الوصائل إلی الرسائل المجلد 1

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الحسیني شیرازي، السیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان العقد: فرائد الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الوصائل إلی الرسائل/ السيد محمد الحسيني الشيرازي.

تفاصيل النشر: قم: دارالفکر: شجرة طیبة، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مواصفات المظهر: 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

لسان : العربية.

ملحوظة : چاپ سوم.

ملحوظة : کتابنامه.

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/الف8ف409 1300ی

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3014636

ص: 1

اشارة

اللهم صل علی محمد وآل محمد وعجل فرجهم

سرشناسه : حسینی شیرازی، سیدمحمد، 1307 - 1380.

عنوان قراردادی : فرائد الاصول .شرح

عنوان و نام پديدآور : الوصائل الی الرسائل/ سید محمد الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر : قم: دارالفکر: شجره طیبه، 1438ق. = 2017م.= 1396.

مشخصات ظاهری : 15 ج.

شابک : دوره:978-600-270-175-6 ؛ ج.1: 978-600-270-160-2 ؛ ج. 15:964-7263-15-5 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ سوم.

یادداشت : کتابنامه.

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمد امین، 1214 - 1281ق . فرائد الاصول - نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1214 - 1281ق. . فرائد الاصول. شرح

رده بندی کنگره : BP159/الف8ف409 1300ی

رده بندی دیویی : 297/312

شماره کتابشناسی ملی : 3014636

اطلاعات رکورد کتابشناسی : ركورد كامل

الشجرة الطيبة

الوصائل إلی الرسائل

-------------

آية الله العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي رحمه الله

انتشارات: دار الفکر

المطبعة: قدس

الطبعة الثالثة - 1438 ه.ق

-------------

شابک دوره: 6-175-270-600-978

شابک ج1: 2-160-270-600-978

-------------

دفتر مرکزی: قم خيابان معلم، مجتمع ناشران، پلاک 36 تلفن: 5-37743544

تهران، خیابان انقلاب، خیابان 12 فروردین، خیابان شهدای ژاندارمری، روبروی اداره پست، پلاک 124، واحد یک، تلفن: 66408927 - 66409352

ص: 2

الوصائل إلی الرسائل

الجزء الأول

تأليف: آية الله العظمی السيد محمد الحسيني الشيرازي

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

مقدمة الناشر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله المعصومين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين الى قيام يوم الدين.

فانّ الأصول هو جمع أصل، وأصل الشيء في اللغة أساسه القائم عليه، وهذا المعني بالذات هو المراد بأصول الفقه، لأن الفقه قائم عليه.

إذن: فلا نقل ولا مجاز في كلمة الاصول هنا.

وقالوا في تعريف علم الأصول: إنه علم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، فالأمر _ مثلاً _ يدل على الوجوب هو: قاعدة اصولية، فإذا تعلّق بالصلاة _ مثلاً _ جعلنا الامر بالصلاة صغرى في الدليل، والقاعدة الأصولية كبرى، وقلنا: أقيموا الصلاة أمر بالصلاة، وكل أمر يقتضي الوجوب، ينتج أن الصلاة واجبة.

وبالتالي نستخلص من هذا التعريف ان كل مسألة لا تبني حكم شرعي فرعي مباشرة وبلا واسطة فهي دخيلة على علم الأصول، وغريبة عنه.

ص: 5

وقد وضح مما قدمناه أن الغاية من علم الأصول استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، والأحكام الشرعية على نوعين:

منها تكليفية، وهي الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة، ومنها وضعية مثل الصحة والفساد.

وليس من شك أن من تمكن من علم الأصول وتضلّع فيه، فهو كامل العدة والآلة لاستخراج الحكم الشرعي من دليله، ويستطيع الدفاع عن رأيه بمنطق الدليل والبرهان، وهذا هو عين الاجتهاد، وبذلك تبيّن أنه لا مجتهد بلا علم بأصول الفقه، ولا عالم بأصول الفقه بلا ملكة الاستنباط، وأيضاً تبيّن أن معرفة الفروع دون الأصول ليست من علم الفقه في شيء حيث اتفق العلماء على أنّ الفقه هو العلم بالاحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية، ومعنى هذا أن كل فقيه مجتهد، وكل مجتهدٍ فقيه ولو بالملكة، وان غير المجتهد ليس بفقيه(1).

والكتاب الذي بين يديك هو لواحد من أعلام الفقه والأصول وهو آية الله العظمى الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره، والذي ولد في مدينة دزفول الايرانية، وهاجر الى العراق وهو في عمر العشرين عاماً، وكانت كربلاء المقدّسة أول محطة له، حيث تلقى دروسه عند السيد محمد المجاهد، وعند شريف العلماء، وكان والده مردّداً بين العودة الى ايران والبقاء في العراق، فتدخل السيد محمد المجاهد في اقناع أبيه على البقاء في كربلاء المقدّسة، فبقى ملتزماً درس السيد محمد المجاهد، حتى وقعت حوادث سنة «1241ه«في كربلاء المقدّسة، حيث تم محاصرتها من قبل الوالي العثماني «داود باشا» فأضطرّ عدد كبير من طلبة العلوم الدينية ترك كربلاء الى الكاظمية والنّجف الشريفتين، وكان الشيخ مرتضى ممن هاجر الى الكاظمية ثم عاد الى كربلاء بعد انتهاء الحصار، فأخذ يحضر درس الشيخ شريف العلماء المازندراني، ثم عاد الى ايران ومكث في نراق من قرى

ص: 6


1- علم أصول الفقه: ص 11 - 15.

كاشان، وفي دزفول فترة من الزمن، ثم عاد الى العراق سنة «1269ه» أيام رئاسة الشيخ علي كاشف الغطاء، فحضر درسه في النجف الأشرف، ثم درس عند صاحب الجواهر فترة من الزمن.

وامتاز الشيخ قدس سره بمكانة علمية رفيعة حيث يعتبر الواضع لعلم الاصول الحديث عند الشيعة(1)، فقد أدخل نتائج أبحاث سبعة من الأعلام كالوحيد البهبهاني، والسيد محمد المجاهد في لباسٍ جديد، إذ كان أغلب ما كتبه الوحيد في الأصول هو في معرض مناقشاته مع الاخباريين لاثبات صحة نظرية الأصوليين.

وهكذا وعلى يد الشيخ الأنصاري بلغ علم الأصول مرحلة التكامل، فأصبحت كُتبه مادّة دراسية في علم الأصول.

يقول عنه السيد الأمين: وانتشر تلاميذه، وذاعت آثاره في الآفاق وكان من الحفّاظ، جمع بين قوة الذاكرة وقوة الفكر والذهن وجودة الرأي، حاضر الجواب، لايُعيبه حلّ مشكلة ولا جواب مسألة(2).

ثم يقول أيضاً: كتب في الأصول والفقه لا يسع الواقف عليها وعلى ما فيها من الدقائق العجيبة، والتحقيقات الغريبة، مع لزوم الجادّة المستقيمة، والسليقة المعتدلة، الاّ الالتزام لما يرى بالموافقة، والتسليم حتى يرى المجتهد الناظر في ذلك نفسه كالمقلد، وذلك أقل شيء يُقال في حقه، فقد اشتهر أمره في الآفاق، وذكره على المنابر، على وضع لم يتفق قبله لغيره، وكان مرجعاً للشيعة قاطبة في دينهم ودنياهم(3).

وقال عنه الشيخ عباس القمي قدس سره: خاتم الفقهاء والمجتهدين واكمل الربانيين من العلماء(4).

ص: 7


1- انظر أعيان الشيعة: ج10 ص118.
2- أعيان الشيعة: ج10 ص118.
3- الفوائد الرضوية: ص164.
4- أعيان الشيعة: ج10 ص118.

أمّا أخلاقه وزهده: فقد عرف الشيخ مرتضى الأنصاري بكثرة الصلاة والصِلات وحسن الأخلاق(1)، وعُرف بالزهد والتقوى أيضاً، فكانت تأتيه الأموال الكثيرة فيهرب منها.

أما الحقوق الشرعية التي كانت تصل اليه، فكانت في حدود «200 ألف تومان» كان الشيخ يأخذ منها بمقدار ما يأخذ طالب العلم العادي، ثم يصرف بقية الأموال على طلبة الحوزة العلمية.

ويُذكر أنّه اذا سافر للزيارة يُعادله في المحمل خادم الشيخ «رحمة الله» وتحت كلّ منهما لحاف وبطانية من الكرباس الأخضر بلا ظهارة، ومعهما قدر صغير موضوع في وسط المحمل لطبخ غذائهما(2).

ويقول عنه التنكابني في قصص العلماء: كان في غاية الزهد والورع، العابد الدقيق في العبادة، وقد عاصرتهُ وحضرتُ مجلسه، كان ملتزماً بالنوافل اليومية، ومواظباً على زيارة عاشوراء، وصلاة جعفر الطيار، وصلت اليه الرئاسة الدينية بعد صاحب الجواهر لكنه لم يدن نفسه الى الى المخاصمات ولم يعط اجازة اجتهاد الى أحد(3).

الشيخ الاعظم وعلم الاصول

لا شك أن المدرسة الأصولية في عهد الشيخ الأنصاري بلغت ذروتها، وفي زمانه تطورت الدراسات الأصولية حتى بلغت مرتية عالية من البحث العلمي والاستدلال العميق، لكن في عهده لم يكن للاخبارية وجود ظاهري، فلم يكُن في قبال الشيخ الأنصاري أحد من الأخباريين، لكنه عاصر هذا الصراع في عهوده الأخيرة واستفاد كثيراً من الحوارات والنقاشات التي كانت تجري بين الطرفين.

ص: 8


1- أعيان الشيعة: ج10 ص118.
2- أعيان الشيعة: ج10 ص118.
3- قصص العلماء: ص109.

ومن زاوية هادئة كان الشيخ الأنصاري يرصد مؤاخذات كل طرف على الآخر ثم يتبحر في مناقشة أدلة كل طرف حتى توصل الى وضع الأدلّة والأجوبة القانعة والردود المحكمة، فأكتمل علم الأصول في رسائله التي كتبها: رسالة حجّية القطع والظن، رسالة أصالة البرائة، والأستصحاب، والتعادل والتراجيح، ورسالة الإجماع، التي جُمعت في مجموعة واحدة سميت بفرائد الأصول.

وكان الشيخ الأنصاري يقول: لو كان الاسترابادي(1) حاضراً في زمانه لاتبع مدرسة الأصوليين.

روايته

يروي عن استاذه النراقي، وأبيه ملاّ مهدي، عن الشيخ يوسف البحراني، عن المولى محمد رفيع الجيلاني، عن المجلسي، عن مشائخه.

تلاميذه

كان يحضر درسه في الجامع الهندي زهاء أربعمائة من العلماء، وقد تخرج على يده أكثر الفحول من بعده، مثل الميرزا الشيرازي، والميرزا حبيب الله الرشتي، والسيد حسين الترك، والشرابياني، والمامقاني، والميرزا ابو القاسم الكلانتري صاحب الهداية وغيرهم.

تصانيفه

كان لا يحب اخراج شيء من الكُتب إلاّ بعد التنقيح واعادة النظر مراراً، هذا مضافاً الى ضعف بصره مما جعل كثيراً من آثاره في الفقه غير مرتبة.

صنّف المكاسب، وهو أحسن ما صنّف في هذا الباب.

ص: 9


1- والاسترابادي هو محمد امين واضيع المدرسة الاخبارية، ورفض الأخذ بآراء الأصوليين، وكان يرى أن الكتب الأربعة قطعية الورود والدلالة وهي تكفي للفقهاء، عارض الاجتهاد والمجتهدين وقال بعدم ضرورة الادلة العقلية في الفقه.

وكتاب الطهارة ويُعرف بطهارة الشيخ.

وكتاب الصوم والزكاة والخمس.

اضافة الى رسائله الخمسة التي ذكرناها آنفاً فقد كتب: رسالة في الرضاع، ورسالة في التقية، ورسالة في العدالة، ورسالة في القضاء عن الميت، ورسالة في المواسعة والمضايقة، ورسالة في قاعدة من ملك شيئاً ملك الاقرار به، ورسالة في نفي الضرر والضرار.

وانّ أكثر كتبه قد طبعت.

أما كتبه الخطية، فكتابان: كتاب الغصب وكتابٌ في الرجال، موجودان في مكتبة الاستانة في مشهد المقدسة.

هذا عن مؤلف المتن، وأما عن مؤلف الشرع فهو آية الله العظمى الامام السيد محمد الشيرازي «دام ظله» والذي ولد سنة 1347ه في النجف الأشرف بالعراق من أسرة عُرفت على مدى عدة اجيال بالعلم والاجتهاد، انجبت خيرة القادة والعلماء العظام من أمثال المجدد الشيرازي الذي أفتى بتحريم التنباك في عهد ناصر الدين شاه أحد ملوك القاجار، والميرزا محمد تقي الشيرازي الذي أشعلت فتواه بتحريم التعامل مع الانجليز نار الثورة سنة 1338ه، تلك الفتوى التي اجبرت سلطات الاحتلال البريطاني الى الاستسلام لأرادة الشعب العراقي ومنحه الاستقلال السياسي.

فمن هذه الأسرة الطيبة ولد الامام الشيرازي وكان والده الميرزا مهدي الشيرازي آية في الأخلاق الحميدة وعنوانٌ عريض للعلم والتقوى والزهد، أصبح يُضرب به المثل في تقواه وزهده.

هاجر الامام الشيرازي من النجف الأشرف بصحبة والده وهو في نعومة أظفاره حيث لم يبلغ من العمر إلاّ تسع سنين، ثم هاجر منها الى الكويت على اثر الضغوطات التي مارستها بحقه الحكومة البعثية في العراق، ومكث قرابة عقد من الزمان في الكويت استطاع خلاله أن يوجد حوزة علمية وأن يحوّل النوّيات الاسلامية الى تيار إسلامي.

ص: 10

شيوخه وتلاميذه

درس الإمام الشيرازي عند والده المعظم، وكان يستلقي الدروس الفقهية والأصولية عند آية الله العظمى السيد هادي الميلاني أيضاً.

ودرس الفلسفة الاسلامية عند الفيلسوف الاسلامي الشيخ محمد رضا الاصفهاني.

أما في علوم اللغة والنحو، فقد تتلمذ على يد شيخ النحاة واستاذ العلماء الشيخ جعفر الرشتي.

هذا وقد تتلمذ على يده جمع من العلماء الأفاضل.

مكانته العلمية

برع الإمام الشيرازي في تدريس الفقه والأصول ابتداءً من كربلاء وحتى اقامته أخيراً في ايران، ولم يكتف بالتدريس وحده، فقد قام بتدوين أبواب الفقه بصورة شاملة وكاملة حتى أصبحت موسوعته الفقهية بمثابة مدونة فقهية قلّ نظيرها من حيث الوسعة والعمق وهي تحكي عن مكانته العلمية التي أخذت تظهر منذُ أوائل حياته الاجتماعية، فعندما بلغ من العمر ثلاثة وثلاثين سنة أوكل اليه كبار المراجع في ذلك اليوم من أمثال الامام الحكيم وآية الله العظمى السيد عبد الهادي الشيرازي وآية الله العظمى السيد احمد الخوانساري، بادارة الحوزة العلمية في مدينة كربلاء المقدسة، وقد أشار المحقق الكبير آغا بزرك الطهراني الى نبوغه العلمي بمناسبة ذكر التقاريض الواردة إليه وذلك في المجلد العاشر من كتاب الغدير.

مكانته الجهادية

خاض الإمام الشيرازي جهاداً متواصلاً في مدينة كربلاء المقدسة حيث كان الطغاة يحكمون تلك البلاد بالحديد والنار، وقد مارسوا بحقه شتى وسائل الضغط والظلم والتعسّف، وأصدروا عليه حكم الاعدام مما اضطر الى مغادرة العراق قاصداً الكويت.

ص: 11

لقد آمن الامام الشيرازي بمباديء الحرية والمسؤولية الاجتماعية ودعى الى نبذ الاستعمار والى وحدة الكلمة والى إيجاد الأمة الواحدة عبر تحسين روابط الأخوة الصالحة.

وكان يرى في الصدع بهذه الافكار مسؤولية دينية، وتكليفاً شرعياً، لذا وجدنا الطغاة وأذناب الاستعمار وكل اللذين لا يريدون للأمة التقدم يصطدمون بالامام الشيرازي ويحاولون اخماد صوته، لكنه واصل مسؤوليته على رغم المصاعب والمتاعب حتى تمكن من أن يوجد تياراً سياسياً يدافع عن الاسلام والمسلمين في أرجاء العالم الاسلامي.

بين يدي الكتاب

يرى الإمام الشيرازي أن لعالم الدين مسؤوليّة كبرى، وأنّ من مسؤولية الحوزات العلمية انجاب العلماء الواعين الخيّرين، لذا صبّ إهتمامه في تطوير الحوزات العلمية التي أشرف على تأسيسها في كربلاء المقدّسة والكويت وقم المشرّفة.

وكان يرى أن التجديد والأصالة معاً كفيلان بتطوير الحوزة العلمية، فلا يجوز أن يأتي التجديد على حساب الاصالة أو العكس.

من هنا جاءت مساعي الامام الشيرازي بتطوير المناهج الدرسية في الحوزة العلمية لتأتي مناسبة ومنسجمة مع روح العصر، فبعد شرحه للمكاسب للشيخ الانصاري قام بشرح كتاب الرسائل بصورة موسّعة، فجاء شرحه في خمسة عشر جزءاً، وهو بهذا العمل أسدى خدمة كبيرة للحوزة العلمية.

عسى أن ينتفع المؤمنون من هذا الكتاب ويستفيدوا من العلوم التي اشتمل عليها أجزاءه الخمسة عشر.

والله من وراء القصد

مؤسسة الوعي الاسلامي بيروت _ لبنان ص.ب: 5083/13

البريد الإلكتروني: alwaie@shiacenter.com

ص: 12

مقدمة الشارح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلقه سيّدنا محمد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

لقد طالعت كثيراً من الكتب الحقوقية التي هي مبنى الحضارات المعاصرة وان كانت الحضارة المعاصرة كثيراً ما تنكّبت عن مبنى الحقوق الموضوعة، مثلها مثل من يقرر الديمقراطية في برامج عمله، ثم لا يعمل بها في حياته السلطوية، فرأيت انها مبنيّة على الدّقة الشديدة في استخراج الحقوق وفهم العرف والعادة.

دقة من جهة اصل الفهم.

ودقة من جهة فهم المقدّم من المتعارضين.

ودقة من جهة علاج المجمل، واستخراج المهمل من القواعد الاوليّة.

اذ الشيء على ثلاثة أقسام:

1- مقنّن صريح.

ص: 13

2- مقنّن مجمل.

3- مهمل في أصل التقنين.

والأول: قد يكون بدون المعارض، وقد يكون مع المعارض، والذي مع المعارض يحتاج الى العلاج من الترجيح، او الابطال، او قاعدة العدل، او التخيير.

اذ قد يلزم الترجيح في مثل أن الزوجة لأي واحد من المتنازعين، وقد لا يصل القاضي الى احدهما مما يُجبر بابطال نكاحهما، أو مايشبه الابطال، كجبرهما على الطلاق ثم تزويجها لأحدهما، أو ما أشبه ذلك.

وقد يكون مال متنازع فيه، فيعمل بقاعدة العدل.

وقد يكون تخيير في الامر، كما اذا نذر ذبح شاة في النجف الاشرف او كربلاء المقدسة، فيكون مخيراً.

وكل هذه الدّقة المحتاج اليها بناء الحكم ابتداءاً واستمراراً في كل الأبعاد السياسية، والاقتصادية، والقضائية، والاجتماعية، والثقافية، والعمرانية، وغيرها بحاجة الى ارفع مستويات التدقيق والتحقيق.

والفرق بين التحقيق والتدقيق: ان الأول: كشف الحقّ، بينما الثاني: الدّقة في الادلة.

فما هو الدليل: «الكبرى»؟ وما هو مصداق هذا الدليل: «الصغرى»؟.

ولا يخفى: ان التدقيق مقدمة التحقيق الذي هو كشف الحقّ، والمراد بالحقّ: أعم مما له مطابق في الخارج ماضياً او حالاً او مستقبلاً، أو ليس له مطابق وانما هو اعتبار بيد المعتبر بحيث يوجب درك المصلحة ودرء المفسدة.

وليس في كتبنا الفقهية والأصولية ما يفي بغرض الدّقة اللازمة في بناء الحكم

ص: 14

أو استمراره، بمثل المكاسب والرسائل للشيخ الاعظم قدس سره، فهذان الكتابان هما الوحيدان اللذان سبقا جامعات العالم الحقوقية، في بيان المنهج، وكيفية الاستنباط لكل أبعاد الحياة.

ولهذا فانّا نحتاج الى فهم الكتابين لا في استنباط الأحكام الشرعية فحسب، بل في التفوّق الحضاري على العالم، حسب «الاسلام يعلو ولا يُعلى عليه»(1) فان في فهمهما واستيعابهما كاملين، الدليل الملموس لتفوق المسلمين على العالم في بناء الحضارة الحديثة.

ولو اتيح للمسلمين ترجمة هذين الكتابين باللغات الحيّة، لاخذا مكانهما في ارقى مرحلة من المراحل الدراسية في الجامعات العالمية.

وبهذا تبيّن: أن احتمال الغني عن بعض مباحث الكتابين كبحث الانسداد وبحث العدالة، او ان الطالب لا وقت له لدراسة الكتابين، ولكيلا يزاحم سائر مهامه التبليغيّة، والاجتماعية، وما اشبه، فاللازم التبعيض فيهما، او التلخيص لهما، فانه غير وارد اطلاقاً، فان الانسداد يبقى منهاج الدقّة فيه، وان لم يقل شخص بالانسداد.

هذا، وليس الكلام: ان كل الطلاب يحتاجون اليهما حتى يستشكل بالمزاحمة، وانما الكلام: فيمن يريد الوصول الى آخر تطورات الفكر البشري في التحقيق والتدقيق، الذين هما مبنى الحضارة الحديثة بل كل الحضارات الراقية.

فهل يا ترى من الصحيح: الاشكال على من يطلب العلم عشرات السنين للاختصاص في أغوار النفس، او خصوصيات الجسم، او اجواء الفضاء، للحصول

ص: 15


1- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص243 ح2، غوالي اللئالي: ج1 ص226 ح118، نهج الحق: ص515 فصل الحادي عشر، وسائل الشيعة: ج17 ص376 ب 1 ح11.

على دقائق النفس، أو الجسد او الفلك: بان جملة من تدقيقاته وتحقيقاته لا اثر علمي لها، أو أن الوقت لا يسمح للانسان بالجمع بين هكذا تحصيل، وبين مهامه الاقتصادية والاجتماعية ونحوهما؟.

ومن الله سبحانه استمد العون، وارجو منه الثواب، واسأله ان ينفع بهذا الشرح كما نفع بشرح المكاسب، وهو الموفق المستعان.

محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي

قم المقدسة

25 / جمادى الثانية / 1409 ه .ق

ص: 16

المدخل

بسم اللّه الرحمن الرحيم

فاعلم انّ المكلّفَ ، إذا التفتَ

-----------------

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين ، ولعنة اللّه على اعدائهم أجمعين .

وبعد.. فهذا شرح توضيحي على الرسائل لآية اللّه العظمى في العلم والفضيلة والزهد والاخلاق ، الشيخ مرتضى الانصاري قدس سره كتبته لتسهيل الامر على المبتدئين ، واللّه سبحانه أسأل التوفيق للاتمام ، والنفع به والثواب ، انه ولي ذلك ، وهو المستعان .

قال طيب اللّه تربته : ( فاعلم ) الفاء : لتوهم تقدير اما ، وهو نوع زينة في الكلام، ولم يكن الامر بحاجة الى « اعلم » وانما ذكر مزيداً للتنبيه ، ويمكن ان يشبه بكلمة : « قل » في اوائل السور ، ونحوها ، فانه نوع تأكيد لكونه صلى الله عليه و آله وسلم هو المخاطب ، وذلك مما يزيده صلى الله عليه و آله وسلم اجلالا ( انّ المكلَّف ) اما يراد به : المجتهد ، او الاعم ، حيث ان الاصول الاربعة أحيانا تكون تكليف المقلد ايضاً .

وحيث كان المراد بالمكلّف : المكلّف شأناً قريباً لاشأناً بعيدا ، كالطفل ونحوه وهو البالغ العاقل القادر ، الذي لامحذور له في أداء التكليف ، اذا كان مقلداً ، او بيانه ، اذا كان مجتهداً ، قال رحمه اللّه تعالى : ( اذا التفت ) فلا يقال : ان القيد

ص: 17

إلى حكم شرعيّ ، فامّا أن يحصل له الشكّ فيه او القطع او الظنّ .

-----------------

مستدرك ، لان غير الملتفت غير مكلّف ، والمراد به : الالتفات الاجمالي الى ان الشيء الفلاني له حكم في الجملة من الاحكام الخمسة ، فان الاباحة ايضاً حكم ، حيث ان الاباحة الشرعية غير الاباحة العقلية ، واثر التشريع : الثواب على الاطاعة ، فاذا شرب الانسان الماء ، لان اللّه سبحانه أباحه ، اعطاه اللّه الثواب ( الى حكم شرعي ) .

وكان ينبغي اضافة : أو الموضوع المستنبط ، أو الحكم الوضعي ، لان كل الثلاثة ، مورد للقطع والظن والشك ، اللهم ان يرجع الموضوع والوضع ، الى الحكم بتكلّف .

( فاما ان يحصل له الشك فيه ) وهو : تساوي الطرفين دقيا ( او القطع او الظن ) وهو مايرجح احدهما على الاخر ولو بواحد في المائة ، وفي قباله : الوهم وان كان واحدا في المائة ، و حيث انه كلما حصل الظن في طرف حصل الوهم في طرفه الآخر ، اكتفى بذكر الظن عن الآخر ، وانما ذكره دون الوهم ، وان كان لو ذكر الوهم ، كان كذلك متلازما ايضا ، لان الظن له حكم دون الوهم .

ولا يخفى ان كلا من الظن والوهم والشك ، يطلق على الآخر توسعاً ؛ ولايخفى اني لم اجد لفظ القطع مستعملا في آية او رواية ، وانما الوارد فيهما : « اليقين » لكن حيث اراد الفقهاء والاصوليون : المانع من النقيض طابق الواقع اولا ، ذكروه دون اليقين ، ولعل السر في ذكر المصنف قدس سره الشك اولا ، لانه لاشيء في جانبه ، وهو : الاصل .

ثم ذكر القطع ، لانه كل شى ء في طرفي النقيض فيقابل الشك .

ثم ذكر الظن ، لانه ليس ذاك ولا هذا .

ص: 18

فان حصل له الشكّ فالمرجع فيه هي القواعد الشرعيّة الثابتة للشاكّ في مقام العمل ، وتسمّى بالاصول العمليّة .

وهي منحصرة في أربعة ،

-----------------

وعلى اي حال : ( فان حصل له ) القطع ، كان هو المرجع ، وان حصل له الظن فان كان ظنا حجة ، كان مرجعا ايضا ، وان كان غير حجة ، كان المرجع فيه هو المرجع في الشك ، وان حصل له ( الشك ، فالمرجع فيه هي القواعد الشرعية ) ولذا فقد تكون تلك القواعد عقليّة أولاً ، ثم شرعية ، وقد تكون شرعيّة محضة سمي الجميع بالشرعية ، وليس لنا قاعدة عقلية بحتة ، يعمل على طبقها .

ان قلت : فلماذا ذكر الفقهاء العقل من جملة الادلة الاربعة ؟ .

قلت : من جهة ارادتهم بيان : إنّ الاحكام الشرعيّة عقليّة ايضا في جملة منها ، مقابل الاشاعرة والظاهرية والحشوية، الذين عطّلوا دور العقل ( الثابتة للشّاك في مقام العمل ) والمراد بها : القواعد التي تأتي من اول الفقه الى آخره ، لا مثل قاعدة الفراغ والطهارة والحلية وما اشبه ، المختصة ببعض الابواب ( وتسمّى ) تلك القواعد ( بالاصول العمليّة ) « اصل » : لتفرع الفروع عليه كأصل الشجرة ، و « العمليّة » : لكونها في قبال الاصول العقائدية .

( وهي منحصرة في اربعة ) : الاستصحاب والبرائة والتخيير والاحتياط ، اما سائر الاصول فهي اما راجعة الى احداها ، مثل : اصالة عدم الاكثر ، في الشك بين الاقل وبينه ، الراجعة الى البرائة ، واصالة العدم ، الراجعة الى الاستصحاب ، فانهما فردان من افراد الاصلين المذكورين واما هي مختصة ببعض مباحث الفقه كما تقدم ، من مثل : اصالتي الطهارة والحل ، واما اصول لفظية ، مثل : اصالة عدم التقييد ، واصالة عدم التخصيص ، وهي عبارة اخرى عن طريقة العقلاء

ص: 19

لأنّ الشكّ أمّا أن يلاحظ فيه الحالة السابقة ام لا ، وعلى الثاني ، فامّا أن يمكن الاحتياط

-----------------

في المحاورة ، الى غير ذلك .

ثم ان الحصر في الاربعة وان قيل انه عقلي ، لكنه الى الشرعي اقرب ، اذ أحد أركانه الشرع ، والنتيجة تابعة لاضعف المقدمتين ، فانه لو دلّ الشرع على اصل خامس ، لم يكن خلاف العقل ، وانما الامر العقلي هو : الدائر بين النفي والاثبات بدون امكان ان يكون هناك شيء خارج عن الحصر ، مثل العدد اما زوج أو فرد ( لان الشكّ اما ان يلاحظ فيه الحالة السابقة ام لا ) .

والمراد : ان تكون هناك حالة سابقة وتكون ملحوظة شرعاً ، اذ لو لم تكن الحالة السابقة ، كان من السالبة بانتفاء الموضوع ، او كانت ، لكن الشارع لم يلاحظها ، كان مجرى لاصل آخر ، لا الاستصحاب كما اختاره الشيخ قدس سره في الشك في المقتضي : بانه ليس مجرى للاستصحاب .

( وعلى الثاني ) الذي لايلاحظ فيه الحالة السابقة ( فامّا ان يمكن الاحتياط ) بأن يجمع المكلف بين الاطراف ، كأن يأتي بصلاتي الظهر والجمعة يوم الجمعة ، وكذلك يمكن ان يجتنب عن الدخان والترياق اذا نذر ترك احدهما ، ثم نسي ان نذره تعلق بايهما ؟ حيث يلزم عليه فعلهما في الاول ، وتركهما في الثاني ، وكذلك يمكن ان يكون قد نذر إما صوم الخميس ، او ترك صوم يوم الجمعة - فيما كان لهما رجحان حتى يصلحا لتعلق النذر بهما - فانه يجمع بين فعل الاول وترك الثاني .

ولايخفى انه لاينحصر الاحتياط بين امرين ، بل يمكن ان يكون بين امور ، ثم ان الاحتياط قد لايمكن ، وقد يخل بالنظام ويوجب الهرج والمرج ، وقد يعسر أم

ص: 20

لا .

وعلى الأوّل ، فامّا أن يكون الشكّ في التكليف او في المكلّف به .

فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى التخيير ، والثالث مجرى أصالة البراءة ،

-----------------

عسراً رافعاً للتكليف على نحو المنع من النقيض ، وقد يعسر عسراً غير مانع عن النقيض (أم لا ) اي لايمكن .

( وعلى الاول ) : بان امكن الاحتياط ( فاما ان يكون الشك في التكليف ) وهل انه مكلّف ؟ ولايلزم ان يكون الامر لنفسه ، بل يشمل ماذكرناه من امور مقلديه ايضاً ، وربما لايكون لنفسه ولا لمقلديه ، بل يريد استظهار حكم المسألة ( أو في المكلف به ) وقد تقدم ان المراد هو الاعم من الاحكام التكليفية والوضعية بل ومن الموضوعات المستنبطة .

( فالاول ) الذي يلاحظ فيه الحالة السابقة : ( مجرى الاستصحاب ) كما اذا شك المتطهر في الحدث ، حيث يستصحب الطهارة ، أو شك في بقاء زوجته ، حيث يستصحب بقائها ، فلايجوز له التزويج باختها ، او الخامسة ، او شك في بقاء آلة اللهو بمعناها السابق في زمان المعصومين عليهم السلام حيث يستصحب بقائها .

( والثاني ) الذي هو صورة عدم امكان الاحتياط : ( مجرى التخيير ) اذا لم يكن احد الطرفين اهم ، كما اذا شك في وجوب صلاة الجمعة او حرمتها ، فقد قال بكل منهما جماعة من الفقهاء .

( والثالث ) وهو صورة الشك في التكليف : ( مجرى اصالة البرائة ) كما اذا شك في انه هل يحرم عليه التدخين ام لا ؟ .

ص: 21

والرابع مجرى قاعدة الاحتياط .

وبعبارة اُخرى : الشكّ إمّا أن يلاحظ فيه الحالة السابقة او لا . فالأوّل مجرى الاستصحاب ،

-----------------

( والرابع ) وهو ماكان الشك فيه في المكلف به مع علمه بالتكليف : ( مجرى قاعدة الاحتياط ) اذا لم يكن محذور ، كما اذا كان الاحتياط عسراً او حرجاً او ضرراً .

ولايخفى ان الالفاظ الثلاثة اذا قيلت معاً ، اختص كل منها بمعنى :

الاول : بالعسر الجسدي ، مثل ما اذا كان ذهابه الى مِنى يوم العيد ، يوجب مشقة كثيرة له من جهة الحر .

والثاني : بالامر النفسي ، كما اذا كان الاغتسال على الفتاة في بيت ابيها بسبب احتلامها يوجب شدة خجلها واستحيائها .

والثالث : ماكان ضرراً جسدياً او مالياً ، كما اذا سبب الصوم مرضاً شديداً .

نعم ، اذا ذكر كل واحد منها مستقلاً شمل الاخرين ، كما ذكروا في الظرف والجار والمجرور .

ومثال ذلك : ما اذا لم يعلم ان اي ثوبيه طاهر وايهما نجس ؟ حيث يحتاط بصلاتين : في هذا صلاة ، وفي ذلك صلاة .

وحيث أُورد على هذا التقسيم بايرادات - كما هو مذكور في المفصلات - قال ( وبعبارة اخرى : الشك اما ان يلاحظ فيه الحالة السابقة ، أولا ، فالاول : مجرى الاستصحاب ) ولعل المجى ء بباب الاستفعال ، من باب أن المكلّف يطلب صحبة الحالة السابقة ، واني لم اجد هذا اللفظ في نص شرعي ، ولعله اصطلاح اصولي .

ص: 22

والثاني إمّا أن يكون الشكّ فيه في التكليف أو لا .

فالأوّل مجرى أصالة البراءة ، والثاني إمّا أن يمكن الاحتياط فيه أو لا .

فالأوّل مجرى قاعدة الاحتياط ، والثاني مجرى قاعدة التخيير .

وما ذكرنا هو المختار في مجاري الاصول الأربعة ،

-----------------

( والثاني : اما ان يكون الشك فيه في التكليف ، اولا ، فالاول : مجرى اصالة البرائة ) وهذه اللفظة مستعملة فيها ، لكن لا بالمعنى الاصولي ، والمراد بها هنا : ان الانسان بريء من التكليف ، بمعنى : ان لاتكليف عليه .

ثم ان المراد من التكليف : الواجب والحرام ، اما الاحكام الثلاثة الاخر ، فلا كلفة فيها ، لعدم الالزام ، فاذا شك بين الواجب والمستحب - كغسل يوم الجمعة - كان الاصل عدم الوجوب ، الى غيره من الامثلة .

( والثاني : اما ان يمكن الاحتياط فيه ، اولا ، فالاول : مجرى قاعدة الاحتياط ) وهذا اللفظ مستعمل في الروايات ، والاصل فيه « من حاطه » بمعنى : اشتمل عليه ومنه المحيط بمعنى : الدائر حول الشيء دورانا ماديا ، كالسور المحيط بالبلد ، او معنويا ، كما قال سبحانه : « واللّه من ورائهم محيط » (1) فكأنَّ المحتاط يدور حول الحكم فيأتي به ( والثاني : مجرى قاعدة التخيير ) والاصل فيه « خار » بمعنى : سهل ، اذ العمل بهذا او ذاك سهل ، بخلاف العمل بشيء واحد فقط ، وهذا اللفظ وارد في الروايات .

( وما ذكرنا ) من التقسيم ( هو المختار في مجاري الاصول الاربعة ) اذ بعض

ص: 23


1- - سورة البروج : الآية 20 .

الاصوليين قسم الاربعة بشكل آخر ، غير التقسيمين الذين ذكرناهما .

وقد وقع الخلاف فيها ، وتمام الكلام في كلّ واحد موكول إلى محلّه ، فالكلام يقع في مقاصد ثلاثة : الأوّل في القطع ، والثاني في الظّن ، والثالث في الاصول العمليّة المذكورة التي هي المرجع عند الشّك .

-----------------

ولذا قال رحمه اللّه تعالى : ( وقد وقع الخلاف فيها ) وبعضهم فسر العبارة : بأنّ المراد اختلاف بعض العلماء في جريان الحكم على احد الموضوعات الاربعة مثل انكار الاخباريين البرائة في ما اذا شك في التحريم وقالوا بالاحتياط ، لكن ماذكرناه اوفق باللفظ ( وتمام الكلام في كل واحد ) من الاربعة ، موضوعا وحكما ودليلا ( موكول الى محله ) انشاء اللّه تعالى ، والمراد بتمام الكلام : الكلام التام لابقية الكلام ، اذ التمام يستعمل تارة بهذا المعنى ، واخرى بالمعنى الثاني ، فهو من اضافة الصفة الى الموصوف ، لا اضافة الجزء الى الكل ، او الجزئي الى الكلي .

( فالكلام يقع في مقاصد ثلاثة : الاول : في القطع ، والثاني : في الظن ) وقد عرفت انه يلازمه الوهم ، فالكلام في المقصد الثاني فيهما ، كقولهم : العمل في باب الانسداد ، بالمظنونات والموهومات والمشكوكات .

( والثالث : في الاصول العملية المذكورة ، التي هي المرجع عند الشك ) حيث انه محل اجراء الاصول العملية .

ولا يخفى انه قد يكون الظن النفسي ، حاله حال الشك في جريان احكام الشك ، وهو ما اذا كان الظن غير حجة .

* * *

ص: 24

الوصائل الى الرسائل

المقصد الاول: في القطع

اشارة

ص: 25

ص: 26

مقدمة البحث

امّا الكلام في المقصد الأول :

فنقول : لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه مادام موجودا ، لأنّه بنفسه طريقٌ إلى الواقع .

-----------------

( امّا الكلام في المقصد الاول ) وهو القطع ( فنقول ) : هو عبارة عما اذا كان وجدان الانسان الى طرف بحيث يمنع عن نقيضه - سواء كان مطابقا للواقع اولا - فان طابق الواقع سمّي يقينا ، وان لم يطابق سمي جهلاً مركباً ، لانه يجهل الواقع ، ويجهل انه يجهل الواقع .

هذا موضوع القطع ، اما حكمه : فانه ( لااشكال ) عقلاً وعقلائياً - وحيث انه تكويني لاشأن للتشريع فيه - ( في ) حجية القطع ، وانه يحتج المولى على العبد ان ترك العمل على طبقه ، ويحتج العبد على المولى ان عَمِل بقطعه ، وهذا هو معنى : ( وجوب متابعة القطع ) والاّ ، فمع قطع النظر عن الاحتجاج المذكور ، يمكن للانسان ان يقطع ويخالفه ( والعمل عليه ) جرياً ورائه بالعمل ، اذا كان القطع يوجبه ، كالقطع بان هذا اسد فيفرّ منه ، وبالترك ، اذا كان القطع يوجب الترك ، كالقطع بانه ليس بأسد فلا يفرّ ، ولعل الفرق بين المتابعة والعمل هو : ان الاول : لوحظ فيه ان القطع شيء يتبعه الانسان ، كاتباع زيد لعمرو في مشيه ورائه .

والثاني : لوحظ فيه حالة نفسية - لاضافة القطع الى النفس ، كاضافة الشجاعة و الكرم اليها - فيكون العمل على طبق تلك الحالة ( مادام موجوداً ) فاذا فقد القطع، كان من السالبة بانتفاء الموضوع ( لانه بنفسه طريق الى الواقع ) من غير حاجة الى تقوية وتأييد ، بخلاف الظن فانه محتاج اليهما .

ص: 27

وليس طريقيّتهُ قابلةً لجعل الشارع إثباتا ونفيا .

ومن هنا يُعلَمُ أنّ إطلاقَ الحجّة عليه ليسَ كاطلاق الحجّة على الأمارات المعتبرة شرعا ،

-----------------

( وليس طريقيّته قابلة لجعل الشارع اثباتاً ) بأن يقول الشارع : اذا قطعت فاعمل على طبق قطعك ، فيكون طريقيته مجعولة ( ونفياً ) بأن يقول : اذا قطعت فلا تعمل على طبق قطعك ، شأن القطع في ذلك شأن سائر الامور التكوينية ، فان الشارع يتمكن ان يزيل القطع تكويناً ، او يوجده تكويناً ، اما ان يوجد طريقيته أو ينفيطريقيته ، فليس من شأن الامر التكويني ذلك ، فكما ان الامر التشريعي لايوجد ولا يعدم بالتكوين ، كذلك الامر التكويني لايوجد ولايعدم بالتشريع .

وافضل مثال لذلك : رؤة العين ، فان الشارع يتمكن ان يعطي لعين زيد النور ، او يسلبها النور ، لكن هل يصح ان يقول : جعلت رؤتك للماء طريقاً الى معرفتك بانه ماء ؟ او جعلت رؤتك للماء مسلوباً عنك المعرفة بانه ماء ؟ .

( ومن هنا ) اي من جهة ان القطع طريق ذاتا ( يعلم ان اطلاق الحجة عليه ) حيث يقال في الالسنة : القطع حجة ( ليس كاطلاق الحجة على ) سائر ( الامارات المعتبرة شرعاً ) كالبينة ، وخبر العادل ، وما اشبه .

علماً بان الامارة : تطلق على مايقوم على الموضوع كالبينة .

والطريق : يطلق على مايقوم على الحكم كخبر الواحد .

مثلاً : اذا قيل الخمر حرام ، فكون المائع الفلاني خمراً ، انما يثبت بشهادة شاهدين ، فشهادتهما تسمى امارة على الخمرية ، اما كونه حراماً فانه يثبت بالآية والرواية ، وهما طريقان على الحكم المذكور .

ولايخفى : ان اطلاق الحجة على القطع وسائر الامارات على نحو الحقيقة ،

ص: 28

لأنّ الحجّة عبارةٌ عن الوسط الذي به يُحتَجُّ على ثبوت الأكبرللأصغر ، ويصيرُ واسطةً للقطع بثبوته له ، كالتغيّر لاثبات حدوث العالم.

فقولنا : « الظنّ حجّة ، او البيّنة حُجّة ، او فتوى المفتي

-----------------

لان المولى والعبد يحتج كل منهما على الاخر بالقطع وبسائر الامارات ، الا ان كونه طريقاً في الاول ذاتي ، وفي الثاني عرضي - هذا بناءا على المعنى اللغوي للحجة - اما المعنى الاصطلاحي للحجة ، فهو ماذكروه في المنطق من : « الاوسط » الذي يجعل الاكبر في الكبرى محمولا على الاصغر في الصغرى ، مثلا يقال : العالم متغيّر ، وكل متغيّر حادث ( لان الحجة ، عبارة عن الوسط الذي به يحتج على ثبوت الاكبر للأصغر ) وانما سمي الاول اصغر ، لانه فرد من الافراد ، ويسمى الثاني بالاكبر ، لانه كلي يشمل الاصغر وغير الاصغر من الافراد ، ففي المثال المتقدّم ، العالم فرد من افراد المتغيّر ، ولذا تسمى المقدمة الاولى : بالصغرى والمقدمة الثانية : بالكبرى ( ويصير ) هذا الوسط ( واسطة للقطع بثبوته ) اي ثبوت الاكبر ( له ) اي للاصغر ، فانَّ قطعنا : بان العالم حادث ، انما جاء من جهة الوسط ، الذي هو « متغير » ( كالتغير لاثبات حدوث العالم ) .

اقول : لافرق بين الواسطة في الثبوت ، او في النفي ، مثلا يقال : هذا فرس ، والفرس ليس بناطق ، فهذا ليس بناطق ، فعدم النطق ثبت على هذا بواسطة الوسط ، الذي هو « فرس » .

والاقسام في المنطق تحصل من ضرب « الاصغر » و « الاوسط » الاول و « الاوسط » الثاني ، و « الاكبر » ايجابا في كل واحد ، أوسلباً في كل واحد في الاخر ، فقد يقال « العالم » وقد يقال : « غير العالم » وهكذا يأتي السلب والايجاب في الاوسطين ، وفي الاكبر ( فقولنا : الظن حجة ، او البينة حجة ، او فتوى المفتي

ص: 29

حجّة » ، يرادُ به كونُ هذه الاُمور أوساطا لاثبات أحكام متعلّقاتها .

فيقال : هذا مظنونُ الخمريّة ، وكلُّ مظنون الخمريّة يجبُ الاجتناب عنه ، وكذلك قولنا : هذا الفعل ممّا أفتى المفتي بتحريمه ، او قامت البيّنةُ على كونه محرّما ، وكلُّ ما كان كذلك فهو حرامٌ .

وهذا بخلاف القطع ، لأنّه إذا قطع بوجوب شيء فيقال : هذا

-----------------

حجة ، يراد به ) اي بكونه حجة ( كون هذه الامور ) الظن والبينة والفتوى ( اوساطاً لاثبات احكام متعلقاتها ) مثلاً : الظن بالخمر مثبت لحكم الحرمة على ماظن انه خمر ، فالحكم : الحرمة ، والمتعلق للظن : خمرية مافي الاناء ، فحيث تعلق الظن بانه خمر ، ثبت عليه الحرمة ( فيقال : هذا مظنون الخمرية ، وكل مظنون الخمرية ، يجب الاجتناب عنه ) اي حرام ، فهذا الموجود في الاناء يجب الاجتناب عنه .

وعليه : فالظن صار وسطاً لاثبات الحرمة على مافي الاناء ، كما ان المتغيّر صار وسطا ، لاثبات الحدود على العالم ( وكذلك ) في وسطية سائر الامارات ك- ( قولنا : هذا الفعل مما افتى المفتي بتحريمه ) او دل الخبر على تحريمه ( او قامت البينة على كونه محرما ، وكلّما كان كذلك ) اي قام على تحريمه الفتوى ، او الخبر ، او البينة ( فهو حرام ) فهذا حرام ، وكذلك في باب الوجوب والاستحباب والكراهة والاباحة ، وهكذا في باب الاحكام الوضعية ، كالجزء والشرط والمانع والقاطع ، وهكذا في باب ان اللفظ الفلاني ظاهر او مجمل ، او عام او خاص ، الى غير ذلك .

( وهذا ) الذي ذكرناه انما هو بالنسبة الى الامارة ( بخلاف القطع ، لانه اذا قطع بوجوب شيء ) او حرمته او سائر الاحكام الوضعية والتكليفية ( فيقال : هذا

ص: 30

واجبٌ ، وكلّ واجب يحرمُ ضدُّه او تجب مقدّمته .

وكذلك العلمُ بالموضوعات ، فاذا قطع بخمريّة شيء ، فيقال : هذا خمرٌ ، وكلُّ خمر يجبُ الاجتنابُ عنه .

ولا يقال : إنّ هذا معلومُ الوجوب أو الخمريّة ، وكلّ معلوم حكمه كذا ، لأنّ أحكامَ الخمر إنّما تثبتُ للخمر ، لا لما عُلِمَ أنّه خمرٌ .

-----------------

واجب ، وكل واجب يحرم ضده ) اذا قلنا بمسألة الضد ( او تجب مقدمته ) اذا قلنا بوجوب المقدمة ، ولا نأتي بلفظ القطع في الوسط ، فلا نقول : « هذا ماقطع بوجوبه ، وكل ماقطع بوجوبه يحرم ضده » كما كنا نقول : هذا ماافتى المفتي بوجوبه ، وكل ما افتى المفتي بوجوبه ، فهو واجب ، هذا كله في ان القطع لايكون جزءا من الحكم ( وكذلك العلم ) اي القطع ( بالموضوعات فاذا قطع بخمرية شيء ) فان القطع لايكون جزءاً من الموضوع ( فيقال : هذا خمر ، وكل خمر يجب الاجتناب عنه ) فهذا يجب الاجتناب عنه ( ولا يقال : ان هذا معلوم الوجوب او الخمرية ، وكل معلوم ) الخمرية ( حكمه كذا ) لوضوح ان الشارع حرّم الخمر بما هو خمر ، لا انه اذا علم وقطع بانه خمر ، فليس القطع جزء الموضوع .

نعم ، اذا قطع به ، تنجز عليه ، واذا لم يقطع به لم يتنجز ، والاّ فالخمر حرام من غير تقييد بالعلم ( لان احكام الخمر انما تثبت للخمر ) على نحو لابشرط ( لا لما علم انه خمر ) فنفس القطع لم يقع وسطا ، وانما وقع فتوى المفتي ونحوه وسطا .

ولهذا ربما يقال : انه لافرق بين القطع الحجة ذاتا ، وسائر الامارات الحجة عرضا ، في ان الحكم تابع للواقع ، فان كان الواقع كان الحكم ، والا لم يكن الحكم ، والقطع وسائر الامارات تفيد التنجيز والاعذار ، والتجري في صورة

ص: 31

والحاصلُ أنّ كونَ القطع حجّةً غيرُ معقول ، لأنّ الحجّة ما يوجب القطعَ بالمطلوب ، فلا يُطلقُ على نفس القطع .

هذا كلّه بالنسبة إلى متعلّق القطع ، وهو الأمر المقطوع به . وأمّا بالنسبة إلى حكم آخر ، فيجوز أن يكون القطع مأخوذا

-----------------

مخالفة الامارة او مخالفة القطع ، فيما اشتبه ولم يكن واقع ، فلا وسطية اطلاقا ، لا للامارة ولا للقطع .

( و ) على اي حال ف- ( الحاصل ) ممّا ذكره الشيخ رضوان اللّه عليه : ( ان كون القطع حجة ) بمعنى الوسط ( غير معقول ) في القطع الطريقي ( لان الحجة ما يوجب القطع بالمطلوب ) اي بثبوت الاكبر على الاوسط ( فلا يطلق ) الحجة ( على نفس القطع ) الاّ اطلاقا مجازيا ، من باب اطلاق اسم السبب على المسبب .

نعم ، الحجة بمعنى احتجاج كل من المولى على العبد اذا خالف ، واحتجاج العبد على المولى اذا وافق ، يطلق على القطع كما يطلق على سائر الامارات .

( هذا كله ) الذي ذكرناه : من عدم كون القطع وسطا حجة ، انما هو ( بالنسبة الى ) حكم ( متعلق القطع ) الذي حمل الحكم وجوبا او تحريما او غير ذلك ، على الشيء المتعلق للقطع ، بما هو ، ويسمى ذلك بالقطع الطريقي ( و ) متعلق القطع (هو الامر المقطوع به ) فلا اعتبار لصفة القطع في الحكم .

( وأما ) القطع بشيء (بالنسبة الى حكم آخر ) كما اذا كان القطع بالخمر موضوعاً لحكم ، غير حرمة الخمر ، مثلاً : قال المولى : من قطع بالخمر ، فعليه ان يريق ذلك المقطوع كونه خمراً ( فيجوز ) اييمكن ( ان يكون القطع مأخوذاً

ص: 32

في موضوعه ، فيقال : إنّ الشيء المعلوم ، بوصف كونه معلوما ، حكمهُ كذا .

وحينئذٍ : فالعلمُ يكون وسطا لثبوت ذلك الحكم وإن لم يطلق عليه الحجّة ، إذ المرادُ بالحجّة في باب الأدلّة

-----------------

في موضوعه ) كل الموضوع ، او جزء الموضوع ( فيقال : إنّ الشيء ) الذي هو خمر ( المعلوم ) كونه خمراً (بوصف كونه معلوماً ، حكمه كذا ) اي وجوب الاراقة - في المثال - كما ورد في باب القضاة : ان الرجل الذي يقضي بالحق وهو لايعلم ، يكون من اهل النار، فالحق المعلوم يجوز القضاء به اما الحق بما هو حق ، فلا يجوز القضاء به ، كما ورد شبه ذلك في الشيء الذي للانسان ، ويأخذه من المستولي عليه بحكم الجائر، فانه حرام على المالك نفس ذلك الشيء ، فالشيء الذي لايأخذه بحكم الجائر وانما بحكم العادل او يأخذه بنفسه بلا مراجعة حاكم الجور حلال له .

( وحينئذٍ ) اي اذا كان القطع جزء الموضوع ، او كل الموضوع ( فالعلم يكون وسطاً لثبوت ذلك الحكم ) لمتعلقه ، فيقال : « هذا معلوم الخمرية ، وكل معلوم الخمرية يلزم اراقته » فاذا كان قطع ، بدون ان يصادف الواقع ، بأن كان جهلاً مركباً، او كان خمر ، بدون ان يقطع بأنه خمر ، لم يجب اراقته .

هذا في ما اذا كان العلم جزء الموضوع ، اما اذا كان العلم كل الموضوع ، فان علم بانه خمر - وان كان علمه جهلاً مركباً - وجب اراقته ( وان لم يطلق عليه ) اي على هذا القطع الذي هو كل الموضوع ، او جزء الموضوع ( الحجة ) لان الحجة هو الوسط بين الموضوع والمحمول ، مثل : المتغير في العالم متغير ، وهذا القطع الموضوعي ، موضوع ، وليس وسطاً ( اذ المراد بالحجة في باب الادلة ) لاباب الأقيسة ، حيث ان المنطقيين يسمون كل القياس بكبراه وصغراه : حجة ، ولعله

ص: 33

ما كان وسطا لثبوت أحكام متعلّقه شرعا ، لا لحكم آخر ، كما إذا رتّب الشارع الحرمة على الخمر المعلوم كونها خمرا ، لا على نفس الخمر ، وكترتّب وجوب الاطاعة على معلوم الوجوب ، لا الواجب الواقعيّ .

وبالجملة : فالقطع قد يكون طريقا للحكم ، وقد يكون مأخوذا في موضوع الحكم ،

-----------------

من باب ان هذا المجموع حجة على النتيجة ( ما كان وسطاً ) لثبوت الاكبر على الاصغر اي ( لثبوت احكام متعلقه شرعاً ) كفتوى المفتي حيث يقال : فتوى المفتي حجة ، لثبوت الحكم على الموضوع ، فاذا قال المفتي : العصير العنبي قبل ذهاب الثلثين نجس ، احتج كل من المولى على العبد - اذا خالف - والعبد على المولى اذا وافق ، بهذه الفتيا ( لالحكم آخر ) كوجوب الاراقة في المثال السابق «الخمر المعلوم خمريته تجب اراقته » . حيث ان وجوب الاراقة ليس حكم الخمر، وانما هو حكم « معلوم الخمرية » والقطع ، الذي هو الموضوع كلا او جزءاً ( كما اذا رتب الشارع الحرمة على الخمر المعلوم كونها خمراً ، لا على نفس الخمر ) .

ولايخفى : ان « الخمر » يجوز فيه التذكير والتأنيث ، فيقال مثلاً : الخمر الحمراء ، والخمر الاحمر ( وكترتب وجوب الاطاعة ) عقلاً ( على معلوم الوجوب لا الواجب الواقعي ) .

( وبالجملة ) الجملة : مقابل التفصيل ، ويسمى جملة لان من جمال الكلام ان يجمع المتكلّم اطراف كلامه في عبارة موجزة ، فانه اقرب الى الحفظ والبقاء في الذهن ( فالقطع قد يكون طريقاً ) ويسمى قطعاً طريقياً ( للحكم ) فلا مدخلية له في الحكم ( وقد يكون مأخوذاً في موضوع الحكم ) ويسمى قطعاً موضوعياً.

ص: 34

ثم ما كان منه طريقا لايفرّق فيه بين خصوصيّاته من حيث القاطع والمقطوع به وأسباب القطع وأزمانه ، إذ المفروضُ كونه طريقا إلى متعلّقه ،

-----------------

وقد تقدم ، أن القطع الموضوعي قد يكون جزء الموضوع ، وقد يكون كل الموضوع ( ثم ما كان منه طريقاً ) يختلف عما كان منه موضوعا ، في امور ثلاثة :

الاول : ان القطع الطريقي لايقع وسطاً ، ولايسمى حجة ، بخلاف القطع الموضوعي - كما تقدم الكلام فيه - .

الثاني : ان القطع الطريقي ( لايفرق فيه بين خصوصياته ) بخلاف القطع الموضوعي ، حيث ان الشارع يمكن ان يفرق فيه بين الخصوصيات ، فان الشارع يقرر حكمه على قدر مايريده من الموضوع - كما سيأتي تفصيل الكلام فيه - .

الثالث : ان القطع الطريقي ، تقوم الامارات وبعض الاصول العملية مقامه بخلاف القطع الموضوعي ، كما سياتي بيانه عند قوله :

« ثم من خواص القطع الذي هو طريق الى الواقع الى آخره » .

وحيث ظهر لك موجز الفروق ، وقد تقدم الفرق الاول ، نفصل الكلام حول الفرق الثاني ، فلا فرق في القطع الطريقي بين تمام الاحوال : ( من حيث القاطع ) فهو حجة ، سواء حصل للقطاع غير المتعارف ، او للمتعارف ( والمقطوع به ) سواء كان في الاصول او الفروع ، في الاحكام الوضعية او التكليفية ، او في الموضوعات ( واسباب القطع ) سواء كان من الادلة العقلية او اللفظية ، بل وحتى من الخارج عن المتعارف ( وازمانه ) سواء كان في زمان الانفتاح او الانسداد ، - لو قلنا بالانسداد - وزمان حضورهم عليهم السلام او حال الغيبة ( اذ المفروض كونه ) اي كون الطريقي ( طريقاً الى متعلقه ) فاذا قطع بأن المائع الفلاني خمر

ص: 35

فيترتّب عليه أحكامُ متعلّقه ، ولا يجوز للشارع أن ينهى عن العمل به ، لأنّه مستلزم للتناقض .

فاذا قطعَ كون مائع بولاً ، من أيّ سبب كان ، فلا يجوز للشارع أن يَحكُمَ بعدم نجاسته او عدم وجوب الاجتناب عنه ،

-----------------

( فيترتب عليه ) اي على هذا القطع الطريقي ( احكام متعلقه ) كالحرمة .

وما ذكره : مثال للقطع بالموضوع ، وكذلك حال الحكم ، فاذا قطع بان الخمر حرام ، فكلّما تحقق الموضوع تحقق الحكم ( ولايجوز للشارع ) اي يستحيل عقلاً بالنسبة الى الحكيم ، فكيف اذا كان سيد الحكماء والعقلاء ؟ ( ان ينهى عن العمل به ) اي بالقطع الطريقي ( لانه ) اي نهيه ( مستلزم للتناقض ) ولو في نظر المكلّف ، لانه من ناحية ، قال الشارع : كل خمر حرام فلا تشربه ، ومن ناحية ، قال : اشرب هذا الخمر .

وبذلك يظهر : انه لايتمكن الشارع ان ياتي بحكم آخر ، ولو غير النهي ، من الاحكام ، كان يقول : لاتشرب الخمر ، ثم يقول : ان شئت فاشرب ، او يكره شربه ، او يستحب ، او يجب ، من غير فرق في ذلك بين القطع بالموضوع ، او بالحكم .

( فاذا قطع ) المكلّف ( كون مائع بولاً ، من اي سبب كان ) قطعه ، سواء باخبار من قطع بسبب اخبارهم ، او برؤته بالعين ، او بان راى مكانه الذي نام ولده الصغير فيه مرطوباً او بغير ذلك ( فلايجوز للشارع ) بمعنى يمتنع - كما تقدم - ( ان يحكم بعدم نجاسته ، او عدم وجوب الاجتناب عنه ) اي وجوب الاجتناب من آثار النجاسة ، اذ التناقض كما يحصل بنفي المؤر ، يحصل بنفي الاثر ايضاً ، فانه اذا كان امران متلازمان ، يناقضهما أمران متلازمان آخران ، ولا يمكن الجمع

ص: 36

لأنّ المفروض أنّه بمجرّد القطع يحصلُ له صغرى وكبرى ، أعني قوله : « هذا بولٌ ، وكلّ بول يجبُ الاجتناب عنه ، فهذا يجبُ الاجتنابُ عنه » .

فحكمُ الشارع بأنّه لايجب الاجتناب عنه مناقضٌ له ،

-----------------

بين الملزومين ، ولا بين اللازمين ، ولابين ملزوم احدهما ولازم الآخر .

وكما لايصح ان يحكم بعدم النجاسة ، او عدم وجوب الاجتناب ، كذلك : لايصح ان يحكم بجواز الصلاة فيه ، والحال انه قال : لاتصل في البول ، وكذلك لايصح ان يقول : ان هذا ليس ببول ، الى غير ذلك .

( لان المفروض ) ان الشارع حكم بوجوب الاجتناب عن البول ، والمكلّف قطع ( انه ) بول ، فانه ( بمجرد القطع ) بالبولية (يحصل له صغرى ) وجدانية (وكبرى ) شرعية ( اعني قوله ) اي قول المكلّف : (هذا بول ، وكل بول يجب الاجتناب عنه ، فهذا يجب الاجتناب عنه ، فحكم الشارع : بانه ) لايجب العمل بقطعك ، او يحرم ، او يستحب ، او يكره ، مما مؤداه :

( لايجب الاجتناب عنه ) اي عن هذا الشيء الذي تقطع بانه بول ( مناقض له ) ولو في نظر المكلّف ، وكما لايعقل ان يحكم الحكيم بالمناقض واقعاً كذلك لايعقل ان يحكم بما يراه المكلّف مناقضاً ، لانه يوجب نقض الغرض ، باسقاطه نفسه عن كونه حكيماً في نظر المكلّف ، الذي يراه وقد ناقض نفسه بنفسه .

وبهذا تبين : ان الامر ليس منحصراً بالتناقض ، بل ياتي نفس هذا الكلام فيما اذا رآه المكلّف مضاداً لنفسه بنفسه ، بان امر بالضدين ، او بارتفاع النقيضين ، او بارتفاع الضدين ، الذين لاثالث لهما .

هذا كله فيما اذا كانت « النجاسة » في لسان الشرع حكما للبول بنفسه ، اما اذا كان حكما للبول المعلوم من طريق خاص ، كما اذا قال الشارع : « البول الذي

ص: 37

إلاّ إذا فرض عدم كون النجاسة ووجوب الاجتناب من أحكام نفس البول ، بل من أحكام ماعلم بوليّته على وجه خاصّ من حيث السبب او الشخص او غيرهما ، فيكون مأخوذا في الموضوع .

-----------------

يشهد شاهدان بانه بول ، يجب عليك الاجتناب عنه » فانه يتمكن ان يقول اما اذا رأيت بعينك انه بول ، فلا يلزم الاجتناب عنه ، لان الموضوع صار خاصاً ، والى هذا اشار بقوله : ( الا اذا فرض عدم كون النجاسة ووجوب الاجتناب ) وامثالهما ، كوجوب التطهير بالماء القليل مرتين ، من اللازم والملزوم والملازم ( من احكام نفس البول ) ولوازمه الشرعية .

وعليه : فلا يكون القطع بالبول كاشفاً عن صغرى ، فلا يمكن رفع الحكم ، بعد حكم الشارع بالكبرى ( بل من احكام ماعلم بوليته على وجه خاص ) او من احكام ماقام على انه بول على وجه خاص ( من حيث السبب ) كما اذا قال : مارأيته بعينك انه بول ، فهو نجس ( او الشخص ) كما اذا قال: ماعلمه غير الوسواسي بانه بول ، فهو نجس ، لا ماعلمه الوسواسي ( او غيرهما ) كالزمان والمكان ، كما اذا قال : ماعلمته في الصيف انه بول ، او ماعلمته في مصر - حيث البلهارزيا - انه بول فهو نجس .

هذا ، وقد ذكر جماعة : انه اذا علم القاضي بان فلاناً زان ، لايكفي في حده بل اللازم الشهود الاربعة، او الاقرارات الاربعة ، وذلك لان النبي صلى الله عليه و آله وسلم والوصي عليه السلام علما بزنا الرجل والمرأة باول اقرار (1) ، ومع ذلك لم يجريا الحد ، مما يدل : على ان وجوب الحد على القاضي ليس بمجرد الزنا ، بل بعلمه من قيام الشهود او الاقرار - على الشرائط المقررة - ( فيكون ) القطع ، حينئذ ( مأخوذاً في الموضوع )

ص: 38


1- - راجع وسائل الشيعة : ج28 ص56 - 57 ب32 ح34202 .

وحكمه أنّه يُتّبع في اعتباره مطلقا او على وجه خاصّ دليلُ ذلك الحكم الثابت الذي اُخِذَ العلمُ في موضوعه .

فقد يدلّ على ثبوت الحكم لشيء بشرط العلم به ، بمعنى انكشافه للمكلّف من غير خصوصيّة للانكشاف ،

-----------------

فليس البول نجساً ، بل البول المقطوع به من طريق خاص نجس .

( وحكمه ) اي حكم ذلك الموضوع ( انه يتبع في اعتباره ) اي اعتبار ذلك الحكم ( مطلقاً ) في انه كلما قطع بانه بول ، كان حكمه النجاسة ( او على وجه خاص ) كالقطع في الصيف ، او من غير الوسواسي ، او مااشبه ذلك ( دليل ذلك الحكم الثابت ) « دليل » : نائب فاعل ل- « يتبع » و ( الذي ) صفة «لحكم» ( اخذ العلم في موضوعه ) فنلاحظ هل قال الشارع : « البول المقطوع به نجس » ؟ او قال : « البول الذي يقطع به غير الوسواسي نجس » ؟ .

ففي الاول : كلما حصل القطع كان محكوماً بالنجاسة ، وفرقه عن « البول النجس » : ان لموضوع النجاسة في « البول المقطوع به » جزآن : « البول ، والقطع به » وفي « البول نجس » جزء واحد - ومرادنا بالجزء : اعم من الجزء والقيد والشرط - .

وتظهر النتيجة بين الموضوع « الفرد » و « المركب » في الاثار ( فقد يدل ) الدليل ( على ثبوت الحكم لشيء بشرط العلم به ) مطلقاً، من غير خصوصية سبب خاص ،او شخص خاص، او زمان خاص ، او مكان خاص - وقوله : بشرط يريد به : «اعم من الجزء والشرط» والقيد ، كما ذكرناه - ( بمعنى انكشافه ) اي انكشاف ذلك الشيء ( للمكلف من غير خصوصية للانكشاف ) سبباً ، او شخصاً ، او زماناً ، أو مكاناً ، ولنمثل لمدخلية القطع مطلقاً في ترتب الحكم ، بمثالين :

ص: 39

كما في حكم العقل بحسن إتيان ما قطع العبدُ بكونه مطلوبا لمولاه ، وقبح ما يقطع بكونه مبغوضا ، فانّ مدخليّة القطع بالمطلوبيّة او المبغوضيّة في صيرورة الفعل حسنا او قبيحا عند العقل لا يختصّ ببعض أفراده .

-----------------

احدهما عقلي ، والآخر شرعي .

فالاول : ( كما في حكم العقل بحسن اتيان ما ) اي الفعل الذي ( قطع العبد بكونه مطلوباً لمولاه ) كالاحسان والعدل ، والفرق بينهما : ان العدل : عبارة عن الموزانة بين امرين ، كاعطاء الاجير اجرته حيث توازن الاجرة عمله ، والاحسان : عبارة عن الزيادة الحسنة ، مثل ان يعطيه فوق اجرته شيئاً ( وقبح ما ) اي الفعل الذي ( يقطع بكونه مبغوضاً ) لمولاه ، كالظلم ، فان القطع الذي جعل في موضوع الاحسان والاسائة ، قطع مطلق ، من اي سبب ، او في اي زمان حصل ، والى آخره .

والظاهر : ان مراد المصنف قدس سره : ان تنجيز حسن الاحسان ، وقبح الاسائة منوط بالقطع ، والاّ فمن الواضح : ان الاحسان حسن ، والاسائة قبيح ، سواء قطع بهما العبد ام لا .

وعلى اي : ( فان مدخلية القطع بالمطلوبية ) للاحسان ( أو المبغوضية ) للاساءة ( في صيرورة الفعل حسناً ، أو قبيحاً عند العقل ) و « عند » متعلق ب« صيرورة » ( لايختص ببعض افراده ) اي افراد القطع ، بل من كل سبب ، ولاي احد ، وفي اي زمان ، وفي اي مكان ، وفي اي قسم من اقسام الاحسان او الاساءة ، والى غير ذلك .

ولايخفى : ان اصل الحسن والقبح - حيث نحن بصددهما - شيء ، والمزيد في الاحسان والاسائة من جهة خارجية ، شيء آخر ، وكذا يكون القتل في الاشهر الحرم اسوء ، دون سائر الشهور ، وقد قال الامام الصادق عليه السلام لشقران :

ص: 40

وكما في حكم الشرع بحرمة ما علم أنّه خمر او نجاسته بقول مطلق ، بناءً على أنّ الحرمة والنجاسة الواقعيّتين إنّما تَعرضانِ مواردَهما بشرط العلم ، لا في نفس الأمر ، كما هو قول بعض .

-----------------

« ان الحسن من كل أحد حسن ، وانه منك احسن لمكانك منا ، وان القبيح من كل احد قبيح ومنك اقبح لمكانك منا » (1) .

( و ) الثاني : ( كما في حكم الشرع بحرمة ما علم انه خمر ، او نجاسته بقول مطلق ) فالقطع بالخمر من اين حصل ، ولاي انسان ، وفي اي زمان ، او مكان ، ولاي قسم من الخمر ، انما هو بقول مطلق ، من غير تفاوت في تلك الخصوصيات ( بناءاً ) اي لايريد المصنف قدس سره ان الامر كذلك ، وانما ذكره من باب المثال ( على انّ الحرمة والنجاسة الواقعيتين ، انما تعرضان مواردهما ) من المحرمات والاعيان النجسة ( بشرط العلم ) او جزئه ، او قيده ، فالتراب مثلاً حرام اكله ، بشرط القطع بانه تراب ، والكافر نجس ، بشرط القطع بانه كافر ، والخمر حرام ونجس ، بشرط القطع بانه خمر ( لافي نفس الامر كما هو قول بعض ) حتى يكون التراب حراماً ، وان لم يقطع بانه تراب ، الى غير ذلك .

وانت خبير بان المحرمات والاعيان النجسة ليست كذلك ، وانما ذكرها المصنف قدس سره من باب المثال ، واما ماورد من سؤل المسلمين عن قرائة آية الخمر على من شربها في زمن الثاني ، ورفع علي عليه السلام عنه الحد لجهله بالحرمة (2) ، فذلك لانه كان جاهلاً قاصراً ، ومن الواضح انه ليس على مثله حد ، فلا شاهد

ص: 41


1- - العدد القوية : ص153 ، سفينة البحار : ج4 ص467 باب الشين ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج18 ص205 .
2- - وسائل الشيعة : ج28 ص33 ب14 ح34145 .

وقد يدلّ دليلُ ذلك الحكم على ثبوته لشيء بشرط حصول القطع به من سبب خاصّ او شخص خاصّ ، مثلُ ماذهب إليه بعضُ الأخباريّين من عدم جواز العمل في الشرعيّات بالعلم الغير الحاصل من الكتاب والسنّة ،

-----------------

فيه لما ذكره قدس سره .

( وقد يدل دليل ذلك الحكم على ثبوته ) اي ثبوت ذلك الحكم ( لشيء ) من الموضوعات ( بشرط حصول القطع به من سبب خاص ، او شخص خاص ) او زمان ، او مكان ، او خصوصيات خاصة - كما تقدم - ( مثل ماذهب اليه بعض الاخباريين : من عدم جواز العمل في الشرعيات بالعلم غير الحاصل من الكتاب والسنة ) فجواز العمل عندهم - بالمعنى الاعم للجواز ، من الوجوب وغيره ، في قبال الحرمة - انما هو بالحكم الشرعي ، المقيد حصول العلم بذلك الحكم من الكتاب والسنة .

لكن لايخفى : ان الاخباريين لايقولون بانحصار جواز العمل بالعلم الحاصل منهما ، بل يقولون بجواز العمل بالكتاب والسنة ، سواء حصل العلم منهما ، ام لا .

وانما مراد الشيخ قدس سره : ان نفي العمل بعلم غير حاصل منهما ، لايقيد الكتاب والسنة بالعلم ، فهو مثل قولنا : الشاهد حجة سواء علم القاضي بصحة كلامهما ام لا ، فهناك امور ثلاثة :

الاول : الشاهد الذي يعلم القاضي بان كلامه خلاف الواقع ، وهنا لايعمل القاضي بشهادته .

الثاني : الشاهد الذي يعلم القاضي بمطابقة كلامه للواقع ، وهنا يعمل به .

الثالث : الشاهد الذي لايعلم القاضي منه اي الامرين ، وهنا ايضاً يعمل بشهادته .

ص: 42

كما سيجيء ،وما ذهب اليه بعضٌ من منع عمل القاضي بعلمه في حقوق اللّه تعالى .

-----------------

نعم ، ربما يناقش في ما اذا علم القاضي بمخالفة الشاهد للواقع ، فانه اذا لم يعمل بكلامه ، لزم الفوضى في القضاء ، حيث يتمكن القاضي من رد الشهود ، بحجة انه يعلم خلاف ماشهدا به ، ومحل البحث فيه كتاب القضاء (1) ، وهذا هو ما اشتهر بين القضاة الجدد : من ان القاضي هل يقدم جسم القانون او روح القانون ؟ (2) .

( كما سيجيء ) الكلام في قول الاخباريين في التنبيه الثاني ( و ) مثل ( ماذهب اليه بعض من منع عمل القاضي بعلمه في حقوق اللّه تعالى ) كما اذا علم بان فلانا ارتد ، او شرب الخمر ، او ما اشبه ، لامثل السرقة والزنا ، حيث هناك حقان : حق اللّه ، وحق الناس .

والمراد بحق الناس : الحق الذي جعله اللّه للانسان ، والا فكل حق فهو للّه سبحانه .

وعلى اي حال : فمحل كلام المصنف : ان الحكم وهو مائة جلدة للخمار ، لايترتب بمجرد علم القاضي بل يترتب على علمه المقيد بكونه حاصلاً من الشهود ، وقد قال صلى الله عليه و آله وسلم : « انما اقضي بينكم بالبينات والأيمان » (3) ،بل ربما يقال بذلك ، اذا علم القاضي بالزنا - بدون شهود اربعة ، او اقرار اربع مرات - والظاهر : انه مقيد ايضاً ، وذلك لان النبي صلى الله عليه و آله وسلم والوصي عليه السلام ، علما بالزنا

ص: 43


1- - راجع موسوعة الفقه : ج84 - 85 كتاب القضاء للشارح .
2- - وقد اشار الشارح الى هذه المسألة في موسوعة الفقه : كتاب القانون ص 149 .
3- - الكافي فروع : ج7 ص414 ب29 ح1 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص229 ب22 ح3 ، وسائل الشيعة : ج27 ص232 ب2 ح33663 .

وأمثلة ذلك بالنسبة إلى حكم غير القاطع كثيرةٌ ، كحكم الشارع على المقَلِّد بوجوب الرجوع إلى الغير في الحكم الشرعيّ ، إذا علم به من الطرق الاجتهاديّة المعهودة ، لا من مثل الرمل والجفر ،

-----------------

من اقرار الزاني والزانية ثلاث مرات - قطعاً - ومع ذلك لم يجريا الحد ، وكذا اذا شهد ثلاثة عدول ، يعلم القاضي بصدقهم لايجري الحد حتى ينضم اليهم الرابع (1) .

( وامثلة ذلك ) اي تقيد الحكم بموضوع خاص ( بالنسبة الى حكم غير القاطع ) فان القاطع يعمل بقطعه - كما تقدم - من اين حصل ، اما غيره فلا ، الا اذا حصل من سبب خاص - مثلاً - وهي ( كثيرة ) بالنسبة الى المقلد وغيره ( كحكم الشارع على المقلد بوجوب الرجوع الى الغير في الحكم الشرعي اذا علم ) ذلك الغير وهو المجتهد ( به ) اي بالحكم ( من الطرق الاجتهادية المعهودة ) : الكتاب والسنة ، والاجماع ، والعقل ، على ماذكرها الفقهاء : من انها المدرك .

وفي جملة من الروايات - كما في قضاء الوسائل - حرمة رجوع الشخص الى غيرهم عليهم السلام (2) ، فاذا رجع واجتهد وان قطع بالحكم ، يكون ساقطاً عن العدالة ، فلا يجوز تقليده ، بل لايجوز الرجوع اليه وان لم يسقط عن العدالة ، لانهم عليهم السلام لم يأذنوا للرجوع الى مثل هذا المستنبط ، فالمجتهد القاطع من سبب خاص ، هو المأذون في الرجوع اليه ، لا مطلق المجتهد فانه ( لا ) يجوز الرجوع الى من علم الحكم ( من مثل الرمل والجفر) وسمي رملاً ، لان اول اكتشاف للمجهول بطرق

ص: 44


1- - وسائل الشيعة : ج28 ص96 ب12 ح34311 .
2- - وسائل الشيعة : ج27 ص17 ح33092 فما بعده باب 3 صفات القاضي .

فانّ القطع الحاصل من هذه وإن وجب على القاطع الأخذُ به في عمل نفسه ، إلاّ أنّه لايجوز للغير تقليده في ذلك .

وكذا العلم الحاصل للمجتهد الفاسق او غير الاماميّ من الطرق الاجتهاديّة المتعارفة ، فانّه لايجوز للغير العملُ بها ؛ وكحكم

-----------------

الرمل كان بالتخطيط في رمال الارض ، كما انه سمي جفراً ، لان الجفر عبارة عن جلد السخل وكان اول كتابة هذا العلم في جلده ، وكلاهما اتخذا طريقاً لكشف المجهولات ، ومثلهما في زماننا : الكمبيوتر و الانترنيت .

( فان القطع الحاصل من هذه ) الاسباب غير المتعارفة ( وان وجب على القاطع) المجتهد ( الاخذ به في عمل نفسه ) لما تقدم : من ان القطع حجة عقلية من اي سبب ، ولأيّ احد حصل ( الا انه لايجوز للغير تقيلده في ذلك ) المقطوع به ، المكتشف بهذه الاسباب ، وان كان المجتهد جامعاً لشرائط الفتوى .

( وكذا العلم الحاصل للمجتهد الفاسق ، او غير الامامي ) او المرأة ، او العبد ، او غيرهم ممن فقد شرائط التقليد ولم يجتهد ( من الطرق الاجتهادية المتعارفة ) اي الادلة الاربعة ، فان هؤاء يفقدون بعض الشرائط ، كما ان القاطع من غير الاجتهاد المتعارف يفقد شرطاً آخر ، لانه حصل من غير الطريق المتعارف ، فالعلم الذي يجوز التقليد فيه ، مقيد بالشرائط المذكورة .

وهكذا لايجوز للمترافعين ، مراجعة القاضي الذي حصل له العلم من الامور غير المتعارفة ، كما لايصح لهما مراجعة القاضي اذا لم يكن عادلاً ، او رجلاً ، او مجتهداً مطلقاً - عند من لايكتفي بتجزي القاضي - الى غير ذلك من فاقدي الشرائط ( فانه لايجوز للغير ) مقلداً او متنازعاً ( العمل بها ) ومراجعته ( وكحكم

ص: 45

الشارع على الحاكم بوجوب قبول خبر العدل المعلوم له من الحسّ ، لا من الحدس ، إلى غير ذلك .

ثمّ من خواصّ القطع الذي هو طريق إلى الواقع قيامُ الأمارات الشرعيّة والاصول العمليّة مقامه في العمل ،

-----------------

الشارع على الحاكم ، بوجوب قبول خبر العدل المعلوم له ) اي لذلك العدل (من الحس لامن الحدس ) اي من الحواس الخمس ، لا ما اذا علم بالشيء من الجفر ونحوه .

والعلم من الحواس الخمس : كان يرى بعينه الزنا ، او يتذوق الطعام فيعلم انه حامض ، فيما لو اختلف البائع والمشتري في الحموضة ، وضدها ، او يشم الخل او ماء الورد ليعلم من الرائحة : الجودة والردائة ، او يسمع صوت زيد وهو يسب عمراً ، او يلمس خشونة الحرير وزفته ، فيشهد باحدهما بعد اختلاف المتبايعين ( الى غير ذلك ) .

( ثم ) الفرق الثالث بين القطع الطريقي والقطع الموضوعي - على ماتقدم الالماع الى ان بينهما ثلاثة فروق : - ( من خواص القطع الذي هو طريق الى الواقع ، قيام الامارات الشرعية ) .

والمراد بها هنا : الاعم من الطرق ، فان الامارات والطرق كالظرف والجار والمجرور اذا ذكر احدهما شمل الآخر ، وان ذكرا معاً ، كانا كما ذكرناه - فيما سبق - ( و ) بعض ( الاصول العملية ) كالاستصحاب ، الذي له كاشفية عن الواقع ، وان كانت كاشفيته ناقصة وبحاجة الى المتمم كما سيأتي بيانه انشاء اللّه تعالى ( مقامه ) اي مقام القطع ( في العمل ) لافي كونه صفة نفسية ، كما هو واضح ، اذ القطع لامران :

ص: 46

...

-----------------

الاول : ان المقطوع به يعمل به .

الثاني : ان القطع صفة للنفس .

والامارة والاصل ، يقومان مقام القطع في الجهة الاولى لاالثانية ، اي كما انه يعمل بالقطع ، كذلك يعمل بالامارة والاصل .

مثلاً : اذا قطع بانه خمر وجب عليه الاجتناب ، كذلك اذا قامت البينة بانه خمر وجب الاجتناب ، وهكذا اذا كان علمه سابقاً بانه خمر ، ثم شك في انه هل بقي على الخمرية ، او انقلب خلاً ؟ استصحب خمريته ، فوجب عليه الاجتناب، فالبينة والاستصحاب قاما مقام القطع .

نعم ، الاصول الثلاثة الاخر ، اي : البرائة ، والاحتياط ، والتخيير ، لاتقوم مقام القطع ، فاذا شك في سائل انه ماء او خمر ، كان حكمه البرائة لا انه خمر ، واذا شك في ان هذا الاناء خمر او ذاك الاناء ، كان اللازم عليه الاحتياط باجتنابهما ، لا انه اذا شرب احدهما اجروا عليه حد الخمر ، او الزم بتطهير فمه ، لان الاحتياط لم يكشف عن كونه خمراً ، حتى يترتب عليه آثار الخمر .

واذا شك في مايع هل انه خمر يحرم شربه ، او خل يجب شربه ؟ لانه نذر ان يشرب اناء ماء - ولا ماء غيره فرضاً ، فيكون هذا الاناء المصداق المنحصر لنذره - تخير بين الشرب وعدمه ، ولا يكون التخيير طريقاً الى كونه خمراً .

ولا يخفى : ان مثل : الصحة ، واصل الطهارة ، واصل الحل ، وما اشبه ، تقوم ايضاً مقام القطع الطريقي - على نحو ماذكرناه في الاستصحاب - وكذلك مثل :

ص: 47

بخلاف المأخوذ في الحكم على وجه الموضوعيّة ، فانّه تابع لدليل ذلك الحكم .

-----------------

سوق المسلم ، ويد المسلم ، وارض المسلم ، الى غير ذلك .

( بخلاف ) القطع (المأخوذ في الحكم على وجه الموضوعية ) الوصفية ( فانه تابع لدليل ذلك الحكم ) اذ هو على قسمين :

الاول : القطع الموضوعي الوصفي .

الثاني : القطع الموضوعي الطريقي .

فأقسام القطع ثلاثة :

الاول : ماتقدّم من الطريقي البحث ، كما اذا قال : الخمر حرام .

الثاني : القطع الموضوعي الوصفي ، بمعنى : ان كون القطع صفة نفسية جزء الموضوع ، كما اذا قال : الخمر المقطوع به - لان القطع صفة للنفس - حرام .

الثالث : القطع الموضوعي الطريقي ، بمعنى : ان كون القطع طريقاً الى الخمر جزء الموضوع ، كما اذا قال : الخمر المقطوع به - لان القطع طريق الى الخمر - حرام ، وقد سبق الكلام في الاول .

اما الثاني : فلا يقوم الطرق والامارات مقامه ، لان الشارع اعتبر الصفة النفسية ، ومن المعلوم ان الامارات والاصول لاتحدث للنفس صفة .

واما الثالث : فالامارات والاصول تقوم مقامه ، لانه اعتبر في القطع الطريقية ، وكما يكون القطع طريقا عقليا ، تكون الامارة والاصول طريقا تعبديا .

ص: 48

فان ظهر منه اومن دليل خارج اعتبارُه على وجه الطريقيّة للموضوع

قامت الأماراتُ والاصولُ مقامه .

وإن ظهر منه اعتبارُ صفة القطع في الموضوع ، من حيث كونها صفه خاصّة قائمة بالشخص لم يقم مقامه غيرُهُ .

-----------------

وعلى هذا ( فان ظهر منه ) اي من الدليل نفسه ( أو من دليل خارج ) كالاجماع ( اعتباره ) اي اعتبار القطع ( على وجه الطريقية للموضوع ) وهو القسم الثالث في كلامنا ( قامت الامارات والاصول ) المصطلح عليها بالاصول المحرزة ، اي الكاشفة عن الواقع ولو كشفاً ناقصاً ، كما تقدّم من مثل : الاستصحاب ، واصالة الطهارة ، والحل ، والصحة ، وما اشبهها ( مقامه ) .

لما عرفت : من ان القطع كاشف نفسي ، وهذه الامارات والاصول كاشفة تعبدية ، بمعنى : ان الشارع اتم كشفها ، بعد ان كان لها كشف في الجملة .

( وان ظهر منه ) اي من الدليل ( اعتبار صفة القطع في الموضوع من حيث كونها صفة خاصة قائمة بالشخص ) وهو القسم الثاني في كلامنا ، فانه ( لم يقم مقامه غيره ) من الامارات والاصول ، لانها لاتحدث في النفس صفة .

ثم انه يمكن ان يضاف الى الاقسام الثلاثة، التي ذكرها المصنّف قدس سره قسم رابع ، وهو : ما اعتبره الشارع طريقاً وصفة معاً - مثلاً قال : الخمر المقطوع به - لان القطع صفة للنفس وطريق الى الخمر ، حيث ان القطع طريق وصفة معاً - حرام .

وهذا القسم لا تقوم الامارات والاصول المحرزة مقامه أيضاً ، لما عرفت من عدم قيامها مقام القطع الموضوعي الوصفي .

ص: 49

كما إذا فرضنا أنّ الشارع اعتبر صفةَ القطع على هذا الوجه في حفظ عدد الركعات الثنائيّة والثلاثيّة والاُولَيينِ من الرباعيّة ، فانّ غيره ، كالظّنّ بأحد الطرفين اوأصالة عدم الزائد ، لا يقوم مقامهُ

-----------------

ثم ان المصنّف قدس سره مثّل للقطع الموضوعي الوصفي بقوله : ( كما إذا فرضنا أن الشارع اعتبر صفة القطع ) في الموضوع ( على هذا الوجه ) الخاص بانه صفة ، لابانه طريق ( في حفظ عدد الركعات الثنائية ) بان قال : إذا كانت هناك ركعتان مقطوع بهما في صلاة الصبح دائماً ، والظهرين والعشاء في السفر ، صحت الصلاة والا بطلت ، فاتخذ صف القطع في الموضوع .

( والثلاثية ) بان قال : إذا كانت هناك ثلاث ركعات مقطوع بها في صلاة المغرب صحت ، والاّ بطلت ( والاوليين من الرباعية ) بان قال : إذا كانت هناك ركعتان مقطوع بهما في أول الظهر ، وأول العصر ، وأول العشاء - في الحضر - صحت الصلاة ، والاّ بطلت ، وقام نفس النص ، أو دليل اجماع ونحوه ، على ان القطع الماخوذ في الموضوع ، انما هو قطع على نحو الصفة ( فان غيره ) اي غير هذا القطع ( كالظن باحد الطرفين ) وانه صلى ركعة أو ركعتين ، في الصبح ، وثنائية السفر ، أو انه صلى ثلاثاً أو اقل في المغرب ( أو اصالة عدم الزائد ) أو قيام البينة وما اشبه ، على احد الطرفين ( لايقوم ) خبر ل« فان غيره » ( مقامه ) اي مقام القطع الموضوعي الوصفي ، لانه لادليل على ذلك بعد عدم اعتبار الشارع القطع بما هو هو .

كما ان الامر كذلك في باب العقائد ، فان العقيدة معتبرة بذاتها اما إذا قامت البينة على ان اللّه واحد ، أو ظن بذلك ، أو قام الخبر الواحد عليه، أو اجرى اصالة عدم الثاني للاله ، لم ينفع كل ذلك في حصول التوحيد - وقد ادعى العلامة قدس سره

ص: 50

إلاّ بدليل خاصّ خارجيّ غير أدلّة حجيّة مطلق الظنّ في الصلاة وأصالة عدم الأكثر .

-----------------

على ذلك : الاجماع في الباب الحادي عشر (1) - فان هذه الامور غير الصفة النفسية الخاصة التي اعتبرها الشارع .

قال فُضيل : سألته عليه السلام عن السهو ؟ فقال عليه السلام : في صلاة المغرب إذا لم تحفظ ما بين الثلاث الى الاربع فاعد صلاتك (2) .

وعليه : فلا يكون ( الاّ بدليل خاص خارجي ) بان يقول الشارع : اني وان اعتبرت الصفة الخاصة في الموضوع ، الاّ ان الظن أو البينة مثلاً ، تقوم مقام هذه الصفة (غير ادلة حجية مطلق الظن في الصلاة ) أو في غيرها ، حيث قام الدليل على حجية الظن الخاص ، المستند الى الخبر الواحد ، أو البينة ، أو ما أشبه ، أو حيث قام الدليل على حجية مطلق الظن - عند الانسدادي - ( و ) غير ( اصالة عدم الاكثر ) فيما إذا كان الشك بين الاقل والاكثر ، وانما لاينفع ادلة حجية مطلق الظن الخ، لان ادلة حجيتها منصرفة الى الحجية في القطع الطريقي لا القطع الموضوعي .

نعم إذا قال الشارع : بان كل قطع اعتبره العقل أو اعتبرته انا ، فان الظن يقوم مقامه ، أو ان الاصل يقوم مقامه ، كان الظن والاصل في هذه الحال ، يقومان مقام كل قطع طريقي أو موضوعي على نحو الطريقية أو الموضوعية .

مثلاً : عن عمار : انه قال له أبو عبد اللّه عليه السلام : ياعمار اجمع لك السهو كله في كلمتين ، متى ماشككت فخذ بالاكثر ، فاذا سلمت فاتم ماظننت انك نقصت (3) .

ص: 51


1- - النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر : ص20 .
2- - وسائل الشيعة : ج8 ص195 ب2 ح10407 .
3- - وسائل الشيعة : ج8 ص212 ب8 ح10451 ، جامع أحاديث الشيعة : ج5 ص601 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص340 ح992 .

ومن هذا الباب ، عدمُ جواز أداء الشهادة ، استنادا إلى البيّنة اواليد على قول ، وإن جاز تعويلُ الشاهد في عمل نفسه بهما إجماعا ، لأنّ العلمَ بالمشهود به مأخوذٌ في مقام العمل على وجه الطريقيّة ،

-----------------

( ومن هذا الباب ) اي باب اعتبار القطع الموضوعي على وجه الصفة : باب الشهادة ، حيث لايجوز شرعاً ان يشهد الانسان إذا لم يعلم بشيء ، وان قامت عنده البينة ، أو راى المشهود له صاحب يد على ذلك الشيء ، وذلك ل( عدم جواز اداء الشهادة استناداً ) في شهادته ( الى البينة أو اليد على قول ) بعض الفقهاء ، وان أجاز آخرون مثل هذه الشهادة ، وذلك لاختلاف الروايات في المسألة في انه هل يجوز اداء الشهادة استناداً الى البينة واليد ام لا ؟ (1) .

( وان جاز تعويل الشاهد ) واعتماده ( في عمل نفسه بهما ) اي بالبينة واليد (اجماعاً ) فاذ كانت هناك دار تحت يد زيد ، أو شهدت البينة عند عمروبانها دار زيد ، فان عمراً لايتمكن من اداء الشهادة عند القاضي بانها دار زيد ، اما إذا اراد نفس عمروشرائها من زيد ، جاز له ان يعتمد عليها ويشتريها .

وكذلك إذا كان صاحب اليد مثلاً مورث عمرو، فان مات المورث جاز لعمروترتيب آثار الملك على الدار التي ورثها .

فالظن الخاص وهو البينة أو كون زيد صاحب يد على الدار، لم يقم مقام القطع في جواز أداء الشهادة - لأن الشارع أجاز الاداء في صورة القطع - وان قاما مقام القطع في معاملة نفسه .

وانما فرقنا بين اداء الشهادة وبين العمل ( لان العلم بالمشهود به مأخوذ في مقام العمل ) انما يكون ( على وجه الطريقية ) ولذا تقوم الامارة واصل الصحة

ص: 52


1- - للمزيد راجع موسوعة الفقه : ج86 كتاب الشهادات للشارح .

بخلاف مقام أداء الشهادة ، إلاّ أن يثبت من الخارج ، أنّ كلّما يجوز العملُ به من الطرق الشرعيّة يجوز الاستناد إليه في الشهادة ، كما يظهر من رواية حفص الواردة في جواز الاستناد إلى اليد .

-----------------

في ذي اليد ونحوهما مقام العلم .

( بخلاف مقام أداء الشهادة ) فان العلم اخذ على نحو الموضوعية ، ولذا لاتقوم البينة واستيلاء صاحب اليد مقام هذا القطع ( الاّ ان يثبت من الخارج ، ان كلّما يجوز العمل به من الطرق الشرعية ) امارة كان أو اصلاً ( يجوز الاستناد اليه في ) اداء ( الشهادة ) .

وحينئذ : تقوم الطرق الشرعية مقام القطع الموضوعي على نحو الصفة ( كمايظهر ) كفاية كل طريق شرعي ( من رواية حفص ) بن غياث ( الواردة في جواز الاستناد الى اليد ) .

والمراد : الطريق الشرعي في اداء الشهادة ، فاذا ورد مثل هذا الدليل جاز الاستناد الى الطريق في الشهادة ، كما يجوز الاستناد اليه في الشراء ، وفي الارث ، وفي سائر المعاملات .

« فقد روى حفص عن ابي عبد اللّه عليه السلام قال : قال له رجل : إذا رأيتُ شيئاً في يدي رَجُلٍ ، يَجُوزُ لي أن أَشهَدَ إنّهُ لَهُ ؟ .

قالَ عليه السلام : نَعَم .

قالَ الرَجُل : أشهَدُ أنّهُ في يدهِ وَلا أشهَدُ أنّهُ لَهُ فَلَعَلَهُ لِغَيرِه ؟ .

فَقالَ أبو عَبد اللّه ِ عليه السلام : أفَيَحِلّ الشِراءُ مِنه ؟ .

قالَ : نَعَم .

فَقالَ أبو عَبد اللّه ِ عليه السلام : فَلَعَلَهُ لِغَيرهِ ، فَمِن أينَ جازَ لَكَ أن تَشتَريه ، وَيَصيرُ مُلكاً

ص: 53

وممّا ذكرنا : يظهرُ أنّه لو نذر أحدٌ أن يتصدّق كلّ يوم

-----------------

لَكَ ، ثُمَّ تَقول بَعدَ المُلك هُوَ لي وَتحلِفَ عَلَيهِ ، وَلا يَجوزُ أن تَنسِبَهُ إلى مَنْ صارَ مُلكَهُ مِن قَبلِه إلَيكَ ؟ .

ثُمّ قالَ أبو عَبدِ اللّه ِ عليه السلام : لَو لَم يَجز هذا ، لَم يَقُم لِلمُسلِمينَ سُوق » (1) .

وعلى اي حال ، فلم يظهر من نص انه لم تقم البينة ونحوها مقام القطع ، اي قطع كان .

نعم ، في الاعتقاديات ، الامر بحاجة الى القطع على المشهور ، وان كان بعض العلماء ذكر عدم الاحتياج هناك أيضا ، وتفصيل الكلام في الكتب الكلامية .

وكيف كان ، فقد ظهر مما تقدّم إن القطع طريقا وموضوعاً جزءاً وكلاً ، صفة وغيرها ، على سبعة اقسام :

الاول : الطريقي البحت .

الثاني : القطع الموضوعي جزءاً على نحو الطريقية .

الثالث : القطع الموضوعي كلا على نحو الطريقية .

الرابع : القطع الموضوعي جزءاً على نحو الصفة .

الخامس : القطع الموضوعي كلاً على نحو الصفة .

السادس : القطع الموضوعي جزءاً على نحو الطريق والصفة .

السابع : القطع الموضوعي كلاً على نحو الطريق والصفة .

( ومما ذكرنا ) من ان القطع الموضوعي الوصفي لايقوم شيء آخر مقامه ، الا بدليل خاص ( يظهر : انه لو نذر ) أو حلف أو عاهد ( احد ان يتصدق كل يوم

ص: 54


1- - الكافي فروع : ج7 ص387 ح1 ، وسائل الشيعة : ج27 ص292 ب25 ح33780 ، من لايحضره الفقيه : ج3 ص51 ب2 ح3307 ، تهذيب الاحكام : ج6 ص262 ب22 ح100 .

بدرهم مادام متيقّنا بحياه ولده ، فانّه لايجبُ التصدّقُ عند الشكّ في الحياة ، لأجل استصحاب الحياة ، بخلاف ما لو علّق النذر بنفس الحياة ، فانّه يكفي في الوجوب الاستصحابُ .

ثم إنّ هذا الذي ذكرنا من كون القطع مأخوذا تارةً على وجه الطريقيّة واُخرى على جهة الموضوعيّة ، جارٍ في الظنّ أيضا ،

-----------------

بدرهم مادام متيقنا بحياة ولده ) أو انسان آخر ، أو مااشبه ذلك ، وكان قصده بالتيقن : الصفه النفسية لاالطريقية ( فانه لايجب ) عليه ( التصدق عند الشك في الحياة ، لاجل ) قيام شاهدين يشهدان بحياته ، أو لاجل ( استصحاب الحياة ) وان تمت اركانه ، اذ الموضوع : التيقن ، ولا يحصل بهما ( بخلاف ما لو ) لم يعتبر القطع اصلاً عند ندره بل ( علق النذر بنفس الحياة ) : بان نذر التصدق مادام ولده حيّ ، فانه إذا قامت البينة على الحياة ، أو تمت اركان الاستصحاب ، وجب عليه التصدق لما تقدّم : من ان الامارة والاصل يقومان مقام القطع الطريقي ( فانه يكفي في الوجوب ) الشهادة أو ( الاستصحاب ) فان القطع حينئذ طريقي محض ، ثم لو شك بانه حال النذر ، كان القطع على اي النحوين ، ولم يكن ارتكاز ونحوه ، فالاصل عدم الوجوب أيضا ، لانه من الشك في التكليف .

ومثل النذر في الاحكام المذكورة ، ما إذا شرط عليه في ضمن معاملة شيء بالقطع ، فانه يكون الشرط احياناً بسبب قطع طريقي ، واحياناً بسبب قطع موضوعي .

( ثم أن هذا الذي ذكرناه من كون القطع ) قد يكون ( ماخوذاً تارة على وجه الطريقية و) تارة ( اخرى على جهة الموضوعية ) باقسامه ، وثالثة على وجه الطريقية الموضوعية - كما ذكرناه نحن - ( جار في الظن أيضا ) فقد يكون الظن

ص: 55

فانّه وإن فارق العلمَ في كيفيّة الطريقيّة - حيث أنّ العلمَ طريقٌ بنفسه ، والظنّ المعتبر طريق بجعل الشارع ، بمعنى كونه وسطا في ترتّب أحكام متعلّقه ،

-----------------

موضوعاً ، وقد يكون طريقا ، وقد يكون جامعاً بينهما ( فانه وان فارق العلم في كيفية الطريقية ) فان الظن الموضوعي الوصفي مثل العلم الموضوعي الوصفي . بل كذلك حال الشك والوهم أيضا ، لان المعتبر ، له ان يعتبر الصفة النفسانية موضوعاً ، من غير فرق بين ان تكون تلك الصفة كاشفة ام لا ، كشفاً تاماً أو ناقصاً .

واما الظن الموضوعيالطريقي فيفارق القطع الموضوعي الطريقي ( حيث ان العلم طريق بنفسه ) لايحتاج الى جعل الجاعل ، بل قد تقدّم ان الجاعل لايتمكن من رفع طريقيته ، فالطريقية في القطع مثل الزوجية في الاربعة ، لاتوضع ولا ترفع ( و ) اما ( الظن المعتبر ) فهو ( طريق بجعل الشارع ) اذ لاكاشفية تامة له من نفسه .

ثم لايخفى : ان المراد بطريقية القطع : ان القاطع يراه طريقا ، لا انه دائما كذلك ، اذ كثيراً مايكون جهلاً مركباً في الواقع .

وعلى اي حال ، لايتمكن الجاعل من جعله ولا من رفعه ، لان الجعل في نظر القاطع تحصيل للحاصل ، والرفع في نظر القاطع لغو .

وكيف كان : فجعل الشارع للظن ( بمعنى كونه وسطاً ) في القياس ( في ترتب ) اي اثبات ( احكام متعلقه ) .

مثلاً : الظن بعدد الركعات جعله الشارع حجة ، ومعنى ذلك : ان الظن بعددها سبب لترتيب حكم تلك الركعات المظنونة ، على تلك الركعات فيقال : « الاربع - في صلاة الظهر مثلا - مظنونة ، وكلما ظن بالركعات كان حجة ، فكون الركعات اربع حجة » فكما انه لو قطع بانها اربع ، ترتب حكم الاربع على ذلك المقطوع به ،

ص: 56

كما أشرنا إليه سابقا - لكنّ الظنّ أيضا قد يؤخذ طريقا مجعولاً إلى متعلّقه ، سواء كان موضوعا على وجه الطريقيّة لحكم متعلّقه او لحكم آخر يقوم مقامه سائرُ الطرق الشرعيّة ،

-----------------

كذلك كلما ظن انها اربع ترتب حكم الاربع على ذلك المظنون به ( كما اشرنا اليه ) اي الى معنى كون الحجية : الوسطية ( سابقاً ) في باب القطع .

( لكن الظن أيضا ) على سبعة اقسام ، على ما ذكرناه في باب القطع ، فانه ( قد يؤذ ) في الموضوع من جهة كونه ( طريقا مجعولا الى متعلقه ) بان ينزل الشارع الظن منزلة العلم ، فالحكم على الخمر والطريق الى انه خمر ، ظن المكلّف ( سواء كان ) الظن ( موضوعاً ) اي مجعولاً ( على وجه الطريقية ) البحتة ( لحكم متعلقه ) اي متعلق الظن ، كما مثلنا له في كونه طريقا الى ان المائع الفلاني خمر ( أو ) مجعولاً على وجه الطريقية ( لحكم آخر ) كما إذا قال : إذا ظننت بخمرية شيء يجب عليك التصدق .

ففي الأول : الظّن بالخمرية صار طريقا لاثبات الحرمة والنجاسة على المائع المظنون كونه خمراً .

وفي الثاني : الظن بخمرية مائع صار طريقا الى اثبات وجوب التصدق .

ولايخفى : ان الظن بشيء إذا كان موضوعاً لحكم آخر ، يكون على غراره القطع أيضا ، كما إذا قال : إذا قطعت بالخمرية كان قطعك موضوعاً لوجوب التصدق عليك .

ثم إذا كان الشارع جعل الظن طريقا ( يقوم مقامه سائر الطرق الشرعية ) كالبينة والاستصحاب ونحوهما ، فاذا قال : الظن طريق الى الخمرية حتى يترتب احكام الخمر على ذلك الخمر المظنون ، ثم لم يكن للمكلف ظن ، لكن قامت البينة

ص: 57

فيقال حينئذٍ إنّه حجةٌ ، وقد يؤخذ موضوعا لا على وجه الطريقيّة لحكم متعلّقه ، أو لحكم آخر ولا يطلق عليه الحجّة حينئذٍ ، فلابدَّ من ملاحظة دليل ذلك ، ثمّ الحكم بقيام غيره من الطرق المعتبرة مقامه ،

-----------------

على انه خمر ، أو استصحب خمريته - بعد ان شك في كونه تبدل الى الخل ام لا - ، ثبتت الخمرية بالبينة أو الاستصحاب .

( فيقال حينئذ ) اي حين جعل الشارع الظن طريقا : ( انه ) اي الظن ( حجة ) ، لان الظن حينئذ وقع واسطة لاثبات احكام الخمر على مظنون الخمرية .

( وقد يؤذ ) الظن ، اي يجعله الشارع ( موضوعاً لا على وجه الطريقية ) بل على نحو الصفة للظان ( لحكم متعلقه ) اي متعلق الظن ، مثلا قال : إذا حصلت لك هذه الصفة النفسية - بان القِبلة في جهة الشمال - فصلي اليها ، فان الظن هنا موضوع لا طريق بحت ( أو لحكم آخر ) كما إذا قال : إذا حصلت لك صفة الظن بان القِبلة في جهة الشمال وجب عليك التصدق ، وهذا الظن الوصفي : « طريقا الى حكمه أو حكم آخر » لايقوم مقامه سائر الطرق الشرعية ، كالبينة والاستصحاب ، لان الشارع اعتبر الصفة النفسية موضوعاً ، وسائر الطرق الشرعية لاتحقق الموضوع المذكور .

( ولا يطلق عليه ) اي على هذا الظن الوصفي ( الحجة حينئذ ) اذ ليس حجة بل موضوعاً ( ف- ) إذا اردنا ان نعرف ان الشارع جعل الظن طريقا أو موضوعاً ( لابد من ملاحظة دليل ذلك ) الجعل للظن ، هل هو على نحو الطريق أو على نحو الصفة ؟ .

( ثم الحكم بقيام ) أو عدم قيام ( غيره من الطرق المعتبرة مقامه ) فان الطرق

ص: 58

لكنّ الغالبَ فيه الأوّل .

-----------------

المعتبرة تقوم مقام الظن الطريقي لا الظن الوصفي .

وعلى اي حال « الظن » كالقطع في كل الاقسام السبعة التي تقدمت في القطع ، ومنتهى الفرق : ان الظن ليس حجة بنفسه والقطع حجة بنفسه ، وكما ذكرنا في باب القطع من مسألة النذر ، تأتي في الظن نفس المسألة أيضا ( لكن الغالب فيه ) اي في الظن الذي جعله الشارع ( الاول ) وهو كونه طريقياً ، فتقوم سائر الطرق مقامه ، لا كونه وصفياً .

هذا ، ولكنّا لم نجد مكاناً اخذ فيه الظن على نحو الوصفية ، فلعل قول المصنّف : « الغالب » لايريد به ان في المقام « ما ليس بغالب » بل يريد : انه قدس سره استقرء فرأى موارد استقرائه من الطريقية ، لا الوصفية ، فانه قد يقول الفقيه : « المشهور » ويريد : ان هناك قولاً خلاف المشهور ، وقد يقول : « المشهور » ويريد : انه راى كلمات كثير من العلماء افتوا بذلك ، لا ان في قباله قول غير مشهور ، فتأمل .

هذا تمام الكلام في الظن الخاص ، اما ظن الانسداد فهو طريقي بحت وليس هناك ظن انسدادي موضوعي .

ثم انه يمكن ان يجعل الشك جزء الموضوع ، أو تمام الموضوع ، لكونه صفة أو مرتبطاً بالواقع ، اما كون الشك طريقياً كالقطع الطريقي ، فقد تصوره « أو ثق الوسائل » (1) ومنه يعلم حال الوهم ، لكن حيث لم يذكرهما المصنّف لانفصل الكلام فيهما .

ص: 59


1- - راجع أو ثق الوسائل : ص13 - 14 فرض الطريقية في الشك .

وينبغي التنبيه على امور :

التنبيه الأول: التجرّي

الأوّل : إنّه قد عرفتَ أنّ القاطعَ لايحتاجُ في العمل بقطعه إلى أزيدَ من الأدلّة المثبتة لأحكام مقطوعه ،

-----------------

التجرّي

( وينبغي التنبيه على امور ) مرتبطة ببحث القطع ، فانه إذا قطع الانسان بموضوع - كالخمر - وعلم بالدليل ، حرمة الخمر ، تشكلت عنده صغرى : « هذا خمر » وكبرى : « وكل خمر حرام » فالنتيجة : « ان هذا حرام » ، ولا مدخلية للقطع في الموضوع وانما القطع مرآة لارائة الواقع الذي هو « خمر » فحال القطع حال المرآة ، حيث انها لامدخلية لها في الحكم المرتب على الموضوع ، وانما هي تعطي الرؤة فقط ، فاذا كان الاسد مفترساً ، كان الموضوع الاسد ، والحكم الافتراس ، فاذا راينا الاسد في المرآة قلنا انه مفترس ، ولا مدخلية للمرآة لا في الموضوع ولا في الحكم .

إذا علمت ذلك قلنا : لا اشكال في ترتب الحرمة على الواقع ، في الاحكام الشرعية ، لكن هل يترتب الحرمة على القطع إذا لم يصادف الواقع ، مما يسمى بالتجري ؟ فيه خلاف .

والتنبيه الاول ، وضع لبيان هذا الامر ، قال قدس سره : ( الاول : ) في التجري ( انه قد عرفت ان القاطع ) بشيء محرم ، أو واجب ، أو له سائر الاحكام ( لايحتاج في العمل بقطعه الى ازيد من الادلة المثبتة لاحكام مقطوعه ) فاذا قال الشارع : الخمر

ص: 60

فيجعل ذلك كبرى لصغرى قطع بها ، فيقطع بالنتيجة .

فاذا قطع بكون شيء خمرا ، وقام الدليل على كون حكم الخمر في نفسها هي الحرمة ، فيقطع بحرمة ذلك الشيء .

لكنّ الكلامَ في أنّ قطعه هذا ،

-----------------

حرام ، وقطع هو بان المائع الفلاني خمر ، لم ينتظر في النتيجة - وهي فهذا حرام - الى شيء آخر ( فيجعل ذلك ) الدليل المثبت للحكم ( كبرى لصغرى قطع بها ) اي بتلك الصغرى ( فيقطع بالنتيجة ) .

اقول : القطع بالنتيجة ، انما يكون إذا كان الحكم مقطوعاً به ، والا فالنتيجة تابعة

لاخس المقدمتين ، والادلة الشرعية غالباً لاتعطي القطع ، بل الحجة المعذره والمنجزة ، فالمراد بقوله « يقطع » اي تقوم عنده الحجة .

نعم ربما يقطع المكلّف إذا كان الحكم مقطوعاً به ( فاذا قطع بكون شيء ) من المائعات ( خمراً وقام الدليل على كون حكم الخمر في نفسها ) سواء تعلق به القطع ام لا - اذ الموضوع ليس مقيداً ، وانما القطع طريق الى الموضوع كما تقدّم - ( هي الحرمة ) حصلت النتيجة ( فيقطع ) بالقطع الطريقي - وقد عرفت المراد بالقطع - ( بحرمة ذلك الشيء ) اما إذا ظن بان شيئاً خمر ، فلا تحصل له هذه الحجة ، لان الشارع لم يجعل الظن طريقا الى الواقع .

نعم ، إذا جعل الشارع الظن في مكان طريقا ، كما قال بعض في تعيين الميقات في باب الحج ، تشكلت المقدمتان أيضا ، فيقول : « هذا ميقات » للظن به ، و«الميقات واجب الاحرام منه » ف« هذا المكان واجب الاحرام منه ».

( لكن ) حيث ان القطع قد يطابق الواقع وقد لايطابقه ، بان يكون من الجهل المركب ، وقع ( الكلام ) بين الاعلام ( في ان قطعه هذا ) الموافق أو المخالف

ص: 61

هل هو حجّةٌ عليه من الشارع وإن كان مخالفا للواقع في علم اللّه ، فيعاقب على مخالفته ، اوأنّه حجّة عليه إذا صادف الواقعَ ؟ .

بمعنى أنّه لو شرب الخمر الواقعيّ عالما عوقب عليه ، في مقابل من شربها جاهلاً ، لا أنّه يعاقب على شرب ما قطع بكونه خمرا ، وإن لم يكن خمرا في الواقع .

-----------------

للواقع ( هل هو حجة عليه من الشارع ) فيحتج بقطعه ( وان كان مخالفاً للواقع في علم اللّه ) سبحانه ، ( ف- ) إذا احتج ، لايكتفي بالاحتجاج والتأنيب والعتاب بل (يعاقب على مخالفته ) اي مخالفة العبد قطعه مطلقاً وافق الواقع أو خالف .

ومقتضى ذلك : ان قطعه بموافقة الواقع ، يوجب ثوابه وان خالف في علم اللّه للواقع ، مثلاً : إذا قتل انساناً بزعم انه كافر حربي - حيث ان الكافر الحربي واجب القتل باذن الامام عليه السلام (1) - وصادف ان كان مؤنا لم يعلم القاتل بايمانه ، يثاب على القتل .

( أو انه ) اي القطع ( حجة عليه إذا صادف الواقع ) فقط ؟ فالعقاب والثواب على الواقع ، لا على المقطوع به فيما كان القطع جهلاً مركباً .

( بمعنى : انه لو شرب الخمر الواقعي عالماً ) علماً تفصيلاً أو علماً اجمالاً ( عوقب عليه ، في مقابل من شربهاجاهلاً ) حيث لاعقاب عليه ( لا انه يعاقب على ) التجري اي على ( شرب ماقطع بكونه خمراً ، وان لم يكن خمراً في الواقع ) .

فصور المسألة ست ، لانه اما خمر أو ليس بخمر ، وفي كل منهما اما قاطع بانه خمر ، أو قاطع بانه ليس بخمر ، أو شاك بانه خمر ام لا ، فاذا شك بدون حجة

ص: 62


1- - انظر وسائل الشيعة : ج28 ص307 ب1 ح34831 .

ظاهرُ كلماتهم في بعض المقامات الاتّفاقُ على الأوّل ، كما يظهر ، من دعوى جماعةٍ الاجماعَ على أنّ ظانّ ضيق الوقت إذا أخّر الصلاةَ عصى وإن إنكشف بقاءُ الوقت ، فانّ تعبيرهم بظنّ الضيق لبيان أدنى فردي الرجحان ، فيشمل القطعَ بالضيق .

-----------------

على_'feاحد الجانبين فلا عقاب قطعاً ، وفي صورة الجهل بالخمرية لاعقاب ، وفي صورتي العلم والمطابقة للواقع عقاب قطعاً ، وانما الكلام في صورة ما لم يكن خمراً ، لكنه قطع بانه خمر .

( ظاهر كلماتهم في بعض المقامات : الاتفاق على الاول ) اي حجية القطع مطلقاً ، وافق الواقع ام لا ، ومعنى ذلك : حرمة التجري ، والعقاب عليه .

وقد استدل للحرمة بوجوه اربعة :

الاول : الاجماع ( كما يظهر من دعوى جماعة الاجماع على ان ظان ضيق الوقت) مما كان ظنه غير مطابق للواقع ، بان كان في الوقت سعة ( إذا اخر الصلاة ) بما ظن خروج الوقت ( عصى ) لانه خالف ظنه ، وملاك الظن - بالاولوية - ياتي في القطع اي فيمن قطع بضيق الوقت ، وكان قطعه خلاف الواقع .

( وان انكشف بقاء الوقت ) ؛ فالواجب شرعاً العمل بالظن وبالقطع ، فاذا لم يعمل بهما ، كان فاعلاً للحرام ومعاقباً وان صلى في الوقت ، وما ذلك الاّ لكون القطع حجة مطلقاً .

لايقال : انهم لم يذكروا القطع بضيق الوقت .

لانه يقال : ( فان تعبيرهم بظن الضيق ، لبيان ادنى فردي الرجحان ، فيشمل القطع بالضيق ) أيضا بطريق أولى .

ص: 63

نعم ، حُكي عن النهاية وشيخنا البهائيّ التوقفُ في العصيان ، بل في التذكرة : « لو ظنّ ضيقَ الوقت عصى لو أخر إن استمَرَّ الظنُّ ، وإن انكشف خلافه ، فالوجهُ عدمُ العصيان » ، انتهى .

واستقرب العدَم سيّدُ مشايخنا في المفاتيح ، وكذا لاخلافَ بينهم

-----------------

( نعم ) هذا الاجماع ممنوع صغرى ، ومناقش فيه كبرى ، اذ ( حكي عن النهاية ) للشيخ قدس سره ( وشيخنا البهائي قدس سره : التوقف في العصيان ) فيما انكشف الخلاف ، والظاهر : ان مرادهما هو وجود الوقت واقعاً وان لم ينكشف الخلاف ، اذ الانكشاف وعدمه لاعبرة بهما ، بل العبرة بالواقع .

( بل في التذكرة : لو ظن ضيق الوقت عصى لو أخر ) الصلاة ( ان استمر الظن ) بان لم ينكشف الخلاف ( وان انكشف خلافه ، فالوجه ) الذي اراه : ( عدم العصيان ) مما يدل على عدم حرمة التجري ( انتهى ) كلام التذكرة .

( واستقرب العدم ) اي عدم العصيان ( سيد مشايخنا ) السيد محمد المجاهد ولقب بهذا اللقب ، لانه جاهد الروس حيث ارادوا احتلال ايران ، وتقدموا الى الموضع الحالي منه ، بما لو لم يجاهد السيد والشيخ النراقي وغيرهما ، لكانت ايران اليوم جزءاً من روسيا في قصة مشهورة ، لكن لايخفى ان « الساساني » ذكر في كتابه : ان ايران قبل مائتي سنة ، كان عدد نفوسها مائة مليون نسمة ، ولو بقيت كذلك واطردت ، لكان نفوسها الان اضعاف ذلك ( في المفاتيح ) (1) الذي الّفه في الاصول كما ألّف في الفقه كتاب المناهل . بل يمكن ان يقال في عدم الاجماع : ان كثيراً من العلماء ، لم يذكروا هذه المسالة ، فكيف يمكن تحقق الاجماع ؟ .

( وكذا ) مما يؤد وجود الاجماع في حرمة التجري : انه ( لاخلاف بينهم

ص: 64


1- - المفاتيح : ص307 .

ظاهرا في أنّ سلوك الطريق المظنون الخطر او مقطوعه معصيةٌ ، يجب إتمامُ الصلاة فيه ، ولو بعد انكشاف عدم الضرر فيه ، فتأمّل .

ويؤيّده

-----------------

ظاهراً ) وانّما قلنا ظاهراً ، لان المقدار الذي رايناه من كلماتهم لاخلاف فيها ، ولعل ان هناك مخالفاً لم نظفر به ( في ان سلوك الطريق المظنون الخطر أو مقطوعه، معصية يجب اتمام الصلاة فيه ) لان سفر المعصية حرام ، وكلما كان السفر حراماً كان اللازم الاتمام ، لان السفر الموجب للقصر من شرائطه ان لايكون معصية ، فاذا سافر لاجل قتل مسلم ، أو شرب خمر ، أو زنا ، أو مااشبه ، وجب عليه الصيام في شهر رمضان واتمام الصلاة ( ولو بعد انكشاف عدم الضرر فيه ) الا إذا كان السفر بعد الانكشاف جامعاً لشرائط القصر .

مثلاً : لو اراد بعد الانكشاف ، السير اربع فراسخ ذهاباً واياباً ، أو اراد السير ثمانية فراسخ .

( فتأمل ) لعله اشارة الى ان الكلام في القطع الطريقي أو الظن كذلك والقطع بالضرر أو ظنه في السفر ماخوذ في موضوع التمام ، اي ان الشارع قال : من ظن الضرر أو قطع فصلاته تمام وصومه واجب ، فلا يكشف كلامهم عن حرمة التجري .

أو ان امره بالتأمل اشارة الى ان قولهم في موردين ، لايكشف عن قولهم بحرمة التجرى مطلقاً ، فان الجزئي لايكون كاسباً ولا مكتسباً .

أو اشارة الى ان الاجماع وان تم صغرى ، الاّ انه محتمل الاستناد كبرى ، وليس مثله حجة كما سياتي تحقيقه .

الثاني : من ادلتهم في حرمة التجري ماذكره قدس سره بقوله : ( ويؤده ) اي الاجماع ،

ص: 65

بناءُ العقلاء على الاستحقاق وحكم العقل بقبح التجرّي .

وقد يقرّر دلالةُ العقل على ذلك : بأنّا إذا فرضنا شخصين قاطعين

-----------------

على الحرمة ( بناء العقلاء على الاستحقاق ) للعقاب ، فان من قطع بنهيالمولى عن شيء ثم فعله ، أو قطع بامره بشيء ثم تركه ، يراه العقلاء مستحقاً للعقاب ، سواء صادف قطعه الواقع أو لم يصادف ، الا ترى انه لو استهدف العبد من زعم انه ولد المولى ، لكن كان قطعه بانه ولد المولى خطأ بان كان المرمي وحشياً من الحيوانات ، رآه العقلاء مستحقاً للعقاب ؟ .

( و ) الثالث : من ادلة القائلين بحرمة التجري : ( حكم العقل بقبح التجري ) بضميمة التلازم بين القبح والحرمة ، لانه كلما حكم به العقل حكم به الشرع .

والفرق بين حكم العقل ، وبناء العقلاء : ان بينهما عموماً مطلقاً ، فكلما كان الاول كان الثاني ولا عكس ، فاذا حكم العقل بحسن الاحسان أو قبح الظلم ، بنى العقلاء على ذلك ، اما ليس كلّما بني العقلاء على شيء كان العقل أيضا ملزماً لذلك الشيء - لو لا حكم العقلاء - .

مثلاً : العقلاء يبنون على وجود طبيب لكل الف انسان ، لانهم يرون فضيلة المجتمع في ذلك ، فهل ذلك من المستقلات العقلية ؟ الى غيره من الامور الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية وغيرها .

( و ) الرابع : من ادلتهم ماذكره بقوله : ( قد يقرر دلالة العقل على ذلك ) اي تحريم التجري ، والمقرر : السبزواري قدس سره في الذخيرة ، والقمي قدس سره في القوانين ، والجواهر والفصول ، على ماحكي عن بعضهم ، والدليل هو مايصطلح عليه : بالسبر والتقسيم ( بانا إذا فرضنا شخصين قاطعين ) بحرام أو واجب ، وكلاهما

ص: 66

بأن قطع أحدهما بكون مائع معيّن خمرا ، وقطع الآخر بكون مائع آخر خمرا فشرباهما ، فاتفق مصادفة أحدهما للواقع ومخالفة الآخر ، فامّا أن يستحقّا العقاب ، او لا يستحقّه أحدهما ، او يستحقّه من صادف قطعُه الواقع دون الآخر أو العكس ، لا سبيلَ إلى الثاني والرابع ، والثالث

-----------------

عمل حسب قطعه باتيان المحظور أو ترك الواجب ، مثلاً : ( بأن قطع احدهما بكون مائع معين ) في الاناء الابيض ( خمراً ، وقطع الآخر بكون مائع آخر ) في اناء احمر ( خمراً )فخالفا قطعهما ( فشرباهما ) اي الانائين ( فاتفق مصادفة احدهما للواقع ) اي كان الاناء الاحمر خمراً مثلاً ( ومخالفة الآخر ) للواقع ، بان كان الاناء الابيض ماءاً ، فالصور لاتخلو عن اربع :

1 - ( فاما ان يستحقا ) كلاهما ( العقاب ) .

2 - ( أو لايستحقه احدهما ) اي لاهذا المصادف ، ولا ذاك غير المصادف .

3 - ( أو يستحقه ) اي العقاب ( من صادف قطعه الواقع ) صاحب الاناء الاحمر، حيث فيه خمر واقعاً ( دون الآخر ) صاحب الاناء الابيض ، الذي كان فيه الماء واقعاً .

4 - ( أو العكس ) بان يعاقب المولى شارب الماء ولايعاقب شارب الخمر ، وحيث ان التقسيم عقلي لا مجال لقسم خامس ( لا سبيل ) عقلاً وشرعاً ( الى الثاني ) وهو عدم استحقاق اي منهما العقاب ، اذ لازم ذلك : ان المعصية العمدية لا عقاب عليها ، وهو يخالف العقل والشرع .

( و ) كذلك لا سبيل عقلاً ولا شرعاً الى ( الرابع ) وهو استحقاق شارب الماء دون شارب الخمر ( والثالث ) وهو استحقاق شارب الخمر العقاب ، دون شارب

ص: 67

مستلزمٌ لاناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار ، وهو مُنافٍ لما يقتضيه العدل ، فتعيّن الأوّل .

-----------------

الماء ، فلا سبيل اليه أيضا ، لانه ( مستلزم لاناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار ) فان المصادفة لم تكن باختيار العاصي ، فان مافي اختيارهما هو شرب ماقطعا بانه خمر، وهما متساويان في ذلك ، فلو حكمنا باستحقاق مصادف الخمر وعدم استحقاق غير المصادف ، لزم كون استحقاق العقاب وعدم استحقاقه منوطين بامرين خارجين عن الاختيار .

( وهو ) اي هذا الاستلزام ( مناف لما يقتضيه العدل ) فانه يصح العقاب على الامر الاختياري ، لا على الامر غير الاختياري .

لايقال : فكيف طلب المؤنون من اللّه سبحانه : ان لايحملهم ما لاطاقة لهم به ؟ وكيف قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم : رفع القلم عن الصبي والمجنون والنائم (1) ، مع ان الصبي غير المميز لا اختيار له ؟ .

لانه يقال : معنى مالاطاقة : ماهو اخير الطاقة - كما يعبر عن ذلك عرفاً ورفع القلم عن غير المميز ، هو القلم المناسب له من تكليفه بعد ذلك ، بما هو اثر التكليف من القضاء والاعادة ، والضمان - على قول من يقول : بان لاضمان عليه إذا كبر ، كما لايلزم على وليّه الاداء من ماله - .

وكيف كان : فاذا بطلت الاقسام الثلاثة ( فتعين الاول ) وهو : استحقاق المصادف وغيره ، وهذا هو معنى حجية القطع مطلقاً وان لم يصادف الواقع ، ولازمه : حرمة التجري .

ص: 68


1- - غوالي اللئالي : ج3 ص528 ح3 ، وسائل الشيعة : ج1 ص45 ب4 ح81 ، بحار الانوار : ج5 ص303 ب14 ح13 .

ويمكن الخدشة في الكلّ .

أمّا الاجماعُ ، فالمحصّلُ منه غيرُ حاصل ، والمسألة عقليّة ،خصوصا مع مخالفة غير واحد ، كما عرفت من النهاية وستعرف من قواعد الشهيد قدس سره ، -

وهناك دليل خامس : يدل على حرمة التجري ، وهي : الآيات والروايات الدالة على ذلك ، كما يأتي جملة منها .

( و ) لكن ( يمكن الخدشة في الكل : ) فان الادلة المذكورة لايمكن قيامها دليلاً على حرمة التجري ، حتى يكون القطع حجة وان لم يصادف الواقع .

( اما الاجماع : فالمحصل منه ) وهو : ان يرى الفقيه كلمات الفقهاء ويراهم قد افتوا بشيء ( غير حاصل ) فبعضهم لم يذكر المسألة ، وبعضهم لم يقل بها - كما تقدّم الالماع الى ذلك - .

( و ) لو فرض وجود الاجماع المحصل لم ينفع ، لان ( المسألة عقلية ) والمسائل العقلية ، يكون المعيار فيها العقل لا النقل ، لان النقل انّما هو حجة في الامور الشرعية لا العقلية ، فلو فرض ان الاجماع قام على ان الثلاثة مع الثلاثة سبعة ، أو ان اللّه قابل للرؤية ، فهل يمكن الاعتماد على ذلك ؟ .

أمّا كيف ان المسألة عقلية ؟ فان العقل هو القاضي باستحقاق الثواب للمطيع والعقاب للمعاصي، كما ان العقل هو الذي يقول : ان المطيع من هو ؟ وان العاصي من هو ؟ .

وبهذا ظهر : ان الاجماع مع تماميته لاينفع ، فكيف ينفع ( خصوصاً مع مخالفة غير واحد ) مما يوجب عدم وجود الاجماع ؟ ( كما عرفت من النهاية ، وستعرف من قواعد الشهيد قدس سره ) حيث انكرا الحكم المذكور ، بل وانكره غيرهما أيضا .

ص: 69

والمنقولُ منه ليس حجّةً في المقام .

وأمّا بناءُ العقلاء ، فلو سُلِّمَ فانّما هو على مذمّة الشخص ، من حيث أنّ هذا الفعل يكشف عن وجود صفة الشقاوة فيه ، لا على نفس فعله ، كمن إنكشف لهم من حاله أنّه بحيث لو قدر على قتل سيّده لقتله ، فانّ المذمّة

-----------------

( و ) بذلك ظهر : ان ( المنقول منه ) اي من الاجماع بالطريق الاولى ( ليس حجة في المقام ) اذ المحصل أقوى من المنقول : فاذا لم يكن المحصل حجة لنفيه صغراه وكبراه ، كان المنقول أولى بعدم الحجية .

( وأمّا بناء العقلاء ) الذي استدل به لحرمة التجري وعقاب المتجري ( فلو سلِّم ) ان لهم بناء في اصل المسألة ، فلا نسلّم بنائهم على الحرمة والعقاب ، وانّما قال : « لو سلم » لانه لا اشكال في عدم اطلاق ذم العقلاء للمتجري - كما سيأتي في أقسام التجري - كالتلبس بالفعل برجاء ان لايكون معصية مع خوف كونه معصية (فانما هو) اي بناؤم ( على مذمة الشخص من حيث ان هذا الفعل ) كشرب الماء باعتقاد انه خمر ( يكشف عن وجود صفة الشقاوة فيه ) وانه لماذا لم يُرَبِّ نفسه حتى لاتَهُمَّ بالعصيان ؟ كمن يهرب عن توهم الاسد ، فانهم يذمونه لماذا لم يُرَبِّ نفسه على الشجاعة ؟ ( لا ) ان الذم ( على نفس فعله ) الخارجي الذي هو شرب الماء ، فان شرب الماء لا ذم له ، وذم العقلاء على الصفة النفسية موجود وان لم يكن فعل في الخارج .

فالشارب للماء بزعم انه خمر حاله ( كمن انكشف لهم ) اي للعقلاء ( من حاله انه) سيى ء النية ( بحيث لو قدر على قتل سيده ) أو انتهاك عرضه ، أو سرقة ماله (لقتله ) وانتهك ، وسرق ، وان لم يات منه فعل في الخارج اصلاً ( فان المذمة )

ص: 70

على المنكشف ، لا الكاشف .

ومن هنا : يظهر الجوابُ عن قبح التجرّي ، فانّه لكشف ما تجرّأ به عن خُبث الفاعل ، لكونه جريئا وعازما على العصيان والتمرّد ،

-----------------

من العقلاء انّما هي ( على المنكشف ) اي الامر الباطني ( لا الكاشف ) اي القتل الخارجي ، لفرض انه لم يقع قتل .

نعم ، لا اشكال في ان ذمهم على شارب الماء بقصد الخمر يكون اكثر من ذمهم على من لو وجد خمراً لشربها .

وعلى اي حال : فالعقلاء لايعاقبون الناوي ، وان كانوا يعاقبون العاصي ، والمتجري ناو ، وليس بعاص .

( ومن هنا : ) اي من كون المذمة على المنكشف لا الكاشف ( يظهر الجواب عن قبح التجري ) عقلاً ( فانه ) اي القبح ( لكشف ماتجرأ به ) من شرب الماء باعتقاد انه خمر ( عن خبث الفاعل ) نفساً ، خبثا بيده علاجها ، مما يرجع الى الاختيار ، لا خبثا ليس بيده اختيار ، حتى يقال : كيف يذم على الشيء غير الاختياري ؟ ( لكونه جريئاً ) وطاغياً ( وعازماً على العصيان والتمرد ) .

ومن المعلوم ان خبث النفس لاعقاب عليه ، الا إذا كان في اصول الدين ، بأن لم يعتقد بها ، عن تقصير لا عن قصور .

أو كان مما دل الدليل الخاص على العقاب عليه ، مثل ماورد : من حرمة الرضا بالمعصية ، كما في قصة عقر ناقة صالح ، وان اللّه سبحانه عمّهم بالعقاب لذلك، وكما ورد في زيارة الامام الحسين عليه السلام : « ولعن اللّه امة سمعت بذلك فرضيت به » (1) .

ص: 71


1- - مفاتيح الجنان : ص 566 .

لا على كون الفعل مبغوضا للمولى .

والحاصل : أنّ الكلام في كون هذا الفعل - الغير المنهيّ عنه - واقعاً ، مبغوضاً للمولى من حيث تعلّق اعتقاد المكلّف بكونه مبغوضاً ، لا في أنّ هذا الفعل المنهي عنه باعتقاده ينبى ء عن سوء سريرة العبد مع سيّده ،

-----------------

و ( لا ) قبح عقلا في شرب الماء بزعم انه خمر ( على كون الفعل مبغوضاً للمولى ) حتى يكون حراماً ، ويكون معاقباً عليه ، فيقال له يوم القيامة : لماذا شربت الماء الحرام ؟ .

نعم ، قد يطرء على الحلال ، الحرمة لامر خارج ، وذلك بحاجة الى دليل خاص ، كما افتى بعض العلماء بحرمة الماء الذي يصبّ في آنية الذهب وان اخرجه منه وشربه ، وكما افتى غير واحد بحرمة المال الشخصي الذي يأخذه مالكه بحكم الجائر .

( والحاصل : ان الكلام في ) انه هل القطع حجة مطلقاً ، سواء طابق الواقع أو لم يطابق الواقع ؟ .

ونتيجة ذلك : ( كون هذا الفعل ) كشرب الماء المزعوم انه خمر (غير المنهي عنه واقعاً ) أو لا وبالذات ( مبغوضاً للمولى ) فصار شربه كشرب الخمر ( من حيث تعلق اعتقاد المكلّف بكونه مبغوضاً ) أو ليس هذا الشرب مبغوضاً للمولى كما نقوله نحن ؟ .

و ( لا ) كلام لاحد ( في ان هذا الفعل ) : شرب الماء المزعوم كونه خمراً (المنهي عنه باعتقاده ) لا نهياً واقعياً ( ينبى ء عن سوء سريرة العبد ) وخبث نفسه ( مع سيده ) بل ومع غير السيد أيضا ، كما إذا كان صديقان لا يعتقد كل منهما بالآخر ، ونوى احدهما ان يسرق مال صديقه أو يقتله ، فانه لايشك العقلاء

ص: 72

وكونه جريئا في مقام الطغيان والمعصية وعازما عليه ، فانّ هذا غير منكر في هذا المقام ، كما سيجيء ، ولكن لايجدي في كون الفعل محرّما شرعيّا ، لأنّ استحقاق المذمّة ، على ما كشف عنه الفعلُ لايوجب استحقاقه على نفس الفعل .

-----------------

في خبث سريرة الناوي ، حتى إذا لم يات بمظهر ، فكيف ما إذا اتى به ؟ .

كما إذا رمى صيداً من بعيد ظنّه صديقه ، بقصد قتله ، أو اخذ أوراقاً زعم انها مال صديقه ، بينما كان من المباحات .

( و ) ينبي هذا الفعل عن ( كونه جريئاً ) على المولى و ( في مقام الطغيان والمعصية و ) كونه ( عازماً عليه ) اي على الطغيان والمعصية ، بل قد عرفت : انه فوق العزم حيث اتى بالمظهر أيضا ، وهو اكثر ذمّا عند العقلاء ممن لم يات بالمظهر ( فان هذا ) الكشف عن سوء السريرة ( غير منكر ) بفتح الكاف بصيغة اسم المفعول ( في هذا المقام ) اي مقام التجري ( كما سيجيء ) : من ان المتجري يستحق الذم والتوبيخ .

(ولكن ) هذا الذم ( لايجدي في كون الفعل محرّما شرعياً ) اذ لاتلازم بين الذم والحرمة ، فان الأَول اعم من الثاني ( لان استحقاق المذمة على ما ) اي القصد الذي ( كشف عنه ) اي عن ذلك القصد السييء ( الفعل ) الذي هو : شرب الماء بزعم انه خمر - في المثال - ( لايوجب استحقاقه ) اي الذم ( على نفس الفعل ) المباح فرضاً ، وهو شرب الماء ، فانه على صور :

1 - ربما يقبح الفعل دون القصد ، كمن زعم ان المسلم كافر فقتله ، ففعله قبيح دون قصده .

2 - ربما يقبح القصد دون الفعل ، كمن شرب الماء بزعم انه خمر تجريا ،

ص: 73

ومن المعلوم : أنّ الحكمَ العقليّ باستحقاق الذمّ ، إنّما يلازم استحقاق العقاب شرعا إذا تعلّق بالفعل ، لا بالفاعل .

وأمّا ماذكر من الدليل العقليّ ، فنلتزم باستحقاق من صادف قطعهُ الواقعَ ، لأنّه عصى اختيارا ،

-----------------

فان فعله غير قبيح ، اذ هو شرب الماء المباح ، وانّما قبح قصده ، لانه طغيان وتمرد .

3 - ربما يقبحان معاً ، كما إذا شرب الخمر عالماً عامداً ، وهذا جمع بين قبح الفعل وقبح القصد ، ولايخفى ان العلم غير العمد ، فالعلم صفة نفسية ، والعمد صفة الفعل.

( ومن المعلوم : ان الحكم العقلي ) والحكم العقلائي ، وقد سبق الفرق بينهما ( باستحقاق الذم ، انّما يلازم استحقاق العقاب شرعاً ، إذا تعلق ) الذم ( بالفعل ،

لا بالفاعل ) الذي فعل مباحاً ، وانّما كان ارتكابه كاشفاً عن سوء السريرة .

والحاصل : ان الشيء القبيح من جهة وجود مفسدة فيه ، إذا صدر عن علم وعمد ، كان سبباً للعقاب ، اما الشيء غير القبيح لعدم المفسدة فيه ، إذا صدر عن سييء السريرة بزعم انه حرام ، لم يكن فيه عقاب ، والمفروض في شرب الماء بزعم الخمرية ، انه من الثاني لا من الاول .

( واما ماذكر من الدليل العقلي ) الذي قسّم الأمر الى اربعة اقسام ، واختير فيه : تساوي شرب الماء بزعم انه خمر ، وشارب الخمر ، في العقاب ( فنلتزم ) فيه بالشق الثالث اي ( باستحقاق من صادف قطعه الواقع ) للعقاب ، دون من لم يصادف قطعه الواقع ، الذي شرب الماء بزعم انه خمر .

وذلك ( لانه ) اي من صادف قطعه الواقع كان قد ( عصى اختياراً ) كسائر

ص: 74

دون من لم يصادف .

قولك : « إنّ التفاوت بالاستحقاق والعدم لا يحسن أن يناط بما هو خارج عن الاختيار » ، ممنوعٌ ، فانّ العقاب بما لايرجع بالآخرة إلى الاختيار قبيحٌ ، إلاّ أنّ عدمَ العقاب لأمر لايرجع إلى الاختيار

-----------------

العصاة ، فله عقاب مثل مالهم عقاب ، اذ هو مصداق من مصاديق العاصي ، والعاصي له العقاب ( دون من لم يصادف ) قطعه الواقع ، حيث شرب الماء بزعم انه خمر ، لكنه لم يكن خمراً فلا عقاب له .

واشكالك ب( قولك : إن التفاوت ) بينهما ( بالاستحقاق ) في شارب الخمر ( والعدم ) في شارب الماء ( لايحسن ان يناط ) ذلك التفاوت ( بما هو خارج عن الاختيار ) من المصادفة للواقع وعدم المصادفة ، اذ اناطة العقاب بما هو خارج عن الاختيار غير صحيح ، فترتيبك ايها المستشكل على هذا استحقاقهما العقاب معاً بمناط الشرب الاختياري للخمر المقطوع به ( ممنوع ) لوضوح انه لاقبح في مثل هذاالتفاوت ، بل القبح في عدم التفاوت ، فان هناك امرين :

الاول : ان يعاقب الانسان بما ليس باختياره ، كأن يجبر على شرب الخمر ، ثم يعاقبه المولى ، والحال ان شرب الخمر لم يكن باختياره ، وهذا قبيح بلا اشكال .

الثاني : ان لايعاقب بما ليس باختياره ، كأن لايعاقبه لانه شرب الماء - وان كان شرب الماء لم يكن باختياره لانه زعم انه خمر - وهذا الثاني ليس بقبيح .

والى هذين أشار بقوله قدس سره : ( فان العقاب بما ) اي بالشرب للخمر الاجباري الذي ( لايرجع بالاخرة ) اي لاينتهي ( الى الاختيار قبيح ) اذ العقاب انّما يكون على الامور الاختيارية ( الا أن عدم العقاب لامر ) شرب الماء الذي ( لايرجع الى الاختيار ) لما عرفت : من ان كونه ماءاً لم يكن باختياره لانه زعم انه خمر ، وشربه

ص: 75

قبحُهُ غيرُ معلوم .

كما يشهد به الأخبارُ الواردةُ في أنّ : « مَن سَنّ سنّةً حَسَنَةً كان له مِثلُ أجرِ مَن عَمِلَ بها ، ومَن سَنَّ سنّةً سيّئةً كان له مثلُ وِزرِ مَن عَمِل بها » .

-----------------

بهذا القصد ، فان ( قبحه غير معلوم ) .

وبعبارة اخرى : ان قبحه معلوم العدم .

وان شئت قلت : ان الاقسام أربعة :

الاول : القبيح الاختياري ، وهذا يعاقب عليه .

الثاني : القبيح غير الاختياري ، وهذا لايعاقب عليه .

الثالث : غير القبيح الاختياري ، وهذا لايعاقب عليه .

الرابع : غير القبيح غير الاختياري ، وهذا لايعاقب عليه أيضا .

فالاول : كشرب الخمر اختياراً .

والثاني : كشرب الخمر اجباراً .

والثالث : كشرب الماء اختياراً .

والرابع : كشرب الماء بدون الاختيار لزعمه انه خمر - مثلاً - .

والمصنّف قدس سره ذكر من الاقسام الاربعة : القسم الثاني ، والقسم الرابع - لانهما مشتركان في عدم الاختيار - .

( كما يشهد به ) اي بالتفاوت بين الاشخاص بامر خارج عن الاختيار ( الاخبار الواردة في أن : « من سنّ سنّة حسنة ، كان له مثلُ أجر من عَمِل بها » ) من غير ان ينقص من اجورهم شيء ، فلا يؤخذ من اجورهم ، ليعطي الى مَن سنّ تلك السنّة ، بل ان اللّه سبحانه يعطيه بفضله بقدر اجر كل واحد عمل بسنّته .

( « ومن سنّ سنة سيئة ، كان له مثل وزر من عمل بها» ) من غير ان ينقص

ص: 76

فاذا فرضنا أنّ شخصين سَنّا سُنّةً حَسَنة او سَيّئةً ، واتفق كثرةُ العامل بأحداهما وقلّة العامل بما سنّه الآخرُ ، فانّ مقتضى الروايات كون ثواب الأوّل او عقابه أعظمَ ،

-----------------

من أوزارهم شيء » (1) فاذا أسّس انسان مسجداً ، كان له بقدر ثواب المصلين ، وإذا كتب كتاب علم نافع كان له بقدر ثواب المستفيدين منه ، وكذلك إذا اسس مخمرا فله بقدر وزر الخمارين فيه ، وإذا كتب كتاب ضلال ، فله بقدر وزر الظالّين به .

وجه الاستدلال بهذه الروايات للمقام ماذكره بقوله : ( فاذا فرضنا : ان شخصين سنّا سنّة حسنة ) فالشيخ المرتضى قدس سره كتب المكاسب ، والسبزواري قدس سره كتب المكاسب أيضا ( أو سيئة ) بان بني الرجل المخمر في المدينة ، حيث كثرة الخمارين ، والآخر بناه في القرية حيث قلة الخمارين ( واتفق كثرة العامل باحداهما ، وقلة العامل بما سنه الآخر ) فمكاسب الشيخ قدس سره استفاد منه الآلاف، ومكاسب السبزواري قدس سره استفاد منه العشرات .

وكذلك بالنسبة الى مثال المخمرين ( فان مقتضى الروايات ) المذكورة ( كون ثواب الاول ) من سن سنة حسنة ( أو عقابه ) من سن سنة سيئة ( أعظم ) من الثاني ، مع انه لا مدخلية لاي منهما في كثرة الاتباع وقلّتِه ، فان الكثرة والقلة امران اتفاقيان خارجان عن ارادة واختيار كل منهما .

ثم ان اعطاء الاجر بالنسبة الى من سنّ سنّة حسنة لا اشكال فيه ، لان الاجر والثواب كل فضل - كما ثبت في مورده - فمزيده أيضا فضل .

نعم ، يجب ان لايخرج المزيد عن الحكمة ، كمن يكرم انساناً بما هو خارج

ص: 77


1- - الكافي فروع : ج5 ص9 ح1 ، غوالي اللئالي : ج1 ص285 ح136 (بالمعنى) .

وقد اشتهر : « أنّ للمصيب أجرين وللمخطى ء أجرا واحدا » .

-----------------

عن الحكمة ، فانه أيضا ممتنع في حقه سبحانه .

وانّما الكلام في الوزر لمن سن سنة سيئة ، فهل يعطي من سن بقدر كل من عمل بتلك السنة السيئة ، كما في الافراد ، وكيفاً في القدر - كما ربما يستظهر من الحديث - أو المراد اصل الاعطاء لا كيفه ؟ .

لايبعد الثاني ، لانه الأوفق بالحكمة ، لوضوح ان من يعمل بالسنّة السيئة أيضا له دخل في ارتكاب هذه السيئة ، فهو ومن سنّها اذن شريكان ، فاعطاء كل واحد بقدر التمام يخالف - على الظاهر - قوله تعالى : « فلا يجزى الاّ مثلها » (1) بل هما ، كما إذا اشترك اثنان في قتل شخص ، حيث لكل واحد نصيبه من الجريمة ، لا انه يعطي لكل واحد جريمة قتل .

نعم ، يمكن ان يقال : بان من سنها له امران : الفعل ، والسببية ، ولكل عقوبة .

وعلى اي حال : فكثرة الثواب والعقاب لمن كثر اتباعه ، معلول لامر اختياري هو اختيار سن الحسنة أو السيئة ، واما قلتهما فيهما ، فهو من جهة ان العلة لم تؤر قدر اثرها الممكن ، فلا ثواب ازيد ولا عقاب ازيد من جهة السالبة بانتفاء الموضوع ، وتفصيل الكلام في هذه المباحث موكول الى علم الكلام .

( و ) مما يدل أيضا على التفاوت بامر خارج عن الاختيار ما ( قد اشتهر ) في السنتهم ، بل نسبه سلطان العلماء في حاشية المعالم الى الرواية : ( ان للمصيب ) في اجتهاده بحيث وصل الى الواقع ( اجرين ) : اجر الاجتهاد ، واجر الاصابة ، مع ان الاصابة لم تكن باختياره ( وللمخطى ء اجرا واحدا ) (2) لاجتهاده ، مع ان

ص: 78


1- - سورة الانعام : الاية 160 ، سورة غافر : الاية 40 .
2- - حاشية سلطان العلماء على المعالم ص80 .

والأخبارُ في أمثال ذلك في طرفي الثواب والعقاب بحدّ التواتر .

فالظاهرُ أنّ العقلَ إنّما يحكمُ بتساويهما في استحقاق المذمّة من حيث شقاوة الفاعل

-----------------

الاصابة وعدمها لم يكونا باختيار المجتهدين .

وهذا امر عقلي وان لم يرد فيه نص ، فان من اتعب نفسه للمولى - حسب امر المولى - لابد له من جزاء، فان صادف الواقع، كان له جزاء ثان، حيث ان الواقع له آثار .

( والاخبار في امثال ذلك ، في طرفي الثواب والعقاب بحد التواتر ) وذلك مثل ماورد من : ثواب الامام بكثرة المأموم ، وما ورد من : اعطاء ثواب اعمال الولد لوالده ، فان كون الانسان علة - ولو علة ناقصة ، حيث ان الامام والوالد علة ناقصة للثواب - يعطي جواز اكثرية الثواب في الحكمة ، فلا يقال : انه اعتباط ، والاعتباط لايليق بالحكيم تعالى .

وإذا عرفت العقلية والشرعية في التفاوت ، نرجع الى بحث التجري ( ف- ) نقول : ( الظاهر ) ولايخفى ان الظاهر يقال : لما تكرر حتى ظهر ، مثل ظاهر اللفظ ، وظاهر الحال ، فيقال : ظاهر اللفظ كذا ، وظاهر الحال كذا ، إذا استعمل اللفظ فيهذا المعنى مكرراً حتى صار اللفظ ظاهراً فيه ، والمسلم تكرر العمل الصحيح منه ، حتى صار ظاهر حاله انه يعمل عملاً صحيحاً ، وهكذا ، فالظاهر : (ان العقل انّما يحكم بتساويهما ) اي الشاربين للمائع ، وكلاهما قاطع بانه خمر ،لكن احدهما صادف الخمر والآخر لم يصادفه ، بل يكون شارباً للماء (في استحقاق المذمة من حيث شقاوة الفاعل ) .

والشقاء هو : ايقاع النفس في المشقة ، ولذا ورد قوله سبحانه : « طَه * ما أنزَلنَا

ص: 79

وخبث سريرته مع المولى ، لا في استحقاق المذمّة على الفعل المقطوع بكونه معصيةً .

وربّما يؤيّد ذلك أنّا نجدُ من أنفسنا الفرقَ في مرتبة الذم بين من صادف فعله الواقع وبين من لم يصادف ،

-----------------

عَلَيكَ القُرآنَ لِتَشْقى » (1) .

وشقاوة الفاعل عبارة عن : اختياره القاء نفسه في مشقة غضب اللّه وبعدها عنه ( وخبث سريرته ) اي سوء نيته ( مع المولى ) لان كلا الشاربين بصدد التمرد والعصيان ( لا ) بتساويهما ( في استحقاق المذمة على الفعل المقطوع بكونه معصية ) لوضوح انه لاذم لشرب الماء ، وانّما خاص لشرب الخمر .

( و ) بعد ان فرغ المصنّف من الاستدلال الشرعي والعقلي على التفاوت بين الشاربين ، وان غير المصادف لاحرمة لفعله ، فلا عقاب عليه ، أيّد ذلك بقوله :

( ربّما يؤيد ذلك ) اي استحقاق المصادف دون غيره للعقاب ( انا نجد من انفسنا ) وهذا الوجدان دليل على الواقعية ، لان النفس حسب فطرة اللّه سبحانه منطوية على درك الحقائق ( الفرق في مرتبة الذم بين من صادف فعله الواقع ، وبين من لم يصادف ) فاذا رأينا نفرين يرميان مسلمين ، فأصاب احدهما هدفه فقتل المسلم المرمي ، والآخر لم يصب هدفه فلم يقتل ذلك المسلم الثاني ، فان العقلاء ينهالون على المصادف بكل سب وذم ، بخلاف الثاني حيث يكون سبابهم وذمهم له اقل ، فان العقلاء يرون في المصيب هدفه اسائتين ، وفي غير المصيب هدفه اسائة واحدة ، وهكذا حال شاربي الانائين بقصد الخمر ، وقد

ص: 80


1- - سورة طه : الايات 1-2 .

إلاّ أن يقال : إنّ ذلك إنّما هو في المبغوضات العقلائيّة من حيث أنّ زيادة الذم من المولى وتأكدّ الذمّ من العقلاء بالنسبة الى من صادف اعتقاده الواقع لأجل التشفّي المستحيل في حقّ الحكيم تعالى ، فتأمّل .

هذا ، وقد يظهر من بعض المعاصرين : « التفصيل في صورة القطع بتحريم شيء غير محرّم واقعا ،

-----------------

اصاب احدهما قصده فكان مشروبه خمرا ، ولم يصب الثاني قصده فكان مشروبه ماءا .

( الاّ ان يقال : ان ذلك ) التفاوت في ذم العقلاء للمصيب هدفه ، اكثر من غير المصيب ( انّما هو في المبغوضات العقلائية ) ولا دليل على تطابق الشرع للعقلاء ( من حيث ان زيادة الذم من المولى ) للقاتل ( وتاكد الذم ) له ( من ) سائر ( العقلاء بالنسبة الى من صادف اعتقاده الواقع ) انّما هو ( لاجل التشفّي ) من القاتل ، وهو زيادة دخل فيها الحالة النفسية ( المستحيل ) ذلك التشفي ( في حق الحكيم تعالى ) .

والحاصل : ان العقلاء يفرّقون بين المصادف وغير المصادف ، من جهة التشفي ، وحيث لاتشفي فيه سبحانه ، لايكون بينهما فرق عنده .

( فتامّل ) اذ لايسلّم ان العقلاء يزيدون ذم المصادف من حيث التشفي ، فالفرق بين المصادف وغير المصادف عندهم تام عقلاً ، وكلما حكم به العقل حكم به الشرع اذا كان في سلسلة العلل كما هو في المقام ، حيث ان العلة ، القبح .

( هذا ) تمام الكلام في اطلاق القول بان التجرّي مطلقا حرام ، وكذا القول بانه ليس بحرام اطلاقا .

( وقد يظهر من بعض المعاصرين ) وهو صاحب الفصول ( التفصيل ) في إستحقاق العقاب ( في صورة القطع بتحريم شيء غير محرم واقعا ) كشرب الماء

ص: 81

فيرجّح استحقاقَ العقاب بفعله ، الاّ أنّ يعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة ، فانّه لايبعد عدم استحقاق العقاب عليه مطلقا ،

-----------------

بزعم انه خمر ، فقد يكون ذلك الفعل حراما معاقبا عليه ، وقد لايكون حراما ، فلا يعاقب عليه ( فيرجح ) في نظر الفصول ( استحقاق العقاب بفعله ) اي فعل الشيء المحلل بزعم انه حرام ، كشرب الماء بزعم انه خمر .

( الاّ ان يعتقد تحريم واجب ) توصيلي ، والمراد بالواجب التوصلي : مالا يشترط فيه قصد القربة ، اما اذا اشترط الواجب بقصد القربة ، كالطهارات ، والصلاة ، والصيام ، والحج ، فيسمى بالواجب التعبدي ، ولذا وصف الواجب بقوله : ( غير مشروط بقصد القربة ) كما اذا اعتقد بان زيدا كافر واجب القتل ، فتجرى وحفظه ، وكان في الواقع مسلما واجب الحفظ ، فان الحافظ اعتقد تحريم الحفظ ، بينما كان الحفظ واجبا توصليا .

( فانه ) الضمير للشان ( لايبعد عدم استحقاق العقاب عليه ) اي على فعله - وهو الحفظ في المثال - فلا يقال له يوم القيامة : لماذا حفظت زيدا ، وقد اعتقدت انه كافر واجب القتل ؟ .

وعدم استحقاق العقاب هذا يكون ( مطلقا ) اي سواء كان مصلحة الواقع اهم من مفسدة التجري : كما اذا كان زيد - في المثال - من عدول المؤمنين .

او مساوية للمفسدة : كما لو كان زيد مسلما عاديا - حيث يفرض ان حفظ المسلم في وجوبه يساوي قتله في حرمته - .

او اضعف من المفسدة ، بان كانت المفسدة اقوى : كما لو كان زيد كافرا ذميا ، حيث ان مصلحة حفظ المسلم اقوى من مفسدة التجري .

ص: 82

او في بعض الموارد ، نظرا إلى معارضة الجهة الواقعيّة للجهة الظاهريّة ،

-----------------

( او ) عدم استحقاق العقاب في التوصلي ( في بعض الموارد ) : كصورة اهمية الواجب او تساويه ، كما ذكرناهما في الصورتين الاوليين .

وانّما تردد في كلامه فقال : « مطلقا » او « بعض الموارد » لانه قد يقال : اذا تعارض واجب وحرام تساقطا وان كان الواجب اهم ، اذ الحرام لايترك الواجب على وجوبه ، وان بقى بعد سقوطه عن الوجوب شيء من الرجحان للواجب .

وقد يقال : انه اذا كان الحرام اضعف يبقى الواجب على وجوبه ، وانّما لايبقى على وجوبه في صورتين :

الاولى : صورة تساوي الواجب والحرام .

الثانية : صورة كون الحرام اهم .

وانّما يكون عدم استحقاق العقاب - في صورة التصادم بين الواجب والحرام - ( نظرا الى معارضة الجهة الواقعية ) لفرض ان من حفظه مسلم او ذمي محقون الدم ( للجهة الظاهرية ) .

فالتجري - الذي هو حرام - لايؤثر اثره في الحرمة والعقاب ، اذا كان الفعل المتجرى به واجبا في الواقع ، وانّما يؤثر اثره اذا لم يكن واجبا في الواقع ، ففي مثل شرب الماء بزعم انه خمر ، فعل المتجري حراما ، اما في مثل حفظ زيد الذي زعم انه كافر واجب القتل ، وكان مسلما واقعا ، لم يفعل المتجري حراما .

ثم ان الفصول قال : « غير مشروط بقصد القربة » لانه اذا كان من الواجب المشروط بقصد القربة ، وزعم انه حرام ، لايتأتى منه قصد القربة ، وكيف يتمكن الانسان ان يقصد القربة ، مع انه يقطع ان مايعمله حرام مبعد عن اللّه تعالى ؟ .

فاذا صلى الجنب بزعم ان صلاته حرام ، بطلت صلاته من جهة عدم تمكنه

ص: 83

فانّ قبح التجرّي عندنا ليس ذاتيّا ، بل يختلفُ بالوجوه والاعتبارات .

-----------------

من قصد القربة ، وان كان في الواقع متطهرا غير جنب ، فاذا لم تكن صلاته صحيحة من جهة عدم قصده للقربة ، فلا وجوب يقاوم حرمة التجري ، فيكون تجريا وحراما فقط ، لعدم تعارض بين الواجب والحرام - وفرض صاحب الفصول هو المورد الذي فيه تعارض بين الواجب والحرام - .

( فانّ قبح التجرّي عندنا ) نحن صاحب الفصول ( ليس ذاتيا ) بحيث لاينفك القبح عنه ، اذ ذاتي الشيء لاينفك منه ، بل حيث ما كان ذلك الشيء يكون ذلك الذاتي حاله حال زوجية الاربعة ، وناطقية الانسان ، وقبح الظلم ، فانه لايعقل ظلم غير قبيح ، فاذا رأينا ما صورته ظلم ولم يكن قبيحا ، فالواقع انه ليس بظلم ، لا انه

ظلم غير قبيح .

( بل يختلف ) التجري قبحا وحسنا وتساويا ( بالوجوه والاعتبارات ) اي يلاحظ ما وجهه ؟ وكيف اعتبره العقلاء ؟ فان الاختلاف قد يكون بسبب الوجوه وقد يلاحظ بسبب الاعتبارات المختلفة .

والفرق بينهما : ان الوجوه في نفس الشيء ، والاعتبارات انّما تكون باعتبار المعتبر .

مثلاً : الانسان من وجه عام ، ومن وجه خاص ، فمن وجه اصنافه : عام يشمل العربي والعجمي وغيرهما ، ومن وجه الحيوان : خاص .

وكذا الورق الكذائي ، فباعتبار جعل الملك له نقدا ، صار ذا قيمة كذائية ، وباعتبار انه ورق من الاوراق ليست له تلك القيمة ، ولذا لو سحب الملك اعتباره سقطت قيمته .

وعلى اي حال : فالتجري بما هو هو ، حاله حال ضرب الطفل ، ان ضربه

ص: 84

فمن اشتبه عليه مؤمن ورع عالم بكافر واجب القتل ، فحسب أنّه ذلك الكافر وتجرّى فلم يقتله ، فانّه لايستحقّ الذمّ على هذا الفعل عقلاً عند من انكشف له الواقعُ ، وإن كان معذورا لو فعل .

وأظهر من ذلك ما لو جزم بوجوب قتل نبيّ او وصيّ فتجرّى ولم يقتله .

-----------------

الضارب انتقاما او اعتباطا كان حراما ، وان ضربه تأديبا لازما كان واجبا ، وان ضربه للتأديب المستحب لا للتأديب الواجب كان جائزا ، وعلى هذا يقاس التجري .

( فمن اشتبه عليه مؤمن ورع عالم ) وهو محرّم القتل ( بكافر واجب القتل فحسب ) اي زعم ( انه ) اي ان هذا المؤمن ( ذلك الكافر ) الواجب قتله ( وتجرّى ) حسب زعمه ( فلم يقتله ) بل حفظه ( فانه لايستحق الذم على هذا الفعل عقلاً ) لانه وان حفظ الكافر في الظاهر عنده ، حيث اعتقد انه كافر مهدور الدم ، الا إنه في الواقع حفظ المؤمن ، سواء إنكشف له بعد ذلك كونه مؤمنا ام لا .

وكذلك الحال في عدم استحقاقه الذم ( عند من انكشف له الواقع ) .

وحيث لاذم عقلاً ، لا عقابَ ، حيث إنهما متلازمان اذا كان الذم الى حد المنع عن النقيض ( وان كان معذورا ) عقلاً وشرعا ( لو ) عمل بقطعه ، و ( فعل ) مقتضاه اي القتل .

( واظهرُ من ذلك ) عدم قتل المؤمن تجريا ، حيث زعم انه كافر واجب القتل ، لكن عصى ولم يقتله مثل : ( ما لو جزم بوجوب قتل نبي او وصيّ ) نبي ، لانه زعمه كافرا واجب القتل ( فتجرى ولم يقتله ) .

وانّما كان اظهر ، لان الواجب هنا اهم من الحرام ، بينما في المثال السابق كان الواجب والحرام متماثلين .

ص: 85

ألا ترى أنّ المولى الحكيم ، إذا أمر عَبدَهُ بقتل عدوّ له فصادف العبد ابنه وزعمه ذلك العدوّ فتجرّى ولم يقتله ، أنّ المولى إذا اطّلع على حاله لايذمّه على هذا التجرّي بل يرضى به ، وإن كان معذورا لو فعل .

وكذا لو نصب له طريقا غيرَ القطع إلى معرفة عدوّه ، فأدّى الطريقُ إلى تعيين ابنه فتجرّى ولم يفعل ، و

-----------------

واضعف من ذلك : مالو زعم انه واجب القتل ، لكن تجرا ولم يقتله ، وكان طرفه ذميا محقون الدم ، لان الحرام هنا اقوى - على ما تقدّم - .

( الا ترى ) في تقريب ارتفاع قبح التجري بمصادفته للواجب : ( ان المولى الحكيم اذا أمر عبده بقتل عدو له ، فصادف العبد ابنه ) اي ابن المولى ( وزعمه ) اي زعم العبد ، ان هذا الابن ( ذلك العدو ) - اشتباها - ( فتجرى ولم يقتله ) عصيانا، بزعمه ( ان المولى اذا اطلع على حاله ) وعلم انه لم يقتل ابنه تجريا ( لايذمه على هذا التجري ، بل يرضى به ، وان كان معذورا لو فعل ) وقتل ابنه ، لما عرفت من حجية قطعه .

وكذا اذا شَهد شاهدان : بانه عدو المولى ، لكنه لم يقتله تجريا ، ولذا قال الفصول قدس سره : ( وكذا ) لايذمه المولى ( لو نصب ) المولى ( له ) اي للعبد ( طريقا غير القطع ) الذي هو طريق عقلي ( الى معرفة عدوه ) كشهادة العدلين ، والشهرة ، وغيرهما ( فادى الطريق ) المجعول ( الى تعيين ابنه ، فتجرى ) العبد مع قيام الطريق ( ولم يفعل ) القتل .

( و ) ان قلت : فعلى هذا ، يجوز لكل من قام عنده الطريق مخالفته ، لانه يحتمل ان يكون الطريق غير مصادف للواقع ، بل يصادف خلاف المأمور به او المنهي عنه .

ص: 86

هذا الاحتمال حيث يتحقق عند المتجرّي لايُجديه إن لم يصادف الواقع ، ولذا يلزمه العقل بالعمل بالطريق المنصوب ، لما فيه من القطع بالسلامة من العقاب ، بخلاف ما لو ترك العمل به ، فانّ المظنون فيه عدمُها .

-----------------

مثلاً : لو قام عنده الطريق بوجوب صيام هذا اليوم - بزعمه انه آخر شهر رمضان - فانه يحتمل ان يكون في الواقع مصادفا لاول يوم من شوال حيث يحرم صومه ، او قام عنده الطريق بحرمة وطي هذه المرأة ، فانه يحتمل ان تكون في الواقع واجبة الوطي ، من جهة إنها زوجته ، وقد زوجها له ابوه في صغره .

فهل يجوز التجري بترك ما وجب او حرم ، حسب قيام الطريق ، اذا احتمل الخلاف ؟ .

قلت : ( هذا الاحتمال ) المخالف للطريق ( حيث يتحقق عند المتجري ، لايجديه ) اي لاينفع المتجري ( ان لم يصادف الواقع ) فان هذا الاحتمال انّما ينفع اذا وافق الاحتمال للواقع ، وموافقة الاحتمال الواقع ليس بدائمي ، بل اتفاقي .

( ولذا ) الذي ذكرناه : من ان الاحتمال لايجدي ( يلزمه العقل ) اي يلزم العقل هذا الشخص الذي قام عنده الطريق ( ب- ) الانقياد و ( العمل بالطريق المنصوب ) له ( لما فيه ) اي العمل بالطريق ( من القطع بالسلامة من العقاب ) لانه اما اطاعة او انقياد ( بخلاف مالو ) تجرا و ( ترك العمل به ) لاحتمال مخالفة الطريق للواقع ( فان المظنون فيه ) اي في التجري ( عدمها ) اي عدم السلامة .

ومقولة : « المظنون » من باب المثال ، اذ ربما يظن الانسان خلاف الطريق وربما يشك ، وربما يتوهم .

نعم ، اذا قطع بان الطريق مخالف وجب عليه العمل بقطعه ، لان القطع حُجية ذاتية، وحجية الطريق عرضية ، والحجية العرضية لاتقاوم الحجية الذاتية .

ص: 87

ومن هنا : يظهرُ انّ التجرّي على الحرام في المكروهات الواقعيّة أشدّ منه في مباحاتها ، وهو فيها أشدّ منه في مندوباتها ،

-----------------

ولهذا قال العلامة قدس سره :

إذا دل العقل على شيء والظاهر على خلافه ، ترك العمل بالظاهر واتبع القطع .

( ومن هنا ) اي مما ذكرناه : من ان التجري اذا صادف خلاف الواقع ، سقط حرمة التجري وكان الأمر للواقع ، من غير فرق بين التجري على الحرام ، او على ترك الواجب ( يظهر : ان التجري على الحرام في المكروهات الواقعية ) بان كان مكروها واقعا ، وزعم المتجري انه حرام ، كما اذا زعم ان نوم بين الطلوعين حرام، لكنه تجرا ونام - مع انه في الواقع مكروه - ( اشد منه ) اي من التجري ( في مباحاتها ) اي المباحات الواقعية ، بان كان مباحا واقعا ، لكنه زعمه حراما .

ووجه الاشديّة : هو ان الاول بتجريه يفعل المكروه ، والمكروه له غضاضة والثاني يفعل المباح ، والمباح لا غضاضة فيه .

( وهو ) اي التجري ( فيها ) اي في المباحات ( اشد منه ) اي من التجري ( في مندوباتها ) اي المندوبات الواقعية ، كمن قطع بحرمة اكل الجبن والجوز - معا - لكنه تجرا واكل ، فظهر ان اكلهما معا مستحب ، فان استحبابه الواقعي يخفف من حرمته الظاهرية بخلاف المباح .

والحاصل لكلام الفصول هو : ان مايعتقده الانسان بانه حرام ، يحتمل ان يصادف الواجب الواقعي ، او يصادف المستحب الواقعي ، او يصادف المباح الواقعي او يصادف المكروه الواقعي .

وكذلك عكسه : اي ما يعتقده الانسان بانه واجب ، فانه يحتمل ايضا ان يصادف الحرام الواقعي ، او يصادف المكروه الواقعي ، او يصادف المباح

ص: 88

ويختلفُ باختلافها ضعفا وشدّةً كالمكروهات .

ويمكن ان يراعى في الواجبات الواقعية

-----------------

الواقعي، او يصادف المستحب الواقعي .

وللتجري في كل من هذه الثمانية - على رأي الفصول - حكم مختص به دون حكم الآخر ، وقد مضى : ان مصادفة الواجب والحرام ايضا على ثلاثة اقسام : فقد يتساويان في المصلحة والمفسدة ، وقد يكون الواجب اهم ، وقد يكون الحرام أهم .

( و ) كذلك ( يختلف ) التجري ( باختلافها ) اي المندوبات ( ضعفا وشدة ) فقد يكون مستحبا مؤكدا ، وقد يكون مستحبا عاديا ( ك- ) ما ان ( المكروهات ) ايضا مختلفة شدّة وضعفا .

مثلاً : اذا كان درجة المستحب الواقعي عشرة ، ودرجة حرمة التجري مائة صارت حرمة التجري الى تسعين ، لنقص عشرة المستحب منه ، واذا كان درجة المستحب عشرين ، وحرمة التجري مائة ، صارت حرمة التجري ثمانين ، فتختلف حرمة التجري من مستحب الى مستحب .

وهكذا الامر في المكروه الواقعي : فاذا كانت درجة الكراهة عشرة ودرجة التجري مائة ، وتجرأ ، صار للتجري مائة وعشرة درجة من المبغوضية ، وكلما زادت درجة الكراهة ، زادت درجة مبغوضية التجري .

اما في المباح : فتبقى درجة التجري على حالها مائة ، بدون زيادة ولانقيصة .

( و ) على هذا ( يمكن ان يراعى في الواجبات الواقعية ) التي زعمها المتجري

ص: 89

ما هو الأقوى من جهاته وجهات التجرّي » انتهى كلامه رفع مقامه .

أقول : يردُ عليه ، أوّلاً : منعُ ماذكره من عدم كون قبح التجرّي ذاتيّا ، لأنّ التجرّي على المولى قبيح ذاتا ، سواء كان لنفس الفعل او لكشفه عن كونه جريئا ،

-----------------

حراما ( ماهو الاقوى من جهاته ) اي جهات الواجب ( وجهات التجري ) (1) فاذا تساويا تساقطا ، وان كان الواجب اهم ، الى حيث اندك التجري فيه لم تكن حرمة ، وان كانت حرمة التجري اهم ، الى حيث اندك الواجب فيه كانت الحرمة البحتة ، وهكذا .

( انتهى كلامه ) اي كلام الفصول ( رفع مقامه ) .

لكن في كلامه موارد للنظر ، ولذا قال المصنّف قدس سره ( اقول : يرد عليه ، أولاً : منع ماذكره : من عدم كون قبح التجري ذاتيا ، لان التجري على المولى قبيح ذاتا ) فان هناك افعالاً قبحها ذاتي كما يشهد به العرف ، وافعالاً حسنها ذاتي كالانقياد ، وافعالاً لاشيء لذاتها من الحسن والقبح ، وانّما ان عرضها جهة خارجية من الحسن او القبح ، تكون على وصف ماعرض ، والاّ بقت كما كانت بلا حسن ولا قبح .

مثلاً : القيام أمام الوارد ، ان كان بقصد الاهانة كان قبيحا ، وان كان بقصد الاحترام كان حسنا ، وان لم يكن بقصد احدهما ، لم يكن قبيحا ولا حسنا ( سواء كان ) القبح في التجري ( لنفس الفعل ) كما يقوله القائل بحرمة التجري فيما اذا شرب الماء معتقدا انه خمر - على ماهو المشهور - ( او لكشفه ) اي هذا الفعل ( عن ) خبث النفس و ( كونه جريئا ) على المولى - كما اخترناه - فيكون القبح

ص: 90


1- - الفصول الغرويّة : ص431 .

فيمتنع عروضُ الصفة المحسّنة له ، وفي مقابله الانقيادُ للّه سبحانه ، فانّه يمتنع أن يُعرض له جهةٌ مقبّحةٌ .

وثانيا : لو سلّم أنّه

-----------------

في صفة النفس ، المنكشفة بواسطة التجري .

( ف- ) اذا كان التجري قبيحا ذاتا ، فانه ( يمتنع عروض الصفة المحسنة له ) اي للتجري ، اذ ذاتي الشيء لايتغير - على ماتقدّم الالماع اليه - كما ان الذات ايضا لاتتغير .

وعليه : فمصادفة الفعل المتجري به لجهة محسنة واجبة ، او مستحبة ، لاتوجب تغير ذات الفعل ، ولا تغير كاشفيته عن النفس الطاغية ، وانّما يتعارض جهتا الحسن والقبح ، فيقدّم الاهم منهما ان كان ، وان لم يكن أهم في البين يتساويان ويتساقطان ، فلا حسن ولا قبح كما في كل مورد كذلك .

( وفي مقابله : الانقياد ) اذ الانقياد يقابل التجري ، فان كلاً من الواقع الحقيقي ، والواقع المزعوم ، ان كان الانسان بصدد اطاعة المولى ، كان الاول اطاعة ، والثاني انقيادا ، وان كان بصدد مخالفة المولى ، كان الاول عصيانا ، والثاني تجريا .

فكما ان التجري قبيح ذاتا كذلك الانقياد ( للّه تعالى سبحانه ) بل لكل مولى ( فانه ) حسن ذاتا ، و ( يمتنع ان يعرض له جهة مقبحة ) وان امكن وجود الكسر والانكسار ، والاهم والمهم ، على ماعرفت في التجري .

وبهذا تبين ان التجرّي قبيح ذاتا ، كما ان الانقياد حسن ذاتا .

( وثانيا : لو سلم انه ) اي التجري ليس قبيحا ذاتا ، فلا اقل من أن يكون مقتضيا للقبح .

والفرق بين الذات والاقتضاء : ان الاول : علة تامة ، والثاني : علة ناقصة ،

ص: 91

لا امتناع في أن يَعرِضَ له جهةٌ محسّنةٌ ، لكنه باق على قبحه ما لم يعرض له تلك الجهة ، وليس ممّا لا يعرض له في نفسه حسنٌ ولا قبحٌ ، إلاّ بملاحظة ما يتحقق في ضمنه .

وبعبارة أُخرى :

-----------------

ومعنى العلية الناقصة : انه ( لاامتناع في ان يعرض له جهة محسنة ) اذ الاقتضاء يمكن ان يصادف بقية العلة فيؤثر اثره ، ويمكن ان لا يصادف فلا يؤثر اثره .

مثلاً : الدواء الفلاني مقتض لقطع الحمى ، فان إنضم اليه بقية العلة انقطعت الحمّى ، والا لم يؤثر الدواء في قطعها ( لكنه باق على قبحه مالم يعرض له تلك الجهة ) فكيف قال الفصول : ان التجري يختلف بالوجوه والاعتبارات ؟ مما معناه : ان لا مقتضى فيه لحسن ولا قبح ، بل يكون حال التجري حال شرب الماء ليس فيه اقتضاء ولا علية لشيء من الحسن والقبح .

( و ) على هذا : فالتجري ( ليس ) من قبيل الافعال اللا اقتضائية ( مما لايعرض له في نفسه ) مع قطع النظر عن الملابسات الخارجية ( حُسن ولا قبح ، الاّ بملاحظة ما يتحقق في ضمنه ) من المحسنات او المقبحات كشرب الماء - مثلاً - فانه اذا كان موجبا لصحة الجسم كان حسنا ، واذا كان موجبا للمرض كان قبيحا .

( وبعبارة اخرى ) نوضح قولنا : « ثانيا لو سلم » وهي : ان القبح على ثلاثة أقسام :

الاول : ماكان علة تامة للقبح كالظلم ، حيث قد تقدّم انه قبيح مطلقا ، واذا كان شيء في صورة الظلم ولم يكن قبيحا ، ففي الحقيقة انه ليس بظلم ، كالقصاص والحدود والتعزيرات .

ص: 92

لو سلّمنا عدمَ كونه علّةً تامّةً للقبح ، كالظلم ، فلا شكّ في كونه مقتضيا له ، كالكذب ، وليس من قبيل الأفعال التي لايدرك العقلُ بملاحظتها في أنفسها حسنَها ولا قبحَها .

وحينئذٍ : فيتوقف ارتفاعُ قبحه على انضمام جهة يتدارك بها قبحه ، كالكذب المتضمّن لانجاء نبيّ .

-----------------

الثاني : ما كان مقتضيا للقبح لا علة تامة له كالكذب ، فان فيه مقتضى القبح ، فاذا انضم اليه نجاة مسلم لم يكن قبيحا ، مع انه يبقى كذبا ، لان الكذب هو مخالفة الخبر للواقع .

الثالث : ما كان قبحه بالوجوه والاعتبارات ، لا أنه ذاتا قبيح ، ولا انه فيه مقتضي القبح ، كضرب اليتيم ، فانه ان ضربه تأديبا كان حسنا ، وان ضربه اعتباطا كان قبيحا ، فاذا لم يكن التجري من القسم الاول ، فلا بد وان يكون من القسم الثاني .

والى هذا اشار بقوله : ( لو سلمنا عدم كونه ) اي التجرّي ( علّة تامة للقبح ، كالظلم ) الذي هو علة تامة للقبح ( فلا شك في كونه مقتضيا له ، كالكذب ) فكيف قال الفصول : ان قبحه بالوجوه والاعتبارات ؟ ( و ) الحال ان التجرّي (ليس من قبيل الافعال ، التي لايدرك العقل - بملاحظتها في انفسها - ) وبما هي هي ( حسنها ولا قبحها ) حتى يكون حال التجري حال ضرب اليتيم .

( وحينئذ ) اي حين كان من قبيل المقتضي ( فيتوقف ارتفاع قبحه على انضمام جهة ) محسنة اليه ( يتدارك بها ) أي بتلك الجهة ( قبحه ، كالكذب المتضمن لانجاء نبي ) او مؤمن ، أو كافر ذمي محقون الدم ، فان الكذب جائز هنا بل واجب ، وان كان لنجاة مثل الكافر الذمي ، فان اهل الذمة محفوظون في بلاد الاسلام دما ومالاً وعرضا .

ص: 93

ومن المعلوم أنّ تَرك قتل المؤمن - بوصف أنّه مؤمن في المثال الذي ذكره - كفعله ليس من الامور التي تتصف بحسن او قبح ، للجهل بكونه قتل مؤمن ،

-----------------

لايقال : ان الفصول سلَّم انضمام الواقع الى قبح التجري حتى يحسن التجري ، ولذا مثل بترك قتل المؤمن الذي هو حسن ، منضما الى التجري بعدم اصالة المولى ، حيث زعم المتجري أنه كافر واجب القتل .

لانه يقال : مثاله غير تام ، اذ ترك قتل المؤمن امر عدمي ، والامور العدمية لا تتصف بالحسن والقبح ، والا لكان تارك المحرمات ولو بدون الالتفات فاعلاً للحسن ، فمن لم يقتل ، ولم يزن ، ولم يشرب الخمر ، ولم يسرق - كما هو الغالب في المؤمنين - يفعل عشرات الحسنات في كل يوم .

( و ) ذلك واضح البطلان ، فان ( من المعلوم ) لدى المتشرعة على ما استفادوه من الشرع : ( ان ) الواجب الواقعي ، مثل : ( ترك قتل المؤمن ) واتصافه بالواجب - من باب : ان كل ترك حرام ، واجب ، وكل ترك واجب ، حرام - ( بوصف أنه ) ترك قتل ( مؤمن ) بدون انضمام العلم اليه ( في المثال الذي ذكره ) الفصول ( كفعله ) اي كفعل قتل المؤمن ( ليس من الامور التي يتصف بحسن أو قبح ) وانّما لا يتصف ( للجهل بكونه ) اي بكون القتل ، وعدم القتل ( قتل مؤمن ) .

فان اتصاف الشيء بالحسن أو القبح ، متوقف على العلم به ، فاذا علم أنه مؤمن ولم يقتله - وكان في صدد قتله - قيل له : احسنت ، اما اذا لم يعلم انه مؤمن ، بل زعم انه كافر ولم يقتله عصيانا ، لا يقال له : احسنت .

وكذا اذا علم بأنه مؤمن ، لكن لم يكن في صدده ، فانه لايقال له : احسنت لتركه قتل المؤمن ، والاّ بأن كان مجرد عدم قتل المؤمن حسنا ، لزم ان يكون الانسان آتيا

ص: 94

ولذا اعترف في كلامه بأنّه لو قتله كان معذورا .

فاذا لم يكن هذا الفعل الذي تحقق التجرّي في ضمنه ممّا يتصف بحسن او قبح ، لم يؤثّر في اقتضاء ما يقتضي القبح ، كما لايؤثّر

-----------------

في كل يوم آلاف الحسنات ، لانه لم يقتل من يراهم في الصحن والسوق والمدرسة من المؤمنين .

والحاصل : ان مثال صاحب الفصول ليس منطبقا على ما ذكره من انضمام جهة محسنة الى التجرّي .

اللهم الاّ ان يقال : بأن مراد صاحب الفصول : إن عدم قتل المؤمن في نفسه شيء مرغوب فيه ، ولذا اذا انهدمت عمارة فيها زيد ، فلم يصبه مكروه ، قال العرف : الحمد للّه صار امرا حسنا حيث لم يمت زيد ، بضميمة ان الفصول يرى : ان الواقع الحسن ، وان لم يكن عن قصد قاصد ، كاف في الانضمام الى التجري وجعله التجري حسنا .

( ولذا ) الذي ذكرناه : من ان عدم قتله المؤمن ، لا يتصف بالحسن ( اعترف ) الفصول ( في كلامه : بانه لو قتله ، كان معذورا ) فان هذا الكلام يدل على أنه يجهل كونه مؤمنا .

( فاذا لم يكن هذا الفعل ) اي ترك قتل المؤمن ( الذي تحقق التجرّي في ضمنه، مما يتصف بحسن أو قبح ) لما عرفت : من ان الفعل انّما يتصف بهما اذا كان الفاعل عالما ، فان كان جاهلاً ، ( لم يؤثّر ) هذا الترك للقتل ( في ) قلب (اقتضاء ما يقتضي القبح ) من التجري ، حسنا ، لان ترك القتل لم يكن حسنا ، حتى يؤثر في رفع قبح التجري .

( كما ) في عكس ذلك ، فانه ( لايؤثر ) ترك الواجب الواقعي - اذا كان الانسان

ص: 95

في اقتضاء ما يقتضي الحسن لو فرض أمرُه بقتل كافر فقتل مؤمنا معتقدا كفره ، فانّه لا إشكال في مدحه من حيث الانقياد وعدم مزاحمة حسنه بكونه في الواقع قتل مؤمن .

-----------------

جاهلاً - ( في ) قلب ( اقتضاء ما يقتضي الحسن ) من الانقياد ، قبيحا ، فان الانقياد حسن ، فاذا صادف مع قبيح وهو : ترك واجب من الواجبات ، لايكون الانقياد قبيحا .

ومثال قوله : « كما لا يؤثر » ما ذكره بقوله : ( لو فرض امره ) من المولى ( بقتل كافر ، فقتل مؤمنا ) في حال كون العبد كان ( معتقدا كفره ) فهذا القتل حيث انه انقياد للمولى يكون حسنا ، وقتل المؤمن الذي في ضمن هذا الانقياد لايكون قبيحا - حتى يقلب حسن الانقياد الى القبح - .

وانّما لايكون قبيحا لان العبد - حسب الفرض - يجهل كونه مؤمنا ( فانه لا اشكال في مدحه ) اي مدح العقلاء لهذا العبد القاتل للمؤمن - جهلاً بكونه مؤمنا - .

وانّما يمدحونه ( من حيث الانقياد ) حيث انه انقاد الى المولى ( وعدم ) عطف على « مدحه » اي لااشكال في عدم ( مزاحمة حسنه ) اي حسن الانقياد ( بكونه ) أي كون هذا الانقياد ( في الواقع ) والحقيقة ( قتل مؤمن ) اذ كونه قتل مؤمن ليس أنه قبح - كما هو المفروض لانه اعتقد كفره - حتى يزاحم قبحه ، حسن الانقياد .

ولا بأس ان نشير هنا الى ماذكرناه في « الاصول » من : أن العدم لايكون علة ولا معلولاً ، ولا وصفا ولا موصوفا ، لانه لاشيء ، ولا شيء لايكون احد هذه حتى يكون علة او معلولاً .

فهذا الكلام مجاز وحقيقته : اني بقيت في كربلاء المقدسة لبقاء ، علّية البقاء

ص: 96

ودعوى : « أنّ الفعل الذي يتحقق به التجرّي وإن لم يتصف في نفسه بحسن ولا قبح لكونه مجهول العنوان ، لكنّه لايمتنع أن يؤثّر في قبح ما يقتضي القبح بأن يرفعه ،

-----------------

مع انه كان لي مقتضٍ للسفر الى النجف الاشرف ، بحيث لو كانت السيارة موجودة لذهبت الى النجف الاشرف .

وعليه فقولنا السابق : « عدم قتل المؤمن حسن » يراد به : ان كفّ النفس عن القتل حسن ، لا ان العدم بما هو عدم حسن .

( و ) ان قلت : ان ترك قتل المؤمن الذي تحقق به التجري ، لايتصف بالحسن ، لان المتجرّي جاهل بكونه مؤمنا - بل زعم انه كافر واجب القتل ، ومع ذلك تجرّأ ولم يقتله - لكن لااشكال في ان ترك قتل المؤمن مشتمل على مصلحةٍ - اي ترك المفسدة - وهذه المصلحة تؤثر في رفع قبح التجرّي .

قلت : العقل مستقل بقبح التجرّي ، ومجرد تحقق ترك قتل المؤمن في ضمنه لايرفع قبحه ، فان ( دعوى : ان الفعل الذي يتحقق به التجرّي ) وهو : ترك القتل (وان لم يتصف في نفسه بحسن ولا قبح ، لكونه ) أي ترك قتل المؤمن بالنسبة للمتجرّي ( مجهول العنوان ) لأنه وان علم انه ترك قتلاً إلاّ ان عنوانه : وهو ترك قتل المؤمن ، مجهول لديه .

( لكنه ) أي هذا الترك ( لايمتنع ان يؤثر في قبح ما يقتضي القبح ، بأن يرفعه ) اي يرفع القبح .

فانه ربما يرفع القبح : ما يعلم الفاعل عنوانه .

وربما يرفع القبح : مالا يعلم الفاعل عنوانه .

فان من كشف نفسه في مكان يكون فيه انسان - بزعم انه غريب - رأى انه فعل

ص: 97

الاّ أن نقول بعدم مدخليّة الاُمور الخارجة عن القدرة في استحقاق المدح والذّم ، وهو محل نظر بل منع .

-----------------

قبيحا ، لكن اذا كان ذلك الانسان زوجته - وهو جاهل بكونه زوجته - لايقبح عمله ذلك ، فجهل ، كاشف نفسه بالعنوان - اي عنوان : ان الناظر اليه زوجته - لايمنع عدم قبح فعله .

ثم ان هذا المستشكل بقوله : « ودعوى » اشكل على نفسه بقوله : ( الاّ ان نقول : بعدم مدخلية الاُمور الخارجة عن القدرة ، في استحقاق المدح والذّم ) فمصادفة عدم قتل المؤمن - تجرّيا - بما هو واجب واقعا ، لايتصف بحسن ولا قبح ، لان المصادفة خارجة عن الاختيار ، وما كان خارجا عن الاختيار ، لايكون حسنا ولا قبيحا في نفسه ، وما ليس له حسن كيف يرفع قبح غيره ؟ كما ان ما ليس له قبح كيف يرفع حسن غيره ؟ .

( و ) اجاب عن الاشكال : بان « عدم المدخلية » ( هو محل نظر ، بل منع ) فيمكن ان يؤثر ماليس هو - في نفسه - بحسن ولا قبيح في رفع قبح ، او رفع حسن ، اذ الواقع ، له مدخلية في الاشياء - وان لم يكن الواقع تحت القدرة - كما تقدّم : من ان كثرة المصلين في مسجد ، يؤثر في كثرة ثواب الباني ، وكثرة الخمارين في مخمر ، له اثر في كثرة عقاب الباني مع ان الكثرة فيهما لم تكن باختيار البانيين ، وكذا في اثنين كتب كل منهما كتابا ، احدهما صار متداولاً اكثر من الآخر .

بل يأتي الكلام في : مؤلف واحد الّف كتابين : كشرح اللمعة والمسالك للشهيد الثاني ، حيث صار أحدهما اكثر تداولاً من الآخر ، فانه مع وحدة الجهد وتشابه الاخلاص يكون ثواب احدهما - لاكثرية القراء والمستفيدين - اكثر من الآخر .

ص: 98

وعليه : يمكنُ ابتناء منع الدليل العقليّ السابق في قبح التجرّي » ،

-----------------

وفي عكسه يمثل : بمن بنى مخمرين كذلك .

ثم ان المستشكل ب- : « الا ان نقول » لما اجاب بقوله : « وهو محل نظر » ترقى عن جوابه ، فوافق جواب المصنّف قدس سره عن الفصول الذي تقدّم في : نفرين شربا مازعماه خمرا فصادف احدهما ولم يصادف الآخر ، حيث قال الفصول : كلاهما معاقبان ، لان التصادف واللاتصادف لم يكن باختيارهما ، وأجاب المصنّف قدس سره عنه : بانه لامانع من ان يكون الامر الخارج عن الاختيار مؤثرا في عدم العقاب ، واستشهد بأخبار : « من سنّ سنّة حسنة » الى آخر ماتقدّم .

نقول : - ان العبارة : ودعوى ان الفعل ... - هو كما ذكرتم انتم ياشيخنا المرتضى: من ان المصادفة واللامصادفة ليسا معيارا للعقاب وعدم ، لانهما ليسا اختياريّين وانّما المعيار في استحقاق العقاب هو : الاتيان بالحرام عمدا ، كذلك نقول نحن صاحب الفصول : بأن رفع قبح التجري المصادف مع الواجب واقعا - وان لم يقصده المتجري - غير ضار بعد ان لم يكن المعيار الاختيار ( و ) ذلك لان ( عليه ) اي على المنع من عدم مدخلية الامور الخارجة عن القدرة بل لها مدخلية ( يمكن ابتناء منع الدليل العقلي السابق في قبح التجري ) وبطلانه من حيث عقاب نفرين : شربا ما زعماه خمرا فطابق احدهما الواقع فكان ماشربه خمرا ولم يطابق الآخر فكان ماشربه ماءا ، فانتم قلتم : اذا صادف الواقع يكون فيه العقاب فقط دون من لم يصادف - وان لم تكن المصادفة باختيار الشارب - ونحن نقول : اذا لم يصادف التجري بعدم القتل ، الواقع ، بان كان كفا عن قتل مسلم محقون الدم ، فان فيه حسنا يكسر قبح التجري ، وان لم يكن عدم الصادفة للواقع باختيار الكافّ عن القتل مع قطعه بانه كافر واجب القتل .

ص: 99

مدفوعةٌ مضافا إلى الفرق بين ما نحن فيه وبين ما تقدّم من الدليل العقلي ، كما لايخفى على المتأمّل بأنّ العقل مستقلّ بقبح التجرّي في المثال المذكور .

ومجرّدُ تحقق ترك قتل المؤمن في ضمنه ، مع الاعتراف بأنّ ترك القتل لايتصف بحسن ولا قبح ، لايرفعُ قبحه ،

-----------------

فهذه الدعوى ( مدفوعة ) وذلك ( مضافا الى الفرق بين ما نحن فيه ) من عدم مصادفة التجري للواقع بل مصادفته للوجوب الواقعي وهو حفظ المسلم ( وبين ما تقدّم من الدليل العقلي ) في نفرين : شربا ما زعماه خمرا ، حيث ردّدنا الامر بين اربعة احتمالات ، واخترنا عقاب الشارب خمرا دون شارب الماء بزعم الخمرية ( كما لايخفى ) هذا الفرق ( على المتأمّل ) .

ففي التجري « حيث لاواقع في شرب الخمر المزعوم ، لا عقاب » وهو لايلازم رفع العقاب برفع قبح التجري فيما نحن فيه : « حيث يصادف عدم قتل المؤمن » فان واقع الخمر يؤثر في العقاب ، فحيث لا واقع لا عقاب ، لكن واقع عدم قتل المؤمن لايؤثر في ارتفاع القبح وذلك ( بان العقل مستقل بقبح التجري في المثال المذكور ) اي تجرّيه بعدم قتل الكافر - في زعمه - عصيانا للمولى وقد صادف انه كان مؤمنا ، وكان بالنتيجة عدم قتل المسلم .

( و ) لا اثر لمصادفة الوجوب الذي هو : ترك القتل ، في رفع قبح التجري، اذ ( مجرد تحقق ترك قتل المؤمن في ضمنه ) اي ضمن تجرّيه ( مع الاعتراف ) من الفصول : ( بان ترك القتل لا يتصف بحسن ولا قبح ) لمجهوليته عند المتجري ، اذ المتجري لايعلم انه يترك قتل المؤمن ف( لايرفع قبحه ) اي قبح تجرّيه ، وهو تركه قتل الكافر - حسب قطعه - .

ص: 100

ولذا يحكم العقل بقبح الكذب وضرب اليتيم إذا انضمّ اليهما ما يصرفهما إلى المصلحة إذا جهل الفاعل بذلك .

ثم إنّه ذكر هذا القائلُ في بعض كلماته : « أنّ التجرّي

-----------------

فنقول : ان « ترك قتل المؤمن » اذا لم يكن حسنا في نفسه ، فكيف يؤثّر في دفع قبح التجري ؟ .

علما بأن رفع القبح لايكون الا بشيء حسن في ضمن ذلك القبيح ، والمفروض انه لاشيء حسن في ضمن هذا القبيح الذي هو التجري .

( ولذا ) اي لأجل ان مالا حسن له ، لايرفع القبح ( يحكم العقل بقبح الكذب و ) قبح ( ضرب اليتيم اذا انضم اليهما ) اي الى الكذب والضرب ( ما يصرفهما الى المصلحة اذا جهل الفاعل ) للكذب والضرب ( بذلك ) الانضمام .

فاذا ضرب اليتيم - مثلاً - تشفيا وصادف انه كان تأديبا ، او كذب تشهيا وصادف كونه اصلاحا لذات بين ، لم ترفع الضميمة قبحهما ، اذ الحسن يلاحظ اذا قصد الجهة المحسنة ، لامطلقا ، فهو كما اذا كان زيد واجب القتل ، لانه سبّ النبي صلى الله عليه و آله وسلم ولم يعلم بذلك عمرو ، فقتله لانه عدوه ، فهل قتله للسابّ هذا يكون بلا إثم ؟ .

وهكذا حال ما اذا كان زيد قاتل ابي عمرو ، فقتله بكر ، فهل قتلُ بكر له ، يتركه بلا اثم ، والحال انه لم يكن له حق القتل ، اذ حق القتل لابن المقتول ، لا لأي انسان ؟ .

والحاصل : ان الجهة والفاعل وغيرهما مثل كيفية القتل ، لها مدخلية في الجواز والحرمة .

( ثم انه ذكر هذا القائل ) وهو الفصول ( في بعض كلماته : ان التجرّي

ص: 101

اذا صادف المعصيةَ الواقعيةَ تداخل عقابُهما » .

ولم يعلم معنىً محصّلٌ لهذا الكلام ، إذ مع كون التجرّي عنوانا مستقلاً في استحقاق العقاب لا وجهَ للتداخل ، إن اريد به وحدةُ العقاب ، فانّه ترجيحٌ بلا مرجّح .

وسيجيء في الرواية أنّ على الراضي إثما وعلى الداخل إثمان ؛

-----------------

اذا صادف المعصية الواقعية ) بان تجرّى وشرب الخمر ، وكان في الواقع خمرا ، لا ماءا ( تداخل عقابهما ) عقاب للتجري ، وعقاب لانه شرب الخمر ، ( ولم يعلم معنى محصل لهذا الكلام ) لان التجرّي اذا كان حراما كان عقابان مستقلان وان لم يكن حراما لم يكن الا عقاب واحد ( اذ مع كون التجرّي عنوانا مستقلاً ) في الشريعة ( في استحقاق العقاب ) كما قاله الفصول القائل بحرمة التجرّي ( لا وجه للتداخل ، ان اريد به وحدة العقاب ) اي عقاب واحد لمعصيتين ( فانه ) اي التداخل ( ترجيح بلا مرجح ) .

فهل يدخل عقاب التجرّي في عقاب المعصية ، او يدخل عقاب المعصية في عقاب التجرّي ، والمفروض انهما محرّمان ولكل محرّم عقاب ؟ .

( وسيجيء ) ما يكون للأمرين عقابان ف( في الرواية : ان على الراضي ) بعصيان الغير ( اثما ) واحدا لمكان الرضا ( وعلى الداخل ) كعاقر الناقة : ( اثمان ) : اثم الرضا ، واثم العمل (1) ، فلم تذكر الرواية التداخل .

والحاصل : ان كلام الفصول مخالف للعقل ، بالترجيح بلا مرجح ، وللشرع ايضا .

ص: 102


1- - انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج18 ص362 ب148 بالمعنى .

وإن اريد به عقابٌ زائدٌ على عقاب محض التجرّي ، فهذا ليس تداخلاً ، لان كل قفعلٍ اجتمع فيه عنوانان من القبح يزيد عقابه على ما كان فيه أحدهما .

والتحقيقُ : أنّه لافرق في قبح التجرّي بين موارده وأنّ المتجرّي لا إشكال في استحقاقه الذمّ من جهة انكشاف خبث باطنه وسوء سريرته وجرئته .

-----------------

( وان اريد به ) اي بالتداخل ( عقاب زائد على عقاب محض التجرّي ) فلمن شرب الماء بزعم انه خمر ، قيراط خفيف من العقاب ، ولمن صادف شربه الخمر الواقعي ، قيراط شديد من العقاب ( فهذا ليس تداخلاً ) بل هو اجتماع عقابين ، اذ الشديد ضعف الخفيف ، كشدّة النور التي هي ضِعف النور الخفيف .

وانما كان عقابين ( لأنّ كل فعل اجتمع فيه عنوانان من القبح ) كالغصب النجس فيما اذا شرب النجس المغصوب ، حيث للنجاسة عقاب وللغصب عقاب، فانه (يزيد عقابه ) اي عقاب ذلك الفعل الجامع للعنوانين ( على ما كان ) الفعل ( فيه احدهما ) اي احد العنوانين بان كان مغصوبا طاهرا ، او غير مغصوب نجس .

( و ) حيث ذكرنا قول المفصّل في حرمة التجرّي ، القائل تارة يحرِّم ، وتارة لا يحرّم ، نقول : ( التحقيق : انه لافرق في قبح التجري بين موارده ) صادف الوجوب ام لا ( وان المتجري لا اشكال في استحقاقه الذم من جهة انكشاف خبث باطنه و ) الذم في الحقيقة للباطن المتمرد ، ولا مدخلية للانكشاف بما هو انكشاف ، ولذا لافرق عند العقلاء ، بين ان ينكشف باطن انسان بانه يريد السرقة ليلاً او ينكشف بانه ذهب الى السرقة ، فلم يحصل على شيء حتى يسرقه ، فان ( سوء سريرته وجرئته ) على خلاف العقل أو الشرع موجب لذمه وتقبيح قصده .

ص: 103

وأمّا استحقاقه للذمّ من حيث الفعل المتجرّى في ضمنه ، ففيه أشكالٌ ، كما اعترف به الشهيد قدس سره ، فيما يأتي من كلامه .

نعم ، لو كان التجرّي على المعصية بالقصد إلى المعصية ، فالمصرّحُ به في الأخبار الكثيرة العفوُ عنه ، وإن كان يظهر من أخبار اُخَر العقابُ على القصد أيضا :

-----------------

( واما استحقاقه للذم ) والعقاب ( من حيث الفعل المتجرّأ ) به - بصيغة اسم المفعول - ( في ضمنه ) اي في ضمن التجرّي ، كشرب الماء بزعم انه خمر ( ففيه اشكال ) بل قد تقدّم المنع عنه ( كما اعترف به ) اي بالاشكال : ( الشهيد ) الاول ( قدس سره فيما يأتي من كلامه ) .

نعم ، لا ينبغي الاشكال ايضا في حصول الكسر والانكسار في مصادفة التجرّي لواجب او مستحب او مكروه او مباح .

وحيثُ انتهى المصنّف قدس سره من هذا البحث شرع في بحث آخر ، وهو : ان ما ذكرناه من اطلاق قولنا : « فيه اشكال » انما هو فيما اذا تعدّى التجرّي القصد ووصل الى العمل ، والاّ اذا كان التجرّي بالقصد فقط ، ففيه طائفتان من الاخبار ، ولذا قال : ( نعم ، لو كان التجري على المعصية ، بالقصد ) فقط ( الى المعصية ) ، كما اذا قصد شرب الخمر ولم يشرب ، او الزنا ولم يزن ، او ما اشبه ذلك (فالمصرح به في الاخبار الكثيرة : العفو عنه ) فانه وان كان مستحقا للعقاب ، لكن اللّه بكرمه يعفو عنه (وان كان يظهر من اخبار اُخر العقاب على القصد ) المجرد ( أيضا ) .

وربما يستشكل على قول المصنّف « نعم » : بانه ليس هذا استثناءا عن عدم حرمة التجرّي ، اذ لو كان القصد معاقبا عليه ، كان مع الفعل اولى بالعقاب ، وانما

ص: 104

مثل قوله صلى الله عليه و آله وسلم : « نِيَّةُ الكافِرِ شَرٌّ مِنْ عَمَلِه » ، وقوله : « إنّما يُحْشَرُ النّاسُ عَلى نِيّاتِهِم » .

-----------------

يصح كونه استثناءا عند من يرى حرمة التجرّي ، فيقول : التجرّي حرام اذا كان مقترنا مع المُظهر ، اما بدونه ، ففيه طائفتان .

اما انتم القائلون بعدم حرمة التجرّي ، فلا معنى لاستثنائكم هذا ، لانه يكون بمنزلة ان تقولوا : التجرّي مع الفعل ليس بحرام ؛ نعم ، في القصد المجرد طائفتان، وانما لايصح الاستثناء ، لانه اذا كان القصد غير المقترن بالفعل محرما ، فالقصد مع الفعل اولى بالتحريم .

اما الاخبار فهي ( مثل قوله صلى الله عليه و آله وسلم : نِيَّةُ الكافِرِ شَرٌّ مِن عَمَلِهِ ) (1) بناءا على ان ظاهره : أفعل التفضيل ، اي ان نيّته اكثر شرّا من عمله ، فاذا قام بالسرقة عوقب بسوط مثلاً ، واذا نوى السرقة عوقب بسوطين .

ولكن ربما يقال : ان هذا المعنى خلاف الضرورة ، فللحديث معنى آخر ، فانه ربما فسر الحديث : بان « من » للتبعيض ، فالمعنى : ان نية الكافر تعدّ بعض اعماله الشرّيرة وجزء منها ، فالنية : عمل القلب ، والفعل : عمل الجوارح ، فالحديث من قبيل اخذت من الدراهم، الى غير ذلك من المعاني المتعددة المذكورة لهذا الحديث .

وكذا تأتي كل تلك المحتملات في الفقرة الثانية من الرواية وهي : قوله عليه السلام : « نيّة المؤمن خير من عمله » .

( وقوله : إنّما يُحشَرُ الناسُ عَلى نِيّاتِهِم ) (2) فالنيات توجب الثواب كما توجب العقاب .

ص: 105


1- - المحاسن : ص260 ح315 وفيه الفاجر ، وسائل الشيعة : ج1 ص50 ب6 ح95 .
2- - المحاسن : ص262 ح325 بالمعنى ، وسائل الشيعة : ج1 ص48 ب5 ح87 .

وما ورد من تعليل خلود أهل النار في النار وخلود أهل الجنّة في الجنّة بعزم كلّ من الطائفتين على الثَّباتِ على ما كان عليه من المعصية والطاعة لو خلّدوا في الدنيا .

-----------------

لكن ربما يقال : ان المراد بالحديث : انه يُظهر بواطنهم لا انهم يعاقبون على نية السوء ، كما قال سبحانه : « يوم تُبلى السرائر » (1) .

( وما ورد من تعليل خلود اهل النار في النّار وخلود اهل الجنّة في الجنّة ) مع انهم لم يعصوا ولم يطيعوا إلاّ سنين معدودة فقط ، فاللازم ان يكون العقاب والثواب بقدر تلك السنين لا ازيد ، وانما الزائد ( ب- ) سبب ( عزم كل من الطائفتين على الثبات على ما كان عليه من المعصية والطاعة ، لو خلدوا في الدنيا ) (2) فالخلود في الآخرة للنية لا للعمل .

لكن ربما يقال : ان خلود اهل الجنّة فضل ، ولا اشكال عقلاً في اعطاء الفضل بسبب النيّة ، اما النار فهي بمقتضى العدل والعدل لايكون اكثر من استحقاق الذنب .

وعليه : فاللازم عند العقلاء ان يكون العقاب بقدر المعصية .

وقد ايّده الشرع بقوله سبحانه : « جَزاءا وِفَاقا » (3) الى غيرها من الآيات والروايات ، فالخلود انما يكون مع العناد حتى في النار ، كما في دعاء الكميل « وأن تُخَلِّدَ فِيها المُعاندينَ » (4) فاذا رفع المعاند يده عن عناده ، اُخرج من النار .

لكن الذي يمكن ان يقال : هو انه لا اشكال في الخلود ، بل ادعى

ص: 106


1- - سورة الطارق : الآية 9 .
2- - المحاسن : ص331 ح94 .
3- - سورة النبأ : الآية 26 .
4- - مفاتيح الجنان : ص88 .

وما ورد من : « أنّه إذا التقى المُسلِمانِ بسَيفِهما ، فالقاتِلُ وَالمَقتولُ في النّار .

قيلَ : يارَسولَ اللّه ، هذا القاتلُ ، فما بالُ المقتول ، قال صلى الله عليه و آله وسلم : لأنّه أرادَ قَتلَ صاحِبِه » .

-----------------

المجلسي قدس سره الضرورة عليه ، كما لا اشكال في انه موافق للعدل ايضا ، بل هو من الضروريات .

اما كيف يكون الخلود بما لا ينافي العدل ؟ فانه من احوال الآخرة ، التي لا نفهم منها الا بقدر مداركنا القاصرة ، كما لا يفهم الجنين من الدنيا - لو فرض فهمه شيئا منها - الا بقدر مداركه القاصرة ، بل نرى ان الطفل لايدرك من لذة الكبار للعلم وللزواج الا بقدر دركه القاصر ، فيقال له - مثلاً - : لذة الجنس أو العلم كلذة الحلاوة والعسل .

واما قول بعض الحكماء بانتهاء العقاب ، فهو خلاف النص والاجماع ، بل خلاف الضرورة ، على ماعرفت .

( وما ورد من انه اذا التقى المسلمان ) لاجل قتل كل منها الآخر ( بسيفهما ، فالقاتل والمقتول ) كلاهما ( في النّار ) اي ان مصيرهما الى النّار ، مثل قوله سبحانه : « إنَّما يَأكُلونَ في بُطونِهِم نَارا » (1) ( قيل : يا رسول اللّه ، هذا القاتل ) يستحق النار لانه قتل المسلم ( فما بال المقتول ) يذهب الى النّار ؟ ( قال صلى الله عليه و آله وسلم : لأنَّه أرادَ قَتلَ صاحِبِهِ ) (2) فقد ثبت بهذا الحديث : ان القصد يوجب النّار .

ص: 107


1- - سورة النساء : الآية 10 .
2- - تهذيب الاحكام : ج6 ص174 ب22 ح25 ، وسائل الشيعة : ج15 ص148 ب67 ح20184 بالمعنى .

وما ورد في العقاب على فعل بعض المقدمات بقصد ترتّب الحرام ، كَغارس الخمر والماشي لسعاية المؤمن .

وفحوى مادلّ على أنّ الرضا بفعل كفعله ،

-----------------

لكن لايخفى : ان هذا الحديث ليس من احاديث الباب ، لان الكلام في القصد المجرد ، لا القصد مع المظهر ، والالتقاء بالسيف : قصد مع المظهر .

وكيف كان : يمكن ان يكون الوجه في ذلك : ان القتل لعِظمِه عند اللّه سبحانه : يجازي عليه بالنار حتى لمن نواه اذا كان له مظهر ، فلا يدل على حرمة التجرّي مطلقا .

وعلى أيّ حال : فذلك العقاب فيما اذا لم يرد المقتول الدفاع عن نفسه - بل قصد القتل - والا فالدفاع عن النفس واجب كما دل على ذلك النص والاجماع .

( وما ورد في العقاب على فعل بعض المقدمات بقصد ترتّب الحرام ) فان ذلك فيما اذا ترتب عليه الحرام كما يظهر من النص ، فلا يمكن سحبه الى ما لم يترتب عليه ، فهذا الحديث دليل على حرمة مقدمة الحرام مطلقا ، او في هذا المورد الخاص ، ولا يكون دليلاً على حرمة القصد المجرد - كما هو عنوان كلام المصنّف قدس سره .

( كَغارِس ) العنب بقصد عمل ( الخَمر (1) ، وَالماشِي لِسعايَةِ المُؤمِنِ ) (2) عند الظالم ليأخذه فيؤذيه .

( وفحوى ) اي الملاك الاولوي ( ما دل على ان الرضا بفعل ، كفعله ) فان الرضا بصدور المعصية عن شخص ، اذا كان يعدّ معصية مع ان الراضي لم يفعل

ص: 108


1- - انظر وسائل الشيعة : ج17 ص224 ب56 ح22386 .
2- - انظر وسائل الشيعة : ج16 ص140 ب5 ح21183 .

مثل ما عن امير المؤمنين عليه السلام : « ان الراضي بفعل قَوم كالداخِلِ فيهِ معَهُم ، وَعَلى الدّاخِلِ إثمان إثمُ الرضا وإثمُ الدخول » ، ويؤيّده قوله تعالى : « اِنّ الذينَ يُحِبّونَ أن تَشيعَ الفاحِشَة في الّذينَ آمَنوا لهُم عذابٌ اليمٌ » ،

-----------------

ولم يقصد العصيان ، كان قصد المعصية اولى بأن يكون معصية .

( مثل ما عن أمير المؤمنين عليه السلام : إنّ الراضِيَ بِفِعل قَومٍ كَالداخِلِ فِيه ) اي في ذلك الفعل ( مَعَهُم ) اي مع القوم ( وَعَلى الداخلِ إثمان : إثم الرِّضا ، وَإثم الدُخولِ) (1) لكن لعل ذلك من باب التعاون ، والا فالمعصية الواحدة لها عقوبة واحدة .

( و ) كيف كان : ف- ( يؤيده ) اي العقاب بالقصد المجرد الى المعصية ( قوله تعالى « إنَّ الَّذينَ يُحِبّونَ أن تَشيعَ الفاحِشَةَ » ) بأن يظهر العيب ويفشوه ، والمراد بالفاحشة : المعصية المتجاوزة عن الحدّ ، فان منها مالا تسمى بذلك ، كاغتياب انسان - مثلاً - فانه لايسمى فاحشة ، بينما الزنا يسمى فاحشة .

قال علي عليه السلام : « وَفُحشُ تَقَلُّبِ الدَّهر » (2) اي ان تقلّب الدهر فاحش وكبير ، وهو غير السّب وغير اللّعن وغير القذف ، الى غير ذلك ، كما يظهر الفرق بينهما من كتب فروق اللغات .

( « في الَّذينَ آمَنُوا لَهُم عَذابٌ أليمٌ » (3) ) يؤلمهم ، ووجه التأييد : ان العذاب على حب الشيء يدل ولو بالملاك على العذاب على قصده .

وهذا وان لم يكن دليلاً ، لان الملاك ضعيف ، فان الحب فوق القصد ،

ص: 109


1- - نهج البلاغة : قصار الحكم ص154 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج18 ص362 ب148 بالمعنى .
2- - بحار الانوار : ج77 ص202 ب8 ح1 وفيه تقلّب الليالي والأيام ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج16 ص62 ب31 .
3- - سورة النور : الآية 19 .

وقوله تعالى : « إن تُبدوا ما في أنفُسِكُم او تُخفوهُ يُحاسِبكُم بهُ اللّه » .

وما ورد من أنّ : « مَن رَضِيَ بفِعلٍ فَقَد لَزمهُ

-----------------

ولذا يقال : اقصد لقاء فلان ولكن لا احب لقائه الاّ انه ربما يقال في ردّ هذا التأييد : ان المراد بالحب نفس الاشاعة ، فهو مثل قوله سبحانه : « ولا تَقرَبوا مالَ اليَتِيمِ »(1) « ولا تَقرَبوا الزّنا » (2) وما اشبه ، فهو من باب المبالغة في التحذّر عن الاشاعة ، كالتحذّر عن مال اليتيم والزنا .

( و ) يؤيده أيضا ( قوله تعالى : « إن تُبدُوا ما فِي أنفُسِكُم ) أي تظهروه بان تعملوا به ( أو تُخفُوهُ ) بان لم تعملوا به ، سواء في الخير او الشر ، مثل قصد بناء المسجد او المخمر ، بدون اخراجهما الى عالم الوجود او مع اخراجهما الى عالم الوجود ( يُحاسِبكُم بهِ اللّه » (3) ) اي بكل من الابداء والاخفاء ، ورجوع الضمير « به » باعتبار كل واحد منهما مثل : « انظُر إلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَم يَتَسَنَّه » (4) أي كل واحد منها ، والاّ لزم القول : « لم يتسنّهما » .

وعلى ايّ حال : فالآية تدل على ان القصد بدون المظهر يوجب الحساب ، وهو من مسألة التجرّي وكان هذا مؤيّدا لا دليلاً ، لانه لم يقل : انه حرام او فيه عقاب ، فهو من قبيل : « في حَلالِها حِسابٌ » (5) ولكن لما كان نفس الحساب صعبا كان من المؤيدات .

( و ) يؤيده ايضا ( ماورد : مِن إنّ مَن رَضِيَ بِفِعلٍ ) خيراً او شراً ( فَقَد لَزِمَهُ )

ص: 110


1- - سورة الأنعام : الآية 152 .
2- - سورة الاسراء : الآية 32 .
3- - سورة البقرة : الآية 284 .
4- - سورة البقرة : الآية 259 .
5- - الكافي أصول : ج2 ص459 ح23 ، كفاية الأثر : ص227 ، بحار الانوار : ج44 ص139 ب22 ح6 .

وَإن لَم يَفعَل » .

وما ورد في تفسير قوله تعالى : « فَلِمَ قَتَلتُموهُمْ إن كُنتُم صادِقين » من أنَّ نسبة القتل الى المخاطبين مع تأخّرهم عن القاتلين بكثير ، رضاهم بقتلهم .

ويؤيّده قوله تعالى : « تِلكَ الدارُ الآخِرَةُ نَجعَلُها لِلذينَ لا يُريدونَ

-----------------

ذلك الفعل ( وإن لَم يَفعَل ) (1) ومعنى لزمه، اي كأنه عمله، وقد عرفت وجه التأييد .

( و ) يؤيده ايضا ( ماورد في تفسير قوله تعالى ) في سورة آل عمران بأن يارسول اللّه ، قل لهولاء اليهود المدّعين للايمان : « قَد جائَكُمْ رُسُلٌ مِن قَبْلِي بِالبَيِّناتِ وبِالَّذي قُلْتُم » وطلبتم منهم ، لكنكم بقيتم على عنادكم ولم تؤمنوا بهم ( « فلم قتلتموهم ) اي قتلتم اولئك الانبياء ( إن كُنتُم صادِقِينَ » ) (2) في ادعائكم بأنكم اذا علمتم نبوّتي تؤمنون بي ؟ .

وجه التأييد : (من ) جهة ( أن ) توجيه ( نسبة القتل الى المخاطبين ) في زمان النبي صلى الله عليه و آله وسلم ( مع تأخرهم عن القاتلين ب) زمان ( كثير ، رضاهم) اي رضا هؤلاء (بقتلهم ) اليهود اي مقتل آبائهم لاولئك الانبياء مما ينتج: ان الرضا من هؤلاء الاحفاد بفعل اجدادهم اشركهم في نسبة القتل اليهم ، لكن قد عرفت : ان هذا ليس بدليل ، لأنّ الرضا شيء ، والقصد شيء آخر ، فأحدهما لا يكون دليلاً على الآخر بعدم الملازمة .

( و يؤيده ) ايضا ( قوله تعالى : « تِلكَ الدّارُ الآخِرَةُ نَجعَلَها لِلَّذِينَ لا يُريدُونَ

ص: 111


1- - تفسير القمي : ج1 ص157 في تفسير سورة النساء .
2- - سورة آل عمران : الآية 183 .

عُلوّافي الارض ولا فَسادا » .

ويمكن حملُ الأخبار الأول

-----------------

عُلُوّافي الارض و لا فساداً » (1) ) حيث جعلت الآية ارادة العلو بالباطل والفساد سبباً للحرمان من الدار الاخرة ، لكن لاتكون هذه الآية دليلاً أيضا لاحتمال ارادة : «نفس العلو والفساد » لامجرد الارادة ، مثل قوله سبحانه : « انَّما يُريدُ اللّه ُ ليُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُم تَطْهيرا » (2) .

حيث المراد بالارادة : نفس الاذهاب ، والمراد بالاذهاب : « عدم جعل الرّجس فيهم » لا انه كان فاذهبه اللّه ، فهو من باب الدفع لا الرفع .

قال الادباء : قد تكون الارادة بمعنى : « الفعل » - كما في الآيتين - وقد يكون « الفعل » بمعنى الارادة ، كما في قوله تعالى : « وَإذا قُمتُم إلى الصّلاةِ ... » (3) اي اردتم القيام ، وفي آية التطهير وآية القيام بحث طويل لايليق بالشرح .

( ويمكن حمل الاخبار الأول ) الدالة على العفو مثل : مارواه جميل بن دراج عن الصادق عليه السلام انه قال : « إذا هَمَّ العَبدُ بالسيئةِ ، لَم تُكتَب عَلَيهِ » (4) .

وما رواه زرارة عن احدهما عليهم السلام قال : « ان اللّه تعالى جَعَلَ لآدمَ فِي ذُريَّتِه : إنّ مَن هَمَّ بِحَسَنَةٍ ولَم يَعمَلها كُتِبَ لَهُ مِثلُها ، وَمَن هَمَّ بحَسَنَةٍ وعَملَها كُتِبَت لَه بها عَشَرَة ، وَمَن هَمَّ بسَيّئَةٍ ولم يعملها لَم تُكتَب عَلَيه ، وَمَن هَمَّ بها وَعَمَلَها كُتِبَت عَلَيه سَيّئَة » (5) .

وروي عن الباقر عليه السلام انه قال : « لَو كانَت النيات مِن أهل الفُسق يُؤخَذ بِها

ص: 112


1- - سورة القصص : الآية 83 .
2- - سورة الاحزاب : الآية 33 .
3- - سورة المائدة : الآية 6 .
4- - وسائل الشيعة : ج1 ص52 ب6 ح102 ، الزهد : ص27 باب التوبة والاستغفار .
5- - الكافي اصول : ج2 ص428 ح1 .

على مَن ارتدع عن قصده بنفسه ، وحملُ الأخبار الأخيرة على من بقي على قصده حتّى عجز عن الفعل لا باختياره .

او يحمل الأول على من اكتفى بمجرّد القصد ، والثانيةُ على من اشتغل بعد القصد ببعض المقدِّمات ، كما يشهد له حرمةُ الاعانة على المحرّم ، حيث عمّمه

-----------------

أهلها ، إذن لاخذ كُلّ مَن نَوى الزِّنا بالزِّنا ، وكُل مَن نَوى السَرِقَةَ بالسَرِقَة ، وَكُلّ مَن نَوى القَتلَ بالقَتلِ ، وَلكنَّ اللّه َ عَدلٌ كَريمٌ لَيسَ الجَورُ مِن شَأنهِ ، وَلكنَّهُ يُثيبُ عَلى نيّات الخَيرِ أهلها واضمارهم عليها ولا يؤاخِذُ أهل الفُسق حَتّى يَفعَلوا » (1) وغيرها ، حملها ( على من ارتدع عن قصده بنفسه ، وحمل الاخبار الاخيرة ) الدالة على حصول المعصية بقصد المعصية ( على من بقي على قصده ) بالعصيان ( حتى عجز عن الفعل لا باختياره ) .

لكن لايخفى : ان هذا الجمع تبرعي ، لانه لاشاهد في آية من الطائفتين عليه .

نعم ، هو اولى من التضارب بين الطائفتين ( أو ) يجمع بين الطائفتين ، بوجه ثانٍ وهو : ان ( يحمل الاول ) الدال على العفو ، ( على من اكتفى بمجرد القصد ) دون ان يأتي بشيء آخر ( والثانية ) الدالّة على العقاب ، ( على من اشتغل بعد القصد ببعض المقدمات ) فاذا أحدّ القاصد سيفه للقتل كان معاقبا وان لم يقتل ، اما اذا قصد القتل فقط ، ولم يفعل شيئا لم يعاقب عليه .

( كما يشهد له ) اي لهذا الجمع ( حرمة الاعانة على المحرم ) مع ان المعين غالبا لايفعل محرم ، كما لو علّق السوط بين يدي الجائر ، او أتى باحجار المخمر ليبني مخمرا ، او مااشبه ذلك ( حيث عممه ) أي عمم معنى الاعانة على الاثم

ص: 113


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص55 ب6 ح113 .

بعض الأساطين لاعانة نفسه على الحرام ، ولعلّه لتنقيح المناط ، لا للدلالة اللفظيّة .

-----------------

(بعض الاساطين ) وهو الشيخ جعفر كاشف الغطاء قدس سره ( لاعانة نفسه على الحرام) فالمحرم : اعانة الغير وكذا اعانة النفس على المقدمات ، لان الادلة عامة والملاك واحد ، فاذا عصر الخمر ليشربها بنفسه ، كان العصر من الاعانة على الاثم ، وهكذا اذا أكل ما يتقوّى به على الزنا الى غير ذلك .

( ولعله ) اي وجه تعميمه ( لتنقيح المناط ) حيث الاعانة ، اعانة سواء للنفس او للغير ( لا للدلالة اللفظية ) في آية او رواية ، وذلك لان المتبادر من الاعانة : اعانة الغير كما في الآية الكريمة : « وتَعاوَنوا على البِرِّ والتَّقوى ولا تَعاوَنوا عَلى الاثْمِ وَالعُدوان » (1) بباب التفاعل الدالّ على وجود الاثنين او اكثر .

والبرّ : عمل الانسان المتعدي كبناء المسجد .

والتقوى : عمله غير المتعدي كصلاته وصومه .

والاثم : غير المتعدي كشربه الخمر .

والعدوان : ما يتعدّى الى الغير كقتله الناس .

لكن لايخفى : ان هذا الجمع ايضا اقرب الى التبرع .

وربما كان هناك جمع ثالث وهو : ان ما كان من شأن القلب يكون معاقبا به ومثابا عليه اذا كان من الدّين ، ولذا ورد : ان الرضا بعقر ناقة صالح سبّب هلاك الراضين به ، وجاء في زيارة الامام الحسين عليه السلام : « وَلَعن اللّه أُمّةً سَمِعَت بِذلِكَ فَرَضِيَت بِه » (2) وهكذا امثال ذلك .

اما اذا لم يكن من اصول الدّين ، لم يكن معاقبا الا على عمل المعصية ، وهذا

ص: 114


1- - سورة المائدة : الآية 2 .
2- - مفاتيح الجنان : ص566 .

ثم انّ التجرّي على أقسام يجمعها عدمُ المبالاة بالمعصية أو قلّتها .

أحدُها مجرّدُ القصد إلى المعصية ، والثاني القصدُ مع الاشتغال بمقدّماته ،

-----------------

وان كان بحاجة الى توجيه لكن لعله أوفق بروايات نفي الاثم ، بل لعله هو المركوز في اذهان المتشرعة .

( ثم ان التجري على ) ستة ( اقسام : يجمعها عدم المبالاة بالمعصية ) فعلاً : كعدم المبالاة بشرب الخمر . او تركا : كعدم المبالاة بترك الصلاة .

( او قلتها ) اي قلّة المبالاة بالمعصية .

والاقسام خمسة ، الاول : من عدم المبالاة ، والقسم السادس : من قلّة المبالاة .

ثم ان القلّة قد تكون من حيث الكم ، وقد تكون من حيث الكيف ، وعلى اي حال : فهي قلة .

( احدها : مجرد القصد الى المعصية ) قصدا جادّا لا الخلجان في الذهن بانه هل يعصي اولا ؟ وهذا تجرٍّ قلبي ، لان التجري يطلق على القلب وعلى الجوارح ، اذا إقترن العمل الجوارحي بقصد العصيان ونيته .

( والثاني : القصد مع الاشتغال بمقدماته ) من غير فرق بين المقدمات القريبة او البعيدة ، كمن يقصد قتل مؤمن مثلاً ، فيبدأ في الصداقة معه ، حتى اذا وجد فرصة مناسبة قتله ، فان الصداقة من المقدمات البعيدة ، اما مثل حمل السلاح والذهاب الى داره لقتله ، فهي من المقدمات القريبة .

كما انه لافرق في ان مانواه كان معصية واقعا ، كما اذا اراد قتل مؤمن ، او معصية وهمية كما اذا اراد قتل زيد زاعما انه مؤمن وهو ليس بمؤمن واقعا ، بل كافر محارب .

ص: 115

والثالثُ القصدُ مع التلبّس بما يعتقد كونه معصيةً ، والرابعُ التّلبّس بما يحتمل كونه معصيةً رجاءً لتحقق المعصية ، والخامسُ التّلبّس به لعدم المبالاة بمصادفة الحرام ، والسادسُ التلبّس برجاءِ أن لا يكون معصية وخوفَ كونها معصيةً .

-----------------

( والثالث : القصد مع التلبس بما يعتقد كونه معصية ) من غير فرق بين كون اعتقاده عن علم ، او عن ظن معتبر ، كشهادة البيّنة ، وذلك كشرب ما يعتقد انه خمر مع انه ليس بخمر في الواقع .

( والرابع : التلبس بما يحتمل كونه معصية ) احتمالاً مظنونا أو مشكوكا أو موهوما ( رجاءا لتحقق المعصية ) لكن ذلك فيما اذا كان اللازم عليه عقلاً او شرعا الاجتناب عنه كما اذا كان هناك اناءان ، يتردد الخمرية بين احدهما : الاناء الابيض مظنون الخمرية والاحمر موهومه ، وكلاهما متساويان في الاحتمال فيشرب أحدهما فقط ، فانه أن شرب الاحمر كان موهوم الخمرية ، وأن شرب الابيض كان مظنون الخمرية .

هذا فيما اذا كان هناك ظن ووهم ، واما اذا كان شك فيكون شرب اي منهما مشكوكا ، والعلم الاجمالي منجّز ، من غير فرق بين ان يكون علما او ما يقوم مقامه ، كما اذا قامت البيّنة على أنّ احدهما خمر .

( والخامس : التلبس به ) اي بما ذكر في الرابع ( لعدم المبالاة بمصادفة الحرام ) وهذا أخف من الرابع ، كمن شرب احد الانائين من دون رجاء او خوف .

( والسادس : التلبس ) به اي بما ذكر في الرابع ( برجاء ان لايكون معصية ، وخوف كونها معصية ) كشرب أحد الانائين برجاء ان يكون ماءا ، وكوطي احد المرأتين برجاء كونها زوجته فيما اذا اشتبه هل هند زوجته او دعد ؟ .

ص: 116

ويشترط في صدق التجرّي في الثلاثة الأخيرة عدمُ كون الجهل عذرا عقليّا او شرعيّا ، كما في الشبهة المحصورة الوجوبيّة

-----------------

هذا ، ويمكن ان يعدّ من التجرّي سابع : وهو ارائة مقدمات المعصية بدون قصدها ، كمن يذهب وراء غلام موهما له انه يريد الفاحشة ، ولكن لايقصد ذلك ، انما قصده في نفسه مجرد الارائة .

وثامن : ارائة مستتبعات المعصية من دون ان يكون قد ارتكبها ، كمن يتصرّف كما يتصرّف الخمارون ، يريد ارائة انه شرب الخمر من دون ان يكون قد شربها .

وتاسع : ان يتظاهر بما يزعم الناس انه عصيان ، وهو يعلم انه ليس بعصيان كمن يملأ قنينة الخمر ماءا ثم يشربها ، مما يتوهم للناس انه خمر وليس بخمر .

وعاشر : ترك مايزعم الناس انه ترك واجب ، كمن يزعمه الناس انه مستطيع ، لكنه لايحج لعدم كونه مستطيعا واقعا وان كان يريهم نفسه انه غير مبال للحج ، او تترك المرأة الحائض الصوم حيث يزعم الناس انها طاهرة ، تريهم بالترك انها غير مبالية بالصوم ، الى غير ذلك من الأمثلة .

ومما تقدّم يعلم : انه من التجري فعل المقدمات بدون القصد وهو يُوهم للناس انه قاصد ، كمن يجعل أمامه إناء خمر بحيث يزعم الناس انه يريد شربها ، او ترك أمامه ولده الجميل حيث لايعلم الناس انه ولده ، فيزعمون انه يريد به الفاحشة .

( و ) كيف كان : ف( يشترط في صدق التجرّي في الثلاثة الاخيرة ) من الستة التي ذكرها المصنّف قدس سره ( عدم كون الجهل عذرا عقليا او شرعيا ) بحيث يباح له الفعل فانه اذا كان جهله عذرا ، لم يكن من التجرّي ( كما في الشبهة المحصورة الوجوبية ) بأن يشك في ان أيّ ثوبيه نجس ، فان الواجب عليه : ان يصلي صلاتين

ص: 117

او التحريميّة ،

-----------------

في هذا وفي ذاك ، فاذا ترك احدهما كان من التجرّي في الشبهة الوجوبية .

( او التحريمية ) كأن يشك في ان هذا الاناء خمر أو ذاك الاناء ؟ فيشرب احدهما فانه يتحقق بذلك التجرّي .

وهناك قسم ثالث ، وهو الشك بين الوجوب في هذا والتحريم في ذلك فيترك الاول او يأتي بالثاني ، كما اذا شك في انه هل نذر ان يشرب الشاي ، او نذر ان يترك الدخان في يوم الجمعة ؟ فانّ الواجب عليه ان يشرب الشاي ويترك الدخان، فاذا لم يشرب الشاي او دخن فانه من التجرّي .

ثم لايخفى : ان العذر كلّما كان عقليا كان شرعيا ايضا ، لوضوح ان الشارع لايحكم بخلاف العقل ، لكن ليس كلّما يكون شرعيا يكون عقليا .

فالعذر العقلي يكون شرعيا ايضا كما اذا اضطر الى شرب احد الانائين بعد العلم الاجمالي بان احدهما خمر ، فانه معذور عقلاً في شرب احدهما والشارع ايضا يعذره ، قال سبحانه : « إلاّ ما اضطُرِرتُم إلَيهِ » (1) وقال عليه السلام : « ليس شَيءٍ ممّا حَرَّمَ اللّه ُ ، إلاّ وَقَد أحَلَّهُ لِمن اضطرَّ إليه » (2) .

والعذر الشرعي بدون ان يكون عذرا عقليا : كما اذا اضطر الى احد الانائين قبل العلم الاجمالي بكون احدهما خمرا ، فجمع من الاصوليّين ذهبوا الى جواز ارتكاب غير المضطر اليه ايضا لعدم تنجز العلم الاجمالي ، كما اذا كان احد الانائين احمر والاخر ابيض ، واضطر الى الابيض ثم علم بان احدهما خمر ، فان العذر العقلي في شرب الابيض للاضطرار ، اما شرب الاحمر فلا اضطرار ، لكنهم

ص: 118


1- - سورة الانعام : الآية 119 .
2- - وسائل الشيعة : ج4 ص373 ب12 ح5428 ، نوادر القمي : ص75 باب كفارة على المحرم .

والاّ لم يتحقق احتمالُ المعصية وان تحقق احتمالُ المخالفة للحكم الواقعيّ ، كما في موارد أصالة البراءة واستصحابها .

ثم إنّ الأقسام الستّة كلّها مشتركة في استحقاق الفاعل للمذمة

-----------------

اجازوا شربه ايضا ، لانه لم ينجز العمل في حقه .

( والاّ ) بان كان الجهل عذرا ( لم يتحقق ) التجري اصلاً لعدم ( احتمال المعصية ) في الارتكاب ( وان تحقق احتمال المخالفة للحكم الواقعي ) فان الانسان مكلف بما امره الشارع ، لا بأن لايخالف الواقع .

( كما في ) الموارد التي لا علم اجمالي منجز له ، ولا استصحاب للتكليف ، ولا يكون من موارد وجوب الفحص ، مثل : ( موارد اصالة البرائة ) : كالشك في حرمة التتن ، حيث تجري اصالة البرائة عن الحرمة ، او الشك في وجوب الجمعة في عصر الغيبة ، حيث تجري أصالة البرائة عن الوجوب شرعا وعقلاً - كما يأتي في بحث البرائة انشاء اللّه تعالى .

( واستصحابها ) أي استصحاب البرائة ، سواء كان الاستصحاب في الموضوع كاستصحاب كونه خلاً بعد ان شك في انه هل تحول الى الخمر أم لا ؟ او الاستصحاب في الحكم ، كما لو شك في انه هل حرمت المتعة بعد ان كانت حلالاً - كما يدعيه العامة - ام لا ؟ .

( ثم ان الاقسام الستة ) المتقدمة للتجرّي ( كلها مشتركة في استحقاق الفاعل للمذمة ) من العقل ، والعقلاء ، والشارع .

لايقال : ان الشيء عند الشارع اما حلال فلا يذم عليه ، او حرام فيعاقب عليه ، اما الحلال ذو الذم فلا وجود له عنده .

ص: 119

من حيث خبث ذاته وجرأته وسوء سريرته ، وإنّما الكلامُ في تحقّق العصيان بالفعل المتحقق في ضمنه التجرّي .

-----------------

لانه يقال : يثبت ذلك بقاعدة الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل في سلسلة العلل ، والمقام منها .

مضافاً الى ان ادلة التجرّي المتقدمة ، تصلح للدلالة على ذلك بعد دفع الحرمة والعقاب بأدلة عدم الحرمة .

بالاضافة الى وجود بعض الروايات المؤدة مثل : ما رواه عبد اللّه بن موسى بن جعفر عن ابيه عليه السلام قال : « سَألتُهُ عَن المَلَكَين هَل يَعلَمان بالذّنب إذا أرادَ العَبدُ أن يَفعَلَهُ أو الحَسَنَة ؟ .

فقال عليه السلام : ريحُ الكَنيفِ وَرِيحُ الطَيّبِ سَواء ؟ .

قلت : لا .

قال : إنّ العَبدَ إذا هَمَّ بالحَسَنَةِ خَرَجَ نَفَسهُ طَيِّبَ الريح ، فَقالَ ، صاحِبُ اليَمينِ لِصاحِبِ الشمالِ : قُم فانَّهُ قَد هَمَّ بالحَسَنَةِ ، فاذا فَعَلَها كان لِسانُه قَلمَهُ وَريقُهُ مِدادَهُ فاثبتَها له وإذا هَمَّ بالسَيئةِ خَرَجَ نَفَسُهُ مُنتَن الريح ، فَيَقولُ صاحِبُ الشِمالِ لِصاحِب اليَمينِ : قِف فانَّهُ قَد هَمَّ بالسَيّئَةِ ، فاذا فَعَلَها كان لِسانُهُ قَلَمَهُ وَريقُه مِداده واثبَتَها عَلَيه » (1) .

وقد تقدّم : ان الاستحقاق بالتجرّي ( من حيث خبث ذاته ، وجرأته ، وسوء سريرته ) اي قصده والاّ فالذات بما هي ذات لاتستحق مدحاً ولا قدحاً ( وانّما الكلام ) في التجرّي ( في تحقق العصيان ) والعقاب ( بالفعل المتحقق في ضمنه التجرّي ) مما هو حلال ذاتاً ، وانما توهمه المتجري حراماً كشرب الماء فيمن

ص: 120


1- - الكافي اُصول : ج2 ص429 ح3 .

وعليك بالتأمّل في كلّ من الأقسام .

قال الشهيد قدس سره ، في القواعد : « لايؤثّر نيّةُ المعصية عقابا ولا ذمّا مالم يتلبّس بها ، وهو ممّا ثبت في الأخبار العفوُ عنه .

ولو نوى المعصية وتلبّس بما يراه معصية فظهر خلافُها ،

-----------------

زعم انه خمر .

( وعليك بالتأمل في كل من الاقسام ) التي ذكرها المصنّف وذكرناها ، لعلّك تجد دليلاً جديدا في كلها او بعضها يفيد الحرمة صريحاً ، او الحليّة صريحاً .

ولا يخفى : ان التجرّي سواء كان حراماً او مذموماً ، بعضه اكثر حرمة ومذمة من بعض ، حسب ادلة تلك المحرمات ، فالتجرّي الى الزنا اشد من التجرّي الى اللمس ، كما اذا فعلهما بمن زعم حرمتها فبانت انها زوجته ، الى غير ذلك .

وفي نهاية هذا البحث ننقل كلام الشهيد الاول قدس سره ، للدلالة على انه أيضا ممن يقول بعدم حرمة التجرّي ، ويؤد ما اختاره المصنّف ( قال الشهيد قدس سره في القواعد) « والسر » : الروح لانه مستور في البدن ، ومعنى قدس سره : ان يكون هناك في روح وراحة لانه حينئذٍ منزه عن العذاب والشدّة ويحتمل معنى آخر لايهم الكلام فيه ( : لا يؤر نية المعصية عقاباً ولا ذماً ) .

اقول : قد تقدّم وجود الذم عقلاً وشرعاً ، فان من ينوي ان يسرق مال صديقه ، اذا انكشفت نيته للناس ذموه على هذه النيّة بلا اشكال ( ما لم يتلبس بها ) اي بالمعصية ( وهو ) اي قصد العصيان ( مما ثبت في الاخبار العفو عنه ) وهو دليل على قبحه ، اذ غير القبيح لامعنى للعفو عنه .

( ولو نوى المعصية وتلبس بما يراه معصية ، فظهر خلافها ) و « ظهر » هنا من باب عالم الاثبات ، والا فالمعيار هو عالم الثبوت ، فالمراد : هو ان ما زعمه عصياناً

ص: 121

ففي تأثير هذه النيّة نظرٌ ، من أنّها لمّا لم تصادف المعصية صارت كنيّة مجرّدة وهي غيرُ مؤاخذ بها ، ومن دلالتها على انتهاك الحرمة وجرأته على المعاصي » .

وقد ذكر بعضُ الأصحاب أنّه لو شرب المباحَ تشبيها بشرب المسكر فعل حراما ،

-----------------

لم يكن بعصيان - في متن الواقع - ( ففي تأثير هذه النية ) في الحرمة والعقاب ( نظر ) لوجود احتمالين :

( من انها لمّا لم تصادف المعصية ، صارت كنية مجردة ) عن العمل ( وهي غير) محرمة ولا ( مؤخذ بها ) حسب ما عرفت .

( ومن دلالتها على انتهاك الحرمة وجرأته على المعاصي ) فهي محرمة ومعاقب عليها .

لكن لا يخفى : ان الجرئة بما هي جرئة تكون محرمة ، هو اول الكلام ، اما انتهاك الحرمة ، فالعقل والشرع متطابقان على حرمته ، فقد قال صلى الله عليه و آله وسلم : « حُرمَتِهِ

مَيتاً كَحُرمَتِهِ حَيّاً » (1) .

( وقد ذكر بعض الأصحاب : انه لو شرب ) شخص ( المباح ) المسلّم اباحته ، مع علمه بانه مباح ، ولكن ( تشبيهاً بشرب المسكر ) كما اذا كان في القنينة الخاصة بالخمر ، وبعد الشرب تظاهر بالسكر ، فقد ( فعل حراماً ) وكأنه لما ورد : من ان مَن تشبّه بقوم فهو منهم ، وهو مشمول أيضا لقوله تعالى كما في الحديث القدسي:

ص: 122


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص419 ب21 ح43 ، من لايحضره الفقيه : ج4 ص297 ب178 ح7 ، وسائل الشيعة : ج29 ص327 ب24 ح35701 ، غوالي اللئالي : ج2 ص367 وفيه عن الصادق ع .

ولعله ليس لمجرّد النيّة ، بل بانضمام فعل الجوارح .

ويتصوّر محلّ النظر في صور :

منها : لو وجد امرأةً في منزل غيره ، فظنّها أجنبيّةً فأصابها ،

-----------------

« لا تَسلِكُوا مَسالِك أعدائي » (1) .

والحاصل : انه اذا كان مثل هذا العمل حراماً ، فالتلبس بما يراه حراماً حرام بطريق اولى لكن ، لايخفى : ان في المقام امرين :

الاول : هل سلوك مسالك الاعداء حرام ؟ اختلفوا فيه .

الثاني : هل انه اذا فعل التشبه في دار خالية بما لايراه احد حرام ؟ - مع فرض حرمة سلوك مسالك الاعداء - محل مناقشة أيضا ، كالكذب على الناس ، وغيبتهم، والتقليد عليهم ، في محل خال لايراه احد .

نعم ، لا اشكال في حرمة ذلك بالنسبة الى اللّه سبحانه او الرسول او الائمة عليهم السلام كما ذكرناه في كتاب الصوم .

( ولعله ) اي لعل تحريم التشبّه ( ليس لمجرد النية ) فقد تقدّم : ان نية الحرام ليست محرمة فكيف بنية ما ليس بحرام ؟ وانما حرمته - لو قيل بالحرمة - لنفس التشبه ( بل بانضمام فعل الجوارح ) بما يكون تشبهاً خارجياً ( ويتصور محل النظر ) في الحرمة وعدمها ( في صور ) كثيرة ، ذكر منها الشهيد بعضها ، من باب المثال ، لا من باب الاستيعاب .

( منها : لو وجد امرأة في منزل غيره ، فظنها اجنبية فأصابها ) بالوطي ، واللمس ،

ص: 123


1- - من لايحضره الفقيه : ج1 ص252 ح770 ، علل الشرائع : ص348 ، عيون أخبار الرضا : ج2 ص23 .

فبان أنّها زوجتُه او أمته .

ومنها : لو وطى ء زوجته بظنّ أنّها حائض فبانت طاهرة .

ومنها : لو هجم على طعام بيد غيره فأكله ، فتبيّن أنّه ملكه .

ومنها : لو ذبح شاةً بظنّ انها للغير بقصد العدوان ، فظهرت ملكه .

ومنها : ما إذا قتل نفسا بظنّ أنّها معصومة ، فبانت مهدورة .

-----------------

او مااشبه ، مما يحرم لغير الزوج ( فبان انها زوجته او امته ) وقد تقدّم ان الظهور من باب عالم الاثبات والا فالمعيار الزوجية واقعاً ، وكذلك حال العكس بان ظنت الزوجة انه رجل اجنبي ، وكان في الواقع زوجها .

( ومنها : مالو وطيء زوجته بظن انها حائض ) او نفساء او في عدة الغير بعدّة وطي الشبهة - مثلاً - ، او في حال الصيام الواجب ، او الاحرام ، اما اشبه ذلك (فبانت طاهرة ) او ليست في عدة الغير ، او ليست في حال صيام او احرام ، وكذلك المرأة اذا قدمت نفسها موطوئة للزوج في حال تزعم انها كذلك لكن تبين لها انها لم تكن فيحال حرمة وطيها .

( ومنها : لو هجم على طعام بيد غيره ) او في دار غيره ، او بزعم انه حرام لانه ميتة او لحم خنزير ، او مااشبه ، ( فاكله ، فتبين انه ملكه ) او مباح له ، او انه لحم حلال مذكيّ .

( ومنها : لو ذبح شاة بظن انها للغير بقصد العدوان ) أي كان الذبح عدواناً ( فظهرت ملكه ) في زعمه او لا صاحب لها ، او مباحة له .

( ومنها : ما اذا قتل نفساً بظن انها معصومة ) اي محقونة الدم ( فبانت مهدورة ) بما يبيح له القتل ، لا ما اذا كانت مهدورة في نفسها بدون الاباحة له ، لان هدر الدم لانسان لا يلازم هدره لكل انسان .

ص: 124

وقد قال بعضُ العامّة : « يحكم بفسق المتعاطي ذلك ، لدلالته على عدم المبالاة بالمعاصي ، ويعاقب في الاخرة مالم يتب عقابا متوسّطا بين الصغيرة والكبيرة » .

« وكلاهما تحكّمٌ وتخرصٌ

-----------------

فهذه امثلة للعرض ، والدم ، والمال ، كما ان هناك امثلة اخرى : مثلما اذا لم تصلّ ، او لم تصم ، او لم تحج ، زاعمة طهارة نفسها ، او استطاعتها ، بينما كانت حائضاً ، او غير مستطيعة .

( وقد قال بعض العامة : يحكم بفسق المتعاطي ) اي المرتكب ( ذلك ) اي كل واحد من هذه التجرّيات ( لدلالته ) اي دلالة التعاطي ( على عدم المبالاة بالمعاصي ) وعدم المبالاة يوجب الفسق ، لانه خارج عن طريق الاطاعة والعبودية ، وحيث كان فاسقاً لايكون اماماً ، ولا شاهداً ولا مرجع تقليد ، الى غير ذلك .

( ويعاقب ) هذا المتعاطي ( في الآخرة ) وكان ينبغي له ان يضيف : الحد ، والتعزير أيضا في الدنيا ( ما لم يتب ، عقاباً متوسطاً بين الصغيرة ) لان هذه الامور ليست بصغر الصغائر ( والكبيرة ) اي ليست بكبر الكبائر ، اما كونها فوق الصغار : فلانها في حدود المحرمات الكبيرة ، كالزنا ، والقتل ، واكل اموال الناس بالباطل ، واما كونها دون الكبائر : فلأنها لم تصادف الواقع حتى تكون من الكبائر .

( و ) قد اجاب الشهيد قدس سره عن قول بعض العامة ، هذا : بان الحكمين بالفسق والعقاب : ( كلاهما تحكم ) اي حكماً بغير دليل ، اذ من اين الفسق والعقاب ولا دليل شرعي على اي منهما ( وتخرّص ) اي تخمين بغير علم

ص: 125

على الغيب » ، انتهى .

التنبيه الثاني : حجّية القطع مطلقا

الثاني: إنّك قد عرفت أنّه لافرق فيما يكون العلمُ فيه كاشفا محضا بين أسباب العلم .

ويُنسَبُ إلى غير واحد من أصحابنا الأخباريّين عدمُ الاعتماد

-----------------

(على الغيب) (1) اي ما غاب عن الحواس فلا دليل شرعي ولا دليل حسي عليهما .

وينبغي ان يضاف على الاشكالين : انه من اين كون العقاب متوسطاً ؟ لانه ان كان حراماً كان عقابه كسائر المحرمات ، والا لم يكن له عقاب ( انتهى ) كلامه رفع مقامه .

حجيّة القطع مطلقا التنبيه ( الثاني ) في حجية القطع مطلقاً ف( انك قد عرفت ) في اول البحث ، في ( انه لافرق فيما يكون العلم فيه كاشفاً محضاً ) بأن كان القطع طريقياً ، لاموضوعياً ، اذ القطع الموضوعي تابع لجعل الجاعل ، في انه هل يجعله موضوعاً مطلقاً او موضوعاً في الجملة ؟ .

لكن الطريق لافرق فيه ( بين اسباب العلم ) وانه حصل من الادلة الأربعة او من غيرها ، بل ربما يحصل العلم من المنام ، كما كان ذلك من أسباب علم الأنبياء عليهم السلام في قصص معروفة .

( وينسب الى غير واحد ) أي جماعة ( من اصحابنا الاخباريين عدم الاعتماد )

ص: 126


1- - القواعد : ج1 ص107 .

على القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة القطعيّة الغير الضروريّة ، لكثرة وقوع الاشتباه والغلط فيها ، فلا يمكن الركونُ إلى شيء منها .

-----------------

والحجية ( على القطع الحاصل من المقدمات العقلية القطعية ) .

اما اذا لم تكن تلك المقدمات قطعية فواضح عدم الحجية فيها ( غير الضرورية ) فان مايحصل من الضرورة قطعي ، مثل : اصول الدّين وفروعه ، كحسن الاحسان وقبح الظلم وما اشبه .

اما غير الضرورية فلا حجية لها مثل حكمة : بان المشروط عدم عند عدم شرطه .

وحكمة : بان الاصل في الاشياء الاباحة .

وحكمة : بوجوب الاحتياط في اطراف العلم الاجمالي .

وحكمة : بان الامر بالشيء ينهي او لا ينهي عن ضده .

وحكمة : بتقديم التقييد على التخصيص ، وغير ذلك .

وانما قالوا بعدم حجية مثل هذا القطع ( لكثرة وقوع الاشتباه ) فيه ، بان يشتبه هذا بذاك ، كاشتباه زيد بعمرو ( والغلط ) بان يتصور مكان الشيء عدمه او بالعكس ، وهو غير الغلط كالتصور ان النّار كامن في الحجر كموناً فعلياً ، ككمون النار في داخل الكرة الارضية ، ( فيها ) اي في المقدمات .

كما انه قد يقع الاشتباه والغلط في تطبيق الكبريات الكلية - وان كانت المقدمات صحيحة - على الصغريات الجزئية كاختلاف الاخباريين في انه هل يسهو النبي صلى الله عليه و آله وسلم لروايات الاسهاء ، وانه لطف على الامة ، او لا ، لانه نقص يتنزه النبي صلى الله عليه و آله وسلم عن مثله ؟ ( فلا يمكن الركون ) والاعتماد ، ( الى شيء منها ) اي من تلك المقدمات .

ص: 127

فان أرادوا عدمَ جواز الركون بعد حصول القطع ، فلا يُعقَلُ ذلك في مقام اعتبار العلم من حيث الكشف ، ولو أمكن الحكمُ بعدم اعتباره لجرى مثله في القطع الحاصل من المقدّمات الشرعيّة طابَقَ النّعلُ بالنّعل .

وإن أرادوا عدمَ جواز الخوض في المطالب العقليّة لتحصيل المطالب

-----------------

ونحن نسأل عن مرادهم ما هو ؟ ( فان ارادوا عدم جواز الركون ) ؟ الى تلك المقدمات ( بعد حصول القطع ) منها .

( ف- ) فيه اولاً : حلاً :انه ( لايعقل ذلك ) اي عدم جواز الركون ( في مقام ) ما ثبت سابقاً من ( اعتبار العلم من حيث الكشف ) عن الواقع ، فهل يصح ان يقال لمن يرى النهار بعينه لاتعتمد على ماترى فانه اشتباه ؟ والقطع يجعل المقطوع به ، كالنهار في الوضوح .

( و ) ثانياً : نقضاً : بانه ( لو امكن الحكم بعدم اعتباره ) اي القطع الحاصل من المقدمات العقلية ( لجرى مثله ) في عدم الاعتبار ( في القطع الحاصل من المقدمات الشرعية ) أيضا ، فكما لايصح الاعتماد على « العالم حادث » المترتب على ، « العالم متغير ، وكل متغير حادث » كذلك لايصح الاعتماد على « هذا حرام» المترتب على « هذا خمر ، وكل خمر حرام » .

اذ اي فرق بين الدليلين العقلي والشرعي بعد اشتراكهما في احتمال الاشتباه والغلط ( طابق النعل بالنعل ) والقذة بالقذة ؟ .

فاذا لم تقولوا بذلك في المقدمات الشرعية ، فاللازم ان لاتقولوا به في المقدمات العقلية أيضا .

( وان ) لم يريدوا المعنى الاول من الكلام المتقدم ، بل ( ارادوا : عدم جواز الخوض ) والانغمار ، ( في المطالب العقلية لتحصيل المطالب

ص: 128

الشرعيّة ، لكثرة وقوع الغلط والاشتباه فيها ، فلو سُلِّمَ بذلك واُغمِضَ عن المعارضة ، لكثرة ما يحصل من الخطأ في فهم المطالب من الأدلّة الشرعيّة ، فله وجهٌ .

-----------------

الشرعية ) فذلك انما لم يجز ( لكثرة وقوع الغلط والاشتباه فيها ) فالقطع وان وجب العمل به عقلاً ، الا انه معاقب على مقدماته ، وذلك لانه يلزم على الشخص سلوك مقدمات عقلية حتى يحصل القطع منها ، واذا حصل القطع وعمل به فانه لايعاقب على عمله بالقطع وانما يعاقب على سلوك طريق العقل المنتهي الى القطع .

( فلو سلم بذلك ) اي سلّمنا عدم جواز سلوك طريق العقل ، فهنا جوابان :

أوّلاً : وهو جواب حلّي - لانسلم عدم جواز السلوك ، مع ان العقل حجة باطنة ، كما ورد في النص ، فايّ دليل يدل على عدم جواز سلوك طريقه ؟ .

لايقال : عدم الجواز لكثرة ما نرى من اشتباه الحكماء والفلاسفة مثل قولهم : بالعقول ، والحال ، وما ليس بموجود ولا بمعدوم ، والقدماء الخمسة ، وحتى في الطبيعيات ، مثل : كيفية الافلاك البطليموسية وما اشبه .

لانه يقال : - عند التحقيق - اشتبهوا في المقدمات ، فجعلوا الشعرية منها ، والخطابية ، والسفسطية ، بمنزلة البرهان ، فلم تكن تلك المقدمات البرهانية ، لا أن المقدمات اذا كانت برهانية ، ، لم يكن سلوكها مشروعاً .

( و ) ثانياً : - وهو جواب نقضي - ما ذكره بقوله : و ( أغمض ) النظر ( عن المعارضة ) اي نقض ما ذكروه في الادلة العقلية ، ( لكثرة مايحصل من الخطأ في فهم المطالب من الادلة الشرعية ) وذلك لوضوح كثرة اختلاف الفقهاء ، كما لايخفى حتى على من راجع « العروة المحشّاة » ( فله ) اي لما ذكروه ( وجه )

ص: 129

وحينئذٍ : فلو خاض فيها وحصّل القطع بما لا يوافق الحكمَ الواقعيَّ لم يُعذَر في ذلك ، لتقصيره في مقدّمات التحصيل ، إلاّ أنّ الشأنَ في ثبوت كثرة

-----------------

اي بعد الجواب الحلّي ، الذي اشرنا اليه ب« لو سلّم » والنقضي المشار اليه ب- : « اُغمض » نقول :

لكلامهم وجه يمكن القول به ، حيث انه من الممكن : المنع عن الخوض في المسائل العقلية المرتبطة بالشرعيات ، اذ لادليل عليه ، بل الدليل على عدمه في بعضها ، كما ورد من النهي عن الخوض في ذات اللّه سبحانه ، وعن الخوض في مسائل القضاء والقدر ، الى غير ذلك .

( وحينئذٍ : فلو خاض فيها ، وحصل القطع بما لايوافق الحكم الواقعي ) المقرّر شرعاً ما كان معذوراً - سواء طابق الواقع او كان تكليفه الظاهري ذلك - فانه ليس المراد من الحكم الواقعي الاّ الاعم من الواقع والظاهر ، لا الواقع في قبال الظاهر .

نعم ، ربما يقال : انه اذا كان تكليفه الظاهري لم ينفع العمل بالظاهري بدون الاستناد ، اذ يقال له : لماذا عملت بهذا العمل المخالف للواقع ؟ ولا عذر له في الجواب ، بينما اذا استند حصل له العذر .

ولعل المصنّف عني ذلك من قوله : ( لم يعذر في ذلك ) العمل المخالف للواقع ( لتقصيره في مقدمات التحصيل ) فاذا استند الى مقدمات عقلية في الاكتفاء بصلاة الجمعة يومها ، وكان الواجب الظهر في عصر الغيبة ، لم يعذر في ترك الظهر ، اما اذا استند في وجوب الجمعة بالادلة الشرعية عذر يوم القيامة ، لانه سلك الطريق الذي جعله المولى .

( الاّ ان الشأن ) اي الكلام ( في ) صحة ما ذكره الاخباريون من ( ثبوت كثرة

ص: 130

الخطأ أزيدُ ممّا يقع في فهم المطالب من الأدلّة الشرعيّة .

-----------------

الخطأ ) في الادلة العقلية وانه ( ازيد مما يقع ) من الخطأ ( في فهم المطالب من الادلة الشرعية ) ليس على ماينبغي ، اذ الخطأ في المطالب العقلية ليس بأكثر من الخطأ في المطالب الشرعية ، وعليه : فما هو الملاك الفارق بين الامرين ؟ .

ثم هنا مطلبان ، تحسن الاشارة اليهما :

الاول : ان الاصوليين والفقهاء ذكروا من جملة الادلة الاربعة : العقل ، فاين حكم العقل في الاحكام الشرعية ، مع انا نرى ان الاحكام الشرعية كلها مستندة الى الكتاب والسنة ، ونادراً الى الاجماع ، وليس هناك حكم شرعي من الطهارة الى الديات مستنداً الى العقل ؟ .

والجواب : ان الحكم الشرعي المستند الى العقل فقط في الكبرى وان لم يوجد، الاّ ان التطبيقات الصغروية على الكبريات المستفادة من الكتاب والسنة - وهي بحكم العقل - خارجة عن حد الاحصاء .

هذا ، بالاضافة الى الكبريات الاصولية العقلية مثل : مقدمة الواجب ، وان الأمر ينهى عن ضدّه ، والمفهوم ، وغيرها مما يتنقح في الاصول ، ويُنتج في الفقه ، مضافاً الى الاعتضاد بالعقل في جملة من المسائل الفقهية ، ولذا يستدلون بالادلة الاربعة في كثير من المسائل الفقهية .

الثاني : انه لماذا اختلف الفقهاء ، مع انهم يأخذون من الادلة الاربعة ، وقد ذم الامام امير المؤنين عليه السلام اختلافهم في الفتيا ، كما في نهج البلاغة ؟ .

والجواب : ان الامام عليه السلام لم يذم اختلاف الفقهاء وانما اختلاف القضاة .

كما انه لم يذم اختلافهم بما هو ، بل بما انهم في عصر انفتاح العلم وامكان الوصول اليه عليه السلام .

ص: 131

وقد عثرتُ ، بعد ما ذكرت هذا ، على كلام يُحكى عن المحدّث الاستراباديّ في فوائده المدنيّة ، قال في عداد ما استدلّ به على انحصار الدليل في غير الضروريّات الدينيّة بالسماع عن الصادقين ،

-----------------

مضافاً الى انه في الحقيقة ذم للتصويب حيث قال عليه السلام : « فيصوّب آرائهم جميعاً » (1) .

اما اصل الاختلاف : فهو ناش من اختلاف تلقي الاذهان النتائج من الكبريات غير البديهية ، على ما قرره سبحانه ، وهو من وسائل الامتحان ، هذا موجز الامر ، والتفصيل موكول الى المفصّلات .

( وقد عثرت ) واطلعت ( بعد ما ذكرت هذا ) الذي نسب الى الاخباريين ( على كلام يحكى عن المحدّث الاسترابادي في فوائده المدنية ) وهذا اسم كتاب الّفه وهو مطبوع ( قال في عداد ما ) ذكره من الادلة التي ( استدل به ) في ضمن ادلته ( على انحصار الدليل في غير الضروريات الدينية ) .

والضروريات : كوجوب الصلاة ، والصوم ، والحج ، وحرمة شرب الخمر ، والزنا ، واللواط ، والسرقة ، مما يعرفه كل مسلم بحيث لايحتاج في اثباته الى دليل ( بالسماع عن الصادقين ) المعصومين عليهم السلام .

ولا يخفى ان الاخباريين على اقسام ، والقسم الاخير الذي يطلق عليهم هذا اللفظ في قبال الاصولييّن ، هم الذين يحصرون الدليل في السنّة الواردة عن الائمة عليهم السلام فقط .

لا بالكتاب ، لأنه مجمل عندهم ، وظواهره ليست حجة الاّ بقدر ما ورد من تفسيرهم عليهم السلام له .

ص: 132


1- - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج1 ص288 .

قال : « الدليلُ التاسعُ مبنيّ على مقدّمة دقيقة شريفة تفطنتُ لها بتوفيق اللّه تعالى .

وهي أنّ العلوم النظريّة قسمان ، قسمٌ ينتهي إلى مادّة هي قريبة من الاحساس ،

-----------------

ولا بأقوال الرسول صلى الله عليه و آله وسلم حاله حالما يرد من تفسيرهم للقرآن الكريم .

ولا بالاجماع ، لانه ليس بحجة ، الا من جهة الدخول ، وهو راجع الى كلامهم عليهم السلام فيما اذا تحقق مثل هذا الاجماع الدخولي .

ولا بالعقل ، لما ورد من الروايات من « ان دين اللّه لا يصاب بالعقول » (1) .

فانحصر الامر في السماع عن الائمة الاثني عشر عليهم السلام ، ولم اعثر على مايذكرون حول ماورد عن الصدّيقة الطاهرة سلام اللّه عليها هل يعدّون سنّتها من قبيل قول الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، او من قبيل قولهم عليهم السلام ؟ .

( قال : الدليل التاسع ) من الادلة على ماذكرناه ( مبني على مقدمة دقيقة ) لانها تحتاج الى اعمال فكر ونظر ، وهي ( شريفة ) لانها تنتهي الى مطلب شريف ، وفاقد الشيء لايعطيه ، فهي أيضا شريفة ، وقد ( تفطنت لها بتوفيق اللّه تعالى ) من دون ان اقتبسها من احد .

( وهي : ان العلوم النظرية ) المحتاجة الى الاستدلال ، في قبال العلوم العملية المرتبطة بالعمل ، كالطهارة ، والنجاسة وشرب الادوية ، وعمارة المساكن ، ونحوها ، فانها علوم عملية بخلاف مثل المنطق ، والعلوم الرياضية ، والفلكية ، ونحوها ، فانها

نظرية ، وهي : ( قسمان : قسم ينتهي الى مادة هي قريبة من الاحساس ) .

ص: 133


1- - كمال الدين : ص324 ح9 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص262 ب9 ح21289 ، بحار الانوار : ج2 ص303 ب34 ح41 .

ومن هذا القسم علمُ الهندسة والحساب وأكثر أبواب المنطق .

-----------------

والاحساس : هو مايدرك بالحواس الخمس ، والتجربيّات قريبة من الاحساس، فانها وان لم تكن حسية الا ان آثارها الحسية تجلعها قريبة من الحس ، مثل : آثار الادوية ، فان الاهليلجة - مثلاً - مسهلة لكن خاصيتها لا تُحس ، وانما يحس مفعولها ، ولذا لايشك طبيب في انها مسهلة ، وكذا ان الدار لها بانٍ ، فان الانسان وان لم يشاهد بانيها فرضاً لكن دلالة الاثر على المؤر شيء مقطوع به ، ولذا لايشك فيه احد ، الى غير ذلك من الامثلة .

( ومن هذا القسم علم الهندسة ) « الهندسة » معرّب : « اندازه » ، مثل : الحصول على مساحة المربع من ضرب احد ضلعيه في الآخر ( والحساب ) مثل الجمع والطرح ، والضرب ، والتقسيم ، فان قواعدها الكلية ليست حسية لا في الهندسة ولا في الحساب ، الاّ ان الصغريات المشاهدة بمعونة العقل تعطي الكلية .

هذا ، ولقد ذكرنا الصغريات حتى نجعلها قريبة من الحس ، والا فالكليات تدرك بالعقل بدون الاحتياج حتى الى صغريات وذكر الصغريات من باب التمرين وسرعة الانتقال .

( و ) كذا حال ( اكثر ابواب المنطق ) فانها من القريبة الى الحس ، مثل : مباحث الكلي ، والجزئي ، والتصور ، والتصديق ، والعكس ، والنقيض ، وما اشبه ، فانا نرى انه اذا قيل : كل من في الدار رجل ، ورأينا امرأة فيها ، نقول : هذه الكلية غير صحيحة ، لان السالبة الجزئية نقيض الموجبة الكلية ، وهكذا .

فالمادة القريبة من الحس ، هي الكلية التي رأينا بالحس صغراها ، وذلك كما ذكرناه في الحساب والهندسة .

وانما قال : اكثر ابواب المنطق ، لان بعض ابوابها ليست كذلك ، لان المظنونات

ص: 134

وهذا القسمُ لا يقع فيه الخلافُ بين العلماء والخطأ في نتائج الأفكار .

والسببُ في ذلك أنّ الخطأ في الفكر ، إمّا من جهة الصورة

-----------------

والموهومات وما اشبه من مواد الصناعات الخمس ، التي تذكر في المنطق ليست مما تقرب من الحس ، بل ترتبط بالعقل - بالمعنى الاعم - .

( وهذا القسم ) القريب من الحس ( لايقع فيه الخلاف بين العلماء ) ، ولذا لا اختلاف في علم الهندسة والحساب ولا في ابواب المنطق الى غير ذلك ، لان الحس لايخطأ الا نادراً ، مثل : زعم العين صغر القمر ، واتصال الخطين اذا ابتعدا ، كما في خطَّي القطار ، واسوداد الماء المتراكم كماء البحر ، وحموضة اللبن للمريض ، الى غير ذلك ، مما عدّه بعضهم الى ثمانمائة خطأ من أخطاء الحس ، وبنى على ذلك السوفسطائيون افكارهم .

فالقريب من الحس ، بعيد عن الاختلاف ( والخطأ في نتائج الافكار ) فلا يقع فيها اختلاف ولا خطأ ( والسبب في ذلك ) من عدم وقوع الخطأ في هذه الامور القريبة من الحس هو : ( ان الخطأ في الفكر اما من جهة الصورة ) اي صورة القياس مما ذكره المنطقيون في اشكال اربعة : الشكل الاول ، والثاني ، والثالث ، والرابع ، والخطأ في الصورة بأن لاتكون جامعة للشرائط مما اشار اليها المنظومة - قسم المنطق - بقوله : « فمغكب للاول ، وخينكب للثان ، للثالث مغكاين وجب » (1) الى آخره ، كأن يقال - مثلاً - : زيد ليس بحيّ ، وما ليس بحيّ يمكن ان يكون حجراً ، فزيد يمكن ان يكون حجراً ، فان شرط ايجاب الصغرى وكلية الكبرى مفقود في هذا الشكل ، ولذا فسدت النتيجة .

ص: 135


1- - شرح منظومة السبزواري : ص118 للشارح «دام ظله» .

او من جهة المادّة .

والخطأ من جهة الصورة لايقعُ من العلماء ، لأنّ معرفة الصورة من الامور الواضحة عند الأذهان المستقيمة .

والخطأ من جهة المادّة لا يتصوّر في هذه العلوم ،

-----------------

( او من جهة المادة ) اي مادة القياس ، مثل : العالم اثر القديم ، واثر القديم قديم ، فالعالم قديم ، فان الخطأ في الكبرى ، اذ اثر القديم الاختياري ليس بقديم ، وانما يصح ذلك اذا كان اثر القديم جبرياً ، لعدم انفكاكه عن القديم .

ومن الواضح ان العالم ليس اثراً جبرياً للّه تعالى ، بل اثراً اختيارياً ، لان اللّه تعالى مختار وليس بموجب .

( والخطأ من جهة الصورة لايقع من العلماء ، لان معرفة الصورة ) بان يكون في الشكل الاول : الصغرى موجبة ، والكبرى كلية - مثلاً - والحد الاوسط يتكرر تكرراً حقيقياً لا صورياً ، كما في الجدار فيه فأر ، والفأر له أذن - فالنتيجة الجدار له إذن - وهو باطل حيث لم يتكرر الاوسط ، اذ الاوسط في الاول : « فيه فأر » وفي الثاني : « الفأر » .

فمعرفة الصورة ( من الامور الواضحة عند الاذهان المستقيمة ) والامور الواضحة لا تشتبه لدى العلماء ، وان امكن الاشتباه عند من ليس له إلمام كامل بالامور المنطقية .

( والخطأ من جهة المادة ) كبرى او صغرى ( لايتصور في هذه العلوم ) القريبة من الاحساس كما لايتصور في نفس المحسوسات ، مثل : هذا ابيض وكل ابيض مفرّق لنور البصر .

او مثل : زيد في الدار ، وما في الدار فهو في المدينة ، فزيد في المدينة .

ص: 136

لقرب الموادّ فيها إلى الاحساس .

وقسمٌ ينتهي الى مادّة هي بعيدة عن الاحساس ، ومن هذا القسم الحكمة الالهيّة والطبيعيّة وعلم الكلام وعلم اصول الفقه والمسائل النظريّة الفقهيّة

-----------------

الى غير ذلك من المحسوسات صغرى وكبرى وذلك ( لقرب المواد فيها الى الاحساس ) مثل : هذا مصنوع ، وكل مصنوع يحتاج الى صانع .

او : التمر حار طبعاً ، وكل حار طبعاً يجفف رطوبات البدن .

بل كذلك لايقع الخطأ فيما يقطع به على سبيل البداهة ، وان لم يكن محسوساً او قريباً منه مثل : النقيضان لايجتمعان ، والكل أعظم من الجزء ، والضدان اللذان لهما ثالث يمكن رفعهما ، الى غيرها من الامثلة .

( وقسم ) من العلوم النظرية ( ينتهي الى مادة هي بعيدة عن الاحساس ) لانها لم تكن من الاقسام الثلاثة المتقدمة ( ومن هذا القسم الحكمة الالهية ) .

مثل : البحث عن احوال الواجب ، والممكن ، والممتنع .

ومثل الالهيات : من الذات ، والصفات ، والمجرد ، والمادي ، وما اشبه ذلك .

( و ) الحكمة ( الطبيعية ) الباحثة عن احوال الجسم الارضي والفلكي .

( وعلم الكلام ) الباحث عن حقائق الاشياء ، والفرق بينه وبين الحكمة ، ان الحكمة تبحث عن حقائق الاشياء بما هي هي - حسب نظر حكمائها - والكلام يبحث عن حقائق الاشياء حسب النظرة الاسلامية ، وهذا هو الفارق بين شرح التجريد وشرح المنظومة .

( وعلم اصول الفقه ) كمباحث الالفاظ والادلة العقلية .

( والمسائل النظرية الفقهية ) لا البديهية ، مثل قاعدة : الخراج بالضمان ،

ص: 137

وبعض القواعد المذكورة في كتب المنطق .

ومن ثم وقع الاختلافات والمشاجرات بين الفلاسفة في الحكمة الالهيّة والطبيعيّة ، وبين علماء الاسلام في اصول الفقه ومسائل الفقه وعلم الكلام ، وغير ذلك .

والسببُ في ذلك أنّ القواعد المنطقيّة إنّما هي عاصمة من الخطأ من جهة الصورة

-----------------

ومن ملك شيئاً ملك الاقرار به ، وما لايضمن بصحيحه لايضمن بفاسده .

( وبعض القواعد المذكورة في كتب المنطق ) كدليل الافتراض - مثلاً - .

( ومن ثم ) اي من هذه الجهة وهي : بُعد هذه العلوم عن الحس وانها ليست من الضروريات ( وقع الاختلافات والمشاجرات بين الفلاسفة في الحكمة الالهية ) مثل خصوصيات علمه سبحانه ، وقدرته ، وصفات الذات ، وصفات الفعل ، ونحوها ، ( و ) في الحكمة ( الطبيعية ) كالهيولى والصورة .

( وبين علماء الاسلام في اصول الفقه ) مثل : هل ان الامر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّة ام لا ؟ وهل المفهوم يقيّد المنطوق ام لا ؟ ( ومسائل الفقه ) كالامثلة المتقدمة .

( و ) في ( علم الكلام ) في خصوصيات علمه سبحانه ، وقدرته ، وبصره ، وسمعه ، مااشبه .

( وغير ذلك ) كمسائل المنطق ، فهل عقد الوضع مثل : « كل انسان كاتب » قضية فعلية كما يقوله الشيخ الرئيس ، او قضية ممكنة كما يقوله الفارابي ؟ .

( والسبب في ذلك ) الاختلاف الموجود في هذه العلوم ( ان القواعد المنطقية انما هي ) آلة قانونية ( عاصمة ) للفكر ( من الخطأ من جهة الصورة ) القياسية

ص: 138

لا من جهة المادّة .

إذ أقصى ما يستفاد من المنطق في باب موادّ الأقيسة ، تقسيمُ الموادّ على وجه كلّي إلى أقسام .

وليست في المنطق قاعدةٌ بها يُعلَمُ أنّ كلّ مادّة مخصوصة داخلةٌ في أيّ قسم من الأقسام .

-----------------

باشكالها الاربعة ومقدماتها ، كمباحث العكس ، والنقيض ، وعكس النقيض ( لا من جهة المادة ) المذكورة في الصناعات الخمس ، كما المع اليها في آخر الحاشية ، وذكرها مفصّلاً الشمسية وجوهر النّضيد وغيرهما .

( اذ أقصى ما يستفاد من المنطق في باب مواد الاقيسة ) وهو جمع قياس ( تقسيم المواد ) من حيث الصناعات الخمس ( على وجه كلي الى اقسام ) :

البرهان ، والخطابة ، والشعر ، والسفسطة ، والجدل .

( وليست في المنطق قاعدة بها ) اي بسبب تلك القاعدة ( يعلم ان كل مادة مخصوصة داخلة في أي قسم من الاقسام ) المذكورة ، فان الاجماليات في القواعد لاتعيين لحدودها ، والصغريات تابعة في كثير من الاحيان للحدود ، مثلاً : الماء من اوضح المفاهيم ، لكنه مجمل في حدوده فالمياه الزاجية ، والكبريتية ، هل هي من الماء ام لا ؟ .

وهكذا في الالوان : الاحمر ، والاخضر ، والازرق ، من اوضح المفاهيم ، ومع ذلك حدودها في غاية الغموض ، وهنا تتدخل الاذواق والاستجابات في الامر ، فواحد يجعله من الماء دون الاحمر ، وآخر يراه من غير الماء ، او من الاصفر .

ومن الواضح : اختلاف استجابات الناس حتى في الامور المحقّقة حساً ، مثلاً : نفران احدهما يده في ماء حار ، والآخر في ماء بارد ، فاذا أدخلا يديهما في ماء

ص: 139

ومن المعلوم امتناعُ وضع قاعدة تكفل بذلك » .

ثمّ استظهر ببعض الوجوه تأييدا لما ذكره ، وقال بعد ذلك :

« فان قلت : لافرق في ذلك بين العقليّات والشرعيّات ، والشاهد على ذلك ما نشاهد من كثرة الاختلافات الواقعة بين أهل الشرع

-----------------

فاتر رآه الاول بارداً ، والثاني حاراً ، مع ان حقيقة هذا الماء واحد ، وهو من الامور الحسية ، ومن آياته سبحانه ، اختلاف الاذواق والادراكات وغيرها الى جانب اختلاف السنتكم والوانكم .

( ومن المعلوم امتناع وضع قاعدة تكفل بذلك ) وتحدد بان كل صغرى داخلة في اي من الصناعات الخمس ، ولذا نرى الفقهاء بعضهم يقول : يستفاد من هذه الرواية كذا ، وآخر يخالفه في استفادة ذلك ، والاصوليين قسم منهم يرى التبادر ، وقسم لايراه .

( ثم استظهر ببعض الوجوه ) الواردة في الروايات ، من خلط الحق بالباطل للامتحان ( تأييداً لما ذكره ) من عدم وجود قواعد منطقية لافادة ان ايّة مادة مخصوصة ، داخلة في اي واحد من الصناعات الخمس ( وقال بعد ذلك : فان قلت : لافرق في ذلك ) الذي ذكرت من كثرة الخلط والاشتباه في العقليات ( بين العقليات والشرعيات ) فكما يكثر الخلط والاشتباه في الاولى ، فكذلك في الثانية، فلماذا تبرّئون الشرعيات ولا تبرّئون العقليات ؟ .

( والشاهد على ذلك ) اي على استواء الشرعيات والعقليات في الخلط ( ما نشاهد من كثرة الاختلافات الواقعة بين اهل الشرع ) فبعضهم يرى عدم تنجس الماء القليل ، وبعضهم يراه يتنجس وانما العصمة للكر ، ثم اختلفوا في قدره بين سبع وعشرين ، او ست وثلاثين ، او ما يقارب ثلاثة واربعين الى غير ذلك .

ص: 140

في اصول الدين وفي الفروع الفقهيّة .

قلت : إنّما نشأ ذلك من ضمّ مقدّمة عقليّة باطلة بالمقدّمة النقليّة الظنيّة او القطعيّة .

ومن الموضحات لما ذكرناه - من أنّه ليس في المنطق قانونٌ يَعصِمُ من الخطأ في مادّة الفكر - أنّ المشّائيّين

-----------------

والاختلاف بين اهل الشرع ليس في فروع الدّين فحسب بل جاء ( في اصول الدين ) أيضا اذ يرى احدهم عدم سهو النبي صلى الله عليه و آله وسلم ، ويرى غيره سهوه ( و ) الى غير ذلك ، كما ان الاختلاف ( في الفروع الفقهية ) كثيرة حدّث عنها ولا حرج .

( قلت : انما نشأ ذلك ) الاختلاف في الشرعيات ( من ضمّ مقدمة عقلية باطلة بالمقدمة النقلية الظنية ) ظناً معتبراً كالخبر الواحد ( او القطعية ) كالخبر المتواتر ، فالذنب يعود أيضا الى إدخال العقل في الشرع .

مثلاً : قال بعضهم : بانه كسرت رباعية الرسول صلى الله عليه و آله وسلم في بعض الحروب ، وانكر آخر ذلك ، بضم انه يجب برائة النبي صلى الله عليه و آله وسلم من العيوب الخَلْقية والخُلُقية ، فهذه المقدمة العقلية : « يجب » سببت الاختلاف .

( ومن الموضحات لما ذكرناه : من انه ليس في المنطق قانون يعصم من الخطأ في مادة الفكر : ان المشائيين ) وهم جماعة من الحكماء ، ورئيسهم ارسطاطاليس، وانما سموا بالمشائيين لانه كان يعلّمهم الحكمة في حالة المشي ، او لأنهم يمشون بالدليل ، لان المشي يطلق على مثل ذلك تشبيهاً للمعقول بالمحسوس ،كما قال سبحانه :

ص: 141

« وانطَلَقَ المَلأُ مِنهُم أنِ امشُوا » (1) ، اي امشوا في طريقتكم ولا تعتقدوا ادّعوا البداهة في أنّ تفرقَ ماء كوز إلى كوزين إعدامٌ لشخصه وإحداثٌ لشخصين آخرين .

-----------------

بما جاء به النبي .

وفي قبال المشائيين : الاشراقيون ، ورئيسهم استاذ ارسطاطاليس وهو افلاطون ، وانما سموا بهذا الاسم من جهة انهم كانوا يعتقدون ان بالدليل وحده لايمكن الوصول الى الحقائق ، وانما اللازم تصفية الباطن ليشرق عليه نورالهداية ، ولا يخفى ان هذا الكلام في نفسه صحيح كما اشير اليه في الحديث الشريف :

« لَيسَ العِلمُ بكِثرَة التَعَلُّم ، وإنّما هوَ نورٌ يَقذِفُهُ اللّه ُ في قَلبِ مَن يَشاء » (2) .

فان من الواضح ان العلم هو : عبارة عن فهم الكون خالقاً ، ومخلوقاً ، وماضياً ، ومستقبلاً ، وحالاً - بقدر الطاقة البشرية - وليس خاصاً ببعض المعلومات ، كالطب ، والهندسة ، وما اشبه ، أو بدون الاعتقاد باللّه واليوم الآخر ، وما يلزمهما من الاعتراف بالانبياء والاوصياء ، فانه لايكون هناك علم ، وهذا العلم الشامل يقذفه اللّه في قلب المؤنين ، وهم الذين يجتهدون في الامر ، كما قال سبحانه : « والَّذينَ جاهَدوا فِينا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا وإنّ اللّه َ لَمَعَ المُحسِنين » (3) .

وعلى اي حال : فالاختلاف كبير بين الطائفتين في كثير من مسائل الفلسفة كما لايخفى على من راجع كتب الحكمة .

مثلاً : ( ادعوا البداهة في ان تفرق ماء كوز الى كوزين اعدام لشخصه ) اي الجسم المائي الواحد ، فانه بالتفرق خرج عن شخصية الواحد ( وإحداث لشخصين آخرين ) وانما كان إحداثاً ، لانه في حال الوحدة لم يكن هناك اثنان ،

ص: 142


1- - سورة ص : الآية 6 .
2- - منية المريد : ص69 ، مصباح الشريعة : ص16 بالمعنى ، بحار الانوار : ج70 ص140 ب52 ح5 .
3- - سورة العنكبوت : الآية 69 .

وعلى هذه المقدّمة بنوا إثبات الهيولى ، والاشراقيّين ادّعوا البداهة في أنّه ليس إعداما للشخص الأوّل ، وإنّما انعدمت صفةٌ من صفاته وهو الاتصالُ » .

ثمّ قال : « إذا عرفتَ ما مهّدناه من المقدّمة الدقيقة الشريفة ، فنقول : إن تمسّكنا بكلامهم عليهم السلام فقد عُصِمنا من الخطأ ، وإن تمسّكنا بغيرهم ،

-----------------

فاعدم الواحد وصار اثنين .

ومن الواضح : انه لا يراد اعدام الماء ، واحداث الماء ، وانما الوحدة والاثنينية ، والواحد شخص غير الاثنين ، كما ان الاثنين شخص جديد في هذا وفي ذاك ، وليس شخصاً واحداً .

( وعلى هذه المقدمة بنوا إثبات الهيولى ) - مثلاً - الشمع له ذات ، وله صورة فاذا رُبّع ، او ثُلث ، او خُمس ، او غير ذلك ، كان الشمع واحداً بالذات ، وانما الاختلاف بالصور ، والذات يسمى بالهيولى ، وتسمى كل صورة صورة منها ب« الصورة » .

( والاشراقيين ادعوا البداهة في انه ) اي التفريق في كوزين ( ليس اعداماً للشخص الاول ) الذي كان في الكوز الواحد ( وانما انعدمت صفة من صفاته وهو الاتصال ) اما الذات ، فهي ذات في كلتا الحالتين ، فلا اعدام ولا ايجاد .

اقول : البحث في ذلك طويل وعميق ، وانما اكتفينا بشيء من التوضيح للتقريب الى الذهن فقط .

( ثم قال ) الاسترابادي قدس سره ( اذا عرفت ما مهّدناه من المقدمة الدقيقة الشريفة فنقول : إن تمسكنا بكلامهم عليهم السلام فقد عصمنا ) وحفظنا - على صيغة المجهول - والفاعل هو اللّه سبحانه ( من الخطأ ، وان تمسكنا بغيرهم ،

ص: 143

لم نُعصَم عنه » ، انتهى كلامه .

والمستفادُ من كلامه ، عدمُ حجّيّة إدراكات العقل في غير المحسوسات وما تكون مباديه قريبةً من الاحساس إذا لم يتوافق عليه العقول .

-----------------

لم نعصم عنه (1) ، انتهى كلامه ) .

أقول : التمسك بكلامهم عليهم السلام ليس معناه : عدم فهم سائر الاشياء ، فهل يمكن فهم دليل التمانع ، وساير الآيات القرآنية المرتبطة بدقائق المبدء والمعاد ، أو فهم مواضع من كلام الرسول ، وعلي ، والائمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم اجمعين بدون دراسات طويلة ؟ .

ام هل يمكن فهم قول علي عليه السلام: « مَن وَصَفَ اللّه ُ فَقَد قَرَنَه ، وَمَن قَرَنَهُ فَقَد ثَنّاهُ ، وَمَن ثَنّاهُ فَقَد جَزّأهُ ، وَمَن جَزّأهُ فَقَد جَهله » (2) .

أو قوله عليه السلام : « لايُؤيَّنُ بأين وَلا يُكَيّف بكَيف ، وَمَن قال : فيم ، فقد ضمّنه » (3) الى غيرها .

ومن الواضح وجود الاحتياج في المباحثات مع غير المسلمين او المسلمين المنحرفين الى كل تلك العلوم .

( و ) على اي حال ف( المستفاد من كلامه ، عدم حجية ادراكات العقل في غير المحسوسات و ) في غير ( ما تكون مباديه قريبة من الاحساس ) كما مثلنا له سابقاً ( اذا لم تتوافق عليه العقول ) بأن كان محل الاختلاف ، اما اذا توافقت العقول عليه ، فذلك حجة وان لم يكن من المحسوسات ، ولا من الامور القريبة من الاحساس .

ص: 144


1- - الفوائد المدنيّة : ص129 - 131 .
2- - بحار الانوار : ج4 ص247 ب4 ح5 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج1 ص75 .
3- - الكافي اصول : ج1 ص140 ح5 و ح6 ، التوحيد للصدوق : ص125 ب9 ح3 (بالمعنى) .

وقد استحسن ماذكره غيرُ واحد ممّن تأخّر عنه ، منهم السّيدُ المحدّثُ الجزائريّ قدس سره ، في أوائل شرح التهذيب ، على ما حكي عنه .

قال بعد ذكر كلام المحدّث المتقدّم بطوله : « وتحقيق المقام يقتضي ماذهب إليه .

فان قلتَ : قد عزلت العقل عن الحكم في

-----------------

( وقد استحسن ما ذكره ) المحدّث الاسترابادي قدس سره (غير واحد ممن تأخرعنه، منهم السيد المحدّث ) السيد نعمة اللّه ( الجزائري قدس سره في اوائل شرح التهذيب ).

وهنا مطلب خارج عن محل البحث لابأس بالاشارة اليه وهو : ان جماعة من المطّلعين ذكروا : ان كتاب « زهر الربيع » قد حُرِّف ، لما ذكر فيه مما لايليق بمقام السيد ، وهذا ليس ببعيد ، فان كتب جماعة من علمائنا قد حرّفت من بعدهم مثل كتاب : « المخلاة » و « الكشكول » للشيخ البهائي قدس سره وكتاب « مكارم الاخلاق » للطبرسي قدس سره طبع مصر ، بل سمعت من بعض الثقاة : ان الحاج النوري قدس سره الف كتاباً باسم « فصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب » وان النسخة المخطوطة عنده كانت هكذا ، وانّما الغى منها بعض المرتبطين بالغربيين الردود ، واثبت فيها التحريفات ، كما اسقط كلمة « عدم » من الاسم ، وهو أيضا غير بعيد ، فان احد مسيحي لبنان جمع الاشكالات من كتب بعض علمائنا على الاسلام وحذف الاجوبة ، وطبعها كتاباً مستقلاً ، وعليه : فان الامر بحاجة الى التثبت .

وكيف كان فان الجزائري قدس سره ( على ما حكي عنه ، قال بعذ ذكر كلام المحدّث) الاسترابادي قدس سره ( المتقدم بطوله : وتحقيق المقام يقتضي ما ذهب اليه ) وظاهره : انه معترف بكل ما قاله الاسترابادي قدس سره .

ثم قال : ( فان قلت : قد عزلت ) بتصديقك لكلامه ( العقل عن الحكم في

ص: 145

الاصول والفروع ، فهل يبقى له حكمٌ في مسألة من المسائل ؟ .

قلتُ : أمّا البديهيّاتُ فهي له وحده ، وهو الحاكمُ فيها .

وأمّا النظريّاتُ فان وافقه النقلُ وحكم بحكمه قُدِّمَ حكمُه على النقل وحده .

وأمّا لو تعارض هو والنقليّ ،

-----------------

الاصول والفروع ، فهل يبقى له ) أي العقل ( حكم في مسألة من المسائل ) ؟ .

( قلت ) نعم ، يبقى له .

( أما البديهيات فهي له وحده وهو الحاكم فيها ) وهي موجودة في الاصول والفروع ، كما تقدّم الالماع اليه .

( واما النظريات ) فالقريبة من الحس أيضا للعقل حكم فيها ، كما سبق ، واما غير القريبة ، ( فان وافقه ) اي وافق العقل ( النقل ) مثل : قبح قصد المعصية قبحاً فاعلياً، ومثل : حسن الاحسان في بعض موارد الاحسان الى الاعداء الذين يريدون قتل الانسان ، كما احسن رسول اللّه وعلي والحسين عليهم السلام باعطاء الماء لأهل بدر (1) ، ولأهل صفين(2) ولاصحاب الحرّ (3) ( وحكم بحكمه ، قدم حكمه ) أي حكم العقل ( على النقل وحده ) اذ مع العقل لا مجال الا لكون النقل مؤداً له ، ولذا قال : « وحده » اي المحكّم ، العقل وحده .

( واما لو تعارض هو ) اي العقلي ( والنقلي ) تعارضاً ليس على نحو بديهيات العقل ، اما التعارض مع بديهيات العقل ، فمأوّل .

ص: 146


1- - انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج14 ص122 .
2- - انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج3 ص319 .
3- - مقتل الحسين للمقرم : ص182 ، تاريخ الطبري : ج6 ص226 .

فلا شكّ عندنا في ترجيح النقل وعدم الالتفات إلى ما حكم به العقلُ .

قال : - وهذا أصلٌ يبتنى عليه مسائل كثيرة . ثم ذكر جملة من المسائل المتفرّعة » .

-----------------

مثل : ما دل على ان الرحمن على العرش ، وان له يداً ، وانه يأتي ، الى غير ذلك ، لان في بديهي العقل كون تلك الامور - على ظاهرها - محال عليه سبحانه ، ولذا نأوّله بما لايخالف العقل . واما التعارض مع غير البديهيات ، مثل : الادلة العقلية على العقول العشرة ، او على استحالة الخرق والالتيام في الافلاك ، والمعراج الجسماني ، الى غير ذلك ( فلا شك عندنا في ترجيح النقل وعدم الالتفات الى ما حكم به العقل ) وحده .

والمراد بالعقل: المقدمات الظنية التي تنتهي الى هذه النتائج، والا فمن الواضح : ان ما ذكروه دليلاً على تلك الامور ليست الاّ من قبيل الخطابيات ، كما لايخفى على من راجع كتب الكلام ، كشرح التجريد ، وكفاية الموحدين ، وغيرهما .

( قال ) السيد الجزائري قدس سره : ( وهذا ) الذي ذكرناه من تقديم النقل على العقل المبني على غير الضروريات ( اصل يبتنى عليه مسائل كثيرة ، ثم ذكر جملة من المسائل المتفرعة ) (1) على تقديم النقل على العقل ، مثل : مسألة الاحباط ، ومسألة الانساء في النّبي صلى الله عليه و آله وسلم ، ومسألة ارادة الباري ، ومسألة ان اول الواجبات هل هي معرفة الباري ، او النظر والفكر في معرفته ؟ .

هذه هي بعض المسائل المنسوبة في بعض الحواشي الى السيد الجزائري قدس سره .

ص: 147


1- - شرح تهذيب الاحكام ، مخطوط .

أقول : لايحضرني شرح التهذيب حتّى اُلاحِظَ ما فرّع على ذلك ، فليت شعري إذا فرض حكمُ العقل على وجه القطع بشيء كيف يجوز حصول القطع او الظنّ من الدليل النقليّ على خلافه .

وكذا لو فرض حصولُ القطع من الدليل النقلي كيف يجوز حكمُ العقل بخلافه على وجه القطع ؟ .

-----------------

( اقول : لايحضرني شرح التهذيب ، حتى الاحظ ما فرّع على ذلك ) وقد عرفت بعضها ، لكن كل تلك المسائل لا تصادم فيها بين العقل والنقل ، كما ان اختلاف العلماء فيها ليس من جهة التصادم ، بل من جهة اختلاف الاستفادة من الادلة على ما عرفت الكلام فيه سابقاً .

( فليت شعري ) هل يصادم النقل العقل ؟ .

وهل يصادم القطع الظن ؟ كما يستفاد من كلامه فانه ( اذا فرض حكم العقل على وجه القطع بشيء ) كامتناع الجسمية ولوازمها للباري تعالى ( كيف يجوز حصول القطع او الظن من الدليل النقلي على خلافه ؟ ) .

فما دل من النقلي على الجسمية - مثلاً - لابد من تأويله ، اذ ليس بذلك قطع ولا ظن ، بل ولا وهم ، اذ القطع معناه : المنع عن النقيض ، والوهم : احتمال ولو واحد في الالف ، ولا يعقل جمعها .

( وكذا ) العكس ، اي ( لو فرض حصول القطع من الدليل النقلي ) كما لو قطع بما قام عليه التواتر فانه ( كيف يجوز حكم العقل بخلافه على وجه القطع ) بان يدل العقل على خلاف قطعه الحاصل من النقل .

وعلى ايّ حال : فان تعارض القطعين غير معقول ، بل لايعقل تعارض القطع والظن ، ولا القطع والشك ، ولا القطع والوهم ، بل ولا الظن والشك ، بل ولا الوهم

ص: 148

وممّن وافقهما على ذلك في الجملة المحدّثُ البحرانيّ في مقدّمات

الحدائق ، حيث نقل كلاما للسيّد المتقدّم في هذا المقام واستحسنه ، إلاّ أنّه صرّح بحجيّة العقلي الفطريّ الصحيح وحكم بمطابقته للشرع ومطابقة الشرع له .

-----------------

والشك ، كما هو واضح .

( وممّن وافقهما ) اي الاسترابادي والجزائري ( على ذلك ) من اسقاط دور العقل ( في الجملة ) وليس في كل ما ذكراه هو : ( المحدّث البحراني قدس سره في مقدمات الحدائق ، حيث نقل كلاماً للسيد المتقدّم ) اي الجزائري قدس سره ( في هذا المقام واستحسنه ) مما يدل موافقته له .

( الا انه ) وافقهما في الجملة لانه ( صرح بحجية ) الدليل ( العقلي الفطري الصحيح ) وهو يشعر بالحجية المطلقة للعقل ، فيما اذا كان غير مشوب بملابسات، وباقيا على فطرة سليمة التي فطرهُ اللّه عليها ، بينما الاسترابادي والجزائري يرون عدم حجيّة العقل الاّ في بعض الموارد ، وعلى كلٍ : فالمحدث البحراني قال بحجية العقل .

( وحكم بمطابقته للشرع ، ومطابقة الشرع له ) لأنهما من قبل اللّه سبحانه، ولهذا يكونان متطابقين على ما ذكروا : من « ان ما حكم به العقل حكم به الشرع » ، لان العقل لايرى الاّ الصلاح ، والشرع موضوع على المصالح والمفاسد - ايجاباً وسلباً - وان ما حكم به الشرع حكم به العقل ، لان العقل يرى : ان الشرع لايحكم الاّ وفق المصلحة ، فكلما حكم به الشرع ، عرف العقل ان فيه المصلحة ، كما ان الطبيب الحاذق المخلص يحكم العقل فيه بانه كلما وصف من الدواء شيئاً كان فيه مصلحة ، وان لم يعرف العقل خصوصيات الادوية كمّاً وكيفاً .

ص: 149

ثم قال : « لا مدخلَ للعقل في شيء من الأحكام الفقهيّة من عبادات وغيرها، ولا سبيل إليها الاّ السماع عن المعصوم عليه السّلام ، لقصور العقل المذكور عن الاطّلاع عليها » .

ثمّ قال : « نعم ، يبقى الكلامُ بالنسبة الى ما لايتوقف

-----------------

( ثم قال ) الحدائق : انه ( لامدخل للعقل في شيء من الاحكام الفقهية ، من عبادات وغيرها ) فمثلاً : لماذا عدد الركعات كذا ؟ والجهر والاخفات كذا ؟ وتقديم السعي على التقصير ؟ والطواف على الصلاة ؟ وان الصيام من الفجر الى المغرب ؟ الى غير ذلك .

نعم ، كليات الاحكام يعرفها العقل ، فالصلاة : لأجل الصلة باللّه سبحانه ، والحج: لمنافع الناس ، والصوم : لكف النفس وترويضها ، وهكذا ، وقد ذكرنا جملة منها في كتاب « عبادات الاسلام » (1) .

( ولاسبيل اليها ) اي الى تلك الاحكام الفقهية ( الا السماع عن المعصوم عليه السلام ) لان الخصوصيات لاتعرف الا من قِبله ، فحال الكليات والجزئيات في الاحكام حال كليات الطب ، وجزئياته ، حيث ان المرجع فيها للجاهل بالطب هو الطبيب ، وهنا هو المعصوم عليه السلام وذلك ( لقصور العقل المذكور ) وهو العقل الفطري ( عن الاطلاع عليها ) اي على تلك المسائل الفقهية .

وكلامه هذا لاينافي كلامه السابق : من التطابق بين العقل والنقل ، اذ ذاك بمعنى: انهما يحكمان على طبق المصلحة ، وهذا بالنسبة الى الخصوصيات والمزايا .

( ثم قال : نعم ، يبقى الكلام بالنسبة الى ما ) اي الشيء الذي ( لايتوقف

ص: 150


1- - وهو كتاب من الحجم المتوسط طبع في لبنان والكويت وايران وترجم الى الفارسية باسم «فروع دين» .

على التوقيف ، فنقول : إن كان الدليلُ العقليّ القطعي المتعلّق بذلك بديهيّا ظاهرَ البداهة ، مثل الواحد نصف الاثنين ، فلا ريبَ في صحّة العمل به . وإلاّ فان لم يعارضه دليلٌ عقليّ ولا نقلي فكذلك ، وإن عارضه دليلٌ عقليّ آخر ، فانّ تأيّد احدُهما بنقليّ كان الترجيحُ للمتأيّد بالدليل النقليّ ،

-----------------

على التوقيف ) بأن لايحتاج فيه الى الشرع ، مثل : الاعتقادات الاصولية ، من الالوهية والرسالة والمعاد ، وهكذا مسائل اصول الفقه ، مثل : كون الامر ظاهراً فيالوجوب ، والنهي في التحريم ، ووجوب المقدمة - مثلاً - .

( فنقول : ان كان الدليل العقلي القطعي المتعلق بذلك بديهياً ظاهر البداهة ) مثل : وجوب شكر المنعم ، وقبح تكليف ما لايمكن عقلاً : كاجتماع النقيضين ، او عادة : كالطيران بدون الوسيلة ، مما هو من ( مثل : الواحد نصف الاثنين ) في البداهية ( فلا ريب في صحة العمل به ) لانه من البديهيات ، والبديهي لايتوقف على شيء آخر ، فحاله حال الواحد نصف الاثنين ، سواء عارضه دليل آخر نقلي ام لا ، اذ لايعقل معارضة الدليل العقلي الفطري له .

( والاّ ) بأن لم يكن بديهياً ظاهر البداهة ( فان لم يعارضه دليل عقلي ولا نقلي فكذلك ) يلزم العمل به ، لان العقل قد حكم ، ولا معارضة له .

( وان عارضه دليل عقلي آخر ) فهما دليلان عقليان متعارضان ، مثل : « العالم متغير ، وكل متغير محتاج الى المؤر ، فالعالم محتاج الى المؤر » وفي قباله قول الملاحدة : « العالم قديم ، وكل قديم مستغن عن المؤر، فالعالم مستغن عن المؤر) .

( فان تأيد احدهما بنقلي ) كتأيد البرهان الاول به ، من مثل : كان اللّه ولم يكن معه شيء ( كان الترجيح للمتأيد بالدليل النقلي ) اذ في طرفٍ : عقل ونقل ،

ص: 151

وإلاّ فاشكال .

فانّ عارضه دليل نقليّ ، فان تأيّد ذلك العقليّ بدليل نقليّ كان الترجيحُ للعقليّ ، إلاّ أنّ هذا في الحقيقة تعارضٌ في النقليّات ، وإلاّ فالترجيح للنقليّ

-----------------

وفي طرفٍ : عقل فقط .

( والاّ ) بان لم يكن أحد الدليلين العقليين مؤد بنقل ( فاشكال ) : بأنه هل يقدّم هذا الدليل العقلي ، او ذاك ؟ .

هذا تمام الكلام في تعارض العقليين مع تأيد احدهما بنقلي ، او بدون التأيد .

اما اذا كان هناك دليل عقلي كقبح التجرّي ( فان عارضه دليل نقلي ، فان تأيد ذلك العقلي بدليل نقلي ) كما في : حكم العقل بقبح التجرّي في الجملة ، المؤد بالنقل الدال على حرمة التجرّي - على ما تقدّم - ، فان كان الدليل العقلي معارضاً بدليل نقلي آخر يدل على عدم العقاب على قصد المعصية ، وانّما العقاب على فعل العصيان ( كان الترجيح للعقلي ) لان في جانب : العقل والنقل ، وفي جانب : النقل فقط ، والاولان اقوى من الثاني .

( الا ان هذا ) القسم ( في الحقيقة ) وبالنظر الدقيق ( تعارض في النقليات ) لان في كلا الجانبين نقل ، وانّما العقل في احد الجانبين فقط ، وهو يصلح مؤداً لاحد جانبي النقل .

( والاّ ) بان لم يؤد العقل بدليل نقلي ، مثل : انكار بعضهم الخرق والالتيام المنافي للمعراج - عقلاً - فان انكارهم هذا لم يؤد بدليل نقلي ، بل الدليل النقلي معارض له ، لانه يدل على المعراج الجسماني المستلزم لخرق الافلاك كلاً ( فالترجيح للنقلي ) لانه لا شأن للعقلي المبني على المقدمات غير البرهانية في رفع النقل .

ص: 152

وفاقا للسيّد المحدّث المتقدّم ذكره وخلافا للأكثر .

هذا بالنسبة إلى العقليّ بقول مطلق .

أمّا لو اريد المعنى الأخصّ ، وهو الفطريّ الخالي عن شوائب الأوهام الذي هو حجّة

-----------------

فتحصّل : ان الحدائق قسم الامر الى ستة اقسام :

1 - العقل البديهي .

2 - غير البديهي الذي لايعارضه دليل عقلي ولا نقلي .

3 - غير البديهي الذي عارضه دليل عقلي آخر وتأيد احدهما بالنقلي .

4 - الصورة الثالثة مع انه لم يؤد بدليل نقلي .

5 - غير البديهي الذي عارضه دليل نقلي وتأيد أيضا بدليل نقلي .

6 - غير البديهي الذي عارضه دليل نقلي ، ولم يؤد بدليل نقلي .

وقد قال في السادس : انه يعمل بالنقلي .

وفي الرابع : ان فيه اشكالاً ، وفي بقية الصور يعمل بالعقلي .

ثم انه رجح في السادس النقلي ( وفاقاً للسيد المحدّث ) الجزائري قدس سره (المتقدّم ذكره ، وخلافاً للاكثر ) الذين يقدمون في السادس ، العقلي ، وهو المشهور .

ثم قال الحدائق : و ( هذا ) الذي ذكرناه : من عدم حجية العقل في الفقه ، والتفصيل في غير الفقه ، إنّما هو ( بالنسبة الى العقلي بقول مطلق ) اي العقلي المشوب بالأوهام .

( اما لو اريد ) بالعقلي ( المعنى الاخص ، وهو الفطري الخالي عن شوائب الاوهام ) ممّا لايوجد الاّ في الانبياء والأوصياء وصفوتهم ( الذي هو حجة

ص: 153

من حُجَجِ المَلِكِ العلاّم - وإن شذّ وجوده في الأنام - ففيترجيح النقليّ عليه اشكالٌ » ، انتهى .

ولا أدري كيف جعل الدليل النقلي في الأحكام النظريّة مقدّما على ما هو في البداهة من قبيل « الواحدُ نصفُ الاثنين » ، مع أنّ ضروريّات الدين والمذهب

-----------------

من حجج الملك العلاّم ) كما في الروايات : من انه العقل حجة باطنة ، والنبي صلى الله عليه و آله وسلم حجة ظاهرة (1) ( وان شذ وجوده في الانام ) لكثرة الخلط والخبط ( ففي ترجيح النقلي عليه اشكال ) (2) كما يأتي وجهه .

( انتهى ) كلام المحدث البحراني قدس سره ، ولكن في كلامه موارد للنظر: الاول : انه كيف قدم النقلي على العقلي الضروري ، مثل : الواحد نصف الاثنين؟ ( ولا ادري كيف جعل الدليل النقلي في الاحكام النظرية ) الواردة فيها الاحاديث اي الدليل النقلي ( مقدماً على ما ) اي على الدليل العقلي الذي ( هو في البداهة من قبيل : الواحد نصف الاثنين ) ؟ .

مثلاً : اذا حكم العقل حكماً بديهياً ببطلان وضوء الجبيرة ، الموجب لوصول الماء الى الكسر ونحوه - مما يكون ضرراً اكيداً - كيف يقدم النقل عليه ؟ حيث قد ورد في بعض الروايات : بوجوب ايصال الماء الى العضو .

هذا ( مع ان ضروريات الدّين والمذهب ) حالها حال الضروريات العقلية ، اذ قد يكون الشيء ضروري الاسلام : كالصلاة والصيام يقبله عامة المسلمين ، وقد يكون ضروري الايمان عند الشيعة فقط ، مثل : صحة المتعة .

ص: 154


1- - الكافي أصول : ج1 ص16 ح12 ، بحار الانوار : ج1 ص137 ب4 ح3 .
2- - الحدائق الناضرة : ج1 ص132 .

لم يزد في البداهة على ذلك .

-----------------

وهناك قسم ثالث من الضروريات تسمّى بضروريات الاديان ، كوجود الجنة والنار .

وقسم رابع : هو ضروريات الفقه ، كضرورية عدم الفاصلة بين الرضعات في نشر الحرمة بشيء آخر غير اللبن من المرضعة .

فانه ( لم يزد في البداهة على ذلك ) فكما ان البديهيات الدينية والمذهبية لاتحتاج الى شيء آخر ، كذلك حال البديهيات العقلية .

هذا هو الاشكال من الشيخ قدس سره على الحدائق .

لكن ربما يقال : ان الحدائق استثنى البديهيات اولاً ، ثم جعل كلامه في غير البديهيات ، ولعل الشيخ قدس سره اطلع على ما لم نطلع نحن عليه .

وعلى أيّ حال : فانه ينبغي ان يقال : ان تقسيم العقل الى الفطري وغيرالفطري محل تأمل ، فان هناك اقسام من الناس :

الاول : المعاند ، ولا كلام فيه ، فان عقله كسائر العقول ، وانّما يعاند ، كما قال سبحانه :« وَجَحَدوا بِها وَاستَيقَنَتها أنفُسُهُم » (1) .

الثاني : الجاهل قاصراً ومقصراً ، ولا كلام فيه أيضا .

الثالث : المستقيم ، ولا كلام فيه أيضا .

الرابع : الذي اشتبه في الدليل العقلي ، ولا شك انه اذا لم يكن معانداً ، ولم يكن تلقّيه مختلفاً - كما تقدّم من مثال الاواني الثلاث - يرجع الى الواقع بالبحث والاستدلال ، فأية فائدة لهذا التقسيم بالفطري وغير الفطري ؟ .

فان كل واحد من اساطين العلم ، كأصحاب الحدائق والجواهر والمستند

ص: 155


1- - سورة النمل : الآية 14 .

والعجبُ ممّا ذكره في الترجيح عند تعارض العقل والنقل ، كيف يتصوّر الترجيحُ في القطعي ، وأيّ دليل على الترجيح المذكور .

وأعجبُ من ذلك الاستشكالُ في تعارض العقليّين من دون ترجيح ،

-----------------

والرسائل والكفاية - مع اختلافاتهم الكثيرة في الاصول والفروع واستدلالاتهم العقلية والنقلية بمختلف المسائل - هل يمكن ان يقول بعضهم لبعض انه مأخوذ من العقل غير الفطري ؟ .

وحاصل كلامنا : ان جعل هذا المحور موجباً للرد والايراد بين أعلام الدّين غير خالٍ عن المناقشة .

نعم ، لاشك ان الاهواء دخلت في اديان الكفّار والمنحرفين ، لكن اذا اُلفتوا كانوا من مصاديق « وَجَحَدوا بها واستَيقَنَتها أنفُسُهُم ..» (1) .

الثاني : من موارد النظر على كلام البحراني قدس سره ما ذكره بقوله : ( والعجب مما ذكره في الترجيح عند تعارض العقل والنقل ) بترجيح النقل على العقل ، فانه (كيف يتصور الترجيح في القطعي ) المرتبط بالعقل ؟ فاذا قطع الانسان بان الآن نهار ، وجاء نقل بانه ليل ، فهل يمكن ترك القطع الى النقل ( وأي دليل ) في مقام الاثبات ( على الترجيح المذكور ) ؟ .

لكن ربما يقال : ان مراد البحراني 1 ليس العقلي القطعي ، بل ما يسمونه بالادلة العقلية المبنية على مقدمات غير مقطوعة ، ولذا نرى ا ن بعضهم يدّعي دلالة العقل على وجوب مقدمة الواجب ، وبعضهم يدّعي دلالته على عدم الوجوب ، وهكذا .

( و ) الثالث : من موارد النظر وهو ( اعجب من ذلك : الاستشكال ) من البحراني قدس سره ( في تعارض العقليين من دون ترجيح ) فهل يمكن تعارض دليلين

ص: 156


1- - سورة النمل : الآية 14 .

مع أنّه لا اشكال في تساقطهما ، وفي تقديم النقلي على العقليّ الفطريّ الخالي عن شوائب الأوهام .

مع أنّ العلم بوجود الصانع جلَّ ذكره إمّا أن يحصل من هذا العقل الفطريّ او ممّا دونَهُ من العقليّات البديهيّة ، بل النظريّات المنتهية إلى البداهة .

-----------------

عقليين كل واحد الى حدّ القطع ؟ : بل قد عرفت سابقاً : ان القطع بطرف لايجتمع حتى مع الوهم في الطرف الآخر ( مع انه ) لو فرض فرضاً محالاً وجودهما وتعارضهما بدون ترجيح فانه ( لا اشكال في تساقطهما ) حالهما حال النقليين .

لكن يمكن الذب عن البحراني قدس سره بانه ليس كلامه فيما ذكره الشيخ قدس سره من العقل القطعي ، بل هو فيما ذكرناه .

( و ) الرابع من موارد النظر : ( في ) حكمه قدس سره ب( تقديم النقلي على العقلي الفطري ، الخالي عن شوائب الاوهام مع ان ) النقل لايمكن ان يصل الى مرتبة العقل ، كما هو واضح ، فان اساس النقل : العقل ، فاذا سقط دور العقل سقط النقل تلقائياً .

ومما يوضح ذلك ، هذا المثال : وهو أن ( العلم بوجود الصانع جل ذكره ) وسائر اصول الدّين ( إما ان يحصل من هذا العقل الفطري أو مما ) هو ( دونه ) في القوة ، اذ للعلم مراتب ، كسائرالصفات النفسية وكالنور يزداد وينقص ، ولهذا فانه يحصل أيضاً ( من العقليات البديهية ) مثل استدلال تلك العجوز على وجود اللّه تعالى ، حيث رفعت يدها عن المغزل ، وقول ذلك الاعرابي : البعرة تدل على البعير ، الى غير ذلك .

( بل ) يحصل من ( النظريات المنتهية الى البداهة ) كالأدلة النظرية التي تنتهي

ص: 157

والذي يقتضيه النظر ، وفاقا لأكثر أهل النظر ، أنّه كلّما حصل القطعُ من دليل عقليّ ، فلا يجوز أن يعارضه دليل نقليّ .

وإن وُجِدَ ما ظاهره المعارضة ، فلابدّ من تأويله إن لم يمكن طرحه .

-----------------

الى المقدمات البديهية ، كما هو الشأن في غالب الاستدلالات على الاصول والفروع ، حيث انها نظرية لكنها تنتهي الى القضايا البديهية ، فان ما بالغير لابد وان ينتهي الى ما بالذات كما ذكروا .

( و ) حيث قد عرفت الاشكال في كلمات المحدثين الثلاثة نقول : ( الذي يقتضيه النظر ) في الادلة ( وفاقاً لأكثر اهل النظر ) والفكر ( انه كلّما حصل القطع من دليل عقلي ) سواء سمّي بالعقل الفطري ، او غيره ، أو كان من الادلة البديهية ، او النظرية ( فلا يجوز ) اي لايمكن ( ان يعارضة دليل نقلي ) اذ العقل : الاصل ، والنقل مستند اليه في حجيته ، ولا يمكن ان يعارض الفرع الاصل .

( وان وجد ) من الأدلة النقلية ( ما ظاهره المعارضة فلابد من تأويله ) وأصل « التأويل » من الأول بمعنى : الانتهاء ، من آل يؤل ، اي لابد ان نقول : ان الكلام لايقف عند ظاهره ، بل ينتهي الى شيء غير الظاهر .

هذا ( ان لم يمكن طرحه ) من حيث السند ، او من حيث جهة الصدور امكاناً حسب الصناعة ، والاّ فان كان سنده غير نقي ، او كا ن سنده نقياً لكنه موافق للعامة، فليس ذلك بحجة ، فلا حاجة الى تأويله بما يوافق العقل بالنتيجة .

مثلاً ، العقل القطعي يدل على ان اللّه سبحانه ليس بجسم ، وانه غير قابل للرؤة ، فاذا كان في القرآن الحكيم : « الرَّحمنُ عَلى العَرشِ استَوى» (1) .

أو : « وُجُوهٌ يَومَئِذٍ ناضِرَةٌ * إلى رَبِّها ناظِرَة » (2) .

ص: 158


1- - سورة طه : الآية 5 .
2- - سورة القيامة : الآيات 22 - 23 .

وكلّما حصل القطعُ من دليل نقليّ ، مثلُ القطع الحاصل من إجماع جميع الشرائع على حدوث العالم زمانا ، فلا يجوز أن يحصل القطعُ على خلافه من دليل عقليّ ، مثلُ استحالة تخلّف الأثر عن المؤثّر .

-----------------

كان تأويل الآية الاولى : بان المراد هو الاستيلاء والاحاطة لا الجلوس ، وتأويل الآية الثانية : بانها ناظرة : الى نعيم ربها ، فهو كما يقال : اني انظر الى المهدي عليه السلام وقد خرج الى الكوفة ، اي اعلم انه سيخرج ، الى غير ذلك .

( وكلّما حصل القطع من دليل نقلي ، مثل : القطع الحاصل من اجماع جميع الشرائع ) الالهية ، فانه لولا اجماعهم لما حصل القطع - ( على حدوث العالم زماناً) .

اذ ربما يقال ان : العالم حادث ، لكنه حدث بعد حدوث الزمان ، وهذا يسمّى بالحادث الزماني ، اي كان في زمان معدوماً ثم وجد في زمان ثانٍ .

وربما يقال : ان العالم حادث ، لكنه حدث قبل حدوث الزمان ، فهو قديم زماني ، حادث ذاتي ، وقسم من الفلاسفة وان قال بالثاني ، الاّ ان الشرائع قالت بالاول .

( فلا يجوز ) اي لايمكن ( ان يحصل القطع على خلافه من دليل عقلي ) اذ لايعقل ان يحصل قطعان متخالفان : قطع مستند الى النقل ، وقطع مستند الى العقل، بل قد تقدّم ان الاحتمال على طرف ، لايمكن ان يجتمع مع القطع على طرف آخر .

ثم ان المصنّف مثّل للدليل العقلي على خلاف الدليل النقلي المقطوع به بقوله : ( « مثل : استحالة تخلف الاثر عن المؤر » ) فان الفلاسفة الذين قالوا بالحدوث الذاتي للعالم لا الحدوث الزماني ، استدلوا على ذلك بما جعلوه دليلاً

ص: 159

ولو حصل منه صورةُ برهان كانت شبهةً في مقابلة البديهة ، لكن هذا لا يتأتى في العقل البديهيّ من قبيل « الواحدُ نصفُ الاثنين » ولا في العقل الفطريّ الخالي عن شوائب الأوهام ،

-----------------

عقلياً ، فقالوا : العالم اثر القديم ، واثر القديم قديم .

اما الصغرى : فلوضوح ان العالم لم يوجد بنفسه ، فاللازم ان يكون هناك قديم - وهو اللّه سبحانه - حتى يكون العالم اثره .

واما الكبرى : فلان الاثر معلول ، والمعلول لاينفك عن علته ، الذي هو اللّه ، فالعالم حادث ذاتاً لاستناده الى الغير ، وليس بحادث زماناً ، لانه قبل الزمان .

لكن هذا القياس غير صحيح ( ولو حصل منه صورة برهان ) اذ الكبرى غير تامة ، فان الاثر لاينفك عن المؤر المجبور ، كالحرارة من النار ، والرطوبة من الماء، اما المؤر المختار فينفك الاثر منه .

مثل افعالنا نحن البشر ، حيث انها منفكة منا ، فان الانسان يكون ، وليس بصانع باباً او كاتب كتاباً ، ثم يصنع الباب ويكتب الكتاب ، الى غير ذلك من الامثلة ، فاذا حصل صورة برهان في قبال القطع النقلي ( كانت شبهة في مقابلة البديهة ) لا برهاناً يفيد الواقع .

( لكن هذا ) الذي ذكرناه : من انه شبهة في مقابل البديهية ، وان امكن ان يأتي في النقلي القطعي ، لكنه ( لا يتأتّى في العقل البديهي من قبيل « الواحد نصف الاثنين » ) فان في قبال العقل البديهي لايمكن ان يكون نقل قطعي .

مثلاً : لايعقل ان يقوم دليل نقلي على جواز تكليف مالا يطاق .

( ولا في العقل الفطري الخالي عن شوائب الاوهام ) كحسن الاحسان وقبح الظلم .

ص: 160

فلابدّ في مواردهما من التزام عدم حصول القطع من النقل على خلافه ، لأنّ الأدلّة القطعيّة النظريّة في النقليّات مضبوطة محصورة ليس فيها شيء يصادم العقل البديهيّ او الفطريّ .

فان قلت :

-----------------

والحاصل : ان الدليل العقلي البرهاني لايعارض النقل القطعي ( فلابد في مواردهما ) اي موارد العقل البديهي والعقل الفطري ( من التزام عدم حصول القطع من النقل على خلافه ) اي على خلاف العقل .

والفرق بين البديهي والفطري : ان ما يدل عليه العقل الفطري يمكن ان لايكون بديهياً ، بل حصل بالنظر والاستدلال ، مثل وحدانية اللّه سبحانه ، حيث انه ليس بديهياً كبداهة وجود اصل الصانع ، فان من ينظر الى الكون يحصل له بالبداهة : العلم بان له صانعاً ، اما انه هل هو واحد ، او اثنان ؟ فانه لابد له من دليل ينتهي الى العقل .

والحاصل : ان الشبهة في مقابل البديهة - التي ذكرناها - انّما تكون في مقابل غير البديهي والعقل الفطري ، اذ الشبهة تحصل في قبال العقل المشوب .

ونلتزم بعدم حصول القطع على خلاف النقل الصحيح ( لان الادلة القطعية النظرية في النقليات ) كالاجماعات المحصلة ، والمتواترات ، والمستفيضات الموجبة للقطع ( مضبوطة ) قد ضبطها اصحاب الكتب و ( محصورة ) في امور مخصوصة ( ليس فيها شيء يصادم العقل ) فكيف يقال : ان الدليل القطعي يصادم العقل ؟ سواء العقل ( البديهي ) الذي هو واضح بأوّل فكره ( او الفطري ) الذي تفهمه الفطرة وان كان بملاحظةٍ واستدلال .

( فان قلت ) :ليس نظر الاخباريين في انكارهم حجة العقل ما ذكرتم : من جهة

ص: 161

لعلّ نظر هؤلاء في ذلك إلى مايستفاد من الأخبار ، مثل قولهم عليهم السلام : « حرامٌ عَلَيكم أن تَقولوا بشيءٍ مالم تَسمَعوه مِنّا» ، وقولهم عليهم السلام : « لَو أنَّ رَجُلاً قامَ ليلَهُ وَصامَ نَهارَهُ وَحَجَّ دَهرَهُ وَتَصَدَّق بجَميع مالِه وَلم يَعرِف ولايةَ وليِّ اللّه فتكون أعمالَهُ بدَلالَتِهِ فيواليَه ، ما كانَ لهُ

-----------------

كثرة الاشتباه في الادلة العقلية ، حتى يرد عليهم الاشكالات المتقدمة ، بل ( لعل نظر هؤاء في ذلك ) الذي ذكروه يشير ( الى ما يستفاد من الاخبار ) من انحصار الطريق في الاحكام في السماع من الصادقين عليهم السلام .

(مثل قولهم عليهم السلام : حَرامٌ عَلَيكُم) حرمة تكليفية ( أن تَقُولُوا بِشَيءٍ ) من الاحكام .

او الأعم من الاصول والفروع .

والاعم حتى من التاريخ الماضي ، والامور المستقبلية ، كأحوال الاُمم السالفة ، واحوال ما بعد الموت ( ما لَم تَسمَعُوه مِنّا ) (1) فانهم هم طريق الاحكام ، وخصوصيات الاصول ، كما ان غيرهم لاعلم لهم لا بالماضي ولا بالمستقبل .

( وقولهم عليهم السلام : لَو أنّ رَجُلاً ) والرجل : من باب المثال ، والا فالمرأة كذلك ( قامَ لَيلَهُ ) بالعبادة ( وَصامَ نَهارَه ) طول السنة ( وَحَجَّ دَهرَهُ ) كل عام او استمر في الحج والعمرة ( وَتَصَدَّقَ بِجَميعِ مالِه ) في سبيل اللّه : وقفاً ، وهديةً ، وهبة ، وصدقةً ، مصطلحة وبراً ( وَلَم يَعرِف ولايَةَ وَليّ اللّه ِ فَتَكون ) - بالنصب كما في القاعدة الادبية - كل ( أعمالَه بِدَلالَتِه فَيوالِيَهُ ) الفاء : تفريع على « لم يعرف » بان لم يكن له معرفة بالامام ، او لم يكن اعماله طبقاً لما قاله وليّ اللّه ، بطلت اعماله

ص: 162


1- - الكافي أصول : ج2 ص401 ح1 وفيه (الشر) بدل (حرام) .

على اللّه ثوابٌ » وقولهم عليهم السلام : « من دان اللّه بغير سماعٍ من صادِقٍ فهوَ كذا وكذا » إلى غير ذلك ، من أنّ الواجبَ علينا هو امتثالُ

-----------------

و ( ما كانَ لَه عَلى اللّه ِ ثَوابٌ ) (1) يستحقه .

( وقولهم عليهم السلام : مَن دانَ اللّه ) اي جعل دينه الذي هو طريق الى اللّه ( بغَيرِ سِماعٍ مِن صادِقٍ ) والمراد بالصادق : هم عليهم السلام ( فَهو كَذا وَكَذا ) (2) من التهديد والعقاب .

وهنا سؤل ، وهو : هل ان امر اتباع القيادة المنصوبة من قبل اللّه سبحانه بواسطة النبي صلى الله عليه و آله وسلم شرعي فقط ، او عقلي ايضاً ؟ .

ولا نقصد من العقلي ان ما ذكره الشرع بحيث لو وصل العقل الى ما فيه من المصلحة الشرعية ، الداعية لجعل ذلك قرّره ، فان ذلك مسلّم وقطعي ولا كلام فيه، اذ الشارع حكيم ، لايفعل الا حسب المصلحة ، وعليه يبنى قاعدة : ما حكم به الشرع حكم به العقل . بل بمعنى ان العقل مستقلاً عن الشرع هل يدرك المصلحة في ذلك ؟ .

الظاهر : نعم ، اذ القيادة هي التي تجمع الكلمة وتدفع الاعداء ، ولذا ورد في بعض الروايات : إنّ « الامامَةَ نِظامُ الامّة » (3) ، وبدون القيادة الصحيحة الرشيدة الموحدة ، تنهدم الدنيا وينحرف الدّين ، الذي هو مصلحة الانسان ايضاً ، كما شاهدنا ذلك في المسلمين .

( الى غير ذلك من ) الاخبار المتواترة الدالة على ( ان الواجب علينا : هو امتثال

ص: 163


1- - المحاسن : ص286 ح430 ، تفسير العياشي : ج1 ص279 في تفسير سورة النساء .
2- - الكافي أصول : ج1 ص377 ح4 ، بحار الانوار : ج2 ص93 ب14 ح24 .
3- - غرر الحكم : ج1 ص52 ح1137 .

أحكام اللّه تعالى التي بلّغها حُجَجُهُ عليهم السلام .

فكلّ حكم لم يكن الحجّةُ واسطةً في تبليغه لم يجب امتثالُه ، بل يكون من قبيل « اسكتوا عمّا سكت اللّه عنه » ، فانّ معنى سكوته عنه عدمُ أمر أوليائه بتبليغه وحينئذٍ

-----------------

احكام اللّه تعالى التي بلّغها حججه عليهم السلام ) ليس في الواجب والمحرم فحسب ، بل في سائر الاحكام التكليفية والوضعية ، فان امتثال كل حكم بحسبه .

( فكل حكم لم يكن الحجة واسطة في تبليغه ، لم يجب امتثاله ) بل نسبته اليه سبحانه تشريع محرم ، من غير فرق بين ان نقطع بانه حكمه تعالى ام لا ، وذلك لان الحكم مقيد به ، كما لو قال المولى : يحرم عليك ان تعمل بما علمت انه حكمي ، اذا لم يكن من طريق عبدي فلان .

( بل يكون ) ذلك الحكم الذي ليس من طريقهم ( من قبيل : « إسكُتوا عَمّا سَكَتَ اللّه ُ عَنهُ » ) (1) وسكوت اللّه كناية عن الحكم الذي لم يؤه الى الناس من طريق اوليائه ، ولفظة « اسكتوا » امر وهو يدل على الوجوب فخلافه محرم .

وعليه : ( فان معنى سكوته ) تعالى ( عنه ) اي عن ذلك الحكم ( عدم امر اوليائه بتبليغه ) الى العباد لمصلحة في ذلك ، كما قال الشيخ الخال (2) : ان اللّه اراد غلق باب الفاسق ، وان كان من اعلم المجتهدين ، ولم يكن العادل يصل اليه في العلم والتحقيق ، وأراد فتح باب العادل ولذلك فالواجب تقليد المجتهد العادل .

( وحينئذٍ ) اي حين كان الامتثال انّما هو في الاحكام التي بلّغها الحجة

ص: 164


1- - غوالي اللئالي : ج3 ص166 .
2- - الامام الشيخ محمد تقي الشيرازي قدس سره قائد ثورة العشرين التحررية في العراق .

فالحكمُ المنكشفُ بغير واسطة الحجّة مُلغىً في نظر الشارع وإن كان مطابقا للواقع .

كما يشهد به تصريحُ الامام عليه السّلام ، بنفي الثواب على التصدّق بجميع المال ، مع القطع بكونه محبوبا ومرضيّا عند اللّه .

-----------------

(فالحكم المنكشف بغير واسطة الحجة ملغى في نظر الشارع ، وان كان مطابقاً للواقع ) اي أن اللّه شرّعه ، لكن تشريعه وحده غير كاف لجواز العمل وانّما يجوز العمل به اذا جاء من طريق اوليائه عليهم السلام ، و في الحقيقة انّ ما لم يصل عن طريقهم عليهم السلام لا يكون حكماً فعلياً ، بل شأنياً( كما يشهد به ) ما ورد في الروايات ، و قد اشار اليها نصير الدين الطوسي بقوله :

لو ان عبداً اتى بالصالحت غداً***وودّ كل نبيّ مرسلٍ ، وولي

وصام ما صام صوّام بَلا ضجرِ***وقام ما قام قوام بلا ملل

وحجّ ما حجّ من فرضٍ ومن سُننِ***وطاف ما طاف حافٍ غير منتحلِ

يكسي اليتامى من الديباج كلّهم***ويطعم الجائعين البر بالعسل

وطار في الجو لا يرقى الى أحدٍ***وعاش في الناس معصوما من الزلل

ما كان في الحشر عند الله منتفعا***الاّ بحب أمير المؤمنين علي (1)

ويؤده : ( تصريح الامام عليه السلام بنفي الثواب على التصدق بجميع المال ) اذا لم يكن بدلالة وليّ اللّه ( مع القطع ) اي مع انا نقطع ( بكونه ) اي كون التصدق بجميع المال ( محبوباً ) في نفسه ( ومرضياً عند اللّه ) تعالى ، فليس نفي الثواب الا لاجل عدم دلالة وليّ اللّه ، وان كان في نفسه مرضياً له تعالى ، شأناً .

ص: 165


1- - انظر كتاب فضائل الامام علي عليه السلام لمحمد جواد مغنية ، الخاتمة .

ووجهُ الاستشكال في تقديم النقليّ على العقل الفطريّ السليم ماورد من النقل المتواتر على حجيّة العقل ، وأنّه حجّة باطنة ، وأنّه ممّا يُعبَدُ به الرَّحمنُ ويُكتَسَبُ به الجنان ، ونحوها ، ممّا يستفاد منه كونُ العقل السليم أيضا حجّة من الحجج .

فالحكم المستكشفُ به حكمٌ بلّغه الرسولُ الباطنيّ الذي هو شرعٌ من داخل ،

-----------------

( و ) ان قلت : فعلى هذا يلزم ان لانشك في تقديم النقلي على العقلي الفطري ايضاً ، فلماذا استشكل بعض الاخباريين في تقديم هذا على ذاك ، او تقديم ذاك على هذا ؟ .

قلت : ( وجه الاستشكال في تقديم النقلي على العقل الفطري السليم : ما ورد من النقل المتواتر على حجية العقل ) الذي أودعه اللّه في الانسان ( وانه حجة باطنة ) كما الانبياء حجّة ظاهرة ( وانه مما يعبد به الرحمن ، ويكتسب به الجنان (1) ، ونحوها ) من الاخبار المادحة للعقل .

مثل ما ورد : « إنّ أوّل خَلقٍ خَلَقَهُ اللّه ُ » ، وانه سبحانه قال له : « أقبِل فأقبَل ، وأدبِر فأدْبَر ، فَقالَ لَهُ : وَعِزَّتي وَجَلالِي ما خَلَقتُ خَلقاً أحَبُّ إلَيّ مِنكَ ، بِكَ أُثيبُ وَبِكَ أُعاقِبُ » (2) ( ممّا يستفاد منه كون العقل السليم ) الفطري غير المشوب بنوازع الهوى ( أيضاً ) كالأولياء عليهم السلام ( حجة من الحجج ، فالحكم المستكشف به ) اي بالعقل الفطري ( حكم بلّغه الرسول الباطني الذي هو ) نبي و ( شرع من داخل )

ص: 166


1- - الكافي أصول : ج1 ص16 ح12 .
2- - من لايحضره الفقيه : ج4 ص369 ب2 ح5762 .

كما أنّ الشرعَ عقلٌ من خارج .

وممّا يشير إلى ما ذكرنا من قبل هؤلاء ماذكره السيّد الصدر قدس سره ، في شرح الوافية في جملة كلام له في حكم ما يستقلّ به العقلُ ،

-----------------

الانسان ( كما ان الشرع ) الموحى بواسطة النبي ( عقل من خارج ) (1) الانسان .

إذن له تعالى حجتان يسميان : بالنبي ، والعقل ، وكلاهما يكشفان عن شرع اللّه تعالى ، فسبب اشكال بعض الاخباريين هو التصادم الظاهري للحجتين في النقلي والعقلي .

والحاصل : ان الحكم المستكشف بغير واسطة العقل والحجة ، ملغى ، اما اذا كشف بواسطة احدهما ، وسكت الآخر ، كان حجة واذا تصادما ففيه الاشكال بانه هل يؤذ العقل ، او بما ورد من قبل الحجة ؟ اما اذا توافقا فما أحسنه ، وعليه : فالاقسام اربعة .

( ومما يشير الى ما ذكرنا ) : من ان مراد الاخباريين : مدخلية تبليغ الحجة في وجوب الامتثال ( من قبل هؤاء ) الاخباريين ( ما ذكره السيد الصدر قدس سره في شرح الوافية في جملة ) من ( كلام له في حكم ما يستقل به العقل ) بمعنى : ان العقل يراه وان لم يكن شرع ، كحسن الاحسان ، وقبح الظلم .

ولا يخفى ان الاختلاف بين الناس من باب الصغريات ، لامن جهة الكبريين المذكورين ، فانك لاتجد من يقول : ان الاحسان ليس بحسن ، او الظلم ليس بقبيح ، وانّما يفعل ما يفعل ، او يقول ما يقول ، بزعمه واقعاً ، او لجهة مصلحة له فيه : انه ليس بظلم ، فان حتى مثل فرعون كان يقول : « إنّي أخافُ أن يُبَدِّلَ

ص: 167


1- - تفصيل النشأتين للراغب الاصفهاني : ص51 .

ما لفظه : « إنّ المعلوم هو أنّه يجبُ فعل شيء او تركُه او لايجبُ إذا حصل الظنُّ او القطعُ بوجوبه او حرمته او غيرهما من جهة نقل قولِ المعصوم عليه السّلام ، او فعلِه او تقريرِه ، لا أنّه يجب فعله او تركه او لايجب مع حصولهما من أيّ طريق كان» ، انتهى موضع الحاجة .

-----------------

دِينَكُم

»(1) ، والكفار كانوا يقولون « أجَعَلَ ألآلِهَةَ إلهاً واحِداً .. » (2) .

الى غير ذلك ( ما لفظه : ان المعلوم ) من الاخبار والاثار ( هو انه يجب فعل شيء ) كالصلاة ونفقة الزوجة ، واجراء الحد .

( او تركه ) كترك شرب الخمر ، وترك الجمع بين الاختين .

( او لايجب ) مع ترجيحٍ ، كالمستحب والمكروه ، او بدون ذلك كالمباح ( اذا حصل الظن ) المعتبر ( او القطع بوجوبه او حرمته او غيرهما ) من الاحكام التكليفية والوضعية ( من جهة ) متعلق ب- : « يجب » ( نقل قول المعصوم عليه السلام ، او فعله او تقريره ) طبعاً مع اشتمال كل من الثلاثة على الشرائط المقررة ، فالقول عن تقية ، او الفعل غير ظاهر الوجه ، أو التقرير أي السكوت لمانع ، وليس كذلك لأنها فاقدة للشرائط .

( لا انه يجب فعله او تركه او لايجب ) في سائر الأحكام ( مع حصولهما ) اي حصول وجوب الفعل او الترك او غيرها من الاحكام ( من أي طريق كان ) (3) ولو كان الطريق من غير المعصوم عليه السلام كأن يكون من العقل القطعي فرضاً ( انتهى موضع الحاجة ) من كلامه ، الدال على مدخلية الحجة في طريق الحكم ، فبدونه لا حكم .

ص: 168


1- - سورة غافر : الآية 26 .
2- - سورة ص : الآية 5 .
3- - شرح الوافية : مخطوط .

قلتُ : أوّلاً ، نمنعُ مدخليّة توسّط تبليغ الحجّة في وجوب إطاعة حكم اللّه سبحانه .

كيف والعقلُ ، بعد ما عرف أنّ اللّه تعالى لايرضى بترك الشيء الفلاني

-----------------

( قلت ) : استدلالهم بهذه الاخبار المتقدمة على عدم حجية العقل ، وان اللازم وساطة الحجة ، يرد عليه امور :

( أولاً : نمنع مدخلية توسط تبليغ الحجة في ) تنجز الاحكام و ( وجوب اطاعة حكم اللّه سبحانه ) فاذا علم الانسان انه حكم اللّه ، وعلم انه لم يقيده بكونه من طريق الحجة ، فهل يقال : بانه لايلزم عليه اتباعه ؟ ولو قيل بذلك ، لزم التناقض وهو محال .

والاخبار انّما تدل على اشتراط الطاعة بولاية وليّ اللّه مثلما تدل على ان الامور الشرعية يشترط في اجرها وقبولها الاعتراف باللّه سبحانه .

وفرق بين لزوم توسط الحجة ، وبين اشتراط قبول الحجة في القبول ، او في اسقاط العقاب .

و ( كيف ) يكون الحكم مشروطاً بوساطة الحجة ؟ ( و ) الحال ان ( العقل بعد ما عرف ان اللّه تعالى لايرضى بترك الشيء الفلاني ) فانه اذا وقع انسان في البئر يموت اذا لم ننقذه ، والقادر على الانقاذ - مثلاً - لايعرف هل قاله الائمة عليهم السلام ام لا ؟ وهو يعلم ان اللّه يريد انقاذه ، حيث قد سمع قوله سبحانه : «وَمَن أحيَاها فَكَأنَّما أحيا النّاسَ جَمِيعاً» (1) .

او لم يسمع ذلك ، لكنه اهتدى اليه بفطرة عقله ، فانه لايشك في وجوب الانقاذ ، وان انقاذه حسن مثاب عليه .

ص: 169


1- - سورة المائدة : الآية 32 .

وعلم بوجوب إطاعة اللّه ، لم يحتج بذلك إلى توسّط مبلّغ .

ودعوى استفادة ذلك من الأخبار ممنوعةٌ ، فانّ المقصودَ من أمثال الخبر المذكور عدمُ جواز الاستبداد بالأحكام الشرعيّة بالعقول الناقصة

-----------------

ولهذا لم يقترب جعفر ابن ابي طالب عليهماالسلام من الخمر والزنا والكذب وعبادة الاصنام لاهتداء عقله اليه ، كما استدل هو بعقله عندما سأله الرسول صلى الله عليه و آله وسلم عن ذلك ، وشكره اللّه تعالى عليه .

فاذا عرف الانسان ( وعلم ) بضرورة عقله ( بوجوب اطاعة اللّه لم يحتج بذلك) كالانقاذ في المثال ( الى توسط مبلّغ ) .

( و ) ان قلت : فلماذا اشترط في الأخبار المتقدمة لزوم توسط الحجة ؟ .

قلت : ( دعوى استفادة ذلك ) اي مدخلية الحجة في الحكم حتى يجب او يحرم او ما اشبه ( من الاخبار ) المتقدمة ( ممنوعة ) .

( ف- ) ان قلت : ما هو المقصود إذن من هذه الاخبار ؟ .

قلت : ( ان المقصود من امثال الخبر المذكور ) والمراد من الخبر جنس الخبر ، لا خبر واحد ، فان الجنس قد يؤي بالمفرد المحلى باللام ، مثل : اكرم العالم ، وقد يؤي بالمفرد المجرد ، مثل : « آتِنا فِي الدُّنيَا حَسَنَةً » (1) .

و « تَمرَةٌ خَيرٌ مِن جرادة » (2) .

الى غير ذلك كما ذكرناه في « الاصول » هو ( عدم جواز الاستبداد ) والانفراد ( بالاحكام الشرعية بالعقول الناقصة ) حيث ان العقل ما لم ينظم اليه الشرع

ص: 170


1- - سورة البقرة : الآية 201 .
2- - وسائل الشيعة : ج13 ص76 ب37 ح172 ، فقه الرضا : ص228 .

الظّنّية ، على ما كان متعارفا في ذلك الزمان من العمل بالأقيسة والاستحسانات ،

-----------------

ناقص ، وانّما هما معاً جناحا الكمال .

( الظنية ) اذ الغالب كون الانسان يظن بالشيء ولا يستيقن به ، كما كان دأب العامة من معاصري الحجج ( على ما كان متعارفاً ) بين الناس المناوئين لهم عليهم السلام ( في ذلك الزمان من العمل بالاقيسة والاستحسانات ) والمصالح المرسلة .

والفرق بين هذه الثلاثة هو كالتالي :

ان القياس عبارة عن : تشبيه شيء بشي لاسراء حكمه اليه ، مثلاً : يُسري حكم الشاة الى الكلب في حلّيته - كما قال به بعض العامة - .

والاستحسان : ما لا شبه له في الشريعة حتى يقيس المشبه على المشبه به ، وانّما يستحسن ان يكون الحكم كذلك ، لانه اقرب الى ذوق المستحسن ، فيقول - مثلاً - ليستحسن ان يكون الكشف العلمي في الزنا ، نازلاً منزلة الشهود والاقرارات الاربعة ، وقائماً مقامها في اثبات الحكم .

واما المصالح المرسلة : فهي عبارة عن عدم وجود قياس ولا استحسان وانّما هناك مصلحة مرسلة ، اي لم يقل الشارع والعقل فيها شيئاً ، لا نصاً ولا قياساً ولا استحساناً ، وانّما يحكم فيها الفقيه بما شاء ، فاذا توقف امر مرور السيارات وضمان سلامتها من الاصطدام - مثلاً - على السير من ذات اليمين او ذات اليسار يحكم بالسير من ذات اليمين ، لا لقياس او استحسان ، بل لانه مصلحة مرسلة كذلك للفقيه ان يحكم حسب هواه ، كما يأكل الانسان ، ويلبس ويركب ويسكن حسب هواه ، لا لقياس او استحسان .

هذا الماع الى هذه الامور الثلاثة ، والاّ فالتفصيل يطلب من مظّانه.

ص: 171

من غير مراجعة حجج اللّه في مقابلهم عليهم السلام .

وإلاّ فادراكُ العقل القطعيّ للحكم المخالف للدليل النقليّ على وجه لايمكن الجمعُ بينهما في غاية الندرة ،

-----------------

اما عندنا نحن الشيعة الامامية : فليس شيء الاّ فيه حكم من كتاب او سنة ، والفقيه انّما يجتهد لرد الفروع الى الاصول ، من غير فرق بين الحكم ذي موضوعين ، او الاختياري والاضطراري .

فالاول : كالقصر والتمام في السفر والحضر .

والثاني : مثل الادلة الأولية في قبال الضرر ، والحرج ، والعسر ، والاهم والمهم .

وعلى كلٍ : فالروايات في قبال اولئك الذين كانوا يعملون ( من غير مراجعة حجج اللّه ، بل في مقابلهم عليهم السلام ) حيث كانوا اذا عرفوا شيئاً عنهم ضادّوه ، كما قالوا في التختم ونحوه ، لكن لايخفى ان ذلك على سبيل الجزئية لا الكلية ، والا فان بعضهم كان يأخذ منهم عليهم السلام ايضاً .

( والاّ ) بأن لم يكن المقصود من الاخبار المتقدمة ما ذكرناه ، بل كان المقصود تقديم النقل على العقل ، لم يحتج الامر الى هذه الكثرة من الأخبار في بيان لزوم توسيط الحجة ( ف- ) ان ( ادراك العقل القطعي ) الذي كلامنا فيه ( للحكم المخالف للدليل النقلي ) بصورة يتعارض العقل والنقل و ( على وجه لايمكن الجمع بينهما) لا جمعاً بالحكم الاولي والثانوي ولا بذي موضوعين ولا بالعموم والخصوص ، وما اشبه ( في غاية الندرة ) .

مثل : كون الارض على البقرة والحوت ، وان اللّه يعذب حسب النية ، ويكون تخليد أهل النار بذلك ، مع ان العقل لايرى الاول قطعاً ، ويرى الثاني ظلماً .

لكن لايخفى ما فيه : اذ الاول مأوّل كما ذكره السيد الشهرستاني قدس سره في كتاب :

ص: 172

بل لا نعرف وجوده ، فلا ينبغي الاهتمامُ به في هذا الأخبار الكثيرة ، مع أنّ ظاهرها ينفي حكومة العقل ولو مع عدم المعارض .

وعلى ماذكرنا يحمل

-----------------

« الهيئة والاسلام » ولا عجب من ذلك ، فانه كم من مجاز في الكتاب والسنة ، بل هو من فنون البلاغة .

والثاني : وان ذكره بعض الفلاسفة ، الا انه منضماً الى قوله سبحانه :« جَزاءاً وِفَاقاً » (1) وما اشبه ، يعطي ان الخلود لايكون جزاءاً فوق العدل ، وعدم ادراك عقولنا خصوصيات العالم الآخر ، كعدم ادراك الطفل مسائل الرياضيات العالية ، لايدع مجالاً لاحتمال الظلم في حقه سبحانه .

( بل لانعرف وجوده ) اصلاً ، لما عرفت من ان نحو هذين المثالين ، ايضاً ، تمثيلهما للنادر غير تام ، بل حتى واذا وجد نادراً - فرضاً - ( فلا ينبغي الاهتمام به ) اي بهذا التعارض ، وتقديم النقل على العقل ( في هذه الاخبار الكثيرة ) فان الاهتمام بشيء نادر الوجود ، او غير موجود ليس من شأن الحكيم ، فكيف بهم عليهم السلام الذين هم في قمة العقل والحكمة ؟ .

( مع ) ان هناك جواباً ثانياً على ما ادعاه الاخباريون من إلغاء العقل ، وذلك ( ان ظاهرها ) اي ظاهر هذه الاخبار ( ينفي حكومة العقل ) مطلقاً ( ولو مع عدم المعارض ) فكيف يحملها الاخباريون على صورة ما اذا عارض العقل النقل فقط ؟ وهل هذا الاّ حمل المطلق على فرد منه بدون القرينة ؟ .

لكن يمكن ان يجاب عنهم : بانهم انّما يعملون بالعقل مع عدم المعارض وذلك لما ورد من حجية العقل ، خرج منه ما عارضه النقل ، لأقوائية ادلة النقل

ص: 173


1- - سورة النبأ : الآية 26 .

ماورد من : « أنّ دينَ اللّه لايُصابُ بالعُقولِ » .

وأمّا نفيُ الثواب على التصدّق مع عدم

-----------------

على اخبار حجية العقل ، اما اذا لم يكن معارض العمل نقلي ، كان اللازم بالعقل .

( و ) كيف كان : فانه ( على ما ذكرنا ) من حمل الاخبار الناهية ، على العمل بالعقل الناقص ، بدون الرجوع اليهم عليهم السلام ( يحمل ما ورد : من « إنّ دينَ اللّه ِ لا يُصابُ بِالعقُولِ » (1) ) اي العقل الناقص ، لا العقل الذي هو حجة .

والحاصل : ان الجمع بين ادلة حجية العقل ، وبين ادلة : « دين اللّه لا يصاب بالعقول » ان الاول : في مجال العقل ، والثاني : في مجال الامور الشرعية ، التي لامجال للعقل فيها ، مثلاً : حسن الاحسان ، وقبح الظلم ، ووجوب العدالة ، وانقاذ الغريق والحريق والمهدوم عليه ، وحسن التواضع والسخاء والشجاعة ، وقبح الظلم والحسد والغرور والكبر ، الى غيرها من مجال العقل في الجملة .

بينما العبادات بخصوصياتها ، والديات ، وخصوصيات النكاح والطلاق وما اشبه ، انّما هي من مجال الشرع ، فلا تصادم بين الطائفتين من الروايات ، ودليل هذا الجمع هو القرائن الداخلية والخارجية في الروايات .

( واما ) ما ورد من الاخبار في نفي الثواب عن التصدق بغير دلالة وليّ اللّه مما يدل على عدم اعتبار العقل القطعي اذ العقل لايشك في حسن التصدق مطلقاً ، وقد خالفه النقل بعدم الثواب عليه ، وعدم الثواب يلازم عدم حسنه ، فالجواب عنه يكون باحد امور :

اولاً : ان ( نفي الثواب على التصدق مع عدم ) توسط الحجة وعدم

ص: 174


1- - كمال الدين : ص324 ح9 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص262 ب6 ح21289 ، بحار الانوار : ج2 ص303 ب34 ح41 .

كون العمل به بدلالة وليّ اللّه ، فلو اُبقي على ظاهره تدلّ على عدم الاعتبار بالعقل الفطريّ الخالي عن شوائب الأوهام ، مع اعترافه بأنّه حجّةٌ من حجج الملك العلاّم ، فلابدّ من حمله على التصدّقات الغير المقبولة ، مثل التصدّق على المخالفين ،

-----------------

( كون العمل به ) اي بالتصدق ( بدلالة ولي اللّه ) وامره وارشاده لايمكن الالتزام بظاهره ( فلو اُبقي على ظاهره تدل على عدم الاعتبار بالعقل الفطري الخالي عن شوائب الاوهام ) لما عرفت من حكومة العقل الفطري بحسن التصدق مطلقاً .

( مع اعترافه ) اي الاخباري ( بانه حجة من حجج الملك العلام ) بل في الروايات الخاصة ايضاً ما يدل عليه ، ففي الحديث : « لِكُلِّ كَبَدٍ حَرّى أجر » (1) .

وفي الحديث ما مضمونه : « تخفيف العذاب عن حاتم الطائي على احسانه مع انه كان كافراً ولم يكن احسانه بدلالة ولي اللّه » .

وورد أيضاً : « صحة صدقات الكفار ببناء الكنائس ، وان وقفهم عليها صحيح ، وكذلك مساجد العامة » (2) ومن المعلوم : ان الوقف من قسم الصدقات ، الى غير ذلك ، ( فلابد من حمله على ) خلاف الظاهر من ( التصدقات غير المقبولة ، مثل : التصدق على المخالفين ) من حيث انهم مخالفون ، والا فالتصدق عليهم لانسانيتهم مقبولة قطعاً ، ولقد كان الامام الصادق عليه السلام يتصدق عليهم في ظلام الليل قائلاً : لو كانوا منا لواسيناهم حتى بالدقة ، واعطى الامام الحسين عليه السلام الماء لاهل الكوفة الذين جاءوا لقتاله (3) الى غير ذلك .

ص: 175


1- - جامع الاخبار : ص139 ، بحار الانوار : ج74 ص370 ب23 ح63 ، وكذا ورد في مجمع البحرين مادة كبد « أفضلُ الصدقةِ إبراد كبدٍ حرّاء » .
2- - للتفصيل راجع موسوعة الفقه : ج60 كتاب الوقوف والصدقات للشارح .
3- - راجع مقتل الحسين للمقرم : ص182 ، تاريخ الطبري : ج6 ص226 .

لأجل تديّنهم بذلك الدين الفاسد ، كما هو الغالب في تصدّق المخالف على المخالف ، كما في تصدّقنا على فقراء الشيعة ، لأجل محبّتهم لأمير المؤمنين عليه السلام ، وبغضهم لأعدائه ؛ او على أنّ المرادَ حبطُ ثواب التصدّق ، من أجل عدم المعرفة لوليّ اللّه تعالى

-----------------

أما التصدق عليهم ( لاجل تدينهم بذلك الدين الفاسد ) حتى يرجع التصدق الى غير اللّه سبحانه ، مثل : التصدق للاصنام ، فذلك هو مورد الرواية ( كما هو الغالب في تصدق المخالف على المخالف ) .

ومن المعلوم : ان العقل الفطري لايحكم بحسن ذلك ( كما في تصدقنا على فقراء الشيعة ) فانه ( لاجل محبتهم لامير المؤنين عليه السلام ، وبغضهم لاعدائه ) .

وعلى هذا : فلا ثواب للتصدق وذلك من جهة عدم المقتضى للثواب .

( أو ) حمل الخبر على وجود المانع ، فان الثوب قد لايحترق لاجل انه لا نار ، وقد لايحترق لاجل انه رطب ، والنار الموجودة لاتؤر فيه ، فالخبر محمول ( على ان المراد : حبط ثواب التصدق ) فانه وان كان له في نفسه اجر ، الا ان الاجر يذهب هدراً ( من اجل عدم المعرفة لولي اللّه تعالى ) فهو من قبيل : « حُبُّ عَليّ عليه السلام حَسَنَةٌ لاتَضُرُّ مَعَها سَيّئَة ، وَبُغضُ عَليّ عليه السلام سَيّئَةٌ لاتَنفَعُ مَعَها حَسَنَة (1) .

فان حبّ علي عليه السلام كالبحر ، اذا صب فيه شي من القذارة لايقذر كاملاً ، وان قذر موضعاً منه في الجملة ، وبغض علي عليه السلام كالكنيف اذا صب فيه قارورة من ماء الورد ، لاينفع في تبديل رائحته الكريهة الى الرائحة الطيبة ، لان الغلبة في كلا الجانبين للاغلب الاعم ، لا للطاريء الاقل .

ص: 176


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص86 ، نهج الحق : ص259 .

او على غير ذلك .

وثانيا ، سلّمنا مدخليّة تبليغ الحجّة في وجوب الاطاعة . لكنّا اذا علمنا إجمالاً بأنّ حكمَ الواقعة الفلانيّة لعموم الابتلاء بها قد صدر يقينا من الحجّة - مضافا إلى ما ورد من قوله صلى الله عليه و آله وسلم في خطبة حجّة الوداع :

-----------------

( او على غير ذلك ) كأن يراد : ان ثوابهم لايوجب رفع النار عنهم ، وان اوجب التخفيف .

هذا كله هو الجواب الاول عن قول الاخباري : بان العقل لايؤذ به اذا خالف النقل ، وبان توسط الحجة شرط في الاخذ بالحكم ، والا بأن لم يتوسط الحجة فلا حكم ، وان قطع به وقطع بان اللّه يريده .

( وثانياً : سلّمنا مدخلية تبليغ الحجة في ) ثبوت الاحكام بحيث لولا الحجة لا حكم ، وكذا سلّمنا مدخليته في ( وجوب الاطاعة ) فلا اطاعة بدون توسط ( لكنّا ) نقول : لا ملازمة بين وساطة الحجة والسماع من الحجة ، اذ من الممكن ان العقل يحكم بالحكم ، فنضم اليه علمنا بان النبي والائمة عليهم السلام قالوا كل الاحكام ، فنستكشف منه ان هذا الحكم الذي دل عليه العقل ، هو حكمهم عليهم السلام .

وعليه : ف( اذا علمنا اجمالاً ) الكبرى الكلية ( بان حكم الواقعة الفلانية ) كذا ، كالصلاة - مثلاً - فيمن توسط الارض الغصبية وليس له من الوقت حتى يصلي في الخارج ، فيصلي في الداخل وصلاته صحيحة فنكتشف ( لعموم الابتلاء بها ) ان حكمها ( قد صدر يقيناً من الحجة ) فان الوقائع الكثيرة الابتلاء بها ، لابد وان وقعت في زمانهم واستفتوا منهم ، وانهم اجابوا عنها .

( مضافاً الى ) علمنا به من جهة كثرة الابتلاء ( ما ورد من قوله صلى الله عليه و آله وسلم في خطبة حجة الوداع ) وهي آخر حجة حجها ، لانه روي انه صلى الله عليه و آله وسلم حج واعتمر اربعين

ص: 177

« مَعاشِرَ الناس ! ما من شيء يُقَرِّبُكُم إلى الجنّة ويُباعِدكُم عن النّار إلاّ أمرتكُم به ، وما من شيء يقرّبكم إلى الناّر ويُبادِدكُم عن الجنّة إلاّ وقد نهيتكُم عنه »

-----------------

مرّة فقال فيها : ( مَعاشِرَ النّاس ) بالنصب لحذف حرف النداء ، وهو جمع معشر بمعنى ، الجماعة ، لانهم كانوا جماعات من مختلف البلدان والاماكن والقبائل ، ويسمون بالمعشر لعشرة بعضهم مع بعض ( : ما مِن شيءٍ ) واجب او مستحب ( يُقَرِّبُكُم إلى الجَنَّةِ وَيُباعِدُكم عَن النّارِ إلاّ أمرتُكُم بِه ) امر وجوب ، او استحباب امراً بالقول ، او بالفعل ، او بالتقرير ( وَما مِن شَيءٍ ) محرم او مكروه ( يُقَرِّبُكُم إلى النّار وَيُباعِدُكُم عَن الجنّة إلاّ وَقَد نَهَيتكُم عَنهُ ) (1) .

ومن المعلوم ان المكروه يبعد الانسان عن الجنة ، كما ان المباح لايبعد ولا يقرب .

والحاصل : ان المراد ذكر كل الاحكام المحتاج اليها الناس في حياتهم .

لا يقال : كيف والاحكام كثيرة ، ولم يكن للرسول صلى الله عليه و آله وسلم وقت لذكرها جميعاً ؟ .

فانه يقال : الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ذكرها جميعاً ولو بنحو الكلّيات ، وكذا بما أودعه علياً عليه السلام « من الف باب يفتح له من كل باب الف الف باب » (2) ، مما تكون

ص: 178


1- - مستدرك الوسائل : ج13 ص27 ب10 ح14643 ونظيره ورد في الكافي اصول : ج2 ص74 ح2 ، وسائل الشيعة : ج17 ص45 ب12 ح21939 ، بحار الانوار : ج70 ص96 ب47 ح4 .
2- - اشارة الى قول الامام أمير المؤمنين عليه السلام : علمني رسول الله الف باب من العلم يفتح لي من كل باب الف باب ، انظر الخصال للصدوق : ج2 ص647 ، بصائر الدرجات : ص276 ، الغدير للاميني : ج3 ص120 ، تاريخ دمشق لابن عساكر : ج2 ص484 ح1003 ، كنز العمال : ج6 ص392 ، تاريخ ابن كثير : ج7 ص360 .

- ثمّ أدركنا ذلك الحكمَ ، إمّا بالعقل المستقلّ ، وإمّا بواسطة مقدّمةٍ عقليّة ، - نجزمُ من ذلك

-----------------

النتيجة انه صلى الله عليه و آله وسلم ذكر الف مليون باب من العلم ، بينما لانجد في الجواهر - وهو اضخم الكتب الفقهية الى زماننا حسب اطلاعنا - الاّ ما يضاهي ربع مليون حكم .

ولا يخفى ان ايداعه صلى الله عليه و آله وسلم لعلي عليه السلام هذه العلوم الكثيرة كان اعجازياً عن طريق المعجزة .

كما ان هذاالحديث يدل على الاعم مما ذكرناه : - من دلالة العقل على ذكرهم عليهم السلام ما هو محل الابتلاء دون غيره - حيث ان الحديث يدل على ذكره صلى الله عليه و آله وسلم ما كان هو محل الابتلاء في ذلك الوقت وما لم يكن .

( ثم ) اذا علمنا الصغرى و ( ادركنا ذلك الحكم ) الذي صدر عن الحجة ( اما بالعقل المستقل ) بدون دليل شرعي في عالم الاثبات ، كحكم الشارع باتيان الصلاة لمن توسط الارض الغصبية ، ولا مجال له من الوقت حتى يصلي خارج الارض ، لان الصلاة صلة بين اللّه والعبد ، ولا يجوز تركها بأي حال ، فان العقل مستقل بذلك .

( واما بواسطة مقدمة عقلية ) مثل : استفادتنا تنجس الماء القليل بملاقات النجاسة من قوله عليه السلام : « إذا كان الماءُ قَدَرَ كُرٍّ لم ينجِّسُهُ شَيءٌ » (1) .

بضميمة مقدمة عقلية وهي : ان المشروط عدم عند عدم شرطه ف( نجزم من ذلك ) القياس صاحب الكبرى المتقدمة ، وهي : « ان الحكم ذكره الشارع قطعاً » والصغرى المذكورة وهي : « ان الحكم كذا للعقل المستقل ، او لمقدمة عقلية »

ص: 179


1- - وسائل الشيعة : ج1 ص158 ب9 ح391 ، من لا يحضره الفقيه : ج1 ص9 ح12 ، الكافي فروع : ج3 ص2 ح1 و ح2 ، الاستبصار : ج1 ص6 ب1 ح1 ، تهذيب الاحكام : ج1 ص150 ب6 ح118 .

بأنّ ما استكشفناه بعقولنا صادرٌ عن الحجّة ، صلوات اللّه عليه ، فيكون الاطاعةُ بواسطة الحجّة .

إلاّ أن يدّعي : أنّ الأخبارَ المتقدّمة وأدلّةَ وجوب الرجوع الى الأئمة عليهم السلام ، تدلُّ على مدخليّة تبليغ الحجّة وبيانه

-----------------

فانهما يوجبان الجزم بالنتيجة .

وصورة القياس تكون هكذا : « الحكم الكذائي دل عليه العقل » « وكل ما دل عليه العقل ذكره الشرع » « فالحكم الكذائي حكم به الشرع » .

و ( ب- ) ذلك يظهر لنا ( ان ما استكشفناه بعقولنا صادر عن الحجة صلوات اللّه عليه ) ففي المثال الاول نقول : « الحكم بوجوب الصلاة في الغصب حكم عام البلوى » « وكل حكم عام البلوى صادر عن الحجة » « فوجوب الصلاة صادر عن الحجة » وفي المثال الثاني نقول : « الحكم بنجاسه الماء مستفاد من اذا الشرطية » « وما استفيد من اذا الشرطية صادر عن الحجة » « فالحكم بالنجاسة صادر عن الحجة » .

وعليه : ( فتكون الاطاعة بواسطة الحجة ) قد انكشف عن الدليل العقلي المستقل ، او عن مقدمة عقلية ( الاّ ان يدعى ) بصيغة المجهول ، او يدّعي الاخباري : ( ان الاخبار المتقدمة ) الدالة على وجوب اخذ الاحكام من الحجة ، وبدلالته .

( و ) كذا( ادلة وجوب الرجوع الى ) الرسول صلى الله عليه و آله وسلم والزهراء سلام اللّه عليها و ( الائمة عليهم السلام ) خاصة بالسماع عنهم ، فلا تشمل ما نستكشفه بواسطة العقل المستقل ، او بواسطة مقدمة عقلية .

وذلك لانها ( تدل على مدخلية تبليغ الحجة وبيانه ) اي بيان الحجة

ص: 180

في طريق الحكم ، وأنّ كلّ حكم لم يُعلم من طريق السماع عنهم عليهم السلام ولو بالواسطة ، فهو غير واجب الاطاعة .

وحينئذٍ : فلا يجدي مطابقةُ الحكم المدرك لما صدر عن الحجّة عليه السلام .

لكن قد عرفتَ عدمَ دلالة الأخبار ، ومع تسليم ظهورها ، فهو أيضا من باب تعارض النقل الظنّي

-----------------

( في طريق الحكم ) فلا يفيد ما في طريقه العقل ( وان كل حكم لم يعلم من طريق السماع عنهم عليهم السلام ولو بالواسطة ) كالسماع من الرواة الذين سمعوا منهم عليهم السلام - اذ لاشك انه داخل في تلك الروايات ، لعدم الاحتياج الى السماع من لفظ المعصوم - ( فهو غير واجب الاطاعة ) .

ووجه هذا الادعاء : ان مثل هذا الحكم الذي في طريقه العقل داخل في قولهم عليهم السلام : « إنّ دينَ اللّه ِ لا يُصابُ بالعُقُول » (1) .

( وحينئذٍ : فلا يجدي ) مجرّد (مطابقة الحكم المدرك) بواسطة العقل ( لما صدر عن الحجة عليه السلام ) واقعاً من جهة عموم الابتلاء ، اذا لم نسمعه بدون الواسطة ومع الواسطة عن المعصوم عليه السلام .

( لكن ) فيه اولاً : انك ( قد عرفت عدم دلالة الاخبار ) على لزوم السماع عن المعصوم عليه السلام بل هي في مقام رد العامة في استبدادهم بالعقول بدون الاحتياج اليهم عليهم السلام .

( و ) ثانياً : ( مع تسليم ظهورها ) اي ظهور تلك الاخبار في اعتبار السماع عنهم عليهم السلام فقط ( فهو ) اي هذا الظهور ( ايضاً من باب تعارض النقل الظني )

ص: 181


1- - كمال الدين : ص324 ح9 ، مستدرك الوسائل : ج17 ص262 ب6 ح21289 ، بحار الانوار : ج2 ص303 ب34 ح41 .

مع العقل القطعيّ ، ولذلك لا فائدةَ مهمّةً في هذه المسألة ، إذ بعد ما قطع العقلُ بحكم وقطع بعدم رضاء اللّه جلّ ذكره بمخالفته ، فلا يعقل تركُ العمل بذلك ما دام هذا القطعُ باقيا ،

-----------------

لان هذه الاخبار الآمرة بالرجوع اليهم فقط ، انّما تفيد الظن الخاص - مقابل الظن الانسدادي - ( مع العقل القطعي ) اذ العقل اذا قطع بان حكم الواقعة كذا ، وان اللّه يريد هذا الحكم ، لايتمكن الظن الناشيء من الخبر أن يقوم في قباله .

لايقال : كيف يقطع الانسان بشيء ويظن بخلافه ؟ .

لانه يقال : المراد هو الظن النوعي لا الظن الشخصي - كما قرر في محله - .

( ولذلك ) الذي ذكرناه : من انه من تعارض القطع والنقل ( لافائدة مهمة في هذه المسألة ) وهي : دلالة الاخبار في الانحصار على السماع منهم ، وانّما قال : لافائدة مهمة ، لانه قد يترتب عليها فائدة فيما لو لم يكن العقل قطعياً ، كما لو لم يقطع العقل بوجوب الصلاة في الدار المغصوبة - في المسألة السابقة - فانه يكون حينئذٍ من تعارض الظن العقلي مع الظن النقلي ، فليس كل مكان ظن من النقل ، وقطع من العقل .

وانّما لافائدة مهمة ( اذ بعد ما قطع العقل بحكم ) سواء بالكشف من العقل المستقل ، او بسبب مقدمة عقلية - كما سبق مثالهما - ( وقطع ) العقل ايضاً ( بعدم رضاء اللّه جل ذكره بمخالفته ) .

بمعنى : انه قطع بعدم الاحتياج الى السماع ( فلا يعقل ترك العمل بذلك ) الحكم ( ما دام هذا القطع باقياً ) .

ومعنى : « لايعقل » : ان العقل يقول له : اذا خالفت فانت تستوجب العقاب ، فهو كمن قال له المولى : اسمع كلام خادمي فلان ، وجاء العبد الى الدار فراى ولد

ص: 182

فكلّ ما دلّ على خلاف ذلك فمأوّل او مطروح .

نعم ، الانصافُ أنّ الركونَ إلى العقل فيما يتعلّق بادراك

-----------------

المولى قد سقط في البئر ، وعلم انه ان لم ينقذه هلك ، واذا هلك قطع بان المولى سيعاقبه عقوبة شديدة ، ولم يكن الخادم موجوداً حتى يستفسر منه وجوب انقاذ الولد ، او عدم وجوبه لكنه مع قطعه ذلك لم ينقذ الولد حتى هلك ، اليس العقلاء يرون استحقاقه للعقاب لمكان قطعه وان لم يأمره الخادم ؟ .

وعليه : ( فكل ما دل على خلاف ذلك ) كالاخبار الدالة على الانحصار في السماع ( فمأوّل ) بأن المراد منها : في قبال العامة لا في قبال العقل ( او مطروح ) اذا فرض انا لم نتمكن من تأويلها .

( نعم ) هذا الكلام منا ليس معناه ، الاعتماد في الفقه على العقليات ، والمناطات الفكرية ، حتى يستلزم انحراف الفقه عن منهج الفقهاء كما يزعمه بعض من يدعو الى تجديد الفقه منذ قرن من الزمان ، بل مرادنا : ان نسير بسيرة الفقهاء ، الذين كانوا على طريقة الائمة المعصومين عليهم السلام في ما امروا به من : ان « عليهم الاصول وعلينا الفروع » (1) .

أما اذا دلّ العقل القطعي المستقل ، او المقدّمي ، على شيء ، نقول به - وهذا نادر كما لايخفى - .

فان ( الانصاف ان الركون الى العقل ) بمقدماته الفلسفية المشهورة ، من ذكر التناقض والتضاد ، والدور ، والخلف ، والاقيسة المستظهرة ( فيما يتعلق بادراك

ص: 183


1- - فقد ورد عن الامام الصادق عليه السلام علينا ان نلقي اليكم الاصول وعليكم ان تفرّعوا ، وسائل الشيعة : ج27 ص61 ب6 ح33201 ، كما ورد عن الامام الرضا عليه السلام (علينا القاء الاصول وعليكم التفريع) ، وسائل الشيعة : ج27 ص62 ب6 ح33202 .

مناطات الأحكام لينتقل منها إلى إدراك نفس الأحكام موجبٌ للوقوع في الخطأ كثيرا في نفس الأمر ، وإن لم يحتمل ذلك عند المدرك ،

-----------------

مناطات الاحكام لينتقل منها ) اي من تلك المناطات المستخرجة ( الى ادراك نفس الاحكام ) المشابهة ( موجب للوقوع في الخطأ كثيراً في نفس الأمر ، وان لم يحتمل ذلك عند المدرك ) .

فان الانتقال من الفرد الى الكلي ، ومن الكلي المستنبط الى فرد آخر ، لأجل كون ذلك الكلي جامعاً بين هذين الفردين له صورتان :

الاولى : صورة الطبيعيات ، كأن ننتقل من تجربة الدواء الفلاني مرات عديدة الى ان العلاج الفلاني طبيعة لهذا الدواء ، والنتيجة : ان كل فرد من أفراد هذا النوع له نفس التأثير ، وكذلك في مثل الامور الفيزيائية وغيرها .

الثانية : صورة الشرعيات ، كأن ننتقل من كون العدّة في المرأة لأجل عدم اختلاط المياه ، الى ان العلة عدم الاختلاط ، وننتقل منه الى ان المرأة العقيمة التي لا تلد ، ومن بوشر معها بحائل ، حيث لم ينتقل المني ، او بدون المني ، او كانت مقلوعة الرحم ، او ما اشبه ، لا عدة لها ، الى غير ذلك من الامثلة الكثيرة ، التي يريد المتغربون ان يجعلوه منهجا فقهياً .

وهذا ضرره أقرب من نفعه ، لانه خلاف طريقة العلماء منذ الغيبة الى اليوم ، ويكون من : إتّباع غير سبيل المؤنين ، لأنه لو بنى الفقيه على سلوك هذا الامر ، لا يمضي زمان حتى يحصل له القطع بما لايرضى اللّه في موارد كثيرة ، ولا يكون حينئذٍ معذوراً ، كعدم معذورية الفلسفي الذي يبتني المقدمات العقلية الموصلة الى خلاف الادلة الشرعية ، للتقصير في المقدمات .

ص: 184

كما يدل عليه الأخبار الكثيرة الواردة ، بمضمون : « إنّ دينَ اللّه لايُصابَ بالعُقولِ » ، و « إنَّهُ لاشَيء أبعَدُ عن دينِ اللّه مِن عُقولِ النّاس » .

وأوضحُ من ذلك كلّه روايةُ أبان بن تَغلب عن الصادق عليه السلام : « قال : قلتُ له : رَجُلٌ قَطَعَ إصبعا مِن أصابع المرأة ، كم فيها مِنَ الديَّةِ ؟ . قال : عشرُ من الابل .

-----------------

( كما يدل عليه ) اي على عدم جواز مثل هذا الركون الى العقل ( الاخبار ) المتقدمة ( الكثيرة الواردة بمضمون : إنّ دينَ اللّه ِ لا يُصابُ ) اي لايدرك ( بِالعُقُول ) (1) كما في بعضها ( وأنّهُ لاشَيءَ أبعَدُ عَن دينِ اللّه ِ مِن عُقولِ النّاسِ) (2) و « أبعد » هنا ليس بمعنى التفضيل ، بل بمعنى « البعد » مثل ما في الآية الكريمة : « أولى لَكَ فَأوْلَى » (3) ومثل قول الفقهاء : « أحوط » و « أقوى » ولايراد : أن طرفه أيضا« احتياط » أو « فيه قوة » .

( وأوضح ) الاشياء في افادة عدم الاعتماد على العقل في الشرعيات ( من ذلك) الذي ذكرناه من الاحاديث المتقدمة ( كله ) والضمير عائد الى كل واحد واحد منها ( رواية ابان بن تغلب ) على وزن تضرب ( عن الصادق عليه السلام قال : قُلتُ لَهُ : رَجُلٌ قَطَعَ إصبِعاً مِن أصابِع المَرأة ، كَم فِيها مِنَ الديّةِ ؟ ) والدية فيما اذا كان الجاني قد ارتكب الجناية خطاءاً ، أو شبه عمد ، اما اذا كان عمداً فالمجني عليه مخيّر بين الدية والقصاص ( قالَ عليه السلام : عَشرٌ مِنَ الابل ) أو ما يساوية ، فان دية الانسان احد ستة أشياء - مذكورة في الفقه - ، ولكل اصبع عُشر الدية .

ص: 185


1- - مستدرك الوسائل : ج17 ص262 ب6 ح21289 ، بحار الانوار : ج2 ص303 ب34 ح41 ، كمال الدين : ص324 ح9 .
2- - تفسير العياشي : ج1 ص23 ح28 ، وسائل الشيعة : ج27 ص192 ب13 ح33572 .
3- - سورة القيامة : الآية 34 .

قال : قلتُ : قطع إصبعَين ؟ قال : عِشرون . قلتُ : قطع ثلاثا ، قال : ثلاثون . قلتُ : قطع أربعا . قال : عشرون . قلتُ : سبحان اللّه ! يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون ، كان يبلغنا هذا ونحنُ بالعراق ، فقلنا : إنّ الذي جاء به شيطانٌ . قال عليه السلام : مهلاً ، يا أبانُ ! هذا حكمُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم إنّ المرأةُ تُعاقِلُ الرّجلَ إلى ثُلث الدية ، فاذا بلغ الثلث رجع إلى النصف .

-----------------

( قال قُلتُ : قَطَعَ إصبِعَينِ ؟ قال عليه السلام : عِشرونَ ) من الابل ( قلت : قَطَعَ ثَلاثاً ؟ قال ) ديتها ( ثَلاثُون ) من الابل ( قُلتُ : قَطَعَ أربَعاً ؟ قال : عِشرونَ ) من الابل (قلتُ: سُبحانَ اللّه ِ ) وهذه الجملة تقال للتعجب ( يَقطَعُ ثَلاثاً فَيَكونُ عَلَيهِ ثَلاثُونَ ) من الابل ( وَيَقطَعُ أربَعاً فَيَكونُ عَلَيهِ عِشرونَ ؟ ) بينما مقتضى القياس : انه كلما زادت الجناية زادت الدية ، فيكف صارت الدية على الجناية الاكثر اقل ؟ .

ثم قال أبان للامام الصادق عليه السلام : ( كانَ يَبلغُنا هذا ) الحكم المخالف للقياس ( وَنَحنُ بالعِراقِ ) حيث كان حواره هذا مع الامام في المدينة ( فقُلنا : إنّ الّذي جاءَ بِهِ شَيطانٌ ) وليس هذا حكم اللّه تعالى .

ف( قال ) له الامام ( عليه السلام : مَهلاً يا أبان ) اي صبراً ، لاتستعجل في الفتوى ، فان (هذا ) اي وجوب العشرين في قطع الاربع ( حُكمُ رَسول اللّه ِ صلى الله عليه و آله وسلم ) .

ثم بيّن له الامام عليه السلام وجه هذا الحكم قائلاً : ( إنّ المَرأةَ تُعاقِل ) اي تساوي ، اي يكون عقلها كعقل ( الرَّجُلَ إلى ثُلُثِ الديّة ) ، والدية تسمى عقلاً ، من جهة انها توجب قيد الجاني ، والعقل بمعنى القيد ، ومنه العقل في قبال الجنون ( فاذا بَلَغَ الثُّلُثَ ) وارادت الدية المتجاوز قدرها على الثلث ( رَجَعَ إلى النّصفِ ) فدية الاصبع الواحدة عشرة ، والاثنتين عشرون ، والثلاثة ثلاثون ، فاذا كانت الزيادة

ص: 186

يا أبان ! إنّك أخذتني بالقياس ، والسُّنَّة إذا قيسَت مُحِقَ الدّين » .

-----------------

على الثلث اي الثلاثين ، رجعت الدية الى نصف دية الرجل ، وحيث ان دية الرجل في اربعة اصابع اربعون إبلاً ، كانت دية المرأة في اربعة اصابع عشرين ابلاً .

ثم قال الامام عليه السلام : ( يا أبانُ ، إنّكَ أخَذتَني ) واشكلت عليّ ( ب- ) سبب (القياسِ) حيث انه لم يوافق كلامي القياس ( و ) لكن اعلم ان ( السُنَّة ) التي جاء بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم ( إذا قِيسَت ) بعض افرادها ببعض ( مُحِقَ ) اي بطل (الدّينُ ) (1) فاللازم ترك القياس وهنا امران : الاول : لماذا دية المرأة نصف دية الرجل ؟ .

والجواب : ان الدية ليست هي قيمة الانسان رجلاً كان أو امرأة ، وانّما لوحظ فيها الامر الاقتصادي ، ومن المعلوم : ان المرأة اضعف من الرجل في تحصيل المال ، حتى في العالم الذي فسح للمرأة كل مجال فانها لم تتمكن ان تعادل الرجل في كسب المال ، ولهذا كان ارثها ايضاً في الغالب نصف ارث الرجل ، كما ان نفقتها بنتاً واختاً واُمّا وزوجة على الرجل في الغالب ، فالرجل وارده اكثر ، ونفقته اكثر ، فديته تكون اكثر ، ليسدّ الخلأ الاقتصادي .

الثاني : لماذا لم يكن من الاول لكل اصبع من اصابع المرأة خمسة من الابل ؟ .

والجواب : نفع المرأة وعدم ضرر الجاني لوحظا معاً الى حدّ الثلث ، فهذا هو الاستثناء ، لا ان ديتها على النصف استثناء ، وذلك جبراً لخاطرها بما لايتضرر الجاني ضرراً بليغاً ، فاذا تجاوز الامر الثلث رجع الى القاعدة ، وهي : النصف ، هذا بالاضافة الى ان كثرة المعرضية للجراحات الصغيرة اوجبت تشديد الشارع في ديتها الى حد الثلث ، بينما الجراحات الكبيرة ليست المعرضية لها بتلك الكثرة ،

ص: 187


1- - الكافي فروع : ج7 ص299 ح6 ، وسائل الشيعة : ج27 ص41 ب6 ح33160 و ج29 ص352 ب44 ح35762 .

وهي وإن كانت ظاهرةً في توبيح أبان على ردّ الرواية الظنيّة التي سمعها في العراق بمجرّد استقلال عقله

-----------------

ولذا جعلت ديتها على القاعدة .

ومثله هذا موجود حتى لدى عقلاء العالم ، فان عقلاء العالم قرروا : عدم متابعة المحكمة للنزاعات الطفيفة ، فاذا صارت كبيرة تابعتها المحكمة .

وكذا قرروا : ان الماء والكهرباء والتلفون وما اشبه الى حد معيّن لكل وحدة منه قيمة دينار - مثلاً - فان زادت عن القدر المقرر ، اصبحت القيمة لكل وحدة نصف دينار ، وذلك للجمع بين حق الدولة في الاقل ، وامكان الناس في الاكثر .

وعلى هذا ، فأمر الدية عقلي وهو ابعد من ان يناله قياس أبان ، ومعنى ان الدين يمحق بالقياس : انه يوجب اسراء الحكم من موضوع الى موضوع آخر لا يشابهه واقعاً ، وان زعم الناس انه يشابهه .

( و ) ان قيل : ان الرواية ليست توبيخاً على مراجعة العقل ، بل على ردّ الرواية المعتبرة السند .

فانه يقال : ( هي ) اي الرواية ( وان كانت ظاهرة في توبيخ ابان ) حيث قال له عليه السلام : « مهلاً » ( على ردّ الرواية الظنية ) ظناً حجة ، لانه كان خبراً واحداً معتبراً سندها ( التي سمعها ) ابان ( في العراق ) .

وانّما نقول : ان الرواية كانت معتبرة ، لانه ان لم تكن معتبرة ، كان اللازم ردّها بعدم حجية السند اي من باب عدم المقتضي ، لا ردها من جهة المانع ، وهو مخالفة حكمها للقياس والعقل ، فان مقتضى القاعدة ان يكون التعليل بعدم المقتضي - لا بوجود المانع - ، وانّما يعلل بالمانع ، اذا كا ن المقتضي موجوداً كما نحن فيه حيث ان ابان ردّ الرواية ( بمجرد استقلال عقله ) بواسطة القياس

ص: 188

بخلافه او على تعجّبه ممّا حكم به الامام عليه السلام ، من جهة مخالفته لمقتضى القياس ، إلاّ أنّ مرجعَ الكلّ إلى التوبيخ على مراجعة العقل في استنباط الأحكام ، فهو توبيخٌ على المقدّمات المفضية إلى مخالفة الواقع .

وقد أشرنا ، هنا وفي أوّل المسألة ، إلى عدم جواز الخوض في المطالب العقليّة لاستكشاف الأحكام الدينيّة والاستعانة بها في تحصيل مناط

-----------------

(

بخلافه ) اي بخلاف مضمون الرواية وهو تعليل بوجوب المانع .

( او ) في توبيخه ( على تعجبه ممّا حكم به الامام عليه السلام ) حيث قال أبان : « سبحان اللّه » وكان تعجبه ( من جهة مخالفته ) اي مخالفة حكم الامام عليه السلام ( لمقتضى القياس ) .

والحاصل : ان توبيخ الامام عليه السلام يرجع إما لردّ ابان الرواية، او لتعجبه من الحكم .

( الا ان مرجع الكل ) اي الامرين : من الردّ ، والتعجب ( الى التوبيخ على مراجعة العقل في استنباط الاحكام ) من العلل المناسبة في الذهن ، لا من العلل الواقعية ، اذ العلل الواقعية ليست في متناول الانسان ( فهو ) اي توبيخ الامام عليه السلام لأبان ( توبيخ على المقدمات ) العقلية القياسية ( المفضية ) والمؤية ( الى مخالفة الواقع ) فتكون هذه الرواية شاهداً لما ذكرناه بقولنا : نعم الانصاف الخ .

( وقد اشرنا هنا ) عند قولنا : « نعم ، الانصاف » ( وفي أوّل المسألة ) عند قولنا : « ان ارادوا عدم جواز الخوض .. فلا وجه » ( الى عدم جواز الخوض في المطالب العقلية ) المبنية على المقدمات الحدسية غالباً ( لاستكشاف الأحكام الدينية ) منها ( و ) عدم جواز ( الاستعانة بها ) اي بتلك المطالب العقلية ( في تحصيل مناط

ص: 189

الحكم والانتقال منه إليه على طريق اللّم ،

-----------------

الحكم ) وعلته ( والانتقال منه ) اي من المناط ( اليه ) اي الى الحكم - كما تقدّم مثاله - .

وذلك ( على طريق اللم ) وهو مشتق من « لِمَ » اي لماذا ومعناه الانتقال من العلة الى المعلول ، كما انه لا يجوز العكس ايضاً ، اي ان ننتقل من المعلول الى العلة فيرتب الاثر عليها .

مثلاً : النار علة الاحراق ، والاحراق علة الرماد ، فالانسان اذا رأى النار ، انتقل الى وجود الاحراق - بدليل « اللّم » واذا رآى الرماد ، انتقل الى وجود النار بدليل «ألإنّ » وكلاهما لايصح في الشريعة ، لأنا لانعلم العلل الحقيقية ، كما لانعلم المعلولات الحقيقية لكل حكم شرعي .

مثل : « التقوى » علة للصيام ، كما قال سبحانه : « كُتِبَ عَلَيْكُم الصّيامُ كَما كُتِبَ عَلى الَّذينَ مِن قَبْلِكُمُ لَعَلَّكُم تَتَّقون » (1) .

و « الصيام » علة لصحة البدن ، كما ورد في الحديث : « صُوموا تَصحّوا » (2) .

فلا يحق لنا ان نقول : « ان زيداً المتقي يصوم » انتقالاً من « التقوى » العلة ، الى « الصوم » المعلول ، فهو اذاً صحيح البدن ، ومن جهة قد نذر ابو زيد أن يتصدق اذا كان ابنه زيد صحيح البدن ، فننتقل من العلة الى المعلول : « صحة بدن زيد » فيترتب عليه حكم التصدق ووجوب الوفاء بالنذر .

وهكذا في عكسه : اي الانتقال من المعلول الى العلة نقول : ان عمراً صحيح البدن - كما نشاهدة - فهو اذاً يصوم ، فهو اذاً متقي ، والمتقي تقبل شهادته ، فتقبل

ص: 190


1- - سورة البقرة : الآية 183 .
2- - دعائم الاسلام : ج1 ص342 ، غوالي اللئالي : ج1 ص268 ، دعوات الراوندي : ص76 .

لأنّ أُنسَ الذهن بها يوجبُ عدمَ حصول الوثوق بما يصل إليه من الأحكام التوقيفيّة ، فقد يصير منشأً لطرح الأمارات النقليّة الظنيّة ،

-----------------

شهادة عمرو ، « انتقالاً » من المعلول وهو صحة البدن ، الى العلة وهو التقوى ، وهذا الانتقال يترتب عليه قبول الشهادة .

وهناك شيء ثالث غير « اللّم » و « ألإن » وهو الانتقال من الملازم الى الملازم سواء في الايجاب ، مثل : الانتقال من الحرارة الى الضوء ، و كلاهما متلازمان للنهار ، حيث الشمس طالعة ، او في السلب ، مثل : انه اذا كان النهار فليس بليل ، واذا كان ليل فليس بنهار ، لانهما ضدان لا ثالث لهما - .

هذا في التكوينيات ، ونأتي بمثل ذلك في التشريعيات ، فنقول مثلاً : ورد في الحديث : « الحَياءُ والايمان مُقتَرِنانِ » (1) .

فاذا رأينا في انسان حياءاً ، نقول : انه مؤن ، ونرتب عليه احكام الايمان ، فاذا مات دفناه في مقبرة المسلمين ، والحال انا لانعلم بانه مسلم او كافر ، لانه كان - مثلاً - يعيش في برّية ليست من ارض الاسلام ، الى غير ذلك من الامثلة الكثيرة التي توجب الاطالة فيها الخروج عن مقصد الشرح ، واللّه المستعان .

وانّما لايجوز الخوض ( لان انس الذهن بها ) اي بالمطالب العقلية ( يوجب عدم حصول الوثوق بما يصل اليه ) من طريق المعصومين عليهم السلام ( من الاحكام التوقيفية ) التعبدية ، سواء في العبادات ، او المعاملات او سائر الاحكام الشرعية .

( فقد يصير ) انس الذهن المنتهي الى عدم الوثوق ( منشأً لطرح الامارات النقلية ) و ( الظنية ) التي اعتبرها الشارع ، كخبر الواحد ، وحجية الظهور ، ولزوم قبول قول الشاهد ، او غير ذلك ، مع ان الشرع متوقف على أخبار الاحاد ، وحجية

ص: 191


1- - الكافي أصول : ج2 ص106 ح4 ، مجموعة ورام : ج2 ص188 ، مشكاة الانوار : ص233 .

لعدم حصول الظّن له منها بالحكم .

-----------------

الظهور ، وحجية الشاهد - على الشرائط المقررة في الفقه - .

وانّما يطرح الخائض في المطالب العقلية والامارات ، ( لعدم حصول الظن له ) اي لمن انس ذهنه بالامور العقلية ( منها ) اي من الامارات ( بالحكم ) الشرعي الواصل اليه ، واذا لم يظن لايأخذ بالحكم .

والحاصل : ان الاعتماد مطلقاً على العقليات افراط ، وعدم الاعتماد اطلاقاً تفريط ، والاوسط هو طريقة فقهائنا العظام قدس سرهم من الشيخ الى الشيخ ، ومن السيّد الى السيّد ، اي من شيخ الطائفة الى الشيخ المرتضى ، ومن السيّد المرتضى الى السيّد صاحب العروة .

ولا يخفى : انه قد ابتلي بهذا الخوض المتجددون الذين انس ذهنهم بالقوانين الغربية ، ففي باب الطهارة يرون : ان كل معتصم مطهر ، وفي باب الصلاة : انه لذكر اللّه واستدلوا لذلك بقول سبحانه : « أقِم الصّلاةَ لِذِكرِي » (1) .

فقالوا ، اذا ذكر الانسان اللّه سبحانه كفى عن الصلاة ، وفي باب الصوم انه للتقوى ، فاذا كان متقياً فلا حاجة اليه ، وفي باب الحج انه كما قال اللّه تعالى :

« لِيَشهَدوا مَنافِعَ لَهُم » (2) .

فاذا كان بناء مؤسة خيرية انفع كفى عن الحج ، وفي باب الخمس والزكاة انهما من جهة ادارة الامور ، فاذا امكنت الادارة بواسطة سائر الضرائب صح جعلها عوضهما ، واستدلوا له بقوله سبحانه : « كَي لايَكونَ دولَةً بَينَ الأغنياءِ مِنكُم » (3) .

وفي باب الزواج بالاربع ، انه كان من جهة كثرة النساء في اوّل الاسلام ، فحيث

ص: 192


1- - سورة طه : الآية 14 .
2- - سورة الحج : الآية 28 .
3- - سورة الحشر : الآية 7 .

وأوجبُ من ذلك تركُ الخوض في المطالب العقليّة النظريّة لادراك ما يتعلق باصول الدين ، فانّه تعريضٌ للهلاك الدائم والعذاب الخالد .

-----------------

لايكون اليوم ذلك فلا حق لأحد الا في زوجة واحدة .

وفي باب كثرة النسل انها حيث تنافي الموارد الاقتصادية الحالية ، فاللازم تحديدها ، الى غيرها ، وغيرها مما ذكروه في كل الفقه .

ومن نظر الى كتاب « الوسيط » للسنهوري من مصر ، وكتاب « القانون » للامامي في ايران رأى الآلاف من هذه الاحكام التي نشأت من التأثر بالقوانين الغربية (1) .

( و ) على اي حال ، فانه ( اوجب من ذلك ) اي من ترك الخوض في العقليات لاستنباط الاحكام الشرعية ( ترك الخوض في المطالب العقلية النظرية ) المرتبطة بالعقائد ( لادراك ما يتعلق باصول الدّين ) ووجه الاوجبية : ان الانحراف في فروع الدّين ، يوجب العصيان وبعض العقاب ، اما الانحراف في اصول الدّين ، فانه يوجب الكفر ودوام العقاب والعياذ باللّه العاصم .

( فانه ) اي الخوض في العقليات في اصول الدّين ( تعريض ) للنفس ( للهلاك الدائم والعذاب الخالد ) اذا انحرف الى ما يخالف الحق فيها ، ولذا كان بعض الفقهاء يشترطون على من كان يريد درس الفلسفة ، ان يقويّ اولاً وقبل كل شيء مباني اصول دينه ويحكّم اساس فكره وعقائده بالكتب الكلامية المستقيمة ، وبمطالعة الآيات والروايات الواردة في اصول الدّين ، ثم يتعلم عند من يعرف بالاستقامة التامة ، والذي يذكر الآيات والروايات في درسه ، ويرد بها الامور

ص: 193


1- - وقد المع الشارح الى بعض تلك الامور في طيات بعض كتبه ككتاب العائلة والفقه الاسرة ولماذا تأخر المسلمون ؟ والأزمات وحلولها وسقوط بعد سقوط .

وقد اشير الى ذلك عند النهي عن الخوض في مسألة القضاء والقدر ،

-----------------

المنحرفة لدى الوصول اليها في التدريس .

( وقد اشير الى ذلك ) اي الى ان الخائض معرض للعذاب الدائم ( عند النهي عن الخوض ) في التفكر ( في مسألة القضاء والقدر ) .

أقول : في غالب الروايات تقديم القدر على القضاء ، نعم في بعض الروايات تقديم القضاء على القدر .

والقدر : عبارة عن تقدير الاشياء .

والقضاء : عبارة عن ايجادها - في التكوينيات - قال سبحانه : « فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَمَاواتٍ ... » (1) .

وللامر بها في التشريعيات ، قال سبحانه : - « وَقَضى رَبُّكَ ألاّ تَعبُدوا إلاّ إيّاهُ وَبِالوَالِدَينِ إحْسانا » (2) .

ولعل الاصل في « قضى » : الاجراء ، فبناء البيت : اجراء ، والامر بكذا : اجراء ، بل وحتى الاعلام بشيء في المستقبل : اجراء ، قال سبحانه : « وَقَضَينا إلى بَنِي إسرائِيلَ في الكِتابِ لَتُفسِدُنّ في الأرضِ مَرّتَينِ ...» (3) .

والمثال السهل ، للقدر والقضاء في الامور العادية هو : انه اذا قدّر المالك حدود الدار ، التي يريد بنائها وسائر خصوصياتها ، من الغرف وغيرها ، يسمّى « تقديراً » ثم اذا أمر ببنائها ، او شرع المهندس في بنائها، سمّي كل واحد من الامرين « قضاءاً » .

واللّه سبحانه « قدّر الكون » ثم « اوجده في الخارج » ، هذا في الامور التكوينية .

ص: 194


1- - سورة فصّلت : الآية 12 .
2- - سورة الاسراء : الآية 23 .
3- - سورة الاسراء : الآية 4 .

وعند نهي بعض أصحابهم عليهم السلام ، عن المجادلة في المسائل الكلاميّة .

لكنّ الظاهرَ من بعض تلك الأخبار أنّ الوجهَ في النهي عن الأخير عدمُ الاطمينان بمهارة الشخص المنهيّ في المجادلة فيصيرَ مُفحَما

-----------------

و « قدّر خصوصيات الصلاة والصوم والحج وغيرها » ثم امر بها ، وهذا في الامور التشريعية .

ثم انه انّما نهى عن الخوض في مسائل القضاء والقدر ، لان الخائض اذا لم يكن من العلماء العارفين ، امكن ان ينتهي الامر به الى الجبر ، او التجسم له سبحانه ، او انه ظالم والعياذ باللّه ، الى غير ذلك .

( وعند نهي بعض اصحابهم عليهم السلام عن ) البحث و ( المجادلة في المسائل الكلامية ) قيل : وانّما سمّي علم الكلام بعلم الكلام ، لان اوّل مسألة تكلموا فيها ، هي مسألة كيفية كلام اللّه سبحانه وخصوصياته ، حيث قال تعالى : « وَكَلّمَ اللّه ُ موسى تَكلِيماً » (1) .

( لكن الظاهر من بعض تلك الاخبار ) الناهية عن التكلم والمجادلة في المسائل الاصولية ( ان الوجه في النهي عن الاخير ) اي النهي عن البحث في المسائل الكلامية لبعض الاصحاب ، لم يكن من جهة انه خوض في العقليات الاصولية ، بل من جهة ( عدم الاطمينان ) العرفي ( بمهارة الشخص المنهي في المجادلة ) فمن يكون ماهرا لابأس بتكلمه وجداله مع الاعداء ، اما من لم يكن ماهرا فلا حق له في التكلم .

فالنهي ليس عن الكلام بما هو مطلب عقلي وامر فلسفي ، وانّما من جهة الشخص المنهي ( ف- ) اذا تكلم من لا مهارة في فن الكلام ( يصير مفحما )

ص: 195


1- - سورة النساء : الآية 164 .

عند المخالفين ويوجبَ ذلك وهنَ المطالب الحقّة في نظر أهل الخلاف .

-----------------

اي مجابا ومغلوبا ( عند المخالفين ) الذين يجادلونه ( ويوجب ذلك ) اي افحام المخالف للموالي ( وهن المطالب الحقة في نظر اهل الخلاف ) والاستهزاء باللّه ورسوله والائمة عليهم السلام ، كما هو الشأن فيمن ليس بماهر ، ويجادل الملحدين والمنحرفين .

ولهذا امر الامام عليه السلام هشام بن الحكم بالمناقشة والمناظرة قائلاً له : « مثلك فليكلم الناس » (1) .

وقال الصادق عليه السلام ليونس - عندما ورد عليه رجل من الشام يريد البحث والجدل - : « يايونس لو كنت تحسن الكلام كلمته » ، فقلت : جعلت فداك اني سمعتك عن الكلام تقول : ويل لاصحاب الكلام يقولون : هذا ينقاد وهذا لاينقاد ، وهذا ينساق وهذا لاينساق ، هذا نعقله وهذا لانعقله ، فقال ابو عبد اللّه عليه السلام : انّما قلت : « وَيلٌ لَهُم إن تَرَكوا ما أقول ، وَذَهَبوا إلى مايُرِيدون » (2) .

وفي رواية اخرى : حيث نهى الامام عليه السلام بعض الاصحاب عن التكلم ، فقال للامام : إذن لماذا مؤمن الطاق يتكلم ؟ قال له الامام عليه السلام : انه يطير وينقض (3) ، كناية عن معرفته بالنقض والرّد ، بينما لم يكن المنهي يعرف مثل ذلك ، والروايات كثيرة مذكورة في بابه ، من البحار وغيره ، واللّه المستعان .

ثم لايخفى ان المطالب المربوطة بالمبدء والمعاد وخلق الكون والرسالة والامامة على قسمين : -

ص: 196


1- - انظر الكافي اصول : ج1 ص173 ب1 ح4 .
2- - الكافي أصول : ج1 ص171 ح4 .
3- - وسائل الشيعة : ج27 ص71 ب7 ح33230 بالمعنى .

...

-----------------

الاول : ما هو خارج عن ادراك العقل ، وذلك لان العقل محدود حسب كونه ممكنا ، واللّه سبحانه وتعالى وصفاته غير محدود ، ولا يعقل احاطة المحدود بما هو غير محدود ، كما لايعقل عكسه ، اي انطباق غير المحدود على المحدود - فكلا الامرين يستلزم التناقض - .

الثاني : ماهو ليس بخارج عن ادراك العقل .

اما التكلم في الاول : فانه لايزيد الانسان علما ، ولا وصولاً الى الحقيقة والواقع ، وعليه ، فالأولى عدم التكلم فيه ، لانه على اقل تقدير ضياع للعمر .

واما التكلم في الثاني : فهو انّما يصح اذا كان مما له الى النتيجة سبيل والا كان كمدير صيدلية بغير علم مسبق ، فهل يتمكن ان يميّز بين مختلف الادوية ومنافعها ومضارها ؟.

والروايات الواردة في المقام ناظرة الى الامور الثلاثة كل في موضعه .

وهناك تقسيم آخر بالنسبة الى الاشخاص : فبعض الاذهان تتمكن ان تستوعب المطالب الممكنة ذاتا ، وبعضها لاتتمكن ، لاختلاف العقول ، قال عليه السلام :

« إنّ هذه القُلوبُ أوعِيَةٌ » (1) .

فاللازم على الانسان ان يعرف قدر امكانه حتى لايدخل فيما ليس بامكانه ، كاختلاف الاجسام في قدرة الحمل للاشياء الثقيلة ، حيث يلزم على الحامل للاثقال ان يعرف مقدار قدرته الجسمية ، فلا يحمل ما لاطاقة له به ، وكثيرا ما اذا حمل اوجب عطبه وهلاكه.

ص: 197


1- - نهج البلاغة : خطبة 147 ، روضة الواعظين : ص10 ، تحف العقول : ص169 ، كمال الدين : ص289 ، الارشاد : ج1 ص227 ، الامالي للمفيد : ص247 ، غرر الحكم : ص67 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج18 ص346 .

التنبيه الثالث : قطع القطاع

قد اشتهر في ألسنة المعاصرين أنّ قطع القطاع لا اعتبار به ولعلّ الأصلَ في ذلك ما صرّح به كاشفُ الغطاء قدس سره ، بعد الحكم بأنّ كثيرَ الشكّ لا اعتبارَ بشكّه .

-----------------

قطع القطاع

( الثالث ) من تنبيهات بحث القطع وهوانه : ( قد اشتهر في ألسنة المعاصرين ) كصاحب الجواهر وغيره ( ان قطع القطاع ) الذي يكثر قطعه من غير الاسباب العادية المفيد للقطع ، بان تمرض ذهنه في قبال من لايقطع من اسباب القطع ، لتمرض ذهنه ايضا ، والوسط بينهما هو الذي يحصل له القطع من الاسباب المتعارفة كسائر الناس المتعارفين في قطعهم وظنهم وشكهم .

ومنه يعلم انه لا يراد بالقطاع هنا : من كثر قطعه لكثرة علمه ، كالمهندس الذي يكثر قطعه بصغريات الهندسة ، مما ليس كذلك جاهل الهندسة .

وعليه : فالقطاع اعتباطا ( لا اعتبار به ) بمعنى ان قطعه ليس بحجة .

( ولعل الاصل في ذلك ) اي المنشأ في هذا الاشتهار ( ماصرح به ) الشيخ جعفر الكبير الملقب ب- : ( كاشف الغطاء قدس سره ) وانّما لقب بذلك ، لانه كتب كتابا سماه : « كشف الغطاء » ومراده : كشف غطاء الفقه ( بعد الحكم ) اي بعد حكمه في ذلك الكتاب ( بان كثير الشك لا اعتبار بشكه ) فانه يبني على الصحيح من طرفي الشك ، واذا كان كلا الطرفين صحيحا بنى على أيهما اراد .

اما اذا كان كلا الطرفين باطلاً ، كما اذا شك في ان ركعات صلاته التي صلاها

ص: 198

قال « وكذا من خرج عن العادة في قطعه او ظنّه فيلغو اعتبارُهما في حقّه » انتهى .

أقولُ : أمّا عدمُ اعتبار ظنّ من خرج عن العادة في ظنّه ،

-----------------

ستا او سبعا ، كانت الصلاة باطلة من جهة ان معنى هذا الشك : علمه التفصيلي بالبطلان ، وذلك اما من جهة ان الصلاة كانت ست ركعات ، او من جهة انها كانت سبع ركعات .

( قال : وكذا من خرج عن العادة في قطعه او ظنه ) مما يكون الظن فيه حجة ، باعتباره طريق العقلاء ، كالظن بالظهور ، ومطابقة الخبر الواحد الجامع للشرائط للواقع والظن بصحة اعمال الناس واقوالهم ، الى غير ذلك فاذا كثر قطعه او ظنه على غير المتعارف ، كأن يقطع او يظن بسبب الرؤا ، او بالتطيّر ، او بالتفؤل ، او باخبار الصبيان ، والرمّالين ، والمنوّمين ، وما اشبه ذلك ( فيلغوا اعتبارهما ) اي القطع والظن ( في حقه ) (1) أي في حق كل من القطاع والظنّان ( انتهى ) كلام كاشف الغطاء قدس سره .

( اقول : اما ) عدم اعتبار شك كثير الشك ، فلان المتبادر من أدلة الشك : هو الشاك المتعارف ، فالشكّاك خارج عن ادلة احكام الشك ، مضافاً الى وجود النص في عدم اعتبار شك كثير الشك ، كما ان في عكسه : اي قليل الشك ، بأن يظن دائماً فانه يكون كمعتارف الشك ، محكوم بحكم الشاك ، لا بحكم الظان - كما سيأتي - .

واما ( عدم إعتبار ظن من خرج عن العادة في ظنه ) فان الظن حجة في بعض

ص: 199


1- - كشف الغطاء : ص61 .

الاماكن، - لا في أي مكان - مثل: الظن بالقبلة، والظن بعدد الركعات، والظن الحاصل فلأنّ أدلّةَ اعتبار الظنّ في مقام يعتبر فيه مختصّةٌ بالظنّ الحاصل من الأسباب التي يتعارفُ حصولُ الظنّ منها لمتعارف الناس

-----------------

من قول الاعراب بالميقات ، الى غير ذلك ( فلان ادلة اعتبار ) حجية ( الظن في ) كل ( مقام يعتبر فيه ) الظن ( مختصة ) بالمتعارف بحكم الانصراف اذ المنصرف من كلماتهم هو المتعارف في كل مقام .

وكذا قالوا : ان الوجه اذا كان كبيراً خارجاً عن المتعارف ، لايحتاج غسل اكثر مما بين الابهام والوسطى في غسل الوجه .

كما انه اذا كان بين الابهام والوسطى اكبر من المتعارف ، حتى يصل الى قريب الاذن ، او اصغر حتى لايستوعب كل الوجه المتعارف ، لم يلزم في الاكبر الغسل ، ويلزم في الاصغر غسل اكثر مما بينهما .

الى غير ذلك ، مثل : الاشبار في الكر ، والاذرع في الفرسخ .

لا يقال : فلماذا يقولون بكفاية غسل كل البدن في الغسل اذا كان البدن صغيراً ، ويلزمون ايضاً غسل كل البدن اذا كان كبيراً خارج المتعارف ؟ .

لانه يقال في الوجه : لاشيء هناك يدل على غسله خارجاً عن المتعارف بينما في الثاني : يدل على غسل الجميع قولهم عليهم السلام : « تَحتَ كُلّ شَعرَةٍ جَنابَة » (1) .

فالاعتبار مختص ( بالظن الحاصل من الاسباب التي يتعارف حصول الظن منها لمتعارف الناس ) فقد يكون المخبر - مثلاً - غير متعارف ، ككثير النسيان ، وقد يكون متلقّي الخبر غير متعارف ، كسريع الظن ، الذي يظن حتى من طيران

ص: 200


1- - فقه الرضا : ص81 ، مستدرك الوسائل : ج1 ص29 ص479 ح1213 ، بحار الانوار : ج81 ص51 ب3 ح23 ، سنن الترمذي : ج1 ص178 ح106 .

لو وجدت تلك الأسبابُ عندهم على النحو الذي وجد عند هذا الشخص ، فالحاصلُ من غيرها يساوي الشكّ في الحكم .

وأمّا قطعُ من خرج قطعُهُ عن العادة :

-----------------

الغراب ، وقد يكون الخبر غير متعارف ، كاخبار شخص متعارف بانه راى جناً او ملكاً ، فان حصول الظن في الثلاثة غير متعارف .

ف( لو وجدت تلك الاسباب ) الموجبة للظن المتعارف ، كالخبر من الشخص المتعارف ، ( عندهم ) اي عند الناس ( على النحو الذي وجد عند هذا الشخص ) الظنّان ، بأن حصل له الظن باخبار الصبي الذي لايحصل من خبره الظن عند المتعارف ، لم يكن لظنه اعتبار ، لان المتعارف لايحصل لهم الظن بخبر مثل هذا الصبي .

وعليه : ( ف- ) الظن ( الحاصل من غيرها ) اي غير الاسباب المتعارفة ( يساوي الشك في الحكم ) فأي حكم يكون للشك ، يكون لهذا الظن ايضاً ، فالظن الحاصل له - مثلاً - من قول الصبي لا يبني عليه ، بل يعامله معاملة الشك ، وكذا اذا ظن بانه صلّى ثلاثاً ، لم يبن على الثلاث ، وانّما يعتبر انه شاك بين الثلاث والاربع ، فيبني على احكام الشك من البناء على الاربع ، ثم الاتيان بصلاة الاحتياط ، إلاّ أن هناك دليل خاص على اعتبار الظن ههنا .

ان قلت : اذا كان الناس مختلفين في المتعارف ، فالاشبار المتعارفة - مثلاً - مختلفة طولاً وقصراً - مع قطع النظر عن الاشبار الطويلة ، او القصيرة غير المتعارفة - فالكر يعتبر بأيّ الاشبار المتعارفة ؟ .

قلت : كل الاشبار المتعارفة حتى اقصرها لها اعتبار ، لان اقصرها شبر متعارف - حسب الفرض - ( واما قطع من خرج قطعه عن العادة ) فلا يمكن ان يقال له :

ص: 201

فان اريد بعدم اعتباره عدمُ اعتباره في الأحكام التي يكون القطعُ موضوعا لها ، كقبول شهادته وفتواه ونحو ذلك ، فهو حقٌ لأنّ أدلّة اعتبار العلم في هذه المقامات لا تشملُ هذا قطعا ، لكن ظاهر كلام من ذكره

-----------------

ان قطعك ليس بحجة ، اذ هو يرى الواقع - بزعمه - فكيف يمكن ان يقال لمن يرى الواقع : انه ليس بواقع ، ولذا فكلام كاشف الغطاء قدس سره محل تأمّل ، والشيخ المصنّف قدس سره انّما يردد الاحتمالات في كلامه تأدباً واستجلاءاً للحقيقة ، وللتعليم ، حتى يتأدب الطالب عند رؤة كلام الاعاظم ، غير الخالي عن الاشكال ، فلا يرده بسرعة .

وعلى اي حال : ( فان اريد بعدم اعتباره ، عدم اعتباره في الاحكام التي يكون القطع موضوعاً لها ) اي لتلك الاحكام ، سواءا اتمام الموضوع ، او جزء الموضوع بان يقول المولى - مثلاً - : اذا قطعت بالحكم ، فلك ان تحكم - ايها القاضي - فانه لم يؤذ القطع هنا طريقياً بل موضوعياً على نحو تمام الموضوع ، او جزء الموضوع ، وجزئه الآخر : الواقع مثلاً .

وهذا ( كقبول شهادته وفتواه ) لغيره ، بأن يقول المولى : قلّد ايها العامي من حصل له القطع عن الطريق المتعارف لا عن طريق الرمل والجفر والمنام وما اشبه.

وكذلك اذا قال : إقبل أيها القاضي شهادة من حصل له القطع بالطريق المتعارف ( ونحو ذلك فهو ) اي كلام من اعتبر القطع المتعارف ( حق ) وصحيح ( لأن ادلة اعتبار العلم في هذه المقامات ) التي جعل العلم موضوعاً فيها ( لاتشمل هذا ) القطع الحاصل من اسباب غير عادية ( قطعاً ) لان المتبادر من القطع الموضوعي : القطع الحاصل للمتعارف من الاسباب المتعارفة .

( لكن ظاهركلام من ذكره ) اي كلام كاشف الغطاء قدس سره الذي ذكر عدم الاعتبار

ص: 202

في سياق كثير الشّكّ إرادةُ غير هذا القسم .

وإن اريد به عدمُ اعتباره في مقامات يعتبر القطعُ فيها ، من حيث الكاشفيّة والطريقيّة إلى الواقع : فان اريد بذلك أنّه حين قطعه كالشاكّ ، فلا شكّ في أنّ أحكام الشاكّ وغير العالم لا تجري في حقّه .

وكيف يحكمُ على القاطع بالتكليف بالرجوع إلى ما دلّ على عدم الوجوب

-----------------

بقطع القطاع ( في سياق ) عدم الاعتبار بشك ( كثير الشك ارادة غير هذا القسم ) اي غير ما كان القطع موضوعاً ، فانه قدس سره بعد ان قال : « بعدم اعتبار شك كثير الشك في الركعتين الاخيرتين » أردفه بقوله « وكذا قطع القطاع » وظاهره القطع الطريقي في الركعتين الاخيرتين .

( و ) الحاصل : ( ان اريد به ) اي بعدم اعتبار قطع القطاع ( عدم اعتباره في مقامات يعتبر القطع فيها ) اي في تلك المقامات ( من حيث الكاشفية والطريقية الى الواقع فان اريد بذلك ) كون القطع طريقاً محضاً ، لا موضوعاً في حكم نفسه ، او حكم غيره ، ففي كلامه في القطع الطريقي للقطاع ثلاث احتمالات :

أحدها : ( انه ) اي القطاع ( حين قطعه كالشاك ) فاللازم عليه : ان يعمل عمل الشاك ، لا عمل القاطع ( فلا شك في ان ) هذا الكلام محل نظر ، ( احكام الشاك وغير العالم ) وجملة : « غير العالم » تشمل الظن غير المعتبر ، والوهم ( لايجري في حقه ) اي في حق القطاع ، لان القطاع حين قطعه لايحتمل غيره ، فحكم الشارع بعدم حجية قطعه ، تناقض في كلام الشارع بنظره - كما سبق تقريره - .

( وكيف يحكم ) الشارع ( على القاطع بالتكليف ) وان كان قطعه غير متعارف ( بالرجوع الى ما دل على عدم الوجوب ) كالرجوع الى استصحاب العدم ،

ص: 203

عند عدم العلم ، والقاطع بانّه مَن صلّى ثلاثا بالبناء على أنّه صلّى أربعا ، ونحو ذلك .

وإن اريد بذلك وجوبُ ردعه عن قطعه وتنزيله إلى الشكّ

-----------------

او البرائة ( عند عدم العلم ) فاذا قال الشارع - مثلاً - : اذا شككت في حياة زيد ، فاستصحب حياته ، فتجب النفقة لزوجته ، او قال : اذا شككت في حرمة التتن ، فأجر البرائة ، ثم قطع هذا الرجل القيّم على زوجة زيد ، ان زيداً توفي ، او قطع في حرمة التتن عليه ، فهل يمكن ان يقال له زيد حي ؟ او ان التتن حلال ؟ .

فقول المصنّف : « عدم الوجوب » من باب المثال ( و ) هكذا في بقية الامثلة ، فانه كيف يحكم الحكيم على ( القاطع بأنه من صلّى ثلاثاً ، بالبناء على انه صلّى اربعاً ) أو صلّى اثنتين ؟ ( ونحو ذلك ) .

مثل ان يقال - في التكوينيات - للقاطع بأن الان نهاراً ، انه ليل ، وقد مثل المصنّف بمثالين : احدهما للحكم ، والآخر للموضوع ، وكذلك حال الاحكام الوضعية ، كأن يقال لمن يقطع بان الشيء الفلاني جزء او شرط ؛ انه ليس بجزء ، ولا بشرط ، او بالعكس .

نعم ، يمكن ان يغير الشارع حكمه بمناسبةٍ خارجية ، كما اذا حلف طرف الدعوى بان العين الفلانية له ، والحال ان مالك العين يعلم انها له ، فان الشارع - بجهة احترام الحلف - أسقط جواز اخذ المالك حقه ، مع أنّه يعلم انه حقه - كما قال بذلك جمع من الفقهاء في كتاب القضاء لدليل خاص .

( و ) ثانيها : ( ان اريد بذلك ) اي بعدم اعتبار قطعه ( وجوب ردعه ) و زجره ( عن قطعه ) من باب النهي عن المنكر بالتشكيك في مقدمات قطعه ، حتى يزول قطعه ( و ) يتم بذلك ( تنزيله ) من قطعه ( الى الشك ) او الظن غير المعتبر

ص: 204

او تنبيهه على مرضه ليرتدع بنفسه ولو بأن يقال له : « إنّ اللّه سبحانه لايريد منك الواقع » ، لو فرض عدمُ تفطّنه لقطعه بأنّ اللّه يريد الواقع منه ومن كل أحد ،

-----------------

( أو تنبيهه على مرضه ) النفسي الموجب لكثرة قطعه غير المتعارف ، ليعالج نفسه ، وترجع الى الصحة والى المتعارف .

وذلك ( ليرتدع ) بسبب احد الامرين عن قطعه ( بنفسه ) فلا يعمل حسب قطعه المخالف للواقع ( ولو بان يقال له ) اذا لم ينفع الطريقان المذكوران : ( ان اللّه سبحانه لايريد منك الواقع ) .

وقد نقل : ان الشيخ المصنّف قدس سره جائه رجل مبتلى بالوسواس ، كان يكبّر الصلاة الى ان تطلع الشمس ، وكلما كبّر قطع بانه لم يصح تكبيره ، وهكذا كانت حاله في سائر الصلوات ، فقال له الشيخ : لماذا انت كذلك ؟ قال : اني كلما كبّرت للصلاة أتاني الشيطان وقال لي : لم يصح تكبيرك ، قال الشيخ هل أنت تقلدني ؟ قال : نعم ، قال : فكبر لكل صلاة مرة ، وبعد التكبير قل : « الشيخ المرتضى قال لي صح تكبيرك » ثم اشرع في قرائة الحمد ، وسمع الرجل كلام الشيخ حتى ذهبت عنه تلك الحالة ، ولما قيل للشيخ : ابطلت صلواته مدة بما قلت له ؟ قال : كان الامر دائراً بين الأهم والمهم فأفتيته بالاهم ، تخلصاً من المهم .

لكن انّمايمكن ان يقال للقطاع : ان اللّه لايريد منك الواقع ( لو فرض عدم تفطّنه ) والتفاته ( لقطعه ) الذي يقتضي ( بان اللّه يريد الواقع منه ، ومن كل احد )

اذ المفروض ان القطاع يقطع بامرين :

الاول : ان هذا حكم اللّه .

الثاني : ان اللّه يريده منه .

ص: 205

فهو حقٌّ ، لكنه يدخلُ في باب الارشاد ، ولا يختصّ بالقطّاع ، بل بكلّ من قطع بما يقطع بخطأه فيه من الأحكام الشرعيّة والموضوعات الخارجيّة المتعلّقة

-----------------

فالقطاع ان كان غافلاً من ان اللّه يريد منه ذلك المقطوع به ، أمكن ان يقال له : ان اللّه لايريد منك الواقع .

لايقال : اذا قلنا للقطاع : ان اللّه لايريد منه الواقع كان كذباً لان اللّه تعالى يريد الواقع من كل احد ، حتى من القطاع .

فانه يقال : إما ان نقول له ذلك على وجه التورية ، بان نقصد الواقع في زعم القطاع ، لا الواقع مطلقاً وإما ان نقول له ، ذلك على وجه الاهم والمهم - كما تقدّم في كلام الشيخ المصنّف قدس سره - .

( فهو ) اي وجوب الردع ( حق ، لكنه ) ليس من باب انه قطاع ، فلا اختصاص لمثل هذا الردع بالقطاع ، بل ( يدخل في باب الارشاد ) اي ارشاد الجاهل ، فكل انسان نتمكن من ارشاده بسبب هذا القول ، وجب ان نقول له ذلك - اما من جهة التورية ، او من جهة الأهم والمهم ، كما عرفت - ( ولا يختص ) هذا الكلام : « ان اللّه لايريد منك الواقع » ( بالقطاع ، بل بكل من قطع بما يقطع بخطأه فيه ) .

وكلمة : « قطع » على صيغة المعلوم و « يُقطع » على صيغة المجهول ، والمراد بالاول الجاهل ، وبالثاني من يرشده ، والضمير في « فيه » راجع الى « ما » وجملة ( من الاحكام الشرعية ) بيان « ما » .

مثلاً : قطع بان الرضعة الواحدة تنشر الحرمة ، فانا نقول له : ان اللّه لايريد منك ترتيب الحرمة .

( والموضوعات الخارجية ) عطف على « الاحكام » ( المتعلقة ) تلك الاحكام

ص: 206

بحفظ النفوس والأعراض ، بل الأموال في الجملة .

-----------------

والموضوعات ( بحفط النفوس والاعراض ، بل الأموال في الجملة ) .

« في الجملة » ظرف للأخير ، اي الاموال ، اذ النفس والعرض واجب حفظهما مطلقاً ، اما المال فلا يجب حفظه ، الا اذا كان مالاً كثيراً ، فاذا اراد صبي او مجنون او حيوان قتل انسان محترم ، او الزنا بعرض محترم ، وجب علينا الردع ، اما اذا اراد حرق ورقة قيمتها فلساً واحدً ، فانه لايجب علينا الحفظ ، نعم اذا كان المال كثيراً ، مثل حرق دار ، او محل ، او ما اشبه ، وجب الحفظ .

والحاصل : لو أن انساناً قطع بحكم خلاف الحكم الواقعي ، او قطع بان الموضوع الفلاني موضوع لحكم كذا ، ونعلم اشتباهه وجب ردعه ، اذا كان الحكم او الموضوع في النفوس ، والاعراض ، او في الاموال الكثيرة ، فكما يلزم ردع القطاع ، يلزم ردع هذا الشخص المتعارف الذي حصل له القطع الخطأ في مورد خاص .

هذا كله لو بني على ان الردع للقاطع ، او القطاع من باب ارشاد الجاهل .

لايقال : انه قاطع ، والقاطع غير الجاهل .

لانه يقال : هذا جاهل مركب ، اي جاهل بالواقع وجاهل بجهله ، فهو داخل في باب ارشاد الجاهل .

وهناك عنوان آخر واجب ارشاده ايضاً ، وهو تنبيه الغافل ، وذلك فيما اذا لم يكن جاهلاً ، وانّما غفل عن الامر ، وهذا يدخل فيه الساهي والناسي والغالط والنائم والسكران ونحوهم ، كما اذا انقلب النائم على طفل ان لم نزحزحه عن الطفل قتله ، فان الواجب زحزحته لحفظ الطفل .

ص: 207

وأمّا في ما عدا ذلك ممّا يتعلّقُ بحقوق اللّه سبحانه ، فلا دليلَ على وجوب الردع في القطّاع ، كما لا دليل عليه في غيره ، ولو بني على وجوب ذلك في حقوق اللّه سبحانه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما هو ظاهرُ بعض النصوص والفتاوى ، لم يفرّق أيضا بين القطّاع وغيره .

-----------------

( وأمّا فيما عدا ذلك ، ممّا يتعلق بحقوق اللّه سبحانه ، فلا دليل على وجوب الردع في القطاع ، كما لادليل عليه في غيره ، ولو بني على وجوب ذلك ) الردع ( في حقوق اللّه سبحانه ) فانه ( من باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ) لا من باب الارشاد .

والفرق بينهما : ان الارشاد للجاهل ، والامر والنهي لمن يعرف الحكم ويخالفه مطلقاً ، سواء كان في امور الناس ، مثل : من يريد قتل انسان ، او في امور اللّه سبحانه ، مثل : من يشرب الخمر ، أو يترك الصلاة ( كما هو ظاهر بعض النصوص والفتاوى ) من الوجوب حتى في حق اللّه سبحانه فانه ( لم يفرق ايضاً ) في وجوب الردع ( بين القطاع وغيره ) فيجب ردع القطاع ، كما يجب ردع القاطع اذا اراد مخالفة حكم اللّه بسبب قطعه .

والحاصل : ان القطاع والقاطع ، لايختلفان في وجوب ردعهما في الأموال والأنفس والأعراض ، كما لايختلفان في وجوب ردعهما في ترك أوامر اللّه من باب الامر بالمعروف ، لكن هذا الثاني يتوقف على مسألة خارجية ، وهي : هل ان الامر بالمعروف خاص بالعالم التارك للمعروف ، أو أعم من الجاهل الشامل للجاهل جهلاً مركباً ، كما في القطاع والقاطع ؟ .

الظاهر ان إطلاق وجوب الامر بالمعروف المستفاد من النصوص والفتاوى يشمل حتى الجاهل .

ص: 208

وإن اريد بذلك أنّه بعد انكشاف الواقع لايُجزي ما أتى به على طبق قطعه ، فهو أيضا حقّ في الجملة ، لأنّ المكلّف إن كان تكليفهُ حين العمل مجرّد الواقع من دون مدخليّة للاعتقاد ، فالمأتيُّ به المخالفُ للواقع لايُجزي عن الواقع ، سواء القطّاع وغيره .

-----------------

( و ) ثالث الاحتمالات في كلام كاشف الغطاء قدس سره بان القطاع قطعه ليس بحجة ، هو ما اشار اليه المصنّف قدس سره بقوله : و ( ان اريد بذلك ) اي بعدم اعتبار قطع القطاع ( انه ) الضمير للشأن ( بعد انكشاف الواقع ) وتبيّن ان عمله كان اشتباهاً ( لايجزي ما أتى به على طبق قطعه ) في الامور التكليفية ، ويلزم تداركه في الامور الوضعية ، كما اذا قطع بان المرأة الفلانية ليست اخته من الرضاعة فتزوجها ، فانه يلزم عليه بعد العلم تركها ، او قطع بان ما يرميه في حال الاحرام حجراً ، ثم تبيّن كونه حيواناً ، فان عليه الكفارة ( فهو أيضاً حق ) .

لكن كونه حقاً انّما هو ( في الجملة ) وفسر قوله في الجملة بقوله : ( لان المكلّف ) قطاعاً او قاطعاً وغيرهما ( ان كان تكليفه حين العمل مجرد الواقع ) بما هو واقع ( من دون مدخلية للاعتقاد ) بان لم يؤذ القطع او الظن في الموضوع ، تماماً او جزءاً ، كما اذا قال الشارع : صلّ متطهراً ، حيث انه سواء اعتقد كونه متطهراً ام لا ، وصلّى ولم يكن في الواقع متطهراً بطلت صلاته ، لان الشرط واقعي - على ما يستفاد من النصوص - ( فالمأتي به المخالف للواقع ) كالصلاة بلا طهارة ( لا يجزي عن الواقع سواء ) في ( القطاع وغيره ) .

نعم ، استشكلنا نحن في الفقه في مورد ، وهو : انه اذا لم يظهر له خلاف قطعه حتى مات ، فانه لاتجب على ورثته قضاء صلاته ، حيث ان القطاع ليس مكلفاً بالواقع حال قطعه ، فان تكليفه عبث عقلاً ولا دليل على تكليف وليّه بعده ،

ص: 209

وإن كان للاعتقاد مدخلٌ فيه ، كما في امر الشارع بالصلاة إلى ما يعتقد كونها قبلةً ، فانّ قضيّةَ هذا كفايةُ القطع المتعارف ، لا قطع القطّاع ، فيجبُ عليه الاعادةُ وإن لم تجب على غيره .

-----------------

وكذلك حال الصوم والحج وما اشبه .

اما الخمس : فالواجب على الولي اخراجه ، وان لم يعلم الشخص بوجوب الخمس عليه حتى مات ، لان الحكم وضعي ، فالخمس في المال على ظاهر قوله سبحانه : « فَأنّ لِلّه خُمُسَهُ » (1) .

وكيف كان ، فان لم تُجز صلاته بلا طهور عن تكليفه ، فتجب عليه الاعادة في الوقت ، والقضاء خارجه .

( وان كان للاعتقاد مدخل فيه ) اي في التكليف ، بان اخذ فيه القطع ، او الظن ، بل او الوهم ، كما في الامور المبنية على الخوف ، ومعلوم ان الخوف يشمل الاحتمال ايضاً ( كما في امر الشارع بالصلاة الى ما ) اي الى جهة ( يعتقد كونها قبلة ) فبعد كشف الخلاف ، يلزم على القطاع ان يعيد صلاته ، دون الانسان المتعارف في قطعه .

( فان قضية ) اي مقتضى ( هذا ) اي اخذ الاعتقاد في الموضوع ( كفاية القطع المتعارف ) بالخلاف ، لان المتعارف هو المنصرف من القطع ، المأخوذ في الموضوع كلاً او جزءاً ( لا قطع القطاع ) فانه لا اعتبار بقطعه ( فيجب عليه ) اي على القطاع ( الاعادة وان لم يجب على غيره ) اي غير القطاع ممن قطعه متعارف .

والحاصل : ان في موارد القطع الطريقي تجب الاعادة على القطاع وغيره ، وفي موارد القطع الموضوعي سواء كان كل الموضوع او جزئه ، تجب الاعادة

ص: 210


1- - سورة الانفال : الآية 41 .

ثم إنّ بعضَ المعاصرين وجّه الحكمَ بعدم اعتبار قطع القطّاع - بعد تقييده بما إذا علم القطّاع او احتمل أن يكون حجيّةُ قطعه مشروطةً بعدم كونه قطّاعا - بأنّه يشترط في حجيّة القطع عدم منع الشارع عنه

-----------------

على القطاع لا غير القطاع .

ومثل مسألة القبلة : مسألة القطع بطهارة ثوبه او بدنه فصلّى ، ثم ظهر الاشتباه حيث ان الشرط ذكري فتجب الاعادة على القطاع دون غيره .

( ثم ان بعض المعاصرين ) وهو صاحب الفصول قدس سره ( وجه الحكم ) الذي ذكره كاشف الغطاء قدس سره ( بعدم اعتبار قطع القطاع ) بانه ليس على اطلاقه ، بل مراده قطع القطاع اذا نهى المولى عن ذلك .

والظاهر : ان مراد الفصول : جعل القطع موضوعياً ، فاشكال المصنّف قدس سره غير وارد عليه حيث انه تصوّر ان مراد الفصول هو القطع الطريقي - وهو غير قابل للتفصيل - .

وعلى اي حال : فانه ( بعد تقييده ) اي تقييد عدم الاعتبار ( بما اذا علم القطاع ، او احتمل ان يكون حجية قطعه مشروطة بعدم كونه قطاعاً بانه يشترط في حجيّة القطع عدم منع الشارع عنه ) فان احوال القطاع على اربعة :

الاول : ان يعلم القطاع : بان حجية القطع مقيدة بان لايكون قطاعاً .

الثاني : ان يحتمل التقييد بذلك ، سواء كان الاحتمال على نحو الظن او الوهم او الشك .

الثالث : ان يكون غافلاً عن التقييد واللا تقييد ، غير ملتفت الى هذه الجهة .

الرابع : ان يكون عالماً بعدم التقييد ، وقد اشار المصنّف قدس سره الى الحالة الرابعة

ص: 211

وإن كان العقلُ أيضا قد يقطعُ بعدم المنع ، إلاّ أنّه إذا احتمل المنع يحكم بحجيّة القطع ظاهرا ما لم يثبت المنعُ .

وأنت خبيرٌ بأنّه يكفي في فساد ذلك عدمُ تصوّر القطع بشيء وعدمُ ترتيب آثار ذلك الشيء عليه مع فرض كون الآثار آثارا له .

-----------------

بقوله : ( وان كان العقل ايضا قد يقطع بعدم المنع ) اي ان قطع العقل بعدم المنع قد يصادف عدم المنع من الشارع ايضاً ، وقد لايصادفه ، بان يمنع الشارع عنه ( الاّ انه اذا احتمل ) العقل ( المنع ) عن العمل بقطعه ( يحكم بحجية القطع ظاهراً ما لم يثبت المنع ) وهو ماتقدّم من الحالة الثانية .

والحاصل : انه عند احتمال القطاع المنع عن قطعه ، يصح توجه المنع الى قطعه ، فان علم بالمنع ثبت واقعاً ، وان احتمل المنع لايتمكن من العمل بالمنع ، بل اللازم عليه : ان يحكم بحجية قطعه ظاهراً الى ان يثبت المنع .

( و ) حيث ان المصنّف قدس سره استظهر من كلام الفصول القطع الطريقي اشكل عليه بقوله : و ( انت خبير ) وهذه الجملة تقال فيما اذا كان الامر واضحاً لايحتاج الى الاستدلال ( بانه يكفي في فساد ذلك ) التوجيه من الفصول لكلام كاشف الغطاء قدس سره ( عدم تصور القطع بشيء ، وعدم ترتيب آثار ذلك الشيء عليه ) .

والمراد بعدم التصور بالنسبة الى المتدين ، فان من يقطع بان هذا خمر ، ويعلم بان الشارع حرّمها ، لايتمكن ان يبني على انه ليس بحرام ، والاّ لزم التناقض كما سبق تفصيل الكلام فيه .

( مع فرض كون الاثار ) كالحرمة والنجاسة - في الخمر- ( اثاراً له ) اي لذلك الشيء المقطوع به ، بأن كان القطع طريقياً ، لا قطعاً موضوعياً ، حيث ان الاثار آثار القطع ، لا الخمر ، او آثار القطع والخمر ، معاً - فيما اذا كان الخمر جزء الموضوع

ص: 212

والعجبُ ، أنّ المعاصرَ مثّل لذلك بما إذا قال المولى لعبده : « لا تَعتَمِد في معرفة أوامري على ما تقطعُ به من قِبَل عقلك او يؤدّي اليه حدسُك ، بل اقتصر على ما يصل إليك منّي بطريق المشافهة والمراسلة » .

وفسادُهُ يظهرُ ممّا سبق من أوّل المسألة إلى هنا .

-----------------

لا كل الموضوع .

( والعجب ان المعاصر ) المذكور وهو صاحب الفصول قدس سره ( مثل لذلك ) اي لمنع الشارع عن العمل ببعض اقسام القطع ( بما اذا قال المولى لعبده : لا تعتمد في معرفة اوامري على ما تقطع به من قبل عقلك ، او يؤّي اليه حدسك ) واجتهادك ( بل اقتصر ) في إطاعة الاوامر ( على ما يصل اليك مني بطريق المشافهة والمراسلة ) فقط .

( و ) انّما تعجب المصنّف قدس سره من هذا المثال ، لانه في القطع الطريقي غير صحيح ، والمولى الحكيم لايمكن ان يقول ذلك ، فان ( فساده ) اي فساد هذا المثال ( يظهر مما سبق من اوّل المسألة ) مسألة القطع ( الى هنا ) بما لايحتاج الى تكرار .

لكن ظاهر كلام الفصول هو ما ذكرناه ، ويؤده مثاله المذكور - في القطع الموضوعي - .

* * *

ص: 213

التنبيه الرابع : العلم الاجمالي

-----------------

العلم الاجمالي

( الرابع ) من تنبيهات القطع : في العلم الاجمالي وهو عبارة عن : علم : تفصيلي وجهل تفصيلي ، يضم احدهما الى الآخر ، فيسمّى في الاصطلاح بالعلم الاجمالي ، كما اذا علم ان احد هذين الانائين نجس ، فانه يعلم تفصيلاً بوجود النجاسة في البين ، ويجهل تفصيلاً بأنه هذا ، او ذاك ، وانضمامهما معاً يسمّى بالعلم الاجمالي ، كما يصح ان يسمّى بالجهل الاجمالي .

والعلم الاجمالي على اربعة اقسام :

ان يكون في المكلف بالكسر ، او المكلف بالفتح ، او التكليف ، او متعلق بالتكليف .

ففي المكلف : - بالكسر - مثلاً : عبدان احدهما لزيد والآخر لعمرو ، وأحد السيدين امر بأمر ، لكن العبدين لايعلمان اي السيدين امر ؟ هل سيد هذا العبد وهو زيد ، ام سيد العبد الآخر ، وهو عمرو ؟ .

وفي المكلف - بالفتح - : سيد له عبدان ، مبارك ، وكافور ، وقد امر احدهما بشيء ، لكنهما لايعلمان هل امر مباركاً ام كافوراً ؟ .

وفي التكليف : بأن لايعلم العبد هل الشيء الفلاني واجب او حرام ؟ كما بالنسبة الى صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، حيث قال بعض الفقهاء بوجوبها ، وبعض الفقهاء بحرمتها .

وفي متعلق التكليف بأن : لايعلم الشخص هل انه نذر ان يزور الامام

ص: 214

إنّ المعلوم إجمالاً هل هو كالمعلوم بالتفصيل في الاعتبار ام لا ؟ .

-----------------

الحسين عليه السلام في كربلاء المقدسة ، أو الامام امير المؤنين علياً عليه السلام في النجف الاشرف في ساعة مخصوصة من يوم مخصوص - مثل يوم النيروز وقت الظهر- ؟.

قال المصنّف : هل ( ان المعلوم اجمالاً ) كما اذا تردد بين وجوب الظهر او الجمعة ، او تردد بين حرمة هذه المرأة او تلك المرأة - لان احديهما اخته من الرضاعة - او تردد بين وجوب شرب التتن ، او حرمة شرب الشاي - لانه نذر اما الفعل او الترك ، ثم نسي ان نذره تعلق بهذا او بذاك - و ( هل هو كالمعلوم بالتفصيل في الاعتبار ) ؟ فاللازم عليه في الامثلة المتقدمة ، الجمع بين الظهر والجمعة ، وترك التزويج بكلتا المرأتين ، ولزوم التدخين ، وترك الشاي ، حتى يكون آتياً بالتكليف الواقعي ( ام لا ) ليس كالمعلوم التفصيل .

ثم لايخفى ان الفقهاء اختلفوا في العلم الاجمالي الى اربعة أقوال :

الاول : ان العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي في التنجيز ، سواء بين محتملي الحرام او محتملي - الوجوب ، او الحرام والوجوب ، كما تقدّم امثلتها ، وهذا مختار بعض المحققين .

الثاني : ان العلم الاجمالي حاله حال الجهل ، لانه لايعلم هل هذا حرام ، او ذاك ؟ او هذا واجب او ذاك ؟ او هذا واجب او ذاك حرام ؟ فالأدلة الدالة على عدم وجوب التكليف مع الجهل شاملة للمقام ، بل يجري في اطراف العلم الاجمالي ، اصل البرائة ، واستصحاب الطهارة والحل واصالتهما ، الى غير ذلك من ادلة البرائة ، ونحوها ، وقد نسب هذا القول الى العلامة المجلسي والمحققان : الخوانساري والقمي قدس سرهم .

الثالث : ان العلم الاجمالي علة لحرمة المخالفة لحكم العقل المستقل بالتنجيز ،

ص: 215

والكلامُ فيه يقع تارةً في اعتباره من حيث إثبات التكليف به وأنّ الحكم المعلوم بالاجمال كالمعلوم بالتفصيل في التنجّز على المكلّف ام هو كالمجهول رأسا .

واُخرى أنّه بعد ما ثبت التكليفُ بالعلم التفصيليّ او الاجماليّ المعتبر ،

-----------------

ومقتضٍ للموافقة القطعية ، وليس بعلة تامة لها ، لامكان جعل احد الطرفين بدلاً عن الواقع ، وهذا مختار المصنّف قدس سره وغير واحد من المحققين .

الرابع : انه يقتضي حرمة المخالفة ووجوب الموافقة - فلا علّية في احد الجانبين - ومن الممكن ان يأذن الشارع في احدهما او كليهما ، لانحفاظ مرتبة الحكم الظاهري مع الجهل .

قال المصنّف : ( والكلام فيه ) اي في المعلوم بالاجمال ( يقع تارة : في اعتباره من حيث اثبات التكليف به ) عقلاً وشرعاً ( وان الحكم المعلوم بالاجمال كالمعلوم بالتفصيل في التنجز على المكلف ) من غير فرق بين الحكم التكليفي ، او الوضعي ، وبين الموضوع المردد ، كون ذا حكم او ذاك .

نعم ، هذا فيما اذا لم يكن محذور ، كما ان الحكم المعلوم تفصيلاً انّما يتنجز اذا لم يكن محذور .

( ام هو كالمجهول رأساً ) فلا تكليف اطلاقاً كما تقدّم في قول العلامة المجلسي والمحققان القمي والخوانساري قدس سرهم .

( و ) تارة ( اخرى ) : يكون الكلام في ( انه بعد ما ثبت التكليف بالعلم التفصيلي ) كالعلم - مثلاً - بوجوب الوضوء ، لكن اشتبه الماء في انائين احدهما مطلق والآخر مضاف ، ( او الاجمالي ) كما اذا تردد الوجوب - مثلاً - بين الظهر والجمعة ( المعتبر ) اذ ربما يكون علماً اجمالياً غير معتبر ، كالمردد في غير

ص: 216

فهل يكتفي في امتثاله بالموافقة الاجماليّة ولو مع تيسّر العلم التفصيليّ ام لايكتفي به إلاّ مع تعذّر العلم التفصيليّ .

فلا يجوز إكرامُ شخصين أحدهما زيد مع التمكّن من معرفة زيد بالتفصيل ، ولا فعلُ الصلاتين في ثوبين مشتبهين مع إمكان الصلاة

-----------------

المحصور ، اذ لايلزم الاطاعة حينذاك ، او كما اذا اضطر الى الاحمر من الانائين ، ثم علم بنجاسة احدهما ، فانه لايلزم الاجتناب كما سياتي .

( فهل يكتفي في امتثاله ) اي امتثال ذلك التكليف المردد ( بالموافقة الاجمالية ) بان يأتي بكلا الطرفين حتى يعلم انه امتثل الواقع ( ولو ) وصلية ( مع تيسر العلم التفصيلي ) ؟ كما اذا علم - مثلاً - بنجاسة احد الثوبين ، وتمكَّن ايضاً من ان يستعلم ان أيهما نجس ، فهل يصح ان يصلي صلاتين في كل ثوب صلاة ؟.

( ام لايكتفي به ) اي بالاطاعة الاجمالية ( الاّ مع تعذر العلم التفصيلي ) بأن لم يتمكن من تشخيص النجس من الثوبين في المثال المتقدم .

وعليه : ( فلا يجوز اكرام شخصين احدهما زيد ) فيما لو قال المولى : اكرم زيداً ، وقد اشتبه عند زيد بين هذا وذاك ، ف( مع التمكن من معرفة زيد بالتفصيل ) بالرجوع الى اهل الخبرة ونحو ذلك ، لايكفي اكرام احدهما في اطاعة المولى .

والحاصل : اذا قلنا بكفاية العلم الاجمالي في الاثبات : هل يكفي الامتثال الاجمالي في الاسقاط ، سواء في التوصليات كاكرام زيد ، او في التعبديات كالصلاة في الطاهر .

فعلى القول بالمنع ( و ) لزوم الامتثال التفصيلي ( لا ) يكفي في الامتثال ( فعل الصلاتين في ثوبين مشتبهين ) احدهما نجس ( مع امكان الصلاة ) الواحدة

ص: 217

في ثوب طاهر .

والكلام من الجهة الاُولى يقع من جهتين ، لأنّ اعتبار العلم الاجماليّ له مرتبتان ، الاُولى حرمةُ المخالفة القطعيّة ، والثانيةُ وجوبُ الموافقة القطعيّة ، والمتكفلُ للتكلّم في المرتبة الثانية هي مسألة البراءة والاشتغال عند الشكّ في المكلّف به ، فالمقصود في المقام الأوّل

-----------------

( في ثوب طاهر ) سواء كان في ثوب ثالث يعلم بطهارته ، او حصل العلم بالطاهر منهما ، او طهّر احدهما .

( والكلام من الجهة الاولى ) وهي جهة اثبات التكليف بالعلم الاجمالي ( يقع من جهتين ) وذلك ( لان اعتبار العلم الاجمالي ) من حيث اثبات التكليف ( له مرتبتان ) : مرتبة دانية ومرتبة عالية .

ف( الاولى ) الدانية : ( حرمة المخالفة القطعية ) فقط ، فاذا علم بان احد الانائين نجس ، لايجوز له شرب كليهما ، وإنّما يكفي في الاطاعة ترك احدهما وان شرب الآخر .

( والثانية ) العالية : ( وجوب الموافقة القطعية ) فاللازم ترك شربهما ، فاذا شرب أحدهما وصادف الواقع كان معاقباً ، كذلك الحال في الشبهة المرددة وجوباً بين صلاتين : الظهر والجمعة ، وهكذا المرددة بين الوجوب في هذا أو الحرمة في ذاك.

( والمتكفل للتكلّم في المرتبة الثانية ) العالية ( هي مسألة البرائة والاشتغال عند ) ما نتكلم في ( الشك في المكلف به ) لان الشك قد يكون في اصل التكليف ، وهو مورد البرائة ، وقد نعلم بأصل التكليف ، وانّما نشك في المكلّف به ، بانه هل هو هذا او ذاك ؟ .

( فالمقصود ) هنا ( في المقام الاول ) من ثبوت التكليف بالعلم الاجمالي

ص: 218

التكلّم في المرتبة الأُولى .

المقام الثاني

ولنقدّم الكلام في : المقام الثاني : وهو كفاية العلم الاجماليّ في الامتثال .

فنقول : مقتضى القاعدة

-----------------

( التكلم في المرتبة الاولى ) وهي حرمة المخالفة القطعية .

والحاصل : انه هناك مقامين :

الاول : حجية العلم الاجمالي لثبوت التكليف .

الثاني : كفاية الامتثال الاجمالي لسقوط التكليف .

والمقام الاول فيه مرتبتان .

الاولى : في حرمة المخالفة .

الثانية : في وجوب الموافقة .

المقام الثاني

( ولنقدم الكلام في المقام الثاني ) لاختصاره ( وهو : كفاية العلم الاجمالي ) بالاحتياط في اطراف العلم ، بدون الاحتياج الى تحصيل العلم التفصيلي ، كما تقدّم مثاله في الثوبين النجس احدهما (في الامتثال ) سواء في التعبديات ، او التوصليات .

( فنقول : مقتضى القاعدة ) العقلائية ، التي هي الاصل في باب الامتثال ، اذ المتعارف : ان يأمر المولى عبده ، ثم يكل طريق الامتثال الى العرف ، فانه لو أراد غير الطريقة المألوفة لزم عليه بيانها .

مثلاً : العقلاء يكتفون في باب الشاهد بالثقة ، لكن الشارع لما لم يكتف بها

ص: 219

جوازُ الاقتصار في الامتثال بالعلم الاجماليّ باتيان المكلّف به .

أمّا فيما لايحتاجُ سقوط التكليف فيه إلى قصد الاطاعة ففي غاية الوضوح ،

-----------------

واشترط العدالة ذكر ذلك كما قال سبحانه :

« شَهادَةُ بَينكُم إذا حَضَرَ أحدكُم الموتُ حينَ الوصيّةَ إثنانِ ذوا عدلٍ منكم » (1) .

وعليه : فالقاعدة تقتضي ( جواز الاقتصار في ) مقام ( الامتثال ، بالعلم الاجمالي باتيان المكلف به ) في الجملة ، وانّما قلنا في الجملة ، لانه فيما اذا لم يلزم منه محذور فانه لو كان في مكتبة المولى عشرة آلاف كتاب ، واراد من عبده ان يأتي اليه بشرح اللمعة ، وكان العبد لايعرف انه ايّها ؟ فانه ليس من طريق العقلاء أن يأتي بكل المكتبة ، فاذا فعل ذلك ذمه العقلاء .

وكذلك اذا امر المولى عبده ان يذبح شاة من شياهه ، لها عمر ستة اشهر ، ولم يعرف العبد الشاة المتصفة بهذه الصفة من بين الشياة العشرة الموجودة في المراح ؟ فانه اذا ذبح الجميع ذمه العقلاء ، والى غير ذلك من الامثلة .

والحاصل : ان العقلاء يحكمون في غير موارد المحذور بحصول الامتثال والطاعة بالاحتياط ، سواء في الواجبات ، او المحرمات ، او المردد بين وجوب هذا وحرمة ذاك .

( اما فيما لايحتاج سقوط التكليف فيه الى قصد الاطاعة ) والقربة ( ففي غاية الوضوح ) مثل : تطهير الثوب ، حيث انه من الامور التوصلية ، فاذا شك في ان أيّ المائين مطلق ، وايهما مضاف ؟ وغسل النجس بهما ، حصلت الطهارة قطعاً .

ولا فرق في الامر بين الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية ، فمثال الثوب

ص: 220


1- - سورة المائدة : الآية 106 .

وأمّا فيما يحتاجُ إلى قصد الاطاعة ،

-----------------

الذي ذكرناه من الشبهة الموضوعية ، علماً بان ميزان الشبهة الموضوعية هو : ما يحتاج لمعرفته الى استطراق باب العرف ، فاذا أردنا ان نعرف أيّ المائين مطلق ، وايهما مضاف ؟ يلزم ان نسأل العرف ، اما الشبهة الحكمية - وميزانها مراجعة الشرع واستطراق بابه لمعرفتها - فمثل ان لانعلم هل الشارع حكم بنجاسة بول الحمار ، او بول الهرة ؟ وقد بال الحمار على ثوب ، والهرة على ثوب آخر ، فانا اذا غسلناهما كان امتثالاً اجمالياً ، فانه جائز وان امكن مراجعة الفقيه ، حتى نعلم الحكم تفصيلاً .

( واما فيما يحتاج ) سقوط التكليف فيه ( الى قصد الاطاعة ) والقربة ، وهو المسمّى في الاصطلاح : بالتعبدي ، من « عبّد » .

هذا وان كان التوصلي ايضاً تعبدياً بالمعنى اللغوي ، الا ان التوصلي انّما هو امر عقلي للوصول الى هدف يعرفه العقل ، فانه حتى لو لم يكن شرع الزم به العقل في الجملة ، كجميع ابواب المعاملات ، وابواب الطهارة والنجاسة ، والمعاشرات : كحقوق الجيران ، والاولاد ، والاباء ، والاقرباء ، والاصدقاء ، والفرقاء ، وغيرها ، من الحقوق ، مما ذكروه في الاداب ، وقد جمعنا جملة منها في كتاب : « الاداب والسنن » (1) .

بينما لو لم يكن الشرع ، لم يكن التعبديات امثال الصلاة ، والصوم ، والحج ، والاعتكاف ، والوضوء ، والغسل ، والتيمم ، وما اشبه ذلك .

نعم ، لاشك في ان العقل كان يدرك الخضوع للمنعم في الجملة لكن لا على

ص: 221


1- - انظر موسوعة الفقه : ج94 - 97 للشارح .

فالظاهرُ أيضا تحققُ الاطاعة إذا قصد الاتيان بشيئين يقطع بكون أحدهما المأمور به .

ودعوى : « أنّ العلمَ بكون المأتيّ به مقرّبا معتبرٌ حين الاتيان به

-----------------

التفصيل ، وقد ذكرنا بعض البحث في ذلك في كتاب « عبادات الاسلام » (1) .

وعليه : ( فالظاهر ) في التعبديات ( أيضاً ) جواز الاحتياط حتى مع التمكن من العلم التفصيلي ل( تحقق الاطاعة ) والامتثال بالجمع بين المحتملين ، كصلاتي الظهر والجمعة فيمن شك ايهما الواجب ، وكالصلاة الى اربعة جوانب فيمن لم يعلم جهة القبلة ، مع امكان الاول من مراجعة المجتهد ، ليعرف هل الجمعة واجبة او الظهر ؟ ومراجعة الثاني الى البوصلة او اهل الخبرة ، ليخبروه بجهة القبلة ، ف( اذا قصد الاتيان بشيئين ) مثلاً ، أو ثلاثة اشياء ، او اكثر ، وهو ( يقطع بكون احدهما ) أو احدها ( المأمور به ) الذي يريده المولى على نحو الطاعة والقربة فانه يتحقق به الطاعة .

( و ) في قبال رأينا هذا بجواز الامتثال الاجمالي حتى في التعبديات ، وحتى فيما اذا تمكن المكلف من تحصيل العلم التفصيلي بالتكليف ، رأي من لايرى الجواز مطلقاً ورأي من لايرى الجواز في صورة تمكنه من العلم التفصيلي ، وانّما اجاز الامتثال الاجمالي فيما لايتمكن من تحصيل العلم بالتكليف ، او بخصوص الموضوع الذي تعلق به التكليف .

وذلك ل( دعوى : ان العلم بكون المأتي به مقرباً ، معتبر حين الاتيان به ) ، اي بالشيء المأمور به كالصلة ، سواء في اشتباه القبلة ، او في ا شتباه ان الواجب :

ص: 222


1- - وهو كتاب من الحجم المتوسط يبحث عن فروع الدين وفلسفتها ، طبع في لبنان والكويت وترجم الى الفارسية باسم «فروع الدين» وطبع في مدينة قم المقدسة .

ولا يكفي العلمُ بعده باتيانه » ، ممنوعةٌ ، إذ لا شاهد لها بعد تحقق الاطاعة بغير ذلك أيضا ، فيجوزُ لمن تمكن من تحصيل العلم التفصيليّ باداء العبادات العملُ بالاحتياط وترك تحصيل العلم التفصيليّ .

-----------------

الظهر او الجمعة (ولا يكفي العلم بعده) اي بعد الاتيان باطراف العلم الاجمالي ( باتيانه ) اي باتيان المأمور به ، وذلك لان الانسان اذا صلّى الى اربع جهات في اشتباه القبلة ، أو صلّى الجمعة والظهر ، بعد تمام الصلوات يعلم بأنه امتثل .

لكن هذا العلم اللاحق عند من لايكتفي بالامتثال الاجمالي ، لاينفع في اسقاط التكليف لأنه يرى لزوم العلم حين الاتيان ، كأن يعلم ان واجبه الظهر فيأتي به ، او واجبه الصلاة الى طرفٍ خاص فيأتي بها غير أن هذه الدعوى ( ممنوعة ) .

فانه من اين يعتبر العلم بالامتثال حال الاتيان ؟ ( اذ لا شاهد لها ) اي لهذه الدعوى ، من عقل أو نقل ( بعد تحقق الطاعة ) عند العقلاء ( بغيرذلك ) الذي ادعوه من العلم بالطاعة حين الاتيان بها ( أيضاً ) .

وعلى ما ذكرناه : من عدم شاهد لكلام هؤاء ( فيجوز لمن تمكن من تحصيل العلم التفصيلي بأداء العبادات ) المشروطة بالقربة ( العمل بالاحتياط ) بالجمع بين المحتملات ( وترك تحصيل العلم التفصيلي ) مقدمة للعمل .

ثم ان الاشكال في الاحتياط مع التمكن من العلم التفصيلي من وجوه :

الاول : انه لابد في الطاعة من التمييز حين العمل ، ولا تمييز في العلم الاجمالي ، لانه لايعلم هل ان هذا واجب او ذاك ؟ والى آخر ما ذكروه من هذه الجهة في المفصلات .

الثاني : اعتبار قصد الوجه في الطاعة ، فمن لايعلم ان الظهر واجبة او الجمعة ، لايتمكن ان يقصد الوجوب حين اتيان هذه او تلك ، لانه لايعلم حين الاتيان

ص: 223

...

-----------------

ان ما يأتي به واجب .

ولا يخفى : ان التمييز يكون بين امرين ، بينما الوجه يمكن ان يكون في امر واحد ، فمن علم مثلاً : بفضل غسل الجمعة لكنه لايعلم انه واجب او مستحب ، فهو فاقد للوجه دون التمييز ، لأن العمل واحد ، وليس اثنين حتى يكون فاقداً للتمييز .

الثالث : ان الاحتياط خلاف الطريق المألوف من العقلاء في كيفية الطاعة .

الرابع : احتمال المحذور في التكرار ، او في الاتيان بالزائد - عند الشك في الاقل والاكثر فيما احتاط باتيان الزائد - والمحذور يلازم الضرر ، ودفع الضرر المحتمل واجب بحكم العقل اذا كان ضرراً كثيراً والضرر هنا لو كان فهو كثير ، لانه عقاب الاخرة .

الخامس : التكرار والاتيان بالزائد موجب لاضاعة الوقت ، وفي الحديث : « إنّ الانسانَ يُسأَلُ يَومَ القِيامَةِ عَن عُمرهِ فِيمَ أفناهُ ؟ » (1) .

ونفس السؤل مما يحذر منه ، وقد ورد في الحديث ايضاً : « حاسِبوا أنفُسَكُم قَبْلَ أن تُحاسَبُوا » (2) .

لا يقال : قال عليه السلام : « في حلالها حساب » (3) إذن فالحساب لابد منه .

ص: 224


1- - الفصول المهمة : ص109 ، مجمع الزوائد : ج10 ص146 ، ينابيع المودّة : ص113 ، المناقب للخوارزمي : ص53 - 56 ، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي : ص119 ح157 ، مقتل الحسين للخوارزمي : ج1 ص42 ، بحار الانوار : ج7 ص261 ب11 ح11 و ج77 ص162 ب7 ح1 ، مجموعة ورام : ج1 ص297 ، امالي الطوسي : ص593 ح1 المجلس 26 .
2- - الكافي روضة : ج8 ص143 ب8 ح108 ، مجموعة ورام : ج1 ص235 .
3- - الكافي أصول : ج2 ص459 ح23 ، كفاية الاثر : ص227 ، بحار الانوار : ج44 ص139 ب22 ح6 .

لكنّ الظاهرَ - كما هو المحكيّ عن بعض - ثبوتُ الاتفاق على عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقف على تكرار العبادة ، بل الظاهرُ المحكيّ عن الحليّ ، في مسألة الصلاة في الثوبين ، عدمُ جواز التكرار للاحتياط

-----------------

لانه يقال : اقله لابد منه ، لا الاكثر منه .

السادس : ان تحصيل العلم بالاصول والفروع واجب ، ومن صغرياته العلم بالطاعات وهو مناف لبقاء الجهل ، ولو الجهل الاجمالي .

السابع : ان الاحتياط ، يلزم منه اللعب بامر المولى ، وهو مذموم عقلاً وشرعاً .

الثامن : ان الاتيان بما علم تفصيلاً معلوم الكفاية ، اما الاتيان بما علم اجمالاً فمشكوكها ، والعاقل لايترك المعلوم الى المشكوك في الامور الخطيرة .

التاسع : ان الوجه والتمييز لو كانا معتبرين ، كانا شرطاً لتحقق الطاعة ، فعند الشك في الشرطية يجب الاحتياط عقلاً ، لان الاشتغال اليقيني بحاجة الى البرائة اليقينية ، وهي لاتتحقق الا بالاتيان بالمعلوم تفصيلاً .

العاشر : ما ذكر من الاجماع في المسألة ، وقد أشار الشيخ قدس سره الى بعضها ، وحيث ان محل التفصيل المفصلات ، اعرضنا عن الجواب عن الادلة المذكورة .

وكيف كان : فقد أشار المصنّف الى العاشر بقوله : ( لكن الظاهر ) اي ما يظهر من كلماتهم ( - كما هو المحكي عن بعض - ثبوت الاتفاق على عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط اذا توقف ) الاحتياط ( على تكرار العبادة ) لا ما اذا كان الاحتياط في الاتيان بالازيد ، كما اذا شك في ان جلسة الاستراحة واجبة ام لا ، فانه لا اتفاق في المنع عنه ، وان كان يأتي فيه بعض الادلة السابقة لهم .

( بل الظاهر المحكي عن الحلّي في مسألة الصلاة في الثوبين ) اللذين احدهما نجس ، ولا يعلم بانه ايّهما ؟ ( : عدم جواز التكرار للاحتياط ) اي من جهة

ص: 225

حتى مع عدم التمكّن من العلم التفصيليّ ، وإن كا ن ماذكره من التعميم ممنوعا .

وحينئذٍ : فلا يجوز لمن تمكن من تحصيل العلم بالماء المطلق او بجهة القبلة او في ثوب طاهر

-----------------

الاحتياط ( حتى مع عدم التمكن من العلم التفصيلي ) فكيف بما اذا تمكن من العلم بالتفصيلي ؟ .

ولا يخفى : انه قد وقع الخلاف في هذه المسألة بين الحلّي قدس سره حيث يقول :

يصلي عارياً ، وبين غيره حيث يقولون : يصلي صلاتين فيهما .

اما اذا كان احدهما مغصوباً ، فلا كلام في انه لايجوز الصلاة فيهما مع امكان تحصيل العلم ، اما بدون امكان تحصيل العلم فلا يستبعد جواز الصلاة في احدهما ، لان حقه لايسقط بسبب حق الغير ، فان احد الثوبين حقه والثاني حق الغير ، وكما لايسقط حق الغير بسبب حق هذا ، كذلك لايسقط حق هذا بسبب حق الغير ، على تفصيل في الكلام موضعه الفقه .

هذا ( وان كان ما ذكره من التعميم ) لصورة عدم امكان تحصيل العلم التفصيلي ( ممنوعاً ) في الثوبين اللذين احدهما نجس - لما ذكروه : من ان فقد الوصف اولى من فقد الاصل .

( وحينئذٍ ) اي حين كان الاحتياط غير جائز ، على قول هؤاء - وهم خلاف المشهور ، المجوزين للاحتياط - ( فلا يجوز لمن تمكن من تحصيل العلم بالماء المطلق ) فيمن كان له ماءان : احدهما مطلق ، والاخر مضاف ( اوبجهة القبلة ) هل هي امامه او خلفه - مثلاً - ؟ ( او في ثوب طاهر ) فيمن له ثوبان احدهما طاهر ،

ص: 226

أن يتوضّأ وضوئين يقطع بوقوع أحدهما بالماء المطلق او يصلّي إلى جهتين يقطع بكون أحدهما القبلة او في ثوبين يقطع بطهارة أحدهما.

لكنّ الظاهر من صاحب المدارك قدس سره ، التأمّلُ بل ترجيحُ الجواز في المسألة الأخيرة ،

-----------------

والاخر نجس ( ان يتوضأ وضوئين يقطع بوقوع احدهما بالماء المطلق ) .

ومثله : الغسل بهما ، او التيمم في اشتباه التراب بغير التراب ، وكذا الناذر للصوم ، يشتبه انه نذر يوم الخميس ، او الجمعة ، والناذر للحج في انه نذر هذا العام او العام الآتي ( او يصلي الى جهتين يقطع بكون احدهما القبلة ) و هكذا الحال لو كانت الاطراف اكثر من اثنين في كل الموارد المذكورة وغيرها - كما تقدّم الالماع اليه - ( أو في ثوبين يقطع بطهارة احدهما ) ونجاسة الآخر .

أما لو كان العلم الاجمالي في المكلف ، لا في المكلف به ، كما اذا وهب مال لزيد او عمرو ، بحيث يستطيع الموهوب له للحج ، ولم يعلم ان ايهما الموهوب له ، فهل يجب الحج على كليهما احتياطاً ، او على احدهما مخيراً ، او بالقرعة ، او لا يجب ؟ .

احتمالات اربعة :

من ادلة الاحتياط ، فالاحتياط .

ومن انه لاترجيح ، فالتخيير .

ومن ان القرعة لكل امر مشكل ، فالقرعة .

ومن استصحاب كل واحد منهما عدم الوجوب ، فالبرائة ، وتفصيل الكلام في الفقه .

( لكن الظاهر من صاحب المدارك قدس سره التأمّل ) في عدم جواز الاحتياط ( بل ترجيح الجواز في المسألة الاخيرة ) وهي مسألة الثوبين اللذين احدهما نجس ،

ص: 227

ولعلّه متأمّل في الكلّ ، إذ لا خصوصيّة للمسألة الأخيرة .

وأمّا إذا لم يتوقف الاحتياطُ على التكرار ، كما إذا اُتي بالصلاة مع جميع ما يحتمل أن يكون جزءا ، فالظاهرُ عدمُ ثبوت اتفاق على المنع ووجوب تحصيل اليقين التفصيليّ ، لكن لايبعد ذهابُ المشهور الى ذلك ،

-----------------

فانه قال بجواز الصلاة فيهما من باب الاحتياط ( ولعله متأمّل في الكل ) : الماء المشتبه ، والقبلة ، وغيرها ، حيث يجوّزها جميعاً ، فتأمّل في الاشكال ( اذ لاخصوصية للمسألة الاخيرة ) فان ملاكها جار في غيرها ايضاً .

اما اذا اشتبه الماء الطاهر بالماء النجس ، ففي الرواية : « يُهْريقَهُما وَيَتَيَمَّم » (1) .

ولعله لاجل ان لايبتلي بالنجاسة اذا توضأ بهما ، لو صلّى - مثلاً - بكل وضوء صلاة ، وغسل مواضع الوضوء بالماء الثاني ، حيث يعلم حينئذٍ بانه صلّى بالطهارة المائية قطعاً ، وكذا اذا اغتسل بهما ، وتفصيل الكلام في الفقه .

هذا كله في ما اذا توقف الاحتياط على التكرار في العبادة ( واما اذا لم يتوقف الاحتياط على التكرار ) بل كان الامر دائراً بين الزيادة والنقيصة ( كما اذا أتي بالصلاة مع جميع ما يحتمل ان يكون جزءاً ) للاختلاف في بعضها هل يكون جزءاً واجباً ام لا ؟ كالاستعاذة ، والسورة ، وجلسة الاستراحة ، ونحوها ( فالظاهر عدم ثبوت اتفاق على المنع ) عن هذا الاحتياط .

( و ) كذا عدم ( وجوب تحصيل اليقين التفصيلي ) في المشكوك جزئيته ، بانه جزء فيأتي به ، او ليس بجزء فلا يأتي به ، لان كل تلك الادلة المتقدمة لاتجري هنا ، وان كان بعضها جار ايضاً .

( لكن لايبعد ) من ظاهر كلامهم ( ذهاب المشهور ) ايضاً ( الى ذلك ) المنع ،

ص: 228


1- - تهذيب الاحكام : ج1 ص249 ب1 ح24 ، الاستبصار : ج1 ص21 ب10 ح3 .

بل ظاهرُ كلام السيّد الرضيّ رحمه الله ، في مسألة الجاهل بوجوب القصر وظاهر تقرير أخيه السيّد المرتضى رحمه الله ، له ثبوت الاجماع على بطلان صلاة من لايعلم أحكامها .

-----------------

فلازم تحصيل العلم التفصيلي بانه جزء فيؤى به ، او ليس بجزء فلا يؤى به .

( بل ظاهر كلام السيد الرضي قدس سره في مسألة الجاهل بوجوب القصر ، وظاهر تقرير اخيه ) أي امضاء ( السيد المرتضى قدس سره له ) أي لكلام الرضي قدس سره ب( ثبوت الاجماع على بطلان صلاة من لايعلم احكامها ) فقد نقل عن الرضي قدس سره انه اعترض على اخيه المرتضى قدس سره حيث حكم بصحة صلاة من اتم في السفر جهلاً بالحكم لا جهلاً منه بالموضوع - فان الجهل بالموضوع معناه : انه لايعلم حصول السفر ، ولذا يصلّي تماما والجهل بالحكم معناه : انه يعلم السفر ، لكن لايعلم بان حكم المسافر القصر ، بأنا معاشر الشيعة ، اجمعنا على بطلان صلاة الجاهل بالاحكام ، فكيف تقول ايها المرتضى بصحة صلاة الجاهل المتمم في السفر ؟ .

واجاب المرتضى قدس سره بجواز تغير حكم اللّه بالجهل ، ومعنى تغير الحكم بالجهل : ان يكون الواجب في الواقع على المسافر الجاهل : التمام ، وعلى العالم : القصر ، فان هذا الجواب دليل على تقرير المرتضى قدس سره الاجماع الذي ادعاه الرضي قدس سره ، والا كان للمرتضى قدس سره ان يجيب : بانه لا اجماع في المسألة فعدم رده للاجماع دليل على تقريره .

وانّما قلنا : الظاهر عدم ثبوت اجماع في المسألة مع اجماع الرضي قدس سره وتقرير المرتضى قدس سره له ، لان كثيراً من الفقهاء لايوافقونهما في وجود هذا الاجماع ، فهو اجماع منقول متيقن خلافه .

ص: 229

هذا كلّه في تقديم العلم التفصيليّ على الاجمالي .

وهل يلحق بالعلم التفصيليّ الظنُّ التفصيليّ المعتبرُ ، فيقدّم على العلم الاجماليّ ام لا ؟ .

-----------------

( هذا كله في تقديم العلم التفصيلي على ) العلم ( الاجمالي ) مع امكان العلم التفصيلي ( و ) اذا قلنا بتقديم العلم التفصيلي على العلم الاجمالي ف- ( هل يلحق بالعلم التفصيلي ، الظن التفصيلي المعتبر ) فيما اذا لم يتعلق العلم بالحكم ، بل تعلق الظن المعتبر ،كالخبر الواحد الجامع للشرائط ؟ فهل يجب العمل على طبق الظن التفصيلي ؟ او يجوز الاحتياط بالعلم الاجمالي ( فيقدم ) الظن التفصيلي ( على العلم الاجمالي ام لا ؟ ) .

مثلاً : لو قامت الامارة على وجوب الظهر - بدون ان نقطع بذلك - فهل يجوز لنا ان نحتاط بالظهر والجمعة ، ام اللازم العمل بالامارة فقط ، لانه مع قيام الحجة لايجوز الاحتياط ؟ ونحن مقدمة لهذا البحث نقول : ان الظن على قسمين : الاول : الظن الخاص، الذي قام على اعتباره الدليل الخاص، مثل: الخبر الواحد، وما اشبه .

الثاني : الظن العام ، الذي قام على اعتباره دليل الانسداد ، اي ان باب العلم والعلمي منسدّ الى الاحكام ، فاللازم علينا ان نعمل بالظن من اي شيء حصل ، ولو بالمنام - ولا يخفى ان صاحب القوانين القائل بالانسداد يشير الى حجية المنام في الجملة (1) - وعليه : فالاول : يسمّى بالظن الخاص ، والثاني يسمّى بالظن المطلق ، كما ان المراد بالظن : الظن النوعي ، لا ظن كل شخص شخص .

ص: 230


1- - راجع كتاب القوانين المحكمة : بحث ايقاظ ، حيث ذكر : فالاعتماد مشكل سيما اذا خالف الاحكام الشرعية الواصلة الينا مع ان ترك الاعتماد مطلقا حتى فيما لو لم يخالفه شيء أيضا مشكل .

التحقيقُ أن يقال : إنّ الظنّ المذكور إن كان ممّا لم يثبت اعتباره إلاّ من جهة « دليل الانسداد » المعروف بين المتأخّرين ، لاثبات حجيّة الظنّ المطلق ، فلا اشكال في جواز ترك تحصيله والأخذ بالاحتياط إذا لم يتوقف

-----------------

اذا عرفت هذا قلنا : ( التحقيق ) في المسألة ( ان يقال : ان الظن المذكور ) وهو الظن بالحكم ( ان كان مما ) اي من الظن المطلق الذي ( لم يثبت اعتباره الاّ من جهة دليل الانسداد المعروف بين المتأخرين ) المتوقف على اربع مقدمات وهي :

الاولى : انا نعلم اجمالاً بثبوت تكاليف فعلية .

الثانية : ان باب العلم والعلمي الى تلك الاحكام منسد .

الثالثة : ان الامر حينئذٍ دائر بين الاحتياط ، أو تقليد مجتهد آخر ، او العمل بالقرعة، أو العمل بالاصول، مثل الاستصحاب، والبرائة وما اشبه، والكل فيه محذور .

الرابعة : لم يبق لنا الا ان نعمل بالظن ، او الشك او الوهم ، وحيث ان ترجيح المرجوح على الراجح قبيح ، والشك والوهم مرجوحان بالنسبة الى الظن الذي هو راجح فلم يبق الا الظن ، عليه فاللازم : العمل بالظن من اي شيء حصل .

وعلى هذا : فان جماعة من المتأخرين تمسكوا بدليل الانسداد ( لاثبات حجية الظن المطلق ) وذلك ايّ ظن كان فاذا تمكن من حصوله ومن الاحتياط ( فلا اشكال في جواز ترك تحصيله ) اي الظن المطلق ( والاخذ بالاحتياط ) كما اذا علم : بانه يجب عليه الصلاة مع السورة ، او بدونهما ، وتمكن من تحصيل الظن الانسدادي باحدهما فانه لايلزم عليه تحصيل ذلك الظن ، بل يكفي له ان يصلي « احتياطاً » مع السورة ، وذلك فيما ( اذا لم يتوقف ) الاحتياط فيه

ص: 231

على التكرار .

والعجبُ ممّن يعملُ بالامارات من باب الظنّ المطلق ، ثمّ يذهبُ إلى عدم صحّة عبادة تارك طريقيّ الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط ،

-----------------

( على التكرار ) كالمثال الذي ذكرناه ، لا ما اذا توقف ، كالعلم الاجمالي بانه يجب عليه الظهر او الجمعة ، لان تقديم الاحتياط على الظن الانسدادي حينئذٍ محل اشكال - كما سيأتي وجه هذا الاشكال بعد اسطر .

( والعجب ممن ) اي من المحقق القمي قدس سره حيث ( يعمل بالامارات من باب الظن المطلق ) الانسدادي ، لامن باب الظن الخاص ( ثم يذهب الى عدم صحة عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد ، والأخذ بالاحتياط ) فيقدم الظن المطلق على الاحتياط بالعلم الاجمالي ، مع ان مقتضى الانسداد : جواز العمل بالظن عن اجتهاد او تقليد ، لا وجوبه وعدم كفاية الاخذ بالاحتياط .

ثم لايخفى : ان العمل بالاحتياط على نحوين :

الاول :الاحتياط الاجتهادي ، بمعنى ان المجتهد يرفع يده عما وقع عليه اجتهاده ، ويحتاط بالجمع بين مقتضى اجتهاده ، ومقتضى طرف اجتهاده ، فاذا اجتهد واستظهر ان الواجب في يوم الجمعة صلاة الظهر ، يحتاط بالجمع بين الجمعة والظهر .

الثاني : الاحتياط التقليدي ، فاذا كان هناك مجتهدان كان للمكلف أن لايقلد احدهما ، بل يجمع بين رأييهما في تكرار العبادة - مثلاً - .

هذا حال تكرار العبادة ، وكذلك حال الاتيان بالزائد المشكوك فيه ، كالاستعاذة - على ما تقدّم - .

ص: 232

ولعلّ الشبهة من جهة اعتبار قصد الوجه .

ولإبطال هذه الشبهة وإثبات صحّة عبادة المحتاط محلّ آخر .

وأمّا إذا توقّف الاحتياطُ على التكرار ، ففي جواز الأخذ به وترك تحصيل الظنّ بتعيين المكلّف به او عدم الجواز

-----------------

( ولعل الشبهة ) في عدم صحة الأخذ بالاحتياط ، وترك طريقي الاجتهاد والتقليد ، هي ( من جهة اعتبار ) المحقق القمي قدس سره ( قصد الوجه ) والتمييز ، فان مع الاحتياط لايتأتّى هذا القصد ، بخلاف ما اذا عمل بالظن الانسدادي .

( ولابطال هذه الشبهة ) وهي لزوم قصد الوجه والتمييز ( واثبات صحة عبادة المحتاط محل آخر ) لعله يأتي في آخر بحث البرائة والاشتغال ، ونحن نشير الى وجه البطلان استطراداً ونقول : انه لادليل على اعتبار الوجه والتمييز عقلاً ولا نقلاً ، فالقول به ضعيف ، ولعل وجه شبهة المحقق القمي قدس سره لبعض الوجوه الاخر ، التي ذكرناها قبلاً الى عشرة اوجه .

هذا كله في كون الشك في الزيادة وعدمها ، كما اذا شك في ان جلسة الاستراحة جزء من الصلاة ام لا .

( واما اذا توقف الاحتياط على التكرار ) كاتيان الظهر والجمعة ، او صلاتين في ثوبين احدهما نجس ، والى غير ذلك من الامثلة المتقدمة .

( ففي جواز الاخذ به ) اي بالاحتياط ( وترك تحصيل الظن ) بان لايجتهد المجتهد ، حتى يصل الى الظن النوعي ، او لايعمل بالظن الذي وصل اجتهاده اليه وذلك ( بتعيين المكلف به ) متعلق « الباء » ب« الظن » و « به » عبارة عن الشيء الواجب ، لان العبد يكلف به .

( او عدم الجواز ) للاخذ بالاحتياط ، فيما يتوقف على التكرار ، بمعنى وجوب

ص: 233

وجهان :

من أنّ العملَ بالظن المطلق لم يثبت إلاّ جوازه وعدم وجوب تقديم الاحتياط عليه أمّا تقديمهُ على الاحتياط فلم يدل عليه دليلٌ .

ومن أنّ الظاهر أنّ تكرارَ العبادة احتياطا في الشبهة الحكميّة مع ثبوت الطريق إلى الحكم الشرعيّ ، ولو كان هو الظنّ

-----------------

الاخذ بالظن ( وجهان ) .

وجه الجواز ما ذكره بقوله : ( من ان العمل بالظن المطلق ) الانسدادي ( لم يثبت الاّ جوازه ) لا وجوبه فانه اذا تمت مقدمات الانسداد ، افادت عدم وجوب الاحتياط لا عدم جوازه ( و ) كذا أفادت ( عدم وجوب تقديم الاحتياط عليه ) أي على الظن ( اما تقديمه ) أي الظن ( على الاحتياط ) بان يكون اللازم العمل بالظن الانسدادي دون العمل بالاحتياط ( فلم يدل عليه دليل ) الانسداد ، لما عرفت من انه حيث لم يجب العمل بالاحتياط ، يجوز العمل بالظن المطلق ، فاذا اراد ان يعمل بالاحتياط لم يكن به بأس .

( و ) وجه تقديم الظن على الاحتياط ما ذكره بقوله : ( من ان الظاهر ) من سيرة المتشرعة ( ان تكرار العبادة احتياطاً ، في الشبهة الحكمية ) وقد تقدّم الفرق بين الشبهة الحكمية وبين الشبهة الموضوعية .

وانّما قيّد الشبهة بالحكمية ، لان الشبهة الموضوعية لم يقل احد بالانسداد فيها ، وذلك لأنّ طريق تعيين المشكوك وهو العرف مفتوح ، فلا انسداد لباب العلم والعلمي فيها حتى يتنزل الى الظن الانسدادي ( مع ثبوت ) تحصيل ( الطريق الى الحكم الشرعي ، ولو كان ) ، ذلك الطريق الى الحكم ( هو الظن

ص: 234

المطلق خلافُ السيرة ، المستمرّة بين العلماء مع أنّ جواز العمل بالظنّ اجماعيّ ، فيكفي في عدم جواز الاحتياط بالتكرار احتمالُ عدم جوازه واعتبار الاعتقاد التفصيليّ في الامتثال .

والحاصلُ : أنّ الأمر دائر بين تحصيل الاعتقاد التفصيليّ

-----------------

المطلق ) الانسدادي فانه ( خلاف السيرة المستمرة بين العلماء ) ، فان سيرتهم على الاحتياط اذا لم يكن لهم طريق اصلاً ، واذا كان ظن انسدادي كان لهم طريق ، فلا تصل النوبة الى الاحتياط .

وقد ذكرنا سابقاً وجه حجية السيرة : من انها كاشفة عن السنّة الممضاة من قبلهم عليهم السلام .

هذا اولاً ( مع ان ) هناك وجهاً آخر في عدم جواز الاحتياط ما دام الظن الانسدادي موجوداً ، وهو : ان ( جواز العمل بالظن ) الانسدادي حال وجوده ( اجماعي ) وجواز تكرار العبادة اختلافي ، فالاحتياط يكون في الأخذ بالاجماعي ، وترك الاختلافي .

وعليه : ( فيكفي في عدم جواز ) العمل ب( الاحتياط بالتكرار ) للعبادة ( احتمال عدم جوازه ) حيث عرفت انه اختلافي ( و ) يلزم ( اعتبار ) أي : بان نعتبر في الاطاعة حصول ( الاعتقاد التفصيلي ) أي الجزم بالعمل بالظن الانسدادي ( في ) ما اذا اراد ( الامتثال ) فاللازم الاخذ بالظن المتيقن الكفاية ، وترك الاحتياط المشكوك الكفاية .

ولا يخفى : ان هذا المبحث من صغريات دوران الامر بين التعيين والتخيير .

( والحاصل ) من احتمالي العمل بالاحتياط ، او بالظن المطلق هو : ( ان الامر ) في باب الامتثال حال الانسداد ( دائر بين تحصيل الاعتقاد التفصيلي ) بالاطاعة

ص: 235

ولو كان ظنّا وبين تحصيل العلم بتحقّق الاطاعة ولو إجمالاً ، فمع قطع النظر عن الدليل الخارجيّ يكون الثاني مقدّما على الأوّل في مقام الاطاعة ، بحكم العقل والعقلاء ، لكن بَعدَ العلم بجواز الأوّل والشكّ في جواز الثاني في الشرعيّات من جهة منع جماعة من الأصحاب عن ذلك

-----------------

( ولو كان ظناً ) انسدادياً ( وبين ) الاحتياط بالجمع بين الاحتمالين مما يوجب ( تحصيل العلم بتحقق الاطاعة ولو ) كان التحقق ( اجمالاً ) لانه بعد التكرار يعلم بانه أتى بالمكلف به .

( فمع قطع النظر عن الدليل الخارجي ) مثل ما تقدّم : من ان الاحتياط خلاف السيرة ، او خلاف اعتبار الوجه والتمييز ، او غير ذلك ، بل النظر الى الامرين في نفسهما ( يكون الثاني ) وهو العمل بالاحتياط والتكرار ، الموجب للقطع باتيان المكلف به ( مقدماً على الاول ) الذي هو الظن الانسدادي ( في مقام الاطاعة ) للمولى ( بحكم العقل والعقلاء ) لان في الاحتياط احراز الواقع .

والفرق بين العقل والعقلاء : ان العقل يرى حسن ذلك ، والعقلاء جعلوا ذلك طريقاً الى امتثال المولى ، اذ من الممكن ان يكون شيء حسناً في نفسه ، ومع ذلك العقلاء لايبنون عليه ، حيث يجدون فيه محذوراً .

( لكن بعد ) وجود الدليل الخارجي : من كون الاحتياط خلاف السيرة : انه خلاف الوجه والتمييز ، يحصل لنا ( العلم بجواز الاول ) وهو العمل بالظن الانسدادي - اذا تمت مقدماته - ( والشك في جواز الثاني ) وهو الاحتياط ( في الشرعيات ) ذات القربة ، وان صحت في العرفيات ، كالتوصليات وذلك ( من جهة منع جماعة من الاصحاب عن ذلك ) الاحتياط ، مع امكان العمل بالظن

ص: 236

وإطلاقهم اعتبارَ نيّة الوجه ، فالأحوطُ تركُ ذلك وإن لم يكن واجبا ، لأنّ نيّة الوجه لو قلنا باعتباره فلا نسلّمه إلاّ مع العلم بالوجه او الظنّ الخاصّ ، لاالظنّ المطلق الذي لم يثبت القائل به جوازه ، إلاّ بعدم وجوب الاحتياط لا بعدم جوازه ،

-----------------

( واطلاقهم اعتبار نية الوجه ) اذا أمكن ، ومع وجود الظن يمكن ذلك .

الى سائر الوجوه المتقدمة في وجه المنع عن الاحتياط .

وعليه : ( فالاحوط ترك ذلك ) التكرار ، والرجوع الى الظن الانسدادي ( وان لم يكن ) ترك الاحتياط عندنا ( واجباً ) لأنا نجعل ترك الاحتياط ، من باب الاحتياط .

وانّما نقول : بأن الاحتياط ليس بواجب ( لان ) ادلة الاحتياط مخدوشة ، فان ( نية الوجه - لو قلنا باعتباره ف- ) ليس اعتبارها مطلقاً اذ ( لانسلمه ) اي لانسلم

اعتباره ( الاّ مع ) امكان ( العلم بالوجه او الظن الخاص ) كخبر الواحد ومع امكان احدهما ( لا ) تصل النوبة الى ( الظن المطلق ) الانسدادي ، فلا يكون مقدماً على الاحتياط ( الذي لم يثبت القائل به ) اي بالظن المطلق ( جوازه ) مفعول « لم يثبت » من باب الافعال اي جواز العمل بالظن المطلق ( الاّ بعدم وجوب الاحتياط ، لا بعدم جوازه ) اي : جواز الاحتياط فانه لو كان من مقدمات الانسداد عدم جواز الاحتياط ، كان الظن المطلق مقدماً على الاحتياط ، اما لو كان من مقدمات الانسداد عدم وجوب الاحتياط ، فلا مانع من ان يعمل الانسدادي بالاحتياط ، او بالظن المطلق .

ولا يخفى : ان الاحتياط على ثلاثة اقسام :

الاول : الاحتياط الواجب ، كما اذا تردد التكليف بين امرين لامحذور في الاتيان بهما .

ص: 237

فكيف يعقل تقديمه على الاحتياط .

وأمّا لو كان الظنُّ ممّا ثبت اعتبارُه بالخصوص ، فالظاهرُ أنّ تقديمه على الاحتياط إذا لم يتوقف على التكرار مبنيٌّ على اعتبار قصد الوجه ، وحيث قد رجّحنا في مقامه عدمَ اعتبار نيّة

-----------------

الثاني : الاحتياط المحرّم ، بأن كان الاحتياط ضاراً ضرراً بالغاً ، كما اذا اوجب الاحتياط بالغسل ، والتيمم بدله - فيما يتردد الامر بينهما - اعماه مثلاً او موته .

الثالث : الاحتياط الجائز بأن كان الاحتياط موجباً لضرر يسير يجوز تحمله ، كما يجوز عدم تحمله ، فان المكلف مخيّر في ان يعمل بالاحتياط او لا .

وعلى ايّ حال : ( ف- ) اذا جاز الاحتياط ( كيف يعقل تقديمه ) اي الظن الانسدادي ( على الاحتياط ؟ ) تقديماً لايجوز خلافه ، فان جواز الاحتياط وعدمه يوجب تخيير المكلف بين العمل بالاحتياط ، او بالظن الانسدادي .

نعم ، تقدّم ان الأحوط - في هذه الصورة - ترك الاحتياط .

( واما لو كان الظن مما ثبت اعتباره بالخصوص ) - لا بدليل الانسداد - كخبر العادل ، والشهرة ، وفتوى الفقيه والاجماع وغير ذلك ( فالظاهر ان تقديمه ) اي تقديم الظن الخاص ( على الاحتياط ) لازم فلا يجوز العمل بالاحتياط وترك خبر العادل - مثلاً فيما ( اذا لم يتوقف على التكرار ) كجلسة الاستراحة في الصلاة اذا شك في انها جزء ام لا ؟ فيقدم الظن بانها ليست جزءاً على الاحتياط بالاتيان بها في اثناء الصلاة ، وكذلك كل ما يشك فيه بين الاقل والاكثر .

وهذا التقديم ( مبني على اعتبار قصد الوجه ) والتمييز ، فان قلنا باعتبارهما قدم الظن ، والا جاز الاحتياط .

( وحيث قد رجحنا في مقامه ) في بحث التعبدي ( عدم اعتبار ) التمييز و ( نية

ص: 238

الوجه ، فالأقوى جوازُ ترك تحصيل الظنّ والأخذ بالاحتياط ، ومن هنا يترجّح القولُ بصحّة عبادة المقلِّد إذا أخذ بالاحتياط وترك التقليد ، إلاّ انّه خلاف الاحتياط من جهة وجود القول بالمنع من جماعة .

-----------------

الوجه ) اذ لا دليل شرعاً او عقلاً على اي منهما ( فالاقوى جواز ترك تحصيل الظن ) الخاص لو فرض وجوده ، وعدم الزوم الاخذ به ( و ) جواز ( الاخذ بالاحتياط ) فيكون الظن الخاص غير مقدم على الاحتياط في دوران الامر بين الاقل والاكثر .

( ومن هنا ) حيث ان الاحتياط في عرض الظن الخاص ( يترجح القول بصحة عبادة المقلد ) الذي ليس بمجتهد ممن يجب عليه الرجوع الى المجتهد ( اذا أخذ بالاحتياط وترك التقليد ) .

وعليه : فالطريق امام المكلف اما الاجتهاد ، او التقليد ، او الاحتياط .

والاحتياط تارة في الاجتهاد ، وتارة في التقليد ، فان كل ذلك مؤّن من العقاب عقلاً وشرعاً ، اما عقلاً فواضح ، واما شرعاً فلاطلاق ادلة الاحتياط ، مثل قوله عليه السلام:

« إحتَط لِدِينِكَ بِما شِئتَ » (1) .

نعم ، يلزم ان لايصل الى الوسوسة ، وان لايكون هناك محذور خارجي ، كما اشرنا اليه سابقاً ( الا انه ) اي ترك طريق الاجتهاد والتقليد والاخذ بالاحتياط في اعماله ، ( خلاف الاحتياط ) وذلك ( من جهة وجود القول بالمنع من جماعة ) من الفقهاء ، فان منعهم قد يورث الشك في العمل بالاحتياط ، اما الاخذ بالظن والعمل به ، فلا اشكال من احد فيه .

ص: 239


1- - وسائل الشيعة : ج27 ص167 ب12 ح33509 ، الامالي للمفيد : ص283 ، الامالي للطوسي : ص110 ح168 .

وإن توقّف الاحتياطُ على التكرار ، فالظاهرُ أيضا جوازُ التكرار بل أولويّته على الأخذ بالظنّ الخاصّ ، لما تقدّم من أن تحصيل الواقع بطريق العلم ولو اجمالاً أولى من تحصيل الاعتقاد الظني به ولو كان تفصيلاً .

وأدلّة الظنون الخاصّة إنّما دلّت على كفايتها عن الواقع ، لا تعيّن العمل بها في مقام الامتثال ،

-----------------

هذا تمام الكلام فيما اذا كان الاحتياط بالاتيان بالاكثر ، لكن ربما يكون الاحتياط في الاتيان بالاقل ، كما اذا شك في ان الشيء الفلاني مانع ، او قاطع ، مثل البكاء بدون الصوت في الصلاة ، او امتلاء النفس بالضحك ثم الضحك خارجاً فقد ابطل الصلاة بهما بعض ، ولم يبطلها بهما بعض آخر ، ففي مثل ذلك لايأتي الكلام المذكور ، اذ بتركهما لم يترك شيئاً وجودياً حتى يقال انه فاقد الوجه أو التمييز .

وعلى ايّ حال : فهذا تمام الكلام لقوله « اذا لم يتوقف على التكرار » .

( وان توقف الاحتياط على التكرار ) كصلاتي الجمعة والظهر ، او في ثوبين احدهما طاهر ( فالظاهر ايضاً جواز التكرار ) بان يحتاط بهما ( بل اولويته ) اي الاحتياط ( على الاخذ بالظن الخاص ) اي الظن النوعي الحاصل من الاخبار ونحوها ( لما تقدّم من ان تحصيل الواقع بطريق العلم ولو ) علماً ( اجمالاً ) بالاثباتين ، او النفيين ، او بالاختلاف فانه ( اولى من تحصيل الاعتقاد الظني به ) اي بالواقع ( ولو كان ) ذلك الظن ظناً ( تفصيلاً ) بالواقع .

( و ) لايقال : ادلة الظنون الخاصة دالة على وجوب العمل بها .

لانه يقال : ( ادلة الظنون الخاصة انّما دلت على كفايتها عن الواقع لا ) على ( تعيّن العمل بها ) اي بتلك الظنون ( في مقام الامتثال ) فهو كما اذا قال المولى :

ص: 240

إلاّ أنّ شبهةَ اعتبار نيّة الوجه ، كما هو قول جماعة بل المشهور بين المتأخّرين ، جعل الاحتياط في خلاف ذلك ، مضافا إلى ماعرفتَ من مخالفة التكرار للسيرة المستمرّة .

مع إمكان أن يقال :

-----------------

إئتني برسائل الشيخ ، ثم قال : والطريق الى معرفة كتاب الرسائل ، خادمي هذا ، فلم يسمع العبد من الخادم ، وانّما جاء بكتابين احدهما الرسائل ، فانه امتثل قطعاً ، لا انه لم يمتثل ( الا ان شبهة اعتبار ) التمييز و ( نية الوجه كما هو قول جماعة ) من الفقهاء والاصولييّن ( بل المشهور بين المتأخرين ) الذين يبدأون من المحقق الحلّي قدس سره على قولٍ ، الى امثال الاردبيلي قدس سره ويطلق عليهم متأخري المتأخرين ( جعل الاحتياط ) في الامتثال الظني فقط ( في خلاف ذلك ) الاحتياط .

والحاصل : ان في المقام احتياطين : احدهما حاكم على الاحتياط الآخر ، فالاحتياط - مثلاً - في ذكر التسبيحات الاربع ثلاث مرات ، لكن اذا كانت الصلاة في آخر الوقت مما يحتمل انه اذا سبّح ثلاث مرات فات الوقت فالاحتياط حينئذٍ في ترك هذا الاحتياط ، فيقال : الاحتياط في خلاف الاحتياط .

( مضافاً الى ما عرفت ) فيما تقدّم من الادلة الاخرى الدالة على خلاف الاحتياط ، والتي ( من ) جملتها ( مخالفة التكرار للسيرة المستمرة ) بين العقلاء ، بل وبين المتشرعة على وجه خاص .

( مع امكان ان يقال ) بوجود دليل آخر اشرنا اليه سابقاً ، وهو : دوران الامر بين التعيين والتخيير ، بضميمة : انه كلما كان كذلك قدم التعيين ، فاذا طلب المولى عالماً ، ودار الامر بين ارادته عالماً مطلقاً ، حيث له ان يأتي اما بعالم الأدب ، وعالم

الفقه ، وبين ارادته عالم الفقه فقط ، فانه اذا جاء العبد بعالم الفقه امتثل قطعاً ، سواء

ص: 241

إنّه إذا شكّ بعد القطع بكون داعي الأمر هو التعبّد بالمأمور به ، لا حصوله بأيّ وجه اتفق ، في أنّ الداعي هو التعبّد بايجاده ولو في ضمن أمرين او أزيد ، او التعبّد بخصوصه متميزا عن غيره ؛ فالأصلُ عدمُ سقوط الغرض الداعي إلاّ بالثاني ، و

-----------------

اراد المولى احدهما ، او عالم الفقه فقط ، اما اذا جاء بعالم الادب ، لم يقطع بالامتثال ، لاحتمال ارادة المولى عالم الفقه فقط .

وما نحن فيه من صغريات دوران الامر بين تعيين الظن وبين التخيير بين الظن والاحتياط ، فاذا أتى بالظنّ كفى قطعا ، اما اذا أتى بالاحتياط احتمل عدم الكفاية ف( انه اذا شك ) العبد ( بعد القطع بكون داعي الامر ) للمولى ( هو التعبد بالمأمور به ) بان كان غرض المولى من الامر بالصلاة هو : اتيان العبد بها وحدها بداعي القربة ، ( لا حصوله ) اي العمل المأمور به ( بأي وجه اتفق ) في التوصليات ، مثل غسل الثوب .

وعليه : فان شك ( في ان الداعي ) للمولى من امره ( هو التعبد بايجاده ) اي ايجاد العبد المأمور به العبادة ، كالصلاة - مثلاً - ( ولو في ضمن امرين ) كالظهر والجمعة ( او ازيد ) كالصلاة الى اربعة جوانب ( او التعبد بخصوصه ) الذي وصل الظن الخاص به من طريق الخبر ، او من طريق اهل الخبرة ( متميزاً عن غيره ) بان يكون قصد التمييز معتبراً ( فالاصل ) هو التعيين لا التخيير ، وذلك ل( عدم سقوط الغرض الداعي ) الى الامر ( الاّ بالثاني ) وهو التعبد بخصوصه .

( و ) ان قلت : ليس الاصل : التعيين ، بل التخيير ، لان الاصل : الاطلاق ، حيث اطلق المولى فيما دل على العبادة فاذا قال : «صلّ» ولم يقل : صلّ صلاة وصل اليها الظن فقط ، وأتى العبد بصلاتين اطاع المولى في قوله «صلّ» اذ الامتثال

ص: 242

هذا ليس تقييدا في دليل تلك العبادة حتى يرفع باطلاقه ، كما لايخفى .

-----------------

التفصيلي - لا الاجمالي - يقيّد دليل العبادة ، بينما ظاهر الدليل الاطلاق ، بل قالوا : لو شك الانسان في الاطلاق والتقييد ، فاصالة الاطلاق محكمة ، حتى يأتي دليل على التقييد ، فالظهور والاصل كلاهما مع الاطلاق .

قلت : ( هذا ) الذي ذكرناه من لزوم الامتثال التفصيلي ، في قبال الامتثال الاجمالي ( ليس تقييداً في دليل تلك العبادة حتى يرفع ) القيد ( باطلاقه ) اي بسبب اطلاق الدليل ( كما لايخفى ) على من تأمل في المسألة ، فان المكلّف مأمور بتحصيل غرض المولى اذ الامر ناشى ء منه ، فاذا أتى بالامتثال التفصيلي يقطع بانه أتى بالغرض ، اما اذا لم يأت به لايعلم انه أتى بالغرض .

وان شئت جعلت الجواب في صورة قياس فتقول : « تحصيل الغرض واجب » و « لايعلم بحصوله بدون الامتثال التفصيلي » « فيجب الامتثال التفصيلي » وعليه : فليس الامر من التقييد وعدم التقييد ، بل من الشك في الاطلاق وعدم الاطلاق ، فالبحث يكون كالمجمل الذي له قدر متيقن ، لا كالمطلق الذي اذا شك في تقييده كان الاصل عدم التقييد .

هذا بيان، ويمكن هنا بيان اخر لكلام المصنّف - اي جوابه عن الاشكال - وهو : ان الامتثال من باب الطاعة ، والعقل هو المحكم في هذا الباب لاالشرع ، فالشرع امر بالعبادة ، والعقل يُلزم بالاطاعة ، فاذا شك في تقييد الشارع امره ، كان الاصل عدم التقييد، لا ما اذا شك في ان العمل الفلاني اطاعة ام لا ؟ فالمرجع العقل ، وهو يقول : ائت بما تتيقن انه طاعة ، والامتثال التفصيلي متيقن انه اطاعة ، اما الامتثال الاجمالي فلا يقين في كونه اطاعة، فاللازم عقلاً: تركه والاتيان بالامتثال التفصيلي.

وحينئذٍ : فلا ينبغي بل لايجوز تركُ الاحتياطَ في جميع موارد إرادة

ص: 243

التكرارَ بتحصيل الواقع أوّلاً بظنّه المعتبر من التقليد او الاجتهاد باعمال الظنون الخاصّة او المطلقة وإتيان الواجب

-----------------

لكن كلام المصنّف قدس سره هذا ، محل نظر ذكرناه في « الاصول » (1) .

( وحينئذٍ ) اي حين كان الواجب تحصيل غرض المولى ، فاللازم : ان يأتي المكلّف اولاً بمقتضى الامتثال التفصيلي .

وثانياً : بشقّه الآخر ، فاذا شك في ان الواجب الظهر او الجمعة ، وقد ادّى الظن الخاص الى وجوب الظهر ، أتى اولاً بالظهر ، وثانياً بالجمعة ، فانه اذا كان التكليف : الظهر ، فقد أتى به بنية الوجه والتمييز ، وان كان التكليف : الجمعة فقد أتى بها ، حيث انه امتثل اجمالاً بالجمع بين الظهر والجمعة .

وعليه : ( فلا ينبغي ، بل لايجوز ترك الاحتياط ) التام - كما صورناه - وهو يجري ( في جميع موارد ارادة التكرار ) للعبادة وذلك ( بتحصيل ) واتيان ( الواقع أولاً ب- ) ما ادّى اليه ( ظنه المعتبر ) شرعا ، لانه قام عليه الدليل الظني - وهو الخبر - بوجوب الظهر في يوم الجمعة - مثلاً - بنية الوجه والتمييز .

وهذا الظن المعتبر بالظهر حاصل ( من التقليد ) ان كان عامياً افتى مجتهده بوجوب الظهر ( او الاجتهاد ) ان كان مجتهداً وصل اجتهاده الى الظهر بالظن الخاص اذا كان انفتاحيا ، وذلك ( باعمال الظنون الخاصة ) كظاهر القرآن ، او الخبر الواحد ، او التمسك بالاجماع ، او نحو ذلك ( او ) الظنون ( المطلقة ) الحاصلة له من اي سبب كان بان كان انسدادياً ، فانه يوجب الظن النوعي - في الانسداد - .

( و ) على هذا : فعليه اولاً : ( اتيان الواجب ) الذي تميز بالظن الخاص ، مع نيّة الوجه ، ثم الاتيان بالمحتمل الاخر بقصد القربة من جهة الاحتياط .

ص: 244


1- - راجع كتاب الاصول : الجزء السابع ص29 الأدلّة العقلية للشارح .

وتوهّمُ : « أنّ هذا قد يخالف الاحتياطَ من جهة احتمال كون الواجب ما أتى به بقصد القربة ، فيكون قد أخلّ فيه بنيّة الوجوب » ، مدفوعٌ بأنّ

-----------------

او الظن المطلق ( مع نية الوجه ) والتمييز - كالظهر في مثالنا - ( ثم الاتيان بالمحتمل الآخر ) من العلم الاجمالي وهو الجمعة في مثالنا ( بقصد القربة ) لانه عبادة ، وانّما يأتي بالجمعة ( من جهة الاحتياط ) لاحتمال وجوبها .

( و ) ان قلت : اذا أتى المكلّف اولاً بما وصل اليه ظنه بقصد الوجوب - لانه مؤّى الدليل - ثم أتى بالمحتمل الآخر بقصد القربة فقط بدون قصد الوجوب ، كان ذلك خلاف الاحتياط ، لاحتمال ان الواجب واقعاً هو العمل الثاني ، ولم يأت به بقصد الوجوب ، ففاته في الثاني الوجه والتمييز ، وعليه : ف( توهم : ان هذا ) الثاني الذي اتى به بدون قصد الوجوب بل باحتمال الوجوب ( قد يخالف الاحتياط من جهة احتمال كون الواجب ) الواقعي الذي يريده المولى هو ( ما أتى به بقصد القربة ) فقط بدون قصد الوجوب ، كالجمعة في مثالنا ( فيكون قد اخل فيه ) اي في هذا الثاني ( ب- ) سبب تركه ( نية الوجوب ) بناءاً على لزوم نية الوجوب ، في الاتيان بالواجب التعبدي .

قلت : هذا التوهم ( مدفوع بأن ) نية الوجه ساقطة في الثاني ، لدوران الامر بين ان يأتي بالثاني بقصد الوجه ، وهذا تشريع محرم ، حيث الدليل دلّ على ان الاول هو الواجب لا الثاني ، وبين ان يأتي به بقصد القربة فقط ، اي بقصد احتمال انه مقرّب الى اللّه سبحانه بدون قصد الوجوب وهو خلاف الاحتياط - الذي هو قصد الوجه في العبادة - فاذا دار الامر بين ترك المحرّم وبين خلاف الاحتياط ، لزم

ص: 245

هذا المقدار من المخالفة للاحتياط ممّا لابدّ منه ، إذ لو أتي به بنيّة الوجوب كان فاسدا قطعا ، لعدم وجوبه ظاهرا على المكلّف بعد فرض الاتيان بما وجب عليه في ظنّه المعتبر .

وإن شئت قلت : إنّ نيّة الوجه ساقطة فيما يؤتى به من باب الاحتياط ، إجماعا ، حتى من القائلين باعتبار نيّة الوجه ،

-----------------

تقديم الاول ، فان ( هذا المقدار من المخالفة للاحتياط ) بأن لايأتي بالعمل الثاني بقصد الوجوب ( مما لابد منه ) وعلاج له .

( اذ لو أتى به ) أي بالثاني ( بنيّة الوجوب كان فاسداً قطعاً ) لانّه تشريع محرم (لعدم وجوبه ) أي الثاني ( ظاهراً ) حسب الادلة الظاهرية من الاجتهاد او التقليد (على المكلّف بعد فرض الاتيان ) اي اتيان المكلّف ( بما وجب عليه في ظنّه المعتبر ) اجتهاداً او تقليداً ، اولاً .

( وان شئت قلت ) في جواب الاشكال المتقدم - وتوهم - : ( انّ نيّة الوجه ) في الثاني كالجمعة في المثال ( ساقطة فيما يؤى به من باب الاحتياط اجماعاً ) من غير فرق بين كون الاحتياط واجبا ، كما اذا لم يقم دليل على ان الواجب هو الظهر او الجمعة ، او نذر الصوم ثمّ لم يعلم انّه نذر صوم يوم الخميس او يوم الجمعة ، او نذر صوما او صلاة ثم شكّ في انّ نذره تعلق بايّهما ، فان اللازم عليه في كلّ الامثلة ان يأتي بهما جميعاً ، وبين ان يكون الاحتياط افضل اي مستحبّاً : كما اذا قام الدليل على الظهر ، لكنّه يحتمل وجوب الجمعة ، حيث يأتي بها ايضاً احتياطاً لادراك الواقع ، فانّه اجماع على عدم اعتبار نيّة الوجه في كلا القسمين من الاحتياط : الواجب والمستحب ( حتّى من القائلين باعتبار نيّة الوجه ) والتمييز ، وانّما قلنا انّه

ص: 246

لأنّ لازمَ قولهم باعتبار نيّة الوجه في مقام الاحتياط عدمُ مشروعية الاحتياط وكونه لغوا .

ولا اظنّ أحدا يلتزم بذلك ، عدى السيّد أبي المكارم في ظاهر كلامه في الغُنية في ردّ الاستدلال على كون الأمر للوجوب بأنّه أحوط ،

-----------------

اجماع حتّى منهم ( لانّ لازم قولهم باعتبار نيّة الوجه في مقام الاحتياط ) اذا قالوا به - لكنّهم لايقولون به - ان يكون معناه : ( عدم مشروعية الاحتياط ) في العبادة ( وكونه ) اي الاحتياط ( لغواً ) لانّه لايجتمع الاحتياط مع نيّة الوجه ، فامّا ان يرفعوا اليد عن الوجه في الاحتياط ، وامّا ان يقولوا بانّه لا احتياط اطلاقاً .

( ولا اظنّ احداً ) من الفقهاء( يلتزم بذلك ) أي بانّه لااحتياط في العبادة اطلاقاً ، فحيث التزموا بوجود الاحتياط ، لابدّ وأن يرفعوا اليد عن لزوم قصد الوجه في باب الاحتياط .

( عدا ) وهو استثناء من « احداً » ( السيد ابي المكارم ) ابن زهرة ( في ظاهر كلامه في الغنية ، في ردّ الاستدلال ) من بعضهم ( على كون الامر للوجوب : بانّه احوط ) وذلك لانّهم قالوا : اذا أتى بالمأمور به اصاب الواقع ، سواء كان واجباً أو مستحباً ، امّا اذا لم يأت به لاحتمال الاستحباب ، احتمل انّه خالف الواقع ، فالاحوط : ان يحمل الامر على الوجوب حتّى يأتي به .

هذا استدلال اولئك ، وردّهم ابن زهرة حيث قال : ان حمل الامر على الوجوب ضدّ الاحتياط ، لانّه ينجرّ الى امور قبيحة كالاعتقاد بوجوب الفعل ، والعزم على اداء الفعل بقصد الوجوب ، والاعتقاد بقبح ترك ذلك الفعل ، ومن المعلوم ان كلّ هذه الامور قبيحة ، وظاهر هذا الكلام عدم تشريع الاحتياط ، وكون الاحتياط

ص: 247

وسيأتي ذكره عند الكلام على الاحتياط في طيّ مقدّمات دليل الانسداد .

المقام الاوّل

أمّا المقام الأوّل : وهو كفاية العلم الاجماليّ في تنجّز التكليف واعتباره كالتفصيليّ : فقد عرفتَ أنّ الكلامَ في اعتباره بمعنى وجوب الموافقة القطعيّة ، وعدم كفاية الموافقة الاحتماليّة

-----------------

خلاف الاحتياط ( وسيأتى ذكره ) اي كلام ابن زهرة ( عند الكلام على الاحتياط في طيّ مقدّمات دليل الانسداد ) ان شاء اللّه تعالى .

المقام الاول

( اما المقام الاول : وهو ) : انّه هل يثبت التكليف بالعلم الاجمالي ؟ بعد ان عرفت حكم المقام الثاني : وهو انّه هل يسقط التكليف بالامتثال الاجمالي ؟ .

وقد تقدّم : ( كفاية العلم الاجمالي في تنجز التكليف واعتباره ) اي اعتبار التكليف ، فلا يكون الانسان بعد علمه الاجمالي بالتكليف ، من حيث الحكم كالجاهل الذي لايعلم بالتكليف اصلاً ، فليس كالجاهل حكمه البرائة ، بل العلم الاجماليّ ( كالتفصيلي ) في التنجيز ، وله مرتبتان : مرتبة وجوب الموافقة القطعيّة ، ومرتبة حرمة المخالفة القطعيّة .

( ف) المرتبة الاولى : ( قد عرفت انّ الكلام في اعتباره ) اي اعتبار العلم الاجمالي (بمعنى : وجوب الموافقة القطعيّة ، وعدم كفاية الموافقة الاحتماليّة ) بأن يأتي باحد طرفي العلم الاجمالي فقط ، فاذا علم - مثلاً : بنجاسة أحد الانائين ، فالواجب هو عليه الاجتناب عن احدهما فقط دون الآخر ، واذا علم - مثلاً - بوجوب اما الظهر واما الجمعة فعليه ان يأتي باحدهما فقط ، واذا علم - مثلاً - بانّه

ص: 248

راجعٌ إلى مسألة البراءة والاحتياط ، والمقصودُ هنا بيانُ اعتباره في الجملة الذي أقلُّ مرتبته حرمةُ المخالفة القطعيّة ، فنقولُ : إنّ للعلم الاجماليّ صورا كثيرةً ، لأنّ الاجمال الطاري ، إمّا من جهة متعلّق الحكم مع تبيّن نفس الحكم تفصيلاً ،

-----------------

امّا يجب عليه صيام يوم ، او يحرم عليه شرب التتن - لانّه نذر احدهما ثمّ نسي المنذور منها - فاللازم عليه : امّا الصيام ، وامّا ترك الشرب ، وهذا البحث ( راجع الى مسألة البرائة والاحتياط ) ممّا سيأتي ان شاء اللّه تعالى .

( والمقصود هنا ) في بحث القطع ( بيان ) المرتبة الثانية وهي : ( اعتباره ) اي اعتبار العلم الاجمالي ( في الجملة ) مقابل عدم اعتباره مطلقاً و ( الذي اقلّ مرتبته ) من الاعتبار : ( حرمة المخالفة القطعيّة ) فلا يجوز ان يشرب كلا الانائين اللذين احدهما مقطوع النجاسة ، ولايجوز ان يترك كلتا الصلاتين : الظهر ، والجمعة ، اللتين يعلم اجمالاً بوجوب احدهما ( فنقول ) وعلى اللّه التكلان : -

( انّ ) المصنّف أتى بتقسيمين ، وقسّم التقسيم الثاني الى نوعين ، وقسّم النوع الثاني الى صنفين ، وقسّم الصنف الثاني الى شخصين ، وقد أوردوا على تقسيمه هذا عدّة اشكالات ، لكنّها حيث كانت خارجة عن مقصود الشرح تركناها للمفصّلات .

وكيف كان ، ف( للعلم الاجماليّ : صوراً كثيرة ، لانّ الاجمال الطاريء ) اي العارض على العلم في التقسيم الاول ( امّا من جهة ) الموضوع ، او من جهة الحكم ، او من جهة كلٍّ من الموضوع والحكم .

فالاول : كون ( متعلّق الحكم ) اي موضوعه مجملاً ( مع تبيّن ) ووضوح ( نفس الحكم تفصيلاً ) وله مثالان : الشبهة الوجوبية ، والشبهة التحريمية ،

ص: 249

كما لو شككنا أنّ حكمَ الوجوب في يوم الجمعة يتعلّقُ بالظهر او الجمعة ، وحكمَ الحرمة يتعلّقُ بهذا الموضوع الخارجيّ من المشتبهين أو بذاك ، وإمّا مِن جهةِ نفس الحكم مع تبيّن موضوعه ، كما لو شكّ في أنّ هذا الموضوع المعلوم الكلّي او الجزئي تعلّقُ به الوجوب او الحرمة ؛

-----------------

فالشبهة الوجوبية : ( كما لو شككنا ان حكم الوجوب ) المقطوع به ( في يوم الجمعة ) ظهراً هل ( يتعلق بالظهر او الجمعة ؟ و ) الشبهة التحريمية : كما لو شككنا في ان (حكم الحرمة ) الذي جاء بسبب النذر مثلاً ، هل ( يتعلق بهذا الموضوع الخارجي من المشتبهين ) كالتبغ ( او بذاك ) كالترياق ؟ فيما اذا نذر ان لايستعمل احدهما الخاصّ ، ثم نسي متعلّق نذره .

هذا كلّه من جهة الاشتباه في متعلق الحكم ( واما من جهة ) الاشتباه في ( نفس الحكم مع تبيّن موضوعه ) بأن لم يعلم الحكم الشرعي انّه حرمة او وجوب ، لكن يعلم الموضوع ( كما لو شكّ في انّ هذا الموضوع المعلوم ) له ( الكلّي ) كالجهر بالبسملة في الصلاة الاخفائية ، واجب باعتبار انّه بسملة ، او حرام باعتبار ان الصلاة اخفاتية ، ويلزم اخفات كلّ القرائة فيها ( او الجزئي ) كما اذا شكّ في ان زوجته هذه في حالة الحيض حتّى يحرم وطيها ، او مرّ عليها اربعة اشهر حتّى_'feيجب وطيها ، ولم يعلم هل ( تعلّق به ) أي بهذا الموضوع الكلّي او الجزئي ( الوجوب او الحرمة ) ؟ .

امّا اذا كان طرف الوجوب ، الاحكام الثلاثة الاخر : من الكراهة ، او الاستحباب ، او الاباحة ، فالاصل : البرائة ، كما انّه اذا كان طرف الحرمة كذلك ، فالاصل : البرائة ايضاً ، وكذلك يكون الاصل ، البرائة فيما اذا شك بين انّه واجب او حرام ، او له احد الاحكام الثلاثة الاخر ؟ .

ص: 250

وإمّا مِن جهة الحكم والمُتعلّق جميعا ، مثل أن نعلمَ أنّ حكما من الوجوب والتحريم تعلّق بأحد هذين الموضوعين .

ثمّ الاشتباهُ في كلّ من الثلاثة ،

-----------------

( وامّا ) الاشتباه ( من جهة الحكم والمتعلق ) اي الحكم والموضوع ( جميعاً ) فهناك شكّان : في نوع التكليف ، وشكّ في المكلّف به ( مثل ان نعلم ) اجمالاً ( ان حكماً من الوجوب والتحريم تعلّق بأحد هذين الموضوعين ) كما اذا لم يعلم انّه حلف على الوطي ، او على ترك الوطي ، ولم يعلم ايضاً انّ حلفه تعلّق بهند او دعد ، والمفروض انهما زوجتاه .

ثم لايخفى : انّ المراد « المتعلق » اعمّ من نفس الموضوع ، او المرتبط بالموضوع ، كما اذا علم انّه حلف على الصلاة ، فالموضوع وهو الصلاة معلوم ، والحكم وهو الوجوب معلوم ايضاً ، الاّ انّه لا يعلم هل حلف على الصلاة في هذا المسجد ، او في ذاك المسجد ؟ الى غير ذلك من المتعلّقات الزمانيّة والمكانيّة وسائر الخصوصيّات ، كما اذا لم يعلم انّه حلف على الصلاة مع هذا الامام ، او ذاك الامام ؟ .

( ثم ) انّه حيث قد عرفت التقسيم الاول للمصنف ، يأتي التقسيم الثاني : وهو كون الشكّ في نوع التكليف ، او في المكلّف به ، أو فيهما معاً ، وكلّ واحد من هذه الثلاثة - التي ذكرناها في القسم الاول - يأتي في التقسيم الثاني ايضاً ، وهو : الشكّ قد يكون في الشبهة الحكميّة ، وسبب الشبهة الحكميّة قد يكون : فقدان النصّ ، او اجماله ، او تعارضه ، وقد يكون في الشبهة الموضوعيّة : ممّا يلزم استطراق باب العرف للسؤل عن الموضوع الوارد في النصّ ، فيما اذا اشتبه الموضوع لدى المكلّف ، فان ( الاشتباه في كلّ من الثلاثة ) المتقدّمة في التقسيم

ص: 251

إمّا من جهة الاشتباه في الخطاب الصادر عن الشارع كما في مثال الظهر والجمعة ، وإمّا من جهة اشتباه مصاديق متعلّق ذلك الخطاب كما في المثال الثاني . والاشتباه في هذا القسم إما في المكلّف به كما في الشبهة المحصورة وإمّا في المكلّف .

-----------------

الاول ( امّا ) شبهة حكميّة ناتجة ( من جهة الاشتباه في الخطاب الصادر عن الشارع ) وهذا الاشتباه امّا من جهة فقده ، او من جهة اجماله ، او من جهة تعارضه ، مثلاً : النصّ مفقود في التبغ ، ولذا نشكّ في حكمه هل انّه حرام كما قاله بعض ، او حلال كما قاله آخرون ؟ .

والنصّ مجمل في قوله تعالى : « إِنْ عَلمْتُمْ فِيْهِمْ خَيْراً ... » (1) ، هل يراد بالخير : الايمان ، او المال ؟ فاذا نذر ان يكاتب عبده الذي كان مصداقاً للآية ، فهل يكاتب المؤن الذي لا مال له ، او ذا المال الذي لا ايمان له .

والنصّ متعارض في صلاة الجمعة حيث يقول نصّ : بانّه من وظائف الامام ، ونصّ آخر : انّه وظيفة كلّ مسلم مع اجتماع خمسة مثلاً ( كما في مثال الظهر والجمعة ) الصادر من الشارع ، وغيرها من الامثلة .

( وامّا ) شبهة موضوعيّة ناتجة ( من جهة اشتباه مصاديق ) وافراد ( متعلق ذلك الخطاب ) اي موضوعة ، او متعلق الموضوع على ماتقدّم ( كما ) ذكر ( في المثال الثاني ) عند قوله : وحكم الحرمة يتعلق بهذا الموضوع الى اخره ، فاذا قال الشارع: اجتنب عن الخمر ، ثمّ لم نعلم ان هذا الاناء خمر ، او الاناء الآخر ، كان من الشبهة

المصداقية (والاشتباه في هذا القسم ) ممّا سميناه صنفاً ، وهي الشبهة الموضوعية.

ص: 252


1- - سورة النور : الآية 33 .

وطرفا الشبهةِ في المكلّف إمّا أن يكونا احتمالين في مخاطب واحد كما في الخنثى ،

-----------------

( امّا في ) العمل ( المكلّف به ، كما ) مثلناه ( في ) الانائين المشتبهين ، ممّا يسمّى ب- ( الشبهة المحصورة ) في قبال الشبهة غير المحصورة ، ممّا لايلزم الشارع فيها العمل بالتكليف ، كما اذا كان في بلد مائة خباز احدهم نجس ، فانّه يجوز اشتراء الخبز من بعضهم ، اذا لم يكن جميعهم محل الابتلاء ، كما سيأتي الكلام فيه ان شاء اللّه تعالى .

( وامّا ) الاشتباه ( في ) الشخص ( المكلّف ) فالتكليف واضح ، لكن المكلّف مجهول ، وهذا التقسيم الاخير ، وهو الشخص يكون على ضربين كما اشار اليه بقوله :

( وطرفا الشبهة في المكلّف امّا ان يكونا ) اي طرفا الشبهة ( احتمالين في مخاطب واحد ، كما في الخنثى ) حيث يحتمل ان يكون في الواقع رجلاً محكوماً باحكامه كصحة كونه مرجعاً للتقليد للرجال ، وأحد الشاهدين الرجلين ، او الشهود الرجال ، وقاضياً ، وله ضعف الانثى في الارث ، ويتزوج بزوجة ، الى غير ذلك ، ويحتمل ان يكون امرأة محكومة باحكامها كأن تكون زوجة ولها نصف الذكر ، ويلزم عليها الحجاب ، ونفقتها على الزوج ، الى غير ذلك .

ثم انّه هل الخنثى المشكل في الواقع رجل او إمرأة ، او انّه قسم ثالث ؟ المشهور على الاول ، وقد ذكرنا تفصيل الكلام في ذلك في الفقه ، كما لم نستبعد انّه اذا كان مشكلاً ، ان يكون له الحقّ في ان يلحق نفسه بالرجال مطلقاً ، او بالنساء مطلقاً ، لكون « الناس مسلّطون على انفسهم » (1) ، الى غير ذلك ممّا ذكرناه هناك .

ص: 253


1- - يستفاد من قوله تعالى : « النّبي اولى بالمؤمنين من أنفسهم » سورة الاحزاب الآية 6 .

وإمّا أن يكونا احتمالين في مخاطبين كما في واجدي المنيّ في الثوب المشترك .

ولابد قبل التعرّض لبيان حكم الأقسام من التعرّض لأمرين .

أحدُهما :

-----------------

( واما ان يكونا ) اي طرفا الشبهة ( احتمالين في مخاطبين ، كما في واجدي المني في الثوب المشترك ) اذ يحتمل كون الجنابة من هذا او ذاك ، وكذلك الدّم الذي يقطع بكونه حيضاً في ثوب احدى المرأتين .

ولايخفى : انّه لا فرق بين الشكّ في المكلّف به ، او المكلّف ، في انّه من اقسام الشكّ في الموضوع ، وليس شيئاً خارجاً عن قسمي الشكّ في الموضوع او في الحكم ، كما انّ هناك مثالاً آخر : وهو اذا علم بأنّه حلف ان يطأ احدى زوجتيه ، وحلف ان لايطأ زوجة اخرى ، ثمّ شكّ في انّ ايتهما محلوفة الوطي وايتهما محلوفة الترك ؟ لزم عليه وطي احداهما وترك وطي الاخرى ، لانّه يحتمل بهذا مطابقة فعله للواقع ، امّا اذا وطئهما معاً ، او تركهما معاً ، فانّه يعلم انّه قد خالف الحلف .

( ولابدّ قبل التعرض لبيان حكم الاقسام ) الستة : ثلاثة للتقسيم الاول : من انّ الأعمال قد يكون في الموضوع ، او في الحكم ، او في كليهما ، وثلاثة للتقسيم الثاني : من انّ الاشتباه في كلّ من الثلاثة الاُول امّا في الخطاب ، او في المكلّف به ، او في المكلّف ، وقد عرفت تقسيم المكلّف الى مكلّف واحد او مكلّفين .

ثم لابدّ ( من التعرض لامرين : احدهما : ) انّ كلامنا في العلم الاجمالي ، ليس فيما اذا اخذ العلم في الموضوع ، بل فيما اذا اخذ في الحكم ، اذ لو اخذ العلم في الموضوع ، كان الاعتبار بكيفية الاخذ لا بالعلم .

ص: 254

انّك قد عرفت في أوّل مسألة اعتبار العلم أنّ اعتباره قد يكونُ من باب محض الكشف والطريقيّة وقد يكونُ من باب الموضوعيّة بجعل الشارع .

والكلام هنا في الأوّل ، إذ اعتبارُ العلم الاجماليّ وعدمُه في الثاني تابعٌ لدلالة مادلّ على جعله موضوعا .

فان دلّ على كون العلم التفصيليّ داخلاً في الموضوع ،

-----------------

مثلاً : قد يقول المولى : اذا علمت علماً تفصيليّاً بانّ لنا ضيوف في هذا اليوم ، وجب عليك تهيئة الطعام .

ومعنى ذلك : انّه اذا علم اجمالاً بالضيوف في هذا اليوم او في غد لم يجب عليه تهيئة الطعام ، وقد يقول : اذا علمت سواء اجمالاً او تفصيلاً : فعليك تهيئة الطعام ، وقد يقول : اذا علمت اجمالاً لاتفصيلاً ، فعليك تهيئة الطعام ، لانّ العلم ليس بطريق في حال اخذه في الموضوع .

ف( انّك قد عرفت في اول ) الكتاب في ( مسألة اعتبار العلم : ان اعتباره ) من قبل المولى ( قد يكون من باب محض الكشف ) عن الواقع ( والطريقيّة ) الى الواقع ( وقد يكون من باب الموضوعيّة بجعل الشارع ) فلا اعتبار بكونه كاشفاً ، وانّما من جهة انّه صفة نفسانيّة .

( والكلام هنا ) في العلم الاجمالي ( في الاول ) الذي هو الطريقي المحض : وانّه هل يكون منجزاً او ليس بمنجز ؟ لا في العلم الموضوعي ( اذ اعتبار العلم الاجمالي وعدمه ) وانّه معتبر او ليس بمعتبر ( في الثاني ) اي العلم الموضوعي ( تابع لدلالة ما ) اي للدليل الذي ( دلّ على جعله ) اي جعل العلم ( موضوعاً ) وذلك على ثلاثة اقسام كما عرفت :

1 - ( فان دلّ ) الدليل ( على كون العلم التفصيلي داخلاً في الموضوع ) لا العلم

ص: 255

كما لو فرضنا أنّ الشارع لم يحكم بوجوب الاجتناب إلاّ عمّا علم تفصيلاً نجاستُه ، فلا اشكالَ في عدم اعتبار العلم الاجماليّ بالنجاسة .

الثاني :

-----------------

الاجمالي ( كما لو فرضنا ان الشارع لم يحكم بوجوب الاجتناب ، الاّ عمّا علم تفصيلاً نجاسته ) بأن قال : اجتنب عن النجس المعلوم تفصيلاً ، لا ما اذا تردّدت في انّ النجس هذا الاناء او ذاك ( فلا اشكال في عدم اعتبار العلم الاجمالي بالنجاسة ) في احد الانائين .

2 - وان دلّ الدليل على ان الموضوع اعمّ من العلم التفصيلي او الاجمالي ، كان اللازم الاجتناب عن المعلوم تفصيلاً وعن المعلوم اجمالاً معاً .

3 - وان دلّ الدليل على ان الموضوع هو العلم الاجمالي لا التفصيلي ، كان اللازم الاجتناب عن المعلوم اجمالاً لا المعلوم تفصيلاً .

ثمّ في الثالث قد يقول : اجتنب عن كلٍّ من طرفي العلم الاجمالي ، وقد يقول : اجتنب عن احدهما المعيّن ، كالاناء الاحمر لا الابيض ، وقد يقول : اجتنب عن احدهما المردّد ، فالاقسام في العلم الموضوعي خمسة .

( الثاني ) في انّ العلم التفصيلي - الذي هو طريقي - حجّة مطلقاً وان كان متولّداً من العلم الاجمالي ، فاذا علم مثلاً بأنّه : امّا قد ضحك في صلاته ، او قد بكى ، كان

عالماً بالبطلان ، لانّ كلّ واحد منهما مبطل ، وكذلك اذا علم انّه امّا اكل في الصوم

او شرب .

لكن لايخفى : انّ العلم التفصيلي المتولّد من العلم الاجمالي انّما يكون حجّة بالقدر الجامع ، لابالقدر المختصّ بكلّ طرف من اطراف العلم الاجماليّ ، فمثلاً : الافطار بلا عذر بشرب الماء في نهار شهر رمضان موجب لكفارة واحدة ، وأكل

ص: 256

انّه إذا تولّد من العلم الاجماليّ العلمُ التفصيليّ بالحكم الشرعيّ في مورد ، وجب اتّباعُه وحرم مخالفته ، لما تقدّم من اعتبار العلم التفصيليّ من غير تقييد بحصوله من منشأ خاصّ ، فلا فرقَ بين من علم تفصيلاً ببطلان صلاته بالحدث او بواحد مردّد بين الحدث والاستدبار ، او بين ترك ركن وفعل مبطل ،

-----------------

لحم الخنزير موجب للكفارات الثلاث ، وقد علم انّه فعل احدهما ، فانّ البطلان المتيقّن لايوجب الاّ كفارة واحدة ، لاصالة عدم الزائد عليها ، وهذا بحث مفصّل قد يأتي في ثنايا الكتاب .

وعلى ايّ حال : ف( انّه اذا تولّد من العلم الاجمالي ، العلم التفصيلي بالحكم الشرعي في مورد ) كما تقدّم مثاله ( وجب اتباعه ) اي اتباع ذلك العلم التفصيلي بترتيب اثره عليه ( وحرم مخالفته ) سواء حصل العلم التفصيلي من فعلين ، او تركين ، او فعل وترك .

وانّما يجب الاتباع ( لما تقدّم من اعتبار العلم التفصيلي من غير تقييد بحصوله من منشأ خاصّ ) فان القطع التفصيلي الطريقي حجّة ، من غير فرق بين الاشخاص ، والاسباب ، والازمان ، والاماكن ، وسائر الخصوصيّات .

وعليه : ( فلا فرق ) في عدم كفاية ما صلاّه ( بين من علم تفصيلاً ببطلان صلاته بالحدث ) كما اذا علم بانّه قد غلبه النوم ( او ) علم ببطلانها علماً تفصيلياً متولداً من علم اجمالي بالبطلان ( بواحد مردّد بين الحدث والاستدبار ) للقبلة ( او ) علم ببطلانها بواحد مردد( بين ترك ركن ) كترك الركوع ( وفعل مبطل ) كزيادة الركوع - مثلاً - فالمردّد بين الضحك والبكاء ايجابيان ، وبين ترك الركوع او السجدتين سلبيان وبين الضحك او ترك الركوع ايجابي وسلبي .

ص: 257

او بين فقد شرطٍ من شرائط صلاة نفسه وفقد شرط من شرائط صلاة إمامه بناءاً على اعتبار وجود شرائط الامام في علم المأموم ، إلى غير ذلك .

-----------------

ثمّ مثلّ المصنّف لما اذا كان منشأ البطلان المردّد بين مالنفسه وما لإمامه بقوله : ( او ) بواحد مردد ( بين فقد شرط من شرائط صلاة نفسه ) اي صلاة المصلي نفسه ( وفقد شرط من شرائط صلاة امامه ) كما اذا علم بجنابة احدهما .

والمراد بالشرط : اعمّ من الجزء ، مثلاً : لو علم بانّه امّا لم يركع هو ، وامّا لم يركع امامه ، وكان بينهما ارتباط بان جاء بركوع لاجل المتابعة ، امّا اذا لم يكن بينهما ارتباط ، لم يحصل العلم التفصيلي بالبطلان ، كما اذا علم بانّ احدهما ترك الركوع ، بدون اتيان المأموم بركوع متابعي ، فانّه لايعلم ببطلان صلاته ، لانّ امامه اذا لم يأت بالركوع ، انفردت صلاة المأموم لا انّها تبطل .

ثمّ انّما يعلم المأموم ببطلان صلاته تفصيلاً في مثال جنابة نفسه او جنابة إمامه كما تقدّم ( بناءاً على اعتبار وجود شرائط ) صلاة ( الامام في علم المأموم ) فانّ الاحتمالات هنا ثلاثة :-

الاول : انّ المناط : الواقع ، فان كانت صلاة الامام واجدة للشرائط واقعاً ، صحّت والاّ بطلت .

الثاني : المناط : علم الامام ، فاذا علم الامام بصحّة صلاته كفى في الاقتداء به - وان كان المأموم يعلم عدم وجدان صلاة الامام للشرائط - .

الثالث : انّ المناط : علم المأموم ، فاذا علم بعدم وجدان صلاة الامام للشرائط ، لايصحّ الاقتداء به ، وإلاّ صحّ .

ثم ان ماذكره المصنّف قدس سره من قوله : « بناءاً » اشارة الى الامر الثالث ، وكما ان المراد ب« العلم » : أعمّ من العلم الوجداني او التنزيلي ( الى غير ذلك ) من امثلة

ص: 258

وبالجملة : فلا فرقَ بين هذا العلم التفصيليّ ، وبين غيره من العلوم التفصيليّة ، إلاّ أنّه قَد وَقَعَ في الشّرع موارِد يوهم خِلافَ ذلك :

منها : ما حكم به بعضٌ فيما إذا اختلفت الأمّة على قولين ولم يكن مع أحدهما دليلٌ ، من أنّه يطرح القولان ويرجع إلى مقتضى الأصل ،

-----------------

العلم الاجمالي المفضي الى العلم التفصيلي ، كما اذا علم بأنّ المرأة الفلانيّة امّا اخته من الرضاعة ، او اخته من النسب ، حيث يحرم عليه ان يتزوج بها .

( وبالجملة : فلا فرق بين هذا العلم التفصيلي ) المتولّد من علم اجمالي ( وبين غيره من العلوم التفصيلية ) فانّ اختلاف الاسباب لايكون سبباً لعدم حجّية العلم ، وكذلك في الظنون الخاصّة ، كالخبر الواحد ، والظنّ الانسدادي ، اذا وصلت النوبة اليه ( الاّ انّه قد وقع في الشرع موارد يوهم خلاف ذلك ) اي يوهم عدم الاعتبار بالعلم التفصيلي المتولّد من العلم الاجمالي ، فاللازم ان نلاحظ تلك الموارد حتّى نرى هل الشارع حكم بعدم الاعتبار فيها ام لا ؟ .

( منها ) اي من تلك الموارد ( : ماحكم به بعض فيما اذا اختلفت الامّة ) في مورد (على قولين ) كما اذا قال بعضهم : بانّ البئر لاتتنجّس بوقوع نجس فيها مطلقاً ، وقال بعضهم : بانّها تتنجّس مطلقاً ( ولم يكن مع احدهما دليل من ) الشرع معتبر يمكن الاستناد اليه ف( انّه يطرح القولان ) كأن لم يكونا ( ويرجع الى مقتضى الاصل ) من برائة ، او استصحاب ، أو ما أشبه .

فانّ الاصل قد يكون مع احدهما ، كما في مثال البئر ، حيث انّ الاصل فيها الطهارة ، وهذا لا محذور فيه ، وقد يكون الاصل خلاف كلا القولين ، كما اذا قال بعضهم : بوجوب الجهر بالبسملة في الصلاة الاخفاتيّة ، وبعضهم : بحرمة الجهر ، فانّا اذا طرحنا القولين ورجعنا الى الاصل ، كان مقتضى الاصل الجواز ،

ص: 259

فانّ إطلاقه يشمل مالو علمنا بمخالفة مقتضى الأصل للحكم الواقعيّ المعلوم وجودُه بين القولين ، بل ظاهرُ كلام الشيخ ، القائل بالتخيير هو التخييرُ الواقعيّ

-----------------

وهو خلاف الوجوب والحرمة .

وعليه : ( فان اطلاقه ) اي اطلاق كلام هذا البعض ( يشمل مالو علمنا بمخالفة مقتضى الاصل للحكم الواقعي ، المعلوم وجوده بين القولين ) كما في مثال البسملة - مثلاً - انّه قد انعقد الاجماع المركّب على انّ لا حكم ثالث ، فالامام عليه السلام مع أحد القولين ، ومع وجود هذا العلم كيف يحكم بقول ثالث ؟ وهل هذا الاّ مخالفة العلم التفصيلي المتولّد من العلم الاجمالي ؟ .

( بل ) ماذكرناه : من ترك القولين هو : ( ظاهر كلام الشيخ ) الطوسي قدس سره أيضاً فانّه (القائل بالتخيير ) بين القولين - في قبال القائل الاول ، الذي يقول بطرح القولين - فان التخيير ايضاً احداث قول ثالث ، ويكون خلاف العلم الاجمالي الذي يقول : بأنّ حكم اللّه إمّا في هذا ، أو في ذاك .

وهذا ( هو التخيير الواقعي ) لا التخيير الظاهري ، اذ التخيير الواقعي : احداث مايقطع بخلافه ، بخلاف التخيير الظاهري .

بيان ذلك : ان التخيير قد يكون واقعياً - وهو المسّمى بالواجب التخييري بمعنى : ان يكون حكم اللّه للمكلّف مخيرا بين هذا وذاك مثل : خصال الكفارة .

وقد يكون ظاهريّاً بمعنى : انّا حيث لا نعلم بالحكم الواقعي ، نتخيَّر بين الاخذ بهذا او ذاك ، كما في الخبرين المتعارضين حيث قال الامام عليه السلام :

ص: 260

المعلوم تفصيلاً مخالفته

-----------------

« إذن فتخير » (1) .

فانّ التخيير ليس حكم الواقع ، وانّما هو حكم الجاهل بالواقع كقاعدة الحلّ ، وقاعدة الطهارة ، اذ الموضوع لو كان نفس الموضوع بلا ضمّ ضميمة اليه ، كان الحكم واقعيّاً ، مثل : « الخمر حرام » حيث انّ الخمر بنفسه وضع عليه حكم الحرمة ، امّا اذا كان الموضوع هو الشيء بضميمة الجهل بحكمه ، مثل : « الشيء المجهول طهارته ونجاسته ، طاهر » فهذا حكم ظاهري ، اي انّ حكم المكلّف في حال جهله بالطهارة والنجاسة حكم الطهارة .

والتخيير الواقعي ينافي حكم اللّه ، اذ حكم اللّه امّا الظهر وامّا الجمعة - مثلاً - حسب ما افترقت عليه الأمّة من قولين فانّهم قائلون امّا بهذا القول او بذاك القول ، ولا قول سواهما ، فاذا قال احد : بانّه مخيّر واقعاً ، وفي اللوح المحفوظ التخيير بينهما ، كان مخالفاً للعلم الاجمالي ، اذ هو من التناقض ، فالحكم : وجوب الظهر ، والحكم : تخيير بين الظهر والجمعة ، تناقض .

كما انّ الحكم : وجوب الجمعة ، والحكم : تخيير بين الظهر والجمعة تناقض أيضاً .

أمّا اذا قال الشيخ : بالتخيير الظاهري ، فلا ينافي العلم الاجمالي ، اذ العلم الاجمالي يقول : في الواقع امّا ظهر أو جمعة ، والتخيير الظاهري يقول : في الظاهر تخيير ، والواقع مرتبة ، والظاهر مرتبة اخرى ، فلاتناقض في البين .

وعليه : فالتخيير الواقعي هو ( المعلوم تفصيلاً مخالفته ) اي مخالفة التخيير

ص: 261


1- - غوالي اللئالي : ج2 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع أحاديث الشيعة : ج1 ص255 .

لِحكم اللّه الواقعيّ في الواقعة .

ومنها : حكمُ بعضٍ بجواز ارتكاب كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة دفعةً او تدريجا ، فانّه قد يؤدّي إلى العلم التفصيليّ بالحرمة او النجاسة ، كما لو اشترى بالمشتبهين بالميتة جاريةً ،

-----------------

الواقعي ( لحكم اللّه الواقعي في الواقعة ) لانّ الحكم الواقعي هو الظهر فقط ، او الجمعة فقط ، فالتخيير بينهما خلاف ماثبت في اللوح المحفوظ من التعيين .

( ومنها ) اي ومن موارد حكم الفقهاء ما يستلزم خلاف العلم التفصيلي هو : (حكم بعض ) منهم ( بجواز ارتكاب كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة دفعة ) واحدة ، كما اذا كان هناك اناءان ، احدهما نجس فشرب احدهما ، وأراق الآخر في المسجد ، فانّه يعلم حينئذٍ بأنّه فعل حراماً . امّا بالشرب او بالأراقة ( او تدريجاً ) كأن يشرب احدهما اليوم ، ويشرب الآخر غداً ، حيث انّه بشربه للثاني يعلم بانّه شرب النجس .

( فانّه ) اي ارتكابهما دفعة او تدريجاً( قد يؤّي الى العلم التفصيلي ) الذي له نتيجة حاليّة ، وهو الذي يقصده من قوله : « قد يؤي » .

والاّ فكلّ استعمال لهما يؤّي الى النتيجة ، لكن قد لا يعلم بالنتيجة الحاليّة ، مثل ما مثّلناه من المثال الاول ، بخلاف الثاني : حيث يعلم حالاً بأنّ فمه نجس .

وقد مثّل المصنّف بما ادّى الى الحرمة في قوله : ( بالحرمة او النجاسة ) وقد عرفت مثال النجاسة وذلك ( كما ) اذا اشتبه المذكى بالميتة ، ف( لو اشترى بالمشتبهين بالميتة جارية ) سواء باعهما واشتراها تدريجاً أو دفعة كأن اشترى نصف الجارية باحد المشتبهين اولاً ، ثم اشترى نصفها الآخر بالمشتبه الثاني ثانياً

ص: 262

فانّا نعلم تفصيلاً بطلانَ البيع في تمام الجارية لكون بعض ثمنها ميتةً ، فنعلم تفصيلاً بحرمة وطيها ، مع أنّ القائل بجواز الارتكاب لم يظهر من كلامه إخراجُ هذه الصورة .

ومنها : حكمُ بعضٍ بصحّة ائتمام

-----------------

( فانّا نعلم تفصيلاً بطلان البيع في تمام الجارية ) اي فيما قابل الميتة منها ( لكون بعض ثمنها ميتة ، فنعلم تفصيلاً بحرمة وطيها ) وسائر الاستمتاعات منها .

لايقال : انّ القائل بجواز ارتكاب المشتبهين لايقول بالجواز في هذه الصورة .

لانّه يقال : ( مع انّ القائل بجواز الارتكاب ) للمشتبهين ( لم يظهر من كلامه اخراج هذه الصورة ) التي تولّد منها العلم التفصيلي بالحرمة او بالنجاسة من الجواز ، فالمحقق القمي قدس سره قوّى في القوانين جواز الارتكاب التدريجي ، وسيأتي الكلام في ذلك ، وبعضهم ذهب الى جواز الارتكاب الدفعي ايضاً لقوله عليه السلام : «حَتّى تَعرِفَ أنّهُ حَرامٌ بِعَينِهِ » (1) .

وعلى هذا : فان كانت هناك امرأتان يعلم بان احداهما اجنبية عنه ، يجوز له على قوله وطيهما تدريجاً ، او وضع يده على هذه ، ووطي تلك ، او وضع يديه عليهما دفعةً ، الى غير ذلك من الامثلة .

اللهم الاّ ان يقال : انّ الاموال والاعراض والانفس خارجة ، للزوم الاحتياط فيها حتّى في الشبهة البدويّة ، والشبهة غير المحصورة ، فاذا علم : بانّ احدى هؤاء الالف من النسوة رضيعته ، لايجوز له الزواج منهنّ ، وكذا اذا علم بانّ احد هؤاء الالف ، مسلم محقون الدّم ، والبقيّة كفّار واجبوا القتل ، يحرم قتل ايّ منهم .

( ومنها ) اي من تلك الموارد ايضاً ( : حكم بعض ) الفقهاء ( بصحة ائتمام )

ص: 263


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 (بالمعنى) ، تهذيب الأحكام : ج7 ص226 ب21 ح9 .

أحد واجدي المنيّ في الثوب المشترك بينهما بالاخر ، مع أن المأموم يعلم تفصيلاً ببطلان صلاته من جهة حدثه او حدث إمامه .

ومنها : حكمُ الحاكم بتنصيف العين التي تداعاها رجلان ، بحيث يعلم صدقُ أحدهما وكذبُ الاخر ، فانّ

-----------------

اي اقتداء ( احد واجدي المني في الثوب المشترك ) الذي هو لاحدهما ، او الفراش الذي (بينهما ) ويرى فيه آثار المني ، حيث يقطعان انّه من احدهما لكن اشتبه (بالآخر ، مع انّ المأموم يعلم تفصيلاً ببطلان صلاته ) لانّه يترك القرائة التي هي تكليف المنفرد ، عالماً عامداً ( من جهة حدثه ) بالمني ( او حدث امامه ) به .

وكذلك الحال في المرأتين ، اللّتين تعلمان بحيض احداهما ، لانّهما وجدتا آثار الحيض في الثوب المشترك بينهما ولم تغتسلا ، لاجراء كلّ واحدة منهما أصالة البرائة .

( ومنها ) اي من تلك الموارد ( : حكم الحاكم ) بعد تعارض البيّنات ولا ترجيح ، او بعد تحالفهما ، ولابيّنة لأحدهما ، او بعد تركهما الحلف والبينة ( بتنصيف العين ) كالدار ، او القماش ، او ما اشبه ذلك ( التي تداعاها رجلان بحيث يعلم ) الحاكم من الخارج ( صدق احدهما وكذب الآخر ) كما اذا علم بانّ الاب وهب داره لاحد ولديه : زيد او عمرو ، وقد مات الاب وتداعى الولدان ، كلّ يدّعي انّه الموهوب له ، وقد حدث مثل ذلك في زمان الامام امير المؤنين عليّ عليه السلام ، حيث تداعى اثنان ناقة واقام كلّ منهما البينة ، فقضى عليه السلام على الناقة بينهما بالتنصيف (1) .

( فانّ ) فيه اولاً : كيف يحكم الحاكم بما يعلم تفصيلاً بانّه ايصال للنصف

ص: 264


1- - راجع وسائل الشيعة : ج27 ص251 ب12 ح33698 .

لازمَ ذلك جوازُ شراء ثالث للنصفين من كلّ منهما مع أنّه يعلم تفصيلاً عدمُ انتقال تمام المال إليه من مالكه الواقعيّ .

ومنها : حكمهُم فيما لو كان لأحد درهمٌ ولآخر درهمان ، فتلف أحدُ الدراهم من عند الودعيّ ،

-----------------

الى غير صاحبه ، وهو علم تفصيلي بمخالفة الواقع ؟ .

وثانياً ( لازم ذلك ) الحكم ( جواز شراء ثالث للنصفين من كلّ منهما ) نصفاً من هذا ونصفاً من ذاك ، او ارث ثالث لهما ( مع انّه ) اي الثالث ( يعلم تفصيلاً عدم انتقال تمام المال اليه من مالكه الواقعي ) وانّما المنتقل اليه النصف فقط .

نعم ، اذا ادّعى كلّ منهما ، كلّ المال ، ونصّفه الحاكم ، واحتملنا اشتراك كلّ منهما في النصف ، لم يعلم تفصيلاً بعدم انتقال المال .

ثمّ انّه لاحاجة في اصل المسألة الى ادّعاء كلّ واحد منهما التمام ، بل لو ادعى احدهما التمام ، والاخر النصف ، فانّ الحاكم يقسّمه اثلاثاً ، يعطي الثلثين الى مدعي الكلّ ، والثلث الى مدعي النصف - على قول بعضهم - وحينئذٍ يعلم الحاكم بانّه قد اعطى واحداً من الثلثين او الثلث لغير المستحقّ ، وكذا الثالث الذي اشتراه منهما ، او ورثه منهما ، يعلم انّه لايملك امّا الثلث او الثلثين .

لكن لايخفى : انّ مثالنا السابق بالارث ليس مطلقاً ، اذ ربّما يعلم بانّه انتقل اليه من هذا او من ذاك ، بل فيها اذا صار ابهام في الارث بما اوجب العلم التفصيلي.

( ومنها ) اي من تلك الموارد ( : حكمهم ) اي الفقهاء ( - فيما لو كان لأحد درهم ولآخر درهمان ) فجعلا دراهمهما الثلاثة عند امين ( فتلف احد الدراهم ) الثلاثة (من عند الودعي ) بدون تفريط ، حيث انّه لو تلف بالتفريط كان الودعي ضامناً ، ولزم عليه ردّ الثلاثة اليهما لكن لو كان من غير تفريط ، فقد حكموا

ص: 265

بأنَّ لصاحب الاثنين واحدا ونصفا ، وللآخر نصفا ، فانّه قد يتفق إفضاء ذلك إلى مخالفة تفصيليّة ، كما لو أخذ الدرهمَ المشتركَ بينهما ثالثٌ ، فانّه يعلم تفصيلاً بعدم انتقاله من مالكه الواقعيّ اليه .

ومنها : مالو أقرّ بعين لشخص

-----------------

( - : بانّ لصاحب الاثنين واحداً ونصفاً ، وللآخر ) صاحب الواحد( نصفاً ) وذلك لانّ احد الدرهمين الباقيين لصاحب الدرهمين قطعاً ، والدرهم الثاني امّا لصاحب الدرهمين وامّا لصاحب الدرهم الواحد ، فبقاعدة العدل ينصّفه الحاكم بينهما ، وبهذا وردت الرواية ، لكن بعض الفقهاء قال : بالثلثين والثلث ، لا بثلاثة ارباع والربع - كما هو مورد الرواية - والتفصيل ذكرناه في الفقه .

وفي هذا التقسيم ، سواء كان عملاً بالرواية او عملاً بالقاعدة ، مخالفتان : -

الاولى : كيف يحكم الحاكم بانّ الدرهم الثاني يقسّم بينهما ، مع انّه يعلم انّه هذا الدرهم كلّه امّا لصاحب الدرهمين وامّا لصاحب الدرهم ، فهو مخالفة للعلم التفصيليّ ؟.

الثانية : ما اشار اليه المصنّف بقوله : ( فانّه قد يتّفق افضاء ذلك ) الحكم من الحاكم بالتنصيف ( الى مخالفة تفصيليّة ، كما لو اخذ الدرهم المشترك بينهما ثالث ) بالأشتراك ، او الهبة ، او ما اشبه ( فانّه ) اي الثالث ( يعلم تفصيلاً بعدم انتقاله ) بتمامه ( من مالكه الواقعي اليه ) اي الى هذا الثالث ، فكيف يتصرّف في تمامه تصرف المالك ؟ وهكذا اذا كان لهما ثوبان وثوب ، او ثلاثة دراهم ودرهمان ، الى غير ذلك .

( ومنها ) اي من تلك الموارد ( : مالو اقرّ ) من بيده عين ( ب- ) انّ تلك ال( عين لشخص ) .

ص: 266

ثم أقرّ بها للآخر ، فانه يَغرمُ للثاني قيمةَ العين بعد دفعها إلى الأوّل ، فانّه قد يؤدّي ذلك إلى اجتماع العين والقيمة عند واحد ويبيعها بثمن واحد ، فيعلم عدم انتقال تمام الثمن إليه ، لكون بعض مثمنه مال المقر في الواقع .

-----------------

مثلاً قال : هذا الكتاب لزيد ( ثّم اقرّ بها للاخر ) بأنّ قال : هذا الكتاب لعمرو ( فانّه ) اي المقر ( يغرم للثاني ) وهو عمرو ( قيمة العين ) كدينار قيمة الكتاب مثلاً (بعد دفعها ) اي العين ، كالكتاب في المثال ( الى الاول ) الذي اقرّ له اولاً ، كزيد في المثال .

وانّما يدفع العين الى الاول : لقاعدة اقرار العقلاء ، ويدفع القيمة للثاني : لانّه باقراره انّ الكتاب للثاني قد اعترف بانّه اتلف العين عليه باقراره للأول ( فانّه ) حينئذٍ يحصل للحاكم مايخالف علمه التفصيلي ، وذلك : -

اولاً : انّ الحاكم حيث يعلم انّه ليس على المقر الكتاب وقيمته معاً ، فيكون حكمه بالأمرين مخالفاً لعلمه التفصيلي .

وثانياً : ( قد يؤّي ذلك ) الحكم باعطائه العين للاول وقيمته للثاني ( الى اجتماع العين والقيمة عند ) شخص ( واحد ) بأن يرث الكتاب والقيمة من الاثنين المقر لهما (ويبيعها ) اي الكتاب والقيمة ( بثمن واحد ) كأن يشتري بهما داراً ( فيعلم ) هذا الثالث ب( عدم انتقال تمام الثمن ) كالدار في المثال ( اليه ، لكون بعض مثمنه ) من الكتاب وقيمته ( مال المقرّ في الواقع ) لانّ الكتاب ان كان للاول ، فالقيمة للمقرّ ، وان كان للثاني فليس الكتاب للاوّل المقر له .

هذا ، ولكن الذي ذهبنا اليه في الفقه : انّه بعد اقراره للاوّل بالكتاب ، لم يكن اقراره الثاني ذا قيمة ، اذ هو اقرار فيما لايملك ، واقرار العقلاء انّما يصحّ فيما يملكون ، لا فيما لايملكون ، سواء كان الاقرار سابقاً على الملك

ص: 267

ومنها : الحكمُ بانفساخ العقد المتنازع في تعيين ثمنه او مثمنه على وجهٍ يقضى فيه بالتحالف ، كما لو اختلفا في كون المبيع بالثمن المعيّن عبدا او جاريةً ، فانّ ردّ الثمن

-----------------

أو لاحقاً له .

مثلاً : لو أقرّ بأنّ فرس زيد الذي في يده لعمرو ، فانّه اقرار في ملك الغير ، فاذا ورث الفرس لا يجب عليه اعطاؤ لعمرو - وهذا اقرار سابق على المالك - والاقرار اللاحق هو كما تقدّم في مثال الكتاب .

هذا في المال ، وامّا في غير المال فكذلك ، مثلاً : لو اقرّ زيد بانّ زوجة عمرو ليست زوجة له وانّما هي زوجة بكر ، فاذا طلّقها او مات عنها عمرو ، صحّ للمقر تزويجه منها ، ولايقال : انّه باقراره بانّها زوجة بكر لايحق له تزويجها بعد طلاق او موت زوجها عمرو ، لانّه اقرار في حقّ الغير الى غير ذلك .

هذا ، بالاضافة الى ان الاقرار ثانياً ، امّا ان يصدر عن غير عاقل ، فليس من اقرار العقلاء ، او من عاقل يدّعى انّه اشتبه في اقراره الاول ، فاللازم ان يسمع كلامه ، لا ان يحكم عليه بالاقرارين ، كما ذكروا ذلك فيمن كتب انّه تسلم الثمن ، ثمّ ادّعى انّه كتابته كانت قبل التسلم ، حيث قالوا : بانّه يسمع كلامه ، وتفصيل الكلام في الفقه .

( ومنها ) اي من تلك الموارد ( :الحكم ) اي حكم القاضي ( بانفساخ العقد المتنازع في تعيين ثمنه ، او مثمنه ) او بائعه ، او مشتريه ، بأن تنازعا ( على وجه يُقضى فيه بالتحالف ) حيث لابيّنة لاحدهما ، او تعارضت البيّنتان وتساقطتا ( كما لو ) اتّفقا على الثمن المعين كمائة دينار ، و ( اختلفا في كون المبيع ب- ) هذا ( الثمن المعيّن ، عبداً او جارية ) فقال البائع : بالأول ، والمشتري : بالثاني ( فانّ ردّ الثمن )

ص: 268

إلى المشتري بعد التحالف مخالفٌ للعلم التفصيليّ بصيرورته ملكَ البايع ثمنا للعبد او الجارية ، وكذا لو اختلفا في كون ثمن الجارية المعيّنة عشرةَ دنانير او مائةَ درهم ، فانّ الحكم بردّ الجارية مخالفٌ للعلم التفصيليّ بدخولها في ملك المشتري .

-----------------

بحكم القاضي ( الى المشتري بعد التحالف ) المقتضي لبطلان البيع ظاهراً ( مخالف للعلم ) اي لعلم المشتري ( التفصيلي بصيرورته ) اي الثمن ( ملك البائع ثمناً للعبد او الجارية ) فانّ البيع حسب الفرض قد وقع ، والثمن انتقل الى البائع ، فكيف يأخذه المشتري ؟ .

( وكذا) في عكسه : بأن كان الاختلاف في الثمن ، لا المثمّن كما ( لو ) اتّفقا في انّ المثمّن الجارية لكنهما ( اختلفا في كون ثمن الجارية المعيّنة عشرة دنانير ، او مائة درهم ف) قال البائع : بعتك بعشرة دنانير ، وقال المشتري : بل بمائة درهم ، فانّ الحكم هو التحالف ، وبعد التحالف يحكم ببطلان البيع ظاهراً وترد الجارية الى صاحبها وهو البائع ، مع وضوح ( انّ الحكم بردّ الجارية ) الى البائع ( مخالف للعلم التفصيلي بدخولها في ملك المشتري ) مثمناً للدنانير ، او الدراهم .

وكذا اذا كان الاختلاف في البائع او المشتري ، كما لو اتفق الجميع على بيع الكتاب بدينار ، لكن كان الاختلاف في انّ البائع زيد او عمرو ، او انّ المشتريّ زيد او عمرو ؟ .

وهكذا اذا كان الاختلاف في الزوج ، هل هو بكر او خالد ؟ او في الزوجة ، هل هي هند او دعد ؟ فانّ النكاح يبطل بعد التحالف ، او تعارض البيّنتين ، مع العلم بانّه وقع النكاح الى غير ذلك من مختلف الامثلة في ابواب الطلاق ،

ص: 269

ومنها : الحكمُ بأنّه لو قال أحدهما : بعتك الجارية بمائة ، وقال الآخر : وهبتني إيّاها - إنّهما يتحالفان وتُردّ الجارية إلى صاحبها ، مع أنّا نعلم تفصيلاً بانتقالها عن ملك صاحبها الى الآخر ، إلى غير ذلك من الموارد التي يقف عليها المتتبّع .

-----------------

وسائرالمعاملات .

( ومنها ) اي من موارد البحث ( : الحكم ) من الفقهاء ( بانّه لو ) اختلفا في نفس العقد بأن ( قال احدهما ) اي احد المتعاقدين ( : بعتك الجارية بمائة ، وقال الآخر : وهبتني ايّاها ) فاذا كان لاحدهما البيّنة ، او اليمين مع عدمها ، حسب ماهو ميزان الدعوى فهو ، والاّ ف( انّهما يتحالفان ) .

وكذلك اذا تعارضت البيّنتان وتساقطتا فانّه يكون المرجع ( وتردّ الجارية الى صاحبها ) لأنّ احد العقدين لم يثبت ( مع انّا نعلم تفصيلاً : بانتقالها عن ملك صاحبها الى الآخر ) بيعاً او هبة .

( الى غير ذلك من الموارد التي يقف عليها المتتبّع ) في الفقه ، من انقلاب العلم الاجمالي الى العلم التفصيلي ، ومع ذلك لايقولون بالعمل حسب العلم التفصيلي ، كما في : حكمهم بجواز ارتكاب اطراف الشبهة غير المحصورة ، مع انّه قد يشرب الف انسان من الف اناء احدها نجس ، ثمّ يشربون من اناء واحد ، فانّه يعلم تفصيلاً بنجاسته ، لانّ احدهم تنجس فمه بالشرب ، وكما في اجراء العالم عقد الزواج لمائة يعلم بكون احد الزوجين من هذه المائة اخت الزوج من الرضاعة - مثلاً - ، حيث انّ الزواج يجوز لكلّ المائة ، لاجرائهم أصالة عدم الرضاع .

ص: 270

فلابدّ في هذه الموارد من التزام أحد امور على سبيل منع الخلوّ :

أحدُها : كونُ العلم التفصيليّ في كلّ من أطراف الشبهة موضوعا للحكم ، بأن يقال : ان الواجبُ الاجتنابُ عمّا علم كونه بالخصوص بولاً ،

-----------------

وهكذا ( فلابدّ في هذه الموارد من التزام احد امور ، على سبيل منع الخلو ) اذ بعض الموارد يمكن ان يجاب عنه باجوبة متعدّدة من الاجوبة التي سنذكرها ان شاء اللّه تعالى ، وذلك لأن مخالفة العلم موجب للتناقض كما عرفت ، فاللازم الخروج من هذا التناقض ، امّا بأجوبة تظهر من الادلة ، أو بأجوبة احتماليّة ، فلايقال : كيف يتدخل في الشريعة اجوبة احتمالية ؟ .

( احدها : كون العلم التفصيلي في كلّ من اطراف الشبهة موضوعاً للحكم ) فاذا علم الانسان تفصيلاً بالموضوع ذي الحكم ، لزم ترتيب ذلك الحكم ، امّا اذا لم يعلم تفصيلاً فليس عليه ترتيب الحكم ، كما في مسألة الائتمام - مثلاً - بأن يقول الشارع : اذا علمت بانّ امامك جنب علماً تفصيلياً ، فلا يمكن لك الاقتداء به ، امّا اذا لم تعلم تفصيلاً ، بل علمت اجمالاً بجنابة احدكما فلا بأس بالائتمام ، فالعلم التفصيلي أخذ في الموضوع ، وليس العلم طريقاً حتّى يقال : لا فرق في العلم الطريقي بين العلم الاجمالي والعلم التفصيلي .

وان شئت قلت : يمكن ان يُفرض : انّ الشارع قال : انّ كلاً منكما ايّها الامام والمأموم طاهر ، اذا لم يكن لكما علم تفصيلي بالجنابة ، او قال : انّ صلاتكما جماعة صحيحة اذا لم تعلما بالجنابة علماً تفصيلياً .

وبهذا الجواب نجيب في ارتكاب الانائين المشتبهين دفعة او تدريجاً ( بان يقال : ان الواجب ) شرعاً ( الاجتناب عمّا علم كونه بالخصوص بولاً ،

ص: 271

فالمشتبهان طاهران في الواقع ، وكذا المانع للصلاة الحدثُ المعلومُ صدورهُ تفصيلاً من مكلّف خاصّ ، فالمأموم والامام متطهّران في الواقع .

الثاني : انّ الحكمَ الظاهريّ في حقّ كلّ أحد نافذٌ واقعا في حق

-----------------

فالمشتبهان ) بانّ احدهما بول ( طاهران في الواقع ) فلا يلزم من شربهما تدريجاً شرب النجس ، ولا من شرب احدهما واراقة احدهما في المسجد دفعة ، استعمال النجس .

وهكذا المشتبه بالميتة ليس حراماً ، فاذا جعلا ثمنا للجارية دفعة او تدريجا ، لم يكن بعض الجارية غير مملوك للمشري حتّى يحرم وطيها .

( وكذا المانع للصلاة : الحدث ) اي الجنابة ، او الحيض في المثال المتقدم ( المعلوم صدوره تفصيلاً من مكلّف خاص ) لا الحيض ، او الجنابة الاجماليّة غير المعلومة انّها من هذا او من ذلك ( فالمأموم والامام متطهّران في الواقع ) .

وبهذا الجواب يقيّد اطلاق دليل الحرمة والنجاسة في الميتة والجنابة اي « بما علم تفصيلاً » ، لكنّهم لايلتزمون بذلك ، فهل اذا وقع الثوبان النجس احدهما ، في ماء قليل يقال بطهارته ؟ او جعل اللحمان الميتة احدهما ، في قدر يحكم بحلّيته ؟ .

والجواب ( الثاني : انّ الحكم الظاهري ) بصحّة صلاة الامام ، لانّه مستصحب الطهارة علماً بانّ استصحاب المأموم الطهارة لصحّة صلاته تظهر فائدتها في صحّة رجوع الامام اليه اذا شكّ في انّه ركع مثلاً ام لا ، فانّ المأموم اذا أشار اليه بأنّه ركع كفى في صحّة صلاته ، كما انّ استصحاب الامام الطهارة لصحّة صلاته ، تفيد المأموم لرفع شكّه ، وذلك كلّه يتوقف على انعقاد الجماعة .

وعليه : فالحكم الظاهري ( في حق¨ كلّ واحد ) منهما ( نافذ واقعاً في حقّ

ص: 272

الآخر ، بأن يقال : إنّ من كانت صلاتُه بحسب الظاهر صحيحةً عند نفسه ، فللآخر أن يرتّب عليها آثارُ الصحّة الواقعيّة ، فيجوز له الايتمام به ، وكذا من حلّ له أخذُ الدار ، ممّن وصل اليه نصفُه إذا لم يُعلَم كذبُه

-----------------

الآخر ) من الامام والمأموم وان لم يكن سبباً لصحّة صلاته واقعاً ، فاذا انكشف للامام انّه كان جنبا لزم عليه اعادتهما ، كذلك اذا انكشف للمأموم ذلك ( بان يقال : انّ من كانت صلاته بحسب الظاهر صحيحة عند نفسه ) ولو كان علمه على نحو الجهل المركّب ، او على نحو الحكم الشرعي كالاستصحاب ( فللاخر ان يرتب عليها ) اي على صلاة الامام ( آثار الصحّة الواقعيّة ) .

فاذا كانت صلاة الامام عند نفسه صحيحة ، فلا اثر للعلم الاجمالي من المأموم بكون احدهما جنباً ، او أن احدهما توضأ بالماء النجس فيما اذا كان لهما اناءان ، وعلم المأموم بنجاسة احد الانائين ، فانّ كلّ واحد منهما يستصحب طهارة انائه ويتوضأ او يغتسل منه ، ويقتدي احدهما بالآخر ، او يقتدي ثالث بهما في صلاة واحدة ، او في صلاتين مع انّ المأموم يعلم انّ احد اماميه جنب ( فيجوز له ) اي للمأموم ( الايتمام به ) كما يجوز للأمام الاعتماد عليه في عدد الركعات وما اشبه .

وهكذا في الحج ، فيستنيب زيد عمرا او خالداً في حجّه حيّاً او ميّتاً ، مع انّه يعلم انّ احد النائبين جنب فيما اذا كانت الجنابة مشتبهة بين عمرو وخالد ، الى غير ذلك من المسائل .

( وكذا ) نقول : بانّ الظاهر كافٍ في الامر ، ولا يؤّر العلم الاجمالي في( من حلّ له اخذ الدار ) الّتي تداعاها رجلان من كلّ واحد ( ممّن وصل اليه نصفه ) او بالاختلاف ، بأن وصل ثلثها الى احدهما ، وثلثان آخران الى الثاني ( اذا لم يعلم ) هذا الثالث : الذي اشترى الدار منهما ، او الوارث لهما ، او نحو ذلك ( كذبه ) اي

ص: 273

في الدّعوى ، بأن استند إلى بيّنة او إقرار او اعتقاد من القرائن ، فانّه يملك هذا النصفَ في الواقع .

وكذلك إذا اشترى النصف الآخر ،

-----------------

كذب أحد المدعيين متعمداً (في الدعوى ) .

وذلك ( بان استند ) كلّ واحد من المدّعيين في دعوى ملكه للدار( الى بيّنة او اقرار ) كما اذا كانت الدار لزيد ، فاقرّ مرّة بانّها لعمرو ، واقرّ مرة بانّها لخالد ، ولم نعلم : انّ ايّ الاقرارين كان سابقاً على اقراره الآخر ؟ اذ لو علمنا فإقراره السابق ، كان اقراره اللاحق باطلاً ، لانّ الدار صارت للسابق منهما ( او اعتقاد ) كلّ واحد منهما بأنّ الدار له ( من القرائن ) كما اذا كانت دار في يد والدهما ، وكلّ لا يعلم بأنّها كانت في يد الآخر بل يزعم انّ والده وحده كانت الدار في يده ( فانّه ) اي الثالث المشتري منهما ، أو الوارث منهما ، او ما اشبه من انحاء الانتقال ( يملك هذا النصف ) الذي بيد زيد وهذا النصف الذي بيدي عمرو ( في الواقع ) لانّ الملك الواقعي متوقّف على ملك البايعين ظاهراً .

( وكذلك ) نجيب بعين هذا الجواب ( اذا اشترى ) احدهما ( النصف الآخر ) عطف على « اخذ » بان يأخذه منه مجّاناً ، او هديّةً ، او يشتريه منه ، لكن هذا يبعده : انّ الاخذ اعمّ من الاشتراء ، فلا داعي الى ذكره ، كما انّه يحتمل بعيداً أيضاً ان يريد : انّه لو اشترى احد المتنازعين نصف شريكه ، فانّه ربّما يحصل له العلم الاجمالي بأحد امرين : -

الاول : انّ نصف الدار لشريكه اذا كان في الواقع كلّ الدار لشريكه ، وقد اشترى نصفه منه ، اذ يبقى نصفه الآخر ملكاً لشريكه .

الثاني : انّ الثمن الذي أعطاه للشريك بقي على ملك نفسه ، ممّا اوجب

ص: 274

فيثبت ملكه للنصفين في الواقع .

وكذا الأخذُ ممّن وصل إليه نصفُ الدرهم في مسألة

-----------------

استطاعته ، او الخمس فيه ، فيما اذا كان كلّ الدار لنفسه ، واشترى نصفه من شريكه فانّ البيع باطل ، فهو يعلم فعلاً بأحد واجبين عليه : امّا ردّ نصف الدار الى شريكه - اذا كان كلّ الدار لشريكه وقد اشترى نصفه - وامّا وجوب الحجّ عليه بالثمن الذي دفعه ممّا اوجب استطاعته مثلاً - اذا كان كلّ الدار لنفسه وقد اشترى نصفها من شريكه اعتباطاً .

هذا اذا قلنا : بالحكم الواقعي في المسألة ، امّا اذا قلنا : بكفاية الظاهر ، فبعد قضاء الحاكم بانّ الدار نصفها لهذا ونصفها لذاك صارا في الظاهر مالكين للنصفين ، ويصحّ للثالث البناء على هذا الحكم الظاهري ، فيشتري النصفين منهما ، او يرثه منهما ، او ما اشبه من انحاء الانتقال ( فيثبت ملكه للنصفين في الواقع ) لكنّهم لايلتزمون بذلك سواء بالنسبة الى الثالث ، او الى احد الطرفين .

مثلاً : اذا تنازع الزوجان في انّها زوجته ام لا ، فادّعى الزوجيّة وانكرت ، وجاء بالشهود ، فانّ الحاكم يحكم بزوجيّتها له ، لكن هل لها ان ترتب آثار الزوجيّة التي قضي الحاكم بها وهي تعلم انّها ليست بزوجته ، وانّه والشهود قد اشتبهوا في الامر ، حيث انّ أباها قد زوجه اختها ، لا هي ؟ .

امّا ترتيبها آثار الزوجيّة في غير القدر المجبور فيها بان تذهب هي اليه للمواقعة ، وتأخذ الارث منه اذا مات ، الى غير ذلك فمعلوم العدم .

( وكذا ) نقول في مثال درهمي الودعي : فانّه بعد حكم الحاكم يصبح كلّ نصف من الدرهم لاحدهما ، مع انّ كلّ الدرهم في الواقع امّا لهذا وامّا لذاك ف( الاخذ ممّن وصل اليه نصف الدرهم في مسألة ) الوديعة المتقدّمة بحسب

ص: 275

الصلح ومسألتي التحالف .

-----------------

( الصلح ) يكون مالكاً للنصف واقعاً ، فيجوز الثالث ان يأخذ النصفين منهما ، ويكون مالكاً لكلّ الدرهم .

والظاهر : انّه كلّما لم يثبت بدليل شرعي انقلاب الواقع بسبب حكم القاضي او ما اشبه ، نقول : ببقاء الواقع على واقعيّته ، وانّه لا يجوز لمن حصل له العلم التفصيلي عدم ترتيب آثار الواقع ، سواء في الموارد السابقة ، او اللاحقة ، او غيرها .

( و ) كذا قد عرفت الكلام في الاقرار بعين واحدة لاثنين ، فانّ الاقرار الثاني : امّا باطل حيث انّه اقرار في غير الملك ، أو أنّه صحيح ويلزم تقسيم العين بين المقر لهما لقاعدة العدل .

ويؤّد الاوّل : انّ المرأة لو اعترفت : انّها زوجة لزيد ، لم يصح اقرارها الثاني انّها زوجة لعمرو ، كما إنّ الزوج إن اقرّ : انّه زوج لهند ، لم يصحّ اقراره الثاني انّه زوج لاختها .

واذا وقع قتيلان : احدهما في بغداد ، والآخر في البصرة ، فأقر انسان : انّه قتل قتيل بغداد ، ثمّ اقر : بأنّه قتل قتيل البصرة في نفس تلك الساعة ، لم يصحّ اقراره الثاني الى غير ذلك .

اما لو قيل كما قالوا في الاقرارين : من خسارة العين للأول ، وخسارة الثمن للثاني ، فنقول : بانّ الشارع قد حكم باعطاء الثاني من ماله فيكونان بحكم الشارع مالكان للعين والقيمة ، فيصح الثالث اخذهما منهما ، كما قلنا في درهمي الودعي .

وكذا الحال في( مسألتي ) الثمن والمثمن او الاختلاف في العقد انّه بيع او هبة ممّا يلزم ( التحالف ) الى غير ذلك من موارد التحالف ، وكلّها احكام ثانويّة

ص: 276

الثالث : أن يلتزم بتقييد الأحكام المذكورة بما اذا لم يُفضِ إلى العلم التفصيليّ بالمخالفة والمنع ممّا يستلزم المخالفَة المعلومةَ تفصيلاً ، كمسألة اختلاف الأُمّة على قولين ، وحمل أخذ المبيع في مسألتي التحالف على كونه تقاصّا شرعيّا قهريّا ، عمّا يدّعيه من الثمن

-----------------

من الشارع مخصّصة لاطلاق الادلة الاوليّة .

الجواب : ( الثالث ) هو ( : ان يلتزم بتقييد الاحكام المذكورة ) في المسائل السابقة ، مثل : درهمي الودعي وموارد التحالف ، الى غير ذلك ( بما اذا لم يفض الى العلم التفصيلي بالمخالفة ) للواقع ، فلايصحّ لثالث اخذ نصفي الدرهم ، ولا غير ذلك ممّا تقدّم ( والمنع ممّا يستلزم المخالفة المعلومة تفصيلاً ، كمسألة اختلاف الامّة على قولين ) فانّه نقول : لايجوز احداث قول ثالث بالتخيير ، كما ذكره الشيخ قدس سره ولا بغيره ، فاذا اختلفت الامّة على قولين : قول بنجاسة البئر بالملاقات مطلقاً وقول بطهارتها مطلقاً ، لم يجز احداث قول ثالث بنجاستها ببعض النجاسات وعدم نجاستها ببعض النجاسات الاخرى .

وكذلك اذا اختلفت في : وجوب الظهر او الجمعة ، لم يجز احداث قول ثالث بالاستحباب للجمعة مثلاً او تحريمها ، الى غير ذلك .

( و ) كذا يلتزم ب( حمل اخذ المبيع في مسألتي التحالف ) في صورة الاختلاف في المثمن انّه جارية او عبد ، والاختلاف في الثمن انّه عشرة دنانير او مائة درهم ، حيث قالوا : ببطلان البيع ، ورجوع كلّ من البضاعة والنقد الى مالكه ، فنقول : كلّ طرف حيث يرى نفسه محقّاً في مايدّعيه ، يأخذ بضاعته او نقده ( على كونه تقاصّاً شرعيّاً قهريّاً عمّا يدّعيه من الثمن ) او المثمن :

فمالك البضاعة يأخذ بضاعته تقاصّاً ، ومالك الثمن يأخذ ثمنه تقاصّاً ،

ص: 277

او انفساخ البيع بالتحالف من أصله او من حينه ، وكون أخذ نصف الدرهم مصالحة قهريّة .

-----------------

والتقاصّ مفاعلة « قصّ » بمعنى اتباع الاثر السابق ومنه « القصة » لانها اتباع الاثر السابق ومنه قصص الانبياء عليهم السلام ، وهو يصطلح شرعاً فيما اذا لم يصل الانسان الى ماله فانّ له الحقّ ان يأخذ بقدره مثلاً او قيمة ممّن استولى عليه ، سواء كان قد استولى على عين ماله ، او كان يطلبه من جهة النفقة فلم يدفعها اليه ، كما في قصّة هند حيث أجاز لها الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ان تأخذ من مال زوجها ابي سفيان بقدر نفقتها ونفقة اولادها .

( او ) يلتزم على( انفساخ البيع ) ونحوه في الاختلاف في الثمن او المثمن ، أو الاختلاف في خصوصيّة العقد ، هل هو بيع او هبة بعوض او اجارة مثلاً ؟ الى غير ذلك انفساخاً (ب) سبب ( التحالف من اصله ) فكأنّه لم يقع بيع اصلاً ( او من حينه ) اي حين التحالف ، بان وقع البيع وبقي الى وقت التحالف ، فلما تحالفا ابطله الشارع .

والثمرة على القولين تظهر في الانفساخ لو كان من الاصل ، كانت الثمار فيما بين البيع والتحالف للمنتقل عنه ، وان كان الانفساخ من حين التحالف كانت الثمار بين البيع والتحالف للمنتقل اليه .

( و ) يلتزم ايضاً على ( كون اخذ نصف ) الدار او ( الدرهم ) في النزاع في الدار ، وفي مسألة درهمي الودعي ( مصالحة قهريّة ) من الشارع على الطرفين ، والتصالح القهري له صورتان :-

الاولى : انّ الشارع يعلم انّه احياناً يكون الدرهم الثاني لصاحب الدرهمين ، واحياناً لصاحب الدرهم ، فحكم دائماً بانّ نصفه لهذا ونصفه لذلك ، حتى تتوزع

ص: 278

وعليك بالتأمّل في دفع الاشكال عن كلّ مورد بأحد الأمور المذكورة ، فانّ اعتبار العلم التفصيليّ بالحكم الواقعيّ وحرمة مخالفته ممّا لا يقبل التخصيصَ باجماع او نحوه .

إذا عرفت هذا فلنَعد إلى حكم مخالفة العلم الاجماليّ ،

-----------------

الخسارة ولا يكون الثقل على احد الطرفين .

الثانية : انّ الدرهم وان كان ملكاً لاحدهما دائماً ، الاّ انّ الشارع جعل نصفه لمن لا يملك واقعاً بالصلح ، عوض الصلح الذي شرع لختم النزاع ، وقد ذكرنا تفصيل الكلام في ذلك في مثل الدرهم والدار وغيرهما في الفقه .

( وعليك بالتأمّل في دفع الاشكال عن كلّ مورد ) من الموارد التي ذكرناها ، وما فيها من الاشكال على تحوّل المعلوم بالاجمال الى المعلوم بالتفصيل ( بأحد الامور المذكورة ، فانّ اعتبار العلم التفصيلي بالحكم الواقعي وحرمة مخالفته ممّا لا يقبل التخصيص باجماع او نحوه ) فاذا رأينا التخصيص ، فلابدّ وان يحمل على كون القطع موضوعيّاً ، لا طريقيّاً ، او انّ الشارع رفع يده عن الواقع لعلّة ، فلايمكن ان يقال بعدم هذين الامرين ، ومع ذلك يقال بالتخصيص باجماع او سنة .

( اذا عرفت هذا ) الذي ذكرناه من تبدّل المعلوم بالاجمال الى المعلوم بالتفصيل ومع ذلك لايلزم العمل بالمعلوم بالتفصيل ( فلنعد الى حكم مخالفة العلم الاجمالي ) وهو على قسمين :-

الاول : المخالفة لانسان واحد ، كما تقدّم .

الثاني : المخالفة لجملة من النّاس ، كما اذا أباح الشارع غير المحصور والحال انّه يعلم مخالفة البعض لحكمه الواقعي ، كما لو كان في البلد مائة لبّان والشارع يعلم انّ لبن احدهم نجس ، ومع ذلك حيث انّه غير محصور - فرضاً - يجيز

ص: 279

فنقول : مخالفةُ الحكم المعلوم بالاجمال يتصوّر على وجهين :

أحدُهما : مخالفتهُ من حيث الالتزام ، كالالتزام باباحة وطي المرأة المردّدة بين من حرم وطيها بالحلف ومن وجب وطيها به مع اتحاد زماني الوجوب والحرمة ،

-----------------

ارتكاب النّاس له ، فانّه كيف يمكن الجمع بين حرمة اللبن النجس ، وبين اجازة ارتكابه ؟ .

والجواب : انّ الشارع رفع يده عن الحرمة لاجل التسهيل مثلاً ، فلا حكم في الواقع ، فلايلزم المناقضة ، وعليه : فامّا لا حكم كما في غير المحصور ، وامّا لا اجازة كما في المحصور .

وعلى اي حال : ( فنقول : مخالفة الحكم المعلوم بالاجمال ، يتصور على وجهين : احدهما : مخالفته ) اي مخالفة الحكم ( من حيث الالتزام ) بان يلتزم قلباً خلاف الحكم الفرعي ، وان التزم عملاً بالحكم ( كالالتزام باباحة وطي المرأة المردّدة بين من حرم وطيها بالحلف ، ومن وجب وطيها به ) اي بالحلف ، كما اذا علم بانّه حلف بأحد الامرين ، لكن لايعلم انّه حلف على الفعل او حلف على الترك .

وكذا اذا التزم قلباً بحلّية المرأتين والحال انّ احداهما واجبة الوطي ، لانّها زوجته وقد وصل زمان وجوب وطيها ، واخراهما محرّمة الوطي لانّها في حالة الحيض ، وهو لا يعلم بانّه ايّتهما هذه وايّتهما تلك ؟ وذلك ( مع اتحاد زماني الوجوب والحرمة ) كما اذا علم بانّه هنداً زوجته في اوّل ساعة من ليلة صيام هذا العام ، امّا واجبة الوطي او محرمة الوطي - لانّه قد حلف على احدهما - والتزم باباحتها ، كان ذلك التزاماً قلبيّاً بخلاف الحكم الذي يعلم به اجمالاً .

ص: 280

وكالالتزام باباحة موضوع كلّيّ مردّدة أمرهُ بين الوجوب والتحريم ، مع عدم كون احدهما المعيّن تعبّديّا يعتبر فيه قصدُ الامتثال ،

-----------------

وانّما قال : مع اتحاد زماني الوجوب والحرمة ، لان¨ في مثل هذه الحالة لا يمكن المخالفة عملاً ، بخلاف ما اذا كان مختلف الزمان ، كما اذا علم بالوجوب في اوّل الشهر ، او الحرمة في آخره ، فانّه اذا التزم بالاباحة امكن المخالفة عملاً ، بان يترك الوطي في اوّل الشهر ويطأ في آخره ، فانّ الالتزام - في هذا المثال - بخلاف الحكم المعلوم اجمالاً « من الوجوب او الحرمة » ينجرّ الى المخالفة العمليّة .

( و ) ايضاً ( كالالتزام باباحة موضوع كلّي ) كالزواج - مثلاً - ( مردّد امره ) اي امر ذلك الكلّي ( بين الوجوب والتحريم ) بأن حلف امّا على الترك أو على الفعل ، وجاء بهذا المثال الافادة انّه لا فرق في ما ذكره بين الجزئي والكلّي ، فلو التزم بالاباحة في ايّ منهما ، لم ينجرّ الى العمل ، لانّه لا يخلو من الفعل او الترك ، سواء التزم بالاباحة او لا ( مع عدم كون احدهما المعيّن تعبديّاً ) .

وقد تقدّم انّ التعبّدي في الاصطلاح : ما ( يعتبر فيه قصد الامتثال ) سواء كان كلاهما غير تعبدي - بان كانا توصليين ، بلا فرق بين الجزئي او الكلّي - او كان احدهما تعبّدياً ، لكنّه غير معيّن انّ ايّهما تعبّدي كما اذا نذر فعل الوطي او الترك قربة الى اللّه - لما فيه من الصلاح لدينه - فصار احدهما بنذره تعبّديّاً ، لكنّه لا يعلم انّ ايّاً من الفعل او الترك تعبّدي .

امّا اذا كان احدهما المعيّن تعبّدياً ، كما لو نذر ان يطأ تعبّديّاً قربة ، او يترك توصليّاً ، فالتزم بالاباحة ، فانّ التزامه حينئذٍ ينجّر الى العمل ، فانّه اذا وطأ توصليّاً يكون قد ترك كلا الامرين : اي الوطي التعبدي ، واللاوطي التوصلي ، فيكون

ص: 281

فانّ المخالفة في المثالين ليس من حيث العمل ، لأنّه لايخلو من الفعل الموافق للوجوب والترك الموافق للحرمة ، فلا قطع بالمخالفة إلاّ من حيث الالتزام باباحة الفعل .

-----------------

التزامه الاباحة منجراً الى العمل بينما الكلام في انّه هل يجوز الالتزام بالاباحة فيما لم ينجّر الى العمل ؟ ( فان المخالفة في المثالين ) الجزئي والكلّي ( ليس من حيث العمل ) الخارجي ، لانّه سواء التزم بالاباحة او لم يلتزم لا يخلو امّا من الفعل او الترك ، فالالتزام لم ينجرّ الى العمل ( لانّه ) عملاً ( لا يخلو من الفعل الموافق للوجوب ) الذي هو احد المحتملين ( والترك الموافق للحرمة ) الذي هو المحتمل الآخر ( فلا قطع بالمخالفة ، الاّ من حيث الالتزام باباحة الفعل ) اي انّه التزم باباحة الفعل مع انّه امّا واجب او حرام .

ثمّ انّه لو كان كلّ من الفعل والترك تعبّدياً امكن المخالفة العمليّة ، فلو حلف - مثلاً - بان يطأ قربة ، او يترك قربة ، ثمّ وطأ بدون القربة او ترك الوطي بدون القربة علم بانّه خالف ، لانّه ان كان واجباً قربةً ، لم يفعله وان كان حراماً قربة ، لم يتركه بقصد القربة ، ومنه يعلم انّ الاقسام ثلاثة :

الاول : كون كليهما تعبديّاً .

الثاني : كون كليهما توصليّاً .

الثالث : كون احدهما تعبّدياً والآخر توصليّاً ، وهذا الثالث قد يكون معلوماً انّ ايهما تعبّدي وايّهما توصلّي ، وقد يكون مجهولاً ، وانّما يعلم اجمالاً بانّ احدهما تعبدي .

هذا تمام الكلام من حيث الالتزام ، وهو الامر الاول .

ص: 282

الثاني : مخالفتُه من حيث العمل ، كترك الأمرين اللذين يعلمُ بوجوب أحدهما ، وارتكاب فعلين يعلم بحرمة احدمها فانّ المخالفة هنا من حيث العمل .

وبعدَ ذلك ، فنقولُ : أمّا المخالفة الغير العمليّة ، فالظاهر جوازها في الشبهة الموضوعيّة والحكميّة معا ،

-----------------

( الثاني : مخالفته ) اي مخالفة الحكم ( من حيث العمل كترك الامرين اللذين يعلم بوجوب احدهما ) بأن يترك الظهر والجمعة في التعبدي ، ويترك مواقعة زوجتيه في التوصلي ( وارتكاب فعلين يعلم بحرمة احدهما ) كأن يشرب انائين يعلم بنجاسة احدهما ، ويأتي بفعل وترك يعلم منع احدهما ، كما اذا علم انّه يجب عليه امّا ترك التتن او فعل الوطي لزوجته ، فاستعمل التتن وترك الوطي ( فانّ المخالفة هنا ) في الامثلة الثلاثة ( من حيث العمل ) لا من حيث الالتزام .

( وبعد ذلك ) الذي تبيّن من انّ المخالفة قد تكون التزاميّة وقد تكون عمليّة ( فنقول : امّا المخالفة الغير العمليّة ) ، ولايخفى ان « غير » لا يدخل عليه اللام ، لانّه متوغل في الابهام ، قال سبحانه : « غير المغضوب عليهم » (1) ، ( فالظاهر جوازها في الشبهة الموضوعيّة ) المرتبطة بموضوعات الاحكام ( والحكميّة ) المرتبطة بالاحكام ( معاً ) .

وانّما كان الظاهر الجواز ، لانّه لا دليل على وجوب الالتزام ، فاذا التزم في قلبه بأنّ زوجته حرام عليه ، أو بأنّ شرب الماء الذي هو مباح واجب عليه ، لم يكن عليه شيء ، ولو شكّ في وجوب الالتزام بالاحكام ، كان الاصل العدم ، فاذا كان في غير الشبهة كذلك ، كان في الشبهة بطريق اولى .

ص: 283


1- - سورة الفاتحة : الآية 7 .

سواء كان الاشتباه والترديد بين حكمين ، لموضوع واحد ، كالمثالين المتقدّمين ، او بين حكمين لموضوعين ، كطهارة البدن وبقاء الحدث لمن توضّأ غفلةً بمايع مردّد بين الماء والبول .

-----------------

وان شئت قلت : المقتضي لشمول ادلّة البرائة موجود والمانع مفقود ، اذ العلم الاجمالي لا يكون مانعاً- بطريق اولى - بعد ان لم يكن العلم التفصيلي مانعاً .

لا يقال : الالتزام باحكام اللّه سبحانه لازم .

لانّه يقال : الالتزام من حيث هو مقدّمة للعمل لازم ، امّا اذا كان عدم الالتزام ، او التزام العدم ، لا ينجّر الى المخالفة العمليّة فلا ، فهل يقول احد : بأنّ الالتزام القلبيّ على انّ الماء مباح ، او الخمر حرام ، بدون اظهار او عمل على خلاف احكام اللّه سبحانه لازم .

وعليه : فالمخالفة الالتزاميّة جائزة ( سواء كان الاشتباه والترديد بين حكمين لموضوع واحد ، كالمثالين المتقدّمين ) اي الموضوع الشخصي المردّد ، كالمرأة المردّدة بين وجوب الوطي او حرمتها ، او الموضوع الكلّي - على ما ذكرهما المصنّف - ومثّلنا للثاني : بانّه حلف امّا على ترك الزواج او فعله ( او بين حكمين لموضوعين كطهارة البدن ) لاستصحاب الطهارة ( وبقاء الحدث ) لاستصحاب الحدث ( لمن توضأ - غفلة - بمائع مردّد بين الماء والبول ) فانّه ان كان ماءاً ، كان بدنه طاهراً وكان متطهراً من الحدث ، وان كان بولاً كان بدنه نجساً وكان محدثاً ، فالتفكيك بينهما تفكيك بين المتلازمين ، لكن قد يجري ذلك في الشرع والعقل .

ففي الشرع : كما اذا اوصى بشيء ، وكان الشاهد عليه امرأة واحدة ، فربع الوصية وان شهدت امرأتان فالنصف ، وفي الثلاث ثلاثة ارباع ، وفي الاربع الكلّ ، مع انّه فيما عدا الصورة الاخيرة ، امّا له كلّ الوصيّة او لا شيء له .

ص: 284

أما في الشبهة الموضوعيّة ، فلأنّ الأصلَ في الشبهة الموضوعيّة إنّما يخرجُ مجراه عن موضوع التكليفين ، فيقال : الأصلُ عدمُ تعلّق الحلف بوطي هذه

-----------------

وفي العقل : كما في موارد القواعد العقلائيّة من التنصيف بين المتداعيين وغير ذلك .

على اي حال ، فالقول : بانّ بدنه طاهر ولا وضوء له ، مخالفة التزاميّة ، لانّ الالتزام بالامرين معاً مخالفة للواقع قطعاً ، لكنّه ليس بمخالفة عمليّة ، فانّه سواء صلّى بذلك الوضوء او لم يصلّ ، لم يعلم بأنّه خالف عملاً ، اذ لو صلّى بذلك الوضوء ، احتمل الصّحة من جهة احتماله انّ الماء كان طاهراً ، وان لم يصلّ به بل صلّى بوضوء آخر ، او لم يصلّ اصلاً ، لانّه توضأ لصلاة النافلة ، او لأن يكون متطهراً - حيث استحباب الطهارة الدائمة - او ما اشبه ذلك ، لم يكن علم بالمخالفة العمليّة .

وانّما قال : غفلة ، لانّه اذا علم بانّ المائع مردد بين الماء والبول ، لم يأتي منه قصد القربة ، الاّ من باب الرجاء كما يأتي منه في التوضي بانائين مشتبهين .

( امّا ) دليل جواز المخالفة الالتزامية ( في الشبهة الموضوعية ، فلان الاصل ) العدمي ( في الشبهة الموضوعية انّما يخرج مجراه ) أي متعلق التكليف ، كالمرأة المشكوكة في كونها محلوفة الوطي او محلوفة الترك ( عن موضوع التكليفين ) فاذا علم بانه اما قد حلف على وطيها ، او حلف على ترك وطيها ، فلا يستصحب عدم الحلف ، حتى يكون منافياً للعلم الاجمالي بالحلف ، بل يستصحب بقائها على حالتها السابقة .

( فيقال ) حينئذٍ ( : الاصل عدم تعلق الحلف بوطي هذه ) المرأة

ص: 285

وعدم تعلّق الحلف بترك وطيها ، فتخرج المرأةُ بذلك عن موضوع حكمي التحريم والوجوب ، فَيُحكَمُ بالاباحة لأجل الخروج عن موضوع الوجوب والحرمة ،

-----------------

( و ) الاصل ايضاً (عدم تعلق الحلف بترك وطيها ) لان كونها محلوفة الوطي او الترك مسبوقان بالعدم فيستصحب العدم ( فتخرج ) هذه ( المرأة بذلك ) الاصل في الطرفين ( عن موضوع حكمي التحريم والوجوب ) .

لا يقال : كيف يجري الأصلان والحال انا نعلم بأنهما امّا محلوفة الوطي أو محلوفة الترك ؟ .

لانه يقال : هذا تابع لشمول دليل الاصل لهما ، فانه ربما يقال : دليل الاصل لا يشملهما ، لانه يوجب التناقض في اطراف الدليل ، وربما يقال : انه لا يشملهما، لانه لا فائدة للاصل بعد كونه اما فاعل او تارك سواء أجرى الاصل ام لا ، وربما يقال : بانه لا يشملهما لان الاصلين مناقضين للعلم الاجمالي ، بل للعلم التفصيلي بانها محلوفة في الجملة .

وكيف كان : فان قلنا بالشمول لانه لا يوجب المخالفة العملية ، والمحذور انّما هو : في لزوم الاصلين مخالفة عملية ، فانه يجري الاصلان .

فان قلت ما فائدة مثل هذا الاصل ؟ .

قلت : ان الفائدة عدم لزوم الالتزام .

والحاصل : ان الشارع قال : لا حاجة إلى الالتزام - بعد عدم امكان المخالفة العملية - فتأمل .

وعليه : ( فيحكم ) على تلك المرأة ( بالاباحة ) وطياً وتركاً ( لاجل الخروج ) أي خروجها بسبب جريان الاصلين ( عن موضوع الوجوب ) لوطيها ( والحرمة )

ص: 286

لا لأجل طرحهما ، وكذا الكلام في الحكم بطهارة البدن وبقاء الحدث في الوضوء بالمايع المردّد ،

-----------------

لوطيها ( لا لاجل طرحهما ) أي طرح الوجوب والحرمة ، فلا نقول : الاصل عدم الوجوب ، وعدم الحرمة ، بل نقول : الاصل كونها محلوفة الوطي ، او محلوفة الترك ، فاذا خرجت عن موضوع الحكمين ، فلا يشملهاالخطابان ، أي واجب عليك الوطي ، او حرام عليك الوطي .

وهذا مثل قول العقلاء في شيء متنازع عليه بين نفرين ولا دليل لاحدهما : ان الاصل عدم كونه كله لهذا كما ان الاصل عدم كونه كله لذاك ، فيقسم بينهما مع العلم انه لاحدهما ، فالاصلان في عمل العقلاء لاجل التقسيم العملي ، والاصلان في المرأة لاجل عدم الالتزام القلبي .

( وكذا الكلام في الحكم بطهارة البدن وبقاء الحدث في الوضوء بالمائع المردد ) بين الطاهر والنجس ، فان الشارع قد حكم بطهارة بدن المتوضي ونجاسة ما لاقى نجساً ، فعند الشك في المانع ، نقول : الاصل عدم ملاقاة هذا البدن للنجس ، كما ان الاصل عدم كون روحه روح المتوضي ، فاذا خرج بدنه وروحه عن موضوعي المتنجس الظاهري والطهارة المعنوية ، فلا يحكم بالتنجس ولا برفع الحدث ، فيستصحب بقاء طهارة البدن وبقاء حدث الروح ، ولا تستصحب الطهارة والحدث بنفسهما ، بل يجري الاصل في موضوعهما .

ولا يخفى ان هناك اربعة اشياء : البدن ، والروح ، والنفس ، والعقل .

فالبدن : هذا الهيكل الظاهر .

والنفس : ما في داخل البدن مما قد يخرج وقد يبقى كما في الميّت والحي .

والروح : ما يسبب اتصال البدن والنفس ، كما في حال الحياة .

ص: 287

وأمّا الشبهة الحكميّة ، فلأن الاُصول الجارية فيها وإن لم يُخرِج مجراها

-----------------

والعقل : ما يهدي البدن والنفس إلى المصالح وينهى عن المفاسد .

ومثال ذلك ، السيارة ، فالهيكل : هو البدن ، والماكنة : هي النفس ، والبنزين ، هو الروح ، والسائق : هو العقل ، والمثال تقريبي - كما لا يخفى - .

وربما يطلق الروح على النفس ، ويطلق النفس على الروح ، والدليل على انهما اثنان - دليلين - وذلك ان القرآن الكريم اذا ذكر النفس جعلها بين امرين ، قال سبحانه : « وَنَفسٍ وَما سَوّاها * فألهَمَها فُجورَها وَتَقْواها » (1) .

واذا ذكر الروح مدحه مطلقاً ، قال سبحانه : « قُلِ الرّوحُ مِن أمرِ رَبّي ... » (2) .

( واما ) دليل جوازالمخالفة الالتزامية في ( الشبهة الحكمية ) كما اذا شك في ان الشارع هل اوجب اخراج الذباب من الحلق - اذا كان صائماً ودخل ذباب حلقه في حال الصلاة - حتى لا يبطل صومه ، او حرّمه حتى لا تبطل صلاته ، ؟ فان الاصل الجاري بعدم الوجوب وعدم الحرمة ، ينافي نفس الحكم أي الوجوب او الحرمة المحتملين ، لا ان الاصل كما في الشبهة الموضوعية يخرج مجرى الحكمين ، الا انه لا بأس باجراء اصل عدم الحكمين - هنا - لانه لا يلزم منه مخالفة عمليّة ، اذ الانسان اما يخرج الذباب او لا يخرج ، سواء اجرى الاصل او لا ، فلا يلزم من اجراء الاصل مخالفة عملية ، حتى يقال : لا يجري الاصل لانه يخالف العمل .

والحاصل : انه لا دليل على حرمة المخالفة الالتزامية لا في الموضوعات ولا في الاحكام ، بل الاصل في كليهما مع المخالفة الالتزامية ، اما في الشبهة الموضوعية فقد عرفت وجهه ، واما في الشبهة الحكمية : ( فلأن الاصول الجارية فيها ) أي في الشبهة الحكمية ( وان لم يخرج مجراها ) أي مجرى تلك الاصول

ص: 288


1- - سورة الشمس : الآيات 7 - 8 .
2- - سورة الاسراء : الآية 85 .

عن موضوع الحكم الواقعي ، بل كانت منافية لنفس الحكم ، كأصالة الاباحة مع العلم بالوجوب او الحرمة ، فانّ الاصولَ في هذه منافيةٌ ، لنفس الحكم الواقعيّ المعلوم إجمالاً ، لا مخرجةٌ عن موضوعه ،

-----------------

( عن موضوع الحكم الواقعي ) كحكم وجوب اخراج الذباب من الحلق او حرمة اخراجه ، فان الاخراج وعدم الاخراج لا يسقطان عن كونهما إخراجاً او غير إخراج ، بخلاف المرأة المحلوفة الوطي او الترك ، حيث انها تخرج عن كونها محلوفة الفعل او الترك بسبب الاصل .

وان شئت قلت : « المرأة » كلي « والمرأة المحلوفة » صنف منه ، وقد اخرجنا « المرأة المحلوفة » عن كلي المرأة بسبب الاصل ، وليس المقام كذلك ، فان «وجوب الاخراج » ليس فوقه كلي يخرج « هذا الوجوب » عنه ( بل كانت ) الاصول ، كأصل عدم وجوب الإخراج او وجوب الإخراج ( منافية لنفس الحكم ) اذ الحكم وجوب الاخراج ، او حرمة الاخراج فالمقام ( كاصالة الاباحة مع العلم ) اجمالاً ( بالوجوب او الحرمة ، فان ) اصل الاباحة كما انه ينافي الوجوب او الحرمة ، للتناقض بينهما كذلك ( الاصول في هذه ) الشبهة الحكمية ، أي اصل حرمة الاخراج او اصل وجوب الاخراج ( منافية لنفس الحكم الواقعي المعلوم اجمالاً ) كما ذكرناه .

( لا ) ان الاصل هنا - في الشبهة الحكمية - كالشبهة الموضوعية ، حتى تكون الاصول فيها ( مخرجة ) لمجرى تلك الاصول ( عن موضوعه ) أي موضوع الحكم ، فان الاصل قد ينتج اسقاط الموضوع كما في الشبهة الموضوعية ، وقد ينتج اسقاط الحكم ، كما في الشبهة الحكمية ، فالاصل في الاول ليس مناقضاً للحكم ، بينما الاصل في الثاني مناقض للحكم ، والأصل المناقض - سواء للحكم

ص: 289

إلاّ أنّ الحكم الواقعيّ المعلوم إجمالاً لا يَترتّبُ عليه أثرٌ ، إلاّ وجوبُ الاطاعة وحرمةُ المعصية ، والمفروض أنّه لايلزم من اعمال الاصول مخالفة عمليّة له لتحقيق المعصية ، ووجوبُ الالتزام بالحكم الواقعيّ مع قطع النظر

-----------------

التفصيلي او للحكم الاجمالي - لا يجري ، اذ لا يعقل ان المولى يناقض نفسه بنفسه ، بان يقول : الشيء الفلاني جائز ، ويقول : نفس ذلك الشيء واجب او حرام .

( الاّ ان ) ذلك لا يمنع من اجراء الاصلين في الحكم : اصل عدم الوجوب ، واصل عدم الحرمة ، لان ( الحكم الواقعي المعلوم اجمالاً لا يترتب عليه اثر ، الاّ وجوب الاطاعة وحرمة المعصية ) .

فاذا حكم المولى بحكم ، وقال مثلاً : ان نفقة الزوجة واجبة ، فلهذا الحكم اثر واحد فقط ، وهو الانفاق على الزوجة وليس له اثران : وجوب الالتزام بوجوب النفقة قلباً ، والانفاق الخارجي عملاً .

ولهذا فان الزوج اذا اعطى النفقة ، ولم يلتزم قلباً بوجوب الانفاق ، او التزم قلباً بان الانفاق ليس بواجب لم يكن معاقباً .

وكذا في طرف النهي ، فاذا قال المولى : لا تشرب الخمر ، فلم يشربها ، فانه وان التزم عدم الحرمة ، لم يكن عاصياً ( والمفروض انه لا يلزم من اعمال الاصول ) باجراء اصل عدم وجوب اخراج الذباب ، واجراء اصل عدم حرمة اخراج الذباب - مثلاً - ( مخالفة عملية له ) أي للحكم ( لتحقيق المعصية ) لأنّه فاعل او تارك قهراً سواء أجرى الاصل ام لا .

( و ) ان قلت : الالتزام بالاحكام الالهية لازم ، وان لم تلزم مخالفة عملية .

قلت : ( وجوب الالتزام بالحكم الواقعي ) بما هو التزام ( مع قطع النظر

ص: 290

عن العمل غيرُ ثابت ، لأنّ الالتزام بالأحكام الفرعيّة إنّما يجب مقدّمةً للعمل وليست كالاصول الاعتقاديّة يطلب فيها الالتزام والاعتقاد من حيث الذات ، ولو فرض ثبوتُ الدليل عقلاً او نقلاً على وجوب الالتزام بحكم اللّه الواقعيّ لم ينفع ،

-----------------

عن العمل ) والاطاعة ( غير ثابت ) فكل حكم له طاعة واحدة ، ومعصية واحدة ، لا طاعتان ومعصيتان : طاعة ومعصية قلبية وطاعة ومعصية عملية ، ولو كان الالتزام القلبي واجباً كان لكل حكم طاعتان ومعصيتان ( لان الالتزام بالاحكام الفرعية ، انّما يجب مقدمة للعمل ) أي وجوباً مقدمياً ، وهو وجوب ارشادي عقلي ، لا مولوي شرعي ، فاذا فرض عدم مقدمية الالتزام للعمل ، بان عمل بدون الالتزام ، او بالالتزام المخالف ، لم يكن عاصياً ، كما اذا تمكن ان يكون على السطح - مثلاً- بدون نصب السلّم .

هذا ( وليست ) الاحكام الفرعية ( كالاصول الاعتقادية ) الخمسة : التوحيد ، والعدل ، والنبوّة ، والامامة ، والمعاد ، حتى ( يطلب فيها الالتزام ) القلبي ( والاعتقاد من حيث الذات ) وبما هي هي .

( ولو فرض ثبوت الدليل عقلاً او نقلاً ) على ان الالتزام من لوازم قبول المولوية ، بحيث لو لم يلتزم كان معناه : عدم قبول المولى ، أو انه ينافي القلب السليم ، المذكور في قوله سبحانه : « إلاّ مَن أتى اللّه بِقَلبٍ سَلِيم » (1) .

اذ القلب الذي يضاد المولى ويخالفه ليس بقلب سليم إلى غير ذلك مما ذكر في الاستدلال ( على وجوب الالتزام بحكم اللّه الواقعي ) فانه ( لم ينفع ) ذلك فيما نحن فيه ، لانه لم يعرف الحكم تفصيلاً .

ص: 291


1- - سورة الشعراء : الآية 89 .

لأنّ الاصول تحكم في مجاريها بانتفاء الحكم الواقعي ، فهي كالاصول في الشبهة الموضوعيّة مُخرِجَةٌ لمجاريها عن موضوع ذلك الحكم ، أعني وجوب الأخذ بحكم اللّه .

هذا ، ولكنّ التحقيق : أنّه لو ثبت هذا التكليفُ ، أعني

-----------------

وظاهر أدلة لزوم الالتزام - لو سلم بها - يدل على لزوم الالتزام بما علم تفصيلاً انه واجب ، او حرام ، او غير ذلك .

أما في الموارد المشتبهة : بان لم يعلم ان زوجته هذه واجبة الوطي او محرمة الوطي ، وان في يوم الجمعة الظهر واجب او الجمعة ، فلا .

وذلك ( لان الاصول ) في المشتبهات ( تحكم في مجاريها بانتفاء الحكم الواقعي ) في مرتبته الفعلية ، اذ الاصل عدم الوجوب وعدم الحرمة ، كما في اصل الطهارة او اصل الاباحة ، حيث لا يلزم ان يعتقد الانسان ويلتزم بان الواقع نجس او حرام ، مع انه يعلم اجمالاً بوجود نجس او حرام واقعي في موارد هذين الاصلين الكثيرة .

وعليه : ( فهي ) أي الاصول في الشبهات الحكمية ( كالاصول في الشبهة الموضوعية ) فكما هي تخرج المرأة عن موضوع الحرمة والوجوب لأصل عدم كونها محلوفة الوطي او محلوفة الترك ، كذلك في باب الاحكام الاصول النافية للحكم ( مخرجة لمجاريها عن موضوع ذلك الحكم ، اعني وجوب الاخذ بحكم اللّه) كما تقدّم في مثال الذباب ، لو دخل حلق الصائم وهو في الصلاة .

( هذا ) تمام الكلام في ان الالتزام ليس بلازم ، ولذا جاز ان نجري الاصل في طرفي الشبهة ( ولكن التحقيق انه لو ثبت ) شرعاً او عقلاً ( هذا التكليف أعني :

ص: 292

وجوبَ الأخذ بحكم اللّه والالتزام مع قطع النظر عن العمل ، لم تجر الاصول ، لكونها موجبةً للمخالفة العمليّة للخطاب التفصيليّ ، أعني وجوبَ الالتزام بحكم اللّه ،

-----------------

وجوب الاخذ بحكم اللّه و ) وجوب ( الالتزام ) القلبي بحكم اللّه ( مع قطع النظر عن العمل ) بان لم يكن الالتزام مقدمة للعمل ( لم تجر الأُصول ) على العدم ، اذ العلم الاجمالي بالحكم يمنع عن اجراء اصل عدم الحكم ، فيكون حكم الالتزام حينئذٍ حكم العمل ، فكما انه اذا وجب العمل لم يجر الاصل في اطراف الشبهة ، كذلك اذا وجب الالتزام لم يجر الاصل في اطراف الشبهة .

وانّما لم تجر الاصول حينئذٍ ( لكونها موجبة للمخالفة العملية ) القلبية ، فان الالتزام عمل القلب ، كما ان العمل عمل الجوارح ( للخطاب التفصيلي ) المتولّد من العلم الاجمالي ، فاذا علم بان هذه المرأة واجبة الوطي ، او واجبة الترك ، لزم عليه ان يلتزم بالزام عليه من اللّه سبحانه - ذاتاً- كما يجب عليه في المائين المشتبهين بان احدهما مضاف ان يلتزم بالوضوء بهما- مقدمة للعمل - والمخالفة العملية القلبية حاصلة في صورة وجوب الالتزام ( اعني وجوب الالتزام بحكم اللّه ) تعالى .

وبالجملة : ان الاصول في اطراف العلم الاجمالي حيث انها مخالفة لوجوب الالتزام ، لا تجري لأن ادلة الاصول لا تشمل امثال المقام ، اذ هو موجب للتناقض ، فمرّة يقول الشارع : «التزم» ومرّة يقول : « اجر الاصل » أي لا تلتزم : حيث ان لازم اجراء الاصل : عدم الالتزام .

وقد ذكرنا فيما سبق : ان التناقض كما لا يمكن مستقيماً لا يمكن غير مستقيم ايضاً ، فالسواد واللاسواد متناقض ، كما ان السواد والمفرق لنور البصر

ص: 293

وهو غير جائز حتى في الشبهة الموضوعيّة ، كما سيجيء ، فيخرج عن المخالفة الغير العمليّة .

فالحق - مع فرض عدم الدليل على وجوب الالتزام بما جاء به الشارع على ما جاء به - أنّ ترك الحكم الواقعيّ ولو كان معلوما تفصيلاً ليس محرّما ، إلاّ من حيث كونها معصيةً ، دلّ العقل على قبحها واستحقاق العقاب بها .

-----------------

- الذي معناه لا سواد - ايضاً متناقض .

( وهو ) أي اجراء الاصول ، الموجب للمخالفة العملية ( غير جائز حتى في الشبهة الموضوعية ) كالانائين المشتبهين فكيف بالشبهة الحكمية ؟ ( كما سيجيء ) الكلام فيه .

( فيخرج ) هذا الذي يستلزم المخالفة الالتزامية - على تقدير وجوب الالتزام - ( عن المخالفة غير العملية ) اذ يكون حينئذٍ من صغريات المخالفة العملية .

( فالحق ) في نتيجة كلامنا المتقدم : انه ( مع فرض عدم الدليل على وجوب الالتزام بما جاء به الشارع ، على ما جاء به ) وكما عليه في الواقع ، هو : ( انّ ترك الحكم الواقعي ) أي عدم الالتزام به ( ولو كان معلوماً ) لدى المكلف ( تفصيلاً ) المكلف بكون يده متنجسة - مثلاً - وزوجته واجبة الوطي ، أو الخمر محرم الشرب ، فان ترك الالتزام بالنجاسة ، والوجوب ، ( ليس محرماً الا من حيث كونها ) والحرمة أي كون تلك المخالفة الالتزامية منجرة إلى ( معصية ) عملية في الخارج كأن استعمل النجاسة بالشرب مثلاً ، او ترك وطي الزوجة ، او شرب الخمر ، فانه ( دل العقل على قبحها ) أي قبح المعصية العملية ( واستحقاق العقاب بها ) والشرع مؤد للعقل فيهما .

ص: 294

فاذا فرض العلمُ تفصيلاً بوجوب الشيء ، فلم يلتزم به المكلّفُ ، لكنه فعله لا لداعي الوجوب ، لم يكن عليه شيءٌ .

نعم ، لو اخذ في ذلك الفعل نيّة القربة ، فالاتيانُ به لا للوجوب مخالفةٌ عمليّة ومعصية لترك المأمور به ، ولذا قيّدنا الوجوب والتحريم في صدر المسألة بغير ما عُلِم كونُ أحدهما تعبّديّا .

-----------------

وعلى هذا ( فاذا فرض العلم تفصيلاً بوجوب الشيء ) كوطي الزوجة ، او حرمة شيء كشرب الخمر ( فلم يلتزم به ) أي بالوجوب ، أو الحرمة ( المكلف ) .

ومعنى الالتزام عقد قلبه عليه وهو شيء فوق العلم ( لكنه فعله ) أي فعل الواجب وترك الحرام ( لا لداعي الوجوب ) او الحرمة ( لم يكن عليه شيء ) من المعصية المسقطة للعدالة ، والحدّ فيما اذا كان ذا حدّ ، كشرب الخمر ، إلى غير ذلك .

( نعم ، لو اخذ في ذلك الفعل نية القربة ) كالصلاة والوضوء ، او في ذلك الترك ، كتروك الإحرام وتروك الصيام ( فالاتيان به لا للوجوب ، مخالفة عملية ) اذ بدون قصد الوجوب لا تحقق له شرعاً ، وكذا في باب التروك المذكورة ، فاذا لم يشرب الماء في الصيام لا لأجل امر اللّه سبحانه ، بل لأجل ان الماء يضره - مثلاً- لم يعدّ ممتثلاً .

( و ) يكون فعله وتركه بدون القصد ( معصية ، لترك المأمور به ) والفعل المنهي عنه ، فان بدون قصد الامتثال يبطل العمل القربي .

( ولذا ) الذي ذكرناه : من الفرق بين التوصلي والتعبدي في عدم لزوم الالتزا م في الاول ولزومه في الثاني ( قيّدنا الوجوب والتحريم في صدر المسألة ) أي مسألة الالتزام (بغير ما علم كون احدهما ) المعيّن ( تعبدياً ) .

ص: 295

فاذا كان هذا حال العلم التفصيليّ ، فاذا علم إجمالاً بحكم مردّد بين الحكمين ، وفرضنا إجراء الأصل في نفي الحكمين اللذين عُلِم بكون أحدهما حكمُ الشارع ، والمفروضُ أيضا عدمُ مخالفتهما في العمل ، فلا معصيةَ ولاقبحَ ،

-----------------

وقد ذكرنا هناك : ان الاقسام ثلاثة ، مما لا حاجة إلى تكراره .

( فاذا كان هذا ) الالتزام القلبي غير لازم في التوصليات ، وغير محرم تركه ( حال العلم التفصيلي ) بواجب او حرام ( ف- ) الالتزام في العلم الاجمالي يكون بطريق اولى غير لازم ف- ( اذا علم ) المكلّف ( اجمالاً بحكم مردد بين الحكمين ) علم بانه يلزم عليه شيء هو :

1- إما وجوب هذا او وجوب ذلك .

2- إما تحريم هذا ، او تحريم ذلك .

3- إما وجوب هذا وتحريم ذلك .

4- وإما وجوب او تحريم شيء خاص ، كمحلوفة الوطي او الترك .

( وفرضنا اجراء الاصل في نفي الحكمين الذين علم ) تفصيلاً ( بكون احدهما حكم الشارع ) في الواقع ( والمفروض ايضاً ) بالاضافة إلى نفي الحكمين بالاصل ( عدم مخالفتهما ) من قبل المكلف ( في العمل ) بان يأتي بمحتملي الوجوب في المثال الاول ، ويترك محتملي الحرمة في الثاني ، ويأتي ويترك طرفي الوجوب والحرمة في الثالث ، وفي الرابع لابد أن يأتي فقط او يترك فقط لعدم امكان خلوه عنهما .

( فلا معصية ) حينئذٍ عرفاً حيث لم يعص عملاً ( ولا قبح ) عقلاً ، اذ المناط وجود الفعل الواجب وعدم الفعل الحرام ولو بدون الاختيار ، فمن لم يشرب

ص: 296

بل وكذلك لو فرضنا عدمَ جريان الأصل ، لما عرفت من ثبوت ذلك في العلم التفصيليّ .

فملخّصُ الكلام : أنّ المخالفة من حيث الالتزام ليست مخالفة ، ومخالفةَ الأحكام الفرعيّة إنّما هي في العمل ، ولا عبرةَ بالالتزام وعدمه .

ويمكن أن يقرّر دليلُ الجواز ، اي جواز المخالفة فيه بوجه آخر :

-----------------

الخمر ليس بعاص وان لم يكن عدم الشرب باختياره ، وكذا من وطأ زوجته ليس بعاص وان لم يكن الوطي باختياره ، فكيف بما اذا كان باختياره ولكن بدون الالتزام بالوجوب والحرمة .

( بل وكذلك ) لا يحرم عدم الالتزام ( لو فرضنا عدم جريان الاصل ) لان دليله لا يشمل أطراف العلم الاجمالي ( لما عرفت من ثبوت ذلك ) أي عدم المعصية بترك الالتزام ( في العلم التفصيلي ) فإن عدم الالتزام بالحكم المعلوم تفصيلاً لا يضر ، فكيف بعدم الالتزام في الحكم المعلوم اجمالاً ؟ .

( فملخص الكلام : ان المخالفة من حيث الالتزام ليست مخالفة ) وان كانت خلاف الآداب ( ومخالفة الاحكام الفرعية ) الموجبة للاثار ، كالعقوبة ونحوها ( انّما هي في العمل ) فقط ، سواء في العلم الاجمالي او التفصيلي ( ولا عبرة بالالتزام وعدمه ) انهما ليسا مدار الاحكام ، نعم في الامور الاعتقادية ، الالتزام مدار الوجوب ، كما ان عدمه او الالتزام بما ليس بحق مدار التحريم ، فلو لم يعتقد باللّه ،

او اعتقد بإله غير اللّه ، كان فاعلاً للحرام ، وتفصيل الكلام في ذلك في كتب اصول الدّين .

( ويمكن ان يقرر دليل الجواز ، أي جواز المخالفة فيه ) أي في الالتزام ( بوجه اخر ) غير الوجه المتقدّم الذي قال : بأنّه لا دليل عقلاً ولا شرعاً بلزوم الالتزام

ص: 297

وهو أنّه لو وجب الالتزامُ :

فان كان بأحدهما المعيّن واقعا ، فهو تكليفٌ من غير بيان ، ولا يلتزمه أحدٌ ،

-----------------

( وهو : انه لو وجب الالتزام ) في المعلوم بالاجماع لم يخلو الامر من اربعة احتمالات :

الاول : ان يلتزم بالوجوب معيناً - فيما اذا لم يعلم ان وطي المرأة واجب او حرام .

الثاني : ان يلتزم بالحرام معيناً .

الثالث : ان يلتزم بالمردد بينهما .

الرابع : ان يلتزم بالجامع ، الذي هو المنع من النقيض .

فالاوّلان : لاوجه لهما من عقل او شرع .

والثالث : ان المردد لا وجود له ، لا في الذهن ولا في الخارج ، فبماذا يلتزم ؟ .

والرابع : فانه وان امكن لزومه بلا محذور عقلي ، الا انه لا دليل عليه .

ويلحق بالرابع في عدم الدليل - وأن امكن - أن يلتزم بما هو في اللوح المحفوظ .

اما المصنّف : فقد قرّب عدم لزوم الالتزام بقوله : ( فان كان ) وجوب الالتزام (باحدهما المعيّن واقعاً ) عند اللّه - من غير معرفة المكلّف له - ( فهو ) مع انه لا دليل عليه ( تكليف من غير بيان ) فان المعيّن عند اللّه لا يعرفه المكلّف ، ولم يبيّنه الشارع ، والتكليف من غير بيان قبيح .

وان شئت قلت : ان اريد من الالتزام : الالتزام بالواقع « مجهولاً » فهو من غير دليل ، وان اريد : الالتزام « بشخصه » فهو محال ( ولا يلتزمه احد ) فلا يقول احد :

ص: 298

وإن كان بأحدهما المخيّر فيه ، فهذا لايمكنُ أن يثبت بذلك الخطاب الواقعيّ المجمل ، فلا بدّ له من خطاب آخر .

وهو ، مع أنّه لا دليل عليه ، غير معقول ، لأنّ الغرض من هذا الخطاب المفروض كونُهُ توصّليّا حصولُ مضمونه ،

-----------------

بأن المجهول يُكلف الانسان بالالتزام به معيناً .

( وان كان ) اللازم ، الالتزام ( باحدهما المخير فيه ) بان يكون مراد من يقول بلزوم الالتزام : ان المكلّف ، عليه ان ينوي قلباً انه ملتزم باحدهما ( فهذا ) فيه محذوران :

الاول : انه لا دليل ، اذ ( لا يمكن ان يثبت ) هذا الالتزام ( بذلك الخطاب الواقعي المجمل ) عند المكلّف ، اذ كل خطاب يدعو إلى نفسه ، لا انه يدعو إلى نفسه او غيره، فاذا قال : « باشر زوجتك » كان دعوة إلى المباشرة ، لا دعوة إلى المباشرة او عدمها ، فان الخطاب بالمعيّن لا دلالة له على التخيير ، فكيف يدل على الالتزام بالتخيير ؟ .

( فلابدّ له ) أي لوجوب الالتزام باحدهما مخيّراً ( من خطاب آخر ) غير الخطاب الاول .

( و ) الثاني : انه لا وجود لهذا الخطاب الاخر اذ ( هو ، مع انه لا دليل عليه ) - كما عرفت - محال ، و( غير معقول ) لان وجوده وعدمه سواء ، فهو من تحصيل الحاصل ، وذلك لغو ، ولا يصدر من الحكيم ( لان الغرض من هذا الخطاب ) الثاني ( المفروض كونه توصلياً ) - لما تقدّم - من انّ الكلام ليس في التعبدي بل في التوصلي ، والغرض في الخطاب التوصلي هو ( حصول مضمونه ) في الخارج

ص: 299

أعني : القيام بالفعل او الترك تخييرا ، وهو حاصلٌ من دون الخطاب التخييريّ ، فيكون الخطابُ طلبا للحاصل ، وهو محال .

إلاّ أن يقال :

-----------------

ولو بدون الاختيار ، فاذا قال : « والرُّجزَ فاهْجُر » (1) .

كان غرضه حصول النظافة ، وهي تحصل ولو بدون اختيار الانسان ، كأن ينزل المطر عليه - مثلاً- حتى يذهب الرجز عنه ، كما حدث في قصة بدر - بالنسبة إلى النجاسة الخبثية ، الحاصلة لهم من اثر الاحتلام - وفسّر المصنّف قدس سره حصول المضمون بقوله :

( اعني : القيام بالفعل او الترك تخييراً ) بينهما ( وهو ) أي المضمون ( حاصل من دون ) حاجة إلى ( الخطاب ) الاخر ( التخييري ) الذي يخبر المكلّف بين الفعل والترك ، لان المكلّف تكويناً اما فاعل او تارك ( فيكون الخطاب ) الآخر (طلباً للحاصل) اذ هو حاصل بدون الخطاب ( وهو ) أي طلب الحاصل (محال) .

ولا يخفى : ان طلب الحاصل لغو وليس بمحال في نفسه ، وانّما هو محال على الحكيم ، اللهم الا ان يريد : ان حصول الحاصل - بسبب الخطاب - محال .

وكيف كان : فالامر في دوران الامر بين المحذورين ، كما لا يحتاج إلى الخطاب ، كذلك في الفعلين ، والتركين ، والفعل والترك فان العقل حيث يلزم ذلك من باب العلم الاجمالي لم يكن الامر بحاجة إلى خطاب ثان ولو كان خطاب ثان فهو من الارشاد إلى حكم العقل ، لان باب الاطاعة والمعصية مرتبط بالعقل لا بالشرع .

( الا ان يقال ) ان الخطاب الاخر ليس لغواً اذ اللغوية فيما اذا اراد به ان يفعله

ص: 300


1- - سورة المدَّثر : الآية 5 .

إنّ المدّعي بالخطاب التخييريّ إنّما يدّعي ثبوته بأن يقصد منه التعبّدُ بأحد الحكمين ، لا مجرّد مضمون أحد الخطابين الذي هو حاصل ، فينحصر دفعه حينئذٍ بعدم الدليل .

و

-----------------

المكلّف او يتركه ، اما اذا اراد به الالتزام باحد الحكمين قلباً فلا لغوية ، اذا الالتزام لم يحصل من الخطاب الاول بالتكليف المردد - لجهل المكلّف - بين الفعل والترك .

وعليه : ف- ( ان المدعي ) الذي يدعي الاحتياج إلى خطاب آخر ، و( ب- ) سبب ذلك (الخطاب ) الاخر ( التخييري ) يخير المكلّف بين الفعل والترك ( انّما يدعي ثبوته ) أي ثبوت ذلك الخطاب ، لا للتوصل إلى الفعل او الترك في الخارج ، بل ( بان يقصد ) المولى ( منه التعبد ) والالتزام القلبي ( باحد الحكمين ) الفعل او الترك ( لا مجرد ) حصول ( مضمون احد الخطابين ) من الفعل او الترك ( الذي ) ذلك المضمون ( هو حاصل ) على كل حال ، سواء كان الخطاب الثاني او لم يكن ( ف- ) اذا قال القائل ذلك ، فانه ( ينحصر دفعه حينئذٍ بعدم الدليل ) على هذا الخطاب الثاني ، فالالتزام ليس بلازم لعدم وجود دليل يدل عليه .

والحاصل : ان كان الغرض من الخطاب وجود الفعل او الترك ، فهو من تحصيل الحاصل ، وان كان الغرض الالتزام قلبياً ، فهو وان كان ممكناً ، الا انه لا دليل عليه .

( و ) ان قلت : ان من الضروري عند المتشرعة ، لزوم الالتزام بما جاء به النبّي صلى الله عليه و آله وسلم ، بل هو من لوازم الايمان ، قال سبحانه : « فَلاَ وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَينَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً

ص: 301

أمّا دليلُ وجوب الالتزام بما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، فلا يُثبتُ إلاّ الالتزامَ بالحكم الواقعيّ على ما هو عليه ، لا الالتزام بأحدهما تخييرا عند الشكّ ،

-----------------

مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيْماً » (1) .

ومن المعلوم ان المقام من صغريات ما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، فاللازم في صورة التردد بين الفعل والترك ، كالمرأة المحلوفة على الوطي او على الترك الالتزام القلبي بأحدهما .

وكذا في الاحكام الكلية كالمثال المتقدم في صائم دخل في حلقه ذباب وهو في الصلاة ، فان اراد اخراجه - لانه واجب - خرجت من فمه كلمة « اح » المبطلة للصلاة ، وان لم يخرجه - لانه حرام ابطال الصلاة - بطل صومه .

قلت : ( اما دليل وجوب الالتزام بما جاء به النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ) والمعصومون من آله عليهم السلام حيث كلهم نور واحد ( فلا يثبت الا الالتزام بالحكم الواقعي على ما هو عليه ) في الواقع ، فان من شروط الايمان تصديقهم عليهم السلام بما جاءوا به قولاً أو فعلاً او تقريراً ، فان علم بما جاءوا به تفصيلاً ، وجب الالتزام به تفصيلاً ، وان علم بما جاءوا به اجمالاً ، وجب الالتزام به اجمالاً .

فاذا شكّ - مثلاً - في ان الوطي واجب للحلف ، او حرام للحلف ، التزم بان الحلف موجب لمتعلقه ، لا انه يلزم عليه الالتزام بانه يلزم عليه اما الفعل او الترك تخييراً ، وكذلك في مثال الذباب والصائم في حال الصلاة إلى غير ذلك من الكليات والجزئيات ( لا ) يثبت بهذا الدليل وجوب ( الالتزام باحدهما تخييراً عند الشك ) وكذلك حال التردد في ان ايهما واجب ، او ايهما حرام ، ان ايهما واجب او حرام ؟ .

ص: 302


1- - سورة النساء : الآية 65 .

فافهم .

هذا ، ولكنّ الظاهر من جماعة من الأصحاب ، في مسألة الاجماع المركّب ،

-----------------

بل هذا الالتزام لازم حتى في المستحبات والمكروهات والمباحات ، قال سبحانه : « وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ » (1) .

والتصديق بالشيء قلبي ويستعمل في العمل مجازاً ، كما قال سبحانه لابراهيم عليه السلام : « قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤَا » (2) ، إلى غير ذلك .

( فافهم ) كي لا تقول : بانكم قلتم بجريان اصلَيْ : عدم الوجوب ، وعدم الحرمة ، مما يقتضي الاباحة ، والان تقولون : بلزوم الالتزام بما جاء به النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، والمفروض ان ما جاء به النّبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، في المردد بين الواجب والحرام ليس الاباحة .

والجواب عن هذا الاشكال هو : ان الاباحتين في الظاهر لا تنافيان وجود حكم واقعي بالوجوب او الحرمة ، فان التكليف العملي هو : الاباحة ، اما التكليف الواقعي فهو : الوجوب او الحرمة ، وكذا في اشباه ذلك كما اذا شهدت امرأة واحدة - مثلاً - بالوصية نفذ ربع الوصية ، فان هذا هو التكليف الفعلي ونلتزم به ، بينما يلزم علينا الالتزام القلبي ، بان الموصي ان وصّى وجب كل الوصية ، وان لم يوصّ لم يجب شيء اصلاً .

( هذا ) في وجه الجمع بين الالتزام بالحكم الواقعي وبين البناء العملي على الاباحة ( ولكن الظاهر من جماعة من الاصحاب ) وجوب الالتزام لانهم قالوا ( في مسألة الاجماع المركب ) .

والمراد بالاجماع المركب : هو ما اذا كان للأمّة قولان ، فلا يجوز إحداث قول

ص: 303


1- - سورة الزّمر : الآية 33 .
2- - سورة الصّافات : الآية 105 .

إطلاقُ القول بالمنع عن الرجوع إلى حكم عُلِمَ عدمُ كونه حكمَ الامام عليه السلام في الواقع ، وعليه بنوا عدم جواز الفصل فيما عُلِم كونُ الفصل فيه طرحا لقول الامام عليه السلام .

-----------------

ثالث ، كما لو قال بعضهم بوجوب الظهر ، وبعضهم الاخر بوجوب الجمعة ، فلا يجوز لثالث ان يقول بالوجوب التخييري بينهما لما ذكروا من ( اطلاق القول : بالمنع عن الرجوع إلى حكم ) آخر ( علم عدم كونه حكم الامام عليه السلام في الواقع ) سواء كان في الحكم الاخر مخالفة عملية ، او مخالفة التزامية ، فاطلاق كلامهم دال على جواز المخالفة الالتزامية .

فاذا قال جماعة : بان محلوفة الوطي او الترك يجب وطيها ، وقال آخرون : يجب تركها لم يجز لثالث ان يقول بالاباحة ، مع انه ليس للقول بالاباحة اثر عملي ، وانّما هو خلاف الالتزام بحكم الامام عليه السلام المعلوم - من الاجماع المركب - انه قال اما بالحرمة واما بالوجوب .

( وعليه ) أي على عدم جواز الرجوع إلى قول ثالث ( بنوا ) على ( عدم جواز الفصل ) أي التفصيل في المسألة بأن يقول القائل الثالث في مسألة محلوفة الوطي او الترك : انها يجب وطيها نهاراً ويحرم وطيها ليلاً ، فانه اذا لم يجز القول الثالث ، لم يجز التفصيل ايضاً ، لانه من مصاديق القول الثالث .

وهذا ( فيما علم كون الفصل فيه ) أي في القول الذي عليه الاجماع المركب ( طرحاً لقول الامام عليه السلام ) مقابل ما اذا قال بالقول الثالث ، ولم يكن طرحاً لقول الامام عليه السلام - الموجود بين القولين الذين قام الاجماع المركب عليهما - كما اذا قال بعض الامة : بوجوب الاستعاذة قبل الحمد ، وقال بعض آخر : باستحبابه ، فقال ثالث : برجحانها ، فان الرجحان وان لم يكن احد القولين ، اذ الرجحان جامع

ص: 304

نعم ، صرّح غير واحد من المعاصلين ، في تلك المسألة فيما إذا اقتضى الأصلان حكمين يُعلَمُ بمخالفة أحدهما للواقع ، بجواز العمل بكليهما .

وقاسه بعضهُم على العمل بالأصلين المتنافيين في الموضوعات .

لكنّ القياسَ في غير محلّه ، لما تقدّم من

-----------------

بينهما الا انه لا يلزم منه طرح قول الامام عليه السلام .

نعم ، ان ذهب إلى حرمة الاستعاذة كان طرحاً لقوله عليه السلام ، وكذلك ان قال بعض بحرمة وطي الدبر من الزوجة ، وقال آخر بالكراهة ، وقال ثالث بالمرجوحية .

( نعم ، صرح غير واحد من المعاصرين ) منهم صاحب الفصول ( في تلك المسألة ) أي مسألة الاجماع المركب ( فيما اذا اقتضى الاصلان حكمين ، يعلم بمخالفة احدهما للواقع ) كما في مسألة : دخول الذباب في حلق الصائم وهو في الصلاة ، فان اصل عدم حرمة اخراجه واصل عدم وجوب اخراجه ، يورث العلم بان احد الحكمين مخالف للواقع ، لكن قد صرح اولئك المعاصرون ( بجواز العمل بكليهما ) أي بكلا الاصلين ، فيقول بجواز كل من الاخراج وعدم الاخراج - مع ان جواز العمل بكلا الاصلين ، احداث قول ثالث مستلزم لطرح قول الامام عليه السلام - فقول المصنّف قدس سره : « ولكن الظاهر » تأييد للزوم الالتزام ، وقوله : « نعم » تأييد لعدم لزوم الالتزام .

( وقاسه ) أي العمل بالاصلين في الاحكام ( بعضهم على العمل بالاصلين المتنافيين في الموضوعات ) كاصل عدم وجوب الوطي ، واصل عدم وجوب الترك ، قال هذا البعض : فكما يجوز اجراء الاصلين في الموضوعات المرددة ، كذلك يجوز اجراء الاصلين في الاحكام المرددة .

( لكن القياس في غير محله ) وذلك ( لما تقدّم من ) الفرق بين الشبهات

ص: 305

أنّ الاصول في الموضوعات حاكمة على أدلّة التكليف ، فانّ البناء على عدم تحريم المرأة لأجل البناء بحكم الأصل على عدم تعلّق الحلف بترك وطيها ، فهي خارجة عن موضوع الحكم بتحريم وطي من حلف على ترك وطيها ، وكذا الحكمُ بعدم وجوب وطيها لأجل البناء على عدم الحلف على وطيها ، فهي خارجة عن موضوع الحكم بوجوب وطي من حلف على وطيها .

-----------------

الموضوعية والحكمية ، ف- ( ان الاصول في الموضوعات حاكمة على ادلة التكليف ) الواقعي ، فاذا اجرينا الأصل في المرأة المرددة بين محلوفة الوطي ومحلوفة الترك ، وقلنا : الاصل انها ليست محلوفة على الوطي او على الترك ، لم تكن بعد الاصل تلك المرأة موضوعاً للوجوب او التحريم .

اما الحكم بعدم الحرمة ( فان البناء على عدم تحريم المرأة ) انّما هو ( لاجل البناء بحكم الاصل : على عدم تعلق الحلف بترك وطيها ، فهي خارجة عن موضوع الحكم بتحريم وطي من حلف على ترك وطيها ) اذا الشارع حكم : بحرمة من حلف الزوج بترك وطيها لكن الاصل ، يقول : انها ليست تلك المرأة التي تعلق الحلف بعدم وطيها .

( وكذا ) حال ( الحكم بعدم وجوب وطيها ) فان الاصل فيها ايضاً : عدم وجوب وطيها ( لاجل البناء ) حسب الاصل ( على عدم الحلف على وطيها ) فهي ليست واجبة الوطي ( فهي خارجة عن موضوع الحكم بوجوب وطي من حلف على وطيها ) .

والحاصل : ان الشك في الموضوع المردد بين الوجوب والحرمة ، يجري فيه اصلان ، وبذلك يخرج الموضوع عن كونه موضوع الوجوب او التحريم .

ص: 306

هذا ، بخلاف الشبهة الحكميّة ، فانّ الأصل فيها معارض لنفس الحكم المعلوم بالاجمال وليس مخرجا لمجراه عن موضوعه حتّى لاينافيه بجعل الشارع .

-----------------

( هذا ) في الشبهة الموضوعية ( بخلاف الشبهة الحكمية ، فان الاصل فيها ) أي في الشبهة الحكمية غير جار ، لان الاصل ( معارض لنفس الحكم ) بالوجوب او التحريم (المعلوم بالاجمال ) وقد تقدّم انه مستلزم للتناقض ، فكما ان الواجب يناقض الحرام ، كذلك « عمله الاجمالي بانه واجب او حرام » يناقض « الاصل القائل انه ليس بواجب ولا بحرام » ( وليس ) في الشبهة الحكمية حكم وموضوع ، كما كانا في الشبهة الموضوعية حتى يكون الاصل ( مخرجاً لمجراه ) أي مجرى الاصل ( عن موضوعه ) أي موضوع الحكم ( حتى ) ان الاصل ( لا ينافيه ) أي لا ينافي الحكم الواقعي المعلوم بالاجمال ( ب- ) سبب ( جعل الشارع ) ذلك الاصل ، و : « ب- » متعلق ب- « لا ينافيه » .

هذا ، ولا يخفى ان اشكال المصنّف قدس سره غير وارد ، فلا فرق بين الشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية ، في عدم جريان الاصول في اطرافهما ، ذلك لما يلي : -

اولا : ادلة الاصول لا تشمل اطراف العلم الاجمالي .

ثانيا : في عالم الثبوت لا يصح جعل اصل لا ثمر له ، فأي ثمر لاجراء الاصل في المرأة ، وفي عدم اجراء الاصل ، فعلى أيّ حال يكون الالتزام غير لازم - كما عرفت - والمرأة ، اما ان توطأ او لا توطأ ، لاستحالة خروجها عن الامرين .

ثم ان المصنّف قدس سره ابدى الرجوع عن قوله : « القياس في غير محله » بقوله :

ص: 307

لكنّ هذا المقدار من الفرق غير مُجدٍ ، إذ اللازم من منافاة الاصول لنفس الحكم الواقعيّ ، حتى مع العلم التفصيليّ ومعارضتها له ، كونُ العمل بالاصول موجبا لطرح الحكم الواقعيّ من حيث الالتزام ، فاذا فرض جوازُ ذلك ، لأنّ العقل والنقل لم يدلاّ ، إلاّ على حرمة المخالفة العمليّة ، فليس الطرحُ من حيث الالتزام

-----------------

( لكن هذا المقدار من الفرق ) بين الاصول في الموضوعات والاصول في الاحكام لكونها في الاول حاكمة وفي الثاني منافية ( غير مجدٍ ) فان الفرق لا يوجب عدم اجراء الاصول في الشبهة الحكمية - كما سبق الالماع اليه - فان اجراء الاصول في الشبهة الحكمية ، لا يوجب الاّ المخالفة الالتزامية ، فاذا جازت المخالفة الالتزامية ، لم يكن مانع من اجراء الاصول فيها .

( اذ اللازم من منافات الاصول لنفس الحكم الواقعي - حتى مع العلم التفصيلي - ) بالحكم ( ومعارضتها ) أي الاصول ( له ) أي للحكم الواقعي - ومعارضتها- عطف بيان ل« منافات » و ( كون ) خبر « اللازم » فكون ( العمل بالاصول موجباً لطرح الحكم الواقعي من حيث الالتزام ) فقط ، فاذا جرى الاصلان : اصل عدم حرمة الوطي ، واصل عدم وجوب الوطي ، كان معناه : عدم التزام المكلّف بالحكم الواقعي ، الذي هو اما الوجوب واما الحرمة .

( فاذا فرض جواز ذلك ) أي جواز عدم الالتزام ، لما تقدّم : من انه لا دليل على الالتزام بالاحكام الفرعية التوصلية ( لان العقل والنقل ، لم يدلاّ ، الاّ على حرمة المخالفة العملية ) والمفروض انه لا يلزم منه مخالفة عملية ، لانه سواء جرى الاصل ام لا ، مجبر على الوطي او ترك الوطي ( فليس الطرح ) للحكم الواقعي ( من حيث الالتزام ) بان لا يلتزم بالحكم الواقعي بسبب جريان الاصلين يكون

ص: 308

مانعا عن إجراء الاصول المتنافية في الواقع .

ولا يبعدُ حملُ إطلاق كلمات العلماء في عدم جواز طرح قول الامام عليه السلام ، في مسألة الاجماع على طرحه من حيث العمل ، اذ هو المسلّم المعروف من طرح قول الحجّة .

فراجع كلماتهم فيما إذا اختلفت الأُمّة على قولين ولم يكن مع أحدهما

-----------------

( مانعاً عن اجراء الاصول المتنافية ) تلك الاصول ( في ) صورة الجريان مع ( الواقع ) اذ من جهة الاصل : عدم الوجوب وعدم الحرمة ، ومن جهة الواقع : اما الوجوب واما الحرمة .

( و ) ان قلت : فكيف يقول العلماء : بانه لا يجوز طرح قول الامام عليه السلام ، مع ان اجراء الاصلين طرح للالتزام بقوله عليه السلام ؟ .

قلت : ( لا يبعد ) من جهة الانصراف ( حمل اطلاق كلمات العلماء ، في عدم جواز طرح قول الامام عليه السلام ) والرجوع إلى قول ثالث ( في مسألة الاجماع ) المركب كما تقدّم ( على طرحه من حيث العمل ) فمرادهم : لا يجوز طرحاً عملياً ، لا انه لا يجوز طرحاً التزامياً .

وانّما قلنا : « لا يبعد » ( اذ ) الطرح عملاً ( هو المسلّم المعروف ) المنصرف من الاطلاق ( من طرح قول الحجة ) فانه اذا قال احد : ان فلاناً طرح قول مولاه ، او طرح فتوى مرجع تقليد ، او طرح حكم الحاكم الذي حكم في القضية الفلانية ، كان المتبادر أو المنصرف : انه طرحه عملاً ، لا انه طرحه قلباً ، ولم يلتزم به - مع كونه قد عمل على طبقه - .

( فراجع كلماتهم فيما اذا اختلفت الأمّة على قولين ، ولم يكن مع احدهما

ص: 309

دليلٌ ، فانّ ظاهر الشّيخ رحمه الله ، الحكمُ بالتخيير الواقعيّ وظاهرَ المنقول عن بعضٍ طرحُهما والرجوعُ إلى الاصل ، ولا ريبَ أنّ في كليهما طرحا للحكم الواقعيّ ، لأنّ التخيير الواقعيّ كالأصل حكمٌ ثالثٌ .

-----------------

دليل ) فان الفقهاء قالوا : بعدم جواز احداث قول ثالث ولو بالتخيير بينهما ، ومرادهم : قول ثالث يخالف عملاً القولين الذين قام الاجماع المركب عليهما ( فان ظاهر الشيخ ) الطوسي قدس سره ( الحكم بالتخيير الواقعي ) ممّا يستلزم طرح كلا القولين والحال ان قول احدهما مطابق لقول الحجة ، ومع ذلك لم يمنع من عدم الالتزام بهما ( و ) كذلك ( ظاهر المنقول عن بعض ) الفقهاء ( طرحهما والرجوع إلى الاصل ) في المسألة (ولا ريب ان في كليهما ) سواء التخيير الذي ذكره الشيخ رحمه الله أو الرجوع إلى الاصل الذي ذكره ذلك البعض يكون ( طرحاً للحكم الواقعي ) .

لكن لا يخفى ان من يقول بالرجوع إلى الاصل ، انّما يقول به : اذا كان موافقاً لاحد القولين ، والاّ فلا يجوز ، لانه يعلم بطرح قول الامام عليه السلام حينئذٍ ، فاذا كان احد القولين على تنجس البئر بملاقات النجاسة مطلقاً ، كان الاخر على : انه بعد الملاقات طاهر ، لكن يفقد عاصميته فيكون حاله حال الماء القليل - مثلاً - ، لم يجز احداث قول ثالث على : انه يستصحب طهارته وعاصميته ، لانه خلاف قول الامام قطعاً الموجود بين القولين ، لغرض تحقق الاجماع المركب الطارد للقول الثالث ( لان التخيير الواقعي ) الذي قال به الشيخ قدس سره الذي قال به بعض ( كالأصل حكم ثالث ) ومع ذلك قالا به ، لأنه انّما يخالف قول الامام التزاماً لا عملاً ، وقد عرفت ان المحذور في مخالفته العملية لا مخالفته الالتزامية .

ص: 310

نعم ، ظاهرُهم في مسألة دوران الأمر بين الوجوب والتحريم الاتفاقُ على عدم الرجوع الى الاباحة وإن اختلفوا بين قائل بالتخيير وقائل بتعيين الأخذ بالحرمة .

-----------------

( نعم ) ربما يظهر منهم ايضاً : عدم جواز الالتزام بخلاف قول الامام عليه السلام ، فان (ظاهرهم في مسألة دوران الأمر بين الوجوب والتحريم ) بان لم يعلم هل الشيء الفلاني واجب او حرام ؟ - كما مثّلنا له بدخول الذباب في حلق الصائم حالة الصلاة ، من ( الاتفاق على عدم الرجوع إلى الاباحة ) مع انه عملاً ، اما ان يفعل او لا يفعل ، فتبيّن من هذه المسألة : ان خلاف الالتزام حرام لديهم .

ولا يخفى ان اولى المسألتين وهي : مسألة الاجماع المركب ، اعمّ من الثانية وهي : مسألة الدوران بين الوجوب والحرمة ، اذ الاولى تشمل الاجماع المركب بين واجب ومستحب او حرام ومكروه إلى آخره ، بينما الدوران يكون في الواجب والحرام فقط ، والثانية اعم من الاولى من جهة كون منشأ الاختلاف ، اختلاف الأمّة على قولين ، او اقتضاء الدليل الوجوب والتحريم - ولو عند نفرين من الفقهاء مثلاً - بينما الاجماع المركب يكون باختلاف الامّة فقط ، فبين المسألتين كالعموم من وجه .

هذا ، ولكن لا يتمكن فقيه واحد ان يفتي في كلتا المسألتين بهذا النحو ، اذ التخيير في الاجماع المركب ، ينافي عدم جواز الالتزام في المسألة الثانية .

وعلى أي حال : فقد اتّفقوا في الدوران بين الوجوب والتحريم بعدم جواز القول بالاباحة ( وان اختلفوا ) بعد الاتفاق المتقدم ( بين قائل بالتخيير ) بين الوجوب والاباحة لعدم أولويّة أحدهما على الاخر ( وقائل بتعيين الأخذ بالحرمة ) من جهة ان دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، اذ في الحرمة

ص: 311

والانصافُ : أنّه لايخلوّ عن قوّة ، لأنّ المخالفة العمليّة التي لاتلزمُ في المقام هي المخالفةُ دفعةً في الواقعة عن قصد وعلم ،

-----------------

مفسدة وفي الوجوب مصلحة .

لكن لا يخفى ان تقديم دفع المفسدة لا يؤّده عقل ولا شرع ، وانّما اللازم تقديم الأهم على المهم ، فربما يكون الواجب أهم ، وربما يكون ترك الحرام أهم ، لكن لابد وأن تصل الاهميّة إلى حدّ المنع من النقيض ، فاذا كان تحصيل الدينار واجب ، واتلاف الدينار حرام ، فقد يتساويان ، فالاباحة ، وقد يتقدم الاول ، لانه تحصيل الف دينار وتلف دينار واحد ، فيكون التحصيل مقدّماً ، وقد يكون العكس فيكون ترك الاتلاف مقدّماً ، وقد يكون تحصيل دينار واحد ، وتلف ثلاثة ارباع الدينار ، فالتحصيل مستحب ، وقد يكون العكس ، فالتحصيل مكروه .

( والانصاف انه ) أي عدم جواز الرجوع إلى الاباحة ( لا يخلو عن قوّة ) وذلك لوجهين :

( الاول : ان ينجر إلى المخالفة العملية في الامور التدريجية ( لان المخالفة العملية التي لا تلزم في المقام ) انّما ( هي المخالفة دفعة ) كما اذا حلف على الوطي، او الترك في اوّل ساعة كذا ، مما لا تكرر له ، فانه لا مخالفة عملية ، لانه في هذه الساعة اما فاعل او تارك ( في الواقعة ) الواحدة ( عن قصد وعلم ) فانه لا يخلو من الفعل الموافق للوجوب ، او الترك الموافق للحرمة .

وقوله : « عن قصد ...» للتنسيق بين هذا الفرض ، والفرض الاتي في الوقائع المتعددة ، والاّ فالقصد وعدمه ، والعلم وعدمه ، لا مدخلية لهما في المرّة الواحدة .

نعم ، هما دخيلان في تسمية الفعل اختيارياً ، اذ بدون القصد لا يكون

ص: 312

وأمّا المخالفةُ تدريجا في واقعتين ، فهي لازمة البتة .

والعقلُ كما يحكمُ بقبح المخالفة دفعةً عن قصد وعلم ،كذلك يحكمُ بحرمة المخالفة في واقعتين تدريجا عن قصد إليها

-----------------

الفعل اختيارياً .

( واما المخالفة ) العملية القصدية ( تدريجاً في واقعتين ، فهي لازمة البتة ) فانه اذا حلف على الوطي او الترك كل ليلة من ليالي هذا الاسبوع ، ثم نسي ان الحلف تعلق بالفعل او الترك ، فاذا وطأ ليلة وترك ليلة عالماً عامداً ، حصلت المخالفة العملية ، لانه ان كان حالفاً على الوطي فقد تركه في ليلة ، وان كان حالفاً على الترك فقد وطأ في ليلة ، فجريان الاصل معناه : اجازة الشارع للمخالفة القطعية ، وقد سبق انه من المناقضة ، فاذا اجرينا الاصل في الاطراف وحكمنا بالاباحة حصلت المخالفة .

( والعقل كما يحكم بقبح المخالفة دفعة عن قصد وعلم ) من غير فرق بين مخالفة واجب او مخالفة حرام ، او مخالفة امرين يعلم بالحكم الواقعي بينهما ، كما اذا علم بنجاسة احد مائين فشرب احدهما ، وأراق الاخر في المسجد في آن واحد ، فانه يعلم بارتكابه العصيان باحد علمية المقارنين في زمان واحد ( كذلك يحكم بحرمة المخالفة) العملية (في واقعتين تدريجاً عن قصد اليها) أي إلى المخالفة ، كما تقدّم في مثال من نسي انه حلف على الوطي او الترك في كل ليلة من الاسبوع ، ففعل ليلة وترك ليلة ، ومن المعلوم ا ن البناء على الاباحة في المحلوفة يوجب تلك المخالفة .

إن قلت : اذا حرمت المخالفة التدريجية ، فلماذا افتى بعضهم بجوازها ، فيما اذا قلّد مجتهدين تدريجاً ؟ بأن قلّد - مثلاً - من يقول : بحرمة المرأة المحلوفة الوطي

ص: 313

من غير تقييد بحكم ظاهريّ عند كلّ واقعة .

-----------------

او الترك ، في هذا الشهر فلم يطأها ، ثم في الشهر الثاني قلّد من يقول : بجواز الوطي فيطأها ، وكذلك حال من يرى : جواز العمل بالخبرين المتعارضين من باب قوله عليه السلام: « إذن فتخيّر » (1) فيختار التمام مثلاً في شهر ، والقصر في شهر آخر ، فيما اذا كان الخبران دالين على الحكمين .

والحاصل : ان التخيير الاستمراري في بابي : التقليد والخبرين المتعارضين ، يعطي الجواز في المقام أيضاً .

قلت : اولاً : نحن نمنع التخيير الاستمراري ، بل نقول : بأنّ التخيير ابتدائي ، لان الفاعل مع استمرارية التخيير يعلم بانه خالف الواقع ، وهو قبيح .

وثانيا : لو سلمنا الاستمرارية نقول : ذلك حكم ظاهري اجازه الشارع لمصلحة أهم : مثل ان تكون من باب التسليم ، كما ورد في الروايتين المتعارضتين ، فالتسليم عنوان ثانوي ، كعناوين العسر ، والحرج ، والضرر ، اوجب رفع القبح في مخالفة الواقع ، فلا قبح ، فلا يقاس ما نحن فيه حيث لا دليل فيه ، على ما فيه دليل كالموردين .

فالقبح في مخالفة الواقع انّما يكون ( من غير تقييد بحكم ظاهري عند كل واقعة ) اما اذا دلّ الدليل على التقييد ، لم يكن به بأس .

ويؤده : ان الشارع لما اجاز تقليد مجتهدين متساويين ، جاز لكل من زيد ، وعمرو ان يقلد احدهما ، مع العلم بمخالفة احدهما للواقع ، وكذلك لما خيّر

ص: 314


1- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع احاديث الشيعة : ج1 ص255 .

وحينئذٍ : فيجبُ بحكم العقل الالتزامُ بالفعل او الترك ، إذ في عدمه ارتكاب لما هو مبغوضٌ للشارع يقينا عن قصد .

وتعدّدُ الواقعة إنّما يُجدي مع الاذن من الشارع عند كلّ واقعة ،

-----------------

بين الخبرين ، فأخذ زيد بخبر ، وعمرو بخبر آخر ، مع العلم بأن الواقع احدهما ، ولا فرق في مخالفة الواقع بين نفر واحد وبين نفرين .

( وحينئذٍ ) أي : حين قبحت المخالفة العملية في ما نحن فيه ، مما لم يكن حجّة ظاهرية في كل مورد ( فيجب بحكم العقل الالتزام بالفعل او الترك ) أي ان يستمر في احدهما ، لا ان يفعل تارة ويترك اخرى ، حتى يتيقن بانه خالف ( اذ في عدمه ) أي عدم الالتزام ( ارتكاب ) قطعي ( لما هو مبغوض للشارع يقيناً ، عن قصد ) وعلم ذلك قبح عقلاً ، موجب للعقاب شرعاً .

وهل الامر كذلك ، في تعدد الموضوع ؟ كما لو كانت عنده زوجتان : حلف مرة على هذه ، ومرة على تلك ، ثم شك في انه حلف بالوطي او الترك في هذه او تلك ، فهل يلزم عليه سوقهما مساقاً واحداً ، بان يطأهما او يتركهما ؟ او أن لكل واحدة حكماً مستقلاً ، بان يطأ احداهما في كل واقعة ، ويترك احداهما في كل واقعة ؟ الظاهر : الثاني ، اذ هما واقعتان لا واقعة واحدة ، ولعلّ الحلف طابق فعله بان حلف في الواقع بوطي هند وبترك ميسون وعمله طابق حلفه في كلتيهما .

نعم ، ذلك لا يأتي في ما اذا علم ان الحلفين كانا على شكل واحد فيهما ، او كان قد حلف حلفاً واحداً لهما بالفعل او الترك .

( و ) ممّا تقدّم عرفت : ان ( تعدد الواقعة انّما يجدي ) في جواز المخالفة العملية التدريجية ( مع الاذن من الشارع عند كل واقعة ) بالحكم الظاهري ، فيكون

ص: 315

كما في تخيير الشارع للمقلّد بين قولي المجتهدين تخييرا مستمرّا يجوز معه الرجوعُ من أحدهما إلى الآخر ، وأمّا مع عدمه ، فالقادمُ على ما هو مبغوضٌ للشارع ، يستحق عقلاً العقابَ على ارتكاب ذلك المبغوض .

-----------------

من باب الاستثناء ( كما في تخيير الشارع للمقلّد بين قولي المجتهدين ) المتناقضين في الفتوى ، فاحدهما يبيح الاخت من الرضاع بعشرة رضعات ، والآخر يحرّم ، فمرة لا يأخذها بحكم المجتهد الثاني ، ومرّة يأخذها بحكم المجتهد الاول ، اما في ان يطأ احدى زوجتيه ولا يطأ الأخرى في وقت واحد ، فقد عرفت حكمه في المحلوفتين (تخييراً مستمراً يجوز معه الرجوع من احدهما إلى الاخر ) وهكذا حال التخيير في الخبرين اذا قلنا بانه تخيير مستمر .

( واما مع عدمه ) أي عدم إذن الشارع ، كما في المرأة المحلوفة الوطي او الترك ( فالقادم ) أي الذي اقدم ( على ما هو مبغوض للشارع ) من المخالفة العملية التدريجية ( يستحق عقلاً العقاب على ارتكاب ذلك المبغوض ) فانه اذا لم يكن حكم ظاهري بجواز التخيير الاستمراري ، يكون هذا العبد مقدِماً على ما هو مبغوض للشارع ، ولا فرق في استحقاق العقاب عقلاً بين علمه عند الارتكاب بانّ هذا بنفسه مبغوض ، كما في العلم التفصيلي او علمه بعد الارتكاب بانّ احدهما مبغوض ، كما في العلم الاجمالي .

وربما يكون مما نحن فيه : ما اذا سافر من بلده إلى ان وصل في آخر الوقت إلى محل يشك انه محل الترخّص ام لا ؟ ولا دليل يدل على احدهما ، فيستصحب حكم التمام ويتم في الصلاة ، فاذا رجع ووصل إلى نفس المكان استصحب القصر ، مع انه يعلم ان حكمه ذهاباً وايّاباً إمّا التمام وإما القصر .

ص: 316

أمّا لو التزم بأحد الاحتمالين قبح عقابهُ على مخالفة الواقع لو اتّفقت .

ويمكن استفادةُ الحكم أيضا من فحوى أخبار التخيير عند التعارض .

-----------------

( اما لو التزم باحد الاحتمالين ) مستمراً بأن وطأ المرأة او تركها في كل واقعة واقعة ( قبح ) عقلاً ( عقابه على مخالفة الواقع لو اتفقت ) المخالفة ، اذ هو من العقاب بلا بيان ، والقبح العقلي هنا شرعي ايضاً ، قال سبحانه : « وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِيْنَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُوْلاً » (1) .

هذا تمام الكلام في الدليل الاول من الدليلين على لزوم الالتزام .

الثاني : ما ذكره بقوله : ( ويمكن استفادة الحكم ) بلزوم الالتزام باحدهما (ايضاً من فحوى اخبار التخيير عند التعارض ) فانه اذا كان هناك خبران متعارضان ، ولم نتمكن من ترجيح احدهما على الاخر بالمرجّحات المذكورة في باب التعادل والتراجيح ، اجاز الشارع لنا التخيير بقوله عليه السلام : « إذن فَتَخَيّر »(2) اما قبل التخيير ، فلابدّ من الالتزام باحدهما ، والمقام من قبيل قبل التخيير ، اذ لا دليل للتخيير هنا ، فما في الخبرين من لزوم الالتزام باحدهما آت هنا ايضاً ، فيلزم الالتزام باحدهما ولا يجوز العمل بهذا تارة ، وبذاك أخرى .

ثم مراده بالفحوى : اما الملاك المتساوي فيهما ، او الاولوي ، بتقريب : انه اذا وجب العمل باحد الخبرين الظنيين ، مع احتمال مخالفة كليهما للواقع - في غير صورة المتناقضين والمتضادين الذين لا ثالث لهما ، حيث في هاتين الصورتين

ص: 317


1- - سورة الاسراء : الآية 15 .
2- - غوالي اللئالي : ج4 ص133 ح229 ، بحار الانوار : ج2 ص245 ب29 ح57 ، جامع احاديث الشيعة : ج1 ص255 .

لكن هذا الكلام لايجري في الشبهة الواحدة التي لم تتعدّد فيها الواقعةُ ، حتّى تحصل المخالفة العمليّة تدريجا ، فالمانعُ في الحقيقة هي المخالفةُ العمليّةُ القطعيّة ولو تدريجا مع عدم التعبّد بدليل ظاهريّ ،

-----------------

لايحتمل مخالفة كليهما للواقع - لزم الالتزام ، ثم العمل على طبق احد الاحتمالين وهو فيما نحن فيه بطريق اولى ، لان احدهما موافق للواقع قطعاً .

( لكن هذا الكلام ) أي لزوم المخالفة العملية التدريجية ( لا يجري في الشبهة الواحدة التي لم تتعدد فيها الواقعة ) كالحلف بوطي او عدم وطي زوجته اوّل ساعة من ليلة الصيام فانه ، لا تعدد ( حتى تحصل المخالفة العملية تدريجاً ) .

نعم ، الواقعة الواحدة الممتدة يمكن تصور التعدد فيها امتداداً ، كما اذا شك في انه حلف على بقاء الساعة الاولى في المدرسة او المسجد ؟ فاذا بقي نصف ساعة هنا ، ونصف ساعة هناك ، كان مقطوع المخالفة .

لكن ربما يقال في ذلك : انه مثل درهمي الودعي ، التنصيف اولى ، لان العقلاء يقدّمون المخالفة القطعية في البعض على المخالفة الاحتمالية في الكل .

وعليه : ( فالمانع ) عن اجراء الاصلين في الطرفين ( في الحقيقة ) والواقع ، ليس هو المخالفة ، او اللامخالفة الالتزامية ، بل ( هي المخالفة العملية ) فاذا لم تكن مخالفة عملية ، كما اذا لم يقدر على الوطي ، فلا مانع من اجراء الاصل والالتزام بالاباحة ، فالمخالفة الالتزامية لا تحرم بالذات من حيث هي هي ، وانّما تحرم بالعرض من حيث لزوم المخالفة العملية ( القطعية ولو تدريجاً ، مع عدم التعبد ) من الشارع (بدليل ظاهري ) مجوّز للمخالفة العملية ، كما في تخيير المقلدين بين مجتهدين ، وتخيير المجتهدين بين روايتين - على ما تقدّم - .

ثم لو تمكن الحالف من الخروج عن هذا المأزق ، فهل يجب عليه ذلك ، كما

ص: 318

فتأمّل جدا .

هذا كلّه في المخالفة القطعيّة للحكم المعلوم إجمالاً من حيث الالتزام ، بان لايلتزم به او يلتزم بعدمه في مرحلة الظاهر ، إذا اقتضت الاصولُ ذلك .

وأمّا المخالفةُ العمليّةُ ، فان كانت لخطاب تفصيليّ ، فالظاهرُ عدمُ جوازها ، سواء كانت

-----------------

اذا كان له أب يحلّ نذره لو طلب منه ذلك ؟ احتمالان :

من ان الخروج عن الموضوع ليس بواجب ، فالمسافر لا يلزم ان يحضر ولا العكس ومن ان المقام من قبيل الاضطرار ، حيث انه ليس الاّ فيما لا مندوحة .

( فتأمّل جدّاً ) حتى يظهر لك : هل ان المخالفة الالتزامية حرام بنفسها وان لم تنجر إلى المخالفة العملية ، او انها محرمة لافضائها إلى المخالفة العملية ؟ والكلام في المقام كثير ، نكتفي منه بهذا القدر ، لئلا نخرج عن موضوع الشرح .

ولا يخفى : ان « تأمّل » بمعنى : كُن على امل ورجاء لان تفهم المسألة اكثر ، واصطلاحهم ذلك مجرداً ، يفيد الاشكال فيما ذكر قبله ، وان ذكر مع «جداً» او «جيداً» او ما اشبه ، كان اشارة إلى الدّقة في المطلب .

( هذا كله في المخالفة القطعية للحكم المعلوم اجمالاً ، من حيث الإلتزام ) لا من حيث العمل ( بأن لا يلتزم به ، او يلتزم بعدمه في مرحلة الظاهر ، اذا اقتضت الأصول ذلك ) أي الالتزام او عدم الالتزام .

( واما المخالفة العملية ) للعلم الاجمالي ( فان كانت ) المخالفة ( لخطاب تفصيلي ) كما اذا قال : اكرم زيداً ، او لا تشرب الخمر ، واشتبه زيد بين نفرين ، والخمر بين إنائين ( فالظاهر عدم جوازها ) وانّما قال : فالظاهر ، لان بعض الفقهاء قال بالجواز لمكان « بعينه » في الرواية - كما سيأتي - ( سواء كانت ) المخالفة

ص: 319

في الشبهة الموضوعيّة ، كارتكاب الانائين المشتبهين المخالف لقول الشارع : « اجتنب عن النجس » ، او كترك القصر والاتمام في موارد اشتباه الحكم ، لأنّ ذلك معصية لذلك الخطاب ،

-----------------

( في الشبهة الموضوعية ، كارتكاب الانائين المشتبهين ) بالنجس ( المخالف ) ذلك الارتكاب (لقول الشارع : اجتنب عن النجس ) فالخطاب معلوم بالتفصيل ، وانّما الاشتباه في الموضوع .

لكن ذلك فيما اذا لم يكن محذور كالاشتباه بالغصب - مثلاً - فانه اذا لم يتمكن من مراجعة الحاكم لتعيين كل واحد منهما حقه ، ولا من عدول المؤنين ، ولم يرض صاحب المال بالتمييز ، او لم يكن موجودا بنفسه او وليه وصل الأمر لافرازه بنفسه ، فيأخذ احد الانائين او الثوبين او ما اشبه لنفسه ، ويجعل الاخر للثاني ويكون الاداء التفصيلي ، لا الاجمالي .

( او ) في الشبهة الحكمية ( كترك القصر والاتمام في موارد اشتباه الحكم ) فانه مخاطب تفصيلاً باقامة الصلاة ، لكن الاشتباه في الحكم وانه قصر أو تمام ؟ كما اذا قصد الاقامة في مكان ثم سافر إلى ما دون اربعة فراسخ ، حيث يشك في ان تكليفه القصر او التمام ، فالخطاب معلوم تفصيلاً والمتعلق مشكوك .

او في الشبهتين معا : بأن كان الشك في الموضوع وفي الحكم ، كما اذا لم يعلم بان الرضاع ، الناشر للحرمة يحصل بخمس عشرة رضعة او بعشرة ، ولم يعلم ايضاً بان المرضعة هند او دعد ( لان ذلك ) الذي مثلناه من ارتكاب الانائين ، وترك القصر والتمام ، والتزويج بالمرأتين يعّد ( معصية ) عقلاً وعرفاً ، والمتشرعة أيضاً تعدّه عصياناً ايضاً ( لذلك الخطاب ) التفصيلي في الاولين ، والاجمالي في الثالث .

ص: 320

لأنّ المفروضَ وجوبُ الاجتناب عن النجس الموجود بين الانائين ، ووجوبُ صلاة الظهر والعصر ، وكذا لو قال : « أكرم زيدا » ، واشتبه بين شخصين ، فانّ تركَ إكرامهما معصيةٌ .

فان قلت : إذا أجرينا أصالة الطهارة في كلّ من الانائين وأخرجناهما عن موضوع النجس بحكم الشارع

-----------------

( لان المفروض ) شرعا : ( وجوب الاجتناب عن النجس الموجود بين الانائين ) فان اجتنب عن النجس - حيث المراد بالنجس الواقعي - يشمل المشتبه ايضاً ، ولهذا اذا قال المولى : لا تكرم زيداً ، ثم اشتبه العبد في ان زيداً هذا او ذاك ، وجب عليه لتحصيل أمر المولى ، عدم إلزامهما ، والاّ فان اكرم احدهما وكان في الواقع هو زيد ، كان معاقباً عقلاً وعرفاً .

وحيث مثّل المصنّف قدس سره للشبهة التحريمية بالنجس ، مثّل للشبهة الوجوبية بقوله : ( ووجوب صلاة الظهر والعصر ) والعشاء ، مما يكون له قصر وتمام ( وكذا لو قال : اكرم زيداً ، واشتبه بين شخصين ، فان ) العقل ، والعرف والمتشرعة يرون: ان (ترك اكرامهما معصية ) وكذلك في مثال النكاح حيث يلزم الاحتياط في الفروع .

( فان قلت ) : كلامكم هذا ينافي ما تقدّم منكم : «من ان الاصول في الموضوعات تخرج مجراها عن موضوع التكليف ، فلا يلزم لمن عمل بالاصل مخالفة عملية» ، فانا (اذا اجرينا اصالة الطهارة في كل من الانائين ) المشتبهين ( واخرجناهما ) بسبب الاصل (عن موضوع النجس ) اخراجاً ( بحكم الشارع ) لان الشارع قال : «كُلُّ شَيءٍ نَظيفٌ حَتّى تَعلَمَ أنّهُ قَذِرٌ »(1) .

ص: 321


1- - وسائل الشيعة : ج3 ص467 ب37 ح4195 .

فليس في ارتكابهما ، بناءا على طهارة كلّ منهما ، مخالفةٌ لقول الشارع : « اجتنب عن النجس » .

قلت : أصالةُ الطهارة في كلّ منهما بالخصوص إنّما توجب جواز ارتكابه من حيث هو .

وأمّا الاناء

-----------------

والاستصحاب يقوم مقام العلم ، فاذا جرى الاستصحابان لا نعلم نجاسة هذا ولا ذاك ( فليس في ارتكابهما - بناءاً على طهارة كل منهما - ) بسبب الاستصحاب (مخالفة ) عملية ( لقول الشارع ) الذي قال : ( اجتنب عن النجس ) فينحصر النهي في صورة العلم التفصيلي حكماً ومتعلقاً ، فاذا لم يعلم انه واجب او حرام ، او الواجب هذا او ذاك ، او الواجب او الحرام هذا او ذاك ؟ ، كما اذا لم يعلم انه هل يجب عليه وطي هند ، او يحرم عليه وطي دعد ؟ لم يلزم عليه شيء .

( قلت ) : قد نقول : بان الاصل في نفسه جار ، وانّما المانع - وهو المناقضة مع العلم الاجمالي - يمنع من جريانه ، وقد نقول : ان الاصل غير جار اصلاً ، فهنا جوابان :

الجواب الاول : لبيان وجود المانع عن جريان الاصل .

الجواب الثاني : لبيان عدم المقتضي للجريان .

فتارة نقول : الخشب لا يحترق مع وجود النار لوجود المانع وهو الرطوبة .

وتارة نقول : الخشب لا يحترق لعدم وجود المقتضي ، وهو النار .

وقد اشار المصنّف قدس سره إلى الجواب الاول : بانّ ( اصالة الطهارة في كل منهما ) أي من الطرفين ( بالخصوص انّما توجب جواز ارتكابه من حيث هو ) أي مع قطع النظر عن وجود العلم الاجمالي ( واما ) مع وجود العلم الاجمالي ب- ( الاناء

ص: 322

النجس الموجود بينهما فلا أصلَ يدلّ على طهارته ، لأنّه نجسٌ يقينا ؛ فلابدّ إمّا من اجتنابهما تحصيلاً للموافقة القطعيّة ، وإمّا أن يجتنب أحدُهما فرارا عن المخالفة القطعيّة على الاختلاف المذكور في محلّه .

هذا ، مع أنّ حكم الشارع بخروج مجرى الأصل عن موضوع التكليف الثابت بالأدلّة الاجتهاديّة لا معنى له ،

-----------------

النجس الموجود بينهما ) قطعاً ( فلا أصل ) يجري حتى ( يدل على طهارته ) فان المانع لا يدع المقتضي ان يؤّر اثره ( لانه ) أي النجس بينهما ( نجس يقيناً ، فلابد ) من احد أمرين :

( اما من اجتنابهما ) معاً ( تحصيلاً للموافقة القطعية ) كما يقوله المصنّف والمحققون .

( واما ان يجتنب احدهما ) مخيراً في الاجتناب ، ويرتكب احدهما مخيراً في الارتكاب ( فراراً عن المخالفة القطعية ) كما يقوله بعض الفقهاء .

وهذان القولان في العلم الاجمالي مبنيّان ( على الاختلاف المذكور في محله ) في باب الاشتغال ، حيث يبحث فيها هناك عن المستفاد من الادلة أي هذين القولين ؟ وسيأتي ان شاء اللّه تعالى .

( هذا ) كله في بيان المانع من جريان الاصلين ، وهو الجواب الاول ، فقد اشار إلى الجواب الثاني من عدم المقتضي لجريان الاصل بقوله :

( مع ان حكم الشارع بخروج مجرى الاصل ) كالانائين المشتبهين ( عن موضوع التكليف الثابت ) ذلك التكليف ( بالادلة الاجتهادية ) اذ الاناء النجس : موضوعٌ ، والحكم : وجوب الاجتناب عنه ، فان هذا الوجوب ثابت بالادلة الاجتهادية - وهي عبارة عمّا يقابل الاصول العملية - ( لا معنى له ) أي لحكم

ص: 323

إلاّ رفعُ حكم ذلك الموضوع ، فمرجعُ أصالة الطهارة إلى عدم وجوب الاجتناب المخالف لقوله : « اجتنب عن النجس » ، فتأمّل .

وإن كانت المخالفةُ مخالفة لخطاب مردّد بين خطابين

-----------------

الشارع هذا ( الاّ رفع ) وجوب الاجتناب الذي هو ( حكم ذلك الموضوع ) وهو النجس ، فاذا قال الشارع : اجر الاصل في الانائين ، كان معناه : لا يجب الاجتناب عن النجس ، وهو يناقض : اجتنب عن النجس .

( فمرجع اصالة الطهارة ) في هذا الاناء ، وذلك الاناء ( إلى عدم وجوب الاجتناب) عن النجس (المخالف) ذلك (لقوله) عليه السلام (اجتنب عن النجس) حيث ان الشارع لا يناقض نفسه بنفسه بان يقول اجر اصل الطهارة في كلا الطرفين .

لا يقال : فكيف قال بعض الفقهاء : بعدم وجوب الاجتناب عن اطراف الشبهة ، وقال بعضهم : بوجوب الاجتناب عن بعض الاطراف لا عن جميع الاطراف ؟ .

لانه يقال : من قال بالاول ، يرى ان قوله : اجتنب عن النجس ، يراد به النجس المعلوم تفصيلاً ، فلم يجعل الشارع نجاسة للمردد بين الانائين ، ومن قال بالثاني، يرى ان الشارع جعل احدهما بدلاً عن الواقع مع عدم المصادفة ، ومع المصادفة فالنجس هو المأمور بالاجتناب عنه ، وسيأتي الكلام في هذين القولين .

( فتأمّل ) حتى لا تقول : ان كلام الشيخ قدس سره هنا : بعدم جريان الاصول في اطراف العلم الاجمالي ، يناقض كلامه السابق من جريان الاصول في اطراف العلم ، إذن كلامه السابق : كان فيما لا يستلزم اجراء الاصول : المخالفة العملية ، وكلامه هنا فيما يستلزم الاجراء : المخالفة العملية ، فلا تنافي بين الكلامين .

هذا تمام الكلام فيما اذا كانت المخالفة ، مخالفة لخطاب تفصيلي ( و ) اما ( ان كانت المخالفة ، مخالفة لخطاب مردد بين خطابين ) سواء في الشبهة الموضوعية

ص: 324

- كما إذا علمنا بنجاسة هذا المائع او بحرمة هذه المرأة ، او علمنا بوجوب الدعاء عند رؤية هلال رمضان ، او بوجوب الصلاة عند ذكر النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم - ففي المخالفة القطعيّة حينئذٍ وجوهٌ :

أحدُها : الجوازُ مطلقا ، لأنّ المردّد بين الخمر والأجنبيّة لم يقع النهيُ عنه في خطاب من الخطابات الشرعيّة حتّى يحرم ارتكابهُ ، وكذا المردّد

-----------------

( - كما اذا علمنا بنجاسة هذا المائع او بحرمة هذه المرأة ) حيث يعلم المكلّف بتوجه الامر من المولى عليه ، لكنه لا يعلم هل هو امر باجتناب المائع او باجتناب المرأة ؟ ، « او » كان التردد في الشبهة الحكمية ، بان علم بالوجوب لكنه لم يعلم بانه ورد على أيّ موضوع ، ؟ كما اذا ( علمنا بوجوب الدعاء عند رؤة هلال رمضان ، او بوجوب الصلاة عند ذكر ) اسم ( النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم - ) فهو مخاطب باقرأ او بصلِّ ، لكنه لا يعلم انه ايهما .

وهنا قسم ثالث : وهو انه يعلم اما بواجب او حرام عليه كما اذا علم بانه يجب عليه صلاة الجمعة : او يحرم عليه التبغ .

( ففي المخالفة ) العملية ( القطعية حينئذٍ ) بأن يشرب الاناء ويباشر المرأة ، ويترك الصلاة والقرائة ، ويدخّن ويترك صلاة الجمعة ( وجوه ) اربعة :

( احدها : الجواز مطلقاً ) وسواء في الشبهة الموضوعية او الحكمية من جنس الواجب كان او الحرام او بالاختلاف من نوع واحد كهذه المرأة وتلك المرأة ، او من نوعين كالتبغ والمرأة .

وقد استدل لهذا الوجه بقوله : - ( لان المردد بين الخمر والاجنبية ) مثلاً ( لم يقع النهي عنه في خطاب من الخطابات الشرعية حتى يحرم ارتكابه ، وكذا المردد

ص: 325

بين الدعاء والصلاة ، فانّ الاطاعة والمعصية عبارة عن موافقة الخطابات التفصيليّة ومخالفتها .

الثاني : عدمُ الجواز مطلقا ، لأنّ مخالفة الشارع

-----------------

بين الدعاء والصلاة ) والمردد بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر ، والمردد بين صلاة الجمعة وجوباً والتبغ تحريماً ، وانّما الخطابات اما وجوب لشيء معيّن او تحريم لشيء معيّن ، فالمردد خارج عن الخطابات ، واذا كان خارجاً فلا تكليف بشيء ( فان الاطاعة والمعصية عبارة عن موافقة الخطابات التفصيلية ومخالفتها ) .

لكن لا يخفى ما فيه : فان العقلاء يحكمون باستحقاق العبد العقاب اذا ترك الامر الاجمالي ، كما يستحقه اذا ترك الامر التفصيلي ، فاذا قال له المولى : لاتذهب ثم شك في انه قال : لا تذهب من هذا الطريق او ذاك ، وكان امامه طريق ثالث ، فاذا لم يذهب في الثالث وذهب من الطريقين كان مستحقاً للعقاب ، وهكذا في المأكولات والمشروبات والمنكوحات ، وغيرها .

هذا في الاعتباريات ، كما هو في التكوينيات ايضاً ، فاذا علم بأن في احد الطريقين اسد ، او في احد الانائين سمّ ، فارتكب كليهما كان قد اصابه الضار ، إلى غير ذلك من الامثلة ، فان الجهل لا يغير الواقع ، سواء في الاعتباريات او في التكوينيات ، ولذا قال سبحانه : « اجْتَنِبُوا كَثِيْرا مِنَ الظَّنِ إِنَّ بِعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ» (1) .

( الثاني : عدم الجواز مطلقاً ) والاطلاق هنا كالاطلاق في قول من قال بالجواز (لان مخالفة الشارع ) عن علم وعمد ، سواء في العلم الاجمالي او في العلم

ص: 326


1- - سورة الحجرات : الآية 12 .

قبيحة عقلاً مستحقة للذمّ عليها ، ولا يعذر فيها إلاّ الجاهلُ بها .

الثالثُ : الفرقُ بين الشبهة في الموضوع والشبهة في الحكم ، فيجوز في الاول دون الثاني ، لأنّ المخالفة القطعيّة في الشبهات الموضوعيّة فوق حدّ الاحصاء ،

-----------------

التفصيلي (قبيحة عقلاً ، مستحقة للذم عليها ) وللعقاب بها شرعاً ( ولا يعذر فيها ) أي في المخالفة ( الا الجاهل بها ) دون العالم ، سواء كان عالماً بها اجمالاً او عالماً تفصيلاً ، بشرط ان لا يكون الجهل تقصيراً ، والاّ فالجاهل المقصّر ايضاً معاقب عقلاً وشرعاً ، حيث يقال له : « هلاّ تعلمت » (1) - كما في الحديث - ؟ وهذا القول الثاني هو مختار المحققين من المتأخرين .

( الثالث : الفرق بين الشبهة في الموضوع والشبهة في الحكم ، فيجوز ) المخالفة ( في الاول دون الثاني ) وانّما يجب الاحتياط في الشبهة الحكمية : وجوبية او تحريمية او بالاختلاف دون الشبة الموضوعية ، بدليل الإن ( لأنّ المخالفة القطعية في الشبهات الموضوعية فوق حدّ الاحصاء ) فيدل ذلك - بطريق الإن - على الجواز في الشبهة الموضوعية .

وقد تقدّم جملة من الموارد التي يتحول العلم الاجمالي فيها إلى العلم التفصيلي .

بالاضافة إلى موارد كثيرة في النزاعات كما اذا ادّعى احد - مثلاً - : بان الاخر قريبة وانكر الاخر ذلك ، فالاول لا يرث من الثاني ، وتجب عليه نفقته في موارد النفقات كالاب والابن وما اشبه ، بينما لا يجب على الثاني شيء من ذلك ،

ص: 327


1- - راجع الأمالي للمفيد : ص292 .

بخلاف الشبهات الحكميّة ، كما يظهر من كلماتهم في مسائل الاجماع المركّب ،

-----------------

فلان الاول باعترافه صار من صغريات « اقرار العقلاء على انفسهم جائز » (1) ، بينما الاصل عدم وجوب شيء على الثاني .

وكذلك اذا قال رجل : بأنّ هذه المرأة زوجتي ، وانكرت المرأة ذلك ، فانه يحرم على الرجل التزويج بالخامسة وبالاخت والام والبنت لهذه المرأة ، ويجب عليه اعطاؤا المهر إن كان دخل بها ، وما اشبه ذلك من لوازم الزوجية ، بينما المرأة ليست كذلك ، فانه لا يجب عليها شيء من لوازم الزوجية .

وهكذا حكم العكس : بأن ادعت المرأة انها زوجته وانكر الرجل ذلك فانّه يحرم عليها الزواج ، بينما يجوز له الزواج باختها وامها وبنتها وسائر المستلزمات ، إلى غير ذلك من الامثلة الكثيرة في سائر المعاملات وفي الطلاق وغيرها ( بخلاف الشبهات الحكمية ) فانه لم يوجد فيها مورد للمخالفة القطعية ، مما يكشف - بدليل الإن - على انهم لم يجوّزوا مايؤي فيها إلى المخالفة القطعية ، وذلك ( كما يظهر من كلماتهم في مسائل الاجماع المركب) فانهم قالوا : كلما تحقق الاجماع المركب ، لم يجز خرقه بقول ثالث ولو بالتفصيل بين الرأيين ، معلّلين ذلك بعدم جواز طرح الحكم المعلوم اجمالاً بين الرأيين .

ص: 328


1- - غوالي اللئالي : ج1 ص223 ح104 و ج2 ص257 ح5 و ج3 ص442 ح5 ، وسائل الشيعة : ج23 ص184 ب3 ح29342 .

وكأن الوجهُ ماتقدّم ، من أنّ الاصول في الموضوعات تخرج مجاريها عن موضوعات أدلّة التكليف . بخلاف الاصول في الشبهات الحكميّة فانّها منافية لنفس الحكم الواقعي المعلوم إجمالاً ، وقد عرفت ضعف ذلك ، وأنّ مرجع الاخراج الموضوعي الى رفع الحكم المترتّب على ذلك ، فيكون الاصل في الموضوع في الحقيقة منافياً لنفس الدليل الواقعّي

-----------------

( وكأن الوجه ) في الفرق بين الشبهات الموضوعية والشبهات الحكمية ، حيث اجازوا المخالفة في الاول دون الثاني ( ما تقدّم ) وان كان هذا الوجه ضعيف ، كما يشير إلى ضعفه المصنّف قدس سره : ( من ان الاصول في الموضوعات تخرج مجاريها) كالمرأة المحلوفة الوطي او الترك ( عن موضوعات أدلّة التكليف بخلاف الأُصول في الشبهات الحكمية ، فانها منافية لنفس الحكم الواقعي المعلوم اجمالاً ) فاصالة عدم الحلف بوطيها ، واصالة عدم الحلف بترك وطيها ، تجعل المرأة خارجة عن كونها متعلق النذر اصلاً ، فالجواز في الوطي والترك لهذه المرأة لا يصادم دليل « الوفاء بالنذر » .

( و ) لكنك ( قد عرفت ) فيما تقدّم ( ضعف ذلك ) الدليل فلا يجري الاصلان في طرفي العلم الاجمالي ( و ) ذلك ل( ان مرجع الاخراج الموضوعي الى رفع الحكم ) اي الوطي لزوماً ، او عدم الوطي لزوماً ( المترتب على ذلك ) الموضوع وهي المرأة في المثال ، فالاصلان يرفعان الالزام ، والحال انا نعلم الالزام بسبب العلم الاجمالي ( فيكون الاصل ) أي كلا الاصلين معاً ( في الموضوع ) الذي هو المرأة ( في الحقيقة ) و الواقع ( منافياً ) و مناقضاً ( لنفس الدليل الواقعي ) لانه من طرف : الزام حول هذه المرأة من جهة الحلف ، ومن طرف : لا الزام من جهة الاصلين ، فلا فرق - من جهة المنافاة - بين الاصل

ص: 329

إلاّ أنّه حاكمٌ عليه لا معارضٌ له ، فافهم .

الرابعُ : الفرقُ بينَ كون الحكم المشتبه في موضوعين واحدا بالنوع كوجوب أحد الشيئين وبينَ اختلافه كوجوب الشيء وحرمة آخر .

-----------------

في الموضوع و الاصل في الحكم .

اللهم ( إلاّ ) ان يقال : ان الفرق هو ( انه ) أي الاصل ( حاكم عليه ) أي على الدليل في الموضوعات ، فيجري الاصل فيها ، ( لا ) انه ( معارض له ) حتى لا يجري ، كما هو معارض في الاحكام لنفس الدليل .

( فافهم ) فانه لايمكن القول بهذا الفرق ، لما عرفت من تصادم الحكم الواقعي مع كلا الاصلين ، سواء كان في الشبهة الموضوعية أو الشبهة الحكمية .

اقول : لايخفى ان عبارة المصنّف قدس سره لو لم يكن فيها سقط او زيادة ، فيها نوع من الضعف .

( الرابع : ) من الوجوه في المخالفة العملية في اطراف الشبهة : التفصيل و ( الفرق بين كون الحكم المشتبه في موضوعين ) جزئيّين كانا او كليّين ، وكانا ( واحدا بالنوع ) فعدم الجواز ( كوجوب احد الشيئين ) او حرمة احدهما ، مثل وجوب الصلاة عند ذكر النبي محمد صلى الله عليه و آله وسلم أو الدعاء عند رؤية الهلال ، او حرمة شرب هذا الاناء او هذه المرأة اما المتحد نوعا وصنفا مثل : وجوب الظهر او الجمعة ، او حرمة هذه المرأة او تلك ، فاظهر في عدم جواز المخالفة العملية ووجوب الارتكاب او الاجتناب من الاول المتحد نوعا لاصنفا .

( وبين اختلافه ) اي اختلاف النوع ، فالجواز ( كوجوب الشيء وحرمة آخر ) حيث انهما نوعان من اللزوم ، بينما الوجوبان او التحريمان نوع واحد ، كما اذا علم اجمالاً بانه تحرم هذه المرأة او يجب شرب هذا الاناء لان فيه شفائه ، او علم

ص: 330

والوجهُ في ذلك أنّ الخطاباتِ في الواجباتِ الشرعيّة بأسرها في حكم خطاب واحد بفعل الكلّ ، فتركُ البعض معصيةٌ عرفا ، كما لو قال المولى : « افعل كذا وكذا » ، فانّه بمنزلة : « افعلهما جميعا » ، فلا فرقَ في العصيان بين ترك واحد منهما معيّنا او واحد غير معيّن عنده .

-----------------

بانه يجب عليه الدعاء عند رؤية الهلال او يحرم التتن .

( والوجه في ذلك ) التفصيل هو ( : ان الخطابات في الواجبات الشرعية ) وكذا في المحرمات الشرعية ( باسرها ) وبمجموعها ( في حكم خطاب واحد ) قد امر الشارع (بفعل الكل) ونهى عن فعل الكل ، قال سبحانه : « وَيَعمَلُ صَالِحا » (1).

فانه يشمل كل الواجبات ، وقال تعالى : « تُوبُوا إلى اللّهِ » (2) .

فانه يشمل جميع المحرمات ( فترك البعض ) في الواجبات ، او فعل البعض في المحرمات ، سواء كان معيّنا في العلم التفصيلي ، او مرددا عند العلم الاجمالي ( معصية عرفا ) فلا فرق في الصنفين مثل : الصلاة والدعاء ، او صنف واحد : كالظهر والجمعة ( كما لو قال المولى : افعل كذا وكذا ) مثلاً قال : « أقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ » (3) ( فانه بمنزلة ) قوله : ( افعلهما جميعا ، فلا فرق في العصيان ) واستحقاق العقوبة ( بين ترك واحد منهما معيّنا ) في العلم التفصيلي (او واحد ) منهما ( غير معيّن عنده ) في العلم الاجمالي كما اذا لم يعلم ان واجبه : اقامة الصلاة أو اعطاء الزكاة فترك واحدا منهما ، وكذلك في الحرام : كما في قوله تعالى :« فاجتَنِبُوا الرِّجسَ مِنَ الأوثانِ واجتَنِبُوا قَولَ الزّورِ» (4) .

ص: 331


1- - سورة الطلاق : الآية 11 .
2- - سورة التحريم : الآية 8 .
3- - سورة البقرة : الآية 110 .
4- - سورة الحج : الآية 30 .

نعم ، في وجوب الموافقة القطعيّة بالاتيان بكلّ واحد من المحتملين كلامٌ آخر مبني على أنّ مجرّد العلم بالحكم الواقعيّ يقتضي البراءة اليقينيّة عنه او يكتفي بأحدهما حذرا عن المخالفة القطعيّة التي هي بنفسها مذمومة عند العقلاء وتعدّ معصيةً عندهم وإن لم يلتزموا

-----------------

حيث لايعلم ان الحرام عليه : اجتناب هذه الصورة باعتبار احتمال انه وثن ، او اجتناب هذا القول باعتبار احتمال انه قول الزّور .

( نعم ، في وجوب الموافقة القطعية بالاتيان بكل واحد من المحتملين ) في الواجب وترك كل واحد من المحتملين في المحرم ، او كفاية الاتيان باحد الواجبين او ترك احد المحتملين من باب كفاية الموافقة الاحتمالية ( كلام آخر ) يأتي تفصيله في باب الاشتغال ان شاء اللّه تعالى ، وذلك الكلام ( مبني على مجرد العلم بالحكم الواقعي ) منجز له بحيث ( يقتضي البرائة اليقينية عنه ) اي عن ذلك الحكم ، فلا يكفي الاتيان بأحدهما ، بل اللازم الاتيان بهما ، وذلك بالنسبة الى الحرام المردد بأن يجتنبهما ( أو يكتفي بأحدهما ، حذرا عن المخالفة القطعية ، التي هي ) أي : المخالفة القطعية تكون ( بنفسها مذمومة عند العقلاء ، وتعد معصية عندهم ) لامجرد الذم ، اذ الذم اعمّ من العصيان .

ولا يخفى : ان باب الاطاعة والمعصية مربوط بالعقلاء ولا دخل للشارع فيه ، ولو قال الشارع شيئا في هذا الباب كان ارشادا .

وقد ذكرنا في « الاصول » في بحث الانسداد وجوها أربعة لذلك ، كما ان باب الموضوعات مربوط بالعرف ولا شأن للشرع فيه ، ولو قال الشارع فيه شيئا كان تفضّلاً .

وعلى ايّ حال : فان العقلاء يذمّون المخالفة القطعية ( وان لم يلتزموا )

ص: 332

الامتثال اليقينيّ لخطاب مجمل .

والأقوى من هذه الوجوه هو الوجهُ الثاني ثمّ الاولُ ثمّ الثالثُ ، هذا كلّه في اشتباه الحكم من حيث الفعل المكلّف به .

وأمّا الكلامُ في اشتباهه من حيث الشخص المكلّف بذلك

-----------------

ب-

(الامتثال اليقيني لخطاب مجمل ) في الواجبات المرددة ، او المحرمات المرددة ، من غير فرق بين القولين في وحدة الصنف : كصلاتين وانائين احدهما خمر ، وتعدد الصنف : كصلاة ودعاء ، ومشتبه خمر ووطي محرمة الوطي .

( والاقوى من هذه الوجوه ) الاربعة ( هو الوجه الثاني ) الذي اطلق وجوب الموافقة القطعية ، بفعلهما او تركهما ، بل وكذا اذا كانا اكثر من اثنين ، كثلاثة ، او اربعة ، او اكثر ، بشرط عدم وجود مانع خارجي كالعسر ونحوه .

( ثم ) لو فرضنا عدم الدليل على الوجه الثاني ، ف- ( الاول ) وهو : جواز المخالفة مطلقا ، لكن لايخفى ان التفصيل بالموافقة الاحتمالية اقوى من هذا الوجه .

( ثم ) على تقدير عدم الدليل على الوجه الاول ف( الثالث ) وهو التفصيل بين الشبهات الموضوعية ، فيجوز المخالفة ، والشبهات الحكمية ، فلا يجوز ، لكن الاقرب عندنا : الموافقة القطعية ثم الاحتمالية .

اما الوجهان الاخران من التفصيلين ، فلا دليل عليهما : لا شرعا و لا عقلاً ، وحيث ان الشرح مبني على التوضيح ، فلا داعي لتفصيل الكلام .

( هذا كله في اشتباه الحكم من حيث الفعل المكلّف به ) وانه هل هذا واجب او ذاك او هذا حرام او ذاك او هذا واجب او ذاك حرام ؟ .

( وأما الكلام في اشتباهه ) اي الحكم ( من حيث الشخص المكلّف بذلك

ص: 333

الحكم ، فقد عرفت أنّه يقعُ تارةً في الحكم الثابت لموضوع واقعيّ مردّد بين شخصين ، كأحكام الجنابة المتعلّقة بالجنب

-----------------

الحكم ) وهو العبد ، وانّما لم يذكر المصنّف قدس سره المكلِّف - بالكسر - اي المولى ، لانه لايتصور تردد في المولى الحقيقي الذي كلامنا نحن بصدده ، وان كان يمكن ذلك في الموالي العرفية ، كأن لم يعرف عبدا زيد وعمرو ، ان زيدا او عمروا أمر عبده بكذا ، وهذا يرجع الى كيفية ارادة الموليين ، فان لها ثلاث صور :

1 - انهما يريدان في مثل ذلك الانجاز .

2 - انهما لايريدان الانجاز .

3 - انهما مختلفان في ارادة الانجاز وعدمه .

ففي الاول : ينجزان ، حسب نظر الموليين ، على نحو الموافقة القطعية ، او على نحو عدم المخالفة القطعية ، او على نحو التفصيل بين الشبهات الموضوعية او الحكمية ، او على نحو التفصيل بين الشبهات الموضوعية او الحكمية ، او على نحو التفصيل بين الشبهات الوجوبية او التحريمية ، الى غير ذلك .

وفي الثاني : لاينجزان .

وفي الثالث : حسب رغبة كل مولى بالنسبة الى عبده ، ولو شك في كيفية الرغبة ، فالمرجع العرف ، لانهم هم الذين يعيّنون كيفية الاطاعة اذا لم يكن للمولى كيفية خاصة ، كما تقدّم الكلام في ذلك .

وعلى كل : ( ف- ) الكلام في المكلّف ، و ( قد عرفت انه يقع تارة في الحكم الثابت لموضوع ) كلي ( واقعي مردد بين شخصين ، كأحكام الجنابة المتعلقة بالجنب ) وكان كليا ، لان كل غير شخصي كلي ، منتهى الامر : انه كلي في المعيّن ، كما اذا كان له عشرة موكلين ، فاشترى لكلّي الموكل لا للجميع بل لواحد منهم ،

ص: 334

المردّد بين واجدي المنيّ ، وقد يقعُ في الحكم الثابت لشخص ، من جهة تردّده بين موضوعين ، كحكم الخنثى المردّد بين الذكر والانثى .

وأمّا الكلامُ في الأوّل :

فمحصّله : أنّ مجرّد تردّد التكليف بين شخصين لايوجب على أحدهما شيئا ، إذ العبرةُ في الاطاعة والمعصية بتعلّق الخطاب بالمكلّف الخاصّ ،

-----------------

وقد ذكرنا في الفقه : الفرق بين الكلي والمردد ، وانهما وان كانا كليين ، الاّ ان الخصوصية - على نحو الكلية - داخلة في المردد ، بينما الخصوصية ليست داخلة في الكلي ، كما في ( المردد ) مصداقه ( بين واجدي المني ) وكذلك فيما اذا كان واجب وحرام ، لان جامعهما الالزام ، او بين واجبين .

( وقد يقع في الحكم الثابت لشخص ، من جهة تردده ) اي تردد ذلك الشخص ( بين موضوعين ، كحكم الخنثى المردد بين الذكر والانثى ) لكنا ذكرنا في باب النكاح (1) : انه يلحق نفسه باحدهما ، كما قال به قوم حسب ماذكره الشيخ قدس سره في المبسوط .

( واما الكلام في الاول ) وهو تردد التكليف بين نفرين ( فمحصله : ان مجرد تردد التكليف بين شخصين ) او اكثر ، وذكر الشخصين من باب المثال ( لايوجب على احدهما شيئا اذ العبرة في الاطاعة والمعصية بتعلق الخطاب بالمكلّف الخاص ) فاذا علمت المرأتان : ان احداهما اخت الرجل من الرضاعة وهو لايعلم بذلك صح لكل واحد منهما ان تتزوج به ، فمجرد العلم الاجمالي بين نفرين لايوجب لاحدهما حكما .

ص: 335


1- - للمزيد راجع موسوعة الفقه : ج62 - 68 كتاب النكاح للشارح .

والجنبُ المردّد بين شخصين غير مكلّف بالغسل وإن ورد من الشارع أنّه يجب الغسلُ على كلّ جنب ، فانّ كلاً منهما شاكّ في توجّه هذا الخطاب إليه ، فيقبح عقابُ واحدٍ من الشخصين يكون جنبا بمجرّد هذا الخطاب الغير الموجّه إليه .

-----------------

( و ) عليه : ف( الجنب المردد بين شخصين ) حيث لم يتعلق به خطاب على نحو الترديد يقول : ايها الاثنان ليغتسل كل واحد منكما ، فكل منهما ( غير مكلف بالغسل ) وكذلك في مثال المرأتين وفيما اذا علم زيد وعمرو بان هندا اخت احدهما من الرضاعة ، جاز لاحدهما ان يتزوجها ، ثم اذا طلقها او مات عنها او ما اشبه ، جاز للآخر ان يتزوج بها .

( وان ) قلت : ( ورد من الشارع ) في الكتاب والسنة ( : انه يجب الغسل على كل جنب ) قال سبحانه : « وإن كُنتُم جُنُبا فاطَّهَّرُوا » (1) .

وفي الاحاديث : يجب الغسل من الجنابة .

قلت : ( فان كلاً منهما شاك في توجه هذا الخطاب اليه ، فيقبح ) عقلاً وعرفا ، وبمقتضى : « وَما كُنّا مُعَذِّبِين حَتّى نَبعَثَ رَسُولاً » (2) .

والدال على لزوم البيان لكل مكلّف مكلّف - ( عقاب واحد من الشخصين ) الذي ( يكون جنبا ) في الواقع ( بمجرد هذا الخطاب غير الموجه اليه ) حسب علمه .

لايقال : انا نرى اذا خاطب المولى عبيده وقال : لينقذ احدكم ولدي من البئر ، ثم لم ينقذه احد منهما حتى مات ، فانه يعاقبهم جميعا ولا يقبل عذر أحد منهم بانه لم يعلم بتوجه الخطاب اليه ، ولم يتمكن من الفحص حتى يعرف انه هو

ص: 336


1- - سورة المائدة : الآية 6 .
2- - سورة الاسراء : الآية 15 .

نعم ، لو اتفق لأحدهما او لثالث علمٌ بتوجّه الخطاب إليه دخل في اشتباه متعلّق التكليف الذي تقدّم حكمه بأقسامه .

ولا بأسَ بالاشارة إلى بعض فروع المسألة ، ليتّضح انطباقها على ماتقدّم في العلم الاجماليّ بالتكليف .

فمنها : حملُ أحدهما

-----------------

المكلّف بالانقاذ من بين عبيده .

لانه يقال : ذلك في ما اذا عرف الاهمية ولو بدون الخطاب ، كما اذا وقع ولد المولى في البئر وهو غير حاضر ، فلم يخرجه احد حتى مات فان عذرهم : بانه لم يأمرهم بالاخراج ، غير مسموع عند العقلاء حتى يرفع العقاب عنهم ، فلا يقاس بالمقام الذي لم يعرف فيه الاهمية والملاك .

( نعم ، لو اتفق لاحدهما او لثالث علم بتوجه الخطاب اليه ) خرج مما نحن فيه و (دخل في ) بحث ( اشتباه متعلق التكليف الذي تقدّم حكمه باقسامه ) .

( و ) حيث ذكرنا الحكم ( لابأس بالاشارة الى بعض فروع المسألة ) من الموارد التي يحصل لاحدهما او لثالث علم تفصيلي بتوجه الخطاب اليه مما يلزم عليه الاطاعة ، فان حصول العلم الاجمالي اولاً ، لا يصحّح مخالفة العلم التفصيلي الحاصل لاحدهما او لثالث ثانيا ، اذ العلم متى ما حصل وجب اتباع الحكم فيه .

وذلك ( ليتضح ) بسبب هذه المصاديق ( انطباقها ) اي انطباق هذه الفروع التي نذكرها ( على ماتقدّم ) من الكبرى الكلية ( في العلم الاجمالي بالتكليف ) لان ذكر الصغريات لبيان انطباق الكبرى عليها ، يوجب تدريب الذهن وتمرين الفكر ، حتى يعرف الانسان الاشتباه والنظائر اين ماوجدها .

( فمنها ) اي من تلك الفروع ( : حمل احدهما ) اي احد الجنبين او الحائضين

ص: 337

الآخر وإدخاله في المسجد للطواف او لغيره ، بناء على تحريم ادخال الجنب او إدخال النجاسة الغير المتعدّية .

-----------------

- كما تقدّم مثال الحيض - او ما اشبه ( الاخر وادخاله في المسجد ) الحرام ( للطواف او لغيره ) فان دخول الجنب في المسجد الحرام محرم مطلقا ، وكذا في مسجد الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، بخلاف سائر المساجد حيث يحرم المكث فيها - كما قرر في الفقه - وذلك ( بناءا على تحريم ادخال الجنب ، او ادخال النجاسة غير المتعدية ) في المسجد ، اما النجاسة المتعدية ، فلا اشكال في حرمة ادخالها .

وانّما قال : « بناءا » لان هناك احتمالين :

الاول : ان المحرم دخول نفس الجنب فقط ، لا ادخال الجنب ، وعلى هذا : فلا يحرم حمل احدهما الآخر ، لانه لايقين للحامل بانه فعل الحرام ، اذ لو كان المحمول جنبا لم يكن ادخاله المسجد محرما والعلم الاجمالي انّما يؤثر اذا كان كل طرف من الاطراف موجبا لحكم الزامي .

الثاني : انه كما يحرم دخول الجنب يحرم ادخال الجنب ايضا ، والفرع الذي نحن فيه مبني على الثاني ، لان الحامل ان كان جنبا حرم عليه الدخول ، وان كان متطهّرا حرم عليه ادخال حمله ، لانه جنب - على هذا التقدير - وقال الفقهاء بالثاني ، لان الملاك العرفي موجود في الادخال ، ومثل هذه المسألة ما اذا حمل احدهما الآخر ومكثا في المسجد غير المسجدين من سائر المساجد .

ثم لايخفى ان قوله : « ادخال النجاسة غير المتعدية » يراد بها : اثر الاحتلام من الخبث الذي يبس في بدن او لباس احدهما بحيث لايسري الى المسجد ، لكن هذا الكلام لايأتي فيما اذا تطهر كلاهما عن الخبث - كما هو واضح - او كانت الجنابة بالادخال او الدخول بلا انزال .

ص: 338

فان قلنا إنّ الدخول والادخال متحققان بحركة واحدة ، دخل في المخالفة القطعية المعلومة تفصيلاً وإن تردّد كونه من جهة الدخول والادخال .

-----------------

( فان قلنا : ان الدخول والادخال متحققان بحركة واحدة ) كما هي في احدى الاحتمالات ، اذ في المسألة ثلاثة احتمالات :

الاول : ان الدخول والادخال حركة واحدة ، لكن من حيث نسبة هذه الحركة الى الحامل يسمى دخولاً ، والى المحمول يسمّى ادخالاً ، كالكسر الواقع بين الكاسر والمكسور ، فنسبتها الى الاول كسر ، والى الثاني انكسار .

الثاني : ان الدخول والادخال حركتان ، لكن لهما جهة مشتركة .

الثالث : انهما حركتان ، وليس لهما جهة مشتركة .

فعلى الأول والثاني : يكون الامر من العلم التفصيلي ، لان الحامل - على كلا التقديرين - يعلم ان هذه الحركة محرمة .

وعلى الثالث : يكون الامر من العلم الاجمالي ، لانه يعلم اما حركته او حركة محموله - المسبّبة من حركته له - محرمة ، فيكون كما اذا صب باليدين انائين ، احدهما نجس ، في المسجد ، حيث يعلم اجمالاً بانه اما حركة يده اليمنى محرمة ، او حركة يده اليسرى .

وعلى ايّ حال : فاذا كانت الحركة الشخصية للحامل مصداقا للدخول والادخال - وهذا هو الاحتمال الاول - ( دخل ) هذا الفعل وهو الحركة ( في المخالفة القطعية المعلومة تفصيلاً ) لانه يعلم انها محرمة اما لعنوان الدخول أو لعنوان الادخال ( وان تردد ) الحرام بين ( كونه ) حراما ( من جهة الدخول والادخال ) فيكون حاله حال المرأة التي يعلم كونها محرمة عليه ، لكن يتردد في ان الحرمة لكونها اخته من الرضاعة او لانها ام زوجته .

ص: 339

وإن جعلناهما متغايرين في الخارج ، كما في الذهن : فان جعلنا الدخول والادخال راجعين إلى عنوان محرّم واحد ، وهو القدرُ المشتركُ بين إدخال النفس وإدخال الغير ، كان من المخالفة المعلومة بالخطاب التفصيليّ ، نظير ارتكاب المشتبهين بالنجس .

وإن جعلنا كلاً منهما عنوانا مستقلاً

-----------------

الاحتمال الثاني : هو ما اشار اليه بقوله :

( وان جعلناهما ) ايّ الدخول والادخال فعلين متعددين ( متغايرين في الخارج ) فهما امران - وان كانا بصورة امر واحد - .

( كما ) انهما متغايران ( في الذهن ) كتغاير الحيوان والناطق في الذهن .

وعليه : فالعامل يعلم اجمالاً حرمة احد الفعلين : اما فعل الدخول او الادخال ( فان جعلنا الدخول والادخال راجعين الى عنوان محرم واحد ) فالدخول والادخال كلاهما ادخال ، لكن احدهما ادخال النفس والآخر ادخال الغير .

( و ) هذا الادخال ( هو القدر المشترك ) الجامع ( بين ادخال النفس وادخال الغير ) فكأنّ فردين من جامع محرم اندكّا في فرد واحد ، فهذا الفرد الواحد ( كان ) بلحاظ آخر فردان كالاحتمال السابق يكون ( من المخالفة المعلومة بالخطاب التفصيلي ) لانه قد ادخل الجنب في المسجد ، سواء بادخال النفس او بادخال الغير ( نظير ارتكاب ) الانائين ( المشتبهين بالنجس ) اذا صبهما بحركة واحدة في المسجد ، فان هذا الصب حرام تفصيلاً ، اما لنسبته الى الاناء الاحمر ، او لنسبته الى الاناء الابيض .

الاحتمال الثالث : اشار اليه بقوله ( وان جعلنا كلاً منهما ) اي الدخول والادخال (عنوانا مستقلاً ) فهما امران مستقلان ، وحيث لا اتحاد حقيقة - كما في الاحتمال

ص: 340

دخل في المخالفة للخطاب المعلوم بالاجمال الذي عرفت فيه الوجوه المتقدّمة .

وكذا من جهة دخول المحمول واستيجاره الحامل مع قطع النظر عن حرمة الدخول والادخال عليه او فرض عدمها ، فانه علم اجمالاً صدور أحد المحرّمين إمّا دخول المسجد جنبا أو استيجار جنب للدخول في المسجد ،

-----------------

الاول - ولا جامع - كما في الاحتمال الثاني - ( دخل ) الفعلان ( في المخالفة للخطاب المعلوم بالاجمال ) فانه قد فعل احد الحرامين ، اما دخول الجنب ، أو ادخال الجنب ( الذي عرفت فيه ) اي في هذا الخلاف بارتكاب شيئين احدهما محرم ( الوجوه ) الاربعة ( المتقدمة ) ومضى فيها ان الاقوى هو الحرمة .

هذا تمام الكلام في الحامل ، وانه فاعل للحرام التفصيلي او الحرام الاجمالي ، اما بالنسبة الى المحمول الذي استأجر الحامل ليدخله المسجد ، فانه ايضا فاعل للحرام اجمالاً ، وذلك اما من جهة دخوله اذا كان هو بنفسه جنبا ، او من جهة استيجاره اذا كان حامله جنبا والى هذا أشار بقوله : ( وكذا ) يتحقق الحرام في جانب المحمول ( من جهة دخول المحمول واستيجاره الحامل ) .

نعم ، اذا ادخله بدون استيجاره ، لم يعلم المحمول انه فعل حراما اجمالاً ، لانه لم يسبب دخول الحامل بالاستيجار .

هذا ( مع قطع النظر عن حرمة الدخول والادخال عليه ) اي على الحامل ، فانه سواء فرضنا ان الحامل حرام عليه ( او فرض عدمها ) اي عدم الحرمة على الحامل ( فانه ) اي المحمول ( علم اجمالاً : صدور احد المحرمين ) منه ( إمّا دخول المسجد جنبا ، او استيجار جنب للدخول في المسجد ) وكذا اذا لم يستأجره

ص: 341

الاّ ان يقال بأنّ الاستيجار تابع لحكم الأجير ، فاذا لم يكن هو في تكليفه محكوما بالجنابة وابيح له الدخول في المسجد صحّ استيجارُ الغير له .

-----------------

وانّما امره بذلك ، فنفذ الحامل الامر ، لان الامر بالمنكر حرام ، فالمحمول يعلم انه اما دخل جنبا واما امر بالمنكر .

( الا ان يقال ) : ان المحمول لايعلم بارتكاب احد المحرمين ، لان الحامل يجوز له الدخول - من جهة اجرائه البرائة - والمحمول استأجر من يجوز له الدخول ( ب- ) سبب ( ان الاستيجار تابع لحكم الاجير ) فمن جاز له الدخول في المسجد لاجرائه الاصل ، او لفرض قطعه بانه ليس بجنب ، جاز للغير ايضا استيجاره ، ومن لايجوز له الدخول في حدّ نفسه ، ولو باجرائه الاصل ، كما اذا كان جنبا ثم شك في انه تطهر ، فاجرى اصل عدم التطهر ، لايجوز للغير استيجاره ، وحيث ان الاجير في المقام شاك في جنابة نفسه ، جاز له الدخول فجاز للغير استيجاره .

( فاذا لم يكن هو ) اي الاجير الحامل ( في تكليفه ) في حدّ نفسه ( محكوما بالجنابة ، وابيح له الدخول في المسجد ، صح استيجار الغير له ) من غير اشكال .

لكن المستظهر فقهيا : ان كل واحد من الحامل والمحمول لايحق له ذلك ، حيث انه يعلم بارتكاب الحرام في الجملة ، والتفصيل في الفقه .

ومما تقدّم ، يعرف حال شخصين كان احدهما جنبا فاستأجرهما ثالث للعبادة عن ميّته ، او ليحجّا حجين عن ميته ، او يقضيا الصيام عنه ، او استأجرهما لكنس المسجد ، او علم بان احدى المرأتين اخت احد الرجلين من الرضاعة ، ومع ذلك زوجهما لهما ، او علم بان احد المالين غصب لايملكه المستولي عليه ، ومع ذلك

ص: 342

ومنها : اقتداءُ الغير بهما في صلاة او صلاتين .

فان قلنا بأنّ عدمَ جواز الاقتداء من أحكام الجنابة الواقعية ، كان الاقتداء بهما في صلاة واحدة موجبا للعلم التفصيليّ ببطلان الصلاة ، والاقتداء بهما في صلاتين من قبيل ارتكاب الانائين ،

-----------------

اجرى صيغة البيع عن كلا المالين ، الى غيرها من الامثلة الكثيرة .

نعم ، فيما اذا كان الطرف يعتقد بدين يرى حليّة هذه الاُمور ، جرت فيه قاعدة الالزام ، على ماذكر في محله .

( ومنها : اقتداء الغير بهما في صلاة ) واحدة ، كما اذا صلّى مقتديا بامام ثم حدث للامام حدث فاستناب هو ، او اناب المأمومون مكانه آخر ، وكان احد هذين الامامين جنبا قطعا ( او ) في ( صلاتين ) كأن صلّى الظهر مع زيد ، والعصر مع عمرو .

( فان قلنا : بان عدم جواز الاقتداء من احكام الجنابة الواقعية ) فالجنابة حيث انها حدث ، فالصلاة باطلة مع الجنابة ، اماما كان الجنب او مأموما بخلاف الخبث حيث انه مبطل مع العلم ، لا مع الشك والجهل - كما قرر في الفقه - لاختلاف دليلهما من هذه الجهة ( كان الاقتداء بهما في صلاة واحدة ، موجبا للعلم التفصيلي ببطلان الصلاة ) فيما اذا لم يأت المأموم بتكليف المنفرد ، والا لم يكن وجه للبطلان .

أو كانت الصلاة صلاة الجمعة - مثلاً - حيث ان صحتها مشترطة بالجماعة ، والا فبطلان صلاة الامام لايوجب بطلان صلاة المأموم .

( و ) على البطلان ، يكون ( الاقتداء بهما ) اي بامامين ( في صلاتين من قبيل ارتكاب الانائين ) لعلمه الاجمالي : بانه اما بطلت ظهره او عصره ، وهكذا

ص: 343

والاقتداء بأحدهما في صلاة واحدة كارتكاب أحد الانائين .

وإن قلنا إنّه يكفي في جواز الاقتداء عدمُ جنابة الشخص في حكم نفسه ، صحّ الاقتداء في صلاة ، فضلاً عن صلاتين ، لأنّهما طاهران بالنسبة الى حكم الاقتداء .

والأقوى هو الأوّل ، لأنّ الحدث مانع

-----------------

في سائر الصلوات .

( و ) يكون ( الاقتداء باحدهما ) فقط اي باحد الامامين المردّدين في كون احدهما جنبا ( في صلاة واحدة ، كارتكاب احد الانائين ) فاذا شك في صحتها ، كان الاصل الاشتغال ، الاّ على مذهب من يقول : بجواز الارتكاب في احد اطراف الشك لكنّا لم نختره فيما سبق .

( وان قلنا : انه يكفي في جواز الاقتداء عدم جنابة الشخص ) الذي هو الامام ( في حكم نفسه ) فاذا راى الامام نفسه طاهرا صح الاقتداء به ، وان كان في الواقع جنبا كما في الخبث ، فانه يصح الاقتداء بالامام اذا كان بدنه او لباسه نجسا مع عدم العلم به .

وعلى هذا ( صح الاقتداء ) بالامامين ( في صلاة ) واحدة ( فضلاً عن صلاتين ) لان أيّا منهما لايرى نفسه جنبا ، وقد عرفت : ان المعيار في عدم جواز الاقتداء ، هو ان يرى الامام نفسه جنبا ( لانهما ) معا ( طاهران بالنسبة الى حكم الاقتداء ) فان المانع الجنابة المعلومة للمكلف الذي هو الامام ، والحال ان احدا من الامامين لايعلم بجنابته .

( والاقوى ) فقهيا : ( هو الاول ) اي عدم جواز الايتمام لا بصلاة واحدة ولا بصلاتين ( لان الحدث ) في باب الايتمام - حسب ما يستفاد من ادلته - ( مانع

ص: 344

واقعيّ لا علميّ .

نعم ، لا إشكال في استيجارهما لكنس المسجد ، فضلاً عن استيجار أحدهما ، لأنّ صحّة الاستيجار تابعة لاباحة الدخول لهما ، لا للطهارة الواقعيّة ، والمفروضُ إباحتُه لهما .

وقِس على ماذكرنا جميعَ ما يرد عليك

-----------------

واقعي لا ) مانع ( علمي ) .

وكذلك فيما اذا علم المأموم : أن احد الامامين الذي يقتدي بهما في صلاة واحدة ، او في صلاتين ، غير متوضيء ، لان الوضوء شرط واقعي لاشرط علمي ، وقد تقدّم : ان حال الحيض كحال الجنابة ، فيما اذا اقتدت المرأة بمرأتين في صلاة واحدة ، او في صلاتين ، الى غير ذلك .

( نعم ، لا اشكال في استيجارهما ) معا ( لكنس المسجد ، فضلاً عن استيجار احدهما ) وانّما قال : « فضلاً » لانه في استيجارهما يعلم تفصيلاً بادخاله الجنب في المسجد ، بينما ليس كذلك في استيجار احدهما ، فانه لايعلم بل يحتمل انه ادخل الجنب المسجد ( لان صحة الاستيجار تابعة لاباحة الدخول لهما ) اي لكل من الاجيرين في حدّ نفسه ، والاجير يباح له الدخول ، لان الطهارة الحديثة شرط علمي في الاستيجار ، لاشرط واقعي ، ولذا قال : ( لا للطهارة الواقعية ) كما هي شرط في الصلاة ، هذا ( والمفروض اباحته ) اي الدخول ( لهما ) اي لكل من الاجيرين الذين يعلم المستأجر إن احدهما جُنب .

لكن لايخفى : ان ظاهر ادلة الشرط هو : الواقعية ، الاّ ان يدل دليل خاص على علمية الشرط في الاستيجار ، ووجود دليل خاص متوقف على التتبع والتأمّل .

( وقس على ماذكرنا جميع مايرد عليك ) من الفروع في العلم الاجمالي ،

ص: 345

مميّزا بين الأحكام المتعلّقة بالجنب ، من حيث الحدث الواقعيّ ، وبين الأحكام المتعلّقة بالجنب ، من حيث انّه مانع ظاهريّ للشخص المتّصف به .

-----------------

وحكم الذي يأتي بطرف واحد ، منه ، او بكلا الطرفين ، مع اختلاف الامثلة وكثرتها .

مثلاً : اذا علم القاضي بأنّ أحد هذين الرجلين أخ لهذه المرأة من الرضاعة ، فهل يتمكن من عقدها لاحدهما ، فيكون الاتيان بطرف ؟

أو يعقدها لهما : كما اذا طلقها الاول ، ثم عقدها القاضي للثاني ، حيث في الاول يحتمل انه عقد الاخ على اخته ، وفي الثاني يعلم بانه عقدها للاخ ، فان هذه المسألة اشكل من مسألة النجاسة في الصلاة ، لما ورد من الاحتياط الشرعي في الفروج .

وفي مسألة الجنب يجب ان يكون المكلّف ( مميّزا بين الاحكام المتعلقة بالجنب من حيث الحدث الواقعي ) وان الواقع هو المعيار ( وبين الاحكام المتعلقة بالجنب من حيث انه مانع ظاهري) فالشرط علمي (للشخص المتصف به ) او لغيره .

وهكذا في كل مورد مورد يجب ملاحظة ادلة ذلك المورد ، وانه ما هو المستفاد منها في كل الاحكام الوضعية والتكليفية له او لغيره اذا علم بنفسه او علم من يرتبط ذلك به .

مثلاً : لو اعتقد الاب بانه طاهر وصلّى ثم مات ، فهل يجب على ولده الاكبر مع علمه بان اباه كان غير متوضيء او غير مغتسل ، او كان متوضيا او مغتسلاً بماء نجس قضاء تلك الصلاة عنه ؟ وهكذا في حجّه ، وصومه ، وما أشبه ذلك ،

ص: 346

الخنثى

وأمّا الكلامُ في الخنثى :

-----------------

كل حسب فقده الشرط ، او الجزء ، او وجود مانع او قاطع فيه .

وهكذا حال ما اذا علم المأموم في صلاة الجمعة علما اجماليا او تفصيليا : بأنّ امامه ، او هو او احد المأمومين جنب ، حيث اذا نقص من العدد بطلت الجمعة ، لانها متوقفة على عدد خاص : خمسة او سبعة ، الى غير ذلك مما هو كثير .

الخنثى

( واما الكلام في الخنثى ) المشكل ، فانه مبتلى بالعلم الاجمالي في نفسه ، لانه ان كان ذكرا حرم عليه ان يكون زوجة ، وان كان انثى حرم عليه ان يكون زوجا ، الى غير ذلك من الاحكام ، والكلام فيه كون في الموضوع تارة ، وفي الحكم اخرى :

الاول : في انه هل الخنثى طبيعة ثالثة ؟ يعني : انه لاذكر ولا انثى ، بل هو شيء ثالث ، او انه احدهما ؟ .

الثاني : في انه على تقدير كونه احدهما ، كيف يميّز ذلك حتى يكون حكمه حكم المتميّز من الذكر أو الانثى ؟ وعلى تقدير كونه طبيعة ثالثة ، ماهي احكامه ؟ .

ظاهر الاية الكريمة : انه احدهما لا طبيعة ثالثة ، قال سبحانه : « يَهِبُ لِمَن يَشاءُ إناثا وَيَهَبُ لِمَن يَشاءُ الذّكُور » (1) .

واما ما ورد : من انه يعطى نصفي الذكر والانثى في الارث ، فمن باب قاعدة

ص: 347


1- - سورة الشورى : الآية 49 .

...

-----------------

العدل وهو كذلك في كل مورد مالي مشتبه ، كما اذا مات الوارث قبل القسمة وترك وارثا ، ولم نعلم ان الوارث كان ذكرا او انثى ، وهكذا في سائر موارد الاشتباه المالي .

وقاعدة العدل وان لم نجد بها رواية بهذا اللفظ ، الاّ انها مستفادة من روايات متعددة فوق العشرة ، في مختلف الابواب ، مما يفهم منها الملاك عرفا .

ثم نرجع الى الخنثى ، فنقول : هو إما ذكر أو انثى ، فان عرفنا انه ايهما بالقواعد المقررة في الفقه ، فلا كلام ، وان لم نعرف انه ايهما بها ، وانّما عرفنا ذلك بسبب العلم الحديث - مثلاً - فلا اشكال ايضا من جهة العلم .

واما وان لم نحصل على دليل او علم ، فهل الميزان : القرعة ، كما قال به بعض ؟ .

او انه مكلف باجراء الاحكام المشتركة دون الاحكام المختصة - إذ له البرائة منها - كما هو احتمال ؟ .

او انه يحتاط بالجمع بين امرين بأن لايتزوج - مثلاً - ولا يتزوج به ، وهكذا كما قال به جمع ؟ .

او انّ اختيار جعل نفسه ذكرا او انثى بيده كما قال به بعض ؟ .

احتمالات ، والاقرب عندنا : الاخير ، « لان الناس مسلّطون على انفسهم » (1) الا ما خرج قطعا ، وليس المقام مما خرج بالقطع .

هذا ، بالاضافة الى ان في الجمع بين الحكمين : عسر أكيد وحرج شديد ، والقرعة : بحاجة الى العمل ، بل وظاهر رواية اعطائه نصف النصيبين ، ينفي

ص: 348


1- - مستفاد من قوله تعالى : « النّبي اولى بالمؤمنين من انفسهم » سورة الاحزاب : الآية 6 .

...

-----------------

القرعة ايضا ، والبرائة معناها : ان له ان يتزوج ويتزوج به وهو ضروري العدم ، والكلام في هذا الباب طويل ، وانّما كان قصدنا الالماع فقط ، غير انه بقي هنا امران ، لابأس بالاشارة اليهما :

الاول : لايبعد ان ماورد في بعض الروايات : من حساب الاضلاع ان يكون من باب التقية ، او من باب الالزام ، ومن باب كلّم الناس على قدر عقولهم ، شياعه بين الناس ، وذلك لانه قد شهد جماعة من ذوي الاختصاص في التشريح : بانه لاتفاوت بين اضلاع الرجل والمرأة ، اللهم الاّ ان يكشف العلم صحة ذلك الذي ورد في الروايات ببعض الوجوه المحتملة .

الثاني : قد اشتهر في بعض المطبوعات : ان بعض علماء الطب تمكن من قطع رأس قرد وزرعه على جثة قرد آخر وكذلك في الكلب ، وقد عاش الحيوان المركب منهما .

وانهم اليوم بصدد اجراء هذا الامر في الانسان ، فان صح ذلك وتحقق في المستقبل ، فهل هذا الانسان المركب من رأس زيد وبدن عمرو ، محكوم بحكم زيد او بحكم عمرو ؟ او انسان ثالث ؟ او يتبّع حكم مداركه في انها بعد التركيب مدارك زيد او مدارك عمرو ؟ او انه كالخنثى المشكل ؟ .

احتمالات ، وان كان لايبعد انه بحسب الرأس اذا بقيت مداركه على ما كانت عليه قبل التركيب فرأس زيد ، زيد سواء كان على جسده ، او جسد عمرو ، فكما ان تغيير كل اجزاء بدنه من يده ، او رجله او قلبه ، او ما اشبه ، لا يغير حقيقة كونه زيدا كذلك تغيير كل بدنه ، فلو فرض انا زرنا ابن سينا ورأيناه يعقل ويتكلم كما كان ، لا يهمنا انه على بدنه السابق او بدن جديد ، فان الناس يتعاملون معه بعد

ص: 349

فيقعُ تارةً في معاملتها مع غيرها من معلوم الذكوريّة والانوثية او مجهولهما ، وحكمها بالنسبة الى التكاليف المختصّة بكلّ من الفريقين ، وتارة في معاملة الغير معها ،

-----------------

اجراء العملية وفي جميع الخصوصيات على ما كانوا يتعاملون معه قبل اجراء العملية .

نعم ، لو فرض - وهذا فرض في فرض - ان رأس الرجل ركب على بدن امرأة او بالعكس ، فالحكم يكون هنا اصعب .

وعلى ايّ حال : ( ف- ) الكلام في الخنثى ( يقع تارة في معاملتها مع غيرها ، من معلوم الذكورية والانوثية او ) معاملتها مع ( مجهولهما ) كخنثى مثله ، فهل له ان ينظر الى الرجل باعتباره رجلاً ، أو الى المرأة باعتبارها امرأة ؟ وهل له ان يتزوج بالمرأة او يزوّج بالرجل ؟ واذا كان هناك خنثى مثله ، فهل يتزاوجان بينهما ام لا ؟ وما حال الارث ؟ الى غير ذلك .

( و ) هكذا يقع الكلام في ( حكمها بالنسبة الى التكاليف المختصة بكل من الفريقين ) فهل يجب عليها الجهر - مثلاً - في اماكن الجهر ، كما هو حكم الرجل ؟ ام لا ، كما هو حكم المرأة ؟ كذلك بالنسبة الى وجوب الجمعة ، والجهاد ، وكون الدم حيضا وانعتاق المحارم بمجرد ملكه لهم ، وحرمة او حلية لبس الحرير والذهب ، ووجوب ستر جميع البدن في الصلاة ، الى غيرها من الاحكام المختصة .

اما الاحكام المشتركة كاصل الصوم ، والصلاة والحج ، والمعاملات ، والاوقاف ، ونحوها ، فلا كلام فيها .

( وتارة في معاملة الغير معها ) اي مع الخنثى فهل يجوز للرجل أو المرأة

ص: 350

وحكم الكل يرجع الى ما ذكرنا في الاشتباه المتعلّق بالمكلّف به .

أمّامعاملتُها مع الغير ، فمقتضى القاعدة احترازُها عن غيرها مطلقا ، للعلم الاجماليّ بحرمة نظرها إلى إحدى الطائفتين ، فيجتنب عنهما مقدّمةً .

-----------------

-

مثلاً - ان ينظر اليها ، او يتزوج بها زوجة او زوجا او يقلدها ، او يتقاضى اليها ،

او يأتم الرجل بها في الصلاة الى غير ذلك .

ولا يخفى ان الخنثى يستعمل مذكرا ومؤنثا ، كما ان بعض الالفاظ كذلك ، قال ابن حاجب :

اما التي قد كنت فيه مخيراً***هو كان سبعة عشر في التبيان

ولذا نرجع الضمير اليه مذكرا ومؤنثا .

( وحكم الكل ) منها بالنسبة الى تكاليف نفسها ، وبالنسبة الى تكليفها مع الغير ، وكذا تكليف الغير بالنسبة اليها ( يرجع الى ماذكرنا ) في باب العلم الاجمالي ( في الاشتباه المتعلق بالمكلف به ) لانها تعلم كونها رجلاً او امرأة ، فتعلم انها موظفة باحد التكليفين - حسب ماذكرناه في العلم الاجمالي - .

( اما معاملتها مع الغير : فمقتضى القاعدة ) السابقة في العلم الاجمالي من لزوم الموافقة القطعية ( احترازها ) اي الخنثى ( عن ) النظر والملامسة والمصافحة مع ( غيرها ) رجلاً كان ، او امرأة او خنثى ( مطلقا ، للعلم الاجمالي بحرمة نظرها الى

احدى الطائفتين فيجتنب عنهما ) وكذلك يجتنب عن اللمس والمصافحة ( مقدمة ) للتكليف المقطوع به بينهما .

واما اجتنابها عن الخنثى ، فلانه يحتمل ان يكون الناظر رجلاً ، والمنظور اليه امرأة ، أو بالعكس ، وهنا وان كان احتمال التساوي أيضا - مما يبيح النظر - فلا علم اجمالي بالحرمة ، الا ان كون التساوي هذا طرفا واحدا من الشبهة وهناك اطراف

ص: 351

وقد يتوهّم : « أنّ ذلك من باب الخطاب الاجماليّ ، لأنّ الذكور مخاطبون بالغضّ عن الاناث وبالعكس ، والخنثى شاكّ في دخوله في أحد الخطابين » .

-----------------

اخرى جعلته من موارد تحقق العلم الاجمالي الواجب فيه الموافقة القطعية ، وعلى هذا : فالشك في الخنثى شك في المكلّف به لا في التكليف المردد .

( وقد يتوهم ان ذلك ) الحكم للخنثى بحرمة نظرها الى الرجل والمرأة ( من باب الخطاب الاجمالي ) اي من قبيل من خرجت منه رطوبة مشتبة بين انها مني ، ليكون مخاطبا بالغسل ، او بول فهو مخاطب بالموضوع ، لا من باب المكلّف به المردد - كما اخترناه - الذي هو من قبيل من يعلم انه مخاطب بالصلاة تفصيلاً لكن لم يعلم ان المكلّف به هو الظهر او الجمعة .

وقرّب هذا التوهم بقوله : ( لان الذكور مخاطبون بالغض عن الاناث وبالعكس ) إذ الاناث ايضا مخاطبات بالغض عن الذكور ، فهنا خطابان ، والخنثى لايعلم هل انه داخل في هذا الخطاب او ذاك الخطاب ؟ فالخطاب مجمل ( و ) ذلك لان ( الخنثى شاك في دخوله في احد الخطابين ) قال سبحانه : « قُل لِلمُؤمِنِينَ يَغُضّوا مِن أبْصارِهِم » (1) .

وقال تعالى : « وَقُل لِلمُؤمِناتِ يَغْضُضْنَ مِن أبصارِهِنَّ » (2) .

فهنا خطابان ، والخنثى مشمول لاحدهما - بناءا على انه اما ذكر أو انثى - لا انه جنس ثالث .

علما بأن شك الخنثى في انه من الشك في المكلّف به ، او من الشك في التكليف ، له اثر عملي ، فقد قال في الاوثق : ثالث الاقوال في الخنثى : التفصيل

ص: 352


1- - سورة النور : الآية 30 .
2- - سورة النور : الآية 31 .

والتحقيقُ هو الأوّلُ ، لأنّه علم تفصيلاً بتكليفه بالغضّ عن إحدى الطائفتين ، ومع العلم التفصيليّ ، لاعبرةَ باجمال الخطاب - كما تقدّم في الدخول والادخال

-----------------

بين الشك في التكليف والشك في المكلّف به لجواز العمل بمقتضى اصالة البرائة في الاول ، ووجوب العمل بالاحتياط في الثاني ، فيجوز لها لبس الحرير والذهب في غير الصلاة ، وكذلك ترك الجهاد ، ولا يلحق بالدم الخارج منها حكم الدماء الثلاثة وهكذا .

ويجب عليها التستّر في الصلاة ، والاجتناب عن لبس الذهب والحرير فيها ، بناءا على كون الشك في الاجزاء والشرائط من قبيل الشك في المكلّف به ، واختاره صاحب الفصول بناءا على قصر وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة على ما اتحد نوع الشبهة ، والاّ فاختار الوجه الاول (1) .

( والتحقيق ) عند المصنف قدس سره ( هو ) الوجه ( الاول ) من كون الاشتباه في متعلق التكليف ( لانه ) اي الخنثى ( علم تفصيلاً بتكليفه بالغض عن احدى الطائفتين ) الذكور او الاناث ، فالخطاب وان لم يكن واحدا ، لانه في الآية خطابان ، لكن الخنثى علم من الخطابين علما تفصيليا بانه مكلّف ، ولذا لو سئل منه : هل أنت مكلّف ؟ قال : نعم .

كما اذا امر المولى زيدا باكرام عمرو ، وبكرا باكرام خالد ، فانه لو شك زيد بانه هل كلّف باكرام هذا او ذاك ؟ لايضر شكه في علمه التفصيلي بأنه مأمور بالاكرام ( ومع العلم التفصيلي ) للمكلّف ( لا عبرة باجمال الخطاب ) وانه مخاطب ب« يغضوا » او ب« يغضضن » ( كما تقدّم ) مثله ( في الدخول والادخال

ص: 353


1- - اوثق الوسائل : ص56 في بيان فروع مسألة الخنثى .

في المسجد لواجدي المنيّ - مع أنّه يمكنُ إرجاعُ الخطابين إلى خطاب واحد ، وهو تحريمُ نظر كلّ إنسان إلى كلّ بالغ لايماثله في الذكوريّة والانوثيّة عدا من يحرم نكاحُه .

ولكن يمكن أن يقال :

-----------------

في المسجد لواجدي المني ) فانه يعلم بانه مكلف بالاجتناب ، وان لم يعلم ان الاجتناب لانه دخول او لانه ادخال ، الى غير ذلك من الامثلة .

( مع انه يمكن ) ان نقول بوحدة الخطاب ايضا - فلا يكون الخطاب مرددا ، وذلك لان الجامع بين الخطابين الجزئيين خطاب واحد ، كالحيوان الجامع بين الانسان والفرس ، فاذا لم يعلم ان في الدار انسانا او فرسا لا ينافي ذلك ان يعلم ان فيها حيوانا ، وكذا الجزئيات من الخطاب ، فانه يمكن ( ارجاع الخطابين ) : « يغضّوا » و « يغضضن » ( الى خطاب واحد ) هو الجامع بينهما .

( و ) الجامع ( هو : تحريم نظر كل انسان ) بالغ عاقل مختار ( الى كل بالغ لا يماثله في الذكورية والانوثية ، عدا من يحرم نكاحه ) حيث يحل النظر الى المحارم على التفصيل المذكور في الفقه ، وهناك من يحرم نكاحه لكن لايحل النظر اليهن ، كأخت الزوجة والخامسة واخت الملوط وبنته وامه للفاعل ، الا ان ذلك استثناء عن الاستثناء .

( ولكن يمكن ان يقال ) : بانه لايجب على الخنثى غض النظر عن الرجال وعن النساء ، لانه وان كان يجب الاطاعة في اطراف الشبهة من العلم الاجمالي ، كما يجب في العلم التفصيلي الا انه انّما يجب الاجتناب اذا لم يكن مجوز شرعي ، والمجوز الشرعي لنظر الخنثى الى الطائفتين هنا موجود وهو : العسر

ص: 354

إنّ الكفّ عن النظر إلى ما عدا المحارم مشقّة عظيمة ، فلا يجبُ الاحتياط فيه ، بل العسرُ فيه أولى من الشبهة الغير المحصورة ، او يقال : إنّ رجوعَ الخطابين إلى خطاب واحد في حرمة المخالفة القطعيّة ، لا في وجوب الموافقة القطعيّة ، فافهم .

-----------------

والحرج ف- ( ان الكف عن النظر الى ما عدا المحارم ، مشقة عظيمة ) وعسر شديد ( فلا يجب الاحتياط فيه ) اي في النظر ، بل يجوز له النظر اليهما .

( بل العسر فيه ) اي في عدم النظر ( اولى ) واشد ( من ) العسر في ( الشبهة غير المحصورة ) فاذا لم يجب الاحتياط في غير المحصور - كما سيأتي دليله - لايجب الاحتياط في الخنثى بطريق اولى .

( او يقال ) في وجه عدم حرمة النظر ( : ان رجوع الخطابين الى خطاب واحد ) كما قررتم في الوجه الثاني انّما هو ( في حرمة المخالفة القطعية ) فيحرم للخنثى النظر الى كلٍ من الرجل والمرأة معا ( لا في وجوب الموافقة القطعية ) فلا يجب كف نظره عنهما معا ، بل له ان يختار النظر اما الى الرجل ، او الى المرأة .

والحاصل : انه يكفيه اجتناب احدى الطائفتين مخيرا بينهما ، فيكون حاله حال الرجل فلا ينظر الى المرأة ، او حال المرأة فلا تنظر الى الرجل ، وذلك لما يأتي في دليل الاشتغال : من ان العلم الاجمالي مقتضٍ للأخذ باحدهما لا بكليهما .

( فافهم ) فان الجوابين محل تأمّل .

اما الجواب الاول : فان العسر انّما يرفع بقدره لا مطلقا ، فاذا كان لخنثى عسر دون خنثى ارتفع الحكم بالنسبة الى من هو عسر عليه دون الآخر ، وان كان العسر فيما اذا اراد الخنثى كف النظر عن مائة دون اربعين - مثلاً - حرم عليه النظر الى ما لا عسر فيه ، دون الباقي، وهكذا لو كان العسر في كف نظره الى الرجال فقط ،

ص: 355

وهكذا حكمُ لباس الخنثى ، حيث انّه يعلم اجمالاً بحرمة واحد من مختصّات الرجال ، كالمِنطقة والعِمامة او مختصّات النساء عليه ، فيجتنب عنهما .

-----------------

او الى النساء فقط .

واما الجواب الثاني : فقد عرفت - فيما سبق - : ان مقتضى العلم الاجمالي : الموافقة القطعية لا الاجمالية .

( وهكذا ) يجب الاحتياط في ( حكم لباس الخنثى ، حيث انه يعلم اجمالاً بحرمة واحد من مختصات الرجال ، كالمِنطَقة ) التي تشد على الوسط ، مما يختصّ بالرجال ، دون ما هو خاص بالنساء ( والعمامة ) وسائر الملابس الخاصة بالرجال .

( او مختصات النساء عليه ) كملابسهن الخاصة بهنّ ، حيث اذا لبسها الرجل قيل : انه تشبّه بالنساء .

لكن لايخفى : ان حرمة ملابس كل طائفة على الطائفة الاخرى محل كلام ، وقد ألمعنا الى ذلك في شرح العروة .

وعلى اي حال : ( ف- ) ان قيل بالحرمة ، فعلى الخنثى ان ( يجتنب عنهما ) من باب الاحتياط في اطراف العلم الاجمالي ، كما ان عليه ان يجتنب الحرير والذهب ، لاحتمال كونه رجلاً ، فانه وان لم يكن في قبالهما حرام على المرأة ، الا ان معنى الاحتياط في احتمال كون الخنثى رجلاً او امرأة : هو الاجتناب عن مختصات كل منهما ، فهو كما اذا علم الانسان بانه نذر اما صوما وصلاة ، او نذر صدقة ، فانه يجب عليه الاتيان بالجميع ، فلا يقال : ان الصوم في قبال الصدقة ، فيجب الاتيان بها ، أمّا الصلاة فلا قبال لها ، فالاصل البرائة منها .

ص: 356

وامّا حكمُ سِتارته في الصلاة ، فيجتنب الحرير ويستر جميع بدنه .

وأمّا حكمُ الجهر والاخفات ، فان قلنا بكون الاخفات في العشائين والصبح ، رخصةً للمرأة جهر الخنثى بها ،

-----------------

والحاصل : إن الخنثى ان كان رجلاً ، فعليه - مثلاً - مائة تكليف واجب وحرام ، وان كان امرأة ، فعليها - مثلاً - تسعون تكليفا ، فاللازم عليه الاتيان بالجميع ، لا الاتيان بمائة وثمانين ، بطرح عشرة لاصالة البرائة ، بدليل انه ليس في قبال العشرة في الجانب الآخر شيء .

( واما حكم ستارته ) اي تستّر الخنثى ( في الصلاة ، فيجتنب الحرير ) لاحتمال كونه رجلاً ، ( ويستر جميع بدنه ) لاحتمال كونه امرأة ، والمراد بجميع البدن : ما عدا الوجه ، والكفين ، والقدمين ، حيث لايجب سترها في الصلاة على المرأة .

( واما حكم الجهر والاخفات ) في الصلاة للخنثى ( فان قلنا : بكون الاخفات في العشائين والصبح ، رخصة للمرأة ) فهي مخيرة بين ان تخفت او تجهر ، تعيّن ( جهر الخنثى بها ) اي بصلاتي الصبح والعشائين ، لدوران الامر بين التعيين والتخيير ، بناءا على انه كلما دار الامر بينهما لزم التعيين ، فاذا دار الامر بين وجوب الجمعة فقط ، او التخيير بين الظهر والجمعة ، لزم الجمعة ، باعتبار انه اذا أتى بالجمعة ، أتى بالتكليف قطعا ، لانها واجبة اما تعيينا ، أو لانها أحد شقّي التخيير ، اما اذا أتى بالظهر لايعلم انه أتى بالواجب ، لاحتمال ان الجمعة هي الواجبة تعيينا .

وكذا في المقام ، فانه اذا جهر الخنثى ، فقد ادّى التكليف قطعا سواء كان الجهر واجبا تخييرا او تعيينا ، اما اذا اخفت ، كان من المحتمل انه لم يأت بالتكليف ، لاحتمال كون الواجب عليه تعيينا ، اما اذا اخفت ، كان من المحتمل انه لم يأت بالتكليف ، لاحتمال كون الواجب عليه تعيينا ، هو الظهر .

ص: 357

وإن قلنا إنّه عزيمةٌ لها ، فالتخييرُ ، إن قام الاجماع على عدم وجوب تكرار الصلاة في حقّها .

وقد يقال بالتخيير مطلقا ، من جهة ما ورد : من أنّ الجاهلَ في الجهر والاخفات معذورٌ .

-----------------

( وان قلنا : انه ) اي الاخفات في الصبح والعشائين ( عزيمة ) وفريضة ( لها ) اي للمرأة ، في قبال ان الجهر في تلك الصلوات فريضة على الرجل ، فيكون لهما تكليفان متقابلان ( ف- ) حكمه في الجهر والاخفات ( التخيير ) بان يصلي الصبح والعشائين جهرا او اخفاتا لاحتمال وجوب الجهر لكونه رجلاً ، ووجوب الاخفات لكونه امرأة ، لا ترجيح .

لكن يبقى ان مقتضى القاعدة : تكرار الصلاة جهرا واخفاتا ، للعلم الاجمالي ، لولا ( ان قام الاجماع على عدم وجوب تكرار الصلاة في حقها ) .

وهناك احتمال آخر وهو : ان يصلي صلاة واحدة ، لكن يكرر القرائة فيها جهرا واخفاتا وينوي احدى القرائتين للصلاة ، والاخرى من باب مطلق القرآن .

وقد نقل عن الميرزا النائيني قدس سره بانه شك ذات مرة في وجوب الجهر او الاخفات ، في ظهر يوم الجمعة ، ولم يسمح له الوقت للاجتهاد في المسألة ، فصلّى كذلك حتى تمكن من الاجتهاد ، وبنى على احد الطرفين .

لايقال : هذا ينافي حرمة الاقتِران .

لانه يقال : يمكن ان يقال ان الحرمة اذا قرئهما بنية الجزئية لا مطلقا .

( وقد يقال بالتخيير ) للخنثى في الجهر والاخفات ( مطلقا ) سواء قلنا بان الاخفات رخصة او عزيمة ( من جهة ماورد ) في الاخبار ( من ان الجاهل في الجهر والاخفات معذور ) بضميمة : ان الخنثى جاهل فهو معذور ، فاذا صلّى

ص: 358

وفيه - مضافا إلى أنّ النصّ إنّما دلّ على معذوريّة الجاهل بالنسبة إلى لزوم الاعادة لو خالف الواقعَ ، وأين هذا من تخيير الجاهل من أوّل الأمر بينهما ، بل الجاهل لو جهر او أخفى مترددا بطلت صلاتهُ ،

-----------------

جهرا وكان الواجب في الواقع الجهر ، فقد أدّى تكليفه ، وان كان الواجب الاخفات ، فهو معذور من جهة جهله .

( وفيه : مضافا الى ان ) ما ورد ، انّما يفيد : عدم وجوب الاعادة على الجاهل غير المقترن جهله بالعلم الاجمالي ، سواء كان جاهلاً بسيطا ، او جاهلاً مركبا بان قطع بالخلاف ، فاذا علم بالحكم بعد ذلك لم تجب عليه الاعادة وان كان ما أتى به على خلاف الواقع ، اذ الشارع رفع يده عن الواجب اولاً وبالذات لمصلحة ثانوية ، بينما لم يرفع اليد فيما اذا انكشف كونه محدثا .

فان ( النص انّما دلّ على معذورية الجاهل ) المركب ( بالنسبة الى لزوم الاعادة ) والقضاء ( لو خالف الواقع ) في كيفية القرائة ، فقرأ جهرا مكان الاخفات ، او اخفاتا مكان الجهر ( واين هذا ) الذي دل عليه النص ( من تخيير الجاهل ) ليشمل الجاهل المقترن جهله بالعلم الاجمالي ، كما في الخنثى ، او في غير الخنثى ، حيث يعلم بان الواجب عليه : اما جهر الصبح ، او جهر الظهر - مثلاً - فصلّى الصبح اخفاتا والظهر جهرا ، فلا يقال : بانه لاتجب عليه الاعادة .

وعلى ايّ حال : فاذا كان جاهلاً ( من اوّل الامر بينهما ) اي بين الجهر والاخفات ، لزم عليه تحصيل الواقع ان تمكن ، والاّ فالاحتياط وذلك لمقتضى العلم الاجمالي - كما في الخنثى - ( بل الجاهل ) البسيط ( لو جهر او اخفى مترددا ) في انه هل الواجب عليه هذا او ذاك ( بطلت صلاته ) ، وبطلانها : اما من جهة عدم تمشّي قصد القربة منه ، او من جهة عدم مطابقته للواقع - فيما اذا

ص: 359

إذ يجب عليه الرجوع إلى العلم او العالم - : أنّ الظاهرَ من الجهل في الأخبار غيرُ هذا الجهل .

وأمّا تخييرُ قاضي الفريضة المنسيّة عن الخمس في ثلاثية ورباعيّة وثنائيّة ، فانّما هو بعدَ ورود النصّ في الاكتفاء بالثلاث

-----------------

لم يطابق الواقع - او من جهة لزوم الجزم في النية - على ما تقدّم - وهو مفقود هنا ( اذ يجب عليه الرجوع ) مع الجهل ( الى ) ما يحصل له ( العلم ) بالحكم ( او ) تقليد ( العالم ) لان الواجب على الانسان : ان يكون مجتهدا او مقلدا او محتاطا .

وعلى ايّ حال : فبالاضافة الى الاشكال السابق على : « قد يقال » ( ان الظاهر من الجهل في الاخبار ، غير هذا الجهل ) وهو الجهل بالحكم والجهل في الخنثى ليس جهلاً بالحكم ، وانّما هو جهل بالموضوع ، لانه لايعلم : انه رجل او امرأة .

( و ) ان قلت : ان المستفاد من الادلة ولو بالملاك : التخيير مطلقا ، لما جاء في مسألة الجاهل - المتقدمة - ولما ورد من ان من نسى صلاة ولم يعلم انها صبح ، او ظهر ، او عصر ، او مغرب ، او عشاء ؟ قضى ثنائية ، وثلاثية ، ورباعية ، والرباعية تكون عن الواقع ظهرا كان او عصرا او عشاءا ، وحيث لايعلم ان الرباعية التي فاتته ، كانت إحدى الظهرين حتى يقضيها اخفاتا او العشاء حتى يقضيها جهرا ، فهو مخير بين الجهر والاخفات .

قلت : الادلة لايستفاد منها الملاك ، اما في مسألة الجاهل ، فقد عرفت و ( اما ) مسألة ( تخيير قاضي الفريضة المنسية عن الخمس في ) الاتيان بصلاة ( ثلاثية ورباعية وثنائية ) اذا كان القضاء في الحضر ، وثنائية وثلاثية اذا كان القضاء في السفر ، لان الثنائية تقوم مقام محتمل الصبح ، والظهر ، والعصر ، والعشاء ( فانما هو ) تخيير ( بعد ورود النص ) الخاص ( في الاكتفاء ب- ) الصلوات ( الثلاث )

ص: 360

المستلزم لالغاء الجهر والاخفات بالنسبة إليه ، فلا دلالَة فيه على تخيير الجاهل بالموضوع مطلقا .

وأمّا معاملةُ الغير معها ، فقد يقال بجواز نظر كلّ من الرجل والمرأة إليها ،

-----------------

الظاهر بتخيير القاضي ، بين الجهر والاخفات في الرباعية ( المستلزم لالغاء ) الشارع ( الجهر والاخفات بالنسبة اليه ) اي الى قاضي الفريضة ، ومنه يتعدّى بالملاك الى من فاتته ظهر او عشاء ، او عصر او عشاء ، وحال الظهر او العشاء فيما ذكرناه ، حال من فاتته الصبح ، او الظهر ، او العصر ، في السفر ، حيث يقضي ركعتين مخيرا بين الجهر والاخفات ايضا .

اما التعدي الى مانحن فيه ، فلا ملاك قطعي ، فيكون من باب القياس ، وعليه : ( فلا دلالة فيه على تخيير الجاهل بالموضوع مطلقا ) .

هذا بعض الكلام في معاملة الخنثى مع نفسها في عباداتها ، ومع غيرها بالنظر ونحوه ( واما معاملة الغير معها ) فهل يعاملها كما يعامل الرجل ، او كما يعامل المرأة ؟ .

( فقد يقال : ) بالنسبة الى النظر - في غير المحارم فانه جائز كما لايخفى - ( بجواز نظر كل من الرجل والمرأة اليها ) وجوازه انّما هو من جهة انه جنس ثالث ، والغض يكون بين الجنسين .

وفيه اولاً : ان الكلام - كما تقدّم - يكون بناءا على انه احد الجنسين ، لا انه جنس ثالث .

ثانيا : انه على تقدير كونه جنسا ثالثا ، لايجوز ايضا النظر اليه من جهة الملاك كما لايجوز وطي احد من الرجل والمرأة فاعلاً او مفعولاً - لنفس ما ذكر

ص: 361

لكونها شبهةً في الموضوع ، والأصلُ الاباحةُ .

وفيه : أنّ عمومَ وجوب الغضّ على المؤمنات ، إلاّ عن نسائهن او الرجال المذكورين في الآية ، يدلّ على وجوب الغضّ عن الخنثى .

-----------------

من الملاك - (لكونها ) تعليل لجواز نظر الرجل والمرأة اليه ( شبهة في الموضوع ) لان الناظر لا يعلم ان الخنثى جنس مخالف حتى حرم النظر اليه ( والاصل ) في الشبهات الموضوعية ( الاباحة ) بدون الفحص ، فاذا شك في مايع انه خمر أم لا ؟ شمله : « كُلُّ شَيءٍ لَكَ حَلالٌ ... » (1) .

وكذا اذا شك الرجل او المرأة ، في ان الخنثى جنس مخالف حتى يحرم النظر اليه ، اجرى الاباحة الموجبة لجواز نظره اليه ، وهكذا .

( وفيه : ) انه لاتصل النوبة الى الشك ، لوجود العموم في المقام ف( ان عموم وجوب الغض على المؤمنات ، الاّ على نسائهن ، او الرجال المذكورين في الاية ) قال سبحانه : « وَقُل لِلمؤمِناتِ يَغضُضنَ مِن أبصارِهِنَّ ، وَيَحفَظْنَ فروجَهُنَّ ، وَلايُبدِينَ زِينَتَهُنَّ ... إلاّ لِبعولَتِهِنَّ ، أو آبائِهِنَّ ، أو آباءِ بعولَتِهِنَّ ، أو أبنائِهِنَّ ، أو أبناءِ بعولَتِهِنَّ ، أو إخوانِهِنَّ أو بَني إخوانِهِنَّ ، أو بَني أخَواتِهِنَّ أو نِسائِهِنَّ ، أو ما مَلَكَت أيمانُهُنَّ ، أو التّابِعينَ غَيرَ اُولِي الاربَةِ مِنَ الرِّجالِ ... » (2) .

فانه ( يدل على وجوب الغضّ ) منهن ( عن الخنثى ) للعموم ، والاستثناء لم يذكر الخنثى .

وعلى هذا : فلا يجوز للمرأة النظر الى الخنثى .

ص: 362


1- - الكافي فروع : ج5 ص313 ح40 ، تهذيب الاحكام : ج7 ص266 ب21 ح9 ، بحار الانوار : ج2 ص273 ب33 ح12 ، وسائل الشيعة : ج17 ص89 ب4 ح22053 .
2- - سورة النور : الآية 31 .

ولذا حكم في جامع المقاصد بتحريم نظر الطائفتين إليها ، كتحريم نظرها إليهما .

بل ادّعى سبطه الاتفاق على ذلك ، فتامّل جيدا .

-----------------

وكذا لايجوز ان ينظر الرجل اليها ، لعموم الغض بدون اخراج الخنثى ، قال سبحانه : « قُل لِلمؤمِنِينَ يَغُضّوا مِن أبصارِهِم وَيَحفَظوا فُروجَهُم ... » (1) وخروج النساء المحارم بدليل خاص ، وليس في استثناء الخنثى ، ولذا يجب على الرجل الغض عن الخنثى ايضا .

( ولذا حكم ) المحقق الكركي قدس سره ( في جامع المقاصد ) وهو شرح قواعد العلامة قدس سره ( بتحريم نظر الطائفتين ) الرجال والنساء ( اليها كتحريم نظرها ) الخنثى ( اليهما ) .

ومنه يعلم : وجه حرمة نظر الخنثى الى خنثى مثله ، لانه لايعلم الناظر كون المنظور اليه من الاستثناء ( بل ادعى سبطه ) وهو المير الداماد قدس سره ( الاتفاق ) من العلماء ( على ذلك ) اي على حرمة نظر كل من الرجل والمرأة الى الخنثى .

وبهذا ظهر انه ليس المقام من التمسك بقاعدة الحل ، اذ ليس الامر من الشك في الشيء ، بل مما قام عليه الدليل ، ( فتأمل جيدا ) .

وقال الشيخ قدس سره في الهامش : « وجهه : ان الشك في مصداق المخصص المذكور ، فلا يجوز التمسك بالعموم » ، لانه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية .

« ويمكن ان يقال » - في حرمة نظر كل من الرجل والمرأة الى الخنثى - : « ان ما نحن فيه ، من قبيل ما تعلق غرض الشارع بعدم وقوع الفعل في الخارج

ص: 363


1- - سورة النور : الآية 30 .

ثمّ إنّ جميعَ ماذكرنا إنّما هو في غير النكاح ، وأمّا التناكحُ ، فيحرم بينه وبين غيره قطعا ،

-----------------

ولو بين شخصين » فليس المقام من قبيل واجدَي المني ، ونفهم غرض الشارع هذا من جهة أهمية الفروج ، والنظر واللمس تابع لها « فترخص كل منهما » الرجل والمرأة « للمخالطة » من الشارع باللمس ، والنظر ، والمفاكهة ، وما اشبه ، كما يجوز للرجال مع الرجال ، والنساء مع النساء « مخالف لغرضه المقصود : من عدم مخالطة الاجنبي مع الاجنبية ، ولا يرد النقض بترخيص الشارع ذلك » التخالط « في الشبهة الابتدائية ، ف- » انه ليس المقام من الشبهة الابتدائية ، بل « مانحن فيه ، من قبيل ترخيص الشارع لرجلين تزويج كل منهما لاحدى المرأتين ، اللتين يعلم اجمالاً انهما اختان لاحد الرجلين » فانه لايجوز ذلك ، لان الفروج مما يحتاط فيها « فافهم » فان مسألة الحرمة في المقام ليس مثلها في مقام الفروج ، فان النظر لايقاس بالفروج .

( ثم ان جميع ماذكرنا ) من احكام الخنثى ( انّما هو في غير النكاح ) باقسامه الاربعة : الدائم ، والمنقطع ، وملك اليمين ، والتحليل ( واما التناكح : فيحرم بينه وبين غيره قطعا ) لعلمه الاجمالي بحرمة احدى الطائفتين له .

فاللازم عليه بمقتضى العلم الاجمالي الاجتناب عن كلتيهما ، فهو كمن يعلم ان احدى المرأتين اخته من الرضاعة ، او كامرأة تعلم ان احد الرجلين اخوها من الرضاعة .

والاستدلال بالاصلين كما ذكره المصنّف قدس سره لايخفى مافيه ، حيث انهما لايجريان مع العلم بانتقاض احدهما ، الاّ على بعض الوجوه المتقدمة مما كان لايخلو من اشكال .

ص: 364

فلا يجوز لها تزويجُ امرأة ، لأصالة عدم ذكوريّته - بمعنى عدم ترتّب الأثر المذكور من جهة النكاح ، ووجوب حفظ الفرج ، إلا عن الزوجة وملك اليمين - ولا التزوّجُ برجل ، لأصالة عدم كونه امرأة ؛ كما صرّح به الشهيد .

-----------------

وعلى اي حال : ( ف- ) قد قال قدس سره : انه ( لايجوز لها تزويج امرأة ) دواما ، او متعة ، او ملك يمين ، او تحليل ، ( لاصالة عدم ذكوريته ) لابمعنى اصالة العدم الازلي ، التي هي محل كلام الاعلام ، بل ( بمعنى عدم ترتب الاثر المذكور ) اي اثر الزوجية ( من جهة ) صيغة ( النكاح ) او البيع في الأمة ، او التحليل .

( و ) حيث لا اثر ، فعمومات المنع تشمله ، ل- ( وجوب حفظ الفرج الاّ عن الزوجة ، وملك اليمين ) فانه شامل للكل ، ولا نعلم خروج هذا الفرد بسبب اجراء صيغة النكاح ، او التحليل ، او البيع ، ونحوه .

لكن لايخفى : ان هذا من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية .

( ولا التزوّج برجل ، لاصالة عدم كونه امرأة ) على التقريب السابق .

والحاصل : ان الزوجية ، لم تكن حاصلة قبل العقد والتحليل ، فيستصحب عدمها ( كما صرح به الشهيد ) الاول .

لايقال : عدم التزويج عسر وحرج .

لانه يقال : اولاً : يمكن للخنثى الاستمناء لو فرض الحرج ، فانه اخف الحرامين ، واذا دار الامر بينهما قدم اخفهما ، كما اذا دار امره بين ان يشرب الماء الملاقي للنجس ، او الخمر .

وثانيا : اذا فرض الحرج بدون الزواج ، فاللازم الاقتصار على قدره ، لان الضرورات تقدر بقدرها ، ثم اذا اضطر بين زوج او زوجة ، فهل يتساويان او يقدم احدهما ؟ .

ص: 365

لكن ذكر الشيخ مسألة فرض الوارث الخنثى المشكل زوجا او زوجةً ،

-----------------

لا يبعد الاول ، لانه لا دليل على اهمية احدهما بحيث يمنع عن النقيض .

( لكن ) هذا الكلام من الشهيد قدس سره وغيره في عدم تزوجه بأي منهما ، ينافي ما ذكر الشيخ ) قدس سره من ( مسألة : فرض الوارث الخنثى المشكل ، زوجا أو زوجة ) وفي بعض بالواو « زوجا وزوجة » وعلى تقديره ، فان ظاهره جواز كليهما له ، ولا يحضرني كلام الشيخ قدس سره حتى ارى هل ان مراده : كون كليهما للخنثى في وقت واحد ، كما حدث في زمان الامام علي عليه السلام حسب بعض الروايات .

وقد اتخذ ابن المقفّع من بعض حكام المنصور الدوانيقي هذه المسألة مهزلة به ، قائلاً له : ما تقول فيمن مات وخلف زوجا وزوجة ؟ .

أو ن مراده : ان أحدهما له .

وعلى ايّ حال : فالظاهر : ان الشيخ قدس سره اراد ذكر الاقسام الممكنة لا المشروعة ، وانه على فرض المشروعية ، ماذا يكون الحال في الارث ؟ كما هو ديدنهم من ذكر المسائل الفرضية ، بل المحالة عادة ، مثل فرض المصنّف قدس سره في كتاب الطهارة : الانسان خلق الساعة ، هل هو متطهر ، او محدث ؟ .

وهذا لايختص بالفقهاء والاصوليّين (1) ، بل كل اصحاب العلوم لهم أمثال هذه الفروض ، ففي الفلسفة : يذكرون مسائل الدور ، والتسلسل ، وما أشبه ، وكلّها محالات .

وفي الكلام : يذكرون مسائل شريك الباري ، وما أشبه من المحالات .

وفي الهندسة وعلم الحساب : يفرضون فروضا لا خارج لها اطلاقا ، الى غير

ص: 366


1- - وقد ذكر الشارح بعض الفروض والاحتمالات في موسوعة الفقه ، الفقه المسائل المتجددة .

فافهم .

هذا تمامُ الكلام في اعتبار العلم .

-----------------

ذلك ، وهذه الفرضيات لا تخلو من فوائد ، وهي :

اولاً : شحذ الذهن وتدريبه وتمرينه .

ثانيا : الحد بين الممكن العادي والعقلي والشرعي ، وغير الممكن .

وفائدة الاول : ان من يحلّ الاشكل ، يتمكن من حلّ المشكل .

وفائدة الثاني : انه يعطي كيفية الاستدلال ، لانه في حدّ الممكن لا المحال (1) .

وعلى ايّ حال : فالذي نراه : انه يجوز للخنثى - على فرض وجود خنثى مشكل ثبوتا ، لا في مقام الاثبات ، اذ لو فرضنا عدم وجوده في مقام الثبوت ، لزم التكلم حول علاج من جهلنا ذكوريته وانوثيته ، لا التكلم حول من ليس بمذكر ولا بمؤنث - ان يجعل نفسه ذكرا ، ويتعامل مع نفسه معاملة الذكور في كل شأن ، وكذلك يتعامل الناس معه ايضا ، او يجعل نفسه انثى فيكون لها كل احكام الانثى .

واما من يرى حرمة الصنفين للخنثى ، فهو يرى حرمة التزويج له بخنثى مثله ايضا .

( فافهم ) ولعله اشارة الى صحة فرض الشيخ قدس سره شرعا ايضا ، لا عقلاً فحسب ، وذلك بان تزوج الخنثى - وهو من اهل ملة يجوز لهم ذلك - برجل وامرأة ، ثم مات الخنثى واسلم الزوجان ، فكيف يرثانه ؟ او مات الزوجان وورثهما الخنثى ، فكيف يرثهما ؟ ولنفرض ايضا انه ليس في دينهما كيفية تقسيم الارث ، حيث يكون الفاصل بينهم - اذا راجعونا - قانون الاسلام ، وقد ذكرنا

ص: 367


1- - وقد ذكر الشارح بعض الفروض والاستدلال عليها في كتابه القول السديد في شرح التجريد وشرح منظومة السبزواري .

...

-----------------

تفصيله في كتاب « الفقه : الحقوق » (1) او كان في دينهم قانون بذلك ، لكنهم ارادوا حكم الاسلام ، فانه يجوز للقاضي ان يحكم بين اهل الاديان بما يراه دينهم او بما يراه الاسلام - كما قرر في كتاب القضاء - (2) .

هذا ، والظاهر : ان الشيخ المصنّف قدس سره اراد في بحثه هذا ، الالماع الى بعض احكام الخنثى ، بما يقتضيه المجال الاصولي ، والاّ فان قلنا : بانه قسم ثالث ، او قسم مجهول الذكورة والانوثة فانه يأتي فيه احكام كثيرة من : مباحث القضاء ، والحدود ، والديات ، والقصاص ، والارث ، ووطي الشبهة ، والاولاد ، وبعض مباحث العتق - حيث تتحرر الاخت ، والعمة ، والخالة ، ونحوها على الرجل دون المرأة - الى غير ذلك ، علما بأنّا لسنا بحاجة الى شيء من هذا كله ، وذلك ، لما ذكرناه : من التخيير ، واللّه العالم الموفق .

( هذا تمام الكلام في اعتبار العلم ) وبه ينتهي البحث عن القطع ، ليبدأ بعده الحديث حول مباحث الظن بعونه تعالى .

انتهى الجزء الأول

في بحث القطع ويليه

الجزء الثاني في بحث الظن

ونسأله العون والمدد لاتمامه

ص: 368


1- - راجع موسوعة الفقه : ج100 للشارح .
2- - راجع موسوعة الفقه : ج84 - 85 للشارح .

المحتويات

مقدمة النّاشر... 5

مقدمة الشارح ... 13

المدخل ... 17

المقصد الاول في القطع

وجوب متابعة القطع ... 27

إطلاق الحجّة على القطع ... 28

أقسام القطع ... 34

الفرق بين القطع الطريقي والموضوعي ... 35

تقسيم آخر للقطع ... 46

الظن الطريقي والموضوعي... 55

تنبيهات

التنبيه الاول : هل القطع حجّة سواء صادف الواقع ام لا ؟ ... 60

ص: 369

أدلة القائلين بحرمة التجري ... 61

الاول : الاجماع ... 63

الثاني : بناء العقلاء ... 66

الثالث : العقل ... 66

الرابع : السَبر والتقسيم ... 66

جواب المصنّف عن الاجماع ... 69

الجواب عن الاستدلال ببناء العقلاء ... 70

الجواب عن الادلة الاخرى ... 71

تفصيلُ صاحب الفصول ... 81

تحقيق المصنف في كلام الفصول ... 90

لا فرق في قبح التجري بين موارده ... 103

أقسام التجري ... 115

كلام الشهيد في القواعد ... 121

تأمّلات المصنّف ... 123

التنبيه الثاني : في حجية القطع مطلقا ... 126

كلام بعض الاخباريين والجواب عنه ... 126

كلام المحدّث الاسترابادي ... 132

كلام السيّد الجزائري ... 145

كلام صاحب الحدائق في حجية العقل الفطري ... 149

مناقشات في كلام المحدث البحراني ... 154

رأي المصنّف ... 158

كلام شارح الوافية ... 167

ايراد على السيّد الصدر ... 169

ص: 370

التنبيه الثالث : في اعتبار قطع القطاع ... 198

التنبيه الرابع : هل المعلوم اجمالاً كالمعلوم تفصيلاً في الاعتبار ؟ ... 214

للبحث مقامين : ... 216

مراتب المقام الاول ... 218

بحوث في المقام الثاني ... 219

الحاق الظن التفصيلي بالعلم التفصيلي في تقدّمه على العلم الاجمالي ... 230

بحث في المقام الاول : ... 248

صور العلم الاجمالي ... 249

هل العلم الاجمالي الطريقي منجز ام لا ؟ ... 254

في حجية العلم التفصيلي المتولّد من العلم الاجمالي... 256

موارد توهم عدم الاعتبار ... 259

لابدّ من التزام احد امور في هذه الموارد ... 271

في انقسام مخالفة العلم الاجمالي الى قسمين ... 279

القسم الاول : المخالفة من حيث الالتزام ... 280

القسم الثاني : المخالفة من حيث العمل ... 283

جواز المخالفة الالتزامية في الشبهة الموضوعية والحكمية ... 283

المخالفة في الالتزام والمخالفة في العمل ... 292

المخالفة في الحكم المردّد ... 296

تقرير آخر للدليل ... 297

المخالفة العملية لخطاب تفصيلي ... 319

المخالفة العملية لخطاب مردّد بين خطابين ... 325

الاشتباه من حيث الشخص المكلف بالحكم ... 333

الحكم الثابت لشخص من جهة تردّده بين موضوعين ... 335

ص: 371

الحكم الثابت لموضوع واقعي مردّد بين نفرين ... 335

نماذج لفروع المسألة ... 337

الحكم الثابت لشخص من جهة تردّده بين موضوعين ... 347

معاملة الخنثى مع غيرها ... 351

معاملة الغير مع الخنثى ... 361

المحتويات ... 371

* * *

ص: 372

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.