الوصائل إلی الرسائل المجلد 4

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

وأمّا السنّة

فطوائف من الأخبار : منها : ماورد في الخبرين المتعارضين من الأخذ بالأعدل والأصدق والمشهور والتخيير عند التساوي .

مثل مقبولة عمر بن حنظلة ، فإنها وإن

-------------------

( وأمّا السنة ) فقد إستدل بها لحجّية خبر الواحد وذلك ، بتقريب : انا نعلم بحجّية هذه السنّة ، الدالة على حجّية خبر الواحد ، وعلمنا بذلك ، امّا بسبب التواتر في السنّة أو بسبب القرائن الخارجية أو ما أشبه ذلك ، فلا يقال : ان الاستدلال بحجّية خبر الواحد على حجية خبر الواحد مستلزم للدور .

وعلى أي حال : ( ف- ) الدال من السنة على حجّية خبر الواحد ( طوائف من الأخبار ) والاحاديث الشريفة ( منها : ماورد في ) علاج ( الخبرين المتعارضين من ) لزوم ( الأخذ بالأعدل ، والأصدق ، والمشهور ) ونحو ذلك من المرجّحات ، إذا كان في بعض الخبرين على بعضهما الآخر ترجيح .

( والتخيير عند التساوي ) للخبرين حيث كونهما عادلين ، صادقين ، مشهورين ، موافقين للكتاب ، مخالفين للعامة ، وما أشبه ذلك .

ومن الواضح : انه لو لم يكن الخبر حجّة ، لم يحتاج الى علاج المتعارضين ، لأنّ الأخذ بأحد المتساويين في صورة التساوي ، معناه : حجّية كل منهما ، كما إنّ الأخذ بالأرجح عند وجود الرجحان ، معناه : حجية الراجح .

( مثل مقبولة عمر بن حنظلة ، فانّها وإن ) لم ترد في مسألة ترجيح خبر على

ص: 7

وَردَت في الحكم .

-------------------

خبر ، بالأصالة ، بل ( وردت في ) ترجيح ( الحكم ) وذلك لأنّ ابن حنظلة سأل أبا عبداللّه عليه السلام ، عن رَجُلين بَيِنَهُما مُنازَعَة فِي دَينِ أو ميِراثٍ ، فَتَحاكَما إلى أن قال : فإن كان كُلّ واحِدٍ إختَارَ رَجُلاً مِن أصحَابِنا ، فَرَضِيا أن يَكُوُنا الناظِرينَ في حَقِهِما ، وَإختَلَفَ فِيما حَكما ، وَكِلاهما إختَلَفا في حَديِثكُم ؟ .

فقالَ : الحُكُم ما حَكَمَ بهِ أَعَلَمهُما وَأفَقَههُما وأصدقهُما في الحَدِيث وأورعَهُما، ولا يَلتَفِت إلى ما يَحكُم بهِ الاخر .

قالَ : فَقُلتُ : فانهُما عَدلانِ مَرضيّانِ عِندَ أصحابِنا لا يفضل واحد مِنهما عَلى صاحِبهِ .

قالَ : فقال عليه السلام : يَنظُر إلى ما كانَ مِن رِوايتِهما عنا ، في ذلك الذي حَكَما بهِ ، المُجمَع علَيهِ عِندَ أصحابِكَ ، فيؤخذُ بهِ من حُكمنا ، وَيَترك الشّاذ الذي ليس بِمشهور عندَ أصحابِك ، فإن المُجمَع عليه لا رَيبَ فيه .

إلى ان قال : فان كان الخبرانِ عَنكُم مشهورين ، قد رواهُما الثُقاة عَنكُم .

قال : ينظُر فَما وافق حكمهُ حُكمَ الكِتاب والسُنّةِ وَخالفَ العامّة ، فَيؤخذ بهِ ، وَيترك ما خالَفَ حُكمَهُ حُكمُ الكِتاب وَالسُنّة ووافق العامّة .

قلتُ : جعلتُ فِداكَ ، إن رأيت إن كان الفقيهانِ عَرفا حُكمه مِن الكِتابِ وَالسُنّة ، ووجدنا أحد الخَبرين موافِقاً لِلعامّة ، والاخرَ مخالِفاً لَهم ، بأيّ الخَبرينِ يؤخَذ ؟ .

فقال : ما خالفَ العامة ، ففيه الرشاد .

فقلتُ : جُعلتُ فِداكَ ، فان وافقَهُما الخبران جميعاً ؟ .

قال : ينظر إلى ما هُم أميَل اليه حُكامهُم وَقضاتُهم ، فَيترك ويؤخذ بالآخر .

قلت : فان وافق حُكامَهُم الخَبرين جَميعاً ؟ .

ص: 8

حيث يقول : « الحُكمُ ما حَكَمَ بهِ أعدَلَهُما وأفقههُما وأصدقهُما في الحديث » .

وموردها وإن كان في الحاكمين ، الاّ أن ملاحظة جميع الرواية تشهدُ بأنّ المرادَ بيانُ المرجّح للروايتين اللتين إستند إليهما الحاكمان .

ومثلُ رواية غوالي اللئالي المروية عن العلاّمة المرفوعة إلى زُرارَة :

-------------------

قالَ : إذا كان ذلِكَ فأرجه حتى تلقى إمامك ، فإن الوقوف عِندَ الشّبهات خَيرٌ من الاقتِحام في الهَلكات (1) ، فانه ( حيث يقول عليه السلام : الحُكْمُ ما حَكَمَ بهِ اعدَلَهُما وأَفقَهَهُما وأصدَقَهُما في الحَديث ) دال على ما ذكرنا : من حجية الخبر .

( وموردها وإن ) لم يكن في تعارض الراويين والروايتين ، بل ( كان في ) تعارض ( الحاكمين ) لكن بفرض ان نفرين تعارضا ، ثم رجعا الى روايتين ، كما قال : ( الاّ انّ ملاحظة جميع الرّواية ) من أولها الى آخرها - كما ذكرناها - ( تشهد بان المراد : بيان المرجح للروايتين اللتين إستند إليهما الحاكمان ) .

وفي هذه الرواية وان لم يذكر التساوي ، لكنّه مذكور في بعض الرّوايات الأُخر.

وعلى أيّ حال : فكل من التخيير بين أحد المتساويين والأخذ بالأرجح أو الأرجح من الخبرين ، دليل على الحجّية ، لأنّه بدون الحجّية لا يكون المتساويان أو الأرجح منهما مورد العمل .

( ومثل رواية غوالي اللئالي المرويّة عن العلاّمة المرفوعة الى زُرارَة ) ومعنى الرفع الى زُرارَة : ان العلامة رحمه اللّه لم يذكر الوسائط بينه وبين زُرارَة ، وهذا اصطلاح في باب الروايات - كما لا يخفى - .

ص: 9


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

« قال : يَأتيّ عَنكُم الخَبران أو الحديثانِ المُتَعارِضانِ ، فبأيّهِما نأخُذُ؟ قال : خُذ بما إشتَهَر بَينَ أصحابكَ ودع الشاذّ النادِر . قُلتُ : فإنّهُما مَعاً مَشهّوران ، قال : خُذ بأعدَلِهما عِندَكَ ، وأوثقهما في نفسِك » .

-------------------

( قال : يَأتي عَنكُم الخَبرانِ أو الحَديثانِ المُتعارِضانِ ، فَبأيّهما نَأخُذُ؟ ) وقد تقدّم الفرق بين الخبر والحديث ، بانّ أحدهما في قِبال الآخر إذا ذكرا معاً ، وإذا اطلق أحدهما شمل الآخر .

( قالَ ) عليه السلام : ( خُذ بِما إشتَهَرَ بينَ أَصحابِك ، ودَع الشَاذَّ النّادِرَ ) منهما .

( قُلتُ : فانَّهُما مَعاً مشهوُران؟ ) ومعنى الشهرة : انّ جملة من الأصحاب عملوا بهذا الخبر ، وجملة من الأصحاب عملوا بالخبر الآخر ، أو المراد : الشهرة الرّوائية: بأن ذكرا معاً في كتب المشهور من الأصحاب .

( قال : خُذ بِأعدَلِهما عِندَك ، وأَوثَقِهما فِي نَفسِك ) (1) ولفظ الحديث هكذا :

قال زُرارة : سألتُ الباقِر عليه السلام فَقُلتُ : جُعِلتُ : فِداكَ ، يَأتِيَ عَنكُمُ الخَبرانِ أَو الحَديثانِ المتعارضان فَبأيّهِما آخُذ ؟ .

قَالَ : يازُرارَة ، خُذ بما إشتَهَرَ بينَ أَصحابِكَ ، وَدَع الشاذَّ النّادِرَ .

فَقُلتُ : ياسيدي ، إنَّهُما مَعاً مَشهُوران مَرويان مَأثُوران عَنكُم ؟ .

فَقالَ عليه السلام : خُذ بِقولِ أَعدلَهُما عِندَك ، وَأَوثَقَهُما فِي نَفسِك .

فَقُلتُ : إنّهُما مَعاً عَدلانِ مَرضيانِ مَوثقان ؟ .

فَقال عليه السلام : إنظُر ما وافَقَ مِنهُما مَذهب العامّة فاترُكهُ وَخُذ بِما خالَفَهُم .

ص: 10


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص136 ح229 ، جامع احاديث الشيعة : ج1 ص255 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 .

ومثلُ رواية ابن أبي الجهم عن الرضا عليه السلام ، قُلتُ : يَجيئُنا الرَّجُلانِ ، وكِلاهُما ثِقَةٌ ، بحَديثَين مُختَلِفين ، فلا نَعلمُ أيّهُما الحَقُّ . قال : إذا لَمْ تَعلم، فمُوَسّعٌ عَلَيك بأَيّهما أَخَذتَ » .

ورواية الحارث بن المغيرة عن الصادق عليه السلام ، قال : « إذا سَمِعَتَ مِن

-------------------

قُلتُ : ربّما كانا معاً موافقين لَهُم ، أَو مُخالفين ، فَكَيفَ أَصنَع ؟ .

فَقالَ : إذاً ، فَخُذ بِما فيه الحائط لِدينك ، وإترُك ماخالفَ الاحتياط .

فَقُلتُ : إنَهُما مَعاً موافِقان للاحتياط ، أَو مُخالِفانِ لَه ، فَكيفَ أَصنَع ؟ .

فَقالَ ، عليه السلام : إذن فَتَخيّر أَحدهما فَتأخُذ بهِ ، وَتدع الآخرَ .

( ومثل رواية ابن أبي الجهم ، عن الرضا عليه السلام ، قُلتُ : يَجيئُنا الرَّجُلانِ - وَكِلاهُما ثِقةٌ - بِحديثين مُختلِفين ، فَلا نَعلمُ أَيّهما الحَقُّ ؟ ) يعني : اذا كانا متعارضين .

( قالَ : اِذا لَمْ تعلَم ، فَمُوسَّعٌ عَلَيكَ بأَيّهما أَخَذت ) (1) والحديث هكذا :

ان الحسن بن الجهم روى عن الرضا عليه السلام وقال : قلت له تجيؤنا الأحاديث عنكم مختلفة ؟ .

فقال : ماجائك عنّا فقس على كتاب اللّه عزّ وجلّ وأحاديثنا ، فان كان يشبههما ، فهو منّا ، وان لم يكن يشبههما فليس منا .

قلت : يجيؤنا الرّجلان - وكلاهما ثقة - بحديثين مختلفين ، ولا نعلم أيهما الحق ؟ . قال : فاذا لم تعلم ، فموسّع عليك بأيِّهما أخذت .

( ورواية الحارث بن المغيرة عن الصادق عليه السلام قال : إذا سَمِعتَ مِن

ص: 11


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص121 ب9 ح33373 ، الاحتجاج : ص357 .

أَصحابِك الحَدِيثَ وكُلُّهم ثِقَةٌ ، فمُوَسَّعٌ عَلَيكَ حَتى تَرى القائِمَ » عليه السلام وغيرها من الأَخبار .

والظاهرُ : أنّ دلالتَها على إِعتبار الخبر الغير المقطوع الصّدور واضحةٌ .

-------------------

أَصحابكَ الحَديثَ وَكُلُّهم ثِقةٌ ، فَمُوسَّعٌ عَليكَ ) أي : أنت مخير بين الأحاديث المختلفة إذا كان رواتها ثقاة ( حَتى تَرى القائِم عليه السلام ) (1) والمراد بالقائم هنا : كل إمام في زمان إمامته ، هو قائم زمانه ، والمهدي عجّل اللّه تعالى فرجه قائم زماننا ، لأنه القائم بالإمامة بعد أبيه الامام الحسن العسكري عليه السلام الى اليوم ، والى يوم ظهوره ، ثم هو القائم أيضاً الى يوم مماته .

( وغيرها من الأخبار ) الكثيرة ، التي جمعها الوسائل والمستدرك في كتاب القضاء .

( والظاهر : انّ دلالتَها عَلى إعتبار الخبر غير المقطوع الصّدور واضحة ) وذلك لأن الرّواة ، سألوا الأئمة عليهم السلام ، عن علاج الخبرين الظنّي الصدور ، لوضوح ان تعارض القطعيين في غاية الندرة ، فلاينبغي لأجله هذا الاهتمام من الرّواة ، وإجابة الأئمة عليهم السلام بتك الأجوبة الكثيرة ، فيعلم من هذا كله : انّ حجّية الخبر ، كان عند كل من الأئمة والرّواة من الواضحات سواء كان الخبران المتعارضان متساويين حيث يؤخذ بأحديهما ، أو كان لأحدهما ترجيح على الآخر حيث يؤخذ بالأرجح منهما .

لكن المصنّف ناقش في إطلاق هذه الرّوايات ودلالتها على حجّية كل خبر ثقة محتجاً بأنها ليست في مقام بيان شرائط حجية الخبر ، بل في صدد علاج

ص: 12


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص122 ب9 ح33374 ، الاحتجاج : ص357 .

إِلاّ أنّها لا إطلاق لها ، لأنّ السؤال عن الخبرين الّلذين فرض السائل كلاًّ مِنهُما حجّة ، يتعيّن العملُ بها لولا المعارضُ ، كما يشهد به السؤال بلفظ « أيّ » الدالّة على السؤال عن التعيين مع العلم بالمبهم . فهو كما إذا سئل عن تعارض الشهود أو أئمّة الصلاة ، فأجاب ببيان المرجّح ،

-------------------

المتعارضين من الأخبار ، ولذا قال : - ( إلاّ أنّها لا إطلاق لها ) من حيث آحاد تلك الأخبار ، وإنه هل هي حجّة بالنسبة الى خبر العادل ، أو بالنسبة الى خبر الثقة ، أو غير ذلك؟ ( لأنّ السّؤال ) في تلك الاخبار إنّما كان ( عن الخبرين اللّذين فرض السّائل ) حسب تصوره ، انّ ( كلاً منهما حجّة ، يتعيّن العمل بها لولا المعارض ) أمّا انّه أيّ قسم من الخبر حجّة ، وأي قسم ليس بحجّة ؟ فليست هذه الأخبار في صدد التعرض لها .

( كما يشهد به ) أي بكون السؤال كان عن الحكم عن التعارض ، لا عن مطلق حجّية الخبر ( السؤال بلفظ : « أيّ » ، الدّالة على السؤال عن التعيين مع العلم بالمبهم ) .

يعني : انّ هذا الراوي كان يعلم : حجّية أحد الخبرين ، أو كلا الخبرين ، لكنه كان لايعلم : انّ الخبر حجّة او ذاك أو انهما متساويان معا في الحجّية من باب الواجب التخييري ؟ .

( فهو ) أي السؤال في هذه الأخبار ( كما إذا سئل عن تعارض الشهود ) فانّ مثل هذا السؤال ، دليل على إن حجّية الشهادة مسلّمة عند السائل والمسؤول ، لكنها لا تدل على انّ كل شهادة حجّة ، وإنما تدل على حجّية الشهادة في الجملة ، فلا يعرف من مثل هذه الأخبار شروط الشهادة .

( أو ) كما اذا سئل عن ( أئمة الصلاة ) حين تعارضهم ( فاجاب ببيان المرجّح )

ص: 13

فانّه لايدلّ إلاّ على أنّ المفروض تعارضُ من كان منهم مفروضَ القبول لولا المعارضُ .

نعم ، رواية إبن المغيرة تدلّ على إعتبار خبر كلّ ثقة .

-------------------

فان هذا السؤال والجواب ، يدل على تسالم السائل والمسؤول على جواز الامامة في الجملة إما شروط الامام ، فلا دليل في مثل هذه الأخبار عليها ، كما قال : ( فانه ) أي : السؤال عن الائمة في الصلاة ( لا يدلّ الاّ على انّ المفروض ) عند السائل والمسؤول ( تعارض من كان منهم ) أي من الائمة ( مفروض القبول لولا المعارض ) امّا ان أيا من الشهود أو أيا من الأئمة مقبول شهادته وامامته ، فاللازم ان يعلم من الخارج .

( نعم ، رواية ابن المغيرة تدل على إعتبار خبر كل ثقة ) ومن المعلوم : انّ الثقة أعم من العادل ، فانّه قال في ذلك الخبر :-

« إذا سَمِعتَ مِن أَصَحابِكَ الحَدِيثَ وَكُلُّهُم ثِقةٌ ، فَمُوسَّعٌ عَلَيكَ » (1) .

وكذلك جاءت بعض الأحاديث الاُخر بهذا المضمون ، مثل مارواه الحسن بن الجهم ، عن الرضا عليه السلام قال : قلت له : تجيؤنا الأحاديث عنكم مختلفة ؟ .

فقال : ماجائك عنّا ، فقس على كتاب اللّه عزّ وجلّ وأحاديثنا ، فان كان يشبههما فهو منّا ، وإن لم يكن يشبههما فليس منا .

قلت : يجيؤنا الرجلان - وكلاهما ثقة - بحديثين مختلفين ولانعلم أيّهما الحق؟

قال : فاذا لم تعلم ، فموسّع عليك بأيّهما أخذت (2) .

ص: 14


1- - الاحتجاج : ص357 ، وسائل الشيعة : ج27 ص122 ب9 ح33374 .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص121 ب9 ح33373 ، الاحتجاج : ص357 .

وبعد ملاحظة ذكر الأوثقيّة والأعدليّة في المقبولة والمرفوعة ، يصير الحاصلُ من المجموع إعتبار خبر الثقة ، بل العادل .

لكنّ الانصافَ : أنّ ظاهر مساق الرّواية أنّ الغرض من العدالة حصول الوثاقة ، فيكون العبرةُ بها .

ومنها : ما دلّ على إرجاع آحاد الرّواة إلى آحاد أصحابهم عليهم السلام ،

-------------------

( وبعد ملاحظة ذكر الأوثقية والأعدلية في المقبولة والمرفوعة ، يصير الحاصل من المجموع ) الموجود في الأخبار العلاجيّة التي هي بصدد علاج تعارض الأخبار ( إعتبار خبر الثقة ، بل العادل ) لأنّ العادل أخص مطلقاً ، ومقتضى القاعدة في الجمع بين العام والخاص : أن نحمل العام على الخاص .

( لكن الانصاف : انّ ظاهر مساق الرّواية ، انّ الغرض من ) اعتبار ( العدالة : حصول الوثاقة ، فيكون العبرة بها ) أي : بالوثاقة ، فليس المكان من حمل العام على الخاص ، بل من الأخذ بالعموم ، وان المراد بالخاص أيضاً العام ، خصوصاً بعد ورود الرّوايات بحجّية خبر الثقة مثل : قوله عليه السلام : - « لاعُذرَ لأحدٍ مِن مَوالِينا ، فِي التَشكِيكِ فِيما يَرويهِ عَنّا ثُقاتنا » (1) الى غير ذلك .

( ومنها ) أي : من الطوائف الدالّة على حجّية خبر الواحد من الأخبار ( : ما دلّ على إرجاع آحاد الرّواة ) وأفرادهم الذين كانوا يسألون الأئمة عليهم السلام عمن يعتمدون في الدّين ؟ فكانوا يرجعونهم ( الى آحاد أصحابهم ) المتلّمذين على أيديهم عليهم السلام .

ص: 15


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج27 ص150 ب11 ح33455 ، رجال الكشي : ص536 وفيه يؤديه ، بحار الانوار : ج50 ص318 ب4 ح15 .

بحيث يظهر منه عدمُ الفرق بين الفتوى والرّواية .

مثل إرجاعه عليه السلام ، إلى زُرارَة ، بقوله عليه السلام : « إذا أَردتَ حَديثاً ، فَعلَيكَ بهذا الجالِسِ . مُشيراً إلى زُرارَة » .

وقوله عليه السلام ، في رواية اُخرى : « وأمّا ما رَواهُ زُرارَة عَن أَبي عليه السلام ، فَلا يَجُوزُ رَدُّهُ » .

وقوله عليه السلام ، لابن أبي يعفور - بعد السؤال عَمّن يرجع إِليه إذا إِحتاج أو سئل عن مسألة : « فَما يمنعك عَن الثَقَفيّ ؟ - يعني مُحَمّد بن مُسلِّم - فإنَّهُ

-------------------

فانّ الارجاع هذا ، كان ( بحيث يظهر منه : عدم الفرق بين الفتوى ) من الرّاوي لمن يقلده ويتبعه ( والرّواية ) منه للذي يريد الاجتهاد والاستنباط ، وذلك لاطلاق هذه الرّوايات . ( مثل إرجاعه عليه السلام ) الشخص السائل ( الى زُرارَة ، بقوله عليه السلام : إذا أَردتَ حَديثاً ، فَعَلَيكَ بِهذا الجالِس . مُشيراً إلى زُرارَة ) (1) فانّ الامام عليه السلام ، أرجع السائل الى تلميذه زُرارة ، ممّا يدل على حجّية الخبر الواحد الصادر عن زرارة .

( وقوله عليه السلام في روايةٍ اخرى : وَأَما ما رَواهُ زُرارَة عَن أَبِي عليه السلام فَلا يَجُوزُ رَدُّهُ )(2) لأحد .

( وقوله عليه السلام لابن أبي يعفور ، بعد السؤال عَمّن يرجع إليه إِذا إِحتاج ) الى معرفة الحكم ليعمل به ( أو ) إحتاج الى معرفة الجواب فيما إذا ( سئل عن مسألة ؟ ) فأرجعه الامام عليه السلام الى أحد تلاميذه بقوله : ( فَما يَمنَعكَ عَن الثَقَفيّ ) المنتسب الى قبيلة ثقيف ( يعني : مُحمَّد بن مُسلِّم ، فَانَّه

ص: 16


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص143 ب11 ح33434 بالمعنى ، بحار الانوار : ج2 ص246 ب29 ح58 ، رجال الكشي : ص136 .
2- - رجال الكشي : ص134 ، وسائل الشيعة : ج27 ص143 ب11 ح33432 وفيه عن «أبي جعفر» .

سَمِعَ مِن أَبي أَحادِيثَ ، وَكانَ عِندَهُ وَجيِهاً » .

وقوله عليه السلام ، فيما عن الكشّيّ لِسلَمة بن أَبي حَبيبَة : « ائتِ أَبانَ بِن تَغلِب ، فإِنّهُ قدَ سَمِعَ مِنّي حَديثاً كثيراً . فَما رَوى لَكَ عَنّي فاروه عَنّي » .

وقَوله عليه السلام ، لِشُعيَب العَقرقُوفيّ بَعدَ السُّؤال عَمَّن يرجع إليه : « عَليكَ بِالأسَدي ، يعني أبا بصير » .

وقوله عليه السلام ، لِعليّ بن المسيّب ، بعد السّؤال عَمَّن يأخذ عنه معالم الدّين :

-------------------

سَمِعَ مِن أَبي أحادِيث ، وَكانَ عِندَهُ وَجيهاً ) (1) ، اي : حجّة .

( وقوله عليه السلام : فيما ) كان ( عن الكشيّ ) وهو من العلماء الذين كتبوا كِتاباً في الرّجال ( لِسَلَمة بن أبي حَبيبَة ، ائتِ ) أي : إذهب إذا أردت المسألة الى ( أَبان بِن تَغلِب ، فَانّهُ قد سَمِعَ مِنّي حَديثاً كَثيراً ، فَما روى لَكَ عَنّي فاروه عَنّي ) (2) وظاهر هذه الرّواية : أنّه يجوز الرّواية عنه عليه السلام بدون ذكر الرّاوي .

( وقوله عليه السلام لشعيب العَقرقُوفيّ بعد السُّؤال عَمّن يرجع اليه ؟ ) في مسائله ، فاجابه عليه السلام ( : عَلَيكَ بالأسَدِي يعني : أَبا بَصير ) (3) فانّه كان من قبيلة بني أسد .

( وقوله عليه السلام لِعليّ بن المسيّب ، بعد السّؤال عَمَّن يأخذ عنه معالم الدّين ؟ ) أي : أحكامه وسمي : معالم وهو جمع معلم لأنّه كما لايضل سالك الصحراء

ص: 17


1- - رجال الكشي : ص162 ، وسائل الشيعة : ج27 ص144 ب11 ح33438 .
2- - رجال الكشي : ص331 وفيه «عن مسلم بن أبي حيّة» ، وسائل الشيعة : ج27 ص147 ب11 ح33445 .
3- - بحار الانوار : ج2 ص249 ب29 ح61 ، رجال الكشي : ص171 ، وسائل الشيعة : ج27 ص142 ب17 ح33430 .

« عَلَيكَ بزَكريا بن آدَمَ المَأمُونِ عَلى الدّينِ وَالدُّنيا » .

وقوله عليه السلام : لمّا قال له عبد العزيز بن المهدي : « رُبّما أَحتَاجُ وَلَستُ أَلقاكَ في كُلِّ وَقتٍ ، أفيُونسُ بنُ عَبدِ الرَحمنِ ثِقَةٌ اخُذُ عَنهُ مَعالِمَ دِينيِ قال : نَعَم » .

وظاهر هذه الرّواية أنّ قبول قول الثقة كان أمراً مفروغاً عنه عند الرّاوي .

-------------------

ولا سالك البحر ، أو الفضاء ، إذا كان في كل منها معالم للطريق ، كذلك لايضل السالك في طريق الحياة إذا سار بارشاد من كان قوله حجّة ، فانّ الامام عليه السلام قال له : ( عَلَيكَ بِزَكَريا بن آدَمَ ، المَأمون عَلى الدِّينِ والدُّنيا ) (1) فما يروي في الامور الدينية ، وكذا مايروي في الامور الدنيوية كلاهما حجّة .

والامور الدينية : كوجوب صلاة الجمعة ، أو حرمة النبيذ ، أو إستحباب السواك ، أو كراهة الأكل على الشبع ، أو ماأشبهها .

والامور الدنيوية : كذكر خواصّ المآكل والمشارب ، والملابس والمناكح ، والمساكن ، والمراكب ، وغير ذلك ممّا كثير في الرّوايات .

( وقوله عليه السلام لمّا قال له عبد العزيز بن المهدي : ربّما أَحتَاجُ ) الى معرفة حكم من الأحكام الشرعيّة ، ( وَلَستُ أَلقاكَ فِي كُلِّ وَقتٍ أفيونسُ بنُ عَبدِ الرَّحمان ثِقةٌ آخُذُ عَنهُ مَعالِمَ دِينيِ ؟ قال : نَعم ) (2) ممّا يدل على حجّية قول الثقة .

( وظاهر هذه الرّواية : انّ ) الكبرى الكلية أي : ( قبول قول الثقة كان أمراً مفروغاً عنه عند الرّاوي ) وهو عبد العزيز ، كما كان مفروغاً عنه عند الامام عليه السلام

ص: 18


1- - رجال الكشي : ص595 ، بحار الانوار : ج2 ص251 ب29 ح68 ، وسائل الشيعة : ج27 ص146 ب11 ح33442 ، الاختصاص : ص87 ..
2- - بحار الانوار : ج2 ص251 ب29 ح67 ، رجال الكشّي : ص490 ، وسائل الشيعة : ج27 ص147 ب11 ح33448 .

فسأل عن وَثاقَة يُونس ، ليترتّب عليه أخذ المعالم منه .

ويؤيّدُهُ في إِناطة وجوب القبول بالوثاقة ماوَرَدَ في العَمريّ وإبنه اللّذين هما من النوّاب والسُفراء . ففي الكافي في باب النهي عن التسمية : « عن الحميريّ عَن أحمد بن إسحاق . قال : سَأَلتُ أَبا الحَسَنِ عليه السلام ، وَقُلتُ لَهُ : مَن أُعامِلُ وَعَمَّن آخُذُ وَقَولُ مَن أقبَلُ ؟ فقال عليه السلام له : العُمريُّ ثِقةٌ ، فَما أَدّى

-------------------

( فسأل عن ) الصغرى ، وهي : ( وثاقة يُونُس ، ليترتب عليه ) أي : على كون عبد الرحمن من صغريات تلك الكبرى الكلية ( أخذ المعالم منه ) والمراد بمعالم الدّين : أحكامه .

( ويؤيده في إناطة وجوب القبول بالوثاقة ) بدون الاحتياج الى العدالة ( ما ورد في ) حق ( العَمري ) بفتح العين نسبة الى عمرو ( وإبنه اللذين هما من النواب والسُفراء ) الأربعة الخاصين للامام المهدي عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف .

( ففي الكافي في باب النهي عن التسمية ) أي : عن التصريح باسم الامام المهدي عجل اللّه تعالى فرجه ، المضاهي لاسم جدّه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والمشهور بين العلماء حمل مثل هذه الرّواية على الكراهة ، لوجوب الاسم في بعض الأدعية والزيارات ، كالجامعة الصغيرة ، وغيرها .

( عن الحميريّ ، عن أحمد بن إسحاق ، قال : سَألتُ أَبا الحَسن ) الثالث : علي بن محمد النقي ( عليه السلام ، وَقُلتُ لَهُ : مَن اعامِلُ وَعَمّن آخُذُ وَقَولُ مَن أقبَلُ ؟ ) والمراد من التعامل هنا في اُمور الدين .

( فقال له : ) أي : قال الامام عليه السلام ، لأحمد بن إسحاق : ( العَمريُّ ثِقةٌ ، فَما أدّى

ص: 19

إليكَ عنّي ، فَعَنّي يُؤديّ ، وما قالَ لَكَ عَنّي ، فَعَنّي يَقُوُلُ ، فَاسمع لَهُ وَأَطِع ، فَانَّهُ الثِقةُ المُأموُن » .

وأخبرنا أحمدُ بنُ إسحاق إنّه سأل أبا محمّد عليه السلام ، عن مثل ذلك ، فقال له : « العمريُّ وَابنُهُ ثِقَتانِ ، فَما أدّيا إليكَ عَنّي فَعَنّي يُؤَدِيانِ ، وَما قَالا لَكَ فَعَنِي يَقُولانِ ، فَاسمَع لَهُما وَأطِعهُما ، فَإنَهُما الثقتانِ المأمونانِ ، الخبر » .

وهذه الطائفة أيضاً مشتركة مع الطائفة الاولى في الدلالة على إعتبار خبر الثقة المأمون .

-------------------

إِليكَ عنيّ ، فَعَنّي يُؤدّي ، وَمَا قالَ لَكَ عَنّي ، فعنّي يَقُولُ ، فاسمَعْ لَهَ وأطِع ، فأنّهُ الثِقةُ المَأموُن ) (1) .

والظاهر : أنّ قوله عليه السلام : « وَما قَالَ لَكَ عَنّي » عطف تفسير لقوله : « فَما أدى إليكَ عَنِّي » وإن كان يمكن بيان بعض الفروق بينهما ، كما انّ « المأمون » عطف بيان لقوله : « الثقة » .

( وأخبرنا أحمدُ بن إسحاق : إنّه سأل أبا محمد ) الحسن بن علي العسكري عليه السلام ( عن مثل ذلك ) الذي سأل عن أبي الحسن الثالث عليه السلام .

( فقال له : العمريُّ وإبنُهُ ثِقَتان ، فَما أدّيا إليكَ عَني ، فَعَنِي يُؤدِيانِ ، وَما قَالا لكَ ، فَعَنِي يقولان ، فاسمَع لَهُما وأطِعهُما فإنَهُما الثَقّتانِ المأمونانِ ) الى آخر ( الخبر ) (2) الشريف .

( وهذه الطائفة أيضاً مشتركة مع الطائفة الاولى في الدلالة على إعتبار خبر الثقة المأمون ) لانّ بعض هذه الطائفة من الأخبار ، وإن لم يبيّن المناط فيها باعتبار

ص: 20


1- - الكافي اصول : ج1 ص330 ح1 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص329 ح1 .

ومنها : ما دلّ على وجوب الرجوع إلى الرّواة والثقات والعلماء على وجه يظهر منه عدمُ الفرق بين فتواهم بالنسبة إلى أهل الإستفتاء وروايتهم بالنسبة إلى أهل العمل بالرّواية .

مثلُ قول الحجّة - عجل اللّه تعالى فرجه الشريف - لا سحاق بن يعقوب ، على ما في كتاب الغيبة للشيخ ، وإكمال الدين للصدوق ، والاحتجاج للطبرسي : « وأمّا الحَوادِثُ الواقِعَةُ فارجعُوا فِيها إلى رُواة حديثنا ، فَإنّهُم حُجّتِيِ عَلَيكُم ، وَأنا حُجّةُ اللّه عَلَيهُم » .

-------------------

الثقة ، إلاّ انّ في بعضها الآخر كفاية في الدلالة على ذلك .

( ومنها ) أي : من الطوائف الدالة على حجية خبر الواحد ( ما دلّ على وجوب الرجوع الى الرّواة والثقاة والعلماء ) والأخيار دلالة ( على وجه يظهر منه : عدم الفرق بين فتواهم بالنسبة الى أهل الاستفتاء ، وروايتهم بالنسبة الى أهل العمل بالرّواية ) وهم المجتهدون .

( مثل قول الحجّة - عجل اللّه تعالى فرجه الشريف - لاسحاق بن يعقوب على ما في كتاب الغيبة للشيخ ، وإكمال الدين للصدوق ، والاحتجاج للطبرسي : وَأَمّا الحَوادِثُ الواقِعَةُ ) ، والحوادث باعتبارها جمعاً محلّى باللام ، تفيد العموم ، فتشمل العبادات ، والمعاملات ، وسائر الأمور المرتبطة بالشريعة ، التي تقع صغرياتها بالنسبة الى الناس في كل زمان ومكان .

(فَارجِعُوا فِيها إلى رُواةِ حَديثنا ، فَإنَّهُم حُجَتِي عَلَيكمُ ، وَأنا حُجَةُ اللّه عَلَيهُم)(1)

ص: 21


1- - كمال الدين : ص440 ب45 ح4 ، الغيبة : ص177 ، وسائل الشيعة : ج27 ص140 ب9 ح33424 منتخب الانوار المضيئة ص122 .

فانه لو سُلِمَ أنّ ظاهرَ الصدر الاختصاصُ بالرجوع في الحكم الوقائع إلى الرواة ، أعني الاستفتاء منهم ، الاّ أنّ التعليل بانّهم حجّته عليه السلام ، يدل على وجوب قبول خبرهم .

ومثلُ الرّواية المحكية عن العُدة من قوله عليه السلام : « إذا نَزَلَت بِكُمْ حادِثَةٌ لاتَجِدُونَ حُكمَها فِيما رُوي عَنّا ، فَانظُرُوا إلى ما رَوَوَهُ عن عَليّ عليه السلام » ، دلّ على الأخذ بروايات الشيعة وروايات العامّة

-------------------

بدلالة : إنّه كما يلزم إتباع أقوالهم عليهم السلام ، يلزم إتباع رواة أحاديثهم .

لا يقال : ان صدر الحديث دال على إنّ أجوبة الرّواة حجّة فقط ، دون فتاواهم إبتداءاً .

لأنّه يقال : ( فانه لو سُلِّمَ : انّ ظاهر الصدر ) وهو قوله « وأَما الحَوادِثُ الواقِعَةُ ، فارجعوا فيها الى رُواةِ حَديثنا » ( الاختصاص بالرجوع في الحكم الوقائع إلى الرّواة ، أعني : الاستفتاء منهم ، الاّ انّ التعليل ) في أخير الرّواية ( : بأنهم حجّته عليه السلام) على الناس ( يدلّ على وجوب قبول خبرهم ) أيضا ، بل لو لم يكن هذا الذيل ، لكان المناط دالاً على استواء الأمرين .

( ومثل الرّواية المحكية عن العُدة ) لشيخ الطائفة ( من قوله عليه السلام : إذا نَزَلَتْ بِكُمْ حادِثَةٌ لا تَجِدون حُكمَها فِيما رُويَ عنّا ) معاشر الأئمة من الحسن الى الامام المرّوي عنه ( فانظُروا إلى ما رَوَوهُ ) أي : روته العامة ( عن علي عليه السلام ) (1) .

فان هذا الحديث ( دل على الأخذ بروايات الشيعة وروايات العامّة

ص: 22


1- - عدة الاصول : ص61 ، وسائل الشيعة ج27 ص91 ب8 ح33294 .

مع عدم وجود المعارض من رواية الخاصة .

ومثل ما في الاحتجاج عن تفسير العسكريّ ، عليه السلام ، - في قوله تعالى :

«ومنهُم أُمِّيُّونَ لا يَعلَمُون الكِتابَ» الآية - من أنه قال رجلٌ للصادق عليه السلام :

« فاذا كان هؤلاء القوم من اليهود والنصارى لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعون من علمائهم ، لا سبيل لهم إلى غيره ، فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم ؟

-------------------

مع عدم وجود المعارض من رواية الخاصة ) فاذا وجد المعارض ، لم يؤخذ برواية العامة ، بل وكذا فيما إذا كان هناك حديث عامي وحديث خاصي ولم يكن تعارض ، فإنّه يؤخذ بحديث الخاصي لا العامي .

( ومثل ما ) دل ( في الاحتجاج عن تفسير العسكري عليه السلام في قوله تعالى : « ومِنهُم » ) أي : من أهل الكتاب كاليهود والنصارى ونحوهما ( « أميونَ » ) نسبة الى الأم ، أي : لم يُحصِّلوا العلم بعد ، ولا يعرفون القراءة ، والكتابة ، والأحكام ، فهم ( « لا يَعلَمون الكِتابَ » ) (1) المنزل على أنبيائهم كالتوراة والانجيل ونحوهما الى آخر ( الآية ) المباركة .

( من أنّه قال رجلٌ للصادق عليه السلام : فاذا كان هؤلاء القوم من اليهود والنصارى ، لا يعرفون الكتاب الاّ بما يسمعون من علمائهم لا سبيل لهم الى غيره ) أي : غير طريق السماع من علمائهم لأنهم جاهلون لا يتمكنون من الرجوع الى كتبهم ( فكيف ذمّهم اللّه بتقليدهم والقبول من علمائهم ؟ ) حيث قال سبحانه :« وَمِنهُم أُمِيّونَ لا يَعلَمُونَ الكِتَابَ » (2) ؟ .

ص: 23


1- - سورة البقرة : الآية 78 .
2- - سورة البقرة : الآية 78 .

وهل عوامّ اليهود إلاّ كعوامّنا يقلّدون علماءهم فان لم يجز لاؤلئك القبولُ من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبولُ من علمائهم ؟ » .

فقال عليه السلام : « بَين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرقٌ بيّن من جهة وتسويةٌ من جهة .

-------------------

وذلك لوضوح : انّ الطريق الى معرفة الاحكام طريقان :

الاول : ان يعلم الانسان نفسه بالاجتهاد .

الثاني : ان يتبع العلماء بالتقليد .

وهؤلاء حيث لم يكونوا من القسم الأول ، كانوا مضطرين الى القسم الثاني وهو التقليد والرجوع الى علمائهم ، فلماذا ذمهم اللّه سبحانه وتعالى ؟ .

( وهل عوام اليهود إلاّ كعوامنا ) الذين ( يقلّدون علمائهم ، فان لم يجز لاؤلئك ) اليهود والنصارى ( القبولُ ) للأحكام ( من علمائهم ، لم يجز لهؤلاء ) أي : عوامنا ايضاً . ( القبولُ من علمائهم ؟ ) أي : علماء المسلمين .

والحاصل : أنّ عوام اليهود وعوام المسلمين ، على حد سواء في جواز الرجوع الى علمائهم ، وعدم الجواز ، فاذا جاز لعوامنا الرجوع الى علمائنا جاز لعوام اليهود الرجوع الى علمائهم ، فلماذا ذمهم اللّه سبحانه وتعالى؟ . ( فقال عليه السلام ) : ( بَينَ عَوامنا وعلمائنا ، وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة ، وتسوية من جهة ) :

فالفارق هو : عدالة جملة من علمائنا ، والعوام الذين يتبعون هؤلاء العلماء ، إنما يتبعونهم على حق ، وليس في علماء اليهود عدول ، وعوامهم الذين يقلدونهم مع علمهم بفسقهم يكونون على باطل .

والتساوي هو : بالنسبة الى علمائنا الفسّاق ، والعوام الذين يتبعونهم مع علمهم بفسقهم ، وهؤلاء العلماء كعلماء اليهود ، وهؤلاء العوام الذين يتبعونهم كعوام

ص: 24

أمّا من حيث إستووا ، فانّ اللّه تعالى ذم عوامنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامّهم بتقليدهم علماءهم ، وأمّا من حيث إفترقوا فلا .

قال : بيّن لي يابنَ رسول اللّه!

قال : إنّ عوامّ اليهود قد عرفوا علماءهم بالكذب الصّريح وبأكل الحرام والرّشاء وتغيير الأحكام عن وجهها بالشّفاعات والنّسابات والمصانعات ،

-------------------

اليهود ، كما قال : ( أمّا من حيث إستووا : فان اللّه تعالى ذمّ عوامنا بتقليدهم علمائهم ) الفساق ( كما ذم عوامهم بتقليدهم علمائهم ) الفساق ، فلا فرق بين عوامنا وعوامهم في ذلك لأنّ التقليد للفاسق مذموم .

ولعلّ المراد بذم اللّه لعوامنا : ما ورد من المطلقات في الكتاب مثل قوله تعالى .

« وَلا تَقفُ ما لَيسَ لُكَ به عِلمٌ » (1) وقوله تعالى:« وَمِنَ الناسِ مَن يُجادِلُ في اللّه بِغَيِرِ عِلمٍ وَلا هُدى وَلا كِتَابِ مُنيرٍ » (2) .

الى غيرهما من الآيات الدالة على عدم جواز إتباع غير العلم والهداية ونحوهما ، وما ورد من السنّة في روايات مستفيضة تدل على عدم جواز اتباع غير العادل . ( وأمّا من حيث إفترقوا فلا ) ذمّ للّه سبحانه وتعالى لعوامنا الذين يتبعون علمائنا العدول .

( قال ) الرّاوي ( بيّن لي يابن رسول اللّه ) صلى اللّه عليه و آله وسلم فرقهما ؟ .

( قال : انّ عوام اليهود قد عرفوا علمائهم بالكذب الصريح ) في امور دينهم ودنياهم ( وبأكل الحرام والرشاء وتغيير الأحكام عن وجهها ) لأنهم يحلّون الحرام ويحرّمون الحلال ( بالشفاعات والنّسابات والمصانعات ) .

ص: 25


1- - سورة الاسراء : الآية 36 .
2- - سورة الحج : الآية 8 .

وعرفوهم بالتعصب الشديد ، الذي يفارقون به أديانهم ، وأنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوقَ من تعصّبُوا عليه ، وأعطوا مالايستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم ، وظلموهم من أجلهم ، وعلموهم يتعارفون المحرّمات واضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى أنّ مَن فَعَلَ ما يفعلونه فهو فاسق ، لايجوز أن يصدّق على اللّه ولا على الوسائط بين الخلق وبين اللّه تعالى .

-------------------

فالشفاعات تسبب انّ علمائهم يغيرون الأحكام ، وكذلك القرابات يقدّمونها على أحكام اللّه سبحانه وتعالى ، كما إن المصانعات وهي من الصنع مثل الرشوة والمداهنة وما أشبه ، تسبب لهم ذلك أيضاً .

كما ( وعرفوهم بالتعصّب الشديد ، الذي يفارقون به أديانهم ) فانهم بسبب التعصب ، يخرجون عن دينهم ، ويدخلون في المحرمات حتى درجة الإلحاد بالنسبة الى عقائدهم وكتبهم .

( و ) كذا قد عرفوهم ( انّهم إذا تعصّبوا ) أي : إذا تمايلوا الى أحد ، وأعرضوا عن أحد ( أزالوا حقوق مَن تعصّبُوا عليه ) أي : حق من نفروا عنه ، سواء كان حقه في المال ، أو في الزوجة ، أو في غير ذلك ( وأعطوا مالايستحقّه من تعصّبوا له ) ومالوا إليه في الحكم ( من أموال غيرهم ) ومن حقوقهم وما يرتبط بهم ( وظلموهم ) أي : ظلموا من تعصبوا عليه ( من أجلهم ) أي : من أجل من تعصبوا له .

( و ) كذا قد ( علموهم ) أي : علم العوام بأنّ علمائهم ( يتعارفون المحرمات ) أي : انّ إرتكاب المحرمات أمر متعارف عند علمائهم ، وليس شيئاً منكراً لديهم .

( و ) هؤلاء العوام قد ( إضطروا بمعارف قلوبهم ) يعني : إنهم كانوا حسب فطرتهم مضطرين ( الى ) معرفة ( إنّ من فعل مايفعلونه ) أي : مايفعله علمائهم ( فهو فاسق لا يجوز ان يصدّق على اللّه، ولا على الوسائط بين الخلق وبين اللّه تعالى )

ص: 26

فلذلك ذمّهم لما قلدوا من عرفوا ومن علموا أنّه لايجوز قبول خبره ، ولاتصديقه ولا العمل بما يؤدّيه إليهم عمّن لايشاهدوه ، ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى وأشهر من أن لاتظهر لهم .

وكذلك عوامُّ اُمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسقَ الظاهر ، والعصبيّة الشديدة والتّكالب

-------------------

فلا يجوز كلامهم على اللّه فيما ينقلونه من كتبهم المقدسة ، وكذلك لايجوز كلامهم على أنبياء اللّه الذين هم وسائط بين الخلق وبين اللّه سبحانه وتعالى .

( فلذلك ذمّهم ) اللّه تعالى ( لما قلّدوا ) أي : لتقليد هؤلاء العوام ( من عرفوا ومن علموا : انّه لايجوز قبول خبره ، ولاتصديقه ولا العمل بما يؤديه اليهم ) من الاخبار ( عمّن لايشاهدوه ) أي : الاخبار التي يؤدونها الى عوامهم عن لسان أنبيائهم لم يكن العوام يشاهدونها ولا يسمعونها من أنبيائهم .

( و ) لذلك ( وجب عليهم النظر ) والتأمل في تحصيل الدليل ( بأنفسهم في أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ) وانّه رسول حق ، لا أن يأخذوا عن علمائهم الّذين علموا انّهم يتعصبون ضد رسول اللّه ( اذ كانت دلائله ) ومعجزاته التي تدلّ على نبوته صلى اللّه عليه و آله وسلم ( أوضح من أن تخفى وأشهر من أن لاتظهر لهم ) أي : لاولئك العوام .

فاذا علم العوام : انّ عالمهم فاسق ، وتمكن هو بنفسه من معرفة الحق ، فلايجوز له إتباع العالم الفاسق ، وإنّما يجب عليه النظر بنفسه حتى يعرف الحق من الباطل .

( وكذلك عوام أُمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر ، والعصبية الشديدة والتكالب ) .

ص: 27

على حُطام الدنيا وحرامها وإهلاك من يتعصّبون عليه وإن كان لاصلاح أمره مستحقّاً ، وبالترفرف بالبرّ والاحسان على من تعصّبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقاً . فمن قلّد من عوامنا مثلَ هؤلاء الفقهاء ، فهم مثلُ اليهود الذين ذمّهم اللّه تعالى بالتقليد لِفَسَقَةِ فقهائهم .

-------------------

وإنّما قيَّد الفسق بالظاهر : لأنّ الانسان ليس مكلَّفاً بباطن الآخرين ، ولا بما يفعلونه في خلواتهم ممّا لم يطّلع عليه .

والمراد بالتكالب : التنازع على اُمور الدنيا ، وهو مأخوذ من عمل الكلب الذي يتنازع على الجيف ، و ( على حطام الدنيا وحرامها ) .

وحطام الدنيا : زينتها التي تتحطم بعد قليل ، من قبيل حطام السنبل والشجر ، حيث له ظاهر جميل في وقتٍ ما ، ثم يتحول الى نفايات صالحة للحرق فقط .

( و ) كذا إذا عرفوا منهم ( إهلاك من يتعصبون عليه ) أي : على ضرره وظلمه ( وان كان لاصلاح أمره مستحقاً ) أي : انهم يظلمون من يتعصبون ضده وان كان من الناس المستحقين للإحسان والخدمة .

( و ) كذا إذا عرفوهم ( بالترفرف بالبرّ والاحسان على من تعصّبوا له ) والترفرف عبارة عن : تحريك الطائر أجنحته لأجل الوصول الى طعام ونحوه ، فهؤلاء العلماء الفسقة ، كالطائر بالنسبة الى من يوالونه ، حيث يغدقون عليه بالبرّ والاحسان وان لم يكن مستحقاً لذلك ، بل حتى ( وان كان للاذلال والاهانة مستحقاً ) .

وعليه : ( فمن قلّد من عوامنا ) نحن المسلمين ( مثل هؤلاء الفقهاء ، فهم مثل اليهود الذين ذمهم اللّه تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم ) لأنّ عوامنا وعوامهم في هذه

الجهة على حد سواء .

ص: 28

فأمّا مَن كَانَ مِنَ الفُقَهاءِ صائِناً لِنَفسِه ، حافِظاً لدِينهِ ، مُخالِفاً عَلى هَواه ، مُطيعاً لأمرِ مَولاه ، فَلِلعَوامِ أَنْ يُقَلِّدوُهُ . وذلك لايكونُ إلاّ بعضَ فقهاء الشيعة ، لا جَميعَهُم .

-------------------

ثم ذكر عليه السلام مواصفات من يجوز من الفقهاء تقليده بقوله : ( فَامّا مَن كَانَ مِنَ الفُقَهاءِ صائِناً لِنَفسِه ، حافِظاً لِدِينهِ ، مُخالِفاً عَلى هَواه ، مُطيِعاً لأمِرِ مَولاه ، فَلِلعوامِ أَنْ يُقلِّدوُه ) .

فهذه أربعة امور : إثنان للباطن ، وإثنان للظاهر ، إذ الشيء : إمّا اطاعة أو عصيان ،

وكلٌّ منهما : إمّا في الظاهر ، أو في الباطن ، فهي امور أربعة : - فصيانة النفس هو : حفظها عن المحرمات .

وحفظ الدّين في الظاهر هو : عدم العمل بالمحرمات .

وخلاف الهوى هو : أن يعمل في الباطن خلاف مايأمره به الهوى : من حب الدنيا ، والحسد ، والطمع ، ونحو ذلك .

وإطاعة أمر المولى هو : أن يؤدّي ماعليه من الواجبات .

فالنفس إما أن تترك المحرم وهو الصيانة ، وإما أن تفعل الواجب وهو خلاف الهوى .

وفي الظاهر : إمّا أن يترك المحرّم وهو حفظ الدّين ، وإمّا ان يفعل الواجب وهو إطاعة أمر المولى .

هذا ، ويمكن أن يقال في معنى الجمل الأربع غير ذلك .

وإنما قال : « مخالفاً على هواه » بلفظ على ، لأنّه يضر هواه بمخالفته له ، والمراد بالهوى : مايهويه الانسان ويميل اليه طبعه .

( وذلك لايكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم ) لوضوح : إنّ بعض فقهاء

ص: 29

فأمّا من ركب من القبائح والفواحش مراكب فَسَقَةِ فقهاء العامّة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئاً ، ولا كرامة . وإنّما كثر التخليطُ فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لتلك ، لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيحرّفونه بأسره لجهلهم ، ويضعون الأشياء على غير وجوهها

-------------------

الشيعة أيضاً غير عدول .

( فأمّا من ركب ) أي : إرتكب ، من التشبيه بركوب الفرس ، لأنّه يركب هواه ويمشي كما يريد ( من القبائح والفواحش ، مراكب فسقة فقهاء العامة ) حيث إنّ العامة كانوا يميلون مع السلاطين ، ويفعلون المحرّمات لأجل إرضائهم وإتباع هوى أنفسهم ، كما يحكى ذلك عن أمثال أبي يوسف ، ويحيى بن أكثم ، وإبن أبي داود ، ومن أشبههم ممّن سودوا التاريخ بقبائحهم .

( فلا تقبلوا منهم عنّا شيئاً ) فيما نقلوا عنّا من خبر ، أو نسبوا إلينا من أمر ، فانّ على العوام ان لايقلدوهم في شيء من هذه الاُمور ( ولا كرامة ) .

هذا ( وانّما كثر التخليط ) بين الصدق والكذب ، والحق والباطل ، والصحيح والسقيم ( فيما ) أي : في الأخبار والآثار التي ( يتحمّل عنّا أهل البيت لتلك ) التي ذكرت : من ركوب بعض الرّواة والفقهاء من الشيعة مراكب الانحراف ، كزعماء الواقفية ومَن أَشبههم ، ولذلك يقع الشيعة إلاّ الخُلّص منهم في الاشتباهات .

( لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا ) الأحاديث والرّوايات والتواريخ ونحوها ( فيحرّفونه بأسره ) أي : بجميعه ، ومعنى التحريف إرتكاب : الزيادة والنقيصة فيه ، كما فعلت الكيسانية والفطحية والواقفية ومن إليهم ، وذلك ( لجهلهم ) وعدم تعقلهم .

( ويضعون الاشياء على غير وجوهها ) فيغيّرون ويبدّلون من جهة الجهل ،

ص: 30

لقلّة معرفتهم ، وآخرون يتعمّدون الكذب علينا ليجرّوا من عرض الدنيا ماهو زادُهم إلى نار جهنّم .

ومنهم : قومٌ نُصّابٌ لايقدرون على القدح فينا ، فيتعلمون بعضَ علومنا الصحيحة فيتوجّهون عند شيعتنا وينتقصون بنا عند أعدائنا ، ثمّ يضعون إليه أضعافه

-------------------

فيجعلون الأوامر الواجبة مستحبة وبالعكس ، والنواهي المحرمة مكروهة وبالعكس وما الى ذلك ( لقلّة معرفتهم ) بموازين الفقه والدّين .

( وآخرون ) من اولئك العلماء الفسقة ( يتعمدون الكذب علينا ) فينقلون الأخبار الكاذبة ( ليجرّوا ) الى أنفسهم ( من عرض ) أي : متاع ( الدّنيا ، ماهو زادهم الى نار جهنم ) .

وانّما سمي : عرضاً لأنه عارض يزول بسرعة ، بخلاف الآخرة فإنها الباقية ، وهذا العرض يكون مع اولئك كأنّه زادهم ، تشبيهاً بزاد المسافر الذي يستصحبه الى مقصده ، وهذا الزاد يكون مع هؤلاء الفسقة الى أن يدخلوا نار جهنم .

( ومنهم ) أي : من اولئك الرّواة والعلماء ، الذين يحرّفون أخبار الأئمة عليهم السلام ليسوا بشيعة ( قوم نصّاب ) ينصبون العداوة للأئمة عليهم السلام في بواطنهم ، و ( لايقدرون على القدح فينا ) علانية خوفاً من شيعتنا وموالينا ( فيتعلمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجهون عند شيعتنا ) بذلك ويكونون وجهاء بها عندهم ( وينتقصون بنا عند أعدائنا ) أي : إنهم إذا كانوا عند الشيعة مدحونا ، لينالوا من دنيا اولئك الشيعة ، وإذا كانوا عند أعدائنا ، انتقصونا ، وذكروا أشياء كاذبة علينا ليحطّوا من قدرنا .

وهؤلاء النصّاب يتعلمون بعض الشيء من علومنا ( ثم يضعون اليه أضعافه

ص: 31

وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا ، التي نحن بُراءُ منها ، فيقبله المستسلمون من شيعتنا على أنّه من علومنا ، فضلّوا وأضلّوا ، اُولئكَ أضَرُّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد ، لعنه اللّه ، على الحسين بن عليّ عليه السلام » ، انتهى .

دلّ هذا الخبرُ الشريفُ اللائحُ منه آثارُ الصدق على جواز قبول قول من

-------------------

وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا ، التي نحن بُراء منها ) أي : من تلك الأكاذيب ( فيقبله ) أي : يقبل الكذب الذي يلفّقه اولئك ( المستسلمون من شيعتنا ) أي : المستضعفون منهم ، الذين لايعرفون الحق من الباطل ، ولا يميزون الصواب من الخطأ فيقبلونه ( على انّه من علومنا ) الذي أفضناه على اولئك الرّواة الفسقة .

( فَضَلّوا ) أي : هؤلاء الفسّاق النصّاب ( وأَضَلّوا ) أي : المستسلمين المستضعفين من الشيعة الّذين يظنّون بأولئك الفساق خيراً .

ثم قال عليه السلام : ( اولئك ) الفسّاق النصّاب ( أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد لعنه اللّه على الحسين بن علي عليه السلام ، انتهى ) (1) .

وإنّما كانوا أضرّ ، لأنّ يزيد ذهب بدنيا الحسين عليه السلام فقط ، وذلك مؤقتاً ، حيث إعتلى بعدها شأن الحسين عليه السلام الى يومنا هذا ، أمّا هؤلاء فيذهبون بدنيا شيعتنا وآخرتهم .

( دلّ هذا الخبر الشريف اللائح ) أي : الظاهر ( منه آثار الصدق ) للبيان الوافي الشافي ، والاستدلال المقنع الكافي ( على جواز قبول قول من

ص: 32


1- - الاحتجاج : ص458 ، تفسير الامام عليه السلام : ص301 ، وسائل الشيعة : ج27 ص131 ب10 ح33401 ، بحار الانوار : ج2 ص88 ب14 ح12 بالمعنى .

عُرِفَ بالتحرّز عن الكذب وإن كان ظاهره إِعتبار العدالة بل مافوقها . لكنّ المستفاد من مجموعه أنّ المناط في التصديق هو التحرّزُ عن الكذب ، فافهم.

-------------------

عُرِفَ بالتحرّز عن الكذب ) لأنّه ذم بعض العلماء الذين يتعمدون الكذب من الشيعة ، وذم النصّاب من غير الشيعة الذين تعلّموا بعض علومهم عليهم السلام وأضافوا اليها الأكاذيب .

هذا ( وان كان ظاهره : إعتبار العدالة ، بل مافوقها ) فلايكفي على ذلك خبر الثقة .

وإنّما كان ظاهر الخبر : إعتبار العدالة بل مافوقها ، لأنه عليه السلام قال : « مَن كانَ مِن الفُقَهاءِ ، صائِناً لِنفسهِ» الى آخر الصفات الأربع .

وإنّما اعتبرت الرّواية ، الصفات النفسية سلباً وإيجاباً ، لأنّ العدالة ملكة .

( لكن المستفاد من مجموعه ) أي : مجموع هذا الخبر ( انّ المناط في التصديق هو : التحّرز عن الكذب ) بأن يكون الرّاوي ثقة ، وذلك لأنّ قوله : « من كان من الفقهاء » الى آخره ، ذكر قبال الشيعة الذين هم كالعامة والنصّاب .

ومن المعلوم : انّ الثقة ليس من أحدهما ، فيدلّ الذيل على حجّية خبر الثقة ، والصدر كأنه سيق مقدمة للذيل ، فالذيل قرينة للمراد من الصدر ، حاله حال : «أسد يرمي» ، حيث انّ « يرمي» يكون قرينة للمراد من « الأسد» .

( فافهم ) لعله إشارة الى انّه لو كان المراد منه : الثقة فقط ، لم يكن وجه لاستدلال العلماء - على وجوب عدالة المفتي والقاضي - بهذا الخبر ، اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ العدالة فهمت من الأدلة الخارجية .

ص: 33

ومثل ما عن أبي الحسن عليه السلام ، فيما كتبه جواباً عن السؤال عمّن يعتمد عليه في الدّين ، قال عليه السلام : « إِعتَمِدا فِي دينِكُما عَلى كُلّ مُسِنٍّ في حُبِّنا ، كَثيرُ القِدمِ فِي أَمرِنا» .

وقوله عليه السلام في رواية اُخرى : « لاتأخُذَنَّ مَعالِمَ دِينكَ مِن غير شيعَتِنا ، فانّك إن تَعَدّيتَهُم أَخذتَ دِينَكَ مِنَ الخائِنيِنَ الّذينَ خانُوا اللّه َ ورَسُولَهُ وخانُوا أماناتِهِم .

-------------------

( ومثل ما عن أبي الحسن ) علي بن محمد النقيّ ( عليه السلام فيما كتبه جواباً عن السؤال ) حيث سأل أحمد بن حاتم وأخوه عنه عليه السلام ( عمّن يعتمد عليه في الدّين ؟ ) .

ف ( قال عليه السلام : إعتَمِدا فِي دينِكُما عَلى كُلِّ مُسِنٍّ فِي حُبِنا ، كَثيرُ القِدمِ فِي أَمِرِنا ) (1) .

وإنّما إشترط المسنّ في حبهم ، لأنّه لايتزلزل كما يتزلزل غير المسنّ في ذلك أحياناً ، بسبب مال ، أو جاه ، أو ما أشبه .

وكثرة القِدَم عبارة عن كثرة الرّواية عنهم عليهم السلام وكثرة التحرك في جهتهم وموالاتهم ، فانّ مثل هذا الشخص يكون مأموناً ومعتمداً عليه في اُمور الدين والدنيا .

( و ) مثل ( قوله عليه السلام ، في رواية اُخرى : لاتأخُذَنَّ مَعالِمَ دِينِكَ مِن غَير شِيعَتنا ، فانّك إن تَعَدّيتَهُم ) أي تجاوزت عنهم الى غيرهم ( أَخذتَ ديِنَكَ مِنَ ) الكذّابين ( الخائِنيِنَ الّذينَ خانُوا اللّه َ ورسوله ، وخانُوا أَماناتِهم ) .

ص: 34


1- - بحار الانوار ج2 ص82 ب14 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص151 ب11 ح33460 مع تفاوت .

إنَّهمُ ائتُمِنوا عَلى كِتاب اللّه ِ فَحَرّفُوهُ وبَدَّلُوهُ» الحديث .

وظاهرهما وإن كان الفتوى ، إلاّ إنّ الإنصاف شمولُهما للرّواية بعد التأمّل ، كما تقدّم في سابقتهما .

-------------------

ثم بيّن عليه السلام بأنهم كيف كانوا خائنين ؟ بقوله : ( إنَّهُم ائتُمِنوا عَلى كِتاب اللّه ) أي : جعل كتاب اللّه أمانة عندهم ، حيث قال الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم : - « اني مخلّف فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ..» (1) .

( فَحَرّفُوهُ ) أي : حرفوا أحكامه ، وفسّروه بتفاسير غير صحيحة ( وبَدَّلُوهُ ) (2) أي : زادوا ونقصوا فيه ، فانّ الشخص المنحرف قد يحرّف الحكم بأن يجعل مكان الامام غير الامام فيروي - مثلاً- عن الامام الصادق عليه السلام ، لكن باسم إسماعيل بن الامام الصادق عليه السلام وقد يحرّف الحكم بأن يجعل الحرام حلالاً ، كأن يجعل لحم الكلب حلالاً ، الى آخر ( الحديث ) الشريف .

( وظاهرهما : ) أي : ظاهر هذين الخبرين الأخيرين المرويين عن أبي الحسن الثالث عليه السلام ( وان كان الفتوى ) أي انّهما بصدد تعيين المفتي .

( إلاّ إنّ الانصاف شمولهما للرّاوية بعد التّأمل ) فانّ المناط في المفتي آت في الرّاوي أيضاً ، فكما انّ الانسان يعتمد على المفتي ، كذلك يعتمد على الرّاوي ، بل مناطهما يشمل القاضي أيضاً (كما تقدّم في سابقتهما)من الرّوايات المفصلة في ذلك.

ص: 35


1- - معاني الاخبار : ص91 ، كمال الدين : ص247 ، المسائل الجارودية : ص42 ، ارشاد القلوب : ص340 ، الارشاد : ج1 ص180 ، كشف الغمّة : ج1 ص43 ، متشابه القرآن : ج2 ص45 ، المناقب : ج2 ص41 ، عيون اخبار الرضا : ص62 .
2- - بحار الانوار : ج2 ص82 ب14 ح2 ، رجال الكشّي : ص4 ، وسائل الشيعة : ج27 ص150 ب11 ح33457 .

ومثلُ مافي كتاب الغيبة ، بسنده الصحيح الى عبد اللّه الكوفيّ خادم الشيخ أبو القاسم الحسين بن روح رحمه اللّه ، حيث سأله أصحابه عن كُتُب الشلمغانيّ .

فقال الشيخ : « أقولُ فيها ما قاله العسكريّ عليه السلام ، في كتب بني فضّال ، حيث قالوا له : مانصنعُ بكُتُبِهِم وبُيُوتُنا مِنها مِلاء ؟ قال : خُذُوا مارَوَوا ، وَذَرُوا ما رَأوا» .

-------------------

( ومثل ما في كتاب الغيبة ، بسنده الصّحيح الى عبد اللّه الكوفي خادم الشيخ أبو القاسم : الحسين بن روح - رحمه اللّه - حيث ) قال : ( سأله ) أي : سأل الشيخ أبا القاسم : الحسين بن روح ، بعض ( أصحابه عن ) إعتبار ( كتب ) محمد بن علي ( الشلمغاني ) . والشلمغاني هذا ، كان من فقهاء الشيعة ، وكتب كتباً على مذهبهم ، ثم إِتخذ مذهباً فاسداً حسداً على مقام الشيخ أبي القاسم رحمه اللّه ، فقد حسده لأنّ الحجّة عجل اللّه تعالى فرجه ، جعل الحسين بن روح نائباً له دون الشلمغاني .

( ف ) لما سئل الحسين بن روح عن كتب الشلمغاني التي كتبها في زمان إستقامته ( قال الشيخ : أقول فيها ماقاله العسكري عليه السلام ، في كتب بني فضّال ) . فانّهم كانوا إماميين ثقاة وقد كتبوا كتباً ، ثم إنحرفوا ، وبقيت كتبهم في أيدي الشيعة ، فانهم ( حيث قالوا له ) أي : قال الرّواة للامام العسكري عليه السلام : ( مانَصنَعُ بِكُتُبِهِم وَبُيُوُتُنا مِنها مِلاء ؟ ) أي : بيوتنا ممتلئة من كتب بني فضال .

( قال عليه السلام : خُذُوا مارَوَوا ، وَذَرُوا مارَأوا ) (1) أي : خذوا رواياتهم لأنّهم ثقاة وإتركوا أفكارهم وآرائهم لانّها منحرفة .

ص: 36


1- - بحار الانوار : ج2 ص252 ب29 ح72 ، الغيبة للطوسي : ص390 .

فانّه دلّ بمورده على جواز الأخذ بكتب بني فضّال وبعدم الفصل على كتب غيرهم من الثقاة ورواياتهم .

ولهذا إنّ الشيخ الجليل المذكور الذي لايظنّ به القولُ في الدّين بغير السماع من الامام عليه السلام ، قال : « أقول في كتب الشلمغانيّ ما قاله العسكريّ عليه السلام ، في كتب بني فضّال» . مع أنّ هذا الكلام بظاهره قياسٌ باطل .

-------------------

( فانّه ) أي : جواب الامام العسكري عليه السلام هذا ( دلّ بمورده ) أي : بسبب مورده المذكور في الرّواية ( على جواز الأخذ بكتب بني فضّال وبعدم الفصل : على كتب غيرهم من الثقاة ورواياتهم ) فانّ الأُمة لم تُفرّق بين كتب بني فضّال ومارووا فيها وكتب غيرهم من الثقاة ورواياتهم فيها .

( ولهذا ) أي : لأجل دلالة خبر الامام العسكري عليه السلام على اعتبار روايات سائر الثقاة ، لما عرفت : من عدم القول بالفصل نرى ( انّ الشيخ الجليل ) الحسين بن روح ( المذكور الذي لايظن به القول في الدّين بغير السّماع من الامام عليه السلام ) فانّه من وثاقته ، وعدالته ، وجلالة قدره ، لايحتمل في حقه : أن يحكم بحكم من طريق العقل غير المدعوم من الشرع .

( قال : أقول في كتب الشلمغاني ماقاله العسكري عليه السلام في كتب بني فضّال ) فانّ هذا من المناط القطعي لا القياس .

( مع انّ هذا الكلام بظاهره قياسٌ باطلٌ ) لو لم يكن هناك مناط ، فانّه في الحقيقة قد تمسك بقول الامام العسكري عليه السلام ، لأنّ مناطه آت في كتب سائر من كتب كتباً صحيحة ، ولو إنحرف بعد ذلك ، فانّ إنحرافه المتأخر ، لايؤثر في رواياته المتقدِّمة ، التي رواها في حال وثاقته .

ص: 37

ومثلُ ماورد مستفيضاً في المحاسن وغيره : « حَديثٌ واحِدٌ في حَلالٍ وَحَرام ، تَأخُذُه مِن صادِقٍ ، خَيرٌ لك مِن الدُّنيا وَما فيها مِن ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ .

وفي بعضها : يأخُذُه صادِقٌ عَن صادِق» .

ومثلُ ما في الوسائل عن الكشّيّ ، من أنّه ورد توقيعٌ على القاسم بن العلي ، وفيه : « إنّهُ لاعُذرَ لأحَدٍ مِن مَوالينا فِي التَشكِيكِ فِيما يروِيهِ عَنّا ثِقاتُنا

-------------------

( ومثل ماورد مستفيضاً في ) كتاب ( المحاسن وغيره : حَديثٌ واحِدٌ في حَلالِ وَحَرامِ ، تأخُذُهُ مِن ) شخص ( صادِقٍ ، خَيرٌ لَكَ مِن الدُّنيا وَمَا فيها مِن ذَهبٍ وَفِضَةٍ ) (1) وذلك لأنّ الدنيا مهما كانت ثمينة ، فانها زائلة بينما الآخرة باقية ، والباقي أثمن من الزائل بلا اشكال .

( وفي بعضها ) أي : في بعض تلك الاخبار المستفيضة ماهذا لفظة ( : يأخُذُهُ صادِقٌ عَن صادِق ) (2) والمراد : صدق الواسطة أيضاً ، لئلا يكون السند غير صحيح .

( ومثل ما في الوسائل عن الكشّيّ : من انّه ورد ) عن صاحب الأمر صلوات اللّه عليه ( توقيع ) والمراد بالتوقيع : الإمضاء ، وكان يطلق أحياناً على الإمضاء وعلى مايتقدمه من كلمة قصيرة أو نحوها ، حول موضوع مرتبط بأمر مهم ، كما كان عادة الخلفاء ، والامراء ، ومن أشبههم ذلك .

( على القاسم بن العلي ، وفيه : إنَّهُ لا عُذرَ لأَحَدٍ مِن مَوالِينا فِي التَشكيك ) أي : لا يجوز لشيعتنا أن يترددوا ( فيما يَرويِه عَنّا ثِقاتُنا ) وإنّما لا يجوز لأحد

ص: 38


1- - المحاسن : ص227 ح156 ، وسائل الشيعة : ج27 ص98 ب8 ح33313 مع تفاوت يسير .
2- - الاختصاص : ص61 ، بحار الانوار : ج2 ص150 ب19 ح26 .

قَد عَلِمُوا أنّا نُفاوضُهُم سِرَّنا وَنَحمِلهُ إليهم» .

ومثلُ مرفوعة الكناني عن الصادق عليه السلام ، في تفسير قوله تعالى : «وَمَن يَتّقِ اللّه يَجعَلُ لَهُ مَخرَجاً وَيَرزُقُهُ مِن حَيثُ لايَحتَسِبُ» . قال : « هولاءِ قَومٌ مِن شِيعَتِنا ضُعَفاء ، وَلَيسَ عِندَهُم مايَحتَمِلُونَ بهِ إلَينا فَيَستَمِعُونَ حَدِيثَنا وَيُفتّشُون مِن عِلمِنا ، فَيَرحَلُ قَومٌ فَوقَهُمْ ويُنفِقُونَ أَموالَهُمْ ويتُعِبونَ أَبدانَهُم ، حَتّى يَدخُلوا عَلينا

-------------------

منهم التشكيك لأنّ شيعتنا ( قَد عَلِمُوا : أنّا نُفاوِضهُم سِرّنا ) أي : نلقي الى الثقاة الامور المحكية المرتبطة بنا ، ممّا لايتحمله العامة ( ونَحمِلُهُ ) أي : السّر ( إليهم ) (1) أي الى الثقاة .

( ومثل مرفوعة الكناني عن الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى : « وَمَن يَتَّقِ اللّه َ يَجعَل لَهُ مَخرَجاً * ويَرزُقُهُ مِن حَيثُ لايَحتَسبُ» (2) أي : انّ فائدة التقوى هو : انّ اللّه سبحانه وتعالى يجعل للمتقي مخرجاً من مشكلاته ، كالمرض ، والعدو ، والفقر ، وما أشبه ، ويرزقه من حيث لايظن إنه يرتزق من تلك الجهة .

( قال : هؤلاء ) أي : المتقون ( قَومٌ مِن شِيعَتِنا ضُعفاءَ ) من حيث المال ( وَلَيسَ عِندَهُم مايَحتَمِلوُنَ بهِ إلينا ) أي : ليس لهم إمكان الوصول الينا بسبب فقرهم ( فَيَسمَعُون حَدِيثنا ، وَيُفَتِشُونَ مِن عِلمِنا ) فهم يبقون في بلادهم لعجزهم .

( فَيَرحَلُ قَومٌ فَوقَهُم ) في المال والوسيلة ( وَيُنفِقُون أَموالَهم ، ويُتعِبونَ أبدانَهُم ، حَتى يَدخلوا عَلينا ) في بلادنا ، كما إذا كنا في المدينة المنورة ،

ص: 39


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج27 ص150 ب11 ح33455 مع تفاوت ، رجال الكشّي : ص536 وفيه يؤديه ، بحار الانوار : ج50 ص318 ب4 ح15 .
2- - سورة الطلاق : الآيات 2 - 3 .

ويَستَمِعوا حَديثَنا فَيَنقلبوا إِلَيهِم فَيَعيه اولئك ويُضيّعُهُ هؤلاء . فاولئك الّذينَ يَجعَل اللّه ُ لَهُم مَخرَجاً وَيَرزُقُهُم مِن حَيثُ لايَحتَسِبُونَ» .

دلّ على جواز العمل بالخبر وإن نقله من يُضيّعُهُ ولايعمل به .

ومنها : الأخبارُ

-------------------

أو في مكة المكرمة أو في بغداد ، أو في خراسان - مثلاً- ( وَيَستَمعوا حَديثَنا فَيَنقَلِبوا إليهم ) : الى ضعفاء شيعتنا وينقلون إليهم أحاديثنا .

( فَيَعيه ) أي : يأخذه ويعمل به ( اولئك ) الضعفاء ( وَيُضيّعُهُ ) أي : يترك العمل بالاحاديث ( هؤلاء ) المرتحلون ، لأنّ المرتحلين أحياناً يكونون من المسرفين الذين لايهمهم الأمر .

( فاولئك ) الواعين لاحاديثنا ، هم الضعفاء ، ( الذّينَ يَجعَل اللّه لَهُم مَخرَجاً ) من مشكلاتهم ( وَيَرزُقُهُم مِن حَيثُ لايَحتَسِبون ) (1) من علومنا بسبب هؤلاء الوسائط .

إذن : فالوسائط ربّما كانوا هم من العاملين أيضاً ، وربّما كانوا من غير العاملين كما إذا كانوا من المترفين الذين يهوون الأسفار وجمع الأحاديث لكنهم ثقاة في نقلهم وإن كانوا مضيعين في عملهم ، فانّ هذا الخبر ( دلّ على جواز العمل بالخبر وإن نقله من يضيّعه ولايعمل به ) لأنّ المعيار الوثاقة في اللّسان ، لا العمل بالأركان ، لما عرفت : من انّه لايجب أن يكون ناقل الخبر عادلاً .

( ومنها ) أي : من الطوائف التي تدل على حجّية خبر العادل أو الثقة ( الأخبار

ص: 40


1- - الكافي روضة : ج8 ص178 ح1 وفيه عن محمد الكناسي ، وسائل الشيعة : ج27 ص90 ب8 ح33290 ، تفسير الصافي : ص712 .

الكثيرةُ التي يظهر من مجموعها جوازُ العمل بخبر الواحد وإن كان في دلالة كلّ واحد على ذلك نظرٌ .

مثل النبويّ المستفيض بل المتواتر : « إنّهُ مَن حَفِظَ عَلى اُمَتي أَربَعيِنَ حديثاً بَعَثَهُ اللّه ُ فَقِيهاً عالماً يومَ القيامة» . قال شيخنا البهائيّ قدس سره ، في أوّل أربعينه : « إنّ دلالة هذا الخبر على حجّية خبر الواحد لايَقصُرُ عن دلالة آية النّفر» .

-------------------

الكثيرة ، التي يظهر من مجموعها : جواز العمل بخبر الواحد وإن كان في دلالة كل واحد ) واحد ( على ذلك ) الجواز ( نظر ) وإنّما يجوز العمل لحصول التواتر فيها ، والتواتر يعمل به وإن كان كل فرد فرد من أفراده لايعمل به وحده .

لايقال : كيف يسبب غير الحجّة بسبب الاجتماع الحجّة ؟ .

لأنّه يقال : انّه يوجب تراكم الظّنون ، كما يسبب قطرات السيل الهادم للأبنية بسبب التجمع ، وإن لم يكن في كل قطرة منها هذه النتيجة .

( مثل النبوي المستفيض بل المتواتر : إنّهُ مَن حَفِظَ عَلى أُمتي أَربَعِينَ حديثاً

بَعَثَهُ اللّه ُ فَقِيهاً عَالِماً يَومَ القِيامةِ ) (1) والفرق بين الفقه والعلم إذا تقابلا ، انّ العلم هو : ما إستوعبه الانسان والفقه هو الفهم والدراية والتحقيق والتدقيق في الأخبار .

( قال شيخنا البهائي قدس سره في أوّل أربعينه : انّ دلالة هذا الخبر على حجّية خبر الواحد ، لايقصر عن دلالة آية النفر ) (2) فكما انّ آية النفر تدل على حجيّة خبر الواحد ، يدل هذا الخبر على حجيّته أيضاً وإلاّ ماالفائدة في الحفظ على الاُمة

ص: 41


1- - الاربعون حديثا : ص11 ، الخصال : ص541 ح15 ، بحار الانوار : ج2 ص156 ب20 ، غوالي اللئالي : ج1 ص95 ، منية المريد : ص371 ، صحيفة الرضا : ص65 .
2- - الاربعون حديثا : ص306 ، وسائل الشيعة : ج27 ص99 ب8 ح33317 مع تفاوت .

ومثلُ الأخبار الكثيرة الواردة في الترغيب في الرّواية والحَثّ عليها وإبلاغ مافي كتب الشيعة ، مثل ماورد في شأن الكتب التي دفنوها لشدّة التقيّة . فقال عليه السلام : « حَدِّثُوا بِها فَانّها حَقٌ» .

ومثل ماورد في مذاكرة الحديث والأمر بكتابته .

مثل قوله للرّاوي : « اُكتب وَبُثَّ عِلمَك فِي بَني عَمِّكَ ، فإنَّهُ

-------------------

بالنسبة الى أخبار لايتمكنون من العمل بها لعدم حجّية خبر الواحد ؟ .

( ومثل الأخبار الكثيرة الواردة في الترغيب في الرّواية والحَث عليها ، وإبلاغ مافي كتب الشيعة ) الثقاة الى الذين يريدون العمل بها .

( مثل ماورد في شأن الكتب التي دفنوها لشدة التقية ) فانّ جلاوزة السلطان كانوا يأتون الى البيوت لالقاء القبض على أصحابها الشيعة وحيث إن الكتب كانت وثيقة لمكاتبتهم وموالاتهم للأئمة الطاهرين ، كان أصحاب البيوت يدفنونها حذراً من العثور عليها ، فتتلف تحت الأرض .

( فقال عليه السلام : حَدّثُوا بِها فَانَّها حَقّ ) (1) يعني : إنّ تلك الكتب إذا دفنت ، فانّ أصحابها يتمكنون أن يتحدثوا بما فيها ، لأنهم كانوا في كثير من الأحيان يحفظون الرّوايات ولو بالمعنى .

( ومثل ما ورد في ) مدح وثواب ( مذاكرة الحديث ، والأمر بكتابته ) أي : كتابة الحديث ، فانهم كانوا يجتمعون ، ويتحدث بعضهم الى بعضه بالأحاديث التي سمعها وتعلمها ، وكذلك كانوا يكتبون الأحاديث لحفظها من الضياع .

( مثل قوله عليه السلام للرّاوي : أُكتب وَبُثَّ ) أي : إنشر ( عِلمَك فِي بَني عَمِّك ، فإنَّهُ

ص: 42


1- - الكافي اصول : ج1 ص53 ح15 ، وسائل الشيعة : ج27 ص84 ب8 ح33272 .

يأتي زَمان هَرجٌ ، لايأنسُون إلاّ بكُتُبِهِم» .

وما ورد في ترخيص النقل بالمعنى .

وماورد مستفيضاً ، بل متواتراً ، من قولهم عليهم السلام : « إعرِفُوا مَنازِلَ الرِّجالِ مِنّا بِقَدَرِ روايَتِهِم عَنّا» .

وما ورد من قولهم عليهم السلام : « لِكُلِّ رَجُلٍ مِنّا مَن يَكذِبُ عَلَيهِ» .

-------------------

يأتِي زَمانُ هَرجٌ ) يكون أمر الناس فيه فوضى ، فلا يتمكنون من الوثوق بأحد ، ولا يستطيعون من الخروج والاستئناس بأصدقائهم ، ف( لايأنسُون ) اولئك الذين وقعوا في ذلك الزمان ( إلاّ بكُتُبِهم ) (1) التي يتوارثونها منكم ، فانّ الكتاب أحد الأنيسين . ( و ) مثل ( ما ورد في ترخيص النقل بالمعنى ، و ) كذلك ( ماورد مستفيضاً بل متواتراً من قولهم عليهم السلام : إعرِفُوا مَنازِل الرِّجالِ مِنّا بَقَدَرِ رِوايَتِهِم عنّا ) (2) ممّا يدل كل ذلك على حجّية الخبر ، إذ لولا حجّيته لم يكن في نقله بالمعنى من جدوى ، ولا في تقدير رواته من فائدة .

( و ) مثل ( ما ورد من قولهم عليهم السلام لِكُلِّ رَجُلٍ مِنّا ) أهل البيت عليهم السلام ( مَن يَكذِبُ عَلَيه ) (3) أي : يسند إليه الأخبار الكاذبة ، واسناد الأخبار الكاذبة اليهم امّا لأنّ يسندوا بها رأيهم ، أو لأن يستأكلوا بتلك الأخبار المكذوبة ، أو لأن يشوّهوا بها على أهل البيت عليهم السلام .

وعليه : فلو لم تكن الأخبار الآحاد حجّة ، لم يكن في الكذب عليهم فائدة ،

ص: 43


1- - الكافي : ج1 ص52 ح11 مع تفاوت ، وسائل الشيعة : ج27 ص81 ب8 ح33263 .
2- - رجال الكشي، ص3 ، وفيه (اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنا) .
3- - المعتبر : ص6 .

وقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « سَتَكثُرُ بَعدِي القالة ، وَإنّ مَن كَذَبَ عَليَّ فَليَتَبَّوء مَقعَدَهُ مِنَ النّار» . وقول أبي عبد اللّه عليه السلام : « إنّا أهلُ البيت صِدّيقُون ، لانخلوا من كَذّاب يَكذِبُ عَلينا » . وقوله عليه السلام : « إِنّ الناسَ اُولِعُوا بالكذب عَلينا ، كَأنّ اللّه إِفترَضَ عَلَيهم وَ لا يُريدُ مِنهُم غَيره » .

-------------------

لأنّ الناس ماكانوا يقبلونها ، فهو إذن يدلّ على قبول الناس للاخبار في زمانهم عليهم السلام .

( و ) مثل ( قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : سَتَكثُرُ بَعدِي القالَة ) جمع : قائل ، على وزن باعة جمع بائع ، معنى : من يتقوّل على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم وينسب الأخبار الكاذبة اليه .

ثمّ قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( وَإنّ مَن كَذَبَ عَلَيَّ فَليَتَبَّوء مَقعَدَهُ مِنَ النّار ) (1) أي : يحجز له محل قعود في نار جهنم ، بمعنى انّ الكذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم يسبب للكاذب دخول النار . ( وقول أبي عبد اللّه عليه السلام : إنّا أَهلُ البيت صِديقُون لا نَخلُوا مِن كَذّاب يَكذِبُ عَلَينا ) (2) فانّ الكذّابين - كما عرفت - إنّما كانوا يكذبون عليهم للاستفادة من شيعتهم ، أو للتشويه على الأئمة الطاهرين عليهم السلام أو لتقوية ماكانوا يقولون به من الفتوى والحكم ليقبل الناس منهم .

( وقوله عليه السلام إنَّ النّاسَ اولِعُوا ) أي : صار لهم حرص شديد ( بالكذبَ عَلَينا ، كَأنّ اللّه إفترضَ عَلَيهم ) أي : أوجب عليهم أن يكذبوا علينا ( و ) اللّه كأنّه ( لايُريدُ مِنهم ) أي : من الناس ( غَيرَه ) (3) أي : غير الكذب علينا .

ص: 44


1- - الكافي اصول : ج1 ص62 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج4 ص264 ب2 ح5762 (مع تفاوت) ، الصراط المستقيم : ج3 ص156 و ص258 .
2- - رجال الكشي : ص108 ، بحار الانوار : ج2 ص217 ب28 ح12 وفيه صادقون .
3- - رجال الكشي : ص136 بالمعنى ، بحار الانوار : ج2 ص246 ب29 ح58 (بالمعنى) .

وقوله عليه السلام : « لِكُلّ مِنّا مَن يَكذِب عَليه» .

فانّ بناء المسلمين لو كان على الاقتصار على المتواترات لم يكثر القالة والكذابة ، والاحتفاف بالقرينة القطعيّة في غاية القلّة .

-------------------

( وقوله عليه السلام : لِكُلٍّ مِنّا مَن يَكذِبُ عَلَيه ) (1) أي : إن بازاء كل واحد من الرسول وأهل بيته صلوات اللّه عليهم أجمعين كان كذاباً معاصراً لهم ، يفتري الأَخبار الكاذبة عليهم ، وهذا الالفات منهم عليهم السلام الى وجود الكذابين ، وإفترائهم الأخبار الكاذبة عليهم ، لو لم يكن الخبر الواحد حجّة عند المسلمين لم يكن له وجه .

وعليه : فقد دلّت هذه الأخبار على حجّية خبر الواحد ، الذي هو المقصود في هذا البحث ، وقد ذكره المصنّف بقوله : ( فانّ بناء المسلمين لو كان على الاقتصار على المتواترات ، لم يكثر القالة والكذابة ) على الرسول وآله صلوات اللّه عليهم أجمعين ، ولكان إختراع الأخبار الكاذبة المنسوبة اليهم لغواً لأنّ المسلمين لم يعملوا بأخبار الآحاد .

( و ) إن قلت : إنّ بناء المسلمين لم يكن على العمل بالخبر المجرد بل المحفوف بالقرائن القطعية فليستعينوا بها للوصول الى مآربهم .

قلت : هذا الإحتمال مردود لأنّ ( الاحتفاف بالقرينة القطعية في غاية القلة ) عندنا والأخبار المكذوبة لم تكن محفوفة بالقرائن القطعية حتى يأخذها المسلمون ، فلم يكن إذن وضعهم للأخبار إلاّ لأنّ عموم الخبر الواحد كان حجّة عند المسلمين .

ص: 45


1- - المعتبر : ص6 .

إلى غير ذلك من الأخبار التي يستفاد من مجموعها رضى الأئمة عليهم السلام ، بالعمل بالخبر وإن لم يُفد القطع .

وادّعى في الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة ، إلاّ أنّ القدرَ المتيقّنَ منها هو خبرُ الثقة الذي يَضعُفُ فيه إحتمالُ الكذب ، على وجه لايعتني به العقلاء ويقبّحون التوقّف فيه لأجل ذلك الاحتمال ، كما دلّ عليه أَلفاظ الثقة والمأمون والصادق وغيرها الواردة في الأخبار المتقدّمة ،

-------------------

( إلى غير ذلك من الاخبار التي يستفاد من مجموعها : رضى الائمة عليهم السلام بالعمل بالخبر وان لم يفد القطع ) وكذلك رضى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وإن أمثال هذه الأخبار ، كما وردت عنه وردت عنهم صلوات اللّه عليه وعليهم أجمعين .

( وادّعى في الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة ، إلاّ أنّ القدر المتيقن منها) أي : من تلك الأخبار الدالة على حجّية خبر الثقة ليس كل ثقة ، وانّما ( هو خبر الثقة التي يضعف فيه إحتمال الكذب ، على وجه لايعتني به ) أي : باحتمال الكذب فيه ( العقلاء و ) ممّا يوجب الاطمئنان به .

بل ( يقبّحون التوقف فيه ) أي : في ذلك الخبر ( لأجل ذلك الاحتمال ) أي : إحتمال الكذب ، فانّ إحتمال الكذب كان ضعيفاً في غاية الضعف .

( كما دلّ عليه ) أي : على انّ الخبر الذي هو ثقة وفي منتهى الوثاقة حجّة ، لا كل خبر ثقة وإن كان فيه إحتمال الكذب قوياً .

(الفاظ: الثقة ، والمأمون ، والصادق ، وغيرها الواردة) من العناوين ( في الأخبار المتقدّمة ) الواردة مثل قوله عليه السلام : « خذ بأوثقهما في نفسك» (1) وقوله : « المأمون

ص: 46


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع احاديث الشيعة : ج1 ص255 .

وهي أيضاً مُنصَرَفُ إطلاق غيرها .

وأمّا العدالةُ ، فأكثر الأخبار المتقدّمة خاليةٌ عنها ، بل وفي كثير منها التصريحُ بخلافه ، مثل رواية العُدّة الآمِرَة بالأخذ بما رووه عن عليّ عليه السلام ، والواردة في كُتب بني فضّال ،

-------------------

على الدين والدنيا» (1) ، وما أشبه ذلك .

( وهي أيضاً مُنصَرَف إطلاق غيرها ) أي : غير هذه الأخبار من الأخبار التي ليس فيها أحد هذه العناوين ، وانّما هي تدل على حجّية الخبر مطلقاً فانّها محمولة على هذه الأخبار بسبب حمل المطلق على المقيد ، أو إنّها منصرفة الى مافي هذه الاخبار من العناوين الخاصة على ماعرفت .

هذا بالنسبة الى إعتبار الوثاقة في الرّاوي .

( وأمّا العدالة : فأكثر الأخبار المتقدّمة خالية عنها ، بل وفي كثير منها التصريح بخلافه ) ممّا يدل على عدم اشتراط العدالة ( مثل رواية العُدّة (2) الآمرة بالأخذ بما رووه ) أي العامة ( عن عليّ عليه السلام ) فانهم ليسوا من العدول - كما هو واضح - إلاّ على ما ذكره المسالك : « من أنّ عدالة كل قوم بحسبهم» .

( و ) مثل الأخبار ( الواردة في ) إعتبار ( كتب بني فضّال ) (3) فانّهم لم يكونوا عدولاً . لكن ربّما يقال : انّ بني فضّال كتبوا كتبهم في زمان عدالتهم ولايضّر

ص: 47


1- - رجال الكشّي : ص595 ، وسائل الشيعة : ج27 ص146 ب11 ح33442 ، بحار الانوار : ج2 ص251 ب29 ح68 ، الاختصاص : ص87 .
2- - عدة الاصول : ص61 ، وسائل الشيعة : ج27 ص91 ب8 .
3- - الغيبة : ص240 .

ومرفوعة الكناني ، وتاليها .

نعم ، في غير واحد منها حصرُ المعتمد في أخذ معالم الدّين في الشيعة ، لكنّه محمول على غير الثقة

-------------------

إنحراف الرّاوي بالرّوايات التي رواها حال الاستقامة ، فانّ الاعتبار هو حين الرّواية ، لا قبل ذلك أو بعده . ( و ) مثل ( مرفوعة الكناني ) (1) المتقدِّمة في تفسير قوله تعالى : « وَمَنْ يتقِ اللّه يَجعَل لهُ مَخرَجا» (2) فانّها تدلّ على جواز العمل بأخبار من يروي ماسمعه من الأخبار وهو لا يعمل بها .

( و ) مثل ( تاليها ) أي تالي رواية الكناني ، ولعل مراد المصنّف من التالي هو الحديث المتواتر : - « مَن حَفِظَ عَلى اُمتي أَربَعينَ حَديثاً بَعَثَهُ اللّه ُ فَقيِهاً عالِماً يومَ القيامةِ» (3) الى غير ذلك ممّا ظاهرهُ عدم التقييد بالعدالة .

( نعم ، في غير واحد منها ) أي : من الأخبار ( حصر المعتمد في أخذ معالم الدّين ) منه ( في الشيعة ) كما تقدّم من قوله عليه السلام : « لاتأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا» (4) .

( لكنّه محمول على غير الثقة ) إذ يجوز أخذ الخبر من الثقة ، وان كان فطحياً ، أو كيسانياً ، أو ما أشبه - كما هو محقق في كتب الرّجال وغيرها .

ص: 48


1- - الكافي روضة : ج8 ص178 ح210 وفيه عن محمد الكناسي ، وسائل الشيعة : ج27 ص90 ب8 ح33290 ، تفسير الصافي : ص712 .
2- - سورة الطلاق : الآية 2 .
3- - الاربعون حديثا : ص11 ، الخصال : ص541 ح15 بالمعنى ، بحار الانوار : ج2 ص156 ب20 ح8 ، منية المريد : ص371 ، صحيفة الرضا : ص65 .
4- - رجال الكشّي : ص4 ، وسائل الشيعة : ج27 ص150 ب11 ح33457 ، بحار الانوار : ج2 ص82 ب14 ح2 بالمعنى .

أو على أخذ الفتوى ، جمعاً بينها وبين ما هو أكثر منها .

وفي رواية بني فضّال شهادةٌ على هذا الجمع ، مع أنّ التعليل للنهي في ذيل الرّواية بأنّهم ممّن خانوا اللّه ورسوله يدلّ على إنتفاء النهي عند إنتفاء الخيانة

-------------------

( أو ) محمول ( على أخذ الفتوى ) فانّه لايجوز الرّجوع الى غير الشيعي المجتهد في باب التقليد ، وإن جاز في باب أخذ الرّواية .

وانّما حملنا الأخبار الدالة على عدم جواز أخذ معالم الدّين من غير الشيعة على الذين ليسوا بثقة ، أو على الفتوى ( جمعاً بينها ) أي : بين هذه الأخبار المانعة ( وبين ما ) أي : الأخبار المجوزة الدالة على جواز أخذ الرّواية من الثقاة وان لم يكونوا شيعة و ( هو أكثر منها ) أي : هذه الأخبار المجوزة أكثر من الأخبار المانعة.

( و ) ان قلت : الجمع بين الرّوايات يحتاج الى شاهد الجمع .

قلت : ( في رواية بني فضّال شهادة على هذا الجمع ) من حمل الأخبار المانعة على باب التقليد ، والمجوزة على باب الرّواية ، حيث قال عليه السلام : « خُذُوا مارَوَوا وذَرُوا مارأوا» (1) ، ممّا يدل على أنّ رأيهم ليس بحجّة ، امّا رواياتهم التي رووها في حال الوثاقة فهي حجّة .

هذا ( مع انّ التعليل للنّهي في ذيل الرّواية : بأنهم ممّن خانوا اللّه ورسوله يدلّ على إنتفاء النهي عند انتفاء الخيانة ) فانّ الامام عليه السلام في هذه الرّواية ، بعدما نهى عن الرّجوع الى المخالف ، علّله : بانه خائن ، وظاهر هذه العلّة : إنه إذا لم يكن خائناً جاز الأخذ منه ، لأنّ التعليل يعمّم ويخصص - كما بحث سابقاً - .

ص: 49


1- - الغيبة للطوسي : ص390 ، بحار الانوار : ج2 ص252 ب29 ح72 وفيه بما رووا .

المكشوف عنه بالوثاقة ، فانّ الغير الاماميّ الثقة ، مثل إِبن فضّال وإِبن بكير ، ليسوا خائنين في نقل الرّواية . وسيأتي توضيحهُ عند ذكر الاجماع إنشاء اللّه تعالى .

وأمّا الاجماع

اشارة

فتقريره من وجوه :

أحدها :

الاجماع على حجّية خبر الواحد في مقابل السيّد وأتباعه ، وطريق تحصيله أحدُ وجهين ،

-------------------

ومن المعلوم : إنتفاء الخيانة ( المكشوف عنه بالوثاقة ، فانّ غير الامامي الثقة ، مثل ابن فضّال ، وابن بكير ، ليسوا خائنين في نقل الرّواية ) فاذا قال : لا تؤمن مالَكَ عِندَ زيد لأنّه خائن دلّ على جواز الائتمان عند عمرو الذي ليس بخائن ( وسيأتي توضيحه عند ذكر الاجماع إنشاء اللّه تعالى ) .

هذا ، ولكن العمدة في جواز الأخذ باخبار الثقاة من غير الشيعة : السيرة القطعية المستمرة الى زمانهم عليهم السلام وإلاّ فلربّما يقال : انّ الخيانة تسبب سقوط حجّية خبره كما تسبّب سقوط فتواه وقضائه وشهادته .

( وأمّا الاجماع ) وهو الدليل الرابع على حجّية خبر الواحد ( فتقريره من وجوه : أحدها : الاجماع على حجّية خبر الواحد في مقابل السيّد وأتباعه ) الذين قالوا بعدم حجّية الاجماع ، فالخارج من الاجماع هو السيّد وأتباعه ، ولأنهم معلوموا النسب لايضرّ مخالفتهم للاجماع ، ( وطريق تحصيله ) أي : تحصيل الاجماع المذكور ( أحدُ وجهين ) : الأوّل : إستقراء الفتاوى ، فانّا إذا استقرينا فتاوى العلماء واحداً واحداً ، حصل لنا العلم باجماعهم على حجّية خبر الواحد .

ص: 50

على سبيل منع الخلوّ .

أحدهما : تتبّع أقوال العلماء من زماننا إلى زمان الشيخين ، فيحصل من ذلك القطعُ بالاتفاق الكاشف عن رضى الامام عليه السلام ، بالحكم أو عن وجود نصّ معتبر في المسألة . ولايعتنى بخلاف السيّد وأتباعه ، إمّا لكونهم معلومي النَسب ، كما ذكر الشيخ في العدّة ،

-------------------

الثاني : استقراء الاجماعات المنقولة ، فانّا إذا إستقرينا الاجماعات كذلك حصل لنا العلم - أيضا - باجماعهم على حجيّة خبر الواحد .

وذلك ( على سبيل منع الخلوّ ) لا على سبيل القضيّة الحقيقية الذي يمنع كلّ طرف الطرف الآخر ، مثل العدد إما زوج أو فرد ، ولا على سبيل منع الجمع ، لأنّه يمكن تحصيل الاجماع بكلا الوجهين المذكورين ، وإنّما على سبيل منع الخلوّ ، يعني : إنّ أحد الاستقرائين : من إستقراء الفتاوى ، أو استقراء الاجماعات يدل على ذلك ، ولا مانع من جمعهما .

( أحدهما : تتبّع أقوال العلماء من زماننا الى زمان الشيخين ) : المفيد والطوسيّ رحمهم اللّه ( فيحصل من ذلك ) التتبع التام في فتاواهم المندرجة في كتبهم : ( القطعُ بالاتفاق ، الكاشف عن رضى الامام عليه السلام بالحكم ) المذكور وهو العمل بالخبر الواحد . ( أو ) يكشف هذا التتبع ( عن وجود نصّ معتبر في المسألة ) وذلك النصّ المعتبر هو مستند هؤلاء العلماء الذين قالوا بحجّية خبر الواحد .

( ولا يعتنى بخلاف ) أي بمخالفة ( السيّد واتباعه ) الذين قالوا بعدم حجّية الخبر الواحد وذلك ( إما لكونهم معلومي النَسب ) فانّ مخالفة إنسان معلوم النسب من العلماء ، لايضر في تحقق الاجماع المبني على الدخول ( كما ذكر الشيخ ) ذلك ( في العدّة ) ومضى الكلام فيه سابقاً .

ص: 51

وإمّا للاطّلاع على أنّ ذلك لشبهة حصلت لهم ، كما ذكره العلاّمة في النهاية ، ويمكن أن يستفاد من العُدّة أيضاً ، وإمّا لعدم إعتبار إتّفاق الكلّ في الاجماع على طريق المتأخرّين المبنيّ على الحدس .

-------------------

( وإمّا للاطّلاع على انّ ذلك ) أي : مخالفة السيّد وأتباعه ، للذين قالوا بحجّية خبر الواحد انّما هي ( لشبهة حصلت لهم ) فانّ الامامية في بحثهم مع العامة ، إذا أرادوا ردّ بعض الأخبار المكذوبة على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ولم يتمكنوا من التصريح بكذبها - كأخبار بني اُمية ومن أشبههم - التجئوا الى القول : بأنّ خبر الواحد ليس بحجّة ، حتى يكون في ذلك جمعاً بين تكذيب تلك الاخبار ، وعدم التصريح بأنّ أخبار العامة ليست بحجّة ، فتصور السيّد وأتباعه من ذلك انه مذهب لهؤلاء الفقهاء مع انه ليس كذلك .

ومن الواضح : انّ المخالف إذا علم ضعف مدركه في الخلاف لم يضر خلافه ذلك بالاجماع ( كما ذكره العلاّمة في النهاية ) فانّ العلاّمة علل عدم ضرر خلاف السيّد وأتباعه بهذه العلّة ، وهي : كونه لشبهة حصلت لهم .

( ويمكن ان يستفاد ) هذا التوجية ، الذي ذكرناه عن نهاية العلاّمة ( من العُدّة ) لشيخ الطائفة ( أيضاً ) وعليه فشيخ الطائفة قد علل عدم ضرر خلاف السيّد للاجماع ، بوجهين لا بوجه واحد .

( وإمّا لعدم إعتبار إتّفاق الكلّ في الاجماع على طريق المتأخرّين المبنيّ على الحدس ) فانّه قد سبق انّ الاجماع المعتبر عند المتأخرين ، هو : الحدس بقول الامام عليه السلام من أقوال الفقهاء إذا كان الحدس ضرورياً ، كالحدس في باب الأهِلّة - على ما ذكروا في المنطق - ومن المعلوم : انّ الحدس يحصل من اتفاق من عدا السيد وأتباعه .

ص: 52

والثاني : تتبّع الاجماعات المنقولة في ذلك :

فمنها : ما حكي عن الشيخ قدس سره ، في العُدّة في هذا المقام حيث قال :

« وامّا ما إخترتُهُ من المذهب ، فهو أنّ الخبر الواحد إذا كان وارداً من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة - وكان ذلك مرويّاً عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، أو عن أحد الأئمة عليهم السلام ، وكان ممّن لا يُطعَنُ في روايته ويكون سديداً في نقله ، ولم يكن هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبر ،

-------------------

( والثاني : تتبّع الاجماعات المنقولة في ذلك ) أي : في حجّية الخبر - كما ذكرناه - فانّا إذا تتبعنا الاجماعات المنقولة ، حصل لنا العلم بحجّية الخبر .

( فمنها ) أي : من تلك الاجماعات المنقولة : ( ما حكي عن الشيخ قدس سره في العدّة في هذا المقام ) أي : في باب البحث عن حجية الخبر ( حيث قال : وأمّا ما اخترتُهُ من المذهب فهو : أنّ الخبر الواحد إذا كان وارداً من طريق أصحابنا القائلين بالامامة وكان ذلك ) الخبر ( مروياً عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، أو عن أحد

الأئمة عليهم السلام ) لما تعرف : من إنّ أقوال المعصومين حجّة فقط بالنسبة الى أمتنا ، وإن كان بالنسبة الى الامم السابقة أقوال الأنبياء والأوصياء السابقون أيضاً حجّة إذا لم ينسخ ، ( وكان ) الرّاوي ( ممّن لا يُطعَنُ في روايته ) بأن لم يكن متهماً بالكذب ، أو بالجهالة في حاله ، بل عرفناه بالعدالة ، أو بالوثاقة على الاختلاف .

( ويكون سديداً في نقله ) بأن يكون ضابطاً لا كثير السهو والنسيان ، والغلط والاضطراب ، كما يتفق ذلك أحياناً في بعض الرّواة .

( ولم يكن هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبرُ ) بأن لم يكن الخبر محفوفاً بالقرائن الدالة على صحة مضمونه من الكتاب ، أو السنّة ، أو الاجماع ، أو العقل .

ص: 53

لانّه إذا كان هناك قرينة تدل على صحة ذلك ، كان الاعتبار بالقرينة ، وكان ذلك موجوباً للعلم ، كما تقدّمت القرائن - جاز العملُ به .

والذي يدلّ على ذلك إجماعُ الفرقة المحقّة ، فانّي وجدتُها مُجمِعَةٌ على العمل بهذه الاخبار التي رَوَوهَا في تصانيفهم ، ودوّنوها في أُصولهم ، لايتناكرون ذلك ولا يتدافعون ، حتى انّ واحداً منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه

-------------------

وإنّما شرطنا هذا الشرط ( لأنّه إذا كان هناك قرينةٌ تدلّ على صحّة ذلك ) الخبر ( كان الاعتبار ) والعمل ( بالقرينة ) لا بنفس الخبر ، وكلامنا نحن الآن في حجيّة الخبر بنفسه ، والآ فالقرينة الدالة على الحجّية توجب الاعتماد حتى على خبر الفاسق ونحوه ( وكان ذلك ) الاحتفاف بالقرينة هو بنفسه ( موجباً للعلم ، كما تقدّمت القرائن ) في كتاب العدة .

وعلى أي حال : فاذا إجتمع الخبر على هذه الشرائط ( جاز العمل به ، والذي يدلّ على ذلك ) أي : على جواز العمل بمثل هذا الخبر الجامع للشرائط ( إجماع الفرقة المحقّة ، فانّي وجدتُها ) أي : الفرقة ( مُجمِعةٌ على العمل بهذه الأخبار التي رَوَوهَا في تصانيفهم ، ودوّنوها في أُصولهم ) الأربعمائة ، أو المراد بالأصول : كل الاصول وهي أكثر من ذلك ، فانهم ( لايتناكرون ذلك ) أي : لاينكر أحد من الأُمة جواز العمل بمثل هذا الخبر ( ولايتدافعون ) أي : انّ أحدهم لايدفع مثل هذا الخبر .

والتناكر والتدافع ، من باب التفاعل ، كأنه ينكر هذا وينكر ذاك عليه ، أو يدفع هذا ويدفع ذاك الى جانبه .

( حتى إنّ واحداً منهم ) أي : من فقهاء الأُمة ( إذا أفتى بشيء لايعرفونه ) أي :

ص: 54

سألوه من أين قلت هذا ؟ .

فاذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور ، وكان راويه ثقة لاينكرُ حديثه ، سكتوا وسلّموا الأمر وقبلوا قوله .

هذه عادتُهم وسجيّتُهم من عهد النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، ومَن بعده مِن الأئمة عليهم السلام ، إلى زمان جعفر بن محمّد عليهم السلام ، الذي إنتشر منه العلم وكثرت الرّواية من جهته .

-------------------

لايعلمون وجه فتياه ( سألوه ) أي : سألوا ذلك العالم المفتي ( من أين قلت هذا ) الحكم ؟ .

( فاذا أحالهم على كتاب معروف ) من الكتب الجامعة ( أو أصل مشهور ) من الاصول الأربعمائة وغيرها .

وربّما يفرق بين الكتاب والأصل ، بانّه لو كان فتاوى الرّاوي موجوداً في الكتاب بالاضافة الى الرّوايات ، سميّ كتاباً وإلاّ سمي أصلاً .

( وكان راويه ) أي : راوي ذلك الخبر ( ثقة لاينكُر حديثه ، سكتوا وسلّموا الأمر وقبلوا قوله ) بلا إشكال ولا مناقشة ، ممّا يدل على انّ الخبر الواحد حجّة عندهم حتى إذا إستدل أحد المفتين بخبر واحد سكت طرفه ، لأنّه رأى إنّ فتواه المستندة الى الرّواية على طبق الدليل .

وكانت ( هذه عادتُهم ) أي : عادة الفرقة المحقة ( وسجيّتُهم ) ولعل الفرق بين العادة والسجيّة : إنّ العادة ماجرت عليه ظواهرهم ، والسجية ماجرت عليه بواطن أَمرهم وقناعاتهم النفسيّة .

وذلك ( من عهد النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ومَن بعدهِ من الأئمة عليهم السلام ، إلى زمان جعفر بن محمّد عليهم السلام ، الذي إنتشر منه العلم ، وكثرت الرّواية من جهته ) أي : من ناحية

ص: 55

فلولا أنّ العمل بهذه الأخبار كان جائزاً ، لما أجمعُوا على ذلك ، لأنّ إجماعهم فيه معصومٌ لا يجوز عليه الغلطُ والسهوُ .

والذي يكشف عن ذلك : أنّه لمّا كان العمل بالقياس محظوراً عندهم في الشريعة لم يعملوا به أصلاً وإذا شذّ منهم واحد عمل به في بعض المسائل واستعمله

-------------------

الامام الصادق عليه السلام ، فانّ الامام كان في عهد تنازع الخلفاء الأمويين والعباسيين ولهذا تمكن من نشر العلم ، حيث كان الخلفاء قد إشتغل بعضهم ببعض ، فلم يبق لهم مجال التعرض للامام الصادق عليه السلام .

وعليه : ( فلولا انّ العمل بهذه الأخبار ) الواردة عن المعصومين عليهم السلام الجامعة للشرائط المذكورة ( كان جائزاً ، لما أجمعُوا على ذلك ) أي : على حجّيتها ( لأنّ إجماعهم فيه معصومٌ ) فانّ الفرقة المحقة من زمان النبي الى زمان الامام المهدي صلوات اللّه عليهم أجمعين كان فيهم المعصوم ، فاذا أجمعوا فالمعصوم داخل فيهم ، والاجماع الدخولي حجّة قطعاً ، لأنه ( لايجوز عليه ) أي : على المعصوم ( الغلطُ والسّهُو ) والنسيان والاشتباه ، وما أشبه ذلك .

( والذي يكشفُ عن ذلك ) أي : عن اجماع الفرقة على العمل بالخبر الجامع للشرائط (انّه لما كان العملُ بالقياس محظوراً ) ومحرماً(عندهم ) أي : عند الفرقة (في الشريعة لم يعملوا به أصلاً ) ولم يأخذوه مستنداً في الأحكام إطلاقاً .

( وإذا شذّ ) أي :ندر بمعنى :الندرة الخارجة عن الموازين ، وقد تقدّم الفرق بين الشذوذ والندرة ( منهم ) أي : من الفرقة المحقة ( واحد ) كابن الجنيد - مثلاً - حيث إنّه كان يعمل بالقياس ، لاسكات خصمه والتغلب عليه .

فاذا رأوه قد ( عمل به ) أي : بالقياس ( في بعض المسائل واستعمله ) أي

ص: 56

على وجه المحاجة لخصمه وان لم يكن إعتقاده ، ردّوا قوله ، وأنكروا عليه ، وتبرؤا من قوله ، حتى انّهم يتركون تصانيف من وصفناه ورواياته لما كان عاملاً بالقياس . فلوكان العمل بالخبر الواحد جرى بذلك المجرى لوجب فيه أيضاً مثل ذلك ، وقد علمنا خلافه .

فان قيل : كيف تدّعون إجماع الفرقة المحقّة

-------------------

القياس ( على وجه المحاجّة لخصمه ) بأن إستدل بالقياس لتأييد فتواه ضد خصمه ( وإن لم يكن إعتقاده ) على حجّية القياس وإنما إستدل به إحتجاجاً ، لا إستناداً ( ردّوا قوله ، وأنكروا عليه ، وتبرّؤا من قوله ) وإجتنبوه .

( حتى إنهم يتركون تصانيف ) وكتب ( من وصفناه ) يعمل بالقياس حتى على وجه المحاجّة والمخاصمة ، فكيف اذا كان على وجه الاستناد والاستدلال؟ ( و ) تركوا ( رواياته لما كان ) مثل ابن الجُنيد - مثلاً - ( عاملاً بالقياس ) حتى إحتجاجاً.

وعليه : ( فلو كان العمل بالخبر الواحد جرى بذلك المجرى )أي : بأن كان العمل بالخبر الواحد عند الطائفة المحقة ممنوعاً ، كما إن العمل بالقياس ممنوع عندهم( لوجب فيه أيضاً مثل ذلك )الإنكار الذي أنكروه على من عمل بالخبر الواحد وللزم عليهم ترك كتبه وروايته .

( و ) لكن ( قد علمنا خلافه ) أي : علمنا بأن الخبرالواحد ليس كالقياس في ترك العمل به عندهم ، بل قد تقدّم : انه اذا سئل أحدهم عن مصدر فتواه ، فأجاب بأنّه موجود في رواية كذا ، قبلوا منه وسكتوا عليه ، فهذا دليل على حجيّة الخبر عندهم دون القياس ، وانّ بين القياس والخبر بَونٌ شاسع .

ثم قال الشيخ في العدة : ( فان قيل : كيف تدّعون إجماع الفرقة المحقّة

ص: 57

على العمل بخبر الواحد ، والمعلومُ من حالها انها لا ترى العمل بخبر الواحد ، كما أنّ المعلوم أنّها لا ترى العمل بالقياس ، فان جاز إدّعاء احدهما ، جاز ادعاءٌ الآخر .

قيل له : المعلوم من حالها الذي لا ينكر أنّهم لا يَرَونَ العمل بخبر الواحد ، الذي يرويه مخالفوهُم في الاعتقاد ويختصون بطريقه ، فأمّا ما كان رُواتُه منهم

-------------------

على العمل بخبر الواحد ، والمعلوم من حالها ) أي : حال الفرقة المحقّة ( أنّها لا ترى ) ولا تجيز ( العمل بخبر الواحد ، كما أنّ المعلوم : انّها لا ترى العمل بالقياس ، فان جاز ادّعاء احدهما ، جاز إدّعاء الآخر؟ ) أيضاً .

ولعل هذا المستشكل رأى كلام السيّد المرتضى في عدم حجيّة خبر الواحد ، ورأى إن السيّد المرتضى متقدّم على شيخ الطائفة ، فقدّم قول السيّد على قول الشيخ وقاس الخبر بالقياس ، وقال : كما انّ الفرقة لا تعمل بالقياس ، كذلك لا تعمل بالخبر ، فهما سيان من جهة عدم جواز الاستناد اليهما .

( قيل له : المعلومُ من حالها ) أي حال الفرقة ( الذي ) ذلك المعلوم ( لاينكر ) عند أحد( أنّهم لا يَرَونَ العمل بخبر الواحد ، الذي يرويه مخالفوهمُ ) أي مخالفوا الفرقة المحقّة( في الاعتقاد ) فانّهم لا يعملون بخبر الذي يخالف إعتقاده عقائد الشيعة ( و ) لا يعملون بالخبر الذي ( يختصّون ) أي يختص المخالفون ( بطريقه ) أي : بطريق ذلك الخبر ، فانّ الخبر قد يرويه الشيعي وقد يرويه المخالف ، وقد يرويه كلاهما ، فاذا رواه الشيعي ، أو رواه كلاهما ، عملوا به ، أما اذا رواه المخالف فقط ، لا يعملون به .

( فأما ما كان ) من ( رواتُه منهم ) أي : من نفس الفرقة المحقة

ص: 58

وطريقةُ اصحابهم ، فقد بيّنا أنّ المعلوم خلاف ذلك ، وبيّنا الفرق بين ذلك وبين القياس ، وأنّه لو كان معلوماً حظرُ العمل بالخبر الواحد ، لجرى مجرى العلم بحظر القياس ، وقد عُلِمَ خلافُ ذلك .

فان قيل : أَليس شيوخكم لا يزالون يناظرون خصومهم في أنّ خبر الواحد لا يُعمل به ، ويدفعونهم عن صحّة ذلك ، حتى انّ منهم من يقول : لا يجوز ذلك عقلاً، ومنهم من يقول : لا يجوز ذلك سمعاً، لان الشرع لم يرد به.

-------------------

( و ) كان ( طريقة ) أي طريق ذلك الخبر ( أصحابَهُم ) الاماميون ( فقد بيّنا : انّ المعلوم خلاف ذلك ) فانّهم مجمعون على العمل به دون القياس فانهم مجمعون على عدم العمل به .

( وبيّنا : الفرق بين ذلك )الخبر( وبين القياس ، و ) بيّنا : ( انه لو كان معلوماً ) أي: لو علم( حظرُ )أي : منع ( العمل بالخبر الواحد ، لجرى )حظرالعمل بالخبر الواحد ( مجرى العلم بحظر القياس ، و )الحال( قد عُلِمَ خلافُ ذلك ) فحرمة القياس عندهم بديهي ، بينما العمل بالخبر الجامع للشرائط عندهم اجماعي - كما تقدّم - .

( فان قيل : أليس شيوخكم ) وعلماؤكم ، وكبار أساتذتكم ( لا يزالون ) حتى هذا اليوم ( يناظرون ) ويجادلون ( خصومهم ) من العامة ( في أنّ خبر الواحد لا يُعملُ به ، ويدفعونهم ) أي : يدفعون الخصوم ( عن صحّة ذلك ، حتى انّ منهم من يقول : لا يجوز ذلك عقلاً ) لأنّه يلزم منه تحليل الحرام وتحريم الحلال ، وتفويت المصلحة وجلب المفسدة ، وما أشبه ذلك .

( ومنهم من يقول : لا يجوز ذلك سمعاً ، لانّ الشرع لم يرد به ) أي : بخصوصه شيء ، وكلّما لم يرد من الشرع بخصوصه شيء ، فالاصل عدم حجيّته .

ص: 59

وما رأينا أحداً تكلّم في جواز ذلك ، ولا صنّف فيه كتاباً ، ولا أملى فيه مسألة، فكيف أنتم تدّعون خلاف ذلك ؟ .

قيل له : من أشرتَ إليهم من المنكرين للأخبار الآحاد ، إنّما تكلّموا من خالفهم في الاعتقاد ودفعوهم من وجوب العمل بما يروونه من الأخبار المتضمنة للأحكام التي يروون خلافَها .

-------------------

( وما رأينا أحداً تكلّم في جواز ذلك ) أي جواز العمل بالخبر الواحد ( ولاصنّف فيه كتاباً ، ولا أملى فيه مسألة ) فانّ من عادتهم كان القاء المسائل على التلاميذ ، ثم إنّ التلاميذ - أو هم بأنفسهم - كانوا يكتبون تلك المسائل المتفرّقة في كتاب يسمونه : بالأمالي .

( فكيف أنتم تدّعون خلاف ذلك ؟ ) وتقولون : بأن الأصحاب أجمعوا على العمل بالخبر الواحد ؟ .

( قيل له ) إنّ ( من أشرتَ إليهم من )العلماء ( المنكرين للأخبار الآحاد ) أي : لحجيتها إنّما أنكروا ذلك لأجل ردّ أخبار الخصوم التي عملوا بجعليتها - كما تقدّم - لا أنهم أنكروا ذلك حقيقة ، فانّهم ( إنما تكلّموا مع من خالفهم في الاعتقاد ) فانّ العامة بأقسامهم المختلفة كانوا مخالفين للامامية في العقيدة ، وكان عند اولئك أخبار مجعولة أراد الامامية رفضها .

( ودفعوهم من وجوب العمل بما يروونه ) أي : العامة ( من الاخبار المتضمّنة للأحكام التي يروون ) أي : الخاصة ( خلافَها ) فالشيعة لم يقصدوا بالمنع ، منع حجّية الخبر الواحد مطلقاً ، وإنما منع حجية أخبار العامة المعارضة بأخبار الخاصة ، أو الاخبار التي انفردوا بها ممّا لا دليل على صحتها وحجيّتها - لما عرفت - سابقاً : من ان الشيعة يرون حجيّة أخبار الثقاة .

ص: 60

وذلك صحيحٌ على ما قدّمناه ولم نجدهم اختلفوا في ما بينهم وأنكر بعضهم على بعض العملَ بما يروونه ، إلاّ في مسائل دلّ الدليل الموجب للعلم على صحتها .

فاذا خالفوهم فيها أنكروا عليهم ، لمكان الادلة الموجبة للعلم ، والأخبار المتواترة بخلافه .

-------------------

( وذلك )الدفع من الشيعة لاخبار العامة بهذا الاسلوب ( صحيحٌ على ما قدمنّاه ) : من إنّ شرط العمل هو : ورود الخبر من طريق الثقاة ولو كان الثقة فطحياً ، أو طاطرياً ،أو كيسانياً ، أو ما أشبه ذلك .

( ولم نجدهم ) أي اولئك العلماء الشيعة ، المنكرين لحجيّة الخبر الواحد - في قبال العامة - ( إختلفوا فيما بينهم ) في الحجية واللاحجية ( و ) لا ( أنكر بعضهم على بعض العملَ بما يروونه ، إلاّ في مسائل دلّ الدليل الموجب للعلم على صحتّها ) أي : صحة تلك المسائل ، بمعنى : انّه إذا تعارض الخبر بدليل آخر علمي ، ردّوا الخبر ، وإلاّ لم يردّوا الخبر الواصل من طريقهم .

وعليه : ( فاذا خالفوهم ) أي : خالف بعض الامامية بعضاً ( فيها ) أي : في مسائل قام العلم عليها ( أنكروا عليهم ) أي : أنكر بعضهم على بعض : العمل بالخبر الواحد ، الذي قام الدليل العلمي على خلافه ، وذلك ( لمكان ) أي : لاجل قيام ( الأدلة الموجبة للعلم ، والأخبار المتواترة بخلافه ) أي : بخلاف ذلك الخبر الذي تمسك به بعض ، ورأى البعض الآخر انّ العلم أو العلمي على خلافه ، فرّده .

والحاصل :انّهم إنما يردون من الاخبار مطلقاً :أخبار العامة ، وأما أخبار الخاصة ، فانما يردّون منها ما إذا قام علم أو علمي على خلافها ، هذا أولاً .

ص: 61

على أنّ الذين اُشير إليهم في السّؤال أقوالُهم متميزة بين أقوال الطّائفة المحقّة ، وقد علمنا أنّهم لم يكونوا أئمة معصومين وكلُّ قول قد علم قائله وعرف نسبه وتميّز من أقاويل سائر الفرقة المحقّة ، لم يُعتَّد بذلك القول ؟ .

لأنّ قولَ الطائفة إنما كان حجة من حيث كان فيهم معصومٌ ، فاذا كان القولُ من غير معصوم عُلِمَ أنّ قولَ المعصوم داخلٌ في باقي الأقوال وَوَجبَ المَصِيرُ إليه

-------------------

وثانياً :ما أشار اليه الشيخ بقوله :( على أنّ الذين اُشير إليهم ) من المنكرين لحجية خبر الواحد ، كما ذكر ( في السّؤال ) المتقدّم ، الذي أشرنا اليه بقولنا :« فان قيل : أليس شيوخكم الخ ؟ » ( أقوالُهم متميزة ) لقلة عددهم وواضحة ( بين أقوال الطّائفة المحقّة ) الذين قالوا بحجيّة خبر الواحد .

هذا ( وقد علِمنا : أنّهم لم يكونوا أئمة معصومين ) لوضوح : انَّ منكري حجّية الخبر الواحد اناس معلوموا النسب ، وليس بينهم المعصوم ( وكلُّ قول قد علم قائله ، وعرف نسبه ، وتميز من أقاويل سائر الفرقة المحقّة ، لم يُعتَدّ بذلك القول ) فان معلوم النسب ، لا يضر خلافه بالاجماع الدخولي - على ما عرفت - ، بل ولا بالاجماع الحدسي ، إذ الحدس لا يتوقف على إتفاق الكل .

وذلك ( لأنّ قولَ الطائفة إنما كان حجةً من حيث كان فيهم معصومٌ ، فاذا كان القولُ )المخالف لحجيّة خبر الواحد ( من غير معصوم ) - على ما عرفت - ( عُلِمَ : أنّ قَول المعصوم ، داخلٌ في باقي الاقوال ) القائلة لحجية خبر الواحد ( وَوَجبَ المَصِيرُ إليه )أي : الى قول المعصوم الداخل في قول المشهور

ص: 62

على ما بيّنته في الاجماع » انتهى موضوع الحاجة من كلامه .

ثم أورد على نفسه : بأنّ العقل إذا جوّز التعبّد بخبر الواحد والشرع ورد به ، فما الذي يحملكم على الفرق بين ما يرويه الطائفةُ المحقّة وبين ما يرويه أصحابُ الحديث من العامّة .

ثم أجاب عن ذلك : بأنّ خبرَ الواحد إذا كان دليلاً شرعيّاً

-------------------

( على ما بينّته في )بحث حجيّة ( الاجماع ) مفصلاً (1) .

( انتهى موضوع الحاجة من كلامه ) أي من كلام شيخ الطائفة رفع مقامه ، فانه صريح : في إنّ الاجماع قام على حجّية خبر الواحد ، وإنما المخالف جماعة معدودون، لا يضرّون بالاجماع الدخولي، ولا بالاجماع الحدسي - على ما عرفت - .

( ثمّ أورد ) شيخ الطائفة ( على نفسه : بانّ العقل إذا جوّز التعبّد بخبر الواحد ) لما تقدّم : من انّه لا يسبب مفسدة ، ولا تفويت مصلحة ( والشرع ورد به ) وأمضاه بسبب الآيات ، والأخبار ، والاجماع على حجّيته - كما تقدّم - .

وعليه : ( فما الذي يحملكم ) ويسبب لكم ( على الفرق بين ما يرويه الطائفةُ المحقّة ) حيث ترون حجّيته ( وبين ما يرويه أصحابُ الحديث من العامة ؟ ) حيث ترون عدم حجّيته ، فان الخبر الواحد لو كان حجّة ، كان حجّة من كل أحد ، وإذا لم يكن حجّة لم يكن حجّة من كلّ أحد ، فما هو الفارق بين الخبرين : الخاصي والعامي ؟ .

( ثم أجاب ) الشيخ ( عن ذلك : بأن خبرَ الواحد إذا كان دليلاً شرعيّاً ) لما تقدّم

ص: 63


1- - عدّة الأصول : ص51 .

فينبغي أن يستعمل بحسب ما قرّرته الشريعة ، والشارعُ يرى العَملَ بخبر طائفة خاصة فليس لنا التعدّي إلى غيرها . على انّ العدالة شرطٌ في الخبر بلا خلاف ، ومن خالف الحقّ ، لم يثبت عدالته ، بل ثبت فسقه .

ثم أورد على نفسه : بأنّ العمل بخبر الواحد ، يوجبُ كون الحقّ في جهتين عند تعارض خبرين .

ثم أجاب : أوّلاً : بالنقض بلزوم ذلك عند من منع العمل بخبر الواحد إذا كان

-------------------

من انّه شرعي وعقلي ( فينبغي ان يستعمل ) الخبر ( بحسب ما قرّرته الشريعة ، والشارعُ يرى العمل بخبر الطائفة خاصّة ) هم الثقاة من الامامية ونحوهم ، من الطاطريين ، والفطحيين ، والكيسانيين ،وما إلى ذلك .

وعليه : ( فليس لنا التعدّي الى غيرها ) أي : الى غير ما قررته الشريعة ( على انّ العدالة شرطٌ في الخبر بلا خلاف، ومن خالف الحقّ، لم يثبت عدالته ، بل ثبت فسقه).

هذا ، ولكنك قد عرفت : إن الميزان في حجّية الخبر ، الوثاقة لا العدالة .

( ثمّ أورد ) الشيخ ( على نفسه : بأنّ العملَ بخبر الواحد ، يوجبُ كون الحقّ في جهتين عند تعارض خبرين ) ممّا يوجب إجتماع النقيضين ، وقد أراد الشيخ أن يشير بهذا الى الاستحالة التي ادّعاها بعض في حجّية خبر الواحد ، وذلك بتقريب : انّه إذا دلّ خبر على وجوب السورة ، ودل خبر آخر على عدم وجوبها لزم كون السورة في الصلاة : واجبة ، وغير واجبة ، وذلك محال - كما تقدّم في كلام إبن قِبة .

(ثمّ أجاب : أوّلاً : بالنقض ، بلزوم ذلك ) التناقض أيضاً ( عند من منع العمل بخبر الواحد ) فانّ من لا يرى خبر الوحد حجّة ، يلزم عنده التناقض أيضاً ( إذا كان

ص: 64

هناك خبران متعارضان ، فانّه يقول مع عدم الترجيح بالتخيير ، فاذا إختار كُلاً منهما إنسانٌ لزم كونٌ الحقّ في جهتين .

وأيّد ذلك : بأنّه قد سُئِلَ الصادقُ عليه السلام ، عن إختلاف أصحابه في المواقيت وغيرها ،

-------------------

هناك خبران متعارضان ) قطعيّا الصدور - فانّ القطع بالصدور يوجب الحجّية قطعاً - فاذا كان أحد الخبرين القطعيين يقول - مثلاً - بوجوب السورة ، والآخر بعدم وجوب السورة ولم يكن مرجح لاحدهما ، فالذي تفعلوه في هذا المقام ، إفعلوه في الخبر الظنّي الصدور الذي هو حجّة أيضاً ؟ .

( فانّه ) أي : إن من ( يقول مع عدم الترجيح ) لا حد المتعارضين القطعيين ، ( بالتخيير ) فليقل بالتخيير في المتعارضين الظنيين أيضاً ، فانه كما لا يوجب القول بالتخيير في القطعيين التناقض ، كذلك لا يوجبه في الظنيين الذين كلاهما حجّة ، - كما قال : ( فاذا إختار كُلاً منهما ) أي : من الخبرين المتعارضين ( إنسانٌ ، لزم كونُ الحقّ في جهتين ) وهو تناقض فما تقولون في جواب قطعي الصدور ، قولوا في جواب ظنيّ الصدور .

والجواب : هو للمصلحة السلوكية التي ذكرها المصنّف في أول الكتاب ، أو إنّه من باب التسهيل على العباد ، الذي هو أهم عند الشارع ، حتى وإن فات المكلّف المصلحة الملزمة ، أو وقع في مفسدة ملزمة .

( وأيّد ) شيخ الطائفة جوابه النقضي ( ذلك ) وأنه قد وقع التعارض ظاهراً بين مقطوعي الصدور ، فليكن مظنوني الصدور الذين كلاهما حجّة أيضاً كذلك ( بأنّه قد سُئِلَ الصادقُ عليه السلام عن إختلاف أصحابه في المواقيت وغيرها ) أي : غير مواقيت الحجّ ، كأوقات الصلاة - مثلاً - وتعارض الاخبار الواصلة عنهم عليهم السلام

ص: 65

فقال عليه السلام : « أَنا خالَفتُ بَينَهٌم » ثم قال بعد ذلك : فان قيل : كيف تعملون بهذه الأخبار ونحن نعلم أنّ رواتها ، كما رووها ، رووا أيضاً أخبار الجبر ، والتَفويض وغير ذلك منِ الغلوّ والتناسخ

-------------------

فيها مع القطع بصدورها ؟ .

( فقال ) الصادق عليه السلام : ( أَنا خَالَفتُ بَينَهُم ) (1) أي : أوقعت الاختلاف بينهم ، حتى لا يعرفوا فيؤخذوا ، وهذا يؤيد وقوع التعارض في الأخبار القطعية الصدور ، كما إن هذا الجواب النقضي من شيخ الطائفة يكفي في رد من أشكل : بأنّ التعبد بالخبر الواحد يوجب التناقض .

وحاصله : انّه لا يوجب التناقض ، لانّ شرط التناقض : وحدة الموضوع ، وليس في المقام ذلك .

( ثم قال ) الشيخ ( بعد ذلك ) الكلام المتقدّم في رفع الاشكال عن الخبر الواحد : ( فان قيل : كيف تعملون بهذه الأخبار ) التي رواها الاماميّون في كتبهم؟ ( و ) الحال ( نحن نعلم : أنّ رواتها كما رووها ) أي : رووا هذه الاخبار المرتبطة بالفروع ، كذلك ( رووا أيضاً أخبار الجبر والتَفويض وغير ذلك مِن ) الاعتقادات الباطلة .

مثلاً : نقلوا أخبار ( الغلوّ ) في حق الأئمة الطاهرين عليهم السلام ( والتناسخ ) في حق الارواح .

ولا يخفى : ان التناسخ باطل ، وهو عبارة عن : إنّ الأرواح لقلتها - كما يدعون - إذا خرجت من بدن دخلت في بدن آخر ، فهناك - على رأيهم - أربعة أمور :

ص: 66


1- - عدة الاصول : 52 .

وغير ذلك من المناكير ، فكيف يجوز الاعتمادُ على ما يرويه أمثالُ هؤلاء .

قلنا لهم : ليس كلّ الثقاة نَقَلَ حديث الجبر والتشبيه ، ولو صحّ أنّه نقل لم يدلّ على أنّه كان معتقداً لما تضمّنه الخبر . ولا يمتنع أن يكون إنّما رواه لِيُعلَم أنّه لم يشذّ عنه شيء من الرّوايات ، لا لأنّه معتقد ذلك .

-------------------

النسخ : وهو ما ذكرناه .

الرسخ : وهو دخول الروح ، اذا خرج بدن الانسان في جسم حجر ونحوه من الجمادات .

الفسخ : وهو دخوله في جسم شجرة .

المسخ : وهو دخوله في جسم حيوان .

وهذه العقائد الأربع لطوائف أربع ، وقد ذكر بعضها في بعض أخبارنا .

( وغير ذلك من المناكير ) أي : المنكرات التي نحن الشيعة براء منها .

( فكيف يجوز ) مع ذلك ( الاعتمادُ على ما يرويه أمثالُ هؤلاء؟ ) فانّ نقلهم الأخبار الفاسدة دليل على فساد مذهبهم ، والفاسد المذهب لا يمكن العمل بخبره ، لأنّه خارج عن العدالة .

( قلنا لهم : ليس كلّ الثقاة نَقَلَ حديث الجبر ، والتشبيه ) وغيرهما ، من الامور الفاسدة ( ولو صحّ أنّه ) أي : بعض الثقاة ( نقل ) بعض هذه المنكرات ( لم يدلّ ) مجرد النقل ( على أنّه ) أي : الناقل ( كان معتقداً لما تضمّنه الخبر ) الذي نقله حتى يلزم منه فساد عقيدته ، فلا يعتمد عليه .

( ولا يمتنع أن يكون إنّما رواه لِيُعلَم أنّه لم يشذّ عنه شيء من الرّوايات ) فانّ بعضهم كان قصده جمع ما ورد ، من غير ناظر الى إنّ رواية ثقة أو غير ثقة ، أو إنّه مطابق لاصولنا أو ليس مطابقاً لاصولنا ( لا لأنّه معتقد ذلك ) .

ص: 67

ونحن لم نعتمد على مجرّد نقلهم ، بل إعتمادنا على العمل الصادر من جهتهم وإرتفاع النزاع فيما بينهم . وأمّا مجرد الرّواية فلا حجّية فيه على حال . فان قيل : كيف تعوّلون على هذه الرّوايات ، وأكثر رواتها المجبّرة والمشبّهة والمقلّدة والغُلاة والواقفيّة

-------------------

هذا ( و ) من الواضح أنّا ( نحن لم نعتمد على مجرّد نقلهم ) الرّوايات ( بل إعتمادنا على العمل الصادر من جهتهم ) فانّ مناط حجّية الخبر عندنا ، ليس هو نقل الرّواة بما هو نقلهم ، وإن كان الرواة ثقاة ، وإنّما المناط هو إتفاقهم عليه ( وإرتفاع النزاع فيما بينهم ) في العمل بهذه الرّوايات .

والحاصل : انّ إعتمادنا على عمل الطائفة ، وعلى ما ليس بينهم فيه خلاف ( وأمّا مجرّد ) النقل و( الرّواية ) بدون دليل من الخارج من عمل الطائفة ( فلا حجّية فيه على حال ) من الأحوال ، فسواء كان الناقل ناقلاً للمناكير أو لم يكن ، فاسد المذهب أو غير ذلك ، فانه إذا كانت روايته مطابقة لعمل الطائفه عملنا بها ، وإلاّ فلا .

( فان قيل : كيف تعوّلون على هذه الرّوايات ) التي يروونها في الفروع ( و ) الحال انّ ( أكثر رواتها المجبّرة والمشبهة ) والمجبرة : هم الذين يقولون : بأن اللّه سبحانه وتعالى يجبر العباد على المعاصي ثم يعاقبهم عليها ، والمشبهة : هم الذين يشبهون اللّه بالخلق .

( والمقلّدة ) وهم الأخباريون الذين قلّدوا في اصول دينهم بما تقوله الرّوايات ، مع وضوح : إنّ اصول الدين لا يؤخذ فيها بالرّوايات .

( والغُلاة ) الذين غلوا في حق الأئمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين .

( والواقفيّة ) وهم الذين توقّفوا بعد الامام موسى بن جعفر عليه السلام في إمامة الامام

ص: 68

والفطحيّة ، وغير هؤلاء ، من فرق الشيعة المخالفة للاعتقاد الصحيح ، ومن شرط خبر الواحد أن يكون روايه عدلاً عند من أوجب العمل به وإن عوّلتَ على عملهم دون روايتهم ، فقد وجدنا عملوا بما طريقه هؤلاء الذين ذكرناهم . وذلك يدل على

--------------------

الرضا عليه السلام حيث قالوا : إن الامام موسى بن جعفر عليه السلام غاب عن الأبصار كما يعتقده الشيعة بالنسبة الى الامام المهدي عجل اللّه تعالى فرجه .

( والفطحيّة ) وهم القائلون بامامة عبداللّه الأفطح بن الأمام الصادق عليه السلام ، وقيل : سمّي بالافطح ، لأنّه كان عريض الرأس .

( وغير هؤلاء من فرق الشيعة المخالفة للاعتقاد الصحيح ) كالكيسانية الذين قالوا بإمامة محمد بن الحنفية إبن الامام أمير المؤمنين عليه السلام بعد أخيه الامام الحسين ، والطاطرية والزيدية ، والاسماعيلية ، ومن أشبههم .

وبالجملة : فانّ هناك فِرَقاً مختلفة وأكثرها باطلة ، ومعتنقها غير عادل ، ( و ) من المعلوم : انّ ( من شرط ) حجّية ( خبر الواحد : أن يكون روايه عدلاً عند من أوجب العمل به ) أي : بالخبر الواحد .

( وان عَوَلتَ ) بفتح التاء بصيغة الخطاب ، أي إعتمدت في الخبر ( على عملهم ) أي : عمل الأصحاب ( دون روايتهم ، فقد وجدنا ) إن الطائفة قد ( عملوا بما طريقه هؤلاء الذين ذكرناهم ) من فاسدي العقيدة والمذهب .

والحاصل : إنّكم ان تشترطوا العدالة في الرّواية ، فهؤلاء ليسوا بعدول ، لأنهم مُجبّرة ، ومشبهة ، ومفوضه ، وما أشبه ذلك .

( و ) ان تشترطوا عمل الطائفة ، بدون لزوم العدالة ، جاز لكم العمل بخبر الكفار والفساق ، فان ( ذلك ) التعويل على عمل الطائفة بأخبار هؤلاء ( يدّل على

ص: 69

جواز العمل بأخبار الكُفّار والفُسَّاق .

قيل لهم : لسنا نقول إنّ جميعَ أخبار الآحاد يجوز العملُ بها ، بل لها شرائط نذكرها فيما بعد ، ونشير هيهنا إلى جملة من القول فيه .

-------------------

جواز العمل بأخبار الكُفّار والفُسَّاق ) في العقيدة ، كالناصبي والخارجي أيضاً ، والحال انكم لا يقولون بجوازه ؟ .

( قيل لهم ) انّ الشرط عندنا في جواز العمل بخبر الواحد شرطان :

اولاً : ان يكون الراوي من الفرقة ولو توقف على بعض الأئمة عليهم السلام .

ثانياً : ان يكون قد تحقق عمل الطائفة بأخباره .

وانّما نشترط أن يكون من الفرقة ، لانّا نعلم انّهم إذا كانوا ثقاة لا يقولون الباطل

في فروع الدين ، وليس كذلك العامة لأنا نعلم إنهم يقولون الباطل .

وإنما نشترط عمل الطائفة بها ، لأنّهم اذا لم يعملوا بالخبر ، كشف عدم عملهم ذلك ، عن وجود خلل في الخبر .

وعليه : فانّا ( لسنا نقول إنّ جميعَ أخبار الآحاد يجوز العملُ بها ، بل لها شرائط نذكرها فيما بعد ، ونشير هيهنا الى جملة من القول فيه ) أي في شرط العمل بأخبار الآحاد .

أقول : حاصل ما ذكره فيما تقدّم وما يأتي : إنّ الرواة على أربعة أقسام :

الأوّل : أهل الحق الكامل ، ولا اشكال في حجّية رواياتهم .

الثاني : أهل الحقَ ، الذين وصلوا الى الحق ، لكن لا بالدليل التفصيلي - كما في القسم الأول الذين كان دليلهم على اصول الدين تفصيلياً- بل بالدليل الاجمالي ، وهؤلاء أيضاً تصح رواياتهم ، لأن الوصول الى الحق كافٍ ، سواء وصل إليه بالدليل الاجمالي او التفصيلي ، والمقلّدة يعدّون من هذا القسم فأنّهم وإن تمسكوا

ص: 70

فأمّا ما يرويه العلماء المعتقدون للحقّ فلا طعن على ذلك به ، وأمّا ما يرويه قومٌ من المقلّدة ، فالصحيحُ الذي اعتقِدُه أنّ المقَلّدة للحقّ وإن كان مخطئاً في الأصل معفوٌ عنه ، ولا أحكم فيهم بحكم الفسّاق ،

-------------------

بالرّوايات مدركاً لهم في اصول الدين ولم يجعلوا مدركهم العقل ، إلاّ انّهم من أهل الحق ، وممّن يسمى أهل الحق في الجملة إصطلاحاً .

الثالث : أهل العقائد المنحرفة من الفرقة ، كالفطحيّة ، والواقفيّة ، فهم يعدّون من أقسام الشيعة ، وهم ثقاة ، وهؤلاء أيضاً يعمل بأخبراهم ، وذلك لثقتهم وكونهم من الطائفة التي يشملهم قولهم عليه السلام : « ثقاتنا » وما أشبه ، ولكن بشرط عمل الطائفة بأخبارهم .

الرابع : أهل الباطل من الكفار والفساق ونحوهم ، وهؤلاء لا يعمل بخبرهم ، والى هذا الاقسام أشارة بقوله : -

( فأما ما يرويه العلماء ) الاماميّون العدول ، والثقاة ( المعتقدون للحق ) عن دليل تفصيلي ( فلا طعن على ذلك به ) أي : أنّه لا طعن على خبرهم بسبب انه خبر واحد بلا اشكال .

( وأمّا ما يرويه قومٌ من المقلّدة ) الأخباريين الذين يعتمدون في اُصول الدين على ما ورد من الأخبار ( فالصحيحُ الذي أعتِقدُه : أنّ المقلّدة للحق وإن كان مخطئاً في الأصل ) لوجوب الاجتهاد والنظر في الاعتقاديات على المشهور ، بل ادعى العلاّمة : الاجماع ، على أنّه لا يكفي التعبدّ بالدليل الشرعي في اصول الدين ، إلاّ انّه في المقلّدة للحق ( معفوٌ عنه ، ولا أحكم فيهم بحكم الفسّاق ) .

وذلك لوضوح : أنّ أكثرية المسلمين من زمان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم الى هذا اليوم ، هم من هذا القسم ، أي : من الذين لا يعرفون الأدلة القطعية والبراهين المنطقية لاثبات

ص: 71

ولا يلزم على هذا ترك ما نقلوه . على أنّ من أشاروا اليه لا نسلّم أنّهم كلّهُم مقلّدة ، بل لا يمتنع أن يكونوا عالمينَ بالدليل على سبيل الجملة ، كما يقوله جماعة أهل العدل في كثير من أهل الأسواق والعامّة . وليس من حيث يتعذّر عليهم إيراد الحُجّج ، ينبغي أن يكونوا غير عالمين ، لأن إيراد الحجّج والمناظرة صناعةٌ

-------------------

اصول الدين ( ولا يلزم على هذا ) أي على انهم لا يعرفون الأدلة القطعية لاصول الدين ( ترك ما نقلوه ) من الأخبار إذا كانوا ثقاة .

( على انّ ) هناك جواباً آخر ، وهو : ان ( من أشاروا إليه ) من الأخباريين الذين أشير اليهم بكلمة المقلّدة ( لا نسلّم أنّهم كلّهُم مقلّدة ) في اصول الدين ( بل لا يمتنع أن يكونوا عالمينَ بالدليل على سبيل الجملة ) أي : لهم أدلّة اجمالية على اصول الدين ، فجملة من الأخباريين عالمون باصول الدين عن الأدلة المفصلة والبراهين المنطقية .

فقولنا في الاخباريين هو ( كما يقوله جماعة أهل العدل في ) حق ( كثير من أهل الأسواق والعامّة ) من الناس ، فكما إنّ العلماء لا يحكمون : بأنّ أهل الأسواق والعامّة مقلّدة ، بل يقولون : بأنّهم عالمون بالدليل الاجمالي ، ولذا فليسوا مؤاخذين ، كذلك نقول نحن في هؤلاء .

لا يقال : الأخباريون مقلّدون في اصول الدين ، ولهذا لا يتمسكون بالبرهان ، بل لا يقدرون على ذلك .

لأنّه يقال : (وليس من حيث يتعذّر عليهم إيراد الحُجّج ، ينبغي أن يكونوا غير عالمين ) فانّ العلم شيء ، والقدرة شيء آخر ، وكثيراً ما يكون الانسان عالماً بشيء لكنّه لا يتمكن من إقامة الحجّة عليه ( لأنّ إيراد الحجّج والمناظرة صناعةٌ )

ص: 72

ليس يقف حصول المعرفة على حصولها . كما قلنا في أصحاب الجملة .

وليس لأحد أن يقول : هؤلاء ليسوا من أصحاب الجملة ، لأنهم اذا سئلوا عن التوحيد أو العدل أو صفات الأئمة عليهم السلام أو صحّة النبوّة قالوا رَوينا كذا، ويروون في ذلك كلّه الأخبار ، وليس هذا طريق أصحاب الجملة . وذلك أنّه ليس يمتنع أن يكون هؤلاء أصحابَ

-------------------

خاصة وفن مخصوص ( ليس يقف حصول المعرفة على حصولها ) .

فان المعرفة باصول الدين ، لا يتوقف على التمكن من البحث والجدل والمناظرة وإقامة البرهان ( كما قلنا في أصحاب الجملة ) فانّ كثيراً من أصحاب الجملة ، لهم العلم والمعرفة عن الأدلّة الاجمالية ، ولا يتمكنون من إقامة أدلة تفصيلية عليها .

( وليس لأحد أن يقول : هؤلاء ) المقلّدة المرتبطون بالأخبار ( ليسوا من أصحاب الجملة ) الذين يعرفون الأدلة الاجمالية على اصول الدين ( لأنّهم إذا سئلوا عن التوحيد ، أو العدل ، أو صفات الأئمة عليهم السلام أو صحّة النبوة ) أو خصوصيات المعاد ( قالوا : رَوينا كذا ، ويروون في ذلك كلّه الأخبار ) الواردة عن المعصومين عليهم السلام ، ولا يتمكنون من التمسك بالبراهين العقلية والأدلة المنطقية .

( وليس هذا ) الاستناد الى الأخبار بدون التمسك بالطرق المنطقية ( طريق أصحاب الجملة ) فأنّ أصحاب الجملة يتمسكون بالدليل في الجملة ، مثل من يرفع يده عن العجلة ، دلالة على انّ الحركة بحاجة الى محرّك ، ومن يرى البعرة فيقول : البعرة تدلّ على البعير ، وما أشبه ذلك من الأدلة الاجمالية على اصول الدّين .

( وذلك ) أي : الوجه في انّه ليس لأحد أن يفرز الاخباريين عن أصحاب الجملة هو : ( إنّه ليس يمتنع أن يكون هؤلاء ) المقلّدة الأخباريون من ( أصحابَ

ص: 73

الجملة ، وقد حصل لهم المعارفُ باللّه ، غير أنّهم لمّا تعذّر عليهم إيرادُ الحجّج في ذلك ، أحالو على ما كان سهلاً عليهم . وليس يلزمهم أن يعلموا أنّ ذلك لا يصح أن يكون دليلاً إلاّ بعد أن يتقدّم منهم المعرفةُ باللّه ، وإنّما الواجب عليهم أن يكونوا عالمين . وهم عالمون على الجملة ،

-------------------

الجملة ، وقد حصل لهم المعارفُ باللّه ) وسائر اصول الدين ، عن الأدلّة الاجماليّة ( غير أنّهم لما تعذّر عليهم إيرادُ الحجج في ذلك ) أي : في كل واحد واحد من العقائد الحقة ، لأنّهم لم يدرسوا المنطق والأدلة العقلية ( أحالوا ) أي : فوّضوا الاستدلال على تلك المعارف ( على ما كان سهلاً عليهم ) من الأخبار الواردة في كل واحد واحد من اصول الدين .

( وليس يلزمهم أن يعلموا : انّ ذلك لا يصحّ ان يكون دليلاً ، إلاّ بعد أن يتقدّم منهم المعرفةُ باللّه ) أي : لا يلزم على المقلّدة أن يعرفوا : انّ التمسك بالأخبار في اصول الدين يستلزم الدور ، لأنّ معرفة اللّه لو توقف على الدليل الشرعي ، كأنَّ معناه : انّ الشارع يقول : أنا الشارع ، وهو دور صريح .

وإن شئت بيان الدور قلت : انّ التمسك بالدليل الشرعي ، موقوف على معرفة الشارع ، فلو كان معرفة الشارع موقوفة على التمسك بالدليل الشرعي ، لزم الدور .

نعم ، إذا عرف الانسان اصول دينه بالدليل العقلي ، يتمكن انّ يستدل بكلام الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم على صفات اللّه ، وعلى معرفة الأئمة ، وعلى معرفة المعاد ، إذ كل ذلك لا يلزم منه الدور - كما هو واضح - .

( وإنما الواجب عليهم ان يكونوا عالمين ) بالاصول الاعتقادية ( و ) الحال ( هم عالمون ) بتلك الاصول ( على الجملة ) أي : في الجملة يعلمون أصول

ص: 74

كما قرّرنا فما يتفرّعُ عليه من الخطأ لا يوجبُ التكفير ولا التضليل .

وأمّا الفِرقُ الذين أشار إليهم ، من الواقفيّة والفطحيّة وغير ذلك ، فعن ذلك جوابان » .

ثم ذكر الجوابين - وحاصلُ أحدهما كفاية الوثاقة في العمل بالخبر . ولهذا قُبِلَ خَبرُ ابن بكير وبني فضّال وبني سماعة ،

-------------------

دينهم بالأدلة البدائية ، التي يعرفها حتى أهل السوق ( كما قرّرنا ) فيما سبق بيانه .

( فما يتفرعُ عليه ) أي : على التمسك بالرّوايات عند المقلّدة ( من الخطأ ) وهو إنّهم يتمسكون بما يستلزم الدور - مثلاً - فهو ( لا يوجبُ التكفير ) لهم ( ولا التضليل ) بأن يكونوا ضالين عن الطريق السوي ، ممّا يوجب الفسق لهم .

والحاصل : ان طريق المقلّدة وان كان خطأً ، إلاّ انّ النتيجة صحيحة ، وإذا كانت النتيجة صحيحة ، لا يضر خطأ طريقهم بدينهم ولا بعدالتهم ، فهو كما اذا اعتمد شخص على عامي ، في كون الدواء للمرض الفلاني : العقار الفلاني فشربه وطاب ، فانه لا يضره خطأ الطريق لأنّ ما وصفه العاميّ من الدواء كان صحيحاً .

( وأمّا ) سائر ( الفِرَقُ الذين أشار إليهم : من الواقفية ، والفطحيّة ، وغير ذلك ، فعن ذلك جوابان ، ثمّ ذكر ) الشيخ ( الجوابين ) بتفصيل .

( وحاصلُ أحدهما : كفاية الوثاقة في العمل بالخبر ) فلا يحتاج أن يكون الرّاوي عادلاً ، وهؤلاء وإن لم يكونوا عدولاً - لفساد عقيدتهم - لكنهم ثقاة .

( ولهذا ) الذي ذكرناه : من كفاية الوثاقة ، وعدم الاحتياج إلى العدالة ، قد (قُبِلَ) الأصحاب ( خَبرُ إبن بكير ، وبني فضّال ، وبني سماعة ) ومن أشبههم من الذين قالوا بالأئمة عليهم السلام وإن توقفوا على بعض الأئمة ، فانّ التاريخ يدل على إنّ في الرّواة من الفِرق الذين توقفوا على إمام دون إمام جماعة أجلاّء قد قبل الاصحاب

ص: 75

وحاصل الثاني أنّا لا نعملُ برواياتهم إلاّ إذا إنضمّ إليها روايةُ غيرهم ، ومثل الجواب الأخير ذكر في رواية الغُلاة ومن هو مُتَّهَمٌ في نقله .

وذكر الجوابين أيضاً في روايات المجبّرة والمشبّهة ، بعد منع كونهم مجبّرة ومشبّهة ،

-------------------

روايتهم .

( وحاصل الثاني : أنّا لا نعملُ برواياتهم ، إلاّ إذا إنضمّ إليها روايةُ غيرهم ) من العدول .

لا يقال : أولاً : ما هو الفارق بين روايات هؤلاء وروايات العامّة ؟ .

ثانياً :ما فائدة روايات هؤلاء ، إذا إحتاجت إلى إنضمام روايات العدول ؟ .

لانه يقال عن الأول : إنّ الفارق هو : إنّ هؤلاء كانوا في طريق الأئمة عليهم الصلاة والسلام ، وإن لم يقبلوا بعضهم ، وليسوا كالعامّة الذين أنكروهم إطلاقاً حتى بالنسبة الى الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث جعلوه الخليفة الرابع ، ولذا عدّ هؤلاء من طوائف الشيعة بخلاف العامّة .

وعن الثاني : إنّ الانضمام يوجب كثرة الوثاقة والتأييد ، وأحيانا يحصل بذلك الاستفاضة والتواتر ، فانه وإن لم يكن حينئذ من الخبر الواحد ، لكنّا ذكرنا ذلك إنه من جملة فوائد الانضمام .

( ومثل الجواب الأخير ) وهو : عمد العمل إلاّ إذا إنضم إلى روايات هؤلاء روايات غيرهم من العدول ( ذكر ) شيخ الطائفة ( في رواية الغُلاة ومن هو مُتَّهَمٌ ) بالكذب والوضع ( في نقله ) فانه حينئذٍ يكون من التأييد والتأكيد ، إلى آخر ما ذكرناه.

( وذكر ) الشيخ ( الجوابين أيضاً في روايات المجبّرة والمشبهة ) الذين هم من القائلين بالأئمة عليهم السلام ( بعد منع كونهم مجبّرة ومشبّهة ) فيكون حاصل جوابه

ص: 76

لأنّ روايتهم لأخبار الجبر والتشبيه ، لا يدلّ على ذهابهم إليه . ثمّ قال : فان قيل : ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليهم لم يعملوا بهذه الأخبار لمجرّدها ، بل إنّما عملوا بها لقرائن إقترنت بها ، دلّتهم على صحّتها ولأجلها عملوا بها ، ولو تجرّدت لما عملوا بها ، وإذا جاز ذلك لم يكن الاعتمادُ على

-------------------

ما يلي :

أولاً : إنّا لا نسلّم أنهم مجَبّرة وَمُشَبّهة .

( لأن روايتهم لأخبار الجبر والتشبيه ، لا يدلّ على ذهابهم إليه ) وإعتقادهم به .

ثانياً : إنه لو ثبت كونهم مجبّرة أو مشبهة نقول : بأنّ رواياتهم إنما تقبل إذا أيدّتها روايات العدول .

( ثم قال ) الشيخ - مستشكلاً على ما ذكره من الكلام المتقدم بقوله : ( فان قيل : ما أنكرتم ) أي : لا تنكرون ( ان يكون الذين اشرتم إليهم ) من الطوائف المنحرفة وما يروونه من الأخبار ، ان الفرقة ( لم يعملوا بهذه الأخبار لمجرّدها ) فانكم إحتملتم إنّ الفرقة إنما عملوا بأخبار هؤلاء المنحرفين لا لمجرد هذه الأخبار ( بل إنّما عملوا بها لقرائن إقترنت بها ، دلّتهم ) اي : دلّت تلك القرائن ، الفرقة المحقة ( على صحّتها ) أي : على صحة أخبار الطوائف المنحرفة .

( ولأجلها ) أي : لأجل تلك القرائن ( عملوا بها ) أي : بأخبار هذه الطوائف ( ولو تجرّدت ) أخبار هؤلاء عن تلك القرائن ( لما عملوا بها ) أي : ما عملت الفرقة المحقة بهذه الأخبار التي وردت عن هؤلاء المنحرفين في العقيدة .

( وإذا جاز ذلك ) أي : احتمل أن عمل الفرقة بأخبار المنحرفين ، إنّما كان بسبب القرائن وأخبار العدول ، لا لمجردها ، فحينئذٍ ( لم يكن الاعتماد على

ص: 77

عملهم بها .

قيل لهم : القرائنُ التي تقترنُ بالخبر وتدلَ على صحّتِه أشياء مخصوصة ، نذكرها فيما بَعدُ من الكتاب والسنّة والاجماع والتواتر ، ونحن نعلم أنّه ليس في جميع المسائل ، التي إستعملوا فيها أخبار الآحاد ذلك ، لأنّها أكثر من أن تحصى ، موجودة في كتبهم وتصانيفهم وفتاواهم ، لانه ليس في جميعها يمكن الاستدلال بالقرآن ، لعدم ذكر ذلك في صريحه وفحواه ودليله ومعناه ،

-------------------

عملهم بها ) أي : إنّ الفرقة إذا لم يعملوا بأخبار المنحرفن مجردة عن القرائن الدالة على صحتها ، فما فائدة أخبار المنحرفين حين كان الاعتماد على أخبار العدول التي هي قرائن على صحة أخبار المنحرفين ؟ .

( قيل لهم : القرائنُ التي تقترنُ بالخبر ، وتدلّ على صحّتِه ، أشياء مخصوصة ، نذكرها فيما بَعدُ من الكتاب والسنّة والاجماع ) والعقل ( والتواتر ، ونحن نعلم : أنّه ليس في جميع المسائل ، التي إستعملوا فيها ، أخبار الآحاد ذلك ) فانّ أخبار الآحاد الواردة عن المنحرفين ، لم تكن كلها مقترنة بأحد القرائن المذكورة ( لأنّها ) أي : المسائل التي عملوا فيها بأخبار هؤلاء المنحرفين ( أكثر من أن تحصى ) وهي (موجودة في كتبهم ، وتصانيفهم ، وفتاواهم ) .

ووجه علمنا بعدم وجود القرينة في جميع هذه المسائل ، هو : ( لانّه ليس في جميعها ) أي : في جميع المسائل التي إستندوا فيها الى اخبار المنحرفين ( يمكن الاستدلال ) على صحتها ( بالقرآن ) حتى يكون القرآن قرينة على صحة خبر المنحرف ( لعدم ذكر ذلك ) أي : جميع المسائل ( في صريحه ) أي : في صريح القرآن ( وفحواه ، ودليله ، ومعناه ) .

ص: 78

ولا في السنّة المتواترة ، لعدم ذكر ذلك في أكثر الأحكام ، بل وجودها في مسائل معدودة ، ولا في إجماع ، لوجود الاختلاف في ذلك ، فعلم أنّ دعوى القرائن في جميع ذلك دعوى محالة ، و من ادّعى القرائن في

-------------------

ولعل المراد بالفحوى : المناط الواقعي .

وبالدليل : المفهوم الموافق والمخالف .

وبالمعنى : الدلالة الالتزامية .

أو يقال : مراده : انّه لا يدلّ القرآن بالمطابقة ، ولا بالتضمن ، ولا بالالتزام ، ولا بدلالة الاقتضاءٌ ، على كل تلك المسائل ، فالمطابقة : الصريح ، والتضمن : الفحوى ، والالتزام : الدليل ، ودلالة الاقتضاء : المعنى .

( ولا ) يمكن الاستدلال بالسنّة المتواترة ، لعدم ذكر جميع المسائل التي استندوا فيها الى روايات المنحرفين ( في السنّة المتواترة ، لعدم ذكر ذلك ) أي السنة المتواترة ( في أكثر الأحكام ، بل وجودها ) أي : السنة المتواترة ( في مسائل معدودة ) ، معروفة ، فان التواتر نادر في المسائل الشرعية .

( ولا ) يمكن الاستدلال بالاجماع لعدم ذكر جميع تلك المسائل التي رووا فيها روايات عن المنحرفين ( في اجماع ، لوجود الاختلاف في ذلك ) حيث ان كثيراً من الأحكام مختلف فيها عند الفقهاء ، فلا إجماع يعضد كل تلك المسائل التي إستند الأصحاب فيها الى روايات المنحرفين .

ومن الواضح : أنّه ليس في كل مسألة حكم عقل مطابق للخبر ، كما انّه ليس في كل مسألة شهرة محققة حتى يقال : بأنّ الشهرة هي المستند والقرينة .

( فعلم : أنّ دعوى القرائن في جميع ذلك ) الذي إستندوا فيه الى أخبار المنحرفين ( دعوى محالة ) أي : غير محققة ( ومن إدّعى القرائن في

ص: 79

جميع ما ذكرنا ، كان السبرُ بيننا وبينه ، بل كان معوّلاً على ما يعلم ضرورةً خلافه ومدّعياً لما يعلم من نفسه ضدّه ونقيضه. ومن قال عند ذلك: إنّي متى عَدِمتُ شيئاً من القرائن حكمتُ بما كان يقتضيه العقل ، يلزمه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام ولا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به .

-------------------

جميع ما ذكرنا ، كان السبّرُ ) أي : الاستقراء والتحقيق ( بيننا وبينه ) فانّ بالفحص والاستقراء ينكشف عدم صحة دعواه .

( بل كان ) هذا المدعي ( معوّلاً على ما يعلم ضرورةً خلافه ) حيث انّه إعتمد في دعواه على مجرد كلام فارغ ، لا شاهد له من الخارج ( و ) كان ( مدّعياً لما يعلم من نفسه ضدّه ونقيضه ) أما نقيضه : فحيث يعلم انه لا قرينة له ، وهو يدعي القرينة ، وأما ضده : فلوجود بعض الشواهد على عدم القرينة .

مثلاً : لو قالت الرّواية التي يرويها الفطحي : صلاة الجمعة في عصر الغيبة محرمة ، فقد يكون قرينة ، وقد لا يكون لها قرينة ، وقد تكون القرينة على خلاف الحرمة ، فهو مثل أن يقول : أسدٌ يرمي ، أو أسد ، أو أسد يفترس .

ففي الأول : قرينة المجاز .

وفي الثاني : خلو عن القرينة .

وفي الثالث : قرينة على انّ المراد بالأسد : الحقيقة .

( ومن قال عند ذلك ) أي : عند عدم وجود القرينة ، على أخبار المنحرفين ( : إنّي متى عَدِمتُ شيئاً من القرائن ، حكمتُ بما كان يقتضيه العقل ) ممّا معناه : انّه يلزم ان يكون لخبر الفطحي - مثلاً- قرينة شرعية ، أو عقلية ، والحال انه ليس كذلك ، ف ( يلزمه : أن يترك أكثر الأخبار ، وأكثر الأحكام ، ولا يحكم فيها ) أي في الأحكام ( بشيء ورد الشرع به ) لأنّه لايوجد لكثير من الأحكام التي رواها

ص: 80

وهذا حدّ يرغب أهل العلم عنه ، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته ، لأنّه يكون معوّلاً على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافُه » انتهى .

ثمّ أخذ في الاستدلال ثانياً على جواز العمل بهذه الأخبار : بأنّا وجدنا أصحابنا مختلفين

-------------------

المنحرفون ، القرائن العقلية ولا الشرعية .

( وهذا ) أي : ترك أكثر الأحكام لعدم وجود القرائن ( حدّ ) أي طرف ( يرغب ) أي : يعرض ( أهل العلم عنه ) أي : عن ذلك الحد ، فلايصلون الى مثل ذلك الحد أبداً .

( ومن صار إليه ) أي : الى هذا الحد ( لايحسن مكالمته ، لأنّه يكون معوّلاً على مايعلم ضرورة من الشرع خلافُه ) (1) لأنّا نعلم بالضرورة إنّ الشارع لايرضى بترك أكثر الأحكام ، لمجرد انّ الرواة الثقاة كانوا منحرفين في بعض عقائدهم .

( إنتهى ) كلام شيخ الطائفة ممّا خلاصته : انه استدل بحجّية أخبار الثقاة - وان كانوا منحرفين في بعض عقائدهم - بأمور :

أولاً : بعمل الطائفة بها .

ثانياً : بأنّ بعضهم لم يرد على بعض حين يعتمد طرفه على الخبر الواحد .

ثالثاً : بأنّ وضعهم لكتب الرجال ، دليل على حجّية خبر الواحد عندهم ، وإلاّ فما هي الفائدة من وضع هذه الكتب ؟ .

( ثمّ أخذ ) شيخ الطائفة ( في الاستدلال ثانياً : على جواز العمل بهذه الأخبار ) التي رواها الثقاة من أصحابنا ، وقال : ( بأنّا وجدنا أصحابَنا مختلفين

ص: 81


1- - عدّة الاصول : ص51 - 58 .

في المسائل الكثيرة ، في جميع أبواب الفقه ، وكلّ منهم يستدلّ ببعض هذه الأخبار ، ولم يُعهد من أحد منهم تفسيق صاحبه وقطع المودّة عنه ، فدلّ ذلك على جوازه عندهم .

ثمّ إستدلّ ثالثاً على ذلك : بأنّ الطائفة وضعت الكتب لتمييز الرّجال الناقلين لهذه الاخبار وبيان أحوالهم من حيث العدالة ، والفسق ، والموافقة في المذهب ، والمخالفة ، وبيان من يعتمد على حديثه ومن لايعتمد ، وإستثنوا الرّجال من جملة مارَوَوه في التصانيف ،

-------------------

في المسائل الكثيرة ، في جميع أبواب الفقه ) من الطهارة الى الدّيات ( وكلّ منهم يستدلّ ببعض هذه الأخبار ) الواردة في الاصول الأربعمائة وغيرها ( ولم يُعهد من أحد منهم تفسيق صاحبه وقطع المودّة عنه ) لأجل عمله بهذه الأخبار .

ومن الواضح : انّ سبب إختلافهم في الأحكام ، مع إستنادهم جميعاً الى هذه الأخبار ، إنّما هو بسبب فهم كل واحد منهم من هذه الأخبار شيئاً غير الذي فهم الآخر منها ، وهذا الاختلاف في الفهم منشئاً لاختلافهم في الاحكام .

( فدلّ ذلك على جوازه ) أي جواز العمل بالأخبار المذكورة ( عندهم ) وإنهم يَرَون حجّية الخبر الواحد ، إذا كان رواية ثقة ، سواء كان عدلاً أم لا ؟ .

( ثم إستدلّ ) الشيخ ( ثالثاً : على ذلك ) أي : على حجّية خبر الواحد إذا كان راوية ثقة ، وقال : ( بأنّ الطائفة وضعت الكتبَ ) في علم الرّجال ( لتمييز الرّجال الناقلين لهذه الأخبار ، وبيان أحوالهم من حيث : العدالة ، والفسق ، والموافقة ) لنا ( في المذهب ، والمخالفة ) لنا في العقيدة ( وبيان من يعتمد على حديثه ومن لا يعتمد ، وإستثنوا ) بعض ( الرّجال ) من الرّواة ( من جملة ما رَوَوه في التصانيف ) بأن قالوا : انّ فلاناً وفلاناً لايصح العمل بأخبارهم إطلاقاً ، ممّا يدل

ص: 82

وهذه عادتهم من قديم الوقت إلى حديثه ، فلولا جواز العمل برواية من سَلِمَ عن الطعن لم يكن فائدةٌ لذلك كلّه » ، انتهى المقصود من كلامه ، زاد اللّه في علوّ مقامه .

وقد أتى في الاستدلال على هذا المطلب بما لا مزيد عليه ، حتى أنّه أشار في جملة كلامه إلى دليل الانسداد ، وأنّه لو اقتصر على الأدلّة العلميّة ، وعُمِلَ بأصل البراءة

-------------------

على انّ غيرهم يصح العمل بأخبارهم .

( وهذه عادتهم ) أي : عادة أصحابنا ( من قديم الوقت الى حديثه ، فلولا جواز العمل برواية من سَلِمَ عن الطعن ، لم يكن فائدةٌ لذلك كلّه ) (1) فلماذا علم الرّجال ؟ ولماذا الجرح والتعديل ؟ ولماذا بيان الموافقة والمخالفة ؟ وما إلى ذلك ؟ .

( إنتهى المقصود من كلامه ) أي : كلام شيخ الطائفة رحمه اللّه وما يدّعيه ( زاد اللّه في علوّ مقامه ) من الاجماع على العمل بالخبر الواحد ، وبوجوه متعددة ، تقدّم ذكرها فيما سبق .

هذا ( وقد أتى في الاستدلال على هذا المطلب ) وهو حجّية خبر الواحد ( بما لامزيد عليه ، حتى أنّه أشار في جملة كلامه إلى دليل الانسداد ) من انّه لو إنسد باب العلم بالأحكام - لقلة المتواتر ، والمحفوف بالقرائن القطعية ، والاجماع ، والعقل القطعي - لزم مع ذلك أن نعمل بالأخبار ، حتى لانخرج عن الدّين .

( و ) ذلك من المعلوم ( أنّه لو إقتصر على الأدلّة العلميّة ، وعُمِلَ بأصل البرائة

ص: 83


1- - عدّة الاصول : ص58 .

في غيرها ، لزم ماعلم ضرورة من الشرع خلافُهُ . فشكر اللّه سعيه .

ثمّ إنّ من العجب أن غير واحد من المتأخرين تبعوا صاحب المعالم في دعوى عدم دلالة كلام الشيخ على حجّية الأخبار المجرّدة عن القرينة ، قال في المعالم ، على ماحكي عنه : « والانصافُ أنّه لم يتضح من حال الشيخ وأمثاله مخالفتهم للسيّد قدس سره ، إذ كانت أخبار الأصحاب

-------------------

في غيرها ، لزم ماعلم ضرورة من الشرع خلافُهُ ) اذ يلزم من اجراء أصالة البرائة طرح أكثر الأحكام الشرعية ، وهو غير جائز ، فيفيد : انّه حتى لو لم يكن الخبر الواحد حجّة بنفسه ، لكنّه يلزم علينا أن نعمل به من باب الظّن المطلق ، فانّه لاطريق أقرب منه .

إذن : فالشيخ رحمه اللّه ، وإن لم يذكر دليل الانسداد كله، لكنّه أَلمع إِليه في عبارته المتقدّمة ، كما هو واضح ( فشكر اللّه سعيه ) وعليه أجره ، فيما أفاد من هذا البحث الشريف .

( ثمّ إنّ من العجب أنّ غير واحد من المتأخرين تبعوا صاحب المعالم في دعوى : عدم دلالة كلام الشيخ على حجّية الأخبار المجرّدة عن القرينة ) مع إنّك قد عرفت : انّ في مواضع من كلام الشيخ تصريح واضح بحجّية الخبر المجرد .

( قال في المعالم على ماحكي عنه ) - حيث إنّ المعالم لم يكن حاضراً عند المصنّف ليرى العبارة بنفسه - مالفظه ( : والانصافُ إنّه لم يتضح من حال الشيخ وأمثاله مخالفتهم للسيّد قدس سره ) فانّ السيّد ذهب الى عدم حجّية الخبر ، والشيخ ذهب الى حجيته .

وإنّما لم يتضح من حال الشيخ مخالفة السيّد ( إذ كانت أخبار الأصحاب

ص: 84

يومئذٍ قريبة العهد بزمان لقاء المعصوم عليه السلام ، وإستفادة الأحكام منهم عليهم السلام ، وكانت القرائن المعاضدةُ لها متيسّرةً ، كما أشار إليه السيّد قدس سره، ولم يعلم أنّهم إعتمدوا على الخبر المجرّد ، ليظهر مخالفتهُم لرأيه فيه. وتفطّن المحقّق من كلام الشيخ لما قلناه حيث قال في المعارج : « ذهب شيخنا أبو جعفر قدس سره ، الى العمل بخبر االواحد العدل من رواة أصحابنا ، لكن لفظه وإن كان مطلقاً

-------------------

يومئذ ) أي في زمان الشيخ والسيّد ( قريبة العهد بزمان لقاء المعصوم عليه السلام ) لأنّهم كانوا في عصر الغيبة الصغرى ، أو حواليها ( و ) كان بامكانهم ( إستفادة الأحكام منهم عليهم السلام ) شفاها ، أو بوسائط قليلة .

( وكانت القرائنُ ) التي تقدّمت من الكتاب ، والسّنة المتواترة ، والاجماع ، والعقل ، والشهرة ونحوها ( المعاضدةُ لها ) أي : لتلك الأخبار ( متيسّرةً ، كما أشار إِليه ) أي : الى ما ذكرناه : من قرب عهدهم ، وتيسّر القرائن بالنسبة إليهم ( السيّد قدس سره ) حيث قال : انّ أكثر أخبارنا معلومة مقطوع على صحتها ، إما بالتواتر ، وإما بأمارة وعلامة دلت على صحتها .

قال صاحب المعالم : ( ولم يعلم أنّهم ) أي : الشيخ وأتباعه الذين قالوا بحجّية خبر الواحد ( إعتمدوا على الخبر المجرّد ، ليظهر مخالفتهم ) أي : الشيخ وأتباعه ( لرأيه فيه ) أي : لرأى السيّد في الخبر .

هذا ( وتفطّن ) من الفطنة أي : توجه والتفت ( المحقّق من كلام الشيخ لما قلناه ) : من إنّ حجّية الأخبار ، إنّما هي لاحتفافها بالقرائن من الأدلة الأربعة وغيرها ( حيث قال في المعارج : ذهب شيخنا أبو جعفر قدس سره إلى العمل بخبر الواحد العدل من رواة أصحابنا ، لكن لفظه وان كان مطلقاً ) حيث ان الشيخ

ص: 85

فعند التحقيق يتبيّن أنه لايعمل بالخبر مطلقاً ، بل بهذه الأخبار التي روِيت عن الأئمة عليهم السلام ، ودوّنها الأصحاب ، لا أنّ كلّ خبر يرويه عدل إماميّ يجب العمل به ، هذا هو الذي تَبيّنَ لي من كلامه . ويدّعى إجماع الاصحاب على العمل بهذه الأخبار حتى لو رواها غير الاماميّ ، وكان الخبر سليماً عن المعارض وإشتهر نقله في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب عمل به » ، انتهى .

قال بعد نقل هذا عن المحقّق : « وما فهمه المحقّقُ من كلام الشيخ هو الذي ينبغي أن يعتمد

-------------------

لم يقيِّد الخبر بأن يكون محفوفاً بالقرائن ( فعند التحقيق يتبيّن أنّه لايعمل بالخبر مطلقاً ، بل بهذه الأخبار التي رُويَت عَن الأئمة عليهم السلام ودوّنها الأصحاب ) في كتبهم الموثوقة ، من الاصول الأربعمائة وغيرها .

( لا أنّ كلّ خبر يرويه عدل إماميّ يجب العملُ به ) وإن لم يكن محفوفاً بالقرائن .

ثم قال المحقق : ( هذا هو الّذي تَبيّنَ لي من كلامه ) أي : من كلام الشيخ ( و ) إنه ( يدّعي ) بحسبه ( : إجماع الأصحاب على العمل بهذه الأخبار ) المحفوفة بالقرائن ( حتى لو رواها غير الاماميّ ، وكان الخبر سليماً عن المعارض ، وإشتهر نقله في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب ، عمل به ) مما يظهر منه : إنّ الخبر إنّما يعمل به للاشتهار ، وغيره من القرائن ، ولو كان الرّاوي عامياً ، ( إنتهى ) كلام المحقّق .

( قال ) صاحب المعالم : ( بعد نقل هذا عن المحقّق : ومافهمه المحقّقُ من كلام الشيخ ) من إشتراط حجّية الخبر باحتفافه بالقرينة ( هو الذي ينبغي ان يعتمد

ص: 86

عليه ، لا ما نسبه العلاّمة إليه » ، انتهى كلام صاحب المعالم .

وأنت خبيرٌ بأنّ ماذكره في وجه الجمع ، من تيسّر القرائن وعدم إعتمادهم على الخبر المجرّد ، قد صرّح الشيخ في عبارته المتقدّمة ببداهة بطلانه ، حيث قال : « إنّ دعوى القرائن في جميع ذلك دعوى مُحالة ، وانّ المدّعي لها معوّلٌ على مايَعلَمُ ضرورةً خلافَه ويعلم من نفسه ضدّه ونقيضه » .

-------------------

عليه ) في فهم مذهب الشيخ ( لا مانسبه العلاّمة إليه ) (1) أي : إلى الشيخ من حجّية الخبر مطلقاً ( إنتهى كلام صاحب المعالم ) .

لكنَّ كلام العلاّمة في النسبة إلى الشيخ ، هو الذي ينبغي ان يفهم من عبارات الشيخ المتقدّمة ، لا مانسبه صاحب المعالم اليه .

( وأنت خبيرٌ بأنّ ماذكره ) صاحب المعالم ( في وجه الجمع ) بين كلام السيّد القائل : بعدم حجّية الخبر المجرّد ، وكلام الشيخ القائل بحجّية هذه الأخبار ( من تيسّر القرائن ، وعدم إعتمادهم على الخبر المجرّد ) وإن الشيخ كالسيّد في العمل بالخبر المحفوف بالقرائن ، لا انّ الخبر بنفسه حجّة وإن كان طريقه عدلاً ضابطاً إمامياً ، غير تام .

وذلك لأنه ( قد صرّح الشيخ في عبارته المتقدّمة ببداهة بطلانه حيث قال : إنّ دعوى القرائن في جميع ذلك ) الذي إستند إليه الفقهاء من الاخبار في فتاواهم ( دعوى مُحالة ، وإنّ المدّعي لها ) أي : لهذه الدعوى ( معوّلٌ ) أي : مستند - بالكسر - على صيغة الفاعل ( على مايَعلَمُ ضرورة خلافه ويعلم من نفسه ضدّه ونقيضه ) .

ص: 87


1- - معالم الدين : ص197 .

والظاهر بل المعلوم أنّه قدس سره ، لم يكن عنده كتاب العُدّة .

وقال المحدّث الاستراباديّ في محكيّ الفوائد المدنيّة : « إنّ الشيخ قدس سره ، لايجيز العمل إلاّ بالخبر المقطوع بصدوره عنهم عليهم السلام ، وذلك هو مراد المرتضى قدس سره ، فصارت المناقشة لفظيّة ، لا كما توهّمه العلاّمة ومن تبعه » . انتهى كلامه .

-------------------

وقد تقدمت هذه العبارة من الشيخ ، وبيّنا معناها .

( والظاهر ، بل المعلوم : أنّه ) أي : صاحب المعالم ( قدس سره ، لم يكن عنده كتاب العُدّة ) للشيخ ، حتى يراجعه فيرى إنّ الشيخ يحكم فيه صراحة : بحجّية الخبر الواحد المجرد إذا رواه أصحابنا .

( وقال المحدّث الاستراباديّ في محكيّ الفوائد المدنيّة : إنّ الشيخ قدس سره لايجيز العمل إلاّ بالخبر المقطوع بصدوره عنهم عليهم السلام ، وذلك هو مراد ) السيد ( المرتضى قدس سره ، فصارت المناقشة ) بين السيّد والشيخ ( لفظيّة ) لأنّ مرادهما واحد ، وهو العمل بالخبر المحفوف بالقرينة .

فالسيّد النافي للعمل بالخبر يريد : غير المحفوف ، والشيخ المثبت له ، يريد : الخبر المحفوف بالقرينة .

ثم أضاف المحدِث المذكور قائلاً ( لا كما توهّمه العلاّمة ومن تبعه ) (1) من إن النزاع بين السيّد والشيخ معنوي ، وان الشيخ يجيز العمل بالخبر الواحد ولو كان بلا قرينة ، والسيّد المرتضى لايجيز العمل به إلاّ بالقرينة فيكون النزاع بينهما - على ذلك - معنوياً ( إنتهى كلامه ) أي : الامين الاسترابادي .

ص: 88


1- - الفوائد المدنية : ص67 .

وقال بعضُ من تأخّر عنه من الأخباريين في رسالته ، بعدما استحسن ما ذكره صاحبُ المعالم : « ولقد أحسن النظر وفهم طريقة الشيخ والسيّد ، من كلام المحقّق قدس سره ، كما هو حقّه . والذي يظهر منه أنّه لم يرَ عدّة الاصول للشيخ ، وإنّما فهم ذلك ممّا نقله المحقّق قدس سره ، ولو رآها لصدع بالحقّ أكثر من هذا . وكم له من تحقيق ، أبان به من غفلات المتأخرين ، كوالده وغيره . وفيما ذكره كفايةٌ لمن طلب الحقّ أو عرفه .

-------------------

( وقال بعضُ من تأخّر عنه من الأخباريين ) وهو السيّد الصدر ( في رسالته بعدما إستحسن ماذكره صاحبُ المعالم ) من إنّ النزاع بين السيّد والشيخ لفظي ، فقال : ( ولقد أحسن النظر ، وفهم طريقة الشيخ والسيّد - من كلام المحقّق قدس سره - كما هو حقّه ) أي : فهمه منه حق الفهم .

ثم قال السيد الصدر : ( والذي يظهر منه ) أي : من صاحب المعالم ( أنّه لم ير عدّة الاصول للشيخ ، وإنّما فهم ذلك ) الذي إدعاه من مراد الشيخ : بانّ الخبر يحتاج في جواز العمل به الى القرينة ، وإلاّ لم يكن حجّة ( ممّا نقله المحقّق قدس سره ولو رأها ) أي : رأى صاحب المعالم عدّة الشيخ ( لصدع ) وقضى ( بالحقّ أكثر من هذا ) الذي ذكره .

( وكم له ) أي : لصاحب المعالم ( من تحقيق ، أبان به ) أي : بتحقيقه ذلك كثيراً ( من غفلات المتأخّرين كوالده ) الشهيد الثاني ( وغيره ) من العلماء بتحقيقاتهم العلمية الصائبة .

( وفيما ذكره ) صاحب المعالم جمعاً بين كلامي السيّد والشيخ ، حيث يرجع الأمر بذلك الى النزاع اللّفظي بينهما ( كفايةٌ لمن طلب الحق أو عرفه ) فانّ من يعرف الحق يعرفه ، وإنّ من يطلب الحق يصل اليه .

ص: 89

وقد تقدّم كلامُ الشيخ ، وهو صريحٌ فيما فهمه المحقّق قدس سره ، وموافق لما يقوله السيّد قدس سره ، فليراجع .

والذي أوقع العلاّمة في هذا الوهم ماذكره الشيخ في العُدّة ، من أنّه يجوز العمل بخبر العدل الاماميّ ، ولم يتأمّل بقيّة الكلام ، كما تأملّه المحقّق ، ليعلم أنّه إنّما يُجوّزُ العملَ بهذه الأخبار التي دونها الأصحابُ وإجتمعوا على جواز العمل بها . وذلك ممّا يوجب العلم بصحّتها ،

-------------------

ثم قال السيّد الصدر : ( وقد تقدّم ) فيما كتبته من رسالتي ( كلامُ الشيخ ، وهو صريحٌ فيما فهمه المحقّق قدس سره ) من انه يرى حجّية الخبر المحفوف بالقرينة ( وموافق لما يقوله السيّد قدس سره ) من عدم حجّية الخبر المجرد عن القرينة ( فليراجع ) هناك ليرى كلام الشيخ ، فيعرف إنّ النزاع بينه وبين السيّد لفظي .

ثم قال السيّد الصدر : ( والذي أوقع العلاّمة في هذا الوهم ) حتى إدعى ان النزاع بين السيّد والشيخ معنوي ، وإنّ الشيخ يجيز العمل بالخبر المجرد ، بخلاف السيّد الذي لايجوّز العمل إلاّ بالخبر المحفوف بالقرينة ( ماذكره الشيخ في العُدّة : من أنّه يجوز العمل بخبر العدل الاماميّ ) حيث إن هذا الكلام يدل على ما إستفاده العلاّمة من الشيخ .

( و ) لكن ( لم يتأمّل ) العلاّمة ( بقيّة الكلام ، كما تأمّله المحقّق ، ليعلم انّه ) أي : الشيخ ( إنّما يجوّز العملَ ) لا بكل خبر ، وإنّما ( بهذه الأخبار التي دوّنها الأصحاب ) في اصولهم وكتبهم ( وإجتمعوا على جواز العمل بها ) أي : بتلك الأخبار .

( وذلك ) أي : تدوين الأصحاب لهذه الأخبار ، وإجتماعهم على العمل بها ( ممّا ) يكون قرينة عامة ( يوجب العلم بصحتها ) أي : بصحة هذه الأخبار ، فهذه

ص: 90

لا أنّ كلّ خبر يرويه عدل إماميّ يجب العملُ به ، وإلاّ فكيف يظنّ بأكابر الفرقة الناجية وأصحاب الأئمة عليهم السلام - مع قدرتهم على أخذ اصول الدّين وفروعه منهم عليهم السلام بطريق اليقين : أن يُعوّلوا فيها على أخبار الآحاد المجرّدة . مع أنّ مذهب العلاّمة وغيره أنّه لابدّ في اُصول الدّين من الدليل القطعيّ وأنّ المقلّد في ذلك خارجٌ عن ربقَة الاسلام .

-------------------

الأخبار المدونة ، فيها قرائن عامة على صحتها ، والشيخ إنما يعمل بهذه الأخبار ، لا بالخبر المجرد عن القرائن فهو ( لا ) يرى ( انّ كلّ خبر يرويه عدل إماميّ يجب العملُ به ) وان كان مجرداً عن القرينة .

( وإلاّ ) بان لم تكن هذه الأخبار المدونة في الاصول ، وكتب الأصحاب ، معلومة الصحة عندهم بالقرائن العامة ( فكيف يظنّ بأكابر الفرقة النّاجية وأصحاب الائمة عليهم السلام ، مع قدرتهم على أخذ اصول الدّين وفروعه منهم عليهم السلام بطريق اليقين ) وذلك بالسؤال عن الائمة عليهم السلام مباشرة حيث كان يمكن لهم الرجوع إليهم ، فكيف يظّن بهؤلاء ( ان يُعوّلوا فيها ) أي : في اصول الدّين وفروعه ( على أخبار الآحاد المجرّدة ) عن القرائن ؟ .

هذا ( مع إنّ مذهَبَ العلاّمة وغيره ) من الذين يقولون بحجّية الخبر الواحد في فروع الدين ( إنّه لابدّ في أصول الدّين من الدّليل القطعي ) والبرهان المنطقي ( وإنّ المقلّد في ذلك ) - أي في اصول الدين ( خارج عن رِبقَة الاسلام ) كما صرح به العلاّمة في كتابه « شرح الباب الحادي عشر » فكيف يحتمل في مثل هؤلاء الأعاظم ان يرجعوا في اصول الدين الى الأخبار المجردة عن القرائن القطعية ؟ .

ص: 91

وللعلاّمة وغيره كثيرٌ من هذه الغفلات ، لأُلفَةِ أذهانهم باصول العامّة .

ومن تتبّع كتب القدماء وعرف أحوالهم ، قطع بأنّ الأخباريين من أصحابنا لم يكونوا يعوّلون في عقائدهم إلاّ على الأخبار المتواترة أو الآحاد المحفوفة بالقرائن ، المفيدة للعلم . وأمّا خبر الواحد فيوجب عندهم الاحتياط دون القضاء وإلافتاء ، واللّه الهادي » ، انتهى كلامه .

-------------------

( وللعلاّمة وغيره كثيرٌ من هذه الغفلات ، لأُلفَةِ أذهانهم باصول العامّة ) حيث انّ العامّة يرجعون الى الخبر المجرد عن القرائن القطعية ، في فروع الدين واصوله .

( ومن تتبع كتب القدماء ) من علمائنا رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين ( وعرف أحوالهم ، قطع بأنّ الأخباريين من أصحابنا ) الذين عملوا في الاصول والفروع بالخبر الواحد ( لم يكونوا يعوّلون في عقائدهم ، إلاّ على الأخبار المتواترة ، أو الآحاد المحفوفة بالقرائن ، المفيدة للعلم ) المورثة للقطع واليقين ، ومن الواضح : إنّ القطع واليقين حجّة بنفسه من المولى على العبد ، ومن العبد على المولى .

( وأمّا الخبر الواحد ) المجرّد عن القرائن القطعية ، الداخلية أو الخارجية ( فيوجب عندهم الاحتياط ) فيما ورد فيه الخبر الواحد ( دون القضاء والافتاء ) فانّ المفتي منهم لايفتي بمجرد الخبر الواحد ، كما إنّ القاضي منهم لايقضي بمجرد الخبر الواحد .

وذلك ظهر : انّهم انّما عملوا بأخبار الآحاد لاحتفافها بالقرينة القطعية ( واللّه الهادي ، إنتهى كلامه ) أي : كلام السيّد الصدر .

ص: 92

أقول : أمّا دعوى دلالة كلام الشيخ في العُدّة على عمله بالأخبار المحفوفة بالقرائن العلميّة دون المجرّدة عنها ، وأنّه ليس مخالفاً للسيّد ، هو كمصادمة الضرورة ، فانّ في العبارة المتقدّمة من العُدّة ، وغيرها ممّا لم نذكرها ، مواضع تدلّ على مخالفة السيّد ، نعم ، يوافقه في العمل بهذه الأخبار المدونّة إلاّ أنّ السيّد يدّعي تواترها له أو إحتفافها بالقرينة المفيدة للعلم ، كما صرّح به

-------------------

( أقول ) في كلام السيّد الصدر مواقع للنظر :

الأوّل : ماأشار اليه المصنّف بقوله : ( أمّا دعوى : دلالة كلام الشيخ في العُدّة على عمله بالأخبار المحفوفة بالقرائن العلمية ، دون المجرّدة عنها ، وأنّه ) أي : شيخ الطائفة ( ليس مخالفاً للسيّد ، فهو كمصادفة ) وانكار ( الضرورة ) والبديهة .

( فانّ في العبارة المتقدّمة من العُدّة ، وغيرها ) أي : غير تلك العبارة ( ممّا لم نذكرها ، مواضع تدلّ على مخالفة ) الشيخ لما عليه ( السيّد ) حيث يقول الشيخ فيها بحجّية خبر الواحد حتى غير المحفوف بالقرينة ، بينما السيّد يقول بحجّية المحفوف بالقرينة فقط .

( نعم ، يوافقه في العمل بهذه الأخبار ) فالسيّد والشيخ يتوافقان في العمل بالأخبار ( المدوّنة ) في الأصول الأربعمائة وغيرها ( إلاّ انّ ) المناط في عملهما مختلف ، فانّ ( السيّد يدّعي تواترها له ) أي : تواتر تلك الأخبار لأجل ماتقدّم : من وجودها في الاصول المعتبرة والكتب المدونة .

( أو إحتفافها بالقرينة المفيدة للعلم ) من القرائن الداخلية أو الخارجية .

( كما صرّح به ) أي بما ذكرناه : من تواترها ، أو إحتفافها بالقرائن القطعية

ص: 93

في محكيّ كلامه ، في جواب المسائل التبّانيّات ، من : « انّ أكثر أخبارنا المرويّة في كتبنا ، معلومة مقطوعٌ على صحتها ، إمّا بالتواتر أو بأمارة وعلامة تدلّ على صحّتها وصدق رواتها ، فهي موجبة للعلم مفيدة للقطع وإن وجدناها في الكتب مودعة بسند مخصوص من طريق الآحاد » ، انتهى .

-------------------

( في محكيّ كلامه في جواب المسائل التبّانيّات من ) المسائل المنسوبة الى « تبّان » وهي قرية من قرى أطراف « حران » في العراق .

وإنما نسبت هذه المسائل الى « تبان » لأن أهل هذه القرية سألوا السيّد المرتضى عنها ، فأجابهم ، فسميت بها ، أو إن السيّد بنفسه كان في هذه القرية ، فكتب هذه المسائل وسماها : بالمسائل التبانيّة ، وكان هذا متعارفاً عند قدماء الاصحاب ، فانهم إذا وجهت إليهم مسائل من مكان غير بلدهم ، أو كانوا هم في مكان غير بلدهم ، فكتبوا المسائل وأجابوا عليها ، نسبوها الى ذلك المكان وقالوا : المسائل الفلانية ، كالمسائل التبانيّات - مثلاً- .

فان السيّد المرتضى قال في جوابها كما حكي عنه ( : ان اكثر أخبارنا المروية في كتبنا ، معلومة مقطوعٌ على صحتها ) ومعلوميتها ( إما بالتواتر ، أو بأمارة وعلامة تدل على صحتها وصدق رواتها ،فهي ) أي تلك الأمارة والعلامة ( موجبة للعلم مفيدة للقطع ، وان وجدناها ) أي : تلك الاخبار ( في الكتب مودعة ) أي : مذكورة ( بسند مخصوص من طريق الآحاد ، إنتهى ) (1) فانّ إيداعها في الكتب بطريق الآحاد ، لا يوجب عدم إحتفافها بالقرائن القطعية أو بالتواتر من جهة خارجية .

ص: 94


1- - معالم الدين : ص197 .

والشيخ يأبى عن إحتفافها بها ، كما عرفت من كلامه السابق في جواب ما أورده على نفسه ، بقوله : « فان قيل : ماأنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليهم لم يعملوا بهذه الأخبار بمجرّدها ، بل إنّما عملوا بها لقرائنٍ اقترنت بها دلّتهم على صحتّها » ، إلى آخر ماذكره .

ومجرد عمل السيّد والشيخ بخبر خاصّ - لدعوى الاوّل تواتره ، والثاني كون الخبر الواحد حجّة - لا يلزم منه توافقهما في مسألة خبر الواحد ،

-------------------

هذا ( والشيخ يأبى عن احتفافها ) أي : تلك الاخبار ( بها ) أي : بالقرائن ( كما عرفت من كلامه السابق في جواب ما أورده )الشيخ ( على نفسه ، بقوله : فان قيل : ما أنكرتم ) و « ما » : نافية أي لا تنكرون ( أن يكون الذين اشرتم إليهم ، لم يعملوا بهذه الاخبار بمجردّها ، بل إنما عملوا بها لقرائن إقترنت بها ، دلّتهم على صحتها ، الى آخر ما ذكره ) فانّ الشيخ رحمه اللّه انكر إحتفاف الأخبار - الواردة في الكتب ، المودعة بطريق الآحاد - بالقرائن الموجبة للقطع ، بل قال : إنّ مثل هذه الدعوى ، دعوى محالة .

( و ) من المعلوم : انّ ( مجرد عمل السيّد والشيخ بخبر خاصّ ) كالاخبر المدونة في الكتب المشهورة ، والمودعة في الاصول الأربعمائة ( لدعوى الاوّل ) وهو السيد ( تواتره ، والثاني ) وهو الشيخ ( كون الخبر الواحد ) بشرط إجتماعه للشرئط ( حجّة ، لايلزم منه توافقهما في مسألة خبر الواحد ) حتى يقال ان السيّد والشيخ متوافقان في حجية خبر الواحد والنزاع بينهما لفظي - كما ذكره من تقدّم - لوضوح : أنّ النتيجة الواحدة ، لا يستلزم ان يكون الطريق اليها واحداً .

مثلاً : كل من المسيحي والمسلم يقول : ان عيسى عليه السلام منزه ، لكن المسيحي

ص: 95

فانّ الخلاف فيها يثمِر في خبر يدعي السيّد تواتره ولا يراه الشيخ جامعاً لشرائط الخبر المعتبر وفي خبر يراه الشيخُ جامعاً ولم يحصل تواتره للسيّد ، إذ ليس جميعُ ما دوّن في الكتب متواتراً عند السيّد ولا جامعاً لشرائط الحجيّة عند الشيخ .

ثمّ إنّ اجماعَ الاصحاب الذي إدعاه الشيخ على العمل بهذه الأخبار

-------------------

يقول : لانّه إله ، والمسلم يقول :لأنّه نبي ، فالاتحاد في النتيجة لا يستلزم الاتحاد في الطريق ، ( ف- ) ان قلت : فما هي الثمرة في هذا الخلاف ، والحال أنّ كلاً من السيّد والشيخ يرى حجية هذه الاخبار المودعة في كتبنا ؟ .

قلت : ( انّ الخلاف فيها ) أي : في مسألة حجّية خبر الواحد ( يثمر في خبر يدّعي السيّد : تواتره ، ولا يراه الشيخ جامعاً لشرائط الخبر المعتبر ) من العدالة ، أو الوثاقة ، أو الضبط ، أو ما اشبه ، فان السيّد يعمل به لادعائه تواتره ، بينما الشيخ لا يعمل به لرؤيته عدم إجتماعه لشرائط الحجّية .

( و ) هكذا ( في خبر يراه الشيخ جامعاً ) للشرائط فيعمل به ( ولم يحصل تواتره للسيّد ) فلا يعمل به( اذ ليس جميعُ ما دوّن في الكتب متواتراً عند السيّد ، ولا جامعاً لشرائط الحجية عند الشيخ ) فبينهما عموم من وجه ، ولكلّ مورد افتراق عن الآخر .

ثم انّه قد تقدَّم منّا : انّ الشيخ المصنفّ رحمه اللّه ، تنظّر في كلام السيّد الصدر في مواقع منه ، وذكرنا أوّل المواقع ممّا أشار إليه المصنّف بقوله :« أما دعوى دلالة كلام الشيخ » الى آخره .

الثاني - ممّا تنظَّره الشيخ المصنّف رحمه اللّه على كلام السيّد الصدر - ما أشار إليه بقوله : ( ثم ان إجماع الاصحاب الذي ادّعاه الشيخ على العمل بهذه الاخبار ،

ص: 96

لايصير قرينةً لصحتّها ، بحيث تفيد العلم حتى يكون حصولُ الاجماع للشيخ قرينة عامّة لجميع هذه الأخبار . كيف وقد عرفت إنكاره للقرائن حتى لنفس المجمعين ولو فُرضَ كون الاجماع على العمل قرينة ، لكنّه غير حاصل في كلّ خبر

-------------------

لا يصير قرينة ) عامة ( لصحتّها ، بحيث تفيد ) هذه القرينة العامة ( العلم ، حتى يكون حصول الاجماع للشيخ ، قرينة عامّة لجميع هذه الاخبار ) المدونّة في الكتب ، فانّ الشيخ إنّما ادعى : الاجماع العملي على اصل جواز العمل بالخبر الواحد وان لم تكن له قرينة : من تواتر ، أو غيره انه إدعى : صحة هذه الأخبار المدونة في الكتب جميعاً بسبب هذا الاجماع .

( كيف وقد عرفت : انكاره ) أي الشيخ ( للقرائن ، حتى لنفس المجمعين ؟ ) فقد تقدمت عبارة شيخ الطائفة في ذلك ، حين قال :« ونحن نعلم : أنه ليس في جميع المسائل التي استعملوا فيها أخبار الآحاد إحتفاف بالقرينة » الى آخر كلامه .

والحاصل : انّ السيّد يرى إحتفاف كل الأخبار بالقرائن القطعية ، بينما الشيخ لا يرى ذلك ، فان الاجماع الذي يدعيه الشيخ على العمل بهذه الاخبار ، لا يريد به : الاجماع على كل الاخبار فرداً فرداً ، وإنما يريد به : الاجماع في الجملة ، فالاجماع إذن ليس قرينة عامة لجميع هذه الاخبار .

( ولو ) اغمض النظر عن هذا الايراد الذّي ذكرناه ، و( فُرِضَ كون الاجماع على العمل قرينة ) على كون الخبر صادراً عن المعصومين صلوات اللّه عليهم اجمعين .

( لكنه )أي : الاجماع العملي من العلماء على هذه الاخبار ، إنّما هو في الجملة ، و ( غير حاصل في كلّ خبر ) خبر ، حتى يكون كل خبر خبر حجة - كما

ص: 97

بحيث يُعلم أو يظن أنّ هذا الخبر بالخصوص ، وكذا ذاك وذاك مما اجمع على العمل به ، كما لا يخفى ، بل المراد الاجماع على الرجوع إليها والعمل بها بعد حصول الوثوق

-------------------

يرى السيّد ذلك ، لأنّه يرى ان كل خبر خبر ، محفوف بالقرينة القطعية مما يوجب حجيته - ( بحيث يُعلم أو يظنّ : ان هذا الخبر بالخصوص وكذا ذاك وذاك ، ممّا اجمع على العمل به ) .

وعليه : فانّ الاجماع العملي لا يكون قرينة على صحة كل خبر ، خبر ، لأنّ نفس المجمعين لم يعملوا بكل خبر خبر ، ممّا يدل على إن الاجماع ليس عندهم قرينة عامّة على كل خبر خبر وإنما هو على فرض قرينيته ، قرينة في الجملة .

والحاصل : أنّ الشيخ المصنّف قد أشار في تنظّره الثاني على كلام السيّد الصدر الى أمرين :

الأوّل : إنّ الاجماع ليس قرينة على حجيّة أي خبر من هذه الاخبار - رأساً - .

الثاني : انّه على فرض إن الاجماع قرينة فهو قرينة في الجملة ، لا أنّه قرينة على كل خبر خبر .

( كما لا يخفى ) ذلك على من لاحظ كلام الشيخ في الاجماع على حجية هذه الاخبار .

( بل المراد : الاجماع على الرجوع اليها )أي : الى هذه الاخبار ( والعمل بها بعد حصول الوثوق ) والاطمئنان بها ، وعليه : فاجماع الاصحاب انّما هو على انّ هذه الاخبار ، لا مانع من العمل بها من حيث كونها أخباراً آحاداً مجردة عن القرائن ، اما

انه ما هي شروط حجيّتها ؟ فليس الكلام بصدده .

أما الشيخ نفسه ، فهو كبقية الاصحاب ، لا يرى مانعاً من العمل بخبر الواحد

ص: 98

من الرّاوي أو من القرائن .

ولذا استثنى القُميون كثيراً من رجال نوادر الحكمة ، مع كونه من الكتب المشهورة المجمع على الرجوع اليها ، واستثنى ابن الوليد من روايات العبيدي ما يرويها عن يُونُس ، مع كونها في الكتب المشهورة .

-------------------

من حيث كونه خبراً واحداً مجرداً ، لكن لا يكتفي بذلك ، بل يشترط حصول الوثوق ، وما اشبه ، بكل خبر خبر ، ولا يرى ان الاجماع قرينة عامة على حجية كل الاخبار ، وعلى فرض رؤيته ذلك لا يرى انّه قرينة على كل خبر خبر ، وإنما يراه قرينة في الجملة .

إذن : فالشيخ يرى الاجماع ممّا يوجب العمل بالخبر ، اذا حصل للسامع الوثوق به ( من )جهة ( الرّاوي ، أو من القرائن ) الخارجية الموجبة للوثوق وإن لم يعرف الانسان الرّاوي ، أو عرفه بعدم الوثوق .

( ولذا ) أي : لأجل إنهم أجمعوا على ان وحدة الخبر لا تمنع عن العمل به لا أنّهم اجمعوا على حجيّة كل خبر خبر ( إستثنى القُميون كثيراً من رجال نوادر الحكمة ) أي : لم يعملوا باخبارهم .

ولا يخفى : انّ كتاب نوادر الحكمة هو تأليف : محمد بن ابي عُمير ، الذي اشتهر بين العلماء انّ مراسيله حجّة كالمسانيد ، ( مع كونه ) أي : كتاب نوادر الحكمة ( من الكتب المشهورة ، المجمع على الرّجوع اليها ، و ) الاعتماد عليها .

و( استثنى ابن الوليد ) وهو من أجلّة علمائنا ( من روايات العبيدي ) وهو : محمد بن عيسى بن عبيد بن يقطين ( ما يرويها عن يُونُس ، مع كونها ) أي : الرّواية التي يرويها العبيدي عن يُونُس مدوّنة ( في الكتب المشهورة ) .

ص: 99

والحاصلُ انّ معنى الاجماع على العمل بها عدمُ ردّها من جهة كونها أخبار آحاد ، لا الاجماع على العمل بكلّ خبر خبر منها .

ثمّ إنّ ما ذكره - من تمكُّن أصحاب الائمة عليهم السلام ، من أخذ الاُصول والفروع بطريق اليقين - دعوى ممنوعة واضحة المنع ، وأقلُ ما يشهد عليها

-------------------

( والحاصل ) من التنظّر الثاني على كلام السيّد الصدر ، هو : ( انّ معنى الاجماع على العمل بها ) الذي يراه الشيخ ( : عدم ردّها من جهة كونها أخبار آحاد ، لا الاجماع على العمل بكلّ خبر خبر منها ) وهذا المعنى واضح في ان السيد والشيخ غير متوافقين على العمل بالاخبار الآحاد .

الثالث : ممّا تنظرّه المصنّف على السيد الصدر ، هو ما اشار إليه بقوله : ( ثمّ انّ ما ذكره ) السيّد الصدر ( من تَمَكُّن اصحاب الائمة عليهم السلام ، من أخذ الاصول والفروع بطريق اليقين ) من الائمة عليهم السلام ، ممّا نتيجته : انهم ما كانوا يعملون بالخبر ، ما لم يحصل لهم علم بصحته ( دعوى ممنوعة ، واضحة المنع ) .

وذلك لأنهم عليهم السلام كثيبراً ما كانوا يقولون أحكاماً مختلفة ظاهرها متضاد حقناً لدماء الشيعة ، والشيعة كانوا يعرفون ذلك ويعملون بهذه الاخبار الملقاة إليهم ، من دون أن يعلمون : انّ أياً من الأخبار يطابق الواقع ، وأنّ أياً منها يطابق التقية ، أو ما أشبه ذلك .

هذا ، بالاضافة الى انّ اصحاب الائمة عليهم السلام كانوا في البلاد المتباعدة ، والمناطق النائية ، بحيث كان لا يتمكن كل واحد منهم من الوصول الى الائمة عليهم السلام في جميع الأحكام التي يحتاج إليها من أوّل الطهارة الى آخر الديات .

( وأقلّ ما يشهد عليها ) أي : على ممنوعية هذه الدعوى التي ذكرها السيد

ص: 100

ما عُلم بالعين والاثر من إختلاف أصحابهم - صلوات اللّه عليهم - في الاصول والفروع ، ولذا شكى غيرُ واحد من أصحاب الائمة عليهم السلام ، إليهم اختلاف أصحابهم ، فأجابوهم تارة بأنهم عليهم السلام ، قد ألقوا الاختلاف بينهم ، حقناً لدمائهم ، كما في رواية حَريز وزُرارَة ، وأبي أيوب الجزّار ،

-------------------

الصدر ( ما عُلم بالعين والاثر : من إختلاف أصحابهم صلوات اللّه عليهم في الاصول والفروع ) فانّه لو كان شرط العمل عندهم ، حصول العلم بصحة الخبر ، لاتفقوا ولم يكن يقع بينهم هذا الاختلاف في الاصول والفروع ، ومن الواضح : ان المراد بالاصول ، ليس هو اصل التوحيد ، والعدل ، والنبوة ، والامامة ، والمعاد بذاته ، وإنما بعض الخصوصيات في هذه الاُمور .

( ولذا ) أي : لاجل هذا الاختلاف ( شكى غيرُ واحد من اصحاب الائمة عليهم السلام إليهم ) أي : الى الائمة عليهم السلام ( : اختلاف اصحابهم ) بما سبب التشويش عليهم .

( فأجابوهم تارة : بأنّهم عليهم السلام قد ألقوا الاختلاف بينهم حقناً لدمائهم ، كما في رواية حَريز ، وزُرارة ، وأبي أيوب الجزار ) (1) وغيرهم ، ففي الكافي عن زرارة عن الباقر عليه السلام قال :

« سألته عن مسألة فأجابني ، ثم جاء رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ، ثم جاء آخر فأجابه بخلاف ما أجابني واجاب صاحبي ، فلمّا خرج الرجلان قلت : يابن رسول اللّه : رجلان من أهل العراق من شيعتكم يسألان فأحببت كل و احد منهما بغير ما أجَبتَ بهِ صاحبه ؟ .

فقال : يا زُرارَة ، هذا خَيرٌ وأَبقى لَنا ولَكم ، وَلَو إجتَمعتمُ عَلَى أمرٍ واحِدٍ

ص: 101


1- - للمزيد راجع علل الشرائع : ج2 ص97 - 98 .

وأُخرى أجابوهم بأنّ ذلك من جهة الكذّابين ، كما في رواية الفيض بن المختار :

« قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : جَعَلَني اللّه ُ فِداكَ ، ماهَذا الاختلافُ الّذي بَينَ شِيعَتكُم؟ قالَ: «وَأَيُّ الاختِلافِ يافَيض» فَقُلتُ لَهُ عليه السلام: إنّي أَجلُسُ فِي حَلْقَتِهم

-------------------

لَصدّقَكم النَاس علينا ، ولكان أقلَ بقائِنا وَبقائِكمُ .

ثم قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : شيعَتكمُ لو حَملتُموهمُ على الأَسنِّةِ وَعلى النارِ لمضوا وَهُم يَخرُجُونَ من عِندكمُ مُختلِفين ؟ .

قَال : فَأجابني عليه السلام بِمثلِ جَوابِ أبيه صلوات اللّه عليه (1) والى غيرها من الاخبار .

ولعلّ المراد من قوله :« لَصدقكمُ النَّاسُ » تصديق مخالفيهم بأنهم من أصحاب الائمة عليهم السلام لوحدة طريقتهم - فيأخذونهم ويقتلونهم ، كما كانت هي العادة المطّردة في تلك الايام ، فانهم اذا عرفوا أحداً بانّه من اصحاب الائمة عليهم السلام اخذوه وعذبوه وسجنوه وربّما قتلوه وصادرو امواله .

( واخرى أجابوهم : بأنّ ذلك ) الاختلاف ، اِنّما هو ( من جهة الكذّابين ) الذين يكذبون على الأئمة عليهم السلام ، فيختلط أخبار الكذّابين بالأخبار الواقعية ، ممّا يوجب الاشتباه على الناس .

( كما في رواية الفيض بن المختار قال : قلت لأبي عبد اللّه ) الصادق ( عليه السلام : جَعَلَني اللّه ُ فِداكَ ، مَاهَذا الإختِلافُ الّذي بَينَ شِيعَتكُم؟ قَالَ : وَأَيُّ الإختلافِ يَافَيض ، فَقُلتُ لَهُ عليه السلام : إني أَجلسُ فِي حَلَقَتِهم ) أي : في مجلس

ص: 102


1- - الكافي اصول : ج1 ص65 ح5 .

بالكُوفَةِ وَأَكادُ أَشُكُ فِي إختِلافِهِم في حديثهم ، حَتَّى أَرجِعَ إلى المُفَضَّل بِن عَمر ، فَيُوقِفَني مِن ذَلِكَ عَلى مَا تَستَريحُ بِهِ نَفسي ، فَقالَ عليه السلام : أَجَل ، كَما ذَكَرتَ يافَيض ، إنّ النَاسَ قَد اُولِعُوا بالكذِب عَلَينا ، كَأَنَّ اللّه َ إفتَرضَ عَليهِم وَلاَ يُريدُ مِنهُم غَيرَهُ . إنّي اُحدِّثُ أَحَدَهُم بحَدِيثٍ ، فَلا يَخرُجُ مِنْ عِندي حَتّى يَتَأَوّلَه عَلى غَيرِ تَأويِلهِ . وَذَلكَ لأنَّهُ لايَطلبُونَ بحَديثنا وبحُبّنا مَا عِندَ اللّه ِ تَعالى ،

-------------------

بحث الشيعة الّذين كانوا يجلسون حلقاً حلقاً ( بالكُوفَةِ ) أي في مسجد الكوفة ، لأنّ المساجد في تلك الأزمان ، كانت مراكز للبحث والدرس ، والاستفادة والافادة .

( وأَكادُ أَشُكُّ فِي ) الحكم بسبب ( إختلافِهم فِي حَديِثِهم ) عنكم ( حَتَّى أَرجِعَ إلى المُفَضَّل بِن عَمر ، فيوقِفَني ) وينبِّهني ( مِن ذلِكَ ) الاختلاف ( عَلى مَا ) أي : على الحق الّذي ( تَستَريحُ بِه نَفسِي فَقالَ عليه السلام : أَجل ، كَما ذَكَرتَ يافَيض ، إنّ النَاسَ قَد اُولِعُوا ) والولع بالشيء : الحرص عليه حرصاً شديداً ( بالكذِبِ عَلَينا ) فهذا الاختلاف بسبب كِذب الكذّابين المختلط برواياتنا .

ثم قال عليه السلام ( كَأَنَّ اللّه َ إفتَرضَ ) الكذب ( عَلَيهِم وَلاَ يُريدُ مِنهُم غَيرَهُ ) أي : غير الكذب ، وذلك ( إنّي اُحدِّثُ أَحَدُهُم بحَدِيثٍ ، فَلا يَخرُجُ مِن عِندي حَتى يَتَأَوَّلَهُ عَلى غَيرِ تَأوِيلهِ ) أي : يحمله على خلاف ماقلت له بحسب ما يتحمله ظاهر الحديث ، فاذا أمرته بأمر - مثلاً- حمل ذلك الأمر على الندب ، أو نهيته عن أمر حمل النهي على الكراهة ، أو العكس من ذلك ، وإلى غيرها من التأويلات .

( وَذلكَ لأنّه ) الضمير للشأن ( لا يَطلبوُن بحَديثِنا وَبحبّنَا مَا عِندَ اللّه ِ تَعالى )

ص: 103

وَكُلٌّ يحبُّ أَن يُدَعى رَأساً » .

وقريب منها : رواية داود بن سرحان ، وإستثناء القمييّن كثيراً من رجال نوادر الحكمة معروف ، وقصةُ ابن أبي العَوجَاء

-------------------

أي : ثواب اللّه والدار الاخرة ( وَكُلٌّ يُحِبُّ أن يُدعى رَأساً ) (1) بأن يكون رئيساً ، فاذا سئل عن مسألة ولايعلم جواب تلك المسألة ، أجاب بجواب من نفسه .

إذن : فالكذب ربّما كان كذب تأويل ، وربّما كان كذب إختلاف .

ولايخفى : انّ هذا الحديث لاينافي الحديث السابق ، إذ كلا الأمرين : من جعل الأئمة الاختلاف بين الشيعة حقناً لدمائهم .

ومن الخلط بين الصدق والكذب ، الذي يفتريه طامعوا الرئاسة كان سبب إختلاف الأحاديث ممّا يؤدّي إلى عدم علم الشيعة : بأنّ مايعملون به ، هل هو المطابِق للواقع ، أو من جهة الضرورة ، أو التقية ، أو الكذب ، أو ما أشبه ذلك ؟ .

( وقريب منها ) أي : من رواية الفيض بن المختار التي ذكرناها ( رواية داود بن سرحان ) (2) الدالة على وجود الأحاديث المكذوبة في أحاديث الشيعة أَيّام الأئمة عليهم السلام .

هذا ( وإستثناء القمييّن كثيراً من رجال نوادر الحكمة ، معروف ) وقد تقدّم الالماع إليه ، وإنّما إستثنوا هؤلاء الرجال لأنهم كانوا متّهمين بالكذب .

( وقصّة ابن أبي العَوجاء ) وهو من تلاميذ الحَسن البَصري ، وكان من الزَنادِقَة والملحدين ، وقد قتله محمد بن سليمان والي الكوفة في عهد المنصور ، لأنّه كان

ص: 104


1- - رجال الكشّي : ص136 بالمعنى ، بحار الانوار : ج2 ص246 ب29 ح58 (بالمعنى) .
2- - رجال الكشّي : ص170 و ص239 .

أنّه قال عند قتله : « قد دسستُ في كتبكم أربعة آلاف حديث » مذكورة في الرّجال .

وكذا ماذكره يُونُس بن عبد الرّحمن ، من أنّه أخذ أحاديث كثيرة من أصحاب الصادقَين عليهماالسلام ، ثم عرضها على أبي الحسن الرضا عليه السلام ، فانكر منها أحاديث كثيرة ،

-------------------

يفسد بين الناس ، وقد سُئِلَ ذاتَ مرةٍ : انّه لماذا تزندقت؟ قال : لأنّ أُستاذي الحسن البصري كان يذهب يوماً الى هذا المذهب ، ويوماً الى مذهب آخر ، فتحيرت في الأمر ، وأخيراً تزندقت .

فلما قبض عليه الوالي ليقتله قيل : ( انه قال عند قتله : قد دَسستُ ) أي : أدخلتُ إدخالاً خفياً ( في كتبكم ) معاشر الشيعة ( أربعة آلاف حديث ) (1) مكذوب ، فانّ هذه القصة ( مذكورةٌ في الرّجال ) .

لكن لايخفى : إنا ذكرنا سابقاً : إن قول إبن أبي العوجاء باطل ، لأنه زنديق فهل يقبل قول مثله ، مع إنّ العادةُ تُكذّب مثل هذا الكلام ؟ فهل يمكن لانسان إدخال حديث في كتاب إنسان آخر خصوصاً بمثل هذا العدد الكبير ؟ .

( وكذا ) منقول في كتب الرّجال ( ماذكره يُونُس بن عبد الرّحمان : من انّه أخذ أحاديث كثيرة من أصحاب الصّادِقَين ) : الامام الباقر والامام الصادق ( عليهماالسلام ، ثمّ عرضها على أبي الحسن الرّضا عليه السلام ، فأنكر منها أحاديث كثيرة )

ص: 105


1- - عدة الاصول : ص40 ، الكامل في التاريخ : ج6ص7 ، البداية والنهاية : ج1 ص121 ، لسان الميزان : ج4 ص431 ، تاريخ الطبري : ج4 ص508 ، ميزان الاعتدال : ج4 ص388 .

إلى غير ذلك ممّا يشهد بخلاف ما ذكره .

وأمّا ما ذكره - من عدم عمل الأخبارييّن في عقائدهم إلاّ على الأخبار المتواترة والآحاد العلميّة - ففيه : انّ الأظهر في مذهب الأخباريين ماذكره العلاّمة ، بأنّ الأخبارييّن لم يعوّلوا في اصول الدّين وفروعه إلاّ على الآحاد . ولعلّهم المعنيّون ممّا ذكره الشيخ في كلامه السّابق في المقلّدة ، انّهم إذا سُئِلوُا عن التوحيد وصفات الأئمة عليهم السلام أو النبوّة ، قالوا : روينا كذا ، وإنّهم يروون في ذلك الأخبار .

-------------------

ممّا يدل على وجود الخلط في الأحاديث في تلك الأزمنة ، فيكون دليلاً على إنّ الأصحاب ، لم يكونوا - لما إدعاه السيّد الصدر - قاطعين بهذه الأخبار الآحاد .

( إلى غير ذلك ممّا يشهد بخلاف ماذكره ) السيّد الصدر من : انّ الأصحاب كانوا يعملون بالخبر العلمي المقطوع به .

الرابع : ممّا تنظّره المصنّف على السيّد الصدر ، هو ما أشار إليه بقوله : ( وأمّا ماذكره : من عدم عمل الأخبارييّن في عقائدهم إلاّ على الأخبار المتواترة والآحاد العلميّة ) أي : المنتهية الى العلم ، وإن لم تكن بنفسها علماً ومتواتراً .

( ففيه : انّ الأظهر في مذهب الأخباريين ماذكره العلاّمة : بأن الأخبارييّن لم يعوّلوا في اصول الدّين وفروعه إلاّ على الآحاد ) من الأخبار .

( ولعلّهم ) أي : لعل الاخباريين هم ( المعنيّون ممّا ذكره الشيخ في كلامه السّابق في ) باب ( المقلّدة ) فانه ذكر : ( انّهم إذا سُئِلُوا عن التوحيد وصفات الأئمة عليهم السلام أو النبوّة قالوا : روينا كذا ، وإنّهم يَروون في ذلك الأخبار ) وإلاّ فالمقلّدة ليسوا إلاّ الأخباريين ، فأين دعوى السيّد الصدر : انّهم يعتمدون الأخبار المتواترة ونحوها ؟ .

ص: 106

وكيف كان ، فدعوى دلالة كلام الشيخ في العُدّة على موافقة السيّد ، في غاية الفساد . لكنّها غيرُ بعيدة ممّن يدّعي قطعيّة صدور أخبار الكتب الأربعة ، لأنّه إذا إدّعى القطع لنفسه بصدور الأخبار التي أودعها الشيخ في كتابيه ، فكيف يرضى للشيخ ومن تقدّم عليه من المحدّثين أن يعملوا بالأخبار المجرّدة عن القرينة .

-------------------

( وكيف كان ، فدعوى دلالة كلام الشيخ في العُدّة على موافقة السيّد ) في حجّية خبر الواحد الّذي يحتّف به القرائن القطعية ( في غاية الفساد ) لما عرفت : من انّ ذلك هو قول السيّد ، وأمّا الشيخ فانه يقول : بحجّية الخبر المجرد إذا كان جامعاً للشرائط .

( لكنّها ) أي : لكن هذه الدعوى مع كونها في غاية الفساد ( غيرُ بعيدة ممّن يدّعي قطعيّة صدور أخبار الكتب الأربعة ) فانّ الأخباريين إذا ذهبوا إلى قطعيّة صدور أخبار الكتب الأربعة ، لابدّ لهم أن يقولوا : بأنّ الشيخ أيضاً يقول : بأن الخبر القطعي ، حجّة ، لأنهم يَرَونَ إنّ الشيخ أيضاً إعتمد على الكتب الأربعة ، فاذا كانت الكُتب الأربعة قطعيّة كان معناه انّ الشيخ أيضاً يقول : بقطعية الأخبار .

( لأنّه ) أي : لأنّ الأخباري ( إذا إدّعى القطع لنفسه بصدور الأخبار الّتي أودعها الشيخ ) - مثلاً- ( في كتابيه ) المعروفين في الحديث ، وهما التهذيب والاستبصار ( فيكف يرضى للشيخ ) أو يحتمل في حق الشيخ ( ومن تقدّم عليه ، من المحدّثين : ان يعملوا بالأخبار المجرّدة عن القرينة ؟ ) .

وعلى أي حال : فكلام الشيخ دال على حجّية الخبر بما هو خبر ، وإن لم يكن محفوفاً بالقرينة .

ص: 107

وأمّا صاحب المعالم قدس سره ، فعُذرُه أنّه لم يحضره عُدّة الشيخ حين كتابة هذا الموضع ، كما حكي عن بعض حواشيه واعترف به هذا الرّجل .

-------------------

( وأمّا صاحب المعالم قدس سره ) الّذي إدّعى موافقة الشيخ للسيّد في العمل بالخبر القطعي ( فعُذرُه : أنّه لم يحضره عُدّة الشيخ حين كتابة هذا الموضع - كما حكي عن بعض حواشيه - ) أي : حواشي صاحب المعالم ( وإعترف به هذا الرّجل ) أيضاً وهو السيّد الصدر .

وقال الأوثق : « الحاكي هو الفاضل الصالح المازندراني في حواشيه على المعالم حيث قال : وهذا الذي ذكره المصنّف في هذا المقام ، كان قبل وقوفه على كلام الشيخ في العُدّة ، لأنّه قدس سره ذكر في الحاشية : انّ الشيخ صرح بموافقته للمرتضى وبأنّ الامامية قاطبة يعملون بخبر الواحد وإن كان مجرداً عن القرائن ، وانّ مراده بخبر الواحد حيث نفوا العمل به ، هو : خبر المخالفين حيث قال : إعلم انّ الذي إتّضح لي من حال الشيخ في هذا المقام - بعد ان تيسر لي الوقوف على كتابه المُسمى بالعدّة - انّ أخبار الآحاد التي دوّنها الأصحاب في كتبهم وتناقلوا بينهم يعمل بها ، وغيرها من الأخبار الّتي دوّنها المخالفون في كتبهم ليس بحجّة ولا يعوّل عليه ، وقد صرّح بالموافقة على ماسبقت حكايته عن المرتضى وغيره من الانكار لعمل الامامية بخبر الواحد ، وإنّ ذلك شعارهم وطريقتهم التي لاسبيل إلى إدعاء خلافها » .

« ثم انّه خص ذلك بما ذكرناه من روايات مخالفيهم ، دون رواياتهم ، وإحتجّ لما صار إليه : باجماع الطائفة على الأخبار التي دوّنها ، وبالغ في نفي إحتمال كون عملهم بها إنّما حصل بسبب إنضمام القرائن إليها ، إنتهى » .

قال الأوثق بعد نقله هذه العبارة : « وهو صريح في العدول عمّا ذكره في

ص: 108

وأمّا المحقّق قدس سره ، فليس في كلامه المتقدّم منعُ دلالة كلام الشيخ على حجّية خبر الواحد المجرّد مطلقاً ، وإنّما منع من دلالته على الايجاب الكلّيّ ، وهو انّ كلّ خبر يرويه عدلٌ إماميٌ يُعمَلُ به ، وخصّ مدلوله

-------------------

المعالم ، إلاّ انّ حاصل ماذكره : هو الجمع بين كلامي السيّد والشيخ بوجه آخر ، وهو تخصيص معقد إجماع السيّد بأخبار المخالفين ، وتخصيص معقَد إجماع الشيخ بأخبار الاماميّة » (1) .

( وأمّا المحقّق قدس سره ، فليس في كلامه المتقدّم منعُ دلالة كلام الشيخ على حجّية خبر الواحد المجرّد ) فقد ذكر المحقّق في المعارج : « ذهب شيخنا أبو جعفر الى العمل بخبر الواحد العدل من رواة أصحابنا ، لكن لفظه وإن كان مطلقاً ، فعند التحقيق يتبيّن إنه لايعمل بالخبر مطلقاً ، بل بهذه الاخبار التي رويت عن الأئمة عليهم السلام ودوّنها الأصحاب » الى آخر كلامه ممّا يدل على انّ مراده ليس هو : ان الشيخ لايعمل بالخبر المجرد ( مطلقاً ) أي : سواء كان في الكتب المشهورة أم لم يكن ( وإنّما منع دلالته على الايجاب الكلّي ، وهو ) العمل بكل خبر مطلقاً .

وعليه : فليس مراد المحقّق : إنّ الشيخ لايعمل بالخبر الواحد مطلقاً ، إلاّ إذا كان محفوفاً بالقرينة القطعية - كما يراه السيّد - بل مراده : إنّ الشيخ يعمل بالخبر الواحد ، لكن لا مطلقاً وبكل خبر واحد ، وهو واضح ، فانّ العاملين بالخبر الواحد لايعملون بكل خبر واحد مطلقاً ، ولا يقولون : ( انّ كلّ خبر يرويه عدلٌ إماميٌ يُعمَلُ به ) ، هذا ( وخصّ ) المحقّق في المعارج ( مدلوله ) أي : مدلول كلام الشيخ

ص: 109


1- - أوثق الوسائل : ص168 تقرير الاجماع على حجيّة خبر الواحد .

بهذه الأخبار التي دوّنها الأصحاب وجعله موافقاً لما إختاره في المعتبر من التفصيل في أخبار الآحاد المجرّدة بعد ذكر الأقوال فيها ، وهو : « أنّ ماقَبِلَهُ الأصحاب أو دلّت القرائن على صحّته عُمِلَ به ، وما أعرض الأصحابُ عنه أو شذَّ يجبُ طَرحُه » انتهى .

والانصافُ : أنّ مافهمه العلاّمةُ من إطلاق قول الشيخ بحجّية خبر العدل الاماميّ أظهرُ ممّا فهمه المحقّقُ من التقييد ،

-------------------

الذي إدّعى إنّه مطلق ( بهذه الأخبار التي دوّنها الأصحاب ) في الكتب المشهورة ، وبهذا أصبح للمحقّق رأي ، وللشيخ رأي ، وللسيد رأي .

وعليه : فان المحقق وإن لم يجعل الشيخ موافقاً للسيّد - كما قاله صاحب المعالم وغيره - ( و ) لكن ( جعله موافقاً لما إختاره ) هو ( في المعتبر : من التفصيل في أخبار الآحاد المجرّدة ) عن القرائن القطعية ( بعد ذكر الأقوال فيها ) أي : في تلك الاخبار .

( وهو ) أي : مختار المحقّق في المعتبر ( : انّ ما ) أي : كل خبر واحد ( قَبِلَهُ الأصحاب أو دلّت القرائن على صحّته عُمِلَ به ، وما أعرض الأصحابُ عنه أو شَذَّ ) العامل به - وقد تقدّم الفرق بين الشذوذ والندور -( يجبُ طرحُه ، إنتهى ) كلام المحقّق .

وبهذا تبيّن : إنّ الشيخ يقول بحجّية الأخبار مطلقاً .

والسيّد يقول بعدم حجّيتها مطلقاً إلاّ بالقرائن القطعية .

والمحقّق : يقول بهذا التفصيل الذي قد عرفته .

( والانصاف : أنّ مافهمه العلاّمةُ من إطلاق قول الشيخ بحجّية خبر العدل الاماميّ ، أظهرُ ممّا فهمه المحقّق من التقييد ) لما عَرِفتُ من انّ الشيخ يطلق حجّية

ص: 110

لأنّ الظاهر أنّ الشيخ إنّما يتمسّك بالاجماع على العمل بالرّوايات المدوّنة في كتب الأصحاب على حجّية مطلق خبر العدل الاماميّ ، بناءاً منه على أنّ الوجه في عملهم بها كونُها أخبارَ عدول .

وكذا ما إدّعاه من الاجماع على العمل بروايات الطوائف الخاصّة من غير الاماميّة ، وإلاّ فَلِمَ لم يأخُذهُ في عنوان مختاره

-------------------

الخبر ، بخلاف المحقّق الذي يقيده .

وإنّما كان مافهمه العلاّمة أظهر ممّا فهمه المحقّق ( لأنّ الظاهر : أنّ الشيخ إنّما يتمسّك بالاجماع على العمل بالرّوايات المدوّنة في كتب الأصحاب ) فانّ الاجماع الّذي إدّعاه الشيخ إنّما أقامه ( على حجّية مطلق خبر العدل الاماميّ ) وذلك ( بناءاً منه ) أي : من الشيخ ( على أنّ الوجه ) والمناط ( في عملهم بها ) أي : بالأخبار المدوّنة في الكتب المشهورة ، كالاصول الأربعمائة وغيرها ( كونُها أخبارَ عدول ) .

ومن الواضح : انّ هذا المناط جار أيضاً ، في غير الأخبار المدوّنة في الكتب المشهورة إذا كان راويها عدلاً ، فقول الشيخ في حجّية الخبر مناطه : كونه خبر عدل .

( وكذا ما إدّعاه من الاجماع ) فانّ تمسكه بالاجماع إنّما هو ( على العمل بروايات الطوائف الخاصّة ) كبني فضّال ، والواقفية ، وسائر فرق الشيعة ( من غير الامامية ) فانّه يتمسك به على حجّية مطلق خبر الثقة .

( وإلاّ ) بأن أراد الشيخ : حجّية الأخبار المدونة فقط ، من دون كون المناط : إنها أخبار عدول ، أو أخبار ثقاة ( فلم لم يأخذه في عنوان مختاره ؟ ) فانّ عدم أخذه في العنوان ، شاهد على إنّه أراد الاستدلال بهذا الاجماع : على حجّية مطلق خبر العدل والثقة .

ص: 111

ولم يشترط كون الخبر ممّا رواه الأصحاب وعملوا به ، فراجع كلام الشيخ وتأمّله ، واللّه العالم ، وهو الهادي إلى الصواب .

ثمّ إنّه لايبعدُ وقوعُ مثل هذا التدافع بين دعوى السيّد ودعوى الشيخ ، مع كونهما معاصرين خبيرين بمذهب الأصحاب في

-------------------

وذلك لأنّه ذكر في عنوان المبحث : وأمّا ما إخترته من المذهب : فهو انّ خبر الواحد إذا كان وارداً من طريق أصحابنا القائلين بالامامة ، جاز العمل به ، ولم يأخذ في هذا العنوان أزيد من ذلك .

( و ) لِمَ ( لم يشترط كون الخبر ممّا رواه الأصحاب وعملوا به ؟ ) فانّه لو كان هذا الشرط لازماً عنده - كما قاله المحقّق - لزم أن يذكره في العنوان ( فراجع كلام الشيخ وتأمّله ، واللّه العالم ، وهو الهادي إلى الصّواب ) .

والحاصل : ان المصنّف يريد بيان مايلي :

اولاً : إنّ شيخ الطائفة يقول : بحجّية خبر العادل وخبر الثقة مطلقاً ، من دون إشتراط أن يكون محفوفاً بالقرينة القطعيّة .

ثانياً : إنه لايقول : بأنّ الأخبار المدوّنة في الكتب الأربعة كلّها مقطوعة .

ثالثاً : إنه لايقول : بانحصار الأخبار التي هي حجّة بما في الكتب المشهورة .

( ثمّ إنّه ) لما كان هنا مورد سؤال ، وهو : انّه كيف يمكن وقوع التدافع بين كلام السيّد والشيخ في حجّية خبر الواحد وهما معاصران فقد إدعى أحدهما الاجماع على حجّية الخبر وإن لم يكن محفوفاً بالقرينة ، وإدعى الآخر الاجماع على عدم حجّيته ؟ .

أجاب المصنّف : بانه ( لايبعدُ وقوعُ مثل هذا التدافع بين دعوى السيّد ودعوى الشيخ ، مع كونهما معاصرين خبيرين بمذهب الأصحاب في )

ص: 112

العمل بخبر الواحد ، فكم من مسألة فرعيّة وقع الاختلاف بينهما في دعوى الاجماع فيها ، مع أنّ المسألة الفرعيّة اولى بعدم خفاء مذهب الأصحاب فيها عليهما ، لأنّ المسائل الفرعيّة معنونة في الكتب مفتى بها غالباً بالخصوص .

نعم ، قد يتفق دعوى الاجماع بملاحظة قواعد الأصحاب ، والمسائل الاصوليّة لم تكن معنونة في كُتُبِهِم .

-------------------

باب ( العمل بخبر الواحد ، فكم من مسألة فرعية وقع الاختلاف بينهما في دعوى الاجماع فيها ، مع انّ المسألة الفرعيّة أولى بعدم خفاء مذهب الأصحاب فيها عليهما ) أي : على السيّد والشيخ .

وإنّما كانت المسألة الفرعيّة أولى بعدم الخفاء من الاصولية ( لأنّ المسائل الفرعيّة معنونة في الكتب ، مفتى بها غالباً بالخصوص ) والعنوان ، فيلزم عدم إختلافهما فيها .

لكن إنّما يختلفان في المسألة الفرعيّة ، ويدعي كل منهما : الاجماع على أحد طرفي المسألة ، بما أشار إليه المصنّف بقوله :

( نعم ، قد يتّفق دعوى الاجماع ) في المسألة الفرعيّة ( بملاحظة قواعد الأصحاب ) فيكون إدعاء أحدهما الاجماع غير مستند إلى تتبع أقوال الأصحاب ، بل مستند إلى بعض القواعد والاصول - كما تقدّم الالماع الى ذلك في بحث الاجماع - .

كيف ( والمسائل الاصوليّة لم تكن معنونة في كتُبِهم ) حتى لايقع التدافع فيها بين الاجماعين لمتعاصرين من مثل السيّد والشيخ ؟ .

ولا يخفى : ان قوله : « والمسائل الاصولية . . » هو بيان لوجه أولوية المسائل

ص: 113

...

-------------------

الفرعية - بعدم الاختلاف فيها- من المسائل الاصولية حيث الاُولى معنونة بخصوصها ، بينما الثانية لم تكن كذلك ، فاذا وقع التدافع بين إجماعهما في المسائل الفرعيّة وقع التدافع بين إجماعهما في المسائل الاصولية بطريق أَولى ، فانّه قد يتفق إدعاء الاجماع على القواعد الكلّية ، مثل الاجماع على قاعدة : « مَن مَلَكَ شَيئاً مَلَكَ الاقرارَ بِهِ » (1) وقاعدة : « مايُضمنُ بصَحيِحِهِ يُضمَنُ بفاسِدِهِ » (2) .

وقد يتفق - وهو الغالب - إدعائهم الاجماع على المسائل الجزئية الفرعية ، مثل : « إنّ الشك بين الثلاث والأربع يبني فيه على الأربع » (3) ، وهكذا .

وكيف كان : فلا إستبعاد في تخالف الشيخ والسيّد في مسألة حجّية خبر الواحد ، التي هي من المسائل الاصولية ، بعد تخالفهما كثيراً في المسائل الفرعية - على ماعرفت - .

ونحن حيث نرى : انّ الأصحاب لم يعملوا ببعض الرّوايات وعملوا ببعضها الآخر ، ولم نعلم وجه هذا الأخذ والترك ، نحتمل أن يكون الوجه هو ماذكره السيّد : من انّ الرّوايات المتروكة لا قرائن قطعية لها ، بخلاف الرّوايات المعمول بها .

ونحتمل أن يكون الوجه هو ماذكره الشيخ : من انّ الرّوايات المعمول بها إنما هي لأجل إنّ رواتها حجّة ، والمتروكة إنّما هي لأنّ رواتها غير حجة .

إذن : فالأصحاب لم يعلم من حالهم قاعدة كلّية في انّه هل يعملون بالخبر

ص: 114


1- - راجع القواعد الفقهية للبجنوردي : ج1 ص4 قاعدة من ملك .
2- - راجع القواعد الفقهية للبجنوردي : ج2 ص84 قاعدة ما يضمن .
3- - انظر وسائل الشيعة : ج8 ص216 ب10 ح10461 .

إنما المعلوم من حالهم أَنَّهم عملوا بأخبار ، وطرحوا أخباراً .

فلعلّ وجه عملهم بما عملوا ، كونُه متواتراً أو محفوفاً عندهم ، بخلاف ما طرحوا ، على مايدّعيه السيّد قدس سره ، على ماصرّح به في كلامه المتقدم : من أنّ الأخبار المودعة في الكتب بطريق الآحاد متواترة أو محفوفة . ونصّ في مقام آخر على أنّ معظم الأحكام يعلم بالضرورة والأخبار المعلومة .

-------------------

الواحد - كما يقوله الشيخ - أو لا يعملون به إلاّ إذا كان محفوفاً بالقرائن القطعيّة - كما يقوله السيّد - ؟ .

و ( إنّما المعلوم من حالهم ) هو أمر مجمل ، يحتمل الانطباق على رأي السيّد ، ويحتمل الانطباق على رأي الشيخ ، وهو : ( أنّهم عملوا بأخبار ، وطرحوا أخباراً ) فيحتمل في وجه أخذهم وطرحهم أحد أمرين - كما بيناه - :

الاوّل : ما أشار اليه بقوله ( فلعلّ وجه عملهم ) أي : الاصحاب ( بما عملوا ، كونهُ متواتراً ، أو محفوفاً عندهم ، بخلاف ماطرحوا ) وذلك ( على مايدّعيه السيّد قدس سره ) : من إنّ الأخبار المتواترة ، والمحتفة بالقرائن القطعيّة ، يعمل بها ، بخلاف الأخبار التي ليست كذلك ، فانها ( على ماصرّح به ) السيّد المرتضى رحمه اللّه ( في كلامه المتقدّم : من ) انه لايعمل بها ، كما قال : ( أنّ الأخبار المودعة في الكتب بطريق الآحاد متواترة أو محفوفة ) بالقرائن القطعية ، وإن كان الأصحاب لم ينقلوها بطريق التواتر أو الاحتفاف بالقرائن ، وإنّما نقلوها بحذف القرائن وبنحو الخبر المجرد .

( ونصّ في مقام آخر : على أنّ معظم الأحكام يعلم بالضرورة والأخبار المعلومة ) هذا هو الاحتمال الأول في وجه أخذ الأصحاب ببعض الأخبار وتركهم لبعض .

ص: 115

ويحتمل كونُ الفارق بين ماعملوا وَما طرحوا مع إشتراكهما في عدم التواتر والاحتفاف ، فَقد شرط العمل في أحدهما دون الآخر على مايدّعيه الشيخ قدس سره ، على ماصرّح به في كلامه المتقدّم ، من الجواب عن إحتمال كون عملهم بالأخبار لاقترانها بالقرائن . نعم لايناسب ماذكرناه من الوجه تصريحُ السيّد بأنهم شدّدوا

-------------------

الثاني : ما أشار إليه المصنّف بقوله : ( ويحتمل كونُ الفارق بين ماعملوا وما طرحوا ، مع إشتراكهما في عدم التواتر والاحتفاف ، فقد شرط العمل في أحدهما ) وهو المتروك ( دون الآخر ) وهو المأخوذ .

وذلك ( على مايدّعيه الشيخ قدس سره ) حيث إنّ المناط عند الشيخ في الأخذ هو : جمع الخبر لشرائط الصحة : من وثاقة الرّاوي وضبطه ، والردّ هو : عدم جمعه لشرائط الخبر ، فهذا هو مناط الأخذ والرد عند الشيخ ( على ماصرّح به في كلامه المتقدّم ، من الجواب عن إحتمال كون عملهم بالأخبار لاقترانها بالقرائن ) حيث أجاب عن هذا السؤال : بأنّا نعلم : إنّه ليس في جميع المسائل التي إستعملوا فيها الآحاد ، إحتفاف بالقرينة .

( نعم ، لايناسب ماذكرناه من الوجه ) في رفع التدافع بين كلامي السيّد والشيخ حيث قلنا : انّ الاصحاب لمّا لم يتعرّضوا لحجّية الخبر وعدمها ، ولم يشاهد منهم إلاّ مجرد العمل ببعض الأخبار ، وترك بعض الأخبار ، إحتملنا أن يكون ذلك لأجل الاختلاف في المناط ، وإنّ السيّد يرى مناطاً غير مناط الشيخ ، فيحتمل أن يكون وجه العمل وعدم العمل هو مناط السيّد ، ويحتمل أن يكون هو مناط الشيخ .

فانّ هذا الوجه لايناسب ( تصريحُ السيّد : بأنهم ) أي : الأصحاب ( شدّدوا

ص: 116

الإنكار على العامل بخبر الواحد .

ولعلّ الوجه فيه : ما أشار إليه الشيخُ في كلامه المتقدّم بقوله : « إنّهم منعوا من الأخبار التي رواها المخالفون في المسائل التي روى أصحابُنا خلافه » . وإستبعَدَ هذا صاحبُ المعالم في حاشيةٍ منه على هامش المعالم ، بعدما حكاه عن الشيخ : « بأنّ الاعتراف بانكار عمل الاماميّة بأخبار الآحاد لايعقل صرفُه إلى روايات مخالفيهم ، لأنّ إشتراط العدالة عندهم ،

-------------------

الإنكار على العامل بخبر الواحد ) لأنّ هذا الوجه يظهر منه : انّ مذهب السيّد مستند الى تصريحات الأصحاب ، لا إلى ما ذكرناه من الوجه .

( ولعلّ الوجه فيه ) أي : في تشديد إنكار السيّد ( ما أشار اليه الشيخ في كلامه المتقدّم بقوله : إنّهم ) أي : الأصحاب ( منعوا من الاخبار التي رواها المخالفون في المسائل التي روى أصحابنا خلافه ) فالمناط ماذكرناه : من رأي السيّد ، وإنّما تشديد اِنكاره في مقام آخر ، وهو أخبار المخالفين .

( و ) لكن ( إستَبعَدَ هذا ) الوجه الذي ذكره الشيخ : من انّ مراد الاصحاب : هو المنع من أخبار المخالفين ، لا مطلق خبر الثقة أو العدل الامامي ( صاحبُ المعالم في حاشيةٍ منه على هامش المعالم ، بعدما حكاه ) أي : الكلام المذكور ( عن الشيخ ) .

وإنّما إستبعد المعالم ذلك ( ب ) سبب ( أنّ الاعتراف بانكار عمل الاماميّة بأخبار الآحاد لايعقل صرفُه إلى روايات مخالفيهم ) فانّ الشيخ إعترف : إنّ الاماميّة ينكرون العمل بأخبار الآحاد ، وظاهر ذلك ، هو إنكارهم أخبار الآحاد المروية عن طُرقِنا ، لا عن طُرق المُخالِفين ( لأنّ إشتراط العدالة عندهم ) أي ، عند الشيعة

ص: 117

وإنتفائها في غيرهم كافٍ في الإضراب عنها ، فلا وجه للمبالغة في نفي العمل بخبر يروونه » انتهى .

وفيه : أنّه يمكن أن يكون إظهار هذا المذهب والتجنّن به في مقام لايمكنهم التصريحُ بفسق الرّاوي ، فاحتالوا

-------------------

( وإنتفائها في غيرهم ، كافٍ في الإِضراب عنها ) أي : عن روايات المخالفين .

فانّ الاماميّة يشترطون في الخبر العدالة ، ومن المعلوم : ان هذا الشرط يخرج أخبار المخالفين ( فلا وجه للمبالغة في نفي العمل بخبر يروونه ) (1) أي : لا حاجة الى ان يمنع الاماميّة أخبار المخالفين بصورة التورية ، بأن يقولوا : لا يجوز العمل بأخبار الآحاد ، وهم يريدون أخبار الآحاد الواردة من طريق المخالفين ، فانّ إشتراط الأصحاب العدالة في الرّاوي ، يخرج أخبار المخالفين .

( إنتهى ) كلام صاحب المعالم في هامشه .

( وفيه : ) انّ ماذكره الشيخ : من انّهم إنّما إشترطوا العلم لاسقاط روايات المخالفين ، لابعد فيه ، ل- ( أنّه يمكن ان يكون إظهار هذا المذهب ) أي : عدم حجّية الخبر الواحد ( والتجنّن به ) أي : جعل هذا الكلام جُنَّة ، يستترون به لردّ أخبار المخالفين ، وحفظ الحجّية لانفهسم ، وذلك ( في مقام لايمكنهم التّصريح بفسق الرّاوي ) .

فانّ الأصحاب لما لم يتمكنوا من أن يصرّحوا بفسق رواة السوء من المخالفين ، وأن يرّدوا أخبارهم علناً لشدة التقية بالنسبة اليهم ( فاحتالوا ) من الحيلة ، بمعنى : معالجة الأمر ، كما قال عليه السلام : « وَلا تَمكُر بِيِ في حِيلَتِك » (2) ،

ص: 118


1- - معالم الدين : حاشية المصنّف .
2- - مفاتيح الجنان : ص 249 .

في ذلك بأنّا لانعمل إلاّ بما حصل لنا القطعُ بصدقه بالتواتر أو بالقرائن ، ولا دليل عندنا على العمل بالخبر الظنّي وإن كان راويه غير مطعون .

وفي عبارة الشيخ المتقدّمة إشارةٌ إلى ذلك حيث خصّ إنكار الشيوخ للعمل بالخبر المجرّد ، بصورة المناظرة مع خصومهم .

والحاصلُ : انّ الاجماعَ الذي ادّعاه السيّد قدس سره ، قوليٌّ ، وما إدّعاه الشيخ قدس سره ، إجماع عمليٌّ ،

-------------------

وقالوا ( في ذلك : بأنّا لانعمل إلاّ بما حصل لنا القطعُ بصدقه بالتواتر أو بالقرائن ، ولا دليل عندنا على العمل بالخبر الظنّي وإن كان راويه غير مطعون ) ولا مشكوك في عدالته .

وعلى أي حال : فالاعتبار إنّما هو بعمل الأصحاب ، لابقولهم هذا الذي هو مشكوك لماذا قالوه ؟ هل لأجل الواقع ، أو لأجل إقناع خصومهم ؟ .

( وفي عبارة الشيخ المتقدّمة إشارة إلى ذلك ) الذي ذكرناه : من انّ كلامهم هذا كان لأجل العلاج وردّ المخالفين لا لأجل انّ عملهم في الواقع على ذلك ( حيث خصّ إنكار الشيوخ للعمل بالخبر المجرّد ، بصورة المناظرة مع خصومهم ) وذلك في جوابه عمّا أورده على نفسه من الاشكال بقوله : فما الذي يحملكم على الفرق بين مايرويه الطائفة المحقة ، وبين مايرويه أصحاب الحديث من العامّة الى آخر الكلام ممّا تقدّم .

( والحاصلُ : انّ الاجماعَ الّذي إدّعاه السيّد قدس سره : قوليٌّ ) فانهم بأجمعهم يقولون : بانّ الخبر غير العلمي ليس بحجّة .

( وما إدّعاه الشيخ قدس سره : إجماعٌ عمليٌّ ) أي : انّ الشيخ يدعي : إنّهم بأجمعهم يعملون بخبر الواحد .

ص: 119

والجمع بينهما يمكنُ بحمل عملهم على ما إحتفّ بالقرينة عندهم ، وبحمل قولهم على ماذكرنا من الإحتمال في دفع الرّوايات الواردة فيما لايرضونه من المطالب . والحمل الثاني مخالف لظاهر القول ،

-------------------

( والجمعُ بينهما ) أي : بين الاجماعين المذكورين ( يمكنُ ) بوجوه ثلاثة :-

الأول : ان يكون إجماع العلماء على العمل بخبر الواحد فيما كانت هناك قرينة - كما إدّعاه السيّد - فيثبت على ذلك قول السيّد .

الثاني : ان يكون إجماعهم على عدم العمل بالخبر ، فيما كان من أخبار المخالفين ، فيثبت على ذلك قول الشيخ .

الثالث : ان يكون مراد السيّد من القرائن : مايوجب وثوق النفس ، ومراد الشيخ من عدم الاحتياج الى القرائن : القرائن الأربع : من الكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل .

وهذا الوجه الأخير عند المصنّف أحسن الوجوه الثلاثة ، لأنّ الوجهين الأولين : إمّا تصرّف في إجماع الشيخ ، أو تصرّف في إجماع السيّد ، أما الوجه الثالث : فهو تصرّف في كلا الاجماعين ، فلا يلزم سقوط هذا الاجماع ولا ذاك الاجماع .

وأشار المصنّف إلى الوجهين الأولين بقوله : ( بحمل عملهم على ما إحتفّ بالقرينة عندهم ) فيكون موافقاً لقول السيّد ومسقطاً لكلام الشيخ .

( وبحمل قولهم على ماذكرنا : من الإحتمال في دفع الرّوايات الواردة ) عن طريق المخالفين ( فيما لايرضونه من المطالب ) فيثبت إجماع الشيخ ويسقط إجماع السيّد .

( والحمل الثاني ) أي : التصرّف في القول - كما إختاره الشيخ - ممّا يسقط إجماع السيّد ( مخالف لظاهر القول ) فإنّ حمل قولهم : لانعمل بخبر الواحد ،

ص: 120

والحمل الأوّل ليس مخالفاً لظاهر العمل ، لأنّ العمل مجمل من أجل الجهة التي وقع عليها .

إلاّ إنّ الانصافَ : أنّ القرائن تشهد بفساد الحمل الأوّل ، كما سيأتي . فلابدّ من حمل قول مَن حكى عنهم السيّدُ المنعَ ، إمّا على ماذكرنا ، من إرادة دفع أخبار المخالفين ، التي لايمكنهم

-------------------

على أخبار المخالفين ، خلاف ظاهر اللفظ ، لأنهم أطلقوا في أنّهم لايعملون بأخبار الآحاد ، وهو يشمل أخبار المخالفين وأخبار الاماميّة ، فمثل هذا الحمل يوجب حمل المطلق على المقيد بلا قرينة .

( والحمل الأوّل : ) أي : التصرف في العمل ، كما إختاره السيّد ( ليس مخالفاً لظاهر العمل ، لأنّ العمل مجمل ) اذ ليس للعمل ظهور أصلاً حتى يكون التصرف فيه خلاف الظاهر ، فان العمل مجمل ( من أجل الجهة التي وقع عليها ) فلا يعلم إنهم عملوا بهذه الأخبار لإحتفافها بالقرائن - كما يقول السيّد- أو لأجل حجّية خبر الواحد - كما يقول الشيخ - .

وعليه : فلامانع من حمله على الأوّل ( إلاّ إنّ الانصاف : أنّ القرائن تشهد بفساد الحمل الأوّل ) من التصرّف في العمل وانهم عملوا بالأخبار لاحتفافها بالقرائن ( كما سيأتي ) جملة من القرائن الدالة على انّهم قد عملوا بأخبار الآحاد لا من حيث إحتفافها بالقرائن بل لحجّيتها بنفسها مجردة .

إذن : ( فلابدّ من ) التصرّف في القول على كلام السيّد المرتضى ، وذلك ب( حمل قول مَن ) أي : العلماء الذين ( حكى عنهم السيّد المنعَ ) عن العمل بخبر الواحد على أحد امرين :

الأوّل : ( إمّا على ماذكرنا : من إرادة دفع أخبار المخالفين ، التي لايمكنهم )

ص: 121

ردّها بفسق الرّاوي ، وإمّا على ماذكره الشيخ ، من كونهم جماعةً معلوميّ النسب لايقدحُ مخالفتهم بالاجماع .

ويمكن الجمعُ بينهما بوجه أحسن : وهو أنّ مرادَ السيّد قدس سره ، من العلم الذي إدّعاه في صدق الأخبار هو مجرّد الاطمينان ، فانّ المحكيّ عنه قدس سره ، في تعريف العلم انّه ما اقتضى سكونَ النفس .

-------------------

التصريح بعدم حجّيتها و( ردّها بفسق الرّاوي ) حيث إنهم لم يستطيعوا أن يقولوا : انّا لانقبل هذا الخبر لأنّ راويه فاسق ، فتوصلوا الى مقصدهم عن هذا الطريق وبهذه الصورة .

الثاني : ( وإمّا على ماذكره الشيخ : من كونهم ) أي : كون المانعين عن العمل بخبر الواحد ( جماعةً معلوميّ النسب ، لايقدحُ مخالفتهم بالاجماع ) كما ألمعنا الى ذلك سابقاً ، وهو على قول من يرى حجّية الاجماع الدخولي .

( ويمكن الجمعُ بينهما ) أي : بين إجماعي السيّد والشيخ ( بوجه ) ثالث ( أحسن ) من الوجهين السابقين - وقد عرفت وجه الأحسنية في كلامنا - ( وهو : أنّ مرادَ السيّد قدس سره من العلم الذي إدّعاه ) شرطاً ( في صدق الأخبار ) حيث قال : انّ أكثر أخبارنا المرويّة في كتبنا ، معلومة مقطوع على صحتها ( : هو مجرّد الاطمئنان ) والوثوق ، لا العلم الذي هو أرفع درجات الاطمئنان والوثوق .

( فانّ المحكيّ عنه قدس سره ) أي : عن السيّد ( في تعريف العلم : انه ) أي العلم ( ماإقتضى سكونَ النفس ) فيشمل الاطمئنان والوثوق ، لأنّ الانسان إذا سكن إلى شيء ، كان معناه : إنه إطمأن إليه وَوَثِقَ بِهِ ، أما العلم ، فهو الدرجة الرفيعة من سكون النفس .

ص: 122

وهو الذي إدّعى بعض الأخبارييّن أنّ مرادنا بالعلم بصدور الأخبار هو هذا المعنى ، لا اليقينُ الّذي لايقبل الاحتمال رأساً .

فمراد الشيخ من تجرّد هذه الأخبار عن القرائن تجرّدُها عن القرائن الأربع التي ذكرها أوّلاً ، وهي موافقة الكتاب أو السنّة أو الاجماع أو دليل العقل . ومرادُ السيّد من القرائن ، التي إدّعى في عبارته المتقدّمة إحتفافَ أكثر الأخبار بها هي الأمور الموجبة للوثوق بالرّاوي أو بالرّواية

-------------------

( و ) هذا العلم بمعنى : الوثوق وسكون النفس ، لا بمعنى : القطع المانع عن النقيض ( هو الذي إدّعى بعض الأخبارييّن ) ذلك حيث قال ( :أنّ مرادنا بالعلم بصدور الأخبار : هو هذا المعنى ) أي : الوثوق وإطمئنان النفس ( لا اليقينُ الّذي لايقبل الاحتمال ) والترديد ( رأساً ) أي : أبداً ، بأن يكون مائة في مائة ، فانّ الاطمئنان يشمل حتى الخمس والتسعين ، والست والتسعين ، والسبع والتسعين ، ومافوقها دون المائة .

وعليه : فاذا كان هذا مراد السيّد ( فمراد الشيخ من تجرّد هذه الأخبار عن القرائن تجرّدها عن القرائن الأربع التي ذكرها أوّلاً ، وهي : موافقة الكتاب ، أو السنّة ، أو الاجماع ، أو دليل العقل ) وليس مراده تجردها عن سائر القرائن الموجبة لوثوق النفس وسكونها وإطمئنانها .

( و ) كذلك يكون ( مرادُ السيّد من القرائن ، التي إدّعى في عبارته المتقدّمة إحتفافَ أكثر الأخبار بها ) حيث قال : انّ أكثر أخبارنا مقطوع على صحتها بالتواتر ، أو بأمارات تدل على صحتها ( هي الأمور الموجبة للوثوق ) والإطمئنان ( بالرّاوي ، أو بالرّواية ) بان نطمئن إلى انّ الرّاوي صادق ، أو نطمئن بانّ الرّواية

ص: 123

بمعنى سكون النفس بهما وركونها إليهما . وحينئذٍ فيحمل إنكارُ الاماميّة للعمل بخبر الواحد ، على إنكارهم للعمل به تعبّداً ، أو لمجرّد حصول رجحان بصدقه على ما يقوله المخالفون .

والانصافُ : انّه لم يتضح من كلام الشيخ دعوى الاجماع على أزيدَ من الخبر الموجِب لسكون النفس ولو بمجرّد وثاقة الرّاوي وكونه

-------------------

صحيحة وإن لم نثق براويها ، وذلك الوثوق ( بمعنى : سكون النفس بهما ) أي : بالرّاوي أو بالرّواية ( وركونها ) أي : إعتماد النفس ( إليهما ) من الرّواية أو الرّاوي .

( وحينئذٍ ) أي : حين تم هذا الجمع بين إجماعي السيّد والشيخ ، وذلك بأن قلنا : انّ مراد السيّد من العلم بالصدق : هو الاطمئنان ، ومن القرائن : هي الموجبة للسكون والوثوق في النفس ، وقلنا : بأنّ مراد الشيخ من إنكار القرائن : هو إنكار القرائن الأربع ، دون سائر القرائن الموجبة للوثوق ، يحصل الوفاق بين الاجماعين المذكورين من السيّد والشيخ .

وعليه : ( فيحمل إنكارُ الاماميّة للعمل بخبر الواحد ، على إنكارهم للعمل به تعبّداً ، أو لمجرّد حصول رجحان بصدقه ) فانّ مرادهم حين يقولون : انّا لانعمل بخبر الواحد : انّهم لايعملون بخبر الواحد تعبداً من دون وثوق وإطمئنان ، أو انّهم لايعملون بخبر الواحد بمجرد حصول الظّن منه ( على ما يقوله المخالفون ) .

فانّ المخالفين يقولون : انّ الخبر يعمل به تعبداً ، أو يعمل به إذا حصل الظنّ منه ، حتى وإن لم يحصل إطمئنان ووثوق بالرّاوي ولا بالرّواية .

( والانصاف : انّه لم يتضح من كلام الشيخ دعوى الاجماع على أزيدَ من ) العمل على ( الخبر الموجِب لسكون النّفس ، ولو بمجرّد وثاقة الرّاوي وكونه )

ص: 124

سديداً في نقله لم يُطعن في روايته .

ولعلّ هذا الوجه أحسنُ وجوه الجمع بين كلامي الشيخ والسيّد ، خصوصاً مع ملاحظة تصريح السيّد قدس سره ، في كلامه بأنّ أكثر الأخبار متواترة أو محفوفة ، وتصريح الشيخ قدس سره ، في كلامه المتقدّم بانكار ذلك .

-------------------

أي : الرّاوي ( سديداً في نقله ) ضابطاً يعتمد عليه و ( لم يُطعن في روايته ) من جهة العلماء الأجلاء .

( ولعلّ هذا الوجه ) الأخير الذي ذكرناه هو ( أحسنُ وجوه الجمع بين كلامي الشيخ والسيّد ) كما تقدّم ، وإنه ليس كالجمعين السابقين حيث كان أحدهما : تصرف في القول فقط ، فيوجب فساد دعوى السيّد وثانيهما : تصرف في العمل فقط ، فيوجب فساد دعوى الشيخ ، إذ لا موجب لاسقاط أحد الكلامين فيما لو أمكن الجمع بينهما .

هذا هو وجه الأحسنية - كما ذكرناه - ( خصوصاً مع ملاحظة تصريح السيّد قدس سره في كلامه : بأنّ أكثر الأخبار متواترة أو محفوفة ، وتصريح الشيخ قدس سره في كلامه المتقدم : بانكار ذلك ) الذي ادّعاه السيّد .

إذن : فأحسن وجه للجمع بين كلاميهما أن يقال : انّ مراد السيّد من إثبات القرائن : هي القرائن الموجِبة للوثوق والاطمئنان امّا بالرّاوي أو بالرّواية ، ومراد الشيخ من إنكار القرائن : إنّما هو إنكار القرائن الأربع فقط .

وعلى هذا : يكون النزاع بين السيّد والشيخ لفظياً ، ولا يكون تهافت بين إجماعيهما حتى يقال : كيف يدّعيان إجماعين متدافعين ، وهما متعاصران ؟ هذا تمام الكلام في دعوى الشيخ : الاجماع على حجّية خبر الواحد .

ص: 125

وممّن نقل الاجماعَ على حجّية أخبار الآحاد : السَيّدُ الجليلُ رضيّ الدّين بن طاووس رحمه اللّه ، حيث قال في جملة كلام له ، يَطعَنُ فِيهِ على السيّد رحمه اللّه :

« ولايكاد تعجّبي ينقضي كيف إشتبه عليه أنّ الشيعة لاتعمل بأخبار الآحاد في الأمور الشرعيّة ، ومن اطّلع على التواريخ والأخبار ، وشاهد عمل ذوي الاعتبار ، وجد المسلمين والمرتضى وعلماء الشيعة الماضين ، عاملين بأخبار الآحاد بغير شبهة عند العارفين ، كما ذكر محمّد بن الحسن الطوسي في كتاب العُدّة ، وغيره من المشغولين بتصفّح أخبار الشيعة

-------------------

( وممّن نقل الاجماعَ على حجّية أخبار الآحاد : السيّدُ الجليل رضيّ الدّين بن طاووس رحمه اللّه ) وهو من أكابر الفقهاء ، والزهاد في عصره ( حيث قال في جملة كلام له ، يُطعَنُ فيه على السيّد رحمه اللّه ) مالفظه : ( ولايكاد تعجّبي ينقضي ) أي : انّي متعجب دائماً من انه ( كيف إشتبه عليه ) أي : على السيّد المرتضى ( أنّ الشيعة لاتعمل بأخبار الآحاد في الأمور الشرعيّة ؟ ) مع وضوح : انهم يعملون بها ، فكيف إدعى السيّد عدم عملهم بها ؟ .

( ومن اطّلع على التواريخ والأخبار ، وشاهد ) بعين البصيرة ( عمل ذوي الاعتبار ) من الفقهاء الاعلام الذين هم مناط الأخذ والرد والقضاء والفتوى ( وجد ) كل ( المسلمين و ) نفس السيّد ( المرتضى و ) جميع ( علماء الشيعة الماضين ، عاملين بأخبار الآحاد بغير شبهة عند العارفين ) بكيفية عمل المسلمين ، وعمل نفس السيّد المرتضى وعمل سائر علماء الشيعة الأجلاء .

فعملهم بأخبار الآحاد يكون ( كما ذكر محمّد بن الحسن الطوسي في كتاب العُدّة ، وغيره ) أي : غير الشيخ الطوسي ( من المشغولين بتصفّح أخبار الشيعة

ص: 126

وغيرهم من المصنّفِين » انتهى .

وفيه دلالةٌ على أنّ غير الشيخ من العلماء أيضاً إدّعى الاجماع على عمل الشيعة بأخبار الآحاد .

وممّن نقل الاجماع أيضاً العلاّمةُ رحمه اللّه ، في النهاية حيث قال : « إنّ الاخباريّين منهم لم يعوّلوا في اصول الدّين وفروعه إلاّ على أخبار الآحاد ، والاصولييّن منهم ، كأبي جعفر الطوسيّ عمل بها ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه ، لشبهة حصلت لهم » ،

-------------------

وغيرهم ) أي : غير الشيعة ( من المصنّفِين ، إنتهى ) كلام السيّد ابن طاووس .

قال المصنّف : ( وفيه ) أي : في كلام السيّد ابن طاووس ( دلالةٌ على أنّ غير الشيخ من العلماء أيضاً إدّعى الاجماع على عمل الشيعة بأخبار الآحاد ) لأنّه قال في عبارته المتقدّمة « كما ذكر - أي : الاجماع - محمد بن الحسن الطوسي في كتاب العدّة وغيره » .

فانّ هذه العبارة وإن لم يذكر فيها لفظ الاجماع ، إلاّ انّ الكلام المتقدّم دال على انّ الشيخ الطوسي إدعى الاجماع ، ولما عطف « غيره » على الشيخ ، دلّ على انّ غيره أيضاً يدعي الاجماع على ذلك .

( وممّن نقل الاجماع أيضاً : العلاّمةُ - رحمه اللّه في النهاية حيث قال : انّ الأخبارييّن منهم ) أي : من الشيعة ( لم يعوّلوا في اصول الدّين وفروعه إلاّ على أخبار الآحاد والاصولييّن منهم ) أي : من الشيعة ( كأبي جعفر الطوسي عمل بها ) أي : بأخبار الآحاد في فروع الدّين ( ولم ينكره سوى المرتضى واتباعه ، لشبهة حصلت لهم

ص: 127

انتهى .

وممّن إدعاه أيضاً المحدّث المجلسيّ قدس سره ، في بعض رسائله ، حيث إدّعى تواتر الأخبار وعمل الشيعة في جميع الأعصار على العمل بخبر الواحد .

ثمّ إنّ مراد العلاّمة قدس سره ، من الأخبارييّن يمكنُ أن يكونَ مثل الصَدوق وشيخه ، حيث أثبتا السهو للنبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والائمّة عليهم السلام ، لبعض أخبار الآحاد ، وزعما أنّ نفيه عنهم عليهم السلام ، أوّلُ درجة في الغلوّ ،

-------------------

إنتهى ) (1) كلام العلاّمة .

وسيأتي حول هذه الشبهة كلام المصنّف حيث يقول : ثمّ انّه يمكن ان تكون الشبهة التي ادعى العلامة حصولهاللسيّد وأتباعه ، الى آخر ما سيأتي قريباً إنشاء اللّه تعالى .

( وممّن إدعاه ) أي الاجماع ( ايضاً : المحدّث المجلسي قدس سره ، في بعض رسائله ، حيث ادّعى تواتر الأخبار وعمل الشيعة في جميع الأعصار على العمل بخبر الواحد ) ومن المعلوم : إنّ مراده من الخبر الواحد : خبر الثقة لا مطلقاً .

( ثمّ إنّ مراد العلاّمة قدس سره من ) كلامه المتقدّم : بان ( الأخباريّين ) العاملين بخبر الواحد في اصول الدين وفروعه ( يمكنُ ان يكونَ مثل الصّدوق وشيخه ) ابن الوليد ( حيث أثبتا السّهو للنبي صلى اللّه عليه و آله وسلم والائمة عليهم السلام ) بمعنى الاسهاء ، أي : ان اللّه سبب سهوهم ، وذلك ( لبعض أخبار الآحاد ) المروية في أخبارنا .

( وزعما أنّ نفيه ) أي : نفي السهو ( عنهم عليهم السلام ، أولُ درجة في الغلوّ ) مع إنّ تلك الأخبار بعد التسليم بصحة سندها محمولة على التقية ونحوها ، لأنّ العامّة

ص: 128


1- - النهاية : ص200 مع تفاوت - معالم الدين : ص191 .

ويكون ما تقدّم في كلام الشيخ من المقلّدة الذين إذا سُئلوا عن التوحيد وصفات النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم والأئمة عليهم السلام قالوا :روينا كذا ، ورووا في ذلك الأخبار .

وقد نسب الشيخ قدس سره في هذا المقام من العُدّة ، العمل بأخبار الآحاد في اصول الدين إلى بعض غَفَلةِ أصحاب الحديث .

ثمّ إنّه يمكن أن تكون الشبّهة التي إدّعى العلاّمة رحمه اللّه ، حصولها للسيّد وأتباعه ،

-------------------

قائلون بذلك .

ومن المعلوم : انّ صفات النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم من اصول الدين ، بالاضافة الى انّ هذه الرّوايات معارضة بروايات أقوى منها من حيث الدلالة ومن جهة الصدور .

( و ) يمكن أن ( يكون ) مراد العلامة من الأخباريين : ( ما تقدّم في كلام الشيخ : من المقلّدة ، الذين إذا سُئلوا عن التوحيد ، وصفات النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والائمة عليهم السلام ، قالوا : روينا كذا ، ورووا في ذلك الأخبار ) وقد تقدّم منا : انّ فيما عدا أصل ذات التوحيد والعدل والنبوة والامامة والمعاد ، من شؤونها الاُخرى يمكن الاستدلال لها بصحاح الأحاديث .

( وقد نسب الشيخ قدس سره في هذا المقام من العُدّة ) وهو مقام البحث عن حجّية خبر الواحد ( العمل بأخبار الآحاد في اصول الدين إلى بعض غَفَلةِ أصحاب الحديث ) من الأخباريين ، الذين هم غافلون عن انّه لا يمكن الاستدلال في بعض اصول الدين بالأخبار ، لأنّ ذلك مستلزم للدور .

بالاضافة الى انّه يستلزم : نقض سائر اصحاب الأديان والمذاهب بأخبارهم على اصول دينهم .

( ثمّ إنّه يمكن أن تكون الشّبهة التي ادّعى العلاّمة رحمه اللّه حصولها للسيد وأتباعه )

ص: 129

هو زعم الأخبار التي عمل بها الأصحابُ ودوّنوها في كُتبهم محفوفة عندهم بالقرائن ، أو انّ من قال من شيوخهم بعدم حجّية أخبار الآحاد ، أراد بها مطلق الأخبار ، حتى الأخبار الواردة من طرق أصحابنا مع وثاقة الرّاوي ، أو أنّ مخالفته لأصحابنا في هذه المسألة لأجل شبهة حصلت له ، فخالف المُتَفقَ عليهِ بين الأصحاب .

ثمّ إنّ دعوى الاجماع على العمل بأخبار الآحاد ، و إن لم نطلّع عليها

-------------------

حيث قال : ولم ينكر العمل بالخبر ، سوى المرتضى وأتباعه ، لشبهة حصلت لهم ( هو ) ان يكون مراد العلاّمة من الشبهة ( : زعم الأخبار التي عمل بها الأصحابُ ودوّنوها في كُتبهم : محفوفة عندهم ) أي : عند اولئك الأصحاب ( بالقرائن ) القطعية المفيدة للعلم .

( أو ) زعم ( انّ من قال من شيوخهم : بعدم حجيّة أخبار الآحاد ، أراد بها ) أي : بالأخبار التي ذكر انّها ليست بحجّة ( مطلق الأخبار ، حتى الأخبار الواردة من طرق أصحابنا مع وثقاقة الرّاوي ) فيكون زعم السيّد واتباعه من نفي شيوخهم العمل بالخبر الواحد : هو نفي مطلق الخبر ، حتى خبر الامامي الذي يرويه الثقة .

( أو ) المراد من الشبهة : ( انّ مخالفته ) أي : مخالفة السيّد ( لأصحابنا في هذه المسألة ) أي : مسألة حجيّة خبر الواحد ( لأجل شبهة حصلت له ) أي : للسيد ( فخالف المُتَفقَ عليهِ بين الأصحاب ) فانّه وإن علم أنّه متفق عليه بين الأصحاب ، لكنّه لشبهة حصلت له - مثل : إستحالة التعبّد بالعمل بالظنّ ، أو ما أشبه ذلك - خالف المجمع عليه .

( ثمّ إنّ دعوى الاجماع على العمل بأخبار الآحاد وإن لم نطّلع عليها ) أي : على

ص: 130

صريحةٌ في كلام غير الشيخ ، وابن طاووس ، والعلاّمة ، والمجلسي قدس سرهم ، إلاّ أنّ هذه الدعوى منهم مقرونةٌ بقرائن تدلّ على صحتها وصدقها ، فيخرج عن الاجماع المنقول بخبر الواحد ، المجرّد عن القرينة ويدخل في المحفوف بالقرينة ، وبهذا الاعتبار يتمسّكُ بها على حجيّة الأخبار .

بل السيّد قدس سره إعترف في بعض كلامه المحكيّ ، كما يظهر منه ، بعمل الطائفة بأخبار الآحاد ، الاّ أنّه يدّعى انّه لما كان من المعلوم عدم عملهم بالأخبار المجردّة ،

-------------------

هذه الدعوى( صريحةٌ في كلام غير الشيخ ، وابن طاووس ، والعلاّمة ، والمجلسيّ قدس سرهم ، الاّ أن هذه الدعوى منهم مقرونةٌ بقرائن ) سنذكرها( تدل ) تلك القرائن ( على صحّتها ) أي : صحة هذه الدعوى( وصدقها ) .

وهذا الاجماع المنقول بخبر الواحد يتحف بالقرائن ( فيخرج عن الاجماع المنقول بخبر الواحد ، المجرد عن القرينة ، ويدخل في المحفوف بالقرينة ) فلا يشكل بأنّ الاجماع المنقول دليل ظنّي ولا يجوز اثبات المسألة الاصولية بالدليل الظنّي ؟ لأنّ الاجماع المنقول اذا لم يكن مقروناً بالقرائن المتظافرة المتواترة ، كان كذلك ،اما هذا الاجماع فهو مقرون بتلك القرائن الموجبة لقطع الانسان بصحته ومطابقته لقول المعصوم عليه السلام .

( وبهذا الاعتبار يتمسّك بها ) أي : بهذه الدعوى ( على حجيّة الأخبار ، بل ) الاجماع هنا ممّا يطمئن اليه ، فانّ ( السيد قدس سره ) أيضاً( إعترف في بعض كلامه المحكيّ كما يظهر منه ) أي : من ذلك الكلام ( بعمل الطائفة بأخبار الآحاد ، إلاّ انّه ) أي : السيّد ( يدّعي : أنّه لما كان من المعلوم : عدم عملهم بالأخبار المجردة ،

ص: 131

كعدم عملهم بالقياس ، فلابّد من حمل موارد عملهم على الأخبار المحفوفة .

قال في الموصليات على ما حكي عنه في محكّي السرائر : « إن قيل : أليس شيوخُ هذه الطائفة تولوا في كتبهم في الأحكام الشرعيّة على الأخبار التي رووها عن ثِقاتهم وجعلوها العُمدة والحُجّة في الاحكام ، حتى رووا عن أئمتهم ، فيما يجيء مختلفاً من الأخبار عند عدم الترجيح أن يؤذ منه ما هو أبعدُ من قول العامّة ، وهذا يناقضُ ما قدّمتموه .

قلنا : ليس ينبغي أن يرجع عن الامور المعلومة المشهورة المقطوع

-------------------

كعدم عملهم بالقياس ، فلا بدّ من حمل موارد عملهم على الأخبار المحفوفة ) بالقرائن الخارجية أو الداخلية .

( قال ) السيّد ( في ) رسالة ( الموصليات على ما حكي عنه في محكّي السرائر : إن قيل : أليس شيوخُ هذه الطائفة عوّلوا ) وإعتمدوا ( في كتبهم في الأحكام الشرعيّة على الأخبار ( التي رووها عن ثِقاتهم ، وجعلوها ) أي : أخبار الآحاد ( العُمدةَ والحجّة في الأحكام ، حتى رووا عن ائمتهم فيما يجيء ) عنهم عليهم السلام متعارضاً و( مختلفاً من الأخبار ) وكيفية علاجها انه يلزم الأخذ بالراجح ، و( عند عدم الترجيح أن يؤخذ منه ) أي : من الخبر ( ما هو أبعدُ من قول العامّة ) الى سائر المرجحات .

( وهذا ) الاعتماد من الطائفة على الأخبار في الأحكام ،ونقلهم لروايات علاج المتعارضين ترجيحاً أو تساوياً ( يناقضُ ما قدّمتموه ) أنتم : من عدم حجيّة أخبار الآحاد عند الطائفة ، اذ لو لم تكن أخبار الآحاد حجّة عندهم لم يكن وجه لاعتمادهم على الأخبار مطلقاً ؟ .

( قلنا : ليس ينبغي أن يرجع عن الاُمور المعلومة المشهورة المقطوع

ص: 132

عليها الى ما هو مشتبه وملتبس ومجمل ، وقد علم كل موافق ومخالف أنّ الشيعة الاماميّة تبطل القياسَ في الشرعية حيث لا يؤدّي الى العلم ، وكذلك تقول في أخبار الآحاد » ، انتهى المحكي عنه .

وهذا الكلامُ ، كما ترى ، يظهر منه عملُ الشيوخ بأخبار الآحاد ، إلاّ أنّه قدس سره ، ادّعى معلومية خلافه من مذهب الاماميّة ، فترك هذا الظهور أخذاً بالمقطوع ،

-------------------

عليها ، الى ما هو مشتبه وملتبس ومجمل ) فانّ الانسان الحصين لا يترك المعلوم ويأخذ المشتبه .

( وقد علم كلّ موافق ) للاماميّة ( ومخالف ) لهم ( أنّ الشيعة الامامية تبطل القياسَ في الشريعة ، حيث لا يؤدّي الى العلم ) فانّ القياس لا يوجب العلم إطلاقاً ولو علم الانسان بسبب قياس ، فانّما هو لمناسبات خارجيّة ، لا من محض القياس .

( وكذلك تقول ) الامامية ( في أخبار الآحاد ) اي : كما إنهم يبطلون القياس ، كذلك يبطلون الخبر الواحد .

أما ما نجد أحياناً من عملهم بأخبار الآحاد ، فهو مجمل ، حيث لا نعلم : انّهم عملوا بأخبار الآحاد بما هي أخبار ، أو بما هي محفوفة بالقرائن القطعيّة ، فلا ينبغي لنا ترك المعلوم : من عدم عملهم ، الى المشتبه : من عملهم .

( إنتهى المحكي عنه ) أي : عن السيّد المرتضى رحمه اللّه .

( وهذا الكلامُ - كما ترى - يظهر منه : عملُ الشيوخ باخبار الآحاد ، إلاّ أنّه ) أي : السيّد ( قدس سره إدّعى معلوميّة خلافه ) أي : خلاف عملهم بأخبار الآحاد ( من مذهب الاماميّة ، فترك هذا الظهور ) العملي في كونهم عاملين بأخبار الآحاد الى عدم عملهم بها ، وذلك ( أخذا بالمقطوع ) لأنّ عدم عملهم عند السيّد مقطوع ،

ص: 133

ونحن نأخذ بما ذكره أولاً ، لاعتضاده بما يوجب الصدق ، دون ما ذكره أخيراً ، لعدم ثبوته إلاّ من قِبلِهِ ، وكفى بذلك مُوهِناً ، بخلاف الاجماع المدّعى من الشيخ والعلاّمة ، فانّه معتضدٌ بقرائن كثيرة تدلّ على صدق مضمونه وانّ الأصحاب عملوا بالخبر الغير العلمّي في الجملة .

-------------------

وأما عملهم بأخبار الآحاد فمحتمل الأمرين : فقد يكون لأنّه خبر واحد ، وقد يكون لأنّه محفوف بالقرينة القطعية .

( ونحن نأخذ بما ذكره أولاً ) وهو : عمل الطائفة بأخبار الآحاد ، لا ما ذكره ثانياً ، وذلك ( لاعتضاده ) أي : ما ذكره اولاً ( بما يوجب الصدق ) من وجود قرائن كثيرة ، تدل على انّهم عملوا بأخبار الآحاد بما هي أخبار آحاد لا بما هي مقطوع بها من جهة القرائن الخارجية والداخلية .

( دون ما ذكره ) السيّد ( أخيراً ) : من بطلان العمل بخبر الواحد ، وانّه عند الامامية كالقياس ، فلا نأخذ به ( لعدم ثبوته ) أي : عدم ثبوت هذا الثاني من السيّد ( إلاّ من قِبلِهِ ) فانّه لم يثبت بطلان العمل بالخبر الواحد ، الاّ من ناحية السيّد ، مثل هذا لا يمكن الاعتماد عليه ، بل ( وكفى بذلك مُوهِناً ) فانه يكفي في وهن الاجماع الذي إدعاه السيّد : إنّه لم يثبت الاّ من قبله ، ومن المعلوم : انّ الاجماع لا يقوم بشخص واحد ( بخلاف الاجماع المدّعى من الشيخ ، والعلاّمة ) وغيرهما ، ممّن تقدّم اسمائهم ( فانّه معتضد بقرائن كثيرة ، تدل على صدق مضمونه ) أي : صدق مضمون ذلك الاجماع المدعى على العمل بخبر الواحد ( وإنّ الاصحاب عملوا بالخبر غير العملي في الجملة ) أي : على اختلافهم في اشتراط العدالة ، أو كفاية الوثاقة ، أو الاحتياج الى أن يكون الرّاوي ضابطاً ، أو غير ذلك .

ص: 134

فمن تلك القرائن : ما ادّعاه الكشّي من إجماع العصابة على تصحيح ما يصحّ عن جماعة ،

-------------------

أمّا القرائن التي تدل على صدق إجماع الشيخ ، والعلاّمة ، وغيرهما ، فقد أشار اليها المصنّف بقوله :

( فمن تلك القرائن ما إدّعاه الكشّي من إجماع العصابة ) أي : الشيعة ، والعصابة عبارة عن جماعة يلتف بعضهم حول بعض ، تشبيهاً بالعصابة التي يلفها الانسان حول رأسه( على تصحيح ما يصحّ عن جماعة ) من الرواة وهم ثمانية عشر رجلاً ، أشار اليهم العلامة الطباطبائي رحمه اللّه في ارجوزته حيث يقول :

قَد أَجمَع الكُلّ عَلى تَصحيحُ ما *** يَصُح عَن جَماعةٍ فَليَعلَما

وَهُم اولوُا نجابَةٍ وَرِفَعة *** أربَعة وَخَمسة وتِسعة

زُرارَة كذا بريد قَد أتى *** ثُمَ مُحمد وَلَيثُ يافتى

كذا الفُضيلُ بَعدَهُ معروفُ *** وَهُوَ الّذي ما بَينَنا مَعرُوف

والسِتَّة الوسطى أُولوُا الفضائِل *** رَتبتُهُم أَدنى مِنَ الأوائِل

جَميلة الجَميل معَ أبان *** وَالعبَدلان ثمّ حَمّادانِ

والسَّتةُ الاُخرى وَهُم صَفوانِ *** وُيُونس عَليِهم الرُّضوانِ

ثُمّ ابن محبوب كذا مُحمدٍ *** كذاك عبداللّهِ ثُمّ اَحمدِ

وَما ذكرَناهُ الاصحُ عِندنا *** وَشذّ قولُ مَنْ بهِ خالفنا

وأسماؤهم كالتالي :-

1 - زُرارة بن اعين

ص: 135

فانّ من المعلوم أنّ معنى التصحيح المجمع عليه هو عدّ خبره صحيحاً ،

-------------------

2 - مَعروف بن خرّبوذ

3 - بريد

4 - أبو بصير الأسدي

5 - الفُضيل بن يسار

6 - محمد بن مسلم الثقفي

7 - جَميل بن درّاج

8 - عبداللّه بن مسكان

9 - عبداللّه بن بكير

10 - محمد بن عيسى

11 - أبّان بن عثمان

12 - حماد بن عثمان

13 - يُونُس بن عبدالرحمان

14 - صَفوان بن يحيى

15 - محمّد بن أبي عُمير

16 - عبداللّه بن المغيرة

17 - الحسن بن محبوب

18 - أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي

هذا ، وتفصيل الكلام موكول الى كُتب الرّجال .

( فانّ من المعلوم أنّ معنى التصحيح المجمع عليه : هو عدّ خبره صحيحاً ) فيكون معنى قولهم :« أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عن جماعة » :

ص: 136

بمعنى عملهم به ، لا القطعُ بصدوره ، اذ الاجماعُ وقع على التصحيح ، لا على الصحّة ، مع أنّ الصحة عندهم على ما صرّح به غير واحد ، عبارة عن الوثوق والرّكون ، لا القطع واليقين .

ومنها : دعوى النجاشيّ أن مراسيل ابن أبي عمير مَقبولةٌ عند الأصحاب ، وهذه العبارة تدلّ على عمل الأصحاب بمراسيل مثل ابن أبي عُمير ، لا من أجل القطع بالصدور ، بل لعلمهم بأنّه لا يروي أو لا يرسل ، إلاّ عن ثِقة ،

-------------------

إنّ الاماميّة أجمعوا على عدّ خبر هؤلاء صحيحاً مأخوذاً به .

وعليه : فالتصحيح اولاً : ( بمعنى : عملهم به ) أي : بالخبر المروي عن هؤلاء ( لا القطعُ بصدوره ، اذ الاجماعُ وقع على التصحيح )أي : العمل ( لا على الصّحة ) أي : الصدور القطعي .

وثانياً : ( مع ) أي : مضافاً الى انّهم أجمعوا على التصحيح - لا على الصحة - ( أنّ الصحّة عندهم )أي : عند علمائنا ( على ما صرّح به غير واحد ، عبارة عن : الوثوق والرّكون ، لا القطع واليقين ) فيستفاد من ذلك عملهم على الخبر غير المقطوع به .

( ومنها : دعوى النجاشيّ : أنّ مراسيل ابن أبي عُمير مَقبولةٌ عند الأصحاب ، و ) من المعلوم : انّ ( هذه العبارة تدلّ على عمل الأصحاب بمراسيل مثل : ابن أبي عُمير ، لا من أجل القطع بالصّدور ، بل لعلمهم بانّه لا يروي ، أو لا يرسل ، إلاّ عن ثِقة ) وإنّما عدّوا مراسيل بن أبي عُمير كالمسانيد ، لما ذكره الكشي : من انه حبس بعد الامام الرضا عليه السلام فذهب ماله وذهبت كتبه ، وكان يحفظ أربعين ألف حديثاً ،

ص: 137

فلولا قبولهم لما يسنده الثقة إلى الثقة لم يكن وجهٌ لقبول مراسيل ابن أبي عمير ، الذي لا يروي الاّ عن الثقة والاتفاق المذكور قد ادّعاه الشهيد في الذكرى ايضاً .

-------------------

فلذلك أرسل احاديثه .

وعن النجاشي « انّه قيل إنّ أخته دفنت كُتبه في حال استتارته وكونه في الحبس أربع سنين ، فهلكت الكتب ، وقيل بل تركتها في غرفة فسال عليها المطر فهلكت ، فحدّث بما كان في حفظه ، وبما بقي له في أيد الناس ، فلذلك أصحابنا يسكنون الى مراسيله » .

إذن : فمراسيله في الحقيقة ، مسانيد معلومة الاتصال والاسناد إجمالاً ، وان فاتته طرق الاسناد على التفصيل ، لا انهما مراسيل على المعنى المصطلح حقيقة ، ومن المعلوم : إنّ الأصحاب انّما يحكمون بأنّ مراسيله في حكم المسانيد ، لجلالة قدر ابن أبي عُمير .

وعليه : ( فلولا قبولهم ) أي : الاصحاب ( لما يسنده الثقة الى الثقة ) أي : لو لم يكن خبر الثقة عن الثقة الى أن يتصل بالامام عليه السلام حجّة عند الأصحاب ( لم يكن وجهٌ لقبول مراسيل ابن أبي عُمير ، الذي لا يروي الاّ عن الثقة ) وهذا هو قرينة على اعتماد الأصحاب على أخبار الثقاة .

( والاتفاق المذكور ) في اعتماد الأصحاب على مراسيل ابن أبي عُمير ( قد ادّعاه الشهيد في الذكرى ايضاً ) فقد قال في محكي الذكرى : انّ الأصحاب اجمعوا على قبول مراسيل البزنطي ، وابن أبي عُمير ، وصَفوان بن يحيى .

ص: 138

وعن كاشف الرموز تلميذ المحقق : إن الأصحاب عملوا بمراسيل البزنطيّ .

ومنها : ما ذكره ابنُ ادريس في رسالة خلاصة الإستدلال التي صنّفها في مسألة فوريّة القضاء ، في مقام دعوى الاجماع على المضايقة وأنها ممّا اطبقت عليه الاماميّة ، الاّ نفر يسير من الخراسانيّين ، قال في مقام تقريب الإجماع : « إنّ ابني بابويه ، والأشعريين ، كسعد بن عبداللّه وسعيد بن سعد ومحمّد بن عليّ بن محبوب ، والقميّين أجمع ، كعليّ بن ابراهيم ومحمّد

-------------------

( و ) نقل أيضاً ( عن كاشف الرموز ، تلميذ المحقّق ) صاحب الشرائع : ( إنّ الأصحاب عملوا بمرسيل البزنطي ) وهذا ا يضاً دلالة على حجيّة خبر الثقة عندهم ، وإن لم تكن محفوفة بالقرينة القطعيّة .

( ومنها : ما ذكره ابن ادريس في رسالة خلاصة الإستدلال ، التي صنّفها في مسألة فوريّة القضاء ) حيث اختلف الفقهاء في ان الانسان اذا فاتته صلاة ، هل يجب عليه قضاؤها فوراً أو متراخياً ؟ .

وقد صنَّف إبن ادريس في هذه المسألة هذه الرّسالة ، وقال ( في مقام دعوى الاجماع على المضايقة ) أي : وجوب الفور في قضاء الفوائت ( وانها ) أي : المضايقة ( ممّا أطبقت عليه الامامية ، إلاّ نفر يسير من الخراسانييّن ) أي : فقهاء خراسان قدس سرهم .

( قال في مقام تقريب الاجماع : إن ابني بابويه ) وهما : علي بن بابويه ، وابنه محمد بن علي بن بابويه ( والاشعريّين : كسعد بن عبد اللّه ، وسعيد بن سعد ، ومحمد بن علي بن محبوب ، والقميين أجمع : كعلي بن ابراهيم ، ومحمد

ص: 139

بن الحسن بن الوليد ، عاملون بالأخبار المتضمنة للمضايقة ، لأنهم ذكروا أنه لا يحل ردُّ الخبر الموثوق برواته » انتهى .

فقدإستدل على مذهب الاماميّة بذكرهم لأخبار المضايقة وذهابهم الى العمل برواية الثقة ، فاستنتج من هاتين المقدّمتين ذهابهم الى المضايقة .

وليت شعري اذا علم ابنُ إدريس أنّ مذهب هؤلاء - الذين هم أصحاب

-------------------

بن الحسن بن الوليد ، عاملون بالاخبار المتضمنّة للمضايقة ) فيكون الاجماع منعقد على المضايقة .

لا يقال : انّ هؤلاء إنّما نقلوا أخبار المضايقة في كتبهم ، امّا إنهم عملوا بهذه الأخبار فذلك غير معلوم .

لانه يقال : بل نعلم بانّهم عملوا بهذه الأخبار( لأنّهم ذكروا : أنّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق بروايته ، إنتهى )كلام ابن إدريس .

وعليه : ( فقد إستدلّ على ) انّ ( مذهب الاماميّة ) هو وجوب الفور ( بذكرهم لأخبار المضايقة ، وذهابهم الى العمل برواية الثقة ، فاستنتج من هاتين المقدّمتين ) : ذكرهم ، وعملهم ( ذهابهم الى المضايقة ) في باب قضاء الصلوات الفائتة .

ثمّ انّ المصنّف تعجب من ابن ادريس ، حيث ذكر إنّ الامامية لا يُجوّزون رد خبر الثقة ، فانّ هذا الكلام منه كيف يجتمع مع قوله بعدم حجيّة خبر الثقة قائلاً :

( وليت شعري ) والشعر من الشعور ، بمعنى : ليتني كنت أعلم ، وهذا الكلام يقال : في مقام السؤال والاستفهام ، بانّه ( إذا علم ابن ادريس أنّ مذهب هؤلاء ) أي : أمثال ابن بابويه ، والاشعريين ، والقميين ، ومن أشبههم ( الذين هم أصحاب

ص: 140

الائمة عليهم السلام ، ويحصل العلم بقول الامام عليه السلام عن اتفاقهم - وجوبُ العمل برواية الثقة وأنّه لا يحل ترك العمل بها ، فكيف تَبعَ السيّد في مسألة خبر الواحد ، الاّ أن يدّعي أنّ المراد بالثقة ، من يفيد قوله القطع - وفيه مالايخفى -

-------------------

الائمة عليهم السلام ، ويحصل العلم بقول الامام عليه السلام عن إتفاقهم ) على ( وجوبُ العمل برواية الثقة وأنّه لا يحل ترك العمل بها )أي : برواية الثقة ، لعلمنا بأنهم لا يتفقون على حكم لم يسمعوه عن الامام عليه السلام ، أو لم يحصل لهم العلم بالحدس ، وما اشبه ، عن قوله عليه السلام .

وعليه : ( فكيف تَبَعَ السيّد في مسألة خبر الواحد ) وقال : انّه ليس بحجّة؟ فمن ناحية قال : انّه لايجوز العمل بخبر الواحد ، ومن ناحية قال : انّ خبر الثقة حجّة ، وهذا تدافع في الكلام .

( إلاّ أن يدّعي : أنّ المراد بالثقة ، من يفيد قوله القطع ) فيكون مراد ابن إدريس من الخبر الموثوق ، الذي لايحل ردّه عند الاماميّة هو الخبر المقطوع به ، وأخبار المضايقة مقطوعة الصدور ، وما ذكره : من انّه لايجوز العمل بخبر الواحد ، أراد به : الخبر غير المقطوع به .

( و ) لكن ( فيه ما لايخفى ) لوضوح : انّ إطلاق الثقة على من يفيد قوله القطع خلاف الظاهر .

هذا بالاضافة إلى انّه لو أراد بخبر الثقة : الخبر المقطوع به ، لم يكن بحاجة للاستشهاد بذكر الاجماع ، لأنّ القطع كاف في وجوب العمل ، سواء كان هناك إجماع أو لم يكن ، فذكره إجماع الاماميّة على العمل بأخبار المضايقة ، دليل على انّه أراد بالثقة : الخبر الذي لم يكن مقطوعاً به .

ص: 141

أو يكون مرادُه ومراد السيد ، من الخبر العلميّ ما يفيد الوثوق والاطمئنان ، لا ما يفيد اليقين ، على ما ذكرنا سابقاً في الجمع بين كلامي السيّد والشيخ .

ومنها : ماذكره المحقّق في المعتبر ، في مسألة خبر الواحد ، حيث قال : « أفرط الحشَويّة في العمل بخبر الواحد حتى انقادوا

-------------------

( أو يكون مرادهُ ومراد السيّد ، من الخبر العلميّ : مايفيد الوثوق والاطمئنان ، لا مايفيد اليقين ) فلا السيّد يقول بعدم حجّية خبر الثقة ، ولا ابن ادريس ، وانّما كان مرادهما من القطع ، والعلم ، وما أشبه : الاطمئنان ، لا أكثر من ذلك ( على ماذكرنا سابقاً في الجمع بين كلامي السيّد والشيخ ) مفصلاً .

( ومنها : ) أي : من القرائن على صحة الاجماع ، الّذي إدعاه الشيخ وغيره على حجّية خبر الواحد ( ماذكره المحقّق في المعتبر ، في مسألة خبر الواحد حيث قال : أفرط الحشَويّة ) وفي الأوثق : الحشَوية - بفتح الشين وسكونها - أصحاب أبي الحسن البصري ، وإنّما سموا بها لأنّ الحشو بمعنى : الطرف والهجر ، وقد أمرهم بالهجر عنه لمقالاتهم الفاسدة ، أو لأنّهم كانوا يجلسون أمامه فقال لردائة كلماتهم :

ردوهم الى حشيء الحلقة ، أي : جانبها (1) .

وقيل : نسبة الى حشوية كفعولة ، قرية من قرى خوزستان .

وعن كتاب كشف الغُمّة : إنّ هذه الطائفة كانوا يقولون بامامة بني أمية ، ولم يجعلوا لأولاد الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم أية إمامة .

فهؤلاء قد اُفرطوا ( في العمل بخبر الواحد ، حتى إنقادوا ) أي : إنساقوا

ص: 142


1- - أوثق الوسائل : ص173 القرائن الدالّة على عمل الاصحاب بأخبار الآحاد .

لكلّ خبر ، وما فطنوا لما تحته من التناقض ، فانّ من جملة الأخبار قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : « سَتَكثُرُ بَعدِي القَالّةُ » ، وقول الصادق عليه السلام : « إنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَّا من يَكذِبُ عَلَيهِ » .

وإقتصر بعضهم من هذا الافراط فقال : « كلّ سليم السّند يعمل به » . وما عُلِمَ أنّ الكاذب قد يصدق ،

-------------------

بالاطاعة ( لكلّ خبر ) مهما كان طريقه ودلالته ( وما فطنوا لما تحته من التناقض ) فانّ تحت هذه المعنى من الافراط ، مفسدة التناقض ، حيث إنّ في الأخبار الضعاف ، كثيرا ما يوجد التناقض ، سواء بينهما في نفسها ، أو بينها وبين الأخبار الصحيحة .

( فانّ من جملة الأخبار قول النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : « سَتكثُرُ بَعدِي القَالّةُ » ) (1) والقالة : جمع قائل ، والمراد به هنا : الكذاب ، مثل باعة جمع بائع .

( وقول الصادق عليه السلام : « لِكُلِّ رَجُلٍ مِنّا ، مَنْ يَكذِبُ عَلَيهِ » ) (2) .

فانّ هذين الخبرين يدلان على كثرة الأخبار المكذوبة على النبي وآله عليهم السلام ، فكيف يمكن مع ذلك أن يعمل الانسان بكل خبر ورد عنهم صلوات اللّه عليهم أجمعين ؟ .

( وإقتصر بعضهم من هذا الافراط ) أي : بعض علماء الحشوية ، على اقل من ذلك الافراط المشين ( فقال : كلّ سليم السّند يعمل به ) أي : كلّما كان الخبر سليم السند عمل به ، لا إنه يعمل بكل خبر حتى المتهم بالكذب وما أشبه .

نعم ( وما عُلِمَ ) بسبب القرائن ( انّ الكاذب قد يصدق ) يعمل به أيضا ،

ص: 143


1- - الكافي اصول : ج1 ص62 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج4 ص264 ب2 ح5762 ، الصراط المستقيم : ج3 ص156 و ص258 (بالمعنى) .
2- - المعتبر : ص6 .

ولم يَتَنَبّه على أنّ ذلك طعن في علماء الشيعة وقدحٌ في المذهب ، إذ ما من مصنِّف إلاّ وهو يعمل بالخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل .

وأفرط آخرون في طريق ردّ الخبر ، حتّى أحالوا استعماله عقلاً .

واقتصر آخرون ، فلم يَرَوا العقل مانعا ، لكنَّ الشَرعَ لَم يأذَنْ في العمل به .

-------------------

فلا ينبغي الاقتصار على خبر السليم .

والحاصل : انّه يلزم علينا أن نعمل بكل خبر كان على صحة مضمونة قرينة ، سواء كان سنده حجّة ، أو لم يكن سنده حجّةٌ ، فلا نأخذ بكل خبر مهما كان سنده، ولا نترك الخبر الذي سنده غير نقي إذا كان على مضمونه قرينة معتبرة .

هذا ، والظاهر من قول المحقّق : « واقتصر بعضهم من هذا الافراط » الخ ، انّه أراد به : بعض محدثي الشيعة ، لا الحشوية من العامّة ، بقرينة قوله بعد ذلك : ( ولم يَتَنَبّه ) هذا القائل المقتصر ( على أنّ ذلك ) الاقتصار ( طعن في علماء الشيعة ، وقدحٌ في المذهب ، إذ ما من مصنِّف إلاّ وهو يعمل بالخبر المجروح ) رواية إذا كانت هناك قرائن على صحته ، ولذا يجبرون الخبر المجروح بالشهرة العملية ، فيعملون به ( كما يعمل بخبر العدل ) .

وكما إنّ هناك إفراطا في العمل بالخبر هناك تفريط فيه أيضا ، وقد أشار إليه بقوله : ( وأفرط آخرون في طريق ردّ الخبر ، حتى أحالوا إستعماله عقلاً ) لأنّه يلزم الجمع بين المصلحة والمفسدة ، وتفويت المصلحة وجلب المفسدة والتناقض ، وغير ذلك - ممّا تقدَّم في كلام ابن قبة - .

( وإقتصر آخرون ) من هذا الافراط ( فلم يَرَوا العقل مانعا ، لكنَّ الشَرعَ لَم يأذَنْ في العمل به ) كما تقدّم عن السيّد وأتباعه ، حيث منعوا عن العمل بالخبر من جهة

ص: 144

وكلّ هذه الأقوال منحرفة عن السُّنَن . والتوسطُ أقرب ، فما قَبِلَهُ الأصحابُ أو دلّت القرائنُ على صحّتهِ عُمِلَ بهِ ، وما أعرض عنه الأصحابُ أو شَذَّ يَجِبُ إطراحَهُ » انتهى .

وهو - كما ترى - ينادي بأنّ علماء الشيعة ، قد يعملون بخبر المجروح ، كما يعملون بخبر العدل . وليس المرادُ عملَهم بخبر المجروح والعدل إذا أفاد العلم بصدقه ، لأنّ كلامه في الخبر الغير العلميّ ، وهو الذي أحال قومٌ إستعماله عقلاً ومنعه آخرون شرعا .

-------------------

الشرع لا من جهة العقل .

( و ) لكن ( كلّ هذه الأقوال ) المتقدّمة ، إفراطا وتفريطا ( منحرفة عن السُنَن ) الصحيحة ( والتوسطُ أقرب ) .

ثم فسّر التوسط بقوله : ( فما قَبِلَهُ الأصحاب ) وان كان السّند ضعيفا ( أو دلّت القرائن على صحّته ) ممّا أوجب الوثوق والاطمئنان ( عُمِلَ بِهِ ، وما أعرض عنه الأصحابُ ) بأن أسقطوه ( أو شَذَّ ) العامل به ، بأن عمل به بعض دون المشهور ( يَجبُ إطراحَهُ ، إنتهى ) كلام المحقّق رحمه اللّه ( وهو كما ترى ينادي : بأنّ علماء الشيعة ، قد يعملون بخبر المجروح ، كما يعملون بخبر العدل ) .

لا يقال : لعل مراد المحقّق : عملهم بالخبر فيما أورث العلم .

لأنّه يقال : ( وليس المراد ) للمحقّق ( عملهم بخبر المجروح والعدل إذا أفاد العلم بصدقه ، لأنّ كلامه ) أي : المحقّق ( في الخبر غير العلميّ ، و ) القرينة على إرادة المحقّق : الخبر غير العلمي ، قوله : ( هو الذي أحال قومٌ إستعماله عقلاً ، ومنعه آخرون شرعا ) وأفرط فيه الحشوية ولو أفاد الخبر العلم ، لم يكن فيه كل هذا الكلام .

ص: 145

ومنها : ما ذكره الشهيد في الذكرى ، والمفيد الثاني ولد شيخنا الطوسي ، من أنّ الأصحاب قد عملوا بشرائع الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه عند اعواز النصوص ، تنزيلاً لفتواه منزلة رواياته ، ولولا عمل الاصحاب برواياته الغير العلمية لم يكن وجه في العمل بتلك الفتاوى عند عدم رواياته .

ومنها : ما ذكره المجلسيّ في البحار ، في تأويل بعض الاخبار ، الّتي تقدّم ذكرها في دليل السّيد وأتباعه ، ممّا دلّ على المنع من العمل

-------------------

( ومنها ) أي : ومن القرائن الدالة على صحة اجماع الشيخ على حجيّة خبر الواحد ( ما ذكره الشهيد في الذكرى ، والمفيد الثاني - ولد شيخَنا الطّوسي - ) وكان يلقّب بالمفيد الثاني لكثرة افاداته ( : من أنّ الأصحاب قد عَمِلوا بشرائع ) أي : بفتاوى ( الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه عند اعواز ) أي فقد ( النصوص ، تنزيلاً لفتاواه منزلة رواياته ) لأنّه رحمه اللّه كان يفتي بعين الرّواية ، وذلك بحذف الأسانيد ، وحذف بعض الزوائد ممّا يراه لا يرتبط بأصل المسألة . ( ولولا عمل الأصحاب برواياته ) أي : بروايات إبن بابويه التي ذكرها بالاسانيد في مثل الفقيه وغيره ( غير العلمية ) أي : التي لا توجب العلم ( لم يكن وجه في العمل بتلك الفتاوى عند عدم رواياته ) لأنّ الخبر الواحد لو كان حجّة ، كان حجّة في الفتاوى وفي الرّوايات ، ولو لم يكن حجّة ، لم يكن حجّة في الفتاوى والرّوايات معا ، ولكن لمّا عملوا بالفتاوى دَلّ ذلك على حجّيّة الخبر الواحد في الرّوايات أيضا .

( ومنها ) أي : من القرائن الدّالّة على صحّة الاجماع ، الذي ادعاه الشيخ على حجّيّة خبر الواحد ( ما ذكره ) العلاّمة ( المجلسي في البحار ، في تأويل بعض الاخبار ، الّتي تقدّم ذكرها في دليل السّيد وأتباعه ، ممّا دلّ على المنع من العمل

ص: 146

بالخبر الغير المعلوم الصّدور ، من : « أنّ عمل أصحاب الأئمّة عليهم السلام ، بالخبر الغير العلميّ متواترٌ بالمعنى » .

ولا يخفى : انّ شهادة مثل المحدّث الغوّاص في بحار أنوار أخبار الأئمّة الأطهار عليهم السلام بعمل أصحاب الأئمّة عليهم السلام ، بالخبر الغير العلميّ ، ودعواه حصول القطع له بذلك من جهة التواتر ، لا يقصر عن دعوى الشيخ والعلاّمة الاجماع على العمل بأخبار الآحاد .

وسيأتي أنّ المحدّث الحرّ العامليّ في الفصول

-------------------

بالخبر غير المعلوم الصّدور ) حيث إنّ العلاّمة المجلسي رحمه اللّه ، أوّل بعض الاخبار المانعة عن العمل بالخبر - كما تقدّم بعض التأويلات من المصنّف - وذكر لمثل هذه الاخبار تأويلات متعدّدة .

( من « انّ عمل أصحاب الأئمّة عليهم السلام بالخبر غير العلميّ متواتر بالمعنى » ) وقوله : « من » بيان لمّا ذكره العلاّمة المجلسي ، فانّه رحمه اللّه قال :« من راجع التواريخ ، يعلم بالتواتر المعنوي : إنّ الاصحاب كانوا عاملين بأخبار الآحاد » .

وقد تقدّم معنى التواتر المعنوي .

( ولا يخفى : إنّ شهادة مثل هذا المحدّث ) الجليل ( الغوّاص في بحار أنوار أخبار الأئمّة الأطهار عليه السلام ، بعمل أصحاب الأئمّة عليهم السلام ، بالخبر غير العلميّ ) و «بعمل» متعلق ب- « شهادة » ( ودعواه ) أي : دعوى المحدّث المذكور ( حصول القطع له بذلك ) أي : بعمل أصحاب الأئمّة بالاخبار وذلك ( من جهة التواتر ) المعنوي .

فانّ هذه الشهادة ( لا يقصر عن دعوى الشيخ والعلاّمة : الاجماع ) من الإماميّة ( على العمل بأخبار الآحاد ، وسيأتي انّ المحدّث الحرّ العامليّ في الفصول

ص: 147

المهمة ، إدّعى أيضا تواتر الاخبار بذلك .

ومنها : ما ذكره شيخنا البهائيّ في مشرق الشمسين من : « أنّ الصحيح عند القدماء ما كان محفوفا بما يوجبُ ركونَ النفس اليه » .

وذكر فيما يوجب الوثوق أمورا لا تفيد الاّ الظّنّ ، ومعلوم انّ الصحيح هو المعمول به ، وليس هذا مثل الصحيح عند المتأخّرين

-------------------

المهمة ، إدّعى أيضا ) كدعوى المجلسي ( تواتر الاخبار بذلك ) أي : بعمل أصحاب الأئمّة عليهم السلام بالخبر الواحد .

( ومنها ) أي : من تلك القرائن أيضا ( ما ذكره شيخنا البهائي في مشرق الشمسين من : إنّ ) الخبر ( الصحيح عند القدماء ما كان محفوفا بما ) أي : بالقرائن الّتي ( يوجب ركون النفس اليه ) (1) أي : إلى ذلك الخبر ، بمعنى : انّه يجعل الانسان يثق بأنّ الخبر وارد عنهم عليهم السلام .

( وذكر فيما يوجب الوثوق ) أي : ذكر في القرائن الموجبة لركون النفس واطمئنانها ( امورا لا تفيد الاّ الظّنّ ) لا العلم ، مثل : إستقامة المذهب ، والعدالة ، والتورع في النقل ، وما أشبه ذلك ، ممّا يدلّ على كفاية حجّيّة الخبر بأمثال هذه الامور ، وكلها لا تورث العلم .

( ومعلوم : إنّ الصحيح ) في اصطلاح قدماء الشيعة ( هو ) عبارة عن الخبر ( المعمول به ) عندهم ( وليس هذا ) أي : الصحيح في اصطلاح القدماء ( مثل الصحيح عند المتأخّرين ) الذين ضيقوا دائرة الصحة ، وقالوا : انّه خبر العدل

ص: 148


1- - مشرق الشمسين : ص 269 .

في انه قد لا يعلم به ، لاعراض الاصحاب عنه أو لخلل آخر . فالمراد أنّ المقبول عندهم ما تركن اليه النفسُ وتثِقُ به .

هذا ما حضرني من كلمات الاصحاب ، الظاهرة في دعوى الاتفاق على العمل بخبر الواحد الغير العلميّ في الجملة ، المؤيدة لمّا ادعاه الشيخ ، والعلاّمة .

-------------------

الضابط الامامي ( في أنه قد لا يعمل به ، لاعراض الاصحاب عنه ، أو لخلل آخر ) فيه ، كالابتلاء بمُعارض ، أو نحو ذلك ، فالقدماء يعملون بكل خبر يركن النفس اليه ، ولا يشترطون شروط المتأخّرين ، لا من حيث السّند ، ولا من حيث عدم الاعراض ، وما أشبه ذلك .

وعليه : ( فالمراد ) أي : مراد الشيخ البهائي ( : إنّ المقبول ) وهو الخبر المعمول به ( عندهم ) أي : عند القدماء ( ما تركن اليه النفس وتثق به ) (1) من دون ملاحظة أمر آخر ، فكلامه مؤيّد لمّا ادعاه الشيخ : من الاجماع على العمل بخبر الواحد .

( هذا ما حضرني من كلمات الاصحاب ، الظاهرة في دعوى الإتفاق على العمل بخبر الواحد غير العلميّ في الجملة ) على اختلافهم في مناط الحجّية بالنسبة الى الخبر الواحد ، فانّهم وان اختلفوا في مناطه ، لكنهم اتفقوا جميعا على العمل به ، سواء قلنا : بأنه يشترط أنّ يكون عدلاً ، أو ثقة ، أو قلنا : بأنه يسقط بإلاعراض أو لا يسقط .

وعليه : فانّ المُهم هو الجامع بين هذه الكلمات ( المؤيدة ) أي : هذه الكلمات ( لِما إدعاه الشيخ ، والعلاّمة ) الحليّ ، والسّيد ابن طاووس ، والعلاّمة المجلسي ،

ص: 149


1- - مشرق الشمسين : ص 269 .

واذا ضممت إلى ذلك كله ، ذهاب معظم الأصحاب ، بل كلّهم ، عدا السّيد وأتباعه ، من زمان الصدوق إلى زماننا هذا ، إلى حجّيّة الخبر الغير العلميّ ، حتى أنّ الصدوق تابعٌ في التصحيح والردّ ، لشيخه ابن الوليد ، وإنّ ما صحّحه فهو صحيحٌ ، وان ما رده فهو مردودٌ ، كما صرح به في صلاة الغدير وفي الخبر الذي رواه في العيون عن كتاب الرّحمة ،

-------------------

وغيرهم ، ممن تقدّم نقل الاجماع أو التواتر عنهم .

( واذا ضممت إلى ذلك كله ، ذهاب معظم الاصحاب ، بل كلّهم ، عدا السّيد وأتباعه ) أي بأن نضم إلى الاجماعات ومؤيداتها ، الّتي نقلناها عن العلماء المتقدمين ، ما رأيناه من ذهاب الفقهاء ( من زمان الصّدوق إلى زماننا هذا ، إلى حجّيّة الخبر غير العلميّ ) وسيأتي جواب « اذا » عند قول المصنّف : « يعلم علما يقينا صدق ما ادعاه الشيخ » الخ .

( حتى إنّ الصدوق تابعٌ في التصحيح ) للخبر ( والرد ، لشيخه ابن الوليد ، وان ما صحّحه ) استاذه ابن الوليد ( فهو صحيح ، وإنّ ما ردّه فهو مردود ، كما صرّح به في صلاة الغدير ) حيث قال فيما حكي عنه ، في آخر صوم التطوّع من الفقيه : وأما خبر صلاة غدير خُم ، والثواب المذكور لمن صامه ، فإنّ شيخنا محمّد بن الحسن رضي اللّه عنه ، كان لا يصححه ، ويقول : انّه من طريق محمد بن موسى الهمداني وكان غير ثقة ، وكل ما لم يصحّحه ذلك الشيخ ولم يحكم بصحته من الاخبار ، فهو عندنا متروك غير صحيح .

فان هذا الكلام من الصّدوق والشّيخين يدلّ على اعتمادهم على خبر الثّقة .

وعلى هذا : فلا يُشترط العلم في الاخذ بالخبر .

( و ) كذا ( في الخبر الذي رواه ) الصّدوق ( في العُيون عن كتاب الرحمة )

ص: 150

ثمّ ضممت إلى ذلك ، ظهور عبارة أهل الرّجال في تراجم كثير من الرّواة في كون العمل بالخبر الغير العلميّ مسلّما عندهم ، مثل قولهم : فلان لا يعتمد على ما ينفرد به ، وفلانٌ مسكون في روايته ،

-------------------

الدال على كفاية الاطمئنان في الاخذ بالخبر الواحد .

ولعلّ هذا الخبر هو ما نقله الاشتياني في حاشيته على الرّسائل : من رواية ابن بابويه في كتاب التوحيد عن الرضا عليه السلام ، انّه قال : إنّ اللّهَ تَعالى كان أوحى الى إبراهيمَ عَلَيه السّلام : إنّي مُتخِذٌ مِنْ عِبَاديَ خَلِيلاً ، إن سأَلَنِي إحياءَ المَوتى أَجبتُهُ فَوقَعَ فِي نفسِ إبراهيمَ إنّهُ ذلِكَ الخَليل ، فَقال : رَبِّ أَرِني كَيفَ تُحيي المَوتَى ؟ .

قَالَ : أَوَ لَمْ تُؤمِن ؟ .

قال : بَلى ، ولكِن لِيَطمئِنّ قَلبي ، على الخلّةِ (1) ، الحديث .

( ثمّ ضممت إلى ذلك ، ظهور عبارة أهل الرجال في تراجم كثير من الرّواة ) أي : ظهور كلماتهم ( في كون العمل بالخبر غير العلميّ ) كان ( مسلَّما عندهم ، مثل قولهم : ) أي : قول الرجاليين :

( فلان لا يُعتمَد ) عليه ، بصيغة المجهول أي : لا يكون الاعتماد على رواياته ( على ما ينفرد به ) أي : في نقل الخبر ، بأن يكون ناقل الخبر هو وحده ، أما اذا نقل الخبر غيره أيضا ، فانّه يمكن الاعتماد عليه .

( وفلان مسكونٌ في روايته ) أي : توقف الأصحاب وسكنوا في روايته ، فلا يردّونه ولا يقبلونه .

ص: 151


1- - حاشية الاشتياني على الرسائل ولعله ما نقله عن عيون أخبار الرضا : ج2 ص21 - 22 .

وفلانٌ صحيح الحديث ، والطعن في بعض بأنّه يعتمد الضعفاء والمراسيل ، إلى غير ذلك ، وضممت إلى ذلك ، ما يظهر من بعض أسئلة الرّوايات السّابقة ، من انّ العمل بالخبر الغير العلميّ كان مفروغا عنه عند الرّواة - تعلمُ علما يقينا صدق ما ادعاه الشيخُ من اجماع الطائفة .

-------------------

( وفلان صحيح الحديث ) فيعمل بخبره ، وهكذا .

( و ) مثل ( الطعن في بعض ) الرّواة ( بانه يعتمد الضّعفاء والمراسيل ) أي : انّه ينقل الاخبار عن الضعفاء ، وينقل الرّوايات المرسلة ، ممّا يسبب ضعف روايات مثل هذا الشخص . و ( إلى غير ذلك ) من عبارات الرجاليين .

( وضممت إلى ذلك ، ما يظهر من بعض أسئلة الرّوايات السّابقة : من إنّ العمل بالخبر غير العلميّ كان مفروغا عنه عند الرّواة ) مثل ما قاله عبد العزيز للامام عليه السلام : « رُبَّمَا أحتاجُ وَلستُ ألقاكَ فِي كُلّ وِقتٍ ، أَفيُونُس بن عَبدِ الرّحمان ثِقَةٌ آخُذُ عَنهُ مَعَالِمَ دِيني ؟ » (1) الحديث .

والى ما أشبه ذلك ممّا تقدّم جملة منها .

والحاصل : انّه اذا ضممت هذه الضمائم إلى ما نقلناه سابقا : من الاجماعات والمؤيّدات ( تعلم علما يقينا صدق ما ادعاه الشيخ من اجماع الطائفة ) على حجّيّة خبر الواحد .

والفرق بين العلم واليقين اذا اجتمعا :إنّ العلم يمكن أنّ يطابق الواقع أو لا يطابقه ، فيطلق على الجهل المركب أيضا ، بخلاف اليقين ، وربّما يقال : في

ص: 152


1- - بحار الانوار : ج2 ص251 ب29 ح67 مع تفاوت ، وسائل الشيعة : ج27 ص147 ب11 ح33448 ، رجال الكشي : ص490 .

وحكى السّيد المحدّث الجزائري عمّن يثق به انّه قد زار السّيد صاحب المدارك المشهد الغروي فزاره العلماء وزارهم ، الاّ المولى عبد اللّه التُستري ، فقيل للسيّد في ذلك ، فاعتذر بانّه لا يرى العمل باخبار الآحاد ، فهو مُبدع ، ونقل في ذلك رواية مضمونها :إنّ من زار مبدعا فقد خرب الدّين .

-------------------

الفرق بينهما أمرٌ آخر .

( وحكى السّيد المحدّث الجزائري عمّن يثقُ به : انّه قد زار السّيد صاحب المدارك المشهد الغروي ) أي : مرقد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام .

ويقال للنّجف الاشرف ، الغري باعتبار العمودين ، على ما في كتاب لطف التدبير للخطيب الاسكافي ، قال : كنت مع بعض الملوك ، فقال لرجل من جلسائه : ياأبا المثنى ، أي شيء الغري في كلام العرب ؟ .

قلتُ : الغريّ : الحسن ، تقول العرب : هذا رجلٌ غريّ ، أي : حسنٌ .

وانّما سمّي الغريين ، لما ذكره في الهامش : انّه كان المنذر الثالث أحد ملوك الحيرة أقام بنائين حسنين ، وجعل في كلّ سنةٍ يومين ، يوم نعيم ، ويوم بؤس ، وكان أول من يطلع عليه في يوم النعيم يعطيه مائة من الابل ، وأول من يطلع عليه في يوم البؤس ، يأمر بقتله ويُطلي بدمه الغريّين ، والغريّان بنائان بناهما هذا الملك وجعل عليهما حرسا ، إلى آخر القصة .

( فزاره ) أي : السّيد صاحب المدارك ( العلماء وزارهم ، الاّ المولى عبد اللّه التستري ) فانّ السّيد لم يرد عليه الزيارة ( فقيل للسيّد في ذلك ؟ ) أي سئل عن سبب عدم رده على التستري زيارته ؟ ( فاعتذر ) السّيد ( بأنّه ) أي : التستري ( لا يرى العمل بأخبار الآحاد ، فهو مبدع ، ونقل في ذلك رواية مضمونها :إنّ من زار مبدعا فقد خرب الدّين ) وهدمه .

ص: 153

وهذه حكاية عجيبة لابد من توجيهها كما لا يخفى على من اطّلع على طريقة المولى المشار اليه ، ومسلكه في الفقه ، فراجع .

والانصاف : أنه لم يحصل في المسألة يدعي فيها الاجماع من الاجماعات المنقولة والشهرة القطعية والأمارات الكثيرة الدّالّة على العمل ما حصل في هذه المسألة ، فالشاك في تحقق الاجماع في هذه المسألة ، لا أراه يحصل له الاجماع في مسألة من المسائل الفقهية ،

-------------------

( وهذه ) أي : هذه النسبة من السّيد إلى التستري : بأنه لا يعمل بالاخبار ( حكاية عجيبة ) لوضوح :إنّ التستري كان يعمل في الفقه ، بأخبار الآحاد ف- ( لابد من توجيهها ) بأن يقال : انّه لم يعمل بكل الاخبار ، الّتي يعمل بها المشهور من الفقهاء ، وانّما كان يعمل ببعضها - مثلا - أو كان اجتهاده سابقا هو : عدم العمل كالسيد المرتضى ، ثم رجع إلى العمل ، أو غير ذلك .

( كما لا يخفى على من اطّلع على طريقة المولى ) التستري ( المشار اليه ومسلكه ) في العمل بالاخبار ( في الفقه ، فراجع ) حال الشيخ التستري حتى تعرف صحّة ما ذكرناه : من أنه كان يعمل بأخبار الآحاد .

( والانصاف : انّه لم يحصل في المسألة ) من المسائل الّتي ( يدعي فيها الاجماع ) ولم يتفق ( من الاجماعات المنقولة ، والشهرة القطعية ، والأمارات ) المؤيدة ( الكثيرة ، الدّالّة على العمل ) بمثل ( ما حصل في هذه المسألة ) أي : في مسألة حجّيّة الخبر الواحد .

وعليه : ( فالشاك في تحقق الاجماع في هذه المسألة ، لا أراه يحصل له الاجماع في مسألة من المسائل الفقهية ) لأنّ كلّ مسألة ادعي فيها الاجماع ، كان الاجماع في تلك المسألة أضعف من الاجماع في هذه المسألة الّتي نحن بصددها.

ص: 154

اللّهم الاّ في ضروريات المذهب .

لكن الانصاف : أنّ المتيقن من هذا كله ، الخبر المفيد للاطمينان ، لا مطلق الظّنّ ، ولعله مراد السّيد من العلم ، كما أشرنا اليه آنفا ، بل ظاهر كلام بعض احتمال أنّ يكون أن يكون مراد السّيد ، من خبر الواحد ، غير مراد الشيخ .

قال الفاضل القزويني في لسان الخواص ، على ما حكي عنه « إنّ هذه الكلمة ، أعني خبر الواحد ، على ما يستفاد من تتبع كلماتهم ، يستعمل في ثلاثة معان : أحدها الشاذ النادر

-------------------

( اللّهم الاّ في ضروريات المذهب ) مثل : وجوب الصلاة والزكاة ، وحرمة الزنا وشرب الخمر ، وما أشبه .

( ولكن الانصاف :إنّ المتيقن من هذا كله ، الخبر المفيد للاطمينان ، لا مطلق الظن ) فان الظّنّ وحده لا يكفي ( ولعله ) أي : الاطمئنان هو ( مراد السّيد ) المرتضى وأتباعه ( من العلم - كما أشرنا اليه آنفا - ) أي : سابقا .

( بل ظاهر كلام بعض : احتمال أنّ يكون مراد السيّد ، من خبر الواحد ، غير مراد الشيخ ) فان الخبر الواحد له عدة اصطلاحات ، فمراد النافي : اصطلاح ، ومراد المثبت : اصطلاح آخر ، والمتفق عليه بين الجميع : اصطلاح ثالث ، وهذا وجه آخر للجمع بين كلامي السّيد والشيخ .

واستشهد المصنّف لذلك بما ( قال الفاضل القزويني في ) كتاب ( لسان الخواص - على ما حكي عنه - :إنّ هذه الكلمة ، أعني : خبر الواحد على ما يستفاد من تتبع كلماتهم ) أي : كلمات العلماء ( تستعمل في ثلاثة معان ) على النحو التالي : ( أحدهما : الشاذ النادر ) الذي شذ وجوده في كتب الحديث وندر ، فقد

ص: 155

الذي لم يعمل به أحد ، أو ندر من يعمل به ، ويقابله ما عمل به كثيرون .

الثاني : ما يقابل المأخوذ من الثقات المحفوظ في الاصول المعمولة عند جميع خواص الطائفة ، فيشمل الاول ومقابله .

الثالث : ما يقابل المتواتر القطعي الصّدور ، وهذا يشمل الاولين

-------------------

تقدّم : ان الشاذ والنادر اذا اجتمعا ، كان لهما معنيان ، واذا افترقا كان لكل واحد يطلق على الاخر .

وهنا يراد بالشاذ ما ذكره بقوله : ( الذي لم يعمل به أحد ، أو ندر من يعمل به ) وهو المراد بالنادر في هذه العبارة ( ويقابله ) أي : يقابل خبر الواحد بهذا المعنى ( ما ) أي : الخبر الذي ( عمل به كثيرون ) فليس ذلك الخبر شاذا ، ولا نادرا .

( الثاني : ما يقابل المأخوذ من الثقات ) أي : يطلق خبر الواحد على خبر غير الثّقة ، ومقابل هذا المعنى هو خبر الثّقة ، وخبر الثّقة هو ( المحفوظ في الاصول ) الّتي ذكرنا : انها أربعمائة أو أكثر ( المعمولة عند جميع خواص الطائفة ) من العلماء الذين لا يعملون الاّ بخبر الثّقة .

( فيشمل ) خبر الواحد بهذا المعنى : المعنى ( الاول ) وهو الشاذ النادر ( و ) يشمل أيضا ( مقابله ) أي : مقابل الاول وهو المشهور ، لوضوح :إنّ خبر غير الثّقة ، قد يكون شاذا ، وقد يكون مشهورا منجبرا ضعفه بالشهرة المحققة ، أو بالقرائن الداخلية أو الخارجية .

( الثالث : ما يقابل المتواتر ) أي : يطلق خبر الواحد على غير المتواتر ، فيكون مقابل خبر الواحد ، الخبر المتواتر ( القطعي الصّدور ) لتواتره .

( وهذا ) أي : خبر الواحد بالمعنى الثالث ( يشمل الاولين ) : الشاذ النادر ،

ص: 156

وما يقابلهما » .

ثم ذكر ما حاصله : « إنّ ما نقل اجماع الشيعة على انكاره هو الاول ، وما انفرد السّيد قدس سره ، برده هو الثاني .

وأما الثالث : فلم يتحقق من أحد نفيه على الاطلاق » انتهى .

وهو كلام حسن ،

-------------------

وغير الثقة ، ( و ) يشمل أيضا ( ما يقابلهما ) أي ، ما يقابل الاولين من : المشهور ، والثقة لوضوح : إنّ غير المتواتر أعم من أنّ يكون شاذا ، أو مشهورا ، ثقة أو غير ثقة .

( ثمّ ذكر ) الفاضل القزويني ( ما حاصله :إنّ ما نقل اجماع الشيعة على انكاره ) أي : نقل في كلمات العلماء :إنّ الشيعة لا يعملون بمثل هذا الخبر ( هو ) المعنى ( الاول ) أي : الشاذ النادر .

( وما انفرد السّيد قدس سره ، برده ) وقال :إنّ الشيعة لا يعملون بخبر الواحد ( هو ) المعنى غير الثّقة ، ( الثاني ) أي : خبر غير الثّقة .

( وأما الثالث : ) أي : الخبر غير المتواتر ( فلم يتحقق من أحد نفيه على الاطلاق ) (1) بأن يقولوا : انّه لم يعمل به ، لكنهم اختلفوا في أنّ المناط ، هل هو : الظّنّ ، أو الاطمئنان ، أو كون الراوي ثقة ، أو عدلا أماميا ضابطا ، أو غير ذلك ؟ .

( انتهى ) كلام الفاضل القزويني ( وهو كلام حسن ) لانه جمع بين اجماع السّيد واجماع الشيخ .

ص: 157


1- - لسان الخواص : مخطوط .

وأحسن منه ما قدمناه ، من أنّ مراد السّيد من العلم ما يشمل الظن الاطمئناني ، كما يشهد به التفسير المحكي عنه للعلم : بأنه ما اقتضى سكون النفس .

الثاني : من وجوه تقرير الاجماع

أن يدعي الاجماع ، حتى من السّيد وأتباعه ، على وجوب العمل بالخبر الغير العلميّ ، في زماننا هذا وشبهه ، ممّا انسد فيه باب القرائن المفيدة للعلم بصدق الخبر ، فان الظاهر أنّ السّيد انّما منع من ذلك لعدم الحاجة إلى خبر

-------------------

( وأحسن منه ، ما قدمناه : من إنّ مراد السّيد من العلم : ما يشمل الظّنّ الاطمئناني ، كما يشهد به ) أي : بأن مراده ذلك ( التفسير المحكي عنه ) أي : عن السّيد ( للعلم ) فقد فسر العلم ( : بانه ما اقتضى سكون النفس ) وانّما كان تفسيرنا أحسن ، لأنه كان أقرب إلى كلاميّ السّيد والشيخ - على ما عرفت سابقا - .

ثم إنّ المصنِّف لمّا فرغ من التقريب الاول للاجماع ، الذي ادعاه على حجّيّة خبر الواحد مطلقا ، وهو : اجماع العلماء بعد السّيد وأتباعه ، شرع في التقريب الثاني للاجماع فقال : ( الثاني من وجوه تقرير الاجماع : ان يدعى الاجماع ، حتى من السّيد وأتباعه ، على وجوب العمل بالخبر غير العلميّ في زماننا هذا وشبهه ، ممّا انسد فيه باب القرائن المفيدة للعلم بصدق الخبر ) للفرق بين زمان السّيد وزماننا ، فان زمان السّيد كان قريب العهد بالائمة عليهم السلام ، ولذا كانت القرائن للأخبار متوفرة ، بينما زماننا بعيد عنهم ، فلم تتوفر تلك القرائن عندنا .

( فان الظاهر :إنّ السّيد ) ومن تبعه من العلماء ، الذين لا يعملون بالخبر الواحد غير العلميّ ( انّما منع من ذلك ) العمل بالخبر الواحد ( لعدم الحاجة إلى خبر

ص: 158

الواحد المجرد ، كما يظهر من كلامه المتضمن للاعتراض على نفسه ، بقوله : « فان قلت : اذا سددتم طريق العمل بأخبار الآحاد ، فعلى أي شيء تعوّلون في الفقه كله ؟ » .

فأجاب بما حاصله : إنّ معظم الفقه يعلم بالضرورة والاجماع والاخبار العلمية . وما يبقى من المسائل الخلافية يرجع فيها إلى التخيير » .

-------------------

الواحد المجرد ) عن القرائن في زمان الانفتاح .

( كما يظهر ) ذلك الذي ذكرناه : من انّ سبب منعهم عن العمل بخبر الواحد هو انفتاح باب العلم المستند إلى الاخبار والقرائن الحافة بها ( من كلامه المتضمن للاعتراض على نفسه بقوله : فان قلت : اذا سددتم طريق العمل بأخبار الآحاد ، فعلى أي شيء تعوّلون في الفقه كلّه ؟ ) لانه ليس لنا من الادلة ما يكفي لكل الأحكام لولا الخبر الواحد .

( فأجاب بما حاصله : أنّ معظم الفقه يعلم : بالضرورة ، والاجماع ، والاخبار العلمية ) فلا ينسد علينا الطريق إلى الاحكام ، حتى نحتاج إلى الاخبار غير العلمية .

( وما يبقى من المسائل الخلافية ) القليلة ، الّتي لا يدلّ عليها : الضرورة ، والاجماع ، والاخبار العلمية ( يرجع فيها إلى التخيير ) (1) فنتخير بين أن نعمل ، أو ان نترك ، وذلك لأصالة البرائة .

ص: 159


1- - رسائل الشريف المرتضى : ج3 ص312 .

وقد اعترف السّيد قدس سره ، في بعض كلامه على ما في المعالم ، بل وكذا الحلي في بعض كلامه ، على ما هو ببالي : بأن العمل بالظن متعيّن فيما لا سبيل فيه الى العلم .

الثالث : من وجوه تقرير الاجماع

استقرار سيرة المسلمين طرا على استفادة الاحكام الشرعية من أخبار الثقاة ، المتوسطة بينهم وبين الامام عليه السلام أو المجتهد .

-------------------

( وقد اعترف السّيد قدس سره في بعض كلامه - على ما في المعالم - بل وكذا ) اعترف ابن ادريس ( الحلي في بعض كلامه - على ما هو ببالي : - بأن العمل بالظن متعيّن فيما لا سبيل فيه إلى العلم ) فهذه الكبرى الكلية منطبقة على صغرى زماننا ، حيث لا سبيل في زماننا إلى العلم ، فيكون المعتبر هو الظّنّ ، والظن يحصل بخبر الواحد غير المحفوف بالقرائن القطعية .

( الثالث من وجوه تقرير الإجماع : إستقرار سيرة المسلمين ) من زمن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم إلى يومنا هذا ( طرّا ) أي : جميعا من الأصحاب وغيرهم ، ومن الفقهاء غيرهم ( على إستفادة الأحكام الشّرعيّة من أخبار الثقاة ، المتوسطة بينهم ) أي : بين المسلمين ( وبين ) الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم و ( الإمام عليه السلام ) .

فإنّ سيرة المسلمين في زمان الحضور ، وكذلك في زمان الغيبة ، قد جرت على إستفادة أحكامهم من أخبارالثّقاة المتوسطين بين المسلمين وبين المعصومين عليهم السلام .

( أو المجتهد ) ، فإنّه لا يزال المقلدون يستفيدون أحكامهم من الثّقاة ، الَّذين يتوسطون بينهم وبين المجتهدين ، لوضوح : إنّ المقلّدين ليسوا جميعا عند المجتهدين ، وإنّما أكثرهم في البلاد المتباعدة ، والمجتهد في النجف الاشرف ،

ص: 160

أترى إنّ المقلدين يتوقّفون في العمل بما يخبرهم الثّقة عن المجتهد ، أو الزوجة تتوقّف فيما يحكيها زوجها عن المجتهد في مسائل حيضها وما يتعلق بها إلى أن يعلموا من المجتهد تجويز العمل بالخبر الغير العلميّ ؟ وهذا مما لا شكّ فيه .

-------------------

أو في كربلاء المقدسة ، أو في قم المشرفة ، أو في خراسان المعظمة ، أو ما أشبه ذلك .

وهذه السّيرة حجّة لاتصالها بزمان المعصوم عليه السلام ، وقد قرّر في موضعه : إنّ السّيرة المتّصلة بزمان المعصومين « صلوات اللّه عليهم أجمعين » حجّة في مختلف الأبواب .

( أترى : إنّ المقلّدين يتوقفون في العمل بما يخبرهم الثقة ) من الَّذين ينقلون مسائل الفقهاء إليهم ، أم انّه اذا أخبرهم الثّقاة ( عن المجتهد ) عملوا بما أخبروا به ؟ .

( أو ) ترى : إنّ ( الزوجة تتوقّف فيما يحكيها زوجها عن المجتهد في مسائل حيضها وما يتعلق بها ) من سائر الأحكام الشّرعيّة الّتي تحتاج إليها من المسائل في الصّوم ، والصّلاة ، والحجّ ، وغير ذلك ؟ .

فهل تتوقّف الزوجة عن العمل بأخبار زوجها ، أو هؤلاء المقلدون يتوقفون عن العمل بأخبار الثّقاة ( إلى أن يعلموا من المجتهد : تجويز العمل بالخبر غير العلميّ ؟ ) أم إنّهم يعملون بأخبارهم حسب السّيرة المستمرة بينهم ؟ .

لا شك إنّهم لا يتوقفون في العمل بالمسائل الّتي نقلها الثّقاة حتى يتعلموا ذلك من المجتهد بنفسه ، أو يحصل لهم العلم بها من القرائن أو يعلموا إجماع العلماء ، أو فتوى المفتي بها ، إنّمايعملون بخبر الثقة فحسب ( وهذا ممّا لا شكّ فيه )

ص: 161

ودعوى حصول القطع لهم في جميع الموارد بعيدة عن الانصاف .

نعم ، المتيقن من ذلك صورة حصول الاطمئنان بحيث لا يُعتنى باحتمال الخلاف .

وقد حكى اعتراض السيّد قدس سره ، على نفسه : ب- « أنّه لا خلاف بين الأمّة في أنّ من وكل وكيلا أو استناب صديقا في ابتياع أمة أو عقد على أمرأة في بلدته أو في بلاد نائية - فحمل إليه الجارية وزف إليه المرأة ، وأخبره أنّه أزاح العلة في ثمن الجارية ، ومهر المرأة وأنّه اشترى هذه وعقد على تلك -

-------------------

عند الجميع . ( ودعوى حصول القطع لهم في جميع الموارد ) المذكورة ، وإنّ السّيرة قد جرت بذلك عند حصول القطع لهم من أقوال الثّقاة لا مطلقا ( بعيدة عن الانصاف ) فإنّ المدعي نفسه ، يعلم خلاف هذه الدعوى .

( نعم ، المتيقن من ذلك ) أي : من إستقرار السّيرة هو ( صورة حصول الاطمئنان بحيث لا يعتنى باحتمال الخلاف ) لما يقوله الثقة مخافة أنّ الثقة قد اشتبه فيما نقله عن المجتهد - مثلا - ( وقد حكى اعتراض السيّد قدس سره ، على نفسه : بانّه لا خلاف بين الأمّة ) ولا اشكال بين جميع علماء المسلمين ( في أنّ من وكّل وكيلا ، أو استناب صديقا ) لا بعنوان الوكالة ، بل بعنوان الإلتماس - مثلا - ( في ابتياع أمة ، أو عقد على امرأة في بلدته ، أو في بلاد نائية ) وبعيدة عن بلده .

( فحمل ) الوكيل أو النائب ( إليه ) أي : إلى الموكل ( الجارية ) الّتي اشتراها الوكيل أو النائب ( وزف ) أي : سيقت ( اليه المرأة ) الّتي أراد الزّواج منها ( وأخبره ) على ( أنّه أزاح العلة ) وأزال المانع ( في ثمن الجارية ، ومهر المرأة ) بان دفع الثّمن إلى مولى الأمّة ، والمهر إلى المرأة المعقودة ( وأنّه اشترى هذه ) الجارية من مولاها ( وعقد على تلك ) المرأة الّتي أراد من الموكّل عقدها له .

ص: 162

إنّ له وطئها ، والانتفاع بها في كل ما يسوغ للمالك والزوج .

وهذه سبيله مع زوجته وأمته اذا أخبرته بطهرها وحيضها ، ويرد الكتاب على المرأة بطلاق زوجها أو بموته فتتزوّج ، وعلى الرّجل بموت امرأته ، فيتزوّج أختها .

وكذا لا خلاف بين الأمّة في أنّ للعالم أنّ يفتي ، وللعامي إنّ يأخذ منه ، مع

-------------------

فانّه لايشك إنسان في ( إنّ له ) أي : للموكّل ( وطيها ، والانتفاع بها في كلّ ما يسوغ للمالك ) من جهة الأمّة ( والزّوج ) من جهة الزّوجة .

( وهذه ) الطريقة الّتي ذكرناها في الاعتماد على قول الطرف ( سبيله ) أي : طريق الموكّل الزوج ، والسيّد لِلأَمَة ( مع زوجته وأمته اذا أخبرته بطهرها وحيضها ) وحملها ، وما أشبه ذلك .

فإنّ أخبار الوكيل فيما وكل فيه ، وأخبار المرأة بطهرها وحيضها ، وما أشبه ذلك ، حجّة بالاجماع ، بل الأمر عام بالنّسبة إلى غيرهما أيضا ، لقاعدة : « من ملك شيئا ملك الإقرار به » (1) .

( و ) كذا ( يرد الكتاب ) أي : تصل الرّسالة المكتوبة الموجّهة إلى الطّرف ( على المرأة بطلاق زوجها ) لها ( أو بموته ) فتكون بذلك خليّة عن الزّوج ( فتتزوّج ) بعد عدّتها استنادا إلى الكتاب اذا كان الكاتب ثقة .

( و ) كذا يرد الكتاب ( على الرجل بموت امرأته ، فيتزوّج أختها ) أو الخامسة ، أو ما أشبه ذلك .

( وكذا لا خلاف بين الأمة في ان للعالم أنّ يفتي ، وللعامي أنّ يأخذ منه ، مع

ص: 163


1- - راجع القواعد الفقهيّة للبجنوردي : ج1 ص4 قاعدة من ملك .

عدم علم أن ما أفتى به من شريعة الإسلام وأنّه مذهبه » .

فأجاب بما حاصله : « انّه إنّ كان الغرض من هذا الرّد على من أحال التعبّد بخبر الواحد فمتوجه ، فلا محيص ، وإنّ كان الغرض الاحتجاج به على وجوب العمل بأخبار الآحاد في التحليل والتّحريم ، فهذه مقامات

-------------------

عدم علم إنّ ما أفتى به من شريعة الإسلام وأنّه مذهبه ) لأنّ الإنسان لا يعلم بذلك علما قطعيا ، وإنّما هو بحسب الاطمئنان العرفي المستند إلى خبر الثّقة فإنّه يأخذ به مع ان الواسطة رسالة كانت ، أو إنسانا أخبره شفاها ، يحتمل في حقّه الاشتباه والخطأ ، والغفلة والنسيان ، ونحو ذلك .

( فأجاب ) السيّد : أنّه إنّ كان غرض المستشكل : انّه لا استحالة - عقلا - في التعبد بالخبر الواحد في قِبال قول ابن قِبَة القائل بالاستحالة عقلاً ، فقول المستشكل تام ، لأنّه لا استحالة في حجّيّة الخبر عقلاً .

وإنّ كان غرضه : انّه واقع شرعا ، بدليل حجّيّة قول المرأة ، وقول الشهود ، وما أشبه ذلك ؛ فجوابه : إنّ ما ثبت شرعا هو الحجّيّة في الموضوعات ، كما في الامثلة المتقدّمة ، لا الأحكام ومن الممكن إنّ يكون خبر الواحد حجّة في الموضوعات ، لا في الأحكام .

وهذا هو المراد من قول المصنّف ( بما حاصله : انّه إنّ كان الغرض من هذا ) الكلام هو : ( الرد على من أحال التعبد بخبر الواحد ) كابن قِبَة ( فمتوجه ) وصحيح ( فلا محيص ) من الالتزام بامكان التعبّد بخبر الواحد .

( وإن كان الغرض الاحتجاج به على وجوب العمل بأخبار الآحاد في التحليل والتحريم ) وسائر الأحكام التكليفية والوضعية ( فهذه مقامات ) وموضوعات

ص: 164

ثبت فيها التعبّد بأخبار الآحاد من طرق علمية من إجماع وغيره على أنحاء مختلفة ، في بعضها لا يقبل إلاّ أخبار أربعة ، وفي بعضها لا يقبل الاّ عدلان ، وفي بعضها يكفي قول العدل الواحد ، وفي بعضها يكفي خبر الفاسق والذمي ، كما في الوكيل ، والأمة والزّوجة ، في الحيض والطهر .

وكيف يقاس على ذلك رواية الأخبار في الأحكام ؟ » .

-------------------

(

ثبت فيها التعبّد بأخبار الآحاد من طرق علمية : من إجماع ، وغيره ) فإنّ الإجماع وغيره من الأدلة العلمية قامت على حجّيّة أخبار الآحاد في الموضوعات .

وهي ( على أنحاء مختلفة ، في بعضها ) أي : في بعض تلك الموضوعات ( لا يقبل الاّ أخبار أربعة ) كالزنا واللواط .

( وفي بعضها لا يقبل الاّ عدلان ) كما في أكثر الموضوعات ، مثل : السرقة ، وشرب الخمر ، والشّهادة على الفروج والاموال ، وغير ذلك ، فإذا شهد اثنان ، على إنّ هذه زوجة فلان ، وهي من باب الفروج قبل ، وكذلك اذا شهد اثنان على إنّ هذا ملك فلان ، وهو من باب الاموال ، قبل أيضا ، إلى غير ذلك .

( وفي بعضها يكفي قول العدل الواحد ) منضما إلى اليمين - كما في الاموال - .

( وفي بعضها يكفي خبرالفاسق والذمي ، كما في الوكيل ، والأمّة والزوجة ، في الحيض والطّهر ) والحمل ونحو ذلك .

( وكيف يقاس على ذلك ) أي : الأخبار في الموضوعات ، الّتي تثبت بسبب خبر العادل ونحوه ( رواية الأخبار في الأحكام ؟ ) (1) أي : أخبار الرّواة الَّذين يخبرون عن أحكام اللّه سبحانه وتعالى في الأمور التكليفية ، أو الوضعية ، مثل

ص: 165


1- - جواب المسائل القبانيات ، مع اختلاف ، رسائل الشريف المرتضى : ج1 ص37 .

أقول : المعترض ، حيث إدّعى الإجماع على العمل في الموارد المذكورة ، فقد لقّن الخصم طريق الزامه والرّد عليه بأن هذه الموارد للاجماع ولو إدّعى إستقرار سيرة المسلمين على العمل في الموارد المذكورة وإن لم يطلعوا على كون ذلك اجماعيا عند العلماء ، كان أبعد عن الرّدّ ،

---------------------

وجوب صلاة الجمعة ، وكون الشيء الفلاني جزءا ، أو شرطا ، أو مانعا ، أو قاطعا ، أو نحو ذلك .

قال المصنّف : ( أقول : المعترض ) المستشكل على السيّد ( حيث إدّعى الإجماع على العمل في الموارد المذكورة ) بخبر الواحد ، والموارد المذكورة هي موضوعات ( فقد لقن الخصم ) وهو السيّد ( طريق الزامه والرّدّ عليه ) حيث إنّ السيّد ردّه ( : بان هذه الموارد ) إنّما جاز العمل فيها بأخبار الآحاد ( للاجماع ) على ذلك . ( و ) لكن ( لو إدّعى ) المعترض المستشكل على السيّد ( : إستقرار سيرة المسلمين على العمل في الموارد المذكورة ، وإن لم يطلعوا على كون ذلك اجماعيا عند العلماء ، كان ) اعتراض المعترض ( أبعد عن الرّدّ ) ولم يتمكن السيّد من ردّه ، لأنّ حجّيّة خبر الواحد ثابتة بالاجماع وبالسيرة أيضا .

لكن المستشكل لما تمسّك باجماع العلماء فقط ، أجاب عنه السيّد : بأن إجماع العلماء على حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات ، لا يدلّ على حجّيته في الأحكام .

أما لو كان المستشكل المعترض على السيّد تمسّك بالسّيرة ، لم يتمكن السيّد في الرّدّ عليه وتمّ حجّته على السيّد ، لأنّ المسلمين عملوا بالخبر في هذه الموارد بمناط وثاقة الراوي ، وهذا المناط موجود في الأحكام أيضا ، لا بملاحظة إجماع العلماء في الموضوعات حتى لا يمكن التعدي عن الموضوعات إلى الأحكام .

ص: 166

فتأمل .

الرابع :

إستقرار طريقة العقلاء طرا على الرجوع إلى خبر الثّقة في الأمور المهمة عندهم ، ومنها الأوامر الجارية من الموالي إلى العبيد .

فنقول : إن الشارع إنّ اكتفى بذلك منهم في الأحكام الشّرعيّة ، فهو ، والاّ وجب عليه

-------------------

( فتأمل ) ولعلّه إشارة إلى إنّ السّيرة غير ثابتة ، ولهذا اختلف العلماء فيها ، وكيف تكون السّيرة ثابتة ، والسيّد وأتباعه ينكرون حجّيّة خبر الواحد في الأحكام ؟ وهناك احتمال آخر في قصد المصنّف من قوله : « فتأمل » لا يهم ذكره .

( الرابع ) من وجوه الإجماع ، على حجّيّة خبر الواحد ، هو ( إستقرار طريقة العقلاء طرا ) أي : كلاً ، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين ، علماء أو جهّال ، ( على الرجوع إلى خبر الثّقة في الأمور المهمّة عندهم ) ، كالرّجوع إلى الطّبيب ونحوه .

( ومنها ) أي : من تلك الأمور الّتي استقر طريقة العقلاء على الرّجوع فيها إلى خبر الثّقة ( : الاوامر الجارية من الموالي إلى العبيد ) فإنّ الثّقة اذا أخبر واحدا من عبيد المولى بأن المولى أمره بكذا ، قبل العبد منه ذلك ، ولو لم يقبله العبد ، إستحق العقوبة عند العقلاء .

( فنقول : إنّ الشّارع إن اكتفى بذلك ) المتعارف عند العقلاء ( منهم ) بأن أمضى سيرتهم وقرّرها ، جاز للمسلمين الرجوع إلى الثّقة في تحصيل أوامره ( في الأحكام الشّرعيّة ، فهو ) المطلوب ، لأنّه ثبت إنّ الشّارع أيضا صحح العمل بالخبر الواحد . ( والاّ ) أي : إن لم يكتف الشّارع بذلك ( وجب عليه ) أي : على الشّارع

ص: 167

ردعهم وتنبيههم على بطلان سلوك هذا الطريق في الأحكام الشّرعيّة ، كما ردع في مواضع خاصة ، وحيث لم يردع علم منه رضاه بذلك ، لأنّ اللازم في باب الاطاعة والمعصية الأخذ بما يعد طاعة في العرف ، وترك ما يعد معصية كذلك .

فإن قلت :

-------------------

( ردعهم وتنبيههم على بطلان سلوك هذا الطريق في الأحكام الشّرعيّة ) لأنّه لو لم ينبه على بطلانه ، وسلك عبيده طريقة العقلاء هذه في الطّاعة وعدمها من الرّجوع إلى الثّقة لم يكن له حجّة على العبيد في ذلك .

إذن : فالازم على الشّارع أن يردع عن العمل بخبر الثّقة ( كما ردع ) عن الرّجوع الى الثّقة ( في مواضع خاصّة ) كالزّنا واللواط والمساحقة ، وما أشبه ذلك ، فإنّه لايكتفي فيها بخبر الثّقة ، بل يريد شهودا أربعة ، وكذلك في جملة من الأحكام يريد فيها شاهدين اثنين ، وغير ذلك .

هذا ، ( وحيث لم يردع ) الشارع عنه ( علم منه رضاه بذلك ) .

لايقال : كيف يكون عدم الرّدع دليلاً على الرضا ؟ .

فانّه يقال : ( لأنّ اللاّزم ) بحكم العقل والعقلاء ( في باب الاطاعة والمعصية : الأخذ بما يعد طاعة في العرف ، وترك ما يعد معصية كذلك ) فوظيفة المكلّف بمقتضى هذا الحكم العقلي المستقل : أنّ يأخذ بخبر الثّقة في اطاعة الأحكام الشّرعيّة في الأوامر والنّواهي ،لأنّه طاعة عرفا ، فاذا رضي الشّارع بذلك فهو ، والاّ وجب عليه : أن يردعه لئلا يلزم منه الاغراء بالجهل ، وحيث نرى في المقام ان الشارع لم يردع عنه كما ردع عن القياس ، تبين انّه يرى حجّيّة خبر الثّقة .

( فإنّ قلت : ) إنّ الشّارع قد ردع المسلمين عن الأخذ بالخبر الواحد في

ص: 168

يكفي في ردعهم الآيات المتكاثرة والأخبار المتظافرة بل المتواترة على حرمة العمل بما عدا العلم .

قلت : قد عرفت انحصار دليل حرمة العمل بما عدا العلم في أمرين ، وإنّ الآيات والأخبار راجعة إلى أحدهما .

الاول : إنّ العمل بالظنّ والتعبّد به ، من دون توقيف من الشّارع ،

-------------------

الأحكام الشّرعيّة ، و ( يكفي في ردعهم : الآيات المتكاثرة ، والأخبار المتظافرة ، بل المتواترة على حرمة العمل بما عدا العلم ) مثل قول سبحانه : « وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ » (1) ، وقوله تعالى : « إنْ يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ » (2) .

وغير ذلك من الآيات والرّوايات الّتي تقدّم ذكر جملة منها .

( قلت : ) هذه الآيات والأخبار لا تردعهم عن الاخذ بخبر الثّقة ، وانّك ( قد عرفت ) في بحث أصالة حرمة العمل بالظّنّ ( : انحصار دليل حرمة العمل بما عدا العلم ) فيما اذا لم يكن إذن من الشّارع أو كان الشّارع قال شيئا ، وغير العلم يريد ابطال ذلك الشيء ، مثل : أنّ يعلم بخبر الفاسق في قبال الدليل الشرعي الَّذي قام على حكم من الأحكام ، سواء كان ذلك الدليل الشرعي أصلا لفظيا ، أو أصلاً عمليا .

هذا ، والاخذ بخبر الثّقة ليس من قبيل هذين الامرين ، فلم يردع عنه الشّارع ، فإنّ ردع الشّارع إنّمايكون ( في أمرين ، وإنّ الآيات والأخبار ) النّاهية عن العمل بغير العلم ( راجعة إلى أحدهما ) أي : أحد الأمرين الآتيين :

( الاول: إنّ العمل بالظنّ والتعبّد به ، من دون توقيف ) وترخيص ( من الشّارع ،

ص: 169


1- - سورة الاسراء : الآية 36 .
2- - سورة الانعام : الآية 116 .

تشريع محرم بالأدلّة الاربعة .

والثاني : إنّ فيه طرحا لادلّة الاصول العمليّة واللفظية الّتي اعتبرها الشّارع عند عدم العلم بخلافها . وشيء من هذين الوجهين لا يوجب ردعهم عن العمل ، لكون حرمة العمل بالظنّ من أجلهما مركوزا في ذهن العقلاء ، لأنّ حرمة التّشريع ثابت عندهم ، والأصول العمليّة

-------------------

تشريع محرّم بالأدلّة الأربعة ، و ) قد سبق الكلام في ذلك والاستدلال عليه .

( الثاني : إنّ فيه ) أي : إنّ في العمل بما عدا العلم ( طرحا لادلة الاصول العمليّة واللفظية : ) بأن كان الاصل العملي أو اللفظي دالاً على شيء ، وخبر الفاسق دالاً على خلافه ، بما يسبب الأخذ به طرح ذلك الأصل العملي أو اللفظي .

كما اذا اقتضى الأصل العملي ، كأصل الاحتياط - مثلاً - : حرمة التتن ، وخبر الفاسق يريد تحليله ، أو اقتضى أصل لفظي - مثلا - : حرمة التتن ، وخبر الفاسق يريد ابطال ذلك التّحريم ، فاذا دلّت الاصول العمليّة أو الأصول اللفظيّة - ( الّتي اعتبرها الشّارع عند عدم العلم بخلافها ) - على شيء ، أراد خبر الفاسق إبطال ذلك الاصل ، كان هذا من العمل بما عدا العلم المحرّم شرعا وعقلاً .

( وشيء من هذين الوجهين ) التشريع ، والطرح ( لا يوجب ردعهم ) أي : ردع العقلاء ( عن العمل ) بخبر الثّقة ، فلا التّشريع ، ولا طرح الأصول اللفظيّة أو العمليّة ، موجب لردع العقلاء عن العمل بخبر الثّقة ، لانّهم يرون ان العمل بخبر الثّقة ليس تشريعا ، ولا مخالفا للاصول اللفظيّة والعمليّة .

وذلك ( لكون حرمة العمل بالظنّ من أجلهما ) أي : من أجل أنّ يكون تشريعا ، أو طرحا للاصول العمليّة واللفظيّة ( مركوزا في ذهن العقلاء ) كافّة من جميع الأديان والمبادى ء ( لأنّ حرمة التّشريع ثابت عندهم ، والاصول العمليّة

ص: 170

واللفظيّة معتبرة عندهم ، مع عدم الدليل على الخلاف .

ومع ذلك نجد بناءهم على العمل بالخبر الموجب للاطمينان .

والسرّ في ذلك ، عدم جريان الوجهين المذكورين ، بعد إستقرار سيرة العقلاء على العمل بالخبر ، لانتفاء تحقق التّشريع ، مع بناءهم على سلوكه في مقام الاطاعة والمعصية ، فإنّ الملتزم بفعل ما أخبر

-------------------

واللفظيّة معتبرة عندهم ، مع عدم الدّليل ) المعتبر ( على الخلاف ) أي : على خلاف الأصول العمليّة واللفظيّة .

والحاصل : إنّ العقلاء عالمون بأن العمل بالظنّ من دون دليل على حجّيته ، حرام من جهة التّشريع تارة ، ومن جهة طرح الأصل العملي أو اللفظي تارة أخرى ( ومع ذلك ) أي : مع علمهم بالحرمة في الجهتين المذكورتين ( نجد بنائهم ) وإستقرار سيرتهم ، من زمان الأئمّة عليهم السلام إلى زماننا هذا ( على العمل بالخبر الموجب للاطمئنان ) والوثوق .

( والسرّ في ذلك ) أي : سرّ عملهم بخبر الثّقة ، مع أنّ بنائهم على حرمة العمل بالظن لأنّه يستلزم التّشريع ، أو طرح الاصول اللفظيّة والعمليّة الواردة من الشّارع هو : ( عدم جريان الوجهين المذكورين ، بعد إستقرار سيرة العقلاء على العمل بالخبر ) أي : بخبر الثّقة .

أما عدم كونه تشريعا ، فذلك ( لانتفاء تحقق التشريع ، مع بناءهم ) أي : مع بناء العقلاء ( على سلوكه ) أي : على سلوك خبر الثّقة والعمل به ( في مقام الاطاعة والمعصية ) .

فانّهم إذا عملوا على خبر الثّقة في الاوامر ، وعلى خبر الثّقة في النّواهي ، بأن فعلوا الأول وتركوا الثاني ، لم يكن هذا عندهم تشريعا ( فإنّ الملتزم بفعل ما أخبر

ص: 171

الثّقة بوجوبه ، وترك ما أخبر بحرمته ، لا يعد مشرعا ، بل لا يشكّون في كونه مطيعا ، ولذا يعولون به في أوامرهم العرفيّة من الموالي إلى العبيد ، مع أن قبح التّشريع عند العقلاء ، لا يختص بالاحكام الشّرعيّة .

وأما الاصول المقابلة للخبر ، فلا دليل على جريانها في مقابل خبر الثّقة ، لأنّ الأصول الّتي مدركها حكم العقل ،

-------------------

الثّقة بوجوبه ، وترك ما أخبر بحرمته ، لايعدّ مشرعا ) عند العقلاء ( بل لايشكّون في كونه مطيعا ) إذا اتّبع خبر الثّقة ، فكيف يكون مشرّعا ؟ .

( ولذا يعوّلون به ) أي : بخبر الثّقة ( في أوامرهم العرفيّة من الموالي إلى العبيد ، مع ) وضوح ( إنّ قبح التّشريع عند العقلاء ، لا يختص بالاحكام الشّرعيّة ) بل يعمّ العرفيّة أيضا ، فإنّ العقلاء يعلمون : إنّ كلّ عبد لا يجوز له أنّ يشرّع في قِبال مولاه ، سواء كان من أصحاب الأديان أو لم يكن ، ومع ذلك يعتمدون على خبر الثّقة لبنائهم على حجّيّته .

وبذلك ظهر : إنّ الآيات والأخبار النّاهية ، ليست رادعة من جهة التشريع ، لأنّه لا تشريع .

( وأمّا الاصول المقابلة للخبر ) بأن كان الخبر دالاً - مثلا - على الجواز ، والأصل يدلّ على الحرمة ، سواء كان أصلاً لفظيا أو عمليا ، فعملنا بالخبر ( فلا دليل على جريانها ) أي : جريان الاصول اللفظيّة والعمليّة ( في مقابل خبر الثّقة ) اذ لا دليل على حجّيّة الاصول عند تعارضها مع خبر الثّقة ، بل اللازم عند العقلاء أن يعمل الانسان بخبر الثّقة ، ويطرح الأصل لفظيا كان أو عمليا .

وذلك ( لأنّ الأصول الّتي مدركها حكم العقل ) كالبرائة : حيث قبح العقاب بلا بيان .

ص: 172

لا الأخبار لقصورها عن إفادة إعتبارها ، كالبراءة والاحتياط والتخيير ، لا اشكال في عدم جريانها في مقابل خبر الثّقة ، بعد الاعتراف ببناء العقلاء على العمل به

----------------------

والاحتياط : حيث العلم الاجمالي .

والتخيير : حيث لا يمكن الجمع بين طرفي العلم الاجمالي .

( لا الأخبار ) أي : لا الاصول الّتي مدركها الأخبار مثل :

« رُفِعَ مَا لاَ يَعْلَمُونَ » (1) و « احتَطْ لِديْنِكَ » (2) .

و « إِذن فَتَخَيَّر » (3) وما أشبه ذلك . وانّما قلنا : لا الأخبار : ( لقصورها ) أي : لقصور الأخبار المذكورة ( عن إفادة إعتبارها ) أي : إعتبار الأصول .

لكن لا يخفى : إنّ هذا الكلام محل تأمّل ، اذ الأخبار لا قصور فيها - كما سيأتي في مباحثها انشاء اللّه تعالى - ( كالبرائة ، والاحتياط ، والتخيير ) ، فإنّ هذه الأصول الثلاثة معتبرة عند المصنّف عقلاً فقط ، لا شرعا ، لعدم تماميّة أدلّة اعتبارها شرعا عنده ، لكنّا ذكرنا : انّها معتبرة شرعا أيضا .

وعلى أي حال : فإنّه ( لا اشكال في عدم جريانها ) أي : الاصول الذكورة ( في مقابل خبر الثّقة ، بعد الاعتراف ببناء العقلاء على العمل به ) أي : بخبر الثّقة

ص: 173


1- - التوحيد : ص353 ح24 ، تحف العقول : ص50 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 الخصال : ص417 .
2- - وسائل الشيعة : ج 27 ص167 ب12 ح33509 ، الامالي للمفيد : ص283 ، الامالي للطوسي : ص110 ح168 .
3- - غوالي اللئالي : ج 4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

في أحكامهم العرفيّة ، لأنّ نسبة العقل في حكمه بالعمل بالاصول المذكورة الى الأحكام الشّرعيّة والعرفيّة سواء .

وأما الاستصحاب ، فإن أخذ من العقل ، فلا إشكال في أنّه لا يفيد الظّنّ في المقام ،

-------------------

( في أحكامهم العرفيّة ) وإذا استقرّت سيرة العقلاء على العمل بخبر الثّقة في قِبال الاصول العقليّة في أمورهم العرفيّة ، كان الأمر كذلك بالنّسبة إلى الاصول العقليّة

وخبر الثّقة الوارد عن الشّرع في الأمور الشّرعيّة .

وعليه : فتطرح الأصول الثلاثة العقليّة في قِبال خبر الثّقة ، سواء كان خبر الثّقة في الأمور العرفيّة ، أو في الأمور الشّرعيّة .

وانّما نقارن الشّرع بالعرف في هذه الجهة ( لأنّ نسبة العقل في حكمه بالعمل بالاصول المذكورة إلى الأحكام الشّرعيّة والعرفية سواء ) فإنّ حكم العقل بوجوب الاخذ بخبر الثّقة ، وطرح الاصول الثلاثة عند تعارضها مع خبر الثّقة ليس مختصا بالامور العرفيّة ، وإنّما جارٍ في الأحكام الشّرعيّة أيضا إذ العقل لا يفرّق في حكمه بحجيّة الاصول بين العرفيّات والشرعيّات ، فإذا لم يكن فرق في الاصول بينهما ، لم يكن فرق في سقوط الأصول بسبب خبر الثّقة .

إذن : فكما تسقط البرائة - مثلاً - بسبب خبر الثّقة في الموالى العرفيّة ، كذلك تسقط البرائة العقليّة بسبب خبر الثّقة في الأمور الشّرعيّة .

( وأمّا الاستصحاب ) وهو الأصل الرّابع من الأصول العملية ( فإن أُخِذَ من العقل ) بأن قلنا : أنّ الاستصحاب حجّة ، عند العقلاء ، لانّهم يرون : «ابقاء ما كان على ما كان» ( فلا إشكال في انّه لا يفيد الظّنّ في المقام ) أي مقام تعارض الاستصحاب مع خبر الثّقة ، فإنّ في مثله لا يحكم العقل بحجيّة الاستصحاب ،

ص: 174

وإن أخذ من الأخبار فغاية الأمر حصول الوثوق بصدورها دون اليقين .

وأما الأصول اللفظيّة كالإطلاق ، والعموم ،

-------------------

وإنّما يحكم بحجّيّته عند انتفاء خبر الثّقة .

( وإن ) قلنا : بأنّه من الأصول الشّرعيّة ، بمعنى : إنّ الشّرع دلّ على الإستصحاب بمقتضى قوله عليه السلام : « لاَ تَنْقُض اليَقِيْنَ بِالشَّكّ » (1) وغيره من الرّوايات المذكورة في باب الإستصحاب ،فيكون قد ( أخذ ) الإستصحاب ( من الأخبار ) الآتية انشاء اللّه تعالى في بابه ( فغاية الأمر : حصول الوثوق بصدورها دون اليقين ) .

وذلك لأنّ مصدر حجّيّة الإستصحاب خبر الثّقة ، فإذا عارض الإستصحاب خبر الثّقة ، كان من تعارض الخبرين الخبر الدّال على الإستصحاب ، والخبر الدّال على الحكم المخالف للإستصحاب ولا دليل على تقديم الإستصحاب على خبر الثّقة الذي هو مقابل للإستصحاب .

بل يمكن إنّ يقال : إنّ خبر الثّقة خاصّ ، ودليل الإستصحاب عامّ ، فيخصّص بخبر الثّقة .

مثلاً : « لاَ تَنْقُض اليَقِينَ بِالشَّكِّ » يقول : كلّ شيء له حالة سابقة استصحب تلك الحالة ، وخبر الثّقة القائل : « ابن على الأربع » يقول : لا تستصحب في الشّكّ في الرّكعات ، وهو أخصّ من دليل الإستصحاب فيقدّم على الإستصحاب

(وأمّا الأصول اللفظية كالإطلاق ، والعموم ) حيث قرّروا في بحثهما : انّه

ص: 175


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

فليس بناء أهل اللسان على اعتبارها حتّى في مقام وجود الخبر الموثوق في مقابلها ، فتأمّل .

الخامس :

ما ذكره العلاّمة في النّهاية من إجماع الصّحابة على العمل بخبر الواحد من غير نكير ،

-------------------

لو شكّ في الإطلاق ، كان الأصل الإطلاق ، ولو شكّ في العموم ، كان الأصل العموم ( فليس بناء أهل اللسان على اعتبارها ) أي : على اعتبار هذه الأصول ( حتّى في مقام وجود الخبر الموثوق في مقابلها ) .

فإنّ سيرة العقلاء وأهل اللسان على الأخذ بالظّواهر ، ومن الظّواهر : خبر الثّقة ، فإذا كان خبر الثّقة في مقام ، لم يأخذ العقلاء بأصل الإطلاق ، وأصل العموم في ذلك المقام ، وإنّما يأخذ العقلاء بأصل الإطلاق وأصل العموم ، فيما إذا لم يكن هناك خبر ثقة مخصّص أو مقيّد للأصلين ، فالأصول اللفظيّة لا يمكنها إسقاط الخبر الموثوق به .

( فتأمّل ) ولعلّه إشارة الى ما ذكرناه : من تقديم دليل الخبر على دليل الإستصحاب ، لا كما ذكره المصنّف ممّا ظاهره التعارض بينهما ، ولعلّه إشارة الى غير ذلك ممّا ذكره الأوثق وغيره من المحشّين .

( الخامس ) من وجوه تقرير الإجماع على حجّيّة خبر الواحد ( : ما ذكره العلاّمة في النّهاية : من إجماع الصّحابة ) الّذين صحبوا المعصومين عليهم السلام ، من الرّسول الى الإمام المهدي ( على العمل بخبر الواحد من غير نكير ) فإنّه لم ينكر على هؤلاء العلماء الذين أخذوا بأخبار الآحاد ، لا أحد من المعصومين عليهم السلام ولا أحد من العلماء .

ص: 176

وقد ذكر في النّهاية ، مواضع كثيرة عمل فيها الصّحابة بخبر الواحد .

وهذا الوجه لا يخلو من تأمّل ، لأنّه إن أُريد من الصّحابة العاملين بالخبر مَنْ كان في ذلك الزمان لا يصدر إلاّ عن رأي الحجّة عليه السلام فلم يثبت عمل أحد منهم بخبر الواحد ، فضلاً عن ثبوت تقرير الإمام عليه السلام له ، وان أُريد به الهمج

-------------------

هذا ( وقد ذكر في النّهاية ، مواضع كثيرة عمل فيها الصّحابة بخبر الواحد ) . قال الآشتياني في حاشيته : « يُستفاد الإشارة الى هذا الوجه من كلام الشيخ في العدّة والسيّد ، وغيرهما قدس سرهم ، وقد ذكروا في باب الإجماع : إجماع الصّحابة ، وإجماع أهل المدينة ، عنوانا مستقلاً .

وكان من دأب الخلفاء والصّحابة التّابعين إذا أشكل الأمر عليهم في آية أو مسألة ، السؤال ممّن سمع النّبي صلى اللّه عليه و آله وسلم فيهما شيئا ، فإذانقل وروى منه صلى اللّه عليه و آله وسلم في حكم ، ما استشكلوا آية أو رواية ، وأخذوا بقوله من دون تأمّل ، فيكشف ذلك ، إمّا عن تقرير المعصوم ، أو متابعة ما وصل إليهم منه من وجوب العمل بخبر الواحد في الأحكام الشّرعيّة » .

( وهذا الوجه لا يخلو من تأمّل ، لأنّه إن اريد من الصّحابة العاملين بالخبر ) الواحد ( : من كان في ذلك الزمان لا يصدر ) أي : لا ينطلق في أعماله وأقواله وأفعاله ( إلاّ عن رأي الحجّة عليه السلام ) أمثال سلمان ، وأبي ذر ، والمقداد ، من صحابة الرّسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ( فلم يثبت عمل أحد منهم بخبر الواحد ، فضلا عن ثبوت تقرير الإمام عليه السلام له ) لأنّ مثل أبي ذر ، وسلمان ، والمقداد ، كانوا يأخذون رأي الحجّة عليه السلام بلا واسطة ، ولم يحتاجوا في عملهم الى خبر الواحد .

( وإن أريد به ) أي : بالصحابة الّذين كانوا يعملون بالخبر الواحد ( الهمج

ص: 177

الرّعاع الّذين يصغون الى كلّ ناعق ، فمن المقطوع عدم كشف عملهم عن رضا الإمام عليه السلام لعدم ارتداعهم بردعه في ذلك اليوم .

ولعل هذا مراد السّيد رحمه اللّه حيث أجاب عن هذا الوجه بأنّه انّما عمل بخبر الواحد ، المتآمرون الّذين يُتجشم التصريح بخلافهم ، وإمساك النكير عليهم لا يدلّ على الرضا بعملهم .

إلاّ أن يقال : انّه لو كان عملهم منكرا لم يترك الإمام عليه السلام ، بل ولا أتباعه من الصّحابة النكير على العاملين ، اظهارا للحقّ ، وان لم يظنوا

-------------------

الرّعاع ) من عامّة النّاس ( الّذين يصغون ) ويستمعون ( الى كلّ ناعق ) وصائح ، فيتّبعونه من دون علم بصحّة كلامه ( فمن المقطوع عدم كشف عملهم ) بالخبر الواحد ( عن رضا الإمام عليه السلام لعدم ارتداعهم ) وكفّهم عن عملهم ( بردعه ) عليه السلام ( في ذلك اليوم ) الذي كان الإمام عليه السلام مغلوبا على أمره ، وكانت السّلطة بيد غيره ممّن يضاده .

( ولعلّ هذا ) الوجه الّذي ذكرناه في ردّ عمل الصّحابة بخبر الواحد ( مراد السيّد رحمه اللّه حيث أجاب عن هذا الوجه ) من وجوه الإجماع ( : بأنّه انّما عمل بخبر

الواحد ، المتآمرون الّذين ) أزاحوا أهل البيت عليهم السلام عن مناصبهم فكان الإمام عليه السلام (يتجشّم) أي: يمتنع عن (التصريح بخلافهم) ويحترز عن معارضتهم.

( و ) على هذا : فإنّ ( امساك النكير ) من المعصومين عليهم السلام ( عليهم ) أي : على أولئك الصّحابة ( لا يدلّ على الرّضا ) منهم عليهم السلام ( بعملهم ) بالخبر الواحد .

(إلاّ أن يقال) في ردّ هذا الإشكال ( : انّه لو كان عملهم ) أي : عمل الصّحابة ( منكرا ، لم يترك الإمام عليه السلام ، بل ولا أتباعه من الصّحابة ) الّذين استقاموا على الطّريقة ( النكير على العاملين ) بالخبر الواحد وذلك ( اظهارا للحقّ ، وإن لم يظنوا

ص: 178

الإرتداع ، إذ ليست هذه المسألة بأعظم من مسألة الخلافة ، الّتي أنكرها عليهم من أنكر ، لإظهار الحقّ ، ودفعا لتوهّم دلالة السّكوت على الرّضا .

السادس :

دعوى الإجماع من الإمامية ، حتّى السيّد وأتباعه ، على وجوب الرجوع الى هذه الأخبار الموجودة في أيدينا ، المودعة في أصول الشّيعة وكتبهم .

-------------------

الإرتداع ) منهم ( إذ ليست ) التقيّة في ( هذه المسألة ) وهي مسألة إنكارهم العمل بخبر الواحد - على فرض عدم شرعيّته - ( بأعظم من ) التقيّة في ( مسألة الخلافة ، التي أنكرها ) أي : الخلافة ( عليهم ) أي : على الّذين تصدّوا للخلافة وغصبوها ( من أنكر ) من المعصومين وأتباعهم المخلصين ، وذلك ( لإظهار الحقّ ، ودفعا لتوهّم دلالة السكوت على الرّضا ) فانّهم لاجل أن يستدلّ أحد بسكوتهم على رضاهم ، كانوا ينكرون على الغاصبين فلمّا رأينا انّهم لم ينكروا فيما نحن فيه ، دلّ عدم إنكارهم هنا على رضاهم بالعمل بالخبر الواحد .

ولا يخفى ما في تأمّل المصنّف قدس سره على الوجه الخامس فإنّه قد تقدّم منه رحمه اللّه : إنّ المجلسي قد ادّعى: تواترالأخبار بعمل الشّيعة في جميع الاعصار بخبر الواحد.

وكذا تقدّمت دعوى النّجاشي والشّهيد اتفاقهم على العمل بمراسيل ابن أبي عُمير ، الى غير ذلك من الشّواهد ، فالتّمسك باجماع صحابة الرّسول والائمة عليهم السلام بالعمل بخبر الواحد تمسّك لا بأس به في الدلالة على حجّيّة خبر الواحد .

( السادس : ) من وجه تقرير الإجماع على حجّيّة خبر الواحد ( دعوى الإجماع من الامامية ) كافة ( حتّى السّيد وأتباعه ، على وجوب الرجوع الى هذه الأخبار الموجودة في أيدينا ، المودعة في أصول الشّيعة وكتبهم ) فإنّ كثيرا

ص: 179

ولعلّ هذا هو الّذي فهمه بعض من عبارة الشّيخ المتقدّمة عن العدّة ، فحكم بعدم مخالفة الشّيخ السّيد .

وفيه : أولا : أنّه إنّ أريد ثبوت الإتفاق على العمل بكلّ واحد من أخبار هذه الكتب ، فهو ممّا عُلم خلافه بالعيان ،

-------------------

من الأخبار لم تكن في الأصول الاربعمائة ،وإنّما وجدت في الكتب الّتي ألفت لا بعنوان الأصل ، كالخلاف ، والمختلف ، والمعتبر ، وغيرها ، فإنّ العمل بهذه الأخبار ممّا اتفق عليها الكلّ ، وهذا هو الإجماع بعينه .

غاية الأمر : إنّ السّيد وأتباعه يعملون بها بادعائهم : احتفافها بالقرائن القطعيّة ، وغيرهم يعملون بها لحجيّة خبر الواحد عندهم ، وبالنتيجة : فالكلّ متفقون على هذه الأخبار .

( ولعلّ هذا ) أي : الإجماع على العمل بهذه الأخبار المودعة في الأصول والكتب ( هو الذي فهمه بعض ، من عبارة الشّيخ المتقدّمة عن العدّة ) فقد تقدّمت عبارته بما لفظها :

« فانّي وجدت الفرقة مجمعة على العمل بهذه الأخبار الّتي رووها في تصانيفهم ، ودونوها في أصولهم » فإنّه يفهم من هذه العبارة إنّ الشّيخ يدعي : الإجماع على خصوص هذه الأخبار المدوّنة في الكتب المشهورة ( فحكم ) من أجل ذلك ( بعدم مخالفة الشّيخ للسّيد ) لانّهما معا يعملان بهذه الأخبار ، سواء بادعاء انّها محفوفة بالقرائن القطعيّة ، أو بادّعاء : انّها من الأخبار الّتي طرقها حجّة لوثاقة رواتها .

( وفيه أولاً : انّه إنّ أُريد : ثبوت الإتفاق على العمل بكلّ واحد من أخبار هذه الكتب ، فهو ممّا عُلم خلافه بالعيان ) إذ من الواضح : إنّ العلماء لا يعملون بكلّ

ص: 180

وإن أُريد ثبوت الاتفاق على العمل بها في الجملة على اختلاف العاملين في شروط العمل حتّى يجوز أن يكون المعمول به عند بعضهم ، مطروحا عند الآخر ، فهذا لا ينفعنا إلاّ في حجّيّة ما علم اتفاق الفرقة على العمل به بالخصوص ،

-------------------

واحد من هذه الأخبار ، ويدلّ على عدم عملهم بكلّ واحد واحد ، ما تقدّم : من إنّ القمّيّين استثنوا كثيرا من أخبار نوادر الحكمة ، مع كونه من الكتب المشهورة .

وكذلك تقدّم : إنّ ابن الوليد استثنى من روايات العبيدي ما يرويها عن يونس ، مع انّها منقولة في الكتب المشهورة ، وإن الصّدوق تبع شيخه ابن الوليد في ذلك ، والى آخره .

والحاصل : إنّ العلماء لا يعملون بكلّ واحد واحد من هذه الأخبار المودعة في الكتب .

( وإن أريد : ثبوت الإتّفاق على العمل بها في الجملة ) أي : انّهم مجمعون على الرجوع الى الكتب المشهورة في الفروع الفقهية ونحوها ( على اختلاف العاملين في شروط العمل ) .

فإنّ بعضهم يشترط في العمل : الاحتفاف بالقرائن القطعيّة ، وبعضهم : يكتفي بالوثاقة ، وبعضهم : لا يكتفي بالوثاقة ، بل يعتمد على الصحّة ، بمعنى : أن يكون الراوي إماميا عدلاً ضابطا، وهكذا ( حتّى يجوز أن يكون المعمول به عند بعضهم، مطروحا عند الآخر ) كما هو المتعارف لديهم في الفقه عند عملهم بالأخبار ، فبعض يعمل بهذا الخبر ، وبعض يتركه ، وبعض يجعله مؤيدا ، والى غير ذلك .

( فهذا ) الإجماع بهذا المعنى ( لا ينفعنا إلاّ في في حجّيّة ما علم : إتفاق الفرقة على العمل به بالخصوص ) فإنّه هو الّذي يكون مجمع عليه بين الأصحاب ،

ص: 181

وليس يوجد ذلك في الأخبار إلاّ نادرا ، خصوصا مع ما نرى من رد بعض المشايخ ، كالصّدوق والشّيخ ، بعض الأخبار المرويّة في الكتب المعتبرة ، بضعف السّند ، أو بمخالفة الإجماع ، أو نحوهما .

وأما ثانيا ، فلان ما ذُكر من الإتفاق لا ينفع ، حتّى في الخبر الذي عُلم إتفاق الفرقة على قبوله والعمل به ،

-------------------

لا كلّ خبر خبر .

وعليه : فإنّ بين الأصحاب من حيث العمل بالأخبار ، عموم من وجه فبعض يعمل بهذا ، وبعض يعمل بذاك ، وكلّهم يجتمع في العمل ببعضها الآخر ( وليس يوجد ذلك ) أي : المجمع عليه ( في الأخبار إلاّ نادرا ، خصوصا مع ما نرى من ردّ بعض المشايخ : كالصّدوق ، والشّيخ ، بعض الأخبار المرويّة في الكتب المعتبرة ) فانّهم يردونها ( بضعف السّند ، أو بمخالفة الإجماع ، أو نحوهما ) كمخالفة المشهور ، أو انّه يوجب الغلو ، أو ما أشبه ذلك .

وحينئذ : يكون المجمع عليه من الأخبار نادرا ، ولعلّه أقل من ثلث الأخبار .

لكن لا يخفى ما في هذا الوجه ، إذ الكلّ يعملون بغالب الأحاديث المرويّة في هذه الكتب المعتبرة ، ولذا ترى إنّ المتَّفق عليه بين الكلّ - في غالب أصول المسائل - المستند الى الرّوايات كثير جدا .

( وأما ثانيا : فلان ما ذكر من الإتفاق لا ينفع ، حتّى في الخبر الّذي علم إتفاق الفرقة على قبوله والعمل به ) أي : إنّ الإجماع العملي لا ينفع حتّى في حجّيّة الخبر المجمع عليه ، إذ العمل لا يجوِّز عمل الغير ، مادام لم يَرَ ذلك الغير مستند العمل صحيحا ، فإذا عمل الكلّ ، أو عرف اختلاف وجه العمل ، ولم يَرَ هذا

ص: 182

لأنّ الشّرط في الإتفاق العملي أن يكون وجه عمل المجمعين معلوما .

ألا ترى أنّه لو اتّفق جماعة يعلم برضاء الإمام عليه السلام بعملهم على النظر الى امرأة ، لكن يعلم أو يحتمل أن يكون وجه نظرهم كونها زوجة لبعضهم ، وأمّا لآخر ، وبنتا لثالث ، وأم زوجة لرابع ، وبنت زوجة لخامس ، وهكذا ، فهل يجوز لغيرهم ممّن لا محرمية بينها وبينه أن ينظر إليها من جهة إتّفاق الجماعة ، الكاشف عن رضا

-------------------

الانسان صحّة أحد الوجوه ، لم يجز له العمل مستندا الى اجماعهم العملي على ذلك الخبر المختلف وجه عملهم به .

مثلا : إذا رأى زيد إجماع كلّ الفقهاء على إنّ قتل رجل جائز واختلفوا في وجهه ، فبعضهم لأنّه يراه مرتدا ، وبعضهم لأنّه يراه زانيا زنا محصنا ، وبعضهم لأنّه يراه منجِّس الكعبة عمدا ، فهل يجوز لزيد الّذي لا يرى صحّة شيء من هذه الوجوه ان يقتل الرجل الذي رأوه مهدور الدم ؟ .

وذلك ( لأنّ الشرط في ) كون ( الاتفاق العملي ) مثبتا بحجيّة الخبر ( أن يكون وجه عمل المجمعين معلوما ) كما إذا علمنا : انّهم أجمعوا على العمل بهذا الخبر لكونه خبر ثقة - مثلاً بالاضافة الى انّه يلزم أن نرى نحن أيضا : صحّة الاستناد الى الخبر الموثوق به .

( ألا ترى : انّه لو اتّفق جماعة - يعلم برضا الإمام عليه السلام بعملهم - على النّظر الى امرأة ، لكن يعلم أو يحتمل أن يكون وجه نظرهم : كونها زوجة لبعضهم ، وأما لآخر ، وبنتا لثالث ، وأم زوجة لرابع ، وبنت زوجة ) أي : ربيبة ( لخامس ) وعمّة لسادس ، وخالة لسابع ( وهكذا ، فهل يجوز لغيرهم ممّن لا محرمية بينها وبينه أن ينظر إليها من جهة إتفاق الجماعة ، الكاشف ) ذاك الإتفاق ( عن رضا

ص: 183

الإمام عليه السلام بل لو رأى شخص الإمام عليه السلام ينظر الى امرأة ، فهل يجوز لعاقل التأسي به ؟ . وليس هذا كلّه إلاّ من جهة أن الفعل لا دلالة فيه على الوجه الّذي يقع عليه ، فلابدّ في الإتّفاق العملي من العلم بالجهة والحيثيّة الّتي إتفق المجمعون على إيقاع الفعل من تلك الجهة والحيثيّة .

ومرجع هذا الى وجوب إحراز الموضوع في الحكم

-------------------

الإمام عليه السلام ؟ ) أي : رضاه بنظر أولئك المجمعين الى هذه المرأة ؟ .

( بل لو رأى شخص : الإمام عليه السلام ينظر الى امرأة ، فهل يجوز لعاقل التأسي به ؟ ) أي : في جواز النّظر إليها مع انّه لا يعلم وجه نظر الإمام ، هل هو لانّها محرم للجميع - مثلاً - أو لانّها محرم للامام عليه السلام فقط ؟ .

( وليس هذا كلّه ) أي : عدم جواز النظر الى المرأة ، سواء في الصّورة الأولى أو في الصّورة الثّانية ( إلاّ من جهة : إنّ الفعل لا دلالة فيه على الوجه الّذي يقع عليه ) فإنّ مجرّد نظر الجماعة مع رضا الإمام ، أو نظر الإمام عليه السلام مع انّه لا يخطأ ، ولا يسهو ، ولا ينسى قطعا ، لا يدلّ على انّه من جهة المحرمية للجميع ، حتّى يجوز النّظر إليها لهذا الانسان أيضا ، أو من جهة خاصّة ، حتّى لا يجوز إلاّ لمن توفّرت فيه تلك الجهة الخاصّة .

إذن ( فلابدّ في ) حجّيّة ( الإتفاق العملي من ) أمرين : أولا : ( العلم : بالجهة والحيثيّة الّتي إتّفق المجمعون على إيقاع الفعل من تلك الجهة والحيثيّة ) ، ثانيا : توفر تلك الجهة عند الآخرين .

فإذا لم يحصل أي من الأمرين ، أو لم يحصل كلاهما ، لم يجز للشخص الآخر الاستناد الى إتفاقهم في جواز ما رأوه جائزا .

( ومرجع هذا ) الشرط الذي ذكرناه ( الى وجوب إحراز الموضوع في الحكم

ص: 184

الشّرعي المستفاد من الفعل .

ففيما نحن فيه إذا علم بأنّ بعض المجمعين يعملون بخبر من حيث علمه بصدوره بالتواتر أو بالقرينة ، وبعضهم من حيث كونه ظانا بصدوره قاطعا بحجيّة هذا الظّنّ ، فإذا لم يحصل لنا العلم بصدوره ، ولا العلم بحجيّة الظّنّ الحاصل منه ، أو علمنا بخطأ من يعمل به لأجل مطلق الظّنّ ، أو احتملنا خطأه ، فلا يجوز لنا العمل بذلك الخبر تبعا للمجمعين .

-------------------

الشّرعي المستفاد من الفعل ) فإنّ الفعل لا دلالة فيه بذاته ، فلا يمكن الإقتداء به إلاّ بعد معرفة وجهه ، ومعرفة إنّ تلك الجهة منطبقة على هذا الانسان الّذي يريد الاقتداء بهم في ذلك الفعل .

( ففيما نحن فيه ) من الإجماع على العمل بالاخبار المودعة في الكتب المعتبرة ( إذا علم : بأنّ بعض المجمعين يعملون بخبر من حيث علمه بصدوره بالتواتر ، أو بالقرينة ) أو من حيث كونه موافقا للقرآن ، أو مخالفا للعامّة ، أو ما أشبه ذلك . ( وبعضهم من حيث كونه ظانا بصدوره ) و ( قاطعا بحجيّة هذا الظّنّ ) إمّا من باب انّه ظن خاصّ ، أو انّه ظنّ مطلق ، حيث يرى الانسداد ، فيعمل بالظنّ المطلق .

( فإذا لم يحصل لنا العلم بصدوره ، ولا العلم بحجيّة الظّنّ الحاصل منه ) أي : من الخبر ، لا ظنا خاصّا حيث لا نقول : بحجيّة الخبر ، ولا ظنا مطلقا ، حيث لا نقول بالانسداد .

( أو علمنا بخطأ من ) يقول : بالانسداد ، لأنا لا نرى تماميّة مقدمات الإنسداد ولا صحّة من ( يعمل به ) أي : بالخبر ( لاجل ) حجّيّة ( مطلق الظّنّ ) الانسدادي عنده ( أو احتملنا خطأه ) في عمله بالخبر ، لأجل مطلق الظّنّ ( فلا يجوز لنا العمل بذلك الخبر تبعا للمجمعين ) فكيف يكون مثل هذا الاجماع حجّة ؟ .

ص: 185

الرابع دليل العقل

وهو من وجوه ، بعضها مختص باثبات حجّيّة خبر الواحد ، وبعضها يثبت حجّيّة الظّنّ مطلقا أو في الجملة فيدخل فيه الخبر .

أما الأوّل فتقريره من وجوه

-------------------

لكن ربّما يقال : إنّ ما دلّ على حجّيّة الإجماع ، يكون لنا حجّة إلاّ إذا علمنا خطأه ، لا ما إذا احتملنا خطأه ، فعطف المصنّف الاحتمال على العلم بالخطأ ، ليس على ما ينبغي .

( الرابع ) من أدلّة حجّيّة خبر الواحد ( : دليل العقل ) فانّا قد ذكرنا : الكتاب ، والسُّنَّة ، والإجماع ، واستدللنا بها على حجّيّة خبر الواحد ، فلم يبق إلاّ دليل العقل.

( وهو من وجوه : بعضها مختص باثبات حجّيّة خبر الواحد ) بما هو خبر واحد .

( وبعضها : يثبت حجّيّة الظّنّ مطلقا ) من أي سبب حصل ، كما يقال في الانسداد بذلك .

( أو ) يثبت حجّيّة الظّنّ ( في الجملة ) كالظن الاطمئناني أو الظّنّ الذي يكون مبعثه الأخبار ، لا الظنون الّتي تحصل من أي سبب ، ولو من جريان الميزاب ، أو طيران الغراب ، أو القياس ، أو الاستحسان ، أو ما أشبه ذلك .

وعليه : ( فيدخل فيه ) أي : في مطلق الظّنّ ، أو الظّنّ في الجملة - على ما ذكرناه - ( الخبر ) لأنّه القدر المتيقن من الظّنّ ، سواء كان حجّة من أي سبب ، أو من بعض الأسباب الخاصّة .

( أما الأوّل : ) أي : الوجه العقلي الدّال على حجّيّة الخبر بما هو خبر ( فتقريره من وجوه ) حسب مايلي :

ص: 186

أوّلها : ما اعتمدته سابقا ، وهو أنّه لا شكّ للمتتبّع في أحوال الرّواة المذكورة في تراجمهم في كون أكثر الأخبار بل جلّها ، إلاّ ما شذّ وندر ، صادرة عن الأئمة عليهم السلام ، وهذا يظهر بعد التأمل في كيفية ورودها إلينا وكيفيّة إهتمام أرباب الكتب

-------------------

( أوّلها : ما اعتمدته سابقا ) وكنت أرى : انّه كافٍ لاثبات حجّيّة الخبر ، لكني عدلت عنه في الزّمن المتأخر ( وهو : ) إنّا نعلم إجمالا بصدور أكثر هذه الأخبار عن المعصومين عليهم السلام ومن الواضح : إنّ الأخبار الصّادرة عنهم ، يجب العمل بها فعلا في الواجبات ، وتركا في المحرّمات ، وحيث لا سبيل الى العلم بها تفصيلاً ، فلابدّ من العمل بكلّ خبر ظنّ بصدوره إن كان العمل بالكلّ متعسرا ، أو متعذرا ، والاّ فالازم العمل بالكلّ حسب العلم الاجمالي .

وبيان هذا الدليل هو : ( انّه لا شكّ للمتتبع في أحوال الرّواة ) ان يطمئن الى انّهم : أجلاء ، ثقاة معتمدون ، وجماعة منهم عدول ، فإنّ الملاحظ لهذه الأحوال ( المذكورة فى تراجمهم ) وتوضيح حالاتهم في كتب الرجال وغيرها ، لا يشكّ ( في كون أكثر الأخبار ، بل جلّها ، إلاّ ما شذّ وندر ، صادرة عن الائمة عليهم السلام ) .

فإنّ تنقيح الرّوايات ، وشدّة الاعتناء بها من العلماء الأجلاء ، متنا وسندا ، وجهة توجب هذا العلم ، خصوصا إنّه لم يكن للأئمة عليهم السلام مال ، أو سلطة ، أو سلاح ، ممّا تجمع غالبا طلاب الدّنيا وأصحاب الهوى .

( وهذا ) أي عدم الشّكّ في صدور أكثر الأخبار حتّى إنّ الخلاف نادر ( يظهر بعد التأمّل في ) حالات الرّواة و ( كيفية ورودها ) أي : ورود الأخبار ( إلينا ) كابرا عن كابر ، وعالما عن عالم ( وكيفيّة إهتمام أرباب الكتب ) المصنّفة في الحديث من زمان الرّسول صلى اللّه عليه و آله وسلم إلى زمان شيخ الطّائفة .

ص: 187

من المشايخ الثّلاثة ومن تقدّمهم ، في تنقيح ما أودعوه من كتبهم ، وعدم الإكتفاء بأخذ الرّواية من كتاب وإيداعها في تصانيفهم حذرا من كون ذلك مدسوسا فيه من بعض الكذّابين .

فقد حُكي عن أحمد بن محمّد بن عيسى إنّه : « جاء إلى الحسن بن الوشّاء وطلب منه أنّ يخرج إليه كتابا لعلاء بن رزين وكتابا لابان بن عثمان الاحمر ، فلمّا أخرجهما ، قال : أحبّ أنّ أسمعهما .

-------------------

والمقصود ( من ) أرباب الكتب هم ( المشايخ الثّلاثة ) الصّدوق ، والكليني ، والطّوسي ، أرباب الكتب الأربعة المشهورة ، وقد كانت الكتب في السّابق خمسة ، باضافة « مدينة العلم » للصّدوق ، لكن هذا الكتاب فقد منذ خمسمائة سنة - كما يقولون - ( ومن تقدّمهم ) أيضا من العلماء ، الّذين دوّنوا الأصول الأربعمائة ، وغيرها .

فإنّه يظهر بعد التأمّل في كيفيّة إهتمام هؤلاء العلماء ( في تنقيح ما أودعوه ) ودوّنوا ( في كتبهم ، و ) أصولهم ، من ( عدم الإكتفاء بأخذ الرّواية من كتاب وإيداعها في تصانيفهم ) ما لم يسمعوها من مؤلف الكتاب أو يقرأوها عليه .

ولذا كثرت فيهم الإجازة ، وقرائة الحديث عند الأستاذ ( حذرا من كون ذلك ) الخبر ( مدسوسا ) ومدخولاً ( فيه ) أي : في ضمن ذلك الكتاب ( من بعض الكذّابين ) والدسّاسين .

( فقد حُكي عن أحمد بن محمد بن عيسى أنّه ) أي : أحمد ( جاء إلى الحسن بن الوشّاء وطلب منه ) أي : من الحسن ( أنّ يخرج إليه كتابا لعلاء بن رزين ، وكتابا لابان بن عثمان الأحمر ، فلمّا أخرجهما ) الحسن إليه ( قال : ) أحمد : اقرأهما فإنّي ( أحبّ أن أسمعهما ) منك ، ليطمئن قلبي ، بأنّ هذه الرّوايات

ص: 188

قال : ما أعجلك إذهب ، فاكتبهما واسمع من بعده .

فقال له : لا آمن الحدثان .

فقال : لو علمت أنّ الحديث يكون له هذا الطّلب لاستكثرت منه ، فأنّي قد أدركت في هذا المسجد مائة شيخ، كلّ يقول : حدثني جعفر بن محمّد عليهماالسلام ».

-------------------

هي روايات الكتابين من غير زيادة أو نقيصة .

( قال ) الحسن : ( ما أعجلك ؟ ) أي : ما الّذي سبّب لك العجلة في القرائة الآن ؟ ( إذهب ، فاكتبهما ) واستنسخهما ( واسمع من بعده ) أي : من بعد أنّ تستنسخ الكتاب ، فإنّي أقرأهما عليك .

( فقال له ) الحسن : ( لا آمن الحدثان ) أي : أخاف أنّ أكتب ثمّ أموت ، ولا أوفّق للمقابلة والإستماع منك ، والحدثان عبارة عن الليل والنّهار ، فإنّ كلّ واحد منهما حدث جديد ويكون فيه أحداث جديدة .

( فقال ) الحسن : ( لو علمت انّ الحديث يكون له هذا ) الإقبال و ( الطّلب ، لاستكثرت منه ) أي : جمعت خبرا أكثر من هذا الّذي جمعت ( فإنّي قد أدركت في هذا المسجد مائة شيخ ، كلّ يقول : حدّثني جعفر بن محمّد عليهماالسلام ) (1) .

ولعلّ الأحاديث الّتي لم يجمعها ، كانت في باب المستحبّات ، والمكروهات ، والمباحات ، أو كانت مكرّرات مع الأحاديث الّتي جمعها ، أو كان في جمعها عسر وحرج ، والانسان مأمور بالجمع من الطرق المتعارفة ، وبالطرق المتعارفة ، كما هو كذلك بالنّسبة إلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، لا انّ على الانسان أن يطرق كلّ صباح باب النّاس ليسألهم عن أعمالهم ويعلّمهم الأحكام ، فكذلك

ص: 189


1- - رجال النجاشي : ص 28 .

وعن حمدويه ، عن أيوب بن نوح : « أنّه دُفع إليه دفترا فيه أحاديث محمّد بن سنان ، فقال : إن شئتم أنّ تكتبوا ذلك فافعلوا ، فانّيكتبت عن محمّد بن سنان ، ولكن لا أروي لكم عنه شيئا ، فإنّه قال قبل موته : كلّ ما حدثتكم به فليس بسماع ولا برواية ، وإنّما وجدته » .

-------------------

جمع الأحاديث ، فلا يستشكل عليه : بانّ عدم استكثاره من الحديث وهو في متناوله ، يوجب سقوط عدالته ، فلا يُؤبه بأخباره وأقواله .

( وعن حمدويه ، عن أيّوب بن نوح أنّه ) أي : نوح ( دفع إليه ) أي : إلى أيوب ولده ( دفترا فيه أحاديث محمّد بن سنان ، فقال ) نوح لابنه أيّوب ( : إن شئتم أنّ تكتبوا ذلك فافعلوا ) أي : إذا أحببتم أنّ تستنسخوا هذه الأحاديث في كتاب آخر لنفسكم فافعلوا ذلك ( فإنّي كتبت ) هذه الأحاديث سماعا ( عن محمّد بن سنان ، ولكن لا أروي لكم عنه ) أي : عن ابن سنان ( شيئا ) مما سمعت منه ، بمعنى : إنّه لا تذكروا في كتابكم : أنّه روى نوح عن ابن سنان عن الإمام عليه السلام الرّواية الفلانيّة ، بل اذكروا إنّا وجدناها في دفتر نوح .

ثم علّل ذلك بقوله : ( فإنّه ) أي : ابن سنان ( قال قبل موته : كلّما حدثتكم به فليس بسماع ) عن الإمام عليه السلام ( ولا برواية ) عمّن سمع من الإمام عليه السلام ( وإنّما وجدته ) (1) في الكتب فرويته ، ومعنى ذلك : إن ابن سنان حيث لم يسمع عن الإمام عليه السلام ، ولم يسمع عمّن سمع عن الإمام ، إحتاط في الأمر وذكر أن مصدر أخباره الوجادة لا الرّواية ، وهو مثلما إذا رأى أحدنا كتاب الكافي حيث لم يسمع الرّوايات عن الكليني ولا عن الإمام عليه السلام .

ص: 190


1- - رجال الكشي : 507 .

فانظر كيف احتاطوا في الرّواية عمّن لم يَسمع من الثّقاة وانّما وَجَدَ في الكتب ، وكفاك شاهدا أنّ عليّ بن فضّال لم يَرو كُتب أبيه الحسن عنه مع مقابلتها عليه ، وانّما يرويها عن أخويه أحمد ومحمّد عن أبيه .

واعتذر عن ذلك بأنّه يوم مقابلته الحديث مع أبيه ، كان صغير السّنّ ، ليس له كثير معرفة بالرّوايات ، فقرأها على أخويه ثانيا .

-------------------

( فانظر كيف احتاطوا في الرّواية عمّن لم يسمع ) كما إحتاط نوح في الرّواية عن ابن سنان الّذي لم يكن يسمع ما نقله لنوح عن الإمام ، ولا عمّن روى عن الإمام ( من الثقاة وانّما وجد ) ابن سنان مانقله لنوح ( في الكتب ، وكفاك شاهدا ) في ذلك على شدّة احتياطهم في الرّواية .

وممّا يدلّ على وثاقة رواياتنا ( أن عليّ بن فضّال ، لم يَرو كتب أبيه الحسن عنه ) أي : عن أبيه فإنّه لم يقل : روى أبي كذا ( مع مقابلتها عليه ) أي : والحال إنّه قرء كتب أبيه عند أبيه ( وانّما يرويها ) أي : تلك الكتب ( عن أخويه : أحمد ومحمّد عن أبيه ) فيقول : روى أخي أحمد ، عن أبي هذه الرّواية .

( و ) لما قيل له : لم لا تروي عن أبيك مع إنّك قابلت الكتب على أبيك ؟ .

( اعتذر عن ذلك : بأنّه يوم مقابلته الحديث مع أبيه ، كان صغير السّنّ ، ليس له كثير معرفة بالرّوايات ، فقرأها ) أي : قرء تلك الكتب ( على أخويه ثانيا ) (1) ولهذا يرويها عنهما لا عن أبيه .

بل إن بعضهم ترك الرّواية عن راوٍ لانّه رآه ، قد غرّ حمارهُ في قصة مشهورة .

ص: 191


1- - رجال النجاشي : ص 181 .

والحاصل : إنّ الظّاهر انحصارُ مدارِهم على إيداع ما سَمعوه من صاحب الكتاب ، أو ممّن سمعه منه ، فلم يكونوا يودعون إلاّ ما سمعوا ولو بوسائط من صاحب الكتاب ، ولو كان معلوم الإنتساب مع إطمئنانهم بالوسائط وشدّة وثوقهم بهم ، حتى انّهم ربّما كانوا يتّبعونهم في تصحيح الحديث وردّه ، كما اتّفق للصّدوق بالنّسبة إلى شيخه ابن الوليد .

وربّما كانوا لا يثقون بمن يوجد فيه قدحٌ بعيدُ المدخليّة في الصّدق .

ولذا حُكي عن جماعة منهم التّحرز عن الرّواية

-------------------

( والحاصل : إنّ الظّاهر انحصار مدارهم ) وقاعدتهم في نقل الأحاديث ( على إيداع ما سمعوه من صاحب الكتاب ، أو ممّن سمعه منه ) في كتبهم ( فلم يكونوا يودعون إلاّ ما سمعوا ولو بوسائط ) سماعا ( من صاحب الكتاب ، ولو كان ) الكتاب ( معلوم الإنتساب ) إلى مؤلّفه ( مع إطمئنانهم بالوسائط وشدّة وثوقهم بهم ) فإنّهم ولو كانوا مطمئنين واثقين بالكتاب وبمؤلفه ، لم يكونوا يودعون رواياته ، ما لم يسمعوا منه أو عن الواسطة الّتي سمع عن صاحب الكتاب .

( حتى إنّهم ) أي : الرّواة ( ربما كانوا يتّبعونهم ) أي : يتّبعون الوسائط ( في تصحيح الحديث وردّه ) فإن صحّح الرّاوي الحديث ، رووه عنه وعملوا به ، وإلاّ تركوه ( كما اتّفق للصّدوق بالنّسبة إلى شيخه ابن الوليد ) فإنّه قال : ما صحّحه شيخي فهو صحيح ، وما ردّه فهو مردود - على ما تقّدم نصّ لفظه - .

( وربّما كانوا ) أي : الرّواة ( لا يثقون بمن يوجد فيه قدح ) أي : عيب ( بعيد المدخليّة في الصّدق ) فإنّ ذلك العيب ، وإن لم يكن ضارا بالصّدق ، لكنّهم كانوا يتركون خبر المعيب لمكان ذلك العيب .

( ولذا حكي عن جماعة منهم ) أي : من الرّواة ( التّحرز عن الرّواية ) أي : إنّهم:

ص: 192

عمّن يروي عن الضّعفاء ، ويعتمد المراسيل ، وان كان ثقة في نفسه ، كما اتفق بالنّسبة إلى البرقي .

بل يتحرّزون عن الرّواية عمّن يعمل بالقياس ، مع أنّ عمله لا دخل له بروايته ، كما اتّفق بالنّسبة إلى الإسكافي ، حيث ذكر في ترجمته إنّه كان يرى القياس ، فتُرك رواياته لاجل ذلك ، وكانوا يتوقّفون في روايات من كان على الحقّ فعدل عنه ، وإن كانت كتبه ورواياته حال الاستقامة ،

-------------------

لا يروون ( عمّن يروي عن الضّعفاء ، ويعتمد المراسيل ، وإن كان ثقة في نفسه ) فكانوا لا يعتمدن بما يرويه عن الثّقاة ، بسبب إنّه قد يروي عن الضّعفاء ويعتمد المراسيل ، مع وضوح : إن الرّواية عن الضّعفاء واعتماد المراسيل لا يوجب كون الرّاوي كاذبا لا يعتنى برواياته حتّى فيما يرويه عن الثّقاة ، لكنهم تورّعا ما كانوا

يروون عن مثله ( كما اتّفق بالنّسبة إلى البرقي ) فإنّ البرقي وإن كان من الأجلّة ، لكنّه حيث كان يعتمد المراسيل ويروي عن الضّعفاء تركوا رواياته ، بل بعض أعاظم قم أخرجه منها لهذه الجهة .

( بل يتحرّزون عن الرّواية عمّن يعمل بالقياس ، مع إن عمله ) بالقياس ( لا دخل له بروايته ، كما اتّفق بالنّسبة إلى الإسكافي ) : ابن الجنيد ، فقد كان من العامّة ، ثمّ صار من فقهاء الشّيعة ، لكنّه حيث بقي على اعتقاده بالقياس لم يروِ القوم عنه ، مع ما كان عليه من كمال الوثاقة ( حيث ذكر في ترجمته ) في كتب الرّجال ( إنّه كان يرى القياس ، فتُرك رواياته لاجل ذلك ) الّذي كان يعتقده من القياس .

( وكانوا يتوقّفون في روايات من كان على الحقّ ، فعدل عنه ) إلى مذهب فاسد في أصول الدّين ( وإن كانت كتبه ورواياته ) قد كتبها ورواها ( حال الاستقامة ،

ص: 193

حتى أذن لهم الإمام عليه السلام ، أو نائبه ، كما سألوا العسكري عليه السلام عن كتب بني فضّال ، وقالوا إن بيوتنا منها مِلاء ، فأذن لهم عليه السلام .

وسألوا الشّيخ أبي القاسم بن روح عن كتب ابن عذاقر الّتي صنّفها قبل الإرتداد عن مذهب الشّيعة ، حتّى أذن لهم الشّيخ في العمل بها .

-------------------

حتّى أذن لهم الإمام عليه السلام أو نائبه ) في الأخذ برواياته ( كما سألوا العسكري عليه السلام عن كتب بني فضّال وقالوا : إن بيوتنا منها ملاء ، فأذن لهم عليه السلام ) أنّ يأخذوا بها .

هذا بالنّسبة إلى إذن الإمام عليه السلام في الأخذ بكتب بني فضّال ، حيث إن بني فضّال كانوا مستقيمين ثمّ انحرفوا في العقيدة .

( وسألوا الشّيخ أبي القاسم بن روح عن كتب ابن عذاقر ) محمّد بن عليّ الشلمغاني ( الّتي صنفها قبل الإرتداد عن مذهب الشّيعة ) ، حيث كان أول أمره من فقهاء الشّيعة وألف بعض الكتب ، ثمّ انحرف عن هذا المذهب ( حتّى أذن لهم الشّيخ في العمل بها ) .

وفي الرّجال : إن الشّلمغاني كان متقدّما في أصحابنا ، فحمله الحسد لأبي القاسم الحسين بن روح على ترك المذهب ، والدخول في المذاهب الرّديئة ، حتّى خرجت فيه توقيعات (1) ، وأخذه السّلطان وقتله وصلبه ببغداد ، وله من الكتب الّتي صنّفها في حال الإستقامة : « كتاب التّكليف » رواه المفيد إلاّ حديثا منه في باب الشّهادات، وهو إنّه يجوز للرجل إن يشهد لاخيه - إذا كان له شاهد واحد - من غير علم الشّاهد ، وانّما يعتمد على أيمان المشهود له في اقامة الشّهادة له .

لا يقال : فكيف عملوا بروايات الفطحيين ، والكيسانيين ، والواقفيّة ، ومن

ص: 194


1- - للمزيد راجع كتاب كلمة الامام المهدي عليه السلام للشهيد آية اللّه السيد حسن الشيرازي قدس سره .

والحاصل : أنّ الأمارات الكاشفة عن إهتمام أصحابنا في تنقيح الأخبار ، في الأزمنة المتأخّرة عن زمان الرّضا عليه السلام ، أكثر من أن يحصى ، ويظهر للمتتبّع .

والدّاعي إلى شدّة الإهتمام - مضافا إلى كون تلك الرّوايات أساس الدّين وبها قوام شريعة سيد المرسلين صلى اللّه عليه و آله وسلم ، ولذا قال الإمام عليه السلام ، في شأن جماعة من الرّواة : « لولا هؤلاء لاندرست

-------------------

إليهم من المنحرفين ؟ .

لأنّه يقال أوّلاً : كان العمل بروايات أولئك من جهة إن الأئمّة عليهم السلام أجازوا للاخذ برواياتهم ، كما أجازوا الأخذ بروايات بني الفضّال .

ثانيا : إن العمل كان حيث كانوا يقطعون بعدم تدخل إنحرافهم في رواياتهم ، بخلاف أمثال الشّلمغاني حيث لم يطمئنوا بوثاقتهم بعد ظهور الإنحراف منهم ولم يقطعوا بعده بعدم تدخّل إنحرافهم في رواياتهم .

( والحاصل : إن الأمارات الكاشفة عن إهتمام أصحابنا في تنقيح الأخبار ، في الأزمنة المتأخرة عن زمن الرّضا عليه السلام ، أكثر من أن يحصى ، ويظهر للمتتبّع ) في كتب الدّراية والرّجال ذلك بوضوح .

( والدّاعي إلى شدّة الإهتمام ) من قبل أصحابنا بالرّوايات سندا ، ودلالة ، ومضمونا ، أمور ثلاثة :

الأوّل : ما أشار إليه بقوله : ( مضافا إلى كون تلك الرّوايات أساس الدّين وبها قِوام شريعة سيد المرسلين صلى اللّه عليه و آله وسلم ) في الفروع ، وجزئيّات الأصول ، مثل أحوال الجنّة والنّار ، والقبر والقيامة ، وما أشبه ذلك ( ولذا ) أي : لكونها أساسا للدّين ، وقواما للشّريعة ( قال الإمام عليه السلام ، في شأن جماعة من الرّواة لولا هؤلاء لاندرست

ص: 195

آثار النبوّة » ، وإنّ النّاس لا يرضون بنقل مالا يوثق به في كتبهم المؤلفة في التّواريخ الّتي لا يترتّب على وقوع الكذب فيها أثر ديني ، بل ولا دنيوي ، فكيف في كتبهم المؤلفة ، لرجوع من يأتي إليها في أمور الدّين ، على ما أخبرهم الإمام عليه السلام ، بأنّه يأتي على النّاس زمان هرج لا يأنسون إلاّ بكتبهم ،

-------------------

آثار النبوّة ) وانمحت من الوجود معالمها .

الثاني : ما أشار إليه بقوله : ( و ) مضافا إلى ( انّ النّاس ) أي : عامّة النّاس من المؤرّخين ومن أشبههم ( لا يرضون بنقل مالا يوثق به في كتبهم المؤلفة في التّواريخ ) عن عاد ، وشدّاد ، ونمرود ، وفرعون ، ومن أشبههم ، وغير ذلك من المطالب التاريخيّة ( الّتي ) لا تحتاج إلى هذه الدّقّة لانّه ( لا يترتب على وقوع الكذب فيها أثر ) أي : فساد ( ديني ، بل ولا دنيوي ) .

فانّ الانسان إذا اشتبه - مثلاً - في إن نمرود كان في أي : قرن ، أو أنّ شدّاد بَنَا جنَّتَه أو لم يبنها لم يكن له أثر في دينه ودنياه .

( فكيف ) لا يهتمّ المحدّثون والفقهاء ( في كتبهم المؤلفة ، لرجوع ) كلّ ( من يأتي ) من بعدهم إلى يوم القيامة ( إليها ) أي إلى تلك الكتب ( في أمور الدّين ؟ ) .

والشّاهد ( على ) انّهم كتبوا الكتب لأجل إستفادة النّاس منها في أمور دينهم ودنياهم ( ما أخبرهم الإمام عليه السلام : بأنّه يأتي على النّاس زمان هرج ) يكثر فيه الفتن والإضطرابات ويقلّ فيه الصّدق والأمانة ، فلا يتمكّن النّاس من الخروج عن دورهم ، ولا يوثق بكلّ أحد لاجل أخذ الأحكام ، ولذا ( لا يأنسون إلاّ بكتبهم ) (1) المدوّنة في الحديث والأخبار ، فيستفيدون منها ويأنسون بها .

ص: 196


1- - الكافي اصول : ج1 ص52 ح11 ، وسائل الشيعة : ج27 ص81 ب8 ح33263 .

وعلى ما ذكره الكليني قدس سره ، في ديباجة الكافي من كون كتابه مرجعا لجميع

من يأتي بعد ذلك ما تنبّهوا له ونبّههم عليه الأئمّة عليهم السلام من أنّ الكذّابة كانوا يدسّون الأخبار المكذوبة في كتب أصحاب الأئمّة عليهم السلام ، كما يظهر من الرّوايات الكثيرة .

منها : أنّه عرض يونس بن عبد الرّحمن على سيدنا أبي الحسن الرّضا عليه السلام ، كتب جماعة من أصحاب الباقر والصّادق عليهم السلام ، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد اللّه عليه السلام .

وقال عليه السلام : « إن أبا الخطّاب

-------------------

( و ) يشهد ( على ) ذلك أيضا ( ما ذكره الكليني قدس سره في ديباجة الكافي : من ) انّ مقصوده في تأليفه الكتاب ( كون كتابه مرجعا لجميع من يأتي بعد ذلك ).

الثّالث : ما أشار إليه بقوله : ( ما تنبّهوا له ) وهذا خبر بقوله : «والدّاعي» وقول المصنّف « مضافا » « ومضافا » كانا جوابين آخرين ، فانّ داعي النّاس إلى الإهتمام بالأخبار ما التفتوا إليه ( ونبّههم عليه الأئمّة عليهم السلام : من إن الكذّابة كانوا يدسّون الأخبار المكذوبة في كتب أصحاب الأئمّة عليهم السلام ، كما يظهر من الرّوايات الكثيرة ) ذلك .

( منها : أنّه عرض يونس بن عبد الرّحمان على سيدنا أبي الحسن الرّضا عليه السلام كتب جماعة من أصحاب الباقر والصّادق عليهماالسلام ، فانكر منها أحاديث كثيرة ) أي : لم يقبلها وأنكرها ( أن تكون من أحاديث أبي عبد اللّه عليه السلام ، وقال عليه السلام : إن أبا الخطّاب ) وكان من الرّواة ، ثمّ اعتقد إن الصّادق عليه السلام نبيّ يوحى إليه ، وانّه أي : أبا الخطّاب ، هو رسول هذا النّبيّ إلى النّاس .

ص: 197

كذّب على أبي عبد اللّه عليه السلام ، وكذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسون الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد اللّه عليه السلام.

ومنها : ما عن هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : « كان المغيرة بن سعد ، لعنه اللّه ، يتعمّد الكذب على أبي ويأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه المتستّرون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها

-------------------

وأبو الخطّاب هذا قد ( كذّب على أبي عبد اللّه عليه السلام ، وكذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسّون الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد اللّه عليه السلام ) (1) .

لكن لا يخفى : إن الدّسّ الّذي كشف عنه الإمام وأزاحه ؛ أمر شاذّ لا يقدر عليه كلّ أحد ولا يتّفق في كلّ عصر وزمان ، إذ كيف يمكن الدّسّ إلاّ إذا كان الكتاب مضطربا في كيفيّة خطوطه وصفحاته ، أو كان الّذي يدّسّ متقنا ومتفننا جدا ، حتّى يتمكّن أن يكتب مثل خطّ الكاتب ، وكلاهما أمر شاذّ كما هو واضح .

( ومنها : ما عن هشام بن الحكم : أنّه سمع أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : كان المغيرة بن سعد لعنه اللّه يتعمّد الكذب على أبي ) أي : على الإمام الباقر عليه السلام ( و ) كان ( يأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه ) أي : أصحاب المغيرة (المتستّرون بأصحاب أبي ) حيث انّهم لم يكونوا من الأصحاب حقيقة وانّما كانوا يظهرون ذلك تجسّسا ودسّا ، كما هي عادة الجواسيس إلى يومنا هذا ، فيظنّ النّاس بهم خيرا ، والحال انّهم في الواقع مندسون ، و ( يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها ) أي :

ص: 198


1- - رجال الكشّي : ص 224 ، تحف العقول : ص307 .

الى المغيرة ، لعنه اللّه ، فكان يدسّ فيها الكفر والزّندقة ويسندها إلى أبي ، الحديث .

ورواية الفيض بن المختار المتقدّمة في ذيل كلام الشّيخ ،

-------------------

تلك الكتب ( إلى المغيرة لعنه اللّه ، فكان يدسّ فيها ) ، عقائد وأباطيل أهل ( الكفر والزّندقة ) .

أصل « الزّندقة » - مشتق من كتاب المجوس الّذي يسمى : « زند وبازند » - وهي كلمة معرَّبة تقال لأتباع المجوسيّة ، ثمّ قيل لكلّ من كان يقول الكفريّات أو يسلك ذلك السّلوك .

ولا يخفى : إنّه يلزم التحقيق حول كلّ من رمي في التّاريخ - بالزّندقة ، لانّ عادة الحكّام ومن أشبههم اتّهام النّاس ، لأجل إنزال العقاب بهم ، وتنفير النّاس منهم ، وكثير ممّن أتّهمهم حكام بني أميّة ، وبني العبّاس ، وبني عثمان ، ومن إليهم بالزّندقة ، بريئون من هذا الإتّهام ، ألم يرم يزيد الإمام الحسين « عليه السلام » : بأنّه خارجي ؟ ورمى هارون العبّاسي الامام موسى بن جعفر عليه السلام بأنّه يريد شقّ عصى المسلمين ، والى غير ذلك من الاتّهامات الكاذبة ؟ . ( و ) كان المغيرة ( يسندها ) أي : تلك المجعولات الّتي يدسّها في الكتب ( إلى أبي ) أي إلى الإمام الباقر عليه السلام ، الى آخر ( الحديث ) ، وفي بعض النسخ : يسندها إليه ، يعني : إلى الإمام الصادق عليه السلام ، لا إلى الإمام الباقر عليه السلام .

وفي بعض الكتب : يدفعها إلى أصحابه ، ثمّ يأمرهم أن ينشروها في الشّيعة ، فكلّما كان في كتب أصحاب أبي من الغلوّ ، فذلك ما دسّه المغيرة بن سعيد .

( و ) منها : ( رواية الفيض بن المختار ، المتقدّمة في ذيل كلام الشّيخ ) حيث

ص: 199

الى غير ذلك من الرّوايات . وظهر ممّا ذكرنا أنّ ما علم إجمالاً من الأخبار الكثيرة من وجود الكذّابين ، ووضع الأحاديث ، فهو انّما كان قبل زمان مقابلة الحديث وتدوين الحديث والرّجال بين أصحاب الأئمّة عليهم السلام ،

-------------------

قال عليه السلام : « إن النّاس قد أولعوا بالكذب علينا » (1) إلى آخر الحديث ، وقد ذكرنا هناك : إنّ الكذّابين منذ زمن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم كانوا يكذّبون على الرّسول كما كانوا يكذّبون على الأئمّة عليهم السلام لأمور : أولاً : لتمشية أمورهم ، ثانيا : لتشويه معالم الدّين ، ثالثا : للتشويش على الرّسول والأئمّة الطّاهرين عليهم السلام .

( إلى غير ذلك من الرّوايات ) في هذا المجال الداعية لشدّة الإهتمام بالأخبار .

لا يقال : فكيف ادّعى المصنّف - مع وجود هذه الرّوايات - : العلم الإجمالي بصدور أكثر هذه الأخبار ، بل جلّها إلاّ ما شذّ - كما تقدّم في كلامه - ؟ .

لانّه يقال : ( وظهر ممّا ذكرنا : إن ما علم إجمالاً من الأخبار الكثيرة ) المماثلة للثّلاثة الّتي ذكرناها ( من وجود الكذّابين ، و ) ما علم إجمالاً من : ( وضع الأحاديث ) المكذوبة على المعصومين عليهم السلام في الأصول والفروع ( فهو انّما كان قبل زمان مقابلة الحديث ، وتدوين الحديث ) حيث قد اشتد الإهتمام بهما في زمان الإمام الرّضا عليه السلام وإن كان قبله - أيضا - يدوّن الحديث ويقابل .

( و ) كذلك كان ما علم إجمالاً من الدّسّ والوضع وجودا قبل زمان تدوين علم ( الرجال بين أصحاب الأئمّة عليهم السلام ) ، امّا بعدها فلا .

وبذلك يندفع إشكال من يقول : بأنّا كما نعلم إجمالاً بصدور أكثر هذه الأخبار - الّتي بأيدينا - عن الأئمّة عليه السلام ، كذلك نعلم بأنّ جملة منها موضوعة ومدسوسة

ص: 200


1- - رجال الكشّي : ص136 ، بحار الانوار : ج2 ص246 ب29 ح58 بالمعنى .

مع أنّ العلم بوجود الأخبار المكذوبة إنّما ينافي دعوى القطع بصدور الكلّ الّتي تنسب إلى بعض الأخباريين أو دعوى الظّنّ بصدور جميعها ، ولا ينافي ذلك ما نحن بصدده ، من دعوى العلم الاجمالي بصدور أكثرها أو كثير منها ، بل هذه دعوى بديهيّة .

والمقصود ممّا ذكرنا :

-------------------

في كتب أصحابنا ، وحينئذٍ : يدور الأمر بين الواجب والحرام ، لانّ الأخذ بالخبر المدسوس حرام ، والأخذ بالخبر الوارد واجب .

والجواب أوّلاً : ما ذكرنا : من إن الأصول قد نُقحت وانتُخبت بالتّدوين والمقابلة وعلم الرّجال والأخبار الموضوعة - على فرض وجودها - في كتب الأصحاب اليوم فهي نادرة ندرة كبيرة ، حتّى إن الشّبهة من قبيل الشّبهة غير المحصورة ، فلا يكون الأمر من الدوران بين الواجب والحرام ، وانّما يجب الأخذ بكلّ الأخبار إلاّ ما علم استثناؤه .

ثانيا ( مع إنّ العلم ) الاجمالي ( بوجود الأخبار المكذوبة إنّما ينافي دعوى القطع بصدور الكلّ ) وهذا ما لا ندّعيه نحن ، وإنّما هذه دعوى هي ( الّتي تُنسب إلى بعض الأخباريين ) فقط .

( أو ) ينافي ( دعوى الظّنّ بصدور جميعها ، و ) لكن ( لا ينافي ذلك ) أي : وجود الأخبار المدسوسة والمكذوبة ( ما نحن بصدده من دعوى : العلم الاجمالي بصدور أكثرها ، أو كثير منها ) إلاّ ما شذّ .

( بل هذه ) الدعوى بصدور أكثر الأخبار عنهم عليهم السلام ( دعوى بديهيّة ) لا تحتاج إلى برهان ، لأنّ كلّ من له مزاولة بالأخبار يعرف ذلك بالوجدان .

( والمقصود ممّا ذكرنا : ) من شدّة إهتمام الرّواة في نقل الحديث وإحتياطهم

ص: 201

دفع ما ربّما يكابره المتعسّف الخالي عن التّتبّع من منع هذا العلم الاجمالي ؛ إنّما هو متعلّق بالأخبار المخالفة للأصل المجرّدة عن القرينة ،

-------------------

في الأخذ من مشايخهم الثّقاة ، هو ( دفع ما ربّما يكابره المتعسّف الخالي عن التّتبّع ) والمكابرة : إدّعاء شيء بلا دليل ، والتّعسّف : هو قول الباطل ( من منع هذا العلم الاجمالي ) بصدور الأكثر أو الجلّ .

وحيث أثبت المصنّف العلم الاجمالي بوجود كثير من الأخبار الصّادرة عنهم عليهم السلام في ضمن الأخبار المنقولة في الكتب الأربعة وغيرها ، شرع في بيان أمر آخر مرتبط بالدّليل العقلي المثبت لحجيّة خبر الواحد بقوله : ثم إنّ هذا العلم الاجمالي ( إنّما هو متعلق بالأخبار المخالفة للأصل المجرّدة عن القرينة ) فإنّ هناك ثلاثة أقسام من الأخبار :

الأوّل : ما يوافق الأصل ، مثل : خبر يدل على جواز شرب التّتن ، حيث إنّ الأصل هو البرائة عن الحرمة أيضا ، فالأصل يدّل على ذلك من غير حاجة إلى الخبر الموافق للأصل .

الثّاني : الأخبار المخالفة للأصل ، لكنها محفوفة بالقرائن الموجبة للعلم ، مثل : الخبر الدّال على وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، حيث إنّ الأصل عدم الوجوب ، لكنّ الخبر المحفوف بالقرينة ورد على خلاف الأصل ، وهذا القسم أيضا لا تحتاج فيه إلى الخبر لوجود القرينة - فرضا - .

الثّالث : الأخبار الّتي لا توافق الأصل ، ولا فيها قرينة ، مثل : الخبر الدّال على وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، حيث لا قرينة قطعيّة فيها ، ولا يوافق الأصل .

والكلام في الدّليل العقلي - وهو العلم الاجمالي - الموجب للعمل بالخبر الواحد هو في القسم الثّالث فقط ، إذ القسمان الأوّلان لا حاجة إلى العلم الاجمالي

ص: 202

وإلاّ فالعلم بوجود مطلق الصّادر لا ينفع .

فإذا ثبت العلم الاجمالي بوجود الأخبار الصّادرة ، فيجب بحكم العقل العمل بكلّ خبر مظنون الصّدور ، لأنّ تحصيل الواقع الّذي يجب العمل به إذا لم يكن على وجه العلم تعين المصير إلى الظّنّ في تعيينه ، توصلاً إلى العمل بالأخبار الصّادرة .

-------------------

في وجوب العمل بها ، بهما عرفت من أنّ القسم الأوّل يلزم العمل به للأصل ولو لم يكن خبر ، والقسم الثّاني يلزم العمل به للقرينة ولو لم يكن خبر .

( وإلاّ ) أي : إنّ لم يكن الكلام في الأخبار المخالفة للأصل المجرّدة عن القرينة ( فالعلم بوجود مطلق ) الخبر ( الصّادر ) ولو في الصنفين الأوّلين ( لا ينفع ) لما ذكرناه ، وحينئذٍ : ( فإذا ثبت العلم الاجمالي بوجود الأخبار الصّادرة ) من القسم الثّالث ( فيجب بحكم العقل : العمل بكلّ خبر مظنون الصّدور ) لا مشكوك الصّدور ، أو موهم الصّدور .

وذلك ( لأنّ تحصيل الواقع ) من الأخبار الصّادرة عنهم عليهم السلام حسب علمنا بصدور أخبار كثيرة إجمالاً ( الّذي يجب العمل به ، إذا لم يكن على وجه العلم ) التفصيلي - لأنّ الفرض إنّا لا نعلم تفصيلاً كلّ خبر خبر صادر عنهم عليهم السلام ، وإنّما نعلم بذلك إجمالاً - ( تعين المصير إلى الظّنّ في تعيينه ) أي : في تعيين الواقع ( توصلاً إلى العمل بالأخبار الصّادرة ) .

فإنّ الأخبار الصّادرة حيث لا يعلمها الانسان علما تفصيليّا قام الظّنّ بالواقع مقامه ، كما هو بناء العقلاء من انّه كلّما تعذر العلم على شيء أقاموا الظّنّ مقامه ، فإنّ من يريد السّفر - مثلاً - إلى ناحية وهو مضطر إلى هذا السّفر ، ولا يعلم علما تفصيليا إنّ الطّريق من الجنوب أو الشّمال ، أو الشّرق ، أو الغرب ، فإنّ العقلاء

ص: 203

بل ربّما يُدعى وجوب العمل بكلّ واحد منها مع عدم المعارض والعمل بمظنون الصدور ، أو بمظنون المطابقة للواقع من المتعارضين .

والجواب عنه : أولا : إنّ وجوب العمل بالأخبار الصّادرة إنّما هو لاجل وجوب إمتثال أحكام اللّه الواقعيّة ، المدلول عليها بتلك الأخبار ، فالعمل بالخبر الصّادر

-------------------

يلزمونه بالعمل بظنّه .

( بل ربّما يُدّعى وجوب العمل بكلّ واحد منها ) أي : من الأخبار ولو بدون وجود الظّنّ بمطابقة كلّ منها للواقع للعلم الاجمالي ، فإنّ اللاّزم بدليل الإشتغال العمل بكلّ الأطراف المحتملة ، سواء كان مظنونا أو مشكوكا أو موهوما ( مع عدم المعارض ) لذلك الخبر الّذي هو مظنون أو مشكوك أو موهوم .

( و ) مع وجود المعارض يجب ( العمل بمظنون الصّدور ، أو بمظنون المطابقة للواقع من المتعارضين ) .

مثلاً : إذا كان هناك خبران متعارضان ، أحدهما يدلّ على وجوب الجمعة ، والآخر يدلّ على حرمة الجمعة ، ولا نعلم أيّهما الصّادر عن الإمام عليه السلام ؟ عملنا بمنطوق الصدوق بحسب المرجحات الّتي أوجبت لنا الظّنّ ، ولو فرض انّ كليهما متساويان فلا ظنّ بمطابقة أحدهما للواقع ، أخذنا بالمرجح من مخالفة العامّة - مثلاً - أو موافقة محتملات القرآن الحكيم ، أو نحو ذلك .

( والجواب عنه ) أي : عن هذا التقرير للدّليل العقلي ، الدّال على وجوب العمل بالخبر الواحد تمسّكا بالعلم الاجمالي بما يلي :

( أوّلاً : إنّ وجوب العمل بالأخبار الصّادرة ، إنّما هو لأجل وجوب إمتثال أحكام اللّه الواقعيّة ، المدلول عليها بتلك الأخبار ، فالعمل بالخبر الصّادر

ص: 204

عن الإمام عليه السلام ، إنّما يجب من حيث كشفه عن حكم اللّه الواقعي ، وحينئذٍ نقول : انّ العلم الاجمالي ليس مختصّا بهذه الأخبار ، بل نعلم إجمالاً بصدور أحكام كثيرة عن الأئمّة عليهم السلام ، لوجود تكاليف كثيرة ، وحينئذٍ ، فاللاّزم ، أوّلاً : الاحتياط ومع تعذّره أو تعسّره

-------------------

عن الإمام عليه السلام ، إنّما يجب من حيث كشفه عن حكم اللّه الواقعي ) أي : انّه إنّما يجب العمل بالأخبار الصّادرة لا لانها أخبار ، بل لانّها أحكام اللّه الواقعيّة ، ونحن مأمورون بإمتثال أحكام اللّه الواقعيّة .

( وحينئذٍ ) أي : إذا كان الواجب في الحقيقة : إمتثال الأحكام الصّادرة عنهم المطابقة للواقع ، بما انّها أحكام اللّه الواقعيّة لا بما انّها أخبار ( نقول : انّ العلم الاجمالي ليس مختصا بهذه الأخبار ) حتّى يكون الدّليل العقلي على وجوب العمل بهذه الأخبار فقط ، وذلك لأنّ أحكام اللّه الّتي نعلم إجمالاً بصدورها عنهم عليهم السلام ويجب إمتثالها ، ليس مختصة بمضامين الأخبار الّتي بأيدينا ، ( بل نعلم إجمالاً بصدور أحكام كثيرة عن الأئمّة عليهم السلام ) بعضها موجود في هذه الكتب المعتبرة وبعضها لم يصل إلينا ( لوجود تكاليف كثيرة ) في الواقع ومتن الأمر .

( وحينئذٍ ، ف- ) ليس الواجب هو العمل بهذه الأخبار فقط ، بل ( اللاّزم أوّلاً : الاحتياط ) التّامّ ، بأن نعمل بكلّ شيء نحتمله حكما واقعيّا ، سواء كان في خبر ، أو بشهرة ، أو إجماع منقول ، أو إستحسان ، أو ما أشبه ذلك ، وسواء كان الخبر مظنونا ، أو موهوما ، أو مشكوكا ، فدليلكم العقلي لم يدلّ على الأخذ بالأخبار الواردة ، بل يقتضي الأوسع من ذلك .

ثانيا : ( ومع تعذره ) أي : تعذر الاحتياط التّامّ .

( أو تعسره ) لأنّ الاحتياط إذا كان متعذرا ، فالعمل به غير معقول ، وإذا كان

ص: 205

أو قيام الدّليل على عدم وجوبه يرجع إلى ما أفاد الظّنّ بصدور الحكم الشّرعي التّكليفي عن الحجّة عليه السلام ، سواء كان المفيد للظّنّ خبرا أو شهرة أو غيرهما ، فهذا الدّليل لا يفيد حجّيّة خصوص الخبر ، وإنّما يفيد حجّيّة كلّ ما ظّنّ منه بصدور الحكم عن الحجّة وانّ لم يكن خبرا .

-------------------

متعسّرا ، فالعمل به مرفوع ، لقوله سبحانه «يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ، وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ ...» (1) .

ونحو ذلك من الأدلة الرّافعة لحكم التعسّر .

( أو قيام الدّليل ) من إجماع أو غيره ( على عدم وجوبه ) أي : وجوب الاحتياط ( يرجع إلى ما ) أي : كلّ أمارة ( أفاد الظّنّ بصدور الحكم الشّرعي التّكليفي ) الإقتضائي ، والإقتضائي حكمان : الوجوب والحرمة ، وإلاّ فإنّ الإباحة ، والاستحباب ، والكراهة ، أحكام لا إقتضائيّة ، ليس الانسان ملزما باتيانها أو تركها .

وعليه : فإذا ظّنّ الانسان بصدور حكم شرعي ( عن الحجّة عليه السلام ) لزم عليه العمل بذلك المظنون ( سواء كان المفيد للظّنّ خبرا ، أو شهرة ، أو غيرهما ) كالإجماع ، والإستحسان ، ونحوهما ، بل يتعدّى إلى القياس ، والمصالح المرسلة ، ونحوهما - كما سيأتي الكلام عنها في بحث الإنسداد إنشاء اللّه تعالى .

وعلى أي حال : ( فهذا الدّليل ) أي : العلم الاجمالي بصدور أحكام كثيرة عنهم الّذي جعله المستدلّ دليلاً عقليّا لوجوب العمل بهذه الأخبار ، دليل أعمّ من المدّعى ، لانّه ( لا يفيد حجّيّة خصوص الخبر ، وإنّما يفيد حجّيّة كلّ ما ظّنّ منه بصدور الحكم عن الحجّة وإن لم يكن خبرا ) .

ص: 206


1- - سورة البقرة : الآية 185 .

فإن قلت : المعلوم صدور كثير من هذه الأخبار الّتي بأيدينا ، وأما صدور الأحكام المخالفة للأصول غير مضمون هذه الأخبار ، فهو غير معلوم لنا ولا مظنون .

قلت : العلم الاجمالي وان كان حاصلاً

-------------------

بل قد عرفت : إنّه إذا لم يكن تعذّر ، أو تعسّر ، أو دليل على عدم الاحتياط ، وجب الاحتياط بالنّسبة إلى غير المظنون ، من الموهوم ، والمشكوك ، فمن أين إستدللتم بهذا الدّليل لحجيّة خصوص الخبر ؟ ولخصوص المظنون من الخبر ؟ .

فهذان تخصيصان لا يدلّ عليه هذا الدّليل العقلي .

وحيث قال المصنّف : إنّ هذا الدّليل العقلي ، يدلّ على لزوم رعاية العلم الاجمالي في الأخبار ، وفي سائر الأمارات ، لا في خصوص الأخبار فقط ، أشكل عليه المستشكل بقوله :

( فإن قلت : المعلوم ) بالإجمال ، ليس إلاّ ( صدور كثير من هذه الأخبار الّتي بأيدينا ، وأما صدور الأحكام المخالفة للأصول غير مضمون هذه الأخبار ) من الأمارات الّتي يجب العمل بها فعلاً أو تركا ، ( فهو غير معلوم لنا ولا مظنون ) فانّه ليس لنا علم إجمالي كبير يشمل الأخبار وغير الأخبار ، بل علم إجمالي صغير يشمل الأخبار فقط .

إذن : فليس لنا علم إجمالي بأحكام واقعيّة صادرة عنهم عليهم السلام في الأخبار وفي غير الأخبار ، حتّى يجب علينا العمل بهذه الأخبار ، وبغير هذه الأخبار : من الشّهرة ، الإجماع المنقول ، والإستحسان ، وما أشبه ذلك ، فالدّليل العقلي دالّ على وجوب العمل بالأخبار فقط .

( قلت : العلم الاجمالي ) بصدور الأحكام عنهم عليهم السلام ( وإن كان حاصلاً

ص: 207

في خصوص هذه الرّوايات الّتي بأيدينا ، إلاّ أنّ العلم الاجمالي حاصل أيضا في مجموع ما بأيدينا من الأخبار ، ومن الأمارات الاُخر المجرّدة عن الخبر الّتي بأيدينا المفيدة للظّنّ بصدور الحكم عن الإمام عليه السلام ، وليست هذه الأمارات خارجة عن أطراف العلم الاجمالي الحاصل في المجموع بحيث يكون العلم الاجمالي في المجموع مستندا إلى بعضها وهي الأخبار ،

-------------------

في خصوص هذه الرّوايات الّتي بأيدينا ، إلاّ ) إنّ هذا علم إجمالي صغير ، وفوقه علم إجمالي كبير ، وكما إنّه يجب العمل بالعلم الاجمالي الصغير ، كذلك يجب العمل بالعلم الاجمالي الكبير .

وذلك ( إنّ العلم الاجمالي حاصل أيضا في مجموع ما بأيدينا من الأخبار ، ومن الأمارات الاُخر المجرّدة عن الخبر ) أما الأمارة المقترنة بالخبر ، فليس الكلام فيها ، وإنّما الكلام في العلم الاجمالي الكبير الشامل للخبر ، وللأمارات الاُخر الّتي ليس على طبقها الخبر ، مثل : الشّهرة ، والإجماع المنقول ، وغيرهما من سائر الأمارات ( الّتي بأيدينا المفيدة للظّنّ بصدور الحكم عن الإمام عليه السلام ) .

وإذا كان المعيار في العمل بالخبر هو : العلم الاجمالي ، كان هذا هو المعيار أيضا في العمل بسائر الأمارات الموجبة للظّنّ .

( و ) ذلك لأنّه ( ليست هذه الأمارات خارجة عن أطراف العلم الاجمالي ) الكبير ، ( الحاصل في المجموع ) من الخبر ومن الأمارة ( بحيث يكون ) حصول ( العلم الاجمالي في المجموع مستندا إلى بعضها ) أي : بعض أفراد هذا المجموع ( وهي الأخبار ) فقط ، فإنّه قد يكون العلم الاجمالي الكبير منحلاً إلى علم إجمالي صغير ، وقد لا يكون منحلاً .

مثلاً : من علم بانّ بعض هذه الأواني العشرة سمّ ، كان علمه الاجمالي الكبير

ص: 208

ولذا لو فرضنا عزل طائفة من هذه الأخبار وضممنا إلى الباقي مجموع الأمارات الاُخر كان العلم الاجمالي بحاله .

فهنا علم إجمالي حاصل في الأخبار

-------------------

موجبا لاجتناب جميعها ، أما إذا كان علمه الكبير منحلاً إلى علم إجمالي آخر : بانّ السمّ في الأواني البيض فقط دون الحمر ، فقد انحلّ علمه الكبير إلى علم صغير ، ووجب عليه الاجتناب عن البيض فقط ، دون الحمر ، لانحلال علمه بالنّسبة إلى الحمر ، فيجوز له شربها وإنّما المحرم شرب البيض فقط ، أما إذا كان علمه الاجمالي الكبير في أعمّ من البيض والحمر لم ينحل علمه الاجمالي الكبير بالنّسبة إلى الحمر أيضا .

( ولذا ) أي : للإستشهاد على كون العلم الاجمالي في المجموع ، لا في الأخبار فقط ، هو إنّه ( لو فرضنا عزل طائفة من هذه الأخبار ) بأن علمنا علما تفصيليّا : بانّ الأحكام الواقعيّة الّتي في هذه الأخبار ، هي فقط في الكافي والتّهذيب ، - مثلاً - فلا يزول العلم الاجمالي الكبير ، لانّا نعلم بأنّ هناك في سائر الأمارات أحكاما واقعيّة أيضا .

( و ) لذا لو ( ضممنا إلى الباقي ) من كتب الأخبار ، كالفقيه والإستبصار ( مجموع الأمارات الاُخر ) من الشّهرة والإجماع المنقول ، ونحوهما ( كان العلم الاجمالي ) بوجود أحكام للّه سبحانه وتعالى في المجموع باقيا ( بحاله ) لانّا نعلم : إنّ هناك أحكاما أُخر موجودة في مجموع هذه الأخبار وهذه الأمارات الباقية .

وعليه : ( فهنا ) فيما نحن فيه من الأخبار والأمارات ( علم اجمالي ) صغير ، ( حاصل في الأخبار ) فقط ، حيث نعلم إنّ في الأخبار طائفة من أحكام

ص: 209

وعلم إجمالي حاصل بملاحظة مجموع الأخبار وسائر الأمارات المجرّدة عن الخبر ، فالواجب مراعاة العلم الإجماليّ الثّاني وعدم الإقصار على مراعاة الأوّل .

نظير ذلك : ما إذا علمنا إجمالاً بوجود شياة محرّمة في قطيع غنم بحيث يكون

-------------------

اللّه سبحانه وتعالى لا نعرفها بخصوصها .

( وعلم اجمالي ) كبير ( حاصل بملاحظة مجموع الأخبار وسائر الأمارات المجرّدة عن الخبر ) .

وبذلك يلزم علينا مراعات المجموع من حيث المجموع ، بأن نعمل بكلّ الأخبار ، وبكلّ الأمارات الّتي لا توافق الأخبار ، تحصيلاً للاحكام الواقعيّة الموجودة في هذا المجموع بما هو المجموع ، لعلمنا إجمالاً بأنّ بعض تلك الأحكام الواقعيّة في الأخبار ، بعض تلك الأحكام الواقعيّة في سائر الأمارات ، ولا ينحلّ العلم الاجمالي الكبير بالعلم الاجمالي الصغير .

إذن : ( فالواجب مراعاة العلم الاجمالي الثّاني ) الكبير في مجموع الأخبار والأمارات ( وعدم الإقتصار على مراعاة ) العلم الاجمالي ( الأوّل ) الصغير المنحصر في الأخبار فقط .

وعليه : فدليلكم العقلي هنا ، لا يدلّ على حجّيّة الأخبار ووجوب العمل بها فقط ، وإنّما يدلّ على حجّيّة كلّ أمارة في الجملة ، خبرا كان أو غير خبر ، وعلى وجوب العمل بها جميعا .

و ( نظير ذلك ) الّذي مرّ من العلمين الإجماليّين : الكبير والصّغير ( ما إذا علمنا إجمالاً ) أي : علما إجماليا كبيرا ( بوجود شياة محرّمة في قطيع غنم بحيث يكون

ص: 210

نسبته إلى كلّ بعض منها كنسبته إلى البعض الاُخر وعلمنا أيضا بوجود شياة محرّمة في خصوص طائفة من تلك الغنم ، بحيث لو لم يكن من الغنم إلاّ هذه عُلم إجمالاً بوجود الحرام فيها أيضا .

والكاشف عن ثبوت العلم الاجمالي في المجموع ما أشرنا إليه سابقا ،

-------------------

نسبته ) أي : نسبة ذلك العلم الاجمالي الكبير ( إلى كلّ بعض منها ) أي : من تلك الشّياه ( كنسبته إلى البعض الآخر ) بأن يكون علمنا الاجمالي بالتّحريم في البيض والسّود منها معا ، لا في البيض فقط .

هذا ( وعلمنا أيضا ) علما إجماليا صغيرا . ( بوجود شياه محرّمة في خصوص طائفة خاصّة من تلك الغنم ) مثل البيض فقط ، كما إذا رأى صاحب الشّياه ، إنّ الرّاعي إجتمع مرّة بشاة بيضاء ، ومرّة بما لم يعرف انّها بيضاء كانت أو سوداء ، فَلَهُ علمان إجماليان :

الأوّل : علم إجمالي كبير في جميع الغنم .

الثّاني : علم إجمالي صغير في البيض فقط ( بحيث لو لم يكن من الغنم إلاّ هذه ) الخاصّة وهي البيض فقط ، لكان قد ( علم إجمالاً بوجود الحرام فيها ) أي : في هذه الطائفة الخاصّة ( أيضا ) ، فهنا يجب عليه الإجتناب عن الجميع بيضا أو غير بيض .

وما نحن فيه أيضا كذلك ، لأنّ لنا فيه - كما مرّ توضيحه - علمين إجماليين : كبير وصغير .

( والكاشف عن ثبوت العلم الاجمالي ) الكبير هنا ( في المجموع ) من البيض والسّود هو : وإن إنحلّ العلم الاجمالي الصغير ( ما أشرنا إليه سابقا :

ص: 211

من أنّه لو عزلنا من هذه الطّائفة الخاصّة الّتي عُلم بوجود الحرام فيها قطعة توجب إنتفاء العلم الاجمالي فيها وضممنا إليها مكانها باقي الغنم حصل العلم الاجمالي بوجود الحرام فيها أيضا .

وحينئذٍ : فلابدّ من أن يجري حكم العلم الاجمالي في تمام الغنم ، إما بالإحتياط أو العمل بالمظنّة

-------------------

من انّه لو عزلنا من هذه الطائفة الخاصّة ) وهي البيض ( الّتي علم بوجود الحرام فيها قطعة ) بأن عزلنا من البيض الّتي هي خمسمائة - مثلاً - أربعمائة ، بحيث ( توجب ) تلك القطعة ( إنتفاء ) أي : إنحلال ( العلم الاجمالي ) الصّغير ( فيها ) أي : في هذه الطّائفة الخاصّة .

فإذا عزلنا من البيض أربعمائة ، لم نتيقّن بأنّ في المائة الباقية موطوئة - وإن احتملنا ذلك - ( و ) إذا ( ضممنا إليها مكانها ) أي : ضممنا إلى الأغنام البيض الباقية - الّتي هي مائة فرضا - مكان المعزولة الّتي هي الأربعمائة في المثال ( باقي الغنم ) من القطيع وهي سود مثلاً ( حصل العلم الاجمالي بوجود الحرام فيها ) أي : في المجموع من حيث المجموع ( أيضا ) لأنّ المفروض إنّ علمنا الاجمالي كان في البيض والسّود معا ، فإذا عزلنا من البيض أربعمائة ، وضممنا إلى المائة الباقية بقايا القطيع وهي السّود - مثلاً - حصل لنا العلم إجمالاً بوجود المحرّم في مجموع هذه السّتمائة أيضا - في فرض كون كلّ القطيع ألفا - وعليه ، فلم ينحلّ العلم الاجمالي الكبير بانحلال العلم الاجمالي الصّغير في خصوص البيض .

( وحينئذٍ : فلابد من أنّ يجري حكم العلم الاجمالي في تمام الغنم ، إما بالاحتياط ) التّامّ إذا لم يكن هناك في الإجتناب عن الجميع تعذّر ، أو تعسّر ، أو إجماع على عدم وجوب الاحتياط ( أو العمل بالمظنّة ) في الإجتناب عن بعض

ص: 212

لو بطل وجوب الاحتياط .

وما نحن فيه من هذا القبيل .

ودعوى أنّ سائر الأمارات المجرّدة لا مدخل لها في العلم الاجمالي وأن هنا علما إجماليا واحدا بثبوت الواقع بين الأخبار ، خلاف الإنصاف .

-------------------

الغنم ( لو بطل وجوب الاحتياط ) التّامّ .

( وما نحن فيه ) من العلم الاجمالي بكون الأحكام الواقعيّة في الأخبار وفي الأمارات ( من هذا القبيل ) أي : من قبيل العلم الاجمالي الكبير والعلم الاجمالي الصغير .

وحيث لم ينحلّ العلم الاجمالي الكبير إلى العلم الاجمالي الصّغير ، وجب الاحتياط في الكلّ ؛ لأنّ العلم الاجمالي بوجود الأحكام في الأخبار والأمارات ، يوجب العمل بالكلّ من باب الاحتياط ، فإذا لم نتمكّن من الاحتياط التّامّ ، لزم العمل بالظّنّ ، فنأخذ بالمظنون ونترك المشكوك والموهوم من غير فرق بين أنّ يكون المظنون في الأخبار ، أو أنّ يكون في الأمارات .

( ودعوى : إنّ سائر الأمارات المجرّدة ) عن الخبر ، كالإجماعات المنقولة على كثرتها ، والشّهرة على كثرتها ، من أوّل الفقه إلى آخر الفقه ( لا مدخل لها في العلم الاجمالي ) بوجود الاحكام ( وإنّ هنا علما إجماليا واحدا ) صغيرا فقط ( بثبوت الواقع بين الأخبار ) . ولا علم إجمالي بثبوت الواقع في الأمارات أصلاً ( خلاف الانصاف ) .

فمن أين إنحصر العلم بثبوت الواقع في الأخبار الموجودة بأيدينا ، مع إنّا نعلم بفقد كثير من الأخبار ، ممّا نحتمل إحتمالاً عقلائيا - يوجب العلم الاجمالي - بانّ جملة من تلك الأحكام مدلول تلك الاجماعات والشّهرة الموجودة ؟ .

ص: 213

وثانيا : إنّ اللاّزم من ذلك العلم الاجمالي هو العمل بالظّنّ في مضمون تلك الأخبار ، لما عرفت من أنّ العمل بالخبر الصّادر إنّما هو باعتبار كون مضمونه حكم اللّه الّذي يجب العمل به .

وحينئذٍ :

-------------------

( و ) الجواب عن إستدلال هذا المستدلّ بالدّليل العقلي المذكور (ثانيا :) إنّ قوله : يجب بحكم العقل ، العمل بكلّ خبر ظنّ صدوره ، غير تامّ ، ف- ( إنّ اللاّزم من ذلك العلم الاجمالي ) في الأخبار ( هو العمل بالظّنّ في مضمون تلك الأخبار ) لأنّ الظّنّ بالصّدور ليس بمهمّ ، وإنّما الظّنّ بأنّ مضمون الخبر هو حكم اللّه الواقعي هو الّذي يوجب العمل به .

فانّ مقتضى العلم الاجمالي بصدور كثير من هذه الأخبار عنهم عليهم السلام يوجب العمل بكلّ خبر ظنّ كون مضمونه حكم اللّه ، لا بكلّ خبر ظنّ صدوره مع إحتمال أن يكون مضمونه من جهة التّقيّة ، أو نحوها ، فانّنا مكلّفون بالعمل بأحكام اللّه الواقعيّة ، لا بالأحكام الوقتيّة الإضطرارية إذا مضت أوقاتها ( لما عرفت : من أنّ العمل بالخبر الصّادر إنّما هو باعتبار كون مضمونه حكم اللّه الّذي يجب العمل به ) .

فقد تقدّم في الجواب الأوّل : إنّ العمل بالأخبار ليس من جهة أنّها صدرت عنهم عليهم السلام ، بل من جهة أنّها أحكام اللّه الواقعيّة ، وانّما الأخبار الصّادرة عنهم عليهم السلام طريق إلى تلك الأحكام الواقعيّة ، ونحن مأمورون بإتّباع أحكام اللّه ، لا بما صدر عنهم عليهم السلام ، ولو للتّقيّة .

وعليه : فإذا علمنا إنّ الحكم تقيّة ، لا يجب العمل به في غير حال التّقيّة ، كذلك إذا احتملنا كونه تقيّة ، فإنّه لا يجب العمل به أيضا .

( وحينئذٍ ) أي : حين كان مناط وجوب العمل بالخبر ، إمتثال حكم اللّه سبحانه

ص: 214

فكلّما ظنّ بمضمون خبر منها ولو من جهة الشّهرة يؤخذ به ، وكل خبر لم يحصل الظّنّ بكون مضمونه حُكم اللّه لا يؤخذ به ولو كان مظنون الصّدور .

فالعبرة بظنّ مطابقة الخبر للواقع ، لا بظنّ الصّدور .

وثالثا : إنّ مقتضى هذا الدّليل وجوب العمل بالخبر المقتضي للتّكليف ، لأنّه الّذي يجب العمل به .

وأما الأخبار الصّادرة النّافية للتّكليف ، فلا يجب العمل بها .

-------------------

وتعالى الواقعي ، لا الخبر بما هو خبر ( فكلّما ظنّ بمضمون خبر منها ) أي : من تلك الأخبار إنّه حكم اللّه الواقعي ( ولو من جهة ) وجود ( الشّهرة ) بين الفقهاء ، أو الإجماع المنقول ، أو ما أشبه ذلك ( يؤخذ به ) في العمل .

( وكلّ خبر لم يحصل الظّنّ بكون مضمونه حكم اللّه ) وإن كان ثابت الصّدور ، وإنّما يظنّ بأنّ مضمونه ليس حكم اللّه لموافقته للتّقيّة أو ما أشبه ( لا يؤخذ به ولو كان مظنون الصّدور ) لأنّ الصّدور ليس بمهم .

( فالعبرة بظنّ مطابقة الخبر للواقع ) وإنّه حكم اللّه سبحانه وتعالى ( لا بظنّ الصّدور ) كما ذكره المتمسّك بالدّليل العقلي على حجّيّة الخبر ، فإنّ بين دليله هذا ، وبين حجّيّة خبر الواحد عموم من وجه .

( وثالثا : إنّ ) هذا الدّليل العقلي لا يثبت المطلوب : هو حجّيّة خبر الواحد مطلقا لأنّ ( مقتضى هذا الدّليل : وجوب العمل بالخبر المقتضي للتّكليف ) فقط ( لأنّه الّذي يجب العمل به ) حسب إستدلالكم ( وأما الأخبار الصّادرة النّافية للتّكليف ، فلا يجب العمل بها ) عندكم بينما من يقول بحجّيّة الخبر الواحد يريد : أن يكون خبر الواحد حجّة ، سواء كان نافيا للتّكليف مثل : عدم حرمة شرب

ص: 215

نعم ، يجب الإذعان بمضمونها وإن لم تعرف بعينها .

-------------------

التّتن ، أو مثبتا للتّكليف ، مثل : وجوب الدعاء عند رؤية الهلال .

حتى إذا دلّ دليل على حرمة كلّ شيء مشكوك ، يُخصّص ذلك بدليل عدم حرمة شرب التّتن ، وإذا دلّ دليل على عدم وجوب كلّ مشكوك ، يخصّص بما دلّ على وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، والحال إنّ هذا الدّليل العقلي إنّما يثبت حجّيّة ما يثبت التّكليف لا ما ينفي التّكليف .

وإنّما لا يثبت حجّيّة ما ينفي التّكليف ، لأنّ هذا الدّليل العقلي يقول : بأنا نعلم

إجمالاً بوجود تكاليف لنا ، ولذا يلزم علينا الإحتياط بكلّ مظنون الصّدور ، والحال إنّ ما ينفي التّكليف ليس من أطراف العلم الاجمالي ، فإنّه لا معنى لوجوب العمل بعدم التّكليف إحتياطا .

( نعم ، يجب الإذعان بمضمونها ) أي : بمضمون الأخبار النّافية للتّكليف والالتزام بها قلبا .

لا يقال : إنّ كلّ مظنون الصّدور النّافي للتّكليف أيضا يجب العمل به إحتياطا ، بمعنى : وجوب تصديقه وطرح الأصل المخالف له ، فيثبت حجّيّة كلّ مظنون الصّدور إحتياطا ، أما عملاً ، وامّا تصديقا .

لأنّه يقال : إنّ مقتضى كلّ خبر ظنّ صدوره بطرح الأصل المخالف له ، بل مقتضاه : التّصديق العملي .

أمّا التّصديق بالقلب لها ( وإن لم تُعرف بعينها ) فذلك شأن كلّ شيء ورد عنهم عليهم السلام ، فإنّ الانسان يجب عليه تصديق الواقع بما هو واقع ، وهذا حاصل من دون حاجة إلى الاحتياط بتصديق كلّ مظنون الصّدور .

فتحصَّل : إنّ هذا الدّليل العقلي لا يدل على حجّيّة الخبر النّافي ، بحيث

ص: 216

وكذلك لا يثبت به حجّيّة الأخبار على وجه ينهض لصرف ظواهر الكتاب والسُنَّة القطعيّة .

والحاصل : إنّ معنى حجّيّة الخبر كونه دليلاً متبعا في مخالفة الأصول العمليّة والأصول اللفظيّة مطلقا .

-------------------

يخصّص الأصل العملي الدّال على الاشتغال ، كما لا يدل هذا الدّليل العقلي على حجّيّة الخبر النّافي للتّكليف ، بحيث يخصّص الظواهر اللفظيّة الدالة على التّكليف .

والى هذا أشار المصنّف بقوله : ( وكذلك لا يثبت به ) أي : بهذا الدّليل العقلي ( حجّيّة الأخبار على وجه ينهض ) هذا الدّليل العقلي ( لصرف ظواهر الكتاب والسُّنَّة القطعيّة ) .

مثلاً : الخبر الدّال على عدم وجوب الإستعاذة في الصّلاة ، لا يتمكن أن يطرح ظاهر قوله تعالى : « فإذا قرأتَ القُرْآنُ فَاسْتَعِذ بِاللّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ » (1) .

فلا يستطيع هذا الخبر أن يطرح أصالة العموم ، لأنّ الأصول اللفظيّة من الأدلّة الظّنيّة ، فلا يقدّم عليها الأصل ، أي : وجوب العمل بالخبر إحتياطا الّذي يستفاد من الدّليل العقلي المذكور .

( والحاصل : إنّ معنى حجّيّة الخبر كونه دليلاً متبعا ) يجب على الانسان اتباعه ( في ) مقام ( مخالفة الأصول العمليّة ، والأصول اللفظيّة مطلقا ) سواء كان ذلك الخبر للتّكليف أو نافيا له .

ص: 217


1- - سورة النّحل : الآية 98 .

وهذا المعنى لا يثبت بالدّليل المذكور ، كما لا يثبت بأكثر ما سيأتي من الوجوه العقليّة بل كلّها ، فانتظر .

الثّاني : ما ذكره في الوافية ، مستدلاً على حجّيّة الخبر الموجود في الكتب المعتمدة للشّيعة ، كالكتب الأربعة ، مع عمل جمع به ، من غير ردّ ظاهر ،

-------------------

( وهذا المعنى ) المطلوب من حجّيّة الخبر ( لا يثبت بالدّليل ) العقلي (المذكور) الّذي إستدل به المستدلّ وهو عبارة عن وجوب الإحتياط لأجل العلم الاجمالي . ( كما لا يثبت ) الحجّيّة المطلوبة للخبر ( بأكثر ما سيأتي من الوجوه العقليّة ، بل كلّها ، فانتظر ) فإنّ الأدلّة العقليّة الآتية لا تثبت حجّيّة الخبر مطلقا ، بل بين هذه الأدلّة وبين حجّيّة الخبر مطلقا عموم من وجه .

اللّهم إلاّ إنّ يقال : إنّه إذا ثبت حجّيّة الخبر في الجملة ، يثبت حجّيّة الخبر مطلقا - للإجماع المركّب - لأنّه أمّا أن يكون الخبر حجّة مطلقا ، وأما إنّ لا يكون حجّة مطلقا ، أمّا أن يكون الخبر المثبت للتّكليف حجّة دون الخبر النّافي للتّكليف ، فهو ممّا أجمع العلماء على خلافه .

( الثاني : ) من الأدلّة العقليّة التي ذكرت لحجّيّة خبر الواحد ( ما ذكره ) الفاضل التّوني ( في الوافية ، مستدلاً على حجّيّة ) قسم خاصّ من ( الخبر ) الواحد وهو الخبر ( الموجود في الكتب المعتمدة للشّيعة ، كالكتب الأربعة ) : الكافي ، والتّهذيب ، والإستبصار ، ومن لا يحضره الفقيه ، وما أشبه هذه الكتب ( مع عمل جمع به ، من غير ردّ ظاهر ) لذلك الخبر ، إذ لو لم يعملوا به ، أو ردوه ردا ظاهرا ، سقط عن الحجّيّة .

فإنّ صاحب الوافية إستدلّ على حجّيّة مثل هذا الخبر الجامع لما ذكره من

ص: 218

بوجوه ، قال : « الأوّل : أنّا نقطع ببقاء التّكليف إلى يوم القيامة ، سيّما بالأصول الضّروريّة ، كالصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ والمتاجر والأنكحة ، ونحوها ، مع أن جُلّ أجزائها ، وشرائطها ، وموانعها ، إنّما يثبت بالخبر الواحد الغير القطعي ، بحيث يقطع بخروج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور عند ترك العمل بخبر الواحد .

-------------------

الشرائط ( بوجوه : قال ) في بيانها .

( الأوّل : انّا نقطع ببقاء التّكليف ) إلى زمان ظهور الإمام المهدي عليه السلام ، حيث تظهر الحقائق في ذلك الوقت ، والتّكليف بالعبادات والمعاملات والقضاء ، والدّيّات وغيرها ، باقية على البشر ( إلى يوم القيامة ) وإن كان فرق بين بقائها إلى زمان الإمام المهدي عليه السلام ، وبين بقائها من زمان الإمام المهدي عليه السلام إلى القيامة ، حيث قد عرفت : إنّ البقاء إلى زمانه إنّما يكون عملاً بالظنون ، وما أشبه ، بينما بقائها من زمانه إلى يوم القيامة يكون عملاً بالقطعيّات .

وعلى أي حال : فالقطع بالتّكليف مسلَّم ( سيما بالأصول الضّروريّة ) حيث إنّها معلومة لكافّة المسلمين . ( كالصّلاة والزّكاة ، والصّوم ، والحجّ ، والمتاجر ، والأنكحة ، ونحوها ) من سائر الأحكام المذكورة في الكتب الفقهيّة ( مع انّ جلّ أجزائها ، وشرائطها ، وموانعها ) وقواطعها ( إنّما يثبت بالخبر الواحد غير القطعي ) فلا نقطع بهذه الخصوصيّات غالبا ، بل نظنّ بها بين الأخبار الآحاد ( بحيث يقطع : بخروج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور عند ترك العمل بخبر الواحد ) .

فإنّا نقطع : بأنّه لو لم يؤخذ بالأخبار الدّالة على الأجزاء ، والشّرائط ، والموانع ، وسائر الخصوصيّات لخرجت الصّلاة عن حقيقة كونها صلاة ، وخرج الصّوم عن حقيقة كونه صوما ، وخرج الحجّ والزّكاة وغيرها عن هذه الحقائق ، سواء في

ص: 219

ومن أنكر فانّما ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان » ، انتهى .

ويرد عليه :

أوّلاً : أن العلم الاجمالي حاصل بوجود الأجزاء والشّرائط ، بين جميع الأخبار ، لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره ، ومجرّد وجود العلم الاجمالي في تلك الطائفة الخاصّة لا يوجب خروج غيرها من أطراف العلم الاجمالي ،

-------------------

العبادات أو في المعاملات ، وهذا أمر واضح لا شك فيه ( ومن أنكر فانّما ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان ، إنتهى ) (1) .

وبهذا يستدّل على إنّه يلزم علينا : أن نعمل بالخبر الواحد ، لكن على تلك الشروط الّتي ذكرناها : بأنّ تكون في الكتب المعتبرة ، وأن لا تكون مردودة ، أو متروكة العمل .

( ويرد عليه ) :

( أولاً : إنّ العلم الاجمالي حاصل بوجود الأجزاء ، والشّرائط ) والموانع والقواطع ( بين جميع الأخبار ) الّتي نجدها في الكتب ، سواء كانت في الكتب المعتمدة : كالكتب الأربعة ، أو غيرها : كالخصال ، والأمالي ، وعيون الأخبار ، ونحوها ( لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره ) بأنّ تكون موجودة في الكتب المعتمدة فقط .

( ومجرد وجود العلم الاجمالي في تلك الطائفة الخاصّة ) من الكتب ( لا يوجب خروج غيرها ) أي : سائر الكتب ( من أطراف العلم الاجمالي ) فإنّ

ص: 220


1- - الوافية : مخطوط .

كما عرفت في الجواب الأوّل عن الوجه الأوّل ، وإلاّ لما أمكن إخراج بعض هذه الطّائفة الخاصّة ودعوى العلم الاجمالي في الباقي ، كأخبار العدول مثلاً .

فاللاّزم حينئذٍ إمّا الإحتياط والعمل بكلّ خبر دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته ،

-------------------

هناك علما إجمالي صغيرا وعلما إجماليا كبيرا والعلم الاجمالي الكبير لا ينحل إلى العلم الاجمالي الصّغير ، على ما تقدّم مثله في مسألة قطيع الشّاة . ( كما عرفت في الجواب الأوّل عن الوجه ) العقلي ( الأوّل ) فلا حاجة لتفصيل الجواب هنا .

( وإلاّ ) بان لم يكن علم إجمالي كبير في الكتب المعتمدة ، وغير الكتب المعتمدة ، غير العلم الاجمالي الصغير الّذي ادّعاه الفاضل التّوني ( لما أمكن اخراج بعض هذه الطّائفة الخاصّة ) من الكتب المعتمدة ( ودعوى العلم الاجمالي في الباقي ، كأخبار العدول مثلاً ) - كما تقدّم سابقا - .

والحاصل : إنّ الشّاهد على إنّ العلم الاجمالي بوجود الأجزاء والشّرائط ونحوها ، غير مختص بالطّائفة الخاصّة في الكتب المعتمدة ، هو إنّا لو عزلنا من الطّائفة الخاصّة بمقدار يوجب انحلال العلم الاجمالي الصّغير ، ثم ضممنا باقي هذه الطّائفة إلى أخبار سائر الكتب ، كان العلم الاجمالي بحاله باقيا ، فيدلّ ذلك على إنّ العلم الاجمالي الكبير لا ينحل إلى العلم الاجمالي الصغير .

إذن : ( فاللازم حينئذٍ ) أي : حين وجود العلم الاجمالي الكبير بالنّسبة إلى الأجزاء والشّرائط في كلّ الكتب ، سواء معتمدها أو غير معتمدها ، فإنّه يجب علينا أحد أمرين :

أوّلاً : ( إمّا الإحتياط والعمل بكلّ خبر دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته )

ص: 221

وإمّا العمل بكلّ خبر ظنّ صدوره ممّا دلّ على الجزئيّة ، أو الشرطيّة ، إلاّ أن يقال : إنّ المظنون الصّدور من الأخبار هو الجامع لما ذكر من الشّروط .

وثانيا : ان مقتضى هذا الدّليل وجوب العمل بالأخبار الدّالة على الشّرائط والأجزاء ، دون الأخبار الدّالّة على عدمهما ،

-------------------

أو مانعيّته ، أو قاطعيّته ، إذا تمكّنّا من الإحتياط حسب العلم الاجمالي .

ثانيا : ( وأمّا العمل بكلّ خبر ظنّ صدوره ممّا دلّ على الجزئيّة ، أو الشرطيّة ) أو المانعيّة ، أو القاطعيّة ، حيث إنّ الانسان إذا لم يتمكن من العمل بالعلم التّفصيلي وجب عليه العمل حسب العلم الاجمالي وإذا لم يتمكّن من العمل حسب العلم الاجمالي ، وجب عليه العمل على الظّنّ .

( إلاّ أن يقال ) في تأييد الفاضل التّوني : إنّه إنّما إدّعى حجّيّة الطّائفة الخاصّة في الكتب المعتمدة ، لا من باب العلم الاجمالي ، بل من جهة ( إنّ المظنون الصّدور من الأخبار هو ) منحصر في الخبر ( الجامع لما ذكر من الشّروط ) من : كونه في الكتب المتعمدة مع عمل جمع به من دون ردّ ظاهر .

وذلك حين لم يمكن العمل حسب العلم الاجمالي لأنّه - مثلاً - يوجب العسر ، أو الحرج ، أو إنّه متعذّر ، أو إنّه دلّ الدّليل من الإجماع وغيره على عدم وجوبه ، وعلى هذا فلا يرد عليه النّقض بالعلم الاجمالي الكبير الّذي ذكرناه .

( وثانيا : إنّ مقتضى هذا الدّليل : وجوب العمل بالأخبار الدّالّة على الشّرائط والأجزاء ، دون الأخبار الدّالّة على عدمهما ) اذ لا معنى لوجوب العمل بالأخبار الدّالّة على عدم الشّرط وعدم الجزء ، بينما المطلوب في حجّيّة خبر الواحد :

ص: 222

خصوصا إذا اقتضى الأصل الشّرطيّة والجزئيّة .

الثّالث : ما ذكره بعض المحققين من المعاصرين في حاشيته على المعالم لاثبات حجّيّة الظّنّ الحاصل من الخبر ، لا مطلقا ، وقد لخّصناه لطوله .

وملخصه : « أن وجوب العمل بالكتاب والسُّنَّة ثابت

-------------------

وجوب الأخذ به وطرح الأصل المخالف له ، سواء كان مثبتا للجزء والشّرط ، أو نافيا لهما . ( خصوصا إذا اقتضى الأصل : الشّرطيّة والجزئيّة ) كما إذا كان الإستصحاب يقتضي الشرطيّة والجزئيّة ، والخبر الواحد يريد نفيهما ، فإنّ العمل بالخبر النّافي ينافي الاحتياط ، إذ الاحتياط إنّما هو باتيان الشّرط ، والجزء ، لا بالعمل بالخبر الّذي يريد نفيهما .

مثلاً : إذا شكّ الانسان في حال القنوت : بانّه قرء السّورة أم لا ، فالخبر يقول : بأنه لا يلزم الاتيان بالسّورة ، والإستصحاب يقول : بلزوم الاتيان به ، فهل الإحتياط بالاتيان - كما هو مقتضى الإستصحاب - أو بعدم الاتيان - كما هو مقتضى الخبر - ؟ .

( الثّالث : ما ذكره بعض المحقّقين من المعاصرين ) للمصنّف ، وهو الشّيخ محمد تقي صاحب حاشية المعالم أخو صاحب الفصول ( في حاشيته على المعالم لاثبات حجّيّة الظّنّ الحاصل من الخبر ، لا ) الظّنّ ( مطلقا ) مع إنّ دليله الّذي ذكره راجع الى دليل الانسداد المعروف ، الّذي يوجب حجّيّة الظّنّ مطلقا ، ( وقد لخصناه لطوله ) أي : لكون ما استدلّ به طويلاً لما فيه من النّقص والابرام ، لخصناه .

( وملخصه : إنّ وجوب العمل بالكتاب والسُّنَّة ثابت ) بالنسبة إلى اللّذين كانوا

ص: 223

بالإجماع ، بل الضّرورة والأخبار المتواترة ، وبقاء هذا التّكليف أيضا بالنّسبة إلينا ثابت بالأدلّة المذكورة .

وحينئذٍ : فإنّ أمكن الرجوع إليهما على وجه يحصل العلم بهما بحكم أو الظّنّ الخاصّ به ، فهو ، وإلاّ فالمتّبع هو الرّجوع

-------------------

في صدر الإسلام قطعا ( بالإجماع ، بل الضّرورة ) من الدّين ، بلا إشكال ولا خلاف من أحد من المسلمين ، بل ( والأخبار المتواترة ) لأنّ المسلمين الّذين عاصروا المعصومين عليهم السلام ، كان عليهم إنّ يأتوا بما في الكتاب والسُّنَّة من الواجبات ، ويتركوا المحرمات .

( وبقاء هذا التّكليف أيضا بالنّسبة الينا ثابت بالأدلّة المذكورة ) من الإجماع والضّرورة والتّواتر ، فلم يكن الوجوب بالنّسبة إلى المعاصرين للمعصومين عليهم السلام فقط ، بل التّكليف ممتد إلينا وإلى يوم القيامة .

( وحينئذٍ : فإنّ أمكن الرّجوع إليهما على وجه يحصل العلم بهما بحكم ) فاللاّزم العمل بذلك الحكم الحاصل منهما على وجه العلم ( أو ) يحصل منهما ( الظّنّ الخاص به ) أي : بالحكم ، بأنّ قام الدّليل الخاصّ على اعتبار الظّنّ الحاصل من القرآن ، والأخبار ، مثل حجّيّة خبر الواحد ، وقد قرِّر - في محله - : إنّ العلمي كالعلم في وجوب الأخذ بأحدهما ، لا إنّه مادام يمكن العلم لا يجوز الأخذ بالعلمي .

وعلى أي حال : فإنّ تمكّن المكلّف من تحصيل العلم بالحكم من الكتاب والسّنّة ، أو الظّنّ الخاصّ بالحكم منها ( فهو ، وإلاّ ) بأنّ لم يتمكن من تحصيل العلم ، ولا من تحصيل الظّنّ الخاصّ بالحكم منهما ( فالمتبّع ) عقلاً ( هو الرّجوع

ص: 224

إليهما على وجه يحصل الظّنّ منهما » هذا حاصله .

وقد أطال قدس سره ، في النّقض والابرام بذكر الايرادات والأجوبة على هذا المطلب .

ويردُ عليه : أن هذا الدّليل بظاهره عبارة أُخرى عن دليل الانسداد ، الّذي ذكروه لحجّيّة الظّنّ في الجملة ، أو مطلقا .

-------------------

إليهما على وجه يحصل الظّنّ ) المطلق ( منهما ) (1) بالحكم سواء كان الظّنّ من الخبر الواحد ، أو من الشّهرة ، أو من الإجماع المنقول ، أو غير ذلك ، باستثناء الظنون الخارجة بالنصّ والإجماع ، كالقياس - على ما سيأتي تفصيله في دليل الانسداد انشاء اللّه تعالى - .

وإنّما نرجع إلى العقل في وجوب تحصيل الظّنّ ، لأنّ صدق الإطاعة والمعصية مرتبط بالعقل ، كما حُقق في محله .

( هذا حاصله ، وقد أطال قدس سره في النّقض والابرام بذكر الايرادات والأجوبة على هذا المطلب ) ممّا نحن في غنى عن ذكرها .

( ويرد عليه : إنّ هذا الدّليل بظاهره عبارة أخرى عن دليل الانسداد ، الّذي ذكروه لحجّيّة الظّنّ في الجملة ، أو مطلقا ) حيث قال بعضهم : بأن نتيجة دليل الانسداد : حجّيّة الظّنّ مطلقا من أي سبب حصل ، وبأي شيء تعلق ، وقال بعضهم : بأنّ النّتيجة : هي حجّيّة الظّنّ في الجملة لا مطلقا .

وعليه : فليس هذا الدّليل دالاً على حجّيّة الخبر فقط ، بل يدل على حجّيّة الظّنّ مطلقا ، سواء حصل من الخبر أو من غير الخبر ، كالإجماع ، والشّهرة ، ونحوهما .

ص: 225


1- - هداية المسترشدين : ص 391 .

وذلك لأنّ المراد بالسُّنَّة هي قول الحجّة أو فعله أو تقريره .

فإذا وجب علينا الرّجوع إلى مدلول الكتاب والسُّنَّة ولم نتمكّن من الرّجوع إلى ما علم أنّه مدلول الكتاب أو السُّنَّة تعيّن الرّجوع بإعتراف المستدلّ إلى ما ظنّ كونه مدلولاً لأحدهما ، فإذا ظننّا أنّ مؤدّى الشّهرة أو معقد الإجماع المنقول مدلول للكتاب أو لقول الحجّة أو فعله أو تقريره وجب الأخذ به ،

-------------------

( وذلك ) أي : بيان إنّ هذا الدّليل عين دليل الإنسداد هو ( لأنّ المراد بالسُّنَّة هي : قول الحجّة أو فعله ، أو تقريره ) لا مجرّد الخبر ، ومن المعلوم : إنّ قول الحجّة ، أو فعله ، أو تقريره ، قد يظنّ بها بسبب الأخبار الواردة عنهم عليهم السلام في الكتب ، وقد يظنّ بها بسبب إجماع ، أو شهرة ، أو ما أشبه ذلك ، فمن أين تخصيص هذا الدّليل بالظّنّ الحاصل من الأخبار الواردة ، مع إنّ هذا الدّليل يقتضي حجّيّة الظّنّ بفعل المعصوم ، أو قوله ، أو تقريره ، من أي سبب كان ، بسبب الخبر أو غير الخبر ؟.

( فإذا وجب علينا الرّجوع إلى ) الحكم الّذي هو ( مدلول الكتاب والسُّنَّة ، ولم نتمكّن من الرّجوع إلى ما ) أي : إلى الحكم الّذي ( علم إنّه مدلول الكتاب أو السُّنَّة ) بأن لم نعلم إنّ هذا مدلول الكتاب لعدم قطعيّة دلالته ، أو لم نعلم إنّ هذا مدلول الخبر لعدم قطعيّة صدوره ، أو إنّه صدر ولم نعلم إنّه للتقيّة أو لبيان الحكم الواقعي ( تعيّن الرّجوع بإعتراف المستدلّ ) وهو صاحب الحاشية ( إلى ما ) أي : إلى الحكم الّذي ( ظنّ كونه مدلولاً لأحدهما ) سواء كان هذا الظّنّ - الحاصل - بحكم الكتاب أو من الأخبار ، أو غيرهما .

( فإذا ظننّا إنّ مؤدّى الشّهرة ، أو معقد الإجماع المنقول ) - مثلا - ( مدلول للكتاب ، أو لقول الحجّة ، أو فعله ، أو تقريره ، وجب الأخذ به ) أي : بذاك

ص: 226

ولا اختصاص للحجّيّة بما يظنّ كونه مدلولاً لأحد هذه الثّلاثة من جهة حكاية أحدها الّتي تسمى خبرا وحديثا في الإصطلاح .

نعم ، يخرج عن مقتضى هذا الدّليل الظّنّ الحاصل بحكم اللّه من أمارة لا يظنّ كونه مدلولاً لأحد الثّلاثة .

-------------------

المؤدّى ( ولا اختصاص للحجّيّة بما ) أي : بحكم ( يظنّ كونه مدلولاً لأحد هذه الثّلاثة من جهة حكاية أحدها ) أي : أحد الثّلاثة من قول المعصوم ، وفعله ، وتقريره .

والحاصل : إنّه لا يختص وجوب العمل بالأحكام الموجودة في الكتاب والسُّنَّة ، بصورة حصول الظّنّ بها من طريق نفس الكتاب ، أو من طريق الأخبار الّتي تحكي السُّنَّة ، بل إذا حصلنا على مدلول الكتاب ، أو على قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، من طريق الإجماع ، أو من طريق الشّهرة ، أو غيرهما ممّا يوجب الظّنّ ، وجب علينا العمل بذلك أيضا ، فلا اختصاص لهذا الدّليل بحكاية أحدها ( الّتي تسمى خبرا وحديثا في الإصطلاح ) الفقهي ، وبذلك يثبت حجيّة مطلق الظّنّ ، لا الظّنّ الحاصل من الخبر .

( نعم ، يخرج عن مقتضى هذا الدّليل ) أى : دليل الانسداد الدّال على وجوب العمل بأحكام الكتاب والسُّنَّة ( الظّنّ الحاصل بحكم اللّه من أمارة لا يظنّ كونه مدلولاً لأحد الثّلاثة ) من قول المعصوم أو تقريره أو فعله .

وإن شئت قلت : يخرج عن دليل الانسداد أمران :

الأوّل : الظّنّ بحكم اللّه الّذي نعلم إنّه لم يرد فى الكتاب ، ولا عن طريق الأئمّة عليهم السلام .

الثّاني : الظّنّ بحكم اللّه الّذي لا نعلم هل ورد في الكتاب ، أو عن

ص: 227

كما إذا ظنّ بالأولويّة العقليّة أو الإستقراء أنّ الحكم كذا عند اللّه ولم يظنّ بصدوره عن الحجّة أو قطعنا بعدم صدوره عنه عليه السلام ، إذ رُبّ حكم واقعي لم يصدر عنهم عليهم السلام ، وبقي مخزونا عندهم لمصلحة من المصالح .

-------------------

طريقهم عليهم السلام أم لا ؟ .

وإنّما يختصّ هذا الدّليل بما إذا ظننّا بالحكم الّذي ورد في الكتاب أو عن طريقهم ، فإنّ الواجب هو العمل بالكتاب والسُّنَّة فقط ، فإذا علمنا بذلك فهو ، وإلاّ قام الظّنّ المطلق مقام العلم .

( كما إذا ظنّ بالأولويّة العقليّة أو الإستقراء : إنّ الحكم كذا عند اللّه ) سبحانه وتعالى ( و ) لكن ( لم يظنّ ) بوجود هذا الحكم المستفاد من الأولويّة أو الإستقراء في الكتاب ، ولا ( بصدوره عن الحجّة ) عليه السلام ، ( أو قطعنا بعدم ) وجوده في الكتاب ، وبعدم ( صدوره عنه عليه السلام ) .

أمّا مثال الأولويّة العقليّة : فهو إنّه إذا كان قطع الثّلاثة من أصابع المرأة يوجب ثلاثين من الإبل ، لكان الأولى في الأربعة من أصابعها ثلاثين أو أكثر .

وأمّا مثال الإستقراء : فهو كما إذا قلنا بأنّ مقدمة الحرام حرام ، لأنّه استقرأنا فرأينا إنّه يحرم بيع السّلاح لأعداء الدّين ، وبيع العنب لمن يعمله خمرا ، وسوء الظّنّ بالمؤمن ، لأنّه يودي إلى القطيعة ، وهكذا .

وعلى أي حال : فإنّ الدّليل المذكور لا يدلّ على حجيّة أمثال هذه الظّنون ، وإنّما يدلّ على حجيّة الظّنّ المستفاد من الكتاب ، أو من السُّنَّة ( إذ ربّ حكم واقعي لم يصدر عنهم عليهم السلام ، وبقي مخزونا عندهم لمصلحة من المصالح ) ويكون ممّا سكت اللّه عنه ، كما ورد في الحديث : « اسكُتُوا عَمَّا سَكَتَ اللّهُ

ص: 228

لكن هذا نادر جدا ، للعلم العادي بأنّ هذه المسائل العامّة البلوى قد صدر حكمها في الكتاب أو بيان الحجّة قولاً أو فعلاً أو تقريرا .

فكلّما ظنّ من أمارة بحكم اللّه تعالى ، فقد ظنّ بصدور ذلك الحكم .

والحاصل : انّ مطلق الظّنّ بحكم اللّه ظنّ بالكتاب أو السُّنَّة ،

-------------------

عَنْهُ » (1) وكما جاء في بعض الأخبار : من إنّ الإمام المهدي « عجل اللّه تعالى فرجه » عندما يظهر ، يظهر بعض الأحكام .

( لكن هذا ) الحكم الواقعي المسكوت عنه ، الّذي لم يرد في الكتاب ولا في السُّنَّة ( نادر جدا ، للعلم العادي بأن هذه المسائل العامّة البلوى ) الّتي يكثر الإبتلاء بها ( قد صدر حكمها في الكتاب ، أو بيان الحجّة ) بيانا ( قولاً ، أو فعلاً ، أو تقريرا ) .

ومن أمثلة ذلك النّادر : إنّ الإمام المهدي « عجل اللّه تعالى فرجه » ، يحكم بين النّاس بعلمه الواقعي كحكم داود ، وإنّه يقتل مانع الزّكاة ، وما إلى ذلك .

وعليه : ( فكلّما ) حصل للفقيه ( ظنّ من أمارة ) كتابا كان أو خبرا أو إجماعا أو غير ذلك ( بحكم اللّه تعالى ) الواقعي ( فقد ظنّ بصدور ذلك الحكم ) في الكتاب أو السُّنَّة ، وإن كان لا يفهم ذلك من الكتاب ، لأنّه يحتاج إلى بيان المعصومين ، أو لم تصل السُّنَّة به ، لأنّ كثيرا من السُّنَّة لم تصلنا بسبب أعداء الدّين والجهّال .

( والحاصل : إنّ مطلق الظّنّ بحكم اللّه ) من أي طريق حصل ولو من الإستحسان ، أو المصالح المرسلة ، أو ما أشبه ذلك ، فهو ( ظنّ بالكتاب أو السُّنَّة ،

ص: 229


1- - غوالي اللئالي : ج3 ص166 .

ويدلّ على اعتباره ما دلّ على اعتبار الكتاب والسُّنَّة الظّنيّة .

فإنّ قلت :

-------------------

ويدلّ على اعتباره ) أي : اعتبار مطلق الظّنّ بحكم اللّه سبحانه ( ما دلّ على اعتبار ) الظّنّ الحاصل من نفس ( الكتاب والسُّنَّة الظّنيّة ) .

فإنّ انسداد باب العلم - على تفصيل يأتي انشاء اللّه تعالى - يدلّ على إنّ مطلق الظنون حجّة ، حتّى أنّ بعضهم قال : إنّ الظّنّ القياسي في حال الانسداد أيضا حجّة .

( فإنّ قلت : ) لا يخفى : إنّ صاحب الحاشية قال : الأحكام ثابتة لنا ، ومصدر الأحكام : الكتاب والسُّنَّة ، فإنّ أمكن العلم أو العلمي بالحكم منهما وجب تحصيله منهما بالعلم أو العلمي ، وإلاّ وجب تحصيله منهما بالظّنّ ، فالخبر الواحد المظنون صدوره أو دلالته ، أو مضمونه ، حجّة .

وأشكل عليه المصنّف : بأن هذا الدّليل يدلّ على حجيّة مطلق الظّنّ بأحكام اللّه ، لا الظّنّ الحاصل بالحكم من خصوص الكتاب والسُّنَّة فقط ، بل الظّنّ بحكم اللّه الحاصل من الشّهرة ، أو الإجماع المنقول ، أيضا حجّة في حال الانسداد .

ثمّ إنّ المصنّف بقوله : « فإنّ قلت » أشكل على جوابه بما حاصله : إنّ صاحب الحاشية يريد إنّ الواجب علينا بالضّرورة والإجماع : هو الرّجوع إلى الأخبار فإذا حصل لنا العلم بتلك الأخبار سندا ودلالة ومضمونا ، فهو ، وإلاّ وجب الرّجوع إليها رجوعا ظنّيا ، فليس مقتضى دليله : إنّ مطلق الظّنّ حجّة حتّى تقولون إنّه ليس خاصّا بالأخبار .

ثمّ أجاب المصنّف عن هذا الإشكال بجوابين :

ص: 230

المراد بالسُّنَّة الأخبار والأحاديث .

والمراد إنّه يجب الرّجوع إلى الأخبار المحكيّة عنهم ، فإنّ تمكّن من الرّجوع إليهما على وجه يفيد العلم فهو ، وإلاّ وجب الرّجوع إليهما على وجه يظنّ منه بالحكم .

قلت :

-------------------

أوّلاً : السُّنَّة نفس قول المعصوم ، أو تقريره ، لا الخبر الحاكي للثّلاثة ، فليس الخبر سنّة ، فلماذا جعل صاحب الحاشية الخبر سنّة ؟ .

ثانيا : إنّ الرّجوع إلى الأخبار الحاكية ليس عليها ضرورة أو اجماع ، وإنّما الضّرورة والإجماع في الرّجوع إلى قول المعصوم ، وفعله ، وتقريره ، فكيف قال صاحب الحاشية : إنّ الرّجوع إلى الأخبار الحاكية ضروري وإجماعي ؟ .

إذا ظهر ذلك رجعنا إلى توضيح المتن حيث يقول « فإنّ قلت » : ( المراد ) لصاحب الحاشية ( بالسُّنَّة ) الّتي ادّعى وجوب العمل بها للإجماع والضرورة والتّواتر هي ( : الأخبار والأحاديث ) المصطلحة الواصلة إلينا ، فيكون الظّنّ بها قائما مقام العلم والعلمي ، عند فقد العلم والعلمي .

( و ) كذا ( المراد ) لصاحب الحاشية من كلامه ذلك ( : إنّه يجب الرّجوع إلى ) الكتاب و ( الأخبار المحكية عنهم ) عليهم السلام ( فإنّ تمكّن ) المكلّف ( من الرّجوع إليهما على وجه يفيد العلم ) بأن علم بمراد القرآن وعلم بالصّدور ، والدّلالة ، والمضمون الواقعي للأخبار لا إنّه لتقيّة ( فهو ، وإلاّ وجب الرّجوع إليهما على وجه يظنّ منه بالحكم ) لانّ الظّنّ قائم مقام العلم والعلمي عند تعذّرهما .

( قلت : ) إنّه كما مرّ قد أجاب بجوابين :

ص: 231

مع انّ السُّنَّة في الإصطلاح عبارة عن نفس قول الحجّة أو فعله أو تقريره ، لا حكاية أحدها ، يرد عليه : انّ الأمر بالعمل بالأخبار المحكية ، المفيدة للقطع بصدورها ثابت بما دلّ على الرّجوع إلى قول الحجّة ، وهو الإجماع والضّرورة الثّابتة من الدّين أو المذهب .

وأمّا الرّجوع إلى الأخبار المحكيّة ، الّتي لا تفيد القطع بصدورها عن الحجّة ، فلم يثبت ذلك بالإجماع والضّرورة من الدّين الّتي إدّعاها المستدلّ ،

-------------------

أوّلاً : ( مع إنّ السُّنَّة في الإصطلاح ) الفقهائي ( عبارة عن نفس قول الحجّة ، أو فعله ، أو تقريره ، لا حكاية أحدها ) فليست الرواية سنّة ، وإنّما السُّنَّة هو المحكي ، لا الحاكي .

ثانيا : إنّه ( يرد عليه : ) أي : على مراد صاحب الحاشية : بأنّا نسلّم ( إنّ الأمر بالعمل بالأخبار المحكيّة ، المفيدة للقطع بصدورها ثابت بما دلّ على ) وجوب ( الرّجوع إلى قول الحجّة ، وهو الإجماع ) والتواتر ( والضّرورة الثابتة من الدّين ) عند عامّة المسلمين فقد قامت عندهم الضّرورة على الرّجوع إلى قول الحجّة ( أو المذهب ) فإنّ الخاصّة أيضا مجمعون على هذا الأمر ( وامّا الرّجوع إلى الأخبار المحكيّة ، الّتي لا تفيد القطع بصدورها عن الحجّة ، فلم يثبت ذلك بالإجماع والضّرورة من الدّين ) أو المذهب ( الّتي إدّعاها المستدلّ ) .

وعليه : فالأخبار الحاكية ، ما كان منهما متواترا ، أو محفوفا بقرائن قطعيّة ، دخلت في السُّنَّة ، ودلّ على وجوب العمل بها ما دلّ على وجوب العمل بالسُّنَّة ، إذ الإجماع والضّرورة والتّواتر كما دلّت على وجوب العمل بقول المعصوم ،

ص: 232

فإنّ غاية الأمر دعوى إجماع الإماميّة عليه في الجملة ، كما إدّعاه الشّيخ والعلاّمة في مقابل السّيد وأتباعه قدس سرهم .

وأمّا دعوى الضّرورة من الدّين والأخبار المتواترة ، كما إدّعاها المستدلّ ، فليست في محلّها ؟ ولعلّ هذه الدّعوى قرينة على أنّ مراده من السُّنَّة نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، لا حكايتها الّتي لا توصل

-------------------

أو فعله أو تقريره ، كذلك دلّت على وجوب العمل بالأخبار الحاكية القطعيّة ، وامّا ما كان من الأخبار ظنّيّا ، فلا يدخل في السُّنَّة ، ولا يجب العمل بها ، ولم يقم على وجوب العمل بها إجماع ولا ضرورة ولا تواتر .

( فإنّ غاية الأمر دعوى إجماع الإماميّة عليه في الجملة ، كما إدّعاه الشّيخ والعلاّمة في مقابل السيد وأتباعه قدس سرهم ) فقد ادّعى الشّيخ والعلاّمة - كما مرّ - الإجماع على العمل بالأخبار الخاصّة ، وهذا إجماع من الإماميّة فقط ، لا إجماع من المسلمين كافّة .

( واما دعوى الضرورة من الدّين والأخبار المتواترة ، كما ادّعاها المستدلّ ) وهو الشّيخ محمّد تقي ( فليست في محلّها ) فإنّ المستدلّ إدّعى الإجماع والضّرورة والتّواتر على وجوب العمل بالسُّنَّة ، والحال إنّه لا ضرورة ولا تواتر .

نعم ، الإجماع ، إمّا ادعاؤه الضّرورة والتّواتر ، فليس في محله .

( ولعلّ هذه الدّعوى ) الّتي إدّعاها المستدلّ من الضّرورة والأخبار المتواترة ( قرينة على انّ مراده ) أي : مراد المستدلّ وهو صاحب الحاشية ( من السُّنَّة : ) معناها المصطلح ، أي : ( نفس قول المعصوم ، أو فعله ، أو تقريره ، لا حكايتها ) أي : لا الأخبار الّتي هي حكاية للسُّنَّة الواقعيّة ( الّتي لا توصل ) تلك الأخبار

ص: 233

إليها على وجه العلم .

نعم ، لو إدّعى الضّرورة على وجوب الرّجوع إلى تلك الحكايات الغير العلميّة لأجل لزوم الخروج عن الدّين لو طرحت بالكليّة .

يرد عليه :

-------------------

المكلّف ( إليها ) أي : إلى السُّنَّة الواقعيّة ( على وجه العلم ) وإنّما الأخبار تكون طريقا ظنّيّا إلى قول المعصوم ، وفعله ، وتقريره .

( نعم ) لا بأس بكلامه ( لو إدّعى الضّرورة على وجوب الرّجوع إلى تلك الحكايات غير العلميّة ) وهي الأخبار ( لأجل لزوم الخروج عن الدّين لو طرحت بالكليّة ) فانّه لا شكّ في وجوب الرّجوع إلى الأخبار ، من جهة إنّ في طرحها يلزم الخروج من الدّين ، فيكون في ادّعاء الضّرورة عليه لأجل الانسداد وجه .

أمّا الرّجوع إلى الأخبار من حيث انّها أخبار ظنّيّة ، فلا إشكال في إنّه لا يصحّ دعوى الضّرورة عليه لأجل الانسداد .

لكن ( يرد عليه : ) إنّ دعواه هذه بقوله : « نعم » عبارة أخرى عن دليل الانسداد ، وليس دليلاً جديدا ، فانّه فرق بين أنّ يكون هذا الدّليل العقلي الّذي ذكره لأجل حجيّة الخبر بما هو خبر ، أو لأجل حجيّة الظّنّ بما هو ظنّ ممّا هو أعمّ من الخبر .

فإنّ كان مراد المستدلّ الانسداد الكبير ، وهو : أنّ نعلم إجمالاً بوجود تكاليف كثيرة في الواقع ثابتة علينا ، ولا طريق لنا إلى العلم بها تفصيلاً ، ولا إلى العلمي القائم مقام العلم ، والاحتياط في الكلّ حرج أو متعذّر ، والرّجوع إلى البرائة وطرح هذه الأخبار موجب للخروج من الدّين ، فيجب الأخذ بها بالضّرورة ، حذرا من المحذور ، وتقديما للظّنّ على الشّكّ والوهم ، وهذا دليل الانسداد بعينه ، وليس

ص: 234

أنّه إنّ أراد لزوم الخروج عن الدّين من جهة العلم ، بمطابقة كثير منها للتّكاليف الواقعيّة ، الّتي يعلم بعدم جواز رفع اليد عنها عند الجهل بها تفصيلاً ؛ فهذا يرجع إلى دليل الانسداد الّذي ذكروه لحجيّة الظّنّ ، ومفاده ليس إلاّ حجيّة كلّ أمارة كاشفة عن التكليف الواقعي .

وان أراد لزومه من جهة خصوص العلم الاجمالي بصدور أكثر هذه الأخبار

-------------------

دليلاً عقليّا في قِبال دليل الانسداد .

وذلك ( إنّه ) أي : المستدلّ ( إن أراد لزوم الخروج عن الدّين من جهة العلم بمطابقة كثير منها ) أي : من هذه الأخبار ( للتّكاليف الواقعيّة ، الّتي يعلم بعدم جواز رفع اليد عنها عند الجهل بها تفصيلاً ، فهذا يرجع إلى دليل الانسداد ) المعروف الّذي يأتي الكلام فيه .

ودليل الانسداد هو ( الّذي ذكروه لحجية الظّنّ ) مطلقا ، سواء كان في الأخبار أو في غير الأخبار ، بل قد عرفت : إنّ بعضهم قال بحجية الظّنّ عند الانسداد ، حتى إذا كان مستفادا من القياس ، أو الاستحسان ، أو المصالح المرسلة ، أو غيرها .

( ومفاده ) أي : مفاد دليل الانسداد الكبير ، الدّال على حجيّة مطلق الظّنّ - لا الانسداد الصغير الدّال على حجيّة خبر الواحد فقط - ( ليس إلاّ حجيّة كلّ أمارة كاشفة عن التّكليف الواقعي ) سواء كان خبرا أو غير خبر .

( وإن أراد لزومه ) أي : لزوم الخروج من الدّين ، لأجل الانسداد الصّغير الدّال على حجيّة الخبر فقط ، وذلك ( من جهة خصوص العلم الاجمالي بصدور أكثر هذه الأخبار ) الّتي بأيدينا ، وحيث لا طريق عقلاً للعلم بها تفصيلاً ، فالأخذ

ص: 235

حتى لا يثبت بها غير الخبر الظّنّي من الظنون ليصير دليلاً عقليّا على حجيّة الخبر ، فهذا الوجه يرجع الى الوجه الأوّل ، الّذي قدّمناه وقدّمنا الجواب عنه ، فراجع .

هذا تمام الكلام في الأدلّة الّتي أقاموها على حجيّة الخبر ، وقد علمت دلالة بعضها ، وعدم دلالة البعض الآخر .

-------------------

بمظنون الصّدور جميعا للضّرورة ( حتّى لا يثبت بها ) أي : بجهة العلم الاجمالي هذا ، حجيّة ( غير الخبر الظّنّي من الظنون ) الّتي مبعثها مثل الشّهرة ، والإجماع ، وغير ذلك ( ليصير ) العلم الاجمالي المذكور ( دليلاً عقليا على حجيّة الخبر ) بخصوصية فقط ، وهذا هو ما سميناه بالانسداد الصّغير .

وعليه : ( فهذا الوجه ) العقلي الّذي ذكره صاحب الحاشية لحجّيّة الخبر ( يرجع الى الوجه الأوّل ، الّذي قدّمناه وقدّمنا الجواب عنه ) من إنّ وجوب العمل بالأخبار الواردة عن المعصومين عليهم السلام ، إنّما هو من جهة وجوب العمل بأحكام اللّه سبحانه ، لا بما انّها أخبار ، فإنّ الواجب على الانسان العمل بأحكام اللّه ، فإنّ إستطاع تحصيل العلم بها فهو ، وإلاّ فعند إنتفاء العلم يجب العمل بكلّ أمارة يظنّ كون مضمونها الحكم الصّادر عنهم .

وعلى أي حال : فهذا الدّليل إمّا راجع إلى دليل الانسداد الآتي ، وأمّا راجع الى الدّليل الأوّل المتّقدم ، وليس دليلاً جديدا ( فراجع ) ما ذكرناه في الدّليل الأوّل ، وكذا ما سنذكره في دليل الانسداد لترى صحّة ذلك انشاء اللّه تعالى .

( هذا تمام الكلام في الأدلّة الّتي أقاموها على حجيّة الخبر ) بما هو خبر ، من الكتاب ، والسُّنَّة ، والإجماع ، والعقل ( وقد علمت : دلالة بعضها ، وعدم دلالة البعض الآخر ) ممّا تقدّم تفصيل الكلام فيه ، وذكرنا : إنّ جملة ممّا قال المصنّف

ص: 236

والإنصاف : أنّ الدّال منها ، لم يدلّ إلاّ على وجوب العمل بما يفيد الوثوق والإطمئنان بمؤدّاه ، وهو الّذي فُسّر به الصّحيح في مصطلح القدماء .

والمعيار فيه أنّ يكون إحتمال مخالفته للواقع بعيدا بحيث لا يعتني به العقلاء ولا يكون عندهم موجبا للتحيّر والتّردّد الّذي لا ينافي حصول مسمّى الرّجحان ،

-------------------

بعدم دلالته ، له دلالة .

هذا ( والإنصاف : إنّ الدّال منها ، لم يدلّ إلاّ على وجوب العمل بما يفيد الوثوق والإطمئنان بمؤدّاه ) أي : مضمونه ، سواء من جهة السّند ، أو من جهة المضمون ، وإن لم يكن الرّاوي عدلاً ضابطا إماميّا ( وهو الّذي فسّر به الصّحيح ) من الخبر ( في مصطلح القدماء ) فإنّ الصّحيح في مصطلح القدماء هو ما يوجب الوثوق ، وأمّا الصّحيح في مصطلح المتأخّرين فهو ما كان سنده عدلاً ضابطا إماميّا فقط .

إذن : فالصّحيح في مصطلح المتأخّرين ، أخصّ من الصّحيح في مصطلح القدماء ، وربّما يقال : بأنّ بينهما عموم من وجه - كما ألمعنا إلى ذلك سابقا - .

( والمعيار فيه ) أي : فيما يفيد الوثوق والإطمئنان ممّا هو حجّة ( : أنّ يكون احتمال مخالفته ) أي : مخالفة الخبر ( للواقع بعيدا بحيث لا يعتني به ) أي : بذلك الإحتمال ( العقلاء ولا يكون عندهم موجبا للتحيّر والتّردّد ) في الأمر .

وذلك هو ( الّذي لا ينافي حصول مسمى الرّجحان ) فإنّ الوثوق هو عبارة : عمّا يعمل به العقلاء في كافة أمورهم وإن احتملوا خلافه إحتمالاً بعيدا ، فإنّ من يراجع الطّبيب ، يثق به وإن احتمل اشتباهه في تشخيص المرض ، أو الدّواء ، ومن يسافر بالباخرة أو الطّائرة أو السّيّارة ، يثق بها وبمن يسوقها وان احتمل اشتباه

ص: 237

كما نشاهد في الظّنون الحاصلة بعد التّروي في شكوك الصّلاة ، فافهم .

وليكن على ذكر منك ، لينفعك فيما بعد .

الثّاني حجيّة مطلق الظّنّ

اشارة

فلنشرع في الأدلّة الّتي أقاموها على حجيّة الظّنّ من غير خصوصيّة للخبر يقتضيها نفس الدّليل وإن اقتضاها دليل آخر ،

-------------------

السّائق أو عطب الآلة في أثناء الطّريق ، وهكذا .

وهذا المعيار هو جار لمن يعمل بالخبر الواحد الّذي يثق به ، فإنّ بعض الوثوق المذكور لا يبقي للانسان تحيّر وتردد ( كما نشاهد في الظّنون الحاصلة بعد التّروي ) والتّفكّر ( في شكوك الصّلاة ) فانّه حيث يثق بأحد الطّرفين بعد التّروي يمضي عليه ، وإن كان يحتمل الطّرف الآخر أيضا إحتمالاً ضعيفا ، لكن مثل هذا الاحتمال الضّعيف ليس مورد إتّباع العقلاء .

( فافهم ) ذلك الّذي ذكرناه من مسألة كفاية الوثوق .

( وليكن على ذكر منك ، لينفعك فيما بعد ) عند بيان دليل الانسداد ، كي ترى ؛ هل إنّ الظّنون الخاصّة كافية لسدّ هذا الإحتياج أم لا ؟ والحمد للّه ربِّ العالمين

وصلّى اللّه على محمّد وآله الطّاهرين .

الثّاني حجيّة مطلق الظّنّ

هذا ، وقد عرفت تمام الكلام في الأدلّة الّتي أقاموها على حجيّة الخبر بما هو خبر ، ( فلنشرع في الأدلّة الّتي أقاموها على حجيّة الظّنّ من غير خصوصيّة للخبر ) أي سواء كان الظّنّ حاصلاً من الخبر أو من غير الخبر ، وذلك بصورة ( يقتضيها ) أي : يقتضي تلك الحجّيّة ( نفس الدّليل ) فإنّ نفس هذه الأدلّة الّتي نذكرها لا تقتضي حجيّة الخبر بخصوصه ( وإن اقتضاها ) من الخارج ( دليل آخر ) ،

ص: 238

وهو كون الخبر مطلقا أو خصوص قسم منه متيقّن الثّبوت من ذلك الدّليل إذا فرض إنّه لا يثبت إلاّ الظّنّ في الجملة ولا يثبته كليّة ، و هي أربعة :

الاوّل :

إنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التّحريمي مظنّة للضّرر ،

-------------------

فيكون هناك دليلان : أوّلاً : دليل يدلّ على حجيّة الظّنّ مطلقا .

ثانيا : دليل يدلّ على حجيّة الخبر بصورة خاصّة .

وبإنضمام أحد الدّليلين إلى الآخر تكون النّتيجة حجيّة الخبر .

( وهو ) أي : الدّليل الآخر ( كون الخبر مطلقا ) بكلّ أفراده ( أو خصوص قسم منه ) أي : من الخبر ، كخبر الثّقة ، أو كخبر العدل الضّابط الإمامي ، أو ما أشبه ذلك ( متيقّن الثّبوت من ذلك الدّليل ) أي : الدّليل الآخر .

لكن انّما نذهب إلى قسم ما تيقّن ثبوته ( إذا فرض إنّه ) أي : إذا فرض إنّ الدّليل على حجيّة الظّنّ ( لا يثبت إلاّ الظّنّ في الجملة و ) إنّه ( لا يثبته ) أي : الظّنّ ( كلّيّة ، و ) عموما .

والحاصل : إنّ الدّليل الدّال على حجيّة الظّنّ مطلقا ، شمل الخبر وغير الخبر ، فلا يكون ذلك الدّليل دليلاً على حجيّة الخبر فقط ، وإن أفاد ذلك الدّليل حجيّة الظّنّ في الجملة ، أخذنا منه القدر المتيقّن ، والقدر المتيقّن هو الخبر أمّا مطلقا بكلّ أفراد الخبر ، أو بعض أقسام الخبر - على ما قد عرفت - .

ثمّ إنّ الأدلّة الّتي أقاموها على حجّيّة الظّنّ مطلقا ( هي أربعة ) أدلّة :

( الأوّل : إنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التّحريمي ، مظنّة للضّرر ) فإذا ظنّ المجتهد وجوب الدّعاء عند رؤية الهلال ، كان معناه : إنّه إذا ترك الدّعاء وقع في العقاب ، وإذا ظنّ حرمة شرب التّتن ، ثمّ خالف وشربه ظنّ

ص: 239

ودفع الضّرر المظنون لازم .

أمّا الصّغرى ، فلأنّ الظّنّ بالوجوب ، ظنّ بإستحقاق العقاب على التّرك ، كما إنّ الظّنّ بالحرمة ظنّ بإستحقاق العقاب على الفعل ؛ أو لأنّ الظّنّ بالوجوب ، ظنّ بوجود المفسدة في التّرك ، كما إنّ الظّنّ بالحرمة ، ظنّ بالمفسدة في الفعل ، بناءا على قول « العدليّة » بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد . وقد جعل في النّهاية كلاً من الضّررين

-------------------

بالعقاب ، وهو ضرر ( ودفع الضّرر المظنون لازم ) بحكم العقل .

( أمّا الصّغرى ) وهي ما ذكره بقوله : إنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه ( فلأنَّ الظّنّ بالوجوب ، ظنّ بإستحقاق العقاب على التّرك ، كما إنّ الظّنّ بالحرمة ، ظنّ بإستحقاق العقاب على الفعل ) لأنّ الوجوب ما في تركه العقاب ، والحرمة ما في فعلها العقاب ( أو لأنّ الظّنّ بالوجوب ، ظنّ بوجود المفسدة في التّرك ، كما إنّ الظّنّ بالحرمة ، ظنّ بالمفسدة في الفعل ) لأنّ الواجبات إنّما تكون واجبات لما فيها من المصالح الممنوعة التّرك ، والمحرّمات إنّما تكون محرّمات لما فيها من المفسدة الممنوعة الإتيان .

وذلك ( بناءا على قول العدليّة بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ) دون الأشاعرة ، إذ الأشاعرة يرون الدّليل الأوّل وهو : إنّ في ترك الواجب وفعل الحرام العقاب ، ولا يرون الدّليل الثّاني وهو : إنّ في الواجب مصلحة ملزمة ، وفي الحرام مفسدة ملزمة .

وإنّما يرى الدّليل الثّاني - إضافة إلى الدّليل الأوّل - العدليّة فقط ، وهم الشّيعة والمعتزلة ، القائلون بعدالة اللّه سبحانه وتعالى ، ولهذا سموا بالعدليّة .

( وقد جعل في النّهاية كلاً من الضّررين ) : إستحقاق العقاب ، ووجود

ص: 240

دليلاً مستقلاً على المطلب .

وأجيب عنه بوجوه :

أحدهما : ما عن الحاجبي ، وتبعه غيره ، من منع الكبرى ، وإن دفع الضّرر المظنون

-------------------

المفسدة ( دليلاً مستقلاً على المطلب ) وهو لزوم عمل المجتهد بما ظنّه واجبا ، وتركه لما ظنه حراما .

ولا يخفى : إنّه حيث كان اثبات الكبرى وهو : لزوم دفع الضّرر المحتمل ودفع المفسدة المحتملة واضحا ، لم يتعرّض المصنّف للكلام فيهما ، لوضوح : إنّ العقلاء يفرّون من مظانّ الضّرر الكثير ، سواء كان ضررا دنيويا أو ضررا أخرويا ، وعليه بنى العقلاء إثبات وجوب معرفة الصّانع المتوقف على شكر المنعم ، وكذا وجوب النّظر إلى المعجزة - ممّا سيأتي في كلام المصنّف - .

( وأجيب عنه ) أي : عن هذا الدّليل ( بوجوه ) متعدّدة :

( أحدهما : ما عن الحاجبي ) وهو من أعاظم علماء العامّة في الأصول ( وتبعه غيره ، من منع الكبرى ) الّتي كانت تقول : بأن دفع الضّرر المظنون بحكم العقل واجب ، وإنّما منع الكبرى لأمرين :

الأوّل : إنّ الأشعري لا يقبل الحُسن والقبح العقليين ، وإذا لم يكن حسن وقبح عقلي ، فلا وجوب ولا حرمة ، وعليه : فلا لزوم في دفع الضّرر المحتمل ، لأنّ دليل الوجوب هو الحسن العقلي .

الثّاني : إنّه على فرض حسن دفع الضّرر المحتمل ، وقبح عدم الدّفع ، فهو أمر مستحسن لا واجب .

وقد أشار المصنّف إلى الدّليل الأوّل بقول : ( وإنّ دفع الضّرر المظنون ) إنّما

ص: 241

إذا قلنا بالتّحسين والتّقبيح العقليين إحتياط مستحسن ، لا واجب .

وهو فاسدٌ ، لأنّ الحكم المذكور حكم إلزامي أطبق العقلاء على الإلتزام به في جميع أمورهم وذمّ من يخالفه .

ولذا إستدل به المتكلّمون في وجوب شكر المنعم ، الّذي هو مبنى وجوب معرفة اللّه تعالى ،

-------------------

هو ( إذا قلنا بالتحسين والتقبيح العقليين ) .

كما وأشار إلى الدّليل الثّاني بقوله : إنّ الدفع هذا ( إحتياط مستحسن ، لا واجب ) ومعنى الاحتياط : إنّ الانسان يحوط نفسه عن أن يصيبه المكروه .

( وهو ) أي : منع الحاجبي الكبرى ( فاسد ) قطعا ( لأنّ الحكم المذكور ) أي : لزوم دفع الضّرر المحتمل ( حكم إلزامي ) لا إستحساني - كما قاله الحاجبي - وقد ( أطبق العقلاء على الإلتزام به في جميع أمورهم ) المرتبطة بدينهم أو دنياهم عند المتديّنين منهم .

أمّا غير المتديّنين فانّهم يعتمدونه في جميع أمور دنياهم الفردية ، والإجتماعية ، وغيرها .

( و ) كذا أطبقوا على ( ذمّ من يخالفه ) أي : من يخالف لزوم دفع الضّرر المحتمل .

( ولذا إستدل به ) أي : بوجوب دفع الضّرر المحتمل ( المتكلّمون في وجوب شكر المنعم ، الّذي هو مبنى وجوب معرفة اللّه تعالى ) فإنّهم قالوا بتوضيح منّا وتلخيص :

يجب معرفة اللّه تعالى ، لأنّه لولا المعرفة لم يؤد حقّ شكره تعالى ، وإذا لم يؤدّ

ص: 242

ولولاه لم يثبت وجوب النّظر في المعجزة

-------------------

شكره ، إحتمل قطع النّعم في الدّنيا أو في الآخرة ، وقطع النّعم ضرر عظيم ، ودفع الضّرر المحتمل واجب بحكم العقل .

فاللاّزم : المعرفة حتى يؤدي شكره ، فإذا شكر لم تنقطع النّعمة إنقطاعا قطعا ، أو إنقطاعا إحتمالاً .

لا يقال : إنّا نرى المنكرين للّه تعالى لا تنقطع عنهم نعمهم .

لأنّه يقال : ولهذا ذكرنا : إحتمال قطع النّعم في الدّنيا أو في الآخرة .

لا يقال : المنكر للآخرة لا مجال لمثل هذا الاستدلال بالنّسبة إليه .

لانّه يقال : مجرد إحتماله للآخرة وإحتماله قطع النّعم فيها بسبب عدم شكره كافٍ لوجوب شكره ، ولا شكّ إنّ المنكرين للآخرة - إلاّ ما شذّ منهم - يحتملون صدق الآخرة ، ولذا قال الإمام عليه السلام في شعره منسوب إليه :

قَالَ المُنجِّم والطَّبيبُ كِلاَهُمَا *** لَنْ يُحْشَرَ الأَمْوَات قُلتُ إليكُما

إن كان قولُكُما فَلَسْتُ بخاسرٍ *** أَوْ كانَ قولي بالخَسارةِ عَليكَما.

( ولولاه ) أي : لولا وجوب دفع الضّرر المحتمل ( لم يثبت وجوب النّظر في المعجزة ) فإنّ الّذين يعاصرون رسالة الأنبياء ، إمّا يظنون صدق الأنبياء في دعواهم ، أو يحتملون فيهم ذلك ، فترك النّظر في معاجزهم يستلزم الضرر على سبيل الظّنّ على الأوّل ، وعلى سبيل الاحتمال المظنون ودفع الضّرر المحتمل ، لزم إفحام الأنبياء ، فإنّ سلاح الأنبياء هو التخويف بالعقاب ، أمّا الثّواب ، فنادرا ما يحرّك الانسان ، بدليل إنّ الغالب من المتدينين لا يصلّون صلاة الليل ،

ص: 243

ولم يكن للّه على غير النّاظر حجّة .

ولذا خصّوا النّزاع في الحظر والإباحة في غير المستقلات العقليّة بما كان مشتملاً على منفعة ، وخاليا عن أمارة المفسدة ، فانّ هذا التقييد يكشف عن أنّ ما فيه أمارة المضرّة لا نزاع في قبحه .

-------------------

ولا يصومون الأيّام المستحبّة ، مع كثرة الثّواب عليهما ، مع إنّهم لا يتركون الفرائض ويصومون شهر رمضان ، لأنّ في تركهما العقاب .

( ولم يكن للّه على غير الناظر حجّة ) لأنّ اللّه تعالى إذا قال للنّاس : لماذا لم تصدّقوا الأنبياء ؟ قال النّاس : لأنّا كنّا نشكّ في صدقهم ، فيقول اللّه لهم ، ألا أنّكم كنتم تحتملون الضّرر في ترك تصديقهم والنّظر في معجزتهم ، ودفع الضّرر المحتمل بحكم عقولكم واجب ، فإذا لم يكن دفع الضّرر المحتمل بحكم العقل واجبا ، لم يكن للّه أن يحتج عليهم .

( ولذا ) أي : لأجل هذا الّذي ذكرناه : من وجوب دفع الضّرر المحتمل عقلاً ( خصّوا ) أي : العلماء ( النّزاع في الحظر والإباحة : في غير المستقلات العقليّة ) فان هناك نزاعا بين العلماء في انّ الأصل في الأشياء : هل هو لمنع من إستعماله وتناوله ، أو : الإباحة ؟ .

لكن هذا النّزاع في غير المستقلات العقليّة أمّا في المستقلاّت العقليّة ، فلا نزاع ، إذ العقل مستقل بانّ إحراق الغابات ، وقتل الحيوانات المفيدة اعتباطا محظور ، كما إنّه مستقل بأنّ سدّ الرّمق من الطعام والماء مباح .

فإنّهم خصّوا هذا النّزاع ( بما كان مشتملاً على منفعة ، وخاليا عن أمارة المفسدة ، فإنّ هذا التّقييد ) بكونه خاليا عن أمارة المفسدة ( يكشف عن انّ ما فيه أمارة المضرّة لا نزاع في قبحه ) بينهم ، فإنّ إرتكابه قبيح .

ص: 244

بل الأقوى كما صرّح به الشّيخ في العدّة في مسألة الإباحة والحظر ، والسّيد في الغنية ، وجوب دفع الضّرر المحتمل . وببالي انّه تمسّك في العدّة بعد العقل بقوله تعالى : « وَلاَ تُلْقُوا بأيديكم الى التهلكة » .

ثمّ إنّ ما ذكره من إبتناء الكبرى على التّحسين والتّقبيح العقليّين

-------------------

لكن لا يخفى : إنّ مرادهم بالمضرّة : الضّرر المتزايد ، وإلاّ فالضّرر القليل لا يلزم دفعه بحكم العقل ، بل يكون دفعه أفضل ، مثل : تضرّر الانسان من المشي في الشّمس أو المشي بقدر متعب ، أو ما أشبه ذلك ، ولذا لم يتجنّب العقلاء عن مثل هذا الضّرر .

( بل الأقوى كما صرّح به الشّيخ في العدّة في مسألة الإباحة والحظر ، والسّيد ) ابن زهرة ( في الغنية : وجوب دفع الضّرر المحتمل ) أي : ولو لم يكن الضّرر مظنونا .

وإنّما قال المصنّف ذلك ، لأنّ في عنوان المسألة كان دفع الضّرر المظنون لازم ( وببالي : إنّه تمسّك في العدّة بعد العقل ) الدّال على وجوب دفع الضّرر المحتمل والمظنون ( بقوله تعالى : « وَلاَ تُلقُوا بِأيدِيكُم إلى التَّهلُكَة » ) (1) .

بتقريب إنّ العقل لا يرى فرقا بين الإلقاء في التّهلكة القطعيّة ، أو في التّهلكة الظّنيّة ، أو في التهلكة المحتملة ، كما قالوا : بأن خوف الضّرر في الصّوم ، والوقوف في الصّلاة ، وما أشبه أيضا مسقط لها .

( ثمّ إنّ ما ذكره ) الحاجبي ( من إبتناء الكبرى ) وهو : إنّ دفع الضّرر المظنون لازم ( على التحسين والتقبيح العقليين ) حيث قال : وإنّ دفع الضّرر المظنون إذا

ص: 245


1- - سورة البقرة : الآية 195 .

غير ظاهر ، لأنّ تحريم تعريض النّفس للمهالك والمضارّ الدنيويّة والاخرويّة ممّا دلّ عليه الكتاب والسُّنَّة ، مثل التعليل في آية النّبأ ، وقوله تعالى : « وَلاَ تُلْقُوا بِأَيديكُم إلى التَّهلُكَة » ، وقوله تعالى : « فَليَحذَر الَّذِينَ يُخَالِفُون عَن أَمرهِ أن تُصِيْبَهُم فِتْنَةٌ أو يُصِيبَهُم عَذَابٌ ألِيم » ،

-------------------

قلنا بالتّحسين والتّقبيح العقليّين إحتياط مستحسن لا واجب ( غير ظاهر ، لأنّ تحريم تعريض النفس للمهالك والمضارّ الدّنيويّة والاخرويّة ) الكثيرة ، سواء كانت المهالك مظنونة أو محتملة ( ممّا دلّ عليه الكتاب والسُّنَّة ) فلا مجال للعقل في ذلك ، وإن كان العقل أيضا مؤيّدا .

( مثل التعليل في آية النّبأ ) حيث قال سبحانه : «أن تُصِيبُوا قَوما بِجَهَالَةٍ فَتُصبِحُوا عَلى مَا فَعَلتُم نادِمِينَ» (1) وذلك لأنّ في ارتكاب الضّرر المظنون أو المحتمل ، مخافة الوقوع في النّدم لا محالة .

( وقوله تعالى : «وَلاَ تُلقُوا بِأَيدِيكُم إلى التَّهلُكَة» ) (2) على التّقريب المتقّدم .

وربّما يقال : إنّ الاستدلال بالآية المباركة مبنيّ على كون ظاهره : المنع عن إلقاء النّفس في معرض الهلكة ، الصّادق مع الظّنّ بها أيضا لا الهلكة الواقعيّة ، ولذا يكون الاحتمال أيضا كالقطع والظّنّ في المقام .

( وقوله تعالى : « فَليَحذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمرِهِ أن تُصِيبَهُم فِتنَةٌ أَو يُصِيبَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ » (3) ) فانّ بعض المفسّرين قال : « الفتنة » هي الحروب ، والمشكلات ، والعذاب الأليم هو الأسر على يد الرّسول صلى اللّه عليه و آله وسلم وأصحابه ، والقتل أشبه ذلك .

ص: 246


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .
2- - سورة البقرة : الآية 195 .
3- - سورة النور : الآية 63 .

بناءا على إنّ المراد العذاب والفتنة الدنيويّان .

وقوله تعالى : « واتَّقُوا فِتنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً » ،

-------------------

ولذا قال المصنّف : ( بناءا على إنّ المراد : العذاب والفتنة الدنيويّان ) فإنّ مقتضى الآية : عليه كلّ من إحتمال إصابة الفتنة والعذاب الأليم ، لوجوب الحذر ، ومن المعلوم : إذا ثبت وجوب الحذر بمجرد إحتمال إصابة الفتنة أو العذاب الأليم ، فمَع ظنّهما يجب بطريق أولى .

وإنّما قيّدهما المصنّف بالدنيويّين ، لأنّه إذا فُسرت الفتنة والعذاب الأليم بالأخرويّين ، كان المراد بالفتنة حينئذٍ : عذاب القبر ، كما ورد في بعض الرّوايات : إرادة عذاب القبر من الفتنة ، فلا ترتبط الآية المباركة بما نحن فيه ، إذ إصابة أحد الأمرين في الآخرة ، قبرا وقيامة لأجل مخالفة أمره سبحانه وتعالى معلومة لا مظنونة .

والحاصل : إنّ المراد بالفتنة والعذاب في الآية محتمل لثلاثة أمور :

الأوّل : أن يكون المراد بهما الدنيويّين كما يظهر من بعض المفسّرين ، فقد قال الطبرسي في قوله تعالى « أَن تُصيبَهم فِتنَةٌ » (1) أي : بليّة تظهر ما في قلوبهم من النّفاق ، وقيل عقوبة في الدّنيا أو يصيبهم عذاب أليم في الدّنيا .

الثّاني : أن يكونا الاخرويّين كما ذكرناه .

الثالث : أن يكون المراد بالفتنة : الدنيويّة ، وبالعذاب : الاخروي .

( وقوله تعالى : « وَاتَّقُوا فِتنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً . . . » ) (2) .

ص: 247


1- - سورة النور : الآية 63 .
2- - سورة الأنفال : الآية 25 .

وقوله تعالى : « ويُحذِّركُم اللّهُ نَفسَهُ » ، وقوله تعالى : « أفأمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ » ، إلى غير ذلك .

-------------------

فإنّ أثر بعض المحرّمات يصيب الفاعل فقط ، مثل ترك الصّلاة والصّوم وما أشبه .

وأثر بعضها يصيب الفاعل وغيره ، كما إذا شرب الأب الخمر أو زنا ، فإنّه يؤثر في نسله ، وقد مثل الرّسول صلى اللّه عليه و آله وسلم بالسّفينة ومن يريد خرقها ، فإنّه إذا أخذوا بيده نجا ونجوا ، وإذا لم يأخذوا بيده غرق وغرقوا ، فالمراد : إتّقاء الفتنة بإنكار المنكر .

ومن المعلوم : إنّ إصابة الانسان بسبب عمل غيره ، ليس بمقطوع به في كثير من الأحيان ، بل إما مظنون أو محتمل .

( وقوله تعالى : « وَيُحَذِّرُكُم اللّهُ نَفسَهُ » ) (1) أي : يخوّفكم من أن يغضب عليكم بسبب عصيانكم له ، فيجب الإحتراز عن كلّ ما يوجب غضبه ، أو يظنّ إنّ غضبه فيه ، أو يحتمل ذلك ، فهو مثل قولنا : إحذر الأسد ، فإنّ السّامع يفهم منه : إنّه يجب عليه أن لا يذهب إلى مكان يقطع أو يظنّ أو يحتمل إنّ فيه أسد .

( وقوله سبحانه : « أفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ ) أن يَخسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرضَ ، أَو يَأتِيَهُمُ العَذَابُ مِن حَيثُ لاَ يَشعُرُونَ * أَو يأخُذهُم فِي تَقَلُّبَهُم فَمَا هُم بِمُعجِزِينَ * أو يأخُذَهُم عَلى تَخَوّفٍ » (2) .

فانّ من يقدم على مقطوع الضّرر ، أو محتمل الضّرر ، أو مظنون الضّرر لا أن له، فاللازم إنّه إذا أراد أن يكون آمنا أن يجتنبها جميعا . ( إلى غير ذلك ) من الآيات والرّوايات ، الّتي تدلّ على لزوم اجتناب الضّرر مقطوعا أو مظنونا أو محتملاً .

ص: 248


1- - سورة آل عمران : الآية 28 .
2- - سورة النّحل : الآيات 45 - 47 .

نعم ، التّمسّك في سند الكبرى بالأدلّة الشّرعيّة يخرج الدّليل المذكور عن الأدلّة العقليّة .

لكنّ الظّاهر إنّ مراد الحاجبي منع أصل الكبرى ، لا مجرّد منع إستقلال العقل بلزومه . ولا يبعد عن الحاجبي ان يشتبه عليه حكم العقل الإلزاميّ بغيره ، بعد أن اشتبه عليه أصل حكم العقل بالحسن والقبح . والمكابرة في الأوّل ليس بأعظم منها في الثّاني .

-------------------

( نعم ، التّمسّك في سند الكبرى ) والكبرى هي : إنّ دفع الضّرر المظنون لازم ( بالأدلّة الشّرعيّة ) كالآيات ، والرّوايات ، والإجماع ، والشّهرة ، ونحوهما ( يخرج الدّليل المذكور عن الأدلّة العقليّة ) لأنّه إذا كان أحد أجزاء القياس مستندا إلى الشرع ، يكون الدّليل أقرب إلى الشّرع من العقل ، فانّ الدّليل العقلي هو الّذي كبراه وصغراه عقليّان ، أمّا إذا كان أحدهما شرعيّا فانّ النّتيجة تكون شرعيّة .

هذا ( لكن الظّاهر : إنّ مراد الحاجبي : منع أصل الكبرى ) وإنّه لا دليل على لزوم دفع الضّرر المظنون ( لا مجرد منع إستقلال العقل بلزومه ) أي : بلزوم دفع الضّرر المظنون .

( ولا يبعد عن الجاجبي أن يشتبه عليه حكم العقل الإلزامي بغيره ) فإنّه كما تقدّم لم يجعل دفع الضّرر المظنون لازما ، بل قال إنّه إحتياط مستحسن ( بعد أن اشتبه عليه أصل حكم العقل بالحسن والقبح ) إذ الأشاعرة لا يقبلون الحسن والقبح العقليّين على ما تقدّم ، وإنّما يقولون : إنّ الحسن والقبح هما شرعيّان فقط .

( والمكابرة في الأوّل ليس بأعظم منها في الثّاني ) بمعنى : إنّ إنكار الحاجبي حكم العقل الإلزامي ، ليس بأعظم من إنكاره الحسن والقبح العقليّين ، فمن أنكر الثّاني لا يبعد منه إنكار الأوّل .

ص: 249

ثانيها : ما يظهر من العدّة والغنية وغيرهما ، من أنّ الحكم المذكور مختص بالأمور الدنيويّة ، فلا يجري في الاخروية مثل العقاب .

وهذا كسابقه في الضّعف ، فانّ المعيار هو التّضرر ، مع إنّ المضار الاخروية أعظم ، اللّهم إلاّ أن يريد المجيب كما سيجيء ، من أنّ العقاب مأمون على ما لم ينصب الشّارع دليلاً على التّكليف به ،

-------------------

( ثانيهما : ) أي : ثاني الاجوبة عن الدّليل الأوّل لحجيّة مطلق الظّنّ ( ما يظهر من العدّة ) للشّيخ ( والغنية ) لابن زهرة ، ( وغيرهما : من انّ الحكم المذكور ) وهو : وجوب دفع الضّرر المحتمل ( مختص بالأمور الدّنيويّة ) فانّ الانسان يجب عليه أن يدفع عن نفسه الأضرار الدّنيويّة ، سواء كانت مقطوعا بها ، أو مظنونا أو محتملاً ( فلا يجري في الاخرويّة مثل العقاب ) .

فإنّ دفع الضّرر المظنون الاخروي ليس بواجب ، لأنّ البرائة العقليّة والشّرعيّة تؤمّنان الانسان عن العقاب الاخروي ما لم يعلم بالعقاب أو لم يقم دليل عليه ممّا يسمّى بالعلمي .

( وهذا كسابقه ) أي : الجواب الأوّل الّذي ذكروه ( في الضعف ) وإنّما كان هذا الجواب ضعيفا لأنّه كما قال : ( فانّ المعيار هو التّضرّر ) فكلّما إحتمل الانسان الضّرر ، أو الظّنّ به ، لزم اجتنابه أخرويّا كان أو دنيويّا ، هذا ( مع إنّ المضارّ الاخروية أعظم ) .

وعلى أي حال : فانّ الكبرى مسلَّمةٌ في نفسها ( اللّهم إلاّ أن يريد المجيب ) بهذا الجواب ( كما سيجيء ) انشاء اللّه تعالى : ( من أنّ العقاب مأمون على ما لم ينصب الشّارع دليلاً على التّكليف به ) أي : إنّه لا ينكر كلّيّة الكبرى ، وإنّما ينكر أن يكون صغرى العقاب الاخروي من صغريات هذه الكبرى فيما إذا لم

ص: 250

بخلاف المضارّ الدّنيويّة التّابعة لنفس الفعل أو التّرك ، علم حرمته أو لم يعلم ، أو يريد أنّ المضارّ الغير الدّنيويّة ، وان لم يكن خصوص العقاب ، ممّا دلّ العقل والنقل على وجوب إعلامها على الحكيم ، وهو الباعث له على

-------------------

ينصب الشّارع دليلاً على التّكليف ، فقد قال سبحانه: « وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولاً »(1) .

إلى غير ذلك ممّايدلّ على أن اللّه تعالى لا يعاقب أحدا إلاّ بعد نصب الدّليل له.

وهذا ( بخلاف المضارّ الدّنيويّة التّابعة لنفس الفعل أو التّرك ، علم حرمته أم لم يعلم ) فانّ الانسان إذا إرتكب المضارّ الدّنيويّة المقطوعة أو المظنونة أو المحتملة ، فانّه يصيبه الضّرر من غير مدخليّة للعلم والجهل في ذلك ، بخلاف المضارّ الاخرويّة حيث انّها لا تترتب إلاّ على من علمها ولم يتجنّبها ، أعمّ من العلم الوجداني ، أو العلم التّنزيلي ممّايسمّى في الإصطلاح بالعلمي .

( أو يريد ) المجيب ( انّ المضارّ غير الدّنيويّة ، وإن لم يكن خصوص العقاب ) بينما في الوجه الأوّل قلنا : خصوص العقاب فانّه ( ممّا دلّ العقل والنقل على وجوب إعلامها على الحكيم ) من باب اللّطف فيكون الفرق حينئذٍ بين هذا الجواب والجواب الأوّل : إنّ الجواب الأوّل : مبنيّ على « قبح العقاب بلا بيان » ، وهذا الجواب مبنيّ على « وجوب اللّطف » .

( وهو ) أي : ما دلّ العقل والنّقل على وجوب إعلامها على الحكيم - ممّا ينطبق على قاعدة اللّطف - يكون ( الباعث له ) أي : للحكيم تعالى ( على

ص: 251


1- - سورة الإسراء : الآية 15 .

التّكليف والبعثة .

لكن هذا الجواب راجعٌ إلى منع الصّغرى لا الكبرى .

ثالثها : النقضُ بالأمارات الّتي قام الدّليل القطعي على عدم إعتبارها ، كخبر الفاسق ، والقياس ، على مذهب الإماميّة .

-------------------

التّكليف والبعثة ) أي : بعثة الأنبياء وتكليف النّاس بالتّكاليف الشّرعيّة .

فتحصَّل : إنّ الدّليل لحجّيّة الظّنّ هو دفع الضّرر الاخروي المحتمل .

والجواب عنه : إنّ دفع الضّرر الاخروي المحتمل ليس بواجب ، وذلك لقبح العقاب بلا بيان ، فانّه إذا لم يكن بيان لم يكن ضرر قطعا ، أو لأنّ اللّطف يقتضي أن لا يعاقب اللّه سبحانه أحدا ولا يمنع الدّرجات الرّفيعة ما لم يبيّن له فانّ المنع من الدّرجات الرّفيعة كالعقاب ، خلاف الحكمة إذا لم يكن مع البيان .

إذن : فهناك مُؤمّن بالنّسبة إلى الضّرر الاخروي ، أمّا من جهة قبح العقاب بلا بيان ، أو من جهة وجوب اللّطف .

( لكنّ هذا الجواب ) كما قلنا - ( راجع إلى منع الصّغرى لا الكبرى ) فانّ المجيب يسلِّم إنّ دفع الضّرر المحتمل واجب ، لكنّه يقول : ليس في المقام ضرر محتمل ، بل الضّرر مقطوع العدم .

( ثالثها : ) أي : ثالث الاجوبة عن الدّليل الأوّل لحجيّة مطلق الظّنّ : ما حكي عن المحقق في المعارج ، مع اختلاف لما ذكره المصنّف هنا : من ( النقض بالأمارات ، الّتي قام الدّليل القطعي على عدم إعتبارها ) وإن إتخذها العقلاء غالبا أمارة ( كخبر الفاسق ، والقياس ، على مذهب الإماميّة ) حيث إنّ الإماميّة لا يجوّزون العمل بخبر الفاسق ، كما لا يجوّزون العمل بالقياس .

فكما إنّ الانسان الّذي قام عنده خبر فاسق ، أو خبر كافر ، أو قياس ،

ص: 252

وأجيب عنه تارة بعدم إلتزام حرمة العمل بالظّنّ عند إنسداد باب العلم ، وأخرى بأنّ الشّارع إذا ألغى ظنّا

-------------------

أو إستحسان ، أو ما أشبه ذلك ، يظنّ بالضّرر في تركه ، ومع ذلك يتركه على مذهب الإماميّة ، لذلك إذا قام عند الانسان ظنّ من سائر الأسباب ، فانّه يتركه ، وإنّ ظنّ بالضّرر .

وعليه : فما يقال في مثل خبر الفاسق ، يقال في سائر الظّنون الّتي لا تحصل من الأسباب الشّرعيّة .

ولا يخفى : إنّ هذا النّقض كما هو صالح لأن يرجع إلى منع الصّغرى بأن يكون مقصوده : إنّه بعد منع الشّارع من العمل بالظّنّ مطلقا لا يبقى ظنّ بالعقاب ، كما في مورد خبر الفاسق ، والقياس ، وغيرها ، ممّا نهى عنه الشّارع بالخصوص ، كذلك هو صالح لأنّ يرجع إلى منع كلّيّة الكبرى وإنّه ليس كل مظنون الضّرر يجب الإجتناب عنه بدليل ما نشاهد في خبر الفاسق ، والقياس ، ونحوهما .

( وأجيب عنه : ) والمجيب هو المحقّق القمّيّ على ما نُسب إليه : ( تارة بعدم إلتزام حرمة العمل بالظّنّ عند إنسداد باب العلم ) فإنّه عند إنسداد باب العلم ، يلزم العمل بخبر الفاسق ، والقياس ، ونحوهما ، فلا نقض في المقام ، فقد قال رحمه اللّه في محكي كلامه :

إنّ إشتراط العدالة معركة للآراء ، والاستدلال بالآية - أي : آية النّبأ - غايته الظّنّ ، ولم يحصل العلم بحجّيّة هذا الظّنّ - كما مرّ - مع إنّ الشّيخ صرح بجواز العمل بخبر المحترز عن الكذب ، ، مع إنّ المشهور : جواز العمل بالخبر الضّعيف المعتضد بعمل الأصحاب ، ولا ريب إنّ ذلك لا يفيد إلاّ الظّنّ .

( وأخرى ) أجيب عن النّقض بما يرفع النّقض : ( بأنّ الشّارع إذا ألغى ظنّا

ص: 253

تبيّن أنّ في العمل به ضررا أعظم من ضرر ترك العمل به .

ويضعف الأوّل : بأنّ دعوى : « وجوب العمل بكلّ ظنّ في كلّ مسألة إنسدّ فيها باب العلم ، وإن لم ينسدّ في غيرها » ، الظّاهر أنّه خلاف مذهب الشّيعة ،

-------------------

كالظّنّ القياسي ، أو الظّنّ المستند إلى خبر الفاسق ( تبيّن أنّ في العمل به ) أي : بذلك الشيء الّذي ألغاه الشّارع ( ضررا أعظم من ضرر ترك العمل به ) فخروج القياس ونحوه ، إنّما هو من باب التّخصّص دون التّخصيص ، لأنّ الأحكام الواقعيّة - على مذهب العدليّة - ناشئة من المصالح والمفاسد الكامنتين في الأشياء .

فحينئذٍ : يجوز أنّ يكون بعض الطّرق : كالقياس ، وخبر الكافر والفاسق ، وما أشبه ، مشتمل على مفسدة ، أعظم من مصلحة الواقع ، ولذا يلغي الشّارع مثل القياس ، وخبر الفاسق ، والكافر ، تحفّظا عن وقوع الأمّة في تلك الأضرار العظيمة ، فيكون تجويز الشّارع ترك العمل بالقياس ونحوه ، أو منعه عن العمل بهذه الأمور مع إفادتها الظّنّ بالواقع من قبيل دفع الأفسد بالفاسد .

( ويضعف ) الجواب ( الأوّل : ) الّذي ذكره القمّيّ : ( بأنّ دعوى « وجوب العمل بكلّ ظنّ في كلّ مسألة إنسدّ فيها باب العلم ، وإن لم ينسدّ في غيرها » ، الظّاهر : إنّه خلاف مذهب الشّيعة ) فإنّ المصنّف قد أشكل على المحقّق القمّيّ باشكالين :

الأوّل : إنّ العمل بالظّنّ الخاص في حال الإنسداد بما إذا كان الانسداد في معظم المسائل والاّ بأنّ إنسدّ باب العلم في كتاب الطّهارة - مثلا - فقط ولم ينسدّ في سائر

الكتب ، وأمكن الاحتياط بدون عسر ، ولا حرج ، ولا اجماع على خلاف الاحتياط في كتاب الطّهارة ، لم يجز العمل بالظّنّ الانسدادي في كتاب الطّهارة ،

ص: 254

لا أقل من كونه مخالفا لاجماعاتهم المستفيضة بل المتواترة ، كما يعلم ممّا ذكروه في القياس .

والثّاني : بأنّ إتيان الفعل حذرا من ترتب الضّرر على تركه ، أو تركه حذرا من التّضرر بفعله ، لا يتصور فيه ضرر أصلاً ، لانّه من الاحتياط الّذي إستقل العقل بحسنه

-------------------

بل وجب الإحتياط بينما يرى المحقّق القمّي جواز العمل بالظّنّ في كتاب الطّهارة ، وهذا خلاف مذهب الشّيعة .

الثّاني : إنّه إذا حصل الانسداد الكامل يعمل بالظّنون الّتي لم يمنع عنها الشّارع دون الّتي ردع عنها ، ففي حال الانسداد لا يعمل بخبر الفاسق ، وخبر الكافر ، والمصالح المرسلة ، والإستحسان ، والقياس ، ونحوها .

وعليه : فقول المحقّق القمّيّ ونحوه حال الانسداد محل إشكال ( لا أقلّ من كونه مخالفا لاجماعاتهم المستفيضة ، بل المتواترة ، كما يعلم ممّا ذكروه في القياس ) فانّهم أجمعوا على عدم العمل بالقياس مطلقا ، ممّا كلامهم يشمل حال الانسداد أيضا ، وسيأتي تفصيل الكلام في الظّنّ القياسي في باب الانسداد انشاء اللّه تعالى .

( و ) يضعف الجواب ( الثّاني ) الّذي قال : بأنّ الشّارع إذا ألغى ظنّا تبيّن أنّ في العمل به ضررا أعظم من تركه ، وذلك ( : بأنّ إتيان الفعل حذرا من ترتب الضّرر على تركه ) كما إذا كان الظّنّ القياسي على وجوب جلسة الإستراحة ، فنأتي بها (أو تركه) أي : ترك الفعل ( حذرا من التّضرر بفعله ) كما إذا كان الظّنّ القياسي على حرمة التّبغ فنترك التّبغ لاحتمال الضّرر في شربه ، فإنّه ( لا يتصوّر فيه ضررا أصلاً ، لانّه من الاحتياط الّذي إستقل العقل بحسنه ) .

ص: 255

وإن كانت الأمارة ممّا ورد النّهي عن اعتباره .

نعم ، متابعة الأمارة المفيدة للظّنّ بذلك الضّرر وجعل مؤدّاها حكم الشّارع والإلتزام والتّديّن به ، ربّما كان ضرره أعظم من الضّرر المظنون ، فإنّ العقل مستقل بقبحه ووجود المفسدة فيه واستحقاق العقاب عليه ، لانّه تشريع .

لكن هذا لا يختصّ بما علم إلغائه ، بل هو جار في كلّ ما لم يعلم إعتباره .

-------------------

وعليه : فقول المجيب : بأنّ العمل بالقياس فيه ضرر أعظم من الضّرر في ترك القياس ، غير تامّ حتى ( وإن كانت الأمارة ممّا ورد النّهي عن إعتباره ) بأنّ كان كالقياس ، والإستحسان ، والمصالح المرسلة ، وما أشبه ذلك ، ممّا دلّت الأدلة الخاصّة أو العامّة على المنع من إتّباعها .

( نعم ، متابعة الأمارة المفيدة للظّنّ بذلك الضّرر ) أي : بسبب ذلك الضّرر المحتمل أو المظنون ( وجعل مؤدّاها ) أي : مؤدّى الأمارة المذكورة كالقياس - مثلاً - بانّه ( حكم الشّارع والإلتزام والتّدين به ) بمعنى : نسبته إلى الشّارع والإلتزام بانّه منه ( ربّما كان ضرره أعظم من الضّرر المظنون ) في ذلك العمل (فإنّ العقل مستقل بقبحه ) أي : بقبح جعل مؤدّى الأمارة حكم الشّارع ( و ) مستقل ب- ( وجود المفسدة فيه وإستحقاق العقاب عليه ) .

وإنّما كان قبيحا وفيه المفسدة وإستحقاق العقاب ( لانّه تشريع ) محرّم ، فإنّ نسبة ما لم يقله الشّارع إلى الشّارع - فضلاً عمّا قال بعدمه - خلاف رسم الطّاعة والعبوديّة ، ويرى العقلاء إستحقاق العقاب لمن فعل ذلك .

( لكن هذا ) أي : القبح والعقاب والمفسدة ( لا يختصّ بما علم إلغائه ) من الشّارع كالقياس ( بل هو جار في كلّ ما لم يعلم إعتباره ) مثل أنّ يعمل بالرّمل ،

ص: 256

توضيحه : أنّا قدمّنا لك في تأسيس الأصل في العمل بالمظنّة : أنّ كلّ ظنّ لم يقم على إعتباره دليل قطعي ، سواء قام دليل على عدم إعتباره أم لا ، فالعمل به ، بمعنى التّديّن بمؤدّاه وجعله حكما شرعيّا ، تشريع محرّم دلّ على حرمته الأدلّة الأربعة .

وأمّا العمل به - بمعنى إتيان ما ظنّ وجوبه مثلاً أو ترك ما ظنّ حرمته من دون أن يتشرّع بذلك -

-------------------

والجفر والإصطرلاب ، وما أشبه ، وينسب الأحكام المستفادة منها إلى الشّارع ، فإنّ الشّارع وان لم يَنْهَ عنها صريحا ، كما نهى عن القياس لكنّه لا علم بإعتباره لهذه الأمور أيضا .

( توضيحه ) أي : توضيح ما ذكرناه : من إنّ هذا القبح لا يختصّ بالمعلوم إلغاؤه هو : ( انّا قدّمنا لك في تأسيس الأصل في العمل بالمظنّة ) أي : عمل الانسان بمطلق الظنّ أينما وجد ( إنّ كلّ ظنّ لم يقم على اعتباره دليل قطعي ، سواء قام دليل على عدم اعتباره ) كالقياس ( أم لا ) بأن لم يقم دليل على عدم إعتباره : كالجفر والرّمل ، وما أشبه ( فالعمل به بمعنى : التّديّن بمؤداه وجعله حكما شرعيّا ، تشريع محرّم ) لانّه نسبة إلى الشّارع ما لم يقله الشّارع .

وقد ( دلّ على حرمته : الأدلّة الأربعة ) من الكتاب ، السُّنَّة ، والإجماع ، والعقل ، فانّها جميعا تدلّ على حرمة التّشريع ، كما ذكرناه سابقا في تأسيس الأصل .

( وأمّا العمل به ) أي : بما لم يدلّ دليل على المنع عنه ( بمعنى : إتيان ما ظنّ وجوبه - مثلاً ) مثل أنّ يظنّ إنّ الزّوجة يجب وطيها دون الأربعة أشهر مع رغبتها ( أو ترك ما ظنّ حرمته ) مثل أنّ يظنّ حرمة شرب التّتن فيترك شربه ( من دون أنّ يتشرّع بذلك - ) أي : بأنّ لا ينسبه إلى الشّارع ، وإنّما يعمل فعلاً أو يترك ما ظنّ

ص: 257

فلا قبح فيه ، إذا لم يدلّ دليل من الأصول والقواعد المعتبرة يقينا على خلاف مؤدّى هذا الظّنّ بأنّ يدلّ على تحريم ما ظنّ وجوبه أو وجوب ما ظنّ تحريمه .

فان أراد أنّ الأمارات الّتي يقطع بعدم حجّيّتها ، كالقياس وشبهه ، يكون في العمل بها ، بمعنى التّدين بمؤدّاها وجعله حكما شرعيّا ، ضرر أعظم من الضّرر المظنون ، فلا اختصاص لهّذا الضّرر بتلك الظّنون ، لأنّ كلّ ظنّ لم يقم على اعتباره دليل قاطع يكون في العمل به بذلك المعنى

-------------------

حرمته من باب الاحتياط ( فلا قبح فيه ، إذا لم يدلّ دليل من الأصول والقواعد المعتبرة يقينا على خلاف مؤدّى هذا الظّنّ ) .

أمّا إذا كان كذلك ( بأنّ يدلّ على تحريم ما ظنّ وجوبه ، أو وجوب ما ظنّ تحريمه ) فلا يجوز له الإرتكاب ، مثل أنّ يظنّ حرمة وطي الزّوجة الّتي ذكرناها بظنّه انّها في حالة الحيض ، ولا إستصحاب لطهارتها ، أو يظنّ وجوب شرب التّتن بظنّه إنّه ينقذه من مرض مهلك ، فلا يجوز له تركه .

( فإنّ أراد ) من قال : بأنّ الشّارع إذا ألغى ظنّا ، تبيّن إنّ في العمل به ضررا أعظم من ضرر ترك العمل به ( : انّ الأمارات الّتي يقطع بعدم حجّيتها ، كالقياس وشبهه ، يكون في العمل بها ، بمعنى التّديّن بمؤدّاها ، وجعله ) أي : جعل المؤدى ( حكما شرعيا ) بأنّ ينسبه إلى الشّارع ( ضرر أعظم من الضّرر المظنون ) الّذي يترتب على ترك القياس ( فلا إختصاص لهذا الضّرر بتلك الظنون ) الّتي ألغاها الشّارع .

وإنّما لم يكن إختصاص ( لأنّ كلّ ظنّ لم يقم على إعتباره دليل قاطع ) أو دليل قطعي ( يكون في العمل به ) أي : بذلك الظّنّ عملاً ( بذلك المعنى ) أي : بمعنى

ص: 258

هذا الضّرر العظيم ، أعني التّشريع .

وإن أراد ثبوت الضّرر في العمل بها ، بمعنى إتيان ما ظنّ وجوبه حذرا من الوقوع في مضرّة ترك الواجب ، وترك ما ظنّ حرمته لذلك ، كما يقتضيه قاعدة دفع الضّرر ، فلا ريب في إستقلال العقل وبداهة حكمه بعدم الضّرر في ذلك أصلاً وإن كان ذلك

---------------------

التّديّن به ونسبته إلى الشّارع ، فيه ( هذا الضّرر العظيم ، أعني : التّشريع ) إذ أي فرق في التّشريع بين : أنّ يعلم الانسان إنّ الشّارع نفاه ، أو أنّ لا يعلم إنّ الشّارع أثبته أو نفاه ؟ فإنّ كليهما تشريع محرّم .

نعم ، لا إشكال في إنّ النّسبة إلى الشّارع بما نفاه صريحا ، تشريع أعظم وعقوبته أشدّ ، فإنّه إذا قال المولى : لا تفعل كذا ، ففعله ناسبا ذلك إلى المولى وإنّه هو الّذي أمره به ، كان هذا العبد أشدّ عقوبة ممّن إذا لم يعلم إنّ المولى قال : لا تفعل كذا ، أو لم يقل شيئا ، ففعله ناسبا فعله ذلك إلى المولى .

( وإن أراد ) هذا القائل ( ثبوت الضّرر في العمل بها ) أي : بالظنون الّتي نفاها المولى ، كالظنون القياسيّة ( بمعنى : إتيان ) العبد ( ما ظنّ وجوبه حذرا من الوقوع في مضرّة ترك الواجب ) إذا تركه ( وترك ما ظنّ حرمته لذلك ) أي : حذرا من الوقوع في مضرّة ذلك الحرام إذا فعله ( كما يقتضيه قاعدة دفع الضّرر ) .

فانّ هذه القاعدة تقول : إنّ كلّ شيء يحتمل الانسان وجود الضّرر فيه فعلاً أو تركا ، فعليه أنّ يأتي به لو إحتمل الضّرر في تركه ، وإن يتركه لو إحتمل الضّرر في فعله .

( فلا ريب في إستقلال العقل وبداهة حكمه ) أي : حكم العقل ( بعدم الضّرر في ذلك ) من الإتيان بمحتمل اللزوم ، والتّرك لمحتمل المنع ( أصلاً وإن كان ذلك

ص: 259

في الظّنّ القياسي .

وحينئذٍ : فالأولى لهذا المجيب أنّ يبدّل دعوى الضّرر في العمل بتلك الأمارات المنهي عنها بالخصوص : بدعوى أنّ في نهي الشّارع عن الإعتناء بها وترخيصه في مخالفتها ، مع علمه بأنّ تركها ربّما يقضي إلى ترك الواجب ، وفعل الحرام مصلحة يتدارك بها الضّرر المظنون على تقدير

-------------------

في الظنّ القياسي ) « إنّ » وصليّة ، أي : حتّى وإن اقتضى القياس وجوب وطي الزّوجة دون أربعة أشهر ، أو إقتضى حرمة شرب التّتن ، فلا مانع من الوطي وترك الشّرب .

( وحينئذٍ : فالأولى لهذا المجيب ) الّذي أجاب عن النّقض بقوله : إنّ الشّارع إذا ألغى ظنّا ، تبيّن إنّ في العمل به ضررا أعظم من ضرر ترك العمل به ( أنّ يبدّل دعوى الضّرر في العمل بتلك الأمارات المنهي عنها بالخصوص ) كالظّنّ القياسي ، والظنّ من خبر الفاسق والكافر ، وما أشبه ذلك ، فيبدّل هذه الدّعوى ( بدعوى ) أخرى وهي : ( أنّ في نهي الشّارع عن الإعتناء بها ) أي : بتلك الأمارات ( وترخيصه ) أي : ترخيص الشّارع ( في مخالفتها ) أي : في مخالفة تلك الأمارات بان يخالف الانسان القياس ، وخبر الفاسق ، وخبر الكافر ، ونحوها ( مع علمه ) أي : مع علم الشّارع ( بأنّ تركها ) أي : ترك تلك الأمارات ( ربّما يقضي إلى ترك الواجب ، وفعل الحرام ) إذ القياس قد يطابق الواقع في وجوب ما أوجب ، وحرمة ما حرم ، فإذا خالف الانسان القياس ، أدّت مخالفته إلى ترك الواجب الواقعي ، وفعل الحرام الواقعي .

لكنّ فيه ( مصلحة ) وهو خبر قوله : « أنّ في نهي الشّارع » ، أي : إنّ نهي الشّارع فيه مصلحة ( يتدارك بها ) أي : بتلك المصلحة ( الضّرر المظنون على تقدير

ص: 260

ثبوته في الواقع ، فتأمّل .

وسيجيء تمام الكلام عند التّكلم في الظنون المنهي عنها بالخصوص وبيان كيفيّة عدم شمول أدلّة حجّيّة الظّنّ لها إنشاء اللّه تعالى .

-------------------

ثبوته ) أي : على تقدير ثبوت ذلك الضّرر المظنون ( في الواقع ) على ما ذكرناه في المصلحة السلوكيّة ، فإنّ القياس - مثلاً - لو دلّ على وجوب وطي الزّوجة ، والشّارع أجاز ترك القياس ، فلم يطأ المكلّف الزّوجة ، وفاتته المصلحة الواقعيّة الّتي كانت في وطيها ، فانّ الشّارع يتدارك تلك المصلحة الفائتة بإعطاء المكلّف قدر تلك المصلحة ، أو أكثر من قدر تلك المصلحة .

( فتأمل ) لعلّه إشارة إلى إنّ التّدارك لا يختصّ بمثل النّهي عن العمل بالقياس ونحوه ، بل اللاّزم التّدارك حتّى فيما إذا سكت الشّارع عن شيء وكان فيه مصلحة، ممّا سبب سكوته فوتها على المكلّف ، فإذا سكت الشّارع ولم يقل - مثلاً - إعمل بالشّهرة ، وكانت الشّهرة تطابق الواقع ، كان معنى ذلك : تفويت المصلحة على المكلّف ، فيجب عليه تداركها .

ويحتمل في « فتأمل » وجوه أخر نتركها خوف التّطويل .

( وسيجيء تمام الكلام ) في كيفية خروج الظّنّ القياسي ، ونحوه ( عند التّكلّم في الظّنون المنهي عنها بالخصوص ) في بحث الانسداد ( وبيان كيفيّة عدم شمول أدلّة حجيّة الظّنّ ) المطلق ( لها ) أي : لهذه الظنون ( انشاء اللّه تعالى ) .

ثمّ لا يخفى : إنّ الدّليل الأوّل الّذي ذكره المصنّف لحجّيّة الظّنّ مطلقا كان نصّه : « انّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التّحريمي مظنّة للضّرر ، ودفع الضّرر المظنون لازم » وهذا الدّليل أجيب عنه بأجوبة أشكل المصنّف في جميعها ، ولهذا قال هنا :

ص: 261

فالأولى انّ يجاب عن هذا الدّليل :

بأنّه إنّ أريد من الضّرر المظنون العقاب ، فالصّغرى ممنوعة ، لأنّ استحقاق العقاب على الفعل أو الترك ، كاستحقاق الثّواب عليهما ليس ملازما للوجوب والتّحريم الواقعيين ، كيف وقد يتحقق التّحريم ونقطع بعدم العقاب في الفعل ، كما في الحرام والواجب المجهولين جهلاً بسيطا أو مركّبا ، بل استحقاق الثّواب والعقاب إنّما هو على تحقق

-------------------

( فالأولى أن يجاب عن هذا الدّليل : بأنّه إنّ أريد من الضّرر المظنون ) في قوله : مظنّة للضرر ( العقاب ) حتّى يكون الدّليل هكذا : إنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التّحريمي ظنّ بالعقاب الأخروي ( فالصّغرى ممنوعة ) والصّغرى عبارة عن قوله : أنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التّحريمي مظنّة للضّرر .

وإنّما كانت الصّغرى ممنوعة لما ذكره المصنّف بقوله : ( لأنّ استحقاق العقاب على الفعل أو التّرك ، كاستحقاق الثّواب عليهما ) إذ الثّواب للإطاعة ، والعقاب للمعصية ، وهو ( ليس ملازما للوجوب والتّحريم الواقعيّين ) لأنّ العقاب تابع للعصيان ، والعصيان لا يكون إلاّ مع العلم والعمد .

( كيف ) يكون استحقاق العقاب على الفعل والتّرك ملازما مع الوجوب والتّحريم الواقعيّين ( و ) الحال ( قد يتحقّق التّحريم ونقطع بعدم العقاب في الفعل ، كما في الحرام والواجب المجهولين جهلاً بسيطا ) فإنّ الجاهل القاصر غير معاقب ( أو مركّبا ) فانّ الجاهل الّذي يجهل بجهله - عن قصور - هو أيضا ليس بمعاقب .

( بل لاستحقاق الثواب والعقاب إنّما هو ) أي : الاستحقاق ( على تحقق

ص: 262

الإطاعة والمعصية اللتين لا يتحققان إلاّ بعد العلم بالوجوب والحرمة أو الظّنّ المعتبر بهما .

وأما الظّنّ المشكوك الاعتبار فهو كالشّكّ ، بل هو هو ، بعد ملاحظة أنّ من الظنون ما أمر الشّارع بالغائه ، ويحتمل أنّ يكون المفروض

-------------------

الاطاعة والمعصية ) للمولى ( اللتين لا يتحققان إلاّ بعد العلم بالوجوب والحرمة ) والتّمكن من الإتيان بالواجب والتّرك للحرام ، لتقيّة أو ما أشبه ذلك .

( أو الظّنّ المعتبر بهما ) «أو» عطف على «العلم» بمعنى : إنّه امّا يعلم بالوجوب والحرمة ، وامّا يظنّ بالوجوب والحرمة ظنّا معتبرا ، كالظّنّ من الخبر الواحد ، أو ما أشبه ، (واما الظّنّ ) بالحكم ( المشكوك الاعتبار ) يعني نشكّ في اعتبار هذا الظّنّ ، مثل الظنّ عن الشّهرة وعن الإجماع - فرضا - ( فهو كالشّكّ ) أي : كالشّكّ بالحكم ، لا يوجب مخالفة هذا الظّنّ ، ولا هذا الشّكّ عقابا .

( بل هو هو ) أي : الظّنّ المشكوك الإعتبار هو الشّكّ بنفسه ، لأنّ الشّارع إذا لم يعتبر ظنّا كان هو والشّكّ سواء ، ذلك ( بعد ملاحظة : إنّ من المظنون ما أمر الشّارع بالغائه ) كما أمر الشّارع بالغاء المشكوكات ، فإنّ الظّنّ القياسي ، ممّا أمر الشّارع بالغائه كما أمر بالغاء الأحكام المشكوكة حيث قال سبحانه : « ولاَ تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِه عِلمٌ » (1) .

الى غير ذلك من الآيات الدّالة على اعتبار العلم ، وكذا الرّوايات الدّالة على اعتباره ، أو على اعتبار الظّنّ المعتبرة ، كالظّنّ الخبري ونحوه .

( ويحتمل أنّ يكون المفروض ) أي : إنّ الظّنّ الّذي خالفه المجتهد ، في

ص: 263


1- - سورة الإسراء : الآية 36 .

منها .

اللّهم إلاّ أنّ يقال : إنّ الحكم بعدم العقاب والثّواب ، فيما فرض من صورتي الجهل البسيط أو المركّب بالوجوب والحرمة ، إنّما هو لحكم العقل بقبح التّكليف مع الشّكّ ، أو القطع بالعدم .

وأما مع الظّنّ بالوجوب أو التّحريم ، فلا يستقل العقل بقبح المؤاخذة ، ولا اجماع أيضا على أصالة البراءة في موضع النّزاع .

-------------------

الدليل الأوّل : القائل إنّ مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التّحريمي مظنّة للضّرر ، أنّ يكون ( منها ) أي : من الظّنون المشكوكة الإعتبار .

وعليه : فتحصّل إنّ جواب المصنّف عن الدّليل الأوّل هو : إنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التّحريمي ليس ظنّا بضرر العقاب وإن كان ظنّا بالحكم ، إذ لا تلازم بين الظّنّ بالحكم الّذي هو غير معتبر ، والظّنّ بالعقاب ، المترتّب على العلم أو العلمي .

( اللّهم إلاّ أنّ يقال ) في تصحيح الصّغرى ( انّ الحكم بعدم العقاب والثّواب ، فيما فرض من صورتي الجهل البسيط أو المركّب ) جهلاً ( بالوجوب والحرمة ، إنّما هو ) الحكم بعدم العقاب والثّواب ( لحكم العقل بقبح التّكليف مع الشّكّ ، أو القطع بالعدم ) أي : بعدم التّكليف .

والمراد من القطع بالعدم هو : الجهل المركّب ، بأنّ يكون جاهلاً بالواقع ، وجاهلاً بأنّه جاهل به .

( وأمّا مع الظّنّ بالواجب أو التّحريم ، فلا يستقل العقل بقبح المؤاخذة ) لمن خالف ظنّه ( ولا اجماع أيضا على أصالة البرائة في موضوع النّزاع ) الّذي هو ظنّ المجتهد بحكم لم يعمل بظنّه ، فإنّه لا يجري فيه أصل البرائة عن الحكم حتّى

ص: 264

ويرده : انّه لا يكفي المستدلّ منع إستقلال العقل وعدم ثبوت الإجماع ، بل لابدّ له من إثبات انّ مجرّد الوجوب والتّحريم الواقعيّين مستلزمان للعقاب ، حتّى يكون الظنّ بهما ظنّا به . فإذا لم يثبت ذلك بشرع ولا عقل لم يكن العقاب مظنونا ، فالصّغرى غير ثابتة .

-------------------

يكون سندا لعدم العقاب .

إذن : فلا إجماع لعدم العقاب ولا برائة لعدم العقاب ، فلا يصحّ ما ذكره المستدل : من إنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من الحكم الوجوبي أو التّحريمي للضّرر .

( ويرده ) أي : ما ذكرناه من قولنا : اللّهم إلاّ أنّ يقال : ( إنّه لا يكفي المستدلّ ) الّذي استدلّ بالضّرر ( منع إستقلال العقل ) حيث قال : فلا يستقل العقل بقبح المؤاخذة ( وعدم ثبوت الإجماع ) حيث قال : ولا إجماع أيضا على أصالة البرائة في موضع النّزاع ( بل لابدّ له ) أي : للمستدلّ ( من إثبات إنّ مجرّد الوجوب والتّحريم الواقعيّين ) وان لم يعلم بهما المكلّف ( مستلزمان للعقاب ، حتّى يكون الظّنّ بهما ) أي : بالوجوب والتّحريم ( ظنّا به ) أي : ظنّا بالعقاب .

وعليه : ( فإذا لم يثبت ذلك ) أي : التلازم بين الوجوب والتّحريم الواقعيّين والعقاب ( بشرع ولا عقل ) و «الشّرع » : متعلّق ب- : « لم يثبت » أي : لم يثبت ذلك بدليل شرعي ولا بدليل عقلي ( لم يكن العقاب مظنونا ) إذ هناك ظنّ بالحكم وليس ظنّا بالعقاب ( فالصّغرى ) الّتي ذكرها المستدلّ بقوله : في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي أو التّحريمي مظنّه للضّرر ( غير ثابتة ) لأنّ المخالفة للظّن ، ليس مظنّة للعقوبة الأخروية .

ص: 265

ومنهُ يُعلَمُ فسادُ ما ربّما يتوهّم أنّ قاعدةَ دفع الضّرر يكفي للدّليل على ثبوت الاستحقاق ، وجه الفساد أنّ هذه القاعدة موقوفة على ثبوت الصّغرى ، وهي الظّنّ بالعقاب .

نعم ، لو ادّعى انّ دفع الضّرر المشكوك لازم ، توجه فيما نحن فيه ، الحكم بلزوم الإحتراز في صورة

-------------------

( ومنه ) أي ممّا تقدّم : من عدم التّلازم بين الوجوب والتّحريم الواقعيّين وبين العقاب ( يعلم فساد ما ربّما يتوهّم إنّ قاعدة دفع الضّرر ) أي : إستقلال العقل بلزوم دفع الضّرر المظنون ( يكفي للدّليل على ثبوت الاستحقاق ) وتقريب التّوهم : هو بأنّ هناك تلازم بين الظّنّ بالوجوب أو التّحريم ، والظّن بالعقاب على مخالفتها ، والظّن بالعقاب يجب دفعه ، فيلزم الاتيان بالمظنون وجوبه ، والتّرك للمظنون حرمته .

والجواب : إنّ هذه القاعدة إنّ كانت صحيحة في نفسها ، إلاّ إنّه لا ظنّ بالعقاب في المخالفة ، ، بعد أدلّة البرائة العقليّة والشّرعيّة .

وإليه أشار المصنّف بقوله : ( وجه الفساد : إنّ هذه القاعدة موقوفة على ثبوت الصّغرى ) أي : إنّ هذه القاعدة وإن كانت صحيحة ، لكن صغرى هذه القاعدة المنطبقة على ما نحن فيه ليست تامّة ، إذ ليس هناك بالعقاب بعد أدلّة البرائة ( وهي ) أي : الصّغرى ( الظّنّ بالعقاب ) ، وعلى أي حال : فالضّرر ليس مظنونا حتّى يكون صغرى القاعدة دفع الضّرر المظنون .

( نعم ، لو ادّعى إنّ دفع الضّرر المشكوك لازم ) وهذه القاعدة أعمّ من قاعدة : دفع الضّرر المظنون ، لانّه إذا وجب دفع الضّرر المشكوك وجب دفع الضّرر المظنون بطريق أولى (توجه فيما نحن فيه، الحكم بلزوم الإحتراز في صورة

ص: 266

الظّنّ بناءا على ثبوت الدّليل على نفي العقاب عند الظّنّ ، فيصير وجوده محتملاً ، فيجب دفعه . لكنّه رجوعٌ عن الاعتراف باستقلال العقل وقيام الإجماع على عدم المؤاخذة على الوجوب والتّحريم المشكوكين .

وإن أُريد من الضّرر المفسدة المظنونة ، ففيه : أيضا منعُ الصّغرى ،

-------------------

الظّنّ ) أي : الظّنّ بالتّكليف ، لانّه إذا ظنّ بالتّكليف فلا ريب في إنّه يشكّ في الضّرر ، فيلزم دفع الضّرر المشكوك .

وذلك ( بناءا على عدم ثبوت الدّليل على نفي العقاب عند الظّنّ ، فيصير وجوده ) أي : وجود العقاب ( محتملاً ، فيجب دفعه ) لقاعدة دفع الضّرر المشكوك ، فإنّه مع الظّنّ بالحكم الإلزامي فعلاً ، أو تركا وعدم جريان أصالة البرائة النّافية لإحتمال العقاب ، يتحقّق إحتمال العقاب لا محالة ويجب دفعه لقاعدة وجوب دفع الضّرر المشكوك ( لكنّه ) أي هذا الإدّعاء في قوله : نعم لو إدّعى ( رجوع عن الاعتراف : باستقلال العقل ، وقيام الإجماع على عدم المؤاخذة على الوجوب والتّحريم المشكوكين ) .

وإن شئت قلت : إنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، الّتي دلّ عليها الأدلّة الأربعة ، حاكمة على وجوب دفع الضّرر المظنون ، وعلى وجوب دفع الضّرر المشكوك ، فبدون الدّليل لا ظنّ بالضّرر ولا شكّ بالضّرر أيضا .

هذا كلّه إنّ أريد بالضّرر : العقاب ( وإن أريد من الضّرر : المفسدة المظنونة ) في أمر الشّارع بالواجبات ونهيه عن المحرّمات ، لأنّ في ترك الواجبات مفسدة خارجيّة ، وكذلك في فعل المحرّمات ، ولا شكّ إنّ الانسان إذا ظنّ بالوجوب أو بالحرمة ، كان معناه : إنّه ظنّ بالمفسدة في ترك الواجب وفعل المحرّم .

( ففيه أيضا : منع الصّغرى ) فإنّ المصالح والمفاسد الكامنتين في الأحكام

ص: 267

فإنّا وإن لم نقل بتغيّر المصالح والمفاسد بمجرّد الجهل ، إلاّ إنّا لا نظنّ بترتّب المفسدة بمجرّد إرتكاب ما ظنّ حرمته لعدم كون فعل الحرام علّة تامّة لترتّب المفسدة ، حتّى مع القطع بثبوت الحرمة ، لإحتمال تداركها بمصلحة فعل آخر لا يعلمه المكلّف ، أو يعلمه بإعلام الشّارع ،

-------------------

الشّرعيّة - حيث إنّ شرب الخمر فيه مفسدة ، وصلة الرّحم فيه مصلحة - إنّما هي من قبيل المقتضيات دون العِلل التّامّة ، فالظّنّ بالحكم لا يستلزم الظّنّ بالمفسدة في المحرّم ولا المصلحة في الواجب .

( فإنّا وإن لم نقل بتغيّر المصالح والمفاسد بمجرّد الجهل ) فإنّ الخمر فيها مفسدة ، سواء علم الانسان بالحكم أو لم يعلم ؟ وسواء علم بالموضوع وإنّه خمر أو لم يعلم ؟ فالظّنّ والشّكّ والجهل لا مدخليّة لها في المفاسد ، كما لا مدخليّة لها في المصالح أيضا ، فإنّ من شرب الدّواء المفيد لمرضه ، يطيب وإن كان لا يعلم ذلك ، بل وإن كان يعلم - بالجهل المركّب - إنّه يضرّه .

( إلاّ إنّا لا نظنّ بترتّب المفسدة بمجرّد إرتكاب ما ظنّ حرمته ) .

وانّما لا نظنّ بذلك ( لعدم كون فعل الحرام علّة تامّة لترتّب المفسدة ، حتّى مع القطع بثبوت الحرمة ) كما إنّه لا يكون الفعل الواجب علّة تامّة لترتّب المصلحة حتّى مع القطع بثبوت الوجوب ( لإحتمال تداركها ) أي : تدارك تلك المفسدة المنبعثة عن الحرام ( بمصلحة فعل آخر لا يعلمه المكلّف ، أو يعلمه بإعلام الشّارع ) .

فإنّه يمكن أن تكون مضرّة الخمر لمن شربها متداركة بمصلحة أهم من تلك المفسدة أو مساوية لتلك المفسدة ، كمصلحة بقاء الانسان حيّا فيما إذا توقفت حياته على شرب الخمر ، أو يكون هناك دواء يشربه مع شرب الخمر ، يتدارك

ص: 268

نظير الكفّارة والتّوبة وغيرهما من الحسنات اللاّتي يُذْهِبْنَ السّيّئات .

ويرد عليه : أن الظّنّ بثبوت مقتضى المفسدة مع الشّكّ في وجود المانع كافٍ في وجوب الدّفع ، كما في صورة القطع بثبوت المقتضي مع الشّكّ في وجود المانع ، فإنّ إحتمال وجود المانع للضّرر ، أو وجود ما يتدارك الضّرر

-------------------

ذلك الدّواء مفسدة الخمر ( نظير الكفّارة والتّوبة وغيرهما من الحسنات الّتي يذهبن السّيّئات ) فإنّ الكفّارة والتّوبة وغيرهما قد أخبرنا الشّارع بأنّها ترفع المضرّات المسبّبة من فعل المحرّمات .

( ويرد عليه ) أي : ما ذكروه من منع الصّغرى في قولنا : وإن أريد من الضّرر : المفسدة المظنونة ، ففيه أيضا منع الصّغرى ( إنّ الظّنّ بثبوت مقتضى المفسدة مع الشّكّ في وجود المانع ) عن تلك المفسدة ( كافٍ ) ذلك الظّنّ ( في وجوب الدفع ، كما في صورة القطع بثبوت المقتضي مع الشّكّ في وجود المانع ) أي : كما إنّ العقل مستقل بوجوب اجتناب معلوم المفسدة ، وإن إحتمل وجود مانع عن تأثير المفسدة ، كذلك العقل مستقل بوجوب إجتناب محتمل المفسدة وإن إحتمل وجود مانع عن تأثير تلك المفسدة .

مثلاً : إذا علم الانسان بوجود الأسد المفترس في مكان كذا ، وإحتمل وجود انسان لا يمنع عن إفتراسه ، فإنّ العقل يستقل بعدم الذّهاب إلى ذلك المكان ، وكذا إذا إحتمل الانسان وجود الأسد ، وإحتمل وجود انسان يمنع عن إفتراسه ، فإنّ العقل مستقل أيضا بعدم الذّهاب إلى ذلك المكان ، لأنّ إحتمال المانع لا يكون مبررا للذّهاب ، فإذا ذهب متعمّدا على إحتمال المانع من صورتي العلم والشّكّ وإفترسه الأسد ، لاَمَهُ العقلاء ، ولم يقبلوا عذره بإحتماله المانع .

( فإنّ إحتمال وجود المانع للضّرر ، أو وجود ما يتدارك الضّرر ) به ،

ص: 269

لا يعتنى به عند العقلاء ، سواء جامع الظّنّ بوجود مقتضي الضّرر ، أم القطع به ، بل أكثرُ موارد إلتزام العقلاء التّحرز عن المضار المظنونة ، كسلوك الطّرق المخوفة وشرب الأدوية المخوفة ونحو ذلك من موارد الظّنّ بمقتضى الضّرر دون العلّة التّامّة له . بل المدار - في جميع غايات حركات الانسان من المنافع المقصود جلبُها والمضارّ المقصود دفعها - على المقتضيات دون العلل التّامّة ،

-------------------

بأن يكون هناك شجاع يمنعه منه ، أو طبيب يداوي جرحه ( لا يُعتنى به عند العقلاء ، سواء جامع ) إحتمال المانع أو التّدارك ( الظّنّ بوجود مقتضي الضّرر ، أم القطع به ) بل أو الشّكّ به ، بل وحتّى مع الظّنّ بعدمه ، لأنّ إحتمال الضّرر إنّ كان كثيرا ، فإنّه ممّا يلزم العقلاء تركه وإن كان موهوما .

فإذا كان هناك - مثلاً - مائة آنية واحدة منها فيها سمّ ، فإنّ في شرب آنية من تلك الأواني وَهْمُ الضّرر ، لا شكّه ولا ظنّه ، ومع ذلك يحكم العقلاء بعدم شرب أي آنية منها .

( بل أكثر موارد إلتزام العقلاء ) هو ( التّحرز عن المضارّ المظنونة ) فإنّ العقلاء يلزمون الانسان بأن يتحرّز عن تلك المضارّ الّتي ظنّها ( كسلوك الطّرق المخوفة ، وشرب الأدوية المخوفة ) وأكل المطاعم الّتي يظنّ ضررها ، والسّلوك في الشّمس حيث يظنّ الضّرر ( ونحو ذلك من موارد الظّنّ بمقتضى الضّرر دون العلّة التّامّة له ) أي : للضّرر وإن ّ أسباب الإضرار غالبا مقتضيات وليست عللاً تامّة .

( بل ) الأمر أعمّ من المضارّ ، إذ الحال كذلك في المنافع أيضا فإنّ ( المدار في جميع غايات حركات الانسان من المنافع المقصودة جلبها ) كالسّفر للتجارة مثلاً ( والمضار المقصودة دفعها ) إنّما هو ( على المقتضيات دون العلل التّامّة ) فمن

ص: 270

لأنّ الموانع والمزاحمات ممّا لا تحصى ولا يحاط بها .

وأضعف من هذا الجواب ما يقال : إنّ في نهي الشّارع عن العمل بالظّنّ كلّيّة

-------------------

أين هذا السّفر التّجاري يوجب الرّبح ؟ أو ذلك العلم المخوف يوجب الضّرر ؟ ( لأنّ الموانع والمزاحمات ممّا لا تحصى ولا يحاط بها ) ولا يقدر الانسان إنّ يحيط بها على إنّ المصالح والمفاسد لو كانت عللاً لا مقتضيات ، لزم تعطيل الانسان عن كثير من الحركات الإصلاحيّة ، أو التجنب عن كثير من الاُمور الّتي يظنّ الفساد فيها .

والفرق بين المانع والمزاحم هو :

إنّ الأوّل : مانع عن تأثير المقتضي في رتبة المعلول ، كالرّطوبة المانعة عن تأثير النّار في الخشبة في رتبة الإحراق .

والثّاني : مانع عن نفس المقتضي في رتبة العلّة ، كالمانع عن حرارة النّار كما في منع اللّه سبحانه وتعالى حرارة النّار على إبراهيم ، وإن كان في المثال نوع مسامحة .

وحيث كان دليل العمل بمطلق الظّنّ ، مركّبا عن صغرى هي أنّ في مخالفة المجتهد ظنا بالضّرر ، وكبرى : هي إنّ دفع الضّرر المظنون واجب ، وفرغ المصنّف عن الكلام في الصّغرى ، شرع في الكبرى فقال : ( وأضعف من هذا الجواب ) الّذي كان جوابا عن الصّغرى ( ما يقال ) في بيان منع الكبرى : من ( إنّ في نهي الشّارع عن العمل بالظن كلّيّة ) حيث قال سبحانه : «وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيئا » (1) وقال تعالى : « وَلاَ تَقْفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ » (2) وغير ذلك

ص: 271


1- - سورة النّجم : الآية 28 .
2- - سورة الإسراء : الآية 36 .

إلاّ ما خرج ، ترخيصا في ترك مراعاة الضّرر المظنون ، ولذا ، لا يجب مراعاته إجماعا في القياس .

ووجهُ الضّعف ما ثبت سابقا من انّ عمومات حرمة العمل بالظّنّ أو بما عدا العلم إنّما يدلّ على حرمته ، من حيث أنّه لا يغني عن الواقع

-------------------

( إلاّ ما خرج ) بالدّليل مثل العمل بالخبر الواحد ، أو العمل بالشّاهدين ، أو بسوق المسلمين ، أو ما أشبه ، فإنّ فيه ( ترخيصا ) من الشّارع ( في ترك مراعاة الضّرر المظنون ) .

وإذا أجاز الشّارع أن يعمل الانسان بما يظنّ فيه الضّرر ، فلا تتمّ الكبرى الّتي كانت تقول دفع الضّرر المظنون لازم .

( ولذا ، لا يجب مراعاته ) أي : مراعاة الظّنّ ( إجماعا في القياس ) وفي خبر الفاسق ، والكافر ، وما أشبه ، فإنّ الانسان إذا ظنّ منها لا يجوز له أن يعمل على ظنّه ، لأنّ الشّارع منع الكبرى .

( ووجه الضّعف ما ثبت سابقا : من إنّ عمومات حرمة العمل بالظّنّ ) مثل قوله سبحانه : « إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغنِي مِنَ الحَقِّ شَيئا » (1).

( أو بما عدا العلم ) مثل قوله تعالى : « وَلاَ تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ » (2) ( إنّما يدلّ على حرمته ) أي : حرمة العمل بالظّنّ ( من حيث إنّه لا يغني عن الواقع ) كما في الآية المباركة .

ص: 272


1- - سورة النجم : الآية 28 .
2- - سورة الاسراء : الآية 36 .

ولا يدلّ على حرمة العمل به في مقام إحراز الواقع والاحتياط لأجله ، والحذر عن مخالفته .

فالأولى أن يقال :

-------------------

( ولا يدلّ على حرمة العمل به ) أي : بالظّنّ ( في مقام إحراز الواقع والاحتياط لأجله ، والحذر عن مخالفته ) أي : إنّ حرمة العمل بالظّنّ لعدم إغنائه عن الواقع ، أو لكون التّدين به والإلتزام به تشريعا محرّما - كما سبق الإلماع إلى ذلك - لا ينافيان العمل بالظّنّ لأجل دفع الضّرر المظنون الّذي مرجعه إلى الاحتياط .

مثلاً : قال الشّارع : لا تعمل بالقياس ، لانّه يوصل إلى الواقع ، وقال : لا تنسب القياس إلى الشّارع لانّه تشريع محرّم ، فإذا قاس الانسان ، الحيوان المتولّد من الكلب والشّاة - فرضا - بالمخلوط من الماء والخمر ، فلم يأكل من لحم ذلك الحيوان إحتياطا لا تشريعا ، مع فرض إنّ الأكل من لحمه حلال لقاعدة : « كُلُّ شَيءٍ فِيْهِ حَلاَلٌ وَحَرَامٌ ، فَهُوَ لَكَ حَلاَلٌ » (1) وقاعدة : « كُلُوا ممَّا فِي الأَرض » (2) وما أشبه ، فهل يكون في هذا الاحتياط محذور ؟ وقد قال الشّارع : « إحتَطْ لِدِينِكَ بِمَا شِئْتَ» (3) فالاحتياط كما لاينافي كلّ شيء لك حلال، كذلك لا ينافي حرمة القياس .

وعليه : ( فالأولى أن يقال ) دفع الضّرر المظنون لازم ، مكان قول المجيب : بأنّ دفع الضّرر المظنون ليس بلازم ، لأنّه قال : ترخيصا في ترك مراعاة الضّرر

ص: 273


1- - تهذيب الاحكام : ج9 ص79 ب4 ح72 ، غوالي اللئالي : ج3 ص465 ح16 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص341 ب2 ح4208 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 .
2- - سورة البقرة : الآية 168 .
3- - وسائل الشّيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 ، الأمالي للمفيد : ص283 ، الأمالي للطوسي : ص110 ح168 .

إنّ الضّرر وإن كان مظنونا ، إلاّ أنّ حكم الشّارع قطعا أو ظنّا بالرّجوع في مورد الظّنّ إلى البراءة والإستصحاب ، وترخيصه لتّرك مراعاة الظنّ ، أوجب القطع أو الظّنّ بتدارك ذلك الضّرر المظنون ، وإلاّ كان ترخيص العمل على الأصل المخالف للظنّ إلقاء المفسدة .

-------------------

المظنون - ما قاله المصنّف حيث أشكل على هذا الجواب بما حاصله :

إنّ دفع الضّرر المظنون لازم ، لكن لا في مقامنا هذا ، حيث إنّ الشّارع يتدارك الضّرر إنّ كان في الواقع ضرر ، وذلك ( إنّ الضّرر وإن كان مظنونا ، إلاّ إنّ حكم الشّارع قطعا أو ظنا ) حيث إنّا نقطع بحكم الشّارع ، أو يظّنّ بحكم الشّارع ظنا هو حجّة ، لأنّه بسبب خبر الواحد أو ما أشبه ( بالرّجوع ) والظرف : متعلق «بحكم الشّارع» ، أي : بأن نرجع ( في مورد الظّنّ ، إلى البرائة ، والإستصحاب ، وترخيصه لترك مراعاة الظّنّ ، أوجب القطع أو الظّنّ بتدارك ذلك الضّرر المظنون ) .

إذن : فالمفسدة المظنونة ، متداركة بالمصلحة المقطوع بها ، أو المظنونة في العمل بالأصول ، ظنّا هو حجّة .

وعليه : فنحن لا نقول بمنع الكبرى كلّيّة - كما قاله المجيب - وإنّما نقول : بانّه لا كلّيّة في الكبرى ، وذلك لترخيص الشّارع بسبب البرائة أو الإستصحاب .

( وإلاّ ) أي : وإن لم يتدارك الشّارع الضّرر إذا كان في الواقع ضرر وقد رخّص البرائة أو الإستصحاب ( كان ترخيص العمل على الأصل المخالف للظّنّ ) من البرائة أو الإستصحاب . ( إلقاءا ) من الشّارع للمكلّف في ( المفسدة ) لفرض إنّ في الواقع مفسدة خالفها البرائة أو الإستصحاب .

مثلاً : إذا قال الشّارع : « كُلُ شَيءٍ لَكَ حَلاَلٌ » ، وشكّ الانسان في إنّ هذا المايع خمر أم لا ، فأجرى البرائة ، أو إستصحب الحلّيّة ، حيث كان سابقا خلاً ، فشرب

ص: 274

توضيحُ ذلك : أنّه لا إشكال في أنّه متى ظنّ بوجوب شيء ، وانّ الشّارع الحكيم طلب فعله منّا طلبا حتميّا منجّزا لا يرضى بتركه إلاّ أنّه اختفى علينا ذلك الطّلب ، أو حرّم علينا فعلاً كذلك ، فالعقلُ مستقل بوجوب فعل الأوّل وترك الثّاني ، لأنّه يظنّ في ترك الأوّل الوقوعُ في مفسدة ترك الواجب المطلق الواقعيّ والمحبوب المنجّز النّفس الأمري .

-------------------

المايع ، وكان في الواقع خمرا فتضرّر المكلّف بسببها ، فإنّ الشّارع إذا لم يتدارك الضّرر كان إلقاءا منه للمكلّف في المفسدة ، ومن الواضح : إنّ الإلقاء في المفسدة لا يأتي من الحكيم .

( توضيح ذلك ) أي : التّرخيص من الشّارع على العمل بالأصل المخالف للظّنّ يوجب عدم تأثير الظّنّ بالواجب أو الحرام ، هو ( : إنّه لا اشكال في إنّه متى ظنّ بوجوب شيء ، وإن ّ الشّارع الحكيم طلب فعله منّا طلبا حتميّا منجّزا ) فلم يكن الطلب على نحو الإستحباب ، بل على نحو الحتميّة ، كما لم يكن على نحو التّعليق على شيء بل على نحو التّنجيز ، بحيث إنّ الحكيم سبحانه ( لا يرضى بتركه ) أي : بترك الطّلب ( إلاّ انّه اختفى علينا ذلك الطلب ) فلم يصل إلينا طلبه وأمره ( أو حرّم علينا فعلاً كذلك ) أي : تحريما حتميّا منجّزا لا يرضى بفعله ، إلاّ إنّه اختفى علينا ذلك التّحريم .

( فالعقل مستقل بوجوب فعل الأوّل ) الّذي هو واجب ( وترك الثّاني ) الّذي هو حرام .

وإنّما يستقل العقل بوجوب ذلك وتحريم هذا ، ( لانّه يظّنّ في ترك الأوّل ) وهو الواجب ( الوقوع في مفسدة ترك الواجب المطلق الواقعيّ ) فلم يكن الواجب مقيَّدا ولا ظاهريّا ( والمحبوب المنجّز النّفس الأمري ) فإنّ الواجب

ص: 275

ويظنّ في فعل الثّاني الوقوعُ في مفسدة الحرام الواقعي والمبغوض النّفس الأمري ، إلاّ انّه لو صرّح الشّارع بالرّخصة في ترك العمل في هذه الصّورة كشفَ ذلك عن مصلحة يتدارك بها ذلك الضّرر المظنون .

ولذا وقع الإجماع على عدم وجوب مراعاة الظّنّ بالوجوب أو الحرمة إذا حصل الظّنّ من القياس ،

-------------------

محبوب عند الشّارع ، والمفروض إنّه منجّز وليس معلّقا ، كما إنّ المفروض إنّه نفس أمري واقعي وليس ظاهريّا .

كما ( ويظنّ في فعل الثّاني ) وهو الحرام ( الوقوع في مفسدة الحرام الواقعي والمبغوض النّفس الأمري ) للشّارع لأنّ المفروض : انّ الواجبات محبوبات للشّارع لما فيها من المصالح ، والمحرّمات مبغوضات للشّارع لما فيها من المفاسد ( إلاّ إنّه لو صرّح الشّارع بالرّخصة في ترك العمل ) بالواجب والإتيان بالمحرّم ( في هذه الصّورة ) أي : صورة عدم وصول الواجب والحرام إلينا (كشف ذلك ) أي : ترخيص الشّارع في ترك الأوّل وفعل الثّاني ( عن مصلحة يتدارك بها الضّرر المظنون ) .

فإذا تركنا الواجب ووقعنا في ضرر ، أو فعلنا الحرام ووقعنا في ضرر ، فإنّ الشّارع يتدارك ذلك الضّرر بمصلحة أخرى ، لأنّ الحكيم لا يوقع الانسان في مفسدة بدون التّدارك .

( ولذا ) : لما ذكرناه : من إنّ للشّارع التّرخيص في مظنون الوجوب ومظنون الحرمة ( وقع الإجماع ) من العلماء كافة ( على عدم وجوب مراعاة الظّنّ بالوجوب أو الحرمة إذا حصل الظّنّ من القياس ) أو حصل من الإستحسان ، أو المصالح المرسلة ، أو الجفر ، أو الرّمل ، أو الإصطرلاب ، أو من قول الكافر ،

ص: 276

وعلى جواز مخالفة الظّنّ في الشّبهات الموضوعيّة ، حتّى يستبيّن التّحريم ، أو تقوم به البيّنة .

ثمّ إنّه لا فرق بين أن يحصل القطع بترخيص الشّارع ترك مراعاة الظّنّ بالضّرر ، كما عرفت من الظّنّ القياسي بالوجوب والتّحريم ومن حكم الشّارع بجواز الإرتكاب في الشّبهة الموضوعيّة .

-------------------

أو الفاسق ، أو ما اشبه ذلك ، ممّا لم يكن الظّنّ من الطّرق المجعولة شرعا .

( و ) كذلك وقع الإجماع ( على جواز مخالفة الظّنّ في الشّبهات الموضوعيّة ، حتّى يستبين التّحريم ، أو تقوم به البيّنة ) حيث قال الإمام عليه السلام في رواية مسعدة بن صدقة : « وَالأَشْيَاءُ كُلّها عَلى هذا ، حَتَّى يَسْتَبِينَ لك غير ذلك ، أَوْ تَقُوْمَ بِهِ البَيِّنَة »(1) . والمراد بالإستبانة : هو العلم العادي الشّامل للإطمئنان ، والبيّنة عبارة عن البيّنة الشّرعيّة ، فإذا شكّ الانسان في شيء إنّه حلال أو حرام ، أو إنّه طاهر أو نجس بنى على إنّه حلال وإنّه طاهر ، وجاز له إستعماله .

( ثم إنّه لا فرق بين أن يحصل القطع بترخيص الشّارع ترك مراعاة الظّنّ بالضّرر ) بأن يقطع إنّ الشّارع رخّص في ترك مراعاة الظّنّ ( كما عرفت من الظّنّ القياسي بالوجوب والتّحريم ) فإنّا نقطع بانّ الشّارع يقول : إترك الظّنّ القياسي بالوجوب والتّحريم ، وليس عليك أن تعمل بالشيء الّذي ظننت من القياس إنّه واجب ، أو ظننت منه بانّه حرام ( و ) كما عرفت ذلك ( من حكم الشّارع : بجواز الإرتكاب في الشّبهة الموضوعيّة ) سواء كانت شبهة تحريميّة أو شبهة وجوبية

ص: 277


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشّيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص373 ب33 ح12 .

وبين أن يحصل الظّنّ بترخيص الشّارع في ترك مراعاة ذلك الظّنّ ، كما في الظّنّ الّذي ظنّ كونه منهيّا عنه عند الشّارع ، فإنّه يجوز ترك مراعاته ، لأنّ المظنون تداركُ ضرر مخالفته لأجل ترك مظنون الوجوب ، أو فعل مظنون الحرمة ، فافهم .

-------------------

مالم تكن مقترنة بالعلم الإجمالي .

( وبين أن يحصل الظن بترخيص الشّارع في ترك مراعاة ذلك الظّنّ ) كما إذا ظننّا بأنّ الشّيء الفلاني ، واجب أو حرام ، لكن الإستصحاب أو البرائة - وهما دليلان ظنّيّان ظنّا معتبرا - قاما على عدم الوجوب أو على عدم الحرمة ، فإنّ هذا الظّنّ القائم على عدم الوجوب ، أو على عدم الحرمة يرفع ذلك الظّنّ بالوجوب وبالحرمة .

وذلك ( كما في الظّنّ الّذي ظنّ كونه منهيّا عنه عند الشّارع ) فإذا ظننّا بأنّ شيئا منهيّا عنه عند الشّارع ، لكنّ الظّنّ الإستصحابي - مثلاً - قام على عدم كونه منهيّا عنه عند الشّارع عملنا بالإستصحاب وتركنا الظّنّ الأوّل ( فإنّه يجوز ترك مراعاته ) أي : مراعاة ذلك الظّنّ بالتّحريم .

وإنّما نترك المظنون التّحريم ( لأنّ المظنون ) عند قيام الإستصحاب ( تدارك ضرر مخالفته ) أي : مخالفة مظنون التّحريم .

وانّما نظنّ بالتّدارك ( لأجل ترك مظنون الوجوب ، أو فعل مظنون الحرمة ) لأنّ هذا الظّنّ بالتّدارك حاكما على الظّنّ بالضّرر .

( فافهم ) ولعلّه إشارة إلى إنّ المعيار : هو وجود الحجّة على خلاف الظّنّ بالوجوب أو التّحريم ، فلا فرق بين القطع على خلاف الظّنّ ، أو الأمارة أو الأصل المعتبرين على خلافه .

ص: 278

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنّ أصل البراءة والاستصحاب إنّ قام عليهما الدّليل القطعيّ ، بحيث يدلّ على وجوب الرّجوع إليهما في صورة عدم العلم ولو مع وجود الظّنّ الغير المعتبر ؛ فلا إشكال في عدم وجوب مراعاة ظنّ الضّرر ، وفي انّه لا يجب التّرك أو الفعل بمجرّد ظنّ الوجوب أو الحرمة ، لما عرفت من أن ترخيص الشّارع الحكيم للإقدام على ما فيه ظنّ الضّرر لا يكون إلاّ لمصلحة يتدارك بها ذلك الضّرر المظنون ، على تقدير الثّبوت واقعا .

-------------------

( إذا عرفت ذلك ) الّذي قلناه : من أنّ الظّنّ إذا قام على خلاف الظّنّ بالوجوب أو الظّنّ بالحرمة ، كان هذا الظّنّ القائم على خلاف حاكما على مظنون الوجوب أو مظنون الحرمة ( فنقول : إنّ أصل البرائة والاستصحاب إنّ قام عليهما الدّليل القطعي،

بحيث يدلّ ) ذلك الدّليل القطعي ( على وجوب الرّجوع إليهما ) أي : إلى البرائة والإستصحاب ( في صورة عدم العلم ) بالوجوب أو التّحريم ، بأن كان الاستصحاب على خلاف الوجوب والتّحريم ( ولو مع وجود الظّنّ غير المعتبر ) على ذلك الواجب أو على ذلك الحرام ، ( فلا إشكال في عدم وجوب مراعاة ظنّ الضّرر ) .

فانّ من يظنّ بالوجوب يظنّ بالضّرر في تركه ، ومن يظنّ بالحرمة يظنّ بالضّرر في فعله ( و ) كذا لا اشكال ( في إنّه لا يجب التّرك أو الفعل بمجرّد ظنّ الوجوب أو الحرمة ) بعد إنّ قام أصل البرائة أو الاستصحاب على عدمهما .

وذلك ( لما عرفت : من أن ترخيص الشّارع الحكيم للإقدام على ما فيه ظنّ الضّرر) كالإقدام على ترك الواجب المظنون أو فعل الحرام المظنون، فإنّه (لا يكون) ذلك التّرخيص ( إلاّ لمصلحة يتدارك بها ذلك الضّرر المظنون ، على تقدير الثّبوت واقعا) بأن كان الظّنّ بالضّرر مطابقا للواقع ، كما إذا كان هناك ضرر واقعا

ص: 279

وإن منعنا عن قيام الدّليل القطعي على الاُصول ، وقلنا : إنّ الدّليل القطعيّ لم يثبت على إعتبار الاستصحاب ، خصوصا في الأحكام الشّرعيّة ، وخصوصا مع الظّنّ بالخلاف .

وكذلك الدّليل لم يثبت على الرجوع إلى البراءة حتّى مع الظّنّ بالتّكليف ، لأنّ العمدة في دليل البراءة الاجماعُ والعقلُ المختصّان بصورة عدم الظّنّ بالتّكليف ؛ فنقولُ : لا أقلّ من ثبوت بعض الأخبار الظّنّيّة على الاستصحاب والبراءة

-------------------

في فعل ذلك الحرام المظنون ، أو في ترك ذلك الواجب المظنون .

( وإن منعنا عن قيام الدّليل القطعيّ على الاُصول ) من البرائة والاستصحاب ( وقلنا : إنّ الدّليل القطعيّ لم يثبت على إعتبار الاستصحاب ، خصوصا في الأحكام الشّرعيّة ) وإنّما الاستصحاب خاصّ بالموضوعات ( و خصوصا مع الظّنّ بالخلاف ) بأن يكون الاستصحاب حجّة فيما إذا لم يظن بخلافه .

( وكذلك ) قلنا : بانّ ( الدّليل لم يثبت على الرجوع إلى البرائة حتّى مع الظّنّ بالتّكليف ) فإذا كان هناك ظنّ بالتّكليف وجوبا أو حرمة ، فلا دليل على البرائة حينئذٍ ( لأنّ العمدة في دليل البرائة : الاجماع والعقل ، المختصان بصورة عدم الظّنّ بالتّكليف ) فإذا ظنّ بالتّكليف ، فلا إجماع ولا عقل على البرائة .

والحاصل : إنّا إذا قلنا : بأنّه لا قطع بالبرائة والاستصحاب ( فنقول : لا أقلّ من ثبوت بعض الأخبار الظّنّيّة على الاستصحاب والبرائة ) مثل : « لاَ تَنْقُضِ اليَقِيْنَ بِالشَّكِّ » (1) بالنّسبة إلى الاستصحاب ، ومثل : « كُلُّ شَيءٍ مُطْلَقٌ حَتَّى يَرِدَ فِيْهِ

ص: 280


1- - الكافي اصول : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الأحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : = = ج1 ص373 ب216 ح3 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .

عند عدم العلم الشّامل لصورة الظّنّ . فيحصل الظّنّ بترخيص الشّارع لنا في ترك مراعاة الظنّ بالضّرر ، وهذا القدر يكفي في عدم الظّنّ بالضّرر .

وتوهم : « أنّ تلك الأخبار الظّنّيّة لا تعارض العقلَ المستقلَّ بدفع الضّرر المظنون » ،

-------------------

نَهْيٌ » (1) بالنّسبة إلى البرائة ، وذلك ( عند عدم العلم ) بالحكم ( الشّامل لصورة الظّنّ ) .

فإنّه إذا لم يكن علم بالحكم فسواء كان غير العلم بالحكم ، أو شكّا بالحكم أو وهما بالحكم ، يكون المرجع الاستصحاب والبرائة ، لشمول أخبارهما لصورة عدم العلم : من الظّنّ بالحكم ، أو الشّكّ بالحكم ، أو الوهم بالحكم ( فيحصل الظّنّ بترخيص الشّارع لنا في ترك مراعاة الظّنّ بالضّرر ) فإنّ أخبار الاستصحاب والبرائة توجب الظّنّ المعتبر الّذي هو حجّة : بأنّ الشّارع رخّص لنا في ترك الواجب وفعل الحرام .

( وهذا القدر ) من ترخيص الشّارع ( يكفي في عدم الظّنّ بالضّرر ) أي : الظّنّ بالبرائة إذ الظّنّ بالبرائة ، والظّنّ بالإستصحاب حجّة ، فلا يقاومه الظّنّ بالضّرر في ترك الواجب المظنون ، أو فعل الحرام المظنون .

( وتوهم إنّ تلك الأخبار ) الدّالّة على البرائة والاستصحاب ( الظنّيّة ) لأنّ الفرض إنّا لا نقطع بذلك قطعا وجدانيّا ، والأخبار الظّنّيّة ( لا تعارض العقل المستقل بدفع الضّرر المظنون ) فإذا وقع التّعارض بين الأخبار وبين العقل ، قدّم

ص: 281


1- - وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ، غوالي اللئالي : ج3 ص166 ح60 و ص462 ح1 .

مدفوعٌ بأنّ الفرض أنّ الشّارع لا يحكم بجواز الاقتحام في مظانّ الضّرر ، إلاّ عن مصلحة يتدارك بها الضّرر المظنون على تقدير ثبوته ، فحكمُ الشّارع ليس مخالفا للعقل ، فلا وجهَ لإطراح الأخبار الظّنّيّة الدّالّة على هذا الحكم الغير المنافي لحكم العقل .

ثمّ إنّ مفاد هذا الدّليل

-------------------

العقل على الأخبار ( مدفوعٌ : بأنّ الفرض : أنّ الشّارع لا يحكم بجواز الاقتحام في مظانّ الضّرر ، إلاّ عن مصلحة يتدارك بها الضّرر المظنون - على تقدير ثبوته ) أي : ثبوت الضّرر المظنون فتكون الأخبار حاكمة على العقل ، إذ العقل يدلّ على إنّ الضرر المظنون لا يجوز إقتحامه والأخبار تقول : إنّه لا ضرر في المقام ، فيرفع موضوع حكم العقل بوجوب الاجتناب .

وعليه : ( فحكم الشّارع ) بجواز الاقتحام ( ليس مخالفا للعقل ، فلا وجه لإطراح الأخبار الظّنّيّة الدّالّة على هذا الحكم ) أي : الاستصحاب والبرائة ، فإنّ كلاً منهما وإن كان منافيا لدفع الضّرر المظنون ، لكن ( غير المنافي لحكم العقل ) بل الشّارع قد أضاف بذلك علما جديدا إلى معلومات العقل ، وهو أنّه لا ضرر غير متدارك في المقام ، بحيث إنّه لو لم يكن حكم الشّارع هذا ، لكان العقل يرى إنّه ضرر غير متدارك .

وبذلك ظهر : إنّه لا مجال لأن يقال : إنّ الحكم العقلي قطعيٌّ والتّدارك ظنّيّ ، ولا يرفع اليد عن القطعي بالظّنّ .

لانّه يقال : إنّ التّدارك قطعي أيضا ، لأنّ الظّنّ ينتهي إلى القطع .

( ثمّ إنّ مفاد هذا الدّليل ) الأوّل الّذي ذكروه للإنسداد : - من انّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه من لحكم الوجوبي أو التحريمي مظنّة للضّرر ، ودفع الضّرر

ص: 282

هو وجوب العمل بالظّنّ إذا طابق الاحتياط لا من حيث هو .

وحينئذٍ : فإذا كان الظّنّ مخالفا للاحتياط الواجب ، كما في صورة الشّكّ في المكلّف به ، فلا وجه للعمل بالظّنّ حينئذٍ .

ودعوى الاجماع المركّب ، وعدم القول بالفصل ، واضحةُ الفسادِ ،

-------------------

المظنون لازم - ( هو وجوب العمل بالظّنّ إذا طابق ) الظّنّ ( الاحتياط ) من حيث العمل ( لا من حيث هو ) ظنّ وإن لم يطابق .

وإنّما كان مفاد الدّليل : العمل بالظّنّ إذا طابق الاحتياط ، هو لأنّ في مخالفة الواجب والحرام مظنّة العقاب ، أمّا مخالفة الظّنّ الدّال على النّدب أو الكراهة أو الاباحة ، فليست المخالفة فيها مظنّة للعقاب .

ومن المعلوم : إنّ الظّنّ بالوجوب ، أو الظنّ بالتّحريم ، يطابق الاحتياط ، فإنّ الاحتياط هو : أنّ يأتي الانسان بمظنون الوجوب ويترك مظنون الحرمة .

( وحينئذٍ ) أي : حين كان وجوب العمل بالظّنّ فيما إذا طابق الاحتياط ( فإذا كان الظّنّ مخالفا للاحتياط الواجب ) لا الاحتياط المندوب ، إذ الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي واجب ، بينما الاحتياط في أماكن أخر ، غير واجب ( كما في صورة الشّكّ في المكلّف به ) بأن علم التّكليف لكن تردّد بين أن يكون التّكليف متعلّقا بهذا الشّيء ، أو بذاك الشّيء ( فلا وجه للعمل بالظّنّ حينئذٍ ) لأنّ البرائة والاستصحاب وما أشبه لا يتمكن من أن يقاوم العلم الاجمالي .

( ودعوى الاجماع المركّب ، وعدم القول بالفصل ) أي : إنّ كلّ من يُقدّم الظّنّ في غير مخالف الاحتياط ، يقدّم الظّنّ مطلقا حتّى في مخالف الاحتياط ، فالبرائة والاستصحاب محكمان ، سواء كان في طرفهما الاحتياط أم لا ، فهي دعوى ( واضحة الفساد ) .

ص: 283

ضرورة انّ العمل في الصّورة الأولى لم يكن بالظّنّ من حيث هو ، بل من حيث كونه إحتياطا .

وهذه الحيثيّة نافية للعمل بالظّنّ في الصّورة الثّانية .

فحاصل ذلك العمل بالاحتياط كلّيّة وعدم العمل بالظّنّ رأسا .

-------------------

وذلك لأنّه لا إجماع مركّب في المقام ، ولا عدم القول بالفصل ( ضرورة إنّ العمل في الصّورة الأولى ) وهي صورة مطابقة الظّنّ للإحتياط ( لم يكن ) ذلك العمل ( بالظّنّ من حيث هو ) ظنّ ( بل من حيث كونه إحتياطا ) فيكون الاعتماد هنا على الاحتياط لا على الظّنّ بما هو ظنّ .

( وهذه الحيثيّة ) أي : حيثيّة كون الظّنّ مطابقا للإحتياط ( نافية للعلم بالظّنّ في الصّورة الثّانية ) وهي فيما إذا كان الاحتياط مخالفا للظّنّ .

( فحاصل ذلك ) الّذي ذكرنا : من العمل بالظّنّ الاستصحابي ونحوه ، هو عبارة عن ( : العمل بالإحتياط كلّيّة ) أي : في كِلاَ المقامين ، ( وعدم العمل بالظّنّ رأسا ) لانه حتّى في مورد العمل بالظّنّ ، لم يكن العمل بالظّنّ بما هو ظنّ ، بل هو عمل الاحتياط على ما عرفت .

لكن لا يخفى : إنّه يرد على ما ذكره المصنّف ما أورد عليه المحقّق الاشتياني بقوله : « لا يخفى عليك : إنّ المدّعى : هو حجّيّة الظّنّ ، بحيث يكون مثبتا لمدلوله وطريقا إليه شرعا - مطلقا - سواء قام على الحكم الالزامي أو غيره ، وسواء وافق الاحتياط ، كما إذا كان مفاده إثبات جزئيّة ما شكّ في جزئيّته ، أو شرطيّته ، أو خالفه ، كما إذا كان مفاده تعيين الواجب المردد بين المتباينين في الشّكّ في المكلّف به ».

ومن المعلوم : عدم وفاء الوجه المذكور - على تقدير تماميّته - بإثبات هذا

ص: 284

ويُمكن أنّ يُراد أيضا بأنّها قاعدة عمليّة لا تنهض دليلاً ، حتّى ينتفع به في مقابل العمومات الدّالّة على الحكم غير الضّرري ، وقد يشكل بأنّ المعارضة

-------------------

المدّعى ، فإنّ مرجعه إلى الاحتياط في مورد قيام الظّنّ على الحكم الالزامي ، فلا يشمل فيما لو قام على غيره من الأحكام الثّلاثة ، كما إنّه لا يشمل فيما لو قام على تعيين المكلّف به ، فيما يقتضي الاحتياط في المسألة الفرعيّة : الجمع بين المحتملين.

وإثبات المدّعى وتماميّته من الجهتين : بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل كما ترى ، إذ من قال بحجّيّة الظّنّ لا يفرّق بين ما أُريد قيامه ومفاده ، لا من يعمل به من باب الاحتياط ، فانّه لا معنى لعدم تفصيله ، بل لابدّ له من القول بالتّفصيل ، فإنّ الحيثيّة الموجبة للعمل به نافية له فيما خالف الاحتياط .

( ويمكن إنّ يُراد أيضا ) بقاعدة دفع الضّرر المظنون ، الّذي إستدلّ به جماعة لأجل حجّيّة الظّنّ مطلقا ( : بأنّها قاعدة عمليّة ) شرّعت في مقام العمل ، لا أنّها قاعدة أوّليّة فهي مثل الاستصحاب ، ، والبرائة ، وما أشبه ، ممّا هي محكومة بالأدلّة اللفظيّة كما قالوا : إنّ الاُصول الأربعة ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل ، ف- (لا تنهض ) هذه القاعدة ( دليلاً ، حتّى ينتفع به في مقابل العمومات الدّالّة على الحكم غير الضّرري ) أي : الأحكام الثّلاثة : من النّدب والكراهة والاباحة .

فالأدلة الدّالّة على هذه الأحكام الثّلاثة ، لا تدع مجالاً لقاعدة دفع الضّرر المظنون ، وإن ظننا في مورد هذه الأحكام الثّلاثة ظنّا بالضّرر ، فإذا كان هناك دليل على إستحباب الدّعاء عند رؤية الهلال ، وظننّا الوجوب ممّا معناه : الظّنّ بالعقاب في ترك الدّعاء ، قدّم الدّليل على هذه القاعدة .

( وقد يشكل ) ما ذكره بقوله : ويمكن أن يراد أيضا الخ ( بأنّ المعارضة

ص: 285

حينئذٍ يقع بين هذه القاعدة وبين الاُصول اللفظية ، فإن نهضت للحكومة على هذه القاعدة جرى ذلك أيضا في البرائة والاستصحاب النّافيين للتّكليف ، المرخّصين للفعل والتّرك ، المُؤَمِنَيْنِ من الضّرر ، فتأمّل .

الثّاني :

أنّه لو لم يوخذ بالظّنّ لزم ترجيح المرجوح على الرّاجح ،

-------------------

حينئذٍ ) أي : حين كانت القاعدة في مورد الدّليل غير الضّرري ( يقع بين هذه القاعدة وبين الاُصول اللفظيّة ) وهي الأخبار الّتي تدلّ على الأحكام الثّلاثة المذكورة ( فإن نهضت ) الاُصول اللفظيّة ( للحكومة على هذه القاعدة جرى ذلك ) أي : جرت الحكومة على القاعدة ( أيضا في البرائة والاستصحاب النّافيين للتّكليف ، المرخّصين للفعل والتّرك ، المُؤَمِنَيْنِ من الضّرر ) فكما إنّ الأدلّة اللفظيّة حاكمة على هذه القاعدة ، كذلك الأدلّة العمليّة الّتي تدلّ على البرائة والاستصحاب حاكمة عليها .

( فتأمّل ) ولعلّ وجه الفرق بين الاُصول اللفظيّة والاُصول العمليّة : هو إنّ كون الاُصول اللفظيّة حاكمة على قاعدة دفع الضّرر المظنون ، لا يُلازم كون الاُصول العمليّة أيضا حاكمة عليها ، إذ الاُصول اللفظيّة تبيّن الحكم الواقعي ، بينما الاُصول العمليّة تبيّن وجه العمل في مقام عدم وجود دليل .

ومن الواضح : إنّ القاعدة العقليّة بدفع الضّرر المظنون دليل ، فلا مجال للأصول العمليّة مع القاعدة ، فتقدّم القاعدة عليها ، بينما لا مجال للقاعدة مع الاُصول اللفظيّة ، فتقدّم الاُصول اللفظيّة عليها .

( الثّاني ) من الأدلّة الأربعة الّتي ذكروها لحجّيّة الظّنّ مطلقا هو : ( إنّه لو لم يؤخذ بالظّنّ ، لزم ترجيح المرجوح على الرّاجح ) لأنّه كلّما كان هناك ظنّ ، كان

ص: 286

وهو قبيح .

وربّما يجاب عنه : بمنع قبح ترجيح المرجوح على الرّاجح ، إذ المرجوح قد يوافق الاحتياط ، فالأخذ به حسنٌ عقلاً .

وفيه : أنّ المرجوح المطابق للاحتياط ، ليس العملُ به ترجيحا للمرجوح ، بل هو جمعٌ في العمل بين الراجح والمرجوح . مثلاً ، إذا ظُنَّ عدم وجوب شيء وكان وجوبه مرجوحا ، فحينئذٍ الاتيان به من باب الاحتياط ليس طرحا للرّاجح في العمل ، لأنّ الاتيان لا ينافي عدم الوجوب .

-------------------

في مقابله وَهمٌ ، والانسان مخيّر بين أن يأخذ بالوهم أو يأخذ بالظّنّ ، فإذا أخذ بالوهم لزم ترجيح المرجوح على الرّاجح (وهو قبيح) عقلاً ، فلا يجوز ترك الظّنّ إلى الوهم .

( وربّما يجاب عنه : بمنع قبح ترجيح المرجوح على الرّاجح ) وإنّما الممنوع عقلاً : هو ترجّح المرجوح على الرّاجح ، كما إنّه يمنع عقلاً : ترجح أحد المتساويين على الآخر (إذ المرجوح قد يوافق الاحتياط ، فالأَخذُ به حسنٌ عقلاً ) فإذا قام الظّنّ - مثلاً - على : أنّ الدّعاء عند رؤية الهلال مستحبّ ، والوهم : على وجوبه ، فإذا قرأه المكلّف بإعتبار الوهم بالوجوب فهل أتى بالقبيح ؟ .

( وفيه ) أي : في هذا الجواب . ( : أنّ المرجوح المطابق للإحتياط ، ليس العمل به ) أي : بذلك المرجوح ( ترجيحا للمرجوح ) على الرّاجح ( بل هو ) أي : العمل بالمرجوح المطابق للإختيار ( جمع في العمل بين الرّاجح والمرجوح ) فهو راجح من جهة الاحتياط ، ومرجوح من جهة الظّنّ المخالف له .

( مثلاً : إذا ظنّ عدم وجوب شيء ) كما ذكرنا في الدّعاء عند رؤية الهلال ( وكان وجوبه مرجوحا ) لانّه وهم في قِبال الظّنّ ( فحينئذٍ : الاتيان به من باب الاحتياط ، ليس طرحا للرّاجح في العمل ، لأنّ الاتيان لا ينافي عدم الوجوب ) لأنّ

ص: 287

وإن أريد الاتيان بقصد الوجوب المنافي لعدم الوجوب ، ففيه : إنّ الاتيان على هذا الوجه مخالف للإحتياط ، فإنّ الاحتياط هو الاتيان لا حتمال الوجوب ، لا بقصده .

وقد يجابُ أيضا : بأنّ ذلك فرع وجوب التّرجيح ، بمعنى أنّ الأمر إذا دار بين ترجيح المرجوح الرّاجح ، كان الأوّل قبيحا .

وأمّا إذا لم يثبت وجوب التّرجيح ، فلا يرجح المرجوح ولا الرّاجح .

-------------------

معنى عدم الوجوب : جواز الاتيان ، لا إنّ معناه : عدم جواز الاتيان ، حتّى ينافي الوهم بالوجوب .

( وإن أُريد ) أي : أراد المستدّل بهذا الدّليل ( : الاتيان بقصد الوجوب المنافي لعدم الوجوب ) الّذي هو مظنون ( ففيه : إنّ الاتيان على هذا الوجه ) أي : بقصد الوجوب ( مخالف للإحتياط ، فإنّ الاحتياط هو : الاتيان لاحتمال الوجوب ، لا بقصده ) أي : لا بقصد الوجوب .

( وقد يجاب أيضا ) أي : عن إشكاله : إنّه لو لم نأخذ بالظّنّ لزم الأخذ بالوهم والأخذ بالوهم في مقابل الأخذ بالظّنّ ترجيح للمرجوح على الرّاجح ، وترجيح المرجوح على الرّاجح قبيح ( : بأنّ ذلك فرع وجوب التّرجيح ) أي : إنّه فيما إذا دار الأمر بين الظّنّ والوهم ، قلنا : بلزوم تقديم الظّنّ على الوهم ( بمعنى : إنّ الأمر إذا دار بين ترجيح المرجوح وترجيح الرّاجح ، كان الأوّل قبيحا ) عند العقلاء .

( وأمّا إذا لم يثبت وجوب التّرجيح ، فلا يرجّح المرجوح ولا الرّاجح ) وإنّما يعمل بمقتضى الاُصول - فيما إذا لم يكن هناك علمٌ - سواء طابق الرّاجح أو المرجوح ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّا إذا علمنا بالأحكام علمنا بعلمنا ، وإذا لم نعلم بالأحكام أخذنا بمقتضى الاُصول الأربعة : من البرائة ، والاحتياط ،

ص: 288

وفيه : إنّ التوّقّف عن ترجيح الراجح أيضا قبيح ، كترجيح المرجوح ، فتأمّل جدا.

-------------------

والتّخيير ، والاستصحاب ، فلا يلزم ترجيح المرجوح على الرّاجح ، وحتّى إذا طابق الاستصحاب - مثلاً - الوهم ، لم يكن من ترجيح المرجوح على الرّاجح - الّذي هو الظّنّ ، بل هو من تحكيم الاستصحاب الّذي هو دليل في المقام .

هذا حسب ما فهمناه من قول المجيب ، الّذي ذكره المصنّف بقوله : « وقد يجاب أيضا » الخ . لكنّ المصنّف فَهِمَ من قد يجاب أمرا آخر - وهو : إنّ المجيب يريد أنّ يقول : قد يرجِّح الانسان المرجوح على الرّاجح ، وقد يرجّح الرّاجح على المرجوح ، وقد يتوقّف في إنّه هل يجب ترجيح الرّاجح أو لا يجب ؟ فأشكل عليه بقوله : ( وفيه : إنّ التّوقف عن ترجيح الرّاجح أيضا قبيح ، كترجيح المرجوح ) فكما إنّ الانسان يقبح عليه أنّ يرجح المرجوح على الرّاجح ، كذلك يقبح عليه أن يتوقّف ، فلا يدري : هل يلزم ترجيح الرّاجح ، أو لا يلزم ترجيح الرّاجح ، بأن يرى التّساوي في إنّه أيّهما رجح ، فلا بأس عليه ؟ .

( فتأمّل جدا ) قال المصنّف في الحاشية وجه التأمّل : إنّ مراد المستدلّ من الرّاجح والمرجوح ما هو الأقرب إلى الغرض والأبعد عنه في النّظر ، ولا شكّ في وجوب التّرجيح بمعنى : العمل بالأقرب وقبح تركه مطلقا ، فلا فرض لعدم وجوب التّرجيح يرد به هذا الدّليل ، فلا فائدة في الردّ .

إنتهى كلام المصنّف رحمه اللّه في حاشية الكتاب في وجه التأمّل ، وهو أعلم بمراده ، ولو لم يبيّن وجه التأمّل في الحاشية ، كان الأولى أنّ نقول : إنّ تأمّله فيما إستفاده من كلام المجيب ، وإنّه أمرَ بالتّأمّل لإحتمال أن يكون كلام المجيب هو ما ذكرناه في الشّرح ، لا ما ذكره المصنّف ، ممّا يظهر من إيراده عليه .

ص: 289

فالأولى : الجواب ، أولاً ، بالنّقص بكثير من الظنون المحرّمة العمل بالإجماع أو الضّرورة .

وثانيا بالحلّ : وتوضيحهُ : تسليمُ القبح إذا كان التّكليف وغرض الشّارع متعلّقا بالواقع ولم يمكن الاحتياط ، فإنّ العقل قاطع بأنّ الغرض إذا تعلّق بالذّهاب إلى بغداد وتردّد الأمرُ بين طريقين ، أحدهما مظنون الايصال ، والآخر موهومه ، فترجيح الموهم قبيح ،

-------------------

وحيث قد عرفت الاشكال فيما أجابوا به عن ثاني الأدلّة الأربعة القائل : « إنّه لو لم يؤخذ بالظّنّ ، لزم ترجيح المرجوح على الرّاجح وهو قبيح » أجاب المصنّف عنه بقوله : ( فالأولى الجواب ، أولاً : بالنّقض بكثير من الظنون المحرّمة العمل ، بالإجماع أو الضّرورة ) كالظّنّ القياسي ، والظّنّ الحاصل من خبر الفاسق أو الكافر ، والظّنّ الحاصل من الأسباب غير العاديّة : كالجفر والرّمل ، وما أشبه ، والظّنّ الحاصل من مناسبات خارجية : كالإستحسان ، والمصالح المرسلة ، وطيران الغُراب ، وجَريان المِيزاب ، فلو لزم الأخذ بالظّنّ في مقابل الوهم ، لزم الأخذ بهذه الظنون أيضا ، والحال إنّه لا يؤخذ بهذه الظّنون ، فلا دليل على الأخذ بالظّنّ في مقابل الوهم في الأحكام الشّرعيّة .

( وثانيا : بالحَلّ ، وتوضيحه : تسليم القبح إذا كان التّكليف وغرض الشّارع متعلّقا بالواقع ) بما هو واقع ( ولم يمكن الاحتياط ) فإنّه في هذه الصّورة يكون ترجيح غير الظّنّ على الظّنّ قبيحا ( فإنّ العقل قاطع : بأنّ الغرض إذا تعلّق بالذّهاب إلى بغداد وتردّد الأمر بين طريقين : أحدهما : مظنون الايصال ، والآخر : موهومه ، فترجيح الموهوم ) على المظنون ( قبيح ) كما أنّ التّوقّف عن التّرجيح مع وجوب الذّهاب قبيح أيضا .

ص: 290

لانّه نقض للغرض .

وأمّا إذا لم يتعلّق التّكليف بالواقع أو تعلق به مع إمكان الاحتياط ، فلا يجب الأخذُ بالرّاجح ، بل اللاّزم في الأوّل هو الأخذ بمقتضى البراءة ، وفي الثّاني الأخذ بمقتضى الاحتياط ، فإثباتُ القبح موقوف على إبطال الرّجوع إلى البراءة في موارد الظّنّ وعدم وجوب

-------------------

وانّما كان الأمران قبيحين : ( لانّه نقض للغرض ) الّذي هو الذّهاب إلى بغداد .

( وأمّا إذا لم يتعلّق التّكليف بالواقع ) بل تعلق بالواقع المعلوم ، أو المظنون بالظّنّ الخاصّ ( أو تعلق به ) أي : بالواقع ( مع إمكان الاحتياط ) كما إذا تعلّق التّكليف بالصّلاة في الثّوب الطّاهر ، وأمكن الاحتياط بالصّلاة في الثوبين المحتمل كون أحدهما طاهرا ( فلا يجب الأخذ بالرّاجح ) منهما .

( بل اللاّزم في الأوّل : ) وهو ما إذا لم يتعلّق التّكليف بالواقع بما هو واقع ، بل بالواقع المعلوم ، أو المظنون بالظّنّ المعتبر - مثلاً - فإذا لم يعلم بالواقع ، كان المرجع البرائة ، لأنّ الشّارع قال : « رفع ما لايعلمون » (1) .

وعليه : فالتكليف ( هو الأخذ بمقتضى البرائة ) لأدلتها .

( وفي الثّاني : ) وهو ما إذا تعلّق التّكليف بالواقع مع إمكان الاحتياط ، لَزِمَ ( الأخذ بمقتضى الاحتياط ) حسب العلم الاجمالي .

وعليه : ( ف- ) قبح ترجيح المرجوح على الرّاجح ليس مطلقا ، وانّما ( إثبات القبح موقوف على إبطال الرّجوع إلى البرائة في موارد الظّنّ ، وعدم وجوب

ص: 291


1- - التوحيد : ص353 ح24 ، تحف العقول : ص50 ، الاختصاص : ص31 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .

الاحتياط فيها .

ومعلومٌ انّ العقل قاض حينئذٍ بقبح ترجيح المرجوح ، بل ترك ترجيح الرّاجح ، فلابدّ من إرجاع هذا الدّليل إلى دليل الانسداد الآتي المركّب من بقاء التّكليف وعدم جواز الرّجوع إلى البراءة وعدم لزوم الاحتياط ، وغير ذلك من المقدّمات الّتي لا يتردّد الأمر بين الأخذ بالرّاجح والأخذ بالمرجوح إلاّ بَعدَ إبطالها .

-------------------

الاحتياط فيها ) أي : في موارد الظّنّ ، فقبح ترجيح الوهم على الظّنّ أو التّساوي بينهما ليس مطلقا ، بل في موارد عدم البرائة ، وعدم الاحتياط ، فاطلاق الدّليل على لزوم الأخذ بالظّنّ غير تامّ .

( ومعلوم : إنّ العقل قاض حينئذٍ ) أي : حين عدم لزوم الرّجوع إلى البرائة ، وعدم لزوم الرّجوع إلى الاحتياط ( بقبح ترجيح المرجوح ) على الرّاجح ( بل ) قبح ( ترك ترجيح الرّاجح ) بأنّ يرى الأمرين متساويين فيختار الرّاجح أو المرجوح .

وعليه : ( فلابدّ من إرجاع هذا الدّليل إلى دليل الانسداد الآتي ) تفصيله ، فانّه ليس دليلاً مستقلاً .

ومن المعلوم : إنّ دليل الانسداد هو الدّليل ( المركّب من : بقاء التّكليف ، وعدم جواز الرّجوع إلى البرائة ، وعدم لزوم الاحتياط ، وغير ذلك من المقدّمات ) الآتية، والّتي منها : قبح ترجيح المرجوح على الرّاجح ، أو قبح التّساوي بين الرّاجح والمرجوح ، فاللاّزم أنّ تتحقّق المقدّمات بالإنسداد ( الّتي لايتردّد الأمر بين : الأخذ بالرّاجح ، والأخذ بالمرجوح ، إلاّ بعد إبطالها ) وإثبات تلك المقدّمات .

ص: 292

الثّالث :

ما حكاه الأستاذ عن أستاذه عن السّيّد الطّباطبائي ، من أنّه لا ريب في وجود واجبات ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات ، ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالإتيان بكلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوما ، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك .

-------------------

وحينئذٍ : فليس هذا الدّليل الثّاني لحجّيّة مطلق الظّنّ ، دليلاً في قِبال الانسداد .

وإن شئت قلت : إن تمّت مقدّمات الانسداد في هذا الدّليل الثّاني - لانّ هذا الدّليل الثّاني ذكر بعض مقدّمات الانسداد لا كلّها - فإذا إنضم إلى هذا البعض سائر المقدّمات ، فليس هذا الدّليل الثّاني دليلاً جديدا في قِبال دليل الانسداد ، وإن لم تتمّ مقدّمات الانسداد ، فهذا الدّليل باطل في نفسه .

( الثّالث ) من أدلّة حجّيّة الظّنّ مطلقا ، ( ما حكاه الاُستاذ ) وهو شريف العلماء قدس سره ( عن أستاذه : السّيّد الطّباطبائي ) بحر العلوم ( من : انّه لا ريب في وجوب واجبات ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات ) فإنّ جملة من الأحكام نعلمها واجبات أو محرّمات ، وجملة من الأحكام لا نعلمها ، فهي مشتبهات كالدّعاء عند رؤية الهلال - مثلاً - وجوبا ، وشرب التّتن - مثلاً - تحريما .

( ومقتضى ذلك ) العلم الاجمالي بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات ( وجوب الاحتياط بالإتيان بكلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوما ، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك ) أي : ولو موهوما ، وذلك لأنّ العلم الاجمالي يقتضي الاتيان بجميع الأطراف ، سواء كانت الأطراف متساوية ، أو الأطراف بين راجح ومرجوح ، فإذا علم الانسان بوجود إناء محرّم بين عشرة أواني ، فاللاّزم أنّ يجتنب عن الكلّ ، سواء الكُلّ في شكّه متساويا ، أو كان الحرام في الأحمر - مثلاً -

ص: 293

ولكن مقتضى قاعدة نفي العُسر والحَرج عدم وجوب ذلك كلّه ، لانّه عسر أكيد وحرج شديد .

فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط ، وإنتفاء الحرج ، العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات ، لانّ الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات

-------------------

من تلك الأواني أرجح من كونه في الأبيض - مثلاً - :

( ولكن مقتضى قاعدة نفي العُسر والحَرج ) حيث إنّ الانسان إذا أراد أن يأتي بكلّ المشتبهات في أطراف الواجب ، ويترك كلّ المشتبهات في أطراف الحرام ، لزم منه العُسر والحَرج ، فيكون مقتضى هذه القاعدة ( : عدم وجوب ذلك كلّه ، لانّه عُسر أكيد وحَرجٌ شديد ) ودليل العسر والحرج وارد على الأدلّة الأوليّة كما إنّها واردة على الأدلّة الثّانويّة أيضا ، مثل لزوم الاتيان بأطراف العلم الاجمالي .

وعليه : ( فمقتضى الجمع بين قاعدتي : الاحتياط ، وإنتفاء الحرج ) لورود قاعدة إنتفاء الحرج على قاعدة الاحتياط ، هو ( : العمل بالاحتياط في المظنونات ، دون المشكوكات والموهومات ) .

أمّا إذا كان الحرج بمقدار الثّلث فقط ، فيعمل بالمظنونات والمشكوكات دون الموهومات ، لانّ المشكوكات أولى بالعمل من الموهومات . لا يقال : إذا كان في البعض عسر وحرج ، عملنا بالبعض الّذي لا عسر فيه في كلّ من المظنونات والمشكوكات والموهومات ، وتركنا البعض الآخر الّذي فيه عسر في كلّ من الثّلاثة .

لانّه يقال : ليس من الصّحيح أن نترك المظنون ونأخذ بالمشكوك والموهوم .

وذلك ( لأنّ الجمع على غير هذا الوجه ) الّذي ذكرناه : من الأخذ بالمظنونات ، دون المشكوكات والموهومات أي : بأن كان الجمع ( بإخراج بعض المظنونات ،

ص: 294

وإدخال بعض المشكوكات والموهومات باطلٌ إجماعا .

وفيه انّه راجعٌ إلى دليل الانسداد الآتي ، إذ ما من مقدّمة من مقدّمات ذلك الدّليل إلاّ ويُحتاجُ إليها في إتمام هذا الدّليل ، فراجع وتأمّل ، حتّى يظهر لك حقيقةُ الحال .

مع انّ العمل بالإحتياط في المشكوكات أيضا كالمظنونات ، لا يلزم منه حرج قطعا ، لقلّة موارد الشّكّ المتساوي الطّرفين ، كما لا يخفى ،

-------------------

وإدخال بعض المشكوكات والموهومات ) فانّه ( باطل إجماعا ) .

فانّ العقلاء كافّة متّفقون على أنّ المظنون ، أولى من المشكوك والموهوم ، فإذا إضطر الانسان إلى شرب ثلاث أوان من تسع أوان وكان بينها سمّ ، فظنّ بعدم السّمّ في الأواني البيض ، ووهم بالسّمّ في الأواني الحمر ، وشكّ بالسّمّ في الأواني الصفر ، فانّ العقلاء كافة يلزمونه بشرب الأواني البيض ، لا أن يشرب ثلاثا : واحدا من البيض ، وواحدا من الحمر ، وواحدا من الصّفر .

( وفيه ) أي في هذا الدّليل الثّالث ( إنّه راجع إلى دليل الانسداد الآتي إذ ما من مقدّمة من مقدّمات ذلك الدّليل ) الانسدادي ( إلاّ ويحتاج إليها ) أي : إلى تلك المقدّمة ( في إتمام هذا الدّليل ) الثّالث .

(فراجع ، وتأمّل ، حتّى يظهر لك حقيقة الحال ) وتعلم بأنّ هذا الدّليل هو دليل الانسداد وليس دليلاً جديدا .

( مع إنّ ) هذا الدّليل الثّالث يرد عليه إشكال آخر وهو : إنّ ( العمل بالإحتياط في المشكوكات أيضا كالمظنونات ، لا يلزم منه حرج قطعا ) فالّلازم حسب هذا الدّليل أن يعمل بالمشكوكات والمظنونات ، لا ان يعمل بالمظنونات فقط ( لقلّة موارد الشّكّ المتساوي الطرفين ، كما لا يخفى ) على من راجع الفقه ، فإنّ الغالب

ص: 295

فيقتصر في ترك الاحتياط على الموهمات فقط .

ودعوى : « إنّ كلّ من قال بعدم الاحتياط في الموهومات ، قال بعدمه أيضا في المشكوكات » ، في غاية الضّعف والسّقوط .

-------------------

هو الظّنّ ، وفي قِباله الوهم ( فيقتصر في ترك الاحتياط على الموهومات فقط ) لا كما ذكره الدّليل الثّالث : من إنّه يقتصر على المظنونات فقط .

( ودعوى : إنّ كلّ من قال بعدم الاحتياط في الموهومات ، قال بعدمه أيضا في المشكوكات ) فهناك إجماع مركّب على إنّ المشكوكات لا يعمل بها ، فهذه الدّعوى ( في غاية الضّعف والسّقوط ) لانّ القائلين بالإنسداد قليلون جدا ، ولا يتحقّق الاجماع المركّب بسبب قلّة القائلين .

وصلى اللّه على محمّد وآله الطيبين الطاهرين ، والحمد لله ربّ العالمين .

سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون

وسلامٌ على المرسلين والحمد للّه ربِّ العالمين

* * *

ص: 296

الوصائل

الى

الرسائل

تتمّة بحث الظن: « دليل الانسداد »

اشارة

ص: 297

ص: 298

الدّليل الرابع :

هو الدّليل المعروف بدليل الانسداد ، وهو مركَّب من مقدّمات :

الاُولى : انسدادُ باب العلم والظنّ الخاصّ في معظم المسائل الفقهيّة .

الثانية : أنّه لايجوز لنا إهمالُ الأحكام المشتبهة وترك التَعرّض لامتثالها ، بنحو من أنحاء إِمتثال الجاهل العاجز عن العلم التفصيليّ ، بأن نقتصر في الاطاعة على التكاليف القليلة المعلومة تفصيلاً ، أو بالظنّ الخاص القائم مقامَ العلم بنصّ الشارع ،

-------------------

( الدّليل الرابع : هو الدّليل المعروف بدليل الانسداد ) وقد أشار إليه شيخُ الطائفةِ في العُدّة ، وذكره صاحب المعالم دليلاً رابعاً للمقام ( وهو مركَب من مقدّمات ) إختلفوا في عددها ، ونحن نتبّع المصنّف في العدد وكيفية الترتيب .

( الأولى : إنسداد باب العلم والظنّ الخاصّ ) الذي يسمى بالعلميّ ( في معظم المسائل الفقهيّة ) فانّنا لانعلم بالأحكام في تلك المسائل ، كما لم يرد فيها أخبار صحيحة صريحة غير صادرة للتقية بمعنى : صحة السّند ، ووجود الظهور ، وصحة المضمون .

( الثانية : أنّه لايجوز لنا إهمال الأحكام المشتبهة ، وترك التعرّض لامتثالها ) إمتثالاً ( بنحو من أنحاء إمتثال الجاهل العاجز عن العلم التفصيليّ ) فانّ الجاهل بالأحكام ، العاجز عن إمتثالها تفصيلاً ، لايجوز له ترك تلك الأحكام الّتي لايعلمها، وترك التعرّض لامتثالها ، وذلك ( بأن نقتصر في الاطاعةَ على التكاليف القليلة المعلومة تفصيلاً ، أو ) المظنونة ( بالظّن الخاصّ القائم مقام العلم بنصّ الشارع ) .

كما إذا نصّ الشارع على إنّ خبر الواحد - مثلاً - قائم مقام العلم ، فنقتصر في

ص: 299

ونجعل أنفسنا في تلك الموارد ممّن لاحكمَ عليه فيها كالأطفال والبهائم ، أو ممّن حكمه فيها الرّجوع إلى أصالة العدم .

الثالثة : أنّه إذا وجب التعرّضُ لامتثالها فليس امتثالها بالطرق الشرعيّة المقرّرة للجاهل ، من الأخذ بالاحتياط الموجب للعلم الاجماليّ بالامتثال أو الأخذ في كلّ مسألة بالأصل المتبّع شرعاً في نفس تلك المسألة

-------------------

أعمالنا على المعلومات والمظنونات على هذا النحو من الظنّ ( ونجعل أنفسنا في تلك الموارد ) أي : في الموارد المشتبه حكمها ( ممّن لا حكم عليه فيها ) فيجوز للانسان أن يعمل بمشتبه التحريم وأنّ يترك مشتبه الوجوب ( كالأطفال والبهائم ) الذين لاتكليف لهم .

( أو ) بجعل أنفسنا في الموارد المشتبهة ( ممّن حكمه فيها الرجوع الى أصالة العدم ) أي : إنّه محكوم بحكم من الشرع ، وليس كالأطفال والبهائم ممّن رُفع عنهم قلم التكليف ، وإنّما يكون حكمه أصالة العدم ، فإذا شك في وجوب شيء أجرى أصالة عدم الوجوب ، وإذا شك في حرمة شيء أجرى أصالة عدم الحرمة .

( الثالثة ) من المقدمات ( : إنّه إذا وجَبَ التَعرّض لامتثالها ) أي : لامتثال تلك الأحكام الكثيرة المشتبهة عندنا ( فليس إمتثالها بالطرق الشرعيّة المقررة للجاهل ) بالمكلّف به مع علمه بالتكليف ( : من الأخذ بالاحتياط الموجِب للعلم الاجمالي بالامتثال ) ، فانّ من يحتاط - عند إشتباه القبلة - بإتيان أربع صلوات إلى أربع جهات ، فاتيانه بالصلوات الأربع يوجب أن يعلم إجمالاً بأنّه إمتثل الصلاة الى القبلة ، وكذا من إشتبه في انّ هذا الاناء خمر ، أو ذاك الاناء ، فيتركّهما معاً ، فانّه يوجب العلم الاجماليّ بأنّه ترك الحرام الموجود في البيّن .

( أو الأَخذ في كل مسألة بالأصل المتّبع شرعاً في نفس تلك المسألة ،

ص: 300

مع قطع النظر عن ملاحظتها منضمّة إلى غيرها من المجهولات ، أو الأخذ بفتوى العالم بتلك المسألة وتقليده فيها .

الرّابعة : انّه إذا بطل الرّجوعُ في الامتثال إلى الطرق الشرعيّة المذكورة ، لعدم الوجوب في بعضها وعدم الجواز في الآخر ،

-------------------

مع قطع النظر عن ملاحظتها ) أي : ملاحظة تلك المسألة ( منضمّة الى غيرها ) أي : الى غير تلك المسألة ( من المجهولات ) بأنّ يلاحظ في كل مسألة مسألة ، هل لها حالة سابقة فيستصحب ، أو لا ؟ وإذا لم يكن له حالة سابقة ، فهل هو شك في التكليف فيجري البرائة ، أو شك في المكلّف به مع إمكان الاحتياط فيحتاط ، أو شك في المكلّف به بدون إمكان الاحتياط فيتخير ؟ .

وإنما لايأخذ المكلّف في كل مسألة مسألة بالأصل المتبّع شرعاً في تلك المسألة ، لأنّه مع هذه الملاحظة يحصل العلم بالمخالفة الكثيرة - كما سيأتي إنشاء اللّه تفصيل الكلام في ذلك - .

( أو الأخذ بفتوى العالم بتلك المسألة وتقليده فيها ) بأن يكون المجتهد الانسدادي مقلِّداً لمجتهد إنفتاحي - مثلاً - وذلك لفرض : إنّه مجتهد ، فلايجوز له التقليد ، بل هو يرى خطأ الانفتاحي ، لأنّه قام لديه الدّليل على الانسداد ، فكيف يقلد من يعرف خطأه ؟ .

( الرابعة ) من المقدمات ( : إنّه إذا بطل الرّجوع في الامتثال الى الطرق الشرعيّة المذكورة ) وهي : الاحتياط والعمل بالأصول ، والتقليد ( لعدم الوجوب في بعضها ) وهو العمل بالاحتياط ، بل ربّما لايتمكن من العمل بالاحتياط في الجميع ، إذ قد يكون الاحتياط متعذراً وقد يكون الاحتياط متعسراً مرفوعاً ( وعدم الجواز في الآخر ) وهو العمل بالأصول في مسألة مسألة ، أو التقليد لمجتهد

ص: 301

والمفروضُ عدمُ سقوط الامتثال بمقتضى المقدّمة الثانية ، تعيّن بحكم العقل المستقل الرجوع الى الامتثال الظنّيّ والموافقة الظنيّة للواقع ولايجوز العدول عنه إلى الموافقة الوهميّة ، بأن يؤخذ بالطرف المرجوح ، ولا إلى الامتثال الاحتماليّ والموافقة الشكيّة ،

-------------------

إنفتاحي - مثلاً- .

( والمفروض : عدم سقوط الامتثال بمقتضى المقدمة الثانية ) لأنّه يلزم الخروج عن الدّين ( تعيّن بحكم العقل المستقلّ ) أي : إنّه من المستقلات العقليّة وليس من قبيل مايضّم مقدمة عقليّة الى مقدمة شرعيّة حتى يكون القياسي عقلياً شرعياً ، ( الرجوع الى الامتثال الظّنّي والموافقة الظنّية للواقع ) .

« والموافقة الظنيّة » عطف بيان لقوله « الامتثال الظنّي » فان الانسان إذا إمتثل ظنّاً ، فقد ظنّ بموافقة ما أتى به للواقع .

( ولايجوز العدول عنه ) أي : عن الامتثال الظّني ( الى الموافقة الوهميّة ، بأن يؤخذ بالطرف المرجوح ) في المسائل الفرعية وفي الطرق ، والفرق بينهما : إنّ الطرق : تقوم على الموضوعات ، والمسائل الفرعيّة : يراد بها الأحكام .

( ولا إلى الامتثال الاحتمالي والموافقة الشّكيّة ) فيما اذا لم يكن هناك ظّن وَوَهمٌ في طرفيّ المسألة ، بلّ كان هناك شك في طرفيّ المسألة ، فيكون مخيّراً بين أن يأتي بهذا الطرف من الشك ، أو ذاك الطرف ، كما إذا شك في انّ يوم الجُمعة صلاة الجمعة واجبة أو محرّمة ، أو شك في الموضوعات إنّ هذه المرأة واجبة الوطي أو واجبة الترك ، حيث إنّه نَذَرَ أن يطّأها أو يتركها ، ثم إشتبه إنّ نذره كان في أي الطرفين .

ص: 302

بأن يعتمد على أحد طرفي المسألة من دون تحصيل الظّن فيها أو يعتمد على مايحتمل كونه طريقاً شرعيّاً للامتثال ، من دون إفادته للظنّ أصلاً.

فيحصل من جميع هذه المقدّمات وجوب الامتثال الظنّي والرّجوع إلى الظنّ .

-------------------

وذلك ( بأن يعتمد على أحد طرفي المسألة من دون تحصيل الظّن فيها ) فانّه إذا شك في انّ صلاة الجمعة واجبة أو محرّمة ، يجب عليه الفحص والبحث حتى يظنّ بأحد الطرفين ، ويوهم بالطرف الآخر ، فيعمل بالظّن لا أن يعمل بالوهم ، ولا أن يعمل بأحد طرفي الشّك بدون الفحص والبحث والوصول الى الظنّ والوَهم في المسألة .

( أو يعتمد على ما يحتمل كونه طريقاً شرعيّاً للامتثال ، من دون إفادته للظّن أصلاً ) كالاعتماد على القرعة - مثلاً - بدون أن تفيده القرعة : الظنّ .

( فيحصل من جميع هذه المقدمات ) الأربع ( : وجوب الامتثال الظّني والرّجوع الى الظنّ ) وذلك لأنّه إذا تمّت المقدمات الثلاث الأول ، التي هي صغرى القياس ، جاء دور الكبرى ، وهي : دوران الأمر بين الظّن ، والشك والوهم ، من هذا القياس المركب من الصغرى والكبرى ، يثبت العلم بالنتيجة وهي : وجوب الامتثال الظنّي ، لأنّ العقل مستقل بأنّه كلّما دار الأمر بين الظّن وبين الشك والوهم ، يجب تقديم الظّن عليهما .

هذا هو موجز الكلام في المقدَّمات الأربع ، ثم نفصّل الكلام لنرى : هل إن كلّ مقدمة مقدمة ثابتة أم لا ؟ .

ص: 303

وأمّا المقدّمة الأُولى :

فهي بالنسبة إلى إنسداد باب العلم في الأغلب غيرُ محتاجة إلى الاثبات ، ضرورةَ قلّة مايوُجب العلم التفصيليّ بالمسألة على وجه لايحتاج العملُ فيها إلى إعمال أمارة غير علمية .

وأمّا بالنسبة إلى إنسداد باب الظنّ الخاصّ ، فهي مبنيّة على أن لايثبت من الأدلّة المتقدّمة لحجّية الخبر الواحد

-------------------

( وأمّا المقدّمة الاُولى ) القائلة بإنسداد باب العلم والعلمي بالنسبة الى الأحكام ( فهي ) غير تامّة ، إذ باب العلم منسدّ ، أما باب العلمي كالخبر الواحد فغير منسد .

وعليه : فهذه المقدمة ( بالنسبة الى إنسداد باب العلم في الأغلب ) من الأحكام ( غير محتاجة الى الاثبات ، ضرورة قلّة مايوجب العلم التفصيلي بالمسألة ) بأن يعلم الانسان إنّ الحكم كذا - ممّا يستنبطه من الأدلة الأربعة - تفصيلاً ( على وجه لايحتاج العمل فيها الى إعمال أمارة غير علمية ) .

والأمارات غير العلمية : كالخبر الواحد والاجماع المنقول ، والشهرة المحققة ، والمِلاك ، والسيرة ، وما أشبه ذلك ، فأن هذه على الأغلب لاتوجب العلم ، وانّما توجب الطريق العقلائي الى الواقع .

( وأما بالنسبة الى إنسداد باب الظّن الخاص ) كالظن الحاصل من الخبر الواحد الجامع للشرائط : ( فهي ) أي : هذه المقدمة ( مبنيّة على أن لايثبت من الأدلة المتقدمة لحجّية الخبر الواحد ) .

فانّا قدّمنا الأدلة الأربعة على حجّية خبر الواحد ، وقد أضاف بعضهم دليلاً خامساً وهو السيرة ، على إشكال في كونه دليلاً خامساً ، ونفس الخبر ، حيث إنّه تقرير المعصوم عليه السلام ، فانّه بناءاً على أن كل هذه الأدلة لحجّية الخبر لاتثبت

ص: 304

حجّيةُ مقدار منه يفي - بضميمة الأدلّة العلميّة وباقي الظنون الخاصّة - باثبات معظم الأحكام الشرعيّة بحيث لايبقى مانعٌ من الرجوع في المسائل الخالية عن الخبر وأخواته من الظنون الخاصّة إلى مايقتضيه الأصلُ في تلك الواقعة من البراءة أو الاستصحاب أو الاحتياط أو التخيير .

-------------------

( حجّية مقدار منه ) أي : من الخبر و« الحجّية » . فاعل قوله : « ان لايثبت » أي : بأن لايثبت حجّية مقدار من الخبر ( يفي ) هذا المقدار ( بضميمة الأدلّة العلميّة ) كالضروريات ، والبديهيات ، وما أشبه ( وباقي الظنون الخاصّة ) كالظنون الحاصلة من الشهرة ، والاجماع المنقول ، وما أشبه فانّها منظمّة لاتفي - فرضاً - ( باثبات معظم الأحكام الشّرعية ) و « باثبات » : متعلق ب- : « يفي » .

فهناك ثلاثة أُمور تتظافر بعضها مع بعض فتفي بمعظم الأحكام ، وهي عبارة عن : الضروريات والبديهيات ، والخبر الواحد الذي هو حجّة ، وباقي الظنون الخاصة .

واذا كفّت هذه الامور الثلاثة بمعظم الأحكام ( بحيث لايبقى مانع من الرّجوع في المسائل الخالية عن الخبر وأخواته ) أي : أخوات الخبر ( من الظنون الخاصة ) و«من» : بيان ل «أخواته» التي هي عبارة عن : الاجماع المنقول ، والشهرة ، والسيرة - فرضاً- ( الى مايقتضيه الأصل في تلك الواقعة ) .

فانّا إذا تمكنّا من معظم الأحكام فلا بأس بالرّجوع في الأحكام القليلة الباقية - التي لايفي الاجماع والشهرة والخبر بها - الى الاُصول العملية ( من : البرائة ، أو الاستصحاب ، أو الاحتياط ، أو التخيير ) فاذا كان شكاً في التكليف أجرينا البرائة ،

وإذا كان له حالة سابقة أجرينا الاستصحاب ، واذا كان شكاً في المكلّف به مع التمكن من الاحتياط ، أجرينا الاحتياط ، وإذا كان شكاً في المكلّف به مع عدم التمكن من الاحتياط - لدوران الأمر بين المحذورين - أجرينا التخيير .

ص: 305

فتسليمُ هذه المقدمّة ومنعُها لا يظهُر إلاّ بعد التأمّل ، وبذل الجهد في النظر فيما تقدّم من أدلّة حجيّة الخبر وإنّه هل يثبت بها حُجّية مقدار وافٍ من الخبر أم لا ؟ وهذه هي عمدة مقدّمات دليل الانسداد ، بل الظاهر المصرّح به في كلمات بعض أنّ ثبوتَ هذه المقدّمة يكفي في حجّية الظنّ المطلق ، ولذا لم يذكر صاحب المعالم وصاحب الوافية ، في إثبات حجّية الظّنّ الخبرّي غير انسداد باب العلم .

وأمّا الاحتمالات الآتية في ضمن المقدّمات الآتية ،

-------------------

وعليه : ( فتسليمُ هذه المقدّمة ) الاُولى ( ومنعها ) بأن نعرف : إنّ هذه المقدّمة تامة أو ليست تامة ( لا يظهر إلاّ بعد التأمل ، وبذل الجهد في النظر فيما تقدّم من أدلة حجّية الخبر ) الواحد ( وإنّه هل يثبت بها ) أي : بهذه المقدّمة ( حجّية مقدار وافٍ من الخبر ) بضميمة باقي الظّنون الخاصة والأدلة العلمّية ( أم لا ؟ ) .

فاذا ثبت حجّية مقدار وافٍ من الخبر بضميمة باقي الظنون بمعظم الأحكام ، لم يكن مجال لدليل الانسداد ، وإلاّ كان المجال لدليل الانسداد واسعاً .

( وهذه ) المقدّمة الاُولى ( هي عُمدة مقدّمات دليل الانسداد ) إثباتاً أو نفياً .

( بل الظاهر المصرّح به في كلمات بعض : إنّ ثبوت هذه المقدّمة ) الاُولى ( يكفي في حجّية الظّنّ المطلق ) ولهذا يسمى هذا الدليل بدليل الانسداد ، لأنّ المعيار في الحكم : هو إنسداد باب العلم والعلمّي ، وعدم إنسداد بابهما بالقَدر الكافي بمعظم الأحكام ( ولذا لم يذكر صاحب المعالم ، وصاحب الوافية ، في إثبات حجّية الظّن الخبري غير إنسداد باب العلم ) أي : لأجل أنّ باب العلم منسدّ يكون الظنّ المستفاد من الخبر حجّة .

( وأمّا الاحتمالات الآتية في ضمن ) سائر ( المقدّمات الآتية ) أي المقدّمات

ص: 306

من الرّجوع بعد إنسداد باب العلم والظّنّ الخاص إلى شيء آخر غير الظنّ ، فانّما هي اُمور إحتملها بعضُ المدقّقين من متأخرّي المتأخرين ، أوّلهم ، فيما أعلم ، المحقّقُ جمال الدّين الخوانساريّ ، حيث أورد على دليل الانسداد باحتمال الرّجوع إلى البراءة وإحتمال الرّجوع إلى الاحتياط .

وزاد عليها بعضُ من تأخّر إحتمالاتٍ اُخر .

وأمّا المقدّمة الثانية :

وهي عدمُ جواز إهمال الوقائع المشتبهة على كثرتها

-------------------

الثلاث ( من الرّجوع بعد إنسداد باب العلم والظّنّ الخاص ) المستفاد من الخبر ونحوه ( إلى شيء آخر غير الظن ) كالأصل في كل مسألة مسألة ، والتقليد ، والقرعة ، وما أشبه ( فانّما هي اُمور إحتملها بعض المدقّقين من متأخّري المتأخرين ) ويعبَّر بالمتأخرين ابتداءاً من المحقّق ، أو ابن ادريس ، وأما من تأخر عن هؤلاء ، كالمقدّس الاردبيلي ، ومن اشبه ، فيعبّر عنهم بمتأخري المتأخرين! والذي ( أولّهم فيما أعلم المحقّق جمال الدّين الخوانساريّ ، حيث أورد على دليل الانسداد ) بأن هذا الدليل غير تام ( :ب- ) سبب ( إحتمال الرجوع الى البرائة ، وإحتمال الرجوع الى الاحتياط ) فلا تتم مقدّمات الانسداد حتى يكون الظنّ حجّة ، لأنّ الشارع جعل الطريق للمتحيِّر بإجراء البرائة أو باجراء الاحتياط .

( وزاد عليها ) أي على تلك الاحتمالات ( بعض من تأخر : إحتمالات اُخر ) كإحتمال الرجوع الى التقليد ، أو إحتمال الرّجوع الى القرعة .

( وأمّا المقدّمة الثانية : وهي عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة على كثرتها ) فانّ من أول الفقه الى آخر الفقه - غير القطيعات - وقائع كثيرة تعدّ بالآلاف ،

ص: 307

وترك التعرّض لامتثالها بنحو من الانحاء فيدلّ عليه وجوه :

الأوّل : الاجماع القطعيّ على أن المرجع على تقدير إنسداد باب العلم وعدم ثبوت الدّليل على حجّية أخبار الآحاد بالخصوص ليس هي البراءة وإجراء أصالة العدم في كلّ حكم . بل لابّد من التعرّض لامتثال الاحكام المجهولة بوجهٍ ما .

وهذا الحكم وإن لم يصرّح به أحدٌ من قدمائنا ، بل المتأخرين في هذا

-------------------

فلا يجوز إهمالها ( وترك التعرّض لامتثالها بنحو من الانحاء ) بالتقليد ، أو القرعة ، أو الاحتياط ، أو الرجوع في كلّ مورد الى الأصل في ذلك المورد ، حتى يكون الانسان بلا تكليف ، كالأطفال والبهائم ، أو يكون مكلّفاً ، لكن حكمه الرجوع الى أصالة العدم ( ف- ) يكون مفاد المقدّمة الثانية مسلّم ، و ( يدلّ عليه وجوه ) ثلاثة :

( الأول : الاجماع القطعيّ ) بل هذا الأمر من البديهيات ( على أنّ المرجع على تقدير إنسداد باب العلم ، وعدم ثبوت الدّليل على حجّية أخبار الآحاد بالخصوص ) في مقابل حجّية أخبار الآحاد من باب الظّن المطلق ( ليس هي البرائة ، واجراء اصالة العدم في كل حكم ) ولعل الفرق بينهما : ان البرائة في قِبال أصالة العدم التي هي عبارة عن إستصحاب عدم التكليف .

( بل لابّد من التّعرض لامتثال الاحكام المجهولة بوجه مّا ) كالعمل بالظنّ ، أو القرعة ، أو التقليد ، أو الاحتياط ، أو ما اشبه ذلك .

( وهذا الحكم ) أي : الاجماع القطعي على إنّه لابدّ من التعرّض لامتثال الأحكام المجهولة ( وإنّ لم يصرّح به أحدٌ من قدمائنا ، بل المتأخرين في هذا

ص: 308

المقام ، إلاّ أنّه معلوم للمتتبّع في طريقة الاصحاب ، بل علماء الاسلام طُرّاً ، فرُبّ مسألة غير مُعنونة يعلم إتّفاقهُم فيها من ملاحظة كلماتهم في نظائرها .

أترى أنّ علماءنا العاملين بالأخبار التي بأيدينا ، لو لم يقم عندهم دليل خاصّ على اعتبارها كانوا يطرحونها

-------------------

المقام ) أي : مقام الانسداد ( إلاّ أنّه معلوم للمتتبّع في طريقة الأصحاب ، بل علماء الاسلام طُرّاً ) فهو إجماع تقديري لا إجماع لفظي ، إذ رُبَّ مسألة يعلم الانسان إتفاق العلماء فيها وإن لم يصرّح حتى واحد منهم بها .

مثلاً : إنّا نعلم إجماع العلماء التقديري على إنّه لا يجوز للمرأة أن تلبس الملابس الضيقّة ، التي يظهر منها كل تقاطيع جسمها أما الرّجال الأجانب ، مع إنّه لم يصرّح بذلك أحد فيما نعلم .

وفي اُصول الدّين نعلم : إجماع العلماء التقديري على إنّه لايجوز لأحد أن يعتقد انّ علياً عليه السلام أفضل من رسول الاسلام صلى اللّه عليه و آله وسلم كما هو أفضل من سائر الأنبياء ، والى غير ذلك .

( فربّ مسألة غير معنونة ) في كلماتهم ( يعلم إتفاقهم فيها من ملاحظة كلماتهم في نظائرها ) أو يعلم إتفاقهم فيها من الكلّيات التي ذكروها ، ويؤيد ذلك إنّهم يرون ترك المسائل التي لم يقم عليها دليل ، من أظهر المنكرات ، واليه اشار المصنّف بقوله : ( أترى انّ علمائنا العاملين بالأخبار التي بأيدينا ، لو لم يقم عندهم دليل خاصّ على إعتبارها ) أي : اعتبار هذه الأخبار بأن لم يكن هناك من الكتاب ولا السنّة ولا الاجماع ولا العقل ما يدلّ على إعتبار الأخبار ( كانوا يطرحونها ) أي يطرحون هذه الأخبار ؟ .

ص: 309

ويستريحون في مواردها الى أصالة العدم ، حاشا ثم حاشا .

مع انهم كثيراً ما يذكرون انّ الظنّ يقوم مقام العلم في الشرعيّات عند تعذّر العلم .

وقد حُكي عن السيّد في بعض كلماته الاعترافُ بالعمل بالظنّ عند تعذّر العلم ، بل قد إدّعى في المختلف في باب قضاء الفوائت الاجماع على ذلك .

-------------------

( ويستريحون في مواردها الى اصالة العدم؟ حاشا ثم حاشا ) أن يكونوا كذلك ، فانَّ ذلك يوجب الخروج عن الدّين .

( مع إنّهم كثيراً ما يذكرون : إنّ الظنّ يقوم مقام العلم في الشرعيّات عند تعذّر العلم ) فان هذا الكلام يدلّ على أنهم لا يستريحون الى أصالة العدم ، بل يعملون بالظنّ عند فقد العلم .

( وقد حُكي عن السيّد ) المرتضى رحمه اللّه ( في بعض كلماته : الاعتراف بالعمل بالظن عند تعذّر العلم ) مما يدلّ على ان حتى مثل السيّد الذي يقول بإنفتاح باب العلم ، يقول بالعمل بالظنّ عند تعذر العلم ، وقد تقدّم : إنّه أراد بالعلم : الوثوق ، لا العلم القطعي الوجداني المانع من النقيض .

( بل قد إدّعى في المختلف في باب قضاء الفوائت : الاجماع على ذلك ) أي العمل بالظّن عند تعذر العلم بعدد الفوائت .

وفي حاشية الآشتياني : « بل إدعى غير واحد في هذا الباب أي : باب الفوائت : الاجماع على تضيق الواجبات الموسَّعة بظن الضيق » ، بل إدعى بعض المحققين : الاجماع على حجّية الظنّ بالنسبة الى الاُمور المستقبليّة نظراً الى إنسداد باب العلم بها غالباً .

ص: 310

الثاني : إنّ الرجوعَ في جميع تلك الوقائع الى نفي الحكم مستلزمٌ للمخالفة القطعيّة ، المعبّر عنها في لسان جمع من مشايخنا بالخروج عن الدّين ، بمعنى انّ المقتصر على التديّن بالمعلومات التارك للاحكام المجهولة جاعلاً لها كالمعدومة يكادُ يُعدُّ خارجاً من الدّين ، لقلّة المعلومات التي أخذها وكثرة المجهولات التي أعَرضَ عنها .

-------------------

( الثاني ) من الاُمور التي تدلّ على عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة على كثرتها وترك التعرّض لامتثالها( إنّ الرجوع في جميع تلك الوقائع ) المشتبه حكمها ( الى نفي الحكم ) وعدم العمل على شيء ( مستلزم للمخالفة القطعيّة ، المعبر عنها في لسان جمع من مشايخنا : بالخروج عن الدّين ) .

ومن المعلوم : إنّ الخروج عن الدّين قامت الضرورة على خلافه ، فهذا مانع مستقل عقلي غير الاجماع المتقدّم .

( بمعنى : إنّ المقتصر على التّديّن بالمعلومات ) وما في حكمها ، كالظنّون المعتبرة ، من الخبر الواحد ، ونحوه ( التارك للاحكام المجهولة ) التي لم يتعلق بتلك الأحكام علم ولا علمي ( جاعلاً لها ) أي لتلك الاحكام المجهولة ( كالمعدومة ) وأنها كأن لم تكن في الشريعة أحكام إطلاقاً لا واجبات ولا محرمات ، فان هذا ( يكاد يُعدُّ خارجاً من الدّين ) .

وإنّما قال يكاد ، لأن الخارج عن الدّين حقيقة هو الذي لا يعمل بشيء من الأحكام اطلاقاً ، اما هذا فيكاد يعدّ خارجاً ، وذلك ( لقلّة المعلومات التي اخذها ) وعمل بها ( وكثرة المجهولات التي أعرض عنها ) ولم يعمل بها ، فاذا كانت الأحكام مثلاً ألف ، فانَّ المجهول أكثر من تسعمائة بالنسبة الى الألف .

ص: 311

وهذا أمرٌ يقطع ببطلانه كلُّ أحد بعد الالتفات الى كثرة المجهولات ، كما يقطع ببطلان الرجوع إلى نفي الحكم وعدم الالتزام بحكم أصلاً لو فرض - والعياذ باللّه - إنسداد باب العلم والظنّ الخاصّ في جميع الأحكام وإنطماسُ هذا المقدار القليل من الأحكام المعلومة .

فيكشف بطلان الرجوع الى البراءة عن وجوب التعرضّ لامتثال تلك المجهولات ولو على غير

-------------------

( وهذا ) أي : ترك الاحكام المجهولة ( أمر يقطع ببطلانه كل أحد بعد الالتفات الى كثرة المجهولات ) بل هو من ضروريات الدّين .

( كما يقطع ببطلان الرجوع الى نفي الحكم وعدم الالتزام بحكم أصلاً ) سواء إستند في نفي الحكم الى البرائة ، أو إستند الى اصالة العدم ( لو فرض والعياذ باللّه : إنسداد باب العلم ، والظنّ الخاصّ ، في جميع الأحكام ) « ولو : » وصلية أي : بأن ينسدّ باب العلم والظّن الخاص - كالخبر - فيجري أصالة العدم والبرائة في الأحكام المجهولة .

بل ( و ) لو فرض والعياذ باللّه ( إنطماس هذا المقدار القليل من الأحكام المعلومة ) بأن فرضنا إنّ الأحكام المعلومة إنطمست ، فصارت الأحكام كلّها مجهولة ، فكما إنّه لو أجرى اصالة البرائة ، وأصالة العدم ، كان هذا خارجاً عن الديّن قطعاً ، كذلك خرج من الدّين من يعمل بالأحكام المعلومة القليلة فقط وأجرى في سائر الأحكام أصل العدم والبرائة .

وعليه : ( فيكشف بطلان الرّجوع الى البرائة ) لما عرفت : من إنّه مستلزم للخروج من الدّين ( عن وجوب التعرضّ لامتثال تلك المجهولات ، ولو على غير

ص: 312

وجه العلم والظنّ الخاصّ ، لا أن يكون تعذّر العلم أو الظنّ الخاصّ منشأ للحكم بارتفاع التكليف بالمجهولات ، كما توهمه بعضُ من تصدّى للايراد على كلّ واحدة واحدة ، من مقدّمات الانسداد .

نعم ، هذا إنّما يستقيمُ في حكم واحد أو أحكام قليلة لم يوجد عليه دليل علميّ أو ظنّي معتبر ، كما هو دأبُ المجتهدين بعد تحصيل الأدّلة والأمارات في أغلب الأحكام .

-------------------

وجه العلم والظنّ الخاص ) وذلك بأن يعمل الانسان بالظنّ المطلق ، الذي لَم ينه عنه الشارع قطعاً كما نهى عن الظنّ القياسي ، فانّه سيأتي أنّ الظنّ القياسي ليس بحجّة لا في حال الانفتاح ولا في حال الانسداد .

( لا أن يكون تعذر العلم أو الظنّ الخاص ) الذي يعبّر عنه بالعلمي ( منشأ للحكم بارتفاع التكليف بالمجهولات ) اطلاقاً ( كما توهّمه بعضُ من تصدى للايراد على كلّ واحدة واحدة من مقدمات الانسداد ) فانّه لاوجه لصحة هذا التصدي مع صحة هذه المقدّمة التي تقول بأنّه لا وجه لإهمال الأحكام المشتبهة على كثرتها .

( نعم ، هذا ) أي : الرّجوع الى أصل البرائة ، أو أصالة العدم ( إنّما يستقيم في حكم واحد ، أو أحكام قليلة لم يوجد عليه دليل علمي ، أو ظني معتبر ) كالخبر الواحد ، فانّ المنصرف من أدلة البرائة وأصالة العدم هو : الرجوع اليها : في الأحكام القليلة جداً بعد وجود الأدلة على أكثر الأحكام ( كما هو ) أي الرجوع الى البرائة وأصل العدم في الأحكام القليلة ( دأبُ المُجتهدين بعد تحصيل الأدلة والأمارات في أغلب الأحكام ) .

فالفقيه نراه من أوّل الفقه الى آخر الفقه لا يرجع الى البرائة أو أصل العدم ،

ص: 313

أما إذا صار معظم الفقه أو كلّه مجهولاً ، فلا يجوز أن يُسلَكَ فيه هذا المنهجُ .

والحاصل : أنّ طرح أكثر الأحكام الفرعية بنفسه محذورٌ مفروغ من بطلانه ، كطرح جميع الأحكام ، لو فرضت مجهولة .

وقد وقع ذلك تصريحاً أو تلويحاً في كلام جماعة من القدماء والمتأخّرين ، منهم الصّدوق في الفقيه ، في باب الخلل الواقع في الصلاة ، في ذيل أخبار سهو النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم :

-------------------

إلاّ في أحكام قليلة معدودة لا يوجد عليها دليل علماً أو علمياً .

( أمّا إذا صار معظم الفقه أو كله ) فرضاً ( مجهولاً ، فلا يجوز أن يسلك فيه ) أي : في المعظم أو الكل ( هذا المنهج ) بالرجوع الى البرائة ، أو الرجوع الى أصالة العدم .

( والحاصل أنّ طرح أكثر الأحكام الفرعية بنفسه محذور مفروغ من بطلانه ) عند المتشرعة كافة ، فهو ( كطرح جميع الاحكام ، لو فرضت ) كون جميع الاحكام ( مجهولة ) فانّ من ضروريات المتشرعة : إنّ الاسلام له أحكام من الطهارة الى الدّيات بكثرة كبيرة .

( وقد وقع ذلك ) أي : إنّ ما يوجب إبطال الدّين باطل قطعاً ( تصريحاً أو تلويحاً في كلام جماعة من القدماء والمتأخرين ) ممّا يدلّ على إنّه من المسلّمات ( منهم : الصّدوق في الفقيه ، في باب الخلَلَ الواقع في الصلاة ، في ذَيل أخبار سهو النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ) فانّه بعد أن أورد خبر الحَسن بن مَحبوب ، المتضمِّن لسهو النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم في الصلاة قال : قال مصنِّف هذا الكتاب رحمه اللّه : إنّ الغلاة والمفوضة لعنهم اللّه ، ينكرون سهو

ص: 314

« فلو جاز ردُّ هذه الأخبار الواقعة في هذا الباب لجاز ردّ جميع الأخبار ، وفيه إبطالٌ للدّين والشريعة » .

-------------------

النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، ثم أخذ في بيان إحتجاجهم ، وردّ عليهم ، الى أن قال : وكان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه اللّه يقول : أول درجة في الغلو : نفي السهو عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ( فلو جاز ردّ هذه الأخبار الواقعة في هذا الباب لجاز ردّ جميع الأخبار ، وفيه ) أي : في ردّها ( إبطال للدّين والشريعة ) (1) وأنا أحتسب الأجر في تصنيف منفرد ، في إثبات سهو النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والردّ على منكريه « انشاء اللّه تعالى » ، إنتهى كلام الصدوق الذي نقل بعضه المصنّف .

ولا يخفى : إن أخبار سهو النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم صدرت عن الائمة عليهم السلام تقية ، لأن العامّة كانوا يقولون بذلك بكل إصرار ، كما فصّل الكلام جماعة من العلماء في هذا المبحث .

وعن الشيخ البهائي رحمه اللّه : إنّ نسبة السّهو الى الصدوق أولى من نسبة السهو الى النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم .

كما وقد ظهر من هذا : إنّ نسبة الصدوق رحمه اللّه الشهادة الثالثة في الأذان الى المفوضة ، أيضاً مثل كلامه في سهو النبي محل تأمّل ، فانّ مذهبه في الغُلاة والمفوضة مخدوش فيه .

هذا ، وقد وردت روايات - أشرنا اليها في الفقه في بحث الأذان من الصلاة - في الشهادة الثالثة ، ولذا فانا نرى إنّها كسائر أجزاء الأذان (2) .

ص: 315


1- - مَن لا يحضره الفقيه : ج1 ص360 ح1031 بالمعنى .
2- - للمزيد راجع موسوعة الفقه ، كتاب الصلاة : ج17 - 28 للشارح .

ومنهم السيّد قدس سره حيث أورد على نفسه في المنع عن العمل بخبر الواحد وقال : « فان قلت : إذا سددتم طَريقَ العمل بأخبار الآحاد ، فعلى أي شيء تعُوّلون في الفقه كلّه ؟ فأجاب بما حاصله : دعوى إنفتاح باب العلم في الأحكام » .

ولا يخفى : انّه لو جاز طرحُ الأحكام المجهولة ، ولم يكن شيئاً منكراً ، لم يكن وجهَ للايراد المذكور ، اذ الفقه حينئذٍ ليس إلا عبارة عن الاحكام التي قام عليها الدليل والمرجح وكان فيه معوّلٌ ، ولم يكن وقعٌ ايضاً للجواب

-------------------

( ومنهم : السيد ) المرتضى ( قدس سره ، حيث أورد على نفسه في المنع عن العمل بخبر الواحد ) لأنّ السيّد المرتضى لا يعمل بالخبر الواحد ( وقال : فان قلت : إذا سددتم طريق العمل بأخبار الآحاد ) حيث لم تروها حجّة ( فعلى أيّ شيء تُعولون ) وتعتمدون ( في الفقه كلّه ) من أوله الى آخره ؟ .

( فاجاب بما حاصله : دعوى : إنفتاح باب العلم في الأحكام ) (1) وعليه : فلا حاجة الى الخبر الواحد .

( ولا يخفى : إنّه لو جاز طرح الأحكام المجهولة ، ولم يكن ) الطرح ( شيئاً منكراً ) بديهي العدم ( لم يكن وجه للايراد المذكور ) من السيّد على نفسه ( اذ ) للسيّد أن يجيب عن هذا الايراد : بأنّ ( الفقه حينئذٍ ) أي : حين الجهل بكثير من الاحكام ( ليس الاّ عبارة عن الأحكام التي قام عليها الدّليل والمرجح ، وكان فيه معوّل ) وهو ما قام عليه الدّليل المذكور . ( و ) كذا ( لم يكن وقع أيضاً للجواب )

ص: 316


1- - رسائل الشريف المرتضى : ج3 ص312 إبطال العمل بأخبار الآحاد .

بدعوى الانفتاح ، الراجعة الى دعوى عدم الحاجة الى أخبار الآحاد .

بل المناسبُ حينئذٍ الجوابُ : بأنّ عدمَ المعوّل في اكثر المسائل ، لا يوجب فتح باب العمل بخبر الواحد .

-------------------

عن السيد ( بدعوى : الانفتاح ، الرّاجعة ) هذه الدعوى ( الى دعوى : عدم الحاجة الى أخبار الآحاد ) .

فانّ السيّد إدعى : عدم الاحتياج الى أخبار الآحاد ، للعلم بكل المسائل ، فانّه لو لم يلزم الخروج عن الدّين بسبب اهمال الأحكام المجهولة ، كان للسيد أن يقول : إنّ الذي ثبت بالعلم نعمل به ، أما ما لم يثبت بالعلم فلا نعمل به .

( بل المناسب حينئذٍ ) أي : حين لم يلزم الخروج عن الدّين بترك الأحكام المجهولة ، ان يكون ( الجواب : بانّ عدم المعوّل ) أي : عدم وجود المعتمد ( في أكثر المسائل ، لا يوجب فتح باب العمل بخبر الواحد ) .

قال في الأوثق: حاصله: إستشهاد كل من السؤال والجواب على مراد المصنّف .

أمّا الأول : فان العمل بأصالة البرائة في مواردها مركوز في العقول ، فلو لم يكن الرّجوع إليها في الأحكام المجهولة في المقام أمراً منكراً ، لم يكن وقع للسؤال اصلاً لتعيّن الرجوع إليها فيها حينئذٍ ، وكون الفقه عبارة عمّا قام عليه دليل قاطع .

وأمّا الثاني : فانّه على تقدير جواز العمل بأصالة البرائة في الأحكام المجهولة ، فالأنسب في الجواب : أنّ يمنع الملازمة بين سدّ طريق العمل بأخبار الآحاد ، وبين جواز العمل بها لفرض وجود الواسطة ، وهي : جواز العمل بأصالة البرائة في موارد فقد الأخبار القطعية ، فالعدول عنه الى دعوى الانفتاح ، ظاهر في كون بطلان جواز العمل بها مفروغاً عنها فيما بينهم .

ص: 317

والحاصلٌ : أنّ ظاهرَ السؤال والجواب المذكورين التسالمُ والتصالحُ على أنّه لو فرض الحاجةُ الى أخبار الآحاد ، لعدم المعول في أكثر الفقه ، لزم العملُ عليها وإن لم يقم عليه دليلٌ بالخصوص ، فانّ نفس الحاجة اليها هي اعظمُ دليل ؛ بناءا على عدم جواز طرح الأحكام .

ومن هنا ذكر السيّد الصدر في شرح الوافية أنّ السيّد قد إصطلح بهذا الكلام مع المتأخرين .

-------------------

وهذا هو ما ذكره المصنّف بقوله : ( والحاصل : انّ ظاهر السؤال والجواب المذكورين ) في كلام السيّد ( التسالم والتصالح على انّه لو فرض الحاجة الى أخبار الآحاد ، لعدم المعوّل ) والدليل ( في أكثر الفقه ، لزم العمل عليها ) اي : على هذه الأخبار الآحاد التي ليست علماً ولا علمياً ( وان لم يقم عليه ) اي : على حجّية خبر الواحد ( دليل بالخصوص ) حتى يدخل الخبر الواحد في ضمن العلميات ، وإن لم يكن علماً .

( فانّ نفس الحاجة اليها ) أي : الى الأخبار ( هي أعظم دليل ) ، على الرجوع اليها ( بناءاً على عدم جواز طرح الأحكام ) ضرورة واجماع .

( ومن هنا ) أي :لأجل ما ذكرناه من الاحتياج الى الاخبار ، والاّ لزم الخروج عن الدّين و( ذكر السيّد الصدر في شرح الوافية : إنّ السيد ) المرتضى قدس سره ( قد إصطلح بهذا الكلام ) الذي تقدّم عنه ، حيث ذكرنا : إنّه أورد على نفسه في المنع عن العمل بخبر الواحد الى آخره ، وتوافق فيه ( مع المتأخرين ) (1) الذين يرون العمل بالخبر الواحد ويعملون به .

ص: 318


1- - شرح الوافية : مخطوط .

ومنهم الشيخ قدس سره في العدّة ، حيث إنّه بعد دعوى الاجماع على حجّية أخبار الآحاد ، قال ما حاصله :

لو ادّعى أحدٌ أنّ دعوى عمل الامامية بهذه الأخبار كان لأجل قرائن إنضمت إليها ، كان مُعّولاً على ما يُعلمُ من الضرورة خلافهُ .

ثم قال : ومن قال إنّي متى عدمُت شيئاً من القرائن ، حكمتُ بما كان يقتضيه العقلُ ، يلزمُه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام ولا يحكم فيها بشيء ورد الشرعُ به ، وهذا حدّ يرغب أهلُ العلم عنه ،

-------------------

( ومنهم : الشيخ قدس سره في العُدّة ، حيث إنّه بعد دعوى الاجماع على حجّية أخبار الآحاد ) مطلقاً ولو لم تكن قرائن داخلية أو خارجية توجب القطع بها( قال ما حاصله : لو إدّعى أحد : انّ دعوى عمل الامامية بهذه الأخبار كان لأجل قرائن إنضمت إليها ) أي : الى هذه الاخبار ممّا أوجب العلم بها ، لا إنّ خبر الواحد حجّة بما هو .

فان هذا المدّعى ( كان مُعوّلاً على ما يعلم من الضرورة خلافه ) لأنا نعلم : إنّ الامامية انّما عملوا بأخبار الآحاد بما هو خبر ، لا بما إنّه مقطوع به لمكان القرائن الداخلية والخارجية .

( ثمّ قال : ومن قال : إنّي متى عدمت شيئاً من القرائن ، حكمت بما كان يقتضيه العقل ) من البرائة ونحوها( يلزمه أن يترك أكثر الاخبار وأكثر الاحكام ) لأنّ الأحكام مترتبة على الاخبار ، فاذا لم يعمل بالاخبار ، لم يتمكن من العمل بتلك الاحكام ( ولا ) أن ( يحكم فيها ) أي : في تلك الاحكام التي هي محل الابتلاء ( بشيء ورد الشرع به ) أي : بذلك الشيء .

( وهذا حدّ يرغب أهل العلم عنه ) أي : ينفرون عن أنّ لا يحكموا بشيء في

ص: 319

ومن صار اليه لا يحسن مكالمته ، لأنّه يكن معولا على مايُعلم ضرورةً من الشرع خلافُه ، إنتهى .

ولعمري ، إنّه يكفي مثلُ هذا الكلام من الشيخ في قطع توهّم جواز الرّجوع الى البرائة عند فرض فقد العلم ، والظنّ الخاصّ في أكثر الأحكام .

ومنهم العلاّمّة في نهج المسترشدين ، في مسألة إثبات عصمة الامام ،

-------------------

اُمورهم الكثيرة ( ومن صار اليه ) أي : الى هذا الحدّ ( لايحسن مكالمته ) يعني إنّه يحب أن يترك ( لأنّه يكون معوّلاً ) ومعتمداً ( على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافه (1) ، انتهى ) .

فان من ضرورة الشرع : إنّ الانسان يحتاج الى العمل بالأحكام الكثيرة ، المستندة الى الأخبار التي لا قرائن للقطع بها ، وانّما حجّية هذه الأخبار الآحاد من جهة سندها ، وجهة دلالتها ، وجهة صدورها .

( ولعمري ) أي : قسماً بنفسي ، فانّ العمر بمعنى : النفس ، مأخوذ من العمر ، قال سبحانه : « لَعَمرُكَ إنّهمُ لَفِي سَكَرتِهمِ يَعَمهُونَ » (2) ( إنّه يكفي مثل هذا الكلام من الشيخ في قطع توهّم جواز الرّجوع الى البرائة عند فرض فقد العلم ، والظنّ الخاص ) كالخبر الواحد ، والشهرة المحققّة ، والاجماع المنقول ، ونحوها ( في اكثر الاحكام ) الشرعيّة ، فلا يكون أصل البرائة ، ولا أصالة العدم محكماً في الاحكام .

( ومنهم : العلاّمة في نهج المسترشدين في مسألة إثبات عصمة الامام ،

ص: 320


1- - عدّة الاُصول : ص56 .
2- - سورة الحجر : الآية 72 .

حيث ذكر أنّه عليه السلام ، لابّد أن يكون حافظاً للأحكام .

وإستدل بأنّ الكتاب والسنّة لا يدلاّن على التفاصيل - إلى أنّ قال : والبرائة الأصلية ترفع جميع الأحكام .

-------------------

حيث ذكر ) العلاّمة أعلى اللّه مقامه ( إنّه عليه السلام لابّد أن يكون ) أي : الامام ( حافظاً للأحكام ) التي تصل الى الأنام ، لا يقال : كيف والامام عليه السلام غائب ؟ .

لانّه يقال : غاب بعد بيان الأحكام ، امّا بجزئياتها ، واما بقوانينها الكلّية المنطبقة على الصغريات ، التي يبتلى بها على طول الزمان .

ولهذا ورد عنهم عليهم السلام : «ان عليهم الاُصول وعلينا الفروع» (1) .

وقال عليه السلام : « أمّا الحَوادث الواقِعَة فإرجِعُوا فِيها الى رواةِ أَحاديثنا ، فانَّهمُ حُجَتي عَليكمُ ، وَاَنا حُجَّة اللّهِ عَليهم » (2) .

( وإستدل ) العلامّة ( :بأنّ الكتاب والسنة لا يدلاّن على التفاصيل ) وان كان فيهما اُصول الأحكام وقواعدها الكلّية ( إلى انّ قال : والبرائة الأصلية ترفع جميع الأحكام ) (3) اي : إنّ أحداً لو قال : إنّا نتمكن من العمل بالبراءة الأصلية في مورد الشّك في الأحكام ، فنستغني بذلك عن الامام ، فيقال له : انّ الاعتماد على البرائة الأصلية في الأحكام الكثيرة التّي نحتاج فيها الى الرّوايات ، يوجب رفع أكثر

ص: 321


1- - فقد ورد عن الامام الصادق عليه السلام : «علينا ان نلقي اليكم الاصول وعليكم ان تفرّعوا» . وسائل الشيعة : ج27 ص61 ب6 ح33201 وورد عن الامام الرضا عليه السلام : « علينا القاء الاصول وعليكم التفريع » . وسائل الشيعة : ج27 ص62 ب6 ح33202 .
2- - منتخب الانوار المضيئة : ص122 ، وسائل الشيعة : ج27 ص140 ب9 ح33424 ، كمال الدين: ص440 ب45 ح4 وفيه ( حديثنا ) ، الغيبة : ص177 .
3- - نهج المسترشدين : ص63 .

ومنهم بعضُ أصحابنا في رسالته المعمولة في علم الكلام المسمّاة بعصرة المنجود ، حيث إستدلّ على عصمة الامام عليه السلام بأنّه حافظٌ للشريعة ، لعدم إحاطة الكتاب والسنّة به - الى أن قال - : « والقياس باطل ، والبرائة الأصليّة ترفع جميع الاحكام » ، انتهى .

ومنهم الفاضل المقداد في شرح الباب الحادي عشر ، الاّ أنّه قال :« إنّ الرّجوع الى البرائة الأصليّة ترفع أكثر الاحكام » .

والظاهر أنّ مراد

-------------------

الأحكام ، وقول العلاّمة : « جميع الأحكام » ، من باب المسامحة .

( ومنهم : بعض أصحابنا في رسالته المعمولة في علم الكلام المسمّاة ) تلك الرسالة ( بعصرة المنجود ، حيث إستدل على عصمة الامام عليه السلام بانّه حافظ للشريعة ، لعدم إحاطة الكتاب والسنّة به ) أي : بكل حكم حكم يبتلى به الانسان .

( الى أن قال : والقياس باطل ) فلا يمكن أن يقال : لا حاجة الى الامام ، لأنّا نقيس الأحكام غير الموجودة بالأحكام الموجودة ، وذلك للنص على بطلان العمل بالقياس في الشريعة ( والبرائة الأصليّة ترفع جميع الأحكام ) (1) فلا يمكن العمل بالبرائة الأصليّة - ايضاً - عوضاً عن الامام عليه السلام ( انتهى ) كلام هذا المستدَّل .

( ومنهم : الفاض المقداد في شرح الباب الحادي عشر : إلاّ إنّه قال : انّ الرّجوع الى البرائة الأصلية ترفع أكثر الأحكام ) (2) وهذا لم يأت بالمجاز الذي أتى به العلاّمة وصاحب رسالة : عصرة المنجود ، ولذا قال الشيخ : ( والظاهر :أنّ مراد

ص: 322


1- - عصرة المنجود مخطوط .
2- - النافع ليوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر : ص47 .

العلاّمة وصاحب الرسالة ، من جميع الأحكام ما عدا المستنبط من الأدلة العلميّة ، لأنّ كثيراً من الأحكام ضروريّة لا ترتفع بالأصل ولا يشكّ فيها ، حتى يحتاج الى الامام عليه السلام .

ومنهم المحقق الخوانساريّ ، فيما حكى عنه السيّد الصدر في شرح الوافية ، من انّه رجّح الاكتفاء في تعديل الراوي بعدل ، مستدّلاً بعد مفهوم آية النبأ ، بانّ إعتبار التعدّد يوجب خلوّ اكثر الأحكام عن الدّليل .

-------------------

العلاّمة وصاحب الرسالة من جميع الأحكام : ما عدا المستنبط من الأدلّة العلميّة ) وانّما كان مرادهما ما عدا المستنبط ( لانّ كثيراً من الأحكام ضروريّة ) عند المسلمين من أوّل الصلاة الى آخر الدّيات ( لا ترتفع بالأصل ، ولا يشك فيها، حتى يحتاج الى الامام عليه السلام ) في تلك الأحكام .

وعلى أي حال : فمرادهما من جميع الأحكام : أمّا حقيقة وهو : المستنبط ، وإمّا مجازاً وهو : من باب ذكر الكلّ وارادة البعض ، لأنّ البعض كثير جداً .

( ومنهم : المحقّق الخوانساريّ ، فيما حكى عنه السيّد الصدّر في شرح الوافية : من إنّه رجّح الاكتفاء في تعديل الراوي بعدل ) واحد ، فلا احتياج الى شهادة عدلين في تعديل الرّاوي ، فاذا قال شيخ الطائفة وحده : انّ محمد بن مسلم - مثلاً - عادل ، كفى ذلك في عدالته ، وإن كان هذا من الشهادة ، والشهادة تحتاج الى نفرين .

قال هذا ( مستدلاًّ بعد مفهوم آية النبأ ) الظاهر في انّ العادل إذا اُخبر يؤخذ بخبره بدون فحص ( :بانّ إعتبار التعدّد يوجب خلوّ أكثر الأحكام عن الدّليل ) (1) وذلك لأنّ أكثر الأحكام مستندة الى راوٍ واحد عدل بسبب عادل واحد ، لا بسبب عادلين .

ص: 323


1- - شرح الوافية مخطوط.

ومنهم صاحب الوافية ، حيث تقدّم عنه عند الاستدلالُ على حجّية أخبار الآحاد ، بانّا نقطع مع طرح أخبار الآحاد - في مثل الصلاة والصوم والزكاة والحّج والمتاجر والانكحة - وغيرها - بخروج حقائق هذه الاُمور عن كونها هذه الاُمور .

وهذه عبارةٌ اُخرى عن الخروج عن الدّين الذي عبّر به جماعة من مشايخنا .

-------------------

والحاصل : إنّ قلّة وجود الأخبار المُزكى رُواةُ سندِها بتزكية عدلين ، جعلَ الأمر دائراً بين الاخذ بالمزكى بعادل واحد ، أو الترك ، والترك ضروري العلم ، فاللازم الأخذ بمن زكّي بعادل واحد .

( ومنهم : صاحب الوافية ، حيث تقدّم عنه عند الاستدلال على حجّية أخبار الآحاد : بأنّا نقطع مع طرح أخبار الآحاد في مثل الصّلاة ، والصوم ، والزكّاة ، والحجّ ، والمتاجر ، والأنكحة ، وغيرها ) بأنّ لا نعمل بالأخبار الآحاد الواردة في هذه الابواب من العبادات والمعاملات ، فانّه اذا تركنا ذلك نقطع ( بخروج حقائق هذه الاُمور عن كونها هذه الاُمور ) فلا تكون الصلاة صلاة ، ولا الزّكاة زكاة ، ولا الحجّ حجّاً ، ولا الصوم صوماً ، ولا المتاجر والأنكحة والمواريث وغيرها على وضعها المألوف عند المسلمين .

( و )إنّ شئت قلت : إنّ كلام صاحب الوافية انّما يدل على مراد الشيخ ، لانّه لو لم يكن العمل بأصالة البرائة في المشتبهات الكثيرة محظوراً في الشرع ، لم يلزم خروج ( هذه ) الاُمور التي ذكرناها ، عن حقيقة كونها صلاة ، وصوماً ، وما اشبه ذلك ، فكلام صاحب الوافية ( عبارة اُخرى عن الخروج عن الدّين ، الذي عَبَّر به جماعة من مشايخنا ) ممّا تقدَّمت كلماتهم .

ص: 324

ومنهم بعض شُرّاح الوسائل حيث إستدل على حجيّة أخبار الآحاد بأنّه لو لم يعمل بها بطل التكليف وبطلانه ظاهر .

ومنهم المحدّث البحراني صاحب الحدائق - حيث ذكر في مسألة ثبوت الرّبا في الحنطة بالشعير خلافَ الحلّي في ذلك وقوله بكونهما جنسين وأنّ الأخبار الواردة في إتحادهما آحاد لايوجب علماً ولا عملاً -

-------------------

( ومنهم بعض شُرّاح الوسائل حيث إستدلّ على حجّية أخبار الآحاد : بأنّه لو لم يعمل بها ) أي : بأخبار الآحاد ( بطل التكليف ) حيث إنّ الانسان المكلّف لا يتمكن أن يعمل بالأحكام الشرعيّة - غالباً - إذا أراد العمل بما قام عليه دليل قطعي فقط ( وبطلانه ) أي : بطلان أن يبطل التكليف ( ظاهر ) لوضوح : إنّ الشريعة الاسلامية شريعة البشريه الى يوم القيامة ، فكيف يبطل التكليف ؟ .

(ومنهم : المحدّث البحراني صاحب الحدائق) رحمه اللّه (حيث ذكر في مسألة ثبوت الربّا في الحنطة بالشعير ) وذلك بأن يأخذ الانسان - مثلاً - الحنطة اقل ، ويعطي الشعير أكثر ، أوبالعكس ، حيث إنّهما جنس واحد شرعاً ولا يجوز الزيادة في الجنس الواحد ، فانّ صاحب الحدائق ذكر( خلاف ) إبن ادريس ( الحلّي في ذلك و ) ذكر ( قوله ) أي : قول ابن ادريس ( بكونهما جنسين ) والزيادة في الجنسين لا بأس به ، فكما يجوز أن يعطي السُكَّر أكثر من الشاي ، كذلك يجوز أنّ يعطي الحنطة أكثر من الشعير أو بالعكس .

قال الحلي : ( وانّ الأخبار الواردة في إتحادهما ) القائلة بانّ الحنطة والشعير جنس واحد في باب الرّبا ( آحاد لا يوجب علماً ولا عملاً ) فانّا لا نعلم بهذا الحكم من الشريعة ، ولا نعمل به في أعمالنا الخارجية .

ص: 325

قال في ردّه : « إنّ الواجب عليه مع ردّ هذه الأخبار ونحوها من أخبار الشريعة هو الخروج عن هذا الدّين إلى دين آخر » ، انتهى .

ومنهم العضدي ، تبعاً للحاجبيّ ، حيث حكي عن بعضهم الاستدلالُ على حجّية خبر الواحد بأنّه لولاها لخلت أكثر الوقائع عن المدرك .

ثمّ إنّه وان ذكر في الجواب عنه أنّا نمنع الخلوّ عن المدرك ، لأنّ الأصل من المدارك .

-------------------

( قال ) صاحب الحدائق ( في ردّه ) أي : في ردّ ابن ادريس ( :انّ الواجب عليه مع ردّ هذه الأخبار ونحوها من أخبار الشريعة هو الخروج عن هذا الدّين الى دين آخر (1) ، انتهى ) كلام الحدائق ، لأنه إذا لم يعمل بأخبار الآحاد في هذه المسائل لايبقى دينٌ كافياً ، فيلزم أن يتخذ ديناً آخر ، ولايخفى : إن هذه العبارة عبارة غير مناسبة .

( ومنهم ) أي : ممّن صرّح بأنّ عدم العمل بالأخبار يوجب الخروج عن الدّين من علماء العامّة ( العضدي تبعاً للحاجبيّ ) وهو عالم آخر من علماء العامّة ، وهما مشهوران في الاُصول ( حيث حكي عن بعضهم الاستدلال على حجيّة خبر الواحد : بأنّه لولاها لخلت أكثر الوقائع عن المدرك ) . إذ الغالب إن مدرك الأحكام هو أخبار الآحاد .

( ثمّ إنّه ) أي : العضدي ( وإن ذكر في الجواب عنه ) أي : عن هذا الدليل ( انّا نمنع الخلو عن المدرك ) لأنا نعمل بأصل البرائة مثلاً ( لأن الأصل من المدارك ) أيضاً ، فلا يلزم قول القائل بأنه لو لم نعمل بخبر الواحد لزم خلو أكثر الوقائع

ص: 326


1- - الحدائق : ج19 ص231 .

لكنّ هذا الجواب من العامّة القائلين بعدم إتيان النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم بأحكام جميع الوقائع .

-------------------

عن المدرك .

( لكنّ هذا الجواب ) إنّما يكون تاماً ( من العامّة القائلين بعدم إتيان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم بأحكام جميع الوقائع ) فان العامّة لايلتزمون بوجوب وقائع كثيرة ، حتى يلزم من إجراء البرائة الخروج عن الديّن ، بل إنّهم يقولون : إن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم جاء بأحكام قليلة ، فأجراء البرائة في غير تلك الأحكام لايوجب خروجاً عن الدّين ، وأما نحن الامامية ، فحيث نقول : بأن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم جاء بكل الأحكام جزئياً أو كلياً .

فقد قال سبحانه : « اليوَمَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم . . . » (1) .

وقال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « مامِن شَيءٍ يُقرِّبكُم من الجنّةِ ويُباعدكُم من النّار إلاّ وقد أمرتكم به ، وما من شيءٍ يقربكم من النّارِ ويباعدكم من الجنّةِ إلاّ وَقَد نَهيتُكُم عنه » (2) . وفي الحديث ، « إنّ في الشريعة بيان كل شيء حتى أرش الخدش » (3) ، وفي آخر : « حتى أرش الغمز » - فلانتمكن من التمسك بالبرائة في كثير من الأحكام ، لأن التمسك بها يوجب الخروج عن الدّين .

وعبارة المصنّف : « هذا الجواب » : مبتدء ، و « من العامّة » : خبر .

ص: 327


1- - سورة المائدة : الآية 3 .
2- - الكافي اصول : ج2 ص74 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص45 ب12 ح2139 ، بحار الأنوار : ج70 ص96 ب47 ح3 وورد نظيره في المستدرك : ج13 ص27 ب10 ح14643 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص9 ح3 و ج7 ص157 ح9 ، الاحتجاج : ص153 ، بصائر الدرجات : ص142 ح3 ، المحاسن : ص273 ، نوادر القمي : ص161 .

ولو كان المجيبُ من الاماميّة القائلين باتمام الشريعة وبيان جميع الأحكام لم يجب بذلك .

وبالجملة : فالظاهر انّ خلوّ أكثر الأحكام عن المدرك المستلزم للرّجوع فيها إلى نفي الحكم وعدم الالتزام في مُعظم الفقه بحكم تكليفيّ ، كأنّه أمر مفروغ البطلان .

والغرضُ من جميع ذلك الردُّ على بعض من تصدّى لردّ هذه المقدّمة ، ولم يأت بشيء عدا ما قرع سمعَ كلّ أحد من أدلّة

-------------------

هذا ( ولو كان المجيب ) عن الاشكال المذكور الذي هو خلو أكثر الوقائع عن المدرك ( من الاماميّة القائلين باتمام الشريعة وبيان جميع الأحكام ، لم يجب بذلك ) الجواب الّذي ذكره العضدي عن الاشكال المتقدّم .

( وبالجملة : فالظاهر : إنّ خلوّ أكثر الأحكام عن المدرك المستلزم للرّجوع فيها ) . أي : في تلك الأحكام ( الى نفي الحكم ) وجوباً أو تحريماً ، فاذا شك في الواجب أجرى أصالة عدم الوجوب ، وإذا شك في الحرمة أجرى أصالة عدم الحرمة ( وعدم الالتزام في معظم الفقه ) حيث لا أدلة قطعية لها ، فلايلتزم المكلّف ( بحكم تكليفي ، كأنّه أمرٌ مفروغ البطلان ) لوضوح : أنّه لايمكن أن يكون المكلّف في أكثر الفقه لا حكم تكليفي له .

( والغرض من جميع ذلك ) الكلام الطويل الذي ذكرنا فيه : إنّه لايمكن أن يرجع في أكثر الفقه الى البرائة ، لأنّه يلزم الخروج عن الدّين ، وأنّه ضروري البطلان ، هو ( : الرّد على بعض من تصدّى لردّ هذه المقدمة ) الثانية القائلة بعدم جواز إهمال الأحكام .

( و ) لكن هذا الرادّ ( لم يأت بشيء ) مفيد ( عدا ما قرع سمع كلّ أحد من أدلّة

ص: 328

البرائة وعدم ثبوت التكليف إلاّ بعد البيان ، ولم يتفطن لأنّ مجراها في غير مانحن فيه ، فهل يرى من نفسه إجراءها لو فرضنا ، والعياذ باللّه ، إرتفاعِ العلم بجميع الأحكام ؟ .

بل نقول : لو فرضنا أنّ مقلّداً دخل عليه وقتُ الصلاة ولم يعلم من الصلاة عدا ما يعلّم من أبويه بظنّ الصحّة مع إحتمال الفساد عنده إحتمالاً ضعيفاً

-------------------

البرائة ) فانّه إستدل بأدلة البرائة ، على إنّه إذا شككنا في الأحكام ولم نعمل بخبر الواحد - لأنّا لانراه حجّة - يجري أصل البرائة ولا محذور ، ( وعدم ثبوت التكليف إلاّ بعد البيان ) . فانّ خبر الواحد إذا سقط ، فلا بيان فلا تكليف .

هذا ما استدلّ به هذا المتصدي لرد هذه المقدمة ( ولم يتفطن لأنّ مجراها ) أي مجرى البرائة ( في غير ما نحن فيه ) من الموارد القليلة ، لا في معظم الفقه الذي قام العلم الاجمالي بوجود تكاليف كثيرة فيه إيجابياً أو سلبياً .

( فهل يرى ) هذا المتصدي ( من نفسه إجرائها ) أي : إجراء البرائة ( لو فرضنا والعياذ باللّه ، إرتفاع العلم بجميع الأحكام ؟ ) وبقاء الظن ، فانّه كما لايجري البرائة مع إرتفاع كل الأحكام ، كذلك لايتمكن من إجراء البرائة مع إرتفاع أكثر الأحكام ، وما يقول في البرائة في كل الأحكام ، نقول في البرائة في معظم الأحكام .

( بل نقول ) بلزوم العمل بالظنّ إذا لم يحصل للانسان العلم ، ف- ( لو فرضنا انّ مقلداً دخل عليه ) أي : على هذا الذي يجري البرائة فيما إذا لم يعلم بالحكم في ( وقت الصلاة ، ولم يعلم ) ذلك المقلد ( من الصلاة عدا مايعلم من أبويه بظنّ الصحة ) أي : إنّ ماتعلّمه من أبويه يظنّ صحته ، لا إنّه يقطع بذلك ( مع إحتمال الفساد عنده ) أي : عند ذلك المقلِّد ( إحتمالاً ضعيفاً ) بأن كان المقلِّد يظن

ص: 329

ولم يتمكّن من أزيد من ذلك ، فهل يلتزم بسقوط التكليف عنه بالصلاة في هذه الحالة ، أو أنّه يأتي به على حسب ظنّه الحاصل من قول أبويه ، والمفروض أن قول أبويه ممّا لم يدلّ عليه دليل شرعيّ .

فاذا لم تجد من نفسك الرخصّة في تجويز ترك الصلاة لهذا الشخص ، فكيف ترخصّ الجاهلَ بمعظم الأحكام في نفي الالتزام بشيء منها ، عدا القليل المعلوم أو المظنون بالظنّ الخاصّ

-------------------

بالصحة ويحتمل الفساد ، لوضوح : انّ الظنّ دائماً يقابله الوهم ، وهو عبارة عن الاحتمال ( ولم يتمكّن ) المقلِّد ( من أزيد من ذلك ) الّذي تعلمه من أبويه وظنّ بصحته ، بأن لم يتمكن من تحصيل العلم بخصوصيات الصلاة : اجزاءاً ، وشرائطا ، وموانعا .

( فهل يلتزم ) هذا القائل بالبرائة ( بسقوط التكليف عنه ) أي : عن ذلك المقلد ( بالصّلاة في هذه الحالة ) فيقول له : حيث إنّه لا علم لك أيّها المقلِّد بالصلاة فأجر أصل البرائة ولا تصلي ؟ .

( أو أنّه يأتي به على حسب ظنّه الحاصل من قول أبويه ) الذي يظنّ بصحة ماقاله أبواه ( والمفروض : إنّ قول أبويه ممّا لم يدلّ عليه دليل شرعي ) فانّه مجرد ظنّ عام ، وليس بظن خاص قرره الشارع .

( فاذا لم تجد ) أيّها القائل ( من نفسك الرخصة في تجويز ترك الصلاة لهذا الشخص ) وهي مسألة شخصية منفردة ( فكيف ترخص الجاهل بمعظم الأحكام في نفي الالتزام بشيء منها ) أي من تلك الأحكام ( عدا القليل المعلوم أو المظنون بالظّن الخاصّ ؟ ) أي : كيف تقول : أترك الأحكام المشكوكة والمظنونة بالظّن العام ، وإعمل فقط بالأحكام ، المعلومة لديك أو المظنونة بالظن الخاص ،

ص: 330

وترك ماعداه ولو كان مظنوناً بظنّ لم يقم على إعتباره دليل خاصّ .

بل الانصاف : أنّه لو فُرض ، والعياذ باللّه ، فقد الظنّ المطلق في معظم الأحكام ، كان الواجبُ الرجوعَ إلى الامتثال الاحتماليّ بالتزام ما لايقطع معه بطرح الأحكام الواقعيّة .

-------------------

الذي قرره الشارع ؟ .

( و ) كيف تأذن في ( ترك ماعداه ) أي : ماعدا القليل من الأحكام ، الذي يعلمه علماً أو يظنّه بالظّن الخاص ظنّاً ، حتى ( ولو كان ) معظّم الأحكام المجهولة لديه ( مظنوناً بظن لم يقم على إعتباره دليل خاصّ ) ؟ .

ومن المعلوم : إنّ هذا المثال الذي ذكره المصنّف هو من باب تقريب الذهن ، والارجاع الى الفطرة ، لا إنّه من الأدلة الشرعية ، فلايستشكل عليه : بأنّ هذا المثال لا دليل شرعي فيه .

( بل الانصاف انّه لو فرض « والعياذ باللّه » فقد الظّن المطلق في معظم الأحكام ) بأن لم يكن هناك علم ، ولا علمي ، ولا ظنّ مطلق فرضاً ، كما إذا ذهب إنسان الى جزيرة فانقطع فيها ، ثم توجه الى التكليف ولم يكن له علم ، ولا علمي ، ولا ظنّ مطلق بمعظم الأحكام ( كان الواجب الرّجوع الى الامتثال الاحتمالي ) .

مثلاً إذا إحتمل شيئاً واجباً أتى به ، وإذا إحتمل شيئاً محرّماً لم يأت به ، وذلك ( بالتزام مالايقطع معه بطرح الأحكام الواقعية ) فانّه إذا أتى بالامتثال الاحتمالي ، لايقطع معه بطرح الأحكام الواقعيّة ، بينما إذا لم يمتثل إمتثالاً إحتمالياً ، لزم منه طرح الأحكام الواقعية .

وهذا أيضاً فطري ، فانّ الانسان إذا إنقطع به السبيل عن مقصده ، وأصبح

ص: 331

الثالث : إنّه لو سلّمنا أنّ الرجوع إلى البرائة لايوجب شيئاً ممّا ذكر من المحذور البديهيّ ، وهو الخروج من الدّين ، فنقول : إنّه لا دليل على الرجوع إلى البرائة من جهة العلم الاجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات ، فانّ أدلّتها مختصّة بغير هذه الصورة ، ونحن نعلمُ إِجمالاً أنّ في المظنونات واجبات كثيرة

-------------------

في مكان في طرف منه جبل مرتفع ، وفي طرف منه بحر ، وفي طرف منه نفاد من الرّمل بحيث لايمكن سلوك أي : منها ، وفي الطرف الرابع طريق صحراوي يتمكن سلوكه ، لكنّ ظنّه القوي انّ هذه الصحراء لاتوصله الى مقصده ، فهل يحكم عقله بسلوك الصحراء لاحتماله الوصول أو أن يَبقَ هناك حتى يموت ؟ .

( الثالث ) من أدلّة عدم الرجوع الى البرائة في المشتبهات الكثيرة حيث لاحجّية لخبر الواحد ، ( : إنّه لو سلّمنا إنّ الرّجوع الى البرائة لايوجب شيئاً ممّا ذكر من المحذور البديهي ) أي : البديهي الورود والبطلان ( وهو : الخروج من الدّين ) أو ان يكون الانسان كالأطفال والبهائم ، الى غير ذلك ممّا تقدّم في الدليلين الأولين ( فنقول : انّه لادليل على الرّجوع الى البرائة ) فيما شك فيه من المسائل المختلفة التّي لم يقم عليها دليل بعد عدم حجّية خبر الواحد .

وانّما لادليل على الرجوع الى البرائة ( من جهة العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات ) الكثيرة بين هذه المشتبهات ، التي هي محل إبتلاء المكلّف ( فانّ أدلتها ) أي الأدلة الدالة على البرائة من الكتاب والسنّة والاجماع والعقل ( مختصةٌ بغير هذه الصورة ) أي : بغير صورة العلم الاجمالي الكبير بين الواجبات والمحرمات الكثيرة المتشتتة من أول الفقه الى آخر الفقه .

كيف ( و ) الحال ( نحن نعلم إجمالاً : إنّ في المظنونات واجبات كثيرة ،

ص: 332

ومحرّمات كثيرة .

والفرقُ بين هذا الوجه وسابقه : أنّ الوجهَ السابقَ كان مبنيّاً على لزوم المخالفة القطعيّة الكثيرة المعبّر عنها بالخروج عن الدّين وهو محذور مستقلّ ، وإن قلنا بجواز العمل بالأصل في صورة لزوم مطلق المخالفة القطعيّة .

-------------------

ومحرّمات كثيرة ) فكيف نرفع اليَد عن العلم الاجمالي بذلك ، الى البرائة ، فانّ البرائة في أطراف العلم الاجمالي غير جارية ؟ .

( والفرق بين هذا الوجه وسابقه ) من الوجه الثاني ( انّ الوجه السابق : كان مبنياً على لزوم المخالفة القطعيّة الكثيرة المعبّر عنها : بالخروج عن الدّين ، وهو محذور مستقل ) غير هذا المحذور الذي ذكرناه الآن في الثالث ، فانّ الخروج عن الدّين لايجوز ، ( وإن قلنا بجواز العمل بالأصل في صورة لزوم مطلق المخالفة القطعيّة ) .

فانّ بعض العلماء قالوا بجواز المخالفة الاحتمالية في أطراف العلم الاجمالي ، وبعض العلماء قالوا بجواز المخالفة القطعيّة في أطرافه لقوله : عليه السلام « كلّ شيء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال ، حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه » (1) .

فان قوله عليه السلام : « بعينه » على قولهم : يفيد إنّ الانسان إذا لم يعرف الحرام بعينه يجوز له الارتكاب وان علم بانّ الحرام بين أمرين ، أو ما أشبه ذلك - على ما سيأتي الكلام فيه مفصلاً .

ص: 333


1- - تهذيب الاحكام : ج9 ص79 ب4 ح72 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص341 ب2 ح4208 ، وسائل الشيعة : ج17 ص88 ب4 ح22050 ، المحاسن : ص495 ح596 .

وهذا الوجه مبنيّ على أنّ مطلق المخالفة القطعيّة غير جائز ، وأصل البرائة في مقابلها غير جارٍ مالم يصل المعلوم الاجماليّ إلى حدّ الشبهة الغير المحصورة ، وقد ثبت في مسألة البرائة أنّ مجراها الشكّ في أصل التكليف ، لا الشكّ في تعيينه مع القطع بثبوت أصله ، كما في مانحن فيه .

--------------------

( وهذا الوجه ) الثالث : ( مبني على انّ مطلق المخالفة القطعيّة غير جائز ) وان لم يستلزم الخروج عن الديّن ( وأصل البرائة في مقابلها ) أي : في مقابل الاطراف الّتي يعلم علماً إجمالياً بينها ( غير جارٍ مالم يصل المعلوم الاجمالي إلى حدّ الشبّهة غير المحصورة ) أمّا اذا وصل إلى حدّ الشبهة غير المحصورة ، فانّه يجوز إرتكاب بعض الاطراف أو كل الاطراف على الخلاف الّذي يأتي فيما نذكره من مباحث العلّم الاجمالي ( وقد ثبت في مسألة البرائة إنّ مجراها ) أي مجرى البرائة ( الشكّ في أصل التكليف ) كما إذا لم يعلم الانسان إنّ شيئاً واجب عليه أو لا ، أو إنّ شيئاً حرام عليه أو لا ؟ ( لا الشك في تعيينه مع القطع بثبوت أصله ، كما فيما نحن فيه ) . حيث يعلم بأنّه تجب عليه صلاة في يوم الجمعة ، لكنّه يشكّ في انّ الصلاة الواجبة هل هي صلاة الجمعة أو الظهر ؟ أو يعلم بأن شيئاً مُحرّماً بين هذين الحيوانين ، لكن لايعلم هل هو هذا الحيوان أو ذاك الحيوان ؟ فانّه يجب عليه أن يحتاط في الأوّل بفعلهما ، وفي الثاني بتركهما .

وكذلك إذا شك بين حرام وواجب ، كما إذا علم إنّه إمّا يجب عليه الدّعاء عند رؤية الهلال ، أو يحرم عليه شرب التتن ، فانّه يجب عليه إمتثال التكليف الواقعي بينهما بفعل الأول وترك الثاني .

ومن الواضح : إنّ ما نحن فيه حيث نعلم بوجوب واجبات كثيرة ومحرّمات كثيرة بين الاُمور المشتبهة ، يلزم علينا الاتيان بكل محتمل الوجوب ، والترك لكل

ص: 334

فان قلت : إذا فرضنا أنّ ظنّ المجتهد أدّى في جميع الوقائع إلى مايوافق البرائة ، فما تصنع ؟ .

قلت : أوّلاً ، إنّه مستحيل ، لأنّ العلم الاجماليّ بوجود الواجبات والمُحرّمات الكثيرة في جملة الوقائع المشتبهة ، يمنع عن حصول الظنّ بعدم وجوب شيء من الوقائع المحتملة للوجوب ، وعدم حرمة شيء من الوقائع المحتملة للتحريم ،

-------------------

محتمل الحرمة ، فاذا تمكنا من ذلك فهو ، وإلاّ عملنا بالظنّ لمكان التعذر أو التَعسر عن جميع الاطراف .

( فان قلت : ) إنّكم تقولون : بأنّه يجب أن يعمل بالظنّ بهذه الامور المحتملة الكثيرة ، ف- ( إذا فرضنا إنّ ظَنّ المجتهد أدّى في جميع الوقائع الى ما يوافق البرائة فما تصنع ؟ ) فأنّ ذلك أيضاً خلاف العلم الاجماليّ ، وخلاف التدّين ، لأنّه يستلزم الخروج عن الدّين ، إذ النتيجة لا فرق فيها بين أن يكون من باب الظنّ ، أو من باب إجراء أصل البرائة ، أو أصل العدم .

( قلت : أولاً : إنّه مستحيل ) ان يظنّ المجتهد بالبرائة في جميع الوقائع المحتملة ، لأنّه مستلزم للتناقض بين علمه وظنه ، وغير معقول أن يظنّ الانسان بطرف ويعلم بطرف آخر ( لأن العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات الكثيرة في جملة الوقائع المشتبهة ، يمنع عن حصول الظّن بعدم وجوب شيء من الوقائع المحتملة للوجوب ، وعدم حرمة شيء من الوقائع المحتملة للتحريم ) .

وإنّما قلنا محتملة أي : محتملة في نفسها ، وإلاّ فان الانسان إذا قطع بشيء

ص: 335

لأنّ الظنّ بالسالبة الكليّة يناقضُ العلم بالموجبة الجزئية ، فالظنّ بأنّه لاشخصَ من العلماء بفاسق ، يناقض العلمَ إجمالاً بأنّ بعض العلماء فاسقٌ .

وثانياً : إنّه على تقدير الامكان غير واقع ، لأنّ الأمارات التي

-------------------

لايعقل أن يحتمل خلافه أيضاً ، فكيف بالوهم ؟ وكيف بالظن ؟ ( لأنّ الظّن بالسالبة الكلّية ) أي الظّن بأنّه لا حكم حسب مقتضى البرائة ( يناقض العلم بالموجبة الجزئية ) لأنه يعلم انّ في جملة من هذه الأحكام واجبات ومحرمات حسب ماذكرناه .

( فالظّنّ بأنه لاشخص من العلماء بفاسق ، يناقض العلم إجمالاً بأن بعض العلماء فاسق ) لأن معنى لاشخص من العلماء بفاسق : القطع بعدم فسق أحد من العلماء ، فكيف يتمكن أن يعلم إجمالاً بأن بعض العلماء فاسق ؟ والتناقض كما يأتي من العلْمَين في الطرفين ، وفي الظنّين من الطرفين ، كذلك يأتي في ظنّ من طرف وعلم من طرف آخر .

نعم ، إذا كان كِلا الطرفين جزئياً فلا بأس ، كما إذا ظنّ بأن بعض من في الدار رجل ، وظنّ بانّ بعض من في الدار ليس برجل ، وكذلك بين العِلْمَين الجزئيين وبين علم وظنّ جزئيين ، أمّا أن يظنّ بأنّ كل مَنْ في الدّار رجل ، ويعلم بأنّ بعض من في الدار ليس برجل ، فهو التناقض بعينه .

( وثانياً : إنّه على تقدير الامكان ) وعدم إستحالة أن يظنّ المجتهد بالبرائة في جميع الوقائع المحتملة مع علمه الاجمالي بالأحكام الكثيرة ، فانه ( غير واقع ) مثل هذا الظّن والعلم ، في طرفي الأمر بالنسبة الى المجتهد ( لأن الأمارات الّتي

ص: 336

يُحصّل المجتهد منها الظنّ في الوقائع لاتخلو عن الأخبار ، المتضمّن كثيرٌ منها لاثبات التكليف وجوباً وتحريماً .

فحصولُ الظنّ بعدم التكليف في جميع الوقائع أمرٌ يُعلَمُ عادةً بعدم وقوعه .

وثالثاً : ولو سلّمنا وقوعه ، لكن لايجوز حينئذٍ العملُ بعدم التكليف في جميع الوقائع ؛ لأجل العلم الاجماليّ المفروض ، فلابدّ حينئذٍ

-------------------

يحصّل المجتهد منها الظنّ في الوقائع لاتخلو عن الأخبار ، المتضّمن كثير منها لاثبات التكليف وجوباً وتحريماً ) فكيف يظن المجتهد بالبرائة في جميع الأحكام والحال إنّ مستند ظنّه نفس الأخبار المثبتة للتكاليف الوجوبية والتحريمية ؟ .

إذن : ( فحصول الظّن ) للمجتهد ( بعدم التكليف في جميع الوقائع ، أمر يعلم عادة بعد وقوعه ) وإنّما قال عادة : للامكان العقلي في أن يكون ظنّه غير مستند الى الأخبار بل الى القياس ، أو الجفر ، أو الرّمل ، أو الاصطرلاب ، أو ما أشبه ذلك .

( وثالثاً : ولو سلمّنا ) إمكانه و ( وقوعه ) بأن أمكن الظّن مع العلم الاجمالي ووقع في الخارج ( لكن لايجوز حينئذٍ ) أي : حين يظّن بعدم التكليف إطلاقاً ( العمل بعدم التكليف في جميع الوقائع ) .

وإنّما لايجوز العمل بعدم التكليف في جميع الوقائع ( لأجل العلم الاجمالي المفروض ) فان الفرض إنّه يعلم إجمالاً بوجود تكاليف كثيرة بين واجب ومحرم من أول الفقه الى آخر الفقه .

( فلابدّ حينئذ ) أي : حين عدم جواز العمل بعدم التكليف في جميع الوقائع

ص: 337

من التبعيض بين مراتب الظنّ بالقوّة والضعف ، فيعمل في موارد الظنّ الضعيف بنفي التكليف بمقتضى الاحتياط وفي موارد الظنّ القويّ بنفي التكليف بمقتضى البرائة .

ولو فُرض التسوية في القوّة والضعف كان الحكمُ كما لو لم يكن ظنّ في شيء من تلك الوقائع من التخيير إن لم يتيسّر لهذا الشخص الاحتياطُ ، وإن تيسّر الاحتياطُ تعيّن الاحتياطُ في حقّ نفسه

-------------------

( من التبعيض بين مراتب الظّن بالقوّة والضّعف ، فيعمل في موارد الظّن الضعيف ) ظناً ( بنفي التكليف ) حيث فرضنا انّه ظّن « بنفي التكليف » في جميع الأحكام ، ففي الظنون الضعيفة يعمل ( بمقتضى الاحتياط ) للعلم الاجمالي بوجوب التكاليف ( وفي موارد الظّن القوي ) ظنّاً ( بنفي التكليف ) يعمل ( بمقتضى البرائة ) حتى يكون جمعاً بين البرائة وبين الاحتياط ، فالاحتياط : في الظنون الضعيفة ، والبرائة في الظنون القوية .

( ولو فرض التسوية في القوة والضعف ) بأن كانت كُلّ الظنون في مرتبة واحدة ، لا إنّ بعضها قوي وبعضها ضعيف ( كان الحكم كما لو لم يكن ظنّ في شيء من تلك الوقائع ) بأن كانت كل تلك الأحكام مشكوكة ( من التخيير ) فيتخير بالعمل ببعض الظنون وعدم العمل ببعض الظنون .

لكنّ التخيير بترك بعض الظنون والعمل ببعض الظنون إنّما هو ( ان لم يتيسر لهذا الشخص الاحتياط ) وإلاّ عمل بالاحتياط في الكُلّ حسب العلم الاجمالي إن لم يتيسّر له الاحتياط التام ، بإتيان جميع محتملات الوجوب وترك جميع محتملات التحريم من المظنونات .

( وإن تيسّر الاحتياط ) التام ( تعيّن الاحتياط في حقّ نفسه ) لمقتضى العلم

ص: 338

وإن لم يجز لغيره تقليدُه ، ولكنّ الظاهر انّ ذلك مجرّدُ فرض غير واقع ، لأنّ الأمارات كثيرة منها مُثبتة للتكليف ، فراجع كُتُب الأخبار .

-------------------

الاجمالي ( وإن لم يجز لغيره تقليده ) لأن التقليد إنّما يجوز للعالم ، والمفروض انّ هذا الشخص جاهل بالأحكام ، وإنّما يعمل فيها بالظنّ ، والظنّ لايورث العلم بالواقع .

نعم ، لو لم يتمكن المقلِّد إلاّ منه ، وجب عليه إتباعه بحكم العقل ، لأنّه أعلم منه بموارد الظّن بالأحكام .

( ولكنّ الظّاهر : إنّ ذلك ) الّذي ذكرناه بقولنا : ولو فرض التسوية في القوة والضعف ( مجّرد فرض غير واقع ، لأنّ الأمارات كثيرة منها مثبتة للتكليف ) ومثل تلك الأمارات توجب الظّن على الأقل ( فراجع كُتب الأخبار ) حتى تطِّلع على إن كثيراً من الأخبار والأمارات توجب ظنّ الانسان ظنّاً قويّاً ، فليست الظّنون الحاصلة للانسان متساوية - على ما ذكره الفرض - .

ثم إنّ الأوثق قال بعد الوجوه الثلاثة للمصنّف مالفظه : هنا وجه رابع لعدم جواز العمل بأصالة البرائة ، وهو : لزوم إختلال النظام ، وضياع النفوس ، والأموال ، والأعراض ، لو كان العمل باصالة البرائة في أكثر الأحكام المشتبهة مرخّصاً فيه شرعاً ، إذ يلزم حينئذ أن يبني على البرائة كل من شك في جواز إتلاف صنف من النفوس ، وفي جواز التصرّف في نوع من أموال الناس ، أو في نكاح طائفة من النساء ، أو في أداء قسم من الحقوق ، وبذلك تختل الانساب ، وتُستباح النفوس والأموال ، وهذا حدّ يقطع كل أحد بفساده .

مع إنّه ربّما لايمكن العمل بأصالة البرائة ، كما في صورة التَّداعي ودوران مالٍ بين شخصين ، لأجل الشبهة في حكمه ، كما في منجزات المريض الدائرة

ص: 339

ثمّ إنّه قد يُرَدُّ الرجوع إلى أصالة البراءة تبعاً لصاحب المعالم وشيخنا البهائيّ في الزُّبدة ، بأنّ إعتبارها من باب الظنّ ، والظنّ منتفٍ في مقابل الخبر ونحوه من أمارات الظنّ .

-------------------

بين كونها من الأصل أو الثلث ، وكذلك الحَبْوَة تختلف في كونها للولد الأكبر بلا عوض أو معه (1) ، انتهى .

لكن يمكن أن يقال : إن الاشكال غير وارد ، وذلك لحكم العقل بعدم ما يلزم الاختلال ، وبالتقسيم حسب قاعدة العدل العقليّة ، في الاموال ، فهو تخصيص للبرائة ، كما إنّ العقلاء غير المتشرعة الذّين يَرون الاباحة المطلقة ، لايقولون بها في مثل هذه الموارد .

( ثمّ إنّه قد يردُّ الرجّوع الى أصالة البرائة ) عند من لايرى العمل بالخبر الواحد ( تبعاً لصاحب المعالم وشيخنا البهائي في الزُّبدة ) بما حاصل الرّد ( بان إعتبارها ) أي : اعتبار البرائة ( من باب الظّنّ ، والظّنّ منتف في مقابل الخبر ونحوه ) أي : نحو الخبر ( من أمارات الظّن ) أي : من الأمارات التي تُوجب الظّن ، فان الظّن الخَبري أقوى من ظنّ البرائة .

وإنّما كان الظن الخبري مُقدَّم على الظّن الناشئمن البرائة ، لأنّ الخبر ونحوه من الأمارات التنجيزية ، والبرائة من الأمارات التعليقية ، والتعليقية دائماً لاتطاول التنجيزية ، كما إنّ الخبر الذي يَدُلُّ على حجيّة خبر الواحد مثل : « لاعُذرَ لأحدٍ مِن موالينا فِي التَّشكيكِ فِيما يَرويهِ عَنّا ثقاتُنا » (2) مقدّم على الخبر الذي يدل

ص: 340


1- - أوثق الوسائل : ص197 - 198 مقدمات دليل الانسداد .
2- - وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج27 ص150 ب11 ح33455 ، رجال الكشّي : ص536 ، بحار الانوار : ج50 ص318 ب4 ح15 .

وفيه : منعُ كون البراءة من باب الظنّ ، كيف ؟ ولو كانت كذلك لم يكن دليلٌ على إعتبارها ، بل هو من باب حكم العقل القطعيّ بقبح التكليف من دون بيان .

وذكر المحقق القميّ رحمه اللّه ، في منع حكم العقل

---------------------

على البرائة مثل : « كُلُّ شيء مُطلقٌ » (1) وذلك لنَفس هذه العِلّة .

( وفيه ) أي : في كلام من رد الرجوع الى أصالة البرائة تبعاً لصاحبي المعالم والزُبدة ( : منع كون البرائة من باب الظّن ، كيف ولو كانت ) البرائة ( كذلك ) أي : حجّيتها من باب الظّن ( لم يكن دليل على إعتبارها ) لأنّ إعتبارها من باب الظّن يتوقف على تمامية دليل الانسداد ، فاذا أخذنا إعتبارها من باب الظن في مقدمات دليل الانسداد لزم الدَّور .

( بل هو ) أي : إعتبار البرائة ( من باب حكم العقل القطعيّ بقبح التكليف ) من الحكيم ( من دون بيان ) .

ولا يخفى : إنّ الحكم العقلي هو الأصل في البرائة ، ثم ان الشرع أيضاً ذكر البرائة في الآيات والروّايات ، كما هو مذكور في محله مفصلاً .

ثم إنّ المصنّف لمّا منع كون البرائة من باب الظنّ وقال : بل هو من باب حكم العقل القطعي ، ذكر إشكال المحقّق القمي على إنّ البرائة ليست من باب الحكم القطعي فقال :

( وذكر المحقّق القمي رحمه اللّه ) صاحب القوانين ( في منع حكم العقل

ص: 341


1- - غوالي اللئالي : ج3 ص462 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ح937 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح23530 .

المذكور : « أنّ حكمَ العقل إمّاأن يريد به الحكم القطعيّ أو الظنّي .

فان كان الأوّل ، فدعوى كون مقتضى أصل البراءة قطعيّاً أوّلُ الكلام ، كما لايخفى على من لاحظ أدلّة المُثبتين والنافين من العقل والنقل .

سلّمنا كونه قطعيّا في الجملة ، لكنّ المسلّم إنّما هو قبل ورود الشرع .

وأمّا بعد ورود الشرع ، فالعلمُ بأنّ فيه أحكاماً إجماليّة على سبيل اليقين يُثبّطنا عن الحكم بالعدم قطعاً ، كما لا يخفى .

-------------------

المذكور ) وإنّ البرائة ليست من باب حكم العقل ( : انّ حكم العقل إمّا أن يريد به الحكم القطعيّ ، أو الظّني ؟ ) أي : هل إنّ العقل يحكم قطعاً بالبرائة أو يحكم ظناً بالبرائة ؟ .

( فان كان الأوّل ) أي : الحكم العقلي القطعي ( فدعوى كون مقتضى أصل البرائة قطعيّاً ، أول الكلام ) فانّا لانسلم القطع بعدم الحرمة ، الذي هو مقتضى البرائة ( كما لايخفى على من لاحظ أدلة المثبتين والنافين من العقل والنقل ) حيث إنّ بعضهم أثبتوا حكم العقل والنقل بالبرائة ، وبعض نفوها ، ففي مثل ذلك هل يمكن أن يقال : إنّ حكم العقل بالبرائة قطعي ؟ .

( سلّمنا كونه ) أي : كون حكم العقل بالبرائة ( قطعيّاً في الجملة ) ومعنى « في الجملة » : مافسّره بقوله بعد ذلك : ( لكنّ المسلّم إنّما هو قبل ورود الشّرع ) فانّه قبل ورود الشرع البرائة قطعية .

( وأمّا بعد ورود الشّرع ، فالعلم بأنّ فيه ) أي : في الشرع ( أحكاماً إجماليّة على سبيل اليقين ) لأنّه بعد ورود الشّرع نعلم إنّ لنا أحكاماً في الجملة ، فان هذا العلم الاجمالي ( يثبّطنا ) أي يمنعنا ( عن الحكم بالعدم ) أي : الحكم بعدم الحرمة ( قطعاً ، كما لايخفى ) فانّه كيف نتمكن أن نحكم بالبرائة بصورة قطعيّة ، بعد أن

ص: 342

سلّمنا ذلك ، ولكن لانسلّمُ حصول القطع بعد ورود مثل الخبر الواحد الصحيح على خلافه .

وإن أرادَ الحُكمَ الظنّيّ ، سواء كان بسبب كونه بذاته مفيداً للظنّ أو من جهة استصحاب الحالة السّابقة ، فهو أيضاً ظنّ مستفاد من ظاهر الكتاب والأخبار

-------------------

علمنا بورود أحكام في الجملة في الشريعة ، بعضها واجبات ، وبعضها محرمات ، فانّ العلم الاجماليّ ينافي العلم التفصيليّ ، فهل يمكن أن يقال : إنّا نعلم إجمالاً بوجود حرام ، ونقول : نعلم علماً قطعياً بعدم وجود الحرام ، وهل هذا إلاّ تناقض ؟ .

( سلّمنا ذلك ) العلم القطعي بعدم الحكم ولو بعد الشرع ( ولكن لانسلّم حصول القطع بعد ورود مثل الخبر الواحد الصحيح على خلافه ) فانّا نقطع بعدم الحرمة قبل الشرع ، ونقطع بعدم الحرمة بعد الشرع ، لكن هل نقطع بعدم الحرمة بعد ورود الخبر الصحيح على الحرمة ؟ .

هذا كلّه إن أراد المستدِّل القطع بالبرائة ( وإن أراد الحكم الظني ) بالبرائة ( سواء كان بسبب كونه بذاته مفيداً للظّن ) أي : حكم العقل بأنّ التكليف من دون بيان قبيح ( أو من جهة إستصحاب الحالة السابقة ) فانّه في السابق لم يكن حرام ، فنستصحب ذلك الى الحال ، وذلك يوجب الظّن بعدم الحكم بالحرمة ، أي : بمقتضى البرائة ( فهو أيضاً ظنّ مستفاد من ظاهر الكتاب والأخبار) لأنّ حكم العقل الظّني هو كظاهر الكتاب والسنّة ، الدال على عدم المؤاخذة بدون البيان .

ومن المعلوم : إنّ ظاهر الكتاب والسنّة ، لايوجبان قطعاً ، بل إنّما يوجبان الظّن

ص: 343

التي لم يثبت حجّيتهما بالخصوص ، مع أنّه ممنوع بعد ورود الشرع ، ثمّ بعد ورود الخبر الصحيح ، إذا حصل من خبر الواحد ظنّ أقوى منه » انتهى كلامه ، رفع مقامه .

-------------------

( الّتي لم يثبت حجيتّهما بالخصوص ) « التي » صفة ل- « ظاهر الكتاب والأخبار » .

وإنّما ذكر إنه لم يثبت حجّيتهما بالخصوص بناءاً على مذهبه قدس سره من كون حجية الظواهر بالنسبة الى المشافهين من باب الظّن الخاص ، أمّا بالنسبة الى المعدومين في وقت الخطاب فهو من باب الظنّ المطلق - كما سبق الالماع الى ذلك .

( مع إنّه ) أي : الحالة السابقة ( ممنوع بعد ورود الشّرع ) لأنّ الشارع قطع الحالة السابقة ، فكيف تُستَصحب تلك الحالة ؟ .

( ثمّ ) إن المنع يكون بصورة أشدّ ( بعد ورود الخبر الصحيح ) بالحرمة ( إذا حصل من خبر الواحد ظنّ أقوى منه ) (1) أي : من الظن الاستصحابي ، فإذا كان هناك إستصحاب على العدم ، وخبر صحيح على الحرمة ، قدّم الخبر الصحيح على الاستصحاب ، لأنّ الظّن الحاصل من الخبر الصحيح ، أقوى من الظّن الحاصل من الاستصحاب .

وقوله : « ثم » هو عبارة عن تسليم ماذكره سابقاً ، يعني : حتى لو فرض إنّه يستصحب بعد ورود الشرع ، لكن لايستصحب إذا حصل خبر واحد صحيح ( إنتهى كلامه ، رفع مقامه ) .

ص: 344


1- - القوانين المحكمة : ص213 .

وفيه : انّ حكمَ العقل بقبح المؤاخذة من دون البيان ، حكمٌ قطعيّ ، لا إختصاص له بحال دون حال .

فلا وجه لتخصيصه بما قبل ورود الشرع ، ولم يقع فيه خلافٌ بين العقلاء ، وإنّما ذهب من ذهب إلى وجوب الاحتياط لزعم نصب الشارع البيان على وجوب الاحتياط ، من الآيات والأخبار التي ذكروها .

-------------------

هذا ( وفيه ) إنّ ماذكره : من الترديد بين كون حكم العقل بقبح المؤاخذة من دون البيان ، قطعي أو ظني غير تام ، وذلك ( إنّ حكم العقل بقبح المؤاخذة من دون البيان ، حكم قطعي ، لا إختصاص له بحال دون حال ) سواء كان في حال الشرع ، أو في حال عدم الشرع ، فانّ العقلاء متفقون بما حكم به عقلهم : من إنّه لايمكن للحكيم أن يعاقب الانسان من دون أن يسبق البيان .

وعليه : ( فلا وجه لتخصيصه بما قبل ورود الشرع ) كما ذكره المحقّق القميّ .

كما ( ولم يقع فيه ) أي : في قبح المؤاخذة من دون البيان ( خلاف بين العقلاء ) إطلاقاً ، فانهم جميعاً متفقون على القبح المذكور .

( وإنّما ذهب من ذهب بوجوب الاحتياط ) بعد ورود الشرع ( لزعم نصب الشارع البيان على وجوب الاحتياط ، من الآيات والاخبار التي ذكروها ) مثل قوله تعالى : « ولا تَقفُ مَالَيسَ لَكَ بهِ عِلمٌ » (1) حيث دلّ على إنّ اللازم العلم بالجواز ، فإذا لم يعلم بالجواز وإحتمل الوجوب أو الحرمة وجب عليه الاحتياط .

وقوله : « أَخُوكَ دِينُكَ فَإحتَط لِدينِكَ بِما شِئتَ » (2) الى غير ذلك ممّا يذكرونه

ص: 345


1- - سورة الاسراء : الآية 36 .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 ، الامالي للطوسي : ص110 ح168 ، الامالي للمفيد : ص283 .

وأمّا الخبر الصحيح ، فهو كغيرهِ من الظنون إن قام دليل قطعيّ على إعتباره كان داخلاً في البيان ، ولا كلامَ في عدم جريان البراءةِ معه ، وإلاّ فوجودُه كعدمه غيرُ مؤثّر في الحكم العقليّ .

والحاصلُ : أنّه لاريبَ لأحد ، فضلاً عن إنّه لاخلافَ ، في أنّه على تقدير عدم بيان التكليف بالدّليل العامّ

-------------------

في باب الاحتياط في أطراف الشبهة المحصورة ، فالآيات والأخبار التّي ذكروها في باب الاحتياط بيان ، فلايكون هناك قبح العقاب بلا بيان .

أمّا ما ذكره المحقّق القميّ : من انّ الخبر الصحيح يقوم في قبال البرائة والاستصحاب ، ففيه ماذكره المصنّف بقوله : ( وأما الخبر الصحيح ، فهو كغيره من الظنون إن قام دليل قطعيّ على إعتباره ) ممّا يسمّى بالعلمي حينئذ ، فانّه ( كان داخلاً في البيان ، ولا كلام في عدم جريان البرائة معه ) لأنّ البرائة إنّما تكون جارية إذا لم يكن بيان ، والمفروض : إن الخبر الصحيح الّذي قام الدليل القطعيّ على إعتباره بيان .

( وإلاّ ) أي : وان لم يكن دليل على حجّية الخبر الصحيح ( فوجوده كعدمه ) لأنّ الخبر الصحيح لا حجّية فيه لذاته ، وإنّما حجّيته مستندة الى دليل قطعي ، فالخبر الصحيح ( غير مؤثّر في الحكم العقلي ) وإنّما الحكم العقلي جارٍ مطلقاً ، إلاّ إذا كان بيان ، والبيان هو الخبر الصحيح المستند الى دليل قطعي على إعتباره .

( والحاصل : إنّه لاريبَ لأحد ، فضلاً عن إنّه لاخلاف في أنه على تقدير عدم بيان التكليف بالدّليل العامّ ) كقوله : « إحتط لدينك » ، فانّه دليل عام شامل لكل

ص: 346

أو الخاصّ ، فالأصل البراءة .

وحينئذٍ : فاللازم إقامة الدليل على كون الظنّ المقابل بياناً .

وممّا ذكرنا ظهر صحّةُ دعوى الاجماع على أصالة البراءة في المقام ، لأنّه إذا فُرض عدم الدّليل على إعتبار الظنّ المقابل صدق قطعاً عدم البيان ، فتجري البراءة .

وظهر فسادُ دفع أصل البراءة بأنّ المستند فيها إن كان هو الاجماع ، فهو مفقود في محلّ البحث ،

-------------------

مكان يشتبه فيه الحكم ( أو ) لا بالدليل ( الخاصّ ) كما إذا قال : الشيء الفلاني حرام ، بأن قام عليه خبر صحيح مقطوع الاعتبار ( فالأصل البرائة ) عن ذلك الحكم المشكوك فيه .

( وحينئذ ) أي : حين لم يكن هناك دليل عام أو خاص على الحرمة ( فاللازم إقامة الدّليل ) منكم أيها المحققّ القميّ ( على كون الظنّ المقابل ) لأصالة البرائة ( بياناً ) والحال إنّه ليس لكم دليل على إنّ الظّن المقابل لأصالة البرائة بيان ، وعليه : فاللازم العمل بأصل البرائة .

( وممّا ذكرنا : ) من انّه لاريب لأحد فضلاً عن إنّه لا خلاف ( ظهر : صحة دعوى الاجماع على أصالة البرائة في المقام ) لعدم البيان ، وإذا لم يكن بيان ، فالعقل قاطع بأنّه يقبح العقاب ( لأنّه إذا فرض عدم الدّليل على إعتبار الظّنّ المقابل ) لأصالة البرائة ( صدق قطعاً عدم البيان ) ، وإذا تحققّ الموضوع وهو : عدم البيان ( فتجري البرائة ) لأنّه كلمّا تحقق الموضوع تحقق الحكم .

( و ) بهذا ( ظهر فساد دفع أصل البرائة : بأنّ المستند فيها ) أي : في البرائة ( إن كان هو الاجماع ، فهو مفقود في محلّ البحث ) لكنّك قد عرفت : وجود الاجماع

ص: 347

وإن كان هو العقل ، فمورده صورة عدم الدليل ولا نسلّم عدم الدليل مع وجود الخبر .

وهذا الكلام ، خصوصاً الفَقرة الأخيرة منه ، ممّا يُضحِكُ الثكلى ، فانّ عدم ثبوت كون الخبر دليلاً يكفي في تحقّق مصداق القطع بعدم الدليل الذي هو مجرى البراءة .

وإعلم : أنّ الاعتراضَ على مقدّمات دليل الانسداد بعدم إستلزامها العمل

-------------------

القطعي على البرائة في محل البحث .

( وإن كان هو العقل ، فمورده صورة عدم الدّليل ) أي : عدم البيان ( ولانسلّم عدم الدّليل مع وجود الخبر ) الصحيح ، لأنّه كما عرفت : الخبر الصحيح إن كان مستنداً إلى دليل قطعي فهو بيان ، وإن لم يكن مستنداً الى دليل قطعي فهو ليس ببيان .

( وهذا الكلام ) من المحقّق القمي الّذي تقدّم نقله والايراد عليه ( خصوصاً الفقرة الأخيرة منه ) وهي قوله : « ثم بعد ورود الخبر الصحيح . . » الخ ( ممّا يضحك الثكلى ) لأنّ هذه الفقرة الأخيرة دالة على إننا نحتاج في قبال قُبح العقاب الى ثبوت كون الخبر دليلاً ، وهو كلام غير تام .

( فانّ عدم ثبوت كون الخبر دليلاً يكفي في تحقّق مصداق القطع بعدم الدّليل الّذي هو مجرى البرائة ) لأنّ عدم البيان يتحقق بأمرين : ثبوت كون الخبر ليس بدليل ، وعدم ثبوت كون الخبر دليلاً ، ومن باب اللّطيفة إنّ الثكلى إنّما تضحك من هذا الكلام إذا كانت عالمة فاضلة تفهم هذا الكلام من القوانين والرّسائل فهماً جيداً .

( وإعلم : إنّ الاعتراض على مقدّمات دليل الانسداد : بعدم ) تماميتها حتى تنتج حجّية الظّن المطلق لعدم ( إستلزامها ) أي : هذه المقدّمات ( العمل

ص: 348

بالظنّ ، لجواز الرّجوع إلى البراءة ، وإن كان قد أشار إليه صاحب المعالم وصاحب الزّبدة وأجابا عنه بما تقدّم مع ردّه ، من أنّ أصالة البراءة لايُقاوم الظنّ الحاصل من خبر الواحد ، إلاّ إنّ أوّلَ من شَيّد الاعتراضَ به وحرّره ، لا من باب الظنّ ، هو المحققّ المدقّق جمال الدين قدس سره في حاشيته ، حيث قال : « يرد على الدّليل المذكور أنّ انسداد باب العلم بالأحكام الشرعيّة غالباً لايوُجب جواز العمل بالظنّ حتى يتجّه ماذكروه ، لجواز أنّ لايجوز العمل بالظنّ .

-------------------

بالظّن ، لجواز الرّجوع إلى البرائة ) أو أصل العدم فانّه ( وإن كان قد أشار اليه صاحب المعالم وصاحب الزّبدة وأجاب عنه بما تقدّم ) من قولنا : ثم إنّه قد يُردُّ الرجوع إلى أصالة البرائة تبعاً لصاحب المعالم وشيخنا البهائي في الزبدة الى آخره ، وذكرنا ردّه ، حيث قلنا : « وفيه منع كون البرائة من باب الظن . . . » الخ ، ( مع رده ) أي : ردّ هذا الرد ( من أنّ أصالة البرائة لايقاوم الظّن الحاصل من خبر الواحد ) لِما تقدّم من إنّ خبر الواحد مقدّم على أصالة البرائة ، لأنّ أصالة البرائة مستند الى قبح العقاب بلا بيان ونحوه ، وخبر الواحد بيانٌ .

( إلاّ إنّ أوّل من شَيّد الاعتراض به ) أي : بالرجوع إلى أصالة البرائة ، ( وحرّره ) أي : حرّر وجه عدم الرجوع إلى أصالة البرائة ( لامن باب الظّنّ ) ، أي : لا أنّ البرائة تفيد الظّن فيزول مع الخبر ، بل قال : بأنّ البرائة لا تفيد الظّن ( هو المحقّق المدقّق جمال الدين قدس سره في حاشيته ) على شرح المختصر ( حيث قال : يرد على الدّليل المذكور : أنّ إنسداد باب العلم بالأحكام الشرعيّة غالباً لايوجب جواز العمل بالظّن حتى يتّجه ما ذكروه ) من حجّية الظّن بعد إنسداد باب العلم ( لجواز أن لايجوز العمل بالظّنّ ) حتى بعد الانسداد ، وذلك للرجوع الى البرائة ، كما سيأتي

ص: 349

فكلّ حكم حصل العلمُ به من ضرورةٍ أو أجماعٍ نحكمُ به ، وما لم يحصل العلمُ به نحكمُ فيه بأصالة البراءة ، لا لكونها مفيدة للظنّ ، ولا للاجماع على وجوب التمسّك بها ، بل لأنّ العقل يحكمُ بأنّه لايثبت تكليفٌ علينا إلاّ بالعلم به ، أو بظنّ يقوم على إعتباره دليلٌ يفيد العلم .

ففيما إنتفى الأمران فيه يحكم العقلُ ببراءة الذمّة عنه وعدم جواز العقاب على تركه ، لا لأنّ الأصل المذكور يفيد ظنّاً بمقتضاها

-------------------

بيان المحقّق المذكور له .

قال : ( فكلّ حكم حصل العلم به ) أي : بذلك الحكم حصولاً ( من ضرورة ، أو إجماع ، نحكم به ) أي : بذلك الحكم ( وما لم يحصل العلم به ، نحكم فيه بأصالة البرائة ) وإنّما نحكم بأصالة البرائة ( لا لكونها مفيدة للظّنّ ) فانّ حجيّتها ليست من باب الظن ( ولا للاجماع على وجوب التمسك بها ) أي : بالبرائة حتى يقال : إنّ الظّن ليس بحجّة ، والاجماع غير ثابت ( بل لأنّ العقل يحكم بأنّه لايثبت تكليف علينا إلاّ بالعلم به ، أو بظنّ يقوم على إعتباره دليل يفيد ) ذلك الدليل ( العلم ) أي : يكون علمياً .

والحاصل : إنّه لايثبت التكليف علينا إلاّ بالعلم أو بالعلمي ( ففيما إنتفى الأمران ) لا علم ولا علمي ( فيه ) أي : في ذلك الحكم ، والضمير عائد الى «ما» في قوله «ففيما» ( يحكم العقل ببرائة الذّمة عنه ) أي : عن ذلك الحكم ( وعدم جواز العقاب على تركه ) .

يعني : إنّ الحكم إن كان واقعياً ولم يصل إلينا بعلم أو علمي ، فالعقل يحكم بان المولى ، لايتمكن أن يعاقب على ذلك الحكم المجهول عندنا ( لا لأنّ الأصل المذكور يفيد ظنّاً بمقتضاها ) أي : بمقتضى البرائة ، وذلك لأنّا لا نعمل بالبرائة

ص: 350

حتّى يعارض بالظنّ الحاصل من أخبار الآحاد بخلافها ، بل لما ذكرنا من حكم العقل بعدم لزوم شيء علينا مالم يحصل العلمُ لنا ولا يكفي الظنُّ به .

ويؤكّده ما ورد من النهي عن إتّباع الظنّ .

وعلى هذا ففي مالم يحصل العلمُ به على أحد الوجهين وكان لنا مندوحةٌ عنه كغُسل الجمعة ، فالخطبُ

-------------------

فيما فقد فيه العلم والعلمي من باب انّ البرائة توجب الظن ( حتّى يعارض بالظّنّ الحاصل من أخبار الآحاد بخلافها ) أي : بخلاف البرائة بأن يقال : الظنّ بالبرائة ، يعارضه ظنّ حاصل من أخبار الآحاد ، والظن الحاصل من أخبار الآحاد مقدّم على البرائة .

( بل لِما ذكرنا من حكم العقل بعدم لزوم شيء علينا مالم يحصل العلم لنا ) سواء كان علماً بالحكم ، أو علماً بالخبر الذي أثبت الحكم ممّا يصطلح عليه بالعلمي ( ولايكفي الظّن به ) أي : بالتكليف .

( ويؤكّده ) أي : يؤكد ماذكرنا : من أنّ البرائة ليست حجيّتها من باب الظن ( ماورد من النهي عن إتباع الظّنّ ) فانّه شامل للظّنّ الحاصل بالحكم ، أو الظّنّ الحاصل بالبرائة ، كما إنّه شامل للظّن في وقت الانفتاح ، والظن في وقت الانسداد .

( وعلى هذا ) الّذي ذكرنا : من إنّه لانعتمد على الظّن في البرائة ( ففي مالم يحصل العلم به ) أي : بالحكم بأن لم نعلم بالحكم ولم يقم عليه دليل علمي ( على أحد الوجهين ) . المذكورين سابقاً حيث قال : لايثبت تكليف علينا إلاّ بالعلم به ، أو بظنّ يقوم على إعتباره دليل يفيد العلم ( وكان لنا مندوحة عنه ) ، لأن أمره ليس دائراً بين الواجب والحرام ( كغُسل الجمعة ، فالخَطبُ ) أي : الأمر

ص: 351

سهلٌ ، إذ نحكم بجواز تركه بمقتضى الأصل المذكور .

وأمّا فيما لم يكن مندوحةٌ عنه ، كالجهر بالبسملة والاخفات بها في الصلاة الاخفاتيّة ، التي قال بوجوب كلّ منهما قوم ولا يمكن لنا ترك التسمية ، فلا محيصَ لنا عن الاتيان بأحدهما ، فنحكم بالتخيير فيها ، لثبوت وجوب أصل التسمية وعدم ثبوت وجوب الجهر والاخفات ، فلا حرج لنا في شيء منهما ، وعلى هذا فلا يتمّ الدّليل المذكور ، لأنّا لا نعمل

-------------------

( سهلٌ إذ نحكم بجواز تركه بمقتضى الأصل المذكور ) وهو أصل البرائة .

( وأما فيما لم يكن مندوحة عنه ) لدورانه بين المحذورين ( كالجهر بالبسملة والاخفات بها في الصلاة الاخفاتيّة ، التي قال بوجوب كل منهما قوم ) ، حيث إنّ بعض الفقهاء قال بوجوب الجهر بالبسملة ، وبعض الفقهاء قال بوجوب الاخفات بها ( ولايمكن لنا ترك التسمية ) لوجوب البسملة بالاجماع ( فلا مَحيص لنا عن الاتيان بأحدهما ) أي : نأتي بالبسملة إما جهراً وإما إخفاتاً .

وعليه : ( فنحكم بالتخيير فيها ) أي : في البسملة ( لثبوت وجوب أصل التسمية وعدم ثبوت وجوب الجهر والاخفات ) معيّناً ، لأنه لايعلم هل التكليف : الجهر أو التكليف : الاخفات ، ويحتمل إحتمالاً أن يكون الانسان مخيّراً بينهما أيضاً ، حالها حال الصلوات المندوبات ( فلا حَرَج لنا في شيء منهما ) بأن يصلي جهراً ، أو أن يصلي إخفاتاً ، أو أن يصلّي تارة جهراً وأُخرى إخفاتاً .

( وعلى هذا : فلا يتمّ الدّليل المذكور ) أي : دليل الانسداد ( لأنّا لانعمل

ص: 352

بالظنّ أصلاً » . انتهى كلامه ، رفع مقامه .

وقد عرفت أنّ المحقّق القميّ قدس سره أجاب عنه بما لايسلم عن الفساد ، فالحقُّ ردُّه بالوجوه الثلاثة المتقدّمة .

ثمّ إنّ ما ذكره من التخلّص عن العمل بالظنّ بالرجوع إلى البراءة لايجري في جميع الفقه ، إذ قد يتردّد الأمرُ

-------------------

بالظّنّ أصلاً ) (1) . بل كلما علمنا بالحكم عملنا به ، وإذا لم نعلم بالحكم أجرينا أصالة البرائة ( إنتهى كلامه ، رفع مقامه ) .

( وقد عرفت : إنّ المحقّق القميّ قدس سره أجاب عنه بما لايَسلم عن الفساد ) وهو ماتقدّم من نقل المصنّف عنه بقوله : وذكر المحقّق القمي .

( فالحقُّ ردّه بالوجوه الثلاثة المتقدّمة ) أي : ردّ ما إستدّل به لبطلان المقدمة الثانية من مقدمات الانسداد ، والمقدمة هي : عدم جواز إهمال الوقائع الكثيرة المشتبهة ، فان المصنّف إرتضى هذه المقدّمة ، وردّ من قال بأنّ هذه المقدّمة باطلة ، والوجوه الثلاثة التي ذكرها المصنّف هي كالتالي :

الأول : الاجماع القطعيّ ... الخ .

الثاني : إنّ الرجوع في جميع تلك الوقائع ... الخ .

الثالث : إنه لو سلمنا إنّ الرجوع ... الخ .

وبهذه الأجوبة تبيّن صحة المقدمة الثانية .

( ثمّ انّ ماذكره ) المحقّق جمال الدّين . ( من التخلّص عن العمل بالظّنّ ) تخلصاً ( بالرّجوع الى البرائة ، لايجري في جميع الفقه ، إذ قد يتردّد الأمر )

ص: 353


1- - حاشية شرح مختصر الاصول : مخطوط .

بين كون المال لأحد شخصين ،كما إذا شك في صحّة بيع المعاطاة فتبايع بها إثنان ، فانّه لامجرى هنا للبراءة ، لحرمة تصرّف كلّ منهما على تقدير كون المبيع ملك صاحبه ، وكذا في الثمن ، ولا معنى للتخيير أيضاً ، لأنّ كلاً منهما يختار مصلحته ، وتخيير الحاكم هنا لا دليل عليه ، مع أنّ الكلام في حكم الواقعة ، لا في علاج الخصومة ،

-------------------

في مسألة فرعية ( بين كون المال لأحد شخصين ، كما إذا شك في صحة بيع المعاطاة ) وهل إنّها صحيحة أو لا ؟ ( فَتَبايَع بها ) أي بالمعاطاة ( إثنان ، فانّه لامجرى هنا للبرائة ) لأنه لامعنى لها ( لحرمة تصرّف كلّ منهما على تقدير كون المبيع ملك صاحبه ) فلا يعلم هل إنّ المبيع للبائع أو المشتري ؟ ( وكذا في الثمن ) لأنّه لايعلم هل الثمن إنتقل إلى البائع أو لم ينتقل اليه ؟ .

( ولا معنى للتخيير أيضاً ، لأنّ كلاً منهما يختار مصلحته ) فلا مكان للبرائة ولا مكان للتخيير .

( و ) إن قلت : إنّ الحاكم يتخيّر بين أنّ يعطي المثمن لهذا أو لذاك ، فاذا أعطى المثمن لهذا أعطى الثمن لغيره .

قلت : ( تخيير الحاكم هنا لا دليل عليه ) إذ لاربط للحاكم بملك هذا أو ملك ذاك ( مع إنّ الكلام في حكم الواقعة ، لا في علاج الخصومة ) فهنا أمران :

الأمر الأول : إن أيّاً من المثمن أو الثمن يكون لأيّ من البائع والمشتري ؟ .

الأمر الثاني : إنّه إذا وقعت خصومة بين هذين الاثنين ، كيف تحلّ الخصومة بينهما ؟ والكلام في الأمر الأول لا في الأمر الثاني .

ومثله مالو إدعى إثنان زوجية إمرأة خاصة ، فهنا كلامان :

الأول : إنّ الشارع يجعل الزوجة لأيهما ؟ هل لِمَن توافقه الزوجة ، أو مَنْ

ص: 354

اللّهم إلاّ أن يتمسّك في أمثاله بأصالة عدم ترتّب الأثر ، بناءا على أنّ أصالة العدم من الأدلّة الشرعيّة .

فلو أُبدِلَ في الايراد ، أصالة البراءة بأصالة العدم كان أشمل .

ويمكن أن يكون هذا الأصلُ - يعني أصل الفساد وعدم التملّك وأمثاله - داخلاً في المستثنى ، في قوله : « لايثبت تكليفٌ علينا إلاّ بالعلم أو بالظنّ يقوم على إعتباره دليل يفيد العلم » ،

------------------

تخالفه الزوجة ، فيما لو فُرِضَ إنّ الزوجة قالت : إنّي زوجةُ زيد لا عمر ومثلاً ؟ .

الثاني : أنه لو لم يعلم الحكم الشرعي في المسألة ، فالعلاج لدفع الخصومة يكون بماذا ؟ هل بالقرعة ، أو إجبار الحاكم لهما بالطلاق ، أو طلاق الحاكم لها ، أو إبطال الحاكم للنكاح ، إلى غير ذلك من المحتملات ؟ .

( اللّهم إلاّ ) أن يقال : بجريان البرائة فيما ذكر أيضاً من مسألة الاختلاف في المعاطاة وذلك ب- ( أن يتمسك في أمثاله بأصالة عدم ترتّب الأثر ) فلا أثر بالنسبة إلى هذه المعاملة ، وبذلك يرجع كل شيء إلى صاحبه الأصلي ( بناءاً على إنّ أصالة العدم من الأدلّة الشرعيّة ) لكن المحقّق جمال الدّين سمّاه بالبرائة .

وعليه : ( فلو أُبدل ) جمال الدّين ( في الايراد ، أصالة البرائة بأصالة العدم ، كان أشمل ) لأنه يشمل البرائة وأصل العدم كليهما .

هذا ( ويمكن أن يكون هذا الأصل يعني : أصل الفساد وعدم التملك ) في مورد الاختلاف في المعطاة ( وأمثاله ) كما إذا إختلف في الرّهن ، أو الاجارة ، أو المزارعة ، أو المساقاة ، أو المضاربة ، أو ما أشبه ، بأن أُجريت هذه المعاملات بالمعاطاة ، فإختلفوا في أنها هل إنعقدت أم لا ؟ ( داخلاً في المستثنى في قوله : لايثبت تكليف علينا إلاّ بالعلم ، أو بالظّن يقوم على إعتباره دليل يفيد العلم ) .

ص: 355

بناءا على أنّ أصل العدم ، من الظنون الخاصّة التي قام على إعتبارها الاجماعُ والسيرةُ ، إلاّ أن يمنع قيامُهما على_'feإعتباره عند إشتباه الحكم الشرعيّ مع وجود الظنّ على خلافه .

وإعتبارُه من باب الاستصحاب مع إبتنائه على حجّية الاستصحاب في الحكم الشرعيّ رجوعٌ إلى الظنّ العقليّ أو الظنّ الحاصل من أخبار الآحاد الدالّة على الاستصحاب .

-------------------

وإنّما كان داخلاً في المستثنى ( بناءاً على انّ أصل العدم ، من الظنون الخاصّة التي قام على إعتبارها الاجماع والسيرة ) فالمحقّق الخوانساري يقول : لايثبت علينا تكليف إلاّ بالعلم أو بالظّن ، وأصل العدم من الظّنون ، فهو يثبت التكليف .

( إلاّ أن يمنع قيامهما ) أي : قيام الاجماع والسيرة ( على إعتباره ) أي : إعتبار أصل العدم ( عند إشتباه الحكم الشرعي مع وجود الظّنّ على خلافه ) فلا إجماع ولاسيرة على إعتبار أصل العدم ، فيما إذا كان هناك ظنّ على خلاف هذا الأصل العدمي ، وإنّما الاجماع والسيّرة فيما إذا لم يكن ظنّ .

( و ) إن قلت : ( إعتباره ) أي : إعتبار أصل العدم ( من باب الاستصحاب ) لا من باب الاجماع أو السيرة .

قلت أولاً : ( مع إبتنائه على حجّية الاستصحاب في الحكم الشرعي ) وقد أشكلنا نحن في باب الاستصحاب على حجيّة الاستصحاب في الحكم الشرعي ، وإنّما نقول : بحجّية الاستصحاب في الموضوعات فقط .

ثانياً : إنّه ( رجوع الى الظّن العقلي ، أو الظّن الحاصل من أخبار الآحاد الدّالة على الاستصحاب ) ولم يثبت إعتبار أيّ الظّنين : لا الظّن العقلي ولا الظّن المستند

ص: 356

اللّهم إلاّ أن يدّعي تواترها ولو إجمالاً ، بمعنى حصول العلم بصدور بعضها إجمالاً ، فيخرج عن خبر الآحاد ، ولايخلو عن تأمّل .

-------------------

الى الأخبار ، لأنّ الكلام الآن في مقدمات دليل الانسداد ، فلايمكن أن يبنى شيء على دليل الانسداد ، والحال إنّ مقدماته لم تتم بعد .

( اللّهم إلاّ أن ) يقال : بأنّه لا بأس باجراء إستصحاب العدم ، والاستصحاب ليس مبنياً على الظّن العقلي أو الظّن الحاصل من الأخبار لأنّه ( يدّعي تواترها ) أي : تواتر الأخبار الدّالة على الاستصحاب ( ولو ) تواتراً ( إجمالاً بمعنى : حصول العلم بصدور بعضها إجمالاً ، فيخرج ) مادلّ على إستصحاب العدم ( عن خبر الآحاد ) ويكون من المقطوعات .

إذن : فتمسكنا بأصل العدم لا لأنه ظنّي ، بل لأنّه علم من جهة تواتر الأخبار ولو تواتراً إجمالياً : وقد أشرنا إلى معنى التواتر الاجمالي : بأنّه عبارة عن وجود جملة من الأخبار نعلم إنّ بعضها صادرٌ قطعاً ، وحينئذ يكون أخص كل تلك الأخبار مقطوع الصدور .

هذا ( و ) لكن ( لايخلو ) تواتر أخبار الاستصحاب ( عن تأمل ) .

والحاصل : إنّ في موارد المشكوكات لانتمكن من إجراء أصالة العدم من باب الاستصحاب ، إذ الدلّيل على الاستصحاب إمّا الاجماع ، أو العقل ، أو الأخبار .

والأوّل : مفقود لوجود الخلاف في الاستصحاب في الأحكام .

والثاني : مبني على إعتبار مطلق الظّن ، وهو غير ثابت بعد .

والثالث : مبني على إعتبارها ، لكون أخبار الاستصحاب من الآحاد ، ودعوى تواترها - ولو إجمالاً - لايخلو عن تأمل .

وعليه : فاستصحاب العدم لايمكن أن يكون مستنداً في موارد الشك

ص: 357

وكيف كان ففي الأجوبة المتقدّمة ولا أقل من الوجه الأخير غنىً وكفايةٌ إن شاء اللّه تعالى .

المقدّمة الثالثة :

في بيان بطلان وجوب تحصيل الامتثال بالطُرقُ المقرّرة للجاهل من الاحتياط ، أو الرجوع في كلّ مسألة إلى مايقتضيه الأصل في تلك المسألة أو الرّجوع الى فتوى العالم بالمسألة وتقليده فيها

-------------------

في الوجوب أو في الحرمة .

( وكيف كان : ففي الأجوبة المتقدّمة ) الّتي ذكرناها : من إنّه لا رجوع إلى البرائة فيما ظنّ بخلاف البرائة ، بل ( ولا أقلّ من الوجه الأخير ) وهو : ماذكره المصنّف بقوله : الثالث : إنّه لو سلّمنا إنّ الرجوع إلى البرائة لايوجب شيئاً ممّا ذكر من المحذور البديهي وهو : الخروج عن الدّين ، فانّه لا دليل على الرجوع الى البرائة من جهة العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرمات ، ففي تلك الأجوبة ( غنى وكفاية إن شاء اللّه تعالى ) .

وعليه : فالمقدمة الثانية من مقدمات دليل الانسداد تامة .

( المقدمة الثالثة ) من مقدمات الانسداد : ( في بيان بطلان وجوب تحصيل الامتثال بالطرق المقرّرة للجاهل ) وتلك الطرق بيّنَها المصنّف بقوله : ( من الاحتياط ) في جميع أطراف الاحتمال .

( أو الرّجوع في كلّ مسألة الى مايقتضيه الأصل في تلك المسألة ) من الاستصحاب ، أو البرائة ، أو التخيير ، أو الاحتياط .

( أو الرّجوع الى فتوى العالم بالمسألة وتقليده فيها ) وذلك بأن يقلِّد المجتهد الانسدادي المجتهد الانفتاحي .

ص: 358

فنقول : إنّ كلاً من هذه الأُمور الثلاثة وإن كان طريقاً شرعيّاً في الجملة لامتثال الحكم المجهول ، إلاّ أنّ منها ما لايجب في المقام ومنها ما لايجري .

أمّا الاحتياط ، فهو وإن كان مقتضى الأصل والقاعدة العقليّة والنقليّة عند ثبوت العلم الاجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات ،

-------------------

( فنقول : إنّ كُلاً من هذه الأمور الثلاثة : وإن كان طريقاً شرعيّاً - في الجملة - لامتثال الحكم المجهول ) لأنّ بعض المسائل يحتاط فيها ، وبعض المسائل يرجع فيها الى ما يقتضيه الأصل ، وبعض المسائل يرجع فيها الى فتوى العالم فيما إذا كان السائل جاهلاً .

( إلاّ إنّ منها ) أي : من هذه الطرق الثلاثة ( ما لايجب في المقام ) كالاحتياط - على ما يأتي - ( ومنها ما لايجري ) في كل مسألة مسألة كالرجوع الى مايقتضيه الأصل ، والرجوع إلى فتوى العالم .

ثمّ بيّن تفصيل ذلك بقوله : ( أمّا الاحتياط ) بأن يحتاط المجتهد بإتيان جميع محتملات المسألة من أول الفقه الى آخر الفقه ( فهو وإن كان مقتضى الأصل ) أي : أصل الاشتغال ( و ) مقتضى ( القاعدة العقليّة والنقليّة عند ثبوت العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات ) فانّ العقل والنقل متّفقان على لزوم اطاعة المولى .

فإذا علم العبد الحكم بعينه أتى به ، وإن تردد الحكم بين متعدد أتى بكل ذلك في الواجب ، وترك كل ذلك في المحرّم ، وأتى بالواجب وترك المحرم فيما إذا دار الأمر بين حكم وجوبي وحكم تحريمي ، كما إذا علم بأنّ المولى قال شيئاً ، لكنّه لم يعلم هل إنّه قال بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، أو قال بحرمة شرب التتن ؟ .

ص: 359

إلاّ أنّه في المقام - أعني انسداد باب العلم في معظم المسائل الفقهية - غيرُ واجب الاشتغال لوجهين :

أحدهما : الاجماع القطعيّ على عدم وجوبه في المقام ، لا بمعنى أنّ أحداً من العلماء لم يلتزم بالإحتياط في كلّ الفقه أو جلّه ، حتى يرد عليه : أنّ عدم التزامهم به إنّما هو لوجود المدارك المعتبرة عندهم للأحكام ، فلا يقاس عليهم من لا يجد مدركاً في المسألة ، بل بالمعنى الذي تقدّم نظيره في الاجماع على عدم الرجوع الى البراءة .

-------------------

( إلاّ انّه ) أي : الاحتياط ( في المقام أعني : إنسداد باب العلم في معظم المسائل الفقهية غير واجب الاشتغال ) فانّه لايجب الاحتياط في المسائل إذا كان الانسداد محققاً ، وإنّما قلنا : إنّه غير واجب ( لوجهين : ) على النحو التالي :

( أحدهما : الاجماع القطعي على عدم وجوبه في المقام ) فلا يجب الاحتياط في كافة الفقه بالنسبة الى المسائل غير الضرورية والبديهية والمجمع عليها .

وأمّا الاجماع هذا فهو ( لابمعنى : انّ احداً من العلماء لم يتلزم بالإحتياط في كل الفقه ، أو جُلّه ) : إنّه لم يحتط في كل الفقه ، ولا في أكثر مسائل الفقه ( حتى يرد عليه : انّ عدم التزامهم به ) أي : بالإحتياط ( إنّما هو لوجود المدارك المعتبرة عندهم للأحكام ) فيكون العدم من باب السالبة بانتفاء الموضوع .

إذن : ( فلا يقاس عليهم ) أي : على اُولئك الفقهاء ( من لا يجد مدركاً في المسألة ) أي : إنهم لم يحتاطوا لأنه كانت الأحكام لديهم واضحة ، أمّا من لم تكن الأحكام عنده واضحة ، فلا إجماع على عدم وجوب الاحتياط عليه .

( بل ) الاجماع ( بالمعنى الذي تقدّم نظيره في الاجماع على عدم الرّجوع الى البرائة ) فانّ العلماء لا يرجعون الى البرائة في كل الأحكام ، أو جُلّها ، اذا لم تكن

ص: 360

وحاصله : دعوى الاجماع القطعّي على أنّ المرجعّ في الشريعة - على تقدير إنسداد باب العلم في معظم الأحكام ، وعدم ثبوت حجّية أخبار الآحاد رأساً أو باستثناء قليل هو في جنب الباقي كالمعدوم . - ليس هو الاحتياط في الدين والالتزام بفعل كلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوماً ، وترك كلّ ما يحتمل الحرمة كذلك .

وصدق هذه الدعوى مما يجده المنصفُ من نفسه بعد ملاحظة قلّة المعلومات ،

-------------------

واضحة عندهم ، لأنّه يستلزم الخروج عن الدين .

( وحاصله : ) أي : حاصل هذا المعنى :( دعوى الاجماع القطعيّ على أن المرجع في الشريعة على تقدير إنسداد باب العلم في معظم الأحكام ، وعدم ثبوت حجّية أخبار الآحاد رأساً ) بأن لا يكون خبر الواحد حجّة أصلاً ( أو بإستنثاء قليل هو في جنب الباقي كالمعدوم ) أي : إنّ بعض الأخبار حجّة ، لكنّ هذا البعض ليس بقدر يُعتدّ به .

فالمرجع حينئذٍ( ليس هو الاحتياط في الدّين والالتزام بفعل كلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوماً ) هذا في الوجوب ( و ) لا ( ترك كلّ ما يحتمل الحرمة كذلك ) أي : ولو موهوماً ، وهذا في التحريم .

والحاصل : إنّ الاجماع في المقام تقديري وليس بإجماع تحقيقي ، والاجماع التقديري حجّة كالاجماع التحقيقي ، لأنّه اذا فرض تحقّق موضوعه يكون الاجماع عليه .

( وصدق في هذه الدعوى ) أي : الاجماع القطعي التقديري ( ممّا يجده المنصف من نفسه بعد ملاحظة قلّة المعلومات ) في قبال كثرة المشكوكات

ص: 361

مضافاً الى ما يستفاد من أكثر كلمات العلماء المتقدّمة في بطلان الرّجوع الى البراءة وعدم التكليف في المجهولات ، فانّها واضحةُ الدلالة في أنّ بطلان الاحتياط كالبراءة مفروغٌ عنه ، فراجع .

الثاني : لزومُ العُسر الشديد والحَرج الأكيد في إلتزامه ،

-------------------

من أول الفقه الى آخر الفقه .

وبذلك ظهر : إنّه لا مجال للاشكال على هذا الاجماع : بعدم وجود عنوان لهذه المسألة في كتب القدماء ، ولا إعتداد بدعوى الاجماع في المسائل المستحدثة ، فانّ قول المعصوم عليه السلام يستكشف من هذا الاجماع الحدسي ، كما يستكشف من الاجماع الحسّي ، وهذا الاجماع الحدسي التقديري ( مضافاً الى ما يستفاد من أكثر كلمات العلماء المتقدّمة في بطلان الرّجوع الى البرائة وعدم التكليف في المجهولات ) و« عدم التكليف عطف على «البرائة» .

( فانّها ) أي : كلمات العلماء( واضحةُ الدلاّلة في أنّ بطلان الاحتياط كالبرائة مفروغٌ عنه ، فراجع ) كلماتهم ، فانّه لو لم يكن وجوب الاحتياط أمراً مفروغاً عن بطلانه عندهم ، لم ينحصر المناط بعد طرح أخبار الآحاد في الرّجوع الى البرائة حتى يلزم منه الرجوع من الدّين ، بل كان بالامكان أن يقال بالإحتياط ، كما ويستفاد من عدم تعرضهم لوجوب الاحتياط بعد طرح الأخبار - وتعرضهم لذكرإنّ الرجوع الى البرائة مستلزم للمحذور - إنّ وجوبه كان امراً مفروغاً عن بطلانه والاّ لتعرضوا له ، ولم يلزم محذور الرّجوع الى البرائة .

( الثاني : لزوم العُسر الشديد والحَرج الأكيد ) وقد تقدّم الفرق بين العُسر والحَرج إذا إجتمعا معاً ، بخلاف ما إذا ذُكر أحدهما فانّه يشمل الآخر ( في التزامه )

ص: 362

لكثرة ما يحتمل موهوماً وجوبهُ ، خصوصاً في أبواب الطّهارة والصّلاة ، فمراعاتهُ ممايوجب الحرجَ ، والمثال لا يحتاج اليه ، فلو بنى العالمُ الخبيرُ بموارد الاحتياط - فيما لم ينعقد عليه إجماع قطعيّ أو خبر متواتر - على الالتزام بالاحتياط في جميع اُموره يوماً وليلة ، لوجَدَ صدقَ ما إدّعيناه ، هذا كلّه بالنسبة الى نفس العمل بالإحتياط .

وامّا تعليمُ المجتهد مواردَ الاحتياط لمقلّده ، وتعلّم المقلّد مواردَ الاحتياط الشخصيّة وعلاج تعارض الاحتياطات وترجيح الاحتياط الناشيء عن الاحتمال القويّ على الاحتياط

-------------------

أي : في التزام الاحتياط ( لكثرة ما يحتمل موهوماً وجوبه ، خصوصاً في أبواب الطّهارة والصّلاة ) بل وغيرهما أيضاً ، كالحج ونحوه .

( فمراعاتهُ ) أي : الاحتياط ( مما يوجب الحرَج ، والمثال لا يحتاج إليه ) أي : لا حاجة الى ذكر مثال لبيان إنّ الاحتياط يوجب العُسر والحَرج ( فلو بنى العالم الخبير بموارد الاحتياط فيما لم ينعقد عليه إجماع قطعيّ ، أو خبر متواتر ) أو ظنّ معتبر ( على الالتزام بالاحتياط في جميع اُموره ) « على » متعلق بقوله « بنى العالم الخبير » ، بأن يحتاط ( يوماً وليلة ، لوجَد صدق ما إدّعيناه ) من العُسر والحَرج .

( هذا كلّه ) الذي ذكرناه : من العُسر والحَرج إنّما هو( بالنسبة الى نفس العمل بالإحتياط ) بأنّ أراد المكلّف أن يحتاط في اُموره بالإتيان بالمشكوكات والموهومات .

( وأمّا تعليم المجتهد موارد الاحتياط لمقلّده ، وتعلّم المقلّد موارد الاحتياط الشخصيّة ) ، ولو من الذين يعرفون مسائل المجتهدين ( وعلاج تعارض الاحتياطات ، وترجيح الاحتياط الناشيء عن الاحتمال القوي على الاحتياط

ص: 363

الناشيء عن الاحتمال الضعيف ، فهو امرٌ مستغرق لأوقات المجتهد والمقلّد ، فيقع الناس من جهة تعليم هذه الموارد وتعلّمها في حرج يُخلُّ بنظام معاشهم ومعادهم .

توضيحُ ذلك : إنّ الاحتياط في مسألة التطهير بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر تركُ التطهير ،

-------------------

الناشيء عن الاحتمال الضعيف ) فان الترجّيح قد يكون بترجيح الاحتمال القويّ على الاحتمال الضعيف ، وقد يكون بأهمية المحتمل وعدمه ، فاذا قامت الشهرة على الجهر بالبسملة في الصلاة الاخفاتية - مثلاً - كان إحتمال الجهر أقوى من الاخفات ، واذا كان الاحتياط من جهة أهمية المحتمل ، كما اذا دار الأمر بين كون هِند ليست زوجة زيد ، بل خليّة ، وبين كونها زوجته ، فان كونها ليست زوجته أقرب الى الاحتياط لأنّها مسألة فرج .

( فهو ) خبر لقوله « وأما تعليم المجتهد »الخ ( أمر مستغرق لأوقات المجتهد والمقلّد ، فيقع النّاس من جهة تعليم هذه الموارد وتعلّمها في حرج يَخِلُّ بنظام معاشهم ومعادهم ) .

أمّا إختلال المعاش : فلأنهم يتركون أمر المعاش ، لاستغراق وقتهم في التعليم والتعلم .

وأمّا إختلال المَعاد ، فلأنهم يشتغلون بالتعلم عن إقامة الصلاة والحجّ ، وعن سائر المستحبات : كالزّيارات والأدعية والصلوات المندوبة ونحوها .

( توضيح ذلك ) بمثال :( إنّ الاحتياط في مسألة التطهير بالماء المسَتعملَ في رفع الحَدث الأكبر : ترك التطهير ) لأنّ جماعة من الفقهاء قالوا : بانّ الماء المستَعمل في رفع الحدث الأكبر، كالجنّابة والحَيض، وما أشبه، لايصح التطهير به،

ص: 364

لكن قد يعارضه في الموارد الشخصيّة احتياطات اُخر ، بعضها أقوى منه ، وبعضها أضعفُ ، وبعضها مساوٍ ، فانّه قد يُوجَدُ ماءٌ آخر للطهارة ، وقد لا يوجد معه الاّ التُراب ، وقد لا يوجد من مطلق الطهور غيرُه .

فانّ الاحتياط في الأوّل هو الطهارة من ماء آخر لو لم يزاحمه الاحتياط من جهة اُخرى ، كما إذا كان قد أصابه ما لم ينعقد الاجماع على طهارته ؛ وفي الثاني هو

-------------------

وإن كان - لعدم وجود النجاسة على البدن - طاهراً في نفسه .

( لكن قد يعارضه ) أي : الاحتياط في الترك ( في الموارد الشخصية احتياطات اُخر ، بعضها أقوى منه ، وبعضها أضعف ، وبعضها مساوٍ ) فالأقسام ثلاثة : ( فانّه قد يوجد ماء آخر للطهارة ) يتمكن الانسان من التطهير بذلك الماء الآخر وترك الماء المستَعمَل .

( وقد لا يوجد معه الاّ التراب ) بالنسبة الى من يريد الغُسل أو الوضوء .

( وقد لايوجد من مطلق الطهور غيره ) فلا ماء ولا تراب الاّ هذا الماء المستَعمل .

( فانَّ الاحتياط في الأوّل ) وهو ما إذا وجد ماء آخر غير مستعمل ( هو الطهارة من ماء آخر لو لم يزاحمه ) أي : لم يزاحم الاحتياط باستِعمال الماء الآخر ( الاحتياط من جهة اُخرى ) والجهة الاُخرى قدّ مثّلَ لَهُ بقوله : ( كما اذا كان قد أصابه ما لم ينعقد الاجماع على طهارته ) كعرق الجنب من الحرام ، فانّه يلزم عليه أن يزيل عرق الجنب من الحرام بذلك الماء الطاهر الآخر ، وهو مزاحم للإحتياط باستِعمال هذا الماء غير المستعمل ،في غسله أو وضوئه .

( وفي الثاني : ) وهو صورة وجوب التراب مع هذا الماء المستَعمل ( هو

ص: 365

الجمع بين الطهارة المائية والترابية إن لم يزاحمه ضيق الوقت ؛ وفي الثالث الطهارة من ذلك المستَعمَل والصلاة إن لم يزاحمه امر آخر واجب أو محتمل الوجوب .

فكيف يسوغ للمجتهد أن يُلقي إلى مقلّده إنّ الاحتياط في ترك الطهارة بالماء المستَعمل مع كون الاحتياط في كثير من الموارد إستعماله فقط أو الجمع بينه وبين غيره .

-------------------

الجمع بين الطهارة المائية والتُرابية إنّ لم يزاحمه ضيق الوقت ) وإلاّ فيدور الأمر بين إستعمال احدهما ، وبين إستعمال كليهما ، فاذا إستعمل أحدهما أَدرك الوقت ، أمّا إذا إستعمل كليهما فاتَهُ الوقت كُلاً ، أو بعض الوقت .

( وفي الثالث : ) وهو ما لايوجد ماء آخر ولا تراب ، الاحتياط ب- ( الطهارة من ذلك المستَعمل ، والصلاة ) بتلك الطهارة ( إن لم يزاحمه أمر آخر واجب أو محتمل الوجوب ) كما إذا كان هناك نفس محترمة أو محتملة الاحترام ، مشرفةٌ على التلف من شدة العطش ، ولم يكن ماء غير هذا المستَعمَل ، فدار أمرُ الماء المستَعمل بين إعطائه لذي النفس المحترمة أو المحتملة الاحترام ، وبين إستعماله في الصّلاة ، فانّ إستعماله في الصلاة إحتياطاً ، يعارض ذلك الواجب أو المحتمل الوجوب .

إذن : ( فكيف يسوغ للمجتهد أن يُلقي الى مقلّده : إنّ الاحتياط في ترك الطهارة بالماء المستَعمل ) إلقاءاً مطلقاً بدون هذه التقييدات الكثيرة ( مع كون الاحتياط في كثير من الموارد إستعماله ) أي : استِعماله هذا الماء ( فقط ، أو الجمَع بينه وبين غيره ؟ ) كالتُراب - مثلاً - .

كما إنّ اللازم أن يبيّن المجتهد للمقلِّد : إنّه اذا لم يعلم إنّ الماء إستَعمِلَ

ص: 366

وبالجملة ، فتعليم موارد الاحتياط الشخصيّة وتعلّمها ، فضلاً عن العمل بها ، أمرٌ يكاد يلحقُ بالمتعذّر ، يظهر ذلك بالتأمل في الوقائع الاتفاقيّة .

فان قلت : لا يجب على المقلَّد متابعةُ هذا الشخص الذي أدّى نظره إلى إنسداد باب العلم في مُعظم المسائل ووجوب الاحتياط ، بل يقلّد غيره .

-------------------

في الحدث الاكبر أم لا ، مع إستصحاب الحدث الأكبر أو عدم استصحابه ، أو إستعمل هذا الماء ، احد نفرين محتمل الحدث الأكبر ، أو كان هذا الماء هو ماء آخر إستعَملَ في الحدث الأكبر ، والى غير ذلك من الصور التي يختلف الاحتياط فيها .

( وبالجملة : فتعليم موارد الاحتياط الشخصيّة ) من المجتهد لمقلده( وتعلّمها - فضلاً عن العمل بها - أمرٌ يكاد يحلق بالمتعذِّر ) وإنّ لم يكن متعذّراً ، كان فيه عُسر شديد وحَرج أكيد ( يظهر ذلك بالتأمل في الوقائع الاتفاقيّة ) التي تتفق لافراد المكلفين ، ومثل حال الطهارة حال خصوصيات الصلاة ، وخصوصيات الصيام ، وغير ذلك .

( فان قلت : ) لاحرج للمقلَّد ولا للمجتهد ، لانّ الحَرج إنّما يكون اذا كان الواجب على المقلّدين متابعة مثل هذا الشخص الانسدادي ، والحال أنّ هناك مجتهدين آخرين ليس نظرهم الانسداد ، فالمجتهد الانفتاحي والمقلّد للمجتهد الانفتاحي في مندوحة عن هذه الاحتياطات المتعسّرة أو المتعذّرة ، إذ ( لا يجب على المقلّد متابعة هذا الشخص ) المجتهد ( الذي ادّى نظره الى إنسداد باب العلم في مُعظم المسائل ، و ) تبعاً لنظره الانسدادي رأى ( وجوب الاحتياط ) في كل المسائل ( بل يقلّد ) هذا المقلد ( غيره ) أي : غير المجتهد الانسدادي .

ص: 367

قلت : مع أنّ لنا أن نفرض إنحصار المجتهد في هذاالشخص : إنّ كلاَمنا في حكم اللّه سبحانه بحسب اعتقاد هذا المجتهد الذي إعتقد إنسداد باب العلم ، وعدم الدّليل على ظنّ خاصّ يكتفي به في تحصيل غالب الأحكام ، وإنّ من يدعي وجود الدّليل على ذلك فانّما نشأ اعتقاده ممّا لا ينبغي الرّكون اليه ، ويكون الرّكون إليه جزماً في غير محله .

فالكلام في أنّ حكم اللّه تعالى على تقدير انسداد باب العلم ، وعدم نصب الطريق الخاصّ لا يمكن أن يكون هو الاحتياط

-------------------

( قلت : مع إنّ لنا أن نفرض إنحصار المجتهد في هذا الشخص ) الانسدادي حيث لا مناص من تعليمه المقلِّدين ، ولا مناص للمقلّدين من تعلمهم منه ، فماذا يقول القائل بالإنسداد في هذه الصورة ؟ .

هذا أولاً ، وثانياً : ( إنّ كلامنا في حكم اللّه سبحانه بحسب إعتقاد هذا المجتهد ، الذي إعتقد إنسداد باب العلم ، و) إعتقد ( عدم الدليل على ظنّ خاص ) كالخبر الواحد ( يكتفي به ) أي : بذلك الظن الخاص ( في تحصيل غالب الأحكام ) فانّ هذا المجتهد كيف يرى انّ اللّه تعالى شرَّع لهُ الاحتياط ، بما يقع هو ومقلّدوه في اشد العُسر والحَرج ، وأحياناً في التعذّر ؟ .

هذا ( وإنّ من يدّعي وجود الدّليل على ذلك : ) أي : على لزوم الاحتياط حال الانسداد ( فإنّما نشأ إعتقاده ممّا لا ينبغي الرّكون إليه ) اذ لا ينبغي الرّكون الى وجوب الاحتياط الذي يلقي المجتهد والمقلّد في اشد أنحاء العُسر والحَرج ، بل ( ويكون الرّكون اليه جَزماً في غير محله ) فانّ مثل هذا الاعتقاد خطأً قطعاً .

والحاصل : ( فالكلام في أنّ حكم اللّه تعالى على تقدير إنسداد باب العلم ، وعدم نصب الطريق الخاص ، لا يمكن أن يكون هو الاحتياط ) التام في كُلِّ أبواب

ص: 368

بالنسبة الى العباد ، للزوم الحرج البالغ حدّ إختلال النظام .

ولا يخفى : أنّه لا وجه لدفع هذا الكلام بأنّ العوامّ يقلّدون مجتهداً غير هذا ، قائلاً بعدم إنسداد باب العلم أو بنصب الطرق الظنّيّة الوافية بإغلب الأحكام ، فلا يلزم عليهم حرجٌ وضيقٌ .

ثمّ إنّ هذا كلّه ، مع كون المسألة في نفسها ممّا يمكنُ فيه الاحتياط ولو بتكرار العمل في العبادات .

-------------------

الفقه ( بالنسبة الى العباد ) كافة ( للزوم الحَرج البالغ حدّ إختلال النظام ) ومن الواضح : إنّ إختلال النظام ممّا لا يريده اللّه سبحانه وتعالى ، فلا يجعل حكماً ينتهي اليه ، فانّ إختلال النظام من أشد أقسام العُسر والحَرج والضَرر على الناس كافة ، ولذا فهي مرفوعة نصّاً وإجماعاً .

( ولا يخفى : إنّه لا وجه لدفع هذا الكلام ) الذي ذكرناه ، من لزوم الاحتياط ( : بأن العوام يقلَّدون مجتهداً غير هذا ، قائلاً ) ذلك المجتهد ( بعدم إنسداد باب العلم ، أو ) قائلاً ( بنصب الطرق الظنيّة الوافية بأغلب الأحكام ، فلا يلزم عليهم حرجٌ وضيق ) وإنّماقلنا : لا يخفى لما ذكرناه من الجوابين السابقين بقولنا :« قلت : مع أنّ لنا » الخ ، وقولنا :« انّ كلامنا في حكم اللّه سبحانه حسب إعتقاد هذا المجتهد »الخ.

( ثمّ إنّ هذا كلّه ) ممّا ذكرناه : من لزوم العسر والحَرج في الاحتياط ، إنّما هو ( مع كون المسألة في نفسها ممّا يمكن فيه الاحتياط ولو بتكرار العمل في العبادات ) أو في المعاملات ، كما اذا فُرضَ إنّ أحد المجتهدين يقول : بتقديم الايجاب على القبول، والآخر يقول: بتقديم القَبول على الايجاب في عقد الزوجين، بانّ يقدّم الزوج نفسه للزوجة ، أو تُقدّم الزّوجة نفسها للزّوج ، أو ما اشبه ذلك .

ص: 369

أمّا مع عدم إمكان الاحتياط - كما لو دار المال بين صغيرين يحتاج كلّ واحد منهما الى صرفه عليه في الحال ، وكما في المرافعات - فلا مناصَ عن العمل بالظنّ .

وقد يورد على إبطال الاحتياط بلزوم الحرج بوجوه لا بأس بالاشارة إلى بعضها :

منها : النقضُ بما لو أدّى إجتهاد المجتهد ، وعمله بالظنّ الى فتوى يوجبُ الحَرجَ ،

-------------------

( أمّا مع عدم إمكان الاحتياط ، كما لو دار المال ) الواحد ( بين صغيرين يحتاج كلّ واحد منها الى صرفه عليه في الحال ) كما اذاكان هناك درهم لا نعلم إنّه لهذا الصغير ، أو لذاك الصغير ، وهناك قَيّمان لهما ، والصغير يحتاج الى درهم من الطعام ، حيث إنّه يموت إن لم يأكل مقدار درهم من الطعام ، فانّه لا يمكن تصور الاحتياط هاهنا .

( وكما في المرافعات ) بان كانت هناك زوجة لهذا أو لذاك ، أو زوج لهذه أو لتلك ، وهما اُختان ، أو ما اشبه ذلك ( فلا مناص عن العمل بالظنّ ) إذا لم يكن هنالك قطع ، أو ما يقوم مقام القطع ، من العلمي كالخبر الواحد المعتبر .

( وقد يورد على إبطال الاحتياط ب- ) سبب ( لزوم الحرج ) أي : ما ذكرناه : من أنّ الاحتياط يوُجب الحَرج ، وما يستلزم الحَرج مرفوعٌ نصاً واجماعاً فالاحتياط باطل عند الانسداد ، فانّه يورد على هذا ( بوجوه لا بأس بالاشارة الى بعضها ) على النحو التالي :

( منها : النقض بما لو أدّى إحتهاد المجتهد ، و ) أدّى ( عمله بالظنّ ) أي : لزم من عمله بالظنّ ( الى فتوى يوجب الحَرج ) فماذا يعمل هو في هذه المسألة

ص: 370

كوجوبَ الترتيب بين الحاضِرة والفائتة لمن عليه فوائت كثيرة ، أو وجوب الغُسل على مريض أجنبَ متعمداً وإن أصابه من المرض ما أصابه ، كما هو قول بعض أصحابنا .

وكذا لو فرضنا إداء ظنّ المجتهد الى وجوب اُمور كثيرة يحصل العُسرُ بمراعاتها .

وبالجملة : فلزوم الحَرج من العمل بالقواعد ، لا يوجب الاعراضَ عنها .

-------------------

الحرجية ؟ وماذا يعمل مقلِّده بالنسبة الى هذه المسألة ؟ فما يُقال في هذا النَقض ، يُقال في الأصل ، وهو : كون الاحتياط حَرجاً عند الانسداد .

مثلاً ( كوجوب الترتيب بين الحاضِرةَ والفائِتة لمن عليه فوائت كثيرة ) فانّ بعض الفقهاء قالوا : بانّ الحاضِرة توخّر عن الفائتة ، فإذا كان على الشخص فوائت كثيرة تستغرق كل الوقت من أوله الى آخره ، قالوا : يلزم عليه أن يصلّي طول اللّيل الى الصباح ، وأن يصلي من أول الظهر الى المغرب .

( أو وجوب الغُسل على مريض أجنبَ مُتعمّداً وإن أصابه من المرض ما أصابه ، كما هو قول بعض أصحابنا ) تبعاً لبعض الرّوايات الظاهرة في ذلك ، ومن الواضح : انّ الغُسل لمثل هذا المريض حَرج شديد وعُسر أكيد .

( وكما لو فرضنا : إداء ظنّ المجتهد الى وجوب اُمور كثيرة يحصل العُسر بمراعاتها ) كما اذا نذر أن يذبح بيده شاة عند مرقد أحد المعصومين عليهم السلام ، ثم نسى إنّه نذر للمعصوم الذي فيالمدينة ، أو النجف ، او كربلاء ، أو الكاظمية ، أو خراسان ، أو سامراء ، فانّه مع ما فيه من الحرج قد أوجب المجتهد عليه أن يذبح الذبائح في كلّ تلك الاماكن مع سفره اليها بنفسه .

( وبالجملة : فلزوم الحَرجَ من العمل بالقواعد ، لا يوجب الاعراض عنها ) أي :

ص: 371

وفيما نحن فيه إذا اقتضت القاعدةُ رعاية الاحتياط لم يُرفع اليدُ عنها ، للزوم العسر .

والجواب : أنّ ما ذكره في غاية الفساد ، لانّ مرجعهُ إنْ كانَ الى منع نهوض أدّلّة نفي الحَرج للحكومة على مقتضيات القواعد والعمومات وتخصيصهابغير صورة لزوم الحرج ، فينبغي أن يُنقل الكلامُ في منع ثبوت قاعدة الحَرج .

ولا يخفى أنّ منعه في غاية السقوط ، لدلالة الأخبار المتواترة معنى عليه ،

-------------------

عن تلك القواعد ، فما يقال في هذه الموارد للنقض ، يقال في مورد الانسداد اذا قلنا بوجوب الاحتياط بين المظنونات والمشكوكات والموهومات .

( وفيما نحن فيه ) من الانسداد ( اذا اقتضت القاعدة : رعاية الاحتياط ، لم يرفع اليد عنها ) أي : عن الاحتياط ( للزوم العُسر ) منتهى الأمر نقول : إنّه يأتي بالاحتياط الى حد العُسر ، لا أن يترك الاحتياط رأساً .

( والجواب ) عن هذا النقض ( :انّ ما ذكره في غاية الفساد ، لأن مرجعه ) أي : مرجع ما ذكره( إن كان الى منع نهوض أدلة نفي الحَرج للحكومة على مقتضيات القواعد والعمومات و ) منع ( تخصيصها ) أي : تخصيص القواعد والعمومات ( بغير صورة لزوم الحَرج ، فينبغي أن ينقلَ الكلام في منع ثبوت قاعدة الحَرج ) لأنّ معنى ذلك : إنّ قاعده الحَرج ليست حاكمة على القواعد والعمومات .

هذا( ولا يخفى : إنّ منعه ) أي : منع ثبوت قاعدة الحرج ( في غاية السقوط ) ولا يقول به احد ، وذلك ( لدلالة الأخبار المتواترة معنى ) وإن لم تكن متواترة لفظاً ( عليه ) أي : إنّ قاعدة الحرج حاكمة على القواعد والعمومات الأولية .

ص: 372

مضافاً الى دلالة ظاهر الكتاب .

والحاصلُ : أنّ قاعدةَ نفي الحرج ممّا ثبتت بالأدلّة الثلاثة بل الأربعة في مثل المقام ، لاستقلال العقل بقبح التكليف بما يوجب إختلال نظام أمر المكلّف ، نعم ، هي في غير ما يوجب الاختلال قاعدةٌ ظنّية تقبل الخروج عنها بالأدلّة الخاصّة المُحكمةِ وإن لم تكن

-------------------

( مضافاً الى دلالة ظاهر الكتاب ) على الحكومة حيث قال سبحانه : « يُريُد اللّهُ بِكمُ اليُسَر ولا يُريُد بِكمُ العُسَر »(1) .

وقال سبحانه :« ما جَعَل عَليكمُ في الدّينِ من حَرجٍ »(2) .

وقال سبحانه :« ما يُريُد اللّهُ لِيَجعَل عَلَيكمُ من حَرجٍ »(3) .

( والحاصل : إنّ قاعدة نفي الحَرج ممّا ثبتت بالأدلة الثلاثة ) الكتاب ، والسُّنة ، والاجماع ، ( بل الأربعة ) بإضافة العقل الى الثلاث المذكورة ( في مثل المقام ) الذي يوجب اختلال النظام .

وإنّما كان هناك قاعدة عقلّية ايضاً ( لاستقلال العقل بقبح التكليف بمّا يوجب إختلال نظام أمر المكلّف ) فانّ ذلك من البديهيات عند العقل والعقلاء .

( نعم ، هي ) أي :قاعدة نفي العُسر ( في غير ما يوجب الاختلال ) بان كان يوجب العُسر والحَرج فقط ( قاعدة ظنّية ) لأنّ دلالة الرّوايات والآيات ظنّية - وإن كان القرآن قطعي السّند ، والرّوايات متواترة لفظاً فرضاً أو معنى - وهذه القاعدة الحرجية الظّنية ( تقبل الخروج عنها بالأدلّة الخاصة المحكمةِ وان لم تكن ) تلك

ص: 373


1- - سورة البقرة : الآية 185 .
2- - سورة الحج : الآية 78 .
3- - سورة المائدة : الآية 6 .

قطعيّة .

وأمّا القواعد والعمومات المُثبتة للتكليف فلا إشكال بل لا خلاف في حكومة أدّلة نفي الحرج عليها ، لا لأنّ كونَ النسبة بينهما عموماً من وجه ، فيرجع الى أصالة البراءة - كما قيل -

-------------------

الأدلة الخاصة ( قطعيّة ) فان الشارع قد أمرَ بما فيه الحَرج كما أمر بالجهاد الحَرجي ، وما اشبه .

والحاصل : إنّ عمومات الحرج واردة على الأدلة الأوّلية الاّ اذا وضع الحكم في مورد الحَرج ، مثل : الخمس ، والجهاد ، وما أشبه ذلك .

هذا ، ولا يخفى : ان المصنّف ذكر أوّلاً : ان الدّليل مخصِّص لقاعدة الحرج ، بمعنى : إنّ اللازم على الانسان أن يأتي بالشيء الحرجي كما مثلنا له بالجهاد ، والخمس ، ونحوهما ، وذلك حيث قال «نعم» الخ .

ثم ذكر ثانياً : إنّ دليل الحَرج حاكم على الأدلة الأوليّة فيقدَّم دليل الحرج على تلك الادلة الأوليّة ، وذلك بقوله : ( وأمّا القواعد والعمومات المُثبتة للتكليف ) مثل عمومات الصلاة ، والطهارة ، والصيام ، ونحوها ، ( فلا اشكال ) حسب الدّليل ( بل لا خلاف ) لأحد من الفقهاء ( في حكومة أدلّة نفي الحَرج عليها ) أي : على تلك القواعد والعمومات .

ثم إنّ الحكومة ( لا لأنّ كون النّسبة بينهما ) أي : بين أدلة الحَرج ، والقواعد والعمومات ( عموم من وجه ، فيرجع الى أصالة البرائة - كما قيل - ) .

فان قوله تعالى : « كُتِبَ عَليكمُ الصِّيام »(1) يشمل الحَرجي وغير الحَرجي .

ص: 374


1- - سورة البقرة : الآية 183 .

أو الى المرجّحات الخارجيّة المعاضدة لقاعدة نفي الحرج ، كما زُعِمَ ؛ بل لأنّ ادلّة نفي العُسر بمدلولها اللفظي حاكمة على العمومات المثبة للتكليف ، فهي بالذات مقدّمة عليها .

وهذا هو السّر في عدم ملاحظة الفقهاء المرجّح الخارجي ،

-------------------

وقوله تعالى : « ما جَعَل عَلَيكمُ في الدِّينِ من حَرجٍ »(1) يشمل الصيام وغير الصيام.

فمورد الاجتماع : وهو الصيام الحرجي ،يتساقط فيه الدّليلان ويكون المرجع : البرائة من الصيام .

( أو ) يرجع في مادة الاجتماع : كالصيام الحرجي ( الى المرجّحات الخارجيّة المعاضدة لقاعدة نفي الحَرج - كما زعم - ) مثل قوله تعالى : « يُريُد اللّهُ بِكمُ اليُسر ولا يُريِدُ بِكمُ العُسر»(2) وغيره من المعاضدات لدليل الحَرج ، فان كُلاً من ال «قيل» وال «زعم» باطل ( بل ) : إنّما نقدِّم دليل الحَرج على العمومات والقواعد الأوليّة ( لأنّ أدلّة نفي العُسر بمدلولها اللّفظي ) حسب متفاهم العُرف ( حاكمة على العمومات المثبتة للتكليف ) فاذا ألقي الكلامان الى العرف ، رأى العرف : إنّ دليل الحَرج مُقدَّم على دليل أصل التكليف .

إذن : ( فهي ) أي : أدلة نفي العُسر ( بالذات ) لا بمعونة دليل خارجي - كما قاله الزاعم - ( مقدّمة عليها ) أي : على الأدّلة الأوليّة من القواعد والعمومات .

( وهذا ) الذي ذكرناه : من إنّ العُرف يرى دليل الحرج مقدِّماً على الأدلّة الأوليّة بمجرد سماعهما ( هو السّر في عدم ملاحظة الفقهاء المرجّح الخارجي ) لدليل

ص: 375


1- - سورة الحج : الآية 78 .
2- - سورة البقرة : الآية 185 .

بل يقدّمونها من غير مرجّح خارجي .

نعم ، جعل بعض متأخّري المتأخرين عملَ الفقهاء بها في الموارد من المرجّحات لتلك القاعدة ، زعماً منه إنّ عملهم لمرجّح توقيفي إطّلعوا عليه وإختفى عنا ، ولم يشعر أنّ وجهَ التقديم كونُها حاكمة على العمومات .

-------------------

الحرج حتى يحكمونه على الأدّلة الأوليّة ، ( بل يقدّمونها ) أي : أدلّة نفي الحرج على الأدلة الأوليّة ( من غير مرجّح خارجي ) إطلاقاً .

وذلك لأنّ عمومات العُسر ، كعمومات الحَرج ، والضرر ، وما أشبه ، مفسرَّة بمدلولها اللفظي لسائر العمومات الأولية المثبتة للتكاليف وكاشفة عن المراد بتلك العمومات المثبتة للتكاليف ، ومُبيّنة لموارد تلك العمومات الاوّليّة ، حتى يكون معنى العُمومات الاوّليّة : إنّها واجبة ما لم يلزم من الالتزام بالتكليف عُسر ومشقة وحَرج على المكلّف .

هذا ، وقد ذكرنا : إن الكاشف هو فَهم العرف ، بالاضافة الى أنّه يدل على هذه الحكومة - أيضاً - بعض الرّوايات ، مثل رواية عبد الأعلى وغيره .

( نعم ، جعل بعض متأخّري المتأخّرين عمل الفقهاء بها ) أي : بأدلة نفي العُسر ( في الموارد ) والأحكام الأوليّة ( من المرجّحات لتلك القاعدة ) أي : قاعدة نفي العُسر ، فعمل الفقهاء اذا انضمّ الى نفي العُسر سَبّبَ تقديم نفي العُسر على العمومات الأوليّة ، ( زعماً منه : إنّ عملهم ) بقاعدة نفي العُسر إنّما هو ( لمرجّح توقيفي ) أي تعبّدي ورد عنهم عليهم السلام ، قد ( إطّلعوا ) هم ( عليه ، وإختفى عنّا ، و ) الحال إنّ بعض متأخري المتأخّرين ، ( لم يشعر إنّ وجه التقديم كونها ) أي : كون أدلة نفي العُسر ( حاكمة على العمومات ) الأوليّة .

ص: 376

وممّا يوضح ما ذكرنا - ويدعو الى التأمّل في وجه التقديم المذكور في محلّه ، ويوجب الاعراض عمّا زعمه غير واحد من وقوع التعارض بينها وبين سائر العمومات ، فيجب الرجوع الى الاُصول او المرجحات - ما رواه عبد الأعلى ، مولى آل سام ، في : مَن عَثرَ فانقطع ظفرهُ ، فَجَعلَ عليه مرارَةً ، فَكَيف يَصنعُ بالوضوء ؟ فقال عليه السلام :« يُعرفُ هذا واشباهه من كِتاب

-------------------

( وممّا يوضّح ما ذكرنا ) من الحكومة ( ويدعو الى التأمّل في وجه التقديم المذكور في محلّه ) أي : في محل فيه العُسر والحَرج ، فانّه يقدَم دليل العُسر على الأدلّة الاوليّة ، فتسقط تلك العمومات والقواعد الأولّية بسبب حكومة دليل العُسر عليها .

( و ) على الحكومة ( يوجب الاعراض عمّا زعمه غير واحد : من وقوع التعارض بينها ) أي : بين أدلة نفي العُسر ( وبين سائر العمومات ، فيجب ) على زَعمِ هؤلاء : إنّه اذا تعارضا بالعموم من وجه ( الرّجوع الى الاُصول ) العمليّة مثل البرائة التي ذكرناها ( أو المرجحات ) الخارجية : كعمل الفقهاء ، وما أشبه ذلك .

ثمّ إنّه يوضحّ ما ذكرناه ( ما رواه عبد الأعلى ، مولى آل سام في مَن عَثَر ) برجِلهِ وَسقَط على الأرض ( فانقَطعَ ظفره ) اي ظِفر رجله ( فجعلَ عليه مَرارة ) والمَرارة من أدوية الجِراحات ، فسأل الإمام عليه السلام قائلاً : ( فكيف يَصنَعُ بالوضوء ؟ ) وكيف يَمسح ؟ فهل يَمسح على المَرارة ، أو يمسح على ظاهر الرجل ، وفي ذلك حَرجٌ وَعُسرٌ عليه ؟ .

( فقال عليه السلام : يُعَرفُ هذا وأشباهه ) ممّاكان هناك حَرجٌ وحكمٌ أوّلي ( من كتاب

ص: 377

اللّهِ : « ما جَعلَ عَليكمُ في الدّين مِن حَرجٍ » إمسحُ عليهِ » .

فانّ في إحالة الامام عليه السلام لحكم هذه الواقعة الى عموم نفي الحَرج - وبيان أنّه ينبغي أنّ يعلم منه أنّ الحكم في هذه الواقعة المسحُ فوق المَرارة ، مع معارضة العموم المذكور بالعمومات الموجبة للمسح على البشرة - دلالة واضحة على حكومة عمومات نفي الحَرج بأنفسها

-------------------

اللّه ) حيث قال سبحانه : ( « ما جَعلَ عَليكمُ في الدِّين من حَرجٍ» (1) ) فانّ الحَرج لما كان في رفع المرارة ، والمسح على الجرح ، رفع الحرج ذلك ، ولذا قال له عليه السلام : ( إمسح عَليهِ ) (2) أي : على الدواء الموضوع على الظفر .

( فانّ في إحالة الإمام عليه السلام لحكم هذه الواقعة ) وكيفية المسح على الرجل ( الى عموم نفي الحَرج ) المذكور في الآية المباركة ( وبيان : انّه ينبغي أن يعلم منه ) أي : من نفي الحرج ( انّ الحكم في هذه الواقعة : المسحُ فوق المَرارة ) لا إزاحة المَرارة والمَسح على الجُرح .

هذا ( مع معارضة العُموم المذكور ) في قوله تعالى : « ما جَعَل عَليكمُ في الدِّينِ من حَرجٍ»(3) ( بالعمومات الموجبة للمسح على البشرة ) في قوله سبحانه : « وإمسَحُوا برءوسِكُم وأرجُلَكُم الى الكَعبَينِ»(4) الظاهر في انّ المسَح يجب أن يكون على ظاهر الرجل . ففي هذه ( دلالة ) « ودلالة » خبر قوله : « فان في احالة الإمام » ( واضحة على حكومة عمومات نفي الحَرج بأنفسها ) أي : هي بنَفسها

ص: 378


1- - سورة الحج : الآية 78 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص33 ح4 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص363 ب16 ح27 ، بحار الأنوار : ج2 ص277 ب33 ح32 .
3- - سورة الحج : الآية 78 .
4- - سورة المائدة : الآية 6 .

على العمومات المثبتة للتكاليف ، من غير حاجة الى ملاحظة تعارض وترجيح في البين ، فافهم .

وإنّ كانَ مَرجعُ ما ذكرهُ الى أنّ التزام العُسر اذا دلّ عليه الدليلُ لا بأس به ، كما في ما ذكر من المثال والفرض .

-------------------

حاكمة ( على العمومات المثبتة للتكاليف ، من غير حاجة الى ملاحظة تعارض وترجيح في البيّن ) حتى يكون عموم نفي الحَرج لأجل المرجّح قد تقدّم على عموم المسح على الرجل .

( فافهم ) كي لا يقال : إنّ المسَح على المرارة لا يفهمَ من الآية ، لأنّ نفي الحرج يمكن ان يكون بعدم المسح على الرَّجل رأساً ، ويمكن أن يكون بالمسح على مكان من الرّجل خالٍ من المَرارة ، ويمكن أن يكون بالمسح على المَرارة ، فمن أين يفهم إنّ المسح على المرارة ؟ ؛ لأنّه يقال : إنّ المسح على الرَّجل كان واجباً في هذا المكان العاري عن المرارة ، فاذا تعذَّر كونه عارياً لمكان الجُرح كان المسح على المَرارة أقرب بفهم العرف من عدم المسح إطلاقاً ، ومن المسح على مكان آخر .

ثم يمكن أن يكون في« فافهم » ، أشارة الى شيء آخر لا نُطيل المقام البحث عنه .

هذا هو الشّق الأوّل من الجواب ، وأمّا الشقّ الثاني فقد أشار اليه بقوله : ( وإنّ كان مَرجِعُ ما ذكرهُ ) وهو عطف على قوله - قبل صفحة تقريباً - : « لأنّ مرجعه إن كان الى منع نهوض أدلة نفي الحرج للحكومة » الخ ، وإن كان مرجعه ( الى إنّ التزام العُسر اذا دلّ عليه الدّليل لا بأس به ، كما فيما ذكر من المثال والفرض ) وهو : فرض تأدية ظنّ المجتهد الى وجوب اُمور كثيرة يحصل العُسر بمراعاتها، كما مثلنا له بمثال النذر ونحوه.

والحاصل : إنّ الناقضّ هذا ، هل يريد عدم حكومة أدلة العُسر ؟ أو يريد إنّه قد يتقَدّم دليل الحُكم على دليل العُسر ؟ .

ص: 379

ففيه : ما عَرَفتَ ، من انّه لا يخصّص تلك العمومات ، إلاّ ما يكون أخصَ منها معاضداً بما يوجب قوّتها على تلك العمومات الكثيرة الواردة في الكتاب والسنّة ، والمفروض أنّه ليس في المقام الاّ قاعدة الاحتياط التي قد رفع اليد عنها لأجل العُسر في موارد كثيرة :

-------------------

فانّ أراد الأوّل : فقد تقدّم جوابه .

وإن أراد الثاني : ( ففيه ما عَرَفت : من أنّه لا يخصّص تلك العمومات ) أي : عمومات نفي العُسر والحَرج ( الاّ ما يكون أخصَ منها ) كأدلة الخُمس ، والجِهاد ، وما أشبه ( معاضداً ) أي : ذلك الأخص ( بما يوجب قوتها على تلك العمومات الكثيرة ) النافية للعُسر والحَرج وما أشبه ( الواردة في الكتاب والسّنة ) .

إذن : فاللازم اذا أردنا أن نخصّص عمومات أدلة العُسر أن يكون هناك شيئان :

الأوّل : أن يكون ما يخصصها أخصّ منها .

الثاني : أن يكون ذلك الأخصّ معتضداً بما يوجب قوته ، ليتمكن من تخصيص عمومات نفي العُسر والحَرج التي هي كثيرة جداً ، وواردة في الكتاب والسنّة بكلّ قوة .

( والمفروض انّه ليس في المقام ) أي : في مقام الانسداد مايخصِّص عمومات نفي العُسر والحَرج ( إلاّ ) مايستلزمه العلم الاجمالي من العمل حسب ( قاعدة الاحتياط ) الّتي تقتضي الجمع بين الأطراف المحتملة مظنوناً أو مشكوكاً أو موهوماً ، لكنّ هذه القاعدة هي ( الّتي قد رفع اليد عنها لأجل العُسر في موارد كثيرة ) في الفقه ، فقاعدة الاحتياط يرفع اليد عنها ، لأنّ دليل نفي العُسر أقوى من قاعدة الاحتياط ، وفي الفقه نجدُ مواردَ كثيرة ، رُفِعَ اليدّ عن قاعدة الاحتياط لمكان العُسر ، فليست قاعدة الاحتياط مخصِّصة للعُسر ، بل العُسر يرفع قاعدة الاحتياط

ص: 380

مثل الشبهة الغير المحصورة ، ومالو علم إن عليه فوائت لايحصي عددها ، وغير ذلك ،

-------------------

( مثل الشبهة غير المحصورة ) فانّ قاعدة الاحتياط جارية فيها لكن يرفع اليد عنها بسبب دليل العُسر .

( وما لو علم إنّ عليه فوائت لا يحصي عددها ) فانّ قاعدة الاحتياط تقتضي أن يصلي حتى يعلم بالبرائة منها ، لكن دليل العُسر يرفع هذا العلم الاجمالي ، فانّ بناء بعض الفقهاء أن يصلّي مالايحصي عددها ، وبناء بعض الفقهاء أن يصلي حتى يحصل له الظّن بأنّه صلى ماعليه ، وبناء بعض الفقهاء أن يصلي بالقدر المتيقن ، وفي جميع ذلك لم يعمل بقاعدة الاحتياط الّتي تقتضي أن يصلّي حتى يحصل له العلم ببرائته من الفوائت .

( وغير ذلك ) من الأمثلة ، مثل : ما إذا علم إنّه مديون لأحد جماعةٍ ديناراً ، فانّ قاعدة الاحتياط تفرض عليه أن يعطي لكلّ واحد منهم ديناراً ، لكنّ الضرّر وهو في عداد العُسر والحَرج يرفع هذا الاحتياط ، فيقسِّم الدِّينار بينهم .

وكذلك إذا نذر أن يذبح شاة في إحدى المدن المقدسة ثم نسي تلك المدينةِ التيّ تعلقَ نذره بها فانّه يكفيه أن يذبح في أحدها فقط .

وهكذا إذا كانت له عشرة ثياب إحديها طاهرة ، فانّه لايصلي عشر صلوات لما فيه من العُسر ، بل يصلي صلاة واحدة .

وكذا لو نذر أن يصوم يوم الجمعة ، لكنّه شك بأن متعلق نذره أيّ جمعة في السنة ؟ فانّه يصوم جمعة واحدة ، وإلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة ، التي ذكرها الفقهاء في مواردها في الفقه وإن كان في بعضها مناقشة .

ص: 381

بل أدلّة نفي العُسر بالنسبة إلى قاعدة الاحتياط من قبيل الدّليل بالنسبة إلى الأصل .

فتقديمُها عليها أوضحُ من تقديمها على العمومات الاجتهادية .

-------------------

( بل أدلّة نفي العُسر بالنّسبة الى قاعدة الاحتياط من قبيل الدّليل بالنسبة إلى الأصل ) فكما يُقدِّم الدّليل على الأصل ، كذلك يُقدِّم دليل نفي العُسر على قاعدة الاحتياط ، فانّ قاعدة الاحتياط أصلٌ عملي موضوع في حال الجهل ، ودليل نفي العُسر يرفع الجهل .

وعليه : ( فتقديمُهما ) أي : أدلة نفي العَسر ( عليها ) أي : على قاعدة الاحتياط ( أوضح من تقديمها ) أي : من تقديم أدلّة العُسر ( على العمومات الاجتهاديّة ) فانّه كما تُقَّدم قاعدة العُسر على الصلاة قياماً ، أو الصوم ، أو الحجّ ، أو ما أشبه ذلك ، وهي عمومات إجتهادية ، فكذلك تُقدَّم على قاعدة الاحتياط .

بل تقديم قاعدة العُسر على قاعدة الاحتياط أوضح من تقديم قاعدة العُسر على العمومات الاجتهادية ، لوضوح : إنّ أدلة نفي العُسر واردة على قاعدة الاحتياط ، وحاكمة على العمومات الاجتهادية ، وتقديم الوارد على المورود أوضح من تَقديم الحاكم على المحكوم .

بل التعبير بالتقديم في باب الورود ليس على نحو الحقيقة ، لأنّه لا إجتماع للدليلين حتى يقال : انّ هذا يُقدَّم على ذاك ، وإنّما إذا تحقّق موضوع الوارد ، إنتفى موضوع المورود كما هو واضح .

ثم إنّ المورد قال : إنّ الاحتياط لايُبطل بلزوم الحَرج ، ونقض بما لو أدى إجتهاد المجتهد بالظّن الى فتوى توجب الحَرج ، فكما إنّ الحرَج لايوجِب إبطال فتوى المجتهد ، بل اللازم أن يأتي الانسان بفتوى المجتهد وإن لزم عليه الحَرج ،

ص: 382

وأمّا ماذكره من فرض إداء ظنّ المجتهد إلى وجوب أُمور يلزم من فعلها الحرجُ .

فيرد عليه :

أوّلاً : منع إمكانه ، لأنّا علمنا بأدلّة نفي الحرج أنّ الواجبات الشرعيّة في الواقع ليست بحيث يوجب العُسر على المكلّف .

ومع هذا العلم الاجماليّ يمتنع الظنّ التفصيلّي بوجوب أُمور في الشريعة يوجب إرتكابها العُسر ، على ما مرّ نظيره في الايراد على دفع الرجوع الى البراءة .

-------------------

كذلك الاحتياط في أطراف الانسداد يلزم الاتيان به وإن لزم الحرَج .

فأجاب عنه المصنّف بقوله : ( وأمّا ما ذكره : من فرض إداء ظنّ المجتهد إلى وجوب أُمور يلزم من فعلها الحرَج ، فيرد عليه ) مايلي :

( أولاً : ) إنّه كيف يَفتي المُجتهد بما يوجِب الحَرج والحال إنّا نعلم إنّه لا حَرج في الديّن ؟ ولذا نحن نقول : ب- ( منع إمكانه ) أي : إمكان مايوجب الحَرج من أداء ظنّ المجتهد ( لأنّا علمنا بأدلة نفي الحَرج : إنّ الواجبات الشرعيّة في الواقع ليست بحيث يوجِب العُسر على المكلّف ) وعَلِمنا بذلك من الأدلة المتواترة لِنفي الحَرج .

( ومع هذا العلم الاجمالي ) بانّه لاحَرج في الديّن ( يمتنع الظنّ التفصيلي ) أي : ظنّ المجتهد بمّا يوجِب الحَرج ( بوجوب أمور في الشريعة ، يوجب إرتكابها العُسر ، على ما مَرَّ نظيره في الايراد على دفع الرّجوع الى البرائة ) حيث تَقدّم عن المصنّف في الوجه الثالث قوله : فان قلت : إذا فرضنا انّ ظنّ المجتهد أدّى في جميع الوقائع الى مايُوافق البرائة ، فما تصنع ؟ إنتهى .

ص: 383

وثانياً : سلّمنا إمكان ذلك ، إمّا لكون الظنون الحاصلة في المسائل الفرعيّة كلّها أو بعضها ظنوناً نوعيّة لاينافيالعلم الاجماليّ بمخالفة البعض للواقع ، أو بناءا على إنّ المستفاد من أدلّة نفي العُسر ، ليس هو القطع ، ولا الظنّ الشخصيّ بانتفاء العُسر ،

-------------------

ومن المعلوم : إنّ ظنّ الحَرج ، والعِلم بعدم الحَرج ، لايمكن جمعهما ، لأنّ في مقابل العلم لايعقل الوهَم والشّك ، فكيف يعقل الظنّ ؟ .

( وثانياً : سلّمنا إمكان ذلك ) أي : الجَمع بين العِلم الاجمالي والظنّ بالخلاف ، لكن إنّما يُمكن الجمع بالوجوه التالية :

أولاً : ( إمّا لكون الظّنون الحاصلة في المسائل الفرعيّة كلّها أو بعضها ظنوناً نوعية لاينافي العلم الاجمالي بمخالفة البعض للواقع ) فاذا علم زيد - مثلاً- عِلماً إجمالياً بانّه لاعُسر في الشريعة ، ونوع المتشرعة يظنون بأنّ الواجب عشر صلوات في الثياب المشتبهة ، لكن زيداً لايظنّ بالعُسر في عشر صلوات ، فقد إجتمع عند زيد : علمه الاجمالي بأنّه لاعُسر ، وظنّه التفصيلي بلزوم عشر صلوات .

وإنّما قلنا بهذا التوجيه لانّه لايمكن للأنسان الواحد أن يجتمع عنده العِلم بشئ والظّن بخلافه ، أما إنسانان يعلم أحدهما شيئاً ، ويظنّ الآخر شيئاً خلاف ذلك الشئ، فليس ذلك بتناقض .

والحاصل : إنّ الظنّ النوعيّ لاينافي العلم الاجمالي الشخصيّ .

ثانياً : أن عدم العُسر ظنٌّ نوعيّ ، والعُسر ظنّ شخصيّ ، فلا يتنافيان ، وإليه أشار المصنّف بقوله : ( أو بناءاً على إنّ المستفاد من أدلّة نفي العُسر ، ليس هو القَطع ، ولا الظّنّ الشخصي بانتفاء العُسر ) فانّ الشخص لايقطع بانتفاء العُسر ولايظنّ

ص: 384

بل غايته الظنّ النوعيّ الحاصل من العمومات بذلك ، فلا ينافي الظنّ الشخصّي التفصيليّ في المسائل الفرعيّة على الخلاف ، وإمّا بناءا على ما ربّما يدّعى من عدم التنافي بين الظنون التفصيليّة الشخصيّة والعلم الاجماليّ بخلافها ، كما في الظنّ

-------------------

بانتفائه لأنّ الدلّيل لايفيده هذا القطع أو الظّنّ .

( بل غايته ) أي غاية المستفاد من أدلة نفي العُسر ( الظنّ النوعيّ الحاصل من العمومات ) أى : عمومات أدلّةِ نفي العُسر والحَرج ( بذلك ) أي : بانتفاء العُسر ( فلا ينافي الظّنّ الشخصي ) على نحو الموجبة الجُزئية ، الظنّ ( التفصيليّ في المسائل الفرعيّة على الخلاف ) أي : على خلاف ذلك الظنّ النوعيّ .

ومن الواضح : انّ الجواب الثاني هذا ، الّذي ذكره بقوله «أو بناءاً على انّ المستفاد» الخ ، حاصله : التصرف في العلم الاجمالي وتحويله الى ظنّ نوعيّ .

وثالثاً : إنّه لامنافاة بين الظنون التفصيلية الشخصية والعلم الاجمالي على الخلاف ، فاذا عَلِمَ الانسان عِلماً إجمالياً بلزوم إهانة الفُسّاق من العلماء ، لم يُنافِ علمه الاجمالي ذلك بأن يظنّ بلزوم إحترام زيد ، ويظنّ بلزوم إحترام عمرو ، ويظنّ بلزوم إحترام بكر ، فيما لم تجتمع تلك الظّنون عنده ، فانّ إجتماع تلك الظّنون ينافي العلم الاجمالي بالخلاف ، أما تفرق تلك الظّنون فكل ظنّ لاينافي العلم الاجمالي بالخلاف .

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف بقوله : ( وأمّا بناءاً على ما ربمّا يدّعى : من عدم التنافي بين الظنون التفصيلية الشخصيّة ) إذا كانت ظنوناً متفرقة لامجتمعة - كما أشرنا إليه - ( والعلم الاجمالي بخلافها ) أي : بخلاف تلك الظّنون ( كما في الظّن

ص: 385

الحاصل من الغلبة ، مع العلم الاجماليّ بوجود الفرد النادر على الخلاف . ولكن نمنع وقوع ذلك ، لأنّ الظّنون الحاصلة للمجتهد ، بناءا على مذهب الاماميّة من عدم إعتبار الظنّ القياسيّ وأشباهه ، ظنون

-------------------

الحاصل من الغلبة ، مع العلم الاجمالي بوجود الفرد النادر على الخلاف ) فانّ غلبة وجوب إهانة الفُساق لاينافي الظّن بأنّ هذا الفاسق لايُهان ، وهذا الفاسق الثاني أيضاً لايُهان ، إلى غير ذلك ممّا بيناه .

وقد ذكر بعض المحشين في توضيح ذلك : بأنّه إذا دلّ الدلّيل على وجوب إهانة الفُساق ، وعِلمنا إجمالاً بأنّ فيهم قليلاً نادراً لم يجز إهانته ، فهذا العلم الاجمالي غير مانع من حصول الظّن التفصيليّ الحاصل من غلبة هذا الحكم في الأفراد ، أو غلبة وجود الأفراد التي حكمها ذلك بوجود هذا الحكم في كلِ فردٍ فردٍ من الأفراد ، والانصاف : إنّ الظّن التفصيلي في كل فردٍ إنْ لوحِظَ معه حكم سائر الأفراد ، فالظّن التفصيلي بأنّ حكم كلّ فردٍ شخصي حكمه كذا ممتنعٌ في المفروض ، وإن لم يلاحظ معه غيره ، فالظّن التفصيلي من أوّل الأفراد الى آخرها مع العلم الاجمالي جائز غير ممتنع إنتهى .

( ولكن نمنع وقوع ذلك ) وهذا متعلّق بقوله : « وثانياً : سلمنا امكان ذلك » أي : إنّه وإن كان ممكناً أن يفتي المجتهد فتوىً حَرجياً ، لكن نمنع إنّه وقع من المجتهد فتوىً حَرجياً .

وعليه : فالجواب الأول من المصنّف حيث قال : أولاً : هو منع الامكان .

والجواب الثاني هو : تسليم الامكان ، لكن أجاب عنه المصنّف : بانّه نمنع وقوعه ( لأنّ الظنون الحاصلة للمجتهد - بناءاً على مذهب الاماميّة : من عدم إعتبار الظّنّ القياسي وأشباهه ) كالمصالح المرسلة ، والاستحسان ، وما أشبه ( ظنون

ص: 386

حاصلة من أمارات مضبوطة محصورة ، كأقسام الخبر والشهرة والاستقراء والاجماع المنقول والأولويّة الاعتباريّة ونظائرها .

ومن المعلوم للمتتبّع فيها أنّ مؤدّياتها لاتفضي الى الحرج ، لكثرة ما يخالف الاحتياط فيها ، كما لايخفى على من لاحظها وسَبرَها سَبراً إجماليّاً .

وثالثاً : سلّمنا إمكانه ووقوعه ، لكنّ العمل بتلك الظنون لايؤدّي

-------------------

حاصلة من أمارات مضبوطة محصورة ) في الفقه ( كأقسام الخبر ، والشهرة ، والاستقراء ، والاجماع المنقول ، والأولويّة الاعتبارية ) التي تسمّى بالِملاك القطعي ( ونظائرها ) كالسيّرة ، والاجماعات التقديرية ، كما تقدّم بعض أمثلتها .

( ومن المعلوم للمتتبّع فيها ) أي : في هذه الأمارات ( أنّ مؤديّاتها ) أي : مؤديّات هذه الأمارات ( لاتفضي ) أي : لاتنتهي ( إلى الحرج ) وإنّما لاتنتهي الى الحَرج ( لكثرة ما يخالف الاحتياط فيها ) أي : في هذه الأمارات ( كما لا يخفى على من لاحظها وسَبرَها ) والسَبر بالموحدة : أخذ مقدار الشئ( سَبراً إجماليّاً ) وإن لم يلاحظها ملاحظة تفصيلية .

وإنّما أخرج القياس وإخوته : لوضوح : إنّ القياس وما أشبهه لاملاك لها ، بل إنّ الفقهاء من العامّة مختلفون في القياسات ، والمصالح المرسلة والاستحسانات ، وما أشبه ، لانّه لاضابط لهم فيها ، ولهذا فَمِنَ المُمكن أن يستلزمهم الحَرج ، بخلاف الأدلّة عند الامامية ، فلاتوجب لهم الحَرج .

( وثالثاً : سلّمنا إمكانه ووقوعه ) أي : إمكان فرض أداء ظنّ المجتهد إلى وجوب أمور يلزم فعلها الحَرج ووقوع ذلك ( لكنّ العمل بتلك الظّنون ) التي تجب على المقلّد لأنّ مجتهده يقول بها ، وإن كان العمل بها عُسراً ، لكنّه ( لايؤدّي

ص: 387

إلى اختلال النظام ، حتّى لايمكن إخراجها عن عمومات نفي العُسر ، فنعمل بها في مقابلة عمومات نفي العُسر ونخصّصها بها ، لما عرفت من قبولها التخصيص في غير مورد الاختلال .

وليس في هذا كَرّاً على ما فرّ منه ، حيث إنّا عملنا بالظنّ فراراً عن لزوم العُسر ، فاذا أدّى إليه فلا وجه للعمل به ،

-------------------

إلى اختلال النظام ) .

بينما العمل بالاحتياط المطلق من أوّل الفقه الى آخر الفقه في باب الانسداد يؤدّي الى إختلال النظام ، وإختلال النظام قطعاً لايجوز ، بخلاف موارد العُسر التي أدى اليها إجتهاد المجتهد ، فان العمل بها لايخلّ بالنظام ( حتى لايمكن إخراجها ) أي : إخراج تلك الظنون الاجتهادية ( عن عمومات نفي العُسر ) .

فانّ عمومات نفي العُسر تُخصَّص بهذه الظنون ( فنعمل بها ) أي : بتلك الظنون الاجتهادية ( في مقابلة عمومات نفي العُسر ) فانّه لابأس من العُسر بالعمل بهذه الظنون الاجتهادية ( و ) ذلك لانّا ( نخصّصها ) أي : نخصّص عمومات نفي العُسر ( بها ) أي : بتلك الظّنون ( لما عرفت من قبولها ) أي : قبول عمومات نفي العُسر ( التخصيص في غير مورد الاختلال ) فانّ الاختلال لايمكن أن يخصِّص عموم نفي العُسر ، أما غير الاختلال فعموم العُسر أحياناً يخصَّص به ، كموارد الجهاد ، والخُمس ، وما أشبه ذلك .

( وليس في هذا ) الذي ذكرناه : من العمل بالظنون الاجتهادية الموجبة للعُسر والحَرج ( كَرّاً على ما فرّ منه ) وقد بيّن إنّه كيف كان هذا كَرّاً على مافر منه بقوله : ( حيث إنّا عملنا بالظّن فَراراً عن لزوم العُسر ) بعد انسداد باب العلم ( فاذا أدّى اليه ) أي : أدّى العمل بالظنون الاجتهادية الى العُسر ( فلاوجه للعمل به ) أي :

ص: 388

لأن العُسر اللازم على تقدير طرح العمل بالظنّ كان بالغاً حدّ إختلال النظام من جهة لزوم مراعاة الاحتمالات الموهومة والمشكوكة .

وأمّا الظنون المطابقة لمقتضى الاحتياط ، فلابُدّ من العمل عليها ، سواء عملنا بالظنّ ام عملنا بالاحتياط . وحينئذ ليس العُسرُ اللازمُ من العمل بالظنون الاجتهاديّة في فرض المعترض من جهة العمل بالظنّ ، بل من جهة المطابقة لمقتضى الاحتياط ،

-------------------

بالظنون الاجتهادية .

وانّما لم يكن ذلك كَرّاً على ما فر ( لأنّ العُسر اللازم على تقدير طرح العمل بالظّن كان بالغاً حدّ إختلال النظام ) وإنّما يبلغ حدّ إختلال النظام ( من جهة لزوم مراعاة الاحتمالات الموهومة والمشكوكة ) بالاضافة الى المظنونة .

ومن الواضح : انّ الانسان الذي يُراعي كُلّ الاحتمالات : موهوماً ، ومشكوكاً ، ومظنوناً ، يقع في اختلال نظام المعاش والمعاد ، كما سبق بيانه .

( وأمّا الظّنون المطابقة لمقتضى الاحتياط ) التي أفتى بها المجتهد ( فلا بُدّ من العَمل عليها ) أي : على تلك الظنون ( سواء عملنا بالظّنّ ، أم عملنا بالاحتياط ) فان العمل بالظنّ ليس عملاً بالشّك والوّهم .

( وحينئذ ) أي : حين عمل بالظنون الاحتياطية الّتي افتى بها المجتهد ، ( ليس العُسرُ اللازم من العمل بالظنون الاجتهادية في فرض المعترض ) أي : فرض المستشكل الذي قال : فرض أداء ظن المجتهد الى وجوب أمور يلزم من فعلها الحَرج ( من جهة العمل بالظّنّ ، بل من جهة المطابقة لمقتضى الاحتياط ) .

إذن : فالاحتياط إنّما هو في العمل بالظّنون لابالأعمّ من الظنون وغير الظّنون ، والعمل بالظّنون فقط يوجب العُسر لا الاختلال ، بينما العمل بالّظنون وغير الظّنون

ص: 389

فلو عمل بالاحتياط وجب عليه أن يضيف إالى تلك الظنون الاحتمالات الموهومة والمشكوكة المطابقة للاحتياط .

ومنها : أنّه يقع التعارض بين الأدلّة

-------------------

يوجب الاختلال ( فلو عمل بالاحتياط ) مطلقاً لافي دائرة الظنون فقط ( وجَب عليه أن يضيف الى تلك الّظنون الاحتمالات الموهومة والمشكوكة المطابقة للاحتياط ) .

فتحصّلَ : إنّ الناقص قال : إنّه كما يلزم العمل بظنون المجتهد المؤدي الى العُسر ، كذلك يلزم العمل بالظنون الانسدادية ، المؤديّ الى العُسر أيضاً ، فانّ هذا العُسر خارج عن أدلة نفي العُسر ، كخروج الجهاد ونحوه ، فانّه وان كان عسراً ، لكنّه يلزم العمل به .

أجاب المصنّف بالفرق بين العُسرين ، إذ العُسر في الظنون الانسدادية ، عُسرٌ يُخلِّ بالنظام ، فدليل نفي العُسر مُحكّمّ فيه ، بخلاف الظنون الاجتهادية ، حيث إنّها عُسر فقط بدون أن يكون مُخلاًّ بالنظام .

وإنّما كان فرقاً بين العُسرين ، لأنّ الّظنون الاجتهادية لاتشمل الوهم والشّك ، بخلاف الّظنون الانسدادية ، فانّ الّظنون على الانسداد يلزم الاحتياط فيها وفي الوهم والشك أيضاً .

ثم انّ المصنّف ذكر قبل صفحتين : بانّه قد يورد على إبطال الاحتياط بلزوم الحَرج بوجوه ذكر منها : النقض بما لو أدّى إجتهاد المجتهد وعمله بالّظن الى فتوى يوجب الحرج الى آخره ، فانّه كان ذلك هو الايراد الأول على إبطال الاحتياط .

ثم إنّه ذكر الايراد الثاني هنا بقوله : ( ومنها : أنّه يقع التعارض بين الأدلّة ) التي

ص: 390

الدالّة على حرمة العمل بالظنّ ، والعمومات النّافية للحَرج .

والأوّل أكثر ، فيبقى أصالة الاحتياط مع العلم الاجماليّ بالتكاليف الكثيرة ، سليمة عن المزاحم .

وفيه : ما لا يخفى ، لما عرفت في تأسيس الأصل ، من أنّ العملَ بالظنّ ليس فيه إذا لم يكن بقصد التشريع

-------------------

مقتضاها العمل بالاحتياط ، وهي الأدلة ( الدّالّة على حرمة العمل بالّظنّ ، و ) بين ( العمومات النّافية للحَرج ) والّتي مقتضاها العمل بالّظن دون الاحتياط .

وعليه : فإنّ من الأدلة ما يقول : لاتعمل بالّظنّ ، ومقتضى ذلك : أن يعمل بالاحتياط التام في المظنّونات والمشكوكات والموهومات .

ومنها ما يقول : لاحَرج عليك ، ومقتضاها : أن يعمل بالّظن فقط دون الاحتياط ، لأن الاحتياط مستلزمٌ للحَرج .

( والأوّل ) أي : الأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالّظن ( أكثر ) فانّ بعض العلماء جمع مائتي آية وخمسمائة رواية في حرمة العمل بالّظن ، وحيث يتعارض الدّليلان ( فيبقى أصالة الاحتياط مع العلم الاجمالي بالتكاليف الكثيرة ، سليمة عن المزاحم ) .

وإنّما كان الأصل : الاحتياط ، للعلم الاجمالي بوجود الأحكام الوجوبية والتحريمية في سلسلة الموهومات والمشكوكات والمظنونات جميعاً ، فيجب العمل بما يرتفع به العلم الاجمالي على ماهي القاعدة في سائر العلوم الاجمالية التي تقتضي العمل بجميع أطراف العلم ، لأنه يكون من الشك في المكلّف به بعد العلم بأصل التكليف .

( وفيه مالايخفى : لما عرفت في تأسيس الأصل ) في أوائل الكتاب ( :من أنّ العمل بالّظن ليس فيه ) أي : في ذلك العمل بالظن ( إذا لم يكن بقصد التشريع

ص: 391

والالتزام شرعاً بمؤدّاه ، حرمةٌ ذاتيّةٌ . وإنّما يحرم إذا أدّى إلى مخالفة الواقع من وجوب أو تحريم : فالنّافي للعمل بالظنّ فيما نحن فيه ، ليس إلاّ قاعدةَ الاحتياط الآمرة باحراز الاحتمالات الموهومة وترك العمل بالظنون المقابلة لتلك الاحتمالات ،

-------------------

والالتزام شرعاً بمؤداه ، حرمةٌ ذاتيّةٌ ) فانّ العامل بالظنّ إذا نسب مؤدّاه الى الشرع كان له حرمة تشريعية ، وهذا ما عبّر عنه المصنّف : بالحرمة الذاتية ، بخلاف مإاذا لم ينسب مؤدّاه الى الشارع ، بل أتى به من باب الاحتياط ، فان الاحتياط مقابل للتشريع .

( وإنّما يحرم ) أي : العمل بالّظن من دون الالتزام بمؤادّه شرعاً ( اذا أدّى الى مخالفة الواقع من وجوب أو تحريم ) فالعمل بالظنّ يحرم في صورتين :

الأولى : ما إذا نسبه الى الشارع حيث إنّه تشريع .

الثانية : اذا كان مؤدّى ظنّه مخالفاً للواقع ، كما إذا ظنّ بالوجوب فعمل به بينما كان يحَرُم واقعاً ، أو ظنّ بالحرمة فتركه بينما كان يجب واقعاً ، مثل إنّه يشرب التتن للظنّ بوجوبه والحال إنّه كان حراماً واقعاً ، أو يترك الدّعاء عند رؤية الهلال بظن حرمته وكان في الواقع واجباً .

والحاصل : إنّه اذا عمل بالظنّ دون ان ينسبه الى الشارع لم يكن له حرمة ، إلاّ إذا أدى الى مخالفة الواقع من وجوب أو تحريم .

وعليه : ( فالنّافي للعمل بالّظنّ فيما نحن فيه ، ليس ) هو التشريع ، أو الأداء الى مخالفة الواقع من وجوب أو تحريم ، بل انّ النافي ماهو ( إلاّ قاعدة الاحتياط الآمرة بإحراز الاحتمالات الموهومة ) والمشكوكة والمظنونة ( وترك العمل بالظّنون المقابلة لتلك الاحتمالات ) فالتقابل بين قاعدة الاحتياط وبين العمل

ص: 392

وقد فرضنا أنّ قاعدة الاحتياط ساقطةٌ بأدلّة نفي العُسر .

ثمّ لو فرضنا ثبوتَ الحرمة الذاتيّة للعمل بالظنّ ولو لم يكن على جهة التشريع ، لكن عَرِفتَ سابقاً عدمَ معارضة عمومات نفي العُسر بشيء من العمومات المثبتة للتكليف المتعسّر .

ومنها : إنّ الأدلّة النافية للعُسر

-------------------

بالظنّ ( وقد فرضنا : إن قاعدة الاحتياط ساقطةٌ بأدلّة نفي العُسر ) فلا يبقى مانع عن العمل بالظن .

( ثمّ لو فرضنا ) انّ العمل بالظنّ محّرم ذاتاً لم تصل النوبة الى الاحتياط أيضاً ، إذ هذا الحرام الذاتي رَفَعَه دليل العُسر ، فانّه حيث كان في الاحتياط عُسر ، ولم يكن طريق للامتثال الاّ الظنّ جاز العمل بالظنّ المحرّم في نفسه ، لأنّ دليل العُسر حاكم على كل محرّم في نفسه ، كما إنّه حاكم على واجب في نفسه .

فلو فرض ( ثبوتَ الحرمة الذاتّية للعمل بالظنّ ولو لم يكن على جهة التشريع ) بان كان العمل بالظن محرّماً بسبب تلك الآيات والرّوايات ، لا أن الحرمة تشريعية بسبب نسبته الى الشارع بل كان العمل بالظنّ من المحرّمات الذاتية ، كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير ( لكن عِرفتَ سابقاً : عدم معارضة عمومات نفي العُسر بشيء من العمومات المثبتة للتكليف المتعسّر ) لحكومة أدلّة العُسر على تلك العمومات الأوليّة ، فاذا لم يجب الاحتياط لأنّه عُسر ، لم يكن طريق الاّ الى العمل بالظنّ .

( ومنها : ) أي : ممّا أورد على إبطال الاحتياط بلزوم الحَرج ما معناه : لزوم الاحتياط في حال الانسداد وإن لزم الحَرج كما قال : ( إنّ الأدلّة النّافية للعُسر ) مثل

ص: 393

إنّما تنفي وجود : في الشريعة بحسب أصل الشرع أوّلاً وبالذات ، فلا تنافي وقوعه بسبب عارض لا يسند الى الشارع ، ولذا لو نذر المكّلف اُموراً عَسيرَة ، كالأخذ بالاحتياط في جميع الأحكام الغير المعلومة ، وكصوم الدهر أو إحياء بعض الليالي

-------------------

قوله تعالى :«يُريد اللّهُ بِكمُ اليُسرَ ولا يُريد بِكمُ العُسرَ» (1) ( إنّما تنفي وجوده ) أي : وجود العُسر ( فيالشريعة بحسب اصل الشّرع أوّلاً وبالذات ) بمعنى : إنّ الشارع لم يجعل حكماً ضَررّياً أو حرجيّاً أو عُسريّاً بنفسه ، فاذا كان كذلك ( فلا تنافي وقوعه ) أي : وقوع الحكم العُسري ( بسبب عارض ) مثل إختفاء الأحكام الواقعية التي جعلها الشارع غير عسيرة ، فانّ هذا الاختفاء المسبّب للعُسر ( لا يسنَد الى الشارع ) .

وعليه : فالعُسر المسنَد الى الشارع منفي ، أما العُسر الذي لا يُسنَد الى الشارع فليس بمنفي .

( ولذا ) أي : لاجل ما ذكرناه : من إنّ العُسر بسبب العارض ليس بمنفي ، نرى ( لو نذر المكلّف اُموراً عسيرة ، كالأخذ بالاحتياط في جميع الأحكام غير المعلومة ) له ، فهو وإن كان مجتهداً ، فانّه لا يعلم بالأحكام علماً قطعيّاً ، وإنّما يستظهرها من ظاهر الأدلة ، فان نذر أن يأخذ بالاحتياط في كلِ حكم غير ضروري كان عُسراً عليه .

( وكصوم الدّهر ) حيث أنّه عُسرٌ شديد لغالب الناس .

( أو إحياء بعض اللّيالي ) بالعبادة مما يكون في إحيائه عُسر وحَرج على

ص: 394


1- - سورة البقرة : الآية 185 .

أو المشي الى الحجّ أو الزيارات ، لم يمنع تعسّرها عن إنعقاد نذرها ، لأنّ الالتزام بها إنّما جاء من قِبَل المكلّف وكذا لو آجر نفسه لعمل شاقّ لم يمنع مشقّتهُ من صحّة الاجارة ووجوب الوفاء بها .

وحينئذٍ فنقول : لا ريبَ أنّ وجوبَ الاحتياط باتيانِ كلّ ما يحتمل الوجوب وترك كلّ ما يحتمل الحرمة ،

-------------------

الناذر ، لطول الليل ، وشدة النعاس .

( أو المشي الى الحجّ أو الزّيارات ) راجلاً ، بل وحافياً ، خصوصاً بالنسبة الى من إبتعد منزله عن الحجّ ، وعن المراقد الطاهرة ، مما يوجب عُسراً وحَرجاً وإرهاقاً على الناذر .

فان ذلك ( لم يمنع تعسّرها ) أي : تعسر هذه الاُمور المتعلقة للنذر ( عن إنعقاد نذرها ) فانّ الفقهاء يقولون : إنّ متعلق النذر لوكان راجحاً إنعقد وان كان في المتعلق عُسراً ، وذلك ( لأنّ الالتزام بها ) أي بهذه الاُمور العسيرة ( إنّما جاء من قبل المكلّف ) لم يجعلها الشرع عليه أولاً وبالذات بحسب اصل الشرع ، وانّما أمضى الشارع ما ألزمه المكلَّف على نفسه فمثل هذه الاُمور لا تشملها أدلة نفي العُسر والحَرج .

( وكذا لو آجر نفسه لعمل شاقّ ) مثل : حَفر البئر وما أشبه ذلك ،خصوصاً في الأعماق البعيدة من الأرض فانّه ( لم يمنع مشقتّه ) أي : مشقة العمل ( من صحّة الاجارة ووجوب الوفاء بها ) أي : بتلك الاجارة ، وهكذا إذاكانت هناك مصالحة على مثل هذا الأمر ، أو نحو ذلك .

( وحينئذٍ ) أي : حين لم يكن العُسر من الشارع ابتداءاً ، وقلنا بعلم البأس بالحكم العُسري الناشيء من قبل المكلَّف ( فنقول : لا ريبَ إنّ وجوب الاحتياط بإتيان كُلّ ما يحتمل الوجوب وترك كُلّ ما يحتمل الحرمة ) في حال إنسداد باب

ص: 395

إنّما هو من جهة إختفاء الأحكام الشرعيّة المسبّب عن المكلّفين المقصّرين في محافظة الآثار الصادرة عن الشارع ، المبيّنة للأحكام والممّيزة للحلال عن الحرام .

وهذا السببُ وإن لم يكن عن فعل كلّ مكلّف لعدم مدخلّية أكثر المكلّفين في ذلك ، إلاّ أنّ التكليف بالعسر ليس قبيحاً عقلياً حتى يقبح أن يكلّف به من لم يكن سبباً له ويختصّ عدمُ قبحه بمن صار التعسّر من سوء اختياره ،

-------------------

العلم والعلميّ ( إنّما هو من جهة إختفاء الأحكام الشرعيّة المسبّب ) ذلك الاختفاء ( عن المكلّفين المقصّرين في محافظة الآثار الصادرة عن الشارع ، المبيّنة ) تلك الآثار ( للأحكام ) الشرعيّة ( والمميزة للحلال عن الحرام ) كالاخبار الواردة عن المعصومين من النبيّ الى الإمام المهدي عليهم السلام .

( وهذا السبب ) أي : إختفاء الأحكام ( وإن لم يكن عن فعل كلّ مكلّفَ لعدم مدخلّية أكثر المكلّفين في ذلك ) فانّ المقصّرين هم الذين عاصروا المعصومين عليهم السلام ، أما الأجيال المتأخرة فليس لهم تقصير في ذلك ( إلاّ انّ التكليف بالعُسر ) بالنسبة الى من لم يكونوا سبباً لاختفاء الأحكام ( ليس قبيحاً عقليّاً حتى يقبح أن يكلف به من لم يكن سبباً له ) .

إذنّ : فالقبيح العقلي لا يمكن للحكيم التكليف به ، أما غير القبيح العقلي كالعُسر ، فرفعه إمتنان لا انّه واجب عقلاً حتى يقال : انّ التكليف العسر على من لم يسبّب إختفاء الأحكام لا يجوز .

( و ) حتى ( يختص عدمُ قبحه بمن صار التعسرّ من سوء اختياره ) كالذّين عاصروا الائمة عليهم السلام .

ص: 396

بل هو أمر منفيّ بالأدلّة الشرعيّة .

وظاهرها أنّ المنفيّ هو جعل الأحكام الشرعيّة أولاً وبالذات على وجه يوجب العسر على المكلّف ، فلا ينافي عروض التعسّر لامتثالها من جهة تقصير المقصّرين في ضبطها وحفظها عن الاختفاء مع كون ثواب الامتثال حينئذٍ أكثر بمراتب ؛ ألا ترى أنّ الاجتهاد الواجب على المكلّفين ، ولو كفايةً ،

-------------------

( بل هو ) أي : العُسر ( أمرٌ منفي بالأدلّة الشرعية ) الامتنانية .

( وظاهرها ) أي : ظاهر تلك الأدلّة الشرعيّة ( : إنّ المنفي هو جعل الأحكام الشرعيّة أوّلاً وبالذّات على وجه يوجب العُسر على المكلّف ) فالشارع لا يجعل الأحكام العُسرة على المكلّف - حسب إمتنانه على المكلفين - فلا يجعل عليهم صلاة عسرة ، أو صوماً عسراً ، أو حَجاً عُسراً ، أو ما اشبه ذلك ( فلا ينافي عروض التعسّر لامتثالها ) أي : امتثال الأحكام ( من جهة تقصير المقصّرين في ضبطها وحفظها عن الاختفاء ) حى ضاعت وإختفت .

هذا ( مع كون ثواب الامتثال حينئذٍ ) أي : حين لم يكن المكلّف هو سبباً للإختفاء ، كما في الأجيال المتأخرة عن زمان الائمة الطاهرين عليهم السلام فيكون ثوابهم ( أكثر بمراتب ) لأنهم يؤدّون تكليفاً عسراً ، والأجر على قدر المشقّة .

والحاصل : إنّه يكون هنا أمران وهما :

أولاً : لا قبح في تكليف عَسير .

ثانياَ : إنّ المولى يتداركه بثواب أكثر مما إذا كان التكليف غير عَسير .

ولنمثل للتكليف العَسير الموجِب للثواب الأكثر ، الذي لم يكن المكلَّف هو سبباً للعسر ، وإنّما كان غيره سبباً للعسر ، بما نذكره : ( ألا ترى أنّ الاجتهاد الواجب على المكلّفين ولو كفاية ) فيما اذا كان هناك من يقوم بأعباء الاجتهاد

ص: 397

من الاُمور الشاقّة جدّاً ، خصوصاً في هذه الأزمنة . فهل السّببُ فيه الاّ تقصير المقصّرين الموجبين لاختفاء آثار الشريعة ، وهل يفرّق في نفي العسر بين الوجوب الكفائي والعينيّ .

-------------------

( من الاُمور الشاقة جداً ، خصوصاً في هذه الأزمنة ) المتأخرة عن زمان المعصومين عليهم السلام ( فهل السبب فيه ) أي : في عُسر الاجتهاد ( إلاّ تقصير المقصّرين الموجبين لاختفاء آثار الشريعّة ؟ ) كخلفاء الجور والغاصبين ، وليس مثل شيخ الطائفة ، والمحقّق ، والشهيدين ، والعلاّمة ، ومن اشبههم فانّهم هم الذين وقع عليهم العبأ الثقيل وأجهدوا أنفسهم الشريفة بسب إختفاء الأحكام .

( وهل يفرّق في نفي العُسر بين الوجوب الكفائيّ والعينيّ ؟ ) فانّه لا فرق بين وجوب : الاجتهاد الكفائي ، وبين وجوب : الاحتياط العيني ، فكما يمكن العُسر في الوجوب الكفائي يمكن ذلك في الوجوب العيني ايضاً ، فاذا كان الاجتهاد العُسر واجباً كفائياً بالنسبة الى المجتهدين الذّين يخوضون هذا المِضمار كذلك يكون الاحتياط العسر واجباً عينياً على كافة المكلفين الذين إختفت عليهم الأحكام بسبب إنسداد باب العلم والعلمي على حدّ سواء .

انتهى

الجزء الرابع ويليه

الجزء الخامس في تتمّة

المقدّمة الثّالثة للإنسداد

وله الشُّكر

ص: 398

المحتويات

الدليل الثاني : السنّة... 7

الدليل الثالث : الاجماع وتقريره من وجوه... 50

1 - ادعاء الاجماع على حجيّة الخبر الواحد... 50

حجيّة الاخبار مطلقة لا تختص بالمحفوف بالقرينة... 84

تأويل تنافي اجماعيّ الشيخ والسيد ... 112

القرائن الدالة على صحة الاجماع بحجيّة الخبر الواحد ... 135

المتيقن من دلالة الاجماع ... 154

2 - الاجماع على وجوب العمل بالخبر عند انسداد باب القرائن... 158

3 - استقرار سيرة المسلمين على العمل بالخبر الواحد... 160

4 - استقرار سيرة العقلاء على العمل بالخبر الواحد... 167

5 - اجماع الصحابة على العمل بالخبر الواحد... 176

الاشكال على هذا الوجه... 177

6 - الاجماع على جواز الرجوع الى الاخبار الموجودة في اُصول الشيعة... 179

الاشكال على هذا الوجه... 180

الدليل الرابع : العقل وتقريره من وجهين... 186

اثبات حجيّة الخبر الواحد بدليل العقل من وجوه :... 186

الوجه الأوّل : الاستدلال بالعلم الاجمالي... 187

الجواب عن الوجه الأوّل ... 204

الوجه الثاني : ثبوت التكاليف بالخبر الواحد فقط ... 218

الجواب عن الوجه الثاني ... 220

ص: 399

الوجه الثالث : دليل صاحب الحاشية ومرجعه الى دليل الانسداد... 223

الجواب عن الوجه الثالث ... 225

ملخص الكلام : في أدلة حجيّة الخبر الواحد... 237

اثبات حجيّة الخبر الواحد لحجيّة مطلق الظنّ وتقريره من وجوه... 238

الوجه الأوّل :... 239

الوجه الثاني :... 286

الوجه الثالث :... 293

دليل الإنسداد ... 297

المقدمة الاُولى : انسداد باب العلم والعلمي... 304

المقدمة الثانية : عدم جواز إهمال الوقائع... 307

الاجماع على عدم اجراء البرائة... 308

استلزام نفي الحكم للمخالفة القطعيّة... 311

عدم الدليل على الرجوع الى البرائة... 332

المقدمة الثالثة : بطلان الإحتياط... 358

الإجماع على عدم وجوب الإحتياط... 360

لزوم العُسر والحَرج في التزام الاحتياط... 362

الاشكال على ابطال الاحتياط والجواب عنه... 370

المحتويات ... 399

ص: 400

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.