الوصائل إلی الرسائل المجلد 3

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور :الوصائل الی الرسائل/سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

----------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

----------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978

شابك ج1: 2-160-270-600-978

----------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

إشارة

قال في الايضاح في مسألة ما يدخل في المبيع : « إنّ من عادة المجتهد : إذا تغيّر اجتهاده الى التردّد او الحكم بخلاف ما اختاره أوّلاً ، لم يبطل ذِكرَ الحكم الأوّل ، بل يذكر ما أدّى اليه اجتهادُه ثانيا في موضع آخر ، لبيان عدم انعقاد إجماع أهل عصر الاجتهاد الأوّل على خلافه

------------------

( قال ) فخر المحققين ابن العلامة ( في الايضاح ، في مسألة ما يدخل في المبيع ) من التوابع ، فاذا باع الدار - مثلاً - دخل في المبيع : الماء الّذي في البئر ، والانابيب الّتي تنقل الماء منها والاشجار الّتي فيها وما اشبه ذلك ، ممّا لا يسمّى داراً وكذلك توابع كلّ مبيع بحسبه .

قال : ( انّ من عادة المجتهد ، اذا تغيّر اجتهاده إلى التردّد ، أو الحكم بخلاف ما اختاره أولاً ، لم يبطل ذكر الحكم الأوّل ) بأن يشطب على ذلك الحكم ، ويكتب الحكم الثاني مكانه .

مثلاً : اذا كان اجتهاده الاوّل : وجوب صلاة الجمعة ، وصار اجتهاده الثاني : حرمة صلاة الجمعة لم يشطب على الوجوب ( بل يذكر ما أدّى اليه اجتهاده ثانياً ، في موضع آخر ) سواء في كتاب آخر ، أو في موضع آخر من نفس ا لكتاب ، وقد ذكر فخر المحققين : انّ فائدة عدم الشطب على الحكم الاوّل ، أمور : -

أحدها : ما نبّه عليه بقوله : ( لبيان عدم انعقاد ، اجماع أهل عصر الاجتهاد الأوّل على خلافه ) أي على خلاف اجتهاده الأوّل ، اعلاماً بانّه لم ينعقد في العصر السابق اجماع على خلاف اجتهاده .

فاذا كان اجتهاده الأوّل - مثلاً - الوجوب ، واجتهاده الثاني : الحرمة ، وقد وافق كلّ علماء عصره عند اجتهاده الأوّل ، على الوجوب ، لم يبطل اجتهاده الاوّل عند تبدّل اجتهاده إلى الحرمة ، وذلك لافادة : انّ وقت اجتهاده الاوّل ، انعقد

ص: 7

وعدم انعقاد إجماع أهل العصر الثاني على كلّ واحد منهما وأنّه لم يحصل في الاجتهاد الثاني مبطلٌ للأوّل ، بل معارضٌ لدليله مساوٍ له » ، انتهى .

وقد أكثر في الايضاح من عدم الاعتبار بالخلاف لانقراض عصر المخالف ،

------------------

الاجماع على الوجوب.

الثاني : ما اشار اليه بقوله : ( وعدم انعقاد اجماع اهل العصر الثاني ، على كلّ واحد منهما ) أي : من الفتويين ، فتوى الوجوب أوّلاً ، وفتوى الحرمة ثانياً ، أمّا فتوى الوجوب : فلأنّه خالفه إلى الحرمة ، وأمّا فتوى الحرمة : فلأنّ علماء عصره الباقين على فتاواهم ، حتّى بعد فتواه الثاني ، قائلون بالوجوب ، وهو قائل بالحرمة .

الثالث : ما اشار اليه بقوله : ( وانّه لم يحصل في الاجتهاد الثاني مبطل للاوّل ، بل معارض لدليله مساوٍ له ) (1) لأنّه لا يعلم ما عند اللّه سبحانه واقعاً من صحة الفتوى الاولى ، أو الفتوى الثانية ، واّنما كان ذلك ما استظهره أوّلاً ، وهذا ما استظهره ثانياً .

ومن المعلوم : انّ الاستظهار قد يطابق الواقع ، وقد لا يطابقة ، فهما اجتهادان ، يحتمل مطابقة ذاك أو هذا للواقع ، بل وربّما يحتمل مخالفة كليهما للواقع ، فيما اذا كان أطراف الحكم ثلاثة : كالوجوب ، أو الحرمة ، أو التخيير في صلاة الجمعة ، (انتهى ) كلام الايضاح ، وما يكون شاهداً فيه لما ذكرناه ( وقد أكثر في الايضاح : من عدم الاعتبار بالخلاف ، لانقراض عصر المخالف ) ممّا يظهر منه : انّ مخالفة واحد من علماء العصر مانع من انعقاد الاجماع ، فيكون شاهداً لما ذكرناه سابقاً

ص: 8


1- - ايضاح الفوائد في شرح القواعد : ج1 ص502 .

وظاهره الانطباقُ على هذه الطريقة ، كما لا يخفى .

وقال في الذكرى :

« ظاهر العلماء المنعُ عن العمل بقول الميّت محتجّين بأنّه لا قولَ للميت ، ولهذا ينعقد الاجماعُ على خلافه ميّتا » .

------------------

من القول باللطف بقولنا : هذا الوجه ظاهر من كلّ من اشترط في تحقّق الاجماع ، عدم مخالفة أحد من علماء العصر .

( وظاهره ) أي : ظاهر كلام الايضاح في مواضعه المتعدّدة ( : الانطباق على هذه الطّريقة ) أي : على قاعدة اللطف الّتي ذكرها الشيخ .

وذلك لأنّ قاعدة اللطف - كما عرفت - مبنيّة على عدم مخالفة أحد من العلماء ، في العصر الواحد بل اجتماع الكلّ على رأي واحد ، ممّا لو كان مخالفاً للواقع ، لوجب على اللّه سبحانه وتعالى من باب اللّطف ، اظهار المخالف ، حتّى لا تكون كلّ الأمّة على خلاف الواقع ( كما لا يخفى ) ذلك على من تأمّل فيما ذكرناه .

( وقال ) الشهيد الاول ( في الذكرى ) ما يؤّد هذا القول أيضاً حيث قال : ( ظاهر العلماء : المنع عن العمل بقول الميّت محتجين : بأنّه لا قول للميّت ) من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، فانّ الانسان اذا مات انفقد ، وبذلك ينفقد تابعه الّذي هو قوله .

( ولهذا ) أي لأجل انّه لا قول للميت ( ينعقد الاجماع على خلافه ميّتاً ) (1)، فيما اذا كان كلّ علماء عصره ، الّذي توفي فيه ، يخالفونه في الرأي .

كما اذا ذهب علماء عصر واحد - مثلاً- إلى وجوب الجمعة وكان هو وحده من

ص: 9


1- - ذكرى الشيعة : ص3 .

واستدلّ المحقّق الثاني في حاشية الشرائع : « على أنّه لا قولَ للميّت ، بالاجماع على أنّ خلافَ الفقيه الواحد لسائر أهل عصره يمنعُ من انعقاد الاجماع اعتدادا بقوله واعتبارا بخلافه فاذا مات وانحصر أهل العصر في المخالفين له انعقد وصار قولُه غيرَ منظور إليه ، ولا يُعتَدّ به » ، انتهى .

------------------

بينهم ، يقول بالحرمة ، فاذا مات ، انعقد الاجماع على الوجوب ، لأنّ الّذي كان يقول بالحرمة قد مات ، فمات قوله بموته ، فلا مخالف للاجماع في العصر الثاني ، بعد موت ذلك العالم القائل بالحرمة ، فينحصر العلماء في القائلين بالوجوب ، فيكون الوجوب اجماعيّاً .

ومن المعلوم : انّ هذا الكلام - ايضاً - ممّا يشير إلى اللّطف الّذي ذكره شيخ الطائفة .

( واستدلّ المحقّق الثاني في حاشية الشرائع ، على انّه لا قول للميّت بالاجماع على انّ خلاف الفقيه الواحد ، لسائر أهل عصره ، يمنع من انعقاد الاجماع اعتداداً ) أي : اعتناءاً ( بقوله ) أي : لأجل الاعتناء بقول هذا الواحد ، لا ينعقد الاجماع ( و ) ذلك ( اعتباراً بخلافه ) أي خلاف هذا الواحد لاهل عصره ( فاذا مات ) هذا الواحد (وانحصر أهل العصر في المخالفين له ، انعقد ) بعد موته الاجماع ( وصار قوله غير منظور اليه ، ولا يعتدّ به (1) ، انتهى ) كلام المحقّق الثاني ، صاحب جامع المقاصد .

ومن المعلوم : انّ هذه العبارات كلّها - ايضاً - تشير إلى قاعدة اللطف ، الّتي ذكرها الشيخ في باب الاجماع .

ص: 10


1- - حاشية الشرائع : مخطوط .

وحكي عن بعض انّه حكى عن المحقّق الداماد انّه قدس سره ، قال في بعض كلام له ، في تفسير النّعمة الباطنة : « إنّ من فوائد الامام - عجّل اللّه فرجه - أن يكون مستندا لحجّية اجماع أهل الحلّ والعقد من العلماء على حكم من الأحكام إجماعا بسيطا في أحكامهم الاجماعيّة وحجّية إجماعهم المركّب في أحكامهم الخلافيّة ،

------------------

( وحكي عن بعض : انّه حكى عن المحقّق الداماد : انّه قدس سره قال في بعض كلام له ، في تفسير النعمة الباطنة ) حيث انّ للّه سبحانه وتعالى نعماً ظاهرة ، ونعماً باطنة ، وقد اشار اليهما بقول سبحانه : « وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرِةً وَبَاطِنَةً » (1) .

قال : ( انّ من فوائد الامام ) الحجّة ( عجلّ اللّه ) تعالى ( فرجه أن يكون مستنداً لحجيّة اجماع أهل الحلّ والعقد ، من العلماء ) وقد تقدّم معنى : الحلّ والعقد ( على حكم من الأحكام ) سواء كان الحكم وجوباً ، أو حرمة ، أو غيرهما ، ( اجماعاً بسيطاً في أحكامهم الاجماعية ) والاجماع البسيط عبارة عن : اتّفاق الكلّ على حكم واحد ، كما اذا اتّفقوا جميعاً على وجوب الجمعة .

( وحجّية اجماعهم المركّب في أحكامهم الخلافية ) والاجماع المركّب عبارة عن : اتّفاق الكلّ في شيء على قولين بحيث انّه لايجوز خلاف ذينك القولين .

كما اذا ذهب بعض الفقهاء : إلى حرمة الجمعة وبعض الفقهاء : إلى وجوب الجمعة فهذا هو الاجماع المركّب ، ومعناه : انّه قام اجماع الأمّة : على انّ الجمعة ، ليست مخيرة بين الظهر والجمعة ، فلا يجوز احداث القول الثالث ، لأنّه يعلم بأنّ القول الثالث خلاف الاجماع المركّب .

ص: 11


1- - سورة لقمان : الآية 20 .

فانه - عجّل اللّه فرجه - لا ينفرد بقول ، بل من الرحمة الواجبة في الحكمة الالهيّة أن يكون في المجتهدين المختلفين في المسألة المُختلفِ فيها ، من علماء العصر من يوافق رأيه رأي إمام عصره ، وصاحب أمره ، ويطابق قولهُ ، قوله وإن لم يكن ممّن نعلمه بعينه ونعرفه بخصوصه » ، انتهى .

وكأنّه لاجل مراعاة هذه الطريقة التجأ الشهيد

------------------

( فانّه عجل اللّه ) تعالى ( فرجه لا ينفرد بقول ) مخالف للاجماع البسيط ، أو للاجماع المركّب ( بل من الرّحمة الواجبة في الحكمة الالهية ) من باب اللطف ( أن يكون في المجتهدين المختلفين ) على قول أو على أقوال ( في المسألة المختلف فيها : من علماء العصر من يوافق رأيه رأي امام عصره ، وصاحب أمره ، ويطابق قوله قوله ) « عجل اللّه تعالى فرجه » ( وان لم يكن ) هذا العالم ، الّذي يطابق رأيه رأي امام العصر ( ممّن نعلمه بعينه ونعرفه بخصوصه ، انتهى ) .

مثلا : اذا ذهبت الأمّة إلى وجوب الجمعة ، وكان الوجوب مخالفاً للواقع ، وجب على اللّه سبحانه وتعالى من باب اللطف : اظهار الحرمة أيضاً ، واذا ذهبت الأمة إلى قولين : قولاً بالوجوب ، وقولاً بالحرمة ، فاللازم ان يكون احد هذين القولين مطابقاً لقول الامام عليه السلام ، لكي لا يقع كلّ الاُمّة في الخلاف - على ما عرفت سابقاً - .

ومن الواضح : انّ قول المحقّق الداماد أيضاً ، يشير إلى قاعدة اللطف الّتي ذكرها شيخ الطائفة .

( وكأنّه لأجل مراعاة هذه الطريقة ) أي : طريقة اللطف الّتي تستلزم اتفاق الكلّ في عصر واحد ، فاذا خالف بعض لم يتحقق الاجماع ( التجأ الشّهيد ) الأوّل

ص: 12

في الذكرى إلى توجيه الاجماعات التي ادّعاها جماعةٌ في المسائل الخلافيّة مع وجود المخالف فيها بارادة غير المعنى الاصطلاحيّ من الوجوه التي حكاها عنه في المعالم ،

------------------

( في الذكرى ، إلى توجيه الاجماعات ، الّتي ادّعاها جماعة ) من العلماء ( في المسائل الخلافيّة ، مع وجود المخالف فيها ) اذ كيف يدّعون الاجماع ، مع وجود المخالف ؟ مع وضوح : انّ الاجماع على مبنى المتقدّمين ، وهواللّطف ، لا يكون إلاّ بعدم استثناء حتّى واحد من العلماء .

والتوجيه يكون ( بارادة غير المعنى الاصطلاحي ) عند الامامية ( من الوجوه التي حكاها عنه في المعالم ) فانّ المعالم ، حكى عن الشهيد في الذكرى : وجوهاً في صحّة ادّعاء العلماء الاجماع ، مع وجود المخالف .

أقول : وهذه عبارة الشهيد في الذكرى - كما حكي عنه - بالنصّ : يثبت الاجماع بخبر الواحد ، ما لم يعلم خلافه ، لأنّه أمارة قويّة كروايته ، وقد اشتمل كتاب الخلاف ، والانتصار ، والسرائر ، والغيبة ، على أكثر هذا الباب ، مع ظهور المخالف في بعضها ، حتّى من الناقل نفسه .

والعذر : امّا بعدم اعتبار المخالف المعلوم النسب - كما سلف - .

وامّا تسميتهم لما اشتهر : اجماعاً .

وامّا بعدم ظفره حين ادّعى الاجماع ، بالمخالف .

وامّا بتأييد الخلاف ، على وجه يمكن مجامعته لدعوى الاجماع - وان بعد - كجعل الحكم من باب التخيير .

وامّا اجماعهم على روايته ، بمعنى : تدوينهم في كتبهم ، منسوباً إلى الأئمّة عليهم السلام انتهى .

ص: 13

ولو جامع الاجماع وجود الخلاف ولو من معلوم النسب لم يكن داع إلى التوجيهات المذكورة مع بعدها او أكثرها .

الثالثُ : من طرق انكشاف قول الامام عليه السلام لمدّعي الاجماع الحدسُ ، وهذا على وجهين :

أحدهما : أن يحصل له ذلك من طريق لو علمنا به ما خطّأناه في استكشافه ، وهذا على وجهين :

------------------

وفي الاستدلال بكلام الشهيد ، على انّ المراد بالاجماع ، هو : الاجماع اللّطفي ما ذكره المصنّف بقوله : ( ولو جامع الاجماع ) في نظر الشهيد الأوّل ( وجود الخلاف ولو من معلوم النسب ، لم يكن داع إلى التوجيهات المذكورة مع بُعدها ) أي : بعد تلك التوجيهات ( أو أكثرها ) أي بعد أكثر تلك التوجيهات - على ما عرفتها - .

فعلم من كلام الشهيد الأوّل : انّ الاجماع هو من باب اللّطف ، ولذا يضرّه حتّى وجود المخالف الواحد .

وحيث قد تقدّم الاجماع الدخولي والاجماع اللطفي ، شرع المصنّف في بيان الاجماع الحدسي بقول : -

( الثالث من طرق انكشاف قول الامام عليه السلام لمدّعي الاجماع : الحدس ، و ) هو الّذي بنى عليه المتأخرون ، ويكون ( هذا ) الاجماع الحدسي (على وجهين : ) .

( أحدهما : أن يحصل له ) أي للناقل ( ذلك ) الحدس ( من طريق ) حسّي ( لو علمنا به ) أي : بذلك الطريق ( ما خطّأناه ) أي : الناقل ( في استكشافه ) للاجماع .

( وهذا ) القسم الأول أيضاً ( على وجهين ) :

ص: 14

احدهما : أن يحصل له الحدسُ الضروريّ من مباد محسوسة بحيث

يكون الخطأ فيه من قبيل الخطأ في الحسّ ، فيكون بحيث لو حصل لنا تلك الأخبار يحصل لنا العلمُ كما حصل له .

ثانيهما : أن يحصل الحدسُ له من إخبار جماعة

------------------

( أحدهما : أن يحصل له الحدس الضروري ، من مباد : محسوسة ) كأن يتتبع مدعي الاجماع ، أقوال جميع علماء الأعصار والأمصار ، فيراها قولاً واحداً ، فانّ مثل هذا حدس ضروري كاشف عن انّ سيّد الفقهاء ، وهو : الامام عليه السلام يوافقهم في رأيهم ، وإلاّ كيف أمكن لجميع العلماء على اختلاف مشاربهم ، وطرق استظهارهم واستنباطهم ان يتّفقوا على فتوى واحدة ( بحيث يكون الخطأ فيه ) أي في هذا الحدس ( من قبيل الخطأ في الحسّ ) .

فكما انّه لا يقع الخطأ في الحسّ الاّ نادراً - وقد ذكرنا بعض موارد الندرة سابقاً مثل رؤة الشيء الكبير على البُعد صغيراً ، ورؤة السراب ماءاً ، ورؤة الخطّين المتوازيين من بعيد متصلين ، وما اشبه ذلك ، ممّا لا يعتني العقلاء بإِحتمال الخطأ فيه ، الاّ اذا ثبت الخطأ فيه قطعاً كالأمثلة الّتي ذكرناها - كذلك الحدس المذكور ، فانّه لا يقع في الخطأ الاّ نادراً .

ومعلوم : انّ مثل هذا الحدس كالحسّ ضروري ( فيكون ) حدس هذا المدّعي للاجماع ( بحيث لو حصل لنا تلك الاخبار ) من التتبع لأقوال فقهاء الاعصار والأمصار ( يحصل لنا العلم ، كما حصل له ) أي : للناقل باستكشاف رأي الامام من هذا الطريق .

( ثانيهما ) أي ثاني القسمين ، الذين ذكرناهما في القسم الاول من الحدس ( : ان يحصل الحدس له ) لا من طريق حسّي ، بل ( من إخبار جماعة ) كالفقهاء

ص: 15

اتّفق له العلمُ بعدم اجتماعهم على الخطأ ، لكن ليس إخبارهم ملزوما عادةً للمطابقة لقول الامام عليه السلام ، بحيث لو حصل لنا علمنا بالمطابقة أيضا .

الثاني : أن يحصل ذلك من مقدّمات نظريّة واجتهادات كثيرة الخطأ ، بل علمنا بخطأ بعضها في موارد كثيرة من نَقَلَةِ الاجماع ،

------------------

الاعلام الذين هم مطّلعون على أقوال العلماء، كالشيخ ، والسَيّد، والمحقق ، والعلاّمة ، والشهيدين، وغيرهم ( اتّفق له ) أي : للناقل ( العلم بعدم اجتماعهم على الخطأ ) في الفتوى .

( لكن ليس اخبارهم ملزوماً عادة للمطابقة لقول الامام عليه السلام ) ملازمة عرفية لدى المتشرعة فليس ( بحيث لو حصل لنا ) هذه الاخبار عن هذه الجماعة التي ذكرنا اسماءهم - مثلاً - ( علمنا بالمطابقة أيضاً ) .

وعلى أي حال : ففي القسم الأوّل من الاجماع الحدسي نوعان : نوع حدسيّ ضروري ونوع حدسيّ غير ضروري .

أمّا القسم ( الثاني ) : من الاجماع الحدسي فهو ( أن يحصل ذلك ) الحدس بقول الامام عليه السلام للناقل ( من ) مبادي حدسيّة و ( مقدّمات نظريّة ، واجتهادات كثيرة الخطأ ) وعلى نحو الاجمال ، ( بل علمنا ) تفصيلاً ( بخطأ بعضها ) أي بعض تلك الاجتهادات ( في موارد كثيرة من نقلة الاجماع ) فان ادعاء هؤاء الاجماع ، مبني على اجتهاداتهم ، واجتهاداتهم على قسمين :

الاول : ما علمنا اجمالاً بخطأ بعضها .

الثاني : ما علمنا تفصيلاً ، بخطأ ذلك البعض .

وعلى أي حال : فالشيء الّذي يبنى على تلك الاجتهادات ، لا يمكن أن يؤذ به ، اما للعلم اجمالاً بخطأه ، أو للعلم تفصيلاً بخطأه .

ص: 16

علمنا ذلك منهم بتصريحاتهم في موارد ، واستظهرنا ذلك منهم في موارد اُخر ، وسيجيء جملة منها .

إذا عرفتَ أنّ مستندَ خبر المخبر بالاجماع المتضمّن للاخبار من الامام عليه السلام ، لا يخلو من الامور الثلاثة المتقدّمة - وهي السماع عن الامام

------------------

ان قلت : من اين علمنا : ان هذا الناقل استند في نقله الاجماع ، الى اجتهادات نعلم خطأ كثير منها ، أو خطأ بعضها بالتفصيل ؟ .

قلت : ( علمنا ذلك منهم بتصريحاتهم من موارد ) قد نقلوا فيها الاجماع وقالوا : انّ المسألة الفلانية اجماعية للآية الفلانية ، أو للحديث الفلاني ، أو للأصل ، أو ما أشبه ذلك .

كما ( واستظهرنا ذلك منهم ) أي : من الناقلين للاجماع ( في موارد اُخر ) فانّهم ، وان لم يذكروا في هذه الموارد الأخر : انّهم استندوا في نقل الاجماع إلى الاجتهاد الفلاني ، لكن القرائن الخارجية تدل على ان دعواهم للاجماع ، هذا مستندة إلى اجتهادات نعلم خطأها .

( وسيجيء جملة منها ) أي من تلك الموارد ان شاء اللّه تعالى .

وعليه : ( اذا عرفت : انّ مستند خبر المخبر بالاجماع ) وخبر قوله « اذا عرفت » يأتي بعد أسطر حيث يقول : « وجب التوقف في العمل » ( المتضمّن ) هذا الخبر (للاخبار من الامام عليه السلام ) ولا يراد : التضمن الاصطلاحي المنطقي ، بل الأعم من ذلك ، فانه ( لا يخلو من الأمور الثلاثة المتقدّمة وهي : )

اولاً : ( السماع عن الامام ) عليه السلام الّذي كان بين المجمعين حتّى يكون الاجماع

ص: 17

مع عدم معرفته بعينه ، واستكشاف قوله من قاعدة اللطف ، وحصول العلم من الحدس ، وظَهَرَ لك أنّ الأوّل هنا غيرُ متحقق عادةً لأحد من علمائنا المدّعين للاجماع ، وأنّ الثاني ليس طريقا للعلم - فلا يُسمعُ دعوى من استند اليه ، فلم يبق ممّا يصلح أن يكون مستندا في الاجماعات المتداولة على ألسِنَة ناقليها إلاّ الحدسُ ، وعرفت أنّ الحدسَ قد يستند إلى مبادٍ محسوسة ملزومة عادةً لمطابقة قول الامام عليه السلام ،

------------------

دخولياً ( مع عدم معرفته ) عليه السلام ( بعينه ) كما عليه المتقدمون ، حيث انّه لو علم بعينه ، لم يكن من الاجماع في شيء ، وأنما كان من اخبار الامام عليه السلام .

( و ) ثانياً : ( استكشاف قوله ) عليه السلام بسبب الاتفاق المذكور ( من قاعدة اللّطف ) وهو الذي عليه الشيخ رحمه اللّه ، ومن تبعه .

( و ) ثالثاً : ( حصول العلم من الحدس ) وعليه المتأخرون .

هذا ( و ) قد ( ظهر لك أنّ الاوّل ) وهو الاجماع الدخولي ( هنا ) أي : في باب الاجماعات المنقولة من الفقهاء ( غير متحقق عادة ) في زمن الغيبة ( لأحد من علمائنا المدّعين للاجماع ) فان الشهيد ، أو العلامة ، أو من اشبة ، اذا ادعوا الاجماع نقطع بانهم لا يريدون الاجماع الدخولي ( وانّ الثاني : ) وهو اللّطف ( ليس طريقاً للعلم ) وذلك لما تقدّم من عدم وجوب اللّطف بالمعنى الذي ذكره الشيخ (فلا يسمع دعوى من استند اليه) أي: إلى اللّطف .

وعليه : ( فلم يبق ممّا يصلح أن يكون مستنداً في الاجماعات المتداولة على ألسِنَة ناقليها ، إلاّ الحدس ) وهو الامر الثالث من مستنداتهم في الاجماع .

كما ( وعرفت : انّ الحدس قد يستند إلى مباد محسوسة ، ملزومة عادة لمطابقة قول الامام عليه السلام ) كالحدس الّذي يحصل من اتفاق جميع علماء الأعصار

ص: 18

نظير العلم الحاصل من الحواسّ الظاهرة ، ونظير الحدس الحاصل لمن أخبر بالعدالة والشجاعة لمشاهدته آثارهما المحسوسة الموجبة للانتقال إليهما بحكم العادة او إلى مبادٍ محسوسة موجبة لعلم المدّعي بمطابقة قول الامام عليه السلام من دون ملازمة عادية ، وقد يستند الى اجتهادات وأنظار .

------------------

والامصار ، حيث قد تقدّم بانه ( نظير العلم الحاصل من الحواسّ الظاهرة ) ، فاذا علم الانسان : باتفاق جميع العلماء ، منذ زمن الغيبة إلى اليوم ، ينكشف له من ذلك قول الامام، كما لو سمع الحكم من نفس الامام، أو رأى كتابته أو تقريره عليه السلام.

( و ) انّه ( نظير الحدس ) الضروري ( الحاصل لمن أخبر بالعدالة ) في العادل الفلاني ( والشجاعة ) في الشجاع الفلاني وذلك ( لمشاهدته ) أي هذا المخبر بالعدالة او الشجاعة ( آثارهما المحسوسة الموجبة للانتقال ) من تلك الاثار ( اليهما بحكم العادة ) أي إلى الشجاعة والعدالة ، وكذلك سائر الصفات النفسية كالسخاوة والجُبن ، ونحو ذلك عادة .

ولذا لا يستشكل على من يدّعي العلم بالعدالة ، أو الفسق ، أو الشجاعة ، أو الجُبن ، أو غير ذلك ، من الصفات النفسية : بأنك من أين عرفت هذه الاُمور ، والحال انها اُمور نفسانية لا تظهر للانسان ؟ .

( أو ) يستند الحدس ( إلى مباد محسوسة ، موجبة لعلم المدّعي بمطابقة قول الامام عليه السلام ، من دون ملازمة عادية ) بين الأقوال الّتي تصفحها هذا الناقل للاجماع ، وبين قول الامام عليه السلام ، كما اذا كان الحدس بقوله عليه السلام من اتفاق عشرة ، أو عشرين ، أو ما اشبه من كبار الفقهاء ( وقد يستند ) الحدس ( الى اجتهادات وانظار ) كلّها ، أو جلّها مخالفة لاجتهاداتنا وانظارنا، كالاجماع المستند إلى أصل

ص: 19

وحيثُ لا دليلَ على قبول خبر العادل المستند إلى القسم الأخير من الحدس ، بل ولا المستند إلى الوجه الثاني ، ولم يكن هناك ما يعلم به كونُ الاخبار مستندا إلى القسم الأوّل من الحدس ، وجب التوقفُ في العمل بنقل الاجماع ، كسائر الأخبار المعلوم استنادُها الى الحدس المردد بين الوجوه المذكورة .

------------------

أو نحوه ، مما لا نراه نحن من صغريات ذلك الأصل .

( وحيث لا دليل على قبول خبر العادل ، المستند إلى القسم الاخير من الحدس ) وانّما الدليل على القسمين الأوّلين من الحدس ، حيث قد عرفت انّ الحدس على ثلاثة أقسام .

( بل ولا ) الحدس ( المستند الى الوجه الثّاني ) لما سبق : من انّ أدلة خبر العادل ، لا تدل الاّ على نفي احتمال الكذب فقط ، ولا دليل على اصالة : عدم خطأ الانسان في حدسه ، اذا لم يسبب حدس الناقل للاجماع حدسنا أيضاً ( ولم يكن هناك ) عند نقل الناقل للاجماع ( ما ) أي قرينة ( يعلم به ) اي ، بسبب تلك القرينة ( كون الاخبار ) عن قول الامام عليه السلام ( مستنداً إلى القسم الأوّل من الحدس ) ، أي : لا نعلم انّ الناقل استند إلى الحدس الضروري ، حتّى يكون من قبيل الاخبارات الحسّية .

( وجب التوقف في العمل ) وهذا جواب ما تقدّم من قوله : « اذا عرفت » .

وعليه : فلا نتمكن ان نعمل نحن ( بنقل الاجماع ، كسائر الاخبار المعلوم استنادها الى الحدس ، المردد بين الوجوه المذكورة ) أي : الاقسام الثلاثة من الحدس ، فاذا اخبر انسان بشيء ، ولم نعلم انّه من القسم الأوّل الّذي هو حجة ، أو القسم الثاني ، أو الثالث ، وهما غير حجة ، فلا نتمكن أن نأخذ بخبره ، كما اذا اخبر

ص: 20

فان قلتَ : ظاهرُ لفظ الاجماع اتفاقُ الكل ، فاذا أخبر الشخصُ بالاجماع فقد أخبر باتفاق الكلّ ومن المعلوم أنّ حصول العلم بالحكم من اتفاق الكلّ كالضروريّ فحدس المخبر مستندٌ إلى مبادٍ محسوسة ملزومة لمطابقة قول

------------------

شخص بشجاعة زيد ، ولم نعلم انّه رأى منه شهامةً في حرب ، أو فتحاً في غزوة ، وما أشبه ذلك مما يستلزم عادة الشجاعة ، أو رأى منه موقفاً واحداً فاتفق له العلم بشجاعته ، مع ان ذلك الموقف لم يكن ، ملازماً للشجاعة عادة ، أو لم ير منه أثراً ، الاّ انّه راى كبر جسمه ، وعظم هيكله ، فحدس بشجاعته ، وأخبر عنها ، فانه لا نتمكن نحن أن نقول : بأنّ زيداً شجاع ، لأنّ الاخبار بشجاعته ، كان مردداً بين الوجوه الثلاثة ، الّتي لم يكن بعضها حجة ، وكذلك لو أخبر بالعدالة ، ونحوها من الصفات النفسية ، الّتي قد يقطع الانسان من اثارها عادة بها ، وقد لا يقطع بها عادة ، وقد يكون من القسم الثالث ، الّذي هو صرف اجتهاد محض ، واستنباط ليس بحجة .

( فان قلت : ) ذكرتم : انّ محتملات الاجماع الحدسي على ثلاثة اقسام قسمان منها ليس بحجة ، وقسم واحد حجة ، فاذا ادّعى المدّعي الاجماع ، ولم نعلم انّه من اي الاقسام الثلاثة لم يكن اجماعه حجّة .

قلت : ما ذكرتم ليس بصحيح ، لأنّ ( ظاهر لفظ الاجماع : اتفاق الكلّ ، فاذا أخبر الشخص بالاجماع ، فقد أخبر باتفاق الكل ) والناقل عادل ، فيكون اخباره صحيحاً ( ومن المعلوم : انّ حصول العلم بالحكم ) الصادر من الامام عليه السلام، المستند إلى الاجماع ، الحاصل ( من اتفاق الكلّ كالضروري ) في الحجّية .

وعليه : ( فحدس المخبر ، مستند إلى مبادٍ محسوسة ، ملزومة لمطابقة قول

ص: 21

الامام عليه السلام ، عادةً ، فامّا أن يُجعل الحجّةُ نفس ما استفاده من الاتفاق ، نظير الاخبار بالعدالة ، وإمّا أن يُجعل الحجّة إخبارهُ بنفس الاتفاق المستلزم عادةً لقول الامام عليه السلام ، ويكون نفسُ المخبر به حينئذٍ محسوسا ، نظير إخبار الشخص بامور يستلزم العدالة والشجاعة عادةً .

------------------

الامام عليه السلام ) لزوماً ( عادة ) لما تقدّم : من ان تتبع الأسباب يوجب العلم بالمسبب، وأقوال الفقهاء سبب للعلم ، بقول الامام عليه السلام .

( فأمّا أن يجعل الحجّة نفس ما استفاده من الاتفاق ) وهو : قول الامام عليه السلام ، أي : المسبب ( نظير الاخبار بالعدالة ) فان من يخبر بالعدالة ، يكون قوله حجّة ، وان كانت العدالة مسببة عن الأسباب الّتي رأها المخبر ، لانّ العدالة لا تشاهد ، و انّما تعرف بالاثار .

( وأمّا أن يجعل الحجّة ، اخباره بنفس الاتفاق ، المستلزم عادة لقول الامام عليه السلام) أي ان مدّعي الاجماع يدّعي : امّا السبب ، وهو اتفاق الكل ، واّما المسبب وهو قول الامام عليه السلام وكلاهما حجة ( ويكون نفس المخبر به حينئذٍ محسوساً ، نظير اخبار الشخص بامور يستلزم العدالة ) عادة .

فكما ان قول القائل : زيد متورِّع عن المعاصي ، وملتزم بالواجبات ، وما اشبه ، اخبار عن السبب ، وحجّة ، أو اخبار عن المسبب ، أي : العدالة وحجة أيضاً ، كذلك ناقل الاجماع ، فانه سواء اراد نقل السبب أو المسبب ، يكون حجّة ، لانه نقل لقول المعصوم ، أو السبب الكاشف عن قول المعصوم ، كاخبار الشخص ، بأسباب العدالة ، ( والشجاعة ) والجُبن ، والكرم ، وما اشبه مما تكون تلك الأسباب ملازمة لهذه الصفات ( عادة ) وعلى هذا : فلماذا لا يكون نقل الاجماع الحدسي موجباً للكشف عن قول المعصوم الذي هو حجة ؟ .

ص: 22

وقد أشار إلى الوجهين بعضُ السادة الأجلّة في شرحه على الوافية ، فانّه قدس سره ، لمّا اعترض على نفسه : ب« أنّ المعتبر من الأخبار ما استند إلى إحدى الحواسّ ، والمخبر بالاجماع إنّما رجع إلى بذل الجهد ، ومجرّد الشكّ في دخول مثل ذلك في الخبر يقتضي منعه » .

أجاب عن ذلك : بأنّ المخبر هنا أيضا يرجع إلى الحس فيما يخبر عن العلماء وإن جاء العلم بمقالة المعصوم من مراعاة أمر آخر ، كوجوب اللّطف وغيره .

------------------

( وقد أشار إلى الوجهين ) أي حجية نقل السبب أو المسبب ( بعض السّادة الأجلّة ) وهو : الكاظمي رحمه اللّه ( في شرحه على الوافية ، فانّه قدس سره لمّا اعترض على نفسه : بأنّ المعتبر من الاخبار ، مااستند إلى احدى الحواس ) الظاهرة ، وهي : اللامسة ، والشامّة ، والذائقة ، والسّامعة ، والباصرة ( والمخبر بالاجماع ) لم يسمع الحكم من الامام عليه السلام ، ولم ير تقريره ولا غير ذلك مما يرجع إلى الحواس ، و ( انمّا رجع ) الناقل للاجماع ، في استكشافه قول الامام عليه السلام ( الى بذل الجهد ) وتتبع أقوال العلماء في الكشف وهو أمر حدسيّ ، وليس بحسّي ، ( ومجرّد الشّك في دخول مثل ذلك في الخبر ، يقتضي منعه ) أي : منع الدخول ، فاذا شككنا في انّ هذا الخبر الحدسي ، يدخل في ادلة حجّية الخبر الواحد ، وان تلك الادلّة تشمل الاجماع ، ام لا ؟ فأصالة حرمة العمل بالظن، تقتضي : أن لا يكون الاجماع من الخبر ، فلا يشمل الاجماع أدلّة حجية الخبر.

( أجاب عن ذلك : بأنّ المخبر هنا - أيضاً - يرجع إلى الحسّ ، فيما يخبر عن العلماء ، وان جاء العلم بمقالة المعصوم عليه السلام من مراعاة أمر آخر ) من الأدلّة على حجّية الاجماع ( كوجوب اللّطف ) الّذي ذكره الشيخ ( وغيره ) كالحدس .

ص: 23

ثمّ أورد : بأنّ المدار في حجّية الاجماع على مقالة المعصوم عليه السلام ، فالاخبار إنّما هو بها ، ولا ترجعُ إلى حس .

فأجاب عن ذلك : أوّلاً ، بأنّ مدارَ الحجّية وإن كان ذلك ، لكن استلزام اتفاق كلمة العلماء لمقالة المعصوم عليه السلام معلومٌ لكلّ أحد ، لا يحتاجُ فيه إلى النقل ، وإنّما الغرضُ عن النقل ثبوتُ الاتفاق . فبعد اعتبار خبر الناقل لوثاقته ورجوعه في حكاية الاتفاق إلى الحسّ

------------------

فان الناقل حينما ينقل اجماع العلماء على حكم كان ذلك اخباراً عن حسّ .

ومن الواضح : ان قول الامام عليه السلام ، ملزوم لهذا الشيء الحسّي من باب اللّطف ، أو من باب الحدس ، أو غير ذلك .

( ثمّ أورد : بأنّ المدار في حجّية الاجماع ، على مقالة المعصوم عليه السلام ، فالاخبار انّما هو بها ) أي : بمقالة المعصوم ( و ) الحال ان مثل هذه المقالة ( لاترجع إلى حسّ ، فاجاب عن ذلك : أولاً ) : ان الناقل انّما نقل السبب ، ويكفي نقل السبب في ثبوت المسبب وذلك (ب- ) واسطة ( انّ مدار الحجّية ، وان كان ذلك) الّذي ذكره : من الرجوع إلى الحسّ (لكن استلزام اتفاق كلمة العلماء ) المتفقين على حكم ( لمقالة المعصوم عليه السلام معلوم لكلّ احد ، لا يحتاج فيه ) أي : في ذلك الاستلزام ( إلى النقل ) ، فان كل احد يعلم : بان اتفاق الكل ملازم لمقالة المعصوم ، فلا حاجة إلى أن ينقل كلام المعصوم بالنص ( وانّما الغرض ) الأصلي ( عن النقل : ثبوت الاتفاق ) لجميع العلماء ، فان الناقل ينقل اتفاق جميع العلماء.

( فبعد اعتبار خبر النّاقل لوثاقته ) إذ المفروض انّ ناقل الاجماع عادل ، موثق كلامه ، صحيح ، ولا يحتاج إلى الفحص ( ورجوعه في حكاية الاتفاق ) ونقل الاجماع ( الى الحسّ ) وذلك اما بالسماع منهم ، كما اذا كانوا في عصر واحد ،

ص: 24

كان الاتفاق معلوما ، ومتى ثبت ذلك كشف عن مقالة المعصوم للملازمة المعلومة لكلّ أحد .

وثانيا ، انّ الرجوع في حكاية الاجماع الى نقل مقالة المعصوم لرجوع الناقل في ذلك إلى الحسّ ، باعتبار أن الاتفاق من آثارها ، ولا كلامَ في اعتبار مثل ذلك ، كما في الاخبار بالايمان والفسق والشجاعة والكرم وغيرها من الملكات ،

------------------

أو بالرؤة في كتبهم ، أو بالأمرين معاً ( كان الاتفاق معلوماً ) لنا شرعاً ، لان الناقل

ثقة فيما يدعي من اتفاقهم .

( ومتى ثبت ذلك ) الاتفاق ( كشف ) بالبداهة ( عن مقالة المعصوم ) عليه السلام ، فلا حاجة إلى ان ينقل قول المعصوم مباشرة ، اذ لو كان هناك سبب ومسبب ، فنقل الناقل السبب كان كما اذا نقل المسبب وذلك ( للملازمة المعلومة لكلّ أحد ) بين اتفاق العلماء ، وبين قول المعصوم .

هذا كله اذا كان غرض الناقل السبب ( و ) اما اذا كان غرضه المسبب فنُجيب :

( ثانياً ) بأنّ غرض الناقل : نقل قول الامام عليه الصلاة والسلام ف( انّ الرّجوع في حكاية الاجماع ، إلى نقل مقالة المعصوم عليه السلام ، لرجوع الناقل في ذلك ) أي : في نقل قول الامام عليه السلام ( الى الحسّ ، باعتبار انّ الاتفاق ) المحسوس للناقل ( من آثارها )، أي : من اثار مقالة المعصوم عليه السلام ، فان أثر الاتفاق هو : مقالة المعصوم ومقالة المعصوم هو : المؤر لهذا الاتفاق .

( ولا كلام في اعتبار ) وحجيّة ( مثل ذلك ) الحدس الّذي حصل من الحسّ ( كما في الاخبار بالايمان ، والفسق ، والشجاعة ، والكرم ، وغيرها من الملكات ) النفسيّة الّتي لا تُرى بالعين ، وانّما يَرى الانسان اثارها ، فاذا رأى اثارها صح له أن

ص: 25

وانّما لا يرجع إلى الاخبار في العقليّات المحضة ، فانّه لا يعوّل عليها ، وإن جاء بها ألف من الثقات حتى يدرك مثل ما أدركوا .

ثمّ أورد على ذلك : بأنّه يلزم من ذلك الرجوعُ إلى المجتهد ، لأنّه وإن لم يرجع إلى الحسّ في نفس الأحكام الاّ أنّه رجع في لوازمها وآثارها إليه

------------------

يخبر بهذه الصفات ، أو يخبر بالاثار الّتي هي ملازمة لتلك الصفات .

( وانّما لايرجع إلى الاخبار ) اي : لا يكون خبر المخبر ، حجّة ، وان ذكر اتفاق العلماء جميعاً ، لانّ الاجماع ( في العقليّات المحضة ) ليس بحجّة ، كما اذا نقل - مثلاً - اتفاق العلماء على حدوث العالم ، أو استحالة التناقض ، أو ما أشبه ذلك ، فان اللازم ان يرجع الانسان فيها الى الادلّة العقلية ، لأنّه لا شأن للاجماع في مثل هذه الامور ( فانّه لا يعوّل عليها ) أي : على الاخبار ( وان جاء بها الف من الثقات ، حتّى يدرك ) هذا المنقول اليه اجماعهم على الامور العقلية ( مثل ما ادركوا ) من الدليل العقلي عليها .

والحاصل : انّ الاجماع انّما هو حجّة في الشرعيات ، لا في العقليات .

( ثمّ أورد ) الكاظمي رحمه اللّه ( على ذلك ) ، أي ، على حجيّة الاخبار عن حدس ، فيما اذا كان مستنداً إلى الاثار الحسّية ، كالاجماع المستند إلى ما رآه مدعي الاجماع من اقوال العلماء ، فحدس بقول المعصوم من أقوالهم ( بأنّه يلزم من ذلك الرّجوع الى المجتهد ) ، أي اذا جاز استكشاف حكم المعصوم ، من فتوى المجتهدين بسبب نقل الاجماع جاز ايضاً ان نجعل آراء المجتهدين روايات المعصومين عليهم السلام ، وذلك ( لأنّه ) أي المجتهد ( وان لم يرجع إلى الحسّ في نفس الاحكام ) لأنّه لم يسمع الحكم الّذي يفتي به من الامام عليه السلام ( الاّ انّه رجع في لوازمها ) أي : لوازم الأحكام ( وآثارها اليه ) أي إلى الحس .

ص: 26

وهي الأدلة السمعيّة ، فيكون روايةً ، فلم لا يقبل اذا جاء به الثقةُ .

وأجاب : بأنّه إنّما يكفي الرجوعُ إلى الآثار إذا كانت الآثار مستلزمةً عادةً .

------------------

والفرق بين اللّوازم والآثار : ان الآثار اخص من اللّوازم ، فان اللّوازم تشمل الملازم - أيضاً - دون الآثار ، فان لازم النار - مثلاً - الحرارة ، امّا الطبخ للطعام ، فهو من آثار النار ، وان صَدَقَ عليه اللازم أيضاً ، باعتبار انّه مسبب من النار .

( و ) تلك المبادى ء الحسية ( هي : الأدلّة السمعيّة ) فكما انّ ناقل الاجماع لم يسمع الحكم من الامام عليه السلام ، بل وصل حدسه إلى الحكم من مباديء حسّية - وتلك المباديء عبارة عن تصفحه في أقوال الفقهاء ، وحصول اتفاقهم لديه - كذلك يكون حال المفتي ، فانه لم يسمع الحكم من الامام عليه السلام ، بل وصل اليه حدسه من المباديء الحسّية الّتي هي عبارة عن الكتاب ، والروايات ، والاجماعات ، والعقل .

فاذا كان الاجماع المنقول في حكم الحديث كما يدّعيه المدّعي ( فيكون ) الفتوى من المجتهد ايضاً ( رواية ) لأنّ ما ذكرتم في الاجماع المنقول ، آتٍ في الفتوى أيضاً ، ( فلم لا يقبل اذا جاء به ) المجتهد ( الثقة ) ؟ .

والحاصل : انّ الفتوى والاجماع ، بمنزلة واحدة ، لأن مبادئهما معاً حسّية ، وكشفهما عن قول المعصوم معاً حدسي ، فامّا ان يقبلا معاً كرواية أو لا يقبلا معاً كذلك .

( وأجاب ) الكاظمي رحمه اللّه : ( بأنّه ) ليس نقل الاجماع ، كنقل الفتوى ، لأنّه ( انّما يكفي الرّجوع إلى الآثار ، اذا كانت الآثار مستلزمة عادة ) للمؤر والاجماع مستلزم عادة لقول المعصوم بخلاف فتوى الفقيه ، فانّ فتوى الفقيه ، ليس مستلزماً لقوله عليه السلام عادة لما نعلم من كثرة الخطأ والاختلاف في فتاواهم .

ص: 27

وبالجملة : إذا افادت اليقين ، كما في آثار الملكات وآثار مقالة الرئيس ، وهي مقالة رعيّته ، وهذا بخلاف ما يستنهضه المجتهدُ من الدليل على الحكم .

ثمّ قال : على أن التحقيق في الجواب عن السؤال الأوّل هو الوجه الأوّل ،

------------------

( وبالجملة اذا افادت ) الآثار ( اليقين ) بقول المعصوم عليه السلام (كما في آثار الملكات ) فانّ الانسان يكشف من آثار العدالة ، أو الجُبن ، أو الكرم ، أو الفسق ، أو ما أشبه تلك الملكات النفسيّة ، لأنّ الآثار الحسّية المتعددة ، مستلزمة للمؤر الحدسي ، الّذي هو الملكة .

( و ) كما في ( آثار مقالة الرئيس وهي ) أي : تلك الاثار ( مقالة رعيّته ) فان الانسان اذا وجد آثارا في البلاد ، يقطع منها أنها بأمر رئيسهم ومقالته ، فاذا رأينا المحاكم تفعل كذا ، بالنسبة الى السارق ، أو الزاني ، أو ما أشبه نقطع بأنّها من أمر الرئيس .

والفقهاء حيث انّهم رعايا الامام عليه السلام ، وهم عدول لا يريدون التخطي عن قوله، فاذا اتفقوا على شيء ، كشف ذلك عن ان هذا الشيء هو رأي الامام وحكمه.

( وهذا بخلاف ما يستنهضه المجتهد من الدّليل ) لوضوح انّ الدليل الّذي يقيمه المجتهد من الكتاب ، أو السنة ، أو الاجماع ، أو العقل ( على الحكم ) ليس من الاثار القطعية للحكم ، لما عرفت من كثرة الاختلاف والخطأ ، في فتاواهم ، بل في فتاوى مجتهد واحد ، فهل يمكن ان تكشف فتاواهم هذه عن انها رواية ؟ .

وعلى أي حال : فقياس الفتوى بالاجماع ، قياس مع الفارق .

( ثمّ قال ) الكاظمي رحمه اللّه : ( على انّ التحقيق في الجواب عن السّؤل الاوّل ، هو : الوجه الاول ) اذ قد أشكل الكاظمي على حجيّه الاجماع بأمرين :

ص: 28

وعليه ، فلا أثر لهذا السؤال ، انتهى .

قلتُ :

------------------

الأمر الأوّل : ان كشف الاجماع عن حكم الامام حدسي ، ودليل الخبر لا يشمل الحدسيات ، بل الحسّيات فقط .

والثاني : لو كان الاجماع حجة ، لزم ان يكون الفتوى أيضاً حجة .

ثم اجاب عن الاشكال الثاني : بأنّه قياس مع الفارق ، لأنّ الفتوى ليس كالاجماع .

واجاب عن الأول بجوابين :

الجواب الأول : انّا نأخذ من الاجماع جانبه السببي وهو : نقل اتفاق الكل ، وهو أمر حسّي ملازم لقول المعصوم عليه السلام .

والجواب الثاني : إنّا نأخذ من الاجماع جانبه المسببّي وهو : نقل قول المعصوم عليه السلام ، وهو أمر حدسي .

لكنا نأخذ بالجواب الأوّل الّذي هو حسّي ، فلا يبقى مجال لان يستشكل علينا : بأنّ الخبر لا يشمل الحدسي ، اذ الاجماع انّما يفيدنا للأمر الخارجي المحسوس ونحن نستشكف من هذا الأمر الخارجي - وهو : اتفاق الكل - قول المعصوم عليه السلام .

( و ) ان قلت بناءاً (عليه ) أي : على اخذ الاجماع من جانبه الحسّي، لا الحدسي، ( فلا أثر لهذا السؤل ) (1) الذي اشكل : بان الاجماع خبر حدسي ، فلا يشمله ادلة خبر الواحد ، لانّا قد ذكرنا انا نأخذ جانبه الحسّي ، لا الحدسي ( انتهى ) كلام الكاظمي .

( قلت ) الاجماع ليس مستنداً إلى مبادي محسوسة ، ممّا يستلزم قول

ص: 29


1- - شرح الوافية : مخطوط .

إنّ الظاهر من الاجماع اتفاقُ أهل عصر واحد ، لا جميع الأعصار ، كما يظهر من تعاريفهم وسائر كلماتهم ، ومن المعلوم أن إجماع أهل عصر واحد مع قطع النظر عن موافقة أهالي الاعصار المتقدمة ومخالفتهم ، لايوجبُ عن طريق الحدس العلمَ الضروري بصدور الحكم عن الامام عليه السلام ، ولذا قد يتخلّف ، لاحتمال مخالفة من تقدّم عليهم أو اكثرهم ، نعم ، يفيد العلمَ من باب وجوب اللّطف الذي لا نقول بجريانه في المقام ،

------------------

المعصوم ، حتى يكون من قبيل : قول الرئيس ومرئوسيه ، لان ظاهر الاجماع ليس هو اتفاق الكل ، بل ( انّ الظاهر من الاجماع ) - على ما عرفت في الاصطلاح الفقهائي عند الشيعة - هو : ( اتفاق أهل عصر واحد لا جميع الأعصار ، كما يظهر من تعاريفهم ، وسائر كلماتهم ) التي نقلنا جملة منها .

( ومن المعلوم : انّ اجماع أهل عصر واحد ، مع قطع النظر عن موافقة أهالي الأعصار المتقدّمة ، ومخالفتهم ) وهكذا بالنسبة إلى الأعصار المتأخرة بان كان في عصر العلامة اتفاق الكل ، ثم في عصر الشهيد اختلفوا ، فانه ( لا يوجب عن طريق الحدس ، العلم الضروري بصدور الحكم عن الامام عليه السلام ) حتّى يكون حسّاً يلازم قول الامام .

( ولذا قد يتخلّف ) الاجماع عن كشف قوله عليه السلام ، اذ ليس المقام من باب الآثار والملكات ، وذلك ( لاحتمال مخالفة من تقدّم عليهم أو أكثرهم ) للاجماع المتأخر ، أو مخالفة الاجماع المتقدم للخلاف المتأخر - على ما عرفت - .

( نعم ، يفيد ) الاجماع لأهل عصر واحد - كما هو الاصطلاح - ( العلم ) بقوله عليه السلام ( من باب وجوب اللّطف الّذي لا نقول بجريانه ) أي : بوجوب اللّطف ( في المقام ) أي : في مقام الفتوى ، وان كنّا نقول : بوجوب اللّطف في إرسال

ص: 30

كما قرّر في محلّه ؛ مع انّ علماء العصر اذا كثروا ، كما في الأعصار السابقة ، يتعذّر او يتعسّر الاطلاعُ عليهم حسّا بحيث يقطع بعدم من سواهم في العصر ، الاّ إذا كان العلماء في عصر قليلين يمكن الاحاطة برأيهم في

------------------

الرسل ، وإنزال الكتب ، ونصب الائمة عليهم السلام .

وعلى أي حال : فاتفاق علماء عصر واحد ، لا يوجب القطع بقول الامام عليه السلام ، على أي وجه كان .

لا من باب الدخول ، لانك قد عرفت : انّه لا يمكن الدخول عادة في عصر الغَيبَة .

ولا من باب اللّطف ، لأنّا لا نقول باللّطف .

ولا من باب الحدس ، لأنّه لا ملازمة ( كما قرّر في محله ) .

نعم ، أحياناً يوجب الحدس ، بالنسبة إلى بعض الناس ، لكن مثل ذلك لا يمكن أن يكون دليلاً ، كدلالة الكتاب ، والسنة ، والعقل .

هذا كله هو الاشكال على حجيّة الاجماع في الكبرى .

( مع ) انّ هناك اشكالاً على الاجماع من حيث الصغرى ، وهو : عدم تحقق العلم باتفاق علماء عصر واحد ، لكثرة العلماء ، وذلك ( انّ علماء العصر اذا كَثَروا ، كما في الأعصار السّابقة ) بل واللاحِقة ( يتعذّر أو يتعسّر ) تعسراً شديداً جداً ( الاطلاع عليهم حسّاً ، بحيث يقطع بعدم من سواهم في العصر ) .

فانّه ، لا يمكن لاحد من الفقهاء ان يدعي ، انّه رأى قول جميع فقهاء عصره ، المنتشرين في العالم الاسلامي ، من الهند إلى باكستان ، إلى أفغان وايران ، إلى العراق والخليج ، إلى لبنان وسوريا ، وإلى سائر البلاد الّتي يكثر فيها العلماء .

( إلاّ اذا كان العلماء في عصر قليلين ، يمكن الاحاطة برأيهم في

ص: 31

المسألة فيدّعي الاجماع ، إلاّ أنّ مثل هذا الأمر المحسوس لايستلزمُ عادةً لموافقة المعصوم عليه السلام .

فالمحسوسُ المستلزم عادةً لقول الامام عليه السلام مستحيلُ التحقّق للناقل ، والممكن المتحقّق له غيرُ مستلزم عادة .

وكيف كان ، فاذا ادّعى الناقلُ الاجماع ، خصوصا إذا كان ظاهره إتفاق جميع علماء الأعصار او أكثرهم إلاّ من شذّ - كما هو الغالبُ في اجماعات مثل

------------------

المسألة ، فيدّعي ) المدعي ( الاجماع ) الاصطلاحي ، وهو : توافق جميع علماء العصر .

( الاّ انّ مثل هذا الأمر المحسوس ) أي : اتفاق علماء العصر فيما اذا كان العلماء قليلين فرضاً ( لا يستلزم عادة ، لموافقة المعصوم عليه السلام ) اذ المتعدد القليل من المرئوسين ، لا يستلزم قولهم قول الرئيس ، فاذا كان هناك رئيس ومرئوسان فقط او ثلاثة مرئوسين ، فهل يستلزم اتفاق هذين الاثنين أو الثلاثة ، تطابق قولهم مع قول الرئيس .

والحاصل : ( فالمحسوس المستلزم عادة لقول الامام عليه السلام ، مستحيل التحقّق للناقل ) الّذي نقل الاجماع ، وذلك لعدم امكان احاطة الناقل بأقوال الفقهاء كلهم ( والممكن المتحقق له ) أي للناقل ( غير مستلزم عادة ) لموافقة الامام عليه السلام .

( وكيف كان ) أي : سواء كان الاشكال في الصغرى ، أو الكبرى - على ما بيناه - (فاذا ادعى الناقل : الاجماع ، خصوصاً اذا كان ظاهره : اتفاق جميع علماء الأعصار ) لا عصر واحد ( أو أكثرهم الاّ من شذّ ، كما ) ان هذا الاجماع المراد به أحد المعنيين : من اتفاق جميع العلماء ، أو اكثرهم ( هو الغالب في اجماعات مثل

ص: 32

الفاضلين والشهيدين - انحصر محمله في وجوه : أحدُها : أن يراد به اتفاقُ المعروفين بالفتوى دون كلّ قابل للفتوى من أهل عصره او مطلقا .

الثاني : أن يريد اجماعُ الكلّ ، ويستفيد ذلك من اتفاق المعروفين من أهل عصره ،

------------------

الفاضلين ) وهما : المحقق صاحب الشرائع ، والعلامة الحلّي ( والشهيدين ) وهما : الشهيد الأوّل والشهيد الثاني صاحبي اللّمعة وشرحها .

( انحصر محمله ) أي : محمل الاجماع ( في وجوه ) وانّما احتجنا إلى هذه المحامل ، لأنّا نعلم : انّ الناقل للاجماع ، حتّى مثل العلامة والشهيد وأضرابهما ، لا يريدون بالاجماع : اجماع جميع فقهاء الأعصار والأمصار ، لانه مما جرت العادة ان لا يحصل لانسان العلم بأقوال جميعهم ، بل وحتى العلم بأقوال أكثرهم ، فاللازم : أن نحمل اجماعاتهم على بعض هذه الوجوه :

( أحدها : أن يراد به ) أي : بالاجماع غير معناه المصطلح ، بل يريد بالاجماع (اتفاق المعروفين بالفتوى ) من المجتهدين الذين لهم ملكة الاستنباط ، أو قد استنبطوا ، لكن لم يفتوا للناس ، أو افتوا لكن فتاواهم لم تدرج في الكتب ، والحاصل : انّه بدعواه الاجماع يريد المعروفين ( دون كلّ قابل للفتوى من أهل عصره ، أو مطلقاً ) سواء كان اهل عصره أو أهل العصور المتقدمة .

( الثاني : أن يريد اجماع الكلّ ) أي : جميع علماء الاعصار والأمصار ( ويستفيد ذلك من اتفاق المعروفين من أهل عصره ) بأن يرى اتفاق هؤاء المعروفين ، وانّه ليس هناك مخالف اطلاقاً ، ولا اشارة إلى الخلاف ، فيقطع منه باتفاق جميع أهل عصره ، وأهل الأعصار المتقدمة ، لأنّ من عادة العلماء ، الاشارة

ص: 33

وهذه الاستفادة ليست ضروريّة وإن كان قد تحصل ، لانّ اتفاق أهل عصره ، فضلاً عن المعروفين منهم ، لا يستلزمُ عادةً اتفاق غيرهم ومَن قبلهُم ، خصوصا بعد ملاحظة التخلّف في كثير من الموارد ، لا يسع هذه الرّسالةُ لذكر معشارها ، ولو فرض حصولهُ للمخبر كان

------------------

إلى الخلاف في المسألة اذا كانت خلافية ، خصوصاً في كتبهم المفصلة .

( و ) من المعلوم : ان ( هذه الاستفادة ، ليست ضروريّة ) بان ينتقل الانسان من المقدمات إلى النتائج ، كانتقاله من ظواهر العدالة إلى العدالة ، أو من ظواهر الشجاعة إلى الشجاعة ، وغير ذلك مما قد تقدّم ( وان كان قد تحصل ) هذه الاستفادة لبعض الناس ، لكنه ليس معياراً كلياً حتّى يقال : انّ الاجماع حجّة ، بل الحجّة هو القطع سواء حصل من مثل دعوى الاجماع أوغيره .

وذلك ( لأنّ اتفاق أهل عصره - فضلاً عن المعروفين منهم - لا يستلزم عادة اتفاق غيرهم ) من أهل هذا العصر ، الذين لم يعرف فتاواهم ( و ) كذا لا يستلزم اتفاق ( من قبلهم ) من العلماء إلى زمان الائمة عليهم السلام ، ( خصوصاً بعد ملاحظة التخلّف في كثير من الموارد ) ، فانّا كثيراً ما نشاهد اتفاق علماء العصر ، أو المعروفين منهم على حكم ثم عندما ندقق الفحص نجد عدم الاجماع حتّى في أهل العصر الواحد ، فكيف بالعصور المتوالية ، وهذا التخلف بحدٍ من الكثرة بحيث ( لا يسع هذه الرّسالة لذكر معشارها ) أي : لا يسع ذكر حتّى العشر من تلك الاجماعات الّتي تتبعناها ، فرأينا تخلفها ، وعدم اتفاق حتّى بعض أهل العصر فيها .

( ولو فرض حصوله ) أي حصول استفادة الكل من اتفاق البعض ( للمخبر كان

ص: 34

من باب الحدس الحاصل عمّا لا يوجب العلمَ عادةً .

نعم ، هي أمارة ظنّية على ذلك ، لأنّ الغالب في الاتفاقيّات عند أهل عصر كونُه من الاتفاقيّات عند مَن تقدّمهم ، وقد يحصل العلم بضميمة أمارات اُخر .

لكنّ الكلام في كون الاتفاق مستندا إلى الحسّ او إلى حدس لازم عادةً للحسّ .

------------------

من باب الحدس ، الحاصل عمّا لا يوجب العلم عادة ) فان الحدس قد يكون قطعياً ، وقد يكون غير قطعي ، كما اذا رأى شجاعة من زيد في مقام واحد ، أو في مقامين ، فانّه لا يمكن ان يقول : انّه شجاع بقول مطلق ، وكذا اذا رأى عدله في مقام أو مقامين ، إلى غير ذلك من الأمثلة .

نعم ، قد يحصل القطع لبعض الأفراد من مثل ذلك ، لكن الكلام في القاعدة الكليّة لا في الأفراد النادرة .

( نعم ، هي ) أي : موافقة فقهاء أهل العصر على حكم ، أو اتفاق المعروفين من أهل عصر على حكم ( امارة ظنيّة على ذلك ) أي : على اتفاق الكل ( لأنّ الغالب في الاتفاقيات عند أهل عصر ، كونه من الاتفاقيات عند من تقدّمهم ) من العصور السابقة أيضاً .

هذا ، ( وقد يحصل العلم ) باتفاق الكل ، من اتفاق أهل عصر واحد ( بضميمة امارات اُخر ) كدلالة آية ، أو رواية معتبرة ، أو أصل معتبر ، أو ما اشبه ذلك .

( لكن الكلام : في كون الاتفاق مستنداً إلى الحسّ ، أو إلى حدس لازم عادة للحسّ ) وليس الكلام من باب القضايا الاتفاقية الّتي ذكرناها .

ومن المعلوم : انّ حصول العلم إتفاقاً ، لا يكون مستنداً إلى الحسّ ،

ص: 35

واُلحِق بذلك ما إذا علم اتّفاق الكلّ من اتفاق جماعة ، لحسن ظنّه بهم ، كما ذكره في أوائل المعتبر حيث قال : « ومن المقلّدة من لو طالبته بدليل المسألة ادّعى الاجماعَ ، لوجوده في كتب الثلاثة قدس سرهم ،

------------------

أو إلى حدس لازم للحسّ ، فانه اذا كان الأمر كذلك ، كان كلياً لا اتفاقياً .

أمّا انّه ليس مستنداً إلى الحسّ : فللقطع بأن الناقل ، لم يتبع اقوال الكل فرداً فرداً - على ما عرفت سابقاً - .

وأمّا انّه ليس حدساً ملازماً للحس : فلأن الفرض : ان الناقل للاجماع ، حدس اتفاق الكل من اتفاق المعروفين من أهل عصره ، ولا ملازمة بين اتفاق المعروفين ، واتفاق الكل .

( واُلْحِق بذلك ) الاحتمال الثاني وهو : ان يريد اجماع الكل ، من اتفاق المعروفين من أهل عصره ( ما اذا علم ) الناقل للاجماع ( اتفاق الكلّ ، من اتفاق جماعة ، لحسن ظنّه بهم ) فان الشخص اذا حسن ظنه - مثلاً - بفقيه ، أو فقيهين ، أو اكثر تخيّل ان اتفاقهم يلازم اتفاق الكل .

( كما ذكره ) أي : هذا النحو من الاجماع المبني على حسن الظن ، صاحب الشرائع ( في أوائل المعتبر حيث قال : ومن المقلّدة ) وقد ذكر بعضهم : انّه عنى مثل ابن زهرة ، البادين في تلك العصور الغابرة ( من لو طالبته بدليل المسألة ادّعى الاجماع ، لوجوده ) أي : الاجماع ( في كتب الثلاثة قدس سرهم ) من اصحاب الكتب الاربعة ، وهم : الشيخ ، والصدوق ، والكليني ، فباتفاق هؤاء الثلاثة على حكم ، حصل لمثل ابن زهرة : الحدس باتفاق الكل ، ثم ادعى اجماع العلماء ، مع العلم بانّ مثل ذلك لا يوجب ان يكون العلماء مجمعين على حكم حتّى في زمان

ص: 36

وهو جهل إن لم يكن تجاهلاً » .

فانّ في توصيف المدّعي بكونه مقلّدا ، مع أنّا نعلم أنّه لا يدّعي الاجماع الاّ عن علم ، إشارةً الى استناده في دعواه إلى حسن الظنّ بهم وانّ جزمه في غير محلّه ، فافهم .

------------------

اصحاب الكتب الاربعة ، فكيف بالأزمنة السابقة عليهم .

( وهو ) أي : ادعاء الاجماع استناداً إلى حسن الظن ( جهل ) بالواقع ، فانّ هؤاء الثلاث على جلالتهم ، لا يكونون حاكين عن الكل ( ان لم يكن تجاهلاً ) (1) ، والفرق بين الجهل والتجاهل : أنّ الجهل : عدم العلم ، والتجاهل : انّه مع كونه يعلم بالخلاف ، يظهر الجهل .

( فان في توصيف المدّعي : بكونه مقلّداً ) أي : توصيف المحقق للذي يدعي الاجماع : بأنّه مقلد ( مع انّا نعلم انّه ) أي : المدعي للاجماع ، ليس بمقلد في دعواه الاجماع ، وانّما هو مجتهد ، لكنه بحسن ظنه ادعى الاجماع ، و ( لا يدعي الاجماع الاّ عن علم ) باتفاق جميع العلماء .

وانّما وصفه بانه مقلد ( اشارة إلى استناده في دعواه ) الاجماع ( إلى حسن الظنّ بهم ، وان جزمه في غير محلّه ) لوضوح : انّه لا ملازمة بين اتفاق هؤاء الثلاثة على حكم واتفاق الكل .

( فافهم ) ولعله اشارة الى ان من ادعى الاجماع ، بمجرد وجوده في كتب الثلاثه ، أراد إجماع هؤاء الثلاثة ، لا إجماع الكل ، أو لعله أراد إجماع الرواية على الحكم ، لا اجماع الفتاوى .

وعلى كل حال : فليس قصد بعض المقلِّدة : الاجماع المصطلح ، وانّما قصد

ص: 37


1- - المعتبر : ص18 .

الثالثُ : أن يستفيد اتّفاق الكلّ على الفتوى من اتفاقهم على العمل بالأصل عند عدم الدليل او بعموم دليل عند عدم وجدان المخصّص ، او بخبر معتبر عند عدم وجدان المعارض ،

------------------

أحد المعنيين ، فنسبة المحقق له إلى الجهل ، أو التجاهل محل نظر .

( الثالث ) من الوجوه المحتملة في ارادة ناقل الاجماع مع انّه ليس باجماع اصطلاحي ( أن ) يريد به : اتفاق الكل ، و انّما ( يستفيد اتفاق الكلّ على الفتوى من اتفاقهم على العمل بالأصل ، عند عدم الدليل ) لأنّ مدعي الاجماع يرى انّ الحكم الّذي يذكره ، صغرى من صغريات أصل ، وذلك الأصل متفق عند الكل .

مثلاً : يقول : شرب التتن حلال بالاجماع ، وذلك لأنّه يراه من صغريات أصل البرائة ، ويرى أن أصل البرائة مقبولة عند الجميع ، في وقت لم يكن على الحكم المذكور دليل اجتهادي .

( أو بعموم دليل عند عدم وجدان المخصّص ) فانه يرى انّ هذه الصغرى التي ادّعى عليها الاجماع ، من صغريات دليل عام ، ليس لذلك الدليل العام مخصص ، والعلماء مجمعون على العمل بالأدلّة العامة فيتم الاجماع .

مثلاً : يقول : أن شرب لبن المرأة حلال إجماعاً ، لأنّه يستظهر : إنّ شربه من صغريات قوله تعالى : ، « قُل لا أجِدُ فِيما اُوحِيَ إلَيّ مُحَرّماً عَلى طاعِمٍ يَطعَمُهُ ، إلاّ أن يَكونَ مَيتَةً ، أو دَماً مَسفوحاً ، أو لَحمَ خِنزيرٍ ... » (1) ، ومن المعلوم انّ الاية اجماعية ، فيسري الاجماع من الكبرى ، إلى الصغرى الشخصية ، التي استظهر أنّها من صغريات تلك الكبرى الكلية .

( أو بخبر معتبر عند عدم وجدان المعارض ) فان الاجماع قام عندهم ، على

ص: 38


1- - سورة الانعام : الآية 145 .

او اتّفاقهم على مسألة اصوليّة نقليّة او عقليّة يستلزم القولُ بها الحكمَ في المسألة المفروضة ،

------------------

وجوب العمل بالخبر المعتبر ، الّذي لا معارض له ، فيزعم ناقل الاجماع ، انّ هذا الحكم الذي ادعى عليه الاجماع ، من صغريات ذلك الخبر المعتبر عندهم .

مثلاً : يقول : يجب قضاء الصلوات فوراً إجماعاً ، لانّه يرى انّ الحكم المذكور ، دلّ عليه خبر معتبر ، والخبر المعتبر اجماعي العمل ، فيسري الاجماع منه إلى هذه الصغرى ، فيدّعي انّ هذه الصغرى اجماعية أيضاً .

( أو اتفاقهم على مسألة أصوليّة نقليّة أو عقليّة ) :

فالنقلية ، مثل ان يدعي الاجماع على وجوب صلاة الجمعة ، لأنّه يرى اجماعهم على انّه لا نسخ بعد النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وقد كانت صلاة الجمعة في زمان النبي ، فاللاّزم بقاءها بهذا الاجماع بعده أيضاً ، فالاجماع على المسألة الاصولية قد أسراه إلى هذا الحكم الّذي يراه صغرى من صغريات ذلك الاتفاق .

وأمّا المسألة الاصولية العقلية ، فالاتفاق فيها انّما يكون فيما ( يستلزم القول بها ) أي بتلك المسألة ( الحكم ) الّذي يذكره ( في المسألة ) الفقهية (المفروضة) أيضاً ، لانّه يرى إجماع العلماء على ان ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل ، ويرى ان هذا الحكم الذي ادعى عليه الاجماع من صغريات ما خالف الكتاب والسنّة عندهم .

مثلاً : يقول إنّ المطلّقة ثلاثاً في مجلس واحد ، لا يقع بسبب الطلاق إلاّ تطليقة واحدة لانه يرى ان الحكم المذكور مخالف للكتاب والسنّة ، وبطلانه اجماعي ، فيدعي الاجماع على هذا الحكم الفرعي لاستناده إلى الاجماع في المسألة الاصولية العقلية ، والمراد بالاصولية الاصول الجارية في الفقه من القواعد الكلية .

ص: 39

وغير ذلك من الامور المتّفق عليها التي يلزمُ باعتقاد المدّعي من القول بها ، مع فرض عدم المعارض ، القولُ بالحكم المعيّن في المسألة .

ومن المعلوم : أنّ نسبةَ هذا الحكم إلى العلماء في مثل ذلك لا ينشأ الاّ من مقدّمتين أثبتهما المدّعي باجتهاده :

------------------

( وغير ذلك من الامور المتفق عليها ) مثل : قاعدة : « قبح العقاب بلا بيان » ، وقاعدة « من ملك شيئاً ملك الاقرار به » (1) ، وقاعدة : « ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده » (2) وغيرها .

فانه حيث تكون هذه القواعد اتفاقية ، ويرى مدعي الاجماع : ان الفرع الفقهي ، صغرى من صغريات هذه القواعد ، يدعي الاجماع على هذه الصغرى ( الّتي يلزم باعتقاد المدّعي من القول بها ) أي بتلك القواعد الكلّية ، المتفق عليها ( مع فرض عدم المعارض ) في هذه الصغرى الجزئية ، الّتي هي من صغريات تلك القواعد الكلية الفقهية ( القول بالحكم المعيّن في المسألة ) .

والحاصل : ان الاجماع انّما يكون على الكبرى ، وحيث يزعم ناقل الاجماع انّ هذه الصغرى من صغريات تلك الكبرى يدعي الاجماع على هذه الصغرى أيضاً .

( ومن المعلوم انّ نسبة هذا الحكم ) أي : الحكم الفرعي الشخصي الخاص ( الى العلماء ) كافة بادعاء الاجماع على هذا الحكم الفرعي ( في مثل ذلك ) أي : فيما اذا استفاد اتفاقهم على الحكم الكلي الكبروي ( لاينشأ الاّ من مقدّمتين ، اثبتهما المدّعي باجتهاده ) أي : ان ادعائه الاجماع ، على هذه الصغرى ، مبني على حدسه ، بسبب مقدمتين :

ص: 40


1- - راجع القواعد الفقهية للبجنوردي : ج1 ص4 قاعدة من ملك .
2- - راجع القواعد الفقهية للبجنوردي : ج2 ص84 قاعدة ما يضمن .

إحداهما كونُ ذلك الأمر المتفق عليه مقتضيا ودليلاً للحكم لولا المانع .

والثانية انتفاء المانع والمعارض ، ومن المعلوم أنّ الاستناد إلى الخبر المستند إلى ذلك غيرُ جائز عند أحد من العاملين بخبر الواحد .

------------------

( احداهما : كون ذلك الأمر المتفق عليه ) مثل : « قبح العقاب بلا بيان » ، أو ما اشبه ذلك ( مقتضياً ودليلاً للحكم ) الفرعي يعني : انّه يتصور انّ الكبرى الكلّية ، تشمل هذه الصغرى الجزئية أيضاً ( لولا المانع ) الدال على خلاف تلك الكبرى الكلية .

( والثانية : انتفاء المانع والمعارض ) في هذه الصور الكلية .

مثلاً : يقول : بأنّ أصل البرائة اجماعي - بلا مانع ولا معارض فيه - وشرب التتن صغرى من صغريات هذا الاصل ، فجواز شرب التتن أيضاً اجماعي .

( ومن المعلوم : انّ الاستناد إلى الخبر المستند إلى ذلك ، غير جائز عند احد من العاملين ، بخبر الواحد ) فانه من الواضح : انّ العاملين بالخبر الواحد ، لا يقولون : بانّ الخبر الواحد ، يشمل مثل هذا الاجماع المبني على هاتين المقدمتين ، وليس مثل هذا بخبر عندهم ، حتّى يشمله دليل حجّية الخبر الواحد .

والحاصل : انّه ليس لناقل الاجماع ، مستند صحيح لعلمه بقول الامام عليه السلام ، فان حصل له بنفسه العلم بقول الامام ، فهو حجّة بالنسبة اليه ، لمكان العلم ، أما انّه ليس بملزم لغيره ، اذ ليست هذه الاجماعات المدعاة بمنزلة خبر زُرارة ، أو محمد بن مسلم ، ومن أشبههما ، مما هو حجة بالنسبة إلى الجميع سنداً وانّما عليهم ان ينظروا في قدر الدلالة .

وهذه الاجماعات ليست حجة سواء كانت من اللطف ، أو الحدس على الاقسام المتقدمة للحدس ، إلاّ الاجماعات الملازمة قطعاً لقول الامام ، فان الملازم

ص: 41

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الاجماعات المتعارضة من شخص واحد او من معاصرين او متقاربي العصرين ورجوع المدّعي عن الفتوى الذي ادّعى الاجماع فيها ودعوى الاجماع في مسائل غير مُعَنوَنَة في كلام من تقدّم على المدّعي

------------------

لقوله عليه السلام قليل في الاجماعات جداً .

واما ما نراه متداولاً عند كثير من الفقهاء ، كصاحب الجواهر ، ومن تقدَّمه ، ومن تأخر عنه ، حيث يدّعون كثيراً من الاجماعات في المسائل المختلفة ، من باب الطهارة الى الديات ، فليس لهذه الاجماعات قيمة الاجماع القطعي ، الّذي هو من الأدلة للأحكام .

( ثمّ انّ الظاهر ) مما تقدّم ( : انّ الاجماعات المتعارضة من شخص واحد ) حيث نرى بعض الفقهاء ، يدّعون الاجماع تارة على جواز الشيء ، وأخرى على حرمته ، أو تارة على هذا الطرف من المسألة ، وتارة على الطرف الاخر منها .

( أو من معاصرين ، أو متقاربي العصرين ) فيدعي أحدهما الاجماع على شيء ، ويدعي الاخر الاجماع على خلاف ذلك الشيء ، وهما معاصران ، أو متقاربا العصر ، حيث لا يعقل ان يكون في عصر واحد ، أو في عصور مختلفة ، قولان متخالفان في مسألة واحدة ، بان يقول الكل بهذا القول ، ويقول الكل بالقول الاخر .

( ورجوع المدّعي عن الفتوى ، الذي ادّعى الاجماع فيها ) بينما ، انّه لو كانت المسألة اجماعية ، لم يجز له الرجوع عن المجمع عليه ، الى ما يضاده .

( ودعوى الاجماع في مسائل ، غير معنونة في كلام من تقدّم على المدّعي ) ولا معنونة في كلام معاصريه ، فهو متفرد في المسألة ، ومع ذلك نراه يدعي الاجماع عليها .

ص: 42

وفي مسائل قد اشتهرت خلافها بعد المدّعي ، بل في زمانه ، بل فيما قبله ؛ كلُّ ذلك مبنيٌّ على الاستناد في نسبة القول إلى العلماء على هذا الوجه .

ولا بأسَ بذكر بعض الموارد صرّح المدّعي بنفسه او غيره في مقام توجيه كلامه فيها بذلك .

فمن ذلك : ما وجّه المحقّق به دعوى المرتضى والمفيد :

------------------

( وفي مسائل قد اشتهرت خلافها ) أي خلاف تلك الفتوى ، وذلك في زمان ( بعد المدّعي ، بل في زمانه ، بل فيما قبله ) فانه اذا كانت المسألة اجماعية ، كيف يفتي من جاء بعد المدعي للاجماع ، على خلاف ذلك الاجماع ، وبطريق أولى ، اذا كان في زمان المدعي ، أو ما قبل المدعي ؟ .

فان ( كلّ ذلك مبنيّ على الاستناد ، في نسبة القول إلى العلماء ، على هذا الوجه ) الثالث ، فان هذه الاجماعات لا تستند إلى تتبع كل الأقوال ، ولا إلى أقوال المعروفين من الفقهاء ، بل إلى اجتهاد الناقل مستنداً إلى أصل ، أو رواية ، أو آية ، أو دليل عقلي ، اعتقد الناقل انّ ما يدعي فيه الاجماع ، من صغريات تلك الكبريات الكلية المسلمة .

( ولا بأس بذكر بعض الموارد ) الّتي ( صرَّح المدّعي بنفسه أو ) صرّح ( غيره في مقام توجيه كلامه ) أي : كلام المدّعي للاجماع ( فيها ) اي : في تلك الموارد ( بذلك) أي بالّذي ذكرناه ، من ان دعواه للاجماع مستندة إلى الاجتهاد ، من جهة تطبيق كبرى كلية اجماعية ، على صغرى جزئية إعتَقَد الناقل للاجماع ، بانّها من صغريات تلك الكبرى الكلية .

( فمن ذلك ما ) أي الاجماع الّذي ( وجّه المحقّق به دعوى المرتضى والمفيد ) «رحمهما اللّه» حيث قالا :

ص: 43

انّ من مذهبنا جواز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات قال :

« وأمّا قولُ السائل : كيف أضاف المفيد والسيّد ذلك إلى مذهبنا ولا نصَّ فيه ، فالجوابُ : أمّا علمُ الهدى ، فانّه ذكر في الخلاف : انّه إنّما أضاف ذلك إلى مذهبنا ، لأنّ من أصلنا العملَ بالأصل ما لم يثبت الناقل ، وليس في الشرع ما يمنع الازالة بغير الماء من المائعات

------------------

( انّ من مذهبنا : جواز ازالة النجاسة بغير الماء من المايعات ) فاذا وقعت نجاسة على ثوب أو على بدن أو على شيء آخر ، جاز ازالة تلك النجاسة بماء الورد ، أو البصاق ، أو ما اشبه ذلك ، وقد نَسبَ هذان العلمان ، هذا الحكم إلى مذهبنا ، الظاهر في الاجماع .

( قال ) المحقّق - في مقام توجيه هذا الكلام من هذين العلمين - ( وأمّا قول السائل : كيف اضاف ) أي : نسب ( المفيد والسيّد ذلك ) الحكم ( إلى مذهبنا و ) الحال انّه لا اجماع و ( لا نصّ فيه ؟ ) فكيف يدعي بعض الاجماع بدون نص ، أو اتفاق من جميع الفقهاء ؟ .

( فالجواب : أمّا علم الهدى ، فانّه ذكر في الخلاف : انّه إنّما اضاف ذلك إلى مذهبنا لأنّ من اصلنا ) أي : من قواعدنا الّتي عرفناها من الشرع ( : العمل بالأصل ) أي : اصالة الجواز ( ما لم يثبت الناقل ) أي : المانع عن أصل الجواز ، ( وليس في الشّرع ، ما يمنع الازالة بغير الماء ، من المايعات ) اذ زوال النجاسة يوجب عدم وجود حكم النجاسة ، وغير الماء من السوائل أيضاً يزيل النجاسة ، فيزول حكمها ، لانه اذا ذهب الموضوع ذهب الحكم ، وقد صرّح السيّد : بأنّه جعل هذه الفتوى ، من صغريات ذلك الأصل ، وحيث انّ ذلك الأصل اتفاقي بين العلماء ، فاللازم أن تكون هذه الصغرى ، التي استظهر السيّد انها من صغريات تلك القاعدة

ص: 44

------------------ ثم قال - : وأمّا المفيدُ ، فانّه ادّعى في مسائل الخلاف : أنّ ذلك مرويّ عن الأئمة » انتهى .

فظهر من ذلك أنّ نسبة السيّد قدس سره ، الحكم المذكورَ إلى مذهبنا من جهة الأصل ، ومن ذلك ما عن الشيخ في الخلاف حيث انّه ذكر ، فيما إذا بان فسقُ الشاهدين بما يوجب القتلَ بعد القتل ، بأنّه يُسقِطُ القِودَ ويكون الديّةُ

------------------

الكلية ، أيضاً اجماعية .

( ثمّ قال ) المحقّق ( : وأمّا المفيد : فانّه ادّعى في ) كتاب ( مسائل الخلاف انّ ذلك ) أي : جواز ازالة النجاسة بسائر المايعات ( مرويّ عن الائمة ) عليهم السلام (1) .

فالمحقق يرى : ان اجماع المفيد ، مستند إلى الرواية فالكبرى وهي : الرواية ، لما كان مجمعاً على العمل بها بقول مطلق ، ورأى المفيد : ان المسألة من صغريات تلك الكبرى الكلية ، ادعى عليها الاجماع .

( انتهى ) كلام المحقق ، بالنسبة إلى اجماعيّ : الشيخ المفيد ، والسيد المرتضى « رضوان اللّه عليهم » ( فظهر من ذلك انّ نسبة السيّد ) والمفيد ( قدس سرهما الحكم المذكور إلى مذهبنا من جهة الاصل ) والرواية المجمع عليهما .

( ومن ذلك ، ما عن الشيخ في الخلاف ، حيث انّه ذكر فيما اذا بان فسق الشاهدين ) الّذين شهدا ( بما يوجب القتل ) كالارتداد ، وزنا المُحصَن ، والقتل قصاصاً ، ثم ظهر فسق الشاهدين ( بعد القتل ) أي ، بعد أن نَفّذَ الحاكم حكم القتل على المشهود عليه ظَهَر ان الشاهدين كانا فاسِقين ، قال ( بانه يسقط القِوَد ) ، والقود : بكسر القاف ، وفتح الواو على وزن : عِنَب ، ومعنى سقوط القِوَد : انه لا يقتل الشاهدان بذلك ( ويكون الديّة ) لورثة المقتول الّذي قُتل ظلماً

ص: 45


1- - المسائل المصرية راجع فرائد الاصول : ص332 .

من بيت المال ؛ قال : « دليلُنا إجماعُ الفرقة ، فانّهُم رووا انّ ما أخطأت القضاةُ ، ففي بيت مال المسلمين » انتهى .

فعلّل انعقادَ الاجماع بوجود الرواية عند الأصحاب ، وقال بعد ذلك ، فيما اذا تعدّدت الشهودُ فيمن أعتقه المريضُ ، وعيّن كلٌّ ، غير ما عيّنه الآخر ، ولم يف الثُّلثُ بالجميع : « إنّه يخرج السابقُ بالقرعة ،

------------------

( من بيت المال ) وهو : البيت الّذي يرعاه الحاكم ، مما يجمع فيه أموال المسلمين ، لمصالح المسلمين .

( قال ) الشيخ في الخلاف ، بعد فتواه هذه ( : دليلنا : اجماع الفرقة ) المحقّة ، وهم الشيعة ( فانّهم رووا : انّ ما اخطأت القضاة ، ففي بيت مال المسلمين ) (1) وحيث انّ هذا خطأ لأن الحاكم اشتبه ، وقَبِلَ شهادة الفاسقين ، فالديّة تكون من بيت المال .

( انتهى ) كلام الشيخ في الخلاف ، وما علل به الاجماع ( ف- ) انّه قد ( علّل انعقاد الاجماع ، بوجود الرّواية عند الأصحاب ) لا أنّ اجماعه ثابت من أقوال الفقهاء الذين عاصروه ، أو الذين تقدموا عليه .

( وقال ) الشيخ في الخلاف ( بعد ذلك ) ايضا ( : فيما اذا تعدّدت الشهود ، فيمن اعتقه المريض ، وعيّن كلّ ، غير ما عيّنه الآخر ، ولم يَف الثُلث بالجميع ) كما اذا قال شاهدان : بأنّ المعتَق زيد ، وشاهدان : بأنّ المعتَق عمرو ، وشاهدان : بأنّ المعتَق خالد ، والحال انّ الثلث لا يفي بالكل ، أمّا اذا وفى الثلث بالكل فكلهم يُعتَقون .

قال : ( انّه يخرج السّابق بالقرعة ) لأنّ الوصية السابقة ، تنفّذ دون اللاحقة ،

ص: 46


1- - وسائل الشيعة : ج29 ص147 ب7 ح35351 .

------------------ قال - : دليلنا اجماعُ الفرقة واخبارُهُم ، فانّهم أجمعوا على أنّ كلّ أمر مجهول فيه القرعة » ، انتهى .

ومن الثاني ما عن المفيد في فصوله ، حيث أنّه سئل عن الدّليل على أنّ المطلقة ثلاثا في مجلس واحد يقع منها واحدة .

------------------

وذلك فيما اذا لم يفي الثلث بالجميع ولم يجز الورثة الاكثر من الثلث ، وحينئذٍ اذا لم نعلم انّ السابق زيد أو عمرو أو خالد ، أخرجنا السابق منهم بالقرعة ، واعتق حسب الوصية ، أما اللاحق الّذي لم يف به الثلث ، فيبقى تركة للورثة .

( قال : دليلنا : اجماع الفرقة واخبارهم ) ثم علل الاجماع بقوله : ( فانّهم أجمعوا : على انّ كلّ أمر مجهول ، فيه القرعة (1) ، انتهى ) كلام الشيخ ، فان الشيخ لم يجد الاجماع على هذه المسألة الشخصية ، و انّما وجد الاجماع على الكبرى الكلية ، وهي : انّ في كل مجهول القرعة ، وحيث رأى ، انّ هذا الفرع الفقهي ، من صغريات تلك الكلية المتضمنة للقرعة ، ادعى الاجماع على الفرع أيضاً .

( ومن ) هذا القبيل ( الثاني ) وهو الحدس باتفاق الكل ، من اتفاقهم على مسألة اصولية - على ما سبق الالماع اليه : ( ما عن المفيد ) رحمه اللّه ( في فصوله ، حيث انّه سئل عن الدّليل ، على انّ المطلقة ثلاثاً ) الّتي قال لها الزوج : انتِ طالق ثلاثاً ، بلفظ واحد ( في مجلس واحد ) أو قال : « أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق » وذلك بدون رجعة بين الطلقات ، كما يشترطها الشيعة بخلاف العامة فانهم يكتفون بكل من العبارتين ، في حصول الطلقات الثلاث .

قال ( يقع منها ) أي : من الطلقات الثلاث ( واحدة ، ف- ) انّه حيث اراد

ص: 47


1- - تهذيب الاحكام : ج6 ص240 ب22 ح24 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص92 ب2 ح3389 ، وسائل الشيعة : ج27 ص260 ب13 ح33720 ، الأمان من أخطار الأسفار : ص96 بيان ، الخلاصة : ج2 ص620 بالمعنى .

فقال : « الدلالةُ على ذلك من كتاب اللّه عزّ وجلّ وسنّة نبيّه صلى اللّه عليه و آله وسلم وإجماع المسلمين » ، ثمّ استدلّ من الكتاب بظاهر قوله تعالى : « الطّلاقُ مرّتانِ » ثمّ بين وجه الدلالة ؛ ومن السنّة قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « كُلُّ مالم يكُن على أمرِنا هذا فَهو رَدٌّ » ، وقال : « ما وافق الكتاب فخُذوه ، ومالم يوافِقهُ فاطرَحوهُ » ، وقد بينّا أنّ المرّة لا تكون المرّتين أبدا

------------------

الاستدلال على ذلك ( قال : الدّلالة على ذلك من كتاب اللّه عزّ وجلّ ، وسنّة نبيه صلى اللّه عليه و آله وسلم واجماع المسلمين ) ، ( ثم استدلّ من الكتاب بظاهر قوله تعالى : « الطّلاقُ مَرَّتانِ ) فَامساكٌ بِمَعروفٍ ، أو تَسريحٌ بِاحسانٍ » (1) ، يعني : بعد المرتين ، اما ان يمسك الزوجة امساكاً حسب العرف ويقوم بشؤنها اللازمة المتعارفة أو أن يطلقها ويسرّحها باحسان ، من دون ان يُضيّق عليها ، فاذا طلقها ثالثاً ، حرمت على الزوج إلاّ بمحلّل ، ( ثمّ بيّن ) المفيد رحمه اللّه ( وجه الدلالة ) في الاية المباركة ، بان المتبادر من المرتين ، هو : أن يطلق ، ثم يرجع ، ثم يطلق ، لا أن يقول : انت طالق مرتين ، أو ما اشبه ذلك .

قال : ( ومن السنّة : قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « كُلُّ ما لم يَكُن عَلى أمرِنا هذا ) » أي : لم يكن على طبق ما أمرنا به « ( فَهوَ رَدٌّ ) (2) أي : مردود .

( وقال : « ما وافَقَ الكَتابَ فَخُذوهُ ، وَما لَمْ يُوافِقُ فاطرَحُوهُ » ) (3) .

قال المفيد رحمه اللّه : ( وقد بيّنا ان المرّة ) وهي قوله : أنت طالق ثلاثاً ، أو اذا قال : أنتِ طالق ، أنتِ طالق ، بدون فصل رجعة بينهما ( لا تكون المرّتين أبداً ) أي :

ص: 48


1- - سورة البقرة : الآية 229 .
2- - عدة المسائل الصاغانية : ص86 ، الفصول المختارة : ص177 .
3- - الكافي اصول : : ج1 ص69 ح1 ، الاستبصار : ج1 ص190 ب112 ح9 ، وسائل الشيعة : ج20 ص464 ب20 ح26099 .

وأنّ الواحدة لا تكون ثلاثا ، فأوجب السنّةُ إبطال طلاق الثلاث ، وأمّا إجماع الامّة ؟ ، فهم مُطبقون على أنّ ما خالف الكتاب والسنّة فهو باطل ، وقد تقدّم وصفُ خلاف الطلاق بالكتاب والسنّة فحصل الاجماعُ على إبطاله» ، انتهى.

وحكي عن الحليّ في السرائر ، الاستدلال بمثل هذا .

ومن ذلك الاجماعُ الذي

------------------

قطعاً ، لوضوح انّ المتبادر من المرتين ، الطلاق ، ثم الرجوع ثم الطلاق ( وانّ الواحدة لا تكون ثلاثاً ) فلا توجب الطلقة الواحدة الحرمة ، سواء اقترنت بالمرتين، أو بالثلاث في اللفظ ( فأوجب السنّة ) اي : سنة النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وهو قوله المتقدم : ما لم يوافق القرآن فاطرحوه ، وغير ذلك ( ابطال طلاق الثلاث ) من دون رجعة بينها ، ومعنى الابطال : انّ الطلاق لا يقع ثلاثاً ، وانّما يقع واحداً .

( وأمّا اجماع الامّة : فهم مطبقون على انّ ما خالف الكتاب والسّنة فهو باطل ، وقد تقدّم وصف خلاف الطلاق ) وقلنا : ( ب- ) إنّ التطليقات الثلاث من دون رجوعين بينهما ، خلاف ( الكتاب والسنّة ، فحصل الاجماع على إبطاله انتهى ) (1) فانه جعل هذه الصور الجزئية ، من كبريات ما ورد في الكتاب والسنة ، وادعى اجماع المسلمين عليها ، حيث حصل له الحدس باجماعهم على بطلان طلاق الثلاث ، من اتفاقهم على بطلان ما خالف الكتاب والسّنة .

( وحكي عن ) ابن ادريس ( الحلّي ) رحمه اللّه ( في ) كتابه ( السرائر ، الاستدلال بمثل هذا ) الذي استدل به المفيد لبطلان التطليقات الثلاث ، في مجلس واحد ، على الكيفية الّتي ذكرناها .

( ومن ذلك ) الاجماع المستند إلى آية أو رواية ، على ما ذكرناه ( الاجماع الذي

ص: 49


1- - الفصول المختارة : ص177 .

ادّعاه الحلّي على المضايقة في قضاء الفوائت في رسالته المسماة بخلاصة الاستدلال ، حيث قال :

« أطبق الاماميّةُ عليه خلفا عن سلف وعصرا بعد عصر وأجمعت على العمل به ، ولا يعتدّ بخلاف نفر يسير من الخراسانيين ، فانّ ابني بابويه ، والأشعريين ، كسعد بن عبد اللّه صاحب كتاب الرحمة ، وسعد بن سعد ومحمّد بن عليّ بن محبوب صاحب

------------------

ادّعاه الحلّي ) أيضاً ( على المضايقة ) أي : وجوب الفور ( في قضاء الفوائت في رسالته المسماة : بخلاصة الاستدلال ) فان العلماء اختلفوا في انّ الانسان اذا فاتته صلوات ، هل يجب قضاؤا فوراً ، ويسمون ذلك بالمضايقة ، أو لا يجب ؟ بل يجوز التراخي ويسمون ذلك : بالمواسعة .

والاقوال في المسألة متعددة ، والغالب عند المتأخرين : المواسعة ، بينما يرى الحلّي وجمع آخر : المضايقة ، وهناك بعض الاقوال الأخر تفصِّل بين أقسام القضاء والصلوات ، محلها الكتب الفقهية المفصلة (1) .

( حيث قال ) الحلّي ( أطبق الاماميّة عليه ) أي : على الفور ( خلفاً عن سلف ، وعصراً بعد عصر وأجمعت ) الامامية ( على العمل به ) أي : بالفور ( ولا يعتد بخلاف نفر يسير ) أي : لا يعتنى بمخالفة عدة قليلة ، ذهبوا الى المواسعة دون المضايقة ( من الخراسانيّين ) الذين أفتوا بالمواسعة .

( فانّ ابني بابويه ) وهما الصدوقان : الاب والابن ( والأشعريّين : كسعد بن عبد اللّه صاحب كتاب الرحمة ، وسعد بن سعد ، ومحمّد بن عليّ بن محبوب صاحب

ص: 50


1- - راجع موسوعة الفقه : ج17 - 28 للشارح .

كتاب نوادر الحكمة ، والقميّين أجمع ، كعليّ بن إبراهيم بن هاشم ، ومحمّد بن الحسين بن الوليد ، عامِلونَ بأخبار المضايقة ، لأنّهم ذكروا انّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق برواته وحُفَظَتهم الصدوقُ ذكر ذلك في كتاب من لا يحضره الفقيه ، وخِرِّيتُ هذه الصّناعة ورئيس الأعاجم الشيخ أبو جعفر الطوسيّ مودعٌ أخبارَ المضايقة في كتبه مُفتٍ بها ، والمخالفُ إذا عُلِمَ

------------------

كتاب نوادر الحكمة ، والقميّين أجمع : كعليّ بن ابراهيم بن هاشم ، ومحمّد بن الحسين بن الوليد ) وغيرهم ، من الأعلام ( عاملون بأخبار المضايقة ) التي تدل على وجوب الفور بالقضاء .

فاذا قيل لابن ادريس من أين علمت ان هؤاء عملوا باخبار المضايقة ، ليكون رأيهم الفور :

أجاب بقوله : ( لأنّهم ) نقلوا اخبار المضايقة في كتبهم و ( ذكروا : انّه لا يحل ردّ الخبر الموثوق برواته وحُفَظَتهم ) على وزن : هُمَزَة بضم الحاء ، والضمير : هم راجع الى الامامية ( الصدوق ) رحمه اللّه ( ذكر ذلك ) أي : عدم جواز ردّ الخبر ، اذا كان الراوي ثقة ( في كتاب : « من لا يحضره الفقيه » ،وخِرّيت ) بكسر الخاء ، على وزن : سِكّيت ، والمراد به : الماهر في صناعته ، كالشيخ الماهر في ( هذه الصناعة ) أي : علم الفقه ، ويسمى : صناعة ، لأنّه ليس علماً نظرياً ، بل هو علم عملي لأنّ الفقه هو العمل ، بخلاف اصول الدين فانه هو الفكر ولا يسمّى صناعة ، لانه عقائد محضة ، (و ) هذا الماهر في الفقه هو ( رئيس الأعاجم ) ونعته بهذا ليس من باب الاستخفاف بشأن الشيخ رحمه اللّه بل انه مثل قولنا : رئيس الطائفة ونحو ذلك ( الشيخ أبو جعفر الطوسيّ مودع أخبار المضايقة ) أي : أودعها وذكرها ( في كتبه ) و ( مُفتٍ بها ، والمخالف ) لهذا القول كبعض الخراسانيين - على ما تقدّم - ( اذا علم

ص: 51

باسمه ونسبه لم يضرّ خلافُه » . انتهى .

ولا يخفى : انّ اخباره باجماع العلماء على الفتوى بالمضايقة مبنيٌّ على الحدس والاجتهاد من وجوه : أحدُها : دلالةُ ذكر الخبر على عمل الذاكر به ، وهذا وإن كان غالبيّا إلاّ أنّه لا يوجب القطعَ لمشاهدة التخلّف كثيرا .

الثاني : تماميةُ دلالة تلك الأخبار عند اولئك على الوجوب ،

------------------

باسمه ونسبه ، لم يضرّ خلافه ، انتهى ) (1) كلام ابن ادريس الحلّي .

( ولا يخفى ) عليك ( : انّ اخباره ) أي : الحلّي رحمه اللّه ( باجماع العلماء على الفتوى بالمضايقة ، مبنيّ على الحدس والاجتهاد ، من وجوه ) متعددة .

( أحدها : دلالة ذكر الخبر ) المروي عنهم عليهم السلام في الكتاب (على عمل الذاكر به ) أي عمله بذلك الخبر ، فحدس الحلّي : ان هؤاء الذين ذكروا أخبار المضايقة قد عملوا بها ، حدس فقط ، وليس عليه دليل .

ولهذا قال المصنّف : ( وهذا ) أي : عمل الذاكر بالخبر ( وان كان غالبيّاً ) في بعضهم لا في كلهم ، فانّ بناء بعضهم على ذكر الأخبار فقط ، لا العمل بها ( الاّ انّه ) كون ذلك غالبياً ( لا يوجب القطع ) بالتلازم بين الذكر والعمل ( لمشاهدة التخلف كثيراً ) فانهم كثيراً ما يذكرون الخبر في كتبهم ، ولكن لا يعملون به .

( الثاني : تماميّة دلالة تلك الأخبار عند اولئك ، على الوجوب ) فانّ الحلّي رحمه اللّه ، حدس ان هؤاء الناقلين للأخبار ، فهموا منها الوجوب ، وهذا ليس بقطعي ، فكثيراً ما يمكن للانسان ان يذكر الخبر ، ولا يستظهر منه الوجوب لقرائن خارجية وداخلية ، تدل على ان الخبر للاستحباب ، أو للكراهة في بابي : الأمر

ص: 52


1- - خلاصة الاستدلال ، مخطوط .

إذ لعلّهم فهموا منها بالقرائن الخارجيّة تأكد الاستحباب .

الثالثُ : كون رواة تلك الرّوايات موثوقا بهم عند اولئك ، لأنّ وثوق الحلّي بالرّواة لا يدلّ على وثوق اُولئك ، مع أنّ الحلّيّ لا يرى جواز العمل بأخبار الآحاد وإن كانوا ثقاتٍ ، والمفتي إذا استند فتواه إلى خبر الواحد

------------------

والنهي ونحوهما ، ( اذ لعلّهم فهموا منها ) أي : من تلك الأخبار الدالة ظاهراً : على المضايقة ( بالقرائن الخارجيّة تأكد الاستحباب ) للفور ، لا الوجوب ، كما انّ المتأخرين فهموا غالباً من تلك الاخبار ، تأكد الاستحباب ، لا الوجوب ، فأين التلازم بين ذكرهم الاخبار وفهمهم الوجوب منها ، الذي استفاده الحلّي بالحدس ؟ .

( الثالث : كون رواة تلك الرّوايات موثوقاً بهم عند اولئك ) الذين ذكروا تلك الاخبار في كتبهم ، فحدس الحلّي هذا بوثاقة الرواة ، عند اولئك المصنفين ، ليس بقطعي ( لأنّ وثوق الحلّي بالرّواة لا يدلّ على وثوق اولئك ) بهم وبرواياتهم .

هذا ( مع انّ الحلّي ) رحمه اللّه ( لا يرى جواز العمل باخبار الآحاد ، وان كانوا ثقات ) فهو يعمل بالخبر المتواتر ، والمستفيض ، وما اشبه ، لا بخبر الواحد ، حتى وان كان راوي الخبر الواحد ثقة .

وعليه : فانّا وان سلّمنا قطعية المقدمات الثلاث التي ذكرها الحلّي : من انّ ذاكر الخبر يعمل به ، وان ذاكر الخبر فهم من الخبر وجوب المضايقة ، وان ذاكر الخبر اعتقد بوثاقة الراوي ، لكن لا نسلم للحلّي دعوى الاجماع ، اعتماداً على هذه المقدمات ، لانّه لا يعتقد بحجيّة خبر الواحد ، فكيف يدعي الحلّي استناداً الى هذه المقدمات الاجماع ؟ .

( و ) من الواضح : ان ( المفتي اذا استند ) في ( فتواه الى خبر الواحد ،

ص: 53

لا يوجب اجتماعُ أمثاله القطعَ بالواقع ، خصوصا لمن يخطيء العملَ بأخبار الآحاد .

وبالجملة : فكيف يمكن أن يقال : إنّ مثلَ هذا الاجماع إخبارٌ عن قول الامام، فيدخل في خبر الواحد ، مع أنّه في الحقيقة اعتمادٌ على اجتهادات الحلّيّ مع وضوح

------------------

لا يوجب اجتماع امثاله ، القطع بالواقع ) .

لا يقال : لعل حصول الاجماع عند الحلي ، نتج من تراكم خبر الواحد لديه من هذا الكتاب ، وذلك الكتاب وسائر كتب العلماء الذين ذكرهم .

لأنّه يقال : انّ الحلي اذا علم بأنّ مدرك العلماء في حكمهم بوجوب المضايقة هو : خبر الواحد ، ومن الواضح : انّ تراكم عملهم بالخبر الواحد ، لا يوجب القطع بالواقع ؛ لان الذي يصح ان يكون معياراً للاجماع ، هو : مستند هؤاء الفقهاء لا عملهم ، فاذا كان مستندهم اخباراً آحاداً ، والحلّي لا يعمل باخبار الآحاد ، فان ذلك المستند لا يصحح ادعاء الحلّي الاجماع .

وعليه : فان المفتي ( - خصوصاً لمن يخطى ء العمل باخبار الآحاد ) كالحلّي نفسه ، لا يتمكن من ادعاء الاجماع معتمداً على آراء من يكون مستند فتواهم هو الخبر الواحد .

( وبالجملة : فكيف يمكن أن يقال : انّ مثل هذا الاجماع ) المستند الى امور حدسية كالمقدمات التي ذكرناها ( اخبار عن قول الامام عليه السلام ، فيدخل في خبر الواحد ) كما يدّعي ذلك من يرى دخول الاجماع في خبر الواحد .

( مع أنّه ) أي : مع ان الاعتماد على هذا النحو من الاجماع ليس اعتماداً على قول الامام عليه السلام ، بل هو ( في الحقيقة ، اعتماد على اجتهادات الحلّي ، مع وضوح

ص: 54

فساد بعضها ، فانّ كثيرا ممّن ذكر اخبار المضايقة قد ذكر أخبار المواسعة أيضا ، وأنّ المفتي إذا عُلِمَ استنادُه إلى مدرك لا يصلحُ للرّكون إليه من جهة الدّلالة او المعارضة لا يؤثر فتواه في الكشف عن قول الامام .

وأوضحُ حالاً في عدم جواز الاعتماد

------------------

فساد بعضها ) كاجتهاده الأوّل ، في وجود التلازم بين ذكرهم الخبر في كتبهم وعملهم بذلك الخبر .

ويدل على عدم صحة هذا الاجتهاد من الحلّي ، ما ذكره المصنّف قدس سره بقوله : (فان كثيراً ممّن ذكر اخبار المضايقة ، قد ذكر اخبار المواسعة أيضاً ) فاذا كان ذكر الخبر دليل على العمل به لزم التناقض في اعمالهم ، لأنّهم بذكرهم اخبار المضايقة عملوا بها وبذكرهم اخبار المواسعة عملوا بها أيضاً ، وهو تناقض ، فهل يمكن ادعاء مثل ذلك ؟ .

( و ) مع وضوح : ( انّ المفتي اذا علم استناده الى مدرك لا يصلح للركون اليه ) أي : الى ذلك المدرك ( من جهة الدّلالة ، أو المعارضة ) أو السند ، بان كان ذلك المدرك سنده ضعيف ، أو دلالته ضعيفة ، أو معارض بخبر آخر ، ف( لا يؤر فتواه في الكشف عن قول الامام ) عليه السلام .

فانّا اذا رأينا انّ العلماء ذكروا : ان المستند في وجوب المضايقة ، هو : اخبار المضايقة ، ورأينا ضعف سندها ، أو دلالتها ، أو جهة صدورها ، أو معارضتها بأخبار المواسعة ، فلا نكشف من ذلك : انهم قائلون بالمضايقة ، وفرضاً لو كشفنا ذلك ، لا نتمكن من الاعتماد على أقوالهم ، بعد علمنا بضعف المدرك لهذا القول .

( وأوضح حالاً في عدم جواز الاعتماد ) على الاجماعات المنقولة ، لانها مبنية

ص: 55

ما ادّعاه الحلّيُّ من الاجماع على وجوب فطرة الزوجة ولو كانت ناشزةً على الزوج ، وردّه المحقّق بأنّ احدا من علماء الاسلام لم يذهب إلى ذلك . فانّ الظاهر أنّ الحلّيّ إنما اعتمد في استكشاف أقوال العلماء على تدوينهم للروايات الدالّة باطلاقها على وجوب فطرة الزوجة على الزوج ، متخيّلاً أنّ الحكمَ معلّقٌ على الزوجيّة ، من حيث هي زوجيّة ، ولم يتفطن لكون الحكم من حيث العيلولة او وجوب الانفاق ،

------------------

على اجتهادات الناقل ، وقد عرفت : ان اجتهادات الناقل ، لا تكون حجة بالنسبة الينا ، ولا كاشفة عن قول المعصوم عليه السلام هو ( : ما ادّعاه الحلّي من الاجماع على وجوب فطرة الزوجة ، ولو كانت ناشزة على الزوج ) حيث ادعى الحلّي اجماع علماء الاسلام على ذلك .

( وردّه المحقّق : بأنّ احداً من علماء الاسلام ، لم يذهب الى ذلك ) فكيف يدّعي الحلّي الاجماع ؟ وهل هذا إلاّ تناقض ظاهر بين فتوى الحلّي ، وبين قول المحقّق ؟ مع انّ المحقّق أقوى حجّة منه ( فان الظاهر ، انّ الحلّي ، انّما اعتمد في استكشاف أقوال العلماء ) لا من ذكرهم هذه الفتوى بصورة خاصة ، بل ( على تدوينهم للروايات الدالة باطلاقها ، على وجوب فطرة الزوجة على الزّوج ) وكان الحلّي في هذه الفتوى ( متخيّلاً : انّ الحكم ) بوجوب فطرة الزوجة على الزوج ( معلّق على الزّوجيّة ، من حيث هي زوجيّة ) فقال : بوجوبها عليه للناشزة وغير الناشزه .

( ولم يتفطن ) الحلّي ( لكون الحكم من حيث العيلولة ، أو وجوب الانفاق ) اذ لو كان وجوب الفطرة على الزوج ، من حيث انّها زوجته ، وجبت فطرة الناشزة على الزّوج ، لأنها بالنشوز لا تخرج عن كونها زوجته .

ص: 56

فكيف يجوز الاعتمادُ في مثله على الاخبار بالاتفاق الكاشف عن قول الامام عليه السلام ويقال إنّها سنّة محكيّة .

وما أبعدَ ما بين ما استند إليه الحلّيّ في هذا المقام وبين ماذكره المحقّق في بعض كلماته المحكيّة ، حيث قال : « إنّ الاتّفاق على لفظ مطلق شامل لبعض أفراده الذي وقع فيه الكلامُ لا يقتضي الاجماعَ على ذلك ،

------------------

واذا كان وجوب الفطرة على الزوج ، من حيث وجوب نفقتها عليه ، لم تجب الفطرة على الزوج ، لانّها بالنشوز خرجت عن وجوب نفقتها عليه .

وهنا احتمال ثالث : وهو : وجوب الفطرة على الزوج من جهة الانفاق الفعلي عليها ، فاذا كانت في اعالته وهو ينفق عليها وهي ناشزة ، وجبت فطرتها عليه ، واذا لم تكن في اعالته وكان لا ينفق عليها فعلاً ، لم تجب فطرتها عليه .

وعليه : ( فكيف يجوز ) لنا ( الاعتماد في مثله ) أي : في مثل وجوب الفطرة للناشز ( على الاخبار ؟ ) والاخبار : بصيغة المصدر ، والمراد به : اخبار ابن ادريس (بالاتفاق الكاشف عن قول الامام عليه السلام ) اذ إخباره هذا بالاجماع ، ليس كاشفاً عن قول المصعوم عليه السلام ، ( و ) كذا لا يمكن أن ( يقال : انّها سنّة محكيّة ) والضمير في « انها » : للمؤث من جهة رجوعه الى السّنة ، فانّ الضمير اذا وقع بين مذكر ومؤث ، يجوز ان يؤى به مذكراً، ويجوز ان يؤى به مؤثاً - على ما ذكره الادباء - .

( وما أبعد ما بين ما استند اليه الحلّي في هذا المقام ) أي : مقام وجوب فطرة الناشزة ( وبين ما ذكره المحقّق في بعض كلماته المحكيّة حيث قال ) المحقق :

( انّ الاتفاق على لفظ مطلق ، شامل لبعض افراده ، الّذي وقع فيه ) أي : في بعض الافراد ( الكلام لا يقتضي الاجماع على ذلك ) أي : انّ العلماء اذا ذكروا لفظاً مطلقاً ، كما ذكروا في المقام : وجوب فطرة الزوجة على الزّوج ، بدون ان يفصِّلوا :

ص: 57

لأنّ المذهب لا يصار إليه من إطلاق اللّفظ مالم يكن معلوما من القصد ، لأنّ الاجماعَ مأخوذٌ من قولهم : أجمع على كذا ، إذا عزم عليه ، فلا يدخلُ في الاجماع على الحكم الاّ من علم منه القصدُ إليه ، كما انّا لا نعلم مذهبَ عشرة من الفقهاء الذين لم ينقل مذهبهُم لدلالة عموم القرآن وإن كانوا قائلين

------------------

في انّها هل تجب على الزّوج مطلقاً ، أو في بعض اقسام الزوجة ، وهي : غير الناشزة ، فانّ مثل اطلاقهم هذا لا يقتضي أن نفهم منه اجماعهم على وجوب فطرة الناشزة أيضاً ، حتى ننسبه اليهم ، وندعي الاجماع عليه .

وذلك ( لانّ المذهب لا يصار اليه من إطلاق اللّفظ ، ما لم يكن معلوماً من القصد ) فانّ مجرد اطلاق اللّفظ ، لا يدل على ان مذهب المفتي هو : الاطلاق ، ما لم يعلم انه قصد الاطلاق ، أو التقييد ( لان الاجماع مأخوذ من قولهم ) أي : من قول اللغويين : (أجمع على كذا اذا عزم اليه ) ، إذن فلابد فيه من العزم والقصد الى الخصوصيّة والاّ لم يكن الاجماع اجماعاً ( فلا يدخل في الاجماع على الحكم ، الاّ من علم منه القصد اليه ) أي : الى الحكم ، فاذا قلنا : أجمع علماؤا على كذا ، لابد أن نعرف انّ العلماء قصدوا الخصوصيّة أيضاً ، فالاطلاق اذا لم يعرف منه الخصوصيّة ، لا يمكن ادعاء الاجماع على الخصوصية ، وفي المقام كذلك ، فانه لما قال علماؤا بوجوب فطرة الزوجة ، ولم نعلم انهم أرادوا فطرة الناشزة أيضاً ، ام لا ، فلا نتمكن من ادعاء : اتفاقهم على وجوب فطرة الناشزة مطلقاً سواء كانت تحت عيلولة الرجل ، أو لم تكن .

( كما اّنا لا نعلم مذهب عشرة من الفقهاء ، الذين لم ينقل مذهبهم ) في بعض الصغريات المذكورة كبراها في القرآن ( لدلالة عموم القرآن ، وان كانوا قائلين

ص: 58

به » انتهى كلامه .

وهو في غاية المتانة ،

------------------

به ) (1) أي : بعموم القرآن .

فانّ العموم لا يدل على الخصوص ، وكونهم قائلين بالعموم لا يدل على قولهم بالخصوص ، وكذا قولهم بالاطلاق لا يدل على قولهم بالفرد الذي هو من أفراد ذلك الاطلاق ، لاحتمال انهم وجدوا للعموم ، أو الاطلاق ، مخصصاً او مقيداً ، مثلاً : هل يقول العلماء : باستحباب تزويج العبد زوجة ثانية ، من اطلاق قوله سبحانه : « والصّالِحِينَ مِن عِبادِكُم ... » (2) ؟ ، أو هل يقولون بحرمة غيبة المجنون ، مع اطلاق قوله تعالى : « ولا يَغْتَب بَعْضُكُم بَعْضاً » (3) ؟ ، الى غير ذلك ، فالقول بالعموم ، أو بالاطلاق ، لا يدل على القول بالخصوصيّة ، في بعض الافراد المشكوكة ، ( انتهى كلامه ) أي : كلام المحقّق قدس سره ( وهو في غاية المتانة ) .

لكن لا يخفى ، ما فيه ، لانّ بنائهم جار على ان اطلاق الفقهاء وعمومهم ، دليل على ارادة كل فرد فرد ، والاّ لذكروا الاستثناء ، فاذا رأيناهم بصدد بيان الحكم ، ولم يخصصوا عموم القرآن ، ولم يقيدوا اطلاقه ، لزم استظهار انهم يقولون ، بكل فرد فرد .

فتحصل : انّ الحلّي يرى : انهم لو أجمعوا عن اطلاق ، كان مرادهم كل فرد فرد ، بينما المحقّق يرى : انّه ليس مرادهم كل فرد فرد ، لاحتمال انهم أرادوا المقيد لا المطلق .

والمصنّف قدس سره أيّد قول المحقّق لكنّا استشكلنا فيه ، لأقربية قول الحلّي الى

ص: 59


1- - معارج الاصول .
2- - سورة النور : الآية 32 .
3- - سورة الحجرات : الآية 12 .

لكنّك عرفت ما وقع من جماعة من المسامحة في إطلاق لفظ الاجماع ، وقد حكي في المعالم عن الشهيد : « إنّه أوّلَ كثيرا من الاجماعات ، لأجل مشاهدة المخالف في مواردها ، بارادة الشهرة ، او بعدم الظّفر بالمخالف حين دعوى الاجماع ، او بتأويل الخلاف على وجه لا ينافي الاجماع ،

------------------

ظواهر كلماتهم .

ثم ان المصنّف اشكل عليهما معاً ، لأنّ الدقة لم تكن في اجماعاتهم حتى يناقش ، هل انهم ارادوا : المطلق أو المقيد ؟ فقال : ( لكنّك عرفت ما وقع من جماعة ) كالمفيد ، والسيّد ، والشيخ ، والحلّي وغيرهم ( من المسامحة في إطلاق لفظ الاجماع ) حيث انهم يطلقونه ، ولا يريدون به الكل ، بل يستندون في قولهم بالاجماع الى الاجتهادات الحدسيّة ، وعلى ذلك : فلا يمكن الذهاب الى تمامية كلام المحقّق ، ولا الى تماميّة كلام الحلّي .

( و ) يؤد ما ذكرناه : من عدم الدقة في اجماعاتهم ، وانّما هم متسامحون فيها ، ما ( قد حكي في المعالم عن الشهيد ) الأوّل رحمه اللّه ( انّه أوّل كثيراً من الاجماعات ، لأجل مشاهدة المخالف في مواردها ) فانه لما وجد مخالفين في موارد اجماعاتهم أوّل الاجماعات ( ب- ) تأويلات ، حتى لا ينافي الاجماع وجود المخالف ومنها : ( ارادة الشهرة ) لا الاجماع الاصطلاحي ، فانهم اذا ذكروا الاجماع ، أرادوا الشهرة ، فلا ينافي وجود المخالف .

( أو بعدم الظّفر بالمخالف حين دعوى الاجماع ) أي : انّ المدعي للاجماع ، انّما ادعى الاجماع ، لزعمه انهم متفقون على هذا ، ولم يجد المخالفة حين دعواه الاجماع ، فالمسألة ليست اجماعية ، وانّما هو يزعم عدم جود المخالف .

( أو بتأويل الخلاف على وجه لا ينافي الاجماع ) أي : انّ الاجماع متحقّق ،

ص: 60

او بارادة الاجماع على الرّواية وتدوينها في كتب الحديث » ، انتهى .

وعن المحدّث المجلسيّ قدس سره ، في كتاب الصلاة من البحار ، بعد ذكر معنى الاجماع ووجه حجّيّته عند الأصحاب : « إنّهم لمّا رجعوا إلى الفقه كأنّهم نسوا ما ذكروه في الاصول ، ثمّ أخذ في الطعن على إجماعاتهم

------------------

وانّما المخالف يجب انّ يأول كلامه ، فاذا وجد الاجماع - مثلاً - على عدم وجوب السورة والحال انّ بعض الفقهاء يقولون بعدم وجوبها ، يحمل القول بعدم الوجوب - مثلاً - على صورة ضيق الوقت ، فيكون الاجماع على الوجوب في صورة عدم ضيق الوقت ، والمخالف الذي يقول بعدم الوجوب ، يريد صورة عدم الضيق .

( أو بارادة : الاجماع على الرّواية ، وتدوينها في كتب الحديث ) (1) فاذا قال قائل : انّ هذا الحكم اجماعي، أراد : انهم دوّنوا الرواية الدالة على هذا الحكم في كتبهم الى غير ذلك من التأويلات ، في الاجماعات التي وجد من يخالفها ( انتهى ) كلام المعالم .

( وعن المحدّث المجلسيّ قدس سره في كتاب الصلاة من البحار ، - بعد ذكر معنى الاجماع ، ووجه حجّيّته عند الاصحاب ) - الاشكال عليهم : بأنّهم يصطلحون الاجماع في الاصول على معنى ، ثم ينقلون الاجماع في الفروع بمعنى آخر ، وقال : (انهم لمّا رجعوا الى الفقه ، كأنهم نسوا ما ذكروه في الاصول ) فانهم ذكروا في الأصول : انّ الاجماع هو : ا تفاق الكل ، ثم في الفقه ادّعوا الاجماع على مسائل ليس فيها اتفاق الكل ، بل الأكثر على خلاف قول مدعي الاجماع .

( ثم أخذ في الطعن على اجماعاتهم ) والاشكال فيها ، وانه مما لا يعتمد عليها

ص: 61


1- - معالم الدين : ص174 .

------------------ إلى أن قال - : فيغلب على الظنّ أنّ مصطلَحَهُم في الفروع غيرُ ما جروا عليه في الاصول » انتهى .

والتحقيقُ : انّه لا حاجةَ إلى ارتكاب التأويل ، في لفظ الاجماع بما ذكره الشهيد ، ولا إلى ماذكره المحدّث المذكور ، من تغاير مصطلحهم في الفروع والاصول ، بل الحقّ أنّ دعواهم للاجماع في الفروع مبنيّ على استكشاف الآراء ورأي الامام عليه السلام ،

------------------

(الى أن قال ) المجلسي : ( فيغلب على الظّنّ : انّ مصطلحهم في الفروع ، غير ما جروا عليه في الاصول ، انتهى ) (1) كلام المجلسي .

( والتحقيق : انّه لا حاجة الى ارتكاب التأويل ، في لفظ الاجماع بما ذكره الشهيد ، ولا الى ماذكره المحدّث المذكور من : تغاير مصطلحهم في الفروع والاصول ) فان الامر لا يحتاج الى الاشكال بمغايرة اصطلاحهم في الاصول ، عن اصطلاحهم في الفقه ، لأنهم في كل من الاصول والفقه ، يريدون بالاجماع : اتفاق الكل ، كما انه لا حاجة الى تأويل اجماعاتهم بما لا ينافي وجود المخالف ، لأنهم باجماعاتهم يريدون : اتفاق الكل ، لكن ليس ادعائهم هذا باتفاق الكل ، حاصلاً من تتبع الأقوال ( بل ) حاصل من الحدس والاجتهاد ، ف( الحق : انّ دعواهم للاجماع في الفروع ، مبنّي على استكشاف الآراء ورأي ا لامام عليه السلام ) فهنا كشفان :

الأول : كشف اراء الكل .

الثاني : كشف رأي الامام من آراء الكل ، وهنا حدسان :

ص: 62


1- - بحار الانوار : ج89 ص222 ب1 ح65 .

إمّا من حسن الظنّ بجماعة السلف او من امور تستلزم باجتهادهم إفتاء العلماء بذلك وصدور الحكم عن الامام عليه السلام أيضا ، وليس في هذا مخالفةٌ لظاهر لفظ الاجماع حتّى يحتاج الى القرينة ، ولا تدليسٌ ، لأنّ دعوى الاجماع ليس لأجل اعتماد الغير عليه وجعله دليلاً يستريح إليه في المسألة .

------------------

الاول : ( أمّا من حسن الظنّ بجماعة السلف ) حيث انّ المعروفين منهم اذا افتوا بشيء ، ظنّ ناقل الاجماع لحسن ظنّه ، بانه فتوى الكل ، والحال قد اشار هؤاء المفتون بالمخالف .

الثاني : ( أو من امور تستلزم باجتهادهم ) أي باجتهاد الناقلين للاجماع ( افتاء العلماء بذلك ، وصدور الحكم عن الامام عليه السلام أيضاً ) .

والحاصل : انّ الناقل للاجماع رأى فتاوى المعروفين ، فظن الاجماع أو رأي دليلاً في المسألة ، فظن الاجماع ، ومن كشفه رأي الفقهاء ، كشف رأي الامام فكشفه رأي الامام مبني على حدسين .

( وليس في هذا ) الذي ذكرناه : من اطلاقهم لفظ الاجماع الظاهر في ارادة الكل ، والحال انه مستكشف من أحد الأمرين المذكورين ( مخالفة لظاهر لفظ الاجماع ، حتى يحتاج الى القرينة ) للدلالة على انّه لم يرد الاجماع الحقيقي ، اذ ليس في الأمر مجاز حتى يحتاج الى القرينة .

( ولا تدليس ) بحيث يدّعي شيئاً ، ويقصد غيره ( لأنّ دعوى الاجماع ، ليس لأجل اعتماد الغير عليه وجعله دليلاً يستريح ) الغير ( اليه في المسألة ) حتى يكون تدليساً ، فانّ التدليس هو ارائة الغير شيئاً والحال ا نه ليس بواقع ، فمن يحمل متاعه لنفسه لا لأجل البيع ، لا يسمّى مدلِّساً .

ص: 63

نعم ، قد يوجب التدليسَ من جهة نسبة الفتوى إلى العلماء ، الظاهرة في وجدانها في كلماتهم ، لكنّه يندفع بأدنى تتبّع في « الفقه » ، ليظهر أنّ مبنى ذلك على استنباط المذهب ، لا على وجدانه مأثورا .

والحاصلُ : أنّ المتتبّع في الاجماعات المنقولة يحصل له القطعُ من تراكم

------------------

نعم ، لو أراد تغرير الغير ليبيع عليه متاعه ، كان من التدليس ، وهؤاء الفقهاء يدّعون الاجماع لأنفسهم لا لغيرهم ، كما أنهم يستشهدون بالآية الكريمة ، أو الرواية ، لبيان انّهم انّما افتوا بهذه الفتوى لوجود هذا الدليل عليه .

وكيف كان : فان ادعاء الاجماع لا يوجب التدليس ولا تغرير الغير ، لأنّ مدعي الاجماع يدعيه دليلاً لنفسه ، لا لغيره .

( نعم ، قد يوجب ) ادعاء الاجماع ( التدليس من جهة نسبة الفتوى الى العلماء الظاهرة ) من قوله : أجمعوا على كذا ، أو ما أشبه ( في وجدانها ) أي : في وجدان تلك النسبة ، فكأنه يفيد الغير : انّ مدعي الاجماع ، وجد هذه الأقوال ( في ) كتب العلماء ، و ( كلماتهم ) والحال انه لم يجده في كتبهم ، فهو تدليس من هذه الجهة .

( لكنّه ) أي : التدليس من هذه الجهة المحتملة ( يندفع بأدنى تتّبع في الفقه ) فانّ المتتبع في الفقه لا يغتر بهذه الاجماعات ، وانّما ( ليظهر ) له ( انّ مبنى ذلك ) أي الاجماعات ( على استنباط المذهب ، لا على وجدانه مأثوراً ) عنهم ، فان من يشاهد نقل الاجماع في الفقه ، يظهر له ان الناقل ، لم يتتبع أقوال الفقهاء ، بل قد حدس باجتهاداته على انهم يقولون بذلك ، فلا يكون تدليساً او تغريراً بان العلماء أفتوا بذلك .

( والحاصل : انّ المتتبّع في الاجماعات المنقولة ، يحصل له القطع من تراكم

ص: 64

أمارات كثيرة باستناد دعوى النّاقلين للاجماع - خصوصا إذا أرادوا به اتّفاقَ علماء جميع الأعصار ، كما هو الغالب في إجماعات المتأخّرين - إلى الحدس الحاصل من حسن الظنّ بجماعة ممّن تقدّم على الناقل ، او من الانتقال من الملزوم إلى لازمه مع ثبوت الملازمة باجتهاد الناقل واعتقاده .

------------------

أمارات كثيرة ) مما قد ذكرناها سابقاً : كوجود المخالف في المسألة ، وانعقاد الشهرة على خلافها في بعض الأحيان ، وتعارض الاجماعين من شخص واحد في كتابيه ، بل في كتاب واحد من كتبه ، او تعارض الاجماعين من معاصرين او عدم ذكر الفقهاء للمسألة اطلاقاً ، الى غير ذلك ، ( باستناد دعوى النّاقلين للاجماع - خصوصاً اذا أرادوا به اتّفاق علماء جميع الأعصار ، كما هو الغالب في اجماعات المتأخرين ) كالفاضلين والشهيدين ، وانّما قال : « خصوصاً » ، لأنه قد يراد بالاجماع : اتفاق علماء عصره - مثلاً - لا جميع الاعصار ، ( الى الحدس الحاصل من حسن الظّنّ بجماعة ممّن تقدّم على الناقل ) أو اتفاق المعروفين بالفتوى منهم ، وقوله : « الى الحدس » متعلق بقوله : « دعوى الناقلين » ، ( أو من الانتقال من الملزوم الى لازمه ) وكلمة : «أو» عطف على قوله : « من حسن الظن » .

والحاصل : انّ مدعي الاجماع ، انتقل من اتفاق العلماء : من العمل بأصل ، أو آية ، أو رواية ، الى انهم متفقون في هذه الصغرى ، الجزئية أيضاً ، كما تقدّم مثال اخبار المضايقة وما أشبه ، مما لا حاجة الى تكرارها .

( مع ثبوت الملازمة باجتهاد النّاقل واعتقاده ) هو ، لا انّ الملازمة ثابتة واقعاً فانه عند نفسه يظن : انّ هذه الصغرى صورة من الكبرى الكلية ، التي عليها الاجماع ، فيدعي الاجماع على هذه الصغرى الجزئية ، بينما ليس مراده اجماع جميع الفقهاء في هذه المسألة الخاصة .

ص: 65

وعلى هذا يُنزّلُ الاجماعات المتخالفة من العلماء مع اتحاد العصر او تقارب العصرين وعدم المبالاة كثيرا باجماع الغير والخروج عنه للدليل ، وكذا دعوى الاجماع مع وجود المخالف ، فانّ ما ذكرنا في مبنى الاجماع من أصحّ المحامل لهذه الامور المنافية لبناء دعوى الاجماع على تتبّع الفتاوى في خصوص المسألة .

------------------

( وعلى هذا ) أي : الانتقال من الملزوم الى اللازم ( ينزّل الاجماعات المتخالفة من العلماء ، مع اتحاد العصر ، أو تقارب العصرين ) ، مثلاً : شيخ الطائفة وابن ادريس متقاربا العصرين ، والسيد المرتضى وشيخ الطائفة متحد عصرهما .

( و ) هذا هو السر أيضاً في ( عدم المبالاة ) والاعتناء ( كثيراً باجماع الغير ، والخروج عنه للدّليل ) فانّ الاجماعات المنقولة ، غالباً لاتكون مورد اعتناء عند سائر الفقهاء ، فانهم اذا وجدوا دليلاً خالفوا الاجماع الى الدليل ؛ وذلك لان الاجماعات المنقولة مستندة الى اجتهادات الناقلين ، لا انها نقل قول جميع فقهاء العصر ، وقول المصنف : « وعدم المبالاة » عطف على قوله : « ينزّل » .

( وكذا ) يكون هو السر في ( دعوى الاجماع مع وجود المخالف ) لانّ الاجماع مبني على اجتهاد الناقل ، لا على اتفاق جميع الفقهاء .

( فانّ ما ذكرنا في مبنى الاجماع ) المنقول : من انّ الاجماع المنقول مستند الى الاجتهاد . لا الى أقوال الفقهاء هو ( من اصحّ المحامل لهذه الامور ، المنافية لبناء دعوى الاجماع على تتبع الفتاوى في خصوص المسألة ) ، فان الاجماعات المبنية على الحدس والاجتهاد هي التي تسبب ما ذكرناه من التناقض بين الاجماعات ، ومن عدم الاعتناء بالاجماع في قبال الدليل ، وما اشبه ذلك ، ممّا عرفت .

ص: 66

وذكر المحقّق السبزواريّ في الذّخيرة ، بعد بيان تعسر العلم بالاجماع :

« انّ مرادهم بالاجماعات المنقولة ، في كثير من المسائل بل في اكثرها ، لايكون محمولاً على معناه الظاهر ، بل إمّا يرجع إلى اجتهاد من الناقل مؤدّ بحسب القرائن والأمارات التي اعتبرها إلى أنّ المعصوم عليه السلام ، موافقٌ في هذا الحكم ، او مرادهم الشهرة ، او اتفاق أصحاب الكتب المشهورة ،

------------------

( و ) يؤد ما ذكرناه في وجه الاجماعات المنقولة : من انها مبنية على الاجتهادات ، لا على تتبع الأقوال ما ( ذكر ) ه ( المحقّق السّبزواري في الذّخيرة ، بعد بيان تعسّر العلم بالاجماع ) لكثرة العلماء والجهل بكثير منهم ، وعدم الكتب لبعضهم ، وما أشبه ذلك ( انّ مرادهم بالاجماعات المنقولة في كثير من المسائل ، بل في أكثرها ، لايكون محمولاً على معناه الظاهر ) من تتبع آراء الفقهاء فرداً فرداً في جميع الأعصار والأمصار ، ( بل امّا يرجع الى اجتهاد من الناقل ) كما تقدّم من مثال : تدوينهم أخبار المضايقة ، مما سبّب اجتهاد الناقل للاجماع الى انهم قائلون بالمضايقة ، و ( مؤّ ) ذلك الاجتهاد للناقل ( بحسب القرائن والأمارات ، التي اعتبرها ) ناقل الاجماع ، فانها مؤية له بحسب اجتهاده ( الى انّ المعصوم عليه السلام موافق في هذا الحكم ) ، فان الناقل للاجماع حصل له الحدس بسبب اجتهاده من اتفاق الفقهاء ، الى ان موافقة الامام عليه السلام معهم ، وقد عرفت : ان هنا حدسين :

اولاً : حدس بأصل اتفاق الفقهاء .

ثانياً : حدس بأنّ اتفاق الفقهاء يفصح عن رأي المعصوم عليه السلام .

( أو مرادهم : الشهرة ) لا الاجماع المصطلح ، الذي هو اتفاق الكل .

( أو : اتفاق أصحاب الكتب المشهورة ) بأن يكون المراد من الاجماع : اتفاق أصحاب الكتب المشهورة من الفقهاء ، كالشيخ ، وابن ادريس ، والمحقّق ،

ص: 67

او غير ذلك من المعاني المحتملة » .

ثمّ قال بعد كلام له : « والذي ظهر لي من تتبّع كلام المتأخّرين انّهم كانوا ينظرون إلى كتب الفتاوى الموجودة عندهم في حال التأليف ، فاذا رأوا اتّفاقهم على حكم قالوا إنّه إجماعيّ .

ثمّ إذا اطّلعوا على تصنيف آخر خالف مؤلّفهُ الحكمَ المذكورَ ، رجعوا عن الدّعوى المذكورة ،

------------------

والعلامة ، والشهيدين ، ومن أشبه .

( أو غير ذلك من المعاني المحتملة ) (1) التي تقدّم الكلام حولها ، مثل : اتفاق المعروفين بالفتوى من أهل عصره ، أو من أهل كل العصور ، أو اتفاق أصحاب الكتب الأربعة - على ما تقدّم - .

( ثم قال ) المحقّق السبزواري ( بعد كلام له ) ما هذا لفظه :

( والذي ظهر لي من تتبّع كلام المتأخّرين ) المراد بالمتأخّرين : المحقّق فمن بعده ( انهم كانوا ينظرون الى كتب الفتاوى الموجودة عندهم في حال التأليف ، فاذا رأوا اتّفاقهم ) أي : اتفاق أصحاب الكتب الحاضرة عند ناقل الاجماع ( على حكم ) شرعي ( قالوا انه اجماعي ) لانّهم رأوا هذه الفتوى في تلك الكتب الموجودة عندهم حال التأليف .

( ثمّ اذا اطلعوا على تصنيف آخر ، خالف مؤّفه ) أي مؤف ذلك التصنيف الآخر ( الحكم المذكور ) الذي ادعوا قبل ذلك فيه الاجماع ( رجعوا عن الدّعوى المذكورة ) من الاجماع الى فتوى مخالفة ، لما أفتوه اولاً ، مثلاً : اذا رأى أصحاب الكتب المصنفة الموجودة عنده ، يقولون : بوجوب الجمعة ، افتي : بوجوب

ص: 68


1- - ذخيرة المعاد : ص50 .

ويرشد إلى هذا كثير من القرائن التي لا يناسب هذا المقام تفصيلها » ، انتهى .

وحاصلُ الكلام ، من أوّل ما ذكرنا إلى هنا ، أنّ الناقل للاجماع إن احتمل في حقّه تتبّع فتاوى من ادّعى اتفاقهم حتى الامام عليه السلام الذي هو داخل في المجمعين ، فلا إشكال في حجّيته وفي إلحاقه بالخبر الواحد ،

------------------

الجمعة ، وادعى الاجماع على وجوبها ، ثم اذا رأى جملة من الكتب الاخرى ، تقول : باستحباب الجمعة رجع الى الاستحباب ، أو الى التخيير ، أو ما أشبه ذلك .

( ويرشد الى هذا ، كثير من القرائن التي لا يناسب هذا المقام تفصيلها ) (1) مما تقدّم : من تعارض الاجماعين من شخص واحد ، أو تعارض الاجماعين من متحدي العصر ، أو متقاربي العصرين ، أو عدول المفتي عن الفتوى ، التي ادعى الاجماع فيها ، الى فتوى اُخرى ، الى غير ذلك مما تقدّم الالماع الى بعضها ( انتهى ) كلام المحقق السبزواري .

( وحاصل الكلام ، من أوّل ما ذكرنا الى هنا ) حول حجيّة الاجماع المنقول وعدم حجّيته :

( انّ الناقل للاجماع ، ان احتمل في حقّه ) احتمالاً عقلائياً ، يلحق كلامه بالظهور كما اذا ( تتبّع فتاوى من ادّعى اتفاقهم ، حتى الامام عليه السلام ، الّذي هو داخل في المجمعين ) ، وكان من عادته ، انه اذا ادعى الاجماع أراد الاجماع الدخولي ( فلا اشكال في حجّيته ) أي : في حجيّة هذا الاجماع ، ( و ) كذلك لا اشكال ( في الحاقه) أي هذا الاجماع ( بالخبر الواحد ) لانّه اخبار عن قول المعصوم عليه السلام عن حسّ ، فانّ من يرى دخول المعصوم في العلماء ، فهو حسّ بانّ المعصوم عليه السلام

ص: 69


1- - ذخيرة المعاد : ص51 .

إذ لا يشترط في حجّية معرفة الامام تفصيلاً حين السماع منه ، لكن هذا الفرض ممّا يعلم بعدم وقوعه وأنّ المدّعي للاجماع لا يدّعيه على هذا الوجه .

وبعد هذا فان احتمل في حقّه تتبّع فتاوى جميع المجمعين ، والمفروضُ أنّ الظاهرَ من كلامه هو اتّفاق الكلّ المستلزم عادةً لموافقة قول الامام عليه السلام ، فالظاهرُ حجيّةُ خبره

------------------

قال ذلك الحكم ( اذ لا يشترط في حجّيته ) أي حجيّة الخبر الواحد ( معرفة الامام عليه السلام تفصيلاً حين السّماع منه ) ، وقد تقدّم : انه اذا علم ان احد هذين الاثنين ، هو الامام ، وأفتيا بشيء ، فانه يتمكن ان ينسب هذه الفتوى الى الامام عليه السلام .

و ( لكن ) سبق ان ( هذا الفرض ) أي الاجماع الدخولي ( ممّا يعلم بعدم وقوعه ) لأنّ الامام عليه السلام ، منذ غيبته الى يومنا هذا ، لم يعاشر الناس ، فكيف يعلم مدعي الاجماع بأنّه عليه السلام في الفقهاء ، وان قوله في ضمن قولهم ؟ .

نعم ، قد تقدّم : ان الاجماع التشرّفي الذي ادعاه الاخوند ، تبعاً لبعض آخر ، ممكن ، لكنه حتى لو وجد كان نادراً ندرة كبيرة ( وانّ المدّعي للاجماع ) انّما يدّعيه بالحدس و ( لا يدّعيه على هذا الوجه ) الدخولي ، حتى يكون الاجماع بمنزلة الخبر الواحد .

( وبعد هذا ) الذي ذكرناه : من انّ الاجماع الدخولي متعذر الوقوع ( فان احتمل في حقه ) أي حق مدعي الاجماع ( تتبع فتاوى جميع المجمعين ) وكل الفقهاء منذ عصر الغيبة ( و ) الى اليوم ، اذ ( المفروض ان الظاهر من كلامه هو : اتفاق الكل المستلزم عادة لموافقة قول الامام عليه السلام فالظاهر حجّية خبره ) : من أن العلماء

ص: 70

للمنقول إليه ، سواء جعلنا المناط في حجّيته تعلّقَ خبره بنفس الكاشف الذي هو من الامور المحسوسة المستلزمة ضرورةً لأمر حدسي وهو قول الامام ، او جعلنا المناط تعلّق خبره بالمنكشف وهو قول الامام عليه السلام ، لما عرفت من أنّ الخبر الحدسيّ المستند الى إحساس ما هو ملزوم للمخبر به عادةً ، كالخبر الحسّي في وجوب القبول ، وقد تقدّم الوجهان في كلام

------------------

أجمعوا على كذا ( للمنقول اليه ) الذي يريد استفادة الاجماع ، من كلام ناقل الاجماع .

( سواء جعلنا المناط في حجّيته ) أي حجيّة الخبر ( تعلّق خبره بنفس الكاشف الذي هو من الامور المحسوسة ، المستلزمة ضرورة لأمر حدسي وهو : قول الامام عليه السلام او جعلنا المناط تعلّق خبره بالمنكشف ) فانّ من تتبع اقوال العلماء ، قد ينقل قوله عليه السلام ، وهو المنكشف والمسبب ، وقد ينقل قول العلماء واحداً واحدا ، وهو السبب والكاشف .

وعلى أي حال : فالاجماع الذي هو عبارة عن تتبع الفتاوى كلاً ونقله سواء نقل المنكشف ، أو نقل الكاشف حجة بالنسبة الى المنقول اليه ، فانه لو نقل المنكشف ( وهو قول الامام عليه السلام ) كان من الاخبار الحدسيّ المستند الى الحسّ ( لما عرفت : من انّ الخبر الحدسيّ المستند الى احساس ما هو ملزوم للمخبر به عادة ، كالخبر الحسّي في وجوب القبول ) مثل ما تقدَّم : من الاخبار عن الشجاعة المتفرقة ، التي تدل وتكشف شجاعة صاحبها ، وكذلك بالنسبة الى العدالة ، والجُبن ، والكرم ، والبُخل ، وما أشبه ذلك ، فانه سواء نقل السبب أو المسبب ، حصل للمنقول اليه العلم بالمسبب .

هذا ( وقد تقدّم الوجهان ) من نقل السبب ، او نقل المسبب مشروحاً ( في كلام

ص: 71

السيّد الكاظميّ في شرح الوافية .

لكنّك قد عرفتَ سابقا القطعَ بانتفاء هذا الاحتمال ، خصوصا إذا أراد الناقل اتّفاق علماء جميع الأعصار . نعم ، لو فرضنا قلّة العلماء في عصر بحيث يحاط بهم ، أمكن دعوى اتّفاقهم عن حسّ ، لكن هذا غير مستلزم عادةً لموافقة قول الامام عليه السلام . نعم ، يكشف عن موافقته ، بناءا على طريقة الشيخ المتقدّمة التي لم تثبت عندنا وعند الأكثرين .

------------------

السيّد الكاظميّ في شرح الوافية ) فلا نحتاج الى تكراره .

( لكنّك قد عرفت سابقاً : القطع بانتفاء هذا الاحتمال ) أيضاً : وذلك لعدم امكان تحقق القطع من ناقل الاجماع ، بانّه قد تتبع جميع أقوال العلماء ، فان جميع اقوال العلماء ، مع تعدد الأمصار والأزمان ، شيء متعذر قطعاً ، فاذا ادّعى أحد : انّ في المسألة اجماع ، يجب أن يحمل كلامه على غير هذا المعنى ( خصوصاً اذا اراد الناقل : اتّفاق علماء جميع الاعصار ) والأمصار .

( نعم ، لو فرضنا قلّة العلماء في عصر بحيث يحاط بهم ) أي : أمكن لمدعي الاجماع ان يحيط بأقوالهم ( أمكن دعوى : اتفاقهم عن حسّ ) امكاناً عادياً .

( لكن هذا ، غير مستلزم عادة لموافقة قول الامام عليه السلام ) اذ لا يلزم قول جماعة من العلماء قول الامام عليه السلام .

( نعم ، يكشف ) اتفاق علماء العصر ، قلّوا أو كثروا ( عن موافقته ) أي : موافقة الامام عليه السلام ( بناءاً على طريقة الشيخ المتقدّمة ) من اللطف ، لأنّ اللطف لا يختص بكثرة العلماء ، بل يشمل قلتهم ، أيضاً ( التي لم تثبت عندنا وعند الأكثرين ) من الفقهاء ، فانا لا نقول باللطف في الصغرى الجزئية ، التي ادعاها الشيخ ، وان قلنا :

باللطف في مسألة الرسالة والامامة .

ص: 72

ثمّ إذا عُلمَ عدمُ استناد دعوى اتفاق العلماء المتشتّتين في الأقطار الذي يكشف عادةً عن موافقة الامام عليه السلام الاّ إلى الحدس النّاشيء عن أحد الامور المتقدّمة التي مرجعُها إلى حسن الظنّ او الملازمات الاجتهاديّة ، فلا عبرةَ بنقله ، لأنّ الاخبار بقول الامام عليه السلام غير مستند إلى حسّ ملزوم له عادةً ، ليكون نظير الاخبار بالعدالة المستندة إلى الآثار الحسيّة ، والاخبار بالاتفاق أيضا حدسيّ .

نعم ،

------------------

( ثم اذا علم عدم استناد دعوى : اتفاق العلماء المتشتّتين في الأقطار الذي ) ذلك الاتفاق ( يكشف عادة عن موافقة الامام عليه السلام ، الا الى الحدس النّاشيء عن أحد الامور المتقدّمة ، التي ) يكون ( مرجعها الى حسن الظّن ) بالعلماء المتقدمين ، أو بالمعروفين ، منهم - كما تقدّم - ( أو الملازمات الاجتهاديّة ) كالحدس باتّفاقهم على الحكم ، من اتّفاقهم على مسألة اُصولية أو آية أو رواية - كما مرّ سابقاً - ( فلا عبرة بنقله ) للاجماع ، وانّما لا عبرة بنقله للاجماع ( لأنّ الاخبار بقول الامام ) عليه السلام ( غير مستند الى حسّ ملزوم له ) أي : ملزوم لقول الامام عليه السلام ( عادة ، ليكون نظير الاخبار بالعدالة ، المستندة الى الآثار الحسّيّة ) لان ناقل الاجماع لم يسمع قول الامام عليه السلام وحده أو في جماعة من العلماء ، كما في الاجماع الدخولي .

هذا ( والاخبار بالاتفاق ايضاً حدسيّ ) لانه لم يتتبع أقوال جميع العلماء المستلزم لقول الامام عليه السلام ، بل استند في اجماعه الى حسن الظنّ ، أو الملازمات الاجتهادية ، وكلاهما حدس كقول الامام عليه السلام وليس عن حسّ .

( نعم ) بعد ما عرفت : من انّ الاجماع المنقول ، المستند الى حسن الظن ، أو

ص: 73

يبقى هنا شيءٌ ، وهو ان هذا المقدارَ من النسبة المحتمل استنادُ الناقل فيها إلى الحسّ يكون خبرهُ حجّةً فيها ، لأنّ ظاهر الحكاية محمول على الوجدان إلاّ إذا قام هناك صارف ، والمعلوم من الصارف هو عدم استناد الناقل إلى الوجدان والحس في نسبة الفتوى إلى جميع من ادّعى إجماعهم .

وأمّا استنادُ نسبة الفتوى إلى جميع أرباب الكتب المصنّفة في الفتاوى إلى الوجدان في كتبهم بعد التتبّع ، فأمرٌ محتمل

------------------

الحدس الاجتهادي ، ليس بحجة ( يبقى هنا شيء ) من الفائدة لمثل هذا الاجماع المنقول ( وهو : انّ هذا المقدار من النسبة ) التي ذكرها ناقل الاجماع لأقوال هؤاء العلماء ( المحتمل استناد الناقل فيها الى الحس ، يكون خبره حجّة فيها ) أي : في تلك النسبة ، فانا بعد ما قطعنا - عقلاً وعادة - بعدم تتبع ناقل الاجماع ، أقوال كل الفقهاء بل بعضهم ، اخذنا بقدر ذلك البعض ، فاذا كان خبره ، عن عشرة - مثلاً - كان قوله حجة في العشرة ، وذلك مفيد لنا - كما سيأتي ان شاء اللّه تعالى ، وذلك ( لأنّ ظاهر الحكاية ) للاجماع ( محمول ) هذا الظاهر ( على الوجدان ) أي انه تتبع أقوال جماعة من العلماء ، لا انّه استند الى أصل ، أو آية ، أو رواية ( الاّ اذا قام هناك صارف ) عن هذا التتبع ، دال على انه لم يتتبع قول الفقهاء اطلاقاً ، وانّما استند الى آية أو رواية ، أو أصل أو نحو ذلك .

( والمعلوم من الصارف هو : عدم استناد الناقل الى الوجدان والحسّ ، في نسبة الفتوى الى جميع من ادّعى إجماعهم ) بل انّما يدل قطعاً : على انه لم يتتبع جميع أقوال فقهاء الاعصار والأمصار بل ولا حتى أقوال علماء عصر واحد .

( وامّا استناد نسبة الفتوى الى جميع أرباب الكتب المصنّفة في الفتاوى ، الى الوجدان ) لتلك النسبة ( في كتبهم بعد التتبّع ، فأمر محتمل ) وممكن عقلاً ، فيما

ص: 74

لا يمنعه عادةٌ ولا عقلٌ .

وما تقدّم من المحقّق السبزواريّ ، من ابتناء دعوى الاجماع على ملاحظة الكتب الموجودة عنده حالَ التأليف ، فليس عليه شاهدٌ ، بل الشاهد على خلافه ، وعلى تقديره فهو ظنٌّ لا يقدح في العمل بظاهر النسبة ، فانّ نسبة الأمر الحسّي الى شخص ظاهرٌ في إحساس الغير إيّاه من ذلك الشخص .

------------------

اذا لم تكن الكتب كثيرة جداً - كما في عصرنا - والاّ كان ذلك أيضاً من المحال العادي ، فانه ( لا يمنعه عادة ولا عقل ) في الصورة التي ذكرناها .

( وما تقدّم من المحقّق السبزواري : من ابتناء دعوى الاجماع على ملاحظة الكتب الموجودة عنده حال التأليف ، فليس عليه شاهد ) لأنّا نرى كثيراً من الفقهاء ، يفحصون عن الكتب التي ليست موجودة عندهم في المكتبات ، وعند زملائهم من العلماء ، وما الى ذلك ، لهذا قال المصنف : ( بل الشاهد على خلافه ) فلا يمكن أن يدعى - مثلاً - بانّ الجواهر في اجماعاته التي ادعاها لاحظ عشرة من الكتب التي عنده فقط .

( وعلى تقديره ) أي : وجود الشاهد ، لما ذكره السبزواري رحمه اللّه ( فهو ظنّ ) أي : نظن بأنّ الناقل ، لاحظ الكتب الحاضرة عنده فقط عند دعواه الاجماع ومثله ، (لا يقدحُ في العمل بظاهر النسبة ، فانّ نسبة الأمر الحسي إلى شخص ، ظاهرٌ في إحساس الغير إيّاه من ذلك الشخص ) ، فاذا قال : أجمع العلماء ، كان ظاهر في ان هذا المخبر عند اخباره بالاجماع ، كان قد اخبر عن حسّ ، وذلك بان رأي ما نسبه من الفتوى الى الفقهاء في كتبهم وقول المصنف : « ايّاه » يرجع الى الأمر الحسي ، وهو تتبع فتاوى الفقهاء في كتبهم .

ص: 75

وحينئذ : فنقلُ الاجماع غالبا إلاّ ما شذّ حجّةٌ بالنسبة إلى صدور الفتوى عن جميع المعروفين من أهل الفتاوى .

ولا يقدحُ في ذلك أنّا نجد الخلافَ في كثير من موارد دعوى الاجماع ، إذ من المحتمل إرادة الناقل ما عدا المخالف ، فتتبّع كتبَ من عداه ونسب الفتوى إليهم ،

------------------

( وحينئذٍ ) أي : اذا كان ظاهر النسبة هو : انه أحس بفتاواهم ورآها ، لا انّه استفاد فتاواهم وحدس بها من أصل ، أو آية ، أو رواية ( ف- ) يكون ( نقل الاجماع ) من مدعي الاجماع ( غالباً الاّ ما شذّ ، حجّة بالنسبة الى صدور الفتوى عن جميع المعروفين من أهل الفتاوى ) في جميع الأعصار من عصر مدّعي الاجماع ، وما قبله من العصور السابقة عليه .

وقوله : « الاّ ما شذ » يراد به : ما اذا كان هناك قرينة على خلاف ظاهر كلامه ، او كان هناك من علم بمخالفته ، كما اذا علمنا انّ زيداً - مثلاً - من الفقهاء مخالف لسائر اهل الفتوى .

والحاصل : انّ ادعاء الاجماع ظاهر ، في انّه رأى فتوى المعروفين ، الاّ اذا علمنا : انه استند في دعواه للاجماع الى آية أو رواية أو أصل ، أو اذا علمنا بأنّ بعض المعروفين ، مخالفون في الفتوى لسائر العلماء .

( ولا يقدح في ذلك ) الذي ذكرناه : من حجّية نقل الاجماع بالنسبة الى صدور الفتوى عن جميع المعروفين من أرباب الكتب ( انّا نجد الخلاف ، في كثير من موارد دعوى الاجماع ) ، وانّما لا يقدح ذلك ( اذ من المحتمل ارادة الناقل ما عدا المخالف ) فانه لما تتبع كتب الفقهاء ووجد مخالفاً ، لم يعتن بالمخالف فادّعى الاجماع مسامحة ( فتتبّع كتب من عداه ، ونسب الفتوى إليهم ) ، وهذا الاحتمال

ص: 76

بل لعلّه اطّلع على رجوع من نجده مخالفا ، فلا حاجةَ الى حمل كلامه على من عدا المخالف .

وهذا المضمونُ المخبر به عن حسّ ، وإن لم يكن مستلزما بنفسه عادة لموافقة قول الامام عليه السلام ، الاّ أنّه قد

------------------

وان لم يوجب الظهور ، الاّ انه مما يذب به عن ناقل الاجماع ، فلا يستشكل على ناقل الاجماع : بأنه كيف يدعي الاجماع ، وهناك مخالف في المسألة ؟ لانه يذب عنه : بانه لم يعتن بالمخالف .

( بل لعلّه اطّلع على رجوع من نجده مخالفاً ) أي : لعلّ مدعي الاجماع وجد المخالف قد رجع من فتواه بعد ذلك ، فتحقّق الاجماع ، كما اذا كان العلامة - مثلاً - أولاً مخالفاً في وجوب صلاة الجمعة ، ثم رجع وقال بالوجوب ، فاطلع هذا الناقل عليه فنسب الوجوب الى فتوى جميع العلماء .

وعليه : ( فلا حاجة الى حمل كلامه على من عدا المخالف ) بناءاً على الاحتمال الثاني ، الذي ذكرناه بقولنا : « بل لعله اطلع » .

( و ) ان قلت هب انّ ناقل الاجماع رأى كل الكتب المعتمدة ، وادعى الاجماع ، فما فائدة مثل هذا الاجماع ، الذي لم يكن كاشفاً عن قول المعصوم ؟ .

قلت : ( هذا المضمون ) الحاصل من اتفاق المعروفين ، بسبب نقل الجواهر - مثلاً - للاجماع (المخبر به عن حسّ) اذ المفروض ان مدعي الاجماع ، انّما يخبر عن المعروفين ، عن حسّ ، لأنّه رأى فتاواهم في كتبهم بمقتضى ظاهر لفظه، فهذا (وان لم يكن مستلزماً بنفسه عادة لموافقة قول الامام عليه السلام) لأنّ فتوى جماعة ولو كبيرة من العلماء لا تكشف عن قول الامام عليه السلام - على ما تقدَّم - (الاّ انّه قد

ص: 77

يستلزم بانضمام أمارات اُخرَ يُحصّلها المتتبّعُ او بانضمام أقوال المتأخرين من دعوى الاجماع .

مثلاً : إذا ادّعى الشيخ قدس سره ، الاجماعَ على اعتبار طهارة مسجد الجبهة ، فلا أقلَّ من احتمال أن يكون دعواه مستندةً إلى وجدان الحكم في الكتب المعدّة للفتوى

------------------

يستلزم ) فتوى المعروفين لقوله عليه السلام ( ب- ) سبب (انضمام أمارات أُخر يحصّلها المتتبّع ) كدلالة آية أو رواية أو إجماعات اخر أو سيرة ، أو ما أشبه ، ( أو بانضمام أقوال المتأخرين من ) زمان ( دعوى الاجماع ) التي يتتبعها المنقول اليه كما اذا رأينا العلامة - مثلاً - يدعي الاجماع فهو ظاهر في قول المعروفين الى زمان العلامة ، ونحن نتتبع أيضاً قول المعروفين من بعد العلامة ، فنجدهم أيضاً موافقين لاجماع العلامة ، وبذلك نحصل على انّ فقهاء الشيعة عامة ، يقولون بالأمر الفلاني ، واذا حصل لنا ذلك ، كشفنا منه قول الامام ، لأنّ اجماع الكل كاشف عن قوله عليه السلام - على ما تقدّم - .

هذا ، ونمثِّل للانضمام بالأقوال والأمارات الاخر ، المفيدة بالمجموع لقول الامام عليه السلام بما يلي :

( مثلاً : اذا ادّعى الشيخ قدس سره الاجماع ، على اعتبار طهارة مسجد الجبهة ) في حال السجود ، وقال : بانه لا يصح بالاجماع ، ان يسجد الانسان في صلاته على مكان نجس ، فانه قطعاً لم يتتبع أقوال كل الفقهاء ، لمنع العقل والعادة عن مثل ذلك ( فلا أقلّ من احتمال : ان يكون دعواه مستندة الى وجدان الحكم في ) جميع (الكتب المعدّة للفتوى ) ، فانّ الفقهاء المتقدمين ، كانوا ربما يجمعون الفتاوى في كتاب مستقل وربما يجمعون ايضاً الروايات في كتاب كذلك ، ومراد المصنف من

ص: 78

وإن كان بايراد الروايات التي يفتي المؤلّف بمضمونها ، فيكون خبرهُ المتضمّنُ لافتاء جميع أهل الفتوى بهذا الحكم حجّةً في المسألة ، فيكون كما لو وجدنا الفتاوى في كتبهم ، بل سمعناها منهم ، وفتواهم وإن لم تكن بنفسها مستلزمةً ، عادةً ، لموافقة الامام عليه السلام ، الاّ انا إذا ضممنا

------------------

قوله : « في الكتب المعدة للفتوى » ، أعم من هذين القسمين ، ولذا قال : ( وان كان بايراد الروايات ، التي يفتي المؤّف بمضمونها ) مثل نهاية شيخ الطائفة مثلاً ، وبعض الكتب الاخرى التي يجمع الفقهاء فتاواهم في تلك الكتب ، وان كان بمجرد ذكر الروايات ، التي يعملون بها ، ويحتمل ان يريد المصنف : كتب الفتاوى فقط .

وشيخ الطائفة المدعي للاجماع على اعتبار طهارة المسجد ، قد وجد الحكم في كتبهم الفتوائية أو الروائية ( فيكون خبره ) أي خبر الشيخ ( المتضمّن لافتاء جميع أهل الفتوى بهذا الحكم ) وهو اعتبار طهارة المسجد ( حجّة في المسألة ) المذكورة .

( فيكون ) خبر شيخ الطائفة بالنسبة الى هذا المقدار من وجدانه لفتاوى جماعة كبيرة من الفقهاء في كتبهم ، حول هذه المسألة ( كما لوجدنا الفتاوى في كتبهم ، بل سمعناها منهم ) فان الوجدان في الكتب يساوق السماع من أصحاب الكتب ، فيما اذا كانت الكتب معتمدة .

( و ) مجرد ( فتواهم ) أي : أهل تلك الكتب ( وان لم تكن بنفسها مستلزمة عادة لموافقة الامام عليه السلام ) لما تقدّم : من أن فتاوى جماعة ، لا تستلزم قول الامام عليه السلام وانّما المستلزم له عادة ، هو فتوى جميع العلماء ، ( الاّ انا اذا ضممنا

ص: 79

إليها فتوى من تأخّر عن الشيخ من أهل الفتوى وضمّ إلى ذلك أمارات اُخر ، فربّما حصل من المجموع القطعُ بالحكم ، لاستحالة تخلّف هذه جميعها عن قول الامام عليه السلام ، وبعضُ هذا المجموع - وهو اتفاق أهل الفتاوى المأثورة عنهم - وإن لم يثبت لنا بالوجدان ، إلاّ أنّ المخبر قد أخبر به عن حسّ ، فيكون حجّةً كالمحسوس لنا .

وكما انّ مجموعَ ما يستلزمُ عادةً لصدور الحكم عن الامام عليه السلام ، إذا

------------------

اليها ) أي : الى تلك الفتاوى التي اخبر الشيخ بها بلفظ الاجماع ( فتوى من تأخّر عن الشيخ من أهل الفتوى ) الى زماننا هذا ( وضمّ الى ذلك ) أي : اجماع الشيخ ووجداننا لفتاوى من تأخّر عن الشيخ ( أمارات اُخر ) من آية أو رواية أو سيرة أو نحو ذلك ( فربما حصل من المجموع ) لهذه الثلاثة ( القطع بالحكم ) الشرعي من وجوب طهارة مسجد الجبهة في حال الصلاة .

وذلك ، ( لاستحالة تخلّف هذه جميعها ) أي اجماع الشيخ ، وما وجدناه ، وسائر الأمارات التي ضمت اليهما ( عن قول الامام عليه السلام وبعض هذا المجموع ، وهو : اتفاق أهل الفتاوى المأثورة ) أي : المنقولة ( عنهم ) أي عن أولئك العلماء ، الّذين لخّص فتاواهم الشيخ في قوله : اجماع ( وان لم يثبت لنا بالوجدان ) لانّا لم نتتبع أقوال معاصري الشيخ ، ومن تقدّم على الشيخ ، ( الاّ أنّ المخبر ) وهو الشيخ في المثال ( قد أخبر به ) أي : باتفاق أهل الفتاوى في زمانه ومن قبله ( عن حسّ ) لانه مقتضى ظاهر قوله : اجمع العلماء على هذه المسألة ، ( فيكون ) قول الشيخ ( حجّة كالمحسوس لنا ) فهذه الحجة المتضمنة الى الأمرين الاخرين - من تتبعنا لفتاوى من تأخّر عن الشيخ وعثورنا على سائر الامارات - أوجب لنا العلم بالحكم .

( و ) ذلك ( كما ان مجموع ما يستلزم عادة لصدور الحكم عن الامام عليه السلام ، اذا

ص: 80

أخبر به العادلُ عن حسّ قُبِلَ منه وعُمِلَ بمقتضاه ، فكذا إذا أخبر العادلُ ببعضه عن حسّ .

وتوضيحه ، بالمثال الخارجيّ ، أن نقول : إنّ خبر مائة عادل او ألف مخبر بشيء مع شدّة احتياطهم في مقام الاخبار يسلتزُم عادةً لثبوت المخبر به في الخارج ،

------------------

أخبر به العادل عن حسّ ، قبل منه وعمل بمقتضاه ) كما لو فرض أن الشيخ أخبر باجماع جميع علماء الاعصار والأمصار ( فكذا اذا أخبر العادل ببعضه ) كاتفاق المعروفين في زمان الشيخ ومن قبله ( عن حسّ ) وحصلنا الباقي من الأمارات والأقوال نحن بأنفسنا .

والحاصل : انه كما اذا أخبر العادل بشيء أوجب حكماً ، كذلك اذا اخبر العادل ببعض شيء وحصلنا على بعضه الآخر - مما يوجب الحكم وجب ايضاً ، فاذا فرض ان القسامة هي : خمسون قسماً ، لاثبات الدم أو اسقاطه ، فاخبر عادل بثلاثين قسماً منها والباقي من هذه القسامة حلفوا عندنا عشرين قسماً آخر ، فان القسامة تثبت بذلك كما انها تثبت اذا اخبر العادل بخمسين قسما ، أو حلفوا عندنا خمسين قسماً ، حيث الأدلة تشمل البعض ، كما تشمل الكل .

( وتوضيحه بالمثال الخارجيّ ) غير الشرعي ( أن نقول : انّ خبر مائه عادل ، أو ألف مخبر بشيء ) وان لم يكن أولئك الألف عدولاً ، يحصل منه التواتر المفيد للعلم ( مع شدّة احتياطهم في مقام الاخبار ) اذ المهم في الخبر هو صدق المخبر ووثاقته في خبره وان لم يكن عادلاً ومحتاطاً في سائر اموره ، فانه ( يستلزم عادة لثبوت المخبر به في الخارج ) حسب الحكم الشرعي في مائة عادل ، أو حسب بناء العقلاء في الف مخبر - مثلاً - .

ص: 81

فاذا أخبرنا عادل بأنّه قد أخبر ألفُ عادل بموت زيد وحضور دفنه ، فيكون خبره باخبار الجماعة بموت زيد حجّة ، فيثبت به لازمه العاديّ ، وهو موت زيد ، وكذلك إذا أخبر العادل باخبار بعض هؤلاء وحصّلنا اخبار الباقي بالسماع منهم .

نعم ، لو كانت الفتاوى المنقولة إجمالاً بلفظ الاجماع على تقدير ثبوتها لنا بالوجدان ممّا لا يكون بنفسها او بضميمة

------------------

( فاذا أخبرنا عادل ) واحد - مثلاً - أو أكثر ( بأنّه قد أخبر ألف ) مخبر أو مائة ( عادل بموت زيد وحضور دفنه فيكون خبره ) أي خبر هذا العادل ( باخبار الجماعة بموت زيد ، حجّة ) لنا ، لأنّه خبر عادل عن حسّ ، وقد عرفت : ان خبر العادل عن حسّ حجّة ( فيثبت به ) أي بهذا الخبر ( لازمه العاديّ وهو : موت زيد ) لأنّ الخبر : ملزوم ، وثبوت موت زيد : لا زمه .

( وكذلك اذا أخبر العادل باخبار بعض هؤاء ) بأن قال - مثلاً - أخبرني خمسمائة مخبر بموت زيد مما يحصل نصف التواتر ، أو قال : أخبرني خمسون عادلاً بموت زيد ( وحصّلنا اخبار الباقي بالسماع منهم ) كأن سمعنا من خمسمائة آخرين حتى كمل التواتر ، أو سمعنا من خمسين عادلاً آخر ، فخبر من أخبرنا نصف حجّة ، وقد حصلنا على النصف الآخر بأنفسنا ، فكملت الحجّة .

( نعم ، لو كانت الفتاوى المنقولة اجمالاً بلفظ الاجماع ) اذ الاجماع هو : عبارة عن الفتاوى مجملة ، بينما اذا طلعنا على أقوالهم ، تكون تلك الأقوال مفصلةً بالنسبة الينا ، فانها ( على تقدير ثبوتها ) أي : ثبوت تلك الفتاوى ( لنا بالوجدان ) والقطع ، بأن اطلعنا على تلك الفتاوى بانفسنا ( ممّا لا يكون بنفسها ، أو بضميمة

ص: 82

أمارات اُخر مستلزمةً عادةً للقطع بقول الامام عليه السلام ، وإن كانت قد تفيده ، لم يكن معنى لحجّيّة خبر الواحد في نقلها تعبّدا ، لأنّ معنى التعبّد بخبر الواحد في شيء ترتبُ لوازمه الثابتة له ولو بضميمة اُمور اُخر . فلو أخبر العادل باخبار عشرين بموت زيد

------------------

أمارات اُخر ، مستلزمة عادة للقطع بقول الامام عليه السلام ) كما اذا اطَّلعنا على خمسة من الأقوال ، وضمت اليه آية أو رواية أو أصل ، ولا دلالة في شيء منها ، فان المجموع لا يكون ملازماً لقول الامام عليه السلام ( وان كانت قد تفيده ) من باب الاتفاق ، مثلاً : اذا رأينا - ذات مرّة - انسان يهرب من أسد قطعنا من ذلك بأنّه جبان ، وكذا اذا رأينا شخصاً ينفق ماله مرة أو مرتين - مثلاً - قطعنا بأنّه كريم ، الى غير ذلك ، لكن الكلام ليس في الندرة الاتفاقية ، وانّما في اللازمة العادية .

وعلى هذا فانه ( لم يكن معنى لحجّية خبر الواحد في نقلها ) أي : نقل تلك الفتاوى ( تعبداً ) أي بدون دليل عقلائي ، فانّ الحجيّة انّما تكون بالدلالة العقلائية .

وذلك ( لأنّ معنى التعبّد بخبر الواحد في شيء ) كالتعبد بخبر الواحد في اتفاق العلماء على حكم ، والتعبد بخبر الواحد في اخبار جماعة بموت زيد ، كما اذا قال عمرو : انّ جماعة أخبروه بموت زيد ، أو زواج بكر ، أو ما أشبه .

فان معناه : ( ترتب لوازمه ) أي لوازم ذلك الشيء ( الثابتة له ) كصدور الحكم عن الامام عليه السلام فانه من اللوازم الثابتة لاتفاق العلماء على حكم ، وكذا موت زيد ، وزواج بكر في الأمثلة المتقدمة ( ولو ) كان هذا الخبر ( بضميمة اُمور اخر ) من القرائن والامارات الخارجية .

ومثال ذلك ما ذكره بقوله : ( فلو أخبر العادل : باخبار عشرين بموت زيد ،

ص: 83

وفرضنا أنّ إخبارهم قد يوجب العلم وقد لا يوجب ، لم يكن خبرهُ حجّة بالنسبة إلى موت زيد ، إذ لايلزم من إخبار عشرين بموت زيد موتُه .

وبالجملة : فمعنى حجّية خبر العادل وجوبُ ترتب ما يدلّ عليه المخبر به مطابقةً ، او تضمّنا ، او التزاما عقليّا او عاديّا او شرعيّا ، دون ما يقارنه أحيانا .

------------------

وفرضنا ان اخبارهم قد يوجب العلم ، وقد لا يوجب ) لأنّ اخبار عشرين لم يحقّق التواتر ، ولم تكن القرائن المنضمة الى خبر العادل ، مما يوجب ثبوت موت زيد عرفاً ف( لم يكن خبره ) أي خبر العادل حينئذٍ ( حجّة بالنسبة الى موت زيد ) أو صدور الحكم من الامام عليه السلام او زواج بكر الى غير ذلك .

( اذ ) المفروض انه ( لا يلزم من اخبار عشرين بموت زيد ) ثبوت ( موته ) .

والحاصل : انّ اخبار العادل عن قول جماعة ، ان كان بنفسه حجّة أخذ به ، كما اذا أخبر عن قول كل علماء الأعصار والأمصار ، وان كان بضميمة القرائن حجة أخذ به - ايضاً - كما اذا أخبر بالاجماع الى زمانه ، ثم حصلنا على بقية الأقوال الى زماننا ، وان لم يكن لا بنفسه ، ولا بضميمة القرائن ، حجة لم يؤذ به .

( وبالجملة : فمعنى حجّية خبر العادل ) هو : ( وجوب ترتّب ما يدلّ عليه المخبر به مطابقة ، أو تضمّنا ، أو التزاماً عقليّاً ، أو عاديّاً ، أو شرعيّاً ) ، فاذا أخبر - مثلاً - : بان بكراً زوج هند دلّ بالمطابقة على زوجيته لهند ، وبالتضمّن على انّ هنداً زوجته ، وبالالتزام العقلي على الحكم باستحقاق العقاب ، اذا لم يؤ اليها حقها ، وبالالتزام العادي على حصول الولد منها ، وبالالتزام الشرعي على محرميته مع امّها .

( دون ما يقارنه احياناً ) كما في المثال السابق : من الاخبار : بان بكراً زوج هند

ص: 84

ثمّ إنّ ما ذكرنا لا يختصّ بنقل الاجماع ، بل يجري في لفظ الاتفاق وشبهه ، بل يجري في نقل الشهرة ونقل الفتاوى عن أربابها تفصيلاً .

ثم إنّه لو لم يحصل من مجموع ما ثبت بنقل العادل وما حصّله المنقول إليه بالوجدان من الأمارات والأقوال القطعُ بصدور الحكم الواقعيّ عن الامام عليه السلام ،

------------------

حيث يقارنه أحياناً أن تأتي ضيوف هند الى دار الزوج .

والفرق بين اللازم العادي والأحياني واضح ، فان العادي : ما جرت العادة بحصوله ، بينما الأحياني : هو الحصول الاتفاقي الذي لم تجر العادة به .

( ثم انّ ما ذكرنا ) من انه قد يكون لنقل الاجماع ، بعض حجّة لا كل حجّة ، وانّما تكون الحجّة كاملة بانضمام سائر الفتاوى ، أو وجود سائر الأمارات المنضمة الى نقل ذلك الاجماع ، فانه ( لا يختص بنقل الاجماع ، بل يجري في لفظ الاتفاق وشبهه ) لأنّ الاتفاق وشبهه - أيضاً - قد يكون بعض حجّة .

( بل يجري في نقل الشهرة ، ونقل الفتاوى عن أربابها تفصيلاً ) كما يفعله صاحب مفتاح الكرامة في كثير من المسائل حيث ينقل أقوال جماعة من العلماء فيها وينهيها أحياناً الى ما يقارب الثلاثين قولاً ، فان ذلك يكون بعض حجّة فاذا ضممنا اليه سائر القرائن ، مما يفيد المجموع ، الحدس للملازمة العادية ، كفى في الاستناد .

( ثم انه لو لم يحصل من مجموع ما ثبت بنقل العادل ) من الاجماع والاتفاق ، وأقوال العلماء ، وشبهها ( وما حصّله المنقول اليه ، بالوجدان من الأمارات ) من آية أو رواية أو سيرة أو اصل ( و ) من ( الأقوال ) التي وجدها هو بنفسه في كتب العلماء ( القطع بصدور الحكم الواقعيّ عن الامام عليه السلام ) لعدم بلوغ المنقول

ص: 85

لكن حصل منه القطع بوجود دليل ظنّيّ معتبر بحيث لو نقل إلينا لاعتقدناه تامّا من جهة الدلالة وفقد المعارض ، كان هذا المقدارُ أيضا كافيا في اثبات المسألة الفقهية ، بل قد تكون نفس الفتاوى التي نقلها الناقلُ للاجماع إجمالاً مستلزما لوجود دليل معتبر فيستقل الاجماع المنقول بالحجّية بعد اثبات حجّية

------------------

والمحصّل معاً الى حدّ يلازم ملازمة عادية موافقة قول الامام عليه السلام ، ( لكن حصل منه ) أي : من ذلك المجموع المنقول ، والمحصل (القطع ) والمراد به : القطع بالتعبّد لا القطع الوجداني بالحكم ، لأنّ القطع اذا حصل من شيء فهو حجّة - في غير القطع الموضوعي ، وعليه : فانه قد يقطع تعبداً ( بوجود دليل ظنيّ معتبر ، بحيث لو نقل الينا ، لاعتقدناه تامّاً من جهة ) السند وجهة الصدور ، وجهة ( الدلالة وفقد المعارض ) اذ المنقول والمحصّل ، قد يسببان : القطع بقول الامام ، وقد يسببان : القطع التعبدي بوجود دليل معتبر في المسألة .

وكيف ( كان ) فان ( هذا المقدار أيضاً ) يكون ( كافياً في اثبات المسألة الفقهية ) وذلك لانه لا يلزم للانسان ، أن يحصل له الظن التعبدي ، بقول الامام ، بل الظن التعبدي بوجود دليل معتبر في المسألة ، كاف في الاستناد .

( بل قد تكون نفس الفتاوى التي نقلها الناقل للاجماع ) نقلاً ( اجمالاً ) أو نقلاً تفصيلاً - كما ذكرنا عن صاحب مفتاح الكرامة - ( مستلزماً لوجود دليل معتبر ) بان كان ناقل الاجماع - مثلاً - من العلماء المتقنين في النقل المطلعين على أقوال العلماء في الاعصار والأمصار ، بحيث يكون نقله الاجماع سبباً لظننا بوجود دليل معتبر في المسألة ، وان لم نظن منه ظناً معتبراً بقول الامام عليه السلام .

( فيستقل ) هذا ( الاجماع المنقول ) الذي ذكرناه ( بالحجّية ، بعد إثبات حجّية

ص: 86

خبر العادل في المحسوسات ، إلاّ إذا منعنا - كما تقدّم سابقا - عن استلزام اتّفاق أرباب الفتاوى عادةً لوجود دليل لو نقل إلينا لوجدناه تاما ، وإن كان قد يحصل العلمُ بذلك من ذلك ، إلاّ أنّ ذلك شيء قد يتفق ولا يوجب ثبوت الملازمة العادية التي هي المناط في الانتقال من المخبر به إليه .

------------------

خبر العادل في المحسوسات ) فيكون ناقل الاجماع حينئذٍ ناقلاً للمحسوس ، الملازم عادة لموافقة الامام ، أو لوجود دليل معتبر ، ويكون كمن يخبر عن عدالة زيد ، أو شجاعته ، أو كرمه ، أو ما أشبه - مما تقدمت الاشارة اليه - .

( الاّ اذا منعنا - كما تقدّم سابقاً - عن استلزام اتّفاق أرباب الفتاوى ) المعروفين (عادة ، لوجود دليل لو نقل إلينا لوجدناه تاماً ) ، كما اذا قلنا : بأنّ استناد الناقل الى الحسّ بالنسبة الى أرباب الفتاوى المعروفين ، في الكتب المصنَّفة وغيرها ، انّما يفيد أقوال اولئك فقط ، ولا يستلزم عادة بنفسه موافقة الحكم الشرعي الصادر عن الامام أو الدليل المعتبر ، الذي اذا حصَّلناه كان حجّة بالنسبة الينا ( وان كان قد يحصل العلم بذلك ) الدليل المعتبر ، أو قول الامام عليه السلام ( من ذلك ) أي من اتفاق المعروفين من أصحاب الفتاوى والكتب .

( الاّ انّ ذلك شيء قد يتفق ، ولا يوجب ) الاطلاع على تلك الفتاوى ( ثبوت الملازمة العادية ، التي هي المناط في الانتقال من المخبر به ) وهو اتفاق العلماء (اليه ) أي : الى وجود دليل معتبر ، او موافقة قول الامام عليه السلام .

كما اذا حصَّلنا أقوالهم - مثلاً - بمراجعتنا كتب الشيخ الطوسي الى كتب الشيخ المرتضى ، فلم نحصل من ذلك على دليل معتبر في المسألة ولا على انّ هذه الفتاوى توافق قول الامام عليه السلام ، فحيث ان مراجعتنا الحسّية هذه لا تلازم ذلك الحدس ، وكذلك نقل الاجماع ، من ذلك الانسان المتقن للنقل لا يلازم ذلك

ص: 87

الا ترى أنّ إخبار عشرة بشيء قد يوجب العلم به ، لكن لا ملازمةَ عاديّةَ بينهما ، بخلاف إخبار ألف عادل محتاط في الاخبار .

وبالجملة : يوجد في الخبر مرتبة تستلزم عادةً لتحقق المخبر به ، لكن ما يوجب العلم أحيانا قد لا يوجبه ، وفي الحقيقة ليس هو بنفسه الموجب في مقام حصول العلم وإلاّ

------------------

الحدس ، الذي يكون حجّة شرعية ، بين الانسان وبين اللّه سبحانه وتعالى .

( ألا ترى انّ اخبار عشرة ) أو نحوهم ( بشيء قد يوجب العلم به ) ولو علماً عادياً ، وهو : الظن المعتبر ( لكن لا ملازمة عادية بينهما ) أي : بين اخبار العشرة والعلم بذلك الشيء ، الذي اخبروا به ، ( بخلاف إخبار ألف عادل محتاط في الاخبار ) فانه يلازم العلم بذلك الشيء الذي اخبروا به .

( وبالجملة : يوجد في الخبر مرتبة ) من الاخبار ، كاخبار ألف في مثالنا ( تستلزم ) تلك المرتبة ( عادة لتحقق المخبر به ) عند الانسان ، الذي نقلت اليه تلك الاخبار .

( لكن ما يوجب العلم أحياناً ) كاخبار العشرة في مثالنا ، وكاتفاق المعروفين بالنسبة الى نقل الاجماع ( قد لا يوجبه ) أي لا يوجب العلم ، اذ قد يكون هناك تلازم عادي بينهما ، وقد لا يكون وان كان كلاهما من باب الاخبار ، فان للاخبار مراتب .

( وفي الحقيقة ليس هو ) أي : الاخبار كاخبار العشرة ، وكاتفاق المعروفين ( بنفسه الموجب في مقام حصول العلم ) أي : في المقام الذي يحصل لنا منه العلم انّما يحصل لنا بسبب القرائن ، كالتواتر ، والعدالة ، وغير ذلك ، وليس حصول العلم - أو الظن المعتبر - لنا ، من نفس الاخبار ( والاّ ) بان كان العلم

ص: 88

لم يتخلّف .

ثمّ إنّه قد نبّه على ما ذكرنا من فائدة نقل الاجماع بعضُ المحقّقين في كلام طويل له ، وما ذكرنا وإن كان محصّل كلامه على ما نظرنا فيه ، لكنّ الأولى نقل عبارته بعينها ، فلعلّ الناظر يحصّل منه غير ما حصّلنا ، فانّا قد مررنا على العبارة مرورا ، ولا يبعد أن يكون قد اختفى علينا بعض ماله دخل في مطلبه .

قال قدس سره ، في كشف القناع وفي رسالته التي صنّفها في المواسعة والمضايقة ما هذا لفظه: « وليعلم أنّ المحقّق في ذلك هو

------------------

يحصل لنا من نفس الاخبار، لا بمعونة القرائن ، كان اللازم : ان العلم ( لم يتخلّف ) عن الاخبار أبداً ، ولزم حصول العلم لنا - أو الظن المعتبر - من مجرد الاخبار .

( ثم انّه قد نبّه على ما ذكرنا من فائدة نقل الاجماع ) وهو : كونه بعض الحجّة ، فاذا حصلنا على الاقوال الأُخر ، أو أمارات اخر كان المجموع حجّة ( بعض المحقّقين ) وهو الشيخ أسد اللّه التُستري في كتاب له كتبه في الاجماع وذلك ( في كلام طويل له ، وما ذكرنا وان كان محصّل كلامه على ما نظرنا فيه ، لكن الاولى نقل عبارته بعينها ، فلعل الناظر يحصّل منه غير ما حصّلنا ، فانّا قد مررنا على العبارة مروراً ) ولم ندقق فيها تدقيقاً ، حتى يكون كلامنا مطابقاً لكلامه قطعاً ، ولهذا ننقل نفس العبارة ( ولا يبعد : أن يكون قد اختفى علينا بعض ما له دخل في مطلبه ) وهذا نصه : ( قال قدس سره في ) كتاب ( كشف القناع ، وفي رسالته التي صنّفها في المواسعة والمضايقة ) من جهة الصلاة ، وكأن كشف القناع وغيره ، نقل نفس العبارة (ما هذا لفظه : وليعلم انّ المحقّق في ذلك ) أي في نقل الاجماع ( هو :

ص: 89

أنّ الاجماعَ الذي نقل بلفظه المستعمل في معناه المصطلح او بسائر الألفاظ على كثرتها ، إذا لم يكن مبتنيا على دخول المعصوم بعينه او ما في حكمه في المجمعين ، فهو إنّما يكون حجّةً على غير الناقل باعتبار نقله السببَ الكاشفَ عن قول المعصوم او عن الدّليل القاطع او مطلق الدليل المعتدّ به

------------------

انّ الاجماع الذي نقل بلفظه المستعمل في معناه المصطلح ) بان قال : إجماع في المسألة ، أو أجمع العلماء ، أو أجمع الفقهاء أو ما أشبه ( أو ) نقل ( بسائر الألفاظ على كثرتها ) كما اذا قال : إتّفق العلماء ، أو إتّفق الفقهاء أو إتّفقوا على هذا الشيء أو فيه إتفاق ، أو نحو ذلك من العبارات الكثيرة .

فانه ( اذا لم يكن مبتنياً على دخول المعصوم ) عليه السلام ( بعينه ) كما في الاجماع الدخولي فانه متعذر عادة في زمن الغيبة ( أو ما في حكمه ) أي حكم دخول المعصوم ( في المجمعين ) بان سمع مدّعي الاجماع تقرير المعصوم للمجمعين ، أو رأى تقريره او حدس به من اللطف ، او المكاشفات الرياضية أو نحوها .

( فهو ) أي الاجماع المذكور ( انّما يكون حجّة على غير الناقل ) وهو المنقول اليه، من غير فرق بين ان يكون حجّة بالنسبة الى الناقل ، أو لم يكن حجّة بالنسبة اليه (باعتبار نقله ) أي نقل الناقل ( السّبب الكاشف عن قول المعصوم ) عليه السلام ، فانّ نقل الاجماع سبب كاشف عن قول المعصوم فالناقل ينقل الكاشف .

( أو عن الدّليل القاطع ) بأن يكون نقل الاجماع كاشفاً عن وجود دليل قاطع في المسألة ، يوجب القطع .

( أو مطلق الدليل المعتد به ) بأن يكون نقل الاجماع كاشفاً عن دليل معتبر مطلقاً سواء اورث القطع او الظنّ .

ص: 90

وحصول الانكشاف للمنقول إليه والمتمسّك به بعد البناء على قبوله ، لا باعتبار ما انكشف منه لناقله بحسب ادّعائه .

فهنا مقامان : الأوّل حجّيتهُ بالاعتبار الاوّل ، وهي مبتنية من جهتي الثبوت والاثبات على مقدّمات :

------------------

وعليه : فنقل الاجماع يكون على ثلاثة اقسام :

اولاً : ان يكون كاشفاً عن قول الامام عليه السلام .

ثانياً : ان يكون كاشفاً عن دليل قطعي .

ثالثاً : ان يكون كاشفاً عن مطلق الدليل المعتد به ، سواء كان ذلك قطعياً أو ظنّياً ، بأن نعلم من نقل الاجماع ، أنّ في المسألة دليل معتبر ، أمّا هل أنه قطعي ، أو ظنّي ، فلا نعلم به ؟ .

هذا بالنسبة الى نقل الاجماع وكونه كاشفاً ( و ) أمّا بالنسبة الى ( حصول الانكشاف للمنقول اليه ، والتمسّك به ) أي : بما انكشف له بسبب الاجماع ( بعد البناء على قبوله ) للسبب بان كان نقل السبب حجّة ، لأنه خبر عادل حسّي ، فانه (لا) يكون للمنقول اليه حجّة ( باعتبار ) نقل ( ما ) أي : قول الامام عليه السلام ، أو الدليل

القطعي ، أو الدليل المعتبر الذي ( انكشف منه ) أي : من الاجماع ( لناقله بحسب ادّعائه ) فانّ اطلاع ناقل الاجماع على أقوال العلماء أوجب له العلم ، أما ان ذلك يوجب العلم للمنقول اليه ، فلا ملازمة .

( فهنا مقامان : ) أي : انه من جهة نقل السبب : قطعي لأنه حسّي ، وأما من جهة نقل المسبّب : فليس بقطعي ، وان فرض انّ الناقل حصل له القطع من تتبع الفقهاء .

( الأول : حجّيته ) أي الاجماع ( بالاعتبار الأوّل ) أي : نقل السبب ( وهي : ) أي الحجيّة المذكورة ( مبتنية من جهتي الثبوت والاثبات على مقدّمات ) .

ص: 91

الاُولى : دلالة اللفظ على السبب ، وهذه لابدّ من اعتبارها ، وهي محققة ظاهرا في الألفاظ المتداولة بينهم مالم يصرف عنها صارف ،

------------------

اما جهة الثبوت فهي عبارة عن دلالة قوله : في المسألة إجماع ، على اتفاق العلماء .

واما جهة الاثبات ، فهي عبارة عن : ان هذا الاجماع يثبت قول المعصوم عليه السلام ، أو الدليل المعتبر .

لكن لا يخفى : انّ الثبوت والاثبات في الاصطلاح ، غير ما ذكره هنا ، فانه يقال - مثلاً - : في عالم الثبوت والواقع ، يمكن اجتماع الأمر والنهي وفي عالم الاثبات : هل الدليل دلّ على جمع الشارع بينهما في الصلاة في الدار المغصوبة ام لا ؟ أمّا أن يراد بالثبوت : دلالة اللّفظ على المعنى ، وبالاثبات : اثبات اللّفظ لقول الامام عليه السلام ، أو دليل معتبر - مثلاً - فهو اصطلاح له ، ولا مشاحة فيه .

اما الجهة ( الأولى : ) فهي ثبوت ( دلالة اللّفظ على السبب ) أي : سببيّة الاجماع للكشف عن قول المعصوم ، أو عن دليل معتبر ( وهذه ) الدلالة ( لا بد من اعتبارها ) فانّه لولا هذه الدلالة ، لم يكن وجه للحجّية - كما هو واضح - .

( وهي : ) أي : هذه الدلالة ( محققة ) أي : ثابتة ( ظاهراً في الالفاظ المتداولة بينهم ) في مقام حكاية الاجماع ، كقولهم : في هذه المسألة اجماع أو أجمع العلماء أو إتفقوا أو هذا هو مذهب أهل البيت ، أو ما أشبه ذلك ( ما لم يصرف عنها صارف ) بأن كان اللّفظ دالاً على الاجماع لكن كان في المقام صارف يدلّ على ارادة مدّعي الاجماع : الشهرة ، أو تدوين الرواية ، أو ما أشبه ذلك ، كما اذا قال : - أجمع العلماء الاّ قليلاً منهم أو نحو هذا اللفظ ، مما يدل على انّه يريد بالاجماع الشهرة .

ص: 92

وقد يشتبه الحالُ إذا كان النقلُ بلفظ الاجماع في مقام الاستدلال ، لكن من المعلوم أنّ مبناه ومبنى غيره ليس على

------------------

( وقد يشتبه الحال ) في عبارة مدّعي الاجماع ، ولم يعلم انه هل يريد اجماع الفقهاء أو يريد الشهرة ؟ فيما ( اذا كان النقل بلفظ الاجماع ) ، ووجه الاشتباه انّه اذا نقل الناقل ، الاجماع على الحكم بصورة مطلقة ، وقال : مطهرية ماء البئر اجماعية ، فانّه يدلّ على اتفاق الكل ، وأما اذا كان في مقام الاستدلال لما ذهب اليه كما اذا قال - في انفعال الماء القليل بملاقات النجاسة وعدمه - : الظاهر : انه ينجس للاجماع ، فانّ اجماعه هذا لا يدل على اتفاق الكل ، لاحتمال انّه أراد : الشهرة ، وانّما لا يكون دالاً على اتفاق الكل ، لأنّ الانسان في مقام الاستدلال ، يتمسك بكل شيء يراه كاشفاً عن قول المعصوم عليه السلام ، أو عن دليل معتبر ، ولعل الشهرة عنده كاشفة فأراد بالاجماع : المعنى المجازي له لا الاتفاق الحقيقي .

وعليه : فاذا كان النقل بلفظ الاجماع ( في مقام ا لاستدلال ) لا مطلقاً فلا يكون اجماعه كاشفاً عن انّه يريد به : اتفاق الكل .

أقول : لكن هذا التعليل المذكور ، للفرق بين : الاجماع المطلق ، والاجماع في مقام الاستدلال ، غير ظاهر الوجه عندي ، وان ذكره بعض لوضوح : انّ الاجماع هو إجماع ، سواء كان في مقام الاستدلال ، أو كان مطلقاً فانّ المتبع هو الظهور ، والظهور فيهما واحد .

( لكن من المعلوم : ان مبناه ومبنى غيره ) أي مبنى كشف الاجماع عن قول الامام عليه السلام ، أو الدليل المعتبر للتلازم العادي بين الكاشف والمنكشف على الحدس ، ومبنى غيره : من اسباب حجّية الاجماع ، كاللطف ، ونحوه ( ليس على

ص: 93

الكشف الذي يدّعيه جهّال الصوفيّة ، ولا على الوجه الأخير الذي إن وجد في الأحكام ففي غاية الندرة ،

------------------

الكشف الذي يدّعيه جُهّال الصوفيّة ) والاضافة هنا بيانية ، أي : الصوفية الجهال ، فانّ الصوفية يقولون بان هناك مراتب للانسان :

الاولى : انّ الانسان يكشف الواقع بالدليل .

الثانية : أن يكشفه بالرؤة ، من دون احتياج الى الدليل ، كما نكشف المرئيات بالرؤة ، فلا حاجة الى الاستدلال ، والفرق بين المحسوسات والمعنويات ، انّ الاولى كشفها بالحس الظاهري ، والثانية كشفها بالعقل ، وقد اشير الى ذلك في بيت معروف بالفارسية يقول :

« پاى استدلاليان چوبين بود***پاى چوبين سخت بى تمكين بود » .

الثالثة : ان يكشفه بالاتحاد وجوداً أو موجوداً مع المبدء الأعلى ، فيكون الكاشف والمنكشف شيئاً واحداً وجوداً عند من يقول منهم : بوحدة الوجود وتعدد الموجود ، أو موجوداً عند من يقول منهم : بوحدة الوجود والموجود ، وانه لا موجود الاّ هو - بنظرهم - تعالى اللّه عن ذلك ، وقد دلّت الأدلة العقلية والسمعية على بطلان ما يذكرون من المراتب ، مما لسنا بصدد ذكرها (1) .

وقد اشار المصنّف الى ذلك ، ليعلم ان الكشف الذي يقول به الفقهاء ، ليس على نحو هذا الكشف ، وانّما هو : المفهوم منه في الفقه والاصول .

( ولا على الوجه الأخير ) وهو : مشافهة الامام عليه السلام دخولاً أو التشرف بخدمته مما قد يتفق للنادر جداً ، كما ينقل عن المقدس الأردبيلي ، والسيّد بحر العلوم ويسمّى بالاجماع التشرفي ( الذي ان وجد في الأحكام ، ففي غاية الندرة ) ، فانّ

ص: 94


1- - راجع كتاب شرح منظومة السبزواري للشارح .

مع أنه على تقدير بناء الناقل عليه وثبوته واقعا كافٍ في الحجّية .

فاذا انتفى الأمران تعيّن سائرُ الأسباب المقرّرة ، وأظهرُها غالبا عند الاطلاق حصولُ الاطّلاع بطريق القطع

------------------

من شافه الامام عليه السلام في زمان الغيبة الكبرى انّما يؤر عنهم : انهم قد سألوه عليه السلام عن بعض الامور .

هذا ( مع انه على تقدير بناء الناقل ، عليه ) أي على التشرف بان يدعي الاجماع ويريد : تشرفه بخدمته عليه السلام ( وثبوته واقعاً ) بأن تحقق التشرف في زمان الغيبة - كما ينقل عن المقدس الاردبيلي - وحيث انه لا يريد أن يقول : تشرفت بحضوره عليه السلام - لما ورد من تكذيب مدّعي الرؤة - فيظهره بلفظ - الاجماع ، حتى يجمع بين الأمرين : بيان الحكم واخفاء التشرف .

وهذا ( كاف في الحجيّة ) لأنّه نقل لقول المعصوم عليه السلام عن حسّ وانّما الكلام في كلا الأمرين : ثبوت التشرف واقعاً ، وبناء الناقل على ذكر التشرف بلفظ الاجماع .

( فاذا انتفى الأمران : ) من الكشف لقوله عليه السلام عن طريق الدخول وما في حكمه ، ومن التشرف بحضوره ومشافهته عليه السلام ( تعيّن سائر الأسباب المقرّرة ) لكشف قول المعصوم مثل : استكشاف قوله عليه السلام من اتفاق الكل بقاعدة اللّطف ، او بالحدس الضروري ، أو بالحدس الاتفاقي ، مما قد تقدّم : بانه قد ينضم اليه بعض الأمارات ونحوها ، فتيقن الناقل : انّ قول الامام عليه السلام مطابق لما يذكره .

( وأظهرها ) أي : أظهر تلك الأسباب ( غالباً عند الاطلاق ) للاجماع ، وعدم وجود القرينة الصارفة ( حصول الاطّلاع ) على قول الامام عليه السلام أو الطريق المعتبر ( بطريق القطع ) كما اذا تتبع جميع الأقوال لعلماء الأعصار والأمصار، ورأى الكل

ص: 95

او الظنّ المعتدّ به على اتّفاق الكلّ في نفس الحكم .

ولذا صرّح جماعة منهم باتحاد معنى الاجماع عند الفريقين وجعلوه مقابلاً للشهرة ، وربما بالغوا في أمرها بأنّها كادت تكون إجماعا ونحو ذلك ،

------------------

مجمعين على رأي ( أو الظنّ المعتدّ به ) أي : الظن المتاخم للعلم ، كما اذا أخبره العادل : باتفاق الكل عن تتبع مما يكون قول العادل مفيداً للظن المعتبر بالنسبة الى المنقول اليه ، فيكون كما اذا تتبع هو بنفسه ، حيث يحصل له الظنّ المعتبر ( على اتفاق الكلّ ) أي جميع علماء الأعصار والأمصار ( في نفس الحكم ) لا اتفاق البعض ، وانّما كشف الناقل عن البعض الآخر على سبيل الظن أو نحوه .

( ولذا ) أي لأجل انّ اللّفظ الاجماعي والاتفاق ونحوهما ظاهر في اتفاق جميع العلماء على الحكم المدعى عليه الاجماع ( صرّح جماعة منهم ) أي العلماء (باتحاد معنى الاجماع عند الفريقين ) : العامة والخاصة ، فكلاهما يرى الاجماع بمعنى اتفاق الجميع لكن اتفاق جميع المسلمين عند العامة ، واتفاق جميع المؤنين عند الخاصة ( وجعلوه ) أي الاجماع ( مقابلاً للشهرة ) فانّ الشهرة أقل مرتبة من الاجماع .

كما انهم فرّقوا بين : الأشهر والمشهور ، فان المشهور أقوى من الأشهر ، لأنّ الأشهر في قباله شهرة ، بخلاف المشهور ، فليس في قباله شهرة .

( وربما بالغوا في أمرها ) أي الشهرة ( بأنّها كادت تكون إجماعاً ، ونحو ذلك ) بأن يقال : المشهور كذا ، بل قيل انه اجماعي ، أو المشهور كذا ويحتمل أن يكون اجماعياً الى غير ذلك ، مما يدل على انّ للاجماع عند الخاصة مرتبة أعلى من الشهرة .

ص: 96

وربما قالوا : إن كان هذا مذهب فلان فالمسألة إجماعية ، وإذا لوحظت القرائن الخارجيّة من جهة العبارة والمسألة والنَّقَلَة واختلف الحال في ذلك ،

------------------

( وربما قالوا : ان كان هذا مذهب فلان ، فالمسألة إجماعية ) فان هذا دليل على انّ الكل يقولون بالمسألة الاّ فلان ، فانه من المحتمل أن يقول أو ان لا يقول ، حتى انه اذا كان مذهبه أيضاً مثل غيره ، كان الانصراف اجماعياً ، وهذا كله دليل على ان الاجماع عند الخاصة عبارة عن : اتفاق جميع العلماء .

( واذا لوحظت القرائن الخارجيّة من جهة العبارة ) كما في قولهم : في المسألة اتفاق علماء العصر ، أو إتفاق علماء الأعصار والأمصار ، أو اتفاق أرباب الكتب المعروفة ، أو اتفاق أصحاب الكتب ، ونحو ذلك .

( والمسألة ) حيث انّ بعض المسائل معنونة في كلمات العلماء ، وبعض المسائل ليست معنونة ، فاذا كانت المسألة معنونة وادعى عليها الاجماع ، كان أقرب الى الواقع .

( والنَقَلَة ) فان من النقلة من يكون كثير الاحاطة ، فاذا ادعى الاجماع ، كان قوله أقرب الى الواقع ، ومنهم من يكون قليل الاحاطة فلا اعتبار بنقله الاجماع .

( واختلف الحال في ذلك ) كما اذا شككنا : بأنّ المسألة معنونة أم لا ، أو انّ مراده بعلماء الأعصار : كل الأعصار أو بعض الأعصار ، أو انّ الناقل : قليل الاطلاع او كثير الاطلاع ، أو ان هذا الكتاب - مثلاً - الّفه عند كثرة اطلاعه ، أو قلّة اطلاعه ، فانّ الكتب تختلف - بحسب ذلك - فطهارة الشيخ المرتضى - مثلاً - كتبت في أوائل أيامه ، كما يقولون ، بينما الرسائل والمكاسب كتبتا في أواخر أيامه .

ص: 97

فيؤخذ بما هو المتيقن او الظاهر ، وكيف كان ، فحيث دلّ اللفظ ولو بمعونة القرائن على تحقق الاتّفاق المعتبر كان معتبرا ، وإلاّ فلا .

------------------

( فيؤخذ بما هو المتيقن ) من جهة : العبارة ، والمسألة ، والنقلة ، فاذا شككنا : بأنّ مدعي الاجماع فيما يدّعيه من اتفاق أرباب الكتب ، هل يريد : الكتب الحاضرة عنده ، أو اتفاق أصحاب الكتب المعروفين ، أو اتفاق الكتب التي كتبت في عصره ، أو مطلق الكتب ؟ أخذنا بالمتيقن وهو : الاقل ، ( أو ) اخذنا ب( الظاهر ) فيما اذا كان له ظهور في بعض تلك التي ذكرناها ، فاذا كان هناك ظاهر أخذنا به ، واذا لم يكن هناك ظاهر ، بان كان اللّفظ مجملاً ، أخذنا بالمتيقن .

( وكيف كان ) الأمر ، أي : سواء كان اجماع مدعي الاجماع ظاهرا في نقل السبب ، أو في نقل المسبب أو في نقل كليهما بنفسه ، مثل قوله : أجمع العلماء كافة ، أو أجمع علماء الشيعة ، أو ما أشبه ذلك ( فحيث دلّ اللفظ ولو بمعونة القرائن) الخارجية الدالة (على تحقق الاتفاق المعتبر) وهو: اتفاق جميع العلماء ؟.

وعليه : فاذا افاد اللفظ بنفسه ، أو بانضمام سائر القرائن والأمارات موافقة الامام عليه السلام أو وجود الدليل المعتبر - على ماذكرناه : من أنّ الاجماع ، قد يكون هو الكاشف بوحده ، وقد يكون بضميمة فحْصَنا لأقوال العلماء بعد مدعي الاجماع ، وقد يكون بضميمة امارة خارجية ( كان ) هذا الاجماع المدعى ( معتبرا ) ومعتمدا من فهم الأحكام ( وإلاّ ، فلا ) يمكن الاعتماد عليه .

نعم ، مثل هذه الاجماعات ، يمكن أن تكون مؤيدة .

هذا تمام الكلام في المقدمة الاولى ، وهي : كون أقوال العلماء سببا كاشفا عن قول المعصوم عليه السلام ، أو عن دليل معتبر .

واما المقدمة الثانية فهي : انه اذا نقل هذا السبب مدعي الاجماع ، فهل يمكن

ص: 98

الثانيةُ : حجّية نقل السبب المذكور وجواز التعويل عليه ، وذلك لأنّه ليس إلاّ كنقل فتاوى العلماء وأقوالهم وعباراتهم الدالّة عليها لمقلّديهم وغيرهم ، ورواية ما عدا قول المعصوم ونحوه

------------------

الاعتماد عليه أم لا ؟ .

ثم بعد ذلك ، يأتي دور المقدمة الثالثة وهي : انه لو فرض تمامية هذين المقدمتين من كون قول العلماء كاشفا ، وقول مدعي الاجماع الحاكي لأقوالهم يمكن الاعتماد عليه ، فهل يمكن كشف قول المعصوم عليه السلام من الاجماع المدعى ام لا ؟ اذ لعله لايمكن كشف قول المعصوم من الاجماع المدعى ، بأن لا يكون الاجماع المدعى حجّة على قول المعصوم ليمكن الأخذ به ، وذلك فيما اذا كان الشارع لم يجعله حجّة على قول المعصوم ، كما لو لم يجعل الشاهد على الشاهد حجّة فرضا ، أو لم يجعل كتاب القاضي الى القاضي حجّة الى غير ذلك .

وقد ألمع المحقق التُستري رحمه اللّه الى المقدمة الثانية بقوله : ( الثانية : حجّيّة نقل السبب المذكور ، وجواز التعويل عليه و ) انّما يجوز ( ذلك ) لاُمور : نذكرها ( لأنّه ) أي : نقل السبب المذكور ( ليس الاّ كنقل فتاوى العلماء وأقوالهم وعباراتهم الدالّة عليها ) أي : على فتاواهم ( لمقلّديهم وغيرهم ) .

فكما انّ ناقل الفتوى للمقلدين يقول : أفتى المجتهد بكذا ، ويكون ذلك حجّة بالنسبة الى مقلديه ، كذلك اذا قال العالم : قام الاجماع على كذا ، يكون قوله حجّة على الفقهاء ، الذين يريدون كشف قول المعصوم عليه السلام .

( و ) على هذا ، يكون نقل الاجماع مثل ( رواية ما عدا قول المعصوم عليه السلام ونحوه ) فان الراوي ، قد يروي قول المعصوم ويقول : قال الصادق عليه السلام - مثلاً - :

ص: 99

من سائر ما تضمنه الأخبار كالأسئلة التي تعرف منها أجوبته ، والأقوال والأفعال التي يعرف منها تقريره ، ونحوهما ممّا تعلّق بها ، وما نقل من سائر الرواة المذكورين في الأسانيد

------------------

« لا يَصلُح التَمرُ اليابِس بالرُطَب » (1) ، وقد يروي قول المعصوم وقول غير المعصوم - مثلاً - ويقول : سأل زرارة الصادق عليه السلام ، هل يجوز بيع الرطب بالتمر ؟ فقال الصادق عليه السلام : لا ، فان هذا الراوي نقل قول زرارة ، وقول زرارة ليس برواية ، ومع ذلك ، فانّه يكون حجّة في انّ زرارة سأل الامام عليه السلام عن ذلك .

ثم اوضح « ما عدا » بقوله : ( من سائر ما تضمنه الأخبار ، كالأسئلة التي تعرف منها ) أي من تلك الأسئلة ( أجوبته ) عليه السلام ( والأقوال والأفعال التي يعرف منها ) أي : من تلك الأقوال والأفعال ( تقريره ) عليه السلام ، فان قول المعصوم وفعله وتقريره حجّة ، فكما انه اذا نقل قوله كان حجّة بالنسبة الى السامع ، كذلك اذا نقل فعله أو تقريرة ، وقال - مثلاً - : انّ فلانا فعل بحضرة الامام عليه السلام كذا ، فسكت الامام عليه من غير تقية ، ولا ضرورة ، ولا ما أشبه ، كان ذلك حجّة أيضا .

وعليه : فكما انّ رواية هذه الاُمور حجّة بالنسبة الى السّامع ، كذلك قول مدعي الاجماع يكون حجّة بالنسبة اليه ، مثل نقل الأسئلة والأقوال والأفعال المذكورة (ونحوها ممّا تعلّق بها ) أي بالاخبار كنقل قول ابن عباس - مثلاً - في التفسير أو ما أشبه ، مما يستكشف منه : انّه حيث كان من تلاميذ الامام أمير المؤمنين ، فقوله مأخوذ منه عليه السلام .

( و ) مثل : ( ما نقل من سائر الرواة المذكورين في الأسانيد ) كقول شيخ الطائفة - مثلاً - : زرارة ثقة ، ومحمد بن مسلم عين ، أو ما أشبه ، فانه يؤخذ بقوله ، كذلك

ص: 100


1- - وسائل الشيعة : ج18 ص149 ب14 ح23354 .

وغيرها ، وكنقل الشهرة واتّفاق سائر اُولي الآراء والمذاهب وذوي الفتوى او جماعة منهم وغير ذلك .

وقد جرت طريقةُ السلف والخلف من جميع الفِرَق على قبول أخبار الآحاد في كلّ ذلك ، ممّا كان النقلُ فيه على وجه الاجمال

------------------

اذا قال : قام الاجماع في المسألة ، فانه يؤخذ به أيضا .

( وغيرها ) أي : غير ما ذكر من حال الرواة كنقل حالات الأنبياء والأئمة عليه السلام والقصص والتواريخ ، فان نقل الاجماع مثل هذه الأمور ، فكما يقبل قول العادل في هذه الأمور ، كذلك يقبل قول العادل : في ان المسألة إجماعية .

( و ) ليس نقل الاجماع الا ( كنقل الشهرة ، واتفاق سائر أُولي الآراء ، والمذاهب وذوي الفتوى ) كاتفاق اليهود أو النصارى على كذا ، واتفاق الأطباء أو الادباء على كذا ( أو ) نقل اتفاق ( جماعة منهم ) كقوله : ذهب النحاة من أهل البصرة ، أو ذهب أطباء أنطاكية الى كذا ( وغير ذلك ) من الامور المرتبطة بالمعاش أو بالمعاد ، في جميع خصوصياتهما .

( وقد جرت طريقة السلف والخلف من جميع الفِرَق ) سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين ( على قبول أخبار الاحاد في كلّ ذلك ) الذي ذكرناه من الامثلة اذا كان الناقل عدلاً عند المسلمين ، او ثقة عند غيرهم .

بل يمكن أن يقال : بأنّ نقل الثقة عند المسلمين أيضا حجّة ، فقد قال عليه السلام : « الأشياءُ كُلها عَلى هذا حَتّى يَستَبِينَ لك غير ذلك أو تَقومُ بِه البَيّنَةُ » (1) .

والاستبانة شاملة لقول الثقة أيضا ( مما كان النقل فيه على وجه الاجمال ) كنقل

ص: 101


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص373 ب33 ح12 .

او التفصيل وما تعلّق بالشرعيّات او غيرها ، حتى أنّهم كثيرا ما ينقلون شيئا ممّا ذكر معتمدين على نقل غيرهم من دون تصريح بالنقل عنه والاستناد إليه لحصول الوثوق به وإن لم يصل إلى مرتبة العلم ، فيلزم

------------------

الشهرة ، أو الاتفاق ، أو نقل اتفاق جماعة خاصة .

( او ) على وجه ( التفصيل ) كنقل قول العلماء واحدا واحدا أو نقل فتوى المرجع لمقلديه .

( و ) ذلك بلا فرق بين نقل ( ما تعلّق بالشرعيّات أو غيرها ) فانّ الناقل قد ينقل الأمور الشرعية : كالصلاة ، والصوم ، وقد ينقل غير الشرعيات كقول اللّغوي والأديب ، والجرح والتعديل ، والطبيب والمهندس ، وغير ذلك مما يقوم عليها المعاش والمعاد .

( حتى انهم ) أي : العقلاء ( كثيرا ما ينقلون شيئا ممّا ذكر ، معتمدين على نقل غيرهم ، من دون تصريح بالنقل عنه ) أي عن ذلك الغير ( و ) من دون (الاستناد اليه ) أي : الى ذلك الغير ، فيقولون - مثلاً - : معنى اللّفظ الفلاني : كذا مع العلم انهم لا يعلمون به ، وانّما ينقلونه عن صاحب القاموس ، بلا ان يذكروا : انه قول صاحب القاموس ، وكذلك في المسائل الفقهية ، والاصولية ، والأدبية ، وغيرها ، وانّما ينقلونه بدون الاستناد ( لحصول الوثوق به ) أي : بذلك الغير ، الذي حكم بذلك (وان لم يصل إلى مرتبة العلم ) فانّ من يقول : معنى الأسد الحيوان المفترس ، وهو لا يعلم انّ معناه ذلك ، وانّما رآه في القاموس واعتمد عليه فهذا الاعتماد من الانسان على اللغوي - مثلاً - يكفي في اخذ قوله مطلقا ، بلا حاجة الى العلم .

( فيلزم ) بمقتضى السيرة المذكورة للعقلاء والعلماء ، في كافة الأعصار

ص: 102

قبول خبر الواحد فيما نحن فيه أيضا ، لاشتراك الجميع في كونها نقل غير معلوم من غير معصوم وحصول الوثوق بالناقل ، كما هو المفروض .

وليس شيء من ذلك من الاصول

------------------

والأمصار ( قبول خبر الواحد فيما نحن فيه أيضا ) فكما انّ خبر الواحد في سائر الأبواب حجّة كذلك خبر الواحد في انّ المسألة اجماعية حجّة أيضا ، وذلك ( لاشتراك الجميع ) سواء كان يدعي الاجماع أو سائر موارد النقل ( في كونها ) أي : جميع تلك الموارد (نقل ) أمر ( غير معلوم ) للمنقول اليه ( من غير معصوم ) لمقارنة نقل قول المعصوم ، بنقل قول غير المعصوم ، فاذا كان نقل قول غير المعصوم ، حجّة ، يكون ، نقل قول المعصوم حجّة أيضا ( و ) ذلك لاشتراك الجميع في ( حصول الوثوق بالناقل ) للمنقول اليه ( كما هو المفروض ) لانه بدون الوثوق لايمكن النقل ( وليس شيء من ذلك ) أي : مما ذكرناه : من الخبر الواحد على معنى اللّغة ، أو جرح الراوي أو توثيقه ، أو نقل فتوى المجتهد ، أو اتفاق الكل، أو غير ذلك ( من الاصول ) الكلية ، التي تبنى عليها مسائل كثيرة ، كأصل : « الخراج بالضمان » (1) ، أو أصل : « ما لايدرك كله لا يترك كله » (2) ، أو أصل : « اقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (3) ، الى غير ذلك من الاصول ، حيث توهم بعض : انّ خبر الثقة فيها ليس بحجة ، وانّما حجية خبر الثقة في الامور الجزئية الفرعية ، لا في الاصول الكلية ، المبنية عليها مسائل كثيرة ، وذلك لجلالة قدر الاصول الكلية ، فلا يعتمد فيها على خبر الثقة ، وان اعتمد على خبر الثقة في الامور الجزئية .

ص: 103


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص219 ح89 .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ص58 ح207 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج19 ص75 ب239 .
3- - غوالي اللئالي : ج1 ص223 ح104 و ج2 ص257 ح5 و ج3 ص442 ح5 ، وسائل الشيعة : ج23 ص184 ب3 ح29342 .

حتى يتوهّم عدم الاكتفاء فيه بخبر الواحد - مع أنّ هذا الوهم فاسد من أصله ، كما قُرّرَ في محلّه - ولا من الامور المتجدّدة التي لم يعهد الاعتمادُ فيها على خبر الواحد في زمان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم والأئمة عليهم السلام والصحابة ،

------------------

وعلى أي حال : فليس ما ذكرناه ، من الاصول ( حتى يتوهّم : عدم الاكتفاء فيه بخبر الواحد ، مع انّ هذا الوهم ) أي : عدم الاكتفاء بالخبر الواحد في المسائل الاصولية الكلية ، ( فاسد من أصله ، كما قرّر في محلّه ) وذلك لأنّ أدلة حجّية الخبر كما قرّر في محله من الكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل ، لا يفرّق فيها بين : الاصول الكليّة ، والموارد الجزئية ، فلا فرق بين : ان يروي زرارة عن الامام عليه السلام قاعدة :« ما لا يضمن بصحيحة لا يضمن بفاسدة »(1) - مثلاً - أو يروي عنه : انّ ابن أبي عمير ثقة ، مع انّ الأوّل : من الاصول الكلية ، والثاني : من الامور الجزئية ، فان ادلة خبر الواحد يشملهما معا على حدّ سواء .

( ولا ) شيء ( من الامور المتجدّدة ، التي لم يعهد الاعتماد فيها ) أي في هذه الأمور المتجددة ( على خبر الواحد في زمن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم والأئمة عليهم السلام ، والصحابة ) الذين اتبعوهم باحسان ، فانّ المعاني اللّغوية ، والفتوى ، وحالات الرواة وما أشبه ، ليست امورا حدثت بعد زمان المعصومين عليهم السلام او لم تكن معهودة في زمانهم حتى يقال : انّ الأدلة الدالة على حجّية خبر الواحد ، لا تشمل هذه الاُمور الحادثة بعدهم ، اذ الامور هذه كانت موجودة في زمانهم عليهم السلام والى يومنا هذا ، وقد عمل عقلاء العالم بخبر الواحد في أمثال هذه الامور ، ولم يمنعهم المعصومون عليهم السلام ، فيكون خبر الواحد حجة لنا بالنسبة الى هذه الامور أيضا .

ص: 104


1- - راجع القواعد الفقهية للبجنوردي : ج2 ص84 قاعدة ما يضمن .

ولا ممّا يندر اختصاص معرفته ببعض دون بعض ، مع أنّ هذا لا يمنعُ من التعويل على نقل العارف به ، لما ذكر .

ويدلّ عليه مع ذلك مادلّ على حجّية خبر الثقة العدل بقول مطلق

------------------

( ولا ) شيء ( ممّا يندر اختصاص معرفته ببعض دون بعض ) فانّ الفتوى وأحوال الرواة ، والمعنى اللغوي ، وما أشبه ذلك ، ليست امورا نادرة ، حتى يقال ، بأنّ الخبر الواحد لايشمل الامور النادرة وان حجّية خبر الواحد انّما تكون في غير أمثال هذه الامور . ( مع انّ هذا ) أي : كون هذه الامور من الامور النادرة - لو سلِّم ندرتها - ( لايمنع من التعويل على نقل العارف به ) أي : بهذا الذي ذكرناه : بانه من الامور النادرة ، فان الاخبار بها وان كان لايقبل من كل أحد ، لكنه يقبل من أهل الاختصاص العارفين بها ، فكون الرّاوي ثقة أو مجروحا ، وكون معنى لفظ الآنية - مثلاً - : كل ظرف أو ظرف خاص ، أو ما أشبه ذلك ، ليس شأن كل احد حتى يكون كثيرا ، بل هو نادر ومن شأن العارف بها ، فيقبل قول العارف فيها .

وعليه : فاطلاق أدلة خبر الواحد ، وكذلك السيرة ، قائمة على حجّية خبر الواحد في هذه الامور ، ودعوى الناقل : إجماع العلماء على حكم خاص ، أيضا من قبيل هذه الاُمور ، فيقبل قوله ( لما ذكر ) من أنّه أحد أفراد الخبر الواحد ، وقد جرت سيرة العقلاء على قبوله بلا محذور .

والحاصل : انّ المقتضي موجود والمانع مفقود ، فيؤثر المقتضي أثره .

( ويدلّ عليه ) أي : على حجّية خبر الواحد في الامور المذكورة ، والتي منها ادعاء الاجماع الذي نحن بصدده ( مع ذلك ) أي مضافا الى السيرة المتصلة بزمان المعصومين عليهم السلام ( مادلّ على حجّية خبر الثقة العدل بقول مطلق ) من بناء العقلاء ، والآيات والروايات ، وغيرها ، فانّ أدلة حجّية خبر الواحد ، تشمل كل

ص: 105

وما اقتضى كفاية الظنّ فيما لا غنى عن معرفته ولا طريقَ إليه غيره غالبا .

إذ المعلوم شدّةُ الحاجة إلى معرفة أقوال علماء الفريقين وآراء سائر أرباب العلوم لمقاصد شتّى لا محيصَ عنها ، كمعرفة المجمع عليه والمشهور والشاذّ من الأخبار والأقوال والموافق للعامّة او أكثرهم والمخالف لهم

------------------

خبر جامع للشرائط ، سواء كان خبر العادل عن الحكم ، أو عن شؤون الرواية ، أو عن شؤون اللّغة ، أو في ادعاء الاجماع ، أو غيرها .

بل ويدل على حجيّة خبر الواحد في هذه الامور ، دليل الانسداد الصغير أيضا ، واليه أشار بقوله : ( وما اقتضى كفاية الظنّ فيما لا غنى عن معرفته ) أي : ما لابد من معرفته ، ( ولا طريق إليه ) أي الى ذلك الذي لا غنى من معرفته ( غيره غالبا ) أي غير الظن المطلق ، فانه لو فرضنا عدم وجود الأدلة الخاصة على حجّية الخبر الواحد ، فدليل الانسداد كاف في افادته الحجّية .

( اذ المعلوم شدّة الحاجة الى معرفة أقوال علماء الفريقين ) : العامة والخاصة (وآراء سائر أرباب العلوم ) كالرجالي ، والنحوي ، واللغوي والمفسّر ، وغيرهم (لمقاصد شتّى ) أي : احتياجات متعددة ، وشتّى : جمع شتيت ، مثل مرضى جمع مريض ، مما ( لا محيص ) أي : لا مفر ( عنها ) أي : عن معرفة تلك الامور .

( كمعرفة المجمع عليه والمشهور ، والشاذّ من الأخبار والأقوال ) سواء كان قولاً في الحكم الفقهي ، أو في اللّغة ، أو غيرهما .

( و ) معرفة ( الموافق للعامّة ، أو أكثرهم ، والمخالف لهم ) جميعا أو أكثرا ، فانه يؤخذ بالخبر المخالف لهم ، ويترك المخالف في مقام الترجيح - اذا وصلت النوبة الى ذلك - .

ص: 106

والثقة والأوثق والأورع والأفقه ، وكمعرفة اللغات وشواهدها المنثورة والمنظومة وقواعد العربيّة التي عليها يبتنى استنباط المطالب الشّرعيّة وفهم معاني الأقارير والوصايا وسائر العقود والايقاعات المشتبهة ، وغير ذلك ، ممّا لا يخفى على المتأمّل .

ولا طريق إلى ما اشتبه من جميع ذلك

------------------

( و ) معرفة ( الثقة ، والأوثق ، والأورع ، والأفقه ) من الرواة في مقام الترجيح أيضا ، حتى يتّضح الحجّة عن غير الحجة ويمتاز الراجح عن المرجوح .

( وكمعرفة اللغات ، وشواهدها المنثورة ، والمنظومة ) فانّ اللّغات لها معاني خاصة ، يمكن أن يستدل لتلك المعاني بآية ، أو رواية ، أو شعر ، أو نثر من فصحاء العرب ، أو من أشبههم .

( و ) معرفة ( قواعد العربيّة ، التي عليها يبتنى استنباط المطالب الشرعيّة ) من الفاظ الكتاب ، والسنّة ، فان الكتاب والسنّة بما هما عربيان ، يحتاج المستنبط الى فهم اللّغات الواردة فيهما ، فان ذلك من مقدمات الاجتهاد - كما هو واضح - ، هذا بالنسبة الى الأحكام ، وأما بالنسبة الى الموضوعات فكذلك ، ولذا قال ( وفهم معاني الأقارير ، والوصايا ، وسائر العقود والايقاعات المشتبهة ) فانه اذا أقرّ انسان بشيء ، أو أوصى موصٍ بأمر ، أو اشترط شيئا في العقد ، أو الايقاع ، أو نحو ذلك ، فلابد من فهم معاني تلك الامور والاشياء ، حتى يحكم الحاكم الشرعي بالأحكام الشرعية التابعة لتلك الموضوعات ، ( و ) فهم ( غير ذلك ) من المشتبهات ( مما لايخفى على المتأمّل ) كفهم ما جاء في قصص الانبياء وأحوال المعصومين عليهم السلام وتاريخ الغابرين .

( ولا طريق الى ما اشتبه من جميع ذلك ) كلّه ، فيما اذا لم نكن نعرف - مثلاً -

ص: 107

غالبا سوى النقل الغير الموجب للعلم والرجوع إلى الكتب المصحّحة ظاهرا وسائر الأمارات الظنّية ؛ فيلزم جواز العمل بها والتعويل عليها فيما ذكر ؛ فيكون خبرُ الواحد الثقة حجّةً معتمدا عليها فيما نحن فيه ، ولا سيّما اذا كان الناقلُ من الأفاضل الأعلام والأجلاّء الكرام ، كما هو الغالب ، بل هو

------------------

معنى الصعيد ، هل هو مطلق وجه الارض ، أو التراب فقط ، او لم نعرف انّ الآنية عبارة عن كل ظرف ، أو الظرف الذي ليس له ثقبة ، أو ما أشبه ذلك من الامور اللّغوية وغير اللّغوية ، كالامور الرجالية والتفسيرية ، وغيرها مما لا سبيل لمعرفتها (غالبا ، سوى النقل غير الموجب للعلم) فانّ من الواضح : ان قول اللّغوي ، والرجالي ، والنحوي ، والصرفي ، وما أشبه ، لا يوجب العلم الاّ نادرا ، ( و ) سوى ( الرجوع الى الكتب المصحّحة ظاهرا ) فانّ التصحيح ظاهر ، لا انه مقطوع به ( و ) كذا بالرجوع الى ( سائر الأمارات الظنّية ) كالترجيحات النظرية في موارد الاختلاف ونحوه .

( فيلزم جواز العمل بها ) أي : بالأمارات الظنية من باب الانسداد ، حيث لا طريق الى معرفة مايريده الانسان ، الاّ بما يوجب الظن ( والتعويل عليها فيما ذكر ) من الموارد ، فانّ الانسان يعتمد على الأمارات الظنية في كل تلك الموارد ، سواء كان متشرعا أو غير متشرع .

وحيث قد تحقق حجّية الأمارات الظنية مطلقا ( فيكون خبر الواحد الثقة حجّة معتمدا عليها ) في الموارد المذكورة ، لأنّ خبر الواحد من مصاديق كلي الأمارات الظنية ، و ( فيما نحن فيه ) أيضا من الاجماع المنقول ( ولا سيّما اذا كان الناقل من الأفاضل الأعلام ، والأجلاّء الكرام ، كما هو الغالب ) فيمن نقل الاجماع كالشيخ ، والسيّد ، والشهيدين ، والمحقّق ، وابن ادريس ، ومن أشبههم ( بل هو ) أي نقل

ص: 108

أولى بالقبول والاعتماد من أخبار الآحاد في نفس الأحكام ، ولذا بني على المسامحة فيه من وجوه شتّى بما لم يتسامح فيها ، كما لا يخفى .

------------------

الاجماع ( أولى بالقبول والاعتماد من أخبار الآحاد في نفس الأحكام ) ، مثلاً الراوي الفلاني يروي عن الامام الصادق عليه السلام حكما ، والشيخ ينقل الاجماع على حكم ، فان قول الشيخ أولى بالقبول من الراوي الفلاني ، لأنّه ليس بحد وثاقة الشيخ ، ولا بدرجة ضبطه واطلاعه وتقواه في كثير من الاحيان ، فيكون قول الشيخ في نقل الاجماع ، أولى بالقبول من خبر الراوي الفلاني ، الذي لم يكن في الجلالة بجلالة الشيخ .

( ولذا ) أي لاجل ان الاجماعات المنقولة أولى بالقبول ، لكون ناقلها من أفاضل الأعلام ( بني على المسامحة فيه ) أي في الاجماع المنقول ( من وجوه شتّى بما لم يتسامح فيها ) أي : في الاخبار ( كما لايخفى ) .

أمّا تلك الوجوه ، فمنها : انّ السيد المرتضى لايعمل بالخبر الواحد ، بينما يعمل بالاجماع المنقول .

ومنها : انّ الفقهاء لايشترطون وجود نفرين في حجّية الاجماع المنقول بينما يشترطون في عدالة الراوي تزكية نفرين له ، وكذلك يشترطون في الخبر أن يكون حسّيا ، بينما لايشترطون في الاجماع ذلك .

هذا ، ويحتمل أن يريد الشيخ التستري رحمه اللّه : مقارنة الخبر في الموضوعات مع الخبر في الأحكام ، وانّ التسامح واقع في الأوّل دون الثاني .

فالتسامح على هذا يكون في الاخبار عن الموضوعات ، دون الاخبار عن الأحكام ، باشتراط العدالة في الثاني دون الاول .

والسيد المرتضى لايعمل بالخبر الواحد في الاحكام ، ويعمل بها في

ص: 109

الثالثةُ : حصولُ استكشاف الحجّة المعتبرة من ذلك السبب ، ووجهه أنّ السّببَ المنقول بعد حجّيته كالمحصّل فيما يستكشف منه والاعتماد عليه وقبوله وإن كان من الأدلّة الظنّية باعتبار ظنّيّة أصله ،

------------------

الموضوعات .

والفقهاء لايشترطون تزكية المخبر في الموضوعات ، بينما يشترطون تزكية المخبر في الاحكام ، الى غير ذلك من وجوه التسامح المحتملة .

(الثالثة) من المقدمات، وقد تقدمت مقدمتان الاولى : ان اللفظ دال على السبب .

الثانية : ان نقل السبب حجّة .

المقدمة الثالثة : وهي عبارة عن : التعرف على قول الامام عليه السلام ، أو الدليل المعتبر ، من ذينك المقدمتين ، وذلك ل( حصول استكشاف الحجّة المعتبرة من ذلك السبب ) وهو : نقل الاجماع .

( ووجهه ) أي وجه هذا الاستكشاف ( : انّ السبب المنقول - بعد حجّيته - كالمحصّل ) فكما انّ المنقول اليه ، اذا تتبع بنفسه اقوال العلماء ، حصل له الاستكشاف لقول الامام ، أو الدليل المعتبر ، كذلك اذا نقل له الاجماع ناقل موثق وذلك ( فيما يستكشف منه ) الحجّية .

وعليه : فالمنقول مثل المحصّل في استكشاف الدليل المعتبر ، أو قول الامام عليه السلام ( و ) مثله في صحة ( الاعتماد عليه وقبوله ، وإن كان ) هذا المستكشف من قول الامام ، أو الدليل المعتبر يُعدّ ( من الادلّة الظنيّة ) وذلك (باعتبار ظنيّة أصله ) .

فان السبب اذا كان قطعيا يكون المنكشف - بالفتح - أيضا قطعيّا ، واذا كان ظنيا

ص: 110

ولذا كانت النتيجةُ في الشّكل الأوّل تابعة في الضروريّة والنظريّة والعلميّة والظنّية وغيرها لأخسّ مقدّمتيه

------------------

يكون المنكشف أيضا ظنيا ، فاذا تتبع الانسان بنفسه اقوال العلماء ، ورأى اجماعهم ، يحصل له القطع بقول الامام او الدليل المعتبر ، واذا نقل له الاجماع ناقل ثقة وظن المنقول اليه انه قد تتبع اقوال الفقهاء ورأى اجماعهم حصل له الظن بذلك .

( ولذا كانت النتيجة في الشكل الأوّل ، تابعة في الضروريّة والنظريّة ، والعلميّة والظنيّة ، وغيرها ) من الدائمة ، والوقتية ، وغيرهما ( لأخسّ مقدمتيه ) فاذا كانت احدى المقدمتين : ضرورية ، والمقدمة الاخرى ممكنة تكون النتيجة ممكنة .

وهكذا بالنسبة الى سائر النتائج ، فاذا كانت احدى المقدمتين - مثلاً - قطعية ، والاخرى ظنيّة ، تكون النتيجة ظنيّة ، لأنّه لايعقل تولد الظنية من القطعية ، كما لايعقل العكس ، وذلك قياسا على المقولات الحقيقية فاذا كان السقف على دعامتين : احديهما من الحديد ، والاخرى من الفخار ، كان قوة استقامة السقف ، قوة الفخار لا الحديد .

لا يقال : كيف لا تكون نتيجة القطع قطعية ، مع فرض انّ احدى المقدمتين قطعية ؟ .

لأنّه يقال : لايعقل ان تكون النتيجة قطعية ، لأن ماكان بعضه الظن لا يولّد القطع ، ولا ان تكون قطعية ظنية معا ، لأنّ الشيء الواحد لا يكون قطعيا وظنيا في حال واحد ، فلم يبق الاّ الظنيّة .

لكن لا يخفى : ان المراد بكون النتيجة تابعة لأخس المقدمتين ، هو : انه ليس لها قوة الأشرف ، لا إنها في قوة الأخسّ فقط ، لأنّ النتيجة في قوة متوسطة بين

ص: 111

مع بداهة إنتاجه .

فينبغي حينئذٍ أن يراعى حالُ الناقل حين نقله من جهة ضبطه وتورّعه في النقل وبضاعته في العلم ومبلغ نظره ووقوفه على الكتب والأقوال واستقصائه لما تشتّت منها

------------------

الأخس والأشرف ، كالسقف في المثال ، فان له قوة متوسطة بين الحديد والفخار ، لا بقوة الفخار فقط .

هذا ( مع بداهة انتاجه ) فان الشكل الأوّل بديهي الانتاج ، اذ الأصغر يكون تحت الاوسط ، والأوسط تحت الأكبر ، فمن البديهي : أن يكون الأصغر تحت الأكبر ، مثل : كون الصندوق في الدار ، والدار في البلد ، فالصندوق يكون في البلد بالبداهة .

( فينبغي حينئذٍ ) أي : حين كانت النتيجة حاصلة من المقدمتين ( ان يراعى حال الناقل حين نقله من جهة ضبطه ) في انه ضابط ولم يكن مبتلى بالنسيان أو انه من الناس العاديين .

( و ) أن يراعى من جهة ( تورّعه في النقل ) وانه محتاط ومتورع أم لا .

( و ) يراعى من جهة ( بضاعته في العلم ) وانّه من العلماء الوسيعي الاطلاع ، أو القليلي الاطلاع .

( و ) يراعى من جهة ( مبلغ نظره ) في انّه عمقي او سطحي ، اذ هناك سعة وعمق ، وهما متغايران ، فانه : قد يكون البحر - مثلاً - واسعا لكن عمق مائه قليل ، وقد يكون عمق مائه كثيرا ، لكنه ليس بسعة البحر الأوّل .

( و ) كذا يراعى من جهة ( وقوفه على الكتب والأقوال ، واستقصائه لما تشتّت منها ) أي من تلك الكتب والأقوال ، فربما يستقصي الكتب التي ألفت في هذا

ص: 112

ووصوله إلى وقائعها ، فانّ أحوال العلماء مختلفٌ فيها اختلافا فاحشا .

وكذلك حالُ الكتب المنقول فيها الاجماع ، فربّ كتاب لغير متتبّع موضوع على مزيد التتبّع والتدقيق ، وربّ كتاب لمتتبّع موضوعٌ على المسامحة وقلّة التحقيق ،

------------------

الموضوع ، وربما لا يستقصيها ، وانّما يقتنع ببعض الكتب .

( و ) يراعى أيضا من جهة ( وصوله الى وقائعها ) أي وقائع الأقوال ، فانّ القرائن المكتنفة بالمسائل ، تدل على ان المدعي للاجماع كان يعرف الوقائع التي سببت تلك الأقوال ام لا .

مثلاً : قد يسأل انسان الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم عن أفضل الاعمال فيجيبه الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ببر الوالدين .

وقد يسأله انسان ثان نفس هذا السؤال فيجيبه الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم : بأداء الأمانة .

والسبب في هذا الاختلاف : انّ الأوّل كان مسيئا الى والديه ، والثاني كان متسامحا في أداء الأمانة .

ومثل ذلك يكون بالنسبة الى ناقل الاجماع في المسائل المختلفة ( فانّ أحوال العلماء مختلف فيها ) أي في الجهات المذكورة ( اختلافا فاحشا ) وكبيرا .

( وكذلك ) يختلف ( حال الكتب المنقول فيها الاجماع فربّ كتاب لغير متتبّع ، موضوع على مزيد التتبّع ) حيث تعمّد المؤلف فيه : أنْ يكتب الأشياء التي تتبع فيها تتبعا بالغا ( و ) دقق فيها بمزيد من ( التدقيق ) ، والتتبع هو : السعة والتدقيق وهو : العمق - على ما تقدّم - ( وربّ كتاب لمتتبع ) ماهر محقّق ، لكنه على عكس ذلك (موضوع على المسامحة وقلّة التحقيق ) وذلك لاختلاف الأنظار في التدقيق والتوسع ، وعدمهما .

ص: 113

ومثله الحالُ في آحاد المسائل ، فانّها تختلفُ أيضا في ذلك ، وكذا حالُ لفظه بحسب وضوح دلالته على السبب وخفائها ، وحالُ ما يدلّ عليه من جهة متعلّقه وزمان نقله لاختلاف الحكم بذلك ،

------------------

( ومثله ) أي : مثل الحال في الناقل والكتب ( الحال في آحاد المسائل ، فانّها ) أي : المسائل ( تختلف أيضا في ذلك ) الذي ذكر من التتبع وعدمه ، او التحقيق وعدمه فان بعض المسائل يتتبع فيها ، وبعض المسائل لا يتتبع فيها ، وكذلك بالنسبة الى التحقيق فان بعضها مبني على التحقيق ، وبعضها على عدم التحقيق .

( وكذا ) يختلف ( حال لفظه ) أي : لفظ ناقل الاجماع ( بحسب وضوح دلالته على السّبب ) بان قال : أجمع العلماء أو قال : العلماء كلهم أو قال : العلماء أجمعون ( وخفائها ) أي : خفاء دلالته على السبب بان قال : تظافروا ، أو تواتروا ، أو تكاثروا على هذا الحكم ، والمراد بالسبب : انّ الاجماع سبب للكشف عن قول المعصوم عليه السلام .

( و ) هكذا يراعى ( حال ما يدلّ عليه ) اللّفظ ( من جهة متعلّقه ) في انّه هل تعلق الاجماع بما يدل على قول المعصوم ، أو تعلق بما يدل على وجود دليل معتبر ، فقد يقول - مثلاً - أجمع العلماء بما يظهر منه وجود رواية أو ما أشبه ، وقد يقول أجمع العلماء ، بما يكشف عن ان المعصوم يقول بذلك .

( و ) هكذا يراعى ( زمان نقله ، لاختلاف الحكم بذلك ) فان الاستكشاف يختلف بسبب اختلاف الأزمنة ، اذ هناك فرق بين أن يدعي الاجماع الشيخ او يدعي الاجماع صاحب الجواهر لقرب عهد الاول بالأئمة عليهم الصلاة والسلام ، دون الثاني ، وكذلك بالنسبة الى الشيخ نفسه ، بانه يفرق بين نقله الاجماع في

ص: 114

كما هو ظاهر .

ويراعى أيضا وقوعُ دعوى الاجماع في مقام ذكر الأقوال او الاحتجاج ، فانّ بينهما تفاوتا من بعض الجهات ، وربما كان الاولى أولى بالاعتماد بناءا على اعتبار السبب ،

------------------

بغداد ، حيث توفر العلماء ونقله الاجماع في النجف الأشرف حيث قلة العلماء في زمانه ( كما هو ) أي : هذا الاختلاف ( ظاهر ) باختلاف هذه الامور في قوة الاجماع وضعفه .

( ويراعى أيضا وقوع دعوى الاجماع في مقام ذكر الأقوال ) والاختلافات ، حيث ان نظره الى تحقيق الحق من الاقوال والاراء - مثلاً - .

( أو ) في مقام ( الاحتجاج ) وانه يريد بالاجماع تقوية نظره ورأيه ، ( فانّ بينهما تفاوتا من بعض الجهات ، وربما كان ) وقوع دعوى الاجماع من الجهة ( الاولى ) أي : مقام ذكر الأقوال ( أولى بالاعتماد ) من الثانية ( بناءا على اعتبار السبب ) فانّ الناقل اذا كان في مقام تحقيق الحق ، يكون اجماعه أقوى مما اذا كان في صدد ذكر الدليل ، على نظره ، وذلك لزيادة التدقيق والتحقيق في الاول دون الثاني .

هذا ، ولكنا ذكرنا فيما سبق انّه لا نرى بين الاجماعين تفاوتا .

كما انه انّما قال : « بناءا على اعتبار السبب » لأن الاجماع قد يكون سببا للكشف عن قول المعصوم عليه السلام ، وقد يكون من باب الدخول ، فما ذكره التستري رحمه اللّه ، انّما يتأتي فيما اذا كان من باب السبب الحدسي ، لا ما اذا كان من باب الدخول ، فانّه اذا كان ناقل الاجماع ، يرى حجّيّة الاجماع من باب الدخول ، فأيّ فرق بين الأمرين في تحقّق رؤيته دخول الامام عليه السلام ، في المجمعين

ص: 115

كما لا يخفى ؛ فاذا وقع التباسٌ فيما يقتضيه ويتناوله كلامُ الناقل بعد ملاحظة ما ذكر اُخِذَ بما هو المتيقن او الظاهر .

ثمّ لِيُلحَظ مع ذلك ما يمكن معرفتهُ من الأقوال على وجه العلم واليقين إذ لا وجه لاعتبار المظنون المنقول على سبيل الاجمال دون المعلوم على التفصيل . مع انّه لو كان المنقول معلوما لما اكتفى به في الاستكشاف عن ملاحظة سائر الأقوال التي لها دخلٌ

------------------

( كما لا يخفى ) ذلك على من تأمل في المسألة .

( فاذا وقع التباس فيما يقتضيه ويتناوله كلام الناقل ، بعد ملاحظة ما ذكر ) من التتبع ، والتحقيق ، والموارد ، والأزمنة ، وما أشبه ولم نعلم بان هذا من الاجماع المتيقن ، أو الاجماع المتسامح فيه ( أخذ ) المنقول اليه ( بما هو المتيقن ) من الاجماع ( أو الظاهر ) من اللّفظ .

ومن المعلوم : انّ المتيقن انّما يكون في المجمل ، والظاهر انّما يكون فيما اذا كان له ظهور .

( ثم ) انّ المنقول اليه بعد ملاحظة الامور السابقة ( ليلحظ مع ذلك ) المنقول من الاجماع ( ما يمكن ) له من الامارات المؤيدة ، وما يتيسر له ( معرفته من الأقوال ، على وجه ) التتبع والتحقيق ، و ( العلم واليقين ) ، وانّما يضم هذه الامور الى الاجماع المدعى ، ليكون الاجماع لديه اتقن ( اذ لا وجه لاعتبار المظنون المنقول على سبيل الاجمال ، دون المعلوم ) الذي يحصله بنفسه من التتبع والتحقيق ( على التفصيل ) فان الانكشاف لا يكون الاّ بالمجموع .

( مع انّه لو كان المنقول معلوما ) أيضا للمنقول اليه ( لما اكتفى به في الاستكشاف ) ولما كان مستغنيا بذلك ( عن ملاحظة سائر الأقوال التي لها دخل

ص: 116

فيه ، فكيف إذا لم يكن كذلك .

ويلحظ أيضا سائر ماله تعلّق في الاستكشاف بحسب ما يعتمد من تلك الأسباب ، كما هو مقتضى الاجتهاد ، سواء كان من الامور المعلومة او المظنونة ، ومن الأقوال المتقدّمة على النقل او المتأخرة او المقارنة ،

------------------

فيه) أي : في استكشاف قول الامام عليه السلام .

( فكيف ) يستغني عن ملاحظة سائر الاقوال والأمارات ( اذا لم يكن ) الاجماع المنقول ( كذلك ) أي : معلوما لوضوح انّ مراتب العلم أيضا مختلفة ، فلا يقال : انه اذا كان المنقول معلوما ، فلا حاجة الى مزيد من التتبع والتحقيق .

كما ( ويلحظ ) المنقول اليه ( أيضا ، سائر ماله تعلّق في الاستكشاف ) لقول المعصوم عليه السلام ، بسبب الاجماع وما ينضم اليه من آية أو رواية أو شهرة أو ما اشبه ذلك ( بحسب ما يعتمد ) المنقول اليه ( من تلك الأسباب ) التي لها دخل في استكشاف قول المعصوم .

( كما هو ) أي : لحاظ هذه الامور ( مقتضى الاجتهاد ) اذ مقتضى الاجتهاد : ان يلحظ الانسان أسباب القوة في السبب الكاشف لقول الامام عليه السلام .

( سواء كان ) الملحوظ ( من الامور المعلومة ) التي يعلم المنقول اليه مدخليتها في الاستكشاف ( أو المظنونة ) التي يظن المنقول اليه مدخليتها في الاستكشاف .

( و ) سواء كان مايحصله هو بنفسه بالاضافة الى الاجماع المنقول ( من الأقوال المتقدّمة على ) زمن ( النقل أو المتأخرة ، أو المقارنة ) له ، فان المنقول اليه قد يحصل على اقوال متقدمة على زمان الناقل - لم يحصل عليها الناقل - وقد يحصل على أقوال مقارنة ، أو متأخرة عن زمان ناقل الاجماع .

ص: 117

وربّما يستغني المتتبّع بما ذكر عن الرجوع إلى كلام ناقل الاجماع لاستظهاره عدم مزيّة عليه في التتبّع والنظر .

وربما كان الأمرُ بالعكس

------------------

( وربّما يستغني المتتبّع ) المنقول اليه ( ب- ) سبب ( ماذكر ) من الأقوال والشواهد ، التي حصل عليها منضما الى الاجماع المنقول ( عن الرّجوع الى كلام ناقل الاجماع ) لأنّه قد حصل من الأقوال والشواهد ما ينضم بعضها الى بعض ، فيكشف عن قول الامام عليه السلام ، وبذلك يستغني في المسألة ، عن الرجوع الى كلام ناقل الاجماع .

فانه بعد حصوله على السبب الكافي الكاشف عن قول المعصوم عليه السلام ، لا يحتاج الى كلام ناقل الاجماع .

وذلك ( لاستظهاره ) أي المنقول اليه ( عدم مزيّة ) للناقل فيما حصّله ( عليه ) أي على ما حصله بنفسه ، فإنه لا مزية لناقل الاجماع ( في التتبّع والنظر ) على ما حصّله هو .

والحاصل : انه ربما يظهر للمنقول اليه بعد اللحاظ الكامل للأقوال ، والشواهد ، وما أشبه ، انه لم يبق هناك قول وصل اليه الناقل ، لم يصل هو اليه ، وكذلك بالنسبة الى الشواهد ، فيكون هو أيضا كالناقل محصّلاً للاجماع ، فلا يحتاج الى الاجماع المنقول .

( وربما كان الأمر بالعكس ) بان يظهر للمنقول اليه : ان ناقل الاجماع قد وصل الى مالم يصل هو اليه ، فصاحب الجواهر - مثلاً - الذي نقل الاجماع ، قد حصل على الف قول ، بينما المنقول اليه ، وهو الشيخ المرتضى - مثلاً - قد حصل على مائة قول .

ص: 118

وأنّه إن تفرّد بشيء كان نادرا لا يعتدّ به ، فعليه أن يستفرغ وُسعَهُ ويتبع نظره وتتبعه سواء تأخّر عن الناقل ام عاصره ، وسواء أدّى فكره إلى الموافقة له او المخالفة ، كما هو الشأن في معرفة سائر الأدلّة ، وغيرها

------------------

أو يظهر له : ان ناقل الاجماع لم يصل الى ما قد وصل هو اليه ( و ) لكن يعلم ( انّه ان تفرّد بشيء ، كان ) هذا الذي تفرّد به دون الناقل ، وزاد عليه ( نادرا لا يعتد به ) كما لو ظهر للشيخ المرتضى - مثلاً - : بانه وان تفرّد على صاحب الجواهر الناقل للاجماع باقوال ، لكنها ليست هذه التي تفرّد بها وحدها بدرجة تفيد الكشف عن قول المعصوم ، بينما ان صاح الجواهر الناقل للاجماع كان قد حصل على ما يكفي الكشف عن قوله عليه السلام .

وعلى هذا : فالمنقول اليه قد يحصل على قدر ما حصله الناقل ، وقد يحصل على أقل منه ، وقد يحصل على أكثر منه .

( فعليه ) أي ، على المجتهد المنقول اليه الاجماع ( ان يستفرغ وسعه ، ويتبع نظره وتتبعه ) في الأقوال والشواهد ( سواء تأخّر عن الناقل ) للاجماع ( أم عاصره ، وسواء أدّى فكره الى الموافقة له ) أي : لناقل الاجماع بان كان صاحب الجواهر - مثلاً - يرى نجاسة الماء القليل ، والشيخ أيضا يرى نجاسته ( أو المخالفة ) بان يرى صاحب الجواهر النجاسة ، والشيخ الطهارة - مثلاً - .

( كما هو الشأن في معرفة سائر الأدلّة وغيرها ) أي : انّ غير الاجماع أيضا حاله حال الاجماع ، فاذا إستدل صاحب الجواهر على حكم بآية ، أو رواية ، أو سيرة ، لزم على الشيخ المُرتضى أيضا التتبع في ذلك الحكم في الآيات ، والروايات ، والسيَر ، ونحوها ، واذا تتبع في ذلك ، فربما حصل على مثل ما حصله صاحب

ص: 119

ممّا تعلّق بالمسألة ، فليس الاجماعُ إلاّ كأحدها .

فالمقتضي للرجوع إلى النقل هو مظنّةُ وصول الناقل إلى مالم يصل هو اليه من جهة السبب او احتمال ذلك ،

------------------

الجواهر ، وربما يحصل على اكثر منه ، وربما حصل على أقل منه ( ممّا تعلّق بالمسألة ) المبحوث عنها .

مثلاً : الشيخ وصاحب الجواهر ، كلاهما فحصا مسألة كشف الوجه واليدين ، بالنسبة الى النساء ، لكن أحدهما حصل على ما يكفي في وجوب الستر ، والآخر لم يحصل على ما يكفي في ذلك والى غيره مما يتعلق بالمسائل المبحوث عنها ، او المدعى فيها الاجماع .

إذن : ( فليس الاجماع ) المنقول ( الاّ كأحدها ) أي : كاحد الأدلة الاُخَر التي يجب على الناقل والمنقول اليه - كلاهما - الفحص ، والبحث ، والاستدلال ، والتحقيق والتدقيق ، فربما يتوافقان ورُبما لا يتوافقان .

( ف- ) ان قلت : فما فائدة رجوع الشيخ المرتضى الى إجماعات صاحب الجواهر - مثلاً - مع انه يجب على الشيخ : ان يبحث ، ويفحص ويحقق ، ويدقق في المسألة أيضا ؟ .

قلت : ( المقتضي للرّجوع الى النقل ، هو : مظنَّة وصول الناقل ) للاجماع كصاحب الجواهر - مثلاً - ( الى مالم يصل هو ) أي : المجتهد المنقول اليه ، كالشيخ المرتضى في المثال ( اليه من جهة السبب ) أي : أقوال العلماء والشواهد ، والأدلة الاخر ، ( أو احتمال ذلك ) الوصول فان الشيخ المرتضى ربما يظن انّ صاحب الجواهر وصل الى مالم يصل هو اليه وربما يحتمل ذلك ، فقوله : « أو احتمال » عطف على قوله : « هو مظنة » .

ص: 120

فيعتمد عليه في هذا خاصّة بحسب ما استظهر من حاله ونقله وزمانه ويصلح كلامه مؤيّدا فيما عداه مع الموافقة لكشفه عن توافق النُسخ

------------------

( فيعتمد عليه ) أي : على النقل ( في هذا خاصّة ) أي : في الأقوال ، التي يظن أو يحتمل انّه لم يصل اليها ، فيعتمد الشيخ المرتضى - مثلاً - على صاحب الجواهر في نقله الاجماع ، بالنسبة الى الأقوال ، التي يظنّ الشيخ ، أو يحتمل ، انه لم يصل الى تلك الأقوال التي وصل اليها صاحب الجواهر .

وذلك ( بحسب ما استظهر من حاله ، ونقله ، وزمانه ) أما ظنّ الشيخ أو احتماله بحسب ما يستظهره من حال صاحب الجواهر ، فبأنّه كان متتبعا دقيقا .

وامّا بحسب نقله للاجماع : فبأنه كان في صدد بيان الخلاف، أو بصدد بيان نظره .

واما بحسب زمانه : فبانّه كان في زمان يكثر فيه العلماء وتتوفر فيه الكتب وما أشبه ذلك مما تقدّم الكلام فيه مفصلاً .

هذا ، وقد أضفنا الى هذه الثلاثة بحسب : مكانه - أيضا - كما مثلنا له بشيخ الطائفة وهو في بغداد ، او في النجف الأشرف .

( ويصلح كلامه ) أي : كلام ناقل الاجماع كالجواهر ( مؤيّدا فيما عداه ) أي : فيما عدا ما توصل اليه الشيخ المرتضى - مثلاً - بنفسه ، فانه لما حقق ودقق ، وفحص وبحث ظفر على طائفة من الأقوال والشواهد ، لا تكفي الاّ بضميمة ما نقله صاحب الجواهر من الاجماع اليها ، أو يكون ما نقله صاحب الجواهر من الاجماع ، مؤيدا لما وجده الشيخ المرتضى ( مع الموافقة ) بين نظريهما فيكون صاحب الجواهر في دعواه الاجماع ، مؤيدا لما ظهر للشيخ المرتضى .

وذلك ( لكشفه ) أي : لكشف المنقول اليه ( عن توافق النُسخ ) التي كانت عند

ص: 121

وتقويته للنظر .

فاذا لوحظ جَميعُ ما ذكر ، وعرف الموافق والمخالف إن وجد ، فليفرض المظنونُ منه كالمعلوم ، لثبوت حجّيته بالدليل العلميّ ولو بوسائط .

------------------

الناقل مع النُسخ الموجودة عنده ، فان الشيخ المرتضى - مثلاً - اذا توصل اليه الف قول ، واتفق رأيه مع رأي صاحب الجواهر في المسألة كشف ذلك عن ان نفس الكتب ، كانت أيضا موجودة عند صاحب الجواهر ، فيسبب تأييد رأيه ( وتقويته للنظر ) أي : لنظر المنقول اليه ، وهو الشيخ المرتضى في المثال .

( فاذا لوحظ جميع ماذكر ، وعرف الموافق والمخالف ان وجد ) أي : المخالف (فليفرض المظنون منه ) أي : من هذا السبب المنقول - فان الاجماع سبب كاشف عن قول المعصوم عليه السلام - انه ( كالمعلوم ) ، فانه كما اذا علم الشيخ المرتضى - مثلاً - بان هذا سبب ، كان عليه أن يتخذه كاشفا لقول المعصوم عليه السلام كذلك اذا ظن بانّ هذا الاجماع الذي نقله الجواهر سببٌ ، كان عليه ان يتخذه كاشفا .

وانّما يكون المظنون كالمعلوم ( لثبوت حجّيته ) أي : حجّية الظن المذكور (بالدليل العلميّ ) فانّه لابد إمّا من الظنون الخاصة ، بسبب قيام السيرة ونحوها على ان مثل هذا الظن حجّة ، وامّا من الظنون العامة ، بسبب دليل الانسداد .

( ولو بوسائط ) فان الظن قد يكون حجة بدون واسطة ، وقد يكون حجة بواسطة ، أو وسائط ، فاذا قال عليه السلام - مثلاً - « تَعمد القبلة جهدك » (1) فيمن لا يعرف القبلة ، فقد جعل الظن بالقبلة حجّة بلا واسطة .

وقد يكون بواسطة ، كما اذا كان حجّية الظن لكونه من صغريات دليل ظنّي ، ينتهي ذلك الدليل الظني الى العلم ، كما يقال - مثلاً - بانّ نقل الاجماع يوجب

ص: 122


1- - الكافي فروع : ج3 ص284 ح1 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص46 ب23 ح15 .

ثمّ لِيُنظَر ، فان حَصَل من ذلك استكشاف معتبرٌ كان حجّة ظنّية حيث كان متوقفا على النقل الغير الموجب للعلم بالسبب او كان المنكشفُ غيرَ الدّليل القاطع ، وإلاّ فلا ، وإذا تعدّد ناقل الاجماع أو النقل ، فان

------------------

الظن بقول المعصوم عليه السلام ، والظن بقوله حجّة ، لأنّه داخل في سيرة العقلاء ، حيث انهم يعملون بمثل هذه الظنون ، وسيرة العقلاء حجّة شرعا ، من جهة عدم ردع الشارع لها .

( ثم ليُنظَر ، فان حصل من ذلك ) المجموع ، من : الاجماع المنقول والقدر المحصّل ( استكشاف معتبر ) لقول الامام عليه السلام أو لدليل معتبر (كان ) هذا الاستكشاف ( حجّة ظنّية ) .

وانّما كانت حجّة ظنية لا قطعية ( حيث كان متوقفا على النقل ، غير الموجب للعلم بالسبب ) فانّ المنقول اليه ، لا يعلم بالسبب الكاشف لقول الامام عليه السلام ، لأنّ المفروض : انّ السبب حجّة ظنية بالنسبة اليه .

( أو كان المنكشف غير الدّليل القاطع ) بأن كان المجموع من : الاجماع المنقول ، والذي حصله هو بنفسه يكشف عن دليل معتبر في المسألة .

و ( الاّ ) بان لم يستكشف من المجموع لا من السبب المنقول ، ولا من الذي حصله هو بنفسه حجّة ظنية معتبرة ( فلا ) يكون له ذلك حجة معتبرة على قول الامام عليه السلام ، ولا على وجود دليل معتبر في المسألة .

( واذا تعدّد ناقل الاجماع ) كما اذا نقل الاجماع السيد المرتضى ، وشيخ الطائفة - مثلاً - ( أو ) تعدد ( النقل ) بأن كان الناقل واحدا ، لكنّه نقل الاجماع في مواضع عديدة كالشيخ في كتاب التهذيب ، وكتاب الخلاف ، وما أشبه ، ( فان

ص: 123

توافق الجميع لوحظ كلّ مع ما علم على ما فصِّل واُخِذَ بالحاصل ، وإن تخالف لوحظ جميع ماذكر واُخِذَ فيما اختلف فيه النقلُ بالأرجح بحسب حال الناقل وزمانه ووجود المعاضد وعدمه

------------------

توافق الجميع ) في الحكم ( لوحظ كل ، مع ما علم ) من حالات الناقل ، والكتاب ، والمسألة ، واللفظ ، والمتعلق ، والزمان ، والمكان ، والشواهد ، والقرائن الداخلية والخارجية ، وما أشبه ( على ما فُصِّلَ ) سابقا ، ( وأُخِذَ بالحاصل ) منه ، وانّه ، هل يستكشف من هذا المجموع : قول الامام عليه السلام ، أو الدليل المعتبر ، أو لا يستكشف ؟ فان كشف المجموع عن أحد الأمرين ، كان حجّة ، والاّ فلا ، وان صلح أن يكون مؤيدا ، أو موجبا للاحتياط ، أو عدم الجرأة للفتوى على خلاف ذلك احيانا ( وان تخالف ) بعضه مع بعض بان نقل السيد المرتضى - مثلاً - الاجماع على طرف المسألة ، والشيخ على الطرف الاخر من المسألة ، أو تخالف اجماعا الشيخ في كتابيّ من كتبه - كما يرى ذلك في بعض كتب القدماء - ( لوحظ جميع ما ذكر ) من : الناقل والكتاب ، والمسألة ، وغير ذلك مما تقدّم ( وأُخِذَ فيما اختلف فيه النقل ، بالأرجح ) منها .

والترجيح انّما يكون ( بحسب حال الناقل ) انّه شديد الاحتياط في الكلام ، وانه محقق ، ومدقق ، وما أشبه - مما تقدّم او ليس كذلك .

( وزمانه ) حيث قد عرفت : انّ بعض الأزمنة تختلف عن بعض كما انّ الأمكنة كذلك - على ماسبق - .

( ووجود المعاضد وعدمه ) بأن تعدد أحد الطرفين في نقل الاجماع ، كما اذا نقل الاجماع العلامة والشهيدان على طرف من المسألة بينما الاجماع على الطرف الاخر ، لم ينقله الاّ المحقق الحلي ، والى غير ذلك .

ص: 124

وقلّته وكثرته .

ثمّ ليُعمَل بما هو المحصّل ويُحكَم على تقدير حجّيته بأنّه دليل ظنّي واحدٌ وإن توافق النقل وتعدّد الناقل .

وليس ما ذكرناه مختصّا بنقل الاجماع المتضمّن لنقل الأقوال إجمالاً ، بل يجري في نقلها تفصيلاً أيضا ،

------------------

( وقلته وكثرته ) أي : قلة وجود المعاضد في أحد الطرفين ، وكثرة وجوده في الطرف الاخر ، أو وجود المعاضد في أحد الطرفين وعدم وجوده في الطرف الاخر .

( ثم ليعمل بما هو المحصّل ) منه وانّه هل ينكشف قول الامام ، أو دليل معتبر من احد الطرفين او لا ينكشف شيء منهما أي من الطرفين ؟ ( و ) بعدها ( يحكم على تقدير حجّيته ) أي حجية احد الطرفين من المسألة ( بانّه دليل ظنّي واحد ) .

وقد عرفت : انّ الظن في مثله حجّة ، وحجّيته أمّا من جهة انه ظن خاص ، أو من جهة دليل الانسداد ، ويحكم بوحدته حتى ( وان توافق النقل ، وتعدّد الناقل ) فتكون الصور للمسألة اربعا : لأنّ كلاً من النقل والناقل ، إما : واحد أو متعدد ، فضرب أحدهما في الآخر يوجب صورا أربع .

( و ) من الواضح : انه ( ليس ما ذكرناه ) من الاعتماد على نقل السبب ، الكاشف عن المسبب وهو : قول الامام أو دليل معتبر ( مختصا بنقل الاجماع ، المتضمّن لنقل الاقوال إجمالاً ) فان الاجماع عبارة عن : نقل أقوال متعددة ، لخّصها الناقل في كلمة : الاجماع ، أو الاتفاق ، أو ما أشبههما ، ( بل يجري ) ما ذكرناه ( في نقلها ) أي : نقل الأقوال ( تفصيلاً أيضا ) فاذا نقل مفتاح الكرامة - مثلاً - عن مائة عالم قولهم بالمسألة الفلانية ، فانه اجماع أيضا ، اذ لا فرق بين أن يقول :

ص: 125

وكذلك في نقل سائر الأشياء التي يبتنى عليها معرفة الأحكام ، والحكمُ فيما إذا وجد المنقولُ موافقا لما وُجد او مخالفا مشتركٌ بين الجميع ، كما هو ظاهر .

وقد اتضح بما بيّناه

------------------

انّ في المسألة اجماعا ، أو أن يقول : انّ فلانا وفلانا وفلانا الى آخره ، ذكروا هذه المسألة بهذه الصورة .

( وكذلك في نقل سائر الاشياء ، التي يبتنى عليها معرفة الاحكام ) كنقل الشهرة ، ونقل عدم الخلاف ، ونقل وجود الرواية ، أو السيرة ، أو نحوها ، فقد ينقل الناقل أنّ في المسألة شهرة ، وقد يقول : انّ فلانا وفلانا وفلانا الى آخره ذكروا هذا الحكم ، مما يوجب مجموعهم الشهرة .

وكذلك بالنسبة الى سائر ماذكرناه ، فقد يقول احدهم : انّ في المسألة رواية - مع انا لم نشاهد الرواية - .

وهكذا بالنسبة الى سائر الاشياء التي هي حجّة ، أو مؤيدة .

( و ) من المعلوم : أنّ ( الحكم فيما اذا وجد المنقول موافقا لما وجد ، أو مخالفا ) لما وجد ( مشترك بين الجميع ) اذ لا فرق بين : الاجماع والشهرة والقرائن - فيما اذا كانت متوافقة - المنقول منها والمحصَّل ، أو كانت متخالفة بعضها مع بعض ( كما هو ظاهر ) .

فاذا كان المنقول والمحصّل متوافقين، حكم بالمجموع منضما بعضها الى بعض ، واذا كان المنقول والمحصّل متخالفين ، رجح المنقول على المحصّل ، أو المحصّل على المنقول ، أو تكافئا فتساقطا ، ويكون المرجع دليلاً آخر .

( وقد إتّضح بما بيّناه ) من : انّ الاجماع المنقول ، انّما يكون حجّة من باب نقل

ص: 126

وجهُ ما جرت عليه طريقةُ معظم الأصحاب من عدم الاستدلال بالاجماع المنقول على وجه الاعتماد والاستقلال غالبا ، وردّه بعدم الثبوت او بوجدان الخلاف ونحوهما ، فانّه المتّجه على ما قلنا ،

------------------

السبب ، والسبب قد يكون سببا تاما برأسه ، وقد يكون سببا ناقصا ، ينظم اليه ما حصّله نفس المنقول اليه ، فيكون المجموع سببا ، وهذا ( وجه ما جرت عليه طريقة معظم الأصحاب ) ومنهم : الشيخ المرتضى ، في كُتبه الفقهية والاُصولية ( من : عدم الاستدلال بالاجماع المنقول ، على وجه الاعتماد والاستقلال غالبا ) ، نعم ، يذكرونه تأييدا للمطلب ، أو يذكرونه ليضمّوا اليه ما يكفي بمجموعة للحجّية والاستدلال .

( و ) كذا ( ردّه ) وهو عطف على : « عدم الاستدلال » أي : ظهر وجه ما جرى عليه معظم الأصحاب ، من انهم اذا ذكروا بعض الاجماعات ، ردوا تلك الاجماعات ( بعدم الثبوت ) لوجه الاجماع في المسألة ، ( أو بوجدان الخلاف ) فيردون الاجماع ويذكرون : بانّه ليس باجماع ، وذلك لوجود المخالف ، أو ما أشبه مما يدل على انّ الاجماع لو كان سببا تاما ، لم يكن وجه لعدم الاستدلال بالاجماع ، أو ردّه ( ونحوهما ) من الامور المسبّبة لردّ الاجماع ، كقولهم : انّ الدليل ثبت على خلاف الاجماع ، فلا يعمل بالاجماع ، مما لو كان الاجماع دليلاً كافيا لم يكن وجه لرده بقيام الدليل على خلافه ، بل كان اللازم : أن يوقعوا التعارض : بين الاجماع وبين الدليل الثابت على خلافه .

( فانّه ) أي : ما ذكرناه : من عدم الاستدلال بالاجماع ، أو ردّه ، أو نحو ذلك ، هو ( المتّجه على ما قلنا ) من : أنّ الاجماع المنقول ليس حجّة بنفسه ، وانّما هو حجّة من باب نقل السبب الكاشف فقد يكون كاشفا ، وقد لا يكون كاشفا - وهو

ص: 127

ولا سيّما فيما شاع فيه النزاع والجدال اذ عرفت فيه الأقوال ، او كان من الفروع النادرة التي لا يستقيم فيها دعوى الاجماع ، لقلّة المتعرّض لها إلاّ على بعض الوجوه التي لا يعتدّ بها ، او كان الناقل ممّن لا يعتدّ بنقله ، لمعاصرته او قصور باعه

------------------

الأكثر - فيحتاج الى ضم ضميمة يوجب الجمع بينها وبين الاجماع الكاشف .

( ولا سيّما ) أي يتجه ما قلناه : من عدم حجّية الاجماع المنقول بنفسه ( فيما شاع فيه النزاع والجدال ) فان المسائل التي وقع فيها النزاع والجدال ، لا يمكن اثباتها بالاجماع المنقول ( اذ عرفت فيه الأقوال ) والنزاع ، ومع معرفة الأقوال والنزاع ، كيف يمكن دعوى الاجماع .

أو كيف يقبل في تلك المسألة المتنازع عليها ، والتي قد كثر فيها الأقوال قبول الاجماع دليلاً على أحد أطراف المسألة .

( أو ) فيما ( كان من الفروع النادرة ، التي لا يستقيم فيها دعوى الاجماع ، لقلّة المتعرِّض لها ) فان الفروع النادرة ليست إجماعية ، فكيف يمكن الاستناد الى الاجماع فيها ؟ ، ( الاّ على بعض الوجوه ) المتقدمة : من كون دعوى الاجماع في المسائل الخلافية ، أو في الفروع النادرة ، انّما هو بسبب اعتمادهم على آية أو رواية أو أصل مجمع عليها ، وحيث يرى ناقل الاجماع : انّ هذه الصغرى من صغريات تلك الأدلة يدّعي الاجماع فيها .

لكن عرفت - فيما سبق - : انها من الوجوه ( التي لا يعتدّ بها ) فاذا كان شيئا من هذه الوجوه مستند حجّية الاجماع ، في الفروع النادرة ، وفي المسائل المختلف فيها ، فانه مما لا عبرة ، وقد تقدّم تفصيل الكلام بذلك سابقا .

( أو ) فيما اذا ( كان الناقل ممّن لا يعتدّ بنقله ، لمعاصرته ، أو قصور باعه ) فانّه

ص: 128

او غيرهما ، ممّا يأتي بيانه ، فالاحتياجُ إليه مختصّ بقليل من المسائل بالنسبة إلى قليل من العلماء و نادر من النقلة الأفاضل » انتهى كلامه ، رفع مقامه .

------------------

لا يعتدّ باجماعاته ، لأنّ اجماعاته ليست على الوجه الكاشف .

( أو غيرهما ) أي : غير قلّة الباع والقصور من الامور الموهنة للنقل ، كمسامحة الناقل ، أو عدم احتياطه في نقل الاجماع أو نحو ذلك ( ممّا يأتي بيانه ) في كتاب التستري رحمه اللّه ، وان لم ينقله المصنّف هنا .

( فالاحتياج اليه ) أي الى الاجماع المنقول في الاستدلال به على الحكم (مختص بقليل من المسائل ) وهي المسائل التي لم تكن نادرة ، ولا محل الاختلاف كما انه لا تقبل دعوى الاجماع فيها من كل احد الاّ ( بالنسبة الى قليل من العلماء ) الذين لهم سعة الاطلاع ، وشدة التورع والاحتياط ، كالمحقق - مثلاً - ( و ) الاّ بالنسبة الى ( نادر من النقلة الافاضل ) (1) المتوفرة فيهم كل شروط الوثاقة ( انتهى كلامه رفع مقامه ) .

هذا ما أراده المصنّف من نقل كلام التستري « رحمهما اللّه تعالى » ، وحاصله : انه يرى حجية نقل الاجماع ، بالقدر الذي استند الناقل فيه الى الحسّ دون الزائد عليه .

فاذا استند الناقل في دعواه للاجماع الى قول جميع العلماء ، كان ذلك مثل انّ المنقول اليه وجد قول جميع العلماء .

وان استند الى قول جماعة من العلماء ، كان مثل ان وجد المنقول اليه قول اولئك الجماعة فقط .

ص: 129


1- - كشف القناع : ص400 - 405 .

لكنّك خبيرٌ بأنّ هذه الفائدة للاجماع المنقول كالمعدومة ، لأنّ القدر الثابت من الاتفاق باخبار النّاقل المستند إلى حسّه ليس ممّا يستلزم عادةً موافقة الامام عليه السلام ، وإن كان هذا الاتفاق لو ثبت لنا أمكن أن يحصل العِلمُ بصدور مضمونه ،

------------------

وان استندوا الى أصل أو رواية أو آية ، كان اللازم ان يرجع المنقول اليه الى ذلك الأصل ، أو تلك الآية ، أو الرواية ليرى هل يصح الاستدلال بها ام لا ؟ .

وبهذا أسقط التستري رحمه اللّه ، الاجماع عن الحجيّة ، وعن كشفه عن قول المعصوم عليه السلام ، اطلاقا ، وهو اشكال وارد على التستري ، واليه اشار المصنّف بقوله : ( لكنّك خبير بانّ هذه الفائدة للاجماع المنقول ) التي ذكرناها ( كالمعدومة ) فانها ليست فائدة للاجماع اطلاقا ( لأنّ القدر الثابت من الاتفاق ) الحاصل لنا ( باخبار النّاقل ، المستند الى حسّه ) وفحصه لأقوال العلماء ( ليس ممّا يستلزم عادة موافقة الامام عليه السلام ) ولا كاشفا عن وجود دليل معتبر ( وان كان هذا ) المقدار من ( الاتفاق لو ثبت لنا ) بالوجدان ، بأن فحصنا نحن ، فاطلعنا على أقوال مائة من الفقهاء - مثلاً - ( أمكن ) امكانا لا يلازم الدوام ، بل الامكان من باب الاتفاق ( أن يحصل العلم بصدور مضمونه ) أي مضمون الحكم من المعصوم ، او وجود دليل معتبر عليه .

مثلاً : انّا لو فحصنا أقوال مائة من العلماء ، الذين هم قريبون من عصر الغيبة ، حصل لنا من باب الاتفاق ، لا من باب الدوام ، والتلازم ان مضمون هذا الحكم قد صدر من المعصوم عليه السلام ، او ان هناك دليل معتبر ، استند هؤلاء العلماء الى ذلك الدليل لكن اذا نقل الاجماع لنا من وجد قول مائة من العلماء ، لم يلزم أن يحصل لنا مثل هذا العلم .

ص: 130

لكن ليس علّة تامّة لذلك ، بل هو نظير اخبار عدد معيّن في كونه قد يوجب العلم بصدق خبرهم وقد لا يوجب ، وليس أيضا ممّا يستلزم عادةً وجودَ الدليل المعتبر حتّى بالنسبة إلينا ، لأنّ استنادَ كلّ بعض منهم إلى ما لانراه دليلاً ، ليس أمرا مخالفا للعادة .

------------------

والحاصل : انّ قول المائة ، الذي نقله مدّعي الاجماع ، لا يكشف عن قول المعصوم عليه السلام ، كما لا يكشف عن دليل معتبر بالنسبة الى المنقول اليه ، وان كان لو وجد المنقول اليه قول المائة بنفسه : أمكن أن يحصل له العلم باحدهما ، فان الانسان اذا فحص بنفسه ، تدرّج له الظن الى أن يحصل له العلم بذلك بخلاف ما اذا اخبره غير ، فانه لا يحصل له هذا التدرّج .

( لكن ليس ) هذا القدر الثابت من الاتفاق ( علّة تامّة لذلك ) العلم ، فانا اذا فحصنا بأنفسنا أيضا ، ووجدنا قول المائة ، لم يكن قول المائة علّة تامة لوجود الدليل المعتبر ، او صدوره من المعصوم ( بل هو نظير اخبار عدد معيّن في كونه ) أي : ذلك الاخبار ( قد يوجب العلم بصدق خبرهم ، وقد لا يوجب ) العلم ، فاذا أخبرنا - مثلاً - مائة : بموت زيد ، فانه قد يوجب لنا العلم بسبب قرائن في الكلام ، وقد لا يوجب لنا العلم لفقد تلك القرائن ، أمّا اذا أخبَرنا انسان : بأنّه أخبره مائة : بموت زيد ، فانه أبعد من حصول العلم لنا بموته .

( وليس أيضا ) القدر الثابت من الاتفاق ( ممّا يستلزم عادة وجود الدليل المعتبر حتى بالنسبة الينا ) فانّ نقل الاجماع - كما مرّ - لا يوجب لنا كشفا عن قول المعصوم عليه السلام ، كما لا يوجب لنا كشفا عن دليل معتبر .

وانّما لا يكشف عن دليل معتبر ( لانّ استناد كل بعض منهم الى ما لا نراه دليلاً ، ليس أمرا مخالفا للعادة ) بل العادة قاضية : بأن هؤلاء المائة ، الذين اتفقوا على

ص: 131

الا ترى أنّه ليس من البعيد أن يكون القدماء القائلون بنجاسة البئر ، بعضهم قد استند إلى دلالة الأخبار الظاهرة في ذلك مع عدم الظفر بما يعارضها ، وبعضهم قد ظفر بالمعارض ولم يعمل به ، لقصور سنده ، او لكونه من الآحاد عنده أو لقصور دلالته

------------------

حكم قد استند كُلاً منهم الى دليل معتمد عنده ، وليس معتمدا عندنا ، كأن استند بعضهم الى آية ، وبعضهم الى رواية ، بعضهم الى اصل ، ونحن لا نرى دلالة تلك الآية ، ولا صحة سند تلك الرواية ، ولا قوة ذلك الأصل في إفادة المطلب .

ثم إنّ المصنّف ، استدل على انّ أقوال الفقهاء ليست حجّة لنا لاحتمال استناد كُلّ بعض منهم الى ما لا نراه دليلاً ، بقوله : ( الا ترى : انه ليس من البعيد أن يكون القدماء القائلون ) باتفاقهم ( بنجاسة ) ماء ( البئر ) بسبب وقوع النجس فيها ، حيث كان المشهور الى زمان المحقّق الحلّي ، انّ البئر تنجس بوقوع النجاسات فيها ، مما يوجب نزح دلاء معينة ، وكذا في بعض غير النجاسات ، مثل العقرب ، لكن اجماعهم ذلك ليس بحجّة عندنا ، لأنّ ( بعضهم قد استند الى دلالة الأخبار الظاهرة في ذلك ) أي : في النجاسة ( مع عدم الظفر ) منهم (بما يعارضها ) مما يوجب : حمل أخبار النجاسة على الكراهة .

( وبعضهم قد ظفر بالمعارض ) لتلك الاخبار الدالة على النجاسة ( و ) لكن ( لم يعمل به ) أي : بالمعارض ( لقصور سنده ، أو لكونه من الآحاد عنده ) أي : عند ذلك البعض ، حيث يرى المعارض قاصر السند عن المعارضة ، أو انّ المعارض من اخبار الآحاد ، وخبر الواحد ليس بحجّة عنده كما نسب ذلك الى السيد ، وابن ادريس ، وغيرهما .

( أو لقصور دلالته ) أي : دلالة ذلك الخبر المعارض .

ص: 132

أو لمعارضته لأخبار النجاسة وترجيحها عليها بضرب من الترجيح ، فاذا ترجّح في نظر المجتهد المتأخّر أخبار الطّهارة فلا يضرّه إتّفاقُ القدماء على النّجاسة المستندُ إلى الامور المختلفة المذكورة .

------------------

( أو لمعارضته لأخبار النجاسة وترجيحها ) أي : ترجيح أخبار النجاسة ( عليها ) أي : على أخبار الطهارة ( بضرب من الترجيح ) فانّه وان رأى الأخبار الدالة على الطهارة ، صحيحة سندا ووافية دلالةً، الا انّه رجَّح أخبار النجاسة على أخبار الطهارة، لأمر خارجي ، مثل : التقية ، أو ما أشبه ذلك .

وعليه : ( فاذا ترجّح في نظر المجتهد المتأخّر أخبار الطهارة ) كما ترجح ذلك في نظر العلاّمة والمحقّق القمي ، وغيرهما بعد قرون كان الفقهاء يرون فيها النجاسة ( فلا يضره ) أي : هذا المجتهد المتأخر ( اتفاق القدماء على النجاسة ، المستند ) اتفاقهم ذلك ( الى الأمور المختلفة المذكورة ) التي ذكرناها : من عدم وجدان المعارض ، أو قصور سنده ، أو قصور دلالته ، أو مرجوحيته بالنسبة الى أخبار النجاسة ، أو الاشكال في جهة صدوره .

إذن : فاستناد الفقهاء المتقدمون ، المجمعون على نجاسة البئر الى بعض المستندات المعتمدة عندهم ، لا عندنا ، لم يكن مانعا عن رأي المجتهد المتاخر بالطهارة .

ومما تقدّم ظهر : انّ المصنّف يرى عدم الفائدة في نقل الاجماع اطلاقا ، لا كشفا عن قول المعصوم ، ولا كشفا عن دليل معتبر ، وانّما يستشكل المصنّف على التستري : بأنّه لماذا فصّل في الاجماع وقال : بأنّ بعضه حجّة ، وبعضه ليس بحجّة ، بينما كان اللازم على التستري رحمه اللّه أن يقول : بأنّ الاجماع ليس بحُجّة اطلاقا .

ص: 133

وبالجملة : فالانصافُ - بعد التأمّل وترك المسامحة بابراز المظنون بصورة القطع ، كما هو متعارف محصّلي عصرنا - أنّ اتّفاق من يمكن تحصيلُ فتاويهم على أمر ، كما لا يستلزمُ عادةً موافقة الامام عليه السلام ، كذلك لايستلزمُ وجود دليل معتبر عند الكلّ من جهة او من جهات شتّى ،

------------------

( وبالجملة : فالانصاف بعد التأمّل وترك المسامحة بابراز المظنون بصورة القطع ) أي : انّا نترك المسامحة ، فلا نجعل الشيء المضنون : انه مقطوع به ( كما هو ) أي : ابراز المظنون بصورة القطع ( متعارف ) لدى ( محصّلي عصرنا ) فانهم ربما حصلوا على الظن قالوا : انه مقطوع به .

فاذا أردنا أن نترك هذه المسامحة ونقول : أن المظنون مظنون وليس بمقطوع ، والمظنون ليس بحجة ، ان نقول ( انّ اتفاق من يمكن تحصيل فتاويهم على أمر ) من الامور الشرعية ، ومن يمكن تحصيل فتاواهم ، ليسوا كثيرا - كما لا يخفى على من راجع الفقه ، فان هذا الاتفاق ( كما لا يستلزم عادة موافقة الامام عليه السلام ) وان كان يستلزم ذلك اتفاقا ، لكن الكلام ليس في الاتفاقيات النادرة ، وانّما في الامور العادية ( كذلك لا يستلزم وجود دليل معتبر عند الكلّ ) ، فانّ أمثال هذه الاجماعات ، لا تستلزم الكشف عن قول المعصوم عليه السلام ولا تستلزم الكشف عن وجود دليل معتبر ، لاحتمال استناد هؤلاء الفقهاء ، الذين اتفقوا على أمر ، الى أدلة غير تامة عند المجتهد المنقول اليه الاجماع ( من جهة ، أو من جهات شتى ) ، لانه - كما تقدّم - قد يكون المكشوف غير حجّة من حيث السند ، أو غير ظاهر من حيث الدلالة ، أو مبتلى بالمعارض الراجح ، او محتملاً لكونه صادرا من جهة التقية او غير ذلك مما يجعل المظنون غير حجّة .

ص: 134

فلم يبق في المقام إلاّ أن يحصّل المجتهد أمارات اُخَر من أقوال باقي العلماء وغيرها ليضيفها إلى ذلك ، فيحصّل من مجموع المحصّل له والمنقول إليه الذي فرض بحكم المحصّل من حيث وجوب العمل به تعبّدا القطعُ في مرحلة الظاهر باللاّزم ،

------------------

وعليه : ( فلم يبق في المقام ) الذي ينقل فيه الاجماع ( الاّ أن يحصّل المجتهد) المنقول اليه ( امارات اُخر : من أقوال باقي العلماء ، وغيرها ) من القرائن الخارجية أو الداخلية ( ليضيفها ) أي : يضيف المجتهد المتأخر ، تلك الأمارات الاخر ، والأقوال التي حصلها ( الى ذلك ) الاجماع المنقول .

( فيحصّل من مجموع المحصّل له ، والمنقول اليه ، الذي فرض ) كونه ( بحكم المحصّل ) وانّما يكون المنقول بحكم المحصّل ، لانه اخبار عن حسّ ، فيكون كالمحصّل ( من حيث وجوب العمل به تعبّدا ) ، فكما انّه اذا حصل بنفسه على تلك الأقوال وجب عليه العمل تعبدا ، كذلك اذا لم يحصل هو عليها ، وانّما أخبره عادل بتحصيل ذلك فانّه يجب عليه العمل به تعبدا أيضا اذ لافرق بين : أن يحصل الانسان بنفسه على أقوال مائة من الفقهاء ، أو أن يخبر المحقّق - مثلاً - : بأنه حصل على أقوال مائة من العلماء ويذكره اجمالاً بلفظ الاجماع .

فان ذلك يورث ( القطع ) التعبدي ( في مرحلة الظاهر ) وانّما كان في مرحلة الظاهر : لأنّ ما يحصّله الانسان انّما هو الحكم الظاهري ، وهو الذي يكلف به ، أمّا انّ الواقع ما هو ؟ فلسنا مكلفين به ، اذ التكليف انّما هو بحسب الأدلة ، والأدلة قد تطابق الواقع ، وقد لا تطابق الواقع .

والحاصل : انّ المنقول والمحصّل ، اذا انضم بعضها الى بعض حصل القطع (باللاّزم ) أي : لازم الاجماع والأمارات الاخر ، التي انضمت اليه ،

ص: 135

وهو قول الامام عليه السلام او وجود دليل معتبر الذي هو أيضا يرجع إلى حكم الامام عليه السلام بهذا الحكم الظاهريّ المضمون لذلك الدليل ، لكنّه أيضا مبنيّ على كون مجموع المنقول من الأقوال والمحصّل من الأمارات ملزوما عاديّا لقول الامام عليه السلام ، او وجود الدليل المعتبر ، وإلاّ فلا معنى لتنزيل المنقول منزلة المحصّل بأدلّة حجّية خبر الواحد ، كما عرفت سابقا .

------------------

( و ) اللازم ( هو : قول الامام عليه السلام ، أو وجود دليل معتبر الذي هو ) أي : الدليل المعتبر (أيضا يرجع الى حكم الامام عليه السلام بهذا الحكم الظاهريّ ، المضمون لذلك الدليل ) .

فانّ المجموع من الاجماع ، والأمارات الاخر المنظمة اليه ، يتضمن حكم الامام عليه السلام ،

فيكون حجة لما ذكرنا سابقا : من أنّ مضمون الخبر الواحد وما يدلّ عليه بالمطابَقة ، أو بالتضمن ، أو بالالتزام ، حجّة على من وصله ذلك والاجماع المنقول المنضم اليه سائر الامارات ، يكون بحكم الخبر الواحد .

( لكنّه ) أي : كون المنقول والمحصّل حجّة ( أيضا مبنيّ على كون مجموع المنقول من الاقوال ، والمحصّل من الامارات ) والقرائن ( ملزوما عاديّا لقول الامام عليه السلام ، أو وجود الدليل المعتبر ) بأن يكون قول الامام أو الدليل المعتبر لازما للمجموع من المنقول والمحصّل .

( والاّ ) بأن لم نقل بالملازمة : بين المنقول والمحصّل ، وبين قول الامام عليه السلام ( فلا معنى لتنزيل المنقول منزلة المحصّل ، بادلّة حجّية خبر الواحد - كما عرفت سابقا - ) لأنّ دليل حجّية خبر الواحد ، انّما هو فيما اذا كان له دلالة مطابقية ، أو تضمنيّة ، أو التزامية على حكم من الأحكام دون ما اذا لم تكن الدلالة باحدى

ص: 136

ومن ذلك ظهر أنّ ما ذكره هذا البعضُ ليس تفصيلاً في مسألة حجّيّة الاجماع المنقول ، ولا قولاً بحجّيته في الجملة من حيث انّه إجماع منقول ، وإنّما يرجع محصّله إلى أنّ الحاكي للاجماعُ يُصدّق فيما يخبره عن حسّ

------------------

الدلالات الثلاث ، وانّما كانت من المقارنات الاتفاقية .

والحاصل : انه اذا كان تلازم بين المنقول والمحصّل ، وبين قول الامام عليه السلام ، شمل أدلة حجية خبر الواحد المنقول والمحصّل فيكونان حجّة كالخبر الواحد ، واذا لم يكن تلازم ، فلا يشمل دليل حجّية الخبر : المنقول والمحصّل ، فلا يكونان حجة .

( ومن ذلك ) الذي ذكرناه : بأنّه انّما يكون الاجماع المنقول حجّة ، اذا كان مع الانضمام ، كاشفا عاديا عن قول الامام ، أو عن دليل معتبر ( ظهر ان ماذكره هذا البعض ) أي : التُستري رحمه اللّه من : انّ بعض الاجماعات المنقولة حجّة وبعضه ليس بحجّة ( ليس تفصيلاً في مسألة حجيّة الاجماع المنقول ) لما قد عرفت : من انّ مقتضى ماذكره : انه لا حجيّة للاجماع المنقول اطلاقا .

( ولا قولاً بحجّيّته ) أي : الاجماع المنقول ( في الجملة ، من حيث انه اجماع منقول ) فانّ الاجماع المنقول على ماذكره التُستري ، ليس كاشفا ، ولا جزء كاشف ، فليس هو بحجّة مستقلة ولا جزء حجّة .

( وانّما يرجع محصّله ) أي : محصل كلام التُستري رحمه اللّه ( الى انّ الحاكي للاجماع ، يُصدَّق فيما ) أي : في المقدار الذي ( يخبره عن حسّ ) فاذا قال المحقّق - مثلاً - : ان مائة من الفقهاء قالوا بهذا الشيء فانه يُصَدَّق بهذا المقدار ، كذلك اذا قال : اجماع بهذا الشيء ، فانّ خبره مصدَّق بالنسبة الى مقدار المائة فقط ، وذلك ليس بحجّة ، ولا بجزء حجّة .

ص: 137

فانّ فرض كون ما يخبره عن حسّه ملازما بنفسه ، او بضميمة أمارات اُخَر ، لصدور الحكم الواقعيّ او مدلول الدليل المعتبر عند الكلّ ، كانت حكايتُهُ حجّةً ، لعموم أدلّة حجّية الخبر في المحسوسات ، وإلاّ فلا ، وهذا يقول به كلّ من يقول بحجّية الخبر في الجملة ،

------------------

( فان فرض كون ما يخبره عن حسّه ملازما بنفسه ، أو بضميمة امارات اُخر ) أو أقوال اُخر حصّلها المنقول اليه كالأقوال التي بعد المحقّق - مثلاً - ( لصدور الحكم الواقعي ) عن الامام عليه السلام ( أو ) صدور الحكم الظاهري ، وهو : (مدلول الدليل المعتبر عند الكلّ ، كانت حكايته ) أي : ما يحكيه ناقل الاجماع ، مما يخبره عن الحسّ ( حجّة ) فيما اخبر به - مثلاً - من انّ مائة من العلماء قالوا بهذا الشيء وذلك ( لعموم أدلّة حجّية الخبر في المحسوسات ) .

وهذا هو غاية ما يمكن ان يكون الاجماع المنقول حجّة فيه .

( والاّ ) بان لم يكن ما ينقله ناقل الاجماع ، ملازما بنفسه ، أو بضميمة امارات اُخر ، لصدور الحكم الواقعي عن الامام عليه السلام ، أو دليل معتبر ( فلا ) يكون حجّة ، فانّ الخبر الواحد انّما يكون حجة اذا كان له اثر شرعي ، فاذا لم يكن له أثر شرعي ، فلا حجيّية فيه ، فاذا أخبر انسان صادق : بأنّ الجبل الفلاني ارتفاعه كذا مترا ، فانّه لا يجب تصديقه ، اذ لا يترتب على تصديقه وعدم تصديقه ، حكم شرعي - كما قرر في الخبر الواحد - .

( وهذا ) أي : وجوب تصديق العادل فيما يخبره عن حس ، اذا كان بنفسه ، أو بانضمام امارات اُخر ، أو اقوال اُخر لازما للحكم الواقعي ، أو الحكم الظاهري ( يقول به ، كلّ من يقول بحجيّة الخبر في الجملة ) فلا ربط لهذا الذي ذكره التستري بحجّية الاجماع المنقول أصلاً .

ص: 138

وقد اعترفَ بجريانه في نقل الشهرة وفتاوى آحاد العلماء .

ومن جميع ما ذكرنا يظهر الكلامُ في المتواتر المنقول

------------------

إذن : فكلام التُستري ، لايثبت حجّية الاجماع المنقول حتى ولو في الجملة ، وانّما هو دليل على عدم حجّية الاجماع المنقول مطلقا .

وقوله : « في الجملة » يعني انّ القائلين بحجيّة الخبر الواحد ، مختلفون في خصوصيات الخبر ، الذي يكون حجّة ، وانه هل يلزم فيه العدالة ؟ أو تكفي الوثاقة أو تكفي الممدوحية ، الى غير ذلك مما هو في قبال من يقول : بعدم حجّية الخبر اطلاقا ( و ) هذا ليس خاصا بالاجماع المنقول ، بل هو جار في الشهرة وفتاوى آحاد العلماء أيضا ، حيث انّ الخبر عن حسّ ، حجّة في مفاده اذا ترتب على ذلك حكم شرعي سواء كان الخبر عن حسّ ، اخبارا بالاجماع ، أو بالشهرة ، أو بفتاوى العلماء .

ولهذا ( قد اعترف ) التُستري رحمه اللّه ( بجريانه ) أي جريان وجوب تصديق المخبر ، فيما يخبر به عن حسّ ( في نقل الشهرة ، وفتاوى آحاد العلماء ) وهذا - كما هو واضح - ليس دليلاً على حجّية الشهرة ، وفتاوى آحاد العلماء ، كما انه ليس دليلاً على حجّية الاجماع المنقول .

والحاصل : انّ التُستري بكلامه هذا لم يكن مفصِّلاً في الاجماع ، بل كان ذاهبا الى عدم حجّية الاجماع المنقول اطلاقا ، الاّ انّه أثبت - فقط - اخبار المخبر عن حسّ ، بالنسبة الى أقوال العلماء قدس سرهم .

( ومن جميع ما ذكرنا ) في الاجماع المنقول ( يظهر الكلام : في المتواتر المنقول ) فان المصنّف حيث أتم الكلام في نقل الاجماع ، عرّج الى نقل التواتر وهو : انه اذا قال شيخ الطائفة - مثلاً - : ثبت لديّ بأخبار متواترة : انّ

ص: 139

وأنّ نقل التواتر في خبر لا يُثبتُ حجّيته ولو قلنا بحجّيّة خبر الواحد ، لأنّ التواتر صفة في الخبر تحصل باخبار جماعة تفيد العلم للسّامع

------------------

الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : « الخراج بالضمان » (1) . لم يكن هذا النقل من الشيخ ، يثبت لنا تواتر قول الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم .

وذلك لأنّ التواتر هو : الخبر الموجب للعلم ، وحصول العلم للشيخ بسبب الخبر المتواتر لديه ، لا يلزم اثبات تواتر الخبر عندنا أيضا ، اذ لعل الشيخ علم ذلك بسبب اخبار عشرة أشخاص ، بحيث لو أخبرنا اولئك العشرة ، لم يحصل لنا العلم ، فلا تلازم بين كون الخبر متواترا عند الشيخ ، وبين كونه متواترا عندنا أيضا .

نعم ، انّا نصدّق الشيخ فيما حصل لديه من الخبر المتواتر ، لكن لا تلازم بين التواتر عنده والتواتر عندنا ، فالتواتر المنقول كالاجماع المنقول في عدم اثباتهما للمنقول اليه علما ولا عملاً .

كما ( و ) ظهر ( ان نقل التواتر في خبر ، لا يثبت حجّيته ) أي : حجّية ذلك الخبر ، فاذا قال الشيخ : أنّه ورد خبر متواتر بكذا لم يثبت ذلك لنا ( ولو قلنا بحجّية خبر الواحد ) ، لأنّ خبر الواحد الحجّة ، عبارة عن : الاخبار عن الامام بدون واسطة ، او بواسطة ، بينما نقل التواتر ليس اخبارا عن الامام اطلاقا ، بل هو اخبار عن جماعة حصل للناقل بسببهم العلم ، وبحصول العلم للناقل صار عنده متواترا ، وحصول العلم له لا يلازم حصول العلم للمنقول اليه فلا يكون متواترا عنده .

وذلك ( لأنّ التواتر صفة في الخبر ، تحصل باخبار جماعة تفيد العلم للسّامِع )

ص: 140


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص219 ح89 .

ويختلف عدده باختلاف خصوصيّات المقامات ، وليس كلّ تواتر ثبت لشخص ممّا يستلزم في نفس الأمر عادة تحقّقَ المخبر به ، فاذا أخبَرَ بالتواتر فقد أخبر باخبار جماعة أفاد له العلمَ بالواقع ، وقبول هذا الخبر لا يجدي شيئا ،

------------------

فيكون التواتر عبارة عن الخبر الذي أخبر به جماعة ، فأوجب اخبارهم العلم له ، ومن الواضح : انّ الأشخاص يتفاوتون في حصول العلم بسبب الخبر ، فلربما يحصل العلم بسبب الخبر من خمسة أشخاص ، ولربما لم يحصل حتى من العشرين ، ولربما لا يكون التواتر عند المتكلم هو التواتر عند السامع ، وكذا العكس .

كما ( ويختلف عدده باختلاف خصوصيات المقامات ) زمانا ومكانا وخبرا ومعارضا ، وغير ذلك .

كما ( و ) انه ( ليس كل تواتر ثبت لشخص ، ممّا يستلزم في نفس الأمر عادة ، تحقق المخبر به ) ، ومعنى تحقق المخبر به : تحقق صدور الحكم عن الامام عليه السلام ، فانه لا يستلزم نقل التواتر على حكم صدور ذلك الحكم عنه عليه السلام ، اذ ربما كان الخبر متواترا عند الشيخ ، وليس متواترا عند ابن ادريس ، وهذا الاختلاف مما يدل على عدم التلازم بينهما .

وهكذا بالنسبة الى سائر الناقلين والمنقول اليهم ، ( فاذا أخبر بالتواتر ، فقد أخبر باخبار جماعة أفاد له العلم بالواقع ، و ) من المعلوم ان ( قبول هذا الخبر ، لايجدي شيئا ) للمنقول اليه ، فانه اذا صدّق : بان شيخ الطائفة اخبره جماعة ، فأفاد له العلم ، فان ذلك لايوجب للمنقول اليه ثبوت قول الامام ولا ثبوت دليل معتبر ، وانّما يثبت لدى المنقول اليه : انّ الشيخ حصل له العلم ، وعلم الشيخ لا يستلزم

ص: 141

لانّ المفروض إن تحقق مضمون المتواتر ليس من لوازم إخبار الجماعة الثابتة بخبر العادل .

نعم ، لو أخبر باخبار جماعةٍ يستلزم عادةً لتحقق المُخبَر به - بأن يكون حصول العلم بالمخبَر به لازم الحصول لاخبار الجماعة ، كأن أخبر مثلاً باخبار ألف عادل او ازيد بموت زيد وحضور جنازته - كان اللاّزمُ من قبول خبره الحكمَ بتحقّق الملزوم

------------------

علم المنقول اليه .

( لأنّ المفروض : انّ تحقّق مضمون المتواتر ) أي : الحكم الذي يريد التواتر اثبات صدوره عن الامام عليه السلام ( ليس من لوازم اخبار الجماعة ) فان اخبار الجماعة ( الثابتة بخبر العادل ) كشيخ الطائفة - مثلاً - لا يستلزم ان يكون متواترا عند المنقول اليه ، وان كان متواترا عند الناقل ، فكما انه لو قال : أخبرني الثقة ، ثبت صدق ادعائه : انّه اُخبر بواسطة شخص هو ثقة عنده ، ولم يستلزم ذلك ان يكون ثقة - أيضا - عند المنقول اليه ، لامكان اختلاف الشيخ والمنقول اليه في خصوصيات الوثاقة ، فلربما كان زيد ثقة عند الشيخ ولم يكن ثقة عند المنقول اليه فكذلك في نقل التواتر .

( نعم ، لو ) لم يقل الشيخ : بلغني الخبر الفلاني بالتواتر ، بل ( أخبر باخبار جماعة يستلزم عادة لتحقق المخبر به ) أي : الحكم الذي اخبره عن الجماعة ( بأن يكون حصول العلم بالمخبر به ، لازم الحصول لاخبار الجماعة ) ، أي : كان اخبار الجماعة وحصول المخبر به متلازمان ( كأن أخبر ) الشيخ ( مثلاً - : باخبار ألف عادل أو أزيد ، بموت زيد ، وحضور جنازته ، كان ) هذا الخبر حجّة ، وكان ( اللاّزم من قبول خبره ) أي : معنى حجّية خبر الشيخ ( الحكم بتحقّق الملزوم

ص: 142

وهو إخبار الجماعة ، فيثبت اللازم وهو تحقّق موت زيد ، إلاّ أنّ لازمَ من يعتمد على الاجماع المنقول وإن كان إخبارُ الناقل مستندا إلى حدس غير مستند إلى المبادي المحسوسة المستلزمة للمخبر به هو القولُ بحجّية التواتر المنقول .

------------------

وهو : إخبار الجماعة ) لأنّ الشيخ صادق في نقله ( فيثبت ) للمنقول اليه ( اللازم ، وهو : تحقّق موت زيد ) مما يوجب أرث زوجته ، وانفصالها عنه بعد انتهاء العدة ، وما أشبه ذلك من الأحكام .

ثم انه لا فرق في حجية نقل ما يستلزم عادة لتحقق المخبر به بين ان يقول شيخ الطائفة : أخبرني الف عالم أو أخبرني كل أهل المدرسة - وهم مثلاً : ألف - أو أن يقول : أخبرني زيد وعمرو وبكر وهكذا حتى يعدّ ألف انسان ، فان اخبار الف انسان سواء ذكرهم تفصيلاً أو اجمالاً ، يلازم الواقع ، فيثبت الواقع بالنسبة الى المنقول اليه، ويرتب على ذلك الواقع احكامه .

هذا ، ولكن مقتضى التحقيق - كما مرّ - هو : عدم ثبوت التواتر بسبب اخبار الثقة بالتواتر .

( الاّ انّ لازم من يعتمد على الاجماع المنقول وان كان اخبار الناقل مستندا الى حدس ) غير ضروري إذ الحدس قد يكون ضروريا ، وقد يكون غير ضروري ، والحدس غير الضروري ، هو ( غير مستند الى المبادي المحسوسة ، المستلزمة للمخبر به ) فان لازم من يعتمد على مثل هذا الاجماع ( هو القول بحجّية التواتر المنقول ) أيضا .

فكما يثبت قول الامام عليه السلام ، بسبب الاجماع المنقول عند امثال هؤلاء ، كذلك يثبت عندهم التواتر ، المستلزم لقول الامام بسبب نقل التواتر ، وذلك لاشتراكهما

ص: 143

لكن لِيُعلَم انّ معنى قبول نقل التواتر ، مثل الاخبار بتواتر موت زيد مثلاً ، يتصوّرُ على وجهين :

------------------

في أنّ الناقل - كالشيخ مثلاً - تحدَّس بحكم الامام من مبادي حسّية ، غير ملازمة عادة لقول الامام عليه السلام ، بلا فرق بين ان يقول : بأنّ المسألة اجماعية ، أو يقول : بأنّ الرواية في الباب الفلاني متواترة .

هذا ، ولكنك قد عرفت - ممّا سَبقَ - انا لا نقول بأي من الأمرين .

وحيث قد تبيّن : انّ نقل التواتر ، لايوجب كون الخبر متواترا عند المنقول اليه ، فاذا نقل الشهيد تواتر القراءات ، عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم ، فانه لايوجب لنا جواز الاعتماد على نقل الشهيد هذا ، حتى نقول، بجواز الصلاة بكل تلك القراءات، لأنّ كون القراءات متواترة عند الشهيد ، لا تستلزم أن تكون متواترة عندنا أيضا .

ثم ان المصنّف بدأ في بيان ذلك ، بتقديم مقدّمة وقال : ( لكن لِيُعلَم انّ معنى قبول نقل التواتر ) بأن يكون المتواتر المنقول حجّة ( مثل الاخبار بتواتر موت زيد - مثلاً - ) كما اذا أخبر شيخ الطائفة - مثلاً - بذلك ( يتصور على وجهين ) قسَّم المصنّف الوجه الثاني من الوجهين الى وجهين ايضا ، فالوجوه ثلاثة :

الاول : ان يترتب على المخبر به ، أي : موت زيد وآثاره : كتقسيم أمواله واعتداد زوجتُه ، وما أشبه ذلك .

الثاني : أن يترتب على صفة تواتر الخبر في الجملة ، كما اذا نذر : بان كل خبر ادّعي تواتره ، فعليه ان يثبته في كتاب له .

الثالث : أن يترتب على صفة تواتر الخبر - في نظر المنقول اليه - شيء ، ثم اشار المصنّف الى كل من الثلاثة بقوله :

ص: 144

الأوّل : الحكمُ بثبوت الخبر المدّعى تواتُره ، أعني موتَ زيد ، نظيرُ حجّية الاجماع المنقول بالنسبة الى المسألة المدّعى عليها الاجماع ، وهذا هو الذي ذكرنا أنّ الشرط في قبول خبر الواحد هو كونُ ما أخبر به مستلزما عادةً لوقوع متعلّقه .

الثاني : الحكمُ بثبوت تواتر الخبر المذكور

------------------

( الأوّل : الحكم بثبوت الخبر المدعى تواتره ، أعني : موت زيد ) ليثبت أحكامه المذكورة : من تقسيم أمواله ، واعتداد زوجته ، وما الى ذلك من الآثار الشرعية المترتبة على موته ، فانه لا يثبت عند المنقول اليه ، لأنّه لا يكون الخبر متواترا عنده .

وهذا في حجيته ( نظير حجّية الاجماع المنقول بالنسبة الى المسألة المدّعى عليها الاجماع ) فان الاجماع المنقول لو ثبت حجّيته ثبت الحكم الذي ادعى الاجماع عليه ، فاذا ادعي الاجماع - مثلاً - على وجوب استقرار البدن في الصلاة حال القرائة والذِّكر ، وكان الاجماع المنقول حجّة وجب الاستقرار على المنقول اليه دون مالم يكن حجّة .

( وهذا هو الذي ذكرنا ) من انه لا يثبت بالاجماع المنقول ، لأنّا لا نرى حجّية الاجماع المنقول اذ ( أنّ الشّرط في قبول خبر الواحد ، هو : كون ما أخبر به ، مستلزما عادةً لوقوع متعلّقه ) وقد ذكرنا : إن الاجماع وكذلك التواتر ، لا يستلزمان ذلك بالنسبة الى المنقول اليه .

( الثاني ) مجرد ( الحكم بثبوت ) وصف ( تواتر الخبر المذكور ) مع قطع النظر عن ثبوت موت زيد أو عدم ثبوته ، فانّه عندما ينقل الشيخ - مثلاً - تواتر هذا الخبر هل يثبت انّ هذا الخبر متواتر ، أو لا يثبت ان هذا الخبر متواتر ؟ .

ص: 145

لِيُرتّب على ذلك الخبر آثار المتواتر وأحكامه الشّرعيّة كما إذا نذر أن يحفظ او يكتب كلّ خبر متواتر .

ثمّ أحكام التواتر ، منها : ماثبت لما تواتر في الجملة ولو عند غير هذا الشخص ، ومنها : ما ثبت لما تواتر بالنسبة الى هذا الشخص .

------------------

( ليترتب على ذلك الخبر ) أعني : ادعاء التواتر في موت زيد ( آثار المتواتر ، وأحكامه الشّرعيّة ) مع غَضّ النظر عن نفس الحكم الذي ادعى تواتره ، ( كما اذا نذر : أن يحفظ أو يكتب كلّ خبر متواتر ) فانه قد يكون النذر ، بالنسبة الى ما سميّ متواترا ، ولو لم يكن متواترا عنده ، وقد يكون النذر متعلقا بما يكون متواترا عنده ، فيكون القسم الثاني على هذا أيضا على قسمين ، حيث ذكرنا انّ الأقسام ثلاثة ، وقد أشار الى اوّلهما بقوله :

( ثمّ احكام ) وصف ( التواتر منها : ما ثبت لما تواتر في الجملة ، ولو عند غير هذا الشخص ) المنقول اليه ، كما لو نذر : أن يكتب كُلَّ خبر ادّعي تواتره ، سواء ثبت التواتر عنده أو لم يثبت عنده التواتر ، وحيث ادعى الشيخ : انّ هذا الخبر متواتر شمله نذره ، فيجب عليه أن يكتب هذا الخبر في كتابه حسب نذره ، فيكون كما اذا نذر : أن يكتب كُلّ حكم ادّعي الاجماع عليه سواء كان عنده اجماعيا ام لا ، فاذا ادعى الشيخ : الاجماع على مسألة وجب عليه - حسب نذره - أن يكتبها .

ثم اشار الى ثانيهما بقوله : ( ومنها : ماثبت لما تواتر بالنسبة الى هذا الشخص ) كما لو نذر أن يكتب كُلّ خبر تواتر عنده وهذا المتواتر المنقول - حسب الفرض - ليس متواترا عنده فلا يجب عليه ان يكتبه .

ثم اخذ المصنّف يبيِّن احكام كلّ من الاقسام الثلاثة بقوله :

ص: 146

لا ينبغي الاشكال في أنّ مقتضى قبول نقل التواتر العملُ به على الوجه الأوّل وأوّل وجهي الثاني ، كما لا ينبغي الاشكالُ في عدم ترتّب آثار تواتر المخبر به عند نفس هذا الشخص .

ومن هُنا

------------------

( لا ينبغي الاشكال في انّ مقتضى قبول نقل التواتر : العمل به على الوجه الأوّل ) فانّ من يقول : بأنّ ادعاء التواتر مثبت لكونه متواترا ، وجب على هذا المنقول اليه : الحكم بثبوت موت زيد في المثال ، فيجب عليه ترتيب آثاره الشرعية : من تقسيم أمواله على ورثته وغير ذلك مما تقدّم .

( و ) كذا يجب العمل على ( اوّل وجهي الثاني ) ، فيجب الكتابة عليه لثبوت التواتر عند الغير ، وقد كان نذره : ان يكتب كُلّ خبر يسمّى متواترا ولو عند الغير .

( كما لا ينبغي الاشكال في عدم ترتّب آثار تواتر المخبر به ، عند نفس هذا الشخص ) وهو الوجه الثالث ، وذلك لأنّه لم يصل الى حدّ التواتر في نظر المنقول اليه ، حتى يجب عليه حفظه او كتابته ، وهذا - كما لا يخفى - تابع لكيفيّة النذر ، سواء بالنسبة الى الاجماع ، أو بالنسبة الى التواتر .

( ومن هنا ) تبيّن ان الآثار على ثلاثة اقسام :

الاول : الآثار المترتبة على المخبر به كموت زيد .

الثاني : الآثار المترتبة على صفة التواتر في الجملة ، ولو عند غير المنقول اليه .

الثالث : الآثار التي تترتب على صفة التواتر في نظر هذا الشخص .

وكذا تبيّن : انّ نقل التواتر عند من يرى حجّية هذا النقل ، يوجب الاحكام الثلاثة، بخلاف من لا يرى حجّيته فانه لايثبت عنده الاّ الثاني فقط ، دون الاول والثالث .

ص: 147

يُعلَمُ أنّ الحكمَ بوجوب القراءة في الصلاة إن كان منوطا بكون المقروء قرآنا واقعيّا قرأه النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فلا اشكال في جواز الاعتماد على إخبار الشهيد رحمه اللّه ، بتواتر القراءات الثلاث ، أعني قراءة أبي جعفر وأخويه ، لكن بالشرط المتقدّم ، وهو كونُ ما أخبر به الشهيد من التواتر ملزوما عادةً لتحقّق القرآنيّة .

------------------

ومنه ( يعلم انّ الحكم بوجوب القرائة في الصلاة ، ان كان منوطا بكون المقروء قرآنا واقعيّا قرأه النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ) بأن قلنا : وجوب القرائه من آثار القرآن الواقعي ، بحيث لو ثبت عند المنقول اليه انه قرآن واقعي ، جاز له قرائتها في الصلاة ، والاّ لم يجز ، ( فلا اشكال في جواز الاعتماد على ) نقل التواتر من ( إخبار الشهيد رحمه اللّه بتواتر القراءات الثلاث ) فان القراءات ثلاث باعتبار ، وسبع باعتبار ، وعشر باعتبار كما ذكر ذلك الشاطبي والجزري وغيرهما - وقد سبق ذكره مفصلاً - .

والمراد بالقراءات الثلاث : ( أعني قرائة ابي جعفر ، وأخويه ) أي : في القرائة ، لا في النسب ، وهما : أبو يعقوب واُبي بن خلف .

( لكن ) جواز الاعتماد انّما هو اذا كان ( بالشّرط المتقدّم ، وهو : كون ما اخبر به الشهيد من التواتر ، ملزوما عادة لتحقق القرآنيّة ) ، فاذا فرض : انّ قول مائة عادل - مثلاً - في كل طبقة من الطبقات من زمن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم الى زماننا، يوجب التواتر الواجب العمل به ، وادعى الشهيد : انّ في كل طبقة أخبر مائة عادل : بأنّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم قرء القرآن على الكيفيات الثلاث ، جاز لنا أن نقرأ في الصلاة حسب كلّ من هذه القراءات الثلاث .

مثل : جاز ان تقرأ قوله تعالى : « كُفُوا » (1) بضم الفاء و « كُفْوا » بسكون الفاء،

ص: 148


1- - سورة الاخلاص : الآية 4 .

وكذا لا اشكال في الاعتماد من دون الشّرط ، إن كان الحكمُ منوطا بالقرآن المتواتر في الجملة ، فانّه قد ثبت تواترُ تلك القرائة عند الشهيد باخباره ، وإن كان الحكمُ معلّقا على القرآن المتواتر عند القاريء او مجتهده ، فلا يجدي إخبار الشهيد بتواتر تلك القراءات .

------------------

و «كُفؤا» بالهمزة عوض الواو مع سكون الفاء وضمه .

فان اخبار الشهيد بذلك ، يكون كسماعنا من المائة في كل عصر عصرٍ ، الى عصر النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم فتكون هذه القراءات الثلاث قرآنا واقعا .

( وكذا لا إشكال في الاعتماد ) على نقل التواتر من الشهيد ( من دون ) حاجة الى ( الشّرط ) المذكور ( ان كان الحكم ) أي : وجوب القرائة في الصلاة ( منوطا بالقرآن المتواتر في الجملة ) بأن دلّ الدليل على انه : اذا ادعي التواتر في القرآن جاز للمنقول اليه ان يقرأ القرآن على تلك الكيفية ، وان لم يثبت التواتر عنده . فيقرأ في الصلاة القرائة التي ادعى الشهيد تواترها ، لأنّ جواز القرائة يناط بادعاء التواتر ، لا بثبوت التواتر عند المنقول اليه ( فانّه قد ثبت تواتر تلك القرائة ) الثلاث ( عند الشهيد باخباره ) أي بسبب اخبار الشهيد وقد عرفت : ان ذلك كاف للمنقول اليه وان لم يثبت التواتر عنده .

( و ) أمّا ( ان كان الحكم ) بجواز القرائة في الصلاة ( معلّقا على القرآن ، المتواتر عند القاريء ) نفسه ( أو مجتهده ) الذي يقلده ذلك القاريء وانه لا يكفي التواتر الذي يدّعيه المدّعي كالشهيد - مثلاً - ما لم يثبت التواتر عند القاريء او مجتهده - (فلا يجدي إخبار الشهيد : بتواتر تلك القراءات ) الثلاث ، لعدم حصول التواتر لدى المصلّي ، أو لدى مجتهده بمجرد ادعاء الشهيد ، اذ يحتمل - مثلاً - انّ التواتر لدى الشهيد يثبت ولو باخبار عشرة في كل طبقة بينما التواتر عند المصلي

ص: 149

وإلى أحدِ الأوّلين ينظر حكم المحقّق والشهيد الثانيين بجواز القراءة بتلك القراءات مستندا الى أنّ الشهيد والعلامة ، قدّس سرّهما ، قد ادّعيا تواترها وأنّ هذا لايقصر عن نقل الاجماع ؛

وإلى الثالث

------------------

أو مجتهده ، لا يثبت الا باخبار مائة ، فكيف يمكن الاعتماد على ادعاء الشهيد هذا ، والحال انّ المصلّي أو مجتهده لم يثبت لديهما بأنّ هذا تواتر أو ليس بتواتر حتى يعتمدان عليه ؟ .

( والى أحد الأوّلين ) من : كون نقل التواتر ، كاف في اثبات وجود التواتر واقعا ، كما في نقل الاجماع ، حيث ذكر بعضهم بأن نقل الاجماع كافٍ في اثبات الحكم ، الذي ادعى عليه الاجماع . ومن : كون التواتر في الجملة - ولو عند غير المنقول اليه - كاف في القرائة على طبقه ( ينظر حكم المحقّق والشهيد الثانييّن ) وهما : المحقّق الكركي صاحب جامع المقاصد ، والشهيد الثاني صاحب المسالك ، حيث قالا (بجواز القرائة بتلك القراءات ) الثلاث ( مستندا الى أن الشهيد ) الأول ( والعلاّمة قدّس سرّهما قد ادّعيا تواترها ) أي : تواتر القراءات الثلاث .

( و ) قالا ( ان هذا ) أي : نقل التواتر ( لا يقصر عن نقل الاجماع ) فكما انّ نقل الاجماع ، كاف في ثبوت الحكم الذي ادعي الاجماع عليه كذلك نقل التواتر كاف في ثبوت كون الحكم متواترا لازم الاتباع .

لكن قد تقدَّم : ان المصنّف لا يرى ثبوت الاجماع ولا ثبوت التواتر ، بمجرد ادعاء شخص الاجماع ، أو التواتر .

( والى الثالث ) وهو : انّ التواتر لا يثبت بالنقل ، وانّما يلزم في جواز القرائة بالثلاث كونها متواترة عند القاريء نفسه ، أو عند مجتهده

ص: 150

نظر صاحبُ المدارك ، وشيخه المقدّس الاردبيليّ ، حيث اعترضا على المحقّق والشهيد بأنّ هذا رجوع عن اشتراط التواتر في القراءة .

ولا يخلو نظرهما عن نظر ،

------------------

( نَظَرَ صاحب المدارك ، وشيخه المقدّس الاردبيليّ ، حيث اعترضا على المحقّق والشهيد ) الثانيّين ( بانّ هذا ) أي : الحكم بجواز القرائة بالثلاث ، لمجرد نقل العلاّمة والشهيد الأول التواتر ( رجوع عن اشتراط التواتر في القرائة ) عند القاريء أو مجتهده .

فان من يشترط في جواز القرائة ، كون القرائة متواترة عند المصلّي ، او مجتهد المصلّي لا يتمكن أن يكتفي بادعاء العلاّمة والشهيد الأول التواتر ، لانّ التواتر لا يثبت عند المصلّي او مجتهده ، بمجرد ادعاء العلاّمة والشهيد الأول لذلك .

( ولا يخلو نظرهما ) أي : نظر المقدّس الأردبيليّ ، وصاحب المدارك ( عن نظر ) اذ كل من المحقّق والشهيد الثانيّين ، يرى جواز الاعتماد على نقل التواتر ، فلا يتمكن أن يستشكل عليهما من لا يرى جواز الاعتماد على نقل التواتر كالمقدس الاردبيلي وصاحب المدارك ، فاشكالهما ، ليس واردا على الشهيد ، والمحقّق الثانيّين ، في اعتمادهما على العلامة والشهيد الأول .

هذا ، وقد تقدّم : بانا لا نرى تواتر القراءات ، بل القرائة واحدة ، وهي : ما تعارف عليها المصاحف منذ اكثر من ألف سنة ، والى اليوم حيث لم يختلف كتابة بعضها عن بعض ، ولو بنقطة ، أو فتحَة ، أو شدّة ، فكيف بحرف أو أكثر من ذلك مثل : « ملك ومالك » و « كفوا وكفؤا » ؟ .

ص: 151

فتدبّر ، والحمد للّه ، وصلّى اللّه على محمّد وآله ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين .

------------------

( فتدبّر ، والحمد للّه ، وصلّى اللّه على محمد وآله ، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين ) من الآن الى قيام يوم الدين .

* * *

ص: 152

الشهرة الفتوائية

ومن جملة الظنون التي توهّم حجّيّتُها بالخصوص الشهرة في الفتوى الحاصلة بفتوى جلّ الفقهاء المعروفين ، سواء كان في مقابلتها فتوى غيرهم بخلاف ،

------------------

الشهرة الفتوائية

( ومن جملة الظنون التي توهّم حجّيّتها بالخصوص : الشهرة في الفتوى ) مقابل الشهرة في الرواية ، فانه قد تكون احدى الروايتين ، أشهر من الرواية الاخرى ، فتسمّى : الشهرة الروائية ، وقد تكون احدى الفتويين ، أشهر من الاخرى ، وتسمّى : الشهرة الفتوائية .

هذا هو الغالب ، وان كان لا يلزم أن يكون في قبال الشهرة الروائية رواية أخرى أو ان يكون في قبال الشهرة الفتوائية ، فتوى اُخرى - كما سيأتي بيان ذلك - .

وهي ( الحاصلة بفتوى جُلّ ) أي : اكثر ( الفقهاء المعروفين ) في الأعصار والأمصار .

فاذا كانت هنالك فتوى مشهورة بين العلماء ، سواء في عصر واحد كعصر المحقّق - مثلاً - أو في كل الأعصار كما في عصر شيخ الطائفة الى يومنا هذا ، سمّيت : بالشهرة الفتوائية ، لكن اذا كانت الشهرة في زمان خاص ، سمّيت : بالشهرة الفتوائية في عصر كذا ، واذا كانت مطلقة سمّيت : بالشهرة الفتوائية .

( سواء كان في مقابلتها ) أي : مقابلة الشهرة الفتوائية ( فتوى غيرهم ) أي : غير هؤلاء المشهورين ، كما لو كان هناك قولان : مشهور يقول : بطهارة البئر ، وغير مشهور يقول : بنجاستها ، ونجاستها قول ( بخلاف ) المشهور .

ص: 153

ام لم يعرف الخلافُ والوفاقُ من غيرهم .

ثمّ إنّ المقصودَ هنا ليس التعرّض لحكم الشهرة من حيث الحجّيّة في الجملة ، بل المقصودُ إبطالُ توهّم كونها من الظنون الخاصّة ، وإلاّ فالقولُ بحجّيتها من حيث إفادة المظنّة بناءا على دليل الانسداد غيرُ بعيد .

------------------

( ام لم يعرف الخلاف والوفاق من غيرهم ) بان كان هناك الف عالم ، وعلمنا : بأنّ تسعمائة منهم أفتوا بشيء ، ولم نعلم انّ المائة الاخرين ، أفتوا بالوفاق أم بالخلاف ، فانّ هذا أيضا يسمّى : بالشهرة الفتوائية .

كما انّ الرواية كذلك ، فاذا كانت هناك روايتان : احدى الروايتين مشهورة ، لوجودها في كثير من كتب الرواية ، والرواية الثانية لم توجد الاّ في بعض الكتب ، كانت الرواية الاولى مشهورة بالشهرة الروائية .

وقد لا يكون في قبال الرواية المشهورة رواية اُخرى وانّما نقول هذه الرواية مشهورة ، باعتبار انها موجودة في كتب كثيرة ، لا باعتبار ان في مقابلها رواية غير مشهورة .

( ثمّ انّ المقصود هنا : ليس التعرّض لحكم الشهرة من حيث الحجّيّة في الجملة ) أي : من جهة كون الشهرة قد تكون جزءا من الدليل ، أو تكون الشهرة حجّة من باب انسداد باب العلم ( بل المقصود ابطال توهّم كونها ) أي : الشهرة ( من الظنون الخاصّة ) وانّها حجّة مطلقا كحجّية الخبر ، فان هذا هو الذي ذكره بعض ونحن نردّ عليه .

( والاّ ) بان لم يكن المقصود ابطال ذلك التوهّم ( فالقول بحجّيّتها ) أي بحجّية الشهرة ، من باب انها جزء السّبب ، أو ( من حيث إفادة المظنّة - بناءا على دليل الانسداد - غير بعيد ) فانّا نقول : بأنّ الشهرة قد تكون جزء السّبب في افادة

ص: 154

ثمّ إنّ منشأ توهّم كونها من الظنون الخاصّة أمران أحدُهما : ما يظهرُ من بعض ، من أنّ أدلّة حجّية خبر الواحد يدلّ على حجّيّتها بمفهوم الموافقة ، لأنّه ربما يحصل منها الظنّ الأقوى من الحاصل من خبر العادل .

وهذا خيالٌ ضعيفٌ تخيّله بعضٌ في بعض رسائله ، ووقع نظيره من الشهيد الثاني في المسالك ، حيث وجّه حجّية الشياع الظنّي

------------------

الحكم ، كما اذا كانت هناك رواية ضعيفة لكن كان قول المشهور على طبق تلك الرواية ، فانهما معا يفيدان الحكم ، كما نقول أيضا : بأنّه اذا وصلت النوبة الى دليل الانسداد ، كانت الشهرة أيضا حجّة من باب الظنّ المطلّق ، وانّما الذي ننكره الآن في قبال صاحب الرياض ، هو القول : بأن الشهرة من الأدلة الخاصة أيضا .

( ثمّ انّ منشأ توهّم كونها ) أي : الشهرة ( من الظنون الخاصّة ) وانها حجّة مطلقا كحجّية الخبر ( أمران ) : ( أحدهما : ما يظهر من بعض ) وهو : صاحب الرياض - كما نُسب اليه - ( من انّ ادلّة حجّية خبر الواحد ، يدلّ على حجّيتها ) أي : الشهرة ( بمفهوم الموافقة ) أي : بالطريق الأولى ، فانه اذا كان خبر الواحد حجّة كانت الشهرة حجّة بطريق أولى ، لكن الخبر الواحد حجّة فالشهرة حجّة أيضا .

وذلك ( لانّه ربما يحصل منها ) أي : من الشهرة ( الظنّ الاقوى من ) الظنّ (الحاصل من خبر العادل ) فاذا كان خبر العادل حجّة بالأدلّة الأربعة ، وانّه مفيد للظنّ ، كانت الشهرة أولى بالحجّية ، لأنّ الظنّ في الشهرة أقوى من الظنّ في الخبر الواحد .

( و ) لكنّ ( هذا خيال ضعيف ، تخيّله بعض ) وهو : صاحب الرياض على ما نُسب اليه ( في بعض رسائله ) المصنّفة في الشهرة وحجّيتها .

كما ( و ) قد ( وقع نظيره ) أي نظير هذا التخيّل ( من الشهيد الثاني في المسالك ، حيث وجّه حجّية الشياع الظنّي ) والشياع عبارة عن : قول جماعة

ص: 155

بكون الظنّ الحاصل منه أقوى من الحاصل من شهادة العدلين .

ووجهُ الضعف : أنّ الأولويّة الظنيّة اوهنُ بمراتب من الشهرة ، فكيف يتمسّك بها

------------------

كثيرة ، قد يوجب قولهم الظنّ ، وقد يوجب قولهم العلم ، فاذا كان الشياع مفيدا للعلم ، فبها ، والاّ بان كان الشياع مفيدا للظنّ فالمشهور لم يقولوا بحجيّة هذا الشياع .

والفرق بين مسألة الشياع والشّهرة : انّ الشياع يطلق في الموضوعات ، والشهرة تطلق في الأحكام .

وانّما قال الشهيد الثاني بحجية الشياع الظني ، لاستدلاله : ( بكون الظنّ الحاصل منه ) أي من الشياع ( اقوى من الحاصل من شهادة العدلين ) فاذا كان شهادتهما حجّة في الموضوعات ، فالشياع أولى بالحجية في الموضوعات منها .

لكن لا يخفى : انه لا يمكن القول : بحجّية الشياع الظنّي ، لأنّه لا دليل على انّ شهادة العدلين حجّة من باب الظنّ ، بل حجّية شهادة العدلين من باب بناء العقلاء ، وتصديق الشارع له ( ووجه الضعف ) فيما ذكره صاحب الرياض أمران :

الاول : ما أشار اليه بقوله : ( انّ الأولويّة الظنيّة أوهن ) أي : أضعف ( بمراتب من الشهرة ) اذ الأولوية ليست مظنونة الحجّية ، ولا محتملة الحجّية ولا مشكوكة الحجّية ، بل يقطع بعدم حجّيتها لِما وَرَدَ من ان : « دِين اللّه ِ لا يُصابُ بِالعُقُولِ » (1) بخلاف الشهرة ، حيث دلّ بعض الأدلّة - كما سيأتي - على حجّيتها ، وعليه ، فالأولوية أنزل بثلاث مراحل من الشهرة ( فكيف يتمسّك بها ) أي : بالأولوية

ص: 156


1- - كمال الدين : ص324 ح9 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص262 ب6 ح21289 ، بحار الانوار : ج2 ص303 ب34 ح41 .

في حجّيّتها ، مع أنّ الأولويّة ممنوعة رأسا للظنّ بل العلم بأنّ المناط والعلّة في حجّيّة الأصل ليس مجرّد إفادة الظنّ ، وأضعفُ من ذلك تسميةُ هذه الأولوية في كلام ذلك البعض مفهومَ الموافقة ،

------------------

( في حجّيتها ؟ ) أي في حجّية الشهرة كما عن الرياض : بأنّ الخبر الواحد حيث كان حجة، فالشهرة حجة بطريق اولى ، فبنى حجّية الشهرة على حجّية الخبر الواحد .

الثاني : ما أشار اليه بقوله : ( مع انّ الأولويّة ممنوعة ) في المقام ، فلا تلازم بين حجّية الخبر الواحد وحجية الشهرة ( رأسا ) وذلك ( للظنّ ، بل العلم بأنّ المناط والعلّة في حجّية الأصل ) أي : حجّية خبر العادل ( ليس مجرّد إفادة الظنّ ) حتى يقال : بأن خبر العادل حيث يفيد الظنّ فهو حجّة والشهرة تفيد الظنّ الأقوى ، فتكون حجة بطريق أولى .

بل ( واضعف من ذلك ) أي : من الاشكال في أولوية صاحب الرياض ( تسمية هذه الأولوية في كلام ذلك البعض : مفهوم الموافقة ) مع انه ليس من مفهوم الموافقة في شيء : حتى وان سلّمنا بالأولوية لأنّه فرق بين القياس الأولوي - الذي منه ما نحن فيه - وبين مفهوم الموافقة .

فالأوّل : لا دلالة للّفظ عليه لا مفهوما ولا منطوقا ، بل العرف يفهم شيئا خارجا عن اللّفظ بالأوْلى .

مثلاً : اذا شهد الأطفال على القتل ، يُقبل منهم ، لِما وَرَدَ في النصّ : من قبول شهادتهم في القتل ، فان شهدوا على الجرح يقبل منهم ايضا ، بطريق اولى ، وليس هذا بمنطوق النصّ ولا بمفهومه ، وانّما هذا بالقياس الأولوي ، عند من يقول : بقبول شهادتهم في الجرح .

ص: 157

مع أنّه ما كان استفادةُ حكم الفرع من الدليل اللفظيّ الدالّ على حكم الأصل ، مثلَ قوله تعالى : « ولا تَقُل لَهُما اُفٍّ » .

الثاني : دلالةُ مرفوعة زرارة ومقبولة ابن حنظلة على ذلك ؛ ففي الاولى : « قال زرارة : قُلتُ جُعِلْتُ فِداك ، يأتي عنكم الخَبَرانِ

------------------

والثاني : اللّفظ دال عليه ، لكن بالمفهوم لا بالمنطوق ، مثل قوله تعالى : « وَلا تَقُل لَهُما أُفٍ » (1) حيث يفهم منه بالأولى عدم ضربَهما ، لِما يُفهم منه بأن علّة التحريم هو : الايذاء ، وايذاء الضرب حيث كان اكثر من ايذاء التأفّف ، فهم منه : ان الضرب محرّم بالأولوية .

والحاصل : ان دلّ اللّفظ عليه فهو مفهوم ، وان لم يدلّ اللّفظ عليه وانّما دلّ عليه العقل ، فهو قياس أولوي ، وعليه فان تمّ كلام صاحب الرياض ، فهو من القياس الأولوي ، لا من مفهوم الموافقة .

والى هذا اشار المصنّف بقوله ( مع انّه ) أي : ان مفهوم الموافقة هو : ( ما كان استفادة حكم الفرع ، من الدليل اللّفظي الدّال على حكم الأصل ، مثل قوله تعالى : « وَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ » (2) ) لا ما اذا كان من دليل العقل ، فانه ان كان بدلالة العقل لا من دلالة اللّفظ ، فلا يسمّى : بمفهوم الموافقة .

الأمر ( الثاني ) لتوهم كون الشهرة من الظّنون الخاصة : ( دلالة مرفوعة زُرارَة ومقبولَة ابن حَنظَلَة على ذلك ) أي : على حجّية الشهرة الفتوائية ، وانّما سمّيت المرفوعة : مرفوعة ، لأنّ بعض السند قد سَقَط منها ، وسمّيت المقبولة : مقبولة ، لأنّ الأصحاب تلقّوها بالقبول .

( ففي الاولى : « قال زُرارة : قُلتُ : جُعِلْتُ فِداكَ يأتي عَنْكُم الخَبَرانِ

ص: 158


1- - سورة الاسراء : الآية 23 .
2- - سورة الاسراء : الآية 23 .

والحديثانِ المتعارضانِ ، فبأيّهما نعمل ؟ قال عليه السلام : خُذ بما اشتَهَرَ بَينَ أصحابِكَ وَدَع الشاذّ النادر .

قلت : ياسَيّدي إنّهما معا مشهورانِ مَأثورانِ عَنكُم . قال عليه السلام خُذ بما يَقولهُ أعدَلُهُما » ، الخبر .

------------------

والحديثان) والمراد بالخبر هنا : ما ينقُله المعصوم مستندا الى معصوم آخر بأن يقول الامام الصادق عليه السلام - مثلاً - : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : كذا ، أو قال أبي : كذا ، والمراد بالحديث : ما اذا قال الامام الصادق عليه السلام - مثلاً - « لا شَكَّ لكثير الشك » (1) وسمّي : حديثا ، لانه حادث وليس اخبارا عن أحد ، هذا اذا ذكر الخبر والحديث معا، أمّا اذا ذكر أحدهما دون الآخر فانه يشمل المعنيين .

وعليه : فاذا وَرَدَ ( المتعارضان ، فبأيّهما نعمل ؟ قال عليه السلام : خُذْ بما اشتَهَر بَينَ أصحابِك ، وَدعْ الشاذّ النادِر ) والشاذّ : هو يكون على خلاف القاعدة ، بينما النادر : هو ما يكون على وفق القاعدة ، لكنّه قليل ، فالانسان الجميل غاية الجمال كيوسُف عليه السلام - مثلاً - يسمّى : نادرا ، والانسان المتزايد ، في سوء خلقه ، الخارج عن المتعارف يسمى : شاذا ، ولَعلّ المراد بقوله عليه السلام : « وَدَع الشاذّ النّادِر » انه اذا كان على خلاف المشهور ، فدعه سواء كان شاذا أو نادرا .

( قلت : يا سيّدي ، انّهُما مَعا مَشهورانِ مَأثورانِ عَنكُم ؟ قال عليه السلام : خُذ بِما يقولُهُ أعدَلُهُما ) الى آخر ( الخبر ) (2) .

ص: 159


1- - من القواعد الفقهية المصطادة من الروايات ويدل عليها : الكافي فروع : ج3 ص358 و ص359 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص153 و ص188 و ص343 و ص344 ومن لا يحضره الفقيه : ج1 ص224 .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

بناءاً على أنّ المرادَ بالموصول مطلقُ المشهور ، روايةً كان او فتوىً ، او أنّ إناطةَ الحكم بالاشتهار يدل على اعتبار الشهرة في نفسه وإن لم يكن في الرواية ، وفي المقبولة ،

------------------

واما وجه الاستدلال بهذه المرفوعة على حجّية الشهرة ، ولو في الفتوى ، فمن وجهين : الأول : « ما » الموصولة في قوله عليه السلام « خُذ بما اشتهر » .

( بناءا على انّ المراد بالموصول : مطلق المشهور ) فانّ مورد السؤال وان كان هو الرواية ، الاّ انّ قوله عليه السلام : « خُذْ بما اشتهر » معناه : خُذ كلّ شيء مشهور ، فيكون من قبيل : لا تأكل الرّمان لأنّه حامض ، حيث انّ المورد وان كان الرمان ، الاّ انّ المفهوم من الكلام : ان كل حامض اجتنب أكله .

وعليه : فالمشهور ( رواية كان أو فتوى ) يُؤخَذ به ، ويُترَك ما يقابله .

الثاني ما أشار اليه بقوله : ( أو انّ إناطة الحكم بالاشتهار ) أي : انّ الامام عليه السلام ، أناط حكم الأخذ بما يكون مشهورا ( يدل على اعتبار الشهرة في نفسه ) أي : انّ الاشتهار بنفسه يوجب الأخذ ( وان لم يكن في الرواية ) بأن كان في الفتوى .

وعليه : فانا لو سلّمنا بان المراد من « ما » الموصولة ليس هو الأعم من الرواية والفتوى ، بل خصوص الرواية فقط ، الاّ انه عليه السلام ، لمّا جعل مناط وجوب أخذ الرواية ، هو: الشهرة ، علم منه : انّ الشهرة بما هي هي معتبرة وان كانت في الفتوى.

والحاصل ان الفرق بين الوجهين هو : أنّ المفهوم من « ما » الموصولة هو : الأعم من الرواية والفتوى ، والمفهوم من اناطة الحكم بالاشتهار هو انّ المناط هي الشهرة سواء كانت في الرواية أو في الفتوى حتى وان سلّمنا بانّ « ما » الموصولة لخصوص الرواية .

( وفي المقبولة ) الواردة في تعارض القضاة ، بأن حَكَمَ هذا القاضي بشي ،

ص: 160

بعد فرض السائل تساوي الروايتين في العدالة، قال عليه السلام :

« يُنظَرُ إلى ما كانَ من روايتهم عَنّا في ذلك الذي حكما به المُجمَعِ عليه بَينَ أصحابك فيؤخذُ ويُترك الشاذُّ الذي ليس بمشهور عند أصحابكَ ، فانّ المُجمَعَ عليه لا رَيبَ فيه ، وإنّما الاُمورُ ثلاثةٌ ، أمرٌ بيّنٌ رُشدُهُ فيتّبعُ ، وأمرٌ بيّنٌ غيُّه فيُجتَنَبُ ،

------------------

وَحَكم القاضي الثاني بشيء آخر في نفس الواقعة وذلك ( بعد فرض السائل تساوي الروايتين ) حيث انّ الامام عليه السلام أمر بعد تساوي القضاة في العدالة الى مَصدَر حُكمُ القضاة وهي : الرواية التي اخذها القاضي الاول ، والرواية التي أخذها القاضي الثاني ، فاذا تساوت الرّوايتان كما تساوى القاضيان ( في العدالة ؟ قال عليه السلام : ينظر الى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به ، المجمّع عليه بين اصحابك ) الشيعة ( فيؤخذ ) بالمجمع عليه ( ويُترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فان المجمع عليه لا ريب فيه ) والمراد بالمجمع عليه هو : المشهور ، فيدل على انّ المشهور مقدَّم على غير المشهور ، وهو كما يكون في الرواية يكون في الفتوى أيضا ، لِوحدَة المِلاك .

ثم قال عليه السلام : ( وانّما الامور ثلاثة ) .

الاول : ( أمر بيّن رُشدُه فيتبع ) كالخبر الذي لا يعارضه شيء ، فهو أمر بيّن رشده ، ويجب الأخذ به في الفتوى والعمل .

الثاني : ( وأمر بيّن غيّه ) والغيّ في قبال الرُشد ، قال سبحانه وتعالى : « قَد تَبَيّنَ الرُّشدُ مِنَ الغَيّ » (1) وذلك كالخبر المخالف للاجماع ، فانه بيّن غيّه ، فيجب تركه (فيجتنب ) عملاً وفتوى .

ص: 161


1- - سورة البقرة : الآية 256 .

وأمرٌ مشكلٌ يُردُّ حُكمُه إلى اللّه ورَسولِهِ . قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : حلالٌ بيّنٌ وحرامٌ بيّنٌ وشُبهاتٌ بَين ذلك ، فمن ترك الشّبهات نجى من المُحرّمات ، ومن أخذ الشّبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم .

------------------

الثالث : ( وأمر مشكل ) كالخبر الشاذّ أو النادر ، المخالف للمشهور ، فانه ( يردّ حكمه الى اللّه ورسوله ) ، ومعنى الردّ الى اللّه : الفحص في القرآن الحكيم ، ليعلم هل ان هذا الخبر يطابقه أو لا يطابقه ؟ ، ومعنى الردّ الى الرسول : الفحص في سنّة الرسول والائمة من أهل البيت ، حتى يعرف هل ان هذا الخبر يوافق أقوالهم عليهم السلام ، أو لا يوافقهم ؟ .

مثلاً : اذا دلّ خبر بيّن الرشد على وجوب الجمعة ، وخبر بيّن الغيّ على حرمة الجمعة ، وخبر نادر على التخيير بين الظهر والجمعة ، فان رأينا في القرآن أو سنة الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم : جواز ترك الجمعة الى الظهر ، قلنا : بالوجوب التخييري بين الظهر والجمعة ، وان رأينا عدم جواز ترك الجمعة الى الظهر ، قلنا : بتعين الجمعة وعدم التخيير بينها وبين الظهر .

ثم ان الامام عليه السلام ، استدل بكلام الرسول في تقسيم الامور الى ثلاثة أقسام وقال : ( قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : حَلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ) والمراد بالحلال البيّن ثلاثة من الأحكام : الاستحباب ، والكراهة ، والاباحة ، كما ان المراد بالحرام البيّن حكمان : لأنّ فعل الحرام ، حرام ، وترك الواجب أيضا حرام .

( فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات ، ومن أخذ الشبهات وقع في المحرّمات ) الواقعية احيانا ( وهلك من حيث لا يعلم ) أي : من طريق عدم العلم ، والغفلة عن الواقع .

ص: 162

قلت : فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقاتُ عنكم » ، إلى آخر الرواية .

بناءا على أنّ المراد بالمجمع عليه في الموضعين هو المشهورُ بقرينة إطلاق المشهور عليه في قوله : « ويترك الشاذّ الذي ليس

------------------

مثلاً اذا كان هناك ماء طاهر نعلم بطهارته ، وماء نجس نعلم بِنَجاسته . فالماء الطاهر نشربه ، والماء النجس نتركه .

واما اذا كان هناك اناءان مشتبهان ، لا نعلم ان أيّهما طاهر وأيّهما نجس ، فاذا شرب الانسان احد ذينك الانائين المشتبهين ، وقع احيانا في النجس الواقعي ، وعوقبَ في الاخرة بسبب شربه هذا الماء النجس ، وان لم يعلم انّه بعينه نجس ، وذلك لانّ العقل والشارع أمراه باجتناب طرفي الشبهة .

( قلت : فان كان الخبران عنكم ) كلاهما ( مَشهورَينِ ، قَد رَواهُما الثقات عَنكُم ، الى آخر الرّواية ) (1) والمراد بالخبرين المشهورين : ان يكون هذا الخبر مذكورا في السِنَة الأصحاب ، وذلك الخبر أيضا كذلك ، مقابل أن يكون أحد الخبرين مذكورا في السِنَة الأصحاب ، لكن الخبر الثاني ، لم يذكره الاّ الشاذّ أو النّادر منهم ، وانّما نستدلّ بهذه المقبولة على حجّية الشهرة وان كانت في الفتوى (بناءا على انّ المراد بالمجمع عليه ، في الموضعين ) في هذه الرواية ( : هو المشهور ) لا الاجماع المصطلح ، الذي هو اتفاق الكلّ .

وانّما نقول : بأنّ المراد بالمجمع عليه : المشهور ( بقرينة اطلاق المشهور ، عليه ) أي : على المجمع عليه ( في قوله ) عليه السلام ( ويترك الشاذّ الذي ليس

ص: 163


1- - الكافي اصول : ج1 ص67 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

بمشهور » ؛ فيكون في التعليل بقوله : « فانّ المجمع عليه » ، الخ ، دلالةٌ على أنّ المشهور مطلقا ممّا يجبُ العملُ به وإن كان موردُ التعليل الشهرةَ في الرّواية .

وممّا يؤيّد إرادة الشهرة من الاجماع أنّ المراد لو كان الاجماع الحقيقي لم يكن ريبٌ في بطلان خلافه ، مع انّ الامام عليه السلام جعل مقابله ممّا فيه الرّيب .

------------------

بمشهور ) ، فكأنه عليه السلام قال ينظر الى المشهور بين أصحابه فيأخذ به ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور ، فان المشهور لا ريب فيه .

ومن المعلوم : انه اذا كان الحكم معلّقا على الشهرة ، دلّ على انّ الاعتبار بالشهرة بما هي شهرة فتشمل الرواية ، وتشمل الفتوى ، فان مورد هذه المقبولة ، وان كانت الشهرة الروائية ، الاّ ان تعليل الحكم بالشهرة ، يدلّ على ان الشهرة : حجّة مطلقا ، مثل ما تقدّم من مثال : لا تأكل الرمّان لأنّه حامض .

( فيكون في التعليل بقوله ) عليه السلام : ( « فان المجمع عليه » الخ ، دلالة على : ان المشهور مطلقا ) سواء كان في الرواية او كان في الفتوى ( مما يجب العمل به ) لانه مشهور ( وان كان مورد التعليل ) في المقبولة ( الشهرة في الرواية ) .

( وممّا يؤيّد ارادة : الشهرة من الاجماع ) المتكرّر في قوله عليه السلامفي المقبولة مرّتين : مرّة « المجمع عليه بين أصحابك » : واخرى : « فان المجمع عليه لا ريب فيه » ( انّ المراد لو كان ) هو ( الاجماع الحقيقي ) الاصطلاحي ، بان كان الحكم متفقا عليه بين الرواة ، ولم يكن هناك قول مخالف فانّه ( لم يكن ريب في بطلان خلافه ) أي خلاف المجمع عليه ان كان اجماعا حقيقيا ( مع انّ الامام عليه السلام ، جعل مقابله ) أي : مقابل المجمع عليه ( : مما فيه الرّيب ) والشكّ لا ممّا يثبت بطلانه .

ص: 164

ولكن في الاستدلال بالروايتين ما لايخفى من الوهن :

أمّا الاُولى ، فيرد عليها - مضافا إلى ضعفها حتّى أنّه ردّها من ليس دأبه الخدشةُ في سند الرّوايات ، كالمحدّث البحرانيّ - أنّ المراد بالموصول هو خصوص الرّواية المشهورة من الرّوايتين دون مطلق الحكم المشهور .

------------------

وذلك ان الامام عليه السلام ، قابل بين ما لاريب فيه ، وبين ما فيه الرّيب ، لا انه قابل بين ما لا ريب في صحّته ، وبين ما لا ريب في بطلانه .

ومن الواضح : انّ الشاذّ انّما يكون ممّا فيه ريب ، اذ وقع في قِبال المشهور ، لانّه لو وقع في قِبال المجمع عليه الاصطلاحي لكان ممّا لا ريب في بطلانه ، لا انه كان مما فيه ريب .

وبذلك يتعيّن : حمل « المجمع عليه » في كلام الامام عليه السلام على المشهور .

( ولكن في الاستدلال بالروايتين ) المرفوعة والمقبولة على حجّية الشهرة الفتوائية ( ما لا يخفى من الوهن ) والضعف .

( أمّا الاولى : ) وهي المرفوعة ( فيرد عليها ) أمران : ضعف السند ، وضعف الدلالة .

الأول : ما أشار اليه المصنّف بقوله : ( مضافا الى ضعفها ) سندا ، لانها مرفوعة وليست مسندة ( حتّى انّه ) قد ( ردّها ، من ليس دأبه الخدشة في سند الرّوايات كالمحدّث البحرانيّ ) حيث انه يعمل بكثير من الروايات التي لا يعمل بها غيره من المحدّثين .

الثاني : ما أشار اليه بقوله : ( انّ المراد بالموصول ) « ما » في قوله عليه السلام : « خذ بما اشتهر » ( هو : خصوص الرّواية المشهورة من الرّوايتين ، دون مطلق الحكم المشهور ) رواية كانت ، أو فتوى ، وذلك للتبادر ، ولانه ليس علّة حتى تعمَّم في

ص: 165

الا ترى أنك لو سُئلتَ عن أنّ أيَّ المسجدين احبُّ اليك ، قلتَ :

ما كان الاجتماعُ فيه أكثر ، لم يحسن للمخاطب أن يُنسِبَ إليك محبوبيّة كلّ مكان يكون الاجتماع فيه أكثر ، بيتا كان او خانا او سوقا ، وكذا لو أجبتَ عن سؤال المرجّح لأحد الرمّانين فقلت : ما كان أكبر .

والحاصلُ : أنّ دعوى العموم في المقام لغير الرّواية ممّا لا يظنّ بادنى التفاتٍ ،

------------------

غير المورد .

( الا ترى : انك لو سُئلت عن انّ أي المسجدين أحبّ اليك ؟ ) فأجبت و ( قُلتَ : ما كان الاجتماع فيه أكثر ) كان الظاهر المتبادر منه : انّ المحبوب عندك ما كان المسجد أكثر اجتماعا فقط ، لا الأماكن الاُخر .

ولهذا ( لم يحسن للمخاطَب أن ) يحمل الموصول « ما » في قولك : « ما كان الاجتماع » على العموم ثم ( ينسِب اليك محبوبيّة كلّ مكان يكون الاجتماع فيه أكثر) سواء ( بيتا كان أو ) مسجدا ، ( خانا ) كان ( أو سوقا ) أو ما أشبه ذلك .

فاذا نَسَب المخاطب اليك : انّك تحب الأكثر اجتماعا ، في كل هذه الامور قيل له : كلامك ليس دالاً على هذا الاطلاق .

( وكذا لو أجبت عن سؤال المرجّح لأحد الرمّانين ، فقلت : ما كان اكبر ) فانّ المفهوم عرفا من كلامك هذا ، ترجيح الرمّان الاكبر ، لا كلّ شيء أكبر ، والى غير ذلك من الأمثلة .

( والحاصل : انّ دعوى العموم في المقام ) في أمثال ما نحن فيه ، ممّا كان مسبوقا بطلب التعيين ، من دون أن يكون هناك شواهد داخلية ، أو خارجية ، لارادة العموم (لغير الرواية مما لا يظن بأدنى التفات ) .

ص: 166

مع أنّ الشهرة الفتوائية ممّا لا يقبل أن يكون في طرفي المسألة .

فقوله : « يا سيّدي ! إنّهما مشهوران مأثوران » ، أوضحُ شاهد على أنّ المرادَ الشّهرة في الرّواية الحاصلة بان يكون الرّواية ممّا اتفق الكلّ على روايته او تدوينه ،

------------------

وان شئت قلّت : ربّما يعلم انّ الوصف عام يشمل غير المورد ، وربّما يعلم انه خاص لا يشمل الاّ المورد ، وربما يشك في انّه من ايّهما ؟ فاذا شك ، لا يجوز التمسك بالعموم ، للشك فيه ، اذ يلزم العلم بالعموم حتى يحكم على طبقه .

وفي المقام : الشهرة من هذا القبيل ، حيث لا نعلم هل ان المناط : الشهرة بما هي ، أو ان المناط : شهرة الرواية ؟ فحيث كان عموم الشهرة مشكوكا فيه ، لم يجز التمسك بعمومها ، ليعمل به حتى في الشهرة الفتوائية .

ثم انّ المصنّف ، أيّد كون الشهرة هنا ، لا تشمل الشهرة الفتوائية بقوله : ( مع انّ الشهرة الفتوائية ، ممّا لا يقبل أن يكون في طرفي المسألة ) بينما ظاهر الرواية كون الشهرة في طرفي المسألة ( فقوله : يا سيّدي انّهما ) معا ( مشهوران مأثوران ، أوضح شاهد على أن المراد : الشهرة في الرواية الحاصلة ) .

وأمّا انّ الشهرة الفتوائية ، لا يمكن أن تكون في طرفي المسألة ، فلوضوح : انّ الشهرة في قبالها الشاذّ ، فلا يمكن أن تكون هنا شهرة ، وهناك شهرة في طرفي المسألة ، فالرواية خاصة بالشهرة الروائية ، وذلك ( بأن يكون ) الخبر و ( الرّواية ممّا اتفق الكلّ ) أو الجلّ ( على روايته أو تدوينه ) في كتب الأحاديث المسمّاة بالاصول .

فانه من الممكن أن تكون روايتان متقابلتان من هذا القبيل ، كما اذا كانت هناك رواية مشهورة في الكتب وعلى الألسِنَة تقول : انّ صلاة الجمعة واجبة تعيينية ،

ص: 167

وهذا ممّا يمكن اتّصافُ الرّوايتين المتعارضتين به .

ومن هنا يُعلَمُ الجوابُ عن التمسّك بالمقبولة

------------------

ورواية اُخرى مشهورة في الكتب وعلى الألسِنَة تقول : انّ صلاة الجمعة واجبة تخييرية ( وهذا ) الوصف بأن تكون الشهرة في كلا الجانبين ( ممّا يمكن اتصاف الروايتين المتعارضتين به ) فقط ، دون الفتوى ، فانه لا يمكن اشتهارها في الطرفين .

لكن يمكن أن يقال : ان هذا في الفتوى أيضا ممكن ، فانّه اذا اخذنا الشهرة بمعنى : الظهور - كما هو معناه اللغوي - جاز أن يكون لكل طرف ؟ علماء كثيرون يفتون به .

( ومن هنا ) اي ممّا ذكرناه في المرفوعة بانّ المراد بالموصول « ما » في قوله عليه السلام : « خذ بما اشتهر » خصوص الرواية المشهورة ، لا الاعم من الرواية والفتوى (يعلم الجواب عن التمسّك بالمقبولة ) فانّ المراد بقوله عليه السلام : « فانّ المجمع عليه لا ريب فيه » هو الرواية ، لا الأعم من الرواية والفتوى .

ثم انّ من قال : بأنّ الشهرة تشمل الشهرة الفتوائية ، حمل قوله عليه السلام : « فانّ المجمع عليه » على الشهرة ، مستَدلاً : بأنّه لا يمكن أن يكون هناك اجماع ومشهور معا ، فانّ الاجماع معناه : الكل والشهرة معناها : الجُلّ ، وحيث اجتمع الشهرة والاجماع في كلام الامام عليه السلام ، فلا بد أمّا أن نحمل الاجماع على الشهرة ، بأن يراد بالمجمع عليه : المشهور ، أو نحمل الشهرة على الاجماع ، بأن يراد من الشهرة : المجمع عليه .

لكن بقرينة قوله عليه السلام : « الشاذّ النادر » في مقابله ، نحمل الاجماع على الشهرة ، ونقول : انّ المراد بالمجمع عليه : الشهرة ، فالرواية دليل على حجّية الشهرة

ص: 168

وانّه لاتنافيَ بين إطلاق المجمع عليه على المشهور وبالعكس حتّى نصرف أحدَهما عن ظاهره بقرينة الآخر ، فانّ إطلاق المشهور في مقابل الاجماع إنّما هو إطلاق حادث مختصّ بالاصوليّين ، والاّ فالمشهور هو الواضح المعروف ، ومنه : شَهَر فلانٌ سَيفَهُ ، وسَيفٌ شاهرٌ .

------------------

لا على حجّية الاجماع ، والشهرة كما تكون في الرواية تكون في الفتوى ايضا فالرواية تقول : انّ المشهور حجّة ، سواء كان في الرواية أو كان في الفتوى .

هذا ( و ) لكن المصنّف حيث لم يرتض هذا الاستدلال أشار الى جوابه بقوله : (انّه لا تنافي بين اطلاق المجمع عليه : على المشهور ، وبالعكس ) أي : اطلاق المشهور على المجمع عليه ( حتى نصرف أحدهما عن ظاهره بقرينة الآخر ) اذ التنافي بين المشهور والاجماع الاصطلاحي فانه يطلق الاجماع في المعنى الاصطلاحي : على الكل ، والشهرة : على الجُلّ ، أمّا في المعنى اللّغوي ، فالمشهور هو : المجمع عليه ، والمجمع عليه هو : المشهور .

( فانّ اطلاق : المشهور ، في مقابل الاجماع ) كما في ألسِنَة الفقهاء ، حيثُ يطلقون تارةً : الاجماع ويريدون به الكُلّ ، واخرى المشهور ويريدون به الجُلّ ( انّما هو إطلاق حادث مختصّ بالاصوليين ) والفقهاء فقط .

( والاّ ) بان لم نأخذ بالاصطلاح ( فالمشهور ) في معناه اللّغوي ( هو : الواضح المعروف ) والواضح المعروف أحيانا يطلق : على الكُلّ ، وأحيانا يطلق : على الجُلّ ، لأنّ الجُلّ والكُلّ كلاهما معروفان .

( ومنه ) أي : من المشهور بالمعنى اللّغوي ما يؤيد كون المشهور في اللّغة بمعنى : الواضح ، الشامل للكل أيضا ، لا في قِبال الكل ( شَهَرَ فُلان سَيفَه وسَيفٌ شاهر ) أي : أظهر سيفه وسيفه ظاهر ، فلا وجه لحمل المجمع عليه على المشهور

ص: 169

فالمراد أنّه يؤخذ بالرّواية التي يعرفها جميعُ أصحابك ولا ينكرها أحدٌ منهم ويُترَكُ ما لايعرفه الاّ الشاذّ ولا يعرفها الباقي . فالشاذّ مشاركٌ للمشهور في معرفة الرواية المشهورة ، والمشهور لا يشاركُ الشاذّ في معرفة الرواية الشاذّة ،

------------------

الاصطلاحي ، بل المشهور والمجمع عليه متحدان في المعنى لغةً ، ولذا استعمل الامام عليه السلام تارة هذه اللّفظة واخرى تلك اللّفظة .

وعليه : ( فالمراد ) بالمقبولة : ( انّه يؤخذ بالرواية ، التي يعرفها جميع أصحابك ولا ينكرها أحد منهم ) فلا يراد بالشهرة في الرواية : الشهرة الاصطلاحية ، وهو : الجُلّ والأكثر ، حتى يقال : انّ الأكثرية كما توجد في الرواية توجد في الفتوى أيضا .

والحاصل : انّ المستدلّ بالمقبولة ، أخذ الشهرة بمعنى الجُلّ ، وحمل المجمع عليه ، على الشهرة ، والمصنّف عكس ذلك ، فأخذ المجمع عليه بمعنى : الكُل ، وحمل الشهرة عليه ، ليكون المراد من : « المجمع عليه بين اصحابك ، فيؤخذ » في المقبولة انه يلزم : الأخذ بالرواية التي يعلمها جميع الأصحاب ( ويترك ما لايعرفه الاّ الشاذّ ) من الأصحاب ( ولا يعرفها الباقي ) منهم .

وعليه : ( فالشاذّ مشارك للمشهور في معرفة الرواية المشهورة ) فاذا كانت هناك روايتان : احداهما يعرفها الكُلّ ، والأخرى لا يعرفها الاّ جماعة خاصة ، فهؤلاء الجماعة الخاصة يعرفون الرواية التي يعرفها الكُل ( و ) لكن ( المشهور لا يشارك الشاذّ ، في معرفة الرواية الشاذّة ) .

وذلك لأنّ المفروض : انّ الرواية الشاذّة خاصة بجماعة، فاذا كان هنالك - مثلاً - الف عالم ، وكل الألف يعرفون رواية وجوب الجمعة، وعشرة منهم يعرفون رواية

ص: 170

ولهذا كان الرّواية المشهورة من قبيل بيّن الرشد ، والشاذّ من قبيل المشكل الذي يُردّ علمه إلى أهله ، والاّ ، فلا معنى للاستشهاد بحديث التثليث .

------------------

التخيير بين الجمعة والظهر ، فانّ هؤلاء العشرة ، يشاركون بقية العلماء في معرفة رواية وجوب الجمعة لكن بقية العلماء لا يشاركون هؤلاء العشرة في معرفة رواية التخيير .

( ولهذا ) ، أي : لكون الرواية المشهورة يعرفها الكُلّ ، والرواية الشاذّة لا يعرفها الاّ البعض النادر ( كان الرواية المشهورة من قبيل : بيّن الرشد ، والشاذّ من قبيل : المشكل ، الذي يُردّ علمه الى أهله ) لأنّه ورد في الروايات : انّ الانسان اذا لم يعرف وجه رواية ، فلا ينكرها ، وانّما يرد علمها الى أهلها ، وهم المعصومون صلوات اللّه عليهم اجمعين .

وهذا - بالاضافة الى انّه نوع تأدّب - واقعي ، اذ كثير من الروايات ، التي لا يعرفها الانسان مطابقة للواقع ، وانّما معرفة الانسان لم تتوصل بعد الى ذلك الواقع .

( والاّ ) بان لم يكن الأمر على ماذكرناه : من انّ الرواية المشهورة المجمع عليها ، من قبيل بيّن الرشد ، والشاذّة من قبيل المشكل ، الذي يُردّ علمه الى اهله ( فلا معنى للاستشهاد بحديث التثليث ) حيث قال عليه السلام : انّما الامور ثلاثة :

« أَمرٌ بَيّنٌ رُشدَهُ ، فَيُتَّبَع » .

« وَأمرٌ بَيّنٌ غَيّهُ ، فَيُجتَنَب » .

« وَأمرٌ مُشكِلٌ ، يُرَدّ حُكمُهُ إلى اللّه ِ وَرَسولِهِ » .

ثم استشهد عليه السلام بقول رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : «حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات

ص: 171

وممّا يُضحِك الثكلى في هذا المقام توجيه قوله : « هما معا مشهوران » ،

------------------

بين ذلك .. » (1) ، فانّ وجوب اتباع الرشد واجتناب الغيّ ، لا يحتاج الى الاستشهاد ، وانّما المحتاج الى الاستشهاد هو الأمر الثالث : المشتبه بينهما ، الذي هو من قبيل المشكل وهو لا يكون في الفتوى ، لان الفتوى قسمان : بيّن الرشد ، وبيّن الغيّ ، ولا ثالث .

والحاصل : ان مراد الامام عليه السلام من بيان الاقسام ، والاستشهاد بقول الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، هو : بيان المشكل ، لا بيان بيّن الرشد ، وبيّن الغيّ ، ومن الواضح : انّ المشكل انّما يكون في الرواية لا في الفتوى ، فلا يمكن ان يستدلّ بالمقبولة على ان الشهرة الفتوائية أيضا حجّة ، فان التثليث يؤيد كون المراد : الشهرة الروائية ، لا الشهرة الفتوائية ، ثم انّ المصنّف بعد أن حمل الشهرة على الاجماع وقال : بأنّه لا يمكن اجماعان في الفتوى ، بينما يمكن اجماعان في الرواية ، ولذا فالمقبولة بصدد الشهرة الروائية لا الشهرة الفتوائية .

اشكل عليه : بامكان اجماعين في الفتوى ايضا ، وذلك بان يكون اجماع في عصر الشيخ على وجوب الجمعة ، واجماع في عصر المحقّق على التخيير بينها ، وبين الظهر - مثلاً - .

فأجاب المصنّف عن هذا الاشكال : بأن ظاهر الرواية كون الشهرتين في زمان واحد ، لا في زمانين ، فقال : ( وممّا يضحك الثكلى في هذا المقام ، توجيه قوله ) أي : قول الراوي ( « : هما معا مشهوران » ) توجيها

ص: 172


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

بامكان انعقاد الشهرة في عصر على فتوى وفي عصر آخر على خلافها ، كما قد يتّفق بين القدماء والمتأخّرين ، فتدبّر .

------------------

( بامكان انعقاد الشهرة في عصر على فتوى ، وفي عصر آخر على خلافها ، كما قد يتّفق ) اختلاف الاجماعين ( بين القدماء والمتأخّرين ) فالقدماء كانوا يقولون : بنجاسة البئر ، والمتأخرون يقولون : بطهارة البئر .

وانّما يُضحِك الثكلى هذا التوجيه ، لِما عَرَفت : من ان ظاهر الرواية كون الاجماعين في زمان واحد ، والاجماعان لا يكونان في زمانهم عليهم السلام ، الاّ في الرواية ، لا في الفتوى .

( فتدبّر ) فانّ حمل الشهرة في المقبولة على المجمع عليه ، وارادة خصوص الرواية ، خلاف الاطلاق ، فانّ المقبولة كما تشمل هذا الفرد تشمل فردا آخر ، وهو أن تكون احدى الروايتين مشهورة عند الجُلّ لا عند الكُلّ ، والاخرى موجودة عند جماعة ، فكيف تحملون المقبولة على الفرد الأول فقط دون الثاني؟.

* * *

ص: 173

الخبر الواحد

ومن جملة الظّنون الخارجة بالخصوص عن أصالة حرمة العمل بغير العلم خبرُ الواحد في الجملة عند المشهور بل كاد أن يكون إجماعا .

اعلم أنّ إثباتَ الحكم الشرعيّ بالأخبار المرويّة عن الحُجج عليهم السلام ، موقوف على مقدّمات ثلاث :

الاولى : كونُ الكلام صادرا عن الحجّة .

------------------

الخبر الواحد

فصل : ( ومن جملة الظّنون ، الخارجة ، بالخصوص عن أصالة حرمة العمل بغير العلم : خبر الواحد ) فانّه ظنّ خاص نوعي يكون حجّة ، لا انّ حجّيته من باب الانسداد ، الذي هو من الظنون العامة .

وحجّيته ( في الجملة ) وهو اشارة الى الاختلاف الموجود ، بين من يعتبر خبر الواحد حجّة ، في انّه هل يكون حجّة اذا كان عادلاً ، أو اذا كان ثقة ، أو اذا ظنّ بصدوره ، أو اذا لم يكن الظنّ على خلاف صدوره ، أو ما اشبه ذلك من الأقوال التي تأتي في المسألة ؟ .

وحجّيته مسلّمة ( عند المشهور ) ، من العلماء ( بل كاد أن يكون إجماعا ) لأنّ المخالف قليل جدا ، وربّما يؤول كلام المخالف الى ما لا ينافي قول المشهور .

اذا عرفت هذا ، نقول : ( اعلم انّ إثبات الحكم الشرعيّ ، بالاخبار المرويّة عن الحجج عليهم السلام ) فعلاً ، أو تقريرا ، أو قولاً ( موقوف على مقدّمات ثلاث ) :

( الاولى : كون الكلام صادرا عن الحجّة ) بأن لا يكون كذبا ، أو اشتباها ، أو غلطا من الراوي ، أو ما أشبه ذلك ، والمراد : أن يكون سنده صحيحا .

ص: 174

الثانية : كونُ صدوره لبيان حكم اللّه ، لا على وجه آخر من تقيّة وغيرها .

الثالثة : ثبوتُ دلالتها على الحكم المدّعى ، وهذا يتوقفُ أوّلاً على تعيين أوضاع ألفاظ الرّواية ، وثانيا على تعيين المراد منها وأنّ المراد مقتضى وضعها او غيره ،

------------------

( الثانية : كون صدوره لبيان حكم اللّه ) تعالى ( لا على وجه آخر ، من : تقيّة ، وغيرها ) كالامتحان ، ونحوه ، وهذه الثانية تسمى : بجهة الصدور .

( الثالثة : ثبوت دلالتها على الحكم المدّعى ) فقد يكون الخبر ثابتا عنهم عليهم السلام ، وجهة صدوره بيان الحكم الواقعي ، لكنه لا يدل على مدعى من يدعي الحكم ، بان يأتي - مثلاً - بمقبولة عمر بن حنظلة ، للدلالة على انّ الشهرة الفتوائية حجّة - كما تقدّم في البحث السابق - .

( وهذا ) أي : ثبوت دلالة الخبر على الحكم المدعى ( يتوقف ) على امرين :

( أولاً : على تعيين أوضاع الفاظ الرّواية ) والمراد بتعيين الاوضاع : أعم من التعيينية والتعيّنية ، كما انّه أعم من الدلالة بنفسها ، أو بالقرينة ، وكذلك أعم من الالفاظ المفردة والأوضاع المركبة ، لأنّ كل ذلك دخيل في الدلالة .

( وثانيا : على تعيين المراد منها ) أي : من تلك الألفاظ ( وأن المراد : مقتضى وضعها ، أو غيره ) من المعاني المجازية ، فانه ربما يكون اللّفظ قد وضع لمعنى ، لكن ذلك المعنى لم يكن مراد المتكلم ، بل المراد : غير ذلك المعنى ، كأن يقول - مثلاً - اقطع لسان السائل ، فانّ اللّفظ ، وضع لقطع الجارية المخصوصة بالسكين ، بينما مراد المتكلم : اعطاء السائل مالاً حتى يكفّ عن السؤال .

ص: 175

فهذه اُمور أربعة .

قد أشرنا إلى كون الجهة الثانية من « المقدّمة الثالثة » من الظّنون الخاصّة وهو المعبّر عنه بالظهور اللّفظي ، وإلى أنّ الجهة الاولى منها

------------------

إذن : ( فهذه أمور أربعة ) فاذا ورد - مثلاً - «إقرارُ العُقَلاء عَلى أنفُسِهم جائِز» (1) كان في الجهة الاولى : انّ الامام عليه السلام قاله هذا الكلام لا أنّه مكذوب عليه .

والجهة الثانية : انّه عليه السلام قاله لبيان الحكم الواقعي ، لا للتقية ونحوها .

والجهة الثالثة : أن لفظ العقلاء - مثلاً - وضع مقابل المجنون ، لا الكيّس المحنّك الذي هو أخص من العاقل .

والجهة الرابعة : انّ الامام عليه السلام ، أراد : المعنى اللغوي الشامل لمطلق العاقل ، لا انّه أراد : الأخص ، من قبيل قوله تعالى : « لآياتٍ لِقَومٍ يَعقِلون » (2) حيث لا يريد بالعقلاء : مطلق العاقل في قبال المجنون بل العاقل الذي يستفيد من الآيات .

و ( قد أشرنا الى كون الجهة الثانية ، من « المقدّمة الثالثة » ) وهو الأمر الرابع ، بانه (من الظّنون الخاصّة ، وهو المعبّر عنه : بالظهور اللفظيّ ) الكاشف عن مراد المتكلم باعانة اصالة عدم القرينة . اذ بعد العلم : بان لفظ « العقلاء » وضع في قبال المجانين ، يفهم انّ مراد المولى : العاقل في قبال المجنون ، لا العاقل الأخص ، وهذا الظنّ الحاصل بسبب أصالة الحقيقة ، واصالة عدم القرينة ، ظنّ خاص عقلائي وقد امضاه الشارع ، فهو حجة عقلاً وشرعا .

( و ) أشرنا ( الى انّ الجهة الاولى منها ) أي : من المقدمة الثالثة ، والمراد به :

ص: 176


1- - وسائل الشيعة : ج23 ص184 ب3 ح29342 ، غوالي اللئالي : ج1 ص223 ح104 و ج2 ص257 ح5 و ج3 ص442 ح5 .
2- - سورة الرعد : الآية 4 .

ممّا لم يثبت كونُ الظنّ الحاصل فيها بقول اللغوي من الظنون الخاصّة وان لم نستبعد الحجّية اخيرا .

وأمّا : « المقدّمة الثانية » ، فهو أيضا ثابت بأصالة عدم صدور الرّواية لغير داعي بيان الحكم الواقعيّ ، وهي حجّة ، لرجوعها إلى القاعدة المجمع عليها بين العلماء والعقلاء من حمل كلام المتكلّم على كونه صادرا لبيان مطلوبه الواقعيّ ، لا لبيان خلاف مقصوده من تقيّة او خوف ، ولذا

------------------

تعيين أوضاع الألفاظ ( ممّا ) يحتاج الى العلم القطعي ، أو شهادة أهل الخبرة به ، لأنّه من الموضوعات التي يقبل فيها شهادة أهل الخبرة و ( لم يثبت كون الظنّ الحاصل فيها بقول اللغوي ، من الظّنون الخاصّة ) لأنا ناقشنا سابقا في حجّية قول اللغوي (وان لم نستبعد الحجّية أخيرا ) كما وقد أيّدنا الحجّية نحن سابقا .

( وأما « المقدّمة الثّانية » ) وهي جهة الصدور بمعنى : صدور الكلام لبيان الحكم الواقعي ، لا للتقية ، وما أشبه ( فهو أيضا ثابت بأصالة : عدم صدور الرّواية لغير داعي بيان الحكم الواقعيّ ) وهو أصل عقلائي جار بين الموالي والعبيد ، والآمرين والمأمورين ، فيما اذا لم تكن قرينة داخلية أو خارجية تصرف كلام المولى عن بيان الحكم الواقعيّ .

( وهي ) أي : الأصالة المذكورة ( حجّة ، لرجوعها الى القاعدة المجمع عليها بين العلماء ) المتشرّعين ( والعقلاء ) من جميع الامم ( من حمل كلام المتكلّم على : كونه صادرا لبيان مطلوبه الواقعيّ لا لبيان خلاف مقصوده ، من تقيّة ، أو خوف ) أو مثال ، أو امتحان ، أو مزاح ، أو ما أشبه ذلك .

( ولذا ) أي : لكون هذه القاعدة متفق عليها بين علماء المتشرعة ، وعقلاء

ص: 177

لا يُسمَعُ دعواه ممّن يدّعيه إذا لم يكن كلامه محفوفا بأماراته .

أمّا « المقدّمة الاولى » ، فهي التي عُقِدَ لها مسألةُ حجّية أخبار الآحاد .

فمرجعُ هذه المسألة إلى أنّ السنّة ، أعني قول الحجّة او فعله او تقريره ، هل يثبت بخبر الواحد

------------------

العالم ، ( لا يسمع دعواه ) أي دعوى الخلاف ( ممّن يدّعيه ) أي : يدّعي انه اراد خلاف المقصود .

فاذا قال المولى لعبده : جئني بالماء - مثلاً - فلم يطع العبد ولم يأت بالماء بادعاء : احتماله انّ المولى أراد خلاف المقصود ، لم يكن معذورا ، ورأى العقلاء ان للمولى الحق في عقابه .

وكذا لو ادعى المولى : انّه اراد من : جئني بالماء خلاف الظاهر ، لم يُسمع منه ولم يكن له الحق - شرعا ولا عقلاً - في عقاب العبد الذي جاء له بالماء ، بادعاء انه اراد : امتحانه ، او الممازحة معه ، او ما أشبه .

وذلك ( اذا لم يكن كلامه محفوفا بأماراته ) أي : بامارات خلاف المقصود بان لم تكن قرينة داخلية أو خارجية ، على انّ المراد : غير الظاهر من اللّفظ ، أمّا اذا كانت هناك قرينة ، فانه يحق لكل من المولى والعبد الاعتماد على تلك القرينة في ارادة خلاف الظاهر .

( أمّا « المقدّمة الاولى » ) : وهي عبارة عن : صدور الكلام عن الحجّة عليه السلام ، لا انه كذب ، أو خطأ ، أو ما أشبه ( فهي التي عقد لها : مسألة حجّية أخبار الآحاد ) مما نتعرّض له في هذا المبحث .

( فمرجع هذه المسألة ) أي : مرجع انّ خبر الواحد حجّة أو ليس بحجّة ( الى انّ السنّة ، أعني : قول الحجّة ، أو فعله ، أو تقريره ، هل يثبت بخبر الواحد ،

ص: 178

ام لا يثبت الاّ بما يفيد القطع من التواتر والقرينة ، ومن هنا يتضحُ دخولها في مسائل اصول الفقه الباحثة عن أحوال الأدلّة .

------------------

أم لا يثبت الاّ بما يفيد القطع ، من : التواتر والقرينة ) الموجبة للقطع ؟ .

( ومن هنا ) حيث انّ مرجع هذه المسألة الى انّ السنّة ، هل تثبت بخبر الواحد ام لا تثبت ؟ ( يتضح دخولها في مسائل اصول الفقه ، الباحثة عن أحوال الأدلّة ) .

ووجه ارجاع المصنّف هذا البحث ، وهو : مسألة انّ خبر الواحد حجّة ام لا ؟ الى البحث حول : انّ السنّة هل تثبت بالخبر الواحد ام لا ؟ هو :

انّ صاحب القوانين جعل موضوع علم الاصول : الادلّة الاربعة ، واشكل عليه : بأنّه اذا كان الموضوع الأدلّة ، فالبحث عن انّ الشيء الفلاني - كالخبر الواحد - دليل ام لا ، بحث عن المباديء ، لا عن المسائل .

مثلاً : اذا قلنا : ان موضوع النحو : الكلمة ، فالبحث عن انّ الشيء الفلاني كلمة ، أو لا ، يكون بحثا عن المباديء ، لا عن الكلمة ، اذ البحث عن الكلمة ، انّما يكون عن العوارض والأحوال الطارئة على الموضوع ، كالبحث عن الرفع ، والنّصب ، والجرّ ، وما أشبه ، الطاريء على الكلمة ، لا أنّ الشيء الفلاني كلمة أم لا .

ولاجل التخلّص من هذا الاشكال الوارد على صاحب القوانين ، قال صاحب الفصول : انّ موضوع علم الاصول : ذوات الأدلّة الأربعة ، لا الأدلّة بما هي أدلّة ، فالبحث عن دليليّة الدّليل ، يكون داخلاً في الاصول أيضا .

واشكل عليه : بأنه يلزم منه : أن يكون علم التفسير ، وعلم الرجال ، وعلم الدّراية ، وما أشبه داخلاً ايضا في الاصول ، لأن كلّ ذلك البحث عن ذوات القرآن والسنّة .

ولاجل التخلّص من هذا الاشكال أيضا ، اجاب المصنّف بجواب آخر ، وهو :

ص: 179

ولا حاجة إلى تجشّم دعوى أنّ البحث عن دليليّة الدليل بحثٌ عن أحوال الدّليل .

ثمّ اعلم أنّ أصل وجوب العمل بالأخبار المدوّنة في الكتب المعروفة ممّا اجمع عليه في هذه الأعصار ،

------------------

انّ بحث حجّية الخبر راجع الى انه : هل السنّة تثبت بالخبر الواحد ام لا ؟ فيكون الموضوع لهذه المسألة : نفس السنّة ، وهي من الأدلّة الأربعة .

واشكل صاحب الكفاية على جواب المصنّف - أيضا - بما اوضحناه في شرح الكفاية ، مما لا حاجة الى تكراره .

ثم ان المصنّف اشار الى ردّ جواب الفصول بقوله : ( ولا حاجة الى تجشّم ) وتكلّف الفصول ( دعوى : انّ البحث عن دليليّة الدّليل ، بحث عن احوال الدّليل ) أيضا ، حتى يصحّ كلام القوانين ، فان هذا البحث ، بحث عن ذاته لا عن احواله .

وعلى أي حال : فالبحث في المقام حول حجّية خبر الواحد ، كما يقوله المشهور ، أو عدم حجّيته ، كما يقوله بعضٌ .

( ثمّ اعلم : أنّ أصل وجوب العمل بالاخبار ) أي : مع قطع النظر عن كونها قطعية الصدور ، كما يقوله بعض الاخباريين ، أو انها ليست كذلك ، كما يقوله معظم الأصوليين .

وكذا مع قطع النظر عن كون وجوب العمل بها ، من باب الظنّ الخاص ، كما يقوله المُعظم ، أو من باب الانسداد والظنّ المطلق كما يقوله القوانين ومن اشبهه .

فالعمل بالاخبار ( المدوّنة في الكتب المعروفة ) من الكافي ، والتهذيب ، والاستبصار ، والفقيه ، وغيرها ( ممّا اجمع عليه في هذه الأعصار ) فانّه لايوجد حتى فقيه واحد ، يقول بعدم حجّية خبر الواحد مطلقا .

ص: 180

بل لا يبعد كونُه ضروريّ المذهب .

وإنّما الخلافُ في مقامين أحدُهما : كونُها مقطوعَة الصّدور او غيرَ مقطوعة .

فقد ذهب شِرذِمَةٌ من متأخري الأخباريّين ، فيما نسب إليهم ، إلى كونها قطعيّة الصّدور ، وهذا قولٌ لا فائدة في بيانه والجواب عنه

------------------

( بل لا يبعد كونه ) أي : كون وجوب العمل بالخبر الواحد في الحال الحاضر (ضروريّ المذهب ) بل ضروريّ الدّين ، فان المسلمين كافة يعملون بالخبر الواحد بلا خلاف .

( وانّما الخلاف في مقامين ) :

( أحدهما : كونها مقطوعة الصّدور ، أو غير مقطوعة ) الصّدور ، فانّ جماعة قالوا : بان كلّ الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة قطعيّة الصّدور بينما المشهور لم يقبلوا ذلك ( فقد ذهب شِرذمَة من متأخّري الأخباريّين ) وهم قسم من الفقهاء اذ الفقهاء انقسموا الى : اصوليين ، وأخباريين ، ومعظم الفَرق بينهما : التدقيقات الاصولية حيث يراها الاصوليون طريقا الى استنباط الأحكام ، ولا يراها الأخباريون ، بل يجعلون مثل هذه التدقيقات ، من اقسام القياس ، والاستحسان ، والاعتماد على العقول الناقصة ، ممّا قد نهى الأئمة عليهم السلام عن ذلك بقولهم : « انّ دينَ اللّه ِ لا يُصابُ بالعُقولِ » (1) وغيرها من الروايات .

فان جماعة من الاخباريين ( فيما نُسب إليهم ) ذهبوا ( الى كونها قطعيّة الصّدور ، وهذا قول لا فائدة في بيانه والجواب عنه ) لانّ من جملة ادلّته :

ص: 181


1- - كمال الدين : ص324 ح9 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص262 ب6 ح21289 ، بحار الانوار : ج2 ص303 ب34 ح41 .

إلاّ التحرّز عن حصول هذا الوهم لغيرهم كما حصل لهم ،

------------------

انّ كتب الحديث ، كانت معتمدة قطعيّة عند اصحاب الأئمة عليهم السلام ، مما كانوا يرجعون اليها ، ولا يرجعون الى الأئمة عليهم السلام ، مع تمكنهم من الوصول اليهم عليهم السلام .

وقد جُمعَت كُلها في الكتب المعتمدة ، كالكتب الخمسة ، والتي منها مدينة العلم للصدوق ، وغيرها ، مثل كتاب ان قولويه ، ونحوه ، فاللازم أن يكون كل هذه الأخبار الموجودة فيها مقطوعة السّند ، ولا حاجة الى التكلم حول اسنادها اطلاقا ، وانّما يلزم البحث حول دلالتها .

لكن الاصوليين ، وجماعة من الاخباريين ، أجابوا عن هذا الدّليل : بانه ان كان المراد : القطع بالصحة في الجملة ، فذلك غير مفيد ، اذ الصغرى الجزئية لا تفيد الكبرى الكلية .

وان كان المراد : القطع بصدور كلّ هذه الأخبار ، فانه خلاف الوجدان ، حتى عند أصحاب الائمة عليهم السلام ، فانّ عملهم بالاصول الأربعمائة ، لم يكن لأنّها قطعيّة ، بل لأنّها اخبار عقلاء المتشرّعة ، فيعتمدون عليها حسب أوامرهم عليهم السلام ، مثل قولهم عليهم السلام : « لا عُذرَ لأحدٍ مِن مَوالِينا في التَشكيكِ فِيما يَرويهِ عَنّا ثُقاتُنا » (1) . وما أشبه ذلك مما لا حاجة الى تفصيل الكلام حوله .

وعلى أي حال : فانه لا فائدة في بيان أدلتهم وأجوبتها ( الاّ التحرّز عن حصول هذا الوهم لغيرهم ، كما حصل لهم ) أي : ان فائدة التعرّض لذلك منحصرة في ان

ص: 182


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج27 ص150 ب11 ح33455 ، رجال الكشي : ص536 ، بحار الانوار : ج50 ص318 ب4 ح15 .

وإلاّ فمدّعي القطع لايُلزَمُ بذكر ضعف مبنى قطعه ، وقد كتبنا في سالف الزّمان في ردّ هذا القول رسالةً تعرّضنا فيها لجميع ما ذكروه وبيان ضعفها بحسب ما أدّى اليه فهمي القاصر .

الثاني : أنّها مع عدم قطعيّة صدورها معتبرةٌ بالخصوص

------------------

لايحصل هذا التوهم للآخرين ، كما حصل مثله لأولئك الاخباريين .

( والاّ ) أي : بقطع النظر عن هذه الفائدة التي ذكرناها ، فلا فائدة اُخرى في ذكر الأدلة وأجوبتها ، اذ الأخباري لا يقبل أجوبتنا ، ولهذا يبقى هو على أخباريته .

وعليه : ( فمدّعي القطع ) بصدور هذه الأخبار ( لا يُلزَم ) أي : لا يمكن الزامه (بذكر ضعف مبنى قطعه ) فأي فائدة لنا أوله ، وانّما الفائدة تكون منحصرة في الشخص الثالث : بأن لا يحصل له هذا الوهم ؟ .

لكن لا يخفى : انّه يمكن أن تكون فائدة اُخرى بذكر الوهم وجوابه ، وهو : رجوع بعض الاخباريين اذا رأوا ضعف أدلتهم ، كما رَجَعَ صاحبُ الحدائق ، حيث ناقشه الوحيد البهبهاني ، فان القاطع - أيضا - اذا نوقش في مبنى قطعه ، أمكن رجوعه - بعد زوال قطعه - .

وكأنه من اجل هذا ، أضرَبَ المصنّف عن كلامه السابق بقوله : ( وقد كتبنا في سالف الزّمان في ردّ هذا القول ) من الأخباري بقطعيّة الأخبار صدورا ( رسالة تعرّضنا فيها لجميع ما ذكروه ) أي الأخباريون ( وبيان ضعفها بحسب ما أدّى اليه فهمي القاصر ) ومن المحتمل : أن يكون مراد المصنّف في ذكر هذه الرسالة - ما تقدّم منه - : من التحرز عن وقوع الاخباريين في هذا الوهم .

المقام ( الثاني : انّها ) أي الأخبار ( مع عدم قطعيّة صدورها ) كما نقول به نحن الاصوليين ، وجماعة من الاخباريين ، هل هي ( معتبرة بالخصوص ) من باب

ص: 183

ام لا .

فالمحكيّ عن السيّد والقاضي وابن زهرة والطبرسيّ وابن إدريس قدس سرهم ، المنعُ ، وربما نسب إلى المفيد قدس سره ، حيث حكى عنه في المعارج انّه قال : « إن خبر الواحد القاطع للعذر ، هو الذي يقترن إليه دليلٌ يُفضي بالنظر إلى العلم ، وربّما يكون ذلك

------------------

الظنّ الخاص ( ام لا ؟ ) بل انها معتبرة من جهة الانسداد ، أو ليست بمعتبرة اطلاقا ، فالأقوال في المسألة أربعة :

1 - انها قطعية الصدور .

2 - عدم حجّيتها اطلاقا .

3 - حجّيتها من باب الظنّ الخاص .

4 - حجّيتها من باب الظنّ الانسداديّ .

( فالمحكّي عن السيّد ) المرتضى ( والقاضي ) ابن البراج ( وابن زُهرة ) وهو من علماء حَلب ( والطبرسيّ ) صاحب مجمع البيان ( وابن ادريس قدس سرهم : المنع) عن حجّية الخبر اطلاقا .

( وربّما نسب ) هذا القول ( الى المفيد قدس سره ، حيث حكى ) المحقّق ( عنه في المعارج : انّه قال : انّ خبر الواحد القاطع للعذر ) أي : لعذر كل من المولى والعبد بمعنى : كونه حجّة ( هو الذي يقترن اليه ) أي الى ذلك الخبر ( دليل ) أي : قرينة حاليّة أو مقاليّة ( يفضي بالنظر الى العلم ) بأن يؤدّي ذلك الدّليل المقترن بالخبر ، الى العلم بصدور ذلك الخبر ، والاّ فلا يكون الخبر بنفسه بدون قرينة حجّة .

ثم قال : ( « وربّما يكون ذلك » ) الدليل المقترن بالخبر الذي نسميه : بالقرينة

ص: 184

إجماعا او شاهدا من عقل » ، وربّما يُنسب إلى الشيخ ، كما سيجيء عند نقل كلامه ، وكذا إلى المحقق ، بل إلى ابن بابويه ، بل في الوافية : « أنّه لم يجد القولَ بالحجّية صريحا ممّن تقدّم على العلاّمة » ، وهو عجيبٌ .

وأمّا القائلون بالاعتبار فهم مختلفون ، من جهة أنّ المعتبر منها كلّ ما في الكتب الاربعة ، كما يحكى عن بعض الأخباريّين أيضا ،

------------------

الحاليّة أو المقاليّة ، ( اجماعا ، أو شاهدا من عقل ) (1) فانّ العقل حجّة باطنة اذا شهد بشيء ، بل هو حجّة من قبل اللّه سبحانه وتعالى .

( وربّما ينسب ) القول بعدم حجّية الخبر الواحد ( الى الشيخ رحمه اللّه ، كما سيجيء عند نقل كلامه ، وكذا ) نسب هذا القول ( الى المحقّق ) صاحب الشرائع (بل الى ابن بابويه ) الصدوق ( بل في الوافية : انّه لم يجد القول بالحجّية صريحا ممّن تقدّم على العلاّمة ) .

فكأنّ صاحب الوافية اراد أن يقول : بأنّ القدماء كانوا يقولون بعدم الحجّية ( وهو عجيب ) لأنّ جماعة من القدماء ، ذهبوا الى حجّية خبر الواحد - كما سيأتي بيانه .

( وأمّا القائلون بالاعتبار ) أي : اعتبار الخبر الواحد من باب الظنّ الخاص ، لا من باب الانسداد ( فهم مختلفون من جهة : انّ المعتبر منها ) اي من الأخبار (كلّ ما في الكتب الأربعة ) سواء كان صحيحا في الاصطلاح الرجالي ، أو لم يكن، وسواء كان مخالفا للمشهور ، أو لم يكن ، وسواء كان معمولاً به ، أو لم يكن .

( كما يحكى عن بعض الأخباريّين ) هذا القول ( أيضا ) دون صحة جميع

ص: 185


1- - معارج الاصول : ص187 .

وتبعهم بعضُ المعاصرين من الاصوليّين بعد استثناء ما كان مخالفا للمشهور ، او أنّ المعتبر بعضُها وأنّ المناطَ في الاعتبار عملُ الأصحاب كما يظهر من كلام المحقّق ، أو عدالةُ الرّاوي او وثاقته او مجرّدُ الظنّ بصدور الرّواية ، من غير اعتبار صفة في الرّاوي ، او غير ذلك من التفصيلات في الأخبار .

------------------

الأخبار، الموجودة في كل الكتب المعتبرة الاعم من الاربعة .

( وتبعهم ) على ذلك ( بعض المعاصرين من الاصوليّين ) وهو النّراقي ، كما نسب اليه ( بعد استثناء ) النّراقي من الحجّية ( ما كان مخالفا للمشهور ) ( أو أنّ المعتبر ) من الاخبار ( بعضها ) فقط دون الجميع .

( و ) على هذا القول ، هل ( انّ المناط في الاعتبار ) أي : في صورة اعتبار البعض ( : عمل الأصحاب ) سواء كان الخبر صحيحا أو لم يكن ، فالخبر المعتبر هو الذي عمل به الأصحاب ، والمراد بالعمل : ليس عمل كلهم ، بل عمل جماعة معتد به منهم ( كما يظهر من كلام المحقّق ) صاحب الشرائع .

( أو ) ان المناط : ( عدالة الرّاوي ) من غير فرق بين إن عمل به الأصحاب ، ام لا ( أو ) انه يكفي في الاعتبار ( وثاقته ) أي : وثاقة الرّاوي ، وان لم يكن عادلاً ، ولم يَعمل بخبره الأصحاب ( أو ) ان المناط في إعتبار الخبر : ( مجرّد الظنّ بصدور الرّواية ، من غير اعتبار صفة في الرّاوي ) فلا يشترط أن يكون عادلاً ، ولا ان يكون موثقا ، ولا ان يكون الأصحاب عملوا بالخبر ( أو غير ذلك من التفصيلات في الاخبار ) كالتفصيل بين ما حصل منه الظنّ الابتدائي ،

ص: 186

والمقصودُ هنا بيانُ إثبات حجّيّته بالخصوص في الجملة ، في مقابل السلب الكلّي ، ولنذكر ، أوّلاً : ما يمكنُ أن يحتجّ به القائلون بالمنع ، ثم نعقّبه بذكر أدلّة الجواز فنقول :

حجة المانعين

أمّا حُجّة المانعين ، فالأدلّة الثلاثة :

------------------

وبين غيره ، وما أشبه ذلك .

( و ) لا يخفى انّ ( المقصود هنا ) في بحثنا عن حجّية الخبر ، ولا حجّيته ( بيان اثبات حجّيته بالخصوص في الجملة ، في مقابل السلب الكلّي ) الذي ذهب اليه بعض وقال : بانّ الخبر ليس بحجة مطلقا ، ونحن نريد أن نقول : بأنّه حجّة في الجملة ولا نريد اثبات الكلي : بان نقول : كل خبر حجّة ، فنحن أيضا مفصّلون في المسألة ، كما انه ليس مقصودنا الان ، التعرض الى اختلاف ادلّتها واجوبتها .

هذا ( ولنذكر ، أوّلاً : ما يمكن أن يحتجّ به القائلون بالمنع ) وانّما نقدم قول القائلين بالمنع وادّلتهم ، لأنّ المنع أولاً : مطابق للأصل الاوّلي ، فان كلّ شيء شُك في حجّيته ، فالاصل عدم حجّيته ، حتى تثبت حجّيته ، وثانيا انّ أدلّة القائلين بالمنع قليلة ، بخلاف أدلّة القائلين بالاثبات ، فانها كثيرة - كما سيأتي - .

(ثم نعقِّبه بذكر أدلّة الجواز) في الجملة ، في قبال السّلب الكلّي - كما عرفت - .

حجة المانعين

( فنقول : أمّا حجّة المانعين ، فالأدلّة الثلاثة ) : الكتاب ، والسنّة ، والاجماع .

وربما يضاف اليها العقل أيضا لدلالته على المنع ، وذلك لان العقل يرى : لزوم الاتقان في العمل ، وهو لا يحصل الاّ بالعلم ، ولأنّ العمل بالخبر يوجب الوقوع في خلاف الواقع كثيرا ، والوقوع في خلاف الواقع مبغوض للانسان ، حتى وان لم

ص: 187

أما الكتاب :

فالآياتُ الناهيةُ عن العمل بما وراء العلم والتعليلُ المذكورُ في آية النبأ ، على ما ذكره أمينُ الاسلام ، من أنّ فيها دلالة على عدم جواز العمل بخبر الواحد .

------------------

يكن هنالك مصلحة تفوّت ، أو مفسدة تجلب ، ولأنّ العمل به ، يوجب تفويت المصالح والالقاء في المفاسد ، الى غير ذلك مما اشير اليه في الاصول .

( أمّا ) الاستدلال ب( الكتاب ، فالآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم ) كقوله سبحانه : « وَلا تَقفُ ما لَيسَ لَكَ بِه عِلمٌ إنَّ السّمعَ ، والبَصَرَ وَالفُؤادَ ، كُلُّ أولئِكَ كانَ عَنهُ مَسئولاً » (1) ، وقوله سبحانه : « إنّ الظَّنَّ لا يُغني مِنَ الحَقّ شَيئا » (2) ، وقوله سبحانه « إن يَتَّبِعونَ إلاّ الظّنَّ » (3) .

بضميمة : انّ الخبر الواحد ، هو : مما وراء العلم ، حتى وان أورث الظن ، فكيف به اذا لم يورث الظن ؟ وذلك بأن كان العامل بالخبر ، شاكا أو واهما (والتعليل المذكور في) آخر (آية النبأ) حيث قال سبحانه :«يا أيُّها الّذينَ آمَنوا، إنْ جآئَكُم فاسِقٌ بنَبأ فَتَبَيَّنوا أنْ تُصيبُوا قَوما بجَهالَةٍ، فتُصبِحوا عَلى ما فَعَلتُم نادِمينَ»(4) فصدر الآية يدلّ على : وجوب التبيّن في خبر الفاسق فقط ، فيكون مفهومه : جواز الأخذ بخبر العادل ، الاّ انّ التعليل في آخر الآية ، يدل على : وجوب التبيّن في كل خبر يحتمل فيه الندم ، فيكون ذكر الفاسق من باب المورد .

هذا ( على ما ذكره أمين الاسلام ) الطبرسي ( من انّ فيها ) أي في آية النبأ (دلالة على عدم جواز العمل بخبر الواحد ) مطلقا ، من غير فرق بين أن يكون

ص: 188


1- - سورة الاسراء : الآية 36 .
2- - سورة يونس : الآية 36 .
3- - سورة النجم : الآية 28 .
4- - سورة الحجرات : الآية 6 .

وأمّا السنّةُ :

فهي أخبارٌ كثيرةٌ تدلّ على المنع من العمل بالخبر الغير المعلوم الصّدور الاّ إذا اُحتفّ بقرينة معتبرة من كتاب او سنّة معلومة :

مثلُ ما رواه في البحار عن بصائر الدّرجات ، عن محمّد بن عيسى ، قال : « أقرأني داودُ بن فرقد الفارسيّ كتابه إلى أبي الحسن الثالث عليه السلام

------------------

الآتي به عادلاً ، او فاسقا ، وسيأتي بيانه عند ذكر أدلّة المجوّزين ، حيث انّ المجوّزين ، استدلّوا بهذه الآية المباركة على جواز العمل بخبر العادل .

( وأمّا السنّة : فهي اخبار كثيرة تدلّ على المنع من العمل بالخبر غير المعلوم الصّدور ، الاّ اذا احتفّ بقرينة معتبرة ، من كتابٍ ، أو سُنّةٍ ) نبوية ، فالخبر الواحد المعلوم الصّدور او المحتفّ بالقرينة المعتبرة ، يجوز العمل بهما ، أمّا غيرهما فلا يجوز العمل به .

لكن لا يخفى : انّه يلزم أن يكون الكتاب دالاً لا مُجمَلاً ، كما انه يلزم أن تكون السنّة ( معلومة ) لا مجرد سنّة ، والاّ كان من التمسّك بغير الحجّة لغير الحجّة .

وكيف كان : فالأخبار المذكورة الناهية عن العمل بالخبر ( مثل ما رواه في البحار ، عن بصائر الدّرجات ، عن محمّد بن عيسى قال : أقرأني ) أي : أمرني بقرائته ، امّا أمرا صريحا لفظيا أو أمرا بالاشارة ، بان قدّم الكتاب اليه وأشار بأن أقرأه ، كما انه ليس المراد من ، أقرأني : باللّفظ ، بل الأعم من اللّفظ والمطالعة .

وعليه : فقد اقرأني ( داود بن فرقد الفارسيّ كتابه ) الذي كتبه ( الى ابن الحسن الثالث عليه السلام ) : وهو الامام الهادي عليه السلام ، كما أنّ أبا الحسن الأوّل ، او ابا الحسن بلا قيد : هو موسى بن جعفر ، وأبا الحسن الثاني : هو علي بن موسى الرضا عليهم السلام .

ص: 189

وجوابه بخطّه عليه السلام ، فكتب : نسألك عن العلم المنقول عن آبائك وأجدادك ، صلوات اللّه عليهم أجمعين ، قد اختلفوا علينا فيه ، فكيف العملُ به على اختلافه ؟ فكتب عليه السلام ، بخطّه : ما عَلِمْتُمْ أنَّهُ قولنا فألزموهُ وَما لَم تَعلَموهُ فرُدّوهُ إلينا » ،

------------------

أمّا اطلاق أبي الحسن على أمير المؤمنين عليه السلام ، فهو المشهور في التواريخ ، والقصص ، والتفاسير ، لا في الرجال ، والفقه ، فان المشهور فيهما بابي الحسن : هؤلاء الثلاثة صلوات اللّه عليهم أجمعين .

قال الرّاوي ( و ) أقرأني أيضا ( جوابه بخطّه عليه السلام فكتب : نسألك عن العلم المنقول عن آبائك وأجدادك صلوات اللّه عليهم أجمعين ، قد اختلفوا علينا فيه ) بمعنى : انّ الناقلين لتلك الأخبار ، مختلفون في الوثاقة وعدمها ، كما أنهم مختلفون في النقل عنهم عليهم السلام ، فبعضهم ينقل شيئا ، وينقل آخر خلافه .

( فكيف العمل به ) أي : بما ينقل عن آبائك عليهم السلام ( على اختلافه ؟ ) أي : على اختلاف المنقول عنكم ( فكتب عليه السلام بخطّه : ما عَلِمتُم أنَّهُ قولنا ) وهو يحصل ، امّا بالعلم ، الوجداني ، أو التواتر ، أو بالاحتفاف بالقرائن القطعيّة ، أو بمطابقة الكتاب، أو ما أشبه ذلك ( فألزِموه ، وَما لَم تَعلَموهُ ، فَرُدّوهُ إلينا ) (1) .

وقد تقدّم معنى الردّ اليهم : بانه السكوت ، لا الاعراض ، فان هناك فرقا بين أن يسكت الانسان في قبال خبر لا يعلم انه منهم ، وبين أن يرد ذلك الخبر ويقول : هذا الخبر غير صحيح ، ونحن مأمورون في الأخبار المشكوكة بالردّ اليهم عليهم السلام ، دون الاعراض .

ص: 190


1- - بصائر الدرجات : ص524 ح26 ، مستطرفات السرائر : ص584 ، بحار الانوار : ج2 ص241 ب29 ح33 ، وسائل الشيعة : ج27 ص120 ب9 ح 33369 .

ومثله عن مستطرفات السرائر .

والأخبار الدالّة على عدم جواز العمل بالخبر المأثور إلاّ إذا وُجِدَ له شاهدٌ من كتاب اللّه او من السنّة المعلومة ، فتدلّ على المنع عن العمل بالخبر المجرّد عن القرينة :

مثلُ ما ورد في غير واحد من الأخبار أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، قال : «ما جاءكم عَنّي مِمّا لا يُوافِقُ القُرآن فَلَم اقُلهُ » .

وقولِ أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهماالسلام :

------------------

( ومثله ) أي : هذا الخبر المتقدِّم ما روي ( عن مستطرفات السرائر ) لابن ادريس الحلي رحمه اللّه ( و ) مثله ( الأخبار الدّالة على عدم جواز العمل بالخبر المأثور ، الاّ اذا وُجِدَ له شاهد من كتاب اللّه أو من السنّة ) النبويّة ( المعلومة ) سواء كان عِلما وجدانيا ، أو عِلما عرفيا ، بأن يكون الخبر محفوفا بالقرينة التي تستريح النفس اليها .

( فتدلّ ) هذه الأخبار ( على المنع عن العمل بالخبر المجرّد عن القرينة ) من الكتاب ، أو من سنّة النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ( مثل ما ورد في غير واحد من الأخبار ) المتعددة .

منها : ( انّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : ما جائَكُم عنّي مِمّا لا يُوافِقُ القُرآن ، فَلَمْ أقُلهُ ) (1) فيدلّ على لزوم : أن يكون الخبر موافقا للقرآن ، حتى يجوز لنا ان نعمل به ، وما هو جار في خبر النبيّ يجري في أخبار سائر الائمة عليهم السلام ، لوحدة المناط فيهما .

( وقول أبي جعفر ) الباقر عليه السلام ( وأبي عبد اللّه ) الصادق عليه السلام حيث قالا

ص: 191


1- - الكافي اصول : ج1 ص69 ح5 (بالمعنى) ، تفسير العياشي : ج1 ص69 ، وسائل الشيعة : ج27 ص111 ب9 ح33348 .

« لا يُصدَّقُ عَلَينا إلاّ ما يُوافِقُ كِتابَ اللّه وسُنَّةَ نَبيّهِ صلى اللّه عليه و آله وسلم » .

وقولهِ عليه السلام : « إذا جائكُم حَديثٌ عَنّا فَوَجَدتُم عَليهِ شاهِدا أو شاهدَيْنِ مِنْ كِتاب اللّه ِ فَخذوا به وإلاّ فَقِفوا عِندَهُ ثم رُدّوهُ إلينا حتّى نُبيّنَ لكُم » .

ورواية ابن أبي يعفور قالَ : « سألتُ أبا عَبدِ اللّه عليه السلام عَن إختِلافِ الحَديثِ ، يَرويهِ مِن اثِقُ بهِ ، ومَن لا أثِقُ بِهِ . قال عليه السلام : إذا وَرَدَ عَليكُم حَديثٌ فوَجدتُم له شاهدا مِنْ كِتابِ اللّه ِ أو مِنْ قول رَسولِ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فخُذوا به، وإلاّ فالذي جائكُم به أولى بهِ» .

------------------

( لا يُصدَّق عَلَينا ) أي لا تقبلوا الخبر الذي ينقل عنا ( إلاّ ما يُوافِقُ كِتابَ اللّه وسُنّةَ نبِيّهِ صلى اللّه عليه و آله وسلم ) (1) وهو يدلّ نصّا على : عدم قبول الخبر ، الذي لم يكن له شاهد من كتاب اللّه ، أو سنّة نبيّه ( وقوله عليه السلام إذا جائَكم حَديثٌ عنّا ، فَوَجدتُم عَليهِ شاهِدا ، أو شاهِدَين مِن كِتابِ اللّه ، فخُذوا به ، والاّ فَقِفوا عِندَه ، ثم رُدّوهُ إلينا حتى نُبيّنَ لَكُم) (2) انه حق ، أو ليس بحق ، فليس - لنا أن نعمل بالخبر الاّ اذا كان له شاهد ، أم شاهدان من كتاب اللّه سبحانه وتعالى ، وانّما احتِيج الأمرُ الى شاهدين ، فيما اذا لم يكن الشاهد الأول واضح الشهادة .

( ورواية ابن أبي يعفور ، قال سألتُ أبا عبدِ اللّه ِ عليه السلام عن إختِلاف ) أي : تضارب ( الحديثِ ) وانه ( يرويهِ مِن أثِقُ بِهِ ، وَمَن لا أثِقُ بهِ ) فماذا أعمل بها وهي أحيانا متضاربة وأحيانا يكون ناقلها غير ثقة ؟ .

( قال عليه السلام : إذا وَرَدَ عَلَيكُم حَديثٌ ، فَوَجَدتُم لَهُ شاهدا مِن كِتابِ اللّه ِ ، أو من قولِ رَسولِ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فَخُذوا بهِ ، وإلاّ فالّذي جائَكُم بهِ أولى به) (3) فلا تقبلوا منه

ص: 192


1- - وسائل الشيعة: ج27 ص123 ب9 ح33380 ، تفسير العياشي: ج1 ص29 وفيه بما بدل (ما).
2- - الكافي اصول : ج2 ص222 ح4 وفيه (يستبين) بدل (نبيّن) .
3- - الكافي اصول : ج1 ص69 ح2 ، وسائل الشيعة : ج27 ص110 ب9 ح33344 .

وقوله عليه السلام لمحمّد بن مسلم : « ما جاءَكَ مِنْ رواية مِن بَرّ او فاجِر يُوافِقُ كِتابَ اللّه ِ فَخُذْ بِهِ ، وما جاءَكَ مِنْ رِوايةِ من برّ او فاجِر ، يُخالِفُ كِتابَ اللّه ِ ، فلا تأخُذ بِه » .

وقوله عليه السلام : « ما جاءَكُم مِنْ حَديثٍ لايُصدّقه كِتابُ اللّه ِ فَهوَ باطِلٌ » .

وقول أبي جعفر عليه السلام : « ما جاءَكُم عَنّا فان وَجدتُموه مُوافِقا لِلقُرآنِ فخُذوا بِهِ ، وإن لَم تَجدوه مُوافِقا فَردّوه ، وإن إشتَبَه الأمرُ عِندَكُم

------------------

وردّوه اليه ، بضاعته لنفسه ، لا انّها بضاعة تصدر الى الناس أيضا .

( وقوله عليه السلام لمحمّد بن مسلم : ما جائَكَ مِن روايةِ مِن برِّ أو فاجِر) أي سواء كان الراوي عادلاً ، أو كان فاسقا فان كان الخبر ( يُوافِقُ كِتابَ اللّه ِ فَخُذ بهِ ، وما جائَكَ مِن روايةِ مِن برّ أو فاجِرِ ، يُخالِفُ كِتابَ اللّه ِ ، فلا تأخُذ به ) (1) فان هذا الخبر يدلّ على ، انّ المعيار : موافقة الكتاب ، وعدم موافقته ، لا انّ الراوي عادل أو غير عادل .

( وقوله عليه السلام : ما جائَكُم مِن حَديثٍ لا يُصدّقه كِتابُ اللّه ، فَهوَ باطلٌ ) (2) فيلزم أن يكون الخبر مطابقا لكتاب اللّه سبحانه وتعالى ، وذكر كتاب اللّه وحده ، من باب المثال والاّ فالسنّة المعلومة أيضا كالكتاب - كما أشير اليه في جملة من الروايات - .

( وقول أبي جعفر عليه السلام : ما جائَكُم عَنّا ، فان وَجدتُموهُ مُوافقا للقُرآنِ ، فَخذوا بهِ ، وإن لَم تَجِدوهُ مُوافِقا ، فَردّوهُ ، وإن إشتَبهَ الأمرُ عِندَكُم ) بان لم تعلموا انّه يوافق القرآن ، او لا يوافقه ، كما اذا كان بينه وبين القرآن عموم من وجه ، أو كانت دلالة

ص: 193


1- - بحار الانوار : ج2 ص244 ب29 ح50 بالمعنى ، تفسير العياشي : ج1 ص20 .
2- - تفسير العياشي : ج1 ص20 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص123 ب9 ح33381 ، بحار الانوار : ج2 ص242 ب29 ح38 بالمعنى .

فَقِفوا عِندَه ورُدّوه إلينا حتّى نَشرَحَ مِن ذلك » .

وقول الصادق عليه السلام : « كُلُّ شَيء مَردودٌ إلى كِتابِ اللّه ِ والسُنّةِ ، وكُلُّ حَديثٍ لا يُوافِقُ كِتابَ اللّه فَهوَ زُخرُفٌ » .

وصَحيحة هِشام بن حَكَم عن أبي عَبد اللّه عليه السلام : « لا تَقبَلوا عَلَينا حَديثا إلاّ

------------------

الآية غامضة ، أو ما أشبه ذلك ( فَقِفوا عِندَه ، ورُدّوه إلَينا ، حَتّى نَشرَحَ ) لكم ونبيّن الصدق والكذب (مِن ذلك ) (1) المنقول عَنّا ، وعليه : فالاخبار على ثلاثة أقسام :

1 - قسم يؤخذ به مطلقا .

2 - قسم لا يؤخذ به مطلقا .

3 - قسم لا يعمل به ، ولا يعرض عنه ، وانّما يتوقف الانسان عنده ، حتى يتبيّن صدقه من كذبه ( وقول الصادق عليه السلام : كُلُّ شَيء مَردود الى كِتابِ اللّه ِ والسُنّة ) أي : انّ الشيء الذي وَرَدَ في أخبارنا ، يُردّ الى الكتاب والسنة فان كان موافِقا لهما يؤخذ به ، وان لم يكن موافقا لهما فلا يؤخذ به ، بلا فرق بين أن يكون الشيء الوارد حكما ، أو قصّة نبيّ ، أو تاريخ أمّة سابقة ، أو غير ذلك .

( وكلّ حَديث لا يُوافِقُ كِتابَ اللّه ِ فَهوَ زُخرُف ) (2) والزخرف : هو الباطل الذي له جمال الصحيح وزينته ، فان كون الخبر مرويا عنهم عليهم السلام ، زينة للخبر من جهة المنقول عنه ، وان كان باطلاً في نفسه ، ولم يقله الائمة الطاهرون عليهم السلام .

( وصحيحة هشام بن حَكَم ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام : لا تَقبَلوا عَلَينا حَديثا ، إلاّ

ص: 194


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص120 ب9 ح33370 ، امالي الطوسي : ص232 وفيه عليكم بدل (عندكم) .
2- - الكافي اصول : ج1 ص69 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص111 ب9 ح33347 .

ما وافَقَ الكِتابَ والسُنّةِ أو تَجدونَ مَعَهُ شاهِدا مِن أحاديثَنا المتَقَدّمَة ، فانّ المغيرَةَ بن سَعيد - لَعَنَهُ اللّه - دَسَّ في كُتُبِ أصحابِ أبي أحاديثَ لَم يُحَدِّث بها أبي ، فاتَّقوا اللّه َ ولا تَقبَلوا عَلَينا ما خالَفَ قولِ رَبّنا وسُنَّة نَبيّنا » .

------------------

ما وافَقَ الكِتابَ والسنّةِ ، أو تَجدونَ مَعَهُ ) أي مع ذلك الخبر ( شاهِدا مِن أحاديثَنا المتَقَدّمة ) أي شاهدا من الأحاديث المعتبرة ، الصادرة عنا قبل ذلك الحديث .

ثم انّ الامام عليه السلام بيّن السّبب في لزوم أن يكون الخبر ، مدعوما بالكتاب ، أو السنّة أو بأخبارهم عليهم السلام بقوله : ( فانّ المغيرَةَ بن سَعيد لَعَنَهُ اللّه ) وكان مفسِّدا وغاليا ، فاسدا في عقيدته ، ومفسِّدا في عمله ، وقد قتله عيسى بن موسى ، الوالي من قبل العبّاسيّين ، لأنّه كان مفسِّدا بين الناس .

( دسّ ) أي أدخَل ( في كُتُب أصحابِ أبي ) الباقر عليه السلام ( أحاديثَ لم يُحدّث بِها أبي ) عليه السلام ، ولهذا اختلفت الأخبار ، فلم يعلم الصحيح منها من الفاسد ، الاّ بقرينة من كتاب ، أو سنّة ، أو أحاديث سابقة ( فَاتقوا اللّه ، ولا تَقبَلوا عَلَينا ما خالَفَ قَولِ رَبّنا وسُنّةَ نبيّنا ) (1) .

لكن لا يخفى : انّ هذا الخبر يَرِدُ عليه اُمور :

الأوّل : انّ هذا ، كان بالنسبة الى الأخبار الصادرة في زمان المغيرة ، لا الأخبار السابقة واللاحقة عليه .

الثاني : انّه خاص بجماعة ، تمكن المغيرة من أخذ كتبهم ، لا مطلقا .

الثالث : انّه بالاضافة الى الأمرين المتقدمين : ان الخبر محلّ تأمّل ، اذ كيف يمكن الدسّ في كتب الناس ، مع وضوح اختلاف الخط والاسلوب وما اشبه ؟ فهذا الخبر من الأخبار التي يلزم ردّ علمه الى أهله .

ص: 195


1- - بحار الانوار : ج2 ص249 ب29 ح62 ، رجال الكشي : ج3 ص224 ح401 .

والأخبارُ الواردةُ في طرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة ولو مع عدم المعارض متواترةٌ جدّا ، وجه الاستدلال بها : انّ من الواضحات أنّ الأخبار الواردَة عنهُم عليهم السلام ، في مخالفةِ ظواهر الكتاب ، والسنّة

------------------

هذا بالاضافة الى انّه بعد ذلك الزمان ، كتبت الأخبار ونقّحت ، بما لو كان الأمر على ماذكر في هذا الخبر ، لم يبق من دسّه أثر بعد ذلك .

ويعرف هذا من قياس الأمر بما اذا دسّ بعض تلاميذ فقيه ، في تقريرات تلاميذه ، فهل يمكن بقاء الدسّ بعد قيام الفقيه وتلاميذه بالتهذيب والتنقيح ؟ .

( و ) لا يخفى : انّ ( الأخبار الواردة ، في طرح الأخبار المخالفَة للكتاب والسنّة ولو مع عدم المعارض متواترة جدّا ) فانّ بعض الأخبار وردت لمعالجة الروايات المتعارضة ، ليؤخذ بالموافق منها للكتاب والسنّة ويطرح المخالف منها للكتاب والسنّة ، وبعض الأخبار وردت في مطلق المخالف للكتاب والسنّة وان لم يكن هنالك تعارض بين خبرين ، وهذه الأخبار بحدّ التواتر وفوق حدّ التواتر .

واما ( وجه الاستدلال بها ) أي : بهذه الأخبار الواردة في طرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة ولو مع عدم التعارض بين تلك الاخبار - فهو : انّ الأخبار الدالة على طرح الأخبار المعارضة ، لا يراد بها : الأخبار المعارضة بالتباين ، اذ المخالِفون ما كانوا يضعون الأخبار المتباينة ، وانّما يراد بها : المعارضة بالعموم المطلق ، أو بالعموم من وجه ، ومع ذلك قال الأئمة عليهم السلام ، بطرحها ، مما يدل على انّ الخبر ليس بحجّة ، الاّ اذا علم صدوره ، او احتفّ بالقرائن القطعيّة .

وهذا هو مراد من يقول : بأنّ الخبر الواحد ليس بحجّة ، وذلك ل( انّ من الواضحات : انّ الأخبار الواردة عنهم عليهم السلام في مخالفة ظواهر الكتاب والسنّة ) مخالفة بالعموم والخصوص المطلق ، أو بالعموم والخصوص من وجه

ص: 196

في غاية الكثرة ، والمراد من المخالفة للكتاب في تلك الأخبار الناهية عن الأخذ بمخالفة الكتاب والسُنّة ليس هي المخالفة على وجه التباين الكلّي بحيث يتعذّر او يتعسّر الجمع ، إذ لا يصدر من الكذّابين عليهم ما يباين الكتاب والسنّة كليّة ، إذ لا يصدّقهم أحدٌ في

------------------

سواء بعنوان العام والخاص ، أو بعنوان الاطلاق والتقييد ( في غاية الكثرة ) حتى انه لو لم يؤخذ ، بمثل هذه الاخبار ، لزم تعطيل أكثر الأحكام .

فانّ أبواب الصلاة ، والصوم ، والحجّ ، والخمس ، والزكاة ، وغيرها من بقيّة الاحكام قد ورد جميعها في القرآن ، بعنوان العام أو بعنوان المطلق ، والأخبار الكثيرة خصّصتها ، أو قيّدتها ، سواء عندنا أو عند العامة .

( والمراد من المخالفة للكتاب ، في تلك الأخبار الناهية ) التي تنهى ( عن الأخذ بمخالفة الكتاب والسنّة ) هي : المخالفة التي ذكرناها بالعموم والخصوص ، أو بالاطلاق والتقييد و ( ليس هي المخالفة على وجه التباين الكلّي ، بحيث يتعذّر أو يتعسّر الجمع ) بينها .

اما متعذّر الجمع : فمثل أن يقول القرآن الحكم : اللّه واحد ، وتقول الرواية : بتعدّد الآلهة .

واما متعسّر الجمع : فمثل أن يقول القرآن : اللّه عالم بكل شيء ، وتقول الرواية : ليس بعالم بالجزئيات ، ويكون وجه الجمع - بتعسّر وتكلّف - : ان كل شيء ، يراد به : الكلّيات فقط ، دون الجزئيات ، كما قال به بعض الحكماء ، وهو : قولٌ لم ينزل اللّه به من سلطان .

( اذ لا يصدر من الكذّابين عليهم ) أي على المعصومين عليهم السلام ( ما يباين الكتاب والسنّة ) مباينة ( كلّية اذ لا يصدّقهم ) أي : لا يصدق الكذابين ( أحد في

ص: 197

ذلك ، فما كان يصدر عن الكذّابين من الكذب لم يكن إلاّ نظير ما كان يرد من الأئمة عليهم السلام ، في مخالفة ظواهر الكتاب والسنّة ، فليس المقصودُ من عرض ما يرد من الحديث على الكتاب والسنّة إلاّ عرض ما كان منها غير معلوم الصّدور عنهم ، وأنّه إن وُجد له قرينة وشاهد معتمد فهو ، وإلاّ فليتوقّف فيه ، لعدم افادته العلمَ بنفسه ، وعدم اعتضاده بقرينة معتبرة .

ثمّ إنّ عدم ذكر الاجماع ودليل العقل من جملة قرائن الخبر في هذه

------------------

ذلك ) الخبر المباين للقرآن مباينة كلّية ( فما كان يصدر عن الكذّابين من الكذب لم يكن الاّ نظير ما كان يرد من الائمة عليهم السلام ) من الاطلاق والتقييد ، والعام والخاص ( في مخالفة ظواهر الكتاب والسنّة ) .

إذن : فالمراد بالمخالفة التي نهى الائمة عليهم السلام عن العمل بها ، هي المخالفة على ذينك الوجهين ، أي : العموم المطلق ، ومن وجه ، أو الاطلاق والتقييد .

وعلى هذا : ( فليس المقصود ) بقولهم عليهم السلام : ( من عرض ما يرد من الحديث ، على الكتاب والسنّة الاّ عرض ما كان منها ) أي : من تلك الأخبار الواردة ، المنسوبة اليهم ( غير معلوم الصّدور عنهم ) لوضوح : انّ معلوم الصّدور ، لا يحتاج الى العرض .

( وانّه ) أي : ان هذا الخبر غير معلوم الصدور ، بل المحتمل الصدور عنهم وعن غيرهم ( ان وجد له قرينة وشاهد معتمد ) يدلّ على صدوره عنهم ( فهو ، والاّ فليتوقف فيه ، لعدم افادته العلمَ بنفسه ، وعدم اعتضاده بقرينة معتبرة ) فتكون هذه الروايات ، دالّة على المنع عن العمل بالخبر الواحد ، غير المعلوم الصدور ، المجرد عن القرائن ، وهذا هو ما يريده المانعون .

( ثم ان عدم ذكر : الاجماع ، ودليل العقل ، من جملة قرائن الخبر في هذه

ص: 198

الرّوايات ، كما فعله الشيخ في العدّة ، لأنّ مرجعهما إلى الكتاب والسنّة ، كما يظهر بالتأمّل .

------------------

الرّوايات ) وانّما اكتفت هذه الروايات بذكر قرينتين : موافقة الكتاب ، والسنّة المعلومة ، ولم تذكر من القرائن : موافقة الاجماع ، ودليل العقل ( كما فعله الشيخ ) رحمه اللّه ( في العدّة ) حيث جعل معيار حجّية الأخبار : الموافقة للكتاب ، أو السنّة ، أو الاجماع ، أو العقل .

وانّما لم تتعرض لذكر الاجماع والعقل هذه الأخبار ( لأنّ مرجعهما ) أي : الاجماع والعقل ( الى الكتاب والسنّة ) أيضا ( كما يظهر بالتأمّل ) .

أمّا الاجماع : فلتضمنه قول المعصوم عليه السلام ، على الدخول أو كشفه عنه على الحدس .

وأمّا العقل ، فلأنه «كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع» ، على ماذكروه ، في باب الملازمة .

لكن لا يخفى بان المستنبِط من الاخبار : يرى ان كلاً من الاجماع والعقل حجّة بنفسه كحجّية الكتاب والسنّة ، فانه كما لا يقال : انّ السنّة ترجع الى الكتاب في حجّيتها كذلك يلزم أن يقال : ان الاجماع والعقل ، لا يرجعان الى الكتاب والسنّة في حجّيتهما .

ومما يدلّ على ذلك : الرواية المرويّة عن الامام موسى بن جعفر عليه السلام ، حيث جاء فيها :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم »

« جميع أُمور الأديان أربعة : أمرٌ لا إختلافَ فيه ، وَهو إجماعُ الأمّة عَلى الضَرورة التي يَضطَرون إليها ، والأخبارُ المُجمَعُ عَليها ، وَهي الغايةُ المَعروض

ص: 199

ويشيرُ إلى ما ذكرنا ، من أنّ المقصود من عرض الخبر على الكتاب والسنّة هو في غير معلوم الصدور ، تعليلُ العرض في بعض الأخبار بوجود الأخبار المكذوبة في أخبار الاماميّة .

------------------

عَلَيها كُلّ شُبهَةٍ ، والمُستَنبِط مِنها كُلّ حادثة .

وأمر يحتمل الشكّ والانكار ، فَسَبيلُه إستيضاحُ أهله لمُنتحليه ، بحجّةِ من كتابِ اللّه مُجمَع عَلى تَأويلها ، وَسُنّة مُجمَع عَليها لا إختلافَ فِيها ، أو قِياس تَعرف العُقولُ عَدله ، وَلا تَسَعُ خاصَة الأمّة وَعامّتُها الشَكُّ فيه ، والانكارِ لَه » (1) الحديث ، وقد المعنا الى ذلك فيما سبق ، لكن حيث انّ البحث حول هذا الأمر خارج عن مقصد الشّرح نتركه لمحلّه .

هذا ، ومن الممكن ، أن يكون الوجه في عدم ذكر الاجماع والعقل من جملة قرائن الخبر هو : ماذكره الأوثق : من قلّة الأحكام التي يكون العقل أو الاجماع فيها قرينة لصحة الخبر أو عدم صحته .

( ويشير الى ما ذكرنا : من انّ المقصود من عرض الخبر على الكتاب والسنّة ) ليس هو عرض مطلق الخبر المخالف للكتاب والسنّة ، ولو كان غير محتمل الكذب سندا، او غير محتمل التقية دلالة - كما يقوله المانع - بل ( هو في غير معلوم الصدور ) المحتمل الكذب سندا والتقيّة دلالة فقط .

يشير اليه ( تعليل العرض في بعض ) هذه ( الأخبار : بوجود الأخبار المكذوبة في أخبار الامامية ) ممّا يدلّ على ان المقصود من العرض ، هو : التخلّص من الأخبار المكذوبة سندا ، أو غير الواقعية دلالة فلا يدلّ على عرض مطلق الاخبار المخالفة .

ص: 200


1- - تحف العقول : ص407 ، بحار الانوار : ج2 ص238 ب29 ح31 ، وسائل الشيعة : ج27 ص103 ب8 ح33329 .

وأمّا الاجماع :

فقد ادّعاه السيّد المرتضى قدس سره ، في مواضع من كلامه ، وجعله في بعضها بمنزلة القياس في كون ترك العمل به معروفا من مذهب الشيعة .

وقد إعترف بذلك الشيخُ ، على ما يأتي في كلامه ، إلاّ أنّه أوَّلَ معقدَ الاجماع بارادة الأخبار التي يرويها المخالفون .

------------------

وعليه : فالاخبار المحتمل صدورها ، او المشكوك صدورها ، بل والمعلوم صدورها ، لكن لا يعلم هل صدرت تقيّة ، أو لبيان الحكم الواقعي ، تعرض على الكتاب والسنّة ، لا مطلق الأخبار ، بينما يقول المانع : انّ الأخبار مطلقا ولو كانت غير محتملة الكذب سندا ، أو غير محتملة التقيّة دلالةً ، تعرض على الكتاب والسنّة ، فالمانع يمنع عموما ، وهذه الأخبار تدلّ على المنع في الجملة .

( وأمّا الاجماع : فقد ادّعاه السيّد المرتضى قدس سره في مواضع من كلامه ) حيث قال : انّ الاجماع قام على عدم عمل الشيعة بالخبر الواحد ( وجعله ) أي : جعل السيّد العمل بالخبر الواحد ( في بعضها ) أي : في بعض تلك المواضع ( بمنزلة القياس في كون ترك العمل به ) أي : بالخبر الواحد ( معروفا من مذهب الشيعة ) كما انّ ترك العمل بالقياس معروف من مذهبهم أيضا .

( وقد اعترف بذلك ) أي : بالاجماع على عدم العمل بالخبر الواحد ، عند الشيعة ( الشيخ ، على ما يأتي في كلامه ، الاّ انّه أوَّلَ مَعْقَد الاجماع ) أي : الاجماع المنعقد على : عدم العمل بالخبر الواحد ( بارادة الأخبار ) الضعيفة السّند ( التي يرويها المخالفون ) .

فقد قال الشيخ : بأنّ مراد المجمعين من قولهم : اجمعنا على عدم العمل ، بالخبر الواحد، هو : المنع عن العمل بالخبر الضعيف المرويّ من طرق المخالفين.

ص: 201

وهو ظاهرُ المحكيّ عن الطبرسيّ في مجمع البيان ، قال : « لا يجوز العملُ بالظنّ عند الاماميّة إلاّ في شهادة العدلين وقيم المتلفات واروش الجنايات » .

------------------

ولا يخفى : انّ الاجماع قد يكون له مَعْقَد ، مثل ما اذا قالوا : أجمعوا على الطمأنينة ، حال القرائة والذكر في الصلاة ، وقد لا يكون له معقد ، بأن قالوا : أجمعوا على لزوم الطمأنينة ، في الجملة ، فلا لفظ خاص يتعلق به الاجماع ، بل يكون من قبيل التواتر المعنوي .

وعليه : فاذا كان للاجماع معقد ، فلا يجوز مخالفته اطلاقا ، أمّا اذا لم يكن له مَعْقَد، فاللازم الأخذ بالقدر المتيقّن منه .

قال المصنّف : ( وهو ) أي : الاجماع على عدم العمل بالخبر الواحد ( ظاهر المحكيّ عن الطبرسيّ ، في مجمع البيان ) أيضا حيث ( قال : لا يجوز العمل بالظنّ عند الاماميّة ) .

فانّ ظاهر هذا اللّفظ شامل للخبر الواحد ، لانّ الخبر الواحد ممّا يورِث الظنّ النوعيّ ( الاّ في شهادة العدلين ) فانّ القاضي اذا شَهدَ عنده عدلان على شيء ، عَمِلَ بشهادتهما ، مع انه لا يعلم بالواقع ، بل يظنّ به ظنّا نوعيّا من باب شهادة العدلين .

( و ) الاّ في قول أهل الخبرة ، فانه ايضا يعمل بقولهم ، ولو لم يعلم بصحته بل يظنّ به ظنّا نوعيّا ، وذلك في ( قيم المتلفات ، واروش الجنايات ) (1) .

فانّه اذا اتلف انسان على انسان شيئا ، سئل أهل الخبرة عن قيمة المتلف حتى

ص: 202


1- - مجمع البيان : ج9 ص133 .

والجواب :

أمّا عن الآيات فبأنّها ، بعد تسليم دلالتها ، عموماتُ مخصّصةٌ بما سيجيء من الأدلّة .

وأمّا عن الأخبار فعن الرّواية الاولى فبأنّها خبر واحد لا يجوز الاستدلالُ بها على المنع عن الخبر الواحد .

------------------

يعطى للمالك ، وكذلك بالنسبة الى الجنايات الواردة على الانسان أو الحيوان ، فان قيمة تلك الجناية يرجع فيها الى أهل الخبرة ، والى هنا ، تم استدلال المانعين عن العمل بالخبر الواحد ، ثم بدأ المصنّف في الجواب عن أدلتهم قائلاً : ( والجواب : امّا عن الآيات فبأنّها ) لا تدل على : المنع عن العمل بالخبر الواحد ، في الفروع الفقهية ، بل ظاهرها : المنع عن العمل بالظنّ في الاصول الاعتقاديّة ، لأن الكفّار كانوا ينكرون التوحيد والنبوّة ، والمعاد ، من باب الظنّ ، فالآية وردت ناهية عن ذلك ، فلا اطلاق لها حتى تشمل الفروع .

و ( بعد تسليم دلالتها ) نقول : انّها ( عمومات مخصّصة بما سيجيء من الأدلّة ) الأربعة على حجّية خبر الثقة ، من : الكتاب والسنّة ، والاجماع والعقل .

لكن لا يخفى : انّ بعض الآيات آبية عن التخصيص ، كما ذكرناه ، في الاصول ، فاللازم حملها على الاصول الاعتقادية - كما فصلناه في موضعه - .

( وأمّا عن الأخبار ، فعن الرّواية الاولى ) وهي قول ابي الحسن عليه السلام : ما علمتم انّه قولنا فالتزموه ، وما لم تعلموه فردوه الينا .

( فبانّها خبر الواحد ، لا يجوز الاستدلال بها على المنع عن الخبر الواحد ) لأنّها ان دلّت على المنع عن خبر الواحد ، شمل نفسه ايضا وذلك يستلزم المناقضة .

هذا ، بالاضافة الى ان العلم ، وعدم العلم في الخبر ، يراد به الحجّة ،

ص: 203

وأمّا أخبارُ العرض على الكتاب ، فهي وإن كانت متواترةً بالمعنى الاّ أنّها بين طائفتين ، احداهما مادلّ على طرح الخبر الذي يخالف الكتاب ، والثانية ما دلّ على طرح الخبر الذي لا يوافق الكتاب .

------------------

لا خصوصية العلم ، فانّ الحجّة هي المتبادرة الى الأذهان من العلم .

( وأمّا أخبار العرض على الكتاب ) والسنّة في حجّية الخبر ( فهي وان كانت متواترة بالمعنى ) لا باللفظ ، والمراد بالمتواتر المعنوي ما اختلفت الفاظه ، لكنها تشير الى أمر واحد ، وهذه الأخبار من هذا القبيل ، فان الفاظها وان كانت مختلفة ، لكنها تشير الى معنى واحد ، وهو : لزوم عرض الأخبار على الكتاب والسنّة .

اذن : فلا يَردُ على هذه الأخبار : الاشكال الذي ذكرناه بالنسبة الى الخبر الأول .

( الاّ انّها ) أي : اخبار العرض منحصرة ( بين طائفتين ) .

( احداهما : ما دلّ على طرح الخبر ، الذي يخالف الكتاب ، والثانية : ما دلّ على طرح الخبر ، الذي لا يوافق الكتاب ) .

ومن المعلوم : انّ هناك ثلاثة اقسام من الاخبار :

الاول : ما يخالف الكتاب .

الثاني : ما لا يوافق الكتاب .

الثالث : ما ليس بمخالف ولا موافق للكتاب .

مثلاً : الخبر الذي يقول : لا يجب الحجّ اطلاقا ، مخالف للكتاب .

والخبر الذي يقول : يجب الحجّ كل عام لا يوافق الكتاب ، لأنّ الكتاب لم يقل بوجوب الحجّ على المستطيع في كل عام .

والخبر الذي يقول : بجواز تحليل الأمة من مالكها لغير المالك ، لا يوافق الكتاب، ولا يخالفه، لأنّه لم يُذكَر في الكتاب هذا الحكم اطلاقا، لا سلبا ، ولا ايجابا .

ص: 204

أمّا الطائفة الاولى ، فلا تدلّ على المنع عن الخبر الذي لا يوجد مضمونه في الكتاب والسنّة .

فان قلت : ما من واقعة إلاّ ويمكن استفادةُ حكمها من عمومات الكتاب المقتصر في تخصيصها على السنّة القطعيّة .

مثل قوله تعالى : « خَلَقَ لكم ما في الأرض جَميعا » ،

------------------

( أمّا الطائفة الاولى : ) وهي : الطائفة التي تدل على طرح الخبر المخالف للكتاب ( فلا تدلّ على المنع عن الخبر ، الذي لا يوجد مضمونه في الكتاب والسنّة ) لعدم صدق المخالف على ذلك الخبر .

فالدليل - وهو الرّواية المتقدّمة - أخصّ من المدّعى ، اذ مدّعى المانع : عدم حجّية خبر الواحد مطلقا ، وهو يشمل ما خالف الكتاب والسنّة وما لم يوجد مضمونه في كتاب أو سنّة ، بينما هذا الخبر دليل على طرح المخالف للكتاب والسنّة فقط ، دون ما لم يوجد مضمونه فيهما أصلاً .

( فان قلت ) ما من خبر الاّ وهو مخالف للكتاب والسنّة ، أو موافق لهما ، وليس لنا ما ليس بموافق ولا مخالف - كما ذكرتم - اذ ( ما من واقعة الاّ ويمكن استفادة حكمها من عمومات الكتاب ) فان في الكتاب عمومات تشمل كل واقعة واقعة .

( المقتصر في تخصيصها ) أي تخصيص تلك العمومات ( على السنّة القطعيّة ) فقط ، فان السنّة القطعيّة هي التي تخصص عمومات الكتاب ، والاّ فعمومات الكتاب تشمل كلّ حكم حكم ، من الأحكام ، التي يحتاج اليها الانسان .

( مثل : قوله تعالى : « خَلَق لَكُمْ ما في الأرضِ جَميعا ... » ) (1) حيث انه دليل على

ص: 205


1- - سورة البقرة : الآية 29 .

وقوله تعالى : « إنّما حَرَّمَ عَلَيكُم المَيتَةَ » ، الخ . و « كُلو مِمّا غَنِمتُم حَلالاً طَيّبا » ، و « يُريدُ اللّه َ بِكُمُ اليُسرَ ولا يُريدُ بِكمُ العُسر » .

------------------

حليّة كلّ شيء الاّ ما خرج .

( وقوله : « إنّما حَرَّمَ عَلَيكُم المَيتَةَ » (1) الى آخر الآية ) حيث انّ هذه الآية الثانية خَصّصَت الآية الاولى : « خَلَق لَكُم ما في الأرضِ جميعا » ، فالمخصص هي ما ذكر في الآية الثانية ، وما ليس في الآية الثانية يجوز للانسان تناولها .

( و ) قوله تعالى : ف( « كُلو مِمّا غَنِمتُم حَلالاً طَيّبا » ) (2) حيث انها دليل على حلّيّة كل الغنائم ، التي يغنمها الانسان بالطرق الشرعية - فلا شيء من الغنائم المشروعة مستثناة في القرآن الحكيم .

( و ) قوله تعالى : ( « يُريدُ اللّه ُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ العُسرَ ... » ) (3) حيث دلّت الآية على انّ كل يسر مجاز فيه ، وكل عسر مرفوع عن الانسان .

ومن الواضح : انّ ما يبتلى به الانسان ، امّا يسر أو عسر ، فلا خارج عنهما اطلاقا حتى يقال : بأنّه شيء ليس في الكتاب والسنّة ، فكلّ خبر ، امّا موافق للكتاب وعموماته ، فيؤخذ به ، وامّا مخالف له ، فيطرح .

الا اذا كان الخبر المخالف مما قطع بصدوره ، ودلالته ، ومضمونه ، فيؤخذ به ، ولا يوجد في الاخبار ما يكون مباينا للقرآن كهذا ، وانّما الموجود هو امّا من باب التخصيص للكتاب ، أو من باب التقييد له .

لا يقال : ذكر الآية الكريمة : « وَلا يُريدُ بِكُمُ العُسرَ » (4) ، ليس فيه شيء زائد

ص: 206


1- - سورة البقرة : الآية 173 .
2- - سورة الانفال : الآية 69 .
3- - سورة البقرة : الآية 185 .
4- - سورة البقرة : الآية 185 .

ونحو ذلك فالأخبارُ المخصّصَة لها كلّها ولكثير من عمومات السنّة القطعيّة مخالفةٌ للكتاب والسنّة .

------------------

على : «يُريدُ اللّه ُ بِكُمُ اليُسرَ » (1) .

لأنّه يقال : هناك ثلاثة أشياء : يسر ، وعسر ، وامر عادي .

ولم يذكر القرآن الكريم الأمر العادي ، لا في الآية نصا ، ولا في احدى الجملتين تضمنا ، لتبقى فجوة بينهما يتطلبها الذهن من الخارج ، كما هي عادة القرآن الكريم ، في كل الامور ، حتى في القصص والتاريخ ، من انه لا يذكر كلّ الخصوصيات فيها ليحفّز الانسان على التعليم ، والفحص ، واستطراق أبواب المعصومين عليهم السلام .

( ونحو ذلك ) من العمومات القرآنية ، مثل قوله سبحانه : « قُل لا أَجِدُ في ما أُوحِي إليَّ مُحَرَّما عَلى طاعِم يطعَمُهُ ... » (2) .

وقوله سبحانه : « وأُحِلَّ لَكُم ما وَراءَ ذلكُم ... » (3) الى غيرها من الآيات العامة ، التي يشمل عمومها كل جزئي جزئي نحتاج اليه في حياتنا .

وعلى هذا : ( فالأخبار ) الآحاد ( المخصّصة لها ) أي : لعمومات الكتاب ( كلّها ) أي : كل تلك الأخبار ( و ) كذلك الأخبار المخصصة ( لكثير من عمومات السنّة القطعيّة ، مخالفة للكتاب والسنّة ) فيلزم طرحها .

وانّما فرّق المصنّف ، بين عمومات الكتاب ، حيث جعل كلها مخصصة ، وبين عمومات السنّة حيث جعل أكثرها مخصصة ، لأنّه لا عموم في الكتاب لم

ص: 207


1- - سورة البقرة : الآية 185 .
2- - سورة الانعام : الآية 145 .
3- - سورة النساء : الآية 24 .

قلت : أوّلاً : انّه لا يُعَدُّ مخالفةُ ظاهر العموم ، خصوصا مثل هذه العمومات ، مخالفةً والاّ لعُدّت الاخبار الصّادرة يقينا عن الأئمة عليهم السلام ، المخالفة لعمومات الكتاب والسنّة النبويّة ، مخالفا للكتاب والسنّة .

------------------

يخصص ، بينما هناك في السنّة ، بعض العمومات غير مخصصة .

( قلت ) ما ذكرتم - من : انّ كل خبر لا يكون موافقا للحكم الموجود في عموم الكتاب والسنّة فهو مخالف لهما - : غير تام اذ الأخبار التي تخالف عمومات الكتاب الوسيعة جدا ، لا تسمّى : مخالفا لها ، فانّ في القرآن عمومات واسعة جدا ، وعمومات دونها في السعة .

فمثل قوله تعالى : « خَلَقَ لَكُم ما في الأرض جَميعا » (1) من العمومات الواسعة ، ولذا لا يقال : بأن حرمة محرمات النسب ، والمصاهرة ، ونحوها ، مخالفة لعموم قوله تعالى : « خَلَقَ لَكُم ما في الأرض جَميعا » .

والى هذا اشار المصنّف بقوله : ( أولاً : انّه لا يعدّ مخالفة ظاهر العموم ، خصوصا مثل هذه العمومات ) الوسيعة جدا ( مخالفة ) عرفا .

فانّ الأحكام التي تستفاد من هذه العمومات الوسيعة جدا ، لا يصدق عليها عرفا : انها موجودة في الكتاب والسنّة ، كما انه لا يصدق على الأخبار التي تخصص هذه العمومات : انها تخالف الكتاب والسنّة .

( والاّ ) بأن كانت الأخبار المخالفة لمثل هذه العمومات ، تعدّ مخالفة لعمومات الكتاب ( لعدّت الأخبار ، الصّادرة يقينا عن الأئمة عليهم السلام ، المخالفة لعمومات ) وردت في ( الكتاب والسنّة النبويّة ، مخالفة للكتاب والسنّة ) .

ص: 208


1- - سورة البقرة : الآية 29 .

غايةُ الأمر ثبوتُ الأخذ بها مع مخالفتها لكتاب اللّه وسنّة نبيّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فيخرجُ عن عموم أخبار العرض ؛ مع أنّ الناظر في أخبار العرض على الكتاب والسنّة يقطعُ بأنّها تأبى عن التخصيص .

------------------

فانّه لو كان المراد من المخالفة : مطلق المخالفة - ولو بالعموم والخصوص ، والاطلاق والتقييد ، فيما اذا كان العام والمطلق واسعين جدا - لزم طرح كل خبر مخالف لهما ، حتى ولو كان معلوم الصدور فيلزم انحصار الحجّة : في الكتاب والسنّة القطعيّة ، ويلزم تعطيل أكثر الأحكام وذلك بديهي البطلان .

فان قلت : إذن لماذا ذَكَرَ القُرآن الحكيم ، مثل هذه العمومات الوسيعة جدا .

قلت : ذكرها للالماع الى الخطوط العامة في الأحكام ، فهي بمثابة قول الطبيب للمريض : لا بد أن تشرب الدواء ممّا ليس الطبيب بصدد البيان حين يذكر هذه الجملة ، وانّما بصدد : ان لا يترك المريض نفسه بدون دواء ، فاذا قال الطبيب بعد ذلك اشرب الدواء الفلاني ، او قال : اجتنب الدواء الفلاني ، لم يكن من قبيل المطلق والمقيد ، ولا أحد كلاميه مخالفا مع الآخر .

( غاية الأمر : ثبوت الأخذ بها مع مخالفتها لكتاب اللّه ، وسنّة نبيّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فيخرج عن عموم أخبار العرض ) فالأخبار القطعية الصّدور ، خارجة عن عموم اخبار العرض ، ويعمل بها مع انها مخالفة لكتاب اللّه وسنّة نبيه .

هذا ( مع انّ الناظر في أخبار العرض على الكتاب والسنّة ، يقطع بأنّها تأبى عن التخصيص ) لأنّها بصدد : انّ القرآن هو المحور مطلقا وأنّ كل شيء يخالفه يجب أن يطرح .

وعليه : فكيف يمكن أن يقال : انّ القرآن هو المحور وكل مخالف له يطرح الاّ انه ليس بمحور، ويقبل مخالفه في الأحكام العامّة الواسعة جدا ؟ فهل هذا الكلام

ص: 209

وكيف تُرتكبُ التخصيصُ في قوله عليه السلام : « كلُّ حديث لا يُوافِقُ كتابَ اللّه فهو زُخرُفٌ » ، وقوله : « ما أتاكُمُ مِن حَديثٍ لا يُوافِقُ كتابَ اللّه فهو باطلٌ » ، وقوله عليه السلام : « لا تَقبلوا عَلينا خِلافَ القُرآن ، فانّا إن حَدَّثنا حَدَّثنا بموافَقَةِ القرآن وموافَقَةِ السنّة »

------------------

إلاّ تناقض .

وان شئت قلت : الأخبار المخصصة إما مخالفة ، أو ليست بمخالفة ، فان كانت مخالفة لزم تخصيص أخبار العرض ، والحال : ان اخبار العرض لا تخصص ، وان لم تكن مخالفة ، فكل الأخبار المخصصة ليست بمخالفة ، فيجوز العمل بها ، لأنّ اخبار العرض لا تشملها .

وعليه : فحيث لا يمكن أن نقول : بأنّ أخبار العرض مخصصة يجب أن نقول : بأنّ المخالفة بالتخصيص والتقييد ، ليست من المخالفة في شيء .

( وكيف ترتكب التخصيص في قوله عليه السلام : كُلُّ حديثٍ لا يُوافِق كِتابَ اللّه ، فهو زُخرُف ) (1) أي : له ظاهر جميل وباطن غير جميل .

( وقوله عليه السلام : ما أتاكم مِن حَديثٍ لا يُوافِقُ كِتابَ اللّه ِ ، فَهُوَ باطِلٌ ) (2) فانّه يدل على ان القرآن هو المحور ، الكلُّ في الكل ، ولا يمكن أن يكون هناك شيء يخالفه ، ويكون ذلك المخالف حقا ( وقوله عليه السلام : لا تَقبَلوا عَلينا خِلافَ القُرآن ، فَانّا إن حَدَّثنا ، حَدَّثنا بموافَقَةِ القُرآن ومُوافَقَة السنّة ) (3) فهل يمكن أن يقال :

ص: 210


1- - الكافي اصول : ج1 ص69 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص111 ب9 ح33347 .
2- - تفسير العياشي : ج1 ص20 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص123 ب9 ح33381 ، بحار الانوار : ج2 ص242 ب29 ح38 .
3- - بحار الانوار : ج2 ص249 ب29 ح62 ، رجال الكشي : ج3 ص224 ح401 .

وقد صحّ عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، أنّه قال : « ما خالَفَ كِتابَ اللّه ِ فليسَ مِن حَديثي ، أو لَم أقلهُ » ، مع أنّ أكثر عمومات الكتاب قد خصّص بقول النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم .

وممّا يدلّ على أنّ المخالفة لتلك العمومات لا تعدّ مخالفةً ، مادلّ من الأخبار على بيان ما لا يوجد حكمه في الكتاب والسنّة النبويّة صلى اللّه عليه و آله وسلم ، إذ بناءا على تلك العمومات

------------------

لا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، الاّ في الموارد الفلانية ، فانا نقول فيها : خلاف القرآن ؟ وهل هذا إلا مِن التناقض الواضح ؟ .

( وقد صحّ عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم انه قال : ما خالَفَ كِتابَ اللّه ِ ، فَلَيسَ مِن حديثي ، أو لَم أقُلهُ ) (1) والترديد ب«أو» بين الجملتين امّا من الرّاوي ، وانّه شَكَّ في أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : فليس من حديثي ، أو قال : لم أقله ، أو أنّ المراد بأو : انّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم قال مرة ذلك ، وقال اخرى هذا - ( مع انّ أكثر عمومات الكتاب ، قد خصّص بقول النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم) فقوله : ما خالف كتاب اللّه فليس من حديثي ، يجب أن يراد به : ما خالفه بالتّباين ، لا ماخالفه بالعموم والخصوص ، أو الاطلاق والتقييد . (وممّا يدلّ على انّ المخالفة لتلك العمومات) القرآنية على نحو : العموم والخصوص ، والاطلاق والتقييد ( لا تعدّ مخالفة ) وانّ أخبار العرض على القرآن لا تطرد الأخبار المخصّصة والمقيّدة ، وانّما تطرد الأخبار المخالفة للقرآن على نحو التباين فقط ، هو ( ما دلّ من الأخبار على بيان : ما لا يوجد حكمه في الكتاب والسنّة النبويّة صلى اللّه عليه و آله وسلم ، اذ بناءا على تلك العمومات ) بأن قلنا : انّ عمومات

ص: 211


1- - قرب الاسناد : ص44 ، تفسير العياشي : ج1 ص8 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج27 ص111 ب9 ح33348 ، بحار الانوار : ج2 ص227 ب29 ح5 .

لا توجد واقعةٌ لا يوجد حكمُها فيها .

فمن تلك الأخبار : ما عن البصائر والاحتجاج وغيرهما مرسلةً عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم انه قال : « ما وَجدتُم في كِتابِ اللّه فالعَمَلُ بهِ لازمٌ ، ولا عُذرَ لَكُم في تَركِه ، وَمالَم يَكُن في كِتابِ اللّه ِ تَعالى وكانَت فيه سُنّة منّي فلا عُذرَ لكُم في تَرك شَيءٍ ،

------------------

الكتاب شاملة لكل الأحكام ، حتى تكون الأخبار المخصصة ، مخالفة للقرآن ، فانه على ذلك ( لا توجد واقعة لا يوجد حكمها فيها ) أي : في عمومات الكتاب وكذا في السنّة النبويّة .

وعليه : فهذه الأخبار تشهد بما ذكرناه : من انّ الأخبار المخصصة ليست من الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة ، فانّه لو وجد في الكتاب كلّ الأحكام ، حتى تكون الأخبار المخصّصة والمقيّدة مخالفة للقرآن والسنّة ، لزم عدم صحة الأخبار التي تقول : انّ هناك أحكاما لا توجد في القرآن .

وذلك للتلازم بين القول : بشمول القرآن لكل الاحكام ، وبين القول : بعدم وجود مصداق لهذه الاخبار ، الدالة على عدم وجود بعض الأحكام في القرآن .

( فمن تلك الأخبار ) الدالّة على ان بعض الأحكام ، لا توجد في القرآن ( ما عن البصائر ، والاحتجاج ، وغيرهما ، مرسلة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم انه قال : ما وَجدتُم في كِتابِ اللّه ِ ، فالعَمَلُ بِه لازمٌ ، وَلا عُذرَ لَكُم في تركِه ) والمراد : أعم من الواجب والحرام ، فاذا كان في القرآن واجب لا يجوز تركه ، واذا كان في القرآن حرام ، لا يجوز فعله ، وفعله عبارة عن : ترك ما في القرآن .

( وما لَم يَكُن في كِتابِ اللّه تَعالى وَكانَت فيه سُنّةٌ مِنّي ، فلا عُذرَ لَكُم في تَرك شيء) مما في سنّتي .

ص: 212

وَما لَم يَكُن فيه سُنّة مِني فَما قالَ أصحابي فَقولوا بهِ ، فانّما مَثَلُ أصحابي فيكُم كمَثَلِ النُجوم بأيّها اُخِذَ اهتُدي ، وبأيّ اقاويلَ أصحابي أخذتُم إهتديتُم ، واختلافُ أصحابي رحمةٌ لكم .

قيل : يا رسول اللّه ، ومَن أصحابُك ، قال : أهلُ بيتي ،

------------------

( وَما لَم يَكُن فيه سُنّة مِنّي ، فَما قالَ أَصحابي ، فَقولوا به ) أي : اعملوا على طبق مقالتهم ( فانّما مَثَلَ أصحابي فيكُم ) والمراد بهم : الائمة الطاهرون عليهم السلام ، فان مثلهم ( كَمَثلِ النُجوم ، بأيّها أُخِذَ اهتُدي ) و : أخذ ، و : اهتدي ، كلاهما على صيغة المجهول ( و ) في صورة التعارض بين أقوالهم ، ف( بأي أقاويل أصحابي أخذتُم ، إهتديتُم ) وهذا من قبيل ما روي : انه عند اختلاف الرّوايات يتخير الانسان ، بين أن يأخذ بهذه الرّواية ، أو بتلك الرّواية ، فقد قال عليه السلام : « بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك » (1) .

كما هو مذكور في الوسائل في كتاب القضاء ، وفي غيره أيضا .

( و ) قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( إختلافُ أصحابي رحمةٌ لَكُم ) حيث للانسان ، أن يأخذ بهذا القول ، فيعمل به ، او بذاك القول ، فيعمل طبقه .

وذلك فيما اذا كانت هناك أخبار متعارضة وردَت الينا ، ولم نعلم انّ أيها هو الواقع ؟ فلربّما كان كلاهما واقعا ، فيكون الحكم تخييريا ، وقد بيّن الامام عليه السلام ، مرّة : هذا الطرف من التخيير ، واخرى : الطرف الاخر منه .

ثم انه ( قيل يا رَسول اللّه : وَمَن أصحابُك ؟ قال : أهلُ بيتي ) (2) علي والائمة

ص: 213


1- - الكافي اصول : ج1 ص66 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص108 ب9 ح33339 .
2- - بصائر الدرجات : ص11 ح2 ، معاني الاخبار : ص156 بالمعنى ، الاحتجاج : ص355 ، بحار الانوار : ج2 ص220 ب29 ح1 .

الخبر .

فانّه صريحٌ في انّه قد يرد من الأئمة عليه السلام ، ما لا يوجد في الكتاب والسنّة .

------------------

الأحد عشر المعصومون من ذريته صلوات اللّه وسلامُه عليهم اجمعين ، الى آخر ( الخبر ) ، أما إحتمال ان يريد صلى اللّه عليه و آله وسلم بالأصحاب : كل من إحتف به في حياته ، فهو مخالف لمّا ورَد في القرآن الحكيم : من انّ جملة منهم كانوا منافقين ولما ورَد منه صلى اللّه عليه و آله وسلم : « كَثُرت عَليَّ الكَذابة » (1) ، الى غير ذلك .

ثمّ هل المنافق كمثل النجم يهتدى به ؟ .

وهل الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، يأمرنا باتباع الصادقين والكاذبين على حد سواء ؟ .

ثم انّ المراد بالنجوم هي تلك التي يهتدى بها ، فان بيّن النجوم ما يهدي الى جهة خاصة في وقت مخصوص ، كما لا يخفى على من عرف حال السالكين في الصحاري والبراري والبحار والمحيطات ، بل في الفضاء أيضا ، حيث انهم يهتدون بتلك النجوم الى جهة الشمال ، أو الجنوب ، أو الشرق ، أو الغرب ، أو بين الجهتين ، لكن في وقت مخصوص أيضا .

مثلاً : بعضها يهدي في الشتاء ، وبعضها في الصيف ، وبعضها في الخريف وبعضها في الربيع ، وبعضها في أوّل الليل ، وبعضها في آخر الليل ، وبعضها في القطر العراقي ، وبعضها في القطر اليماني ، الى سائر ما ذكر في هذا الباب من علم النجوم .

وعلى أي حال : ( فانّه ) أي : هذا الخبر المرويّ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ( صريح في انّه: قد يرد من الائمة عليهم السلام ، ما لا يوجد في الكتاب والسنّة) ممّا يدلّ

ص: 214


1- - الخصال : ص255 ح131 ، سليم بن القيس : ص103 ، الصراط المستقيم : ج3 ص156 ، وسائل الشيعة : ج27 ص207 ب14 ح33614 .

ومنها : ما ورد في تعارض الرّوايتين من ردّ ما لايوجد في الكتاب والسنّة إلى الأئمة عليهم السلام ، مثل ما رواه في العيون عن أبي الوليد ، عن سعد بن محمّد بن عبد اللّه المسمعيّ ، عن الميثميّ ، وفيها : « ما وَرَدَ عليكُم من خَبرَين مُختَلِفَين فاعرِضوهُما على كِتابِ اللّه ِ - إلى أن قال : - وما لَم يكُن في الكتاب فاعرِضوهُما على سُنَن رَسولِ اللّه ِ صلى اللّه عليه و آله وسلم - إلى أن قال - وما لَم تجدوا في شيءٍ مِن هذِهِ فردّوا إلينا عِلمَه ، فَنَحنُ أولى بذلك»

------------------

على انّ الأحكام ، لا تستفاد كلها من ظاهر الكتاب والسنّة حتى يكون كل مخصّص ومقيّد لعموماتهما مخالفا للكتاب والسنّة .

( ومنها ما ورد في تعارض الرّوايتين : من ردّ ما لا يوجد في الكتاب والسنّة ، الى الائمة عليهم السلام ) ممّا يدلّ على انّ بعض الأحكام ، لا يوجد في الكتاب ، ولا في السنّة .

( مثل ما رواه في العيون ، عن أبي الوليد ، عن سعد بن محمّد بن عبد اللّه المسمعيّ ، عن الميثميّ ) في رواية ( وفيها : ما وَرَدَ عَليكُم مِن خَبَرين مُختَلِفَينِ ، فاعرِضوهُما عَلى كِتابِ اللّه - الى ان قال عليه السلام - : وما لَم يكُن في الكِتابِ ، فاعرِضوهُما على سُنَنِ رَسولِ اللّه ِ صلى اللّه عليه و آله وسلم ) الثابتة .

( الى أن قال : وَمالَم تَجدوا في شيءٍ مِن هذِهِ ، فَردّوا إلَينا عِلمَه ) أي : اطلبوا منّا معرفة الحكم في ذلك .

واذا كانوا عليهم السلام في حال غيبة - كما في الحال الحاضر - فالردّ اليهم ، معناه : التوقف عن العمل ، أو الرد باحد المعاني المتقدمة في بعض الكلام السابق .

وعلى كلّ : ( فَنَحنُ أولى بذلِك ) (1) أي : بأن يرد الشيء المجهول الينا الى آخر

ص: 215


1- - عيون اخبار الرضا : ج1 ص20 بالمعنى ، بحار الانوار : ج2 ص234 ب29 ح15 .

الخبر .

والحاصلُ : أنّ القرائن الدالّة على أنّ المراد بمخالفة الكتاب ليس مجرّد مخالفة عمومه او إطلاقه كثيرةٌ يظهر لمن له أدنى تتبّع .

------------------

(الخبر ) فان هذا مثل سابقه يدلّ أيضا على عدم وجود بعض الأحكام في ظاهر الكتاب والسنّة ، فاذا قيل : بان في عموم القرآن والسنّة يوجد كل حكم ، كان مناقضا هذا القول لهذا الخبر .

( والحاصل : انّ القرائن الدالة على انّ المراد بمخالفة الكتاب : ليس مجرّد مخالفة عمومه أو اطلاقه كثيرة ، يظهر لمن له أدنى تتبّع ) فالمراد بمخالف الكتاب : الأخبار المخالفة للكتاب بالتباين ، كما يرى الانسان ذلك في بعض أخبار العامة .

ثم انّ الأئمة عليهم السلام، انّما كانوا يفتون بالأخبار المختلفة لعدة اُمور :

الأول : كون الحكم تخييريا .

الثاني : كون الحكم تارة واقعيا ، وتارة للتقيّة على نفس الامام عليه السلام ، أو على السائل ، أو على من كان في المجلس ، أو من كان يبلغه الخبر ، فيعمل به ، فيؤخذ عليه - كما تقدّم الالماع الى هذين الأمرين - .

الثالث : ارادة الامام عليه السلام وقوع الاختلاف بذلك بين الشيعة حتى لا يعرفوا بطريقة واحدة فيؤخذوا ، كما دلّ على هذا الاخير ، جملة من الروايات .

مثلاً : روى الكافي عن زرارة ، عن الباقر عليه السلام ، قال: « سألته عن مسألة فأجابني، ثم جاء رَجلٌ فَسأله عنها ، فاجابه بخلاف ما أجابني ، ثم جاء آخر فاجابه بخلاف ما أجابني وأجابَ صاحبي ، فَلَمّا خَرجَ الرَجلان ، قُلتُ : يابنَ رَسولِ اللّه ِ رَجُلانِ مِن أهلِ العِراقِ مِن شيعَتِكُم يَسألان ، فأجِبتَ كُلّ واحد مِنهُما بغَيرِ ما أجبتَ بهِ

ص: 216

ومن هنا يظهر ضعفُ التأمّل في تخصيص الكتاب بخبر الواحد

------------------

صاحبه ، فقال : يا زرارَة إنّ هذا خير لَنا ، وأبقى لَنا وَلَكُم ، وَلو إجتَمَعتُم عَلى أمرٍ واحدٍ لصدَّقَكُم الناس عَلَينا ، وَلكان أقل لبَقائنا وَبَقائكُم .

ثم قال : قُلتُ لابي عبد اللّه عليه السلام : شيعتُكُم لو حَملتُموهم عَلى الأسنّة أو على النار لَمَضُوا ، وَهُم يَخرُجونَ مِن عندَكُم مختَلِفين ؟ قال : فاجابني بمثل جواب أبيه » (1) ، الى غيره من الأخبار الواردة بهذه المضامين .

ولهذا قال الصدوق رحمه اللّه ، في وجه إختلاف الأصحاب : انّ أهل البيت عليهم السلام لا يختلفون ، ولكن يفتون الشيعة بمرّ الحق ، وربّما أفتوهم بالتقيّة ، فما يختلف من قولهم فهو للتقيّة ، والتقيّة رحمة للشيعة ، انتهى .

ولعله أشار بكلامه هذا الى القسمين من التقيّة : الثاني ، والثالث مما ذكرناه .

ثم انّه يدل على عدم وجود بعض الأحكام في الكتاب والسنّة : ما روي عن الصادق عليه السلام قال : « ما حَجَبَ اللّه عِلمَهُ عَن العِبادِ ، فَهُو مَوضوعٌ عَنهُم » (2) وفي رواية أخرى : « اسكتوا عَمّا سَكَتَ اللّه عنهُ » (3) .

( ومن هنا ) أي : مما تقدّم : من انّ المخالفة بالعموم والخصوص ، والاطلاق والتقييد ، ليست بمخالفة حتى يشملها الأخبار الدالّة على انّ مخالف القرآن لم يقولوه ( يظهر : ضعف التأمّل ) ممن تأمل ( في تخصيص الكتاب ) مثلاً او تقييده (بخبر الواحد ) معللاً ذلك بقوله :

ص: 217


1- - الكافي اصول : ج1 ص65 ح5 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص164 ح3 ، التوحيد : ص413 ح9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص163 ب12 ح33496 ، بحار الانوار : ج2 ص280 ب33 ح48 .
3- - غوالي اللئالي : ج3 ص166 .

لتلك الأخبار ، بل منعه لأجلها كما عن الشيخ في العدّة ، او لما ذكره المحقّق من انّ الدّليل على وجوب العمل بخبر الواحد الاجماعُ على استعماله فيما لا يوجد فيه دلالة ، ومع الدّلالة القرآنيّة يسقط وجوبُ العمل به .

وثانيا :

------------------

بانّ الكتاب انّما هو لأجل كافة البشر ، فلا يمكن تقييده ، أو تخصيصه بالخبر الواحد ، اطلاقا ، وذلك مضافا ( لتلك الأخبار ) المتقدمة الدالة على طرح الخبر المخالف للكتاب والسنة .

( بل منعه ) أي : منع تخصيص الكتاب وتقييده بالأخبار رأسا ( لأجلها ) أي : لأجل تلك الأخبار المتقدّمة ، الدّالة على انّه لا يجوز مخالفة الكتاب ( كما عن الشيخ : في العدّة ) التصريح بذلك .

( أو لما ذكره المحقّق : من انّ الدّليل على وجوب العمل بخبر الواحد ) انّما هو (الاجماع على استعماله ) أي : استعمال الخبر الواحد ( فيما لا يوجود فيه دلالة ) من القرآن على الحكم الذي يراد العمل به .

( ومع ) وجود ( الدلالة القرآنية ) على الحكم ، ولو بالعموم والاطلاق ( يسقط وجوب العمل به ) أي : بالخبر المخالف للكتاب من جهة العموم ، أو الاطلاق .

والحاصل : انه لا يخصّص عموم الكتاب بالخبر ، ولا يقيّد اطلاقه به ، وانّما ظهر ضعف هذا لمّا تقدّم : من انّ المراد بالمخالف : هو المخالف بالتباين ، لا بالعموم والخصوص المطلق ، أو بالعموم والخصوص من وجه ، أو بالاطلاق والتقييد .

( وثانيا ) سلمنا : انّ الأحكام المستفادة من عمومات الكتاب والسنّة - ولو عمومات واسعة جدا - يصدق على تلك الأحكام : انها موجودة في الكتاب

ص: 218

أنّا نتكلّمُ في الأحكام التي لم يرد فيها عمومٌ من القرآن والسنّة ، ككثير من أحكام المعاملات ، بل العبادات التي لم ترد فيها إلاّ آيات مجملة أو مطلقة من الكتاب ،

------------------

والسنّة ، وسلّمنا : انّ الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة بالعموم والخصوص ، أو بالاطلاق والتقييد يصدق عليها : انها مخالفة لهما .

الاّ ( انّا نتكلّم في الاحكام التي ) لا تُستَفاد من عمومات الكتاب وان إستُفيدت من العمومات العامة الفوقية ، مثل قوله تعالى : « خَلَق لَكُم مافي الأرضِ جَميعا »(1) ، وقوله تعالى : « قُل لا أجِدُ فيما أُوحِيَ إليّ مُحَرّما ... » (2) .

وانّما نريد بالأحكام التي لا تستفاد من عمومات الكتاب ، العمومات التي هي قريبة الى تلك الأحكام الجزئية ، فانّه ( لم يرد فيها ) أي : في تلك الأحكام الجزئية (عموم من القرآن والسنّة ، ككثير من أحكام المعاملات ) من الرَّهن ، والاجارَة ، والمُزارَعة ، والمُساقات ، والشِركة ، وغيرها .

( بل العبادات التي لم ترد فيها الاّ آيات مجملة ) مثل قوله سبحانه : « أقم الصّلاةَ لِدُلوكِ الشَّمسِ إلى غَسَقِ الّيلِ ... » (3) حيث انّ الغَسقِ هل هو أول الليل أو وسطه ؟ فقد اختلفوا في ذلك في التفاسير ، وغيرها ( أو مطلقة ) .

اذ بعض آيات الكتاب مطلقة وليست بمجملة ، وانّما تقيّد بسبب الرّوايات ، مثل قوله سبحانه : « أحلَّ اللّه ُ البَيعَ ... » (4) حيث انه يشمل كلّ أقسام البيع الأربعة : من بيع النَقد ، والنَسيئة ، والكالي بالكالي ، والسَلَف .

لكنَّ الرّوايات خصّصَت الآية باخراج الكالي بالكالي ( من الكتاب ) وكذلك

ص: 219


1- - سورة البقرة : الآية 29 .
2- - سورة الانعام : الآية 145 .
3- - سورة الاسراء : الآية 78 .
4- - سورة البقرة : الآية 275 .

إذ لو سلّمنا أنّ تخصيص العموم يُعدُّ مخالفةً ، أمّا تقييد المطلق فلا يُعَدُّ في العرف مخالفةً ، بل هو مفسّرٌ خصوصا على المختار من عدم كون المطلق مجازا عند التقييد .

------------------

في المُجملات ، أو المطلَقات من السنّة القطعيّة .

( اذ لو سلمنا ان تخصيص العموم يُعدّ ) في العرف ( مخالفة ، امّا تقييد المطلق ، فلا يعدّ في العرف : مخالفة ) فانهم اختلفوا في انّ تقييد المطلق هل هو : مخالفة عرفيّة حتى يكون مجازا ، أو لم يكن مخالفة حتى لا يكون مجازا ؟ بينما اتفقوا على انّ تخصيص العام : يوجب المجازيّة .

لكن الظاهر : انّه لا وجه لهذا التفصيل ، فكلاهما امّا يوجب المجازية ، واما لا يوجبها ، اذ أي فرق بين أن يقول : أحلّ البيع ، أو أحلّ البُيوع ، في تقييد أو تخصيص ذلك ، بغير الغرريّ ، وتفصيل الكلام في محله .

والحاصل : ان الأحكام التي تُستَفاد من إطلاقات الكِتاب والسُنّة ، لا يُصدق على الأخبار التي تقيّدها : انها مخالفة للاطلاقات .

مثلاً : يستفاد من إطلاق « أقيموا الصلاة » : عدم تقيدها بالساتر ، لكن لا يصدق انّ هذا الحكم موجود في القرآن الكريم ، كما لا يصدق على الخبر الدّال على تقييدها : بالساتر : انه مخالف للكتاب ، حتى يطرح هذا الخبر المقيد ، لاجل الأخبار الآمرة بطرح مخالف الكتاب .

( بل هو ) أي : هذا التقييد ( مفسّر ) للمطلق القرآني ( خصوصا على المختار : من عدم كون المطلق مجازا عند التقييد ) فانّ جماعة ذهبوا : الى انّ المطلق اذا قيّد ، لم يسبّب ذلك مجازيته ، لأنّ للمطلق والمقيّد كلاهما لفظ واحد ، وانّما المطلق : فيما اذا لم يقيد من الخارج ، والمقيد : فيما اذا قيد من الخارج .

ص: 220

فان قلت : فعلى أيّ شيء تحمل تلك الأخبار الكثيرة الآمرة بطرح مخالف الكتاب ؟ فانّ حملها على طرح ما يباين الكتاب كليّةً حملٌ على فرد نادر بل معدوم ، فلا ينبغي لأجله هذا الاهتمامُ الذي عرفته في الأخبار .

------------------

وعلى أي حال : فالتقييد ليس يوجِب المجازية ، فاذا لم يوجب المجازية ، فالمطلق باقٍ على حقيقته ، واذا كان المطلق حقيقة،لم يكن دليل التقييد يعدّ مخالفا .

وهذا القول ، في قبال القول الآخر ، الذي يرى : مجازية المطلق اذا قيّد ، لانّ المطلق ظاهر في الاطلاق، فتقييده يسقط ظهوره ، واسقاط الظهور يوجب المجازية .

( فان قلت : ) اذا لم تكن الأخبار المقيّدة والمخصّصة لعمومات الكتاب والسُنّة ، مشمولة للروايات التي تدُل : على إنّ مخالف القرآن لا يعمل به ( فعلى أيّ شيء تُحمَل تلك الأخبار الكثيرة ، الآمرة بطرح مخالف الكتاب ) أو الآمرة بطرح مخالف السنّة ( فانّ ) تلك الأخبار ، لا يمكن حملها على المخالف للكتاب والسنّة ، بنحو التباين الكلي .

اذ ( حملها على طرح ما يباين الكتاب كلّية ، حمل على فردٍ نادرٍ ، بل معدوم ) رأسا ، فانه لم يكن في الأخبار ، روايات تناقض الكتاب ، أو السنّة المعلومة ، تناقضا صريحا .

وعليه : ( فلا ينبغي ) للأئمة عليهم السلام ( لأجله ) أي لاجل ذلك الأمر النادر ( هذا الاهتمام ، الذي عرفَتهُ في الأخبار ) الكثيرة القائلة : بأن الخبر المخالف للكتاب والسنّة لا يُعمَل به ، وانّه زخرف وباطل ، وما أشبه ذلك .

ص: 221

قلت : هذه الأخبار على قسمين :

منها ما يدلّ على عدم صدور الخبر المخالف للكتاب والسنّة عنهم عليهم السلام وإن المخالف لهما باطلٌ، وانّه ليس بحديثهم .

ومنها : ما يدلّ على عدم جواز تصديق الخبر المحكيّ عنهم عليهم السلام ، إذا خالف الكتاب والسنّة .

أمّا الطائفةُ الاولى ، فالأقرب حملُها على الاخبار الواردة

------------------

( قلت : هذه الأخبار ) الآمرة بطرح الخبر المخالف للكتاب ، أو السنّة المعلومة (على قسمين ) :

القسم الاول ( منها : ما يدلّ : على عدم صدور الخبر المخالف للكتاب والسنّة عنهم عليهم السلام ) اطلاقا، فالخبر المخالف وإن نُسب إليهم، فليس منهم ، فلقد اعتاد بعض المخالفين من تلفيق الخبر ، ثم نسبته اليهم عليهم السلام .

( وانّ المخالف لهما ) أيّ : للكتاب ، والسنّة المعلومة ( باطل ، وانّه ليس بحديثهم ) ولا بحديث رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، حيث قد أكثَروا مِن الكذب عليه صلى اللّه عليه و آله وسلم في حياته ، حتى قال : « قَد كَثُرت عَليّ الكَذابَة ، فَمَن كَذَّبَ عَلَيّ مُتَعَمّدا ، فَلْيَتَبَوأ مَقعَدَهُ مِنَ النّارِ » (1) .

( و ) القسم الثاني : ( منها : ما يَدُلّ : على عدم جواز تصديق الخبر المحكي عنهم عليه السلام ، اذا خالف الكتاب ، والسنّة ) المعلومة .

( أمّا الطائفة الأولى : ) الدالّة على عدم صدور مثل هذه الأخبار عنهم عليهم السلام ( فالأقرب ) الى التأمّل ( : حملها على الأخبار ) المباينة للكِتاب والسنّة ( الواردة

ص: 222


1- - الخصال : ص255 ح131 ، وسائل الشيعة : ج27 ص207 ب14 ح33614 .

في اصول الدين ، مثل مسائل الغلوّ والجبر والتفويض التي ورد فيها الآيات والأخبار النبويّة ، وهذه الأخبار غير موجودة في كتبنا الجوامع ، لأنّها اخذت عن الاصول

------------------

في اصول الدّين ، مثل : مسائل الغلوّ ، والجبر ، والتفويض ) والتجسيم والتشبيه ، وما الى ذلك ( التي ورد فيها الآيات والأخبار النبويّة ) الناهية عن ذلك .

فالآيات ، مثل قوله عزّ وجلّ : « تعالى اللّه ُ عَمّا يُشرِكون » (1) حيث انّه خلاف الغلوّ .

وقوله تعالى : « قائِمٌ عَلى كُلّ نَفس بِما كَسَبَت » (2) حيث انه خلاف التفويض .

وقوله سبحانه : « إنّا هَدَيناهُ السَّبيلَ ، إمّا شاكِرا وإمّا كَفورا » (3) فانه خلاف الجَبر .

وقَوله تَعالى : «لَيسَ كَمِثلِه شيء» (4) حيث انه خلاف التجسيم والتشبيه، الى غير ذلك .

إذن : فالروايات الواردة في اصول الدين الدالة على مثل الغلوّ وما أشبه تُخالف الكتاب ، ولهذا فهي : زخرف وباطل ، ويجب ان يضرب بها عرضَ الحائط ، وانهم لم يقولوها ، وانها ليست من كلامهم ، ولا من حديثهم ، والى غير ذلك .

( وهذه الأخبار ) التي ذكرناها : من إنها وردت في الغلوّ ، والجَبر ، والتفويض ، وما أشبه ذلك كثيرة إلاّ إنها ( غير موجودة في كتبنا الجوامع ) الأربعة وغيرها ( لأنّها ) أي : هذه الجوامع ، من الفقيه ، والاستبصار ، والتهذيب ، والكافي ( اُخذت عن الاصول ) الأربعمائة ، بل وغيرها أيضا ، ممّا ثبت إنتسابها إلى

ص: 223


1- - سورة النمل : الآية 63 .
2- - سورة الرعد : الآية 33 .
3- - سورة الانسان : الآية 3 .
4- - سورة الشورى : الآية 11 .

بعد تهذيبها من تلك الأخبار .

وأمّا الثانيةُ : فيمكنُ حملها على ما ذكر في الاولى ، ويمكن حملُها على صورة تعارض الخبرين كما يشهد به موردُ بعضها ،

------------------

أصحاب الأئمة عليهم السلام ( بعد تهذيبها من تلك الأخبار ) الباطلة .

فانّ الاصول الأربعمائة وغيرها ، قد هُذِّبَت من بين الأخبار ونُقّحت ، بحيث أصبحت اصولاً نظيفة ، فجُمِعَ منها المجاميع المعتمدة لدى الشيعة الى يومنا هذا .

بل يمكن أن يقال : انه كانت هناك أخبار اُخر ، في الاصول ، بل وفي الفروع أيضا، مخالفة للقرآن ، والسنّة المعلومة ، مثل : خبر « سيّدا كهولِ أهلِ الجَنة ، وسِراجا أهل الجَنة » مقابل : « الحَسَنِ والحُسَينِ سَيّدا شَباب أهلِ الجَنّة » (1) ، ومثل الطّلاق يجوز بدون شهود عدول ، وانه يقع ثلاثا في مجلس واحد ، وما أشبه ذلك .

ولا يخفى : ان السنّة المعلومة دلّت على ان الجنة لا تحتاج الى سراج ، وليس فيها الاّ الشباب ، كما ان القرآن يقول : بلزوم الشهود في الطّلاق ، وانّ اللاّزم ثلاث منفصلات ، الى غير ذلك (2) .

( وأمّا ) الطائفة ( الثانية : ) الدّالة على عدم جواز تصديق الخبر المحكيّ عنهم عليهم السلام اذا خالف الكتاب والسنّة ( فيمكن حملها على ماذكر في الاولى ) ايضا : من انها في الاخبار الواردة في اصول الدين ( ويمكن حملها على ) مطلق المخالفة في ( صورة تعارض الخبرين ، كما يشهد به مورد بعضها ) .

فانّ بعض الأخبار الدّالة على طرح الخبر المخالف للكتاب والسنّة ، انّما وَرَدَ

ص: 224


1- - من لا يحضره الفقيه : ج4 ص179 ب2 ح5404 .
2- - للمزيد من التفصيل راجع موسوعة الفقه : ج69 - 70 للشارح .

ويمكنُ حملُها على خبر غير الثقة ، لما سيجيء من الأدلّة على اعتبار خبر الثقة .

هذا كلّه في الطائفة الدالّة على طرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة .

وأمّا الطائفةُ الآمرةُ بطرح ما لا يوافق الكتابَ او لم يوجد عليه شاهدٌ من الكتاب والسنّة .

------------------

في باب المتعارضين ، كما في خبر عمر بن حَنظَلة ، حيث يقول الرّاوي : « فان كان الخَبران عَنكم مشهورَين ، قد رَواهُما الثقاة عَنكم ، قال : يُنظَرُ فَما وافَق حُكمَهُ حُكمَ الكِتاب والسنّة ، وخالف العامّةَ فَيُؤخَذُ بهِ ، ويُترَكُ ما خالف حكمَه حُكمَ الكِتابَ والسنّة ، ووافق العامّة » (1) .

( ويمكن حملها على ) مُطلق المخالفة ، كما في الحملين الاولين ، لكن في ( خبر غير الثقة ، لما سيجيء : من الأدلّة على إعتبار خبر الثقة ) فقط ، فيكون المراد من المخالفة على هذا : مطلق المخالفة سواء كان بالعموم المطلق ، أو من وجه ، أو الاطلاق والتقييد ، أو التباين ، لأنّ خبر غير الثقة ليس بحُجّة .

لكن ، لا يخفى بُعد هذا الحمل ، لأنّ ظاهر هذه الأخبار : عدمُ العمل بالمخالف بما هوَ مُخالف ، لا من جهة أخرى ( هذا كلّه في الطائفة ، الدّالة على طرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة ، وأمّا الطائفة الآمرة بطرح ما لا يوافق الكتاب ، أو لم يوجد عليه شاهد من الكِتاب والسنّة ) مثل ما رواه الحُسين بن أبي العلاء : « انه حَضَر إبن أبي يعفور في هذا المجلس ، قال : سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عَنِ إختلافِ الحَديث ، يَرويهِ مَن نَثِقُ بهِ ، ومِنهُم من لا نِثِقُ به ؟ .

ص: 225


1- - الكافي اصول : ج1 ص68 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص302 ب22 ح52 ، من لا يحضره الفقيه : ج3 ص8 ب2 ح3233 ، وسائل الشيعة : ج27 ص106 ب9 ح33334 .

فالجوابُ عنها - بعد ما عرفتَ من القطع بصدور الأخبار الغير الموافقة لما يوجد في الكتاب منهم عليهم السلام ، كما دلّ عليه روايتا الاحتجاج والعيون ، المتقدّمتان المعتضدتان بغيرهما من الأخبار - أنّها محمولة على ما تقدّم في الطائفة الآمرة بطرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة ،

------------------

قال : إذا وَرَد عَليكُم حَديثٌ ، فوَجدتُم له شاهدا مِن كتاب اللّه ، أو من قول رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فخذوا به ، وإلاّ فالذي جائكم به أولى به » (1) .

( فالجواب عنها - بعد ما عرفت : من القطع بصدور الأخبار غير الموافقة لِما يوجد في الكتاب منهم عليهم السلام ، كما دلّ عليه ) أي : على صدور الأخبار ، التي لا يوجد مضمونها في الكتاب والسنّة ( روايتا : الاحتجاج ، والعيون ، المتقدّمتان المعتضِدتان بغيرهما من الأخبار ) الدّالة على انّ بعض الأحكام الفرعيّة ليست موجودة في الكتاب والسنّة بصورة خاصة ، فيكون الجواب ( : انها محمولة على ما تقدّم في الطائفة) الأولى (الآمرة بطرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة) المعلومة.

فانا نقطع بصدور أخبار كثيرة عنهم عليهم السلام ، غير موافقة للكتاب والسنّة ، بمعنى : انّها مخصّصَة أو مقيّدة لعمومات الكتاب والسنّة - على ما تقدّم الالماع الى ذلك - بحيث انّا لو لم نعمل بهذه الأخبار لزم إنحصار الحجّة في الكتاب ، والسنّة المعلومة ، ولَزِمَ من ذلك تعطيل كثير من الأحكام .

وعليه : فلابدَّ من حمل أمثال هذه الأخبار ، على بعض المحامل المتقدّم ة في الطائفة الاولى الآمرة بطرح ما يُخالف الكتاب والسنّة ، من : انّها واردة في اصول الدين ، أو في صورة التعارض ، أو في خبر غير الثقة ، أو حتى في فروع الدّين

ص: 226


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص110 ب9 ح33344 ، الكافي اصول : ج1 ص69 ح2 وليس فيه (فخذوا به) .

وانّ ما دلَّ منها على بطلانِ مالم يوافق وكونِه زخرفا محمولٌ على الأخبار الواردة في اصول الدين ، مع احتمال كون ذلك من أخبارهم الموافقة للكتاب والسنّة على الباطن الذي يعلمونه منها ،

------------------

أيضا - كما أشرنا إليه سابقا .

إذن : فالطائفة الثانية ، التي تدلّ على طَرحِ ما لا يُوافِق الكِتاب تكون أيضا عَلى قِسمين :

القسمُ الأوّل : ما يُحمَل على المحامل الثلاثة التي حملنا عليها الطائفة الأولى ، الدالّة على طرح مخالف الكتاب ، وهي : إنها في اصول الدين ، أو إذا كان الخبر غير ثقة ، أو في صورة التعارض .

القسم الثاني : من الطائفة الثانية ، ما أشار إليه المصنّف بقوله : ( وانّ ما دلّ منها على بطلان ما لم يُوافِق ، وكونه زُخرفا ، محمول ) على أحد أمرين :

الأول : ( على الأخبار الواردة في اصول الدين ) .

الثاني : ما أشار إليه بقوله : ( مع إحتمال كون ذلك من أخبارهم ، الموافقة للكتاب والسنّة على ) حسب المعنى ( الباطن ، الذي يعلمونه ) أي : يعلمون ذلك الباطن (منها ) أي : من الآيات .

وهذا إحتمال رابع في الطائفة الثانية ، فنحن مأمورون أن نطرح هذه الطائفة ، لكن من المُحتمل أن يكون الأئمة عليهم السلام ، يَرَونَ هذه الطائفة موافقة للقرآن الكريم .

والحاصل : انّ الطائفة الثانية أيضا كالطائفة الاولى على قسمين ، ويُحمَل كلُّ قسم منهما ، على ما حُمِلَ عليه قِسما الطائفة الاولى ، مع زيادة محتمل آخر من الطائفة الثانية ، أشار إليها بقوله : « مع احتمال كون ذلك ... » .

ص: 227

ولهذا كانوا يستشهدون كثيرا بآيات لا نفهم دلالتها ؛ وما دلّ على عدم جواز تصديق الخبر الذي لا يوجد عليه شاهدٌ من كتاب اللّه على خبر غير الثقة او

------------------

( ولهذا ) الذي ذكرناه : من إن الخبر ربّما يكون موافقا للقرآن بحسب الباطن ، الذي يعلمه المعصوم عليه السلام ، وان لم يكن موافقا للقرآن بحسب الظاهر في نظرنا ، إلاّ إننا مأمورون بطرح مثل هذا الخبر ، لئلا يتخذ الناسُ القرآنَ وسيلةً لمآرِبهم في

تأويل آياته كما يشاؤون .

ويؤيد هذا الاحتمال إن الائمة عليهم السلام ( كانوا يستَشهِدون ) على بعض الاحكام الشرعية ( كثيرا ، بآيات لا نفهم دلالتها ) بحسب الظاهر .

مثل استشهادهم عليه السلام بآية : « وانّ المَساجِدَ للّه ِ ... » (1) على : عدم قطع كَفّ السّارق ، وانّما الأصابع الأربعة فقط ، مع إنها لا دلالة فيها بحسب الظاهر في نظر البعض ، وانّما استشهَد بها الامام عليه السلام لعلمه بباطن الآية ، حيث كان يعلم ما أراد اللّه تعالى منها .

ومثل إستشهادِهم عليه السلام بآية النّور ، على انّ المراد بها : هم الائمة الطاهرون عليهم السلام .

ومثل استشهادهم بالآية « وَقالَ الانسانُ مالَها » (2) على ان المراد بالانسان : هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، الى غير ذلك ممّا يجده الانسان بكثرة ، في تفسير الآيات وتأويلها (3) .

( و ) كذا يمكن حمل ( ما دلّ ) من الأخبار ( على عدم جواز تصديق الخبر ، الذي لا يوجد عليه شاهد من كتاب اللّه : على خبر غير الثقة ، أو

ص: 228


1- - سورة الجن : الآية 18 .
2- - سورة الزلزلة : الآية 3 .
3- - للمزيد راجع تقريب القرآن الى الأذهان للشارح .

صورة التعارض ، كما هو ظاهر غير واحد من الأخبار العلاجيّة .

ثمّ إن الأخبار المذكورة على فرض تسليم دلالتها وإن كانت كثيرة إلاّ أنّها لا تقاوم الأدلّة الآتية ، فانّها موجبة للقطع بحجّية خبر الثقة ، فلابدّ من مخالفة الظاهر في هذه الأخبار .

------------------

صورة التعارض كما هو ) أي : عدم جواز تصديق ما لا يوجد عليه شاهد في الكتاب ( ظاهر غير واحد من الأخبار العلاجيّة ) .

ولا يخفى وجود التشويش فيما ذكره المصنّف : من التقسيم ، وفي المحامل ، ولعلّ الأقرب من كلّ ذلك ، هو : انهم عليهم السلام قالوها في مورد الأخبار الدخيلة ، حيث أرادوا بها تنقيح أخبارهم عليهم السلام منها .

وأمّا ما وصل بأيدينا ، من المجاميع المؤلفَة من الأصول ، فلا يوجد فيها شيء من تلك الأخبار الدخيلة .

( ثم انّ الأخبار المذكورة ) الدالّة على عدم العمل بالخبر المخالف للكتاب ، أو غير الموافق له ، اذا قلنا بشمولِها لمثلِ العام والخاص ، والمطلق والمقيّد ، فانه ( على فرض تسليم دلالتها ) على المنع ، وتسليم سندها ، حيث انّ سند جملة منها غير نقيّ ، فانّها ( وان كانت كثيرة ، إلاّ انّها لا تقاوم الأدلّة الآتية ) الدالّة على حجّية خبر الواحد مطلقا ، فيما اذا تم فيه السّند ، والدلالة ، وجهة الصدور .

( فانّها ) أي : تلك الأخبار الكثيرة ، الدالّة على العمل بالخبر الواحد ( موجِبَة للقطع بحجّية خبر الثقة ) مع إجتماع سائر الشرائط ( فلا بدّ من ) إرتكاب ( مخالفة الظاهر في هذه الأخبار ) ، الدالّة على المنع .

والحاصل : انّا ان تمكّنّا من حمل هذه الأخبار المانعة على ظاهرها ، بحيث لا تكون منافية للأدلّة المجَوزَة ، فهو ، وإلاّ إضطررنا الى التأويل في الأخبار المانعة

ص: 229

وأمّا الجوابُ عن الاجماع : الذي ادّعاه السيّد والطبرسيّ ، فبأنّه لم يتحقق لنا هذا الاجماعُ ، والاعتماد على نقله تعويلٌ على خبر الواحد مع معارضته بما سيجيء من دعوى الشيخ المعتضدة بدعوى جماعة اخرى الاجماعَ على حجّية خبر الواحد في الجملة ، وتحقّق الشهرة

------------------

لئلا نطرح الأدلة المجوزة ، التي هي مقطوعة سندا ودلالة ، وجهة في الجملة .

( وأمّا الجواب عن الاجماع الذي إدعاه السيّد والطبرسيّ ) على عدم العمل بالخبر الواحد ( فبأنّه لم يتحقق لنا هذا الاجماع ) ولم يكن محصّلاً بالنسبة الينا ، اذ لم نجد من العلماء من يقول : بعدم العمل بالخبر الواحد ، الاّ نادرا .

( و ) اما ( الاعتماد على نقله ) اي : نقل الاجماع بأن نقول : انّه اجماع منقول والاجماع المنقول حجّة ، فانه ( تعويل على خبر الواحد ) اذ السيّد والطبرسيّ يَخبِر ان بالاجماع ، وخبرهما خبر واحد ، ولا يجوز الاعتماد على خبر الواحد ، في إثبات حجّية خبر الواحد ، لأنّه من قبيل ما يستلزم من وجوده عدمه ، وذلك محال ، لأنّ الوجود والعدم متناقضان ، فلا يجتمعان في حال واحد .

( مع معارضته بما سيجيء من دعوى الشيخ ) فانّ دعوى السيّد والطبرسيّ : الاجماع على عدم حجّية خبر الواحد ، معارض بدعوى شيخ الطائفة : الاجماع على حجّية الخبر الواحد .

( المعتضدة ) تلك الدعوى من الشيخ ( بدعوى جماعة اُخرى : الاجماع على حجّية خبر الواحد في الجملة ) .

وعلى تقدير حجّية الاجماعين المتعارضين يقع بينهما التعارض ويتساقطان ، فلا يكون إجماع في حجّية خبر الواحد ، كما لا يكون إجماع في عدم حجّيته .

( و ) كذا ( تحققِ الشهرة ) يعني : إنّ دعوى الشيخ : الاجماع على حجّية خبر

ص: 230

على خلافها بين القدماء والمتأخّرين .

وأمّا نسبةُ بعض العامّة ، كالحاجبيّ والعضديّ ، عدم الحجّية الى الرافضة ، فمستندة إلى ما رأوا من السيّد من دعوى الاجماع ، بل ضرورة المذهب على كون خبر الواحد كالقياس عند الشيعة .

------------------

الواحد ، معتضدة أيضا بتحقق الشهرة على الحجّية ، وهذه الشهرة ( على خلافها ) أي : خلاف دعوى السيّد والطبرسيّ ، متحَقّقَة ( بين القدماء والمتأخرين ) ممّا تدلّ على حجّية خبر الواحد .

فان قلت : فكيف إذن ينسِب العامة الى الشيعة : عدم حجّية الخبر الواحد ؟

قلت : ( وأمّا نسبة بعض العامّة ، كالحاجبيّ والعضديّ ) وهما من أعلام السنّة في الاصول ( عدم الحجّية الى الرّافضة ) - والمراد بالرافضة : الشيعة ، لأنهم رفضوا خِلافَة الّذين تقدّموا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، ولهذا يُعبّر العامة عنهم بالرّافضة ( فمستَنِدةٌ الى ما رأوا من السيّد ) المرتضى ( من دعوى الاجماع ، بل ضرورة المذهب : على كون خبر الواحد كالقياس عند الشيعة ) في عدم العمل .

فنسبتهم ذلك الى الشيعة ، لا لانهم وجدوا مشهور الشيعة لا يعملون بالخبر الواحد ، وإنما لانهم وجدوا ذلك في كتاب السيّد المرتضى ، فلا يبقى بَعدَ ذلك دلالة في نسبتهم تلك الى الشيعة .

* * *

ص: 231

حجة المجوزين

اشارة

وأمّا المجوّزون ، فقد استدلّوا على حجّيّته بالأدلّة الأربعة .

أمّا الكتابُ :

فقد ذكروا منه آياتٍ ادّعوا دلالتها .

منها قوله تعالى في سورة الحجرات : « ياأيُّها الذّينَ آمَنوا إن جَاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيّنوُا أن تُصِيبُوا قَوماً بِجَهالةٍ فتُصبِحُوا على مافَعَلتُمْ نادِمِينَ » .

والمحكيّ في وجه الاستدلال بها

------------------

حجة المجوزين

( وأمّا المجّوزون ) للعمل بالخبر الواحد ، وهم المشهور قديماً وحديثاً ( فقد استدلّوا على حجّيته ) أي : حجّية الخبر الواحد ( بالأَدلّة الأربعة ، أمّا الكتاب فقد ذكروا منه آيات ادّعوا دلالتها ) وإِن كان في دلالة بعضها نظر .

( منها : قوله تعالى في سورة الحجرات « ياأَيُّها الّذِينَ آمَنوا إِن جَائَكُم فاسِقٌ بِنَبأ فَتَبَيَنوُا ، أَنْ تُصِيبوُا قَوماً بِجَهالَةٍ ، فتُصبِحوُا عَلى مافَعلتُم نادِمينَ») (1) .

وقد ذكر المؤرخون والمفسّرون في نزول هذه الآية : انّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم : بعث الوليد بن عُتبَة ، الى قَبيلة بني المصطَلق لجمع الصدقات ، فلمّا رأُوهُ إِستقبلوه فظنّ إِنهم أَرادوا قتله ، فعاد الى النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وأخبر : إنهم إِرتدوّا عن دينهم ، فأراد النبي تجهيز الجيش وقِتال بني المصطلق ، فنَزَلت هذه الآية .

( والمحكي في وجه الاستدلال بها ) أي : بآية النبأ ، كما ذكره المصنّف

ص: 232


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

وجهان : أحدُهما : أنّه سبحانه علّق وجوبَ التثبّت على مجيء الفاسق ، فينتفي عند انتفائه عملاً بمفهوم الشرط ، وإذا لم يجب التثبّتُ عند مجيء غير الفاسق ، فامّا أن يجبَ القبول ، وهو المطلوب ، أو الردُّ وهو باطل ، لأنّه يقتضي كون العادل أسوء حالاً من الفاسق ، وفسادُه بيّنٌ .

------------------

(

وجهان ) : ( احدهما : ) مفهوم الشرط ، وبيانه : ( انه سبحانه علّق وجوب التثبّت على مجَيء الفاسق ) بمعنى : إِنَّه جَعل مَجيء الفاسِق شرطاً لوجوب التبيّن والتثبّت ( فينتفي ) وجوب التثبّت والتبيّن ( عند انتفائه ) أي : عند انتفاء مجيء الفاسق ، فاذا جاء الفاسق بالنبأ وَجَب التَبيّن ، واذا لم يجيء الفاسق بأن جاء العادل ، فلا تبيّن لخبره ، وذلك ( عملاً بمفهوم الشرط ) وقد ثبت في محله : ان مفهوم الشرط حجّة ( واذا لم يجب التثبّت عند مجيء غير الفاسق ) بأن جاء العادل بالخبر ( فامّا أن يجب القبول ) بلا تبيّن ، فانه اذا جاء الفاسق بالخبر نتبيّن ، فان كشف لنا صدقه عملنا به ، والاّ لَمْ نَعمل به .

وأَمّا اذا جاء العادل بالخبر ، فانه نقبل خبره ونعمل به بلا تبيّن ( وهو المطلوب ) لمن قال : بأنّ خبر الواحد حجّة ، وإِنّ حجّيته لمفهوم الشرط المستفاد من هذه الآية المباركة .

( أو الردّ ) بلا تبيّن ، فاذا جاء الفاسق ، تبيّنا عن خبره ، واذا جاء العادل ، رَدَدنا خَبره بلا تبيّن ( وهو ) أي الردّ بلا تبيّن ( باطل ) قطعاً ( لأنّه يقتضي كون العادل ، أَسوءُ حالاً من الفاسق ، وفسادُه بَيّن ) لأنه وجَبَ التّبيّن في خبر الفاسق ، بينما قد رددنا خبر العادل رأساً بلا تبيّن ومن دون عمل .

وحيث ان الأَسوئية في خبر العادل مقطوع العدم ، فاللاّزم أن نقول : بان مفهوم الآية هو : قبول خبر العادل بلا تبيّن .

ص: 233

الثاني : أنّه تعالى أمر بالتثبّت عند إخبار الفاسق ، وقد اجتمع فيه وصفان ، ذاتيّ وهو كونه خبر واحد ، وعرضيّ وهو كونه فاسقاً .

ومقتضى التثبّت هو الثاني ، للمناسبة والاقتران ، فانّ الفسق يناسب عدم القبول ، فلا يصلح الأوّل ، للعلّية ،

------------------

( الثاني : ) من وجهي الاستدلال بالآية لقبول خبر العادل ، مفهوم الوصف ، وبيانه : ( أنّه تعالى أَمر بالتثبّت عند إخبار الفاسق وقد إِجتمع فيه ) أي : في إِخبار الفاسق ( وصفان : ذاتيّ : وهو كونه خبر واحد ، وعرضيّ : وهو كونه ) أي كون : هذا الواحد الذي جاء بالخبر ( فاسقاً ) .

لوضوح : انّ الوحدة وصف ذاتي ، لأنّه لايمكن تفكيك الموصوف عن هذا الوصف ، بينما الفسق وصف عرضيّ ، لأنّه يمكن إِنفكاكه عنه ، بأن يكون الواحد عادلاً ، لا فاسقاً ( ومقتضى التثبّت ، هو : الثاني ) أي : لأجل أنّه فاسق ، يجب التثبّت في خبره ، وذلك ( للمناسبة والإِقتران ) .

أمّا الاقتران : فلأن الفسق والتثبّت ذُكِرا معاً ، حيث قال تعالى : «إن جَائَكُم فاسِقٌ بنَبأ فَتَبيّنوا» (1) ولم يقل : إن جائكُم واحد ، فيظهر : ان التبيّن لكونه فاسقاً ، لا لكونه واحداً ، فهو مثل صلَّ خَلفَ العادل ، حيث يظهر منه : ان العدالة وجه الائتمام ، لا إنّه انسان ، وإلاّ لزم ان يقول : صلَّ خلف الانسان .

وأمّا المناسبة : فقد أشار إليه المصنّف بقوله : ( فانّ الفسق يناسب عدم القبول ) حيث ان العُرف يرى : الفسق ، هو : المناسب لعدم قبول الخبر ، لا الوحدة .

وعليه:( فلا يصلح الأوّل ) وهو الوحدة ( للعلّية ) أي : لعلّية التثبّت ، لأن التثبّت أمّا مرتبط بالوحدة ، وإمّا مرتَبط بالفِسق ، وحيث تبيّن : أنّ الوحدة لاتكون عِلّة ،

ص: 234


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

وإلاّ لوجب الاستناد إليه ، إذ التعليلُ بالذاتيّ الصالح للعلّية ، اولى من التعليل بالعرضيّ ، لحصوله قبل حصول العرضيّ ، فيكون الحكمُ قد حصل قبل حصول العرضيّ .

------------------

كان الفِسق هو العلّة للتثبّت .

( وإلا لَوَجَب الإستناد إليه ) أي : إلى الأَول ، فانه إن كانت الوحدة صالحة للعلّية ، لكان الواجب أن يقول : إِن جائكم واحد فتبينوا ( اذ التعليل بالذاتي ) كالوحدة فيما نحن فيه ( الصّالح للعلّية ، أَولى من التعليل بالعرضيّ ) كالفِسق فيما نحن فيه ( لحصوله ) أي الذاتي وهو الوحدة ( قبل حصول العرضي ) وهو الفِسق ( فيكون الحكم ) بوجوب التَبيّن لو كان علّة التبيّن هو الذاتي ( قد حصل ، قبل حصول العرضي ) ، فيلزم تعليل وجوب التبيّن بالوحدة ، لا بالفسق .

وذلك لأنه إذا كان هناك علّتان : علّة ذاتيّة ، وعلّة عرضيّة ، نُسب المعلول الى العلّة الذاتية ، لا الى العلّة العرضيّة ، فاذا كان شخص يكره شخصاً - مثلاً - لأمرين :

الأول : كونه فلاناً .

الثاني : كونه سيء الأدب .

كان عليه ان يقول : اني اكرهه لكونه فلاناً لا أن يقول : اني أكرهه لأنه سيء الأدب ، اذ لو قال : أني أكرهه لسوء أَدبه ، قيل له : أنت تكرهه وان كان حسن الأدب ، فتعليلك الكراهة بسوء الأدب ، في غير موضعه .

وإن شئت قلت : أنّ النسبة تكون لسابق العلّتين ، لا للاحقهما ، ولذا ينسب الى عدم المقتضيّ دون المانع ، إذا إجتمع الأَنان في شيء .

مثلاً : اذا لم يحترق القطن لأنّه لا نار ، وكان القطن رطباً ، يقال : لم يحترق لأنّه

ص: 235

وإذا لم يجب التثبّت عند إخبار العدل ، فامّا أن يجب القبول وهو المطلوب ، أو الرّد ، فيكون حاله أسوءَ من حال الفاسق ، وهو محال .

أقول : الظاهر أنّ أخذهُم للمقدّمة الأخيرة - وهي أنّه إذا لم يجب التثبّت وجب القبول ، لأنّ الرّد مستلزم لكون العادل أسوء حالاً من الفاسق - مبنيٌّ على مايُتَراءى من ظهور الأمر بالتبيّن في الوجوب النفسيّ ، فيكون هنا اُمور ثلاثة ، الفحص عن الصدق والكذب ،

------------------

لا نار ، ولايقال : لم يحتَرِق لأنه رَطب .

( واذا لم يجب التثبّت عند إِخبار العدل ، فامّا أن يجب القبول ) عند مجيء العادل بالخبر ، بدون تبيّن ( وهو المطلوب ) لأنه يدّل على إِن خبر العادل حجّة .

( أو الرّد ) بلا تبيّن ، بأن نرّد خبر العادل بدون فحص عن صدقه وكذبه ( فيكون حاله ) أي : حال العادل ( أَسوء من حال الفاسق وهو محال ) ولايراد به : الإِستحالة العقليّة ، وإِنّما الاستحالة عند العقلاء ، إِذ كيف يَحقُ للعاقل أن يفحص عن خبر الفاسق ، بينما خبر العادل يرده رأساً بلا فحص؟ .

( أقول : الظاهر : إِنَّ أخذهم للمقدّمة الأخيرة ) في كل من إِستدلالهم بمفهوم الشرط ، ومفهوم الوصف ( وهي : انّه اذا لم يجب التثبَّت ، وجب القبول ) بلا تثبّت ولاتبيّن ( لأنّ الرّد ) بدون التثبّت والتبيّن ( مستلزم لكون العادل ، أَسوء حالاً من الفاسق ) .

فان أَخذِهم هذه المقدمة ، تتمة للاستدلال بمفهوم الشرط ، ومفهوم الوصف ( مبني على مايترائى من ظهور الأَمر بالتبيّن : في الوجوب النفسي ) وإِذا كان الأمر بالتبيّن واجباً نفسياً( فيكون هنا أمور ثلاثة ) :

الأول : ( الفحص عن الصدق والكذب ) في خبر العادل ، وهو منفيّ بالآية .

ص: 236

والردّ من دون تبيّن ، والقبول كذلك .

لكنّك خبير بأنّ الأمر بالتبيّن مسوق لبيان الوجوب الشرطيّ وأنّ التبيّن شرط للعمل بخبر الفاسق دون العادل ، فالعملُ بخبر العادل غيرُ مشروط بالتبيّن ، فيتمّ المطلوبُ من دون ضمّ مقدّمة خارجيّة ، وهي كون العادل أسوء حالاً في الفاسق . و

------------------

( و ) الثاني : ( الرّد من دون تبيّن ) وهو منفي بالأَسوَئية .

( و ) الثالث : ( القبول كذلك ) أي : من دون تبيّن ، وهو المتعين .

( لكنَّك خبير : بأن الأَمر بالتبيّن ، مَسوق لبيان الوجوب الشرطي و ) معنى الوجوب الشرطي : ( انّ التبيّن شرط للعمل بخبر الفاسق ، دون العادل ، فالعمل بخبر ) الفاسق اِنما يكون بعد التبيّن ، أمّا العمل بخبر ( العادل ) فانه ( غير مشروط بالتبيّن ) .

فهنا شيئان فقط - لا ثلاثة أشياء - اذ وجوب التبيّن ليس نفسيّاً ليحتاج الى مقدمة خارجية ، بل هو مقدمة العمل مما يضطر اليه ، لأن الآية مسوقة لبيان العمل ، فخبر العادل إِمّا أن يُعمَل به بدون التبيّن ، أو لا يُعمل به اطلاقاً ، فيكون حاصله أَولاً منطوقاً :- ان العمل بخبر الفاسق مشروط بالتبيّن ، وثانياً مفهوماً : إِنّ العمل بخبر العادل لايشترط فيه التبيّن ، بل يعمل بخبره رأساً ، فلايكون هناك ثلاثة أُمور حتى يحتاج الى المقدمة الخارجية .

( فيتم المطلوب ) وهو وجوب العمل بخبر العادل ( من دون ضمّ مقدّمة خارجيّة و ) المقدّمة الخارجيّة ( هي كون العادل أسوَء حالاً من الفاسق ) .

( و ) ان قلت : من أين استَظهَرتُم انّ المراد : الوجوب الشرطي - لا الوجوب النفسيّ - ليكون الأمر دائراً بين العَمل وترك العمل ، مما لايحتاج الى المقدمة

ص: 237

الدليل على كون الأمر بالتبيّن ، للوجوب الشرطيّ لا النفسيّ- مضافاً إلى أنّه المتبادر عرفاً في أمثال المقام وإلى أنّ الاجماع قائمٌ على عدم ثبوت الوجوب النفسيّ للتبيّن في خبر الفاسق ، وإنّما أوجبه من أوجبه ، عند إرادة العمل به ، لا مطلقاً- هو أنّ التعليل في الآية بقوله تعالى : « أن تصيبوا...الخ » ، لايصلحُ أن يكون تعليلاً للوجوب النفسيّ ، لأنّ حاصله يرجعُ إلى أنّه لئلاّ تصيبوا قوماً

------------------

الخارجيّة ؟ .

قلت : ( الدليل على كون الأَمر بالتبيّن ، للوجوب الشرطي لا النفسي مضافاً الى أنّه ) أي : الوجوب المقدمي هو ( المتبادر عرفاً في أمثال المقام ) كما في مثل تبينوا ، أو إِعلموا ، أو تجسسوا ، أو تحسسوا ، أو ما أشبه ، فانها عُرفاً مقدمة للعمل .

نعم ، في الأمور الأعتقادية إذا قيل : تبيّنوا ، أو إعلموا ، أو ماأشبه ، كان المراد به : مجرد الأعتقاد بدون عمل خارجي .

( و ) كذا مضافاً ( إلى أنّ الاجماع ، قائم على عدم ثبوت الوجوب النفسي للتبيّن في خبر الفاسق ) بل وجوب التبيّن مقدميّ لأجل العمل .

( وإنّما أوجبه ) أي : التبيّن ( من أوجبه ، عند إرادة العمل به ) أي : بالخبر ( لا مطلقاً ) .

فمضافاً الى هذين الأَمرين ، إِن عُمدَة الدليل على كون وجوب التبيّن مقدّمي ، لا نفسي ( هو : انّ التعليل في الآية بقوله تعالى : « أن تصيبوا » الخ لايصلح أن يكون تعليلاً للوجوب النفسي ) وانّما يصلح لان يكون تعليلاً للوجوب الشرطي ، الذي نحن نقول به ، ممّا يدور الأمر بين أمرين ، لابين ثلاثة أُمور .

وذلك ( لأنّ حاصله ) أي : حاصل التعلّيل ( يرجع الى انّه لئلا تُصيبوا قوماً ،

ص: 238

بمقتضى العمل بخبر الفاسق فتندموا على فعلكم بعد تبيّن الخلاف . ومن المعلوم أنّ هذا لايصلحُ إلاّ علّة لحرمة العمل بدون التبيّن . فهذا هو المعلول ، ومفهومه جواز العمل بخبر العادل من دون تبيّن .

مع أنّ في الأولوية المذكورة في كلام الجماعة ، بناءا على كون وجوب التبيّن نفسيّاً ، مما لا يخفى ،

------------------

بمقتضى العمل بخبر الفاسق ، فتندموا على فعلِكم بعد تبيّن الخلاف ) لأنهم بسبب خبر الوليد ، أَرادوا قِتال بني المصطلق ، كما سَبَق في وجه نُزول هذه الآية المباركة ، وقوله : « بَعدَ تبيّن » متعلق ، بقوله : « تندموا » لأنّ النَّدم إنَّما يكون بعد التبيّن .

( ومن المعلوم : إنّ هذا ) أي : النَّدم بعد التبيّن ( لايصلح إلاّ علّة لحرمة العمل بدون التبيّن ) فانّه اذا لم يكن عمل ، لم يكن ندم .

( فهذا ) أي : حرمة العمل بخبر الفاسق ، بلا تبين ولاتثبّت ( هو المعلول ) للتبيّن والتثبّت ، فالتبيّن علّة ، وعدم النَّدم معلول ( ومفهومه جواز العمل بخبر العادل من دون تبيّن ) لأنّ الأمر دائر بين العمل بالمفهوم أو المنطوق ، فالعمل بالمنطوق يحتاج الى التبيّن ، والعمل بالمفهوم لايحتاج الى التبيّن .

( مع انّ في الأولوية ) أي : أَسوَئية خبر العادل من الفاسق ( المذكورة في كلام الجماعة - بناءاً على كون وجوب التبيّن نفسياً- مما لايخفى ) .

فانّه لايلزم أن يكون خبر العادل أَسوء من خبر الفاسق ، فاذا فرض انّ التبيّن عن خبر الفاسق واجب نفسي ، لامقدميّ لأجل العمل ، لم تدّل الآية على انّ العمل بخبر الفاسق يحتاج إلى التبيّن أم لا ، فيكون خبر العادل والفاسق متساويين من هذه الجهة لسكوت الآية عنهما في صورة إِرادة العمل بواحد منهما .

ص: 239

لأنّ الآية على هذا ساكتةٌ عن حكم العمل بالخبر قبل التبيّن أو بعده ، فيجوز اشتراكُ الفاسق والعادل في عدم جواز العمل قبل التبيّن ، كما انّهما يشتركان قطعاً في جواز العمل بعد التبيّن والعلم بالصدق ، لأنّ العملَ حينئذٍ بمقتضى التبيّن لا باعتبار الخبر .

------------------

إذن : فلا يكون العادل أَسوءُ حالا من الفاسق - على ماذكره المستدِل في تفسير الآية ، كما لايكون العمل بقول العادل ، أسوءُ حالاً من العمل بقول الفاسق ( لأنّ الآية على هذا ) أي : بناءاً على إن وجوب التبيّن نفسي في خبر الفاسق ( ساكتة عن حكم العمل بالخبر ) الصادر من العادل في إن العمل به هل هو ( قبل التبيّن أو بعده ) .

وعليه : ( فيجوز ) : أي : يحتمل في خبر العادل وخبر الفاسق ، تساويهما في مقام العمل ، ل- ( اشتراك الفاسق والعادل ، في عدم جواز العمل ) بخبرهما( قبل التبيّن ) فخبر العادل والفاسق متساويان قبل التبيّن في عدم جواز العمل .

( كما انهما يشتركان - قطعاً- في جواز العمل بعد التبيّن والعلم بالصدق ) لأنّ الانسان إِذا فحص عن الخبر - سواء كان المخبر عادلاً أو فاسقاً- وتبيّن صدق المخبر جاز العمل بذلك الخبر .

( لأنّ العمل حينئذٍ ) أي : حين العلم بالصدق يكون ( بمقتضى التبيّن ) والعلم ، فاذا علم الانسان بصدق خبر المخبر ، جاز العمل به ، من غير فرق بين أن يكون المخبر عادلاً ، أو فاسقاً ، أو مشكوك الحال .

( لا باعتبار الخبر ) فانّ الخبر بما هو خبر ، حيث كان محتملاً للصدق والكذب ، لايمكن الإعتماد عليه والعمل على طبقه ، وإِنّما باعتبار الصدق بعد التبيّن ، يجوز العمل بالخبر .

ص: 240

فاختصاصُ الفاسق بوجوب التعرّض بخبره والتفتيش عنه دون العادل لا يستلزمُ كون العادل أسوء حالاً ، بل مستلزمٌ لمزيّة كاملة للعادل على الفاسق ، فتأمّل .

------------------

( فاختصاص الفاسق بوجوب التعرّض بخبره ، والتفتيش عنه ) أي : عن خبره ( دون العادل لايستلزمُ كون العادل أسوءُ حالاً ) من الفاسق ، لأنه في غير مقام العمل يجب وجوباً نفسيّاً التبيّن عن خبر الفاسق ، ولايجب بالنسبة الى خبر العادل ، وفي مقام العمل هما متساويان ، حيث يحتاج الى التبيّن في خبر العادل وخبر الفاسق معاً .

وبهذا لم يكن مزيّة لخبر الفاسق على العادل ( بل ) العكس ( مستلزم لمزيّة كاملة للعادل على الفاسق ) فانه إِذا لم يكن يريد العمل وَجَبَ عليه التبيّن في خبر الفاسق ، ولم يجب عليه التبيّن في خبر العادل ، وهذه مزية لخبر العادل ، اذ في التبيّن نوع إِستخفاف ، وربمّا كان مستلزماً لهتك المُخبِر ، فانه في الفاسق يكون التبيّن معرضاً له للهتك ، بينما في خبر العادل لم يجب نفسيّاً التبيّن ، فلايكون العادل معرضاً للهتك .

( فتأمّل ) لعله إِشارة الى إِنّه في غير مقام العمل ، يزداد الأَتناء بخبر الفاسق بسبب التبيّن ، دون خبر العادل الذي يترك بلا تبيّن ، فاذا تبيّن في خبر الفاسق وظَهَر صدقه ، صار ذلك موجباً لإِحترام الناس له ، بإعتبار إنه صادق بينما لايتبيّن عن خبر العادل ، فلايظهر صدقه في خبره ، ممّا يوجب مزيد إِحترام الناس له .

وعليه : فيكون خبر الفاسق ، أولى عند الناس من خبر العادل ، بسبب التبيّن النفسيّ في خبر الفاسق ، وليس هذا التبيّن النفسيّ موجوداً في خبر العادل ، بل وجوب التبيّن فيه شرطيٌّ ومقدمة للعمل .

ص: 241

وكيف كان ، فقد اُورِدَ على الآية إيرادات كثيرة ربما تبلغ إلى نيف وعشرين ، إلاّ أنّ كثيراً منها قابلة للدّفع ، فلنذكر ، أوّلاً مالايمكن الذّبُّ عنه ، ثمّ نتبعه بذكر بعض ماأورد من الايرادات القابلة للدّفع .

أمّا ما لا يمكنُ الذبُّ عنه

فإيرادان : أحدُهما : أنّ الاستدلالَ إن كان راجعاً إلى اعتبار مفهوم الوصف أعني الفِسق ، ففيه : أنّ المحقّق في محلّه عدم اعتبار المفهوم في الوصف ،

------------------

( وكيف كان ، فقد أُورِدَ على الآية ) أي : على دلالة آية النبأ على حجّية خبر الواحد ( إِيرادات كثيرة ، ربما تبلغ إلى نيف وعشرين ) والنيف : على وزن : « سيّد » مازاد على العقد المذكور ، وهو هنا : عشرين ، حتى يبلغ العقد الآخر : ثلاثين ، فيمكن أن يكون تسع وعشرين ، أو ثمان وعشرين ، أو سبع وعشرين ، وهكذا ( إلاّ إنّ كثيراً منها ) أي : من هذه الايرادات ( قابلة للدّفع ، فلنذكر أولاً مالايمكن الذّب عنه ) ممّا يُوجب الخدشة في دلالة الآية على حجّية خبر الواحد ( ثم نتبعه بذكر بعض ماأُورد من الايرادات القابلة للدّفع ) .

وإنما نقدم الايرادات ، التي لايمكن الذبّ عنها فمن جهة ظهور عدم دلالة الآية على مقصود المجوزين .

مالايمكن الذبّ عنه

( أمّا مالايمكن الذبّ عنه ، فايرادان : أحدهما : إِنّ الاستدلال ، إن كان راجعاً الى إِعتبار مفهوم الوصف ، أعني : الفسق ) ليكون مفهوم «إِن جائكُم فاسِقٌ » : ان جائكم غير الفاسق .

( ففيه : انّ المحقّق في محلّه ، عدم إِعتبار المفهوم في الوصف ) خصوصاً اذا لم يعتمد على الموصوف - كما في الآية المباركة .

ص: 242

خصوصاً في الوصف الغير المعتمد على موصوف محقّق ، كما فيما نحن فيه ، فانّه أشبهُ بمفهوم اللقب .

------------------

اذ قد يقول : إِن جائكم شخص فاسق ، وهذا مختلف فيه ، بأنه هل يدّل الوصف على المفهوم أم لا ؟ .

وقد يقول : إِن جائكم الفاسق ، فان المشهور عدم المفهوم لمثل هذا الوصف ، وإِنما ذكر الوصف من باب الموضوع ، ومن المعلوم : ان الموضوع لايدّل على طرد سائر المواضيع .

فاذا قال : أَكرم زيداً لم يدل على عدم إِكرام عمرو ، وكذا إِذا قال : أَكرم العادل ، لم يدّل على عدم إِكرام غير العادل ، والى هذا المعنى أَشار بقوله ب- ( خصوصاً في الوصف غير المعتمد على موصوف محقق - كما فيما نحن فيه - ) فانه وإِن كان للوصف موصوف مقدَّر ، لكن مادام لم يكن الموصوف محقّقاً في الكلام ، لم يكن للوصف الذي هو مناط الحكم إِيجاباً وسلباً ، دلالة على عدم الحكم في غير هذا الوصف .

ووجه الخصوصية التي ذكرها المصنّف : انّ الوصف إذا ذُكر مجرداً عن الموصوف ، لايكون قيداً زائداً إِحترازياً ، بل يكون لمجرد بيان الحكم ، فعدم المفهوم له أَظهر ممّا اذا كان الوصف معتمداً على موصوف مذكور .

( فانّه ) أي : الوصف غير المعتمد على الموصوف ( أشبهُ بمفهوم اللّقب ) .

والمراد باللقب : مايتعلق الحكم على الأسم ، كما إذا قال : زيداً أَكرمه ، وعمرواً أضفه ، وما أَشبه . فانه لامفهوم لها حتى يقال : إنّ زيداً أَكرمه ، يكون مفهومه : إن عمرواً لاتكرمه ، أو عمرواً أضفه ، يكون مفهومه : انّ زيداً لاتضفه .

إِذن : فتعليق الحكم على الوصف ، المجرد عن الاعتماد على الموصوف ، حاله

ص: 243

ولعل هذا مرادُ من أجاب عن الآية ، كالسيّدين وأمين الاسلام والمحقّق والعلاّمة وغيرهم ، بأنّ هذا الاستدلال مبنيّ على دليل الخطاب ولانقول به .

وإن كان باعتبار مفهوم الشرط ، كما يظهر من المعالم والمحكي عن

------------------

حال اللّقب ، في أنه لامفهوم له .

وهذا بخلاف مااذا كان الوصف معتمداً على الموصوف مثل : أَكرم الرجل العالم ، حيث يُستَشَّم منه المفهوم ، ببيان : انه اذا لم يكن له مفهوم ، وانه لايكرم الرجل الجاهل ، لم يكن وجه لتقييد الرجل بالعالم ، فالتقييد يظهر منه : انه يريد إِكرام الرجل العالم فقط لا الرجال الجاهل .

( ولعلّ هذا ) أي : عدم إِعتبار مفهوم الوصف ، وإِن دلالة الآية على حجّية خبر الواحد مبنيّة على حجّية مفهوم الوصف ( مراد من أجاب عن ) دلالة ( الآية ) على حجّية خبر الواحد ( كالسيّدين ) المرتضى ، وإِبن زهرة ( وأمين الاسلام ) الطبرسيّ ، صاحب مجمع البيان ( والمحقّق ، والعلاّمة ، وغيرهم : بأنّ هذا الاستدلال ، مبنيّ على دليل الخطاب ) .

أي : الاستدلال بآية النبأ على حجّية خبر الواحد ، موقوف على إِعتبار مفهوم المخالف في الوصف ، ( ولانقول به ) أي : لانقول بأنّ للوصف مفهوماً ، فلايمكن الاستدلال بالآية ، على حجّية خبر الواحد العادل من جهة مفهوم الآية .

( وان كان ) الاستدلال بالآية المباركة على حجّية خبر الواحد ( باعتبار مفهوم الشرط ) بأن يكون مفهوم «إِن جَائَكُم فاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا» (1) إنّه ان لم يجيء الفاسق ، فلا تتبيّنوا كما إِذا قال : إن جائك زيد فاكرمه ، حيث انّ مفهومه : ان لم يجئك فلاتكرمه ( كما يظهر ) ذلك ( من المعالم ، والمحكي عن

ص: 244


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

جماعة ، ففيه : أنّ مفهومَ الشرط عدمُ مجيء الفاسق بالنبأ ، وعدمُ التبيّن هنا لأجل عدم ما يتبيّن . فالجملة الشرطيّة هنا مسوقة لبيان تحقّق الموضوع ،

------------------

جماعة ) من الأصوليين حيث إستدلوا بالآية على مفهوم الشرط ، لامفهوم الوصف .

( ففيه : انّ ) الشرط قد يكون له مفهوم ، وقد لايكون له مفهوم ، فاذا كان للشيء حالتان ، يكون هناك المفهوم على خلاف المنطوق ، أمّا اذا لم يكن للشيء حالتان ، وإِنّما حالة وجود وعدم ، فلايكون له المفهوم .

مثلاً : اذا قال : « الماء إذا بلغ قدر كُرّ ، لم ينجّسه شيء » (1) كان مفهومه : انه اذا لم يبلغ قدر كُرّ ، ينجّسه بعض الأشياء ، لأن الماء موجود في كلا الحالتين : الكريّة ، وعدم الكريّة .

أما إذا كان من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، فلامفهوم له ، وكان من قبِيِل : إِذا رُزقت وَلداً فاختِنهُ ، فانه إِذا لم يُرزَق الولد ، فلا محل للاختتان أصلاً .

وما نحن فيه ، من هذا القبيل ، فانه إِذا لم يجيء الفاسق بالخبر ، فلا خبر حتى يتبيّن عنه أو لايتبيّن ، فان ( مفهوم الشرط ) وهو هنا : عدم وجوب التبيّن ، عند ( عدمُ مجيء الفاسق بالنبأ و ) هو يكون من السالبة بانتفاء الموضوع ، فان ( عدم التبيّن هنا ، لأجل عدم مايتبيّن ) عنه ، لأنه اذا لم يجيء الفاسق بالخبر ، لم يكن هناك خبر حتى يتبيّن عنه .

إِذن : (فالجملة الشرطيّة هنا) لم يؤت بها لأجل المفهوم ، بل هي ( مسوقة لبيان تحقّق الموضوع ) أي : موضوع وجوب التبيّن ، فانه إِذا كان هناك خبر فاسق ،

ص: 245


1- - الكافي اصول : ج3 ص2 ح1 وح2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص150 ب6 ح118 ، الاستبصار : ج1 ص6 ب1 ح1 و ح2 (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج1 ص158 ب9 ح391 .

كما في قول القائل : إن رُزقتَ ولداً فاختنه ، وإن رَكِبَ زيدٌ فخُذ ركابه ، وإن قَدِمَ من السفر فاستقبله ، وإن تزوجتَ فلاتُضيّع حقّ زوجتك ، واذا قرأت الدّرسَ فاحفظه .

قال سبحانه : « وإذا قُرِى ء القُرآنُ فَاستَمِعُوا لَهُ وأَنصِتُوا » ، و : « إذا حُييّتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحسَنِ منها أو رُدُّوهَا » ،

------------------

تحقق الموضوع للتبيّن ، أما اذا لم يكن خبر ، فلا موضوع حتى يتبين أو لا يتبيّن .

وعليه : فيكون الشرط في الآية المباركة ( كما في قول القائل : إن رُزقت ولداً فاختِنهُ ) فانّ موضوع وجوب الأختتان يتحقّق بالولد ، فاذا لم يكن ولد ، لم يكن موضوع للاختتان ، فليس مفهوم : إِن رزقت ولداً فاختنه ، ان لم ترزق ولداً فلا تختنه .

( و ) كذلك مثل( إن رَكِبَ زيدٌ فخُذ ركابه ) فان وجوب أخذ الركاب ، يتحقّق عند ركوب زيد ، وليس له مفهوم ، بأنّه : ان لم يركب فلا تأخذ ركابه ، لوضوح انّه إن لم يركب فلا ركاب له ، حتى يؤخذ أو لايؤخذ ، والمراد بالرّكاب : الرّكاب الذي يوضع فيه الرجل ، لا مجرد الحديد .

وهكذا قوله : ( وان قَدِمَ ) زيد ( مِن السفرِ فاستقبلهُ ، وإن تَزوجتَ فلا تضيّع حَقَ زَوجَتِك ، وإِذا قرأت الدّرس فاحفَظهُ ) فانّه اذا لم يقدم من السفر ، لا إستقبال له ، واذا لم يتزوج ، فلا زوجة له ، حتى يضيّع حقها أو لايضيعه ، واذا لم يقرأ الدرس ، فلا موضوع للحفظ وعدم الحفظ .

ومن هذا القبيل يكون ما ( قال سبحانه : «وَاذَا قُرى ءَ القُرآنُ فَاستَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُوا»(1) و «إذَا حُيِيّتُم بِتَحِيَّةٍ ، فَحَيُّوا بِأَحسَنَ مِنهَا أَو رُدُّوهَا»(2)) فاذا لم يقرأ القرآن ، لم يكن موضوع للأستماع والأنصات ، وإِذا لم تكن تحية ، فلا موضوع

ص: 246


1- - سورة الاعراف : الآية 204
2- - سورة النساء : الآية 86 .

إلى غير ذلك ممّا لا يحصى .

ومما ذكرنا ظهر فسادُ مايقال : تارةً إنّ عدم مجيء الفاسق يشمل مالو جاء العادل بنبأ فلايجب تبيّنه فيثبت المطلوب ، وأخرى إنّ جعلَ مدلول الآية هو عدم وجوب التبيّن في خبر الفاسق لأجل عدمه ، يوجبُ حمل السّالبة على المنتفية بانتفاء الموضوع ، وهو خلاف الظّاهر .

------------------

للرّد بأحسن منها ، أو مثلها ( الى غير ذلك ممّا لايحصى ) من الأمثلة .

( وممّا ذكرنا : ) من انّ الشرط إِذا كان مفهومه سالبة بانتفاء الموضوع فهو يساق لبيان الموضوع ، لا لأخذ المفهوم منه ، لأنّه يكون من باب مفهوم اللّقب ، ولا مفهوم له ، تبيّن : انّه لامفهوم لآية النبأ ، حتى تدل الآية على قبول خبر العادل .

وبذلك ( ظهر فساد مايقال ) لأجل إِفادة الآية المفهوم ( تارة : إنّ عدم مجيء الفاسق ) له فردان :- فرد عدم مجيء فاسق بنبأ أَصلاً ، فيشمله ، وأَيضاً ( يشمل ) الفرد الآخر وهو : ( ما لوجاء العادل بنبأ ، فلايجب تبيّنه ) أي تبيّن خبر العادل( فيثبت المطلوب ) وهو : ان للآية مفهوماً ، والمصنّف بقوله : « تارة » يريد بيان : انّ مفهوم الآية له فردان ، أحد فرديه مستلزم لحجّية خبر العادل .

( و ) تارة ( أخرى : إنّ جعل مدلول الآية ، هو عدم وجوب التبيّن في خبر الفاسق ، لأجل عدمه ) أي : عدم الخبر ( يوجبُ حمل السالبة ، على المنتفية بانتفاء الموضوع ، وهو : خلاف الظّاهر ) لأنّ السّالبة غالباً ، تكون بانتفاء المحمول ، لا بانتفاء الموضوع ، فان عدم مجيء الفاسق بالنبأ له إحتمالان :-

الأوّل : أن يكون المراد منها : عدم مجيء الفاسق بالنبأ ، مع السكوت عن مجيء العادل وعدمه ، وهذا لايكون له مفهوم .

ص: 247

وجه الفساد : أنّ الحكم إذا اثبت بخبر الفاسق ، بشرط مجيء الفاسق به كان المفهومُ بحسب الدلالة العرفيّة ، أو العقليّة ، انتفاءَ الحكم المذكور في المنطوق عن الموضوع المذكور فيه

------------------

الثاني : أن يكون المراد منه : مجيء العادل بالنبأ ، وحيث انّ الاحتمال الأوّل ، من باب السالبة بانتفاء الموضوع - وهو مجاز- يحمل الآية المباركة على الثاني ، وهو : مجيء العادل بالنبأ ، فيتم المطلوب من دلالة الآية على حجّية خبر العادل .

وأَما ( وجه الفساد ) في التقرير الأول ، فهو : إِنّ المفهوم ، هو المنطوق مع سلب أو إِيجاب مخالف للمنطوق ، فاذا قال : إن جائك زيد فاكرمه ، كان مفهومه : إن لم يجئك زيد فلاتكرمه ، لا انّ المفهوم يكون حكماً على موضوع جديد ، غير مذكور في المنطوق ، فلايكون مفهوم إِن جائك زيد : ان لم يجئك عمرو .

وعليه : فكيف قلتم : ان المفهوم لقوله سبحانه : « إِن جَائَكُم فَاسِقٌ » هو : ان جائكم عادل؟ فمن أين يأتي العادل في المفهوم ، وهو ليس بمذكور في المنطوق ؟ .

ف- ( انّ الحكم ) أي : وجوب التبيّن المذكور في الآية المباركة ( اذا ثبت بخبر الفاسق ، بشرط مجيء الفاسق به ) بأن كان معنى المنطوق : إن جائكم فاسق بنبأ ، فتبيّنوا في خبر الفاسق ( كان المفهوم بحسب الدّلالة العرفيّة ، أو العقليّة ) .

وإنّما قال : العرفيّة أو العقليّة ، لأن بعضهم ذهب الى أنّ دلالة اللّفظ على المفهوم ، من باب الدّلالة العرفيّة ، وبعضهم ذهب الى انّ الدلالة المفهوميّة هي دلالة عقلية ، أي : يراها العقل لا العرف .

فالمفهوم هو ( إنتفاء الحكم المذكور في المنطوق ) أي : إنتفاء وجوب التبيّن الذي ذكر في منطوق الآية المباركة ( عن الموضوع المذكور فيه ) أي : في نفس

ص: 248

عند انتفاء الشرط المذكور فيه ، ففرضُ مجيء العادل بنبأ عند عدم الشرط - وهو مجيء الفاسق بالنبأ - لا يوجبُ انتفاء التبيّن عن خبر العادل الذي جاء به ، لأنّه لم يكن مثبتاً في المنطوق حتّى ينتفي في المفهوم .

فالمفهومُ في الآية وأمثالها ليس قابلاً لغير السالبة بانتفاء الموضوع ،

------------------

المنطوق ، وهو : خبر الفاسق ، وله حالتان : حالة المنطوق وحالة المفهوم ، لا أن يكون هناك خبر الفاسق في المنطوق وخبر العادل في المفهوم ، فاِن حكم التبيّن ينتفي ( عند إنتفاء الشرط المذكور ) وهو : مجيء الفاسق بالخبر ( فيه ) أي : في المنطوق بمعنى : التبيّن لعدم مجيء الفاسق لا انّه لمجيء العادل ( ففرضُ مجيء العادل بنبأ عند عدم الشرط و ) الشرط ( هو : مجيء الفاسق بالنبأ ) فاذا لم يجيء الفاسق لم يكن تبيّن ، وهذا ( لايوجب إِنتفاء التبيّن عن خبر العادل الذي جاء به ) .

وذلك ( لأنه ) أي : لأَن مجيء العادل بالنبأ ( لم يكن مثبتاً في المنطوق ، حتى ينتفي في المفهوم ) فمجيء الفاسق وعدم مجيئه محوران في المنطوق ، والمفهوم ، لا أنّ المحور في المنطوق : مجيء الفاسق ، والمحور في المفهوم : مجيء العادل .

وعلى هذا : ( فالمفهومُ في الآية وأمثالها ليس قابلاً لغير السالبة بانتفاء الموضوع ) وبذلك يتحقق إِنّه لا مفهوم للآية المباركة ، بل الآية من قبيل : ان رُزِقتَ ولداً فاختِنه ُ وغيره من الأَمثلة المتقدمة .

هذا تمام الكلام على الاشكال في التقرير الأول ، حيث قال المصنّف : « ظهر فساد مايقال تارة . . » .

ص: 249

و ليس هنا قضيّة لفظيّة سالبة دار الأمرُ بين كون سلبها لسلب المحمول عن الموضوع الموجود أَو لانتفاء الموضوع .

الثاني : ما أورده ، في محكيّ العُدّة والذّريعة والغنية ومجمع البيان والمعارج وغيرها ، من أنّا لو سلّمنا دلالة المفهوم على قبول خبر العادل الغير المفيد للعلم ، لكن نقول : إنّ مقتضى عموم التعليل وجوبُ التبيّن في كلّ خبر لايؤمن الوقوع في الندم من العمل به وإن كان المخبرُ

------------------

( و ) أمّا وجه الفساد في التقرير الآخر الذي ذكره المصنّف بقوله : « واخرى ان جعل مدلول الآية » ، فهو انّه ( ليس هنا قضيّة لفظيّة سالبة ، دار الأمرُ بين كون سلبها لسلب المحمول عن الموضوع الموجود ، أو لانتفاء الموضوع ) فانه لا وجه في المفهوم هنا ، الاّ السالبة بإِنتفاء الموضوع ، وليس يحتمل السالبة بانتفاء المحمول .

وذلك لأن الآية المباركة لم تكن من قبيل : ليس زيدٌ عالماً ، حيث يحتمل أن لايكون وجود لزيد أصلاً ، فهو من السالبة بانتفاء الموضوع ، وأن يكون له وجود ، لكن ليس بعالم حتى يكون من السالبة بانتفاء المحمول ، لأنّه اذا لم يأت الفاسق بالنبأ ، فلا نبأ أَصلاً ليرتبط بالفاسق ، الذي ذكر في المنطوق ، وهو سالبة بانتفاء الموضوع فقط .

( الثاني : ) من الايرادين ، الذّين اُوردا على دلالة آية النبأ لحجّية خبر الواحد ، ممّا لم يمكن - حسب قول المصنّف - الذبّ عنهما ( ماأورده في محكيّ العُدّة ) للشيخ ( والذّريعَة ) للسيّد المرتضى ( والغنية ) للسيّد ابن زُهره ( ومجمع البيان ) للطبرسيّ ( والمعارج ) للمحقّق ( وغيرها : من انّا لو سلّمنا ، دلالة المفهوم على قبول خبر العادل غير المفيد للعلم ، لكن نقول : انّ مقتضى عموم التعليل : وجوبُ التبيّن في كلّ خبر ، لايؤمن الوقوع في الندم من العمل به ، وإن كان المخبر

ص: 250

عادلاً ، فيعارض المفهوم ، والترجيح مع ظهور التعليل .

لايقال : إنّ النسبة بينهما وإن كان عموماً من وجه ، فيتعارضان في مادّة الاجتماع ، وهي خبر العادل ، الغير المفيد للعلم ، لكن يجب تَقديمُ عُموم المفهوم ، وإدخال مادّة الاجتماع فيه .

------------------

عادلاً ) .

فان عموم التعليل ، أقوى من خصوص المورد ، وكل ماكان عموم التعليل أقوى كان حكم التعليل جارياً في غير المورد ، فهو مثل أن يقول : لاتأكل الرّمان لأنه حامض ، حيث يدّل صدره على خصوص الرّمان ، وذيله وهو التعليل على إنّ كل حامض لايجوز أكله ، كذلك الآية ، فمقتضى الصدر فيها : حجّية خبر العادل ، ومقتضى التعليل فيها : عدم الحجّية مطلقاً ، لأن إحتمال وقوع الندم يعمّ خبر العادل والفاسق ، فاللازم أن لايؤخذ بخبره العادل أيضاً لهذا العموم .

وعليه : ( فيعارض ) عموم التعليل ( المفهوم ) لأن المفهوم يقول خُذ بخبر العادل ، وعموم التعليل يقول ، لاتأخذ بخبره ( والترجيح مع ظهور التعليل ) فان علّة الحكم ، توجب وجود الحكم في كل مورد وجدت العلّة ، سواء كان مورداً للتعليل ، أو لم يكن مورداً له .

( لايقال : انّ النسبة بينهما وإِن كان عموماً من وجه ) اذ مقتضى المفهوم : حجّية خبر العادل مطلقاً ، سواء أَورث العلم أو الظنّ ، ومقتضى التعليل : عدم حجّية الخبر الواحد مطلقاً ، عادلاً كان المخبر أو فاسقاً ( فيتعارضان في مادّة الاجتماع ، وهي

خبر العادل ، غير المفيد للعلم ) فهو لكونه عادلاً يؤخذ بخبره ، ولكونه غير مفيد للعلم لايؤخذ بخبره ، ومقتضى المفهوم : حجّيته ، ومقتضى التعليل : عدم حجّيته .

( لكن يجب تقديم عمُوم المفهوم ، وإدخال مادّة الاجتماع فيه ) أي : في عموم

ص: 251

إذ لو خرج عنه وانحصر مورده في خبر العادل المفيد للعلم كان لغوا ، لأنّ خبرَ الفاسق المفيد للعلم أيضا واجبُ العمل ، بل الخبر المفيد للعلم خارج عن المنطوق والمفهوم معا ، فيكون المفهومُ اخصّ مطلقا من عموم التعليل .

------------------

المفهوم ، حتى يؤخذ بخبر العادل ولو كان ظنّيا .

وإنّما يجب إدراج مادة الاجتماع في المفهوم ( اذ لو خرج ) مادة الاجتماع ( عنه ) أي : عن المفهوم ( وإنحصر مورده ) أي مورد المفهوم ( في خبر العادل المفيد للعلم ) فقط ( كان ) المفهوم ( لغوا ) فانّا لو أدرجنا خبر العادل الظنّي في التعليل ، بان لم يكن حجّة ، لزم لغوية المفهوم ( لأنّ خبر الفاسق المفيد للعلم ، أيضا واجب العمل ) .

وذلك لوضوح : انّ حجّية الخبر العلمي سواء كان المخبر عادلاً أو فاسقا ، من الامور القطعية ، ولا يحتاج حجّيته الى دلالة مفهوم الآية ، فيلغو المفهوم رأسا ، فاللازم - حذرا عن اللغوية - حمل التعليل على خبر الفاسق ، وادراج مادة الاجتماع وهو خبر العادل الظني ، في المفهوم ، مما يكون حجّة .

( بل ) يمكن أن يقال : انّه ليس التعارض بين المنطوق والمفهوم ، من التعارض في العموم من وجه ، بل من التعارض في العموم المطلق ، لأنّ ( الخبر المفيد للعلم ) سواء كان صادرا من الفاسق ، أو من العادل ( خارج عن المنطوق والمفهوم معا ) اذ الخبر العلمي لا يمكن إسقاطه ، كما لا يمكن إثباته بحجّية جعلية .

وعليه : ( فيكون المفهوم أخصّ مطلقا من عموم التعليل ) فانّ التعليل : يدل على عدم حجّية الخبر الظنّي مطلقا ، والمفهوم : يدل على حجّية خبر العادل

ص: 252

لأنّا نقول : ما ذكره أخيرا من أنّ المفهوم أخصّ مطلقا من عموم التعليل مسلّم ، إلاّ أنّا ندّعي التعارضَ بين ظهور عموم التعليل في عدم جواز العمل بخبر العادل الغير العلميّ وظهورِ الجملة الشرطيّة او الوصفيّة في ثبوت المفهوم .

فطرحُ المفهوم والحكم بخلوّ الجملة

------------------

الظنّي ، فيكون المفهوم مخصصا للتعليل .

وعلى هذا : فان قلنا انّ بين التعليل والمفهوم عموما من وجه ، أدرجنا مادة الاجتماع في المفهوم .

وإن قلنا : انّ بينهما عموما مطلقا ، يكون المفهوم أخص مطلقا .

وعلى كلا الحالين : يكون خبر العادل الظنّي حجّة ، وهو ما يراد إثباته بآية النبأ .

( لأنّا نقول : ما ذكره ) المستشكل ( أخيرا : من أنّ المفهوم أخصّ مطلقا من عموم التعليل ، مسلّم ) فهما متعارضان بالعموم والخصوص المطلق لا بالعموم والخصوص من وجه ، لِما تقدّم : من انّ الخبر العلمي خارج عن المنطوق والمفهوم معا ، ومن الواضح : انّ الخاص مقدّم على العام ، الاّ انّ الأمر هنا بالعكس ، أي : عموم التعليل يقدّم على خصوص المفهوم ، لا أنّ المفهوم يقدم على عموم التعليل .

وإليه أشار بقوله : ( الاّ انّا ندّعي التعارض بين : ظهور عموم التعليل في عدم جواز العمل بخبر العادل غير العلميّ ) كما لا يعمل بخبر الفاسق غير العلمي .

( و ) بين ( ظهور الجملة الشرطية ، أو الوصفيّة ) على ما تقدّم : من انّ المدعي لدلالة الآية يدعيها إما من جهة الجملة الشرطية ، أو من جهة الجملة الوصفية ، ويستدل بها ( في ثبوت المفهوم ) بمعنى : حجّية خبر العادل غير العلمي .

وحينئذٍ ( فطرحُ المفهوم ) والأخذ بعموم التعليل ( والحكم بخلوّ الجملة

ص: 253

الشرطيّة عن المفهوم أولى من ارتكاب التخصيص في التعليل .

وإليه أشار في محكيّ العُدّة بقوله : « لا نمنع ترك دليل الخطاب لدليل ، والتعليلُ دليلٌ » .

------------------

الشرطيّة ) أيضا كالحكم بخلوّ الجملة الوصفية ( عن المفهوم ، أولى من ) العكس .

والعكس هو عبارة عن : ( إرتكاب التخصيص في التعليل ) .

وإنّما كان اولى لما سيأتي : من قوة التعليل الشامل لخبر العادل الظنّي ، وخبر الفاسق الظنّي ، فلا يدع هذا التعليل مجالاً للمفهوم ، اذ إسقاط المفهوم ، أقرب الى الذهن العرفي من إسقاط عموم التعليل ، فاذا دار الأمر بينهما ، اخذ بعموم التعليل لا بالمفهوم ، فتكون الجملة الشرطية أو الوصفية خالية عن المفهوم .

( واليه ) أي الى ما ذكرنا : من أولوية طرح المفهوم بسبب التعليل ( أشار في محكيّ العُدّة بقوله : لا نمنع ترك دليل الخطاب ) أي : طرح مفهوم المخالفة ( لدليل ) يوجد هناك يوجب طرح مفهوم المخالفة ( والتعليل دليل ) (1) فنتمسك به لطرح المفهوم .

و إن قلت : التعليل في الآية المباركة عام يشمل للخبر الظنّي من العادل ، والخبر الظنّي من الفاسق ، والمفهوم خاص ، لأنّه يدل على حجّية الخبر الظني من العادل فقط ، فيخصّص التعليل به ، كما يخصّص قوله سبحانه : - « وأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءا طَهُورا » (2) بمفهوم : « الماء إذا بَلَغَ قَدر كُرّ لم يُنجّسهُ شَيء » (3) .

ص: 254


1- - عدّة الاصول : ص176 .
2- - سورة الفرقان : الآية 48 .
3- - تهذيب الاحكام : ج1 ص150 ب6 ح118 ، الكافي : فروع : ج3 ص2 ح1 ، الاستبصار : ج1 ص6 ب1 ح1 ، وسائل الشيعة : ج1 ص158 ب9 ح391 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص9 ح12 .

وليس في ذلك منافاة لما هو الحقّ ، وعليه الأكثر ، من جواز تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة ، لاختصاص ذلك اوّلاً بالمخصّص المنفصل .

------------------

فانّ مفهوم الحديث - وهو نجاسة الماء بسبب المنجسات اذا لم يبلغ قدر كرّ - مخصص للآية المتقدمة .

قلت : ( وليس في ذلك ) أي : في طرح المفهوم ، والأخذ بعموم التعليل (منافاة لما هو الحقّ ، وعليه الأكثر : من جواز تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة ) .

وانّما لم يكن في ذلك منافاة ( لاختصاص ذلك أوّلاً : بالمخصّص المنفصِل ) بمعنى : أن يكون العام والمفهوم ، في كلامين منفصلين ، كما تقدّم : من تخصيص عموم الآية المباركة بمفهوم : « الماءُ إذا بَلَغَ قَدر كُرّ » (1) .

دون ما اذا كان العام والمفهوم في كلام واحد ، كما في آية النبأ حيث عموم التعليل ، والمفهوم متصلان في كلام واحد .

فهو مثل : « أكرم كل عالم ، وأكرم هذا العالم إن جائك » فانّ مفهوم : إن جائك ، وهو : لا تكرمه إن لم يجئك ، لا يخصص : أكرم كل عالم ، حتى تكون النتيجة : عدم إكرام هذا العالم عند عدم المجيء ، بل اللازم إكرام هذا العالم ، سواء جاء أو لم يجيء ، فالعام يقدّم على المفهوم ، لا ان المفهوم يقدّم على العام .

ولعلّ الفرق بين المتصِل والمنفَصل هو : إنّ في المنفَصل : يكون عام وخاص ، فيخصص الخاص العام - كما هي القاعدة - .

ص: 255


1- - الكافي فروع : ج3 ص12 ح1 و ح2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص150 ب6 ح118 ، الاستبصار : ج1 ص6 ب1 ح1 ، وسائل الشيعة : ج1 ص158 ب9 ح391 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص9 ح12 .

ولو سلّم جريانه في الكلام الواحد منعناه في العلّة والمعلول ، فانّ الظاهر عند العرف أنّ المعلول يتبع العلّة في العموم والخصوص .

فالعلّة تارةً تخصّصُ مورد المعلول وإن كان عامّا بحسب اللفظ ، كما في قول القائل : « لا تأكل الرمّان لأنّه حامض » ، فيخصّصه بالأفراد الحامضة ، فيكون عدمُ التقييد في الرمّان لغلبة الحموضة فيه .

------------------

أما في المتصِل : فلا ينعقد المفهوم لقوة العموم ، واذ لا مفهوم ، فلا يخصص العام بالمفهوم .

وحيث كان هذا الفرق ضعيفا ، قال المصنّف : ( ولو سلّم جريانه ) أي : تخصيص العام بالمفهوم ، حتى ( في الكلام الواحد ) بأن لم نفرّق بين المتصِل والمنفَصل ، وقلنا : بأنّ المفهوم يخصّص العام مطلقا ، سواء كان في كلامين منفصلين ، أو في كلام واحد متصل .

فانه وإن سلّمنا ذلك ، لكن ( منعناه ) أي : منعنا تخصيص العام بالمفهوم ( في العلّة والمعلول ) كما فيما نحن فيه من آية النبأ ( فانّ الظاهر عند العرف : انّ المعلول يتبع العلّة في العموم والخصوص ، فالعلّة تارة تخصّص مورد المعلول وإن كان ) المورد ( عامّا بحسب اللّفظ كما في قول القائل « لا تأكل الرّمان لأنّه حامض » ) .

فانّ الرمّان الذي هو مورد النهي ، شامل للحلو والحامض إلاّ انّ التعليل يخصّص الرّمان بالحامض ( ف- ) التعليل ( يخصّصه ) أي : المورد ( بالأفراد الحامضة ، فيكون عدمُ التقيّيد في الرّمان ، لغلبة الحموضة فيه ) .

فانّه لمّا كان الرّمان في الاغلب حامضا ، نزّل الرّمان الحلو بمنزلة العدم فلم يقل

ص: 256

وقد توجبُ عموم المعلول وإن كان بحسب الدّلالة اللفظيّة خاصا ، كما في قول القائل : « لا تشرب الأدوية ، التي تصفها لك النِسوان ، أو إذا وصفت لك إمرأة دواءا ، فلا تشربه ، لأنّك لا تأمن ضرره » .

فيدلّ على أنّ الحكمَ عامّ في كلّ دواء لا يؤمن ضررُه ، من أيّ واصف كان ،

------------------

لا تأكل الرّمان الحامض ، بل قال : لا تأكل الرّمان لأنّه حامض ، مع انه يريد في الكلامين معنى واحد ، وهو : الاجتناب عن الرّمان الحامض ، أمّا الرّمان الحلو فلا بأس بأكله .

( وقد توجب ) العلّة تارة اخرى ( عموم المعلول وإن كان ) المعلول ( بحسب الدّلالة اللّفظيّة خاصّا ، كما في ) نفس المثال ، فانّ عموم التعليل يعمم النهي للرّمان الحامض ، وغير الرّمان من سائر الحموضات ، كالاترج ونحوه .

وكما في ( قول القائل ) في جملة وصفيّة : ( لا تشرب الأدوية ، التي تصفها لك النِسوان ، أو ) قول القائل في جملة شرطية ( إذا وصفت لك إمرأة دواءا ، فلا تشربه ، لأنّك لا تأمن ضرره ) فانّ المورد وإن كان خصوص الأدوية التي تصفها النِسوان ، فيكون المفهوم : جواز شرب الأدوية التي يصفها الرجال ، إلاّ إنّ التعليل بعدم أمن الضرر ، يشمل الأدوية التي يصفها الرجال أيضا .

وإنّما خصص النِسوان بالذكر في النهي ، لأنّ الغالب هو : أنّ النسوان يصفن الدّواء ، دون الرّجال ( فيدلّ ) التعليل في الجملتين ( على انّ الحكمَ ) بعدم شرب الدواء ( عامّ في كلّ دواء لا يؤمن ضرره ، من أيّ واصف كان ) سواء كان الواصف رجلاً أو إمرأة .

ص: 257

ويكون تخصيصُ النّسوان بالذكر من بين الجّهال لنكتة خاصّة أو عامّة لاحظها المتكلّمُ .

وما نحنُ فيه من هذا القبيل ، فلعلّ النكتةَ فيه التنبيهُ على فسق الوليد ، كما نبّه عليه في المعارج .

------------------

( و ) إن قلت : فلماذا خصص النهي ، بالأدوية التي يصفها النِسوان ؟ .

قلت : ( يكون تخصيصُ النِسوان بالذكر ، من بين الجهّال ) بعلم الطب بالأدوية والأمراض ( لنكتة خاصة ، أو عامة لاحظها المتكلّمُ ) فالنكتة الخاصة : لعلّة عاطفية المرأة ، حيث انها تغلب عليها العاطفة بخلاف الرجل الذي هو عقلائي .

والنكتة العامة : لعلّه غلبة توصيف النساء الأدوية ، دون الرجال ، فالغلبة عامة وفي أي مورد حصلت الغلبة ، أوجبت إلحاق غير الغالب بالغالب .

( وما نحن فيه ) من الآية المباركة ، حيث إشتملت على التعليل العام ، وعلى المورد الخاص ( من هذا القبيل ) .

فان قلت : إذن كان ينبغي أن يقال : إن جائكم خبر تبينوا ، لأنّ إحتمال الندم عام في خبر العادل والفاسق ، فلا وجه لذكر الفاسق ؟ .

قلت : ( فلعلّ النكتةَ فيه ) أي : في ذكر الفاسق بصورة خاصة ، مع أنّ التعليل عام شامل للعادل والفاسق معا ( التنبيهُ على فسق الوليد - كما نبّه عليه ) المحقّق ( في المعارج ) (1) فهو مثل : اطعم الجائع حيث يكون الاطعام لكل فقير ، وإنّما يذكر الجائع ، للتنبيه على أنّ هذا الفقير بالخصوص جائع ايضا .

أو لعل النكتة : إنّ الفاسق أولى بالتبيّن في خبره من غيره ، فيكون مثل قوله

ص: 258


1- - معارج الاصول : ص144 .

وهذا الايراد مبنيّ على أنّ المراد بالتبيّن هو التبيّنُ العلميّ

------------------

تعالى : « وَرَبَائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُم مِن نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُم بِهنَّ » (1) حيث أنّ من في الحجور ، ومن في غير الحجور ، متساويان في حرمة الربيبة ، الاّ انّ من في الحجور ، أولى في الاجتناب .

الى غير ذلك من الاحتمالات ، التي تسبب ذكر صفة خاصة ، مع انّ الحكم للأعم من المتّصف وغير المتّصف .

ثمّ انه قد ذكرنا : التعارض بين المفهوم وهو : انّ خبر العادل حجّة ، وبين التعليل ، وهو أنّ كل خبر يحتمل الندم في اتباعه ولو كان خبر العادل ليس بحجّة ، فيرجّح التعليل على المفهوم ، ممّا يسبب عدم حجّية خبر العادل .

لكن في الآية إحتمال آخر ، وهو : إن المراد بالتبيّن : الظهور العرفي الأعم من العلم والاطمينان ، فكل خبر يطمأن إليه عرفا ، لا يحتاج الى التبيّن ، والعادل يُطمأن الى خبره ، بخلاف الفاسق ، فلا عموم للتعليل ، اذ العمل بعد الاطمينان الحاصل بسبب وجود خبر العادل ليس بجهالة ، فان الجهالة في قبال الاطمينان ولو لم يكن علم ، وحيث كان إطمينان فلا جهالة ، فلا عموم للتعليل يشمل خبر الفاسق .

( و ) بذلك تبين : انّ ( هذا الايراد ) أي تعارض التعليل والمفهوم ( مبنيّ على انّ المراد بالتبيّن هو : التبيّنُ العلميّ ) فيكون المعنى : إن جائكم فاسق بنبأ ، يجب عليكم تحصيل العلم لئلا تصيبوا قوما بجهالة .

ومعنى لا تصيبوا قوما بجهالة : أي لا تفعلوا فعلاً بدون العلم ، فيسبب ذلك

ص: 259


1- - سورة النساء : الآية 23 .

كما هو مقتضى إشتقاقه .

ويمكن أن يقال : إنّ المراد منه ما يعم الظهور العرفيّ الحاصل من الاطمينان الذي هو في مقابلة الجهالة .

------------------

الفعل ندمكم .

فمقتضى المفهوم : عدم وجوب تحصيل العلم في خبر العادل ، ومقتضى التعليل : وجوب تحصيل العلم في كل خبر غير علمي ، سواء كان عادلاً او فاسقا ، فيتعارض عموم التعليل مع المفهوم .

لكن هذا التعارض فيما إذا فسّرنا التبيّن بمعنى العلم ( كما هو ) أي : ارادة العلم من التبيّن ( مقتضى إشتقاقه ) فان التبيّن مشتق من البيان ، والبيان بمعنى : الكشف والوضوح ، والكشف والوضوح انّما يكون مع العلم كما قال : بان الأمر إذا ظهر ، والظهور دائما يوجبُ العلم ، ومنه قوله سبحانه : « حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبيَضُ »(1) أي : يظهر لكم ظهورا علميا .

( ويمكن أن يقال : انّ المراد منه ) أي من التبيّن : ( ما يعمّ الظهور العرفي الحاصل من الاطمينان ، الذي هو في مقابلة الجهالة ) ، فان الجهالة قد تقابل العلم ، وقد تقابل الأعم من العلم ، والاطمينان .

والمراد بالتبيّن هنا : الأعم من تحصيل الظهور الحقيقي المسمّى بالعلم ، والظهور العلمي المسمّى بالاطمينان ، فان العلم والعلمي كلاهما تبيّن ويقابلان الجهل ، اذ المراد بالجهل حينئذ : عدم تحصيل شيء من العلم والاطمينان ، بل الاكتفاء بمجرد الاحتمال والظنّ .

ص: 260


1- - سورة البقرة : الآية 187 .

وهذا ، وإن كان يدفع الايراد المذكور عن المفهوم - من حيث رجوع الفرق بين الفاسق والعادل في وجوب التبيّن إلى أنّ العادل الواقعيّ يحصل منه غالبا الاطمينان المذكور بخلاف الفاسق ، فلهذا وجب فيه تحصيلُ الاطمينان من الخارج - لكنّك خبيرٌ بأنّ الاستدلالَ بالمفهوم على حجّية خبر العادل المفيد

------------------

( وهذا ) أي : المعنى الذي ذكرناه للتبيّن والجهالة ( وإن كان يدفع الايراد المذكور ) من التعارض بين العموم والمفهوم ( عن المفهوم ) وهو : عدم التبيّن لخبر العادل ، لأنّ التعليل يدلّ على حرمة العمل بغير الاطمينان ، الأعم من العلم ، والعلمي ، الذي هو مرتبة قوية من الظنّ المتاخم للعلم ، فلا يشمل المنع خبر العادل ، لأنّه بنفسه يوجب الاطمينان ، وإنما يشمل خبر الفاسق فقط ، لأنّه بنفسه لا يوجب الاطمينان .

وإنما يدفع الايراد المذكور ، إذا فسّرنا التبيّن : بالأعم من العلم والاطمينان ( من حيث رجوع الفرق بين الفاسق والعادل في وجوب التبيّن ) في خبر الفاسق دون العادل ( الى انّ العادل الواقعيّ يحصل منه غالبا الاطمينان المذكور ) الذي يتاخم العلم .

( بخلاف الفاسق ) فانّه لايحصل منه الاطمينان ، ولو فرض حصوله زال بالالتفات الى فسقه ، لاحتمال ان يكون كاذبا - كما هو مقتضى عدم العدالة - .

( فلهذا ) أي : لأنّ الفاسق لا يطمأن الى خبره بخلاف العادل ( وجب فيه ) اي في خبر الفاسق ( تحصيل الاطمينان من الخارج ) عن نفس الخبر بخلاف العادل ، فان الاطمينان يحصل من نفس الخبر لاستناده الى إنسان عادل لا يكذب متعمدا .

( لكنّك خبيرٌ بأنّ الاستدلالَ بالمفهوم على حجّية خبر العادل المفيد

ص: 261

للاطمينان غير محتاج إليه ، إذ المنطوقُ على هذا التقرير يدلُّ على حجيّة كلّ ما يفيد الاطمينان ، كما لا يخفى ، فيثبت اعتبارُ مرتبة خاصّة من مطلق الظنّ .

------------------

للاطمينان ، غير محتاج إليه ) اي : الى الاستدلال بالمفهوم .

وذلك لانه اذا كان المراد بالتبيّن : تحصيل الاطمينان لا خصوص العلم ، فلا حاجة لاثبات حجّية خبر العادل الى التمسك بالمفهوم ( اذ المنطوقُ ، على هذا التقرير ) الذي يكون التبيّن فيه شاملاً للاطمينان ( يدلُّ على حجّية كلّ ما يفيد الاطمينان ) العرفي ، فيكون مناط حجّية الخبر ، هو : الاطمينان ، الظاهر من منطوق الآية المباركة .

ومن الواضح : ان من جملة ما يوجب الاطمينان ، هو خبر العادل ( كما لا يخفى ) ذلك ( فيثبت ) بالمنطوق ( إعتبارُ مرتبة خاصة من مطلق الظنّ ) وهو الظنّ الاطمئناني من أي سبب حصل ، سواء حصل من خبر العادل ، أو من القرائن الخارجية ، فلو لم يحصل الاطمئنان من خبر العادل في مورد فلابدّ من تحصيله من الخارج .

وعليه : فاذا كان المنطوق دالاً على حجّية خبر العادل ، يسقط استدلال الاصوليين بمفهوم الآية ولزم القول : بانّ منطوق الآية دال على حجّية خبر العادل ، وهذا ما لا يقولون به .

إذن : الأمر دائر بين عدم دلالة الآية على حجية خبر العادل إطلاقا ، وبين الدلالة على حجيته ، لكن الحجية ليست مستندة الى المفهوم - كما يقولون - وإنما كانت مستندة الى المنطوق ، لأن المنطوق قد جعل المعيار في قبول الخبر : التبيّن ، والتبيّن كما يشمل العلم ، يشمل الاطمئنان .

ص: 262

ثمّ إنّ المحكيّ عن بعضٍ منعُ دلالة التعليل على عدم جواز الاقدام على ما هو مخالف للواقع بأنّ المراد بالجهالة السفاهةُ وفعلُ ما لا يجوز فعله ،

------------------

( ثمّ ) إنّه ربّما إستدل بعض بالآية على حجيّة خبر العادل لكن بتقريب آخر ، ليس فيه تعارض وهو : - ان ظاهر الآية هو النهي عن العمل السفهائي لا عن العمل المحتمل مخالفته للواقع ، والعمل بخبر الفاسق من العمل السفهائي ، وليس العمل بخبر العادل كذلك ، فيعمل بخبر العادل .

والدليل على انّ المراد من النهي : العمل السفهائي أمران : -

الأوّل : انّ الجهالة في الآية المباركة ظاهرة في السفاهة ، لا في الجهل مقابل العلم كما يقال : فلان يعمل أعمال الجهالة ، يراد بها : السفاهة ، لا أنّه يعمل أعمالاً عن جهل ، في قبال العلم .

الثاني : انّ العمل بموازين العقلاء - وان لم يكن العامل عالما بالواقع - لا يسمّى جهالة ، والا لمنع عن العمل بالفتوى ، وبالشهادة ، وبالاقرار ، وبما اشبه ذلك ، لأنّ العامل بهذه الامور على الأعم الأغلب ، لا يعلم مطابقتها للواقع ، فهو مع ان العمل بها جهل بالواقع ليس عملاً بجهالة .

وبهذا المعنى للجهالة تبيّن : انّ الآية تدلّ على جواز العمل بخبر العادل ، اذ ليس العمل بخبره من السفاهة في شيء .

والى هذا المعنى أشار بقوله : ( إنّ المحكي عن بعضٍ ) في دفع التعارض هو ( منعُ دلالة التعليل على عدم جواز الاقدام ) والعمل ( على ما هو مخالف للواقع ) فانه ليس المناط : الواقع وغير الواقع ، وإنما المناط : السفاهة وغير السفاهة .

وذلك ( ب- ) سبب : ( ان المراد بالجهالة : السّفاهةُ وفعلُ ما لا يجوز فعله ) عند

ص: 263

لا مقابلُ العلم ، بدليل قوله تعالى : « فتصبحوا على مافعلتم نادمين » . ولو كان المرادُ الغلط في الاعتقاد لما جاز الاعتمادُ على الشهادة والفتوى .

وفيه ، مضافا الى كونه خلاف ظاهر لفظ الجهالة : انّ

------------------

العقلاء ممّا يعدونه عملاً سفهائيا ( لا مقابلُ العلم ) فانه ليس المناط : العلم وعدم العلم ، كما لم يكن المناط ، : الواقع وعدم الواقع ، وانّما المناط - كما قلنا - : السفاهة وعدم السفاهة ( بدليل قوله تعالى ) في التعليل في آخر الآية المباركة ( « فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ » ) (1) .

فانّ الندامة مختصة بالعمل السفهائي ، والعمل بخبر الفاسق ، حيث كان من الاعمال السفهائية ، منع عنه الشارع .

هذا ( ولو كان المراد ) من الجهالة في الآية المباركة ( : الغلط في الاعتقاد ) اي : مخالفة الواقع ( لما جاز الاعتمادُ على الشهادة ، والفتوى ) والاقرار ، ونحوها .

وحيث انّ العمل بخبر العادل ليس سفاهة ، فالآية لا تمنع عنه ، وتكون الآية دليلاً على جواز العمل بخبر العادل بالمفهوم ، بلا تعارض بينه وبين التعليل ، فانّ الممنوع : العمل بالأخبار السفهائية ، والجائز : هو العمل بالأخبار العقلائية .

( وفيه ) أي في هذا الاستدلال لحجّية خبر العادل ( مضافا الى كونه ) أي كون حمل الجهالة على السفاهة ( خلاف ظاهر لفظ الجهالة ) لأنّ الظاهر من الجهالة : الجهل في مقابل العلم ، لا السفاهة في مقابل الرشد .

( انّ ) المورد للآية المباركة ، دليل على انّ المراد بالجهالة : الجهل بالواقع ،

ص: 264


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

الإقدام على مقتضى قول الوليد لم يكن سفاهةً قطعا ، إذ العاقلُ بل جماعةٌ من العقلاء لا يقدمون على الامور من دون وثوق بخبر المخبر بها فالآية تدلّ على المنع عن العمل بغير العلم ، لعلّة هي كونه في معرض المخالفة للواقع .

------------------

لا السفهاهة في العمل .

وذلك ( الاقدام على مقتضى قول الوليد ، لم يكن سفاهة قطعا ، إذ العاقلُ ) كالرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم الذي هو سيّد العقلاء ( بل جماعةٌ من العقلاء ) المحتفين بالرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم حيث أراد هو ، وأراد أصحابه غزو بني المصطلق ، لقول الوليد ( لا يقدمون على الامور ، من دون وثوق بخبر المخبر بها ) أي : بتلك الامور ، فهل كان الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم وأصحابه يريدون عملاً سفهائيا ؟ انّ هذا ما لا يصدر عن عاقل ، فكيف بسيّد العقلاء ، وأصحابه الكرام ؟ .

وعليه : فالعمل بخبر الفاسق قد يكون سفهيا ، كما اذا لم يحصل علم ، ولا ظنّ ولا اطمئنان عرفي به ، وقد لا يكون سفهيا ، كما اذا حصل أحد الامور المذكورة ، ومن الواضح انّ عمل الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم وإقدامه على حرب بني المصطلق لم يكن عملاً سفهيا ، بل كان عملاً بحسب الظاهر والموازين العرفية ، واقداما على عمل عقلائي متعارف ، لكن اللّه سبحانه وتعالى ، لما كان يعلم مخالفة خبر الوليد للواقع ، أراد تحريضهم على أن يعملوا بما هو الواقع فامرهم بالتبيّن .

وعلى هذا : ( فالآية تدلّ على المنع عن العمل بغير العلم ) سواء كان ذلك الخبر الذي لم يوجب العلم مخبره عادلاً أو فاسقا ( لعلّة هي ) أي : تلك العلّة ( كونه ) اي : كون غير العلم ( في معرض المخالفة للواقع ) الموجبة للندامة فليست الجهالة في الآية بمعنى السفاهة ، بل بمعنى عدم العلم .

ص: 265

وأمّا جوازُ الاعتماد على الفتوى والشهادة ، فلا يجوز القياسُ بها ، لمّا تقدّم في توجيه كلام ابن قبة ، من أنّ الاقدامَ على ما فيه مخالفة الواقع أحيانا : قد يحسنُ لأجل الاضطرار إليه وعدم وجود الأقرب إلى الواقع منه ، كما في الفتوى ، وقد يكون لأجل مصلحة تزيد على مصلحة إدراك الواقع ،

------------------

( وأمّا جوازُ الاعتماد على الفتوى ، والشهادة ) والاقرار ، ونحوها مع انّها لا تفيد العلم بالواقع ( فلا يجوز القياس بها ) أي : لا يجوز قياس العمل بخبر العادل على العمل بها ( لمّا تقدّم في توجيه كلام ابن قبة : من انّ الاقدامَ على ما فيه مخالفة الواقع ) للاقدام ( أحيانا ) كالفتوى والشهادة ( قد يحسنُ لأجل ) بعض الأمور ، كعدم وجود طريق أقرب من هذا الطريق الى الواقع ، كالفتوى والشهادة حين إنسداد باب العلم .

وكذلك بسبب ( الاضطرار إليه ) أي : الى ما فيه مخالفة الواقع ( وعدم وجود ) الطريق ( الأقرب الى الواقع منه ) أي : ممّا فيه مخالفة الواقع أحيانا .

( كما في الفتوى ) فانّ العاميّ مضطرٌ للرجوع الى الفتوى ، ولا طريق له أحسن من التقليد ، حيث انّ التقليد ، أقرب الى الواقع من سائر الطرق المحتملة ، كالجفر ، والرمل والإسطرلاب والعمل بظن نفسه ، او ما أشبه ذلك .

وحيث وجد الاضطرار ولم يكن طريق أقرب منه جعله الشارع .

والاحتياط وان كان ممكنا إلاّ انّه مستلزم للعسر والحرج .

كما أنّ البرائة توجب الخروج من الدّين .

( وقد يكون ) جائزا ذلك الطريق ، الذي لا طريق أقرب منه الى الواقع ، ( لأجل مصلحة ) سلوكية او نحوها ( تزيد على مصلحة إدراك الواقع ) اذ لعلّ الشارع انّما أذن في العمل بالشهادة - وان فتح باب العلم - من جهة المصلحة السلوكية - مثلاً -

ص: 266

فراجع .

فالأولى لمن يريد التفصّيَ عن هذا الايراد التشبّثُ بما ذكرنا ، من أنّ المراد بالتبيّن تحصيلُ الاطمينان ، وبالجهالة

------------------

( فراجع ) جوابنا السابق عن ابن قِبة .

وعلى أي حال : فمن الممكن انّ الآية الكريمة ، انّما منعت العمل بما لم يكن عقلائيا ، والعمل بخبر العادل وبالفتوى والشهادة عقلائي .

لا يقال : فهل كان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم يقدم على عمل غير عقلائي .

لأنّه يقال : من أين ثبت انّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم اراد - واقعا - الاقدام على حرب بني المصطلق ؟ فانه لم يثبت ذلك ، بل الثابت عكسه ، لمكان العصمة .

وقول بعض المفسرين والمؤرخين ، ليس هو الاّ بحسب ظاهر الحال ، لا واقعه ، وانّما كانت الآية المباركة ، تنبيها على الذين أرادوا ذلك إعتمادا على قول الوليد .

ويؤيده : ان خطاب الآية موجّه اليهم ، حيث قال سبحانه : « يَا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا ، إن جَائَكُم فَاسِقٌ بِنَبَأ ، فَتَبَيّنُوا » (1) .

ولم يكن الخطاب موجها الى خصوص الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم .

وعليه : ( فالأولى لمن يريد التفصّي عن هذا الايراد ) أي : إيراد تعارض المفهوم والتعليل ( التشبّث بما ذكرنا ) لا بحمل الجهالة على السفاهة ، فانّ الجواب عن الاشكال المذكور : يحصل بما ذكرناه ( : من انّ المراد بالتبيّن : تحصيل الاطمينان ) لا تحصيل العلم ( و ) المراد ( بالجهالة ) عدم الاطمينان ،

ص: 267


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

الشكّ أو الظنّ الابتدائي الزائل بعد الدقة والتأمّل ، فتأمّل .

وفيها إرشادٌ الى عدم جواز مقايسة الفاسق بغيره وإن حصل منها الاطمينانُ ، الاّ انّ الاطمينان الحاصل من الفاسق يزول بالالتفات إلى فسقه وعدم مبالاته

------------------

لا عدم العلم .

كما إذا عمل الانسان ب( الشّك أو الظنّ ) أو الاطمينان في أنزل درجاته ، وذلك بالنظر ( الابتدائي ، الزائل بعد الدقة والتأمّل ) .

إذن : فالتعليل على هذا لا يشمل خبر العادل إطلاقا لأنّ خبر العادل يوجب الاطمينان العقلائي ، الذي يتبعه العقلاء في أمورهم .

( فتأمّل ) ولعلّه اشارة الى ما تقدّم من المصنّف : من انه اذا كان المراد بالتبيّن هو : تحصيل الاطمينان ، فحجّية خبر العادل تستفاد من منطوق الآية ، لا من مفهومها ، والحال انّ المستدلين بالآية المباركة ، أنّما إستدلوا بالمفهوم لا بالمنطوق .

وعليه : فالآية امّا انها لا تدل على حجّية خبر العادل ، وامّا انها تدل على حجّية خبره ، لكن بسبب المنطوق ، لا المفهوم .

لا يقال : خبر الفاسق أيضا يوجب الاطمينان .

لأنّه يقال - كما أشار اليه المصنّف بقوله - : ( وفيها ) أي في الآية المباركة ( إرشاد الى عدم جواز مقايسة الفاسق بغيره ) وهو العادل ( وان حصل منها الاطمينان ) على حد سواء .

فان خبر الفاسق وان كان قد يحصل منه الاطمينان ، كخبر العادل ( الاّ أنّ الاطمينان الحاصل من الفاسق ، يزول بالالتفات إلى فسقه وعدم مبالاته

ص: 268

بالمعصية وإن كان متحرّزا عن الكذب .

ومنه : يظهر الجوابُ عمّا ربّما يقال من : أنّ العاقل لا يقبل الخبر من دون إطمينان بمضمونه ، عادلاً كان المخبر أو فاسقا ، فلا وجه للأمر بتحصيل الاطمينان في الفاسق .

------------------

بالمعصية ، وان كان متحرّزا عن الكذب ) فانّ نفسية الفاسق غير المبالية ، توجب ان يكذب ، بينما العادل ليس كذلك ، لأنّ عدالته تمنعه عن الكذب ، اذ للوازع النفسيّ مدخلية كاملة في أعمال الانسان ، وجودا وعدما .

( ومنه ) اي ممّا ذكرناه : من الفرق بين الاطمينان عن خبر الفاسق ، والاطمينان عن خبر العادل ، حيث انّ الاطمئنان عن خبر الفاسق ابتدائي يزول بالالتفات ، بخلاف الاطمئنان عن خبر العادل فانه ثابت ومستقر ( يظهر الجواب عمّا ربّما يقال : من أنّ العاقل ، لا يقبل الخبر من دون إطمئنان بمضمونه ، عادلاً كان المخبر أو فاسقا ، فلا وجه للأمر بتحصيل الاطمئنان في الفاسق ) .

وعليه : فلابد أن يراد بالتبيّن والجهالة - في الآية المباركة - : تحصيل العلم وعدمه ، لئلا يكون الحكم لغوا .

وحاصل الاشكال : أنّه ان كان المراد بالتبيّن : العلم ، لم يكن الحكم لغوا ، بخلاف ما اذا أريد من التبيّن : الاطمينان .

وحاصل الجواب : انّه لا يلزم منه اللّغوية ، اذ في الآية ارشاد الى انّ الاطمينان الحاصل من خبر الفاسق ، لا ينبغي الاعتماد عليه ، لأنّه اطمينان ابتدائي ، يزول بأدنى التفات ، فلابد في خبر الفاسق من تحصيل الاطمينان من الخارج .

أما الاطمينان الحاصل من خبر العادل ، فانه ينبغي الاعتماد عليه ، لانه إطمئنان ثابت ومستقر ، معتمد على نفسية العادل وملكته الذاتية التي تبعثه على الصدق

ص: 269

وأمّا ما اُورد على الآية بما هو قابل للذبّ عنه

فكثيرٌ منها : معارضةُ مفهوم الآية بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، والنّسبة عموم من وجه ، فالمرجع إلى أصالة عدم الحجّية .

------------------

وسائر الصفات الحميدة .

ولا يخفى : أنّ إشكاليّ المصنّف على دلالة آية النبأ قد ألمعنا الى جوابهما في «الاصول» (1) ، وذكرناهما مفصلاً في كتاب « التقريرات » (2) ممّا استفدناه من الأساتذة رحمهم اللّه تعالى .

( وأمّا ما اُورد على الآية ، بما هو قابل للذبّ عنه فكثير ، منها ) وهو الايراد الأول ( : معارضة مفهوم الآية ، بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، والنّسبة عموم من وجه ) لأنّ الآيات الناهية ، تنهى عن العمل بغير العلم سواء كان خبر العادل أو الفاسق ، فانّه اذا لم يوجب خبر العادل : العلم كان مشمولاً للآيات الناهية ، ومفهوم الآية : يدل على حجّية خبر العادل ، سواء أورث العلم او لم يورث العلم .

فمادة الافتراق من جهة الآيات : خبر الفاسق غير الموجب للعلم .

ومادة الافتراق في المفهوم : خبر العادل الموجب للعلم .

وإجتماعهما : في خبر العادل ، الذي لا يوجب العلم ، فالآيات الناهية تقول : بعدم العمل به ، والمفهوم يقول : بالعمل به ( فالمرجع ) حينئذٍ ( الى أصالة عدم الحجّية ) لأنّ الدليلين يتساقطان حيث يتعارضان ، فاللاّزم الرجوع الى الأصل

ص: 270


1- - راجع كتاب الاصول ، الجزء السادس ، الأدلة العقلية : ص29 للشارح .
2- - وهو كتاب خطي لم يطبع بعد .

وفيه : انّ المراد بالنبأ في المنطوق ما لا يعلم صدقه ولا كذبه . فالمفهوم اخصّ مطلقا من تلك الآيات ، فيتعيّن تخصيصُها ، بناءً على ما تقرّر ، من أنّ ظهورَ الجملة الشرطيّة في المفهوم أقوى من ظهور العامّ في العموم .

------------------

الذي فوقهما ، وهو أصالة عدم الحجّية .

( وفيه ) اولاً : انه لو سلَّم التعارض ، فالمرجع : بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة ، وهو مقدّم على أصالة عدم الحجّية ، لان الشارع أقر هذا الأصل العقلائي ، فلا مجال لأصالة عدم الحجّية .

وثانيا : ( انّ ) الخبر الموجب للاطمينان خارج عن منطوق الآيات الناهية ومفهومها معا ، فلا يمكن إدخاله في الآيات الناهية ، ولا في منطوق آية النبأ ، فان ( المراد بالنبأ في المنطوق ) هو ( ما ) أي : النبأ والخبر الذي ( لايعلم صدقه ولا كذبه ) لانه اتى به فاسق .

وعليه : ( فالمفهوم ) لآية النبأ ، وهو : تصديق خبر العادل المورث للاطمينان يشمله ، لانه ( أخص مطلقا من تلك الآيات ) الناهية عن العمل بغير العلم لأنّ هذه الآيات تنهى عن مطلق خبر الواحد ، والمفهوم يثبت حجّية خبر العادل فقط ، فاللاّزم الأخذ بالمفهوم ( فيتعين تخصيصها ) اي : تخصيص الآيات الناهية بالمفهوم ( بناءا على ما تقرّر : من انّ ظهور الجملة الشرطيّة في المفهوم ، أقوى من ظهور العام في العموم ) ولذا يلزم - كما تقدّم - تخصيص كل ماء طاهر بمفهوم : « الماء اذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (1) .

ص: 271


1- - الكافي فروع : ج3 ص2 ح1 و ح2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص150 ب6 ح118 ، الاستبصار : ج1 ص6 ب1 ح1 ، وسائل الشيعة : ج1 ص158 ب9 ح391 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص9 ح12 .

وأمّا منعُ ذلك فيما تقدّم من التعارض بين عموم التعليل وظهور المفهوم ، فلما عرفتَ من منع ظهور الجملة الشرطيّة المعلّلة بالتعليل الجاري في صورتي وجود الشرط وإنتفائه

------------------

هذا خلافا لبعض القدماء الذين كانوا يقولون : بأن العموم : ظهور لفظيّ ، والمفهوم أضعف من اللّفظ ، فالعام اللفظيّ مقدّم على الخاص المفهوميّ ، لا انّ المفهوم مقدّم على العام اللّفظيّ .

(و) ان قلت : انتم سابقا قدمتم عموم التعليل ، على صدر الآية ، الدال على المفهوم ، فكيف تقدّمون الآن مفهوم صدر الآية على الآيات الناهية ؟ .

قلت : ( أما منع ذلك فيما تقدّم : من التعارض بين عموم التعليل ، وظهور المفهوم ) حيث تقدّم : بأن مفهوم الآية ، لا يكون مخصصا لعموم التعليل بل التعليل يقدم على المفهوم ، لأنّ التعليل في مفاده ، أقوى من صدر الآية في المفهوم ( فلما عرفت : من منع ظهور الجملة الشرطية ) في قوله سبحانه : « إِن جَائَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا » .

( المعلّلة بالتعليل ) في قوله سبحانه : « أن تُصِيْبُوا قَوْما بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين » (1) .

( الجاري ) ذاك التعليل ( في صورتي : وجود الشرط ، وانتفائه ) لما تقدّم : من ان احتمال الندم في كلا الصورتين : صورة وجود الشرط وهو : مجيء الفاسق ، وعدم وجود الشرط ، وهو : مجيء العادل .

ص: 272


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

في إفادة الانتفاء عند الانتفاء فراجع .

وربما يتوهم : ان للآيات الناهية جهة خصوص ، اما من جهة اختصاصها بصورة التمكن من العلم ، واما من جهة اختصاصها بغير البينة العادلة وأمثالها مما خرج عن تلك الآيات قطعا .

------------------

ولذلك نمنع ظهور الجملة الشرطية (في) المفهوم وهو : ( افادة الانتفاء عند الانتفاء ).

أما اذا لم تكن هنالك علة ، فالجملة الشرطية دالة على الانتفاء عند الانتفاء .

وعليه : فلا تناقض بين ماذكرناه سابقا : من تقديم التعليل على المفهوم ، وما ذكرناه لاحقا : من تقديم المفهوم على الآيات الناهية ( فراجع ) ما ذكرناه ليتبين لك الفرق بين المقامين .

( وربما يتوهم ) ان الآيات الناهية ، أخص من المفهوم ، لان الآيات اما مختصة بصورة التمكن من العلم - اذ مع عدم التمكن من العلم يعمل بالظن من باب الانسداد ، واما انها مختصة بغير البينة وما شابهها - إذ البيّنة وما شابهها كالفتوى قطعي الخروج - بينما المفهوم عام يشمل صورتي التمكن من العلم ، وعدم التمكن منه ، وكذا يشمل البينة وما شابهها ، وغير البينة فالآيات أخص من المفهوم فتقدَّم عليه ، كما قال ( ان للآيات الناهية جهة خصوص ) وللمفهوم جهة عموم .

اما جهة الاختصاص في الآيات فهو أولا : ( اما من جهة اختصاصها ) اي : الآيات (بصورة التمكن من العلم ) وانفتاحه - كما عرفتَ - .

(و) ثانيا : ( اما من جهة اختصاصها بغير البينة العادلة ، وأمثالها ، مما خرج عن تلك الآيات قطعا ) اذ الآيات الناهية لا تشمل البينة ، ولا فتوى الفقيه ، بينما المفهوم يشمل كليهما ، إذن فالآيات أخص ، ولذا تقدّم الآيات على المفهوم ،

ص: 273

ويندفع : الاول ، بعد منع الاختصاص ، بأنه يكفي المستدل كون الخبر حجة بالخصوص عند الانسداد .

------------------

وتكون النتيجة : عدم حجية خبر العادل الذي لا يفيد العلم ، لانه مشمول للآيات الناهية عن العمل بغير العلم .

( ويندفع ) الوجه ( الاول ) بأمرين :

أولا : ( بعد منع الاختصاص ) اي اختصاص الآيات الناهية بصورة انفتاح باب العلم ، فانا لا نسلم : ان الآيات الناهية مختصة بصورة التمكن من العلم ، بل الآيات تدل على المنع عن العمل بغير العلم ، تمكن الانسان من العلم أم لم يتمكن ؟ .

لا يقال : كيف هذا وأنتم تقولون : يعمل في حال الانسداد بالظن ؟ .

لانه يقال : ذلك ليس عملا بالظن ، بل هو عمل بالعلم ، لان في حال الانسداد ، يحكم الشرع أو العقل بالعمل بالظن ، فيكون الظن لاستناده الى العقل أو الشرع : علميا .

وثانيا : ( بأنه يكفي المستدل كون الخبر حجة بالخصوص عند الانسداد ) فان كلا من المفهوم والآيات ، يتصادقان في صورة الانفتاح ، ويبقى الانسداد للمفهوم فقط ، حيث ان الآيات لا تشمل حال الانسداد .

والحاصل : انا سلمنا اختصاص الآيات بصورة الانفتاح ، فيتعارض المفهوم مع الآيات في مادة الاجتماع ، وهي : خبر العادل حال الانفتاح ، فيرجع في مادة الاجتماع الى الأصل ، وهو : عدم حجيّة خبر العادل في حال الانفتاح .

الا انّه يكفي المستدل بمفهوم الآية : مادة الافتراق ، وهي حجية خبر العادل في صورة الانسداد ، فلا يكون كلامكم بتقديم الآيات على المفهوم مطلقا ،بل انّما يكون خاصا بصورة الانفتاح وموجبة جزئية ، وهي : حالة الانسداد المشمولة للمفهوم دون الآيات كافية للمستدل لحجيّة خبر الواحد بالمفهوم .

ص: 274

والثاني : بأن خروج ما خرج من أدلة حرمة العمل بالظن لا يوجب جهة عموم في المفهوم ،

------------------

هذا ( و ) يندفع الوجه ( الثاني : بأن ) اللازم ، تخصيص الآيات الناهية بالبينة ، والفتوى وخبر العادل جميعا وبنسبة واحدة ، لان جميعها أخص من الآيات الناهية ، خصوصا مطلقا ، فلا يجوز ان نخصص الآيات الناهية أولاً بخاص منها ، ثم نقلب النسبة بين العام والخاص الآخر ، ونقول : بأن النسبة انقلبت بينهما الى عموم من وجه ، فلا يجوز بعد الانقلاب أن نخصص العام بالخاص الآخر .

مثلا اذا ورد أولا : اكرم العلماء ، وورد ثانيا : لا تكرم فساق النحاة ، وورد ثالثا : لا تكرم فساق العلماء ، فاللازم عدم اكرام كل الفساق من النحاة وغيرهم ، لا أن نخصص أولاً : العلماء بفساق النحاة ، ثم نقول : صارت النسبة بين « أكرم العلماء غير فساق النحاة » ، وبين « لا تكرم فساق العلماء » عموما من وجه .

فالعالم الفقيه داخل في الاول فقط ، والنحوي الفاسق داخل في الثاني فقط .

والفاسق اللغوي هو مادة الاجتماع بينهما ، فلانه عالم ، داخل في : اكرم العلماء ، ولانه فاسق ، داخل في : لا تكرم فساق العلماء ، فيتعارض العامّان ويتساقطان بالنسبة اليه ، ويكون الاصل جواز كل من الاكرام وعدم الاكرام ، بالنسبة الى العالم الفاسق اللغوي .

وذلك لان (خروج ما خرج) كالبينة والفتوى ، وأمثالها (من أدلة حرمة العمل بالظن ) حيث ان الفتوى والبينة ، ونحوهما ، يجوز العمل بها وان كان ظنا نوعيا لا يوجب العلم ، فان خروج مثل هذه الامور عن الآيات الناهية (لا يوجب جهة) خصوص في الآيات الناهية ، وجهه (عموم في المفهوم) حتى تنقلب النسبة بين هذا الخاص الثاني ، والعام الاول ، الى العموم من وجه ، بعد ان كانت النسبة

ص: 275

لان المفهوم أيضا دليل خاص ، مثل الخاص الذي خصّص أدلة حرمة العمل بالظن ، فلا يجوز تخصيص العام بأحدهما أولاً ، ثم ملاحظة النسبة بين العام بعد ذلك التخصيص وبين الخاص الاخير .

فاذا ورد : « أكرم العلماء » ، ثم قام الدليل على عدم وجوب اكرام جماعة من فساقهم ، ثم ورد دليل ثالث على عدم وجوب اكرام مطلق الفسّاق منهم ،

------------------

بينهما عموما مطلقا .

وذلك ( لان المفهوم أيضا دليل خاص ) دال على حجية خبر العادل ( مثل ) الدليل (الخاص ) الدال على حجية البينة ، والفتوى ، فهما خاصان بالنسبة الى عام الآيات الناهية .

فخاص حجّية خبر العادل ، كالخاص ( الذي خصص أدلة حرمة العمل بالظن ) فالايات الناهية أعم من هذا الخاص ، ومن ذلك الخاص ( فلا يجوز تخصيص العام ) أعني الآيات الناهية ( بأحدهما ) أي بأحد الخاصين بأن نخصص الآيات الناهية بأدلة حجية الفتوى والبينة ، ونحوهما( أولا ، ثم ملاحظة النسبة بين العام بعد ذلك التخصيص ) بأدلة حجية البينة والفتوى ( وبين الخاص الاخير ) الذي هو مفهوم الآية الدال على حجية خبر العادل .

( فاذا ورد « أكرم العلماء » ، ثم قام الدليل ) الخاص ( على عدم وجوب اكرام جماعة من فساقهم ) بان قال مثلا : لا تكرم فساق النحاة ( ثم ورد دليل ثالث على عدم وجوب اكرام مطلق الفساق منهم ) أي : من العلماء فان دليل وجوب اكرام

ص: 276

فلا مجال لتوهم تخصيص العام بالخاص الاول أولا ، ثم جعل النسبة بينه وبين الخاص الثاني عموما من وجه ، وهذا أمر واضح نبهنا عليه في «باب التعارض » .

------------------

العلماء الاول ، عام بالنسبة الى كلا الخاصين : لا تكرم فساق النحاة ، ولا تكرم مطلق فساقهم ، فكما يخصص العام بالمخصص الاول ، كذلك يخصص بالمخصص الثاني .

وعليه : ( فلا مجال لتوهم تخصيص العام بالخاص الاول أولا ، ثم جعل النسبة بينه ) أي بين العام المخصص ( وبين الخاص الثاني عموما من وجه ) حتى يرجع في مادة الاجتماع ، الى أصالة عدم وجوب الاكرام في المثال ، وأصالة عدم الحجيّة فيما نحن فيه ، بل يكون الخاصان معا مخصصين للعام المطلق .

(وهذا أمر واضح ، نبهنا عليه في «باب التعارض») كما سيأتي ، فان النسبة تبقى نفس النسبة بين العام والخاص الثاني ،كما كان نفس النسبة بين العام ، والخاص الاول .

وقد عرفت : ان النسبة فيما نحن فيه من الادلة الثلاثة :

من الآيات الناهية العامة .

ومن مفهوم آية النبأ الدال على قبول خبر العادل .

ومن الخاص الثاني ، الدال على حجية الفتوى ، والبينة ، ونحوهما باقية جميعا على نفس تلك النسبة السابقة .

وهكذا حال أشباهها من النسب الاخرى ، كما اذا كانت النسبة بين عامين : من وجه فخرج عن أحدهما بعض ، لا تنقلب النسبة بين ذينك العامين الى العموم المطلق .

ص: 277

ومنها : ان مفهوم الآية لو دل على حجية خبر العادل لدل على حجية الاجماع الذي أخبر به السيّد المرتضى وأتباعه قدس سرهم ، من عدم حجية خبر العادل ، لانهم عدول أخبروا بحكم الامام عليه السلام ، بعدم حجية الخبر .

------------------

فاذا قال - مثلا : اكرم العلماء .

وقال ايضا : لا تكرم الفساق .

وكان الفساق بين علماء وجهال ، فاخرج بدليل ثالث ، الجهال من لا تكرم الفساق ، فانه لا تنقلب النسبة فيهما ، بان يكون أكرم العلماء ، أعم مطلقا من لا تكرم الفساق بحجة انّه لم يبق تحت لا تكرم الفساق الا فساق العلماء وتكون النسبة حينئذ مثل ما اذا قال : اكرم العلماء ولا تكرم فساق العلماء ، حيث يكون لا تكرم فساق العلماء ، أخص مطلقا من أكرم العلماء .

بل تبقى مادة الاجتماع فيها ، بحكم مادة الاجتماع بين العامين من وجه ، وذلك لوضوح ان النسبة بين الجميع تكون ثابتة وواحدة لا ان النسبة فيها انقلاب وتغيير .

( ومنها ) وهو الثاني من الاشكالات الواردة على دلالة آية النبأ ، القابلة للذب عنها ، لانها غير تامة هو ( : ان مفهوم الآية ، لو دل على حجية خبر العادل لدل ) هذا المفهوم (على حجية الاجماع ، الذي اخبر به السيّد المرتضى وأتباعه قدس سرهم : من عدم حجية خبر العادل ) .

وانّما يشمل مفهوم آية النبأ أخبار هؤلاء العلماء ( لانهم ) أي : هؤلاء العلماء أيضا (عدول أخبروا ) في ضمن الاجماع المدعى ( بحكم الامام عليه السلام بعدم حجية الخبر ) الواحد فيلزم أن يشمل المفهوم : التناقض بحجية خبر العادل ، وعدم حجية خبر العادل فيتساقطان ، فلا يبقى مفهوم ، فلو كان للآية مفهوم لم يكن لها

ص: 278

وفساد هذا الايراد أوضح من أن يبين ، اذ بعض الغض عما ذكرنا سابقا في عدم شمول آية النبأ للاجماع المنقول ، وبعد الغض عن أن اخبار هؤلاء معارض باخبار الشيخ قدس سره ، نقول : انّه لا يمكن دخول هذا الخبر تحت الآية .

أما أولا ، فلان دخوله يستلزم خروجه ، لانه خبر عادل فيستحيل دخوله .

------------------

مفهوم ، وما يلزم من وجوده عدمه محال ، فلا مفهوم للآية المباركة .

( وفساد هذا الايراد أوضح من أن يبين ، اذ بعد الغض عما ذكرنا سابقا في عدم شمول آية النبأ للاجماع المنقول ) لان أدلة حجية خبر الواحد ، انّما تدل على حجية الاخبار عن حس ، أو عن حدس مستند الى مبادي حسية مفيدة للعلم عادة .

ومن الواضح : ان ناقل الاجماع انّما ينقل قول الامام عليه السلام عن حدس ، مستند الى مبادي حسية لا تفيد العلم عادة ، فان اتفاق المعروفين من أهل الفتوى على شيء ، لا يكون مفيدا للحس بقول الامام عليه السلام ، وانّما يكون مفيدا للحدس بقوله ، ومثل هذا لا يكون مشمولا لادلة حجية الخبر .

( وبعد الغض عن أن اخبار هؤلاء ) أي : السيّد واتباعه بعدم حجية خبر الواحد (معارض باخبار الشيخ قدس سره ) وآخرون ، حيث انهم أجمعوا على حجية خبر العادل ، فكلا الاجماعين المتعارضين يتساقطان ، فلا يدخل أحدهما تحت مفهوم آية النبأ .

( نقول انّه لا يمكن دخول هذا الخبر ) أي : اجماع السيّد واتباعه ( تحت الآية ) بأن يكون مفهوم الآية شاملا لاخبار السيّد عن قول الامام عليه السلام باجماعه على

ماادعاه من عدم حجية الخبر ، وذلك لامور : -

( اما أولاً : فلان دخوله يستلزم خروجه ، لانه خبر عادل ، فيستحيل دخوله )

ص: 279

ودعوى انّه لا يعم نفسه مدفوعة بأنه وان لا يعم نفسه ، لقصور دلالة اللفظ عليه ، الا أنه يعلم أن الحكم ثابت لهذا الفرد ، للعلم بعدم خصوصية مخرجة له

------------------

لان ما يستلزم من دخوله خروجه ، محال أن يكون مشمولا للادلة ، فلو دخل خبر السيد تحت مفهوم الآية وكان حجة ثبت به عدم حجية خبر العادل ، واذا ثبت بخبره عدم حجية خبر العادل ثبت به عدم حجية نفسه أيضا ، لانه من جملة خبر العادل ، واذا ثبت بخبره عدم حجيته ، خرج عن المفهوم .

والنتيجة : انّه لو دخل خبر السيّد في المفهوم ، لخرج عن المفهوم ، وما يستلزم من وجوده عدمه ، فهو محال ، كما ذكروا مثل ذلك في قول القائل : كل خبري كاذب ، فانه لو شمل كل اخباره ، لكان هذا الخبر أيضا كاذبا ، واذا كان هذا الخبر أيضا كاذبا لم يكن كل أخباره كاذبا ، فلا يصح قول القائل : كل أخباري كاذبة .

( ودعوى : انّه ) أي : خبر السيّد ( لا يعم نفسه ) بأن يقال : خبر السيّد دخل تحت المفهوم وصار حجة ، فيثبت به عدم حجية خبر العادل من اخبار العدول الاخرين ، وعليه : فلا يلزم من دخول خبر السيّد في المفهوم ، خروجه عن المفهوم .

( مدفوعة : بأنه ) اي : بان خبر السيّد ( وان ) كان ( لا يعم نفسه ، لقصور دلالة اللفظ عليه ) لان قول السيّد ،ظاهر في اخبار الاخرين ، ولا يشمل نفس خبره ( الا انّه يعلم ) عقلا وعرفا ( أن الحكم ) بعدم حجية الخبر ( ثابت لهذا الفرد ) من خبر السيّد ايضا بتنقيح المناط ، لان خبر السيّد بعدم حجية الخبر هو أيضا خبر عادل غير علمي ، فقوله هذا شامل لنفسه أيضا بتنقيح المناط .

وانّا نقول ذلك ( للعلم بعدم خصوصية مخرجة له ) اي : لهذا الفرد الذي هو

ص: 280

عن الحكم .

ولذا لو سألنا السيّد عن انّه اذا ثبت اجماعك لنا بخبر واحد هل يجوز الاتكال عليه ، فيقول : لا .

------------------

خبر السيد ( عن الحكم ) وهو : ان الخبر الواحد ليس بحجة ، فاذا قال السيّد : ان خبر الواحد ليس بحجة ، فهو شامل لخبره أيضا ، لانه خبر واحد .

( ولذا لو سألنا السيّد عن انّه : اذا ثبت اجماعك لنا بخبر واحد ، هل يجوز الاتكال عليه ؟ فيقول : لا ) وانّما يقول السيّد : لا ، لانه يعلم ان خبر الواحد ليس بحجة ، وان خبره أيضا مصداق لخبر الواحد ، فالمناط كما يكون في سائر أخبار العدول ، كذلك يكون في خبر نفسه أيضا .

وشبه هذا في تنقيح المناط ، ما ورد في بعض التواريخ : من ان خارجيا كان يقول : ان عليا عليه السلام كافر يجب قتله ، لانه حكم في دين اللّه ، وكل من حكم في دين اللّه فهو كافر .

فقال له أحد العلماء : من اين تقول : ان من حكم في دين اللّه كافر وواجب القتل ؟ والحال أنا أقول : ليس كذلك ، واذا اختلفنا أنا وانت ، فما هو الفاصل بأني صادق أو أنت ؟ .

قال الخارجي : الحكم لاصحابي ، فهم يفصلون بيننا ، وانه هل أنا الصادق أو أنت الصادق ؟ .

قال العالم له : إذن أنت قد حكمت في دين اللّه وكفرت .

فقام أصحاب ذلك الخارجي اليه وقالوا له : نعم أنت قد حكمت الرجال في دين اللّه فيجب قتلك ثم قتلوه .

وعليه : فان المطلق والعام اذا لم يشمل بنفسه بعض أفراده لمحذور لفظي ،

ص: 281

وأما ثانيا ، فلو سلمنا جواز دخوله ، لكن نقول انّه وقع الاجماع على خروجه من النافين لحجية الخبر ومن المثبتين ، فتأمل .

وأما ثالثا ، فلدوران الامر بين دخوله ، وخروج ما عداه وبين العكس ،

------------------

فانه يشمل ذلك الفرد بتنقيح المناط .

( وأما ثانيا : فلو سلمنا جواز دخوله ) أي : دخول اجماع السيّد تحت الآية ( لكن نقول انه وقع الاجماع على خروجه ) وعدم حجيته اجماعا ( من النافين لحجية الخبر ومن المثبتين ) له .

أما النافون : فلما تقدَّم : من انّه لو سألنا السيّد عن حجية خبره ؟ يقول : ليس بحجة ، لانه يعلم ان خبره أحد مصاديق الخبر الواحد .

وأما المثبتون : فلانهم اذا قالوا بحجية أخبار العدول ، فلابد انهم يقولون بعدم حجية هذا الخبر والالزم التناقض في قولهم ، فاجماع السيّد خارج مطلقا ، واذا كان اجماع السيّد خارجا لم يكن مانع من دخول سائر أخبار العدول في مفهوم الآية المباركة ، لان المحذور - وهو : اجماع السيّد على عدم حجية الخبر - قد ارتفع .

( فتأمل ) ، لعله اشارة الى ان السيّد لا يقول : لا تأخذوا باجماعي ، بل يقول : ان اجماعي ثابت بالقرائن القطعية ، وليس هو من الخبر الواحد العاري عن القرائن ، بل هو الخبر الواحد المحفوف بالقرائن القطعية مما يؤخذ به .

( وأما ثالثا : فلدوران الامر بين دخوله ) اي اجماع السيّد ( وخروج ما عداه ) من اخبار الاحاد على كثرتها ( وبين العكس ) بأن تدخل تلك الاخبار ويخرج خبر السيّد .

وانّما كان الامر دائرا بينهما ، لان بين خبر السيّد وبين تلك الاخبار تناقضا ،

ص: 282

ولا ريب أن العكس متعين ، لالمجرد قبح انتهاء التخصيص الى الواحد ، بل لان المقصود من الكلام ينحصر في بيان عدم حجية خبر العادل .

ولا ريب أن التعبير عن هذا المقصود بما يدّل على عموم حجية خبر العادل ، قبيح

------------------

فلا يمكن جمعهما كما لا يمكن رفعهما ، فالازم : اما دخول خبر السيّد وخروج تلك الاخبار ، أو دخول تلك الاخبار وخروج خبر السيّد من مفهوم آية النبأ .

( ولا ريب أن العكس ) وهو خروج خبر السيّد من مفهوم الآية ، ودخول سائر الاخبار ( متعين ) فانه لابد من حمل مفهوم الآية على سائر أخبار العدول .

وانّما قلنا : بأن العكس متعين ( لا لمجرد قبح انتهاء التخصيص الى الواحد ) فانه يقبح على الحكيم ان يقول : ان جائكم عادل بنبأ ، فلا تتبينوا ، ثم يستثني من قوله هذا جميع أخبار العدول ، ليبقى تحت ما ذكره ، خبر السيّد فقط ، فان انتهاء التخصيص الى الواحد بل الى الاكثر منه كالاثنين والثلاثة والاربعة والخمسة ، وما اشبه ، قبيح عند العقلاء .

وعليه : فقولنا بتعين العكس ، ليس لقبح تخصيص الاكثر فقط .

( بل لان المقصود من الكلام ، ينحصر في بيان عدم حجية خبر العادل ) فانه لو كان المقصود : بيان حجية خبر السيّد فقط - حيث ان خبر السيّد يسقط سائر الاخبار - يكون مقصوده في الحقيقة : بيان عدم حجية خبر العادل مطلقا ، الاّ خبر عادل واحد وهو : خبر السيّد المرتضى .

( ولا ريب ان التعبير عن هذا المقصود ) وهو : عدم حجية خبر العادل مطلقا ، باستثناء خبر السيّد المرتضى ( بما يدّل على عموم حجية خبر العادل ، قبيح ) .

بل اللازم في منطق العقلاء أن يقال : ان جائكم عادل بنبأ فتبينوا الاّ خبر السيّد

ص: 283

في الغاية وفضيح الى النهاية .

كما يعلم من قول القائل : « صدق زيدا في جميع ما يخبرك » فأخبرك زيد بألف من الاخبار ، ثم أخبر بكذب جميعها ، فأراد القائل من قوله : « صدّق ، الخ » خصوص هذا الخبر .

وقد أجاب بعض من لا تحصيل له : بأن الاجماع المنقول مظنون الاعتبار

------------------

لا أن يقال : ان جائكم عادل بنبأ فلا تتبينوا ويريد به خبر السيّد فقط ، فان مثل هذا الكلام قبيح (في الغاية ، وفضيح الى النهاية) اي : مفضوح ، كقتيل بمعنى : مقتول .

( كما يعلم ) قبح أن يأتي بالكلي ويريد خبرا واحدا فقط ( من قول القائل : «صدق زيدا في جميع ما يخبرك » فأخبرك زيد بألف من الاخبار ، ثم أخبر بكذب جميعها ، فأراد القائل من قوله « صدّق الخ . » خصوص هذا الخبر ) فانه من القبح بمكان ، لانه أراد بجميع ما يخبر : خبرا واحدا فقط ، وانّما اللازم على هذا القائل أن يقول : لا تصدق زيدا في أي خبر من أخباره الا خبرا واحدا ، وهو : اخباره بكذب اخباره جميعها .

( وقد أجاب ) عن هذا الاشكال الذي ذكرناه : من ان مفهوم آية النبأ ، لو دل على حجيّة خبر العادل ، لدل على حجية اجماع السيّد المرتضى ، واجماع السيّد ، يوجب عدم حجية خبر العادل : - أجاب ( بعض من لا تحصيل له ) - والمراد : انّه لا تحصيل له يعتد به فهو من قبيل : « يا أشباه الرجال ولا رجال » (1) - وقال : ( بأن الاجماع المنقول مظنون الاعتبار

ص: 284


1- - معاني الاخبار : ص310 ، الارشاد : ج1 ص279 ، دعائم الاسلام : ج1 ص390 ، الاحتجاج : ص174 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج2 ص75 ب27 .

وظاهر الكتاب مقطوع الاعتبار .

ومنها : أن الآية لا تشمل الاخبار مع الواسطة لا نصراف النبأ الى الخبر بلا واسطة ، فلا يعم الروايات المأثورة عن الائمة عليهم السلام ، لاشتمالها على وسائط .

------------------

وظاهر الكتاب مقطوع الاعتبار ) فاجماع السيّد المرتضى الدال على منع حجية خبر الواحد ، لا يعارض مفهوم آية النبأ الدال على حجية خبر الواحد ، لان مفهوم الآية مقدّم على اجماع السيّد .

وانّما كان هذا الجواب بنظر المصنّف ممن لا تحصيل له ، لان الاشكال لم يكن في وقوع التعارض بين المفهوم واجماع السيّد حتى يكون هذا جوابه ، بل الاشكال : في شمول المفهوم لاجماع السيّد مما يوجب خروج سائر أخبار العدول ، وهذا الجواب - كما ترى لا يكفي لرد هذا الاشكال .

( ومنها ) وهو الثالث من الاشكالات الواردة على دلالة آية النبأ القابلة للذب عنها لعدم تماميتها هو ( ان الآية لا تشمل الاخبار مع الواسطة ، لانصراف النبأ الى الخبر بلا واسطة ) .

مثلاً : لو سمعنا محمد بن مسلم يقول : قال الصادق عليه السلام : كذا ، شمله مفهوم آية النبأ ، أما لو سمعنا زرارة يقول : قال محمد بن مسلم ، قال الصادق عليه السلام كذا ، فان مفهوم الآية لا يشمل خبر زرارة - هذا للانصراف المذكور .

وعليه : ( فلا يعم ) مفهوم الآية ( الروايات المأثورة عن الائمة عليهم السلام ، لاشتمالها ) كلها ، وكذلك المأثور عن الرسول ، والزهراء ، صلوات اللّه عليهم أجمعين ( على وسائط ) متعددة .

ص: 285

وضعف هذا الايراد على ظاهره واضح ، لان كل واسطة من الوسائط انّما يخبر خبرا بلا واسطة ، فان الشيخ قدس سره ، اذا قال : « حدثني المفيد ، قال : حدثني الصدوق ، قال حدثني أبي ، قال : حدثني الصفار ، قال : كتب اليَّ العسكري عليه السلام » ، فان هناك بمقتضى الآية أخبارا متعددة بتعدد الوسائط . فخبر الشيخ قوله « حدثني المفيد ، الخ » ، وهذا خبر بلا واسطة يجب تصديقه .

------------------

( وضعف هذا الايراد - على ظاهره - واضح ) وان كان مراد المستشكل ايضا ظاهر الاشكال المذكور ، فهو ايضا ضعيف جدا ( لان كل واسطة من الوسائط انّما يخبر خبرا بلا واسطة ) .

فان المخبر الذي هو يعاصرنا ، لا يخبرنا عن الامام عليه السلام رأسا حتى يكون خبرا بالواسطة ولا يشمله مفهوم الآية بل المخبر المعاصر لنا يخبر خبرا واحدا ومن تقدمه ، يخبر خبرا واحدا عمن تقدَّم عليه ، وهكذا ، فيكون كل خبر خبر ، خبرا بلا واسطة .

( فان الشيخ قدس سره اذا قال « حدثني المفيد : قال حدثني الصدوق ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني الصفار ، قال : كتب اليَّ العسكري عليه السلام » ) حيث ان الصفار كان معاصرا له عليه السلام ( فان هناك بمقتضى الآية ) ومفادها (أخبارا متعددة بتعدد الوسائط ) ففي مثل المقام خمسة أخبار بلا واسطة ، لكنها أخبار طويلة كل خبر في طول الخبر الاخر .

( فخبر الشيخ قوله « حدثني المفيد الخ » ) فقط يعني : انتهى خبر الشيخ الى هذا الحد ( وهذا خبر ) عادل ( بلا واسطة يجب تصديقه ) ويثبت المخبر به أعني: اخبار المفيد ، ويكون كما لو سمعنا من المفيد يحدث ويقول «أخبرني...» .

ص: 286

فاذا حكم بصدقه وثبت شرعا أن المفيد حدّث الشيخ بقوله : « حدثني الصدوق » ، فهذا الاخبار - أعني قول المفيد الثابت بخبر الشيخ : « حدثني الصدوق » - أيضا خبر عادل وهو المفيد ، فنحكم بصدقه وأن الصدوق حدثه . فيكون كما لو سمعنا من الصدوق اخباره بقوله « حدثني أبي » ، والصدوق عادل فيصدق في خبره . فيكون كما لو سمعنا اباه يحدث بقوله : « حدثني الصفار » ، فنصدقه لانه عادل ، فيثبت خبر الصفار انّه كتب اليه العسكري عليه السلام ،

------------------

( فاذا حكم بصدقه ) أي : بصدق خبر الشيخ ( وثبت شرعا ان المفيد حدث الشيخ بقوله « حدثني الصدوق » ) الخ ( فهذا الاخبار أعني : قول المفيد الثابت بخبر الشيخ « حدثني الصدوق » أيضا خبر عادل : وهو المفيد فنحكم بصدقه ) ويثبت المخبر به ( و ) هو : ( ان الصدوق حدثه ، فيكون كما لو سمعنا من الصدوق اخباره بقوله « حدثني أبي » ) .

والفرق بين اخبار الشيخ واخبار سائر الوسائط : ان اخبار الشيخ ثابت لنا بالوجدان ، لانه أخبرنا مباشرة ، بينما اخبار سائر الوسائط لم يثبت لنا بالوجدان ، وانّما ثبت لنا بسبب التعبد ، فان مقتضى صدق الشيخ الذي اخبرنا : بان المفيد أخبره وصدق المفيد الذي أخبر الشيخ : بأن الصدوق أخبره ، وهكذا هو قبول خبره .

( والصدوق ) أيضا ( عادل فيصدق في خبره ) ويثبت المخبر به ، وهو : اخبار أبيه له ( فيكون كما لو سمعنا أباه يحدث بقوله « حدثني الصفار » ، فنصدقه ) أي : نصدق أبا الصدوق ( لانه عادل فيثبت ) المخبر به ، وهو : ( خبر الصفار : انّه كتب اليه العسكري عليه السلام ) فيكون حالنا كما لو سمعنا الصفار يحدث بقوله . كتب اليَّ

ص: 287

واذا كان الصفار عادلا وجب تصديقه ، والحكم بأن العسكري عليه السلام ، كتب اليه ذلك القول ، كما لو شاهدنا الامام عليه السلام يكتب اليه ، فيكون المكتوب حجة ، فيثبت بخبر كل لاحق أخبار سابقه . ولهذا يعتبر العدالة في جميع الطبقات ، لان كل واسطة مخبر بخبر مستقل .

هذا ، ولكن قد يشكل الامر بأن

------------------

العسكري عليه السلام .

( واذا كان الصفار عادلا ، وجب تصديقه والحكم : بأن العسكري عليه السلام كتب اليه ذلك القول ) الذي تضمنته الرواية فيكون الامر ( كما لو شاهدنا الامام عليه السلام يكتب اليه ) أي : الى الصفار ( فيكون المكتوب حجة ) علينا .

وبهذا ( فيثبت بخبر كل لاحق أخبار سابقه ، ولهذا يعتبر العدالة في جميع الطبقات ، لان كل واسطة مخبر بخبر مستقل ) والمخبر انّما يقبل خبره اذا كان عادلا ، والمفروض عدالة كل واحد واحد من هؤلاء الوسائط حتى انّه لو لم يكن من اخبرنا عادلا لم يثبت شيء من اخباره ولو لم يكن الشخص الاخير عادلا ، لم يثبت قول الامام عليه السلام وان ثبت ما تقدّم على قول الامام ، ولو كان أحد الوسائط غير عادل ، ثبت خبر من قبله ، أما من بعده ، فلا يثبت خبره .

( هذا ، ولكن قد يشكل الامر ) فيما لو تعددت الوسائط ، وذلك ( ب- ) سبب ( أن ) الاية تشمل الاخبار التي هي ثابتة لنا ، مع قطع النظر عن هذه الآية كخبر الشيخ في المثال ، وهو الخبر المباشر لنا ، ولا تشمل الآية المباركة الاخبار التي يتوقف ثبوتها على هذه الآية كخبر المفيد وغيره من الوسائط .

وانّما لا تشمل الاخبار التي هي كذلك ، لان الحكم يشمل الموضوع الثابت ، مع قطع النظر عن الحكم ، ولا يشمل الموضوع الثابت بنفس الحكم ، فان مرتبة

ص: 288

ما يحكيه الشيخ عن المفيد صار خبرا للمفيد بحكم وجوب التصديق فكيف يصير موضوعا لوجوب التصديق الذي لم يثبت موضوع الخبرية الا به ، ويشكل : بان الآية انّما تدل على وجوب تصديق كل مخبر ، ومعنى وجوب تصديقه ليس الا ترتيب الاثار الشرعية المترتبة على صدقه عليه ،

------------------

الموضوع قبل الحكم ولا يعقل ان يكون الموضوع متوقفا على الحكم ، لانه يستلزم الدور من : توقف الحكم على الموضوع ، وتوقف الموضوع على الحكم .

فان ( ما يحكيه الشيخ عن المفيد ، صار خبرا للمفيد بحكم وجوب التصديق ) لانه لما كان خبر الشيخ ثابتا لنابالوجدان ، وجب تصديقه بحكم الآية ، فثبت ما أخبر به وهو : اخبار المفيد ، فبسبب وجوب تصديق الشيخ ثبت خبر المفيد ، فخبر المفيد متوقف على : صدّق العادل ، فكيف يكون صدّق العادل ، حكما لخبر المفيد وهو يستلزم أن يكون : صدّق العادل تارة قبل خبر المفيد ، وتارة بعد خبر المفيد ؟ .

والى هذا المعنى اشار بقوله : ( ف- ) انّه ( كيف يصير ) خبر المفيد ( موضوعا لوجوب التصديق ، الذي لم يثبت موضوع الخبرية الاّ به ؟ ) أي بوجوب التصديق .

والحاصل : ان شمول مفهوم الآية للاخبار مع الواسطة مستلزم للدور ، وحيث ان الدور محال ، كان شمول الآية للاخبار مع الواسطة محالا ، لان مستلزم المحال محال - كما لا يخفى - .

( ويشكل ) عليه اشكال ثان وهو : ( بأن الآية انّما تدل على وجوب تصديق كل مخبر ) عادل ( ومعنى وجوب تصديقه : ليس الاّ ترتيب الاثار الشرعية المترتبة على صدقه ) أي : صدق الخبر ( عليه ) أي : على الخبر .

ص: 289

فاذا قال المخبر : ان زيدا عدل ، فمعنى وجوب تصديقه وجوب ترتيب الاثار الشرعية المترتبة على عدالة زيد من جواز الاقتداء به وقبول شهادته واذا قال المخبر : أخبرني عمرو ان زيدا عادل ، فمعنى تصديق المخبر على ما عرفت وجوب ترتيب الاثار الشرعية المترتبة على اخبار عمرو بعدالة زيد ومن الاثار الشرعية المترتّبة على اخبار عمرو بعدالة زيد اذا كان عادلا ،

------------------

( فاذا قال المخبر ) كالشيخ - مثلا - ( ان زيدا عدل ) وهو خبر بلا واسطة ( فمعنى وجوب تصديقه : وجوب ترتيب الاثار الشرعية المترتبة على عدالة زيد ، من : جواز الاقتداء به ، وقبول شهادته ) وجواز تقليده ، وصحة الطلاق عنده ، الى غير ذلك .

( و ) لكن ( اذا قال المخبر ) وهو الشيخ مثلا ( : أخبرني عمرو : ان زيدا عادل ) فهو خبر مع الواسطة ، لان الشيخ لم يخبر بعدالة زيد ، وانّما أخبرنا ، بأن عمروا قال : ان زيدا عادل .

( فمعنى تصديق المخبر ) وهو الشيخ ( على ما عرفت ) هو : ( وجوب ترتيب الاثار الشرعية المترتبة على ) محكي المخبر وهو ( اخبار عمرو بعدالة زيد ) فيكون المخبر به هنا ، ليس هو عدالة زيد ، لان الشيخ لم يقل : أن زيدا عادل ، ليترتب آثار العدالة على خبر الشيخ ، بل المخبر به : فرد من خبر العادل ، يعني : اخبار عمرو بعدالة زيد ، فيجب ترتيب آثاره .

والحاصل : ان الشيخ عادل فيجب تصديقه ، واذا وجب تصديقه ثبت المخبر به ، أعني : اخبار عمرو بعدالة زيد ، فيجب ترتيب آثار هذا المخبر به ، ( و) هو : وجوب التصديق فانه ( من الاثار الشرعية ) له ( المترتبة على ) هذا المخبر به أي : ( اخبار عمرو بعدالة زيد ، اذا كان ) عمرو ( عادلا ) ليجب تصديقه .

ص: 290

وان كان هو وجوب تصديقه في عدالة زيد الا أن هذا الحكم الشرعي لاخبار عمرو انّما ثبت بهذه الآية ، وليس من الاثار الشرعية الثابتة للمخبر به مع قطع النظر عن الآية حتى يحكم بمقتضى الآية بترتيبه على اخبار عمرو به .

والحاصل ان الآية تدل على ترتيب الاثار الشرعية الثابتة للمخبر به الواقعي على اخبار العادل ،

------------------

ولكن هذا ( وان كان ) الاثر ( هو وجوب تصديقه في عدالة زيد ، الاّ ان هذا الحكم الشرعي ) المترتب ( لاخبار عمرو ، انّما ثبت بهذه الآية ) فان معنى صدّق العادل : أي رتب الاثار ، فلا يمكن ان يكون نفس صدّق العادل من تلك الاثار ، لانه يستلزم أن يكون : صدّق العادل ، في مرتبة الحكم ، ومرتبة الموضوع معا .

هذا ، وقد تقدّم : ان مثل ذلك محال ، فانه لولا هذه الآية المباركة ، الدالة على : صدق العادل مفهوما ، لم يجب تصديق الشيخ ، واذا لم يجب تصديق الشيخ لم يتحقق المخبر به ، أي : اخبار عمرو ، فأثر اخبار عمرو الشرعي ، وهو : وجوب التصديق يثبت بنفس هذه الآية أيضا ( وليس ) وجوب التصديق هذا ( من الاثار الشرعية ، الثابتة للمخبر به مع قطع النظر عن الآية ، حتى يحكم بمقتضى الآية : بترتيبه على اخبار عمرو به ) أي : بعدالة زيد .

وهذا بخلاف مثل الصلاة خلفه ، واحضاره مجلس الطلاق ، وقبول شهادته ، وجعله قاضيا ، أو مرجع تقليد ، أو ما أشبه ، فان كل تلك الاثار لم تثبت من الاية المباركة ، وانّما هي آثار خارجة عن الآية دلت عليها الادلة الشرعية .

( والحاصل : ان الآية تدل على ترتيب الاثار الشرعية الثابتة للمخبر به الواقعي على اخبار العادل ) مثل جواز الاقتداء به ، والطلاق عنده ، وما أشبه .

ص: 291

ومن المعلوم أن المراد من الاثار غير هذا الاثر الشرعي الثابت بنفس الاية ، فاللازم على هذا دلالة الآية على ترتيب جميع آثار المخبر به على الخبر ، الا الاثر الشرعي الثابت بهذه الآية للمخبر به اذا كان خبرا .

وبعبارة اخرى : الآية لاتدلّ على وجوب قبول الخبر الذي لم يثبت موضوع الخبريّة له إلا بدلالة الآية على وجوب قبول الخبر ،

------------------

( ومن المعلوم : ان المراد من الاثار : غير هذا الاثر الشرعي ) أي : غير وجوب التصديق ( الثابت بنفس الآية ) فان أثر المخبر به في الاخبار بوسائط هو : وجوب التصديق الثابت بنفس هذه الآية .

إذن : ( فاللازم على هذا ) التقرير الذي ذكرناه : من كون ( دلالة الآية على ترتيب جميع آثار المخبر به ) الواقعي ( على الخبر ) الذي جاء به العادل لازم ( الا الاثر الشرعي ، الثابت بهذه الآية للمخبر به ) وهو : تصديق العادل ، فلا نرتبه عليه فيما ( اذا كان ) المخبر به بواسطة خبر الشيخ ( خبرا ) أيضا .

فاذا قال الشيخ : زيد عادل ، رتبّنا آثار العدالة على زيد ، أمّا اذا قال الشيخ : قال المفيد : زيد عادل ، فانّ الأَثر : وجوب تصديق المفيد الذي قال : بان زيداً عادل ، فوجوب التصديق أثبت خبر المفيد فكيف يكون حكماً لخبر المفيد؟ فانّ قول المفيد جاء من قبل « صدّق » فكيف يكون « صدّق » حكماً له ؟ .

( وبعبارة أخرى : الآية لا تدلّ ) - كما قلنا - ( على وجوب قبول الخبر ، الذي لم يثبت موضوع الخبريّة له ، إلاّ بدلالة الآية على وجوب قبول الخبر ) فقد يكون هناك خبر لانعلم صدقه أو كذبه ، فصدّق العادل يقول : إِنه صادق ، وقد نريد أَن نُثبِت بصدّق العادل : كون شيء خبراً .

مثل : صدّق العادل التابع لقول الشيخ ، فانه يريد إثبات خبر للمفيد مع انّا

ص: 292

لأنّ الحكم لايشمل الفرد الذي يصير موضوعاً له بواسطة ثبوته لفرد آخر .

ومن هنا يتجه أن يقال إنّ أدلّة قبول الشهادة لاتشمل الشهادة على الشهادة ، لأنّ الأصل لايدخل في موضوع الشاهد إلاّ بعد قبول شهادة الفرع .

لكن يضعّفُ هذا الاشكالُ ،

------------------

لانعلم هل أخبر المفيد أم لا ، إلاّ بسبب : صدّق العادل ، التابع لقول الشيخ ؟ .

وذلك ( لأنّ الحكم ) وهو : وجوب التصديق ( لايشمل الفرد ) وهو اخبار المفيد( الذي يصير موضوعاً له ) أي : لذلك الحكم ( بواسطة ثبوته ) أي : ثبوت الحكم ( لفرد آخر ) وهو خبر الشيخ في المثال . ( ومن هنا ) أي : من انّ الحكم لايشمل الفرد ، الذي تولد من شمول الحكم لفرد آخر ، وإِنما الحكم يشمل للأفراد الخارجية ( يتّجه أن يقال : إِنّ أدلّة قبول الشهادة ، لاتشمل الشهادة على الشهادة ) .

مثلاً : إذا شَهِدَ زيد : بانّ هذه الدار وقف ، قُبِلَت شهادته ، لإطلاق أدلّة قبول الشهادة ، كقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « إِنَّما أَقضيَ بَينَكُم بالبيّنات والأَيمانِ » (1) .

أمّا إذا شَهِدَ عمرو : بأنّ زيداً شهد : انّ الدار وقف فلا تقبل شهادة عمرو ( لأنّ الأصل ) وهي شهادة زيد : بأنّ الدار وقف( لايدخل في موضوع الشاهد ) ولايتحقق ( إلاّ بعد قبول شهادة الفرع ) أي : قبول شهادة عمرو : بأنّ زيداً شَهِدَ : بأنّ الدار وقف ، والدّليل انّما دَلّ على قبول مابنفسه شهادة خارجية نعلم بانها شهادة ، ولم يدل على قبول ماكونه شهادة بسبب شهادة أخرى .

( لكن يضعّف هذا الاشكال ) وهو : عدم شمول الحكم ، للفرد الذي يثبت فرديته بعد شمول الحكم لفرد آخر ، بأمور :

ص: 293


1- - الكافي فروع : ج7 ص414 ب29 ح1 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص229 ب22 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص232 ب2 ح33663 .

أوّلاً : بانتقاضه بورود مثله في نظيره الثابت بالاجماع ، كالاقرار بالاقرار ، ومخالفة قبول الشهادة على الشهادة لو سلّمت ليست من هذه الجهة .

------------------

( أوّلاً : بانتقاضه بورود مثله ) أي : مثل هذا الاشكال ( في نظيره ، الثابت بالاجماع : كالاقرار بالاقرار ) فانه اذا أقرّ الشخص بالسرقة ، يقبل منه اقراره أمّا اذا أقرّ يوم الجمعة : بانه قد أقرّ يوم الخميس بالسرقة ، فانه يقبل منه أيضاً ، مع أنّ إقراره يوم الجمعة ليس اقراراً بالسرقة ، بل إقراراً باقرار يوم الخميس ، فهو من الاقرار بالاقرار ، وقد قام الاجماع على قبول هذا الاقرار الثاني ، فيثبت الاقرار الأول أيضاً . وهو : الصادر يوم الخميس .

وعليه : فاذا ثبت الاقرار بالاقرار ، ثبتت الشهادة بالشهادة ، لوحدة الملاك فيهما ، اذ ليس لنا إلا : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (1) وإلا « بالبينات والأيمان » (2) . فكما انّ : « إقرار العقلاء » . يشمل : اقرار الأصل والفرع ، كذلك «البيّنات» يشمل : بينة الأصل والفرع .

( ومخالفة قبول الشهادة على الشهادة - لو سلّمت - ليست من هذه الجهة ) وإنما من جهة اخرى وهي كما ذكره الأوثق وبحر الفوائد ، وغيرهما : إنّ المانع من القبول في المثال ، هو : إفادة أَدلة إعتبار الشهادة إقامة الشهادة على الحق عند الحاكم مباشرة في صورة الامكان ، والشهادة على الشهادة لايتحقق فيها ذلك ، إذ الشهادة الاولى لم تكن عند الحاكم .

لكن لايخفى : إن هذا الوجه ليس عاماً لكل أقسام الشهادة على الشهادة ، فانه

ص: 294


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص223 ح104 و ج2 ص257 ح5 و ج3 ص442 ح5 ، وسائل الشيعة : ج23 ص184 ب3 ح29342 .
2- - الكافي فروع : ج7 ص414 ب29 ح1 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص229 ب22 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص232 ب2 ح33663 .

وثانياً ، بالحلّ : وهو أنّ الممتنع هو توقف فرديّة بعض أفراد العام على إثبات الحكم لبعضها الآخر ، كما في قول القائل : كل خبري صادق أو كاذب ، أمّا توقف العلم ببعض الافراد وإنكشاف فرديته على ثبوت الحكم لبعضها الآخر كما فيما نحن فيه ، فلا مانع منه .

------------------

إذا شهد شاهدان عند الحاكم الثاني : بقيام شاهدين عند الحاكم الأوّل ، لم يكن في مثل هذه الشهادة على الشهادة هذا المحذور .

هذا بالاضافة الى انّ بنائهم على قبول الشهادة على الشهادة في الجملة ، كما إِذا لم يتمكن الأصل من الحضور عند الحاكم ، لمرض ، أو لمانع آخر ، ومحل المسألة كتب الفقه .

( وثانياً : بالحلّ ، وهو : انّ الممتنع هو توقف فرديّة بعض أفراد العام ، على اثبات الحكم لبعضها الآخر ) بأن يكون الحكم مولداً لفرد وأمّا ان يكون الحكم كاشفاً لفرد آخر ، فليس هذا بممتنع .

فالأوّل : ( كما في قول القائل : كلّ خبري صادق أو كاذب ) فانّه يتوقف كون هذا خبراً على « صادق » اذ بدون « صادق » لايكون كل خبري بخبر ، وإِنما « كل خبري » موضوع الخبر فقط ، وكذلك بالنسبة الى كل خبري كاذب .

و ( أما ) الثاني : وهو : ( توقف العلم ببعض الأفراد ، وإنكشاف فرديته على ثبوت الحكم لبعضها الآخر - كما فيما نحن فيه - فلا مانع منه ) ففي المثال السابق : « قال الشيخ : قال المفيد : » لم يكن وجود خبر المفيد سبباً لوجوب تصديق الشيخ - فانّ خبر المفيد كائن ومتحقق في عالم الخارج - بل ثبوت خبر المفيد وتحققه لنا نحن ، إِنّما هو بسبب قول الشيخ .

وعليه : فلا مانع من ثبوت هذا الحكم لهذا الفرد أيضاً ، لأنّه كما يشمل الحكم

ص: 295

وأما ثالثاً : فلأن عدمَ قابليّة اللفظ العامّ لأن يدخل فيه الموضوعُ الذي لايتحقّق ولايوجد إلاّ بعد ثبوت حكم هذا العامّ لفرد آخر ، لايوجب التوقّف في الحكم إذا عُلِمَ المناط الملحوظ في الحكم العامّ وان المتكلم لم يلاحظ موضوعاً دون آخر ، فاخبار عمرو بعدالة زيد فيما لو قال المخبر :

------------------

وهو : صدّق العادل خبر الشيخ يشمل فرده الآخر وهو : خبر المفيد أَيضاً .

( وأمّا ثالثاً : ف- ) لأنّا نقول : سلّمنا إِن « صدّق العادل » لايشمل خبر المفيد ، للمحذور الذي ذكرتموه ، لكن مناطه يشمل قول المفيد ، فهو مثل : كل خبري صادق ، فانّ نفس هذا اللفظ وان كان لايشمل نفس هذا الخبر ، للمحذور المتقدّم ، الاّ انّ مناطه شامل لنفس هذا الخبر أيضاً .

وذلك كما قال ( لأنّ عدم قابليّة اللفظ العام ) مثل : صدّق العادل ( لأن يدخل فيه الموضوع ) كخبر المفيد - في المثال - ( الذي لايتحقق ولايوجد الاّ بعد ثبوت حكم هذا العام ) وهو : صدّق العادل ( لفرد آخر ) وهو : إخبار الشيخ في مثالنا : « قال الشيخ : قال المفيد » .

فان ذلك : ( لايوجب التوقف في الحكم ) بأن نتوقف في شمول « صدّق العادل » لقول المفيد : ( إذا علم المناط الملحوظ في الحكم العام ) وهو : اخبار العادل ، فان اخبار العادل هو المناط ، وكما انّ اخبار العادل يكون في قول الشيخ ، كذلك يكون في قول المفيد ، فيشمل « صدّق العادل » كلا الأمرين ، أي : اخبار الشيخ ، واخبار المفيد .

( و ) ذلك ل ( انّ المتكلم لم يلاحظ موضوعاً دون آخر ) فاخبار المفيد موضوع واخبار الشيخ موضوع ايضاً ، وكلا الموضوعين مشمول لصدّق العادل .

وعليه : ( فاخبار عمرو ، بعدالة زيد فيما لو قال المخبر ) كالشيخ - مثلاً- بان قال

ص: 296

أخبرني عمرو بأنّ زيداً عادل ، وإن لم يكن داخلاً في موضوع ذلك الحكم العامّ وإلاّ لزم تأخُر الموضوع وجوداً عن الحكم إلا أنّه معلوم أن هذا الخروج مستند إلى قصور العبارة وعدم قابليّتها لشموله ، لا للفرق بينه وبين غيره في نظر المتكلّم حتّى يتأمّل في شمول الحكم العامّ له ، بل لاقصور في العبارة بعدما فهم منها أن هذا المحمول وصفٌ لازمٌ لطبيعة الموضوع

------------------

( أخبرني عمرو : بأنّ زيداً عادل ) فانه ( وان لم يكن داخلاً في موضوع ذلك الحكم العام ) أي : « صدّق العادل » ( والاّ لزم : تأخر الموضوع وجوداً عن الحكم ) وقد تقدّم : انّ فيه المحذور إذ الموضوع يجب أن يكون متقدّماً على الحكم رتبة ، فلايمكن ان يكون الموضوع والحكم في رتبة واحدة .

( الاّ انّه معلوم انّ هذا الخروج ) أي : خروج هذا الفرد عن حكم العام : بان لايشمل « صدّق العادل » إخبار عمرو : بان زيداً عادل ( مستند الى قصور العبارة وعدم قابليتها لشموله ) فانّ العبارة لاتشمل إِخبار عمرو : بأن زيداً عادل .

( لا للفرق بينه ) أي : بين هذا الفرد ( وبين غيره ) من الأفراد ( في نظر المتكلم ) اذ جميع أفراد خبر العادل متساوية مناطاً في نظر القائل : «صدق العادل» ( حتى يتأمّل في شمول الحكم العام له ) أي : لهذا الفرد .

( بل ) كما لاقصور في المناط كذلك ( لاقصور في العبارة ) ايضاً ( بعدما فهم منها ) أي : من العبارة ( انّ هذا المحمول وصف لازم لطبيعة الموضوع ) وهذا جواب ثان ، فقد كان الجواب الأوّل يقول : إن المناط شامل لهذا الفرد ، وهذا الجواب يقول انّ اللفظ شامل لهذا الفرد .

وذلك إنّه اذا قال « صدّق العادل » فانه لايلاحظ المتكلم ، الأخبار المحققة مع قطع النظر عن هذا الحكم ، بل يلاحظ طبيعة الخبر بما هي هي ، بمعنى : انّ

ص: 297

ولا ينفك عن مصاديقه ، فهو مثل مالو أخبر زيد بعضَ عبيد المولى بأنّه قال : لاتعمل باخبار زيد ، فانّه لايجوز له العمل به ولو اتكالاً على دليل عامّ يدل على الجواز ويقول إنّ هذا العامّ لايشمل نفسه ، لأنّ عدم شموله له ليس إلاّ لقصور اللفظ وعدم قابليته للشمول ،

------------------

المتبادر هو : انّ وجوب التصديق ، من لوازم طبيعة الخبر ، سواء كان محققاً بنفسه أو بسبب الحكم ، وإِذا كان الحكم : « صدّق » ثابتاً للطبيعة ، والطبيعة متحققة في كل أفراده ، بالواسطة وبغير الواسطة ، يكون : « صدّق » حكماً لكل أفراد الخبر ، سواء كان خبراً بالواسطة أو بدون الواسطة .

( و ) عليه : فاذا فهم من العبارة : انّ هذا المحمول وصف لازم لطبيعة الموضوع بما هي طبيعة ، لابخصوصيّة من الخصوصيات . فانه ( لاينفك عن مصاديقه ) أي : عن مصاديق الموضوع ( فهو ) موجب لشمول العبارة لهذا الفرد أيضاً .

( مثل ما لو أخبر زيد بعض عبيد المولى بأنّه ) أي : المولى ( قال : لاتعمل باخبار زيد ، فانّه لايجوز له العمل به ) أي : حتى بهذا الخبر ، لأنّ الموضوع : طبيعة الخبر ، فيشمل نفس هذا الخبر أيضاً فلا يجوز للعبد أن يعمل بأي خبر لزيد ( ولو اتّكالاً على دليل عام يدل على الجواز ) كقول المولى إِعمل باخبار الثقاة ، فانّ لاتعمل باخبار زيد ، أخص مطلقاً من ذلك الدليل العام .

( و ) عليه : فلايجوز لذلك العبد أن ( يقول : إنّ هذا العام ) وهو قول المولى : لاتعمل باخبار زيد ( لايشمل نفسه ) أي : نفس هذا الخبر ( لأنّ عدم شموله له ) لو سلّمنا انّ العام لا يشمل نفس هذا الخبر ( ليس إلاّ لقصور اللفظ ، وعدم قابليّته للشمول ) لِما تقدَّم : من إنّ الفرد لا يكون مشمولاً للعام ، لأنّه يستلزم جمع

ص: 298

لا للتفاوت بينه وبين غيره من أخبار زيد في نظر المولى .

وقد تقدّم في الايراد الثاني من هذه الايرادات ما يوضح ذلك

------------------

الرتبتين : الموضوع ، والحكم في مكان واحد ، وذلك محال .

( لا للتفاوت بينه ) أي : بين هذا الخبر ، وهو قول : لا تعمل باخبار زيد ( وبين غيره من أخبار زيد ، في نظر المولى ) فان نظر المولى ان لا يعمل باخبار زيد ، سواء كان هذا الخبر أو سائر الأخبار ، لأنّ الحكم وهو : عدم العمل ، طاريء على طبيعة خبر زيد ، وطبيعة خبر زيد سارية في هذا الخبر ، وفي سائر أخباره ، فيشمل الحكم هذا الخبر أيضا ، وإذا شمل هذا الخبر ، حرم العمل به .

وهذا يدل - أيضا - على وجوب ترتيب طبيعة الأثر على خبر العادل - في قولنا : « صدّق العادل » سواء تحقق الأثر مع قطع النظر عن الآية ، كسائر الأفراد ، أو تحقق بملاحظة الآية ، كوجوب التصديق ، فلا يرد شيء من الاشكالين المتقدمين على مفهوم الآية المباركة .

لكن لا يخفى : انّ المصنّف لو مثَّل لشمول الطبيعة ، بقول المولى لبعض عبيده : اعمل باخبار زيد ، لكان أولى من مثال : لا تعمل باخبار زيد ، لانّه لا مانع فيه من العمل ، بخلاف « لا تعمل » فانه لا يمكن أن يشمل « لا تعمل » كل الاخبار ، التي منها هذا الخبر ، فأما هذا الخبر خارج ، أو سائر الاخبار خارجة .

كما إن هذا هو الفرق بين : كل اخباري صادقة ، وبين : كل اخباري كاذبة ، فانّ الأوّل يشمل كل الأخبار حتى نفس هذا الخبر ، بخلاف الثاني ، فانه لايعقل شموله لكل الأخبار بما فيها هذا الخبر بنفسه .

( وقد تقدّم في الايراد الثاني من هذه الايرادات ) التي ذكرنا : إِنها قابلة للذّب عنها ( مايوضح ذلك ) حيث قال المصنّف : بأنّ خبر السيد يشمل نفسه أيضاً

ص: 299

فراجع .

ومنها : أنّ العملَ بالمفهوم في الأحكام الشرعيّة غيرُ ممكن ، لوجوب التفحّص عن المعارض لخبر العدل في الأحكام الشرعيّة ، فيجب تنزيلُ الآية على الاخبار في الموضوعات الخارجيّة ، فانّها هي التي لا يجب التفحّصُ فيها عن المعارض ،

------------------

بتنقيح المناط ، ولذا لو سألنا السيد الى آخر ماذكر هناك ( فراجع ) ذلك .

( ومنها ) وهو الرابع من الاشكالات الواردة على دلالة آية النبأ القابلة للذّب عنها هو ( : انّ العملَ بالمفهوم في الاحكام الشرعيّة غيرُ ممكن ) وإذا كان مفهوم الآية المباركة : إن جائكُم عادِلٌ بنَبأ فلا تَتَبينوا ، لم يكن العمل بخبر العادل ممكناً في الأحكام الشرعيّة ( لوجوب التفحّص عن المعارض لخبر العدل في الأحكام الشرعيّة ) . فانّ العادل اذا أخبر بوجوب صلاة الجمعة - مثلاً - فمقتضى الآية : قبول خبره وعدم وجوب التبيّن عنه ، والحال انّ الفحص عن وجوب الجمعة واجب ، اذ لايعمل في الأحكام بخبر الاّ بعد الفحص والبحث عن المعارض ، والمخصص ، والمقيد ، وما أشبه ذلك .

وحيث لايمكن العمل بالمفهوم في الأحكام الشرعيّة ( فيجب تنزيلُ الآية على الأخبار في الموضوعات الخارجية فانّها هي التي لايجب التفحّصُ فيها عن المعارض ) فاذا أخبر عادل : بأنّ هذه الدار لزيد ، كان مقتضى مفهوم الآية المباركة : عدم وجوب التبيّن في ذلك ، فانه لادليل على وجوب الفحص عن أنه هل العادل صادق في كلامه، أم ليس بصادق ؟ فيعمل بالآية في الموضوعات فقط.

ان قلت : انّ في الموضوعات أيضاً لايقبل قول العادل الواحد ، لأنّه يحتاج الى إِنضمام عادل آخر إليه لتحصيل الشهادة .

ص: 300

ويجعل المرادُ من القبول فيها هو القبول في الجملة ، فلاينافي اعتبار انضمام عدل آخر إليه . فلايقال : إنّ قبول خبر الواحد في الموضوعات الخارجيّة مطلقاً يستلزم قبوله في الأحكام بالاجماع المركّب والأولوية .

------------------

قلت : ( ويجعل المرادُ من القبول فيها ) أي في الموضوعات ( هو : القبول في الجملة ) فانّ المراد من العمل بالآية في الموضوعات ، هو : العمل بقول العادل إذا إِنضم إِليه عادل آخر ، بدون وجوب الفحص .

وعليه : ( فلاينافي ) العمل بقول العادل في الموضوعات في الجملة ( إعتبار إنضمام عدل آخر إليه ) في غالب الموضوعات وإن كان ربما يلزم إنضمام اكثر من عدل آخر ، كما في الشهادة على الزنا ، واللواط ، ونحوهما .

( فلا يقال ) إنه مع ماذكرتم : من أن الآية في الموضوعات لا في الأحكام ( انّ قبول خبر الواحد في الموضوعات الخارجيّة ) لا الأحكام ( مطلقاً ) أي : سواء قلنا : باحتياج الموضوعات الى إنضمام عدد آخر الى الخبر الواحد ، أو لم نقل بذلك ( يستلزم قبوله ) أي : قبول خبر الواحد ( في الأحكام ) لأمرين .

أولاً : ( بالاجماع المركّب ) فانه قد ذهب بعض العلماء الى عدم حجّية خبر الواحد مطلقاً ، لا في الأحكام ولا في الموضوعات ، كالسيّد المرتضى .

وقد ذهب بعضهم الى حجّيته في الأحكام فقط ، كالمشهور ، ولم يذهب أحد الى حجّيته في الموضوعات فقط .

وعليه : فاذا دلّت الآية على حجّية خبر الواحد في الموضوعات - كما إعترفت أنت - فالعلماء مجمعون على حجّيته في الأحكام أيضاً .

( و ) ثانياً : ( الأَولويّة ) فانه إذا جعل الشارع خبر الواحد حجّة في الموضوعات، وهي أهم من الأحكام لزم ان يجعل خبر الواحد حجّة في الأحكام،

ص: 301

وفيه : انّ وجوبَ التفحّص عن المعارض لخبر العدل في الاحكام الشرعيّة ، غير وجوب التبيّن في الخبر ، فانّ الأوّل يؤكّد حجّية خبر العدل ولا ينافيها ،

------------------

لانها أقل أهمية من الموضوعات .

وإنما كانت الموضوعات أهم لتوفير الدواعي في إخفاء الموضوعات ، كما في باب الشهادة حيث انّ بعض الناس يريدون أكل أموال الناس بالباطل ، وغصب نسائهم ، وإراقة دمائهم ، وما الى ذلك .

ولهذا لم يقبل الشارع شهادة الواحد في الموضوعات وان قبلها في الاحكام ، فخبر زُرارَة - مثلاً - حجّة في نقله عن الامام الصادق عليه السلام انّ صلاة الجمعة واجبة وليس قول زُرارَة حجّة فيما إذا شهد : بأنّ الدار لزيد في مقام المنازعات .

والحاصل : انّ الموضوعات أهم ، فاذا قبل الواحد فيها بشرط عدد آخر ، أو بدون شرط الآخر ، كان جعل الشارع الواحد حجّة في الأحكام بطريق أولى .

إذن : فالآية لاتدل على حجّية خبر العدل ، اذ كما يجب التبيّن في خبر الفاسق ، كذلك يجب الفحص عن المعارض في خبر العادل ، فكل من خبر العادل والفاسق ، لايمكن العمل به بدون فحص أو تبيّن ، فالخبران سيّان من هذه الجهة .

( وفيه : انّ وجوبَ التفحّص عن المعارض لخبر العدل في الأحكام الشرعيّة ، غير وجوب التبيّن في الخبر ) الذي جاء به الفاسق ، فالفحص عن المعارض معناه : انّ الخبر حجّة في نفسه لكن لانعلم هل أسقط حجّيته معارض أم لا ؟ والتبيّن عن الحجّية في خبر الفاسق معناه : انّ الخبر ليس بحجّة في نفسه فيُستَبان عن حجّيته ، فهما أمران متقابلان .

( فانّ الأوّل : ) أي : وجوب التفحص ( يؤكد حجّية خبر العدل ولا ينافيها )

ص: 302

لأنّ مرجع التفحّص عن المعارض إلى الفحص عمّا أوجب الشارع العمل به ، كما أوجب العمل بهذا . والتبيّن المنافي للحجّية هو التوقف عن العمل والتماس دليل آخر، فيكون ذلك الدّليل هو المتّبع ولو كان أصلاً من الاصول .

------------------

أي : لاينافي حجّية خبر العدل ( لأنّ مرجع التفحّص عن المعارض إلى ) انّ هذا الخبر الذي هو واجب العمل به - ممّا جاء به العادل حسب مفهوم الآية - هل له معارض واجب العمل أم لا؟ وإذا كان له معارض فهل يرجّح هذا على ذاك ، أو ذاك على هذا ، أو يتساويان ؟ .

فمرجعه الى ( الفحص عمّا أوجب الشارع العمل به ، كما أوجب العمل بهذا ) الخبر ، فانّ هذا الخبر واجب العمل به لولا المعارض ، فهل هناك معارض يرجّح عليه ، أو يساويه ؟ .

( و ) أمّا الثاني وهو وجوب التبيّن ، فمعناه : عدم الاعتناء بالخبر ، ووجوب تحصيل الثقة من الخارج ، فانّ ( التبيّن المنافي للحجّية ، هو : التوقف عن العمل ) بخبر الفاسق ، لأنّه قبل التبيّن لايجوز العمل بالخبر ، وليس الخبر بحجّة في نفسه ( و ) إنما يجب ( التماس دليل آخر فيكون ذلك الدّليل ) الآخر الخارجي ، الذي يسمّى الفحص عنه : بالتبيّن ( هو المتّبع ، ولو كان ) ذلك الدليل الخارجي ( أصلاً من الاصول ) كما اذا جاء الفاسق - مثلاً- : بعدم وجوب صلاة الجمعة ، فان الأصل يؤيد عدم الوجوب .

والحاصل : انّ وجوب التّفحص الذي هو في خبر العادل ، مؤكد للحجّية ، ووجوب التبيّن الذي هو في خبر الفاسق ، مناف للحجّية ، فلايمكن ان يقال : كما انّ الآية تدل على عدم حجّية خبر الفاسق ، كذلك تدل على عدم حجّية خبر العادل ، لأنّه كما يحتاج خبر الفاسق الى التبيّن ، كذلك يحتاج خبر العادل الى

ص: 303

فاذا يئس عن المعارض عمل بهذا الخبر وإذا وجده أخذ بالأرجح منهما . وإذا يئس عن التبيّن توقف عن العمل ورجع إلى مايقتضيه الاصول العمليّة . فخبر الفاسق وإن اشترك مع خبر العادل في عدم جواز العمل

------------------

التفحص ، فالتّفحص والتبين متقابلان على ماعرفت .

( فاذا ) فحص الانسان عن المعارض لخبر العادل ، و( يئس عن المعارض عمل بهذا الخبر ) الذي جاء به العادل ( وإذا وجده ) أي وجد المعارض ( أخذ بالأرجح منهما ) اذا كان هناك ترجيح في البين وإِلاّ فهما متساويان في جواز العمل وعدم جوازه .

( و ) لكن ( إذا يئس عن التبيّن ) الخارجي بالنسبة الى خبر الفاسق ، بأن جاء فاسق بخبر ، فتبين عنه فلم يحصل على مايؤيده أو ينافيه ( توقف عن العمل ) بخبر الفاسق ( ورجع الى مايقتضيه الاصول العمليّة ) لأنّه اذا لم يكن دليل إجتهاديّ في البين لابّد وأن يكون هناك أصل عملي - على ماقرر في الاصول - .

مثلاً : إذا قام خبر الفاسق : بحرمة التبغ ، توقف ورجع الى الخارج ، فان كان مايدلّ على الحرمة التبغ ، وإلاّ أجرى البرائة ، وكذلك في مجاري سائر الأصول من : الاستصحاب ، والاحتياط ، والتخيير .

فخبر العادل قبل التفّحص حجّة ، وكذا بعد التفّحص ، وَصَلَ الفاحص الى الخبر أو الى معارضه ، ترجيحاً أو تساوياً أم لا ، بخلاف خبر الفاسق قبل التبيّن ، فانه ليس بحجّة وكذا بعد التبيّن ، وَصَلَ المُتَبيِّن الى الدليل الخارجي ، أو الأصل العملي أم لا ، فخبر العادل حجّة على كل حال ، وخبر الفاسق ليس بحجّة على كل حال .

إذن : ( فخبر الفاسق وإن اشترك مع خبر العادل في عدم جواز العمل ) إبتداءاً

ص: 304

بمجرّد المجيء إلاّ أنّه بعد اليأس عن وجود المنافي يعمل بالثاني دون الأوّل . ومع وجدان المنافي يؤخذ به في الأوّل ويؤخذ بالأرجح في الثاني ، فتتبع الأدلّة في الأوّل لتحصيل المقتضي الشرعيّ للحكم الذي تضمّنه خبرُ الفاسق ، وفي الثاني لطلب المانع عمّا إقتضاه الدليلُ الموجود .

ومنها :

------------------

( بمجرّد المجيء ) لأنّ خبر العادل يحتاج الى التّفحص ، وخبر الفاسق يحتاج الى التبيّن .

( إلاّ ) انّ اللازم في الأوّل ، وهو خبر الفاسق التوقف والرجوع الى الغير ، وفي الثاني وهو خبر العادل : الفحص ثم الرجوع اليه ، أو الى الأرجح منه ، أو الى التخيير .

وذلك ( انّه بعد اليأس عن وجود المنافي يعمل بالثاني ) أي بخبر العادل ( دون الأوّل ) أي : خبر الفاسق . ( ومع وجدان المنافي يؤخذ به ) أي بالمنافي ( في الأوّل ) أيفي خبر الفاسق ( ويؤخذ بالأرجح في الثاني ) أي في خبر العادل .

( فتتبع الأدلة في الأوّل ) أي : في خبر الفاسق ( لتحصيل المقتضي الشرعيّ للحكم الذي تضمّنه خبرُ الفاسق ) فانه إذا دلّ خبر الفاسق - مثلاً - على حرمة التتن فهو بنفسه لايقتضي الحرمة ، بل لابد من تحصيل المقتضي للحرمة من الخارج ، وإلاّ فاللازم العمل بالأصل ، والأصل هو البرائة .

( وفي الثاني : ) وهو خبر العادل ، إنّما يكون الفحص ( لطلب المانع عمّا إقتضاه الدليلُ الموجود ) فان خبر العادل هو دليل موجود ، مقتضي للحكم الذي دلّ عليه ، وانّما نفحص عن المعارض لنرى : هل هناك مانع عن هذا المقتضي أم لا ؟ .

( ومنها ) وهو الخامس : من الاشكالات الواردة على دلالة آية النبأ - على حجّية

ص: 305

انّ مفهوم الآية غير معمول به في الموضوعات الخارجيّة التي منها مورد الآية ، وهو إخبار الوليد بارتداد طائفة ، و من المعلوم أنّه لايكفي فيه خبرُ العادل الواحد ، بل لا أقلّ من اعتبار العدلين ، فلابّد من طرح المفهوم ، لعدم جواز اخراج المورد .

وفيه : انّ غاية الأمر لزوم تقييد

------------------

خبر العادل - ممّا يمكن الذّب عنه ، هو : ( انّ مفهوم الآية غير معمول به في الموضوعات الخارجيّة ، التي منها مورد الآية ، وهو ) أي : مورد الآية : ( إخبار الوليد بارتداد طائفة ) من بني المصطلق ، فانّ مورد الآية في الموضوعات ( و ) الموضوعات لا يعمل بها بخبر العدل الواحد لاحتياجها الى العدلين ، لأنّ البينة هي التي تكون حجّة في الموضوعات ، وليس خبر العدل الواحد بحجّة فيها .

والنتيجة : انّ المورد لايعمل فيه بالآية لوضوح : انّه ( من المعلوم : انّه لايكفي فيه ) أي في مورد الآية ، وهو من الموضوعات ( خبرُ العادل الواحد بل لا أقل من إعتبار العدلين ) حتى تتحقق البينة ، التي هي حجّة في الموضوعات .

إذن ( فلابدّ من طرح المفهوم ) وهو : حجّية خبر العادل ( لعدم جواز إخراج المورد ) فانه يستحيل أن يكون للآية مفهوم يعمل به في الأحكام ، ولا يعمل به في الموضوعات التي منها مورد الآية .

فان معنى الآية بناءاً على المفهوم : « إن جائَكُم فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَنُوا ، وإن جائَكُم عادِلٌ فَلا تَتَبَيَنُوا » مع انّه اذا جاء العادل بارتداد بني المصطلق ، لايعمل بخبره ، بل إحتاج الأمر الى عادلٍ ثان ، فاذا كان للآية مفهوم ، لزم اخراج المورد ، وإخراج المورد قبيح .

( وفيه : إنّ غاية الأمر ) ونهاية مايجاب به الأشكال المذكور هو : ( لزوم تقييّد

ص: 306

المفهوم بالنسبة الى الموضوعات بما إذا تعدد المخبر العادل . فكلّ واحد من خبري العدلين في البينة لايجب التبيّن فيه .

وأما لزوم إخراج المورد فممنوع ، لأنّ المورد داخل في منطوق الآية لا مفهومها ،

------------------

المفهوم بالنسبة الى الموضوعات ، بما إذا تعدد المخبر العادل ) فانّ الآية معمول بها في الأحكام مطلقاً ، لأنّ خبر العادل في الأحكام حجّة وإن كان واحداً ، أمّا في الموضوعات ، فلايعمل بالمفهوم إلاّ مقيداً بقيد التعدد .

( فكلّ واحد من خبري العدلين في البيّنة ) حجّة ( لايجب التبيّن فيه ) وإن كان أحدهما مقيداً بالآخر .

هذا بالاضافة الى انه يمكن أن يقال : انّ الحالة الثورية لا تتقيد بقيود الحالة الطبيعية ، للضرورة في الثورة ، وليست الضرورة في الحالة العاديّة ، فلهما حكمان ، إذ الحالة الثورية من الاستثناء ، ولهذا يقبل في الحالة الثورية ، خبر الواحد العادل في الموضوعات ، بخلاف الحالة الطبيعية ، وقد ألمَعنا الى مثل هذا ، في كتاب : « الآداب والسنن » (1) حول إختلاف حال الرسول وعليّ عليهماالسلام في بعض الآداب ، عن حال الامام الباقر والصادق عليهماالسلام في مثل تلك الآداب .

( وأمّا لزوم إخراج المورد ) الذي ذكره المستشكل ( فممنوعُ ، لأنّ المورد داخل في منطوق الآية لا مفهومها ) فانّ منطوق الآية يدلّ على وجوب التبيّن في خبر الفاسق مطلقاً ، سواء كان في الاحكام أو في الموضوعات ، أو كان في الارتداد أو غير الارتداد ، الى غير ذلك ، ومن الواضح : انّه يعمل بهذا المنطوق في جميع موارده ، حيث لايعمل بخبر الفاسق إلاّ بعد التبيّن .

ص: 307


1- - راجع موسوعة الفقه : ج94 - 97 للشارح .

وجعلُ أصل خبر الارتداد مورداً للحكم بوجوب التبيّن إذا كان المخبرُ به فاسقاً ، ولعدمه إذا كان المخبر به عادلاً ، لايلزم منه إلاّ تقييد لحكمه في طرف المفهوم وإخراج بعض أفراده ، وهذا ليس من إخراج المورد المستهجن في شيء .

------------------

وعلى هذا : فالمورد ليس بخارج وإن قيدنا المفهوم في الموضوعات بقيود اخر ، مثل : قيد التعدد في الشهادات العادية الى الاثنين ، وفي غير العادية كالزنا ونحوه الى أربع ، وغير ذلك ، فانه لايلزم منه خروج المورد - على ماذكره المستشكل - ومن الواضح : انّه لايستشكل على المنطوق بأنّه قيّد أو خصص ، ولا على المفهوم بأنّه قيّد أو خصص حتى على فرض إختصاص العمل بالمفهوم في الاحكام دون الموضوعات بما فيها مورد الآية من الارتداد .

( و ) عليه : فان ( جعلُ أصل خبر الارتداد مورداً للحكم بوجوب التبيّن ، إذا كان المخبر به ) أي : بالارتداد ( فاسقاً ) كالوليد ( ولعدمه ) أي : لعدم الحكم بوجوب التبيّن ( إذا كان المخبر به عادلاً ) فالارتداد إذا جاء به الفاسق وجب التبيّن عن خبره ، وإن جاء به العادل ، لايجب التبيّن عن خبره ( لايلزم منه ) أي : من هذا الجعل ( إلاّ تقييد لحكمه ) أي : لحكم المورد ( في طرف المفهوم ) وهو : ان جائكم عادل فلا تتبينوا ( وإخراج بعض أفراده ) أي : بعض افراده المورد .

فانّ الفاسق إذا جاء بالارتداد ، وجب التبيّن عن خبره مطلقاً ، أما إذا جاء العادل بالارتداد ، فانّه يقيد بإنضمام عادل آخر في هذا المورد اليه ، فكل من المفهوم والمنطوق قد عمل به في مورده، إلاّ أنّ المفهوم قد قيد بقيد الانضمام الى عادل آخر.

( و ) من المعلوم : انّ ( هذا ) التقييد وإخراج بعض الأفراد ، وهو : ما اذا كان العادل واحداً ( ليس من إخراج المورد المستهجن في شيء ) وإِنما هو من تقييد

ص: 308

ومنها : ماعن غاية المباديء ، من أنّ المفهوم يدلّ على عدم وجوب التبيّن ، وهو لايستلزم العمل ، لجواز وجوب التوقف .

------------------

المطلق ، أو تخصيص العام .

وربمّا يقال في هذا المعنى : انّ طبيعة الفسق تستدعي التبيّن ، واحداً كان الفاسق أو أكثر ، وطبيعة العدالة تستدعي عدم التبيّن كذلك ، ففي بعض الموارد يكفي العادل الواحد ، كالفتوى ، وأهل الخبرة ، وفي بعض الموارد يكفي إِثنان ، كما في البينة ، وفي بعض الموارد يلزم الأربعة ، كما في الشهادة على الزنا ونحوه .

فالآية في مقام بيان الطبيعة لا الخصوصيات ، وليس في المقام تقييد أيضاً ، لأنّه من قبيل قول الطبيب للمريض : لابّد ان تشرب الدواء ، فاذا بيَّنَ خصوصيات الدواء لم يكن من التقييد ، وإنما كان من تبيين المحمل أو المهمل .

( ومنها ) وهو السادس من الاشكالات الواردة على دلالة آية النبأ - على حجّية خبر العادل ممّا يمكن الذّب عنه وهو : ( ما عن غاية المباديء ) للشهيد الثاني (من أنّ المفهوم يدلّ على عدم وجوب التبين ، وهو ) أي : عدم وجوب التبيّن ( لا يستلزم العمل، لجواز وجوب التوقف)(1) اذ هناك ثلاثة اُمور على النحو التالي:

الأوّل : وجوب التبيّن في خبر الفاسق .

الثاني : عدم وجوب التبيّن في خبر العادل ، بأن يرد بلا تبين .

الثالث : عدم وجوب التبيّن في خبر العادل ، بأن يقبل بلا تبين .

والمفهوم ساكت عن المعنيين ، ولم يعلم بانّه هل خبر العادل يرد بلا تبيّن ، أو يقبل بلا تبين ؟ .

ص: 309


1- - غاية البادي : مخطوط .

وكأنّ هذا الايراد مبنيٌّ على ما تقدّم فساده من إرادة وجوب التبيّن نفسيّاً ، وقد عرفت ضعفه ، وأنّ المراد وجوب التبيّن لأجل العمل عند إرادته وليس التوقفُ حينئذٍ واسطةً .

ومنها : انّ المسألة اُصوليّة ، فلايكتفي فيها بالظنّ .

------------------

( وكأنّ هذا الإِيراد مبنيٌّ على - ما تقدّم فساده من - إرادة وجوب التبيّن نفسياً ) حيث قد تقدّم : انه لو رُدّ خبر العادل بلا تبيّن ، وقبل خبر الفاسق مع التبيّن ، لكان خبر العادل أسوء من خبر الفاسق ، وبضميمة هذه المقدّمة الخارجية أصلح وجوب القبول بلا تبيّن في خبر العادل .

( وقد عرفت ضعفه ) لأن وجوب التبيّن ليس نفسياً ، بل مقدميّاً للعمل ( و ) عرفت : ( انّ المراد : وجوب التبيّن ) شرطاً ( لأجل العمل عند إرادته ) أي عند ارادة العمل ، فليس التبيّن واجباً نفسياً أراد العمل أو لم يرد .

فيكون المعنى على مقدميّة وجوب التبيّن للعمل وشرطيته : إن جائكم فاسق بنبأ ، وجب التبيّن فيما يراد العمل بذلك النبأ ، وإن جائكم عادل بنبأ وأردتم العمل به فلايشترط فيه التبيّن ، وإلاّ فخبر الفاسق ، الذي لايراد العمل به ، أيضاً لايشترط فيه التبيّن - كما هو واضح - .

( وليس التوقف حينئذ واسطةً ) بين وجوب التبيّن ، والقبول بلا تبيّن ، بل هناك : التبيّن في مرحلة العمل ، إن جاء به الفاسق وعدم التبيّن ان جاء به العادل فلا تردد للمفهوم بين الاحتمالين المذكورين ، كما لاحاجة الى ضمّ المقدّمة الخارجية ، بل ظاهر الآية : تعيّن القبول بلا تبيّن .

( ومنها ) وهو السابع من تلك الايرادات القابلة للذّب عنها ، هو : ( إنّ المسألة ) أي : حجّية خبر الواحد مسألة ( اُصوليّة ، فلا يكتفي فيها بالظنّ ) الحاصل من

ص: 310

وفيه : أنّ الظّهور اللّفظي لابأس بالتمسك به في أصول الفقه ، والاصول التي لايتمسّك لها بالظّن مطلقاً هو اُصول الدّين لا أصول الفقه ، والظنّ الذي لايتمسك به في الاصول مطلقاً هو مطلق الظنّ ،

------------------

ظاهر الآية ، فان المسائل الفقهية هي التي يكون الظهور فيها حجّة ، أما المسائل الاُصولية - فلأنّها تشمل كثيراً من الفروع ، ولايكتفي فيها بالظن الحاصل من ظاهر آية أو رواية ، أو ماأشبه - فهي تحتاج الى القطع ، واليقين ، والأدلة العقلية القوية .

( وفيه : انّ الظهور اللّفظي ، لابأس بالتمسّك به في أُصول الفقه ) فيجوز إثبات حجّية خبر العادل بظاهر آية النبأ ، فان الظواهر توجب الظن الخاص ، الذي هو بمنزلة العلم ، لِما قد سَبق : من إجماع العلماء والعقلاء على العمل بالظواهر ، ومن أين انّ المسائل الاصولية لايكتفي فيها بالظن الخاص ؟ .

( والاصول التي لايتمسك لها بالظّن مطلقاً ) سواء كان ظناً خاصاً أو ظناً انسدادياً - اذا حصلت مقدّمات الانسداد- ( هو اصول الدّين لا اصول الفقه ) اذ لابد في الاول دون الثاني من العلم والاعتقاد والقطع واليقين ، ولايكفي فيها الظنّ خاصاً كان أو عاماً انسدادياً .

قال سبحانه : « فاعلَم أَنَّهُ لا إلهَ إلاّ هو » (1) ، وغير ذلك من الأدلّة التي أقاموها في مبحث الكلام على وجوب العلم والاعتقاد في أُصول الدّين .

( والظنّ الذّي لايتمسّك به في الاصول مطلقاً ) سواء كان أصل دين أو أصل فقه ، انّما ( هو مطلق الظنّ ) الذي لم يثبت حجّيته بدليل خاص ، كالشهرة الفتوائية والقياس ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، وما أشبه ذلك من الظّنون التي

ص: 311


1- - سورة محمد : الآية 19 .

لا الظنّ الخاصّ .

ومنها : انّ المرادَ بالفاسق مطلقُ الخارج عن طاعة اللّه ولو بالصّغائر . فكلّ من كان كذلك أو إحتمل في حقّه ذلك وجبَ التبيّنُ في خبره

------------------

يعمل بها العامة ، ولايعمل بها الخاصة ، فانّ الظنّ المطلق لايكفي في اصول الدين ولا في اصول الفقه .

( لا الظنّ الخاصّ ) الثابت حجّيته بالكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل ، فانه يكفي ذلك في اصول الفقه - كما تقدّم تحقيقه مفصلاً- .

( ومنها ) وهو الثامن من الاشكالات الواردة على مفهوم آية النبأ - في حجّية خبر العادل - القابل للذّب عنه هو : ( انّ المرادَ بالفاسق ) هو الفاسق الواقعي ، لأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة النفس الأمرية ، دون من علم فسقه أو لم يعلم فسقه .

والفاسق ، هو : ( مطلقُ الخارج عن طاعة اللّه ولو بالصّغائر ) لأنّ الفسق عبارة عن الخروج ، والخارج بالصغائر أيضاً خارج ( فكلّ من كان كذلك ) أي : كان مرتكباً للكبائر أو الصغائر ( أو إحتمل في حقّه ذلك ) وان كان في نظرنا عادلاً ، لكن لا بالقطع ، لأنّ القطع بالعدالة لايجتمع مع إحتمال الفسق ( وجب التبيّن في خبره ) .

فانّ المراد بالفسق - على ماعرفت - : الفسق الواقعي ، سواء علم به أم لا ، فكل من علمنا فسقه ، أو إحتملنا فسقه ، يكون داخلاً في المنطوق ، ولا يبقى داخلاً في المفهوم حينئذٍ ، إلاّ من علمنا عدم فسقه ، وينحصر من علم عدم فسقه في المعصوم عليه السلام ، اذ العادل أيضاً يمكن أن يكون فاسقاً واقعاً وإن كان في نظرنا عادلاً .

ص: 312

وغيره ممّن يفيد قوله العلم ، لانحصاره في المعصوم عليه السلام أو من هو دونه ، فيكون في تعليق الحكم بالفسق إشارةٌ إلى أنّ مطلق خبرَ المخبر غير المعصوم ، لا عبرةَ به ، لاحتمال فسقه ، لأنّ المراد الفاسقُ الواقعيّ لا المعلوم ، فهذا وجه آخر لافادة الآية حرمةَ اتّباع غير العلم ،

------------------

( وغيره ) أي غير كل من كان كذلك ، يكون ( ممّن يفيد قوله العلم ) ولا يخفى : ان قوله : « وغيره » مبتدأ ، و « ممن يفيد » خبره ، وإنما يكون غير من ذكر من الفاسق المعلوم فسقه ، أو المحتمل فسقه ، يفيد قوله العلم ( لانحصاره في المعصوم عليه السلام أو من هو دونه ) كسلمان ، والمقدّاد ، والعباس بن علي عليهماالسلام ، ومن أشبههم .

ومن المعلوم : انّ حجّية الخبر العلمي ، لاتحتاج الى مفهوم الآية المباركة ، بل العلم حجّة بنفسه ( فيكون في تعليق الحكم بالفسق ) فيالآية المباركة ( إشارةٌ إلى انّ مطلق خبرَ المخبر غير المعصوم ، لاعبرة به ) وذلك ( ل- ) ما تقدّم : من ( إحتمال فسقه ) وان كان في الظاهر عادلاً .

( لأنّ المراد ) من ( الفاسقُ ) في الآية المباركة هو الفاسق ( الواقعيّ ، لا المعلوم) فسقه لما تقدّم : من إن الألفاظ إنما هي موضوعة للمعاني الواقعية ، لا للمعاني المستظهرة لدى العرف .

وعلى هذا : فالفاسق ولو محتمل الفسق ، داخل في منطوق الآية ، فلا يبقى في طرف مفهومها ، إلاّ من قطع بعدم فسقه ، كالمعصوم والذين هم دون المعصوم - ممّن تقدّم ذكرهم - .

( فهذا ) أي : تعليق الحكم بالفسق الواقعي الموجب لعدم العمل بالخبر حتى في محتمل الفسق ( وجه آخر لافادة الآية : حرمةَ إتّباع غير العلم ) مضافاً الى الأدلة

ص: 313

لايحتاجُ معه إلى التمسّك في ذلك بتعليل الآية ، كما تقدّم في الايراد الثاني من الايرادين الأوّلين .

وفيه : انّ إرادة مطلق الخارج عن طاعة اللّه ، من إطلاق الفاسق ، خلافُ الظاهر عُرفاً ، فالمرادُ به إمّا الكافرُ ، كما هو

------------------

الاخر التي تدل على حرمة اتباع غير العلم مثل : قوله سبحانه : « وَلاتَقفُ مَالَيسَ لَكَ بهِ عِلمٌ » (1) وغيرها من الآيات والرّوايات .

فانه ممّا ( لايحتاجُ معه ) أي : مع هذا الوجه ( الى التمسّك في ذلك ) أي : في حرمة إتباع غير العلم ( بتعليل الآية ) الدال ذلك التعليل على حرمة إتباع غير العلم ، لأنّ فيه إحتمال الوقوع في الندم ( كما تقدَّم في الايراد الثاني من الايرادين الأوّلين ) .

فانّ الايراد الثاني ، كان مبنياً على تعليل الآية ، وقد قلنا هناك : بانّ التعليل يدل على المنع من كل خبر يحتمل فيه الوقوع في الندم ، وخبر العادل كذلك ، لأنّه لايورث العلم ، فيحتمل فيه الوقوع في الندم ، فلا يمكن الأخذ بخبر العادل أيضاً ، كما لايمكن الأخذ بخبر الفاسق .

( وفيه : إنّ إرادة مطلق الخارج عن طاعة اللّه ، من إطلاق الفاسق ، خلافُ الظاهر عُرفاً ) أي : في عرف المتشرعة ، فانّ المتشرعة لايرون مرتكب الصغيرة فاسقاً ، وذلك لتلقيهم معنى الفسق من الشرع ، وهو غير شامل لمرتكب الصغيرة ، فليس معنى الآية المباركة : لزوم كون ناقل الخبر معصوماً ، أو تالي تلوّ المعصوم .

إذن : ( فالمرادُ به ) أي بالفاسق في الآية المباركة ( إمّا الكافرُ ، كما هو ) المجاز

ص: 314


1- - سورة الإسراء : الآية 36 .

الشائع إطلاقه في الكتاب ، حيث انّه يطلق غالباً في مقابل الايمان . وإمّا الخارجُ عن طاعة اللّه بالمعاصي الكبيرة الثابتة تحريمها في زمان نزول هذه الآية .

------------------

( الشائع ) في ( إطلاقه ) أي في اطلاق الفاسق ( في الكتاب ) العزيز ( حيث انّه ) أي : الفاسق ( يطلق غالباً في مقابل الايمان ) كما في قوله سبحانه : « أَفَمَن كانَ مُؤمِناً كَمَن كانَ فَاسِقاً لايَستَوُونَ » (1) .

حيث قابل بين الايمان والفسق فيكون المراد بالفسق : الكفر .

وقال سبحانه : « قُل يَا أَهلَ الكِتاب ، هَل تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاّ أَن آمَنَّا بِاللّه ِ ، وَمَا أُنزِلَ إِلينَا ، وَمَا أُنزِلَ مِن قَبل ، وَأَنَّ اَكثَرَكُم فَاسِقُونَ » (2) ، حيث انّ الفسّاق من أهل الكتاب قوبلوا بالمؤمنين بالرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم .

وقال سبحانه : « كَذلِكَ حَقَّت كَلِمةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذينَ فَسَقُوا ، أََّهُم لا يُؤمِنون » (3) ، وغيرها من الآيات .

والسّر في ذلك هو : إن الفسق بمعنى الخروج ، فهو يطلق على الكافر ، لأنّه خارج عن طاعة اللّه سبحانه وتعالى في العقائد الصحيحة ، كما ان فاسق المسلمين خارج عن طاعة اللّه سبحانه وتعالى في الاعمال الحسنة وان كانت عقيدته صحيحة .

وإنما قلنا : انّ اطلاق الفسق على الكفر مجاز شائع ، لانصراف الفسق الى : الفسق العملي ، لا العقيدي .

وعليه : فالمراد بالفاسق : إما الكافر - وقد مرّ- ( وإمّا الخارجُ عن طاعة اللّه بالمعاصي الكبيرة ، الثابتة تحريمها في زمان نزول هذه الآية ) وقد حصر المصنّف

ص: 315


1- - سورة السجدة : الآية 18 .
2- - سورة المائدة : الآية 59 .
3- - سورة يونس : الآية 33 .

والمرتكب للصّغيرة غير داخل تحت إطلاق الفاسق في عرفنا المطابق للعرف السّابق ، مضافاً إلى قوله تعالى : « إن تجتَنِبُوا كَبائِر ماتُنهَونَ عَنهُ نُكفِّر عَنْكُم سَيّئاتِكُم » .

------------------

ثبوت الكبيرة في زمان نزول الآية ، لأنّ المعاصي التي شرعت حرمتها بعد نزول الآية لم تكن في وقت نزول الآية معصية ، بل كانت جائز الارتكاب .

فلو فرض - مثلاً - ان آية حرمة الخمر نزلت بعد هذه الآية ، لم يكن شارب الخمر في زمان نزول هذه الآية مرتكباً للعصيان ، حتى يسمى فاسقاً وإِنّما الفاسق هو الكافر أو مرتكب الكبائر المحرّمة زمن النزول .

( و ) أمّا ( المرتكب للصّغيرة ) فهو : ( غير داخل تحت إطلاق الفاسق في عرفنا ) نحن المتشرعة ( المطابق ) عرفنا هذا بحسب اصالة عدم النقل ( للعرف السابق ) في زمان نزول الآية .

وبذلك ظهر : انّه سواء كان المراد بالفسق : الكفر ، أو المعاصي الكبيرة ، لم يكن مفهوم الآية خاصاً بالمعصوم ، وتالي تلوّ العصمة ، كسلمان وأبو ذر والعباس .

( مضافاً الى قوله تعالى : « إِن تَجتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنهَونَ عَنهُ نُكَفِّر عَنكُم سَيِّئَاتِكُم» (1) ) . فان هذه الآية المباركة ، تدلّ على ان مرتكب الصغيرة ، الذي لا يرتكب الكبيرة ، مكفِّراً عنه السيئات ، فليس بفاسق .

والحاصل : انّ الآية المباركة لاتشتمل مرتكب الصغيرة ، وذلك لتبادر الفسق الى غير مرتكب الصغيرة في عرف المتشرعة اليوم عرفاً مطابقاً لعرف المتشرعة في زمان نزول الآية بأصالة عدم النقل .

ص: 316


1- - سورة النساء : الآية 31 .

مع أنّه يمكن فرضُ الخلوّ عن الصغيرة والكبيرة .

إذا علم منه التوبة من الذنب السّابق . وبه يندفع الايراد المذكور ، حتّى على مذهب من يجعل كلّ ذنب كبيرة .

------------------

ولأنّه تعالى بشّر الفاسق بالعذاب ، وحَكَم بأن من إجتنب الكبائر يكفّر عنه سيئاته ، فيعلم منه : انّ الفاسق هو مرتكب الكبيرة ، ولايشمل مرتكب الصغيرة .

وعليه : فمن علم إجتنابه عن الكبائر ، وعلم إرتكابه للصغيرة بدون الاصرار ، أو إحتمل في حقّه ذلك ، يكون داخلاً في مفهوم الآية ، فاشكال : انّ الآية خاصة بالمعصومين ، ومن حذا حذوهم ، غير وارد .

( مع انّه يمكن فرضُ الخلوّ عن الصغيرة والكبيرة ) معاً ، فانه ان سلّمنا : انّ المنطوق يدل على وجوب التبيّن ، في خبر من خرج عن الأطاعة بالكبيرة أو الصغيرة ، أو إحتمل في حقه ذلك إلاّ انّ المفهوم لاينحصر في المعصوم ومن تلا تلوه ، بل يدخل فيه غيرهم أيضاً .

كما ( إذا علم منه التوبة من الذنب السّابق ) ولم يرتكب بعد صغيرة ولا كبيرة ، فانه ليس بمعصوم ولا تالياً تلوّ المعصوم ، ومع ذلك يقبل خبره ، لأنّه لايصدق عليه : الفاسق ، لفرض إنه تاب ولم يرتكب بعد كبيرة ولا صغيرة .

( وبه ) أي : بهذا الفرض الذي ذكرناه : من خلوّ الانسان بالتوبة ( يندفع الايراد المذكور ) الذي أورده المستشكل على مفهوم آية النبأ من إنحصار المفهوم في المعصوم ، ومن حذا حذوه .

فانه يندفع به ( حتّى على مذهب من يجعل كلّ ذنب كبيرة ) اذ الفقهاء اختلفوا في : ان كلّ ذنب كبيرة - كما ذهب إليه جمع - أو : انّه قد يكون كبيرة وقد يكون صغيرة - كما ذهب إليه المشهور - .

ص: 317

وأمّا إحتمالُ فسقه بهذا الخبر للكذب به فهو غيرُ قادح ، لأنّ ظاهر قوله : « إن جَاءَكُم فَاسِقٌ بِنَبَأٍ » ، تحقّقُ الفسق قبل النبأ ، لا به ، فالمفهوم يدلّ على قبول خبر من ليس فاسقاً

------------------

وعلى أي حال : فغير المعصوم ومن حذا حذوه ، أيضاً داخل في مفهوم الآية ، لأنّه يوجد من ليس بفاسق ، ولم يكن معصوماً ولا حاذياً حذو المعصوم .

فالتائب من الفسق سواء قلنا : بأنّ الفاسق عبارة عن مرتكب الكبائر دون الصغائر ، أو قلنا : بأنه مطلق الخارج عن الطاعة سواء كان قد إرتكب الكبيرة أو الصغيرة ، أو قلنا : بأن كل فاعل للعصيان مرتكب للكبيرة ، لأنّ كل ذنب كبيرة ، فانه على أي التقادير الثلاثة ، لايتم الاشكال المذكور .

( و ) ان قلت : الانسان الذي ليس بفاسق ، كالتائب عن الكبائر والصغائر لايمكن أن يؤخذ بخبره لعدم إِحراز عدالته الآن ، وذلك لاحتمال انّه قد فسق بسبب كذبه بهذا الخبر الذي جاء به .

قلت ( أمّا إحتمالُ فسقه بهذا الخبر للكذب به ) أي : لأنّه كذب بهذا الخبر ، وان لم يكن قبل إخباره بهذا الخبر فاسقاً ، لأنه تاب عن الصغائر والكبائر فرضاً ( فهو غير قادح ) في الأخذ بخبره .

( لأنّ ظاهر قوله : « إن جَائَكُم فَاسِقٌ بِنَبَأٍ » (1) تحقّقُ الفسق قبل النبأ ، لا به ) أي : لابسبب هذا النبأ ، فاذا قلنا : النبأ جاء به الفاسق ، كان ظاهره : تحقق الموضوع وهو : الفسق قبل كونه منبئاً ومخبراً ، فاذا اريد من الفسق ، تحققه بنفس هذا الخبر كان خلاف الظاهر .

إذن : ( فالمفهوم ) للآية المباركة ( يدلّ على قبول خبر من ليس فاسقاً ) لأنّه

ص: 318


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

مع قطع النظر عن هذا النبأ وإِحتمال فسقه به .

هذه جملة ما أورد على ظاهر الآية ، وقد عرفت أنّ الوارد منها إيرادان ، والعمدةُ الايرادُ الأوّلُ الذي أورده جماعة من القدماء والمتأخّرين .

ثمّ إنّه كما إستدلّ بمفهوم الآية على حجّية خبر العادل كذلك قد يستدلّ بمنطوقها على حجّيّة خبر غير العادل ، إذا حصل الظنّ بصدقه ، بناءً على أنّ المراد بالتبيّن مايعمّ تحصيل الظّنّ .

------------------

تاب من ذنبه السابق ، وذلك ( مع قطع النظر عن هذا النبأ و ) غض الطرف عن ( إحتمال فسقه به ) أي : بسبب هذا النبأ .

( هذه جملة ماأورد على ظاهر الآية ) في دلالتها على حجّية خبر العادل ( وقد عرفت : انّ الوارد منها : إيرادان ) وهما اللذان لايمكن الذّب عنهما عند المصنّف ( و ) إن كان ( العمدةُ ) عنده هو ( الايرادُ الأوّلُ ، الذي أورده جماعة من القدماء والمتأخّرين ) وقد أشرنا الى انّ الايرادين أيضاً ، يمكن دفعهما ، وقد ذكرنا الدفع في تقريراتنا المفصلة ، وفي الاصول .

( ثمّ إنّه كما إستدلّ بمفهوم الآية على حجّية خبر العادل ) أو حجية خبر من ليس بفاسق وان لم يكن عادلاً ، بناءاً على وجود الواسطة بين العدالة والفسق ، كما ألمعنا اليه قبل أسطر .

( كذلك قد يستدلّ بمنطوقها على حجّية خبر غير العادل ) وهو الفاسق ( إذا حصل الظنّ بصدقه ) من الخارج ، أما لو حصل العلم به فالعلم هو المستند في الأخذ ، لاخبر الفاسق ، وذلك ( بناءاً على انّ المراد بالتبيّن ) الذي هو شرط للعمل بخبر الفاسق ( مايعمّ تحصيل الظّن ) .

ص: 319

فإذا حصل من الخارج ظنٌ بصدق خبر الفاسق كفى في العمل به .

ومن التبيّن الظنّيّ تحصيلُ شهرة العلماء على العمل بالخبر أَو على مضمونه أو روايته .

ومن هنا تمسّك بعضٌ بمنطوق الآية على حجّية الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة ، وفي حكم الشهرة أمارة اُخرى غير معتبرة .

------------------

وعليه : ( فاذا حصل من الخارج ظنٌ بصدق خبر الفاسق كفى في العمل به ) لأنّ التبيّن الظني من مصاديق التبيّن ، وإذا حصل الشرط حصل المشروط .

قال بعضهم : ( ومن التبيّن الظنّي : تحصيل شهرة العلماء على العمل بالخبر ) بأن تمسك المشهور ، وعملوا بهذا الخبر الذي جاء به الفاسق .

( أو على مضمونه ) بأن كان فتوى المشهور مطابقاً لمضمون خبر الفاسق وإن لم يتمسكوا بظاهر الخبر ، فانّ في كلا الحالين ، شهرة العلماء قائمة على مايوافق الخبر لفظاً أو مضموناً ، والشهرة من المبيّنات .

( أو روايته ) بان كان مشهوراً بين الرّواة وإن لم يتمسك به الفقهاء ، ولم يكن فتوى المشهور على طبقه ، فانّه من المبيّنات أيضاً .

( ومن هنا ) أي : من جهة انّ منطوق الآية المباركة ، دال على حجّية خبر الفاسق اذا حصل الظّن بصدقه من الخارج ( تمسّك بعض ، بمنطوق الآية على حجّية الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة ) سواء كان شهرة عملية ، أو شهرة فتوائية ، أو شهرة روائية ، وإن كان ضعيفاً في السند من جهة عدم وثاقة رواته ، أو عدم معرفتنا بوثاقتهم ، أو ما أشبه ذلك .

( وفي حكم الشهرة أمارة اُخرى غير معتبرة ) كالاجماع المنقول - مثلاً- .

ص: 320

ولو عمّم التبيّن للتبيّن الاجماليّ - وهو تحصيل الظّن بصدق مخبره - دخل خبرُ الفاسق المتحرّز عن الكذب ، فيدخل الموثّق وشبهه بل الحَسَن أيضاً .

وعلى ماذكرنا فيثبت من آية النبأ ، منطوقاً ومفهوماً ، حجّيّةُ الأقسام

------------------

هذا ( ولو عمّم التبيّن ، للتبيّن الاجماليّ ) بأن يكون المستفاد من منطوق الآية : اشتراط العمل - بخبر الفاسق - بتحصيل الظن بصدقه من الخارج ، أو بتحصيل الظن بصدق المخبر وانّه لايكذب مطلقاً ، أو لايكذب في هذا المورد الخاص ، أو ماأشبه ذلك .

( و ) التبيّن الاجمالي - كما قال المصنّف - ( هو : تحصيل الظنّ ) بسبب المعاشرة ، أو بسبب علم الرجال ، أو غير ذلك ( بصدق مخبره ) ، أي : مخبر هذا الخبر .

وانّما كان هذا تبيناً إجمالياً لأنّه اذا ظنّ الانسان بأنّ هذا المخبر صادق في كلامه، ظنّ إجمالاً بصدق اخباره - أيضاً- بالنسبة الى التشريعيات والأحكام ، فالظّن بصدق خبره هذا ، من صغريات ذلك الظن العام ، ولهذا سماه : بالاجمالي .

فاذا كان كذلك ( دخل خبر الفاسق المتحرّز عن الكذب ) في منطوق الآية المباركة ( فيدخل الموثّق ) في منطوق الآية ( وشبهه ) أي : شبه الموثق .

أمّا الموثق فهو : خبر العامي ، أو شبه العامي ، كالفطحي والواقفي ، والطاطري والكيساني ، ونحوهم ، ممّن فسدت عقيدته ، لكنه صادق اللسان ، وأما شبه الموثق فهو : الامامي الفاسق ، المتحرز عن الكذب ( بل الحَسَن أيضاً ) وهو : كالامامي المجهول ، الذي لايعرف بفسق ولا عدالة .

( وعلى ماذكرنا ، فيثبت من آية النبأ منطوقاً ومفهوماً : حجّيّةُ الأقسام

ص: 321

الأربعة للخبر الصحيح والحسن والمُوثّق والضعيف المحفوف بالقرينة الظنّية .

------------------

الأربعة للخبر ) المشهورة في علم الدراية :

الأوّل : ( الصحيح ، و ) هو : خبر العدل الأَامي الضابط ، فانّه مستفاد من المفهوم .

الثاني : ( الحَسَن ، و ) هو : خبر الامامي الممدوح من غير نص على عدالته ، فانّه مستفاد من منطوق الآية لحصول التبيّن الظني الاجمالي الخارجي من جهة ممدوحيته .

بل ربّما يطلق أيضاً على الامامي وإن لم يكن ممدوحاً ، لأنّ الأصل في الانسان : ان لايكون كاذباً ؛ وذلك حسب فطرة اللّه التي فطر الناس عليها .

الثالث : ( المُوثّق ، و ) هو : خبر غير الامامي المتحرّز عن الكذب ، لكن بشرط أن يكون مسلماً ، فلايشمل خبر الكافر .

وهذا أيضاً مستفاد من المنطوق ، لحصول التبيّن الظنّي الاجمالي الخارجي ، من جهة توثيقه في علم الرجال ، أو من جهة المعاشرة له ، كما لو عاشر الكليني ، أو المفيد ، أو المرتضى ، أو غيرهم ممّن عاصروا الغيبة الصغرى ، أو قريباً منها رواة فاسدي العقيدة ، وحصل لهم الظن بوثاقتهم .

الرابع : ( الضعيف المحفوف بالقرينة الظنّية ) كخبر الفاسق المحفوف بالشهرة الفتوائية ، أو الشهرة العملية ، أو الاجماع المنقول بخبر الواحد - عند من لايرى الاجماع المنقول حجّة - أو ماأشبه ذلك ، فانه يستفاد حجّية مثل هذا الخبر - أيضاً- من المنطوق لحصول التبيّن الظنّي التفصيليّ الخارجي .

ص: 322

ولكن فيه من الاشكال ما لا يخفى ، لأنّ التبيّن ظاهر في العلميّ .

كيف ولو كان المرادُ مجرّد الظنّ لكان الأمرُ به في خبر الفاسق لغواً ، إذ العاقل لايعمل بخبر إلاّ بعد رجحان صدقه على كذبه ، إلاّ أن يدفع اللغويّة بما ذكرنا سابقاً ، من أنّ المقصود التنبيهُ والارشادُ على أنّ الفاسق لاينبغي أن يُعتَمَدَ عليه وأنّه لايُؤمَنُ من كذبه وإن كان المظنونُ صدقَهُ .

------------------

( ولكن فيه ) أي : في الاستدلال على حجّية كفاية العمل بالخبر ، اذا حصل للانسان التبيّن الظنّي ( من الاشكال مالايخفى ، لأنّ التبيّن ظاهر في العلميّ ) بأن يحصل العلم بالخبر ، أو بما يصل الى العلم .

( كيف ولو كان المرادُ : مجرد الظنّ لكان الأمرُ به ) أي بالتبيّن الظني ( في خبر الفاسق لغواً؟ اذ العاقل لايعمل بخبر ) جاء به أيّ شخص ( إلاّ بعد رجحان صدقه على كذبه ) رجحاناً من الخارج ، كما لو اعتضد الخبر بما يوجب الرجحان ، أو اعتضاداً من الداخل بأن يكون المخبر صادق اللّهجة ، فيكون الأمر بالتبيّن على هذا لغواً ، لأنّه يكون حينئذٍ من قبيل تحصيل الحاصل .

( إلاّ أن يدفع اللغويّة بما ذكرنا سابقاً : من أنّ المقصود ) من الأمر بالتبيّن الظنّي ( التنبيهُ والارشاد على أنّ الفاسق لاينبغي أن يعتمدَ عليه ، وانّه لايؤمنُ من كذبه ، وإن كان المظنونُ صدقَهُ ) .

فالأمر بالتبيّن لافادة انّ خبر الفاسق يحتاج الى تحصيل الظن بصدقه من الخارج ، ولايكفي الظنّ الحاصل من نفس خبره ، على تقدير حصول الظنّ من نفس الخبر ، بسبب أمور توجب مثل هذا الظن .

وعليه : فليس قيد التبيّن ، لأجل إخراج الخبر غير المظنون صدقه ، فانّ العاقل لايعمل بالخبر غير المظنون الصدق ، بل لبيان : انّ خبر الفاسق ، من قبيل

ص: 323

وكيف كان ، فمادّة التبيّن ولفظ الجهالة وظاهر التعليل

------------------

ما لا يعتمد عليه ، لمكان فسقه .

فاذا قال المولى - مثلاً- أكرم الانسان العالم ، فربّما يكون تقييده بالعالم لأجل إخراج الجاهل ، وربّما يكون لأجل بيان : إنّ العالم ينبغي أن يكرم ، فلا يكون القيد حينئذٍ إحترازياً ، بل يكون لبيان نكتة اخرى وهي : مافي إكرام العالم من مزية .

والفرق بين الأمرين : إنّ في الأوّل ، لايجوز أن يريد منه : إكرام الانسان مطلقاً ، لأنّ القيد يكون لغواً حينئذٍ ، بخلاف الثاني ، فان له ان يريد به : إكرام الانسان مطلقاً ، ولايكون قيد العالم حينئذٍ لغواً ، وانّما جيء به لأجل بيان النكتة التي ذكرناها .

وهذا هو المعروف عندهم : من إنّ القيد قد يكون إحترازياً ، وقد لايكون إحترازياً ، بل لبيان جهة اُخرى : كالقيد التوضيحي والقيد الغالبي والقيد لنكتة خارجية .

( وكيف كان ) الأمر في التبيّن ، وإنه للاحتراز ، أو لنكتة اُخرى ، ( فمادّة التبيّن ) الظاهرة في تحصيل العلم ، لما تقدّم : من أنّ الابانة عبارة : عن الظهور ، والظهور لايكون إلاّ مع العلم ولو في أنزل درجاته ، وهو : الاطمئنان .

( ولفظ الجهالة ) الظاهر في عدم العلم ، لا في السفاهة - على ماتقدّم أيضاً إحتماله - .

( وظاهر التعليل ) وهو : وجوب تحصيل العلم في خبر الفاسق ليؤمن من الوقوع في الندم ، حيث قال سبحانه : « فَتُصبِحُوا عَلَى مَافَعَلتُم نَادِمِينَ » (1) .

ص: 324


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

كلّها آبية من إرادة مجرّد الظنّ .

نعم ، يمكن دعوى صدقه على الاطمينان الخارج عن التحيّر والتزلزل بحيث لايعدّ في العرف العملُ به تعريضاً للوقوع في الندم . فحينئذٍ لايبعد انجبارُ خبر الفاسق به .

لكن لو قلنا بظهور المنطوق في ذلك كان دالاً على حجّيّة الظّن الاطمينانيّ المذكور

------------------

هذه ( كلها آبية من إرادة مجرد الظن ) لأن الظّن ليس تبيّناً ، بل هو جهالة لأنّه ليس بعلم ، ولأنّه لايؤمن مع الظّن من الوقوع في الندم .

( نعم ، يمكن دعوى صدقه ) أي : صدق التبيّن ( على الاطمينان الخارج عن التحيّر والتزلزل ) في النفس ( بحيث لايعدّ في العرف العملُ به ) أي : بالاطميئنان ( تعريضاً للوقوع في الندم ) أي : انه لايلزم العلم بدرجته القوية ، وإنّما درجته النازلة التي تسمى بالاطمئنان أيضاً من التبيّن .

( فحينئذٍ : لايبعد إنجبارُ خبر الفاسق به ) أي بحصول الاطمئنان من الخارج أوالداخل ، بحيث لايبقى العامل بهذا الخبر متحيِّراً ومتزلزلاً ، بل مطمئن النفس .

لايقال : الظاهر من التبيّن : الفحص ، وذلك لايصدق مع الاطمئنان بخبر الفاسق لصدقه لساناً أو ما أشبه ، لأنّه لايحصل الفحص عندئذ .

لأنه يقال : مناط الفحص موجود وإن لم يحصل الفحص بنفسه ، فان من الواضح : انّ الفحص طريقي ، وليس موضوعياً ، فكل ماحصل مناطه ، كان كافياً حسب مايستفيده العرف من ظاهر الآية المباركة ، خصوصاً بمعونة التعليل .

( لكن ) قد سبق انّه ( لو قلنا بظهور المنطوق في ذلك ) أي : في كفاية الاطمئنان ( كان ) المنطوق ( دالاً على حجّية الظنّ الاطمئناني المذكور ) ممّا

ص: 325

وإن لم يكن معه خبرُ فاسق نظراً إلى أنّ الظاهر من الآية أنّ خبر الفاسق وجوده كعدمه ، وأنّه لابدّ من تبيّن الأمر من الخارج والعمل على مايقتضيه التبيّنُ الخارجيُّ .

نعم ، ربّما يكون نفسُ الخبر من الأمارات التي يحصل من مجموعها التبيّن .

------------------

يوجب عدم التزلزل والتحيّر في النفس .

وبذلك يستفاد من المنطوق : حجّية الاطمئنان بما هو اطمئنان ( وان لم يكن معه خبر فاسق ) كما إذا حصل الاطمئنان من الشهرة الفتوائية أو الشهرة الرّوائية ، أو من نقل الاجماع ، أو غير ذلك ، فيكون خبر الفاسق بالنسبة الى المذكورات ، كالحجر في جنب الانسان .

وإنّما يستفاد من الآية ذلك ( نظراً الى انّ الظاهر من الآية : أنّ خبر الفاسق وجوده كعدمه ) فلا يكون مناطاً للعمل ، وإنما مناط العمل هو : التبيّن والظهور من الخارج ، كما قال ( وانّه لابد من تبيّن الأمر ) عن خبر الفاسق ( من الخارج ، والعمل على مايقتضيه التبيّن الخارجي ) بالغض عن خبر الفاسق ، حتى كأنه لم يكن هناك خبر فاسق إطلاقاً ، وهذا ممّا يستبعد عن ظاهر الآية .

( نعم ، ربّما يكون ) لخبر الفاسق أيضاً مدخلية في الاطمئنان ، بأن يكون هو وشيء آخر ، جزئين يسببان معاً إطمئنان النفس ، فيكون ( نفس الخبر من الأمارات التي يحصل من مجموعها ) أي : من مجموع تلك الأمارات ( التبيّن ) .

مثلاً : إذا أخبر الفاسق بوجوب صلاة الجمعة ثم رجعنا الى الشهرة ، فأفادا معاً الوجوب ، بحيث لو كان خبر الفاسق وحده ، لم يفد ذلك ، وإذا كانت الشهرة وحدها ، لم تفد ذلك أيضاً ، وإنّما المجموع أفادا ذلك الحكم .

ص: 326

فالمقصودُ الحذرُ عن الوقوع في مخالفة الواقع . فكلّما حصل الأمن منه جاز العمل ، فلا فرق حينئذٍ بين خبر الفاسق المعتضد بالشهرة إذا حصل الاطمينان بصدقه وبين الشهرة المجرّدة إذا حصل الاطمينان بصدق مضمونها .

والحاصلُ : أنّ الآية تدلّ على أنّ العمل يعتبر فيه التبيّن من دون مدخليّة لوجود خبر الفاسق وعدمه ،

------------------

وعليه : ( فالمقصود ) من المنطوق للآية المباركة ، هو : ( الحذر عن الوقوع في مخالفة الواقع ) الموجب للندم ( فكلّما حصل الأمن منه ) عرفاً ( جاز العمل ) بذلك الشيء المأمون العواقب خبراً كان ، أو غير خبر كالشهرة - مثلاً- .

إذن : ( فلا فرق حينئذٍ ) أي : حين كان الاطمئنان مناطاً ( بين خبر الفاسق ) الموجب بنفسه للاطمئنان ، بلا حاجة الى شيء خارجي ، لأنّ الفاسق - مثلاً- صادق اللّهجة أو انّ خبره محفوف بالقرائن ، وبين خبر الفاسق ( المعتضد بالشهرة ) الفتوائية - مثلاً ( إذا حصل ) من مجموع خبر الفاسق والشهرة ( الاطمئنان بصدقه ، وبين الشهرة المجردة ، إذا حصل الاطمئنان بصدق مضمونها ) أي : مضمون تلك الشهرة .

وعلى هذا : فيكون لخبر الفاسق أحياناً مدخلية - تامة - في الاطمئنان ، وأحياناً يكون له جزء دخل في الاطمئنان .

( والحاصل : انّ الآية تدل على إنّ العمل ، يعتبر فيه التبيّن ) الموجب للاطمئنان - من أي طريق حصل - وذلك ( من دون مدخلية لوجود خبر الفاسق وعدمه ) .

كما انّه لا مدخلية للشهرة وعدمها .

ص: 327

سواء قلنا بأنّ المراد منه العلمُ أو الاطمينان أو مطلق الظنّ ، حتّى إن من قال أنّ خبر الفاسق يكفي فيه مجرّد الظنّ بمضمونه بحسن أو توثيق أو غيرهما من صفات الرّاوي . فلازمُه القولُ بدلالة الآية على حجّية مطلق الظنّ بالحكم الشرعيّ وإن لم

------------------

فكلما حصل الاطمئنان من شيء مفرد ، أو من أشياء متعددة ، جاز العمل به .

وذلك ( سواء قلنا : بأنّ المراد منه ) أي : من التبيّن ( العلم ) فيكون هو المناط وحده .

( أو الاطمئنان ) فهو المناط ، سواء وصل الى أعلى درجات العلم أو لم يصل .

( أو مطلق الظنّ ) حتى يكون الظن بنفسه مناطاً ، كما يقال عند الانسداد .

فعلى الأوّل : يكون حجّية خبر العادل من المفهوم .

وعلى الأخيرين : يكون من المنطوق .

( حتى إنّ من قال ) بأنّ المراد بالتبيّن : التبيّن الظنيّ تفصيلياً كان أو إجمالياً - لأنّ العقلاء يعتمدون على المظنونات - ذهب الى : ( أنّ خبر الفاسق يكفي فيه مجرّد الظنّ ) سواء كان ظناً إجمالياً أو ظناً تفصيلياً - على ماتقدّم - .

فاذا حصل الظنّ ( بمضمونه ) أي بمضمون الخبر ( ب- ) سبب ( حسن ) بأن كان المخبر إمامياً ممدوحاً ، أو إمامياً على ماتقدّم .

( أو توثيق ) بأن كان المخبر مسلماً غير اِمامي ، لكنّه متحرز عن الكذب ، كما علم عن حاله .

( أو غيرهما من صفات الرّاوي ) بأن يكون إمامياً فاسقاً بجوارحه ، لكنّه متحرز عن الكذب ، الى غير ذلك من أقسام الرّواة .

( فلازمه : القول : بدلالة الآية على حجّية مطلق الظنّ بالحكم الشرعيّ ، وان لم

ص: 328

يكن معه خبرٌ أصلاً ، فافهم واغتنم واستقم .

هذا ، ولكن لايخفى أنّ حملَ التبيّن على تحصيل مطلق الظنّ أو الاطمينان يوجبُ خروجَ مورد المنطوق وهو الاخبار بالارتداد .

------------------

يكن معه خبر أصلاً ) فانّ الآية عند مثل هذا الشخص ، دليل على كون مطلق الظنّ من الظّنون التي يعتمدها العقلاء ، فاذا أوجب شيء هذا الظنّ ، كان حجّة بين المولى والعبد ( فافهم وإغتنم وإستقم ) .

والحاصل : انّ الاحتمالات في الآية المباركة هي أحد أمور :

أولاً : أن يكون المناط هو العلم القوي .

ثانياً : ان يكون المناط : الاطمئنان وهو أنزل درجات العلم .

ثالثاً : ان يكون المناط هو : الظنّ العقلائي .

ومهما كان المحتمل ، فانه لايهم الخبر ، بل المهم الحالة النفسية الحاصلة .

نعم ، في الظنّ ، قد يراد به : الشخصي ، وقد يراد به : النوعي وإن لم يحصل ظنّ للشخص ، بل وان كان الظنّ على خلافه .

( هذا ، ولكن لايخفى : انّ حمل التبيّن على تحصيل مطلق الظنّ ) ولو كان ظناً عقلائياً ( أو الاطمئنان ) بالاضافة الى انّه خلاف ظاهر اللّفظ لما تقدّم : من انّ التبيّن بمعنى : الظهور ، والظهور إنّما يكون مع العلم ( يوجب خروج مورد المنطوق ، وهو : الاخبار بالارتداد ) عن الآية المباركة ، وخروج المورد مستهجن .

فانّه من الواضح : انّ في الاخبار بالارتداد ، لايكفي مطلق الظنّ ، ولا الاطمئنان ، بل لابّد فيه من العلم ، أو البيّنة العادلة .

وعليه : فاللازم أن يحمل التبيّن على العلم ، فان ذلك - أيضاً - ممّا يناسب التعليل الموجود في الآية .

ص: 329

ومن جملة الآيات : قوله تعالى في سورة البرائة : « فَلَولا نَفَرٌ مِن كُلِّ فِرقَةٍ » .

دلّت على وجوب الحذر عند إنذار المنذرِين من دون إعتبار إفادة خبرهم العلم لتواتر أو قرينة ،

------------------

( ومن جملة الآيات ) التي إستدل بها لحجّية خبر الواحد ( قوله تعالى في سورة البرائة : ) « وَما كان المُؤمِنُونَ لِيَنفروُا كافَّةً ، ( فَلَولا نَفَرٌ مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ ) مِنهُم طائفَةٌ ليتَفَقَهوا في الدِّينِ ، وَلِيُنذِرُوا قَومَهُمْ إذا رَجَعُوا إليهم لَعَلَهُمْ يَحذَرُونَ » (1) .

فانّ هذه الآية ( دلّت على وجوب ) النفر ، والتفقه ، والانذار ، و( الحذر عند إنذار المنذرين ) وذلك ( من دون إعتبار : إفادة خبرهم ) أي : المنذرين ( العلم ) للمنذَرين بالفتح ( لتواتر أو قرينة ) .

فانه سبحانه قال : « لعلهم يحذرون » مطلقاً ، ولم يقل : لعله يحصل لهم العلم من اخبار المنذرين فيحذروا .

ومن المعلوم : انّ الطائفة مؤنث الطائف ، وهو يشمل الواحد والأثنين والأكثر .

قال سبحانه : « إِنَّ الّذِينَ اتَّقَوا ، إذا مَسَّهُم طائِفٌ مِنَ الشّيطانِ تَذَكَّروُا ، فإذا هُم مُبصِرُونَ » (2) .

وقال سبحانه : « فَطافَ عَلَيها طائِفٌ مِن رَبِّكَ وَهُم نائِمُونَ » (3) .

فانّ الطائف بمعنى : من يطوف ، وإن كان واحداً أو أكثر .

ويؤيده : إنه لو كانت الجماعة عائلة واحدة - كما هو المتعارف عند سكان البوادي - فاللازم ان ينفي أحدهم حال كونه قادراً على ذلك .

ص: 330


1- - سورة التوبة : الآية 122 .
2- - سورة الاعراف : الآية 201 .
3- - سورة القلم : الآية 19 .

فيثبت وجوب العمل بخبر الواحد .

أمّا وجوبُ الحذر ، فمن وجهين :

أحدهما : أنّ لفظة « لعلّ » بعد انسلاخه عن معنى الترجيّ ظاهرة في كون مدخوله محبوباً للمتكلّم .

------------------

وعلى هذا : ( فيثبت وجوب العمل بخبر الواحد ) بلا فرق بين أن يكون مخبره عادلاً أو غير عادل .

هذا ( أمّا ) دلالة الآية على وجوب النفر ، فلقوله تعالى « فلولا نفر » .

وعلى وجوب التفقه ، فللأمر بقوله : « ليتفقهوا » .

وعلى وجوب الانذار ، فلقوله : « ولينذروا » .

ولهذا ، فلا اشكال في دلالة الآية على وجوب هذه الثلاثة .

وأمّا دلالة الآية على ( وجوب الحذر ) وقبول الجماعة إنذار المنذرين ، لهم حتى تدل الآية على حجية خبر الواحد ( فمن وجهين ) على النحو الآتي :- ( أحدهما : انّ لفظة « لعل » بعد إنسلاخه ) وتجرده ( عن معنى الترجيّ ظاهرة : فيكون مدخوله محبوباً للمتكلم ) ، فانّ جماعة من الادباء قالوا : انّ معنى « لعلّ » ، هو : ترجي المحبوب ، فاذا إبتعد وتجرّد عن معنى الترجي ، لامتناعه منه سبحانه وتعالى ، يبقى دالاً على مجرد المحبوبية ، لكن هنا كلامان :-

الأوّل : انّ كون « لعل » للترجي مطلقاً ، غير معلوم ، بل قد يستعمل لاحتمال خير ، أو شر ، أو عمل عادي - فهو في العربية بمعنى : « شايد » في الفارسية - من غير فرق بين أن يكون الاحتمال في الماضي ، أو المستقبل ، أو الحال ، ولذا يقال : لعلّ زيداً جاء البارحة ، لأجل ارادة خير ، أو شر ، أو عمل ليس بخير ، ولا بشرّ .

الثاني : انّ الرجاء وإن كان عليه سبحانه محالاً ، إلاّ إنّه كسائر ماكان من هذا

ص: 331

وإذا تحقّق حسنُ الحذر ثبت وجوبهُ ، إِمّا لما ذكره في المعالم ، من أنّه لامعنى لندب الحذر ، إذ مع قيام المقتضي يجب ومع عدمه لايحسن ، وإمّا لأنّ رجحانَ العمل بخبر الواحد مستلزمٌ لوجوبه بالاجماع المركّب ،

------------------

القبيل بالنسبة اليه سبحانه ، مثل : غضب ، ورضى ، وأسف .

قال سبحانه : «فَلَما اسَفُونا إنتَقَمنا مِنهُم » (1) .

وقال سبحانه : «غَضِبَ اللّه ُ عَلَيهِم » (2) .

وقال سبحانه : «رَضِيَ اللّه ُ عَنهُم » (3) .

ولهذا قالوا فيه سبحانه وتعالى : خذ الغايات وإترك المبادئ.

( و ) على كل حال : فانه ( إذا تحقق حسن الحذر ) ومحبوبيته ( ثبت وجوبه ) للتلازم بين الأمرين في أمثال المقام ، وذلك ( امّا لما ذكره في المعالم : من أنه لامعنى لندب الحذر ، إذ مع قيام المقتضي يجب ، ومع عدمه لايحسن ) فانه إذا كان الأسد موجوداً وجب التحذر عنه ، وإذا لم يكن موجوداً ، لايحسن التحذر إطلاقاً .

وكذا في الآية الكريمة فانه عند إنذار المنذِرين ، إن كان مخالفة خبرهم حراماً موجباً لاستحقاق العقاب ، وجب الحذر ، وإن لم تكن مخالفتهم حراماً ولم يوجب عقاباً لم يكن مقتض للحذر ، فيلغو الحذر .

لكن حيث دلت الآية على محبوبية الحذر ، علم وجود المقتضي وهو : إستحقاق العقاب على المخالفة ، ومع وجود المقتضي ، وجب الحذر .

( وامّا لأنّ رجحان العمل بخبر الواحد مستلزم لوجوبه بالاجماع المركب ) وقد

ص: 332


1- - سورة الزخرف : الآية 55 .
2- - سورة الفتح : الآية 6 .
3- - سورة المائدة : الآية 119 .

لأنّ كلّ من أجازه فقد أوجبه .

الثاني : انّ ظاهر الآية وجوبُ الانذار ، لوقوعه غايةً للنّفر الواجب بمقتضى كلمة «لولا» ، فاذا وجب الانذار أفاد وجوبَ الحذر لوجهين .

أحدهما : وقوعُه غايةً للواجب ، فانّ الغاية المترتبّة على

------------------

تقدّم : معنى الاجماع المركب ، وإنه عبارة عن انّه : إذا كان في المسألة قولان ، أو ثلاثة أقوال ، لايجوز إحداث قول ثالث في القولين ، ولا قول رابع في الأقوال الثلاثة ، وهكذا .

والاجماع المركب في المقام ، إنّما هو ( لأنّ ) كل من لم يوجبه ، لم يجوّزه و( كلّ من أجازه فقد أوجبه ) فحصل هناك قولان : قول بوجوب الأخذ بالخبر الواحد ، وقول بعدم جواز الأخذ به .

وأما الوجه ( الثاني ) من وجهي وجوب الحذر فهو : ( انّ ظاهر الآية : وجوب الانذار لوقوعه ) أي : الانذار ( غاية للنفر الواجب ) وانّما كان النفر واجباً ( بمقتضى كلمة «لولا» ) فانّ هذه الكلمة للتحريض والتحضيض يستفاد منها الوجوب .

هذا بالاضافة الى السياق ولفظ الانذار ، حيث انّه ظاهر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( فاذا وجب الانذار ، أفاد ) وجوب الانذار هذا ( وجوب الحذر ) .

وإِنّما يفيد وجوب الحذر ( لوجهين ) على النحو التالي :-

( أحدهما : وقوعه ) أي : الحذر ( غاية للواجب ) والواجب هو الانذار ، فيكون المعنى : إنّ الحذر واجب حيث انّه غاية للانذار الواجب ( فانّ الغاية المترّتبة على

ص: 333

فعل الواجب ممّا لايرضى الامرُ بانتفائه ، سواء كان من الأفعال المتعلّقة للتكليف أم لا ، كما في قولك : «تُب لَعَلَّكَ تُفلِحُ ، وَأسلِم لَعَلَّكَ تَدخُلُ الجَنَّةَ ، وقوله تعالى : « فَقُولا لَهُ قَولاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذكَّرُ أو يَخْشى » .

------------------

فعل الواجب ) هو ( ممّا لايرضى الامر بانتفائه ) .

اذ لو كان غاية الواجب غير واجب لم يكن وجه لوجوب الواجب ، فاذا كان الحضور - مثلاً - في الحرم الحسيني غير واجب ، لايصح للآمر أن يقول : يجب عليك السفر الى كربلاء لحضور الحرم الشريف ، ثم يعقبه بقوله : حضور الحرم ليس بواجب ، فانه يشك عند العرف حينئذٍ : بأنه لماذا يجب السفر والحال انّ الحضور في الحرم ليس بواجب ؟ .

وهذا التلازم محقق ( سواء كان ) مايترتب على فعل الواجب ( من الأفعال المتعلّقة للتكليف ) بأن تكون الغاية أيضاً فعلاً للمكلف ( ام لا ) بأن لاتكون الغاية تحت قدرة المكلّف .

فالأوّل : ( كما في قولك : تب لعلّك تفلح ) فان الفلاح بيد الانسان ، والانسان مكلف به .

( و ) الثاني : كما في قولك : ( أسلم لعلّك تدخل الجنة ) فان دخول الجنة ليس بيد الانسان ( و ) كما في ( قوله تعالى : «فَقُولا لَهُ قَولاً لَيِّناً لَعَلّهُ يَتَذَكَّرُ أو يَخشى » (1) ) ، فانّ تذكر فرعون لم يكن بيد موسى وهارون عليهماالسلام ، والمراد : انه يخشى من النار ، أو يتذكّر اللّه وانّه المنعم الحقيقي ، فيرعوي عن إدعائه الالوهية ، فان الانسان أحياناً يفعل الشيء وجداناً وإنصافاً وأحياناً يفعله خوفاً

ص: 334


1- - سورة طه : الآية 44 .

الثاني : انّه إذا وجب إِلانذارُ ثبت وجوبُ القبول وإلاّ لغي الانذارُ .

ونظيرُ ذلك ماتمسّك به في المسالك على وجوب قبول قول المرأة وتصديقها في العِّدة ، من قوله تعالى : « ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أن يَكتُمنَ ماخَلَقَ اللّه ُ في أَرحامِهّنَّ » ، فإستدلّ بتحريم الكتمان ووجوب الاظهار عليهنَّ على قبول قولهنّ بالنسبة إلى ما في الأرحام .

------------------

من سوء تركه .

( الثاني ) من وجهي وجوب الحذر ( : انّه إذا وجب الانذار ثبت وجوب القبول ) على المنذَرين - بالفتح - ( وإلاّ ) بان لم يجب على المنذرين القبول ( لغى الانذار ) اذ أَيةِ فائدة في الانذار اذا لم يجب على المنذَرين القبول ، فهو كما لو أوجب الآمر على انسان شق نهر ، لكن لافائدة في النهر إطلاقاً ، ومن المعلوم : إنّ الشارع لايوجب ما لافائدة فيه .

( ونظير ذلك ) الذي ذكرناه : من إنه إذا وجب الانذار ، وجب القبول ( ماتمسّك به ) الشهيد الثاني ( في المسالك ، على وجوب قبول قول المرأة وتصديقها ) بانّها ( في العِدّة ) فيترتب على ذلك أحكام العدّة ( من قوله تعالى : «وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أن يَكتُمنَ ماخَلَقَ اللّه ُ فِي أَرحامِهِنَّ»(1) ) من الجنين ، فاذا كان في رحم المرأة المطلقة - مثلاً - جنين ، يجب عليها ان تخبر : بانّ في رحمها جنين ، ولا يحل لها أن تكتم ذلك .

( فاستدلّ ) الشهيد ( بتحريم الكتمان ، ووجوب الاظهار عليهنّ : على قبول قولهن بالنسبة الى ما في الأرحام ) (2) لأنّه لو حرم الكتمان ، ولم يجب القبول ،

ص: 335


1- - سورة البقرة : الآية 228 .
2- - مسالك الافهام : ج2 ص31 .

فان قلت : المرادُ بالنّفر ، النفرُ إلى الجهاد ، كما يظهر من صدر الآية ، وهو قوله تعالى : « وَما كان المُؤمنُونَ لِيُنفِرُوا كافّة » ، ومن المعلوم أنّ النفر إلى الجهاد ، ليس للتفقّه والإنذار .

نعم ، ربّما يترتّبان عليه ، بناءا على ما قيل ، من أنّ المراد حصول البصيرة في الدّين من مشاهدة آيات اللّه

------------------

كان التحريم بالنسبة اليهنّ لغواً .

( فان قلت : ) لا دلالة في الآية على وجوب قبول خبر الواحد ، لأنّ التفقه والانذار من قبيل الفائدة لا الغاية ، فما ذكرتم : من انّه غاية غير تام ، وذلك لأن ( المراد بالنّفر : النّفر الى الجهاد ، كما يظهر من صدر الآية ) لا النّفر الى المدينة ، لتحصيل العلم من الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والتفقه في الأحكام ( وهو ) كما أشار اليه (قوله تعالى : «وما كان المؤمنون لِيَنفِرُوا كافَّة» ) (1) أي : ليس على كل المؤمنين أن يذهبواالى الجهاد، حيث إن الجهاد واجب كفائي، وليس واجباًعينياً على كل أحد.

( ومن المعلوم : انّ النفر الى الجهاد ، ليس للتفقه والانذار ) بل لحفظ بيضة الاسلام ، ونشره بين الناس لانقاذهم من الخرافة في العقيدة ، ومن السفاهة في الاعمال ، ولقطع يد الظالمين عن المظلومين .

( نعم ، ربّما يترتبان ) التفقه والانذار ( عليه ) أي : على النّفر الى الجهاد ، فاللام في : «ليتفقهوا» للعاقبة لا للغاية .

وذلك ( بناءاً على ماقيل : من انّ المراد ) من التفقه : ( حصول البصيرة في الدّين ) والبصيرة لرؤية القلب ، كما انّ البصر لرؤية العين ( من مشاهدة آيات اللّه )

ص: 336


1- - سورة التوبة : الآية 122 .

وظهور أوليائه على أعدائه وسائر مايتفق في حرب المسلمين مع الكفار من آيات عظمة اللّه وحكمته ، فيخبروا بذلك عند رجوعهم إلى الفرقة المتخلّفة الباقية في المدينة ، فالتفقّه والإنذار من قبيل الفائدة لا الغاية حتى يجب بوجوب ذيها .

قلتُ : أوّلاً ، إنّه ليس في صدر الآية دلالةٌ على أنّ المراد النفرُ إلى الجهاد

------------------

التي يتفضل اللّه بها على المؤمنين في الحرب ، من المطر ، والريح ( و ) غيرهما ، ممّا يسبب ( ظهور أوليائه على أعدائه ) بغلبة المؤمنين مع قلّتهم على الكفّار مع كثرتهم ( وسائر مايتفق في حرب المسلمين مع الكفّار من آيات عظمة اللّه وحكمته ) فانّ المؤمن إذا واجه الكافر في اخلاقهما وسلوكهما ظهر له رفعة الايمان وضعة الكفر ، حيث إنّ الأشياء تعرف بأضدادها ،وذلك يدل على حكمة اللّه في تشريع الأحكام وتبييّن اصول الاسلام .

( فيخبروا بذلك ) الذي شاهدوه ورأوه ( عند رجوعهم الى الفرقة المتخلّفة ) عن ساحات الجهاد ( الباقية في المدينة ) المنورة عند الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، أو عند من خلّفه الرسول إذا كان الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم خرج بنفسه الى الجهاد .

إذن : ( فالتفقه والإنذار من قبيل الفائدة ) غير الكلية ( لا الغاية حتى يجب ) كل واحد منهما ( بوجوب ذيها ) أي : ذي الغاية .

إن قلت ذلك : ( قلت أوّلاً : انّه ليس في صدر الآية دلالة على انّ المراد : النفر الى الجهاد ) فان قوله سبحانه : «وَماكانَ المُؤمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَةً فَلَولا نَفَرٌ مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفةٌ» (1) وفيه احتمالات :-

ص: 337


1- - سورة التوبة : الآية 122 .

وذكر الآية في آيات الجهاد لايدلّ على ذلك .

------------------

الأوّلُ : ان يذهبوا الى الجهاد ويروا آيات اللّه هناك ثم إذا رجعوا الى المدينة أَنذروا قومهم بما رأوا .

الثاني : إن الباقين عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم إذا رجع اليهم النافرون الى الجهاد ، بيّنوا لهم ماإستفادوه من الأحكام من الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم فترة غياب المجاهدين .

الثالث : ان ينفر النّاس من البلاد الاخرى الى المدينة المنورة ، ليتفقهوا على يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فاذا رجعوا الى بلادهم بيّنوا الأحكام التي إستفادوها من الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم لأقوامهم .

( و ) عليه : فانّ ( ذكر الآية في ) ضمن ( آيات الجهاد ، لايدلّ على ذلك ) بأن تكون هذه الآية أيضاً من آيات الجهاد ، فانّ من عادة القرآن الحكيم ، ذكر الأحكام المتفرقة في آيات متتالية ، فان الآيات هكذا :

«مَا كَانَ لأهِلِ المَدِينَةِ وَمَن حَولَهُم مِنَ الأَعرابِ ، أَن يَتَخَلَفُوا عَن رَسُولِ اللّه ِ وَلاَ يَرغَبُوا بِأَنفُسِهِم عَن نَفسِه ، ذَلِكَ بِأَنَّهُم لايُصِيبُهم ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخمَصَةٌ ، فِي سَبيل اللّه ِ ، وَلا يَطَئُونَ موَطِئاً يَغيظُ الكُفَّارَ ، وَلا يَنالُونَ مِن عَدوٍ نيَّلاً ، إلاّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صالحٌ إنَّ اللّه َ لايُضِيعُ أَجرَ المُحسِنين » (1) .

«وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صِغِيرةً ولا كَبيرَةً ، وَلا يَقطَعُونَ وادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُم ، ليَجزِيهُمُ اللّه ُ أَحسَن ماكانُوا يَعمَلُونَ » (2) .

«وَما كَانَ المُؤمِنُونَ لِيَنفُروا كافَّةً ، فَلَولاَ نَفَر مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَهُوا فِي

ص: 338


1- - سورة التوبة : الآية 120 .
2- - سورة التوبة : الآية 121 .

وثانياً : لو سلّم أنّ المراد النّفرُ إلى الجهاد ، لكن لا يتعيّن أن يكون النفرُ من كلّ قوم طائفة لأجل مجرّد الجهاد ، بل لو كان لمحض الجهاد لم يتعيّن ان يَنْفِرَ من كلّ قوم طائفةٌ ،

------------------

الدِّين وَلِيُنذِروُا قَومَهُم إذا رَجَعوُا إليهِم لَعَلَهُم يَحذَروُنَ» (1) .

«ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا ، قاتِلوُا الّذِينَ يَلُونَكُم مِن الكُفّارِ ، وَلَيَجِدُوا فِيكُم غِلظَةً واِعلمُوا أَنّ اللّه ُ مَعَ المُتَقيِنَ » (2) .

( وثانياً : لو سلّم انّ المراد : النفر الى الجهاد ، لكن ) لانمنع أن يكون هناك غاية

أُخرى للنفر ، فتكون غايته أمران :-

الأوّل : الجهاد في سبيل اللّه .

الثاني : التفقّه في الدين .

فانّه ( لايتعيّن أن يكون النفر من كل قوم طائفة ، لأجل مجرّد الجهاد ، بل ) انّه ( لو كان ) المراد بالنفر ( لمحض الجهاد ، لم يتعيّن ان ينفر من كل قوم طائفة ) بل يكفي القدر اللازم ، سواء كان من قوم ، أو من قومين ، أو من جميع الاقوام ، فهو مثل أن يقال : ليذهب من كل بلد فرد الى الحج ، حتى لايخلو الموقف من الحاج ، فان ذهاب مليون إنسان من مليون بلدة له غايتان :-

الاولى : ملؤ الموقف بمليون إنسان ، وهذا يحصل ولو كان المليون من بلد واحد .

الثاني : أن يكون من كل بلد إنسان واحد لأجل إخبار أهل البلد بعد رجوعهم من الحجّ : بعظمة المواقف والمشاعر هناك .

ص: 339


1- - سورة التوبة : الآية 122 .
2- - سورة التوبة : الآية 123 .

فيمكن أن يكون التفقّهُ غاية لايجاب النفر على طائفة من كلّ قوم ، لا لايجاب أصل النفر .

وثالثاً : انّه قد فُسّر الآية بأنّ المرادَ نهي المؤمنين عن نفر جميعهم إلى الجهاد ، كما يظهر من قوله : «وما كان المُؤمنون لينفروا كافّة» ، وأمر بعضهم بأن يتخلّفوا عند النبّي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، ولايخلوه وحده ، فيتعلّموا مسائل حلالهم

------------------

وعليه : ( فيمكن أن يكون التفقه ، غاية لايجاب النفر على طائفة من كلّ قوم ، لا ) أن يكون التفقه غاية ( لايجاب أصل النفر ) .

إذن : فهذه العدة النافرة بما إنهم عدة ، وجب عليهم النفر لأجل الجهاد ، حيث انّ الجهاد يحصل بقدر كفاية المجاهدين ، وبما إنهم طائفة من كل فرقة ، وجب عليهم النفر لأجل التفقه ، فهما غايتان لهذه الآية المباركة ، والظهور يعطي ذلك ، وإلاّ لم يكن وجه لتخصيص فرقة من كل طائفة .

( وثالثاً : انّه قد فسّر ) بعض ( الآية بأنّ المراد ) من قوله سبحانه : «فلولا نفر» ( نهي المؤمنين عن نفر جميعهم الى الجهاد ، كما يظهر من قوله ) سبحانه : ( « ومَا كَانَ المُؤمِنونَ لِيَنفِرُوا كافة » ) (1) الى الجهاد ( و ) انّما ( أمر بعضهم بأن ) ينفروا الى الجهاد ، وبعضهم بأن ( يتخلفوا عند النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ولايخلوه وحده ) وذلك لأنّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، إذا بقي وحده في المدينة المنورة ، كان موضوع طمع الطامعين من الكفار والمنافقين ومن أشبه ، ويؤيده قصة إستخلافه صلى اللّه عليه و آله وسلم عليّاً عليه السلام على المدينة حين أراد الذهاب الى بعض غزواته .

( فيتعلّموا ) أي : هؤلاء الباقون عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ( مسائل حلالهم

ص: 340


1- - سورة التوبة : الآية 122 .

وحرامهم حتّى ينذروا قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم .

والحاصل : أنّ ظهور الآية في وجوب التفقه والانذار ممّا لاينكر ، فلا محيصَ عن حمل الآية عليه وإن لزم مخالفة الظاهر في سياق الآية أو بعض الفاظها .

وممّا يدلّ على ظهور الآية في وجوب التفقه والانذار إِستشهادُ الامام عليه السلام بها على وجوبه في أخبار كثيرة .

------------------

وحرامهم ، حتّى ينذروا قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم ) فقد عرفت : انّ المحتملات الأوليّة في الآية المباركة ثلاثة ، وكان هذا أحد المحتملات .

( والحاصل : انّ ظهور الآية في وجوب التفقّه والانذار ممّا لاينكر ) لمكان الأمر في قوله سبحانه «ليتفقهوا . . ولينذروا» ( فلا محيصَ عن حمل الآية عليه وإن لزم مخالفة الظاهر في سياق الآية ) عرفت : انّ السياق يدل على انّ الأمر في الجهاد ، لا في غيره ، لكن الظهور أقوى من السياق فيقدّم الظهور على السياق .

( أو ) مخالفة الظاهر ( بعض ألفاظها ) لأنّ ظاهر ألفاظ الآية نفر الطائفة للتفقّه ، فحمله على إرادة نفرهم الى الجهاد والتفقه معاً - كما ذكرناه - أو حمله على إِرادة :

نفرهم الى الجهاد ، وتخلف طائفة للتفقه على يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم حتى ينذروا النافرين بعد رجوعهم الى المدينة ، خلاف الظاهر .

هذا ، ولكن الظاهر الذي ذكرناه ، أقوى من ذلك الظاهر ، وإذا تعارض الظاهران ، قُدِّم الأظهر على الظاهر .

( وممّا يدّل على ظهور الآية في وجوب التفقه والانذار : إِستشهاد الامام عليه السلام بها ) أي : بالآية ( على وجوبه ) أي : على وجوب التفقه ( في أخبار كثيرة ) نذكر بعضها :

ص: 341

منها : ما عن الفضل بن شاذان في علله عن الرضا عليه السلام ، في حديث ، قال : «إنّما أُمِرُوا بالحَجِ لِعلّة الوَفادَةِ إلى اللّه وطَلَبِ الزيادَةِ والخُروُج عَنْ كُلّ ما اقتَرَفَ العَبد - إلى ان قال - : ولأجلِ مافِيه مِن التفقُّه ونَقلِ أخبار الأَئمّة عليهم السلام ، إلى كلّ صَفح وناحِية . كما قال اللّه عزّ وجل : « فَلَولا نَفَرٌ مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفة » ، الآية» .

------------------

( منها : ماعن الفضل بن شاذان في علله عن الرضا عليه السلام في حديث ، قال عليه السلام : إنّما اُمِرُوا بالحَجّ لِعلّة الوَفادَةِ ) أي : أن يكونوا وفداً ذاهبين ( إلى اللّه ِ ) سبحانه ( وَطَلَب الزِيادَةِ ) في المال ، والعمر ، والصحة ، وماأشبه ، لأنّ الحجّ يوجب كل ذلك ( والخُروج عن كُلّ ما إقترف ) أي : إرتكبه ( العبدَ ) من ذنب ، فان الحجّ يوجب غفران الذنوب كما في النص .

( الى أن قال عليه السلام : وَلأجِلِ مافِيهِ مِنْ التَفقُهِ ) حيث يلتقي زوّار بيت اللّه الحرام بالائمة من أهل البيت عليهم السلام في المدينة ، أو في مكة المكرمة ، أو في الطريق ، فيتفقهون على أيديهم ( و ) اذا رجعوا قاموا ب- ( نقل أخبار الأئمة عليهم السلام الى كلّ صفح ) أي : منطقة ( وناحية ) ، والفرق بين الصفح والناحية : انّ الناحية تطلق على البلد ، والصفح يطلق على الصحراء التي فيها الخيام .

ومحل الشاهد في الرّواية : انّ الامام عليه السلام إستشهد بالآية على وجوب التفقه ، الذي هو من غايات الحجّ حيث قال : ( كما قال اللّه عزّ وجلّ : «فَلَولا نَفَر مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفة » (1) ) (2) الى آخر ( الآية ) فانّ التفقه والانذار اذا لم يكونا

ص: 342


1- - سورة التوبة : الآية 122 .
2- - علل الشرائع : ج1 ص317 ، عيون أخبار الرضا : ج2 ص119 ، وسائل الشيعة : ج11 ص13 ب1 ح14121 .

ومنها : ماذكره في ديباجة المعالم ، من رواية عليّ بن حمزة ، قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : تَفَقَّهُوا فِي الدّينِ ، فإِنَّ مَنْ لَمْ يَتَفَقَه مِنكُم في الدِّينِ فَهُو أعرابيٌّ ، فإنّ اللّه عزّ وجلّ يقول : «لِيتَفَقّهُوا فِي الدِّين وَلِيُنذِرُوا» .

ومنها : مارواه في الكافي ، في باب مايجب على الناس عند مضيّ

------------------

واجبين ، لم يكن وجه لجعلهما غاية للحجّ الواجب ، لما عرفت سابقاً : من انّ غاية الواجب واجبة خصوصاً إذا كانت الغاية فعلاً للمكلف .

( ومنها : ماذكره في ديباجة المعالم ، من رواية علي بن حمزة قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : تَفَقَهُوا فِي الدِّين ، فإنّ مَن لَم يَتَفَقَّه مِنكُم في الدِّين فَهُو أَعرابيّ ) كناية عن الجهل ، وإشارة الى قوله سبحانه : «الاعرابُ أشدُّ كفراً ونِفاقاً ، وأجدَر ألاّ يَعلموا حدود ما أنزل اللّه على رَسولِه » (1) .

والمراد بالأعرابي - وجمعه أعراب - : هم سكان البواديّ ، كما ان الظاهر : كونه أعم ممّن يتكلم بالعربية .

ثم إِستشهد عليه السلام بالآية قائلاً ( فانّ اللّه عزّ وجل يقول : «لِيَتَفَقّهُوا فِي الدِّين ولِيُنذِرُوا ) قَومَهُم إِذا رَجَعوُا إِليهِم لَعلَّهُم يَحذَرونَ» (2) ومن الواضح : انّ المراد بالتفقه : أعمّ من تفقه المجتهد أو المقلد ، ولو بالملاك أو القرينة القطعيّة ، الداخلية أو الخارجية .

( ومنها : مارواه في الكافي ، في باب مايجب على النّاس عند مضيّ ) أي : وفاة

ص: 343


1- - سورة التوبة : الآية 97 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص31 ح6 ، معالم الدين : ص32 .

الامام عليه السلام ، عن صحيحة يعقوب بن شعيب : «قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إذا حَدَثَ على الإمام حَدَثٌ كيف يَصنَعُ الناسُ ؟ .

قال عليه السلام : أينَ قَولُ اللّه عَزّ وَجَلّ : «فَلَولا نَفَر ...» الآية . قال : هُم في عُذُرٍ ما دامُوا فِي الطَلَبِ، وَهؤلاءِ الذَّينَ يَنَتَظِرونهمُ فِي عُذرٍ حتى يَرجعَ إليهم أصحابهم» .

------------------

( الامام عليه السلام ، عن صحيحة يعقوب بن شعيب قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إذا حَدَثَ على الامام حَدَثٌ ) أي : توفي ، فان هذه العبارة إِشارة الى الوفاة ( كيفَ يَصنَعُ النّاسُ ) وهم لايعرفون الحجّة من بعد الامام المتوفى ؟ .

( قال عليه السلام : أَينَ قَولُ اللّه ِ عزّ وَجَلّ : « فلولا نفر ...» ) اِلى آخر (الآية) .

ثم ( قال : هُم في عُذرٍ ) أي : إِنّهم معذورون في عدم معرفة إِمامهم الذي هو بعد الامام المتوفى ( مادامُوا فِي الطَلَبِ ) حتى يصلوا الى المدينة - مثلاً- فيعرفوا إمامهم القائم مقام الامام - المتوفى .

( وَهَؤُلاءِ الذَّينَ يَنتَظِرُونَهُم ) أي : ينتظرون وصول الخبر ممّن ذهب في الطلب، فأهل الكوفة - مثلاً - حينما يبعثون جماعة الى المدينة المنورة في الطلب ، فالذّين بقوا في الكوفة (فِي عُذرٍ حَتى يَرجعَ إليهم أصحابهم) (1) النافرون بالخبر .

والظاهر : أنّ ذلك إذا لم يكن تقصير من النافرين ولا من الباقين ، في التحقيق قبل وفاة الامام السابق ، اذ الواجب : التحقيق قبل الوفاة وإلاّ ف- «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهلية » (2) ، ممّا قد ثبت في مكانه من اصول الدّين .

ص: 344


1- - الكافي اصول : ج1 ص378 ح2 .
2- - اشارة الى الحديث الوارد في الكافي اصول : ج2 ص21 ح9 والمحاسن : ص154 ح80 والصراط المستقيم : ج3 ص118 وقريب منه في متشابه القرآن : ج2 ص50 .

ومنها : صحيحة عبد الأعلى قال : «سَألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام ، عن قَولِ العَامّةِ إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، قال : مَنْ ماتَ وَلَيسَ لَهُ إمام ماتَ مِيتَةَ جاهِليَّة . قال : حَقٌ وَاللّه ِ . قلت : فانّ إماماً هَلَكَ ،

------------------

( ومنها : صحيحة عبد الأعلى ، قال : سَأَلتُ أَبا عبدِ اللّه ِ عليه السلام ، عن قولِ العَامّةِ انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : مَنْ ماتَ وَلَيسَ له إِمام ) أي : لم يعرف الامام الذي يجب عليه طاعته في زمانه ( مَاتَ مِيتَةَ جاهِليَّة ؟ ) أي : كما إنّ الجاهلين كانوا لايعرفون الأئمة وكان مصيرهم الى النّار - لمن كان منهم مقصراً - كذلك حال من مات في الاسلام وهو لايعرف إمامة الحق .

ومن الواضح : انّ قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « مات ميتة جاهلية » يفيد الوجوب هنا بخلاف الحديث الشريف القائل :

«من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية» (1) فانّه هُناك على سبيل الاستحباب .

اللّهم الاّ اذا كانت الوصية واجبة ممّا ذكر تفصيله في كتاب الوصية (2) .

وعليه : فانّ موتة الجاهلية كما تكون بالنسبة الى الواجبات تكون بالنسبة الى المستحبات - أيضاً- وبالقرائن يعرف ماهو المراد من ميتة الجاهلية : هذا أو ذاك ؟ .

وعلى أي حال : فلمّا سئل من الامام عليه السلام ، عن قول رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم هذا ( قال : حَقٌ وَاللّه ِ ) وصدق .

ف- ( قُلتُ : فَانّ إماماً هَلَك ) أي : مات بالمدينة أو في بغداد ، أو في سامراء - مثلاً- والهلاك أحياناً يطلق على المعنى السيء ، وأحياناً على المعنى الحسن ،

ص: 345


1- - وسائل الشيعة : ج19 ص259 ب1 ح24546 .
2- - للمزيد راجع موسوعة الفقه : كتاب الوصية : ج61 للشارح .

ورَجلٌ بخُراسان لايعلمُ مَنْ وَصيّه ، لَمْ يَسَعَهُ ذلِكَ ؟ قال : لايسعه ، إنّ الامامَ إذا ماتَ رُفعَت حُجّة وصيّه على مَنْ هُوَ مَعَهُ في البَلَدِ ، وحقّ النّفر على مَنْ لَيسَ بِحضرَتِهِ إذا بلغهم انّ اللّه عزّوجلّ

------------------

وهو : مطلقِ الموت ، كما ورد في قوله سبحانه بالنسبة الى يوسف : «حَتَّى إذا هَلَكَ » (1) .

وقال سبحانه : «كُلُّ شَيءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجهُهُ » (2) .

فاذا توفي الامام بالمدينة - مثلاً- ( ورجلٌ بخُراسان لايَعلمُ مَنْ وَصيّه ) والامام بعده ، ( لَمْ يَسَعَهُ ذلِك ) والكلام على سبيل الاستفهام أي : ألم يكن معذوراً ؟ .

( قال عليه السلام : لايَسَعَهُ إنّ الأَامَ إذا ماتَ رُفِعت حُجّةٌ وَصَيّه ) أي : ظهر الدليل على الوصي والامام من بعده ، والرفع بمعنى الظهور ، لأنّ الشيء المرتفع يظهر للناس ، وكذلك الحجّة المرفوعة تظهر ( على مَن هُوَ مَعَهُ فِي البَلَدِ ) أي : من هو في بلد الامام ، فانه يظهر له ذلك بحيث يعرف الوصي والامام من بعده .

وعليه : فلاتبقى حجّة للذين هم في بلد الامام عليه السلام في عدم معرفتهم الوصي والامام اللاحق .

هذا بالنسبة الى من كان في بلد الامام ، وأما من كان في البلاد الاُخرى ، فانه قد وجبَ ( وَحَقُ النَفر عَلى مَن لَيسَ بحَضرَتِهِ ) أي : بحضرة الامام وفي بلده ، فانه ( إذا بَلَغَهُم ) مضي الامام السابق وموته وجب على جماعة منهم أن ينفروا الى بلد الامام الذي توفي فيه ليستظهروا من هو الامام والوصي من بعده .

ثم إِن الامام عليه السلام إستشهد لوجوب النفر بهذه الآية قائلاً : ( إنّ اللّه َ عَزّ وجَلّ

ص: 346


1- - سورة غافر : الآية 34 .
2- - سورة القصص : الآية 88 .

يقول : « فَلَولا نَفَر مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ ...» الآية .

ومنها : صحيحةُ محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، وفيها : «قلتُ : افيَسَعُ الناسَ إذا ماتَ العالِم أن لايَعرِفُوا الذي بَعدَهُ ؟ فقال : عليه السلام أمّا أَهلُ هذِهِ البَلدَةِ فَلا - يعني أَهلُ المَدينَةِ - وأَمّا غَيرُها مِن البُلدانِ فَبِقَدرِ مَسيرهُم ،

------------------

يقولُ : «فَلَولا نَفَر مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ ...» (1) ) (2) الى آخر (الآية) .

ومن المعلوم : انّ التفقه في الدين يشمل الاصول والفروع ، وشموله للاصول بطريق أولى ، وما نحن فيه من النفر إنما هو لأجل تحصيل أصل من اصول الدّين وهو : اصل الامامة ومعرفة الامام الذي يكون خلفاً للامام السابق .

( ومنها : صَحيحَةُ مُحمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، وفيها : قُلتُ : أَفَيَسعُ النّاسَ إذا ماتَ العالِمُ ان لايَعرِفُوا الذَي بَعدَهُ ؟ ) أي هل انّهم معذورون في معرفة الامام اللاحق الذي يخلف الامام السابق . ؟

( فقال عليه السلام : أَمّا أَهلُ هذِهِ البَلدَةِ فَلا ) .

ثم انّ محمّد بن مسلم فسّر المراد بهذه البلدة بقوله : ( يعني : أَهلُ المَديِنَةِ ) وذلك لأنّ أهل المدينة يمكنهم الاستعلام عن وصي الامام وخلفه فوراً .

( وأمّا غَيرُها مِن البُلدانِ فَبِقَدرِ مَسيِرهُم ) أي أنهم معذورون الى أن يصلوا الى المدينة بأنفسهم ، أو يصل خبرهم بعد الاستعلام والرجوع الى الباقين منهم في بلدهم .

ص: 347


1- - سورة التوبة : الآية 122 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص378 ح2 وهذا الحديث ذكره أحمد بن حنبل في مسنده : ج3 ص446 ، وأخرجه الحاكم في مستدركه ، وورد في صحيح مسلم بلفظ ( من مات ولم تكن في عنقه بيعة ) .

إنَّ اللّه َ عَزّ وَجَلّ يقول : «فَلَولا نَفَر..» الى آخره » .

ومنها : صحيحةُ البزنطيّ المرويّة في قرب الاسناد ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام .

ومنها : روايةٌ عبد المؤمن الأنصاريّ ، الواردة في جواب من سأل عن قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : «إختِلافُ اُمَتِّي رَحمَةٌ . قال : إِذا كان إِختِلافُهُم رَحمةً فإِتفاقُهُم عَذابٌ !

------------------

ثم انّه عليه السلام إستشهد لذلك بالآية قائلاً : ( إنّ اللّه َ عزَ وجَلّ يقول : «فَلَولا نَفَر» الى آخره ) (1) .

ومن الواضح : انّ مهلة قدر المسير ، إنّما هو بحسب المتعارف من السير ، فلايلزم السرعة غير المتعارفة ، كما لايجوز البطؤ غير المتعارف ، لأنّ الألفاظ إنّما تصب على معانيها العرفية ، فانّ أهل العرف هم الذين يتلقون الكلام ، ففهمهم معيار إرادة المتكلمين .

( ومنها : صحيحة البزنطيّ المرويّة في ) كتاب ( قرب الاسناد (2) ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام ) بنفس مضمون الرّواية المتقدّمة .

( ومنها : رواية عبد المؤمن الأنصاري ، الواردة في جواب من سأل عن قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : إختِلافُ أمتِّي رَحمَةٌ ؟ ) حيث إنّ هذا الحديث مرويّ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فسأل الامام عن معنى ذلك ، ثم ( قال : ) أي : الرّاوي معقباً سؤاله بقوله : ( إذا كان إختلافُهُم رَحمةً فاتِفاقُهُم عَذابٌ ؟ ) لأنّه الظاهر من مقابلة شيئين .

ص: 348


1- - الكافي اصول : ج1 ص379 ح3 ، علل الشرائع : ج2 ص315 .
2- - قرب الاسناد : ص350 .

ليس هذا يُرادُ ، إنّما يُرادُ الاختِلافُ في طَلبِ العِلمِ ، عَلى ما قال اللّه عزّ وجلّ : «فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفة» ، الحديثُ منقولٌ بالمعنى ، ولايحضرني أَلفاظه .

------------------

فاذا قيل - مثلاً- النهار مضيء ، كان معناه : الليل مظلم ، وإذا قيل إنّ الماء سائل بالطبع ، كان معناه : إنّ التراب ليس كذلك ، وهكذا .

فاجاب عليه السلام : ( لَيس هذا ) المعنى هو الذي ( يُرادُ ، إنّما يُرادُ : الاختلاف ) إياباً وذهاباً ( فِي طَلَبِ العِلمِ ، عَلى ماقالَ اللّه عَزّ وَجَلّ ، «فَلَولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفة» (1) ) (2) فان الاختلاف بمعنى الاياب والذهاب ، كما ورد عنهم عليهم السلام : إنهم مُختَلَف الملائكة ، وكما ورد : انّ اللّيل والنهار خلفة كما في القرآن الحكيم ، لأنّ أحدهما يذهب والآخر يخلفه .

ثم انّ هذا ( الحديث منقول بالمعنى ، ولايحضرني ألفاظه ) والفاظه كما في العلل عن الصادق عليه السلام : انه قيل له عليه السلام انّ قوماً يروون : انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : إختِلافُ اُمتِّي رَحمَةٌ ؟ . فقال : صدقوا .

فقيل : إن كان إختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب ؟ .

قال : ليس حيث تذهب وذهبوا ، إنّما أراد قول اللّه عز وجلّ : « فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرقَة » الى آخر الآية ، فامروا أن يتفرقوا الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، ويختلفوا اليه ، فيتعلّموا ، ثم يرجعوا الى قومهم فيعلموهم ، إنّما اراد اختلافهم من البلدان ، لا الاختلاف في دين اللّه إنما الدِّين واحد .

أقول : مع قطع النظر عن هذا التفسير يمكن أن يراد بالاختلاف : الأعم من

ص: 349


1- - سورة البقرة : الآية 122 .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص141 ب11 ح33425 بالمعنى ، معاني الاخبار : ص157 .

وجميعُ هذا هو السّر في إستدلال أصحابنا بالآية الشريفة على وجوب تحصيل العلم وكونه كفائيّاً .

------------------

ذلك فانه قد يكون التفسير لبعض المصاديق التي تتضمنه رواية الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، كما انّ مثل هذا التفسير المصداقي جاء في جملة من الآيات حيث انهم عليهم السلام كانوا يفسّرون بعض الآيات ببعض المصاديق ، وان كانت الآية ، أعم من ذلك المصداق .

وعلى أي حال : فمن الممكن أن يراد من الاختلاف : إختلافهم : في الاعمال ، حتى لايعرفوا فيؤخذوا كما في زمان التقيّة ، ولهذا قال عليه السلام : « أنا خالفت بينهم »(1) .

أو يراد به : انّه إذا كان هناك إختلاف في الفتوى ، مع توفر شروط الاجتهاد في جميع المفتين جاز للمقلد أن يأخذ بما هو أرفق بحاله ، الى غير ذلك .

وهذا لايتنافى مع وحدة الدِّين لانه من تعدد الاجتهادات في الاحكام الفرعية ، أو إنه من قبيل إختلاف داود مع سليمان ، كما في قوله تعالى :-

«وَدَاوُدَ وَسُلَيمانَ إذ يحكُمَانِ فِي الحَرثِ » (2) الى آخر الآية .

( وجميع هذا ) الّذي ذكر : من إستشهاده عليه السلام بالآية على وجوب الطلب

والبحث لمعرفة الامام عليه السلام ممّا هو أحد مصاديق آية النفر - كان ( هو السّر في إستدلال أصحابنا بالآية الشريفة على وجوب تحصيل العلم ، وكونه كفائيّاً ) لأنّ الواجب : النفر الى الامام أو النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم على سبيل الكفاية - كما عرفت - .

ص: 350


1- - عدة الاصول : ج1 ص130 .
2- - سورة الانبياء : الآية 78 .

هذا غايةُ ما قيل و يقال في توجيه الاستدلال بالآية الشريفة .

لكنّ الانصافَ : عدمُ جواز الاستدلال بها من وجوه :

الأوّلُ : انّه لايستفادُ من الكلام إلاّ مطلوبيّةُ الحَذَر عَقِيبَ الأَذار بما يَتَفَقّهُونَ فِي الجُملَةِ ، لكن ليس فيها إطلاقُ وجوب الحذر ، بل يمكن أن يتوقف وجوبُه على حصول العلم ، فالمعنى : لعلّه يحصل لهم العلمُ فيحذروا .

------------------

( هذا غاية ماقيل ويقال في توجيه الاستدلال بالآية الشريفة ) على حجّية خبر الواحد .

( لكنّ الانصاف ) عندالمصنّف ( عدم جواز الاستدلال بها ) أي : بالآية على حجّية خبر الواحد لانها لاتدل على ذلك ( من وجوه ) متعددة :-

( الأول : انّه لايستفاد من الكلام ، الاّ مطلوبيّةُ الحَذَر عَقِيبَ الانذار بما يَتَفَقَهُون فِي الجُملَةِ ) فالآية من قبيل القضايا الطبيعية ، فاذا قيل - مثلاً- : الدواء الفلاني ينفع المرض الفلاني اُريد به الاقتضاء ، لا العلّية التامة .

ومن هنا : فالآية دالة على الطبيعة ، بمعنى : انّ طبيعة الانذار إيجابها الحذر ، لا أنّ كلّ إنذار يتعقبه الحذر ، وقول المصنّف : «في الجملة» متعلق بقوله : «مطلوبية الحذر» .

( لكن ليس فيها ) أي : في الآية المباركة ( إطلاق وجوب الحذر ) بأنّه كلما حصل الانذار ، لزم الحذر ووجب ( بل يمكن ان يتوقف وجوبه ) أي وجوب الحذر ( على حصول العلم ، فالمعنى : لعلّه يحصل لهم العلم ، فيحذروا ) .

وعليه : فان وجوب الحذر وإن كان مطلقاً في الآية المباركة ، غير مقيد بحصول العلم ، الاّ انّ التمسك بالاطلاق ، انّما يصح اذا كان المتكلم في مقام البيان من

ص: 351

فالآية مسوقة لبيان مطلوبيّة الإنذار بما يتفقّهون ومطلوبيّة العمل من المُنذرين بما اُنذِرُوا . وهذا لاينافي إِعتبار العلم في العمل .

------------------

جميع الخصوصيات والجهات .

بينما ظاهر الآية انه تعالى ليس في مقام بيان هذه الجهة : من ان الحذر واجب مطلقاً ، أو واجب في صورة حصول العلم ، أو غير ذلك من القيود والخصوصيات ، بل في مقام بيان وجوب الحذر إجمالاً ، غاية لايجاب النفر ، والتفقه ، والانذار ، فهو كما يقول الطبيب للمريض : يجب عليك ان تشرب الدواء .

وهكذا غالب آيات القرآن ، فانها في مقام أصل التشريع ، لا في مقام بيان الخصوصيات .

وعليه : ( فالآية مسوقة لبيان مطلوبيّة الانذار ، بما يتفقهون ، ومطلوبيّة العمل من المنذَرين ) بالفتح ( بما أُنذروا ) بصيغة المجهول ( وهذا ) المقدار أي : مطلوبية الانذار والحذر في الجملة ( لاينافي إعتبار العلم في ) الحذر و ( العمل ) بما انذر المنذرون .

إذن : فالآية ساكتة عن هذه الجهة ، فهي مثل قوله سبحانه :- «فَكُلُوا مِمّا أَمسَكنَ عَليكُم . . .» (1) .

حيث ان الآية في صدد بيان جواز الأكل من الصيد ، وليست الآية المباركة في مقام بيان سائر الخصوصيات حتى يقال : بانّه يحل موضوع عض الكلب وسائر محرمات الذبيحة في الحيوان الذي اصطاده الكلب .

ص: 352


1- - سورة المائدة : الآية 4 .

ولهذا صحّ ذلك فيما يطلب فيه العلمُ . فليس في هذه الآية تخصيصٌ للأدلّة الناهية عن العمل بما لم يعلم ولذا

------------------

( ولهذا ) أي : لعدم المنافات بين مطلوبية الانذار والحذر وبين إعتبار علم المنذَرين - بالفتح - ( صح ذلك ) أي : إستعمال هذه الآية المباركة ( فيما يطلب فيه ) عقلاً وشرعاً ( العلم ) كمعرفة الامام عليه السلام .

ولهذا إستدل الأئمة عليهم السلام بهذه الآية المباركة على معرفة الامام ، ومن الواضح : انّ معرفة الامام إنّما تكون بالعلم لا بالخبر الواحد - كما قرر في اصول الدين - لأنّها يجب ان تكون عن إعتقاد وعلم ، ولايكفي فيها مجرد الظنّ ، أو خبر الواحد ، أو الشهرة ، أو مااشبه ذلك .

إذن : ( فليس في هذه الآية ) المباركة ، بعد ان عرفت سكوتها عن إعتبار حصول العلم وعدمه ( تخصيص للأدلّة النّاهية عن العمل بما لم يعلم ) مثل :

قوله سبحانه :- «وَلا تَقفُ مَالَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ» (1) .

وقوله تعالى : «إِن يَتَّبِعُونَ إلاّ الظَّنَّ» (2) .

وقوله عزّوجلّ «فاعلَم أَنَّهُ لا اِلَهَ إلاَّ اللّه» (3) .

ولو كانت هذه الآية ، دالة على حجّية خبر الواحد وان لم يحصل العلم بسببه ، كانت هذه الآية مخصصة للآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، أو الآمرة بالعمل بالعلم، مع إنها ليست مخصصة لها.

(ولذا) أي: لأجل إنّ مطلوبية الانذار والحذر في الآية المباركة، لاينافي إشتراط

ص: 353


1- - سورة الاسراء : الآية 36 .
2- - سورة النجم : الآية 28 .
3- - سورة محمد : الآية 19 .

إِستشهد الامامُ عليه السلام ، فيما سَمِعتَ من الأخبار المتقدّمة ، على وجوب النفر في معرفة الأَام عليه السلام ، وإنذار النافرين للمتخلّفين ، مع انّ الامامة لاتثبت إلاّ بالعلم .

الثاني : انّ التفقّهَ الواجبَ ليس إلاّ معرفة الأمور الواقعيّة من الدّين ،

------------------

حصول العلم للمنذَرين - بالفتح - من اخبار المنذِرين - بالكسر- ( إستشهد الامام عليه السلام ) بهذه الآية المباركة ( فيما سَمِعتَ من الأخبار المتقدّمة ) التي مرّ ذكرها ( على وجوب النفر في معرفة الامام عليه السلام و ) وجوب ( إنذار النّافرين ) الى بلد الامام عليه السلام اذا رجعوا ( للمتخلّفين ) الذين بقوا في أوطانهم .

( مع ) وضوح : ( انّ الامامة لاتثبت الاّ بالعلم ) كما عرفت : من دلالة العقل والشرع : على انّ اصول الدين يجب فيها العلم ، والامامة من اصول الدين - كما هو واضح - .

لكن هذا الاشكال غير وارد بعد كون الآية مطلقة ، وإنما يقيد فرد من هذا المعلق ، وهو : مانحن فيه من الامامة وسائر اصول الدين ، بقيد من الخارج ، فيما إذا أفاد ذلك القيد إشتراط لزوم العلم فيه .

أمّا كون هذه الآية مخصصة لآيات لزوم العلم ، فبالاضافة الى إمكان كون تلك الآيات في اصول الدين - كما يظهر من سياق بعضها - انّ العلمي أيضاً ، يعد من العلم عرفاً ، فهل يقول أحد : بلزوم العلم في كل الأحكام؟ .

( الثاني ) من وجوه عدم جواز الاستدلال - عند المصنّف - بالآية على حجّية خبر الواحد ، هو ( : انّ التفقّه الواجبَ ، ليس إلاّ معرفة الأمور الواقعيّة من الدّين ) فانّ معنى النفر من كل فرقة طائفة للتفقّه في الدين هو : ان يعرفوا أحكام اللّه الواقعية التابعة للمصالح والمفاسد ، لا الأحكام الخيالية ، فانّ الألفاظ موضوعة

ص: 354

فالانذارُ الواجبُ هو الانذارُ بهذه الاُمور المتفقّه فيها . فالحذرُ لايجبُ إلاّ عَقيبَ الانذار بها . فاذا لم يعرف المُنذَر - بالفتح - أنّ الانذار هل وقع بالأمور الدينيّة الواقعيّة أو بغيرها خطاءً أو تعمّداً من المنذِر - بالكسر- لم يجب الحذرُ حينئذٍ ؛

------------------

للمعاني الواقعية ، فكما انّ الماء اسم للماء الواقعي ، والخبز اسم للخبز الواقعي وهكذا ، كذلك الدّين يراد به : الدّين الواقعي ، لا الدّين الخيالي ، فاللازم التفقه في أحكام اللّه الواقعية .

( ف ) يكون ( الانذار الواجب ، هو : الإنذار بهذه الامور ) الواقعية : لأنّ الانذار إنّما يكون بعد التفقه في الدين الواقعي ، فالاحكام الواقعية ( المتفقه فيها ) يلزم انذارها .

وعليه : ( فالحذر لايجب ) بمقتضى ماذكرناه ( الاّ عَقيبَ الانذار بها ) أي : بالاحكام الواقعية المذكورة ، فاذا كان التفقه بالنسبة الى الاحكام الواقعية فالانذار يكون أيضاً بالنسبة الى الاحكام الواقعية ، وبعد ذلك يأتي دور العمل - وهو الحذر فيكون أيضاً بالأحكام الواقعية .

( فاذا لم يعرف المنذَر - بالفتح - انّ الانذار ، هل وقع بالامور الدينية الواقعيّة ، أو بغيرها؟ ) أي : بغير تلك الامور من الأحكام الخيالية ، سواء كان الانذار بغير الأحكام الواقعية ( خطأً أو تعمداً ) للخطأ ( من المنذِر - بالكسر- ) فانه ( لم يجب ) على المنذَر بالفتح - ( الحذر حينئذٍ ) .

وذلك لوضوح انّ الحكم إنما يتبع الموضوع الواقعي ، لا الموضوع الخيالي ، فاذا لم يحرز المنذَر - بالفتح - كون الانذار بالامور الواقعية ، لا يتنجز عليه وجوب الحذر .

ص: 355

فانحصر وجوبُ الحذر فيما إذا علم المنذَرُ صدق المنذِر في إنذاره بالأحكام الواقعيّة ، فهو نظيرُ قول القائل : أخبر فلاناً بأوامري ، لعلّه يمتثلها .

فهذه الآيةُ نظيرُ الأمر بنقل الرّوايات ، فانّ المقصودَ من هذا الكلام ليس إلاّ العمل بالامور الواقعيّة ، لا وجوب تصديقه فيما يحكي ولو لم يعلم مطابقته للواقع . ولا يُعدُّ هذا ضابطاً لوجوب العمل بالخبر الظنّي الصادر من المخاطب في الأَمر الكذائيّ .

------------------

( فانحصر وجوب الحذر فيما إذا علم المنذَر ) - بالفتح - ( صدق المنذِرِ ) - بالكسر - ( في إنذاره بالأحكام الواقعيّة فهو ) أي : الأمر بالانذار في هذه الآية المباركة ( نظير قول القائل : أخبر فلاناً بأوامري ، لعلّه يمتثلها ) فانّ الظاهر من هذا الأمر ، هو : ارادة الآمر : إمتثال فلان لأوامره الواقعية ، لا لأوامره الخيالية .

وايضاً ( فهذه الآية نظير الأمر بنقل الرّوايات ، فانّ المقصود من هذا الكلام ) أي : مقصود الرسول والائمة عليهم السلام من أمرهم بنشر الأحكام بين المسلمين ( ليس الاّ ) إيصال الواقعيات الى المسلمين و( العمل ) منهم ( بالأمور الواقعيّة لا وجوب تصديقه في مايحكي ) عن المعصوم تعبداً ( ولو لم يعلم مطابقته للواقع ) .

فان أمرهم عليهم السلام اصحابهم بنقل الروايات ، يقصدون به : وصول الأحكام الالهية الى الناس ، ليعملوا بالأحكام الواقعية ، فيفوزوا بالمصالح الخفية الكامنة في تلك الأحكام ، وليس المقصود من مثل هذه العبارة : جعل الحجّية وإيجاب العمل بخبر الواحد - كما إستدل به القائل بدلالة الآية على ذلك - .

( ولا يُعدُّ هذا ) أي : وصول الخبر الى الناس ووجوب تصديقهم له تعبداً بدون علمهم بأنّ الخبر مطابق للواقع ، أم لا ( ضابطاً لوجوب العمل بالخبر الظنّي ، الصادر من المخاطب في الأمر الكذائي ) .

ص: 356

ونظيرُه جميعُ ماورد من بيان الحقّ للناس ووجوب تبليغه إليهم ، فانّ المقصود منه إهتداء الناس إلى الحق الواقعيّ ، لا إنشاء حكم ظاهريّ لهم بقبول كلّ مايُخبرون به وإن لم يعلم مطابقته للواقع .

------------------

والمراد بالمخاطب : هم نقلة الرّوايات الذين أمرهم المعصومون عليهم السلام بنقل رواياتهم الى الناس ، فانّ المتبادر منه : انهم عليهم السلام لم يقصّدوا بذلك وجوب العمل بالخبر الظنيّ الصادر من هؤلاء الرواة ليكون المناط وجوب العمل بمثل هذا الخبر الظنيّ تعبداً ، بل المتبارد عرفاً من أمرهم عليهم السلام بنقل الرّوايات للناس : وجوب العمل بالامور الواقعية .

( ونظيره ) أي : نظير مامرّ من الكلام بالنسبة الى الأمر بالتفقه والانذار ، في الآية المباركة ، ( جميع ماورد من ) وجوب ( بيان الحق للنّاس ووجوب تبليغه إليهم ) وحرمة كتمان الحق ، كقوله سبحانه : «إنَّ الَّذِينَ يَكتُمُونَ ما أَنزَلَنا مِنَ البَيّناتِ وَالهُدَى مِن بَعدِ مَا بَيَّناهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ ، أُولئِكَ يَلعَنُهمُ اللّه ُ ، وَيَلعَنُهُم الّلاعِنُونَ» (1) .

( فانّ المقصود منه ) أي : من بيان الحق ، ووجوب تبليغه ، وحرمة كتمانه ( إهتداء الناس الى الحقّ الواقعي ، لا ) المقصود : جعل الحجّية ، و ( إنشاء حكم ظاهري ، لهم بقبول كل مايُخبرون به وإن لم يعلم مطابقته للواقع ) .

وفيه : انّ ظاهر أخبر فلاناً لعلّه يحذر : طلب الأمر الحذر من فلان عقيب الاخبار ، فلو لم يحذر ، بأن لم يعمل بمقتضى خبر المنذِر - بالكسر- معتذراً : بانه لم يحصل له العلم بصدق المخبر ، رآه العقلاء آثماً بتركه العمل ، مستحقاً

ص: 357


1- - سورة البقرة : الآية 159 .

ثمّ الفرقُ بين هذا الايراد وسابقه : أنّ هذا الايرادَ مبنيٌّ على أنّ الآية ناطقة باختصاص مقصود المتكلّم بالحذر عن الأَور الواقعيّة المستلزم لعدم وجوبه إلاّ بعد إحراز كون الانذار متعلّقاً

------------------

للعقاب ، وليس معنى ذلك : إنشاء الحكم الظاهري ، بل التنجيز والاعذار .

ومن ذلك يعرف : وجه الرد والقبول في قول الأوثق حيث قال :

فان هذا الايراد في غاية الضعف ، اذ بعد كون المراد بالحذر : وجوب العمل والقبول ، وبالانذار : إبلاغ الحكم مطلقاً- كما عليه مبنى هذا الايراد- لا : ابلاغه على وجه التخفيف - كما عليه مبنى الايراد الثالث - فلا ريب في ظهور الآية : في انشاء حكم ظاهري لوجوب التعبد بخبر المنذرين ، لأنها حينئذٍ نظير قولك لزيد : اذا أخبرك عمرو بأمري ، يجب عليك إمتثاله .

وأمّا تنظيره على قول القائل : أخبر فلاناً بأوامري ، لعله يمتثلها ، فهو قياس مع الفارق ، لأنّ القياس أن يخاطب نفس فلان ، كما مثلنا به ، لعدم إختصاص الخطاب في الآية بالمنذرين .

وأما قياسه على جميع ماورد من بيان الحق للناس ، ففيه : انّ الأمر ببيان الحق للناس غير أمر الناس بالعمل بما يخبر به المخبر ، ومانحن فيه من قبيل الثاني ، دون الأول ، لسكوته عن كيفية العمل رأساً (1) .

( ثمّ الفرق بين هذا الايراد وسابقه : انّ هذا الايراد مبني على انّ الآية ناطقة باختصاص مقصود المتكلم : بالحذر عن الامور الواقعيّة المستلزم ) ذلك الحذر عن الامور الواقعية ( لعدم وجوبه ) أي : الحذر ( إلاّ بعد إحراز كون الانذار متعلّقاً

ص: 358


1- - أوثق الوسائل : ص157 دلالة آية النفر على حجيّة خبر الواحد .

بالحكم الواقعيّ . وأمّا الايرادُ الأول فهو مبنيٌّ على سكوت الآية عن التعرّض لكون الحذر واجباً على الاطلاق أو بشرط حصول العلم .

الثالثُ : لو سلّمنا دلالَة الآية على وجوب الحذر مطلقاً عند إنذار المُنذِرين ولو لم يفد العلم ، لكن لايدلّ على وجوب العمل بالخبر من حيث انّه خبر ،

------------------

بالحكم الواقعي ) ممّا يدل على وجوب حصول العلم للمنذَرين - بالفتح - حتى يعملوا بأخبار المنذِرين - بالكسر- .

( وأمّا الايراد الأوّل : فهو مبني على سكوت الآية عن التعرض ، لكون الحذر واجباً على الاطلاق ، أو بشرط حصول العلم ) فالآية لا إطلاق لها ، وتقيد بما دلّ على لزوم تحصيل العلم .

أمّا الايراد الثاني : فهو في انّ اللازم : العمل بالأحكام الواقعية ، فما لم يعلم المكلَّف بالحكم الواقعي ، لم تكن للآية دلالة على وجوب العمل عليه .

وإن شئت قلت : انّ الاشكال الأول : يقيّد العمل بالعلم ، والاشكال الثاني : يقيّد العمل بما كان الحكم واقعياً .

( الثالث ) من وجوه عدم جواز الاستدلال - عند المصنّف - بآية النفر على حجّية خبر الواحد ، هو ( : لو سلّمنا دلالة الآية على وجوب الحذر مطلقاً ، عند إنذار المُنذرين ولو لم يفد العلم ) وقوله : « ولو لم يفد » بيان قوله : « مطلقاً » أي : سواء أفاد العلم أو لم يفد العلم ، فانه يجب على السامعين الحذر عند إنذار المنذِرين .

( لكن لايدل على وجوب العمل بالخبر ، من حيث إنّه خبر ) اصطلاحي ، فان الآية أخص من المدّعى ، لأنّ المدعى : كل خبر واحد حجّة بينما الآية تدل على

ص: 359

لأن الانذار هو الابلاغُ مع التخويف . فانشاء التخويف مأخوذ فيه ، والحذر هو التخوّف الحاصل عَقيبَ هذا التخويف ، الداعي إلى العمل بمقتضاه فعلاً ، ومن المعلوم أنّ التخويفَ لايجبُ الاّ على الوعّاظ في مقام الإيعاد على الأمور التي يعلم المخاطبون بحكمها من الوجوب والحرمة ، كما يُوعَدُ على شرب الخمر وفعل الزنا وترك

------------------

حجّية الخبر المقرون بالانذار .

وذلك ( لأنّ الانذار هو : الابلاغ مع التخويف ، فانشاء التخويف مأخوذ فيه ) أي : في الانذار ، فاذا كان هناك خبر مع تخويف ، وجب قبوله - حسب الآية المباركه- أمّا اذا كان خبر بلا تخويف ، لم يكن الانذار شاملاً له ، فلا تدل الآية على حجّية هذا الخبر ، الخالي من الانذار .

( والحذر هو : التخوّف الحاصل عقيبَ هذا التخويف ) فاذا لم يكن انذار ، لم يكن حذر ، وإذا لم يكن حذر ، لم يكن الواجب : التحذر ، وهذا التخوف هو : ( الداعي الى العمل بمقتضاه ) أي : بمقتضى التخويف ( فعلاً ) وفي حال التخويف .

( ومن المعلوم : ان ) الابلاغ مع ( التخويف لايجب إلاّ على الوعّاظ في مقام ) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و( الإيعاد ) بالعقاب والعذاب ( على الأمور التي يعلم المخاطبون بحكمها من الوجوب والحرمة ) .

فاذا علم الناس الواجبات والمحرمات وعظهم الوعاظ : بأنّه يجب عليكم العمل بهذه الواجبات ، وترك هذه المحرمات ، وإلاّ كان ورائكم عقاب وعذاب ، وجهنم ونار .

فيكون المعنى على هذا : ليتعظ السامعون ويعملوا بما علموا من الأحكام الواجبة عند انذار المنذرين لهم ( كما يُوعَدُ عَلى شربِ الخمر ، وفعل الزّنا ، وترك

ص: 360

الصلاة ، وعلى المرشدين في مقام إرشاد الجهّال . فالتخوّف لايجبُ إلاّ على المُتّعظ أو المسترشد . ومن المعلوم أنّ تصديقَ الحاكي فيما يحكيه من لفظ الخبر الذي هو محلّ الكلام خارجٌ عن الأمرين .

توضيحُ ذلك

------------------

الصّلاة ) وغيرها من فعل المحرمات وترك الواجبات .

( و ) كذلك لايجب الابلاغ مع التخويف ، إلا ( على المرشدين ) الذين يبيّنون أحكام اللّه سبحانه وتعالى ( في مقام إرشاد الجّهال ) .

وعليه : فالعالم الذي ينذره الوعاظ بالعقاب ان لم يعمل بعلمه والجاهل الذي يرشده المرشد لأحكام اللّه سبحانه وتعالى المقترن بالعقاب ان لم يعمل بما ارشد اليه يجب عليهما الحذر .

إذن : ( فالتخوف لايجبُ إلاّ على المُتّعظ أو المسترشد ) كما انّ الانذار لا يجب إلا على الواعظ أو المرشد .

( ومن المعلوم : أنّ ) نقل قول المعصوم عليه السلام بما هو ، ليس بوعظ ولا ارشاد ، فاذا قال زُرارة - مثلاً- قال الصادق عليه السلام : صلاة الجمعة واجبة ، أو العصير العنبي محرم ف- ( تصديق ) السامع هذا ( الحاكي فيما يحكيه : من لفظ الخبر الذي هو محل الكلام ، خارج عن الأمرين ) لأنّه ليس باتعاظ ولا استرشاد .

هذا ، وقد عرفت : انّ الآية انّما تدل على القبول من الواعظ والمرشد لا مطلقاً ، فمن أين انّ الآية المباركة تدل على حجّية الخبر مطلقاً ، مع انه ليس الاستدلال بالآية الكريمة على حجّية الخبر مطلقاً ، إلاّ استدلالاً بالأخص للأعم .

( تَوضِيحُ ذلك ) انّ المنذِر ، ان كان مجتهداً كان كلامه حجّة على مقلديه فقط ، لا على سائر المجتهدين ، ولا على سائر المقلدين .

ص: 361

انّ المنذِر إمّا أن يُنذِرَ ويُخَوّفَ على وجه الافتاء ونقل ماهو مدلول الخبر باجتهاده ، وإمّا أن يُنذِر ويُخَوّف بلفظ الخبر حاكياً له عن الحجّة عليه السلام .

فالأوّل : كأن يقول : ياأيّها الناس! إتقوا اللّه في شرب العصير ، فانّ شربه يوجب المؤاخذة .

------------------

وان كان حاكياً لفظ الخبر مثل : الرّواة ، فاذا أنذر الرّاوي المقلدين ، لم يجب عليهم القبول ، لأنّ المقلد انّما يجب عليه إتباع مجتهده .

واذا أنذر الرّاوي المجتهدين وجب على المجتهد قبول إنّ الامام عليه السلام قال هذه الألفاظ .

أما وجوب تحذره فلا ، إذ تحذر المجتهد منوط بأن يكون إجتهاده فيما أخبره عن الامام عليه السلام دالاً على الوجوب أو الحرمة ، وربمّا لا يكون اجتهاده كذلك .

مثلاً : اذا قال الراوي : انّ الصادق عليه السلام قال : من صرف مريد الحجّ عن الحجّ ، كان له كذا من العقاب ، فالمجتهد يقبل ان الامام عليه السلام ، قال ذلك ، لكنّه ربّما كان إجتهاده : انّ الصرف مكروه ، لاحرام ، وذلك ، بسبب القرائن الداخلية أو الخارجية ، فلايجب على المجتهد ، أن يتحذر عن صرف الناس عن الحجّ اذا رأى الصرف مصلحة .

وبذلك ظهر : انّ آية النفر لاتدل على حجّية الخبر مطلقاً ، ف ( انّ المنذِر امّا أن يُنذِر ويُخَِوّف على وجه الافتاء ، ونقل ماهو مدلول الخبر باجتهاده ) لمقلديه .

( وأمّا انّ يُنذِر ويُخَوّف بلفظ الخبر حاكياً له عن الحجّة عليه السلام ) فهو على قسمين - كما تقدّم - :

( فالأوّل : كأن يقول ) الرّاوي - مثلاً - : ( ياأيّها النّاس إتقوا اللّه في شرب العصير ، فانّ شربه يوجب المؤاخذة ) والعقاب ، فانّ هذا ليس بنقل الخبر ، بل

ص: 362

والثاني : كأن يقول في مقام التخويف : قال الامام عليه السلام : من شرب العصير فكأنّما شرب الخمر .

أمّا الانذارُ على الوجه الأوّل ، فلايجب الحَذَرُ عقيبَهُ إلاّ على المقلّدين لهذا

المفتي . وأمّا الثاني : فله جهتان : إحداهما جهةُ تخويف وإيعاد ، والثانية جهة لحكاية قول من الامام عليه السلام .

ومن المعلوم : أنّ الجهةَ الأولى ترجع إلى الاجتهاد في معنى الحكاية ، فهي ليست حجّة إلاّ على من هو مقلّد له ،

------------------

مجرد وعظ وإرشاد .

( والثاني : كأن يقول في مقام التخويف قال الامام عليه السلام من شرب العصير فكأنّما شرب الخمر ) فان هذا حكاية للخبر من وجه ، وإنذار من وجه آخر .

( أمّا الانذار على الوجه الأوّل : ) وهو مااذا كان المفتي أفتى حسب مضمون الأخبار الواجبة والمحرمة ( فلا يجب الحَذَرُ عَقيبَهُ ) أي : عقيب الانذار ( إلاّ على المقلّدين لهذا المفتي ) فانّهم هم الذين يجب عليهم قبول فتواه ، ولا يجب القبول على سائر المجتهدين ، ولا على سائر المقلدين .

( وأمّا الثاني : ) وهو مااذا كان الرّاوي نقل قول الامام عليه السلام ، المشتمل على

الانذار والتخويف ، بأن بيّن الواجبات والمحرمات ( فله جهتان ) بَيَّنَهُما بقوله :-

( إحداهما : جهة تخويف وإيعاد ) وتهويل وإنذار .

( والثانية : جهة لحكاية قول من الامام عليه السلام ) .

هذا ( ومن المعلوم : انّ الجهة الاولى ) أي : جهة التخويف والانذار ( ترجع الى الاجتهاد في معنى الحكاية ) يعني: انّ الرّاوي الحاكي لكلام الامام الصادق إجتهد بأنّ معنى كلامه عليه السلام الحرمة (فهي ليست حجّة إلاّ على من هو مقلّد له) أي : للمنذِر .

ص: 363

إذ هو الذي يجب عليه التخوّف عند تخويفه .

وأمّا الجهةُ الثانيةُ فهي التي ينفع المجتهد الآخر الذي يسمع منه هذه الحكاية ، لكن وظيفته مجرّد تصديقه في صدور هذا الكلام عن الامام عليه السلام ، وأمّا أنّ مدلوله متضمّنٌ لما يوجب التحريم الموجب للخوف أو الكراهة ، فهو ممّا ليس فهم المنذر حجّة فيه بالنسبة الى هذا المجتهد .

------------------

فاذا قال علي بن بابويه - مثلاً- وهو يفتي بعين الرّواية - كما كان متداولاً سابقاً- ان الامام الصادق عليه السلام ، قال : من صرف إنساناً عن الحجّ كان له كذا من الوزر ، كان كلامه هذا حُجّة على من يقلده فقط ( إذ ) مقلّد علي بن بابويه ( هو الذي يجب عليه التخوّف عند تخويفه ) لا على مجتهد آخر ، ولا على مقلد مجتهد آخر - كما عرفت - .

( وأمّا الجهة الثانية : ) في قول علي بن بابويه - مثلاً- وهي : جهة نقل ألفاظ الامام عليه السلام ( فهي الّتي ينفع المجتهد الآخر ، الذي يسمع منه ) أي : من هذا المنذر ( هذه الحكاية ) ويجب عليه : قبول انّ الامام عليه السلام قال هذه الألفاظ .

( لكن وظيفته ) أي : وظيفة المجتهد الآخر ( مجرّد تصديقه ) أي : تصديق الرّاوي ( في صدور هذا الكلام عن الامام عليه السلام و ) ليس وظيفته : الحذر ، والاسترشاد ، والاتعاظ بانذار الرّاوي وإرشاده ، لأنّه قد يكون إجتهاد السامع ، مخالفاً لاجتهاد الرّاوي .

ولهذا قال المصنّف ( أما أن مدلوله ) أي : مدلول كلام الامام عليه السلام ( متضمن لما يوجب : التحريم الموجب للخوف ، أو الكراهة ) التي لاخوف فيها ( فهو ) أي : إنذاره ( ممّا ليس فهم المنذر حجّة فيه بالنسبة الى هذا المجتهد ) فلايجب عليه الاتعاظ والاسترشاد .

ص: 364

فالآيةُ الدالّة على وجوب التخوف عند تخويف المنذرين مختصّةٌ بمن يجب عليهم اتّباع المنذِر في مضمون الحكاية وهو المقلّد له ، للاجماع على أنّه لايجب على المجتهد التخوّفُ عند إنذار غيره . إنّما الكلامُ في أنّه هل يجب عليه تصديقُ غيره في الألفاظ والأصوات التي يحكيها عن المعصوم عليه السلام أم لا ، والآية لاتدلّ على وجوب ذلك على من لا يجب عليه التخوّف عند التخويف .

------------------

وان شئت قلت : اذا أخبر إبن بابويه المفيد - مثلاً- : عن الامام عليه السلام : ففي خبره جهتان : -

جهة الانذار ، ولايجب على المفيد الحذر .

وجهة تصديق الخبر ، وتصديق الخبر ليس بحذر ، فلاتشمله الآية .

إذن : فما تشمله الآية من الحذر ، ليس بواجب على المجتهد السامع ، وماليس بحذر ، لاتشمله الآية ، فمن أين تدلّ الآية على حجّية الخبر ، كما أطلق القائلون بدلالة الآية على حجّية الخبر ؟ ( فالآية الدالة على وجوب التخوّف عند تخويف المنذرين ، مختصّة بمن يجب عليهم إتّباع المنذِر ) - بالكسر- ( في مضمون الحكاية ، وهو : المقلد له ) أي : من يقلد المنذر ( للاجماع على انّه لايجب على المجتهد التخوّف عند إنذار غيره ) اذ المجتهد لايقلد الرّاوي في فهم الرّواية ، وان كان يجب عليه : قبول انّ الامام عليه السلام قال هذا الكلام .

( إنّما الكلام في انّه هل يجب عليه ) أي : على المجتهد السامع ( تصديق غيره ) الذي هو الرّاوي ( في الألفاظ والأصوات التي يحكيها ) الرّاوي ( عن المعصوم عليه السلام ، أم لا ؟ والآية لا تدل على وجوب ذلك ) التصديق ( على من ) أي : على المجتهد السامع الذي ( لا يجب عليه التخوّف عند التخويف ) فالآية

ص: 365

فالحقّ : إِنّ الاستدلالَ بالآية على وجوب الاجتهاد كفاية ووجوبِ التقليد على العوامّ أولى من الاستدلال بها على وجوب العمل بالخبر .

وذكر شيخنا البهائيّ قدس سره ، في أوّل أربعينه : « أن الاستدلال بالنبويّ صلى اللّه عليه و آله وسلم المشهور : « مَنْ حَفِظَ عَلى أُمّتي أَربَعِينَ حَدِيثاً بَعَثَهُ اللّه ُ فَقِيهاً عالِماً » ، على حجّية الخبر ، لايَقصُرُ عن الاستدلال

------------------

تدل على الحذر لا على قبول الخبر- .

( فالحقّ : إنّ الاستدلال بالآية على وجوب الاجتهاد كفاية ) لأنّه لايجب على الجميع أن يكونوا مجتهدين - نصاً وإجماعاً- ( ووجوب التقليد ) والحذر ( على العوام ) المقلدين للمجتهدين المفتين ( أولى من الاستدلال بها ) أي : بالآية ( على وجوب العمل بالخبر ) الواحد . ( و ) ممّا يؤيد ماذكرناه : انّه قد ( ذكر شيخنا البهائي قدس سره في أوّل أربعينه : انّ الاستدلال بالنبوي صلى اللّه عليه و آله وسلم المشهور : « مَنْ حَفِظَ عَلى اُمَتّي أَربَعِينَ حَدِيثاً بَعَثَهُ اللّه ُ فَقِيهاً عالِماً ») (1) .

وإنما جيء بكلمة « على » من جهة : انّ الخبر بسبب تلك الأخبار المحفوظة يغمر الامّة ، مثل : ما اذا صب الماء على انسان حتى غمره ، فانه قد يؤتى فيه بكلمة «على» لهذه الجهة ، ومنه : « سلام عليكم » .

نعم ، اذا كانت كلمة « على » في قبال اللام ، كان معناه الضرر ، مثل : عليه لعنة اللّه ، ولعلّه أيضاً من جهة ان اللعنة تغمر الملعون .

وعليه : فانّ الاستدلال بهذا الخبر ( على حُجّية الخبر ، لا يَقصُر عن الاستدلال

ص: 366


1- - الاربعون حديث : ص11 ، الخصال : ص541 ح15 بالمعنى ، غوالي اللئالي : ج1 ص95 ، منية المريد ص371 ، صحيفة الرضا : ص65 .

عليها بهذه الآية » .

وكأنّ فيه إشارة إلى ضعف الاستدلال بها ، لأنّ الاستدلال بالحديث المذكور ضعيف جدّاً ، كما سيجيء إن شاء اللّه عند ذكر الأخبار .

هذا ، ولكن ظاهر الرّواية المتقدّمة عن علل الفضل يدفع هذا الايراد ،

------------------

عليها ) أي : على حجّية الخبر ( بهذه الآية ) الكريمة : آية النفر .

( وكأَنّ فيه إشارة الى ضعف الاستدلال بها ) . أي بآية النفر لحجية الخبر ( لأنّ الاستدلال بالحديث المذكور ضعيف جداً - كما سيجيء إنشاء اللّه عند ذكر الأخبار ) فكما انّ النبوي لا دلالة فيه على حجّية الخبر ، كذلك الآية المباركة ، لا دلالة فيها على حجّية الخبر .

( هذا ) تمام الكلام في الايراد الثالث على دلالة آية النفر على حجّية الخبر .

( ولكن ظاهر الرّواية المتقدّمة عن علل الفضل ) حيث قال عليه السلام في فلسفة وجوب الحجّ :- « ولأجل مافِيه مِن التَفقُه وَنَقل أخبار الأئمة إِلى كُلِ صَفح ...» (1) ( يدفع هذا الايراد ) .

اذ الايراد كان بأنّ الآية لاتدل على حجّية الخبر ، بينما ظاهر خبر العلل : انّ الخبر حجّة ، لأنّ الامام عليه السلام بعدما بيّن انّ من غايات وجوب الحجّ : التفقه ، ونقل الأخبار الى كل صفح ، إستشهد بهذه الآية .

فيعلم من إستشهاد الامام عليه السلام بها : انّ المراد من الانذار : أعم من نقل الخبر والوعظ والارشاد ، كما انّ المراد من الحذر ، أعم من مجرد تصديق الخبر ، والاتعاظ والاسترشاد ، لأنّ في نقل : انّ الشيء الفلاني واجب ، أو انّ الشيء

ص: 367


1- - علل الشرائع : ج1 ص317 .

لكنّها من الآحاد ، فلا ينفع في صرف الآية من ظاهرها في مسألة حجّية الآحاد مع إمكان منع دلالتها على المدّعى ، لأنّ الغالب تعدّد من يخرج إلى الحجّ من كلّ صُقع ،

------------------

الفلاني حرام ، كفاية من جهة كونه : تحذيراً وإنذاراً ، فلا حاجة في الخبر الى ذكر الجنّة والنار ( لكنّها ) أي رواية الفضل المتقدّمة الدالة على عموم الآية وشمولها لنقل الخبر ، هي ( من ) الأخبار ( الآحاد ، فلاينفع في صرف الآية من ظاهرها ) وهو وجوب الوعظ والارشاد والتحذير ، الى معنى عام شامل لنقل الخبر - ايضاً- حتى يقال : بأن الآية دالة عليه ( في ) مقامنا هذا وهو ( مسألة حجّية الآحاد ) .

فان في الاستدلال بالخبر الواحد - وهو : خبر الفضل على معنى الآية الدالة على حجّية خبر الواحد - دَورٌ صريح ، وذلك لأنّ حجّية الخبر مطلقاً يتوقف على الآية ، وظهور الآية يتوقف على حجّية خبر الفضل ، وهو : خبر واحد ، فيكون معنى ذلك : توقف حجّية الخبر الواحد ، على الخبر الواحد .

هذا ( مع إمكان منع دلالتها ) ، أي رواية العلل ( على المدعى ) وهو : حجّية خبر الواحد ( لأنّ الغالب ، تعدد من يخرج الى الحجّ من كل صُقع ) وناحية من نواحي بلاد الاسلام ، فانّ في السابق كان الحجّ ممكناً لكلّ أحد حيث لا حدود جغرافية بين بلاد الاسلام ، ولا حاجة في السفر الى جواز ، أو هويّة ، أو جنسيّة ، أو خروجيّة أو ضريبة ، أو ماأشبه ذلك من القيود الاستعمارية ، التي جاء بها المستعمرون الى بلاد الاسلام منذ نصف قرن تقريباً (1) .

ص: 368


1- - وقد فصّل الامام الشارح هذا الحديث في كتاب الحج بين الأمس واليوم والغد ، وكتاب لكي يستوعب الحج عشرة ملايين ، وكتاب ليحج خمسون مليونا كل عام .

بحيث يكون الغالبُ حُصولَ القطع من حكايتهم لحكم اللّه الواقعيّ ، عن الامام عليه السلام ، وحينئذ ، فيجب الحذر عَقيبَ إِنذارهم ، فاطلاقُ الرّواية مُنزّلٌ على الغالب .

------------------

ولذا ورد : انّ في زمان الامام السجاد عليه السلام وقف بعرفات ، أربعة ملايين ونصف مليون حاج .

ويؤيد ذلك تعدد أسئلة الرواة من الأئمة عليهم السلام ، عما اذا ضاقت المشاعر ولم تسع الحجّاج ؟ فأجابوهم عليهم السلام : بأنّ الحجّاج يقفون خارج هذه المشاعر ، كما لايخفى ذلك على من راجع الوسائل وغيره .

وعليه : فاذا كثر الحاج ( بحيث ) انهم اذا تعلموا من الأئمة عليهم السلام الأحكام والمسائل ، ثم بعد رجوعهم الى بلادهم أخبروا أهالي تلك البلاد ( يكون الغالبُ حُصولَ القطع من حكايتهم لحكم اللّه الواقعي عن الامام عليه السلام ) بالنسبة الى أهل تلك البلاد .

( وحينئذٍ ) أي : اذا حصل العلم لأهل البلاد من الأخبار المتعددة ، والشهادات المعتمدة ( فيجب الحذر ) على أهل تلك البلاد ( عقيب إنذارهم ) لا من جهة : انّه خبر واحد ، بل من جهة : حصول العلم ، أو الشهادة بشرائطها المذكورة في كتاب الشهادة .

وعلى هذا : ( فاطلاق الرّواية ) أي : رواية الفضل ( منّزل على الغالب ) فانّه لمّا كان الغالب : حصول العلم ، لم تحتج الرّواية الى التقييد ، وانّما هي منصرفة الى الغالب .

ولايخفى وجه التّأمّل في الاشكال الثالث الذي ذكره المصنّف أيضاً ، اذ تخصيص الآية بالوعظ وتحذير المجتهد لمقلديه ، أو بما إذا علم المنذَر

ص: 369

ومن جملة الآيات التي إستدلّ بها جماعةٌ ، تبعاً للشيخ في العُدَّة على حجّية الخبر ، قوله تعالى : « إنَّ الَّذينَ يَكتُمُونَ ما أَنزَلنا مِنَ البَيّناتِ وَالهُدى مِن بَعدِ مابَيّناهُ لِلنّاسِ فِي الكِتاب اُولئكَ يَلعَنُهُمُ اللّه ُ ويَلعَنُهُمُ اللاعِنُونَ » .

والتقريبُ فيه : نظيرُ ما بيّناه في آية النّفر ، من أنّ حُرمَةَ الكِتمانِ يستلزم وجوب القبول عند الاظهار .

------------------

------------------ بالفتح - ، خلاف ظاهر الآية .

( ومن جملة الآيات التي إستدلّ بها جماعة تبعاً للشيخ في العدّة على حجّية الخبر ) الواحد ( قوله تعالى : «إنَّ الّذِينَ يَكتُمُونَ ماأَنّزلنا مِن البَيّناتِ وَالهُدى مِن بَعدِ مابَيّناهُ لِلّناسِ فِي الكِتابِ ، اولِئكَ يَلعَنُهُمُ اللّه ُ ويَلعَنُهُم الّلاعِنُون» (1) ) .

والظاهر : ان الفرق بين البيّنة والهدى هو : انّ الاولى في علائم الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وفي سائر اُصول الدين ، من بينات المعجزات والأدلة العقلية .

والثانية : في الأحكام ، ومن بعد البيان ، لأنّه بدون البيان لاتتم الحجّة ، كما قال سبحانه : - «وَمَا كُنّا مُعذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رسُولا» (2) .

والمراد بالكتاب : امّا التوراة ، والآية في قصة اليهود ، أو مطلق الكتب السماوية ، لأنّ أحكام اللّه وأدلة اصول الدين مذكورة فيها .

( والتقريب فيه ) أي في الاستدلال بهذه الآية المباركة على حجّية خبر الواحد ، هو ( نظير مابيّناه في آية النفر ) حيث قلنا : بان وجوب الانذار ، يستلزم وجوب الحذر ، وإلا كان لغواً ، وكذلك نقول هنا ( من انّ حُرمَةَ الكِتمانِ ، يستلزم وجوبَ القبول عند الاظهار ) وإلاّ كان تحريم الكتمان لغواً .

ص: 370


1- - سورة البقرة : الآية 159 .
2- - سورة الاسراء : الآية 15 .

ويرد عليها : ماذكرنا من الايرادين الأوّلين في آية النفر ، من سكوتها وعدم التعرّض فيها لوجوب القبول وإن لم يحصل العلمُ عَقيبَ الاظهار أو إختصاص وجوب القبول

------------------

وذلك لأنّ الآية المباركة تدل على حرمة كتمان البينات والهدى ، بعد المعرفة بهما ، ومن الواضح : انّ من جملة البينات والهدى : الأخبار الصادرة عن الأئمة عليهم السلام على الموضوعات وعلى الأحكام ، فيحرم على الرّاوي كتمانها بعد سماعها عنهم عليهم السلام ، وإِذا حرم الكتمان ، وجب الاظهار ، لأنّه لا واسطة بين الأمرين ، وقد قرر : انّ ترك الحرام واجب ، وانّ ترك الواجب حرام ، فاذا وجب إظهارها وجب قبولها ، لئلا يكون الاظهار لغواً .

( ويرد عليها ) أي : على دلالة الآية على حجّية خبر الواحد ( : ماذكرنا من الايرادين الأوّلين في آية النفر : من سكوتها ) أي : الآية ( وعدم التعرض فيها لوجوب القبول ، وإن لم يحصل العلمُ عَقيبَ الاظهار ) .

فالآية أولاً : مقيّدة بكون السّامع يعلم بالحق .

وثانياً : مقيّدة بكون العمل بما كان الحكم أو الموضوع واقعياً .

إذن : فلا اطلاق في الآية المباركة ، وإنّما المستفاد من الآية هو : وجوب الاظهار للرّاوي ، ووجوب القبول للسامع ، وليس أكثر .

أمّا انّ وجوب القبول مطلق ، أو مقيد بحصول العلم ، فالآية ساكتة عنه ، اذ الآية تدل على وجوب قبول الحق عند اظهاره ، أمّا أن السّامع يسمع من كل مظهر ولو لم يحصل له من كلام المظهر العلم ، فلا دلالة للآية بالنسبة الى ذلك ، هذا بالنسبة الى الايراد الأول .

وأشار المصنّف الى الايراد الثاني بقوله : ( أو : إختصاص وجوب القبول

ص: 371

المستفاد منها بالأمر الذي يحرم كتمانه ويجب إظهاره ، فانّ مَنْ أَمرَ غَيرَهُ باظهار الحقّ للناس ليس مقصودُه إلاّ عملَ الناس بالحقّ ، ولايريد بمثل هذا الخطاب تأسيسَ حجّية قول المظهر تعبدّاً ووجوب العمل بقوله وإن لم يطابق الحقّ .

ويشهد لما ذكرنا :

------------------

المستفاد منها ) أي من الآية ( بالأمر الذي يحرم كتمانه ويجب إظهاره ) فانّ السّامع اذا علم انّ قول المتكلم ، هو فيما يجب عليه القبول ، وجب ان يقبل منه ، لا انّه يقبل منه وان لم يعلم بأنّه كذلك .

وقد تقدّم ، الفرق بين الجوابين في الآية السابقة : -

فانّ الآية على الدلالة الاولى : ساكتة عن اعتبار العلم .

وعلى الدلالة الثانية : ناطقة بهذا الاعتبار .

فليس كلمة : « أو » في كلام المصنّف للترديد ، وإنما للتقسيم ، مثل قولهم الكلمة : إسم أو فعل أو حرف .

وعليه : ( فانّ مَن أَمرَ غَيرهُ باظهار الحق للنّاس ، ليس مقصوده : إلاّ عمل النّاس بالحقّ ، ولايريد بمثل هذا الخطاب ) والأمر ( تأسيس ) الحكم الظاهري أعني : ( حجّية قول المظهر تعبداً ، ووجوب العمل بقوله وإِن لم يطابق ) قوله ( الحق ) .

وان شئت قلت : انّ الآية تدل على وجوب اظهار الحق ، أما وجوب القبول ، فالآية ليست بصدده ، وانّما يجب القبول إذا علم الانسان بانه حق وواقع ، فلا تدل الآية على قبول خبر الواحد اذا لم يعلم الانسان بانه حق مطابق للواقع .

( ويشهد لما ذكرنا ) من انّ المراد : وجوب قبول الحق والواقع لا قبول قول

ص: 372

أنّ موردَ الآية كتمانُ اليهود لعلامات النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، بعدما بيّن اللّه لهم ذلك في التوراة ، ومعلومٌ أنّ آيات النبّوة لايكتفى فيها بالظّن .

------------------

القائل وان لم يعلم الانسان بانّه كذلك ، هو ( انّ مورد الآية : كتمان اليهود لعلامات النبي ) محمد ( صلى اللّه عليه و آله وسلم ، بعدما بيّن اللّه لهم ) أي : لليهود ( ذلك في التوراة ، ومعلوم : انّ آيات النبوة لايكتفى فيها بالظّن ) .

بضميمة : انّه اذا لم يكن خبر الواحد حجّة في مورد الآية ، فكيف يستفاد من الآية حجّية الخبر الواحد في سائر الموارد ، لأنّه - كما تقدّم - من تخصيص المورد وهو مستهجن ؟ .

لكن ربّما يقال : بأنّ كون مورد الآية : كتمان اليهود ، لايفهم من نفس القران ، لأنّ الآية ليست في سياق آيات اليهود ، فانّ الآيات هكذا :

«إِنَّ الصَّفا وَالمَروَةَ مِن شَعائِرِ اللّه ِ ، فَمَن حَجَّ البَيتَ أَو اعتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيهِ أَن يَطّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوّعَ خَيراً فإِنَّ اللّه َ شاكِرٌ عَلِيمٌ» (1) .

«إنَّ الَّذِينَ يَكتُمُونَ مَا أَنزَلنَا مِنَ البَيِّناتِ وَالهُدَى مِن بَعدِ مابَيَّناهُ لِلنّاسِ فِي الكتاب اُولئِكَ يَلعَنَهُمُ اللّه ُ وَيَلعَنَهُمُ الّلاعِنُون» (2) .

«إِلاّ الّذِينَ تَابُوا وأَصلَحُوا وَبيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيهِم وأَنا التَّوّابُ الرَّحيِمُ» (3) .

«إِنَّ الّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُم كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيهِم لَعنَةُ اللّه ِ والمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجمَعيِنَ» (4) .

إذن : فلعل المراد بالكتاب : كتاب اليهود ، أو مطلق الكتب السماوية ، أو القران

ص: 373


1- - سورة البقرة : الآية 158 .
2- - سورة البقرة : الآية 159 .
3- - سورة البقرة : الآية 160 .
4- - سورة البقرة : الآية 161 .

نعم ، لو وجب الاظهارُ على من لايفيد قوله العلم غالباً أمكن جعلُ ذلك دليلاً على أنّ المقصودَ العملُ بقوله وإن لم يفد العلمَ ، لئلا يكون إلقاء هذا الكلام كالّلغو .

------------------

الحكيم .

( نعم ، لو وجب الاظهار على من لايفيد قوله العلم غالباً ، أمكن جعل ذلك دليلاً على أنّ المقصود : العمل بقوله وإن لم يفد العلم ) وهذا الكلام تمهيد لجواب إشكال - ربّما يورد على قولنا المتقدّم وهو :

أنّه لو كان الغرض من وجوب الاظهار وحرمة الكتمان ، حصول العلم ، ووجوب قبول الحق على السامع ، فيما عرف أنّه حق ، لا وجوب قبول قول المظهر تعبداً ، فكيف إِستدل الفقهاء بحرمة كتمان مافي الارحام ، على وجوب قبول قولهنّ تعبداً ؟ فان الآية المباركة تقول في حق النساء :-

«وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكتُمنَ ماخَلَقَ اللّه ُ فِي أَرحامِهِنَّ . . .» (1) .

فاذا قالت المرأة : بانّ في رحمها جنين قبل قولها لانهن مصدقات ، فآية الكتمان فيما نحن فيه مثل آية الكتمان في حق النساء فكما يقبل قولهن ولو لم يعلم السامع صدقهن ، كذلك في المقام يجب قبول خبر الواحد ولو لم يعلم السامع صدقه .

والجواب : انّه فرق بين المقامين ، لأنّ النساء غالباً لايفيد قولهنّ العلم ، فاذا وجب عليهن الاظهار وجب علينا القبول ( لئلاّ يكون القاء هذا الكلام كاللغو ) .

فانّه لو كان المقصود من وجوب إظهارهن هو : حصول العلم وقبول الحق

ص: 374


1- - سورة البقرة : الآية 228 .

ومن هنا يمكنُ الاستدلالُ بما تقدّم - من آية تحريم كتمان مافي الأرحام على النساء - على وجوب تصديقهنّ ، وبآية وجوب إقامة الشهادة على وجوب قبولها بعد الاقامة ، مع إمكان كون وجوب الاظهار لأجل رجاء وضوح الحقّ من تعدّد

------------------

الواقعي ، كان الأمر بالاظهار لغواً ، لندرة حصول العلم من قولهن ، أو تساوي حصول العلم وعدم حصول العلم ، ففي آية كتمان النساء تلازم بين عدم الكتمان والقبول ، وليس المقام من هذا القبيل .

( ومن هنا ) الذي ذكرناه : بأنه لو وجب الاظهار فيمن لايفيد قوله العلم غالباً ، لزم القبول تعبداً ( يمكن الاستدلال بما تقدّم ، من آية تحريم كتمان مافي الأرحام على النّساء : على وجوب تصديقهنّ ) تعبداً .

( و ) كذلك يمكن الاستدلال ( بآية وجوب إقامة الشهادة ) حيث قال سبحانه : - «واستَشهِدُوا شَهيدينِ مِن رجالِكُم ، فَإِن لَم يَكُونَا رَجُلَينِ فَرَجلٌ وَامرَأَتانِ مِمَّن تَرضَونَ مِنَ الشُّهَداءِ . .» (1) .

( على وجوب قبولها ) أي : قبول الشهادة ( بعد الاقامة ) لها تعبداً فانّه لو وجبت الشهادة فيما إذا كان الشاهد جامعاً للشرائط يجب القبول ، وإلاّ بأَن توقف القبول على العلم ، لزم اللغوية في كثير من الشهادات ، حيث لايعلم القاضي بصدقها ، أو عدم صدقها .

فان قلت : فاذا وجب الاظهار ولم يجب القبول ، فما فائدة الاظهار ؟ .

قلت : ( مع إمكان كون وجوب الاظهار ، لأجل رجاء وضوح الحق من تعدّد

ص: 375


1- - سورة البقرة : الآية 282 .

المُظهِرين .

ومن جملة الآيات التي إستدّل بها بعضُ المعاصرين قوله تعالى : «فاسأَلوُا أَهلَ الذّكرِ إِن كُنتُم لاتَعلَموُن» .

بناءا على أنّ وجوبَ السؤال ، يستلزمُ وجوب قبول

------------------

المُظهِرين )فايجاب الاظهار ، ليس من جهة : حجّية قول المظهر على السامع حتى اذا قال المظهر وجب القبول على السامع ، بل من جهة : انه اذا وجب الاظهار يكثر المظهرون ، فيحصل العلم العادي بالنسبة الى السامعين ، ففائدة الاظهار ليست في قبول المظهر مطلقاً .

لكنّك عرفت في آية النفر : الجواب عن هذه الاحتمالات ، وإن ماذكره المشهور : من التلازم بين وجوب الاظهار وحجّية الخبر على السامع ، هو المتفاهم عرفاً من الآية المباركة ، وإلاّ أمكن أن يقال ذلك في آية الشهادة بسبب كثرة الشهود ، وفي آية كتمان المرأة بسبب القرائن الداخلية والخارجيّة على صدقها أو عدم صدقها .

( ومن جملة الآيات التي إستدل بها بعض المعاصرين ) - وهو الشيخ محمد حسين الاصفهاني صاحب الفصول - على حجّية خبر الواحد ( قوله تعالى ) :

( «فَاسئَلُوا أَهلَ الذِّكِر» ) فانّ الرّاوي أيضاً من أهل الذكر ، والمراد بالذكر العلم الموجب لتذكر الانسان ، من اصول الدين أو فروعه ( «إن كُنتُم لاتَعلَمُونَ» ) (1) . لأنّهم إذا علموا لم يحتاجوا الى السؤال .

وانّما يستدل بهذه الآية ( بناءاً على انّ وجوب السؤال ، يستلزم وجوب قبول

ص: 376


1- - سورة النمل : الآية 43 .

الجواب وإلاّ لغى وجوبُ السؤال ، وإذا وجب قبولُ الجواب وجب قبول كلّ مايصحّ أن يسأل عنه ويقع جواباً له ، لأنّ خصوصيّة المسبوقيّة بالسؤال لادخل فيه قطعاً . فاذا سُئل الرّاوي الذي هو من أهل العلم عمّا سمعه عن الامام عليه السلام ، في خصوص الواقعة ، فأجاب بأنّي سمعته يقول كذا ، وجب القبولُ ، بحكم الآية .

------------------

الجواب وإلاّ لغى وجوب السؤال ) ومن المعلوم انّ الحكيم لايأتي بشيء لغو ( وإذا وجب قبول الجواب ، وجب قبول كلّ مايصح أن يسأل عنه ، و ) يصح ان ( يقع جواباً له ) لأنّه لاخصوصية في الخبر المسبوق بالسؤال .

وقد أشار المصنّف في كلامه هذا الى جواب اشكال وهو : انّ الآية لا تدلّ على حجّية الخبر الذي أخبر به الناقل بدون السؤال عنه ، وانّما يدلّ على حجّية الخبر الذي وقع جواباً عن سؤال الناقل فقط .

والجواب : انّ المناط واحد في الخبر ، سواء كان مسبوقاً بالسؤال ، أو لم يكن مسبوقاً بالسؤال ، للقطع : بأنّه لاخصوصية للسبق بالسؤال ، بل يشمل حتى الأمور التي من شأنها أن تقع جواباً عن السؤال .

ومن الواضح : انّ الأخبار التي وصلت الينا منهم عليهم السلام بهذه المثابة ( لأنّ خصوصيّة المسبوقيّة بالسؤال لا دخل فيه قطعاً ) لأنّه لا جهة للخصوصية .

( فاذا سئل الرّاوي الّذي هو من أهل العلم ) ويطلق عليه : انّه من أهل الذكر ، كزُرارَة ، أَو محمد بن مسلم ، أو الفضيل ، أو غيرهم ( عمّا سمعه عن الامام عليه السلام في خصوص الواقعة ) الخاصة من : عبادة ، أو معاملة ، أو غيرهما ( فأجاب : بأني سمعته ) أي الامام عليه السلام ( يقول : كذا وجب القبول بحكم الآية ) على ماعرفت : من التلازم بين السؤال والقبول .

ص: 377

فيجب قبول قوله إِبتداءً : «إنّي سَمعتُ الامام عليه السلام يقول كذا» ، لأنّ حجّية قوله هو الذي أوجب السؤال عنه ، لا أنّ وجوب السؤال أوجب قبول قوله ، كما لايخفى .

ويَردُ عليه ، أوّلاً : أنّ الاستدلالَ إن كان بظاهر الآية ، فظاهرُها بمقتضى السياق إرادةُ علماء أهل الكتاب ،

------------------

وعليه : ( فيجب قبول قوله ) أي : قول الرّاوي ايضاً ( إبتداءاً ) أي : من دون سبق السؤال ، فيما إذا قال الرّاوي إبتداءاً : ( إنّي سمعت الامام يقول : كذا ) لأنّ المناط في الأمرين واحد ، وذلك ( لأنّ حجّية قوله هو الذي أوجب السؤال عنه ، لا أنّ وجوب السؤال أوجب قبول قوله ) .

فانّا نعلم علماً وجدانياً : بأنّ حجّية الخبر ليست بسبب وجوب السؤال ، أو بفعلية السؤال في الخارج ، بل الأمر بالعكس ، فانّه لمّا كان الخبر حجّة ، أوجب الشارع السؤال عنه ، فيجب قبوله مطلقاً ، سواء كان مسبوقاً بالسؤال أو لم يكن مسبوقاً بالسؤال ( كما لايخفى ) ذلك على من تدبّر الأمر .

( ويرد عليه ، أولاً : انّ الاستدلال إن كان بظاهر الآية ، فظاهرها ) لايدل على المطلوب ، وذلك ( بمقتضى السياق ) للآية المباركة صدراً وذيلاً ، فان ظاهر الآية في المقام ، هو : ( إرادة علماء أهل الكتاب ) .

فالذين خوطبوا بهذه الآية المباركة ، هم الّذين استشكلوا على النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم : بانّه كيف يدعي الرسالة ونزول الوحي عليه من اللّه تعالى ، وهو ليس بملك ، وانّما هو انسان مثلهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ؟ .

فأجيبوا : بأنّ عليهم أن يسألوا العلماء من أهل الكتاب ، سواء كانوا علماء

ص: 378

كما عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحَسَن ، وقتادة . فانّ المذكور في سورة النَحل : «وَما أَرسَلنا مِن قَبلِكَ إلاّ رِجَالاً نُوحِيَ إِليهم فَاسألوا أهلَ الذِكر إنْ كُنتُم لاتَعلَمُون بالبيّناتِ والزُّبُر» ،

------------------

اليهود أو النصارى ، بل وحتى المجوس ، عن أنبيائهم بأنهم هل كانوا رجالاً أو كانوا ملائكة ؟ .

( كما عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ) من المفسرين الأوائل ( فانّ المذكور في سورة النَحِل ) مايدلّ على انّ المراد : هم علماء أهل الكتاب حيث قال سبحانه :

( «وَما أَرسَلنا مِن قَبلِكَ» ) أيها النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ( «إلاّ رِجَالاً» ) كموسى ، وعيسى ، ونوح ، وابراهيم ، وغيرهم ( «نُوحِيَ إليهم» ) بالكتب السماوية : كصحف ابراهيم ، وتوراة موسى ، وانجيل عيسى .

( «فاسئلوا» ) أيها المستشكلون على الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم : بانّه كيف يكون نبياً وهو مثلهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ؟ ( «أَهلَ الّذِكرِ» ) أي : علماؤكم

الّذين هم أهل الكتب المذكّرة للنّاس باللّه ، والرسول ، والشرائع ( «إن كُنتُم لاتَعلَمُون ، بالبَيّنات» ) أي : بالحجج الواضحة ( «والزُّبُر» ) (1) . وهي الكتب السماوية .

يعني : انّكم اذا كنتم جاهلين بكتبكم ، وكذلك جاهلين بالأدلة الواضحة على نبوة نبي الاسلام صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فاللازم عليكم مراجعة علمائكم ، كما هو عليه عرف العقلاء من مراجعة الجهال الى علمائهم .

ص: 379


1- - سورة النحل : الآية 43 .

وفي سورة الأنبياء : «وَما أرسَلنا مِن قَبلِكَ إلاّ رِجالاً نُوحِي إليهم فاسأَلُوا أهلَ الذِكرِ إنْ كُنتُم لاتَعلَمون » .

وإن كان مع قطع النظر عن سياقها

------------------

( وفي سورة الأنبياء : «وَما أَرسلنا مِن قَبلِكَ إلاّ رِجالاً نُوحِيَ إليهم فاسئَلُوا أَهلَ الذّكِرِ إن كُنتُم لاتَعلَمُون» ) (1) . فسياق الآيتين المباركتين يدلّ على ماذكرنا : من انّ المراد من أهل الذكر : هم أهل الكتاب .

( وان كان ) الاستدلال بالآية الكريمة على حجّية خبر الواحد ( مع قطع النظر عن سياقها ) أي : بملاحظة نفس قوله تعالى : «فاسئلوا أهل الذكر» فانّه قد يتعارض السياق مع الظهور ، فالظهور في نفسه يدلّ على شيء ، والسياق يدلّ على شيء آخر ، مثلاً : قال الامام الحسين عليه السلام ، في خطبته : « الحمد للّه ، وماشاء اللّه » فالحمد إنشاء ، وماشاء اللّه ، هل هو إخبار - كما هو ظاهره - أو إنشاء كما يقتضي سياق الحمد ذلك ؟ .

وكذا إذا قال أحد - مثلاً - سافرت البارحة ، وبعت داري ، فان ظاهر « بعت » : الانشاء ، وظاهر « سافرت » : الاخبار ، فهل يقدّم ظاهر بعت ليكون إنشاء بيع أو ظاهر السياق ليكون إخباراً عن بيع ؟ فان قدّم أحد الظهورين بأن كان أظهر فهو ، وإلاّ تساقط الظاهران وصار الكلام مجملاً .

وهكذا حال كل سياق وظاهر متخالفان ، كما في مثل الانشاء والاخبار ، إذا عطف أحدهما على الآخر .

وعلى أي حال : فان أراد المستدِّل بالآية نفس هذا الكلام من دون النظر الى

ص: 380


1- - سورة الانبياء : الآية 7 .

ففيه : أوّلاً : أنّه ورد في الأخبار المستفيضة إنّ أهل الذكر هُم الأئمة عليهم السلام ، وقد عقد في اصول الكافي باباً لذلك ، وقد أرسله في المجمع عن عليّ عليه السلام .

------------------

السياق ( ففيه : أوّلاً : أنّه ورد في الأخبار المستفيضة : إنّ أهل الذّكر هم الأئمة عليهم السلام) من أهل البيت (1) .

( وقد عقد في اصول الكافي بابا لذلك ) الخبر المستفيض (2) ( وقد أرسله ) أي : هذا الخبر الطبرسي رحمه اللّه ( في المجمع ) وهو : تفسيره المشهور بمجمع البيان (3) ( عن علي عليه السلام ) خبراً بهذا المعنى .

فمن تلك الرّوايات مارواه محمد بن مسلم ، عن الباقر عليه السلام ، قال : « انَّ مَن عِندنا يَزعمُون : إنّ قول اللّه عزوجل : «فاسئلُوا أهلَ الذِكرِ إنّ كُنتُم لاتَعلَمُون» (4) إنهم اليَهُودَ وَالنَصارى ؟ .

قال : إذَنْ يَدعُونَكم إلى دِينِهِم ، قال : ثُم مال بيدِهِ اِلى صَدرِه وَقالَ : نَحنُ أَهلُ الذِكرِ ، ونَحنُ المسؤولُون » (5) .

وروى الوشاء عن مولانا أبي الحسن الرضا عليه السلام قال : سمعته يقول : « قال علي بن الحسين عليه السلام : عَلى الأَئمةِ مِن الفَرضِ مالَيسَ عَلى شِيعَتِهِم ، وَعَلى شِيعتِنا

ص: 381


1- - راجع شواهد التنزيل للحاكم : ج1 ص334 ح459 ، ينابيع المودة : ص51 و ص140 ، روح المعاني : ج14 ص134 ، تفسير الطبري : ج14 ص809 ، عبقات الانوار : ج1 ص285 ، صحيح مسلم : ج2 ص368 ، صحيح الترمذي : ج5 ص30 ، مسند أحمد بن حنبل : ج1 ص330 ، تاريخ دمشق لابن عساكر : ج1 ص185 ، المناقب للخوارزمي : ص23 و ص224 .
2- - للمزيد راجع الكافي اصول : ج1 ص211 ح7 .
3- - انظر مجمع البيان : ج7 وج8 .
4- - سورة النحل : الآية 43 .
5- - الكافي اصول : ج1 ص211 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص63 ب7 ح33205 .

...

------------------

مالَيسَ عَلينا ، أَمَرَهُم اللّه ُ عَزّ وَجَلّ أن يَسألُون قال : «فاسئلُوا أهلَ الذّكِرِ اِن كُنتُم لاتَعلَمُونَ» (1) فَأَمَرهُمُ أَن يَسأَلُونا ، وَلَيسَ عَلينا الجَواب ، إِن شِئنا أَجَبنا وَإن شِئنا

أَمسَكنا » (2) .

وفي رواية أبي بكر الحضرمي ، قال : « كنت عند أبي جعفر عليه السلام ودخل عليه الورد أخو الكميت ، فقال : جعلني اللّه فِداك إخترتُ لَكَ سَبعيِنَ مَسألةً ، مايحضرنِي مِنها مَسألةً واحِدةً .

فَقالَ : وَلا واحِدَة ياوَرد ؟ .

قال : بَلى قَد حَضَرني مِنها واحِدَة .

قالَ : وَما هِيَ ؟ .

قَال : قُوُلُ اللّه ِ تعالى : «فاسئَلُوا أَهلَ الذّكر إِنْ كُنْتُم لاتَعلَمُونَ»(3) مَنْ هُم ؟ .

قالَ : نَحنُ . قُلتُ : عَلَينا أَن نَسألكم ؟ .

قالَ : نَعم .

قُلتُ : عَليكُم أَن تُجيبونا ؟ .

قالَ : ذاكَ إلينا (4) .

الى غيرها من الرّوايات الواردة بهذا الشأن .

لكن لايخفى : انّ الامام عليه السلام قد أجاب عن بعض مصاديق الآية المباركة ، وانّ ذلك المصداق هم أنفسهم عليهم السلام لاعن ظاهرها الأوّلي ، لوضوح : انّ كون

ص: 382


1- - سورة النحل : الآية 43 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص212 ح8 ، وسائل الشيعة : ج27 ب7 ص65 ح33211 .
3- - سورة النحل : الآية 43 .
4- - وسائل الشيعة : ج27 ص64 ب7 ح33210 .

وَرَدَّ بعضُ مشايخنا هذه الأخبار لضعف السّند ، بناءا على إشتراك بعض الرّواة في بعضها وضعف بعضها في الباقي .

وفيه نظر ؛ لأن روايتين منها

------------------

الأنبياء عليهم السلام كانوا رجالاً لا ملائكة ، هو شيء يجيب عليه أهل الكتاب بالايجاب ، فيندفع إشكال خصوم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم القائلين - كما حكى عنهم القرآن :

«مَالِ هَذَا الرَسُولِ يَأكلُ الَّطعامَ وَيَمشِي فِي الأسواقِ» (1) .

وليس ظاهر الآية السؤال من أهل الكتاب عن كل شيء ، حتى يدعوهم الى اليهودية والنصرانية ، فانّ الآية عامة تشمل ذلك ، كما تشمل كل أهل ذكر ، والأئمة عليهم السلام من أظهر المصاديق ، كما انّ مارود في القرآن الحكيم من قوله تعالى : «ياأيُها الّذينَ آمنوا» (2) في الأوامر المرغوبة يكون الأئمة عليهم السلام من أظهر مصاديقها - كما ورد في النص ، والى غير ذلك .

( وردّ بعض مشايخنا هذه الأخبار ، لضعف السّند ، بناءاً على إشتراك بعض الرّواة في بعضها ) أي : في بعض تلك الاخبار بين القوي والضعيف ( وضعف بعضها ) أي : في بعض الرواة ( في الباقي ) أي : باقي الأخبار ، فرواة تلك الاخبار : امّا مشترك بين الضعيف والقوي ، وامّا ضعيف محض ولايمكن العمل بمثل هذه الاخبار غير الحجّة سنداً .

( وفيه ) أي : في هذا الرّد الذي ذكره بعض مشايخنا ( نظر ، لأنّ روايتين منها )

ص: 383


1- - سورة الفرقان : الآية 7 .
2- - سورة آل عمران : الآية 102 ، سورة النساء : الآية 19 .

صحيحتان ، وهما روايتا محمّد بن مسلم والوشّاء ، فلاحظ ، ورواية أبي بكر الحضرميّ حَسَنَة أو مُوثَّقَة ، نعم ثلاثُ روايات اُخَر منها لايخلو من ضعف ، ولايقدح قطعا .

وثانياً : انّ الظاهر من وجوب السؤال عند عدم العلم ، وجوبُ تحصيل العلم ، لا وجوبُ السؤال للعمل بالجواب تعبّداً ، كما يقال في العرف : سَلّ إن كنتَ جاهِلاً . ويؤيّده أنّ الآية واردة في اصول الدين

------------------

أي : من تلك الأخبار ( صحيحتان ، وهما روايتا محمد بن مسلم (1) والوشاء (2) فلاحظ ، ورواية أبي بكر الحضرميّ (3) حَسَنة أو مُوثَقَة ، نعم ثلاث روايات اخر منها ) سندها ( لايخلو من ضعف ، و ) لكن ( لايقدح ) ضعف بعض الأخبار في حجّية غير الضعيف منها ( قطعاً ) كما هو واضح .

( وثانياً : انّ الظاهر ) أي : المتبادر ( من وجوب السؤال عند عدم العلم ) حيث قال سبحانه : «فاسئَلُوا أَهلَ الذِكرِ إن كُنتُم لاتَعلَمُونَ» (4) ( وجوب تحصيل العلم ، لاوجوب السؤال للعمل بالجواب تعبّداً ) فهو ( كما يقال في العرف : سلّ إن كُنتَ جاهِلاً ) فانّ معناه : إذا جهلت شيئاً فاسئل عنه العلماء حتى تعلم به ، فاللازم : أن يحصل العلم بسؤال أهل الذّكر ، أما خبر الواحد ، فكثير ما لا يوجب العلم ، فلا تدلّ الآية على حجّية مثل هذا الخبر .

( ويؤيّده ) أي : الظاهر الذي ذكرناه ( : انّ الآية واردة في اصول الدين ،

ص: 384


1- - انظر الكافي اصول : ج1 ص211 ح7 ، وسائل الشيعة : ج27 ص63 ب7 ح33205 .
2- - انظر الكافي اصول : ج1 ص212 ح8 ، وسائل الشيعة : ج27 ص65 ب7 ح33211 .
3- - وسائل الشيعة : ج27 ص64 ب7 ح33210 .
4- - سورة النحل : الآية 43 .

وعلامات النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، التي لايوخَذُ فيها بالتعبّد إجماعاً .

وثالثاً : لو سلّم حمله على إرادة وجوب السؤال للتعبّد بالجواب ، لا لحصول العلم منه ، قلنا : إنّ المراد من أهل العلم ليس مطلق من علم ولو بسماع رواية من الامام عليه السلام ، وإلاّ

------------------

وعلامات النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، التي ) تحتاج الى العلم ، لما حقّق في محله : من انّ اصول الدين لايكتفى فيها بخبر الواحد ، وان كان الخبر صحيحاً و ( لايُؤخذ فيها ) أي : في اصول الدين ( بالتعبّد إجماعاً ) .

ومن المعلوم : انّ تخصيص المورد مستهجن ، بأن يقال : انّ اصول الدين وهي مورد الآية خارجة عنها .

لكن لا يخفى : عدم ورود هذا الاشكال ، لأنّ جواب أهل الذكر ، علم عرفي ، فاذا قيل : إذا لم تعرف الطريق ، فاسأل السُوّاق ، فلايراد الاّ أن يكون له حجّة على الطريق لا العلم الوجداني .

وكذلك اذا قال : ان كنت لاتعلم دواء مرض ولدك ، فاسأل الأطباء ، الى غير ذلك .

والآية مطلقة ، وفي مورد اُصول الدين بحاجة الى العلم بدليل خارج ، وذلك لايوجب تقييد الآية المباركة ، فهذا الايراد الثاني غير ظاهر الوجه .

( وثالثاً : لو سلّم حمله على إرادة وجوب السؤال للتعبّد بالجواب ، لالحصول العلم منه ) أي : من السؤال ( قلنا : انّ المراد من أهل العلم : ليس مطلق من علم ولو بسماع رواية من الامام عليه السلام ) فانّ سامع رواية أو روايتين أو مااشبه لايسمى من أهل الذكر .

( والاّ ) بأن كان المراد من أهل الذّكر : مطلق من علم شيئاً ولو رواية - مثلاً -

ص: 385

لدلّ على حجّية قول كلّ عالم بشيء ولو من طريق السمع والبصر ، مع أنه يصحّ سلبُ هذا العنوان من مطلق من أحسّ شيئاً بسمعه أو بصره .

والمتبادرُ من وجوب سؤال أهل العلم بناءا على إرادة التعبّد بجوابهم هو سؤالهم عمّا هم عالمون به ويعدّون من أهل العلم في مثله . فينحصر مدلول الآية في التقليد ، ولذا

------------------

( لدلّ ) قوله تعالى في الآية المباركة ( على حجّية قول كلّ عالم بشيء ، ولو من طريق السّمع والبصر ) من دون أن يكون من المجتهدين ، الّذين يفهمون الأحاديث ، ويطبقون الكبريات الكليّة على الصغريات الجزئية ، وبذلك يلزم حجّية قول كل إنسان يعلم مسألة واحدة حتى على المجتهد .

( مع انّه يصحّ سلب هذا العنوان ) أي : عنوان أهل الذكر ( من مطلق من أحسّ شيئاً بسمعه أو بصره ) أو سائر حواسه الخمس .

( و ) ذلك لأنّ ( المتبادر من وجوب سؤال أهل العلم - بناءا على إرادة التعبّد بجوابهم - ) لا العمل بأخبارهم عند حصول العلم من كلامهم ( هو : سؤالهم عمّا هم عالمون به ، ويعدّون من أهل العلم في مثله ) مثل سؤال المقلِد عن فتوى مرجعه ، فانّ المرجع يُعدّ عرفاً : من أهل الذكر في مثل الفتوى .

أمّا مثل سؤال المجتهد عن الفاظ الامام عليه السلام التي سمعها زُرارَة ، أو محمد بن مسلم ، فلايسمّى زُرارَة - بالنسبة الى المجتهد الجامع - من أهل الذكر ، خصوصاً إذا كان الرّاوي لايفهم معاني كلام الامام عليه السلام ، وانّما حفظ الفاظه ، كالأعجمي الذي يحفظ زيارة الجامعة ، أو ما أشبه ، فهل يُعدّ مثله : من أهل الذكر ؟ .

وعلى هذا : ( فينحصر مدلول الآية في التقليد ) فانّ المقلِد هو الذي يسأل مجتهده عمّا يعلمه المجتهد ، فيكون المجتهد من أهل الذكر ( ولذا ) أي : لظهور

ص: 386

تمسّك به جماعةٌ على وجوب التقليد على العاميّ .

وبما ذكرنا يندفع ، مايتوهّمُ من «أنّا نفرض الرّاوي من أهل العلم . فاذا وجب قبول روايته وجب قبول رواية مَن ليس من أهل العلم بالاجماع المركّب» .

------------------

الآية في سؤال المقلِد عن المجتهد ( تمسَّك به جماعة على وجوب التقليد على العاميّ ) .

لكن لا يخفى ، ضعف هذا الاشكال ، اذ المراد من الآية : سؤال أهل الذكر فيما هم فيه من أهل الذكر ، فيشمل ذلك حتى الرّواية الواحدة ولو من باب المناط ، ألا ترى : انّ المجتهد إذا لم يعلم حكم من أحرم من غير الميقات ، وعلم انّ راوياً ثقة ضابطاً ، عنده رواية واحدة عن الامام الصادق عليه السلام حول هذه المسألة ، يرى العرف : انه يلزم عليه السؤال عن هذا الرّاوي ، بمقتضى الآية المباركة ولو لم يكن الرّاوي من أهل الاستنباط ، بل ولو كان أعجمياً لا يفهم معاني الفاظ الامام عليه السلام .

وعلى أي حال : فقد قال المصنّف : ( وبما ذكرنا ) : من إنصراف أهل الذكر الى العلماء ، لامن حفظ رواية واحدة - مثلاً- ( يندفع مايتوهم : من أنّا نفرض الرّاوي من أهل العلم ) والاستنباط ، كالرواة الذين كانوا يعرفون الأحكام الشرعية من كلمات الائمة عليهم السلام ، كزُرارَة ومحمد بن مسلم والفضيل ، ومن أشبههم .

( فاذا وجب قبول روايته ) لأنه من أهل الذكر ، فهو من صغريات الآية المباركة ، كذلك ( وجب قبول رواية مَنْ ليس من أهل العلم ) من الرواة الذين رووا عن الائمة عليهم السلام ولو رواية واحدة ، أو ماأشبه ذلك .

وانّما نقول : بوجوب قبول قول مثل هذا الرّاوي ( بالاجماع المركّب ) اذ لم يفرق أحد بين الرّاوي العالم وغيره ، ولابين الرّاوي الذي أَخذ رواية واحدة عن

ص: 387

حاصلُ وجه الاندفاع : أنّ سؤال أهل العلم عن الألفاظ التي سمعها من الامام عليه السلام ، والتعبّدَ بقوله فيها ليس سؤالاً من أهل العلم من حيث انهم عالمون ، الا ترى انّه لو قال : سَل الفقهاء اذا لم تعلم ، أَو الأطبّاء ،

------------------

الامام عليه السلام ، أو أخذ روايات متعددة .

فانّ خبر الواحد ، إذا كان حجّة فهو حجّة في الجميع ، وإذا لم يكن حجّة فليس بحجّة في الجميع ، فليس هناك قول بالتفصيل ، وحيث كان خبر الواحد حجّة إذا كان صادراً من العالم ، كذلك هو حجّة إذا كان صادراً ممّن لا يعلم الاّ خبراً واحداً .

( حاصل وجه الاندفاع : أن ) هناك فرقاً بين سؤال المقلِد عن المجتهد الّذي هو من أهل الذكر وبين ( سؤال ) المجتهد من ( أهل العلم ) الذي حفظ رواية واحدة - مثلاً- بان يسأله المجتهد ( عن الألفاظ التي سمعها من الامام عليه السلام والتعبّد بقوله ) أي : بقول ذلك الرّاوي ( فيها ) أي في تلك الألفاظ .

فانّ سؤال المجتهد عن الرّاوي ، الذي حفظ رواية من الامام عليه السلام ( ليس سؤالاً من أهل العلم من حيث انّهم عالمون ) .

ومن المعلوم : انّ الآية تدل على وجوب السؤال من أهل العلم بما إنهم عالمون ، لا لأنّهم حفظوا رواية عن الامام ، وذلك لأنّ أهل الذكر لايطلق إلاّ على العالم بما انه عالم .

( الا ترى انّه لو قال : سَل الفقهاء إذا لم تعلم ، أو الأطباء ) إن كنت مريضاً ، أو المهندسين إذا كنت تريد بناء الدار ، تبادر الى الذهن ، انّ اللازم : سؤال الفقهاء من حيث هم فقهاء ، والأطباء من حيث هم أطباء ، والمهندسين من حيث هم مهندسين .

ص: 388

لايحتمل أن يكون قد أراد مايشمل المسموعات والمبصرات الخارجيّة من قيام زيد ، وتكلّم عمرو ، وغير ذلك .

ومن جملة الآيات ، قوله تعالى في

------------------

و ( لايحتمل أن يكون قد أراد مايشمل المسموعات والمبصرات الخارجيّة ) التي يحفظها الناس من الذين هم ليسوا بفقهاء ، ولا أطباء ، ولا مهندسين ( من ) مثل ( قيام زيد ، وتكلّم عمرو ، وغير ذلك ) ممّا يدرك بأحد الحواس الخمس .

وهكذا قوله تعالى : «فاسئلوا أهل الذكر» (1) فانه بمعنى : إسألوهم عمّا يعلمونه ويعدون من أهل العلم فيه ، فاللازم : سؤال أهل الذكر بما هم أهل الذكر ، والرّاوي الذي حفظ رواية واحدة ، أو ما أشبه ، لايسمّى أهل الذكر .

ولايخفى : انّ هذا الجواب أيضاً محل تأمل ، اذ أيّ مانع من عقل ، أو شرع ، أو عرف ، أن يسأل الانسان عن طريق النجف ممّن يعرف هذا الطريق فقط ، وإن لم يكن من أهل العلم بالطرق .

وكذلك بالنسبة إلى السؤال الفقهي ، والطبي ، والهندسي ، وغير ذلك ، فانّ من يعرفها ، عالم بالنسبة الى من لايعرفها .

ولهذا لم يفرّق الفقهاء ، بين السؤال من الرّاوي الّذي حفظ رواية واحدة عن الامام عليه السلام ، أو حفظ جملة من روايات واستنبطها أيضاً ، فكل جاهل في مورد جهله ولو كان من العلماء الكبار ، يلزم عليه : أن يسأل من كل عالم في مورده ، وإن كان من غير العلماء ، إذا كان ثقة ضابطاً .

( ومن جملة الآيات ) التي إستدل بها لحجّية خبر الواحد ( قوله تعالى في

ص: 389


1- - سورة النحل : الآية 43 .

سورة البرائة : « وَمِنهُم الَّذينَ يُؤذُونَ الَّنبيَّ ويقُولُونَ هُوَ اُذُن قُل اُذُنُ خَيرٍ لَكُم يُؤمِنُ بِاللّه ِ ويُؤمِنُ لِلمُؤمِنيِنَ » .

مدح اللّه - عزّ وجلّ - رسوله صلى اللّه عليه و آله وسلم ، بتصديقه للمؤمنين ، بل قرنه بالتصديق باللّه جلّ ذكره فاذا كان التصديق حسناً يكون واجباً .

------------------

سورة البرائة : «وَمنهُم» ) أي : من المنافقين ، لأنّ السورة في عداد ذكر جملة من صفات المنافقين الذين كانوا يُنافقون في مختلف جوانب الاسلام ( «الّذَّين يُؤذوُنَ النَّبيَّ ويَقوُلوُنَ هُوَ اُذنُ» ) .

والمراد بالاُذُن : إنه يستمع الى كل أحد ، من غير أن يرد عليه ، سواء كان الكلام صحيحاً أو باطلاً ، كما هو شأن الرجال العظام ذووا الهمم الكبار ، فانّ العظيم لايرد من الكلام الاّ ماكان ضاراً بالدّين أو الدنيا أو كان مورد النهي عن المنكر ، وأمّا ماعدا ذلك ، فانه يغضي عنه ، ويمرّ عليه مرور الكرام .

قال تعالى : ( «قُل اُذُنُ خَيرٍ لَكُم يُؤمِنُ بالِلّهِ وَيُؤمِنُ لِلمُؤمنيِن» ) (1) وتقريب الاستدلال بهذه الآية المباركة لحجّية خبر الواحد ، هو : إنه ( مدح اللّه عزّ وجلّ رسوله صلى اللّه عليه و آله وسلم بتصديقه للمؤمنين ) ممّا يدل على انّ تصديق المؤمن من الصفات الحسنة ، فالرّاوي الذي يروي عن الامام عليه السلام بما انّه مؤمن ، تصديقه حسن ، ومعنى حُسنَه : قبوله .

( بل قرنه ) أي جعل اللّه سبحانه وتعالى تصديق الرّسول للمؤمنين مقارناً ( بالتصديق باللّه جلّ ذكره ) حيث قال : «يؤمنُ باللّه وَيُؤمن للمؤمنين» (2) ( فاذا كان التصديق حسناً يكون واجباً ) إذ لم يقل أحد : بانّه يجوز التصديق وليس

ص: 390


1- - سورة التوبة : الآية 61 .
2- - سورة التوبة : الآية 61 .

ويزيد في تقريب الاستدلال وضوحاً مارواه في فروع الكافي ، في الحسن بابن هاشم ، أنّه كان لاسماعيل بن أبي عبد اللّه دنانير ، وأراد رجلٌ من قريش أن يَخرُجَ إلى اليمن . فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام : « يابُنَيَّ ! أما بلغك أنهَ يشرَبُ الخَمرَ ؟ قال : سَمِعتُ الناسَ يقولون . فقال : يابنّي! إنّ اللّه - عزّ

وجلّ - يَقُولُ :

------------------

بواجب .

( ويزيد في تقريب الاستدلال ) بالآية المباركة ( وضوحاً ، مارواه في فروع الكافي في ) الخبر ( الحسن ) ووجه كونه حسناً وليس بصحيح ، هو ( ب ) سبب وجود ( ابن هاشم ) في السنّد ، فانّ جماعة من الرجال قالوا : انّ ابن هاشم امامي ممدوح ، والمدح لايثبت عدالته حتى نلحقه بالصحاح .

لكن لايخفى : ان جماعة آخرين ذكروا عدالته ، فالخبر من الصحاح وليس من الحسان .

وهو : ( أنّه كان لاسماعيل بن أبي عبد اللّه ) الصادق عليه السلام ( دنانير ، وأراد رجل من قريش أن يُخرُج ) في تجارة ( إلى اليمن ) فأعطاه إسماعيل دنانيره ليبتاع بها بضاعة ، فأكلها ذلك التاجر ولم يأت منها بشيء ، لا الدنانير ولا البضاعة .

( فقال له ابو عبداللّه عليه السلام : يابني أما بلغك انّه ) أي : انّ هذا الرّجل التاجر الذي أعطيته دنانيرك ( يَشرَبُ الخَمرَ ) فلماذا سلّمته دنانيرك ؟ .

( قال ) إسماعيل : يا أبة ( سَمِعتُ الناسَ يَقُولُون ) عنه انّه يشرب الخمر ، ولم أتحقق ذلك بنفسي ، ولذا سلّمته الدنانير .

( فَقالَ ) له أبو عبداللّه عليه السلام : ( يابُنَّيَ ، إنَّ اللّه َ عَزّ وَجَلّ يَقُولُ ) في مدح

ص: 391

يُؤمِنُ باللّهِ ويُؤمِنُ للمؤمِنين . يقول : يصدّق اللّه ، ويصدّق المؤمنين ، فاذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم» .

------------------

نبيّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : ( «يُؤمنُ باللّه ِ ويؤمِنُ لِلمؤمِنين» (1) يقول : يصدّق اللّه ، ويصدّق المؤمنين ) فلما قال لك المؤمنون : انّه يشرب الخمر ، لزم عليك تصديقهم في : عدم ترتيب الأَثر على فعل ذلك التاجر ، وأن لاتسلمه دنانيرك ( ف ) انه ( إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم ) (2) .

ولا يخفى : ان إستدلال الامام عليه السلام بالآية المباركة ، دليل على لزوم تصديق المؤمنين ، حيث ان الرواة الثقاة لاشك في انهم من المؤمنين ، فاللازم : تصديقهم .

أمّا نص الخبرين : خبر المنافق في شأن نزول آية الاُذُن ، وخبر الصادق عليه السلام في قصة إسماعيل ، فقد روى القمي : « انّ عبد اللّه بن نفيل كان منافقاً ، وكان يقعد الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم وسلم ، فيسمع كلامه وينقله الى المنافقين ينمّ عليه ، فنزل جبرئيل على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فقال :

يامُحمّد إنَّ رَجُلاً مِنَ المُنافِقين ، ينمّ عَلَيكَ ، وَيَنقُلُ حَديثَكَ إلى المُنافِقين .

فقالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى اللّه عليه و آله وسلم : مَنْ هُوَ ؟ .

فَقالَ : الرَجُل الأَسودُ ، كَثيرُ الشَعَرِ ، يَنظُرُ بِعَينَيِنِ كَأَنَهُما قَدرانِ ، وَيَنطِقُ بِلِسانِه شَيطان .

فَدعاهُ رَسُول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فَاخبَرَهُ ، فَحَلَفَ إنّه لَمْ يَفعل ، فَقالَ رَسولُ اللّه ِ صلى اللّه عليه و آله وسلم قَد قَبِلتَ مِنكَ فَلاتَقَع .

ص: 392


1- - سورة التوبة : الآية 61 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص299 ح1 ، وسائل الشيعة : ج19 ص83 ب6 ح24207 (بالمعنى) .

...

------------------

فَرَجعَ إلى أصحابه فقال : إنّ مُحمَداً اُذُنُ أَخبرَهُ اللّه ُ : إنّي أَنّم وَأَنقُل أخبارَه فَقَبِل ، فَاخبَرتُه : إنّي لَمْ أَفعَلَ فَقَبِل .

فَأنزَلَ اللّه ُ عَلى نَبيّهِ صلى اللّه عليه و آله وسلم : «ومِنهُم الّذِينَ يُؤذُونَ النَبيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنُ» (1) الى آخر الآية » .

وأما خبر إسماعيل ففي الرّواية : « إنه كانَتْ لأَماعيلَ بن أبي عبد اللّه عليه السلام دَنانيرَ ، وَأَرادَ رَجُلٌ مِن قُريش أَن يَخرُج إلى اليَمَنِ ، فَقال إسماعيل : ياأَبةَ إنّ فُلاناً يُريدُ الخُروجَ إلى اليَمَن ، وَعِندي كَذا وَكذا دَيناراً فَتَرى أن أَدفَعها يَبتاعَ لي بِضاعَةً مِن اليَمن ؟ فَقال أبو عَبدِ اللّه ِ عليه السلام : يابُنيَّ أما بَلَغَكَ أنّه يَشرب الخَمر ؟ .

فَقالَ إسماعيل : هَكذا يَقوُلُ الناس .

فَقالَ : يابُنيّ لاتَفعَل .

فَعَصى أباه ، فَدفَعَ إِليه دَنانِيرهُ فاستَهلَكَها وَلَمْ يَأتِ بِشيءٍ مِنها ، فَخَرجَ إسماعيل وَقَضى إنّ أبا عَبداللّه ِ عليه الصلاةِ وَالسلامِ حَجّ ، وَحَجّ إسماعيل تِلكَ السَّنةِ ، فَجَعَل يَطوفُ البَيتَ وَهُو يَقولُ : اللّهُم اجرني وَأخلِف عَليَّ .

فَلَحِقَهُ أبو عبد اللّه عليه السلام فَهَمَزَهُ بيدهِ مِن خَلفِهِ وَقالَ لَهُ : مَه يابُنيَّ ، فَلا وَاللّه ِ مَالَكَ عَلى اللّه ِ هذا ، وَلاَ لَكَ أَن يُؤجِركَ ، وَلا يَخلُف عَليكَ ، وَقَد بَلَغكَ أنه يَشرَبُ الخَمر فائتمنته .

فَقال إسماعيل : ياأَبةِ إِني لَمْ أَرَهُ يَشرَبُ الخَمرَ ، وإنّما سَمِعتُ النَّاسَ يَقُولون .

ص: 393


1- - سورة التوبة : الآية 61 .

ويرد عليه :

أوّلاً : أنّ المرادَ بالاُذُن السريعُ التصديق والاعتقاد بكلّ مايسمع ، لامن يعمل تعبّداً بما يسمع من دون حصول الاعتقاد بصدقه . فمدحه عليه السلام ، بذلك ، بحسن ظنّه بالمؤمنين وعدم إتّهامهم .

------------------

فَقالَ أَبو عبد اللّه ِ عليه السلام : يابُنيَّ إنَّ اللّه َ عزّ وَجلّ يَقُولَ فِي كِتابه : «يؤُمنُ باللّه وَيُؤمِنُ لِلمُؤمِنين» (1) يقول : « يصدّق اللّه ويصدّق للمؤمنين » ، فاذا شَهِدَ عِندَك المُسلِمون فَصدِقهم » (2) .

( ويرد عليه أولاً : انّ المراد بالاذن : السريع التصديق والاعتقاد بكل مايسمع ) فاذا أخبر بشيء حصل له العلم من الخبر ( لامن يعمل تعبداً بما يسمع ، من دون حصول الاعتقاد بصدقه ) .

فان قلت : سرعة الاعتقاد لايُعدّ مدحاً ، لأنّ سريع الاعتقاد على خلاف المتعارف ، كسريع القطع ونحوه .

قلت : ( فمدحه عليه السلام بذلك ، بحسن ظنّه بالمؤمنين وعدم إتّهامهم ) وحسن الظنّ صفة حسنة في الانسان ، فلاتدل الآية على حجّية خبر الواحد .

لكن يرد عليه : انّ حسن الظّن ، الموجب لحسن الاعتقاد - ايضاً - أمر غير حسن ، لأنّ الحسن الاعتدال ، لا حسن الظّن ، أو سوء الظّن .

لايقال : فكيف قالوا : حسن الظّن من الصفات الحسنة ؟ .

لأنّه يقال : انّما الحسن حسن الظّن الذي يوجب إستقامة أمر المعاش والمعاد ،

ص: 394


1- - سورة التوبة : الآية 61 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص299 ح1 ، وسائل الشيعة : ج19 ص83 ب6 ح24207 (بالمعنى) .

وثانياً : انّ المرادَ من التصديق في الآية ليس جعلَ المخبر به واقعاً وترتيب جميع آثاره عليه ، إذ لو كان المرادُ به ذلك لم يكن اُذُن خير لجميع الناس . إذ لو أخبره أحدٌ بزنا أحد أو شربه أو قذفه

------------------

وهو في قِبال سوء الظنّ ، لا في قِبال الاعتدال .

لكن يشكل على إيراد الشيخ : بأنّ تصديق المؤمنين حسن ، وهو محل الشاهد في الآية المباركة ، لا انّ محل الشاهد : « اُذُن » وإنما ذكر اُذُن من باب المصداق ، فانّ من مصاديق التصديق للمؤمنين كون المصدّق اُذُناً .

هذا ، والكلام في الآية طويل ، نكتفي منه بهذا القدر ، وإنما كان القصد الالماع الى عدم ورود إيراد المصنّف رحمه اللّه على دلالة الآية على حجّية خبر الواحد .

( وثانياً : انّ المراد من التصديق في الآية ) في قوله سبحانه : « يؤمن للمؤمنين » (1) هو : ترتيب بعض الآثار كعدم عقاب المخبر ، ولو كان عالماً بكذبه أيضاً .

لا انّ المراد : ترتيب جميع آثار الواقع ، الذي هو معنى الحجّية ، أي : ( ليس جعل المخبر به واقعاً وترتيب جميع آثاره ) أي : آثار المخبر به ( عليه ) أي : على المخبر به ، بأن يرتّب جميع آثارالخبر عليه .

( اذ لو كان المراد به ) أي : بالتصديق ( ذلك ) أي : ترتيب جميع آثار الواقع على الخبر ( لم يكن « اُذُن » خير لجميع الناس ) المؤمنين .

( اذ لو أخبره أحد : بزنا أحد ، أو شربه ، أو قذفه ) لمؤمن أو مؤمنة ، والمراد

ص: 395


1- - سورة التوبة : الآية 61 .

أو إرتداده ، فقتله النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم أو جلده ، لم يكن في سماعه ذلك الخبر خيرٌ للمخبر عنه ، بل كان محض الشرّ له ، خصوصاً مع عدم صدور الفعل منه في الواقع .

نعم ، يكون خيراً للمخبر من حيث متابعة قوله وإن كان منافقاً مؤذياً للنبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ،

------------------

بالقذف : عبارة عن رمي إنسان بالزنا ، أو اللواط ، أو السحق ، أو ماأشبه ذلك ( أو إرتداده ) بأن أخبر إنسان : بارتداد إنسان آخر .

( فقتله النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ) فيما لو إستحق القتل ( أو جلده ) فيما لو إستحق الجلد ، أو ماأشبه ذلك من العقوبات ( لم يكن في سماعه ) صلى اللّه عليه و آله وسلم وسلم وتصديقه ( ذلك الخبر ، خير للمخبر عنه ) وهو المقتول ، أو المجلود ، أو مردود الشهادة - حسب قوله سبحانه : «وَلاَ تَقبَلوُا لَهُم شَهادَةً أَبَداً» (1) - أو المغرَّب في بعض أقسام الزنا ، حيث التغريب وحلق الرأس ، أو ماأشبه ذلك .

( بل كان محض الشرّ له ، خصوصاً مع ) كذب الخبر و( عدم صدور الفعل منه في الواقع ) فانّه إذا صدّق المخبِر ، ورتب على خبره آثار الواقع ، ولم يكن الخبر مطابقاً للواقع ، كان ترتيب الأثر على الخبر شراً محضاً بالنسبة الى المخبرَ عنه .

( نعم ، يكون ) التصديق ( خيراً للمخبر ، من حيث متابعة ) النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ( قوله ) فلم يردّه ( وإن كان ) المخبر ( منافقاً مؤذياً للنبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ) كما تقول الآية :- «وَمِنهُمُ الذّيِنَ يُؤذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ اُذُنٌ» (2) .

ص: 396


1- - سورة النور : الآية 4 .
2- - سورة التوبة : الآية 61 .

على مايقتضيه الخطابُ في « لكم » .

فثبوتُ الخير لكلّ من المخبر والمخبر عنه لايكونُ الاّ إذا صدّق المُخبِر بمعنى إظهار القبول عنه وعدم تكذيبه وطرح قوله رأساً مع العمل في نفسه بما يقتضيه الاحتياط التامّ بالنسبة الى المخبر عنه .

فان كان المخبر به ممّا يتعلّق بسوء حاله لايؤذيه في الظاهر ، لكن

------------------

فانه لو صدَّق النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم قول المنافق بترتيب جميع آثاره ، فأجرى الحد ونحوه على المخبر عنه ، لم يكن الاّ خيرا للمخبر فقط ، لا لجميع المؤمنين بينما ظاهر الآية ( على مايقتضيه الخطاب في « لكم » ) : ان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم خير لجميع المؤمنين الذين آمنوا به ، سواء آمنوا واقعاً كالمؤمنين الحقيقيين أو لم يؤمنوا واقعاً ، وانّما ظاهراً فقط كالمنافقين .

إذن : ( فثبوت الخير لكل من المخبِر والمخبر عنه ) سواء كان المخبِر مؤمناً ، أو منافقاً، والمخبَر عنه مؤمناً أو منافقاً ( لايكون إلاّ إذا صدّق ) النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ( المُخبِر، بمعنى : إظهار القبول عنه ، وعدم تكذيبه ، و ) عدم ( طرح قوله رأساً ) من ناحية .

( مع العمل في نفسه بما يقتضيه الاحتياط التام ) في الدّماء ، والفروج ، والأموال ، ووجاهات الناس ، وغير ذلك ، وهو لايكون إلاّ بأن يقبل الخبر ، الذي جاء به المنافق بحسب الظاهر ، ولكن لايرتب الآثار على المخبر عنه ، بل يكون صلى اللّه عليه و آله وسلم في علمه محتاطاً ( بالنّسبة الى المخبر عنه ) .

من ناحية اخرى ( فان كان المخبر به ) أي : الخبر ( ممّا يتعلّق بسوء حاله ) أي : حال المخبَر عنه ، بأن يقول المخبِر - مثلاً : فلان شارب الخمر ، أو لائط ، أو زانٍ ، أو سارق ، أو ما أشبه ذلك ( لايؤذيه ) النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ( في الظاهر ) بالضرب ، والحدّ ، والتغريب ، وحلق الرأس ، وعدم قبول الشهادة ، ونحو ذلك ( لكن

ص: 397

يكون على حذر منه في الباطن ، كما كان هو مقتضى المصلحة في حكاية إسماعيل المتقدّمة .

ويؤيّد هذا المعنى :

------------------

يكون ) النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ( على حذر منه ) أي : من المخبر عنه ( في الباطن ) وواقع الأمر .

( كما كان هو مقتضى المصلحة في حكاية إسماعيل المتقدِّمة ) فانّه كان من المصلحة اظهار قبول الخبر من النّاس في انه يشرب الخمر ، فلايتعمد على المخبر عنه في إعطائه مال التجارة ، لكن مع عدم ايذاء المخبر عنه ، وعدم الاعتماد عليه في الباطن ، فلا يستأمنه في إعطائه دنانيره للتجارة .

والحاصل : انّ الأمر دائر بين ثلاثة اُمور :-

الأوّل : الاعتماد على خبر المخبِر في كل الآثار حتى في إجراء الحدّ على المخبرَ عنه .

الثاني : عدم الاعتماد على خبر المخبِر وتكذيبه .

والثالث : الاعتماد على خبره بعدم تكذيبه ، مع عدم الاعتماد عليه في إجراء الآثار على المخبرَ عنه .

ومقتضى كونه صلى اللّه عليه و آله وسلم خيراً للكُلّ ، - حسب قول اللّه تعالى : - «اُذُنُ خَيرٍ لَكُم » (1) - هو : المعنى الثالث ، لأنّ في كلا المعنيين الأوّلين ، لا يكون خيراً للكُلّ ، وانّما يكون خيراً للمخبَر عنه فقط أو خيراً للمخبِر فقط .

( ويؤيد هذا المعنى ) الذي ذكرناه : من انّ المراد من التصديق : إظهار القبول

ص: 398


1- - سورة التوبة : الآية 61 .

ما عن تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام ، من أنّه يصدّق المؤمنين لأنّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، كان رؤوفاً رحيماً بالمؤمنين .

فانّ تعليل التصديق بالرّأفة والرّحمة على كافة المؤمنين ينافي إرادة قبول قول أحدهم على الآخر بحيث يترتّب عليه آثاره وإن أنكر المخبر عنه وقوعه ، إذ مع الانكار لابّد عن تكذيب أحدهما ، وهو مناف لكونه اُذُنَ خير ورؤوفاً ورحيماً بالجميع

------------------

من المخبِر فقط ، من دون ترتيب الآثار على المخبرَ عنه ( ماعن تفسير العياشي ، عن الصادق عليه السلام : من انّه يصدّق المؤمنين ، لأنّه صلى اللّه عليه و آله وسلم كان رؤفاً رحيما بالمؤمنين ) (1) .

والفرق بين الرأفة والرّحمة إذا ذكرا معاً : ان الرأفة قلبي ، والرحمة عملي .

وإنما كان هذا الخبر مؤيداً لما ذكرناه من المعنى فلمّا ذكره المصنّف بقوله : ( فانّ تعليل التّصديق بالرّأفة والرّحمة على كافة المؤمنين ) انّما يناسب ارادة التصديق بمعنى : إظهار القبول ظاهراً ، وعدم ترتيب الآثار واقعاً على المخبَر عنه :

وهذا ( ينافي إرادة ) التصديق بمعنى : ( قبول قول أحدهم ) وهو المخبر ( على ) ضرر ( الآخر ) وهو المخبر عنه ( بحيث يترتب عليه ) أي : على وقوع المخبر ( آثاره ) أي : آثار الخبر ( وإن أنكر المخبَر عنهُ : وقوعه ) اي : وقوع المخبَر به ، (إذ مع الإنكار ، لابدّ عن تكذيب أحدهما وهو مناف لكونه اُذُن خير ورؤوفاً ورحيماً بالجميع ) فاذا أخبر زيد - مثلاً - النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم بأنّ عمرواً زنا ، فاذا رَتبّ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم آثار الزنا على عمرو ، لم يكن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم خيراً بالنسبة الى عمرو ،

ص: 399


1- - مصباح المتهجد : ص495 ، تفسير العياشي : ج2 ص101 ح83 ، تفسير الصافي : ص 710 .

فتعيّن إرادة التصديق بالمعنى الذي ذكرنا .

ويؤيدّه أيضاً : ما عن القميّ رحمه اللّه في سبب نزول الآية : « أنّه نَمَّ منافقٌ على النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فأخبره اللّه ذلك ، فأحضره النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم وسأله ، فحلف : أنه لم يكن شيء ممّا ينّم عليه ، فقبل منه النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم فأخذ هذا الرجلُ بعد ذلك يطعن على النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ويقول : إنه يقبلُ كلَّ مايسمعُ . أخبره اللّه أني أنّم عليه وأنقل أخباره ، فقبل ، وأخبرته أنّي لم أفعل ، فقبل .

------------------

وانما يكون خيراً بالنسبة الى زيد فقط ، كما إنه اذا كذب زيداً ، يكون خيراً بالنسبة الى عمرو فقط ، لا بالنسبة الى زيد ، فلا يكون رؤوفاً رحيماً بالنسبة الى جميع المؤمنين ، إذن ( فتعين إرادة التصديق بالمعنى الذي ذكرنا ) آنفاً .

( ويؤيده أيضاً ما عن القميّ رحمه اللّه في سبب نزول الآية ، انّه نَمَّ منافقٌ ) من النميمة ، بمعنى : انه نقل الأخبار السيئة الى هذا وذاك ( على النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ) كذباً ( فأخبره اللّه ذلك ) أي : انّ اللّه اخبر نبيه عن فعل النّمام ( فاحضره ) أي : احضر النمّام ( النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم وسأله ) لماذا ينم عليه ؟ .

( فحلف ) ذلك النّمام على ( أنه لم يكن شيء ممّا ينم عليه ) وانه لم يكن نمّاماً .

( فقبل منه النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ) ولم يترتب الأثر على نميمته ، بان يعاقبه ، او يطرده ، أو ما أشبه .

( فأخذ ) أي : بدأ ( هذا الرّجل ) النمّام ( بعد ذلك ، يطعن على النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ويقول : إنه يقبلُ كلّ ما يسمعُ ، أخبره اللّه : أني أنمّ عليه وأنقل أخباره ، فقبل ) من اللّه ما اوحى اليه ، فأحضرني ( وأخبرته : أني لم أفعل ، فقبل ) قولي ايضاً ، فهو اُذُن

ص: 400

فرّده اللّه - تعالى - بقوله لنبيّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : « قُل اُذُنُ خَيرٍ لَكُم » .

ومن المعلوم : انّ تصديقه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، للمنافق ، لم يكن بترتيب آثار الصدق عليه مطلقاً .

وهذا التفسيرُ صريح في أنّ المراد من المؤمنين المقرّون بالايمان من غير إعتقاد ، فيكون الايمانُ لهم على حسب إيمانهم ،

------------------

يقبل من الجميع ( فردّه اللّه تعالى بقوله لنبيه صلى اللّه عليه و آله وسلم : «قُل اُذُنُ خيرٍ لكم (1) » ) (2) .

هذا ( ومن المعلوم : انّ تصديقه صلى اللّه عليه و آله وسلم للمنافق ، لم يكن بترتيب آثار الصدق عليه ) ، أي على خبره ( مطلقاً ) .

فانه لم يرتب الآثار ، بأن يجعل المنافق في مكانته السابقة ، من كونه انساناً مؤمناً واقعياً ، كما إنه لم يطرده من عنده ، بأن لا يصدقه حتى ظاهرياً ، فانّه لو صدّق المنافق واقعاً كان معناه : عدم تصديق اللّه سبحانه وتعالى ولو إنه طرد المنافق لم يكن اذنُ خير بالنسبه إليه وإنما فعل شيئاً متوسطاً ، وهو : المعنى الثالث الذي ذكرناه .

( وهذا التفسير صريح في أنّ المراد من المؤمنين ) هنا : المنافقون ، خصوصاً بقرينة صدر الآية ، حيث قال سبحانه : « ومِنهُم الذَّينَ يؤُذوُنَ النَّبيَّ » ( المقرون بالايمان ) ظاهراً ( من غير إعتقاد ) كما هو شأن المنافق .

( فيكون الايمان لهم ) من النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم وسلم حسب قوله سبحانه : « يؤمن للمؤمنين » ( على حسب إيمانهم ) أي : حسب إيمان اولئك المنافقين .

فكما إن ايمانهم ليس الاّ مجرد إظهار القبول ، بدون ترتيب الآثار على قول

ص: 401


1- - سورة التوبة : الآية 61 .
2- - تفسير القميّ : ج1 ص300 .

ويشهدُ بتغاير معنى الايمان في الموضعين ، مضافاً إلى تكرار لفظه ، تعديتُه في الأوّل بالباء وفي الثاني باللام ، فافهم .

------------------

النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم - كما هو شأن المنافق - كذلك إيمانه صلى اللّه عليه و آله وسلم بالمنافقين لا يكون الاّ بمجرد إظهار القبول ، بدون ترتيب آثار الواقع .

لكن لا يخفى : ان المعنى الذي ذكره المصنّف ، غير ظاهر من الآية المباركة ، فانّ الظاهر : انّه صلى اللّه عليه و آله وسلم وسلم يؤمن لنفع من أظهر الايمان ، فان كان مؤمناً واقعياً رتَّبَ الآثار أيضاً ، وإن كان مؤمناً ظاهرياً لا يرتّب الآثار ، لمحذور في ترتيب الآثار ، لا انّ الآية في صدد عمله صلى اللّه عليه و آله وسلم مع المنافق فقط ، لأنّ قوله تعالى : « ويؤمن للمؤمنين» (1) كالكبرى الكلية لقوله تعالى : «خيرٌ لكم » (2) .

وبذلك ظهر ان ما يأتي من إستشهاد المصنّف رحمه اللّه لما ذكره من المعنى ، محل تأملّ حيث قال : ( ويشهد بتغاير معنى الايمان في الموضعين ) أي : في قوله سبحانه : «يؤمن باللّه» ، وقوله سبحانه : «ويؤمن للمؤمنين» امران :

الاول : ( مضافاً الى تكرار لفظه ) فانّه لو كان المراد من الايمان : معنى واحداً ، لكان مقتضى البلاغة أن يقول - مثلاً - : يؤمن باللّه وبالمؤمنين ، أو يقول يؤمن باللّه وللمؤمنين ، بلا تكرار « ويؤمن » ( تعديته ) أي : الايمان ( في الأوّل : بالباء ) الذي هو للالصاق ( وفي الثاني : باللام ) الذي هو للانتفاع .

( فافهم ) فانّ الظاهر من الفرق ، هو : انّ الايمان باللّه يكون بذات اللّه سبحانه ،

ص: 402


1- - سورة التوبة : الآية 61 .
2- - سورة التوبة : الآية 61 .

وأما توجيهُ الرواية فيحتاجُ إلى بيان معنى التصديق ، فنقول : إنّ المسلم إذا أخبر بشيء فلتصديقه معنيان .

------------------

أمّا الايمان بالمؤمنين فلا يكون بذواتهم ، بل يكون الايمان في نفعهم . فانه يقال : آمنت باللّه ، ولا يقال : آمنت بزيد . ( وأما توجيه الرواية ) أي : رواية إسماعيل (1) ( فيحتاج الى بيان معنى التصديق ) فانّ التصديق له معنيان : -

الاول : انه اذا لم تعلم بانّ شخصاً أحسن أو اساء ، فاحمله على أحسنه .

الثاني : قل : انّه مطابق للواقع ، فرتب آثار الواقع عليه .

مثلاً : اذا لم يعلم بانّ المقبل إليه سبّه أو سلّم عليه ، قال : إنه سلم عليه .

لكن ليس معنى ذلك : إنه يجب ترتيب آثار الواقع عليه ، كوجوب جوابه ، خصوصاً إذا كان في الصلاة - مثلاً - .

ورواية إسماعيل أيضاً كذلك ، فانها تقول : إحمل قول المؤمنين في فلان بانّه شارب الخمر ، على أحسنه ، أي : إنهم صادقون ، ولكنها لا تقول : رتب آثار الواقع ، بأن تضربه حدّ شرب الخمر ، بينما حجّية خبر العادل معناه : إجلده حدّ الخمر .

إذن : فرواية إسماعيل لا تدلّ على حجّية خبر العادل ، وإنّما تدل على المعنى الأول .

والى ما ذكرناه أشار المصنّف بقوله ( فنقول : انّ المسلم إذا أخبر بشيء ، فلتصديقه معنيان ) على النحو التالي :

ص: 403


1- - الكافي فروع : ج5 ص299 ح1 ، وسائل الشيعة : ج19 ص83 ب6 ح24207 .

أحدهما : ما يقتضيه أدلةُ تنزيل فعل المسلم على الصحيح والأَحسن ،

فانّ الاخبار ، من حيث أنّه فعل من أفعال المكلّفين ، صحيحه ما كان مباحاً وفاسده ما كان نقيضه ، كالكذب والغيبة ونحوهما ، فحملُ الاخبار على الصادق حملٌ على أحسنه .

------------------

( أحدهما : ما ) أي : المعنى الذي ( يقتضيه أدلة تنزيل فعل المسلم على الصّحيح والأحسن ) مثل : قوله عليه السلام : « ضَع أمرَ أَخِيكَ على أحسَنِهِ » (1) .

والمراد بالأحسن : الحسن ، كما هو واضح ، مثل قوله سبحانه :

«وَلاَ تَقرَبوُا مَالَ اليَتِيم إلاّ بالَتِي هِيَ أَحسَنُ» (2) .

( فانّ الاخبار من حيث انّه فعل من أفعال المكلّفين ، صحيحه : ما كان مباحاً ) كالخبر الصادق ، والعمل الصحيح ، والقول الجميل ، مثل : انه سلّم ، لا انه سبّ .

( وفاسده ما كان نقيضه ) اي : نقيض المباح ( كالكذب ، والغيبة ونحوهما ) من السبّ ، والبُهتان ، وما أشبه ذلك .

فاذا رأينا مسلماً يقول كلاماً لم نعلم إنه سبّ أو دعاء ، لا نحمله على السبّ ، وإذا رأينا مسلماً يشرب مايعاً لا نعلم انه خمر أو ماء ، لا نقول : انّه خمر ، وهكذا .

( فحمل الأخبار على الصّادق ، حمل على أحسنه ، ) وصحيحه .

ص: 404


1- - الكافي اصول : ج2 ص362 ح3 ، وسائل الشيعة : ج12 ص302 ب161 ح16361 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج12 ص10 .
2- - سورة الانعام : الآية 152 .

والثاني : هو حملُ اخباره ، من حيث انّه لفظ دالّ على معنى ، يحتمل مطابقته للواقع وعدمها ، على كونه مطابقاً للواقع بترتيب آثار الواقع عليه .

والمعنى الثاني هو الذي يراد من العمل بخبر العادل .

وأمّا المعنى الأوّل ، فهو الذي يقتضيه أدلّة حمل فعل المسلم على الصحيح والأحسن .

وهو ظاهر الأخبار الواردة في : أنّ من حقّ المؤمن على المؤمن أن يصدّقه

------------------

( والثاني : هو حمل اخباره ، من حيث انه لفظ دال على معنى ، يحتمل مطابقته للواقع وعدمها ) أي : عدم مطابقتها للواقع ، نحمله ( على كونه مطابقاً للواقع ) وذلك ( بترتيب آثار الواقع عليه ) فاذا أخبرنا عادل عن أحد المعصومين عليه السلام حكماً ، أخذنا به ، وعملنا عليه ، وقبلنا مطابقته للواقع بترتيبنا آثار الواقع عليه .

( والمعنى الثاني : هو الذي يراد من العمل بخبر العادل ) لأنّ معنى حجّية خبر العادل : حمله على الصدق ومطابقته للواقع بترتيب آثار الواقع عليه ، فاذا قال : انّ الامام الصادق عليه السلام قال : صلاة الجمعة واجبة ، نصليها ، وإذا قال : قال الامام الصادق عليه السلام : العصير العنبي حرام ، نترك شربه .

( وأمّا المعنى الأول : فهو الذي يقتضيه أدلّة حمل فعل المسلم على الصحيح والأحسن ) وهو المراد من التصديق في رواية إسماعيل ، حيث قال الامام عليه السلام : بأنه على إسماعيل تصديق المسلمين فيما يقولون من انّ فلاناً يشرب الخمر ، فيكون معناه : انّه يلزم على إسماعيل ان يقول : إن المسلمين صادقون في قولهم لا انهم كاذبون .

( وهو ظاهر الأخبار الواردة في : انّ من حق المؤمن على المؤمن ، أن يصدّقه

ص: 405

ولا يتّهمه ، خصوصاً مثل قوله عليه السلام : « يا أَبا مُحَمّد كَذِّب سَمعَكَ و بَصَرِكَ عَن أخيك ، فإن شَهِدَ عِندَك خَمسُونَ قَسامَة أنّه قالَ قَولاً ، وَقَالَ : لَم أَقُلهُ ، فَصَدِّقه وكَذبهُم ، الخبر » .

------------------

ولا يتّهمه ) فانّه وردت جملة من الرّوايات بهذا المعنى كما ذكرنا جملة منها في الفقه ، « الآداب والسنن » (1) .

( خصوصاً مثل : قوله عليه السلام ) لأحد الرواة وهو : أبو محمد : ( يَا أبا مُحَمّد ، كَذِب سَمعَكَ وبَصَرِكَ عَن أخِيكَ ، فإن شَهِدَ عِندَكَ خَمسُونَ قسامَة : أنّه قَالَ قَولاً ، وَقالَ : لَم أقُلهُ ، فَصدِقهُ وَكَذِبهُم ) الى آخر ( الخبر ) (2) .

ومن أمثلة القسامة : ان إنساناً لو ادّعى إنّ شخصاً قتل أباه - مثلاً - فانه لوث بالنسبة الى ذلك الشخص ، فاللازم على المدعي : أن يأتي هو وأقربؤه ومن أشبه بخمسين قسماً على صدق قوله : انّ فلاناً قاتل ، فان لم يأت المدعي بذلك ، حلف المتهم وأقرباؤه خمسين قسماً بأنه بريء من القتل ، فعلى الأول : يثبت القتل ، وعلى الثاني : يسقط الاتهام .

وفي هذه الرواية يقول - الامام عليه السلام : اذا قال لك خمسون قسامة : ان فلاناً سبّك - مثلاً - وقال هو : اني لم أسبّك ، فخذ بكلامه لا بكلامهم ، بمعنى : انّه لا يرتب أثر السبّ على كلام القسامة ، لا إنه يكذبهم ويقول لهم : أنتم كاذبون وهو صادق .

ص: 406


1- - راجع موسوعة الفقه : ج94 - 97 للشارح .
2- - ثواب الاعمال : ص295 ح1 ، الكافي روضة : ج8 ص147 ح125 ، اعلام الدين : ص405 ، بحار الانوار : ج75 ص214 ب65 ح11 و ص255 ب66 ح40 ، وسائل الشيعة : ج12 ص295 ب157 ح16343 .

فانّ تكذيب القسامة ، مع كونهم أيضاً مؤمنين ، لا يراد منه إلاّ عدم ترتيب آثار الواقع على كلامهم . لا ما يقابل تصديق المشهود عليه ، فانّه ترجيح بلا مرجّح ، بل ترجيح المرجوح . نعم ، خرج من ذلك مواضع وجوب قبول شهادة المؤمن على المؤمن وإن أنكر المشهود عليه .

وأنت إذا تأمّلتَ هذه الرّواية ولا حظتها

------------------

( فانّ تكذيب القسامة مع كونهم أيضاً مؤمنين ، لا يراد منه إلاّ عدم ترتيب آثار الواقع على كلامهم ) بأن لا يقول : انّه سبّ ، فيجري عليه الحد - مثلاً - كما إذا لم يجتمع في القسامة شروط الشهادة ، اذ لا يلزم ان يكون القسامة عدولاً .

( لا ما يقابل ) أي : ليس المراد : تكذيبهم في الظاهر ، في مقابل ( تصديق المشهود عليه ، فانّه ) أي : تصديق المشهود عليه وتكذيبهم ( ترجيح بلا مرجّح ) فانه لماذا يكذب القسامة ، ويصدق الانسان الواحد .

( بل ) هو ( ترجيح المرجوح ) على الراجح ، اذ من الواضح : ان القبول من الخمسين ، أرجح من قبول الواحد .

لا يقال : فاذا كان الميزان ذلك ، فلماذا يقبل من الشاهدين في مثل القتل وما أشبه ؟ . ويقبل من الشهود الأربعة في مثل الزنا وما أشبه ؟ .

فانه يقال - كما أجاب المصنّف - : ( نعم ، خرج من ذلك مواضع وجوب قبول شهادة المؤمن على المؤمن وإن أنكر المشهود عليه ) سواء كانت الشهادة في الماليات بواحد ويمين ، أو في غير الماليات بشاهدين ، أو في مثل الزنا ونحوه بأربعة شهود .

( وأنت إذا تأمّلت هذه الرّواية ولاحظتها ) وهي : قوله عليه السلام : يا أبا محمد ،

ص: 407

مع الرواية المتقدّمة في حكاية إسماعيل ، لم يكن لك بدّ من حمل التصديق على ما ذكرنا .

وإن أَبيتَ إلاّ عن ظهور خبر إسماعيل في وجوب التصديق بمعنى ترتيب آثار الواقع ،

------------------

كذّب سمعك وبصرك عن أخيك ( مع الرّواية المتقدّمة في حكاية إسماعيل ) حيث قال عليه السلام : اذا شهد عندك المسلمون فصدقهم (1) ( لم يكن لك بُدّ ) أي : علاج ( من حمل التصديق ) في هذه الرّواية ( على ما ذكرنا ) .

فانّ قوله عليه السلام في رواية إسماعيل : « صدِّقهم » ، وفي هذه الرواية : « صدِّقه » ، متحدان من حيث اللّسان والمؤدى ، فالمراد بالتصديق فيهما : الحمل على الصحة ، لا انّ المراد : ترتيب الآثار ، فهذين الخبرين لا يدلان على حجّية خبر العادل وإنما يدلان على حمل قوله على الصحيح ، من دون ترتيب الأثر .

( وإن أبيتَ إلاّ عن ظهور خبر إسماعيل في وجوب التصديق ) الذي يترتب عليه الآثار ، كما نقول ذلك في خبر العادل ، وقلت : انّ خبر إسماعيل ليس معناه : حمل فعل الغير على الصحة بتصديق المسلمين الذين قالوا : بأنّ فلاناً يشرب الخمر ظاهراً فحسب ، وإنما خبر إسماعيل ( بمعنى ترتيب آثار الواقع ) على ما يذكره المسلمون .

وإنما يكون الإباء ، لأن ظاهر خبر اسماعيل : ترتيب الاثار على قول المؤمنين ، باسترجاع الدنانير من التاجر ، الذي كان متهماً عند المؤمنين ، فليس معنى تصديق

ص: 408


1- - الكافي فروع : ج5 ص299 ح1 ، وسائل الشيعة : ج19 ص83 ب6 ح24207 .

فنقول : إنّ الاستعانة بها على دلالة الآية خروجٌ عن الاستدلال بالكتاب إلى السنّة ، والمقصود هو الأوّل . غاية الأمر كَونُ هذه الرّواية في عداد الرّوايات الآتية إن شاء اللّه تعالى .

ثمّ إنّ هذه الآيات على تقدير تسليم دلالة كلّ واحد منها على حجّية الخبر إنّما تدلّ ، بعد تقييد المطلق منها الشامل لخبر العادل

------------------

المؤمنين في خبر إسماعيل : مجرد الاستماع من المؤمنين وعدم الرد عليهم ، وإنما هو بمعنى ترتيب الآثار .

( فنقول : إنّ الاستعانةَ بها ) أي : برواية اسماعيل - حسب هذا الظاهر المدعى - ( على دلالة الآية خروج عن الاستدلال بالكتاب ، الى السنة ، و ) الحال انّ ( المقصود هو : الاوّل ) أي : انّ المقصود في الحال الحاضر ، هو الاستدلال على حجّية الخبر الواحد بالآيات ، كقوله تعالى : « ويؤمن للمؤمنين » (1) لا بالسنّة كقوله عليه السلام في خبر إسماعيل : « إذا شهد عنك المسلمون فصدّقهم » (2) .

نعم ( غاية الأمر كَون هذه الرواية ) المروية في قصة اسماعيل جعلها ( في عِداد الروايات الآتية إنشاء اللّه تعالى ) .

لكنّكَ قد عرفت : ان نفس الآية دليل على الحجّية بدون الاحتياج الى الاستعانة بخبر إسماعيل ، وإن كان خبر اسماعيل - أيضاً - دليلاً بنفسه .

( ثم انّ هذه الآيات ، على تقدير تسليم دلالة كلّ واحد منها على حجّية الخبر ، إنّما تدلّ بعد تقييد المطلق منها ) أي ، من هذه الآيات ( الشامل لخبر العادل

ص: 409


1- - سورة التوبة : الآية 61 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص299 ح1 ، وسائل الشيعة : ج19 ص83 ب6 ح24207 .

وغيره بمنطوق آية النبأ ، على حجّية خبر العادل الواقعيّ أو من أخبر عدل واقعي بعدالته .

بل يمكن انصراف المفهوم

------------------

وغيره ) من خبر الفاسق ، فانّه يجب أن يقيِّد المطلق منها ( بمنطوق آية النبأ ) التي تدل ( على حجّية خبر العادل الواقعي ، أو من أخبر عدل واقعي بعدالته ) .

فانّه بعد تقييد المطلق بالمقيد ، يستفاد من مجموع الآيات : حجّية خبر العادل الواقعي ، الذي احرزنا عدالته بالوجدان ، أو أحرزنا عدالته باخبار عادل آخر ، يكون منزلاً خبره منزلة القطع .

فالعدالة شرط ، ونتيجته : إنّه اذا أخبر إنسان نقطع بعدالته ، أو أخبر عادل آخر ، أو عادلان : بعدالته ، وعملنا بذلك الخبر ، ثم ظهر الاشتباه وتبين انّ الخبر لم يكن خبر عادل ، وجب علينا ترتيب آثار غير العادل عليه .

فاذا كان الرّاوي قد أخبر - مثلاً - : بأنّ الامام عليه السلام قال : عشر رضعات ليست محرَّمة ، واتخذ السامع الخبر ، زوجة هي اخته من الرّضاعة بعشر رضعات ، ثم ظهر عدم عدالة الرّاوي ، ممّا يوجب شمول دليل الرّضاع المحرم لعشر رضعات أيضاً ، لزم على الزوج مفارقة الزوجة فوراً ، وعليها عدة وطيء الشبهة من الرجل ، ولا يرث أحدهما الآخر ، الى آخر الاحكام المرتبة على الوطي ، الذي ليس بنكاح صحيح ، ممّا ليس بزنا عمدي أيضاً .

( بل ) يلزم في الآيات المطلقة ، بالاضافة الى تقييدها بالعدالة تقييدها باطمئنان السامع بقول العادل .

اذ ( يمكن إنصراف المفهوم ) أي : مفهوم آية النبأ الدال على حجّية خبر العادل

ص: 410

بحكم الغلبة وشهادة التعليل بمخافة الوقوع في الندم إلى صورة إفادة خبر العادل الظنّ الاطميناني بالصدق ، كما هو الغالب مع القطع بالعدالة .

فيصير حاصل مدلول الآيات

------------------

إنصرافاً ( بحكم الغلبة ) حيث إنّ الغالب انّ السامع يطمئن بخبر العادل ( و ) بحكم ( شهادة التعليل بمخافة الوقوع في الندم ) فهما دليلان على ما نريد ذكره من الانصراف .

فان خبر العادل في مفهوم الآية ، منصرف ( إلى صورة إفادة خبر العادل : الظّن الاطمئناني ) الذي هو أول مراتب العلم ، بأن يكون الانسان مطمئناً ( بالصدق ) أي : بصدق الراوي بالاضافة الى كونه عادلاً .

فمثل هذا الخبر يعمل به ( كما هو الغالب ) حيث إن الغالب ان الانسان يطمئن بخبر العادل ( مع القطع بالعدالة ) أو ما يقوم مقام القطع من : شهادة عادلين بعدالته ، أو شهادة عادل واحد - فرضاً - .

وعليه : فالحجّة هو خبر العادل المطمئن إليه ، فقيد «العادل» يفهم من مفهوم آية النبأ ، وقيد «الاطمئنان» يفهم من مطلبين :

أحدهما : انّ خبر العادل يحصل منه الاطمئنان غالباً ، والانصراف يقضي بانّ الآيات منصرفة الى الغالب .

ثانيهما : انّه سبحانه وتعالى ، عللّ وجوب التبيّن في خبر الفاسق بخوف الندم ، من الواضح : انّ خبر العادل غير المطمئن إليه ، فيه خوف الندم ، فاللازم : ان لا يكون هناك خوف الندم ، وعدم خوف الندم إنما يحصل بسبب الاطمئنان .

( فيصير حاصل مدلول الآيات ) بعد تقييد مطلقها بمقيدها ، وتقييدها أيضاً

ص: 411

إعتبار خبر العادل الواقعي بشرط إفادة الظنّ الاطميناني وهو المعبر عنه بالوثوق .

نعم ، لو لم نقل بدلالة آية النبأ من جهة عدم المفهوم لها ، إقتصر على منصرف سائر الأيات وهو الخبر المفيد للوثوق وان لم يكن المخبر عادلاً .

------------------

بالمطلبين المذكورين ، لزوم إطمئنان السامع من الخبر وكون ( إعتبار خبر العادل الواقعي بشرط إفادة الظن الاطمئناني ، وهو ) أي : الظنّ الاطمئناني ( المعبر عنه : بالوثوق ) .

فالعادل الموثوق بخبره ، يمكن الاعتماد على خبره ، أمّا الفاسق ، والمجهول الحال ، والعادل الذي لا يوثق بخبره ، فلا حجّية في خبره .

( نعم ، لو لم نقل بدلالة آية النبأ ) على حجّية خبر العادل ، وانّما لم نقل بدلالتها على الحجية ( من جهة عدم المفهوم لها ) لما تقدّم : من انّ المفهوم هنا ، هو مفهوم الوصف ، ولا اعتبار به ، أو مفهوم الشرط ، وهو هنا من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، فلا مفهوم لآية النبأ حتى يكون حجّة ويكون مقيّداً للمطلقات .

ولهذا عرفت : انّها خلاف الأصل - ( إقتصر ) في حجية الخبر - التي قد عرفت : انها خلاف الأصل - ( على منصرف سائر الآيات ) فانّها وان كانت مطلقة ، لكن المطلق ينصرف غالباً الى الفرد الأكمل .

مثلاً : اذا قال إنسان : أكرم علماء البلد ، إنصرف الى الفرد الأكمل ، وهم علماء الفقه ، والاصول ، ونحوهما ، لا مثل علماء الطب والرياضيات ، ومن أشبههما .

( و ) كذلك هنا في حجّية الخبر ، كان المنصرف ( هو الخبر المفيد للوثوق ، وإن لم يكن المخبر عادلاً ) .

هذا ، ولكن الظاهر من الأدلة : كفاية العدالة ، ولا إعتبار بالوثوق بعد توفر

ص: 412

...

------------------

العدالة ، والانصراف ممنوع ، اذ لو فتح هذا الباب ، لزم مجيئه في الشهادة أيضاً ، وكذلك في فتوى المفتي ، وحكم القاضي ، وغير ذلك .

ومعنى ذلك : انّ الشاهدين على القضية لا يمكن الاعتماد عليهما اذا لم يثق القاضي من خبرهما - ولا يخفى : ان هذا البحث يرجع الى الأمر الذي إختلفوا فيه خصوصاً في العصر الحاضر ، من : إنّ المقدّم هل هو جسم القانون أو روحه ؟ . كما ألمعنا اليه في «فقه الحقوق» (1) - وكذلك يلزم ان لا يكون فتوى المفتي حجّة إذا لم يطمئن المقلد اليه ، وهكذا بالنسبة الى حكم الحاكم، وغير ذلك .

* * *

هذا تمام

الكلام في الاستدلال بالآيات

على حجيّة الخبر الواحد ويليه

الاستدلال بالسّنة المطهّرة

ونسأله التوفيق

والسداد

ص: 413


1- - راجع موسوعة الفقه : ج100 للشارح .

ص: 414

المحتويات

مستند الاجماع هو اللطف ... 7

مستند الاجماع هو الحدس ... 14

الاشكال على الاجماع الحدسي ... 20

كلام شارح الوافية ... 23

وجوه ادعاء الاجماع ... 33

الاجماعات المتعارضة ... 42

ارادة الشهرة من الاجماع ... 60

كلام المحقق المجلسي ... 61

كلام المحقق السبزواري... 67

الحاق الاجماع المنقول بالخبر الواحد... 69

خبر الناقل يثبت اقوال العلماء ... 74

المخالف لا يقدح بدعوى الناقل ... 76

كلام المحقق التستري في الاجماع ... 89

اتفاق من يمكن تحصيل فتاواه لا يستلزم موافقة الامام ... 134

الخبر المتواتر المنقول ... 139

صور قبول نقل التواتر ... 144

نقل الشهيد تواتر القراءات ... 148

الشهرة الفتوائية ... 153

ادلة حجيّة الشهرة الفتوائية ... 155

الدليل الاول والجواب عنه :... 155

الدليل الثاني والجواب عنه : ... 158

الخبر الواحد... 174

ص: 415

مقدمات حجية الخبر الواحد ... 174

اصولية المسألة ... 178

عدم مقطوعية صدور الاخبار... 181

القول بعدم جواز التعبد بالخبر الواحد... 183

أدلة المانعين عن الحجية... 187

الاول : الكتاب... 188

الثاني : السنة... 189

الثالث : الاجماع... 201

الجواب عن الادلة ... 203

أدلة جواز العمل بالخبر الواحد

الدليل الأوّل : الكتاب... 232

1 - آية النبأ ... 232

الايرادات على الاستدلال بآية النبأ ... 242

دفع بعض الاشكالات على الاستدلال بآية النبأ ... 270

الاستدلال بآية النبأ على حجيّة خبر غير العادل اذا ظنّ بصدقه ... 319

2 - آية النفر... 330

ظهور آية النفر في وجوب التفقه والاستدلال بها في الروايات ... 341

الاشكال على الاستدلال بآية النفر ... 351

3 - آية الكتمان... 370

الاشكال على الاستدلال بآية الكتمان ... 371

4 - آية السؤال عن أهل الذكر...

376

الاشكال على الاستدلال بآية السؤال ... 378

5 - آية الاُذن... 389

الاشكال على الاستدلال بآية الاُذن ... 394

تقييد اطلاق الآيات بآية النبأ ... 403

المحتويات... 415

ص: 416

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.