه مخصصاً ، أو مقيداً ، أو مفسّراً للمجمل ، وذلك لأنّ العقل - بعد إبطال الاحتياط الكلي بسبب لزوم العُسر - يحكم بالعمل بالظنّ الاطمئناني ، أو بالظنّ مطلقاً في نفي التكليف .

لكن حكمه هذا إنّما هو لرفع العُسر ، لا لأنه حجّة يرجع اليه في تعيين المعلوم بالاجمال ، كما يرجع الى العلم في تعيين المعلوم بالاجمال ، أو يرجع الى الظنّ الخاص كالخبر - الذي هو حجّة - في تعيين المعلوم بالاجمال ، فيكون مخصصاً ، ومقيداً ، ومفسراً للمجمل .

( وأمّا على تقرير الكشف ، فالمستنتج منها ) أي : من مقدمات الانسداد ( وإن كان عين المقصود ) وهو حجّية الظّنّ ( إلاّ انّ الاشكال والنّظر ، بل المنع في استنتاج تلك النتيجة ) فانّ الكشف لايسبب النتيجة المطلقة ، بل تكون النتيجة

ص: 315

فإن كنتَ تَقدرُ على إثبات حَجّية قِسم من الخبر لايلزمُ من الاقتصار عليه محذورٌ ، كان أحسنَ وإلاّ فلا تتعدّ على تقرير الكَشفِ مّا ذكرنا من المسلك في آخره ، وعلى تقرير الحكومةِ مابينّا هنا أيضاً من الاقتصار في مقابل الاحتياط على الظنّ الاطمئنانيّ بالحكم أو بطريقيّة أمارة دَلّت على الحكم وإن لم تُفد إطمئناناً ، بل ولا ظنّاً ، بناءا على ماعَرفت من مسلكنا المُتقدّم من عدم الفرق بين الظنّ بالحكم والظنّ بالطريق .

وأمّا في ما لايمكن الاحتياط

-------------------

على الكشف مهملة ، وعلى الحكومة ليست مهملة ، لأنّها لاتجعل الظنّ حجّة ، بل تبعض في الاحتياط .

وعلى أي حال : ( فان كنت تقدر على إثبات حجّية قسم من الخبر ، لايلزم من الاقتصار عليه محذور ) كمحذور عدم الوفاء بمعظم الفقه ( كان أحسن ، وإلاّ فلا تتعدّ على تقرير الكشف ماذكرنا : من المسلك في آخره ) أي : آخر بحث الكشف ، وهو : الأخذ بالمتيقن ، فالمتيقن .

( وعلى تقرير الحكومة مابيّنا هنا أيضاً : من الاقتصار في مقابل الاحتياط على الظّنّ الاطمئناني بالحكم ، أو بطريقية أمارة دلّت على الحكم ) أي : لافرق في حجّية الظّنّ حينئذٍ بين الظّن بالحكم ، أو الظن بالطريق ( وان لم تفد ) أي : طريقية أمارة دلّت على الحكم ( إطمئناناً ، بل ولا ظنّاً ) بالحكم ، وذلك ( بناءاً على ماعرفت: من مسلكنا المتقدّم: من عدم الفرق بين الظّنّ بالحكم، والظّنّ بالطريق ) .

وقوله : «بناءاً» ، بيان لما ذكره بقوله : «الظّنّ الاطمئناني بالحكم ، أو بطريقية أمارة دلّت على الحكم» .

( وأمّا فيما لايمكن الاحتياط ) في أطراف العلم الاجمالي من جهة العُسر

ص: 316

فالمتّبعُ فيه - بناءاً على ماتقدّم في المُقدّمات من سقوط الاُصول عن الاعتبار ، للعلم الاجمالي بمخالفةِ الواقع فيها - هو مطلقُ الظنّ وإلاّ فالتخيير .

وحاصلُ الأمرِ عَدمُ رفع اليد عن الاحتياط في الدّين مهما أمكن إلاّ مع الاطمئنان بخلافه .

وعليك بمراجعة ماقدّمنا من الأمارات على حجّية الاخبار ، عَساكَ تظفرُ فيها بأماراتٍ توجبُ الاطمئنانَ بوجوب العمل بخبر الثقة عَرفاً إذا أفاد الظنّ وإن لم

-------------------

( فالمتّبع فيه ) أي : فيما لايمكن الاحتياط ( بناءاً على ماتقدّم في المقدمات : من سقوط الاصول عن الاعتبار ) وذلك السقوط إنّما هو ( للعلم الاجمالي بمخالفة الواقع فيها ) أي : في تلك الاصول ، فيكون المرجع فيه ( هو مطلق الظنّ ) وقوله : «هو» خبر قوله : «فالمتّبع» .

( وإلاّ ) بأن لم يكن ظنّ ، بل شك في المسألة ( فالتخيير ) بين الأطراف .

( وحاصل الأمر : عدم رفع اليد عن الاحتياط في الدّين مهما أمكن ، إلاّ مع الاطمئنان بخلافه ) أي : بالاطمئنان بأنّه لايلزم الاحتياط .

( وعليك بمراجعة ماقدّمنا من الأمارات على حجّية الأخبار ) في باب حجّية خبر الواحد من الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، والعقل ، وغيرها ( عَساك ) ولَعلَكَ ( تظفر فيها ) أي : في تلك الأمارات ( بأمارات توجب الاطمئنان بوجوب العمل بخبر الثقة عرفاً ) .

وقوله : «عرفاً» ، متعلق بقول : «الاطمئنان» ، أي : أمارات توجب الاطمئنان العرفي بوجوب العمل بخبر الثقة ، وذلك فيما ( إذا أفاد ) خبر الثقة ( الظن وإن لم

ص: 317

يُفد الاطمئنان ، بل لعلّك تَظفرُ فيها بخبر مصَحَّح بعدلين مطابق لعَمل المشهور مفيد للاطمئنان ، يدلّ على حجّية المصحّح بواحد عدل ، نظراً إلى حجّية قول الثقةِ المُعدّل في تعديله ، فيصير بمنزلة المُعدّل بعدلين حتّى يكون المصحّح بعدل واحد متّبعاً ، بناءا على دليل الانسداد بكلا تقريريه ، لأنّ المفروضَ حُصولُ الاطمئنان من الخبر القائم على حجيّةِ قول الثِقَةِ

-------------------

يفد الاطمئنان ) والمراد من الظن : النوعي ، لا الشخصي - كما ذكرناه هناك - .

( بل لعلّك تظفر فيها ) أي : في الأمارات ( بخبر مصحّح بعدلين ، مطابق لعمل المشهور ، مفيد للاطمئنان ) بأن يكون ذلك الخبر جامعاً لشرائط الحجّية بهذه الأسباب الثلاثة ( يدل على حجّية المصحّح بواحد عدل ) أي : انّه إذا صحّح الخبر عادل واحد ، كان ذلك الخبر حجّة ، فهناك خبر مصحّح بعدلين يدلّ على حجّية خبر مصحّح بواحد . وإنّما يكون المعدل بعدلين ، دالاً على حجّية المعدل بواحد ( نظراً الى حجّية قول الثقة المعدّل في تعديله ) وقوله : «في تعديله» ، متعلق بقوله : «حجّية» ( فيصير ) المعدّل بواحد ( بمنزلة المعدَّل بعدلين ) لأنّ المعدّل بعدلين لما قال : إنّ المعدّل بواحد حجّة ، يكون هذا المعدّل بواحد كالمعدّل بعدلين ( حتى يكون المصحّح بعدل واحد متّبعاً ) .

وقوله : «حتى» ، متعلق بقوله : «فيصير» ، فانّه إذا قال زرارة أو محمد بن مسلم - مثلاً - خبر فضيل حجّة ، أصبح خبر فضيل كأنّه معدّل بعدلين ، فان خبر فضيل وإن لم ينقله عدلان ، لكن قال عدلان : خبر فضيل حجّة ، فصار خبر فضيل كأنه معدّل بعدلين ، وذلك ( بناءاً على دليل الانسداد بكلا تقريريه ) : الكشف ، والحكومة .

قوله : «بناءاً» ، متعلق بقوله : «حتى يكون المصحّح بعدل واحد متبعاً» ( لأنّ المفروض حصول الاطمئنان من الخبر القائم على حجّية قول الثقة

ص: 318

المُعدَّل المستلزم لحجّية المصحَّح بعدل واحد ، بناءا على شمول دليل إعتبار خبر الثقة للتعديلات ، فيقضي به تقريرُ الحكومة ، وكونِ مثله متيقنُ الاعتبار من بين الأمارات فيقضي به تقريرُ الكشف .

-------------------

المعدَّل ، المستلزم لحجّية المصحّح بعدل واحد ) .

والحاصل : إنّ دلالة الخبر المصحّح بعدلين على حجّية المصحّح بعدل واحد ، مبني على دلالة المصحّح بعدلين على حجّية قول العدل في روايته وفي تعديله ، حتى يكون المصحّح بعدل واحد متبعاً .

وإنّما قال المصنّف : نظراً ، لأنّ المتيقّن منه : دلالته على حجّية العدل الواقعي ، فيحتاج في تصحيح السند حيث لايعلم عدالة رجال السند واقعاً ، الى تعديل عدلين .

هذا ( بناءاً ) وهو قيد لقوله : «المستلزم» ، فان الاستلزام مبني ( على شمول دليل إعتبار خبر الثقة للتعديلات ) أيضاً ، لا خصوص الأحكام ، فانّه ربّما يقال : انّ خبر الثقة حجّة في الأحكام ، وربّما يقال : انّ خبر الثقة حجّة ، سواء أُخبر بتعديل الرواة أو أخبر بالأحكام ، فانّ الاستلزام المذكور في عبارة المصنّف حيث قال : المستلزم لحجّية المصحّح بعدل واحد ، إنّما هو بناءاً على شمول دليل إعتبار خبر الثقة للتعديلات ايضاً .

( فيقضي به تقرير الحكومة ) و «تقرير» : فاعل «يقضي» ، أي : يقضي تقرير الحكومة على انّ خبر المعدل بعدل واحد حجّة ، سواء دلّ على الحكم ، أو على حجّية خبر الثقة ، وإنّما يقضي الحكومة بذلك ، لأن الحكومة أفادت حجّية الخبر الاطمئناني ، والخبر المعدل بواحد يوجب الاطمئنان .

( وكون مثله متيقن الاعتبار من بين الأمارات ، فيقضي به تقرير الكشف )

ص: 319

المقام الثالث

في أنّه إذا بُني على تعميم الظنّ ، فان كان التعميمُ على تقرير الكشف ، بأن يكون مُقدّماتُ الانسداد كاشفةً عن حكم الشارع بوجوب العَمل بالظنّ في الجملة ثمّ تعميمه بإحدى المعّمِمات المتقدّمة ، فلا إشكالَ من جهة العِلم بخروج القياس عن هذا العُموم ،

-------------------

« وكون مثله » عطف على مدخول الجار في قوله : « لأن المفروض » ، أي : ولكون مثله متيقّن الاعتبار . . . فانّ قول المصنّف : «بكلا تقريريه» ، علّله بعد ذلك بقوله : «لأن المفروض» ، تقريباً للحكومة ، وبقوله : «وكون مثله» ، تقريباً للكشف ، فإنَّ الحكومة تحتاج الى الاطمئنان ، وخبر الثقة يوجب الاطمئنان ، والكشف يحتاج الى متيقن الاعتبار ، وخبر الثقة متيقن الاعتبار .

وعليه : فالمصحّح بعدل واحد متّبع ، بناءاً على دليل الانسداد بكِلا تقريريه ، لكن أحد التقريرين من باب الاطمئنان والآخر من باب التيقن ، و «تقرير الكشف» في قول المصنّف فيقضي به تقرير الكشف ، فاعل «يقضي» .

( المقام الثالث ) في بيان وجه خروج القياس على القول بحجّية الظنّ مطلقاً مع انّ القياس يوجب الظنّ ، فاللازم ان يكون في حال الانسداد حجّة .

والكلام ( في انّه إذا بني على تعميم الظّنّ ) لكل ظنّ ( فانّ كان التعميم على تقرير الكشف ، بأن يكون مقدّمات الانسداد كاشفة عن حكم الشارع بوجوب العمل بالظّن في الجملة ) إبتداءاً ، بأن تكون النتيجة مهملة ( ثم تعميمه ) أي : الظّنّ ( باحدى المعمّمات المتقدّمة ) التي ذكرناها ( فلا اشكال ، من جهة العِلم بخروج القياس عن هذا العموم ) أي : عموم الظّنّ .

ص: 320

لعدمِ جريان المعمّم فيه بَعد وجود الدّليل على حُرمة العمل به فيكون التعميم بالنسبة إلى ماعداه ، كما لايخفى على مَن راجع المعمّمات المتقدّمة .

وأمّا على تقرير الحكومة ، بأن تكون مقدّمات الدّليل موجبةً لحكومة العقل بقبح إرادة الشارع ماعدا الظنَّ وقبح إكتفاء المكلَّف على ما دونه ، فيشكَلُ توجيهُ خروج القياس ، وكيف يجامع حكم العقل بكون الظنّ كالعلم مناطاً للاطاعة والمعصية ويقبح عن الآمر والمأمور التعدّي عنه .

-------------------

وإنّما لا إشكال في ذلك ( لعدم جريان المعمّم فيه ) أي : في القياس ( بعد وجود الدّليل على حرمة العمل به ) أي : بالقياس ، لأنّ أدلة حرمة العمل بالقياس مطلقة تشمل حال الانفتاح والانسداد معاً .

وعليه : ( فيكون التعميم بالنسبة الى ماعداه ) أي : الى ماعدا القياس ، فيكون كل ظنّ حجّة إلاّ القياس ، الّذي خرج بالدّليل الخاص ( كما لايخفى على من راجع المعمّمات المتقدّمة ) حيث إنها معمّمات تدلّ على حجّية كل ظنّ ، إلاّ الظنّ الذي صرّح الشارع بخروجه .

( وأمّا على تقرير الحكومة ، بأن تكون مقدّمات الدليل موجبة لحكومة العقل بقبح إرادة الشارع ماعدا الظّنّ ) أي : فوق الظّنّ ( وقبح إكتفاء المكلّف على مادونه ) أي : مادون الظنّ ، فلا يحق للمكلَّف ان يعمل بما هو دون الظنّ ، من المشكوكات والموهومات ويترك المظنونات ( فيشكل توجيه خروج القياس ) عن الظّنّ على تقرير الحكومة .

ووجه الاشكال مابيّنه بقوله : ( وكيف يجامع حكم العقل بكون الظّنّ كالعلم ، مناطاً للاطاعة والمعصية ، ويقبح عن الآمر والمأمور التعدّي عنه ) أي : عن الظّنّ ،

ص: 321

ومع ذلك يحصل الظنّ أو خصوص الاطمئنان من القياس ، ولا يجوّز الشارعُ العملُ به فانّ المنعَ عن العمل بما يقتضيه العَقلُ من الظنّ أو خصوص الاطمئنان لو فرض ممكناً جرى في غير القياس ، فلا يكون العقلُ مستقلاً ، إذ لعلّه نهى عن أمارة ، مثل مانهى عن القياس بل وأزيد ، واختفى علينا .

-------------------

وذلك بإرادة الشارع غير الظّنّ ممّا لايصل اليه المكلّف ، وبعمل المكلّف بما هو دون الظنّ من الشّك والوَهم .

( ومع ذلك ) أي : مع حكم العقل بكون الظّن كالعلم ( يحصل الظّنّ أو خصوص الاطمئنان ) إذا قلنا بأنّ الظّنّ الاطمئناني حجّة يحصل ( من القياس ، و ) الحال انّه ( لايجوّز الشارع العمل به ؟ ) أي : بالقياس .

وعليه : ( فانّ المنع عن العمل بما يقتضيه العقل من الظّنّ أو خصوص الاطمئنان لو فرض ممكناً ) هذا المنع ( جرى في غير القياس فلا يكون العقل مستقلاً ، إذ لعلّه ) أي : لعل الشّارع ( نهى عن أمارة مثل مانهى عن القياس ) بأن نهى عن الخبر الواحد - مثلاً - أو الأولويّة ، أو الاجماع المنقول ، أو الاجماع المحصل ، أو غير ذلك .

( بل وأزيد ) من أمارة ، بأن منع الشارع عن العمل بأمارتين - مثلاً - أو ثلاث أمارات ( وإختفى ) ذلك المنع من الشارع ( علينا ) .

قال الأوثق : « لأنّ حكم العقل بشيء خصوصاً أو عموماً ، إنّما هو بعد ملاحظة جميع قيود موضوعه ، التي لها دخل في حكمه ، ولذا لايمكن عروض التخصيص لعموم حكمه ، لأنه إذا لاحظ موضوعاً عامّاً ووجده جامعاً لجميع القيود ، التي لها دخل في حكمه ، فحكم فيه بشيء ، فاستثناء بعض الأفراد

ص: 322

ولا دافعَ لهذا الاحتمال إلاّ قبحُ ذلك

-------------------

من حكم هذا الموضوع شرعاً أو عقلاً إن كان ، مع كونه جامعاً للقيود المذكورة ، فهو يستلزم : إما عدم حكم العقل بالحكم على الموضوع العام من أوّل الأمر ، أو التناقض في حكمه .

إذ الفرض : كون الفرد مشتركاً مع كلّية في القيود المذكورة ، فان لم تكن القيود المذكورة علّة لحكم العقل ، يلزم عدم حكمه من ابتداء الأمر على الموضوع العام المذكور ، بما فرض حكمه به أوّلاً ، وإن كانت علّة له ، لزم التناقض بين حكمه العام والخاص ، وان كان مع فرض كونه فاقداً لبعض القيود المذكورة ، فالاستثناء حينئذٍ وإن كان صحيحا إلاّ إنّه حينئذٍ يكون من باب التخصّص بدون التّخصيص وهو خلاف الفرض من كون الظنّ القياسي جامعاً لجهة إعتبار سائر الظنون : من قبح إرادة الآمر لما فوقه ، وإكتفاء المأمور بما دونه في مقام الامتثال .

وممّا ذكرناه يظهر : الواجب في عدم كون حكم العقل قابلاً للتخصيص » (1) ، انتهى .

( و ) إن قلت : فرق بين حكم الشارع بأن القياس لايجوز العمل به ، وبين إحتمال انّ الشارع منع - مثلاً - عن العمل بخبر الواحد فأي كلام منكم هذا الذي ذكرتم : بأنّه إذا منع الشارع عن القياس سقط عملنا بالخبر الواحد أيضاً ، لاحتمالنا انّ الشارع منع عنه ؟ .

قلت : إحتمال النهي في الخبر موجود ، و ( لادافع لهذا الاحتمال إلاّ قبح ذلك )

ص: 323


1- - أوثق الوسائل : ص229 في استثناء القياس .

على الشارع ، إذ إحتمالُ صدور الممكن بالذات عن الحكيم لايرتفع إلاّ بقبحه .

وهذا من أفراد ما إشتهر من أنّ الدّليل العقليّ لايقبل التخصيص ، ومنشأه لزوم التناقض .

ولا يندفعُ إلاّ بكون الفرد الخارج عن الحكم خارجاً عن الموضوع وهو التخصّص .

وعدمُ التناقض في تخصيص العُمومات اللفظيّة إنّما هو

-------------------

أي : النهي ( على الشارع ، إذ إحتمال صدور الممكن بالذّات عن الحكيم ، لايرتفع إلاّ بقبحه ) ، لكن حيث لم يعلم قبحه ، فيبقى إحتمال النهي في الخبر موجوداً ومع هذا الاحتمال لايستقل العقل بحجّية الظّنّ المستفاد من الخبر ، وسيأتي إنشاء اللّه تعالى في الوجه السادس من وجوه الجواب عن الاشكال المذكور ، اشارة الى ذلك .

( وهذا ) الّذي ذكرناه : من انّ القياس لايمكن إخراجه عن حكم العقل ، القائل بحجّية الظنّ على الحكومة ، هو ( من أفراد ما إشتهر : من انّ الدّليل العقلي لايقبل التخصيص ) على مابينّاه قبل أسطر .

( ومنشأه ) أي : منشأ هذا المشتهر هو : ( لزوم التناقض ) بين الحكم العقلي والحكم الشرعي ، لأنّ العام حكم عقلي ، والخاص حكم شرعي ، وهذا التناقض وإن كان من حاكمين ، إلاّ أنّه بعد ملاحظة إمضاء الشرع أحكام العقل ، يرجع الى التناقض في حكم الشرع .

( ولايندفع ) هذا التناقض ( إلاّ بكون الفرد الخارج عن الحكم خارجاً عن الموضوع ، وهو التخصّص ) فليس الحكم العقلي مخصصاً ، بل متخصصاً .

( و ) أمّا ( عدم التناقض في تخصيص العمومات اللّفظيّة ) فذلك ( إنّما هو

ص: 324

لِكون العُموم صوريّاً ، فلا يلزم إلاّ التناقض الصورّي .

ثمّ إنّ الإشكال هنا في مقامين :

أحدُهُما : في خروج مثل القياس وأمثاله ممّا نقطع بعدم إعتباره .

الثاني : في حكم الظنّ الذي قام على عدم إعتباره ظَنٌّ آخر ، حيث إنّ الظنّ المانع والممنوع

-------------------

لكون العموم صوريّاً ، فلا يلزم إلاّ التناقض الصّوري ) وهذا جواب عن إشكال مقدّر ، وهو : انّه إذا لم يكن الحكم العقلي قابلاً للتخصيص ، فكيف تكون العمومات اللّفظية قابلة للتخصيص ؟ .

والجواب : إنّه فرق بين الحكم العقلي والحكم اللّفظي ، فالحكم اللّفظي إذا خصص كان معناه انّ العموم كان ظاهراً مراداً للمتكلم لا واقعاً ، والمخصص كشف عن ذلك ، لا انّه مراد تارة في العموم وغير مراد تارة في الخصوص ، حتى يلزم التناقض .

( ثمّ إنّ الاشكال هنا ) في المقام الثالث ( في مقامين ) على مايلي :

( أحدهما : في خروج مثل القياس وأمثاله ) والمراد بمثل القياس : القياس ، فلايقال : إنّه تكرار لكلمة مثل وأمثال ، لأنّه من المتعارف أن يعبّر عن الشيء بكلمة مثله ( ممّا نقطع بعدم إعتباره ) اذ هناك بعض الأُمور مقطوع بعدم إعتباره : كالمصالح المرسلة ، والاستحسان ، وما أشبه ذلك ، فليس الاشكال خاصاً بالقياس .

( الثاني : في حكم الظّنّ الّذي قام على عدم إعتباره ظنّ آخر ) ممّا يعبّر عنه بالظنّ المانع والممنوع ، فانّه إذا كان نتيجة دليل الانسداد عموم الظنّ ، فكيف يكون ظنّاً مانعاً عن ظنّ آخر ؟ كما قال : ( حيث إنّ الظّنّ المانع والممنوع ،

ص: 325

متساويان في الدخول تحت دليل الانسداد ولا يجوز العملُ بهما ، فهل يُطرحان أو يرجّح المانع أو الممنوع منه أو يرجع إلى الترجيح ؟ وجوهٌ بل أقوالٌ .

أمّا المقام الأوّل :

فقد قيل في توجيهه أمورٌ : الأوّل : ما مال إليه أو قال به بعضٌ ، من منع حرمةِ العَمل بالقياس في أمثال زَمانِنِا .

-------------------

متساويان في الدّخول تحت دليل الانسداد ) لفرض انّ كل واحد منهما ظنّ يدل على حجّيته مقدّمات دليل الانسداد ، وليس المراد بالظّنّ المانع والممنوع : الظّنّ الشخصي حتى يقال : انّه لايمكن ظنّان متخالفان ، بل الظنّ النوعي : كالخبر حجّة ، والشهرة حجّة ، ثم قامت الشهرة على عدم حجّية الخبر .

( ولا يجوز ) أي : لايمكن ( العمل بهما ) أي : بالظنّ المانع والظنّ الممنوع معاً ( فهل يطرحان ، أو يرجّح المانع ، أو ) يرجّح ( الممنوع منه ، أو يرجع الى الترجيح ؟ ) فربّما يرجّح المانع ، وربّما يرجّح الممنوع ، فيما إذا كان هناك رجّحان لاحدهما على الآخر ( وجوه ) ، محتملة ( بل أقوال ) في المسألة .

( أمّا المقام الأوّل : فقد قيل في توجيهه ) أي : توجيه خروج القياس عن حجّية مطلق الظنّ في حال الانسداد على الحكومة ( أُمور ) على النحو التالي :

( الأول : ما مال إليه ، أو قال به بعض من منع حرمة العمل بالقياس في أمثال زماننا ) وهو المحقّق القمي في القوانين ، حيث إنّه لايرى حرمة القياس بعد الانسداد ، وإنّما يكون القياس ممنوعاً عنده حين الانفتاح ، لأنّه يرى انّ الأدلة

ص: 326

وتوجيههُ ، بتوضيح مِنّا ، أنّ الدّليلَ على الحرمة إِن كان هي الأخبار المتواترة معنىً في الحرمة ، فلا رَيبَ إنّ بعضَ تلك الأخبار في مقابلة معاصري الأئمة عليهم السلام من العامّة التاركين للثَقلين ، حيث تركوا الثقل الأصغر الذي عنده عِلم الثقل الأكبر ،

-------------------

المحرمة لاتشمل حال الانسداد .

( وتوجيهه بتوضيح منّا ) فانّ عبارته في بحث حجّية أخبار الآحاد في طيّ وجوه التقصّي عن إشكال خروج القياس ماهذا لفظه :

« ويمكن أن يقال : إن في مورد القياس لم يثبت إنسداد باب العلم بالنسبة الى مقتضاه ، فإنا نعلم بالضرورة من المذهب حرمة العمل على مؤدّى القياس ، فيعلم إنّ حكم اللّه تعالى غيره وإن لم يعلم إنّه أي : شيء هو ، فنفي تعيينه يرجع الى سائر الأدلة وإن كان مؤداها عين مؤدّاه ، فليتأمّل ، فانّه يمكن منع دعوى بداهة حرمة القياس حتى في موضع لا سبيل له الى الحكم إلاّ به » إنتهى كلامه .

وتوضيحه : ( انّ الدّليل على الحرمة ) أي : حرمة العمل بالقياس ( إن كان هي الأخبار المتواترة معنىً في الحرمة ) وقد تقدّم في بعض المباحث السابقة معى التواتر المعنوي ( فلا ريب إنّ بعض تلك الأخبار في مقابلة معاصري الأئمة عليهم السلام من العامة التاركين للثقلين ، حيث تركوا الثقل الأصغر ) وهم الأئمة عليهم السلام ( الّذي عنده علم الثقل الأكبر ) وهو القرآن الحكيم ، لأنّ الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم عبّر عنهما : بالثقل الأكبر والثقل الأصغر .

وإنّما كان القرآن الثقل الأكبر ، لأنّ القرآن يشمل حتى الأئمة عليهم السلام ، فهم ثقل أصغر بالنسبة الى القرآن ، فلاينافي ذلك إنّهم هم القرآن الناطق ، وانّ القرآن هو القرآن الصامت .

ص: 327

ورجعوا إلى إجتهاداتهم وآرائهم ، فقاسوا وإستحسنوا وضلّوا وأضلّوا .

وإليهم أشارَ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، في بيان من يأتي مِن بَعدِه من الأقوام ، فقال : « برهة يعملون بالقياس » .

والأمير عليه السلام ، بما معناه : «إنّ قوماً ثقلت عليهم الأحاديثُ أن يعوها فتمسّكوا بآرائهم» إلى آخر الرّواية .

وبعضٌ منها إنّما تدلّ على الحرمة من حيث انّه ظنّ لا يغني من الحقّ شيئا .

-------------------

وعلى أي حال : فان العامّة تركوا الأئمة عليهم السلام في الفقه ، وفي سائر شؤون الدنيا والآخرة ( ورجعوا الى إجتهاداتهم وآرائهم ، فقاسوا وإستحسنوا ، وضلّو وأضلّوا ) ، والفرق بين القياس والاستحسان : انّ القياس ، يقاس شيء على شيء ، بخلاف الاستحسان ، فانّه يستحسن المجتهد شيئاً بدون أن يكون له شبه في الشريعة .

( وإليهم ) أي : الى هؤلاء العامّة الذين تركوا الثقل الأصغر ( أشار النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم في بيان من يأتي من بعده من الأقوام ، فقال ) صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( برهة يعملون بالقياس ) ومعنى البرهة : مدة من الزمن .

( و ) أشار إليهم ( الأمير عليه السلام بما معناه : إنّ قوماً ثقلت عليهم الأحاديث أن يعوها ، فتمسكوا بآرائهم ، الى آخر الرّواية ) إذ من الواضح : حفظ الحديث شيء مشكل ، أمّا القياس بما في أذهانهم فشيء سهل .

ثم إنّ بعضّهم لم يتمكنوا أن يعوا النصوص ، حيث رأوها مخالفة لما في أذهانهم من الموازين المتعارفة عندهم ، فاعوزتهم أي : ضاق عليهم معرفتها ، فتركوها وأخذوا مكانها بالقياس .

( وبعض منها إنّما تدلّ على الحرمة من حيث انّه ظنّ لايغني من الحق شيئاً )

ص: 328

وبعضٌ منها انّما تدلّ على الحرمة من حيث استلزامه لإبطال الدّين ومَحقِ السنّة ، لاسلتزامه الوقوعَ غالباً في خلاف الواقع .

وبعضها تدلّ على الحرمة ووجوب التوقف إذا لم يوجد ما عداه ، ولازمه الاختصاص بصورة التمكّن من إزالة التوقف ، لأجل العملِ بالرجوع الى أئمة الهُدى عليهم السلام ، أو بصورة ما إذا كانت المسألة من غير العمليّات

-------------------

إذ القياس لايوجب اليقين .

( وبعض منها انّما تدلّ على الحرمة من حيث استلزامه لإبطال الدّين ومَحْقِ السّنة ) والمَحق بمعنى : الذهاب والزوال ( لاستلزامه الوقوع غالباً في خلاف الواقع ) والمراد بالسّنة : الطريقة التي قررها اللّه سبحانه وتعالى ، سواء في القرآن الحكيم ، أو في السنة المطهرة .

( وبعضها تدل على الحرمة ووجوب التوقّف إذا لم يوجد ما عداه ) أي : ماعدا القياس ، فاذا وجد ماعدا القياس من أقوالهم عليهم السلام أجمعين لزم العمل بذلك ، وإلاّ فالتوقف ( ولازمه : الاختصاص بصورة التمكّن من إزالة التوقّف لأجل العمل ، بالرّجوع الى أئمة الهُدى عليهم السلام ) و «الى» متعلق «بالرجوع» ، فان مفهوم الحرمة إذا وجد ماعدا القياس : إنّ العمل بالقياس ليس بحرام إذا لم يوجد شيء من أخبارهم عليهم السلام .

( أو بصورة ماإذا كانت المسألة من غير العمليّات ) أي : من الاعتقاديات ، حيث لا عمل حتى يحتاج الانسان الى شيء يدلّ على كيفية عمله .

ومن الواضح : إنّ الاعتقاديات لاتوجب إضطرار الانسان الى شيء ، فانّه لايجوز الاعتماد على الاجتهادات الظّنية في الاعتقاديات مثل : صفات اللّه سبحانه ، والنبي ، والأئمة عليهم السلام أجمعين ، وذلك يظهر من قوله عليه السلام في رواية

ص: 329

أو نحو ذلك .

ولا يخفى أنّ شيئاً من الأخبار الواردة على أحد هذه الوجوه المتقدّمة ، لايَدُلّ على حُرمة العملِ بالقياس الكاشف عن صدور الحكم عموماً

-------------------

زرارة : «لو إنّ العِبادَ إذا جَهلُوا وقفُوا ولم يجحَدُوا ، لم يكفُرُوا» (1) .

( أو نحو ذلك ) كصورة التمكّن من الطرق الشرعية .

( ولا يخفى : انّ شيئاً من الأخبار الواردة على أحد هذه الوجوه المتقدّمة ) المذكورة ( لايدلّ على حرمة العمل بالقياس ) وذلك لأن القسم الأول من الأخبار يدل على حرمة القياس في قبال الأئمة عليهم السلام .

والقسم الثاني : يدلّ على المبالغة في المنع ، للدلالة على كثرة تخلّف القياس عن الواقع ، وهو نظير قوله سبحانه : « إنَّ الظَّنَّ لايُغنِي مِنَ الحَقِّ شَيئاً » (2) وذلك خاص بزمان الانفتاح .

والقسم الثالث : كذلك ، حيث إنّ كثرة المخالفة توجب إبطال الدّين ، الذي هو أمرٌ حقيقي ، جعله اللّه سبحانه لوصول الناس الى الواقعيات ، ومن المعلوم : إنّه إذا تعذر الوصول الى الواقعيات كافة ، فالوصول الى بعض الواقعيات بسبب القياس أقرب الى العقل من الترك المطلق .

والقسم الرابع : الدال على التوقف ، فقد عرفت وجهه ممّا لاحاجة الى تكراره .

وعليه : فلا دلالة في هذه الأخبار على حرمة العمل بالقياس ( الكاشف عن صدور الحكم عموماً ) بأن بيّنوا عليهم السلام حكماً عامّاً مثل : «كل شيء

ص: 330


1- - الكافي اصول : ج2 ص388 ح19 ، المحاسن : ص216 ح103 ، وسائل الشيعة : ج27 ص158 ب12 ح33474 .
2- - سورة يونس : الآية 36 .

أو خصوصاً عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم أو أحدِ أمنائه «صلوات اللّه عليهم أجمعين» ، مع عدم التمكُن من تحصيلِ العلم به ولا الطريق الشرعيّ ، ودوران الأمر بين العمل بما يظنّ أنّه صدر منهم عليهم السلام ، والعمل بما يظنّ

-------------------

لك حلال» (1) و «كل شيء طاهر» (2) و «اذا شَكَكتَ فابنِ على الأكثر» (3) الى غير ذلك من الأحكام العامة ( أو خصوصاً ) مثل : انّ الأنكحة حلال ، وإنّ ماء البحر طاهر ، وما أشبه ذلك ، من الأحكام الواصلة إلينا ( عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، أو أحد أُمنائه صلوات اللّه عليهم أجمعين ) . حيث إنّهم عليهم السلام ذكروا كلّ الاحكام التي تحتاجها الأمة إما بالخصوص ، وإما بالعموم .

( مع عدم التمكن من تحصيل العلم به ) أي : بذلك الحكم الصادر عنهم عموماً أو خصوصاً ، ( ولا الّطريق الشرعي ) كالظنّ الخاص فيما إذا قلنا : بأن الخبر حجّة ، فانّه وإن لم يحصل للانسان العلم بالواقع بسبب الخبر ، إلاّ إنّه طريق شرعي .

والحاصل : انّه إذا لم نعلم بالأحكام الواقعيّة ، ولم يكن طريق خاص اليها ، بأن إنسدّ باب العلم والعلمي ، كان القياس هنا كاشفاً عن بعض تلك الأحكام .

( ودوران الأمر بين : العمل بما يظنّ انّه صدر منهم عليهم السلام ، والعمل بما يظنّ

ص: 331


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
2- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، الوسيلة : ص76 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .
3- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص340 ح992 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص601 ، وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10451 .

أنّ خلافه صدر منهم عليهم السلام ، لمقتضى الاُصول المخالفة للقياس في موارده أو الأمارات المعارضة له . وَما ذَكرنا واضحٌ على من راعى الانصاف وجانَبَ الاعتساف .

وإن كان الدّليلُ هو الاجماعَ بل الضرورةَ عند علماء المذهب ، كما ادّعي ، فنقول : إنّه

-------------------

انّ خلافه صدر منهم عليهم السلام ) قوله : « ودوران » ، عطف على قوله : « مع عدم التمكن » ، أي : إذا دار الأمر بعد انسداد باب العلم والعلمي ، الى أن نعمل بما نظنّ كما هو مقتضى القياس ، أو أن نعمل بخلاف ظنّنا ، كان العمل طبق الظنّ القياسي أولى من العمل على خلاف الظنّ .

( لمقتضى الاصول المخالفة للقياس في موارده ) أي في موارد القياس ( أو ) مقتضى ( الأمارات المعارضة له ) أي : للقياس .

مثلاً : البرائة تقول : بعدم التكليف بالدّعاء عند رؤية الهلال ، والقياس يقول : بوجوب الدّعاء ، وخبر واحد غير حجّة يقول : بعدم وجوب الجمعة ، والقياس : يقول بوجوبها ، فهل نعمل بالأصل والامارة ونترك الدّعاء والصلاة ، أو نعمل بالقياس ونأتي بهما ؟ لاشك انّ العقل يقول : إعمل بالقياس حين انسداد باب العلم والعلمي وأئت بالدّعاء والصلاة .

( وما ذكرنا ) : من العمل بالقياس في قِبال الاصول والأمارات التي ليست بحجّة ( واضح على من راعى الانصاف ، وجانب الاعتساف ) أي : الجَور .

( وإن كان الدّليل هو الاجماع ) على حرمة العمل بالقياس ، وهذا عطف على قوله قبل أسطر : إن الدليل على الحرمة إن كان هي الأخبار المتواترة ( بل الضرورة عند علماء المذهب ، كما إدّعي ) بأنّه أمرٌ ضروري عند علمائنا ( فنقول : إنّه

ص: 332

كذلك ، إلاّ أنّ دعوى الاجماع والضرورة على الحرمة في كل زمانٍ ممنوعةٌ .

ألا ترى أنّه لو فرض « والعياذ باللّه » إنسدادُ باب الظنّ من الطُرق السمعيّة لعامّة المكلّفين أو لمكلّف واحد باعتبار ماسنَحَ لَهُ من البُعد عن بلاد الاسلام ، فهل تقول : إنّه يحرُم عليه العملُ بما يظنّ بواسطة القياس أنّه الحكمُ الشرعيّ المتداول بين المتشرّعة وأنّه مخيّر بين العمل به والعمل بما يقابله من الاحتمال الموهوم ، ثمّ تدّعي الضرورة على ماادّعيتُه من الحرمة ، حاشاك .

-------------------

كذلك ) : أمرٌ ضروري ( إلاّ انّ دعوى الاجماع والضّرورة على الحرمة في كلّ زمان ) حتى زمان الانسداد الكامل للعلم والعلمي ( ممنوعة ) قطعاً .

( ألا ترى انّه لو فرض والعياذ باللّه انسداد باب الظّنّ من الطّرق السمعيّة ) أي : من الأمارات التي وضعت : كالخبر الواحد ، والشهرة ، والاجماع المنقول ، وما أشبه ( لعامّة المكلّفين ، أو لمكلّف واحد ، باعتبار ماسنَح له من البُعد عن بلاد الاسلام ) كما إذا إنكسرت سفينة في البحر ، فالتجأ أهلها الى جزيرة من الجزر وبقوا هناك مدة مديدة وهم لايعلمون الأحكام الطارئة لهم .

( فهل تقول : انّه يَحرُم عليه ) أو عليهم ( العمل بما يظنّ بواسطة القياس : انّه الحكم الشّرعي المتداول بين المتشرّعة وانّه مخيّر بين العمل به والعمل بما يقابله من الاحتمال الموهوم ) فلا يلزم عليه العمل بظنّه ( ثمّ تدّعي الضرّورة على ماإدّعيته من الحرمة ) عن العمل بالقياس ، أو إنّك ترجح أن يعمل بالظّنّ القياسي على الوهم في المسألة ؟ .

( حاشاك ) أن تقول : بأنه مخير بين العمل بالظنّ ، وبما يقابله .

ص: 333

ودعوى : « الفرق بين زماننا هذا وزمان إنطماس جميع الأمارات السمعيّة » ممنوعة ، لأنّ المفروض أنّ الأمارات السمعيّة الموجودة بأيدينا لم يثبت كونها متقدّمة في نظر الشارع على القياس ، لأنّ تقدّمها على القياس إن كان لخصوصية فيها ، فالمفروضُ بعد انسداد باب الظنّ الخاصّ عدمُ ثبوت خصوصيّة فيها واحتمالها ، بل ظنُّها لايُجدي ،

-------------------

( و ) إنّ قلت : إن زماننا هذا يوجد فيه خبر الواحد وما أشبه ، فليس مثل الانسان الذي إنكسرت به السفينة وبقي في جزيرة منعزلة .

قلت : ( دعوى الفرق بين زماننا هذا وزمان إنطماس جميع الأمارات السّمعيّة ) كزمان التجاء جماعة من الناس ، أو واحد منهم الى الجزيرة ( ممنوعة ، لأنّ المفروض : انّ الأمارات السّمعيّة الموجودة بأيدينا ) الآن ، بعد الغيبة بأكثر من ألف سنة ( لم يثبت كونها ) أي : كون هذه الأمارات السمعيّة ( متقدّمة في نظر الشارع على القياس ) .

وذلك ( لأنّ تقدمها على القياس ) أي : تقدّم تلك الأمارات السمعيّة ( إن كان لخصوصيّة فيها ) أي : في هذه الأمارات السمعية ( فالمفروض بعد انسداد باب الظّنّ الخاص عدم ثبوت خصوصيّة فيها ) حتى تكون الأمارات السمعية ظنوناً خاصةً يجب العمل بها .

( و ) إنّ : الأمارات تحتمل الخصوصيّة ، بل نظّن الخصوصية فيها ، ولذا تكون هذه الأمارات مقدّمة على الظنّ القياسي .

قلت : ( احتمالها ) اي : الخصوصيّة ( بل ظنّها لا يجدي ) ولا ينفع في تقدّم الأمارات على الظنّ القياسي ، لأنّ الاحتمال والظنّ لا يجعل شيئاً حجّة .

ص: 334

بل نفرض الكلامَ فيما اذا قطعنا بأن الشارع لم ينصب تلك الأمارات بالخصوص وان كان لخصوصيّة في القياس أوجبتَ كونه دونها في المرتبة فليس الكلامَ الاّ في ذلك .

وكيف كان : فدعوى الاجماع والضرورة في ذلك في الجملة مُسلّمة ، وأمّا كلّيته فلا ،

-------------------

( بل نفرض الكلام فيما اذا قطعنا بأنّ الشارع لم ينصب تلك الأمارات بالخصوص ) فماذا تعملون حينئذٍ ؟ هل تعملون بالظّن القياسي ، أو بخلاف الظنّ القياسي وهو الوهم ؟ .

( وإنّ كان لخصوصيّة في القياس أوجبتَ ) أن ( كونه دونها في المرتبة ) أي : كون القياس دون الأمارات السمعية في المرتبة ، ( فليس الكلام الاّ في ذلك ) فقولكم : « ان القياس دون الأمارات السمعية في المرتبة » ، مصادرة .

وقوله : «وان كان لخصوصية في القياس» ، عطف على قوله : « إن كان لخصوصية فيها » .

( وكيف كان : فدعوى الاجماع والضرورة في ذلك ) اي : في حرمة العمل بالقياس ( في الجملة مسلّمة ) لأنّا ندّعي : انّ في زمان الانفتاح يحرم العمل بالقياس .

( وأما كلّيته ) بأن يحرم العمل بالقياس كليّة ، حتى في زمان الانسداد الكامل للعلم والعلمي ( فلا ) اذ لا دليل على الحرمة الكليّة ، بل قد عرفت : انّ الرّوايات تدل على الحرمة في الجملة .

ويؤيد ذلك ما روي عن الصادق عليه السلام في رسالة طويلة الى أصحابه يقول : « وكما إنّه لَم يكن لاحد من الناس مع محمّدٍ صلى اللّه عليه و آله وسلم أن يأخذ بهواه ، ولا رأيه ،

ص: 335

وهذه الدعوى ليست بأولى من دعوى السيّد ضرورة المذهب على حرمة العمل بأخبار الآحاد .

-------------------

ولا مقاييسهِ ، خلافاً لأمر محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم كذلك لم يكن لأحد بعد محمّد صلى اللّه عليه و آله وسلم أنّ يأخذ بهواه ، ولا رأيه ، ولا مقاييسه » .

ثم قال : « واتّبعوا آثار رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم وسُنتهِ فخذوا بها ، ولا تتبعوا أهوائكم ورأيكم فتضلّوا ، فان أضل الناس عند اللّه من إتبّع هواهُ ورأيه ، بغير هدىً من اللّه » .

ثم قال : « أيّتها العصابة عليكم بآثار رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم وسُنتهِ ، وآثار الأئمة الهداة من أهل بيت رسول اللّه من بعدهِ وسُنتهم فانّه من اخذ بذلك فقد اهتدى ، ومن ترك ذلك ورغب عنه ضلّ ، لأنهم هم الذين أمر اللّه عزّ وجلّ باتباعهم وولايتهم . . . » (1) .

الى غير ذلك من الأحاديث الظاهرة في أنّه لا يجو ز العمل بالقياس في قِبال آثار الرسول والأئمة الهداة ، فاذا لم تكن آثار للرسول والائمة الهداة - ولو من جهة غيبة الامام المهدي عليه السلام ، وانطماس معالم الدين بسبب المنحرفين والمفسدين والعامة ومن اشبههم - فالظنّ القياسي أولى بالعمل من الوهم القياسي .

( وهذه الدعوى ) أي : دعوى الاجماع والضرورة على حرمة العمل بالقياس كلّية حتى في زمان الانسداد ( ليست بأولى من دعوى السيّد ) المرتضى رحمه اللّه ( ضرورة المذهب على حرمة العمل بأخبار الآحاد ) فكلّما نجيب به عن دعوى السيد ، نجيب به أيضاً عن هذه الدعوى ، فانّ كلتا الدعويين غير تامة .

ص: 336


1- - الكافي روضة : ج8 ص8 ح1 .

لكن الانصاف : انّ اطلاق بعض الأخبار وجميع معاقد الاجماعات يوجبُ الظنّ المتاخِمَ للعلم ، بل العلمِ بانّه ليس ممّا يركنُ اليه في الدّين مع وجود الأمارات السمعية .

فهو حينئذٍ ممّا قام الدليل على عدم حجيته ، بل العملُ بالقياس المفيد للظنّ في مقابل الخبر الصحيح ، كما هو لازم القول بدخول القياس في مطلق الظنّ المحكوم بحجيته .

ضروري البطلان في المذهب .

-------------------

ثم ان المصنّف أجاب عن كلام القوانين بقوله ( لكن الانصاف ان اطلاق بعض الأخبار ) الدالة على حرمة العمل بالقياس ( وجميع معاقد الاجماعات ) التي اقيمت على الحرمة ( يوجب الظنّ المتاخم للعلم ، بل العلم ) نفسه ( بأنّه ليس ) القياس ( ممّا يركن اليه في الدين مع وجود الأمارات السمعيّة ) والتي هي باقية الى يومنا هذا .

وعليه : ( فهو ) اي : القياس ( حينئذٍ ) اي : حين وجود الأمارات السمعية ( ممّا قام الدليل ) من الاطلاق المذكور في الرّوايات ( على عدم حجّيته ) راساً .

( بل العمل بالقياس المفيد للظنّ في مقابل الخبر الصحيح ) يلزمه في زمان الانسداد ، فاذا كان هناك خبر صحيح وقياس على خلافه ، فانّه يعمل بالقياس ويترك الخبر الصحيح ، لأنّ من يقول بحجيّة الظنّ القياسي حين الانسداد ، يقول بحجيّته وان كان القياس في قبال الخبر الصحيح .

( كما هو لازم القول : بدخول القياس في مطلق الظنّ المحكوم بحجيّته ) فان لازم القول بحجيّة القياس في زمان الانسداد : انّه حجّة ولو في قِبال الخبر الصحيح وهو ( ضروريّ البطلان في المذهب ) .

ص: 337

الثاني : منع افادة القياس للظن ، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ الشارع جَمع في الحكم بين ما يتراءى متخالفةً وفرق بين ما يتخيل متآلفة .

وكفاك في هذا عمومُ ما وردَ من : « انّ دين اللّه لا يُصابُ بالعقول ، وأن السنّة اذا قيست محق الدينُ ، وانّه لا شيء أبعد عن عقول الرجال

-------------------

اللّهم الاّ أن يقول القائل بحجيّة القياس : انه لا حجيّة للقياس اذا كان هناك خبر صحيح ، وعليه : فتحصّل من الوجه الاول : إنّ القياس حجّة في زمان الانسداد .

الوجه ( الثاني : منع افادة القياس للظنّ ) فالقياس ليس بحجّة ، لانّه لا يوجب الظنّ فهو سالبة بانتفاء الموضوع ( خصوصاً بعد ملاحظة : انّ الشارع جمع في الحكم بين ما يتراءى متخالفة ، وفرّق بين ما يتخيل متآلفة ) .

مثلاً : يتراءى أنّ صلاة الظهر متخالفة مع صلاة العشاء ، لأنّ احديهما في النهار والاُخرى في الليل بينما الشارع جعل فيهما اربع ركعات متوافقة ، ويتراءى ان صلاة المغرب متآلفة مع صلاة العشاء ، لانهما في وقت واحد بينما جعلهما الشارع مختلفة في الركعات ، ودم الحيض وغيره يرى مؤلفاً وقد جعل لهما الشارع حكماً مختلفاً ، ودم البكارة وسائر دماء الجسد يرى مختلفاً بينما جعل الشارع لهما حكماً واحدا .

( وكفاك في هذا عموم ما ورد : « من انّ دينَ اللّه لا يُصابُ بالعُقول » (1) وانّ « السُنة اذا قيست مُحِقَ الدين » (2) ، و « أنّه لا شيء أبعدُ عن عُقولِ الرّجالِ

ص: 338


1- - بحار الأنوار : ج2 ص303 ب34 ح41 ، كمال الدين : ص324 ح9 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص262 ب6 ح21289 .
2- - الكافي فروع : ج7 ص299 ح6 ، وسائل الشيعة : ج27 ص41 ب6 ح33160 و ج29 ص352 ب44 ح35762 .

من دين اللّه » ، وغيرها ، ممّا دلّ على غلبة مخالفة الواقع في العمل بالقياس ، وخصوص رواية أبان بن تغلب الواردة في ديّة اصابع الرجلّ والمرأة

-------------------

من دينِ اللّهِ » ) (1) والمراد منه : جزئيات فروع الدّين ، لا كليات الفروع ، ولا اُصول الدين ، مثلاً : العقل يدرك لزوم الصلاة والصوم ، والحّج ، والخُمس ، والزّكاة وما أشبه ، لكن لا يدرك لماذا الركعات الخاصة ؟ ولماذا الأذكار الخاصة ؟ ولماذا الترتيب الخاص ؟ وكذلك لا يدرك العقل لماذا المفطرات الخاصة ، والوقت الخاص للصوم ؟ ولماذا الأشواط الخاصة ، والأوقات الخاصة لمناسك الحجّ ؟ ولماذا النصاب الخاص ، والاصناف الخاصة في الخمس والزكاة .

وبهذا يجمع كون الاسلام دين العقل وان العقل حجّة باطنة (2) - كما في الاحاديث - وبين « إنّ الدّين لا يصاب بالعقول » (3) .

كما ان اُصول الدّين ايضاً عقليّة ، ولذا اقام العلماء على كلّ أصلٍ أصلٍ جملة من الأدلة العقلية ( وغيرها ممّا دلّ على غلبة مخالفة الواقع في العمل بالقياس ) ولو كان القياس له مدخلية في الدين ، لزم أن يكون الدين يجمع بين المؤتلفات ويفرِّق بين المختلفات ، لا أنّ يكون العكس - كما مرّ - .

(وخصوص رواية أبان بن تغلب الواردة في ديّة اصابع الرّجل والمرأة

ص: 339


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص192 ب13 ح33572 بالمعنى ، بحار الانوار : ج92 ص91 ب8 ح37 و ص94 ح45 و ص95 ب9 ح48 و ص110 ب10 ح10 (بالمعنى) .
2- - راجع الكافي اصول : ج1 ص16 ج12 ، بحار الانوار : ج1 ص137 ب4 ح3 .
3- - كمال الدين : ص324 ح9 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص262 ب6 ح21289 ، بحار الأنوار : ج2 ص303 ب34 ح41 .

الآتية .

وفيه : أنّ منع حصول الظنّ من قياس في بعض الأحيان مكابرةٌ مع الوجدان .

وأمّا كثرةُ تفريق الشارع بين المؤتلفات وتأليفه بين المختلفات ، فلا يؤثر في منع الظنّ ، لأنّ هذه الموارد بالنسبة الى موارد الجمع بين المؤتلفات اقلٌ قليل .

-------------------

الآتية ) (1) انشاء اللّه تعالى .

( وفيه : إنّ منع حصول الظنّ من القياس من بعض الأحيان مكابرة مع الوجدان ) فانّه لا شك في ان القياس كثيراً ما يوجب الظنّ ، كما إنّ العادة والعرف يقضيان بالقياس في الاُمور العرفية في الهندسة والحِساب والطب ، وسائر الاُمور فيقول الزارع مثلاً : سنحصل هذه السنة على الزرع الأفضل لأنها تشبه السنة الماضية في كثرة الامطار ، الى غير ذلك .

( وأمّا كثرة تفريق الشارع بين المؤتلفات وتأليفه بين المختلفات فلا يؤثر في منع الظنّ ) اذا الظنّ أيضاً كثير ، وذلك ( لأنّ هذه الموارد ) التي فرّق الشارع فيها بين المؤتلفات ، والف بين المختلفات ( بالنسبة الى موارد الجمع بين المؤتلفات أقل قليل ) لأنّ الغالب إنّ المؤتلفات متشابهة .

مثلاً : الأحكام بالنسبة الى الناس كلهم ، في الدّيات والقصاص ، والحدود ، والقضاء ، وما أشبه ، حكم واحد ، وكذلك بالنسبة الى الحيوانات ، فالشياه كلّها لها

ص: 340


1- - انظر الكافي فروع : ج7 ص299 ح6 ، وسائل الشيعة : ج27 ص41 ب6 ح33160 و ج29 ص352 ب44 ح35762 .

نعم ، الانصافُ ، أنّ ما ذكرهُ من الأخبار في منع العمل بالقياس موهن قويّ يوجب غالباً ارتفاع الظنّ الحاصل منه في بادي النظر ، وامّا منعه عن ذلك دائماً فلا ، كيف ، وقد يحصل من القياس القطع ، وهو المسمى عندهم بتنقيح المناط القطعي ، وايضاً فالأولوية الاعتبارية من اقسام القياس ، ومن المعلوم إفادتها للظنّ ، ولا ريب أن منشأ الظنّ فيها هو استنباط المناط ظنّاً ،

-------------------

حكم واحد في الحلّية والطهارة ، والكِلاب كلّها لها حكم واحد في النجاسة والحُرمة ، كما ان الغالب إختلاف المختلفات ، فللرجل أحكام ، وللمرأة أحكام ، وللأطفال أحكام ، وللكبار أحكام ، وللمُتذكّر أحكام ، وللناسي أحكام ، وهكذا .

( نعم ، الانصاف إنّ ما ذكره ) المحقّق القمي - فان الاجوبة الأربعة كلّها للمحققّ القمي - ( : من الأخبار في منع العمل بالقياس موهن قويّ ، يوجب غالباً ارتفاع الظنّ الحاصل منه ) و« منه » : متعلق « بالحاصل » : ( في بادي النظر ، أما منعه عن ذلك دائماً ، فلا ) فانّ الأخبار لا ترفع الظنّ دائماً ، وإنّما ترفع الظّن غالباً .

( كيف ، و ) الحال إنّه ( قد يحصل من القياس القطع ، وهو المسمى عندهم بتنقيح المناط القطعي ) مثلاً : يقاس أولاد الشبهة على ولد الحال فيقطع بانّه يحرم الزواج به ، ويحلّ النظر اليه ، ويرث ، وغير ذلك .

( وأيضاً فالأولوية الاعتبارية ) التي يعتبرها العقلاء اولى ( من أقسام القياس ، ومن المعلوم افادتها للظنّ ) فانّه اذا حرم أن يقول الانسان لأبويه : افٍ ، فالأولوية تقول : يحرم أن يضربهما او يشتمهما ، أو ما اشبه ذلك وهو قِياس .

( ولا ريب انّ منشأ الظنّ فيها ) أي : في الأولوية ( هو : استنباط المناط ظناً ) فالقياس يوجب الظنّ احياناً قطعاً ، واحياناً بطريق أولى .

ص: 341

وأما آكديّته في الفرع فلا مدخل له في حصول الظّن .

الثالث : انّ بابَ العلم في مورد القياس ومثله مفتوحٌ للعلم بأنّ الشارع ارجعنا في هذه الموارد الى الاصول اللفظيّة أو العمليّة فلا يقتضي دليلُ الانسداد اعتبار ظنّ القياس في موارده .

-------------------

( و ) إن قلت : إنّ الأولوية تعطي آكدية الحكم في الفرع ولذا يقاس الفرع على الأصل .

قلت : ( أمّا آكديته في الفرع ، فلا مدخل له في حصول الظنّ ) اذ حصول الظنّ من باب القياس سواء كان آكد أم لا ، وكما يحصل الظنّ من الآكد يحصل من غيره .

( الثالث ) : انّه لا يجوز العمل بالقياس من باب أنّه لا انسداد في باب القياس ، وذلك ( انّ باب العلم ) ولو بالحكم الظاهري ( في مورد القياس ومثله ) أي : مثل القياس من النوم ، والرّمل ، والجَفر ، والاصطرلاب ، والظنّ العاميّ ممّا لا إعتبار بها قطعاً ، كما لا إعتبار بالقياس أيضاً ( مفتوحٌ ) .

وإنّما كان باب العلم في هذه الموارد مفتوحاً ( للعلم بأنّ الشارع ارجعنا في هذه الموارد الى الاصول اللفظيّة ) اذا كان هناك اصل لفظي : كالعموم والاطلاق ، وما أشبه ( أو العمليّة ) فيما اذا تكن اُصول لفظيّة ، فان الشارع قد ارجعنا عند فقد الاصول اللفظية الى الاصول العمليّة ، كالبراءة ، والاستصحاب ، وما اشبه ذلك .

وعليه : ( فلا يقتضي دليل الانسداد إعتبار ظنّ القياس في موارده ) اي : في موارد القياس ، وتوضيح هذا الكلام بلفظ الاوثق على ما يلي :

« إنّا نعلم لأجل نهي الشارع عن العمل بالقياس : انّ حكم اللّه تعالى غير ما يستفاد منه وان لم نعلم أي شيء هو حكم اللّه ، ففي تعيينه يرجع الى سائر الاصول اللفظية والعمليّة وإن كان مؤدّاه عين مؤداه ، يعني : اذا حصل الظنّ من

ص: 342

وفيه : انّ هذا العلم إنّما حصل من جهة النهي عن القياس ، ولا كلامَ في وجوب الامتناع عنه بعد منع الشارع . انّما الكلامُ في توجيه صحة نهي الشارع عن العمل به ، مع أنّ موارده وموارد سائر الأمارات متساوية .

فان امكن

-------------------

القياس بحكم ، فهذا الحكم باطل من حيث كونه مؤدّى القياس ، وصحيح من حيث كونه مؤدّى دليل آخر فلا تناقض حينئذٍ بين حجّية الظنّ مطلقاً ، وبين حرمة العمل بالظّن الحاصل من القياس » (1) .

( وفيه : انّ هذا العلم ) اي علمنا بأنّ الشارع جعل طريقاً آخر الى أحكامه ( إنّما حصل من جهة النهي عن القياس ، ولا كلام في وجوب الامتناع عنه ) اي : عن القياس ( بعد منع الشارع ) عنه .

( إنّما الكلام في توجيه صحة نهي الشارع عن العمل به ) اي : بالقياس ( مع أنّ موارده ) اي : موارد القياس ( وموارد سائر الأمارات ) المنتهية الى الظنّ ( متساوية ) فانّا حيث علمنا بأنّ الشارع منع عن القياس علمنا بأنّه جعل طريقاً آخر الى أحكامه ، سواء وافق ذلك الطريق القياس في النتيجة أم لا .

والحاصل : انّه لا كلام في انّا نعلم بانّ الشارع منع عن القياس وجاء بطريق آخر للوصول الى أحكامه ، وانّما الكلام في انّه كيف منع الشارع عن العمل بالقياس ، والحال أنّه كسائر اسباب الظّن يوجب الظنّ ، والعقل بعد الانسداد لايرى فرقاً بين اسباب الظنّ سواء كانت تلك الاسباب : قياساً ، أو خبراً ، او شهرة ، أو أولوية ، أو اجماعاً ، أو غير ذلك ، وقد عرفت انّ حكم العقل غير قابل للتخصيص (فان أمكن

ص: 343


1- - أوثق الوسائل : ص231 اشكال شمول النتيجة للظن القياسي .

منعُ الشارع عن العمل بالقياس أمكن ذلك في أمارة اُخرى ، فلا يستقل العقل بوجوب العمل بالظنّ وقبح الاكتفاء بغيره من المكلّف .

وقد تقدّم أنّه لولا ثبوتُ القُبح في التكليف بالخلاف لم يستقلّ العقل بتعيين العمل بالظنّ ، اذ لا مانع عقلاً عن وقوع الفعل الممكن ذاتاً من الحكيم الاّ قبحُه .

والحاصلُ : انّ الانفتاح المدّعى ان كان مع قطع النظر عن منع الشارع فهو خلافُ المفروض ،

-------------------

منع الشارع عن العمل بالقياس) بعد حكومة العقل بحجّية الظنّ مطلقاً ( أمكن ذلك ) المنع ( في أمارة اُخرى ) كالخبر ، والشهرة ، أو ما اشبه ذلك ( فلا يستقلّ العقل بوجوب العمل بالظنّ ، وقبح الاكتفاء بغيره من المكلّف ) لانّه يحتمل أن الشارع منع عنه ، واذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال في الأدلة العقلية.

( وقد تقدّم : انه لولا ثبوت القبح في التكليف بالخلاف ) اي : تكليف الشارع بخلاف الظنّ ( لم يستقل العقل بتعيين العمل بالظنّ ) اي : لا يتمكن العقل أن يقول : بأنّ العمل بالظنّ هو الحجّة في باب الانسداد ( اذ لا مانع عقلاً عن وقوع الفعل الممكن ذاتاً من الحكيم الاّ قبحه ) .

وذلك انّ الحكيم يفعل الفعل الممكن اذا لم يكن قبيحاً ، فاذا بنينا على عدم قبح المنع عن بعض الظنون وهو الظنّ القياسي تبيّن عدم قبح المنع عن بعض الظنون الاُخر كالظنّ الخبري ، فمن أين ان الشارع لم يمنع عن الظنّ الخبري ؟ .

( والحاصل : ان الانفتاح المدّعى ) لباب العلم في مورد القياس يغنينا عن القياس ، كما ذكره المجيب الثالث بقوله : انّ باب العلم في مورد القياس ومثله مفتوح ( ان كان مع قطع النظر عن منع الشارع فهو خلاف المفروض ) لأنّه لو لم

ص: 344

وان كان بملاحظة منع الشارع ، فالاشكال في صحّة المنع ومجامعته مع استقلال العقل بوجوب العمل بالظنّ ، فالكلام هنا في توجيه المنع ، لا في تحققه .

الرابع :

-------------------

يمنع الشارع عن القياس كان الظنّ القياسي ايضاً حجّة .

( وان كان بملاحظة منع الشارع ، فالاشكال ) إنّما يكون ( في صحة المنع ومجامعته ) اي : مجامعة هذا المنع ( مع استقلال العقل بوجوب العمل بالظنّ ) اذ كيف يستقل العقل بأنّ الظنّ حجّة حال الانسداد ثم يمنع الشارع عن فرد من هذه الظنون ، مع أنّه متساوٍ مع سائر الظنّون بحكم العقل ؟ .

وعليه : ( فالكلام هنا : في توجيه المنع ، لا في تحققه ) اي : كلامنا في انّه كيف منع الشارع عن القياس ، مع انّه تناقض ؟ وليس كلامنا في أنّ المنع متحقق - كما ذكره - في الجواب الثالث .

( الرابع : ) من أجوبة المحقّق القمي عن إشكال خروج القياس - حسب تفسير المصنّف - هو : إنّ مقدّمات الانساد تدل على حجّية الأدلة الظنيّة ، ولا تدل على أن الظنّ حجّة . ومن المعلوم : إمكان إخراج القياس على الأوّل ممّا حاصله : الادّلة الظنيّة دون القياس حجّة ، بخلاف الثاني : فانّه اذا كانت النتيجة حجّية الظنّ عقلاً اشكل : بانّه كيف أخرج الظنّ القياسي فان ذلك مستلزم للتناقض ؟ .

وبعد اخراج القياس - على ما عرفت - يكون المعيار الظنّ ، لأنّه اذا تعارض الخبر والاولوية - مثلاً - وكان احدهما اقوى ظنّاً ، اخذ بالأقوى ويكون اللازم حنيئذٍ الأخذ بالظّن منهما لا بالوهم .

وحاصل كلام المحقّق القمي - على ما فسره المصنّف - هو : إنّ المعيار أوّلاً :

ص: 345

انّ مقدمات دليل الانسداد ، أعني انسداد باب العلم مع العلم ببقاء التكليف ، انّما توجبُ جواز العمل بما يفيد الظنّ في نفسه ، ومع قطع النظر عمّا يفيد ظنّاً اقوى .

وبالجملة : هي تدلّ على حجّية الأدلّة الظنيّة دون مطلق الظن النفس الأمري .

والأول أمر قابل للاستثناء ، اذ لا يقبح أن يقال : « إنّه يجوز العمل بكلّ ما يفيد الظنّ بنفسه

-------------------

الأمارات ، ثم يكون المعيار الظنّ .

هذا ، ولكن ظاهر عبارة المحققّ القمي بعيد عن تفسير المصنّف هذا ، ونحن حيث نرى الشرح في تفسير العبارة على ما فسرها المصنّف وهو كما قال : ( إنّ مقدّمات دليل الانسداد اعني انسداد العلم ) والعلمي ( مع العلم ببقاء التكليف ، إنّماتوجب جواز العمل بما يفيد الظنّ في نفسه ) من الأمارات ( ومع قطع النظر عمّا يفيد ظنّاً اقوى ) اي : هناك امران :

الأمر الاوّل : لزوم الأخذ بالأمارات المفيدة للظنّ .

الأمر الثاني : إنّه اذا تعارض أمارتان ، اخذ بالأمارة الأقوى .

( وبالجملة : هي ) اي : مقدّمات الانسداد ( تدل على حجّية الادلة الظنيّة دون مطلق الظنّ النفس الأمري ) اي : انّا مكلّفون بعد الوجدان بالأخذ بأسباب الظن ، لا انّ نأخذ بنفس الظنّ .

( والأوّل ) أي : أسباب الظنّ التي نحن مكلفون بالأخذ بها ( أمر قابل للإستثناء ) فيستثنى منه القياس ( اذ لا يقبح ) عقلاً أو شرعاً ( أن يقال : انّه يجوز العمل بكل ما يفيد الظنّ بنفسه ) من الأمارات كالخبر الواحد ، والشهرة ،

ص: 346

ويدلّ على مراد الشارع ظنّاً الاّ الدليل الفلاني ، وبعد اخراج ما خرج عن ذلك يكون باقي الأدلة المفيدة للظنّ حجّة معتبرة .

فاذا تعارضت تلك الادلّة لزم الأخذُ بما هو الأقوى وترك ما هو الأضعفُ ، فالمعتبر حينئذٍ هو الظنّ بالواقع ويكون مفادُ الاقوى حينئذٍ ظنّاً والأضعفُ وهماً ، فيؤخذ بالظنّ ويترك غيره »

-------------------

والأولوية ، والاجماع المنقول ، وغير ذلك ( ويدل على مراد الشارع ظنّا ) عطف على قوله : « يجوز العمل بكل ما يفيد » ( الاّ الدليل الفلاني ) حيث يستثنى من الأمارات هذا الدليل .

( وبعد إخراج ما خرج عن ذلك ) اي : عمّا يفيد الظنّ ( يكون باقي الادلّة المفيدة للظنّ حجّة معتبرة ) فاذا أخرج القياس - مثلاً - بقي الخبر ، والاجماع المنقول ، والأولوية ، والشهرة ، ونحوها من أسباب الظنّ ، حجّة يجب الأخذ بها عند الانسداد .

( فاذا تعارضت ) الأدلة الباقية بعد خروج ما خرج من ( تلك الأدلة ) كتعارض الخبر والاولويّة ( لزم الأخذ بما هو الأقوى وترك ما هو الاضعف ، فالمعتبر حينئذٍ ) اي : حين تعارض الادلة ( هو : الظنّ بالواقع ، ويكون مفاد الأقوى حينئذٍ ) اي : حين تعارض الادلة ( ظنّاً والاضعف وهماً ) لوضوح أنّه لا يراد : الظنّ الشخصي ، فانّه لا يعقل تعارض الظنين ، بل يراد : تعارض السببين ، بأن كان احدهما يورث الظنّ والآخر يورث الوهم ( فيؤخذ بالظنّ ويترك غيره ) (1) لانّ العقل يرى انّ الظنّ مقدّم على الوهم .

ص: 347


1- - القوانين المحكمة :ج2ص217 .

انتهى .

اقول : كأنّ غرضَه ، بعد فرض جعل الاُصول من باب الظنّ وعدم وجوب العمل بالاحتياط انّ انسداد باب العلم في الوقائع مع بقاء التكليف فيها يوجب عقلاً الرجوع الى طائفة من الأمارات الظنيّة .

وهذه القضيّة يمكن أن تكون مهملة ويكون القياسُ خارجاً عن حكمها ، لا أن يكون العقل يحكمُ بعمومها ويخرجُ الشارعُ القياسَ ، لأنّ هذا عينُ ما فرّ منه من الاشكال .

-------------------

( إنتهى ) كلام المحقق القمي ، فانّ الادلّة الأربعة المذكورة كلها له .

( أقول : كأنّ غرضه - بعد فرض جعل الاُصول ) حجّة ( من باب الظنّ وعدم وجوب العمل بالاحتياط ) لأنّه موجب للعُسر والحَرج ( - انّ انسداد باب العلم في الوقائع مع بقاء التكليف فيها ) اي : في تلك الوقائع ( يوجب عقلاً الرّجوع الى طائفة من الأمارات الظنيّة ) سواء كان الواجب الرّجوع الى كلّ الأمارات أو بعض الأمارات .

( وهذه القضيّة ) اي : قضية وجوب الرجوع الى طائفة من الأمارات ( يمكن أن تكون مهملة ) لا مطلقة حتى تشمل الكل ( ويكون القياس خارجاً عن حكمها ) اي : عن حكم هذه القضيّة ، لأنّ المهملة يمكن الاخراج عنها ، بخلاف المطلقة ، فان النتيجة لو كانت كليّة لم يمكن اخراج القياس - لما عرفت سابقاً : من أنه يلزم التناقض - .

( لا أن يكون العقل ) حال الانسداد ( يحكم بعمومها ) أي : بعموم هذه القضية ( ويخرج الشّارع القياس ) فانّه لا يحكم العقل بعمومها ( لأنّ هذا عين ما فرّ منه من الاشكال ) وهو : لزوم التخصيص في الدليل العقلي ، فانّه غير معقول .

ص: 348

فاذا علم بخروج القياس عن هذا الحكم ، فلابدّ من إعمال الباقي في مواردها .

فاذا وجد في مورد اصلٌ وامارةٌ - والمفروض أن الاصل لا يفيد الظنّ في مقابل الأمارة - وجب الاخذُ بها ، واذا فرض خلوّ المورد عن الأمارة اخذ بالاصل لانّه يُوجب الظنّ بمقتضاه .

وبهذا التقرير يجوز منع الشارع عن القياس .

-------------------

( فاذا علم بخروج القياس عن هذا الحكم ) اي : حكم وجوب الرجوع الى طائفة من الأمارات الظنيّة ( فلابدّ من إعمال الباقي ) من الأمارات الظنيّة ( في مواردها ) بان يعمل بالخبر في مورده ، والاولوية في موردها ، وهكذا .

( فاذا وجد ) بعد خروج القياس ( في مورد أصل وأمارة ، والمفروض : انّ الأصل لايفيد الظنّ في مقابل الأمارة ، وجب الاخذ بها ) اي : بتلك الأمارات وذلك لأنّ الاصل محكوم بالأمارة .

( واذا فرض خلوّ المورد عن الأمارة ) المعتبرة وإن كانت أمارة غير معتبرة موجودة في المورد ، فان الأمارة غير المعتبرة لا يؤخذ بها ، لأنّها كالقياس في المثال ( اخذ بالأصل ) كالبراءة والاستصحاب ، وما اشبه ( لأنّه يوجب الظنّ بمقتضاه ) اي : بمقتضى الأصل ، فالأمارة مقدّمة ، ثم بعد الأمارة تصل النوبة الى الاصل .

( وبهذا التقرير ) الذي ذكرناه : من إهمال النتيجة ( يجوز منع الشارع عن القياس ) لأنّك قد عرفت : ان الواجب الاخذ بالأمارات في الجملة وهذه المهملة يمكن إخراج القياس منها .

ص: 349

بخلاف ما لو قرّرنا دليل الانسداد على وجه يقتضي الرجوع في كلّ مسألة الى الظنّ الموجود فيها ، فانّ هذه القضية لا تقبل الاهمال ولا التخصيص ، وليس في كلّ مسألة الاّ ظنّ واحد .

وهذا معنى قوله في مقام آخر :« ان القياس مستثنىً من الأدلّة الظنّية لا أنّ الظنّ القياسيّ مستثنى من مطلق الظنّ » . والمراد بالاستثناء هنا اخراج ما لولاه لكان قابلاً للدخول ، لا داخلاً بالفعل ، والاّ لم يصحّ بالنسبة الى المهملة .

-------------------

هذا ( بخلاف ما لو قرّرنا دليل الانسداد على وجه يقتضي الرّجوع في كلّ مسألة الى الظنّ الموجود فيها ) اي : في تلك المسألة ، وذلك بأن قرّرنا دليل الانسداد على نحو الكليّة ( فانّ هذه القضيّة ) اي : وجوب الرجوع في كلّ مسألة الى الظنّ الموجود فيها ( لا تقبل الاهمال ولا التخصيص ) .

أمّا الاهمال : فلأن الفرض أن القضية كليّة ، وأمّا التخصيص : فلأنّه يستلزم التناقض - على ما عرفت سابقاً - .

هذا ( وليس في كلّ مسألة الاّ ظنّ واحد ) فلا يكون هناك تعارض ، ويلزم من اخراج ظنّ في مسألة ما ، التخصيص فيالدليل العقلي وهو غير معقول .

( وهذا ) الذي ذكرناه : من تفسير عبارة المحقّق ( معنى قوله ) اي : المحقّق ( في مقام آخر : ان القياس مستثنى من الادلة الظنّية ، لا أن الظنّ القياسي مستثنى من مطلق الظّن ) فالأمارات هي المحور لا الظنّ ( والمراد بالاستثناء هنا : اخراج ما لولاه لكان قابلاً للدخول لا داخلاً بالفعل ) اي : لولا استثناء القياس لكان قابلاً للدخول لا إنّه داخل بالفعل ، وانّما نقول : انّه لا يرى بذلك الدخول بالفعل لأنّه كما قال : ( وإلاّ لم يصحّ بالنسبة الى المهملة ) كما أوضحناه .

ص: 350

هذا غايةُ ما يخطر بالبال في كشف مراده .

وفيه : انّ نتيجة المقدّمات المذكورة لا تتغيّرُ بتقريرها على وجه دون وجه ، فانّ مرجع ما ذكر من الحكم بوجوب الرّجوع الى الأمارات الظنيّة في الجملة الى العمل بالظنّ في الجملة ، اذ ليس لذات الأمارة مدخلية في الحجّية في لحاظ العقل ، والمناط هو وصف الظنّ سواء اعتبر مطلقاً أو على وجه الاهمال .

-------------------

( هذا غاية ما يخطر بالبال في كشف مراده ) قدس سره ، حيث انّ عبارته مبهمة كما اعترف به صاحب الحاشية ، وصاحب الفصول ، وغيرهما .

( وفيه : ) انّ صاحب القوانين فرّ من جعل الظنّ حجّة الى جعل الأمارة حجّة ، والحال أنّه لا فرق بينهما في ان النتيجة لو كانت كليّة ، لم يمكن اخراج القياس ، وإن كانت جزئية ، أمكن اخراج القياس ، فلا يهم أن تكون النتيجة : حجّية الأمارات ، أو حجّية الظنّ كما قال : ( إنّ نتيجة المقدّمات المذكورة لا تتغير بتقريرها ) اي : تقرير المقدمات ( على وجه دون وجه ) أي : وجه كون الأمارات حجّة ، دون وجه كون الظنّ حجّة ( فانّ مرجع ماذكر من الحكم بوجوب الرّجوع الى الأمارات الظنيّة في الجملة : الى العمل بالظنّ في الجملة ) فسواء قلنا : الأمارة حجّة ، أو قلنا : الظنّ حجّة ، تكون النتيجة واحدة .

( اذ ليس لذات الأمارة مدخليّة في الحجّية في لحاظ العقل ) فانّ العقل يهمه الظنّ بعد عدم امكان العلم ، ولا يهمه الأمارة ( والمناط هو وصف الظنّ سواء اعتبر مطلقاً أو على وجه الاهمال ) فانّ مهمة العقل أن يعمل بالظنّ .

ص: 351

وقد تقدّم : انّ النتيجة على تقرير الحكومة ليست مهملة ، بل هي معيّنة للظنّ الاطمئنانيّ مع الكفاية ، ومع عدمها فمطلق الظنّ ، وعلى كلا التقديرين لا وجه لا خراج القياس .

وأمّا على تقرير الكشف فهي مهملةٌ لا يشكلُ معها خروج القياس ، اذ الاشكال مبنيّ على عدم الاهمال وعموم النتيجة ، كما عرفت .

الخامس :

-------------------

هذا ( وقد تقدّم : ان النتيجة على تقرير الحكومة ، ليست مهملة ، بل هي ) اي : النتيجة كليّة ( معينّة للظنّ الاطمئناني مع الكفاية ) من ايّ سبب كان الظنّ الاطمئناني المذكور .

( ومع عدمها ) أي عدم الكفاية ( فمطلق الظنّ ) يلزم العمل به ، سواء كان اطمئنانيا أم لا .

( وعلى كلا التقديرين ) أي : سواء كانت النتيجة : الظنّ الاطمئناني ، أو مطلق الظنّ ، فانّه ( لا وجه لا خراج القياس ) لأنّ القياس قد يوجب الظنّ الاطمئناني وقد يوجب الظنّ المطلق .

( وأما على تقرير الكشف فهي ) اي : النتيجة ( مهملة ) من غير فرق بين أن تكون النتيجة حجّية أسباب الظنّ ، أو حجّية الظنّ نفسه ، وحينئذٍ ( لا يشكل معها ) اي : مع نتيجة الكشف ( خروج القياس ، اذا الاشكال مبنيّ على عدم الاهمال وعموم النتيجة - كما عرفت - ) فكلّما قلنا : النتيجة مهملة أمكن اخراج القياس ، وكلّما قلنا : ان النتيجة كليّة لم يمكن اخراج القياس ، فلا ربط لكلام المحقّق القمي رحمه اللّه بجواب كيفية اخراج القياس .

( الخامس ) من الوجوه التي ذكروها لاخراج القياس عند الانسداد ، ما ذكره

ص: 352

انّ دليل الانسداد إنّما يُثبتُ حجّية الظنّ الذي لم يَقمُ على عدم حجّيته دليلٌ .

فخروج القياس على وجه التخصّص دون التخصيص .

توضيحُ ذلك : انّ العقل إنّما يحكم باعتبار الظنّ وعدم الاعتناء بالاحتمال الموهوم في مقام الامتثال لأنّ البراءة الظنيّة تقوم مقام العلميّة .

أمّا اذا حصل بواسطة منع الشارع القطعُ بعدم البراءة بالعمل بالقياس ، فلا يبقى براءة ظنيّة حتى يحكم العقلُ بوجوبها .

-------------------

المحقّق المحشي وأخوه صاحب الفصول من ( : انّ دليل الانسداد إنّما يثبت حجّية الظنّ ، الذي لم يقم على عدم حجّيته دليل ) فاذا قام دليل على عدم حجيّة ظنّ ، لم يتكفّل دليل الانسداد بحجيّته .

وعليه : ( فخروج القياس ) عن الظنون التي هي حجّة بسبب دليل الانسداد ، يكون ( على وجه التخصّص دون التخصيص ) فانّ القياس كان خارجاً من الأول لا أنّه كان داخلاً في عموم الظنّ ثم خرج .

( توضيح ذلك : إنّ العقل إنّما يحكم باعتبار الظنّ وعدم الاعتناء بالاحتمال الموهوم في مقام الامتثال ) اي : إنّ العقل يقول : اعمل بالظنّ ولا تعمل بالوهم الذي هو الطرف الآخر للظّن ( لأنّ البرائة الظنّية تقوم مقام العلميّة ) عند تعذرها ، فانّ الطريق العقلائي هو إتباع العلم ، فاذا لم يكن علم لزم إتباع الظنّ ، لأنّه كما انّ العلم يستلزم البرائة ، الظنّ أيضاً يستلزم البرائة عند الانسداد .

( أمّا اذا حصل بواسطة منع الشارع القطع بعدم البرائة بالعمل بالقياس ، فلا يبقى برائة ظنيّة ) في حال الانسداد ( حتى يحكم العقل بوجوبها ) اي : بوجوب هذه البرائة الظنيّة .

ص: 353

واستوضح ذلك من حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ وطرح الاحتمال الموهوم عند إنفتاح باب العلم في المسألة ، كما تقدّم نظيره في تقرير اصالة حرمة العمل بالظن .

فاذا فرض قيامُ الدّليل من الشارع على اعتبار الظنّ ووجوب العمل به . فانّ هذا لا يكون تخصيصاً في حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ ، لأنّ حرمة العمل بالظنّ مع التمكّن إنّما هو لقبح الاكتفاء بما دون الامتثال العلمي مع التمكن من العلمي .

فاذا فرض الدليل على اعتبار الظنّ ووجوب العمل به صار الامتثالُ في العمل بمؤدّاه علميّاً فلا يشمله حكم العقل بقبح الاكتفاء بما دون الامتثال العلميّ ،

-------------------

( واستوضح ذلك ، من حكم العقل : بحرمة العمل بالظنّ وطرح الاحتمال الموهوم عند انفتاح باب العلم في المسألة ) ، فانّه اذا كان باب العلم منفتحاً يحرم العمل بالظنّ ( كما تقدّم نظيرهُ في تقرير اصالة حرمة العمل بالظنّ ) فانا اقمنا الأدلة الأربعة على حرمة العمل بالظنّ حال الانفتاح .

( فاذا فرض قيام الدّليل من الشارع على اعتبار الظنّ ووجوب العمل به ) اي : بالظنّ ( فانّ هذا لا يكون تخصيصاً في حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ ) وإنّما يكون تخصّصاً ( لأنّ حرمة العمل بالظنّ مع التمكن ) من العلم ( إنّما هو لقبح الاكتفاء بما دون الامتثال العلمي مع التمكن من العلمي ) والمراد : الأعمّ من العلم والعلمي كما هو واضح ( فاذا فرض الدليل على اعتبار الظنّ ووجوب العمل به ) اي : بالظنّ ( صار الامتثال في العمل بمؤدّاه علميّاً ) لأن الشارع قال : اتّبع هذا الظنّ ( فلا يشمله حكم العقل بقبح الاكتفاء بما دون الامتثال العلمي ) لأنّ هذا الظنّ

ص: 354

فما نحن فيه على العكس من ذلك .

وفيه : انّك قد عرفت عند التكلّم في مذهب ابن قبِة أنّ التعبّد بالظنّ مع التمكّن من العلم على وجهين :

أحدُهما : على وجه الطريقيّة بحيث لا يلاحظ الشارعُ في أمره عدا كون الظنّ إنكشافاً ظنيّاً للواقع بحيث لا يترتبّ على العمل به عدا مصلحة الواقع على تقدير المطابقة .

-------------------

في حال الانفتاح خرج تخصيصاً .

( فما نحن فيه ) وهو : قيام الدّليل على عدم جواز الاكتفاء بالظنّ القياسي في مقام تحصيل الامتثال في حال الانسداد ( على العكس من ذلك ) الذي ذكرناه : من الاكتفاء بالظنّ في حال الانفتاح ، ففي حال الانفتاح يعمل بالظّن بالنصّ ، وفي حال الانسداد لايعمل بالظنّ بالنص ايضاً .

( وفيه : ) إنَّ إجازة العمل بالظنّ في حال الانسداد اذا لم يكن الشارع يتدارك مصلحة الواقع مع المخالفة قبيح ، وكذلك حال المنع عن العمل بالظنّ في حال الانسداد ، فليس اجازة الظنّ في حال الانفتاح مطلقاً ، كما ليس المنع عن الظنّ في حال الانسداد مطلقاً ، وهذا ما يذكره المصنّف في السادس من الأجوبة ، كما قال : ( إنّك قد عرفت عند التكلّم في مذهب ابن قِبة ) في اوّل الكتاب ( انّ التعبّد بالظنّ مع التمكن من العلم على وجهين ) بالنحو التالي :

( احدهما : على وجه الطريقية بحيث لا يلاحظ الشارع في أمره ) بالعمل بالظنّ ( عدا كون الظنّ انكشافاً ظنّياً للواقع بحيث لا يترتب على العمل به ) اي : بالظّن ( عدا مصلحة الواقع على تقدير المطابقة ) فاذا لم تكن مطابقة فاتَ المكلّف مصلحة الواقع .

ص: 355

والثاني : على وجه يكون في سلوكه مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع الفائتة على تقدير مخالفة الظّن للواقع .

وقد عرفت أنّ الأمر بالعمل بالظنّ مع التمكّن من العلم على الوجه الأوّل قبيحٌ جداً ، لأنّه مخالفٌ لحكم العقل بعدم الاكتفاء في الوصول الى الواقع بسلوك طريق ظنّي يحتمل الافضاء الى خلاف الواقع .

نعم ، إنّما يصّح التعبّد على الوجه الثاني .

فنقول : إنّ الأمر فيما نحن فيه كذلك ،

-------------------

( والثاني : ) الظنّ ( على وجه يكون في سلوكه مصلحة يتدارك بها ) اي : بهذه المصلحة السلوكية ( مصلحة الواقع الفائتة ) على المكلّف ( على تقدير مخالفة الظنّ للواقع ) فاذا خالف الظنّ الواقع تدارك الشارع تلك المصلحة الفائتة باعطاء بدلها للمكلّف ، وهذا ما اصطلحنا عليه في اول الكتاب : بالمصلحة السلوكية .

( وقد عرفت : ان الامر بالعمل بالظنّ مع التمكن من العلم على الوجه الأوّل ، قبيح جداً ) لأنَّ الشارع هو الذي سبّب تفويت مصلحة الواقع على المكلّف والشارع لا يفعل القبيح .

وإنّما يكون قبيحاً ( لأنّه مخالف لحكم العقل ) الحاكم ( بعدم الاكتفاء في الوصول الى الواقع بسلوك طريق ظنّي يحتمل الافضاء ) والانتهاء ( الى خلاف الواقع ) مع عدم التدارك لتلك المصلحة ، فان المولى اذا ترك العبد وشأنه طَرقَ سبيل العلم ، والعلم يسبّب دركه لمصلحة الواقع امّا اذا جعل له طريقا ظنيّاً وفاته مصلحة الواقع ، فاللازم على المولى أن يتدارك تلك المصلحة .

( نعم ، انّما يصحّ التعبّد على الوجه الثاني ) اي : على المصلحة السلوكية ( فنقول : إنّ الأمر فيما نحن فيه ) من منع القياس في حال الانسداد ( كذلك ) فاذا

ص: 356

فانّه بعدما حكم العقلُ بانحصار الامتثال عند فقد العلم في سلوك الطريق الظني ، فنهيُ الشارع عن العمل ببعض الظنون إن كان على وجه الطريقيّة ، بان نهى عند فقد العلم عن سلوك هذا الطريق من حيث أنّه ظنّ يحتمل فيه الخطأ ، فهو قبيحٌ ، لأنّه تعَرضّ لفوات الواقع فينتقضُ به الغرضُ .

كما كان يلزم ذلك من الأمر بسلوكه على وجه الطريقيّة عند التمكّن من العلم ، لأنّ حال الظنّ عند الانسداد من حيث الطريقيّة حالُ العلم مع الانفتاح

-------------------

تدارك المولى المصلحة الواقعيّة الفائتة من المكلّف ، صح منع القياس ، والاّ لم يصح .

( فانّه بعدما حكم العقل بانحصار الامتثال - عند فقد العلم - في سلوك الطريق الظني ) « في سلوك » متعلق ب « انحصار » ( فنهي الشّارع عن العمل ببعض الظنون ) كالقياس ( إن كان على وجه الطريقيّة ، بان نهى عند فقد العلم ، عن سلوك هذا الطريق ) اي : طريق القياس ( من حيث أنّه ظنّ يحتمل فيه الخطأ ، فهو قبيح ) على المولى أن ينهى عنه .

وإنّما يكون قبيحاً على المولى ( لأنّه تعرّض لفوات الواقع ) فانّ القياس في جملة من الأحوال يطابق الواقع ، فنهي المولى عنه يسببّ تفويته للمصلحة على عبده ( فينتقض به الغرض ) اي : بسبب هذا النهي ينتقض غرض المولى ، فانّ غرض المولى : درك العبد مصلحة الواقع ، والنهي يسبب تفويت هذه المصلحة على العبد .

( كما كان يلزم ذلك ) اي : نقض الغرض ( من الأمر بسلوكه على وجه الطريقيّة عند التمّكن من العلم ) فانّ الأمر بالظنّ عن الانفتاح ، يشابه النهي عن الظّن عند الانسداد ( لأنّ حال الظّن عند الانسداد من حيث الطريقيّة ، حال العلم مع الانفتاح

ص: 357

لا يجوز النهيُ عنه من هذه الحيثية في الأوّل ، كما لا يجوز الامرُ به في الثاني .

فالنهيُ عنه وإن كان مُخرجاً للعمل به عن ظنّ البراءة الى القطع بعدمها الاّ أن الكلامَ في جواز هذا النهي لِما عرفت من أنّه قبيح .

وإن كان على وجهٍ يكشفُ النهيُ عن وجود مفسدة في العمل بهذا الظنّ يغلب على مفسدة مخالفة الواقع اللازمة عند طرحه ، فهذا وان كان جائزاً حسناً ، نظير الأمر به على هذا الوجه مع الانفتاح ، فهذا

-------------------

لا يجوز النّهي عنه من هذه الحيثية ) اي : من حيث الطريقيّة ( في الأول ) عند الانسداد ( كما لا يجوز الأمر به في الثاني ) عند الانفتاح .

وعليه : ( فالنهي عنه ) اي : عن القياس ( وإن كان مخرجاً للعمل به عن ظنّ البرائة الى القطع بعدمها ) اي : بعدم البرائة كما ذكره المستدِّل ( إلاّ أنّ الكلام في جواز هذا النهي ) وانّه هل يجوز أن ينهى عنه المولى أو لا يجوز ؟ .

وإنّما كان الكلام في هذا النهي ( لما عرفت : من أنّه ) اي : النهي في حال الانسداد عن بعض الظنون ( قبيح ) وقد مرّ تفصيله .

( وإن كان على وجه يكشف النهي عن وجود مفسدة في العمل بهذا الظنّ ) القياسي بحيث ( يغلب ) تلك المفسدة ( على مفسدة مخالفة الواقع اللازمة عند طرحه ) اي : عند طرح القياس ( فهذا وان كان جائزاً حسناً ) عند العقل ( نظير الأمر به ) اي : بالظنّ ( على هذا الوجه ) اي : وجه غلبة مصلحة الطريق على مصلحة الواقع ( مع الانفتاح ) لباب العلم ، إلاّ انّه جواب آخر كما قال :

( فهذا ) الجواب بأن النهي عن القياس لغلبة مفسدة القياس على مفسدة ترك

ص: 358

يرجع الى ما سنذكره في الوجه السادس .

وحاصله : أنّ النهيَ يَكشف عن وجود مفسدة غالبة على المصلحة الواقعيّة المدركة على تقدير العمل به . فالنهيُ عن الظنون الخاصّة في مقابل حكم العقل بوجوب العمل بالظنّ مع الانسداد ، نظير الأمر بالظنون الخاصّة في مقابل حكم العقل بحرمة العمل بالظّن مع الانفتاح .

فان قلت : اذا بُنيَ على ذلك ، فكلُّ ظنّ من الظنون يحتملُ أن

-------------------

الواقع ( يرجع الى ما سنذكره في الوجه السادس ) وهو : انّه لو عمل بالقياس في حال الانسداد ، حصل على عشرين مفسدة - مثلاً - أما اذا لم يعمل بالقياس حصل على عشرة مفاسد ، فحيث يرى الشارع انّ في العمل بالقياس زيادة مفسدة ينهى عنه .

( وحاصله : انّ النهي ) من الشارع عن العمل بالقياس في حال الانسداد ( يكشف عن وجود مفسدة غالبة على المصلحة الواقعيّة المدركة ) تلك المصلحة ( على تقدير العمل به ) اي : بالقياس .

وعليه : ( فالنّهي عن الظّنون الخاصة ) في حال الانسداد ( في مقابل حكم العقل بوجوب العمل بالظنّ مع الانسداد ) إنّما يكون ( نظير الأمر بالظنّون الخاصة ) كالخبر الواحد وما اشبه ( في مقابل حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ مع الانتفاح ) فانّه في حال الانتفاح يأمر الشارع بالعمل بالظّن ، لأنّه يرى أن ا لعمل بالظّن له عشرون مصلحة ، فيما يعلم الشارع بانّه لو لم يعمل بالظنّ يدرك فقط عشرة مصالح .

( فان قلت : اذا بنيَ على ذلك ) اي : على ان القياس يحتمل أن يكون اكثر مفسدة ولذلك نهى الشارع عنه في حال الانسداد ( فكل ظنّ من الظنّون يحتمل أن

ص: 359

يكونَ في العمل به مفسدةٌ كذلك .

قلت : نعم ، ولكن احتمال المفسدةَ لا يَقدحُ في حكم العقل بوجوب سلوك طريق يُظنّ معه بالبراءة عند الانسداد .

-------------------

يكون في العمل به مفسدةٌ كذلك ) أي : مفسدة اكثر ، فنحتمل انّ هذا الظنّ ايضاً منع الشارع منه .

هذا ، وقد تقدّم : ان مع احتمال المنع لا يصح الاستدلال ، لأنّه من الاُمور العقليّة وقالوا : اذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال ، فكيف تعملون أنتم في حال الانسداد بسائر الظنّون : كالظنّ الحاصل من الخبر الواحد ، أو الاجماع المنقول ، أو الشهرة ، أو الأولوية ، أو ما اشبه ذلك ؟ .

( قلت : نعم ) هذا الاحتمال موجود في سائر الظنون ( ولكن احتمال المفسدة لا يقدح في حكم العقل بوجوب سلوك طريق يظنّ معه بالبرائة عند الانسداد ) .

وإنّما لا يقدح ، لأنه انّما هو بعد الاحتياج الى العمل لفرض بقاء التكليف ، ولفرض انه لا طريق غير الظنّ ، فاذا لم يرض الشارع بالظن ، كان اللازم عليه أن ينهى عن الظنّ وينصب طريقاً آخر ، فاذا رأيناه لم ينصب طريقاً آخر ، ولم ينه عن الظنّ ، كشفنا عن انّ الظنّ ليس ممّا يحتمل فيه المفسدة الأكثر ، كما كان في القياس المفسدة الاكثر .

والحاصل : انه اذا كان في الخبر - مثلاً - في حال الانسداد مفسدة اكثر ، كان اللازم على الشارع أن ينهى عن الخبر كما نهى عن القياس ، فاذا رأيناه لم ينه عن الخبر ، ولم ينصب طريقاً آ خر غير الخبر ، كشفنا عن ان الخبر حجّة من باب الظنّ الانسدادي ، وهذا عكس حال الانفتاح .

ص: 360

كما أنّ احتمال وجود المصلحة ، المتداركة لمصلحة الواقع في ظنّ لا يقدحُ في حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ مع الانفتاح ، وقد تقدّم في آخر مقدّمات الانسداد ، ان العقل مستقلٌ بوجوب العمل بالظنّ مع إنسداد باب العلم ، ولا اعتبار باحتمال كون شيء آخر هو المتعبّد به غير الظنّ ، اذ لا يحصل من العمل بذلك المحتمل سوى الشكّ في البراءة ، أو توهمّها ولا يجوز العدولُ عن البراءة الظنيّة اليهما .

وهذا الوجهُ وإن كان حسناً وقد اخترناه سابقاً الاّ أن ظاهر أكثر

-------------------

( كما انّ احتمال وجود المصلحة ، المتداركة لمصلحة الواقع في ظنّ لا يقدح في حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ مع الانفتاح ) فالاحتمال لا ينفع لا في حال الانفتاح ولا في حال الانسداد .

هذا ( وقد تقدّم في آخر مقدّمات الانسداد : ان العقل مستقلٌ بوجوب العمل بالظنّ مع انسداد باب العلم ) لانه لا طريق غير الظّن ( ولا اعتبار باحتمال كون شيء آخر هو المتعبّد به غير الظنّ ) .

مثلاً : احتمال ان تكون القرعة ، أو الجفر ، أو الرّمل ، أو النوم ، أو ما أشبه ذلك هو الطريق المتعبّد به لا ينفع في جعل هذه الاُمور طريقاً في قِبال الظنّ ، الذي جعله العقلاء طريقاً عند الانسداد ( اذ لا يحصل من العمل بذلك المحتمل ) كونه طريقاً شرعيّاً عند الانسداد ( سوى الشك في البرائة أو توهمها ) اي : توهم البرائة ( ولا يجوز العدول عن البرائة الظنيّة اليهما ) اي : الى البرائة الشكيّة والبرائة الوهميّة ، فالاحتمال في مقابل الظنّ باطلّ عقلاً .

( وهذا الوجه ) السادس من أجوبة اشكال خروج القياس ( وإن كان حسناً وقد اخترناه سابقاً ) في جواب وجه خروج القياس في حال الانسداد ( الاّ أن ظاهر اكثر

ص: 361

الأخبار الناهية عن القياس أنّه لا مفسدة فيه الاّ الوقوع في خلاف الواقع ، وإن كان بعضها ساكتاً عن ذلك وبعضها ظاهراً في ثبوت المفسدة الذاتيّة ، الاّ أنّ دلالة الاكثر اظهر .

فهي الحاكمة على غيرها ، كما يظهر لمن راجع الجميع ، فالنهي راجعٌ الى سلوكه من باب الطريقيّة ، وقد عرفت الاشكال في النهي على هذا الوجه .

-------------------

الأخبار الناهية عن القياس : أنّه لا مفسده فيه ) بالذات ،بأن يكون القياس كالخمر - مثلاً - ( الاّ الوقوع في خلاف الواقع ) فانّ القياس إنّما يكون منهياً عنه ، لأنّه على الأكثر يخالف الواقع .

هذا ( وان كان بعضها ) اي : بعض تلك الأخبار ( ساكتاً عن ذلك ) اي : عن كثرة وقوع القياس في خلاف الواقع ( وبعضها ظاهراً في ثبوت المفسدة الذاتيّة ) كما هو مدار الوجه السادس من الاجوبة التي ذكرناها ( الاّ انّ دلالة الأكثر ) من الأخبار الدالة على مفسدة خلاف الواقع في القياس ( اظهر ) من دلالة بعض الأخبار في المفسدة الذاتية .

إذن : ( فهي ) اي الاخبار الأكثر ، تكون ( الحاكمة على غيرها ) لأنّ ظهور مفسدة خلاف الواقع ( كما يظهر لمن راجع الجميع ) اي : جميع الأخبار الواردة في القياس ، في باب القضاء من الوسائل ، والمستدرك وغيرها .

وعليه : ( فالنهي راجع الى سلو كه من باب الطريقيّة ) فيكون النهي - عند فقد العلم - عن سلوك الطريق القياسي من حيث انّه ظنّ يحتمل فيه الخطأ ، فهو قبيح لأنّه تعرض لتفويت الواقع ، ( وقد عرفت الاشكال في النهي على هذا الوجه ) فانّه نهي عند الانفتاح ، لا أنه نهي عن الانسداد .

ص: 362

إلاّ أن يقال : إنّ النواهي اللفظيّة عن العمل بالقياس من حيث الطريقيّة لابدّ من حملها في مقابل العقل المستقلّ على صورة انفتاح باب العلم بالرجوع الى الائمة عليهم السلام ، والأدلّة القطعيّة منها كالاجماع المنعقدِ على حرمة العمل به حتى مع الانسداد لا وجه له غير المفسدة الذاتيّة .

كما أنّه اذا قام دليل على حجّية الظنّ مع التمكّن من العلم ، نحمله على وجود المصلحة المتداركة لمخالفة الواقع ، لأنّ حمله على العمل من حيث الطريقيّة مخالفٌ لحكم العقل بقبح الاكتفاء بغير العلم مع تيسّره .

-------------------

( الاّ أن يقال : إنّ النواهي اللفظيّة ) التي نهت ( عن العمل بالقياس ) وتبيّن فيها جهة النهي وهو : كونه ( من حيث الطريقيّة ، لابّد من حملها في مقابل العقل المستقل ) الدال ذلك العقل على العمل بمطلق الظنّ عند الانسداد ( على صورة انفتاح باب العلم ، بالرّجوع الى الائمة عليهم السلام ) اجمعين .

( و ) أمّا ( الادلّة القطعيّة منها ) اي : من الادلة الدالة على حرّمة العمل بالقياس غير الرّوايات ( كالاجماع المنعقد على حرمة العمل به ) اي : بالقياس ( حتى مع الانسداد ) فذلك ( لاوجه له غير المفسدة الذاتية ) كما تقدّم : من أنّ بعض الأخبار أيضاً ظاهر في ثبوت المفسدة الذاتية .

( كما انّه اذا قام دليل على حجّية الظنّ مع التمكن من العلم ، نحمله على وجود المصلحة المتداركة لمخالفة الواقع ) فانّه لا يمكن للشارع تجويز العمل بالظن حال الانفتاح ، الاّ اذا تداركه الشارع عند مخالفة الظنّ للواقع .

وانّما نحمل الظنّ على وجود المصلحة المتداركة في حال الانفتاح ( لأنّ حمله ) اي حمل الظنّ ( على العمل من حيث الطريقيّة ، مخالف لحكم العقل بقبح الاكتفاء بغير العلم مع تيسره ) اي : مع تيسّر العلم .

ص: 363

الوجه السابع : هو أنّ خصوصيّة القياس من بين سائر الأمارات هي غلبةُ مخالفتها للواقع ، كما يشهد به قوله عليه السلام : « إنّ السُّنة اذا قِيست مُحِقَ الدّينُ » ، وقوله : « كانَ ما يُفسدهُ اكثر ممّا يُصلحهُ » ، وقوله : « ليسَ شيءٌ ابعدَ عن عُقولِ الرّجالِ من دينِ اللّهِ »

-------------------

هذا ، ولا يخفى : انّ خلاصة هذا الوجه الذي هو سادس الوجوه ، كان عبارة : عن وجود مفسدة ذاتية في القياس ، ولذلك نهى الشارع عنه .

( الوجه السّابع : ) من وجوه أجوبة اشكال خروج القياس ( هو أن ) في القياس مفسدة خلاف الواقع ، لا المفسدة الذاتيّة ، فحيث انّه كثيراً ما يخالف الواقع نهى الشارع عنه ، حتى في حال الانسداد ، فخروج ( خصوصيّة القياس من بين سائر الأمارات ) حيث أجاز الشارع سائر الأمارات وأبطل العمل بالقياس ( هي غلبة مخالفتها ) أي : القياسات ( للواقع كما يشهد به قوله عليه السلام : « إنّ السُنّة اذا قِيستَ مُحِقَ الدّين » (1) ) المَحق : بمعنى : البطلان ، اي : بطل الدّين ، لأنّه لا يطابق الواقع حينئذٍ .

( وقوله ) عليه السلام : ( « كان ما يُفسِدهُ أكثرُ ممّا يُصلحهُ » (2) ) لأنّ الافساد عبارة عن المخالفة للواقع ، بينما الاصلاح عبارة عن الموافقة للواقع .

( وقوله ) عليه السلام : ( « لَيسَ شيءٌ أبعد عن عُقول الرِّجال من دِينِ اللّهِ » (3) ) وقد تقدّم معنى : ان العقل لا يصيب الدّين ، وان المراد به في الجزئيات والاّ فالكليات

ص: 364


1- - الكافي فروع : ج7 ص299 ح6 ، وسائل الشيعة : ج27 ص41 ب6 ح33160 و ج29 ص352 ب44 ح35762 .
2- - بحار الأنوار: ج1 ص208 ب5 ح7 وفيه مايصلح، وسائل الشيعة: ج27 ص25 ب4 ح33112.
3- - تفسير العياشي : ج1 ص11 ح2 و ص12 ح8 ، وسائل الشيعة : ج27 ص192 ب13 ح33572 بحار الأنوار : ج92 ص91 ب8 ح37 و ص94 ح45 و ص95 ب9 ح48 والجميع بالمعنى .

وغير ذلك .

وهذا المعنى لمّا خفي على العقل الحاكم بوجوب سلوك الطرق الظنيّة عند فقدِ العلم ، فهو إنّما يحكمُ بها لادراك أكثر الواقعيّات المجهولة بها . فاذا كشف الشارعُ عن حال القياس وتبيّن عند العقل حالُ القياس فيحكمُ حكماً اجماليا بعدم جواز الرّكون اليه .

نعم ، اذا حصل الظنّ منه في خصوص مورد ، لا يحكم بترجيح غيره عليه

-------------------

غالباً تصاب بالعقول ، فانّ الاسلام دين العقل .

( وغير ذلك ) من الروايات الدالة على أنّ القياس يخالف الواقع كثيراً .

( وهذا المعنى ) اي : غلبة مخالفة القياس للواقع ( لمّا خفي على العقل ، الحاكم بوجوب سلوك الطرق الظنّية عند فقد العلم ) اذ العقل يحكم بوجوب اتباع العلم في امتثال أوامر المولى ، فاذا فقد المكلّف العلم بها ، ( فهو ) اي : العقل يحكم بوجوب اتباع الظنّ .

و ( انّما يحكم بها ) اي : بتلك الطرق الظنيّة ( لادراك اكثر الواقعيات المجهولة بها ) اي : بهذه الطرق ، وقوله : « بها » متعلق « بالادراك » فانّ تلك الطرق تدرك اكثر الواقعيات المجهولة ( فاذا كشف الشّارع عن حال القياس ) وانّه لا يطابق الواقع ( وتبيّن عند العقل حال القياس ، فيحكم ) العقل ( حكماً إجمالياً بعدم جواز الرّكون اليه ) اي : الى القياس ، لأنّ الشارع العالم بالحقائق كشف للعقل عدم مطابقة القياس على الاغلب للواقع .

( نعم ، اذا حصل الظنّ منه ) اي : من القياس ( في خصوص مورد ) من الموارد وفرع من الفروع ، في حين ( لا يحكم ) العقل ( بترجيح غيره عليه ) أي : لا يحكم

ص: 365

في مقام البراءة عن الواقع . لكن يصح للشارع المنعُ عنه تعبّداً بحيث يظهر منه : إني ما اُريد الواقعيات التي تضمّنها ، فان الظنَّ ليس كالعلم في عدم جواز تكليف الشخص بتركه والأخذ بغيره .

وحينئذٍ : فالمُحسّنُ لنهي الشارع عن سلوكه على وجه الطريقيّة

-------------------

بترجيح غير القياس عليه ، لأنّ المفروض : ان غيره وَهْمٌ والقياس ظنّ ، ولهذا يحكم العقل في هذا المورد الخاص بترجيح القياس على غيره .

كما يحكم العقل ( في مقام البرائة عن الواقع ) فان العقل حيث يريد أن يحكم ببرائة الانسان عن الواقع ، وكان باب العلم منسداً ، وحصل له ظنّ من القياس ، حكم على طبق القياس .

( لكن يصح للشّارع المنع عنه تعبّداً ) بان يقول : حتى في هذا المورد من الظنّ لا تعمل بالقياس ، وإنّما اعمل بالوهم المطابق لسائر الاُصول : كالاستصحاب والبرائة ، ما اشبه ، ( بحيث يظهر منه ) اي : من الشارع حيث منع عن الظّن القياسي بأن يقول : ( إنّي ما اُريد الواقعيات التي تضمّنها ) القياس .

فان قلت : كيف يمنع الشارع عن الظّن في حال الانسداد ؟ اليس الظنّ في حال الانسداد كالعلم ؟ .

قلت : كلا ( فان الظنّ ليس كالعلم في عدم جواز تكليف الشخص بتركه ) فان الشارع يتمكن من أن يكلّف الشخص بترك الظنّ ، بينما لا يتمكن أن يكلّف الشخص بترك العلم ، والفارق : ان الظنّ ليس كاشفاً قطعيّاً ، بخلاف العلم .

وعليه : فيتمكن الشارع من منع الشخص عن العمل بالقياس ( والأخذ بغيره ) بأن يقول : خذ بالاُصول وان كانت موهومة ، واترك القياس وإن كان مظنوناً .

( وحينئذٍ : فالمُحسّنُ لنهي الشارع عن سلوكه على وجه الطريقيّة ) بأن يقول :

ص: 366

كونُه في علم الشارع مؤدّياً في الغالب الى مخالفة الواقع .

والحاصلُ : انّ قبحَ النهي عن العمل بالقياس على وجه الطريقيّة إمّا أن يكونَ لغلبة الوقوع في خلاف الواقع مع طرحه فينافي الغرض ، وأمّا أن يكون لاجل قبح ذلك في نظر الظّان ، حيث أن مقتضى القياس أقربُ في نظره الى الواقع ، فالنهيُ عنه نقضٌ لغرضه في نظر الظّان .

أمّا الوجهُ الأوّل ، فهو مفقود في المقام ، لأنّ المفروض غلبة مخالفته للواقع .

-------------------

ان القياس ليس بطريق ( كونه في علم الشّارع مؤديّاً في الغالب الى مخالفة الواقع ) وإن لم يدرك العقل ذلك .

( والحاصل : ان قبح النّهي عن العمل بالقياس على وجه الطريقيّة ) اي : لا على أن فيه مفسدة ذاتية ، يكون على وجهين :

( إمّا أن يكون لغلبة الوقوع فيخلاف الواقع مع طرحه ) اي : مع طرح القياس ، ( فينافي الغرض ) اي : غرض المولى ، ونقض الغرض قبيح ، فقبح النهي إنّما هو لأنّه منافٍ للغرض واقعاً .

( وامّا أن يكون لأجل قبح ذلك ) اي : قبح النهي عن العمل بالقياس ( في نظر الظّان ، حيث أنّ مقتضى القياس أقرب في نظره الى الواقع ، فالنهي عنه ) اي : عن القياس ( نقض لغرضه في نظر الظان ) .

والحاصل : ان قبح نهي الشارع عن العمل بالقياس ، اما لأنّه مناف للغرض واقعاً ، وإمّا لأنّه مناف للغرض في نظرّ الظّان .

( أما الوجه الأوّل : فهو مفقود في المقام ) اي : في مقام النهي عن القياس ( لأنّ المفروض غلبة مخالفته للواقع ) فلا قبح للنهي من جهة منافاته للغرض واقعاً .

ص: 367

وأمّا الوجهُ الثاني ، فهو غير قبيح بعد إمكان حمل الظّان النّهي في ذلك المورد الشخصيّ على عدم ارادة الواقع منه في هذه المسألة ولو لأجل اطّراد الحكم .

الا ترى أنّه يصّح أن يقول الشارعُ للوسواسيّ القاطع بنجاسة ثوبه : « ما اُريد منك الصلاة بطهارة الثوب » وإن كان ثوبُه في الواقع نجساً ، حسماً لمادّة وسواسه .

-------------------

وأمّا الوجه الثاني : فهو غير قبيح بعد إمكان حمل الظّان النّهي في ذلك المورد الشخصي على عدم ارادة الواقع منه ) بمعنى : انّ الشارع لا يريد الواقع من طريق القياس ، وإنّما يريد الواقع من طريق الأصل المنافي للقياس ( في هذه المسألة ) الشخصيّة ( ولو لأجل اطّراد الحكم ) .

فان الشارع اراد المنع عن القياس كلّية لكثرة مخالفته للواقع ، فرفع اليد عن القياس حتى في مورد اصابته للواقع ، وذلك لأنّ مفسدته كان اكثر من مصلحته ، فقدّم الشارع ترك العمل بالقياس رأساً من باب تقديم الأهم على المهم ، وهذا ما يفعله العقلاء في كلّ مورد يكون فيه المفسدة اكثر من المصلحة .

( ألا ترى : أنّه يصحّ أن يقول الشارع للوسواسي القاطع بنجاسة ثوبه : ما أُريد منك الصلاة بطهارة الثوب ) اطلاقاً ، بل صلّ بالثوب طاهراً كان أو نجساً ، وهو يصلي احياناً في الثوب النجس ، لانّه يترك قطعه ( وإن كان ثوبه في الواقع نجساً ) ؟ .

وانّما يقول له الشارع ذلك ويرفع يده عن الحكم الواقعي ( حسماً ) وقطعاً ( لمادة وسواسه ) فاذا صح ذلك في العلم ، صح ذلك في الظنّ أيضاً بطريق اولى .

ص: 368

ونظيره : انّ الوالد اذا أقام ولده الصغير في دكّانه في مكانه ، وعلم منه أنه يبيع اجناسه بحسب ظنونه القاصرة ، صحّ له منعهُ عن العمل بظنّه .

ويكون منعهُ في الواقع لأجل عدم الخسارة في البيع ، ويكون هذا النهيُ في نظر الصبي الظانّ بوجود النفع في المعاملة الشخصيّة اقداماً منه ورضىً بالخسارة وترك العمل بما يظنّه نفعاً ، لئلا يقع في الخسارة في مقامات اُخر ، فانّ حصولَ الظنّ الشخصيّ بالنفع تفصيلاً في بعض الموارد لا ينافي علمه بانّ العمل بالظنّ القياسيّ منه ومن غيره في هذا المورد وفي غيره يوجبُ الوقوعَ غالباً في مخالفة الواقع .

-------------------

( ونظيره ) اي : نظير نهي المولى حتى في صورة المطابقة للواقع ( : انّ الوالد اذا أقام ولده الصغير في دكانه في مكانه ) اي : في مكان الوالد ( وعلم ) الوالد ( منه انّه

يبيع اجناسه بحسب ظنونه القاصرة ، صحّ له ) اي : للوالد ( منعه عن العمل بظنّه ويكون منعه في الواقع لأجل عدم الخسارة في البيع ) لأنّ الوالد يريد الربح ، والولد اذا عمل بظنونه سبب الخسارة في الاجناس .

( ويكون هذا النهي في نظر الصبيّ الظان بوجود النفع في المعاملة الشخصية ، اقداماً منه ورضىً بالخسارة ، و ) اقداماً على ( ترك العمل بما يظنّه نفعاً ) فقوله : «وترك» ، عطف على قوله : « بالخسارة » ( لئلا يقع في الخسارة في مقامات اُخر ) فالصبي يعلم بانّ الوالد قد صرف النظر عن هذا النفع الشخصي ، حتى لا يقع في خسارات في مقامات اُخر .

( فانّ حصول الظنّ الشخصي بالنفع - تفصيلاً - في بعض الموارد ، لا ينافي علمه ، بانّ العمل بالظنّ القياسي منه ومن غيره في هذا المورد وفي غيره ، يوجب الوقوع غالباً في مخالفة الواقع ) فاذا كانت هناك موارد للقياس من زيد

ص: 369

ولذا علمنا ذلك من الأخبار المتواترة معنىً مع حصول الظنّ الشخصي في الموارد منه ، إلاّ انّه كلُّ مورد حصل الظّن نقولُ بحسب ظنّنا إنّه ليس من موارد التخلّف فنحمل عمومَ نهي الشارع الشامل لهذا المورد على رفع الشارع يده عن الواقع واغماضه عن الواقع في موارد مطابقة القياس ، لئلا يقع في مفسدة

-------------------

ومن آخرين ، علم زيد بأن جملة من هذه الموارد التي يقيسها هو أو يقيسها غيره من المكلفين تخالف الواقع ، فيعلم زيد بأنّ الشارع منع عن القياس اطلاقاً حتى لا يقع المكلَّف في مخالفة الواقع كثيراً وان ظنّ زيد انّ القياس في هذا المورد الشخصي يطابق الواقع .

( ولذا ) اي : لاجل ما ذكرناه : من أن حصول الظنّ الشخصي بالنفع - تفصيلاً - في بعض الموارد ، لا ينافي علمنا بخلاف الواقع في غالب موارد القياس ( علمنا ذلك ) اي : علمنا انّ خلاف الواقع في القياس اكثر ( من الأخبار المتواترة معنىً ، مع حصول الظنّ الشّخصي في الموارد منه ) اي : من القياس ، وقوله :« لذا » صغرى لكبرى قوله : « فان حصول الظنّ الشخصي . . . » فكلام المصنّف : مثل أن يقال : الانسانُ خُلقَ حَسنَاً ، ولذا نرى زيدا حَسناً .

( الاّ أنّه ) لمّا لم يمكن الظنّ القياسي بمطابقة الواقع مع الظنّ بانّه خلاف الواقع ، لأنّه جمع بين النقيضين ف ( كلّ مورد حصل الظنّ ) من القياس ( نقول : بحسب ظنّنا : انّه ليس من موارد التخلّف ، فنحمل عموم نهي الشّارع الشّامل لهذا المورد ) الشخصي ( على رفع الشارع يده عن الواقع واغماضه عن الواقع في موارد مطابقة القياس ) .

وانّما رفع الشارع يده عن القياس المطابق للواقع ( لئلا يقع ) العبد ( في مفسدة

ص: 370

تخلّفهِ عن الواقع في اكثر الموارد .

هذه جملة ما حضرني من نفسي ومن غيري في دفع الاشكال وعليك بالتأمّل في هذا المجال ، واللّه العالمُ بحقيقة الحال .

المقام الثاني

فيما اذا قام ظنّ من أفراد مطلق الظنّ على حرمة العمل ببعضها بالخصوص ،

-------------------

تخلّفه عن الواقع في أكثر الموارد ) فكما أنّه مع علم الوسواسي بالنجاسة يقول الشارع له : رفعت يدي عن الواقع المعلوم عندك ، كذلك مع الظنّ القياسي يقول الشارع : رفعت يدي عن الواقع المظنون عندك .

( هذه جملة ما حضرني من نفسي ومن غيري في دفع الاشكال ) القائل : بأنّه كيف يمكن للشارع منع القياس في حال الانسداد ؟ ( وعليك بالتأمّل في هذا المجال واللّه العالم بحقيقة الحال ) .

هذا كلّه بناءاً على المنع عن القياس في حال الانسداد ، أمّا مَن يرى انّ القياس في حال الانسداد يجوز العمل به ، فلا يحتاج الى هذه الاجوبة ، لأنّه يرى ان المنع عن القياس خاص بحال الانفتاح ولو للانصراف .

ثم انّ المصنّف قال قبل صفحات : ان الاشكال في مقامين : احدهما : في خروج القياس ، وثانيهما : في حكم الظنّ الذي قام على عدم اعتباره ظنّ آخر ، وحيث فرغَ من الكلام في المقام الاوّل قال :

( المقام الثاني : فيما اذا قام ظنّ من أفراد مطلق الظنّ ) الانسدادي ( على حرمة العمل ببعضها ) اي : ببعض الظنون الاُخر من افراد مطلق الظّن ( بالخصوص ) بأن دلّ الدّليل الفلاني على أن الدّليل الفلاني الآخر لا إعتبار به .

ص: 371

لا على عدم الدّليل على اعتباره .

فيخرجُ مثلُ الشهرة القائمة على عدم حجّية الشهرة ، لأنّ مرجعها الى انعقاد الشهرة على عدم الدّليل على حجّية الشهرة وبقائها تحت الاصل .

وفي وجوب العمل بالظنّ الممنوع أو المانع أو الأقوى منهما أو التساقط

-------------------

( لا على عدم الدّليل على اعتباره ) أي : اعتبار الفرد الآخر من الظنّ لأنّ الظنّ القياسي - مثلاً - قد يقوم على عدم اعتبار شيء ، وقد يقوم على عدم الدليل على اعتباره ، فانّ مورد الاشكال هو الأول ، لا الثاني .

وعليه : ( فيخرج ) من هذا المقام وهو الظنّ المانع والممنوع ( مثل : الشّهرة القائمة على عدم حجّية الشهرة ) فانّ المشهور من العلماء يقولون : انّ الشهرة ليست بحجّة ، فهذا لايسمى من الظنّ المانع والممنوع ( لأنّ مرجعها ) أي : مرجع هذه الشهرة المنعقدة على عدم حجّية الشهرة ( الى انعقاد الشهرة على عدم الدّليل على حجيّة الشهرة وبقائها ) أي : بقاء الشهرة ( تحت الاصل ) اي : اصل عدم الحجّية ، فانّه لو شككنا في الحجيّة ، فالاصل : عدم الحجّية .

إذن : فالشهرة المانعة لا تقول : انّ الشهرة ممنوعة العمل ، وإنّما تقول : لا دليل على حجّية الشهرة ، فانّ مثل هذه المسألة خارجة عن مقامنا وهو الظنّ المانع والممنوع .

نعم ، لو قامت الشهرة على وجود الدّليل على المنع عن العمل بالشهرة ، كان من ظنّ المانع والممنوع .

( وفي وجوب العمل بالظّنّ الممنوع ) قوله ، ( أو المانع ) قول ثان ، ( أو الأقوى منهما ) قول ثالث ، ( أو التساقط ) فلا يعمل لا بالظنّ المانع ولا بالممنوع

ص: 372

وجوهٌ بل أقوالٌ .

ذهب بعضُ مشايخنا إلى الأوّل ، بناءا منه على ما عرفت سابقاً ، من بناء غير واحد منهم انّ دليل الانسداد لايثبتُ إعتبارَ الظنّ في المسائل الاُصوليّة التي منها مسألة حجّية الممنوع .

ولازم بعض المعاصرين الثاني ، بناءا على ماعرفت منه ، من أنّ اللازمَ بعد الانسداد تحصيلُ الظنّ بالطريق ، فلا عِبرةَ بالظنّ بالواقع مالم يقم على اعتباره الظنّ .

-------------------

قول رابع ، ( وجوه بل أقوال ؛ ذهب بعض مشايخنا ) وهو : شريف العلماء ، وقَبلَه قال بذلك الرياض ، وبعده جماعة آخرون ( الى الأوّل ) وهو : أن يعمل بالظنّ الممنوع ، ويسقط المانع .

وذلك ( بناءاً منه على ما عرفت سابقاً : من بناء غير واحد منهم : انّ دليل الانسداد لايثبت إعتبار الظنّ في المسائل الاصوليّة ، التي منها مسألة حجّية الممنوع ) فالظّنّ المانع ليس بحجّة ، ولا حق للظنّ المانع أن يقول : انّ الظّنّ الممنوع ليس بحجّة ، فالظّنّ الممنوع داخل تحت دليل الانسداد ويعمل به ، بخلاف الظنّ المانع .

( ولازم بعض المعاصرين ) كالتُستري ، وصاحب الحاشية ، وصاحب الفُصول ( الثاني ) وهو : انّ الظّنّ المانع حجّة ، والممنوع ليس بحجّة .

وذلك ( بناءاً على ماعرفت منه ) أي من هذا البعض ( : من انّ اللازم بعد الانسداد ، تحصيل الظّنّ بالطّريق ) أي : إنّ دليل الانسداد يدلّ على حجّية الظّنّ في المسألة الاُصولية ( فلا عِبرةَ بالظنّ بالواقع ) أي : بالمسألة الفرعية ( مالم يقم على اعتباره الظّن ) الطريقي ، وفيما نحن فيه : الظّنّ على عدم الاعتبار ، فلا يؤخذ

ص: 373

وقد عرفت ضعف كلا البنائين وأنَّ نتيجة مقدمات الانسداد هو الظنّ بسقوط التكاليف الواقعيّة في نظر الشارع الحاصل بموافقة نفس الواقع وبموافقة طريق رضي الشارع به عن الواقع .

نعم ، بعضُ من وافقنا ، واقعاً أو تنزّلاً ، في عدم الفرق في النتيجة بين الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق ، إختارَ في المقام وجوبَ طرح الظنّ الممنوع

-------------------

بالظّنّ الممنوع ، الذي قام ظنّ في المسألة الاُصولية على عدم اعتباره .

هذا ( وقد عرفت : ضعف كلا البنائين ) لأنّ المصنّف ذهب الى حجّية الظّنّ في المسائل الاصولية والفرعية معاً ( و ) قال : ( انّ نتيجة مقدمات الانسداد هو : الظّنّ بسقوط التكاليف الواقعية في نظر الشّارع ) أي : الظنّ ببرائة الذمّة عن التكاليف المتوجهة الى المكلّف حسب العلم الاجمالي العام ( الحاصل ) ذلك الظنّ بسقوط التكاليف ( بموافقة نفس الواقع ) وهو الظنّ في المسألة الفرعية ( وبموافقة طريق رضي الشارع به عن الواقع ) وهو الظّنّ في المسألة الاُصولية .

( نعم ، بعض من وافقنا - واقعاً أو تنزّلاً - في عدم الفرق في النتيجة بين الظنّ بالواقع والظّنّ بالطريق ، اختار في المقام ) أي : في مسألة الظنّ المانع والممنوع ( وجوب طرح الظّنّ الممنوع ) والأخذ بالظّن المانع .

وقوله : « واقعاً أو تنزّلاً » ، يعني : انّ بعضهم قال بمثل مقالتنا : من انّ الظّنّ حجّة ، سواء كان في المسألة الاُصولية أو في المسألة الفرعية ، وبعضهم لم يقل بذلك ، وإنّما قال بأحد القولين الأولين ، ثم قال : إذا تنزّلنا وقلنا ، بإطلاق حجّية الظنّ في المسألة الفرعية والمسألة الاُصولية ، كان مقتضى القاعدة : وجوب طرح الظّنّ الممنوع والأخذ بالظنّ المانع .

ص: 374

نظراً إلى أنّ مفادَ دليل الانسداد ، كما عرفت في الوجه الخامس من وجوه دفع إشكال خروج القياس وهو اعتبارُ كلّ ظنّ لم يقم على عدم اعتباره دليلٌ معتبر .

والظنّ الممنوع ممّا قام على عدم اعتباره دليل معتبر ، وهو الظنّ المانع ، فانّه معتبرٌ حيث لم يقم دليلٌ على المنع منه ، لأنّ الظنّ الممنوع لم يدلّ على حرمة الأخذ بالظنّ المانع .

غاية الأمر أنّ الأخذَ به مُنافٍ للأخذ بالمانع ، لا أنّه يدلّ على وجوب

-------------------

وإنّما قال : « من وافقنا واقعاً أو تنزّلاً » ( نظراً الى انّ مفاد دليل الانسداد - كما عرفت في الوجه الخامس من وجوه دفع إشكال خروج القياس - وهو اعتبار كل ظنّ لم يقم على عدم اعتباره دليل معتبر ) قوله : « هو » ، خبر قوله : « إن مفاد . . . » ، يعني : إنّ دليل الانسداد إنّما يفيد اعتبار كل ظنّ لم يقم على عدم اعتباره دليل معتبر .

هذا ( والظّنّ الممنوع ممّا قام على عدم اعتباره دليل معتبر ، وهو : الظّنّ المانع ) فانّ الظنّ المانع قام على عدم اعتبار الظّنّ الممنوع ( فانّه ) أي : الظنّ المانع ( معتبر ) في نفسه ( حيث لم يقم دليل على المنع منه ) .

والحاصل : انّ الظّنّ المانع قام على عدم اعتبار الظّن الممنوع ، أما الظّنّ الممنوع فلم يقم على عدم اعتبار الظنّ المانع ( لأنّ الظّنّ الممنوع لم يدلّ على حرمة الأخذ بالظّنّ المانع ) .

إن قلت : لازم الأخذ بالظنّ الممنوع هو : عدم اعتبار الظنّ المانع .

قلت : ( غاية الأمر : انّ الأخذ به ) أي : بالظّنّ الممنوع ( منافٍ للأخذ بالمانع ) لأنّه إذا أخذنا بالممنوع كان معناه : انّا لم نأخذ بالمانع ( لا أنّه يدلّ على وجوب

ص: 375

طرحه ، بخلاف الظنّ المانع ، فإنّه يدلّ على وجوب طرح الظنّ الممنوع .

فخروجُ الممنوع من باب التخصّص لا التخصيص ، فلا يقال : انّ دخول أحد المتنافيين تحت العامُ لايصلحُ دليلاً لخروج الآخر مع تساويهما في قابلية الدّخول من حيث الفرديّة .

-------------------

طرحه ) أي : طرح الظنّ المانع ، وهذا ( بخلاف الظّن المانع ، فانّه يدلّ على وجوب طرح الظّن الممنوع ) ، فالظنّ الممنوع قام دليل معتبر على لزوم طرحه ، بينما الظّنّ المانع لم يدل دليل معتبر على لزوم طرحه .

إذن : ( فخروج الممنوع من باب التخصّص ) لأنه ليس ظنّاً لم يقم على عدم اعتباره ظنّ معتبر ، بل الممنوع ممّا قام على عدم اعتباره الظنّ المانع ، والظنّ المانع معتبر ، ( لا التخصيص ) بأن يكون دليل الانسداد شاملاً للظنّ الممنوع لكن هناك مخصّص يخرجه من دليل الانسداد .

والحاصل : انّ دليل الانسداد لايشمل الممنوع ، لا أنّه يشمله ثم يخرجه منه بمخرج .

وعليه : ( فلا يقال : انّ دخول أحد المتنافيين تحت العام ، لايصلح دليلاً لخروج الآخر مع تساويهما ) أي : تساوي المتنافيين ( في قابليّة الدّخول من حيث الفردّية ) فان الظّنّ الممنوع ليس داخلاً تحت العام ، لعدم شمول العام وهو دليل الانسداد للظنّ الممنوع أصلاً .

ومثال ما ذكره المصنّف بقوله : « انّ دخول أحد المتنافيين تحت العام . . . » هو : انّه إذا كان خبر الواحد حجّة ، ثم قام خبر واحد على عدم حجّية خبر آخر ، فانّه لا دليل على ان نأخذ بالخبر الأوّل ونترك الخبر الثاني ، كما لا دليل لأن نأخذ بالخبر الثاني ونترك الخبر الأوّل ، لأنّ كلاً من الخبرين متساويان في قابلية

ص: 376

ونظيرُ مانحن فيه : ماتقرّر في الاستصحاب ، من أنّ مثلَ استصحاب طهارة الماء المغسول به الثوبُ النجسُ دليل حاكمٌ على استصحاب نجاسة الثوب وإن كان كلُّ من طهارة الماء ونجاسة الثوب ، مع قطع النظر عن حكم الشارع بالاستصحاب متيقّنةً في السابق مشكوكةً في اللاحق ، وحكمُ الشارع بابقاء

-------------------

دخولهما تحت حجّية الخبر الواحد فلا أولوية لأحدهما على الآخر ، والظنّ المانع والممنوع من جهة دليل الانسداد ليس من هذا القبيل ، لأنّ الظّن الممنوع خارج تلقائياً بدون تخصيص ، وإنّما بالتخصص كما عرفت .

( ونظير ما نحن فيه ) : من انّ أحد الدليلين يمنع الآخر تخصصاً لا تخصيصاً ( ما تقرّر في الاستصحاب : من أنّ مثل استصحاب طهارة الماء المغسول به الثّوب النجس ، دليل حاكم على استصحاب نجاسة الثوب ) فاذا كان هناك ثوب نجس وماء طاهر ، ثم شككنا في بقاء الماء على الطهارة فاستصحبنا طهارته وغسلنا به الثوب ، فإن استصحاب بقاء نجاسة الثوب مرفوع بسبب استصحاب طهارة الماء .

هذا ( وان كان كلّ من طهارة الماء ونجاسة الثّوب مع قطع النّظر عن حكم الشّارع بالاستصحاب ، متيقّنة في السّابق مشكوكة في اللاحق ) لأنّا بعد اليقين بطهارة الماء شككنا في بقاء طهارته ، وبعد اليقين بنجاسة الثوب شككنا في بقاء نجاسته ، لكن بقاء طهارة الماء بالاستصحاب يرفع نجاسة الثوب بعد غسل الثوب بالماء ، فلا يبقى شك في نجاسته .

وعليه : فانّ كل واحد منهما وإن كان إستصحاباً ( و ) كان ( حكم الشارع بإبقاء

ص: 377

كلّ متيقّن في السابق مشكوكٍ في اللاحق متساوياً بالنسبة إليهما .

إلاّ أنّه لمّا كان دخولُ يقين الطهارة في عموم الحكم بعدم النقض والحكم عليه بالبقاء يكون دليلاً على زوال نجاسة الثوب المتيقنة سابقاً ، فيخرج عن المشكوك لاحقاً ، بخلاف دخول يقين النجاسة والحكم عليها بالبقاء ، فانّه لايصلحُ للدلالة على طروّ النجاسة للماء المَغسول به قبل الغسل وإن كان منافياً لبقائه على الطهارة .

-------------------

كل متيقن في السّابق مشكوك في اللاحق متساوياً بالنسبة اليهما ) أي : الى طهارة الماء والى نجاسة الثوب .

( إلاّ انّه لما كان دخول يقين الطّهارة ) للماء ( في عموم الحكم ) الاستصحابي ( بعدم النقض ) للحالة السابقة ( والحكم عليه بالبقاء ، يكون دليلاً على زوال نجاسة الثّوب المتيقّنة ) تلك النجاسة ( سابقاً ، فيخرج ) الحكم بنجاسة الثوب ( عن المشكوك لاحقاً ) فلا يبقى لنا شك في نجاسة الثوب لاحقاً ، بعد إستصحاب طهارة الماء المزيل للنجاسة التي كانت في الثوب .

هذا ( بخلاف دخول يقين النجاسة والحكم عليها بالبقاء ) إذا حكمنا على بقاء نجاسة الثوب ( فانّه لايصلح للدّلالة على طروّ النجاسة للماء - المغسول به - قبل الغسل ) .

قوله : « قبل » متعلق بقوله « طرو » أي : لايدلّ بقاء نجاسة الثوب على انّ الماء صار نجساً قبل أن نغسل الثوب به ( وإن كان ) بقاء النجاسة في الثوب ( منافياً لبقائه ) أي : لبقاء الماء ( على الطهارة ) فانّه إذا قلنا : بأنّ الثوب باقٍ على نجاسته بعد الغسل ، كان معنى ذلك : انّ الماء لم يبق طاهراً ، لأنه لو بقي طاهراً لم يبق الثوب نجساً ، فالإستصحابان متنافيان ، إلاّ انّ إستصحاب الطهارة حاكم

ص: 378

وفيه ، أوّلاً : أنّه لايتمّ فيما إذا كان الظنّ المانع والممنوع من جنس أمارة واحدة ، كأن يقومَ الشهرةُ مثلاً على عدم حجّية الشهرة ، فانّ العملَ ببعض أفراد الأمارة ، وهي الشهرة في المسألة الاُصوليّة دون البعض الأخر ، وهي الشهرة في المسألة الفرعيّة ، كما ترى .

وثانياً : انّ الظنّ المانع إنّما يكون على فرض إعتباره دليلاً على عدم اعتبار الممنوع ،

-------------------

على إستصحاب نجاسة الثوب .

( وفيه : ) أي : في طرح الظنّ الممنوع بسبب الظنّ المانع - كما ذكرناه عند قولنا : « نعم بعض من وافقنا واقعاً أو تنزلاً . . . » الى آخر عبارته - ، مايلي :

( أولاً : انّه لايتّم فيما إذا كان الظّنّ المانع والممنوع من جنس أمارة واحدة ، كأن يقوم الشّهرة مثلاً على عدم حجيّة الشّهرة ) .

وإنّما لايتم ذلك في هذا المورد لقوله : ( فانّ العمل ببعض أفراد الأمارة وهي : الشّهرة في المسألة الاُصوليّة ) وهي الحجّية واللاحجّية ( دون البعض الآخر وهي الشهرة في المسألة الفرعيّة ) كالشّهرة على وجوب صلاة الجمعة مثلاً ( كما ترى ) ، إذ لايمكن حجّية الشهرة في كليهما للتناقض ، ولا في أحدهما للترجيح بدون مرجّح .

( وثانياً : ) بأن كان الظّنان من جنسين ، مثل : قيام الشهرة على عدم حجيّة الخبر ، ففيه : ( انَّ الظّن المانع إنّما يكون على فرض اعتباره دليلاً على عدم اعتبار الممنوع ) أيّ : انَّ الظّن المانع دليل على عدم اعتبار الممنوع وسيأتي - إنشاء اللّه تعالى - بقية الكلام عند قوله : وهذا المعنى موجود في الظنّ الممنوع .

والحاصل : انَّ كل واحد من المانع وَالممنوع يمنع الآخر ، أمّا انّ الظّنّ المانع

ص: 379

لأنّ الامتثال بالممنوع حينئذٍ مقطوع العدم .

كما تقرّر في توضيح الوجه الخامس من وجوه دفع إشكال خروج القياس .

وهذا المعنى موجود في الظنّ الممنوع .

مثلاً : إذا فرض صيرورةُ الأولوية مقطوعة الاعتبار بمقتضى دخولها تحت دليل الانسداد لم يُعقل بقاء الشهرةِ المانعة عنها على افادة الظنّ بالمنع .

-------------------

يمنع الممنوع ( لأنَّ الامتثال بالممنوع حينئذٍ مقطوع العدم ) فالممنوع لايعمل به إطلاقاً قطعاً ( كما تقرّر في توضيح الوجه الخامس من وجوه دفع إشكال خروج القياس ) حيث قلنا هناكَ : إنَّ دليل الانسداد إنّما يثبت حُجيّة الظّن الذي لم يقم على عدم حجّيته دليل ، فخروج القياس على وجه التخصّص دون التخصيص .

( وهذا المعنى موجود في الظّنّ الممنوع ) ايضاً ، فكما انَّ الظّنّ المانع يمنع الممنوع ، كذلك الظّن الممنوع يمنع المانع .

( مثلاً : إذا فرض صيرورة الأولويّة مقطوعة الاعتبار ) بأن كان ظنٌّ - ناشيء عن الأولوية - مقطوع إعتباره ( بمقتضى دخولها ) أي : دخول الأولوية ( تحت دليل الانسداد ، لم يعقل بقاء الشّهرةِ المانعة عنها على إفادة الظّنّ بالمنع ) لأنّه لايعقل أن يظنّ الانسان بالممنوع ، ثمّ يظنّ بالمانع أيضاً .

وعليه : فيكون خروج الظنّ المانع - كما ذكرناه - على وجه التخصص دون التخصيص .

إن قلت : إنّا نظنّ بحسب الشّهرة على عدم حجّية الأولوية .

قلت : ننقض ذلك بأنّا بسبب ظنّنا بالأولوية ، نظن بعدم حجّية الشهرة .

ص: 380

ودعوى : « انّ بقاء الظنّ من الشهرة بعدم اعتبار الأولويّة دليلٌ على عدم حصول القطع من دليل الانسداد بحجّية الأولويّة ، وإلاّ لارتفع الظنّ بعدم حجّيتها ، فيكشف ذلك عن دخول الظنّ المانع تحت دليل الانسداد » مُعارَضَةٌ بأنّا لانجد من أَنفُسِنا القَطعَ بعدم تحقّق الامتثال بسلوك الطريق الممنوع ، فلو كان الظنّ المانع داخلاً لحصل القطعُ بذلك .

-------------------

والى هذا الاشكال والجواب أشار المصنّف بقوله : ( ودعوى : انَّ بقاء الظّنّ من الشهرة بعدم اعتبار الأولويّة دليل ) أي : هذا البقاء دليل ( على عدم حصول القطع من دليل الانسداد بحجّية الأولويّة ) فلا نظنّ بحجّية الأولويّة بعد ظنّنا بحجيّة الشّهرة ( وإلاّ ، لارتفع الظّنّ بعدم حجّيتها ) أي : بعدم حجّية الشّهرة .

وعليه : ( فيكشف ذلك ) أي : عدم حصول القطع من دليل الانسداد بحجّية الأولوية ( عن دخول الظّن المانع ) أي : الظّن بالشهرة ( تحت دليل الانسداد ) فلا يبقى الظّن الممنوع تحت دليل الانسداد .

فان هذه الدعوى ( معارضة ، بأنّا لانجد من أَنفُسِنا القطع بعدم تحقّق الامتثال بسلوك الطّريق الممنوع ) فانّا إذا سلكنا الأولوية الدالّة على فرع من الفروع ، لانجد من أنفسنا القطع بخلاف هذا الحكم عند الشارع ( فلو كان الظّن المانع داخلاً ، لحصل القطع بذلك ) أي : بعدم تحقّق الامتثال بسلوك الطَّريق الممنوع .

وتوضيح هذا الاشكال والجواب على لفظ الأوثق : « انَّ الظّنَ المانع والممنوع ظنّان تمانعا في الاندراج تحت دليل الانسداد ، إذ القطع بدخول احدهما مستلزم للقطع بخروج الآخر ، غاية الأمر : انّ المنع من جانب المانع من جهة كون مؤداه عدم حجّية الممنوع ، ومن جانب الممنوع إنّما هو بالملازمة دون المطابقة ، فكما أنَّ المانع دليل على عدم حصول الامتثال للممنوع ، كذلك الحال في الممنوع ،

ص: 381

وحَلّ ذلك : أنّ الظنّ بعدم اعتبار الممنوع إنّما هو مع قطع النظر عن ملاحظة دليل الانسداد ولا نسلّم بقاء الظنّ بعد ملاحظته .

ثمّ إنّ الدليل العقليّ

-------------------

ومجرّد كون ذلك في أحدهما بالمطابقة وفي الآخر بالملازمة لايجدي في المقام » (1) .

أقول : وذلك لأنّه قد تقدّم منّا في هذا الشرح : انّ التناقض كما يحصل بين شيئين ، يحصل بين لازميهما ، وبين كل واحد منهما ولازم الآخر ، فيكون مصداق التناقض في أربعة موارد على النحو التالي : مثلاً : إذا كان لازم الضياء الحرارة ، ولازم الظلام البرودة ، وكان بين الضياء والظلام تناقضاً ، فانّه يكون من صور التناقض أيضاً : التناقض بين الضياء والبرودة ، وبين الظلام والحرارة وبين الحرارة والبرودة .

( وحَلّ ذلك ) أي : الجواب الحلي عن انّه كيف يمكن رفع التدافع بين الظنّ المانع والممنوع ؟ ( انَّ الظّن بعدم اعتبار الممنوع ، إنّما هو مع قطع النظّر عن ملاحظة دليل الانسداد ) أي : لو لم يكن دليل الانسداد موجوداً ، لكنّا نظنّ بعدم اعتبار الظنّ الممنوع ( ولا نسلّم بقاء الظّنّ بعد ملاحظته ) لأنَّ دليل الانسداد يجعل الممنوع حجّة .

( ثمّ إنَّ الدّليل العقلي ) وهو الانسداد على الحكومة ، ولايخفى : انّ هذا تتميم للردّ على القول المذكور ، وليس رداً جديداً ، وحاصله : انّ تحكيم أحد الدّليلين وإرتكاب التأويل في الآخر بالتخصّص دون التخصيص ، فرض تعارضهما

ص: 382


1- - أوثق الوسائل : ص233 الظن المانع والممنوع .

يفيد القطع بثبوت الحكم بالنسبة الى جميع أفراد موضوعه .

فاذا تنافى دخول فردين فامّا أن يكشف عن فساد ذلك الدّليل ، وامّا أن يجب طرحهما ، لعدم حصول القطع من ذلك الدليل العقليّ بشيء منهما ، وأمّا أن يحصل القطعُ بدخول أحدهما فيقطع بخروج الآخر ، فلا معنى للتردد بينهما

-------------------

وإجمالهما بالنسبة الى مورد التعارض ولو في بادئالنظر ، وهذا إنّما يجري في الاحكام اللفظية دون العقلية .

وعليه : فالإنسداد على الحكومة الذي هو دليل عقلي ( يفيد القطع بثبوت الحكم ) أي : حجّية الظنّ ( بالنسبة الى جميع أفراد موضوعه ) أي : الظّنّ ، فان العقل حاكم بأنّ كلّ ظنّ حجّة ، فيشمل الظنّ المانع والظّن الممنوع شمولاً إبتدائياً .

( فاذا تنافى دخول فردين ) كما عرفت من أنَّ الظّنّ المانع يمنع دخول الممنوع ، والظّن الممنوع يمنع دخول المانع ، للتضاد بينهما ( فامّا أن يكشف عن فساد ذلك الدّليل ) وانّ دليل الانسداد ليس بحجّة ، إذ كيف يمكن أن يكون حجّة وهو يشمل فردين متضادين ؟ .

( وأمّا أن يجب طرحهما ) أي : طرح المانع والممنوع ، ( لعدم حصول القطع من ذلك الدّليل العقلي بشيء منهما ) إذ كيف يمكن القطع بالمتضادين ؟ .

( وأمّا أن يحصل القطع بدخول أحدهما ، فيقطع بخروج الآخر ) فإذا كان الظّن المانع حجّة فالممنوع خارج ، وإذا كان الظّن الممنوع حجّة فالظّن المانع خارج ( فلا معنى للتردد بينهما ) لأنَّ الدليل العقلي لُبّي لا لفظي حتى يتصور التردد بين فرديه .

ص: 383

وحكومة أحدهما على الآخر .

فما مثلنا به المقامَ ، من إستصحاب طهارة الماء وإستصحاب نجاسة الثوب ، ممّا لاوجهَ لهُ ، لأنّ مرجعَ تقديم الاستصحاب الأوّل إلى تقديم التخصّص على التخصيص ، ويكون أحدُهما دليلاً رافعاً لليقين السابق ، بخلاف الآخر ،

-------------------

مثلاً : إذا قال المولى : أكرم زيداً ، وتردد زيد بين أن يكون إبن عمرو ، أو إبن بكر ، صحّ التردد في موضوع الاكرام ، وكذلك لو تردد الاكرام بين الضيافة أو إهداء هدية ، أمّا ان يتردد العقل بين أنَّ الاحسان الى زيد حَسنٌ أو قبيحٌ - مثلاً - فهذا لايعقل لِما تقدّم سابقاً : من انَّ العقل لايتردد في أحكامه ولا في مواضيع تلك الأحكام .

( و ) على هذا : فلا تردد في ( حكومة أحدهما على الآخر ) ، حتى لانعلم هل أنّ المانع مقدّم على الممنوع ، أو الممنوع مقدّم على المانع ؟ .

إذن : ( فما مثلّنا به المقام ) والمقام هو : المانع والممنوع ، والمثال ما ذكره بقوله : ( من إستصحاب طهارة الماء ، وإستصحاب نجاسة الثّوب ، ممّا لا وجه له ) لأنَّ الاستصحاب بالدّليل اللفظي والانسداد على المفروض دليل لبّي عقلي - كما عرفت - .

وإنّما لم يكن وجه للمثال ( لأنَّ مرجع تقديم الاستصحاب الأوّل ) أي : إستصحاب طهارة الماء على إستصحاب نجاسة الثوب ( الى تقديم التخصّص على التخصيص ) على ما سبق قبل أسطر ( ويكون أحدهما ) وهو إستصحاب طهارة الماء ( دليلاً رافعاً لليقين السّابق ) بنجاسة الثوب ( بخلاف الآخر ) فلا ترفع نجاسة الثوب طهارة الماء .

ص: 384

فالعملُ بالأوّل تخصّص وبالثاني تخصيص ، ومرجعه - كما تقرّر في مسألة تعارض الاستصحابين - إلى وجوب العمل بالعامّ تعبّداً إلى أن يحصل الدليل على التخصيص .

إلاّ أن يقال : إنّ القطع بحجّية المانع عينُ القطع بعدم حجّية الممنوع ، لأنّ معنى حجّية كلّ شيء وجوبُ الأخذ بمؤدّاه ،

-------------------

وعليه : ( فالعمل بالأوّل : تخصّص ، وبالثّاني : تخصيص ، ومرجعه ) أي : مرجع تخصيص الاستصحاب الحاكم إستصحاب المحكوم ( كما تقرّر في مسألة تعارض الاستصحابين ) الّذين أَحدهما سببي والآخر مسببّي ( الى وجوب العمل بالعام تعبّداً الى أن يحصل الدَّليل على التخصيص ) فيكون قوله عليه السلام : « لاتنقُض اليَقِينَ بالشَّكِ » (1) واجب العمل به في مسألة طهارة الماء حتى يحصل مخصّص لهذا العام ، وحيث لايوجد مخصّص فهو نافذ ، وإذا كان طهارة الماء مستصحبة لم يبق مجال لبقاء نجاسة الثوب .

وحيث انَّ المصنّف قال قبل أسطر « ودعوى انَّ بقاء الظّن من الشهرة معارضة بأنّا لانجد من أنفسنا . . . » فقد جعل بذلك التعارض بين الظّنين : المانع والممنوع ، وهنا أراد أن يُبيّن أنّه لاتعارض ، وانّ الظّنّ المانع مقدّم على الظّن الممنوع بقوله :

( إلاّ أن يقال : إنَّ القطع بحجّية المانع ، عين القطع بعدم حجّية الممنوع ، لأنّ معنى حجّية كلّ شيء : وجوب الأخذ بمؤدّاه ) ومعنى الأخذ بمؤدّى المانع : انّه

ص: 385


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج2 ص186 ب23 ح21 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج28 ص217 ب10 ح10462 .

لكنّ القطعَ بحجّية الممنوع التي هي نقيض مؤدّى المانع مستلزمٌ للقطع بعدم حجّية المانع .

فدخولُ المانع لايستلزمُ خروج الممنوع ، وإنّما هو عين خروجه ، فلا ترجيحَ ولا تخصيص ، بخلاف دخول الممنوع ، فانّه يستلزم خروج المانع ، فيصير ترجيحاً من غير مرجّح ، فافهم .

-------------------

لامجال للممنوع ( لكن القطع بحجّية الممنوع التي هي نقيض مؤدّى المانع ) لأنَّ الممنوع لو كان حجّة لم يكن المانع حجّة ( مستلزم للقطع بعدم حجّية المانع ) فمن أحد الطرفين عينه ، ومن الطرف الآخر مستلزم له .

وعليه : ( فدخول المانع لايستلزم خروج الممنوع وانّما هو ) أي : دخول المانع ( عين خروجه ) أي : خروج الممنوع ( فلا ترجيح ولا تخصيص ) لأنّه بمجرد دخول المانع كان المعنى : عدم دخول الممنوع .

هذا ( بخلاف دخول الممنوع ، فانّه يستلزم خروج المانع فيصير ) دخول الممنوع ( ترجيحاً من غير مرجّح ) إذ يقال : انّه لماذا دخل الممنوع ولم يدخل المانع ؟ .

( فافهم ) ولعلّه إشارة الى أنّ معنى حجّية المانع : هو وجوب الأخذ بمؤدّى المانع ، وهو ليس عين عدم حجيّة الممنوع ، بل كل شيء عين نفسه لا عين عدم ضده .

وبذلك يظهر : انَّ دخول كل واحد من المانع والممنوع تحت دليل الانسداد مستلزم لخروج الآخر ، لا أنَّ أحدهما عين خروج الآخر ، فلا يصح ما ذكره بقوله : « إلاّ أن يقال » .

ثم حيث لم يتحقق إلى الآن تقديم المانع أو تقديم الممنوع .

ص: 386

والأولى أن يقال : إنّ الظنّ بعدم حجّية الأمارة الممنوعة لايجوز - كما عرفت سابقاً في « الوجه السادس » - أن يكون من باب الطريقيّة ، بل لابدّ أن يكون من جهة اشتمال الظنّ الممنوع على مفسدة غالبة على مصلحة إدراك الواقع .

وحينئذٍ : فاذا ظنّ بعدم اعتبار ظنّ فقد ظنَّ بإدراك الواقع ، لكن مع الظنّ بترتّب مفسدة غالبة ، فيدور الأمر بين المصلحة

-------------------

( والأولى : ) أن نفصّل : بانّه ربّما يقدّم هذا ، وربّما يقدّم ذاك ، وربّما يتساقط المانع والممنوع كلاهما ويكون المرجع هو الاصول العمليّة ، وذلك ( أن يقال : إنّ الظّن بعدم حجّية الأمارة الممنوعة لايجوز - كما عرفت سابقاً في الوجه السادس - أن يكون من باب الطّريقيّة ) قوله : « أن يكون » ، فاعل قوله : « لا يجوز » أي : لايجوز أن يكون من باب الطّريقيّة ، بمعنى : انّه حيث لايكون الممنوع طريقاً لم يكن حجّة .

( بل لابدّ أن يكون من جهة اشتمال الظّن الممنوع على مفسدة غالبة على مصلحة إدراك الواقع ) فالظّن المانع والظّنّ الممنوع كلاهما كثير المطابقة للواقع ، إلاّ أن الظّنّ الممنوع فيه مفسدة غالبة ، كما ذكرنا ذلك في منع القياس : في أنّ القياس أيضاً يطابق الواقع كثيراً إلاّ أنّ فيه مفسدة غالبة .

( وحينئذٍ ) أي : حين كان الظّن الممنوع إنّما منع عنه لجهة إشتماله على مفسدة غالبة ( فاذا ظنّ بعدم اعتبار ظنّ ، فقد ظُنَّ بإدراك الواقع ) أي : إدراك الواقع بسبب الظّن الممنوع .

( لكن مع الظّنّ ) بإدراك الواقع يظنّ أيضاً ( بترتّب مفسدة غالبة ) وهذا الظّن بترتب المفسدة الغالبة إنّما جاء بملاحظة الظّنّ المانع ( فيدور الأمر بين المصلحة

ص: 387

المظنونة والمفسدة المظنونة ، فلابدّ من الرجوع إلى الأقوى .

فإذا ظنّ بالشهرة نهيُ الشارع من العمل بالأولويّة ، فيلاحظ مرتبة هذا الظنّ ، فكلُّ أولويّة في المسألة كان أقوى مرتبةً من ذلك الظنّ الحاصل من الشهرة اُخِذَ به ، وكلُّ أولويّة كان أضعفَ منه وجب طرحُه .

وإذا لم يتحقق الترجيحُ بالقوة حُكم بالتساقط ، لعدم إستقلال العقل بشيء منهما حينئذٍ .

-------------------

المظنونة والمفسدة المظنونة ) أي : هل المقدّم الظّن المانع ، لأنَّ في الممنوع مفسدة ، أو المقدّم الظّن الممنوع ، لأن الممنوع أيضاً يفرض مطابقته للواقع - كما يفرض مطابقة الظّن المانع للواقع - ؟ وحيث دار الأمر بين الظنّين المانع والممنوع ( فلا بدّ من الرّجوع الى الأقوى ) منهما .

( فاذا ظنّ بالشّهرة نهي الشّارع من العمل بالأولوّية ) بأن كان الظّنّ المانع ناشئاً من الشّهرة ، والظّن الممنوع هو عبارة عن العمل بالأولية ، ( فيلاحظ مرتبة هذا الظّن ) الناشيء من الشّهرة ( فكلّ أولوية في المسألة كان أقوى مرتبة من ذلك الظّن الحاصل من الشّهرة أُخِذَ به ) أي الظّنّ الذي هو ناشيء من الأولوية ( وكلّ أولوية كان أضعف منه ) أي : من الظّن الناشيء من الشهرة ( وجب طرحه ) أي : طرح ذلك الظّن الحاصل من الأولية .

( وإذا لم يتحقّق الترجيح بالقوّة ) في أحد الظنين المانع والممنوع ( حكم بالتّساقط ) والرّجوع في المسألة بالأصل الموجود في تلك المسألة وذلك ( لعدم إستقلال العقل بشيء منهما حينئذٍ ) أي : من المانع والممنوع حين لم يكن أحدهما أقوى من الآخر .

ص: 388

هذا ، إذا لم يكن العملُ بالظنّ المانع سليماً عن محذور ترك العمل بالظنّ الممنوع ، كما إذا خالف الظنُّ الممنوع الاحتياطَ اللازمَ في المسألة ، وإلاّ تعيّن العملُ به ، لعدم التعارض .

-------------------

و ( هذا ) الذّي ذكرناه : من تقديم أقوى الظنين ( إذا لم يكن العمل بالظّنّ المانع ، سليماً عن محذور ترك العمل بالظنّ الممنوع ، كما إذا خالف الظّن الممنوع الاحتياط اللازم في المسألة وإلاّ ) بأن كان الظّنّ المانع سليماً ( تعيّن العمل به ) أي : بالمانع ( لعدم التعارض ) فانَّ المانع والممنوع كليهما يحكمان على طبق الأصل ويمكن الأخذ بمقتضاهما فلاتعارض في البين .

وتوضيح ذلك بلفظ الأوثق : « اِنَّ الظّنّ الممنوع تارة يكون موافقا للاحتياط اللازم في خصوص المسألة ، كما إذا تعلق بوجوب السورة على القول بوجوب الاحتياط عند الشك في الأجزاء والشرائط ، واُخرى يكون مخالفاً للاحتياط في المسألة ، كما إذا تعلقّ بعدم وجوبها ، وأثر وجوب الأخذ بأقوى الظنين إنّما يظهر على الثاني ، دون الأوّل .

إذ على الأوّل : يتعين الاتيان بالسورة سواء قلنا بوجوب الأخذ بالمانع والرجوع في مورد الممنوع الى الاصول ، أو بوجوب الأخذ بالممنوع بخلافه على الثاني ، إذ مع الأخذ بالمانع حينئذٍ والرجوع في مورد الممنوع الى الاُصول يجب الاتيان بالسورة لاجل قاعدة الاحتياط ، ومع الأخذ بالممنوع لايجوز تركها في الصلاة لأنَّ المفروض : انّ مؤدّى الظنّ الممنوع » (1) إنتهى .

ص: 389


1- - أوثق الوسائل : ص234 الظن المانع والممنوع .
الأمر الثالث

أنّه لا فرقَ في نتيجة مقدّمات دليل الانسداد بين الظنّ الحاصل أوّلاً من الأمارة بالحكم الفرعيّ الكلّي كالشهرة أو نقل الاجماع على حكم ، وبين الحاصل به من أمارة متعلّقة بألفاظ الدليل .

كأن يحصل الظنُّ ، من قوله تعالى : « فَتَيمّموا صَعيداً » ، بجواز التيمّم بالحَجر مع وجود التراب الخالص ،

-------------------

الأمر الثالث

( الأمر الثالث ) من تنبيهات الانسداد : ( إنّه لا فرق في نتيجة مقدّمات دليل الانسداد ) بين الظّن بالحكم ، أو الظنّ بالموضوع ، أو الظّن بمتعلقات أحدهما ، فكلّ ظنّ ينتهي الى الحكم الفرعي يكون حجّة بدليل الانسداد .

وعليه : فلا فرق ( بين الظّنّ الحاصل أوّلاً من الأمارة بالحكم الفرعي الكلّي كالشهرة ، أو نقل الاجماع على حكم ) فاذا قامت الشّهرة على حكم ، أو قام الاجماع على حكم ، فذلك الحكم هو وظيفة المكلّف في حال الانسداد ، لأن الشّهرة ، والاجماع المنقول يسببان الظنَّ في الحكم الفرعي .

( وبين ) الظّن (الحاصل به) أي : بالحكم الفرعي (من أمارة متعلقة بألفاظ الدّليل) بأن عيّنت تلك الأمارة معنى لفظ ، سواء كان اللّفظ في الموضوع أو في الحكم.

( كأن يحصل الظّن من قوله تعالى : « فَتَيَمّمَوُا صَعيِداً » (1) بجواز التّيمّم بالحجر مع وجود التّراب الخالص ) فيظنّ بأن الصعيد مطلق وجه الأرض الشامل للحجر أيضاً .

ص: 390


1- - سورة النساء : الآية 43 .

بسبب قول جماعة من أهل اللغة : « إنّ الصعيدَ هو مطلق وجه الأرض » .

ثم الظنّ المتعلّق بالألفاظ على قسمين ذكرناهما في بحث حجّية الظواهر .

أحدُهما : مايتعلّق بتشخيص الظواهر ، مثل الظنّ من الشهرة بثبوت الحقائق الشرعيّة ، وبأنّ الأمر ظاهر في الوجوب لأجل الوضع ، وإنّ الأمر عقيبَ الحظر ظاهرٌ في الاباحة الخاصّة

-------------------

وإنّما يحصل هذا الظّنّ ( بسبب قول جماعة من أهل اللّغة : انَّ الصّعيد هو مطلق وجه الأرض ) لا خصوص التراب فلا فرق في الحجّية بين أن يظنّ إبتداءاً بجواز التيمم بالحجر ، أو يظنّ بأنّ الصعيد في الآية يشمل الحجر أيضاً ممّا نتيجته جواز التّيمم بالحجر .

( ثمّ الظّنّ المتعلّق بالألفاظ على قسمين ، ذكرناهما في بحث حجّية الظّواهر ) في أول الكتاب :

( أحدُهما : مايتعلّق بتشخيص الظواهر ) وأنّه هل هذا ظاهر أو ليس بظاهر ؟ فاذا ظنّ بأنّه ظاهر كفى في الاعتماد عليه .

وذلك ( مثل الظّنّ من الشهرة بثبوت الحقايق الشرعيّة ) فالصلاة التي يقولها الشارع ، يُرادُ بِها : الأركان المخصوصة ، لا الدّعاء ، وكذلك الصوم يُراد به الكفَّ المخصوص ، لا مطلق الكَفّ ، وهكذا .

( وبأنّ الأمر ظاهر في الوجوب لأجل الوضع ) سواء وضعاً تعيينياً أم تعيّنياً - كما حُقِقَ في ذلك المبحث - فليس الأمر يُراد به الاستحباب ، ولا انّه مُجمل بين الوجوب والاستحباب ، الى غير ذلك .

( وإنّ الأمرَ عقيبَ الحظر ظاهر في الاباحة الخاصّة ) والمراد بالاباحة الخاصة :

ص: 391

أو في مجرّد رفع الحظر ، وهكذا .

والثاني : مايتعلّق بتشخيص إرادة الظواهر وعدمها ، كأن يحصل الظنّ بإرادة المعنى المجازي أو أحد معاني المشترك لأجل تفسير الرّاوي مثلاً أو من جهة كون مذهبه مخالفاً لظاهر الرّواية .

-------------------

الاباحة التي هي أحد الأحكام الخمسة ( أو في مجرّد رفع الحظر ) ممّا يمكن أن يكون واجباً ، أو مستحباً ، أو مكروهاً ، أو مباحاً .

( وهكذا ) بالنسبة الى الظنون المتعلّقة بتشخيص الظواهر .

( والثّاني : مايتعلّق بتشخيص إرادة الظواهر وعدمها ) وانّه هل المولى أراد الظاهر ، أو أراد غير الظاهر ؟ ( كأن يحصل الظّنّ بإرادة المعنى المجازي ، أو أحد معاني المشترك ) .

وإنّما يحصل هذا الظّنّ ( لأجل تفسير الرّاوي - مثلاً- ) فالرّاوي يفسِّر قوله عليه السلام « زيارة الحسين عليه السلام واجبة » على : تأكد الاستحباب ، مع أنّ الواجب ظاهر في المانع من النقيض ، فتفسير الرّاوي للفظ ، حمل له على معناه المجازي .

أو يفسّر الرِّطل في رواية الكُرّ على : الرِّطل المَدني لا الرِّطل العراقي ، فالرّاوي حمل اللفظ المشترك في كلام الامام عليه السلام على أحد معنييه .

( أو من جهة كون مذهبه مخالفاً لظاهر الرّواية ) قوله : « أو » ، عطف على قوله : « لأجل » ، فإنّ بعض الفقهاء يحملون ظاهر بعض الرّوايات على خلاف ظاهرها ، لأنّ مذهبهم على خلاف ظاهرها ، وحيث لايجدون مساغاً لطرح الرّواية يضطرون الى حمل الرّواية على خلاف ظاهرها .

مثلاً : قول الامام عليه السلام : إنزح للنجاسة الفلانية كذا دلواً من البئر ، فيحمل الفقيه لفظ : «إنزح» على الاستحباب لا الوجوب ، لأن مذهبه إستحباب المنزوحات .

ص: 392

وحاصلُ القسمين الظنون غير الخاصّة المتعلّقة بتشخيص الظواهر أو المرادات ، والظاهر حجّيتها عند كلّ من قال بحجّية مطلق الظنّ لأجل الانسداد .

ولا يحتاج إثبات ذلك إلى إعمال دليل الانسداد في نفس الظنون المتعلّقة بالألفاظ ، بأن يقال : إنّ العلم فيها قليل ، فلو بني الأمرُ على إجراء الأصل

-------------------

( وحاصل القسمين الظّنون غير الخاصّة المتعلّقة بتشخيص الظّواهر أو المرادات ) فانّ كل هذه الظّنون حجّة على الانسداد .

وإنّما قال : غير الخاصة ، لإخراج الظّنون الخاصّة المتعلّقة بتشخيص الظواهر : كأصالة عدم النقل ، أو لتشخيص المرادات : كأصالة عدم القرينة وأصالة عدم السهو ، والنسيان ، والخطأ ، والغلط ، ونحو ذلك .

( والظّاهر حجّيتها ) أي : حجّية كل هذه الظّنون ( عند كلّ من قال بحجّية مطلق الظّن لأجل الانسداد ) فانّ نتيجة دليل الانسداد حجّية الظّن بقول مطلق ، إما بالمعممات على القول بالكشف أو مطلقاً على القول بالحكومة ، والنتيجة : أنّ الظّن يشمل كل هذه الظّنون .

( ولا يحتاج إثبات ذلك ) أي : لايحتاج إثبات تعميم النتيجة بالنسبة الى نفس الحكم ، وبالنسبة الى مايُستَنبَط منه الحكم ( الى إعمال دليل الانسداد في نفس الظّنون المتعلّقة بالألفاظ ) فالظّنّ الانسدادي الكبير يتكفّل حجّية كل هذه الظّنون ، ولا حاجة الى إنسداد صغير بخصوص الألفاظ .

وعليه : فلا حاجة ( بأن يقال : إنَّ العلم فيها ) أي : في الظّنون غير الخاصة المتعلّقة بتشخيص الظّواهر والمرادات ( قليل ، فلو بني الأمر على إجراء الأصل ،

ص: 393

لزم كذا وكذا ، بل لو إنفتح بابُ العلم في جميع الألفاظ إلاّ في مورد واحد وجب العملُ بالظنّ الحاصل بالحكم الفرعيّ من تلك الأمارات المتعلقة بمعاني الألفاظ عند إنسداد باب العلم في الأحكام .

وهل يُعمَلُ بذلك الظنّ في سائر الثمرات المترتّبة على تعيين معنى اللفظ في غير مقام تعيين الحكم الشرعّي الكلّي ، كالوصايا والأقارير والنذور ؟

-------------------

لزم كذا وكذا ) الى سائر مقدّمات الانسداد .

( بل لو إنفتح باب العلم في جميع الألفاظ إلاّ في مورد واحد ) بأن إنسد باب العلم بالنسبة الى معنى « الصعيد » في الآية المباركة فقط ، وانّه هل يُراد به مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب ؟ ( وجب العمل بالظّن الحاصل بالحكم الفرعي من تلك الأمارات المتعلّقة بمعاني الألفاظ عند إنسداد باب العلم في الأحكام ) فانّ الانسداد الكبير يوجب حجّية مطلق الظّنّ ، ومن تلك الظّنون : الظّن بكفاية التيمم بالحجر ، حيث أنّ « الصعيد » في الظّنّ : مطلق وجه الأرض ، فهذا الفرد الخاص إنّما يكون الظّن فيه حجّة لكونه فرداً للظّن الثابت إعتباره بدليل الانسداد ، لأن دليل الانسداد أعم من المتعلّق بالحكم والمتعلّق بالفاظ الموضوع ، أو بألفاظ الحكم ، الى غير ذلك من الظّنون التي كلها تنتهي إلى الحكم .

( وهل يعمل بذلك الظّن ) المرتبط بتشخيص الظواهر والمرادات ( في سائر الثمرات المترتبة على تعيين معنى اللّفظ في غير مقام تعيين الحكم الشّرعي الكلّي ) أو لم يعمل به ؟ .

مثّل المصنّف لغير مقام تعيين الحكم الشرّعي الكلي بقوله : ( كالوصايا ، والأقارير ، والنذور ) والأوقاف ، والشروط ، والعهود ، والأيمان ، وما أشبه ذلك

ص: 394

فيه إشكال ، والأقوى العدمُ ، لأنّ مرجعَ العمل بالظنّ فيها إلى العمل بالظنّ في الموضوعات الخارجيّة المترتّبة عليها الأحكام الجزئية الغير المحتاجة الى بيان الشارع حتّى يدخل فيما إنسدّ فيه باب العلم ، وسيجيء عدمُ إعتبار الظنّ فيها .

-------------------

من الألفاظ التي يستعملها أفراد النّاس في أغراضهم الشخصية ؟ .

( فيه إشكال ، والأقوى العدم ) فليس الظّنَّ في هذه الاُمور حجّة ، فإذا قال الموصي - مثلاً- : إعط زيداً بعد موتي أواني ، وشككنا في انَّ الآنية مطلق الظرف ، أو الظرف غير المثقوب حتى لايشمل مثل المصفاة ونحوها ؟ فانّه لا نتمكن أن نستند الى الظّن الانسدادي في تشخيص أحد المعنيين .

وإنّما لانتمكن ( لأنَّ مرجع العمل بالظّن فيها ) أي : في أمثال هذه الأمور كالوصايا والأقارير وغيرها ( الى العمل بالظّن في الموضوعات الخارجية المترتّبة عليها ) أي : على هذه الموضوعات الخارجية ( الأحكام الجزئية غير المحتاجة ) تلك الأحكام الجزئية ( الى بيان الشّارع ، حتى يدخل فيما إنسدّ فيه باب العلم ) فانّ في الموضوعات يستطرق باب العرف لا باب الشرع .

وعليه : ففي المثال المذكور ، إذا لم نأخذ بالظّن الانسدادي كان اللازم - مثلاً- إجراء قاعدة العدل ، فالظروف غير المثقوبة تكون لزيد حسب الوصية ، أمّا الظروف المثقوبة فانّها تُقسَّم بين الورثة وبين زيد ، لأنّ قاعدة العدل هي تقسيم المال المشكوك بين الطرفين .

اَللّهمَّ إلاّ أن يقال باجراء أصالة عدم الانتقال الى الموصى له ، فهي باقية في تركة الميت ويرثها الوراث .

هذا ( وسيجيء عدم إعتبار الظّن فيها ) أي : في الموضوعات الخارجّية

ص: 395

نعم ، من جعل الظنون المتعلّقة بالألفاظ من الظنون الخاصّة مطلقاً لزمه الاعتبارُ في الأحكام والموضوعات ، وقد مرَّ تضعيفُ هذا القول عند الكلام في الظنون الخاصّة .

وكذا لا فرقَ بين الظنّ الحاصل بالحكم الفرعيّ الكلّي من نفس الأمارة أو عن أمارة متعلّقة بالألفاظ ، وبين الحاصل بالحكم الفرعّي الكليّ من الأمارة المتعلّقة بالموضوع الخارجيّ ، ككون الراوي عادلاً أو مؤمناً حال الرواية ، وكون زُرارة هو إبن أعين ، لا ابن لطيفة ، وكون عليّ بن الحكم

-------------------

المترتبة عليها الأحكام الجزئية .

( نعم ، من جعل الظّنون المتعلّقة بالألفاظ من الظّنون الخاصة مطلقاً ) من غير فرق بين الأسباب والأشخاص والموارد ( لزمهُ الاعتبار في الأحكام والموضوعات ) بهذه الظّنون ، فيكون الظّن في الوصايا ، والأقارير ، والنذور ، وغيرها ، كلّها حجّة ، كما يكون الظّن في الأحكام حجّة .

( وقد مرّ تضعيف هذا القول عند الكلام في الظّنون الخاصّة ) لكنّا ذكرنا هناك : إنَّ الأظهر هو الحجّية بالنسبة الى مايراه العرف حجّة ، كالظنون الحاصلة من قول اللّغوي وما أشبه . ( وكذا لافرق بين الظّنّ الحاصل بالحكم الفرعي الكلّي من نفس الأمارة ، أو عن أمارة متعلّقة بالألفاظ ) فالأول : كالظّن بجواز التيمم بالحجر ، والثاني : ككون الصعيد أعمّ من التراب أو من الحجر .

( وبين الحاصل بالحكم الفرعي الكلّي من الأمارة المتعلّقة بالموضوع الخارجي ، ككون الرّاوي عادلاً أو مؤمناً حال الرّواية ) فإنّه إذا كان ظنّه بأنّ الرّاوي العادل حجّة كان قوله حجّة بالنسبة إلى الأحكام التي رواها هذا الرّاوي .

( وكون ) الرّاوي ( زُرارة هو : إبن أعين ، لا إبن لطيفة ، وكون علي بن الحكم

ص: 396

هو الكوفيّ ، بقرينة رواية أحمد بن محمّد عنه ، فانّ جميعَ ذلك وإن كان ظنّاً بالموضوع الخارجيّ ، إلاّ أنّه لمّا كان منشئاً للظنّ بالحكم الفرعيّ الكليّ الذي إنسدّ فيه بابُ العلم عُمِلَ به من هذه الجهة ، وإن لم يعمل به من سائر الجهات المتعلقة بعدالة ذلك الرجل أو بتشخيصه عند إطلاق إسمه المشترك .

ومن هنا تبيّن أنّ الظنون الرّجاليّة معتبرة بقول مطلق

-------------------

هو : الكوفي ، بقرينة رواية أحمد بن محمّد عنه ) فانّ زُرارة بن أعين ثِقةً جليل القدر ، بخلاف زُرارة بن لطيفة ، فهو غير مذكور بتوثيق ولا مدح ، غير : أنّه كوفي .

وقد إختلف الرجاليون في إتحاد علي بن حكم الكوفي مع علي بن الحكم الأنباري ، والأنبار : إمّا إسم محلّة بالكوفة ، وإمّا أسم منطقة بين العراق ودمشق ، وعلى تقدير تعدد علي بن الحكم ، فأحمد بن محمد إنّما يروي عن الكوفي دون الأنباري .

ومثل ماذكره المصنّف من الاُمور الثلاثة المرتبطة بالحكم ، وباللفظ ، أو بالراوي غيرها من الاُمور ، مثل : الظّن بجهة الصدور ، وإن الرواية صدرت تقية أم لا ؟ ( فانّ جميع ذلك وإن كان ظنّاً بالموضوع الخارجي ، إلاّ أنّه لما كان منشئاً للظّن بالحكم الفرعي الكلّي الّذي إنسدّ فيه باب العلم ) لأن هذه الاُمور كلّها مرتبطة بالحكم الّذي يستنبطه الفقيه ( عمل به من هذه الجهة ) أي : عمل بهذا الظنّ بالموضوع الخارجي من جهة كونه في طريق الحكم ( وأن لم يعمل به من سائر الجهات المتعلّقة بعدالة ذلك الرّجل ، أو بتشخيصه عند إطلاق إسمه المشترك ) ؛ وذلك لأن دليل الانسداد إنّما هو بالنسبة الى الأحكام ، ولا حجيّة له بالنسبة الى غيرها ، كما عرفت مثاله بالنسبة الى الوصايا ، والأقارير ، والنذور .

( ومن هنا تبيّن : إنَّ الظّنون الرجاليّة معتبرة بقول مطلق ) سواء كان ظّناً

ص: 397

عند من قال بمطلق الظنّ في الأحكام ولايحتاجُ إلى تعيين أنّ إعتبار أقوال أهل الرّجال من جهة دخولها في الشهادة أو في الرواية ، ولا يقتصر على أقوال أهل الخبرة ، بل يقتصر على تصحيح الغير للسند وإن كان من آحاد العلماء إذا أفاد قوله الظنّ بصدق الخبر المستلزم للظنّ بالحكم الفرعيّ الكليّ .

-------------------

بالعدالة ، أو بالتمييز بين المشتركات ، أو بالارسال وعدم الارسال ، كما إذا لم يعلم هل انَّ الرّاوي أرسل الرّواية أو سمعها هو ؟ فظنّ الفقيه بأنّها مرسلة الى غير ذلك ( عند من قال : بمطلق الظّن في الأحكام ) لأنّه يرى الانسداد كصاحب القوانين .

( ولايحتاج إلى تعيين أنَّ إعتبار أقوال أهل الرّجال من جهة دخولها في الشّهادة ، أو في الرّواية ) لأنّه لايهم أن تكون أقوال الرّجال شهادة ، أو رواية ، بعد كون المناط مطلق الظّنّ ، ومطلق الظّن حاصل في المقام .

( ولا يقتصر على أقوال أهل الخبرة ) بأن يكون المعدّل ، أو المزكي ، من أهل الخبرة والرجال ( بل يقتصر ) ويكتفي ( على تصحيح الغير ، للسند وإن كان ) ذلك الغير ( من آحاد العلماء إذا أفاد قوله الظّن بصدق الخبر ) لأنَّ المعيار هو الظّن ( المستلزم ) ذلك الظّن بصدق الخبر ( للظّن بالحكم الفرعي الكلّي ) على ما عرفت : من انَّ المناط هو الظّنّ بالحكم الفرعي الكلّي ، ولايهم طريق هذا الظّنَّ .

انتهى

الجزء الخامس ويليه

الجزء السادس في خلاصة

الأمر الثّالث من تنبيهات

الانسداد وله الشُّكر

على ما أنعم

ص: 398

المحتويات

تتمّة المقدّمة الثالثة: بطلان الاحتياط ... 7

المقدمة الرابعة: الرجوع الى الظنّ... 55

التنبيه على أُمور... 68

التنبيه الأوّل: عدم الفرق بين تحصيل الظنّ بالحكم... 68

القائل بحجيّة الظنّ في كون الشيء طريقاً والجواب عنه... 72

الوجه الثاني: في لزوم الظنّ بالطريق... 127

التنبيه الثاني: هل نتيجة الإنسداد مهملةً أم لا... 154

المقام الأوّل: هل حجيّة دليل الانسداد على الكشف أم الحكومة... 161

الاهمال نتيجة الكشف... 171

بطلان تقرير الانسداد على الكشف... 172

المقام الثاني: هل يحكم بتعميم الظنّ من حيث الاسباب والمرتبة... 178

أدلة التعميم: الأول: عدم المرجح... 179

مرجّحات بعض الظنون... 180

الاشكال على مرجّحات بعض الظنون... 189

الثاني من طرق التعميم: عدم الكفاية لمظنون الاعتبار... 252

الثالث من طرق التعميم: قاعده الاشتغال... 263

على تقدير الحكومة لا يتصور التعميم بالنسبة للأسباب... 278

المقام الثالث: خروج القياس عن حجّية الظنّ... 320

ص: 399

الاشكال في مقامين... 325

الأوّل: في توجيه خروج القياس عن الحجّية... 326

الثاني: الظنّ بحرمة العمل ببعض أفراد الظنّ... 371

التنبيه الثالث: كل ظنّ ينتهي الى الحكم الفرعي حجّة... 390

المحتويات... 399

ص: 400

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.