الوصائل إلی الرسائل المجلد 2

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .

شرح عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر موضوع : اصول فقه شیعه معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی تصنيف ديوي: 297/312 رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللّهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .

شرح عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفكر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابك : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : كتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول.

شرح رده بندی كنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره كتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات ركورد كتابشناسی : ركورد كامل الشجرة الطيبة الوصائل إلی الرسائل

--------------

آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه اللّه

انتشارات: دار الفكر المطبعة: قدس الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

--------------

شابك دوره: 6-175-270-600-978 شابك ج1: 2-160-270-600-978

--------------

دفتر مركزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاك 36 تلفن: 5-37743544 تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاك 124، واحد یك، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

مباحث الظن

اشارة

والكلامُ فيه يقع في مقامين :

أحدُهما في إمكان التعبّد به عقلاً ، والثاني في وقوعه

--------------------

مباحث الظنّ ( المقصد الثاني ) من مقاصد الكتاب ( في الظن ) وهو : الطرف الراجح من الاحتمال قبل الوصول الى القطع ، ويكون ارفع من الشك ، لان الشك : تساوي الطرفين - كما تقدّم في اوّل البحث - ( والكلام فيه يقع في مقامين ) كالكلام في كثير من المباحث المختلف فيها ، اذ هناك ثلاثة امور :

الاول : الواجب ، وهو الذي لايمكن عدم وجوده .

الثاني المحال ، وهو الذي لايمكن وجوده .

الثالث : الممكن ، وهو الذي يمكن وجوده كما يمكن عدمه .

والامكان في الثالث على قسمين :

الاول : الامكان بالنظر الى ذات الشيء سواء وجد ، او لم يوجد الى الابد ، مثل ان يملك انسان عادي كل الارض .

الثاني : الامكان بمعنى انه هل وقع ام لا ؟ .

ومرحلة هذا الثاني يكون بعد مرحلة الاولى - كما هو واضح - اذ مالا امكان ذاتي له ، لا امكان وقوعي له بطريق اولى .

وعليه : فيكون ( احدهما : في امكان التعبد به ) اي بالظن ، فهل يمكن للشارع (عقلاً ) ان يقول للناس : اعملوا بالظن ، او لا يمكن ذلك ؟ ( والثاني ) بعد الفراغ من النزاع في الامكان ، يكون البحث ( في وقوعه ) اي

ص: 7

عقلاً او شرعا .

المقام الأول :

أمّا الأوّلُ فاعلم أنّ المعروفَ هو إمكانهُ ، ويظهرُ من الدليل المحكيّ عن ابن قِبَة ، في استحالة العمل بالخبر الواحد ، عمومُ المنع لمطلق الظنّ ، فانّه استدلّ على مذهبه بوجهين : « الأوّل : أنّه لو جاز التعبّدُ بخبر الواحد في الاخبار عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، لجاز التعبّدُ به في الاخبار عن اللّه تعالى ،

------------------

هل عبّدنا الشارع بالظن ( عقلاً ) كما قال بعضهم في دليل الانسداد - بناءا على الحكومة - ( او شرعا ) كما في الظنون الخاصة : كخبر الواحد ، ونحوه ، وكما في دليل الانسداد على الكشف - كما يأتي تفصيله ان شاء اللّه تعالى في مباحث الانسداد .

( اما ) البحث ( الاول : ) وهو هل يمكن التعبد بالظن ؟ ( فأعلم ان المعروف ) بين العلماء ( هو امكانه ) اي امكان التعبد بالظن ( و ) لكن ( يظهر من الدليل المحكي عن ابن قبة : في استحالة ) تجويز الشارع ( العمل بالخبر الواحد ) انه يرى ( عموم المنع ، لمطلق الظن ) بما يشمل الخبر الواحد ، وغيره ، مما يفيد انه يرى استحالة التعبد بالظن وانه لا امكان له ( فانه استدل على مذهبه بوجهين ) هما كالتالي : ( الاول : انه لو جاز التعبد بخبر الواحد في الاخبار عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ) بان قال الشارع - مثلاً - : اذا جائكم خبر عادل يقول : ان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم قال كذا ، فخذوا بذلك الخبر ( لجاز التعبد به ) اي بالخبر الواحد ( في الاخبار عن اللّه تعالى ) والملازمة واضحة ، لانهما اخبار عن الشريعة ، واطاعة الرسول كاطاعة اللّه تعالى ،

ص: 8

قال سبحانه : « مَن يُطِع الرّسولَ فَقَد أطاعَ اللّه »(1) .

والتالي باطلٌ اجماعا فالمقدم مثله .

والثاني : إن العمل به موجبٌ لتحليل الحرام وتحريم الحلال ، إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر بحلّيّته حراما وبالعكس » .

------------------

( والتالي ) وهو : صحة الاخبار عن اللّه تعالى ( باطل اجماعا ) لان الخبر عن اللّه انّما يثبت اذا قطع الانسان بقول المخبر ، وبكونه رسولاً من عند اللّه سبحانه ، او منصوصا عليه بالعصمة من الزلل ، كأئمة أهل البيت عليهم السلام في نقلهم الاحاديث القدسية ، حيث قال سبحانه : « إنّما يُرِيدُ اللّه ُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطهِيرا »(2) .

( فالمقدم ) وهو : الاخبار عن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم بالخبر الواحد الظني ( مثله ) في البطلان .

والحاصل : انه كلما كان امكان التعبد بالخبر عن اللّه تعالى - بدون حصول القطع - غير معقول ، كذلك امكان التعبد بالخبر عن المعصوم غير معقول ، والنبي في كلام ابن قبة من باب المثال ، وانّما كان الاخبار عن المعصوم مساويا للاخبار عن اللّه لاستواء كل منهما في كونه خبر عادل ضابط لايفيد الا الظن النوعي .

( والثاني ) من دليليّ ابن قبة ( : ان ) تجويز الشارع ( العمل به ) اي بالخبر الواحد ( موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال اذ ) قد يخالف الواقع في اخباره، فان العادل مهما كان ، فانه لايكون معصوما عن الخطأ ، والنسيان ، والسهو ، والغلط ، و ( لايؤمن ان يكون ما اخبر بحليته حراما ) في الواقع ( وبالعكس ) بان يكون ما اخبر بحرمته حلالاً في الواقع ، ومن المعلوم : ان مثل ذلك ، يوجب تفويت المصلحة الملزمة والالقاء في المفسدة ، وهو من الحكيم سبحانه قبيح ،

ص: 9


1- - سورة النساء : الآية 80 .
2- - سورة الاحزاب : الآية 33 .

وهذا الوجه - كما ترى - جارٍ في مطلق الظنّ ، بل في مطلق الامارة الغير العلميّة وإن لم يفد الظنَّ .

واستدلّ المشهورُ على الامكان : بأنّا نقطعُ بأنّه لايلزم من التعبّد به

------------------

ومثله لايصدر منه تعالى ، اذ فاعل القبيح اما يفعله لجهله بقبحه ، أو لاحتياجه اليه ، او لخبث فيه ، وكل ذلك محال عليه سبحانه ، فانه عالم غني منزه .

( وهذا الوجه ) وهو لزوم تحليل الحرام وعكسه ( كما ترى ) غير مختص بالخبر بل ( جار في مطلق الظنّ ) من اي طريق حصل من الغير ، او الشهرة ، والاجماع المنقول ، أو الاستصحاب ، وغيرها ، ( بل ) هو جار ( في مطلق الامارة غير العلمية ) التي لاتفيد العلم ( وان لم يفد الظن ) فان كلامنا ليس فيما يفيد الظن ، بل في الاعم مما يفيده او لايفيده ، فالبرائة وأصل الطهارة ، والحل ، وحمل فعل الشخص على الصحيح ، والسوق ، وأرض الاسلام ، وغيرها من امثال القرعة : وقاعدة العدل ، كلها مما لا يؤمن تحليلها الحرام ، وبالعكس .

ولا يخفى : ان المحذور في جعل الحكم الظاهري : امور متعددة - لم يذكر منها الاّ ما تقدّم - مثل - انه يستلزم جمع المثلين ، والضدين ، والمصلحة والمفسدة ، والارادة والكراهة ، والمحبوبية والمبغوضية ، كما سيأتي بعض الكلام فيها ان شاء اللَّه تعالى .

( واستدل المشهور على الامكان ) في قبال ابن قبة باُمور :

الأول : الوقوع خارجاً ، فان ادل دليل على الشيء ، وقوعه في الخارج ، فاذا علمنا ان الشارع حكيم ، ورأينا انه جعل الخبر الواحد وغيره طريقاً إلى احكامه ، فانه يدل ذلك على امكان التعبد من الحكيم بالظن .

الثاني : ( بانا نقطع ) قطعاً وجدانياً( بانه لا يلزم من التعبد به ) اي بالظن

ص: 10

محالٌ .

وفي هذا التقرير نظرٌ ، إذ القطعُ بعدم لزوم المحال في الواقع موقوفٌ على إحاطة العقل بجميع الجهات المحسّنة والمقبّحة ، وعلمِه بانتفائها ، وهو غير حاصل فيما نحن فيه .

فالأولى أن يقرّر هكذا : إنّا لانجدُ في عقولنا بعد التأمّل مايوجب الاستحالة ، وهذا طريقٌ يسلكه العقلاء في الحكم بالامكان .

------------------

( محال ) لأنه قد يكون الشيء بالنظر إلى ذاته محالاً ، كالجمع بين النقيضين ، وقد يكون مستلزماً للمحال ، كالتعبد بالظن ، فانه - على قول ابن قِبة - مستلزم للمحال ، وان لم يكن بنفسه محالاً .

( و ) لا يخفى ما ( في هذا التقرير ) الَّذي أقامه المشهور دليلاً على الامكان من (نظر ) واضح ( اذ القطع بعدم لزوم المحال ) من التعبد بالظن ( في الواقع ) الَّذي محل البحث ( موقوف على احاطة العقل بجميع الجهات المحسّنة والمقبّحة ، وعلمه ) اي العقل (بانتفائها ) اي بانتفاء الجهات المقبّحة ( وهو ) اي العلم بالانتفاء بعد الاحاطة ممّا لا يتسنى لغير المعصوم ، فهو لنا ( غير حاصل فيما نحن فيه ) لاحتمال ان يكون هناك جهة للقبح ، لم نحط بها علماً .

وعلى هذا ( فالأولى ) اولويّة لزومية ، من قبيل قوله تعالى : « أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى »(1) فان معنى التفضيل منسلخ منه ، كما في قول الفقهاء : الاحوط والأقوى وما اشبه ( ان يقرر ) الامكان ( هكذا ) وهو : ( انا لا نجد في عقولنا - بعد التأمل -) في الاسباب والمسبّبات ( مايوجب الاستحالة ) للتعبد بالظن ( وهذا ) اي عدم وجداننا مايوجب الاستحالة ( طريق يسلكه العقلاء في ) باب ( الحكم بالامكان )

ص: 11


1- - سورة القيامة : الآية 34 .

والجوابُ عن دليله الأوّل :

------------------

فان العقلاء - مثلاً - يحكمون بعدم استحالة ان يوجد حيوان له اربعة رؤس ، وان يكون جبل من ذهب ، وان يطول عمر انسان إلى ملايين السنوات ، وذلك لانهم لا يجدون في عقولهم ما يوجب الاستحالة ، فالحكم بالامكان ، لا يحتاج إلى القطع بعدم الاستحالة ، بل إلى عدم وجدان مايوجب الاستحالة ، والاّ فلو كان الامر بحاجة إلى القطع لما امكن للعقلاء ان يحكموا بالامثلة الثلاثة المذكورة وغيرها ، مع ان العقل لا يحيط باسباب الامكان والاستحالة الوقوعية ، وان احاط باسباب الامكان والاستحالة الذاتية ؟ .

وقول ابن سينا : « ما قرع سمعك من غرائب الزمان ، فذره في بقعة الامكان ، ما لم يذدك عنه واضح البرهان » اشارة إلى ما ذكرناه من انه اذا لم يكن عندك دليل واضح على الاستحالة ، فقل : انه ممكن .

واذا تحققت الكبرى الكلية ، نقول فيما نحن فيه من الصغرى : أن لا نجد على امتناع التعبد بالظن دليلاً ، فهو اذاً ممكن .

لا يقال : ماذا تصنعون بدليلي ابن قِبة ، الَّذَيْنِ أقامهما على الاستحالة ؟.

لانه يقال : ( والجواب عن دليله الاول ) - القائل : بأنه لو جاز التعبد بالاخبار عن المعصوم ، لجاز التعبد بالاخبار عن اللّه ، والثاني باطل ، فالاول مثله - :

إن القياس غير تام ، حيث ان الاخبار عن اللّه ، يحتاج إلى شهادة اللّه تعالى للمخبر ، باجراء المعجزة على يديه والاّ فكلّ شخص يتمكن ان يدعي : انه نبي من قبله سبحانه ويخبر عنه ، ولذا قال تعالى لرسوله : « قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيْداً بَيْنِي وَبَيْنِكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَابْ »(1) .

ص: 12


1- - سورة الرعد : الآية 43 .

انّ الاجماع إنّما قام على عدم الوقوع ، لا على الامتناع ، مع انّ عدم الجواز قياسا على الاخبار عن اللّه تعالى ، بعد تسليم صحّة الملازمة ،

------------------

وليس كذلك نقل الخبر عن المعصوم ، حيث ان كل عادل سمع منهم عليهم السلام ، يُمكنه ان ينقل الخبر عنهم .

ثم انه لو سلمنا وتنازلنا عن هذا الجواب لكن لنا ان نقول : قياس ابن قِبة ليس في محلّه ، وذلك لانه قاس استحالة التعبد بالخبر عن المعصوم ، باستحالة الاخبار عن اللّه تعالى ، والحال ان الاخبار عن اللّه ليس مستحيلاً ، بل غير واقع - وفرق بين ما يكون محالاً كالجمع بين النقيضين ، وبين مايكون ممكناً ، لكنه غير واقع ، كجبل من ذهب - فكيف يقول ابن قِبة باستحالة التعبّد بالظنّ قياساً على استحالة الاخبار عن اللّه ؟ مع ( ان الاجماع ) من العقلاء ( انّما قام على عدم الوقوع ) اي ان الاخبار عن اللّه غير واقع - الاّ للانبياء ونحوهم ( لا على الامتناع ) وان الاخبار عنه تعالى محال .

( مع ) ان هناك جواباً آخر عن ابن قِبة وهو : انه لو أُريد اثبات اصول الدّين وفروعه بالخبر الواحد ، كان الاخبار عن النبي كالاخبار عن اللّه تعالى ، اما اذا اريد اثبات بعض الفروع بالخبر الواحد ، لم يكن وجه للقياس ، فان الدّين لم يبن على الخبر الواحد ، وانّما بني عليه بعض الفروع فقط .

ومثاله في الماديات - حيث ان الامور الاعتبارية تقاس بالامور العينية : انه لو كان هناك خشب لم يتحمل كل البناء فانه لا يلازم عدم تحمله بعض البناء ، ف- ( ان عدم الجواز ) اي امتناع التعبد بالخبر الواحد في الاخبار عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ( قياساً على ) امتناع ( الاخبار عن اللّه تعالى ، بعد تسليم صحة الملازمة ) حيث قد عرفت في الجواب الاول : عدم الملازمة ، وان بينهما فرقاً ، اذ الاخبار عن اللّه غير

ص: 13

إنّما هو فيما إذا بني تأسيسُ الشريعة اصولاً وفروعا على العمل بخبر الواحد ، لا مثل مانحن فيه ، ممّا ثبت أصلُ الدين وجميعُ فروعه بالأدلّة القطعيّة ، لكن عرض اختفاؤها من جهة العوارض وإخفاء الظالمين للحقّ .

وأمّا دليلهُ الثاني : فقد اُجيب عنه تارةً بالنقض

------------------

واقع ، لا انه ممتنع .

وعليه : فعدم الجواز ( انّما هو فيما اذا بني تأسيس الشريعة اصولاً وفروعاً على العمل بخبر الواحد ) بأن يقال في القياس : كما لا تبنى الشريعة في الاخبار عن اللّه اصولاً وفروعاً على الخبر الواحد ، كذلك لا تبنى الشريعة اصولاً وفروعاً في الاخبار عن النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم عليه ( لا في مثل ما نحن فيه ، ممّا ثبت اصل الدّين وجميع فروعه بالادلة القطعية ) فان الاصول الخمسة قطعيات عقلاً ونقلاً ، واصل الصلاة ، والصيام ، والحج ، والخمس ، والزكاة ، والجهاد ، وسائر المعاملات ، والاحكام ، ايضاً قطعيات .

نعم ( لكن ) بعض الفروع غير قطعية فيرجع فيها إلى اخبار الاحاد حيث ( عرض اختفائها ) اي اختفاء تلك الفروع ( من جهة العوارض ) ككثرة الوسائط بيننا وبين المعصومين عليهم الصلاة والسلام ، وعدم معرفتنا بالرواة وانهم عدول ام لا ؟ وما اشبه ذلك مثل ( واخفاء الظالمين ) والحكام الغاصبين ( للحق ) حيث احرقوا المكتبات وسعوا في اطفاء نور الحق ، ففي هذا المقدار نحتاج إلى الخبر غير القطعي ، فيكف يقاس هذا ، بالاخبار عن اللّه تعالى ، الَّذي يبنى اصول الدّين وفروعه عليه ؟ .

( واما دليله الثاني ) القائل : بانه لا يمكن التعبد بخبر الواحد ، لان التعبد مستلزم لتحليل الحرام وتحريم الحلال ( فقد اجيب عنه تارة : بالنقض ) واخرى : بالحل .

ص: 14

بالامور الكثيرة الغير المفيدة للعلم ، كالفتوى والبيّنة واليد ، بل القطع أيضا ، لأنّه قد يكونُ جهلاً مركّبا ، واُخرى بالحلّ بأنّه إن اُريد تحريمُ الحلال الظاهريّ او عكسه فلا نسلّم لزومه ،

------------------

امّا الاول : فبالنقض ( بالامور الكثيرة ، غير المفيدة للعلم ) مع ان ابن قِبة يلتزم بتلك الامور ، فيقال له : ما هو الفرق بينهما ؟ مع ان كليهما مستلزم لتحليل الحرام وتحريم الحلال ( كالفتوى ، والبينة ، واليد ) فان كلّها حجّة عند ابن قِبة ، مع انها قد تخالف الواقع ، فتستلزم التحليل والتحريم ( بل ) ماذا يقول ابن قبة في ( القطع ايضاً ) والحال ان العقل يقول بحجيته مع انه قد يخالف الواقع ( لانه قد يكون جهلاً مركباً ) والجهل المركب عبارة : عن الجهل والجهل بالجهل ، فيكون الانسان مشتملاً على جهلين ، ولذا يسمّى جهلاً مركباً ، وفي قباله : العلم المركب ، كما اذا علم بانه يعلم - في قبال غفلته عن علمه - .

( واخرى : بالحل ، بانه ان اريد ) من تحريم الحلال ( تحريم الحلال الظاهري ، او عكسه ) أي تحليل الحرام الظاهري ( فلا نسلم لزومه ) اذ اللازم : ان الحرام الواقعي يكون حلالاً ظاهرياً ، والحلال الواقعي يكون حراماً ظاهرياً ، لا ان الحرام والحلال يجتمعان في مرتبة واحدة .

وتوضيحه : ان الشارع حسب المفسدة والمصلحة يقرر المحرمات والواجبات ، ثم لمصلحة التسهيل ، يضع احكاماً ثانوية قد تتنافى مع الاحكام الأوليّة ، ففي شرب التتن - مثلاً - مفسدة فيحرمه الشارع اولاً حسب الواقع ، لكن يقول ثانياً : اذا لم تعلم بحرمة شيء فهو لك حلال ، والمكلّف حيث لم تصل اليه حرمة التتن يجري الحليّة ، فالتتن حرام واقعي ، وحلال ظاهري ، وفي مثل ذلك لم يجتمع الحرام والحلال في مرتبة واحدة ،بل الحرام في مرتبة الواقع ، والحلال

ص: 15

وإن اُريد تحريم الحلال الواقعيّ ظاهرا ، فلا نسلّم امتناعه .

والأولى أن يقال : إنّه إن أراد امتناع التعبّد بالخبر في المسألة التي انسدّ فيها بابُ العلم بالواقع ،

------------------

في مرتبة الظاهر ، ومثل هذين الحكمين لا يتنافيان ، اذ يشترط في التناقض وحدة الموضوع ، فاذا قال الشارع : ان الحرام الواقعي حلال واقعاً ، او قال : الحرام الظاهري حلال ظاهراً ، لزم التناقض ، اما اذا جعل لكل منها مرتبة ، فلا تناقض ، كما اذا قال : هذا الشيء في مرتبة بيض ، وفي مرتبة دجاجة .

( وان اريد ) ان التعبد بالظن يستلزم ( تحريم الحلال الواقعي ظاهراً ) وتحليل الحرام الواقعي ظاهراً ، او في مرتبة حلال وفي مرتبة حرام ( ف- ) لزومه وان كان مسلّماً ، لكنا ( لا نسلّم امتناعه ) اذ قد عرفت : انه لا مانع من كون الشيء ، حلالاً في مرتبة وحراماً في مرتبة اخرى ، فانه لا يستلزم التناقض ولا المحال .

( و ) حيث كان هذا الجواب الحَلِّي عن صاحب الفصول قدس سره غير مرضيّ عند المصنّف قدس سره قال : ( الاولى ان يقال : ) في جواب ابن قِبة ما سيأتي ، علماً بان المصنّف قدس سره انّما لم يرتضه لوجوه ممكنة ، كما ان الاقرب ان نقول في جواب الفصول : انه ليس هناك حكمان اصلاً ، بل التتن حرام مطلقاً ، وانّما المدخن معذور حيث لم يصل الحكم اليه ، فليس هناك حكمان : ظاهري ، وواقعي ، وانّما حكم واقعي فقط ، وقد اجاز الشارع خلافه لمصلحة التسهيل ، قال سبحانه :- « يُرِيْدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ، وَلاَ يُرِيْدُ بِكُمُ العُسْرَ »(1) إلى غير ذلك من الآيات والاخبار .

وعليه : فالأولى ان يقال : ( انه ان اراد : امتناع التعبد بالخبر ) الظنّي ( في المسألة ، الَّتي انسدّ فيها باب العلم بالواقع ) والعلمي ، والمراد : حصول الانسداد

ص: 16


1- - سورة البقرة : الآية 185 .

فلا يعقل المنعُ عن العمل به فضلاً عن امتناعه ، إذ مع فرض عدم التمكّن من العلم بالواقع ، إمّا أن يكون للمكلّف حكمٌ في تلك الواقعة ، وإمّا أن لايكون له فيها حكمٌ ، كالبهائم والمجانين .

فعلى الأوّل : فلا مناصَ عن إرجاعه إلى ما لايفيد العلمَ

------------------

النوعي الَّذي سيأتي البحث فيه ، لا الانسداد الشخصي في مسألة او مسألتين ، وقد نقل ان أول زمان ادّعي فيه الانسداد هو زمان العلامة قدس سره ، والانسداد اذا حصل ، دار الامر بين ان يعمل الانسان بالظن ، او الوهم ، او الشك ، ومن المعلوم : لزوم العمل بالاول ، لانه ارجح منهما ، على التفصيل الَّذي سوف يأتي ان شاء اللّه تعالى ( فلا يعقل المنع عن العمل به ) اي بالظن ( فضلاً عن امتناعه ) كما ادّعاه ابن قِبة ، لان الشارع اذا اراد من المكلفين العمل بالتكاليف ، ولم يمكن الاحتياط ، او لم يرده الشارع لانه عسر ، ولم يكن طريق آخر ، انحصر الأمر في ان يعمل المكلّف بالظن ، فان اصاب الواقع فهو مراد الشارع ، وان اخطأ الواقع لا يكون في الخطأ ضرر ، اذ المفروض ان المكلّف في حال الانسداد لا يقدر على اكثر من اتباع الظن ، وتوضيح ان المنع « لا يعقل » ما ذكره بقوله :

( اذ مع فرض عدم التمكن ) اي عدم تمكن المكلّف ( من العلم ) والعلمي (بالواقع ) فلا يخلو الامر من انه ( اما ان يكون للمكلف حكم ) يريده الشارع منه الان ( في تلك الواقعة ، واما ان لا يكون له فيها حكم ) فيكون ( كالبهائم والمجانين ) لكن الثاني مقطوع العدم ، وقد دلّت الادلة الاربعة على عدم رفع التكليف ( ف- ) يبقى الاول .

و (على الأوّل) بان يكون للمكلف حكم ( فلا مناص عن ارجاعه ) اي لا طريق للشارع اذا اراد احكامه وتكاليفه الا بارجاع المكلّف ( إلى ما لا يفيد العلم )

ص: 17

من الاُصول والأمارات الظنّيّة التي منها الخبر الواحد .

وعلى الثاني يلزم ترخيصُ فعل الحرام الواقعيّ وترك الواجب الواقعيّ ، وقد فرّ المستدلّ منهما .

فان التزم أنّ مع عدم التمكّن من العلم لا وجوبَ ولا تحريمَ ، لأنّ الواجب والحرام ما علم بطلب فعله او تركه .

------------------

والقطع (من الاصول ) العملية كالاستصحاب ، والبرائة ، والتخيير ، والاحتياط ( والامارات الظنية الَّتي منها الخبر الواحد ) والشهرة والاجماع المنقول وما اشبه ذلك .

( وعلى الثاني ) بان لا يكون للمكلف في حال الانسداد حكم ، وقد قلنا : انه خلاف الضرورة ، لكن على فرض التسليم نقول : ( يلزم ) من ذلك وقوع ابن قِبة فيما فرّ منه ، من : ( ترخيص فعل الحرام الواقعي ، وترك الواجب الواقعي ) وايهما افضل : ترك المكلّف كل واجب وفعل كل حرام ، أو العمل بالظن ممّا قد يؤّي إلى ترك بعض الواجب وفعل بعض الحرام ؟ ( وقد فرّ المستدل ) ابن قِبة ( منهما ) اي من تحريم الحلال وتحليل الحرام .

وعليه : ( فان ) قال ابن قِبة : بانه لا تشريع في حال الانسداد للواجب والحرام اصلاً وذلك بان ( التزم ) المستدل ( ان مع عدم التمكن من العلم ، لا وجوب ولا تحريم ) أصلاً ، فلا احكام فعلية ولا احكام غير فعلية ، بان كان في الواقع حكم لكنّه في مرحلة الشأنية فقط .

وانّما نقول بشيء ثالث وهو : لا حكم اصلاً ( لان الواجب والحرام : ما علم بطلب فعله ، او تركه ) فالاحكام مختصة بالعالمين ، اما الجاهلون فلا حكم لهم

ص: 18

قلنا : فلا يلزمُ من التعبّد بالخبر تحليلُ حرام او عكسُه .

وكيف كان : فلا نظنّ بالمستدلّ إرادةَ الامتناع في هذا الفرض ، بل الظاهرُ

------------------

اصلاً كما هو ظاهر : « رُفِعَ مَا لاَ يَعلمُونَ »(1) ونحوه .

وقد قال بذلك بعض المصوّبة من العامة ( قلنا : فلا يلزم من التعبد بالخبر ، تحليل حرام او عكسه ) .

ولا يخفى ان ما اشتهر في السنتهم : من تحليل الحرام او تحريم الحلال ، مأخوذ من الخبر المشهور : « حلالُ محمدٍ صلى اللّه عليه و آله وسلم حَلالٌ إلى يومِ القيامةِ ، وحرامُ محمدٍ صلى اللّه عليه و آله وسلم حرامٌ إلى يومِ القيامةِ »(2) ، والمراد بالحلال : الاحكام الثلاثة : من الاباحة ، والكراهة ، والاستحباب .

والمراد بالحرام : الحكمان الاخران : وهما الواجب ، حيث ان تركه حرام ، والحرام ، حيث ان فعله حرام .

وانّما سمّي احدهما واجباً مع ان تركه حرام ، والاخر محرماً مع ان تركه واجب ، لانه ان كانت المصلحة في الفعل سمّي واجباً ، وان كانت المفسدة في الفعل سمّي حراماً ، وقد ذكرنا في بعض مباحث الفقه : انه ليس هناك حكمان في طرفي شيء واحد ، بأن ينشى ء الشارع وجوباً في الفعل وحرمة في الترك ، او وجوباً في الترك وحرمة في الفعل .

( وكيف كان : فلا نظن بالمستدل ) وهو ابن قِبة ( ارادة الامتناع ) للتعبد بالخبر ( في هذا الفرض ) فرض الانسداد ( بل الظاهر ) من كلامه ، وعصره

ص: 19


1- - تحف العقول : ص50 ، الخصال : ص417 ، التوحيد : ص353 ح24 ، وسائل الشيعة : ج15 ص369 ب56 ح20769 .
2- - بصائر الدرجات : ص 148 ، الكافي اصول : ج1 ص58 ح19 (بالمعنى) .

أنّه يدّعي الانفتاحَ ، لأنّه أسبق من السيّد وأتباعه الذين ادّعوا انفتاحَ باب العلم .

وممّا ذكرنا : ظهر أنّه لا مجال للنقض عليه بمثل الفتوى ، لأنّ المفروضَ انسدادُ باب العلم على المستفتي ، وليس له شيء أبعد من تحريم الحلال وتحليل الحرام من العمل بقول المفتي ؛

------------------

( انه ) قدس سره ( يدعي الانفتاح ) لباب العلم والعلمي ، وان مراده عدم جواز التعبد بالظن في حال الانفتاح ، وانّما كان الظاهر ذلك ( لانّه اسبق ) زماناً ( من السيد ) المرتضى قدس سره (واتباعه الذين ادعوا انفتاح باب العلم ) بل هم ادعوا : ان الاخبار قطعية الصدور ، وقولهم هذا ليس ببعيد ، لانهم كانوا في عصر الغيبة الصغرى ، واوائل الغيبة الكبرى حيث الاختلاط بالنواب الاربعة ، الذين كانوا يتشرفون بلقاء الامام عليه السلام ويأخذون منه معظم الاحكام .

( و ) على ايّ حال : فانه ( ممّا ذكرنا ) : من ان مراد ابن قِبة هو حال الانفتاح ، لا الانسداد ( ظهر : انه لا مجال للنقض عليه ) بما ذكره الفصول ( بمثل : الفتوى ) ونحوه ممّا تقدَّم الكلام فيه ( لان المفروض : انسداد باب العلم على المستفتي ) وانه لا طريق له إلى احكام اللّه سبحانه ، الاّ فتوى المجتهد ، فلا يقاس المستفتي المنسدّ عليه باب العلم ، بالمفتي المنفتح عليه باب العلم ، بان يقال : كما يجوّز ابن قِبة الرجوع إلى الفتوى كذلك ان يجوّز الرجوع إلى الظن .

( و ) ذلك لانه ( ليس له ) اي للمستفتي ( شيء ) من الطرق ( ابعد من تحريم الحلال وتحليل الحرام ، من العمل بقول المفتي ) اذ الطرق امامه : اما القياس ، او الاستحسان ، او المصالح المرسلة ، او الحدس او ما اشبه ذلك ، وكلها اقرب إلى التحليل والتحريم من قول المفتي الَّذي اخذ فتواه من الادلة الاربعة .

ص: 20

حتّى أنّه لو تمكّن من الظنّ الاجتهاديّ فالأكثر على عدم جواز العمل بفتوى الغير ، وكذلك نقضه بالقطع مع احتمال كونه في الواقع جهلاً مركّبا ، فانّ بابَ هذا الاحتمال منسدّ على القاطع .

------------------

ويؤد قرب الفتوى من تحليل الحلال وتحريم الحرام ، انه لو تمكن من الاجتهاد بنفسه ليخرج عن ربقة التقليد ، لزم عليه ذلك تعييناً ، او تخييراً بينه وبين التقليد ، لأنّ الاجتهاد من احسن الطرق إلى اصابة الواقع بتحليل الحلال وتحريم الحرام ، بل قال بعضهم : بلزوم الاجتهاد عليه ، ممّا يدل على ان الفتوى لاجل اصابة الواقع (حتى ) انه اذا وجد ما هو اصوب إلى درك الواقع ، لزم عليه سلوك الطريق الاصوب ، ف- ( انه لو تمكن من الظن الاجتهادي ، فالاكثر على عدم جواز العمل بفتوى الغير ) .

لكن الظاهر ان ذلك غير لازم ، اذ العقل يرى التخيير بين الفتوى والاجتهاد ، كما في سائر العلوم من الطب ، والهندسة ، نعم لا شك ان الاجتهاد افضل .

( و ) كما لا يصح نقض كلام ابن قِبة بالفتوى ( كذلك ) لا يصح ( نقضه بالقطع مع احتمال ) غير القاطع ( كونه في الواقع : جهلاً مركباً ، فان ) قولنا : غير القاطع من (باب) أن ( هذا الاحتمال منسدّ على القاطع ) نفسه لان القاطع لا يحتمل الخلاف والاّ لم يكن قطعاً بل ، ظناً ، فان القطع معناه : رؤة القاطع الواقع مائة في مائة .

ثم ان ابن قِبة قال : لا يجوز للشارع التعبد بالخبر ، لانه مستلزم لتحليل الحرام وتحريم الحلال ، فاشكل المستشكل عليه : بأن في الفتوى والبيّنة والقطع هذا الاحتمال موجود ايضاً فلماذا أجزْتم كلّ ذلك ، فأشكل الشيخ قدس سره على المستشكل : بان ابن قِبة يريد الفرار من تحريم الحلال وتحليل الحرام ، والفتوى

ص: 21

وإن أراد الامتناعَ مع انفتاح باب العلم والتمكّن منه في مورد العمل بالخبر ، فنقولُ : إنّ التعبّد بالخبر حينئذٍ يتصوّر على وجهين : أحدُهما : أن يجبَ العملُ به ، لمجرّد كونه طريقا إلى الواقع وكاشفا ظنّيّا عنه ، بحيث لم يُلاحظ فيه مصلحةٌ سوى الكشف عن الواقع ،

------------------

من أبعد الاشياء عن ذينك الامرين ، كما انه لا يمكن ان يقال للقاطع : لا تعمل بقطعك ، وان احتمل ابن قِبة - مثلاً - انه يوجب التحليل والتحريم ، لان الكلام مع القاطع ، لا مع ابن قِبة المحتمل لامرين في القطع ، فلا يردهم ان النقضان عليه .

وان شئت قلت : يقول ابن قِبة في النقض الثاني : كلامي فيما اذا اتمكن ان اقول للمتعبد بالظن : انه يحتمل ان يكون ظنك خلاف الواقع ، لكن لا يمكن ان يقال للقاطع ذلك ، فلا ينقض كلامي بالقاطع - كمانقضه المستشكل .

( وان اراد ) ابن قبة بامتناع التعبد بالخبر (: الامتناع من انفتاح باب العلم ) اي لا يمكن التعبد بالخبر في حال الانفتاح ( والتمكن منه ) اي من العلم ( في مورد العمل بالخبر ) كأن يجيز الامام عليه السلام العمل بخبر زرارة ، مع ان المحتاج إلى المسألة يتمكن من الوصول إلى نفس الامام عليه السلام ليقطع بما يسمعه منه ( فنقول ) في جواب ابن قِبة ( ان التعبد بالخبر حينئذٍ ) اي حال الانفتاح ( يتصور على وجهين ) : الوجه الاوّل : الطريقة المحضة ، بمعنى : ان الخبر طريق إلى الواقع ، بحيث لو اخطأ لم يكن للعامل اي ثواب .

الوجه الثاني : السببيّة ، بمعنى : انه يثاب عليه مع الخطأ، واشار اليهما بقوله :

( احدهما : ) اي احد الوجهين ( ان يجب العمل به ) أي بالخبر ( لمجرد كونه طريقاً إلى الواقع ، وكاشفاً ظنيّاً ) ظناً نوعاً ( عنه ) اي عن الواقع ( بحيث لم يلاحظ فيه ) اي في الخبر ( مصلحة سوى الكشف عن الواقع ) كما هو عليه غالب الطرق

ص: 22

كما قد يتفق ذلك حين انسداد باب العلم وتعلّق الغرض باصابة الواقع ، فانّ الأمرَ بالعمل بالظنّ الخبريّ او غيره لا يحتاجُ إلى مصلحة سوى كونه كاشفا ظنّيّا عن الواقع .

الثاني : أن يجبَ العملُ به ، لأجل أنه يحدثُ فيه بسبب قيام تلك الأمارة مصلحةٌ

------------------

العقلائية ، فان الطبيب اذا قال : الدواء الفلاني للمرض الفلاني واستعمله المريض وكان مطابقاً للواقع ، برء من مرضه ، اما اذا لم يطابق الواقع ، فلا شيء للمريض في شربه الدواء ، إلى غير ذلك من الامثلة .

( كما قد يتفق ذلك ) التعبد بالخبر ، او غيره ، لمجرد الكاشفية ( حين انسداد باب العلم ) سواءاً انسداداً مطلقاً ، او انسداداً جزئياً ( وتعلق الغرض ) من المولى ( باصابة الواقع ) حيث لا يريد المولى سوى الواقع ، فلا يكون في سلوك هذا الطريق مصلحة اصلاً غير انه ان اصاب ، فهو المقصود ، وان اخطأ ، كان معه معذوراً ، لانه لم يكن للعبد طريق غير ما عيّنه الانسداد من الظن على الحكومة او الكشف ( فان الامر ) من المولى ، او العقل ( بالعمل بالظن الخبري او غيره ) كالظن الحاصل من الشهرة ، او الاجماع المنقول ، او ما اشبههما ( لا يحتاج ) حال الانسداد ( إلى مصلحة سوى كونه ) اي كون ذلك الطريق ( كاشفاً ظنياً عن الواقع ) وهذايسمى بالظن الطريقي .

( الثاني ) من الوجهين : ( ان يجب العمل به ) اي بالخبر ( لاجل انه يحدث فيه) اي في مؤّى الخبر (بسبب قيام تلك الامارة) مثل : « صدّق العادل » حيث انه جعل الخبر حجة وجعل فيه ( مصلحة ) تكافيء مصلحة الواقع الفائتة ، او مصلحة ارجح من مصلحة الواقع ، او مصلحة تكافيء مفسدة الواقع ، او تكون ارجح من

ص: 23

راجحة على المصلحة الواقعيّة التي تفوت عند مخالفة تلك الأمارة للواقع ، كأن يحدث في صلاة الجمعة بسبب إخبار العادل بوجوبها

------------------

مفسدة الواقع فاذا سلك الطريق - مثلاً - وطابق الواقع اعطي ديناراً ، وان لم يطابق الواقع اعطي دينارا او دينارين ، واذا كان في الطريق مفسدة ، بأن يؤخذ منه دينار ، فان المولى يتداركه باعطائه ديناراً ، فلا مصلحة ولا مفسدة ، او يعطيه دينارين ، فمصلحة محضة .

لا يقال : اذا اخذ منه دينار واعطي ديناراً ، فما الفائدة من الامر بسلوك هذا الطريق ؟ .

لانه يقال : المصلحة : ضرب القانون العام ، حيث يقول المولى لمن لا يتمكن ان يميز - بالقطع - بين المصلحة وبين عدمها - : اتبع الظن مطلقاً ، ومن المعلوم : ان ضرب القانون ، فيه مصلحة التناسق بين الموارد ، وفي الحديث :- ان رجلاً سأل عليّاً عليه السلام عن سبب غسل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم بعد موته مع ان جسده الطاهر لا يصيبه اذى بالموت ، فاجابه عليّ عليه السلام : بِأنَّ ذَلِكَ لِجَرَيَانِ السُّنَّةِ (1).

ومعنى ذلك : هو ضرب القانون ، كما ذكرنا تفصيلة في كتاب « الدولة » (2) .

وممّا تقدّم : ظهر ان قول المصنّف قدس سره فيه مصلحة ( راجحة على المصلحة الواقعية ، الَّتي تفوت عند مخالفة تلك الامارة للواقع ) يريد بالمصلحة : الاعم من كلّ الاقسام الَّتي ذكرناها ، لا خصوص ما اذا اعطي دينارين في مثالنا ( كأن يحدث في صلاة الجمعة ، بسبب اخبار العادل بوجوبها ) مع انها ليست بواجبة واقعاً بل او محرمة ، لانها من خصائص الامام عليه السلام المبسوط اليد فرضاً ، فتحدث فيها

ص: 24


1- - وسائل الشيعة : ج2 ص477 ب1 ح2691 وفيه «وذا سنة» .
2- - راجع موسوعة الفقه : ج101 - 102 للشارح .

مصلحةٌ راجحة على المفسدة في فعلها على تقدير حرمتها واقعا .

أمّا إيجابُ العمل بالخبر على الوجه الأوّل ، فهو وإن كان في نفسه قبيحا مع فرض انفتاح باب العلم ، لما ذكره المستدلّ من تحريم الحلال وتحليل الحرام ،

------------------

( مصلحة راجحة على المفسدة في فعلها ، على تقدير حرمتها واقعاً ) حيث ان الامر لا يكون الاّ بمصلحة ملزمة ، والحرمة لا تكون الا بمفسدة ملزمة ، فقيام الامارة يوجب هذه المصلحة الغالبة على المفسدة ، لكن لا بمعنى تغيير الواقع ، اذ الواقع عند المخطّئة لا يتغير ، وانمّا بمعنى : ان المولى يتدارك تلك المصلحة الفائتة ، وهذه المفسدة الموجودة ، ويكون حال ذلك حال العناوين الثانوية فغصب مال الغير - مثلاً - واكله حرام ، لان فيه مفسدة ، اما اذا توقفت الحياة على ذلك - كعام المخمصة - وجب ، وصارت المفسدة مصلحة موجبة للثواب ، وتركه موجباً للعقاب .

( اما ايجاب العمل بالخبر ) المحتمل للمخالفة للواقع ( على الوجه الاول : ) حيث يكون الخبر طريقاً فقط ( فهو ، وان كان في نفسه قبيحاً ) لانه موجب لتفويت المصلحة ، والالقاء في المفسدة اذا خالف الخبر الواقع ( مع فرض انفتاح باب العلم ) كأن يجعل الشارع الخبر الوا حد حجة مع وجود نفس الشارع في البلد ، بحيث يتمكن المحتاج إلى السؤل من مراجعته عليه السلام والاطلاع على كلامه المطابق للواقع مائة في مائة ، بينما ليس كذلك مراجعة الراوي وان كان عدلاً ضابطاً امامياً ، لاحتمال الخطأ والسهو والنسيان بالنسبة اليه .

وانّما كان حجية الخبر في مثل هذا قبيحاً وذلك ( لما ذكره المستدل ) وهو ابن قِبة (من : تحريم الحلال وتحليل الحرام ) لوضوح ان الخبر لا يطابق الواقع دائماً

ص: 25

لكن لا يمتنع أن يكون الخبرُ أغلبَ مطابقةً للواقع في نظر الشارع من الأدلّة القطعيّة التي يستعملها المكلّفُ للوصول إلى الحرام والحلال الواقعيّين ، او يكونا متساويين في نظره من حيث الايصال إلى الواقع ، إلاّ أن يقال : إنّ هذا رجوعٌ إلى فرض انسداد باب العلم والعجز عن الوصول إلى الواقع ، إذ ليس المرادُ انسدادَ باب الاعتقاد ولو كان جهلاً مركّبا ، - كما تقدّم سابقا - فالأولى الاعتراف بالقبح مع فرض التمكّن عن الواقع .

------------------

بخلاف قول الامام عليه السلام المطابق له بالدوام .

( لكن ) يمكن ان يمنع القبح بتقريب انه : ( لا يمتنع ان يكون الخبر اغلب مطابقة للواقع - في نظر الشارع - من الأدلّة القطعية ، الَّتي يستعملها المكلّف للوصول إلى الحرام والحلال الواقعيين ) اذ ليس الكلام في خصوص من يتمكن من الوصول إلى الامام عليه السلام في كل وقت شاء ، بل يشمل من كان يعمل بالعلم والعلمي ايضاً ، كما هو الغالب .

( او يكونا ) اي العمل بالعلم والعلمي ، والعمل بالخبر ( متساويين في نظره ) اي نظر الشارع ( من حيث الايصال إلى الواقع ، الاّ ان يقال : ان هذا رجوع إلى فرض انسداد باب العلم ، والعجز عن الوصول إلى الواقع ، اذ ليس المراد : انسداد باب الاعتقاد ولو كان جهلاً مركباً - كما تقدّم سابقاً - فالأولى : الاعتراف بالقبح مع فرض التمكن عن الواقع ) وفي هذين الحالين لا يكون التعبد بالخبر قبيحاً .

بل يكون التعبد به في الاول - وهو اغلبية الايصال بسبب الخبر - أولى على وجه التعيين ، او الافضلية ، والتعبد به في الثاني متساويا مع العمل بالعلم والعملي ، لأنّ المناط في نظر الشارع هو الواقع ، والمفروض ان الواقع في كليهما متساو ، سواء مع الاتفاق : بان يصل كلاهما إلى واقع احكام الصلاة او الاختلاف :

ص: 26

وأمّا وجوب العمل بالخبر على وجه الثاني ، فلا قبح فيه أصلاً ، كما لا يخفى .

قال في النهاية في هذا المقام ، تبعا للشيخ قدس سره ، في العُدّة : « إنّ الفعل الشرعي إنما يجب لكونه مصلحةً ،

------------------

بأن يصل احدهما إلى بعض واقع الصلاة ، وبعض واقع الصوم ، ويصل الاخر إلى كلّ واقع الزكاة وهكذا مما يتساويان عدداً فرضاً .

( وأما وجوب العمل بالخبر على الوجه الثاني ) وهو ما كان فيه مصلحة سلوكية ، فيجب العمل بالخبر لأجل انه يحدث فيه بسبب قيام الأمارة مصلحة راجحة ( فلا قبح فيه اصلاً ، كما لا يخفى ) اذ لم يفت على المكلّف شيء ، ويؤد ما ذكرناه : أن (قال ) العلامة قدس سره ( في النهاية في هذا المقام تبعا للشيخ قدس سره في العدّة ) وهما كتابان في الاصول ( : ان الفعل الشرعي انمّا يجب لكونه مصلحة ) في ذاته ، اي ذا مصلحة ، فوجوب الصلاة لاجل ذكر اللّه ، والصوم لاجل التقوى ، والزكاة لاجل التطهر ، والحج لاجل المنفعة ، قال سبحانه : « وأقِمِ الصَّلاَةَ لِذَكْرِي »(1) ، وقال : « كُتِبَ عَلَيْكُم الصِّيَام كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِيْنَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُوْنَ»(2) ، وقال : « خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرهُم ... »(3) ، وقال : «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ »(4) .

ولا يخفى : ان الحرام - ايضاً - انّما حرّمه الشارع لاجل كونه ذا مفسدة ، قال سبحانه في الخمر والقمار : « وَإِثْمهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا »(5) ، وقال تعالى في باب

ص: 27


1- - سورة طه : الآية 14 .
2- - سورة البقرة : الآية 183 .
3- - سورة التوبة : الآية 103 .
4- - سورة الحج : الآية 28 .
5- - سورة البقرة : الآية 219 .

ولا يمتنع أن يكون مصلحة إذا فعلناه ونحن على صفة مخصوصة ،

------------------

الزنا : « إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة »(1) ، وقال سبحانه في اكل اموال الناس : « بِالْبَاطِلِ »(2) . إلى غيرها .

والغالب : ان القرآن الحكيم في تشريعاته ، اشار إلى العلة - ولو بكلمة - ممّا يدرك العقل وجه التشريع الفعلي حتّى مع النظر عن الشرع .

وهذا القسم وهو : كون الامر والنهي لاجل احراز المصلحة في ذات المأمور به والنهي لاجل تجنب المفسدة في ذات المنهي عنه ، هو الاكثر في التشريعات .

وهناك قسم ثان ، وهو : ما اشار اليه العلامة قدس سره بقوله ( ولا يمتنع ان ) تكون المصلحة في ذات المأمور به ، بل في الفعل اذا وقع بصفة خاصة زمانية او مكانية ، او في نفس الفاعل ، او في سائر الخصوصيات المكتنفة بالفعل ، بحيث لا مصلحة بدون تلك الامور ، فالفعل ( يكون ) فيه ( مصلحة اذا فعلناه ونحن على صفة مخصوصة ) .

مثلاً : يجب اكل الميتة للمضطر بحيث اذا لم يأكلها مات ، فان اكل الميتة يكون ذا مصلحة اذا كان المكلّف على صفة مخصوصة ، وهي : الاضطرار ، دون ما اذا لم يكن مضطراً حيث يحرم الاكل ، فان كان من الافعال ما في ذاته الحسن والقبح ومن الافعال ما يحسن او يقبح بالوجود والاعتبار ، فالقيام مثلاً ان كان لاجل أخذ شيء من الرف لا حسن فيه ولا قبح ، واذا كان لاجل احترام عالم كان فيه حسن واذا كان لاجل اهانة مؤن يكون فيه القبح .

ولما بيّن العلامة قدس سره الكبرى بقوله : « ولا يمتنع ...» بيّن صغراه بقوله :

ص: 28


1- - سورة النساء : الآية 22 .
2- - سورة البقرة : الآية 188 .

وكونُنا ظانين بصدق الراوي صفةٌ من صفاتنا ، فدخلت في جملة أحوالنا التي يجوز كونُ الفعل عندها مصلحة » انتهى موضع الحاجة .

فان قلتَ : إنّ هذا إنّما يوجبُ التصويبَ ،

------------------

( وكوننا ظانين بصدق الراوي ، صفة من صفاتنا ) فان الظن من صفات الانسان ، فاذا لم تكن لصلاة الجمعة في ذاتها مصلحة لكنا ظننا صدق الراوي لها ، صارت لنا صفة خاصة ، وبهذه الصفة الخاصة تكون صلاة الجمعة ذا مصلحة لانها تكون حينئذٍ انقياداً للمولى الَّذي قال للعبد : اسمع كلام زرارة ، الَّذي هو صادق ( فدخلت ) هذه الصفة اي ظننا ( في جملة احوالنا الَّتي يجوز كون الفعل عندها ) اي عند تلك الاحوال ( مصلحة )(1) .

وبذلك ظهر : ان الشيخ والعلامة يقولان بالمصلحة السلوكية ( انتهى موضع الحاجة ) من كلام العلامة قدس سره .

ولا يخفى ان ما ذكرناه في المصلحة : يأتي في المفسدة ايضاً سواء كانتا إلى حدّ المنع عن النقيض ، ممّا يوجب الواجب والحرام او دونه . ممّا يوجب المستحب والمكروه ، او دونه ، مما يوجب المباح ، بأن تتعارض المصلحة الواقعية والمفسدة السلوكية ، او بالعكس ، فيكون الفعل مباحاً .

( فان قلت : ان هذا ) الَّذي ذكرتم من المصلحة والمفسدة السلوكية ( انمّا يوجب التصويب ) الَّذي قال به العامة ، والتصويب باطل ، فان الشيعة يقولون : ان للّه احكاماً في كل واقعة فان اصابها المجتهد كان مثاباً ، وان اخطأها كان معذوراً ، ولذا يسمّى الشيعة بالمخطّئة ، او يخطّئون من لم يصب الواقع ، لان اجتهاده اخطأ

ص: 29


1- - عدّة الاصول ص38 .

لأنّ المفروضَ على هذا أنّ في صلاة الجمعة التي اُخبرَ بوجوبها مصلحةً راجحةً على المفسدة الواقعيّة ، فالمفسدةُ الواقعيّة سليمةٌ عن المعارض الراجح بشرط عدم اخبار العادل بوجوبها ، وبعد الاخبار تضمحل المفسدةُ ، لعروض المصلحة الراجحة ، فلو ثبت مع هذا الوصف تحريمٌ ثبت بغير مفسدة يوجبه ، لأنّ الشرط في إيجاب المفسدة له

------------------

ولم يصب الواقع ، بخلاف العامّة ، حيث يسمّون : بالمصوّبة لانهم يقولون : بان المجتهد مصيب مطلقاً ، امّا من جهة انه ليس للّه احكام خلاف احكام المجتهدين ، او من جهة ان له احكاماً ، الا انه اذا اخطأها المجتهد ، جعل اللّه اجتهاد المجتهد حكماً .

وانمّا كانت المصلحة السلوكية توجب التصويب ( لان المفروض على هذا ) الَّذي ذكرتم : من مصلحة السلوك ( ان في صلاة الجمعة الَّتي اخبر ) الراوي ( بوجوبها ) والحال ان الراوي اشتبه ، وكانت صلاة الجمعة في الواقع حراماً ( مصلحة ) سلوكية (راجحة على المفسدة الواقعية ) الَّتي في ذات صلاة الجمعة ، ممّا سبب ان يحرّمها الشارع واقعاً .

( ف- ) عليه : تكون ( المفسدة الواقعية ) في صلاة الجمعة ( سليمة عن المعارض الراجح ) وهو الخبر بوجوبها ، فهي سليمة ( بشرط عدم اخبار العادل بوجوبها ، وبعد الاخبار ) - اشتباهاً - من العادل ( تضمحل المفسدة ) الذاتية في الجمعة ( لعروض المصلحة الراجحة ) بسبب الاخبار بالوجوب ( ف- ) لا يبقى تحريم حينئذٍ ، اذ ( لو ثبت مع هذا الوصف تحريم ) في الجمعة ( ثبت ) التحريم ( بغير مفسدة يوجبه ) اي يوجب ذلك التحريم ، ومحال على الحكيم ان يحرّم ما لا مفسدة فيه ( لان الشرط ) على هذا الفرض ( في ايجاب المفسدة له ) اي

ص: 30

خلوُّها عن معارضة المصلحة الراجحة ، فيكون إطلاقُ الحرام الواقعيّ حينئذٍ بمعنى : أنّه حرامَ لولا الاخبار ، لا أنّه حرام بالفعل ومبغوض واقعا ، فالموجود بالفعل في هذه الواقعة

------------------

للتحريم : ( خلوها ) اي المفسدة (عن معارضة المصلحة الراجحة ) اذ قد عرفت : ان المفسدة انمّا توجب التحريم اذا لم يعارضها مصلحة ، والاّ ، لم توجبه سواء كانت المصلحة راجحة ، او مساوية ، او مرجوحة .

لكن لا يجب ان لا يبقى من المفسدة بقدر يوجب المنع عن النقيض فاذا اضرّت المفسدة - مثلاً - العبد ديناراً ، والمصلحة اربحته ديناراً ، او دينارين ، او ثلاثة ارباع الدينار فان ربع دينار المفسدة ، ليس بقدر يوجب التحريم ، بل يوجب الكراهية - مثلاً - ولذا فقوله قدس سره : « الراجحة » من باب المثال .

( ف- ) لا يقال : اذا اضمحلت المفسدة بسبب المصلحة الراجحة ، فكيف تطلقون على الشيء الخالي عن المفسدة : الحرام الواقعي ؟ مع ان الحرام لا يكون ، الاّ ما فيه مفسدة فعلية راجحة إلى حدّ المنع عن النقيض .

فانه يقال : ( يكون اطلاق الحرام الواقعي ) على مثل صلاة الجمعة الَّتي قامت الامارة على وجوبها ، فاضمحلت بسبب الامارة مفسدتها ، وحدث فيها مصلحة سلوكية ، فهو حرام ( حينئذٍ بمعنى : انه حرام لولا الاخبار ) على الوجوب ، سواء كانت الامارة : الاخبار ، او سائر الامارات : كالاجماع ، او ظهور الاية ، او الشهرة ، او السيرة ، او ما اشبه ، ممّا جعل الجمعة واجبة ( لا انه : حرام بالفعل ومبغوض واقعاً ) فالتسمية بالحرام من باب الانقضاء ، لا الفعلية ، مثل تسمية من زنى في وقت سابق بالزاني ، او ما اشبه ذلك : كالسارق ، والقاتل .

وعليه : ( فالموجود بالفعل ) ، في الظاهر وفي الواقع ( في هذه الواقعة )

ص: 31

عند الشارع ليس الاّ المحبوبيّة والوجوب ، فلا يصحّ إطلاق الحرام على مافيه المفسدة المعارضة بالمصلحة الراجحة عليه ، ولو فرض صحّته فلا يوجب ثبوتَ حكم شرعيّ مغاير للحكم المسبّب عن المصلحة الراجحة .

------------------

كالجمعة الَّتي قام الخبر- مثلاً- على وجوبها ( عند الشارع ليس الاّ المحبوبية ) والارادة والمصلحة ( والوجوب ) لاضمحلال المبغوضية والكراهة والمفسدة ( فلا يصح : اطلاق الحرام ) والمراد به : الحرام فعلاً ( على ما ) اي على الفعل الَّذي ( فيه المفسدة ) المضمحلة (المعارضة ) تلك المفسدة ( بالمصلحة الراجحة عليه ) اي على تلك المفسدة .

( ولو فرض صحته ) اي صحة اطلاق المفسدة - من باب المجاز باعتبار السابق - ذلك (فلا يوجب ) ذلك الاطلاق ( ثبوت حكم شرعي ) بالحرمة ( مغاير للحكم ) الجديد الَّذي هو الوجوب ( المسبب ) ذلك الحكم الجديد ( عن المصلحة الراجحة) على تلك المفسدة .

ولا يخفى : انه كما تنقلب الحرمة إلى الوجوب فيما اذا اخبر العادل بانه واجب ، كذلك ينقلب الوجوب إلى الحرمة ، فيما اذا اخبر العادل بانه حرام ، وكذلك بالنسبة إلى الاحكام الاخر : الاستحباب ، والكراهة ، والاباحة .

كما لا يخفى : ان في الخارج : مصلحة او مفسدة ، وفي داخل نفس المولى : حب ، او بغض ، ثم : ارادة ، او كراهة ، ثم : وجوب ، او تحريم ، وحيث ان اللّه سبحانه ليس محلاً للحوادث ، من : الحب ، والكره ، والبغض ، وما اشبه ، فالمراد : غايات تلك الامور ، فاذا قلنا : ان اللّه احب عمل كذا ، واكره عمل كذا ، يريد انّه يثيب على عمل كذا ، او يعاقب على عمل كذا ، ولذا قالوا فيه سبحانه : « خذ الغايات واترك المبادي » .

ص: 32

والتصويبُ : وإن لم ينحصر في هذا المعنى ، الاّ أنّ الظاهرَ بطلانهُ أيضا، كما اعترف به العلامة في النهاية في مسألة التصويب ، وأجاب به صاحبُ المعالم في تعريف الفقه عن قول العلاّمة بأنّ ظنيّة الطريق لا ينافي قطعيّة الحكم .

------------------

ثم نعود فنقول : ( والتصويب : وان لم ينحصر في هذا المعنى ) الَّذي ذكر من : تبدل المصلحة إلى المفسدة ، او بالعكس بسبب قيام الامارة ( الاّ ان ) -ه ليس بخارج عن هذا المعنى ايضاً ، فهذا التبدّل قسم من التصويب ، و ( الظاهر بطلانه ايضاً ) كسائر اقسام التصويب الباطلة ( كما اعترف به ) اي ببطلان هذا القسم من التصويب (العلامة في النهاية في مسألة التصويب ، واجاب به ) اي قال : بانه تصويب باطل ( صاحب المعالم في تعريف الفقه ) نقلاً ( عن قول العلامة ، بان ظنيّة الطريق لا ينافي قطعية الحكم ) فاذا اخبر زرارة عن وجوب صلاة الجمعة - مثلاً- فالطريق وهو : الخبر ، ظني ، لانا لا نعلم هل يطابق قول زرارة الواقع ام لا ؟ لكن نقطع بوجوب صلاة الجمعة بسبب هذا الخبر .

لا يقال : كيف يبنى القطع على الظن ؟ .

لانه يقال : اذا قام الطريق ، اضمحلّ الواقع إلى واقع جديد ، ولذا نقطع بالحكم .

اما النزاع بين العلامة قدس سره والمعالم فهو : ان الاصوليين عرفوا الفقه بانه : العلم بالاحكام الشرعية الفرعية عن ادلتها التفصيلية .

فأشكل بعضهم على هذا التعريف : بأن الفقه - على الاغلب - هو الظن بالاحكام لا القطع ، لان الفقه مبني اما على الكتاب الَّذي هو ظني الدلالة ، واما على السنة - اي الخبر - الَّذي هو ظني السند ، لانا لا نعلم بصدوره ، بل نظن بذلك ، وما

ص: 33

...

------------------

يبنى على الظنّ لا يمكن ان يكون قطعياً ؟ .

وأجاب العلامة قدس سره عن هذا الاشكال في النهاية : بأن ظاهر الكتاب . وسند الخبر ، وان كان ظنياً ، الا ان الحكم المستفاد منهما قطعي ، لانه لما قام الخبر على شيء ، فانه امّا يقوم على حكم واقعي فذلك قطعي ، وامّا يقوم على حكم خلاف الواقع ، وحينئذٍ يضمحل الحكم الواقعي ويتبدل إلى حكم آخر على طبق مفاد الخبر ، او على طبق ما يستفيده الفقيه من ظاهر القرآن ، فيكون الحكم قطعياً - فإنّا وإن كنّا نظن بالحكم الاول بسبب قيام الخبر مثلاً ، الاّ انا نقطع بالحكم الثاني الَّذي هو مفاد الظاهر او مفاد الخبر - فالظن يولّد القطع ، وانّما قطعنا بتبدل الحكم ولّد القطع بالحكم - .

وأجاب صاحب المعالم عن العلامة قدس سره : بأن قولك هذا يا علامة ، تصويب تعترف انت ببطلانه ، فكيف تقول به ؟ .

ثم لا يخفى : ان التصويب على اقسام :- الأوّل : تغير الاحكام الواقعية بالظنون ، كما ذكرنا مثاله حيث ان الظن - وهو ظاهر الآية حسب فهم الفقيه ، أو سند الخبر الَّذي ليس بمقطوع به - اوجب تبدل المصلحة إلى المفسدة ، او بالعكس ، وتبعاً لذلك تبدّل الحكم .

الثاني : ان اللّه سبحانه جعل لكلّ مجتهد حكماً ، يؤّي اليه اجتهاد ذلك المجتهد فيما بعد ، فان اللّه يعلم - مثلاً - أنّ ابا حنيفة يقول بحرمة الشطرنج ، ومالك يقول بحلّيته ، فاللّه يجعل حكم أبي حنيفة : الحرمة ، وحكم مالك : الحلّية، فاذا اجتهد أبو حنيفة ومالك أدّى اجتهاد الاول إلى الحرمة ، واجتهاد الثاني إلى الحلّية ، لكن أداء اجتهاد كلّ واحد منهما إلى ذلك انّما هو باختياره .

ص: 34

قلتُ : لو سُلِّم كونُ هذا تصويبا مُجمعا على بطلانه ، وأغمضنا النظر عمّا سيجيء ، من عدم كون ذلك تصويبا ،

------------------

الثالث : نفس الثاني ، الاّ ان اداء اجتهاد كل واحد منهما إلى ذلك الحكم باجبار اللّه تعالى له لا باختيار المجتهد الى غير ذلك من مذاهب العامة في باب التصويب .

والصحيح عند المحققين من الشيعة : ان للّه سبحانه في كل واقعة حكماً ، ان ادّى اليه نظر المجتهد ، فهو ، وان ادّى إلى خلافه كان معذوراً ، لانّه « لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وِسْعَهَا »(1) .

وعليه : ( قلت : لو سلم كون هذا ) اي حدوث المصلحة بسبب الخبر ، وتبدل المفسدة إلى المصلحة ( تصويباً مجمعاً على بطلانه ) عند الشيعة ( واغمضنا النظر عما سيجيء ، من عدم كون ذلك تصويباً ) لانا نقول : هذا من قبيل تبدّل الحكم بتبدّل الموضوع ، كما ان المسافر يصلّي قصراً والحاضر يصلّي تماماً ، والصحيح يتوضأ ، والمريض يتيمّم ، وهذا ليس من التصويب في شيء ، ففي المقام الَّذي نقول بتبدّل الحكم ، بسبب قيام ظاهر الاية او الخبر - عند الفقيه - ليس من التصويب ، بل استظهار الفقيه واعتماده على الخبر - وكلاهما مأمور به شرعاً - بدّل الحكم من الواقع الاول ، إلى الواقع الثاني .

ثم لا يخفى : انه ليس مراد المصنّف قدس سره من صلاة الجمعة - الَّتي قام عليها الخبر اشتباهاً - : انها تكون ذا مصلحة ، بل مراده : ان في سلوك هذا الطريق مصلحة تفوق مفسدة الواقع ، فلا يستشكل عليه بما قاله جمع من المعلقين على

ص: 35


1- - سورة البقرة : الآية 286 .

كان الجوابُ به عن ابن قبة من جهة أنّه أمر ممكن غيرَ مستحيل وإن لم يكن واقعا ، لاجماع او غيره ، وهذا المقدار يكفي في ردّه ، إلاّ أن يقال : إنّ كلامه قدس سره ، بعد الفراغ عن بطلان التصويب ، كما هو ظاهر استدلاله .

------------------

الكتاب : بان كلامه الاتي يكون حول المصلحة السلوكية ، وهذا الكلام حول تغير الواقع من ذي مفسدة إلى ذي مصلحة بل حاصل مراد المصنّف قدس سره ان هناك مصلحة سلوكية ، ومفسدة واقعية ترجّح على تلك المصلحة ، لا ان في ا لواقع تحدث مصلحة تقاوم المفسدة .

( كان الجواب به ) اي بحدوث المصلحة السلوكية ( عن ابن قِبة ، من جهة انه ) اي تبدّل المصلحة والمفسدة بجهة قيام الطريق ( أمر ممكن غير مستحيل ، وان لم يكن ) هذا التبدّل ( واقعاً ) شرعاً ، وانّما لم يكن واقعاً( لاجماع او غيره ) .

والحاصل : ان ابن قِبة قال : التعبد بالخبر محال ، لانه تحليل للحرام وتحريم للحلال ، اجبنا عنه :

اولاً : بان قيام الخبر يغيّر الواقع ، فان قال : تغيير الواقع تصويب اجبنا عنه :

ثانياً : بانه لو كان تصويباً لم يكن محالاً - كما ادعاه هو - بل يكون ممكناً غير واقع ، وفرق واضح : بين المحال ، وبين الممكن ، الَّذي ليس بواقع .

( وهذا المقدار يكفي في ردّه ) و ( الا ان يقال ) اشكالكم الثاني ليس بوارد على ابن قِبة ل- ( ان كلامه قدس سره بعد الفراغ عن بطلان التصويب ) يعني ان ابن قِبة يقول : اذا كان التصويب باطلاً ، كان التعبد محالاً ، لا انه يقول : التعبد محال مطلقاً ، ولو على نحو التصويب ( كما هو ظاهر استدلاله ) فانه استدل لامتناع التعبد : بانه مستلزم لتحليل الحرام وتحريم الحلال ، ومن الواضح : انه لا امتناع في التعبد الاّ بعد بطلان التصويب شرعاً .

ص: 36

وحيث انجرَّ الكلام إلى التعبّد بالأمارات الغير العلميّة ، فنقول في توضيح هذا المرام ، وإن كان خارجا عن محلّ الكلام : إنّ ذلك يتصوّرُ على وجهين :

الأوّلُ : أن يكونَ ذلك من باب مجرّد الكشف عن الواقع ،

------------------

( وحيث انجرّ الكلام إلى ) امكان ( التعبد بالامارات غير العلمية ) وانّما انجر الكلام لان اصل البحث كان في الكبرى وهو : امكان التعبد بالظن ، وفي انه واقع ام لا ؟ لا في الصغرى كأن يكون الكلام في انه : هل يمكن وجود الانسان ؟ وهل ان الانسان موجود ؟ ثم يتكلم حول وجود زيد ، وواضح : ان امكان الكبرى ووجودها في الجملة ، لا يلازم وجود بعض الصغريات ( فنقول في توضيح هذا المرام ) اي التعبد بالامارة ( وان كان خارجاً عن محل الكلام ) لان كلام الاصولي في الكليات لا في الجزئيات ، فاذا تكلم المنطقي حول وجود زيد او عدمه ، كان خارجاً عن مبحث المنطق ، لان بحث المنطقي يجب ان يكون عن كلّي الانسان .

( ان ذلك ) التعبد بالامارة ( يتصور على وجهين ) الطريقيّة ، والسببيّة .

ف( الاول : ان يكون ذلك ) التعبد بالامارة طريقيا ، كما اذا قال عليه السلام : «يونُس ، ثِقَةٌ ، خُذ مِنهُ مَعالِمَ دِينِكَ »(1) .

بأن كان ( من باب مجرد الكشف عن الواقع ) فالامام عليه السلام اراد من ذلك : ان قول يونس ، كاشف عن الواقع فاذا اخطأ يونس لم يصل إلى العبد شيء ، كما اذا قال المولى لعبده اذا ضللت طريق مكة ، فاسأل الناس الاعراب ، فانه لا مصلحة في سؤل الاعراب الاّ الوصول إلى مكة المكرمة ، ، فاذا اخطأوا ، لم

ص: 37


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص147 ب11 ح33448 ، بحار الانوار : ج2 ص251 ب29 ح67 .

فلا يلاحظ في التعبّد بها الاّ الايصالُ إلى الواقع ، فلا مصلحةَ في سلوك هذا الطريق وراء مصلحة الواقع ، كما لو أمر المولى عبده عند تحيّره في طريق بغداد بسؤال الأعراب عن الطريق ، غيرَ مُلاحظ في ذلك إلاّ كونَ قول الأعراب موصلاً إلى الواقع دائما او غالبا ، والأمرُ بالعمل في هذا القسم ليس إلاّ للارشاد .

------------------

يكن للعبد شيء (فلا يلاحظ في التعبد بها ) اي بالامارة ( الاّ الايصال إلى الواقع ) فان وصل فهو والاّ فلا شيء للعبد ( فلا مصلحة في سلوك هذا الطريق ) والعمل به ( وراء مصلحة الواقع) فيكون كقول الطبيب : اشرب دواء كذا حيث انه اذا اخطأ لم يكن للمريض مصلحة في شرب الدواء ( كما لو امر المولى عبده عند تحيّره في طريق بغداد ) والعبد يريد الذهاب اليه ( بسؤل الاعراب ) ومفرده : اعرابي وهم اهل البادية ، قال سبحانه : « قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا »(1) . اما العرب ، ومفرده : عربي ، فهو من يتكلم بلغة العرب ، كما ان النسبة إلى العرب عربي ايضاً ، قال سبحانه : « بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِيْن »(2) .

( عن الطريق ، غير ملاحظ ) المولى ( في ذلك ) الَّذي امر به عبده ( الا كون قول الاعراب ، موصلاً إلى الواقع ) الَّذي يريده العبد من الوصول إلى بغداد( دائماً او غالباً و ) من المعلوم : ان ( الامر بالعمل ) على قول الاعراب ( في هذا القسم ليس الاّ للارشاد ) فليس امراً مولويّاً وكذلك الحال في بعض الامارات ، وقد ورد في بعض الروايات : السؤل عن الامام عليه السلام في معرفة الميقات في باب الحج ، فقال عليه السلام : « لِيَسأَل النَّاس الأَعرَاب » (3) .

ص: 38


1- - سورة الحجرات : الآية 14 .
2- - سورة الشعراء : الآية 195 .
3- - وسائل الشيعة : ج11 ص315 ب5 ح14902 وفيه «والأعراب» .

الثاني : أن يكونَ ذلك لمدخليّة سلوك الأمارة في مصلحة العمل وإن خالف الواقع ، فالغرضُ إدراكُ مصلحة سلوك هذا الطريق ، التي هي مساوية لمصلحة الواقع ، او أرجح منها .

------------------

ولا يخفى : ان قول الشارع : صلّ ، يسمّى بالامر المولوي ، لان المصلحة في ذات المأمور به ، وهو الصلاة ، اما قول الشارع : « صدّق العادل » - مثلاً - فليس الاّ امراً ارشادياً ، لانه لا مصلحة في ذات تصديق العادل ، وانّما هو ارشاد إلى حكم العقل بلزوم سلوك الطريق ليصل العبد إلى اوامر المولى ، ومن قبيل الامر الارشادي ، «أَطِيْعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول »(1) ، وما اشبه ذلك .

هذا كله في القسم الاول : وهو الاوامر الطريقية حيث لا مصلحة في ذات الطريق .

( الثاني ) : الاوامر السببيّة ، ب- ( ان يكون ذلك ) التعبد بامارة غير علميّة انّما هو (لمدخلية سلوك ) العبد وفق ( الأمارة في ) حدوث ( مصلحة ) في نفس ( العمل ) بالامارة ( وان خالف الواقع ) فان اوصلت الأمارة إلى الواقع ، فللمكلف مصلحة الواقع ، وان خالفت الأمارة الواقع ، كما للعبد مصلحة سلوك هذاالطريق ، كمااذا قال المولي لعبده : اتبع قول ولدي ، فان طابق قولي ، فلك اجر الواقع ، وان اشتبه الولد وخالف قولي فاني اعطيك شيئاً لئلاّ تضيع اتعابك ( فالغرض ) من التعبد : ان العبد أن فاته ادراك الواقع ، لم يفته ( ادراك مصلحة سلوك هذا الطريق ، الَّتي هي ) اي تلك المصلحة ( مساوية لمصلحة الواقع ، او ارجح منها ) .

وقد تقدّم : ان المصلحة السلوكية ، قد تكون اقل من مصلحة الواقع ، كما اذا

ص: 39


1- - سورة محمّد : الآية 33 .

أمّا القسمُ الأوّل فالوجهُ فيه لا يخلو من أمور :

أحدُها : كونُ الشارع العالم بالغيب عالما بدوام موافقة هذه الأمارات للواقع وإن لم يعلم بذلك المكلّف .

الثاني : كونُها في نظر الشارع غالبَ المطابقة .

------------------

كان مصلحة الواقع ديناراً ، ومصلحة السلوك : ديناراً الاّ ربع ، لكن الربع الفاقد ، لا يوجب تداركاً من المولى ، بل من قبيل : مصلحة المستحبات ، حيث ليست بقدر يوجب ايجاب ذلك المستحب . وقد تكون اكثر من مصلحة الواقع .

( اما القسم الاول : ) وهو ما كان من باب الكشف عن الواقع ، بدون ان يكون لسلوك الطريق مصلحة ( فالوجه ) المتصور ( فيه ) اي في ايجاب الشارع العمل بالامارة ( لا يخلو من امور ) ثلاثة ، اذا كان احدها أوجب الشارع العمل طبق الأمارة .

( احدها : كون الشارع العالم بالغيب ) والعالم بانه كم تطابق الأمارة للواقع ، وكم لا تطابقه ( عالماً بدوام موافقة هذه الامارات ) كالخبر ، والشهرة ، والاجماع المنقول ، والسيرة ، ونحوها ( للواقع ) ولهذا عبّد بالامارات ، اذ ايّ فرق حينئذٍ بين ان يحصل المكلّف العلم بالواقع أو أن يعمل بالامارة المطابقة للواقع دائماً ، ففي كليهما يدرك تمام مصلحة الواقع ( وان لم يعلم بذلك ) التطابق الدائم للامارة مع الواقع (المكلّف ) اذ ليس الشرط : علم المكلّف ، بل علم المولى كافٍ في تشريع الأمارة .

( الثاني : كونها ) اي الأمارة ( في نظر الشارع غالب المطابقة ) مع الواقع ، بينما القطع دائم المطابقة ، فاذا اتبع العلم وصل إلى الواقع مائة في المائة ، بينما ا ذا اتبع امارة وصل إلى الواقع تسعين في المائة .

ص: 40

الثالث : كونُها في نظره أغلبَ مطابقةً من العلوم الحاصلة للمكلّف بالواقع ، لكون أكثرها في نظر الشارع جهلاً مركّبا .

والوجهُ الأوّلُ والثالثُ يوجبان الأمر بسلوك الأمارة ولو مع تمكّن المكلّف من الأسباب المفيدة للقطع ، والثاني لايصحّ إلاّ مع تعذّر باب العلم ، لأنّ تفويتَ الواقع على المكلّف ، ولو في النادر من دون تداركه بشيء قبيحٌ .

------------------

( الثالث ) : عكس الثاني ، وهو : ( كونها ) اي الأمارة ( في نظره ) اي نظر الشارع ( اغلب مطابقة من العلوم الحاصلة للمكلف بالواقع ) بان تكون مطابقة العلوم تسعين في المائة وامارة خمسة وتسعين في المائة ( لكون ) العلوم ، أو ( اكثرها ، في نظر الشارع جهلاً مركباً ) فالقطع يكون فيه الخطأ اكثر ممّا في الأمارة.

( والوجه الاول ، والثالث ، يوجبان الامر بسلوك الأمارة ) اذ التطابق الدائم ، والتطابق الغالب في الأمارة يجعل الأمارة مساوية للقطع ، او افضل من القطع ( ولو مع تمكن المكلّف ) في حال الانفتاح ( من الاسباب المفيدة للقطع ) اذ لا محذور في جعل الأمارة في هذين الوجهين .

( و ) في الوجه ( الثاني لا يصح ) الامر بالعمل بالامارة في حال الانفتاح ، اذ العلم اكثر اصابة من الأمارة ( الاّ مع تعذّر باب العلم ) وحصول الانسداد ، وانّما لا يصح الا مع الانسداد ( لان تفويت ) مصلحة ( الواقع على المكلّف ، ولو في النادر ) كما اذا كان مطابقة العلم مع الواقع : مائة في المائة ، والأمارة : تسع وتسعين في المائة ( من دون تداركه بشيء قبيح ) عقلاً فاذا كانت الأمارة طريقية فقط ، لا سببيّة ، وكانت توجب تفويت بعض الواقع ، صح جعلها في حال الانسداد ، لا في حال الانفتاح ، الَّذي يكون العلم اكثر تطابقاً للواقع من الامارات .

ص: 41

وأمّا القسمُ الثاني فهو على وجوه :

أحدُها : أن يكون الحكم - مطلقا - تابعا لتلك الأمارة ،

------------------

ولا يخفى : ان هذا التقسيم الثلاثي للمصنف انّما هو من باب المثال ، والاّ فالاقسام ستة عشر ، حاصلة من ضرب الاقسام الاربعة للقطع ، وهي : دوام المطابقة واغلبيّة المطابقة ، وتساوي المطابقة واقليّة المطابقة ، مثل ان يطابق القطع مائة في مائة ، او بين الخمسين والمائة ، او خمسين في المائة ، او دون الخمسين في المائة في الاقسام الاربعة للامارة ، لكن بعض هذه الاقسام الستة عشر متداخل في بعض ، فالمساوي من القطع والأمارة قسم واحد ، لا قسمان ، وهكذا .

ولا يخفى ايضاً : انه اذا كان كلاًّ من القطع والأمارة ، غالب المطابقة ، أو نادر المطابقة - مثلاً - فقد يتساويان عدداً ، وقد تفوق الأمارة ، وقد يفوق القطع .

( وامّا القسم الثاني : ) الَّذي يتعبد فيه بالامارة لمصلحة سببيّة ، بان لم يكن الأمارة طريقاً محضاً ، بل في سلوكها بعض المصلحة ( فهو ) ايضاً ( على وجوه : احدها : ان يكون الحكم ) للجاهل ( مطلقاً ) بجميع مراتب الحكم ( تابعاً لتلك الأمارة ) القائمة على الحكم فليس - مثلاً - لصلاة الجمعة حكم في الواقع ، فاذا ادّت الأمارة إلى وجوبها ، صارت واجبة في الواقع ، واذا ادّت الأمارة إلى حرمتها ، صارت محرمة في الواقع ، وهكذا .

ثم انهم ذكروا : ان للحكم مراتب اربع :- الاولى : مرتبة الاقتضاء والشأنيّة : بان يكون في الفعل مصلحة او مفسدة بحدّ المنع عن النقيض ، او بدونه ، او لا مصلحة ولا مفسدة ، كما في المباح ، وان لم ينشى ء الحكم بعد .

الثانية : مرتبة الانشاء : بان يقول المولى : الشيء الفلاني واجب - مثلاً- .

ص: 42

بحيث لايكون في حقّ الجاهل مع قطع النظر عن وجود هذه الأمارة وعدمها حكمٌ ، فتكون الأحكامُ الواقعيّة مختصّةً في الواقع بالعالمين بها ، والجاهل مع قطع النظر عن قيام أمارة عنده على

------------------

الثالثة : مرتبة الفعلية : بان يبلغ المولى الحكم بسبب الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم .

الرابعة : مرتبة التنجّز : وهو ان يصل الحكم إلى المكلّف ، حتَّى يكون امتثاله طاعة ، ومخالفته معصية .

وربما يستفاد بعض هذه المراتب ، من الاخبار الواردة في كون ليالي القدر ثلاث .

وقال بعضهم : ان احكامه سبحانه كاحكام الدول .

فأولاً : يكون اقتضاء في الحكم .

وثانياً : تحكم الدولة حسب ذلك الاقتضاء .

وثالثاً : يعلن الحكم بواسطة وسائل الاعلام إلى الناس .

ورابعاً : من علم بالحكم فلم يفعل ، عوقب على المخالفة .

وعليه : فالحكم تابع للامارة ( بحيث لا يكون في حقّ الجاهل ، مع قطع النظر عن وجود هذه الامارة ) القائمة على الحكم ( وعدمها حكم ) اصلاً ( فتكون الاحكام الواقعيّة ) من : صلاة ، وصوم ، وحج ، وحرمة شرب الخمر ، والزنا ، والرّبا ، إلى غيرها ( مختصّة في الواقع ) ونفس الامر ( بِالعَالِمِيْنَ بها ) بالكسر ، فالجاهل لا حكم له اطلاقاً ، ولا اشتراك بين العالم والجاهل في الحكم ، وانّما يحدث الحكم على الانسان بسبب الأمارة .

( و ) على هذا ف( الجاهل مع قطع النظر ، عن قيام امارة عنده ) قياماً ( على

ص: 43

حكم العالمين لا حكمَ له او محكومٌ بما يعلم اللّه أنّ الأمارة تؤدّي إليه ، وهذا تصويبٌ باطلٌ عند أهل الصواب من التخطئة ،

------------------

حكم العالمين ، لا حكم له ) اطلاقاً ( او محكوم بما يعلم اللّه : ان الأمارة تؤّي اليه ) والفرق بين : « لا حكم له » وبين : « او محكوم » :

ان الاول : لا حكم في اللوح المحفوظ - اطلاقاً - حتَّى تقوم الأمارة عند الجاهل ، فيثبت فيه الحكم - مثلاً - .

والثاني : ان الحكم قبل قيام الأمارة موجودة في اللوح المحفوظ ، لكن هذا الحكم ليس على طبق المصلحة والمفسدة بل على طبق ما تؤي اليه الأمارة عند الجاهل ، فان اللّه يعلم بان ابا حنيفة - مثلاً - يحكم بوجوب صلاة الجمعة ، فيثبت الوجوب في اللوح المحفوظ ، فحكم اللّه تابع لحكم ابي حنيفة ، لا ان حكم ابي حنيفة تابع لحكم اللّه ( وهذا ) الوجه ( تصويب ) وهو ( باطل عند اهل الصواب ) والحق من الشيعة (من ) القائلين ب( التخطئة ) والقائلين بان المجتهد قد يصيب وقد يخطيء ، وانّما للّه احكام واقعيّة ان وصل المجتهد اليها فهو مصيب ، وان لم يصل اليها فهو على خطأ ، نعم هو معذور ، وقد ورد في بعض الروايات كما في حاشية السلطان على المعالم : « إنّ لِلمُصِيبِ أجرَين وَلِلمُخْطِيء أجراً واحِدا »(1) .

فالاجران الأوّلان : للجهد ، والواقع ، والأجر للمخطيء : من جهة الجهد ، قال تعالى : « أَنّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ ... »(2) .

ص: 44


1- - حاشية سلطان العلماء على المعالم ص 80 .
2- - سورة آل عمران : الآية 195 .

وقد تواترت بوجود الحكم المشترك بين العالم والجاهل الأخبارُ والآثارُ .

الثاني : أن يكون الحكمُ الفعليّ تابعا لهذه الأمارة ، بمعنى : أنّ للّه في كلّ

------------------

( وقد تواترت ) الاخبار ( بوجود الحكم المشترك بين العالم والجاهل ) فسواء علم ، او لم يعلم ، قصوراً ، او تقصيراً ، له حكم ، كما دلّت على ذلك ( الاخبار ) الواردة ، (والاثار ) والاجماع قام على ذلك بالاضافة إلى انّهم استدلوا على بطلان التصويب : بلزوم الدور ، فاذا قال المولى : « اذا علمت بحرمة الخمر ، فهو حرام » يلزم ان تكون الحرمة قبل « العلم » وبعد « العلم » وقد ورد في تفسير الاية الكريمة : «قُلْ : فَللّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ »(1) ، انه يقال للعبد يوم القيامة : هل عملت ؟ فاذا قال : لم اكن اعلم ، يقال : هلاّ تعلمت ؟ (2) وعلى هذا : فللّه الحجة البالغة .

هذا ، ولكن لا يخفى : ان انشاء الحكم ، في حقّ الجاهل القاصر ، الَّذي لا يصل إلى الحكم اطلاقاً ، غير ظاهر الوجه ، اذ الحكم لا فائدة له حينئذٍ ، ولعلّ في روايات : امتحان الجاهلين في يوم القيامة كمن كان في فترة من الرّسل ، دلالة على عدم انشاء الحكم لهم في الدّنيا .

وعليه : فما دلّ على اشتراك الجاهل والعالم ، خاص بالجاهل ، الَّذي يكون لجعل الحكم عليه اثر .

( الثاني ) من وجوه التصويب : ان للّه حكماً في واقعة ، لكلّ عالم وجاهل ، لكن اذا خالف رأي ابي حنيفة الواقع - مثلاً - محى اللّه ذلك الحكم الواقعي ، واثبت رأي ابي حنيفة مكانه ، وذلك ب( ان يكون الحكم الفعلي ) في حقّ المكلّف ، لا الحكم مطلقاً (تابعاً لهذه الأمارة ) القائمة فعلاً ( بمعنى : ان للّه في كلّ

ص: 45


1- - سورة الانعام : الآية 149 .
2- - الامالي للمفيد : ص292 .

واقعة حكما يشترك فيه العالم والجاهل لولا قيامُ الأمارة على خلافه ، بحيث يكون قيام الأمارة المخالفة مانعا عن فعليّة ذلك الحكم ، لكون مصلحة سلوك هذه الأمارة غالبةً على مصلحة الواقع .

فالحكمُ الواقعيّ فعليٌّ في حق غير الظّان بخلافه ، وشأنيٌّ في حقّه بمعنى وجود المقتضي لذلك الحكم لولا الظنّ على خلافه .

------------------

واقعة حكماً ) واقعياً ، ثابتاً في اللوح المحفوظ ( يشترك فيه العالم والجاهل ) على حدّ سواء ( لولا قيام الأمارة على خلافه ) فقيام الأمارة على خلاف ذلك الحكم الواقعي ، يوجب محو ذلك الحكم الواقعي ( بحيث يكون قيام الأمارة المخالفة ) لحكم اللّه الواقعي ( مانعاً عن فعليّة ذلك الحكم ) .

وانّما يمحى ذلك الحكم الواقعي ( لكون مصلحة سلوك هذه الأمارة ) المؤيّة إلى خلاف حكم اللّه الثابت في اللوح المحفوظ ( غالبة على مصلحة الواقع ) غلبة توجب اضمحلال الحكم الواقعي ، فاذا أثبت اللّه وجوب صلاة الجمعة في اللوح المحفوظ وادّى رأي أبي حنيفة - مثلاً - إلى حرمتها ، كان حكم المكلّف : الحرمة من قبل اللّه سبحانه ، لا الوجوب الَّذي اثبته اللّه اولاً .

( فالحكم الواقعي ) المشترك بين العالم والجاهل ( فعلي في حقّ ) العالم بالواقع ، لا في حقّ ( غير ) العالم ( الظانّ بخلافه ) اي بخلاف الحكم الواقعي .

( وشأني في حقّه ) اي في حقّ الظان بالخلاف ، فان له شأن الحكم واقتضائه ، من جهة المصلحة الكامنة فيه ، وان كانت المصلحة مندكّة بسبب مصلحة اقوى ، فالشأنيّة (بمعنى : وجود ) المصلحة في الواجب ، والمفسدة في الحرام ( المقتضي لذلك الحكم ) الواقعي ( لولا الظن على خلافه ) فاذا قام الظن بالخلاف بسبب الأمارة ، يبقى الواقع في مرحلة الشأنيّة ، بدون ان يصل إلى

ص: 46

وهذا أيضا كالأوّل في عدم ثبوت الحكم الواقعيّ للظانّ بخلافه ، لأنّ الصفة المزاحمة بصفة اُخرى لاتصير منشأ للحكم ، فلا يقال للكذب النافع : إنّه قبيحٌ واقعا .

والفرقُ بينه وبين الوجه الأوّل ،

------------------

الفعلية .

( وهذا ) القسم الثاني من التصويب ( ايضاً ك) القسم ( الاول ) الَّذي تقدّم ( في عدم ثبوت الحكم الواقعي للظانّ بخلافه ) اي بخلاف الحكم الواقعي ( لان الصفة ) الواقعيّة من المصلحة والمفسدة ( المزاحمة بصفة اخرى ) حيث ان قيام الأمارة على خلاف الواقع يزاحم الواقع وينسخه ف( لا تصير منشأً للحكم ) اذ المصلحة في وجوب الجمعة ، تندك بسبب المفسدة الَّتي صارت للجمعة بسبب قيام الأمارة على حرمتها .

فالكذب - مثلاً - قبيح بذاته ، لكن اذا صار فيه جهة صلاح اهم ، بان كان موجباً لانقاذ انسان مسلم - مثلاً - حيث يسأل الجائر زيداً عنه ، فاذا قال : في الدار ، ذهب وقتله فالصلاح حينئذٍ في الكذب ، بان يقول : لا اعلم لينقذ مسلماً من القتل فان هذا الكذب ، القبيح في ذاته ، صار حسناً ( فلا يقال للكذب النافع : انه قبيح واقعاً ) .

وكذلك الصدق الضّار ، ليس حسناً ، بل قبيح ، فإن الصفات الطارئة تغير من الصفات السابقة ، وبتغيير الصفة يتغيّر الحكم .

( والفرق بينه ) اي بين هذا القسم الثاني من التصويب ( وبين الوجه الاول ) يكون من وجهين :

اولاً : ان في الوجه الاول : لا حكم في الواقع ، وفي الوجه الثاني : كان حكم ،

ص: 47

بعد اشتراكهما في عدم ثبوت الحكم الواقعيّ للظانّ بخلافه ، أنّ العاملَ بالأمارة المطابقة حكمهُ حكمُ العالم ولم يحدث في حقّه بسبب ظنّه حكم ، نعم ، كان ظنّه مانعا عن المانع ، وهو الظنّ بالخلاف .

------------------

لكن كونه خلاف الأمارة غيّره إلى حكم مطابق للامارة .

ثانياً : من يعمل بالامارة في الاول ، يحدث له الحكم بسبب الأمارة ، اما العامل بالامارة في الثاني ، اذا كانت الأمارة مطابقة للواقع ، لا يحدث له الحكم ، لان المفروض ان الحكم موجود في الواقع ، وقد فرض وصول الأمارة اليه .

وعليه : فالوجهان ( بعد اشتراكهما في عدم ثبوت الحكم الواقعي للظانّ بخلافه ) اي بخلاف الحكم الواقعي ، اذ في الاول : لا حكم واقعي قبل الأمارة ، وفي الثاني : كان حكم لكن الأمارة غيرت ذلك الحكم (: ان العامل بالامارة المطابقة ) للواقع (حكمه حكم العالم ) فهناك واقع اذا وصلت الأمارة اليه ، وكان العالم والجاهل مشتركان فيه ( ولم يحدث في حقّه ) حقّ العامل ( بسبب ظنّه ) الاماري ( حكم ) آخر .

( نعم ، كان ظنه ) المطابق للواقع ( مانعاً عن المانع و ) المانع ( هو الظن بالخلاف ) حتَّى يسبب هذا الظنّ بالخلاف تبدّل الواقع إلى مؤّى الأمارة .

والحاصل : ان في الوجه الاول - وهو : عدم حكم في الواقع -: بالامارة يحدث الحكم .

وفي الوجه الثاني - وهو وجود الحكم في الواقع -: اذا طابقت الأمارة للواقع لم يحدث حكم ، واذا خالفت الأمارة الواقع ، حدث حكم جديد ومحي الحكم المجعول اولاً .

ولا يخفى : ان قول المصنّف قدس سره : « المانع عن المانع » تعبير مسامحي ، اذ

ص: 48

الثالثُ : أن لاتكون للأمارة القائمة على الواقعة تأثيرٌ في الفعل الذي تضمّنت الأمارة حكمه ، ولا تحدث فيه مصلحة ، الاّ أنّ العملَ على طبق تلك الأمارة ، والالتزام به في مقام العمل على انّه هو الواقع ، وترتيبَ الاثار الشرعية المترتبة عليه واقعا يشتمل على مصلحة

------------------

عدم الأمارة على الخلاف ، ليس مانعاً حتَّى تكون الأمارة على الوفاق مانعاً عن المانع .

( الثالث ) من وجوه السببيّة : ( ان لا تكون للامارة القائمة على الواقعة ، تأثير في الفعل الَّذي تضمّنت الأمارة حكمه ) فالجمعة اذا كانت محرّمة عند الشارع في الواقع ، وقامت الأمارة على انها واجبة ، فالخبر القائم على الوجوب ، لا تأثير له في تبدّل الواقع عن الحرمة إلى الوجوب ( ولا تحدث فيه ) اي في فعل ذلك الشيء (مصلحة) بل الجمعة باقية على المفسدة ، لفرض انها محرمة واقعاً .

( الاّ ان العمل على طبق تلك الأمارة ) كالخبر الَّذي يقول : بوجوب الجمعة (والالتزام ) القلبي ( به ) اي بذلك الخبر( في مقام العمل ) اي في وقت العمل ( على انه ) اي ما ادّى اليه الخبر( هو الواقع ) الَّذي يريده الشارع من المكلّف ( وترتيب الاثار الشرعيّة المترتّبة عليه ) اي على الواقع ( واقعاً ) كلزوم السعي اليها اول وقتها ، كما قال سبحانه : « إِذَا نُوْدِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُوا البَيْعَ »(1) .

وحرمة تأخيرها عن وقتها ، واستحباب النافلة لها ، ووجوب استماع الخطبتين إلى غير ذلك من احكام الجمعة ( يشتمل على مصلحة ) فليست المصلحة في

ص: 49


1- - سورة الجمعة : الآية 9 .

فاوجب الشارع ، ومعنى ايجاب العمل على الأمارة وجوب تطبيق العمل عليها ، لا وجوب ايجاد عمل على طبقها ،

------------------

صلاة الجمعة ، وانّما في اتباع الخبر الَّذي يدل على وجوبها ( فاوجب ) اي اوجب هذا العمل (الشارع ) لتلك المصلحة السلوكية ، لا لاجل مصلحة في الواقع المأتي به من صلاة الجمعة .

ثم لا يخفى : انه يلزم ان يتدارك الشارع بالمصلحة السلوكية مصلحة الواقع ، الَّتي تفوت بسبب الأمارة ، فيما اذا كان المكلّف يحرز تلك المصلحة اذا لم يضع الشارع الأمارة لأنه كان يتمكن - مثلاً - من العلم بالواقع ، فيأتي بالواقع - وقد تقدّم الالماع الى هذا سابقاً - .

( و ) ان قلت : كيف قلتم : يجب العمل على طبق الأمارة ؟ والحال ان الأمارة قد تدل على الاستحباب ، فلا يجب العمل على وفقها ، او تدل على الاباحة مثلاً .

قلت : ( معنى ايجاب العمل على الأمارة ) هو ( : وجوب تطبيق العمل عليها ) اي على تلك الأمارة ، بمعنى : اتباع الأمارة وجوباً او استحباباً ، او سائر الاحكام الخمسة .

( لا وجوب ايجاد عمل على طبقها ) بمعنى : ان اللازم على المكلّف ان دلّت الأمارة على احد الاحكام الخمسة ، العمل حسب مدلول الأمارة ، فان دلّت على الوجوب : عمل او على التحريم : ترك ، او على الاباحة : تخيّر ، او على الاستحباب : عمل مرجحاً الفعل على الترك او على الكراهة : ترك مرجحاً الترك على الفعل ، فيلتزم بمؤّى الأمارة وهذا الالتزام فيه المصلحة ، فيما كانت الأمارة مخالفة للواقع ويتدارك بهذه المصلحة السلوكية فوت مصلحة الواقع .

ص: 50

اذ قد لا تتضمن الأمارة الزاما على المكلّف ، فاذا تضمنت استحباب شيء او وجوبه تخييرا او اباحته ، وجب عليه اذا اراد الفعل ان يوقعه على وجه الاستحباب او الاباحة ، بمعنى حرمة قصد غيرهما ، كما لو قطع بهما ، وتلك المصلحة لابدّ أن تكون ممّا يتدارك بها ما يفوتُ من مصلحة الواقع ،

------------------

وانّما قلنا « ومعنى .. » ( اذ قد لا تتضمن الأمارة الزاماً على المكلّف ) في الفعل او في الترك ( فاذا تضمّنت استحباب شيء ) كغسل ليالي رمضان ، او كراهة شي ككراهة النوم بين الطلوعين ( او وجوبه تخييراً ) كوجوب كفارة القسم بين : الصيام ، والاطعام ، ( او اباحته ) كاباحة شرب التتن ، او حرمته تخييراً بان يترك هذا او ذاك .

( وجب عليه ) اي على المكلّف ( اذا اراد الفعل ) في المستحب والمباح ( ان يوقعه ) اي الفعل ( على وجه الاستحباب او الاباحة ) لا على وجه الوجوب ( بمعنى : حرمة قصد غيرهما ) .

وكذا اذا اراد ترك المكروه - الَّذي قامت الأمارة على كراهته - تركه بقصد : انه مكروه ، لا بقصد : انه حرام إلى غير ذلك ، فيكون حاله عند قيام الأمارة على الاستحباب او الاباحة ( كما لو قطع بهما ) فكيف كان يعمل او يترك ؟ كذلك اذا قامت الأمارة يعمل او يترك .

( و ) هكذا حال ما اذا دلّت الأمارة على سائر ما ذكرناه من الكراهة والوجوب التخييري ، او الحرمة التخييرية .

ثم ان ( تلك المصلحة ) السلوكية ( لابد ان تكون ممّا يتدارك بها ) اي بتلك المصلحة ( ما يفوت من مصلحة الواقع ) وذلك لان الشارع بسبب تشريعه الأمارة فوّت على المكلّف تلك المصلحة الواقعيّة ، ولا يجوز على الحكيم ان يفوّت المصلحة على احد ، بدون ان يتداركها ، فانه ظلم وهو قبيح عقلاً .

ص: 51

لو كان الأمر بالعمل به مع التمكن من العلم ، وإلاّ كان تفويتا لمصلحة الواقع ، وهو قبيح ، كما عرفت في كلام ابن قبة .

فان قلت : ماالفرق بين هذا الوجه الذي مرجعه إلى المصلحة في العمل بالأمارة وترتيب أحكام الواقع على مؤدّاها

------------------

ولزوم التدارك انّما يكون فيما ( لو كان الامر ) من الشارع ( بالعمل به ) اي بما وضعه من الأمارة ( مع التمكن ) اي تمكن المكلّف ( من العلم ) بحيث اذا ترك المولى العبد وصل إلى الواقع ، لكنه حيث جعل الأمارة عمل العبد على وفقها ، ففاتته مصلحة الواقع .

( والاّ ) بأن لم يتدارك المولى المصلحة الفائتة - في حال الانفتاح وحين تمكن المكلّف من الوصول إلى الواقع لولا الأمارة - ( كان ) أمر المولى بالعمل بالامارة (تفويتاً ) على العبد ( لمصلحة الواقع وهو ) اي هذا التفويت ( قبيح ) عقلاً ( كما عرفت ) قبحه ايضاً ( في كلام ابن قِبة ) المتقدم .

( فان قلت : ) ان الوجه الثالث ، الَّذي ذكرتموه من المصلحة السلوكيّة يطابق الوجه الثاني الَّذي حكمتم : بانه تصويب باطل وكان عبارة عن : تغيير الواقع بسبب الأمارة .

ف- ( ما ) هو ( الفرق بين هذا الوجه - الَّذي مرجعه إلى المصلحة في العمل بالامارة ، وترتيب احكام الواقع ) هو مثل السعي إلى الجمعة ، والاستماع إلى الخطبة ، وغير ذلك - ممّا تقدّم الكلام حوله - ( على مؤدّاها - ؟ ) اي مؤّى الأمارة .

وانّما قال : « مرجعه » لان هذا الوجه الثالث : دلّ على ان في السلوك مصلحة ولازم كون السلوك ذا مصلحة بسبب قيام الأمارة ، هو : وجود المصلحة : في العمل بالأمارة .

ص: 52

وبين الوجه السابق الراجع إلى كون قيام الأمارة سببا لجعل مؤدّاها على المكلّف ؟ .

مثلاً : إذا فرضنا قيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة مع كون الواجب في الواقع هي الظهر فان كان في فعل الجمعة مصلحةٌ يتدارك بها مايفوت بترك صلاة الظهر ، فصلاة الظهر في حق هذا الشخص خاليةٌ عن المصلحة الملزمة

------------------

( وبين الوجه السابق ) اي الثاني من الوجهين الاوّلين ، حيث كان اولهما : ان لا حكم في الواقع ، وثانيهما : انه للواقع حكم ، لكن اذا وصل رأي الفقيه إلى غيره محي ذلك الواقع ، واثبت مكانه هذا الَّذي رآه الفقيه ( الراجع ) ذلك الوجه الثاني ( إلى كون قيام الأمارة ، سبباً لجعل ) الشارع ( مؤّاها ) اي مؤّى تلك الأمارة حكماً واقعياً ( على المكلّف ) .

والحاصل : انه ايّ فرق بين التصويب القائل : بحدوث المصلحة في المؤّى - بالفتح - وبين قولكم : بالمصلحة السلوكية وان السلوك ذو مصلحة ، فان النتيجة واحدة اذ في كلا الحالين يضمحل الحكم الواقعي ويتبدّل بحكم آخر ، فالثالث كالثاني تصويب ايضاً.

( مثلاً : اذا فرضنا ) حرمة الجمعة في زمن الغيبة لكن كان ( قيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة ، مع كون الواجب في الواقع ) المقرّر عند اللّه ( هي الظهر ، فان كان في فعل الجمعة ) لأنّ سلوك الأمارة معناه فعل الجمعة ( مصلحة يتدارك بها ) اي بسبب هذه المصلحة ( ما يفوت ) من المصلحة الواقعية (ب) سبب ( ترك صلاة الظهر ، فصلاة الظهر في حقّ هذا الشخص ) الّذي قامت عنده الأمارة على خلاف الظهر ( خالية عن المصلحة الملزمة ) .

ص: 53

فلا صفة تقتضي وجوبها الواقعيّ ، فهنا وجوبٌ واحدٌ واقعا وظاهرا متعلّقٌ بصلاة الجمعة ؛ وإن لم يكن في فعل الجمعة صفة ، كان الأمر بالعمل بتلك الأمارة قبيحا ، لكونه مفوّتا للواجب مع التمكّن من إدراكه بالعلم ، فالوجهان مشتركان في اختصاص الحكم الواقعيّ

------------------

وعليه : فلا مصلحة تلزمه باتيان الظهر ، وحيث لا مصلحة ملزمة للظهر ( فلا صفة تقتضي وجوبها ) اي وجوب الظهر ( الواقعي ) فلا وجوب للظهر واقعاً ، لأن مصلحة الجمعة اسقطت مصلحة الظهر ونابت منابها ، فمصلحة الظهر - سواء من جهة السلوك ، كما هو الوجه الثالث ، او من جهة الجمعة ، كما هو الوجه الثاني - قد اضمحلّت في جانب مصلحة الجمعة ، الّتي قام عليها الأمارة.

( فهنا ) صار وجوب الظهر على كلا الحالين وجوباً شأنياً.

وانّما صار ( وجوب واحد ) فقط ( واقعاً ) لأنّ الجمعة صارت ذات مصلحة.

( وظاهراً ) لأنّ الأمارة قامت على طبق الجمعة.

وهذا الوجوب ( متعلق بصلاة الجمعة ) فلا ظهر يراد من المكلّف.

( و ) في هذه الحال : ( ان لم يكن في فعل الجمعة صفة ) لا في ذات الجمعة ولا في اتباع الخبر الدال عليها ( كان الأمر ) من الشارع ( بالعمل بتلك الأمارة ) الدالة على وجوب الجمعة ( قبيحاً ) فلماذا هذا الأمر الّذي لا فائدة فيه ، بل فيه الضرر ( لكونه مفوّتاً للواجب ) الاصلي وهو الظهر من دون تدارك لضرره ؟ .

( مع ) ان الشارع اذالم يكن يضع الأمارة كان للعبد ( التمكن من ادراكه ) اي ادراك الواجب الواقعي ( ب- ) سبب ( العلم ) الّذي كان يحصل عليه لأنّ المفروض انه في حال الانفتاح .

( فالوجهان : ) الثاني والثالث ( مشتركان ، في اختصاص الحكم الواقعي ) وهو

ص: 54

بغير من قام عنده الأمارة على وجوب صلاة الجمعة ، فيرجع الوجه الثالث إلى الوجه الثاني وهو كون الأمارة سببا لجعل مؤدّاها هو الحكم الواقعيّ لا غير ، وانحصار الحكم في المثال بوجوب صلاة الجمعة ، وهو التصويب الباطل .

قلت : أمّا رجوعُ الوجه الثالث إلى الوجه الثاني فهو باطلٌ ،

------------------

الواجب اولاً وبالذات كالظهر في المثال ( بغير من قام عنده الأمارة على وجوب صلاة الجمعة ) ففي كلا الوجهين ليس الواجب الأنّ قبل قيام الأمارة الجمعة ، بل الظهر ( ف- ) عند قيام الأمارة على الجمعة ( يرجع الوجه الثالث ) من المصلحة السلوكية ( إلى الوجه الثاني ) من تبدّل الحكم الواقعي بعد قيام الأمارة إلى مؤّى الأمارة ( وهو ) اي تأخر الحكم الواقعي إلى الشأنية ل- ( كون الأمارة سبباً لجعل مؤدّاها) وهي الجمعة في المثال ( هو الحكم الواقعي لا غير ، و) ذلك بسبب (انحصار الحكم ) الواقعي الّذي هو تكليف المكلّف فعلاً ( في المثال ) المتقدم (بوجوب صلاة الجمعة ) وجوباً فعلياً عليه ، وصيرورة الظهر واجباً شأنيّاً ، ولا يريده المولى من العبد حين قيام الأمارة على الجمعة ( و ) هذا ( هو التصويب الباطل ) بعينه .

( قلت ) : هذا الاشكال غير وارد ، وليس المصلحة السلوكية تصويباً ، بل تبدّل الواقع إلى مؤّى الأمارة تصويب ، فلا يقاس الوجه الثالث بالوجه الثاني.

( اما رجوع الوجه الثالث إلى ) الوجه ( الثاني فهو باطل ) لأنّ في الوجه الثاني : تتبدّل مصلحة الظهر إلى مصلحة الجمعة ، فالجمعة تكون واجبة واقعاً ، بينما في الوجه الثالث : الجمعة لا تكون واجبة واقعاً ، بل تبقى على عدم وجوبها ، وانّما المصلحة في سلوك الطريق كمن يذهب إلى النجف ويخطيء الطريق ، فأنه

ص: 55

لأنّ مرجعَ جعل مدلول الأمارة في حقّه الذي هو مرجعُ الوجه الثاني إلى أنّ صلاة الجمعة هي واجبة عليه واقعا ، كالعالم بوجوب صلاة الجمعة ، فاذا صلاّها فقد فعل الواجب الواقعيّ ، فاذا انكشف مخالفةُ الأمارة للواقع فقد انقلب موضوعُ الحكم واقعا إلى موضوع آخر ، كما اذا صار المسافرُ بعد صلاة القصر حاضرا ،

------------------

لا يصل إلى النجف ، وانّما يعطيه المولى اجر تعبه لسلوك الطريق ، بخلاف من يذهب إلى النجف واقعاً ، حيث يصل إلى النجف .

وذلك ( لأنّ مرجع جعل ) الشارع ( مدلول الأمارة في حقه ) حكماً واقعياً فعلياً ، ورفع يده عن حكمه الواقعي ( الّذي هو مرجع الوجه الثاني ) ممّا قلنا انه تصويب باطل ( إلى : ان صلاة الجمعة هي واجبه عليه ) بعد اداء الأمارة اليها وجوباً ( واقعاً ) وفي نفس الأمر ( كالعالم بوجوب صلاة الجمعة ) بان كان الواجب واقعاً صلاة الجمعة ، فعلم المكلّف بها وادّاها ، حيث ان صلاة الجمعة تكون له حينئذٍ التكليف الواقعي (فاذا صلاّها ) المكلّف ( فقد فعل الواجب الواقعي ) من دون ان يكون هنا حكم ظاهري مقابل الحكم الواقعي .

وعليه : فيكون هنا : موضوعان ، وحكمان ، من قام عنده الأمارة : حكمه الجمعة ، ومن علم : حكمه الظهر ( فاذا ) حصل العلم لمن قامت عنده الأمارة و ( انكشف مخالفة الأمارة للواقع ) تبدل حكمه ( فقد انقلب موضوع الحكم ) انقلاباً ( واقعاً إلى موضوع آخر ) هو موضوع العالم .

( كما اذا صار المسافر ، بعد صلاة القصر حاضراً ) فان المسافر له حكم والحاضر له حكم آخر .

وكما اذا انقلب الزوج إلى الفرد ، حيث اذا كان زوجاً ، وجبت عليه : النفقة

ص: 56

إذا قلنا بكفاية السفر في أوّل الوقت لصحّة القصر واقعا .

ومعنى وجوب العمل على طبق الأمارة وجوب ترتيب أحكام الواقع على مؤدّاها من دون أن يحدث في الفعل مصلحةٌ على تقدير مخالفة الواقع ، كما يوهمه ظاهر عبارتي العُدّة

------------------

وحرمت عليه : اخت الزوجة ، فاذا ماتت الزوجة ، او فسخ ، او طلقها ، انقلب إلى الفرد الّذي يباح له التزوج باختها ، ولم تجب النفقة عليه للزوجة المطلقة ، فهما موضوعان وحكمان .

هذا ، فيما ( اذا قلنا : بكفاية السفر في اوّل الوقت لصحة القصر واقعاً ) فاذا سافر اوّل الوقت صلّى قصراً ، ثم حضر ، انقلب تكليفه إلى التمام ، لكن صلاته القصر كانت كافية ، فلا حاجة إلى الاعادة والقضاء .

وهناك قول آخر : بان القصر الّذي صلاه ، كان مشروطاً بعدم الحضور في الوقت ، فاذا صلّى اوّل الوقت في السفر قصراً ، ثم حضر وقد بقي الوقت انكشف فساد ما أتى به ، وتبين ان الواجب عليه في هذا اليوم : التمام .

( ومعنى وجوب العمل على طبق الأمارة ) الّذي هو معنى سببية الطريق - كما ذكرناه في الوجه الثالث - ( وجوب ترتيب احكام الواقع على مؤاها ) اي مؤّى الأمارة ، فالحكم الواقعي وهو الظهر في المثال ، لم يتغير اصلاً وان ادّت الأمارة إلى الجمعة ( من دون ان يحدث في الفعل ) وهي الجمعة في المثال ( مصلحة على تقدير مخالفة ) المؤّى ( الواقع ) .

بخلاف الوجه الثاني : حيث يحدث في مؤّى الأمارة المصلحة ، ويسقط الواقع الاولي ، فالظهر الّذي كتبه اللّه سبحانه يسقط عن الوجوب و يكتب مكانه الجمعة (كما يوهمه ) اي يوهم تغير الواقع ( ظاهر عبارتي العدّة ) للشيخ قدس سره

ص: 57

والنهاية المتقدّمتين ، فاذا أدّت إلى وجوب صلاة الجمعة واقعا ، وجب ترتيبُ أحكام الوجوب الواقعيّ وتطبيقُ العمل على وجوبها الواقعيّ ، فان كان في أوّل الوقت جاز الدخولُ فيها بقصد الوجوب وجاز تأخيرُها ، فاذا فعلها جاز له فعلُ النافلة

------------------

( والنهاية ) للعلامة قدس سره ( المتقدمتين ) ممّا يوهم انهما يقولان : بالوجه الثاني ، لكن معلوميّة ابطالهما للتصويب ، يؤد : ان مرادهما هو الوجه الثالث : من المصلحة السلوكية .

وعلى ما ذكرناه : من كون الوجه الثالث ، يعطي المصلحة السلوكيّة ، لا المصلحة الواقعية ( فاذا ادّت ) الأمارة ( إلى وجوب صلاة الجمعة واقعاً ) وانّما قال : « واقعاً » لأنّ مؤّى الأمارة : انه واقع ، لم ينقلب الواقع عمّا هو عليه بل هنا حكم ظاهري فقط للجمعة وان ( وجب ) ظاهراً ( ترتيب احكام الوجوب الواقعي ، وتطبيق العمل على وجوبها الواقعي ) .

ولا يخفى : ان الترتيب ، والتطبيق امران : التطبيق : ان يصليها ، والترتيب : ان يسعى اليها ، ويستمع إلى الخطبة ، ويتنفل نوافلها- مثلاً - وهكذا.

وعليه : ( فان كان ) المكلّف ( في اوّل الوقت ) وقامت لديه الأمارة بوجوب الجمعة ( جاز الدخول فيها ) أي في صلاة الجمعة ( بقصد الوجوب ، وجاز تأخيرها ) إلى آخر وقت الجمعة ، لأنّ الانسان مخيّر في اول الوقت او آخره سواء في الجمعة ، او في الظهر .

منتهى الأمر : ان وقت الجمعة قصير ، ووقت الظهر إلى الغروب ، باستثناء مقدار وقت العصر .

( فاذا فعلها ) اي صلّى الجمعة ( جاز له فعل النافلة ) لانه ادّى التكليف الّذي

ص: 58

وإن حرمت في وقت الفريضة المفروضة كونها في الواقع هي الظهر ، لعدم وجوب الظهر عليه فعلاً ورخصةً في تركها ، وان كان في آخر وقتها حرام تأخيرُها والاشتغالُ بغيرها .

ثمّ إن استمرّ هذا الحكمُ الظاهريُّ - أعني الترخيص في ترك

------------------

هو الجمعة ، فلا وقت للفريضة الآن ، بينما اذا كان تكليفه الظاهري الآن : الظهر - بان كانت الجمعة باطلة - لم يجز له الآن النافلة ، لأن لم يصل الظهر بعد ، ولا يجوز النافلة في وقت الفريضة ، لمن يؤي الفريضة - على قول جمع من الفقهاء (وان حرمت) النافلة ( في وقت الفريضة المفروضة كونها ) اي تلك الفريضة (في الواقع ، هي : الظهر ) لفرض ان الأمارة اخطئت فلم تصب الواقع ، الّذي هو الظهر .

والحاصل : ان بعد قيام الأمارة يرتب المكلّف آثار الجمعة باتيان النافلة بعدها (لعدم وجوب الظهر عليه فعلاً ) بعد اتيان الجمعة الّتي قام عليها الأمارة حسب ظاهر الشرع ( ورخصة ) عطف على « عدم » اي لرخصة من الشارع (في تركها) اي في ترك الظهر ، ورخصة من الشارع : لانه بجعله الأمارة اباح عدم الفحص عن الواقع ، فاذا لم يفحص المكلّف ولم يصل إلى الظهر ، لم يكن معاقباً على الترك .

( وان كان ) قيام الأمارة ( في آخر وقتها ) بان كان - مثلاً - وقت الجمعة ساعة من اوّل الظهر ، فاذا قامت الأمارة عند المكلّف بوجوب الجمعة في اواخر الساعة المذكورة ( حرام تأخيرها ) ظاهراً إلى بعد الساعة ( و ) حرم (الاشتغال بغيرها ) من النافلة ونحوها ، لأنّ التكليف الظاهري ، هو وجوب الاشتغال بالجمعة في هذا الوقت .

( ثم ) بعد ان صلّى الجمعة ( ان ) لم ينكشف الخلاف ، بل ( استمر هذا الحكم الظاهري ) بوجوب الجمعة ، وعدم وجوب غيرها ( اعني : الترخيص في ترك

ص: 59

الظهر إلى آخر وقتها - وجب كونُ الحكم الظاهريّ ، بكون ما فعله في أوّل الوقت هو الواقع المستلزم لفوت الواقع على المكلّف مشتملاً على مصلحة يتدارك بها ما فات لأجله من مصلحة الظهر ، لئلا يلزم تفويتُ الواجب الواقعيّ على المكلّف مع التمكن من اتيانه بتحصيل العلم به .

------------------

الظهر) لانه لم ينكشف له وجوب الظهر ، استمراراً ( إلى آخر وقتها ) اي وقت صلاه الظهر ، وهو قبل الغروب ، باستثناء قدر العصر .

( وجب كون الحكم الظاهري ) الّذي ادّى اليه الأمارة من وجوب الجمعة ( بكون ما فعله في اوّل الوقت ) من اداء الجمعة ( هو ) الواجب ( الواقع ، المستلزم ) هذا الواقع الظاهري ( لفوت الواقع على المكلّف ) لأنّ المكلّف انّما لم يأت بالظهر لمكان الأمارة الّتي جعلها الشارع من وجوب الجمعة ( مشتملاً ) خبر « بكون ما فعله » (على مصلحة يتدارك بها ) اي بهذه المصلحة السلوكية ( ما فات لاجله ) لاجل هذا الحكم الظاهري ( من مصلحة الظهر ) .

وذلك لأنّ في الظهر كانت مصلحة ، فاتت بسبب هذه الأمارة المجعولة الّتي دلّت على وجوب الجمعة .

وانّما لزم وجود المصلحة في الجمعة ( لئلاّ يلزم تفويت ) الشارع بسبب جعل الأمارة ( الواجب الواقعي ) وهو الظهر ( على المكلّف ) لانه - كما تقدّم - قبيح ( مع التمكن ) للمكلف ( من اتيانه ) ذلك الواجب الواقعي (ب) سبب ( تحصيل العلم به ) اي بذلك الواجب الواقعي .

فان الشارع اذا قال : صدّق ابا ذر الغفاري ، وقال ابو ذر : تجب الجمعة ، وقد كان الظهر واجباً في الواقع ، فان الشارع فوّت على المكلّف الظهر ، لانه ان لم يقل : صدّق ابا ذر ، كان المكلّف اذا شكّ في وجوب شيء عليه في يوم الجمعة ،

ص: 60

وإن لم يستمرّ بل علم بوجوب الظهر في المستقبل ، بطل وجوبُ العمل على طبق وجوب صلاة الجمعة واقعا ووجب العملُ على طبق عدم وجوبه في نفس الأمر من أوّل الأمر ، لأنّ المفروضَ عدمُ حدوث الوجوب النفس الأمريّ ، وإنّما عمل على طبقه مادامت أمارةُ الوجوب قائمةً .

------------------

ذهب وسأل الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فيدرك الواقع ، امّا اذا اقتضت المصلحة جعل الحجّيّة لخبر ابي ذر ، فاللازم على الشارع تدارك المصلحة الفائتة على المكلّف ، بسبب ترك اتيانه الظهر .

هذا كله ان استمر الحكم الظاهري ( و ) امّا ( ان لم يستمر ) الحكم الظاهري ( بل ) صلّى المكلّف الجمعة ، ثم قبل الغروب ( علم بوجوب الظهر في المستقبل ) قبل خروج الوقت - مثلاً - ( بطل ) الحكم الظاهري الّذي هو ( وجوب العمل على طبق وجوب صلاة الجمعة واقعاً ) و « واقعاً » قيد وجوب العمل ( ووجب ) على المكلّف بعد علمه : بان الظهر واجب عليه ( العمل على طبق عدم وجوبه ) اي عدم وجوب مؤّى الأمارة الّتي هي صلاة الجمعة ( في نفس الأمر ) والواقع ، لأنّ الحكم الظاهري يرتفع بالعلم بالواقع ، فيكون الحكم الظاهري كأن لم يكن ( من اوّل الأمر ) اي من اوّل وقت الظهر في المثال .

كما اذا قامت البينة على ان الدار لزيد ، ثم تبيّن اشتباه البيّنة ، فان الدار تكون لمالكها من اوّل الأمر ، لا من حال ظهور الاشتباه ( لأنّ المفروض ) في هذا القسم الثالث وهو المصلحة السلوكية ( عدم حدوث الوجوب النفس الأمري ) الواقعي لصلاة الجمعة ( وانّما عمل ) المكلّف ( على طبقه ) اي طبق مؤّى الأمارة ، لمصلحة في هذا السلوك فقط ( ما دامت أمارة الوجوب قائمة ) ولم يظهر خلافها

ص: 61

فاذا فقدت بانكشاف وجوب الظهر وعدم وجوب الجمعة ، وجب حينئذٍ ترتيبُ ما هو كبرى لهذا المعلوم ، أعني وجوب الاتيان بالظهر ونقض آثار وجوب صلاة الجمعة إلاّ مافات منها ، فقد تقدّم أنّ مفسدة فواته متداركةٌ بالحكم الظاهريّ

------------------

(فاذا فقدت ) الأمارة ( بانكشاف وجوب الظهر وعدم وجوب الجمعة ) صار الحكم الظاهري كأن لم يكن و ( وجب حينئذٍ ) على المكلّف الّذي انكشف له الخلاف (ترتيب ما هو كبرى لهذا المعلوم ) فانه بعد معلوميّة وجوب الظهر - لا الجمعة - يتشكّل لديه قياس هكذا :- « الظهر واجبة » و « كلما وجب ، يلزم الاتيان به » فالظهر يلزم الاتيان به .

اما الصغرى : فلما انكشف .

واما الكبرى : فلوضوح ان الواجبات ، يجب الاتيان بها عقلاً وشرعاً.

فهذا الظهر المعلوم ، يشكل له كبرى : ( اعني وجوب الاتيان بالظهر ) علماً بان المصنِّف قدس سره تسامح في التعبير ، او ان مراده من «اعني » : النتيجة المترتّبة على القياس المذكور .

( و ) على ايّ حال : فاذا تبيّن وجوب الظهر واقعاً ، لزم على المكلّف ( نقض ) وابطال ( آثار وجوب صلاة الجمعة ) فاذا لم يصلّ الجمعة ، لا يصليها ، وذا صلاّها ، جعلها كأن لم تكن .

( الاّ ما فات منها ) اي من تلك الاثار ، كأن فاته وقت فضيلة الظهر ، حيث صلّى الجمعة ، أو اذا اتى بالنافلة في وقت الظهر ، على ما تقدّم : من انه لا تصح النافلة في وقت الفريضة ( فقد تقدّم ان مفسدة فواته ) اي فوات الظهر عن فضيلتها - مثلاً- (متداركة بالحكم الظاهري ) .

ص: 62

المتحقق في زمان الفوت ، فلو فرضنا العلمَ بعد خروج وقت الظهر ، فقد تقدّم أنّ حكمَ الشارع بالعمل بمؤدّى الأمارة اللازم منه ترخيصُ ترك الظهر

------------------

فاذا كان لمن يصلّي الظهر في اوّل وقتها - مثلاً - مائة درجة من الثواب ، ولمن يصليها في آخر وقتها اربعون درجة ، وقد ادّت الأمارة إلى وجوب الجمعة فصلاها ، وحيث علم ان الواجب : الظهر ادّاها في آخر الوقت ، فقد فاتته ستون درجة ، والشارع يتدارك هذه الستين ، لانه هو الّذي سّبب فوت هذه الستين .

والتدارك انّما يكون بالحكم الظاهري ( المتحقق ) ذلك الحكم الظاهري ( في زمان الفوت ) اي قبل انكشاف الواقع .

وحيث ان المصلحة السلوكيّة تابعة للجهل بالواقع ، فالامر فيها يكون على اقسام :

الاول : ان لا يعلم - اصلاً - إلى حين الموت .

الثاني : ان لا يعلم الاّ بعد الوقت .

الثالث : ان لا يعلم الاّ في آخر الوقت - مثلاً - .

ففي الاول : يعطى من المصلحة ، بقدر كلّ مصلحة الظهر .

وفي الثاني : يعطى بقدر التفاوت بين الاداء والقضاء ، اذا قلنا : بان الانكشاف بعد الوقت يوجب قضاء الظهر ، وان لم يوجب القضاء ، كان اللازم : تدارك الشارع كلّ المصلحة الفائتة .

( فلو فرضنا العلم ) بالخلاف ، وعلمنا ان الواجب : هو الظهر ، لا الجمعة الّتي أتى المكلّف بها ، وذلك ( بعد خروج وقت الظهر ، فقد تقدّم : ان حكم الشارع بالعمل بمؤّى الأمارة ، اللازم منه ) اي من هذا الحكم هو ( ترخيص ترك الظهر

ص: 63

في الجزء الأخير لابدّ أن يكون لمصلحة يتدارك بها مفسدةُ ترك الظهر .

------------------

في الجزء الاخير ) من الوقت ايضاً ، فانّ معنى جعل الأمارة ، وعدم وجوب تحصيله العلم : ان لا ظهر عليه ، ف( لابدّ ان يكون ) ذلك الحكم ( لمصلحة يتدارك بها ) اي بتلك المصلحة ( مفسدة ترك الظهر ) سواء كان في ترك الظهر مفسدة ، او عدم وصول إلى مصلحة لازمة .

لكن لا يخفى : ان مصلحة التسهيل على المكلفين احياناً ، توجب جعل الشارع الأمارة ، فلا حاجة إلى التدارك حينئذٍ فاذا اوجب الشارع : تحصيل العلم ، وقع جملة من المكلفين ، او كلّهم في الحرج النفسي ، او العسر الجسدي ، او الضرر البدني ، او المالي ، او ما يتعلق بالانسان من اهل ونحوهم ، فللحكيم : ان يرفع هذا الحكم ، الموجب لاحد الثلاثة ، بدون التدارك ، لأنّ رفع الثلاثة هو نوع من التدارك فاذا دار الأمر : بين الظهر الواقعي وفيه : ضرر ، او حرج ، او عسر ، وبين الجمعة غير الواقعيّة ، الّتي يلزم من نصب الأمارة الاتيان بها لا بالظهر ، كان للحكيم ان يشرع الأمارة لهذه المصلحة ، لا انه يصل شيء إلى المكلّف ، ليتدارك بذلك الشيء ، المصلحة الفائتة على المكلّف ، او المفسدة الّتي وقع المكلّف فيها ، بسبب تشريع الأمارة .

ولا يخفى : ان هذه الكلمات الثلاث ، الحرج ، والعسر ، والضرر ، من الكلمات الّتي اذا اجتمعت اختص كل منها بمعنى ، وان جاءت متفرقة شملت المعاني الثلاثة ، واحياناً قد يستعمل بعضها في بعض .

فالحرج : في النفس ، كمن عليه دين لا يقدر على ادائه ، فان نفسه في حرج .

والعسر : في البدن ، كمن هو في اذى من البرد ، أو الحرّ ، او ما اشبه لكن لا إلى حدّ التضرر البدني .

ص: 64

ثمّ إن قلنا : إنّ القضاء فرعُ صدق الفوت

------------------

والضرر : فيمن يتضرر بجرح في بدنة ، او خسارة في ماله ، او تمرض بعض اقربائه ممّا يلزم عليه الانفاق لمعالجته ، وما اشبه ذلك « وان كان في صدق الضرر حينئذٍ تأمل » .

( ثمّ ) انه ان ترك الظهر - في هذه الحال - إلى آخر الوقت ، فهل يجب عليه القضاء ، اذا علم بوجوب الظهر ، بعد فوات الوقت او لا يجب ؟ احتمالان .

ولا يخفى : ان هذا البحث فقهي استطرد المصنِّف قدس سره الاشارة اليه .

ف( ان قلنا : ان القضاء فرع صدق الفوت ) والفوت غير الترك ، اذ بينهما عموم مطلق - فالترك اعمّ من الفوت - والترك بمعنى : عدم تحقق شيء في الخارج اعمّ من وجود الاقتضاء وعدم وجوده ، واعمّ من تدارك المصلحة وعدم تداركه ، بينما الفوت انّما يصدق : ان كان اقتضاء ولم يتدارك المصلحة ، فاذا لم يكن - مثلاً - في الحائض اقتضاء الصلاة ولم تصل ، يقال : انها ترك الصلاة ، ولا يقال : ان الصلاة فاتتها .

واما اذا كان فيها اقتضاء الصلاة ، لكن لمانع شرعي اهم حرمت عليها ، يقال : فاتتها الصلاة ، هذا من جهة الاقتضاء واللاّاقتضاء .

نعم ، ان كان في الحائض اقتضاء الصلاة ، وأمر الشارع بامر أهم ترك صلاتها ، لكن الشارع تدارك المصلحة الفائتة ، لم يصدق الفوت ايضاً .

وربما يشكّ في الاقتضاء واللاّاقتضاء ، فاذا قال الشارع : « من فاتته فريضة ، فليقضها كما فاتته » (1) ثم ان المرأة كانت حائضاً حال الكسوف او الخسوف ، فهل كان فيها اقتضاء فيجب عليها القضاء بعد الانجلاء ؟ او لم يكن فيها اقتضاء حتىّ لا يجب عليها القضاء بعد الانجلاء ؟ احتمالان .

ص: 65


1- - تهذيب الاحكام : ج3 ص163 ب13 ح14 بالمعنى ، غوالي اللئالي : ج2 ص54 ح143 .

المتوقف على فوت الواجب من حيث انّ فيه مصلحةً ، لم يجب فيما نحن فيه ، لأنّ الواجب وإن ترك إلاّ أنّ مصلحته متداركة ، فلا يصدق على هذا الترك الفوتُ .

------------------

وان شئت قلت : هل يصدق عليها ان الايات فاتتها حتىّ يجب القضاء ، او لا يصدق حتىّ لا يجب عليها القضاء ؟ ذهب إلى كلّ واحد من الحكمين فريق من الفقهاء والكلام في المقام طويل نكتفي منه بهذا القدر .

وعليه : فالقضاء ( المتوقف ) على صدق الفوت ، انّما هو على حالة خاصة ، لا على مجرد الترك ، اذ يتوقف الصدق ( على فوت الواجب من حيث ان فيه مصلحة ) وحينئذٍ ( لم يجب ) القضاء ( فيما نحن فيه ) من ترك الظهر : الواجب الواقعي ، والاتيان بالجمعة حسب الأمارة ( لأنّ الواجب وان ترك ، الاّ ان مصلحته متداركة ) بالمصلحة السلوكية في اتيان الجمعة - على ما تقدّم - .

( فلا يصدق على هذا الترك : الفوت ) فلا يجب على فاعل الجمعة : الاتيان بالظهر القضائي اذا علم بوجوب الظهر بعد الوقت ، بل لا يجب على فاعل الجمعة : اعادة الظهر في الوقت ايضاً اذا علم بوجوب الظهر بعد الاتيان بصلاة الجمعة ، اذ دلّ الدليل على عدم وجوب صلاتين - ولو ظاهري وواقعي - في يوم واحد ، فيكون حال الظهر في الوقت حاله بعد الوقت .

فاذا قال المولى - مثلاً - : اسق الحديقة بين الصبح والمغرب ، ثم ادّت الأمارة إلى سقيها بالماء المالح ، فسقاها المكلّف ، و بعد انتهاء النهار ، علم بانه كان يلزم عليه سقيها بالماء الفرات ، فانّه لا مجال بعد ذلك للسقي ، لأنّ الماء الزائد يفسد الحديقة .

ص: 66

وإن قلنا : إنّه متفرّع على مجرّد ترك الواجب ، وجب هنا ، لفرض العلم بترك صلاة الظهر مع وجوبها عليه واقعا .

إلاّ أن يقال :

------------------

( وان قلنا : انه ) اي القضاء ( متفرع على مجرد ترك الواجب ) وان تدارك المولى مصلحة ذلك الواجب المتروك بسبب تشريع المولى الأمارة ( وجب ) القضاء ( هنا ) بعد الوقت ( لفرض العلم ) من المكلّف ( بترك صلاة الظهر ، مع وجوبها عليه واقعاً ) لأنّ الثابت في اللوح المحفوظ : الظهر ، وانّما ادّت الأمارة إلى الجمعة فصلاها فقد ترك الظهر ، والواجب على التارك الاعادة وقتاً والقضاء خارج الوقت - ان علم بوجوب الظهر عليه في الوقت او في خارجه - .

( الاّ ان يقال : ) ليس الأمر على احتمالين : « ان قلنا » و : « ان قلنا » كما ذكره المصنِّف قدس سره بل القضاء واجب مطلقاً ، سواء صدق الفوت أو صدق الترك - الاعمّ من الفوت - .

وانّما يلزم القضاء مطلقاً ، لأنّ الواجب قد ترك وبذلك فاتت المصلحة ، والمصلحة السلوكية انّما تكون اذا بقي المكلّف جاهلاً إلى حال موته ، لا فيما اذا علم بعد ذلك ولو بعد الوقت ، فلا مصلحة سلوكية بعد العلم يتدارك بها المصلحة الفائتة ، فاللازم عليه : القضاء اذا علم بعد الوقت ، والاعادة اذا علم في الوقت ، بل ربما يجب على ورثته ان لم يعلم إلى الموت ، كما اذا صلّى المكلّف حسب استصحاب طهارة الماء بوضوء باطل ثم مات ، فانه يجب قضاء صلاته على ولده الاكبر - على احتمال - .

وعلى هذا : فالقضاء واجب سواء صدق الفوت ام لا ، اذ الواجب قد ترك ففات المكلّف مصلحته ، فاللازم تداركه ، ولا نسلم المصلحة السلوكيّة الّتي بها

ص: 67

إنّ غاية مايلتزم في المقام هي المصلحة في معذوريّة الجاهل مع تمكّنه من العلم ولو كانت لتسهيل الأمر على المكلّفين ، ولا ينافي ذلك صدق الفوت ، فافهم .

------------------

يتدارك مصلحة الواقع .

بل ( ان غاية ما يلتزم ) به ( في المقام ) من تشريع الأمارة المفوتة لمصلحة الواقع (هي : المصلحة في معذورية الجاهل ، مع تمكنه من العلم ولو كانت ) فكأن الشارع قال للجاهل : ان احببت حصّل العلم بالواقع ، وان احببت اعمل بالامارة ، وانّما شرّعت لك الأمارة ( لتسهيل الأمر ) عليك و ( على ) سائر ( المكلفين ) لئلاّ تقعوا في الحرج ، - كما ألمعنا اليه عن قريب - .

( ولا ينافي ذلك ) حصول المكلّف على المصلحة ، اذ التشريع كان لمصلحة التسهيل ، وقد حصل المكلّف عليها ، فلا منافاة بينها وبين ( صدق الفوت ) الموجب للقضاء .

توضيحه : انا كما قلنا سابقاً : ان مصلحة الواقع ان كانت متداركة للمكلف فلا قضاء عليه ، وان لم تكن متداركة لزم عليه القضاء ، حتىّ يحصل على المصلحة الفائتة ونستثني من الأوّل - صورة حصول المصلحة - فنقول : المصلحة وان حصّلها المكلّف الاّ انه يجب عليه القضاء ايضاً ، لان المصلحة هي التسهيل ، ولا منافات بين حصول المكلّف على التسهيل ، ولزوم القضاء عليه ليدرك مصلحة الواقع .

( فافهم ) فانه يمكن ان يكون في جعل الأمارة مصلحة سلوكية ، او مصلحة تسهيليّة ، ومع كلّ واحد يمكن ان يؤر بالقضاء ، وان لا يؤر به ، اذ المصلحة السلوكية يمكن ان تكون غير وافية بمصلحة الواقع فيؤر بالقضاء ، والمصلحة

ص: 68

ثمّ إنّ هذا كلّه على ما اخترناه من عدم اقتضاء الأمر الظاهريّ للاجزاء واضحٌ ، وأمّا على القول باقتضائه له فقد يشكل الفرق بينه وبين القول بالتصويب .

------------------

التسهيليّة يمكن ان لا يبقى معها مصلحة الواقع فلا يؤر بالقضاء .

( ثمّ ) ان الأمارة اذا خالفت الواقع تأتي بالحكم الظاهري ، وفي الحكم الظاهري خلاف ، في انه هل يجزي عن الحكم الواقعي ام لا ؟ وإجزاؤ عن الواقعي لازمه : انه ان انكشف الواقع لا اعادة ولا قضاء ، وعدم اجزائه عن الواقعي لازمه : انه ان انكشف الواقع كان على العبد الاعادة والقضاء ، اذا عرفت ذلك قلنا : ( ان هذا كله ) من لزوم الاعادة والقضاء ان انكشف خلاف الأمارة ، انّما هو ( على ما اخترناه : من عدم اقتضاء الأمر الظاهري للاجزاء ) عن الأمر الواقعي ان انكشف الخلاف وهو (واضح ) اذا الأمر يبقى على حاله من الوجوب ، وما أتى به من الأمر الظاهري لم يكف عن ذلك الواقع ، فاذا انكشف الخلاف لزم عليه : ان يأتي بالامر الواقعي .

( واما على القول ) الّذي ذهب اليه بعض الاصوليّين ( باقتضائه ) اي الأمر الظاهري (له ) اي للاجزاء عن الواقعي ( فقد يشكل الفرق ) المثمر عليه ( بينه ) اي بين ما ذكرناه من المصلحة السلوكية ( وبين القول بالتصويب ) وهو القول الثاني من قولي العامة ، القائلين : بان اللّه ليس له حكم اصلاً وانّما يثبّت اللّه ما أدّى اليه رأي الفقيه او ان له حكماً لكن اذا خالفه الفقيه محى اللّه حكمه الواقعي واثبت رأي الفقيه مكانه .

وانّما لم يكن بين المصلحة السلوكيّة وبين القول بالتصويب فرق ، لان المكلّف على كلّ حال - اذا عمل طبق الأمارة لا شيء عليه بعد ذلك - فايّ فرق

ص: 69

وظاهرُ شيخنا في تمهيد القواعد استلزامُ القول بالتخطئة لعدم الاجزاء . قال قدس سره : « من فروع مسألة التصويب والتخطئة لزومُ الاعادة للصلاة بظنّ القبلة وعدمه » وإن كان في تمثيله لذلك بالموضوعات محلّ نظر .

------------------

بين ان يقال بالمصلحة السلوكيّة او بالتصويب ؟ ( و ) لذا لم يقبل الشهيد الثاني القول بالاجزاء فان ( ظاهر شيخنا) المذكور ( في ) كتاب ( تمهيد القواعد : استلزام القول بالتخطئة لعدم الاجزاء ) واليك نصّ كلامه :

( قال قدس سره : من فروع مسألة التصويب ) الّذي ذهب اليه العامة ( والتخطئة ) الّذي ذهب اليه الخاصة ( لزوم الاعادة للصلاة بظنّ القبلة ، وعدمه )(1) اي عدم لزوم الاعادة ، فالمصوّبة يقولون : بعدم لزوم الاعادة ، لان الشارع امر باتباع الظنّ في القبلة ، فاذا صلّى حسب ظنّه فقد عمل بقول الشارع ، فاذا انكشف ان صلاته كانت خلاف القبلة ، لم تلزم عليه الاعادة ، لان الشارع جعل الظاهر مقام الواقع . والمخطئة يقولون : بوجوب الاعادة ، لان ظنّه لم يغير الحكم ، فاذا تبين الخلاف ، لزم عليه الاتيان بصلاة اخرى إلى القبلة الواقعية .

وانت ترى ان معنى هذا الكلام من الشهيد قدس سره هو : ان الاجزاء يلازم التصويب ، وعدم الاجزاء يلازم التخطئة فلا يمكن القول بالاجزاء للمصلحة السلوكية مع القول بالتخطئة ( وان كان في تمثيله ) قدس سره ( لذلك ) اي لفروع مسألة التصويب والتخطئة (بالموضوعات محل نظر ) اذ الظنّ بالقبلة من موضوعات الاحكام واختلاف المصوّبة والمخطئة انّما هو في الاحكام ، كوجوب الظهر والجمعة ، وحرمة التبغ او حليته ، لا في الموضوعات ، كاشتباه القبلة في الصلاة ،

ص: 70


1- - تمهيد القواعد : ص46 .

فعلم من ذلك أنّ ماذكره من وجوب كون فعل الجمعة مشتملاً على مصلحة يتدارك بها مفسدة ترك الواجب ومعه يسقط عن الوجوب ممنوع ، لأنّ فعل الجمعة قد لايستلزم إلاّ ترك الظهر في بعض أجزاء وقته ،

------------------

والميقات في الحج ، وما اشبه ذلك ، فان العامة والخاصّة متفقون على التخطئة في الموضوعات - على ما نسب اليهم - .

وعلى ايّ حال : فان في حكم الشهيد قدس سره التلازم بين الأجزاء والتصويب ، لا في مثاله .

( فعلم من ذلك ) كله : انه لا فرق بين الوجه الثاني والثالث في كونهما تصويباً ولزم ان لا نقول بالمصلحة السلوكيّة الموجبة لسقوط الواجب الواقعي عن وجوبه .

كما ( ان ما ذكره ) القائل بالمصلحة السلوكيّة ( من : وجوب كون فعل الجمعة مشتملاً على مصلحة ، يتدارك بها ) اي بسبب تلك المصلحة ( مفسدة ترك الواجب) الواقعي اعني الظهر - ( ومعه ) في المثال - اي مع التدارك ( يسقط ) الواجب الواقعي (عن الوجوب ) فلا وجوب للظهر بعد اتيان الجمعة ، لان بالجمعة ادرك المصلحة ، واذا سقطت المصلحة عن صلاة الظهر ، سقط وجوب الظهر .

فان هذا القول ( ممنوع ) لانه مستلزم للتصويب ، كما تقدّم عن الشهيد ، وحيث ان التصويب باطل ، فهذا الالتزام بالمصلحة السلوكيّة ايضاً باطل .

هذا بالاضافة إلى انه لو قلنا بالمصلحة السلوكيّة ، فانه لا يلزم منه ادراك فاعل الجمعة كلّ المصلحة دائماً ، بل قد يدرك بالجمعة بعض المصلحة فقط ( لان فعل الجمعة ، قد لا يستلزم الاّ ترك الظهر ، في بعض اجزاء وقته ) كما اذا انكشف

ص: 71

فالعمل على الأمارة معناه الاذن في الدخول فيها على قصد الوجوب والدخول في التطوع بعد فعلها ، نعم

------------------

الخلاف قبل خروج وقت الظهر ، حيث قد تقدّم : انه يجب على المكلّف حينئذٍ الاتيان بالظهر ، فاللازم على المولى : ان يتدارك المقدار الفائت من وقت فضيلة الظهر ، فلو كان للظهر - مثلاً - في اوّل الوقت مائة حسنة ، وفي آخر الوقت اربعون ، فاذا انكشف الخلاف في آخر الوقت وصلّى الظهر ، فقد ادرك اربعين حسنة ، فاللازم حينئذٍ على المولى الناصب للامارة ، ان يتدارك ما فات من المكلّف من ستين حسنة فقط ، لا كلّ المائة .

وعليه : ( فالعمل على الأمارة ) حيث امر به المولى ، المؤّية إلى فعل الجمعة (معناه ) حين انكشاف الخلاف آخر الوقت ( : الاذن ) من الشارع في تفويت فضيلة الظهر فقط و ( في الدخول فيها ) اي في الجمعة ( على قصد الوجوب ، والدخول في التطوع ) اي النافلة ( بعد فعلها ) اي فعل الجمعة .

والحاصل : ان الحكم الاوّلي : هو وجوب الظهر ، وفضيلته في اوّل الوقت ، والاتيان به بقصد الوجوب ، وعدم اجازة فعل النافلة في وقت الظهر ، لكن الأمارة على الجمعة نسفت كلّ ذلك ، فجعلت الوجوب للجمعة ، وفوّتت فضيلة الظهر ، واجازت فعل النافلة في وقت الظهر ، فعلى المولى : ان يتدارك بقدر ما نسفت الأمارة ، لا بقدر كلّ مصلحة الظهر ، حيث قد عرفت : ان العبد ادرك بعض مصلحة الظهر ، حين انكشف له الخلاف في اثناء الوقت ، بعد اداء الجمعة واداء النافلة بعد الجمعة - في وقت كان خاصاً بالظهر ، اذ الجمعة ركعتان والظهر اربع ركعات .

( نعم ) ما ذكرناه : من لزوم تدارك المولى مفسدة فعل النافلة في وقت الظهر ، فيما دلّت الأمارة على الجمعة ، والحال ان الظهر كان واجباً واقعاً ، انّما هو على

ص: 72

يجب في الحكم بجواز فعل النافلة اشتماله على مصلحة يتدارك بها مفسدة فعل التطوع في وقت الفريضة لو اشتمل دليله الفريضة الواقعية المأذون في تركها ظاهرا ، وإلاّ كان جواز التطوع في تلك الحال حكما واقعيا لا ظاهريا ، وأمّا قولك إنّه مع تدارك المفسدة

------------------

قول من يرى : وجود المفسدة في فعل النافلة وقت الفريضة الواقعية والظاهرية ، امّا من يرى انحصار المفسدة في فعل النافلة في وقت الفريضة الظاهريّة فقط ، فانه لم يكن في فعل هذا الانسان النافلة مفسدة ، اذ لم تكن عليه فريضة ظاهرية ، واذ لا مفسدة فلا تدارك .

وعلى هذا : فانه ( يجب في الحكم بجواز فعل النافلة ) في وقت الفريضة (اشتماله ) اي اشتمال هذا الحكم الحاصل من الأمارة على الجمعة ( على مصلحة يتدارك بها ) اي بتلك المصلحة ( مفسدة فعل التطوع في وقت الفريضة ) حيث اتى المكلّف بالنافلة في وقت الظهر الّذي هو فريضة واقعية ، وذلك فيما ( لو اشتمل دليله ) اي دليل حرمة التطوع في وقت الفريضة ، على ( الفريضة الواقعية ) حيث ان الظهر فريضة واقعية ( المأذون في تركها ) اي ترك الفريضة الواقعية ( ظاهراً ) لان الأمارة القائمة على فعل الجمعة معناها : جواز ترك الفريضة الّتي هي الظهر ( والاّ ) بان لم يدل الدليل على حرمة التطوع في وقت الفريضة الواقعية ، بل الفريضة الظاهرية فقط ، بأن قال الدليل : « يحرم التطوع بالنافلة في وقت فريضة ظاهرية » ( كان جواز التطوع في تلك الحال ) قبل انكشاف الخلاف ( حكماً واقعياً ) فالشارع اجاز بالتطوع قبل انكشاف الخلاف ( لا ) حكماً ( ظاهرياً ) حتىّ تكون للنافلة مفسدة تحتاج إلى التدارك .

( واما قولك ) ايها المستدل ( : انه مع تدارك المفسدة ) الحاصلة من عدم

ص: 73

بمصلحة الحكم الظاهري يسقط الوجوب فممنوع أيضا ، إذ قد يترتب على وجوبه واقعا حكم شرعي وإن تدارك مفسدة تركه بمصلحة فعل آخر كوجوب قضائه إذا علم بعد خروج الوقت بوجوبه واقعا .

------------------

الاتيان بالتكليف الواقعي ( بمصلحة الحكم الظاهري يسقط الوجوب ) للحكم الواقعي ، وهو تصويب باطل ( فممنوع ايضاً ) اذ لا نقول : بسقوط وجوب الحكم الواقعي اعني الظهر - وان تدارك المولى مفسدة الجمعة بمصلحة السلوك - واثر بقاء وجوب الظهر : القضاء ان علم بالحكم إلى وقت موته ( اذ قد يترتب على وجوبه ) اي وجوب الحكم الواقعي كالظهر في المثال ( واقعاً ، حكم شرعي ) كالقضاء في الصلاة والكفارة في الصيام ، والحج ( وان تدارك ) المولى ( مفسدة تركه ) اي ترك الواجب الواقعي (بمصلحة فعل اخر ) وهو سلوك الأمارة وذلك ( كوجوب ) الشارع على المكلّف (قضائه ) لصلاة الظهر في المثال ( اذا علم بعد خروج الوقت بوجوبه ) اي بوجوب الظهر ( واقعاً ) وان لم يعلم به في الوقت ، فسلوك الأمارة المؤّية للجمعة اوجب تدارك المفسدة بمصلحة السلوك ، الاّ ان الواجب لو انكشف ، لزمه تداركه بالقضاء ، والكفارة ، ونحوهما .

ان قلت : اذا تدارك المولى المصلحة ، لم يبق وجوب القضاء ، اذ الحكم بالقضاء لا يمكن بدون المصلحة ، وان لم يتدارك المولى المصلحة ، فلا مصلحة سلوكية في فعل الجمعة - مثلاً - .

قلت : انّما يتدارك المولى المصلحة في سلوك العبد لانه كلفه بسبب الأمارة ، فاللازم عليه : ان يتداركه بالثواب ، وحيث كان الواقع مُلزم كلفه ثانياً بالواقع فان من اعطى المريض دواءاً اشتباهاً لزم عليه ان يتداركه بالاجر ، لتكليفه بالدواء الاشتباهي - بسبب الأمارة الّتي شرعها- ثم اللازم تكليف المريض ثانياً بشرب

ص: 74

وبالجملة : فحالُ الأمر بالعمل بالامارة القائمة على حكم شرعيّ حالُ الأمر بالعمل على الأمارة القائمة على الموضوع الخارجيّ ، كحياة زيد وموت عمرو .

فكما أنّ الأمرَ بالعمل بالامارة في الموضوعات لايوجب جعلَ نفس الموضوع ، وإنما يوجب جعل أحكامه ، فيترتّب عليه الحكم مادامت الأمارةُ قائمةً عليه ؛ فاذا

------------------

الدواء الواقعي ، لان في هذا الدواء مصلحة شفائه .

( وبالجملة ) انه لا يلزم من جعل الأمارة على الحكم لمصلحة التسهيل او ما اشبه سقوط الواقع حتىّ يستلزم التصويب ( فحال الأمر بالعمل بالامارة ) الّتي جعلها الشارع : ( القائمة على حكم شرعي ) كالخبر الواحد ، والشهرة ، والاجماع ، وما اشبه ، وهكذا حال الاصول : كالاستصحاب ، والبرائة ، وغير ذلك ، والقواعد : كاصل الصحة في المعاملات وأصل الطهارة ، إلى غيرها ( حال الأمر بالعمل على الأمارة ، القائمة على الموضوع الخارجي ، كحياة زيد ) بسبب الاستصحاب ( وموت عمرو ) بسبب الشهود .

( فكما ان الأمر بالعمل بالامارة في الموضوعات ، لا يوجب جعل نفس الموضوع ) واقعاً ( وانّما يوجب ) الأمر بالعمل بالامارة في الموضوع ( جعل احكامه) اي احكام ذلك الموضوع ، فاذا قامت الأمارة على موت عمرو ، ترتبت آثاره ، لا انه ميت واقعاً أي جاز لورثته تقسيم امواله ، ولزوجته بعد العدّة ان تتزوج ، ولوصيه ان ينفّذ وصيته - جوازاً ظاهرياً - .

( فيترتب عليه ) اي على الموضوع الثابت بالبينة ( الحكم ) الشرعي المترتب على ذلك الموضوع ( ما دامت الأمارة قائمة عليه ) ولم يظهر الخلاف ( فاذا

ص: 75

فقدت الأمارة وحصل العلمُ بعدم ذلك الموضوع ترتّب عليه في المستقبل جميعُ أحكام عدم ذلك الموضوع من أوّل الأمر ؛ فكذلك الأمر بالعمل على الأمارة القائمة على الحكم .

------------------

فقدت الأمارة ) بان سقطت ، وانكشف الخلاف باشتباه البيّنة القائمة على موته ( وحصل العلم بعدم ذلك الموضوع ) او بقيَ على الاستصحاب ، بان قامت الأمارة على موت عمرو بن خالد ، ثم ظهر اشتباه البيّنة وان الميت هو عمرو بن بكر ، فان عمرو بن خالد ، لم يعلم عدم موته بعد سقوط البيّنة ، لاحتمال موته ايضاً ، فيستصحب حياته في( ترتب عليه ) اي على العلم بالعدم ، او عدم العلم ( في المستقبل ) عند انكشاف الخلاف ( جميع احكام عدم ذلك الموضوع ) كالموت في المثال ( من اوّل الأمر ) فكأَنّ الأمارة لم تقم رأساً ، فترجع الاموال إلى المورث ، والزوجة ترجع عن زوجها الثاني ، والوصي يسترجع مايمكن استرجاعه ، ممّا اراد صرفه في الثلث ونحوه .

نعم ، اذا جاء الزوج الأوّل وقد دخل الزوج الثاني بها ، لزم عليها عدة وطي الشبهة ، وقد ذكرنا في الفقه : بان الحرام للزوج الأوّل في عدة الزوج الثاني ، الوطي فقط ، لا سائر الاستمتاعات .

( فكذلك الأمر بالعمل على الأمارة : القائمة على الحكم ) الشرعي لانه لا فرق بين الموضوع والحكم من هذه الجهة ، فاذا قامت الأمارة على وجوب الجمعة - والحال انها ليست بواجبة في الواقع - فان آثار الوجوب مترتبة مادام لم يظهر خلاف الأمارة ، فاذا ظهر الخلاف رجع الأمر إلى الواقع ، من : القضاء ، او الاعادة ، او الكفارة ، او غيرها .

نعم ، بعض الاحكام لا تترتب من جهة خارجية ، مثل درء الحدود بالشبهات ،

ص: 76

وحاصلُ الكلام ثبوتُ الفرق الواضح بين جعل مدلول الأمارة حكما واقعيّا والحكم بتحقّقه واقعا عند قيام الأمارة وبين الحكم واقعا بتطبيق العمل على الحكم الواقعيّ المدلول عليه بالأمارة ، كالحكم واقعا بتطبيق العمل على طبق الموضوع الخارجيّ الذي قامت عليه الأمارة .

------------------

ونحو ذلك .

( وحاصل الكلام ) في الفرق بين الوجه الثاني : من التصويب ، والوجه الثالث : من المصلحة السلوكية : هو ( ثبوت الفرق الواضح بين ) الوجه الثاني من التصويب الّذي هو عبارة عن ( جعل مدلول الأمارة حكماً واقعياً ) بمحو الحكم الأوّل ( و ) اثبات (الحكم ) الجديد ، الّذي هو مؤّى الأمارة وذلك ( بتحققه ) أي تحقق المدلول ( واقعاً عند قيام الأمارة ) المخالفة للواقع ( وبين ) الوجه الثالث من المصلحة السلوكية ، الّتي ادعيناها نحن ، فان مرجع هذا الوجه إلى ( الحكم ) الشرعي ( واقعاً ، بتطبيق العمل على الحكم الواقعي المدلول عليه بالامارة ) .

وحاصل هذا الوجه : ان الشارع لم يمح واقعهِ ، بل امر بتطبيق العمل على الجمعة ، دون ان يرفع يده عن الظهر ، فيكون المقام في باب الحكم الشرعي (كالحكم واقعاً ، بتطبيق العمل على طبق الموضوع الخارجي ) كموت الزوج ( الّذي قامت عليه الأمارة ) فكما ان الزوج الموجود واقعاً ، له كل احكام الزوج ، كذلك الظهر الواقعي له كل احكام الظهر .

هذا ولا يخفى : ان هناك خلافاً بين الاصولييّن : بانه هل الطرق والأمارات صرف تنجيز واعذار - كما يقوله الكفاية - ؟ او جعل غير العلم علماً بالتعبد - كما يقوله غيره - ؟ وكلام الشيخ المصنِّف قدس سره يشير إلى الثاني .

ص: 77

وأمّا قولك : « أنّ مرجع تدارك مفسدة مخالفة الحكم الواقعيّ ، بالمصلحة الثابتة في العمل على طبق مؤدّى الأمارة إلى التصويب الباطل نظرا إلى خلوّ الحكم الواقعيّ حينئذٍ عن المصلحة الملزمة التي يكون في فوتها المفسدة » .

ففيه : منعُ كون هذا تصويبا . كيف والمصوّبة يمنعون حكمَ اللّه في الواقع ،

------------------

( واما قولك ) أيها المستدل : انّا نسلّم الفرق بين الوجهين من محو الحكم الواقعي على الوجه الثاني وكون مؤى الأمارة حكماً واقعياً ، ومن بقاء الحكم الواقعي على الوجه الثالث ، وكون مؤّى الأمارة حكماً ظاهرياً ، الاّ ان بنائكم على ان السلوك مشتمل على مصلحة يتدارك بها الواقع ، هو قسم آخر من اقسام التصويب وذلك ( ان مرجع تدارك ) الشارع ( مفسدة مخالفة الحكم الواقعي ، بالمصلحة الثابتة في العمل على طبق مؤّى الأمارة ، إلى التصويب الباطل ) .

انّما هو ( نظراً إلى خلوّ الحكم الواقعي - حينئذٍ - عن المصلحة الملزمة ، الّتي يكون في فوتها المفسدة ) . فالتصويب على ثلاثة اقسام :

الأوّل : عدم الحكم في الواقع ، وانّما يثبت الشارع في اللوح المحفوظ ما ادى اليه رأي الفقيه .

الثاني : وجود الحكم ، ثم محوه ، واثبات مؤّى رأي الفقيه مكانه .

الثالث : وجود الحكم وعدم محوه ، الاّ انه يمنح السالك مصلحة يتدارك بها مفسدة الواقع .

( ففيه منع كون هذا ) القسم الثالث ( تصويباً ) و ( كيف ) يكون هذا تصويباً ؟ ( و ) الحال ان ( المصوبة ) من العامة ( يمنعون حكم اللّه في الواقع ) بعد رأي

ص: 78

فلا يعقل عندهم إيجابُ العمل بما جعل طريقا إليه والتعبّدُ بترتيب آثاره في الظاهر ، بل التحقيقُ عدُّ مثل هذا من وجوه الردّ على المصوّبة .

------------------

الفقيه ، ونحن نثبت حكم اللّه في الواقع قبل رأي الفقيه وبعده ، ونقول : ان الحكم الواقعي يشترك فيه العالم والجاهل ( فلا يعقل عندهم ) اي عند المصوبة ( ايجاب ) الشارع ( العمل بما جعل ) الخبر مثلاً ( طريقاً اليه ) اي إلى ذلك الواقع ، اذ عند بعضهم ، لا واقع اصلاً ، وعند بعضهم واقع ، لكن الخبر ليس طريقاً اليه ، بل كلما ادّى اليه الخبر فهو الواقع ( و ) لا يعقل عندهم ( التعبد ) من الشارع ( بترتيب آثاره ) اي آثار الواقع ( في الظاهر ) كما نقوله نحن : من وجود الواقع ، وأن تعبد الشارع بترتيب آثار ذلك الواقع على الظاهر ، فان تطابق مع الواقع ادرك المكلّف مصلحة الواقع ، وان لم يتطابق ادرك المصلحة السلوكيّة .

( بل التحقيق عدّ مثل هذا) الثالث : الّذي قلنا به من المصلحة السلوكية ( من وجوه الرّد على المصوبة ) اذا لو لم يكن حكم واقعي ثابت حتىّ بعد اداء الأمارة المخالفة له ، لم يكن معنى : لجعل الأمارة طريقاً اليه ، وتنزيل مؤاها منزلة الواقع - كما يستفاد ذلك من ادلة الأمارات - .

وامّا وجوه الرّد على المصوّبة ، فكثيرة ، فمن الكتاب قوله سبحانه : « كُوْنُوا قَوَّامِيْنَ بِالقِسْطِ ، شُهَدَاء للّهِ وَلَوْ عَلَى انفُسِكُمْ »(1) .

وقوله تعالى : « وَمَن لمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ »(2) ، إلى غيرهما من الآيات .

ص: 79


1- - سورة النساء : الآية 135 .
2- - سورة المائدة : الآية 44 .

وأمّا ما ذكره من : « أن من الحكم الواقعيّ إذا كان مفسدة مخالفته متداركه بمصلحة الفعل على طبق الأمارة ، فلو بقي في الواقع كان حكما بلا صفة ، والاّ ثبت انتفاء الحكم في الواقع .

------------------

ومن السنّة قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : «ما مِن شَيءٍ يُقَرِّبُكُم إلى الجَنَّةِ» (1) إلى آخر الحديث .

ومن العقل : ان الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، وهي موجودة قبل رأي الفقيه وبعده ، وقبل قيام سائر الأمارات وبعد قيامها ، مخالفاً او موافقاً ، وتفصيل الكلام في المفصلات .

( واما ما ذكره ) المستدل ، لابطال المصلحة السلوكيّة ( : من ان الحكم الواقعي اذا كان مفسدة مخالفته ) بالترك فيما اذا كان واجباً ، أو في الفعل فيما اذا كان محرماً (متداركة بمصلحة ) السلوك و ( الفعل على طبق الأمارة ) كما تقولون ، (ف) انه يلزم احد امرين ، كلّ واحد منهما غير صحيح .

الأوّل : ( لو بقي ) الحكم الواقعي ( في الواقع ) بعد التدارك بمصلحة السلوك موجوداً ( كان حكماً بلا صفة ) لان مصلحته زالت بسبب مصلحة سلوك الأمارة ، وليس من المعقول : ان يبقى الحكم بلا مصلحة عند العدليّة ، الذين يرون الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية .

الثاني : ( وإلاّ ) بان لم يبق الحكم في الواقع بعد زوال مصلحته ( ثبت ) التصويب الّذي معناه : ( انتفاء الحكم في الواقع ) بعد قيام الأمارة على خلافه ، وقد انكرتم انتفاء الحكم بعد قيام الأمارة ، وزعمتم بان الوجه الثاني من التصويب

ص: 80


1- - الكافي اصول : ج2 ص74 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص45 ب12 ح21939 ، مستدرك الوسائل : ج13 ص27 ب10 ح14643 ، بحار الانوار : ج70 ص96 ب47 ح3 .

وبعبارة اُخرى : إذا فرضنا الشيء في الواقع واجبا وقامت أمارة على تحريمه ، فان لم يحرّم ذلك الفعلُ لم يجب العملُ بالأمارة ، وإن حرّم

------------------

الباطل عندكم .

( وبعبارة اخرى ) يمكن تقرير هذا الاشكال ببيان آخر ، وهو : انه ان بقي الواقع والظاهر ، فهما حكمان متنافيان ، وهو غير معقول وإن مُحي الحكم الواقعي ، فهو تصويب وان بقي لكن بلا ملاك ، فهو خلاف رأي العدلية ، او مع الملاك فهو خلاف ما ذكرتم : من ان الحكم الظاهري يمحو مصلحة الواقع ، حيث ينال المكلّف المصلحة السلوكية ، الجابرة لمفسدة الواقع .

وعليه : ف( اذا فرضنا الشيء ) كالظهر في المثال المتقدم ( في الواقع واجباً ، وقامت أمارة على تحريمه ) وعلى ان الواجب الجمعة فصار الظهر حراماً لانه تشريع ، كما اذا صلّى الظهر وقت الصبح ، وقد دلّ الدليل : على انه لا يراد من المكلّف في الظهر صلاتان ( فان لم يحرم ذلك الفعل ) وهو الظهر ( لم يجب العمل بالأمارة ) اذ معنى وجوب العمل بالأمارة : ان لا يأتي بالظهر ، لانه حرام حسب الأمارة ( وان حرم ) الظهر ، فذلك اما بسبب المصلحة السلوكيّة ، او بدون المصلحة السلوكيّة ، وعلى كلّ حال : فامّا ان يبقى الحكم الواقعي ، او لا يبقى فهذه اربع صور :

فعلى الأوّل : وهو اشتمال الحكم الظاهري على المصلحة ، مع بقاء الحكم الواقعي ، يلزم منه اجتماع حكمين متضادين وهذا غير معقول .

وعلى الثاني : وهو انتفاء الحكم الواقعي وبقاء الحكم الظاهري فقط ، وهو تصويب باطل .

وعلى الثالث : وهو عدم اشتمال الحكم الظاهري على المصلحة ، مع بقاء

ص: 81

فان بقي الوجوب لزم اجتماع الحكمين المتضادّين ، وإن انتفى ثبت انتفاء الحكم الواقعيّ » .

ففيه : انّ المرادَ بالحكم الواقعيّ الذي يلزم بقائه هو الحكمُ المتعيّن المتعلّق بالعباد الذي تحكي عنه الأمارةُ ويتعلّق به العلمُ والظنّ

------------------

الحكم الواقعي ، وهو مستلزم ، اولاً : اجتماع الحكمين .

وثانياً : كون الحكم الظاهري بلا ملاك .

وثالثاً : تفويت مصلحة الواقع .

وعلى الرابع : وهو عدم اشتمال الحكم الظاهري على المصلحة مع انتفاء الحكم الواقعي ، وهو مستلزم للتصويب ، بالاضافة إلى انه كيف يشرّع الحكم الظاهري بدون المصلحة ؟ والحاصل : ( فان بقي الوجوب ) للواقع ( لزم اجتماع الحكمين المتضادّين ) من الوجوب للظهر في الواقع ، والحرمة له في الظاهر ( وان انتفى ) الوجوب للواقع (ثبت انتفاء الحكم الواقعي ) وهو التصويب .

( ففيه : ) ان الحكم الواقعي يبقى على حاله من الواقعيّة والمصلحة ، وفي الظاهر ليس حكم ، بل تنجيز أو اعذار ، وله مصلحة سلوكية ، وأي مانع من ذلك ؟.

وعليه : فلم يلزم : اجتماع الحكمين ، ولا خلو الحكم الواقع عن المصلحة ، ولا عدم تدارك المولى لمن عمل بالظاهر ، ف( ان المراد بالحكم الواقعي ، الّذي يلزم بقائه ) عند المخطئة ، فيما لو لم تصل الأمارة اليه ( هو الحكم ) ذو المصلحة (المتعيّن ) عند اللّه ( المتعلق بالعباد ) جميعاً ، وهو عارض لذات الظهر ، مع قطع النظر عن علم المكلّف او جهله ، وهذا الحكم الواقعي هو ( الّذي تحكي عنه الأمارة ويتعلق به العلم ) تارة ( والظنّ ) أخرى بسبب وصول الخبر اليه ، او وصول

ص: 82

وأمر السفراء بتبليغه ، وإن لم يلزم امتثاله فعلاً في حقّ من قامت عنده أمارة على خلافه إلاّ أنّه يكفي في كونه حكمَهُ الواقعيّ أنّه لايُعذَرُ فيه إذا كان عالما به او جاهلاً مقصّرا ، والرخصةُ في تركه عقلاً ، كما في الجاهل القاصر ، او شرعا ، كمن قامت عنده أمارة معتبرة على خلافه .

------------------

الظنّ الانسدادي ، وتارة لا يعلمه الانسان ولا يظنه ، بل يشك فيه ، او يتوهّمه ، او يجهل به جهلاً مركباً ( و ) اللّه تعالى ( امر السفراء ) عليهم السلام ( بتبليغه ) وانزل القرآن لبيانه ( وان لم يلزم امتثاله فعلاً ، في حقّ من ) جهله و ( قامت عنده أمارة على خلافه ) كمن قامت الأمارة لديه على وجوب الجمعة ، لا الظهر .

لا يقال : فما هي فائدة هذا الحكم الواقعي ، الّذي لا يتمكن المكلّف من اطاعته ، بسبب قيام الأمارة على خلافه ؟ .

لانه يقال : ان الحكم الواقعي باق في الواقع ( الاّ انه يكفي في كونه حكمه الواقعي انه ) اي المكلّف ( لا يعذر فيه ) اذا تركه ( اذا كان عالماً به ) من الأوّل ، أو بانكشاف الخلاف بعد اتيان الظاهري ، للزوم الاعادة ، أو القضاء ، أو الكفارة ( او ) كان ( جاهلاً مقصراً ) فان الجاهل المقصر ليس بمعذور ، كما دلّ عليه النصّ والفتوى ( و ) من آثار كونه حكماً واقعياً ( الرخصة ) من الشارع ( في تركه عقلاً ) وشرعاً ( كما في الجاهل القاصر ) حيث لا يعقل تكليفه ، ومعنى « الرخصة » : انه ليس بمكلّف به ( أو شرعاً ) وان لم يكن عقلاً ، لان العقل كان يلزم الفحص والاحتياط ( كمن قامت عنده أمارة معتبرة ) عند الشرع ( على خلافه ) اي خلاف ذلك الحكم الواقعي.

وان شئت قلت : ان الحكم تابع للمصلحة وحيث توجد المصلحة يوجد

ص: 83

وممّا ذكرنا يظهر حالُ الأمارة على الموضوعات الخارجيّة ، فانّها من القسم الثالث .

------------------

الحكم ، فان وصل المكلّف اليه علماً ، او ظنّا خاصّا ، او عامّا ، فهو ، وان لم يصل اليه تقصيراً عوقب عليه ، لانه كان متمكناً منه وان لم يصل اليه قصوراً ، كان معذوراً.

لكن مع ذلك يبقى سؤل وهو : انه لماذا ينشيء المولى الحكم لهذا الجاهل القاصر ، الّذي لا اثر له اصلاً ، لا في الدّنيا : لانه لم يعرفه قصوراً ، ولا في الاخرة : لانه ليس يعاقب عليه ، وكذلك حال الموضوع الّذي لم يعرفه المكلّف ، ليأتي بحكمه ، فمن تيقنت بان زوجها ميت ولا يعرف الزوج الثاني ، ولا المرأة ، ولا ايّ احد آخر ، حياته ، لا حالاً ولا مستقبلاً ، فان قلتم : انها محرمة على الازواج قلنا : ما فائدة هذا التحريم ؟ وان قلتم : انها غير محرمة ، لزم ان لا يكون لها حكم التحريم ، وهو شعبة من التصويب ، لكن الّذي يهون الخطب ان التصويب الباطل هو : ان لا يكون للكلّ حكم اصلاً في الواقع ، او ان يكون حكم ، لكن يتغير بتغيّر رأي الفقيه .

امّا هذا القسم الّذي ذكرناه في الجهل القصوري بالحكم ، او بالموضوع ، فلم يعدّه احد من التصويب .

( وممّا ذكرنا ) ه من الأمارة على الاحكام الشرعية ( يظهر حال الأمارة على الموضوعات الخارجيّة ) فاذا قامت الأمارة على ان هنداً زوجة زيد ، والحال انّها في الواقع زوجة عمرو ( فانها ) اي الأمارة على الموضوع باجماع المخطئة ، تكون ( من القسم الثالث ) لا من التصويب القسم الأوّل او الثاني .

ص: 84

والحاصلُ : أنّ المرادَ بالحكم الواقعيّ هو مدلولاتُ الخطابات الواقعيّة الغير المقيّدة بعلم المكلّفين ولا بعدم قيام الأمارة على خلافها ، لها آثار عقليّة وشرعيّة يترتّب عليها عند العلم بها او قيام أمارة حكم الشارعُ بوجوب البناء على كون مؤدّاها هو الواقع ، نعم ، هذه ليست أحكاما فعليّة بمجرّد وجودها الواقعي .

وتلخّص من جميع ماذكرناه أنّ ماذكره ابنُ قبة - من استحالة التعبّد

------------------

( والحاصل : ان المراد بالحكم الواقعي ) الّذي يفحص عنه الفقيه ( هو مدلولات الخطابات الواقعية ) الّتي جاءت الخطابات لاجل بيانها ، وتلك الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة ( غير المقيدة ) تلك المدلولات ( بعلم المكلفين ) فانهم سواء علموها او لم يعلموها ، كانت تلك الاحكام ( ولا ) مقيدة ( بعدم قيام الأمارة على خلافها ) فانه سواء قامت الأمارة او لم تقم على خلافها ، فهي احكام واقعيّة و (لها آثار عقليّة ) كوجوب الاطاعة ان علم ، او وجوب الاحتياط ، وحرمة المعصية كذلك (وشرعية ) كوجوب القضاء والاعادة ، والكفارة في بعض الصور ، و (يترتب عليها ) اي على تلك الاحكام ( عند العلم بها ، او قيام أمارة ) عليها ، او وجوب الاحتياط فيها (حكم الشارع ) والعقل ( بوجوب ) سلوكها و ( البناء على كون مؤّاها ) اي مؤّى هذه الأمارات ( هو الواقع ) ان قلنا بلزوم الموافقة الالتزاميّة .

( نعم ، هذه ) الاحكام الواقعيّة ( ليست احكاماً فعليّة ) يطالب بها المولى المكلّف (بمجرد وجودها الواقعي ) بل انّما يطلبها المولى تنجيزاً اذا علم بها المكلّف ، او قام بها ظنّ خاصّ او عام ، او لزم الاحتياط فيها .

( و ) قد ( تلخّص من جميع ما ذكرناه : ان ما ذكره ابن قِبة : من استحالة التعبد

ص: 85

بخبر الواحد او بمطلق الأمارة الغير العلميّة - ممنوعٌ على إطلاقه ، وإنّما يقبح ، إذا ورد التعبّد على بعض الوجوه ، كما تقدّم تفصيلُ ذلك .

ثمّ إنّه ربما يُنسبُ الى بعضٍ : « إيجابُ التعبّد بخبر الواحد او بمطلق الأمارة على اللّه تعالى ، بمعنى قبح تركه منه » ، في مقابل قول ابن قِبة .

------------------

بخبر الواحد ، او بمطلق الأمارة غير العلمية ) كالاجماع ، والشهرة ، والسيرة ، والشهادة والسوق ، واليد ، وغيرها ، من حيث انها جميعاً متحدة في الملاك ، سواء في الموضوعات او الاحكام ، وان فيها تفويت المصلحة او الالقاء في المفسدة وكلاهما قبيح ( ممنوع على اطلاقه ) فالتعبد لا يستحيل في جميع الفروض ( وانّما يقبح اذا ورد التعبد ) بما لا يعلم ( على بعض الوجوه ) وهو : انه اذا لم يكن امر أهم ، ومن ذلك الامر الأَهم ، ما اذا تداركه المولى بالمصلحة السلوكيّة ( كما تقدّم تفصيل ذلك ) فيما مضى : من ان الواقع موجود ، وانه يبقى على ما هو عليه ، سواء وافقه الطريق او خالفه ، وانه لا يستلزم من ذلك لا جمع النقيضين ، ولا التصويب الباطل .

( ثم انه ربّما ينسب إلى بعض )(1) العامة : ( ايجاب التعبد بخبر الواحد ، او بمطلق الأمارة ) الّتي تكشف عن الواقع كشفاً عرفياً ( على اللّه تعالى ) والوجوب على اللّه ( بمعنى : قبح تركه ) اي ترك التعبد ( منه ) تعالى ، واستدلّوا لذلك : بانّه لولا التعبد ، لزم وقوع الناس في ضدّ المصلحة والمفسدة ، وايقاع اللّه تعالى الناس في ذلك قبيح وهذا القول ( في مقابل قول ابن قِبة ) القائل باستحالة التعبد

ص: 86


1- - ذلك البعض كابن الشريح وابي الحسين البصري عن الميرزا محمد حسن الاشياني بحر الفوائد : ج1 ص76

فان أريد به وجوب إمضاء حكم العقل بالعمل به عند عدم التمكّن من العلم وبقاء التكليف ، فحسنٌ .

وإن أراد وجوبَ الجعل بالخصوص في حال الانسداد ، فممنوعٌ ، إذ جعلُ الطريق بعد انسداد باب العلم إنّما يجب عليه اذا لم يكن هناك طريق عقليّ وهو الظنّ ،

------------------

عليه سبحانه .

( فان اريد به ) اي بوجوب التعبد عليه تعالى ( : وجوب امضاء ) الشارع ( حكم العقل بالعمل به ) اي بالطريق المؤّي إلى الواقع عند العرف كخبر الواحد ، ونحوه (عند عدم التمكن من العلم ، وبقاء التكليف ) وتعسر أو تعذر الاحتياط ، وعدم طريق آخر يساوي الاصابة مع الخبر ، او يكون اقل اصابة من الخبر ، حيث ان العقل في هذه الصورة ، وبهذه الشروط ، يرى : حجّية الظنّ خاصّا كان او عامّا ، فالواجب عليه تعالى - عقلاً - امضاء ما يراه العقل ( فحسن ) لما تقدّم وجهه في جواب ابن قِبة .

( وان اراد ) القائل بالوجوب عليه تعالى : ( وجوب الجعل بالخصوص ، في حال الانسداد ) بما له من مقدمات يذكرها المصنِّف فيما بعد ( فممنوع ) هذا الوجوب عليه تعالى ( اذ جعل الطريق ) منه تعالى ( بعد انسداد باب العلم ، انّما يجب عليه ) تعالى ( اذالم يكن هناك ) بحكم العقل ( طريق عقلي ، وهو : الظن ) وهذا ما يسمّى ب- : « الظن على الحكومة » وذلك لانه اذا دلّ العقل على حجّية الظنّ ، لم يبق داع إلى جعل الشارع ، فان المولى يجب عليه الارشاد إلى الطريق ، اذا لم يدل العقل على الطريق ، امّا اذا دلّ العقل عليه ، فايّ وجوب عقلي هذا يدعو المولى إلى الجعل والامضاء ؟ .

ص: 87

إلاّ أن يكون لبعض الظنون في نظره خصوصيّةٌ .

وإن أراد حكمَ صورة الانفتاح : فان أراد وجوبَ التعبّد العينيّ ،

------------------

لا يقال : اذا حكم العقل ، حكم الشرع ايضاً ، للملازمة .

لانه يقال : لا ملازمة في باب الاطاعة والمعصية ، وانّما الملازمة في باب الاسباب ، ولذا قالوا : بانها في سلسلة العلل ، لا المعاليل ، كما ذكرناه في بحث الانسداد من « الاصول » (1) .

وعلى ايّ ، لم يحتج الشارع إلى جعل الطريق ، ولا امضائه ، بعد حكم العقل بالطريق ( الاّ ان يكون لبعض الظنون في نظره ) اي نظر الشارع ( خصوصية ) سلبية ، بان لا يريدها الشارع فيمنع عنها ، كما منع من الظن القياسي في حال الانسداد - على المشهور - او فيها خصوصية ايجابية ، بان يراها أفضل من سائر الظنون ، كما اذا رأى الشارع ان الظنّ الاقوى سبباً ، او نحو ذلك أفضل من الظنّ الاضعف ، فاللازم عليه : ان يستثني الظنّ القياسي ، او الظنّ الضعيف ، في حال الانسداد .

( وان اراد : ) هذا القائل بوجوب التعبد على الشارع ( حكم صورة الانفتاح ) اي انفتاح باب العلم أو العلمي ، كما عليه مشهور الاصوليين ، حيث ذهبوا الى انفتاح باب العلم والعلمي الى الاحكام ، حتى في عصر غيبة الامام عليه السلام ، وذهب بعض إلى انسداد باب العلم والعلمي ، وقال : بلزوم اتباع الظنّ ويسمّى ذلك بالظنّ الانسدادي ، ومن هؤاء صاحب القوانين .

( فان اراد : وجوب التعبد العيني) مقابل التعبد التخييري - بأن يقول الشارع -

ص: 88


1- - للمزيد راجع كتاب الاصول الجزء السادس ، الأدلّة العقلية ، بحث الانسداد ، للشارح .

فهو غلطٌ ، لجواز تحصيل العلم معه قطعا ، وإن أراد وجوبَ التعبّد به تخييرا ، فهو ممّا لايدركه العقلُ ، إذ لايعلم العقل بوجود مصلحة في الأمارة يتدارك بها مصلحة الواقع التي تفوت بالعمل بالأمارة ، اللّهم إلاّ أن يكون في تحصيل العلم حرجٌ يلزمُ في العقل رفعُ إيجابه بنصب أمارة هي أقربُ من غيرها إلى الواقع

------------------

في صورة الانفتاح : يجب عليك العمل بالأمارة وحدها ، ولا يجوز لك تحصيل العلم بالواقع ( فهو غلط ) لانه من اين هذا الوجوب العيني ؟ ( لجواز تحصيل العلم معه قطعاً ) اي مع الانفتاح فانك اذا تمكنت من تحصيل العلم : بطريق النجف ، وتمكنت ايضاً ان تسأل اهل الخبرة عن الطريق ، فهل يعقل ان يقول المولى لك : لا تحصل العلم ، بل اسأل اهل الخبرة - فيما اذا لم يكن هناك محذور في تحصيل العلم ؟ .

( وان اراد ) القائل بوجوب التعبد في حال الانفتاح : ( وجوب التعبد به ) اي بالظن (تخييراً ) بينه وبين العلم ، كأن يقول الشارع : انت مخير بين تحصيل العلم بالاحكام ، وبين ان تعمل حسب الأمارة ( فهو ممّا لا يدركه العقل ) ولا يتوصل اليه فمن اين يقول العقل على الشارع : ان يخيّر المكلّف بين العلم أو الأمارة ؟ ( اذ لا يعلم العقل بوجود مصلحة في الأمارة ، يتدارك بها مصلحة الواقع ، الّتي تفوت بالعمل بالأمارة ) ثمّ ما هو الملزم لجعل الأمارة في حال الانفتاح - مع قطع النظر عن تدارك المصلحة وعدم تداركها .

نعم ، ان قال البصري وشريح : « امكن » لكان لقولهم وجه ، لكنهما قالا : « يجب » ( اللّهم الاّ ان يكون ) استفادتهم الوجوب ، لان ( في تحصيل العلم حرج) والشارع لا يريد الحرج ، ف( يلزم في ) موازين ( العقل رفع ايجابه ) ورفع

ص: 89

او أصحّ في نظر الشارع من غيرها في مقام البدليّة عن الواقع ، وإلاّ فيكفي إمضاؤه للعمل بمطلق الظنّ ، كصورة الانسداد .

ثمّ إذا تبيّن

------------------

الحرج يكون امّا (بنصب أمارة ، هي اقرب من غيرها ) من الأمارات ( إلى الواقع ) من حيث الكم ، كخبر الثقة فانه أقرب إلى الواقع ، من خبر من لم يعرف بفسق ولا فسوق ، حيث ان خبر الثقة نصفه يطابق الواقع بينما خبر من لم يعرف لا يطابق منه الاّ الثلث - مثلاً - .

( او اصح ) من حيث الكيف ، كما في كل واحد من : خبر الثقة ، والمجهول الوثاقة ، فانه يطابق نصفهما ، الواقع ، لكن خبر الثقة أصح حيث ان الصلاة لو فرضنا انها ذات عشرة اجزاء فخبر الثقة يصل إلى تسعة اجزاء منها ، بينما خبر المجهول يصل إلى ثمانية اجزاء منها ، فان الكمّ بالنسبة إلى الواقع وان كان متحداً ، الاّ ان كيف الثقة احسن من كيف المجهول ، فيقدّم الثقة ( في نظر الشارع من غيرها ) كالخبر المجهول في مثالنا ( في مقام البدليّة عن الواقع ) الّذي هو الحكم الأوّلي .

( والاّ ) بان لم يكن لبعض الأمارات مزيّة في نظر الشارع ، لا من جهة الكمّ ، ولا من جهة الكيف ، بل كانت في نظره متساوية من جميع الجهات ( فيكفي ) الشارع في رفع حرج تحصيل العلم - على المكلّف - ( امضاؤه للعمل بمطلق الظنّ ) الّذي يحكم العقل به ، بل قد تقدّم انه لا يحتاج إلى الامضاء ايضاً ( كصورة الانسداد ) اذ الواجب على الشارع بيان الاحكام ، امّا الطُرُق اليها ، فالعرف هو المكلّف بتحصيلها ، كسائر الموالي ، حيث يبيّنون الاحكام دون الطرق ، الاّ اذا أرادوا طرقاً خاصة .

( ثم اذا تبيّن ) الكلام في المقام الأوّل ، وهو مقام امكان التعبد ، أو وجوبه ، أو

ص: 90

المقام الثاني

عدمُ استحالة تعبّد الشارع بغير العلم وعدمُ القبح فيه ولا في تركه ، فيقع الكلامُ في : المقام الثاني : في وقوع التعبّد به في الأحكام الشرعيّة مطلقا او في الجملة ، وقبل الخوض في ذلك لابدّ من تأسيس الأصل الذي يكون عليه المعوّل عند عدم الدليل على وقوع التعبّد بغير العلم مطلقا او

------------------

استحالته ، وذلك على ما قررنا من : ( عدم استحالة تعبد الشارع بغير العلم ، وعدم القبح فيه ) كما ادعاه ابن قِبة ( ولا في تركه ) التعبد ، كما تقدّم عن بعض العامّة (ف) بعد بطلان الرأيين ، وثبوت الامكان وجوداً وعدماً ( يقع الكلام في المقام الثاني ) اي : ( في وقوع التعبد به في الاحكام الشرعية مطلقاً ) سواءاً اورث الظنّ ام لا ( او في الجملة ) اي فيما اورث الظنّ الشخصي او النوعي .

والحاصل : هل الشارع تعبّدنا بالظنّ ، ام لا ؟ .

وعلى تقدير التعبد ، هل تعبّد بما اورث الظنّ مطلقاً ، او بما اورث ظنّاً خاصّاً ؟.

( وقبل الخوض ) والدخول ( في ذلك ) البحث وهو : هل تعبد ام لا ؟ وعلى تقديره ، اطلق التعبد ، او خصّصه ببعض الأمارات ؟ ( لابد من تأسيس الاصل ) في انه اذا لم نعلم بتعبد الشارع بأمارة - كالشهرة - مثلاً - فهل الاصل حرمة العمل بتلك الأمارة ، او حلّية العمل بها ؟ فان مثل هذا الاصل هو ( الّذي يكون عليه المعوّل ) والاعتماد (عند عدم الدليل ) عقلاً : كما في الظن الانسدادي على الحكومة ، أو شرعاً كما في الظنّ الانسدادي على الكشف وكذا في الظنون الخاصة ، فانه اذا لم يكن دليل ( على وقوع التعبد بغير العلم ) و : « بغير العلم » قيد توضيحي ، لانه لا يمكن التعبد بالعلم ، فان العلم - كما مرّ في مباحث القطع - لا يمكن اثباته ولا اسقاطه ( مطلقاً ) وهو قيد لعدم الدليل بأن لم يكن دليل مطلقاً ( او ) لم يكن

ص: 91

في الجملة ، فنقول :

التعبّدُ بالظنّ ، الذي لم يدلّ على التعبّد به دليل محرّمٌ بالأدلّة الأربعة .

------------------

دليل ( في الجملة ) .

ففي الأوّل : ما هو الاصل في كلّ ما لم يعلم دليل على التعبد به ؟ .

وفي الثاني : فيما لم يعلم التعبد به ، وان علم التعبد ببعض الاشياء ، كما اذا علم - مثلاً - التعبد بالخبر الواحد ، ولم يعلم التعبد بالشهرة ، فما هو الاصل في الشهرة ؟ هل يتعبد فيه بالظنّ أم لا ؟.

( فنقول :) ان جماعة من العلماء : كالوحيد البهبهاني وصاحب الرياض قالا : ان العمل بالظن، من دون دليل حرام ذاتي كشرب الخمر ، واكل لحم الخنزير.

لكن المشهور قالوا : بالحرمة التشريعيّة ، اي الادخال في الدّين ما لم يعلم كونه من الدّين - وسيأتي الفرق بين القولين - فاذا لم يعلم الانسان ان الشارع اوجب الدعاء عند رؤة الهلال ، ثم دعا ناسباً ذلك إلى الشارع ، كان تشريعاً محرماً.

وعليه : ف( التعبّد ) من المكلّف ( بالظنّ ) ظنّاً مطلقاً ، لم يقم على حجّيته دليل الانسداد ، او ظنّاً خاصّاً ، كالشهرة - مثلاً - كذلك فان ( الّذي لم يدل على التعبد به ) من الشارع ( دليل ) فهو تشريع ( محرم بالادلّة الاربعة : ) الكتاب ، والسنة والاجماع ، والعقل .

لايقال : العقل لا مدخلية له في الاحكام ، ف- «ان دين اللّه لا يصاب بالعقول»(1).

لانه يقال : العقل اذا اكتشف حكم اللّه كشفاً قطعيّاً ، كان حجة ، لانه احد

ص: 92


1- - كمال الدين : ص324 ح9 ، بحار الانوار : ج2 ص303 ب34 ح41 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص262 ب6 ح21289 .

ويكفي من الكتاب قوله تعالى « قُل ء اللّه ُ أذِنَ لكُم أم على اللّه ِ تَفتَرونَ » ، دلّ على أنّ ماليس باذن من اللّه من إسناد الحكم الى الشارع فهو افتراء ؛

------------------

الحجّتين الذين جعلهما اللّه تعالى ، فهو حجّة باطنة ، كما انّ الأنبياء حجّة ظاهرة .

المراد من : « إنّ دِينَ اللّهِ لا يُصابُ بِالعُقُولِ » (1) غير المورد الّذي ذكرناه ، فان مثل كشف العقل: عن حرمة سبّ الابوين، من قوله سبحانه: «فلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍ»(2) ، يكون حجة ، فيكون حراماً شرعاً ، إلى غير ذلك .

والحاصل : انّ ما يراه العقل قبيحاً بحيث يمنع من النقيض ، يكون حراماً ، او حسناً بحيث يمنع من النقيض يكون واجباً ، أو قبيحاً لا يمنع من النقيض يكون مكروهاً ، أو حسناً كذلك ، يكون مستحباً ، للتلازم بين حكم العقل والشرع في سلسلة العلل - كما تقدّم الإلماع اليه - .

( ويكفي من الكتاب ) الحكيم ( قوله تعالى ) في ذم الّذين حرّموا بعض ما احلّ اللّه : ( « قُلْ ) لهم يا رسول اللّه (ء اللّهُ أَذِنَ لَكُمْ ) واعلمكم انه حرام ؟ ( أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُوْنَ » )(3) ؟ .

فتحكمون بالحرمة من دون دليل من اللّه تعالى .

فقد ( دلّ ) مضمون الآية المباركة ( على ان ما ليس باذن ) صريح ( من اللّه ، من اسناد الحكم إلى الشارع ) و « من » بمعنى : التبعيض ، وفيه اشارة إلى ان ذلك : أحد مصاديق اسناد الحكم إلى الشارع بدون العلم ( فهو افتراء ) لانه نسبة بدون

ص: 93


1- - كمال الدين : ص324 ح9 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص262 ب6 ح21289 ، بحار الانوار : ج2 ص303 ب34 ح41 .
2- - سورة الاسراء : الآية 23 .
3- - سورة يونس : الآية 59 .

ومن السنّة قوله عليه السلام ، في عداد القضاة من أهل النار : « ورجل قضى بالحق وهو لا يعلمُ » .

------------------

العلم ، كما اذا قال أحد : فعل زيد كذا ، وهو لا يعلم انه فعله ، او : قال زيد كذا ، وهو لا يعلم انه قاله ، إلى غير ذلك .

ولا يخفى : ان بين الكذب والافتراء عموماً مطلقاً حيث الكذب اعمّ من الافتراء .

( و ) يكفي ( من السنة : قوله عليه السلام في عداد القضاة من اهل النار : ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم ) .

فقد قال الصادق عليه السلام : « القضاة اربعة : ثلاثة في النار ، وواحد في الجنة :

رجل قضى بجور وهو يعلم ، فهو في النار .

ورجل قضى بجور وهو لا يعلم انّه قضى بجور ، فهو في النار .

ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم ، فهو في النار .

ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنة »(1) .

ولا يخفى : ان ما ذكره الإمام عليه السلام هو : رؤس الاقسام والاّ فالقضاء قد يكون بالحق ، وقد يكون بالجور ، والقاضي في كلّ من الاثنين اما يعلم الوجود او العدم ، او لا يعلم ، ومن لا يعلم ، اما قاصر او مقصّر .

وعلى ايّ حال : فاذا كان العمل بدون العلم مستوجباً للنار - وان كان مطابقاً للواقع - فالنسبة بدون العلم كذلك ، لوحدة الملاك عرفاً ، وقد ادّعى بعضهم : ان الايات الدّالة على حرمة النسبة بدون العلم مائة آية ، والروايات خمسمائة رواية .

ص: 94


1- - الكافي فروع : ج7 ص407 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص22 ب4 ح33105 .

ومن الاجماع ما ادّعاه الفريد البهبهانيّ ، في بعض رسائله ، من كون عدم الجواز بديهيّا عند العوامّ فضلاً عن العلماء ؛ ومن العقل تقبيحُ العقلاء من يتكلّف من قبل مولاه بما لايعلم بوروده عن المولى ولو كان عن جهل مع التقصير .

------------------

( ومن الاجماع : ما ادّعاه الفريد البهبهاني في بعض رسائله : من كون عدم الجواز ) وحرمة التعبّد بغير علم ( بديهيّاً عند العوام ، فضلاً عن العلماء ) فعدم الجواز من ضروريات الدّين .

( ومن العقل : تقبيح العقلاء ) تقبيحاً مانعاً عن النقيض ، لكلّ ( من يتكلف ) بالقول او العمل ( من قبل مولاه ، بما لا يعلم بوروده عن المولى ) فاذا قال العبد : قال المولى ؟ كذا والحال انّه لا يعلم ، ان مولاه قال هذا القول ، ذمّه العقلاء وقبحّوه بما يستوجب عقاب المولى ، وللمولى ان يقول له : لماذا نسبت إليّ ما لا تعلم انه قولي ؟ وكذا اذا عمل العبد عملاً ، ثم نسبه إلى مولاه ، وهو لا يعلم ان المولى اراده منه من دون فرق في الفعل والترك ، فاذا ترك العبد المشي في الليل ، ناسباً ذلك إلى المولى قبّحه العقلاء وذمّوه ، ورأوه مستحقاً للعقاب اذا لم يعلم صحّة النسبة إلى المولى .

ثم اذا قطع العبد : بان المولى ، قال ذلك القول ، أو امر به ، او نهى عنه ، فنسبه اليه ، والحال : ان المولى لم يقله ، ولم يأمر به ولم ينه عنه ، فان كان العبد قد قصّر في مقدمات القطع ، كان معاقباً ايضاً ، والاّ لم يكن عليه عقاب بسبب جهله المركب ، الّذي لم يقصّر فيه ، وإلى هذا اشار المصنِّف قدس سره بقوله :- ( ولو كان ) تكلّف العبد بالنسبة إلى المولى ( عن جهل ) بان زعم ان المولى قاله لكن كان جهله ( مع التقصير ) لا مع القصور ، اذ الجاهل المقصر معاقب ، دون

ص: 95

نعم ، قد يتوهم متوهّمٌ أنّ الاحتياط من هذا القبيل .

وهو غلط واضح ، إذ فرقٌ بين الالتزام بشيء من قبل المولى على انه منه مع عدم العلم بأنّه منه ، وبين الالتزام باتيانه لاحتمال كونه منه او رجاء كونه منه ، وشتّان مابينهما ، لأنّ العقل يستقلّ بقبح الأوّل وحسن

------------------

الجاهل القاصر .

( نعم ، قد يتوهم متوهم : ان الاحتياط من هذا القبيل ) فكما انه اذا دعا عند رؤة الهلال ناسباً ذلك إلى المولى - وهو لا يعلم ان المولى قاله - كان عمله قبيحاً ، كذلك اذا أتى بدعاء الهلال احتياطاً ، فكما ان الأوّل تشريع قبيح ، كذلك الثاني ، فكيف قال الفقهاء بجواز الاحتياط مع الجهل ، بل بحسنه ؟ .

( وهو ) هذا التوهّم ( غلط واضح اذ ) لا يشبه الاحتياطُ التشريعَ بأيّ وجه ، بل هناك ( فرق بين الالتزام بشيء ) إلتزاماً عمليّاً ، اذ الالتزام القلبي بدون العمل وان كان قبيحاً ، لكن لا حرمة له في غير اصول الدّين ( من قبل المولى ) بمعنى : ان يلتزم (على انه منه ) اي من المولى ( مع عدم العلم بانه منه ) فكيف بما اذا علم انه ليس من المولى وعدم العلم شامل للظنّ والشكّ والوهم ، ( وبين الالتزام باتيانه ) بالشيء (لاحتمال كونه منه ) اي من المولى ( او رجاء كونه منه ) .

قد يقال : ان الاحتمال : في الشكّ والوهم ، الرجاء : في الظنّ ، وقد يقال : بان كلاّ من الثلاثة ، يمكن مع الرجاء وبدون الرجاء ، اذا الرجاء : حال تطلب خير يحتمله الانسان ، احتمالا مساوياً ، او مرجوحاً ، او راجحاً .

( و ) على ايّ حال : فانه ( شتّان ) اي بُعد واسع ( ما بينهما ) اي بين النسبة والرجاء ( لأنّ العقل يستقل بقبح الأوّل ) وباستحقاق العبد العقاب عليه ( وحسن

ص: 96

الثاني .

والحاصل : أنّ المحرّم هو العمل بغير العلم متعبّدا به ومتديّنا به .

وأمّا العملُ به من دون تعبّد بمقتضاه : فان كان لرجاء إدراك الواقع ،

------------------

الثاني ) وهو الاحتياط ، وباستحقاق العبد المدح عليه ، بالاضافة إلى ان اطلاق ادلة الاحتياط شاملة لذلك .

وربّما يفرق بين قول من قال : بالحرمة الذاتيّة في العمل بما لا يعلم ، وبين من قال : بالحرمة التشريعيّة : بان الأوّل يرى الحرمة وان أتى به احتياطاً ، بينما الثاني يرى الحرمة ، الا اذا أتى به احتياطاً ، لكن هذا الفرق غير ظاهر الوجه .

( و ) كيف كان : ف( الحاصل ) من الفرق بين التشريع والاحتياط ( : ان المحرم ) من جهة التشريع ( هو العمل بغير العلم ، متعبدا به ) وناسبا له الى المولى ( ومتديناً به ) أي جاعلاً ذلك له ديناً وطريقةً في الحياة ، فان الدّين بمعنى : الطريقة ، والتعبد : نسبة الشيء إلى المولى ، وان يأتي به العبد بصفة انّه عبد ، بينما التدين : جعل الشيء طريقاً دينياً .

( وامّا العمل به ، من دون تعبّد بمقتضاه ) ومن دون نسبة إلى المولى ، سواء في كلّ الاحكام الخمسة ، كأن يأتي بالشيء على انّه واجب شرعي ، او مستحب شرعي ، او مباح شرعي ، او انه لا يأتي على انه حرام ، او مكروه ، او مباح ، مع النسبة إلى الشرع .

( فان كان لرجاء ادراك الواقع ) بان يغتسل غسل الجمعة يوم الاحد - حيث ورد دليل ضعيف بانه يؤى به في كلّ ايام الاسبوع - او يدرك الواقع بدعائه عند رؤة الهلال - حيث اوجبه بعض - او يدرك الواقع بتركه التدخين - حيث حرّمه

ص: 97

فهو حسنٌ مالم يعارضه احتياط آخر او لم يثبت من دليل آخر وجوبُ العمل على خلافه ، كما لو ظنّ الوجوبَ واقتضى الاستصحابُ الحرمةَ ، فانّ الاتيان بالفعل محرّم وإن لم يكن على وجه التعبّد بوجوبه والتديّن به .

------------------

بعض ، وكرّهه بعض - وكذلك بالنسبة إلى المباح المحتمل فعلاً او تركاً ( فهو حسن ) لانه من مصاديق الاحتياط ( ما لم يعارضه احتياط آخر ، او لم يثبت من دليل آخر : وجوب العمل على خلافه ) فانه ليس من الاحتياط حينئذٍ .

( كما لو ظنّ الوجوب ) بسبب شهرة ، او سيرة ، او ما اشبه - وقلنا بانهما ليسا بحجة - ( واقتضى الاستصحاب الحرمة ) حيث ان الاحتياط بالاتيان ، يعارض بالاحتياط الاقوى ، وهو : الاستصحاب ، وحينئذٍ لا يكون حسناً بل قبيحاً ، لان الاستصحاب حجّة بخلاف الاحتمال المقابل له .

وربّما يتساوى الاحتياطان ، كما اذا كان الاحتياط في الصلاة الاتيان بالتسبيحات الاربع ثلاث مرّات ، لكن في آخر الوقت حيث الاحتياط بالثلاث ، يوجب خروج بعض الصلاة عن الوقت بتعارض الاحتياطان - على فرض عدم المرجّح - ويكون التخيير فلا احتياط في جانب .

وعلى أيّ : (ف) مثال المصنِّف قدس سره يكشف عن ( ان الاتيان بالفعل محرّم ) وفي عكسه : واجب ، وانهما من تعارض الحجّة مع ما ليس بحجّة ( وان لم يكن ) الاتيان به ( على وجه التعبّد بوجوبه والتّدين به ) اذ الشارع بسبب الاستصحاب ألزم عدم الفعل ، فكيف يأتي به المكلّف برجاء ادراك الواقع ، او بدون ذلك ، بل بمجرد شهوة النفس وميل القلب ؟ كمن لديه استصحاب بقاء زوجته في الحيض ، ثم يأتيها برجاء ادراك ثواب ليلة اوّل رمضان ، او بدون ذلك الرجاء بل لمجرد تشهّي النفس وميل القلب .

ص: 98

وإن لم يكن لرجاء إدراك الواقع ، فان لزم منه طرحُ أصلٍ دلّ الدليلُ على وجوب الأخذ به حتّى يعلم خلافه ، كان محرّما أيضا ، لأنّ فيه طرحا للأصل الواجب العمل ، كما فيما ذكر ، من مثال كون الظنّ بالوجوب على خلاف استصحاب التحريم ؛ وإن لم يلزم منه ذلك جاز العملُ ، كما لو ظنّ بوجوب ما تردّد بين الحرمة والوجوب ،

------------------

( و ) عليه : فانه ( ان لم يكن ) الاتيان به ( لرجاء ادراك الواقع ) بل لتشهي النفس ، وعدم المبالات بالاحكام ( فان لزم منه ) أي من اتيانه لا بقصد الرجاء ( طرح اصل ) من الاصول العملية ، او دليل اجتهادي قد ( دلّ الدليل على وجوب الأخذ به ، حتّى يعلم خلافه ) كما اذا دلّ الاستصحاب على حرمة الجمعة او قام خبر واحد صحيح عليها ، فان في الأوّل : اذا جاء بالجمعة طرح الاصل ، وفي الثاني : اذا جاء بها طرح الدليل المعتبر ( كان محرّماً ايضاً ) كما قلنا بالحرمة في الصورة الاولى ، وهي : النسبة إلى المولى من دون علم بان المولى قاله ( لان فيه ) أي في العمل المذكور ( طرحاً للاصل ) او الدليل ( الواجب العمل ) .

فان الاصل قد لا يجب العمل به ، كما اذا كان مستصحب الطهارة ، فانّ له ان لا يعتني به ويتوضأ ، وكذلك اذا قام الشاهد على انه صلّى فانّ له ان لا يعتني به ويصلّي ثانياً ( كما فيما ذكر من مثال : كون الظنّ بالوجوب على خلاف استصحاب التحريم ) او قيام الخبر على التحريم .

( وان لم يلزم منه ) أي من العمل تشهياً ( ذلك ) الّذي قلناه : من طرح اصل ، او دليل قد ألزم العمل بهما شرعاً ( جاز العمل ) على خلاف الاصل والدليل ، اذا لم يلزم العمل بهما فرضاً .

( كما لو ظنّ بوجوب ما تردد بين الحرمة والوجوب ) فاذا ذهب بعض الامّة

ص: 99

فانّ الالتزام بطرف الوجوب ، لا على أنه حكم اللّه المعيّن جائزٌ ، لكن في تسمية هذا عملاً بالظنّ مسامحة ، وكذا في تسمية الأخذ به من باب الاحتياط .

------------------

------------------

مثلاً - : إلى وجوب الجمعة ، وبعضهم : إلى حرمتها ، فالذي يظنّ بالوجوب ويأتي بالجمعة ، لم يكن فعله محرّماً ، لانه مردد بين الفعل والترك ، ظنّ بالوجوب ام لا .

وكما اذا تردّد بين انّها محلوفة الوطي او الترك ، ووطأ لظنه الوجوب ، فانّه لم يفعل حراماً ( فان الالتزام ) العملي من المكلّف المردد ( بطرف الوجوب ) والاتيان بالفعل ( لا على انه حكم اللّه المعيّن ) في حقّه ، بل اشتهاءاً ( جائز ) .

والحاصل : ان الاقسام ثلاثة :

الأوّل : ان يأتي به تعبداً واستناداً إلى الشارع ، فهذا حرام مطلقاً ، كان في قباله اصل او دليل ، او لم يكن .

الثاني : أن يأتي به برجاء المطلوبيّة ، ولم يكن في قباله دليل معتبر ، فهذا جائز ، امّا اذا كان في قباله دليل معتبر يمنع من الاتيان به ، لم يكن جائزاً .

الثالث : ان يأتي به لا بقصد التعبد ، ولا رجاءاً ، بل تشهياً .

( لكن في تسمية هذا ) العمل بالامارة غير العلمية ، بدون رجاء ادراك الواقع (عملاً بالظنّ ، مسامحة ، وكذا في تسمية الأخذ به من باب الاحتياط ) اذ العمل بالظنّ عبارة عن التعبد به ، واما مجرد انطباق العمل على وفق الظنّ بدون الاستناد ، سواء كان العمل من باب الاحتياط ، او من باب التشهي ، فلا يسمّى من العمل بالظنّ الاّ من باب المشابهة ، لان هذا العمل شبيه با لعمل بالظنّ ، لا انه عمل بالظنّ ، كما اذا عمل انسان مثل عمل انسان آخر ، لا من باب التقليد والمحاكاة ، بل من باب انّه فعله لهدف أَراده ، فانه لا يسمّى تقليداً ومحاكاةً الاّ من باب المجاز .

ص: 100

وبالجملة ، فالعملُ بالظنّ إذا لم يصادف الاحتياط محرمٌ إذا وقع على وجه التعبّد به والتديّن ، سواء استلزم طرحَ الأصل او الدليل الموجود في مقابله ام لا ؛ وإذا وقع على غير وجه التعبّد به فهو محرّم إذا استلزم طرحَ ما يقابله من الأصول والأدلّة المعلوم وجوب العمل بها .

------------------

( وبالجملة : فالعمل بالظنّ اذا لم يصادف الاحتياط ) بأن لم يكن من باب الاحتياط ، بل كان من باب التشريع ، ونسبة العمل إلى الشارع فهو ( محرّم ، اذا وقع ) هذا العمل ( على وجه التعبّد به والتديّن ) لانه افتراء ، ونسبة ما لا يعلم انه من المولى إلى المولى ( سواء استلزم طرح ) ما يقابله من ( الاصل ) العملي ( او الدّليل ) الاجتهادي ، كالاخبار والاجماعات ، وما اشبههما ( الموجود في مقابلة ) ممّا يجب العمل به ، لا ممّا لا يجب ، بان كان الاصل البرائة ، او الدليل خبراً يدل على الاباحة - مثلاً - .

( ام لا ) يستلزم الطرح ، كما اذا كان عمله موافقاً لاصل غير معتبر ، او أمارة كذلك .

والفرق بين استلزام الطرح وعدمه : انّه ان كان موجباً لطرح اصل او أمارة وقد ألزم العمل بهما ، فعمله محرم من جهتين : الطرح ، والتشريع ، وان لم يكن موجباً للطرح ، فعمله محرماً من جهة التشريع فقط .

( واذا وقع ) العمل ( على غير وجه التعبد به ) كما اذا اوقعه احتياطاً او تشهياً - على ما تقدّم من ان الاقسام ثلاثة - ( فهو محرم ، اذا استلزم طرح ما يقابله من الاصول ، والادلة ، المعلوم وجوب العمل بها ) حيث لا تشريع حينئذٍ حتّى يكون محرماً من جهة التشريع ايضاً ، فهو محرّم من جهة الطرح فقط .

واذا لم يكن على وجه التعبد ، ولم يستلزم طرح دليل او اصل ، قد وجب

ص: 101

هذا ، وقد يقرر « الأصل » هُنا بوجوه اُخر :

منها : أنّ الأصل عدمُ الحجيّة وعدمُ وقوع التعبّد به وإيجاب العمل به .

وفيه : ان الاصل وان كان ذلك الا انه لايترتّب على مقتضاه شيء ،

------------------

العمل بهما ، يكون غير محرم ، لانه لا سبب لتحريمه - على ما تقدّم الالماع اليه - .

وب( هذا) الّذي ذكرناه مفصلاً ، تبيّن : ان الاصل : حرمة العمل بالظنّ من جهة التشريع .

( وقد يقرر الاصل هنا ) في مسألة حرمة العمل بالظنّ ( بوجوه اُخر ) غير الوجه المتقدم .

( منها : ان الاصل ) فيما شك في حجّيته : ( عدم الحجّيّة ) لان الحجّيّة امر جديد ، فاذا شكّ فيه كان الاصل عدمه ( وعدم وقوع التعبد به ) وهذا الاصل ، مقدم على عدم الحجّيّة ، لان الحجّيّة صفة تأتي بعد التعبد ، فاذا جعل الشارع شيئاً متعبداً به ، صار حجة ( و ) كذا الاصل : عدم (ايجاب العمل به ) وهذا يفيد عدم الحكم التكليفي ، بينما اصل عدم التعبد يفيد الحكم الوضعي ، فما يضعه الشارع وضعاً ، يكون واجباً تكليفاً ، كما اذا قال : الشيء الفلاني جزء ، فانه يجب الاتيان به ، لكنّ الجزئيّة حكم وضعي ، ووجوب الاتيان به حكم تكليفي .

( وفيه : انّ الاصل وان كان ذلك ) من : عدم الحجّيّة ، وعدم التعبّد ، وعدم ايجاب العمل ( الاّ انّه لا يترتب على مقتضاه ) أي مقتضى هذا لاصل ( شيء ) ولا اثر ، وكلّ اصل لا يترتب على مقتضاه اثر ، لم يجر ، فاذا شككنا - مثلاً - في انّ اناء زيد ، الّذي هو في الهند ولا يرتبط بنا اصلاً ، طاهر او نجس ، فان الاصل فيه وان كان : الطهارة ، الا انّه حيث لا يترتب على هذه الطهارة أثر - بالنسبة الينا اطلاقاً- لم يجر ، فيكون تشريعه من الشارع لغواً ، ولا فائدة فيه اصلاً .

ص: 102

فانّ حرمة العمل بالظنّ يكفي في موضوعها عدمُ العلم بورود التعبّد من غير حاجة إلى إحراز عدم ورود التعبّد به ، ليحتاج في ذلك إلى الأصل ثمّ إثبات الحرمة ، والحاصلُ : أنّ أصالة عدم الحادث إنّما يحتاج إليها في الأحكام المترتّبة على عدم ذلك الحادث .

------------------

والمقام من هذا القبيل ( فان حرمة العمل بالظنّ ) ليس موضوعها : عدم الحجّيّة حتّى نجري الاصل في عدم الحجّيّة فيترتب على هذا الاصل حرمة العمل ، بل (يكفي في موضوعها ) أي موضوع الحرمة ( عدم العلم بورود التعبد ) فبمجرّد ان لم نعلم : ورود التعبد ، تترتب الحرمة ( من غير حاجة ) لنا في ترتيب الحرمة هذه ( إلى احراز عدم ورود التعبّد به ) أي بالظنّ ، احرازاً بالاستصحاب ( ليحتاج ) الامر ( في ذلك ) التحريم ( إلى الاصل ) المذكور ، و ( ثمّ ) بعد اجراء الاصل يكون ( اثبات الحرمة ) .

فاذا شككنا - مثلاً - في ان هذا الماء طاهر او نجس ، والشارع قال : « كُلُّ شيء لَكَ طَاهِر » (1) .

فبمجرد هذا الشك نقول : انّه طاهر ، ولا حاجة لان نقول : كان سابقاً طاهراً ، وحيث نشكّ الان في طهارته ، نجري استصحاب الطهارة ، اذ لا مجال للاستصحاب حينئذٍ ، لانّ بمجرّد الشكّ تترتب الطهارة ، فالاثر للشكّ ، ولا حاجة إلى احراز الطهارة بالاستصحاب .

( والحاصل : ان اصالة عدم الحادث ) كاصل عدم الحجّيّة - في المقام - ( انّما يحتاج اليها ، في الاحكام المترتبة على عدم ذلك الحادث ) فاذا نذر - مثلاً - بان

ص: 103


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص285 ب12 ح119 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص190 ب4 ح318 .

وامّا الحكم المترتب على عدم العلم بذلك الحادث فيكفي فيه الشكّ ولا يحتاجُ الى احراز عدمه بحكم الأصل . وهذا

------------------

زيداً ان لم يأت اعطى الفقير درهماً ، فانّه يلزم ان يعلم عدم اتيان زيد ، امّا علماً وجدانيّاً ، أو علماً تنزيليّاً ، بالاستصحاب ، أو بقيام الشهود على عدم مجيئه ، فاذا كان أحد الثلاثة : العلم ، أو الشهود ، أو الاستصحاب ، وجب عليه اعطاء الفقير ، امّا اذا شكّ في مجيئه وعدمه ، ولم يكن احد الثلاثة ، لم يلزم عليه ان يعطي الفقير ، لان موضوع نذره : « عدم المجيء » لا « الشكّ في المجيء وعدمه » .

( وامّا الحكم المترتّب على عدم العلم بذلك الحادث ) بأن كان موضوع الحكم : «عدم العلم » لا « العلم بالعدم » ( فيكفي فيه ) أي في ترتب الحكم ( الشكّ ) في ذلك الحادث ( ولا يحتاج ) لترتيب الحكم ( إلى احراز عدمه ) احرازاً وجدانيّاً ، او تنزيلياً - بسبب الشهود ، او الاستصحاب أي ( بحكم الاصل ) وهو متعلق ب« احراز » .

وما نحن فيه ليس من قبيل الأوّل ، بل من قبيل الثاني ، لانه بمجرد الشكّ في الحجّيّة يترتب عدم الحجّيّة ، ولا حاجة إلى استصحاب عدم الحجّيّة ، فما قاله المستدل : من ان « الاصل عدم الحجّيّة » غير تام ، اذ لا أصل في المقام يترتب عليه الاثر .

وبالجملة : ان علمنا الحجّيّة عملنا على وفقها ، ولو لم نعلم فبمجرد الشكّ يحرم العمل ، ولا حاجة إلى اجراء اصالة عدم الحجّيّة - الّذي ذكره المستدل بالاصل - .

( وهذا ) الّذي ذكرناه : من انّ مجرّد الشكّ في الحجّيّة يكفي لتحريم العمل من دون حاجة إلى اجراء اصالة عدم الحجّيّة ، فانّه يأتي في موارد أُخر ، وذلك فيما اذا

ص: 104

نظيرُ قاعدة الاشتغال الحاكمة بوجوب اليقين بالفراغ ، فانّه لا يحتاج في إجرائها إلى إجراء أصالة عدم فراغ الذمّة ، بل يكفي فيها عدمُ العلم بالفراغ ،

------------------

شككنا في انا صلّينا الظهر ام لا ، فبمجرّد الشكّ يجب علينا : الاتيان بالظهر ، ولا حاجة إلى أن نستصحب عدم الاتيان بالظهر ، ليلزم علينا الظهر ، لان الاثر انّما هو للشكّ في الاتيان ، لا لعدم الاتيان ، حتّى يحتاج الامر إلى الاستصحاب .

إذن : ممّا نحن فيه ( نظير قاعدة الاشتغال ) حيث ان الاشتغال اليقيني يحتاج إلى البرائة اليقينيّة ( الحاكمة ) هذه القاعدة ( بوجوب اليقين بالفرغ ) عن التكليف ، والاّ فقاعدة الاشتغال محكّمة ، بدون حاجة إلى استصحاب الشغل ، فان الاثر « للشكّ في الفراغ » لا « لعدم الفراغ » حتّى يتوقف الحكم على استصحاب عدم الفراغ ( فانّه) أي الشأن ( لا يحتاج في اجرائها ) أي اجراء قاعدة الاشتغال ( إلى ) العلم بعدم الفراغ ، او ما ينزل منزلة العلم ، كالشهود ، والاستصحاب وهو : ( اجراء اصالة عدم فراغ الذمّة ) حتّى يلزم الاتيان بالمشكوك ، كالظهر - في المثال - الّذي شكّ في انّه أتى به أم لا ( بل يكفي فيها ) أي في قاعدة الاشتغال ( عدم العلم بالفراغ ) فبمجرد الشكّ ، يلزم الاتيان ، ولا حاجة إلى استصحاب عدم الاتيان .

( فافهم ) حتّى لا تقول : انه لا يكفي مجرد الشكّ في الحجّيّة ، اذ الامر بحاجة إلى الفحص .

لأنّا نقول : مرادنا بالشكّ : الشكّ بعد الفحص ، في الاحكام امّا في الموضوعات ، فالمشهور بينهم : عدم الحاجة إلى الفحص ، وان كنّا في بعض مباحث الاصول ذكرنا : عدم مساعدة الدليل على ما ذكروه .

ص: 105

فافهم .

ومنها : أنّ الأصل هي إباحة العمل بالظنّ ، لأنّها الأصلُ في الأشياء ، حكاه بعضٌ عن السيّد المحقق الكاظمي .

وفيه : على تقدير صدق النسبة ، أوّلاً ، أنّ إباحة التعبّد بالظنّ غيرُ معقول ، إذ لا معنى

------------------

وربّما يقال : ان مراد المصنِّف قدس سره من : ( فافهم ) شيء آخر .

او يقال : ان مراد المستدل « بأصل : عدم الحجّيّة » هو : ما ذكره المصنِّف قدس سره لا الاستصحاب ، حتّى يستشكل عليه : بان المقام ليس من الاستصحاب ، لان الاثر للشكّ ، لا للمشكوك .

( ومنها : ان الاصل هي اباحة العمل بالظنّ ، لانّها ) أي الاباحة ( الاصل في الاشياء ) ف- : « كُلُّ شَيء مطلق حَتّى يَرِدَ فِيْهِ نَهْي »(1) - كما في الحديث - .

وفي الآية الكريمة : « هُوَ الَّذِيْ خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيْعا ... »(2) .

والظن ممّا في الارض ، إلى غير ذلك وهذا الوجه قد ( حكاه بعض عن السيد ) محسن الاعرجي قدس سره المعروف ب: ( المحقق الكاظمي ) وربّما يقال له : المحقق البغدادي ايضاً ، وهو صاحب الوسائل في الفقه .

( وفيه - على تقدير صدق النسبة - ) وان السيد قال هذا الكلام :- ( أولاً : ان اباحة التعبّد بالظنّ غير معقول ، اذ ) الاباحة معناها : جواز كلّ من الفعل والترك ، مثل شرب الماء ، حيث يجوز فعله ، ويجوز تركه ، و ( لا معنى

ص: 106


1- - من لا يحضره الفقيه : ج1 ص317 ، غوالي اللئالي : ج3 ص166 ح60 و ج3 ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .
2- - سورة البقرة : الآية 29 .

لجواز التعبّد وتركه لا إلى بدل ، غايةُ الأمر التخييرُ بين التعبّد بالظنّ والتعبّد بالأصل او الدليل الموجود هناك في مقابله الذي يتعيّن الرجوع إليه لولا الظنّ هناك فغايةُ الأمر وجوبُ التعبّد به او بالظنّ تخييرا ،

------------------

لجواز التعبد ) بان يعلم الانسان بالظنّ ناسباً له إلى المولى ( و ) جواز ( تركه لا إلى بدل ) بان لا يعمل الانسان بالظنّ كذلك ، كأن يقول المولى : انت مخيّر بين ان تعمل بظنّك ، او ان لا تعمل بظنّك ، من دون ان يكون شيء آخر تعمله بدل ذلك ، فاذا ظننت بصلاة الجمعة - مثلاً - فان شئت صلّها ، وان لم تشأ لا تصلها من دون ان تأتي بدلها بصلاة الظهر .

وانّما لا يعقل مثل هذه الاباحة والتخيير ، لان معنى اباحة العمل بالتعبد بالظنّ هو : الالتزام بوجوب صلاة الجمعة ، فان ثبت التعبد بهذا الظنّ ، وجب العمل به ، والاّ كان الالتزام بوجوب صلاة الجمعة ، حراماً من جهة التشريع .

( غاية الامر ) ان في معنى التخيير هو : ان يكون هناك صلاة الجمعة وصلاة الظهر ، والعبد مخيّر بينهما ، فيكون معناه : ( التخيير بين التعبّد بالظنّ ، والتعبّد بالاصل ) مثل استصحاب وجوب الظهر ، حيث ان الواجب في سائر ايام الاسبوع هو : الظهر ، فاذا شككنا في ان وجوب الظهر ، ارتفع في يوم الجمعة ام لا ، نستصحب ذلك الوجوب ( او الدليل ) كالخبر الوارد في وجوب صلاة الظهر ( الموجود هناك في مقابله ) أي مقابل الظنّ - على سبيل البدليّة - فان ذلك الأصل او الدليل ، هو ( الّذي يتعين الرجوع اليه ، لولا الظنّ هناك ) بوجوب الجمعة ، اذ لولا الظنّ ، كان اللازم : العمل بالظهر امّا من جهة الاصل ، أو من جهة الدليل - على ما عرفت - ( فغاية الامر ) في التخيير لا الاباحة بين الفعل والترك - هو : ( وجوب التعبّد به ) أي بذلك الاصل ، او الدليل ( أو بالظنّ تخييرا ) بينهما

ص: 107

فلا معنى للاباحة التي هي الأصلُ في الأشياء .

وثانيا ، أنّ أصالة الاباحة إنّما هي فيما لا يستقلُّ العقلُ بقبحه ، وقد عرفت استقلال العقل بقبح التعبّد بالظنّ من دون العلم بوروده من الشارع.

------------------

( فلا معنى للاباحة ) هنا ( التي هي الاصل في الاشياء ) اذ هنا : مقام التعبّد ، والاباحة جارية في غير ما يتعبد بها .

وان شئت قلت : انّه لا يمكن للمولى ان يقول : انت مخيّر في ان تلتزم بالوجوب ، او لا تلتزم لانه اذا كان ملاك الوجوب وجب ، واذا لم يكن لم يجب ، امّا كون الوجوب باختيار الانسان ، فهو غير صحيح .

( وثانياً ) لو سلمنا امكان الاباحة ، نقول : ان الاباحة لا مجرى لها فيما يستقل العقل بقبحه ، والعقل مستقل بقبح نسبة العبد إلى المولى ما لا يعلم ان المولى قاله ، و ( ان اصالة الاباحة ) في الاشياء ( انّما هي فيما لا يستقل العقل بقبحه ) اذ كيف يبيح الشارع ما هو قبيح ؟ وهل هذا الاّ مثل ان يقول الشارع ما لا يعقل ؟ كأن يقول : الاربعة فرد ، او الجزء يساوي الكلّ ، او الفوضى جائز ، إلى غير ذلك .

( وقد عرفت ) فيما تقدّم ( : استقلال العقل بقبح ) التشريع ، ومن اقسام التشريع (التعبّد بالظنّ ) بان ينسب العبد إلى المولى ما ظنه ( من دون العلم بوروده من الشارع ) ولعلّ مراد السيد الكاظمي قدس سره هو ما يكون في قبال ابن قِبة ، الّذي يقول باستحالة التعبّد بالظنّ ، لا مانقل عنه : من انّ التعبّد بالظنّ مباح .

وكيف كان : فقد عرفت : ان الاشكال الأوّل : في الكبرى ، وانه لا يعقل اباحة التعبد ، والاشكال الثاني : في الصغرى ، وانه على تقدير تماميّة الكبرى ، ليس هذه الصغرى من مصاديق تلك الكبرى .

ص: 108

ومنها : أنّ الأمر في المقام دائر بين الوجوب والتحريم ، ومقتضاه التخييرُ او ترجيحُ جانب التحريم ، بناءا على أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة .

وفيه : منعُ الدوران ، لأنّ عدمَ العلم بالوجوب كافٍ في ثبوت التحريم ، لما عرفتَ من إطباق الأدلّة الاربعة على عدم جواز التعبّد بما لا يعلم وجوبُ التعبّد به من الشارع .

------------------

( ومنها : ان الامر في المقام ) وهو التعبد بالظنّ ( دائر بين الوجوب والتحريم ) فان الأمارة التي لم يقم على اعتبارها دليل ، ان كانت معتبرة في الواقع ، وجب التعبد بها ، والاّ فيحرم ( ومقتضاه ) أي مقتضى الدوران : ( التخيير ) بناءاً على عدم ترجيح احد الجانبين ( او ترجيح جانب التحريم ، بناءاً على ان دفع المفسدة ) بالالتزام بالحرمة ، فلا يأتي الانسان بها . حذراً من الوقوع في المفسدة ( اولى من جلب المنفعة ) بالالتزام بالوجوب .

وعلى أيّ حال : فالالتزام بالحرمة صحيح وذلك ، امّا من باب التخيير بين الحرمة والوجوب ، أو من باب تقديم الحرمة .

( وفيه : منع الدوران ) بل الحكم هنا هو : الحرمة متعيناً ( لان عدم العلم بالوجوب ، كاف في ثبوت التحريم ) فان النسبة إلى المولى بدون العلم محرم ( لما عرفت : من اطباق الادلّة الاربعة ، على عدم جواز التعبد بما لا يعلم وجوب التعبد به من الشارع ) .

هذا ، بالاضافة إلى انه لا دليل على : تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة ، اذ لو تساويا فالتخيير ، ولو رجّح احدهما على نحو المنع عن النقيض قدّم ذلك الراجح ترجيحا لازماً ، وان كان الترجيح لا بقدر المنع عن النقيض قدّم ذلك

ص: 109

الا ترى أنّه إذا دار الأمر بين رجحان عبادة وحرمتها كفى عدمُ ثبوت الرجحان في ثبوت حرمتها .

ومنها : أنّ الأمرَ في المقام دائر بين وجوب تحصيل مطلق الاعتقاد بالأحكام الشرعيّة المعلومه إجمالاً وبين وجوب تحصيل خصوص الاعتقاد القطعيّ ، فيرجعُ إلى الشكّ في المكلّف به

------------------

الراجح ترجيحاً غير لازم ، ممّا يوجب : المستحب ، او المكروه .

( الا ترى ) إلى ما يدل على لزوم التحريم في المقام وهو : ( انه اذا دار الامر بين رجحان عبادة ) وجوباً : كصلاة الجمعة ، او ندباً : كالدعاء عند رؤة الهلال ( وحرمتها ، كفى عدم ثبوت الرجحان ) عقلاً او شرعاً ( في ثبوت حرمتها ) فان المشروعية منحصرة في وجود الدليل ، واذا لم يكن دليل ، كان محلاً للحرمة ، سواء شكّ ، او ظنّ ، او وهم ، ولا حاجة إلى النهي : كصلاة التراويح التي جعلها عمر ، ولا إلى عدم الامر ، قطعاً .

( ومنها:) ما ينتج حرمة العمل بالظنّ ، لكن لا من الطريق الّذي قرّره المصنِّف بل من طريق آخر وهو ( ان الامر في المقام ) وهو : أي مقام اطاعة الاحكام ( دائر بين : وجوب تحصيل مطلق الاعتقاد ) الشامل للعلم والظنّ ( بالاحكام الشرعية ، المعلومة اجمالاً) فانا نعلم اجمالاً باحكام شرعية متوجهة الينا وانّ اللازم علينا ان نعلم بتلك الاحكام تفصيلاً اما بعلم قطعي ، او بالظنّ .

( وبين : وجوب تحصيل خصوص الاعتقاد القطعي ) بتلك الاحكام ، فلا يكفي الظنّ بها في مقام الامتثال .

( فيرجع ) ما نحن فيه ( إلى الشك في المكلّف به ) لا إلى الشك في التكليف ، الّذي حكمه البرائة ، بل الشكّ في انه هل إنّا مكلّفون بالعلم ، او بالاعمّ من العلم

ص: 110

وتردّده بين التخيير والتعيين ، فيحكمُ بتعيين تحصيل خصوص الاعتقاد القطعيّ تحصيلاً لليقين بالبراءة ، خلافا لمن لم يوجب ذلك في مثل المقام .

------------------

والظن ؟ ( وتردده ) أي المكلّف به ( بين التخيير والتعيين ) لانه لا نعلم هل يلزم علينا العلم فقط ، او نخيّر بين العلم والظنّ ؟ ( فيحكم بتعيين تحصيل خصوص الاعتقاد القطعي ، تحصيلاً لليقين بالبرائة ) .

فاذا علم الانسان : بانه مخيّر بين امرين او متعين احدهما عليه فانّه ان جاء بذلك المحتمل التعييني ، فقد بَرء عن التكليف قطعاً ، امّا اذا جاء بما يقابل المعيّن ، فلا يعلم انه قد برء من التكليف ، والاشتغال اليقيني يستدعي البرائة اليقينية .

( خلافاً لمن لم يوجب ذلك ) من تحصيل اليقين بالفراغ ( في مثل المقام ) الّذي هو من دوران الامر بين التعيين والتخيير ، فقد اختلفوا في ان الاصل في مثله : هل هو التخيير او التعيين ؟ فمن اختار الأوّل ، قال : بالتخيير بين العلم والظنّ ، ومن اختار الثاني ، قال : بلزوم تحصيل العلم .

استدل الأوّل : بالبرائة من الخصوصيّة ، فاذا شكّ بين ان الواجب : الظهر او الجمعة ، تخييراً بينهما ، او تعييناً للجمعة ، فان اصل الصلاة محرز ، اما خصوصيّة الجمعة ، فمرفوعة بأصل البرائة .

واستدل الثاني : بانّه ان أتى بالجمعة ، فقد برء من التكليف قطعاً ،امّا اذا أتى بالظهر ، فلا يعلم بالبرائة ، والحال ان الشغل اليقيني ، يحتاج إلى البرائة اليقينيّة ، فاللازم : ان يأتي بالجمعة ، لتحصيل العلم بالفراغ .

ص: 111

وفيه : أولاً : أنّ وجوبَ تحصيل الاعتقاد بالاحكام مقدّمةٌ عقليّةٌ للعمل بها وامتثالها ، فالحاكمُ بوجوبه هو العقل ، ولا معنى لتردّد العقل في موضوع حكمه

------------------

( وفيه : اولاً : ) ان المقام ليس من التعيين والتخيير الشرعي ، حتّى يقال : بانه محل البرائة ، او الاشتغال ، وانّما من التعيين والتخيير العقلي ، اذ ( ان وجوب تحصيل الاعتقاد بالاحكام ، مقدمة عقليّة للعمل بها وامتثالها ) لوضوح ان الواجب في الاحكام امتثال تلك الاحكام ، ولما كان الامتثال متوقفاً على القطع الاعتقاد بها ، وجب تحصيل الاعتقاد مقدّمة للامتثال .

( فالحاكم بوجوبه ) أي وجوب تحصيل الاعتقاد ( هو العقل ) لا الشرع ، فليس المقام من قبيل : ما لو شك في انه ، هل يجب في صلاة الجمعة بعد الفاتحة ، سورة الجمعة تعييناً ، او سورة الجمعة او ايّة سورة اخرى تخييراً ، حتّى يأتي التعيين أو التخيير ؟ .

بل المقام عقلي ( و ) العقل لا يشكّ في موضوع حكمه ابداً ، فانه ( لا معنى لتردد العقل في موضوع حكمه ) لان تردّده في الموضوع ، يستلزم التردّد في نفس الحكم ، ولا يعقل ان يتردّد الحاكم في نفس حكمه .

فالعقل - مثلاً - يحكم بحسن الاحسان ، وقبح الظلم ، فاذا تردد في ان سقي الحيوان المؤي الماء ، اذا كان عطشاناً ، هل هو من الاحسان ام لا ؟ كان معناه : انه تردد في ان سقيه الماء هل هو حسن ام لا ؟ .

فانه يجب اولاً : ان نعرف حدود الاحسان وافراده ، حتّى نعرف هذه الكلّيّة : «الاحسان حسن » اذ لو احتملنا انه احسان غير حسن ، كان معناه : انا لم نعرف تلك الكلّيّة ، فان كلّيّة الموضوع وجزئيته يرجعان إلى كلّيّة الحكم وجزئيّته ، وكلّيّة

ص: 112

وأنّ الذي حكم هو بوجوبه تحصيلُ مطلق الاعتقاد او خصوص العلم منه ، بل امّا أن يستقلّ بوجوب تحصيل خصوص الاعتقاد القطعيّ على ما هو التحقيق ، وامّا أن يحكم بكفاية مطلق الاعتقاد ،

------------------

الحكم وجزئيّته يرجعان إلى كلّيّة الموضوع وجزئيّته ، فاذا قال : اكرم كلّ عالم ، كان الاكرام كليّاً ، لان « كلّ عالم » كلّي ، وذا قال : اكرم بعض الفقهاء ، كان الاكرام جزئياً ، وكذا العكس : فاذا قال : « افراد الاكرام الواجب عليك تجاه كلّ عالم عالم الف » وفرض ان العلماء خارجاً الف شخص ، كان « العالم » كليّاً خارجيّاً ، واذا قال : افراد الاكرام تسعمائة ، كان العالم جزئيّاً ، لان مائة من العلماء - في ضمن الالف - لا يجب اكرامهم .

والحاصل : انه اذا تردد العقل في الموضوع ، تردد في الحكم ، واذا كان متردداً فكيف يحكم ؟ .

( و ) اذا ثبتت هذه الكلّيّة ، نقول : كيف يتردد العقل في المقام ( ان الّذي حكم هو ) أي العقل ( بوجوبه ) هل هو : ( تحصيل مطلق الاعتقاد ) الاعمّ من العلم او الظنّ ( او خصوص العلم منه ) .

وبالجملة : ان العقل لا يشكّ في المقام بين التعيين والترديد ( بل امّا ان يستقل : بوجوب تحصيل خصوص الاعتقاد القطعي ) من العلم فقط ، فلا يكفي الظنّ وذلك لانه يرى عدم حصول الطاعة بدون الاعتقاد القطعي ( على ما هو التحقيق ، وامّا ان يحكم : بكفاية مطلق الاعتقاد ) الاعمّ من القطع والظنّ - كما سيأتي من المحقّق السبزواري قدس سره - لانّ العقل يستقل : بانه لا يكفي الوهم والشكّ في الاطاعة ، ومن المعلوم : ان كلّ واحد من العلم والظنّ ، ليس شكّاً او وهماً .

ص: 113

ولا يتصوّر الاجمال في موضوع الحكم العقليّ ، لأن التردّد في الموضوع يستلزم التردّد في الحكم ،

------------------

( ولا يتصوّر الاجمال ) والشكّ ( في موضوع الحكم العقلي ) سواء في الاجتماعيات : كحسن الاحسان ، وقبح الظلم .

أو في الهندسيات : مثل ان مساحة المربع - كامل التربيع او المستطيل منه - تحصل : بضرب أحد اضلاعه في مجاوره .

أو الحسابيات : مثل ان نتيجة ضرب الزوج في مثله زوج ، ونتيجة ضرب الفرد في مثله فرد ، ونتيجة ضرب الزوج في الفرد زوج ، إلى غير ذلك ، كالكلّيات العقلية ، فلا يشكّ العقل في انه : هل كلّ انسان حيوان ام لا ؟ او : هل كلّ جسم ذو أبعاد ثلاثة أم لا ؟ إلى غير ذلك .

وكما ان العقل لا يشكّ في موضوعه ولا حكمه ، كذلك الشرع الّذي هو سيّد العقلاء ، وانّما الجهل في الموضوع او الحكم ، يأتي في مقامين : - الأوّل : في الاستقرائيات ، مثل : هل كلّ من يعيش في خط الاستواء اسود أم لا ؟ .

الثاني : في الاحكام والموضوعات المجملة ، الصادرة من الغير ، مثل : انه هل قوله تعالى :- « أَحَلَّ اللّهُ البَيْعَ »(1) يشمل المعاطاة ام لا ؟ إلى غير ذلك .

وعلى أيّ حال : فلا تردد في موضوع الحكم العقلي ( لان التردد في الموضوع، يستلزم التردد في الحكم ) اذ الحكم لا يتصور الاّ بعد تصور الموضوع ، لعدم

ص: 114


1- - سورة البقرة : الآية 275 .

وهو لا يتصور من نفس الحاكم ، وسيجيء الاشارة الى هذا في رد من زعم أنّ نتيجةَ دليل الانسداد مهملةٌ ، مجملة مع عدّة دليلَ الانسداد دليلاً عقليّا وحكما يستقلّ به العقلُ .

------------------

معقوليّة حكم بلا موضوع ، فاذا تردد العقل في ان الموضوع - مثلاً - : التعيين او التخيير ؟ كان معناه : انه مردّد في ان الواجب هو : الأوّل ، او الثاني ؟ .

( وهو ) أي التردد ( لا يتصور من نفس الحاكم ) فانه تناقض بين حكمه ، وبين تردده ، فان العقل لا يكون حاكماً ، الاّ بعد احراز الموضوع بتمام خصوصيّاته - والا على ماذا يحكم ؟ - وبعد احرازه الموضوع بتمام الخصوصيات والقيود ، لا يبقى تردد ، لا في الموضوع ، و لا في الحكم ، والعقل حاكم في ما نحن فيه بوجوب الاطاعة ، فلا يمكن ان يكون مردداً في : ان موضوع الوجوب ، هل هو : « الاعتقاد القطعي » او : « الاعتقاد الاعمّ من القطع والظنّ » ؟ وقد مضى : انه كما لا تردد في موضوع الحكم العقلي ، كذلك لا تردد في موضوع الحكم الشرعي بطريق اولى .

( وسيجيء الاشارة إلى هذا) الّذي ذكرناه : من عدم تردّد العقل في حدود موضوع حكمه ( في ردّ من زعم : ان نتيجة دليل الانسداد مهملة ) فلا تفيد مراتب الظنّ وموارده واسبابه ، على نحو الكلّيّة و ( مجملة ) فلا تعطي خصوصيّات النتيجة ، والفرق بين الاهمال والاجمال : ان الاهمال : في مقام الثبوت والاجمال : في مقام الدلالة ( مع عدّه ) أي عدّ هذا الزاعم ( دليل الانسداد دليلاً عقليّاً ) على حجّيّة مطلق الظنّ (وحكماً يستقل به العقل ) .

فانهم اختلفوا في ان مقدمات الانسداد لو تمت ، وانتجت حجّيّة الظنّ المطلق ، فهل النتيجة : الكشف او الحكومة ؟ .

ص: 115

وأمّا ثانيا : فلأنّ العملَ بالظنّ في مورد مخالفته للاصول والقواعد

------------------

ومعنى الكشف : ان المقدمات تكشف عن ان الشارع جعل الظنّ المطلق حجّة .

ومعنى الحكومة : ان نتيجة المقدمات تثبت ان العقل يحكم بحجّيّة الظنّ .

ثمّ ان القائل بالكشف ، له ان يقول : باجمال النتيجة ، اذ الاجمال يأتي في عالم الاثبات ، والدلالة في مراد الاخرين ، اما القائل بالحكومة فلا يتمكن من القول : باجمال النتيجة ، اذ قد عرفت : ان العقل لا اجمال في حكومته ، وسيأتي تفصيل الكلام في ذلك ان شاء اللّه تعالى .

( واما ثانياً ) فلانّ المستدلّ استدلّ للزوم تحصيل الاعتقاد القطعي ، مدّعياً عدم كفاية العلم بالظنّ بدليل الاشتغال اليقيني بالتكليف - لانّا نعلم ان لكلّ واقعة حكماً شرعياً - يستدعي البرائة اليقينية ، والبرائة لا تحصل الا باليقين وهو : العمل بالقطع ، لا بالتخيير بينه وبين الظنّ لاحتمال مخالفة الظنّ للواقع المؤّية لعدم حصول البرائة اليقينيّة ، مع انه لا بدّ من احرازها بعد العلم بالشغل اليقيني .

لكن هذا الاستدلال غير محتاج اليه اذ هناك استدلال آخر مقدم عليه رتبة ، ممّا لا يدع مجالاً لهذا الاستدلال وهو : ان الشارع امر بالعمل بالاصول والادلّة المخالفة ، فرضاً - لهذا الظنّ ، فاذا اخذ المكلّف بالظنّ ، وترك الاصول والادلّة ، قطع بانه خالف الشرع ، (ف) لاتصل النوبة إلى ما ذكره المستدل : من احتمال المخالفة .

وذلك ( لان العمل بالظنّ ) ان كان على وجه التعبّد ، كان حراماً ، لانه تشريع - كما عرفت - وان كان على وجه الاحتياط او التشهيّ ، فان وافق الاصول والادلة ، حلّ بلا اشكال ، ولا كلام فيه، وامّا ( في مورد مخالفته للاصول والقواعد ) الشرعيّة

ص: 116

الذي هو محلّ الكلام مخالفةٌ قطعيّةٌ لحكم الشارع بوجوب الأخذ بتلك الاصول حتى يُعلمَ خلافُها فلا حاجةَ في ردّه الى مخالفته لقاعدة الاشتغال الراجعة إلى قدح المخالفة الاحتماليّة للتكليف المتيقّن ، مثلاً إذا فرضنا أن الاستصحابَ يقتضي الوجوبَ والظنّ حاصلٌ بالحرمة ، فحينئذٍ يكون العملُ بالظنّ مخالفةً قطعيّة لحكم الشارع بعدم نقض اليقين بغير اليقين ،

------------------

ممّا سمّيناها بالادلة ( الذي هو ) مورد البحث و ( محل الكلام ) وانه جائز او حرام على نحو يكون ( مخالفة قطعيّة لحكم الشارع ) الّذي حكم ( بوجوب الأخذ بتلك الاصول ) والقواعد ( حتّى يعلم خلافها ) ويقطع بخلاف تلك الاصول والقواعد وما دام لم يقطع بالخلاف ، يكون العمل بالظنّ حراماً من جهة انه طرح للقواعد الشرعيّة ، والاصول العملية .

إذن : ( فلا حاجة في ردّه ) أي ردّ العمل بالظن - كما ذكره المستدل - ( إلى مخالفته لقاعدة الاشتغال الراجعة ) تلك القاعدة ( الى : قدح المخالفة الاحتماليّة ، للتكليف المتيقّن ) حيث ذكر المستدل : ان العمل بالظنّ فيه احتمال المخالفة ، فاللازم : ان لا يعمل بالظنّ ، بل باليقين لان الاشتغال اليقيني يستدعي البرائة اليقينيّة .

( مثلاً : اذا فرضنا ان ) الدليل الشرعي ، او ( الاستصحاب : يقتضي الوجوب ) في صلاة الجمعة ، حيث نشكّ في بقاء وجوبها بعد عصر الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ام لا ( والظنّ ) بسبب خبر غير معتبر ( حاصل بالحرمة ، فحينئذٍ يكون العمل بالظنّ ) المذكور بترك صلاة الجمعة حراماً ، لكونه ( مخالفة قطعيّة لحكم الشارع ) بسبب دليل اجتهادي ، قام على ان صلاة الجمعة واجبة ، او : ( ب- ) سبب الاصل العملي الدال على ( عدم نقض اليقين بغير اليقين ) أي بالشكّ كما ورد في

ص: 117

فلا يحتاجُ الى تكلّف ان التكليفَ بالواجبات والمحرّمات يقينيٌ ، ولا نعلمُ كفاية تحصيل مطلق الاعتقاد الراجح فيها او وجوبَ تحصيل الاعتقاد القطعيّ وأنّ في تحصيل الاعتقاد الراجح مخالفةً احتماليّة للتكليف المتيقّن فلا يجوز ، فهذا أشبهُ شيء بالأكل عن القفا .

فقد تبيّن ممّا ذكرنا

------------------

نصّ الاستصحاب .

( فلا يحتاج ) في اثبات الحرمة ، لترك الجمعة ، بما ذكره المستدل ( إلى تكلف : ان التكليف بالواجبات والمحرّمات يقيني ) لانا نعلم بذلك - قطعاً اجمالاً - وهذا العلم يوجب علينا تحصيل الاعتقاد بتلك التكاليف مقدمة للعمل ، ( و ) لكن ( لا نعلم ) لبرائة الذمة ( كفاية : تحصيل مطلق الاعتقاد الراجح فيها ) أي في التكاليف الشامل للقطع والظنّ ( او : وجوب تحصيل الاعتقاد القطعي ) حيث الامر دائر بين التعيين والتخيير ( وان في تحصيل الاعتقاد الراجح ) من الظنّ فقط ، دون الاعتقاد القطعي ، وتحصيل العلم ( مخالفة احتماليّة للتكليف المتيقن ) حيث انا مكلفون بالاحكام قطعاً ( فلا يجوز ) الاكتفاء بالظنّ ، دون تحصيل القطع .

( فهذا ) التكلّف الّذي وقع فيه المستدل ( اشبه شيء بالاكل عن القفا ) لانه ترك الطريق الواضح : من كون العمل بالظنّ مخالفة قطعيّة للادلّة والاصول وسار في الطريق الملتوي : من كون العمل بالظنّ فيه احتمال مخالفة التكليف ، فاللازم تحصيل الاعتقاد القطعي ، فهو كما اذا كان نصّ القرآن يدلّ على : تحريم شيء ، وظاهر رواية ضعيفة يدل على : التحريم ايضاً ، فيستدل انسان على التحريم بظاهر تلك الرواية ، ويدع نصّ القرآن الدال على التحريم .

( فقد تبيّن ممّا ذكرنا ) : من الاشكال على الاصول التي ذكروها في باب التعبّد

ص: 118

أنّ ما ذكرنا في بيان الأصل هو الذي ينبغي أن يُعتمَدَ عليه ، وحاصله : أنّ التعبّدَ بالظنّ مع الشكّ في رضا الشارع بالعمل به في الشريعة تعبّدٌ بالشك ، وهو باطل عقلاً ونقلاً .

وأمّا مجرّدُ العمل على طبقه فهو محرّمٌ إذا خالف أصلاً من الاصول اللفظيّة

------------------

بالظنّ : ( انّ ما ذكرنا في بيان الاصل ) : من حرمة التعبّد بالظنّ ، ما لم يدل على التعبّد به دليل ، انّه ( هو الّذي ينبغي ان يعتمد عليه ) ويرجع اليه .

( وحاصله : ان التعبّد بالظنّ ، مع الشكّ في ) حجّيته ، وعدم العلم ب( رضا الشارع بالعمل به ) أي بالظنّ يكون ( في الشريعة ، تعبد بالشكّ ) لانّا سواء ظننا او وهمنا او شككنا ، كنّا شاكّين في الحكم الّذي وصل الظنّ اليه ، فيكون من التشريع ، وادخال ما لم يعلم كونه من الدّين في الدّين .

( وهو ) أي التعبّد بالشكّ ( باطلا عقلاً ) لان العقل يرى لزوم العلم فيما ينسبه الانسان إلى المولى .

( و ) باطل ( نقلاً ) لان الاية الكريمة تقول : « قل ء اللّهُ أَذِنَ لَكُمْ ، أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُوْنَ » (1) .

هذا اذا كان على نحو التشريع .

( وامّا مجرد العمل على طبقه ) ووفق الظنّ ، من دون النسبة والتشريع ، احتياطاً او تشهّياً ( فهو محرم ، اذا خالف اصلاً من الاصول اللفظيّة ) .

كما اذا قال الشارع : « إِن جَائَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ... » (2) .

ص: 119


1- - سورة يونس : الآية 59 .
2- - سورة الحجرات : الآية 6 .

او العمليّة الدالّة على وجوب الأخذ بمضمونها حتى يعلم الرافع .

فالعملُ بالظنّ قد يجتمع فيه جهتان للحرمة ، كما إذا عمل به ملتزما أنّه حكم اللّه وكان العملُ به مخالفا لمقتضى الاصول .

وقد يجتمع فيه جهةٌ واحدةٌ ، كما إذا خالف الأصل ولم يلتزم بكونه

------------------

وأتى خبر فاسق يدلّ على حرمة الجمعة في عصر الغيبة ، بينما تدلّ الاية على الوجوب ، فاذا طرحنا الوجوب لخبر الفاسق ، كان الاصل اللفظي مخالفاً للظنّ الحصال من خبر الفاسق .

( او ) مخالفاً للاصول ( العملية ) كما اذا اقتضى الاستصحاب : وجوب الجمعة ، ودلّ خبر الفاسق على : الحرمة ( الدالة ) تلك الاصول اللفظية او العملية ( على وجوب الأخذ بمضمونها ) اذ كيف يجتمع الاصل الّذي يجب العمل به ، مع العمل بالظنّ ، المخالف لذلك الاصل .

وهذا الوجوب مستمر ( حتّى يعلم الرافع ) فان الاصل يقول : خذ بمضموني ، حتّى تعلم الرافع لمضموني ، فاذا ظنّ الانسان بالرافع - ولم يعلمه - لم يحقّ له : الأخذ بالظنّ وترك الاصل .

وعليه : (ف) الصور أربع : اولاً : ( العمل بالظنّ قد يجتمع فيه جهتان للحرمة ) جهة التشريع ، وجهة مخالفة الدليل ( كما اذا عمل به ) أي بمؤى الظنّ ( ملتزماً انه حكم اللّه ) فانه محرّم من جهة التشريع ( وكان العمل به ، مخالفاً لمقتضى الاصول ) اللفظيّة او العمليّة فانه محرّم من جهة مخالفة الدليل .

( و ) ثانياً : ( قد يجتمع فيه ) أي في العمل بالظنّ ( جهة واحدة ) للحرمة فقط ( كما اذا خالف ) العمل ( الاصل ) العملي او اللفظي( و ) لكن ( لم يلتزم : بكونه

ص: 120

حكم اللّه ، او التزم ولم يخالف مقتضى الاصول وقد لايكون فيه عقابٌ اصلاً ، كما إذا لم يلتزم بكونه حكم اللّه ولم يخالف أصلاً .

وحينئذٍ :

------------------

حكم اللّه ) بل عمل به احتياطاً او تشهّياً .

وثالثاً : ( أو التزم ) بالحكم المستند إلى الظنّ بانه حكم اللّه تعالى ( و ) لكن ( لم يخالف مقتضى الاصول ) اللفظيّة او العملية .

( و ) رابعاً : ( قد لا يكون فيه ) جهة ( عقاب اصلاً ) لا من جهة الالتزام ولا من جهة المخالفة ( كما اذا لم يلتزم : بكونه حكم اللّه ) فلا يكون تشريعاً ( ولم يخالف اصلاً ) لفظياً ولا عمليّاً ، فلا يكون مخالفاً للدليل وتكون الاقسام على ذلك اربعة :

لا يقال : كيف حصرتم النسبة في الكلّيات الراجعة إلى العموم من وجه إلى ما يكون اقصاها ثلاثة صور ، ولم تذكروا شيئاً منها ذات اربع صور مع ان في العموم من وجه اربع صور :

انسان وابيض .

وابيض بدون الانسان .

وانسان بدون الابيض .

وما ليس بانسان ولا ابيض ؟ .

لانه يقال : ان المنطقيّين ارادوا بيان : الايجاب لهما ، او لاحدهما ، لا السلب لكليهما ، فالقسم الرابع خارج عن محل كلامهم ، كما هو واضح .

( وحينئذٍ : ) بان يعمل بالظنّ لكن لم يلتزم بكونه حكم اللّه ولم يكن فيه

ص: 121

قد يستحقّ عليه الثواب ، كما إذا عمل به على وجه الاحتياط .

هذا ، و

------------------

ما يخالف الاصل فانه ( قد يستحق عليه ) أي على عمله هذا ( الثواب ، كما اذا) ظنّ بالتكليف و ( عمل به على وجه الاحتياط ) ولم يعارضه احتياط آخر ، فيكون فيه الثواب لانه انقياد للمولى واطاعة لقوله : « أخوكَ دِينُكَ ، فَاحتَط لِدِينِكَ بِما شِئتَ »(1) ، وغيره من اوامر الاحتياط ، وانّما قال المصنِّف قدس سره : « قد يستحق » لانه اذا لم يقصد الاحتياط ، لم يستحق ثواباً .

ثم ان ( هذا ) الّذي ذكرناه : من انّ التعبّد بالظنّ ، قد يكون حراماً : اذا كان مع الاستناد ، او مخالفاً لاصل او دليل ، وقد لا يكون حراماً : اذالم يكن مع الاستناد ، ولم يكن مخالفاً لأصل ولا دليل ، غير دقيق ، وذلك لان التعبّد بالظنّ ، حرام مطلقاً والحرمة امّا من جهة واحدة وهي : التشريع ، وامّا من جهتين : التشريع ، ومخالفة الاصل او الدليل ، لان ما لا يكون مع الاستناد لا يسمّى تعبّداً بالظنّ ، فليست الصور : اربع بل هي ثلاث : - الاولى : ما كان حراماً لانه تشريع فقط .

الثانية : ما كان حراماً لانه مخالف للدليل .

الثالثة : ما كان حراماً من جهة انه : تشريع ، ومخالف للدليل ، اما اذا لم يكن لامخالفاً ولا تشريعاً ، فلا يسمّى تعبّداً بالظنّ - اصلاً - لا انه من اقسام التبّعد وجائز.

( و ) عليه : فما ذكرناه سابقاً ليس الاّ مجرّد اصطلاح ، حيث سمينا القسم

ص: 122


1- - الأمالي للمفيد : ص283 ، الأمالي للطوسي : ص110 ح168 ، وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 .

لكن حقيقة العمل بالظنّ هو الاستناد إليه في العمل والالتزام بكون مؤدّاه حكم اللّه في حقّه ، فالعمل على ما يطابقه بلا استناد إليه ليس عملاً به .

فصحّ أن يقال : إنّ العملَ بالظنّ والتعبّد به حرامٌ مطلقا ، وافق الاصولَ او خالفها ، غايةُ الأمر أنّه إذا خالف الاصولَ يستحقّ العقابَ من جهتين ، من جهة الالتزام والتشريع ، ومن جهة طرح الأصل المأمور بالعمل به حتّى يعلم بخلافه .

------------------

الرابع ، الّذي هو « ليس بتعبّدي » تعبّداً ( لكن ) هذا الاصطلاح غير دقيق ، اذ قد مرّ : ان (حقيقة العمل بالظنّ هو : الاستناد اليه في العمل ، والالتزام بكون مؤّاه ) كصلاة الجمعة الحرام واقعاً ، المظنون وجوبها ( حكم اللّه في حقّه ) أي في حقّ الظانّ (فالعمل على ما يطابقه ) أي يطابق الظنّ ( بلا استناد اليه ) بل احتياطاً او تشهّياً (ليس عملاً به ) أي بالظنّ ، حتّى يقال : انه عمل بالظنّ ، لكنه ليس بمحرم .

( فصحّ ان يقال : ان العمل بالظنّ والتعبّد به ) باستناده إلى الشارع - بالاضافة إلى الاستناد إلى نفس الظنّ في العمل - ( حرام مطلقاً ) ومعنى مطلقاً : انّه سواء ( وافق الاصول ) والادلّة ( او خالفها ) فهو حرام .

( غاية الامر ) في الفرق بين الموافق وبين المخالف ( انه اذا خالف الاصول ، يستحق العقاب من جهتين : من جهة : الالتزام والتشريع ) والنسبة إلى المولى ما لا يعلم انه منه ، وهو حرام شرعاً ، وقبيح عقلاً - كما تقدّم ، ( ومن جهة : طرح الاصل ) أو الدليل ( المأمور بالعمل به ، حتّى يعلم بخلافه ) .

ذلك ان الاصل او الدليل ، هو اللازم الاتباع ، الاّ ان يقطع الانسان بخلافه ، فاذا قام شاهدان : على ان المال لزيد ، وقام الاصل : على انه ليس بمتطهّر ، وجب العمل بهما ، فلا يجوز اعطاء المال لعمرو للظن بانّه لعمرو ، ولا ان يدخل الصلاة

ص: 123

وقد اُشير في الكتاب والسنّة الى الجهتين : فممّا اُشير فيه إلى الاُولى قولُهُ تعالى : « قل ء اللّه اُذِنَ لكُمْ أمْ عَلى اللّه تَفتَرونَ » ، بالتقريب المتقدم ، وقوله عليه السلام : « رجلٌ قضى بالحقِّ وهوَ لايَعلمُ » .

وممّا اشير فيه إلى الثانية

------------------

للظنّ بانّه متطهّراً ، الاّ ان يعلم بانّ المال لعمرو ، حيث العلم مقدّم على الشاهد ، وان يعلم بانّه متطهر ، حيث العمل مقدّم على الاستصحاب .

( و ) اذا عرفت ذلك نقول : ( قد اشير في الكتاب والسنة إلى الجهتين ) المحرّمتين ، وهما : جهة التشريع ، وجهة مخالفة اصل او دليل ، بالاضافة إلى ما عرفت : من انّ العقل يدلّ على القبحين ، بل والاجماع قائم على ذلك ايضاً ، فالادلّة الاربعة دالة على المطلب .

( فمّما اشير فيه إلى ) الجهة ( الاولى ) أي حرمة التشريع ( : قوله تعالى ) : - ( « قُلْ ء اللّهُ أَذِنَ لَكُمْ ، أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُوْنَ »(1) بالتقريب المتقدّم ) في الاستدلال بهذه الآية ، اذ الآية تدلّ : على ان الاستناد من دون إذن افتراء ، والافتراء : حرام نصّاً واجماعاً ، وعقلاً .

( وقوله عليه السلام : « رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم ») (2) فمن لا يعلم شيئاً يعاقب عليه اذا عمل به باسناده إلى ا لمولى ، حكماً كان ذلك الشيء كما في النصّ او عملاً آخر - بالملاك - كما في ما نحن فيه ، والعقاب يلازم الحرمة .

( وممّا اشير فيه إلى ) الجهة ( الثانية ) أي حرمة العمل بالظنّ مقابل الدليل الدّال

ص: 124


1- - سورة يونس : الآية 59 .
2- - الكافي فروع : ج7 ص407 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص22 ب4 ح33105 .

قولُهُ تعالى :« إنّ الظّنّ لايُغني مِنَ الحقِّ شيئا » وقوله عليه السلام : « مَن افتى الناسَ بغير علم كان مايُفسدهُ أكثرَ ممّا يُصلحهُ » ، ونفس أدلّة الاصول .

------------------

على خلافه : ( قوله تعالى : « إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً » )(1) .

فان الحقّ يكون في العلم ، وفيما دلّت عليه الادلّة والاصول ، ومن الواضح : انه اذا لم يكن حقّ ، كان باطلاً ، لعدم الواسطة والعامل بالباطل فاعل للمحرم ، لان العمل بالظنّ وطرح الحقّ ، محرّم .

( وقوله عليه السلام : « مَن أفتى الناسَ بِغَيرِ عِلمٍ ، كانَ ما يُفسِدُهُ أكثَرَ مِمّا يُصلِحُهُ » )(2) فالمفتي الّذي يفتي بالظنّ ، ويطرح الدليل المقابل له يكون مفسداً ، والمفسد معاقب بالنار ، وانّما قال عليه السلام : « اكثر » لانه قد يتطابق الظنّ مع الواقع ، فلا يكون فيه فساداً وفي قباله : غير المتطابق مع الواقع ، وان دلّ عليه دليل او اصل ( و ) يدلّ ايضاً على الحرمة : ( نفس ادلّة الاصول ) والادلة : كقوله عليه السلام - في باب الاستصحاب - : « لا تَنقُض اليَقينَ بِالشَكِّ »(3) .

فاذا عمل بالظنّ كان مشمولاً لنهي « لاتنقض » وكقوله عليه السلام : « لا عُذرَ لأحَدٍ مِن مَوالِينا ، في التَشكِيكِ فِيما يَرويه عَنّا ثُقاتُنا »(4) ، فاذا عمل بالظنّ ، وطرح رواية الثقة ، لم يكن له عذر في الاخرة ، وكان مستحقّاً للنار .

ص: 125


1- - سورة يونس : الآية 36 .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص25 ب4 ح33112 بالمعنى ، بحار الانوار : ج1 ص208 ب5 ح7 .
3- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10462 .
4- - وسائل الشيعة : ج27 ص150 ب11 ح33455 ، بحار الانوار : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج50 ص318 ب40 ح15 وفيه «يؤديه» .

ثمّ إنّ ماذكرنا من الحرمة من الجهتين مبنيٌّ على ما هو التحقيقُ ، من أنّ اعتبارَ الاصول ، لفظيّة كانت او عمليّة ، غيرُ مقيّد بصورة عدم الظنّ على خلافها .

وامّا إذا قلنا باشتراط عدم كون الظنّ على خلافها ،

------------------

( ثمّ ) ان هناك خلافاً بين الاصوليين وهو : انه هل العمل بالادلّة مشروط بعدم الظنّ على خلافها ، فاذا ظنّ بالخلاف لم يجز العمل بالخبر ، كما قال به بعض ، او اللازم : العمل بالخبر سواء ظنّ بخلافه أم لا ؟ .

وهذا الخلاف موجود ايضاً في الاصول ، فهل الاستصحاب حجّة مطلقاً ، او فيما اذا لم يظنّ على خلافه ؟ .

فالذي قلناه : من انه لا يعمل بالظنّ في خلاف الخبر والاصل ، انّما هو فيما اذا قلنا - كالمشهور - : بان الخبر والاصل حجّة مطلقاً ، ظنّ المكلّف على خلافهما ، ام لا ؟ .

اما من يقول : بان الظنّ على الخلاف ، يسقط الخبر والاصل عن الحجّيّة ، فهو لا يقول : بان العمل بالظن المخالف للخبر والاصل ، يوجب العقاب .

وعليه : ف( ان ماذكرنا ) ه ( من الحرمة ) لمن يعمل بالظنّ ( من الجهتين ) جهة التشريع ، وجهة طرح اصل او دليل ( مبني على ما هو التحقيق : من ان اعتبار الاصول لفظيّة كانت ) كحجّيّة الظاهر ( او عمليّة ) كالاستصحاب ( غير مقيد ) ذلك الاعتبار (بصورة عدم الظنّ على خلافها ) أي خلاف تلك الاصول اللفظية والعمليّة .

( واما اذا قلناب) مقالة البعض : من ( اشتراط ) الحجّيّة في الاصول والادلّة ب( عدم كون الظنّ على خلافها ) أي خلاف تلك الاصول اللفظيّة والعمليّة

ص: 126

فلقائلٍ أن يمنعَ أصالة حرمة العمل بالظنّ مطلقا ، لا على وجه الالتزام ولا على غيره .

أمّا مع عدم تيسّر العلم في المسألة ، فلدوران الأمر فيها بين العمل بالظنّ وبين الرجوع إلى الأصل الموجود في تلك المسألة على خلاف الظنّ ، وكما لا دليل على التعبّد بالظنّ ، كذلك لا دليل على التعبّد بذلك الأصل ، لأنّه المفروضُ ،

------------------

( فلقائل ان يمنع : اصالة حرمة العمل بالظنّ مطلقاً ) والاطلاق بمعنى : انه ( لا على وجه الالتزام ) الشريعي ، ( ولا على غيره ) أي غير الالتزام .

وانّما المحرّم عند هذا القائل : الحرمة على وجه الالتزام فقط ، فان التزم حرّم للتشريع فقط - لا من جهتين - وان لم يلتزم ، لم يكن حراماً اطلاقاً سواء كان في قبال الظنّ اصل او دليل ام لا ؟ .

( امّا ) وجه عدم حرمة العمل بالظنّ العامّ ( مع عدم تيسر العلم ) ولا الظنّ الخاصّ مع فرض انسداد باب العلم والعلمي ( في المسألة ) بأن لم يكن في المسألة المبتلى بها علم ولا علمي .

( فلدوران الامر فيها ) أي في المسألة ( بين العمل بالظنّ ) العام ( وبين الرجوع إلى الاصل الموجود في تلك المسألة ) برائةً ، او اشتغالاً ، او احتياطاً ، او تخييراً ، الاصل الّذي هو ( على خلاف الظنّ ) كأن ظنّ عدم وجوب الجمعة بينما الاستصحاب يقتضي وجوبها ، او كان الشكّ في المكلّف به ممّا يقتضي الاشتغال ، لكنّ الظنّ على البرائة ، إلى غير ذلك .

( وكما لا دليل على التعبّد بالظنّ ) لفرض الانسداد ( كذلك لا دليل على التعبّد بذلك الاصل ) المخالف للظنّ ( لانّه المفروض ) من دليل اعتبار ذلك الاصل ،

ص: 127

فغايةُ الأمر التخييرُ بينهما او تقديمُ الظنّ ، لكونه أقربَ إلى الواقع ، فيتعيّن بحكم العقل .

وأمّا مع التمكّن من العلم في المسألة ، فلأنّ عدمَ جواز الاكتفاء فيها

------------------

بانه مختص بصورة الشكّ وعدم الظنّ بالخلاف .

( فغاية الامر ) هنا في دوران الامر بين الظنّ والاصل هو : ( التخيير بينهما ، او ) يقال : ب( تقديم الظنّ ) على الاصل ( لكونه اقرب إلى الواقع ) اذ الاصل : في محل الشكّ ، والظنّ مقدّم على الشكّ ( فيتعيّن ) الظنّ ( بحكم العقل ).

فان العقل يرى لزوم العلم التفصيلي ، ثم العلم الاجمالي - وربّما يقال : بالتساوي بينهما في الاطاعة ، اذا لم يكن محذور خارجي - ثم الظنّ ، فان من كان مريضاً وعلم بالدواء : شربه ، ومن شكّ بين اثنين : شربهما ، ومن لم يكن له علم تفصيلي ولا علم اجمالي ، شرب ما يظنّ انه دواء ، وكذلك في سلوك الطريق الواجب عليه ، للوصول إلى بلد ما ، وإلى غير ذلك من موارد عمل العقلاء بالظنّ بعد فقد العلم .

وعلى هذا: فالعمل بالظنّ لا يحرم من جهة التشريع ، لان العقل حكم بحجّيّته تخييراً او تعييناً ، ولا من جهة طرح الاصل ، لفرض ان حجّيّة الاصل مقيّدة بعدم الظنّ على الخلاف .

( وامّا ) وجه حرمة العمل بالظن ( مع التمكن من العلم ) او الظنّ الخاصّ - كالامارات والطرق - بالواقع ( في المسألة ) المبتلى بها (: فلان ) العقل لا يلزم الانسان بالعلم او العلمي ، وإنّما يرى كفاية الظنّ بالنجاة في قبال الشكّ بها ، او الظنّ بعدمها ، ولذا فان العقلاء يكتفون بالظنّ في غالب معاملاتهم ، وان تمكنوا من العلم ف( عدم جواز الاكتفاء فيها ) أي في

ص: 128

بتحصيل الظنّ ووجوبَ تحصيل اليقين مبنيّ على القول بوجوب تحصيل الواقع علما ، أمّا إذا أدعى أنّ العقل لا يحكمُ بأزيد من وجوب تحصيل الظنّ وأنّ الضرر الموهوم لايجب دفعهُ ، فلا دليل على لزوم تحصيل العلم مع التمكّن .

------------------

المسألة ( بتحصيل الظنّ ) بالحكم ( ووجوب تحصيل اليقين ) او الظنّ الخاصّ ممّا يسمّى بالعلمي ( مبني على القول : بوجوب تحصيل الواقع علماً) او علميّاً .

و ( امّا اذا ادّعى ) كما عن المحقق السبزواري قدس سره ( ان العقل لا يحكم بازيد من وجوب تحصيل الظنّ ) باحكام المولى ( وان الضّرر الموهوم ، لا يجب دفعه ) بل الضّرر المشكوك ، او المظنون او المقطوع به ( فلا دليل على لزوم تحصيل العلم ) او العلمي بالاحكام ، حتّى ( مع التمكن ) .

وعليه : فالعمل بالظنّ لا يحرم ، لا من جهة ترك العلم ، ولا من جهة التشريع ، لان العقل قد استقل بكفاية تحصيل مطلق الاعتقاد ، الاعمّ من العلم والظنّ ، وكأن المحقق السبزواري قدس سره انّما قال بذلك ، لما شاهده من انّ بناء العرف في كلّ شؤهم - الاّ النادر جدّاً المحتاج إلى دليل الاستثناء - انّما هو بالعمل على الظنّ .

فمن يركب الطائرة ، او السيارة ، او الباخرة ، هل يعرف السائق ؟ وهل يعلم انه يوصله بسلام ؟ .

ومن يراجع الطبيب في مطبّه لاجل علاج مرضه ، او اجراء عمليّة جراحيّة له ، هل يعرف الطبيب ؟ وهل يعلم انه ينجح في معالجته واجراء عمليّته له ؟ .

ومن يأكل الطعام ، ويشرب المشروبات ، خصوصاً في المطاعم ، هل يعلم بان اللحم وسائر المطعومات والمشروبات خالية عن السمّ ، وسالمة من الاقذار والجراثيم ؟ .

ص: 129

ثمّ إنّه ربما يُستدلّ على أصالة حرمة العمل بالظنّ بالآيات الناهية عن العمل بالظنّ ،

------------------

ومن يخرج من بيته للعمل ، او يذهب ابنه إلى المدرسة ، او ما اشبه ، هل يعلم بانه لا يصطدم بالسيارات العابرة ؟ وهل يضمن عودة ابنه سالماً ؟ .

ومن يسكن المناطق ،التي تحدث فيها الزلازل هل يأمن على نفسه من الزلزلة المدمّرة له ؟ .

و من يرسل زوجته ، او بنته او اخته إلى السوق ، او المدرسة ، او بيوت الارحام ، او ما اشبه هل يأمن عليها عدم الاختطاف ؟ .

إلى غير ذلك ممّا يجده الانسان من شؤون العرف في اكتفائهم بالظنّ ، والشرع ، حيث لم يحدث طريقاً جديداً ، كان معناه الاكتفاء بالظنّ ، وعدم لزوم العلم .

لكن هذا القول ضعيف لأن الشارع منع عن العمل بالظنّ ، وقد ألمعنا إلى ذلك في « الاصول » .

( ثم انه ربّما يستدلّ على اصالة حرمة العمل بالظنّ ، بالآيات الناهية عن العمل بالظنّ ) مثل قوله سبحانه : « وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ »(1) .

وقوله تعالى : « إنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وانَّ الظنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحقِّ شَيْئاً »(2) .

وقول سبحانه : « وَان نظّنُّ إِلاَّ ظَنّاً ، وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِيْنَ »(3) إلى غيرها

ص: 130


1- - سورة الاسراء : الآية 36 .
2- - سورة النجم : الآية 28 .
3- - سورة الجاثية : الآية 32 .

وقد أطالوا الكلام في النقض والابرام في هذا المقام بما لاثمرة مهمّةً في ذكره بعد ما عرفت .

لأنّه إن اريد الاستدلالُ بها على حرمه التعبّد والالتزام والتديّن بمؤدّى الظنّ ، فقد عرفتَ أنّه من ضروريات العقل ، فضلاً عن تطابق الأدلّة الثلاثة النقليّة عليه .

------------------

( وقد اطالوا) أي الاصوليون ( الكلام في النقض والابرام ، في هذا المقام ) فبعضهم نقض الادلّة المذكورة بادّعائه عدم دلالتها لانّها في اصول الدين ، ونحو ذلك ، وبعضهم ابرم دلالتها بانّها اعمّ ، ولو من جهة العلّة ، كما في : « إِنَّ الظّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً » .

ونظرة إلى القوانين والفصول ، وما اشبههما من الكتب الاصولية المفصلة ، تعلم تفاصيل النقض والابرام ( بما لا ثمرة مهمّة في ذكره ، بعد ما عرفت ) من الكلام في العمل بالظنّ واحكامه .

ثم ان الاستدلال هذا على اقسام : ( لانه ان اريد الاستدلال بها ) أي بالايات (على حرمة التعبّد ، والالتزام ، والتدّين بمؤّى الظنّ ) ونسبته إلى المولى عزّ وجلّ بان قال - فيما ظن بحرمة التبغ : المولى قال بحرمه التبغ ، او قال - فيما ظنّ بوجوب دعاء الهلال - : المولى قال بوجوب الدعاء عند الرؤة ( فقد عرفت : انه ) أي تحريم التعبّد ( من ضروريات العقل ) فان العقل يراه كذباً وافتراءاً ( فضلاً عن تطابق الادلة الثلاثة النقليّة ) من الكتاب والسنّة والاجماع ، ( عليه ) أي على التحريم .

وحيث دلّ العقل على الحرمة ، فالايات والروايات ارشاد إلى حكم العقل ، كما هو الشأن في كلّ ما دلّ عليه العقل ، ثم دلّت الادلّة الشرعيّة عليه ، والاجماع ليس

ص: 131

وإن اريد دلالتُها على حرمة العمل المطابق للظنّ وإن لم يكن عن استناد إليه : فان اريد حرمتُه إذا خالف الواقعَ مع التمكّن من العلم به ، فيكفي في ذلك الأدلّة الواقعية ؛ وإن اريد حرمته إذا خالف الاصولَ مع عدم التمكّن من العلم

------------------

الاّ لكشفه عن قول المعصوم ، فهو كرواية من الروايات - على ما يراه بعض الاصوليّين من كون الاجماع حجّة من باب الكشف - .

( وان اريد : ) من الاستدلال بالايات الناهية عن العمل بالظنّ ( دلالتها ) أي الايات (على حرمة ) مجرد ( العمل المطابق للظنّ ، وان لم يكن ) العمل ( عن استناد اليه ) أي إلى الشارع فاذا ظنّ بحرمة التبغ ، او وجوب الدعاء عند رؤة الهلال - مثلاً - ترك الأوّل ، وأتى بالثاني احتياطاً او تشهّياً بلا نسبة منه إلى الشارع .

( فان اريد : حرمته ) أي حرمة العمل بالظنّ ( اذا خالف الواقع ) بان لم يكن الدعاء واجباً ، ولا التبغ حراماً عند اللّه سبحانه ( مع التمكن من العلم به ) أي بالواقع ، حيث كان الدعاء حراماً ، او التدخين - مثلاً - في الواقع ، وكان بامكانه ان يراجع الادلة ، حتّى يظهر له : حرمة الدعاء ، ووجوب التدخين ، فلم يراجع وترك التدخين وقرء الدعاء (فيكفي في ذلك ) التحريم الموجب لعقابه ( الادلة الواقعية ) التي اذا رجع اليها ، علم بالواقع ، فان دليل الاحكام الواصل إلى المكلّف حجّة عليه اذا خالف ، والوصول لا يلزم فيه - عند العقلاء - : علمه الحالي ، بل يكفي فيه : انه يتمكن من الرجوع اليها ليعلم . وعلى هذا : فلا حاجة إلى الاستدلال بالآيات الناهية عن الظنّ ، في حرمة العمل بغير العلم .

( وان اريد : حرمته ) أي حرمة العمل بالظنّ ( اذا خالف ) الظنّ : الادلة الاجتهادية ، او (الاُصول ) العمليّة ( مع عدم التمكن من العلم ) فاذا رجع اليها لا يعلم بالواقع ، لكن يصل إلى الدليل الاجتهادي ، أو الأصل العملي المقرّر في هذه المسألة التي

ص: 132

فيكفي فيه أيضا أدلّة الاصول ، بناءا على ما هو التحقيقُ ، من أنّ مجاريها صورُ عدم العلم الشامل للظنّ ؛ وإن اريد حرمةُ العمل المطابق للظنّ من دون استناد إليه ، وتديّن به وعدم مخالفة العمل للواقع مع التمكّن منه و

------------------

هي محل ابتلائه ( فيكفي فيه ) أي في التحريم هنا ( ايضاً ) كما كفى في الفرض الأوّل (ادلة ) الأمارات و ( الاصول ) فان الدليل الّذي يقول بحجّيّة الخبر الواحد ، مثل : « صدق العادل » او بحجّيّة الاصل ، مثل : « لا تنقض اليقين بالشكّ »(1) يكفي في المنع عن العمل بالظنّ ، المخالف للخبر ، او للاستصحاب ، من دون حاجة إلى الايات الناهية .

ان قلت : ان الادلة والاصول ، تجري فيما يشكّ الانسان فيه ، لا فيما يظنّ ، والمفروض في المقام : حصول الظنّ بالحكم ، فلا مجال للدليل والاصل فيه ، وانّما مجالهما الشكّ فقط .

قلت : كون الدليل والاصل مقدماً على الظنّ ( بناءاً على ما هو التحقيق من انّ مجاريها ) أي الادلّة والاصول ليست عند الشكّ فقط ، بل مطلق ( صور عدم العلم الشامل ) للشك و ( للظن ) فالأدلة والأصول تجري وهي غير مقيدة بعدم الظنّ ، فسواء شكّ المكلّف ، او ظنّ بالحكم وجب عليه : اجراء الدليل او الاصل لكشف الحكم ( وان اريد : حرمة العمل المطابق للظن ، من دون استناد اليه ) إلى الشارع ليكون تشريعاً (و) لا ( تديّن به ) ليكون بدعة ، ( و ) مع ( عدم مخالفة العمل للواقع ، مع التمكن منه ) أي من الواقع ( و ) على فرض التمكّن من الواقع ، أن

ص: 133


1- - الكافي فروع : ج3 ص351 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص186 ب23 ح41 ، الاستبصار : ج1 ص373 ، وسائل الشيعة : ج8 ص217 ب10 ح10463 .

لا لمقتضى الاصول مع العجز عن الواقع ، فلا دلالةَ فيها ولا في غيرها على حرمة ذلك ، ولا وجهَ لحرمته أيضا .

والظاهرُ أنّ مضمونَ الآيات هو التعبّدُ بالظنّ والتديّنُ به ،

------------------

( لا ) يكون في العمل مخالفة ( لمقتضى ) الادلّة و ( الاصول مع العجز عن الواقع ) كي لا يكون العمل مخالفاً لما هو تكليف العامل بالظنّ فعلاً .

( فلا دلالة فيها ) أي في الايات الناهية عن العمل بالظنّ ( ولا في غيرها ) من سائر الايات والروايات ( على حرمة ذلك ) العمل الّذي ليس فيه استناد ، ولا مخالفة للواقع ، ولا للطريق المنصوب شرعاً ، فاذا دخن - مثلاً - تشهّياً لا استناداً إلى الشارع ، وكان في الواقع حلالاً ، ولم يكن خبر او اصل ، يدلّ على حرمته ، لم يكن وجه لحرمة مثل هذا التدخين .

( ولا وجه ) آخر ، غير الايات ( لحرمته أيضاً ) فلماذا يكون مثل هذا العمل حراماً ؟ بل ظاهر الادلة : حلّيته ، اذ هو ممّا :- « سكت اللّه عنه » (1) و: « كلّ شيء لك حلال » (2) : و « كلّ شيء مطلق » (3) إلى غير ذلك من ادلة البرائة : ( والظاهر ) لدى العرف حين يلقى الكلام اليه ( : ان مضمون الايات ) المتقدمة ، الناهية عن اتباع غير العلم او عن اتباع الظنّ ( هو ) : حرمة ( التعبّد بالظنّ والتديّن به ) لا حرمة مجرّد العمل من دون اسناد إلى الشارع ، ولاجل هذا الظاهر نرى : لو ان انساناً

ص: 134


1- - غوالي اللئالي : ج3 ص166 باب الحج .
2- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 .
3- - غوالي اللئالي : ج3 ص166 ح60 و ص462 ح1 ، وسائل الشيعة : ج6 ص289 ب19 ح7997 و ج27 ص174 ب12 ح33530 .

وقد عرفت أنّه ضروريّ التحريم ، فلا مهمَّ في إطالة الكلام في دلالة الآيات وعدمها ، إنّما المهمُّ الموضوع له هذه الرسالةُ بيان ما خرج او قيل بخروجه من هذا الأصل من الامور الغير العمليّة

------------------

عمل عملاً يظنّ هو : بحسنه ، لا يقال له : لماذا تشرّع ؟ ولو قيل له ذلك اجاب : بأنّي لا اعمله تشريعاً ، بل تشهّياً او احتياطاً ، وكلا الامرين ، ليس من التشريع في شيء .

هذا ( وقد عرفت : انه ) أي التعبّد بالظنّ من دون دليل ( ضروري التحريم ) عقلاً فلا حاجة إلى النهي الشرعي عنه ، ولو نهى الشارع كان ارشاداً ، والامر الارشادي : هو الّذي ليس له ثواب ولا عقاب ، وانه لا مصلحة الاّ في المأمور به من دون خصوصيّة للامر ، مثل أمر الطبيب بشرب الدواء ، فان المريض اذا لم يشرب الدواء اصابه ضرر عدم الشرب ، لا ان في امر الطبيب مصلحة اذا لم يطعه المريض ، اصابه ضرر مخالفة الامر بما هو امر .

وحيث قد عرفت : من عدم دلالة الآيات على النهي المولوي ( فلا مهم في اطالة الكلام في دلالة الآيات ) الناهية عن العمل بالظنّ ( وعدمها ) أي عدم الدلالة و ( انّما المهمّ ) عندنا ( الموضوع له هذه الرسالة ) من بيان أحوال الظنّ هو : ( بيان ما خرج ) عن حرمة العمل بالظنّ ، فانه وان كان في الغالب ظنّاً نوعيّاً او ان النوع يظن منه ، وان لم يحصل ظنّ شخصي للعامل ، واحياناً يكون قطعاً الاّ ان الشارع أخرجه عن حرمة العمل بالظنّ ، سواء قلنا : بان الحرمة مولوية - كما قاله غير واحد - أو ارشادية إلى حكم العقل - كما قاله الشيخ المصنّف - .

ثم ان الخارج من حرمة العمل بالظنّ : ظواهر الالفاظ ، وخبر الثقة ، بلا اشكال ولا خلاف غالباً ( او قيل بخروجه من هذا الاصل ) أي اصل حرمة العمل بالظنّ ، كالاجماع المنقول ، والشهرة ، والسيرة ( من الامور غير العملية ) ممّا يسمى بالظن

ص: 135

التي اقيم الدّليل على اعتبارها مع قطع النظر عن انسداد باب العلم الذي جعلوه موجبا للرجوع الى الظنّ مطلقا او في الجملة .

------------------

الخاص ، مقابل الظن الانسدادي ، الّذي يسمى بالظن العام ( التي اقيم الدليل ) الخاص ( على اعتبارها ) كالكتاب ، والروايات المتواترة ، وطريقة العقلاء الممضاة من قبل الشارع ، والسيرة القطعية من المتشرعة .

( مع قطع النظر عن انسداد باب العلم ) لانها ظنون خاصة خارجة عن حرمة العمل ، وان لم نقل بانسداد باب العلم ، اما اذا قلنا بالانسداد ، فالظن مطلقاً حجة ، ولا يراد بمطلق الظن ، الاّ الظنون عن الادلة الاربعة ، فان الانسداديّين كصاحب القوانين ايضاً ، يعملون بهذه الاربعة ، لكن من باب الظن المطلق ، لا الظن الخاص - كما يقول به المشهور - على ما سيأتي في بحث الانسداد مفصلاً ان شاء تعالى ، فان كلامنا هذا ليس في الانسداد ( الّذي جعلوه موجباً للرجوع إلى الظنّ مطلقاً ، او في الجملة ) فان الانسداديّين ربّما قالوا : بحجّيّة الظنّ مطلقاً ، من أيّ سبب ، ولأيّ شخص ، وفي أيّة مرتبة ، وفي أيّ مورد .

وبعضهم لا يقولون بهذا الاطلاق ، بل يفرّقون بين الاسباب : كالظن من الكتاب والسنة ، وكالظن من المنام والرمل ، وبين الاشخاص : كظن الفقيه المطلع ، وظنّ طالب العلم الفاضل ، وبين المراتب : كالظن القوي ، والظن الضعيف ، وبين الموارد : كالظن في باب النكاح ، والدماء ، والاموال الكثيرة ، حيث اهتم بها الشارع اهتماماً كبيراً ، وكالظن في سائر الاحكام ، التي ليست بتلك الاهمية ، فقالوا : بحجية بعض هذه الظنون دون بعض .

ثم لا يخفى ان الفقهاء على ثلاثة اقسام :

الأوّل : من يرى قطعية الاخبار الواردة في الكتب الاربعة ، ونحوها ، فعندهم

ص: 136

الظنون المعتبرة وهي امورٌ :

منها : الأمارات المعمولة في استنباط الأحكام الشرعيّة من ألفاظ الكتاب والسنّة

------------------

باب العلم منفتح في معظم الفقه ، وهؤاء كانوا قبل العلامة قدس سره - كما قيل - وحجّتهم : ان قرب عصر مؤّفي هذه الكتب ، بزمن الغيبة الصغرى ، وكونهم في بغداد محل النواب الاربعة ، وما اشبه ذلك ، أوجب العلم بصحة ما في كتبهم ، الاّ ما خرج بالدليل .

الثاني : من يرى انسداد باب العلم والعلمي ، فيعمل بالظنّ المطلق .

الثالث : من يرى انسداد باب العلم في معظم الفقه ، وانفتاح باب العلمي ، من الظنون الخاصّة الّتي توجبها الاخبار ، وظواهر الكتاب .

والغالب بعد العلامة قدس سره يرون هذا الرأي ومنهم المصنِّف قدس سره ولذلك اخذ يتكلم حول ما خرج من حرمة العمل بالظنّ ، الاعمّ من الواجب العمل فقال :

( وهي امور ، منها : الأمارات المعمولة ) بها ( في ) مقام ( استنباط الاحكام الشرعيّة ) الاعمّ من الاحكام الوضعيّة كالجزئيّة ، والمانعيّة ، والشرطيّة ، ونحوها ، وتلك الأمارات هي : عبارة ( من الفاظ الكتاب ) العزيز ( والسنّة ) المطهرة ، وهي : قول المعصوم وفعله وتقريره .

ومن باب فذلكة القول نقول : ان الرواية التي وردت عن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم تارة : « انّي مخلّف فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي »(1) .

ص: 137


1- - معاني الاخبار : ص91 ، كمال الدين : ص247 ، المسائل الجارودية : ص42 ، ارشاد القلوب : ص340 ، الارشاد : ج1 ص180 ، كشف الغمّة : ج1 ص43 ، متشابه القرآن : ج2 ص350 ، المناقب : ج2 ص41 .

وهي على قسمين :

القسمُ الأوّلُ ما

------------------

واخرى : « كتاب اللّه وسنّتي »(1) .

قد يشكل عليها في الأوّل : بخروج اقواله صلى اللّه عليه و آله وسلم ، لانّها ليست من الكتاب ، ولا من العترة ، وعلى الثاني : بخروج العترة ، لانها ليست من الكتاب ولا من السنة.

والجواب على الأوّل : ان اقواله صلى اللّه عليه و آله وسلم شرح للكتاب ، فهي داخلة في الكتاب .

وقد قال تعالى : « وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْي يُوْحَى »(2) .

او يقال : ان المراد بالعترة ، اعمّ تغليباً مثل : « اعْمَلُوا آلَ دَاودَ شُكْرا »(3) ، أي داود وآله .

و : « أدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ العَذَاب »(4) أي فرعون وآله .

وعلى الثاني : ان المراد من السنة ، اعمّ من العترة ، لان الالتزام بهم عليهم السلام من سنّة الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم .

ثم ان الأمارات المعمولة ، ليست خاصّة بالكتاب والسنّة ، وانّما ذكرهما المصنِّف من باب المثال ، بل تشمل مثل قول اللغوي ، واصالة الحقيقة ، وما اشبه ممّا سيأتي الكلام فيها ان شاء اللّه تعالى .

( وهي ) أي الأمارات المعمولة بها ( : على قسمين : القسم الأوّل : ما ) أي أمارة

ص: 138


1- - كمال الدين : ج1 ص235 ح47 وقد روى هذا الحديث من طرف العامة الحاكم في المستدرك ج1 ص93 ، ولكن هذا الحديث ضعيف من حيث السند والدلالة حتى عند الحاكم .
2- - سورة النجم : الآية 3 - 4 .
3- - سورة سبأ : الآية 13 .
4- - سورة غافر : الآية 46 .

يُعمَلُ لتشخيص مراد المتكلّم عند احتمال إرادته خلاف ذلك ، كأصالة الحقيقة عند احتمال إرادة المجاز ، وأصالة العموم والاطلاق ومرجعُ الكلّ إلى أصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى الذي يقطع بارادة المتكلّم الحكيم له لو حصل القطعُ بعدم القرينة ،

------------------

(يعمل لتشخيص مراد المتكلّم عند احتمال ) الفقيه ( ارادته ) أي ارادة المتكلّم (خلاف ذلك ) أي خلاف ظاهر الأمارة فان اللفظ ظاهر ، لكنّا نحتمل ان المتكلّم اراد خلاف هذا الظاهر .

وانّما نعمل بالظاهر- على خلاف احتمالنا - لوجود أمارة تقول بارادة المتكلّم الظاهر (كأصالة الحقيقة ، عند احتمال ارادة المجاز ) واصالة التطابق بين الارادة الجدّية والارادة الاستعماليّة ، بأن يكون الظاهر : مراده جداً ، لا مراده هزلاً ( واصالة العموم ) فلم يذكر العام وهو يريد الخاصّ ( و ) اصالة ( الاطلاق ) فلم يطلق الكلام وهو يريد المقيّد إلى غير ذلك .

والفرق بين العام والمطلق : ان في العام يكون اللفظ مرآة للافراد ، فاذا قال : اكرم كلّ عالم ، فكانّه قال : عالماً عالماً ، وفي المطلق يكون اللفظ مرآة للطبيعة ، فاذا قال : اكرم العالم ، فكانّه قال : اكرم طبيعة المتّصف بالعلم ، وحيث ان الطبيعة سارية في كلّ الافراد ، وجب اكرام كلّ فرد .

( ومرجع الكلّ ) أي كلّ هذه الاصول اللفظية التي ذكرناها ( إلى اصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى ) الّذي يكون اللفظ ظاهراً فيه ، و ( الّذي يقطع ) السامع ( بارادة المتكلم الحكيم له ) أي لذلك المعنى ( لو حصل القطع بعدم القرينة ) فاذا قطعنا بعدم القرينة ، نقطع بارادة الحكيم ، لهذا المعنى ، اذ لو اراد الحكيم غيره من دون القرينة ، كان خلاف الحكمة ، فاذا لم نقطع بعدم القرينة ، بل

ص: 139

وكغلبة استعمال المطلق في الفرد الشائع ، بناءا على عدم وصوله إلى حدّ الوضع ؛ وكالقرائن المقاميّة التي يعتمدها أهلُ اللسان في محاوراتهم ، كوقوع الأمر عقيبَ توهّم الحظر

------------------

ظننّا بعدم القرينة ، ظننّا بارادة المتكلم لذلك المعنى ، فاذا قال المولى : الاسد ، وقطعنا بانه لم ينصب قرينة صارفة عن الحيوان المفترس ، قطعنا بانه اراد الحيوان المفترس ، وانّما نقطع بذلك لانّه لو اراد غيره ، لم ينصب قرينة صارفة ، كان كلامه لغواً - فيما اذا كان اخباراً - وكان نقضاً للغرض فيما اذا قال في مقام الانشاء جئني بأسد ؛ لان العبد في المقامين لايفهم شيئاً .

( وكغلبة استعمال المطلق في الفرد الشائع ) اذا لم ينصب قرينة على ارادة الاعمّ ، او خصوص غير الفرد الشائع ، مثلاً : العالم في لسان اهل العلم ، غالب في عالم الفقه والاصول ، فاذا ارادوا : الاعمّ من ذلك ومن عالم الطب والهندسة ، او ارادوا : خصوص عالم الطبّ والهندسة ، لزم نصب القرينة ، فاذا لم ينصب المتكلم القرينة ، كان المراد : عالم الفقه والاصول ، بحكم الغلبة المذكورة ، وهذه الغلبة ، تجعل اللفظ ظاهراً في المعنى الغالب .

وانّما تكون الغلبة دليلاً ( بناءاً على عدم وصوله ) أي استعمال المطلق في الغالب ( إلى حدّ الوضع ) بحيث يخرج غير الغالب عن مصداقيّة المطلق ، والاّ فان وصل إلى حدّ الوضع لم يكن استفادة المراد من اللفظ ، من باب التمسك باصالة الغلبة ، بل باصالة الحقيقة ، لان المقام يكون فرداً من افراد اصالة الحقيقة ، التي تكلمنا عنها ( وكالقرائن ) العامة ( المقاميّة ) التي يفهم من المقام ، زماناً كان المقام او مكاناً ، او خصوصيّة مكتنفة بالكلام ، من ( التي يعتمدها اهل اللسان في محاوراتهم ) سواء كان متكلماً او سامعاً ( كوقوع الأمر عقيب توهّم الحظر

ص: 140

ونحو ذلك ، وبالجملة الامور المعتبرة عند أهل اللسان في محاوراتهم ، بحيثُ لو أراد المتكلمُ القاصدُ للتفهيم خلافَ مقتضاها من دون نصب قرينة معتبرة عُدَّ ذلك منه قبيحا .

------------------

ونحو ذلك ) كأن يكون الراوي من اهل بلد كذا، او ما اشبه ، فاذا قال المولى : « وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا »(1) .

فهم منه : حلّية الصيد الّذي حرم في حال الاحرام ، لا وجوبه ، فان الامر عقيب الحظر او عند توهم الخطر ، ظاهر في الحلّية .

وكما اذا قال الامام الصادق عليه السلام لرجل من اهل الكوفة ، التقى به في طريق الحجّ وسأله عن الكرّ :- « الكر كذا رطلاً » استفيد منه الرطل العراقي لا المدني .

وكقوله سبحانه : « وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِانفُسِهِنَّ ثَلاَثَة قُرُوْء » ، فان الظاهر من المطلقات : الرجعيات فقط ، لا البائنات لقوله سبحانه بعد ذلك :- « وَبُعُوْلَتهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ... »(2) ، حيث ان هذا الحكم لا يكون في البائنة .

( وبالجملة ) هذا القسم من الأمارات هي ( الامور المعتبرة عند اهل اللسان في محاوراتهم ) وتكون قرينة على انّ المتكلّم اراد هذه المعاني لا غيرها ( بحيث لو اراد المتكلم القاصد للتفهيم ) لا المتكلم القاصد : الاهمال او الاجمال لمصلحة ( خلاف مقتضاها ) أي مقتضى هذه القرائن والأمارات ( من دون نصب قرينة معتبرة ) تدلّ على ذلك الخلاف ، كما اذا اراد من الرطل : المدني ، لا العراقي - في المثال المتقدم - ( عدّ ذلك منه قبيحاً ) ويقال له : لماذا تكلمت خلاف المتفاهم عرفاً ، وانت رجل حكيم وتقصد التفهيم في اخبارك ، واوامرك ونواهيك ، وتريد

ص: 141


1- - سورة المائدة : الآية 2 .
2- - سورة البقرة : الآية 228 .

والقسمُ الثاني : مايُعمَل لتشخيص أوضاع الألفاظ وتشخيص مجازاتها من حقائقها وظواهرها عن خلافها ،

------------------

ان يأتي المكلّف بما تأمره به وتنهاه عنه ؟ .

هذا تمام الكلام في القسم الأوّل من الأمارات الظنيّة ، الخارجة عن ادلة حرمة العمل بالظنّ .

( والقسم الثاني : ما ) أي الأمارات الظنيّة التي ( يعمل لتشخيص اوضاع الالفاظ ) لغةً او عرفاً ، اذ قد يكون الوضع تعيينّياً ، وقد يكون تعيّنيّاً ، بسبب كثرة الاستعمال عرفاً ( وتشخيص مجازاتها من حقائقها ) .

والفرق بين هذا والأوّل - من قسمي الأمارة - انّ في الأوّل : نعلم الحقيقة والمجاز ، لكن لا نعلم : هل اراد المولى الحقيقة او المجاز ؟ فيكون التشخيص : باعمال اصالة الحقيقة ، وهنا نريد ان نعرف : ايّهما حقيقة ، وايّهما مجاز ، فالتشخيص يكون بالتبادر ، وصحة السلب ، والاطراد ، وتصريح الواضع ، وقول اللغوي - حيث انّه من اهل الخبرة - وما أشبه ذلك فانها علائم الحقيقة ، واضدادها علائم المجاز .

ولا يخفى : انّ بناء اللغويّين على ذكر الحقائق ، الاّ اذا صرّحوا بانّه مجاز ، ولذا لا يوجد في كتبهم حتّى اكثر المجازات استعمالاً فانّهم لا يذكرون في مادة الاسد - مثلاً - معنى « الرجل الشجاع » ، ونضيف استطراداً : بأنّ ما اشتهر من تسمية اهل اللسان ب- : « اللغوي » لم يعرف مدركه ، لأنّه منسوب إلى اللغة وهي مشتقّة من اللغو ، فلا يناسب هذه المهنة العملية .

( و ) كذا تشخيص ( ظواهرها عن خلافها ) ، ولا يخفى انّ بين الحقيقة والمجاز والظاهر وغير الظاهر ، عموماً من وجه لإمكان ان يكون حقيقة غير

ص: 142

كتشخيص أنّ لفظ «الصعيد » موضوع لمطلق وجه الأرض او التراب الخالص ، وتعيين أن وقوعَ الأمر عقيبَ توهّم الحظر هل يوجبُ ظهورَهُ في الاباحة المطلقة ، وأنّ الشهرةَ في المجاز المشهور هل توجبُ احتياج الحقيقة إلى القرينة الصارفة من الظهور العرضيّ المسبّب من الشهرة ،

------------------

ظاهرة ، لانّ الظهور يحصل من التكرر ، بخلاف الحقيقة حيث قد تحصل من الوضع ، فمن الممكن ان يكون ظهور من غير حقيقة ، كالمجازات المشهورة ، وحقيقة من غير ظهور ، وهكذا .

وفي القسم الثاني امثلة كثيرة ( كتشخيص انّ لفظ الصعيد ) في الاية المباركة : « فَتَيَمَّمُوا صَعِيْداً طَيِّباً ... »(1) .

( موضوع لمطلق وجه الارض ) فيشمل : الحجر ، والرمل ، والحصى ، والتراب (او التراب الخالص ) فقط فلا يصحّ التيمّم الاّ عليه ( وتعيين : انّ وقوع الأمر عقيب توهم الحظر ، هل يوجب ظهوره في الاباحة المطلقة ؟ وانّ الشهرة في المجاز المشهور ) كاستعمال الامر في النّدب ، والنهي في الكراهة ، وما اشبه ذلك ( هل توجب ) ظهور اللفظ في المعنى المجازي المشهور ، فاذا ألقاه المولى فهم منه المعنى المجازي لا الحقيقي ، ممّا يوجب ( احتياج الحقيقة إلى القرينة الصارفة من ) هذا ( الظهور العرضي المسبب من الشهرة ) .

فهل الظهور المجازي حجّة الاّ اذا قامت قرينة تصرف عن الظهور المجازي إلى الحقيقة ؟ او انّ اللفظ يحمل على الحقيقة وانّ كانت القرينة العامّة وهي : الشهرة ، موجودة ؟ او يحتمل كلا الامرين على سبيل التساوي ؟ .

ص: 143


1- - سورة النساء : الآية 43 .

نظير احتياج المطلق المنصرف إلى بعض افراده .

وبالجملة ، فالمطلوبُ في هذا القسم أنّ اللفظ ظاهرٌ في هذا المعنى او غير ظاهر ، وفي القسم الأوّل أنّ الظاهرَ المفروغ عن كونه ظاهرا مرادٌ أو لا ،

------------------

الأوّل : استدل بانّه ( نظير احتياج المطلق المنصرف إلى بعض افراده ) كالعالم المنصرف إلى عالم الفقه والاصول ، في الحوزات العلميّة ، حيث انّه لو اريد منه الاطلاق الشامل للمهندس والطبيب وما اشبه ، لزم جعل قرينة صارفة عن الانصراف العرضي ، ليكون ظاهراً في الاطلاق الّذي هو حقيقة الاوّليّة .

والثاني : استدلّ بهجرانّ الحقيقة وانّ العرف يقدّم الظاهرة المجازيّة المشهورة ، على الحقيقية المهجورة .

والثالث : استدلّ بأنّ لكلّ منهما قوة ، فللحقيقة قوة الوضع تعييناً او تعيّناً ، وللمجاز قوة الشهرة ، فيكون اللفظ فيهما كالمعنيين الحقيقيّين ، حيث كلّ واحد منهما بحاجة إلى القرينة .

( وبالجملة : فالمطلوب في هذا القسم ) الثاني من الأمارات ان نتكلّم حول ( انّ اللفظ ظاهر في هذا المعنى ، او غير ظاهر ؟ ) فاذا كان ظاهراً رتّب الحكم عليه ، واذا كان غير ظاهر ولم نجد ما يفيد المعنى من الادلّة الاجتهاديّة ، لزم العمل بالاصول العمليّة ، امّا كون اللفظ حقيقة او غير حقيقة ، فليس بمهم بعد ان كان المعيار هو الظهور .

( وفي القسم الأوّل :) كان الكلام حول ( انّ الظاهر ) المسلّم ظهوره (المفروغ عن كونه ظاهراً ، مراد ) للمتكلّم ( او لا ؟ ) اذ هناك ظهور ، وارادة لذلك الظهور ، فانّ من تكلم وقال - مثلاً - بعت هذا بهذا ، فانّه يريد اللفظ ، ويريد المعنى ، ويريد تطابق اللفظ للمعنى ، ويريد الجدّ او الهزل في استعماله هذا اللفظ في المعنى ،

ص: 144

والشكّ في الأوّل مسبّبٌ عن الأوضاع اللغويّة والعرفيّة وفي الثاني عن اعتماد المتكلّم على القرينة وعدمه ، فالقسمان من قبيل الصغرى والكبرى لتشخيص المراد .

------------------

وبعد ذلك يقال : هل انّه طيِّب النفس بهذه المعاملة - مثلاً - او ليس بطيّب النفس بها ؟ وقد ذكرنا تفصيل ذلك في كتاب « الفقه : كتاب البيع » (1) .

( والشكّ في ) القسم ( الأوّل مسبّب عن الاوضاع اللغويّة ) التعيينيّة (والعرفيّة ) التعيّنيّة ، فانّ الوضع اللغوي قد يوجب الظهور ، والوضع العرفي باستعمال اللفظ في معنى آخر ، قد يوجب الظهور ايضاً ، والمراد بالعرف : اعمّ من العرف العامّ ، كالناس عموماً ، والعرف الخاصّ ، كالفقهاء والاصولييّن والادباء ، وغيرهم ، حيث يكون لهم عرف خاصّ ، يوجب انصراف اللفظ إلى المعنى الجديد الّذي اصطلحوا عليه دون المعنى اللغوي الموضوع بسبب واضع اللغة .

( و ) الشكّ ( في ) القسم ( الثاني ) مسبَّب ( عن اعتماد المتكلّم على القرينة وعدمه ) أي عدم اعتماده عليها ، فاذا شككنا في الاعتماد وعدمه ، شككنا في انّ الظاهر مراد أم لا ؟ .

( فالقسمان ، من قبيل : الصغرى والكبرى لتشخيص المراد ) فيقال مثلاً : « هذا ظاهر » و « كلّ ظاهر مراد » .

ففي القسم الأوّل من كلام المصنف : الكلام كبروي ، بمعنى « انّ المتكلّم اراد كذا » .

وفي القسم الثاني : صغروي ، بمعنى : انّ « هذا ظاهر » .

ص: 145


1- - للمزيد راجع موسوعة الفقه : كتاب البيع ، للشارح .

القسم الأول

أمّا القسم الأوّل : فاعتباره في الجملة لا إشكال فيه ولا خلافَ ، لأنّ المفروض كونُ تلك الامور معتبرةً عند أهل اللسان في محاوراتهم المقصود بها التفهيمُ ، ومن المعلوم بديهةً

------------------

مثلاً يقال : الصعيد في الاية المباركة ، ظاهر : في مطلق وجه الارض ، وقد اراد القرآن الحكيم من الصعيد : هذا الظاهر . امّا الأوّل : ظهوره في مطلق وجه الارض ، فللانصراف . وامّا الثاني : اراد القرآن هذا الظاهر ، فلاصالة عدم القرينة ، بعد عدم اعتماد الحكيم في فهم مراده على ما لا يظهر للمخاطب ، لانّه قبيح عقلاً .

القسم الأول ( امّا القسم الأوّل ) وهي الأمارات المعمولة لتشخيص المراد - وقد تقدّم انّها راجعة إلى اصالة عدم القرينة ( فاعتباره في الجملة ) .

وانّما قال في الجملة ، لأنّه يأتي بعض الخلاف فيه لكن في الجملة ( لا اشكال فيه ولا خلاف ) فانّ الاصوليين والفقهاء اجمعوا على حجيّة الظواهر ، وانّما اجمعوا على ذلك ( لانّ المفروض كون تلك الامور ) الّتي تنتهي إلى اصالة عدم القرينة (معتبرة عند اهل اللسان ) فانّهم مجمعون على الاعتماد على اصالة عدم القرينة ، سواء المتكلّم او المخاطب ، او الّذي يسمع كلامهما ، فيما لم يكن بينهما تباين على الخلاف ( في محاوراتهم المقصود بها التفهيم ) والتّفهم ، حتّى انّ احدهم لو حاد عن ذلك اشكلوا عليه ، فاذا تكلّم شيئاً ، ثمّ قال : لم ارد ظاهره ، او سمع شيئاً ، ثمّ قال : لم افهم منه ظاهره ، كان مورد تقبيح العقلاء وعقاب الموالي .

( ومن المعلوم بديهة ) بالاضافة إلى قوله سبحانه : « مَا أَرسَلْنَا مِن رَسُوْلٍ

ص: 146

أنّ طريق محاورات الشارع في تفهيم مقاصده للمخاطبين لم يكن طريقا مخترعا مغايرا لطريق محاورات أهل اللسان في تفهيم مقاصدهم .

------------------

إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ... »(1) .

وقوله صلى اللّه عليه و آله وسلم : « إنّا مَعاشِرَ الأنبِياءِ ، أُمِرنا أن نُكَلِّمَ النّاس عَلى قَدَرِ عُقُولِهِمُ » (2) .

فانّ الآية والرواية تشملان الظاهر والقدر معاً ، بمعنى : انّا نكلّمهم حسب الظواهر الّتي يفهمونها ، وانّا نكلّمهم حسب مقدار افهامهم .

ومن المعلوم ( انّ طريق محاورات الشارع في تفهيم مقاصده للمخاطبين ) ومن عناهم من غيرهم ، فانّ الشارع لا يتكلّم للمخاطبين فقط ، وانّما لهم ولكلّ من يأتي ولمن لم يكن حاضراً مجلس الخطاب من الغائبين والمعدومين حال الخطاب ( لم يكن طريقاً مخترعاً ) كطريق الرموز والاشارات الاّ نادراً ، كما انّ النّادر موجود ايضاً عند سائر اهل اللسان ، لكن لا يبنى عليها ، فلم يكن طريق الشارع ( مغايراً لطريق محاورات اهل اللسان في تفهيم مقاصدهم ) .

لا يقال : فكيف اختصّ رسولنا صلى اللّه عليه و آله وسلم في الكلام بلغة واحدة ، وهي العربية ؟ .

لأنّه يقال : هذا من ضيق مجال المخاطب ، حيث لم يكن يفهم كلّ لغة ، وضيق مجال الكلام ، حيث لم تكن اللغة تُعرب اكثر من لسان واحد ، والاّ لأمكن المتكلّم انّ يتكلّم بما يفهم منه مختلف الالسنة ، كما ورد عن احد الحكماء انّه لمّا سمع انّ راعياً - موسى الكليم - يدّعي النبوّة جاء اليه وسأله قائلاً : أنت الّذي تزعم انّ علة

ص: 147


1- - سورة ابراهيم : الآية 4 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص23 ح15 و الكافي ( روضة ) : ج8 ص268 ب8 ح394 ، الامالي للشيخ الصدوق : ص418 ، تحف العقول : ص37 ، بحار الانوار : ج1 ص85 ح7 ب1 .

وإنّما الخلافُ والاشكالُ وقع في موضعين : أحدُهما : جوازُ العمل بظواهر الكتاب .

------------------

العلل كلّمك ؟ .

فاجابه موسى عليه السلام: نعم .

قال الحكيم : وكيف كلّمك ؟ .

قال موسى عليه السلام: من جميع الجهات ، وبكلّ الجهات .

فتوجّه الحكيم إلى بني اسرائيل ، وقال لهم : يا بني اسرائيل اتّبعوا نبيّكم ! ومعنى « جميع الجهات » : الجهات الست وما بينها ، فكلامه سبحانه يحيط بالانسان كاحاطة الماء والهواء به .

ومعنى « بكلّ الجهات » : انّ في كلامه سبحانه كلّ شيء ، فليس كلامه ككلام احدنا خاصّاً بأمر ، او مشيراً إلى معنى واحد ، فانّا اذا قلنا - مثلاً - الماء كان معناه الجسم السيّال ، امّا اذا قاله تعالى - لانسان قابل الفهم - كان معناه الماء ، والهواء ، والكتاب ، والقلم ، والارض ، والسماء ، والسهل ، والجبل ، وإلى آخره ، ممّا لا ندركه نحن وليس هذا بدعاً من الامر ، وانّما له مشابه ، فقد ورد في الحديث : انّ كلّ واحد من اطعمة الجنّة يحتوي على كلّ الطعوم ، إلى غير ذلك ممّا هو خارج عن مقصود الشرح .

وعلى أيّ ، فلا خلاف في حجّيّة الظواهر في الجملة ( وانّما الخلاف والاشكال وقع في موضعين : أحدهما : جواز العمل بظواهر الكتاب ) فانّ المشهور بل فوق المشهور قالوا : بالجواز - بمعنى اللزوم - في قبال جملة من الاخباريين القائلين بعدم الجواز ، وذلك امّا لعدم ظهور للقرآن ، وامّا لانّه ظاهره لم يعلم كونه مراد اللّه سبحانه وتعالى .

ص: 148

والثاني : أنّ العملَ بالظواهر مطلقا في حقّ غير المخاطب بها قام الدليلُ عليه بالخصوص بحيث لا يحتاج إلى إثبات إنسداد باب العلم في الأحكام الشرعيّة ام لا .

والخلافُ الأوّلُ ناظرٌ إلى عدم كون المقصود بالخطاب استفادَة المطلب منه مستقلاً .

------------------

وكان ينبغي له قدس سره ان يذكر هنا : ذهاب بعضهم إلى عدم جواز العمل بظواهر كلام الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم - ايضاً - كما ذكره كاشف الغطاء : في رسالة له ، معمولة لذلك ، ناقلاً عن بعضهم : انّ اللازم فقط هو : العمل باخبارهم عليهم السلام .

( والثاني : انّ العمل بالظواهر مطلقاً ) في القرآن وغيره ، في كلامه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وكلامهم عليهم السلام ، وفي سائر كلمات المتكلّمين في الوصايا ، والاقارير ، وما اشبه ( في حقّ غير المخاطب بها ) هل ( قام الدليل عليه بالخصوص بحيث لا يحتاج ) حجّيّة الظواهر في حقّه ( إلى اثبات انسداد باب العلم في الاحكام الشرعية أم لا ) بأن لم يقم على ذلك دليل ؟ .

فالمشهور على الأوّل ، والمحقق القمي قدس سره وبعض آخر على الثاني ، بمعنى : انّ حجّيّة الظواهر لم تكن بدليل خاص ، كاتفاق اهل اللسان ، على اعتبار الظاهر لأصالة عدم القرينة ، بل حجّيّة الظواهر من باب : دليل الانسداد والظنّ المطلق .

( والخلاف الأوّل ) وهو في ظواهر القرآن ( ناظر إلى عدم كون المقصود بالخطاب استفادة المطلب منه مستقلاً ) بل كان مقصوده سبحانه : ان يستفيد الناس المطلب من القرآن ، بضميمة تفسير الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم واهل بيته عليهم السلام - لا انّ مرادهم : انّ القرآن كالاحاجي والالغاز - فهو كما اذا قال المولى لعبده :

ص: 149

والخلافُ الثاني ناظر إلى منع كون المتعارف بين أهل اللسان اعتماد غير من قُصِدَ إفهامهُ بالخطاب على مايستفيده من الخطاب بواسطة أصالة عدم القرينة عند التخاطب .

فمرجعُ كلا الخلافين إلى منع الصغرى ،

------------------

خذ معاني ظواهر كلامي من رئيس الخدم ، ثمّ قال : ائتني بالماء ، فانّه لا يحقّ للعبد انّ يأتي اليه بالماء ، الاّ بعد سؤله من الرئيس عن ذلك ، اذ قد يقول له : المراد بالماء هو المضاف بالسكر ، او ما اشبه ذلك .

( والخلاف الثاني ) وهو في مطلق الظواهر ( ناظر إلى منع كون المتعارف بين اهل اللسان : اعتماد غير من قصد افهامه ب) سبب ( الخطاب ) متعلّق بافهام ( على ما يستفيد ) غير المقصود ( من الخطاب ، بواسطة اصالة عدم القرينة عند التخاطب ) فالشخص الثالث لا حقّ له في ان يقول : الاصل عدم وجود قرينة عند التخاطب تصرف الكلام عن ظاهره ، فالظاهر حجّة لديّ ايضاً وذلك لانّ اهل اللسان لا يعتمدون على اصال عدم القرينة - كي يعملوا بظاهر كلام المتكلم - الاّ اذا كانوا هم مقصودون بخطاب المتكلّم ، فاذا قال زيد مخاطباً عمراً : انّك تطلبني دينارا ، فلا يحقّ لبكر ان يشهد باعتراف زيد لعمرو ، بانّه يطلبه ، اذ لعلّه كان بين زيد وعمرو قرائن ، دلّت على خلاف ظاهر كلامه له .

( فمرجع كلا الخلافين ) في ظواهر القرآن ، وظواهر كلّ كلام ( إلى منع الصغرى ) أي لا ظاهر ، لا انّه : ظاهر ، وليس بمراد ، فالقياس : « انّ هذا الكلام ظاهر في كذا» «وكلّ ظاهر مراد» ليس المنع في الكبرى ، وانّما المنع في الصغرى ، امّا في القرآن : فلما دلّ على انّه لا يجوز الاستفادة منه الاّ بضميمة رواياتهم عليهم السلام ، وأمّا في مطلق الكلمات : فلانّه من المحتمل ، انّ المتكلّم قد اعتمد قرينة

ص: 150

وأمّا الكبرى - أعني كونَ الحكم عند الشارع في استنباط مراداته من خطاباته المقصود بها التفهيمُ ما هو المتعارفُ عند أهل اللسان في الاستفادة - فممّا لا خلافَ فيه ولا إشكال .

------------------

عند التخاطب لا يعرفها غير المخاطب ، فلا يكون لكلامه ظاهر عند غير المخاطب ، وليس بناء العقلاء من أهل اللسان الاعتماد على مثل هذا الظاهر المحتمل وجود قرينة خلافه .

وعليه : فاللازم في العمل بالظاهر أمران :- الأوّل : كون الخطاب صادراً للافهام .

الثاني : كون الشخص مقصوداً بالافهام .

أما الاوّل : فمفقود في القرآن ، حيث لم يصدر لافهام الناس ، بل افهام المعصومين عليهم السلام .

وأمّا الثاني : فمفقود - ايضاً - في غير من قصد افهامه ، حيث لم يصدر الكلام الاّ لافهام المخاطب دون غيره .

( وأمّا الكبرى أعني : كون الحكم ) والطريق ( عند الشارع في استنباط ) وفهم (مراداته من خطاباته المقصود بها التفهيم ) لا ما كان منها بصدد الرمز والاجمال ، كفواتح السور والمتشابهات ، حيث لم يكن مقصوده بها تفهيم العامة ، فدأب الشارع على ( ما هو المتعارف عند أهل اللسان ) من الطرق : كالخبر الواحد ، والظواهر ، وما أشبه ذلك ( في الاستفادة ) من مراد المتكلّم (ف) انّ هذا ( ممّا لا خلاف فيه ولا اشكال ) ولذا لا نحتاج إلى الكلام حوله ، فانّ البديهي دليله هو نفسه ، ولذا قالوا : الشمس دليل الشمس .

ص: 151

أمّا الكلام في الخلاف الأوّل :

فتفصيله أنّه ذهب جماعةٌ من الاخباريّين إلى المنع عن العمل بظواهر الكتاب من دون ما يرد التفسيرُ وكشفُ المراد عن الحجج المعصومين صلوات اللّه عليهم .

وأقوى ما يُتمسّكُ لهم على ذلك وجهان : أحدهما الأخبار المتواترة

------------------

( امّا الكلام في الخلاف الأوّل ) وهو : منع العمل بظاهر الكتاب ( فتفصيله : انّه ذهب جماعة من الاخباريين ) الملتزمين ، بخصلتين :- اوّلاً : انّهم يحصرون الاحكام في الفهم من الاخبار فقط .

ثانياً : انّهم لا يهتمّون في طريق الاستنباط بالقواعد الاصوليّة .

فهؤاء ذهبوا: ( إلى المنع عن العمل بظواهر الكتاب ) وقالوا : بأنّ اصالة عدم القرينة الّتي تجري في كلمات المتكلمين ليست جارية في ظواهر القرآن الحكيم (من دون ما يرد ) و : « ما » بمعنى : « انّ » أي من دون ان يرد فيه ( التفسير ، وكشف المراد) من تلك الظواهر ( عن الحجج المعصومين صلوات اللّه عليهم ) .

وقد استدلّوا لذلك بأدلة متعدّدة ( و ) لكن ( اقوى ما يتمسّك لهم على ذلك ) الّذي ادّعوه من المنع ( وجهان : احدهما : الاخبار المتواترة ) والخبر المتواتر : هو الّذي يؤَن فيه من تواطؤالمخبرين على الكذب ، والتواتر على ثلاثة اقسام :

اولاً التواتر اللفظي : وهو انّ يروي امراً بلفظ واحد ، جماعة كثيرة عن المعصوم عليه السلام وتقييده بالمعصوم انّما هو بالنسبة إلى ما نحن بصدده من اخبارهم عليهم السلام ، والاّ فالتواتر يأتي في كلّ خبر ، ولو عادي ، كالاخباربالحروب ، وبفتح المدن ، وبما اشبه ذلك - .

ص: 152

المدّعى ظهورُها في المنع عن ذلك : مثلُ النبويّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : « مَن فَسر القُرآنَ برَأيِه ، فَليَتَبَوَّء مَقعَدهُ مِنَ النّار » ، وفي رواية اُخرى : « مَنْ قالَ في القُرآنِ بغير عِلم فَليَتَبوَّء الخ » .

وفي نبويّ ثالث : « مَنْ فَسر القرآن بِرَأيِه ، فَقَد افترى عَلى اللّه

------------------

ثانيا : التواتر المعنوي : وهو ان يكون الرواة المتعدّدون ، قد نقلوا الاخبار المتعدّدة بألفاظ مختلفة ، ولكن بمعنى واحد .

ثالثاً : التواتر الاجمالي : وهو ان نعلم : بأنّ أحد هذه الطوائف من الاخبار المتعددة وارد عن المعصوم ، لكن لا نعلم ايّها ورد ؟ فيؤذ بالاخص من الجميع ، لأنّه معلوم الورود .

فالأخبار المتواترة ( المدعى ) وهو الاخباري ( ظهورها في المنع عن ذلك ) العمل بظاهر الكتاب ، أي عن اثبات الظاهر واجراء اصالة عدم القرينة .

( مثل : النّبويّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : « مَنْ فَسَّرَ القرآن برأيِهِ ، فَليتبَوَّءْ مقعدهُ مِنَ النَّار » ) (1) وتبوّء ، بمعنى : اتخذ مكاناً من : باء يبوء ، لانّ الانسان الّذي يتّخذ مكاناً، يبوء ويرجع اليه كلمّا خرج منه ، والمقعد اسم مكان بمعنى : يتخذ مكاناً لقعوده وسكنه ، و « من النار » كناية عن استحقاقه جهنّم بذلك التفسير .

( وفي رواية اخرى ) عنه صلى اللّه عليه و آله وسلم : (« مَنْ قَالَ فِي القرآنِ بغيرِ علمٍ فليتَبَوَّأ الخ » )(2) أي مقعده من النار .

بتقريب : انّه بدون تفسيرهم عليهم السلام يكون قولاً بغير علم .

( وفي نبويّ ) صلى اللّه عليه و آله وسلم ( ثالث : « مَنْ فَسَّرَ القرآنَ بِرَأيِهِ ، فَقَدِ افْتَرَى على اللّهِ

ص: 153


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص104 .
2- - منية المريد : ص368 ، بناء المقالة الفاطمية : ص84 ، وسائل الشيعة : ج27 ص204 ب13 ح33607 .

الكَذِب » .

وعن أبي عبد اللّه عليه السلام : « مَنْ فَسَّر القُرآنَ بِرأيهِ إن أصابَ لم يُؤجَر وإن أخطأ سَقَطَ أبعَدَ مِنَ السّماء » .

وفي النبويّ العاميّ : « مَن فَسَّر القُرآنَ بِرَأيه فأصاب فَقَد أخطأ » .

وعن مولانا الرضا عليه السلام، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : « إنّ اللّه عَزَّ وجَلَّ قال في الحديث القدسيّ :

------------------

الكذِبَ » )(1) والافتراء هو نسبة الكذب وانّما يذكر الكذب بعده ، للتأكيد ، مثل ليل أَليل ، ونهار منير .

( وعن ابي عبداللّه ) الصادق ( عليه السلام : « مَنْ فَسَّرَ القرآنَ برأيِهِ ، إنْ أَصَابَ لمْ يُؤَرْ ، وَانّ أَخْطَأَ سَقَط ابْعد مِن السّمَاءِ » )(2) إلى الارض .

فان في جهنم دركات ، قد تكون المسافة بين درك إلى درك ، ابعد من السماء إلى الارض ، وهي جزاء من فسر القرانّ لا بما جاء عنهم عليهم السلام واخطأ .

( وفي النبويّ العامي ) ممّا رواه العامّة عنه صلى اللّه عليه و آله وسلم : (« مَنْ فَسَّرَ القُرآنَ بِرَأيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأ» )(3) أي اخطأ الطريق لانّ الطريق إلى مراده سبحانه هم المعصومون صلوات اللّه عليهم اجمعين لا هو بنفسه ، وانّ أصاب مراد اللّه تعالى.

( وعن مولانا الرضا عليه السلام ، عن آبائه ، عن أمير المؤنين عليهم السلام ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم : انّ اللّه عزَّ وجلَّ قال في الحديث القدسي ) وهو الحديث المنسوب إلى ساحة القدس - والنزاهة - والأحاديث القدسية ، هي : كلماته تعالى

ص: 154


1- - وسائل الشيعة : ج27 ب12 ص190 ح33568 ، كمال الدين : ص256 ، التحصين لابن طاووس : ص625 وفيه كذبا .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص202 ب13 ح33597 وفيه خرّ .
3- - وسائل الشيعة : ج27 ص205 ب13 ح33610 .

ما آمَنَ بي مَن فَسَّر كَلامي برَأيِه ، وما عَرَفَني مَن شَبَّهني بِخَلقي ، وما على ديني مَن استَعمَل القياسَ في ديني » .

وعن تفسير العياشي عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « قال : مَن حَكَمَ بِرأيهِ بينَ اثنين فقَد كَفَر ،

------------------

الّتي أنزلها على أنبيائه وأوليائه من غير قصد التحدّي ، بينما القرآن نزل بقصد التحدّي ، وانّه المعجز للجنّ والانس عن الاتيان بمثله ابداً .

ولا يخفى : انّ الملائكة أيضاً عاجزون عن ذلك ، لكنّهم ليسوا مكلّفين بتكاليفنا ، ولذا لم يذكروا في باب التحدّي .

( « مَا آمَنَ بِي منْ فَسَّرَ كَلامِي برأيه » ) .

والمراد ايماناً غير مشوب بالعصيان ، فالمفسر عاص للّه تعالى .

( « ومَا عَرفَنِي منْ شَبَّهنِي بِخلْقِي » ) .

فانّ اللّه ليس شبيها بالخلق ، فاذا شبهه أحد بهم ، لم يكن عارفاً به سبحانه .

( « وَمَا عَلَى دِيْنِي مَن اسْتَعْمَلَ القِيَاس فِي دِيْنِي » )(1) .

لأنّ الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، والقياس لا طريق له إلى تلك المصالح والمفاسد .

( وعن تفسير العياشي ، عن ابي عبد اللّه ) الصادق ( عليه السلام قال : « مَنْ حَكَمَ بِرَأيِهِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَقَدْ كَفَر .. » ) (2) ، أي كفراً عمليّاً ، فانّ الكفر عقيدي ، وهو : عدم الاعتقاد بواحد من اصول الدّين ، وعملي، وهو : عصيانه سبحانه في ما أمر أو نهى.

ص: 155


1- - الأمالي للصدوق : ص6 ، التوحيد : ص68 ، مشكاة الانوار : ص9 ، وسائل الشيعة : ج27 ص45 ب6 ح33172 .
2- - بحار الانوار : ج92 ص111 ح15 ، تفسير العياشي : ج1 ص18 ، بحار الانوار : ج92 ص111 ب1 ح15 و ج104 ص264 ب1 ح9 .

ومَن فسّرَ برأيه آيةً مِن كتاب اللّه فقد كفر » .

وعن مجمع البيان : « إنّه قد صحّ عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم وعن الأئمة القائمين مقامه : أنّ تفسيرَ القرآن لايجوزُ إلاّ بالأثر الصحيح والنصّ الصريح » .

وقوله عليه السلام : «ليسَ شيءٌ أبعَدَ مِن عُقول الرّجال من تفسير القُرآنِ ، إنّ الآية تَكونُ أوّلُها في شيء وآخِرُها في شيء، وهو كلامٌ متصلٌ يَنصرِفُ إلى وجوه».

------------------

قال سبحانه : « وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَن اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيْلاً ، وَمَنْ كَفَرَ ، فَانَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِيْنَ »(1) .

وقال تعالى : « لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزيْدَنَّكَمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ انَّ عَذَابِي لَشَدِيْدٌ »(2) .

( « ومنْ فسَّرَ بِرأيِهِ آية مِن كِتابِ اللّهِ ، فَقَدْ كَفَرَ » )(3) ، أي كفراً عمليّاً ايضاً على ما عرفت ( وعن مجمع البيان : انّه قد صحّ عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم وعن الائمة ) عليهم السلام ( القائمين مقامه : انّ تفسير القرآن لا يجوز الاّ بالأثر الصحيح والنصّ الصريح) (4) ، أي : بالخبر الّذي سنده حجّة ونصّه صريح لا لبس فيه . ( وقوله عليه السلام : لَيسَ بِشَيءٍ أبعَدَ مِنْ عُقولِ الرجالِ ، مِنْ تَفسِيرِ القُرآنِ ) .

وهذا كناية : عن انّ العقل لا يبلغ مراد اللّه سبحانه من كلامه في كتابه الحكيم ، ثمّ بيّن عليه السلام وجه عدم بلوغ العقول معنى القرآن بقوله : ( إنّ الآية تَكونُ أوّلُها في شَيءٍ ، وآخِرها في شَيءٍ ، وَهوَ كَلامٌ متَّصِلٌ يَنصَرِفُ إلى وجوهٍ )(5) فاذا اعتمد الانسان على عقله في فهم الآية ، توهّم انّ آخر الآية مرتبط من حيث

ص: 156


1- - سورة آل عمران : الآية 97 .
2- - سورة ابراهيم : الآية 7 .
3- - تفسير العياشي : ج1 ص18 ، وسائل الشيعة : ج27 ب6 ص60 ح33195 ، بحار الانوار : ج92 ص111 ب10 ح15 .
4- - مجمع البيان : ج1 ص8 ، وسائل الشيعة : ج27 ص504 ب13 ح33609 .
5- - تفسير العياشي ج1 ص17 مع تفاوت ، المحاسن : ص300 ح5 ، وسائل الشيعة : ج27 ص203 ب13 ح33604 بالمعنى و ص204 ب13 ح33605 (بالمعنى) .

وفي مرسلة شعيب بن أنس عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « إنّه قال لأبي حنيفة : أنتَ فقيهُ أهل العراق ؟ قال : نعم ، قال عليه السلام : فبأي شيء تُفتيهم ؟ قال بكتاب اللّه وسنّة نبيّه صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : عليه السلام يا أبا حنيفة ! تعرفُ كتابَ اللّه حقَّ معرفته وتعرفُ الناسخَ من المنسوخ ؟ قال : نعم ، قال عليه السلام : يا أبا حنيفة ! لقد ادّعيت علما ،

------------------

المعنى باوّل الآية ، فيفسّرها بما هو خارج عن ارادة اللّه تعالى ، فآية التطهير(1) - مثلاً - اوّلها في نساء النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وآخرها في اهل البيت عليهم السلام ، فاذا لم يعرف الانسان تفسيرها منهم عليهم السلام ، تصور انّ آخر الآية ايضاً في نساء النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وهكذا في آيات اخرى .

ولذا نراهم اختلفوا في - بيع المكاسب - كلمة : « بالباطل » علّة ، والاستثناء متّصل او جزء ، والاستثناء منقطع ؟ ليكون المعنى على الأوّل . «لاَ تَأكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَيْنكُم ... »(2) « الاَّ أن تَكُوْنَ تِجَارَة ... »(3) لانّ الأكل بدون التجارة «باطل » .

وعلى الثاني « لا تأكلوا بالباطل » ويستثنى من الاكل بالباطل : « التجارة » إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على من راجع التفاسير .

( وفي مرسلة شعيب ابن انس ، عن ابي عبد اللّه عليه السلام ، انّه قال لابي حنيفة : « أنت فقيه أهل العراق » قال ) ابو حنيفة ( : « نعم ، قال عليه السلام : « فبأيّ شيء تفتيهم ؟ قال » ) ابو حنيفة : ( « بكتاب اللّه وسنة نبيّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، قال عليه السلام : يا ابا حنيفة » ) هل ( « تعرف كتاب اللّه حقّ معرفته » ) في مراداته ( «وتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ قال » ) ابو حنيفة ( «نعم» ، قال عليه السلام : « يا ابا حنيفة لقد ادّعيت علماً » )

ص: 157


1- - اشارة الى سورة الاحزاب : الآية 33 ، وان هذه الآية نزلت في حق الرسول وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، انظر صحيح مسلم : ج2 ص368 باب فضائل اهل البيت وصحيح الترمذي : ج5 ص30 ، مسند احمد بن حنبل : ج1 ص330 ، مستدرك الصحيحين للحاكم : ج3 ص133 ، تاريخ دمشق لابن عساكر : ج1 ص185 .
2- - سورة البقرة : الآية 188 .
3- - سورة النساء : الآية 29 .

وَيلَكَ ، ما جعَل اللّه ذلك العلم إلاّ عِندَ أهل الكتاب الذين اُنزل عليهم ، وَيلَكَ ، وما هو إلاّ عِند الخاصّ من ذُريّة نبيّنا صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وما وَرَّثكَ اللّه ُ مِن كتابِه حَرفا».

------------------

أي علماً عظيماً ( « ويلك ما جعل اللّه ذلك العلم » ) باكتساب بل لا يكون هذا العلم ( « إلاّ عند اهل الكتاب ، الذين اُنزل عليهم » ) من الأئمة المعصومين عليهم السلام ، ثمّ بيّن عليه السلام المقصود من اهل الكتاب بياناً اكثر ايضاحاً بقوله : ( « ويلك وما هو » ) ذلك العلم ( « الاّ عند الخاصّ من ذرّيّة نبيّنا صلى اللّه عليه و آله وسلم » ) لا كلّ الذريّة ، بل المعصومين منهم عليهم السلام ( « وما ورّثك اللّه من كتابه حرفاً » )(1) أي طرفاً .

أقول : القرآن له أطراف كثيرة ، طرف كوني ، وطرف تاريخي ، و طرف عقيدي ، وطرف قصصي ، وطرف أحكامي ، وطرف أمثالي ، إلى غير ذلك من الأطراف ، وقد أشار القرآن إلى كلّ طرف اشارة عابرة ، ولم يستوعبه كاملاً ، فجاء - مثلاً - ببعض من قصة الكون يرتبط بالماضي ، وببعض ما يرتبط بالاخرة ، وحول ما بقي من الدّنيا ممّا يرتبط بالمستقبل ، وكذلك ذكر بعضاً من تاريخ الأنبياء والاُمم السابقة ، وأشار إلى نزر من وقايع المستقبل وأنباء عن بعض الملاحم والفتن اللاحقة ، كما في قوله تعالى : « وَاذا وَقَعَ القولُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تكلِّمهمْ ... »(2) .

وكذلك تحدث عن طرف من العقيدة وعن طرف من القصص وعن طرف من الواجبات والمحرمات ، والأخلاق والآداب ، وعن طرف من الأمثال والعبر ، وهكذا، وترك علم بقيّة كلّ طرف من الاطراف وتفصيله عند الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم والأئمّة المعصومين من اهل بيته عليهم السلام ، وطبيعي لمثل ابي حنيفة انّه لم يكن

ص: 158


1- - وسائل الشيعة : ج27 ب6 ص48 ح33177 .
2- - سورة النمل : الآية 82 .

وفي رواية زيد الشحّام : « قال دخل قتادةُ على أبي جعفر عليه السلام ، فقال له : أنتَ فقيهُ أهل البصرة ؟ فقال : هكذا يزعمون ، فقال عليه السلام بلغني أنّكَ تُفسّرُ القرآن ، قال : نعم - الى أن قال - : ياقَتادةُ ! إن كنتَ قد فَسَّرتَ القُرآن من تِلقاء نَفسِك فَقَد هَلكتَ وأهلكتَ ، وإن كنتَ قَد فَسّرتَ مِنْ الرجال فَقَد هَلكتَ وأهلكتَ . يا قتادةُ ! ويحَكَ ! إنّما يَعرفُ القُرآن

------------------

يستوعب علم حتّى طرف واحد من اطراف القرآن ، فبقيّة قصة يوسف عليه السلام - مثلاً - ، وبقيّة خصوصيّات الصلاة والصيام ، وبقية خصوصيّات الجنة والنار وغير ذلك ، ممّا لم يذكر في القرآن ، لا يعرفها الاّ من نزل القرآن عليه وهو الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومين من أهل بيته عليهم السلام الّذين ورثوا عنه هذه العلوم دون غيرهم .

وعليه : فلا يحقّ لأحد أن يحكم بالقرآن بدون مراجعتهم .

( وفي رواية زيد الشحام « قال : دخل قتادة على ابي جعفر » ) الباقر ( « عليه السلام ، فقال له : انت فقيه اهل البصرة ؟ فقال : هكذا يزعمون » ) وكان كلامه هذا تواضعاً منه وحسن ادب مع الامام عليه السلام ( « فقال عليه السلام : بلغني انّك تفسّر القرآن ؟ قال » ) قتادة ( « نعم ، إلى ان قال » ) عليه السلام ( : « يا قتادة ان كنت قد فسّرت القرآن من تلقاء نفسك » ) بلا مراجعة المعصومين عليهم السلام ( « فقد هلكت » ) حيث استحققت العذاب ( « واهلكت » ) الذين يأخذون منك ( « وان كنت قد فسّرت من » ) ، قول ( « الرجال » ) الذين لم يأخذوا العلم من الحجج عليهم السلام ( « فقد هلكت واهلكت » ) ايضاً ، لأنّ كلا الامرين موجب للهلاك والاهلاك ، وانّما فصّل عليه السلام للتأكيد ( « يا قتادة ويحك انّما يعرف القرآن » ) عامّاً وخاصّاً ، ومطلقاً ومقيّداً ، وناسخاً

ص: 159

مَن خوطِبَ بهِ » .

إلى غير ذلك ، ممّا ادّعى في الوسائل ، في كتاب القضاء ، تجاوزَها عن حدّ التواتر .

وحاصل هذا الوجه يرجعُ الى أنّ منعَ الشارع عن ذلك يكشفُ عن أنّ مقصود المتكلم ليس تفهيمَ مطالبه بنفس هذا الكلام ، فليس من قبيل المحاورات العرفيّة .

والجوابُ عن الاستدلال بها : أنّها

------------------

ومنسوخاً ومفصّلاً ومجملاً وغير ذلك ( « من خوطب به » )(1) وهم المعصومون عليهم السلام .

( إلى غير ذلك ممّا ادّعى في الوسائل في كتاب القضاء ) وكذلك في كتاب المستدرك ( تجاوزها عن حدّ التواتر ) ، فانّ دون هذه الكثرة يكون التواتر .

( وحاصل هذاالوجه ) الّذي استدل به الاخباريون : لعدم جواز العمل بظاهر القرآن ( يرجع إلى : ان منع الشارع عن ذلك ) العمل بظواهر القرآن (يكشف عن انّ مقصود المتكلّم ) تعالى وتقدّس ( ليس تفهيم مطالبه بنفس هذا الكلام ) ولهذا لا يتمكن الشخص من العلم بالظاهر ، بعد ان كان دأب المتكلّم ذلك .

وعليه : ( فليس ) القرآن الحكيم ( من قبيل المحاورات العرفيّة ) الّتي بنوا فيها على التفهيم والتفهّم ، حتّى يكون ظاهره حجّة للانسان وعلى الانسان واذا تمّ ذلك ، فلا يصحّ اجراء أصالة عدم القرينة فيه لاثبات ظاهره .

هذا ( والجواب عن الاستدلال بها) أي بهذه الاخبار على عدم حجّيّة ظواهر القرآن ( انّها ) أي تلك الاخبار الناهية ، انّما تدلّ على المنع عن التفسير بالرأي

ص: 160


1- - الكافي روضة :ج8 ص311 ح485 ب8 مع تفاوت ، وسائل الشيعة: ج27 ص185 ب13 ح33556.

لا تدلّ على المنع من العمل بالظواهر الواضحة المعنى بعد الفحص عن نسخها وتخصيصها وإرادة خلاف ظاهرها في الأخبار .

------------------

و ( لا تدلّ على المنع من العمل بالظواهر الواضحة المعنى ) لدى اهل اللسان (بعد الفحص عن نسخها وتخصيصها ) وتقييدها ( وارادة خلاف ظاهرها ) فحصاً ( في الاخبار ) الواردة عنهم عليهم السلام .

ثمّ انّ هنا ثلاثة امور :- الأوّل : الترجمة ، الثاني : التفسير بمراجعتهم عليهم السلام .

الثالث : التفسير بالرأي .

والاخبار انّما تدلّ على منع الثالث ، لا على منع الاوّلين ، فالترجمة معناها : تبديل اللفظ بلفظ اوضح ، سواء بنفس اللغة او بسائر اللغات ، فاذا ترجمنا قوله تعالى : « صِرَاطَ الَّذِيْنَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ... »(1) ، بطريق من انعمت عليهم ، كان من الترجمة ، وكذلك اذا ترجمناها بلغة آخرى .

والتفسير بالرأي معناه : انّه يفسّر الآية بدون مراجعتهم عليهم السلام كما اذا فسّر قوله تعالى : « قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَد »(2) .

بانّ معناه : هو اوّل الاشياء ، فهو واحد ، ثمّ العقل الّذي خلقه اللّه تعالى اوّلاً فهو ثان ، ثمّ ثالث ، ورابع ، وهكذا ، بينما ورد في الاخبار : « إنّهُ واحِدٌ لا بِالعَدَدِ »(3) .

لان العدد يلزم انّ يكون من سنخ واحد ولا سنخيّة بين اللّه تعالى ومخلوقاته ،

ص: 161


1- - سورة الفاتحة : الآية 7 .
2- - سورة الاخلاص : الآية 1 .
3- - التوحيد : ص37 ب2 ح2 وفيه انه احد لا بالعدد .

إذ من المعلوم أنّ هذا لايُسمّى تفسيرا ، فانّ أحدا من العقلاء إذا رأى في كتاب مولاه أنّه أمره بشيء بلسانه المتعارف في مخاطبته له ، عربيّا او فارسيّا او غيرَهما ، فعمل به وامتثله ، لم يُعَدَّ هذا تفسيرا ، إذ التفسيرُ كشفُ القِناع .

ثم لو سُلِّم كونُ مطلق حمل اللّفظ على معناه تفسيرا ،

------------------

وانّما يقال : اول وثان وثالث لما يكون بينهما سنخيّة ومشاكلة ، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً .

وامّا التفسير بمراجعة كلامهم عليهم السلام فمعناه : ان يأخذ بظاهر القرآن الّذي اُنزل لفهم الناس ، مع الخصوصيّات الّتي ذكروها عليهم السلام في بيان المراد ( اذ من المعلوم انّ هذا ) الاخذ بالظاهر بعد مراجعة كلامهم عليهم السلام ( لا يسمّى تفسيراً ) .

وعلى فرض تسميته : تفسيراً ، لا يسمّى تفسيراً بالرأي ( فانّ احداً من العقلاء ، اذا رأى في كتاب مولاه : انّه امره بشيء بلسانه المتعارف في مخاطبته له ) أي مخاطبة المولى لهذا العبد العاقل باللسان المتعارف بينهما ( عربياً ) كان ( أو فارسياً او غيرهما ) كالتركي والهندي ( فعمل ) العبد العاقل ( به ) أي بما كان ظاهر كلام المولى ( وامتثله ) بظاهره بعد الفحص ، وعدم ظهور قرينة على الخلاف ( لم يعد هذا تفسيراً ) .

فلا يقال : انّ العبد فسر كلام المولى ( اذ التفسير : كشف القناع ) وليس في الأخذ بالمعنى الظاهر كشف للقناع ، وانّما المجملات والمبهمات والاشارات والرموز هي الّتي بحاجة إلى التفسير وكشف القناع ، ولو فرض انّه سمّي تفسيراً ، لم يكن من التفسير بالرأي ، بل انّما هو تفسير بالعرف ، وإلى هذا اشار بقوله :

( ثم لو سلّم كون مطلق حمل اللفظ على معناه : تفسيراً ) لا ترجمة ، وانّ

ص: 162

لكنّ الظاهر أنّ المراد بالرأي : هو الاعتبارُ العقليّ الظنّيّ الراجعُ إلى الاستحسان ، فلا يشملُ حملَ ظواهر الكتاب على معانيها اللغوية والعرفيّة .

------------------

التفسير أعمّ من حمل المجمل على احد محتملاته ، وحمل اللفظ على ظاهر معناه ( لكن ) الاخبار لا تدل على حرمة التفسير مطلقاً ، حتّى في مثل حمل اللفظ على معناه الظاهر ، بل تدلّ على حرمة التفسير بالرأي وهو غير ما نحن بصدده .

وذلك لانّ كلاً من الاصوليّين والاخباريّين ، متّفقون على حرمة التفسير بالرأي من دون الاستعانة بهم عليهم السلام ، ويفترقون في انّ الاصوليين لا يمنعون من الأخذ بظاهر القرآن ، بعد الاستعانة بهم عليهم السلام ، بينما الاخباريّون يمنعون الأخذ بظاهر القرآن مطلقاً ممّا نقوله نحن الاصولييّن غير ما في الاخبار الناهية اذ ( الظاهر : انّ المراد بالرأي ) الممنوع في هذه الاخبار ( هو الاعتبار العقلي الظنّي ) والاعتماد على الظنّ في تفسير معنى القرآن (الراجع إلى الاستحسان ) فما يستحقّه بظنّه يفسّر القرآن به ولو لم يقم عليه دليل ، فيستحسن - مثلاً - ان يكون معنى قوله سبحانه : « فَكَاتِبُوْهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيْهِمْ خَيْراً »(1) .

انّ الخير هو : اعمال الخير في العبد ، لا الايمان - مثلاً - كما ورد في التفسير .

وعليه : ( فلا يشمل ) التفسير بالرأي - المنهي عنه في الاخبار - ما نحن بصدده ، من جواز ( حمل ظواهر الكتاب ) الحكيم بعد الاستعانة بتفسيرهم عليهم السلام ( على معانيها اللغويّة والعرفيّة ) فاللفظ ان كان له معنى عرفي ، حمل عليه ، والاّ حمل على المعنى اللغوي .

فقوله تعالى : « وأَقِيْمُوا الصَّلاة ... »(2) .

يحمل على الصلاة في عرف المتشرّعة ، فانّ ظاهر كلّ عرف : انّهم يتكلّمون

ص: 163


1- - سورة النور : الآية 33 .
2- - سورة البقرة : الآية 43 .

وحينئذٍ : فالمرادُ بالتفسير بالرأي : إمّا حملُ اللفظ على خلاف ظاهره او أحد احتماليه ، لرجحان ذلك في نظره القاصر وعقله الفاتر .

ويرشد إليه

------------------

حسب اصطلاحهم ، امّا اذا لم يكن لهم عرف ، حمل على المعنى اللغوي .

وقوله تعالى : « إِنْ تَرَكَ خَيْراً ... »(1) يحمل الخير فيه على المال ، اذ لا اصطلاح خاص للشارع في لفظ « الخير » .

( وحينئذٍ : فالمراد بالتفسير بالرّأي ) المنهي عنه في الاخبار المتقدّمة ( : امّا حمل اللفظ على خلاف ظاهره ) مثل حمل قوله تعالى : « إِنَّمَا يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُم الرَّجْسَ أَهْل البيْتِ ... »(2) .

على خلاف ظاهر « عنكم » بحمله على النساء ، بينما لو كان المراد ذلك ، كان اللازم انّ تقول الآية حينئذٍ « عنكنّ » بقرينة ما قبله : - « وَقَرْن فِيْ بيُوتِكُنَّ ... »(3) ، وغيرها .

( أو ) حمل اللفظ على ( احد احتماليه ) اذا كان مجملاً ، وله احتمالات مثل حمل : « القرء » في قوله سبحانه : « وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِانفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ » (4) على احد معنييه ، وهما « الطهر والحيض » بدون قرينة واردة عنهم عليهم السلام ، (لرجحان ذلك) الأوّل الّذي هو خلاف الظاهر ورجحان الثاني في احد المعنيين المحتملين ( في نظره ) أي نظر المفسّر ( القاصر ، و ) في ( عقله الفاتر ) الّذي لا حرارة ولا قوّة حتّى يتمكن من التحرك والتوصل إلى الواقع المراد من الآية .

( ويرشد اليه ) أي إلى ما ذكرناه : من انّ التفسير بالرأي ، يراد به : الحمل على

ص: 164


1- - سورة البقرة : الآية 180 .
2- - سورة الاحزاب : الآية 33 .
3- - سورة الاحزاب : الآية 33 .
4- - سورة البقرة : الآية 228 .

المرويُّ عن مولانا الصادق عليه السلام ، قال في حديث طويل : «إنّما هلك الناسُ في المتشابه ، لأنّهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم ، واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء عليهم السلام ، فيعرّفونهُم » .

------------------

خلاف الظاهر ، او على احد المعنيين المحتملين بدون قرينة ، الحديث (المروي عن مولانا الصادق عليه السلام ، قال في حديث طويل ) نذكر محل الشاهد منه : - ( « إنّما هَلَكَ النّاسُ في المُتَشابِهِ » ) من الايات ( « لأنّهُم لَم يَقْفوا » ) ولم يطلعوا ( « عَلى مَعناه » ) الّذي اراده اللّه تعالى ( « وَلَم يَعرِفوا حَقِيقَتِهِ » ) والمقصود منه ( « فَوَضَعوا لَهُ تَأوِيلاً » ) ومعنى يؤل المتشابه اليه ( « مِن عِندِ أنفُسِهِم ب- » ) سبب ( « آرائِهِم » ) الفجّة ، بأن كان - مثلاً - رأيهم « الجبر » فقالوا في قوله سبحانه : « يُضِلُّ مَن يَشَاء ... »(1) .

إنّ المراد منه : انّ اللّه سبحانه يجبر عباده على الضلال ( « واستغنوا » ) أي طلبوا الغنى وعدم الاحتياج العلمي ( « بذلك عن مسألة » ) وسؤل ( « الاوصياء » ) من اهل بيت رسول اللّه ( صلى اللّه عليه و آله وسلم « فَيُعَرّفونَهُم ») (2) بأن كان نتيجة الاستغناء برأيهم حرمانهم عن تفسير الاوصياء وتعرفة المعنى الواقع للقرآن لهم .

أقول : هنا سؤلان :

الأوّل : لماذا لم يستوعب القرآن الحكيم كلّ قصّة ، وحكم ، وما اشبه ، كاملاً حتّى يعرفها كلّ الناس ، ولا يحتاجون فيها إلى تفسير النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم والاوصياء عليهم السلام ؟ .

ص: 165


1- - سورة النحل : الآية 93 .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ب13 ص201 ح33593 .

...

------------------

الثاني : لماذا جاء في القرآن المتشابه ، ممّا يحوج المسلم إلى السؤل والاستفسار ، ويوجب التفرقة في الفهم .

والجواب عن الأوّل : انّه لو كان القرآن خاصّاً بالاحكام فقط ، دون الكونيات ، والعقائد ، والتاريخ ، وما اشبه ، وكان يريد الاستيعاب حتّى يفهمه كلّ انسان خبير باللسان ، لكان اللازم ان يكون مئات المجلدات ، لانّ المسائل الشرعيّة ، والاداب والاخلاق ، وما اشبه ، ربّما تبلغ اكثر من ذلك ، فانّا وان لم نذكر كلّ المسائل في « الفقه » بلغ اكثر من مائة مجلد (1) ، فكيف بمن هو عالم بكلّ الاحكام بادقّ معنى العلم ، قال سبحانه : « اللّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَل رِسَالَتهُ »(2) .

وجعل القرآن مئات المجلّدات ، ان لم يكن متعذّراً على الناس من حيث الاستيعاب كان من اشدّ انحاء العسر عليهم .

وعن الثاني : انّ كتاب التشريع يوازن كتاب التكوين ، وكما انّ من جمال الكون ان يكون فيه اشياء سهلة ، واشياء معقّدة ، كذلك من جمال التشريع ان يكون فيه محكماً ومتشابهاً ، مضافاً إلى ما فيه من تحريك الاذهان لاستكشاف الغوامض واستجلاء الكوامن .

ثمّ لا يخفى : انّه قد طرأ بالنسبة إلى القرآن الحكيم - كما في سائر كتب الحكماء والقرآن سيد الكتب - اجمال جديد وهو : تغيّر العصر عمّا كان عليه ، ممّا سبّب قلّة معرفة الانسان بخصوصيّات عصر الوحي ، فانّ كون الدنيا في تغيّر دائم ، والاجتماع في تحوّل مستمر ، اوجبا أشتباه غير المطّلعين الكُمّلينَ ، في بعض

ص: 166


1- - هذا ، وقد بلغ عدد مجلدات الموسوعة مائة وخمسين مجلدا .
2- - سورة الانعام : الآية 124 .

وإمّا الحملُ على ما يظهر له في بادي الرأي من المعاني العرفيّة واللغويّة ، من دون التأمّل في الأدلّة العقليّة ومن دون تتبّع في القرائن النقليّة ، مثل الآيات الاُخَر الدالّة على خلاف هذا المعنى

------------------

الآيات ممّا يحتاج إلى التدقيق والتحقيق كما اذا تغيّرت لغة العرب ، حيث لا يفهمون القرآن بسبب تغيير لغتهم لا بسبب القرآن نفسه ، وهذا بحث طويل ، أردنا الالماع اليه ، فقط ، واللّه العالم .

( وامّا الحمل ) على ظاهر اللفظ ، بالنظر البدوي مقابل الحمل على خلاف الظاهر ، فبالحمل ( على ما يظهر له ) أي للشخص ( في بادي الرأي ) والنظر السطحي بلا تعمّق ، وقد قال سبحانه : « أَفَلاَ يَتَدَبَّرُوْنَ القُرْآنَ »(1) .

والتدبّر عبارة عن التعمّق والتوغّل للوصول إلى « دبر الشيء » وخلفه ، حتّى يظهر للمتدبّر مختلف جوانب ذلك الشيء ، فيحمل على ما يبدوا له ( من المعاني العرفيّة واللغويّة ) وقد تقدّم سبب ذكرهما معاً وانّهما امران ، لا من باب عطف البيان ( من دون التأمّل في الادلة العقلية ) فانّهم - مثلاً - يقولون : اللّه جسم بدليل انّه على العرش استوى ، من دون تأمّل في استحالة الجسميّة على اللّه تعالى ( ومن دون تتبع في القرائن النقليّة ) الّتي توجب صرف الظاهر عن ظاهره ( مثل الآيات الأُخر ، الدالّة على خلاف هذا المعنى ) الّذي يظهر من الآية ، فيقول - مثلاً - انّ اللّه قابل للرؤة ، لقوله سبحانه : «وُجُوْهٌ يَوْمَئذٍ نَاضِرَة * إلى ربِّهَا نَاظِرَة »(2) ، بدون ملاحظة قوله سبحانه : « لا تُدرِكهُ الأبصار ، وَهوَ يُدرِكُ الأبصارَ »(3) .

ص: 167


1- - سورة النساء : الآية 82 .
2- - سورة القيامة : الآيات 22 - 23 .
3- - سورة الانعام : الآية 103 .

والأخبار الواردة في بيان المراد منها وتعيين ناسخها عن منسوخها .

------------------

وقوله سبحانه : « لنْ تراني » (1) .

و «لن» لنفي الأبد ، ولو كان قابلاً للرؤة لرآه موسى عليه السلام ، ولو في الاخرة مع انّ ظاهر « لن » : العدم إلى الابد .

( و ) مثل ( الاخبار الواردة في بيان المراد منها ) أي من الايات ، فقد ورد : انّ المراد بالصلاة الوسطى في قوله تعالى : - « حَافِظُوا عَلَى الصَّلوَاتِ والصَّلاةِ الوُسْطَى ... »(2) بأنّها صلاة الظهر - مثلاً - .

( و ) مثل الاخبار الواردة في ( تعيين ناسخها عن منسوخها ) والمراد بالمنسوخ ، احد احتمالين : ما كان ظاهرة الابديّة ثمّ نسخ ، او ما كان لظرف زماني خاصّ ، ثمّ بيّن ذلك .

والاوّل : هو ما عليه المشهور .

والثاني : هو الّذي اختاره بعض المحققين ، ولعلّه اقرب إلى الواقع ، فقد قالوا في قوله تعالى : « اذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ ، فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة »(3) : انّها منسوخة بقوله تعالى : « أأشْفَقْتُمْ أنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ، فَاذ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ ... »(4) .

لكن هل الاية الاولى يراد بها الاستمرار واقعاً : بأن تطابقت الارادة الجدّية مع الارادة الاستعمالية ثمّ نسخت ، أو يراد بها مقطعاً خاصّاً من الزمان ، بأن لم تتطابق الارادة الجدّية مع الارادة الاستعمالية ، ثمّ اظهر ذلك بالآية الثانية ؟ .

ص: 168


1- - سورة الاعراف : الآية 143 .
2- - سورة البقرة : الآية 238 .
3- - سورة المجادلة : الآية 12 .
4- - سورة المجادلة : الآية 13 .

وممّا يُقرّب هذا المعنى الثاني ، وإن كان الأوّل أقربَ عرفا ، أنّ المنهيّ ، في تلك الأخبار ، المخالفون الذين يستغنون بكتاب اللّه عن أهل البيت عليه السلام ، بل يخطّئونهم به .

ومن المعلوم ضرورةً من مذهبنا تقديمُ نصّ الامام عليه السلام ، على ظاهر القرآن ،

------------------

( وممّا يقرّب هذا المعنى الثاني ) للتفسير بالرأي وانّ النهي عن حمل اللفظ على المعنى الظاهر من دون فحص ( وان كان ) المعنى ( الأوّل ) للتفسير بالرأي ، وهو النهي عن حمل اللفظ على خلاف الظاهر ( اقرب عرفاً ) لما ذكرناه : من انّه هو الّذي يسمّى : بالتفسير بالرأي .

وعليه : فالمقرّب للمعنى الثاني هو : ( انّ المنهي في تلك الاخبار ) الناهية عن التفسير بالرأي ، هم ( المخالفون ) للأئمّة عليهم السلام ( الذين يستغنون بكتاب اللّه عن اهل البيت عليهم السلام ) ويقولون: حسبنا كتاب اللّه ( بل يخطئونهم ) عليهم السلام في تفسيرهم وبيان أحكام القرآن ( به ) أي بسبب كتاب اللّه حيث يأخذون بظاهر القرآن ويقولون : انّ الامام عليه السلام الّذي فسر القرآن بغير هذا الظاهر ، أخطأ في تفسيره .

فالمخالف - مثلاً - يقول : « الصلاة الوسطى : صلاة العصر ، لانّها وسط بين الصبح والظهر ، من جانب ، وبين المغرب والعشاء من جانب آخر » فاذا قال الامام عليه السلام : انّ المراد بها : صلاة الظهر ، قال : انّ الامام عليه السلام أخطأ .

هذا ( و ) لكن الواجب - نظراً إلى انّهم عليهم السلام أوصياء الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم وحملة علمه - ، ان يكون بالعكس - كما عليه المُآلِف - فاذا كان ظاهر القرآن شيئاً ، وقال الامام : المراد به غير ذلك يقدّم نصّ الامام على ظاهر القرآن ، فانّه ( من المعلوم ضرورة من مذهبنا : تقديم نصّ الامام عليه السلام على ظاهر القرآن ) فالخاصّ والمقيّد

ص: 169

كما أنّ المعلومَ ضرورةً من مذهبهم العكسُ .

------------------

الامامي ، مقدّم على العام والمطلق القرآني .

( كما انّ المعلوم ضرورة من مذهبهم ) أيّ المخالفين ( العكس ) فانّهم يقدّمون العامّ والمطلق القرآني ، على الخاص والمقيّد الامامي .

فاذا قال سبحانه : « وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقّهُ »(1) .

أو قال تعالى : « قُلْ : لاَ أسْألكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إِلاَّ المَوَدَّة فِي القُرْبَى »(2) .

قالوا : المراد : مودّة كلّ انسان قريبه ، وصلته له ، بينما الوارد في الروايات : انّ المراد : اعطاء اقرباء الرسول واهل بيته حقّهم ووجوب مودة المؤنين لهم ، اجراً لرسالته صلى اللّه عليه و آله وسلم ، إلى غير ذلك .

إن قلت : كيف نقدّم الخاصّ والمقيّد الامامي ، على العام والمطلق القرآني ، ونحن نرى : انّه ورد في كثير من الروايات ، تفسير جملة من الايات المطلقة بهم عليهم السلام ، او انّها في اعدائهم او ما اشبه ذلك ، بينما الظاهر منها خلاف ما ورد ؟ .

قلت : الظاهر انّ المراد بتلك الروايات احد احتمالات ثلاثة : - الأوّل : بيان « المصاديق » لا الانحصار الكلّي فيه .

الثاني : بيان المعنى المرادف للمعنى الظاهر ، لا اختصاص الاية بذلك المعنى .

الثالث : بيان البطون من معاني الايات .

فاذا ورد - مثلاً - في الخبر : انّ قوله سبحانه : - « الّذِيْنَ يُنْفِقُوْنَ أَمْوَالَهُمْ بِاللّيْلِ والنَّهَارِ ، سِرّاً وَعَلاَنِيَةً »(3) .

يراد به عليّ عليه السلام ، فالمراد من ذلك احد احتمالات ثلاثة :

ص: 170


1- - سورة الاسراء : الآية 26 .
2- - سورة الشورى : الآية 23 .
3- - سورة البقرة : الآية 274 .

ويُرشِدُكَ إلى هذا

------------------

أوّلاً : انّ عليّاً عليه السلام من أجلى مصاديق الآية ، وان كانت الآية شاملة لكلّ من كان كذلك ، ولهذا ورد في خبر آخر : انّ المراد بالاية هو : من ينفق على فرسه ، الّذي يجاهد عليه في سبيل اللّه .

ثانيا : انّ علياً عليه السلام معنى ، والكلّي معنى آخر ، والمعنى الاوّل مرادف للمعنى الثاني ومراد ايضاً ، كما ورد - مثلاً - في قوله تعالى : « الم * غُلِبَتِ الرُّوْمُ * فِي أَدْنَى الأَرْض ... »(1) .

انّه يراد به دولة القائم عليه السلام ، فالظاهر : انّ الرواية في صدد بيان مصداق آخر للآية ، وانّه هناك مصداقان : - مصداق في زمن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، ومصداق في زمن الامام المهدي عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف .

وارادة المصداقين تكون أما بارادة اللّه : لهما من لفظ واحد ، وامّا باراد اللّه : الملاك ، وهو آت في دولة الامام المهدي عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف .

ثالثاً : انّ عليّاً عليه السلام في الآية بطناً من البطون ، فقد ورد عنهم عليهم السلام : « يا جابِرُ إنّ لِلقُرآن بَطناً وللبطن بطن ، وَلَهُ ظَهرٌ وَلِلظَهرِ ظَهرٌ ... » (2) .

أقول : كما ثبت انّ لكلّ جسم ومادة ظهر وبطن ، ولظهرها ظهر ، ولبطنها بطن ، - فالتفّاح مثلاً له ظاهر ، ولظاهره ظاهر هو : قشره ، ولباطنه باطن هو : نواته - كذلك القرآن له ظاهر وباطن ، ولكلّ منهما ظاهر وباطن ، وتفصيل الكلام فيه ، ذلك في موضعه ، واللّه العالم .

( ويرشدك إلى هذا ) الّذي ذكرناه : من انّ المراد بتلك الأخبار الناهية من

ص: 171


1- - سورة الروم : الآيات 1 - 3 .
2- - تأويل الآيات : ص23 ، المحاسن : ص300 مع تفاوت ، بحار الانوار : ج92 ص91 ب8 ح37 .

ما تقدّم في ردّ الامام عليه السلام ، على أبي حنيفة حيث انّه يعملُ بكتاب اللّه ، ومن المعلوم أنّه إنّما كان يعمل بظواهره ، لا أنّه كان يأوّله بالرأي ، إذ لا عبرةَ بالرأي عندهم مع الكتاب والسنّة .

ويرشد إلى هذا قول أبي عبد اللّه عليه السلام ، في ذمّ المخالفين : « أنهم

------------------

التفسير : هم المخالفون ( ما تقدّم في ردّ الامام ) الصادق ( عليه السلام على ابي حنيفة ، حيث انّه ) اجاب : بانّه ( يعلم بكتاب اللّه ، ومن المعلوم انّه ) أي ابا حنيفة ( انّما كان يعمل بظواهره ) أي ظواهر القرآن من دون مراجعة اخبارهم عليهم السلام ( لا انّه ) أي ابا حنيفة ( كان يأوّله ) أي الكتاب (بالرأي ) وانّما كان لايعمل بالرأي ( اذ لا عبرة بالرأي عندهم ) أي عند المخالفين ( مع ) وجود ( الكتاب والسنّة ) .

فان مع وجود الكتاب ، يكون النهي موجّهاً إلى من يعمل بظواهر القرآن بدون مراجعة الروايات ، ولهذا وقع المخالفون في تحريم ما أحلّ اللّه ، وتحليل ما حرّم اللّه ، فمنهم من يقول : بصحة بيع الكالي بالكالي لاطلاق : « أحلَّ اللّهُ البيعَ ... »(1) .

او يقول : بصحة نكاح الشِغار ، لاطلاق : « وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ ... »(2) .

او يقول : باباحة الاستمناء ، لأنّه لا يوجد نهي عنه في القرآن .

او يقول : بأباحة اكل لحم الكلب ، او نكاح الغلام لعدم تعرّض القرآن لهما ، كما في شعر الزمخشري ، واشار اليه ابن الحجاج في قصيدته المعروفة ، وإلى غير ذلك .

( ويرشد إلى هذا ) الّذي ذكرناه : من انّ المخالفين يعملون بالظواهر من دون مراجعة كلامهم عليهم السلام ( قول ابي عبداللّه ) الصادق ( عليه السلام في ذمّ المخالفين : « أنّهُم

ص: 172


1- - سورة البقرة : الآية 275 .
2- - سورة النور : الآية 32 .

ضربوا القرآن بعضه ببعض ،

------------------

ضَرَبوا القُرآنَ بَعضَهُ بِبَعضٍ » )(1) أي فسّروا آية باية اخرى ، مع العلم انّ بينهما : عموماً مطلقاً ، او عموماً من وجه ، او احداهما في مقام والاخرى في مقام آخر .

انّ قلت : كيف لا يجوز ذلك ، وقد ورد : انّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً ؟ .

قلت : ان ضرب القرآن بعضه ببعض ، على قسمين : - القسم الأوّل : كون المفسّر - بالكسر - تفسيراً للمفسر - بالفتح - وهذا تامّ .

القسم الثاني : ان لا يكون كذلك ، وهذا غير تام ، والمخالفون حيث لا يرجعون في التفسير اليهم عليهم السلام يعملون بالقسمين ، ولذا يقعون في الخطأ ، بينهما المُآلِف ، انّما يضربه بعضاً ببعض على ضوء ما ذكروه عليهم السلام من التفسير .

هذا ، ولا بأس بذكر مثال على ذلك ، فالمخالف - مثلاً - ربط بين قوله تعالى : «مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالهَا »(2) .

وبين قوله تعالى : « وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئةِ ، فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلها ... »(3) .

فسرق شيئاً وتصدّق به ، بزعم : انّ السرقة سيّئة واحدة ، والصدقة عشر حسنات، فينقص منها سيئة واحدة ، وتبقى له تسع حسنات بينما لم يكن بين الجملتين من الاية المباركة ربط ، حتّى يضرب احدهما بالاخر ، بل كان الربط بين قوله تعالى : « انَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ المُتَّقِيْنَ »(4) وبين قوله تعالى : « مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثَالهَا » .

وعليه : فانّ اعطاء مال السرقة للفقير لم يكن حسنة اصلاً ، اذ القبول من المتّقي ، والسارق ليس متّقياً ولو انّ هذا المخالف راجعهم عليهم السلام في ذلك ،

ص: 173


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص201 ب13 ح33593 .
2- - سورة الانعام : الآية 160 .
3- - سورة الانعام : الآية 160 .
4- - سورة المائدة : الآية 27 .

واحتجّوا بالمنسوخ وهو يظنّون أنه الناسخ واحتجُّوا بالخاصّ وهم يظنّون أنّه العامّ ، واحتجّوا بأوّل الاية وتركوا السنّة في تأويلها

------------------

لأرشدوه إلى انّ تفيسره هذا او ضربه للقرآن بعضه ببعض انّما هو من القسم الممنوع لا من القسم الصحيح .

( « واحتجّوابالمنسوخ وهم يظنّون انّه الناسخ » ) مثلاً يظنّون في آية الحول وآية اربعة اشهر وعشراً ، انّ الثانية منسوخة بالاولى لا انّ الاولى منسوخة بالثانية («واحتجّوا بالخاصّ » ) بزعم انّ ملاكه آت في فرد آخر ايضاً ( « وهم يظنّون انّه العام » ) لانّ الملاك كان في نظرهم عام ، فتعدّوا من الخاصّ إلى سائر الافراد ، فاية الارث - مثلاً - خاصة بغير القاتل ، والكافر ، وما اشبه ، فمن زعم انّها عامّة ، فانّه يسريها إلى القاتل ، ونحوه ، وآية ارث الازواج - مثلاً - خاصّة بغير الارض للزوجة ، لكن من زعم انّها عامّة فانّه يقول بشمولها للزوجة ايضاً .

( « واحتجّوا بأوّل الاية ، وتركوا السنّة في تأويلها » ) والتأويل من الأوْل ، بمعنى : آخر الشيء مثل قوله سبحانه : « يَا أيُّها الَّذِيْنَ آمَنُوا ، أَطِيْعُوا اللّهَ وأطِيْعُوا الرَّسُولَ وأُولي الأَمْرِ مِنْكُمْ ، فإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيء ، فَرُدُّوهُ إلَى اللّهِ والرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤِنُونَ بِاللّهِ وا ليَوْم الآخِر ، ذَلِكَ خَيْرٌ وَأحْسَنُ تَأوِيْلاً »(1) .

أي انّ الرّد إلى اللّه والرسول ، مآله احسن من مآل ترونه انتم في رفع النزاع ، ودفع الخصومات ، وحلّ المشاكل ، لانّ اللّه والرسول يريان العواقب ، وانتم لا ترونها ، فتحكمون بما يكون عاقبته سيّئة ، وان كان في الحال لا يظهر لكم تلك العاقبة السيّئة .

مثلاً : قال سبحانه : « قُلْ لاَ أَجِدُ فِيْمَا أُوْحي إلَيّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعمُهُ إِلاَّ أنْ

ص: 174


1- - سورة النساء : الآية 59 .

ولم ينظروا إلى مايفتح به الكلام وإلى ما يختمه ولم يعرفوا موارده ومصادره

------------------

يَكُوْنَ مَيْتَة ، أوْ دَماً مَسْفُوْحاً ، أوْ لَحْم خِنْزِيْر ... »(1) فانّ رأس الآية لها دلالة : على حليّة ما لم يكن في القرآن من المحرّمات ، بينما اللازم بالعمل بالسنة الواردة في سائر المحرّمات ايضاً ، لأن السنّة وردت في تأويل الآية ونتيجتها .

( « ولم ينظروا إلى ما يفتح به الكلام وإلى ما يختمه » ) اذ قد يكون اول الكلام دليلاً على ما هو المراد من آخره ، وقد يكون آخر الكلام دليلاً على ما هو المراد من اوّله ، لانّ احد طرفي الكلام قرينة على الطرف الاخر .

فاذا قال - مثلا - : « أسد يرمي » فيرمي الّذي هو آخر الكلام دليل على ما هو المراد من الاسد الّذي هو اول الكلام .

واذا قال : « هُدىً للمُتّقِيْنَ »(2) ، كان « هدى » الّذي هو أوّل الكلام دليل على ما هو المراد من المتّقين الّذي هو اخر الكلام ، وهكذا .

( « ولم يعرفوا موارده ومصادره » ) اذ كلّ شيء يصدر من مكان ، ويرد في مكان فمصدر الفرات - مثلاً - العيون ، ومورده : البحر ، ومصدر الانسان : الرحم ، ومورده : القبر ، وهكذا ، وكما يخطيء من لا يعرف المورد والمصدر ، في التكوينيّات ، كذلك يخطي من لم يعرف المورد والمصدر في التشريعيّات ، فمن لم يعرف - مثلاً - المصدر لهذا المصداق بأن لم يعرف : انّ المعاطاة تؤذ من أيّ الكلّيّات ؟ هو تؤذ من قوله تعالى : « لاَ تَأكُلُوا أمْوَالكُمْ بِيْنَكُمْ بِالبَاطِل » ؟(3) .

أو من قوله تعالى: « إلاَّ أنْ تَكُوْنَ تِجَارَة عَنْ تَرَاض مِنْكُمْ » (4) ؟ .

ص: 175


1- - سورة الانعام : الآية 145 .
2- - سورة البقرة : الآية 2 .
3- - سورة النساء : الآية 29 .
4- - سورة النساء : الآية 29 .

إذ لم يأخذوه عن أهله فضلّوا وأضلّوا » .

وبالجملة : فالانصافُ : يقتضي عدمَ الحكم بظهور الأخبار المذكورة في النهي عن العمل بظاهر الكتاب بعد الفحص والتتبّع في سائر الأدلة ، خصوصا الآثار الواردة عن المعصومين عليهم السلام ،

------------------

فانّه لا يعرف حكمها ، اذ على الأوّل تكون باطلة ، وعلى الثاني تكون صحيحة .

ثمّ اذا صحّت المعاطاة ، فهل موردها كلّ المعاملات ، حتّى « النكاح » او خاصّة بغير النكاح ؟ إلى غير ذلك .

وانّما وقعوا في هذه الاخطاء ( « اذ لم يأخذوه » ) أي لم يأخذوا علم الكتاب ( « عن اهله » ) وهم الائمّة عليهم السلام ( « فضلّوا » ) بانفسهم ( « واضلّوا » )(1) الناس .

( وبالجملة : فالانصاف يقتضي : عدم الحكم بظهور الاخبار المذكورة ) الّتي استدل بها الاخباريون ، لعدم جواز الاستدلال بظواهر القرآن ( في النهي عن العمل بظاهر الكتاب ) كما تقدّم جملة منها ( بعد الفحص والتّتبع في سائر الادلّة ) : كاخبارهم عليهم السلام والادلّة العقلية القطعية ، والاجماع الّذي يكون حجّة ، وقد تقدّم انّ العمل بالظاهر بعد الفحص ، لا يُسمّى تفسيراً ، واذا سلّمنا كونه تفسيراً فليس تفسيراً بالرأي .

( خصوصاً ) اذا تتبّعنا في ( الآثار الواردة عن المعصومين عليهم السلام ) ووجه الخصوصيّة : انّ العقل الّذي يصرف الكتاب عن ظاهره ، قليل المورد ، كمورد اصول الدين ، من قبيل ذات اللّه وصفاته ، حيث انّ العقل يدلّ على : انّه ليس بجسم ، ولا قابل للرؤة ، وانّه عادل ولا يجبر احداً ، إلى غير ذلك .

ص: 176


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص201 ب13 ح33593 .

كيف ، ولو دلّت على المنع من العمل على هذا الوجه دلّت على عدم جواز العمل بأحاديث أهل البيت عليهم السلام .

ففي رواية سُليم بن قيس الهلاليّ عن أمير المؤمنين عليه السلام : « إنّ أمرَ النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم مِثلُ القُرآن ، منه ناسخٌ ومنسوخ ، وخاصٌ وعامٌ ومُحكمٌ

------------------

اما الآثار الواردة عنهم عليهم السلام فهي في اكثر آيات القرآن : كالاحكام ، ونحوها ، فاذا فحصنا في الآثار ، واخذنا بها ، وحملنا آيات القرآن عليها لم يكن مانع من الأخذ بالظواهر بعد ذلك .

هذا هو جوابنا الأوّل وكان جواباً حليّاً - عن استدلال الاخباري بالاخبار الناهية عن العمل بظواهر القرآن ( كيف و ) لنا جواب عنهم - وهو جواب نقضي - : بأنّه ( لو دلّت ) الاخبار المتقدّمة ( على المنع من العمل ) بظاهر القرآن ( على هذا الوجه ) أي حتّى بعد الفحص وقلنا : بأنّ قوله تعالى : - « أَحَلَّ اللّهُ البَيْعَ »(1) .

ممّا لا يجوز الاخذ بظاهره في جواز كلّ بيع جامع للشرائط ، حتّى بعد الاخبار المخصصة للبيع ، واخراج الكالي بالكالي ونحوه ل(دلّت) تلك الاخبار - بالملاك - واخبار اخرى بالتصريح ( على عدم جواز العمل باحاديث اهل البيت عليهم السلام ) اذ ملاك اخبار القرآن ، آت في رواياتهم عليهم الصلاة والسلام ، وكذلك ما دلّ من الروايات على انّ حالها حال القرآن ، في وجود : الناسخ والمنسوخ ، وما اشبه ، فالمانع في القرآن مانع في الروايات ايضاً .

( « ففي رواية سليم بن قيس الهلالي ، عن امير المؤنين عليه السلام : إنّ أمرَ النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، مِثلُ القُرآنِ ، مِنهُ ناسِخٌ وَمَنسوخٌ ، وَخاصٌ وَعامٌ ، وَمُحكَمٌ

ص: 177


1- - سورة البقرة : الآية 275 .

ومُتشابهٌ ، وقد كان يكون من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم الكلامُ ، يكون له وجهان ، كلام عامّ وكلام خاصّ ، مثلُ القرآن » .

وفي رواية أسلم بن مسلم : « إنّ الحديث يُنسَخُ كما يُنسَخُ القُرآن » .

هذا كلّه مع معارضة الأخبار المذكورة بأكثر منها ، ممّا يدلّ على جواز التمسّك بظاهر القرآن :

------------------

وَمُتَشابَهٌ ، وَقَد كان يَكون مِن رَسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم الكَلامُ ، يَكونُ لَهُ وَجهان ، كَلامٌ عام ، وَكَلامٌ خاصٌّ ، مِثلُ القُرآن » )(1) .

بل ذلك شأن رواياتهم عليهم السلام ايضاً ، فانّ البليغ يتكلّم على هذا الاشكال ، فكيف بهم عليهم السلام وهم في اعلى قمّة البلاغة .

( « وفي رواية اسلم بن مسلم » ) قال عليه السلام ( « إنّ الحَديثَ يُنسَخُ كَما يُنسَخُ القُرآن » )(2) ، فانّه كما لبعض آيات القرآن أمد ، كذلك لبعض الروايات أمد ايضاً ، ففي رواية : ينهى الامام عليه السلام - مثلاً - : عن التكلّم حول بني اميّة ، لكن ذلك محدود بأمد بقائهم ، فاذا زال ملكهم جاز التكلّم حولهم ، وهكذا .

وهذا : قسم من النسخ فان تبدّل الشيء بانتهاء أمده يسمّى نسخاً ، ولذا قالت العرب نسخ الشمس الظلّ ، إلى غير ذلك .

( هذا كلّه ) في الجواب النقضي ، وهناك جواب ثالث عن استدلال الاخباري أشار اليه المصنّف قدس سره بقوله : ( مع معارضة الاخبار المذكورة ) الّتي تمسّك بها الأخباري ، للمنع عن تفسير القرآن ( باكثر منها ، ممّا يدلّ على : جواز التمسّك بظاهر القرآن ) فاللازم : انّ يراد بالاخبار المعارضة ، الّتي ذكرها الاخباري :

ص: 178


1- - الكافي أصول : ج1 ص63 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص207 ب4 ح33614 .
2- - الكافي اصول : ج1 ص64 ح2 ، وسائل الشيعة : ج27 ص108 ب9 ح33337 و ص208 ب14 ح33615 .

مثل خبر الثقلين المشهور بين الفريقين ، وغيرها ، ممّا يدل على_'feالأمر بالتمسّك بالقرآن والعمل بما فيه ، وعرض الأخبار المتعارضة بل ومطلق الاخبار عليه ، وردّ الشروط المخالفة للكتاب في أبواب

------------------

غير الّذي فسّرها به الاخباري ، والاّ لوقع التضادّ بين الطائفتين ( مثل : خبر الثقلين المشهور بين الفريقين ) حيث قال صلى اللّه عليه و آله وسلم : « انّي مُخلّفٌ فِيكُم الثّقَلَين : كِتابَ اللّه وَعِترَتي أهلَ بَيتي ، ما إن تَمَسّكتُم بِهِما لَن تَضِلّوا بَعدي أبداً »(1) .

فانّه لو لم يكن للقرآن ظاهر يؤذ به ، لم يكن معنى للتمسك به .

( وغيرها ) أي غير خبر الثقلين ( ممّا يدلّ على الامر بالتمسك بالقرآن ، والعمل بما فيه ) وهي كثيرة ذكرت في : الوسائل ، والمستدرك ، والبحار ، وغيرها .

( و ) ما يدّل على ( عرض الاخبار المتعارضة ، بل ومطلق الاخبار ) وان لم تكن متعارضة ( عليه ) أي على القرآن .

امّا عرض الاخبار المتعارضة ، فانّه ليظهر ما يلزم الاخذ به منها ، وامّا عرض الاخبار مطلقاً ، فانّه ليظهر الصحيح من السقيم منها ، فان قُصَّاصَ المخالفين اكثروا من الروايات المختلقة والاخبار الكاذبة ، المخالفة صريحاً للقرآن ، ولهذا فانّ المخالفين انفسهم طرحوا اكثر اخبارهم ، حتّى انّ البخاري اختار صحيحه - حسب اصطلاحه - من بين ستمائة الف حديث ، وانّ ابا حنيفة كان يقول : لم يصحّ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم الاّ سبعة احاديث - على ما ببالي - .

( و ) كذا ما دلّ على ( ردّ ) وابطال ( الشروط المخالفة للكتاب في ابواب

ص: 179


1- - معاني الاخبار : ص93 ، كمال الدين : ص247 ، المسائل الجارودية : ص42 ، بحار الانوار : ج5 ص68 ح1 ب2 ، و ج13 ص147 ب7 ح101 ، ارشاد القلوب : ص340 .

العقود والأخبار الدالّة قولاً وفعلاً وتقريرا على جواز التمسّك بالكتاب .

مثل قوله عليه السلام ، لمّا قال زرارةُ : « من أين عَلِمتَ أنّ المَسحَ بِبَعضِ الرّأس ؟ فقال عليه السلام : لِمَكانِ الباء » ، فعرّفه عليه السلام مورد استفادة الحكم من ظاهر الكتاب .

وقول الصادق عليه السلام ، في مقام نهي الدوانقيّ عن

------------------

العقود و) من المعلوم : انّه اذا لم يكن للقرآن ظاهر فكيف يمكن كلّ ذلك .

هذا بالاضافة إلى ( الاخبار الدالّة : قولاً وفعلاً وتقريراً ) من المعصوم عليه السلام ( على جواز التمسّك بالكتاب ) والاستدلال به ، واستخراج الاحكام منه .

( مثل : « قوله عليه السلام ، لما قال » ) له ( « زرارة : من اين علمت انّ المسح ببعض الرأس » ) حيث اراد زرارة ان يستظهر الأمر من القرآن ، او من قول الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ليتمكن من ردّ المخالفين القائلين : بأنّ المسح على كلّ الرأس ( « فقال عليه السلام : لِمَكانِ الباء » )(1) في قوله تعالى : - « وَامْسَحُوا بِرُؤسِكُمْ ... »(2) .

فاذا قال احد : مسحت الحائط ، كان ظاهره : انّه مسح كلّ الحائط ، واذا قال : مسحت بالحائط : كان ظاهره : انّه مسح ببعض الحائط ، وهنا بحث طويل خارج عن مقصد الشرح ، ولذا نتركه لمحلّه ( فعرّفه ) الامام ( عليه السلام مورد استفادة الحكم من ظاهر الكتاب ) حتّى يتمكن من الاستدلال والردّ على المخالفين .

لا يقال : لعلّ البحث كان جدلياً فانّ المخالفين لا ينكرون ظهور القرآن ، بل يقولون به ؛ لأنّه يقال : الاصل عدم جدليّة البحث - كما هو بناء العقلاء - .

( و ) مثل : ( قول الامام الصادق عليه السلام في مقام نهي ) المنصور (الدوانيقي ) حين سعى الوشاة عنده على الامام عليه السلام وأراد المنصور ايذائه ، فنهاه عليه السلام ( عن

ص: 180


1- - من لايحضره الفقيه : ج1 ص103 ح212 ، وسائل الشيعة : ج1 ص413 ب23 ح1073 .
2- - سورة المائدة : الآية 6 .

قبول خبر النمّام : « إنّه فاسق ، وقال اللّه : إن جاءكُم فاسِقٌ بنبأ فتبيّنوا ، الآية » .

وقوله عليه السلام لابنه إسماعيل : « إنّ اللّه عَزَّ وجلَّ يقول : يُؤمنُ باللّه ويُؤمِنُ للمُؤمنينَ فاذا شَهِدَ عِندَكَ المُؤمِنونَ ، فصَدِّقهُمْ » .

------------------

قبول خبر النمّام ) بسبب ( : انّه ) أي النمّام ( فاسق ) لانّ النميمة حرام ( و ) قد ( قال اللّه تعالى : « إن جائَكُم فاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيّنوا » ... الاية »(1) )(2) فيستفاد من استدلاله عليه السلام : انّ ظاهر الاية حجّة فلو لم تكن الاية حجّة بظاهرها ، لكان للدوانيقي انّ يقول : انّك تستدلّ بشيء لا افهمه ، كما اذا استدلّ الانسان بالرمز ، او بفواتح السور ، او بما اشبه ذلك .

( وقوله ) أي الامام الصادق ( عليه السلام لابنه اسماعيل ) لما اعطى ماله لشارب الخمر للمضاربة فنهاه الامام عن ذلك ، فلم ينفعه ، فأكل ذلك الخمّار ماله وشرب عليه .

ولا يخفى : انّ امر الامام عليه السلام هذا كان للارشاد لا مولويّاً ، حتّى يقال : اسماعيل شخص جليل القدر ، فكيف خالف الامام ؟ .

( « انّ اللّه عزّ وجلّ يقول : » ) في مدح النّبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والنّبي اسوة يلزم الاقتداء به ، لمن اراد خير الدنيا والاخرة ( « يُؤِنُ بِاللّهِ » ) اعتقاداً ( « وَيُؤِنُ لِلمُؤِنِيْنَ » ) نفعاً لهم ويصدقهم لمصلحتهم : ( « فاذا شهد عندك المؤنون » ) بأن فلاناً شارب الخمر ( « فصدقهم » )(3) في قولهم ولا تعتمد عليه وتسلّم اليه اموالك .

ص: 181


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .
2- - الامالي للصدوق : ص611 ، بحار الانوار : ج47 ص168 .
3- - الكافي فروع : ج5 ص299 ح1 ، وسائل الشيعة : ج19 ص83 ب6 ح24207 .

وقوله عليه السلام ، لمن أطال الجلوسَ في بيت الخلاء لاستماع الغناء اعتذارا بأنّه لم يكن شيئا أتاه برجله : « أما سَمِعتَ قَولَ اللّه ِ عَزَّ وَجلَّ : «إنّ السَمعَ والبَصَر والفُؤادَ كُلُّ

------------------

ولا يخفى : انّ تصديق المؤنين في امثال ذلك على وجهين :

الأوّل : ترتيب الاثر الشرعي عليه ، باجراء الحد على من اشتهر بانّه : يشرب الخمر ، او يزني ، او ما اشبه ذلك ، وهذا له موازينه الفقهية .

الثاني : ترتيب الاثر العرفي عليه ، بعدم الاطمئنان اليه ، فاذا شهد المؤنون على انّه : يشرب الخمر ، أو يأكل اموال الناس ، او نحو ذلك فلا يزوجه ابنته ، لان تزويجها من شارب الخمر، مكروه كراهة شديدة، ولا يودعه امواله، لأنّه معرض لاتلافها ، وهكذا .

والمراد من الاية هنا هو : الثاني والامام عليه السلام قد استدل لابنه اسماعيل بظاهر الاية ، ممّا يدلّ على حجيّة الظاهر .

( وقوله عليه السلام ، لمن اطال الجلوس في بيت الخلاء ، لاستماع الغناء ) حيث كان له جار يلهو بالغناء وكان ملاصقاً لبيت الخلاء ، فاذا ذهب للتخلّي أطال الجلوس هناك حتّى يستمع ( اعتذاراً ) منه ( بانّه ) في استماعه هذا( لم يكن شيئاً اتاه برجله ) فانّه لم يذهب إلى محل الغناء حتّى يكون مرتكباً للاثم ، بل ذهب للتخلي ، والذهاب إلى التخلي جائز شرعاً .

لكن كلامه هذا واستدلاله كان غير صحيح ، اذ الامام عليه السلام استشكل على استماعه ، لا على ذهابه إلى محل الغناء ، كمن يقف في سطح داره للاستهلال ، ثمّ ينظر إلى نساء الجيران ، فانّ نظره حرام ، لا ذهابه إلى السطح للاستهلال .

ولهذا قال له ( اما سمعت قول اللّه عزَّ وجلّ : « إِنَّ السَّمْعَ وَالبصَرَ والفُؤدَ ، كلُّ

ص: 182

اُولئكَ كان عَنهُ مَسئولاً» » .

وقوله عليه السلام في تحليل العبد للمطلّقة ثلاثا « انّه زوجٌ قال اللّه عزّ وجلّ : «حَتّى تَنكِحَ زَوجا غَيرَهُ » ، وفي عدم تحليلها بالعقد المنقطع انه تعالى قال : « فان طَلّقها فلا جناح عليهما » .

------------------

أولئكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤاً »(1) ) (2) في يوم القيامة اذا ارتكب احدها حراماً ، والفؤد ايضاً له محرّمات : كالرضا بقتل الأنبياء ، والأئمّة ، والكفر ، وما أشبه ذلك و يستفاد من استدلال الامام عليه السلام : انّ ظاهر الآية كان حجّة .

( وقوله عليه السلام في ) جواب من سأله ( تحليل العبد للمطلّقة ثلاثاً ) وانّه هل يكون محلّلاً حتّى تحلّ للزوج الأوّل ؟ فقال عليه السلام : ( انّه ) أي العبد ( زوج ) عرفا - والموضوع يؤذ من العرف - و ( قال اللّه عزّ وجلّ ) في سبب التحليل ( : « حَتّى تَنكِحَ» ) أي المطلقة ( «زَوجاً غَيرَهُ»(3) » )(4) أي غير الزوج الأوّل الّذي طلّقها ثلاثاً ، وعليه فالعبد يكون محلّلاً لظاهر القرآن .

( و ) قوله عليه السلام ( في عدم تحليلها ) أي المطلقة ثلاثاً ( بالعقد المنقطع ) غير الدائم ، حين سئل عن ذلك ، فقال : - ( « انّه تعالى قال : « فان طَلّقَها » ) أي المحلّل ( « فَلا جُناحَ عَلَيهِما » ) أي المطلق والمطلقة « أنّ يَتَراجَعا »(5) - كما في الآية - فان الإمام استدلّ بظاهر الآية على عدم كفاية العقد المنقطع للتحليل، لأنّه لا طلاق فيه .

لكن يبقى الكلام : في انّه لو مات الزوج الثاني ، أو ارتدّ ، او فسخ ، او فسخت

ص: 183


1- - سورة الاسراء : الآية 36 .
2- - الكافي فروع : ج6 ص432 ح10 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص116 ب5 ح36 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص80 ح177 .
3- - سورة البقرة : الآية 230 .
4- - وسائل الشيعة : ج20 ص447 ب16 ح26058 .
5- - سورة البقرة : الآية 230 .

وتقريره عليه السلام ، التمسّكَ بقوله تعالى : « والمُحصَناتُ من الَّذينَ اُوتوا الكتابَ » وأنّه نُسِخَ بقوله تعالى « ولا تُنكِحُوا المُشرِكاتِ » .

------------------

المرأة ماذا يكون الحكم ؟ إلى غير ذلك ممّا يكون محلّه في الفقه .

( و ) مثل : ( تقريره عليه السلام ) استفادة الحسن بن الجهم من ظاهر الاية :

« وَلاَ تُنكِحُوا المُشْرِكَات »(1) ، حيث استدل بها على عدم جواز نكاح الكتابيّة وبأنّها نسخت قوله سبحانه : « وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِيْنَ أُوْتُوا الكِتَاب ... »(2) »(3) .

المجوّزة لنكاح الكتابيّة ، فلم يردّ الامام الرضا عليه السلام هذا الاستدلال منه ، ولو لم يكن للقرآن ظهور لردّه الامام ، الا ترى انّه لو استدلّ باية « المص »(4) على عدم جواز نكاح الكتابية لردّه الامام عليه السلام .

وهنا كذلك ، فلو لم يكن ظهور لردعه عن ( التمسّك بقوله تعالى : «وَالمُحْصَنَات مِنَ الَّذِيْنَ أُوتُوا الكِتَاب ... » )(5) الدالّ على جواز نكاح الكتابية ( وانّه نسخ بقوله تعالى : « وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَات ... » )(6) الدالّ على عدم الجواز ، بناءاً على انّ المشرك ، يشمل الكتابي ايضاً ، لأنّه اشرك باللّه بجعل المسيح الهاً ، او بجعل عزيز ابناً للّه ، كما قال اللّه تعالى عنهم : - « وَقَالَتِ اليَهُودُ : عُزَيْرٌ ابْن اللّهِ ، وَقَالَت النَّصَارَى : المَسِيْح ابْن اللّهِ ذلِكَ قَوْلهُمْ بِأفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْل الَّذِيْنَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ، قَاتَلَهُم اللّهُ أنّى يُؤَكُوْنَ »(7) . لكن لا يخفى : انّ الشرك منصرف عن الكتابي .

كما انّ لنا كلاماً في : النسخ في القرآن ، بالمعنى المشهور ، بل انّا نقول : بقول الشيخ جواد البلاغي رحمه اللّه ومن تبعه في مسألة النسخ .

ص: 184


1- - سورة البقرة : الآية 221 .
2- - سورة المائدة : الآية 5 .
3- - وسائل الشيعة : ج20 ص534 ب1 ح26274 .
4- - سورة الاعراف : الآية 1 .
5- - سورة المائدة : الآية 5 .
6- - سورة البقرة : الآية 221 .
7- - سورة التوبة : الآية 30 .

وقوله عليه السلام : في رواية عبد الأعلى ، في حكم من عثر ، فوقع ظُفرهُ ، فَجَعَل على إصبَعِه مَرارةً : « إنّ هذا وشبهَه يُعرَفُ مِنْ كِتابِ اللّه : «ما جَعَلَ عليكُم في الدّينِ من حَرَج » ، ثمّ قال : اِمسح عليه » فأحال عليه السلام ، معرفةَ حكم المسح على إصبعه المُغطّى بالمرارة إلى الكتاب ، موميا

------------------

كما انّا ذكرنا في «الفقه» (1): جواز نكاح الكتابيّة دواماً ومتعة - وقد قال بذلك جمع - .

ثمّ انّ المحصنات لها اطلاقان :

الأوّل : الّتي تحصن فرجها عن الحرام ، فلا تزني .

الثاني : الّتي لها زوج ، والمراد في الاية هو : المعنى الاوّل .

( وقوله عليه السلام في رواية عبد الاعلى ) آل سام ( في حكم من عثر ) وسقط على الارض بسبب حجر أو نحوه ( فوقع ظفره ، فجعل على اصبعه مرارة ) الحيوان لمعالجتها فسأل الإمام عليه السلام عن انّه كيف يمسح رجله ، والحال انّ على اصبعه مرارة ؟.

فقال عليه السلام في جواب هذا السائل : - ( انّ هذا وشبهه ) والمراد بشبهة : كلّ فعل فيه حرج ، وقد ذكرنا - فيما سبق - : الفرق بين الحرج والعسر ، والضرر ، اذا قوبل أحدها بالآخر ، امّا اذا ذكر كلّ واحد على حدة ، فربّما يشمل الاخرين أيضاً ( يعرف من كتاب اللّه ) حيث قال سبحانه : ( « ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّيْنِ مِنْ حَرَج »ثمّ قال ) عليه السلام : ( امسح عليه )(2) أي على نفس الشيء الّذي هو على الاظفر ( فأحال عليه السلام معرفة حكم المسح على اصبعه المغطّى بالمرارة، إلى الكتاب) العزيز (مومياً) أي مشيراً

ص: 185


1- - للتفصيل راجع موسوعة الفقه ، كتاب النكاح : ج62 - 68 للشارح .
2- - الكافي فروع : ج3 ص33 ح4 ، الاستبصار : ح1 ص77 ب46 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص363 ب16 ح27 ، وسائل الشيعة : ج1 ص464 ب29 ح1231 ، بحار الانوار : ج2 ص277 ب33 ح32 .

إلى أن هذا لايحتاجُ الى السؤال ، لوجوده في ظاهر القرآن .

ولا يخفى أنّ استفادةَ الحكم المذكور من ظاهر الآية الشريفة ممّا لايظهرُ إلاّ للمتأمّل المدقّق نظرا إلى أنّ الآية الشريفة إنّما تدلّ على نفي وجوب الحرج ، أعني المسح على نفس الاصبع ، فيدور الأمرُ في بادي النظر بين سقوط المسح رأسا وبين بقائه مع سقوط قيد مباشرة الماسح للممسوح،

------------------

( إلى انّ هذا لا يحتاج إلى السؤل لوجوده في ظاهر القرآن ) فحيث انّ المسح على الجرح ، حرج ، يرفعه الشارع بحكم الاية المباركة .

لكن هل يسقط المسح رأساً حتّى على المرارة ، أو لا يسقط ، وانّما يمسح على المرارة ؟ فانّ هذا يجب ان يعرف إمّا من دليل الميسور ، وإمّا من الدليل الذّي ذكره المصنِّف قدس سره من : انّ هذا الأمر لا يحتاج إلى السؤل ، لوجوده في ظاهر القرآن ، فانّه ليس من البواطن التي لا يعرفها ، إلاّ من خوطب به ، اذ المسح على الجُرح ، لمّا كان حرجياً ، نَفَتْهُ الاية على نحو الكبرى الكلّيّة، فانّ مورد السؤل من مصاديق ذلك .

( ولا يخفى انّ استفادة الحكم المذكور ) أي لزوم المسح فوق المرارة ( من ظاهر الاية الشريفة ، ممّا لا يظهر إلاّ للمتأمّل المدقق ) وذلك ( نظراً إلى انّ الاية الشريفة انّما تدل على نفي وجوب الحرج أعني المسح على نفس الأصبع ) فانّ المسألة ذات شقين : الشق الأوّل : سلبي ، وهو عدم وجوب المسح على نفس البشرة والشق الثاني : ايجابي ، وهو وجوب المسح على ما على البشرة من المرارة.

( فيدور الأمر في بادى ء النظر بين سقوط المسح رأساً ) لانّه حرجي ( وبين بقائه ) أي المسح ( مع ) عدم ( سقوط قيد مباشرة الماسح للممسوح ) فيتعيّن الثاني دون الأوّل لكن حيث انّ الاية أعمّ منهما، فانّه يحتاج إلى التأمل باحد امرين:

ص: 186

فهو بظاهره لا يدلّ على ما حكم به الامام عليه السلام ، لكن يُعلمُ عند التأمّل أنّ الموجب للحرج هو اعتبار المباشرة في المسح ، فهو ساقط دون أصل المسح ، فيصير نفيُ الحرج دليلاً على سقوط اعتبار المباشرة في المسح ، فيمسح على الاصبع المغطّى .

فاذا أحال الامامُ عليه السلام ، استفادةَ مثل هذا الحكم إلى الكتاب ، فكيف يحتاجُ نفيُ وجوب الغسل او الوضوء ، عند الحرج الشديد المستفاد

------------------

إمّا ان يكون المسح على المرارة ، مستفاداً من دليل الميسور.

وإمّا من ظاهر الاية .

لكن المصنِّف رجّح الثاني بقوله :

(فهو) أي الكتاب العزيز (بظاهره لا يدل على) تعيين (ما حكم به الامام عليه السلام) من المسح فوق المرارة ( لكن يعلم ) ذلك ( عند التأمّل ) ل( انّ الموجب للحرج هو اعتبار المباشرة في المسح فهو ) أي الأعتبار ( ساقط دون أصل المسح ، فيصير نفي الحرج ) بسبب التأمّل المذكور ( دليلاً على سقوط اعتبار المباشرة في المسح) لا دليلاً على سقوط المسح ، اذ الحرج من المباشرة لا في أصل المسح ، فالمباشرة ساقطة ، لا اصل المسح ساقط ( فيمسح على الأصبع المغطّى ) .

لكن في هذه الاستفادة الّتي ذكرها المصنِّف خفاء ، بل لعلّ العرف يستفيدون ما ذكرناه من ضميمة دليل الميسور المرتكز في الأذهان ، وهذا القدر كاف في الاحالة إلى القرآن الحكيم ، ولا حاجة إلى الأولويّة الّتي ذكرها المصنِّف .

وعلى أي حال : ( فاذا أحال الامام عليه السلام استفادة مثل هذا الحكم ) المحتاج إلى الدقّة والتأمّل ( إلى الكتاب ) الحكيم ( فكيف يحتاج نفي وجوب الغسل أو الوضوء عند الحرج الشديد المستفاد ) عدم وجوبهما ، امّا بعدم الجواز اذا كان الحرج يرفع

ص: 187

من ظاهر الآية المذكورة ، او غير ذلك من الأحكام التي يعرفها كلّ عارف باللسان من ظاهر القرآن ، إلى ورود التفسير بذلك من أهل البيت عليهم السلام .

------------------

الاصل ، أو عدم وجوبهما اذا كان الحرج يرفع الوجوب ، لانّ الحرج اذا كان شديداً كان عزيمة ، والاّ كان رخصه ، وكذلك الضرر ، كان الانسان اذا صام - مثلاً - أورث عماه ، فانّه يحرم صومه ، أمّا اذا صام اورث مرضه اسبوعاً - مثلاً - فانّه يجوز له الصوم ، ويجوز له الترك ، كما اشار اليه صاحب العروة ، وشرحناه هناك مفصّلاً : ( من ظاهر الآية المذكورة ) بقوله سبحانه وتعالى : - « ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّيْنِ مِنْ حَرَج »(1) .

(أو غير ذلك من الاحكام التي يعرفها ) ويستفيدها ( كلّ عارف باللسان من ظاهر القرآن) فكيف يحتاج ذلك (إلى ورود التفسير بذلك من اهل البيت عليهم السلام) .

وممّا يدلّ على ضعف أولويّة المصنِّف ، انّه لو تمّ ما ذكره في مسألة المرارة لزم ان يقال : بانّه اذا كان كلّ اعضاء الوضوء أو الغسل ، غير ميسور غسلها ومسحها ، لزم التنزل إلى لزوم الجبيرة على الكلّ ، وذلك ما لا يقول به احد ، بل لا يقولون بذلك اذا كان عضو كامل في الغسل ، لاحد الاطراف الثلاثة مغطّى كلاً ، أو كان عضو في الوضوء ، من الوجه او اليد ، أو اليدين مغطّى ، بانّه يلزم الوضوء ، أو الغسل ، ماسحاً على المقدار المغطّى كلاً أو بعضاً ، على ما ذكرناه .

أمّا اذا قلنا بما ذكرناه : من انّ المسح في الرواية ، يستفاد من دليل الميسور ، لم يكن محذور ، حيث انّ المسح على عضو كامل من أعضاء الغسل ، أو على كلّ الأعضاء ، وكذلك بالنسبة إلى الوضوء ، ليس ميسوراً عرفاً عن الغسل .

ص: 188


1- - سورة الحج : الآية 78 . انظر موسوعة الفقه ج34 - 37 ، كتاب الصوم للشارح .

ومن ذلك ماورد من : « أنّ المصلّيَ أربعا في السفر إن قُرئت عليه آيةُ القصر وجب عليه الاعادةُ ، وإلاّ فلا » ، وفي بعض الروايات « إن قرئت عليه وفُسرت له » .

والظاهرُ ولو بحكم أصالة الاطلاق في باقي الروايات

------------------

( ومن ذلك ) أي من الاخبار الدالّة على حجّيّة ظاهر الكتاب ، ممّا ورد في لسانهم عليهم السلام ، ويستفاد منه عدم الخصوصية في مورده ، بل هو يشمل كلّ الكتاب العزيز باستثناء المتشابهات ( ما ورد من « إنّ المُصَلّي أربَعاً في السَفَر ، إن قُرأت عَلَيه آيَةُ القَصر ، وَجَب عَلَيه الأعادَة وإلاّ فَلا » )(1) فيدل هذا الخبر على أمرين :

الأوّل : انّ حكم القصر ، معلق على العلم لا انّه شامل للعالم والجاهل ، كأكثر الاحكام ، الثاني : انّ ظاهر القرآن حجّة .

وهكذا ما ورد من إحالة أمير المؤنين عليه السلام ، شارب الخمر على قرائة القرآن عليه وعدمه ، فان قريء عليه حُدَّ ، أي حدّ الشارب ، والاّ لم يُحدّ ، وذلك ، فيما كان عمر يريد حدّه - كما في الروايات والتواريخ ، ( وفي بعض الروايات : « ان قرأت عليه وفسّرت له »(2) ، و ) هنا توهّم ندفعه بقولنا : لا يقال : انّ ظاهر فسرت له في الخبر الثاني ، هو ما ذكره الأخباري : من انّ اللازم في القرآن الكريم ، تفسير الائمّة عليهم السلام ، فهذا الخبر دليل على قول الاخباري ، لا على قول الاصوليين ، الذين يقولون بحجيّة ظواهر القرآن بنفسها ، وبدون تفسير .

لانّه يقال : ( الظاهر ) ظهوراً ( ولو بحكم اصالة الاطلاق في باقي الروايات ) التي أحالت الاحكام على القرآن ، بدون أن يذكر في تلك الروايات ، انّ اللازم هو

ص: 189


1- - الكافي فروع : ج3 ص347 ح1 ، الاستبصار : ج1 ص353 ب206 ح1 ، تهذيب الاحكام : ج2 ص145 ب23 ح27 و ج3 ص226 ب13 ح80 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص435 ح1265 .
2- - وسائل الشيعة : ج8 ص506 ب17 ح11300 .

أنّ المراد من تفسيرها له بيانُ أنّ المراد بقوله تعالى : « فليس عليكم جُناحَ ان تَقصُروا » ، بيانُ الترخيص في أصل تشريع القصر وكونه مبنيّا على التخفيف ، فلا ينافي تعيّن القصر على المسافر وعدم صحّة الاتمام منه ، ومثل هذه المخالفة للظاهر يحتاجُ إلى التفسير بلا شبهة ، وقد ذكر زرارة ومحمّد بن مسلم ، للامام عليه السلام : « إنّ اللّه تعالى قال : « لاجناح » ،

------------------

العمل بظاهر الاية ، بعد التفسير ، فلا يكون هذا الخبر المشتمل على « فسرت له » مقيِّداً لتلك الاخبار المطلقة ، بل ( انّ المراد من تفسيرها له ) في هذا الخبر : ( بيان أنّ المراد بقوله تعالى : «فَلَيسَ عَلَيكُم جُنَاَحٌ أنْ تقْصُرُوا »(1) بيان الترخيص في اصل تشريع القصر وكونه ) أي التشريع (مبنيّاً على التخفيف ، فلا ينافي ) أصل التشريع مع ( تعين القصر على المسافر ، وعدم صحّة الاتمام منه ) .

والحاصل : انّ المحتاج إلى التفسير ليس أصل الظهور ، بل شيء فوق ذلك ، وهو : انّ القصر لازم ، لا انّه جائز ، واللزوم لا يستفاد من ظاهر الاية ، فالرواية تدل على حجيّة ما يستفاد من القرآن ، في غير ما يكون اللفظ ، أعمّ ، وهو ما نريده .

نعم ، اذا كان ظاهر القرآن محتمل لأمرين ، احتاج إلى التفسير ، مثلاً : اذا قال القرآن «الماء » لم يحتج ذلك الى التفسير ، بخلاف ما اذا قال : « العين » حيث انّ العين مشترك ليس كالماء ، الّذي لا اشتراك فيه بين معنيين .

( و ) من المعلوم انّ ( مثل هذه المخالفة للظاهر ) أي كون القصر واجباً لا جائزاً (يحتاج إلى التفسير ، بلا شبهة ) وهو خارج عن محل كلامنا ، فلا يستشكل الاخباري علينا بهذه الرواية التي ورد فيها قوله عليه السلام : « وفسرت له » .

( وقد ذكر زرارة ومحمد بن مسلم للامام عليه السلام : انّ اللّه تعالى قال : « لا جناح »

ص: 190


1- - سورة النساء : الآية 101 .

ولم يقل : افعلوا ، فاجاب عليه السلام ، بأنّه من قبيل قوله تعالى : « فمَن حَجّ البَيتَ او اعتَمَرَ فلا جُناحَ عليه أن يَطَّوَّفَ بهما » .

------------------

ولم يقل : افعلوا ) فكيف يناسب نفي الجناح اللزوم للقصر ؟ .

( فأجاب عليه السلام : بانّه من قبيل قوله تعالى : « فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أو اعْتَمَرَ ، فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أن يَطَّوَّفَ بِهِمَا »(1) ) مع انّ الطواف واجب ، وليس برخصة ، فلا جناح في آية الطواف ، مثل لا جناح في آية القصر ، فكما انّ لا جناح في آية الطواف ، معناه عدم الحرمة ، الأعمّ من الوجوب والجواز ، وانّما يستفاد الجواز والوجوب من الخارج ، كذلك لا جناح في آية القصر .

وذلك انّ الناس كانوا يتوهّمون حرمة القصر في السفر ، وانّ تشريع الأربع سفراً وحضراً ، فنفى اللّه سبحانه الحرمة ، وكذلك كان النّاس يتوهّمون حرمة السعي ، أي : الطواف بالصفا والمروة ، فنفى اللّه تلك الحرمة .

وإليك نصوص لبعض الروايات المتقدمة :

أمّا رواية المسح على المرارة ، فعن عبد الأعلى مولى آل سام ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : عَثَر بِي ، فَانقَطَعَ ظِفرِي ، فَجَعَلتُ عَلى اصبِعي مَرارَة ، كَيفَ أصنَعُ بِالوضوءِ للصَلاةِ ؟ .

قال : فقال عليه السلام : « يُعرَف هذا وَأشباهُهُ ، مِن كِتاب اللّهِ تَبارَكَ وَتَعالى : « ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّيْنِ مِنْ حَرَج »(2) » امسح عليه (3) .

وأمّا رواية القصر والتمام ، فعن أبي جعفر محمد بن عليّ عليهماالسلام ، إنّه سئل عن

ص: 191


1- - سورة البقرة : الآية 158 .
2- - سورة الحج : الآية 78 .
3- - الكافي فروع : ج3 ص33 ح4 ، الاستبصار : ج1 ص77 ب46 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص363 ب11 ح27 ، وسائل الشيعة : ج1 ص464 ب29 ح231 ، بحار الانوار : ج2 ص277 ب33 ح32.

...

------------------

الصلاة في السفر ، كيف هي ؟ وكم هي ؟ .

فقال : انّ اللّه تبارك وتعالى يقول : « وإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أن تَقْصُرُوا مِن الصَّلاَة ... »(1) .

قال : فالتقصير في السفر واجب ، كوجوب التمام في الحضر .

قيل له : يابن رسول اللّه ، انّما قال اللّه : « فلاَ جُنَاح عَلَيْكُم» ولم يقل : اقصروا ، فكيف أوجب ذلك ، كما أوجب التمام ؟ .

فقال عليه السلام : أوَ ليس قد قال اللّه عزّوجلّ : « انَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِن شَعَائرِ اللّهِ ، فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أن يَطَّوَّفَ بِهِمَا »(2) .

أفلا ترى انّ الطواف بهما واجب مفروض ؟ لانّ اللّه ذكرهما بهذا في كتابه ، وصنع ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وكذلك التقصير في السفر ، ذكره اللّه ، هكذا في كتابه ، وقد صنعه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم (3).

وأمّا رواية السعي ، فعن بعض الأصحاب ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : سئلته عن السعي بين الصفا والمروة ، فريضة هو أم سنّة ؟ .

قال: فريضة ، قال : قلت : أليس اللّه يقول : « فَلاَ جُنَاحَ عليْهِ أن يَطّوّفَ بهمَا»(4) ؟.

قال : كان ذلك في عمرة القضاء ، وذلك انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، كان شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام ، فتشاغل رجل من أصحابه حتّى أعيدت الأصنام ، فجاءوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم فسألوه وقيل له : انّ فلاناً لم يطف ، وقد أعيدت

ص: 192


1- - سورة النساء : الآية 101 .
2- - سورة البقرة : الآية 158 .
3- - وسائل الشيعة : ج5 ص538 ح11330 .
4- - سورة البقرة : الآية 158 .

وهذا أيضا يدلّ على تقرير الامام عليه السلام ، لهما في التعرّض لاستفادة الأحكام من الكتاب والدَخل والتصرّف في ظواهره .

ومن ذلك

------------------

الاصنام ، قال : فأنزل اللّه : - « « إنَّ الصَّفَا والمَرْوَةَ مِن شَعَائرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ علَيْهِ ، أن يَطَّوَّفَ بِهِمَا »(1) » (2) أي : والاصنام عليهما .

وفي رواية محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : سمعته يقول : «انّ الصّفَا والمروةَ مِن شعَائرِ اللّهِ » يقول : لا حرج عليكم أن يطوف بهما ، فقد قالوا : كنّا نطوف بهما في الجاهلية ، فاذا جاء الاسلام ، فلا نطوف بهما ، قال : وأنزل اللّه عز وجل هذه الاية .

وفي رواية أخرى ، عن الصادق عليه السلام : انّه كان على الصفا والمروة أصنام ، فلمّا أن حجّ الناس لم يدروا كيف يصنعون ، فانزل اللّه هذه الاية ، فكان الناس يسعون ، والاصنام على حالها ، فلمّا حجّ النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، رمى بها (3) .

( و ) كيف كان ، فانّ ( هذا أيضاً ، يدلّ على تقرير الامام عليه السلام لهما ) أي لزرارة ومحمد بن مسلم ( في التعرض ، لاستفادة الاحكام من الكتاب ، والدّخل والتصرّف في ظواهره ) اذ لو لم يكن يستفاد من الكتاب شيء ، لم يكن مكان ، لاعتراض زرارة ومحمد بن مسلم ، على الامام عليه السلام في الاستفادة من الاية المباركة ، ولم يكن الامام يجيب بمثل هذا الجواب ، بل كان يجيب بأنّ القرانّ لا ظاهر له ، فلا حقّ لكما في الاستفادة منه .

( ومن ذلك ) أي : من الاخبار الدالة على حجّيّة ظواهر القرآن ، في غير موارد

ص: 193


1- - سورة البقرة : الآية 158 .
2- - وسائل الشيعة : ج13 ص469 ب1 ح18227 .
3- - بحار الانوار : ج21 ص116 باب فتح مكه ح11 .

استشهادُ الامام عليه السلام بآيات كثيرة ، مثل الاستشهاد لحليّة بعض النسوان بقوله تعالى : « عبدا مَملوكا لايَقدِرُ عَلى شيء » .

ومن ذلك الاستشهادُ بحليّة بعض الحيوانات بقوله تعالى : « قُل لا أجِدُ فيما اُوحيَ إليَّ مُحَرَّما ، الآية » ، إلى غير ذلك ممّا لا يُحصى .

------------------

الاستثناء ( استشهاد الامام عليه السلام بآيات كثيرة ) تدلّ على حجيّة ظواهر القرآن ( مثل الاستشهاد ، لحلية بعض النسوان ، بقوله تعالى : « وَأَحَلَّ لَكُم مَا وَرَاءَ ذَلِكُم ... » (1) ) .

( و ) مثل استشهاد الامام عليه السلام أيضاً ( في عدم جواز طلاق العبد ) لزوجته بدون اجازة مولاه ( بقوله تعالى : « عَبْداً مَمْلُوْكاً لاَ يَقْدِرُ عَلى شَيء » (2) ) حيث انّ الطلاق شيء فتشمله الاية الكريمة .

( ومن ذلك الاستشهاد بحليّة بعض الحيوانات ، بقوله تعالى : « قُلْ لاَ أَجِدُ فِيْمَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً »(3) الاية ، إلى غير ذلك ، ممّا لا يحصى ) لمن تتبّع الروايات .

كقول أمير المؤنين عليه السلام ، في خطبته المعروفة بالشقشقيّة : كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه سبحانه حيث يقول : « تِلْكَ الدّارُ الآخرةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِيْنَ لاَ يُرِيْدُوْنَ عُلُواً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً »(4) » (5) .

وقوله عليه السلام في خطبة اُخرى - كما في نهج البلاغة : « والصَلاةُ عَلى نَبيّهِ ، الّذي أرسَلَهُ بِالقُرآن ، لِيَكونَ لِلعالَمين نَذيراً وَانزَلَ عَلَيه القُرآنَ لِيكونَ إلى الحَقّ هادياً ، وَبرَحمَتهِ بَشيراً ، فَالقُرآن آمِر زاجِر ، وَصامِت ناطِق، حُجّةُ اللّهِ عَلى خَلقِه ، أخَذَ عَلَيهِم مِيثاقَه »(6) إلى آخر كلامه عليه السلام .

ص: 194


1- - سورة النساء : الآية 24 .
2- - سورة النحل : الآية 75 .
3- - سورة الانعام : الآية 145 .
4- - سورة القصص : الآية 83 .
5- - نهج البلاغة : الخطبة الشقشقية .
6- - نهج البلاغة : خطبة رقم 147 .

...

------------------

وعن ابن سنان ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن القرآن والفرقان ؟ .

قال : القُرآنُ ، جُملَةُ الكِتاب وَأخبارُ ما يَكون ، وَالفُرقانُ ، المُحكَمُ الّذي يُعمَلُ بِه ، وَكُلّ مُحكَم فَهوَ فُرقانٌ (1) .

وعن أبي نصير ، انّه عليه السلام ، قال : إنّ القُرآنَ مُحكَمٌ وَمُتَشابَهٌ فَامّا المُحكَم فَنؤِن بِهِ وَنَعمَل بِه وَنَدينُ بِه ، وَأمّا المُتَشابَه فَنؤِنُ بِه وَلا نَعمَلُ بِه (2) .

وفي حديث ، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : إذا التَبَسَت عَلَيكُم الفِتَن ، كَقِطَع اللّيل المُظلِم ، فَعَلَيكُم بِالقُرآن ، فانّهُ شافِعٌ مُشَفّع ، وَماحِل مُصَدّقٌ ، مَن جَعَلَه أمّامَه قادَه إلى الجَنّةِ ، وَمَن جَعَلَه خَلفَه ساقَه إلى النّار ، وَهوَ الدّليلُ ، يَدلّ عَلى خَير سَبِيل ، وَهو كِتاب فِيه تَفصِيلٌ وَبَيان وَتَحصِيل ، وَهوَ الفَصل ، وَلَيسَ بالهَزل ، وَلَه ظَهر وَبَطن ، فَظاهِره حُكمٌ ، وَباطِنه عِلمٌ (3) .

وعن الصادق عليه السلام : لَو إنّ رَجُلاً دَخَل فِي الاسلام ، فَأقَرّ بِه ، ثُمّ شَرِب الخَمرَ ، وَزَنا ، وَأكَل الرّبا ، وَلَم يَتَبَيّن لَه شَيء مِن الحَلال وَالحَرام ، لَم أقِم عَلَيه الحَدّ ، إذا كان جاهِلاً ، إلاّ أن تَقوم عَلَيه البَيّنَة ، إنّه قَرَء السّورَة التي فيها الزّنا ، وَالخَمرَ ، وَأكل الرّبا (4) ، وعن الصادق عليه السلام ، انّه قال في ذبائح اهل الكتاب : قَد سَمِعتُم ما قال اللّهُ تَعالى فِي كِتابِه ؟ . قالوا : نُحِبّ أن تُخبِرَنا ، فَقالَ عليه السلام لهم : لا تَأكُلوها (5) .

وهكذا ما ورد في قصة ابن الزبعرى ، لما سمع قوله سبحانه : - « انكمْ وَمَا

ص: 195


1- - بحار الانوار : ج92 ص15 ب1 ح11 .
2- - بحار الانوار : ج23 ص191 ب10 ح12 مع تفاوت .
3- - وسائل الشيعة : ج6 ص171 ب3 ح7657 .
4- - وسائل الشيعة : ج28 ص32 ب14 ح34141 .
5- - وسائل الشيعة : ج24 ص59 ب27 ح29991 .

الثاني : من وجهي المنع : إنّا نعلمُ بطروّ التقييد والتخصيص والتجوّز في أكثر ظواهر الكتاب ، وذلك ممّا يُسقِطُها عن الظهور ، وفيه :

أوّلاً : النقضُ بظواهر السنّة ، فانّا نقطع بطروّ مخالفة الظاهر في أكثرها.

وثانيا : انّ هذا لايوجبُ السقوط ،

------------------

تَعْبُدُونَ مِنْ دُوْنِ اللّهِ ، حَصَبُ جَهَنَّم » (1) .

اشكل على النّبيّ : بأن ابن مريم كان يُعبد من دون اللّه ، فهل هو حصب جهنم ؟ . وأجابه النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : بأنّ « ما » لما لا يعقل .

إلى غيرها من مئات الروايات ، التي يجدها المتتبّع في مثل تفسير البرهان ، وغيره ، من الكتب المعنيّة بهذا الشأن .

( الثاني من وجهي المنع ) الذين اقامهما الاخباري ، لعدم جواز العمل بظواهر القرآن ، هو : ( انّا نعلم ) اجمالاً ( بطروّ التقييد والتخصيص ، والتجوز ، في أكثر ظواهر الكتاب ) وانّما نعلم ذلك ، لما نشاهده من الاطلاقات المقيدَّة ، والعمومات المخصصة ، والقرائن الداخلية والخارجية التي تصرف الظواهر إلى المجازات .

( وذلك ) العلم الاجمالي ( ممّا يسقطها عن الظهور ) فانها مجملات ، والمجمل لا يجوز التمسّك به ، بأفادة مراد المتكلّم .

( وفيه ) ما يلي : - ( اولاً : النقض بظواهر السنّة ، فانّا نقطع بطروّ مخالفة الظاهر في اكثرها ) فانّ العلم الاجمالي الموجود في الكتاب ، هو بعينه موجود في السنة .

فلماذا يأخذ الاخباري بظواهر السنّة ، ولا يسقط ظواهر السنّة عن الحجّيّة ؟ .

ثمّ ما هو الفارق بين الكتاب وبين السنّة ؟ .

( وثانياً ) بالحل وهو : ( انّ هذا) العلم الاجمالي ( لا يوجب السقوط )

ص: 196


1- - سورة الانبياء : الآية 98 .

وإنّما يوجبُ الفحصَ عمّا يوجبُ مخالفة الظاهر .

فان قلت : العلمُ الاجماليّ بوجود مخالفات الظواهر لايرتفع أثرُه ، وهو وجوبُ التوقّف بالفحص ، ولذا لو تردّد اللفظُ بين معنيين

------------------

عن الحجّيّة ، وانّما لا يوجب السقوط عن الحجّيّة : لانحلال العلم الاجمالي بما نجده في الروايات ، وغيرها ، من التقييد ، والتخصيص ، والقرآئن الصارفة .

نعم ، ( وانّما يوجب ) هذا العلم الاجمالي ( الفحص عمّا يوجب مخالفة الظاهر ) كما هو حال السنّة ، فانّ الانسان اذا وجد رواية في السُنّة مطلقة ، أو عامّة ، أو ظاهرة ، فانّه لا يجوز له العمل بتلك الرواية ، إلاّ بعد الفحص ، فكذلك الكتاب ليكن حاله حال السنّة ، في انّه اذا وجد ظاهراً لا يعمل به حتّى يفحص عن سائر الخصوصيّات ، مثلاً : اذا رأى الانسان في الاية الكريمة : « أحَلَّ اللّهُ البيعَ »(1) ، وجب عليه أن يفحص حتّى يجد حرمة بيع الرّبا ، وحرمة بيع الكالي بالكالي ، وحرمة بيع المجهول، وحرمة بيع الغرري ، وما اشبه ، وبعد ذلك يتمسّك باطلاق البيع . وهكذا في قوله سبحانه : « وحَرَّمَ الرِّبَا »(2) وغير ذلك .

( فان قلت : العلم الاجمالي بوجود مخالفات الظواهر ، لا يرتفع أثره ) أي : اثر ذلك العلم الاجمالي ( وهو وجوب التوقف بالفحص ) ، وذلك لانّا نعلم انّ الأخبار ، التي تكشف عن : المخصص ، والمقيد ، والمجاز لم تصل كلّها الينا ، من جهة اخفاء الظالمين لجملة كبيرة منها بالحرق ، كما أحرقوا المكتبات ، أو بقتل الرواة ، أو بخوف الرواة من الاظهار ، حتّى ماتوا ولم يبيّنوا كثيراً ممّا وصل اليهم .

( ولذا لو تردّد اللّفظ بين معنيين ) بأن تردّد - مثلاً - الصعيد ، بين أن يكون موضوعاً لمطلق وجه الارض ، حتّى يجوز التيمم بالرمل والحجر وغيرذلك ،

ص: 197


1- - سورة البقرة : الآية 275 .
2- - سورة البقرة : الآية 275 .

او عُلِمَ إجمالاً بمخالفة أحد الظاهرين لظاهر الآخر - كما في العامّين من وجه وشبههما -

------------------

أو انّه موضوع للتراب الخالص فقط ، حتّى لا يجوز التيمّم بغير التراب ، فانّه اذا وردت رواية تدلّ على أحد المعنيين ، أمكن ان تكون هناك رواية اُخرى تضيّق أكثر ، أو توسّع أكثر .

فاذا قالت رواية - مثلاً - : انّ الصعيد ، مطلق وجه الارض ، فانّا نحتمل وجود رواية اُخرى لم تصل الينا ، خصصت مطلق وجه الارض بغير أرض النورة .

أو قالت رواية - مثلاً - : انّ الصعيد خاص بالتراب ، فقط ، فانّا نحتمل ان تكون هناك رواية اُخرى لم تصل الينا تقول : بأن أرض النورة يجوز التيمّم بها أيضاً ، كما نشاهد أمثال هذه الامور في روايات الصوم ، فانّه قد وردت رواية تقول : « إنّما تُفْطِر الصائم : الأكل ، والشرب ، والجماع » فمع انّها حاصرة بكلمة « إنّما » هناك بعض الروايات الاُخر ، الدالّة على وجود مفطّرات اُخر (1) ، وهكذا .

( أو عُلِمَ اجمالاً بمخالفة أحد الظاهرين لظاهر الاخر ، كما في العامّين من وجه ) بأن قال الشارع - مثلاً : اكرم العلماء ، وقال : لا تكرم الفساق ، حيث يتعارضان في مادة الاجتماع وهو : العالم الفاسق ، حيث لا نعلم : هل انّه يجب اكرامه ، بتخصيص اكرم العلماء لا تكرم الفساق ، أو يحرم اكرامه ، بتخصيص لا تكرم الفساق لأكرام العلماء ؟ فنعلم اجمالاً : بأنّ أحد الظاهرين في مادة الاجتماع مخالف للواقع ، لانّ العام الاخر خصّصه ، وهكذا في سائر موارد العموم من وجه .

( وشبههما ) من تعارض الظاهرين ، كما اذا قال الشارع ، « ثَمَنُ العَذَرَةِ

ص: 198


1- - راجع وسائل الشيعة : ج10 ص32 وما بعدها .

وجب التوقّفُ فيه ولو بعد الفحص .

قلت : هذه شبهةٌ ربما تورد على من استدلّ على وجوب الفحص عن المخصّص في العمومات بثبوت العلم الاجماليّ بوجود المخصّصات .

------------------

سُحْتٌ »(1) ، وقال في كلام آخر : « لا بَأسَ بِبَيعِ العَذَرَة »(2) .

حيث انّه يجب رفع اليد عن أحد الظاهرين ، اذ لا يمكن التناقض ، بانّه يجوز البيع ولا يجوز البيع ، فامّا ان نقول : بأن « لابأس » تقيّة ، وامّا ان نقول : انّ «سحت» تقيّة ، أو نجمع بينهما بسائر انحاء الجمع ، التي ذكروها في الفقه.

والحاصل : انّ الفحص أيضاً لا ينفع ، لانّه بعد وجود الاحتمال ( وجب التوقف فيه ، ولو بعد الفحص ) لبقاء التردد ( قلت : ) اولاً : هذا الاشكال وارد نقضاً ، بالنسبة إلى الروايات ايضاً فكما تعملون في الروايات ، اعملوا بظاهر القرآن ، فانّ الاشكال مشترك الورود ، فكيف تفصّلون بين القرآن وبين ظواهر الروايات ؟ .

ثانياً : نقول : ( هذه شبهة ربّما تورد على من استدلّ على وجوب الفحص عن المخصص في ) العمل على ( العمومات ) والمطلقات ( بثبوت العلم الاجمالي بوجود المخصصات ) فانّ من قال : بكفاية الفحص في العمل بالعموم ، والمطلق ، وما اشبه ، أشكل عليه بهذا الاشكال وهو : انّ أثر العلم الاجمالي ان كان لا يزول بالفحص ، فما هي فائدة الفحص ؟ وذلك لانّا نعلم بوجود المخصص قبل الفحص ، وبعد الفحص نطّلع على بعض المخصصات ، أمّا اطلاعنا على كلّها حتّى نعلم بانّه لا مخصص ، فلا يحصل لنا مثل هذا العلم ، وكما لا يجوز العمل

ص: 199


1- - التهذيب : ج6 ص372 ب22 ح201 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22284 .
2- - الكافي فروع : ج5 ص226 ح3 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص372 ب22 ح202 ، الاستبصار : ج3 ص56 ب31 ح1 وح3 ، وسائل الشيعة : ج17 ص175 ب40 ح22285 .

فانّ العلم الاجماليّ إمّا أن يبقى أثره ولو بعد العلم التفصيليّ بوجود عدّة مخصّصات ، وإمّا أن لايبقى ، فان بقي فلا يرتفع بالفحص وإلاّ فلا مقتضي للفحص.

------------------

بالعام مع العلم بوجود المخصص ، لا يجوز العمل بالعام مع الاحتمال العقلائي بوجود المخصص .

هذا ، وقد ذكر المصنِّف قدس سره تقريراً آخر للشبهة بقوله : ( فانّ العلم الاجمالي ) بوجود المخصص ( امّا أن يبقى أثره ) وهو الاجمال الموجب للتوقف ( ولو بعد ) الفحص ، والفحص ( العلم التفصيلي بوجود عدّة مخصّصات ، وامّا ان لا يبقى ) أثره (فان بقي ) الاثر ( فلا يرتفع بالفحص ) اذ الفرض انّه حتّى بعد الفحص ، يبقى الاجمال ( والاّ ) بأن لم يبق الأثر ( فلا مقتضي للفحص ) من الأوّل .

وان شئت قلت في تقرير الاشكال: انّه هل العلم الاجمالي أوجب الاجمال أم لا؟.

فان أوجب الاجمال ، فبعد الفحص ، ايضاً يبقى الاجمال ، اذ المجمل لا يخرج عن الاجمال بالفحص ، كما انّ الرمز لا يخرج بالفحص عن كونه رمزاً ، فاذا وردت - مثلاً - رواية تفسير « ألمص » وعرفنا المراد من ألمص ، فانّ « ألمص » يبقى رمزاً ، وانّ لم يوجب العلم الاجمالي الاجمال ، فلا اجمال في الظاهر حتّى يحتاج إلى الفحص .

ولا يخفى : انّا ذكرنا تقريرين للاشكال :

التقرير الأوّل : مسألة بقاء الاحتمال الموجب لعدم جواز العمل .

التقرير الثاني : مسألة انّ الاجمال امّا : ان لا يكون مطلقاً ، فلا حاجة الى الفحص ، وامّا أن يكون مطلقاً ، فلا فائدة في الفحص .

وحاصل الجواب عن الاشكال الأوّل : انّ الاحتمال لا يضر بعد كونه طريقة

ص: 200

وتندفع هذه الشبهةُ : بأنّ المعلومَ هو وجودُ مخالفات كثيرة في الواقع فيما بأيدينا بحيث تظهرُ تفصيلاً بعد الفحص ، وأمّا وجودُ مخالفات في الواقع زائدا على ذلك فغيرُ معلوم ، فحينئذٍ فلا يجوز العملُ قبل الفحص ، لاحتمال وجود مخصّص يظهر بعد

------------------

العقلاء ، في العمل بعمومات المولى ومطلقاته .

وعن الاشكال الثاني : انّه لا اجمال من الأوّل ، وانّما يجب الفحص ، لانّه اذا كان طريقة المولى الاعتماد على المنفصلات ، لزم الفحص حتّى اليأس ، وبعد ذلك لا يتمكن المولى من العقاب ، لوجود العذر للعبد ، فيما اذا خالف الواقع ، الّذي لم يصل اليه ، وقد فحص حتّى يئس .

والمصنّف أجاب : بأنّ قبل الفحص : عِلمٌ ، وبعد الفحص : احتمالٌ ، والاحتمال لا يضرّ ، بخلاف العلم .

( وتندفع هذه الشبهة ، بأنّ المعلوم هو : وجود مخالفات ) من المخصصات والمقيدات والصارفات للظواهر ( كثيرة في الواقع فيما بايدينا ) من المخصصات والمقيدات والصارفات ( بحيث تظهر ) تلك المخالفات ( تفصيلاً بعد الفحص ) بحث يسقط العلم الاجمالي .

( وامّا وجود مخالفات ) اُخر ، غير هذه المخالفات ، التي ظفرنا عليها ( في الواقع زائداً على ذلك ) الّذي وجدناه ( فغير معلوم ) أي : انّ العلم يسقط ، وبسقوط العلم يجوز العمل ، وان بقي الاحتمال .

( فحينئذٍ ) أي : اذا انحصر الأمر في الاحتمال بعد الفحص ، بينما كان علم قبل الفحص ( فلا يجوز العمل ) بالظواهر والعمومات والمطلقات ( قبل الفحص ، لاحتمال وجود مخصص ) بين الأخبار المخصصة والمقيدة والصارفة ( يظهر بعد

ص: 201

الفحص ، ولا يمكن نفيُه بالأصل لأجل العلم الاجماليّ ، وأمّا بعد الفحص فاحتمالُ وجود المخصّص في الواقع يُنفى بالأصل السالم عن العلم الاجماليّ ، والحاصلُ : أنّ المصنِّف لايجد فرقا بين ظواهر الكتاب والسنّة ، لا قبل

------------------

الفحص ) .

لكن هذا الاحتمال - قبل الفحص - مقترن بالعلم الاجمالي ( ولا يمكن نفيه ) أي : الاحتمال المقترن بالعلم الاجمالي ( بالأصل ، لاجل العلم الاجمالي ) بالمخصص .

هذا قبل الفحص ( وامّا بعد الفحص ) فيزول العلم الاجمالي ويبقى مجرّد الاحتمال ، ومجرّد الاحتمال غير المقترن بالعلم الاجمالي لا يكون ضاراً.

( فاحتمال وجود المخصّص في الواقع ) في الاخبار التي لم تصل الينا ، اذا فحصنا فحصاً عرفيّاً ( يُنفى بالاصل ، السالم عن العلم الاجمالي ) .

فالفارق هو العلم الاجمالي فانّ احتمال وجود : المخصِص ، والمقيد ، وما اشبه ، قبل الفحص ، لا يمكن نفيه بالاصل ، لأجل العلم الاجمالي ، اذ الاصل لا يجري في أطراف العلم الاجمالي ، كما حُقِقَ في موضعه .

وأمّا بعد الفحص بالقدر المقرر في موضعه ، فيزول العلم الاجمالي ، وان بقي الاحتمال ، لكن مثل هذا الاحتمال يجري في نفيه الاصل .

فاحتمال وجود المخصّص ، أو المقيد ، في الواقع ، بالنسبة إلى الاخبار التي لم تصل الينا ، والقرائن التي اختفت عنا ، يُنفى بالاصل السالم عن العلم الاجمالي ، ويبقى الاحتمال المجرّد ، والاحتمال المجرّد لا يعتني به العقلاء ، وقد جرى الشارع على الطريقة العقلائية .

( والحاصل : انّ المصنّف لا يجد فرقاً بين ظواهر الكتاب والسنّة ، لا قبل

ص: 202

الفحص ولا بعده .

ثم إنك قد عرفتَ أنّ العمدةَ في منع الأخباريّين من العمل بظواهر الكتاب هي الأخبارُ المانعةُ عن تفسير القرآن ، إلاّ أنّه يظهر من كلام السيّد الصدر شارح الوافية ، في آخر كلامه ، أنّ المنعَ عن العمل بظواهر الكتاب هو مقتضى الأصل ، والعمل بظواهر الأخبار خرج بالدليل ، حيث قال - بعد إثبات أنّ في القرآن محكمات

------------------

الفحص ولا بعده ) فقبل الفحص لا يجوز العمل بكليهما ، وبعد الفحص يجوز العمل بكليهما .

( ثمّ انّك قد عرفت : انّ ) ادلّة الاخباريين على عدم جواز العمل بظواهر القرآن متعدّدة لكن ( العمدة في منع الاخباريّين من العمل بظواهر الكتاب ، هي الاخبار المانعة عن تفسير القرآن ) بالرأي وانّ ذلك يشمل العمل بظواهر القرآن ، وقد أجبنا عنه سابقاً .

( الاّ انّه يظهر من كلام السيّد الصّدر ، شارح الوافية ، في آخر كلامه ) الّذي سننقله عن قريب ان شاء اللّه تعالى : ( انّ المنع عن العمل بظواهر الكتاب ، هو مقتضى الاصل ) أي انّ اصالة حرمة العمل بالظنّ ، شامل لظواهر الكتاب أيضاً .

( و ) ان قلت : فماذا يصنع الاخباريون في العمل بظواهر الاخبار ، مع انّها ايضاً ظنون ، فاصالة حرمة العمل بالظنّ تشملها أيضاً ؟ .

قلت : ( العمل بظواهر الاخبار خرج بالدليل ) فالاستثناء في هذا الجانب لا في ذلك الجانب ( حيث قال ) السيد الصدر : ( بعد اثبات انّ في القرآن محكمات ) كقوله سبحانه وتعالى : « قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَد »(1) ، وقوله سبحانه وتعالى : « إنّ اللّهَ بِكُلِّ

ص: 203


1- - سورة الاخلاص : الآية 1 .

وظواهر ، وأنّه ممّا لايصحّ إنكاره ، وينبغي النزاعُ في جواز العمل بالظواهر وأنّ الحقّ مع الأخباريين - ما خلاصته : « إنّ التوضيحَ يظهرُ بعد مقدّمتين :

الاولى : انّ بقاء التكليف ممّا لا شكّ فيه ، ولزوم العمل بمقتضاه موقوف على الافهام ،

------------------

شَيء عَلِيْم »(1) ، وقوله سبحانه وتعالى : « إنَّ اللّه عَلِيْمٌ بِذَاتِ الصُّدُوْر »(2) ، إلى غيرها من الآيات المحكمات .

( وظواهر ) والفرق بين المحكم والظاهر : انّ المحكم نصّ ، والظاهر ظاهر ، والظواهر أمثال : الاوامر ، والنواهي ، والمطلق والمقيد ، والمجمل والمبيّن ، والعام والخاص ، وما اشبه من الالفاظ الّتي لها ظاهر باستقلال ، او ظاهر بضميمة .

كما انّه في القرآن أيضاً قسم ثالث ، وهي الرموز ، كأوائل السور ( وانّه ممّا لا يصحّ انكاره ) .

قال السيد : ( وينبغي النزاع في جواز العمل بالظواهر ) فقط ، أمّا المحكمات ، فلا اشكال في العمل بها ، كما انّ الرموز لا اشكال في عدم العمل بها ( وانّ الحقّ مع الاخباريين ) .

قال : ( ما خلاصته : انّ التوضيح يظهر بعد مقدمتين ) .

المقدمة ( الاولى : انّ بقاء التكليف ) بالواجبات ، والمحرّمات ، والمستحبّات ، والمكروهات ، والمباحات ، فانّه من الاحكام الخمسة أيضاً ، ويسمّى المجموع : تكليفاً ، ولو باعتبارٍ مّا ، ( ممّا لا شك فيه ، ولزوم العمل بمقتضاه ) أي بمقتضى التكليف ( موقوف على الافهام ) فيجب على الشارع بيان أحكامه الخمسة ،

ص: 204


1- - سورة البقرة : الآية 231 .
2- - سورة لقمان : الآية 23 .

وهو يكون في الأكثر بالقول ، ودلالته في الأكثر تكون ظنيّة ، إذ مدارُ الافهام على إلقاء الحقائق مجرّدة عن القرينة وعلى ما يفهمون وإن كان احتمالُ التجوّز وخفاء القرينة باقيا .

------------------

والاحكام الوضعية منها اذا قلنا انّ الاحكام الوضعية ليست مستقلّة ، لانّ هناك خلافاً بين الأعلام في ذلك ، كما سيأتي في هذا الكتاب ان شاء اللّه تعالى : ( وهو ) أي : الافهام ( يكون في الاكثر بالقول ، ودلالته ) أي : دلالة القول ( في الاكثر تكون ظنيّة ، اذ مدار الأفهام على القاء الحقائق مجرّدة عن القرينة ) فانّ العقلاء ، انّما يستعملون الالفاظ في مقام التفهيم والافهام ، ويريدون المعاني الظاهرة منها ، بدون نصب قرينة تدلّ على مرادهم ، وانّما يكتفون بالظاهر .

نعم ، اذا ارادوا خلاف الظاهر ، نصبوا القرائن ، الّتي تدلّ على ذاك المراد ، المخالف للظاهر .

والحاصل : انّه اذا اختلفت الارادة الجدّيّة ، والارادة الاستعماليّة ، نصبوا القرينة على الارادة الجدّية، والاّ بأن كانت الارادة الجدّية ، والارادة الاستعمالية متطابقتان، اكتفوا باستعمال اللفظ ( و ) ذكروا الألفاظ ( على ما يفهمون ) أي يفهمه العقلاء .

هذا ( وان كان احتمال التجوّز ) أي : ارادة خلاف الظاهر مجازاً ( وخفاء القرينة باقياً ) لوضوح انّ فهم مراد المتكلّم ، انّما يكون من ظاهر اللفظ ، وذلك لا ينافي احتمال ارادة الخلاف ، سواء في الخطابات المشافهة ، او في غير المشافهة ، بل احتمال ارادة الخلاف في الخطابات غير المشافهة أقرب لاحتمال وجود قرينة اختفت عن المخاطب .

وحاصل هذه المقدّمة ، اربعة أمور :

ص: 205

الثانية : انّ المتشابه كما يكون في أصل اللغة كذلك يكون بحسب الاصطلاح ، مثل أن يقول أحد : « أنا أستعمل العمومات ، وكثيرا ما اُريدُ

------------------

الأوّل : التكليف باق على عهدة المكلّفين .

الثاني : انّ العمل بالتكليف موقوف على التفهيم والتفهم .

الثالث : انّ التفهيم والتفهم غالباً يكون بسبب الالفاظ .

الرابع : دلالة الالفاظ غالباً ظنّيّة ، لاختفاء القرائن التي كانت بين المتكلّم والمخاطب .

المقدمة ( الثانية ) : انّ ظواهر القرآن كلّها من المتشابه ، والمتشابه لا يجوز العمل به .

أمّا الصغرى : وهي انّها متشابهة ، فلأن الشارع لم يعتمد على القرائن المتصلة فيكلماته ، بل قال العام ، و اراد الخاص ، أو قال المطلق ، واراد المقيد ، كما هو دأب الشارع في كلامه .

وأمّا الكبرى : وهي انّ المتشابه لا يجوز العمل به ، فلانّ اللّه نهى عن العمل بالمتشابه ، كما سيأتي في الاية الكريمة ، وكذلك النّبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، نهى عن التفسير بالرأي ، وهكذا العقلاء لم يجوّزوا العمل بالظنّ ، إلاّ ما خرج بالدليل ، والظواهر من المستثنى منه ، لا من المستثنى .

وهذا هو حاصل ما ذكره السيد الصدر في هذه المقدمة ، ف( انّ المتشابه كما يكون في اصل اللغة ) كالألفاظ المشتركة ، والالفاظ التي لا يعلم معناها لاجمالها ، مثل العين ، والصعيد ، وآلة اللّهو ، والاناء ، وما اشبه ، على ما ذكروا.

( كذلك يكون بحسب الاصطلاح ) الخاص بمتكلم ، أو بجماعة ، أو ما اشبه .

( مثل ان يقول أحد : أنا استعمل العمومات ، وكثيراً ما اريد

ص: 206

الخصوص من غير قرينة ، وربما اُخاطِبُ أحدا واُريدُ غيره ، ونحو ذلك » فحينئذٍ لا يجوز لنا القطعُ بمراده ولا يحصل لنا الظنّ به ، والقرآن من هذا القبيل ، لأنّه نزل على اصطلاح خاصّ ، لا أقول على وضع جديد ،

------------------

الخصوص من غير قرينة ) واستعمل المطلقات ، واريد المقيّد من غير قرينة ، وأتكلّم بظاهر ، ولا أريد ذلك الظاهر ، وانّما اريد المعنى المجازي من ذلك الظاهر . ( وربّما أخاطب أحداً ، وأريد غيره ، ونحو ذلك ) كما قال بعض في قوله سبحانه : « لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ وَمَا تَأخَّر » (1) ، انّ المراد به : ذنب الاُمّة ، إلى غير ذلك . ( فحينئذٍ ) أي حين اذ علمنا : بانّ عادة فلان جارية على اسلوب كذا ، يكون كلامه متشابهاً ، والشارع من هذا القبيل ، لأنّه يعتمد القرائن المنفصلة كثيراً مّا ، ف( لا يجوز لنا القطع بمراده ، ولا يحصل لنا الظنّ به ) فلا يجوز الاعتماد عليه ، والعمل به ( والقرآن من هذا القبيل ) أي : من قبيل المتشابه الاصطلاحي ( لانّه نزل على اصطلاح خاص ) واسلوب جديد ؛ وذلك لانّ اللّه سبحانه وتعالى ، كثيراً مايريد خلاف الظاهر من كلامه .

فقوله تعالى : « الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى » (2) ، وقوله تعالى : « يَدُ اللّهِ فَوْقَ أيديهم »(3) ، وغيرهما لم يرد بها ظاهرها .

وكذلك قوله تعالى: « أحلَّ اللّهُ البيعَ ... »(4) ، وقوله تعالى : « تِجَارَة عَن تَرَاضٍ ... » (5)، وقوله تعالى: « وحَرَّمَ الرِّبَا »(6) ، وغيرها من الآيات ، لم يرد بها عموماتها ، واطلاقاتها .

والمراد بالاصطلاح الخاص هو : اني ( لا أقول ) انّه نزل ( على وضع جديد )

ص: 207


1- - سورة الفتح : الآية 2 .
2- - سورة طه : الآية 5 .
3- - سورة الفتح : الآية 10 .
4- - سورة البقرة : الآية 275 .
5- - سورة النساء : الآية 29 .
6- - سورة البقرة : الآية 275 .

بل أعمّ من أن يكون ذلك او يكون فيه مجازات لا يعرفها العربُ ، ومع ذلك قد وُجِدَ فيه كلمات لا يعلمُ المرادُ منها ، كالمقطّعات ، ثم قال سبحانه : « آياتٌ مُحكمات هُنَّ اُمُّ الكُتابِ واُخَرُ مُتَشابِهاتٌ » ، الآية ، ذمّ على اتّباع المتشابه ، ولم يبيّن لهم المتشابهات : ما هي ، وكم هي ،

------------------

فانّ اللّه سبحانه وتعالى ، لم يضع ألفاظاً جديدة .

( بل أعمّ من ان يكون ذلك ) أي بوضع جديد ، ( أو يكون فيه مجازات ) فانّه سبحانه وتعالى ، كثيراً ما أراد غير الظاهر ، سواء كان غير الظاهر ، بسبب وضع جديد ، أو بسبب ارادة المجاز ، حيث يذكر قرينتها في الكلام ، ممّا ( لا يعرفها العرب ) فالشارع - مثلاً - يستعمل : الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والاعتكاف ، وما اشبه في معاني خاصّة مخترعة ، لم تكن لهذه الألفاظ هذه المعاني ، في اللغة العربية ، إلى غير ذلك .

( ومع ذلك ) أي مضافاً إلى ما ذكرناه : ( قد وجد فيه ) أي : في القرآن ( كلمات لا يعلم المراد منها ) اطلاقاً ، ( كالمقطعات ) في أوائل السور ، فثبت انّ القرآن الحكيم على اسلوب جديد ، ولم يصدر للأفهام ، وانّما فيه اصطلاحات ، ومقطَّعات ، ومجازات ، لا يظهر المراد منها .

هذا كلّه بالنسبة إلى الصغرى ، وانّ القرآن متشابه ، ثمّ نأتي إلى الكبرى ، واليها أشار بقوله : ( ثمّ قال سبحانه : « آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابهَات » الاية )(1) .

وقد ( ذمّ ) اللّه ( على اتباع المتشابه ، ولم يبين لهم المتشابهات ما هي ؟ وكم هي ؟ ) أي ما هي حقيقة المتشابه ؟ وكم من الايات القرآنية آيات متشابهة ؟ .

ص: 208


1- - سورة آل عمران : الآية 7 .

بل لم يبيّن لهم المرادَ من هذا اللفظ ، وجعل البيانَ موكولاً إلى خلفائه ، والنبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ، نهى الناس عن التفسير بالاراء ، وجعلوا الأصلَ عدَمَ العمل بالظنّ إلاّ ما أخرجه الدليلُ .

------------------

( بل لم يبين لهم المراد من هذا اللفظ ) أي : لفظ المتشابه ، فلفظ المتشابه بنفسه متشابه أيضاً ( وجعل البيان موكولاً إلى خلفائه ) والاية الكريمة ، هي قول سبحانه : « هُوَ الّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ اُمُّ الكِتَابِ ، وَاُخَرُ مُتَشابِهَاتٍ ، فَأَمَّا الَّذِيْنَ فِيْ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُوْنَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأوِيْلِهِ وَمَا يعْلَمُ تَاوِيْلهُ إلاَّ اللّهُ والرَّاسِخُونَ فِي العلْمِ يَقُولُونَ ، آمَنَّا بِهِ ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ ربِّنَا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الأَلْبَاب »(1) .

وفي رواية عن الصادق صلى اللّه عليه و آله وسلم قال : « المتشابه ما اشتبه على جاهلة » ، فكأنّه عليه السلام ، أراد انّه ليس متشابهاً على أهل البيت عليهم السلام ، الذين خوطبوا بالقرآن .

وبالجملة : أراد السيد الصدر : انّ هذه الاية ، سبب سقوط ظواهر الآيات الاُخر عن الاستدلال بها ، لاحتمال دخول كلّ الايات القرآنيّة في المتشابه ، لانّا لا نعلم أيّة آية متشابهة ؟ وأنّه ايّة آية غير متشابهة ؟ كما اذا اختلط المجمل بالمبيّن ، ولم يعرف انّ أيّها مجمل وأيّها مبيّن ؟ .

( والنبي صلى اللّه عليه و آله وسلم نهى الناس عن التفسير بالآراء ) فقول النّبي صلى اللّه عليه و آله وسلم أيضاً ، دليل ثان بعد الآية المباركة على انّ القرآن لم يصدر للافهام ، بل له تفسير ، والتفسير يجب أن يؤذ منهم عليهم السلام .

( وجعلوا ) أيّ العقلاء ، أو العلماء ( الأصل عدم العمل بالظنّ ،إلاّ ما اخرجه الدليل ) ، وليس القرآن ممّا اخرجه الدليل فهو باق في المستثنى منه ، بحيث

ص: 209


1- - سورة آل عمران : الآية 7 .

إذا تمهد المقدّمتان ، فنقول : مقتضى الاولى العملُ بالظواهر ومقتضى الثانية عدمُ العمل ، لأنّ ما صار متشابها لايحصل الظنّ بالمراد منه وما بقي ظهوره مندرجٌ في الأصل المذكور ، فنطالب بدليل جواز العمل ، لأنّ الأصل الثابت عند الخاصّة هو عدمُ جواز العمل بالظنّ إلاّ ما أخرجه الدليلُ .

لا يقال : إنّ

------------------

لايجوز العمل بظواهره .

وحاصل كلام السيد الصدر : انّ التكليف باق والقرآن لا يفهم منه ذلك التكليف .

( اذا تمهّدت المقدمتان ، فنقول : مقتضى ) المقدمة ( الاُولى : العمل بالظواهر ) فيما اذا لم يكن من المتشابه .

( ومقتضى ) المقدمة ( الثانية : عدم العمل ) بظواهر القرآن الحكيم ( لأنّ ما صار متشابهاً ، لا يحصل الظنّ بالمراد منه ) لأنّ المتشابه لا يظنّ بالمراد من ظاهره ( وما بقي ظهوره ) أي : لم يحصل فيه تشابه ، فهو ( مندرج في الأصل المذكور ) أي : أصل انّه لا يجوز العمل بالظنّ .

وعليه : ( فنطالب بدليل جواز العمل ، لانّ الأصل الثابث عند الخاصّة ) وقال : الخاصة ، لأنّ العامّة يعملون بالظنّ القياسي ، والاستحساني ، والمصالح المرسلة ، واجتهاد الرأي ، لا بمعنى الاجتهاد الّذي هو عندنا ، بل بمعنى انّه يضغط على رأيه ليعرف الحكم ( هو عدم جواز العمل بالظنّ الاّ ما أخرجه الدليل ) وعلى هذا : فلا دليل على حجّيّة ظواهر الكتاب ، بينما العمل بظواهر الأخبار خرج بالدليل ، وبقي عدم العمل بظواهر القرآن على الأصل .

ثمّ قال السيد الصدر : ( لا يقال : انّ ) النهي عن اتباع المتشابه ، لا يوجب حرمة

ص: 210

الظاهرَ من المحكم ووجوب العمل بالمحكم اجماعيّ .

لأنّا نمنع الصغرى ، إذ المعلوم عندنا مساوات المحكم للنصّ ، وأمّا شموله للظاهر فلا - الى أن قال : لا يقال : إنّ ما ذكرتم لو تمّ لدلّ على عدم جواز العمل بظواهر الأخبار أيضا ،

------------------

العمل بالظاهر ، فانّ الظاهر ليس من المتشابه حتّى يدخل في النهي عن العمل بالمتشابه ، لانّ ( الظاهر من ) اقسام : ( المحكم ، ووجوب العمل بالمحكم اجماعي ) فهنا صغرى وكبرى :

الصغرى تقول : الظاهر من المحكم . والكبرى تقول : العمل بالمحكم واجب .

وانّما لا يقال : ( لانّا ) نقول : ( نمنع الصّغرى ) ومعنى ذلك : أنّا لا نسلم كون الظاهر داخلاً في المحكم ( اذ المعلوم عندنا : مساوات المحكم للنصّ ، وأمّا شموله للظاهر ، فلا ) ، اذ هناك بعض الاشياء ظاهر ، وبعض الاشياء نصّ ، فالظاهر يحتمل الانسان خلافه ، أمّا النصّ : فهو الّذي لا يحتمل خلافه ، والمحكم عبارة عن النصّ ، وليس المحكم شاملاً للظاهر ، اذا الظاهر محتمل ، لكونه من المحكم ، ومحتمل كونه من المتشابه ، ومثل هذا لا يجوز العمل به ، كما لا يجوز العمل بالمتشابه .

( إلى ان قال ) السيد الصدر : ( لا يقال : انّ ما ذكرتم لو تمّ ) أي لو كان الدليل الّذي ذكرتم ، دالاً على حرمة العمل بظواهر الكتاب ( لدلّ على عدم جواز العمل بظواهر الاخبار أيضاً ) وذلك لانّ ظواهر الاخبار ، وظواهر القرآن مشتركان في هذا الأمر ، اذ الاخبار أيضاً مخصصة ، ومقيدة واريد منها خلاف الظاهر ، كالقرآن الحكيم ، فلماذا انتم ايّها الاخباريون ، تفرّقون بين ظاهر الاخبار ، فتعملون به ، وبين ظاهر القرآن فلا تعملون به ؟ .

ص: 211

لما فيها من الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والعامّ والمخصّص ، والمطلق والمقيّد .

لأنّا نقول : إنّا لو خُلِّينا وأنفسَنا ، لعملنا بظواهر الكتاب والسنّة مع عدم نصب القرينة على خلافها ، ولكن مُنِعنا من ذلك في القرآن للمنع من اتّباع المتشابه وعدم بيان حقيقته ، ومَنَعنا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم عن تفسير القرآن ، ولاريب في أنّ غير النصّ محتاج إلى

------------------

وانّما نقول ذلك ( لما فيها ) أي في الاخبار (1) ( من الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والعامّ والمخصّص ، والمطلق والمقيد) ، والحقيقة والمجاز.

( لأنّا نقول : انّا لو خلينا وانفسنا لعملنا ) بسبب المقدمة الاولى ، التي ذكرناها : من انّ الاصل العمل بالظواهر ( بظواهر الكتاب والسنّة ) معاً ( مع عدم نصب القرينة على خلافها ) أي : خلاف الظواهر .

( ولكن مُنعنا من ذلك ) أي : من العمل بالظواهر ( في القرآن ) الحكيم ، وذلك لما ذكرناه : من انّ القرآن له اسلوب جديد ، وليس كسائر كلام الموالي ، و ( للمنع من اتباع المتشابه ، وعدم بيان حقيقته ) أي حقيقة المتشابه .

هذا من ناحية ( و ) من ناحية أخرى : ( منعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم عن تفسير القرآن ) الحكيم ، ( ولا ريب في انّ غير النصّ ) من آيات القرآن الحكيم ، لما تقدّم : من انّ بعض القرآن نص ، مثل قوله تعالى : « قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَد »(2) وبعضه ليس بنصّ مثل قوله تعالى : « أَحَلَّ اللّهُ البَيْعَ ... »(3) ، وغير النصّ ( محتاج إلى

ص: 212


1- - انظر الكافي اصول : ج1 ص63 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص207 ب14 ح33614 .
2- - سورة الاخلاص : الآية 1 .
3- - سورة البقرة : الآية 275 .

التفسير وأيضا ذمّ اللّه تعالى من اتّباع الظنّ وكذا الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وأوصيائه عليهم السلام، ولم يستثنوا ظواهر القرآن - إلى أن قال - : وأمّا الأخبار ، فقد سبق أنّ أصحاب الأئمة عليهم السلام ، كانوا عاملين

------------------

التفسير ) ولهذا السبب لا نتمكن من العمل بظواهر القرآن ، ونتمكن من العمل بظواهر الاخبار .

( وأيضاً ) الاصل حرمة العمل بالظنّ ، بما هو هو - وانّما الخارج الاخبار - لانّه ، ( ذمّ اللّه تعالى من اتباع الظنّ ، وكذا الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم واوصيائه عليهم السلام ، ولم يستثنوا ظواهر القرآن ) فقد قال سبحانه وتعالى في ذلك : «إن يتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنفُس » (1) ، وقال الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم: « مَن فَسّرَ القُرآن بِرَأيِه فَلْيَتَبَوّء مَقعَدَه مِنَ النّارِ »(2) ، إلى غير ذلك ممّا تقدّم من النهي عن التفسير في كلماتهم ، عليهم السلام .

فتحصَّل : إنّ الفارق بين الاخبار والقرآن يكون كالتالي :

اولاً : انّهم عليهم السلام ، أجازوا العمل بالاخبار ، فخرجت الاخبار عن حرمة العمل بالظنّ ، وبقي القرآن داخلاً في حرمة العمل بالظنّ .

وثانياً : انّ الاخبار لها ظواهر لانّها غير مختلطة بالمتشابه منها ، بينما القرآن لا ظواهر له ، لأنّ المحكم والمتشابه منه ، قد اختلط احدهما بالاخر ، فلا نعلم أي الايات محكم وأي الايات متشابه ؟ ( إلى أن قال : وامّا الاخبار ف) يجوز العمل بها ، خروجاً عن القاعدة ، لما ( قد سبق : انّ أصحاب الائمّة عليهم السلام كانوا عاملين

ص: 213


1- - سورة النجم : الآية 23 .ححححححححححححححححححححح
2- - غوالي اللئالي ح4 ص104 .

باخبار واحد من غير فحص عن مخصّص او معارض ناسخ ، او مقيّد ، ولولا هذا لكُنّا في العمل بظواهر الأخبار أيضا من المتوقفين ، انتهى .

------------------

باخبار واحد ، من غير فحص عن مخصّص ، أو معارض ناسخ ، أو مقيد ) أو ما اشبه ذلك ، فانّهم ما كانوا يفحصون عن قرائن المجاز وما اشبه ، كانوا اذا القى الامام الصادق ، أو الامام الباقر ، او سائر الائمّة الطاهرين « صلوات اللّه عليهم اجمعين » على زرارة ، او محمد بن مسلم ، أو البزنطي ، أو غيرهم ، خبراً ذهب وعمل بذلك الخبر ، من دون أن يفحص عن مقيّده أو مخصّصه ، أو ما اشبه ذلك .

كما انّهم ما كانوا يسألون الامام عليه السلام عن التقييد ، والتخصيص، وقرينة المجاز ، ونحوها .

وبهذا خرجت الاخبار عن قاعدة عدم العمل بالظنون ، التي من جملتها : الظواهر .

( ولولا هذا ) الاجماع من اصحاب الائمّة في عملهم بالاخبار ( لكنّا في العمل بظواهر الاخبار ) كما في ظواهر القرآن ( أيضاً من المتوقفين ) (1) لانّ في الاخبار ، كما في القرآن : العام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والناسخ والمنسوخ ، والحقيقة والمجاز ، الي غير ذلك .

( انتهى ) كلام السيد الصدر ، فتحصَّل من كلامه : انّ العمل بالاخبار خارج عن القاعدة ، لا انّ العمل بظاهر القرآن خارج عن القاعدة ، بينما كلام غيره ، انّ العمل بالقرآن خارج عن القاعدة ، لا انّ العمل بالاخبار خارج عن القاعدة ، فهو رحمه اللّه يرى : حرمة العمل بالظواهر سواء الايات والاخبار ، إلاّ انّه يقول : بخروج الاخبار

ص: 214


1- - شرح الوافية مخطوط .

أقول : وفيه مواقعُ للنظر ، سيّما في جعل العمل بظواهر الأخبار من جهة قيام الاجماع العمليّ ولولاه لتوقّف في العمل بها أيضا ، إذ لايخفى أنّ عمل أصحاب الأئمّة عليه السلام ، بظواهر الأخبار لم يكن لدليل خاصّ شرعيّ وصل إليهم من أئمتهم ؛ وإنّما كان أمرا مركوزا في أذهانهم بالنسبة الى مطلق الكلام الصادر من المتكلّم لأجل الافادة والاستفادة ، سواء كان من الشارع ام غيره ،

------------------

باجماع الاصحاب ، وبقاء القرآن داخلاً في عدم الجواز .

( اقول : وفيه ) أي في كلامه ( مواقع للنظر ) سنتكلم حول تلك المواقع مفصلاً ان شاء اللّه ( سيّما في جعل العمل بظواهر الاخبار من جهة قيام الاجماع العملي ، ولولاه ) أي لولا الاجماع العملي ( لتوقّف في العمل بها ) أي : بالأخبار ( أيضاً ) لانّه يرى اسلوب الاخبار والقرآن ، جديداً ، فلا يجوز العمل بهما ، وانّهما ليسا مثل سائر كلام المتكلمين .

وانّما قلنا : سيّما ( اذ لا يخفى انّ عمل أصحاب الائمّة عليهم السلام بظواهر الاخبار ، لم يكن لدليل خاص شرعي وصل اليهم من أئمّتهم ) عليهم السلام. بل (وانّما كان ) العمل بالظواهر ( امراً مركوزاً ) عرفيّاً ( في اذهانهم بالنسبة إلى مطلق الكلام الصادر من المتكلم ، لاجل الافادة والاستفادة ) .

وعليه : فالعمل بالاخبار ، كان من صغريات هذه القاعدة المركوزة في أذهانهم (سواء كان من الشارع أم ) من ( غيره ) فلا نسلّم اصالة حرمة العمل بالظاهر - المدّعى بانّه من الظنّ المنهي عنه - لأنّ الظاهر ممّا يعمل عليه العقلاء دائماً ، إلاّ اذا خرج بدليل .

وأمّا الظنّ المنهي عنه في الكتاب والسنّة ، فانّه يراد به غير هذا الظنّ المستفاد

ص: 215

وهذا المعنى جار في القرآن أيضا على تقدير كونه ملقىً للافادة والاستفادة على ما هو الأصل في خطاب كلّ متكلّم .

نعم ، الأصل الأوّليّ هي حرمة العمل بالظنّ ، على ما عرفت مفصّلاً ، لكنّ الخارج منه ليس خصوصَ ظواهر الأخبار حتّى يبقى الباقي ، بل الخارجُ منه هو مطلقُ الظهور الناشيء عن كلام كلّ متكلّم اُلقيَ إلى غيره للافهام .

------------------

من الظاهر والاّ لأشكلوا على صاحب الشرع : بأنّك كيف قلت : لا تعملوا بالظنّ ، مع انّك تأمر وتنهي ، ونحن نعمل بظواهر كلامك ؟ لوضوح انّه ليس ذلك ظاهر في كلامهم عليهم السلام من النص .

( وهذا المعنى ) الّذي هو عبارة عن : اتفاق أهل اللسان على العمل بالظواهر ، وانّ اصحاب الائمّة كانوا يطبّقون هذه الكبرى الكلّيّة على الروايات ( جار في القرآن أيضاً على تقدير كونه ملقى للافادة والاستفادة ) .

وانّما قلنا على تقدير ذلك و ( على ما هو الأصل في خطاب كلّ متكلّم ) لأنّ الاصل في كلام المتكلمين ، الذين يريدون تحريك الناس وتحركهم ، انّهم يتكلمون للأفادة والاستفادة .

( نعم ) قد تقدّم في أوّل مبحث الظنّ : انّ ( الأصل الأوّلي ، هي حرمة العمل بالظنّ على ما عرفت مفصلاً ) لانّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً ، وانّ بناء العقلاء على العمل على الأطمينانيّات ، لا على الظنّيّات ، وكنّا قد أشكلنا - فيما سبق - على هذه الكلّيّة في كتاب «الاصول» .

( لكن الخارج منه ، ليس خصوص ظواهر الاخبار ، حتّى يبقى الباقي ) كالقرآن الحكيم على ما هو ادّعاء السيد الصدر - ( بل الخارج منه ، هو مطلق الظهور ، الناشيء عن كلام كلّ متكلم ألقي إلى غيره للافهام ) فالاصل الأولي ، وان كان

ص: 216

ثمّ إنّ ماذكره - من عدم العلم بكون الظواهر من المحكمات واحتمال كونها من المتشابهات - ممنوعٌ : أولاً ، بأنّ المتشابه لايصدقُ على الظواهر ، لا لغةً ولا عرفا ،

------------------

المنع عن الظاهر ، لكن الاصل الثانوي حجّيّة الظواهر ببناء العقلاء ، وهو المركوز في أذهان المتشرعة أيضاً ، بعد ان الشارع لم يحدث طريقةً جديدةً .

( ثمّ انّ ما ذكره ) السيد الصدر : ( من عدم العلم بكون الظواهر من المحكمات ، واحتمال كونها من المتشابهات ، ممنوع ) لانّه استدل لذلك : بأنّ لفظ المتشابه ، متشابه ، فيحتمل شموله للظاهر ، فلا يقين بأنّ الظاهر من المحكم ، وانّما المتيقن من المحكم هو : النص .

هذا ، وانّما قلنا بانّه ممنوع لانّه : (اولاً : بأنّ المتشابه لا يصدق على الظواهر ، لا لغة ولا عرفاً ) .

أمّا لغة : فلأنّ المتشابه من شبه ، اذا شابه شيء شيئاً آخر ، لانّه من التفاعل كتضارب ، فاذا كان شيئان متماثلان ، سُميّا : متشابهين ، ومن الواضح : انّ الظاهر ليس من هذا القبيل .

وأمّا عرفاً ، فلأنّ المتشابه في العرف ، هو ما ليس له دلالة واضحة ، ومن الواضح : انّ الظاهر له دلالة واضحة ، فلا يصدق على الظاهر : المتماثل ، ولا غير الواضح .

وعليه : فاذا لم يكن الظاهر من المتشابه ، كان من المحكم ، لانّ المحكم مقابل المتشابه ، ولا واسطة بينهما ، وانّما الشق الثالث هو : الرمز ، وحيث انّ الظاهر ليس من الرمز قطعاً ولم يصدق عليه : المتشابه لغة ولا عرفاً ، فهو لابدّ وان يكون من المحكم .

ص: 217

بل يصحّ سلبه عنه ، فالنهيُ الوارد عن اتّباع المتشابه لا يمنعُ ، كما اعترف به في المقدّمة الاُولى ، من أنّ مقتضى القاعدة وجوبُ العمل بالظواهر .

وثانيا : بأنّ احتمالَ كونها من المتشابه لاينفعُ في الخروج عن الأصل الذي اعترف به .

------------------

( بل يصح سلبه ) : أي المتشابه ( عنه ) أي عن الظاهر ، وصحة السلب علامة عدم الحقيقة .

اذن : ( فالنهي الوارد عن اتباع المتشابه ، لا يمنع ) عن العمل بالظواهر ، بخروج الظواهر موضوعاً عن المتشابه ( كما اعترف ) السيد الصدر ( به ) أي : بعدم المنع ( في المقدّمة الاولى ) من المقدّمتين اللتين ذكرهما ( : من انّ مقتضى القاعدة : وجوب العمل بالظواهر ) على الاصل الاوّلي .

( وثانياً : بانّ احتمال كونها ) أي : ظواهر القرآن ( من المتشابه ، لا ينفع في الخروج عن الاصل الّذي اعترف ) السيد الصدر ( به ) .

فلو احتملنا دخول ظواهر القرآن في المتشابه كان الواجب علينا مع ذلك ، العمل بتلك الظواهر ، لانّ هذا الاحتمال لا يسقط وجوب العمل بالظواهر ، كما اعترف السيد الصدر في المقدمة الاولى : بأنّ الأصل الثانوي : حجّيّة الظواهر مطلقاً .

فاذا علمنا بأنّ ظواهر القرآن حسب الأصل الأولي ، الّذي اعترف به هو قدس سره يلزم العمل بها ، ثمّ احتملنا دخول تلك الظواهر في المتشابه ، كان اللازم التمسّك بالعام لا بالمخصص .

فهو كما اذا قال : اكرم كلّ عالم ، وعلمنا. خروج زيد ، وشككنا خروج عمرو ، فانّ اللازم اكرام عمرو ، لأنّا علمنا دخوله في العام وشككنا في تخصيصه ،

ص: 218

ودعوى اعتبار العلم بكونها من المحكم هدمٌ لما اعترف به من أصالة حجيّة الظواهر ، لأنّ مقتضى ذلك الأصل جواز العمل الاّ أن يعلم كونه ممّا نهي الشارع عنه .

------------------

فاللازم اجراء اصالة عدم التخصيص ، وليس هذا من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة ، لانّ ذلك فيما اذا لم نعلم دخوله في العام ، ومانحن فيه ممّا علمنا دخوله في العام ، وانّما شككنا في خروجه .

( و ) ان قلت ، يلزم ان نعلم : انّه داخل في المحكم حتّى نتبعه ، والحال انّه لا علم في المقام ، مع شكّنا في انّه من المحكم ، او المتشابه ، فلا يجوز اتباعه .

قلت ( دعوى اعتبار العلم بكونها من المحكم ) حتّى يعمل به ( هدم لما اعترف ) السيد الصدر ( به : من اصالة حجّيّة الظواهر ) وانّ مقتضى القاعدة : العمل بالاصل ما لم نعلم الخروج منه .

وما نحن فيه كذلك ، فقد علمنا بانّه ظاهر ونشك في الخروج منه ، فلا يلزم العلم بكونه محكماً ، حتّى نعمل به ( لانّ مقتضى ذلك الاصل ) أي : اصل حجّيّة الظواهر (جواز العمل الاّ ان يعلم كونه ) أي : العمل ( ممّا نهى الشارع عنه ) والحال انّا لا نعلم نهي الشارع عن الظواهر ، بل كما اعترف به هو يحتمل المنع ، واحتمال المنع لا يقاوم حجّيّة الظواهر ، التي اعترف بها .

فاذا قال المولى - مثلاً - كلّ ماء طاهر ، وقال : كلّ خمر نجس ، فانّه اذا شككنا في خمريّة مايع ، نتمسّك بكلّ ماء طاهر ، لا انّه نتمسّك بالمخرج ، الّذي هو : كلّ خمر نجس ، فالحكم بالنجاسة محتاج إلى احراز الخمريّة ، لا الحكم بالطهارة ، لانّ الاصل : الطهارة إلاّ ما خرج ، فاذا لم يعلم انّه مصداق ما خرج ، كان اللازم العمل بالاصل .

ص: 219

وبالجملة : فالحقّ ما اعترف به ، قدّس سرّه ، من أنّه لو خُلّينا وأنفسَنا ، لعملنا بظواهر الكتاب . ولا بدّ للمانع من إثبات المنع .

------------------

( وبالجملة : ) نقول في جواب السيد الصدر : ( فالحقّ ما اعترف به قدس سره : من انّه لو خلّينا وانفسنا ، لعملنا بظواهر الكتاب ) بمقتضى المقدمة الاولى .

( ولابدّ للمانع ، من اثبات المنع ) وقد عرفت : انّ المنع بسبب احتمال كونه من المتشابه ، غير نافع لانّ الاحتمال لا يقاوم الاصل ، والاّ لجرى مثل ذلك في الاخبار أيضاً ، مع انّ السيد الصدر لا يقول بالمنع في الاخبار .

اقول : بل يمكن أن يقال : انّ طريقة الشارع في القرآن وكذا في الاخبار أيضاً هي طريقة العقلاء مطلقاً ، فانّ كلامهم فيه : عام وخاص ، ومطلق ومقيّد ، ومجمل ومبين ، وظاهر ونص ، وحقيقة ومجاز ، ورمز ولغز ، وما اشبه ذلك .

ولهذا نرى انّ القوانين التي تجعل للبلاد ، يكون فيها كلّ ذلك ، ولهذا السبب ايضاً يختلف المحامون والقضاة ومجالس الامّة في الخصوصيّات ، كما يختلف الفقهاء والمتدينون في خصوصيات القرآن والروايات ، فكما نحن الآن في القرآن والاخبار بحاجة إلى الفحص ، كذلك في كلمات العقلاء ، والسرّ في الجميع ما يلي :

اولاً : اختلاف المدارك ، حيث انّ بعض الناس يرون شيئاً على حالة خاصة ، وبعض آخر يرونه على خلاف تلك الحالة ، ومن ذلك يختلف الاجتهادات ، في استنباط المدارك الاوّليّة ، سواء كانت المدارك الأوليّة دينية أو دنيوية .

وثانياً : انّ الواقع يتطلّب التنوّع ، عموماً وخصوصاً ، وظهوراً ونصاً ، واجمالاً وتوضيحاً ، إلى غير ذلك . طبعاً هذا بالنسبة إلى حال المشافهين ، فكيف بغيرهم الذين تختفي عنهم القرائن الحاليّة والمقاليّة وما اشبه ؟ .

ص: 220

ثم إنّك قد عرفت ممّا ذكرنا أنّ خلافَ الأخباريّين في ظواهر الكتاب ليس في الوجه الذي ذكرنا ، من اعتبار الظواهر اللفظيّة في الكلمات الصادرة لافادة المطالب واستفادتها ، وإنّما يكون خلافهُم في أنّ خطابات الكتاب لم يقصد بها استفادةُ المراد من أنفسها ، بل بضميمة

------------------

نعم ، لا اشكال في انّ القرآن الحكيم ، حيث كان اعجازاً يكون شموله لهذه الخصوصيات أكثر ، لانّ الاعجاز فوق مستوى كلام العقلاء .

( ثمّ انّك قد عرفت ممّا ذكرنا : ) انّ النزاع بيننا وبين الاخباريين صغروي لا كبروي ، اذ القياس هكذا صورته : صغرى هذا الكلام صادر للتفهيم والتفاهم .

كبرى : كلّ كلام صادر لذلك فهو حجّة .

فالاخباريون ينكرون الصغرى ، ويقولون : انّ القرآن لم يصدر للتفهيم والتفاهم بنفسه ، ومجرّداً عن كلماتهم « عليهم الصلاة والسلام » .

وذلك أمّا لعدم ظهور للقران اطلاقاً لاختلاطه بالمتشابه ، وصيرورة الجميع متشابهاً .

وأمّا لانّ له ظهور ، لكن الشارع يريد تفهّم ذلك الظاهر بسبب تفسير الائمّة عليهم السلام ، لا انّه بحيث يعمل به كلّ احد ، من دون مراجعتهم عليهم السلام .

وأمّا الكبرى ، فمتّفق عليها بيننا وبين الاخباريين ، وأشار اليه بقوله :

( انّ خلاف الاخباريين في ظواهر الكتاب ، ليس في الوجه الّذي ذكرنا ) كبرويّاً (من اعتبار الظواهر اللفظيّة في الكلمات الصادرة لأفادة المطالب ، واستفادتها ) فانّهم يُسلِّمون بهذه الكبرى ( وانّما يكون خلافهم في ) الصغرى ، بأمرين :

اولاً ( انّ خطابات الكتاب لم يقصد بها استفادة المراد من أنفسها ، بل بضميمة

ص: 221

تفسير أهل الذكر او أنّها ليس بظواهر بعد احتمال كون محكمها من المتشابه ، كما عرفت من كلام السيّد المتقدم .

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل : إنّه ربّما يتوهم بعضٌ : « أنّ الخلافَ في اعتبار ظواهر الكتاب قليلُ الجدوى

------------------

تفسير أهل الذكر ) « عليهم الصلاة والسلام » ، حيث ، انّهم هم أهل الذكر ، الذين عناهم اللّه سبحانه وتعالى بقوله : « فَسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ انْ كُنْتُمْ لاَتَعْلَمُونَ »(1) ، فانّ ظاهر آية الذكر ، وان كان علماء الأديان السابقة ، إلاّ انّ باطنها الائمّة عليهم السلام ، كما في الروايات .

ثانياً : ( أو انّها ) أي المذكورات ، في القرآن الحكيم من الكلمات ، والجمل والايات ( ليست بظواهر بعد ) نهي الشارع عن اتباع المتشابه ، وهي من المتشابه ايضاً ل( احتمال كون محكمها ) أي محكم الكلمات الواردة في القرآن الحكيم قد اختلطت بالمتشابه ، فصارت ( من المتشابه ، كما عرفت من كلام السيد المتقدّم ) وقد تقدّم الجواب عن اشكالهم الصغروي .

هذا ( وينبغي التنبيه على أمور ) مرتبطة بالقرآن الحكيم ، وبالاخبار أيضاً :

( الاوّل : انّه ربّما يتوهّم بعض : انّ الخلاف في اعتبار ظواهر الكتاب قليل الجدوى ) أي : لا ثمرة مهمّة ، لهذا البحث ، والبحث الّذي لا ثمرة مهمّة له ، الأولى تركه ، وعدم ذكره في كتاب الاصول الموضوع لاجل ان يكون مقدمة للفقه في الامور العملية .

ص: 222


1- - سورة الانبياء : الآية 7 .

إذ ليست آية متعلّقة بالفروع او الاصول إلاّ ورد في بيانها او في الحكم الموافق لها خبر او أخبار كثيرة ، بل انعقد الاجماعُ على أكثرها ، مع أنّ جُلّ آيات الاصول والفروع ، بل كلّها ، ممّا تعلّق الحكمُ فيها بامور مجملة لايمكن العملُ بها إلاّ بعد

------------------

( اذ ليست آية متعلّقة بالفروع أو الاصول إلاّ ورد في بيانها ) وتفسيرها ، والمراد منها ، وخصوصيّاتها ( أو في الحكم الموافق لها ) بدون التفسير ( خبر ، أو أخبار كثيرة ، بل انعقد الاجماع على أكثرها ) ونحن اذا راجعنا تلك الاخبار نكتفي عن البحث في ظاهر الآية وانّه هل يشمل هذا الفرع الّذي هو محل الابتلاء، أو لا يشمل ؟ .

وكذلك بالنسبة إلى اصول الدين : مثل الامور المرتبطة باللّه سبحانه وتعالى ، وصفاته ، والنبّوة العامّة والنبوّة الخاصّة ، والامامة ، والمعاد ، بل وكذلك ما هي من شؤنها : كأحوال القيامة ، وأحوال البرزخ ، والملائكة ، وغيرها .

وعلى كلّ حال : يكفينا ما وصلنا من الأخبار والاجماعات ، بل والأدلّة العقليّة في جملة من تلك الاصول ، بل والفروع أيضاً بمقتضى قاعدة : « كلّما حكم به العقل حكم به الشرع » ، فلا حاجة إلى البحث والتفتيش والتنقيب في انّ ظواهر القرآن حجّة ام لا ؟ كما وقع بين الاخباريين .

( مع انّ جُلّ آيات الاصول والفروع ، بل كلّها ، ممّا تعلّق الحكم فيها بأمور مجملة ) ومن المعلوم انّ المجمل لا يمكن الأخذ به لأنّه لا ظاهر له .

وعليه : فالآيات بين : ما لا ظاهر لها ، وبين ما لها ظاهر ، لكن الروايات والاجماعات والأدلّة العقلية تكفينا عنها ، فانّ المجمل ( لا يمكن العمل بها الاّ بعد

ص: 223

أخذ تفصيلها من الأخبار » ، انتهى .

أقول : ولعلّه قصّر نظره الى الآيات الواردة في العبادات ، فانّ أغلبها من قبيل ما ذكره ،

------------------

اخذ تفصيلها من الاخبار انتهى ) (1) .

وفيه : انّ كلا الاشكالين :- اشكال : كفاية الاخبار ، والاجماعات ، والأدلّة العقليّة ، عن الاحتياج إلى ظواهر القرآن الحكيم ، واشكال : انّ الايات كلّها مجملات فلا يمكن أخذ شيء منها - غير تامّ .

ولا يخفى انّ المتوهّم ، وان كان من اعاظم العلماء وهو : المولى أحمد النراقي في كتابه : « مناهج الاصول » ، الاّ أنّا تتبّعنا الآيات ، والروايات ، والاجماعات والادلّة العقليّة ، فظهر لنا عدم صحّة اشكالية .

( اقول : ولعلّه ) أي : المتوهّم ( قصر نظره ) أي : نظر فقط ( إلى الآيات الواردة في العبادات ) مثل قوله تعالى : « وَأقِيمُوا الصّلاةَ وَآتُوا الزّكاةَ ... »(2) .

وقوله تعالى : « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ... »(3) ، وقوله تعالى : « ولِلّهُ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ ... »(4) ، وغير ذلك من سائر آيات العبادات ( فانّ اغلبها من قبيل ما ذكره ) ، أي : انّها لا ظاهر لها ، حيث انّها مجملة ، وقد ورد في تفسيرها روايات متواترة ، واجماعات متكثّرة ، فلا ثمرة في البحث عن : حجيّة ظواهرها ، أو لا حجّيّتها ، ومع ذلك فسيأتي فيآخر كلام المصنِّف الاشكال أيضاً في استفادة الاحكام من آيات العبادات .

ص: 224


1- - مناهج الاصول للنراقي : ص158 .
2- - سورة البقرة : الآية 43 .
3- - سورة البقرة : الآية 183 .
4- - سورة آل عمران : الآية 97 .

وإلاّ فالاطلاقاتُ الواردة في المعاملات ممّا يتمسّك بها في الفروع الغير المنصوصة او المنصوصة بالنصوص المتكافئة كثيرةٌ جدّا ، مثل : « اُوفوا بالعُقودِ » ، و « أحَلَّ اللّه ُ البَيعَ » ،

------------------

( والاّ ) أي : وان لم يقصر نظره إلى آيات العبادات ( فالاطلاقات الواردة في المعاملات ) بالمعنى الأعم ، اذ المعاملة تشمل العقد ، وتشمل الايقاع في بعض اطلاقاتها ( ممّا ) أي من الاطلاقات التي ( يتمسّك بها في الفروع غير المنصوصة ، أو المنصوصة بالنصوص المتكافئة ) أو بالنصوص المجملة ، ( كثيرة جداً ) أي انّا نحتاج إلى الآيات في موارد عديدة .

الأوّل : في الفروع التي لا نصّ فيها .

الثاني : في الفروع التي فيها نصّ لكن هناك نصوص متعارضة ومتضاربة ، ممّا يرجع إلى القرآن الحكيم من الفيصلة بينها وترجيح هذا على ذاك ، أو ذاك على هذا .

الثالث : الاخبار التي هي مجملة ، ولا يستفاد منها الفرق المراد ، بحيث لو لم تكن الاية لم نتمكن من استجلاء ما أريد بالرواية ، فثمرة حجّيّة ظواهر القرآن الحكيم ، تظهر في هذه الموارد .

( مثل : « اوفُوا بِالعُقُوْدِ » (1) ) هل يشمل المعاطاة والعقود الجديدة ، من : التأمين والمغارسة ، وعقد الهيئة لا الفرد ، وغيرها ، ممّا كثر ذكرها في كتب المتأخرين خصوصاً مثل الشهيد في المسالك وغيره ؟ .

( و ) مثل : ( « أَحَلَّ اللّهُ البَيْعَ » (2) ) هل يشمل بيع الروح لا الجسم ، كأن يبيع

ص: 225


1- - سورة المائدة : الآية 1 .
2- - سورة البقرة : الآية 275 .

و « تِجارَةً عَن تراضٍ » ، و « فَرِهانٌ مقبوضَةٌ » ،

------------------

روح المال السائل في اعيانه ، لا جسم الاعيان ، فالبايع والمشتري يشتركان في هذا الروح وهذا الجسم ، فلأحدهما الروح ، ولأحدهما الجسم ؟ .

وهل يشمل بيع الحقّ ، كحقّ الصوت ، وحقّ تركيب الدواء ، ونحو ذلك ، خصوصاً في المسائل الحديثة المتكثّرة ؟ وقد ألمعنا إلى جملة من هذه المسائل الحديثة في كتاب « الفقه : الحقوق » (1) .

وهكذا يقال بالنسبة إلى وقف الروح لا الجسم ، كما اذا كانت له اموال متعددة ، كدور ، ودكاكين ، وبساتين ، وما اشبه ذلك ، لكنّه يقف روحها لا جسمها ، فالمتولي يتمكن من تبديل الجسم الى جسم آخر ، كجعل الدكان داراً ، والدار دكاناً إلى غير ذلك ، وانّما يحتفظ بالروح فقط .

( و ) مثل : ( « تِجارَة عَن تَراضٍ » (2) ) هل يشمل مثل تجارة : الحقوق وانّ كلّ من ابتكر ابتكارًا يبيع حقّه لانسان ، وذلك الانسان يتاجر بتلك الحقوق ، صلحاً ، ورهناً ، واجارة ، وما اشبه ؟ .

وهل يشمل مثل اجارة الرحم من المرأة لتربية ولد من غيرها في رحمها ، كما يتعارف عليه الآن .

( و ) مثل : ( « فَرِهَانٌ مَقْبُوْضَةٌ » (3) ) حيث دلّت على جواز الرهن ، واشتراط القبض فيه ، فهل هذا ينطبق في كلّ مكانّ ، او في أماكن خاصّة وردت في الروايات ، أو ذكرها بعض الفقهاء ؟ مثلاً : هل يشمل رهن الانسان نفسه لمقتضى ،

ص: 226


1- - راجع موسوعة الفقه : ج100 للشارح .
2- - سورة النساء : الآية 29 .
3- - سورة البقرة : الآية 283 .

و « لا تُؤتُوا السُّفهاءَ أموالكُمْ » ، و « لا تَقرَبوا مالَ اليَتيم » ، و « اُحِلَّ لكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ » ،

------------------

« النّاس مسلّطون على انفسهم » (1) أو لا يشمل رهن الانسان نفسه ، إلى غير ذلك .

ومثل : ( « وَلاَ تُؤُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُم » )(2) دلّت على انّ السّفيه ، محجور ، لكن الكلام في انّه : هل المراد السفيه الكامل ، او يشمل السفيه الأقوالي ، لا الأعمالي ؟ .

وهل يشمل السفيه ، بكلّ اقسامه : كالمعتوه والمسرف ، والمبذّر ، ونحوهم ، او خاص بقسم من السفهاء ؟ .

ومثل : ( « وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيْمِ » )(3) هل المراد بالأحسن في الاستثناء ، الأحسن واقعاً ، أو المراد : الاحسن مثل الأقوى والاحوط في اقوال الفقهاء .

ومثل الاولى في قوله سبحانه : « أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى » (4) بالنسبة إلى اهل النار ، فهل المراد بالاية المباركة امثال هذه الامور ، حيث يريد الفقهاء : القوة والاحتياط ، ويريد اللّه سبحانه وتعالى : انّه يستحق العقاب ، لا انّ العقاب اولى والجنّة أيضاً مستحقة له او المراد الأحسن التفضيلي ؟ .

( و « أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم ... » )(5) حيث وردت الآية في باب النساء في قوله سبحانه : « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ، وَبَنَاتُكُمْ ، وَأَخَوَاتُكُمْ ، وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ ، وَبَنَاتُ الأَخِ ، وَبَنَاتُ الأُخْتِ ، وَأُمَّهَاتُكُم اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ ، وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرّضَاعَةِ ، وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وربائبكم اللاَّتِي فِيْ حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ، فَإِن لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ، فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُم الَّذِيْنَ مِنْ أَصْلاَبِكُم ، وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ، انَّ اللّهَ كَانَ غَفُوْرا رَحِيْما *

ص: 227


1- - وهذه القاعدة تستفاد من قوله تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم الاحزاب 6 .
2- - سورة النساء : الآية 5 .
3- - سورة الانعام : الآية 152 .
4- - سورة القيامة : الآية 31 .
5- - سورة النساء : الآية 24 .

و « إن جاءكم فاسِقٌ بنَبَأ فَتَبَيَّنُوا » ، و « فلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ » ،

------------------

وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ ايْمَانكُمْ ، كَتَاب اللّهِ عَلَيْكُمْ ، وَأحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ، أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِيْنَ غَيْر مُسَافِحِيْنَ ، فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ، فَأتُوْهُنَّ أجُوْرَهنَّ فَرِيْضَة » (1) الآية .

فهل كلّ امرأة لم تذكر فى الآية محلّلة ، أم لا ، في غير موارد الروايات ، الّتي دلّت على حرمة أقسام أُخر من النساء ؟ .

مثلاً : لو لاط صبيّ بآخر ، وهما لم يبلغا الحلم ، فهل تحلّ اخت الملوط ، وأمّه ، وبنته للفاعل ،، بأن يكون النصّ المحرّم خاصا بالكبار دون الصغار ، أو النّصّ أعمّ ؟ .

أي انّ الآية ، هل تفيد الحليّة بالنسبة الى الطفلين ، أو لا تفيد ؟ .

( و ) مثل : ( « إن جَائَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا » (2) ) فان الآية دلّت ، على حجيّة خبر العادل ، لكن هل المراد : الفسق مطلقا ، أو الفسق اللساني ، حتّى يكون الفاسق عملاً المستقيم لسانا ، لايحتاج خبره الى التبيّن ؟ وهل المراد بالتبيّن : الى حد العلم بالدلالة ، أو يكفي التبين العرفي الموجب للظنّ ؟ .

وهل الفاسق أعمّ من غير العادل ، اذا قلنا : بأنّ بينهما واسطة ، أو خاص بالفاسق ، فالواسطة داخلة في المفهوم ؟ الى غير ذلك من الفروع المتعدّدة .

( و ) مثل : ( « فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة » ) « منهم طَائفَة لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّيْنِ ، ولَيُنْذِرُوا قَوْمهُمْ إِذَا رَجعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » (3) .

هل هذه الفرقة هي الثلاثة ، أو يشمل الاثنين ، أو يشمل حتّى الواحد ؟ واذا قلنا

ص: 228


1- - سورة النساء : الآيات 23 - 24 .
2- - سورة الحجرات : الآية 6 .
3- - سورة التوبة : الآية 122 .

و « فَاسألوا أهلَ الذِّكر » ، و « عَبدا مَملوكا لا يَقدِرُ على شيء » ، و « ما على المُحسِنينَ من سَبيل »

------------------

بانّه يشمل الواحد أيضا ، فهل قوله حجّة على المستمعين ، أو ليس بحجّة ، وانّما يوجب قوله الفحص ؟ وما اشبه .

( و ) مثل : ( « فَسْأَلُوا أهْلَ الذِّكْرِ » ) « إِن كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ » (1) .

فهل الآية تشمل التقليد أم لا ؟ وكذلك بالنسبة الى القضاء ، وقول اهل الخبرة الذين ليسوا بعدول ؟ بل وهل تشمل الاعتماد على أهل الخبره ، كالاعتماد على سائقي السيارات ، والبواخر ، والطائرات ، وما اشبه ؟ فهل هو من الاعتماد على أهل الذكر للملاك أم لا ؟ .

( و ) مثل : ( « عَبْدا مَمْلُوْكا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيء » )(2) .

فهل يشمل كلام العبد أيضا في أجرائه صيغة نكاح ، أو طلاق ، أو بيع ، أو ما اشبه حتّى يلزم ان يكون باجازة المولى ؟ .

وكذلك اذا استأجرناه لقرائة قرآن ، أو دعاء ، أو نحوهما ممّا لا يزاحم حقّ المولى ، فهل هذا يحتاج الى اجازة المولى ، أو لايحتاج اليها لانّه ليس بشيء ؟ ( و ) مثل : ( « ما عَلى المُحسِنِين مِن سَبِيل » )(3) .

فهل السبيل أعمّ من الضمانات ، أو خاص بالعقوبات الدنيويّة والاخرويّة ؟ فاذا اضطر الى انقاذ غريق بالمرور في أرض مغصوبة ، أو الاستفادة من حبل مغصوب ، أو سفينة مغصوبة ، هل يضمن أم لا ؟ .

وكذلك اذا أراد انقاذ انسان من الحريق أو انسان يريد افتراسه حيوان ،

ص: 229


1- - سورة النحل : الآية 43 .
2- - سورة النحل : الآية 75 .
3- - سورة التوبة : الآية 91 .

وغير ذلك ممّا لا يحصى .

بل وفي العبادات أيضا كثيرةٌ ، مثل قوله : « إنّما المُشرِكونَ نَجَسٌ ، فلا يَقرَبوا المَسجِدَ الحَرامَ » ، وآيات التيمّم ، والوضوء والغسل .

------------------

أو ما أشبه فحمله واخذ يركض به لانقاذه فسقط وانكسر رأس المحمول ، فهل يكون الحامل ضامنا أم لا ؟ .

( وغير ذلك ممّا لا يحصى ) في هذه العجالة .

( بل وفي العبادات أيضا ) آيات ( كثيرة ) لها ظواهر ، وليس في موردها خبر ، ولا اجماع ، ولا دليل عقلي يمكن الاعتماد عليه في استفادة الحكم ( مثل قوله ) تعالى : ( « إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ ، فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ ) بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا » (1) .

فهل الآية المباركة تفيد النجاسة الظاهرية أو المعنوية ؟ .

وهل تشمل أهل الكتاب أم لا ؟ .

وهل يراد بالمسجد الحرام خصوص المسجد الحرام ، أو يشمل سائر المساجد ، كمسجد الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والمسجد الاقصى ، ومسجد الكوفة ، وغيرها من المساجد بناءا على استفادة الملاك من الآية المباركة ؟ .

( وآيات التيمّم ، والوضوء ، والغسل ) مثل قوله سبحانه : « يَاأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إَلَى الصَّلاَةِ ، فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ ، وَإِن كُنْتُمْ جُنُبا فَاطَّهَّرُوا ، وَإِن كُنْتُمْ مَرْضَى ، أَوْ عَلَى سَفَرٍ ، أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ ، أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ ، فَلَمْ تَجِدُوا مَاءا ، فَتَيَمَّمُوا صَعِيْدا طَيِّبا ، فَامْسَحُوا بِوجُوْهِكُمْ وَأَيْديكُمْ مِنْهُ » (2) .

ص: 230


1- - سورة التوبة : الآية 28 .
2- - سورة المائدة : الآية 6 .

وهذه العمومات ، وإن ورد فيها أخبارٌ في الجملة ، الاّ أنّه ليس كلّ فرع ممّا يتمسّك فيه بالآية ورَدَ فيه خبر سليم عن المكافى ء ، فلاحظ وتتبّع .

------------------

ففي التيمّم : هل المقصود من الصعيد ، مطلق وجه الارض ، كي يشمل الحجارة ، والرمل ، واراضي النورة ، والجص ، ونحوها ، أو خاص بالتراب ؟ .

وفي الوضوء : اذا كان عضو عليه جبيرة ، هل عليه الوضوء أو التيمّم ؟ .

وفي الغسل : هل يشمل الاغتسال بالماء المبدّل من الهواء ، أو خاص بالماء الخارجي غير المبدّل ؟ وهل يشمل مثل ماء الورد ونحوه أو لا يشمل مثل ذلك ؟ .

( وهذه العمومات ) والظواهر ، والاطلاقات ( وان ورد فيها) أي : في مواردها (اخبار في الجملة ، الاّ انّه ليس كلّ فرع ممّا يتمسّك فيه بالاية ورد فيه خبر سليم عن المكافى ء ) ليكون ظاهرا في مفاده ، غير مجمل ( فلاحظ ) الفقه لترى هذه المباحث مطروحة هناك كثيرا .

والذي يلاحظها ، يطَّلع على انّ الايات الكريمة التي تكون محل الابتلاء في فروع كثيرة وتعدّ بالآلاف ( و ) ذلك يظهر لمن ( تتبع ) تتبّعا كاملاً .

هذا بالاضافة الى انّ القرآن كتاب أُنزل لإخراج الناس من الظلمات الى النور ، في كلّ ابعاد الحياة العلمية والعملية ، فلو لم يكن له ظاهر أو كان له ظاهر لكنه ليس بحجّة ، لم يكن له هذه الخاصيّة ، حتّى مع الغضّ عن الاصول الاعتقادية والمسائل الفرعيّة .

ويستفاد ما ذكرناه - من انّ القرآن كذلك - من تصريح عشرات الروايات في باب القرآن الحكيم ، ذكرها المجلسي في البحار ، والمحدثان : العاملي والنوري في الوسائل والمستدرك .

ص: 231

الثاني : إنّه إذا اختلف القِراءةُ في الكتاب على وجهين مختلفين في المؤدّى ، كما في قوله تعالى : « حَتّى يَطَّهَّرْنَ » ، حيث قرء بالتشديد من التطهّر الظاهر في الاغتسال ، والتخفيف من الطهارة الظاهرة في النَّقاء عن الحيض .

------------------

التنبيه : ( الثاني ) في اختلاف القراءات وسنتكلّم ان شاء اللّه تعالى - في التنبيه الثالث ، حول انّ القراءات لا ربط لها بالقرآن الحكيم ، بل هي اجتهادات شخصيّة لا تفيد علما ولا عملاً بالنسبة الى ما في الكتاب ، من أوّله الى آخره .

( انّه اذا اختلف القِرائة في الكتاب ، على وجهين مختلفين في المؤدّى ) أي : في النتيجة بما كانت القرائتان تختلفان في الحكم الشرعي ( كما في قوله تعالى ) :

« وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ ( حَتَّى يَطْهُرْنَ ) » (1) بالنسبة الى المرأة الحائض والنفساء ، حيث انّ النفساء أيضا كالحائض في الاحكام - كما قرر في محلّه - وذلك ( حيث قرء بالتشديد من التطهّر ) باب الافتعال ، من : تفعّل يتفعّل تفعّلاً ، (الظاهر في ) تحصيل الطهارة ، وهو : ( الاغتسال ) فاذا طهرت من الدّم ، ولم تغتسل، يحرم مقاربتها ، وانّما يجوز المقاربة بعد الغسل .

( والتخفيف ) من باب فعل يفعُل : شرف يشرف ، أي : يطهرن ( من الطهارة الظاهرة في ) حصول ( النقاء ) والطهارة ( عن الحيض ) فبمجرّد نقائها عن الحيض يجوز مقاربتها ، لانّ الدّم قد انقطع ، فتكون قد طهرت من الدّم ، وان لم تغتسل .

أقول : الظاهر انّه لا فرق بين القرائتين من المفاد ، فانّ النقاء من الدّم ، أو الاغتسال أو غسل المحل بالماء حتّى لايكون ملوّثا بالدّم كلّه طهارة ، وذلك لانّ

ص: 232


1- - سورة البقرة : الآية 222 .

فلا يخلو : إمّا أن نقول بتواتر القراءات كلّها ،

------------------

التطهّر من باب التفعل ، يستعمل بمعنى الطهارة الخبثيّة أيضا ، كما ذكروا في وجه نزول قوله سبحانه: « إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِيْنَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِيْنَ » (1) فيمن غسل نفسه بالماء من الغائط .

لا يقال : طهر ، ظاهر في كون الطهارة بنفسها ، فيكون المراد انقطاع الدّم ، بخلاف باب التفعل ، حيث الظهور في فعل المرأة شيئا .

لانّه يقال : أوّلاً : فعل المرأة الغَسل بالفتح ، أو الغُسل بالضمّ ، هذا يبقى مجملاً ، والأصل عدم الاحتياج الى الاغتسال ، منتهى الامر : يكون اللازم غسلها نفسها .

ثانيا : يطهُرْنَ بالتخفيف ايضا يحتمل الامرين ، لانّ حصول الطهارة قد يكون بنفسه ، وقد يكون بسبب انسان ، أو ما اشبه ، ولذا يقال لمن طهّر نفسه : انّه طاهر ، وحيث انّ البحث فقهي نكتفي بهذا القدر .

وعلى أي حال : ( فلا يخلو امّا ان نقول : بتواتر القراءات ) السبع أو العشر ( كلّها ) بمعنى : انّ القراءات قد تواترت عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم وانّ النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم قرء بكلّ هذه الاوجه العشرة ، أو الأوجه السبعة .

فانّهم قد اختلفوا في انّ جميع القراءات متواترة ، عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم أو ليس شيء منها متواترا ، بل كلّها باجتهاد القرّاء ، حسب القواعد العربية ، والوجوه الاستحسانية ، وانّما وصل القرآن اليهم بقرائة واحدة .

أمّا مسألة الاعراب والنقاط فأمر خارج عن هذا المبحث ، لانّه لا اشكال في انّ القرآن كان يؤخذ عن الشيوخ ، وهم عن شيوخهم ، وهكذا ، حتّى ينتهي الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم الى جبرائيل الى اللّه سبحانه وتعالى .

ص: 233


1- - سورة البقرة الآية 222 .

...

------------------

وقال بعض : بتواتر سبع قراءات منها .

وقال بعض : بتواتر عشر منها .

أمّا القرّاء السبعة فهم : نافع ، وابو عمرو ، والكسائي ، وحمزة ، وابن عامر ، وابن كثير ، وعاصم .

وأمّا العشرة : فبزيادة أبي جعفر ، وابي يعقوب ، وأُبيّ بن خلف .

وقال بعض : انّ المتواتر ليس كلّ العشرة ، بل في ضمن العشرة .

وقال بعض : انّ المتواتر في ضمن هذه السبعة لا كلّها .

ثمّ اختلفوا في انّ جميع جهات القراءة متواترة ، بمعنى جوهر الألفاظ ، مثل : «مالك وملك » في سورة الحمد ؟ أو انّ أدائها أيضا متواتر ، مثل : المدّ والادغام ونحوهما ؟ أو انّ كلّ الخصوصيات متواترة ، من الحركات ، والسكنات ، والتنوين ، وغير ذلك ؟ ثمّ اختلفوا في انّه هل يجوز في الصلاة ، القراءة بكلّ قرائة ، أو بالمتواتر من القراءات فقط ، - على الاقوال المتعدّدة - ؟ كما يظهر ذلك لمن راجع الشاطبي وغيره ، ممّن كتبوا حول التجويد ، وقد ألمعنا الى بعض ذلك من شرح الجزري .

والذي يؤيّد عدم صحّة قولهم بتواتر القراءات عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم : انّ هؤلاء القرّاء ولدوا بعده بمدة . ووفياتهم كما ذكروا على النحو التالي :

نافع : مائة وتسعة وستين 169 ه- .

ابو عمرو : مائة وسبعة وخمسين ، 157 ه- .

كسائي : مائة وثلاثة وثمانين ، 183 ه- .

ص: 234

كما هو المشهور ، خصوصا في ما كان الاختلاف في المادّة ، وإمّا أن لانقول ، كما هو مذهب جماعة .

فعلى الأوّل ، فهما بمنزلة آيتين تعارضتا ،

------------------

حمزة : مائة وستة وخمسين ، 156 ه- .

ابن عامر : مائة وثمانية عشر ، 118 ه- .

ابن كثير : مائة وستة وعشرين ، 126 ه- .

عاصم : مائة وسبعة وعشرين ، 127 ه- .

فكيف كان المسلمون يقرؤن القرآن في تلك المدّة في زمان النّبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، ومن بعده الى أزمنة هؤلاء ؟ .

ثمّ انّ آثار الاجتهاد ظاهرة في استدلالاتهم .

وعلى أي حال : فالقول بتواتر القراءات في غاية الضعف ، وقول المصنّف : ( كما هو المشهور ، خصوصا في ما كان الاختلاف فى المادة ) محل تأمّل ، وقد عرفت الفرق بين : المادة ، والكيفية ، والأداء .

( وامّا أن لا نقول ) : بتواتر شيء منها اطلاقا ، وانّما المتواتر هو : القرآن المتلوّ على الكيفية المعيّنة ، أكثر من عشرة قرون - على ماسيأتي - ( كما هو مذهب جماعة ) كبيرة ، بل هذا هو المشهور شهرة عظيمة ، حتّى انّ القول الاوّل ، يمكن ان يعدّ من النادر .

وكيف كان : ( فعلى الاوّل ، فهما ) أي القرائتان المتنافيتان في المؤدّى ( بمنزلة آيتين تعارضتا ) .

فكما أنّه اذا تعارضت آيتان فرضا ، يجب الجمع بينهما ، كما في تعارض الروايتين الحجّتين ، كذلك اذا تعارضت قراءتان على فرض صحّة القرائتين

ص: 235

لابدّ من الجمع بينهما بحمل الظاهر على النصّ أو على الأظهر ، ومع التكافؤ لابدّ من الحكم بالتوقف والرجوع الى غيرهما .

------------------

وتواترهما ، فانّه (لابدّ من الجمع بينهما بحمل الظاهر على النصّ ) اذا كان هناك نصّ وظاهر ، كالعام والخاص ( أو ) حمل الظاهر ( على الاظهر ) اذا كان بين الآيتين فرضا ظاهر واظهر ، - كما ذكروا - ذلك بالنسبة الى المفهوم والمنطوق وانّ المنطوق في مفاده اظهر من المفهوم .

وكذلك الحال اذا كان بينهما مجمل ومبيّن ، فانّ المجمل محمول على المبيّن .

وكذلك المطلق والمقيّد ، الى غير ذلك ممّا يكون وجه جمع بينهما .

( ومع التكافؤ ) والتكافؤ يحصل بان يكون بينهما تباين ، أو عموم من وجه في مورد الجمع ( لابدّ من الحكم بالتوقّف ) في الاستفادة من الآيتين ، وتقديم التخفيف على التشديد للاصل اللفظي ، أو العكس للاصل العملي ، لا وجه له .

اذ الاوّل : ليس من بناء العقلاء . والثاني عبارة عن الرجوع الى دليل خارجي ، لا الاستفادة من الآية .

نعم ، اذا كانت الرواية مطابقة لإحدى القرائتين قدّمت تلك بالمعونة الخارجيّة ، كما ان الدليل العقلي اذا كان مع احداهما ، قدمت أيضا .

( و ) على اي حال : فاذا كان الامر هو : التوقّف ، يلزم ( الرجوع الى غيرهما ) أي غير الآيتين ، فامّا يرجع في الآية المتقدّمة الى عموم : « نساؤكم حرث لكم » (1) بالنسبة الى الجواز ، أو الى استصحاب التحريم ، بالنسبة الى المنع ، هذا بالنسبة الى المقاربة ، امّا بالنسبة الى الصلاة ، والصيام ، وما اشبه ذلك فلكلّ دليله من هذا الجانب ، أو من ذلك الجانب .

ص: 236


1- - سورة البقرة الآية 223 .

وعلى الثاني ، فان ثبت جوازُ الاستدلال بكلّ قراءة كما ثبت بالاجماع جواز القراءة بكلّ قراءة ، كان الحكمُ كما تقدّم ، وإلاّ فلابدّ من التوقف في محلّ التعارض والرجوع إلى القواعد ، مع عدم المرجّح

------------------

هذا كلّه على الاوّل ، وهو : تواتر القراءات ( وعلى الثاني : ) أي : بناءا على عدم تواتر شيء من القراءات اطلاقا ( فان ثبت جواز الاستدلال بكلّ قرائة ، كما ثبت بالاجماع ) - ولعلّ المصنّف أراد : الاجماع المنقول ، والاّ لم نظفر نحن بمثل هذا الاجماع محصلاً - ( جواز القراءة بكلّ قرائة ) .

بل مقتضى السيرة القطعيّة ، والرواية التي وردت بانّه : « لايُهيّج القرآن اليوم » (1) وغيرهما : عدم جواز القراءة ، الاّ بالقرائة المتداولة المشهورة ، التي عليها المصاحف منذ أكثر من الف سنة على ما تقدّم رؤيتنا لامثال تلك المصاحف المباركة ، ( كان الحكم كما تقدّم ) اي : يجمع بين الايتين ، لحمل الظاهر على الأظهر ، أو الظاهر على النصّ ، الى آخر ما ذكر في الاوّل .

( والاّ ) اي : ان لم نقل بتواتر القراءات ، وكذلك لم نقل بجواز التمسّك بكلّ قرائة - وان قلنا : بتواتر القراءات فرضا - بل قلنا : بانّه يلزم التمسّك بما هو قرآن متعارف عند المسلمين . ( ف- ) اللازم العمل ، بما هو المتواتر : قرائة ، والمذكور في المصاحف : خطا .

أمّا قول المصنِّف قدس سره : ( لابدّ من التوقف في محل التعارض والرجوع الى القواعد ) فمحل تأمّل ، اذ لم يظهر وجه لذلك ، بناءا على الاحتمال الثالث ، الذي ذكره بقوله : « والاّ ، فلابدّ من التوقّف » ( مع عدم المرجّح ) لإحدى القرائتين على الأخرى .

ص: 237


1- - بحار الانوار : ج98 ص10 ب23 وفيه «لا يغيّر القرآن اليوم» .

أو مطلقا بناءً على عدم ثبوت الترجيح هنا ، فيحكم باستصحاب الحرمة قبل الاغتسال ، إذ لم يثبت تواتر التخفيف ،

------------------

( أو مطلقا ) أي : سواء كان مرجّح أو لم يكن مرجّح ( بناءا على عدم ثبوت الترجيح هنا ) في الآيات القرآنية ، وانّما الترجيح ثابت في الروايات .

وحيث لم يثبت ترجيح في الآيات القرآنية ، فاللازم التوقف ، والرجوع الى القواعد الاوّليّة من الاصول ، او غيرها .

وان شئت قلت : انّ في المقام امورا :

الأوّل : ان نقول بتواتر القراءات ، فيجمع بين الآيتين .

الثاني : ان لانقول بالتواتر ، لكن نقول بجواز الاستدلال بكلّ قرائة ، وهنا أيضا يجمع بين الآيتين .

الثالث : ان لانقول بالتواتر ، ولا بجواز الاستدلال ، وعلى هذا يلزم العمل على القراءة المشهورة المتعارفة ، لانّ هذا هو القرآن ، وغيره ليس بقرآن .

وعلى أي حال : فاذا لم يتمسّك باحدى القرائتين للتعارض بينهما ، لزم الرجوع الى دليل خارجي .

( ف- ) في المثال المتقدّم في : يَطهُرنّ ويطَّهرنَ ( يحكم باستصحاب الحرمة ) للمقاربة بعد النقاء ( قبل الاغتسال ) لانّه كان في حال الحيض محرما ، فيستصحب التحريم ، الى ان يقطع بالحليّة ، ومورد القطع بالحليّة هو : بعد الاغتسال .

لكن ربّما يقال : بعدم جواز الاستصحاب ، لانّه من تغير الموضوع عرفا .

وانّما يتمسّك بالاستصحاب ويحكم بالتحريم ( اذ لم يثبت تواتر التخفيف ) الذي يدل على الجواز قبل الاغتسال .

ص: 238

او بالجواز بناءً على عموم قوله تعالى : « فأتوا حَرثكُمْ أنّى شِئتُمْ » ، من حيث الزمان ، خرج منه أيّامُ الحيض على الوجهين في كون المقام من استصحاب حكم المخصّص او العمل بالعموم الزمانيّ .

------------------

( أ و ) يتمسك ( بالجواز ) للمقارنة بين النقاء وقبل الاغتسال ( بناءا على عموم قوله تعالى : « فَأتُوا حَرْثَكُم أنّى شِئْتُم » (1) ) ، فانّه اذا كان له عموم زماني ، دخل هذا الفرد في هذا العموم ، ولم يعرف بخروجه منه ، فانّه قد اختلف في المراد من « انّى » هل انّه ( من حيث الزّمان ) أو من حيث المكان ، أو من الحيثين ، للاطلاق في « أنّى » .

( وخرج منه ) أي : من العموم ، بناءا على كون « أنّى » زمانيا ، أو أعمّ ( ايّام الحيض ) فقط ، اما غير أيام الحيض ، فهو داخل في العموم .

وانّما قلنا : بانّ المورد من الاستصحاب ، او التمسّك بالعموم ( على الوجهين ) المذكورين في محله ( في كون المقام ) وامثاله ممّا كان هناك عموم وكان استصحاب :

( من : استصحاب حكم المخصّص ) وهو قوله سبحانه : « فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيْضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ ... » (2) فيكون الحكم : الحرمة .

( أو العمل بالعموم الزّماني ) وهو قوله سبحانه : « فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ » (3) الدال على الجواز ، فاذا قال المولى : « أَوْفُوا بِالعُقُودِ » (4) .

وقال : للمغبون خيار ثمّ شككنا في انّ الخيار مستمر ، أو خاصّ بوقت العلم بالغبن فوراً ، فانّه خلاف في انّ البيع بعد العلم بالغبن هل هو لازم ، تمسّكا بقوله

ص: 239


1- - سورة البقرة الآية 223 .
2- - البقرة : الآية 222 .
3- - سورة البقرة : الآية 223 .
4- - سورة المائدة : الآية 1 .

الثالث :

------------------

تعالى : « اوْفُوا بِالعُقُوْدِ » (1) الّذي هو العامّ ؟ أو جائز تمسّكا باستصحاب الخيار المخصّص لذلك العامّ ؟ وتفصيل الكلام في موضعه .

لكنّك قد عرفت انّ هذا المبحث اقرب إلى كونه علميّا من كونه عمليّا .

التنبيه ( الثالث : ) ونقدّم لهذا التنبيه مقدّمة ، وهي : انّ القرآن الحكيم ، كما نستظهره من الأدلّة ، ومن الحسّ ، لم ينقص منه حرف ، ولم يزد عليه حرف ، ولم يغيّر منه حتّى فتح ، أو كسر ، أو تشديد ، أو تخفيف ، ولا فيه تقديم ولا تأخير ، بالنسبة إلى ما رتّبه الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وان كان فيه تقديم وتأخير حسب النزول ، فانّ القرآن الّذي هو بأيدي المسلمين اليوم هو نفسه القرآن الّذي كان في زمن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم . فقد عيّن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم بنفسه ، مواضع الآيات والسور ، حسب الّذي نجده الآن ، وهناك روايات تدلّ على ذلك : فقد روي متواتراً ، انّ الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم قال ، « مَن خَتَمَ القُرآن كَانَ لَهُ كَذا » (2) فلو لم يكن القرآن مجموعاً كاملاً في زمانه ، لم يكن معنى لختمه ، كما أن القرآن كان مكتوبا في زمانه بكامله ، وموضوعا في مسجده عند منبره ، يستنسخه من أراد ، هذا وكان الآلاف من المسلمين قد حفظوا القرآن كلّه - كما في التواريخ (3) .

وهكذا بقي القرآن الّذي كان في زمان الرسول إلى اليوم غضاً سالماً على ما كان عليه من الترتيب والتنظيم .

وامّا مسألة قرآن عليّ عليه السلام - الّذي جاء به فلم يقبلوه منه - فانّما يراد به ما فيه

ص: 240


1- - سورة المائدة : الآية 1 .
2- - اصول الكافي : ج2 ص604 ح5 .
3- - للمزيد راجع كتاب متى جمع القرآن ، للشارح .

...

------------------

من التفسير والتأويل ، كما ذكر ذلك عليّ عليه السلام بنفسه في رواية رويت عنه .

ومن المعلوم : انّهم ما كانوا يريدون التفسير والتأويل ، لأنّه كان يتنافى ومقاصدهم السياسية ، ثمّ انّه حتّى اذا لم يكن فيه التفسير والتأويل ، لم يكونوا يريدونه لانّه يكون امتيازاً له عليه السلام ، حيث يقال : انّ القرآن استنسخ منه .

وأمّا مسألة جمع عمر ، وجمع عثمان - على فرض الصحة - ، فالمراد بالجمع : انّ المصاحف المتشتتة ، الّتي كتب كلّ من الصحابة لنفسه بعض جزء منه ، اتلفت حتّى لا يكون هناك مصحف كامل ، ومصاحف ناقصة ، اذ من الطبيعي انّ مدرس الفقه أو الاصول - مثلاً - الّذي يجمع كلامه تلاميذه ، يختلفون فيما يكتبونه عنه ، حيث انّ بعضهم يكون غائباً لمرض ، أو سفر ، أو ما اشبه ، فلا يكتب هذا الغائب الكلّ ، مع انّ الاستاذ بنفسه ، أوبعض التلاميذ الدائمي الحضور ، يكتبون الكلّ .

وعمر وكذلك عثمان انّما أبادا مثل هذه المصاحف المختلفة والمتشتتة ، لا القرآن الكامل الّذي كان في زمان الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم .

هذا ، وقد لاحظت أنا مصاحف كتبت قبل الف سنة ، وكانت في خزانة الإمام الحسين عليه السلام ، فلم تكن إلاّ مثل هذا القرآن ، بدون أي تغيير اطلاقاً .

وأما مسألة القراءات فهي شيء حادث ، كانت حسب الاجتهادات لجماعة خاصّة ، لكن لم يعبأ بها المسلمون لا في زمان القرّاء ولا بعد زمانهم ، ولم يعتنوا بها اعتناءاً يوجب تغيير القرآن ، وقد تقدّم تاريخ أزمنة هؤاء القرّاء .

كما انّ هناك عدّة مصاحف موجودة من خط الائمة عليهم السلام في كلّ من : ايران ، والعراق ، وتركيا ، وغيرها ، وكلّها كهذا القرآن بلا تغيير اصلاً .

ص: 241

إنّ وقوعَ التحريف في القرآن ، على القول به ، لا يَمنعُ من التمسّك بالظواهر ،

------------------

ولذا نستشكل نحن في صلاة من يقرأ « ملك » في سورة الحمد ، مكان « مالك » أو « كفؤً » بالهمزة في سورة التوحيد مكان « كفواً » بالواو ، او ما اشبه ذلك ، وعلى هذا : فالبحث المذكور في هذا التنبيه مبني على ذلك القول ، لا على القول الّذي اخترناه تبعاً لغير واحد من المحقّقين قديماً وحديثاً .

كما انّ روايات التحريف الموجودة في كتب السنّة والشيعة ، روايات دخيلة ، أو غير ظاهرة الدلالة ، وقد تتبّعنا ذلك فوجدنا ، انّ الروايات الّتي في كتب الشيعة تسعين بالمأة - 90% - منها عن طريق السيّاري ، وهو باجماع الرجاليين كذّاب وضّاع ضالّ ، والبقيّة بين ما لا سند لها ، أو لا دلالة لها ، كما يجدها المتتبّع الفاحص .

واما روايات السنة : فهي أيضاً تنادي بكذب أنفسها ، كما لا يخفى على من راجع الروايات ، في البخاري ، وغيره ، وحيث انّ المسألة خارجة عن مقصد الشرح ، نكتفي منها بهذا القدر ، فنرجع إلى شرح المتن ونقول :

وكيف كان ف( انّ وقوع التحريف ) أي : الزيادة والنقصان ( في القرآن على القول به ) أي : بالتحريف كما ذهب اليه بعض ، خلافاً للمشهور من المحققين ، من عدم وقوع الزيادة والنقيصة فيه ( لا يمنع من التمسّك بالظواهر ) .

أمّا احتمال وجه المنع ، فلأنّا لا نعلم بسلامة هذه الظواهر الموجودة للعلم الاجمالي ، فاذا قال المولى - مثلاً - جئني بأسد يرمي ، فحذف يرمي من كلامه بعد التحريف ، لم يكن الاسد ظاهراً في مراده ، الّذي هو الرجل الشجاع ، فلا يمكن العمل به .

ص: 242

لعدم العلم الاجماليّ باختلال الظواهر بذلك ، مع أنّه لو علم لكان من قبيل الشبهة ، الغير المحصورة . مع أنّه لو كان من قبيل الشبهة المحصورة ،

------------------

وكذلك اذا قال المولى ، كلمات وعلمنا بالحذف في الجملة ، فانّ ظواهر تلك الكلمات لا يمكن العمل بها ، للعلم الاجمالي بخروج بعض الظواهر ، عمّا كان ظاهراً فيه قبل التحريف .

وانّما قلنا : لا يمنع لوجوه ثلاثة ، ذكرها المصنّف : - اولاً : ( لعدم العلم الاجمالي باختلال الظواهر بذلك ) أي : بسبب التحريف ، وذلك لاحتمال ان يكون الساقط آيات مستقلّة ، او كلمات مستقلّة ، غير مخلّة بظواهر سائر الايات ، الّتي هي محل الابتلاء .

مثلاً : نحتمل ان يكون الساقط في سورة يوسف شيئاً مربوطاً بالقصة الغابرة ، ممّا لا مدخليّة لها في اصول الدين ، أو فروعه ، وهكذا ، فالظواهر تبقى على حجّيتها .

ثانياً : ( مع انّه لو علم ) أي : علمنا اجمالاً باختلال بعض الظواهر بالتحريف ( لكان من قبيل الشبهة غير المحصورة ) وقد تقرر في الاصول : انّ الشبهة غيرالمحصورة ، لا توجب للانسان تكليفاً .

كما اذا كان هناك الف أناء فتنجس أناء واحد من تلك الأواني ، فانّ العلم الاجمالي بنجاسة هذا الألف ، لا يوجب الاجتناب عن هذه الأواني في الجملة ، ومعنى في الجملة : انّه لا يجوز ارتكاب الكلّ ، كما قرر في محله .

ثالثاً : ( مع انّه لو كان من قبيل الشبهة المحصورة ) كنجاسة أناء في عشرة أواني ، حيث يلزم الاجتناب عن جميعها ، كما قرر في باب العلم الاجمالي

ص: 243

أمكن القولُ بعدم قدحه ، لاحتمال كون الظاهر المصروف عن ظاهره من الظواهر الغير المتعلّقة ، بالأحكام الشرعيّة العمليّة التي أُمِرنا بالرجوع فيها إلى ظاهر الكتاب ، فافهم .

------------------

( أمكن القول بعدم قدحه ) ، مثلاً- لو فرضنا انّ واحداً في العشرين من ظواهر القرآن اختل بسبب التحريف ، فانّه لا يضرّ بالحجّيّة أيضاً ، مع انّ الشبهة من قبيل المحصورة ، وذلك ( لاحتمال كون الظاهر المصروف عن ظاهره ، من الظواهر غير المتعلقة بالاحكام الشرعيّة العمليّة الّتي اُمرنا ) من قبل الشارع ( بالرجوع فيها ) أي : في تلك الاحكام ( إلى ظاهر الكتاب ) .

فانّ العلم الاجمالي انّما يكون منجّزاً ، اذا علم المكلّف انّ التكليف موجه اليه ، لا ما اذا لم يعلم ، كما اذا كان هناك عشرة أواني قرب بئر ، فوقعت قطره من ماء نجس، ولم يعلم بانّها وقعت في احدى هذه الأواني أو في البئر ، فانّه حيث لا يعلم بحدوث التكليف عليه ، جاز له ارتكاب الكلّ لأدلّة البرائة .

والمقام من هذا القبيل ، حيث انّه في القرآن أحكام وقصص وما اشبه ، فاذا احتملنا انّ التحريف وقع في القصة ، والتاريخ ، وما اشبه ولم نقطع ، بأنّ التحريف وقع في الاحكام جاز لنا الأخذ بالظواهر في جميع الاحكام الّتي هي محل الابتلاء .

( فافهم ) ولعلّه اشارة إلى انّ مناط الحجّيّة : الظهور ، ومع اختلال بعض الظواهر لا يكون بناء العقلاء على الأخذ بظاهر أي منها . فاذا أمر المولى أمراً ونهى نهياً وسَرَد تاريخاً ، ثمّ علمنا من الخارج أو من نفس قول المولى : انّ احد هذه الظواهر ، خرج عن الحجّيّة لخروجه عن الظهور ، فانّ مجرد احتمال ان يكون

ص: 244

الرابع : قد يتوهّم : « أنّ وجوبَ العمل بظواهر الكتاب بالاجماع مستلزمٌ لعدم جواز العمل بظاهره ،

------------------

الظاهر المختل هو التاريخ - مثلاً - لا ينفع في الأخذ بظاهر الأمر والنهي .

وليس المقام من الشبهة غير المحصورة ، بعد ما ورد من حذف ثلث القرآن ، بين قوله سبحانه : « وَإنْ خِفْتُمْ أن لاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامى » (1) .

وقوله سبحانه : « فِأنْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاء ... » (2) .

وفي كتب العامّة ما يشبه ذلك ، بالنسبة إلى اسامي الصحابة ، المحذوفة من القرآن الحكيم .

هذا ، ولكن الجواب الّذي ذكرناه أولاً ، هو الجواب الّذي يمكن الاعتماد عليه عن هذا الاشكال .

التنبيه ( الرابع ) في جواب اشكال ذكره صاحب القوانين ، في العمل بظواهر القرآن وهو انّه ( قد يتوهّم انّ ) اثبات ( وجوب العمل بظواهر الكتاب بالاجماع ) لانّ الاجماع ، هو الّذي يفيد وجوب العمل بظواهر الكتاب ، والمراد به : اجماع غير الّذين خالفوا - كجماعة من الاخباريين - وإلاّ فمن الواضح : انّ الاجماع المطلق غير موجود في المقام .

( مستلزم لعدم جواز العمل بظاهره ) أي : بظاهر الكتاب العزيز ، وما يلزم من وجوده عدمه محال ، لانّه يستلزم اجتماع الوجود والعدم من آن واحد ، بالنسبة إلى شيء واحد إلى سائر الشرائط المذكورة في باب التناقض ، وهذا بديهي الاستحالة .

ص: 245


1- - سورة النساء : الآية 3 .
2- - سورة النساء : الآية 3 .

لأنّ من تلك الظواهر ظاهرَ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ مطلقا حتّى ظواهر الكتاب .

وفيه : أنّ فرضَ وجود الدليل على حجيّة الظواهر موجبٌ لعدم ظهور الآيات الناهية في حرمة العمل

------------------

وانّما يلزم من وجوب العمل ، عدم جواز العمل ( لانّ من تلك الظواهر ) الواجب العمل بها ( ظاهر الايات الناهية عن العمل بالظنّ مطلقاً ) أي : سواء كان العمل بالظنّ من الظاهر ، او من غير الظاهر ، فقوله سبحانه وتعالى : - « وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ » (1)، وغير ذلك من ا لآيات الناهية عن العمل بالظنّ ، تشمل أيضا العمل بالظاهر ، لانّ العمل بالظاهر من صغريات العمل بالظنّ ، اذ نحن لا نقطع من الظاهر بالمراد ، وانّما نظنّ بانّ مراد المولى ذلك .

وعليه : فاذا وجب العمل بظاهر الكتاب ، وجوب العمل بظاهر قوله سبحانه : « وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ » (2) ، وبقوله سبحانه : « إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِيْ مِنَ الحَقِّ شَيْئاً » (3) وغيرها من سائر الآيات ، ومعنى وجوب العمل بها ، عدم العمل بظاهر القرآن ، فظاهر القرآن يقول : لا تعمل بظاهر القرآن ، لأنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ تشمل (حتّى ظواهر الكتاب ) نفسه .

( وفيه : ) اولاً : انّ الآيات الناهية ، لا تشمل الظواهر ، لانّ الظواهر خارجة بالاجماع فهو تخصيص في باب حرمة العمل بالظنّ ، حيث ( انّ فرض وجود الدّليل على حجيّة الظواهر، موجب لعدم ظهور الآيات الناهية ، في حرمة العمل

ص: 246


1- - سورة الاسراء : الآية 36 .
2- - سورة الاسراء : الآية 36 .
3- - سورة يونس : الآية 36 .

بالظواهر ، مع أنّ ظواهر الآيات الناهية لو نهضت للمنع عن ظواهر الكتاب لمنعت عن حجيّة أنفسها ، إلاّ أن يقال إنّها لا تشملُ أنفسَها ، فتأمّل .

وبازاء هذا التوهّم ، توهّمُ : « أنّ خروجَ ظواهر الكتاب عن الآيات الناهية ليسَ من باب التخصيص ، بل من باب التخصّص ،

------------------

بالظواهر) فليست الظواهر من صغريات الظنّ ، لأنّ الظواهر خارجة بالاجماع من باب التخصيص ، وانّما يشمل الظنّ غير الظواهر من الظنون العادية .

ثانياً : ( مع انّ ظواهر الآيات الناهية لو نهضت للمنع عن ظواهر الكتاب لمنعت عن حجّيّة أنفسها ) وذلك محال بأن تقول الاية الناهية : لا تعمل بي ، فانّه لو شملت الآيات الناهية ظواهر الكتاب أيضاً ، لشملت نفسها ، لأنّ نفس هذه الآيات الناهية من ظواهر الكتاب ، وهذا محال .

( إلاّ أن يقال : انّها ) أي : الآيات الناهية ( لا تشمل انفسها ) لأنّ المتبادر من الآيات الناهية غير انفسها .

( فتأمّل ) ويمكن أن يكون إشارة إلى انّه : لا يتمكن الاجماع من اخراج الظواهر ، على نحو التخصيص ، اذ الآيات الناهية آبية عن التخصيص فانّه كيف يمكن أن يقال : انّ طبيعة الظنّ ليست طريقاً ، ثمّ يقول : انّ هذا الظنّ ليس كذلك ؟ وبعبارة اُخرى : انّ الآيات الناهية ، وان لم تشمل انفسها من حيث التبادر اللفظي للانصراف الّذي ذكرناه ، إلاّ انّها تشمل انفسها بالمناط ، ومعنى المناط ، انّ الظنّ الّذي ليس بحجّة في نفسه شامل للظاهر أيضاً .

( وبازاء هذا التوهّم ) القائل بالتخصيص ( توهّم ) آخر قائل بالتخصّص ، وهو : (انّ خروج ظواهر الكتاب عن الايات الناهية ليس من باب التخصيص ، بل من باب التخصّص ) .

ص: 247

لأنّ وجود القاطع على حجّيّتها يخرجها عن غير العلم الى العلم » .

وفيه : ما لا يخفى .

------------------

والفرق بينهما : انّ التخصيص خروج حكمي ، والتخصّص خروج موضوعي ، فاذا قال : اكرم العلماء إلاّ زيداً ، وكان زيد عالماً ، كان تخصيصاً ، أمّا اذا كان زيد جاهلاً كان تخصّصاً ، لانّه لم يدخل في العلماء حتّى يخرج منهم .

فالتوهّم الأوّل كأن يقول : انّ الآيات الناهية شاملة لظواهر القرآن ، إلاّ انّ الظواهر خارجة بسبب الاجماع ، فهو تخصيص .

والتوهّم الثاني كأن يقول : بأنّ الآيات الناهية ، لا تشمل الظواهر اطلاقاً ، بل تشمل سائر الظنون العاديّة ، فخروج الظواهر من باب التخصّص ، وذلك ( لانّ وجود ) الدليل ( القاطع على حجّيّتها يخرجها عن غير العلم إلى العلم ) فانّ ما دلّ على حجّيّة الظواهر ، من الاجماع والروايات المتواترة وما اشبه ، تخرج الظواهر من كونها ظناً إلى كونها علماً .

( وفيه ما لا يخفى ) لأنّ الدليل المعتبر على حجّيّة الظواهر ، لا يجعل الظواهر علماً ، بل تكون ظناً معتبراً ، وفرق بين الظنّ المعتبر ، وبين العلم .

هذا ، ولكن يمكن ان يقال : انّ الظنّ مطلقاً حجّة عند العقلاء ، والشرع لم يغيره .

أمّا انّه حجّة مطلقاً عندهم ، فلبنائهم في كلّ اُمورهم المهمّة وغير المهمّة على الظنون ، فمن يسافر بالطائرة ، أو الباخرة ، أو السيارة ، أو غير ذلك ، هل يعلم انّ سائقها يعرف السياقة كاملاً ، فيوصله بسلام ؟ أو انّ وسيلة النقل الّتي حجز مقعده منها صحيحة سالمة توصله بسلام ؟ فمع انّه لا يعلم بذلك ، يسلم نفسه وامواله وعائلته اليهم ، كما انّه يسلمها جميعاً إلى وسيلة النقل المجهولة .

ص: 248

...

------------------

وكذلك من يعطي نفسه للطبيب ا لجرّاح ، لاجراء عمليّة جراحيّة عليه ، خصوصاً لو كانت العمليّة صعبة هل يعلم بانّ الطبيب الجراح ماهر في مهنته ؟ .

وكذا من يراجع الطبيب في مرضه ويشرب الدواء الّذي وصفه الطبيب له ، هل يعلم بأنّ الدواء دواء سالم عن الاشتباه ، صحيح من حيث التركيب ؟ .

وهكذا من يتاجر فهل يضمن ربح تجارته ؟ ومن يقوّم ملكه لبيعه هل يضمن صحّة تسعيره ؟ إلى غير ذلك من اُمورهم ، اليس كلّ ذلك ظنّ ؟ .

وأمّا انّ الظنّ في الشرع كذلك ، فلأنّ حال المسلمين في زمانهم عليهم السلام ، كان كذلك ، وهم لم يردعوا عنه ، والاّ لوصل خلافه الينا ، ولم يصل ، بل وصل العكس ، وهو : اعتمادهم على الظنّ مطلقاً .

أمّا الآيات الناهية ، فهي في قبال الدليل العقلائي القائم على عدم صحّة عبادة الاصنام ، وما أشبه ذلك حيث كان المشركون يعملون في قبال الدليل على ظنونهم غير العقلائية ، والعقلاء لا يرون مثل هذا الظنّ حجّة ، بالاضافة إلى انّها في اُصول الدين ، فلا يمكن تعديتها إلى فروع الدين ، وسائر الشؤن الدنيويّة ، لأهميّة اُصول الدين بما لا أهمية مثلها في فروع الدين .

ولو لم نقل بذلك ، كان التوهّم الثاني هو الأقرب إلى الدليل ، فخروج الظنّ ، من باب التخصّص لا التخصيص ، اذ التخصيص في معنى قوله سبحانه :

« إنّ الظَنّ لا يُغنِي مِنَ الحَقّ شَيْئاً » (1) ، غير وارد ، فانّ أمثال هذه الاية ، من قبيل ما لا يمكن تخصيصه .

ص: 249


1- - سورة يونس : الآية 36 .

وأمّا التفصيل الآخر : فهو الذي يظهر من صاحب القوانين ، في اخر مسألة حجيّة الكتاب وفي أوّل مسألة الاجتهاد والتقليد ، وهو الفرقُ بين مَن قُصِدَ إفهامُه بالكلام ، فالظواهرُ حجّةٌ بالنسبة إليه من باب الظنّ الخاصّ ، سواء كان مخاطبا ، كما في الخطابات الشفاهيّة ، ام لا ،

------------------

والحاصل لما مضى يكون كالتالي :

اوّلاً : انّ الظنّ حجّة مطلقاً ، إلاّ ما خرج .

ثانياً : لو لم نقل بذلك ، يكون خروج الظنّ ، في الموارد المذكورة ، من باب التخصّص لا التخصيص .

هذا هو تمام الكلام في القول : بالتفصيل ، بين ظواهر الكتاب فليست بحجّة ، وبين ظواهر غير الكتاب فهي حجّة .

( وأمّا التفصيل الآخر ، فهو الّذي يظهر من صاحب القوانين ، في آخر مسألة حجيّة الكتاب ، وفي أوّل مسألة الاجتهاد والتقليد ، وهو : الفرق بين من قصد افهامه بالكلام فالظواهر حجّة ، بالنسبة اليه ) سواء كان من قصد افهامه حاضراً أو غائباً ، موجوداً أو معدوماً في حال الخطاب ، فالظاهر يكون بالنسبة اليه حجّة ( من باب الظنّ الخاصّ ) لاتفاق أهل اللسان على ذلك ، من غير فرق بين اللّغة العربية أو الفارسية أو غيرهما .

( سواء كان ) من قصد أفهامه ( مخاطباً ) شفهاً ، بان يكون حاضراً في مجلس الخطاب ، والمخاطب مشافه له ( كما في الخطابات الشفاهية ) بأن يقول النّبي صلى اللّه عليه و آله وسلم لمن حضر مجلسه اعملوا كذا ، أو لا تعملوا كذا ، ( ام لا ) بان يخاطب المسلمين ، الحاضرين منهم والغائبين ، الموجودين منهم والمعدومين ، الذين سيأتون فيما بعد ، فيقول لهم : اعلموا ايها المسلمون انّه يجب عليكم العمل

ص: 250

كما في الناظر في الكتب المصنّفة ، لرجوع كلّ من ينظر إليها ؛ وبين من لم يُقصَد إفهامُه بالخطاب ، كأمثالنا بالنسبة الى أخبار الأئمة عليهم السلام الصادرة عنهم في مقام الجواب عن سؤال السائلين وبالنسبة الى الكتاب العزيز ، بناء على عدم كون خطاباته موجّهة إلينا

------------------

بكذا ( كما في الناظر في الكتب ) ، المتعارفة ( المصنّفة لرجوع كلّ من ينظر اليها ) ، فانّ امثال هذه الكتب ، لم تكتب لجماعة خاصّة كانوا في حضور المؤف ، أو كانوا في زمانه ، فانّ المصنفين غالباً يؤّفون الكتاب لكلّ من نظر فيه وطالعه ، ولو بعد آلاف السنوات ، فيكون الجميع مقصوداً بالافهام ، ولهذا تكون هذه الكتب حجّة بالنسبة اليهم . ( وبين من لم يقصد افهامه بالخطاب ) حتّى وان كان حاضراً في المجلس ، كما اذا كان المتكلّم يريد جماعة خاصّة كالعلماء - مثلاً - أو المهندسين أو الاطبّاء ، فانّ غير هؤاء اذا كانوا حاضرين في مجلس الخطاب ، لا يشملهم الخطاب ، فليس الظواهر حجّة بالنسبة اليهم ( كأمثالنا بالنسبة إلى اخبار ) الرسول والزهراء و ( الأئمّة عليهم السلام الصادرة عنهم في مقام الجواب عن سؤل السائلين ) ، فانّ المقصود بالخطاب هو السائل لا كلّ من يسمع الخطاب ، ولو كان حاضراً في مجلس المعصوم عليه السلام ، فالغائب في ذلك الزمان وكذلك نحن لسنا مقصودين بالافهام ، ولذا فالظاهر ليس حجّة لنا ( و ) لا لأمثالنا ( بالنسبة الى الكتاب العزيز بناءاً على عدم كون خطاباته موجّهة الينا ) بل خطاباته موجهة إلى الموجودين ، في زمن نزول الايات ، فمثل قوله سبحانه : « حَرِّضِ المُؤِنِيْنَ عَلَى القِتَالِ » (1) ، وقوله تعالى : « إِن يكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُوْنَ

ص: 251


1- - سورة الانفال : الآية 65 .

وعدم كونه من باب التأليف للمصنّفين ، فالظهور اللفظيّ ليس حجّةً حينئذٍ لنا ، إلاّ من باب الظنّ المطلق الثابت حجّيّته عند انسداد باب العلم .

ويمكن توجيهُ هذا التفصيل :

------------------

يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ » (1) ، وقول النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم : « لَعَن اللّهُ مَن تَخَلّفَ عَن جَيشِ أسامَةَ » (2) ، كلّها خاصة بأولئك ولا تشملنا ، بل لا يشمل قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم ، هذا للجيش الّذي يعقده أسامة ، بعد وفاته صلى اللّه عليه و آله وسلم ، فاذا عقد جيشاً وأراد غزواً ، فلم ينظم بعض المسلمين تحت لوائه ، لا يشمله لعن الرسول .

( و ) ذلك ل( عدم كونه من باب التأليف للمصنفين ) أي : بناءاً على انّا لسنا مقصودين بالافهام ، فالقرآن العزيز - على رأيه - ليس من قبيل تأليف المصنفين ، أمّا بناءاً على كوننا مقصودين بالافهام في الكتاب العزيز ، وفي كلماتهم عليهم السلام ، فالخارج يحتاج إلى الدليل .

وعلى قول صاحب القوانين : ( فالظهور اللفظي ) في الآيات والاخبار ( ليس حجّة حينئذٍ لنا الاّ من باب الظنّ المطلق الثابت حجّيّته عند انسداد باب العلم ) لا من باب الظنّ الخاصّ ، الّذي كلامنا فيه الان .

والحاصل : انّ صاحب القوانين ، يرى حجيّة هذه الامور من باب الظنّ المطلق ، كسائر الظنون ، لا من باب انّه ظنّ خاصّ .

( ويمكن توجيه هذا التفصيل ) بما حاصله : انّه اذا كان الشخص مقصوداً بالافهام ، فاحتمال خلاف ظاهر اللفظ ، يكون من جهة احتمال غفلة المتكلّم ،

ص: 252


1- - سورة الانفال : الآية 65 .
2- - دعائم الاسلام : ج1 ص41 ، الصراط المستقيم : ج2 ص296 بالمعنى ، إثبات الهُداة : ج2 ص383 ، الملل والنحل للشهرستاني : ص6 .

بأنّ الظهور اللفظيّ ليس حجّةً إلاّ من باب الظنّ النوعيّ وهو كون اللفظ بنفسه لو خُلِّيَ وطَبعهُ مفيدا للظنّ بالمراد .

فاذا كان مقصودُ المتكلّم من الكلام ، إفهامَ من يُقصَدُ إفهامُه ، فيجب عليه

------------------

أو غفلة السامع ، والغفلة منفيّة بالأصل .

أمّا اذا لم يكن الشخص مقصوداً بالافهام ، فهناك احتمال آخر في عدم ارادة المتكلّم الظاهر ، لاحتمال انّ المتكلّم أتى بقرينة يفهمها المخاطب دون الشخص الثالث ، ولا أصل ينفي هذا الاحتمال ، فكيف يمكن اعتماد الثالث ، على هذا الظاهر الّذي يحتمل احتمالاً عقلائياً ، عدم ارادة المتكلّم له ، لانّه نصب قرينة يفهمها المخاطب دون غير المخاطب ؟ .

وعليه : فانّا نعلم علماً قطعيّاً ( بأنّ الظهور اللفظي ليس حجّة الاّ من باب الظنّ ) لانّ الظواهر لا تفيد العلم ، ولذا اتفق العلماء على أنّ معيار حجيّة الظواهر من باب الظنون ، لكن لا يراد بالظنّ : الشخصي ، بل المراد بالظنّ ( النوعي ) ومعنى الظنّ النوعي : انّ النوع يظنّون من هذا الظاهر هذا المعنى : ( وهو كون اللفظ بنفسه ) أي : لا بالدليل الخارجي ( لو خلّي وطبعه ) وذلك بأن لم يكن للمتكلّم اسلوب جديد ، في افادته ما يريده ، ولم يكن للمخاطب وسوسة أو نحوها ، حتّى يظنّ الخلاف من الظاهر ( مفيداً للظنّ بالمراد ) وهذا خبر قوله : « كون اللفظ » ، فالمناط لحجّيّة الظهور عند أهل اللسان : المخاطب بالمراد ، والظنّ انّما يحصل لمن قصد افهامه ، دون غيره ، بمعنى : انّ العقلاء يظنّون ظناً نوعياً بمراد المتكلّم ، فيما اذاكان الطرف هو المخاطب ، لا ما اذا كان انساناً ثالثاً ، لم يقصد المتكلّم خطابه ، ( فان كان مقصود المتكلّم من الكلام افهام من يقصد افهامه ) أي : مخاطبه (فيجب عليه) أي : على المتكلّم من جهة أن لا يكون مغريا بالجهل

ص: 253

إلقاءُ الكلام على وجه لايقع المخاطبُ معه في خلاف المراد ، بحيث لو فرض وقوعهُ في خلاف المقصود ، كان إمّا لغفلة منه في الالتفات إلى ما اكتنف به الكلام الملقى إليه ، وإمّا لغفلة من المتكلّم في إلقاء الكلام على وجه يفي بالمراد ،

------------------

( القاء الكلام على وجه ) يفيد المراد و ( لا يقع المخاطب معه ) أي : مع ذلك الوجه ( في خلاف المراد ) ، فاذا اراد من الصلاة : الأركان المخصوصة لا الدعاء ، وقد كان المتعارف : فهم الدعاء من الصلاة ، لا الأركان المخصوصة ، وجب على المتكلّم فيما اذا قال : أقيموا الصلاة أن يقيم قرينة كي يفهم المخاطب مراده من الصلاة ، وكذلك بالنسبة إلى الزكاة ، والحجّ ، وغيرها ، كما انّه اذا أراد من الأسد : الحيوان المفترس وجب عليه ان لا يأتي بقرينة ، تصرف ظاهر اللفظ عن معناه اللغوي ، أمّا اذا كان مراده من الأسد : الرجل الشجاع ، فاللازم عليه : أن يأتي بقرينة تصرف الظاهر عن ظاهره ، مثل : اسد يرمي ، أو أَسد في الحمام أو ما اشبه ذلك .

( بحيث لو فرض وقوعه ) أي : المخاطب ، ( في خلاف المقصود ) أي : خلاف مقصود المتكلّم ( كان امّا لغفلة منه ) أي : المخاطب ( في الالتفات إلى ما ) أي القرينة اللفظية ، أو العقليّة الّتي ( اكتنف به الكلام الملقى اليه ) أي : إلى المخاطب ( وامّا لغفلة من المتكلّم في القاء الكلام على وجه يفي بالمراد ) .

والحاصل : فهم خلاف المراد ، ينتج امّا من جهة انّ المتكلّم لم يأت بالقرينة ، كما اذا قال : الأسد ، وأراد الشجاع ، بدون ان يأتي بمثل يرمي ، غفلة من المتكلّم في انّ هذه القرينة لا زمة لفهم المخاطب مراده ، أو من جهة انّ المخاطب غفل عن اشتمال كلام المتكلّم على يرمي ، ففهم من الأسد الحيوان المفترس ،

ص: 254

ومعلومٌ أنّ احتمالَ الغفلة من المتكلّم او السامع احتمالٌ مرجوح في نفسه مع انعقاد الاجماع من العقلاء والعلماء على عدم الاعتناء باحتمال الغفله في جميع امور العقلاء ، أقوالهم وأفعالهم .

------------------

لا ما أراده المتكلّم من الرجل الشجاع ، (ومعلوم : انّ احتمال الغفلة من المتكلّم ، أو السّامع ، احتمال ) ضعيف لا يضرّ بالظاهر ، و ( مرجوح في ) حدّ ( نفسه ) فلا يوجب عدم الظنّ بالمراد ، الظنّ الّذي هو ملاك الظهور ، والأخذ والعطاء .

هذا من ناحية ضعف الاحتمال في نفسه ( مع انعقاد الاجماع من ) أهل اللّسان ، أي : (العقلاء والعلماء ) الذين هم قسم من العقلاء ( على ) اصالة عدم الغفلة في المتكلّم ، أو في السامع و ( عدم الاعتناء باحتمال الغفلة في جميع أمور العقلاء ) من (أقوالهم وأفعالهم ) ، فانّه اذا احتمل انّ العاقل ، فعل فعلاً غفلة ، أو قال قولاً غفلة ، بحيث لا يريد ظاهر ذلك القول ، أو كان فعله صادراً عن غير ارادة جدّية لغفلته ، فالأصل العقلائي عدم الاعتناء بهذا الاحتمال ، مثلاً : - في الشهادات والأقارير ، والأوامر ، والنواهي ، وغيرها ، اذا أطلقها المتكلّم ، لا يحتمل العقلاء الغفلة فيها ، فلا يحتملون انّه اراد النهي وقال الامر ، أو اراد بالشهادة زيداً ، فتلفظ غفلة بلفظ عمرو ، وهكذا اذا صلّى ، أو صام ، أو اشترى ، أو باع ، أو استأجر ، أو ما اشبه ، لا يحتمل العقلاء غفلة الفاعل في هذه الافعال ، بان يحتملوا انّه يريد البيع - مثلاً - فقال لفظ الاستئجار أو بالعكس ، إلى غير ذلك .

لا يقال : انّا نعلم علماً يقينا ، بوجود الغفلة في الاقوال والافعال للعقلاء في الجملة ، فكيف نجري أصل عدم الغفلة ؟ .

لانّه يقال : الغفلة في قبال عدم الغفلة قليلة جداً ، والقليل ليس مورد اعتناء

ص: 255

وأمّا إذا لم يكن الشخصُ مقصودا بالافهام ، فوقوعه في خلاف المقصود لاينحصر سببُه في الغفلة . فانّا إذا لم نجد في آية او رواية ما يكون صارفا عن ظاهره واحتملنا أن يكون المخاطب قد فهم المراد بقرينة قد اخفيت علينا ،

------------------

العقلاء ، ولذا يجرون اصالة عدم الغفلة في الاقوال والافعال ، إلاّ اذا ثبت خلاف هذا الاصل .

( وامّا اذا لم يكن الشخص مقصوداً بالافهام ) فلا يلزم على المتكلّم ، رعاية حال مثل هذا الشخص ، ولذا يحتمل هذا الثالث احتمالاً عقلائياً بوجود قرينة اختفت عليه ، (فوقوعه ) أي : هذا الثالث ( في خلاف المقصود ) للمتكلّم ( لا ينحصر سببه في الغفلة ) ، للمتكلّم ، أو لهذا الشخص الّذي يريد فهم مراد المتكلّم من كلامه ، وهو الشخص الثالث ، بل ربّما يكون عدم فهم هذا الثالث مراد هذا المتكلّم ، لاختفاء القرائن المكتنفة بالكلام حالاً ، أو مقالاً بالنسبة اليه .

والحاصل : انّ اصالة عدم الغفلة من المتكلّم تكفي بالنسبة إلى الثالث ، لكن الثالث ، لا يتمكن انّ يكتفي بهذا الاصل ، بل يحتاج إلى أصل آخر ، وهو : اصالة عدم القرينة بين المتكلّم والسامع ، وهذا ليس أصلاً عقلائياً يبني عليه في التفهيم والتفاهم لدى العقلاء .

( فانّا اذا لم نجد في آية أو رواية ، ما يكون صارفاً عن ظاهره ) والضمير المذكر في «ظاهره » عائد إلى الكلام المستفاد من العبارة ( واحتملنا ان يكون المخاطب قد فهم المراد بقرينة قد اخفيت علينا ) ، بأن كانت هناك قرينة حالية ، أو مقاليّة بين المتكلّم والمخاطب بتلك الاية ، أو بتلك الرواية ، لكن تلك القرينة اختفت علينا سواء كنّا غائبين عن مجلس الخطاب ، أو كنّا معدومين في وقت الخطاب ، بل

ص: 256

فلا يكون هذا الاحتمالُ لأجل غفلة من المتكلم او منّا ، إذ لايجب على المتكلّم إلاّ نصبُ القرينة لمن يُقصَدُ افهامهُ ، مع أنّ عدم تحقّق الغفلة من المتكلّم في محلّ الكلام مفروضٌ لكونه معصوما . وليس اختفاءُ القرينة علينا مسبّبا عن غفلتنا عنه ، بل لدواعي الاختفاء

------------------

وحتّى اذا كنّا في مجلس الخطاب ، اذا احتملنا أن يكون بين المتكلّم والمخاطب مواطاة على القرينة .

( فلا يكون هذا الاحتمال ) أي : احتمال القرينة المختفية علينا هو ( لاجل غفلة من المتكلّم أو منّا ) لانّ هذا الاحتمال ، احتمال جديد ، غير احتمال الغفلة ( اذ لا يجب على المتكلّم إلاّ ) رعاية حال مخاطبه ، لا رعاية من حضر مجلسه ، أو رعاية الغائب عن مجلسه ، أو رعاية المعدوم ، الّذي سيوجد بعد ذلك .

فاللازم على المتكلّم ( نصب القرينة لمن يقصد أفهامه ، مع انّ عدم تحقق الغفلة من المتكلّم في محل الكلام ) في باب الايات والروايات ( مفروض ) لانّ المفروض انّ محل كلامنا : الايات والروايات ، وهي صادرة عمّن لا يخطأ لانّه اللّه سبحانه وتعالى او من قبله سبحانه ( لكونه معصوما ) ، فأصالة عدم الغفلة غير محتاج اليها في محل البحث ، نعم ، غفلة الشخص الثالث وعدم غفلته ، مورد الاصل ، أي الاصل : انّ الشخص الثالث لم يغفل ، كما انّ الاصل : انّ المخاطب لم يغفل ، وكذا- في غير اللّه سبحانه وتعالى ، والمعصومين عليهم السلام ، الاصل عدم الغفلة في المتكلم أيضاً .

( وليس اختفاء القرينة علينا مسبّباً عن غفلتنا عنه ، بل لدواعي الاختفاء ) فلا يكفي اصالة عدم غفلتنا بالنسبة إلى الايات والروايات في استفادتنا من الظواهر مراد المتكلّم ، بل نحتمل احتمالاً عقلائياً انّ القرائن كانت موجودة ، وقد اختفت

ص: 257

الخارجة عن مدخليّة المتكلّم ومن اُلقيَ إليه الكلام .

فليس هنا شيء يوجب بنفسه الظنّ بالمراد ، حتّى لو فرضنا الفحص ، فاحتمال وجود القرينة حين الخطاب واختفائه علينا ليس هنا ما يوجب مرجوحيّته حتّى لو تفحّصنا عنها ولم نجدها ،

------------------

علينا ، وهي ، القرائن ( الخارجة عن مدخلية المتكلّم ومن اُلقي اليه الكلام ) الّذي كان حاضراً في مجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، عند قرائة الرسول الاية عليه ، أو أمره ونهيه بشيء من الاحكام ، ومثل هذا ا لاحتمال لا أصل ينفيه ، خصوصاً بالنسبة إلى الاخبار الّتي اختلطت فيها التقيّة بغير التقيّة .

كما انّ التقطيع فيها اوجب اختفاء كثير من القرائن ، في أوّل الكلام لاخره ، أو في آخر الكلام لاوّله ، أو في وسط الكلام لاوّله ، أو آخره .

( فليس هنا ) للشخص الثالث ( شيء يوجب بنفسه الظّن بالمراد ) ، فانّه اذا لم يلزم على المتكلّم - في عرف العقلاء رعاية حال من لم يقصد افهامه ، بحيث احتمل الثالث اختفاء القرائن ، لا يحصل لهذا الثالث ، الظنّ بمراد المتكلّم ، من نفس الظاهر ، بحيث يكون ظناً نوعياً خاصاً وان كان ظناً من باب الانسداد - كما يقوله القوانين - وذلك ( حتّى لو فرضنا الفحص ) من هذا الشخص الثالث .

وعليه : ( فاحتمال وجود القرينة حين الخطاب واختفائه علينا ) ونحن الشخص الثالث ، لانّنا لم نكن مقصودين بالخطاب على هذا لقول ، وانّما كان المقصود بالخطاب : الذين كانوا زمن الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، والائمة الطاهرين عليهم السلام يثبته انّه ( ليس هنا ما يوجب مرجوحيته حتّى لو تفحّصنا عنها ولم نجدها ) .

وقوله : « ليس هنا » ، خبر قوله : « فاحتمال » أي : انّ احتمال وجود القرينة

ص: 258

إذ لا تحكم العادةُ ، ولو ظنّا ، بأنّها لو كانت لظفرنا بها ، إذ كثيرٌ من الامور قد اختفت علينا .

بل لايبعد دعوى العلم بأنّ مااختفى علينا من الأخبار والقرائن أكثر ممّا ظفرنا بها ، مع أنّا لو سلّمنا حصول الظنّ بانتفاء القرائن المتصلة ،

------------------

واختفائها ، احتمال قوي موجود قبل الفحص وبعد الفحص واليأس ، واذا كان هذا الاحتمال موجوداً عند العقلاء، فلا يحصل لهم الظنّ بمراد المتكلّم الظاهر من كلامه، فلا يمكن الاعتماد على الظاهر في استفادة مراد المتكلّم منه ، ( اذا لا تحكم العادة ) العقلائية ولو احتمالاً ، ( ولو ظناً ، بانّها لو كانت لظفرنا بها ) فانّ العادة لم تجر بالظفر بالقرائن المختفية ، فيما اذا لم يكن مقصود المتكلّم الشخص الثالث ، ( اذ كثير من الامور قد اختفت علينا ) ولم تتوفر الدواعي في حفظ تلك القرائن ، حيث لم نكن نحن المقصودين ، فاذا خاطب المولى عبداً واراد بذلك كلّ عبيده ، وكانت هناك قرائن ، توفرت الدواعي لحفظ تلك القرائن ، حتّى يطلع العبيد عليها ، فيطيعون المولى ، أما اذا كان المقصود المخاطب فقط ، لم تكن تلك الدواعي فلا تحفظ القرائن ، وحينئذٍ لا يكون الظاهر حجّة لدى العبيد الذين لم يكونوا مقصودين بالخطاب .

( بل لا يبعد دعوى العلم : بأن ما اختفى علينا من الاخبار والقرائن ، أكثر ممّا ظفرنا بها ) لكثرة التقطيع في الروايات ، وتداخل التقيّة في غيرها ، وعدم استواء فهم المخاطبين لكلمات المولى ، فاذا فحصنا عن تلك القرائن ، لا يحصل لنا العلم بعدمها ، بل ولا الظنّ بعدم تلك القرائن ، ولو فرض حصول الظنّ بعدم القرينة ، لم يكن هذا الظن حجّة لعدم بناء العقلاء على حجية مثل هذا الظن .

( مع انّا لو سلّمنا حصول الظنّ ) بعد الفحص ( بانتفاءالقرائن المتّصلة ) ولم

ص: 259

لكنّ القرائن الحاليّة وما اعتمد عليه المتكلّم من الامور العقليّة او النقليّة الكليّة او الجزئية

------------------

نقل : بأن تقطيع الاخبار وغيره ، اوجب انتفاء القرائن المتصلة الّتي تعني المقصود من الكلام (لكن القرائن الحالية ) كصدور الكلام في حال التقيّة ( وما ) أي : القرائن الّتي (اعتمد عليه المتكلّم من الامور العقلية ، او النقليّة الكلّيّة ) فلا نسلم حصوله ، اما القرينة العقليّة الكلّيّة ، فمثل : انّ المولى حكيم والحكيم لا يأمر بشيء اعتباطي ، فيكون قرينة على انّ الظاهر ليس مراد المولى ، مثلاً : لو قال المولى : تقدّم إلى النور ، لم يكن مراده : المشي إلى مكان المصباح ، - لانّه اعتباط فرضاً - بل مراده : الذهاب إلى العلم ، فيكون هذا قرينة عقليّة كلّيّة على المراد .

وأما القرينة النقليّة فمثل : وقوع الامر عقيب الحظر ، ووقوع النهي عقيب توهّم الوجوب ، فانّهما قرينتان على عدم وجوب الامر ، وعدم حرمة النهي ، فاذا قال : سبحانه : « وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا » (1) لم يكن معنى الامر هنا : الوجوب ، بل معناه : الاباحة ، لانّه واقع بعد النهي عن الاصطياد في حال الاحرام ، وكذلك اذا أمر بالصدقة قبل النجوى ، ثمّ قال : لا تعطوا الصدّقة ، لم يكن نهياً تحريميا ، بل لافادة ارتفاع الوجوب .

( أو الجزئيّة ) في قبال الكلّيّة ، فانّ القرينة اما عقليّة أو نقليّة ، وكلّ منهما امّا كلّيّة تشمل هذا الموضوع وسائر المواضيع وتعمّ هذا المولى وسائرالموالي أو جزئيّة مختصة بهذا الموضوع وهذا المولى كما اذا قال المولى : اكرم العلماء وعلم العبد بانّه لا يريد الفسّاق ، لانّ الفسّاق مبغوضون عنده ، فانّ هذه قرينة جزئية على عدم

ص: 260


1- - سورة المائدة : الآية 2 .

المعلومة عند المخاطب الصارفة لظاهر الكلام ليست ممّا يحصل الظنّ بانتفائها بعد البحث والفحص ، ولو فرض حصول الظنّ من الخارج بارادة الظاهر من الكلام لم يكن ذلك ظنّا مستندا إلى الكلام ، كما نبّهنا عليه في أوّل البحث .

------------------

ارادة هذا المولى : الفاسق ، وقد لا يكون المولى كذلك ، بأن يرى العالم العادل والفاسق سواءاً .

وممّا ذكرنا : تبيّن انّ قول المصنِّف قدس سره « وما اعتمد » عطف بيان لقوله : «القرائن الحا لية » لانّ القرائن الحاليّة لا تخلو عن هذه الامور الاربعة : العقليّة ، أو النقليّة ، الكلّيّة ، أو الجزئية ( المعلومة عند المخاطب ، الصارفة لظاهر الكلام ) عمّا يظهر فيه ، إلى موضع القرينة فانّها ( ليست ممّا يحصل الظّن بانتفائها بعد البحث والفحص ) ولو فرض حصول الظنّ ، لم يكن مثل هذ الظنّ حجّة عند العقلاء .

والحاصل : انّه لا وجه لحصول الظنّ بارادة الظاهر لمن لم يقصد افهامه ( ولو فرض حصول الظّن من الخارج ) لأمر خارج عن الكلام ، اورث ظن الشخص الثالث الّذي لم يكن مخاطباً فظنّ بسبب تلك القرينة الخارجية ( بارادة الظاهر من الكلام ، لم يكن ذلك ظنّاً مستنداً إلى الكلام ) حتّى يكون من الظنون النوعيّة العقلائية ، بل هو ظنّ مستند إلى دليل خارجي ، ومثل هذا الظنّ خارج عن المبحث ( كما نبّهنا عليه في اوّل البحث ) حيث قلنا : بانّ الظهور اللفظي ليس حجّة إلاّ من باب الظنّ النوعي ، وهو كون اللفظ بنفسه ، أي لا بالدليل الخارجي مفيداً للظنّ ، وعليه : فالظنّ الخارجي الّذي ليس نوعياً لا يكون حجّة بين المولى والعبد حتّى يحتج العبد به على المولى ، أو يحتج المولى به على العبد .

ص: 261

وبالجملة : فظواهر الالفاظ حجّة ، بمعنى عدم الاعتناء باحتمال إرادة خلافها ، اذا كان منشأ ذلك الاحتمال غفلةَ المتكلّم في كيفية الافادة او المخاطب في كيفية الاستفادة ، لأنّ احتمال الغفلة ممّا هو مرجوح في نفسه ومتّفق على عدم الاعتناء به في جميع الامور

------------------

( وبالجملة ) ففي توجيه كلام القوانين ، نقول : ( فظواهر الألفاظ حجّة ، بمعنى : عدم الاعتناء باحتمال ارادة خلافها ) أي خلاف الظواهر ( اذا كان منشأ ذلك الاحتمال ، غفلة المتكلّم ) أو خطئه ، أو نسيانه ، أو جهله ( في كيفّية الافادة ) بان اراد ما ليس بظاهر من الكلام ، لكنه نسي ، أو غفل ، أو جهل ، أو ما اشبه فلم ينصب القرينة لمراده ، ( أو المخاطب في كيفية الاستفادة ) بان لم يلتفت إلى القرينة ، لجهل ، أو غفلة ، أو نسيان ، أو خطأ ، او ما اشبه ، فالمراد هنا - باتفاق أهل اللسان ، على حجّيّة الظواهر يكون حجّة على المخاطب لأنّهم يرون الظواهر حجّة فيما اذا كان هناك احتمال الغفلة او الخلاف ، او ما اشبه سواء في المتكلّم أو المخاطب ، ويبنون على خلاف هذا الاحتمال ، ولهذا تراهم ياخذون بالظاهر ولا يعتنون بمثل هذا الاحتمال ( لانّ احتمال الغفلة ) وما اشبهها ( ممّا هو مرجوح في نفسه ) فانّ امثال هذه الاحتمالات ، المصادمة لحصول الظنّ النوعي بارادة الظاهر ، احتمالات ضعيفة والعقلاء لا يعملون بالاحتمالات الضعيفة ، لا في الافادة والاستفادة من الاقوال ، ولا في الأعمال .

(و) لذا قال المصنّف قدس سره : انّ مثل هذا الاحتمال (متّفق على عدم الاعتناء به في جميع الأمور ) فلا يحقّ للمولى العقاب مستنداً إلى مثل هذا الاحتمال ، كما لا يحق للعبد ترك العمل بأوامر المولى ونواهيه معتمداً عليه ، فانّه يحقّ للمولى عقابه حينئذٍ إلاّ اذا كان للمولى طريقة خاصة به وقد بيّن تلك الطريقة ، فهو خارج

ص: 262

دون ما إذا كان الاحتمالُ مسبّبا عن اختفاء امور لم تجر العادة القطعيّة او الظنّيّة بأنّها لو كانت لوصلت إلينا .

ومن هنا ظهر : أنّ ماذكرنا سابقا ، من اتّفاق العقلاء والعلماء على العمل بظواهر الكلام في الدعاوي والأقارير والشهادات والوصايا والمكاتبات ،

------------------

عن المبحث .

( دون ما إذا كان الاحتمال مسبباً عن اختفاء أمور لم تجر العادة القطعيّة ، أو الظنيّة ، بانّها لو كانت لوصلت الينا ) وهذا عطف على قوله : « اذا كان منشأ ذلك الاحتمال غفلة المتكلّم » ، أي اذا كان الاحتمال ، مسبباً عن اختفاء القرائن ، بالنسبة إلى الشخص الثالث ، الّذي لم يكن مخاطباً ، لم يكن بناء العقلاء على اصالة عدمها ، وذلك لانّه لم تجر عادة العقلاء - لا عادة قطعيّة ، ولا عادة ظنية - على أصالة عدم القرائن بالنسبة إلى الشخص الثالث ، فلا يكون الظاهر حجّة للشخص الثالث مع هذا الاحتمال .

ثمّ انّ قوله : « القطعيّة أو الظنيّة » انّما هو لانّ العادة قد تكون غالبة تورث الظنّ ، وقد تكون دائمة تورث القطع ، مثلاً - اذا كان الغالب انّ زيداً يأتي مع عبده ، فاذا أتى هو ولم نر عبده ، ظننا بانّه جاء مع عبده ، وانّما لم نره نحن ، امّا اذا كان دائماً يأتي مع عبده ، فانّه اذا أتى ولم نر عبده ، قطعنا بانّ عبده جاء أيضاً .

( ومن هنا ) أي من هذا التوجيه الّذي وجهنا به كلام صاحب القوانين ( ظهر : انّ ما ذكرنا سابقاً - من : اتفاق العقلاء ) بما هم عقلاء ( والعلماء ) بما هم علماء ، وقد عرفت - فيما سبق - انّ العلماء اخصّ من العقلاء ( على العمل بظواهر الكلام ، في الدعاوي ، والاقارير ، والشهادات ، والوصايا ، والمكاتبات )

ص: 263

لا ينفعُ في ردّ هذا التفصيل ، إلاّ أن يثبت كون أصالة عدم القرينة حجّة من باب التعبّد ، ودون إثباتها خرط القتاد .

------------------

والانشاءات ، والاخبارات ( - لاينفع في رد هذا التفصيل ) من الميرزا القمّي ، وذلك لانّ كلامنا السابق كان بالنسبة إلى الشخص الّذي اُريد افهامه لا بالنسبة إلى الشخص الثالث الّذي لم يرد افهامه ، فانّ هذه الظواهر ليست حجّة بالنسبة اليه ، لانّه لا أصل بالنسبة إلى الشخص الثالث ينفي احتمال وجود قرينة على خلاف الظاهر ، اختفت تلك القرينة عند هذا الشخص الثالث ، حتّى يكون الظاهر حجّة بالنسبة اليه .

( إلاّ ان يثبت كون اصالة عدم القرينة حجّة من باب التعبد ) أي يقول العقلاء : باجراء اصالة عدم القرينة ، سواء كان هناك ظنّ نوعي ، أو لم يكن ، وحينئذٍ : فلا فرق في استفادة المراد من الظواهر ، بين من قصد افهامه ، ومن لم يقصد افهامه ، ( ودون اثباتها ) أي اصالة عدم القرينة مطلقاً ( خرط القتاد ) فكما انّ خرط القتاد من اصعب الاُمور ، كذلك اثبات الحجّيّة التعبديّة ، بالنسبة إلى الظواهر يكون من اصعب الأمور .

والحاصل : هل انّ العقلاء يحكمون بحجيّة الظواهر ، من باب افادتها الظنّ النوعي ، او من باب انّه ظاهر ، سواء افاد الظنّ النوعي ام لا ؟ .

الأوّل : هو مقتضى ما يظهر من العقلاء .

أما الثاني : فبعيد جداً .

والفرق بين الأوّل والثاني هو : ان الأوّل : طريقي ، بينما الثاني : موضوعي .

مثلا : العقلاء عندما يحكمون : بان معاملة الانسان محكومة بالصحة ، هل لانها طريق الى رضاه القلبي ، أو لانها معاملة لفظية فقط ؟ .

ص: 264

ودعوى « أنّ الغالب اتصال القرائن ، فاحتمال اعتماد المتكلّم على القرينة المنفصلة مرجوح لندرته » مردودةٌ : بأنّ من المشاهد المحسوس تطرّقَ

------------------

والظاهر من حال العقلاء : الأوّل ، فاذا لم تكن المعاملة ظاهرة الطريقية ، نوعاً لا يحكمون بصحتها .

نعم ، في بعض المواضع يكون حكمهم بالموضوعية ، اي التعبدية كالوقوف أمام اشارات المرور الحمراء ، فانّ لها موضوعيه من باب ضرب القانون حتى لو علم الانسان بانه ليس هناك ما يخشى الاصطدام بسببه .

( و ) ان قلت : انكم نفيتم حجية الظواهر بالنسبة الى الشخص الثالث ، بحجة احتمال وجود قرائن عقلية أو نقلية ، كلية او جزئية ، لكن الاصل : عدم وجود امثال هذه القرائن بالنسبة للشخص الثالث ايضا فلا يعتني بها ، وذلك ب( دعوى : « ان الغالب اتصال القرائن ، فاحتمال اعتماد المتكلم على القرينة المنفصلة ، مرجوح لندرته » ).

اي : انّا وان سلمنا ان مناط الحجية هو : الظن ، دون التعبد ، الاّ ان الظن بارادة الظاهر ظناً نوعيا ، كما يحصل لمن قصد افهامه لمرجوحية احتمال الغفلة على ما تقدّم - كذلك يحصل الظن لمن لم يقصد افهامه ، لمرجوحية احتمال اختفاء القرينة المنفصلة ، لانها نادرة الوجود ، من غير فرق بين ان تكون القرينة ، منفصلة حالاً ، او مقالاً ، كلياً ، أو جزئياً .

فمطلق اصالة عدم القرينة محكَّم ، سواء كانت القرينة متصلة ، أو منفصلة ، حالية أو مقالية .

قلت : هذه الدعوى ( مردودة : بان من المشاهد المحسوس تطرّق ) اي :

ص: 265

التقييد والتخصيص إلى أكثر العمومات والاطلاقات مع عدم وجوده في الكلام ، وليس الاّ لكون الاعتماد في ذلك كلّه على القرائن المنفصلة ، سواء كانت منفصلة عند الاعتماد كالقرائن العقليّة والنقليّة الخارجيّة أم كانت مقاليّة متصلة ، لكن عرض لها الانفصال بعد ذلك ، لعروض التقطيع للأخبار او حصول التفاوت من جهة النقل بالمعنى او غير ذلك .

------------------

عروض (التقييد والتخصيص الى اكثر العمومات والاطلاقات ، مع عدم وجوده ) اي ذلك التقييد أو التخصيص ( في الكلام ) متصلاً .

( وليس ) ذلك التطرق ( الاّ لكون الاعتماد في ذلك ) اي الاكثر ( كلّه على القرائن المنفصلة سواء كانت منفصلة ) من الأوّل اي ( عند الاعتماد ) ووقت التكلم (كالقرائن ) الحالية والمقالية ( العقلية والنقلية الخارجية ) كما تقدمت الامثلة لذلك ( أم كانت مقالية متصلة ، لكن عرض لها الانفصال بعد ذلك ، لعروض التقطيع للأخبار ) ، فاذا قال المولى - مثلاً - : إغتسل للجنابة والجمعة ، فالراوي قال مرة : اغتسل للجنابة ، وقال مرة أُخرى : اغتسل للجمعة ، فان قرينة السياق الظاهرة في الوجوب قد انعدمت بسبب التقطيع ، ولذا لم يكن لظهور الوجوب بالنسبة الى غسل الجمعة تلك القوة التي كانت لو لم يقطع الخبر .

( أو حصول التفاوت من جهة النقل بالمعنى ) « أو » عطف على « الانفصال » ، اي : عرض حصول الفتاوت ، بأن قال المولى - مثلا - : المؤن ، فنقله الراوي بالمعنى : الى المسلم مما يشمل المؤن وغير المؤن ، أو قال المولى : المسلم ، فنقله الراوي : الى المؤن ، مما لايشمل غير المؤن من المسلم ، فمن الواضح : أن المولى اراد العام والنقل بالمعنى أفاد الخاص ، او بالعكس .

( أو غير ذلك ) كما اذا قال المولى : اكرم المؤن وأطع العالم الاّ الفاسق ، فزعم

ص: 266

فجميعُ ذلك ممّا لايحصلُ الظنّ بأنّها لو كانت لوصلت إلينا .

مع إمكان أن يقال : إنّه لو حصل الظنّ لم يكن على اعتباره دليل خاصّ ، نعم ، الظنّ الحاصل في مقابل احتمال الغفلة الحاصلة للمخاطب او المتكلم ممّا أطبقَ عليه العقلاء

------------------

الراوي ان الاستثناء مرتبط بالجملتين ، فجاء بالاستثناء بعد كل جملة جملة ، بينما لم يرد المولى الاّ الاستثناء من الجملة الأخيرة ، أو عكس ذلك .

( فجميع ذلك ) اي التقطيع والنقل بالمعنى وغيرهما ( مما لايحصل الظن بانها لو كانت لوصلت الينا ) اي الى من لم يكن مقصوداً بالافهام وهو الشخص الثالث ، بينما هذه الأمور لاتجري بالنسبة الى المقصود بالافهام ، سواء كان بعيداً أو قريباً ، حاضراً في مجلس الخطاب ، أو غائباً عنه .

والحاصل : ان شيوع القرائن المنفصلة ، على انحائها المختلفة ، يمنع من حصول الظن بارادة الظاهر ، لمن لم يقصد افهامه ، فتكون الظواهر ليست حجة بالنسبة اليه ، واذا تمّ هذا الكلام ، كانت النتيجة : حجية الظن من باب الانسداد ، كما يقوله صاحب القوانين .

هذا ( مع امكان ان يقال ) توجيهاً لكلام القوانين : ( انه لو حصل الظن ) بانتفاء القرينة المنفصلة ، وارادة المولى الظاهر حتى بالنسبة الى من لم يقصد افهامه ( لم يكن على اعتباره دليل خاص ) اذ قد عرفت ان الدليل ، وهو بناء العقلاء قام على أصالة عدم الغفلة ، والسهو ، والنسيان ، والخطأ ، وما اشبه ، ولم يقم على اصالة عدم القرينة المنفصلة .

( نعم ، الظن الحاصل في مقابل احتمال الغفلة ، الحاصلة ) تلك الغفلة (للمخاطب ، أو المتكلم ) فهذا الظن ( ممّا أطبق عليه العقلاء ) والعلماء بصورة

ص: 267

في جميع أقوالهم وأفعالهم ، هذا غايةُ ما يمكن من التوجيه لهذا التفصيل .

ولكنّ الانصاف : انّه لافرق في العمل بالظهور اللفظيّ وأصالة عدم الصارف عن الظاهر بين من قُصِدَ إفهامُه ومن لم يُقصَد ،

------------------

خاصة ( في جميع اقوالهم وافعالهم ) .

فالنتيجة : هي حجية الظن النوعي بارادة الظاهر الحاصل لمن قصد افهامه ، دون الظن الحاصل للشخص الثالث ، الذي لم يقصد افهامه ، ولو كان حاضراً في مجلس الخطاب ، فكيف بمن كان بعيداً عن مجلس الخطاب زماناً أو مكاناً .

( هذا غاية ما يمكن من التوجيه لهذا التفصيل ) الذي ذكره القوانين .

( ولكن الانصاف ) وأصله من النصف ، لان المنصف يعطي ما لطرفه من الحق ، ويأخذ ما لنفسه من الحق ، فكأنه نصَّفَ الأمر بين نفسه وبين طرفه ، بخلاف المجحِف ، حيث يأخذ الكل ، اما الايثار وهو اعطاء كل الحق للطرف الآخر ، فهو ايضاً محبوب ، بالنسبة الى بعض الموارد دون بعض - على ما قررناه ، في « الفقه : الاداب والسنن » (1) وغيره .

وكيف كان : ف( انه لا فرق في العمل بالظهور اللفظي ، وأصالة عدم الصارف عن الظاهر ، بين من قصد إفهامه ومن لم يُقصَد ) افهامه ، بل الظهور حجة ، حتى بالنسبة الى من قُصد عدم افهامه ، كما اذا أقرَّ زيد لعمرو : بان عمرو يطلبه ديناراً ، واراد عدم إفهام الثالث ، فاذا سمع الثالث كلامه ، وشَهِدَ عند الحاكم ، وحكم الحاكم على المقر ، اذا كانت الشهادة جامعة للشرائط ، وهنا يكن للمقرِّ أن يقول قصدت عدم افهام الشاهد ، والعقلاء يؤدون رأي القاضي الحاكم عليه ، لا المقرِّ ،

ص: 268


1- - راجع موسوعة الفقه : ج94 - 97 للشارح .

فانّ جميع مادلّ من اجماع العلماء وأهل اللسان على حجيّة الظواهر بالنسبة إلى من قُصِدَ إفهامُه جارٍ فيمن لم يُقصد ، لأنّ أهل اللسان اذا نظروا إلى كلام صادر من متكلّم إلى مخاطب يحكمون بارادة ظاهره منه إذا لم يجدوا قرينةً صارفةً بعد الفحص في مظانّ وجودها ، ولا يفرّقون في استخراج مرادات المتكلّمين بين كونهم مقصودين بالخطاب وعدمه ، فاذا وقع المكتوبُ الموجّهُ من شخص إلى شخص بيد ثالث ، فلا يتأمّل في استخراج مرادات المتكلّم من الخطاب المتوجّه إلى المكتوب إليه ،

------------------

المعتذر بعدم قصده افهام الثالث ، وعليه : ( فان جميع ما دل من : اجماع العلماء ، واهل اللسان على حجية الظواهر ، بالنسبة الى من قصد افهامه ، جارٍ فيمن لم يقصد ) إفهامه ، او قصد عدم إفهامه في غير مثل الرمز ونحوه ، حيث يكون الحق حينئذٍ مع المقرِّ ، لا مع القاضي ، الذي يحكم عليه .

وذلك ( لان اهل اللسان ، اذا نظروا الى كلام صادر من متكلم الى مخاطب ، يحكمون بارادة ظاهره منه ) ولا يلاحظون انه قصد افهامه أو لم يقصد افهامه أو قصد عدم افهامه ( اذا لم يجدوا قرينة صارفة ، بعد الفحص في مظانّ وجودها ) أي وجود القرينة المحتَمَلة ، ( ولا يفرّقون في استخراج مرادات المتكلّمين ، بين كونهم ) أي اهل اللسان ( مقصودين بالخطاب وعدمه ) وبين كونهم غير مقصودين بالافهام ، وعدمه بان كانوا مقصودين بعدم الافهام ، اذ القصد واللاقصد لا مدخلية له في البناء العقلائي ، وانّما المدخلية للظهور وعدمه ، وعليه : ( فاذا وقع المكتوب الموجّه من شخص الى شخص ، بيد ثالث ، فلا يتأمّل ) الشخص الثالث ( في استخراج مرادات المتكلم من الخطاب المتوجه الى المكتوب اليه ) بل يستخرج مراد المتكلم من نفس الكتاب ، مع انه لم يكن مقصوداً بالخطاب ،

ص: 269

فاذا فرضنا اشتراك هذا الثالث مع المكتوب إليه فيما أراد المولى منهم ، فلا يجوز له الاعتذار في ترك الامتثال بعدم الاطلاع على مراد المولى ، وهذا واضحٌ لمن

------------------

وانّما كان المقصود بالخطاب هو المكتوب اليه ، خصوصاً اذا كان مراده أمراً سراً ، ولذا اذا حصل الحاكم ، على كتاب مرسل من زيد الى عمرو ، يحثّه فيه باغتيال بكر ، احضر الحاكم الكاتب والمكتوب ، اليه ، وسألهما عن قصدهما ، وانه لماذا أمره بذلك ؟ ، والمقصود من احضار الحاكم لهما : احضارهما للاستفسار ، لا ان الحاكم يرتب الاثر الشرعي : من عقوبة الكاتب ، أو المكتوب اليه ، ومن الواضح ان الاثر الشرعي انّما هو للبيّنة ، والاقرار ، ولعلم الحاكم ، في الموارد التي جعل الشارع علم الحاكم حجّة - على ما ذكرناه في كتاب «القضاء » (1) وغيره .

( فاذا فرضنا اشتراك هذا الثالث ) الذي لم يكن مقصوداً بالتفهيم ( مع المكتوب اليه ، فيما اراد المولى منهم ) لكن لا ارادة بتفهيم ، وانّما ارادة بحكم ( فلا يجوز له ) اي للثالث الذي لم يقصد افهامه وان كان مشتركاً في التكليف ( الاعتذار في ترك الامتثال ، بعدم الاطلاع على مراد المولى ) ، فاذا كان للمولى عبيد ، وقال ذات مرة : ان التكليف على الكل سواء ، ثم كتب لاحدهم يجب عليك القيام عند مجيء العالم ، أو قال له ذلك مشافهة ، فانه اذا سمع عبد آخر هذا الكلام ، أو قرء الكتاب ، فانه لا يشك في وجوب القيام عليه ايضاً : عند مجيء العالم ، فاذا لم يقم ، واعتذر : بأن الكتاب أو الخطاب لم يكن موجهاً اليه ، لا يقبل المولى منه ، واستحق العقاب عند العرف ، لمخالفته أمر مولاه ، ( وهذا واضح لمن

ص: 270


1- - راجع موسوعة الفقه : ج84 - 85 للشارح .

راجع الأمثلة العرفيّة ، هذا حالُ أهل اللسان في الكلمات الواردة إليهم .

وأمّا العلماء ، فلا خلاف بينهم في الرجوع إلى أصالة الحقيقة في الألفاظ المجرّدة عن القرائن الموجّهة من متكلّم إلى مخاطب ، سواء كانَ ذلك في الأحكام الجزئية كالوصايا الصادرة عن الموصي المعيّن إلى شخص معيّن ، ثم مسّت الحاجةُ إلى العمل بها مع فقد الموصى اليه ،

------------------

راجع الأمثلة العرفية ) .

و ( هذا ) الذي ذكرناه ( حال اهل اللسان في الكلمات الواردة اليهم ) من غير فرق بين اللغة العربية وسائر اللغات .

بل وكذلك الحال بالنسبة الى الترجمة ، فيما اذا تكلم بالعربية مع انسان ، وعلم انسان فارسي انه مشترك معه بالتكليف ، فانه يجب عليه الاطاعة ، وان لم يكن مخاطباً ، لوحدة الملاك فيما ذكرناه في كل اللغات وتراجمها .

بل وكذلك وحدة الملاك في الكتابة والخطاب والاشارة .

( واما العلماء فلا خلاف بينهم في الرجوع الى ) الظواهر التي تستفاد من الكتاب ، والخطاب ، وذلك لاجرائهم ( اصالة الحقيقة في الألفاظ المجردة عن القرائن ، الموجهة من متكلم الى مخاطب ) ، وكذلك بالنسبة الى المجازات المستفادة من القرائن ، وهكذا حال الالفاظ المشتركة ، التي يستفاد من القرائن ارادة هذا المعنى أو ذاك .

( سواء كان ذلك في الاحكام الجزئية ، كالوصايا الصادرة عن الموصي المعيَّن ، الى شخص معيّن ) بوصية لفظية ، أو كتبية ، او بالاشارة ( ثم مسّت الحاجة الى العمل بها ، مع فقد الموصى اليه ) أو موته أو جنونه ، أو ما اشبه ، مثلاً : اذا كتب زيد يوصي عمرو : بان يعطي من تركته بعد موته ، خمس سنوات صلاة قضاء ،

ص: 271

فانّ العلماء لا يتأمّلون في الافتاء بوجوب العمل بظاهر ذلك الكلام الموجّه إلى الموصى إليه المقصود وكذا في الاقارير ، ام كانَ في الأحكام الكليّة ، كالأخبار الصادرة عن الأئمّة عليهم السلام ، مع كون المقصود منها تفهيم مخاطبهم لاغير ،

------------------

وخمسة اشهر صيام ، وحجّة اسلام ، لكن عمرو مات قبل ان ينفّذ الوصية ، فان العالم يعين وصياً آخر ، لتنفيذ الوصية - بعد ظهور الوصية في عدم الخصوصية - ( فان العلماء ، لا يتأملون في الافتاء بوجوب العمل بظاهر ذلك الكلام ، الموجه الى الموصى اليه المقصود ) بالتفهيم .

( وكذا ) الحال ( في الأقارير ) والشهادات ، والدعاوي ، والاخبارات والانشادات والأيمان ، وغيرها ، كما اذا حلف اونذر أو عاهد : على ان اللّه ان شافى ولده ذبح شاة ، ثم شوفي الولد ، ومات الحالف ، او الناذر ، او المعاهد قبل الاداء ، لزم على الوصي ونحوه اخراج الشاة وذبحها ، لانه صار واجباً عليه ، وهكذا اذا قال لزوجته بالشروط المقررة للطلاق : انت طالق ، فان الأجنبي يتمكن من تزويجها بعد انقضاء العدة ، او مباشرة اذا لم تكن لها عدة ، وكذلك اذا أجرى صيغة النكاح خفية ، فيما اذا كان الزوجان يريدان ان لا يطلع على ذلك احد ، فان ولد الرجل وأباه ، يجوز لهما النظر الى تلك المرأة .

( أم كان في الاحكام الكلية ، كالأخبار الصادرة عن الأئمة عليهم السلام ) فيما اذا كان الحكم مشتركاً بين المؤنين ، أو بين المسلمين ( مع كون المقصود منها ) اي من تلك الأحكام ( تفهيم مخاطبهم لا غير ) فيما اذا لم يكن الحكم خاصاً ، اما لو كان الحكم خاصاً كما اذا قال الامام الصادق عليه السلام لعبده : تاجر ، أو مااشبه ، فانه لا يشمل الغير ، لان الحكم لم يكن مشتركاً .

ص: 272

فانّه لا يتأمّل أحدٌ من العلماء في استفادة الأحكام من ظواهرها معتذرا بعدم الدليل على حجيّة أصالة عدم القرينة بالنسبة الى غير المخاطب ومن قُصِدَ إفهامُهُ .

ودعوى : « كون ذلك منهم للبناء على كون الأخبار الصادرة عنهم عليهم السلام ، من قبيل تأليف المصنّفين » ، واضحةُ الفساد ،

------------------

وعلى اي حال : ( فانه لا يتأمل احد من العلماء ، في إستفادة الاحكام من ظواهرها ) أي من ظواهر الأخبار الواردة عنهم عليهم السلام ، سواء كان بالقول ، أو الفعل ، أو التقرير ، ولا حق لاحد في ان لا يعمل بالظواهر ( معتذراً بعدم الدليل على حجية أصالة عدم القرينة بالنسبة الى غير المخاطب و ) غير ( من قصد افهامه ) فان هذا العذر لا يقبل منه .

والحاصل : ان من قصد إفهامه ، أو لم يقصد إفهامه ، يجب عليه العمل بظواهر الأخبار ، بعد ورود الدليل بكون الاحكام مشتركة بين الكل .

( ودعوى ) المحقق القمي ( كون ذلك ) وجوب العمل بالاخبار ( منهم ) أي من العلماء ( للبناء على كون الاخبار الصادرة عنهم عليهم السلام من قبيل تأليف المصنفين ) فالكل يجب عليهم العمل ، لان الكل مقصودون بالخطاب (واضحة الفساد ) ، لانا نقطع بالوجدان بانهم يعملون بظواهر الاخبار ، لكن لا لأن الكل مقصودون بالافهام ، بل لحجية الظواهر مطلقاً ، وليس قطعنا بذلك اعتباطاً ، بل لانه طريقة العقلاء في الاستفادة من ظواهر الكلمات ، وان لم يكونوا مقصودين بالخطاب - كما عرفت - لكن بشرط ان يكونوا مشتركين في التكليف ، فالظهور والاشتراك كاف في تعدي الحكم ، الى الشخص الثالث ، ولا حاجة الى أن يكون الثالث مقصوداً بالخطاب ، كما ادعاه المحقق القمي .

ص: 273

مع أنّها لو صحّت لجرت في الكتاب العزيز ، فانّه أولى بأن يكون من هذا القبيل ، فيرتفع ثمرةُ التفصيل المذكور ، لأنّ المفصّل اعترف بأنّ ظاهر الكلام الذي هو من قبيل تأليف المؤلفين حجّة بالخصوص ، لا لدخوله في

------------------

( مع انها ) اي هذه الدعوى ( لو صحّت ، لجرت في الكتاب العزيز ، فانّه اولى بأن يكون من هذا القبيل ) فانه لو كانت الأخبار ، من قبيل تأليف المصنفين ، يقصد بها الكل ، فالقرآن الحكيم أيضاً من هذا القبيل ، بل هو أولى من الاخبار ، لان القرآن الحكيم نزل لعمل الكل ، وقد قال سبحانه : « وَما أرْسَلْناكَ إلاّ كافَّةً لِلْنّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ... » (1) .

فاذا قلنا ، بحجية ظواهر الآيات والاخبار على الكل ، لكونهم مقصودين بالافهام ، فلا يبقى ثمرة لتفصيل المحقق القمي : بين من قصد افهامه ، ومن لم يقصد افهامه ، اذ على هذا الفرض ، لا وجود أصلاً لمن لم يقصد افهامه بالنسبة الى محل البحث وهو : القرآن الحكيم ، والأخبار الواردة عنهم عليهم السلام ، حيث ان المحقق القمي ، أراد إسقاط الظواهر عن الحجية ، من باب الظنون الخاصة ، ليتمسك بها من باب الانسداد والظن العام .

وعلى هذا ( فيرتفع ثمرة التفصيل المذكور ) الذي ذكره المحقق القمي ، بين من قصد افهامه وبين من لم يقصد افهامه ( لأنّ المفصّل ) وهو المحقق القمي قدس سره ( اعترف : بأن ظاهر الكلام ، الذي هو من قبيل تأليف المؤفين حجة بالخصوص ) اي من باب الظن الخاص ، وقد كان من هذه الكبرى : صغرى القرآن الحكيم ، والاخبار الواردة عنهم عليهم السلام ، ( لا لدخوله في

ص: 274


1- - سورة سبأ : الآية 28 .

مطلق الظنّ ، وإنّما كلامه في اعتبار ظهور الكلام الموجّه إلى مخاطب خاصّ بالنسبة إلى غيره .

والحاصلُ : أنّ القطعَ حاصلٌ لكل متتبّع في طريقة فقهاء المسلمين ، بانّهم يعملون بظواهر الأخبار من دون ابتناء ذلك على حجيّة الظنّ المطلق الثابتة بدليل الانسداد ، بل يعملُ بها من يدّعي الانفتاحَ وينكر العملَ بأخبار الآحاد ، مدّعيا كونَ معظم الفقه معلوما بالاجماع والأخبار المتواترة .

------------------

مطلق الظن ) فان تأليف المصنفين من باب الظن الخاص عنده ، لا الظن المطلق .

( وانّما كلامه ) وخلافه مع المشهور : ( في اعتبار ظهور الكلام الموجه الى مخاطب خاص ) حيث انه لا يرى : حجية مثل هذا الكلام للشخص الثالث ، الاّ من باب الظن المطلق ، فبنظره انه اذا كان الكلام موجهاً الى شخص خاص ، سواء كان لفظاً ، أو اشارة ، أو كتابة ، لايكون حجة ( بالنسبة الى غيره ) أي غير المخاطب ، الاّ من باب الظن العام ، وقد انتفت هذه الفائدة لما عرفت .

( والحاصل : ان القطع حاصل لكل متتبع في طريقة فقهاء المسلمين ) من العامة والخاصة ( بأنهم يعملون بظواهر الأخبار ) كما انهم يعملون بظواهر القرآن ( من دون ابتناء ذلك ) اي عملهم على ظواهر القرآن والاخبار ( على حجّية الظن المطلق الثابتة ) تلك الحجية ( بدليل الانسداد بل يعمل بها ) أي بالظواهر ( من يدعي الانفتاح ) لباب العلم كالسيد المرتضى وغيره ( وينكر العمل بأخبار الاحاد ، مدعياً كون معظم الفقه معلوماً بالاجماع والاخبار المتواترة ) ، فان الفقهاء - سواء منهم من يدعي العلم في أكثر الاحكام ، كالسيد المرتضى ، أو من يدعي منهم الظن الخاص بالاحكام ، كالمشهور - يعملون بالظواهر من جهة انها ظواهر ،

ص: 275

ويدلّ على ذلك أيضا سيرةُ أصحاب الأئمة عليه السلام ، فانّهم كانوا يعملون بظواهر الأخبار الواردة إليهم ، كما يعملون بظواهر الأقوال التي يسمعونها من أئمتهم عليهم السلام ، لايفرّقون بينهما الاّ بالفحص وعدمه ، كما سيأتي .

------------------

لا من جهة انهم مقصودون بالخطاب ، وعليه : فالمنكر لحجية الخبر الظني السند ، كالسيد المرتضى أيضاً لا يقول بانحصار الحجية ، للمقصود بالخطاب فقط ، فكيف من يقول : بحجية الخبر ، الظني السند ، فانه أولى ان لايقول : بانحصار الحجية بمن قصد افهامه ؟ .

( ويدل على ذلك ) اي حجة الظواهر مطلقاً ، سواء من قصد افهامه ، أو لم يقصد إفهامه ( أيضاً ) اي بالاضافة الى ما تقدّم : من بناء أهل اللسان ، وبناء العلماء ( سيرة اصحاب الأئمة عليهم السلام ، فانهم كانوا يعملون بظواهر الاخبار الواردة اليهم ) من الرواة ، مثلاً : كان محمد بن مسلم ، الذي هو في زمن الإمام الصادق عليه السلام ، يعمل باخبار الرسول وعلي والحسن والحسين عليهم السلام من غير أن يدركهم ويخاطبوه بها ، وانّما كان يسمعها من الرواة ، فمحمد بن مسلم ، وزرارة ، والفضيل وغيرهم كانوا يعملون بتلك الروايات الواصلة اليهم ( كما يعملون بظواهر الاقوال ، التي يسمعونها من ائمتهم عليهم السلام ) المعاصرين لهم كالصادقين عليهماالسلام و ( لايفرقون بينهما ) اي بين الروايات الواردة والروايات المسموعة من الائمة مباشرة ( الاّ بالفحص وعدمه كما سيأتي ) ان شاء اللّه تعالى ، اي انهم كانوا يفحصون في الروايات الواردة اليهم عن المخصص والمقيّد لها وما اشبه ذلك بخلاف الروايات التي يسمعونها من الائمة عليهم السلام مباشرة حيث ما كانوا يفحصون عن المقيد والمخصص وما أشبه .

ص: 276

والحاصلُ : أنّ الفرق في حجيّة أصالة الحقيقة وعدم القرينة بين المخاطب وغيره مخالفٌ للسيرة القطعيّة من العلماء وأصحاب الأئمة عليهم السلام .

هذا كلّه ، مع أنّ التوجيه المذكور لذلك التفصيل ، لابتنائه على الفرق بين أصالة عدم

------------------

أقول : لكن الظاهر ، انّ الفحص كان عن كل من القسمين ، لأنّ الروايات المسموعة أيضاً كانت مطلقة ، وعامة ، ولهما مقيّدات ومخصصات .

( والحاصل : انّ الفرق في حجية أصالة الحقيقة ، وعدم القرينة ) أو المجاز فيما اذا كان هناك قرينة ( بين المخاطب ) الذي قصد افهامه ( وغيره ، مخالف ) لاتفاق أهل اللسان و ( للسيرة القطعية ، من العلماء ، وأصحاب الائمة عليهم السلام ) .

و ( هذا كله ) يرد على صاحب القوانين ( مع ان التوجيه المذكور لذلك التفصيل ) الذي ذكره المحقق القمي ، يرد عليه اشكال آخر وهو :

ان تفصيل المحقق القمي قدس سره ، كان بين من قصد افهامه فالظاهر حجة بالنسبة اليه ، وبين من لم يقصد افهامه ، فالظاهر ليس حجة بالنسبة اليه ، بينما التوجيه الذي ذكرناه لهذا التفصيل ، هو : ان الاحتمال فيمن قصد افهامه هو احتمال الغفلة من المتكلّم أو السامع ، وهذا الاحتمال لايقف امام الظاهر لأن اصالة عدم الغفلة جارية لدى العقلاء ، فالظاهر يكون حجة بالنسبة اليه ، بينما الاحتمال فيمن لم يقصد افهامه هو احتمال وجود قرينة بين المتكلم والمخاطب قد خفيت عليه ، وهذا الاحتمال يقف امام الظاهر ، ولا اصل ينفيه ، لانّ اصل عدم القرينة غير جار عند العقلاء .

فان هذا التوجيه لذلك التفصيل انّما هو ( لابتنائه على الفرق بين اصالة عدم

ص: 277

الغفلة والخطأ في فهم المراد وبين مطلق أصالة عدم القرينة ، يوجبُ عدمَ كون ظواهر الكتاب من الظنون المخصوصة ، وإن قلنا بشمول الخطاب للغائبين ، لعدم جريان أصالة عدم الغفلة في حقّهم مطلقا .

------------------

الغفلة ) فهي جارية ، اذ الغفلة ( والخطأ في فهم المراد ) يكون الاصل عدمهما ، ( وبين مطلق اصالة عدم القرينة ) فهي ليست جارية .

لكن هذا الفرق ليس بصحيح ، وغير مفيد ؛ للتفصيل الذي ذكره المحقق القمي ، اذ هذا التوجيه لهذا التفصيل ( يوجب عدم كون ظواهر ) الاخبار و ( الكتاب من الظنون المخصوصة ، وان قلنا : بشمول الخطاب للغائبين ) ، وذلك لان المحقق القمي قال : ان الخطاب لو كان شاملاً للغائبين ، كانت الظواهر حجة لهم من باب الظن الخاص ، وان لم يكن الخطاب شاملاً للغائبين ، لم تكن الظواهر حجة لهم من باب الظن الخاص ، بل تكون حجية الظواهر لهم من باب الظن العام الانسدادي .

هذا ، ولكنا نقول : حيث ان أصالة عدم الغفلة جارية في حق المشافهين فقط - على ما قاله المحقق القمي - فغير المشافهين لا يتمكنون من اجراء أصالة عدم الغفلة (لعدم جريان اصالة عدم الغفلة في حقهم مطلقاً ) سواء قصدوا بالخطاب ، أم لا .

والحاصل : ان حجية الظواهر مستندة الى أصالة عدم الغفلة - على قول المحقق القمي - واصالة عدم الغفلة ليس حجة ، الاّ في حق المشافهين ، فالغائبون سواء شملهم الخطاب ، أم لا ، لاتكون الظواهر حجة لهم من باب الظن الخاص ، فكيف قال المحقق القمي : ان الغائبين اذا كانوا مشمولين للخطاب ، كانت الظواهر حجة بالنسبة اليهم ، من باب الظن الخاص ؟ .

ص: 278

فما ذكره - من ابتناء كون ظواهر الكتاب ظنونا مخصوصة على شمول الخطاب للغائبين - غيرُ سديد ، لأنّ الظنّ المخصوص إن كان هو الحاصل من المشافهة ، الناشيء عن ظنّ عدم الغفلة والخطأ ، فلا يجري في حقّ الغائبين ، وإن قلنا بشمول الخطاب لهم ، وإن كان هو الحاصل عن أصالة عدم القرينة فهو جار

------------------

وعليه : ( فما ذكره ) المحقق القمي قدس سره ( من ابتناء كون ظواهر ) الاخبار و ( الكتاب ، ظنوناً مخصوصة على شمول الخطاب للغائبين ، غير سديد ) اذ لو كان مستند حجية الظواهر ، أصالة عدم الغفلة ، فهي ليست جارية في حق الغائبين ، وان شملهم الخطاب ، فان اصالة عدم الغفلة - على ما قاله المحقق القمي - خاصة بالمشافهين ، والغائب ليس مشافهاً ، وان كان مستند حجية الظواهر اصالة عدم القرينة فالغائب يجري اصالة عدم القرينة ، سواء شمله الخطاب ، ام لا ، وهو ان أجرى اصالة عدم القرينة فالظاهر يكون حجة له ، سواء شمله الخطاب ام لا ، فلماذا فصَّل المحقق القمي قدس سره بين شمول الخطاب للغائبين ، وقال : بان الظاهر حجة لهم من باب الظن الخاص ، وبين عدم شمول الخطاب للغائبين وقال : بان الظاهر ليس حجة لهم ، الاّ من باب الظن الانسدادي .

وذلك ( لان الظن المخصوص ان كان هو الحاصل من المشافهة ، الناشيء عن ظن عدم الغفلة والخطأ ) كما يقوله المحقق القمي ( فلا يجري ) هذا الظن المخصوص (في حق الغائبين ) لان الغائب ليس مشافهاً ، حتى ( وان قلنا بشمول الخطاب لهم ) .

( وان كان ) الظن الخاص ( هو الحاصل ) للشخص مستنداً ( عن اصالة عدم القرينة ) أي ان الظن الخاص مستنده عدم القرينة ( فهو ) اي الظن الخاص ( جار

ص: 279

في الغائبين وإن لم يشملهم الخطابُ .

وممّا يمكن أن يستدلّ به أيضا - زيادةً على ما مرّ من اشتراك أدلّة حجيّة الظواهر من إجماعي العلماء وأهل اللسان - ماورد في الأخبار المتواترة معنىً ، من الأمر بالرجوع إلى الكتاب وعرض الأخبار عليه ،

------------------

في الغائبين ) أيضاً كالحاضرين حتى ( وان ) قلنا : بانه ( لم يشملهم الخطاب ) ، وذلك لان الغائب أيضاً - سواء قصد افهامه أو لم يقصد افهامه - يظن بعد الفحص بعدم القرينة ، فيكون له ظن خاص مستند الى عدم القرينة .

هذا ، وقد استدل المصنِّف فيما سبق بثلاثة امور على حجية الظواهر من باب الظن الخاص ، لمن قصد افهامه أو لم يقصد افهامه ، بل وحتى لمن قصد عدم افهامه - فتكون الظواهر حجة لهم ، من باب الظن الخاص ، ثم استدل المصنِّف هنا بأمر رابع وقال : ( ومما يمكن أن يستدل به أيضاً ) على عدم الفرق بين من قصد افهامه وغير من قصد افهامه ( زيادة على ما مرّ ، من اشتراك أدلة حجيّة الظواهر ، من اجماعي : العلماء وأهل اللّسان ) وقد ذكرنا تفصيل الامور الثلاثة سابقاً ، هو ( ما ورد ) و « ما » نائب فاعل ل« يستدل » ( في الأخبار المتواترة معنىً ) وان كانت الفاظها مختلفة ( من الأمر بالرجوع الى الكتاب ، وعرض الاخبار ) المتعارضة ( عليه ) أي على الكتاب ، فان هذه الاخبار شاملة لغير المشافهين أيضاً ، ولا يجب عليهم عرض الأخبار المتعارضة على القرآن الحكيم ، ولو لم يكن القرآن حجّة بالنسبة إليهم ، كيف يأمر الائمة عليهم السلام بالرجوع الى القرآن ؟ .

والظاهر ان الرجوع الى القرآن ، من باب الظنّ الخاص لا من باب الظنّ الانسدادي ، اذ لو كان القرآن من باب الظنّ الانسدادي ، لم يكن للقرآن

ص: 280

فانّ هذه الظواهر المتواترة حجّة للمشافهين بها ، فيشترك غير المشافهين ، فيتمّ المطلوبُ ، كما لايخفى .

وممّا ذكرنا يعرف النظر فيما ذكره المحقق القمّي رحمه اللّه ، بعد ما ذكر من عدم حجيّة ظواهر الكتاب بالنسبة إلينا بالخصوص ، بقوله : « فان قلت : إنّ أخبار الثقلين

------------------

خصوصيّة ، بل كان اللازم أن يأمروا عليهم السلام بعرض الأخبار المتعارضة على كلّ ظنّ انسدادي ، وحيث ان هذه الأخبار متواترة قطعيّة سنداً ، ونصٌّ دلالةً ، نقطع بانّ ظواهر الكتاب ، حجّة من باب الظنّ الخاص للكل ، سواء كان مشافهاً، أو غير مشافه .

( فانّ هذه الظواهر المتواترة ) في الأخبار الواردة لعلاج المتعارضين ( حجّة للمشافهين بها ) قطعاً ، لأن المشافهين كانوا يعملون بهذه الأخبار المتواترة ، في علاج الروايات المتعارضة ، ويعرضونها على القرآن الحكيم ، فاذا ثبت لأولئك المشافهين وجوب العرض على القرآن ، ثبت لنا أيضاً وان كنا غير مشافيهن لان جميع العباد مشتركون في هذا الأمر ، بلا اشكال ولا خلاف ( فيشترك غير المشافهين ) مع المشافهين في هذا الامر ( فيتم المطلوب كما لايخفى ) .

ثم ان المحقّق القمي ، أشكل على نفسه باشكال ، وأجاب بجواب لم يرتضه المصنِّف قدس سره ، ولذا قال : ( ومما ذكرنا ) من انّا نقطع بتلك الأخبار المتواترة ، الدالة على عرض الاخبار على ظواهر الكتاب ( يعرف النظر فيما ذكره المحقّق القمي رحمه اللّه ، بعد ما ذكر من عدم حجيّة ظواهر الكتاب بالنسبة إلينا بالخصوص ) أي من باب الظن الخاص وانّما ظواهر الكتاب حجة لنا ، من باب الظنّ بالانسداد .

وذلك ( بقوله : فان قلت : إن أخبار الثقلين ) أي الأخبار الواردة ، عن

ص: 281

يدلّ على كون ظاهر الكتاب حجّة لغير المشافهين بالخصوص .

فأجاب عنه : بأنّ رواية الثقلين غير ظاهرة في ذلك ، لاحتمال كون المراد التمسّك بالكتاب بعد ورود تفسيره عن الأئمة عليهم السلام ، كما يقوله الأخباريّون .

------------------

النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم القائلة : « أنّي تارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ ، ما إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِما ، لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِيَ أبَداً ، كِتابُ اللّهِ وعِترَتي أهْلَ بَيْتي ، وإنَّهُما لَنْ يَفْتَرِقا حَتّى يَرِدا عَليّ الحَوضِ » (1) ، ظاهرة في حجيّة ظواهر الكتاب ، بالنسبة الى كل المسلمين ، سواء من كان منهم مشافهاً ، او لم يكن ، كان في زمان النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم او لم يكن ، كما فيمن يأتي بعد ذلك ، الى يوم القيامة ، فانها ممّا ( يدلّ على كون ظاهر الكتاب حجّة لغير المشافهين بالخصوص ) أي من باب الظنّ الخاص ، لا من باب الظنّ الانسدادي ، كما يقوله المحقّق القمي .

( فأجاب عنه ) أي عن هذا الاشكال بقوله : قلت : ( بأن رواية الثقلين ) وان كان سندها قطعيّاً الاّ انها ( غير ظاهرة في ذلك ) أي في حجيّة ظواهر الآيات ، بالنسبة الى غير المشافهين من باب الظنّ الخاص ( لاحتمال كون المراد : التمسّك بالكتاب بعد ورود تفسيره عن الأئمة عليهم السلام - كما يقوله الاخباريون - ) ، وعليه : فلم يثبت حجيّة ظواهر القرآن بالنسبة الى غير المشافهين ، كما أراده المستشكل ، فانه أراد : حجيّة ظواهر القرآن مجرّدة عن التفسير ، بالنسبة الى الغائبين عن مجلس الخطاب .

ثم قال المحقّق القمّي : فان قلت : نتمسّك بظاهر خبر الثقلين ، ونحكم بحجيّة

ص: 282


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص33 ب5 ح33144 وكذا راجع معاني الاخبار : ص91 ، كمال الدين : ص247 ، ارشاد القلوب : ص340 ، كشف الغمة : ج1 ص43 ، متشابه القرآن : ج2 ص35 ، المسائل الجارودية : ص42 .

وحجّيّةُ ظاهر رواية الثقلين بالنسبة إلينا مصادرةٌ ، إذ لافرق بين ظواهر الكتاب والسنّة في حقّ غير المشافهين بها » .

وتوضيحُ النظر :

------------------

ظواهر الآيات لنا .

قلت : ( وحجّية ظاهر رواية الثقلين بالنسبة الينا ) نحن معاشر الغائبين ( مصادرة ، اذ لا فرق بين ظواهر الكتاب والسنّة في حقّ غير المشافهين بها ) (1) أي بالظواهر .

والحاصل : ان الظواهر ، ليست حجّة بالنسبة الينا نحن الغائبين ، سواء ظواهر القرآن ، أو ظواهر السنّة ، فلا يمكن إثبات حجيّة ظواهر الكتاب بظواهر السنّة ، كأخبار الثقلين ، ونحوها .

( وتوضيح النظر : ) هو : ان اشكال المحقّق القمّي ، على نفسه - بسبب اخبار الثقلين - غير وارد ، وذلك :

اولاً : انه لا حاجة الى الاشكال على كلام المحقّق ، بسبب اخبار الثقلين ، فان هناك أخباراً اُخر ، تدلّ على حجيّة الظواهر ، ولو بالنسبة الى غير المشافهين .

ثانياً : ان اخبار الثقلين لا ربط لها بحجيّة الظواهر ، لانّها بصدد وجوب اطاعة الكتاب والعترة ، وهذا بمنزلة الكبرى ، أمّا الصغرى : أي ان مراد الكتاب والعترة ماذا ؟ ، فليست في هذه الأخبار .

مثلاً - نقول : هذا ظاهر ، والظاهر يجب اطاعته ، فاخبار الثقلين بصدد بيان الكبرى : الظاهر يجب اطاعته لا بصدد بيان الصغرى : هذا ظاهر .

ص: 283


1- - القوانين المحكمة : ص219 .

أنّ العمدةَ في حجيّة ظواهر الكتاب غيرُ خبر الثقلين من الأخبار المتواترة الآمرة باستنباط الأحكام من ظواهر الكتاب ، وهذه الأخبار تفيد القطع بعدم إرادة الاستدلال بظواهر الكتاب بعد ورود تفسيرها من الأئمة عليهم السلام ، وليست ظاهرة في ذلك حتّى يكون التمسّك بظاهرها لغير المشافهين بها مصادرةً .

بل يمكن ان يقال ان خبرُ الثقلين ليس له ظهور ، إلاّ في وجوب إطاعتهما

------------------

اذ ( انّ العمدة في ) اثبات ( حجيّة ظواهر الكتاب ) لكل من المشافه ، وغير المشافه ( غير خبر الثقلين من الأخبار المتواترة ، الآمرة باستنباط الأحكام من ظواهر الكتاب ) وقد ذكرنا هذا الموضوع سابقاً فلا حاجة الى تكراره ، ( وهذه الأخبار ) المتواترة ، الآمرة باستنباط الأحكام ، من ظواهر الكتاب ، قطعيّة دلالة ، وسنداً ، ومضموناً ، أي ليس مضمونها موافقاً للعامة ، فهي ( تفيد ) نا ( القطع : بعدم ارادة الاستدلال بظواهر الكتاب ، بعد ورود تفسيرها من الأئمة عليهم السلام ) بل المراد الاستدلال بهذه الاخبار بالاستقلال ، ( و ) هذه الأخبار المقطوع بها (ليست ظاهرة في ذلك ) المدعى حتى يقال : انه لايمكن اثبات ظواهر القرآن ، بظواهر الأخبار ، لان تلك الأخبار نصّ في المدعى ، لا انها ظاهرة فيه ( حتى يكون التمسّك بظاهرها ) أي بظاهر تلك الاخبار المتواترة ( لغير المشافهين بها ) أي بتلك الاخبار المتواترة ( مصادرة ) كما قاله المحقق القمي .

هذا حاصل الجواب الأوّل ، واما الجواب الثاني : الذي اشرنا اليه ، فقد ذكره المصنِّف قدس سره بقوله : ( بل يمكن أن يقال : ان خبر الثقلين ليس له ظهور إلاّ في ) أمر آخر ، لا يرتبط بالمقام اطلاقاً ، والأمر الآخر هو : ( وجوب اطاعتهما ) أي الكتاب

ص: 284

وحرمة مخالفتهما ، وليس في مقام اعتبار الظنّ الحاصل بهما في تشخيص الاطاعة والمعصية ، فافهم .

ثمّ إنّ لصاحب المعالم رحمه اللّه في هذا المقام كلاما يحتمل التفصيل المتقدم ، لا بأس بالاشارة اليه ،

------------------

والعترة ( وحرمة مخالفتهما ) ، بعد احراز الاطاعة والمخالفة أي بعد معرفة الواجبات والمحرمات ، من الكتاب والسنة ، وجب علينا اطاعتهما ، ( وليس ) خبر الثقلين ( في مقام اعتبار الظنّ الحاصل بهما ) أي بالثقلين ( في تشخيص الاطاعة والمعصية ) وتعيين المراد من الواجبات والمحرمات ، اذ كون هذا ظاهراً ، او ليس بظاهر ، مرتبط بباب آخر ، وأمّا أخبار الثقلين فهي مرتبطة بالكبرى - كما ذكرنا صورة القياس سابقاً - .

( فافهم ) ولعله يريد بذلك : ان اخبار الثقلين قطعيّة السند ، لكنها ليست قطعيّة الدّلالة ، بل هي ظنيّة الدّلالة كسائر الظواهر ، فيسقط الجواب الأوّل للمصنف ، الذي ذكره بقوله : وهذه الاخبار تفيد القطع .

( ثم انّ لصاحب المعالم رحمه اللّه في هذا المقام ) اي في مقام حجيّة ظواهر الآيات ( كلاماً يحتمل التفصيل المتقدّم ) الّذي ذكره المحقّق القمّي : من الظواهر حجّة بالنسبة الى المخاطبين ، أو الأعم منهم ومن الموجودين في زمن الخطاب ، أو الأعم منهم ومن أراد المتكلم افهامه ، أما غيرهم فليست الظواهر حجّة بالنسبة اليهم .

بينما المشهور يقولون : بأن الظواهر حجّة حتّى بالنسبة الى من لم يرد افهامه ، كما تقدّم التصريح بذلك ، ( لا بأس بالاشارة اليه ) أي الى كلام صاحب المعالم موجزاً ، لتوضيح كلام القوانين أكثر ، فيتّضح جوابنا منه أكثر أيضاً .

ص: 285

قال : - في الدليل الرابع ، من أدلّة حجيّة خبر الواحد ، بعد ذكر انسداد باب العلم في غير الضروريّ من الأحكام ، لفقد الاجماع والسنّة المتواترة ووضوح كون أصل البراءة لاتفيد غيرَ الظنّ وكونِ الكتاب ظنّيَّ الدّلالة - مالفظه : - لا يقال : إنّ الحكم المستفاد من ظاهر الكتاب مقطوع لا مظنون وذلك بضميمة مقدّمة خارجية ، وهي قبيح خطاب الحكيم بماله ظاهر وهو يريد خلافه من غير دلالة تصرفُ عن ذلك الظاهر ،

------------------

( قال في الدليل الرابع ، من أدلّة حجيّة خبر الواحد - بعد ذكر انسداد باب العلم ، في غير الضروري من الاحكام ) وانّما كان باب العلم منسدّاً لامور اربعة :

أوّلاً : ( لفقد الاجماع ) المحصل المفيد للعلم .

ثانياً : ( و ) فقد ( السنّة المتواترة ) لان السنّة المتواترة ، انّما هي موجودة في بعض الأحكام النادرة ، لا في كلها .

ثالثاً : ( ووضوح كون أصل البرائة ، لا تفيد غير الظّن ) اذا وصلت النوبة الى الاصل ، بان لم يكن اجماع ولا سنّة .

رابعاً : ( وكون الكتاب ظنيّ الدّلالة ) فلا يفيد الكتاب العلم أيضاً ، لان ما كان بعض أسسه ظنّاً يكون ظنيّاً ، لان النتيجة تابعة لأضعف المقدّمتين ، فان الكتاب وان كان قطعيّ السند لكنه ظنيّ الدّلالة .

قال ( - ما لفظه : لا يقال : ان الحكم المستفاد من ظاهر الكتاب مقطوع لا مظنون ، وذلك ) القطع ( بضميمة مقدّمة خارجيّة ، وهي : قبح خطاب الحكيم بماله ظاهر ) بأن كان للفظه ظهور في معنى خاص ( وهو يريد خلافه ) أي خلاف ذلك الظاهر ، فان هذا الخطاب قبيح لدى العقلاء ، والحكيم سبحانه لايفعل القبيح - كما ثبت في اصول الدين - طبعاً ( من غير دلالة تصرف عن ذلك الظاهر ) .

ص: 286

سلّمنا ، ولكن ذلك ظنّ مخصوص ،

------------------

نعم ، يجوز للحكيم : ان يكون لكلامه ظاهر وهو لا يريده ، لكنه ينصب قرينة على الخلاف ، والقرآن الحكيم لم ينصب على خلاف ظواهره دليلاً ، الاّ في المقيدات ، والمخصّصات ، وما أشبه .

مثلاً : نقطع من قوله سبحانه : « أقيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ... » (1) ، وجوب الصلاة ، لأن الأمر ظاهر في الوجوب وكذلك وجوب الزكاة ، ومن قوله سبحانه : « ولا تَقْرَبوا الزِّنا ، إنَّهُ كانَ فاحِشَةً ... » (2) ، حرمة الزنا ، الى غير ذلك ، فانّ العقلاء يقولون : انّ اللّه سبحانه وتعالى الحكيم ، لما أمر ونهى ، ولم يقم قرينة على ان أمره يراد به : الاستحباب ، أو انّ نهيه يراد به : الكراهة ، أو انهما في مقام الحضر ، ونحوه ، مما لا يفيد حتى الاستحباب ، مثل قوله تعالى : « وَإذا حَلَلْتُمْ فاصْطادوا » (3) ، كان لابد وان يريد الحكيم سبحانه وتعالى ، الظواهر بوجوب الصلاة والزكاة ، وحرمة الزنا ونحوه .

( سلمنا ) عدم حصول القطع من ظواهر الكتاب ، وذلك لاحتمال غفلتنا عن القرينة ، بأن كانت القرينة موجودة ، لكنها اختفت علينا ، لأن القرينة كانت مقامية ، ولم تكن لفظية حتى تكون مذكورة ، كما في قوله سبحانه : « فلا جُناحَ عَلَيْهِ أنْ يَطَّوَّفَ بِهِما » (4) ، حيث كانت القرينة فيها مقامية ، لان المشركين كانوا قد نصبوا على الجبلين صنمين ، فزعم المسلمون انه يحرم الطواف بهما .

( ولكن ذلك ) الظنّ الحاصل من ظواهر الكتاب ، وان لم نقل بالمقدّمة الخارجيّة المتقدّمة ( ظنّ مخصوص ) وليس من الظنون العامّة ، التي يظنّ بها

ص: 287


1- - سورة البقرة : الآية 43 .
2- - سورة الاسراء : الآية 32 .
3- - سورة المائدة : الآية 2 .
4- - سورة البقرة : الآية 158 .

فهو من قبيل الشهاده لايُعدَلُ عنه إلى غيره إلاّ بدليل .

لأنّا نقول : أحكامُ الكتاب كلّها من قبيل خطاب المشافهة ، وقد مرّ أنّه مخصوص بالموجودين في زمن الخطاب وأنّ ثبوت حكمه في حقّ من تأخّر إنّما هو بالاجماع وقضاء الضروره باشتراك التكليف بين الكلّ .

------------------

الانسان ، لان حجيّة الظواهر بين العقلاء ، وأهل اللسان ، اتفاقية ، ( فهو ) أي الظنّ الحاصل من ظواهر الكتاب ( من قبيل الشهادة ) في الموضوعات ، فكما انّ الشهادة تفيد الظنّ ، لكنّه ظنّ حجّة ، وليس من قبيل الظنون العامّة ، كذلك الظنون الحاصلة من ظواهر القرآن الحكيم ، فانّها ظنون خاصة حجّة عند العقلاء ، وحينئذٍ ( لا يعدل عنه ) أي عن الظن الحاصل من ظاهر القرآن ( الى غيره الاّ بدليل ) خارجي ، من السنة ، أو الاجماع ، أو العقل ، بصرف ظاهر القرآن ، عن ظاهره ، كما دل العقل والاجماع والأخبار ، على ان اللّه سبحانه وتعالى ليس بجسم ، ممّا يسبّب صرف ظاهر قوله سبحانه وتعالى : « الرَّحمنُ عَلى العَرشِ استوى » (1) ، عن ظاهره فيكون الحاصل من اشكال المعالم : انّ الظواهر حجّة .

وذلك ( لانا نقول ) في جواب هذا الاشكال : ان ( احكام الكتاب ، كلها من قبيل خطاب المشافهة ، وقد مرّ : انّه ) اي خطاب المشافهة ( مخصوص بالموجودين في زمن الخطاب ، وان ثبوت حكمه ) أي حكم الكتاب العزيز ( في حق من تأخر ) من سائر الأجيال الآتية بعد النبي صلى اللّه عليه و آله وسلم ( انّما هو بالاجماع ، وقضاء الضرورة ، باشتراك التكليف بين الكل ) .

فالظواهر ليست حجة بالنسبة الى الذين تأخروا عن زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم ، لانها مخصوصة بالمشافهين ، وانّما نستفيد الحكم من ادلة الاشتراك .

ص: 288


1- - سورة طه : الآية 5 .

وحينئذٍ : فمن الجائز أن يكون اقترن ببعض تلك الظواهر ما يدلّهم على إرادة خلافها ، وقد وقع ذلك في مواضع علمناها بالاجماع ونحوه ، فيحتمل الاعتماد في تعريفنا لسائرها على الأمارات المفيدة للظنّ القويّ ، وخبر الواحد من جملتها ، ومع قيام هذا الاحتمال

------------------

( وحينئذٍ ) أي : اذا كان ظواهر القرآن حجة بالنسبة الى المشافهين ، والذين هم في زمان الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم ، دون الغائبين يكون القرآن الحكيم دليلاً لهم فقط لا لنا ، ( ف- ) انه ( من الجائز ان يكون اقترن ببعض تلك الظواهر ) من القرآن الحكيم ( ما ) أي : قرينة حالية أو مقالية ( يدلّهم ) أي : يدل المشافهين والحاضرين في زمانه صلى اللّه عليه و آله وسلم ( على ارادة خلافها ) أي خلاف تلك الظواهر ، وقد اختفت تلك القرينة علينا ، ( وقد وقع ذلك ) أي : الاقتران ببعض ما يدل المشافهين على ارادة خلاف الظواهر ( في مواضع ) من الآيات ( علمناها بالاجماع ونحوه ) مثل ارادة الرجعيات في قوله سبحانه وتعالى : « وَبعولَتِهِنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ... » (1) ، حيث انّ الآية مطلقة ، لكن الاجماع ، ونحوه ، قام على ارادة الرجعيات فقط ، فلا تشمل الآية البائنات .

وعليه : ( فيحتمل الاعتماد ) من الشارع ( في تعريفنا لسائرها ) ، أي معرفتنا لسائر خلاف الظواهر في الآيات ، التي أريد خلاف ظواهرها - حيث لم يكن اجماع ، أو ضرورة ، على تلك الارادة - ان يكون الشارع قد اعتمد فيها ( على الأمارات المفيدة للظنّ القوي ) دون الظّنون العرفيّة ، بل الظّنون المعتبرة عند العقلاء ( وخبر الواحد من جملتها ) أي : من جملة تلك الأمارات المفيدة للظن القوي، (ومع قيام هذا الاحتمال) من : ارادة الشارع خلاف الظاهر، واختفاء القرينة

ص: 289


1- - سورة البقرة : الآية 228 .

ينفي القطعُ بالحكم ، ويستوي حينئذٍ الظنّ المستفاد من ظاهر الكتاب والحاصل من غيره بالنظر إلى إناطة التكليف به ، لابتناء الفرق بينهما على كون الخطاب متوجّها إلينا ، وقد تبيّن خلافه ،

------------------

( ينفي القطع بالحكم ) فلا يكون ظاهر القرآن دليلاً قطعياً على المراد منه ، كما لايكون ظنّا خاصّاً ، وذلك لاختصاص الظنّ الخاص ، بالمشافهين الحاضرين ، في زمن الخطاب ، فلا يكون هذا الظنّ شاملاً لنا نحن الغائبين ، ( ويستوي حينئذٍ ) أي حين لم يكن قطع بالحكم ، ولم يكن ظن خاص من قبيل ظن المشافهين والحاضرين ( الظّن المستفاد من ظاهر الكتاب ، والحاصل من غيره ) أي : غير الكتاب كالظنّ من الأخبار ، فلا يكون للكتاب خصوصيّة من هذه الجهة ، وان كان بينهما فرق من جهة : انّ الكتاب قطعي الصدور ، والخبر على الأغلب ظني الصدور ، والاستواء انّما يكون ( بالنظر الى اناطة التكليف به ) أي : بالظنّ ، فحيث لم يكن قطع على المراد من الكتاب ، يكون الظن وهو الذي يجب الاعتماد عليه ، في افادة مراد اللّه سبحانه وتعالى من الكتاب أو في افادة مراد المعصومين « صلوات اللّه عليهم أجميعن » من احاديثهم .

وانّما قلنا : يستوي الظن المستفاد من ظاهر الكتاب ، والظن الحاصل من غيره (لابتناء الفرق بينهما على كون الخطاب ) من القرآن الحكيم ( متوجهاً الينا ) فانه لو كان مقصود القرآن افهام الكل ، لكان ظواهر الكتاب دليلاً قطعياً او ظنّيّاً ظنّاً خاصّاً ، فكان خلاف سائر الظنون ، هذا ( و ) لكن ( قد تبيّن خلافه ) لانا قلنا : انّ الخطاب للمشافهين ، وحيث لم نكن نحن مشافهين ، لم يكن فرق بين الظنون الحاصلة من الكتاب ، وبين الظنون الحاصلة من الاخبار .

وإن قلت : هب ان الخطاب لم يكن شاملاً لنا ، فلماذا لانقطع بالمراد من ظواهر

ص: 290

ولظهور اختصاص الاجماع والضرورة الدالّين على المشاركة في التكليف المستفاد من ظاهر الكتاب بغير صورة وجود الخبر الجامع للشرائط الآتية المفيدة للظنّ »

------------------

القرآن الحكيم ، والحال ان ادلة الاشتراك في التكليف بين المشافهين والغائبين ، تجعل حالنا نحن الغائبين حال المشافهين ، في القطع بالمراد من الظواهر .

قلت : الضرورة والاجماع لا يوجبان القطع بالمراد ، حتى فيما اذا كان هناك خبر على خلاف ظاهر الكتاب ، ( و ) ذلك ( لظهور اختصاص الاجماع والضرورة الدّالين على المشاركة في التكليف ) بين المشافهين والغائبين و ( المستفاد من ظاهر الكتاب ، بغير صورة وجود الخبر ، الجامع للشرائط الآتية ) ، « والآتية » : صفة « للشرائط » أي : سنبيّن فيما بعد ان الخبر يجب ان يكون جامعاً لشرائط خاصة ، كالعدالة ، والضبط ، والايمان في الراوي ، وغيرها ( المفيدة للظّن ) (1) ، « والمفيدة » : صفة ل« صورة وجود الخبر » كما ان قوله : « ولظهور » عطف على قوله : « لابتناء الفرق » .

والحاصل : انّ الاجماع والضرورة يقتضيان اشتراكنا، نحن الغائبين مع المشافهين، لخطابات القرآن الحكيم في الحكم ، المستفاد من ظاهر الكتاب ، بشرط عدم كونه معارضاً ومخالفاً للخبر المعتبر ، فانه اذا انتفى الشرط انتفى المشروط ، بمعنى : انه اذا كان خبر معتبر يخالف ظاهر الكتاب لا يمكن الأخذ بظاهر الكتاب ، وانّما يجب الأخذ بظاهر الخبر ، مثلاً قوله سبحانه : « فكاتِبوهُم إنْ عَلِمْتُم فِيهِم خَيْراً » (2) ، ظاهر في الوجوب ، لكن الخبر قام على ان المراد : استحباب المكاتبة .

ص: 291


1- - معالم الدين : ص193 .
2- - سورة النور : الآية 33 .

انتهى كلامه .

ولا يخفى : أنّ في كلامه قدس سره ، على اجماله واشتباه المراد منه كما يظهر من حواشي المحشّين

------------------

وكذا قوله سبحانه : « وَأنْكِحوا الأَيامى مِنْكُم والصّالِحِينَ مِن عَبادِكُم ... » (1) ، ظاهر في الوجوب ، لكن المستفاد من الخبر : الاستحباب .

وفي عكسه قوله سبحانه : « فَلَيسَ عَلَيْكُم جُناحَ ان تَقصروا مِنَ الصَّلاة » (2) ، وقوله سبحانه : « فَلا جُناحَ عَلَيهِ أن يَطَّوَّفَ بِهِما » (3) ، ظاهر أن في الاستحباب ، لكن - قامت الاخبار على وجوب القصر في السفر ، بشرائطه الخاصة وعلى وجوب السعي بين الصفا والمروة .

( انتهى كلامه ، ولا يخفى : انّ في كلامه قدس سره على اجماله واشتباه المراد منه ، كما يظهر من حواشي المحشين ) حيث فهم كل محشي من كلامه شيئاً ، فلم يعلم ما هو المراد من كلام المعالم ؟ هل انه فصّل على النحو التالي :

أوّلاً : بين المشافه وغيره ، بان الظواهر حجّة للأوّل من باب القطع ، وللثاني من باب الظنّ المطلق ؟ .

ثانياً : او انه فصّل بينهما بانها حجّة للأول من باب الظنّ الخاص ، وللثاني من باب الظنّ المطلق ؟ .

ثالثاً : او انه اراد ان يبين ان الغائبين لم يكونوا مشافهين فلا يكون الظاهر حجّة عليهم ، اذا كان على خلاف ذلك الظاهر القرآني خبر معتبر ، كما يستفاد من آخر كلامه ؟ .

ص: 292


1- - سورة النور : الآية 32 .
2- - سورة النساء : الآية 101 .
3- - سورة البقرة : الآية 158 .

مواقع للنظر والتأمّل .

------------------

رابعاً : او انه اراد بيان كل تلك الامور الثلاثة ، وردّ من قال : بانّ القرآن قطعي الدلالة .

وعلى أي حال : ففي كلامه قدس سره بالاضافة الى اجماله ( مواقع للنّظر والتأمل ) .

منها : انّ العلم بحكمة المتكلم ، لا يجعل ظاهر كلامه من قبيل النصوص ، حتى يكون ظاهر كلامه مقطوعاً به .

ومنها : انّه لم يدَّعِ أحد : كون ظاهر القرآن من الظنون العادية لا الظنون الخاصة ، وهذان الاشكالان واردان على قوله : « لايقال » .

ومنها : انه جعل كل خطابات الكتاب من قبيل خطابات المشافهة ، مع ان قوله تعالى : « يا أيُّها النّاس ... » (1) و « يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا » (2) و « إنَّما المُؤِنونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلوبُهُم ... » (3) ، وغير ذلك ، من قبيل تأليف المؤفين ، الذين لا يريدون المشافهة ، فقط .

ومنها : انه لم يحتمل احد ، انه مع وجود خبر معتبر ينافي ظاهر القرآن - كما ذكرناه : في ظاهر أوامره ، ونواهيه ، ونحوهما - أو ينافي اطلاق القرآن ، أو عمومه ان لا يعمل بالخبر ، ويعمل بالظاهر ، والاطلاق ، والعموم ، وهذان الاشكالان يردان على قوله : « لانّا نقول » الى آخره .

مع ان هناك أيضاً ايرادات اخرى على جوابه ، نصفح عنها خوف التطويل .

ص: 293


1- - سورة البقرة : الآية 21 .
2- - سورة البقرة : الآية 153 .
3- - سورة الانفال : الآية 2 .

ثمّ إنّك قد عرفت :

أنّ مناط الحجّيّة والاعتبار في دلالة الألفاظ هو الظهور العرفيّ ، وهو كونُ الكلام بحيث يحمل عرفا على ذلك المعنى ولو بواسطة القرائن المقاميّة المكتنفة بالكلام .

------------------

( ثم انّك قد عرفت ) في اوّل توجيهنا لتفصيل المحقّق القمّي رحمه اللّه ( انّ مناط الحجيّة والاعتبار في دلالة الالفاظ ) ليس هو لأن العقلاء عبّدونا بذلك ، فنحن متعبدون بما قاله العقلاء ، ولا لانه يلزم ان يحصل لنا ظنّ فعلي بمراد المتكلم ، حتى نعمل بذلك الظاهر ، بل الحجيّة والاعتبار في دلالة الالفاظ ( هو الظهور العرفي ) ، بمعنى : انّ العرف يرون هذا اللفظ ظاهراً في هذا المعنى : ( وهو كون الكلام بحيث يحمل عرفاً على ذلك المعنى ) وهذا ما يعبِّرون عنه بالظن النوعي ، أي : انّ نوع العقلاء يظنون بمراد المتكلم من ظاهر كلامه ، وان كان هناك افراد لا يستظهرون من كلامه ، ذلك المراد الذي يفهمه النوع .

كما ان الظهور معناه : انّ أمراً يتكرر ، حتى ينتقل الانسان من هذا الكلام ، أو من هذا الفعل الى ذلك الأمر المخفي تحته ، كتكرر الرعد والبرق ، وانصباب المطر بعدهما ، حيث يكون للرعد والبرق ظهور في مجيى ء المطر بعدهما .

وهكذا حال ظهور الالفاظ في المعاني الخاصة ، فان ظهور : أسد في الحيوان المفترس ، انّما هو لتكرر ذكر الاسد في كلمات العقلاء ، وارادتهم الحيوان المفترس منه ، فيقال : انّ الأسد ظاهر في الحيوان المفترس .

ولا يخفى : انه لا يلزم في الظهور ان يكون اللفظ بنفسه ظاهراً في المعنى المراد ، بل يكون له ظهور ( ولو بواسطة القرائن المقاميّة المكتنفة بالكلام ) ، فانّ الظهور قد يكون بسبب الوضع التعييني أو الوضع التعيّني ، وقد يكون بسبب

ص: 294

فلا فرق بين إفادته الظنّ بالمراد وعدمها ، ولا بين وجود الظنّ الغير المعتبر على خلافه وعدمه ، لأنّ ماذكرنا من الحجّة على العمل بها جار في جميع الصور المذكورة .

------------------

القرائن اللفظية أو الحالية كقول زيد : كان معي البارحة أسد جلسنا معه الى الصباح ، فان هذه القرينة المقالية أو الحالية ، تدل على ان المراد بالاسد : الرجل الشجاع ، وهذا نوع من الظهور ، لكنه ظهور مجازي ، الى غير ذلك من القرائن ، التي ذكروها في باب المجاز .

وعليه : ( فلا فرق ) في حجيّة الظاهر ، الحاصل من الحقيقة ، أو من المجاز ( بين افادته الظن بالمراد ) ظنّاً فعليّاً ، كما في الاشخاص المتعارفين الذين اذا سمعوا اللفظ ، استظهروا المراد منه ( وعدمها ) كما في غير العاديين ، مثل الانسان الوسواسي ، في ارادات المتكلمين من ظواهر الفاظهم .

( و ) هكذا ( لا ) فرق ( بين وجود الظن غير المعتبر على خلافه وعدمه ) فسواء كان هناك ظنّ غير معتبر على خلاف الظاهر ، أو لم يكن ظنّ كذلك يكون الظهور حجّة ، فلا يقيّد حجيّة الظاهر بالظنّ على وفقه ، ولا بعدم الظنّ غير المعتبر على خلافه ( لان ما ذكرنا من الحجّة على العمل بها ) أي بالظواهر ( جار في جميع الصور المذكورة ) ، وذلك لان أهل اللسان يعملون بالظاهر ، سواء حصل لهم الظنّ الفعلي بالمراد ام لا ، وسواء كان هناك ظنّ غير معتبر على خلاف الظاهر ، أو لم يكن ، فاذا قال المولى : جئني بالماء ، كان اللازم على العبد ان يأتي به ، سواء ظنّ بارادة المولى الجسم السائل ام لا ، وسواء ظنّ بارادة المولى خلاف الجسم السائل أم لا .

ص: 295

وما ربما يظهر من العلماء - من التوقّف في العمل بالخبر الصحيح المخالف لفتوى المشهور او طرحه مع اعترافهم بعدم حجّيّة الشهرة - فليس من جهة مزاحمة الشهرة لدلالة الخبر الصحيح من عموم او إطلاق ،

------------------

( و ) ان قلت : انتم ذكرتم : ان حجيّة الظّواهر ليست مشروطة بعدم الظنّ بالخلاف ، وهذا ينافي ( ما ربما يظهر من العلماء : من التوقّف في العمل بالخبر الصحيح ) الجامع للشرائط ( المخالف لفتوى المشهور ، أو طرحه ، مع اعترافهم بعدم حجيّة الشهرة ) فاذا لم يكن حجيّة الظواهر عندهم مشروطة بعدم الظنّ على خلافه ، فلماذا يتوقفون في الخبر أو يطرحونه ، اذا كان مخالفاً للمشهور ؟ .

قلت : ليس التوقف أو الطرح ، من جهة المناقشة في الدلالة والحجيّة ، حيث الظهور قائم ، بل من جهة المناقشة في السند ، لان دليل حجيّة الخبر لا يشمل الخبر المخالف للمشهور .

وعدم شموله ، أمّا من جهة : انّ العقلاء لا يرون لمثل هذا الخبر حجيّة ، والشارع سيدهم ، فدليل الحجيّة منصرف عن مثل هذا الخبر .

وأمّا من جهة المناط ، في قوله عليه السلام : « خُذ بِما إشتَهَرَ بَينَ أصحابِكَ ، وَدَع الشاذَّ النّادِرَ » (1) ( فليس ) ما ربما يظهر من العلماء ( من جهة مزاحمة الشهرة لدلالة الخبر الصحيح ، من : عموم ، أو اطلاق ) بأن تكون الشهرة مخصصة للعموم ، او مقيّدة للاطلاق ، او صارفة لظاهر الخبر من الوجوب الى الاستحباب ، أو لظاهر النهي من التحريم الى الكراهة ، أوما اشبه ذلك .

ص: 296


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 .

بل من جهة مزاحمتها للخبر من حيث الصدور ، بناءا على أنّ مادلّ من الدليل على حجّيّة الخبر الواحد من حيث السند لايشمل المخالف للمشهور، ولذا لايتأمّلون في العمل بظواهر الكتاب والسنّة المتواترة إذا عارضها

------------------

( بل من جهة مزاحمتها ) اي : الشهرة ( للخبر من حيث الصدور ) فان للخبر حيثيتين :

أولاً : حيثيّة الصدور عن المعصوم عليه السلام.

ثانياً : حيثية ظهوره في المراد .

أمّا حجيّة الخبر من حيث الصدور ، فمشروط بعدم قيام ظنّ على خلافه ، والشهرة تورث الظنّ على خلاف الخبر .

كما ان هناك في الخبر جهة ثالثة هي : جهة الصدور ، بمعنى : ان يكون الصدور لأجل الحكم الواقعي لا لأجل التقية ، فربما زاحمت الشهرة هذه الجهة الثالثة ، كما ذكروه في وقت المغرب وغيره ، فقد وردت الروايات بأن الصلاة مع سقوط قرص الشمس ، لكن المشهور لم يعملوا بهذا الخبر ، لا من جهة الظهور ، ولا الصدور ، بل من جهة احتمال التقيّة ؛ وذلك ( بناءاً على ان ما دلّ من الدّليل ، على حجّيّة الخبر الواحد من حيث السند لا يشمل ) الخبر ( المخالف للمشهور )، فالخبر مشروط في صدوره ، أو جهة صدوره ، بعدم المخالفة للمشهور ، لا انّه مشروط في ظهوره بعدم الظنّ على الخلاف ، الذي يأتي من المشهور غالباً ، فانّ الانسان اذا رأى الخبر من حيث ظهوره في جانب والمشهور في جانب آخر يظنّ على خلاف هذا الخبر ، لكن هذا الظن لا اعتبار به .

(ولذا) الذي ذكرناه: من انّ الظنّ على الخلاف لا يضر بظهور الخبر في وجوب العمل به (لايتأمّلون في العمل بظواهر الكتاب والسنّة المتواترة، اذا عارضها

ص: 297

الشهرة .

فالتأمّل في الخبر المخالف للمشهور إنّما هو إذا خالفت الشهرةُ نفسَ الخبر لاعمومه او إطلاقه ، فلا يتأمّلون في عمومه اذا كانت الشهرة على التخصيص .

------------------

الشهرة ) مع وضوح انّه اذا عارض الشهرة ظواهر الكتاب والسنّة المتواترة أيضاً ، يكون الظنّ على خلاف الظاهر .

إذن : فالمعيار ليس الظن على خلاف الظاهر وعدمه ، بل المعيار ما ذكرناه في الخبر الواحد : من سقوط السند ، او سقوط جهة الصدور ، وحيث ان في الكتاب والسنّة المتواترة ، لايكون سقوط لاحدهما ، فالعمل يكون بالكتاب والسنّة المتواترة ، في قبال الشهرة .

وعليه : ( فالتأمّل ) أو التوقّف ( في الخبر المخالف للمشهور ، انّما هو اذا خالفت الشهرة نفس الخبر ) سنداً ، أو خالفت جهة صدوره ( لا عمومه ، أو اطلاقه ) أو ظهوره في الوجوب ، او التحريم ، أو ما اشبه ذلك - كما تقدّم من قوله سبحانه : « لا جُناحَ » (1) في مسألتي القصر والسعي - .

( ف- ) انهم ( لا يتأملون في عمومه ) أي : عموم الخبر ، أو اطلاقه ، أو ظهوره بعد إحراز سنده وإحراز جهة صدوره ، فيما ( اذا كانت الشهرة على التخصيص ) أو على التقييد ، أو على صرف الظهور .

مثلاً : لو ورد في خبر متواتر : اكرم العلماء واقتضت الشهرة استثناء النحاة فهذه الشهرة ، لا تبطل عموم : اكرم العلماء بالنسبة الى العام والخاص .

ص: 298


1- - سورة البقرة : الآية 158 .

نعم ، ربما يجري على لسان بعض متأخّري المتأخّرين من المعاصرين عدمُ الدليل على حجّيّة الظواهر إذا لم تفد الظنّ او إذا حصل الظنّ الغير

------------------

وكذلك اذا ورد : اكرم العالم ، واقتضت الشهرة عدم اكرام الصرفيين منهم ، فان الشهرة لا تقيد اطلاق العالم .

هكذا بالنسبة الى ما ورد من قوله تعالى : « فَكاتِبوهُم إن عَلِمْتُم فيهِم خَيراً » (1) ، واقتضت الشهرة : الاستحباب - مثلاً - بدون أن يكون هناك دليل من اجماع ، أو ضرورة ، أو خبر متواتر ، لم تكن الشهرة تبطل الظهور وتقلبه من الوجوب الى الاستحباب .

ثم انه قد تحصل مما مضى ان الظاهر حجّة مطلقاً ، سواء حصل الظنّ على خلافه ، أو حصل الظنّ على وفاقه ، أو لم يحصل الظنّ على احد الطرفين .

( نعم ) ظاهر المحقّق الكلباسي في الاشارات : انّ أدلّة كون الظاهر حجّة خاصة ، بما اذا أفاد الظنّ الفعليّ ، وهذا تفصيل آخر غير التفصيل السابق بين مفيد الظنّ وعدمه ، اذ التفصيل السابق كان يقول : أهل اللسان لا يعملون بظاهر حصل الظنّ على خلافه ، وهذا التفصيل يقول : الدليل الشرعي منع عن عمل أهل اللسان في مورد حصول الظنّ على الخلاف .

فالتفصيل الأوّل : من باب عدم المقتضي .

والتفصيل الثاني : من باب عدم وجود المانع من الشارع .

فانه ( ربمايجري على لسان بعض متأخّري المتأخّرين من المعاصرين : عدم الدليل على حجيّة الظواهر ، اذا لم تفد الظّن ) الفعلي ( أو اذا حصل الظنّ غير

ص: 299


1- - سورة النور : الآية 33 .

المعتبر على خلافها .

لكن الانصاف : أنّه مخالفٌ لطريقة أرباب اللسان والعلماء في كلّ زمان ولذا عدّ بعضُ الاخباريّين كالأصوليّين ، استصحاب حكم العامّ والمطلق حتّى يثبت المخصص والمقيّد من الاستصحابات المجمع عليها ،

------------------

المعتبر على خلافها ) فالكلباسي قدس سره يرى جواز العمل بالظواهر مشروطاً بأحد أمرين :

الأوّل : أن يحصل الظنّ بالوفاق .

الثاني : أن لايحصل الظنّ بالخلاف .

( لكن الانصاف انه ) اي : ما يجري على لسان بعض متأخري المتأخرين (مخالف لطريقة أرباب اللّسان ) حيث عرفت انهم يرون حجيّة الظواهر مطلقاً ، فالمقتضي موجود ، ( والعلماء في كلّ زمان ) ومكان يرون حجيّة الظواهر مطلقاً ، ولا يرون ان الشارع منع عن ذلك فيما اذا كان غير مفيد للظنّ ، أو فيما حصل الظنّ غير المعتبر على خلافه .

( ولذا ) الذي ذكرناه : من اطلاق حجيّة الظواهر ( عدّ بعض الأخباريين ) مثل المحدث الاسترابادي قدس سره ( كالأصوليين : استصحاب حكم العام والمطلق ) فيما اذا شككنا : انّ العام باق ، أو خصص ، وان المطلق باق أو قيد ، فانّ الاخباريين والاصوليين يستصحبون بقاء العام على عمومه ، والمطلق على اطلاقه ( حتى يثبت المخصص والمقيّد ، من الاستصحابات المجمع عليها ) ، فانّ بعض اقسام الاستصحاب مختلف فيه ، كالشك في المقتضي واستصحاب الحكم الكلي ، وبعض اقسامه مجمع عليه ، كاستصحاب عدم النسخ ، واستصحاب الجزئي ، واستصحاب عدم المانع .

ص: 300

وهذا وإن لم يرجع الى الاستصحاب المصطلح إلاّ بالتوجيه ، إلاّ أنّ الغرضَ من الاستشهاد به بيانُ كون هذه القاعدة إجماعيّة .

وربما فصّل بعض المعاصرين تفصيلاً يرجع حاصله إلى :

------------------

( وهذا وان لم يرجع الى الاستصحاب المصطلح ) لان الاستصحاب المصطلح ، هو عبارة عن يقين سابق ، وشك لاحق ، كما اذا علمنا انّ زيداً كان متوضئاً ، ثم شككنا في انه بطل وضوؤ بالحدث ، نستصحب وضوئه .

وكما اذا علمنا ان زيداً كا ن حياً ، ثم شككنا في موته حتى لا ننفق على زوجته ، كان استصحاب بقائه حياً موجباً للانفاق على زوجته ، ومثل هذا الاستصحاب المصطلح لا يأتي في المقام ، اذ المقام بالنسبة الى ظهور العام والمطلق لا يستصحب ، فان الظهور ليس قابلاً للشك ، لأنه أمر عرضي وجداني فهو امّا موجود ، وامّا غير موجود ، وان اللفظ امّا ان يكون ظاهراً في معنى عرفاً ، أو لايكون ظاهراً في هذا المعنى .

وعليه : فلا معنى للشك والاستصحاب ( الاّ بالتوجيه ) بأن ندرج ما ذكره الاصوليون ، وبعض الاخباريين في الاستصحاب المصطلح ، ونقول : اذا شككنا في انه حدث مخصص ، أو مقيد ، نستصحب عدم حدوث المخصص لا المقيد .

( الاّ انّ الغرض من الاستشهاد به ) اي بقول بعض الاخباريين والاصوليين هو (بيان كون هذه القاعدة ) وهي : حجيّة الظواهر ، وان لم يكن عليها ظن ، او قام على خلافها ظنّ ( اجماعيّة ) فانّ الاصولي والاخباري يرى حجيّة الظواهر ، وان كان على خلافها ظنّ أو لم يكن على وفاقها ظنّ .

( وربّما فصّل بعض المعاصرين ) وهو الشيخ محمد تقي صاحب حاشية المعالم ( تفصيلاً ) جديداً ( يرجع حاصله الى ) انّه : لو شك في وجود القرينة

ص: 301

« أنّ الكلام إن كان مقرونا بحال او مقال يصلحُ أن يكون صارفا عن المعنى الحقيقيّ فلا يتمسّك فيه بأصالة الحقيقة ، وإن كان الشكّ في أصل وجود الصارف ، او كان أمر منفصل يصلحُ لكونه صارفا ،

------------------

وعدمها ، أو شك في قرينيّة الموجود بأن كان هناك ما يحتمل أن يكون قرينة ، ولكنه كان منفصلاً عن الكلام ، فالاصل الحقيقة ، امّا اذا شك في قرينيّة ما يحتمل ان يكون قرينة لكنّه كان متصلاً بالكلام ، لم تجر أصالة الحقيقة .

والحاصل : ( انّ الكلام ان كان مقروناً بحال ) كالمجاز المشهور حيث ان الشهرة حال مقترن بالكلام ( أو مقال ) كالعام المتعقب بضمير يرجع الى بعض افراده ، مثل قوله سبحانه : « والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قروءٍ ... وَبعولَتِهِنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ... » (1) ، حيث انّ : « بعولتهن » يرجع الى بعض المطلقات ، ولا يشمل البائنات ( يصلح ) أي ذلك الحال او المقال ( أن يكون صارفاً عن المعنى الحقيقي ، فلا يتمسك فيه باصالة الحقيقة ) وذلك لان الكلام بسبب هذا الحال ، أو المقال ، المقارنين للكلام صار مجملاً .

( وان كان الشك في أصل وجود الصارف ) أي القرينة ، كما اذا قال المولى : أكرم العلماء وشكّ في وجود المخصص وعدمه ، وان كان الشكّ له مايبرره ، كما اذا شكّ في انّ المولى يريد اكرام الفاسق من العلماء أم لا ، حيث ذوق المولى عدم احترام غير العادل ، لكن لم يكن ذلك بحيث يكون قرينة حالية ، ( أو كان ) في المقام ( أمر منفصل ) مجمل ( يصلح لكونه صارفاً ) بان قال : اكرم العلماء ، وقال في كلام آخر : لا تكرم زيد ، وكان هناك زيدان عالم و جاهل ، فان كان المولى

ص: 302


1- - سورة البقرة : الآية 228 .

فيعمل على أصالة الحقيقة » .

وهذا تفصيلٌ حسن متين ، لكنّه تفصيلٌ في العمل بأصالة الحقيقه عند الشكّ في الصارف ، لا في حجّيّة الظهور اللفظيّ ، ومرجعه إلى تعيين الظهور العرفيّ وتمييزه عن موارد الاجمال ،

------------------

اراد زيداً العالم ، في استثنائه ، يلزم عدم اكرام زيد العالم ، وامّا ان اراد زيداً الجاهل ، فكل العلماء يكرمون حتى زيداً العالم ، وسيأتي الكلام في ذلك ، ( فيعمل ) فيه ( على اصالة الحقيقة ) (1) لانه ليس هناك ما يهدم هذا الاصل العقلائي ، بخلاف الصورتين الأوليين ، حيث هناك ما يهدمه ، ( وهذا تفصيل حسن متين ، لكنه ) خارج عن مبحث اصالة الظهور التي نحن بصددها ، حيث انّ كلامنا في ان الظاهر حجّة مطلقاً ، أو في الجملة ، لا في انه : هل يعلم باصالة الحقيقة ام لا ؟ ، وهذا التفصيل ( تفصيل في العمل باصالة الحقيقة ، عند الشك في الصّارف ) وهو يجري عند الشكّ في وجود القرينة ، أو في قرينيّة الموجود المنفصل ، ولا يجري عند الشكّ في قرينيّة الموجود المتصل - على ما عرفت - أي ( لا في حجيّة الظهور اللّفظي ) الذي نحن بصدده .

( ومرجعه ) أي : مرجع هذا التفصيل الذي ذكره صاحب الحاشية ، انّما هو ( الى تعيين الظهور العرفي ، وتمييزه عن موارد الاجمال ) وليس تفصيلاً فيما نحن فيه .

والحاصل : ان الكلام في الكبرى ، وهذا المفصل فصل الصغرى ، اذ الكلام في ان الظهور حجّة مطلقاً أو ليس بحجّة مطلقاً او التفصيل ، بينما هذا المفصل فصل

ص: 303


1- - بحر الفوائد : ج1 ص110 .

فان اللفظ في القسم الأوّل يخرج عن الظهور إلى الاجمال بشهادة العرف .

ولذا توقّف جماعةٌ في المجاز المشهور والعامّ المتعقّب بضمير يرجع إلى بعض افراده والجمل المتعدّدة المتعقّبة للاستثناء والأمر والنهي الواردين في مظانّ الحظر

------------------

في ان أيّ مورد يوجب الظهور ، وأيّ مورد لا يوجب الظهور ، مع تسليمه بان الظهور اينما حصل حجة ، وهذا هو الذي نحن بصدده لكنه اراد تعيين ان أي لفظ باق على ظهوره ، وأي لفظ خارج عن ظهوره ، ومجمل ، حتى لا يتمسك فيه باصالة الظهور .

وعليه : ( فان اللّفظ في القسم الاوّل ) أي : فيما كان الكلام مقترناً بحال ، او مقال متصل ، صالح للقرينيّة ( يخرج عن الظهور الى الاجمال بشهادة العرف ) والوجدان فاذا راجعنا العرف في مثل هذين اللفظين لا يحكمون بالظهور ، كما انّا اذا راجعنا وجداننا نرى انّا لا نفهم الظهور في هذين الموردين ، ( ولذا توقف جماعة في المجاز المشهور ، والعام المتعقب بضمير يرجع الى بعض افراده ، والجمل المتعدّدة المتعقّبة للاستثناء ) كما اذا قال المولى : اكرم العلماء واحترم العباد ، واطع الامراء العدول الاّ زيداً ، وكان في كل من الطوائف زيد ، فهل الاستثناء من الجملة الاخيرة ، أو من كل الجمل ؟ .

ولا يخفى : انه لافرق في الاجمال ، بين ان يكون استثناء ، أو حال ، أو تمييز ، أو صفة ، أو ما أشبه ، فالاستثناء من باب المثال ، بل لافرق بين ان يكون في آخر الجمل ، أو في اوّلها ، كما اذا قال : لا تكرم زيداً واكرم العلماء والعباد والزهاد ، حيث انّ زيد موجود في كل من الطوائف الثلاث ، فهل الاستثناء خاص بالعلماء أو عام يشمل حتى العبّاد والزّهاد أيضاً ؟ ( و ) كذا توقف هذا البعض في ( الامر والنهي ، الواردين في مظان الحظر

ص: 304

والايجاب ، إلى غير ذلك ممّا احتفّ اللفظ بحال او مقال يصلح لكونه صارفا ، ولم يتوقف أحدٌ في عامّ بمجرّد احتمال دليل منفصل يحتمل كونه

------------------

والايجاب ) ، اما كون الامر في مورد الحظر ، فمثل قوله سبحانه : « وَإذا حَلَلْتُم فَاصْطادوا » (1) ، حيث كان محظوراً على المحرم الصيد ، فالأمر بعد هذا الحظر ، لا يكون دليلاً على الوجوب ، واما كون النهي بعد الايجاب ، فمثل قوله عليه السلام : « لا تصلي الحائض » (2) بعد ان كانت الصلاة واجبة عليها قبل الحيض ، فالنهي بعد هذا الوجوب ، لايكون دليلاً على الحرمة ، ولذا ذهب بعض الفقهاء الى ان العبادة الشريعيّة محرّمة على الحائض ، لا ما اذا أتت بالصلاة لا بقصد التشريع ، استناداً الى ان النهي لا يدل في هذا المقام على التحريم .

( الى غير ذلك ) كالاستثناء بعد الاستثناء ، هل هو استثناء من الأوّل ، أو من الثاني ؟ فاذا قال : عندي عشرة الاّ خمسة الاّ ثلاثة ، فهل الثلاثة استثناء عن العشرة أيضاً حتى يبقى اثنان ، أو عن الخمسة حتى يبقى ثمانية ؟ ، لكن هذا ، فيما اذا كان الثاني قابلاً للخروج عن كل من المستثنى والمستثنى منه ، امّا اذا لم يكن قابلاً للخروج من الاستثناء ، فهو استثناء من الأوّل قطعاً .

كما اذا قال : عندي عشرة الاّ ثلاثة الاّ خمسة ، حيث يكون الباقي اثنان قطعاً .

ونحوه ( ممّا احتفّ اللفظ بحال أو مقال يصلح لكونه صارفاً ) عن الحقيقة .

( و ) أمّا الكلام في القسم الثاني : وهو ما اذا شكّ في أصل وجود القرينة ، أو في قرينيّة الموجود المنفصل فلا يخرج الكلام عن الظهور بسبب ذلك ، ولذا ( لم يتوقف أحد في عام ، بمجرد احتمال دليل منفصل يحتمل كونه

ص: 305


1- - سورة المائدة : الآية 2 .
2- - وسائل الشيعة : ج2 ص343 ب39 ح2318 بالمعنى .

مخصّصا له ، بل ربما يعكسون الأمر فيحكمون بنفي ذلك الاحتمال وارتفاع الاجمال لأجل ظهور العامّ ، ولذا لو قال المولى : اكرم العلماء ، ثمّ ورد قول آخر من المولى إنّه لاتكرم زيدا ، واشترك زيدٌ بين عالم وجاهل ، فلا يرفع اليد عن العموم بمجرّد الاحتمال ، بل يرفعون الاجمال بواسطة العموم ، فيحكمون بارادة زيد الجاهل من النهي .

------------------

مخصّصاً له ) كما يأتي من مثال المصنِّف عن قريب ، ( بل ربّما يعكسون الأمر ) أي : يجعلون العام المتقدّم بياناً لهذا المنفصل المجمل المتأخر ، فيكون العام مبيناً للمجمل ، لا ان المجمل يكون مخصصاً للعام ( فيحكمون بنفي ذلك الاحتمال ) أي : إحتمال كون المنفصل قرينة للعام ومخصصاً له ( وارتفاع الاجمال ) من هذا المنفصل المجمل ( لأجل ظهور العام ) وبسببه ، فالعام يكون قرينة للمنفصل ، لا ان المنفصل يكون مخصصاً للعام .

( ولذا لو قال المولى : اكرم العلماء ، ثمّ وَرَد ) منفصلاً ( قول آخر من المولى : انّه لا تكرم زيداً ، واشترك زيد بين عالم وجاهل ) مما يسبب أن يكون زيد مجملاً في ان المراد هل هو : عدم اكرام زيد العالم أو المراد : عدم اكرام زيد الجاهل ؟ ، ( فلا يرفع اليد عن العموم ، بمجرد الاحتمال ) في هذا المنفصل ، بأن يقال : ان زيداً محتمل أن يكون عالماً ، فهو يخصص اكرم العلماء ( بل ) يقال : باصالة العموم في العام ، ويتمسكون بعمومه لرفع الاجمال عن زيد ، لان اكرم العلماء يشمل كل العلماء حتى زيداً العالم ، فَبه ( يرفعون الاجمال ) عن زيد في لا تكرم زيداً ، بأن يقال : انّ المراد من زيد ، الذي يحرم اكرامه ، هو زيد الجاهل ؛ وذلك ( بواسطة العموم ) فانه مبيّن لاجمال زيد ، وموضح بان المراد من زيد في قوله : لا تكرم زيداً ، هو زيد الجاهل لا العالم (فيحكمون بارادة زيد الجاهل من النهي) .

ص: 306

وبازاء التفصيل المذكور تفصيل آخر ضعيف ، وهو : « أنّ احتمال إرادة خلاف مقتضى اللفظ إن حصل من أمارة غير معتبرة فلا يصحّ رفعُ اليد عن الحقيقة ، وإن حصل من دليل معتبر فلا يعمل باصالة الحقيقة ،

------------------

وكذلك الحال بالنسبة إلى المطلق والمقيد ، فمثال المصنف قدس سره بالنسبة إلى العام والخاصّ من باب المثال ، لا من باب الخصوصيّة .

( وبازاء التفصيل المذكور ) الّذي ذكره الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية ، ووصفناه : بانّه حَسَن متين ( تفصيل آخر ضعيف ، وهو : انّ احتمال ارادة خلاف مقتضى اللّفظ ، إن حصل من امارة غير معتبرة ، فلا يصحّ رفع اليد عن الحقيقة ) ، مثلاً : اذا قال المولى : أكرم العلماء ، ودلّ خبر ضعيف على النهي من إكرام زيد نجري اصالة العموم والحقيقة ، في اكرم العلماء ، ونقول : بانّه يجب اكرام كلّ فرد عالم ، ونقدّم العام : أكرم العلماء ، في زيد على لا تكرم زيداً ، وان كان لا تكرم زيداً بالنسبة إلى اكرم العلماء خاصّا ، إلاّ انّ ضعف دليل الخاصّ بسبب عدم الاعتناء به ، فنجري في الخاصّ حكم العموم ، وهو : وجوب الاكرام .

( وان حصل من دليل معتبر ، فلا يعمل بأصالة الحقيقة ) بالنسبة إلى العام ، وانّما يقدم الخاصّ الّذي يضمنه الدليل المعتبر ، على العام ، لانّ الخاصّ أخصّ من العام ، والمفروض انّ الخاصّ حجة .

وحاصل هذا التفصيل : انّه ، اذا شكّ في كون شيء قرينة على عدم ارادة العام ، فان كان الشيء المشكوك القرينية معتبراً ، فهو موجب لاجمال العام ، وان لم يكن معتبراً ، لم يكن موجباً لاجمال العام ، من غير فرق بين كون المشكوك متصلاً أو منفصلاً ، مثلاً : اذا قال : اكرم العلماء ، وقال : لا تكرم زيداً ، فان كان لا تكرم زيداً معتبراً ، بسبب اجمال حكم العام في انّه ، هل يشمل زيداً العالم أم لا ؟ لفرض انّ

ص: 307

ومثّل له بما إذا ورد في السنّة المتواترة عامّ وورد فيها أيضا خطاب مجمل يوجب الاجمال في ذلك العامّ ولايوجب الظنّ بالواقع . - قال فلا دليلَ على لزوم العمل بالأصل تعبّدا ، - ثمّ قال - : ولايمكن دعوى الاجماع على لزوم العمل بأصالة الحقيقة تعبّدا ،

------------------

هناك زيدين : عالم ، وجاهل ، وان كان لا تكرم زيداً غير معتبر ، كان العام شاملاً لزيد العالم ، فيجب اكرامه ، من غير فرق بين أن يقول : لا تكرم زيداً متصلاً بالعام أو منفصلاً عنه .

( ومثّل له بما اذا اورد في السنّة المتواترة عام ) بان قال : اكرم العلماء حيث يجب اكرام كلّ عالم عالم ، حسب هذا العام ( وورد فيها ) أي : في نفس السنّة ( أيضاً ، خطاب مجمل ) نحو : لا تكرم زيداً وزيد هذا له فردان عالم وجاهل فانّه ( يوجب الاجمال في ذلك العام ، ولا يوجب ) العام فيما اذا صار مجملاً ( الظنّ بالواقع ) ، فانّه اذا كان ، لا تكرم زيداً معتبراً ، لا نظنّ بسبب العام : أكرم ، وجوب اكرام زيد ، فيسري اجمال زيد إلى اكرم العلماء ، بخلاف ما اذا كان : لا تكرم زيداً غير معتبر ، فلا يسري اجماله إلى اكرم العلماء .

ولذلك ( قال : فلا دليل على لزوم العمل بالاصل تعبّداً ) أي : العمل باصالة الحقيقة في اكرم العلماء من دون ظنّ بالواقع .

وبالجملة : الخاصّ المجمل ، اذا كان معتبراً ، أوجب صرف اصالة العموم ، والحقيقة في العام ، وعدم بقاء ظهور فيه يوجب الظنّ ، بخلاف ما اذا لم يكن معتبراً .

( ثم قال : ولا يمكن دعوى الاجماع على لزوم العمل باصالة الحقيقة تعبّداً ) حتّى يقال : بانّه لا فرق بين كون المجمل معتبراً ، أو غير معتبر ، فانّه يلزم العمل

ص: 308

فانّ اكثر المحقّقين توقّفوا فيما إذا تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز الراجح » ، انتهى ، ووجهُ ضعفه يظهرُ ممّا ذكر ،

------------------

بأصالة الحقيقة ، في جانب العام ، حتّى يقال : بانّ اكرم العلماء ، يشمل زيداً أيضاً ، سواء كان لا تكرم زيداً معتبراً ، أو لم يكن معتبراً ، ( فانّ أكثر المحققين توقّفوا ، فيما اذا تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز الرّاجح ) ممّا يدلّ على انّهم ، لا يعملون بأصالة الحقيقة تعبداً ، والاّ لم يكن وجه للتوقف في انّه هل يقدّم الحقيقة المرجوحة أو المجاز الراجح ؟ .

( انتهى ) هذا التفصيل ( ووجه ضعفه ، يظهر ممّا ذكر ) في التفصيل المتقدّم ، عن الشيخ محمد تقي صاحب المعالم - الّذي ذكرنا : انّه تفصيل متين - لانّه تفصيل في بعض شقوق التفصيل المتقدّم .

وحاصل جواب المصنّف عنه : تسليم الاجمال في المتصل مطلقاً معتبراً كان أو غير معتبر ، ومنعه في المنفصل مطلقاً معتبراً كان أو غير معتبر ، فاذا قال : اكرم العلماء ولا تكرم زيداً ، وفرضنا انّ لا تكرم زيداً معتبر ، وكان متصلاً ، أوجب الاجمال ، وكذلك لو فرضنا انّ المتصل كان غير معتبر ، أمّا اذا قال : لا تكرم زيداً منفصلاً وبعد مدة من الزمان ، فلا فرق في عدم تعديه إلى العام - ممّا يسبب اجماله - بين ان يكون لا تكرم زيداً معتبراً ، أو غير معتبر .

فانّه اذا اتصل بالكلام ، ما يصلح للقرينيّة ، خرج اللفظ عن الظهور عرفاً - على المشهور - فلا يجري اصالة الحقيقة ، وأمّا لو شكّ في القرينيّة رأساً بأن لم نعلم ، هل هناك قرينة أو لم تكن قرينة أو كان هناك شيء منفصل مجمل صالح للقرينيّة ؟ فلا يخرج اللفظ عن الظهور ، سواء كان المنفصل معتبراً ، أو لم يكن معتبراً ، ويجري الاصل في العموم المتقدّم .

ص: 309

فانّ التوقّف في ظاهر خطاب لأجل إحتمال خطاب آخر لكونه معارضا ممّا لم يُعهد من أحد من العلماء ، بل لا يبعد ما تقدّم من حمل المجمل في أحد الخطابين على المبيّن في الخطاب الآخر .

وأمّا قياسُ ذلك على مسألة تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز الراجح ، فَعُلِم فسادُه ممّا ذكر في التفصيل المتقدم ، من أنّ

------------------

( فانّ التوقف في ظاهر خطاب ) مثل : اكرم العلماء ( لاجل احتمال خطاب آخر ) نحو : لا تكرم زيداً ، حيث كان زيد مجملاً بين العالم والجاهل ، فالتوقف فيه ( لكونه ) أي لكون ظاهر خطاب : اكرم العلماء ( معارضاً ) مع المُجمَل ، في : لا تكرم زيداً ، المحتمل للأمرين : ( ممّا لم يعهد من أحد من العلماء ) لانّهم يجرون اصالة الحقيقة في : اكرم العلماء .

( بل لا يبعد ما تقدّم : من حمل المجمل ، في أحد الخطابين ) مثل : لا تكرم زيداً ( على المبيّن في الخطاب الآخر ) مثل : اكرم العلماء ، فانّ لا تكرم زيداً ، وان كان مجملاً في نفسه ، لكن وضوح اكرم العلماء في شموله لزيد العالم ، يوجب رفع الاجمال ، عن : لا تكرم زيداً .

وعليه : فيخصص زيد في : لا تكرم زيداً ، بالجاهل ، ويكون زيد العالم مشمولاً : ل- : اكرم العلماء ، ويتمّ حمل زيد المجمل المنهي عن اكرامه على زيد المبيّن المأمور باكرامه .

( وأمّا قياس ذلك ) التفصيل الّذي ذكره هذا الشخص ( على مسألة : تعارض الحقيقة المرجوحة ، مع المجاز الراجح ، فعُلِم فساده ممّا ذكر في التفصيل المتقدّم ) المتين ، ( من انّ ) اللفظ ، ان اتّصل بحال أو مقال يصلح لكونه صارفاً ،

ص: 310

الكلامَ المكتَنِف بما يصلح أن يكون صارفا قد اعتمد عليه المتكلمُ في إرادة خلاف الحقيقة لايعدّ من الظواهر ، بل من المجملات .

وكذلك المتعقّبُ للفظ يصلح للصارفيّة كالعامّ المتعقّب بالضمير وشبهه ممّا تقدّم .

------------------

فلا يجري اصالة الحقيقة في العام ، بل يصير مجملاً ، وأمّا اذا كان المجمل منفصلا ً ، فتجري اصالة الحقيقة في العام .

ففي النوع الأوّل : ( الكلام المكتنف بما يصلح ان يكون صارفاً ، قد اعتمد عليه المتكلّم في ارادة خلاف الحقيقة ، لا يُعدّ من الظواهر ) سواء كان مقروناً بحال أو متصلاً بمقال ( بل ) يعدّ ذلك الكلام وهو العام في المثال ( من المجملات ، وكذلك المتعقّب للفظ يصلح للصارفية ، كالعام المتعقِّب بالضمير ، وشبهه ، ممّا تقدّم ) حيث ذكرنا هناك : عدم الفرق ، بين ان يكون المتعقّب للكلام استثناءاً ، أو صفة ، أو حالاً ، أو تمييزاً ، أو غيرها ، بل قد تقدّم : انّه لا فرق بين تقدّم ما يحتمل القرينيّة ، وبين تأخره .

ثم انّ ما ذكرناه فيما تقدّم : من انّ الأصل : حرمة العمل بالظنّ ، الاّ ما خرج ، فانّ الخارج امور :

الأوّل : الامارات المعمولة في استنباط الاحكام الشرعية ، من الفاظ الكتاب والسنّة ، وهي - كما اشرنا اليها سابقاً - على قسمين :

القسم الأوّل : ما يُعمل لتشخيص مراد المتكلم ، عند احتمال ارادته خلاف ذلك كأصالة الحقيقة ، واصالة العموم ، واصالة الاطلاق ، عند احتمال خلافها ، وقد تقدّم الكلام في ذلك .

ص: 311

القسم الثاني :

وأمّا القسم الثاني : وهو الظنّ الذي يعمل لتشخيص الظواهر كتشخيص أنّ اللفظَ المفردَ الفلانيّ ، كلفظ الصعيد او صيغة افعل ، او أنّ المركّب الفلانيّ ، كالجملة الشرطيّة ، ظاهرٌ بحكم الوضع في المعنى الفلانيّ ، وانّ الأمر الواقع عقيب الحظر ظاهر - بقرينة وقوعه في مقام رفع الحظر - في مجرّد رفع الحظر دون الالزام ،

------------------

ما يعمل لتشخيص أوضاع الالفاظ ، وتشخيص مجازاتها عن حقائقها ، وظواهرها عن خلافها ، والكلام الآن في هذا القسم ، وقد قال المصنِّف قدس سره : - القسم الثاني :

( وامّا القسم الثاني : وهو الظنّ الّذي يُعمَل لتشخيص الظواهر ، كتشخيص : انّ اللفظ المفرد الفلاني ، كلفظ الصعيد ، او صيغة افعل ، أو أنّ المركب الفلاني ، كالجملة الشرطيّة ، ظاهر بحكم الوضع في المعنى الفلاني ) أو غير ظاهر فيه : - فهل - مثلا - الصعيد ظاهر في مطلق وجه الارض ، الأعمّ من : التراب ، والحجر ، والرمل ، والحصى ، وغير ذلك ، أو خاصّ بالتراب ؟ وهل انّ صيغة افعل ظاهرة في الوجوب أو الاستحباب ، أو الأعمّ من الاستحباب ، والوجوب ؟ وهل انّ الجملة الشرطية ، ظاهرة في الانتفاء عند الانتفاء ام لا ؟ ( و ) هل ( انّ الأمر الواقع عقيب الحظر ، ظاهر - بقرينة وقوعه في مقام رفع الحظر - في مجرّد رفع الحظر دون الالزام ) أو غير ظاهر فيه ؟ .

ولا يخفى انّ في هذه المسألة خلافاً في موضعين :

الاوّل : في انّ الأمر الواقع بعد الحظر مثل قوله تعالى : « وَإِذَا حَلَلْتُمْ

ص: 312

والظنّ الحاصل هنا يرجع إلى الظنّ بالوضع اللغويّ او الانفهام العرفيّ ، والأوفقُ بالقواعد عدمُ حجّيّة الظنّ هنا ، لأنّ الثابت المتيقن هي حجّيّة الظواهر .

------------------

فَاصْطَادُوا » (1) هل هو ظاهر في الوجوب أم لا ؟ .

الثاني : في انّ الامر الواقع في مقام توهّم الحظر ، مثل : الامر بالسعي في مقام توهّم حرمته ، لمكان وجود الصنمين على الصفا والمروة ، هل هو ظاهر في الوجوب ام لا ؟ ( والظّن الحاصل هنا يرجع إلى ) امرين :

اولاً : ( الظنّ بالوضع اللغوي ) مثل : الظنّ بأنّ الصعيد لمطلق وجه الارض ، أو للتراب فقط .

ثانياً : ( أو الانفهام العرفي ) كالظنّ بأنّ المتبادر عرفاً من الأمر الواقع عقيب الحظر ، هو الاباحة ، أو الوجوب وهكذا بالنسبة إلى الجملة الشرطية وغير ذلك .

( والأوفق بالقواعد عدم حجيّة الظنّ هنا ) في كلا الموضعين سواء الظنّ بالوضع اللغوي او الظنّ بالإِنفِهام العرفي ، وانّما كان الأوفق بالقواعد ، عدم حجيّة الظنّ في المقامين ، لانّ الاصل : حرمة العمل بالظنّ ، إلاّ ما خرج بالدليل ، ولا دليل على خروج هذا الظنّ في المقامين .

ان قلت : كما انّ الظنّ بالمراد من الظاهر يكون حجّة ، كذلك الظنّ بان هذا ظاهر ، حجّة .

قلت : كلا ، ليس هناك دليل على حجّية الظنّ الثاني ( لانّ الثابت المتيقن ، هي حجّية الظواهر ) بعد ان احرزنا انّ هذا الكلام - مثلاً - ظاهر في هذا المعنى .

ص: 313


1- - سورة المائدة : الآية 2 .

وأمّا حجّيّةُ الظنّ في أنّ هذا ظاهر ، فلا دليلَ عليه عدا وجوه ذكروها في إثبات جزئيّ من هذه المسألة ، وهي حجّيّة قول اللغويّين في الأوضاع .

فانّ المشهور كونُه من الظنون الخاصّة التي ثبت حجّيتها

------------------

( وامّا حجّية الظّن في انّ هذا ظاهر فلا دليل عليه ) بل اللازم ان نقطع بانّ هذا ظاهر ، حتّى نحكم بانّه مراد - ولو كان الحكم من باب الظنّ .

نعم ، اذا علمنا الظهور ، ولم نعلم انّ هذا الظاهر مراد ام لا ، فالظنّ هنا حجّة ، كما سبق في كلام المصنّف ، اذ العقلاء ، واهل اللسان ، متّفقون في حمل اللفظ على معناه الظاهر فيه ، فانّهم يجرون اصالة عدم القرينة اذا احتمل وجود القرينة .

واما اذا لم يعلم الظهور ، ولا دليل على حجية الظن بالظهور ، فالاصل عدم حجية مثل هذا الظن .

( عدا ) وهو استثناء من قوله : « فلا دليل عليه » ( وجوه ذكروها في اثبات جزئي من ) جزئيات ( هذه المسألة وهي ) أي ذلك الجزئي ( حجّية قول اللغويين في الاوضاع ) .

فانّهم قالوا : بأنّ قول اللغوي حجة ، مع انّ قول اللغوي لا يوجب العلم ، وانّما يوجب الظنّ ، ولم يذكر العلماء وجهاً ، على حجية سائر الجزئيات لهذه الكلية من قبيل : الاستعمال ، والقياس ، والاستحسان ، ونحوها ، ( فان المشهور كونه ) أي قول اللغوي ( من الظنون الخاصّة ، الّتي ثبت حجّيتها ) بالدليل المخصوص ، اذ المشهور عند العلماء : انّ قول اللغوي حجّة ، وليس كسائر الظنون في عدم الحجيّة - تمسّكاً باصالة عدم حجيّة الظنّ - ، وانّما خرج من ذلك العموم هذا الجزئي ، وهو : قول اللغوي للدليل الخاصّ ، فاذا لم نعرف معنى الصعيد ، أو آلة اللّهو ، أو الآنية ، أو ما اشبه ، وراجعنا اللغويين جاز لنا التمسّك بأقوالهم في افادة

ص: 314

مع قطع النظر عن انسداد باب العلم في الأحكام الشرعيّة وإن كانت الحكمةُ في اعتبارها

------------------

مراد الشارع ، وترتّب الحكم عليه وان لم نكن نقطع بصحّة اقوال اللغويين ، هذا ( مع قطع النظر عن انسداد باب العلم في ) معظم ( الاحكام الشرعية ) أي انّ حجيّة قول اللغوي ليست مستندة إلى الانسداد ، بل حتّى في حال انفتاح باب العلم ، يكون قول اللغوي حجة ، وذلك لانّ الظنّ الّذي هو حجة - والمراد به : الظنّ النوعي ، لا الشخصي - على قسمين :

الأوّل : الظنّ الخاصّ ، الّذي ليس وجه حجّيته : انسداد باب العلم ، بل هو حجّة ، وان كان باب العلم منفتحاً وتمكنّا من العلم ، مثلاً : خبر زرارة حجّة ، وان كان موجباً للظنّ دون العلم ، وحجّيته ثابتة حتّى مع انفتاح باب العلم ، وتَمَكُّن الّذي يسمع الخبر من زرارة ان يصل إلى الامام الصادق عليه السلام ، ويستعلم منه .

الثاني : الظنّ المطلق ، وهو الّذي حجّيته : انسداد باب العلم بمعظم الاحكام الشرعية ، فاذا فرض انّ باب العلم كان مفتوحاً ، لم يكن لمثل هذا الظنّ حجيّة .

والمشهور يقولون : بحجّية قول اللغوي ، من باب الظنّ الخاصّ ، وانّ تمكّن الانسان من العلم ، كما اذا تمكن أن يذهب إلى البلاد العربية ، ويستعلم معنى اللفظ من نفس العرب ، بما يوجب علمه بالمعنى ، فانّه ليس بواجب ، وان لم يكن عسراً وحرجاً عليه ، لانّهم يَرَوْنَ قول اللغوي حجة مطلقاً ، تمكّن الانسان من العلم أو لم يتمكن .

هذا ( وان كانت الحكمة في اعتبارها ) أي : الظنون الخاصّة من باب الحكمة ، لا من باب العلّة ، فانّ العلّة لازمها دوران الأمر مدار العلّة وجوداً وعدماً ، بينما الحكمة تسبب التشريع ، ولا يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً .

ص: 315

انسدادَ باب العلم في غالب مواردها ، فانّ الظاهر أنّ حكمة اعتبار أكثر الظنون الخاصّة ، كأصالة الحقيقة المتقدّم ذكرُها وغيرِها ، انسدادُ باب العلم في غالب مواردها من العرفيّات والشرعيّات .

------------------

وعليه : فحكمة اعتبارها هو : ( انسداد باب العلم في غالب مواردها ) أي : موارد الظنون ( فانّ الظاهر : انّ حكمة اعتبار اكثر الظّنون الخاصّة ، كأصالة الحقيقة - المتقدّم ذكرها - وغيرها ) كالظاهر ، وخبر الثقة ، والشهرة ، وفتوى المفتي ، والبيّنة ، وقول المرأة بالنسبة إلى انّها متزوجة أو ليست متزوجة ، أو حامل أو ليست بحامل ، أو انقضت عدّتها أو لم تنقض عدّتها ، وغير ذلك ، انّما هو لاجل ( انسداد باب العلم في غالب مواردها من العرفيّات والشرعيّات ) .

اما العرفيّات ، فكالمكاتبات ، والمكالمات ، والوصايا ، والأقارير ، والشهادات والاشارات ، وغيرها ، ممّا نرى انّ عرف العقلاء يحكمون بحجية الظن فيها ، وان تمكّنوا من العلم .

وأمّا الشرعيات : فمثل الفاظ القرآن الحكيم ، والاخبار المروية عنهم عليهم السلام وكذا الموارد الّتي يعمل فيها بخبرالثقة ، حيث قال عليه السلام : «والأشياءُ كُلّها عَلى ذلِكَ حَتّى تَستَبِينَ أو تَقومَ بِه البَيّنَة » (1) ، إلى غيرها ، فانّ الشارع والعرف ، انّما يحكمون بكفاية الظنّ في هذه الامور ، من باب الحكمة لا من باب العلّة .

فاذا قال الشارع - مثلا : - « الماء اذا بلغ قدر كرّ فلا ينجّسه شيء » (2) ، فالانفعال

ص: 316


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 .
2- - الكافي فروع : ج3 ص2 ح1 و ح2 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص150 ب6 ح118 ، الاستبصار : ج1 ص6 ب1 ح1 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص9 ح12 .

والمرادُ بالظنّ المطلق ماثبت اعتبارُه من أجل انسداد باب العلم بخصوص الأحكام الشرعيّة ، وبالظنّ الخاصّ ماثبت اعتباره ،

------------------

وعدم الانفعال ، دائران مدار الكرّيّة ، اينما كانت لم ينفعل الماء وأينما لم تكن انفعل .

أمّا اذا قال الشارع : تجب العِدّة للمطلَّقة بحكمة عدم اختلاط المياه ، فانّ وجوب العدّة وعدم وجوبها ، ليس دائراً مدار اختلاط المياه وجوداً وعدماً ، بل اللازم : العدّة في المدخولة غير اليائسة ، حتّى وان لم ينزل الرجل في دخوله بها أو علمنا بعدم وجود الماء في رحمها .

وانّما كان الحكم في بعض المواضع دائراً مدار العلّة ، وفي بعض المواضع ليس دائراً مدار العلّة ، بل من باب الحكمة ، لانّ العلّة هي الأصل ، والحكمة من جهة انّه لو أراد الشارع ، أو العقلاء ادارة الحكم مدار العلّة ، لزم تفويت المصلحة كثيراً مثلاً : اذا قال الشارع للمرأة : اذا علمت ان لا ماء في رحمك ، جاز لك التزويج فكثيراً ما يكون الماء في رحمها ، وهي بالجهل المركّب تقطع بعدم وجود الماء ، فتتزوج ، وتختلط المياه في رحمها ، فيوجب اختلاط الانساب ، وصَوناً لذلك يقول الشارع : يجب على المرأة العدّة ، سواء قطعت بوجود الماء أو بعدم وجوده ، أو شكّت في الوجود ، وعدمه ، فاختلاط المياه أخذ من باب الحكمة ، لا من باب العلّة ( و ) ممّا تقدّم ظهر : انّ ( المراد بالظنّ المطلق : ما ثبت اعتباره من أجل انسداد باب العلم بخصوص الاحكام الشرعية ) ويُسمّى ظناً مطلقاً ، من جهة انّ حجّيته ، ليس بسبب دليل مخصوص .

( و ) المراد ( بالظّن الخاصّ : ما ثبت اعتباره ) بدليل مخصوص ، بعنوان مخصوص ، كالدليل الدال على حجيّة الخبر الواحد ، أو فتوى المفتي ، أو

ص: 317

لا لأجل الاضطرار إلى اعتبار مطلق الظنّ بعد تعذّر العلم .

وكيف كان ، فاستدلّوا على اعتبار قول اللغويّين باتفاق العلماء بل جميع العقلاء على الرجوع إليهم في استعلام اللغات والاستشهاد بأقوالهم في مقام الاحتجاج ، ولم ينكر ذلك أحدٌ على أحد .

وقد حكي عن السيّد رحمه اللّه في بعض كلماته دعوى الاجماع على ذلك ، بل ظاهر كلامه المحكيّ اتّفاقُ المسلمين .

------------------

الشهرة ، أو البيّنة ، أو ما اشبه ، فاعتباره ثابت ( لا لأجل الاضطرار إلى اعتبار مطلق الظّن ، بعد تعذّر العلم ) وان كانت الحكمة في الظنّ الخاصّ أيضاً هو : انسداد باب العلم على الأغلب - كما أشرنا اليه - .

( وكيف كان : فاستدلّوا على اعتبار ) قبول ( قول اللّغويين ب- ) وجوه متعدّدة ، وذكر المصنِّف بعضها :

أحدها : ( اتفاق العلماء ، بل جميع العقلاء ) والفرق بينهما : انّ الأوّل : اجماع المتشرعة ، والثاني : اجماع أهل الألسنة ( على الرجوع اليهم ) أي : إلى اللغويين (في استعلام اللغات و ) في ( الاستشهاد بأقوالهم في مقام الاحتجاج ) مع الخصوم ، فهم يستفيدون من أهل اللغة في فهمهم أنفسهم ، كما انّهم يردّون خصومهم بأقوال أهل اللغة أيضاً ، ( ولم ينكر ذلك أحد على أحد ) فانّه لم يقل أحد ، بأن قول اللغوي ليس بحجة ، كما لم يقل أحد ، بان قول أهل الخبرة ليس بحجة ، ( وقد حكي عن السيد رحمه اللّه في بعض كلماته دعوى الاجماع ) من العلماء ( على ذلك ) الّذي ذكرناه من حجّية قول اللغوي ( بل ظاهر كلامه المحكي : اتفاق المسلمين ) الأعمّ من العلماء ، على حجّية قول اللغوي .

هذا تمام الكلام في الدليل الأوّل ، وهو : اجماع العلماء .

ص: 318

قال الفاضل السبزواريّ ، فيما حكي عنه ، في هذا المقام ، ما هذا لفظه :

« صحّةُ المراجعة إلى أصحاب الصناعات البارزين في صنعتهم البارعين في فنّهم فيما اختصّ بصناعتهم ، ممّا اتفق عليه العقلاء في كلّ عصر وزمان » ، انتهى .

وفيه : أنّ المتيقّن من هذا الاتفاق هو الرجوعُ إليهم مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة ونحو ذلك ، لا مطلقا ،

------------------

أما الدليل الثاني : ما ذكره المصنِّف قدس سره بقوله : ( قال الفاضل السّبزواري : فيما حكي عنه في هذا المقام ) أي : مقام حجّية قول اللغوي ( ما هذا لفظه : صحّة المراجعة إلى أصحاب الصناعات البارزين في صنعتهم ) المتفوقين على غيرهم ، (البارعين ) وبرع بمعنى : ظهر ، أي ظهروا ( في فنّهم ) بحيث اصبحوا يعدّون من اهل الخبرة فيه : فانّ الناس يرجعون اليهم ( فيما اختصّ بصناعتهم ) كالرجوع إلى الطبيب في الطب ، وإلى الفقهاء في الفقه ، وإلى النحاة في النحو ، وإلى البنائين في البناء ، وما اشبه ذلك ( ممّا اتّفق عليه العقلاء في كلّ عصر وزمان ) ومصر ، والشارع لم يغيّر طريقة العقلاء ، بل اقرّها حين الرجوع إلى الشهود ، واهل الخبرة ، وما اشبه ذلك ( انتهى ) .

وكيف كان : فانّ الشيخ ردّ هذا الدليل على اطلاقه ، وانّما قبله مقيداً ، فعنده ليس قول اللغوي بما هو لغوي حجّة مطلقاً ، حتّى يشمل الواحد من اللغويين ، وان لم يكن عادلاً ، قال : ( وفيه : انّ المتيقّن من هذا الاتفاق هو الرجوع اليهم ) أي إلى اللغويين (مع اجتماع شرائط الشهادة : من العدد ، والعدالة ، ونحو ذلك ) كأن يكون اخبار اللغوي عن حسّ ، بذهابه إلى مراكز العرب ، واستفادة اللغة منهم ، لا بما اذا كان ذلك عن اجتهاده ، ( لا مطلقاً ) فانّه ليس قول اللغوي

ص: 319

ألا ترى أنّ أكثر علمائنا على اعتبار العدالة فيمن يُرجَعُ إليه من أهل الرجال ، بل وبعضهم على اعتبار التعدّد ، والظاهر اتّفاقهُم على اشتراط التعدّد والعدالة في أهل الخبرة في مسألة التقويم وغيرها .

------------------

حجّة ، إلاّ اذا كان من عنوان البيّنة فلم يثبت انّهم يرجعون إلى قول اللغوي مطلقاً ، ( ألا ترى أن أكثر علمائنا على اعتبار العدالة فيمن يرجع اليه من اهل الرجال ) ليكون داخلاً في خبر العدل ( بل وبعضهم على اعتبار : التعدد ) ليدخل في البينة ، وأي فرق بين الرجال في سند الحديث ، وبين قول اللغوي في معنى مفرداته وجمله ؟ فانّه كما يشترط في الرجال العدد والعدالة ، حتّى يؤذ بقوله ، كذلك يعتبر في اللغوي العدد والعدالة ، حتّى يؤذ بقوله .

وهذا ليس في مجرّد قول اللغوي والرجال ، بل ( والظاهر اتفاقهم على اشتراط التعدد ، والعدالة ، في أهل الخبرة في مسألة التقويم ) لأموال الصغار والمجانين ، فيما اذا اريد بيعها أو نحوها ( وغيرها ) كتعيين الضمانات ، والخسارات ، والاضرار ، وما اشبه .

والحاصل : انّه لم يثبت اجماع من العلماء ، ولا من العقلاء على الرجوع إلى قول اللغوي ، أو غير اللغوي ، من سائر أهل الخبرة ، فيما لم يكن هناك عدد وعدالة .

هذا ما يراه المصنّف ، لكن الاظهر : انّ المشترعة والعقلاء ، لا يشترطون العدد ، ولا العدالة ، بل يرجعون في أهم اُمورهم إلى أهل الخبرة - وان لم يكن عدد وعدالة - فتراهم يراجعون الاطباء حتّى في العمليات الجراحية الخطيرة ، بدون اشتراطهم التعدد والعدالة فيهم ، وكذلك بالنسبة إلى ركوبهم البواخر ، والسيارات ، والطائرات ، خصوصاً الأخيرة ، فانّها من أخطر الأمور للنفس والمال ،

ص: 320

هذا مع أنّه لايُعرفُ الحقيقةُ عن المجاز بمجرّد قول اللغويّ ، كما اعترف به المستدلّ في بعض كلماته ، فلا ينفعُ في تشخيص الظواهر .

------------------

مع انّ سائق هذه الوسائل شخص واحد ، بدون التعدّد والعدالة غالباً ، إلى غير ذلك من رجوع العقلاء ، بل والمتشرعة إلى الواحد من أهل الخبرة .

أمّا ما يشاهد من مراجعة الفقهاء إلى المتعدد من اللغويين ، عند ارادتهم الاستنباط ، فهو من وجه الاتقان .

بل يؤد عدم لزوم التعدد : رجوع المتشرّعة وسائر العقلاء ، إلى قاض واحد ، في الدماء والاموال والفروج . ورجوعهم إلى فقيه واحد ، في مطلق الفتاوى .

وكذلك رجوع المتنازعين إلى محام واحد ، في الاستفادة من كلامه ، بالنسبة إلى قضيته ، مع وضوح وجود الخطر الكبير ، ديناً ودنياً في الرجوع إلى امثال اولئك ، لانّ مصير الانسان ومسيره ، وعرضه ، وماله ، ودمه ، متوقف عليهم .

( هذا مع انّه لا يعرف الحقيقة عن المجاز ، بمجّرد قول اللغوي ، كما اعترف به المستدِلّ في بعض كلماته ) فانّه وان ذكر : حجّية قول اللغوي من باب الظنّ الخاصّ ، لكن كلامه : بعدم معرفة الحقيقة عن المجاز في أقوال اللغويين ، يناقض ذلك ( فلا ينفع ) قولهم ( في تشخيص الظواهر ) .

فانّ اللغويين ، لا يعيّنون الحقيقة عن المجاز ، حتّى يحمل اللفظ على حقيقته عند الاطلاق ، وانّما عادتهم انّهم يذكرون : مجرد موارد الاستعمال ، سواء كان حقيقة ، أو مجازاً .

لكن فيه : انّ الظاهر : انّهم يذكرون الحقيقة فقط ، واذا ذكروا مجازاً جائوا معه بالقرينة ، ولذا لا تجدهم يذكرون حتّى أظهر المجازات في معاني الألفاظ .

مثلاً : لا يذكرون في معنى الأسد الرجل الشجاع ، ولا يذكرون في معنى القمر :

ص: 321

فالانصافُ : أنّ الرجوعَ إلى أهل اللغة مع عدم اجتماع شروط الشهادة : إمّا في مقامات يحصل العلمُ بالمستعمل فيه من مجرّد ذكر لغويّ واحد او أزيد له على وجه يعلم كونه من المسلّمات عند أهل اللغة ، كما قد يحصل العلم بالمسألة الفقهيّة من إرسال جماعة لها إرسال المسلّمات ؛ وإمّا في مقاماتُ يُتسامح فيها ،

------------------

الشخص الجميل ، ولا يذكرون في معنى البحر : الشخص الكريم ، إلى غيرها ، مع انّها من اظهر المجازات .

( فالانصاف ) عند المصنِّف قدس سره ( : انّ الرجوع إلى أهل اللغة ، مع عدم اجتماع شروط الشهادة ) انّما يكون في ثلاثة موارد فقط ، وليس في كلّ مكان ، كما ذكره جماعة لادّعائهم بانّ قول اللغوي حجّة مطلقاً ، وهي كما يلي :

أولاً : ( أمّا في مقامات يحصل العلم ) فيها ( بالمستعمل فيه ، من مجرّد ذكر لغوي واحد ، او أزيد ) من واحد (له ) أي للمعنى ، وذلك لمناسبات حاليّة أو مقاليّة ، يقطع الانسان منها ، بأنّ المعنى لهذا اللفظ ، هو هذا الّذي ذكره اللغوي لانّه ( على وجه يعلم كونه من المسلّمات عند أهل اللغة ) أو من المسلّمات عند أهل العرف ، من أهل اللّسان الّذي ينقل اللغوي المعنى لكلامهم ، ( كما قد يحصل العلم بالمسألة الفقهية من ارسال جماعة ) أو فرد ( لها ) أي : لتلك المسألة ( ارسال المسلّمات ) فاذا قال الشهيدان : - مثلاً - الحكم كذا ، بلا ريب ، أو بلا اشكال ، أو بانّه ما ذكره المعصومون عليهم السلام ، أو غير ذلك ، فانّ الانسان الّذي يراجع كلامهما يحصل له العلم بتلك المسألة الفقهيّة ، بسبب هذه القرائن المقالية .

ثانياً : وقد تكون القرائن مقاميّة ، كما في قوله ، ( وامّا في مقامات يتسامح فيها ،

ص: 322

لعدم التكليف الشرعيّ بتحصيل العلم بالمعنى اللغويّ ، كما إذا اريد تفسيرُ خطبة او رواية لا تتعلّق بتكليف شرعيّ ، وإمّا في مقام انسدّ فيه طريقُ العلم ولا بدّ من العمل ، فيعمل بالظنّ بالحكم الشرعيّ المستند بقول أهل اللغة .

ولا يتوهّم : « أنّ طرحَ قول اللغويّ الغير المفيد للعلم

------------------

لعدم التكليف الشرعي بتحصيل العلم بالمعنى اللّغوي ، كما اذا أريد تفسير خطبة ، أو رواية ، لا تتعلّق بتكليف شرعي ) او تفسير قصّة من قصص القرآن الحكيم ، أو غير ذلك ، فانّها حيث لا تحتاج إلى العلم ، لا يهمّ ان لا يحصل للانسان العلم ، أو ما هو بمنزلته من الحجّة الشرعيّة .

ثالثاً : ( وامّا في مقام انسدّ فيه طريق العلم ، ولابدّ من العمل ) كما اذا وجب عليه التيمّم بالصعيد ، ولا يعلم المراد منه ، ولابدّ له من العمل والتيمّم في حين انّه لم يكن التراب عنده حاضراً ، فانّه يتيمّم بالحجر ، أو الرمل ، أو ما اشبه ذلك ، والاّ بان كان يمكن له الاحتياط بالجمع بين الأمرين ، أو الأخذ بالقدر المتيقّن - مثلاً - فلا يجوز له أن يعمل بقول اللغوي ، الّذي لم يحصل له العلم منه ، لعدم الانسداد بالنسبة اليه ، من جهة تمكنه من الأخذ بالقدر المتيقّن ، أو من الاحتياط .

امّا غير المتمكن ( فيعمل بالظنّ بالحكم الشرعي المستند بقول أهل اللغة ) .

( و ) لا يقال : انّا اذا طرحنا قول اللغوي ، لزم عدم فهم الكتاب والسنّة ، لانّهما مستندان إلى اللغة ، واللغة تُعرف من قول اللغوي ، فاذا سقط قول اللغوي لم نفهم الكتاب والسنّة ، فدليل الانسداد ، يدلّ على حجيّة قول اللغوي من باب الظنّ المطلق وان سلمنا انّه ليس بحجّة ، من باب الظنّ الخاصّ .

لانّه يقال : ( لا يتوهّم ، انّ طرح قول اللّغوي غير المفيد للعلم ) أي : طرحه

ص: 323

في ألفاظ الكتاب والسنّة مستلزمٌ لانسداد طريق الاستنباط في غالب الأحكام .

لاندفاع ذلك : بأنّ أكثر موارد اللغات إلاّ ما شذّ وندر - كلفظ الصعيد ونحوه - معلومٌ من العرف واللغة ، كما لايخفى ، والمتبعُ في الهيئات

------------------

( في الفاظ الكتاب والسنّة ، مستلزم لانسداد طريق الاستنباط ، في غالب الأحكام ) فاللازم ان نأخذ بقول اللغوي من باب الانسداد ، وان لم نأخذ بقوله ، لحجّيته من باب الظنّ الخاصّ ( لاندفاع ذلك : بأنّ أكثر موارد اللّغات ، الاّ ما شذّ وندر ، كلفظ الصعيد ونحوه ، معلوم من العرف واللّغة ، كما لا يخفى ) ، فموارد طرح قول اللغوي شاذ ، أو نادر ، والفرق بين الشاذّ والنادر : أنّ الشاذ : ما ليس على الموازين ، والنادر : ما كان على الموازين ، لكن يندر استعماله ، ومن المعلوم : انّ في الموارد القليلة الشاذّة ، أو النادرة ، اذا لم نأخذ بقول اللغوي - ممّا ينجرّ إلى الاحتياط ، أو الاستصحاب ، أو البرائة ، أو التخيير - لا يوجب الخروج عن الدّين الّذي هو من مقدمات دليل الانسداد ، كما يأتي تفصيل الكلام فيه .

كما انّه لو استلزم الاحتياط ، فانّه لا يكون من الاحتياط المرفوع لعسره وحرجه الّذي هو ايضاً من مقدمات الانسداد .

( و ) انّ قلت : انّ ما ذكرتم : من ندرة أو شذوذ الالفاظ غير الظاهرة المعنى ، وان تمّ فلا انسداد لباب العلم في المفردات ، بل اللازم تحصيل العلم بمعانيها ، إلاّ ان المركّبات الّتي تعطي معاني زائدة عن المفردات ، لا علم بمعانيها ، فللازم ان نقول : بحجّية قول اللغوي فيها ، امّا من باب الظنّ الخاصّ ، أو من باب الظنّ الانسدادي .

قلت : ( المتبع في الهيئات ) أي هيئات المشتقّات ، والمركبات ، ونحوهما

ص: 324

هي القواعد العربيّة المستفادة من الاستقراء القطعيّ ، واتّفاق أهل العربية او التبادر بضميمة أصالة عدم القرينة ، فانّه قد يثبت به الوضع الأصليّ الموجود في الحقائق ، كما في صيغة « إفعل » او الجملة الشرطيّة او الوصفيّة .

ومن هنا يتمسّكون - في إثبات مفهوم الوصف بفهم

------------------

( هي : القواعد العربية المستفادة من الاستقراء القطعي ، واتفاق أهل العربية ) من اللغويين ، والادباء وأهل البلاغة ونحوهم ، حيث انّ الهيئات منتشرة في هذه الكتب ، ذكروا معانيها وخصوصياتها ، وقد اخذ الاصوليون جملة منها، وذكروها ، كمفهوم الشرط ، ومفهوم الوصف ، ومفهوم الغاية ، ودليل الاقتضاء ، ونحوها .

( أو التبادر ) لمن كان من أهل اللغة ( بضميمة اصالة عدم القرينة ) فقد تقدّم حجيّة اصالة عدم القرينة ، سواء كانت القرينة المحتملة ، مقاميّة ، أو مقاليّة ( فانّه قد يثبت به الوضع الاصلي ، الموجود في الحقائق ) اللفظية ، ( كما في صيغة افعل ) أو لا تفعل ( أو الجملة الشرطيّة ، أو الوصفيّة ) أو الغائيّة ، أو دلالة الاقتضاء ، أو الجملة الّتي فيها العدد ، ونحو ذلك ، فانّا اذا رأينا انّ أهل اللّسان ، يفهمون من الأمر : الوجوب ، ومن النهي : الحرمة ، ومن الشرط : انتفاء المشروط بانتفائه ، ومن الوصف : كذلك وهكذا من الغاية ، والعدد ، ورأينا انّ صدق الكلام ، أو صحته ، منوط بدلالة الاقتضاء ، وشككنا انّهم هل يفهمون هذه المعاني ، من نفس هذه الهيئات ، أو من القرائن الخارجية ، وما إلى ذلك ؟ اجرينا اصالة عدم القرينة ، وبذلك يثبت : انّ هذه الهيئة ، حقيقة في هذا المعنى لانّه طريق أهل اللسان .

( ومن هنا يتمسكون ) أي : الفقهاء ( في اثبات مفهوم الوصف ، بفهم

ص: 325

أبي عبيدة في حديث : « لَيُّ الواجِد » ونحوُه غيرُه من موارد الاستشهاد - بفهم أهل اللسان ، وقد يثبت به الوضعُ

------------------

أبي عبيدة ، في حديث : « لَيّ الواجِد ) يَحِل عُقوبَته وَحَبسُه » (1) وهذا حديث مروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم مختلفاً ، فقد روي تارة باللّفظ الّذي ذكرناه ، واخرى بهذا اللفظ : « ليّ الواجِد يَحل عُقوبَته وَعِرضُه » (2) ، ومعناه : انّ من قدر على إداء دينه وأخّره عن وقته ، جاز عقوبته وهتكه ، بأن يقال له : يا مسوّف ، ويا فاعل الحرام ، ويا عاصي اللّه ، وما اشبه .

وليّ : مصدر لوى يلوي ، بمعنى : انّه اذا طولب أعطى ظهره ، وانصرف بدون اجابة الطالب ، وإداء دينه .

والواجد : بمعنى المقتدر .

وقد قال ابو عبيدة : هذاالحديث ، يدلّ على انّ ليّ غير الواجد ، لا يحل عقوبته وعرضه .

واذا ضممنا إلى ذلك اصالة عدم القرينة الخارجية ، مقالية ، أو مقاميّة ، أفادا معاً : مفهوم الشرط ، وأنّ العرف يستفاد من القرينة الشرطية مفهوماً .

( ونحوه ) أي نحو تمسّك أبي عبيدة ( غيره ، من موارد الاستشهاد بفهم أهل اللّسان ) كما يجدها المتتبع في كتب الادب ، والبلاغة ، ونحوها .

لا يخفى : انّه لولا مفهوم الوصف ، لامكن - أيضاً - ان يستفاد الحكم المذكور من قوله تعالى : « وَإِنْ كَانَ ذُوْ عُسْرَةٍ ، فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَة » (3) .

( وقد يثبت به ) أي : بالتبادر ، بضميمة اصالة عدم القرينة الخاصة ، ( الوضع

ص: 326


1- - وسائل الشيعة : ج18 ص334 ب8 ح23792 ، مجمع البحرين : مادة «لوا» .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ص72 ح44 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج9 ص70 .
3- - سورة البقرة : الآية 280 .

بالمعنى الأعم الثابت في المجازات المكتنفة بالقرائن المقاميّة ، كما يدّعى أنّ الأمر عقيبَ الحظر بنفسه مجرّدا عن القرينة يتبادر منه مجرّدُ رفع الحظر دون الايجاب والالزام ، واحتمالُ كونه لأجل قرينة خاصة يُدفَعُ بالأصل ، فيثبت به كونه لأجل القرينة العامّة ، وهي الوقوعُ في مقام رفع الحظر ، فيثبت بذلك ظهور ثانويّ لصيغة « إفعَل » بواسطة القرينه الكليّة .

------------------

بالمعنى الأعمّ ) والمراد بالوضع بالمعنى : الاعمّ ، أعمّ من الوضع التعييني أو التعيّني ، الحقيقي أو المجازي ، لأنّ للمجازات أيضاً أوضاعاً ( الثابت في المجازات المكتنفة بالقرائن ) العامّة ( المقاميّة ، كما يدعى : انّ الامر عقيب الحظربنفسه ) أي : ( مجرداً عن القرينة ) الخاصّة ( يتبادر منه : مجرّد رفع الحظر ، دون الايجاب والالزام ) مثل قوله سبحانه : « وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا » (1) ، فان كون الأمر عقيب الحظر ، بنفسه قرينة على عدم الايجاب ، وكذلك النهي بعد الوجوب، (واحتمال كونه لاجل قرينة خاصة، يدفع بالاصل ، فيثبت به كونه لاجل القرينة العامّة ، وهي : الوقوع) النهي بعد الوجوب (في مقام رفع الحظر) فاذا رأينا أنّ اهل اللسان يفهمون من هذه الهيئات هذه المعاني ضممنا ذلك إلى اصالة عدم قرينة خاصّة ( فيثبت بذلك ظهور ثانوي لصيغة افعل ) أو لا تفعل (بواسطة القرينة الكلّيّة) ، وهذا الظهور الثانوي بسبب القرينة العامّة ، أعمّ من أن يكون حقيقة عرفيّة ، كما ذهب اليه بعض في أمثال هذه الجمل ، أو مجازاً لغويّاً ، كما هو المشهور بين الادباء .

وعليه : فلا حاجة في فهم المعاني اللغويّة ، سواء كانت معاني حقيقية أو معاني مجازيّة ، مفردة ، أو مركّبة ، للرجوع إلى قول اللغوي ، الّذي لا يورث إلاّ الظنّ ،

ص: 327


1- - سورة المائدة : الآية 2 .

وبالجملة ، فالحاجةُ إلى قول اللغويّ الذي لا يحصل العلمُ بقوله ، لقلّة مواردها لا تصلح سببا للحكم باعتباره لأجل الحاجة .

نعم ، سيجيء أنّ كلّ من عمل بالظنّ في مطلق الأحكام الشرعية الفرعية يلزمه العملُ بالظن بالحكم الناشيء من الظنّ بقول اللغويّ ، لكنّه لا يحتاجُ إلى دعوى انسداد باب العلم في اللغات ، بل العبرةُ

------------------

والظنّ ليس بحجّة ، فلا يحكم بحجيّة قول اللغوي بدون العدد والعدالة ، تمسّكاً بانسداد باب العلم بالاحكام ( وبالجملة ، فالحاجة إلى قول اللغويّ ، الّذي لا يحصل العلم بقوله لقلّة مواردها ) أي : موارد الحاجة ( لا تصلح سبباً للحكم باعتباره ) أي : باعتبار قول اللغوي ( لأجل الحاجة ) والظرف في قوله : « لاجل » متعلق بقوله : « سبباً » أي : لا يكون سبباً من جهة الحاجة إلى قولهم .

اقول : لكنّك قد عرفت الاشكال فيما ذهب اليه المصنِّف ، وان تبعه جماعة من الفحول .

( نعم ، سيجيء ) في مبحث الانسداد ( : انّ كلّ من ) قال بانسداد باب العلم بالاحكام ، كالمحقق القمّي ، وغيره و ( عمل بالظّن في مطلق الاحكام الشرعيّة الفرعيّة ، يلزمه العمل بالظنّ بالحكم ، الناشيء من الظّن بقول اللغوي ) أيضاً ، وذلك ، لأن الظنّ بقول اللغوي في هذه الحال ، صغرى من صغريات مبحث الانسداد - وقد عرفت انّ المراد بالظنّ : ليس الظنّ الناشيء من الامور الفرديّة ، بل المراد بالظنّ : الظنّ الناشيء من الامور النوعيّة ، ممّا يكون النوع يظنّ بسبب هذه الأمارة كالشهرة ، والاجماع ، وقول اللغوي ، وغير ذلك - وحينئذٍ فيجب العمل بهذا الظنّ لحجيّة مطلق الظن .

هذا ، و ( لكنّه لا يحتاج إلى دعوى انسداد باب العلم في اللغات ، بل العبرة

ص: 328

عنده بانسداد باب العلم في معظم الأحكام ، فانّه يوجبُ الرجوعَ إلى الظنّ بالحكم الحاصل من الظنّ باللغة وإن فرض انفتاحُ باب العلم فيما عدا هذا المورد من اللغات .

------------------

عنده ) أي عند العالم الانسدادي ( بانسداد باب العلم في معظم الاحكام ) ، وحاصل هذا الوجه هو : انّ الانسداد في باب الأحكام ، يوجب حجّية قول اللغوي من باب الظنّ المطلق ، بخلاف ما ذكرناه سابقاً من قولنا : « ولا يتوهّم : انّ طرح قول اللغوي » إلى آخره ، فانّه كان بمعنى : انّ الانسداد في باب اللغة يوجب حجيّة قول اللغوي ، من باب الظنّ الخاصّ ، وكذلك في باب الرجال ، فانّه قد نقول : بحجيّة الظنون الرجاليّة من باب الانسداد في باب الرجال ، وقد نقول : بحجّيّتها من باب الانسداد ، في باب الاحكام ، وسيأتي تفصيل الكلام في محله ، ان شاء اللّه تعالى .

( فانّه ) أي : الانسداد في اللغة ( يوجب الرجوع إلى الظنّ بالحكم ، الحاصل من الظنّ باللغة ) لانّ الانسداد في اللغة ، يوجب الانسداد في الاحكام ، لعدم فهمهم معاني الآيات والاخبار ، فهماً بالعلم أو بالعلمي - كما يفرض في مقدمات الانسداد - .

وكذلك الانسداد في الرجال ، يوجب الانسداد في باب الاحكام على ما تقدّم في المثال .

حتّى ( وان فرض انفتاح باب العلم ، فيما عدا هذا المورد من اللّغات ) لما عرفت : من انّ العبرة في حجّية الظنّ المطلق ، انسداد باب العلم بمعظم الاحكام ، وان كان هناك انفتاح في غير المعظم .

والحاصل : انّ المصنِّف لا يرى : حجّية قول اللغوي ؛ لانّه لا انسداد لباب العلم

ص: 329

هذا ، ولكنّ الانصافَ : أنّ مواردَ الحاجة إلى قول اللغويّين أكثر من أن يحصى في تفاصيل المعاني بحيث يُفهَمُ دخولُ الأفراد المشكوكة او خروجُها وإن كان المعنى في الجملة معلوما من دون مراجعة قول اللغويّ ، كما في مثل ألفاظ الوطن

------------------

إلاّ في النادر من اللغات ، والانسداد في النادر لا يوجب الانسداد المطلق الّذي هو معيار حجّية الظنّ المطلق .

( هذا ، ولكن الانصاف انّ ) ما تقدّم من جوابنا على : « ولا يتوهم : انّ طرح قول اللغوي ، غير المفيد للعلم في الفاظ الكتاب والسنّة ، مستلزم لانسداد طريق الاستنباط في غالب الاحكام » إلى آخره ، ليس جواباً تاماً ، بل التوهّم في محله .

لانّ ( موارد ) الانسداد و ( الحاجة إلى قول اللغويين أكثر من ان يحصى في تفاصيل المعاني ) دخولاً وخروجاً من جهة الافراد المشكوكة ( بحيث يفهم دخول الأفراد المشكوكة ، أو خروجها ) عن المعنى للالفاظ ( وان كان المعنى في الجملة معلوماً ، من دون مراجعة قول اللغوي ) .

والحاصل : انّ اللفظ وان كان معلوم المعنى في الجملة ، و لا نحتاج في معناه إلى قول اللغوي ، لكن هناك الفاظ كثيرة لا نعلم معانيها على التفصيل ، بحيث نحرز دخول الافراد المشكوكة في هذه المعاني أو خروجها عنها ، فنحتاج في تعيين حكمها إلى قول اللغوي .

( كما في مثل الفاظ : الوطن ) الّذي يرتبط به حكم الصلاة والصوم ، فهل هو مختصّ بمسقط رأس الانسان ، أو يدخل فيه الوطن الاقتصادي ؟ وهل يخرج منه المسقط بعد الإعراض ، أو لا يخرج بالإعراض ، فيكون الصلاة والصوم فيه تماماً - مثلاً - ؟ .

ص: 330

والمفازة ، والتمر ، والفاكهة ، والكنز ، والمعدن ، والغوص ،

------------------

( والمفازة ) من الاراضي الموات ، الّتي لا ماء فيها ، ولا عشب ، هل يدخل فيها - مثلاً - ساحل البحر اذا نشف ماؤ ؟ وهل يخرج منها اذا احاط بها الماء ؟ إلى امثال ذلك ، من الافراد المشكوكة للمفازة المرتبط بها بعض الاحكام الشرعيّة ، كما وري فيمن لا يهتدي الى القبلة في مفازة : « يصلّي إلى اربع جوانب » (1) ، وفي اللقطة قال عليه السلام : « إنْ وَجَدت طَعاماً فِي مَفازَةٍ فَقَوِّمهُ عَلى نَفسِكَ لِصاحِبه ، ثمّ كُلُه » (2) .

( والتمر ) هل يدخل فيه الرطب ، والحشف ، أم لا ؟ . وهذا في باب الزكاة ونحوها ( والفاكهة ) هل يدخل فيها أمثال : الجوز ، واللوز ، وما اشبه ، حيث قد ورد في باب الأطمعة ، والأشربة روايات حول الفاكهة ؟ .

( والكنز ) وهو : المال المذخور تحت الارض ، بقصد ، أو بدون قصد ، هل يدخل فيه ، ما يوجب في الصندوق ، والكوز ، وما اشبه ؟ وهل يخرج منه ، ما ظهر من الارض ، لزوال التراب بزلزلة ونحوها ، أم لا ، حيث انّ الكنز مورد أحكام الخمس ونحوه ؟ .

( والمعدن ) وهو ما كان في الارض ممّا كان أصله ارضاً : كالقير والنفط ، والفيروزج ، والذهب ، وما اشبه ، هل يدخل فيه ماله منفعة عقلائيّة : كالطين الأرمني والجص ، ونحوهما ، حيث انّ المعدن موضع حكم الخمس ، وموضع حكم عدم جواز السجود عليه ؟ .

( والغوص ) وهو : ما اخرج من الماء بالغوص ، هل يدخل فيه ما يؤذ من

ص: 331


1- - وسائل الشيعة : ج4 ص310 ب8 ح5235 .
2- - وسائل الشيعة : ج25 ص444 ب2 ح32314 .

وغير ذلك من متعلّقات الأحكام ممّا لايحصى ، وإن لم تكن الكثرة بحيث يوجبُ التوقفَ فيها محذورا ، ولعلّ هذا المقدار مع الاتفاقات المستفيضة كافٍ في المطلب ، فتأمل ، وسيتضح هذا زيادة على هذا انشاء اللّه تعالى .

------------------

ساحل البحر ، أو عن سطح الماء - مثلاً - حيث انّ الغوص فيه الخمس ؟ .

( وغير ذلك من متعلقات الأحكام ممّا لا يحصى ) كآلة اللّهو : هل تشمل كلّ آلة ، ليست لها فائدة عقلائيّة ؟ . والغناء : هل يشمل التصنيف ؟ .

والقمار : هل يشمل كلّ لعب بشيء ولو بدون مراهنة ، كلعب المحبس ؟ .

والماء : هل يشمل المياه الزاجية ، والكبريتية ، ونحوهما ؟ .

والآنية : في حرمة آنية الذهب والفضة ، هل تشمل ما له ثقب كالمصفاة ، او مثل الحب ، والكوز ، وما اشبه ذلك ؟ الى غيرها ( وان لم تكن الكثرة بحيث يوجب التوقّف فيها ، محذوراً ) والمراد بالمحذور : الخروج من الدّين اذا أجرينا البرائة ، أو الحرج الشديد والعسر الأكيد ، اذا أجرينا الاحتياط ، وهما من مقدّمات دليل الانسداد ( ولعلّ هذا المقدار ) من الانسداد ( مع الاتفاقات المستفيضة ) في حجّية قول اللغوي ، كما تقدّم عن السيد والسبزواري ( كاف في المطلب ) أي : في حجيّة قول اللّغوي .

وبهذا ظهر : انّ المصنِّف رحمه اللّه ، يميل إلى انّ قول اللّغوي من الظنون الخاصّة ، كما استقربناه في أول المبحث .

( فتأمّل ) ولعلّه اشارة إلى انّ الانسداد اذا لم يتمّ ، كما اشكلنا عليه سابقاً لم ينفع في حجيّة قول اللّغوي انضمام الاجماع اليه ( وسيتّضح هذا ) أي : حجيّة الاجماع المنقول ، اذا انضم اليه اسباب اُخر وعدم حجّيّته ( زيادة على هذا انشاء اللّه تعالى ) في باب الاجماع .

ص: 332

الاجماع المنقول

ومن جملة الظنون الخارجة عن الأصل الاجماع المنقول بخبر الواحد عند كثير ممّن يقول باعتبار الخبر بالخصوص ،

------------------

الاجماع المنقول فَصْلٌ : قال المصنّف رحمهم اللّه : ( ومن جملة الظنون الخارجة عن الأصل : الاجماع المنقول بخبر الواحد ) كما اذا نقل الاجماع السيد المرتضى ، أو شيخ الطائفة ، أو صاحب الجواهر ، أو من أشبههم ، فانّ هذا الاجماع الّذي نقل بخبر واحد ، خارج عن اصالة حرمة العمل بالظنّ .

وهو اذا أورث القطع كان حجّة ولا كلام فيه ، وانّما الكلام فيما اذا أورث الظّنّ النوعي وذلك ( عند كثير ممّن يقول باعتبار الخبر بالخصوص ) لا عند من يقول باعتبار الخبر بالظنّ الانسدادي .

والاجماع على اربعة اقسام ، لأنّه قد يكون الاجماع محصّلاً ، وقد يكون منقولاً ، وكلّ منهما على قسمين : سمعي وبصري ، فالاقسام اربعة :

الأوّل : ما اذا تتبّع شخص افراد العلماء ، وسمع منهم باذنيه مباشرة فرأى انّ كلّ واحد منهم ، أفتى في مسألة كذا بحكم متّفق عليه بينهم ، حتّى يحصل له العلم بقول المعصوم ، من اتّفاق هؤاء العلماء .

الثاني : ان يتتبّع اقوال العلماء في كتبهم ويرى فتاواهم ، وذلك بمقدار يحصل له الظنّ النوعي ، بقول المعصوم عليه السلام.

الثالث : ما اذا لم يتتبّع هو ، بل سمع اقوال العلماءالذين ادّعوا الاجماع ، بحيث حصل له تواتر الاجماعات .

ص: 333

نظرا إلى أنّه من أفراده ، فيشمله أدلّته ، والمقصودُ من ذكره هنا ، مقدما على بيان الحال في الأخبار ، هو التعرّضُ للملازمة بين حجّيّة الخبر وحجّيته ، فنقول :

إنّ ظاهر أكثر القائلين باعتباره بالخصوص أنّ الدليلَ عليه هو الدليلُ على حجيّة خبر

------------------

الرابع : ان يرى ادّعاء الاجماع في قول بعض العلماء وكتبهم ، كشيخ الطائفة وغيره .

والكلام الآن في القسم الرابع ، فانّه قد ذهب جماعة من العلماء إلى حجيّة هذا القسم ( نظراً إلى انّه من افراده ) أي من افراد الخبر ، فكما انّ زرارة اذا حكى قول المعصوم ، وجب علينا اتّباعه ، كذلك اذا الشيخ ادّعى اجماع العلماء لزم اتّباعه ، وعليه : ( فيشمله ) أي : الاجماع المنقول ، ( ادلّته ) أي ادلّة الخبر ، فيكون للخبر فردان : الأوّل : رواية زرارة ، أو محمد بن مسلم ، أو من اشبههما .

والثاني : دعوى الشيخ ، أو السيد المرتضى أو من اشبههما ، الاجماع على مسألة .

( والمقصود من ذكره ) أي : حجّيّة الاجماع ( هنا ، مقدّماً على بيان الحال في الاخبار ) وانّ الخبر الواحد حجّة ، أو ليس بحجّة ( هو التعرّض للملازمة بين حجّية الخبر ، وحجيّته ) أي حجّية الاجماع ، وانّه هل بين الأَمرين ملازمة ، حتّى اذا كان الخبر الواحد حجّة ، كان الاجماع المنقول ايضاً حجّة ، او ليس بينهما ملازمة ؟ ( فنقول ) في وجه التلازم بين حجّية الخبر الواحد ، وحجّية الاجماع المنقول : (أنّ ظاهر أكثر القائلين باعتباره ) أي : باعتبار الاجماع المنقول ( بالخصوص انّ الدّليل عليه ) أي : الاجماع المنقول ( هو : الدّليل على حجّية خبر

ص: 334

العادل ، فهو عندهم كخبر صحيح عالي السند ، لأنّ مدّعي الاجماع يحكي مدلوله ويرويه عن الامام عليه السلام ، بلا واسطة ،

------------------

العادل ، فهو ) أي : الاجماع المنقول ( عندهم ، كخبر صحيح عالي السّند ) ، والمراد بعالي السند : ما كان بلا واسطة إلى الامام ، أو كان بوسائط قليلة ، مثل : رواية زرارة عن محمد بن مسلم عن الصادق عليه السلام ، أو رواية زرارة عن الصادق عليه السلام .

وانّما كان الاجماع المنقول كالخبر العالي السند ( لانّ مدعي الاجماع ) الّذي هو شخص عادل ، كشيخ الطائفة ( يحكي مدلوله ) أي مدلول الاجماع ، والمراد بمدلول الاجماع : ما يفيده الاجماع ، كما اذا قال : قام الاجماع على نجاسة ماء البئر ، فنجاسة ماء البئر هو مدلول الاجماع ( ويرويه ) أي يروي هذا المدلول ( عن الامام عليه السلام بلا واسطة ) .

وانّما كان في خبر عالي السند : لانّ ناقل الاجماع ، كشيخ الطائفة - مثلاً - رأى كلمات العلماء ، وكلماتهم حاكية عن قول المعصوم ، فلا واسطة بين كلماتهم وبين قول المعصوم ، أمّا رؤته لكلماتهم ، فهو واضح حسّي ، وامّا حكاية أقوالهم عن قول المعصوم بلا واسطة : فلما سيأتي - انّ شاء اللّه - من دليل اللطف ، أو الحدس ، أو الدخول ، أو غير ذلك .

وعليه : فالاجماع المنقول ، خبر من الاخبار ، يشمله دليل حجيّة الخبر - كما سيأتي - بل جَعَلَهُ بعضهم أفضل من الخبر ، واستدل على حجيّته : بأنّ ناقل الاجماع ، يقطع المجمع عليه ، سنداً ودلالة ، أمّا سنداً : فلانّه يرى الفتاوى في كتب العلماء أو يسمعها منهم .

وأمّا دلالة : فلأّن فتاواهم نصّ في مرادهم ، فاذا انضمّ إلى ذلك : الدخول ، أو

ص: 335

ويدخل الاجماعَ ما يدخل الخبرَ من الأقسام ويلحقه مايلحقه من الأحكام .

والذي يقوى في النظر هو عدمُ الملازمة بين حجّيّة الخبر وحجّيّة الاجماع المنقول ، وتوضيحُ ذلك يحصلُ بتقديم أمرين :

------------------

الكشف ، أو اللّطف ، أو ما أشبه ، كان في الحجيّة أقوى من الخبر ، لأنّ اجماع العلماء ، يعطيه قوة ليس للخبر الواحد ، هذه القوة .

( ويدخل الاجماع ما يدخل الخبر من الاقسام ) بناءاً على انّه من اقسام الخبر - فكما يكون الخبر صحيحاً ، أو موثّقاً ، أو ضعيفاً ، أو ممدوحاً ، كذلك يكون حال الاجماع ، فهو : امّا صحيح : ان كان ناقله اماميّاً عادلاً ، كشيخ الطائفة ، وامّا موثّق : ان كان ناقله ممدوحاً لكنّه غير امامي ، وإمّا ضعيف : ان كان ناقله فاسقاً . إلى غير ذلك من الاقسام الّتي ذكروها في الخبر ، فانّه اذا كان من صغريات الخبر (و ) من افراده ، صحّ ان ( يلحقه ) أي : الاجماع المنقول ( ما يلحقه ) أي ما يلحق الخبر ، ( من الأحكام ) الّتي ذكروها في باب التعادل والتراجيح ، فيما اذا كان الاجماعان متعارضين ، حيث يأتي في التعارض التعادل احياناً ، والترجيح احياناً اخرى .

هذا هو حاصل ما يراه القائلون بحجّية الاجماع المنقول .

( و ) لكن ( الّذي يقوى في النّظر : هو عدم الملازمة بين حجّية الخبر ، وحجّية الاجماع المنقول ) فاذا قلنا : بحجيّة الخبر ، لا يستلزم ذلك ان نقول : بحجّيّة الاجماع المنقول ، لانّ الاجماع المنقول ليس من صغريات الخبر ( وتوضيح ذلك يحصل بتقديم أمرين ) : الأمر الأوّل : انّ ادلّة حجّية الخبر الواحد ، تدلّ على حجيّة الاخبار عن حسّ ، سواء كان حسّاً مبصراً ، أو حساً مسموعاً ، او حسّاً مشموماً ، او حسّاً ملموساً ، أو حسّاً مذوقاً ، أو عن حدس بديهي ينتهي إلى الحسّ أيضاً ، كالإخبار بشجاعة عليّ عليه السلام ، حيث انّها من التواتر الاجمالي - مثلاً - بينما الاجماع

ص: 336

الأوّل : إنّ الأدلّة الخاصّة التي أقاموها على حجّيّة خبر العادل لاتدلّ إلاّ على حجّيّة الاخبار عن حسّ ، لأنّ العمدةَ من تلك الأدلّة هو الاتفاق الحاصل ، من عمل القدماء وأصحاب الأئمة عليهم السلام ومعلومٌ عدمُ شمولها إلاّ للرواية المصطلحة ، وكذلك الأخبار الوارده في العمل بالروايات .

------------------

ليس اخباراً عن قول المعصوم عن حسّ ، ولا عن حدس ضروري .

الامر الثاني : انّ ناقل الاجماع ، يخبر عن قول الامام عليه السلام بطريق الحدس ، الّذي ليس بضروري ، كالحدس : بأنّ الدواء الفلاني ينفع لمرض كذا ، فيما لم يصل إلى العلم والقطع ، والحدس : بانّ المرض الكذائي حصل من السبب الفلاني ، فيما لم يصل إلى القطع أيضاً إلى غير ذلك .

ويتحصّل من هذين الامرين ، عدم دخول نقل الاجماع تحت أدلّة الخبر ، وقد أشار المصنِّف لتوضيح الامرين ، وقال :

( الأوّل : انّ الادلّة الخاصّة ، الّتي أقاموها على حجّية خبر العادل ) من : الكتاب والسنّة ، والاجماع ، والعقل ، بل والسيرة - كما ذكروها - أيضاً ( لا تدلّ الاّ على حجّيّة الاخبار عن حسّ ) وقد عرفت : انّ الحسّ أعمّ من الحواس الخمس ، وذلك ( لأنّ العمدة من تلك الأدلّة ، هو : الاتفاق الحاصل من عمل القدماء ، وأصحاب الأئمّة عليهم السلام ) حيث انّهم عملوا بالضرورة بالخبر الواحد ، مع الواسطة وبلا واسطة ، فيكون هذا هو العمدة من بين الادلّة ، لكنها عند المصنِّف مخدوشة في الجملة ، لما فيها من المناقشات ، الّتي يأتي ذكرها ، عند بحث حجيّة الخبر ، ( ومعلوم عدم شمولها ) أي : اعمال القدماء وأصحاب الأئمّة عليهم السلام ( الاّ للرّواية المصطلحة ) اذ عملهم هذا لا يشمل الاجماع المنقول .

( وكذلك الاخبار الواردة في ) لزوم ( العمل بالروايات ) كقوله عليه السلام : « لا عذر

ص: 337

اللّهم إلاّ أن يدّعى أنّ المناطَ في وجوب العمل بالروايات هو كشفُها عن الحكم الصادر عن المعصوم ، ولا يعتبر في ذلك حكايةُ ألفاظ الإمام عليه السلام ، ولذا يجوز النقلُ بالمعنى .

فاذا كان المناطُ كشفَ الروايات عن صدور معناها عن الامام عليه السلام ،- لاحد من موالينا ، في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا » (1) وغير ذلك ممّا يدلّ على حجيّة الخبر المرويّ عنهم عن حسّ ، ولا يشمل مثل الاجماع ، الّذي هو دليل حدسي ، ( اللّهّم الاّ ان يدّعى : انّ المناط في وجوب العمل بالرّوايات ، هو : كشفها ) أي : كشف تلك الروايات كشفاً ظنّياً ( عن الحكم الصّادر عن المعصوم ) عليه السلام ، وهذا المناط موجود أيضاً في الاجماع المنقول .

( ولا يعتبر في ذلك ) أي في لزوم العمل بها ( حكاية الفاظ الامام عليه السلام ) والاجماع أيضاً كذلك ، فانّه لا يحكي عن الفاظ الإمام فيما اذا كان له قدر متيقّن ، وكذا اذا كان له مَعْقَدٌ ، فهو أيضاً ليس لفظ الإمام ، وانّما هو لفظ الفقيه الّذي استفاده من كلامه عليه السلام - فرضاً - .

( ولذا ) الّذي ذكرناه : من انّ المناط في حجّية الروايات المصطلحة ، هو : الكشف عن حكم الامام عليه السلام - لا نقل الفاظه - فهذا المناط موجود في الاجماع أيضاً ، ولذلك ( يجوز ) في باب الاحاديث ( النقل بالمعنى ) بأن لا يذكر الراوي الفاظ الامام نصاً وانّما يذكر معاني تلك الالفاظ .

وعليه : ( فاذا كان المناط ) في لزوم العمل بالروايات ( كشف الرّوايات عن صدور معناها عن الإمام عليه السلام ) من دون نظر إلى اللفظ الخاصّ

ص: 338


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج27 ص150 ب11 ح33455 ، رجال الكشي : ص536، بحار الانوار : ج5 ص318 ب4 ح15 .

ولو بلفظ اخر والمفروضُ أنّ حكايهَ الاجماع أيضا حكايةُ حكم صادر عن المعصوم عليه السلام، بهذه العبارة التي هي معقد الاجماع او بعبارة اُخرى وجب العملُ به .

لكن هذا المناط لو ثبت دلّ على حجّيّة الشهرة بل فتوى الفقيه إذا كشف عن صدور الحكم

------------------

( ولو ) كان الصدور عن المعصوم ( بلفظ آخر ) غير اللفظ الّذي يرويه الرّاوي .

( والمفروض : انّ حكاية الاجماع - أيضاً - حكاية حكم صادر عن المعصوم عليه السلام ) سواء كان صدوره ( بهذه العبارة ، الّتي هي معقد الاجماع ) فيما اذا كان للاجماع لفظ خاصّ هو معقده ( أو بعبارة اخرى ) بان كان النقل بالمعنى وذلك فيما اذا لم يكن للاجماع معقد ، حيث يكون دليل لبّي ، وله قدر متيقّن ، فانّهم يقولون : انّه اذا كان للاجماع معقد ، كان حجّة مطلقاً ، وأمّا اذا كان من قبيل الادلّة اللبيّة ، الّتي لا معقد لها ، فانّ القدر المتيقّن منها حجّة ، كالقدر المتيقّن من شجاعة عليّ عليه السلام ، الّذي اختلفت الالفاظ فيها ، فهي وان لم تكن كلّ واحدة واحدة حجّة - فرضا - ، لكنّها جملة تثبت انّه عليه السلام كان شجاعاً .

إذن : فلوحدة المناط فيهما ، نقول : ( وجب العمل به ) أي : بالاجماع أيضاً .

( لكن هذا المناط ) غير ثابت عندهم ، اذ ( لوثبت دلّ على حجّية الشهرة ) أيضاً ، لانّ الشهرة أيضاً ، كاشفة كشفاً ظنيّاً ، عن حكم المعصوم اذ كيف يكمن أن يذهب مشهور الفقهاء العدول المتّقون في نسبة حكم إلى الشارع ، بدون ان يكون قد وصل اليهم من المعصوم عليه السلام ما يدلّ على ذلك الحكم ؟ .

( بل فتوى الفقيه ) الواحد أيضاً حجّة ( اذا كشف عن صدور الحكم ) عن الامام عليه السلام لو لم نعلم انّه من استنباطاته ، أمّا اذا علمنا : انّه من استنباطاته ، لم يكن

ص: 339

بعبارة الفتوى او بعبارة غيرها ، كما عُمِلَ بفتوى عليّ بن بابويه ، قدّس سرّه ، لتنزيل فتواه منزلةَ روايته ، بل على حجّيّة مطلق الظنّ بالحكم الصادر عن الامام عليه السلام ، وسيجيء توضيحُ الحال إن شاء اللّه .

وأمّا الآياتُ ، فالعمدةُ فيها من حيث وضوح الدلالة هي آيةُ النبأ .

------------------

كاشفاً ، ثمّ انّ كشف الفتوى عن صدور الحكم منهم عليهم السلام أمّا يكون (بعبارة الفتوى ) كأن يقول : ما أفتي به : كذا وكذا ( أو بعبارة غيرها ) أي : غير الفتوى ، بأن يقول : الحكم عندي كذا ، أو الموضوع الفلاني كذا ، أو ما اشبه ذلك (كما عمل بفتوى عليّ بن بابويه قدس سره ، لتنزيل فتواه منزلة روايته ) لانّه : - كما ذكروا - ما كان يفتي الاّ بعين الرواية ، أو بالنقل بالمعنى ، وهكذا بالنسبة إلى شيخ الطائفة قدس سره ، في كتاب النهاية ، بل وجملة من القدماء ، كما ثبت في علم الرجال .

( بل ) لو ثبت انّ مناط حجّيّة الخبر هو : كشفه عن الحكم الصادر عن المعصوم عليه السلام ، ليشمل الاجماع ، دلّ ( على حجّية مطلق الظّن ، بالحكم الصّادر عن الامام عليه السلام ) لأنّ المناط على ذلك : هو الكشف الظنّي ، وكلّ ظنّ كاشف على هذا ، بينما لا يقول بهذا احد في باب الانفتاح ، الّذي هو مفروض كلامنا .

نعم ، في باب الانسداد نقول بحجّيّة الاجماع المنقول ، وغير المنقول ، من باب مطلق الظنّ ، لكنّه ليس محل كلام من يقول بحجيّة الاجماع من باب مناط الخبر ( وسيجيء توضيح الحال انشاء اللّه ) في خبر الواحد .

( وأمّا الآيات ، فالعمدة فيها من حيث وضوح الدّلالة ) وقلّة الاشكالات عليها ( هي آية النبأ ) وهي قوله سبحانه : « يَا أيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا ، إنْ جَائَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ، أنْ تُصِيْبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ ، فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِيْنَ » (1) .

ص: 340


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

وهي إنّما تدلّ على وجوب قبول خبر العادل دون خبر الفاسق ، والظاهِرُ منها - بقرينة التفصيل بين العادل والفاسق حين الاخبار ، وبقرينة تعليل اختصاص التبيّن بخبر الفاسق بقيام احتمال الوقوع في الندم احتمالاً مساويا ، لأنّ الفاسق لا رادعَ له عن الكذب -

------------------

( وهي انّما تدلّ على وجوب قبول خبر العادل ، دون خبر الفاسق ) لمفهوم الشرط ، أو لمفهوم الوصف - على ما سيأتي - أو للتعليل ، أو غير ذلك ، من الوجوه ، الّتي ذكروها في جهة دلالة الآية على وجوب قبول خبر العادل .

( والظاهر منها بقرينة التفصيل بين العادل والفاسق حين الاخبار ) أي : بقرينة أنّه سبحانه : فرّق في مقام الاخبار ، بين العادل ، فلا يجب التبيّن عن خبره ، ( وبقرينة تعليل اختصاص التبيّن بخبر الفاسق : بقيام احتمال الوقوع في النّدم ) .

وبقيام متعلّق بالتعليل ، يعني ، انّ اللّه سبحانه وتعالى ، خصّ وجوب التبين بخبر الفاسق ، بتعليل : احتمال الوقوع في الندم ان لم يتبيّن ( احتمالاً مساوياً ) في الطرفين ، أي : اذا نفّذ الانسان خبر الفاسق بلا تبيّن ، احتمل أن يقع في الندم ، كما قال سبحانه وتعالى : « أن تُصِيْبُوا قَوْماً بِجَهَاَلةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَافَعَلْتُمْ نَادِمِيْنَ » (1) .

والمراد بالاحتمال المساوي : ان لا يقطع بهذا الجانب او ذاك الجانب ، او يظنّ بهذا الجانب أو بذلك الجانب ، فانّ في بعض الأحيان يحتمل الانسان احتمالاً راجحاً في أن يندم ، واحياناً يحتمل احتمالاً مرجوحاً ، وقد يحتمل احتمالاً متساوياً أي يكون شاكّاً ، وانّما كان احتمالاً متساوياً بالمعنى الّذي ذكرناه ( لأنّ الفاسق ، لا رادع له عن الكذب ) ففي خبره احتمال الوقوع في الندم احتمالاً من غير أن يقطع بوجود الندم ، أو بعدم وجود الندم ، وبين القطعين هذين احتمالان ،

ص: 341


1- - سورة الحجرات : الآية 6 .

هو عَدَمُ الاعتناء باحتمال تعمّد كذبه ، لا وجوب البناء على اصابته وعدم خطائه في حدسه ،

------------------

وهما قد يكونان متساويين قدراً كالشاكّ ، وقد يرجّح هذا على ذاك، او ذاك على هذا .

وعليه : فانّ الظاهر من الاية ( هو عدم الاعتناء باحتمال تعمّد كذبه ) أي : كذب العادل ، فانّ في العادل ، أيضاً يحتمل الكذب ، وذلك أمّا من جهة خطأه ، أو نسيانه ، او سهوه ، أو لانّه انقلب عن العدالة إلى الفسق ، ولا نعلم به وانّما نستصحب عدالته ( لا وجوب البناء على اصابته ) أي : العادل ( وعدم خطائه في حدسه ) .

أقول : استدلّ القائلون بحجيّة الاجماع المنقول بآية النبأ : بانّه كما اذا قال زرارة : قال الصادق عليه السلام : انّ الفقّاع حرام ، شملته الاية ، ولزم الأخذ بقول زرارة ، بدون التبيّن ، كذلك ، اذا قال شيخ الطائفة : قام الاجماع على حرمة الفقّاع ، لزم الأخذ بقوله ، وذلك لأنّه اذا قال : قام الاجماع ، أخبر بأنّ حرمة الفقّاع هو قول المعصوم عليه السلام ، للتلازم بين الاجماع وبين قول المعصوم من باب الدخول ، أو الكشف ، أو اللّطف ، أو من باب قوله صلى اللّه عليه و آله وسلم في الحديث الّذي ينسب اليه : « لا تَجتَمِعُ أمَّتِي عَلى ضَلالَةٍ » (1) ، كما سيأتي البحث عن ذلك في باب الاجماع مفصلاً ، فالاجماع المنقول من أفراد الخبر ، الّذي تشمله الآية .

لكن الشيخ المصنِّف رحمه اللّه ، أشكل على هذا الاستدلال بما حاصله : انّ المنصرف من الاية : الاخبار الحسّيّة لا الحدسيّة ، وذلك بسبب قرينتين في نفس الآية المباركة :

ص: 342


1- - بحار الانوار : ج5 ص68 ب2 ح1 وفي كتاب الصراط المستقيم : ج1 ص268 و ج3 ص126 والدر المنثور للسيوطي : ج2 ص222 على ضلال وفي الالفين : ص218 (على الضلالة) .

لأنّ الفسق والعدالة حين الاخبار لاتصلحُ مناطا لتصويب المخبر وتخطئته بالنسبة إلى حدسه .

------------------

الاولى : قرينة الفرق بين العادل والفاسق ، والفارق انّما يكون في الاخبارات الحسّية دون الحدسية ، اذ العادل والفاسق من جهة الحدس متساويان ، وانّما الاختلاف بينهما من جهة الحسّ ، حيث يحتمل تعمّد كذب الفاسق ، ولا يحتمل تعمّد الكذب في العادل .

الثانية : قرينة التعليل باصابة القوم بجهالة ، أي بعلم غير عقلائي ، وهذه القرينة انّما تفرّق بين اخبار العادل والفاسق ، حسّاً لا حدساً ، حيث ليس في اخبار العادل احتمال الاصابة بجهالة ، بخلاف اخبار الفاسق ، فان فيه ذلك ، الاحتمال ، أمّا في حدس العادل والفاسق فهما متساويان .

والحاصل : انّ القرينتين تفيدان أنّ المراد بالنبأ : الخبر الحسّي ، لا الحدسي ، فلا تشمل الاية الاجماع المنقول ، الّذي هو اخبار عن حدس ، لانّ شيخ الطائفة لم يسمع الخبر عن المعصوم ، أو عن الواسطة حساً ، وانّما حدس من الاجماع : انّ المعصوم قال هذا القول الّذي ادّعى عليه الشيخ الاجماع .

( لانّ الفسق والعدالة حين الاخبار ) انّما يصلح كلّ واحد منهما مناطاً لتعمّد الكذب وعدمه ، اذ الفاسق يحتمل تعمّد كذبه دون العادل ، و ( لا تصلح ) العدالة والفسق ( مناطاً ، لتصويب المخبر وتخطئته بالنسبة إلى حدسه ) .

فالآية تدلّ على انّ العادل لا يتعمد الكذب ، دون الفاسق ، فانّه يحتمل فيه تعمّد الكذب ، ولذا يحتاج خبره إلى التبين ، دون خبر العادل .

وعليه : فالاية ساكتة من سائر الجهات : ومن تلك الجهات : احتمال الخطأ ، والنسيان ، والغفلة ، وما اشبه ، واليه اشار المصنِّف بقوله :

ص: 343

وكذا احتمالُ الوقوع في النَّدم من جهة الخطأ في الحدس أمرٌ مشترك بين العادل والفاسق ، فلا يصلحُ لتعليل الفرق به .

فعلمنا من ذلك أنّ المقصودَ من الآية إرادةُ نفي احتمال تعمدُ الكذب عن العادل حين الاخبار دون الفاسق ، لأنّ هذا هو الذي يصلحُ لاناطته بالفسق والعدالة حين الاخبار ، ومنه تبيّن عدمُ دلالة الآية على قبول الشهادة الحدسيّة

------------------

( وكذا احتمال الوقوع في النّدم ، من جهة الخطأ في الحدس ، أمر مشترك بين العادل والفاسق ، فلا يصلح لتعليل الفرق به ) أي : باحتمال الوقوع في الندم ، من جهة الخطأ في الحدس في الفاسق ، دون العادل ، لأنّ الوقوع في الخطأ الحدسي مشترك بينهما .

( فعلمنا من ذلك : انّ المقصود من الآية ارادة : نفي احتمال تعمّد الكذب عن العادل حين الاخبار ، دون الفاسق ) ، وانّما قال : حين الاخبار ، لانّ العدالة والفسق ، انّما يكونان مناطين للأخذ وعدم الأخذ ، فيما اذا كان حين الاخبار عادلاً أو فاسقاً ، لا ما اذا كان حين المشاهدة عادلاً ، أو فاسقاً ، ثمّ تبدّل إلى حالة اُخرى ، اذ العدل والفسق حين المشاهدة ونحوها ، ليسا مناطاً في التبين وعدم التبيّن .

( لانّ هذا ) أي نفي احتمال تعمّد الكذب ( هو الّذي يصلح لاناطته بالفسق والعدالة حين الاخبار ) .

( ومنه ) أي : ممّا ذكرنا : من انّ الآية لا تدل على حجيّة الخبر الحدسي ، وان كان صادراً من العادل ، لأنّ الآية في الاخبارات المتعارفة ، وهي : ما كانت عن حسّ ، فلا تشمل ما كانت عن حدس ، ومن ذلك ( تبيّن عدم دلالة الآية على قبول الشّهادة الحدسية ) أيضاً ، فانّ شهادة الشهود على شيء ، قد تكون عن حسّ ، كما

ص: 344

اذا قلنا بدلالة الآية على اعتبار شهادة العدل .

فان قلت : إنّ مجرّد دلالة الآية على ما ذكر لا يوجب قبولية الخبر ، لبقاء احتمال خطأ العادل فيما أخبر وإن لم يتعمّد الكذب ،

------------------

اذا شهد اثنان زيداً وهو يسرق ، وقد تكون عن حدس ، كما اذا لم يريا سرقته ، وانّما حدسا بذلك من جهة بعض القرائن ، فاذا قلنا : بدلالة الاية على قبول الشهادة أيضاً ، لزم أن نخصّص الشهادة بالحسّ ، بان تكون باحدى الحواس الخمس .

وعليه : فلا تشمل الآية الشهادة الحدسية - تخصيصاً ( اذا قلنا بدلالة الاية على اعتبار شهادة العدل ) - أيضاً .

أمّا اذا قلنا : بأنّ الآية في صدد الخبر فقط ، لا الأعمّ من الخبر والشهادة ، - بالنسبة الى الموضوعات - فلا دلالة للآية على_'feقبول الشهادة الحسية - تخصّصاً - .

وعلى أيّ حال : فالآية في مقام الحسّ ، لا في مقام الحدس ، سواء عمّمناها إلى الشهادة في الموضوعات ، أم خصصناها بالاخبار في الاحكام فقط ، لكن الظاهر شمول الآية للشهادة أيضاً ، لأنّه لا خصوصيّة للخبر ، في الآية ، إلاّ من جهة المورد ، ومن المعلوم انّ المورد لا يخصّص .

ثمّ انّ المصنّف قدس سره ، ذكر اشكالاً على دلالة آية النبأ في قبول خبر العادل وهو اجنبي عن مبحث الاجماع ، ذكره من باب التوضيح والتبيين في الآية المباركة قائلاً : ( فان قلت : انّ مجرّد دلالة الآية على ما ذكر ) من : نفي احتمال تعمّد الكذب في خبر العادل ( لا يوجب قبوليّة الخبر ) من العادل مطلقاً ( لبقاء احتمال خطأ العادل فيما أخبر ، وان لم يتعمّد الكذب ) لاشتباه أو سهوٍ أو نسيان ، أو نحو ذلك ، فانّ كلّ خبر يحتمل فيه الكذب والصدق . والآية تدلّ على نفي الكذب

ص: 345

فيجبُ التبيّنُ في خبر العادل أيضا ، لاحتمال خطأه وسهوه ، وهو خلاف الآية المفصِّلة بين العادل والفاسق .

غايةُ الأمر وجوبهُ في خبر الفاسق من وجهين وفي العادل من جهة واحدة .

قلت : إذا ثبت بالآية عدمُ جواز الاعتناء باحتمال تعمّد كذبه ينتفي احتمال خطائه وغفلته واشتباهه بأصالة عدم الخطأ في الحسّ ،

------------------

العمدي من خبر العادل ، بينما هذا الاحتمال موجود في خبر الفاسق ، ونفي احتمال الكذب العمدي في خبر العادل ، لا يبيح الأخذ بخبر العادل ، لاحتمال خطأه فيه ، وعليه : ( فيجب التبيّن في خبر العادل أيضاً لاحتمال خطأه وسهوه ) سواء قلنا : بأنّ الآية تشمل الحسّيّات ، أو الأعمّ من الحسّيّات والحدسيّات ، وسواء قلنا : بأنّ الآية تشمل الخبر ، أو الأعمّ من الخبر والشهادة .

( وهو ) أي وجوب التبين في خبر العادل ، لنفي احتمال الخطأ ، والنسيان ، والسهو ، والغفلة ، ونحوها ( خلاف الآية المفصّلة ) ، بصيغة اسم الفاعل ( بين العادل والفاسق ) لانّ ظاهر الآية عدم وجوب التبين في خبر العادل أصلاً .

( غاية الأمر وجوبه ) أي : التبين ( في خبر الفاسق من وجهين ) : وجه احتمال تعمّد الكذب ، ووجه احتمال الخطأ والنسيان ، ونحوهما ( وفي ) خبر ( العادل من جهة واحدة ) أي من جهة احتمال الخطأ ، والنسيان ، ونحوهما فقط ، لانّ تعمّد الكذب مأمون في العادل .

( قلت : اذا ثبت بالآية ، عدم جواز الاعتناء باحتمال تعمّد كذبه ) أي : العادل ( ينتفي احتمال خطائه ، وغفلته ، واشتباهه ، بأصالة عدم الخطأ في الحسّ ) فاحتمال تعمّد الكذب في العادل : منفي بعدالته ، واحتمال خطأه : منفي بالأصل .

ص: 346

وهذا أصلٌ عليه إطباقُ العقلاء والعلماء في جميع الموارد .

نعم ، لو كان المخبر ممّن يكثر عليه الخطأ والاشتباه لم يُعبأُ بخبره ، لعدم جريان أصالة عدم الخطأ والاشتباه ، ولذا يعتبرون في الشاهد والراوي

------------------

أمّا بالنسبة إلى الفاسق ، فليس كذلك ، فانّه وان كان احتمال خطأه : منفي بالاصل ، لكن احتمال تعمّد كذبه : ليس منفيّاً .

إذن : فالتفصيل بين الفاسق والعادل انّما هو بتعمّد الكذب وعدمه ، لا باحتمال الخطأ وعدمه ، أي : انّ خبر الفاسق لا يؤذ به ، من جهة احتمال تعمّد كذبه ، وخبر العادل يؤذ به ، لانتفاء تعمّد كذبه ، بينما اصالة عدم الخطأ جار في الاثنين ، فلا يكون من جهة احتمال الخطأ وعدمه ، تفصيل بين الفاسق والعادل .

( وهذا اصل عليه اطباق العقلاء والعلماء ) والعلماء أخص من العقلاء ، وهم : المتشرعة ( في جميع الموارد ) سواء في باب الخبر ، أو باب الشهادة ، أو باب قول أهل الخبرة ، أو باب الفتوى ، أو باب القضاء ، أو غيرها ، فان العقلاء مُطبِقون على نفي احتمال الخطأ ، عن قول ، أو عمل كل انسان عاقل ، اذا لم يطرء عليه طاريء ، من كثرة السهو ، والنسيان ، ونحوهما .

( نعم ، لو كان المخبِر ، ممن يكثر عليه الخطأ والاشتباه ، لم يعبأ بخبره ) الحسّي أيضاً ، كما لم يعبأ بخبره الحدسي ؛ وذلك ( لعدم جريان اصالة : عدم الخطأ ، والاشتباه ) والغفلة ، ونحوها ، فيمن يكون كثير الخطأ والاشتباه ، مما يعبر عنه بعدم الضبط ، ولذا اشترطوا في باب الرّجال : ان يكون ضابطاً ، وهذا الشرط ، شرط عقلائي أقره الشارع أيضاً ، اذ لم يذكر نفيه ، ( ولذا ) الذي ذكرناه : من اشتراط عدم الخطأ ، والاشتباه ، في المخبر ( يعتبرون في الشاهد ، والراوي )

ص: 347

الضبط ، وإن كان ربما يتوهّم الجاهلُ ثبوتَ ذلك من الاجماع .

الاّ أنّ المنصفَ يشهدُ بأنّ اعتبار هذا في جميع موارده ليس لدليل خارجيّ مخصّص لعموم اية النبأ ونحوها ممّا دلّ على وجوب قبول قول العادل ، بل لما ذكرنا من أنّ المرادَ بوجوب قبول قول العادل رفعُ التهمة عنه من جهة احتمال تعمّده الكذبَ ، لا تصويبُه وعدمُ تخطئته او غفلته .

ويؤيّد ما ذكرنا

------------------

والمفتي ، والقاضي : (الضبط ) وهو : استقامة الحالة ، بعدم طريان الخطأ والاشتباه والنسيان عليه .

وهذا الشرط ، وهو : الضبط إنّما هو أصل عقلائي علمائي ( وان كان ربّما يتوهّم الجاهل ) بوجه اشتراط الضبط ( ثبوت ذلك ) الشرط وهو : الضبط ( من الاجماع ) اي ان الذي لايعرف وجه هذا الشرط ، ، يتصوّر انّ الاجماع هو دليله ، بينما قد عرفت : ان اشتراط الضبط ، مستفاد من الأصل العقلائي والعلمائي .

( الاّ انّ المنصف يشهد : بأنّ اعتبار هذا ) الشرط ، وهو : شرط الضبط ( في جميع موارده ) من الشهادة والتقليد والرواية ، وقول أهل الخبرة ، وغيرها ( ليس ) من جهة دليل خاص ، وهو الاجماع ، اي ، ليس ( لدليل خارجي ، مخصص لعموم آية النبأ ، ونحوها ، ممّا دلّ على : وجوب قبول قول العادل ) أو قول الشاهد ، أو قول القاضي ، أو قول المفتي ، أو غيرهم ، بل هذا الشرط ، انّما هو لأجل الاصل العقلائي ، الموجب لانصراف أدلّة حجيّة تلك الامور الى الضابط ، دون غيره ، ( بل لما ذكرنا : من انّ المراد بوجوب قبول قول العادل ، رفع التهمة عنه ، من جهة احتمال تعمّده الكذب ، لا تصويبه وعدم تخطئته ، أو غفلته ) أو نحو ذلك ( ويؤد ما ذكرنا : ) من انّ الآية انّما تدل على حجيّة الخبر الحسّي ،

ص: 348

أنّه لم يستدلّ أحدٌ من العلماء على حجّيّة فتوى الفقيه على العاميّ بآية النبأ مع استدلالهم عليها بآيتي النفر والسؤال .

والظاهرُ أنّ ماذكرنا - من عدم دلالة الآية وأمثالها من أدلّة قبول قول العادل

------------------

دون الخبر الحدسي ( انّه لم يستدلّ أحد من العلماء، على حجّية فتوى الفقيه على العامي بآية النبأ ) لان فتوى الفقيه حدس ، وليس بحسّ ، والآية انّما تدل على الحسّ لا على الحدس .

هذا ، ( مع استدلالهم عليها ) أي : على حجيّة فتوى الفقيه على العامي ( بآيتي : النفر ، والسؤل ) حيث قال سبحانه : « وَما كانَ المُؤِنونَ لِيَنْفِروا كافَّةً ، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُم طائِفَةٌ ، لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ، وَلْيُنْذِروا قَوْمَهُم إذا رَجَعوا إلَيْهِم ، لَعَلَّهُم يَحْذَرون » (1) ، وقال سبحانه : « فَاسألوا أهلَ الذِّكْرِ إن كُنْتُم لا تَعْلَمُونَ » (2) ، فان العلماء استدلوا بهاتين الايتين على حجّيّة فتوى الفقيه على العامي ، ولم يستدلوا بآية النبأ على الحجّيّة ؛ وذلك لانّ فتوى الفقيه حدس ، وآية النبأ لا تشمل الحدس ، وانّما تشمل الحسّ فقط ، وقد عرفت : انّ الاجماع المنقول بخبر الواحد من باب الحدس ، لا من باب الحسّ ، فالآية لا تشمل الاجماع المنقول ، الذي هو محل الكلام .

( والظاهر انّ ما ذكرنا : من عدم دلالة الآية وامثالها ) من أدلّة حجّيّة خبر الواحد ، سواء الآيات او الروايات ، كقوله عليه السلام : « لا عُذرَ لأحَدٍ مِن مَوالِينا ، في التَشكِيكِ فِيما يَروِيهِ عَنّا ثُقاتُنا » (3) ، وقوله عليه السلام : « فَما أديا اليك عَنّي ، فَعَنّي يُؤّيان » (4) ، وغيرهما ( من ادلة قبول قول العادل ) هو : عدم دلالة الآية وامثالها

ص: 349


1- - سورة التوبة : الآية 122 .
2- - سورة الأنبياء : الآية 7 .
3- - وسائل الشيعة : ج1 ص38 ب2 ح61 و ج27 ص150 ب11 ح33455 ، رجال الكشي : ص536 ، بحار الانوار : ج50 ص388 ب4 ح15 .
4- - الكافي اصول : ج1 ص329 ح1 .

على وجوب تصويبه في الاعتقاد - هو الوجهُ فيما ذهب إليه المعظمُ ، بل أطبقوا عليه ، كما في الرياض ، من عدم اعتبار الشهادة في المحسوسات اذا لم يستند إلى الحسّ

------------------

( على وجوب تصويبه في الاعتقاد ) أي في اخباره الحدسية ، وانّما الآية ونحوها، تدل على تصويبه ونسبته الى الصواب في الحسيات .

وعليه : فعدم الدلالة هناك ( هو الوجه فيما ذهب اليه المعظم ، بل اطبقوا عليه - كما في الرّياض - ) الذي ادعى هذا الاطباق ( من عدم اعتبار الشهادة في المحسوسات ، اذا لم يستند الى الحسّ ) اذ اللازم ان تكون الشهادة في المحسوسات ، عن حسّ ، سواء كان محسوساً بالبصر او السمع ، أو الذوق ، أو الشم، أو اللمس ، مثلاً : اذا رُأي زيداً وهو يعطي ديناراً لعمرو وشهد عليه ، قبلت شهادته ، أمّا اذا علم ذلك من القرائن ، وشهد ، فلا تقبل شهادته .

وقد اشار رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله وسلم بيده الكريمة الى الشمس وقال لمن يريد الشهادة : على مثل هذه فاشهد (1) .

والحاصل : انّ في الحسيّات ، سواء في الشهادة ، أو في الخبر ، انّما يكون قول العادل ، حجّة اذا استفاده من الحسّ ، لا ما اذا استفاده من الحدس .

نعم ، قول الحادس في الحدسيات حجة وان استفاده من الحدس لا من الحسّ ، كالمقوّمين ، الذين يقوّمون الدور ونحوها ، بالحدس لا بالحسّ ، فان قولهم حجّة ، لانهم أهل خبرة ، وقول أهل الخبرة حجّة .

وكيف كان : فالدليل على عدم قبول الشهادة عن حدس ، في الامور الحسّية ، هو : ان دليل حجّيّة الشهادة ، منصرف عن الشهادة عن حدس ، اذا كان المشهود

ص: 350


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص342 ب20 ح33883 وفيه على مثلها فاشهد أو دع .

وإن عَلَّلَه في الرياض بما لا يخلو عن نظر ، من أنّ الشهادة من الشهودُ وهو الحضور ، فالحسّ مأخوذٌ في مفهومها .

------------------

عليه من الحسّيّات .

هذا ، ( وان علَّلَه ) أي : عدم قبول قول العادل في الحدسيات ، ( في الرّياض ، بما لا يخلو عن نظر ) فان ما ذكره ، هو عبارة ، عما اشار اليه المصنِّف بقوله : ( من انّ الشهادة من الشهود ، وهو: الحضور، فالحسّ مأخوذ في مفهومها ) أي مفهوم الشهادة .

وانّما كان في كلام الرياض نظر ، لانّ الشهادة تطلق على المحسوس وغير المحسوس ، ولذا يصح ان يقول الانسان ، انّي اشهد بوجود اللّه سبحانه ، وبنبوة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، وبامامة الأئمة الطاهرين عليهم السلام ، وأشهد بالقيامة ، والصراط ، والجنة ، والنار ، وما الى ذلك ، مع ان كل هذا ليس من الحضور .

فليس جهة لزوم الحسّ في الشهادة ، هو من جهة لفظ الشهادة - على ما ذكره الرياض - بل انّما هو لأجل ما ذكرناه : من انصراف ادلة الشهادة في الموضوعات الى الشهادة عن حس ، إذا كان المشهود عليه من الحسيّات ، لكن لا يخفى : ان لزوم الحسّ في الشهادة ، انّما يكون اذا لم تكن هناك قرائن تفيد قطع الحاكم بصحة حدس الشاهد ، مما يوجب لحوقه بالحسّ ، كما اذا خرج زيد من الدار ، وترك عمراً سالماً فيها ، فرأى بكراً يدخل الدار ويخرج ، وهو مضطرب وبيده سكين ملطخ بالدم ، فدخل زيد الدار فرأى عمرواً مقتولاً ، فانه اذا شهد عند الحاكم شاهدان بمثل ذلك يقطع الحاكم بان بكراً قاتلُ عمرو ، الى غيره من الأمثلة.

كما انّ من الواضح : ان الحسّ انّما يقبل منه اذا لم يكن ذلك من موارد خطأ الحسّ ، والتي هي كثيرة جداً ، أنهاها بعضهم الى ثمانمائة مورد ، مثل : السراب

ص: 351

والحاصلُ : أنّه لاينبغي الاشكال في أنّ الاخبار عن حدس واجتهاد ونظر ليس حجّةً إلاّ على من وجب عليه تقليدُ المخبر في الأحكام الشرعيّة وأنّ الآية ليست عامه لكلّ خبر بدعوى خرج ما خرج .

فان قلت : فعلى هذا

------------------

الذي يحسبه الضمئان ماءاً ، والخطين المتوازيين الذين يراهما الانسان من بعيد متصلان ، الى غير ذلك من الامثلة .

( والحاصل : انه لا ينبغي الاشكال في انّ الاخبار عن حدس واجتهاد ونظر ، ليس حجّة ) لا في باب الخبر الواحد ، ولا في باب القضاء ، ولا في باب الافتاء ، ولا في باب الشهادة (الاّ على من وجب عليه تقليد المخبر في الأحكام الشرعيّة) ، وذلك لأدلة وجوب التقليد على العوام ، كقوله عليه السلام : « مَن كان مِنَ الفُقَهاءِ ، صائِناً لِنَفسِه ، حافِظاً لِدِينِه ، مُخالِفاً لِهَواهُ ، مُطيعاً لأمرِ مَولاهُ ، فَلِلعَوام أن يُقَلّدوه » (1) ، ولذا لا يجب على المقلد ، اتباع غير مجتهده ، لأنّ فتاواه ليست حجّة عليه .

هذا ، ( وانّ الآية ليست عامة لكل خبر ) وان كان عن حسّ أو حدس ، وذلك (بدعوى ) : انه قد ( خرج ما خرج ) عن عموم الآية من الحدسيّات لأجل الدليل ، فانه لولا الدليل لكان كل من الحدسيّات داخلاً في الآية - أيضاً - .

وبذلك ظهر : ان الاجماع المنقول ، الذي هو اخبار حدسي ، عن قول الامام عليه السلام ، ليس داخلاً في الآية المباركة ، ولا في الأخبار الدالة على وجوب العمل بخبر العادل .

( فان قلت : فعلى هذا ) الذي ذكرتم : من انّ الخبر ، مختص بالخبر الحسّي ،

ص: 352


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص131 ب10 ح33401 ، الاحتجاج للطبرسي : ص458 ، بحار الانوار : ج2 ص88 ب14 ح12 .

إذا أخبر الفاسقُ بخبر يُعلَمُ بعَدم تعمّده للكذب فيه تُقبَلُ شهادتهُ فيه ، لأنّ احتمالَ تعمّده للكذب منتفٍ بالفرض ، واحتمال غفلته وخطائه منفيّ بالأصل المجمع عليه ، مع أنّ شهادته مردودة إجماعا .

------------------

وانّ الآية بصدد نفي تعمّد الكذب عن العادل ، أمّا سائر الاحتمالات المنافية كاحتمال الخطأ ، والسهو ، والنسيان ، والغفلة ، وما أشبه ، فهي منفيّة بسبب الاصل العقلائي ، وعليه : ف- ( اذا أخبر الفاسق بخبر ) وقال : انّ الإمام الصادق عليه السلام ، حكم بكذا ايجاباً أو تحريماً ، والسامع ( يعلم بعدم تعمده للكذب فيه ) لزم أن ( تقبل شهادته فيه ) أي : في ذلك الخبر ، الذي علم عدم تعمده الكذب فيه .

وذلك ( لانّ احتمال تعمده للكذب منتف بالفرض ، واحتمال غفلته ، وخطائه منفي بالأصل المجمع عليه ) عند العقلاء والعلماء ، كما ذكرنا : من انّ اصالة عدم الغفلة والخطأ وما أشبه ، مجمع عليها عند العقلاء ، ولو لم يكونوا من المتشرعة ، والعلماء الذين هم من المتشرعة .

( مع ان شهادته ) أي : الفاسق ( مردودة اجماعاً ) فتبين ان مناط قبول خبر الواحد ، ليس هو احتمالاً للكذب وعدمه ، حتى يقال : بان احتمال الكذب منفي في العادل ، فيؤذ بخبره ، وغير منفي في الفاسق ، فلا يؤذ بخبره ، بل المناط هو : العدالة والفسق .

واذا كان المناط : العدالة في قبول الخبر ، والفسق : في عدم قبول الخبر ، نقول : الاجماع المنقول أيضاً كذلك ، لأنّ المفروض ان شيخ الطائفة الذي نقل الاجماع في حرمة الفُقّاع - مثلاً - عادل ، فمناط وجوب قبول الخبر الحسّي ، موجود في هنا الحدسي وهو الاجماع ، حيث قد عرفت انّ المناط : العدالة فيلزم قبوله .

ص: 353

قلت : ليس المرادُ ممّا ذكرنا عدمَ قابليّة العدالة والفسق لاناطة الحكم بهما وجودا وعدما تعبدا ، كما في الشهادة والفتوى ونحوهما ،

------------------

( قلت ) : انا نقول : انّ خبر العادل يقبل في الجملة ، لانتفاء احتمال تعمد الكذب فيه ، ولا نقول : انّ كل خبر لا يحتمل فيه تعمّد الكذب يقبل حتى وان كان له منقَصةٌ اخرى ، كما اذا كان المخبر فاسقاً .

وعليه : فلا يتمكن المستشكل ، أن يستشكل علينا ، بانه لو كان المناط في قبول خبر العادل عدم احتمال تعمد الكذب ، لزم قبول كل خبر لا يحتمل فيه تعمّد الكذب ، بينما لا يقبل الفقهاء خبر الفاسق ، وان علموا بانه لا يتعمد الكذب وصاروا بحيث كلما كان خبر الفاسق لم يقبلوه ، احتمل فيه تعمد الكذب ام لا ، أمّا خبر العادل ، اذا لم يمكن نفي احتمال الخطأ فيه ، كمااذا كان العادل كثير الخطأ ، أي غير ضابط فللازم قبول خبره لنفي احتمال تعمد الكذب ، هذا خلاصة الاشكال .

ولكن لا يحقّ له الاشكال ، لانه ( ليس المراد ممّا ذكرنا ) في معنى الآية المباركة : من التفصيل بين العادل الفاسق ، بمناط احتمال تعمد الكذب في الفاسق وعدم احتمال مثله في العادل هو : ( عدم قابليّة العدالة والفسق ، لاناطة الحكم ) وحجّيّة الخبر ( بهما ) أي بالعدالة والفسق ( وجوداً وعدماً ، تعبّداً ) بان يكون وجود العدالة سبباً لقبول خبر العادل ، ووجود الفسق سبباً لعدم قبول خبر الفاسق ( كما ) هو الأمر كذلك ( في الشهادة ، والفتوى ، ونحوهما ) كالقضاء ، فان كلاً من الشاهد ، والمفتي ، والقاضي ، لو كان عادلاً ، يقبل قوله : شهادة ، وفتوى ، وقضاءاً ، واذا كان فاسقاً لم يقبل قوله ، فالقبول والرد من هؤاء الثلاثة ، أيضاً منوط بالعدالة والفسق ، وان علم بعدم تعمّد كذب الفاسق منهم .

ص: 354

بل المرادُ أنّ الآية المذكوره لا تدلّ الاّ على مانعيّة الفسق من حيث قيام احتمال تعمد الكذب معه ، فيكون مفهومُها عدمَ المانع في العادل من هذه الجهة ، فلا يدلّ على وجوب قبول خبر العادل إذا لم يمكن نفيُ خطائه بأصالة عدم الخطأ المختصّة بالأخبار الحسّيّة ، فالايةُ لا تدلّ أيضا على اشتراط العدالة ، و مانعيّة الفسق في صورة العلم بعدم تعمّده للكذب ،

------------------

والحاصل : انه لم يكن المراد : عدم مناطية العدالة والفسق في الخبر ( بل المراد : انّ الآية المذكورة ) ساكتة عن سائر الجهات ، ف( لا تدلّ الاّ على مانعيّة الفسق ، من حيث قيام احتمال تعمّد الكذب معه ) أي : مع الفسق .

( فيكون مفهومها ) أي : الآية المباركة : ( عدم المانع في العادل ، من هذه الجهة ) ، أي : جهة احتمال تعمّد الكذب .

وحينئذٍ : ( فلا يدلّ ) شيء من الآية المباركة ( على وجوب قبول خبر العادل ، اذا لم يمكن نفي خطأه ، بأصالة عدم الخطأ ) بأن كان العادل غير ضابط ، وقد وَصَف المصنِّف قدس سره اصالة عدم الخطأ بقوله : ( المختصة بالأخبار الحسيّة ) أمّا الاخبار الحدسيّة فغير مقبولة رأسا فلا مجال لجريان او عدم جريان اصالة عدم الخطأ فيها .

( ف- ) كما انّ ( الآية ) لا تدلّ على اناطة الحكم بالعدالة والفسق وجوداً وعدماً ولم يكونا هما المناطين الوحيدين للقبول والرد - ولذا لا يقبل خبر العادل ، اذا لم يكن ضابطاً - كذلك ( لا تدل ) الآية ( أيضاً ، على اشتراط العدالة ، ومانعية الفسق ، في صورة العلم بعدم تعمده للكذب ) حتى تدل على انه اذا صار عادلاً قُبِلَ قوله ، وان كان عن حدس .

والحاصل : ان بعض العدول لا يقبل قوله ، لأنّه اخبر عن حدس ، وبعض

ص: 355

بل لابدّ له من دليل آخر ،

------------------

العدول لا يقبل قوله ، لانه ليس بضابط ، فالفسق والعدالة ليسا مناطين وحيدين ، حتى يقال : ان كل خبر عادل يقبل ، وان كل خبر فاسق اذا لم يعلم تعمده للكذب يقبل أيضاً (بل لابّد له ) اي : لكل واحد من الاشتراط والمانعية في كلّ الموارد ( من دليل آخر ) .

ولا يخفى : انّ عبارة المصنِّف مجملة أو مبهمة . وقد فسّرها « الأوثق » بقوله : محصل ما ذكره في معنى الآية الشريفة :

كونها منساقة لبيان اشتراط العدالة ، ومانعية الفسق ، في العمل بخبر المخبر ، لأجل انتفاء احتمال تعمد الكذب في العادل بحكم الشارع ، وبقاء هذا الاحتمال في الفاسق ، وهي ساكتة عن بيان وجوب التبين عن خبرهما ، وعدمه من سائر الجهات ، مثل : احتمال الخطأ والنسيان ، ونحوهما ، فكأنه قال : يجب عليكم التبين عن خبر الفاسق من هذه الجهة ، ولا يجب التبين عن خبر العادل من هذه الجهة .

ومقتضاه : عدم اشتراط العدالة ، في مورد انتفى فيه احتمال تعمدّ الكذب عن خبر الفاسق ، ولكن لا ينافيه اشتراطها تعبداً ، في بعض الموارد بدليل خارج ، كما في الشهادة والفتوى .

وكذا مقتضاه : عدم دلالتها على اعتبار خبر العادل، من حيث احتمال الخطأ، والنسيان ، ونحوهما ، فيشاركه خبر الفاسق من هذه الجهة ما لم يقم دليل على نفيهما فيه .

وكذا لو احتمل اشتراط شيء آخر في حجّيّة الخبر غير العدالة ، كما اذا احتمل اشتراط تعدد المخبر في اداء الشهادة ، فان مقتضى ما حقق به المقام ، عدم نهوض

ص: 356

فتأمّل .

الأمر الثاني : انّ الاجماعَ في مصطلح الخاصّة

------------------

الآية لنفي هذه الاحتمالات ، فتكون الآية حينئذٍ مجملة من غير جهة بيان نفي احتمال تعمد الكذب في خبر العادل ، انتهى .

( فتأمل ) ولعله اشارة الى انّ مقتضى التعليل في الآية الكريمة : انّ خبر الفاسق ما لم يكن فسقه لسانياً - كما اذا علمنا انه كالعادل لا يتعمد الكذب - أيضاً مقبول ، ولذا اعتمد الفقهاء على اخبار الكيسانية والفطحية ، ومن اشبههم ، اذ لم يحتملوا في اخبارهم الكذب ، مع انهم من اظهر مصاديق الفساق ، لانحراف عقائدهم .

ولا يخفى : ان كلام المصنِّف قدس سره في الذيل ، خارج عن مصبّ الكلام الذي هو: أنّ الآية لاتشمل الاخبار الحسيّة ، وكأنه استطراد منه رحمه اللّه .

( الأمر الثاني : ) في انّ ناقل الاجماع ، ينقل قول المعصوم عن حدس ، وليس بالحس ، كما ان الأمر الاوّل كان : في توضيح انّ الاجماع المنقول حدسي ، والآيات والاخبار الدالة على حجّيّة الخبر ، انّما تدل على حجّيّة الخبر الحسّي لا الحدسي .

ان قلت : ليس الاجماع حدسياً بل حسّي .

قلت : بل هو حدسيّ .

ولهذا ذكر المصنِّف الكبرى في الأمر الأوّل : بانّ الادلة لا تشمل الأخبار الحدسيّة ، وذكر الصغرى في الأمر الثاني : بأنّ الاجماع خبر حدسي لا حسّي .

ولا يخفى : انّ الحدس على قسمين : حدسيّ ضروري ، وحدسيّ غير ضروري على ما ذكره المنطقيون : في الصناعات الخمس ، والاجماع من الحدس غير الضروري كما هو واضح ، وذلك ( انّ الاجماع في مصطلح الخاصة ،

ص: 357

بل العامّة ، الذين هم الأصل له وهو الأصل لهم ، هو اتفاقُ جميع العلماء في عصر ،

------------------

بل العامة ، الذين هم الأصل له ) حيث انه من المشهور : انّ حديث : « لا تَجتَمِع اُمّتي عَلى خطَأ» (1) اصله منهم ، لكن حيث ان هذا الخبر موجود في بعض رواياتنا ، فلا وجه لجعل الاجماع من اختراعات العامة - كما ذكره بعض الشراح والمحشّين - .

( وهو ) أي الاجماع ( الاصل لهم ) - لأنّه : كما قالوا - مبنى مذهب العامة ، اذ عمدة ادلّتهم على خلافة عمر وابي بكر ، عندهم اجماع الاُمة على ذلك .

أقول : وهذه أيضاً محل تأمّل ، فانهم بنوا مذهبهم على ما زعموا عليه جملة من الأدلة : منها ما يروونه عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله وسلم ، انّه قال : « أصحابِي كَالنُجوم ، بِأيّهِم إقتَدَيتُم إهتَدَيتُم » (2) ، ومنها : قوله سبحانه : « والسّابِقون الأوَّلون مِنَ المُهاجِرِين ...»(3) ، وغير ذلك .

ولا يخفى ما فيها مما مَحَلُّ تفصيله الكتب العقائديّة .

وعلى كل حال : فالاجماع في مصطلح الخاصة والعامة ( هو : اتفاق جميع العلماء في عصر ) واحد ، وان اختلفوا في عصور متعددة ، كما اذا كان في عصر المحقق الحلّي - مثلاً - قد افتى العلماء بفتوى واحدة ، تحقق الاجماع ، وان كان شيخ الطائفة ، أو من بعده . كالشهيدين ، ونحوهم ، مخالفين في تلك الفتوى .

ص: 358


1- - الصراط المستقيم : ج3 ص125 ، الغدير للاميني : ج7 ص142 و ص143 .
2- - بحار الانوار : ج28 ص18 ب1 ح26 ، عيون أخبار الرضا : ج1 ص87 ، الصراط المستقيم : ج2 ص21 و ج3 ص146 ، ارشاد القلوب : ص335 ، الطرائف : ص523 ، الصوارم المهرقة : ص100 .
3- - سورة التوبة : الآية 100 .

كما ينادي بذلك تعريفاتُ كثير من الفريقين .

قال في التهذيب : « الاجماعُ هو اتّفاق أهل الحلّ والعقد من أُمّة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم » .

وقال صاحب المبادي ، الذي هو أحد علمائنا المعاصرين للعلاّمة قدس سره : « الاجماعُ في اصطلاح فقهاء أهل البيت عليهم السلام ، هو اتفاق أُمّة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ، على وجه يشمل قول المعصوم » ، انتهى .

وقال في المعالم : « الاجماعُ في الاصطلاح اتّفاقٌ خاصٌ ، وهو اتّفاق من يعتبر قوله من الأُمّة » . انتهى .

------------------

( كما ينادي بذلك تعريفات كثير من الفريقين ، قال ) الشيخ ( في التهذيب : الاجماع هو : اتفاق أهل الحلّ والعقد ، من أمة محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم ) ومن المعلوم : ان اتفاق أهل الحلّ والعقد من اُمته صلى اللّه عليه و آله وسلم ظاهر في الاتفاق في عصر واحد ، لا كل العصور .

( وقال صاحب ) غاية البادي في شرح ( المبادي ، الذي هو أحد علمائنا ، المعاصرين للعلامة قدس سره ) ما لفظه : ( الاجماع في اصطلاح فقهاء أهل البيت عليه السلام هو : اتفاق أمه محمد صلى اللّه عليه و آله وسلم على وجه يشمل ) ذلك الاتفاق ( قول المعصوم انتهى ) (1) .

( وقال في المعالم : الاجماع في الاصطلاح ، اتفاق خاص ، وهو اتفاق من يعتبر قوله من الامّة انتهى ) (2) .

والمراد بمن يعتبر قوله : أهل الحلّ والعقد ، كما ان المراد باهل الحلّ والعقد :

ص: 359


1- - غاية البادي في شرح المبادي : مخطوط .
2- - معالم الدين : ص172 .

وكذا غيرها من العبارات المصرّحة بذلك في تعريف الاجماع وغيره من المقامات ، كما تراهم يعتذرون كثيرا عن وجود المخالف بانقراض عصره .

ثمّ إنّه لمّا كان وجهُ حجّيّة الاجماع عند الاماميّة اشتماله على قول الامام عليه السلام ، كانت الحجّيّةُ دائرةً مدارَ وجوده عليه السلام ، في كلّ جماعة هو أحدهم ،

------------------

الّذين لهم شخصية كبيرة بحيث يحلّون الامارات ، والولايات ، وما اشبه ، ويعقدونها ، أو الأعم من ذلك بمعنى الّذين يعقدون العقود المرتبطة بالاُمة ويحلّونها او المراد أهل الحلال والحرام من الفقهاء .

( وكذا غيرها من العبارات المصرحة بذلك ) من انّ الاجماع هو : اتّفاق علماء عصر واحد ، فانهم قد صرحوا بهذا التفصيل للاجماع ( في ) مقام ( تعريف الاجماع وغيره ) أي : في غير هذا المقام ( من المقامات ) في مختلف أبواب الفقه ، والاصول والتفسير ، والتاريخ ، والعقائد ، وغيرها .

( كما تراهم ) أي : الفقهاء والاصوليين ، وغيرهم ( يعتذرون كثيراً ، عن وجود المخالف ، بانقراض عصره ) أي : انهم لما يدعون الاجماع يستشكل عليهم :بأنّ العالم الفلاني مخالف لهذا الرأي ، فيعتذرون : بأن العالم الفلاني المخالف ، انقرض عصره .

فان ظاهر هذه العبارة : انّ المعيار عندهم في الاجماع : اتفاق اهل عصر واحد ، وان خالفه علماء سائر الاعصار المتقدمة أو المتأخرة .

( ثمّ انّه لمّا كان وجه حجّيّة الاجماع ) الاصطلاحي ( عند الاماميّة ، اشتماله على قول الامام عليه السلام ، كانت الحجّيّة دائرة مدار وجوده عليه السلام في كل جماعة هو أحدهم ) ، فالمعيار في حجّيّة الاجماع : الاشتمال على قول المعصوم ، سواء كان اصحاب ذلك القول الذي فيه المعصوم قليلين أو كثيرين ، اذ ليس المهم الكثرة أو

ص: 360

ولذا قال السيّد المرتضى : « إذا كان علّةُ كون الاجماع حجّة كونَ الامام عليه السلام فيهم ، فكلُّ جماعة كثرت او قلّت ، كان قولُ الامام عليه السلام في أقوالها ، فاجماعها حجّة ، وإنّ خلاف الواحد والاثنين ، إذا كان الامامُ أحدَهما قطعا او تجويزا يقتضي عدمَ الاعتداد بقول الباقين وإن كثروا ، وإنّ الاجماع بعد الخلاف

------------------

القلّة ، كما انه ليس المهم العصر الواحد ، أو العصور المتعددة ، وانّما المناط : وجود الامام عليه السلام ، وعدم وجوده ، فان كان الامام في جملة العلماء كان قولهم حجّة ، وان لم يكن الامام فيهم لم يكن قولهم حجّة .

لكن لا يخفى : انّه يمكن ان يكون وجه حجّيّة الاجماع : انه « سبيل المؤنين » الواجب اتباعه ، وان لم نعلم برأي الامام عليه السلام ، كما اذا اجتمع الفقهاء في عصر الغيبة على حكم ، فان خلافه يكون مشمولاً لقوله سبحانه : « وَيَتّبِع غَيرَ سَبيلِ المُؤِنِينَ ...» (1) ، على تفصيل مذكور في محله .

( ولذا ) أي لما ذكرنا : من انّ حجّيّة الاجماع ، دائرة مدار وجود المعصوم ( قال السيد المرتضى ) رحمه اللّه ( : اذا كان علّة كون الاجماع ) الاصطلاحي ( حجّة كون الامام عليه السلام فيهم ، فكل جماعة كثُرت أو قلّت ، كان قول الامام عليه السلام في اقوالها ، فاجماعها حجّة ) لانه هو المعيار في الحجيّة وعدمها ، لا الكثرة والقلّة ، ( وانّ خلاف الواحد والاثنين ، اذا كان الامام أحدهما قطعاً ، أوتجويزاً ) أي : احتمالاً عقلائياً ( يقتضي : عدم الاعتداد بقول الباقين وان كثروا ) لانتفاء المناط في قول الباقين ، ( و ) هذا الذي ذكرناه : يقتضي ( انّ الاجماع بعد الخلاف ،

ص: 361


1- - سورة النساء : الآية 115 .

كالمبتدء في الحجّيّة » ، انتهى .

وقال المحقق في المعتبر ، بعد إناطة حجّيّة الاجماع بدخول قول الامام عليه السلام : « إنّه لو خلا المائةُ من فقهائنا من قوله لم يكن قولهم حجّةً ، ولو حصل في اثنين كان قولُهما حجّةٌ » ، انتهى .

وقال العلاّمة رحمه اللّه ، بعد قوله - إنّ الاجماع عندنا حجّةٌ لاشتماله على قول

------------------

كالمبتدء في الحجّيّة انتهى ) (1) أي : كما انه لو حصل الاجماع بين علماء العصر ، من أوّل الأمر ، بأن اجتهدوا ، فوصل اجتهادهم الى رأي فكما يكون قولهم هذا حجة لو كان الامام أحدهم ، فكذلك لو اختلفوا أولاً ، ثم اتفقوا على أحد القولين ، وكان في هذا القول المتفق عليه المعصوم أيضاً ، وذلك لما عرفت : من ان المناط ، اشتمال الاجماع على قول الامام عليه السلام .

وهذا القول هو من السيّد المرتضى ، حيث قال : بأنّ الاجماع بعد الخلاف كالمبتدء في الحجّيّة ، ويريد به : نفي قول بعضهم : بأنّة لا اجماع بعد الخلاف ، ونحن ايضاً لا نذهب الى قول هذا البعض ، لما عرفت من المناط الموجود في الاجماع الابتدائي ، والاجماع بعد الخلاف .

( وقال المحقّق في المعتَبر - بعد اناطة حجّيّة الاجماع ، بدخول قول الامام عليه السلام ) ما لفظه ( : انهّ لو خلا المائة من فقهائنا من قوله ) عليه السلام ( لم يكن قولهم حجّة ، ولو حصل ) قوله عليه السلام ( في اثنين كان قولهما حجّة ) (2) لما عرفت من المناط ( انتهى ) .

( وقال العلامة رحمه اللّه - بعد قوله : انّ الاجماع عندنا حجّة ، لاشتماله على قول

ص: 362


1- - الذريعة في اصول الشريعة : ج2 ص632 - 635 .
2- - المعتبر : ج1 ص6 .

المعصوم - : « وكلّ جماعة قلّت او كثرت كان قول الامام عليه السلام في جملة أقوالها فاجماعُها حجّةٌ لأجله ، لا لأجل الاجماع » ، انتهى .

هذا ، ولكن لا يلزم من كونه حجّة تسميتُه إجماعا في الاصطلاح ، كما أنّه ليس كلّ خبر جماعة يفيد العلم متواترا في الاصطلاح وأمّا ما اشتهر بينهم من أنّه لا يقدحُ خروجُ معلوم النسب ، واحدا او أكثر ، فالمرادُ أنّه لايقدحُ في حجّيّة اتفاق الباقي ، لا في

------------------

المعصوم - ) ما لفظه : ( : وكلّ جماعة قلّت او كثرت ، كان قول الامام عليه السلام في جملة أقوالها ) بأنّ علمنا ذلك فرضاً ( فاجماعها حجّة لأجله ) أي : لأجل قول المعصوم عليه السلام ( لا لأجل ) مجرد التسمية ب( الاجماع ) لما عرفت : من انه ليس المهم الاجماع بما هو اجماع ، وانّما المهم قول المعصوم ( انتهى ) .

( هذا ، ولكن لا يلزم من كونه ) أي قول جماعة قلّت أو كثرت ( حجّة ، تسميته : اجماعاً في الاصطلاح ) فان قول الاثنين والثلاثة ونحوهما ، لا يسمى اجماعاً اصطلاحياً ، الاّ مجازاً من باب المشابهة ( كما انه ليس كل خبر جماعة يفيد العلم ) يسمى ( متواتراً في الاصطلاح ) .

( و ) ان قلت : ما ذكرتم : « من انّ المناط في الحجية : قول المعصوم » ينافي ما ذكره : « من ان خروج الواحد والاثنين لا يضر بالاجماع » ، فان ظاهر هذا الكلام لزوم الكثرة في تسميته اجماعاً ، فلا يصدق الاجماع ، على الاثنين ، والثلاثة ، وما اشبه ، مما نعلم بوجود قول المعصوم في ضمنهم .

قلت : ( أمّا ما اشتهر بينهم : من انّه لا يقدح خروج معلوم النسب ، واحداً أو اكثر ، فالمراد : انه لا يقدح في حجّيّة اتفاق الباقي ) بعد ان علمنا : باشتمال أقوالهم على قول الامام عليه السلام الذي هو المناط في حجّيّة الاجماع ( لا ) انه لا يقدح ( في

ص: 363

تسميته إجماعا ، كما علم من فرض المحقق قدس سره ، الامام عليه السلام في الاثنين .

نعم ، ظاهرُ كلمات جماعة يوهم تسميته إجماعا اصطلاحا حيث تراهم يدّعون الاجماع في مسألة ثمّ يعتذرون عن وجود المخالف بأنه معلومُ النسب ، لكنّ التأمّل الصادق يشهدُ بأنّ الغرضَ الاعتذارُ عن قدح المخالف في الحجّيّة لا في التسمية .

------------------

تسميته اجماعاً ) .

( كما علم ) كون مرادهم ذلك الذي ذكرناه ( من فرض المحقق قدس سره ) في كلامه المتقدم : وجود ( الامام عليه السلام في الاثنين ) فان مخالفة الباقين كلهم ، لا تقدح في حجّيّة قول الاثنين، لكنها تقدح قطعاً ، في تسميته: اجماعاً اصطلاحياً.

والحاصل : انّ بين الحجيّة والتسمية بالاجماع عموم من وجه ، فربما يصدق هذا دون ذاك ، وربما يكون العكس ، وربما يتصادقان .

( نعم ، ظاهر كلمات جماعة يوهم تسميته ) أي : تسمية كل جماعة اشتملت على قول الامام ، ولو كانوا ثلاثة أو اثنين مثلاً ( اجماعاً اصطلاحاً ، حيث تراهم يدّعون الاجماع في مسألة ثم يعتذرون عن وجود المخالف بانّه معلوم النسب ) فانّ ظاهر هذا الكلام ، انّ مخالفة البعض كما لا يضرّ في الحجيّة بعد الاشتمال على قول الامام عليه السلام ، كذلك لا يضرّ في تسميته اجماعاً اصطلاحاً ، فالاثنان اجماع اصطلاحاً ، أما المخالفون لذلك ولو كانوا الفاً فرضاً ، فلا يسمى اجماعاً .

وعلى هذا يكون بين الاجماع الاصطلاحي والحجيّة تساوٍ مطلق .

( لكن التأمل الصادق ) يدل على ما ذكرناه : من انّ بينهما عموم من وجه ، لا التساوي الكلّي ، فان التأمّل ( يشهد بانّ الغرض : الاعتذار عن قدح المخالف في الحجّيّة ، لا في التسمية ) .

ص: 364

نعم ، يمكن أن يقال : إنّهم قد تسامحوا في إطلاق الاجماع على اتفاق الجماعة التي علم دخولُ الامام عليه السلام فيها ، لوجود مناط الحجّيّة فيه وكون وجود المخالف غير مؤثّر شيئا ، وقد شاع هذا التسامحُ بحيث كاد أن ينقلبَ اصطلاحُ الخاصّة عمّا وافق اصطلاح العامّة إلى ما يعمّ اتفاق طائفة من الامامية ، كما يعرف من ادنى تتبع لموارد الاستدلال ، بل إطلاقُ لفظ الاجماع بقول مطلق على إجماع الاماميّة فقط ، مع انّهم

------------------

وربما يقال : انّ بين التسمية بالاجماع والحجيّة . عموماً مطلقاً ، فكل حجّة اجماع وان كان اثنين ، أما كل ما لم يكن حجّة ، فليس باجماع وان كانوا ألفاً .

وعلى أي حال : فلا مشاحة في الاصطلاح ، وانّما المهم الحجيّة واللاحجّيّة .

( نعم ، يمكن ان يقال : انهم قد تسامحوا في اطلاق الاجماع ، على اتفاق الجماعة ، التي علم دخول الامام عليه السلام فيها لوجود مناط الحجّيّة فيه ) أي : في ذلك الاتفاق ( وكون وجود المخالف غير مؤر شيئاً ، وقد شاع هذا التسامح ) بينهم (بحيث ) صار مجازا مشهوراً بل ( كاد أن ) يصير اصطلاحاً جديداً ف( ينقلب اصطلاح الخاصّة عمّا وافق اصطلاح العامّة ، الى ما يعمّ اتّفاق طائفة من الامامية ) .

فانه كان الاجماع في اصطلاح العامة والخاصة عبارة عن اتفاق الكل في عصر من العصور ، ثم انقلب اصطلاح الخاصة الى اصطلاح آخر ، وهو : اتفاق جماعة أحدهم الامام عليه السلام ، من غير فرق بين أن يكون أولئك الجماعة ، جميع علماء الاُمة ، أو طائفة منهم أو حتى الاثنين اللّذين احدهما الامام عليه السلام .

( كما يعرف ) شيوع هذا التسامح بين فقهائنا ( من ادنى تتبع لموارد الاستدلال ، بل اطلاق لفظ الاجماع بقول مطلق ، على اجماع الامامية فقط ) حيث انهم يطلقون لفظ الاجماع بدون اضافته الى الامامية ( مع انهم ) أي : الامامية

ص: 365

بعضُ الامّة لا كلّهم ، ليس إلاّ لأجل المسامحة ، من جهة أنّ وجود المخالف كعدمه من حيث مناط الحجّيّة .

وعلى أيّ تقدير ، فظاهرُ إطلاقهم إرادةُ دخول قول الامام عليه السلام ، في أقوال المجمعين بحيث يكون دلالته عليه بالتضمّن ،

------------------

( بعض الأمة لا كلّهم ) ، فان هذا ( ليس الاّ لأجل المسامحة ، من جهة انّ وجود المخالف كعدمه ) فلا يعتنون بالمخالف ، فيما اذا كان الامام احد المجمعين ولو في الاثنين ، اذ سواء كان هناك مخالف أو لم يكن مخالف ، فان مثل هذا الاجماع حجة ( من حيث مناط الحجّية ) وهو : دخول المعصوم .

وان شئت قلت : ان اصطلاح الخاصة والعامة واحد ، الاّ ان الخاصة يتسامحون في تسمية ما ليس باجماع مصطلح عند الخاصة والعامة اجماعاً .

او قلت : ان للخاصة اصطلاحاً غير اصطلاح العامة ، فاصطلاح الخاصة على التسمية بالاجماع ، فيما كان فيه قول المعصوم ، واذا سمّوا شيئاً اجماعاً ، ولم يكن فيه قول المعصوم ، كانت التسمية تسامحية .

( وعلى أيّ تقدير ) : فان تسمية الامامية الاجماع ، لما كان فيه المعصوم وان كان من اثنين فقط ، احدهما هو عليه السلام ، فانه سواء قلنا : بانه من باب التسامح مجازاً ، او من باب اصطلاح خاص ، مقابل المعنى اللغوي ، الذي هو : اتفاق الكل على شيء ( فظاهر اطلاقهم ) للاجماع هو ( ارادة دخول قول الامام عليه السلام في أقوال المجمعين ) ، فانهم اذا قالوا : قام الاجماع على كذا ، ارادوا : ان الامام داخل في المجمعين ( بحيث يكون دلالته ) أي الاجماع ( عليه ) أي على قول الامام عليه السلام ( بالتضمن ) بان كانت الدلالة التضمّنية لهذه اللفظة : وجود الامام بينهم .

ص: 366

فيكون الاخبار عن الاجماع إخبارا عن قول الامام عليه السلام ، وهذا هو الذي يدلّ عليه كلامُ المفيد والمرتضى وابن زهرة والمحقق والعلاّمة والشهيدين ومن تأخّر عنهم .

وأمّا اتفاقُ مَن عدا الامام عليه السلام - بحيث يكشف عن صدور الحكم عن الامام عليه السلام ، بقاعدة اللطف كما عن الشيخ رحمه اللّه ، او التقرير كما عن بعض المتأخرين ،

------------------

وحينئذٍ : ( فيكون الاخبار عن الاجماع ، اخباراً عن قول الامام عليه السلام ) كما ان الاخبار عن بزوغ الشمس ، اخبار عن ظهور النور ، لان الشمس مشتملة على النور والدفيء .

( وهذا هو الذي يدل عليه كلام المفيد ، والمرتضى ، وابن زهرة ، والمحقق ، والعلامة ، والشهيدين ، ومن تأخّر عنهم ) فانهم صرّحوا على ان الاجماع ، هو الذي فيه قول المعصوم ، وان لم يكن المجمعون كثيرين .

( وامّا اتفاق من عدا الامام ، بحيث يكشف ) اتفاقهم ( عن صدور الحكم عن الامام عليه السلام بقاعدة اللّطف ، كما عن الشيخ رحمه اللّه ) ، فان الشيخ ، يرى حجّيّة الاجماع من باب اللطف ، حيث يقول : بأن العلماء اذا اتفقوا في حكم ، وكان مخالفاً للحكم الواقعي ، وجب على اللّه سبحانه من باب اللطف ، ان يظهر الحق على خلافهم .

واللطف هو : التقريب الى الطاعة والواقع ، والتبعيد عن المعصية وعن خلاف الواقع .

( او التقرير ، كما عن بعض المتأخرين ) من العلماء بمعنى انهم اذا اتفقوا في حكم قطعنا منه : بان الامام عليه السلام يقرّ ذلك الحكم ، اذ الامام منصوب من قبل اللّه

ص: 367

او بحكم العادة القاضية باستحالة توافقهم على الخطأ مع كمال بذل الوسع في فهم الحكم الصادر عن الامام عليه السلام فهذا ليس إجماعا اصطلاحيّا ، إلاّ أن ينضم قول الامام عليه السلام المكشوف عنه باتفاق هؤلاء إلى أقوالهم ، فيسمى المجموعُ إجماعا ، بناءا على ماتقدّم من المسامحة في تسمية اتفاق جماعة مشتمل على قول الامام عليه السلام إجماعا وإن خرج عنه الكثير او الأكثر ،

------------------

سبحانه ، لاجل اظهار الحق ، وابطال الباطل ، فاذا اتفق الكل على حكم ، أفاد ذلك : ان الامام عليه السلام يقرّهم عليه .

( أو بحكم العادة ، القاضية باستحالة توافقهم على الخطأ ) كما عليه المتأخرون حيث انهم غالباً يقولون : بحجية الاجماع من باب حكم العادة ، فان الفقهاء اذا توافقوا على حكم ( مع كمال بذل الوسع ) منهم ( في فهم الحكم ، الصادر عن الامام عليه السلام ) لابد وان يصيبوا الواقع لاستحالة توافقهم على الخطأ .

( فهذا ) أي اتفاق من عدا الامام على حكم بحيث يكون كاشف عن قول المعصوم ، لطفاً ، او تقريراً ، او عادة ( ليس اجماعاً اصطلاحيّاً ) الذي هو احد الادلة الاربعة ، ( الاّ ان ينضمّ قول الامام عليه السلام ، المكشوف عنه ) أي : عن قول الامام ( باتفاق هؤاء ) بأن ينضمّ قول الامام ( الى اقوالهم ، فيسمى المجموع ) المركب من الكاشف وهو : اتفاق هؤاء ، والمنكشف وهو : قول الامام عليه السلام ( اجماعاً ) .

فيكون حينئذٍ : المركب من الكاشِف والمكشوف اجماعاً ( بناءاً على ما تقدَّم من المسامحة ) في كلام الامامية ( في تسمية اتفاق جماعة مشتمل على قول الامام عليه السلام اجماعاً ، وان خرج عنه الكثير أو الأكثر ) بان كان الكثير خلاف هذا

ص: 368

فالدليلُ في الحقيقة هو اتفاقُ مَن عدا الامام عليه السلام ، والمدلول الحكم الصادر عنه عليه السلام نظير كلام الامام عليه السلام ومعناه .

فالنكتةُ في التعبير عن الدليل بالاجماع

------------------

القول ، الذي انضم الى قول الامام ، او الأكثر خلاف هذا القول ، الذي انضم الى قول الامام .

وكما انه قد يتسامح ، ويطلق لفظ الاجماع : على جماعة احدهم الامام عليه السلام وان كانا اثنين - وانّما يطلق عليه : الاجماع ، لشبهه بالاجماع المصطلح في الحجية - فكذلك قد يتسامح ، ويطلق على اتفاق من عدا الامام : اجماعاً ، بملاحظة انضمام حكم الامام اليهم .

( فالدليل ) بناءاً على حجّيّة الاجماع من جهة : اللطف ، او التقرير ، او الحدس (في الحقيقة هو : اتفاق من عدا الامام عليه السلام ، والمدلول ) عبارة عن (الحكم الصّادر عنه عليه السلام نظير كلام الامام عليه السلام ومعناه ) يعني : كما ان الاجماع كاشف وقول الامام مكشوف ، كذلك لفظ الامام كاشف ومعناه مكشوف .

والحاصل : ان حجّيّة الاجماع عند الاماميّة ، اما من جهة الدخول ، واما من جهة اللطف والتقرير والحدس ، وتسمية كليهما اجماعاً من باب التسامح ، اذ في كليهما لا حاجة الى اتفاق الكل ، الذي هو المعنى اللغوي للاجماع ، بل المحتاج اليه : قول المعصوم المنضم الى قول سائر العلماء ، في الأوّل ، وقول المعصوم المنكشف بسبب ذهاب جماعة من العلماء الى فتوى في الثاني .

( ف- ) ان قلت : اذا كان المعيار : قول الامام في الحجيّة فالادلة ثلاثة : كتابٌ، وسنّةٌ، وعقلٌ ، فلماذا جعلوها اربعة ، بضميمة الاجماع ، مع ان الاجماع لا دليليّة فيه ؟ .

قلت : ( النكتة في التعبير عن ) هذا ( الدليل ) الذي ذكرناه ( بالاجماع ،

ص: 369

------------------

مع توقّفه على ملاحظة انضمام مذهب الامام عليه السلام ، الذي هو المدلول إلى الكاشف عنه وتسمية المجموع دليلاً - هو التحفّظُ على ماجرت سيرة أهل الفنّ ، من إرجاع كلّ دليل إلى أحد الأدلّة المعروفة بين الفريقين ، أعني الكتاب والسنّة والاجماع والعقل .

ففي إطلاق الاجماع على هذا مسامحةٌ في مسامحة ،

------------------

مع توقفه على ملاحظة انضمام مذهب الامام عليه السلام ، الذي هو المدلول ، الى الكاشف عنه ) وهو : الاجماع ، ( وتسمية المجموع ) من الكاشف والمكشوف : اجماعاً و ( دليلاً ) فان النكتة في ذلك ( هوالتحفّظ على ما جرت سيرة أهل الفن ، من ارجاع كل دليل الى احد الأدلّة ) الاربعة ( المعروفة بين الفريقين ) من الخاصة والعامة ، والادلة الاربعة ( اعني : الكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل ) فلم يرد الاماميّة ، اخلاء الادلّة عن الاجماع ، وان كان الاجماع في الحقيقة راجعاً الى السّنة ، فان السّنة عبارة عن : قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، والاجماع : اما كاشف عنه ، واما مشتمل عليه .

وعليه : ( ففي اطلاق الاجماع على هذا ) أي : على من عدا الامام الكاشف عن قول الامام ، لطفاً ، او تقريراً ، أو عادة ( مسامحة في مسامحة ) أي هنا مسامحتان :

المسامحة الاولى : تسمية البعض اجماعاً ، مع ان الاجماع هو اتّفاق الكل .

المسامحة الثانية : جعل الاجماع حجّة بينما انّ الاجماع ليس بحجة ، وانّما المكشوف عن الاجماع هو الحجة ، سواء كان كشفاً انضماميّاً ، أو كشفاً باللّطف، او التقرير ، او الحدس .

ص: 370

وحاصلُ المسامحتين إطلاق الاجماع على اتفاق طائفة يستحيل بحكم العادة خطأهُم وعدمُ وصولهم إلى حكم الامام عليه السلام .

والاطّلاعُ على تعريفات الفريقين واستدلالات الخاصّة وأكثر العامّة على حجّيّة الاجماع يوجبُ القطعَ بخروج هذا الاطلاق عن المصطلح

------------------

( وحاصل المسامحتين : اطلاق الاجماع على اتفاق طائفة ) من الفقهاء (يستحيل بحكم العادة خطأهم ، وعدم وصولهم الى حكم الامام عليه السلام ) سواء كان من جهة الانضمام ، أو من الجهات الاُخر ، الكاشفة عن قوله عليه السلام .

أقول : لكنّا ذكرنا فيما سبق : انّ الاجماع بنفسه حجّة ، في قبال الأدلّة الثلاثة الاُخر ، وذلك من جهة : رواية : « لا تجتمع » التي رواها الخاصة ، والعامة ، ومن جهة : انّه مقتضى قوله سبحانه : « وَيَتَّبِع غَيْرَ سَبِيلِ المُؤِنِين » (1) وغيرهما من الادلة ، كما في عصر الغيبة ، حيث لا دخول ، واللّطف ، والتقرير ، والحدس كلّها مخدوشة .

( والاطلاع على تعريفات الفريقين ) من الخاصة والعامة ( واستدلالات الخاصة وأكثر العامة على حجّيّة الاجماع ) حيث استدل الخاصة على حجّيّة الاجماع بوجود المعصوم ، وان كان في اثنين ، واستدل العامة على حجّيّة الاجماع : بانّ الاُمة لا تجتمع على الخطأ ( يوجب القطع بخروج هذا الاطلاق ) اي : اطلاق الاجماع على من كان فيهم المعصوم ، ولو كانوا في اثنين ، أو ثلاثة ، أو ما أشبه ( عن المصطلح ) فيما بين العامة والخاصة .

فان اصطلاح العامة والخاصة في الاجماع ، هو : اتّفاق الكل ، فلو لم يرد بذلك هذا الاصطلاح فهو مسامحة في تسميته بالاجماع .

ص: 371


1- - سورة النساء : الآية 115 .

وبنائه على المسامحة لتنزيل وجود من خرج من هذا الاتفاق منزلة عدمه ، كما قد عرفت من السيّد والفاضلين «قدّست أسرارهم» ، من أنّ كلّ جماعة قلّت او كثرت عُلِمَ دخولُ الامام عليه السلام ، فيهم فاجماعُها حجّةٌ .

ويكفيك في هذا ما سيجيّ من المحقق الثاني في تعليق الشرائع من : « دعوى الاجماع على أنّ خروجَ الواحد من علماء العصر قادحٌ في انعقاد الاجماع » ، مضافا إلى ما عرفتَ من إطباق الفريقين على تعريف الاجماع باتفاق الكلّ .

------------------

( وبنائه ) أي : هذا الاطلاق الخارج عن المصطلح ( على المسامحة ، لتنزيل وجود من خرج من هذا الاتفاق منزلة عدمه ) فيكون من اطلاق لفظ الكل وارادة البعض ( كما قد عرفت من السيّد والفاضلين « قدّس سرّهما » : من ان كل جماعة قلّت أو كثرت ، علم دخول الامام عليه السلام فيهم ، فاجماعها حجة ) فان الحقيقة في الاجماع ، هو : اتفاق الكل ، واطلاقه على اتفاق طائفة خاصة ، أحدهما الامام عليه السلام يكون مسامحة .

( ويكفيك في هذا ) من انّ الاجماع المصطلح ، غير الاجماع الدخولي ، الكاشف عن قول المعصوم ( ما سيجيء من المحقق الثاني ، في تعليق الشرائع : من دعوى الاجماع ، على أن خروج الواحد من علماء العصر ، قادح في انعقاد الاجماع ) مما يكشف من انّ الاجماع المصطلح هو عبارة : عن اتّفاق الجميع ، لا إتّفاق طائفة أحدهم الامام عليه السلام .

( مضافاً الى ماعرفت : من اطباق الفريقين ) الخاصة والعامة ( على تعريف الاجماع : باتفاق الكلّ ) ومن المعلوم : ان اتفاق طائفة خاصة ، ليس اتفاق الكل ، فاذا اطلق الاجماع الذي يراد به اتّفاق الكل ، على اتّفاق جماعة خاصة أحدهم

ص: 372

ثمّ إنّ المسامحةَ من الجهة الاولى او الثانية في اطلاق لفظ الاجماع على هذا من دون قرينة لا ضير فيها ، لأنّ العبرة في الاستدلال بحصول العلم من الدليل للمستدل .

------------------

المعصوم ، كان ذلك مجازاً .

( ثمّ ) لا يقال : انه من التدليس ، قولهم : قام الاجماع على كذا الظاهر في اتّفاق الكل ، والحال انهم لا يريدون اتفاق الكل .

فانه يقال ( انّ المسامحة من الجهة الاولى ) أي من اطلاق الاجماع ، الموضوع لاتّفاق الكل ، وارادة اتّفاق طائفة خاصة أحدهم الامام عليه السلام ، ( أو الثانية ) وهي : عدم كون المعصوم عليه السلام في هؤاء الطائفة ، وانّما اتفاقهم يكشف عن قول المعصوم ، وهذه مسامحة ثانية ( في اطلاق لفظ الاجماع على هذا ) أي : على اتفاق جماعة خاصة ، يكشف قولهم عن قول الامام عليه السلام ( من دون قرينة ) على المسامحتين .

وهذا ( لا ضير فيها ) وليس من التدليس في شيء ، حتى يقال : كيف يدلّس العلماء بذكر لفظ ، فيه اصطلاح خاص ، وهم لا يريدون ذلك الاصطلاح ، وانّما يريدون معنى مجازياً له ؟ فلا يكون من التدليس ( لان العبرة في الاستدلال بحصول العلم من الدّليل للمستدلّ ) لا للمنقول اليه ، فان المستدل بالاجماع ، انّما يريد ذكر دليله الكاشف عنده عن قول الامام عليه السلام ، فاذا حصل له الانكشاف من اتّفاق طائفة ، وان لم يكن المعصوم عليه السلام فيهم ، فقد أتى لنفسه بالدليل المقنع ، ولا يهمّه بعد ذلك الاثبات للغير ، وانّما يهمّه الاقتناع النفسي ، بوجود الدّليل في المسألة ، فهو مثل ان يقول : فلان ثقة ، ويريد الثقة عنده ، لا انّه ثقة عند الجميع ، أو ثقة اصطلاحي .

ص: 373

نعم ، لو كان نقلُ الاجماع المصطلح حجّةً عند الكلّ كان إخفاء القرينة في الكلام الذي هو المرجع للغير تدليسا ، أمّا لو لم يكن نقلُ الاجماع حجّةً او كان نقلُ مطلق الدليل القطعيّ حجّةً لم يلزم تدليسٌ أصلاً .

ويظهرُ من ذلك

------------------

( نعم ، لو كان نقل الاجماع المصطلح ، حجّة عند الكلّ ) بأن كان الناقل وغيره ، يَرون : ان الاجماع المصطلح هو الحجّة ، وان غيره ليس بحجة ( كان اخفاء القرينة في الكلام ، الذي هو المرجع للغير ، تدليساً ) لأنه ذكر الاجماع ، مع انه لا اجماع في البين .

و ( أمّا لو لم يكن نقل الاجماع حجّة ) عند الكل ( أو كان نقل مطلق الدّليل القطعي حجّة ) وان لم يكن اجماع ( لم يلزم تدليس اصلاً ) .

لأنّ ناقل الاجماع ، في الصّورة الاولى : لم يوقع المنقول اليه في الاشتباه ، اذ وجود هذا الاجماع كعدمه - حينئذٍ - في عدم كونه دليلاً .

وفي الصّورة الثانية : ذكر الناقل : الحجّة القطعية ، فلا يهم أن يكون اسمه اجماعاً أو غير ذلك .

والتدليس : عبارة عن ايقاع المنقول اليه في المحذور ، وفي كلتا الصورتين ، لا محذور بالنسبة الى المنقول اليه ، من نقل هذا المستدل الاجماع .

لا يقال : فلم ينقل الناقل الاجماع في الصّورة الاولى ، انه لا فائدة في هذا النقل ، لانه ليس بحجة لا عنده ولا عند المنقول اليه .

لانه يقال : وجه نقله أن يعلم المنقول اليه : انّ هذا القول ، هو قول جماعة من العلماء .

( ويظهر من ذلك ) الذي ذكرناه : من أنّ قصد الأصحاب من اطلاق الاجماع

ص: 374

ما في كلام صاحب المعالم ، حيث انّه بعد ما ذكر أنّ حجّيّة الاجماع إنّما هو لاشتماله على قول المعصوم واستنهض بكلام المحقّق الذي تقدّم واستجوده ، قال : « والعجبُ من غفلة جمع من الأصحاب عن هذه الأصل وتساهلهم في دعوى الاجماع عند احتياجهم اليه للمسائل الفقهية ، حتّى جعلوه عبارة عن اتفاق جماعة من الأصحاب ، فعدلوا به عن معناه الذي جرى عليه الاصطلاح من دون نصب قرينة جلية ولا دليل لهم على الحجّيّة

------------------

ما هو حجة عندهم ، لا الاجماع المصطلح ( ما في كلام صاحب المعالم ، حيث انّه بعد ما ذكر : ا نّ حجّيّة الاجماع ) عند الامامية ( انّما هو لاشتماله على قول المعصوم ، واستنهض ) أي : استشهد المعالم لكلامه ( بكلام المحقّق الذي تقدّم ) منّا ( واستجوده ) أي قال : انّ كلام المحقّق جيد .

( قال : والعجب من غفلة جمع من الاصحاب عن هذا الأصل ) أي : أصل انّ الاجماع وجه حجّيته دخول المعصوم ، ( وتساهلهم في دعوى الاجماع عند احتياجهم اليه للمسائل الفقهيّة ، حتى جعلوه ) أي : الاجماع ( عبارة عن اتفاق جماعة من الاصحاب ) فقط ، من دون أن يكون مرادهم : الكل ، وهو اصطلاح العامة ، أو أن يكون مرادهم : دخول المعصوم ، كما هو عند الخاصة ، على ما ذكره المحقق وغيره ( فعدلوا به ) أي : بالاجماع ( عن معناه ، الذي جرى عليه الاصطلاح ) الذي هو عبارة عن دخول المعصوم ( من دون نصب قرينة جلية ) عليه ( ولا دليل لهم ) أي : لهؤاء الاصحاب الذين تساهلوا ( على الحجّية ) .

ومثل هذا الاجماع ، الذي هو عبارة عن : اتّفاق جماعة من الأصحاب فقط ،

ص: 375

يعتدّ به » انتهى .

وقد عرفتَ أنّ مساهلتهم وتسامحهم في محلّه ، بعد ما كان مناطٌ حجّيّة الاجماع الاصطلاحيّ موجودا في اتفاق جماعة من الأصحاب ، و

------------------

لا (يعتدّ به ) (1) أي : بذلك الدليل على الحجية ، فان اتّفاق جماعة ، لا يكون دليلاً على المسألة ، بعد ان لم يكن الامام موجوداً فيهم - كما هو مصطلح الخاصة - او لم يكن اتفاق الكل - كما في الاجماع المصطلح عند العامة - ( انتهى ) كلام المعالم .

( و ) فيه ما ( قد عرفت ) من ( انّ مساهلتهم وتسامحهم في محلّه ) صحيح ، وليس كما ذكره المعالم ( بعد ما كان مناط حجّيّة الاجماع الاصطلاحي ، موجوداً في اتفاق جماعة من الاصحاب ) ، فانّ اتفاق جماعة عند المستدل ، يكشف عن قول المعصوم ، وان لم يكن المعصوم داخلاً فيهم ، او لم يكن الاجماع بمعنى اتفاق الكل ، فاذا قطع المستدل بوجود الامام من اتفاق جماعة ، لقاعدة اللّطف ، أو التقرير ، أو الاستحالة ، أو ما اشبه ، يجوز له الاستدلال بمثل هذا الاجماع ، وهو سبب علمه بالحكم ، وانّما يطلق عليه الاجماع لوجود مناط الاجماع الاصطلاحي فيه ، حيث قد عرفت : انّ مناط الاجماع الاصطلاحي هو : الكشف عن قول الامام ، من غير فرق بين أن يكون الكل ، أو البعض ، وكذا من غير فرق بين ان يكون الامام في ضمنهم ، أو كلامه منكشفاً عن اتفاقهم .

( و ) ان قلت : لماذا يسمون مثل هذا : اجماعاً مع انه ليس اجماعاً اصطلاحياً عند العامة ، وهو : اتفاق الكل ، ولا اجماعاً اصطلاحياً عند الخاصة ، وهو دخول المعصوم فيه ؟ .

ص: 376


1- - معالم الدين : ص174 .

عدم تعبيرهم عن هذا الاتّفاق بغير لفظ الاجماع ، لما عرفت من التحفّظ على عناوين الأدلّة المعروفة بين الفريقين .

إذا عرفتَ ما ذكرنا فنقول : إنّ الحاكي للاتفاق قد ينقل الاجماع بقول مطلق او مظافا إلى المسلمين او الشيعة او أهل الحقّ او غير ذلك ممّا يمكن أن يرادَ به دخول الإمام عليه السلام في المُجمعين ،

------------------

قلت : ( عدم تعبيرهم عن هذا الاتفاق ) الجزئي ( بغير لفظ الاجماع ، لما عرفت : من التحفظ على عناوين الأدلّة ) الاربعة ( المعروفة بين الفريقين ) من : الكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل ، فارادوا التحفظ على لفظ الاجماع ، كما يتحفظ على الكتاب وعلى السنة وعلى العقل .

وقد تقدّم منّا : ان الاجماع حجّة عند الخاصة - أيضاً - بالنص .

( اذا عرفت ما ذكرنا ) : من انّ الاجماع هو : اتفاق علماء العصر ، ويطلق مسامحة ، على اتّفاق جماعة ، يكشف المستدل باللّطف ، أو التقرير ، أو الاستحالة ، قول الإمام عليه السلام منه .

( فنقول ) : ( انّ الحاكي للاتفاق ، قد ينقل الاجماع بقول مطلق ) أي : بلا اضافة الى شيء ، بأن يقول : في مسألة كذا : اجماع .

( أو مضافاً الى المسلمين ) كأن يقول : في مسألة كذا : اجماع المسلمين ، ( أو الشيعة ، أو أهل الحق ، أو غير ذلك ) من التعبيرات ، بأن يقول : اجمع الامامية ، أو اجمع المسلمون ، أو أجمع الشيعة ، أو يقول : اجمعوا ، بدون توضيح الفاعل ، أو غير ذلك ( مما ) أي ، من التعبيرات التي ( يمكن ) عرفاً عند الفقهاء ( أن يراد به دخول الإمام عليه السلام ، في المجمعين ) .

ص: 377

وقد ينقله مضافا إلى من عدا الإمام عليه السلام ، كقوله : أجمع علماؤنا او أصحابنا او فقهاؤنا او فقهاء أهل البيت عليهم السلام ، فانّ ظاهر ذلك من عدا الإمام عليه السلام وإن كان إرادة العموم محتملة بمقتضى المعنى اللغويّ ، لكنّه مرجوحٌ ، فان أضاف الاجماعَ إلى من عدا الإمام فلا اشكال في عدم حجّيّة نقله ، لأنّه لم ينقل حجّة

------------------

( وقد ينقله ) الناقل ( مضافاً ، الى من عدا الإمام عليه السلام ، كقوله : أجمع علمائنا ، أو أصحابنا ، أو فقهاؤا ، أو فقهاء أهل البيت عليهم السلام ) أو ما أشبه ذلك من التعبيرات ( فان ظاهر ذلك ) كله في المتفاهم العرفي ، انه : في ( من عدا الإمام عليه السلام ، وان كان ارادة العموم ) الشامل للإمام عليه السلام أيضاً من هذه الألفاظ ( محتملة ، بمقتضى المعنى اللغوي ) .

فان لفظ العلماء ، والفقهاء ، وفقهاء أهل البيت ، وما أشبه هذه الالفاظ ، يشمل الإمام أيضاً ، لأنّ الإمام سيد العلماء والفقهاء ، ( لكنّه مرجوح ) في المتفاهم العرفي الفقهائي .

( فان اضاف الاجماع الى من عدا الإمام ) كالعبارات الأخيرة أو قال مثلاً : أجمع تلاميذ الأئمة عليهم السلام ، أو أجمع الفقهاء التابعون لهم ، أو ما اشبه ذلك ( فلا اشكال في عدم حجّيّة نقله ، لأنّه لم ينقل حجّة ) ، اذا الحجّة عبارة عن : الكتاب ، والسنّة ، والاجماع ، والعقل ، وقد فرض انّ الاجماع انّما يكون حجّة ، فيما اذا كان شاملاً لقول الإمام عليه السلام وليس هنا كذلك .

نعم ، اذا كان الانسان قائلاً باللطف ، أو ما أشبه ، كان من الاجماع الذي هو حجّة ، أو قائلاً بانّ الاجماع حجّة مستقلة - كما تقدّم الكلام في ذلك - فانه أيضاً يكون ناقلاً للحجّة .

ص: 378

وإنّ فرض حصول العلم للناقل بصدور الحكم عن الإمام عليه السلام من جهة هذا الاتفاق إلاّ أنّه إنّما نقل سبب العلم ولم ينقل المعلوم وهو قول الإمام عليه السلام حتّى يدخل في نقل الحجّة وحكاية السنّة بخبر الواحد .

نعم ، لو فرض أنّ السبب المنقول ممّا يستلزم عادةً موافقةَ قول الإمام عليه السلام ، او وجود دليل ظنّي معتبر حتّى بالنسبة إلينا ،

------------------

ثم اذا فرض انه لم ينقل الحجّة ، فان المنقول اليه الذي يرى الاجماع في كلام هذا الفقيه ، كالاجماع الذي ينقله شيخ الطائفة ، أو السيّد المرتضى ، أو من أشبه ، لا يكون حجّة بالنسبة اليه .

هذا ( وان فرض حصول العلم للنّاقل ، بصدور الحكم عن الإمام عليه السلام ، من جهة هذا الاتفاق ) الحاصل لفقهاء الشيعة من جهة اللّطف ، أو الحدس ، أو الاستحالة ، أو ما أشبه ذلك ، حيث قد مرّ انّ العبرة : بحصول العلم للمستدل ، وانه ليس بتدليس .

( الاّ انّه ) أي : الناقل ( انّما نقل سبب العلم ) الذي بواسطته حصل العلم للناقل ( ولم ينقل المعلوم ، وهو : قول الإمام عليه السلام ، حتى يدخل ) كلامه ( في نقل الحجّة ، وحكاية السنّة بخبر الواحد ) اذ دليل خبر الواحد لا يشمل نقله الاجماع ، وذلك لما عرفت : من ان دليل خبر الواحد يشمل الاخبار الحسّية ، لا الحدسيّة ( نعم ، لو فرض انّ السّبب المنقول ) أي : الاجماع المذكور ( ممّا يستلزم عادة موافقة قول الإمام عليه السلام ) بأن قال - مثلاً - : اتفق فقهاؤا من زمان الغيبة الى اليوم ، فانّه يستلزم عادة موافقة الإمام من جهة اللّطف أو الحدس ، أو ما أشبه ، ( أو ) يستلزم ( وجود دليل ظنّي معتبر ) عند المنقول اليه ( حتى بالنسبة الينا ) فانّ

ص: 379

أمكن إثباتُ ذلك السبب المحسوس بخبر العادل والانتقال منه إلى لازمه ، لكن سيجيء بيانُ الاشكال في تحقّق ذلك .

وفي حكم الاجماع المضاف إلى من عدا الإمام عليه السلام ، الاجماعُ المطلقُ المذكورُ في مقابل الخلاف ،

------------------

الانسان يظنّ ظنّاً معتبراً عقلائياً من اتفاق جميع فقهاء الاماميّة على شيء .

عند ذلك ( امكن اثبات ذلك السّبب المحسوس بخبر العادل ) ، لأنّ قوله : «أجمع العلماء منذ زمن الغيبة » خبر حسّي صدر من عادل ، فهذا هو السبب ( و ) يتم (الانتقال منه ) أي من هذا السبب ( الى لازمه ) وهو الحجّة الواقعية كقول الإمام عليه السلام : فيما اذا قلنا بالتلازم أو الدليل الظنّي المعتبر عند المتشرعة ، فيما اذا كان قوله مستلزماً لدليل ظني معتبر حتى بالنسبة الينا على ما عرفت .

( لكن سيجيء بيان الاشكال في تحقق ذلك ) أي : تحقق اجماع يستلزم عادة موافقة قول الإمام ، أو تحقق اجماع يستلزم وجود دليل ظني معتبر عند الكل .

( وفي حكم الاجماع المضاف الى من عدا الإمام عليه السلام ) في عدم الحجّية على ما عرفت ( الاجماع المطلق ، المذكور في مقابل الخلاف ) فان المقام قرينة على انّ المراد من الاجماع هنا : مجرد نفي الخلاف بين الفقهاء ، لا نقل قول الإمام عليه السلام أو نقل دليل معتبر ولو ظناً .

فكون الاجماع في مقابل الخلاف ، قرينة عامّة على ارادة : نفي الخلاف بين الفقهاء ، لا الاجماع الذي هو حجّة ، لاشتماله على قول المعصوم ، أو كشفه عن دليل معتبر ، أو عن قول المعصوم عليه السلام .

ص: 380

كما يقال : خُرء الحيوان الغير المأكول غير الطير نجسٌ إجماعا ، وإنّما اختلفوا في خُرء الطير ، او يقال : إن محلّ الخلاف هو كذا ، واما كذا فحكمه كذا إجماعا ، فانّ معناه في مثل هذا كونُه قولاً واحدا .

------------------

وذلك ( كما يقال : خرء ) أي : مدفوع ( الحيوان غير المأكول غير الطير ، نجس اجماعاً ، وانّما اختلفوا ) أي الفقهاء ( في خرء الطير ) فان الحيوان على ثلاثة أقسام :

1 - المأكول اللّحم : خرؤ طاهر .

2 - غير المأكول الدافق الدم ، وليس بطائر كالهرة ؛ خرؤ نجس .

3 - غير المأكول الطائر ، كالخفاش : وخرئه مختلف فيه ، هل هو طاهر او نجس ؟ .

والشاهد انّ الاجماع في هذا الكلام ، مقابل الاختلاف ، فيكون المراد منه : انّ هذا ليس ممّا اختلف فيه ، بينما قد اختلف في خرء الطير غير المأكول اللّحم ، فلا يكون مثل هذا الاجماع حجّة .

( أو يقال : انّ محل الخلاف ) بين الفقهاء ( هو : كذا ، وامّا كذا فحكمه كذا ، اجماعاً ) من الفقهاء ( فان معناه ) أي : الاجماع ( في مثل هذا ) الكلام ( كونه قولاً واحداً ) أي : معناه نفي الخلاف .

لكن لا يخفى : انه لا يسلّم مثل هذا الاستظهار ، اذ الناقل سواء نقل الاجماع مستقلاً ، أو في مقابل الخلاف ، فانه يكون حجة اذا كشف عن قول المعصوم ، ضمناً أو سبباً ، أو قلنا : بأنّ الاجماع بنفسه حجّة في مقابل الأدلّة الثلاثة الاُخر ، - كما سلف - .

ص: 381

وأضعفُ ممّا ذكر نقلُ عدم الخلاف ، وأنّه ظاهرُ الأصحاب او قضيّةُ المذهب وشبه ذلك .

وإن أطلق الاجماع او أضافه على وجه يظهر منه إرادةُ المعنى

------------------

هذا ، ولم يذكر الشيخ المصنّف رحمه اللّه ، دليلاً لعدم حجّيّة مثل هذا الاجماع ، الذي هو في قبال الخلاف ، ولم يشر الى انه أيّ فرق بين أن يكون الاجماع في قبال الخلاف ، أو لم يكن في قبال الخلاف ؟ .

( وأضعف ممّا ذكر ) من العبارات المتقدمة ، في عدم الحجيّة ، لانها ليست باجماع قطعي يتضمن قول الإمام ، ولا ملازمة له ، من باب اللّطف ، ونحوه ( نقل : عدم الخلاف ، وانه ظاهر الأصحاب ) ، كأن يقول : لا خلاف في هذه المسألة ، أو يقول : ظاهر المذهب كذا ، أو يقول : ظاهرهم كذا ( أو قضية المذهب ) أي مقتضى المذهب كذا ( وشبه ذلك ) من الالفاظ التي تؤيّ هذه المعاني .

ووجه الأضعفية : انّ مجرد عدم الخلاف ، أو الظهور ، ليس اجماعاً ، لامكان أن يكون هناك فقهاء ، لم تصل الينا كتبهم ، أو لم تكن لهم كتب حتى نعرف آرائهم ، فالاجماع : ايجابي ، وعدم الخلاف : سلبي ، والسلب يمكن ان يكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع .

لكن ، لا يخفى ضعف هذا الكلام أيضاً ، اذ كل احتمال يأتي هنا ، يأتي في لفظ الاجماع ونحوه .

( و ) عليه : فالقسم الأوّل من الاجماع المنقول ، هو : ( ان اطلق ) الناقل ( الاجماع ) بأن ذكره بلا قيد ( أو اضافه على وجه يظهر منه : ارادة المعنى

ص: 382

المصطلح المتقدّم ولو مسامحةً لتنزيل وجود المخالف منزلةَ العدم ، لعدم قدحه في الحجّيّة ، فظاهرُ الحكاية كونُها حكايةً للسنّة أعني حكم الإمام عليه السلام ، لما عرفت من أنّ الاجماع الاصطلاحيّ متضمّن لقول الإمام عليه السلام فيدخل في الخبر والحديث .

إلاّ أنّ مستندَ علم الحاكي بقول الإمام عليه السلام ، أحدُ امور :

أحدُها الحسُّ ، كما إذا سمع الحكمَ من الإمام عليه السلام ، في جملة جماعة لا يعرف أعيانهم

------------------

المصطلح ، المتقدّم ) من : اتفاق جميع علماء العصر ، أو جميع علماء المسلمين ، أو جميع علماء المذهب - مثلاً - في كل العصور ( ولو مسامحة ) ، وانّما يكون مسامحة ( لتنزيل وجود المخالف ) في الرأي سواء كان واحداً ، أو اكثر ( منزلة العدم ، لعدم قدحه ) أي : قدح المخالف ( في الحجّية ) لأنّ المخالف المعلوم النسب لا يضر بها بمعيار الحجيّة ، وهو : ا شتمال الاجماع على قول المعصوم ، أو كشفه عن قول المعصوم ، ووجود المخالف لا يضر في أي منهما .

( فظاهر الحكاية ) للاجماع ( كونها حكاية للسنّة ، أعني : حكم الإمام عليه السلام ، لما عرفت : من انّ الاجماع الاصطلاحي متضمن لقول الإمام عليه السلام ) عند الخاصة - كما تقدّم من أقوال العلماء في ذلك - ( فيدخل ) الاجماع حينئذٍ ( في الخبر والحديث ) لأنّه يكون من مصاديق الحديث .

( الاّ انّ مستند علم الحاكي ) للاجماع ( بقول الإمام عليه السلام أحد اُمور أحدها : الحسّ ) وذلك ( كما اذا سمع الحكم من الإمام عليه السلام في جملة جماعة لا يعرف أعيانهم ) بان كان في مجلس - مثلاً - جماعة من العلماء ، وعلم هذا الحاكي للاجماع انّ الامام أحد الحاضرين وان لم يعرفه بعينه

ص: 383

فيحصل له العلمُ بقول الإمام عليه السلام .

وهذا في غاية القلّة ، بل نعلم جزما أنّه لم يتفق لأحد من هؤلاء الحاكين للاجماع ، كالشيخين والسيّدين وغيرهما .

------------------

( ف- ) اذا أفتوا بشيء (يحصل له العلم بقول الإمام عليه السلام ) منه .

وفي حكم الاجماع الحسّي ، ما لو كان عند الشخص مخطوطات يعلم اجمالاً انّ أحدها للامام عليه السلام ، فانه يتمكن أن يدّعي الاجماع المسامحي ، قاصداً بذلك وجود قول الإمام عليه السلام حسّاً ، فان هذا الحسّ ، وان لم يكن بقوة الحسّ السابق ، وهو : الرؤة والسماع لجماعة من العلماء يكون الإمام أحدهم ، الاّ انّه حسّ أيضاً .

( وهذا ) النوع من الاجماع بقسميه وان كان ممكناً في نفسه ،الاّ انّه ( في غاية القلّة ) كما ينقل عن المقدس الأردبيلي ، وبحر العلوم ، ومن أشبههما ، من انهم تشرّفوا بخدمته عليه السلام ، وأخذوا منه الاحكام ، لكنهم لما لم يتمكنوا من اظهار ذلك لما ورد من تكذيب مدّعي الرؤة ، نقلوا الفتوى بلفظ الاجماع ، وهذا هو ماسماه صاحب الكفاية : بالاجماع التشرفي .

وقد سمعت من بعض الاساتيذ من تلاميذ الميرزا النائيني رحمه اللّه ، انّ بعض الاجماعات من هؤاء ، لم يوافقه حتى واحد من العلماء في الفتوى به ، مما يشكف انه كان من هذا القبيل .

( بل نعلم جزماً انّه لم يتفق لأحد من هؤاء الحاكين للاجماع كالشيخين ) : الشيخ المفيد ، والشيخ الطوسي ، ( والسيدين ) : السيد المرتضى ، والسيد ابن زهرة (وغيرهما ) من الذين قالوا بالدخول ، مثل هذا الاجماع .

لكن لا يخفى : انّا سمعنا من بعض الثقاة : انّ العلامة الحلّي رحمه اللّه ، اتفق له أن تشرف بخدمته ، في طريقه الى كربلاء المقدسة ، وقد سمع منه عليه السلام بعض

ص: 384

ولذا صرّح الشيخ في العدّة ، في مقام الردّ على السيّد حيث أنكر الاجماع

------------------

الأحكام .

وعلى أي حال : فان كان هذا موجوداً فهو نادر في غاية الندرة ، فان الاجماع الدخولي ، - بحيث يسمع الناقل قوله عليه السلام في جملة أقوالهم ، أو يرى كتابه في جملة كتبهم - مختص بزمان الحضور ، لانه عليه السلام في ذلك الزمان كان يجالس الناس ويجتمع معهم في المجالس ، باستثناء الإمام الحجّة «عجل اللّه تعالى فرجه » ، حيث لم يكن له ذلك الدور الذي كان لآبائه عليهم السلام .

فكان من الممكن : أن يتفق اجتماع جماعة في مسجد ، أو بيت ، أو ما أشبه ، فيعلم الحاكي للاجماع من فتواهم أنّ الإمام احدهم ، ولا يعرفه بعينه ، كما في التاريخ : ان الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم كان يجلس في مسجد ويلتفّ حوله أصحابه ، فاذا دخل الداخل ، لم يعرفه صلى اللّه عليه و آله وسلم ويسأل عنه انّه أيّهم .

والأئمة الطاهرون عليهم السلام - في زمن الحضور - أيضاً كذلك حيث كان جماعة من الناس لا يعرفونهم بأعيانهم ، كما في قصة الإمام أمير المؤنين عليه السلام ، وذلك - الشخص - الذي زاحمه على ميضاة مسجد الكوفة ، فان الرجل لم يكن يعرفه ، وانّما بعد ذلك لمّا سأل عنه ، قيل له : انّه الإمام أمير المؤنين عليه السلام (1) .

وأمّا في زمان الغيبة فمن النادر ، بل لا يعلم حتى من فرد واحد علماً قطعيّاً ان يكون الاجماع حجّة من باب الدخول ، ( ولذا ) أي : لأجل ما ذكرناه ، من انه لا يتفق في زمان الغيبة لحاكي الاجماع ، السماع من الإمام عليه السلام ، ورؤة خطه ( صرّح الشيخ في العدة في مقام الرّد على السيّد حيث أنكر ) السيّد ( الاجماع

ص: 385


1- - عن اشباه هذه القصص راجع كتاب : السبيل الى انهاض المسلمين ، وكتاب : فقه الدولة ، وكتاب : لأوّل مرّة في تاريخ العالم ، وكتاب : لماذا تأخر المسلمون ؟ ، وكتاب : اسلوب حكومة الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم والإمام علي عليه السلام للشارح .

من باب وجوب اللطف ، بأنّه لولا قاعدة اللطف لم يمكن التوصّلُ إلى معرفة موافقة الإمام عليه السلام للمجمعين .

الثاني قاعدةُ اللطف ، على ما ذكره الشيخ رحمه اللّه في العدّة وحكى القول به من غيره من المتقدّمين .

ولا يخفى : أنّ الاستنادَ اليه غيرُ صحيح ، على ماذكر في محلّه ،

------------------

من باب وجوب اللطف ) الذي يقول به الشيخ ، بينما أثبت السيد الاجماع من باب الدخول فرده شيخ الطائفة ( بانّه : لولا قاعدة اللّطف ، لم يمكن التوصّل الى معرفة موافقة الإمام عليه السلام للمجمعين ) ومعنى عدم الامكان : انّه لا يمكن في زمان الغيبة ، حتى القريب من الظهور ، كزمان الشيخ ، والسيّد ، « رحمهما اللّه » ، ان يتحقق الاجماع الدخولي قولاً أو كتابة .

( الثاني ) من مستند علم حاكي الاجماع بقول الإمام عليه السلام : (قاعدة اللطف ، على ما ذكره الشيخ رحمه اللّه في العدة ) وهو كتاب اُصولي لشيخ الطائفة ( وحكى القول به من غيره من المتقدّمين ) .

ومعنى اللّطف : أنّه كما يجب على اللّه سبحانه وتعالى ارسال الرسل ، وانزال الكتب ، حتى لا تكون الخلقة عبثاً فان العبث محال على الحكيم تعالى ، كذلك يجب عليه سبحانه في الحكمة : اظهار الحق فيما اذا اتفق الكل على خلافه .

وعليه : فاذا اتفق الكل على شيء ، ولم يظهر اللّه سبحانه وتعالى بسبب من الأسباب خلافه ، كان ذلك الاتفاق دليلاً على انّ هذا المتفق عليه هو حكم اللّه تعالى ، لأنّ اللّه سبحانه لطيف بعباده .

( ولا يخفى : ان الاستناد اليه ) أي الى اللطف ( غير صحيح على ما ذكر في محله) لانه كما يجوز ترك اللّه سبحانه الناس ، بلا وصول حكم الانبياء اليهم ، كما

ص: 386

فاذا علم استنادُ الحاكي اليه فلا وجه للاعتماد على حكايته ، والمفروضُ أنّ اجماعاتِ الشيخ كلّها مستندةٌ إلى هذه القاعدة ، لما عرفت من الكلام المتقدّم من العدّة وستعرف منها ومن غيرها من كتبه .

فدعوى مشاركته للسيّد قدس سره - في استكشاف قول الإمام عليه السلام ، من تتبّع أقوال الاُمّة

------------------

في الفترة بين الرسل ، ونحوها ، كذلك يجوز تركهم بعد اظهار الحق في بعض الفروع الفقهية ، وان اتفقوا على خلافه ، فان الكبرى وهو نقض الغرض ، وان كان محالاً عقلاً على الحكيم ، الا انّ كون ما نحن فيه من صغريات نقض الغرض محل اشكال .

وعلى هذا : ( فاذا علم استناد الحاكي اليه ) أي : الى اللّطف ( فلا وجه للاعتماد على حكايته ) لانه لم يحك قول الإمام عليه السلام ، لما عرفت من ان قاعدة اللطف غير تامة ، ( و ) على هذا : فلا نتمكن من الاعتماد على اجماعات الشيخ ، كما لم نتمكن من الاعتماد على اجماعات السيّد المرتضى ، أمّا عدم الاعتماد على اجماعات السيّد المرتضى ، فلما عرفت : من عدم الدخول في زمان الغيبة ، وأمّا عدم الاعتماد على اجماعات الشيخ فلأن ( المفروض ، ان اجماعات الشيخ ، كلّها مستندة الى هذه القاعدة ، لما عرفت من الكلام المتقدّم من العدّة ) حيث انّ الشيخ ، قال : بأنّه لولا قاعدة اللطف ، لم يمكن التوصل الى معرفة موافقة الإمام عليه السلام للمجمعين ( وستعرف منها ) أي من العدة ( ومن غيرها من كتبه ) ، أي كتب الشيخ : انّ مستنده في الاجماع ، قاعدة اللطف .

وعليه : ( فدعوى مشاركته ) أي الشيخ ( للسيّد قدس سره ، في استكشاف قول الإمام عليه السلام من تتبّع أقوال الأُمة ) حيث انّ السيّد يرى حجّيّة الاجماع الحاصل من

ص: 387

واختصاصه بطريق آخر مبنيّ على وجوب قاعدة اللطف - غيرُ ثابتة ، وإن ادّعاها بعضٌ ، فانّه قدس سره قال في العُدّة - في حكم ما اذا اختلفت الامامية على قولين يكون أحدُ القولين قولَ الإمام عليه السلام ، على وجه لا يعرف بنفسه ، والباقون كلّهم على خلافه - : « إنّه متى اتفق ذلك ، فان كان على القول الذي انفرد به الإمام عليه السلام

------------------

تتبع أقوال الأُمة - من باب الدخول ( و ) القول بأنّ الشيخ أيضاً يرى ذلك مضافاً الى ( اختصاصه ) أي الشيخ ( بطريق آخر مبني على وجوب قاعدة اللطف ) فان دعوى المشاركة هذه ( غير ثابتة ) اذ للسّيد قاعدة الدخول وللشيخ قاعدة اللّطف ، ولا تَشبَه احداهُما الأُخرى - كما عرفت - ( وان ادّعاها ) أي : المشاركة بينهما (بعض ) من الاصوليين .

لكن لا يخفى : انّ استناد الشيخ في اجماعاته الى اللّطف أو السيّد الى الدخول ، أعم من كون اجماعاتهم كلها من هذا القبيل ، فلعلهم يستندون في بعضها على الحدس، أو على ما روي : من انّ الأُمة «لا تجتمع على ضلالة» (1)، أو ما أشبه ذلك.

وكيف كان : ( فانه ) أي الشيخ قدس سره ، قال في العدّة في حكم ما اذا اختلفت الاماميّة على قولين ، يكون أحد القولين قول الإمام عليه السلام والقول الآخر ، قول لا يطابق قول الإمام ( على وجه لا يعرف بنفسه ) أي لا نعرف انّ وجوب الجمعة ، هو قول الإمام ، او حرمة صلاة الجمعة هو قوله عليه السلام (والباقون كلّهم على خلافه) .

قال في هذا المقام ( : انّه متى اتّفق ذلك ) الاختلاف على قولين ، أحدهما قول الإمام ( فان كان على القول، الذي انفرد به الإمام عليه السلام ) في الواقع - لأنّ المفروض :

ص: 388


1- - بحار الانوار : ج5 ص68 ب2 ح1 وفي الدر المنثور للسيوطي : ج2 ص222 والصراط المستقيم : ج1 ص268 و ج3 ص126 وكنز العمال : ج1 ص185 ح1030 على ضلال وفي كتاب الالفين : ص218 (على الضلالة) .

دليلٌ من كتاب او سنّة مقطوعٌ بها لم يجب عليه الظهورُ ولا الدلالةُ على ذلك ، لأنّ الموجود من الدليل كاف في إزاحة التكليف ، ومتى لم يكن عليه دليلٌ وجب عليه الظهورُ او إظهارُ من يبيّن الحقَّ في تلك المسألة - إلى أن قال : وذكر المرتضى عليّ بن الحسين الموسويّ : « أنّه يجوزُ أن يكون الحقّ عند الإمام عليه السلام ، والأقوال الاُخَرُ كلّها باطلة ، ولا يجبُ عليه الظهورُ ،

------------------

انّا لا نعرف أنّ أيهما قول الإمام وانّما نعلم اجمالاً : انّ احدهما قول الإمام في الواقع - ( دليل من كتاب ، أو سنّة ، مقطوع بها ، لم يجب عليه ) أي على الإمام عليه السلام ، اللّطف و ( الظهور ولا الدّلالة على ذلك ) ، أي : لا يجب عليه أن يظهر بنفسه ، ويدل الامة ، على ما في الكتاب والسنّة ، من القول الذي يوافق قوله ( لانّ الموجود من الدليل ) في الكتاب والسنّة ( كاف في ازاحة التكليف ) ، ومعنى ازاحة التكليف : ازالة اسباب اختلاف التكليف ، باتمام الحجّة .

( ومتى لم يكن عليه دليل وجب عليه ) عليه السلام ( الظهور ) بنفسه وان لم يعلم بشخصه ( أو اظهار من يبيّن الحقّ في تلك المسألة ) بأن يلقي الخلاف بين المجمعين ، حتى لا يضيع الحقّ .

( الى أن قال : وذكر ) السّيد ( المرتضى علي بن الحسين الموسوي انّه ) لا يجب على اللّه اللّطف في مثل هذه المسألة فانه ( يجوز أن يكون الحقّ عند الإمام عليه السلام ) وحده ( والأقوال الأُخر ) من سائر الأُمة ( كلّها باطلة ) لأنّها تخالف الحق أجمع ، كما اذا كانت صلاة الجمعة - مثلا - واجبة في الواقع ، عند الإمام عليه السلام ، والأقوال الأُخر تقول: بالحرمة ، وبالتخيير ، وبالاستحباب ، وما أشبه .

( و ) مع ذلك ( لا يجب عليه ) عليه السلام ( الظهور ) لاظهار الحق وابطال الباطل ،

ص: 389

لأنّا إذا كنّا نحن السببَ في استتاره ، فكلّ ما يفوتنا من الانتفاع به وبما يكون معه من الأحكام قد فاتنا من قبل أنفسنا، ولو أزلنا سببَ الاستتار لظهر وانتفعنا به وأدّى إلينا الحقَّ الذي كان عندَهُ » .

قال : « وهذا عندي غير صحيح ، لأنّه يؤدّي إلى أن لا يصحّ الاحتجاجُ باجماع الطائفة

------------------

من بين الأُمة - فرضاً - ( لأنّا اذا كنّا نحن السبب في استتاره ) أي : في استتار الإمام عليه السلام .

وعليه : ( فكلّ ما يفوتنا من الانتفاع به ) أي : بالامام عليه السلام ( وبما يكون معه من الأحكام ) فانّ للامام عليه السلام فائدتين : الاولى : فائدة القيادة في الموضوعات .

الثانية : فائدة بيان الأحكام .

و ( قد فاتنا ) كلا الفائدتين ( من قبل أنفسنا ) لانّا نحن السبب في غيبته عليه السلام .

( ولو أزلنا سبب الاستتار ) وأصلحنا انفسنا ، ومهّدنا الجوّ له حتى يظهر ( لظهر ، وانتفعنا به ، وادّى الينا الحقّ الذي كان عنده ) .

لا يقال : هذا البعض قد صار سبباً للاستتار ، فما ذنب البعض الآخر ، الذين هم يهيئون للامام عليه السلام ؟ ؛ لأنّه يقال : جرت سنة اللّه تعالى في الكون على انّه لو ظلم البعض شملت ناره الآخرين ، كولد يقتل اباه ، فانه يتضرر بذلك سائر الأولاد الآخرين ، حيث يحرمون من ظلال الأب ، ومن رأفته وخدمته ، وهكذا الانبياء والائمة عليهم السلام ، فقد كانوا يُقتلون بسبب جماعة من الأشرار والكفار ، ويحرم من وجودهم الاخيار والأتقياء .

( قال ) الشيخ ( وهذا ) أي : عدم وجوب اللّطف الذي ذكره السيّد رحمه اللّه ( عندي غير صحيح ، لأنّه يؤّي الى أن لا يصح الاحتجاج باجماع الطائفة

ص: 390

أصلاً ، لأنّا لا نعلمُ دخول الإمام عليه السلام ، فيها إلاّ بالاعتبار الذي بيّناه ، ومتى جوّزنا انفراده بالقول وأنّه لايجبُ ظهوره مَنَعَ ذلك من الاحتجاج بالاجماع » ، انتهى كلامه .

وذكر في موضع آخر من العدّة : « إنّ هذه الطريقة - يعني طريقةَ السيّد المتقدمة - غيرُ مرضيّة عندي ، لأنّها تؤدّي إلى أن لايُستدلّ باجماع الطائفة أصلاً

------------------

أصلاً ، لأنّا لا نعلم دخول الإمام عليه السلام فيها ) أي : في الطائفة ( الاّ بالاعتبار الذي بيناه ) من جهة اللّطف ، بل كثيراً ما نعلم بعدم دخول الإمام عليه السلام .

إذن : فالدخول غير موجود ، واللّطف انكره السّيد ، فلا اجماع للطائفة أصلاً ، مع وضوح انّا نعلم بوجود الاجماع عندنا ، والاجماع لايكون الاّ بأحد هذين الأمرين .

أقول : لكنك قد عرفت : امكان وجود الاجماع بدونهما ، من الحدس ، أو رواية : «لا تَجتَمِعُ أمّتي عَلى الخَطَأ » (1) ، أو غير ذلك .

وعلى اي حال : فقد قال الشيخ في جواب السيّد ( ومتى جوّزنا انفراده ) عليه السلام ( بالقول ، وأنّه لا يجب ظهوره ) لبيان الحق ( منع ذلك من الاحتجاج بالاجماع ، انتهى كلامه ) رحمه اللّه (2) ، على ما ذكره في العدة .

( وذكر في موضع آخر من العدّة ) أيضاً ( : انّ هذه الطّريقة يعني : طريقة السّيد المتقدمة ) من عدم وجوب اللّطف على اللّه سبحانه وتعالى باظهار الإمام ليكشف الحق ، فيما لو اجمعت الاُمة على الخلاف ( غير مرضية عندي ، لانّها تؤّي الى ان لا يستدلّ باجماع الطائفة أصلاً ) وذلك من جهة السالبة بانتفاء الموضوع ، حيث

ص: 391


1- - الصراط المستقيم : ج3 ص125 ، الغدير للاميني : ج7 ص142 و ص143 .
2- - عدة الاصول : ص247 .

لجواز ، أن يكون قولُ الإمام عليه السلام مخالفا لها ، ومع ذلك لا يجب عليه اظهارُ ما عنده » انتهى .

وأصرحُ من ذلك في انحصار طريق الاجماع ، عند الشيخ ، فيما ذكره من قاعدة اللطف ، ما حُكي عن بعض أنّه حكاه من كتاب التمهيد للشيخ : « انّ سيّدنا المرتضى ، قدّس سرّه ، كان يذكر كثيرا انّه لايمتنع أن يكون هنا امورٌ كثيرة غير واصلة إلينا علمُها مُودَعٌ عند الإمام عليه السلام ،

------------------

لا يكون على هذا اجماع حجّة ، وعليه : فلا يمكن الاستدلال بالاجماع ، وانّما يمكن الاستدلال بالكتاب ، والسنّة ، والعقل فقط .

وعدم الارتضاء انّما هو ( لجواز ) أي : بناءاً على عدم وجوب اللّطف ، يجوز ( أن يكون قول الإمام عليه السلام مخالفاً لها ) أي : للطائفة أجمع ( ومع ذلك ، لا يجب عليه اظهار ما عنده ) (1) من الحق ، فتكون الامة كلّها في ضلالة ، بالنسبة الى بعض المسائل الفقهية ( انتهى ) .

ومن المعلوم : ان هذه العبارات من الشيخ قدس سره ، صريحة في ارادته : عدم دخول الإمام في المجمعين، ولذلك جعل التلازم بين حجّيّة الاجماع، وبين القول باللطف ، فقال : ان كان لطف ، فالاجماع حجّة ، وان لم يكن لطف ، فلا حجّيّة للاجماع .

( وأصرح من ذلك في انحصار طريق الاجماع عند الشيخ ، فيما ذكره : من قاعدة اللّطف ) وانّه المستند عنده لحجيّة الاجماع ( ما حكي عن بعض : انّه حكاه من كتاب التمهيد للشيخ ) بما عبارته : ( انّ سيّدنا المرتضى قدس سره ، كان يذكر كثيراً : انه ) لا يجب اللّطف على اللّه سبحانه وتعالى ، و ( لا يمتنع أن يكون هنا ) في الشريعة ( اُمور كثيرة غير واصلة الينا ، علمها مودع عند الإمام عليه السلام ) في الفروع

ص: 392


1- - عدة الاصول : ص253 .

وإن كتمها الناقلون ، ولا يلزم مع ذلك سقوطُ التكليف عن الخلق - إلى أن قال - : وقد اعترضنا على هذا في كتاب العُدّة في اصول الفقه وقلنا : هذا الجوابُ صحيحٌ لولا مانستدلّ في أكثر الأحكام على صحّته باجماع الفرقه ، فمتى جوّزنا أن يكون قولُ الإمام عليه السلام ، خلافا لقولهم ، ولا يجب ظهوره ، جاز لقائل أن يقول : ما أنكرتم أن يكون قول الإمام خارجا عن قول من تظاهر بالامامة ، ومع هذا لا يجب عليه الظهور ،

------------------

الفقهيّة ، المبتلى بها ، من الطهارة ، الى الديات ( وان ) بيّنها الرسول والائمة الطاهرون عليهم السلام و ( كتمها الناقلون ) للاخبار عنهم عليهم السلام ، امّا تعمداً : كالمنافقين ، أو تخوفاً : كالرواة الصالحين .

( ولا يلزم مع ذلك ) أي : مع عدم وصول ، تلك الأحكام الفقهيّة الينا ( سقوط التكليف عن الخلق ) لأنّ هناك جملة كبيرة من الأحكام ، وصلتنا بسبب الكتاب ، والسنّة ، والاجماع فيجب على الفقهاء العمل والفتوى بما أدّى اليهم اجتهادهم ، من الادلة الثلاثة المذكورة .

( الى أن قال : وقد اعترضنا على هذا ، في كتاب العدّة في اصول الفقه ، وقلنا : هذا الجواب ) الذي ذكره السيّد من عدم وجوب اللّطف ( صحيح لولا ما نستدل في أكثر الاحكام على صحته ) أي صحة اكثر الاحكام ( باجماع الفرقة ) فان اجماع الفرقة يستدل به عند علمائنا ، ومقتضى القاعدة : حيث لايكون دخول ان يكون حجيّته مستنداً الى اللّطف ( فمتى جوّزنا : ان يكون قول الإمام عليه السلام ، خلافاً لقولهم و ) قلنا : بأنّه ( لا يجب ظهوره ) عليه السلام ، سقط الاجماع مطلقاً ، كما انه ( جاز لقائل ان يقول : ما انكرتم أن يكون قول الإمام خارجاً عن قول من تظاهر بالإمامة ، ومع هذا لا يجب عليه الظهور ) أي : ان للمستشكل ان يستشكل : بأنّكم

ص: 393

لأنّهم أتوا من قبل أنفسهم ، فلا يمكننا الاحتجاجُ باجماعهم أصلاً » ، انتهى .

فانّ صريحَ هذا الكلام أنّ القادحَ في طريقة السيّد منحصرٌ في استلزامها رفع التمسّك بالاجماع ، ولا قادح فيها سوى ذلك ،

------------------

لا تنكرون أن تكون الامة ككل على باطل ، لان لازم قولكم بعدم وجود اللطف الاعتراف : بأنّه يمكن أن يدّعي أحد ما يضل به الاُمّة ككل ، بالنسبة الى بعض الفروع الفقهية ، ومع ذلك لايجب على الإمام ان يظهر حتى يريهم الحقّ في المسألة ، وانّما يكون لازمه ذلك ، لما تقدّم من استدلال السّيد بقوله : ( لانّهم ) أي الناس (أتوا من قبل أنفسهم ) وانّهم هم السبب الباعث لغيبة الإمام عليه السلام ، وعلى هذا ، فلا يجب على اللّه سبحانه وتعالى : ان يظهر الإمام ويبيّن الحقّ فيما اذا اجتمعت الاُمّة على الخلاف .

وعليه : ( فلا يمكننا الاحتجاج باجماعهم أصلاً ) (1) لأنّ اللطف : ممنوع عند، السّيد والدخول : غير ممكن في زمان الغيبة ، فلا وجه لحجّية الاجماع ، ( انتهى ) كلام الشيخ في ردّ السّيد رحمه اللّه القائل : بأنّ حجّية الاجماع من باب الدخول ، وليس من باب اللطف ، لأنّ اللطف ليس بواجب على اللّه سبحانه .

( فان صريح هذا الكلام ) من شيخ الطائفة ، يدلّ على ( انّ القادح في طريقة ، السّيد منحصر في استلزامها ) أي : استلزام طريقته ( رفع التمسّك بالاجماع ) فلا يمكن للاُمّة التمسّك بالاجماع في بعض المسائل الفقهية ، لما عرفت : من انّه لا مستند للاجماع إلاّ اللّطف ( و ) حيث انّ السّيد يمنع اللطف فلا مستند للاجماع اطلاقاً .

ولا يخفى : انّه ( لا قادح فيها ) أي : في طريقة السّيد ( سوى ذلك ) الّذي

ص: 394


1- - الغيبة : ص66 ، عدة الاصول : ص247 .

ولذا صرّح في كتاب الغيبة بأنها قويّة تقتضيها الاصول ، فلو كان لمعرفة الاجماع وجواز الاستدلال به طريقٌ آخر غير قاعدة وجوب إظهار الحقّ عليه

------------------

ذكرناه : من انّ اللطف يسبب حجّية الاجماع وان لم يكن دخول ، فابطال اللطف ابطال للاجماع .

( ولذا ) أي لاجل هذا القادح ، الموجود في طريقة السّيد من : انّه يوجب ابطال الاجماع وسقوطه مطلقاً عن الحجّيّة ، فتكون أدلّة الأحكام ثلاثة فقط ( صرّح ) الشيخ ( في كتاب الغيبة : بأنّها ) أي : طريقة السّيد في نفسها مع قطع النظر عن هذا الاشكال ( قوية تقتضيها الأصول ) أي أصول المذهب ، وذلك لانّه اذا كان الناس ، هم السبب في استتار الإمام عليه السلام ، فلا يجب على اللّه سبحانه ازاحة علّتهم ، باظهار الحقّ لهم .

ولا يخفى : انّ كلمة : «ازاحة العلّة » ، وردت في الدعاء ، والمراد بها : ازالة العلّة المانعة عن التكليف باتمام الحجّة على العباد ، فقد قال عليه السلام ، في الدعاء: « أزاحَ العِلَلَ فِي التَكلِيفِ، وَسَوّى التَوفِيقَ بَينَ الضَعيفِ وَالشَرِيف » .

والمراد بالعلّة في الدعاء ، وفي تعبير الفقهاء في هذا المقام : معناها اللغوي ، من المرض ونحوه ، لا العلّة : بالمعنى الفلسفي ، الّذي هو عبارة عن : السّبب ، وانّما أطلقوها على السّبب ، وليس معناها اللغوي ذلك ، لاعتبار ، ان المرض ، كما هو سبب للضعف كذلك العلّة الفلسفيّة سبب للمعلول ، فالجامع بينهما : السببية .

( فلو كان ) من نظر الشيخ ( لمعرفة الاجماع ، وجواز الاستدلال به ، طريق آخر ، غير قاعدة : وجوب اظهار الحقّ عليه ) عليه السلام ، وهي : قاعدة اللطف المتقدّمة

ص: 395

لم يبق ما يقدحُ في طريقة السيّد ، لاعتراف الشيخ بصحّتها لولا كونُها مانعةً عن الاستدلال بالاجماع .

ثمّ إنّ الاستناد إلى هذا الوجه ظاهر من كلّ من اشترط في تحقق الاجماع عدمَ مخالفة أحد من علماء العصر ، كفخر الدين والشهيد والمحقّق الثاني .

------------------

في كلام الشيخ ( لم يبق ما يقدح في طريقة السّيد ) .

والحاصل : انّ الشيخ معترف : بأنّ طريقة السيّد مطابقة للاُصول ، لولا المحذور الذي ذكره : من انّها توجب بطلان الاجماع ، فانّ هذا هو موضع الضعف في كلام السّيد ، وذلك ( لاعتراف الشيخ بصحّتها ) أي : بصحّة طريقة السّيد ( لولا كونها مانعة عن الاستدلال بالاجماع ) .

وبهذا كلّه تبيّن : انّ طريقة السّيد ، غير طريقة الشيخ في حجّية الاجماع ، فالسّيد : دخولي ، والشيخ : لطفي .

( ثمّ انّ الاستناد ) في تحقّق الاجماع ( إلى هذا الوجه ) الّذي ذكره الشيخ ، من قاعدة اللّطف ( ظاهر من كلّ من اشترط في تحقق الاجماع ) في الاصطلاح الامامية (عدم مخالفة أحد من علماء العصر ، كفخر الدّين ، والشهيد ، والمحقّق الثاني ) ، وذلك ، لأنّه لو خالف بعض الفقهاء لم يتحقق اجتماعهم كلّهم على الخلاف ، فلم يجب على الإمام اظهار الحقّ ، الّذي هو مقتضى قاعدة اللطف ، لأنّ مقتضى قاعدة اللطف - كما عرفت - انّما هو فيما اذا اجتمع كلّ الامّة على الخلاف .

والحاصل : انّ مستند الاجماع ، لو كان دخول المعصوم : كما يقوله السّيد ، لزم العلم بالدخول ، وان كان في اثنين من الفقهاء - على ما عرفت سابقاً - ، وان كان اللطف : كما يقوله الشيخ لزم اتفاق كلّ علماء العصر على حكم بحيث انّهم

ص: 396

...

------------------

لو كانوا على الباطل ، لزم على اللّه سبحانه وتعالى اظهار الحقّ ، من باب اللّطف .

وان كان المستند ، حديث : « لا تجتمع » : فاللازم اجتماع كلّ الامّة ، في كلّ الأعصار والأمصار . لأنّ هذا هو الظاهر من الجمع المضاف - على تأمل - .

* * * انتهى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث في بيان كلام فخر المحققين في كتاب الايضاح وله الحمد

ص: 397

ص: 398

المحتويات

المَقصد الثاني في الظَنّ المقام الاول : امكان التعبّد بالظن عقلاً... 8

الدليل الاول لابن قِبة على استحالة التعبد بالظن... 8

الدليل الثاني لابن قِبة ... 9

أدلة المشهور ... 10

الجواب عن أدلّة ابن قِبة ... 12

التعبد بالامارات غير العلمية ... 37

اقسام التعبد بغير العلم ... 37

التعبد بالامارات للسببية... 42

قول بعض العامّة ورد المصنّف لهم ... 86

المقام الثاني : وقوع التعبد بالظن في الاحكام الشرعية ... 91

اقوال في تأسيس الاصل للعمل بالظن ... 92

تقريرات أخرى في تأسيس الاصل ... 102

معنى الآيات الدالة على حرمة العمل بالظن ... 130

الظنون المعتبرة امارات استنباط الاحكام من الكتاب والسنة... 137

القسم الاول : تشخيص المراد... 146

منع بعض الاخباريين عن العمل بظواهر الكتاب ... 152

ادلة الاخباريين الاول : الاخبار ... 152

الجواب عن الاستدلال بالاخبار ... 160

المراد من التفسير بالرأي ... 167

ص: 399

الروايات الدالة على جواز التمسك بظاهر القرآن ... 177

الثاني : من ادلة الاخباريين ... 196

الجواب عن الدليل الثاني ... 196

كلام السيد الصدر والجواب عنه ... 204

تنبيهات الاول : الخلاف في حجية الظواهر كثير الجدوى ... 222

الثاني : اختلاف القراءات ... 232

الثالث : عدم تحريف القرآن ... 240

الرابع : الآيات الناهية عن العمل بالظن لا تشمل الظواهر... 245

التفصيل بين من قصد افهامه وغيره ... 250

الاشكال على التفصيل ... 268

الاخبار الدالة على حجية الكتاب ... 280

كلام صاحب المعالم ... 285

الظهور حجة حتى لو افاد الظن ... 295

الظهور حجة حتى لو لم يفد الظن ... 299

تفصيل بعض المعاصرين ... 301

القسم الثاني : تشخيص اوضاع الالفاظ... 312

قول اللغوي... 314

دليل حجية قول اللغوي والجواب عنه ... 318

الاجماع المنقول... 333

دليل الحجية ... 334

الاجماع المحصل... 357

حجية الاجماع لكشفه عن قول الامام ... 360

مستند الكشف عن قول الامام ... 383

المحتويات ... 399

ص: 400

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.