الطفل بين الوراثة والتربية المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمد تقي فلسفي

المحقق: فاضل الحسيني الميلاني

الناشر: دار التعارف للمطبوعات

الطبعة: 3

الموضوع : علم النفس والتربية والاجتماع

تاريخ النشر : 1403 ه.ق

الصفحات: 384

نسخة غير مصححة

الطفل بين الورثة والتربية

تعريب: فاضل الحسيني الميلاني

محمد تقي الفلسفي

ص: 1

اشارة

الطفل بين الورثة والتربية

(2)

ص: 2

الطفل بين الورثة والتربية

محمد تقي الفلسفي

الجزء الثاني

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المحاضرة السادسة عشرة: مسؤولية الوالدين في تربية الطفل - الوفاء بالعهد

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الحكيم : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) (1) :

الوفاء بالعهد من الصفات الحميدة التي تملك جذوراً فطرية في بناء الانسان. إن الطفل من حين إدراكه معنى العهد والميثاق ، يدرك لزوم الوفاء به أيضاً بفطرته. وعلى المربي القدير أن يستغل هذا الالهام الطبيعي عند الطفل ، وينمّي فيه هذه الموهبة الفطرية بحيث يجد في الوفاء بالعهد - من أولى أدوار طفولته - جزءً من سلوكه ، ويجد في خلاف ذلك عملاً قبيحاً : لقد اعتبر الوفاء بالعهد من علائم الإيمان في تعاليم الإسلام ، وعليه فإن ركائز ذلك يجب أن تُصبّ من أولى أدوار الطفولة. وسيدور بحثنا في هذه المحاضرة حول هذا الموضوع ، ذاكرين الأحاديث التي تتصل بالبحث في الأثناء ، ولكن لما كانت تنشئة الطفل على الأخلاق الفاضلة والوفاء بالعهد تقع في الدرجة الأولى على عاتق القائمين بتربيته ، فإن من الضروري أن نمهّد للموضوع بمقدّمة عن مسؤولية الوالدين في هذا المجال.

ص: 5


1- سورة الاسراء : 34.

ضمان معيشة الأطفال :

كلنا نعلم أن الأطفال تجب نفقتهم على آبائهم ، فعلى الأب القادر أن يضمن لأطفاله ما يحتاجون إليه من غذاء ولباس ومسكن ، وأن يهيىء لهم وسائل العيش المناسب. لقد احتلت إدارة معيشة الأطفال والحفاظ على سمعتهم وشخصيتهم منزلة سامية من اهتمام الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله الى درجة أنه ورد في الحديث. أن رجلاً من الأنصار توفّي ، وخلّف أطفالاً صغاراً ، وكان قد صرف ما يملكه من أموال قبيل موته بقصد العبادة وجلب رضى اللّه مما أدى بأطفاله إلى أن يمدّوا يد العوز والحاجة يوم وفاته ، وعندما بلغ هذا النبأ إلى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ... « قال لقومه : ما صنعتم به؟ قالوا : دَفَنّاه. فقال أما إني لو علمته ما تركتكم تدفنونه مع أهل الإسلام ، تَركَ وُلده يتكفّفون الناس » (1).

لا تنحصر مسؤولية الآباء في إدارة المعيشة المادية للأطفال ، بل إن عليهم أن يقوموا بتربيتهم تربية إيمانية صالحة ، فإن تأديب الأطفال وتربيتهم أهم في نظر الإسلام من الإهتمام باحتياجاتهم الجسدية. يقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « ما نَحَل والد ولداً نحلا أفضل من أدب حسن » (2). وعنه علیه السلام : « لا ميراث كالادب » (3).

وعن الإمام زين العابدين علیه السلام : « وأما حق ولدك فإن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره ، وأنك مسؤول عما ولّيته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عزّ وجل ، والمعونة له على طاعته. فاعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه ، معاقَب على الإساءة إليه » (4).

تربية الطفل فريضة دينية :

ليست تربية الأطفال تربية صحيحة واجباً وطنياً وإنسانياً فحسب ، بل إنها فريضة روحية مقدسة ، وواجب شرعي لا يمكن الإفلات منه. لقد وجدنا في هذا الحديث أن

ص: 6


1- قرب الاسناد ص 31.
2- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2ص625.
3- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 831 - ط. ايران.
4- مكارم الأخلاق للطبرسي ص 232.

الإمام زين العابدين علیه السلام يصرّح بمسؤولية الأبوين في تربية الطفل ، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من اللّه تعالى ، وأن التقصير في ذلك يعرّض الأباء إلى العقاب.

يقول الإمام الصادق علیه السلام : « وتجب للولد على والده ثلاث خصال : اختياره لوالدته ، وتحسين اسمه ، والمبالغة في تأديبه » (1). من هذا يفهم أن تأديب الولد حق واجب في عاتق أبيه.

وموقف رائع يبيّن فيه الإمام زين العابدين علیه السلام أهمية تأديب الأولاد ، استمداده من اللّه عز وجلّ في قيامه بذلك : « وأعني على تربيتهم وتأديبهم وبرهم » (2).

ما أكثر الأمهات اللائي يعودن أطفالهن على الصفات البذيئة والسلوك الأهوج منذ الصغر ، فيظل الأطفال مأسورين لتلك الأخلاق والصفات طيلة أيام حياتهم.

وما أكثر الاباء المجرمين الذين يحتقرون التعاليم الدينية والعلمية ، ويصطحبون أطفالهم إلى مجالس اللّهو والعبث ، ويرتكبون الأفعال القبيحة أمام عيونهم النافذة ، وبذلك ينشأ الأطفال نشأة فاسدة ... كما أن بعضهم يحملونهم على الإجرام بجسارة شديدة.

الأب الخائن :

قبل حوالي خمسة عشر عاماً ، وفي وقت متأخر من الليل كنت واقفاً في موقف الباص منتظراً مجيء السيارة ، وكان هناك عدة من الأشخاص واقفين في الموقف أيضاً. كان من بين الواقفين رجل أمسك بيده يد طفل لا يتجاوز السادسة

من عمره. كان الطفل في حالة غير اعتيادية ، وأخيراً جلس على جانب الشارع واستفرغ ، فسأل أحد الواقفين أباه ما هو المرض الذي اصيب به ابنك؟ فأجاب : إنه ليس مريضاً لقد اصطحبته الليلة الى جلسة عند بعض الأصدقاء وهناك ناولته خمراً! أي خيانة أعظم من أن يأخذ أب ابنه الذي لا يتجاوز السادسة من عمره الى مجلس

ص: 7


1- تحف العقول ص 322.
2- الصحيفة السجادية - دعاؤه لولده.

للشراب ، ويناوله خمراً فيجر عليه وسائل الشقاء؟! ألا يجب أن يعاقب هذا الأب؟! ألا يحق لهذا الطفل أن يلعن أباه المجرم؟!

قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : « يا علي ، لعن اللّه والدين حملا ولدهما على عقوقهما » (1).

إن الآباء والأمهات المؤمنين والملتزمين بالتعاليم السماوية قادرون على أن يربّوا أطفالهم تربية لائقة وصحيحة ، وأن يبذروا فيهم بذور الإيمان والإطمئنان إلى رحمة اللّه الواسعة.

« ليس عمل الأم كالرسم حيث يظهر مظاهر الجمال واللطافة على اللوحة ، ولا يشبه النحت الذي يخرج من قطعة من الرخام تمثالا. إنها ليست كالكاتب الذي يصب أفكاره المنزهة في قالب من الألفاظ ، بل أنها موظفة على أن تظهر - بمعونة من اللّه - صورة من القدرة الإلهية في الروح الإنسانية ».

« إن عبارة ( بمعونة من اللّه ) في النص المتقدم مهمة جدا ً ، فإن الأم حين تحس بالعجز تشعر في الغالب بأنها في حاجة إلى الاستناد إلى قوة أعلى وأقدر من طاقتها الفردية ».

« لقد جعل - كوموله سو - بحثه في كتابه يدور حول أمٍ تحمل بين جوانحها كثيراً من الواقعية. هذا الأستاذ القدير في التربية عندما كان يعد تقريراً لإلقاءه في المؤتمر الرابع لشؤون الزواج إلتقى بإمرأة استطاعة بعد موت زوجها أن تربي أطفالها العشرة بموفقية تامة ».

تدور بين الأستاذ والمرأة عدة أسئلة وأجوبة. والمرأة تتحدث في اجوبتها عن اللّه والدعاء والإيمان ، وتجد ان نجاحها في تربية أطفالها بصورة صحيحة يستند إلى ثرواتها الإيمانية والمعنوية وفي الختام يسأل الأستاذ :

« فماذا فعلت لأطفالك »؟

« لم أفعل شيئاً آخر ... لقد عملت على اعتقاداتي النفسية ، وعمل اللّه عليها ... ».

ص: 8


1- ما وفرزندان ما ص 18.

« بهذه الصورة سلكت هذه المرأة طريق تكاملها في ظل قوة الإيمان والعقيدة ، في حين أنه كان يساير هذا الموجود السالك نحو التعالي والتقدم ، شخصية مربٍ فقير ، مزوّد بالقوى والقابليات اللازمة للقيام بعبء مهمة خطيرة ».

« لقد استطاعت هذه المرأة بسلوكها الممتاز أن ترقى إلى درجة الأشخاص الذين يعملون لإظهار صورة من القدرة الإلهية في الروح الإنسانية بمعونة اللّه » (1).

في العصر الحديث ... العصر الذي يوجه اكثر الناس اهتماهم فيه الى الشؤون المادية ، تعتبر تنمية المواهب الروحية التي هي أساس الفضيلة ورصيد السعادة الحقيقية ذات أهمية بالغة في نظر العلماء والمحققين ، انهم ينظرون الى مثل هذه الأمور نظرة التكريم والتقدير.

تنمية الإيمان :

يجب على الآباء والأمهات أن ينتبهوا الى مسؤوليتهم الشرعية ، ويهتموا بتنمية بذور الإيمان والأخلاق في نفوس أطفالهم. في الوقت الذي يضمنون لهم سلامة الجسم وقوة العقل وطلب العلم ، عليهم أن يجعلوا منهم افراداً مؤمنين مخلصين ومستقيمين في سلوكهم ... وإن القيام بهذا الواجب المقدس لا يكون إلا في ظل استقامة الوالدين والمربي. إن تربية الطفل من المسائل الدينية والعلمية المهمة ، وعلى الوالدين أن يستوعبا واجباتهما في تربيته ويطبقاها في مقام العمل حتى يصلا الى المستوى اللائق الذي يجلب الخير له ولهما.

يجب أن تخضع مسموعات الطفل ومبصراته التي ترد الى مخه عن طريق العين والأذان لرقابة مضبوطة. إن كلمة بذئية ، أو منظراً شاذاً يكفي لأن ينحرف بالطفل عن الصراط المستقيم ويلوّث أذياله إلى الأبد.

« إن تقنية تعليم الأخلاق والعقائد تختلف كثيراً عن التعليم الفكري ، ذلك إن معرفة الخير والشر ، والقدرة على تملك زمام النفس ،

ص: 9


1- ما وفرزندان ما ص 18.

وحب الجمال ، والإيمان باللّه يختلف كثيراً عن تعلّم اللغات أو التأريخ أو الحساب. هذا التعليم التطبيقي لأصول الحياة لا يمكن أن يحصل إلا في محيط تربوي خاص. كيف يمكن أيجاد محيط كهذا؟ إن هذا الأمر عسير جداً بالنسبة إلى الإنحطاط الخلقي الذي نعيشه في عصرنا ».

« إن انسجام البيئة الاجتماعية مع أساسيات التعليم والتربية يستلزم في المرحلة الأولى القيام بعملية تصفية واسعة النطاق ، بحيث تعد الرقابة على الأفلام والاذاعة ، وغلق كثير من محلات الرقص وشرب الخمر ، والتغيير الجذري في عالم المطبوعات التي توضع تحت متناول الاطفال والشبان جزءً من تلك العملية ».

« إن المعلمين والآباء والأمهات يحسنون الظن في الغالب ولكنهم - لجهلهم - يخطئون في الغالب. يجب أن يتعرف آباء المستقبل وأمهاته من جهة ، ومعلمو الغد من جهة اخرى ، من الآن على الأسلوب التربوي الصحي للطفل. إن تربية الأغنام والدواجن أسهل من تربية الأطفال بكثير ، ومع ذلك فان الذي يريد أن يتخصص في تربية الدواجن لا بد أن يقضي فترة من الزمن في القرية أو المعهد الزراعي ، ولا يوجد فرد عاقل يعد نفسه لهذا العمل بواسطة مطالعة المجلات أو قراءة كتاب في الحساب أو الفلسفة ... ومع هذا فإننا نرى أن هذا العمل الجنوني ترتكبه الفتيات الشابات - أي أمهات المستقبل - وفي الحين الذي يجهلن كل شيء خارج المنهج الدراسي يقدمن على الحياة الزوجية ».

« إن البناء الجسمي والروحي للمرأة والرجل ليس متماثلا وإن إتخاذ أسلوب تربوي واحد للأولاد والفتيات نظرية قديمة تافهة ، وهي من مخلفات الفترة غير العلمية التي سبقت تاريخ البشرية »(1).

لقد كان غرضنا من هذه المقدمة الموجزة أن نجلب انتباه الآباء والأمهات الى

ص: 10


1- راه ورسم زندكى ، تأليف : الكسيس كارل ص 164.

مسؤوليتهم الخطيرة في تربية الأطفال. وأملنا وطيد في ان يعمل الآباء بواجباتهم ويستمدوا العون من اللّه العلي القدير في القيام بتربية أطفالهم تربية صحيحة ، فيجعلوا منهم أفراداً صالحين وأعضاء نافعين للمجتمع.

نقض العهد :

إن جميع أفراد البشر من أي أمة كانوا ، وإلى أي عنصر انتموا يدركون بصورة فطرية ضرورة الوفاء بالعهد وقبح نقض العهد. كل فرد يدرك أنه إذا تعاهد مع شخص آخر فهو ملزم بأن يفي به ، فلو تخلف عنه كان قد ارتكب خطأ ، ويحس في ضميره الباطن بالخجل والندم. وكذلك إذا كان قد تعاهد معه شخص فإنه ينتظر بصورة طبيعية أن يفي له بالوعد ، فلو تخلف عن ذلك فإنه يحس بأن ذلك الشخص قد ارتكب فعلا قبيحاً.

إن الطفل يدر بفطرته الطبيعية لزوم الوفاء بالعهد في الوقت الذي لا يدرك المائل العلميه والعقلية. وعندما يعده أبوه بأن يجلب له عند عودته إلى البيت شيئاً من وسائل اللعب فإنه يتوقع بصورة طبيعية أن يفي أبوه بوعده ويطمئن الى هذا التوقع الفطري. فما دام الأب لم يعد ، يمني نفسه باللُعبة ، وعندما يسمع الجرس يرن ويدخل الأب يتقدم لتناول لعبته ، وينظر إلى يد أبيه ، فإن لم يكن الأب قد وفى بوعده يتأذى الطفل ، ويحس بأن حادثة على خلاف ما كان يتوقع قد وقعت ... إن هذا العمل يعتبر سيئاً عند بقية الأطفال أيضاً.

لقد جاء الأنبياء ورسل السماء يؤكدون طوال القرون المتمادية حسن الوفاء بالعهد وقبح نقض الميثاق ، وأخذوا يربون البشر على هذا الإدراك الفطري ، ويغرسون بذور هذه السجية الفاضلة في نفوس الناس ، فهذا العمل موافق للوجدان الأخلاقي الفطري من ناحية ، ومنسجم مع الوجدان الأخلاقي التربوي من ناحية اخرى.

الوفاء بالعهد واجب :

لقد اعبتر الوفاء بالعهد بالعهد واجباً شرعياً في الإسلام على جميع المسلمين في مختلف الأمور الفردية والإجتماعية ، وقد جاءت نصوص كثيرة تؤكد على هذا الموضوع ، واليكم بعضاً منها : -

ص: 11

1 - قال تعالى : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) (1).

2 - وقال أيضاً : («وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)») (2).

3 - « عن موسى بن جعفر عن آبائه ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا دين لمن لا عهد له » (3).

4 - « سمعت أبا عبد اللّه يقول : « عِدَة المؤمن أخاه نذرٌ لا كفّارة له » (4).

5 - قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليف إذا وعد » (5).

6 - وقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « أقربكم مني غداً في الموقف أصدقكم في الحديث ، وأدآكم للأمان ، وأوفاكم بالعهد ، وأحسنكم خلقاً ، وأقربكم من الناس » (6).

7 - وفي الحديث : «يجب على المؤمن الوفاء بالمواعيد والصدق فيها» (7).

8 - قال علي علیه السلام : « وفاءٌ بالذّمم زينة الكرم » (8).

ولأجل أن لا يلوّث المسلم نفسه بذميمة نقض العهد عليه أن يقيس قدرته على الوفاء عندما يلتزم بشيء ، فإن وجد نفسه عاجزاً عن القيام بعبء ما ، عليه أن لا يتعهد به حتى لا يضطر الى التخلف عنه. وبهذا الصدد يقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « لا تعد ما تعجز عن الوفاء. لا تضمن ما لا تقدر على الوفاء به » (9).

ص: 12


1- سورة الأسراء : 34.
2- سورة المؤمنون : 8.
3- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 16ص144.
4- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج 2ص363.
5- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج 2ص364.
6- تاريخ اليعقوبي ج 2ص60.
7- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2ص85.
8- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 780.
9- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 801.

الحقوق الإسلامية والحقوق البشرية :

توجد في الإسلام مجموعة من القوانين والأنظمة التي تخص الأمة الإسلامية ، فالمسلمون في العالم مكلفون بها وعليهم أن يطبقوها في العلاقات التي تقوم بينهم. لقد روعيت الحدود والحقوق العادلة بالنسبة الى جميع الناس في تلك القوانين ، بحيث يأمن المجتمع بتطبيقها جميع المشاكل والمآسي الناشئة من تجاوز البعض على حقوق الآخرين. هذه القوانين يمكن تسميتها بالحقوق الإسلامية.

في قبال هذه القوانين توجد مجموعة أخرى من الأحكام لا تخص المسلمين بل انها تمتاز بكونها عامة وشاملة ، وعلى المسلمين أن يطبقوها حتى في العلاقات التي تقوم بينهم وبين بقية الأفراد الذين ينتمون الى مذاهب وأديان أخرى. هذه الطائفة من الأحكام يمكن تسميتها بالحقوق البشرية (1) ، ومن جملتها قانون لزوم الوفاء بالعهد. فالمسلمون ليسوا مكلفين باحترام العهود والمواثيق فيما بينهم فقط ، بل عليهم أن يراعوا مواثيقهم تجاه غير المسلمين من أي أمة كانوا ، عليهم أن لا يتسامحوا في ذلك قيد شعرة ولا يتماهلوا في أدائها أبداً.

قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « ثلاثة ليس لأحد فيهن رخصة : الوفاء لمسلم كان أو كافر ، وبر الوالدين مسلمين كانا أو كافرين ، وأداء الأمانة لمسلم كان أو كافر » (2).

وعن أبي جعفر علیه السلام قال : « ثلاث لم يجعل اللّه عز وجل لأحد فيهن رخصة : أداء الأمانة الى البر والفاجر ، والوفاء بالعهد للبر والفاجر ، وبر الوالدين برَّين كانا أو فاجرين » (3).

ص: 13


1- يصطلح على الأحكام الإسلامية التي تنظم سلوك المسلمين تجاه غيرهم في المعاملات والمنازعات التي تقوم بينهم ، باسم أحكام الذميين والمستأمنين. ولو نقلنا هذا التعبير الى المصطلح القانوني لوجدنا اصطلاح ( القانون الدولي الخاص ) منطبقا على هذه المجموعة من الأحكام. وفي قبال ذلك ( القانون الدولي العام ) الذي ينظم علاقة الدولة الإسلامية بالدول الأخرى.
2- مجموعة ورام ج2ص121.
3- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2ص162.

العهد مع العدو :

في العهد الذي بعث به الإمام أمير المؤمنين علیه السلام الى واليه على مصر - مالك الأشتر - : « وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة ، أو البسته منك ذمَّة ، فَحُط عهدك بالوفاء ، وارعَ ذمتك بالأمانة » ويعلل ذلك بقوله علیه السلام : « فانه ليس من فرائض اللّه شيء ، الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم ، من تعظيم الوفاء بالعهود » (1).

إن الإنسان يحب نفسه وما يعود عليه بالنفع قبل كل شيء ، وبما أن الوقوف عند العهد والالتزام به قد يتصادم مع المصالح الشخصية والميول النفسية ، فإنه يرغب في الخروج على ذلك والفرار من عبء الميثاق. وبالرغم من أن الأفراد يدركون بفطرتهم ضرورة الوفاء بالعهد ويتحدثون عن قيمة ذلك وأهميته ، لكنهم في مقام العمل إذا وجدوا منفذاً أو قدرة تذرعوا بها لنقض مواثيقهم. يقول الإمام علي علیه السلام : « الحق أوسع الأشياء في التواصف ، وأضيقها في التناصف » (2).

في عصرنا الحاضر يتحدث القادة والزعماء عن العدالة والحرية ، يملأون الآذاعات والصحف بالألفاظ الخلابة والعبارات الجذابة التي تحكي عن الحق والانصاف ... اما في مقام العمل فغالباً ما يكون النافذ هو القوة والضغط ، في حين أن الإهتمام بالحق والإنصاف أقل. يستغل الزعماء الأقوياء سلطاتهم في أيامٍ الحرب أو الأوقات الاعتيادية ويعتدون على حقوق الشعوب الضعيفة ويثبتون عملياً تخلّفهم عن عهودهم التي قطعوها على أنفسهم ... أما الشعوب فلضعفها تغضي على الظلم والاضطهاد.

الوفاء بالعهد :

ان من أهم مميزات الرجال الالهيين أنهم لا يسيئون استغلال سلطاتهم ولا يتجاوزون على حقوق الآخرين مهما كانوا ضعفاء. في صدر الإسلام عندما كانت

ص: 14


1- نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ج3ص117.
2- نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص 672.

تزحف جحافل المسلمين لاعلاء راية الحق والحرية ودحض اساس الشرك والالحاد ، وعندما كان الفاتحون يفتحون المدن الكبيرة واحدة بعد الاخرى كان شعارهم الوفاء بالعهود والمواثيق. كان الناس في ذلك العصر يدركون أنهم ملتزمون بهذه الخصلة الحميدة ، وكانوا مطمئنين الى عهود المسلمين تجاهم ، واثقين الى أن من المستحيل أن ينقضوا عهودهم مهما كانا يملكون قوة الخروج عليها.

إذا صدر أمان من قبل المسلمين في ساحة الحرب الى العدو ، كان الجيش الإسلامي مكلفاً برعاية ذلك الأمان والوقوف عنده. والأمر الذي يجلب الانتباه في هذا الصدد أنه لم يكن إصدار الأمان خاصاً بقائد الجيش بل إن النظام العسكري في الإسلام يعطي الأمان الى العدو تحريرياً أو شفوياً ، وعند ذلك يجب على جميع الضباط والجنود أن يلتزموا بذلك. وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا الموضوع.

1 - عن أمير المؤمنين علیه السلام : « إذا أومأ أحدٌ من المسلمين أو أشار إلى أحد من المشركين فنزل على ذلك فهو في أمان » (1).

2 - عن الإمام الصادق علیه السلام : « إذا أومى أحد من المسلمين إلى أحد من أهل الحرب فهو أمان » (2).

3 - عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم » (3).

أمان من جندي :

خرج فضيل بن زيد الرقاشي مع جنوده لمحاصرة قلعة تسمى ب- ( سهرياج ) في أيام عبد اللّه بن عامر بن كريز ، وقد سار الى فارس فافتتحها ، وكان الجيش قد صمم على أن يفتح القلعة في يوم واحد ، يقول فضيل في ذلك :

« ... كنا قد ضمنّا أن نفتحها في يومنا ، وقاتلنا أهلها ذات يوم فرجعنا الى

ص: 15


1- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2ص 250.
2- المصدر السابق ج2ص250.
3- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2ص250.

معسكرنا ، وتخلّف عبد مملوك منا ، فراطنوه ، فكتب لهم أماناً ورمى به في سهم ، قال : فرحنا الى القتال وقد خرجوا من حصنهم وقالوا : هذا أمانكم ».

لم يكن إعطاء الأمان من مسلم الى الكفار بالأمر المستبعد في نظر الجيش ، ولكنهم شكّوا في كون الأمان الصادر من العبد كالأمان الصادر من الحر...

« فكتبنا بذلك الى عمر ، فكتب إلينا : ان العبد المسلم من المسلمين ذمته كذمتكم ، فلينفذ أمانه ... فأنفذناه » (1).

إن الوفاء بالعهد واجب لا يمكن التخلف عنه في الشريعة الإسلامية المقدسة ، سواء في الحرب والسلم ، كان العهد مع مسلم أو كافر.

للوفاء بالعهود والمواثيق اثر حاسم في جميع الشؤون الداخلية والخارجية لكل دولة ، وكلما روعيت هذه الخصلة الحميدة في الدولة وجرى الناس على الالتزام بعهودهم ، ارتفع مستوى الحياة والتقدم عندهم وارتفعت مكانة الدولة بين الدول الأخرى.

الاتفاقيات الاقتصادية :

تشكل الاتفاقيات الاقتصادية والمواثيق المالية أحد الأركان المهمة للجمتمع في جميع دول العالم. ففي الدولة التي يعتبر أفرادها الوفاء بالعهد واجباً من واجباتهم الدينية والاخلاقية ، ويهتمون بمراعاة ذلك اهتماماً بالغاً تجري الأمور المالية في تلك الدولة على أساس الثقة المبادلة وتنضبط المعاملات على أساس من الصحة والدقة ، يدفع المدين دينه في الموعد المقرر ويسلم البائع البضاعة حسب ما اتفق عليه مع المشتري ... وبصورة موجزة ينال الوفاء بالعهد احتراماً تاماً لدى الجميع وتلتزم جميع الطبقات بذلك. في مثل هذه الحالة يكون التعهد الناشىء من شرف النفس وفضيلة الأخلاق أغلى من أي سند رسمي ، وأعظم من أي متاع نفيس.

سند العشرة آلاف درهم :

لقد حصل أحد موالي الإمام علي بن الحسين علیه السلام الذين أعتقهم على ثروة لا

ص: 16


1- معجم البلدان للحموي ج3ص290.

بأس بها نتيجة لجهوده ونشاطه. وفي بعض الأيام أصيب الإمام علیه السلام بضائقة مالية شديدة ، فطلب من مولاه الذي أعتقه يقرضه مبلغاً قدره عشرة آلاف درهم يدفعه إليه عند الإستطاعة فطلب من الإمام سنداً أو وثيقة. مدّ الإمام يده الى طرف رداءه واستخرج هدبة ( خيطاً ) منه ، وقال له : خذ فهذه وثيقتي عندك الى أن أردّ إليك مالك. لقد ثقل على المقرض أن يوافق على وثيقة كهذه ولكنه للنظر الى شخصية الإمام علیه السلام سلّم إليه المال وأخذ الهدبة ووضعها في علبة صغيرة. ثم صادف أن الإمام تيسرت أموره بعد فترة قصيرة فردّ المبلغ الى صاحبه ... « ثم قال له : قد أحضرت مالك فهات وثيقتي. فقال له : جعلت فداك ضيّعتها. قال : إذا لا تأخذ مالك مني ، ليس مثلي يُستخف بذمّته.

قال : فأخرج الرجل الحُق فإذا فيه الهدبة ، فأعطاه علي بن الحسين علیه السلام الدراهم ، وأخذ الهدبة فرمى بها وانصرف (1) ».

إن خيطاً من رداء لا قيمة له ، ولكن عندما يكون الخيط رمزاً لتعهد صادر من شخص شريف فان قيمته ترتفع الى أن يصبح وثيقة لدين عن عشرات الآلاف من الدراهم والدنانير ، ويتقبله الدائن بكل ثقة واطمئنان.

إن الوفاء بالعهد من صفات اللّه عز وجل. فاللّه يصرح بذلك في القرآن الكريم : ( إن اللّه لا يخلف الميعاد ) (2). والإنسان الذي لا يخلف وعده يكون متصفاً باحدى الصفات الالهية ، وهذا هو علامة لمرتبة من مراتب الكمال والفضيلة.

المتهم البرىء :

ظهر بعد واقعة صفين حزب جديد باسم الخوارج ، ضمّ رجالاً متهورين وجهلاء بحقيقة العلم والدين ، قاموا بجرائم عظيمة طوال سنين طويلة. ولقد قامت السلطات الزمنية بمكافحة هذا الحزب بصور مختلفة. وفي زمن الحجاج الثقفي اتّهم جماعة بالانتماء الى هذا الحزب فأحضروا الى مجلس الحجاج ليعاقبهم على ذلك ، فتحقق

ص: 17


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 11ص42.
2- سورة الرعدص31.

عن وضع كل منهم وعيّن لكل عقوبته ، وعندما وصل إلى آخر رجل منهم قام المؤذن للأذان معلناً دخول وقت الصلاة ، فقام الحجاج وسلّم المتهم الى احد الحاضرين واسمه ( عنبسة ) وقال له : خذه معك الى البيت وأحضره لي غداً حتى أقرر عقوبته فنفذ عنبسة الأمر وخرج معه من قصر الامارة. وفي الطريق قال له المتهم : هل يرجى منك خير؟ فقال له عنسبة : حدثني بما تريد فعلي أوفق لأعمل لك خيراً. فقال المتهم : واللّه لست خارجياٌ ، لم أخرج على مسلم ، ولم أشهر سيفي على أحد ، وأنا بريء من هذه التهمة المنسوبة الي وبالرغم من أنهم قبضوا علي وأنا بريء فان أملي برحمة اللّه العظيم وطيد ، وأعلم أن فضله سيشملني ولا أعذّب من دون ذنب ولكن أرجوك ان تسمح لي بالذهاب الى اهلي هذه الليلة لأودعهم وأوصيهم بوصاياي واؤدي حقوق الناس وسأحضر عندك غداً صباحاً. يقول عنبسة : لقد استغربت من هذا الطلب الذي توجه به المتهم فلم أجبه ، فكرّر عليّ السؤال ، حتى أثر كلامه في نفسي ، وخطر ببالي أن أتوكل على اللّه وأنزل عند رغبته فصممت على ذلك وقلت له : اذهب ولكن يجب أن تعاهدني على الرجوع غداً ، فقال الرجل : عاهدتك على أن أحضر غداً صباحاً وأشهد اللّه على هذا العهد ، ثم ذهب حتى غاب عن عيني. ولكن ما إن رجعت الى نفسي حتى اضطربت اضطراباً شديداً وندمت على ما فعلت فقد عرّضت نفسي لغضب الحجاج من دون سبب ، ولازمني الاضطراب حتى ذهابي الى البيت فذكرت ذلك لأهلي فلاموني ... ولكن لات حين لوم.

لم أنم تلك الليلة ، كنت أتململ كالسليم ، وأتقلب كالثكلى ، وعند الصباح وفى الرجل بعهده فتعجبت من مجيئه وقلت له : لماذا حضرت؟ قال : من آمن باللّه واعتقد قدرته وعظمته وعاهد على أمر وجعل اللّه شهيداً على عهده فلا يخلف عهده. فأخذته الى قصر الامارة في الساعة المقررة وذكرت للحجاج ما جرى بيني وبينه الليلة السابقة ، فتعجب من ايمان الرجل ووفاءه بعهده ، ثم قال لعنبسة : أتريد أن أعفو عنه لأجلك فقال : لو تتكرم عليّ بذلك فلك المنة العظيمة ، فعفا الحجاج عن المتهم وأخرجه عنبسة من دار الامارة وقال له بكل لطف ولين : اذهب فأنت حر.

فذهب الرجل دون أن يشكر لعنبسة جميل صنعه ويقابل إحسانه بالإحسان. فتألم عنبسة من هذه البرودة ، وهذا التنكر للحق ، وقال في نفسه : لعله مجنون.

ص: 18

وفي اليوم الثاني حدث ما لم يكن بالحسبان فقد حضر الرجل عند عنبسة وشكره على انقاذه من الورطة التي وقع فيها. ثم قال له : إن المنقذ الحقيقي هو اللّه تعالى وكنت أنت الواسطة في ذلك. فلو كنت أشكرك بالأمس على إحسانك كنت قد أشكرتك باللّه في النعمة التي أنعم بها عليّ وهذا ليس بمستحسن ، فرأيت من اللازم أن أذهب لأداء واجب الشكر والحمد بين يدي اللّه تعالى أولاً ، ثم أحضر لتوجيه الشكر لك. ثم شكر لعنبسة جميل صنعه وإحسانه واعتذر منه كثيراً وانصرف (1).

أثر الوفاء بالعهد :

الوفاء بالعهد أحد الأركان المهمة للسعادة الإنسانيّة ، الوفاء بالعهد احد الفضال الخلقية العالية للإنسان ، الوفاء بالعهد قادر على أن يردع شخصاً سفاحاً مثل الحجاج عن إراقة دم شخص بريء.

الحياة على أساس الفضيلة :

في الدولة التي يلتزم الأفراد فيها بعهودهم ويقفون عندها تجري الأمور الاقتصادية والاجتماعية والعائلية على أساس صحيح ... هناك تقوم الحياة على أساس الفضيلة الانسانية ، وعلى العكس فإن المجتمع الذي يتّسم بتهرّب الأفراد فيه من عهودهم والإفلات عن تعداتهم من دون شعور بالمسؤولية تجاها تخرج الأمور عن مجراها الطبيعي وتحيط بهم المآسي والمشاكل بشتى صورها ، وعند ذاك تقوم المحاكم القضائية والسلطات التنفيذية بمراقبة تنفيذ الالتزامات ... الأخلاق والشعور بالمسؤولية تخلي مكانها لقاعات المحاكم ، وتتمثل المخالفات بصورة إضبارات مدنية وجنائية وهكذا تستنزف الطاقات الإنسانية والمالية ويضطر المتنازعون الى الرجوع الى الوسائل التنفيذية من حجز وسجن وما شاكل ذلك.

يذكر الإمام أمير المؤمنين علیه السلام لمالك الاشتر في العهد الذي بعث به اليه أن

ص: 19


1- جوامع الحكايات ج1ص71.

احذر نقض العهود ويقول في علة ذلك : « والخلف يوجب المقت عند اللّه والناس » (1).

مما لا شك فيه أن نقض العهد يحطم شخصية الإنسان. ومهما كان الشخص الناقض للعهد عظيما في المجتمع ويمتاز باحترام الناس له وتقديرهم إياه فإنه ينحط في أعين الناس على أثر نقضه للعهد. كل فرد يدرك بصورة طبيعية أن الشخص الناقض للعهد يرتكب عملاً قبيحاً ... الفقير والغني ، الكبير والصغير ، كل الناس يرون أنّ لهم أن يلوموا الشخص الذي لا يلتزم بعهوده ، وهذا يدلنا على أن الإنسان يدرك ضرورة الوفاء بالعهد بفطرته ، ويرى أن التخلف عنه تخّلف عن قانون الفطرة.

تنمية الوفاء بالعهد عند الطفل :

لأجل أن يحيا الوفاء بالعهد في المجتمع ، وتلتزم جميع الطبقات بهذا الواجب الإنساني ، يجب أن تبذر بذور هذه الخصلة الحميدة في نفوس الأطفال من أولى أدوار الطفولة ، ومن حين إدراكهم لمعنى ( العهد ). يجب أن يتلّقوا هذا الدرس القيم نظرياً وعملياً حتى يستقر في نفوسهم بصورة ملكه ثابتة مستقرة. يجب أن يربّى الأطفال بصورة يجدون معها الوفاء بالعهد من واجباتهم القطعية والضرورية ، فلا ينقضون عهودهم وحسب بل لا يسمحون لهذه الفكرة الفاسدة أن تمر بخواطرهم ، وهذه التربية لا تحصل إلا في المحيط الطاهر والسليم الذي أعدّ للطفل. المحيط الذي لا يعرف نقض العهد والخداع. إن الطفل يتخذ من كل كلام يسمعه أو عمل يشاهده ، صالحاً كان أو فاسداً ، قدوة له يجري عليها في حياته ، وفي محيط الأسرة يخضع قبل كل شيء لسلوك الوالدين. ففي الأسرة التي يلتزم الآبوان فيه بعهودهما ، ولا يخلفان مواعيدهما ، ولا يخدعان الطفل ... ينشأ الأطفال على هذه الفضائل الحميدة ، ويلتزمون بعهودهم أيضاً ، أما الابوان اللذان يرتكبان الأفعال الفاسدة فإن طفلهما يتأثر بأفعالهما وينشأ على تلك الأساليب المنحرفة.

« لأجل أن يكون الإطاعة لقوانين الحياة تامة ، يجب أن تظهر فطرية »

ص: 20


1- نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ج3ص120.

« إن الشخص الذي اعتاد منذ بداية حياته على معرفة الخير والشر ، يسهل عليه اختيار الفضيلة والاجتناب عن الرذيلة في جميع أيام عمره ، وكما يبتعد عن النار يتجنّب الأقتراب من الرذائل. فنقض العهد والكذب والخيانة لا تعدّ أعمالاً قبيحة في نظره ، بل تعدّ مستحيلة عنده ولإيجاد ردود الفعل هذه في الفرد يجب توفر محيط يعني فيه بالفضائل عناية بالغة. إن الإنسان يميل - كالقرد - الى التقليد بغريزته ولكنه يقلد الشر أسهل من الخير. وهكذا يقتبس الطفل سلوك الأفراد الذين يعرفهم أو يسمع تاريخ حياتهم أو يقرأه ، ولهذا فانه يتخذ من الأصدقاء والاساتذة ، الأب والأم ، وبصورة خاصة نجوم السينما ، والشخصيات الحقيقية أو الخيالية التي يقرأها في المجلات والصحف ... قدوة له في حياته. وكما يقول ( فلتون ) فإن الأطفال لو سلّموا في منزلق تقليدهم للغير الى أفراد بعيدين عن الفضيلة ، نشأت من ذلك نقائض كبيرة في سلوكهم. إن المربي الجيد هو الذي يعتقد بما يقول ويطبقه على نفسه (1) ».

المدرسة الأولى للطفل :

تعتبر الأسرة بمثابة المدرسة الأولى للطفل وعلى الوالدين أن يهيئا الظروف المناسبة في محيط الأسرة. ولهذا فقد جاءت الروايات الإسلامية تؤكد على المسؤولية العظمى للوالدين في تربية الأطفال ، وتسدي لهما النصائح المفيدة في هذا المجال لقد تحدّث الإسلام عن كل خصلة من الخصال الحميدة والملكات الفاضلة بصورة مستقلة ، ومن ذلك الوفاء بالعهد :

1 - عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « أحبوا الصبيان وارحموهم ، وإذا وعدتموهم فوفوا لهم ، فإنهم لا يرون إلا أنكم ترزقونهم » (2).

2 - عن كليب الصيداوي قال : قال ابو الحسن علیه السلام : « إذا وعدتم الصبيان فوفوا

ص: 21


1- راه ورسم زندكى ص 162.
2- الوسائل للحر العاملي ج5ص126.

لهم ، فإنهم يرون أنكم الذين ترزقونهم. إن اللّه عز وجل ليس يغضب لشيء كغضبه للنساء والصبيان » (1).

3 - عن علي بن أبي طالب علیه السلام ، قال : قال رسول اللّه عليه وآله « إذا وعد احدكم صبيه فلينجز » (2).

4 - عن علي علیه السلام ، قال : « لا يصلح الكذب جدُُّ ولا هزل ، ولا أن يعد أحدكم صبيه ثم لا يفي له » (3).

تنمية الفطريات عند الطفل :

إن الفطريات الأولية للإنسان تشكل الثروات التي أودعها الخالق العظيم لضمان سعادة الإنسانية في نفس كل طفل وخلقه مع تلك الثروات. فإن جوبهت الفطريات عند الطفل بالتنمية الصحيحة والحماية العلمية وخرجت من عالم القوة الى حيّز الفعل كانت الأساس لسعادته ، وبقيت الضمان الحقيقي لرقيه طيلة أيام حياته. وعلى العكس لو أهمل المربي قيمة الفطريات ولم يعتن بها ، بل قام بتربية الطفل طبقاً للأساليب الخاطئة فإنه يتطبّع على الانحراف والفساد ويفقد ثرواته الفطرية بالتدريج ، ويكون في النهاية عضواً فاسداً في المجتمع.

ومن الفطريات عند الإنسان إدراك لزوم الوفاء بالعهد. وكما أن حب الذات ، والغريزة الجنسية ، والحاجة الى الغذاء والمأوى ... من المقومات الضرورية للحياة ، خلقها اللّه تعالى بصورة غرائز في طبيعة الإنسان فان الوفاء بالعهد من المقومات الضرورية لسعادة المجتمع ، وقد جعل اللّه تعالى إدراك حسنه وضرورته في باطن كل انسان.

الادراك الفطري للوفاء بالعهد بذرة غرسها اللّه تعالى في تربة قلب الطفل ، والأساليب التربوية الصحيحة التي يستخدمها الوالدان بمنزلة سقي تلك البذرة

ص: 22


1- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج6ص50.
2- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج.
3- وسائل الشيعة للحر العاملي ج3ص232.

لإنباتها. فإن لم يُخدع الطفل في العهود والمواعيد التي تمنح إياه ، فإن هذه البذرة الفطرية تضرب بجذورها في قلبه ، ويلتزم بعهوده فينشأ إنساناً وفياً دون أن يفكر في نقض العهد ، أما إذا كان الوالدان ينقضان عهودهما ، ويخدعان الطفل ، يعدانه ثم لا يفيان له ، أو يلتزمان أمامه لشخص آخر بشيء ثم لا ينفذان ما التزما به ، فإن الطفل ينشأ نقاضاً للعهود وخداعاً ، لا يشعر بمسؤولية تجاه وعوده. إن الوالدين الناقضين لعهودهما يلقنان الطفل بسلوكهما المنحرف درس الخروج عن العهد والتخلّف عنه ، ويعلّمانه أن الانسان يستطيع أن يكذب ، أن يخدع الناس ، أن ينقض العهد.

« لاحظوا أننا عندما نعجز عن تهدأة الطفل وإسكاته بالطرق الاعتيادية والطبيعية نلجأ الى الخديعة ، نتشبث بالوعود الزائفة ، ونركن الى التهديد والتوعيد. ما أكثر الامهات اللائي يعجزن عن إسكات اطفالهن عندما يردن الخروج من البيت فيعمدان الى أن يعدنهم بشراء بعض الفواكه أو الدمى عند العودة ، بينما يراهن الأطفال عند عودتهن الى البيت صفرات اليد. ما اكثر الأمهات للائي يكذبن على الطفل عندما يردن أن يناولنه دواء مرأ فيقلن له : إنه حلو. هذه الأمثلة كثيرة الى درجة أننا نتمكن - مع الأسف - أن نملأ الصحائف الطوال عن هذا الموضوع ، كثيراً ما نعد الأطفال المساكين بوعود زائفة بحيث يمكن ذكر آلاف الأمثلة بهذا الصدد ».

« السيارة مستعدة ، والأب يريد أن يرجع من المصيف الى المدينة ، في اللحظة التي يريد الركوب يركض طفله الصغير نحوه ويرجوه أن يصحبه معه الى المدينة يصر كثيراً ، ويلح ، وبما أنه لم يعوّد أن يرى في ( كلا ) جواباً قطعياً لا يقبل النقض لا يكف عن الالحاح ، عندما يحس الأب أن صرف الطفل عن فكرته هذه ليس بالأمر اليسير يلجأ الى الطريقة التالية ».

« يقول له : عزيزي ، لا يمكن أن أصحبك معي الى المدينة بهذه الصورة ، إذهب والبس ملابسه الأنيقة ».

« يذهب الطفل وملؤه اعتماد على أبيه لتبديل ملابسه ، ولكنه عندما يعود لا يجد

ص: 23

في نهاية الشارع غير الغبار المتصاعد وراء سيارة أبيه. ينظر إلى هذه الحيلة ، يستمر في مكانه ، يجزع يصيح : إنك خداع كذاب إنه يصدق فقد كذب عليه أبوه ، وإن فرصة تعوّده على الكذب حتمية » (1).

في جميع الدول الغريبة والشرقية في العالم آباء وأمهات كثيرون غافلون عن التربية الصحيحة لأطفالهم ، يلوثونهم - عن علم أو جهل - بالصفات الذميمية. فالآباء والأمهات الذين يكذبون وينقضون عهدوهم ، ويخدعون أطفالهم ، ولا يفون بوعودهم تجاههم يعلّمونهم دروس الانحراف ، ويجرمون في حقهم وحق المجتمع الذي يقوم عليهم.

إن قلب الطفل كعدسة تصوير ، يلتقط الصور المختلفة من أفعال والديه وأقوالهما ، وتعتبر مشاهداته ومسموعاته في دور الطفولة منهاجاً لحياته المقبلة ، وهكذا يجب أن نهتم بالتعاليم الصالحة وغير الصالحة التي يتلقاها الطفل من والديه او معلّميه ، فقد يأثر الطفل بمشاهدة عمل ما أو سماع كلام ما الى درجة أنها تبعث أعمق الجذور في نفسه ، ولا تزول آثار ذلك مدى الحياة ، وربما أدت الى قلب مجرى الحياة بصورة تامه.

التهم الباطلة :

يركن بعض الزعماء في نشاطاتهم السياسية ، وفي الحرب الباردة التي يشنونها ضد رقبائهم الى اسلوب الدجل والافتراء وإلصاق التهم الباطلة بمعارضيهم. ومما يؤسف له أن هذا الأسلوب المنحرف كان موجوداً في العصور السابقة وعصرنا هذا ، وقد وقعت فيه الأمة الإسلامية بعد وفاة الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله ، قليلاً أو كثيراً.

لقد أقدم على هذا الأسلوب المنحرف معاوية بن أبي سفيان ، بغية الحفاظ على كرسي الخلافة الإسلامية لبضعة أيام ، ولغرض الوصول الى الامارة على الناس ... فأخذ يلصق التهم الباطلة بالمثل الأعلى للإيمان والإنسانية علي بن أبي طالب علیه السلام .

ص: 24


1- ما وفرزندان ما ص67.

لقد سحق معاوية الأصول الإنسانية والإسلامية ، واتهم علياً بترك الفرائض والانحراف عن الطريق المستقيم ، وصرف في سبيل ذلك قسطاً عظيماً من بيت مال المسلمين. أمر جميع الموظفين والعسكريين أن يشتموا علياً في خطبهم بعد حمد اللّه والثناء على نبيه ... الخطباء على منابرهم ، والمعلمون في مدارسهم ، واكثر الناس في أنديتهم ومجالسهم أخذوا يعتبرون سب علي من واجباتهم اليومية ، وكانت هذه الخطة المشؤومة قدوة لجميع الرعية.

كان في أرجاء الدولة رجال شرفاء ومؤمنون يعرفون علياً حق المعرفة وكانوا على علم واسع بمكائد معاوية وأساليبه في الدعاية ، ولكنهم كانوا يفضلون السكوت خوفاً على أرواحهم من أن تزهق ، وعلى دماءهم أن تراق. وإذا صادف أن صرح بعضهم بما يحمله من شعور تجاه ذلك الإمام العظيم في بعض الظروف والمناسبات ، فقد كان يلاقي مصيره الأسود على يد معاوية أو جلاوزته! (1).

هذه البدعة الخائنة كانت قد بعثت بجذورها في قلوب مختلف الطبقات إلى درجة أنها ظلت عالقة بأذيال الناس حتى بعد موت معاوية بسنوات طوال ، فقد كان سبّ الإمام أمير المؤمنين علیه السلام متمثلا بصورة واجب ديني عندهم.

وعندما تولى عمر بن عبد العزيز زمام الأمر ، وجلس على كرسي الخلافة ، قام بكل عزم وقوة لاقتلاع جذور هذه الوصمة التأريخية الكبيرة فبدأ - بأسلوب حكيم - يجلب شعور وزرائه وقواده الكبار الى جانبه وتحمل في سبيل ذلك صعوبة بالغة ، ثم أمر جميع ولاته على الأمثار بأن يقاوموا كل حركة تحاول أن تذكر الإمام علياً علیه السلام بسوء ، وحثهم على معاقبة من يخالف هذا الأمر ... وتوفق بعد جهد طويل الى استئصال جذور هذه الوصمة من أذيال المجتمع الإسلامي : وبهذا استطاع من أن يكسب شعبية منقطعة النظير ، واسترت الندوات والمجالس تذكره بخير وتمجد فعلته تلك.

ص: 25


1- في التاريخ شواهد ناصعة على الصراحة التي اتبعها ثلة من المؤمنين بحقيقة الإسلام بالنسبة إلى تفنيد التهم الباطلة التي كان يلصقها أعداؤه إلى أعظم قائد من قادة المسلمين ، وأول إمام من أئمتهم ... إن فات المؤرخين حصرها فلم يفتهم تدوين طرف من أخبار تلك الثلة الخيّرة أمثال : ميثم التمار وحجر بن عدي الكندي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، ورشيد الهجري وغيرهم.

تأثير كلام المعلم :

هذا الكفاح المقدس الذي غير وجه الأمة الإسلامية ، وحول مجرى السياسة العامة للدولة آنذاك ، كان مستنداً إلى عزم الخليفة عمر بن عبد العزيز ، وهو نفسه يعزو السبب في ذلك الى أيام طفولته ، وإلى كلمة سمعها من أستاذه. والآن إليكم القضية كما يحكيها لنا بنفسه :

« كنت أطلب العلم في المدينة وكنت ملازماً لخدمة عبيد اللّه بن عبد اللّه ابن عقبة بن مسعود ، فبلغه أني أسبّ علياً علیه السلام كسائر الأمويين. فأتيته يوماً وهو يصلي ، فأطال الصلاة. فقعدت انتظر فراغه فلما فرغ من صلاته إلتفت إلي. فقال لي :

- متى علمت أن اللّه غضب على أهل بدر وبيعة الرضوان بعد أن رضي عنهم؟!

قلت : لم اسمع ذلك.

قال : فما الذي بلغني عنك في علي؟!

فقلت : معذرة إلى اللّه وإليك ...

وتركت ما كنت عليه » (1).

الحوار الذي جرى بين الاستاذ والتلميذ في المدينة كان قصيراً جداً ، ولم يكن أحد منهما يتصور أن هذه الجمل ستكون منشأ لانقلاب عظيم في الأمة الاسلامية.

ولكن كلام الأستاذ في ذلك اليوم أثر في قلب الطفل تأثيراً بالغاً ... ومرت الأعوام وإذا بالطفل يشب ويصبح في عداد الرجال البارزين في المجتمع. ثم تقع الحوادث المفاجئة وتحدث تحولات عظيمة في الدولة ، ويجلس طفل الأمس على كرسي الخلافة ويأخذ بزمام الملايين من الناس!

كان كلام المعلم بمنزلة البذرة التي بُذرت في قلب الطفل آنذاك ، ثم جاءت عوامل الرئاسة والسلطة فعملت على تنمية تلك البذرة ، وأخيراً فاظهرت بصورة حقل كبير للسعادة ، واستفاد ملايين الناس من ذلك وتخلصوا من البدعة الجائرة المتمثلة في سب علي بن أبي طالب علیه السلام .

ص: 26


1- الكامل لأبن الاثيرج5ص17.

يستفاد من هذه القضية وقضايا مماثلة لها أن الواردات الفكرية للأطفال تمثل المنهاج العام لحياتهم الإجتماعية ، وإن الخواطر الصالحة أو الفاسدة التي تستقر في ذهن الطفل لا تمحى ، بل تظهر آثارها الخيرة او الشريرة في دور الشباب.

يجب على الآباء والأمهات أن يتنبهوا الى المسؤولية الخطيرة الملقاة على عواتقهم ويحذروا من الكلام أو السلوك البذيء أمام الأطفال ، ويربوا أفلاذ اكبادهم منذ البداية على الطهارة والصدق ، ويؤدوا واجبهم الديني المقدس من هذا الطريق.

يجب على المعلمين والمدرسين أن يلتفتوا في الصف إلى ما يقولون ويفعلون ، وعليهم أن يحذروا من كل ما يشين ، فكما أن الكلمة الفاضلة والمناسبة التي صدرت من معلم لائق استطاعت أن تؤثر في نفس عمر بن عبد العزيز عندما كان طفلاً ، وظهرت ثمار ذلك بعد عدة أعوام في انقاذ ملايين الناس مما كان أصابهم من انحراف ... كذلك الكلمة الشريرة تستطيع أن توجد انحرافاً في فكر الطفل وتؤدي إلى مآس عظيمة لا تجبر ، له وللمجتمع الذي يعيش فيه.

* * *

ص: 27

المحاضرة السابعة عشرة: تدريب الطفل على الصدق

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه العظيم : ( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ) (1).

الصدق :

الصدق من الصفات الحميدة التي تنسجم والطبيعة الإنسانية. كل انسان يميل بفطرته إلى الصدق ، وإلى أن يعتبر الكلام الذي يسمعه من الآخرين صادقاً ، فالكذب إنحراف عن صراط الفطرة المستقيم.

إذا كسر طفل نافذة في أثناء اللعب ولم يصبه خوف شديد وارتباك زائد من جراء ذلك ، فعندما يسأل : من الذي كسر النافذة؟! فإنه سيشرح الحادثة بكل هدوء واتزان ، ويجيب على الأسئلة دون أي إضطراب ذاكراً كيف كسرت النافذة في أثناء اللعب. أما عندما يخاف الطفل فإنه يحاول أن يستعين لإثبات براءته بالكذب ، حينئذٍ يكون الوضع الشاذ للطفل واضحاً تماماً ، فالحركات غير المتزنة للعين ، واضطراب الهندام ، وجفاف الفم ، وسرعة النبض ، والكلمات المتقطعة والغامضة ... كل ذلك يدل على كذب الطفل وعمله المنافي للفطرة.

لقد جاء الأنبياء ، والقسم الأهم من واجباتهم يتمثل في إحياء الفطريات عند الإنسان ، يدعون الناس الى الصدق ، ويحذرونهم من الكذب بشدة. إن الإسلام يعتبر الكذب عاملاً هداماً للإيمان ، ويعده أفظع من كثير من المعاصي الكبيرة.

ص: 28


1- سورة المنافقين ، الآيتان: 1 - 2.

1 - عن أبي جعفر علیه السلام ، قال : « إن الكذب هو خراب الإيمان » (1).

2 - قال أمير المؤمنين علیه السلام : « لا يجد عبدٌ طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده » (2).

3 - وعن الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « قال رجلٌ له صلی اللّه علیه و آله : المؤمن يزني؟ قال : قد يكون ذلك. قال : المؤمن يسرق؟ قال : قد يكون ذلك. قال : يا رسول اللّه ، المؤمن يكذب؟ قال : لا ، قال اللّه تعالى : ( إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (3).

4 - وعن الإمام الرضا علیه السلام : « سئل رسول اللّه : يكون المؤمن جباناً؟ قال : نعم. قيل : ويكون بخيلا؟ قال : نعم ، قيل : ويكون كذاباً؟ قال : لا » (4).

أسوأ من كل سوء :

5 - عن الإمام الصادق علیه السلام : « قال أمير المؤمنين : ولا سوءة أسوأ من الكذب » (5) يفهم من هذا أنه مهما اشتد قبح الشيء فلا يبلغ قبح الكذب.

مما لا شك فيه أن الكذب مخالف للوجدان الأخلاقي الفطري ، وكذلك مخالف للوجدان الأخلاقي التربوي. فالكذب قبيح في نظر جميع الشعوب والأمم في العالم ، وفي تعاليم رسل السماء كافة.

ومما يبعث على الأسف أن هذا الداء الوبيل لا يختص بالكبار ، بل إن الأطفال الصغار يقعون في أسر هذا المرض الهدام أيضاً ، فيعتادون على الكذب من الصغر ، وقد يستأنسون بهذه الصفة الذميمة الى درجة أنهم يتلذذون باختلاق كذبة ، ويرتاحون كثيراً عندما يرون أن الغير قد خُدع بأكاذيبهم.

ص: 29


1- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2ص339.
2- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2ص340.
3- سفينة البحار للقمي ص 473. مادة ( كذب ).
4- وسائل الشيعة للحر العاملي ج3ص232.
5- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2ص100.

مفتاح الجرائم :

إن الكذب يقرب الإنسان الى سائر الذنوب فيقدم الكذاب على المعاصي الأخر ، وعندما يُسأل منه فإنه يكذّب ذلك بكل وقاحة ويظهر نفسه بمظهر البريء ولكنه في الواقع جعل الكذب والخديعة ملجأ لفراره من الجرائم. « عن أبي محمد العسكري علیه السلام قال : حُطت الخبائث في بيت ، وجُعل مفتاحه الكذب » (1) :

« الكذب احد النقائض التي لا يخفى قبحها ، فإن الكذب هو الذي يجر وراءه سلسلة من الرذائل الأخر ويفتح باباً على الجرائم الباقية. إن عجزنا عن الوقاية من انتشار هذه الصفة ، وضعفنا عن مقاومتها جريمة لا تغتفر » (2).

شرب الخمر والكذب :

إن شرب الخمر عامل كبير في ارتكاب الجرائم. ما اكثر الناس الذين لا يرتكبون بعض الذنوب في الحالات الإعتيادية ، ولكنهم يفقدون عقولهم في حالة السكر فلا يتورعون عن القيام بأي جريمة خطيرة وأي عمل مناف للعفة (3).

ص: 30


1- المصدر السابق.
2- ما وفرزندان ما ص 59.
3- (3) أحطت - وأنا أعدّ هذه المسودات للمطبعة - بحادثة أليمة رأيت من المناسب ذكرها هنا : توفي أحد الاشراف في النجف الأشرف عن زوجة وولد وبنت ، وكانت الزوجة ثرية قد ورثت مالا عظيما من أبيها ، وبعد عدة سنين توفي ولدها الشاب وهو في مقتبل دراسته الجامعية ، وبقيت الأم المسكينة تندب حظها العاثر ، وخصت ابنتها الوحيدة بكل حبها وحنانها حتى أنها تنازلت عن جميع أملاكها لها . بلغت الفتاة مبلغ الزواج فتقدم لخطبتها الكثيرون ، وأخيراً تم الزواج بينه وبين شاب مدمن على الخمرة. وتقرر أن يسافر العروسان إلى البصرة لقضاء شهر العسل هناك.وفي البصرة استأجرا غرفة في فندق فخم ، وجلسا يتسامران ، وقام الزوج ليتناول الخمر كعادته وقدّم شيئاً من ذلك لزوجته التي لم تكن قد ذاقت طعم الخمر ، فتغيّر حالها واحسّت بحاجة الى القذف ... خرجت إلى المرافق الصحية وهي بكامل زينتها لتقذف ، اظلمت الدنيا في عينها فلم تعد تحس بشيء ، حاولت أن تعود الى الغرفة ، والزوج الغرّ جالس في مكانه ، وفتحت - وهي فاقدة الوعي - باب غرفة فدخلت والقت بنفسها في حضن شاب كان قد استأجر غرفة مجاورة لغرفتهم ... وجد هذا الشاب في العروس لقمة سائغة فنال منها وطره ... ولم تستيقظ إلا عند الصباح حيث الشرف المهدور ونظرات الاتهام والريبة من الزوج وتنكره لها ... وعادت الى أمها تندب حظها العاثر وشبابها الزائل وكرامتها المهدورة.

إن أثر الظلمة التي يوجدها الكذب في عقل الإنسان وروحه أشد بكثير من أثر الظلمة التي يوجدها شرب الخمر! فالشخص المعتاد على الكذب أشد استهتاراً من شارب الخمر ولا يتورع من أي جريمة. فعن الإمام الباقر علیه السلام أنه قال : « إن اللّه عز وجل جعل للشر أقفالاً وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، والكذب شر من الشراب » (1).

وكما أن الكذب يلوّث الإنسان بكثير من الذنوب ، فان التوبة الحقيقية عنه تعصم الإنسان عن كثير من الذنوب أيضاً.

« أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رجلٌ ، فقال : إني رجل لا أصلي وأنا أزني واكذب ، فمن أي شيء أتوب؟! قال من الكذب فاستقبله فعهد أن لا يكذب فلما أنصرف وأراد الزنا فقال في نفسه : إن قال لي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : هل زنيت بعدما عاهدت؟ فان قلت : لا ، كذبت. وإن قلت : نعم ، يضربني الحد » (2).

وفي حديث آخر نجد ترك الكذب داعياً إلى ترك بقية المعاصي. « قال رجل لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يا رسول اللّه دلّني على عمل أتقرب به إلى اللّه تعالى فقال : لا تكذب. فكان ذلك سبباً لاجتنابه كل معصية لله لأنه لم يقصد وجهاً من وجوه المعاصي إلا وجد فيه كذباً ، أو ما يدعو إلى الكذب ، فزال عنه ذلك من وجوه المعاصي » (3).

تنمية الصدق في الحديث :

إن من أهم واجبات الوالدين في تربية الطفل هو تنمية فطرة الصدق المودعة عنده. على الوالدين أن يسلكا في محيط الأسرة سلوكاً يجعل الأطفال يعتادون على

ص: 31


1- وسائل الشيعة للحر العاملي ج5ص232.
2- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2ص101.
3- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2ص100.

الصدق والإستقامة ، ولا ينحرفون الى طريق الكذب والتزوير والدجل ، وهذا الأمر أصعب من تنمية كثير من الصفات في الأطفال ، وللوصول الى هذه الغاية لا بد من ابتاع كثير من الرقابات العلمية والعملية!

« يبدو لي أن الوالدين لا يملكان تلك السلطة التي يملكانها في مكافحة الكسل والخروج على النظام بالنسبة الى الكذب والخلاصة أن من بين العيوب التي نسعى الى اقتلاعها من كيان الأطفال يمتاز الكذب بأنه اكثرها إغضاباً وإزعاجاً لنا ، والسبب في ذلك يعود الى أن من الصعب أن يتصور الإنسان تصوراً صحيحاً وواقعياً عن الكذب والكاذب ».

« يجب أن لا نعتبر الكذب للأطفال عملاً بسيطاً ، لانّه في الحالات الاعتيادية وعند الأطفال السالمين - على الأقل - يجب أن ينعدم الكذب. إن فشلنا وعجزنا وخطأنا في مكافحة الكذب ينشأ من أننا نحكم على هذا العمل من زاوية نفسه ، دون أن ننظر الى علة الكذب والغاية منه ، ونوعه ، وحالة الكذاب ، وأوضاعه » (1).

أساس داء الكذب :

ان أول طريق لمكافحة الكذب هو معرفة أساس هذا الداء الوبيل. مما لا شك فيه أن حالة نفسيّة خاصة توجد في باطن الشخص الذي يكذب مما يدفعه إلى هذا العمل ، وما لم تقتلع جذور هذه الحالة النفسية العارضة لا يمكن معالجة الكذب.

الخوف ، الضعف ، العجز ، الإحساس بالحقارة ، عقد الحقارة ، أو بعض الحالات النفسية المشابهة لذلك ، تستطيع أن تنحرف بالإنسان عن الطريق المستقيم المتمثل في الصدق ، وتبعثه على الكذب. « عن النبي صلی اللّه علیه و آله : لا يكذب الكاذب إلا من مهانة نفسه » (2).

ص: 32


1- ما وفرزندان ما ص 59.
2- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2ص100.

الضعف والظلم :

الكذب أحد أنواع الظلم ، والظلم من الناحية النفسية معلول لضعف الظالم. إن الشخص الذي يهرق الدماء البريئة ، والذي يظلم الناس بسبّهم وشتمهم ، والذي يتجاوز على أموال الناس ، وبصورة موجزة كل من يمد يداً للجور والظلم فلا شك في أن ذلك للنقص الذي في باطنه والضعف الذي يحسّ به. يقول الإمام السجاد علیه السلام في بعض أدعيته : « وقد علمتُ أنه ليس في حكمك ظلم ولا في نقمتك عجلة ، وإنما يعجل من يخاف الفوت ، وإنما يحتاج الى الظلم الضعيف. وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علواً كبيراً » (1).

الحقارة والكذب :

إن المدين العاجز عن وفاء مبلغ الدين يجلس في البيت ويقول لولده - كذباً - أن يقول للدائن : إن أبي ليس في البيت. والجاهل الذي يحس بالحقارة في مجلس العلماء ويجد نفسه عاجزاً عن الدخول في البحث والمناقشة يدّعي كذباً أن حالته الصحية لا تساعد على ذلك. والموظف الذي تغيب عن واجبه بلا عذر مشروع يلتجىء إلى الكذب خوفاً من العقوبة أو الغرامة فيدّعي أن أخاه قد مات وكان مشغولاً بتجهيزه ... والخلاصة أن الكذابين يلجأون الى الكذب بسبب الحقارة والعجز اللذين يحسون بهما ليدرأوا التهم عن أنفسهم.

لقد عظم أمر المسلمين في المدينة ، وبلغ المؤمنون غاية عزهم ومجدهم ... كانت الفتوحات المتتالية تعود لصالحهم يوماً بعد يوم. أما غير المؤمنين فقد كان ينظر إليهم بنظر الاحتقار في المجتمع ، وهذا ما أدى إلى إضعاف روحياتهم ، فأخذوا يحسون بالحقارة والضعفة من جهة ، ومن جهة أخرى كانوا يمتنعون عن الإيمان. فاضطروا إلى أن يظهروا خلاف ما يبطنون ، ويتظاهروا بالإيمان حتى يجبروا حقارتهم بذلك. وجاء القرآن الكريم كاشفاً عن سرائرهم وفاضحاً نواياهم حيث قال : ««إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ

ص: 33


1- الصحيفة السجادية - دعاؤه يوم الأضحى والجمعة.

يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً» (1).

الكذب عبارة عن ردّ فعل لعقدة الحقارة أو الخوف أو الحالات النفسية الاخر. وبعبارة أخرى فان هذه العقد النفسية والإنهيارات الداخلية للناس هي التي تظهر بمظهر الكذب في الصور المختلفة.

كلما كانت عقدة الحقارة في حياة الفرد أو الاسرة أو الأمة أشد كان رواج الكذب فيهم اكثر. إن من يصاب بالفشل في القضايا السياسية أو الاقتصادية وتنحط منزلته في أنظار الناس يكون الدافع إليه نحو الكذب أقوى ، والاسرة التي تسوء سمعتها لانحراف خلقي أو لسبب آخر فتصبح مبغوضة في نظر المجتمع ويحس أفرادها بالحقارة والضعة في نفوسهم تلجأ الى الكذب لتدارك النقائص التي أصابتها. وفي الدول التي تنعدم فيها العدالة والحرية ويديرها الحكام بنظام استبدادي مطلق ، ويتملك الناس فيها خوف ورعب شديدان تروج سوق الكذب ، وكذلك الأمم التي خضعت لسنين طوال الى الظلم والاضطهاد ولم تذق طعم الاستقلال يكون تلوثها بالكذب اكثر ... وبصورة موجزة فان الكذابين لا يكذبون الا للحقارة التي يحسون بها ، كما صرح بذلك الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله حين قال : « لا يكذب الكاذب إلا من مهانة نفسه ».

داء الكذب :

الكذب مرض خطير يمكن أن يصيب الإنسان من أولى أدوار حياته ويظل مصاباً به حتى نهاية العمر. ومما يؤسف له أن بعض الأسر تنظر إلى هذا الداء الخطير نظرة عارية من أي اهتمام. إذا أصيب الطفل بحمى في ليلة من الليالي أو أخذ يعطس اكثر من المعتاد يتألمون لذلك كثيراً ، ولكنهم لا يعيرون أي اهتمام لكذبة الطفل. وهناك أناس آخرون يعرفون - إن قليلاً أو كثيراً - خطورة الكذب ويتألمون إذا وجدوا الطفل يكذب ولكنهم يجهلون طريق معالجة ذلك وتكون النتيجة أن يلوث الكذب أغلب الأسر ، ويظل الجميع يئنون من ويلات هذا الداء الفتاك :

ص: 34


1- سورة المنافقين ، الآيتان: 1 - 2.

عوامل ظهور الداء :

لأجل أن يهتم اولياء الأطفال في سبيل تربيتهم بهذا الموضوع الحساس ويعوّدوا أفلاذ أكبادهم على الصدق والاستقامة نتكلم في هذه المحاضرة عن عوامل ظهور هذا الداء في الأطفال راجين أن تكون مفيدة للجميع.

أساليب وقائية :

1 - « عن أبي عبداللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : رحم اللّه من أعان ولده على بره.

قال : قلت : كيف يعينه على بره؟

قال : « يقبل ميسورة. ويتجاوز عن معسورة ، ولا يرهقه. ولا يخرق به » (1).

إن من علل كذب الأطفال ، ثقل عبء الواجبات التي يكلفون بأداءها ، إن تشديد الأولياء وتوقعاتهم الشاذة التي هي فوق طاقة الأطفال يقودهم إلى الكذب

ويوقظ فيهم هذه الصفة الرذيلة.

« يقول ديموند بيج : أعرف فتاة شابة تأصل الكذب في نفسها بحيث لا يقبل العلاج. إنها عندما كانت في السن السابعة كانت تذهب كل يوم الى المدرسة وكان عدد الطالبات التي يدرسن معها لا يتجاوز ال- 25. كان لها مربية تأخذها الى المدرسة كل يوم ، وتأتي بعدها انتهاء الدرس لأخذها الى البيت. كانت هذه المربية مكلفة بمراقبة الطفلة في واجباتها ودراستها ، وبصورة موجزة كانت مسؤولة عن تربيتها بصورة تامة. في تلك العصور كان الأسلوب المتداول - الذي تعده التربية الحديثة فاشلاً تماماً - يقضي بأن يصنّف الطلاب كل يوم على حسب الدرجات التي حصلوا عليها في الامتحانات التحريرية ، وهكذا كان يعين الطالب الأول والثاني والثالث. كان الطفلة بمجرد أن تخرج من الصف حاملة حقيبتها بيدها تقابل

ص: 35


1- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج6ص50.

بالسؤال الرتيب للمربية التي كانت تقول : ( ما هي مرتبتك في الصف )؟ فإن قالت : ( الأولى ) أو ( الثانية ) كان الأمر يجري على ما يرام. ولكن صادف مرة أن كانت مرتبتها الثالثة لثلاث مرات على التوالي ، وبالرغم من أن الحصول على المرتبة الثالثة بين 25 طالبة أمر مستحسن ، فإن المربية لم تكن تفهم ذلك. لقد حاولت أن تهدىء على نفسها في المرة الأولى والثانية ، ولكنها في المرة الثالثة لم تستطع أن تتمالك على نفسها ، ففي الوقت الذي كانت الطفلة قد تملكتها الحيرة والذهول صاحت بوجهها : ألا ينتهي حصولك على المرتبة الثالثة؟ يجب أن تكوني الأولى غداً هل تسمعين؟ الأولى ... يجب أن تصبحي الأولى!

لقد أشغل هذا الأمر الصعب والجاد بال الطفلة طوال اليوم ، وفي اليوم الثاني كانت فريسة العب والتفكير ، بذلت كل عنايتها ودقتها في أداء واجباتها ، كانت العمليات الحسابية التي أجرتها صحيحة ، وأجابت على الأسئلة بنجاح ، وكانت نتائجها مرضية الى قبيل الظهر عندما حان درس الاملاء ، فقد وقعت لها أربع خطآت في امتحان الاملاء ، وأخيراً حازت على المرتبة الثالثة في ذلك اليوم أيضاً ... وكانت هذه هي الطامة الكبرى.

عندما رنّ جرس الدرس الأخير كانت المربية واقفة بباب الصف منتظرة الطفلة ، وما أن وقعت عينها عليها حتى صاحت : ما الخبر؟

كانت الطفلة مذهولة لا تستطيع بيان الحقيقة ، فقالت : ( صرت الأولى ). وهكذا بدأت تكذب.

كثيرون هم الآباء والأمهات الذين يسلكون مثل هذا السلوك ، وبهذه الصورة يتحملون مسؤولية انحراف الأطفال وإصابتهم بداء الكذب » (1).

ص: 36


1- ما وفرزندان ما ص 61.

الاعتدال في العبادة :

من تعاليم الإسلام الاعتدال في العبادة. إن علماء الحديث يوردون في هذا الصدد روايات كثيرة نذكر هنا بعضها :

1 - « عن أبي جعفر علیه السلام ، قال : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ، ولا تكرهوا عبادة اللّه الى عباد اللّه » (1).

2 - وعن الإمام الصادق علیه السلام : « لا تكرهوا إلى أنفسكم العبادة » (2).

3 - عن الإمام الصادق أيضاً : « اجتهدت في العبادة وأنا شاب فقال لي أبي : يا بنيّ دون ما أراك تصنع ، فإن اللّه إذا أحب عبداً رضي عنه باليسير » (3).

4 - قال رسول اللّه صلّى عليه وآله : يا علي ، هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغّض إلى نفسك عبادة ربك » (4).

5 - عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « إن للقلوب إقبالاً وإدباراً. فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل ، وإذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض » (5).

يظن بعض الآباء والأمهات الجهلاء أن عليهم في سبيل تربية أطفالهم تربية دينية أن يحملوهم فوق طاقتهم ، ويكلفوهم بأداء النوافل ، ويوصومهم باحياء الليل وقراءة القرآن والأدعية المأثورة ، ويتصورون أنهم يحسنون صنعاً بذلك. يقولون له : لا تنس قراءة جزء من القرآن بعد صلاة الصبح! لا تترك دعاء كميل في ليالي الجمعة! اقرأ الذكر الفلاني ألف مرة يومياً ... وامثال ذلك. إن هؤلاء غافلون عن أن هذه التكاليف الشديدة ليست مرغوباً فيها في الإسلام فقط ، بل انهم بعملهم هذا يجعلون الولد ينظر الى الدين نظرة ملؤها التشاؤم ، ويؤججون نار البعد عن الإسلام في قلبه ... هذا مضافاً إلى أن الولد سيقع في مأزق حرج ، فإن الإتيان بجميع تلك النوافل والعبادات المستحبة بصورة مستمرة مما لا يتحمل عادة ، ومن جهة أخرى

ص: 37


1- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2ص86.
2- المصدر السابق ج2ص86.
3- المصدر السابق ج2ص87.
4- المصدر السابق ج2ص87.
5- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 251.

فإنه يخاف من استياء والديه ويحذر من إزعاجهما ، ولذلك فإنه يلجأ الى الكذب ، فبينما ينام الليل الى الصباح يحاول إرضاء والديه فيدعي كذباً أنه أحيي الليلة حتى الصباح ، وصلى كذا ركعات ، وقرأ كذا من القرآن ... الخ.

لو كان الوالدان يعملان بنصيحة الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث يقول : « يقبل ميسوره ، ويتجاوز من معسوره » ولم يكونا يحمّلان الولد فوق طاقته من العبادات لم ينشأ على الكذب والتشاؤم نحو الدين.

يجب على الآباء والامها - بالإضافة إلى العناية بالنواحي العلمية والدينية - أن يقيسوا القابليات الوسطى للأطفال ، ولا يحملوهم فوق ما يطيقون ، لأن الطفل يخاف من إغضاب والديه ، ويحاول أن لا يعرفه المربي بالكسل وعدم الكفاءة. وعندما يعجز عن أداء العمل الذي يفوق طاقته ومقدرته يلجأ في سبيل الحفاظ على شخصيته الى الكذب ، ويتكرر هذه الحالات ينشأ كذاباً. نستنتج مما تقدم أن أحد العوامل المؤثرة في تعود الطفل على الكذب هو تكليفه بالأعمال التي تفوق مقدرته وإجباره على أداء ما لا يطيق.

تحقير الطفل :

2 - والعامل الآخر من العوامل النفسية التي تؤدي إلى تعوّد الطفل على الكذب إحساسه بالإهانة والتحقير. يجب على الآباء والأمهات حسب التعاليم الدينية والعلمية أن يحترموا شخصية الأطفال ، وهذا الموضوع أحد المسائل المهمة في البحوث التربوية. إن الأطفال الذين يهملون من قبل أفراد الأسرة ولا يحترمون من قبل الناس ، يسخرون بهم أو يخدعونهم تارة ، ويؤنبونهم بلا مبرر تارة أخرى ، وبصورة موجزة يسلك معهم بحيث يحس الأطفال بالحقارة ، ويدركون بان أفراد الأسرة يحتقرونهم ولا يحسبون لهم حساباً ... هؤلاء يفكرون في الثأر لكرامتهم ، ولذلك تظهر فيهم صفات ذميمة بالتدريج فيقدمون على أعمال مضرة.

« توجد الإنحرافات المكتسبة عقيب الإخفاقات ، والخدع والأحقاد وفي الغالب عقيب الضربات العاطفية التي تخدر الطفل ، هذا كله دون أن يقف الطفل على حقيقة ما وقع. واحياناً يكتسب الطفل

ص: 38

سلوكاً جديداً وطبعاً ثانوياً ، قد يقضي على الطبع الأولى له.

« يتحول قلب الطفل على اثر الصدمات التي تؤلمه الى قلب مريض ومنكسر. إن الشخص المنحرف يزى نفسه قبل أي شخص صغيراً وحقيراً ، علم بذلك أم لم يعلم. وهكذا يكتسب الطفل أو المراهق الذي يتأثر لاحساسه بالحقارة عادات غريبة وسلوكاً جديداً ... يمكن اعتبارها ردود الفعل لتلك الحالة النفسية » (1).

رد الفعل للحقارة :

إن الطفل الذي يقع موقع السخرية والاحتقار وتهتضم شخصيته ، يسعى لإظهار نفسه بأي طريقة كانت ، أن يعمل عملاً يلفت انظار اعضاء الأسرة - والآخرين أحياناً - إلى نفسه ، أن يدخلوه في حسابهم ، ويعترفوا بشخصيته ... وهكذا يستغل الفرص المختلفة للوصول الى هدفه.

عندما يكون الوالدان مشغولين باكرام بعض الضيوف المحترمين ، ويصرفان كل اهتمامها الى العناية بهم غافلين عن الطفل ... يقدم الطفل على الأعمال غير الإعتيادية ، يطرق الباب بقوة ، يقلب إناء الفواكه ، ويبعثر الفواكه على الأرض ، يصيح بأعلى صوته ، يضرب أمه ، وبصورة موجزة يقوم بأعمال تجلب انتباه الوالدين والضيوف إليه. إن الطفل لا يقصد من هذه الأعمال غير جلب انتباه الأخرين ، انه يحتاج الى اظهار نفسه وابراز شخصيته ، يريد أن يقول : أنا أيضاً موجود ، انتبهوا لي ، إحسبوا لي حساباً.

الطفل يريد أن ينفذ الى قلوب الآخرين. وعندما لا يستجيب الوالدان لمتطلباته الطبيعية المتمثلة في احترام شخصيته ، يسلك طريقاً معوجاً ، وينفذ الى قلوب الآخرين بالفوضى والشغب والايذاء.

من الأعمال الخطيرة التي يقدم عليها أمثال هؤلاء الأطفال : الكذب. الطفل الذي لم يلاق احتراماً في الأسرة ولم يُعتن بشخصيته ، الطفل الذي يُهمل ويُحتقر ويعيش حياة ملؤها الحرمان والإخفاق ، تكون لذته العظمى إظهار شخصيته وجلب

ص: 39


1- چه ميدانيم اطفال دشوار ص 51.

انتباه الآخرين. إنه لا يستطيع أن يجلب إهتمام الناس نحوه بالصدق وبيان الحقائق ، فيضطر إلى الكذب ، واختلاق قضايا مدهشة ، وكذبات تحير الأذهان لعدة دقائق ، وتبعث القلق والحيرة في أعضاء الأسرة ... يتصنع الاضطراب والذهول فيصيح : إلتهمت النيران دار عمي! سقطت أختي في الساحة القريبة من بيتنا تحت عجلات السيارة!

عندما يركض أعضاء الأسرة - رجالاً ونساءً - نحو الحادث وقد علاهم الإرتباك والإضطراب ، ينتعش الطفل الكذاب ، يتلذذ لأن كلامه أوجد هذا الاضطراب ، والإهتمام ... إنه يفرح لأنه خدع أعضاء الأسرة وشفى قلبه مما كان يلاقيه منهم من احتقار وسخرية.

إن السلوك السيء للوالدين هو الذي يدعو الطفل إلى الكذب ، وإن الأعمال التافهة لهما هي التي تؤدي إلى هذا الانحراف.

يجب على الآباء والامهات الذين يرغبون في تربية أطفالهم على الإستقامة وتدريبهم على الصدق في الحديث أن يحترموا شخصيتهم منذ البداية بصورة معقولة ، ويحذروا من احتقارهم الذي يؤدي إلى إنحرافهم. عليهم أن يتذكروا نصيحة الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله : « ولا يرهقه ولا يخرق به ».

إن الأطفال الذين يحسون بالحقارة والصّغار على أثر اهمال الآباء لهم قد يلجأون إلى الكذب لتدارك ذلك ويصابون بهذا الداء الخطير ، فيظلون يتجرعون المآسي والمشاكل ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل تتجاوزهم الأضرار إلى الآخرين أيضاً.

الخوف من العقوبة :

3 - والعامل الثالث من عوامل الكذب عند الأطفال هو الخوف من العقوبة. فعندما نسأل الطفل : أنت كسرت النافذة؟ وعلم أن اعترافه يستلزم العقاب الشديد ، فإن غريزة صيانة الذات تدفعه الى أن يقول كذباً : لم أكسرها. إنه يجد نفسه ضعيفاً أمام صفعات الأم والأب ولحفظ نفسه لا يجد مفراً إلا بالإلتجاء إلى الكذب وإنكار

ص: 40

كل شيء. وبديهي أنه كلما كانت العقوبة أشد ، كان إصرار الطفل على الكذب اكثر.

وكما أن الناس في الحكومات الإستبدادية يكثرون من الكذب خوفاً من العقوبات الشديدة والاعمال غير الإنسانية الصادرة من الحكام ، كذلك الأطفال في الأسر التي يشدّد الآباء والأمهات فيها العقوبة فان كذبهم يكثر.

إن علاج هذه الكذبات ينحصر في لين أولياء الأطفال في تربيتهم. فإن كان الآباء والامهات يربون أولادهم على أساس الحب والحنان ، وإن كانت الأسرة مثالاً للرأفة والعطف ، وإن كان الأولياء منصفين وعارفين بواجباتهم الشرعية في تربية الأطفال دون أن يلجأوا إلى العصا والضرب الذي يستوجب الدية ، فإن الأطفال إذا كسروا نافذة أو قاموا بمخالفة النظام لا يدفعهم ذلك إلى الكذب ولا ينشأون كذابين.

يلاحظ الطفل أن أباه أو أمه قد يغفل فيسكر النافذة ولا يحاسبه أحد على ذلك ، إنه يرى أخاه الأكبر لا يتعرض لعقوبة أو توبيخ عندما يسقط كأس من يده فيتحطم ، بينما يجد أنه إذا كسر النافذة أو سقط الكأس من يده يُعاقب بشدّة ويحاسب حساباً عسيراً ، فيأثر لكرامته ويلجأ الى الكذب للفرار من العقوبة.

اسداء النصيحة للطفل :

عندما يتخلى الأبوان عن التشديد على الطفل ويعتبر انه مثلهما إنساناً يجب أن تصان كرامته ، ويصادف أنه يكسر النافذة في أثناء اللعب في الغرفة ، فسيبادران الى اسداء النصح له ويقولان له : الغرفة ليست محلا للعّب ، حاول أن لا تتكرر منك أمثال هذه الفعلة. بهذا الأسلوب يكون الطفل قد عوقب بمقدار خجله ، مضافاً إلى أنه لم يكذب ... في حين أن من المحتمل أن لا يتكرر منه هذا العمل بعد ذلك.

هنا قد يتصور السادة المستمعون أننا نريد القول بأن الرقابة التربوية الصحيحة في الأسرة يجب أن تكون على درجة من الدقة بحيث يتربى الطفل على أن لا يكذب حتى مرة واحدة طيلة أيام عمره ، ومثل هذا قد يكون مستحيلاً بالنسبة الى الإنسان الاعتيادي. غير أن الغاية من بحثنا هذا هو أن ننبه الآباء والأمهات الذين يريدون تدريب الطفل على الصدق والاستقامة إلى ضرورة الإهتمام بواجباتهم الشرعية

ص: 41

والعلمية في إرساء قواعد الأسرة منذ البداية على أساس الفضيلة والاستقامة حتى يكونوا بهذا الطريق قد أدوا ما عليهم تجاه اطفالهم.

وبعبارة أوضح فإن الكذب - سواء كان قليلاً أم كثيراً - يعد معصية عظيمة ، ولكن هناك فرق عظيم بين من تصدر منه كذبة أو عدة كذبات على أثر الغفلة أو بعض الظروف الحرجة في الحياة ، وبين من بين كيانه على أساس الكذب والخديعة ونشأ ( كذاباً ). إن الخطر العظيم والداء الوبيل يتوجه نحو الصنف الثاني ، إن هدف التربية الصحيحة هو أن لا ينشأ الأطفال وأن لا يضرب هذا الداء الفتاك بجذوره في أرواحهم.

هذا المسألة التربوية والنفسية تعرضت لها الروايات والاحاديث الإسلامية ويهتم لها العلماء المعاصرون أيضاً ، ولمزيد الاطلاع نعرض على المستمعين الكرام نماذج من كلا الصنفين.

1 - « قال ابن مسعود : قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « لايزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند اللّه كذباً » (1).

2 - عن عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : « قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام) : الكذاب هو الذي يكذب في الشيءٌ قال : لا ، ما من أحد إلا أن يكون ذلك منه ، ولكن المطبوع على الكذب » (2).

3 - عن أبي بصير ، قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : « إن العبد ليكذب حتى يكتب من الكذابين » (3).

الكاذب والكذاب :

يستفاد من هذه الاحاديث الثلاثة أن هناك فرقاً بين الكاذب والكذاب. الكاذب هو الذي تصدر منه كذبة أو كذبات على أثر الغفلة أو الحوادث المختلفة ، وجميع الناس قد يصدر منهم ذلك. أما الكذاب فهو تركز الكذب في مخه ، ونفذ هذا الداء الفتاك الى أعماقه.

ص: 42


1- المحجة البيضاء في إحياء الأحياء ، للفيض الكاشاني ج5ص239.
2- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2ص340.
3- الوسائل للشيخ الحر العاملي ج2ص232.

أما العلماء المعاصرون فإنهم يشيرون إلى هذا المعنى أيضاً في كتبهم ، وها أنا ذا أقرأ لكم عبارة مقتبسة من أحدها.

فن الخديعة :

« وهذا أمر بسيط وطبيعي جداً ، ذلك أن الأطفال يكذبون على أثر الضعف الذي يحسون به في مقابل الكبار دون أن يكون هناك انحراف أو تخطيط أو تفكير سابق. إنهم يكذبون ليصونوا أنفسهم من الحملات المباشرة التي يتنبأون لها ، فإن الكذب والخديعة يستلزمان تخطيطاً سابقاً ، وتفكيرا في تورط الآخرين ، ولا يكفي أن يكذب شخص في مورد ما مترسلا ونحكم عليه بالانحراف ».

« يتكامل علم الكذب ( أو فن الكذب على الأرجح ) بالممارسة والتدرب على الكذب. إذن نستنتج من ذلك أن جهود الوالدين أو القائمين على شؤون التربية يجب أن تنصرف إلى عدم فسح المجال للأطفال في التعلق بالكذب ، ويجب أن لا يكون سلوكنا على نحو يضطرهم الى الالتجاء إلى الكذب ».

« يجب أن نعرف الكاذب الحقيقي أولا ، أي يجب أن نميز بين من يكذب على أثر تطبعه على الحيلة والخديعة ، وبين من يكذب عفواً. إن الكاذب العفوي لأجل أن يتخلص من عقوبة العمل الذي عده ذنباً في نفسه يعمد الى أول كذبة تمر بخاطره وتجري على لسانه إنه لا يفكر في عواقب ذلك ، في حين أن صدقه الذاتي والطبيعي غالباً ما يخونه دون علم منه ... الصوت الفاقد للتطامن ، والوجه المحمر ، والنظرات الزائغة ، كل ذلك علائم تفضح أمر مثل هذا الكاذب ».

« الحقيقة تعلن عن نفسها من خلال الكلمات التي يجريها على لسانه ، إنها تحرق شفتيه ، فلا يستطيع أن يلقي حجاباً ساتراً على الحقيقة التي تفصح عن واقعها. إن من السهولة بمكان أن نستكشف من مثل هذا الشخص أنه لم يصبح كذاباً بعد ، بل يستطيع أن يصنع بعض الكذبات المفضوحة ، غاية ما هناك أنه لكي يتقن هذا العمل ،

ص: 43

ولكي يصبح ماهراً في فن الكذب ، يكفي أن يوضع في محيط فاسد أو يقابل مربيّاً دون مستوى المسؤولية ، لاجل أن ننقذ مثل هذا الطفل من الغرق والوقوع في هذه الهوة السحيقة يجب أن نوجه وجدانه نحو الصدق والشهامة ، وعندئذ لا يستطيع الكذب أن ينشر جذوره في نفسه ولا يصبح داً مزمناً عنده ».

« أما بالنسبة إلى الكذاب الأصيل فالأمر ليس كذلك. هذا الشخص الذي يمتهن التزوير والاحتيال وإن بدأ عمله بكذبات تافهة ومفضوحة لكنه استمر على ذلك فترة طويلة حتى أصبح الآن يكذب بسهولة ، يصور الباطل في لباس من الحقيقة ، وهنا يجب أن نهتم بالأمر. إنه لا يصدر عن الكذب بصورة عفوية بل يفكر ويخطط ويصمم لما يريد إطاراً جميلاً ، يغير في الموضوع كيف يشاء ، ويظهره بالمظهر الذي يريده من جمال أو قبح ، لأنه يعلم أنه إذا ألبس الباطل لباساً جميلاً من التبريرات والاحتيالات كان ذلك عاملاً مساعداً على عدم انفضاح سره » (1).

الكذابون الماهرون :

كان إخوة الصديق يوسف كذابين ماهرين. فإنهم عندما رموا به في البئر جاءوا الى ابيهم يبكون ، يذرفون الدموع الحارة ، وقد حملوا معهم ثوباً ملطخاً بالدم ، وهكذا كانوا قد صمموا للحادثة تصميماً مضبوطاً يخيل للناظر معه أن ذلك هو الحقيقة ، وأن الذئب هو الذي أكل يوسف. هذه الكذبات خطيرة جداً ، ولذلك فإن الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله يستعمل كلمة ( الكذاب ) في حقهم :

« لا تلقنوا الكذاب فتكذَبوا. فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الانسان حتى لقنهم أبوهم » (2).

ان الآباء والأمهات الذين يربون أطفالهم تربية صحيحة ويدربونهم على الصفات

ص: 44


1- ما وفرزندان ما ص 62.
2- سفينة البحار للقمي - مادة كذب - ص 474.

الفاضلة والسجايا الحميدة يستطيعون أن يقفوا أمام الزلات المحتملة لهم بالنصح والارشاد ، وبذلك يمنعونهم من التلوث ببعض الكذبات التي يمكن أن تلوث أذيالهم.

« عن أبي جعفر علیه السلام . قال : كان علي بن الحسين يقول لولده : اتقوا الكذب ، الصغير منه والكبير ، في كل جد وهزل ، فإن الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير » (1).

المحيط التربوي :

4 - من أهم العوامل المؤثرة في تنمية فطرة الصدق عند الأطفال المحيط التربوي الذي يعيشون فيه ، فعندما يكون الوالدان ملتزمين بالصدق بعيدين عن الكذب والاحتيال ، فإن الطفل ينساق تلقائياً إلى طريق الصدق والاستقامة ، ومن السهل جداً إزالة العوائق التي تقف في طريقه من الناحية النفسية.

وعلى العكس من ذلك فإن الوالدين اللذين لا يتورعان عن الكذب يعودان الطفل على هذه الصفة الذميمة من حيث لا يشعران ، في أسرة كهذه يصبح الإهتمام بالظروف والعوامل النفسية للوقاية من الكذب عقيما. إن المحيط التربوي اهم العوامل الصانعة لكيان الطفل ، ولا يمكن مقايسة أي من العوامل النفسية به ، ذلك أن الطفل ينسجم مع المحيط الذي ينشأ فيه بصورة لا شعورية ، وتنطبع في ذهنه صور الأشياء التي يشاهدها أو يسمعها.

« إن محيط الصدق والشهامة المطلقة أهم عوامل الكفاح ضد الكذب. فإذا كانت الاستقامة مسيطرة على جو الأسرة أو المدرسة لم يقترب الطفل من الكذب ، واذا صادف أن جرت كذبة على لسانه فإن التجارب تثبت أن هذه الكذبة لا تصل إلى حد الخيانة والاجرام ولا تبعث بجذورها في قلبه ».

« إن الضمائر الحية لهؤلاء الأحداث تشبه الأعشاب الربيعية في

ص: 45


1- الوسائل للشيخ الحر العاملي ج 3ص232.

النعومة واللطافة ، فلأجل أن تلاقي تنمية مناسبة ومتكافئة يجب أن تبقى في مأمن من هبوب الرياح الشديدة والميول التي قد تدحرها الى الأبد ، ومن المؤسف أن نجد أن هذه الفسائل الغضة كثيراً ما تجابه بالرياح الهوجاء ».

« كثيراً ما يصادف وجود أخاديد واسعة بين أفعالنا ونصائحنا. هناك بون شاسع بين ما يلاحظه الطفل في أفعالنا ويدركه من سلوكنا ، وبين الأوامر والنصائح التي نصدرها في تقبيح عمل معين وذمه! ».

« قد اعتاد الكثيرون على أن يقولوا للأطفال : ( افعل ما أقوله لك! لا تلتفت الى ما أفعل ) في حين أنهم يجهلون أن هذه النصيحة تستتبع مأساة عظيمة ، ان الطفل لا يخضع للنصيحة التي لا يعيرها الوالدان أهمية ما وعلى فرض أنه استطاع أن يتوصل من عمل الكبار الى أن السلوك المفضل للأطفال يختلف عن السلوك المفضل للكبار فإنه سيحطم تلك القيود في أول فرصة يدرك فيها الحرية ، ويخرج على تلك التعاليم التي وجهت اليه في صباه » (1).

ان محيط الأسرةّ هو المدرسة الأولى للطفل ، وإن سلوك الوالدين يمكن أن يصبح مقياساً لازدهار الأسرة أو انحطاطها. ان امرأة أو رجلاً بغض النظر عن عنوان الأمومة أو الأبوة عندما تصدر منه كذبة يكون قد ارتكب معصية كبيرة واستحق بذلك عقوبة. أما عندما يكون هذا الرجل أباً أو عندما تكون المرأة أماً فإن الكذبة الصادرة منه أمام عيني الطفل النافذتين ، وأذنيه الواعيتين لا يمكن أن تعد ذنباً واحداً. ففي هذه الصورة يكون ذنب آخر غير ذنب الكذب قد ارتكب ... ذلك هو ذنب التعويد على الكذب وهذا أعظم بكثير من الذنب الأول.

داء الكذب :

ان الأطفال أمانة اللّه عزّ وجل في أعناق الوالدين ، فهما إن قصرا في أداء واجبهما نحوهم كانا خائنين للأمانة. إن ما لا شك فيه هو أن الكذب احد الأمراض

ص: 46


1- ما وفرزندان ما ص 65.

الإجتماعية الكبيرة ، ومن المؤسف أن أغلب الناس مصابون بهذا الداء الفتاك إن قليلاً أو كثيراً. هذا الخلق الذميم يوجب شقاء الدنيا وعذاب الآخرة. إن جميع الصفات الذميمة تعد أمراضاً نفسية من وجهة نظر العلم والدين ، ولكن الكذب أشدها. ففي وصية أمير المؤمنين علیه السلام لولده الحسن : « وعلة الكذب أقبح علة » (1).

إن الكذب يزلزل الكيان الخلقي والاقتصادي والقانوني في المجتمع. لأن الشخص الكاذب يجعل الناس يسيء بعضهم الظن الى الآخر ، ويسلب الاعتماد منهم. إن الكذب يحرق جذور الفضيلة ويميت الروح الإنسانية، « عن أبي جعفر علیه السلام قال : إن أبي حدثني عن أبيه عن جده ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أقل الناس مروءة من كان كاذباً » (2).

يتصور البعض أحياناً أن الكذب هو الوسيلة الوحيدة للنجاح ، في حين أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يفنّد هذا التصور ويعتبر هذا النوع من النجاح المزعوم فشلاً واخفاقاً. فقد قال صلی اللّه علیه و آله : « إجتنبوا الكذب وان رأيتم فيه النجاة فإن فيه الهلكة » (3).

وفي حديث آخر يقول الإمام موسى بن جعفر علیه السلام لهشام : « يا هشام ، ان العاقل لا يكذب وان كان فيه هواه » (4).

الصدق والنجاة :

ما اكثر الأفراد الذين التزموا الصدق في المواقع الحرجة والمآزق الشديدة وكان ذلك سبب خلاصهم.

لا يجهل أحد مدى الجرائم التي قام بها الحجاج بن يوسف الثقفي والدماء التي أراقها من غير حق. في يوم من الأيام جيء بجماعة من اصحاب عبد الرحمن مأسورين وكان قد صمم على قتلهم جميعاً. فقام أحدهم واستأذن الأمير في الكلام

- إن لي عليك حقاً! فأنقذني وفاء لذلك الحق.

ص: 47


1- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2ص100.
2- المصدر السابق ح2ص100.
3- المصدر السابق ج2ص100.
4- تحف العقول ص 391.

قال الحجاج : وما هوٌ

قال : كان عبد الرحمن يسبّك في بعض الأيام ، فقمت ودافعت عنك.

قال الحجاج : ألك شهود؟

فقام أحد الأسرى وأيّد دعوى ذلك الرجل. فأطلقه الحجاج ، ثم التفت الى الشاهد ، وقال له : ولماذا لم تدافع عني في ذلك المجلس؟!

أجاب الشاهد في أتم الصراحة : لأني كنت أكرهك.

فقال الحجاج : أطلقوا سراحه لصدقه (1).

« وخطب الحجاج ذات مرة فأطال ، فقالم رجل فقال : الصلاة ، فان الوقت لا ينتظرك ، والرب لا يعذرك. فأمر بحبسه ، فأتاه قومه وزعموا أنه مجنون وسألوه أن يخلي سبيله فقال :

- إن أقرّ بالجنون خلّيته.

فقيل له ، فقال : معاذ اللّه ، لا أزعم أن اللّه ابتلاني وقد عافاني ، فبلغ ذلك الحجاج ، فعفا عنه لصدقه » (2).

* * *

وكما أن الصدق يجلب العزة والكرامة ، فإن الكذب يسبب الذلة والصغار لصاحبه. يقول الرسول الأعظم : « إياك والكذب ، فإنه يسود الوجه » (3).

بلغ المنصور الدوانيقي أن مبلغاً ضخماً من أموال بني أمية مودعة عند رجل ، فأمر الربيع باحضاره. يقول الربيع : فأحضرت الرجل وأخدته الى مجلس المنصور. فقال له المنصور : بلغني ان أموال بني أمية مودعة عندك ، فيجب أن تسلمني إياها بأجمعها.

فقال له الرجل : هل الخليفة وارث الأمويين؟!

ص: 48


1- قاموس دهخدا الفارسي - حرف الحاء.
2- المستطرف في كل فن مستظرف للابشيهي ج2ص7.
3- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2ص100.

فأجاب : كلا.

فقال : هل الخليفة وصي الأمويين؟!

فأجاب : كلا.

فقال الرجل : فكيف تطالبني بأموال بني أمية؟!

فأطرق المنصور برهة ثم قال : إن الأمويين ظلموا المسلمين وانتهكوا حقوقهم وغصبوا أموالهم ، وأنا الآن خليفة المسلمين ووليهم ، أريد أن استرد أموال المسلمين وأودعها في بيت المال.

فقال الرجل : إن الأمويين امتلكوا أموالاً كثيرة كانت خاصة بهم وعلى الخليفة أن يقيم شاهداً عدلاً على أن الأموال التي في يدي لبني أمية إنما هي من الأموال التي غصبوها وابتزوها من غير حق.

ففكر المنصور ساعة ، ثم قال للربيع ، ان الرجل يصدق ، فابتسم بوجهه وقال له : ألك حاجة؟!

قال الرجل : لي حاجتان. الأولى : أن تامر بإيصال هذه الرسالة إلى أهلي بأسرع وقت ، حتى يهدأ إضطرابهم ويذهب روعهم. والثانية : أن تأمر بأحضار من أبلغك بهذا الخبر ، فو اللّه لا توجد عندي لبني أمية وديعة أصلاً. وعندما أحضرت بين يدي الخليفة وعلمت بالأمر تصورت أني لو تكلمت بهذه الصورة كان خلاصي أسهل. فأمر المنصور الربيع بإحضار المخبر ، وعندما حضر نظر اليه الرجل نظرة ثم قال : إنه عبدي سرق مني ثلاثة آلاف دينار وهرب. فأغلظ المنصور في الحديث مع الغلام وأيّد الغلام كلام سيده في أتم الخجل وقال : إنّي اختلقت هذه التهمة لأنجو من القبض علي. هنا رق قلب المنصور لحال العبد وطلب من سيده أن يعفو عنه ، فقال الرجل : عفوت عنه وسأعطيه ثلاثة آلاف أخرى.

فتعجب المنصور من كرامة الرجل وعظمته ، وكلما ذكر اسمه كان يقول : لم أر مثل هذا الرجل » (1).

ص: 49


1- ثمرات الأوراق ، لابن حجة الحموي ص 233.

المحاضرة الثامنة عشرة: احترام شخصية الناس - احترام شخصية الطفل

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الحكيم : (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (1).

غريزة حب الذات :

حب الذات من الغرائز الفطرية التي أودعها اللّه تعالى في باطن كل انسان بالقضاء الإلهي الحكيم ، كل فرد يحب نفسه قبل كل شيء وكل شخص ، ولا شيء في نظر الإنسان أغلى وأهم من ذاته.

إن حب الذات أحد الركائز المهمة والأساسية الثابتة في تربية الطفل والمربي الكفء يستطيع أن يستغل هذه الثروة الفطرية استغلالاً طيباً وينمي في الطفل كثيراً من الفضائل والصفات الخيرة في ظل غريزة حب الذات.

هذه الغريزة تشكل قوة عظيمة في مزاج الطفل ، فلو استغلت بصورة معقولة وتبعاً لأساليب صحيحة ، كانت أساس سعادته ، وإن أسيء التصرف فيها عادت عليه بالويل والشقاء.

إن من طرق إرضاء غريزة حب الذات ، تكريم الأطفال والإهتمام بشخصيتهم. ان الطفل الذي يلتقي قدراً كافياً من الاحترام في الأسرة ، وتلبي غريزة حبه للذات بالمقدار المناسب يملك روحاً سليمة ، ولذلك يمكن أن نتوقع من هذا الطفل سلوكاً مفضلاً وأخلاقاً حميدة , وعلى العكس فإن الطفل الذي لا يلاقي احتراماً وتكريماً من والديه ، ولم يلاق استجابة فعليه لهذه الرغبة الطبيعية يحس بالحقارة والذلة في نفسه ، ويملك روحاً مندحرة ونفساً مخفقة ، ومما لا شك فيه أن هذه الحالة النفسية

ص: 50


1- سورة الاسراء ، الآية: 53.

تكشف عن نفسها خلال أقوال الطفل وأفعاله بصورة غير مرضيه ... وطفل كهذا يكون معرضاً لأخطار كثيرة ان احترام الشخصية ليس ركناً من الأركان الأساسية لتربية الطفل في محيط الأسرة فحسب ، بل ان هذا السلوك المفضل يشكل أساساً من أسس النظام الإجمتاعي الصالح ، وهو بعد ذلك واجب ديني مقدس. ولأجل أن يتبين المستمعون الكرام منهج أئمة الإسلام وقادته في احترام شخصية الناس ، نخصص قسماً من بحثنا في هذه المحاضره لهذا الموضوع.

احترام الناس :

كان احترام الناس في جميع الأحيان جزء من النهج الثابت للرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله في معاشراته ، ويمكن أن نقول - ولم نكن في ذلك مبالغين - أن هذا السلوك المفضل كان من أهم عوامل تقدمه ونجاحه. كان الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يهتم بجميع الدقائق النفسية للناس في سبيل احترامهم ، ولم يكن ليتخلى عن أبسط الوظائف ... « كان يكرم من يدخل عليه ، حتى ربما بسط ثوبه ، ويؤثر الداخل بالوسادة التي تحته » (1) وفي هذا مثال فذّ للتواضع واحترام الناس.

ومثال آخر نجده في القصة التالية : « دخل رجل المسجد وهو ( أي النبي ) جالس وحده فتزحزح له. فقال الرجل : في المكان سعة يا رسول اللّه. فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ان حق المسلم على المسلم إذا رآه يريد الجلوس إليه أن يتزحزح له » (2).

« وكان إذا لقيه واحد من أصحابه قام معه ، فلم ينصرف حتى يكون الرجل ينصرف عنه. وإذا لقيه احد من أصحابه يتناول يده ناولها إياه فلم ينزع عنه حتى يكون الرجل هو الذي ينزع عنه » (3) أي انه كان لا يسحب يده من المصافحة حتى يسحب الآخر يده ، وفي ذلك معنى سامٍ من معاني الإسلام العظيمة. « وكان رسول اللّه يقسم لحظاته بين اصحابه ينظر الى ذا وينظر الى ذا بالسوية » (4).

ص: 51


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج6ص151.
2- المصدر السابق ج6ص153.
3- المصدر السابق ج6ص152.
4- روضة الكافي لثقة الإسلام الكليني ص 268.

كما ورد في صفاته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « اإن رسول اللّه لا يدع أحداً يمشي معه إذا كان راكباً حتى يحمله معه ، فإن أبي قال : تقدم أمامي وأدركني في المكان الذي تريد » (1).

غضب الانصار :

كان يصادف في بعض الموارد أن العمل الصادر من النبي صلی اللّه علیه و آله - وان استند الى المصلحة والواقعية - يوجد ردّ فعل غير مرغوب فيه في قلوب بعض الناس ، فكانوا يحملون عمله على قصد الاحتقار والإيذاء. ولذلك فان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يعمد إلى رفع تلك الغشاوة عن أبصارهم يتوضيح اعماق الموضوع وأبعاده مظهراً ما يكنّه لهم من احترام وتقدير.

لقد وزع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) غنائم حنين تبعاً لمصالح معينة على المهاجرين فقط ، ولم يعط الانصار سهماً واحداً .. ولما كان الأنصار قد بذلوا جهوداً عظيمة في رفع لواء الإسلام ، وخدمات جليلة في نصرة هذا الدين فقد غضب بعضهم من هذا التصرف وحملوه على التحقير والاهانة. فبلغ الخبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأمر بأن يجمع الأنصار في مكان ما وأن لا يشترك معهم غيرهم في ذلك المجلس. ثم حضر هو وعلي علیه السلام وجلسا في وسط الأنصار. ثم قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لهم : أريد أن أسألكم عن بعض الأمور فأجيبوني عليها.

قال الأنصار : سل يا رسول اللّه.

قال لهم : ألم تكونوا في ضلال مبين ، وهداكم اللّه بواسطتي؟!

قالوا : نعم يا رسول اللّه.

قال : ألم تكونوا على شفا حفرة من الهلاك والدمار ، واللّه انقذكم بي؟

قالوا : نعم.

قال : ألم يكن بعضكم عدو بعض ، فألّف اللّه بين قلوبكم على يدي؟

قالوا : نعم.

ص: 52


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج6ص153.

فسكت لحظة ، ثم قال لهم : لماذا لا تجيبونني بأعمالكم؟

قالوا : ما نقول؟

قال : أما لو شئتم لقلتم : وأنت قد كنت جئتنا طريداً فآويناك ، وجئتنا خائفاً فآمنّاك ، وجئتنا مكذَّباً فصدقناك ...

هذه الكلمات الصادرة من الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله أفهمت الأنصار أنه لا ينكر فضلهم ولا ينسى جهودهم ، ولم يكن ما صدر منه تجاههم صادراً عن احتقار أو إهانة ... ولذلك فقد أثر فيهم هذا الكلام تأثيراً بالغاً وارتفعت أصواتهم بالبكاء. ثم قالوا له : هذه اموالنا بين يديك ، فإن شئت فاقسمها على قومك. وبهذا أظهروا ندمهم على غضبهم واستغفروه. فقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : اللّهم اغفر للأنصار ، ولأبناء الأنصار ، ولأبناء أبناء الأنصار (1).

رعاية العواطف :

من هذا الحديث ندرك مدى اهتمام قادة الاسلام برعاية عواطف الناس ، وعدم جرح شعورهم. وفي حديث آخر مشابه : أتى النبي بشيء فقسمه ، فلم يسع أهل الصفة جميعاً ، فخص به أناساً منهم. فخاف رسول اللّه أن يكون قد دخل قلوب الآخرين شيء. فخرج اليهم فقال : معذرة إلى اللّه عزّ وجل واليكم. يا اهل الصفة إنا أوتينا بشيء فأردنا أن نقسمه بينكم فلم يسعكم فخصصت به أناساً منكم خشينا جزعهم وهلعهم (2).

لقد كان احترام الناس وتكريمهم مهماً في نظر الرسول الأكرم الى درجة أنه كان يحاسب كل من يتخلف عن أداء هذا الواجب المقدس. ففي إحدى الغزوات كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يصلي في معسكره فمّر بالمسكر عدة رجال من المسلمين فتوقفوا لحظة وسألوا بعض الصحابة عن حال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ودعوا له ، ثم اعتذروا من عدم تمكنهم من انتظار النبي حتى يفرغ من الصلاة فيسلموا عليه لأنهم كانوا على أمر

ص: 53


1- الإرشاد للشيخ المفيد ص 67.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج6ص160.

عاجل ومضوا الى سبيلهم « فانفتل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مغضباً ، ثم قال لهم : يقف عليكم الركب ويسائلونكم عني ويبغلوني السلام ولا تعرضون عليه الغذاء؟ » (1) ثم أخذ يتحدث عن جعفر الطيّار وعظمة نفسه وكمال ادبه واحترامه للآخرين ...

آداب الصحبة :

ليست فضيلة احترام الناس وتكريمهم في الشريعة الإسلامية الغراء خاصة بالمسلمين فيما بينهم ، فإن غير المسلمين أيضاً كانوا ينالون هذا الاحترام والتكريم من المسلمين ، فقد تصاحب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مع رجل ذمي خارج الكوفة في أيام حكومته. وكان الذمي لا يعرف الإمام فقال له : أين تريد يا عبداللّه؟

قال الإمام علي علیه السلام : أريد الكوفة!

ثم وصلا إلى مفترق طريقين فتوجه الذمي الى الطريق الذي يريده وانفصل عن الإمام علیه السلام ... ولكنه لم يكن قد خطا اكثر من بضع خطوات حتى شاهد أمراً غريباً ، فقد رأى رفيقه الذي كان قاصداً الكوفة ترك طريقه وأخذ يتبعه.

فسأله : ألست تقصد الكوفة؟

قال الإمام : نعم.

قال : ذلك الطريق هو الذي يؤدي الى الكوفة.

قال الإمام : اعلم ذلك.

فسأل الذمي باستغراب : ولماذا تركت طريقك؟

فقال له الإمام علیه السلام : هذا من تمام حسن الصحبة أن يشيع الرجل صاحبه هنيهة إذا فارقه. وكذلك أمرنا نبينا.

فقال : هكذا أمركم نبيكم؟

قال : نعم.

فقال الذمي : لا جرم أنما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة.

ص: 54


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج6ص159.

ثم ترك طريقه الذي كان يقصده وتوجه مع الإمام علیه السلام إلى الكوفة وأخذا يتحدثان عن الإسلام وتعاليمه العظيمة فأسلم الرجل (1).

سلوك قادة الإسلام :

إن سلوك قادة الإسلام مع الناس واحترامهم لهم ، أحد العوامل المهمة في تقدم هذا الدين العظيم وانتشاره. وعلى المسلمين أيضاً أن يلتزموا بواجب احترام الناس في أحاديثهم وسلوكهم وأن لا يصدر منهم ما يوجب تحقير الآخرين. وفي ذلك يقول القرآن الكريم : (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (2).

عن الإمام عن الإمام الباقر علیه السلام في تفسير هذه الآية : « قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم » (3) وكما أن الرجل منا يستاء للكلمات السيئة والمستهجنة الصادرة من الآخرين أيضاً. « كان أبو جعفر علیه السلام يقول : عظموا أصحابكم ووقروهم ، ولا يهجم بعضكم على بعض » (4).

وبهذا الصدد يقول الإمام الصادق علیه السلام : « من أتاه أخوه المسلم فاكرمه فإنما أكرم اللّه عزّ وجل » (5).

وفي الحديث الشريف ، قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « من أكرم اخاه المسلم بكلمة يلطفه بها وفرج عنه كربته لم يزل في ظل اللّه المدود عليه الرحمة ما كان في ذلك » (6).

كما ورد النهي¨ عن تحقير الناس في كثير من الروايات كقوله (عليه السلام) : « لا تحقرن أحداً من المسلمين فإن صغيرهم عند اللّه كبير » (7).

ص: 55


1- سفينة البحار للقمي - مادة خلق ص 416.
2- سورة الاسراء : 53.
3- الوسائل للحر العاملي ج4ص93.
4- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2ص173.
5- الوسائل للحر العاملي ج4ص97.
6- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج16 : 84.
7- مجموعة ورام 1ص31.

هذه نبذة يسيرة من تعاليم الإسلام القيمة بشأن احترام شخصية الناس وتكريمهم نكتفي بها ، لننتقل بعد ذلك الى مسألتنا الأساسية وهي احترام شخصية الطفل.

احياء شخصية الطفل :

إن سلوك جميع أفراد البشر وأساليب معاشرتهم مع الناس إنما هو خلاصة للأساليب التربوية التي اتخذت معهم في دور الطفولة من قبل الآباء أو الأمهات في الأسرة أو من قبل المعلمين في المدرسة. فكل خير أو شر لقنوه إياهم في أيام الطفولة يظهر على سلوكهم عند الكبر وعندما يصبحون أعضاء في هذا المجتمع الانساني الكبير وبعبارة أخرى فإن الوضع الروحي والخلقي والسلوكي للناس في كل عصر إنما هو حصيلة البذور التربوية التي نثرت في أدمغتهم أيام الطفولة.

الشخصية وحرية الأرادة والاعتماد على النفس .. وكذلك الحقارة ، والإعتماد على الغير ، والخسة ، صفات تصب ركائزهم في حجر الأم وحضن الأب. فعلى الآباء والأمهات الذين يرغبون في تنشئة اطفال ذوي شخصية أن يهتموا بذلك منذ الأدوار الأولى من حياتهم وينموا هذا الخصلة الطيبة في نفوسهم منذ البداية. ان الطفل الذي نشأ في الأسرة على الخسة والحقارة ، ولم يعامله أبواه معاملة انسان ، ولم يعترفا به كعضو محترم من أعضاء الأسرة لا يستطيع في الكبر أن يبدي الاستقلال في تصرفاته والرصانة في شخصيته. انه لا يرى نفسه كفؤاً للاضطلاع بالمسؤوليات التي تلقى على عاتقه ، ولا يرى لنفسه شخصية أصلاً ، أنه موجود شقي نشأ على الخسة منذ البداية ، ومن الصعب جداً أن تستأصل جذور ذلك من كيانه.

إن التربية الصحيحة وتنمية الصفات الفاضلة عند الطفل تتوفر في ظل الأساليبت العلمية والتطبيقية الصحيحة فقط ، على الوالدين أن يستوعبا ذلك ، وأن يتابعا حركات الطفل خطوة خطوة ، محاولين تطبيق تلك الأساليب عليه. أما الأسر التي تهمل هذا الجانب فإنها تعجز عن أن تقوم بتربية صالحة لأطفالها.

ص: 56

التكامل النفسي للطفل :

« ليس التكامل النفسي والعصبي للطفل أمراً يحدث بالصدفة ، يل انه يحصل وفقاً لقواعد معينة ، ويجب أن لا نتهاون في مقاومة اندحار احد القوى النفسية التي تقوم كيانه ، بل يجب أن نعتبر النقص العصبي والنفسي الحادث عنده مرضا فنخضعه الى رقابة خاصة. ان الطفل يتعلم منذ الصغر كيف يستخدم جهازه العصبي ، وان الرضيع ليس إلا مجموعة من الانعكاسات ، ثم يأخذ في المشي بالتدريج ، يتكلم ، يدرك ، يقفز ، ويحصل على معلومات سمعية وبصرية ، وفي هذه الحالة يمكن أن يقال : انه قد تولد واقعاً ».

« كثير من الآباء والأمهات يتركون أطفالهم لوحدهم بمجرد أن يجدوهم قد اصبحوا قادرين على المشي والتكلم فيكون الطفل في هذه الصورة كساعة مكوّكة تسمع دقاتها ولكنها لا تملك عقارب » (1).

ان إيجاد الشخصية والاعتماد على النفس عند الطفل من الواجبات التربوية للآباء والامهات وظهور هذه الحالة النفسية عند الأطفال يسير وفق منهج منظم ، بحيث لو طُبق بصورة صحيحة أدى إلى نتائج مرضية ، ونشأ الطفل ذا شخصية فذة ، أما اهماله فإنه يؤدي إلى تعود الطفل على الخسة والحقارة.

كما إن احترام الطفل وحسن معاشرة الوالدين معه من أهم العوامل الأساسية لبناء الشخصية الرصينة. ان نبي الإسلام العظيم يوضح هذا المنهج الضخم بعبارة قصيرة ويأمر الناس باتباعه فيقول : « اكرموا أولادكم واحسنوا آدابكم » (2).

إن احترام الطفل وتكريمه ، أو إهانته وتحقيره لا يختص بأسلوب معين ، بل ان الوالدين يستطيعان أن يحترما أطفالهما بطرق مختلفة ، كما يقدران على اهانتهما

ص: 57


1- چه ميدانيم؟ تربية اطفال دشوار ص 65.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج23ص114.

بصورة متعددة. وهنا لا بأس بالتعرض الى بعض الأساليب والصور التي بها يحترم الطفل أو يهان ، مع بيان النتائج المفيدة أو المضرة التي تترتب على ذلك.

الطفل إنسان واقعي :

إن الشرط الأول للتربية الصحيحة وتنمية الشخصية والاستقلال عند الطفل أن يعرف الوالدان حقيقة طفلهما ولا يتجاهلا قيمته الواقعية ... أن يعتقدا بأن طفلهما ليس شاة أو دجاجة تحتاج الى الطعام واللعب والنوم ... إنه إنسان صغير ، إنسان واقعي ولكنه ضعيف ، إنسان حقيقي يملك من الذخائر الفطرية ما يجب أن تبرز من يجب أن تبرز من عالم القوة إلى حيز الطفل.

« يحس الطفل طيلة أدوار نموه بالحقارة في قبال والديه وجميع الناس. هذا الاحساس في جميع شؤون الطفل وليد عدم القدرة الأولية للأعضاء وعدم الاطمئنان به وفقدانه للاستقلال ، وكذلك ينتج على أثر الإحتياج الى الغير ، والاعتماد على شيء أقوى منه ، والخضوع لسيطرة المحيط. وهذا الاحساس بالحقارة هو الذي يوجد في الطفل نشاطاً دائماً ، واحتياجاً الى الانشغال ، والإهتمام يلعب دور بارز في الحياة. انه يسير في حالة ضخمة من الآمال والآماني المستقبلة والاستعداد الجسمي والعقلاني لتحقيقها ، وان الرغبة في التفوق على الآخرين هي التي تدفعه إلى أن يثبت لنفسه شخصية ، فيقلل بذلك من حدة الحقارة المستولية عليه » (1).

الرشد المعنوي للطفل :

إن الآباء والأمهات الذين يفسحون المجال في الأسرة للاطفال كي يمارسوا نشاطاتهم الفطرية ، ولا يسخرون منهم في الأفعال التي تصدر منهم ولا يحاولون تحقيرهم أبداً ، يتوفقون الى الرشد المعنوي بسرعة وينالون شخصية كاملة. وعلى العكس ، فإن الآباء والأمهات المستبدين في الأسرة الذين يسلكون تجاه اطفالهم

ص: 58


1- چه ميدانيم تربيت اطفال دشوار ص 16.

بالشدة والحدة ويملأون جو الأسرة رعباً وهلعاً يكتبون القابليات والاستعدادات الباطنية للأطفال ويمنعون من الرشد الطبيعي لهم فينشأون وهم فاقدون للشخصية.

إن أحد اسباب الاحساس بالحقارة عند الأطفال هو المظاهر الشديدة لقدرة ( الكبار ) وضغطهم. لا شيء يطفىء جذوة الرغبة في التعالي والتكامل والاعتماد على النفس عند الطفل مثل الاهانة والتحقير الذي يلاقيه في قبال الضغط والشدة ، خصوصاً عندما يؤكد الوالدان شدتهما بعبارة ( انك لا تستطيع القيام بهذا العمل ) ... ( لا تحاول عبثاً ) ، ومما يزيد في الطين بلة أنهما لا يكتفيان بذلك بل يبعثان السأم والملل في نفس الطفل بعبارات من أمثال ( لماذا تريد أن تفعل هذا أيها الأحمق ... ألا ترى أنك لا تستطيع ذلك؟! ). من النادر جداً أن لا يوجد سلوك كهذا عقدة الاحساس بالحقارة في الأطفال. وقد يكون وجود أب متزمت ومتنفذ كافياً في أن يقف حاجزاً دون ظهور الصفات الفاضلة في نفس الطفل » (1).

وإذا عدنا الى الحديث الذي سبق شرحه في المحاضرة السابقة ، وجدنا أن الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله يقول : « ولا يرهقه ولا يخرق به » ... أي لا يقول له : أنت سفيه ، حقير ، بليد ، أبله ، كذاب لأن كل واحدة من هذه الكلمات تحمل من أمارات الاهانة والتحقير تجاه الطفل ما يكفي للوقوف أمام تكامل قواه المعنوية.

غريزة اللعب عند الطفل :

من الميول التي أودعها اللّه تعالى في باطن الأطفال : الرغبة في اللعب. إن الطفل يميل الى اللعب بفطرته ، فتارة يجري وقفز ، وأخرى ينظم ويقفز ، وأخرى ينظم لُعَبه ودُماه. هذه الأعمال التي تبدو للنظرة البسيطة تافهة وعابثة هي أساس تكامل جسد الطفل وروحه. ان اللعب يبعث القوة في عضلاته والمتانة في عظامه ،

ص: 59


1- ما وفرزندان ما ص 57.

كما انه ينمي فيه القدرة على الابتكار ويخرج قابلياته الكامنة الى حيز الفعل. وهكذا فاللعب يشغل شطراً كبيراً من حياة الأطفال ولم يفت الأئمة المعصومين أمر التنبيه على هذه النقطة. فعن الإمام الصادق علیه السلام : « الغلام يلعب سبع سنين ، ويتعلم الكتاب سبع سنين ، ويتعلم الحلال والحرام سبع سنين (1). وعنه ايضاً : دع ابنك يلعب سبع سنين » (2).

اللعب وحس الابتكار :

من فوائد اللعب تدريب الطفل على الاستقلال في الارادة ، واحياء حس الابتكار فيه. عندما يحفر الطفل على كومة من التراب بئراً ، أو يبني غرفة صغيرة فإن قواه العقلية تعمل كما يعمل المهندس المعمار فيتلذذ لنجاحه وعندما يلاقي بعض الموانع في عمله فتنهدم البئر أو تنهار الغرفة ، يحاول تدارك ذلك بالبحث عن علاج فوري ... هذه النشاطات تساعد على الرشد الفكري وتكامل الشخصية عند الطفل ، فإذا سخر الأب أو الأم منه ، ونسبوا أفعاله الى العبث والسفه كان في ذلك اهانة وتحقير له ، وكبت لمواهبه وقابلياته.

« إذا حاول الأطفال رسم برنامج خاص لهم في أعمالهم فلا تمنعوهم من ذلك ، لأن مواصلة تطبيق خطة مرسومة دون وقوف العوائق في طريق ذلك عامل فعال في تكوين الشخصية عندهم ».

« لا يلتزم الكبار في الأفعال الاعتيادية اليومية التي يؤدونها بنظام معين ، في حين أن الأطفال يميلون - على العكس من الكبار - إلى أن يسيروا حسب خطة معينة ولكن هل اننا ندعهم احراراً في تنفيذ خططهم؟! كلا. إذا كان الأطفال يلعبون فإننا نمنعهم عن اللعب لنصحبهم معنا الى النزهة ، وإذا كان الطفل يملأ سطلا من الرمل ، أو يلبس العروسة بدلة فإننا نأخذ بيده الى ان يأتي ويسلم على الضيف ».

ص: 60


1- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج6ص47.
2- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج6ص47.

« هذه الأمور تدعو الطفل الى أن يعتقد بأن حقارة خاصة تكتنفه مما تجعله دون مستوى الآخرين ، وعندئذ يدرك الطفل أن جميع أفعاله فاقدة للمعنى ، وأنه موجود تافه ، وفي مثل هذه الحالة كيف تستطيعون أن تلقنوا هذا الموجود الصغير معاني المسؤولية والاعتماد على النفس؟! » (1).

لا تغفلوا عن كلام النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حيث يقول : « اكرموا أولادكم » ولا تنسوا قوله : « ولا يرقه ولا يخرق به ».

ارشاد الطفل :

لا ريب في أن الطفل يحتاج لمعرفة الخير والشر إلى إرشاد أبويه. فعليهما أن يعلماه موارد الخير ويحثاه على العمل به ، ويبصراه بالشر ويحذراه منه. ان مجموعة الأوامر والنواهي الصادرة من الوالدين الى أطفالهما تمثل تنفيذاً لواجب تربوي مقدس ، ولكن يجب أن لا يغيب عن البال أن هذه الأوامر والنواهي يجب أن لا تتجاوز الحد المعقول ولا تصل الى حد الاهانة وجرح شعور الطفل الذي يؤدي بدوره الى نتيجة عكسية.

هناك بعض الآباء يتدخلون في سلوك أطفالهم بدرجة كبيرة ، ظناً منهم بأنهم يحسنون تربيتهم بذلك ، فيتجاوزون بأوامرهم نواهيهم الحد المعقول ، ويسببون الجزع والملل لهم ولأطفالهم ، في حين أن الطفل يزداد انحرافاً يوماً بعد آخر.

إذا كان للطفل سلوك غير محبّذ فعلى الوالدين أن يرشداه الى الطريق الصحيح بأسلوب هادىء لا يصيب شخصيته باهانة او تحقير. ذلك أن الاكثار من توبيخ الطفل وتوجيه اللوم والتقريع نحوه والاصرار على هذا العمل المقترن بالاهانة وتحطيم الشخصية ، لا ينتج النتيجة المطلوبة من اصلاح الطفل فحسب ، بل يؤدي الى اصراره وعناده والاستمرار في افعاله الفاسدة رغم أنف والديه وفي هذا يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : « الإفراط في الملامة يشبُّ نيران اللجاج » (2).

ص: 61


1- ما وفرزندان ما ص 56.
2- تحف العقول ص 84.

عناد الطفل :

الوالدان يحاولان من وراء اللوم والتقريع المتواصلين أن يمنعا الطفل من ارتكاب العمل الذي قام به ، ويريدان أن يحطما شخصيته وإرادته ، ويحملا إرادتهما عليه. أما الطفل فلا يقف مكتوف اليدين ، ولذلك فلأجل أن لا يكون قد اندحر في الميدان تماماً ، يصمم على مقاومة أبويه فيثبت شخصيته بالاستمرار في العمل الفاسد الذي كان قد ارتكبه.

« إذا كان سلوك الطفل فاسداً وشريراً بصورة خاصة فيجب اتباع المعارضة يقابل بالفشل ، لأن كل حاجز يحث الإنسان لي اجتيازه. إن ألف ( لاتفعل ) ولا تفعل الصادرة من الوالدين تفتح أمام الطفل عالماً من ( الممكنات ). إن الطفل يفكر في نفسه قائلا : ( يجب أن لا أفعل هذا؟ إذن أستطيع أن أفعله ، والآن أقدر عليه أيضاً ) فسلوك كهذا يوجد في الطفل على ما يكون سبباً في قيامه بذلك العمل. علينا أن نرشده الى ما ينبغي أن يؤديه ، أن لا نجرح عواطفه ، ولكن لا يعني هذا ان نتركه وشأنه. يجب في هذا السبيل أن نعيّن له ميولاً اخرى تحل محل الميول السابقة ، نوجهه نحو اهداف مفيدة ومساعدة على ظهور شخصيته » (1).

الطغيان الناشيء من التحقير :

إن الآباء والأمهات الذين يسيئون الى أطفالهم بسوء إدراكهم ويحطمون شخصيتهم يدفعونهم الى المخالفة والطغيان والفوضى ويبذرون في نفوسهم بذور العناد والخروج على القواعد الإجتماعية ... وهذا ما يجرّ وراءه سلسلة من المآسي والمشاكل ، وبهذا الصدد يقول الإمام الحسن العسكري علیه السلام : « جرأة الولد على والده في صغره ، تدعو الى العقوق في كبره » (2).

ص: 62


1- چه ميدانيم؟ اطفال دشوار ص 77.
2- تحف العقول ص 489.

الآباء والأمهات الذين يحترمون اطفالهم ، ويكبرون فيهم معنوياتهم ، ويسايرونهم بالأخلاق الكريمة والآداب الفاضلة يستطيعون أن يربوهم على صفات الحميدة ، وإذا صادف أن ظهر في سلوكهم ما يؤدي الى الإنحراف فإن من السهل عليهم أن يكافحوا ذلك.

الطفل كالكبار في أنه يحب ذاته ، فعندما يفهم أن العمل الفاسد يسيء. ويحطم شخصيته ، ويقلل من منزلته في أنظار الناس ، ويؤدي إلى احتقاره في محيط الأسرة ، يترك ذلك فوراً حفظاً على مقامه ويقوم باصلاح نفسه بصورة تلقائية. يقول الامام أمير المؤمنين علیه السلام : « من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته » (1) وعنه علیه السلام أيضاً : « من شرفت نفسه نزهها عن ذلة المطالب » (2) :

وبهذا المضمون وردت روايات كثيرة ، منها :

« عن علي علیه السلام : من كرمت عليه نفسه لم يهنها بالمعصية » (3).

وعن الإمام علي بن الحسين علیهماالسلام : « من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا » (4).

شرف النفس والاستقامة :

يستفاد من هذه الأحاديث أن شرف النفس لا يتلاءم مع الإنحرافات والمعاصي. ان من يحس في نفسه بالكرامة والشرف ، ويرغب في الحفاظ على هذه الجوهرة الثمينة في خزانه روحه بصورة دائمة لا يحوم حول الذنب والانحراف أبداً. إن من يرغب في أن تكون له شخصية لا معه وسمعة طيبة يجب أن يمتنع عن الكذب ، ومن يحب في أن يتلمس آثار الشرف والعدالة والاستقامة في نفسه لا يستطيع أن يرتشي ، ومن عرف في المجتمع بالأمانة ويرغب في الإبقاء على ذلك لا يقوم على الخيانة.

أما من لا يملك شرف النفس وحسن السمعة ، ويعتبر تافهاً في نظر المجتمع ،

ص: 63


1- سفينة البحار للقمي - مادة شها ، ص 726.
2- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 669.
3- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 677.
4- تحف العقول ص 278.

ويحس بالحقارة في نفسه أيضاً. ويكون خطراً على المجتمع الذي يعيش فيه فلا يتورع عن الإجرام والتلوث بالنذوب والمعاصي.

قال أمير المؤمنين علیه السلام : « من هانت عليه نفسه فلا ترجُ خيره » (1).

وعن الإمام علي الهادي علیه السلام : « من هانت عليه نفسه فلا تأمن شره » (2).

وفي حديث عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : « هانت عليه نفسه من أمّر عليه لسانَه » (3) فالشخص الذي يطلق العنان للسانه بالسب والشتم والغيبة والفحش في القول يكشف عن حقارة نفسه وخسة طبعه.

لكي يؤدي الوالدان الدين التربوي الذي في عاتقهما تجاه الطفل ، ويربّياه على الرغبة في الخير من دون ضغط أو تهديد ، ويوجد فيه شخصية متكاملة ، عليهما أن يحترماه ويسلكا معه بحيث يفهم أنه عضو مستقل في الأسرة وله من الأحترام والتكريم ما للآخرين.

« يكفي للمربين وللأولياء أن يحترموا هذا العالم المعقد والمبهم ( أي الطفل ) ولا يحكموا على عالمه المعقد بشيء. يجب عليهم أن يدفعوا الطفل الى النشاط والعمل بمحركاته لا بواسطة محركاتهم ، وبهذه الطريقة يستطيعون أن يوجدوا جوا التفاهم ويبذروا فيه بذور الاعتماد على النفس والاستقلال ».

« لا نعني من هذا أن للطفل أن يمارس ما يشاء من رغبات وميول غير مناسبة. ولكن عندما يدرك الطفل أنهم فهموه وعرفوا حقيقته فلا يسيء التصرف الى قابلياته ، انه يدرك حدوده وحدودنا. انكم قد علمتموه القواعد والآداب والعادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية. أنه يحس بأن هذه الآداب والقواعد تسهل ارتباطه بالمحيط الذي يعيش فيه دون الاضرار بحريته إذن فهو ينقاد لها بكل

ص: 64


1- غرر الحكم ودرر الكلم لللآمدي ص 712.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج17ص214.
3- نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص 1079.

رغبة وارتياح. ان احترمتموه فهو يستمر على إحترامكم أيضاً ».

« إذا وجد أنكم لا تسخرون منه عندما يصارحكم بأفكاره ويتباحث معكم بشأنها ، ولا تعترضون عليه في كل آن ، فلا يملك دليلاً على تخلفه ومن النادر أن يخرج على تعاليمكم ».

« ولأجل هذا النظام فإنه يحترم الآخرين ويجعل نفسه محترماً في نظر الآخرين وتكون له روابط طيبة مع كل أحد. لأنه يعطي كل شخص حقه حتى يستطيع أن يطالب بحقه » (1).

إن الآباء والامهات الذين يتذكرون كلام رسول اللّه دائماً حيث يقول : « اكرموا أولادكم ، واحسنوا آدابكم » ويطبقونه في كل حين ، يستطيعون تربية أطفال شرفاء ذوي شخصية ، وتدريبهم على الصفات الفاضلة والسلوك المحبذ.

تحقير الطفل :

يجب أن نعترف - بكل أسف - بما يجري في بلادنا تجاه الأطفال من التحقير على خلاف تعالي الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله . فإن اكثر الآباء لا يهتمون برعاية احترام أطفالهم ، ويوجدون في نفوسهم عقدة الحقارة من حيث يعلمون أو لا يعلمون. وعلى سبيل المثال أذكر لكم بعض النماذج التي شاهدتها من قريب ، وربما لاحظها السادة الحاضرون أيضاً.

1 - من المتداول في الحفلات والمجالس أن تبعث بطاقات للكبار فقط. بعض الآباء يصحبون معهم أولادهم الذين في السن الثامنة أو العاشرة - وهؤلاء يملكون نفوساً حساسة - من دون دعوة ، وبهذا العمل فإنهم يلقنونهم الذلة والحقارة ، ويفهمونهم بصورة غير مباشرة أنهم لا يليقون للدعوة. لا بد أنكم لاحظتم ما يحدثه إرسال صاحب البيت بطاقة خاصة للصبي الذي يملك من العمر عشر سنين من أثر عظيم في روح الطفل ، فيحضر الحفلة بعزة وفخار ، شاعراً بالاستقلال والاحترام!

2 - عندما يجلس الكبار على المائدة يوضع أمام كل منهم صحن وملعقة

ص: 65


1- چه ميدانيم؟ تربيت اطفال دشوار ص 71.

وشوكة. وقد لاحظت مراراً أن الأطفال لم تخصص لهم صحون ، فيأخذون بالنظر الى حولهم بانكسار الى أن يرق قلب الأب أو أحد الحاضرين فيفرغ للصبي صحن الخضروات الصغير ويناوله إياه. إن هذا تحقير صريح للطفل أمام ذلك الجمع الكبير ، وهو ضربة قاصمة ترد على شخصيته وربما تلازمه مدى العمر.

3 - يحين وقت النوم ، فيخصص لكل من الضيوف الكبار سرير خاص أو فراش معين ، ويبقى الصبي الصغير حائراً دون أن يفكر في امره أحد ، كأنهم لم يعتبروه إنساناً ولم يخصصوا له سريراً ، وأخيراً يلجأ مع الإحساس بالفشل والإنهيار الى فراش أبيه أو أحد أقربائه!

4 - الأب جالس مع الضيوف في غرفة الاستقبال وهم يتحدثون. يدخل الصبي في العاشرة الى الغرفة يقوم الضيوف احتراماً له ، من المناسب في هذه الحالة ان يسكت الأب حتي يقوم الصبي نفسه بتوجيه الشكر لهم ، أو أنه اذا لم يستطع ذلك يقول له الأب : تشكّر من السادة ويقول هو : أشكركم. لقد شاهدت مراراً أنه بمجرد أن يحترم الضيوف الصبي ، يظهر الأب خجله من ذلك فيقول لهم وكأن عملا سيئاً قد وقع : استريحوا ، تفضلوا ، وبهذا العمل يستسغ التحقير لولده ... وهنا يحس الصبي بأن أباه يريد أن يقول للضيوف : إن ابني لا يليق بالاحترام والتكريم ، لا تعتنوا به ولا تقوموا له.

5 - كثيراً ما يشاهد أن الآباء لا يحجزون في بعض السفرات القصيرة مقاعد لأطفالهم لغرض الاقتصاد في الصرف. فيقف الطفل طول الطريق ، وعندما يتعب يجلس في حجر الأب. هنا يحس الطفل بأنه لا يملك من المنزلة والاحترام ما يستوجب أن يحجز له مقعد خاص حتى يجلس كالآخرين. خصوصاً إذا كان هناك طفل في سنه قد حجز له أبوه مقعداً ، إن الأب يحاول أن يقتصد بعض الشيء ولكنه يوجه ضربة قاصمة نحو شخصية الطفل ويهينه بعمله هذا.

رد الفعل :

قد يظهر الطفل أمام هذه الاهانات رد فعل فوري ، فيغضب ، أو يتحسر ويتألم ،

ص: 66

أو يبكي ، وقد يتفاقم ذلك فيظهر بصورة أعمال استفزازية منكرة. ان تكرار الأعمال التي تتضمن التحقير والاهانة يوجد في ضمير عقدة نفسية ، ويجعله إنساناً تافهاً ، ويقتل فيه قابلية الاعتماد على النفس واستقلال الشخصية وتلازمه ويلات ذلك كله مدى العمر.

يستفاد من بحوث علماء الغرب أن بعض الأسر الأوروبية أيضاً لا تهتهم باحترام الاطفال وتقوم بتحقيرهم مما يجعل الأطفال المساكين يئنون من ذلك ويتألمون من الإهانات التي يلاقونها.

« الإحساس بالحقارة - كلنا نعرف رجالاً ونساءً يعيشون في حالة من عقدة الحقارة. ان عدد هؤلاء ضخم جداً ، وان 90 بالمائة من عوامل هذه الحالة النفسية يجب أن نبحث عنها في أدوار الطفولة. وعلى هذا الأحساس تظهر حالة من انهيار شخصية الطفل في الوقت الذي تبدأ غرائزه الاجتماعية بالتفتح. إن من الممكن أن تعمل عوامل أخرى على تقوية هذه الاحساس لكن نشوءه يرجع الى دور الطفولة بلا شك ».

« تصوروا أما ترى طفلها يرفع أصيصاً جميلاً من مكانه فتتصور أن الأصيص ربما يكسر بهذا العمل فتتألم لذلك ، ولأجل أن لا يحدث مثل هذا الموضوع الخطير في نظرها في المستقبل تمنع الطفل من لمس ذلك الأصيص ، في حين أن المربية تلمس الأصيص الظريف بكل حرية ، وإذا صادف أن أحد الضيوف كسره عن غير عمد تحاول الأم أن تعلن بكلمات براقة وعبارات ظريفة أن أمراً مهماً لم يقع وأن الأصيص لا يساوي شيئاً , هذا الحادث المخفق يوصل الطفل إلى هذه النتيجة وهي أنه وحده الموجود الخطر الذي يخشى منه على الأصيص وسائر الأثاث ، إذن فهو موجود أحقر وأحط من الآخرين » (1).

ص: 67


1- ما وفرزندان ما ص 56.

الشعور بالاستقلال :

تبين لكم مما تقدم معنى إحترام الطفل ونتائجه المفيدة في المنهج التربوي ، والآثار السيئة التي تنشأ من إهانة الطفل وتحقيره. ان احترام الطفل يجعله ينشأ على الاستقلال والاعتماد على النفس ، وزرع فيه بذور الشخصية والتعالي.

لقد عمل أئمة الإسلام بالاضافة الى تفهيم الناس بالأساليب التربوية الصحيحة ، على تطبيق ذلك وتعليمهم إياها بصورة عملية ، فقاموا بتربية أولادهم وفقاً لاحسن الصفات الفاضلة. ولأجل إيضاح الموضوع وإكمال البحث لا بأس باستعراض بعض الأساليب العملية للرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله والأئمة علیهم السلام في إحياء شخصية الأطفال. تربّى علي بن أبي طالب علیه السلام منذ الصغر في حجر النبي العطوف واستوعب جميع الصفات الفاضلة والسجايا الحميدة من قائد الإسلام العظيم ، وان حياته النيرة وسلوكه العظيم أحسن شاهد على حسن تربيته في دور الطفولة.

تربّى علي بن أبي طالب علیه السلام مهنذ الصغر في حجر النبي العطوي واستوعب جميع الصفات الفاضلة السجايا الحميدة من قائد الإسلام العظيم ، وان حياته النيرة وسلوكه العظيم أحسن شاهد على حسن تربيته في دور الطفولة.

ومن الصفات البارزة للإمام علي علیه السلام رصانة شخصيته ، واستقلال ارادته. والرغم من أن علياً علیه السلام لم يكن طفلاً عادياً من حيث الروح والجسد - فقد كانت مواهب وقابليات خاصة أودعت في كيانه الممتاز - لكن الاشراف المباشر من الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله كان له اكبر الأثر في إبراز تلك المواهب والقابليات.

عندما بعث النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان علي (عليه السلام) صبياً لا يتجاوز العاشرة ولكنه كان يملك شخصية انسان كامل. لقد عرض الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الإسلام عليه ودعاه الى اعتناق هذا الدين السماوي فأكد على كفاءته وعظمة شخصيته بهذا العمل المهم. وما كان من علي علیه السلام إلا أن يستجيب لدعوة النبي عن بصيرة وإيمان ووعي.

إن الصعوبات والمشاكل التي نوجه الرجال في حياتهم غالباً ما تحطم شخصيتهم ، فيخسرون المعركة ويصابون بعقدة الحقارة ... في حين أن العواصف الشديدة التي هددت كيان الإسلام في الفترة التي سبقت الهجرة وبعثت الذعر.

ص: 68

والقلق في نفوس المسلمين لم تستطع أن تزحزح من عزم الإمام علي بن أبي طالب ذلك القائد العظيم ، ولم تقدر على أن تؤثر فيه قيد شعرة.

هذا الثبات ، وهذه الاستقامة - بغض النظر عن الاستعداد الفطري للإمام علیه السلام - يرجع الى التربية الفذة التي لقيها من مربيه العظيم الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله ، الذي قوّى من شخصيته ومنحه الكثير من علمه وحكمته وسيرته.

وكذلك الحسن والحسين علیهماالسلام فإنهما تلقيّا تربية ناجحة ، ونالا جميع الكمالات في الصغر على يد جدهما العظيم وأبويهما القديرين. حتى لقد قال المأمون العباسي عنهما أمام ملأ من رجاله : « وبايع الحسن والحسين علیهماالسلام ، وهما ابنا دون الست سنين ، ولم يبايع صبياً غيرهما » (1) فمبايعة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للحسنين علیهماالسلام وهما لم يبلغا الست سنين دليل على أنهما حازا على مواهب عالية وتربية فذة ، فاستطاعا بذلك أن ينالا هذه المرتبة العظيمة.

ومن خلال الحديث التالي نتبيّن عظمة شخصية أبناء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « زيد بن علي ، عن أبيه : ان الحسين بن علي علیهماالسلام أتى عمر ثم قال : صدقت يا بُني ، منبر أبيك لا منبر أبي. وقام علي (عليه السلام) وقال : ما هو واللّه عن رأيي. قال : صدقت ، واللّه ما اتهمتك يا أبا الحسن » (2) فخذت دليل على أن عمر أيضاً كان يعرف أن الحسين ذو شخصية ممتازة وله إرادة مستقلة وليس كلامه هذا صادراً عن تلقين من أبيه بل هو نتاج فكره.

هذا وان الإمام أمير المؤمنين علیه السلام كان يسأل أولاده بحضور من الناس بعض المسائل العلمية ، وربما كان يحيل الجواب على أسئلة الناس اليهم. ومن النتائج المهمة لهذا العمل ، احترام الأولاد وإحياء الشخصية فيهم.

وفي يوم من الأيام سأل الإمام علیه السلام من الحسن والحسين بعض الأسئلة ، فأجاب كل منهما أجوبة حكمية بعبارات قصيرة ... « ثم التفت الى الحارث الأعور فقال : يا حارث علموا هذه الحكم أولادكم فإنها زيادة في العقل والحزم

ص: 69


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج12ص119.
2- مجموعة ورام ج2ص88.

والرأي » (1) ... إن الأب الذي يسلك مع أولاده هذا السلوك الممتاز ويجعل الكلمات الصادرة منهم قدوة لبقية أولاد المجتمع يكون قد احترمهم بأحسن صورة وأحيي فيهم الشخصية الفذة الكاملة.

هناك نموذج فذ للشخصية الرصينة نجده في الحوار التالي بين الإمام محمد الجواد علیه السلام والمأمون العباسي. ذلك أن المأمون قصد بغداد بعد وفاة الإمام الرضا علیه السلام ، وخرج يوماً للصيد فمرّ في أثناء الطريق برهط من الأطفال يلعبون ، ومحمد بن علي واقف معهم وكان عمره يومئذ إحدى عشرة سنة فما حولها ... فلما رآه الأطفال فروا ، بينما وقف الجواد علیه السلام في مكانه ولم يفر. هذا الأمر اثار تعجب المأمون فسأله :

- لماذا لم تلحق بالأطفال حين هربوا.

فقال له : يا أمير المؤمنين ، لم يكن بالطريق ضيقٌ لأوسّعه عليك بذهابي ، ولم يكن لي جريمة فأخشاها ، وظني بك حسنٌ ، أنك لا تضر من لا ذنب له فوقفت.

لقد تعجب المأمون من هذه الكلمات الحكمية والمنطق الموزون والنبرات المتزنة للطفل. فسأله : ما أسمك؟

قال محمد.

قال : محمد ابن من؟

قال : ابن علي الرضا ... عند ذاك ترحم المأمون على الرضا علیه السلام ثم ذهب لشأنه (2).

لقد تربى الإمام الجواد علیه السلام في حجر والده الرضا (عليه السلام) وتعلّم دروس الشخصية والفضيلة من مربيّة العظيم.

وهكذا شأن بنات أهل البيت ونساءهم فقد كانوا على جانب عظيم من التربية الفاضلة والسلوك الممتاز ... تلقوا ذلك كله من آبائهم وأمهاتهم الطاهرين. لقد

ص: 70


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج17ص144.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج12ص122.

عملت الحوادث والمآسي التي جرت على أهل البيت علیهم السلام بعد وفاة الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله ، على إظهار عظمتهم ورصانة شخصيتهم ومستواهم المعنوي وتفوقهم الروحي من خلال افعالهم وأقوالهم. ان خطب الصديقة الزهراء في مسجد رسول اللّه بحضور الخليفة والحشد الغفير من المهاجرين والانصار ، وكذلك كلمات بضعتها الحوراء زينب ، وخطب السيدة سكينة بنت الحسين علیه السلام أصدق شاهد على ما قلنا ، فهي توضح عظمة منزلة نساء أهل البيت.

ولكي يقوي الوالدان من معنوية الأطفال ويحييا شخصياتهم ، عليهما أن يعوداهم على الاحترام والتكريم ويحذرا من توجيه اللوم والتقريع والاهانة اليهم ويتذكرا قولة الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله : « اكرموا أولادكم وأحسنوا آدابكم ».

ص: 71

المحاضرة التاسعة عشرة: الإسلام وتكريم الطفل

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الحكيم : («قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) (1).

لقد توصلنا في المحاضرة السابقة الى النتيجة التالية ، وهي أن الأطفال لو قوبلوا بالتكريم والاحترام من الوالدين في محيط الأسرة فلا ينشأون حقراء أذلاء ، ولا يحسون في أنفسهم بالخسة والضعة. وفي هذه المحاضرة نبدأ من حيث انتهينا أمس لبحث تتمة الموضوع ، وقبل ذلك لا بأس بذكر أمرين :

الأطفال المعقدون :

الأول : أن بحثنا التربوي هذا يدور حول الأطفال العاديين لا المعقدين أو الأطفال المصابين بالجنون والبلادة الموروثة. وبعبارة أوضح فإن بعض الأطفال يتولدون مجانين أو حمقى ويكون لهذه النقيصة الوراثية جذور عميقة في كيانهم ، وهؤلاء يستحيل أن يصبحوا عقلاء أو أذكياء في يوم ما ، وليس في مقدور المربي القدير أن يحولهم إلى أفراد أكفاء.

كما أن هناك أطفالاً ليسوا بالمجانين ولكن سلوكهم ليس عادياً ، انهم مشاغبون وفوضويون ، هؤلاء عليهم اسم الأطفال المعقدين في البحوث التربوية.

« ان عنوان الأطفال المعقدين يشتمل على معان كثيرة في الحقيقة. فهو يطلق بالدرجة الأولى على الأطفال المشاغبين أي الصبيان الذين تنظر اليهم التربية المعاصرة نظرة التحقير والاستغراب. هؤلاء الأطفال يتسببون في كثير من المفاسد والتخريبات بواسطة القوى

ص: 72


1- سورة الاسراء ، الآية: 84.

التي يستخدمونها للوصول الى مقاصدهم » (1).

هناك عوامل عديدة تفسر بموجبها هذه الحركات الشاذة للاطفال ، فيجب أن تعرف معرفة دقيقة حتى يتسنى العمل على إزالتها. في بعض الأحيان يكون الدافع إلى الأعمال الشاذة والحركات الضارة للطفل المعقد وجود العاهات أو النقائص العضوية أو التشويهات في بدنه ، في هذه الحالة يكون الطفل مريضاً فهو بحاجة الى علاج.

« كما ان الطفل المريض لا يُرسل الى المدرسة ، كذلك يجب أن لا نخضع الطفل الذي ليس سليما من الناحية الفسيولوجية الى تربية جديدة. كل طفل معقد يجب أن يخضع قبل تربيته ، أو إعادة تربيته ، إلى فحص دقيق. وفائدة هذا العمل أن جهود المربى لا تصرف عندئذ في سبيل تربية طفل يحتاج إلى رعاية صحية أو روحية فقط ».

« فمثلا تعتبر التربية بوحدها عقيمة في فحص حالات الحقد التي ترتبط بداء الصرع. والسرقات الحاصلة في دور المراهقة والتي تحصل على أثر الإختلالات لحادثة في الغدة النخاعية ، وأعمال الشغب الناشئة من تخلف النمو العصبي ، وحالات العصاب المتصلة بآثار الالتهابات الدماغية ، والكسل الذي يولد من قلة إفرازات الغدد الثايرويدية ، والإخلالات الحاصلة من ثلة من الأمراض الروحية الموروثة » (2).

هؤلاء الأطفال يجب أن يخضعوا لأساليب تربوية خاصة من قبل المتخصصين في التربية النفسية والعلاج الروحي والعصبي ، وان المناهج التربوية الاعتيادية لا تعود عليهم بالنفع أو الاثر أصلا.

إن بحثنا يختص بتربية الأطفال الإعتياديين والطبيعيين ، الأطفال المتولدين من آباء وأمهات أصحّاء في ظروف طبيعية. ذلك أن استعمال الأساليب التربوية في حق هؤلاء يتضمن فوائد عظيمة

ص: 73


1- چه ميدانيم؟ تربيت اطفال دشوار ص 9.
2- چه ميدانيم؟ تربيت اطفال دشوار ص 17.

وآثاراً مهمة. فإذا تنبه الآباء والأمهات في هذه الحالة إلى المسؤولية العظيمة الملقاة على عواتقهم واهتموا بإيجاد جو مناسب للتربية الصالحة في الأسرة والتموا الصدق في الحديث والإستقامة في السلوك مع أطفالهم ، وطبقوا المناهج التربوية في كل خطوة ومرحلة ، فإنهم يستطيعون تربية أطفال مهذبين وأكفاء من كل جهة ، ويكونون بذلك قد نفذوا الأوامر الإلهية وأدوا ما عليهم تجاه أطفالهم تجاه المجتمع الذي يعيشون بين ظهرانيه.

أهمية تربية الطفل :

الثاني : ان مسألة تربية الطفل تشغل مكانة مرموقة من المسائل الإجتماعية في العصر الحديث ، فهي من أهم أركان السعادة البشرية. لقد بحث العلماء كثيراً حول مختلف الجوانب النفسية والتربوية للطفل وألفوا الكتب العديدة في هذا ا لمجال. ولذلك فإن الدول العظمى تنشىء المؤسسات والمنظمات العظيمة لغرض تنشئة الطفل تنشئة سليمة من حيث الروح والجسد فيخضعون الأطفال في سبيل ذلك الى رقابة عملية وتطبيقية مشددة. وبصورة موجزة فإن ( الطفل ) يشغل مجالاً مهماً من مجالات التفكير الحديث.

أما الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله فقد ظهر قبل أربعة عشر قرناً ، وفي عصر يعمه الجهل والضلال ، في المجتمع الحجازي المتأخر ... وأخذ يبدي اهتماماً بالغاً إلى قيمة تربية الطفل ، وبدأ يرشد أتباعه إلى التعاليم اللازمة في هذا الصدد. لقد عالج الإسلام جميع القضايا التي ترتبط بالعلاقة الزوجية ، وشروط الرجل والمرأة من حيث طهارة النسل المنحدر عنهما ، وكذلك شروط الرضاع ، وتنشئة الطفل خطوة خطوة.

هناك حقائق نفسية وتربوية كثيرة حول منهج تربية الطفل يذكرها العلماء المعاصرون في كتبهم وأبحاثهم في حين سبقهم الى التصريح بها أئمة الإسلام وقادة المسلمين علیهم السلام في القرون الماضية. وما أكثر المسائل العلمية التي ذكرها أئمتنا علیهم السلام حول تربية الطفل وسائر الموضوعات ولكنها لم تصل إليها لصعوبة التدوين والكتابة! إن الهدف من تربية الطفل في هذه المحاضرات أمران : الأمر الأول أن يدرك

ص: 74

المستمعون الكرام - والطبقة المثقفة منهم بالخصوص - إلى عظمة التعاليم الإسلامية ومدى شمولها لمختلف جوانب الحياة ، ويطلعوا على القيمة العلمية لهذه الحقائق فيتبعوها بإيمان أعمق واعتقاد أقوى. والأمر الثاني هو أن يتنبه أولياء أمور الأطفال إلى المسؤولية الدينية والوطنية الخطيرة الملقاة على عواتقهم بالنسبة الى تربية الصبيان المودعين بأيديهم ، ويقوموا بواجبهم هذا خير قيام.

مما لا ريب فيه أن شطراً كبيراً من المأسي والمشاكل الإجتماعية وجانباً مهماً من الانحرافات الخلقية لشبابنا يعود الى سقم الأساليب التربوية المتبعة بحقهم في أيام الطفولة ، ولسوء التربية في الأسرة جذور مختلفة بحسب المستوى الذي يبلغه الآباء والأمهات من حيث التكامل الروحي أو الانحطاط المعنوي.

مضار التربية الفاسدة :

يتميز بعض الآباء والأمهات بكونهم فاسدين وذوي أخلاق سيئة ، فهؤلاء لا يربون أولادهم إلا على الفساد والإنحراف ، لأن الأطفال يتعلمون دروس الإنحراف وسوء الخلق من آبائهم وأمهاتهم فينشأون على ذلك السلوك المتطرف ، ومن البديهي أن هذا السلوك لا يعكس في المجتمع إلا آثاراً فاسدة.

كما يتميز بعض الآباء والأمهات بأنهم يصرفون جل اهتمامهم إلى ضمان الغذاء واللباس والمأوى لأطفالهم ، ولعدم توفر النضج العقلي الكافي فيهم فإنهم يهملون الجوانب التربوية والخلقية للطفل ، وحتى لو حاولوا أن يقوموا بهذا الواجب العظيم فإنهم لا يعلمون ماذا يفعلون؟ وماذا يقولون؟ وكيف يرشدون الطفل؟ لأنهم لم يفكروا يوماً ما في أمر استيعاب المناهجٍ التربوية الصالحة ولم يحاولوا أن يفهموا واجبهم في هذا المجال.

تهاون بعض الآباء :

أما طائفة أخرى من الآباء والأمهات فهم يعرفون معنى التربية الخلقية والتنشئة الروحية للطفل إلى درجة ما ، ويعرفون السبل الى تحقيق ذلك ولكنهم يتهربون عن واجبهم بصورة عملية ، ولا يجدون مسؤولية ما على عواتقهم في هذا المجال. وكأن هؤلاء يتصورون أن النمو النفسي للطفل يخضع للحوادث الفجائية وللصدقة فيتركونه

ص: 75

بيد الأقدار توجهه كيفما تشاء مهملين واجبهم المقدس ... في حين أنه لا يمضي وقت طويل حتى يجني الآباء الثمار السيئة لذلك الإهمال والتهاون. هؤلاء الأطفال يخضعون لتأثير العوامل الهدامة والمضللة بسرعة لأنهم يفقدون الشخصية الخلقية المستقلة ولا يملكون القوة النفسية التامة ، فينحرفون عن الصراط المستقيم ، ويقدمون على مختلف أنواعب الجرائم والمعاصي ، والوزر في ذلك كله يعود على الوالدين.

إن دور الطولة يحتل الأهمية العظمى في تقرير أساس الحياة. وإن السلوك المفضل أو الفاسد للأفراد يعود إلى الأساليب التربوية الصالحة أو الفاسدة المتخذة في حقهم ، إن الفرد يسير طيلة أيام عمره على طبق الخلقيات الخاصة به ، وان أساس ا لخلقيات ينشأ في أدوار بالطفولة. وبهذا الصدد يذكر القرآن الكريم : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) وشاكلته : أي خلقه وطبيعته. إذن فالآية الكريمة تصرح بأن أفعال كل فرد وأقواله إنما تسير حسب خلقه وطبيعته التي نشأ عليها.

« إن الحقيقة التي تتضح يوماً بعد يوم هي أن للإدراكات الحاصلة في دور الطفولة والحوادث والتجارب الواقعة في تلك الفترة تأثيراً قاطعاً على حياة الإنسان ، إذ نستطيع القول بصراحة بأن هذه الإدراكات والتجارب تعتبر الأساس لسلامة الأفراد وسقمهم ، وسعادتهم وشقائهم طيلة أيام العمر ».

« إن الطفل يصنع في الأعوام الأولى من حياته سدى حياته ولحمتها ، وبمجرد أنه يترك المهد ويأخذ في المشي يكون قد تقرر ما ينبغي أن يقع وما لا ينبغي ».

« تصب ركائز مشاعر الطفل وأحاسيسه من أولى أيام الرضاع ، أي أن العالم الخارجي إما أن يبدو أمراً منسجماً وباعثاً على الأمل في نظره ، أو أنه يفهم منذ ذلك اليوم أنه عبارة عن مجموعة من اليأس والعذاب. إما أن يفهم منذ البداية أنه يجب التغلب على المحيط الخارجي بالبكاء والعويل ، أو يذعن بأن هناك من يفهم وضعه بصورة جيدة ويهيء له العوامل المساعدة. هذه الحقائق وحقائق

ص: 76

أخرى تترك أثراً كبيراً على تفكير الطفل الرضيع ، بحيث تلازم شخصيته طيلة أيام الطفولة والمراهقة والشيخوخة » (1).

إننا نأمل أن يهتم الآباء والأمهات المسلمون بأداء واجباتهم في سبيل تربية أطفالهم ، ويستمدوا العون من اللّه العلي القدير في الوصول الى هذا الهدف المقدس. أما بحثنا هذا اليوم : -

احياء شخصية الطفل :

لقد ذكرنا في المحاضرة السابقة أن تكوين شخصية الطفل من الفصول الأساسية في التربية ، ولكي ينشأ الأطفال على الاستقلال ، ويعتادوا الإعتماد على النفس ، ولا يصابوا بالحقارة والضعة ، يجب على الآباء والأمهات أن يهتموا بهذا الأمر اهتماماً بالغاً منذ الطفولة فيحاولوا أن ينموا مقومات الشخصية في أفلاذ اكبادهم بحديثهم وسلوكهم ، يجب عليهم أن يسلكوا معهم بصورة يعتقد الأطفال معها أنهم ذوو شخصية مستقلة وأنهم أعضاء حقيقيون في الأسرة. إن من أسلم الطرق وأفضلها في احياء شخصية الطفل احترامه والامتناع عن تحقيره وإهانته وقد صرح بهذا الموضوع في الحديث الذي ذكرناه ضمن المحاضرة السابقة حيث يقول النبي صلی اللّه علیه و آله : « اكرموا أولادكم ». وقد أشار العلماء المعاصرون في الكتب النفسية والتربوية الى هذين الأمرين ، أعني : احترام الطفل ، وعدم تحقيره.

« على الوالدين أن يسعيا للنفوذ إلى أعماق قلب طفلهما حتى يرى المسائل بالشكل الذي يريانه. قد يسمع الأطفال أن حديثاً يدور حولهم ، وأن الحديث يتناول ذمهم وذكر معايبهم ، وتأويل سذاجتهم الى شيء من البلادة والحمق ... عند ذاك يدركون أن الكبار يحتقرونهم ، ويوجهون اللوم والتقريع نحوهم دون أن يفهموا روحياتهم ، في حين أن هؤلاء الأطفال الأبرياء لا يعلمون السبب في توبيخهم وتأنيبهم. أو أنهم يجبرون على سلوك معين في حين يجهلون العلة الصحيحة والمنطقية لذلك ... بهذه الصورة ينفصل

ص: 77


1- عقده حقارت ص 9.

عالمهم عن عالم الكبار في حين أنهم توصلوا تلقائياً الى هذه النتيجة ، وهي أن الكبار موجودات تختلف عنهم ، وان عليهم أن يتسلحوا بالسلاح الكافي للدفاع عن حقوقهم تجاههم ».

« يجب عليهم أن يحاولوا أن لا ترتفع اصواتهم مع الأطفال اكثر مما هو الحال عند الحديث مع زميل أو صديق لهم. أما الإرشادات فعندما تصبح ضرورية يجب أن تساق بالهدوء واللين بحيث لا يتوجد حاجزاً بينهم وبين الأطفال ، أو تؤدي إلى نفورة وحقد.

فإذا سار السلوك مع الأطفال على هذا النحو نشأوا ذوي شخصية ممتازة ، واعتادوا على الاعتماد على النفس ».

« يجب إفهام الطفل بأنه عضو فعال في الأسرة ، وأن عليه مسؤولية معينة يجب أن يلتزمها ويقوم بأدائها » (1).

مشاعر الطفل الرضيع :

ان النكتة الجديرة بالإهتمام من قبل أولياء الأطفال هي أن ركائز شخصية الطفل تصب في وقت مبكر جداً. فمنذ الأسابيع الأولى ، ومن حين الرضاع ... حيث الطفل يعيش في المهد ، تبدأ مشاعر الطفل بالعمل وفي حين أنه لا يتكلم ، ولا يستطيع المشي ، ولا يقدر على قبض شيء بأصابعه الضعيفة ، وبعبارة موجزة لا يعدو أن يكون قطعة من اللحم المتحرك القابع في زاوية ، لكنه يتأثر بالحدة والغلظة ، أو اللين والحنان ، وتنعكس في روحه النتائج الطيبة أو السيئة لأفعال الآخرين.

على الوالدين أن يدركا الطفل منذ ذلك الحين ، ويقوما بواجباتهما التربوية في سبيل تنمية روحه وإحياء شخصيته.

« تنفذ المربي إلى انسجة الطفل وأعصابه وروحه كما ينفذ الماء في الأرض الرملية. يجب على المربي أن يتجنب الإهتمام اإلى بعض العوامل فقط ، ذلك أن العوامل الخلقية مثلاً لا تقل أهمية عن العوامل الكيمياوية والفسيولوجية في ضمان قابلية العضلات على

ص: 78


1- ما وفرزندان ما ص 31.

المقاومة ، وان التكامل النفسي لا يمكن بدون الاستعانة بجميع عوامل النمو الأخرى. إذ المهم أن هذه العوامل يجب أن تستأثر بإهتمام المربي بصورة مستمرة ، وفي الواقع فإنه يجب تطبيقها منذ اليوم الثاني من الولادة ».

« ولهذا فإن الأم يجب أن تكون أعرف بميكانيكية تربية الطفل وطريقة استعمالها من المعلم. ان الطفل يدرك بسهولة أن بعض الأفعال لا يرتاح لها الأب أو الأم ، وان مدح الآخرين أو تأنيبهم يؤثر فيه تأثيراً كبيراً » (1).

أسلوب النبي في تربية الطفل :

لقد عمل الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله ، مضافاً إلى توصية أتباعه الإهتمام بتربية الأطفال وبذل العناية البالغة بإحياء الشخصية فيهم ، على تطبيق جميع النكات والقائق اللازمة بالنسبة إلى أولاده ، فقد بعث فيهم الشخصية الكاملة منذ الصغر. لقد كان صلی اللّه علیه و آله يراقب أطفاله منذ الأيام الأولى للولادة ، فالرضاع ، فالأدوار الأخرى خطوة خطوة ، ويرشدهم إلى الفضائل العليا والقيم المثلى ، يحترمهم ويكرمهم حسب ما يليق بهم من درجة تكاملهم الروحي. وأهم من ذلك أنه كان لا يقصر اختمامه على اطفاله فقط ، بل كان يهتم بتربية أطفال الآخرين أيضاً ، فقد كان - في الواقع - مربياً عظيماً وأباً عطوفاً لأطفال المسلمين أيضاً ، وكان يسعى لاحياء الشخصية الفاضلة فيهم قدر المستطاع وعلى سبيل الشاهد نذكر نماذج من سلوكه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تربية أولاده وأولاد المسلمين أيضاً.

روي عن أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب - مرضعة الحسين علیه السلام - قالت : « أخذ مني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حسيناً أيام رضاعه فحمله ، فأراق ماءً على ثوبه ، فأخذته بعنف حتى بكى. فقال صلی اللّه علیه و آله : مهلاً يا أم الفضل ، إن هذه الاراقة الماءُ يطهرها ، فأي شيء يزيل هذا الغبار عن قلب الحسين؟ » (2).

ص: 79


1- راه ورسم زندكى ، تأليف : الكسيس كارل ، ترجمة : برويز دبيري ص 168.
2- هدية الأحباب ص 176.

إن مرضعة الحسين علیه السلام ترى في البلل الذي احدثه على ثوب جده - شأنه في ذلك شأن سائر الأطفال - عملاً منافياً ، ولذلك فهي تأخذه من يد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعنف في حين أن ذلك يخالف سلوك النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع الأطفال ، ومع فلذة كبده الحسين بصورة خاصة.

فالطفل الرضيع يدر العطف والحنان ، كما يدرك الحدة والغلظة بالرغم من ضعف روحه وجسده ، ولذلك فهو يرتاح للحنان ويتألم من الغلظة والخشونة. ان الآثار التي تتركها خشونة المربي في قلب الطفل وخيمة جداً بحيث أنها تؤدي إلى تحقيره وتحطيم شخصيته ، وإن إزالة هذه الحالة النفسية من الصعوبة بمكان. ولذلك فإن الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول لمرضعة الحسين (عليه السلام) : إن ثوبي يطهره الماء ، ولكن أي شيء يزيل غبار الكدر وعقدة الحقارة من قلب ولدي؟

الرسول الأعظم وأطفال الناس :

هذه الرعاية التربوية نفسها كانت تنال أطفال المسلمين بصورة عامة فقد كان ينبه الآباء إلى واجباتهم في الحالات المناسبة. فقد جاء في الحديث.

« وكان صلی اللّه علیه و آله يؤتى بالصبي الصغير ليدعو له بالبركة أو ليسميّه. فيأخذه فيضعه في حجره تكرمة لأهله. فربما بال الصبي عليه فيصيح بعض من رآه حين بال. فيقول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لا تزرموا بالصبي فيدعه حتى يقضي بوله ، ثم يفرغ من دعائه أو تسميته. فيبلغ سرور أهله فيه ، ولا يرون أنه يتأذى ببول صبيهم ، فإذا انصرفوا غسل ثوبه » (1).

في هذا الحديث ثلاث نقاط جديرة بالملاحظة :

الأولى - أن الرسول الأعظم كان يستغل جميع الأساليب والوسائل لاحترام المسلمين وتكريمهم ، ومن ذلك احتضان أطفالهم الرضع بكل حنان وعطف ومعاملتهم بالشفقة ، فأحد أهداف النبي في عمله هذا هو تكريم أولياء الأطفال كما ورد التصريح بذلك في الحديث ... « تكرمة لأهله ».

الثانية - ان الطفل يبول طبقاً لحاجته الطبيعية وأداءً لعمل فطري ، ولا يدرك في

ص: 80


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج6ص153.

عمله هذا استحسان المجتمع أو استياءه. ولذلك فإن الرسول صلی اللّه علیه و آله يقول : لا تغلظوا معه ولا تمنعوه من التبول ، دعوه حراً. ولا شك في أن إجبار الطفل على إمساك ما تبقى من بوله يخالف القواعد الصحية.

الثالثة - إن خشونة الوالدين وغلظتهما تؤدي الى تحقير الطفل وإيذاءه وإن الإنهيار النفسي للطفل يؤدي إلى نتائج سيئة طيلة أيام العمر. فعلى الراغبين في تنشئة أطفالهم بصورة صحيحة أن يحذروا من إثارة غبار التألم والإستياء في الضمير الباطن لهم.

الرسول الأعظم والحسن علیه السلام :

يتجلى مدى اهتمام الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله بتكريم أولاده من الرواية التالية. يقول الراوي : « دعي النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى صلاة والحسن متعلق به ، فوضعه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مقابل جنبه وصلى. فلما سجد أطال السجود ، فرفعت رأسي من بين القوم فإذا الحسن على كتف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فلما سلم قال له القوم : يا رسول ، لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها ، كأنما يوحى إليك. فقال : لم يوح إلي ، ولكن ابني كان على كتفي ، فكرهت أن اعجله حتى نزل » (1).

هذا العمل من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تجاه ولد الصغير أمام ملأ من الناس نموذج بارز من سلوكه في تكريم الطفل. ان الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عمل أقصى ما يمكن من احترام الطفل.

لقد كان أطفال الناس أيضاً يحوزون احتراماً وتكريماً من قائد الإسلام العظيم ، وكان يبذل لهم من العناية بمشاعرهم الروحية وعواطفهم ما يبذله لأولاده. فعن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال : « صلّى رسول اللّه عليه وآله بالناس الظهر فخفف في الركعتين الأخيرتين. فلما انصرف قال له الناس : هل حدث في الصلاة حدثٌ؟ قال : وما ذاك ٌ قالوا : خفّفت في الركعتين الأخيرتين. فقال لهم : أما سمعتم صراخ الصبي؟! » (2).

ص: 81


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج10ص82.
2- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج6ص48.

وهكذا نجد النبي العظيم يطيل في سجدته تكريماً للطفل تارة ، ويخفّف في صلاته تكريماً للطفل أيضاً تارة أخرى ، وهو في كلتا الصورتين يريد التأكيد في احترام شخصية الصبي وتعليم المسلمين طريق ذلك.

ومثل هذا نجده في الحديث الآتي : « عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنه كان جالساً ، فأقبل الحسن والحسين. فلما رآهما النبي قام لهما ، واستبطأ بلوغهما إليه فاستقبلهما وحملهما على كتفيه ، وقال : نعم المطيّ مطيّكما ، ونعم الراكبان انتما » (1).

في هذا الحديث نجد أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يكرم سبطيه بشتى الصور : يقوم لهما ، وينتظرهما ، ويستقبلهما ، ويجلسهما على كتفيه ، هذا من الناحية العملية ، وأما قولا فهو يقول في حقهما : نعم الراكبان أنتما. إن ما يجلب الانتباه هو أن المسلمين في الغالب ، ولهذا الأمر فائدتان : الأولى ان جذور شخصية السبطين كانت تقوى وتستحكم بفضل احترام النبي لهما أمام الناس ، والثانية أن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يعلم الناس طريق تربية الأطفال بصورة تطبيقية. لقد كان أطفال المسلمين أيضاً متمتعين بهذا الأحترام والعطف من النبي أيضاً.

« كان صلی اللّه علیه و آله يقدم من السفر ، فيتلقاه الصبيان فيقف لهم ، ثم يأمر بهم فيرفعون إليه فيرفع منهم بين يديه ومن خلفه ، ويأمر أصحابه أن يحملوا بعضهم. فربما يتفاخر الصبيان بعد ذلك ، فيقول بعضهم لبعض : حملني رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين يديه ، وحملك أنت وراءه ، ويقول بعضهم : أمر أصحابه أن يحملوك وراءهم » (2).

مما سبق يظهر حالياً أن الأطفال كانوا يتمتعون بهذه المناظرة السارة ، وكانوا يفرحون كثيراً لهذا السلوك الممتاز فلا ينسون تلك الخواطر الطيبة ، بل كانوا يتحدثون عنها فيما بعد ويتفاخرون بتقدم رتبة بعضهم على بعض بمقدار تكريم النبي لهم.

ص: 82


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ح10ص80.
2- المحجة البيضاء في إحياء الإحياء للفيض الكاشاني ج3ص366.

يقولون : ان الأطفال يستأثرون باهتمام العصر الحاضر ، وان تربيتهم تشغل مجالاً واسعاً من تفكير الحكومة والشعب. أفهل يمكن أن يبلغ اهتمامهم بالأطفال ، الدرجة التي بلغها اهتمام الرسول الأعظم بهم وتكريمه لهم؟!

يقولون : ان الزعماء والقادة في الدولة المتدنة يزورون رياض الأطفال ودور الأيتام ويقضون ساعة أو ساعتين مع الأطفال ، فيحتضنونهم ويلتقطون صور معهم ثم ينشرونها في الصحف ويكتبون المقالات المطولة حول ذلك ومن هذا الطريق يفهمون الرأي العام بمدى عطفهم واحترامهم تجاه الأطفال من استقبالهم على أتم البساطة والعطف في الطرق والشوارع وحملهم على كتفه؟!

وبصورة أساسية فإن الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يعامل جميع الأطفال سواء كانوا أبناءه أو أبناء غيره بالشفقة والعطف والحنان. وقد جاء في الحديث : « والتلطف بالصبيان من عادة الرسول » (1).

إرضاء حب الذات عند الأطفال :

لقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يهدف معاملة الأطفال بالعطف والحنان بغض النظر عن إرشاد الناس بصورة تطبيقية إلى كيفية تربية الأطفال ، إلى غرضين لامعين :

الأول : تنشئة الأطفال على الإستقلال والإعتماد على النفس ، فإن أعظم ثروة لقائد حكومة قانونية وحرة وجود شعب حر وقوي الشخصية.

الثاني : إن عطف النبي صلی اللّه علیه و آله كان يؤدي إلى تشديد أواصر الحب والاخلاص بينه وبين الأطفال فيرسخ حبه في قلوبهم وينشأون منذ البداية محبين لقائدهم العظيم. فقد ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال : « جبُلت القلوب على حب من نفعها وبغض من ضرها » (2). وعنه أيضاً : « طبعت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها » (3).

ندرك من هذا أن احترام الناس أحسن الوسائل لإرضاء غريزة حب الذات فيهم.

ص: 83


1- المصدر السابق.
2- وسائل الشيعة للحر العاملي ج4ص74.
3- وسائل الشيعة للحر العاملي ج4ص74.

الصغار والكبار. الرجال والنساء ، كلهم يتلذذون من احترامهم ويحبون من يحترمهم. كما أن القادة يستطيعون النفوذ الى قلوب الشعب عن طريق احترامهم ، وفي ذلك أعظم الأثر في حملهم على الطاعة والانقياد وإذا كان الطفل يقابل بالاحترام في محيط الأسرة فإن خروجه على أوامر الوالدين سيكون أقل. كما أن تحقير الناس من أهم أسباب إثارة الفتنة والعداوة. يقول الإمام الرضا علیه السلام : « وأجمل معاشرتك مع الصغير والكبير » (1).

وعن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « أجملوا في الخطاب تسمعوا جميل الجواب » (2).

« لا يوجد في العالم غير وسيلة واحدة يمكن بواسطتها إجبار شخص على القيام بعمل. هل فكرتم في هذه الوسيلة قط؟ وسيلة واحدة فقط وهي عبارة عن إيجاد الرغبة فيه للقيام بالعمل ».

« إنك تستطيع أن تعترض عابراً في طريقه وتشهر عليه المسدس قائلاً له : انزع ساعتك وأعطني إياها! كما تستطيع أن تدفع العامل الى العمل بواسطة إنذاره بالطرد ... ولكن هذا كله ما لم تول ظهرك عنه. تستطيع أن تجبر طفلاً على الإنقياد لأوامرك بالسوط ، ولكن هذه الأساليب المؤلمة تتضمن نتائج وخيمة ».

« يرى الفيلسوف الحاذق ( جون ديوي ) أن أهم الحوافز في النفس الإنسانية ( حب الحيازة على الاهمية ) ... تذكروا هذا دائماً : ( حب أن يكون مهماً ) فهناك عالم عظيم منطو في هذه اللفظة ».

« ان التاريخ ملىء بالشواهد والأمثلة عن أ؛وال رجال عظماء كانوا يسعون لإظهار أهميتهم. لقد كان جورج واشنطن يرغب في أن يدعي بإسم ( سيادة رئيس جمهورية الولايات المتحدة ). وكان كريستوف كلمبس يرغب في تسميته بإسم ( بطل المحيطات ووصي

ص: 84


1- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ح2ص67.
2- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 139.

الهند ). لقد لوحظ أن بعض الأشخاص يتمارضون لكي يكسبوا عطف من حولهم اكثر وبهذا الأسلوب يدركون ما لهم من الأهمية بصورة واضحة » (1).

بذر الفضائل في نفس الطفل :

إن المربي القدير هو الذي يوجه غريزة حب الذات عند الطفل بصورة صحيحة ، ويرضي هذا الميل النفسي بالطرق المناسبة ، ويبذر الفضائل والملكات الحميدة في ظل هذه الغريزة في نفسه فينقذه من الأخطار التي ربما تعترض طريقه.

من طرق الاحترام وتكريم شخصية الطفل : السلام. فهناك عبارات وأساليب مختلفة في جميع نقاط العالم خاصة بالتحية حيث يؤديها الناس في أول لقاء بينهم. والسلام أحد السنن المؤكدة في تعاليم الإسلام الخلقية فعندما يلتقي مسلمان يجب عليهما قبل كل شيء أن يسلم أحدهما على الآخر.

« عن الحسين بن علي علیهماالسلام أنه قال له رجل : كيف أنت عافاك اللّه؟ فقال له : السلام قبل الكلام ، عافاك اللّه. ثم قال : لا تأذنوا لأحد حتى يسلم » (2).

ان الطفل يدرك في محيط الأسرة هذا الواجب الأدبي عن طريقين : الأول عن طريق تقليد الوالدين والكبار ، والثاني عن طريق تعليم المربي إياه وتأكيده على ضرورة أداء السلام للكبار. وكلما اُحترم الطفل في الاسرة واهتم الوالدان بشخصيته ، كانت اطاعته لأوامرهما وانقياده لإرشاداتهما اكثر ولذلك فهو يقابل الالاخرين بالإحترام والأدب دائماً.

« إن الطفل الذي أحسنت تربيته وعومل بالين والعطف يستحقه يندر أن يخرج على السلوك الذي يتوقع منه »(3).

ص: 85


1- آئين دوست يابى تأليف ديل كارنيجي ص 30 - 34.
2- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ح2ص68.
3- ما وفرزندان ما ص 30.

رد السلام إلى الطفل :

إذا سلم الطفل على الكبار فعليهم أن يردّوا تحيته بمنتهى اللين ويحترموا شخصيته بهذه الصورة. أما إذا لم يعتنوا به ولم يردّوا سلامه فإنّهم يكونون قد أهانوه واحتقروه ، وسيتألم لهذه الإهانة ، ويستاء كثيراً.

بدء الأطفال بالسلام :

لقد تجاوز الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله في سبيل تكريم الأطفال حد رد السلام فكان هو يبدأ السلام معهم على ما هو عليه من عظم الشخصية ، وبذلك كان يحترم شخصيتهم. هذا العمل الفريد من نوعه دعاء علماء الحديث إلى أن يوردوا احاديث ( استحباب التسليم على الصبيان ) في باب خاص. وهذه نبذة من تلك الروايات : -

1 - عن أنس بن مالك قال : « إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مرّ على صبيان فسلم عليهم وهو مغِذّ » (1).

2 - وذكر بعضهم في تعداد صفات النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « إنه كان يسلم على الصغير والكبير » (2).

3 - وعن الإمام الصادق علیه السلام عن آبائه عن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : « خمس لست بتاركهن حتى الممات ... وتسليمي على الصبيان لتكون سنة من بعدي » (3).

لبدء الطفل بالسلام أثران نفسيان : فهو يقوي في نفس المسلم صفة التواضع وخصلة الخلق الفاضل ، ويحيي في الطفل الشخصية الرصينة والإرادة المستقلة. ان الطفل الذي يجد الكبار يسلمون عليه ويحترمونه بهذا الأسلوب بصدق بكفاءته وأهليته للاحترام ، ويطمئن منذ الصغر إلى أن المجتمع يعتبره إنساناً ويعيره الناس اهتماماً لا بأس به.

على الراغبين في اتباع سنة الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يبدأوا الأطفال بالسلام ،

ص: 86


1- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2ص69. ومغذّ : أي مسرعُ في السير.
2- المصدر السابق.
3- وسائل الشيعة للحر العاملي ج3ص209.

كي يركّزوا في نفوسهم خصلة التواضع ، ويحيوا شخصيات الأطفال ويدفعوهم الى طريق التربية السليمة.

المساواة بين الأطفال :

من الوجبات المهمة التي لا بد أن يلتزم بها أولياء الأطفال في سبيل تربيتهم تربية صالحة مراعاة التوازن والمساواة بينهم ، على الآباء والأمهات الذين يملكون عدة أطفال أن يسلكوا مع كل منهم سلوكاً لا يُغفل شأن الباقين ... عليهم أن ينظروا إليهم جميعاً بعين واحدة ويعاملوهم بالعدالة والمساواة.

« عن النبي صلی اللّه علیه و آله ، نظر إلى رجل له ابنان ، فقبل أحدهما وترك الآخر. فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : فهلا ساويت بينهما؟ » (1).

وفي حديث آخر : « إعدلوا بين أولادكم كما تحبون أن يعدلوا بينكم » (2).

أمل الطفل :

إن الأمل الوحيد للطفل ومبعث فرحه ونشاطه هو عطف الوالدين وحنانهما. ولا يوجد عامل يهديء خاطر الطفل ويبعث فيه الإطمئنان والسكينة مثل عطف الوالدين ، كما لا يوجد عامل يبعث فيه القلق والإضطراب مثل فقدان جزء من حنان الوالدين أو جميعه.

« إن حسد الولد تجاة اخيه الصغير الذي تولد حديثاً لا غرابة فيه ، لأنه يحس بأن قسماً من العناية التي كانت مخصصة له قد سلبت منه ، والآن لا يستأثر بإهتمام الوالدين ، بل ان الحب والحنان يجب أن يتوزع عليه وعلى أخيه الأصغر » (3).

ان الآباء والأمهات الذين لا يراعون العدالة والمساواة في التظاهر بالحب والحنان بالنسبة إلى أطفالهم ، ويرجحون واحداً منهم على الآخرين ، يحطمون

ص: 87


1- مكارم الاخلاق للطبرسي ص 113.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج23ص113.
3- چه ميدانيم؟ تربيت اطفال دشوار ص27.

شخصياتهم ويفهمونهم بصورة عملية أن أخاهم ( فلان ) هو الجدير بالاحترام والتوقير فقط أما هم فلا توجد فيهم الكفاءة والجدارة لكل ذلك ومما لا شك فيه أن هذا السلوك غير العادل يتضمن نتائج غير مرغوب فيها.

من الآثار السيئة لهذا الاختلاف في معاملة الأطفال بالحب والحنان ، ظهور عقدة الحقارة في نفوسهم. ان الأطفال الذين يشاهدون أحد إخوتهم يعامل في الأسرة بحب وحنان يفوقان ما يعاملون به يتأملون كثيراً ويحسون بالحقارة والضعة في نفوسهم ، وان تكرار هذا العمل يقوي الإحساس بالحقارة في ضمائرهم. ويضرب بجذوره في أرواحهم ، مما يؤدي إلى ظهور آثاره الوخيمة من خلال تصرفاتهم يوماً بعد يوم.

« تشمل عقدة الحقارة جميع مظاهر عدم الثقة بالنفس والاحساس بالفشل ، وعدم الجدارة ، وفقدان الارادة ... وهناك آلاف العوامل التي تتسبب في ظهورها. قد يصاب الطفل بهذه العقدة فلا تتركه الى دور البلوغ فقط بل تلازمه الى نهاية عمره. وعندما يكبر هذا الطفل يتخذ سلوكاً إنزوائياً ، أو يحس على الأقل بالغربة والبعد تجاه قرنائه ».

« ان الذي ينزوي عن أقاربه وأقرانه يعبّر عن العذاب الذي يعيشه من حس الحقارة التي درج عليها منذ الصغر ولهذا فإن كل خاطرة أو حادثة تضعف عزة النفس والغرور الذاتي عند الشخص تعتبر - حسب الأسس النفسية - عاملا لاتساع عقدة الحقارة ، عاملا لجعله في عداد الأفراد القلقين وضعاف النفوس في المجتمع » (1)

ص: 88


1- عقده حقارت ص 6.

انتقام الطفل :

والأثر الآخر من الآثار السيئة للاختلاف في معاملة الأطفال بالحب والحنان ، إثارة الحسد وحب الانتقام في نفوس الأطفال المهملين تجاه الطفل المستأثر بحنان الوالدين دونهم. هؤلاء الأطفال الذين نالوا حظاً أدنى من عواطف الوالدين يتأملون ، ويجدون أن العامل الوحيد لحرمانهم هو وجود أخيهم المدلل ، فيحسدونه على ذلك الحب ، وينظرون اليه بنظر العداوة والحقد ... ولأجل أن يثأروا لكرامتهم وينتقموا منه فيجبروا بذلك حرمانهم يحاولون إيذاءه والانتقاص منه في كل فرصة يحصلون عليها. في بعض الأحيان يكون تأثير اختصاص الوالدين أحد أولادهما بالعطف والمحبة في زرع بذور الحقد والحسد في نفسوس الآخرين شديداً إلى درجة تحملهم على التفكير في انتقام مخطط ومدبّر ، والقيام باعمال خطيرة لا تجبر ، ولا شك أن المنشأ النفسي لهذه الجرائم يمكن معرفته في تفريق الوالدين بين أطفالها في نسبة الحب والحنان.

وقد يمتاز أحد الأطفال في الأسرة بجمال مفرط وخصائص فطرية ومنح إلهية أكثر من الباقين ... في هذه الحالة مهما حاول الوالدان مراعاة العدالة والمساواة بينهم ، فإن ذلك الطفل لا يسلم من حسد الآخرين ، لأنهم بمشاهدتهم للامتيازات الظاهرية والنفسية التي يختص بها أخوهم يحسون بالحقارة والنقص في أنفسهم ... يشعرون بأنهم دونه في المستوى والمنزلة ... ولذلك فهم يحاولون إيذاءه والإنتقام منه.

هذه الظاهرة نلمسها بوضوح في ( يوسف الصديق ) وإخوته الأحد عشر. ولا ريب في أن النبي يعقوب لم يكن شخصاً يخص بعض أولاده بالعطف والمحبة اكثر من الآخرين ، مضافاً إلى أنه كان يوصي ولده ( يوسف ) بالنصائح اللازمة لعدم إثارة حوافز الحسد والحقد في نفوس إخوته ، فمثلاً عندما رأى الرؤيا التي تبشر بعظمته ورقيه أوصاه بأن لا يقص رؤياه على إخوته فيكيدوا له كيداً ... مع هذا كله فإن الأخوة تذرعوا بحب أبيهم ليوسف اكثر من حبه لهم ، وزجوا بأخيهم الصغير في خضم من المشاكل والمصائب المؤلمة.

ص: 89

تدارك المشاكل :

ينبغي للآباء والأمهات الذين يملكون طفلاً ممتازاً من بين أطفالهم ويحذرون أن يثير ذلك فيهم الشعور بالإنتقام أن يتخذوا بعض التدابير الخاصة في منهاجهم التربوي فيحاولوا تدارك ما ينشأ في نفوسهم من الاحساس بالحقارة بالوسائل المناسبة. من تلك التدابير ما ورد في حديث عن الإمام الباقر علیه السلام :

« قال جعفر بن محمد علیهماالسلام : قال والدي : واللّه لأصانع بعض ولدي وأجلسه على فخذي ، وأكثر له المحبة ، وأكثر له الشكر ، وإن الحق لغيره من ولدي ولكن محفظة عليه منه ومن غيره لئلا يصنعوا به ما فعل بيوسف إخوته. وما أنزلت سورة يوسف إلا أمثالاً لكيلا يحسد بعضنا بعضاً كما حسد يوسفّ إخوته وبَغوا عليه (1).

يستفاد من هذا الحديث بصورة جيدة أن أحد أولاد الإمام الباقر علیه السلام كان يمتاز على الباقين ببعض الصفات ، فكان الوالد يخاف عليه من حسدهم ، وفي نفس الوقت كان يرغب في أن لا يخدش عواطفهم ، فكان يحترم غيره احتراماً بالغاً ليمنع بذلك من احساسهم بالحقارة ومحاولة الإنتقام.

مشاركة الطفل في لعبه :

من وسائل إحياء شخصية الطفل مشاركة الكبير إياه في اللعب. إن الطفل يميل الى تقليد الكبار في كل خطوة يخطونها وذلك بسبب من شعوره بالضعف الذي فيه والقوة التي في الكبار من جهة ، ولرغبته في التعالي والتكامل بصورة فطرية من جهة أخرى. إن التقليد والإقتباس من الثروات العظيمة لتكامل الإنسان وتقدمه ، وقد اودع اللّه تعالى هذا الأمر الغريزي فيه منذ الطفولة.

عندما يتنازل الوالد الوالدة إلى مشاركة الطفل في لعبه ، ومساعدته في أعماله ، يطفح قلب الصغير بالفرح والبشر ، ويحس في بطانه بأن أفعاله الصبيانية مهمة الى

ص: 90


1- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2ص626.

درجة أنها تدعو الوالدين الى المساهمة معه وجعل أنفسهما في مستواه. هذا الإحساس يحيي شخصية الطفل ويركز فيه الشعور بالإستقلال والثقة بالنفس.

ان المناهج التربوية الحديثة تهتم بمشاركة الكبار مع الأطفال في العابهم اهتماماً بالغاً ، فإن علماء النفس يرون في ذلك واجباً من الواجبات التربوية للوالدين ، ويؤكدون على هذا الأمر في كتبهم.

« من الضروري أن يشترك الأب في العاب أولاده ونزهاتهم. ان هذا يعبر عن تفاهم وطيد. يشترك الأب في العاب الأطفال حسب أعمارهم ، وحسب المكان ، والفصل. لا شك في أن الوقت الذي يستطيع أن يخصصه لهذا العمل ضيق جداً ، لكن بالنظر إلى المزايا التي يتضمنها من أن نزول الأب الى مستوى أولاده يؤدي الى ارتفاعهم الى مستواه بدرجة كبيرة ... هذه المزايا تدعو الآباء الى تخصيص مجال - ولو ضيق - لهذا الأمر » (1).

« يقول موريس تى يش في كتابه ( دروس للوالدين ) : يجب أن تسلكوا مع أولادكم كأصدقاء ، أن تعملوا معهم ، أن تشاركوهم في اللعب ، أن تقرأوا لهم القصص أن تتحدثوا معهم بعبارات الود والصدقة. وبصورة خاصة فإن الفرد يجب أن يعرف كيف يجعل نفسه بمستوى الأطفال ويتكلم بلغة يفهمونها ».

« إنكم إذا كلفتم أنفسكم هذا العناء ... فحدثتم أطفالكم حول شؤونهم الخاصة ، وأفكارهم وآمالهم ، وما ينوون القيام به ، فطالما حصلتم على معلومات نافعة وقيّمة ».

« هذا الاستئناس بروح الطفل ، مضافاً إلى أنه يمنعكم من اتخاذ قرارات عاجلة وأحكام غير مدروسة في حقهم ، يسمح لكن أن تحلوا كثيراً من المسائل المهمة في حياة الأحداث » (2).

ص: 91


1- ما وفرزندان ما ص 22.
2- ما وفرزندان ما ص 45.

استحباب اللعب مع الطفل :

لقد اهتم أئمة الإسلام بهذا الأمر التربوي العظيم وأوصوا المسلمين بإرشادات مهمة في هذا الصدد. إن اللعب مع الأطفال من الأمور المستحبة في الشريعة الإسلامية ، وقد أورد علماء الحديث نصوصاً كثيراً في كتبهم تحت عنوان ( استحباب التصابي مع الولد وملاعبته ) نذكر هنا نبذة منها : -

1 - قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « من كان عنده صبي فليتصاب له » (1).

2 - عن الأصبغ بن نباته قال : « قال أمير المؤمنين علیه السلام : من كان له ولد صبا » (2).

3 - قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « رحم اللّه عبداً أعان ولده على بره ، بالإحسان إليه ، والتألّف له ، وتعليمه ، وتأديبه » (3).

وإذا نظرنا الى طائفة أخرى من الروايات وجدنا أنها تؤكد على استحباب إدخال السرور على قلب الطفل بشتى الوسائل : باللعب معه ، جلب الملابس الجديدة له ، وأخذه للنزهة وما شاكل ذلك.

4 - عن ابن عباس قال : « قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من فرّح ابنته فكأنّما أعتق رقبة من وُلد إسماعيل ، ومن أقرّ عين إبنٍ فكأنما بكى من خشية اللّه » (4).

5 - عن يعلى العامري أنه خرج من عند رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى طعام دعي إليه ، فإذا هو بحسين (عليه السلام) يلعب مع الصبيان ، فاستقبل النبي صلی اللّه علیه و آله أمام القوم ، ثم بسط يديه ، فطفر الصبي ها هنا مرة وها هنا مرة ، وجعل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يضاحكه حتى أخذه ، فجعل إحدى يديه تحت ذقنه والأخرى تحت قفاه ، ووضع فاه على فيه وقبّله » (5).

ص: 92


1- وسائل الشيعة للحر العاملي ج5ص126.
2- المصدر السابق.
3- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2ص626.
4- مكارم الاخلاق للطبرسي ص 114.
5- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2ص626.

إن قائد الإسلام العظيم يعامل سبطه بهذه المعاملة أمام الناس لكي يرشد الناس الى ضرورة إدخال السرور على قلوب الأطفال وأهمية اللعب معهم في سبيل تربيتهم ، مضافاً إلى قيامه هو بواجب تربوي عظيم.

إدراك نفسية الطفل :

إن أفعال الصبيان حين اللعب وكذلك أقوالهم التي يتكلمون بها تحكي عن أسلوب تفكيرهم وتكشف عن نفسياتهم ومستوى شخصيتهم الروحية. إن الكبار يستطيعون الوصول في أثناء اللعب إلى درجة ذكاء الطفل ومقدار كفاءته وثقافته.

عن أبي رافع قال : « كنت ألاعب الحسن بن علي علیهماالسلام - وهو صبي - بالمداحي. فإذا أصابت مدحاتي مدحاته قلت : أحملني. فيقول : ويحك! أتركب ظهراً حمله رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاتركه. فإذا أصابت مدحاته مدحاتي قلت : لا أحملك كما لا تحملني فيقول : أو ما ترضى أن تحمل بدناً حمله رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأحمله » (1).

من هذا الحديث يظهر جلياً إباء هذا الطفل وعزة نفسه وعظم شخصيته.

ان الطفل الذي يربيّه نبي الإسلام في حجره ويحيي شخصيته النفسية ، يعتقد بسمّو مقامه ولا يرضى التكلم بذلة وحقارة.

استغلال الفرص :

نستخلص من مجموع الأحاديث المتقدمة أنّ على الآباء والأمهات من الناحية الدينية والعلمية أن يستغلوا جميع الفرص في سبيل احترام الأطفال وإحياء شخصياتهم ، ويحذروا القيام بما من شأنه تحقيرهم وتحطيم شخصياتهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة. لأن احتقار الأطفال يؤدي إلى إصابتهم بعقدة الحقارة التي قد قد تلازمهم مدى العمر ، وتنحرف بهم عن الصراط المستقيم فيقدمون على الأعمال الاجرامية المختلفة.

ص: 93


1- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2ص 517. والمدحاة : الكرة.

كسب قلوب اليتامى :

واليوم هو التاسع عشر من شهر رمضان ، وهو يوم علي بن أبي طالب علیه السلام . ولا بأس بأن نختم حديثنا هذا بذكر مثلٍ من سلوك ذلك الإمام العظيم تجاه اليتامى وكسب قلوبهم.

لقد رأى الإمام علي علیه السلام امرأة في بعض الطرقات تحمل قربة من الماء ، فتقدم لمساعدتها وأخذ القربة وأوصلها ال حيث تريد. وفي الطريق سألها عن حالها. فقالت : إن علياً أرسل زوجي إلى إحدى النواحي فقتل. وقد خلف لي عدة أطفال لا أقدر على إعالتهم ، فاضطررت للخدمة في بعض البيوت. فرجع علي علیه السلام وأمضى تلك الليلة من منتهى الإنكسار والإضطراب. وعند الصباح حمل جراباً مملوء بالطعام واتجه إلى دار المرأة. في الطريق كان بعض الأشخاص يطلبون منه أن يحملوا الجراب عنه فيقول لهم : من يحمل عني أوزاري يوم القيامة؟ وصل الى الدار وطرق الباب. فقالت المرأة : من الطارق؟

قال الرجل : الذي أعانك على حمل القربة البارحة. لقد جئت ببعض الطعام لأطفالك.

فتحت الباب وقالت : رضي اللّه عنك ، وحكم بيني وبين علي بن ابي طالب.

فقال لها : أتخبزين أم تُسكتين الأطفال فأخبز؟

قالت : أنا أقدر على الخبز ، فقم أنت باسكات الأطفال.

فأخذت تعجن الدقيق ، وأخذ علي علیه السلام يخلط اللحم بالتمر ويطعم الأطفال منه ، وكلما ألقم طفلاً لقمة قال له بمنتهى اللين والرفق : يا بنيّ ، اجعل علي بن أبي طالب في حِلّ.

استوى العجين ، فأوقد علي (عليه السلام) التنور. وفي الأثناء دخلت امرأة تعرفه ، وما أن رأته حتى صاحت بوجه صاحبة الدار : ويحك! هذا أمير المؤمنين.

فبادرت المرأة وهي تقول : واحيائي منك يا أمير المؤمنين!

فقال : بل واحيائي منك يا أمة اللّه في ما قصرت في أمرك (1).

ص: 94


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج9ص520.

المحاضرة العشرون: العقل والعواطف - تنمية عواطف الطفل

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه العظيم : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)(1)

العواطف :

تمثل العواطف والمشاعر أهم الفطريات الإنسانية التي رُشت بذورها الأولى في طبائع جميع الناس بالقدرة الالهية. والميول العاطفية تبدأ بالظهور منذ الأسابيع الأولى بصور متفاوته وتستمر كذلك حتى نهاية العمر. ان العواطف والمشاعر تسيطر على جميع شؤون الإنسان مدى عمره. وبالإمكان معرفة درجة رقي الأمة وتقدمها أو انحطاطها وتخلفها عن طريق مشاعر تلك الأمه. فهناك إلى جانب العقل طاقة جبارة أخرى هي العواطف والمشاعر ، والتي بإمكانها أن تطفىء جذوة العقل وتدحره بالرغم مما هو عليه من قوة وسطه.

« ان النشاط العقلي ظاهر وغير ظاهر في وقت واحد. في الكومة المتفقة لحالاتنا الشعورية الاخرى ... انه وسيلة من كياننا ، وهو متغير مثلنا أيضاً ويمكننا أن نقارنه بشريط سينمائي يسجل المراحل المتعاقبة لقصة على سطح يختلف في درجة حساسيته من نقطة لأخرى ... بل انه اكثر ترادفاً للوديان والتلال التي تحدثها موجات المحيط العاتية والتي تعكس بطريقة مختلفة السحب التي تعبر السماء. فالعقل يبرز مرئياته فوق الشاشة الدائمة التغيير لحالاتنا المتأثرة لآلامنا ومباهجنا ، لحبنا وبغضنا ، ولكي ندرس هذه الناحية من أنفسنا فإننا نفصلها صناعياً عن الكل غير المنظور. وفي الحقيقة

ص: 95


1- سورة النحل ، الآية: 90.

أن الشخص الذي يفكر ويلاحظ ويتعقل يكون في وقت واحد ، سعيداً أو تعساً ، مضطرباً أو مطمئناً ، منتعشاً أو منقبض الصدر ، بوساطة شهواته وبغضائه ورغباته. ومن ثم تتخذ الدنيا مظهراً مختلفاً في نظره تبعاً للحالات المؤثرة والفسيولوجية التي تتحرك في مؤخرة الشعور في اثناء النشاط العقلي ... ان كل انسان يعرف أن الحب والكراهية والغضب والخوف تستطيع أن تشيع الاضطراب حتى في المنطق ... ولكي تظهر هذه الحالات الشعورية نفسها فإنها تحتاج الى إحداث تعديلات معينة في المبادلات الكيميائية , وكلما ازدادت شدة الاضطرابات العاطفية أصبحت هذه المبادلات أكثر نشاطاً. ونحن نعرف ان المبادلات الكيميائية على العكس من ذلك ، أي لا ينتابها أي تعديل بسبب العمل العقلي ، والوظائف المؤثرة ليست شديدة القرب من الوظائف الفسيولوجية ، انها تمنح كل مخلوق حي مزاجه ... ويتغير المزاج من شخص لآخر ... انه مزيج من الخصائص العقلية والفسيولوجية والتكوينية ... انه الإنسان ذاته.

وهو مسؤول عن ضعفه أو اعتداله أو قوته » (1).

الفرق بين العقل والعاطفة :

يختلف العقل عن العاطفة في جوانب عديدة ، ويقع على عاتق كل منهما دور معين في ضمان سعادة الإنسان. ها نحن نتعرض في هذه المحاضرة الى بعض جوانب الاختلاف بينهما بصورة موجزة.

يعتبر العقل بمثابة قاضٍ عادل وعالم ، جالس في غرفة مغلقة ، ومحيط هادىء ، يطالع الأضابير بدقة ويتفهم محتوياتها بصورة متقنة ، ويقيس جميع جوانب القضية ثم يصدر الحكم. أما العواطف فهي تمثل الجهاز التنفيذي للسلطة القضائية. ليس واجب الجهاز التنفيذي تمحيص الأدلة والبيّنات ، بل على العواطف أن تنفذ الأحكام العقلية عندما تكون منقادة للعقل.

ص: 96


1- الإنسان ذلك المجهول ، تأليف : الكسيس كارل ، تعريب : عادل شفيق ، ص 104.

إن أحكام العقل قائمة على أساس الاستدلال والبرهنة. وإن موافقته أو مخالفته ، ونقضه أو أبرامه ... كل ذلك يعتمد على المحاسبة الدقيقة والاستدلال المنطقي. أما العواطف فلا شأن لها بالمحاسبة ، ولا تفهم المنطق ولا تركن إلى الاستدلال. العواطف عبارة عن العشق فقط ، الاندفاع والثورة وحسب ... إن قلب الأم يطفح بحب الولد ، فحبه نافذ إلى أعماق روحها ، وترى ولدها قطعة من كبدها ، وتعتبر حياته حياتها ، وأبسط حادثة مؤلمة له تعدّ مصيبة عظيمة لها ، ولكن الأم لا تملك في حبها هذا وحنانها ذاك دليلاً عقلياً أو عملياً ، إن حنانها لا يستند الى المنطق والتفكير ، إنّها أمّ وحسب ، وتحب ولدها بعاطفة الأمومة. كذلك حب العاشق وولهه لا يستند الى الاستدلال العلمي والمحاسبة المنطقية ، إنه لم يعشق على طبق معادلات رياضية أو استنتاجات عقلية ، ان الحديث معه في طريق الحب عن العلم والمنطق والدليل خطأ فظيع. إذا أن العاشق لا يفهم دليلاً ، ولا يدرك عقلاً ولا منطقاً ، إنه عاشق ... إنه ولهان ... إن روحه تحترق بنار الحب ... يأوي الى الفراش على أمل الحبيب ، وينهض من فراشه على رجاء لقائه.

إن العقل على ما هو عليه من الأهمية والقيمة في طريق التقدم والرقي يشبه العلم والعدالة في أنه باهت وقاسٍ ، أما العواطف فهي ينبوع الاندفاعات والحوافز ، وبركان الحرارات والاشعاعات ، وأساس الصداقات والعداوات. يستطيع الإنسان بعقله وفكره أن يسيطر على العالم ويسخر الكون ، ويستخدم البحر والصحراء والجو ، والمعدن والنبات والحيوان لصالحه وتسهيل سبل العيش لنفسه. إن أعظم الطاقات التي تفصل بين الإنسان وجميع الحيوانات وتمنحه هذه المنزلة من العظمة والشموخ هو العقل فالعقل هو المشعل الوضاء والمرشد القدير الذي يميز للإنسان الخير من الشر ، والطريق الصحيح عن المتاهة ... لكن الطاقة التي تحرك الإنسان في الطريق الصحيح أو المتاهة ، والقوة التي تحفّز في نفس الإنسان دوافع الخير أو الشر هي العواطف ، وان التحركات الاجتماعية تنبع من المشاعر الداخلية للناس ... فجميع مظاهر الشدة واللين ، والحروب والجرائم ، التضحية والإيثار تنشأ من العواطف او المشاعر.

« يستخدم العقل المعلومات الواصلة إليه عن العالم الخارجي بواسطة الحواس ويهيء لنا وسائل عملنا في هذه الدنيا. إنه يزيد في

ص: 97

قوة إدراكنا وشدة سيطرتنا بصورة عجيبة بفضل ما يمنحنا من اكتشافات جديدة. إنه يصنع لنا التلسكوبات العظيمة في كاليفورينا وجبل ولسن ، التي تطلعنا على عوالم تبعد عنا ملايين السنين الضوئية ، ومن جهة أخرى يمدنا بالميكرسكوبات الالكترونية التي يمكننا بواسطتها البحث عن عالم اللامرئيات ، هذا مضافاً الى الآلات التي يمدّنا بها في العمل على أشياء منتناهية في الكبر ، واشياء متناهية في الصغر ، وفي تهديم العمارات الصخمة التي تمثل عظمة التقدم الفني والمعامري خلال بضع دقائق ، وفي اجراء العمليات الجراحية على الخلايا المعزولة ، وتحطيم الذرة ».

« العقل صانع العلم والفلسفة فعندما يكون متزناً يصبح مرشداً جيداً ، ولكنه لا يمنحنا الشعور بالحياة والقدرة على العيش فهو لا يعدو أن يكون مظهراً من مظاهر النشاطات النفسية فإذا نما لوحده ، بعيداً عن العواطف أدّى الى تفريق الأفراد وإخراجهم من حيز الإنسانية » « إن المشاعر والأحاسيس غالباً ما تنشأ من الغدد الداخلية واعصاب السمباثيك والقلب ، وقلّما تستمد رصيدها من المخ - إن الشوق والشجاعة والحب والحقد عوامل تدعونا الى تنفيذ الخطة التي رسمها العقل. وكذا الخوف والجبن والغضب فإنها تكشف عن مدى الجرأة على الإقدام عند الشخص ، وأي تؤثر بواسطة أعصاب السمباثيك على الغدد وهذه بدورها تقوم بافرازات توجد فينا الحوافز المختلفة للدفاع أو الفرار أو الهجوم. وهكذا تعمل الهيبوفيزوثايروئيد والغدد الجنسية وفوق الكلوية لتحقيق الحب ، أو الحقد ، أو الإيمان ، أو الجحود في نفس الشخص ، وهذا الأعضاء هي التي تضمن بقاء الجماعات البشرية بواسطة النشاطات التي تصدرها. ان المنطق وحده لا يكفي لأتحاد الأفراد ولا يستطع دفع الإنسان نحو الحب أو إثارة نائرة الحقد فيه ».

« ان العقل ينظر الى الحياة الظاهرية ، أما الأحاسيس فإنها على العكس من ذلك تهتم بالحياة الباطنية. وكما يقول ( باسكال ) فإن

ص: 98

للقلب دلائل وبراهين لا يفهمهما المنطق. ان النشاط غير العقلائي للروح المتمثل في العواطف هو الذي يمنحنا الطاقة والفرح ، ويهب بعض الأفراد القابلية على الخروج من أطارهم المحدود للاتصال بالآخرين ، وتوثيق العلاقات معهم ، والتضحية في سبيلهم » (1).

العدل والاحسان :

لا شك في أن كلا من هاتين الطاقتين العظيمتين : العقل والعاطفة يلعب دوراً فعالاً ومستقلاً في ضمان سعادة الإنسان ورفاهه. إن الإنسان يستطيع بلوغ الكمال للائق به متى ما استفاد من هاتين الطاقتين العظيمتين معاً بصورة صحيحة وحسب مقياس سليم : « إن اللّه يأمرُ بالعدِل والإحسان ».

في هذه الآية الكريمة قارن اللّه تعالى بين إقامة العدل ، والإحسان في جملة واحدة وأمر الناس بها بصيغة واحدة. العدل وليد العقل ، والإحسان وليد العواطف.

إذا كان مجتمع ما يحكمه العدل فقط ولا يوجد فيه أثر للحب والعطف فإن الحياة تصبح باهتة وهامدة ... لا أثر هناك للصداقة والمحبة ، والسخاء والعفو ، والرأفة والرحمة ، ولا تشمّ من ذلك المجتمع رائحة للتعالي الروحي والتكامل النفسي ، ولا حسنات الأخلاق والعواطف ... الحياة في مثل هذا المجتمع تصبح جحيماً لا يطاق. يستحيل في هذه الظروف أن ينال الأفراد الكمال اللائق بهم ، لأن العواطف تشكل جانباً مهماً من الفطريات الانسانية ، ويجب أن تنال حصتها من التنمية والعناية كسائر الذخائر الطبيعية وذلك حسب شروط وعوامل معينة.

وإذا كان مجتمع ما تحكمه العواطف فقط ، ولا أثر فيه للعدالة والقانون فإن الحياة تتحول إلى فوضى وشغب ... وتصبح جحيماً لا يطاق أيضاً. في مثل هذا المحيط تصبح ميول الأقوياء وشهواتهم هي الحاكمة المطلقة ، وتكون حياة الأفراد أشبه بحياة الوحوش والبهائم ... الأقوياء يتجاوزون على حقوق الضعفاء ، وعلى الناس أن يتوطنوا لكل ذلة وهوان في سبيل تحقيق أهواء المالكين بزمام الأمر.

ص: 99


1- راه ورسم زندكى ، تأليف : الكسيس كارل ص 130.

على المجتمع أن يستفيد من العقل والعواطف ، والعدل والاحسان جنباً الى جنب فيستخدم كلام في محله. وعلى سبيل الشاهد نذكر المثال التالي : -

العدالة وجزاء المعتدي :

العقل يستنكر التصرف العدواني لشخص على حقوق الآخرين. ولضمان الاستقرار المالي للدولة تضع الحكومة قوانين خاصة تعاقب المعتدين بموجبها. والقاضي الشريف والعادل هو الذي يراقب القانون في مقام القضاء فلا تؤثر فيه الرقة والرحمة ، ولا تدفعه العواطف والوساطات نحو الإنحراف عن الصراط المستقيم الذي خطته العدالة.

يتساوى الرجل الثري والقوي الذي يتصرف في أملاك الناس بصورة عدوانية ، والأرملة التي تدخل دار غيرها في فصل الشتاء فراراً من سياط البرد اللاذعة بغية الحفاظ على أطفالها الأيتام ، في نظر القانون وأمام محكمة القضاء. فالقاضي يعتبرهما معتدين وغاصبين ويخرجهما من الدار المغصوبة. عندما يخرج القانون هذه الأرملة وأطفالها الصغار من الدار ويُسلّمهم الى البرد القارص تظهر صورة مؤلمة لعيان فتثور عواطف المارة ، ويتألمون لهم ، وربما أخذوهم الى بيوتهم واعتنوا بهم. ان العدالة هي التي أخرجت المرأة المسكينة وأطفالها من الدار ، والعاطفة هي التي آوتهم واعتنت بهم. العدالة جافة وباهتة ، لا تملك عاطفة ولا تفهم معنى للرقة والرحمة ، تفقد الدموع والآهات ، والانين والاستغاثة أثرها في حريم القضاء. ان القاضي الناجح هو الذي يراقب تطبيق القانون وحسب. ولكن العواطف هي التي تمنحنا الدفء والحنان ، وتفيض بالرقة والرحمة ، هي التي تحتضن الأطفال ، وتقبلهم ، وتشمهم ، وتناغيهم ، وتذرف الدموع ، وتشعر باللذة في السهر عليهم.

عندما تنعدم العدالة والقانون في المجتمع ، ويفقد القاضي عنصر الصراحة والجد في تطبيق القانون ، تمدّ أيدي الظالمين نحو حقوق الناس ، ويتزلزل اساس العدالة والأمن. وعندما تنعدم العاطفة والرأفة في المجتمع ، ويتجاهل الناس معنى الرقة والرحمة ، يحرم المساكين من الحنان وينهزم الضعفاء أمام حوادث الدهر. والمجتمع السعيد هو الذي ينال حظه الوافر من كلتا الطاقتين ويستفيد من العقل والعاطفة معاً حسب المقياس الصحيح والمقدار الملائم.

ص: 100

العلم والعواطف :

العلم كالعدل في أنه وليد العقل .. العلم يشبه الماء العذب الذي ينبع من ينبوع العقل ليسقي الحياة الروحية بالرواء. العلم أساس تكامل الإنسان ورقيه وهو من أهم أركان سعادته. وبالإمكان قياس رقيّ كل أمة بمستوى التقدم العلمي فيها ، وكلما كثر العلم والعلماء في دولة عظم أمرها من الناحية المعنوية وكانت في عداد الدولة الراقية ، ولكن يجب أن لا ننسى أن العلم كالعدل في كونه جافاً وباهتاً ، لأنه يستند إلى المنطق والاستدلال ، ولا أثر للعاطفة والرأفة في حريم المنطق والاستدلال.

العلم وحده لا يقنع الإنسان ، ولا يمكن ضمان سعادته بواسطة العلم فقط. إن جانباً مهماً من الميول الفطرية للناس تتمثل في حوافزهم العاطفية التي يجب أن تخضع لرقابة مضبوطة منذ البداية ، يجب أن يساير التقدم العلمي والتنمية العقلية استجابة لنداء المشاعر والميول العاطفية بصورة صحيحة ومفيدة ، وعلى سبيل الشاهد نأتي بمثال على ذلك :

يتمرض شخص فيؤخذ الى المستشفى ... يعمل جميع الأفراد المتخصصين في تمريضه ومعالجته - كل حسب اختصاصه - تستخدم جميع الأدوات والوسائل الموجودة في المستشفى لعلاجه ، تؤخذ له أشعة متعددة ، بُحلّل دمه وبوله من جهات عديدة ، ويشخصّ الداء أخيراً ويقرر القيام بعملية جراحية معينة. يبدأ العمل ، تعقم الأدوات والوسائل اللازمة في العملية حسب الأساليب العلمية ، ويكون بعد ذلك التخدير ، وضخ الدم والقطع ، والخياطة ، والتعقيم ، والتضميد ، والتمريض الصحيح ، والعقاقير اللازمة ، والأطعمة المناسبة وبصورة موجزة جميع الشروط والحاجات التي يقررها آخر ما توصل إليه العلم ... وبانتهاء ذلك كله يكون شفاء المريض وبرءه.

إرضاء عواطف المريض :

عندما يكون المريض خاضعاً للعناية الطبية والعلمية من كل ناحية ولا يوجد أي اضطراب في أسلوب معالجته ، يحس في ضميره الباطن ، وفي زوايا روحه بأنه يفتقد شيئاً. إنه يثبت عينيه نحو باب الغرفة عسى ينال ما يريد. إن ما يريد ليس مما

ص: 101

يتعلق بالدواء أو الغذاء أو ضبط الأساليب العلمية المتبعة معه ، بل إنه يفكر في إرضاء عواطفه إنه ظمآن إلى العطف والحنان ، إنه يتوقع أن يعوده شخص ، أن يجلب له باقة زهور ، أن يصافحه على جانب سرير المستشفى ويبتسم له ، ويُذهب عنه ما به من انكماش.

عندما يحفّ به عدة أشخاص من أصدقائه الخلّص ، ويسألون عن حاله ، يستأنس بهم ويرتاح كثيراً ، تنفتح أساريره ، ويستعيد نشاطه ، ويحس بالحياة تدبّ في عروقه من جديد ... هذا الارتياح ، والفرح ، والاستيناس يساعد في أمر شفائه كثيراً.

إن علم الجراحة قاسٍ وشديد في حين أن العيادة تطفح بالمحبة والدفء. إن العلم الباهت والقاسي للجراح ومباضعه وأدويته ، أساس علاج المريض ، ولكن يجب أن يساير كل ذلك حنان ومحبة ورعاية حتى يستطيع العلم والمشاعر أن يسيرا جنباً الى جنب لإرضاء عواطف المريض.

قيمة الطبيب :

لم تهمل تعاليم الإسلام القيمة أهمية علم الطب واستشارة الطبيب التي هي الأساس في شفاء المريض ، كما لم تغفل شأن عيادة المرضى التي هي العامل الأهم لإرضاء عواطفهم. وقد وردت نصوص كثيرة بشأن كل من الموضوعين. أما بالنسبة الى أهمية الطبيب ودوره في بناء الكيان الاجتماعي فقد قال الإمام الصادق علیه السلام : « لا يستغني أهل كل بلد عن ثلاثة يفزع إليه في أمر دنياهم وآخرتهم ، فإن عدموا ذلك كانوا همجاً : فقيه عالم ورع ، وأمير خير مطاع ، وطبيب بصير ثقة » (1).

في هذا الحديث نجد أن الإمام علیه السلام يعتبر الطبيب الحاذق أحد أركان المدنية ، وثالثة الأثافي بالنسبة الى الحياة الانسانية.

وأما في موضوع استشارة الطبيب فقد قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : « من كتم الاطباء مرضه خان بدنه » (2) وبهذين الحديثين نكتفي كشاهد على ما قلناه.

ص: 102


1- تحف العقول عن آل الرسول ص 321.
2- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 663.

عيادة المريض :

لقد وردت نصوص كثيرة في شأن عيادة المرضى ، وقد اكد الأئمة علیهم السلام على هذا الأمر وبيان استحبابه كثيراً.

1 - عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام أنه قال : « من أحسن الحسنات عيادة المريض » (1).

2 - وأما النبي صلی اللّه علیه و آله فلم يكن ليكتفي بارضاء عواطف المرضى من المسلمين بعيادتهم ، بل كان غير المسلمين ينالون هذا الحظ العظيم منه أيضاً. فعن الإمام علي علیه السلام : « إن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عاد يهودياً في مرضه » (2).

لا شك في أن العائدين للمريض كلما أكثروا من ملاطفته وإرضاء عواطفه كان ذلك أكثر أثراً في نفسه. لقد وصفت الروايات العيادة الكاملة بوضع اليد على جبهة المريض برفق ، أو مصافحته ، وبأخذ بعض الهدايا له.

3 - قال علي علیه السلام : « من تمام العيادة أن يضع العائد إحدى يديه على يدي المريض أو على جبهته » (3).

4 - قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده عليه ويسأله : كيف أنت ٌ كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ وتمام تحيتكم المصافحة » (4).

5 - وعن (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً : « من تمام عيادة المريض إذا دخلت عليه أن تضع يدك على رأسه وتقول له : كيف اصبحت ٌ أو كيف أمسيت؟ » (5).

6 - عن الإمام الصادق علیه السلام : « تمام العيادة للمريض أن تضع يدك على

ص: 103


1- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ح1ص83.
2- المصدر السابق.
3- مكارم الأخلاق للطبرسي ص 197.
4- مكارم الأخلاق للطبرسي ص 196.
5- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج18ص 145.

ذراعه ، وتعجل القيام من عنده. فإن عيادة النوكى أشد على المريض من وجعه » (1).

7 - كان يريد بعض الشيعة الذهاب الى عيادة مريض ، فصادفهم الإمام الصادق علیه السلام في بعض الطريق وقال لهم : أين تريدون؟

قالوا : نريد فلاناً نعوده.

قال : هل معكم فاكهة أو طيب تأخذونه له؟

قالوا : ليس معنا شيء.

فقال : أما تعلمون أن المريض يستريح إلى كل ما أدخل عليه (2).

إن من يذهب لعيادة المريض فيقف في جانب ويسأل حاله ليس مؤدياً حق العيادة. فالعيادة الكاملة والمفرحة تكون عندما يقترب من المريض ويضع يده برفق على يد المريض ، أو رأسه ، أو جبهته ، أو يصطحب معه هدية فيكشف بذلك عن حبه للمريض ، وفي نفس الوقت يرضي عواطفه.

قيمة الأخلاق :

لا تقل السجايا الخلقية والملكات الفاضلة أهمية عن العلم في ضمان سعادة الإنسان. إن ارضاء العواطف بصورة صحيحة يساوق تنمية العقل واتباعه أهمية ، وان خطأ المدنية الحديثة يكمن في ّنها وجهت جميع الطاقات والامكانات لتحقيق التقدم العلمي واكتشاف اسرار الطبيعة ، وتركت الإهتمام بالفضائل والمثل التي هي من الأركان الأساسية للسعادة. ان مشاعر الغالبية من الناس تصرف في سبيل الشهوات الدنيئة والأعمال اللاخلقية ، ولهذا السبب ذاته فإن الجرائم تتسع بصورة موحشة يوماً بعد يوم ، وينجرف الشباب في الدولة المتمدنة نحو الفساد والهاوية.

ان منهاج الحياة الإنسانية يجب أن يتماشى مع الفطرة. فهناك قوتان مهمتان في فطرة الإنسان : إحداهما العقل ، والأخرى العواطف. هاتان القوتان اللتان هما أساس سعادة الإنسان يجب أن تسيرا جنباً الى جنباً في ظل رقابة ورعاية لازمتين لضمان العيش الأفضل للإنسانية جمعاء.

ص: 104


1- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج3ص118.
2- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج3ص118.

« الإنسان نتيجة الوراثة والبيئة وعادات الحياة والتفكير التي يفرضها عليه المجتمع العصري ... ولقد وصفنا كيف تؤثر هذه العادات في جمسه وشعوره ... وعرفنا انه لا يستطيع تكييف نفسه للبيئة التي خلقتها التكنولوجيا ، وان مثل هذه البيئة تؤدي إلى انحلاله ، وأن العالم والميكانيا ليسا مؤولين عن حالته الراهنة ، وإنما نحن وحدنا المسؤولون. لأننا لم نستطع التمييز بين الممنوع والمشروع ... لقد نقضنا القوانين الطبيعية فارتكبنا بذلك الخطيئة العظمى ، الخطيئة التي يعاقب مرتكبها دائماً .. » (1).

« ألم تهبط الحياة العصرية بمستوى ذكاء الشعب كله وأخلاقه ٌ لماذا يجب أن ندفع ملايين الدولارات كل عام لنطارد المجرمين؟ لماذا يستمر رجال العصابات في مهاجمة المصارف بنجاح ، وقتل رجال الشرطة ، واختطاف الناس وارتهانهم ، أو قتل الأطفال على الرغم من المبالغ الضخمة التي تنفق في مقاومتهم ٌ لماذا يوجد مثل هذا العدد الكبير من المجانين وضعاف العقول بين القوم المتحضرين؟ ألا تتوقف الأزمة العالمية على الفرد والعوامل الإجتماعية التي هي اكثر أهمية من العوامل الاقتصادية؟ من المأمول أن يضطرنا منظر الحضارة في بداية تداعيها إلى أن نتحقق : هل أسباب الكارثة غير كامنة في أنفسنا ومعاهدنا؟ وأن ندرك إدراكاً تاماً أن لا مناص من تجديد أنفسنا » (2). « يجب أن لا ينشر العلم لذاته فقط ، ولا لرشاقة وسائله ولا لتألق جماله. وإنما يجب أن يكون هدفه فائدة الإنسان المادية والروحية. كما يجب أن نعطي الإحساسات أهمية تعادل أهمية علم الحركة .. ولا مفر من أن يضم تفكيرنا جميع جوانب الحقيقة » (3).

ص: 105


1- الإنسان ذلك المجهول ، تأليف الكسيس كارل ص 210.
2- المصدر السابق ص 212.
3- المصدر السابق ص 215.

رعاية العواطف :

إن رعاية عواطف الناس أحد الفصول المهمة في التربية الإسلامية. فهناك مئات الآيات والاحاديث في موضوع الأخلاق الفاضلة والبذئية في الإسلام ، ورعاية عواطف الناس وحب بعضهم لبعض من المسائل التي أكد الأئمة علیهم السلام عليها كثيراً. فعن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال : « يحق على المسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف ، والمواساة لأهل الحاجة ، وتعاطف بعضهم على بعض » (1).

وفي حديث آخر عن عبداللّه بن يحيى الكاهلي قال : « سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : تواصلوا ، وتبارّوا ، وتراحموا ، وتعاطفوا » (2).

هناك ميول مختلفة مودعة في قوام الإنسان : روحه وجسده ، ولكل منها دور فعال في ضمان سعادته. ومن الضروري أن تلبّى جميع الميول بالصورة الصحيحة حتى يصل الإنسان إلى الكمال للائق به. إنه لا ينبغي حصر الإنسان في واحد أو طائفة من الميول الخاصة ، وتجاهل سائر الإحتياجات الفطرية. الإنسان بميل طبيعياً إلى الغذاء ويجب إشباع هذا الميل ولكن سعادة الإنسان لا تنحصر في الغذاء ، والإنسان يميل بفطرته إلى الجنس ويجب إشباع هذه الغريزة ولكن قوام الإنسان لا يقوم على الجنس فقط ، والإنسان يملك ثروة العقل العظيمة ويجب تنميتها وصيانتها عن طريق التفكير والتعلم ولكن الإنسان ليس عقلاً فقط ، وكذلك العواطف والمشاعر فإنها من الثروات الفطرية للإنسان ، ورعايتها بالصورة الصحيحة من أهم أسس سعادته ، ولكن ليس الإنسان مكوناً من العواطف والمشاعر فقط.

« إن هدف الحياة هو أن يصنع من كل فرد نموذجاً صالحاً للإنسانية ، ويجب أن تنمّي جميع الإمكانات الجسدية والفكرية والمعنوية في سبيل القيام بالواجبات الإنسانية. إن قمة تكامل الفرد والأمة تكون عند التعالي النفسي الحاصل ، إذن فنحن مدعوون الى تنمية جميع نشاطاتنا الجسدية والروحية وهذا واجب مفروض على الجميع ،

ص: 106


1- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2ص175.
2- نفس المصدر.

وعلى الفقير والغني ، المريض والسالم ، الرجل والمرأة ، الكبير والصغير اتباع ذلك. لكل فرد - مهما كان جنسه وعمره ومنزلته الإجتماعية - حاجات عاطفية وفكرية وجسدية يعتبر ارضاؤها ضرورياً لأداء واجبه » (1).

بالرغم من أن كلا من الثروات الفطرية والميول الطبيعية المودعة في باطن كل انسان ، يلعب دوراً خاصاً في التخطيط لسعادة الانسان وشقائه فإن مالا مجال لشك فيه هو أنها ليست متساوية الأثر في تحقيق لسعادة أو الشقاء ، إذ قد تختلف الآثار الطيبة أو الشريرة لكل منها.

ان العواطف والمشاعر من الأمور الفطرية التي تتسع دائرة تأثيرها في حياة الانسان وتكون لنتائجها الخيرة أو الشريرة أهمية فائقة ، ذلك أن اعظم القوى المحركة في عالم الإنسان ، وأقوى العوامل المحفزة للفرد والمجتمع عبارة عن العواطف والمشاعر. ان اكثر الحوادث العظيمة التي وقعت في العالم على مر القرون تعود في جذورها الى مشاعر الناس ، فالحروب الدامية والمطاحنات المتواصلة ، والجرائم المذهلة ، والأعمال اللإنسانية تنبع من المشاعر في الغالب. وكذلك تضحيات الأبطال والمخلصين في سبيل أهدافهم ومظاهر الإحسان والكرم ، ومساعدة الفقراء ، ورعاية الأيتام تملك جذوراً عاطفية أيضاً.

توجيه المشاعر :

لو توجّه مشاعر الناس وعواطفهم في بلدٍ ما توجيها صحيحاً ، فإن ذلك البلد يصبح كالنعيم الخالد مهداً للسعادة والرخاء ، فيكون بلد العطف والمحبة ، وبؤرة الوفاء والود وعلى العكس فإن عدم توجيه مشاعر الناس في بلد آخر نحوالأهداف الخيرة والغايات الانسانية يؤدي الى نشوء بركان من النقمة والفوضى وانتشار العداوة والفساد بين الجميع ، حيث الشقاء في أبشع صوره ، وحيث الجحيم الذي لا يطاق.

إن من أهم الواجبات الدينية والعلمية والوطنية للوالدين ، الاهتمام الشديد

ص: 107


1- راه ورسم زندگى ص 124.

بتوجيه مشاعر الأطفال ومراقبة تنمية عواطفهم يستيقظ الشعور العاطفي عند الأطفال في وقت مبكر ... ففي الوقت الذي يكون سراج العقل غير مشتعل بعد عند الطفل ، وفي الحين الذي لا يدرك شيئاً عن الإستدلال والمنطق ، ولا يملك طاقة بدنية كاملة ، نجد أن الشعور العاطفي يستيقظ فيه ويكون قابلاً للتوجيه والضبط وإن غفلة الوالدين في هذا الوقت الحاسم تؤدي إلى آثر سيئة في روح الطفل.

اختلاف عواطف الناس :

والنكتة الجديرة بالملاحظة هنا أن العوامل الوراثية المختلفة تؤدي إلى اختلاف في البناء العقلي والعاطفي للأطفال. وكما أن الناس يختلفون في الهندام ولون الشعر وبصمات الأصابع كذلك يختلفون في العواطف والأفكار والحالات النفسية والعصيبة. هذه الاختلافات الوراثية إنما هي إحدى آيات اللّه الحكيمة في الخلق ، وتعود الى قانون الوراثة المضبوط. وقد ورد بهذا الصدد عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال : « الناس معادن كمعادن الذهب والفضة. فمن كان له في الجاهلية أصلٌ فله في الإسلام أصل » (1) وبعبارة أخرى فإن قانون الوراثة ينقل صفات الآباء في الجاهلية إلى الأبناء في الإسلام.

قد يعمل قانون الوراثة في ظروف خاصة وأوضاع مجهولة على إحداث اختلافات شديدة من الناحية العقلية والنفسية والعصبية بين أطفال أسرة واحدة ، وبعبارة أخرى فإن أباً وأماً ينجبان على طول الفترة الزوجية عدة أطفال يختلفون فيما بينهم اختلافات بيّنة في ذكائه وعقلهم وحالاتهم النفسية والعصبية.

« إن الأطفال الذين يولدون لابوين واحدين وينشأون معاً وبطريقة واحدة يختلفون اختلافاً ظاهراً من حيث الشكل والقوام والتكوين العصبي والاستعداد العقلي والصفات الأدبية. ومن الواضح ان هذه الاختلافات لا يرجع أصلها إلى الأسلاف ... وتتصرف الحيوانات بطريقة مماثلة ، ولنضرب لذلك مثلاً بكلاب صغيرة جداً من فصيلة حراس الاغنام ... ان كلا من الكلاب التسعة أو العشرة يبدي

ص: 108


1- روضة الكافي لثقة الإسلام الكليني ص 177.

صفات واضحة فبعضها يفزع من الضوضاء المفاجئة ، أو طلقة مسدس ، ويكون رد فعله لذلك أن ينكمش على الأرض ، في حين يكون رد الفعل مغايراً في فريق آخر منها فيقف على مؤخريه أو يتقدم نحو مصدر الصوت. وقد ينتهز فريق ثالث الفرصة فينصرف الى الرضاعة من ثدي امه ، وقد يستسلم بعضها لدفع إخوتها إياها بعيداً عن أمها. وثم فريق آخر يبتعد عن أمه ليستكشف المنطقة المجاورة لبيته في حين يبقى معها آخرون. وقد يزمجر بعض هذه الكلاب الصغيرة إذا لمسها أحد. وفي حين يظل البعض صامتاً ... فحينما تنشأ الكلاب معاً في أحوال متماثلة إلى أن تكبر ، فإن صفاتها لا تتغير بالنمو ، إذ تظل الكلاب الخجولة والجبانة خجولة وجبانة طوال حياتها. أما الشجاعة النشيطة فقد تفقد هذه الصفات أحياناً حينما تتقدم في السن ولكنها تكون عادة اكثر جرأة ونشاطاً » (1).

إختلاف طبائع الأطفال :

والمشاعر والعواطف من الصفات التي تخضع للعوامل الوراثية بصورة فائقة. ولهذا فإن الأطفال يختلفون فيما بينهم في الصفات العاطفية اختلافً بيّناً. فهناك بعض الأطفال ينشأون منذ البداية شجعاناً ومتهورين ، والبعض ينشأ جباناً وضعيفاً. قسم منهم ينشأ محباً للاستقلال والقيادة ، والقسم الآخر يميل الى أن يكون عالة على غيره ومنقاداً. طائفة منهم تميل إلى الإيذاء والإفساد ، وأخرى تمتاز بسلامة النفس وصفاء الضمير. ثلة منهم تتسم بالسخاء والكرم ، وثلة أخرى تتميز بالبخل والتقشف ... والخلاصة ان البناء الطبيعي لمشاعر أطفال المجتمع وعواطفهم - واحياناً الأطفال المنحدرين من أب واحد وأم واحدة أيضاً - يختلف اختلافاً كبيراً وكما قال الإمام الصادق علیه السلام يشبه اختلاف المعادن فيما بينها.

« من الواضح الإحساس الأدبي مثل النشاط العقلي يعتمد على

ص: 109


1- الإنسان ذلك المجهول ص 195.

حالات تركيبية ووظيفية معينة للجسم ، وهذه الحالات تنتج من التركيب الداخلي لأنسجتنا وعقولنا ، وكذلك من عوامل أثرت فينا إبان نمونا. ولقد أعرب ( شوبنهور ) عن رأيه ، في المحاضرة التي ألقاها عن أصل الأخلاق بالجمعية الملكية للعلوم بكوبنهاجن ، من أن أساس المبدأ الأدبي موجود في طبيعتنا. وبعبارة أخرى ، ان الجنس البشري يولد وبه ميل فطري نحو الأنانية والضعة أو العطف. وهذا الميل يظهر في مرحلة مبكرة جداً من الحياة ، ويراه الملاحظ المدقق بوضوح. وقد ذكر ( جالافاردبن ) أن هناك أنانيين لا يأبهون مطلقاً بسعادة اترابهم من بني الإنسان أو تعاستهم. وهناك الحقودون الذين يشعرون باللذة وهم يشاهدون نكبات الآخرين وآلامهم ، بل حتى حينما يتسببون في إحداث هذه النكبات والآلام ، وهناك قوم يستشعرون الألم حينما يستشعره أترابهم ، وتولد قوة العطف هذه ، الرحمة وفعل الخير والأعمال التي توحي بها هاتان الفضيلتان والقدرة على الإحساس بآلام الآخرين صفة لازمة للإنسان الذي يحاول تخفيف أعباء الحياة وآلامها عن إخوته في الإنسانية ... » (1).

المشاعر الشاذة :

لمعرفة الطباع الفطرية للطفل ، وتمييز مشاعره الطيبة عن الفاسدة يجب على الوالدين أن يراقباه منذ الصغر مراقبة مضبوطة ويتتبعا حركاته بدقة. فإذا كان الطف يملك مشاعر شاذة فلا شك في أنها تظهر من خلال افعاله وأقواله. إن الوالدين الفطنين يستطيعان إدراك الحوافز النفسية والدوافع العاطفية للطفل من وضع حركاته وسكناته. فإذا وجدا في ذلك انحرافاً واعواجاجاً حاولا إصلاحه ، وتوجيه تلك الحوافز والدوافع نحو الطريق الصحيح والصفات الفاضلة.

« قبل أن يستطيع الطفل الوقوف على قدميه والأخذ في المشي يجب أن يدير رأسه عندما يناديه أحد. فإذا رأيتم أنه يتخلف عن ذلك

ص: 110


1- الإنسان ذلك المجهول ص 105 - 106.

فاعلموا أنه يطمح في الاستقلال ، وان عمله هذا يدل دلالة واضحة على خُلُق يجب أن يعدّل. فليس هذا الطموح في الاستقلال ولا ذلك الخلق بالأمر المستحسن. إذ الطفل يجب أن يدير رأسه ، ولكنه إذا كان يطمح في الاستقلال فإنه سيكشف عن ذلك فيما بعد ».

« يضرب الأرض برجله ، يثور. فإذا لم يكن في حاجة إلى شيء أي أنه شبعان وقد نال حصة كافية من النوم فاعلموا أن ذلك كله يدل على حالة عصبية يجب أن تقتلع جذورها. في مثل هذه الحالات يكفي إهماله وعدم الاعتناء به لبضع دقائق. انكم تقولون : أن هذه الحالة العصبية نموذج لشخصيته البارزة. ولكن الأمر ليس كذلك. يجب إزالة هذه الحالة وإذا كان يملك شخصية بارزة فاعتقدوا بأنها ستظهر إن قريباً أو بعد فترة » (1).

الحب حجاب العقل :

لا يخفى أن هناك سداً كبيراً وحاجزاً مهماً في سبيل معرفة العيوب العاطفية للأطفال من قبل الوالدين وحنانهما. إن أكثر الرجال والنساء يعرفون الصفات السيئة لأطفال الناس بصورة جيدة ، ولكنهم يغفلون عن رؤية الصفات السيئة في أطفالهم. والسبب في ذلك يعود إلى أن منظارهم الذي ينظرون به الى سلوك أطفال الآخرين ناصع ومتقن ، بينما يقف الحب حاجزاً بين منظار عقلهم ورؤية عيوب أطفالهم.

إن أفضل الآباء والأمهات هم الذين يبعدون حب أطفالهم عن حساب التربية ، يحبونهم حباً خالصاً ، ولكنهم في الوقت نفسه ينظرون بعين البصيرة والدقة إلى عيوبهم ويحاولون بصورة جدية اقتلاعها وإزالتها وإحلال الفضائل والمثل محلها. فإذا كان الأطفال يملكون صفات وراثية وفطرية فاضلة وتوجد في أعماقهم مشاعر وأحاسيس طيبة فإن تربيتهم سهلة وبالامكان أن يستوعبوا الفضائل والكمالات والمثل بسرعة فينشأوا أفراداً بارزين. أما إذا كانوا متطبعين على صفات وراثية بذيئة وكان بناؤهم العاطفي مشوباً بالرذائل والأحاسيس الممقوتة فإنهم بحاجة الى رعاية

ص: 111


1- چه ميدانيم؟ تربيت اطفال دشوار ص 173.

أدق وعناية أكثر. يجب على الوالدين حينئذ أن يتخذا الاساليب التربوية المفضلة في حقهم. فيعملان على دحر المشاعر الشاذة والصفات البذيئة في الطفل من جهة ، ويعوّدانه على الفضائل والملكات الحميدة من جهة أخرى حتى تنشأ فيه من التكرار والاستمرارية طبيعة ثانوية تستقر في روحه وضميره ، وتختفي عواطفه الفطرية غير المحبذة بالتدريج.

لا شك في أن التنمية السليمة لعواطف الطفل وتوجيهها الوجهة الصحيحة تشكل أحد الفصول التربوية الأساسية ، وتعتبر من الواجبات المهمة للوالدين. فالطفل الذي ليس مجنوناً بالولادة ولا توجد اختلالات أساسية في مخه يكون قابلاً للتربية وبالإمكان توجيه عواطفه إلى طريق الفضيلة وجعله يتمتع بالملكات الحميدة والسجايا الطيبة.

مناغاة الطفل :

من أفضل وسائل تنمية عواطف الطفل مناغاته ومعاملته بالرفق والحنان. فكما أن الطفل يحتاج الى الطعام والماء والهواء والنونم بفطرته ، كذلك يحتاج الى العطف والحنان. فالعطف أطيب الأطعمة النفسية للطفل إنه يتلذذ من تقبيله وشمّه ومناغاته واحتضانه ورعاية عواطفه ويُسّر لذلك كثيراً.

الحب أساس البناء الخلقي والفضائل. إن حب اللّه للناس ، وحب الناس لله ، حب النبي والإمام للأمة ، وحب الأمة للنبي والإمام ، حب المسلمين تجاه بعضهم البعض أساس الدين الإسلامي. وقد ورد التأكيد على الحب في القرآن الكريم والروايات بدرجة كبيرة ، حتى أن الإمام الصادق علیه السلام يقول : « هل الدين إلا الحب »؟ (1).

إن جميع الجهود التي بذلها الأنبياء في تبليغ رسالاتهم إلى الناس ، وجميع التضحيات التي تحملها المجاهدون في ميادين الحرب ، وجميع العبادات

ص: 112


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 23ص 122.

والمساعدات التي يقوم بها المحسنون تنبع من ينبوع واحد ألا هو الحب ... حب اللّه ... حب دين اللّه.

الحب هو الذي يحيل المرارة الى حلاوة.

والحب هو الذي يهدىء الآلام.

والحب هو الذي يحوّل الأشواك إلى أزهار.

والحب هو الذي يجعل من السجن روضة.

والحب هو الذي يحوّل النار نوراً.

والحب هو الذي يزيل المآسي.

والحب هو الذي يجعل من الصفعة دغدغة.

والحب هو الذي يحيي الموتى.

والحب هو الذي يجعل الملك عبداً (1).

العطف على الصغير :

إن الطفل الذي يتلقى مقداراً كافياً من العطف والحنان من أبويه ، ويروى من ينبوع الحب يملك روحاً غضة ونشطة. انه لا يحس بالحرمان في باطنه ولا يصاب بالعقد النفسية ، تتفتح أزاهير الفضائل في قلبه بسهولة وإذا لم تعتوره العراقيل في أثناء طريقه فإنه ينشأ إنساناً عطوفاً وفاضلاً يكنّ الخير والصلاح للجميع لقد ورد التأكيد على العطف على الصغار في الأحاديث بصورة كثيرة وها نحن نقرأ بعضاً منها :

1 - عن الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله ، في خطبة له حول واجبات المسلمين في شهر رمضان : « وقّروا كباركم وارحموا صغاركم » (2).

2 - وقال صلی اللّه علیه و آله : « ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولم يوقّر كبيرنا » (3).

ص: 113


1- وردت في الأصل الفارسي تسعة أبيات من العشر ترجمتها نثراً ولكن أبقيت كلا منها في سطر مستقل حفاظاً على المعنى الإستقلالي لكل بيت.
2- عيون أخبار الرضا : 163.
3- مجموعة ورام ج1ص134.

3 - في ما أوصى به امير المؤمنين علیه السلام عند وفاته : « وارحم من أهلك الصغير ووقر الكبير » (1).

4 - عن علي علیه السلام : « لِيتأسَّ صغيركم بكبيركم ، وليرأفْ كبيركم بصغيركم ، ولا تكونوا كجفاة الجاهلية » (2).

5 - وعن الإمام الصادق علیه السلام : « إن اللّه عز وجل لَيرحُم الرجل لشدة حبه لولده » (3).

6 - قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أحبّوا الصبيان وارحموهم » (4).

7 - وجاء بيان صفاته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « وكان النبي إذا أصبح مسح على رؤوس ولده » (5).

تقبيل الطفل :

1 - عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من قبل ولده كتب اللّه عز وجل له حسنة ، ومن فرّحه فرّحه اللّه يوم القيامة » (6).

2 - وقال علیه السلام : « اكثروا من قُبلة أولادكم فإن لكم بكل قبلة درجة » (7).

3 - وفي الحديث : « قبّل رسول اللّه الحسن والحسين. فقال الأقرع بن حابس : إنّ لي عشرة من الأولاد ما قبّلت واحداً منهم. فقال : ما عليّ أن نزع اللّه الرحمة منك » (8).

ص: 114


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ح16ص154.
2- نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص531.
3- مكارم الأخلاق للطبرسي ص 113.
4- وسائل الشيعة للحر العاملي ح5ص126.
5- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج23ص114.
6- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج6ص49.
7- وسائل الشيعة للحر العاملي ج5ص126.
8- مكارم الأخلاق للطبرسي : 113.

4 - قال أمير المؤمنين علیه السلام : « قُبلة الولد رحمة ، وقُبلة المرأة شهوة ، وقُبلة الوالدين عبادة ، وقُبلة الرجل أخاه دين » (1).

العطف في ظل الإيمان :

ورد في الحديث أن النبي صلی اللّه علیه و آله كان يصلي يوماً في فئة ، والحسين صغير بالقرب منه. فكان النبي إذا سجد جاء الحسين (عليه السلام) فركب ظهره ثم حرّك رجليه فقال : حَلْ ، حَلْ!

فإذا أراد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن يرفع رأسه أخذه فوضعه إلى جانبه. فإذا سجد عاد على ظهره ، وقال : حَل° ، حَل°! فلم يزل يفعل ذلك حتى فرغ النبي من صلاته.

فقال يهودي : يا محمد إنكم لتفعلون بالصبيان شيئاً ما نفعله نحن.

فقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أما لو كنتم تؤمنون باللّه ورسوله لرحمتم الصبيان.

قال : فإني أؤمن باللّه وبرسوله. فأسلم لمّا رأى كرمه مع عظم قدره (2).

يستفاد من هذا الحديث والأحاديث المتقدمة عليه مدى أهمية الحب والعطف في أسلوب تربية الطفل. فعلى المسلمين جميعاً أن يترحموا على جميع الأطفال بصورة عامة ، وعلى أطفالهم بصورة خاصة. فالحياة السليمة والطبيعية عبارة عن الاتباع الصحيح لقوانين الفطرة. ومن يتخلف عن القوانين الفطرية التي هي سنة اللّه عز وجل في هذا الكون يلاق جزاءه الصارم بلا شك. إن الحاجة الى الطعام أمر فطري للإنسان والامتناع عن تلبية هذه الحاجة الفطرية يؤدي إلى الضعف والعجز وفي صورة الاستمرار على ذلك يؤدي إلى الموت. والحاجة إلى النوم فطرية للإنسان أيضاً ، وان كل محاولة للاستغناء عنها تتضمن خطر الإنهيار الصحيح وإذا استمر ذلك كان الموت بالمرصاد. الميل الجنسي أمر طبيعي بالنسبة الى الإنسان السليم وكبت هذا الميل يستتبع مشاكل نفسية متعددة وربما أدّى إلى الجنون.

ص: 115


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ح23ص113.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ح10ص83.

الحاجة الى العطف فطرية :

من الميول الفطرية للإنسان ، والتي تظهر في فترة الطفولة الحاجة إلى العطف والحنان. إن الاستجابة لهذا الميل الطبيعي وإشباع هذه الحاجة جزء من المنهاج الفطري. إذا نال الطفل حظاً وافراً من العطف والحنان في أيام طفولته كان ذا روح مطمئنة ونفس وديعة وكان سلوكه طبيعياً طيلة أدوار حياته. أما الأطفال المحرومون من الحب العائلي وعطف الوالدين فإنهم يملكون أرواحاً ملؤها اليأس والتشاؤم ويكونون على شفا جرف من الانحراف.

« الأسرة التي لا يشع فيها نور العطف ، والبيت الذي يُحرم من روح التفاهم والتسامح يساعدنا على البحث عن كثير من الآلام الروحية والاضرار الإجتماعية. عندئد يجب أن يبذل الإهتمام الكافي لحماية القلوب المندحرة ومعالجة الحرمان الذي أصاب اصحابها بصورة معقولة ».

« هؤلاء ينشأون على خواطر مرة علقت بأذهانهم من سلوك الوالدين تجاههم منذ الطفولة ، وفي الغالب يكونون معرضين للوقع في شَرَك اليأس ، والتشاؤم ، وعدم الإنسجام ، والنفور ، والإنتحار ، والإجرام ، والأمراض الروحية والعصبية » (1).

حرمان اليتيم من العطف :

إن الأطفال الأيتام الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم مصابون بمشكلتين : الأولى هي العوز المادي ، والثانية هي الحرمان من العطف. إن الاحتياجات المادية لليتيم تشبع في جميع البلدان بنسب مختلفة ، ولكن قلما يصادف أن يعيش اليتيم في أسرة ينعم فيها - بالإضافة إلى إشباع الحاجات المادية - بالعطف والحنان ، بحيث يجد رب الأسرة نفسه بمنزلة الأب لذلك الطفل فيراعي عواطفه ويحن عليه كما يحن على أولاده.

ص: 116


1- روح بشر ص 103.

تهتم المؤسسات الخيرية في الدول المتمدنة بضمان حياة الأيتام ، وتقوم باعداد وسائل الثقافة والتعليم لهم بالإضافة إلى ضمان الطعام والكساء والمأوى .. لكن يبقى هؤلاء محرومين من حنان الوالدين ، هذا الحرمان يجر وراءة سلسلة من الآثار والنتائج السيئة التي تظهر تدريجياً في أقوال اليتيم وأفعاله عندما يشب.

« يضمن اليتيم نتائج وخيمة للفرد والمجتمع ، سواء كان حاصلاً بفقد الأب أو موت الأم. لقد لاحظ علماء النفس والتربية بصورة عامة في التحقيقات التي أجروها في هذا المجال أن اليتم أحد العوامل المهمة للتشرد والتخلف العلمي والاجتماعي ، والاجرام والفوضى ».

« يذكر أحد علماء النفس الألمان ضمن بحوثه التي أجراها على أثر اليتم في التحصيل العلمي أن من بين التلاميذ الراسبين في المدارس 44% محرومين من الآباء ، و 33% محرومين من الامهات ، أي 77% من الراسبين كانوا ايتاماً. وهكذا فاإن تحقيقاً مشابهاً أجري أمريكا حول مشاكل التربية فوجد أن 25% من الأطفال المعقدين في إحدى مدارس نيويورك كانوا أيتاماً. كما أن تحقيقاً آخر حول الأطفال والراشدين المجرمين أجري في ألمانيا فكانت النتيجة أن من بين 2704 شاباً مجرماً كان 1171 شاب منهم ، وهذه النسبة تعني اكثر من 43% من المجموع. لقد أجري تحقيق آخر في امريكا حول المساجين فوجد أن 60% من الذين أجري التحقيق معهم كانوا يرجعون إلى أسر منهارة بموت الأب أو الأم كما توصل عالم الماني إلى نتيجة خطيرة وهي أن من بين الفتيات اللاتي ارتكبن السرقة 38% يتيمات ، ومن بين الفتيات اللاتي أنشأن علاقات جنسية غير مشروعة أو خضعن للاعتداء الجنسي 40% منهم يتيمات. وفي إحدى التحقيقات الاجتماعية والنفسية التي أجريت في الولايات المتحدة نجد أن 70% من الفتيات التي يقضين حياتهن في مدارس التأديب التابعة لمحكمة الأحداث كن يتيمات إمّا يتماً

ص: 117

منفرداً أو مزدوجاً ، أي فاقدات للأب أو الأم فقط ، أو فاقدات لهما معاً » (1).

أمارة الإنسانية :

إن حب الناس والعطف عليهم أبرز سمات العاطفة الإنسانية. من الضروري أن يتربى كل درد من أي أمة كان والى أعي عنصر انتمى على حب الخير للجميع. فحب الناس أحد الأركان الأساسية للسلام العالمي والسعادة البشرية ، وهو بعد رمز للتكامل الروحي الذي يحرزه الفرد.

« عن أبي الحسن علیه السلام قال : إن أهل الأرض لمرحومون ما تحابّوا ، وأدّوا الأمانة ، وعملوا الحقّ » (2).

يجب أن يتلقى الفرد درس حب الخير للجميع منذ الصغر. إن الوالدين اللذين يبذلان العطف والحنان لطفلهما يستطيعان أن يفهماه كيف يحب الآخرين. أما الطفل الذي لم ير عطفاً من أحد أبداً ولم يذق طعم الحنان فإنه لا يفهم معنى للحب ولا يدرك هذه الحقيقة الروحية الطيبة أصلاً. إنه وجد في الحياة برودة وجفاء ، وتزمتاً وعقاباً ... ولذلك فهو يسلك مع الناس بتلك الصورة أيضاً ، ولذلك فلا يجب أن ننتظر من فرد كهذا أن يكون محباً للناس.

إن العطف والحنان في الأسرة أساس التنمية الصحيحة لعواطف الطفل. وفي ظل المشاعر والعواطف فقط يمكن هدايته الى الطريق المستقيم والحياة السعيدة ، أما الطفل الذي حُرم من العطف والحنان فإن مشاعرة تسير نحو طريق منحرف فيصاب بالقسوة والشدة ، ويشعر بالتشاؤم والإشياء ، وتشب في نفسه نيران الحقد والبغضاء ، وعشرات من الصفات الذميمة الأخرى.

ص: 118


1- روح بشر : 93.
2- مجموعة ورام ج1ص12.

المحاضرة الحادية والعشرون: تنمية الإيمان في نفس الطفل

قال اللّه تعالى في كتابه العظيم : ( ... الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) (1).

اليوم هو الحادي والعشرون من شهر رمضان ، ويصادف استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ، نعزّي المسلمين كافة بهذه الفاجعة العظمى والمصيبة الفادحة.

لقد ذكرنا في المحاضرة السابقة العقل والعواطف طاقتان إلهيتان عظيمتان ، وثروتان فطريتان. ويجب الإستفاده من هاتين الطاقتين معاً في سبيل تحقيق السعادة. وكما أن العلم والعدالة ، والمنطق والاستدلال ، والتفكير والتعقل ، ضروري للتكامل البشري ، كذلك الاخلاق والفضيلة ، الحب والعطف ، فاإنه لا يستغنى عنها. وهكذا انتهينا الى أن الوالدين مسؤولان عن رعاية عواطف الطفل وعقله في سبيل تربته ، وعليهما أن يهتما بتنمية كل منهما بأسلوب دقيق.

تنمية الإيمان :

من واجبات الوالدين في القيام بالمهمة التربوية تنمية المشاعر الايمانية والخلقية في نفس الطفل. يجب على الآباء والأمهات المسلمين - حسبما تصرّح به الأحاديث - أن يربّوا اطفالهم على الإيمان ، ويوقظوا فيهم فطرة عبادة اللّه بواسطة العبادات التمرينية ، فيشجعوهم على إتباع الأوامر الإلهية ، والإرتباط بالخالق العظيم.

ص: 119


1- سورة آل عمران ، الآية: 12.

الحقائق غير القابلة للقياس :

ينبغي أن نقدم أمام البحث تمهيداً بيسّر لنا الدخول إلى صلب الموضوع. إن الحقائق التي توجد في العالم يمكن تقسيمها تقسيماً علمياً الى طائفتين : الطائفة الأولى - وتشمل الموجودات التي استطاع العلماء من قياسها بالوسائل والآلات الدقيقة والقوية في ظل التقدم العلمي الذي يحرزه الإنسان يوماً بعد يوم ، وإخراج نتائج تلك الموازنات بصورة أرقام مضبوطة أو تقريبية. والطائفة الثانية - تشمل الحقائق الموجودة الأخرى التي لا يملك العلم البشري مقدرة علمية تجريبية عليها ، فهي لا تخضع للقياس ، ولا يستطيع العلماء من مقايستها بواسطة مقاييس مضبوطة. أن عدد الحقائق التي لا تقبل القياس العلمي في جميع الموجودات بصورة عامة وفي تكوين الإنسان بصورة خاصة كبيرة جداً ويرى العلماء والباحثون ان تلك الحقائق أهم بكثير من الحقائق القابلة للقياس.

« ... ولقد جلب الكم ، المعبر عنه باللغة الحسابية ، العلم للانسانية في حين أهمل النوع .. ولقد كان تجريد الأشياء من صفاتها الأولية أمراً مشروعاً ، ولكن التغاضي عن الصفات الثانوية لم يكن كذلك .. فالأشياء غير القابلة للقياس في الإنسان أكثر أهمية من تلك التي يمكن قياسها .. فوجود التفكير هام جداً مثل التعادل الطبيعي - الكيميائي لمصل الدم » (1).

فالسل والسرطان مثلا مرضان خطيران ، وداءان وبيلان للانسان. كل واحد منهما يكفي لاضعاف المصاب به ، ونحول جسده ، وتدمير حياته. لقد اكتشف الأطباء جميع الأعراض المميزة لهذين المرضين بالأدوات والوسائل العلمية ، وتوصلوا الى طرق الوقاية منهما في المختبرات بفضل الأجهزة الدقيقة ، فاستطاعوا من معرفة انتشار المرض ، والظروف المساعدة لذلك ، والخسائر التي يتضمنها ، وكلّ ما يرتبط به بصورة مضبوطة.

ص: 120


1- الإنسان ذلك المجهول ص 214.

والحسد أيضاً داء خطير كالسل والسرطان ، وربما كان الضرر الناشيء منه أشد من الأضرار الناشئة من ذينك المرضين بكثير ، إذ أنه يترك آثاراً سيئة على جسد المصاب به وروحه. إنه يفسد العقل ، ويقتل الإنسانية ، ويبعث الانسان على الاجرام والخيانة ، يذهب بالصفاء والنشاط ، ويسلب الراحة والنوم ، ويؤدي الى تسمم الجسم في نهاية المطاف فيدمر حياة صاحبه. هذا المرض ليس قابلا للفحص والقياس في المختبرات ، إنه لا يملك ميكروباً خاصاً ، ولا يمكن مشاهدته تحت المجاهر القوية. الحسد عبارة عن حالة نفسية ، وإحساس باطني ... إنه حقيقة لا تقبل الانكار ، تتضمن عشرات العوارض على جسد المصاب به وروحه ... ومع ذلك فلا يمكن قياس ذلك بواسطة الآلات والأجهزة العلمية.

إن حوادث الاخفاق والفشل ، والانهيار الروحي ، والعقد النفسية ، ومظاهر القلق والإضطراب تضعف الجسم كمرض الملاريا ، وتتضمن عشرات العوارض المختلفة. إن مرض الملاريا يمكن فحصه ومعرفته بواسطة الاجهزة العلمية ، أما الإخفافات والعقد النفسية فإنها ليست قابلة للفحص بالوسائل العلمية المادية.

الجماليات :

تصوروا غصناً جميلاً من الورد يتباهى في زاوية الحديقة ، ويُعجب الناظرين ، ويبعث اللذّة والسرور في نفوسهم من مشاهدته ، ويبهرهم جماله ولطافته. للوردة حساب خاص ولجمالها حساب آخر. الوردة من الموضوعات العلمية وجمالها من المسائل العاطفية. يستطيع العلماء المتخصصون من قياس الوردة ، ومعرفة مكوناتها وعناصرها الطبيعية ، وإعطاء أرقام صحيحة ومضبوطة عنها. أما جمال الوردة فلا يخضع للقياس. تلك الحقيقة المدهشة ، والجاذبية الخاصة التي تجمع الناس حول الوردة وتبعثهم على استلطافها والتلذذ برؤيتها لا يمكن أن تخضع لفحوص العلماء في المختبرات. الجمال تفهمه عواطف الإنسان ، وتحسّه مشاعر بني البشر ، فلا يدركه العقل أو العلم ، ولا الفحص والاختبار. إن المسائل العلمية هي التي تكون قابلة للفحص والقياس ، وعواطف الإنسان ومشاعره تخرج من ميدان العلوم التجريبية ، ولا يمكن للاجهزة والوسائل العلمية ضبطها.

ص: 121

ومقال آخر نلاحظه في لوحة رسام ماهر أجادت يد الفن صنعها ورسمها ... إنها تُقد ، ر بآلاف الدنانير ، وربما تصرف آلاف الساعات من العمر الثمين للأشخاص في مشاهدة تلك اللوحة والاستمتاع بجمالها. إن ما يخضع للقياس والنظر العلمي من هذه اللوحة لا يزيد على 10 غرامات من اللون الأحمر ، و 100 غرام من اللون الأخضر ، و50 غرام من اللون الأزرق ممزوجة حسب مقادير معينة ، وشيء من القماش والخشب ... وكلّ ذلك لا يساوي اكثر من بضعة دراهم ، غير أن في هذه اللوحة الثمينة عنصراً آخر يجعل ثمنها يرتفع إلى آلاف الدنانير ، هذا العنصر ليس علمياً أو عقلياً وليس عنصراً كيمياوياً أو مختبرياً ، انه لا يقاس بالأجهزة والأدوات العلمية ... إنه عنصر الجمال واللطافة ، وهذا يجب أن يعرض في سوق الذوق ، والطلب عليه يتمثل في العواطف والمشاعر. اإن العناصر الكيمياوية والمواد الطبيعية للوحة قابلة للقياس والحساب العلمي ، أما جمالها فلا يقاس في المختبرات.

إن حقيقة الإيمان الساطعة ، والأخلاق الفاضلة كالايثار ، والشجاعة ، والكرم ، والعفة ، والرأفة ، والمحبة وأمثالها ، وكذلك السيئات الخلقية كالحسد ، والتكبر ، والحقد ، والجشع ونظائرها من المسائل النفسية ، وترتبط بمشاعر الناس وعواطفهم. إن السجايا الفاضلة والبذيئة حقائق تترك آثارها الطبيبة او الخبيثة على روح الإنسان وجسده ومع ذلك فهي غير قابلة للقياس بالوسائل المادية والاجهزة العلمية. إن وجود حقيقةٍ ما يختلف عن إمكان قياسها ، يجب أن ننظر إلى هذه الحقائق بعين البصيرة ونعترف بوجودها وإن عجزت الوسائل العلمية عن قياسها وضبطها.

« تبدو الوسيلة العلمية للنظرة الأولى غير قابلة للتطبيق على تحليل جميع وجوه نشاطنا ، ومن الواضع أننا نحن المراقبين غير قادرين على تتبع الشخصية البشرية في كل منطقة تمتد إليها ، لأن فنوننا لا تفهم الأشياء التي لا أبعاد لها ولا وزن ، وإنما هي تصل فقط للمناطق التي تقع في الاتساع والزمن ... إنها غير قادرة على قياس الغرور والحقد والحب والجمال أو احلام العالم وإلهام الشاعر ، ولكنها تسجل بسهولة النواحي الفسيولوجية النتائج المادية لهذه الحالات النفسانية .. ان النشاط العقلي والروحي يعبران عن

ص: 122

نفسيهما بتصرف معين ، أو عمل معين ، أو موقف معين ، نحو إخواننا في البشرية حينما يلعبان دوراً هاماً في حياتنا ... ولكن من المحقق أن إتسام الأشياء بالمراوغة ليس معناه عدم وجودها » (1).

« ليس من الضروري أن تكون الحقيقة واضحة بسيطة. بل انه ليس من المحقق أن نكون دائماً غير قادرين على فهمها. وعلاوة على ذلك فإنها تفترض آراء مختلفة لا حدود لها .. إن حالة الشعور ، وعظمة الكتف ، والجرح ، هي أيضاً أشياء حقيقية. كما أن الظاهرة لا تدين بأهميتها إلى سهولة تطبيق الفنون العملية حين دراستها. وإنما يجب أن ترى وهي تؤدي وظيفتها ، لا بالنسبة للمراقب ووسائله وإنما بالنسبة للكائن الحي. فحزن الأم التي فقدت طفلها ، وجزع النفس الحائرة في ( الليل البهيم ) وعذاب مريض السرطان ، كل أولئك حقائق واضحة على الرغم من أنها غير قابلة للقياس » (2).

الانتصارات العلمية :

يتميز عصرنا هذا بالإكتشافات العلمية الدقيقة ، والتوصل الى رفع الستار عن الأسرار الكونية المودعة في الطبيعة. فقد فحص العلماء الذرات الصغيرة الأرضية ، والاجرام السماوية العظيمة ، ووقفوا على حلّ كثير من الرموز التي كانت مجهولة لدى السابقين. في المدنية العصرية خرج العلم من مرحلة التصور والتخيل إلى مرحلة التجربة والحسن ، وأخذت المختبرات العلمية تجيب عن مواليد الطبيعة بلغة الأرقام المضبوطة.

لقد أحدث العلم الحديث انقلاباً عظيماً في جميع شؤون الحياة وأرسى أسس المدنية المعاصرة. فاستطاع الإنسان أن يتغلب بسلاح العلم على الطبيعة ويكشف النقاب عن المجهولات واحدة تلو الاخرى ، ويطلع على زوايا الطبيعة المظلمة وأسرارها تدريجياً. لقد عرف الانسان بسائط هذا العالم ومركباته وعن طريق معرفة

ص: 123


1- الإنسان ذلك المجهول : 41.
2- الإنسان ذلك المجهول : 39.

العلل والمعلولات استكشف دور كل منها في العالم الحي والميت ... لقد عبر الحدود المحرمة للذرة ، وفجّر نواتها ، واستغل طاقتها الهائلة ... وتغلب على مدار جاذبية الأرض وقذد بصواريخه الى خارج ذلك المدار. انه يفكر في تسخير الأجرام السماوية ، ويأمل في أن يأتي اليوم الذي يجد نفسه فيه مسيطراً علىالكرات الفلكية بقوة العلم.

هذه الانتصارات جميعها ، استطاع الإنسان من إحرازها عن طريق العلم ، العلم المستند الى التجربة ، العلم المحسوس ، العلم المختبري ، العلم الذي يستند الى المحاسبة والقياس. لقد سيطرت العلوم التجريبية - بفضل التقدم الذي أحرزته - على أفكار الناس وعقولهم ، ودعتهم الى إنشاء الجامعات على أساس هذه العلوم ... وشيئاً فشيئاً قصرت عقول الناس على الحقائق القابلة للقياس ، وتُركت الحقائق غير القابلة للقياس بيد النسيان والاهمال. لقد سيطرت العلوم التجريبية على عقول بعض البسطاء وغرّتهم الى درجة أنهم أنكروا جميع الحقائق التي لا تخضع للحسّ ، فأنكروا وجود اللّه ، وسخروا من الإيمان به وبالأنبياء ، وزهدوا بأمر التكامل الروحي والتعالي المعنوي ، وهذا هو نقص كبير في المدينة المعاصرة.

قصور العلم :

لقد اعترف مسؤسسو المدنية الحديثة بصورة صريحة بأن المعلومات البشرية في هذا العالم الفسيخ ضئيلة ومحدودة جداً. وإن العلماء المعاصرين يذعنون الى قصور العلم عن معرفة ملايين الحقائق الخفية والمودعة في وجود الإنسان والكون.

« يقول أديسون : إن من بين 1% من مجموع الحقائق لا تعرف سوى جزء من المليون جزء منها. وأما نيوتن فقد قال : ان العلم العام يشبه خليجاً لم ألتقط أنا وزملائي سوى بعض الحصى الظريفة من ساحله المترامي » (1).

ولو فرضنا - جدلاً - أن الإنسان استطاع في يوم ما أن يدرك بفضل التقدم

ص: 124


1- راه ورسم زندكي ص 101.

العلمي الهائل جميع الحقائق العقلائية التي تتصل به وبالكون الفسيح ، وتمكن من إخضاعها لمقاييس ثابتة ، فيجب أن نقول أنه أدرك جانباً واحداً من حقائق الكون والإنسان ولا يزال يجهل كل شيء عن الجانب الآخر ، لأن الحقائق لا تنحصر في المسائل العقلائية ، ولا يمكن معرفة جميع الأشياء بالاستدلال العقلي ، والمنطق العلمي. إن المسائل العاطفية والحقائق غير العقلائية تشكل ركيزة مهمة من كيان الإنسان ، ولا طريق للعقل والمحاسبات العلمية اليها. وعلى الرجال المثقفين والواعين أن يخلصوا أنفسهم من أسر الغرور العلمي إذا أرادوا أن يدركوا الحقيقة كما هي ، وأن يعيروا أهمية تذكر للحقائق الاشراقية والواقعيات النفسية غير القابلة للقياس إلي جانب اهتمامهم بالحقائق العلمية والقياسية حتى يستفيدوا الفائدة القصوى من هاتين الطاقتين العظيمتين في سبيل تحقيق التكامل الفردي والإجتماعي.

« في حياة العلماء والأبطال والعظماء صورة لا تقبل النفاذ من الطاقة المعنوية. هؤلاء الأفراد يشبهون القمم العالية وسط الوديان ، وهم يرشدوننا إلى المستوى الذي نستطيع بلوغه من التكامل ، ويشيرون إلى عظمة الهدف الذي يرغب الشعور الإنساني في تحقيقه. هؤلاء فقط يستطيعون أن يعدّوا لنا الغداء المعنوي الذي نحتاجه لحياتنا الباطنية »

« توجد في النفس الانسانية عوامل لا يمكن وصفها بعبارات وألفاظ ، وهي عبارة عن الاشراق والميول الغريزية ، والإحساس المتيافيزيقي. إن المقدرة الفردية والوطنية قد تنبع من هذه الثروات المعنوية. هذه الطاقات المعنوية التي لا توصف تنعدم في الأمم التي تريد أن تصف كل شيء بمعادلات واضحة ، وهي منعدمة في فرنسا في الوقت الحاضر ، لآنّ الفرنسيين يرفضون كل ما هو خارج عن الحدود العقلائية ، ويجهلون حقيقة الأشياء التي تعجز الكلمات عن بيانها ».

« إن الذين يرغبون في إحراز الكمال المحدّد للإنسان يجب عليهم أن يتخلوا عن الغرور الفكري ، ويهتموا بتنمية الشعور الجمالي والحسن الديني في نفوسهم ، إن حب الجمال وحب الخالق لا

ص: 125

يمكن الوصول اليه عن طريق معادلة رياضية ، ذلك أن الشعور الجمالي لا يحصل إلا بالجمال نفسه. إن حب الجمال يرفع صاحبه الى مستوى عال جداً ، لأنه يجذب قلوبنا نحو الشجاعة والإستقامة والجمال المطلق واللّه تعالى. وعلى أجنحة المعرفة فقط تستطيع النفس الإنسانية أن تصل إلى التكامل المنشود » (1).

الإيمان باللّه :

لقد اهتم الإسلام في تعاليمه القيمة الى جميع الجوانب العقلائية والعاطفية للبشر. فدعا الناس من جهة الى التعقل والفتفكير ، وحثهم على العلم والمنطق ... ومن جهة أخرى تحدّث عن تزكية النفس والتكامل الروحي. إن الدين الإسلامي يطفح بالقوانين والنظم العقلية القائمة على الاستدلال والبرهان ، ولكن ليس الإسلام يطفح بالقوانين والنظم العقلية القائمة على الاستدلال والبرهان ، ولكن ليس الإسلام كله عبارة عن المسائل العقلائية والحقائق الخاضعة للقياس ، إن روح الإسلام أسمى من العقل ، وأعلى من المحاسبات العلمية.

إن الإيمان باللّه الذي هو الركيزة الأولى لدين اللّه يحصل بسلوك مرحلتين : الأولى عقلية وهي إثبات وجود اللّه ، والثانية أسمى من الأولى وهي الإيمان باللّه. في المرحلة الأولى يستفيد القرآن الكريم من قوة العقل ويدعو الناس الى التفكر في خلق اللّه وفي النظام الدقيق الذي يسود الكون كي يصلوا من هذا الطريف الى وجود الخالق الحكيم العالم ، مستخدمين في ذلك الأدلة والبراهين العقلية والعلمية. أما الإيمان باللّه فإنه لا يحصل بمجرد النظر في قانون العلّية بمنظار العقل فحسب ، بل يجب أن يسمو هذا الحساب العلمي إلى درجة أرقى ، وينفذ من العقل الى الروح ويستقر في القلب ... عند ذاك تخرج هذه الحقيقة من صورة الأستدلال العقلي الجاف الى حالة من الشوق والاندفاع ... الى الحب الإلهي الذي ينفذ في جميع ذرّات وجود الإنسان. يجب أن يتكامل ذلك المنطق العقلي في الضمير الباطن ويتحول الى إيمان حقيقي وإذعان لا يوصف.

ص: 126


1- راه ورسم زندكى : 101.

وكتطبيق للفكرة المارّة الذكر نمثّل بالصلاة ...

الصلاة والاستقرار النفسي :

الصلاة من الفرائض الإسلامية المهمة ، وتشتمل على الجانبين العقلي والاشراقي. أما الجانب العقلي المنظم فيتمثل في : الغسل ، الوضوء ، السواك ، المضمضة ، الاستنشاق ( من حيث النطافة ) ، إباحة ماء الوضوء واللباس ، ومكان الصلاة ( من حيث النظام المالي في المجتمع ) ، الترتيب بين أجزاء الصلاة ( من حيث التعوّد على النظام ) ، عقد الجماعة ( من حيث تشديد أواصر الصفاء بين أفراد المجتمع ) ، القيام ، القعود ، الركوع السجود ( من حيث الحركات الرياضية المتزنة ) ، قراءة الفاتحة والسورة وسائر الأذكار ( من حيث الحركات الرياضية المتزنة ) ، قراءة الفاتحة والسورة وسائر الأذكار ( من حيث الإيحاءات النفسية ) ... وأمور أخرى مشابهة لها بجمعها كونها أمور محسوسة وظاهرة للعيان وقابلة للحساب العلمي أما روح الصلاة وحقيقتها فلا تدرك بالمحاسبة العلمية. إن روح الصلاة تتمثل في القرب من اللّه والارتباط الروحي بالخالق. الصلاة معراج المؤمن ومدعاة الصفاء الباطن ، تبعث الاستقرار والهدوء النفسي في نفس المصلي ، إنها أفضل الملاجيء المعنوية للمصلّين الخاضعين الخاشعين ، وإن الحالة الوجدانية والسمو النفسي الذي يحصل للمصلي لا يوصف بلسان العقل ، ولا يخضع للمحاسبة العلمية. وحقيقة الصلاة التي لا توصف هي التي تطهر الضمير الباطن من كل انحراف أو إجرام ، «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ» (1).

إن طاقة الإيمان الجبارة ، والقدرة التي توجدها في نفس المصلي المؤمن عظيمة إلى درجة أنها تستطيع أن تسيطر على الغرائز الثائرة ، وأن تقف أمام الإفراط في الميول ، وتطهر الإنسان من الرجس والدنس ، وتمنعه من الإنحراف حتى في الحالات التي لا يوجد أحد يراقبه.

ص: 127


1- سورة العنكبوت ص 45.

المناجاة :

إن الحالة الروحية للرجال الأصفياء ، والثورة الباطنية للعارفين ، ومناجاتهم بين يدي اللّه تعالى في ظلمة الليل البهيم حقائق لا توصف ولا تقاس ولكنها أساس أعظم التحولات الروحية والكمالات النفسية. فالشجاعة وضبط النفس ، وصفاء القلب ، وحب الخير ، والتضحية ... كل ذلك يحصل في ظل الإيمان وبواسطة الاشعاع النفسي : «الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ» (1).

« تظهر الحاجة الى اللّه تعالى في صورة الدعاء والمناجاة فالدعاء عبارة عن استغاثة ملهوفٍ ، واستعانة متأزمٍ ، ونشيد للحب ، وليس عبارة عن عبارات لا نفهم معانيها إن أثر الدعاء إيجابي في الغالب. وكأن اللّه يستمع لنداء الإنسان ويجيبه بصورة مباشرة ... تقع حوادث فجائية ، يعود التعادل الروحي الى توازنه ، تفقد الحياة وجهها الخشن الظالم وتلين ، تنبع قدرة عجيبة من أعماقنا وتتصاعد. إن الدعاء يمنح الإنسان مقدرة لتحمل الآلام والمصائب وعندما تنعدم الكلمات المنطقية لتهدئة الانسان ، فإنه هو الذي يبرز ليبعث التظامن في نفسه ، ويمنحه القوة للوقوف أمام الحوادث ».

« تختلف دنيا العلم عن دنيا الدعاء ولكنهما لا تتباينان ، كما أن الأمور العقلائية لا تتباين مع الأمور غير العقلائية ، هذه المظاهر منهما خفيت عن الادراك فإننا يجب أننعترف بوجودها » (2).

لقد ورد التعبير في القرآن الكريم عن الحقائق الدينية غير المشهودة والتي لا تقبل القياس بكلمة ( الغيب ) ويجب على المؤمنين أن ينصاعوا لها : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (3).

لا شك في أن الشطر الأكبر من الأنظمة الدينية من عبادات ومعاملات

ص: 128


1- سورة آل عمران ، الآية: 17.
2- رواه ورسم زندكى ص 137.
3- سورة البقرة : 3.

وعقوبات قابل للإدراك العقلي والمحاسبة العلمية ، أما القسم الأصغر من الحقائق الدينية فهو فوق مستوى العقل ... في حين أن قيمة جميع الأمور القياسية في الدين ترتكز على أساس الجانب غير القياسي. إن الأساس الأول والأهم للدين يتمثل في الإيمان باللّه ، وبديهي أن ذات اگ تعالى ، والحالة النفسية التي تظهر في الإيمان به كلتاهما من ( الغيب ) .. وهما تسموان عن القياس ، وترتفعان عن مستوى العقل. وكذلك أساس النبوة فإنه يرتكز على الوحي ، والوحي أيضاً حقيقة غير قياسية. كذلك المعاد يوم القيامة فإنه من أركان الإيمان في حين أن أعماقه وأبعاده لا تقاس.

إن من يحاول أن ينظر الى الدين من زواية العقل فقط ، ويرغب في أن يقيس جميع العقائد والأحكام الإسلامية بالمعايير العلمية البحث لم يدرك حقيقة الدين ولم يفهم شيئاً عن الروحانية الإلهية والهدف الإسلامي المقدس. فكما أن الجمال الحقيقي للوحة زيتية فاخرة لا يمكن أن يقاس بالأصباغ المكونة لها ، أو التحليل الكيمياوي لمكوناتها ، كذلك الجمال الروحي للدين ونور الإيمان الباهر لا يمكن أن يخضع للتحليل العلمي ، أما بحثنا اليوم :

مشعل الإيمان الوضاء :

تبرز الفطرة التوحيدية والمشاعر الخلفية في ضمير الطفل قبل أن يكمل عقله ويتضح لإستيعاب المسائل العلمية ، ويكون مستعداً لتقبل الأساليب التربوية. على الوالدين أن يهتما بقيمة هذه الفرصة المناسبة ويستغلا تفتّح مشاعر الطفل ويقظة فطرته الإيمانية فيعملا منذ الطفولة على تنمية الإيمان باللّه في نفسه ، هذا الأمر يجعل الطفل متجهاً في طريق الطهارة والإيمان قبل أن يتفتح عقله وينضج لاستيعاب الحقائق العقلائية وإدراك المسائل العلمية.

إن الإنسان يتجه الى خالق الكون بفطرته قبل أن يستخدم الأدلة العقلية لإثبات وجود اللّه. إنه لا حاجة للأدلة العقلية المحكمة في إيجاد الحسّ الإيماني في الطفل ، فالمعرفة الفطرية الموعدة فيه تكفي لتوجيهه نحو الإيمان بالخالق العظيم. ومن السهولة بمكان جعله انساناً مؤمناً بالاستناد الى طبيعته الفطرية. وما يقال عن عدم حاجة تنمية الإيمان في نفس الطفل الى الأدلة العقلية ، يقال عن عدم حاجة

ص: 129

تنمية الصفات الفاضلة فيه ... كالصدق ، والاستقامة ، والحنان ، وأداء الواجب ، والإنصاف ، ومساعدة الآخرين. فبالامكان تعويده على تلك السجايا الحميدة بمجرد توجيهه في طريقها.

إن التنمية الصحيحة للمشاعر أساس التكامل النفسي. والوصول الى السعادة والكمال المحدد للإنسان لا يكون بدون تنمية الإيمان والفضائل. علماً بأن ركائز ذلك يجب أن تصب في أيام الطفولة.

« يجب أن يتنبه الآباء والمربون الى أن الدين أعظم العوامل المساعدة في سيبل تربية الطفل ، وأن الإيمان مشعل وضاء ينير أحلك الطرق ، ويوقظ الصمائر ويعدل الإنحرافات » (1).

« ان ما يدفع الإنسان الى مصيره النهائي يكمن في المشاعر لا العقل.

فالنفس تقبل التكامل بواسطة الألم والشوق اكثر من مساعدة العقل.

وفي هذا السير العنيف عندما يصبح العقل حملاً ثقيلاً تلجأ النفس الى الجوهرة الثمينة التي تنطوي عليها وهي عبارة عن الحب ».

« إن كثيراً من الأشخاص المعاصرين يقتربون الى الحياة الحيوانية الى درجة أنهم يحصرون اهتمامهم بالقيم المادية ولذلك فإن حياتهم أخس من حياة الحيوانات ، لأن القيم المعنوية فقط هي التي تستطيع أن تمنحنا النور والسرور » (2).

« ليس المبدأ الأول عبارة عن تنمية القوى العقلانية ، بل البناء العاطفي الذي تستند اليه جميع العوامل النفسية. ليست ضرورة الشعور الخلقي بأقل من ضرورة السمع والبصر. يجب أن نتعوّد على أن نميز بين الخير والشر بنفس الدقة التي نميز بها بين النور والظلمة ، والصوت عن السكوت ... ومن ثم يجب علينا أن نعمل الخير ونحذر الشر ».

ص: 130


1- ما وفرزندان ما ص 76.
2- راه ورسم زندگي ص64.

« إن النمو القياسي للروح والجسد لا يحصل بغير تزكية النفس. هذا الوضع الفسيولوجي والنفسي وإن بدا غريباً في نظر علماء التربية والاجتماع المعاصرين لكنه يصنع الركن الضروري للشخصية ، وفي نفس الوقت فهو المطار الذي تحلق منه النفس » (1).

دين تجاه الأطفال :

إن تنمية الإيمان والفضائل في نفس الطفل حق له على عاتق أبيه ، وقد وردت روايات كثيرة في هذا الصدد : -

1 - يقول الإمام السجاد علیه السلام : « وإنك مسؤول عما ولّيته به من حسن الأدب والدلالة على ربه » (2).

2 - قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « حق الولد على والده - إذا كان ذكراً - أن يستفره أمّه ، ويستحسن اسمه ، ويعلمه كتاب اللّه ويطهره » (3).

3 - وعن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً : « إن المعلم إذا قال للصبي بسم اللّه كتب اللّه له وللصبي ولوالديه براءة من النار » (4).

4 - وفي الحديث عن الإمام العسكري علیه السلام : أن اللّه تعالى يجزي الوالدين ثواباً عظيماً.

فيقولان : يا ربنا أنى لنا هذه ولم تبلغها أعمالنا؟

فيقال : « هذه بتعليمكما ولدكما القرآن وبتبصيركما إياه بدين الإسلام » (5).

حق المعلم :

5 - كان عبد الرحمن السلمي يعلم ولداً للإمام الحسين علیه السلام سورة الحمد ،

ص: 131


1- راه ورسم زندگي ص99.
2- تحف العقول ص 263.
3- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج6ص49.
4- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2ص625.
5- نفس المصدر ج1ص290.

فعندما قرأ الطفل السورة كاملة أمام والده ، ملأ الإمام علیه السلام فم معلمه دراً بعد أن أعطاه نقوداً وهدايا آخر : فقيل له في ذلك. فقال علیه السلام : « وأين يقع هذا من عطائه » (1) يعني تعليمه.

لقد استأثر موضوع التربية الدينية للاطفال بقسط وافر من اهتمام الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله ، إلى درجة أنه كان يتبرأ من الآباء الذين يهملون القيام بذلك الواجب ، ولا يرضى بانتسابهم له. وهذا ما يظهر من الحديث الآتي : -

6 - « روى عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه نظر الى بعض الأطفال فقال : ويلٌ لأولاد آخر الزمان من آبائهم! فقيل : يا رسول اللّه من آبائهم المشركين؟ فقال : لا ، من آبائهم المؤمنين لا يعلمونهم شيئاً من الفرائض وإذا تعلموا أولادهم منعوهم ورضوا عنهم بعرَضٍ يسيرٍ من الدنيا ، فانا منهم بريء وهم مني بُراء » (2).

ضرورة التربية الإيمانية :

لقد اكد علماء الغرب على أهمية التربية الدينية ، وضرورة ذلك لضمان سعادة الأطفال وحسن تربيتهم.

« يقول ريموند بيج : لا شك في أن المهمة الأخلاقية والدينية تقع على عاتق الأسرة قبل سائر المسائل ، ذلك أن التربية الفاقدة للأخلاق لا تعطينا سوى مجرمين حاذقين. ومن جهة أخرى فإن قلب الإنسان لا يمكن أن يعتنق الأخلاق من دون وجود دافع ديني ، ولو حاول شخص أن يتفهم الأصول الخلقية بمعزل عن الدين فكأنه يقصد تكوين موجود حي لكنه لا يتنفس ».

« إن أول صورة يرسمها الطفل في ذهنه عن اللّه تنبع من علاقاته مع والديه. وكذلك أول فكرة ترتسم في مخيلته عن الطاعة والسماح والاستقامة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بسلوك الأسرة ... كل هذه المسائل

ص: 132


1- المصدر نفسه ، والصفحة نفسها.
2- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ح2ص625.

يجب أن تتم في الأعوام فقط بيدي استعداداً لضبط ما يدركه اكثر من أي وقت آخر.

« لا يملك الوالدان الفرصة المناسبة لتربية نفس الطفل وتنقية أفكاره فحسب ، بل عليهما أن يعرّفا اللّه لأطفالهما بأحسن صورة وقوة ، وبكل إرادة ومتابعة. وهما في هذا السبيل يستطيعان أن يستعينا بمصدرين فياضين ، أولهما الدين والثاني الطبيعة » (1).

أثر الإيمان في الطفل :

إن الطفل الذي يتربى على أساس الإيمان منذ البداية يمتاز بارادة قوية وروح متطامنة ، تظهر عليه أمارات الشهامة والنبل منذ الصغر ، وتطفح كلماته وعباراته بحقائق ناصعة وصريحة.

وكمثل على ذلك نأخذ الصديق يوسف ، فقد كان ابن النبي يعقوب. هذا الطفل المحبوب تلقى درس الإيمان باللّه من أبيه العظيم ، ونشأ طفلاً مؤمناً في حجر يعقوب ... لقد نقم إخوته الكبار منه وصمّموا على إيذائه ، فأخذوا الطفل معهم الى الصحراء وبعد أساليب مؤلمة ووحشية فكروا في قتله ، ثم انصرفوا عن هذه الفكرة الى القائه في البئر ... وكانت النتيجة أن بيع الطفل الى قافلة مصرية ، وبصدد معرفة عمره عندما ألقي في البئر يقول أبو حمزة : « قلت لعلي بن الحسين علیهماالسلام : ابن كم كان يوسف يوم ألقوه في الجب ٌ فقال : ابن تسع سنين » (2).

ماذا يتوقع من طفل لا يتجاوز عمره التسع سنوات في مثل هذه الظروف الحرجة والمؤلمة؟ أليس الجواب هو الجزع والاضطراب؟!! في حين أن قوة الإيمان كانت قد منحت يوسف حينذاك مقدرة عجيبة وتطامناً فائقاً ، ففي الحديث : « لما أخرج يوسف من الجب واشتري قال لهم قائل : استوصوا بهذا الغريب خيراً. فقال لهم يوسف : من كان مع اللّه فليس في غربة » (3).

ص: 133


1- ما وفرزندان ما ص 8.
2- تفسير البرهان ص 495.
3- مجموعة ورام ج1ص33.

ونظير هذا نجده في قصة الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله مع مرضعته حليمة السعدية. تقول حليمة : لما بلغ محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الثالثة من عمره قال لي :

- أماه ، أين يذهب إخوتي نهار كل يوم؟

فأجبته : يخرجون الى الصحراء لرعي الأغنام.

قال : لماذا لا يصحبوني معهم؟

فقلت له : هل ترغب في الذهاب معهم؟

قال : نعم.

فلما أصبح دهنّته وكحّلته وعلّقت في عنقه خيطاً فيه جزَع يمانية ، فنزعها ثم قال لي : « مهلاً يا أماه ، فإن معي من يحفظني » (1).

الإيمان باللّه هو الذي يجعل الطفل في الثالثة حراً وقوي الإرادة بهذه الصورة.

المبادرة الى تنمية الإيمان :

تشبه روح الطفل في تقبلها للتعاليم الدينية والاخلاقية الأرض الخصبة القابلة لاحتواء البذرة في بطانها. وعلى الوالدين أن يبادرا إلى زرع بذور الإيمان والفضائل في نفس الطفل وأن لا يفرّطا بشيء من الفرصة السانحة لهما. من الضروري أن يبكر المربي في تنشئة الطفل نشأة دينية صالحة.

« عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : بادِروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم اليهم المرجئة »(2).

إن تزكية النفس والاهتمام بالجوانب المعنوية من الواجبات اليومية لجميع الأفراد. ومن اللازم - في سبيل الوصول الى الكمال الانساني اللائق به - أن يهتم كل

ص: 134


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج6ص92.
2- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج6ص47. والمرجئة طائفة ضالة تخالف الرأي الإسلامي الصحيح في القضاء والقدر القائم على : ( لا جبر ولا تفويض ). وكأن الحديث يشير الى ضرورة ملء افكار الطفل بالعقائد الصحيحة ليتحصن بها ضد التيارات المضلة اتي تستغل الفراغ العقائدي في أذهان الناشئة.

فرد منا بالجوانب الروحية الى جانب النشاطات المادية واشباع الغرائز ، ويفكر كل يوم في احراز التقدم المعنوي والكمال الروحي.

وقد جاء عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام بهذا الصدد : « للمؤمن ثلاث ساعات : فَساعةٌ يناجي فيها ربه ، وساعة يَرمُّ معاشه ، وساعة يخلّي بين نفسه وبين لذتها فيما يحلّ ويجمل » (1).

أساس تقدم الإنسان :

إن السعي وراء الطعام وجلب اللذائذ خاصة مشتركة بين الانسان والبهائم ، أما ما يكون مائزاً للانسان ، وأساساً لتقدمه فهو الجوانب الروحية التي يمكنه إحرازها ، والكمالات العقلية والعاطفية التي يستطيع بلوغها.

قال أبو عبداللّه علیه السلام : « إقصر نفسك عما يضرها من قبل أن تفارقك ، واسع في فكاكها كما تسعى في طلب معيشتك ، فإن نفسك رهينة بعملك » (2).

محاسبة النفس :

كما أن حفظ الصحة يحتاج الى النشاط الإقتصادي المستمر والرقابة الصحية ، كذلك الحفظ على سلامة الروح يحتاج الى الجهد المتواصل. فمن يرغب في تكامل نفسه ويهتم بصفاء باطنه ، عليه أن يراقب أقواله وأفعاله مراقبة دقيقة ، ولا يحوم حول الذنب والاجرام ، ولا يعود لسانه على الكلمات البذيئة. عليه أن يحاسب نفسه كل يوم على ما صدر منه من حسنات وسيئات فيستمد العون من اللّه تعالى في المزيد من الحسنات ، والإقلال من السيئات.

« عن أبي الحسن الرضا علیه السلام قال : ليس منا من لم يحاسب نفسه في يوم » (3).

إن المقر الأصيل للإيمان عبارة عن أعماق قلوب الناس وزوايا أرواحهم.

ص: 135


1- نهج البلاغة شرح الفيض الاصفهاني ص 1261.
2- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2ص455.
3- المصدر السابق ج2ص453.

والشخص المؤمن هو الذي يؤمن في بطانه بخالق الكون ، ويعتقد بتعاليم الأنبياء ، ولكن بالنظر إلى التماثل الموجود بين الروح والجسد ، وتأثير كل منها في الآخر فمن الضروري أن تظهر آثار ذلك الإيمان على جوارحه. ومن هنا نجد الروايات الإسلامية تعرف الإيمان كمجموعة من الإعتقادات القلبية ، والإقرار باللسان ، وظهور أثر ذلك على الجوارح أيضاً.

وكما أن قيام أستاذ بعلمية التدريس ، ومزاولة جراح للعمليات الجراحية يقوّي الجذور العلمية في باطن كل منهما ، كذلك العبادات الجسدية والأذكار فإنها مدعاة لتركز الإيمان واستحكامه (1).

وبهذا الصدد ورد عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « إنّ الإيمان ليبدو لمعة بيضاء ، فإذا عمل العبد الصالحات نما وزاد حتى يبيضّ القلب كله » (2).

إن ما لا شك فيه هو أن الاستمرار في العبادة والحصول على حالات من الخضوع والخشوع والاستغفار بين يدي اللّه تعالى أعظم العوامل لترسيخ اسس الإيمان وإضاءة القلب وبعث النور فيه.

المناجاة في السحر :

يتلخص جانب من تعاليم الإسلام في منهاجٍ التكامل النفسي في العبادات والمناجاة مع اللّه. هناك بعض العبادات والأذكار في صورة صلوات واجبة ومندوبة مشرّعة بكيفيات خاصة ، وهناك عبادات غير مقيدة بكفيفيات معينة بل تندرج ضمن إطار واسع هو ذكر اللّه والدعاء. لا بدن الجهر في بعض العبادات تحقيقاً لبعض المصالح ، وفي قبال ذلك يرد التأكيد على التخفّي في عبادات أخرى. قال الإمام

ص: 136


1- وجد علماء النفس من التجارب العديدة التي أجريت على عملية التعلم أن هذه العملية تسير وفقاً لقوانين معينة. وأول من وضع هذه القوانين في صيغة شاملة هو العالم الشهير ( ثورندايك ). وأهم تلك القوانين ثلاثة : أحدها قانون التدريب. ويعني منه أن كلّ تجربة تمر بذهن الإنسان أو مسألة علمية تطرق باله تزداد قوة باستعمالها ، وتضعف باهمالها. ومن هنا قيل : ( الدرس حرف والتكرار الف ).
2- المحجة البيضاء في أحياء الاحياء للفيض الكاشاني ج1ص277.

الصادق علیه السلام : « قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أعظم العبادات أجراً أخفاها (1) ».

فعندما يسدل الليل أستاره ويغط الناس في النوم ، ويسود الكون ظلام وسكون ، يقوم المؤمنون للتضرع بين يدي اللّه تعالى ... «تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ» (2). العشق الإلهي يلتهب في أعماقهم ويُضاء سراج الإيمان في قلوبهم ، فينهضون بشوق ورغبة شديدين ، ويتوضأون ويتجهون نحو اللّه تعالى بكل خضوع وخشوع ، يستغفرون ربهم ، وينيبون اليه ، يذرفون الدموع ، ويفقدون الوعي ، يتذكرون زلاتهم ، ويعتذرون إلى اللّه تعالى ، ويعاهدونه على عدم العود اليها ، ويستمدون العون منه في جميع أمورهم.

الآثار النفسية للمناجاة :

هذه الحالة النفسية التي طرأ على الرجال الإلهيين في اعماق الليل حقيقة يعجز العلم عن وصفها ، ولا يستطيع العقل إدراكها ... أما آثارها العظيمة فتبدو من جميع ذرات وجود الرجل ... فتقيم ثورة في روحه وجسده ، وتسيطر على جميع قواه ، وتبعث الطمأنينة الى قلبه ، وتمنحه الشهامة والشجاعة ، تكبح غرائزه الثائرة ، وتمنعه عن الاجرام والتلوث بالذنب تمنحه روح التضحية والإيثار .. وبصورة موجزة تجعله إنساناً كاملاً وتوقط فيه جميع الفضائل الحميدة والسجايا الخلقية ... هذه الحالة المعنوية اللامعة ، وهي حقيقة التقوى التي تهدف اليها تعاليم الإسلام القيمة.

« عن أبي بصير قال : سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن قول اللّه عز وجل : ( اتقوا اللّه حق تقاته ) قال : يُطاع فلا يُعصى ، ويُذكر فلا يُنسى ، ويُشكر فلا يُكفر » (3) فالتقى الحقيقي هو الذي يطيع أوامر اللّه تعالى دائماً ولا يعصيه ، ويذكر خالقه على كل حال.

« لقد اشربت الإنسانية بالوحي الديني اكثر مما أشربت بالتفكير الفلسفي ... فقد كان الدين هو أساس الأسرة والحياة الاجتماعية في المدنية القديمة. فما زالت الكتدرائيات وبقايا المعابد التي

ص: 137


1- قرب الاسناد ص 64.
2- سورة السجدة : 16.
3- معاني الأخبار ص 240.

أنشأها أسلافنا تغطي ارض أوروبا .. بالطبع ، ان معناها قلما يكون مفهوماً في الوقت الحاضر .. ومهما يكن من أمر فإن الاحساس الديني لا يزال حتى اليوم نشاطاً لا مفر منه بالنسبة لشعور عدد من الأفراد ، كما أنه يظهر نفسه بين الأشخاص المثقفين ثقافة عالية.

« وللنشاط الديني جوانب مختلفة مثل النشاط الأدبي .. وهو يتكون في أبسط حالاته من تطلع مبهم نحو قوة تفوق الأشكال المادية والعقلية لعالمنا .. إنه نوع من الصلاة غير المنطوقة ، إنه بحث عن جمال اكثر نقاء من الجمال الفني أو العلمي ، وهو مماثل لنشاط الجمال ».

« ما زال الجمال الذي ينشده المتصوفون اكثر غني واتساعاً من المثل الأعلى الذي ينشده الفنان .. إنه لا شكل له ، ولا يمكن التعبير عنه بأية لغة ، ويختفي بداخل اشياء العالم المنظور ، وقلما يظهر نفسه. ويتطلب السمو بالعقل نحو الذات العلية التي هي مصدر جميع الأشياء ، نحو قوة ، بل مركز القوى ، نحو اللّه - جل جلاله - ففي كل حقبة من حقب التاريخ وفي كل شعب من الشعوب ، أشخاص يتمتعون بهذا الأحساس العجيب في درجة عالية .. » (1).

العبادات التمرينية :

لضمان التربية الدينية للأطفال يجب أن يكون هناك تماثل بين أرواحهم وأجسامهم من الناحية الإيمانية. ولهذا فإن الإسلام أوجب على الوالدين من جهة أن يعرّفا الطفل بخالقه ويعلماه الدروس الدينية المتقنة ، ومن جهة أخرى أمرهما بتدريب الطفل على العبادات والصلاة بالخصوص.

1 - عن معاوية بن وهب قال : « سألت أبا عبد اللّه علیه السلام : في كم يؤخذ الصبي بالصلاة ٌ فقال : بين سبع سنين وست سنين » (2).

ص: 138


1- الإنسان ذلك المجهول ، تعريب : عادل شفيق ص 120.
2- وسائل الشيعة للحر العاملي ج2ص3.

2 - عن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : « مُروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعاً » (1).

3 - يذكر الإمام الباقر علیه السلام في حديث طويل واجبات الوالدين في إلهام أطفالهما بالقضايا الدينية حسب التدرج في السن ، فيجب عليهما أن يعلما الطفل كلمة التوحيد لثلاث سنين ، وفي الرابعة يعلماه الشهادة بالرسالة ، وفي الخامسة بوجهاه الى القبلة ويأمراه بالسجود ... « فإذا تمّ له ست سنين عُلّم الركوع والسجود حتى يتم له سبع سنين. فإذا تمّ له سبع سنين قيل له : اغسل وجهك وكفيك ، فإذا غسلهما قيل له : صل » (2).

دعاء الطفل :

إن العبادات التمرينية للطفل ، ودعاءه ووقوفه بين يدي اللّه تعالى ، يترك أثراً عظيماً في نفسه. قد لا يفهم الطفل العبارات التي يؤديها في اثناء الصلاة ، ولكنه يفهم معنى التوجه نحو اللّه ، ومناجاته ، والإستمداد منه ، بكل جلاء. إنه ينشأ مطمئن البال مستنداً الى رحمة اگ الواسعة وقدرته العظيمة. هذا الإطمئنان والاستناد ، والإلتجاء نحو القدرة اللامتناهية اعظم ثروة للسعادة في جميع أدوار الحياة ، فهو يستطيع في الظروف الحرجة ان يستفيد من تلك القدرة العظيمة ويطمئن إليها ، ويبقى محتفظاً على توازنه واعتداله في خضم المصاعب والمشاكل ... «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (3).

« لتحصيل الكمال النفسي لا يلزم أن لا يكون الإنسان عالماً أو ذكياً ، بل يكفي أن يكون مختاراً لذلك ... يكفي أن يختلي كل فرد منا كل يوم صباحاً ومساءاً لبضع دقائق ، بعيداً عن الضوضاء ويجعل ضميره حكماً في تصرفاته فيعرف أخطاءه ويخطط لسلوكه. وفي هذه الفرصة يجب أن يتوجه الى الدعاء إن كان يعرف ذلك فللدعاء أثره حتى ولو لم يكن هذا الأثر ذلك الذي نريده. ولهذا يجب تعويد

ص: 139


1- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج.
2- مكارم الاخلاق للطبرسي ص 115.
3- سورة الرعد : 28.

الأطفال منذ البداية على أن يقضوا فترات قصيرة في سكوت وهدوء خاص للدعاء ومن توفق لذلك مرة واحدة يستطيع أن يصل الى العالم الهادىء الذي يفوق الصور والكلمات المألوفة متى شاء .. عند ذاك يزول الظلام تدريجياً ، ويظهر إشعاع خلاق يهدي صاحبه إلى الطريق الأمثل » (1).

مثال الإنسان الكامل :

إن أعلى مثال للإنسان الكامل ، والفرد المؤمن من نجده في مولى الموحدين علي بن ابي طالب علیه السلام ، ذلك الرجل العظيم الذي يصادف اليوم ذكرى استشهاده ، تلك الشخصية الفذة التي عجز الدهر أن يلد مثله ، ذلك الإنسان الذي لم يستطع تعاقب الأعوام والقرون أن يمحو حرفاً واحداً من اسمه الكبير ، أو يسلّمه الى عالم النسيان.

علي بن أبي طالب مع ألمع النجوم الساطعة في سماء الإنسانية. إن حياته تكشف لنا عن جانب عظيم من التقوى والفضيلة ، والعدالة والشجاعة والتضحية والجود ، والثابت والاستقامة ، وبصورة موجزة جميع الفضائل والسجايا الحميدة. لقد سلك علي علیه السلام جميع مدارج الكمال ونال الشرف العظيم في هذا المجال.

لقد تربّى علي علیه السلام في حجر الرسول الأعظم محمد صلی اللّه علیه و آله . وخضع منذ الصغر للرقابة التربوية الدقيقة المليئة بالدفء والحنان والعف من قبل النبي العظيم. وقد منحه جميع ما يحتاجه طفل لائق في تربيته وتنمية روحه وجسمه ... فنشأ علیه السلام عظيماً من كل جانب.

كان عمر علي علیه السلام عشر سنوات عندما بعث الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله بالدعوة الإسلامية. فعرض الرسول الإسلام على الصبي الفطن العاقل ودعاه لاعتناق ذلك الدين السماوي. فآمن علي علیه السلام وصار هو وخديجة زوجة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أول مسلمين اتبعا محمدا واعتنقا دينه وقبلا دعوته ... وتكونت نواة الدعوة الإسلامية من هذا الثالثوث المقدس.

ص: 140


1- راه ورسم زندگى ص 98.

في المراحل الأولى من الدعوة لم يكن ليطرق الأسماع نبأ الدين الجديد فكان الجميع يجلهون عن دين اللّه الذي أتى به محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كل شيء .. إلا أنهم كانوا يرون شاباً يقف للصلاة بين يدي اللّه ، ويقف الى يمينه صبي ، ومن خلفهما امرأة فإذا ركع الشاب ركعا معه ، وإذا سجد سجدا وفي بعض المرات رأى أحد كبارالعرب هذا المنظر وتعجب منه فقال للعباس بن عبد المطلب الذي كان حاضراً هناك : أمر عظيم!

فقال العباس : أمر عظيم! أتدري من هذا الشاب ٌ هذا محمد بن عبد اللّه ابن عبد المطلب - ابن أخي - أتدري من هذا الغلام؟ هذا علي بن أبي طالب - إبن اخي - أتدري من هذا المرأة ٌ هذا خديجة بنت خويلد. إن إبن أخي هذا حدثني أن ربه رب السماوات والأرض ، أمره بهذا الدين الذي هو عليه. ولا واللّه ما على ظهر الأرض على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة (1).

إن دافع علي علیه السلام لهذه المؤاساة هو الإيمان باللّه. لقد سيطر الحبّ الإلهي على جميع جوانحه وجوارحه ، فيؤمن بمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويعتنق الدين الذي بشر به ، ويدافع عن ذلك الدين دفاعاً مستميتاً ... في ذلك الظرف الحاسم والجو الخطر تتجه الأخطار والمشاكل المتوالية نحو النبي وتهدده فينبري علي للدفاع عنه مستخدماً جميع قواه وطاقاته. وكلما كثر المسلمون وزاد عددهم ، وأقبلوا على اعتناق دين اللّه زرافات ووحداناً ، ازداد حنق المشركين وعداءهم ، ومضوا في التصميم لدحر الدين الجديد وقتل النبي المبشر به أكثر. فيضطر الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للهجرة الى المدينة ، فيهاجر علي أيضاً ، يلازم النبي في مشاكله قبل الهجرة وفي غزواته بعدها ، مدافعاً عن دين اللّه ، ومنافحاً عن رسوله العظيم ... ثم هو يقول : « واللّه ما زلت أضرب بسيفي صبياً حتى صرت شيخاً » (2).

ص: 141


1- الإرشاد للشيخ المفيد ص 13.
2- المصدر السابق ص 136.

شجاعة علي :

لقد كانت تضحيات الإمام أمير المؤمنين علیه السلام تسير جنباً الى جنب مع شجاعته وشهامته ، وتبرهن على ثباته واستقامته حتى قال : « ما ضعفتُ ولا جبنتُ » (1).

إن من ينشأ على الإيمان والإستقامة ، ويستند في جميع أموره الى القدرة الإلهية اللامتناهية لا يخاف أبداً ولا يجبن في موقف مهما كان حرجاً.

لقد شهدت أيام خلافة الإمام علیه السلام في الكوفة موجة من الإضطربات والفتن ، وفي بعض الأحيان كان يصمم الحزب المجرم المتمثل في ( الخوارج ) في وضع خطة لاغتيال الإمام ، ومع ذلك فقد كان يخرج في أواخر الليل الى نقطة هادئة من المدينة ويناجي ربه. وكان يخرج ( قنبر ) الخادم الوفي وراءه حاملاً سيفه مختفياً عن أنظار الإمام. وفي إحدى الليالي نظر علي علیه السلام الى خلفه فرأى قنبر ...

فقال له : يا قنبر ما لكَ؟

قال : جئت لأمشي خلفك ، فإن الناس كما تراهم يا أمير المؤمنين فخفت عليك.

فقال له الإمام : إن أهل الأرض لا يستطيعون بي شيئاً إلا بإذن اللّه عز وجل ، فارجع. فرجع (2).

الإيمان والنفس المطمئنة :

إن علياً علیه السلام رجل اللّه ، ومعتمد على ذات اللّه عز وجل. ومن كان معتمداً على اللّه كان ذا نفس مطمئنة وروح هادئة ، لا طريق للاضطراب والقلق الى ضميره. إنه يختلي بربه كل ليلة ، في مكة والمدينة ، في الكوفة والبصرة ، في المدينة والصحراء ... الأمر سواء عنده. إنه يخصص - أينما كان - ساعة من أواخر الليل

ص: 142


1- نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص 102.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج9ص510.

لمناجاة ربه ، والتكلم معه بخشية وتضرع ، وبكاء وخشوع ... يتكلم بكلمات منبعثة من أعماق القلب ، ويسأل اللّه العون والمدد لجعل قلبه النير اكثر اشعاعاً ، وضميره الطاهر أكثر صفاءً.

لقد كانت الصورة الباطنية والتحولات الروحية التي تطرأ على الإمام علي علیه السلام في مناجاته مع ربه على درجة من الدقة والعمق بحيث يعجز العقل عن إدراكها ، ويقصر اللسان عن وصفها. وكان يصادف أن يطلع عليه أحد فيرى ما هو فيه من الفناء في ذات اللّه والتوجه نحوه فيصف بعض ذلك بعبارات تقصر عن بيان الحقيقة ، فيقول أحدهم :

« إذ نحن بأمير المؤمنين في بقية الليل واضعاً يده على الحائط شبيه الواله » (1).

ويقول آخر : « ... فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة فحركته فلم يتحرك. فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، مات واللّه علي بن أبي طالب » (2).

الحكومة واقامة الحق :

إن الطاقة العظيمة التي دفعت علياً علیه السلام منذ الصغر نحو أعلى مدارج الكمال الانساني هي إيمانه باللّه ، فقد كان تحقيق مرضاة اللّه والإنقياد لأوامره الهدف المائل نصب عينيه ، وكان يوجه حركاته وسكناته طبقاً لذلك الهدف المقدس. لقد خضعت جميع مشاعر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لإطار الإيمان ... وعليه فقد كان يقيم وزناً للمال والجاه ، والعاطفة ، والحياة ، ولكل شيء في حدود مرضاة اللّه.

وعندما جلس على كرسي الخلافة وأصبح الحاكم الأعلى للأمة لم يكن يهدف الى المقام والجاه أو ضمان الغذاء واللباس والمسكين والمركب الفاخر لنفسه ، بل كان هدفه الأول والأخير تحقيق مرضاة اللّه وإحقاق الحق وإقامة العدالة بين الناس.

« قال عبد اللّه بن عباس : دخلت على أمير المؤمنين علیه السلام بذي قار وهو يخصف نعله. فقال لي : ما قيمة هذا النعل؟ فقلت : لا قيمة له : فقال علیه السلام : واللّه لهي أحب

ص: 143


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج.
2- نفس المصدر ج9ص510.

إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً او أدفع باطلاً » (1).

التألم من الظلم :

لقد كان علي علیه السلام يبدي ثباتاً منقطع النظير أمام الحوادث والمشاكل الجمة التي كانت تواجه ، وكان يظهر من الجلد والصبر تجاه الآلام ما يفوق الوصف ، لكنه كان يتألم من تجاوز الغاصبين واعتداء المعتدين ، ويتأثر كثيراً لأنين المظلومين. فعندما بلغه نبأ غارة جنود معاوية على الأنبار ، وقتل والي الإمام عليها ( حسان بن حسان البكري ) ، ونهب حلي النساء ، هتك أعراضهن سواء منهن المسلمات والمعاهدات ... تألم لذلك كثيراً وخطب في قومه خطبة عظيمة ابتدأها بذكر وجوب الجهاد وفوائده ، وذم التقاعس والتماهل إلى أن قال : « فلو أن امراءاً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً ، بل كان به عندي جديراً » (2).

وصية على فراش الموت :

لقد اضعفت ضربة السيف المسموم الإمام علیه السلام وطرحته على فراش الموت ، وأفقدت عينيه بريقهما ، وخفت صوت .... بينما كانت روحه الطاهرة وضميره النيّر في أتم الأشعاع .. يتكلم ، يوصي أولاده ، كل جملة من وصاياه درس عظيم للمجتمع البشري. ومن جملة ما أوصى به أن أكد على حماية الضعيف ومقاومة الظالم فقال : « وكونوا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً » (3).

ومن هنا نفذ حب علي علیه السلام إلى قلوب الأصدقاء والأعداء. وها هي حياته صفحة مشرقة في غرة الدهر وجبين الإنسانية ... تحتذي به في كل صغيرة وكبيرة أملاً في النجاح والتقدم.

* * *

ص: 144


1- نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص 102.
2- نفس المصدر ص 86.
3- نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص 968.

المحاضرة الثانية والعشرون: عقدة الحقارة

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه العظيم : ( ... وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) (1).

تهدف المناهج الدينية والعلمية في تربية الطفل الى الإهتمام بجسده وروحه اهتماماً بالغاً. وكما أن جسد الطفل وروحه مرتبطان ارتباطاً وثيقاً فإن الصلة وثيقة أيضاً بين تربيته البدنية والروحية. وكما أن الحالات النفسية تؤثر في الجسم ، والجسد يؤثر في الروح ، فإن العناية بصحة الجسم أو إهمالها تترك أثراً مماثلاً على الوضع الروحي والعكس بالعكس. وكما أن جسد الصبي يصاب بالإنحراف نتيجة النقصان في المواد الغذائية أو الإفراط فيها كذلك روحه فإنها تصاب بالإنحراف نتيجة النقصان في الحنان والعناية أو الإفراط في ذلك.

يجب عن الآباء والامهات الذين ياخذون على عاتقهم تربية أطفالهم أن يهتموا في جميع مراحل حياة الطفل الى المصالح الجسمية والروحية جنباً الى جنب ، ويحاولوا إرضاء الغرائز التي تتعلق بها حسب منهج مستقيم.

الإحساس بالحقارة :

الإحساس بالحقارة أحد الحالات النفسية الشاذة التي قد تصيب الإنسان منذ الأدوار الأولى من حياته. فإن اشتدت هذه الحالة الروحية وأوغلت في الضمير الباطن ظهرت بصورة عقدة نفسية ربما جرت وراءها سلسلة من الآثار الوخيمة والنتائج المؤلمة والمآسي الكثيرة.

« عندما يستمر الصراع الروحي بين شخص ما وعقدة معينة فإن

ص: 145


1- سورة الحجرات ، الآية: 11.

الاعصاب تفقد قدرتها بالتدريج ويصاب الإنسان بمرض خاص. من الواضح أن هذا الضعف الحاصل في الاعصاب نتيجة للالتهابات والإثارات الروحية ، وليس وليد الضعف الصحي. أي أنه رد فعل روحي قبل أن يكون رد فعل جسمي. ولذلك فإنه لا يعالج بالتنزه واستعمال الأدوية والعقاقير ... فكل علاج لا يعدو أن يكون موقتاً ، إلا أن يحدث تغيير جذري في أسلوب تفكير الشخص ».

« في خضم هذا الوضع ، يبلغ الصراع الروحي في الإنسان درجة لا تستطيع الأعصاب معها أن تقاوم ، فهي قد استنفدت قدرتها على المقاومة ، وتكون النتيجة أن يصاب الإنسان بالصرع والرعشة العصبية ».

« إن العوارض الظاهرية لهذه الحالة المضطربة عبارة عن انقباض العضلات والأرق والضعف المفرط ... وإذا حاولنا البحث عن رابطة العلية والمعلولية لهذه الظواهر فإن جذورها توجد في حوادث دور الطفولة أوالحوادث القريبة الوقوع. لا شك في أن اكتشاف علة ذلك أمر عسير جداً لأنه يقع بواسطة تمحيص القوى الباطنية للمريض فقط. وأحياناً نجد جذوره في الإستياء من تحقير سابق أو محالة مجابة ذلك. وفي أحيان أخر توجد جذوره في الخوف من انهيار الشخصية وفقدان السمعة » (1)

إنهيار الشخصية :

إن الحوادث المؤلمة والخواطر المرة التي تحطم شخصية الفرد ، وتوجه ضربة قاصمة اإلى أنانيته وغروره الذاتي تؤدي الى إحساسه بالحقارة. قد يولد الاحساس بالحقارة على أثر الاهانة أوالضرب المبرح ولكنه يزول بعد عدة ساعات أو بضعة أيام ... في حين توجد عوامل ثابتة ورصينة تتسبب أحياناً في إيجاد الشعور بالحقارة فينفذ هذا الشعور الى الأعماق ، ثم يتحول إلى عقدة الحقارة ويلازم المريض بصورة

ص: 146


1- عقدة حقارت ص 31.

مرض مزمن : هناك عوامل وأسباب كثيرة تتسبب في إيجاد هذه العقدة النفسية. من ذلك العاهات العضوية ، والنقائص التربوية.

« يرى ( آدلر ) أن عقدة الحقارة توجد في الغالب عند ثلاث طوائف من الأشخاص :

1 - ذووالعاهات العضوية ، أي الأفراد المصابون ينقص عضوي منذ الطفولة. هذا النقص يتسبب في أن يرى الطفل نفسه دون مستوى الآخرين دائما ، وهذا ما يلاحظ بوضوع عند الطفل المصاب بشلل ، فإنه يحرم من اللعب مع مجموعة الأطفال ».

« 2 - الأفراد الذين يخضعون منذ الصغر الى رقابة مشددة من قبل الوالدين ، ويمكن تقسيم هذه الطائفة بدورها الى صنفين :

أ - الأطفال المدللون - وهم الذين يقابلون بالحنان المفرط والعناية البالغة لأنفرادهم واستئثارهم بمحبة الوالدين.

ب - الأطفال المكبوتون. وهم الذين يلاقون ضغطاً شديداً ، وكلما حاولوا إثبات وجودهم وجدوا الكبح والقمع من الكبار الذين يضطرونهم للسكوت والتزام الصمت ».

« 3 - الأطفال المهملون ، فالاطفال الذين كان نصيبهم من العناية قليلا منذ الصغر يشعرون بأنهم أفراد تافهون في المجتمع ، عديمو الفائدة » (1).

العاهات العضوية :

إن من أعظم النعم الإلهية سلامة ولادة الطفل. فالطفل الذي يتولد سالماً طبيعياً ، ذا روح مستوية وهندام منسجم يكون قد نال 50% من سعادته حين ولادته. وإنسان كهذا يملك من ناحية البناء الطبيعي ، واعتدال اخلقة ، روحاً هادئة وفكراً مطمئناً. أما الطفل الذي يتولد أعمى ، أو أصم ، أو أشلّ ، وبصورة عامة يكون ذا عاهة عضوية عند ولادته ، أو تصادفه حوادث تفقد بعض أعضائه أو تقف في سبيل

ص: 147


1- روح بشر ص 240.

نموه الطبيعي ، فإنه يكون شقياً ومتذمراً ، يحس بالحقارة والضعفة في نفسه ، وأخيراً يصاب بعقدة الحقارة. وبعبارة أخرى فإنه كما تتسبب العيوب والعاهات العضوية حين الولادة في نشوء عقدة الحقارة عند الإنسان ، كذلك العمى والصمم والبكم الحاصل للإنسان بعد أعوام من البصر والسمع والتكلم.

قال علي علیه السلام : « اللّهم اجعل نفسي أول كريمة تنتزعها من كرائمي ، وأوّل وديعة ترجعها من ودائع نعمك عندي » (1) ويعني هذا أن يبقى سالماً عن العوارض والعاهات حتى الموت.

وللإمام الحسين علیه السلام من دعائه في عرفات : « ومتعني بجوارحي واجعل سمعي وبصري الوارثين مني » (2) أي تحفظني من العمى والصمم والعاهات العضوية الى آخر يوم من عمري.

« هناك أطفال يعيشون في ألم مستمر لضعف أو نقص في أجسامهم. هذا النقص يشمل مختلف الحالات كظهور خال أو بعقة صغيرة في وجه فتاة حسناء ، أو تقوس الساقين ، أو انحناء العمود الفقري وغير ذلك ».

« كل هذه النواقص وما يشبهها يمكن أن تؤذي الإنسان طيلة عمره وتجعله تحت ضغط ( عقدة الحقارة ) وقد تؤدي به الى الجنون والانتحار ».

« لا مناص للطفل الضعيف أو المصاب بنقص في بدنه من تحمل سخرية أقرانه وتحقيرهم إياه ، فهو لا يستطيع الدفاع عن نفسه للنقص الموجود فيه إلا بعدم الاعتناء بسخريتهم. ولكن هذا بحد ذاته مدعاة للذلة له ، وكبت لغرائزه وجرح لمشاعره ، ويسبب الشقاء والقلق له فيما بعد. لأن مشاعره المتألمة التي لم تجبر بشيء وغرائزه المكبوتة لا بد أن تؤدي في النتيجة الى القلق واضطراب الفكر ».

ص: 148


1- نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص 670.
2- بلاغة الحسين - دعاؤه في عرفات.

« يشير التحليل الذي أجري على استاذ جامعي الى أن عقدة الحقارة التي كان يكابدها قد نشأت منذ دراسته الابتدائية ، وذلك أنه كان أطول التلاميذ قامة في الصف وكان يلوح دائماً - عند اللعب والاستراحة - لأعين المعلمين قبل غيره ، ولذلك فإنه كان يخرج من الصف عند وقوع حادثة ليعتبر به الآخرون. وبالرغم من أن ذلك كان يحدث في احيان قليلة جداً فإنه ظل يحس بأنه قد ظلم كثيراً ، وليس إلا لطول قامته فحسب » (1).

التحقير والسخرية :

يتألم الأطفال او الكهول الذين يكابدون من نقص عضو أو عيب في بناء أجسامهم من جهتين : الأولى - النقص والحرمان الذي يلاحظونه في أنفسهم والثانية - استهزاء الآخرين بهم وسخريتهم منهم.

فمثلا يرى الابكم أن الآخرين يتكلمون ويلتذون من محاوراتهم فيما بينهم لكنه بسبب العيب الموجود في لسانه عاجز عن النطق ، فشعوره بهذا العجز يجعله تحت ضغط روحي فيحس بالضعة والحقارة ، ويتألم من حرمانه هذا وتألمه الآخر ناتج من تحقير الأفراد السالمين إياه واستهزاءهم منه ... ذاكرين عجزه ذاك بصورة إهانة وتحقير. ولعل هذا الألم الناشيء من استهزاء الناس منه اكثر من أمله الناج من شعوره بالنقص والحرمان.

عاش الجاحظ (2) في القرن الثالث الهجري ، وله كتب وآثار كثيرة. ولقد كان قبيح المنظر جداً ، مقرباً عند الخلفاء العباسيين لعدواته لعلي بن أبي طالب علیه السلام . وقد قال يوماً لتلاميذه : إنه لم يخجلني طيلة عمري أحد كما فعلت امرأة ثرية ، فقد لقيت امرأة في بعض الطرق وسألتني في أن أصحبها ففعلت. حتى أتت بي الى محل صائغ للتماثيل ، وقالت له مشيرة إلي : كهذا الشيطان ... فبقيت حائراً من أمرها ، ولما انصرفت سألت الصائغ عن القصة ، فقال : لقد استعملتني هذه المرأة

ص: 149


1- عقدة حقارت ص 12.
2- سمي بذلك لجحظ في عينيه.

لأصوغ لها تمثال شيطان. فقلت لها : إني لم أر الشيطان كي أصوغ تمثاله ، فطلبت مني أن انتظر حتى تجيء لي بتمثاله ... واليوم جاءت بك إليّ وأمرتني أن أصوغه طبق منظرك » (1).

القاضي الدميم :

ونموذج آخر ي السخرية بالاشخاص المصابين ببعض العيوب الظاهرية نجده في قصة القاضي المصري رشيد بن الزبير. فقد كان من القضاة الماهرين والكتّاب العظام في عصره ، وكان ذا خبرة كافية في علوم الفقه والمنطق والنحو والتأريخ ... عاش في القرن السادس الهجري. لقد كان ذا قامة قصيرة ، أسود اللون ، ذا شفتين غليظتين ، وأنف كبير ، ومنظر قبيح جداً. كان يعيش في شبابه في القاهرة ، ويسكن مع عبد العزيز الأدريسي وسليمان الديلمي في بيت واحد.

فخرج يوماً وتأخر في العودة الى منزله ، وعندما عاد سأله زملاؤه عن سبب تأخره فأبى يجيبهم حتى الحوا عليه فقال : كنت أعبر من المحل الفلاني فصادفت امرأة ذكية جميلة ، كانت تنظر إلى بعين الرأفة والعطف ، فذهلت من شدة الفرح ، وبت أرقب سيرها فأشارب إليّ بطرف عينها فتبعتها في السكك الواحدة بعد الاخرى ، حتى انتهينا الى دار ، ففتحت الباب ودخلت ، وأشارت إلي بالدخول دخلت ، فكشفت النقاب عن وجهها وإذا به قطعة من القمر ... لم تمض فترة طويلة حتى صفقت بيدها ونادت باسم فتاة ، فإذا بطفلة في غاية الجمال نزلت من الطابق العلوي ، فخاطبتها المرأة قائله : لو تبولت في فراشك هذه المرة فسأعطيك الى هذا القاضي ليأكلك ، فبلغ الخوف والهلع من الطفلة مبلغة وبلغ الارتباك والاضطراب مني مبلغه أيضاً. ثم إلتفتت إلي قائلة : لا أعدمني اللّه إحسانه بفضل سيدنا القاضي أدام اللّه عزه ... فخرجت من الدار مطأطئاً برأسي خجلاً ، ولفرط ما أصابني من خجل وذهول ، ولشدة تأثري تهت الطريق الى البيت ، وبقيت أجوب الأزقة ... ولهذا تأخرت في العودة » (2).

ص: 150


1- تتمة المنتهى ص 370.
2- قاموس دهخدا الفارسي ص 1224.

لقد تمكن العلم الحديث في تقدمه وإزدهاره من اصلاح بعض العاهات العضوية كإرجاع العيون التي بها حول الى وضعها الطبيعي ، وردّ الأنوف القبيحة جميلة ، وتقويم السيقان المتقوسة ، وترميم شقوق الشفاه. والخلاصة : ان الجراحين يجرون عمليات جراحية على بعض الأعضاء بحيث تأخذ شكلاً طبيعياً جميلاً ، ويرتاح المصاب ببعض العيوب الظاهرية من الشعور بالحقارة والتعاسة. في حين توجد عيوب ونقائص لم يتوصل العلم الحديث الى علاجها وإصلاحها.

تدارك النقص :

على الأفراد الذين يكابدون نقصاً لا يقبل العلاج ويبعث فيهم الشعور بالألم والإحساس بالحقارة أن يستفيدوا من سائر أعضائهم السليمة اكبر حد ممكن ، ويسعوا وراء تحصيل علم من العلوم المهمة أو فنٍ يحتاجه المجتمع بحيث يتمكنون من إحرازه ونيل مقام شامخ فيه ، وعندئذ لا شك في أن الكمال الذي يحصلون عليه بواسطة العلم يكون سببا لجمالهم الاجتماعي ، ويخفي نقصهم العضوي ، ويمنع من انتباه الناس الى عيوبهم.

فكم من أفراد حرموا نعمة البصر أو السمع أو النطق ، أو كانت فيهم نقائص أخرى لم يلتفتوا الى ذلك وراحوا يجدّون بكل رغبةٍ وشوق وراء الثقافة حتى أحرزوا مكانة سامية في المجتمع وعاشوا حياتهم بكل عز وفخر. فلقد تمكن هؤلاء بفضل مثابرتهم من إنقاذ أرواحهم من الشعور بالحقارة ، أو الحد من هذا الشعور نسبياً.

إن المصيبة العظمى لذي النقائص والعاهات إنما هي تحقير الناس واستهزاءهم ، فان السخرية والاهانة والتقريع والكلمات البذئية تعتبر سهاماً مسمومة تصيب قلوب هؤلاء من الإحساس بالحقارة فيهم ، وبالتالي تجعل العيش عليهم مراً وجحيماً لايطاق.

... والحل الوحيد للتخلص من ذلك كله تهذيب اخلاق المجتمع وإيجاد السجايا الفاضلة فيه.

في البلاد التي يتحلى شعبها بالصفات الفاضلة ، والشعوب التي يقوم الأفراد فيها بواجباتهم الخلقية خير قيام لا يحتقر الأعمى أو الابكم او الأشل أو غيرهم من

ص: 151

أصحاب الأمراض والآفات ، ولا يصدر من الأفراد ما يزيد من آلامهم ، فالرجال المحسنون هم الذين إن لم يتمكنوا من وضع مرهم على قلوب المصابين الجريحة فإنهم لا يشمتون بهم ولا يزيدون مصيبتهم عليهم أكثر. بواجباتهم الخلقية خير قيام لا يحتقر الأعمى أو الابكم أو الأشل أو غيرهم من أصحاب الأمراض والآفات ، ولا يصدر من الأفراد ما يزيد من آلامهم ، فالرجال المحسنون هم الذين إن لم يتمكنوا من وضع مرهم على قلوب المصابين الجريحة فإنّهم لا يشمتون بهم ولا يزيدون مصيبتهم عليهم اكثر.

النظرة المؤلمة :

لقد منعت التعاليم الخلقية في الإسلام الاستهزاء والاهانة واللوم والشماتة مطلقاً وحذّر علماء المسلمين الناس من هذه الصفات الذميمة. ولقد وردت أخبار في خصوص المصابين وذوي العيوب والنقائص الجسمية ، وفي أسلوب المعاشرة معهم ، بحيث لو طبقت وروعيت لما تأثر المصابون في المجتمع ، ولما شعروا بالحقارة.

1 - قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا تُديموا النظر الى أهل البلاء والمجذومين ، فإن ذلك يحزنهم » (1).

2 - عن الإمام الصادق علیه السلام : « لا تنظروا إلى أهل البلاء فإن ذلك يحزنهم » (2).

3 - وعنه علیه السلام : « إسماع الأصم من غير تضجر صدقة هنيئة » (3).

4 - وعنه (عليه السلام) أيضاً : « من نظر الى ذي عاهة ، أو من قد مُثّل به ، أو صاحب بلاء فليقل سراً في نفسه من غير أن يسمعه : الحمد لله الذي عافاني » (4).

إن الأعور أو المجذوم يتألم في باطنه ويحس بالحقارة ، فلو أن أحداً أطال

ص: 152


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج16ص122.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج16ص123.
3- المصدر السابق ج16ص111.
4- وسائل الشيعة للحر العاملي ج3ص209.

النظر إلى عضوه الناقص كان ذلك سبباً في زيادة حزنه وشعوره بالضعة. وكذا الأصم أو ضعيف السمع فإنه يتألم في نفسه ويحس بنقص كبير ، فلو كلمه المتكلم بلهجة شديدة زاد تألمه أما لو كلمه بطلاقة وجه وابتسام ، رافعاً صوته لإسماعه من غير أن يزجره ، فذلك يترك أثراً طيباً في نفسه ، أو يقلل من تأثره الشديد.

... وقد عرّف الإمام الصادق علیه السلام هذا الفعل بالصدقة الهنيئة.

5 - عن أبي جعفر علیه السلام ، قال : « كفى بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يعمى عنه من نفسه ، أو يعيّر الناس بما لا يستطيع تركه ، أو يؤذي خليله بما لا يعنيه » (1).

إن النظر الدقيق المؤذي الى نقائص الناس لا نفع فيه ، لكنه يسبب في ذي البلاء تضجراً وضغطاً روحياً وألماً. ومن عامل جليسه بهذه الصورة أظهر له بذلك سوء خلقه.

لقد ظهرت بقع بيضاء في وجه ( يونس بن عمار ) أحد أصحاب الإمام الصادق علیه السلام ، وآلمه ذلك ، إلا أنه كان يضيق ذرعاً بالكلمات المسمومة الصادبة من الناس تجاهه ، فقد كانوا يقولون له : لو كنت أهلا لفضل اللّه وكان الدين الحق بحاجة اليك لما ابتليت بهذا الداء. فتألم يونس من ابتلائه بالمرض وكذلك من تحقير الناس وإهانتهم إياه تألماً شديداً وجاء الى الإمام الصادق علیه السلام وقال : ان هذا الذي ظهر بوجهي يزعم الناس أن اللّه لم يبتل به عبداً له فيه حاجة ، قال : فقال لي : لقد كان مؤمن آل فرعون مكنّع الأصابع فكان يقول هكذا ويمدّ يديه ويقول : يا قوم اتبعوا المرسلين » (2).

في هذا الحديث نجد الإمام الصادق علیه السلام يردّ على كلام الناس الركيك بجملة قصيرة ، ويفهم يونس بن عمار ضمناً أنه يتمكن - كمؤمن آل فرعون - أن يخدم شريعة اللّه ، وأن يكون داعية خير وصلاح بين الناس على ما هو عليه من النقص ... وطبيعي أن يخفف هذا الكلام من ألم الشعور بالحقارة فيه من جهة ، ويبعث فيه رجاء خدمة دين اللّه من جهة أخرى.

ص: 153


1- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2ص459.
2- المصدر السابق ج2ص259.

والنتيجة : ان العاهات والنقائص التي لا تقبل العلاج عامل كبير للشعور بالحقارة في الأطفال والكبار. فلو كان المجتمع الذي يعيش فيه أفراد مصابون منحطاً خلقياً ، وفاقداً للتربية السليمة بحيث يحتقر أولئك الأفراد فإن شعورهم بالحقارة سيتحول الى عقدة نفسية موغلة في التعقد ، ويقعون فريسة لمشاكل كثيرة.

البحث عن عيوب الناس :

لقد حذر الإسلام في تعاليمه الاخلاقية الناس من اللمز. وقد ورد ذلك بصورة صريحة في القرآن الكريم : ( ولا تلمزوا أنفسكم ) .

وعلاوة على ذلك فإنه أكد على مراعاة الآداب العامة والاخلاق الفاضلة مع ذوي العاهات والنقائص. فالمسلم الواقعي لا يحتقر ولا يهين بلسانه وحركاته أحداً ، ولا يؤلم قلب شخص أصلا. فعن الإمام الصادق علیه السلام : « إن المؤمن ليسكن الى المؤمن كما يسكن الظمآن الى الماء البارد » (1).

الاسم القبيح :

والعلة الأخرى من علل الشعور بالحقارة التي تبدأ من دور الطفولة ومن الممكن أن تكون سبباً لنشوء عقدة الحقارة والتعاسة : الاسم القبيح ، واللقب الكريه. إن الاسم الذي يضعه الوالدان للطفل يبقى معه إلى آخر لحظة من حياته ، فلو كان قبيحاً ومنكراً كان سبباً لإيذائه في كل آن ، ومعرضاً إياه لسخرية الأطفال والكبار واستهزائهم به.

يحب كل فرد أن يكون جميل الوجه ، حسن الهندام ، متزن الملامح ، نظيف الملابس ، حتى لو التقط مصور صورة جميلة له طبع منها ماءة نسخة أو تزيد ، ووزعها على جميع أصدقائه للتذكار ... وبالعكس لو أخذت له صورة مشوشة لم يسمح بطبعها وليس ذلك فحسب ، بل انه يسعى لتحطيم الزجاجة السوداء ، كي يمحو هذا الأثر السيء تماماً ... وكذلك عندما يريد أن يطبع بطاقة شخصية فإنه يصرف مبلغاً من النقود في سبيل

ص: 154


1- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2ص247.

أن يكون الخط جميلاً ، والكليشة واضحة ، والورق صقيلاً الى غير ذلك من المحسنات ... ثم يطبع على ذلك آلاف النسخ.

كل هذا يدلنا على أن الجمال من أهم عوامل المحبة ، وهو رمز السعادة والنجاح.

الإسم الجميل :

من المظاهر المهمة لدى كل انسان اسمه واسم عشيرته. فكما أن صورة كل شخص سبب لاستحضاره في اذهان الناس ، كذلك اسمه فإنه يحكي عن صاحبه ويعطي صورة عنه. وكما أن الإنسان يلتذ من صورته الجميلة ، ويتألم ن كانت قبيحة ، كذلك يستر من الاسم الجميل ويتأذى من الأسم القبيح له أو لعشيرته. في حين أن الصورة القبيحة يمكن تمزيقها ومحوها بكل سهولة أما تغيير الأسم واللقب فهو صعب جداً.

إن الذين يمتازون بأسماء جميلة أو ينتمون الى عشيرة ذات اسم جميل يفتخرون بذلك ويذكرونه بكل ارتياح وطلاقة دون شعور بالحقارة ، ولربما تفأل السامع وذكر بالمناسبة كلاماً يليق ويتلاءم مع جمال الأسم. ومثل ذلك نجده في القصة التالية :

فقد النبي محمّد صلی اللّه علیه و آله أمه في ايام رضاعه ، ولم يقبل ثدي مرضعة قط ، وكان هذا مبعث حزن وألم في البيت الهاشمي ... إلى أن جاءت حليمة السعدية فعرضت ثديها عليه فقبله وتكفلت برضاعه ، عندئذ عم البيت السرور والفرح الى اقصى حد فقال عبد المطلب مخاطباً إياها.

- من أين أنتِ؟

قالت : امرأة من بني سعد.

قال : ما اسمك؟

قالت : حليمة.

ص: 155

قال : بخ بخ ، خُلقان حسنتان ... سعدٌ وحلم (1).

أما الذين يحملون أسماء مستهجنة أو ينتمون الى عشيرة ذات نسبة قبيحة فطالما يأبون عن ذكر ذلك ، وإن التجأوا الى ذكره في مناسبة ما شعروا بالخجل والضعة. إنهم يسرّون كثيراً عندما يبدل اسمهم الى اسم حسن.

عندما نلقي نظره عابرة على الأسماء المتداولة في المجتمع بين المتجددين والمتحضرين ممن يعيش في القرى والمدن نجد فيها أسماء وألقاب قبيحة قد يؤدي ذكرها والتصريح بها في هذا المجلس المزدحم الي السأم والضجر بالنسبة الى البعض ، ولكني أذكر على سبيل التمثيل نموذجاً من أهل القرى والأرياف.

هناك بعض العوائل في الأرياف تسمى المولود الجديد باسم اليوم الذي ولد فيه كالجمعة والسبت. فإن بقي هذا الطفل الى آخر عمره في القرية يشتغل بالرعي فلا شيء عليه ، أما لو دخل المدرسة وهاجر الى المدينة ، ثم مارس الحياة الجامعية وحصل على شهادة علمية ونال مقاماً فإن ذلك الاسم القبيح يلازمه ويولد فيه عقدة الحقارة ، وكلما نادوه باسم ( جمعة ) او ( سبت ) تألم لذلك بلا شك.

اختيار الاسم :

من الحقوق الدينية للأولاد على الآباء أن يختاروا لهم أسماء جميلة غير مستهجنة. وقد ورد الحث على هذا في الروايات كثيراً :

1 - قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « من حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويحسن أدبه » (2).

2 - قال رجلٌ : يا رسول اللّه ما حق ابني هذا؟ قال : « تحسن اسمه وأدبه ، وتضعه موضعاً حسناً » (3).

ص: 156


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج6ص91.
2- مستدرك الوسائل للمحدث النوري.
3- مكارم الاخلاق للطبرسي ص 114.

3 - في حديث آخر عن النبي صلی اللّه علیه و آله : « من حق الولد على والده ثلاثة : يحسن اسمه ، ويعلمه الكتابة ، ويزوجه إذا بلغ » (1).

4 - عن أبي الحسن علیه السلام ، قال : « أول ما يبرّ الرجل ولده ، أن يسميه باسم حسن. فليحسن أحدكم اسم ولده » (2).

5 - في وصية النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي علیه السلام : « يا علي ، حق الولد على والده أن يحسن اسمه وأدبه » (3).

6 - وفي حديث آخر : « إن أول ما ينحِل أحدكم ولده : الاسم الحسن » (4).

تبديل الأسماء القبيحة :

إن الشقاء المتسبب من عقدة الحقارة لا يزول إلا بانحلال تلك العقدة حتى يتحرر الضمير الباطن من الضغط الذي يلاقيه. فالذي يحمل اسماً قبيحاً يشعر بالضعة بلا شك ، والعلاج الوحيد له تغيير ذلك الاسم. فإذا وفق لذلك زال الضغط النفسي لوحده.

لقد كان الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله يغير الأسماء المستهجنة للأفراد ، وكذا الاسم القبيح للبلد الذي طالما تألم المنتسب له ، وبهذه الطريقة كان يتحرر الأشخاص من العقدة التي يكابدون منها الأمرّين ، ويعيشون حياة ملؤها الارتياح والسكينة.

1 - عن الإمام الصادق عن أبيه علیهماالسلام : « إن رسول اللّه كان يغير الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان » (5).

2 - عن ابن عمر : « أن إبنةً لعمر كان يقال لها عاصية ، فسماها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : جميلة » (6).

ص: 157


1- وسائل الشيعة للحر العاملي ج5ص115.
2- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج6ص18.
3- بحار الأنوار للعلامة المجلسي.
4- وسائل الشيعة للحر العاملي ج5 115.
5- قرب الاسناد 45.
6- صحيح مسلم ج6ص173.

3 - عن أبي رافع : « إن زينب بنت أم سلمة كان اسمها برّة ، فقيل : تزكي نفسها فسماها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : زينب » (1).

ولقد كانت العادة جارية في القبائل العربية قبل ظهور الإسلام بتسمية اولادهم بأسماء الوحوش والجوارح ، وقد كانت هذه العادة البذيئة باقية بعد الإسلام أيضاً عند بعض القبائل. وفي حديث يسأل أحمد بن هيثم من الإمام الرضا علیه السلام عن سبب ذلك قائلاً : « قلت له : لِمَ تسمى العرب أولادهم بكلب وفهد ونمر وما أشبه! ذلك؟ قال : كانت العرب أصحاب حرب وكانت تهول على العدو بأسماء أولادهم » (2).

وبالرغم من أن تلك الأسماء المستهجنة كانت شايعة ومتداولة بينهم ، فإنها كانت في بعض الأحيان ذريعة قوية للطعن والتحقير في أصحابها ، فكان الواحد يلوم الآخر بسببها. من ذلك القضيتان الآتيتان : -

بين معاوية وجارية :

كان أحد رؤساء عشاير الشام يسمى ب- ( جارية ) (3) وكان رجلا قوياً صريح اللّهجة ، وكان يبطن لمعاوية حقداً وعداءً ، وسمع معاوية بذلك فأراد أن يحتقره أمام ملأ من الناس ويتخذ اسمه وسيلة للاستهزاء به والسخرية منه ، وصادف ان التقيا في بعض المجالس فقال له معاوية :

- ما كان أهونك على قومك أن سموك جارية؟

فقل له جارية : وما كان أهونك على قومك إذ سموك معاوية ، وهي الانثى من الكلاب.

قال : اسكت لا ام لك!

قال : لي أم ولدتني. أما واللّه إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا ، والسيوف التي قاتلناك بها لفي أيدينا ، وإنك لم تهلكنا قسوة ، ولم تملكنا عنوة ...

ص: 158


1- نفس المصدر.
2- وسائل الشيعة للحر العاملي ج5ص115.
3- من معاني ( جارية ) : الحية من جنس الأفعى كما في ( اقرب الموارد ).

ولكنك أعطيتنا عهداً وميثاقاً ، وأعطيناك سمعاً وطاعة ، فإن وفيت لنا وفينا لك ، وإن نزعت الى غير ذلك فإنا تركنا وراءنا رجالاً شداداً وأسنة حداداً.

فقال معاوية : لا اكثر اللّه في الناس مثلك يا جارية (1).

قبح الاسم والمنظر :

وكان شريك بن الأعور سيداً في قومه وكبيراً عليهم ، عاصر معاوية ... وفي أحد الأيام دخل مجلس معاوية فأراد هذا أن يحتقره ويسخر به لقبح اسمه واسم أبيه وللنقص الذي فيه فقال له :

- واللّه إنك لشريك وليس لله من شريك ، وأنك ابن الأعور والصحيح خير من الأعور ، وإنك لدميم والوسيم خير من الدميم ، فبِمَ سوّدك قومك؟!

فقال له شريك : واللّه إنك لمعاوية وليست معاوية إلا كلبة عوت فاستعوت فسميت معاوية ، وإنك ابن حرب السلم خير من الحرب ، وإنك ابن صخر والسهل خير من الصخر ، وإنك ابن أمية وما أمية إلا أمة صغرت فسميت أمية ، فكيف صرت أمير المؤمنين؟

فقال له معاوية : أقسمت عليك إلا ما خرجت عني (2).

ولهاتين القضيتين نظائر وقعت في الماضي والحاضر. فكما أن الهندام غير المتزن ، والاعضاء الناقصة ، والمنظر الكريه سبب للشعور بالحقارة ، ويؤدي ذلك غالباً الى نشوء عقدة نفسية ، كذلك الاسم القبيح واللقب الكريه ، والنسبة المستهجنة فإن ذلك كله يدعو الى نشوء عقدة الحقارة. ولو فرضنا أن 99% من أفراد المجتمع كانوا خليقين متزنين لا يجرحون عواطف هؤلاء ولا يحتقرونهم ، فإن ال- 1% الباقية لم تربّ تربية حسنة تكفي في إيذائهم بالاستهزاء والاهانة.

ص: 159


1- المستطرف في كل فن مستظرف للابشيهي ج1ص58.
2- ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي ج1ص59.

العيوب غير القابلة للعلاج :

عندما يتولد الطفل على أساس قوانين الخلقة ذا عاهة غير قابلة للعلاج فإن مصيبة الحقارة قطعية بالنسبة اليه ولا يمكن التخلص منها. هذا الطفل لا بدّ له من تحمل الألم الداخلي مدى العمر ، وليس للآباء والأمهات في هذه الحالات الصبر والتحمل. إذ أن رفع هذه العاهات والنقائص الطبيعية ليس بيدهم ، في حين أن انتخاب الاسم الحسن في مقدورهم ، وهو من حقوق الأولاد الواجبة على الأباء. إنهم يتمكنون من القيام بواجبهم على خير وجه في تسمية أطفالهم ، وباستطاعتهم إجتباء إءًّ لأطفالهم لا تصير سبباً للحقارة والضعة مدى العمر.

إن الطفل الذي يستهزأ به من قبل سائر الأطفال لاسمه المستهجن أو لانتسابه الى عشيرة ذات اسم قبيح يخسر نشاطه ويسير دوماً الى اضمحلال وانهيار ، فيتجنب من الألعاب الجماعية للأطفال ، ويخاف من معاشرتهم ، ويخفي نفسه قدر المستطاع في ساحة المدرسة ، ويقف في صف التلاميذ وقفة لا يراه معها مدير المدرسة أو المشرف حذراً من أن ينادى باسمه من بين الأطفال وتتجدد عليه الكارثة.

« تشمل عقدة الحقارة جميع المظاهر التي ظهر بها عدم الاعتماد على النفس ، والشعور بضعف الشخصية ، وعدم الكفاءة ، وفقدان الارادة. إن الطفل الذي يبتلى بالشعور بالحقارة عندما يشب يلزم سيرة الوحدة والانزواء أو لا أقل من أن يوجد عنده الشعور بالغربة والابتعاد عن أقرانه ، لأن الوقائع والحوادث في دور الطفولة أفهمته أن الألفة والاجتماع مع الغير هو الذي جلب له السخرية والانتفاد. إن الذي يتجنب أقاربه وأترابه يقودنا الى أنه معذّب من الشعور بحقارة وجدت فيه من تجاربه في الطفولة. ولهذا - وبناء على قواعد علم النفس - فإن كل حادثة تضعف أو تعدم عزة النفس عند الإنسان ، وتقلّل من طموحه عامل مهم لتوسعة ( عقدة الحقارة ) وتقويتها ووسيلة لجعله بين الأعضاء المختلين وضعاف النفوس في المجتمع » (1).

ص: 160


1- عقده حقارت ص 6.

من الأسماء المحبذة والمرغوبة في الشرق أسماء وألقاب الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه وآله والأئمة علیهم السلام . إن أذواق الملايين من المسلمين وطباعهم تستلطف الأسماء التالية : محمد ، أحمد ، محمود ، مصطفى ، علي ، مرتضى ، حسن ، حسين ، كاظم ، رضا ... وأمثالها ، ومن كان قد سمي باسم من هذه الأسماء لم يشعر في نفسه بالحقارة والتعاسة ، ولم يأب من أن يعرّف نفسه به.

لقد اوصى أئمة الإسلام أتباعهم بتسمية أولادهم بأسماء القادة الإلهيين العظماء ففي الحديث عن الإمام الصادق علیه السلام : « إن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : من ولُد له أربعة أولاد ولم يسمّ أحدهم باسمي فقد جفاني »(1).

إن إيحاء أسماء الرجال العظماء أمر يهتم به الشرق والغرب ، وتحاول الحكومات استخدام جميع الوسائل لذلك ، فتسمى الاكتشافات والاختراعات العلمية والفنية باسم المكتشف والمخترع كي يبقى هذا الاسم خالداً على مر الأجيال ، يتلفظ الأساتذة والطلبة والمهندسون والعمال الفنويون آلاف المرات يومياً بأسمائهم في الجامعات والمختبرات والمؤسسات الصناعية في العالم.

لقد سميت بعض المدن الكبيرة باسم الرجال العظماء في قسم من الدول كما سميت الساحات والشوارع باسم الشخصيات البارزة في تلك البلدة. وفي إيران سميّت ساحات وشوارع عديدة باسم : حافظ ، سعدي ، خيام ، فردوسي ، أبو علي ، أبو ريحان ، وغيرهم ، وبهذه الطريقة خلّدوا اسماءهم.

ومن وسائل تخليد اسم النبي العظيم والأئمة علیهم السلام تسمية المسلمين أولادهم بأسمائهم. فالآباء والأمهات الذين يهتمون بهذا الأمر ويسمّون أطالهم بأسماء القادة الإلهيين قد أدّوا حق أولادهم في انتخاب الاسم الحسن لهم ، وحفظهم بذلك من الاحساس بالحقارة ... هذا من جانب ومن الجانب الآخر يكونون قد أظهروا بذلك ولاءهم لقادتهم ، ويستحقون الأجر بذلك من اللّه بلا ريب.

ص: 161


1- الكافي لثقة الاسلام الكليني ج6 ص19.

وقد ورد في حديث عن الإمام الصادق علیه السلام يسأل الراوي فيه : « إنا نسمي بأسمائكم وأسماء أبائكم ، فينفعنا ذلك؟ فقال : إي واللّه »(1).

الكنية :

لم تكن قيمة الكنية الجميلة فيما مضى - والاسم الجميل للعشيرة في عصرنا - أقل من قيمة الاسم الجميل ، فكم من أفراد يحملون أسماء حسنة ولكنهم انتخبوا اللقب العائلي غريباً ، نراهم غير مرتاحين. تقد اتخذ بعض الأشخاص لقباً سيئاً لنفسه من دون روية ، فجاء أولاده بعد سنين طويلة متأثرين لسوء اختيار والدهم ، شاعرين الحقارة عند ذكر تلك الكلمة. لقد أردف في بعض الروايات ضرورة تحسين اسم الطفل. بضرورة تحسين كنيته أيضاً. فعن فقه الرضا علیه السلام : « سمّه بأحسن الأسماء ، وكنّه بأحسن الكنى » (2).

وعند استعراضنا لبعض النصوص نجد قادة الإسلام يتأثرون من سماع الكنى القبيحة التي يتخذها بعض الأشخاص لأنفسهم ، وينبهون في بعض الأحيان على ذلك حفظاً لكانة أصحابها.

« عن زرارة قال : سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول : إن رجلاً كان يغشى علي بن الحسين علیه السلام وكان يكنى : أبا مرّة. فكان إذا جئت إلى بابنا فلا تقولن أبا مرة (3). لأن ( ابا مرة ) كنية الشيطان ، فمن اختار لنفسه هذه الكنية عرف نفسه بأنه متصف بصفة الشيطان ، ونيّته كنيته ، ولسوء اختياره هذا جعل نفسه معرضاً لتحقير الآخرين وإهانتهم.

الأثر النفسي للاسم واللقب :

واللقب أيضاً مثل الاسم والعائلي ، يعرّف صاحبه. وهو ذو أثر نفسي فعال ، فإن كان قبيحاً صار سبباً للشعور بالحقارة وطالما حمل صاحبه - كالاسم واسم العائلة القبيحين - على الضجر والسأم.

ص: 162


1- بحار الانوار للعلامة المجلسي ج23ص122.
2- مستدرك المسائل للمحدث النوري ج2ص618.
3- الكافي لثقة الاسلام الكليني ج6ص21.

لقد كان المواطنون فيما سبق يهتمون باللقب. وكانت الألقاب عندهم معروفة للمكانة والمنزلة الاجتماعية للأفراد ، فكان لكل من الرجال العظماء في العلم أو السياسة ، والشخصيات العسكرية أو المدنية لقب مخصوص يتناسب ومنصبه ومنزلته.

وعلى رغم الاختلاف الكبير بين مجتمعنا الحالي والأوضاع السابقة في موضوع الألقاب وفقدان كثير منها قيمتها السابقة ، فإنه توجد القاب في مجتمعنا يسبب بعضها الفخر والعظمة لصاحبه ، ويورث بعضها الألم الروحي والشعور بالحقارة له. ثم إن لبعض الألقاب جهة عمومية فإنه يتبع الشغل أو الرتبة أو المقام ، ومن كان حائزاً على الشروط المطلوبة نودي بذلك اللقب ... كما أن بعض الألقاب يختارها الشخص لنفسه ولأولاده كما يختار الاسم ، ثم بشهرته شيئاً فشيئاً في المجتمع.

وربما تقع قضايا وحوادث طيبة أو سيئة للأشخاص في أيام عمرهم فتترك أثراً حسناً أو قبيحاً في الأذهان ، ثم يلخص الناس ذلك الأثر في كلمة أو جملة ويجعلونها لقباً لصاحبه. ومن هذا القبيل ما نلاحظه في قصة عبيد اللّه بن الزبير ، حيث كان والياً على المدينة من قبل أخيه عبداللّه ، وقد شغل المنصب المعهود به اليه بكل سيطرة وكفاءة ... وفي يوم من الأيام اخطأ في كلامه أمام جمع غفير من الناس وهو على المنبر ، فبينما كان يعظ الناس تطرق لقصة ناقة صالح وظلم قومه لها ، فقال لهم : قد ترون ما صنع اللّه بقوم في ناقة قيمتها خمسة دراهم ، فسميّ ( مقوم الناقة ) (1).

لقد كانت الموعظة بذاتها صحيحة إلا أن تقويمه للناقة كان خطأ ، فلقبه الناس ب- ( مقوم الناقة ) ، وشاع هذا اللقب ، ولهج به الناس ، وأورد نقصاً عظيماً في شخصيته ، فخلعه عبداللّه بن الزبير ، ووليّ مكانه مصعباً.

في هذا المثال نجد أن والي المدينة يسقط عن أنظار الناس على أثر سبق لسان بسيط ، ولقبه الناس بمقوّم الناقة مستهزئين به وذاكرين ذلك في كل منتدى ومجلس.

إن الوالي الذي يتعرض لتحقير الناس وإهانتهم ، ويشعر في نفسه بالحقارة لا يتمكن من ممارسة السلطة والحكم مهما كان ذا سطوة وقوة.

ص: 163


1- الكامل لابن الأثير ج4ص87.

الألقاب المحتقرة :

في المجتمعات المختلفة أناس كثيرون اتخذوا لأنفسهم القاباً قبيحة بسوء اختيارهم ، أو أن سلوكهم المنحرف طيلة الحياة هو الذي أوحى للناس بتلقيبهم بلقب قبيح ... وتكون النتيجة أن يعيش هؤلاء حياة ملؤها التعاسة والشقاء والحقارة.

وفي مجتمعنا الحاضر توجد بين الطبقات المختلفة القاب كثيرة من هذا القبيل. وها أنذا أتكلم اليكم وببالي أمثله منها بحيث لو نطقت بكلمة واحدة انتقلت أذهان المستمعين فوراً الى شخص معين ، لكن القوانين الإسلامية لا تسمح لي بذكر شيء منها وإن كان ذلك على سبيل الشاهد ...

الحذرعن تحقير الناس :

لقد نهى الإسلام عن ذكر الناس باسم أو لقب يشينهم ويكون سبباً لاهانتهم وتحقيرهم وقد حذرت التعاليم الإسلامية الناس عن هذا العمل المنكر الذي يبعث البغضاء والحقد في المجتمع. قال اللّه تعالى : «وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ».

لقد ذكر في مجلس الإمام علي بن موسى الرضا علیه السلام شاعر ، فذكره أحد الحاضرين بكنيته ، فقال له الإمام علیه السلام : « هات اسمه ودَعْ عنك هذا. إن اللّه عز وجل يقول : لا تنابزوا بالألقاب ، ولعل الرجل يكره هذا » (1).

وفي الحديث : « حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب اسمائه » (2).

يجب على عامة المسلمين أن يجتنبوا عن ذكر اسماء وألقاب تسبب انزعاجاً وإيلاماً لأصحابها ، وألا يدعوهم بتلك الأسماء والألقاب كيلا يوجب ذلك التأثر والتألم فيهم. ولكن كثيراً من الناس لا يراعون هذا الواجب المقدس. فبعضهم لسوء خلقه وعدم العناية بواجباته ، وبعضهم لعدم فهمه وقصور إدراكه يذكر الناس بأسماء والقاب قبيحة ، فيحتقرهم بعمله السيء هذا.

ص: 164


1- وسائل الشيعة الحر العاملي ج5ص116.
2- مجمع البحرين - مادة نبز.

كان في أوائل القرن الثالث الهجري رجل في العراق يكنى ب- ( أبي حفص ) ، ولبعض أعماله لقبه الناس ب- ( اللوطي ) فكانا يحقّرونه بهذا اللقب في غيابه. ولقد أدّت شهرته هذه بين الناس الى تأثره الشديد ، وأوردت على شخصيته نقصاً غير قابل للتدارك فتمرض جار له ، فعاده أبو حفص والمريض في غاية الضعف. فسأله أبو حفص عن صحته ، وقال له : أعرفني؟ فأجاب المريض بصوت خافت جداً : ولم لا أعرفك؟ أنت أبو حفص اللوطي ، فدهش أبو حفص من هذا اللقب ومصارحة المريض به ، فقال له : لقد جاوزت حد المعرفة ، أرجو أن لا تقوم من مرضك هذا أبداً ... ثم قام من عنده وخرج (1).

السمعة السيئة والحرمان :

ما أكثر الرجال العلماء والمثقفين الذين كانت لهم الكفاءة لتسنّم مناصب عالية في الدولة ، والحصول على مقامات شامخة في المجتمع لكنهم فقدوا جميع قيمهم الاجتماعية على أثر لقب قبيح أو شهرة سيئة ، وأخذ الناس ينظرون اليهم بنظر الانتقاص والاحتقار ... وبالتالي لم يستفيدوا من المواهب التي كانت تميزهم ، بل لم يستطيعوا الاستمرار في الحياة كأفراد اعتياديين فهؤلاء يكابدون الضغط الروحي دائماً ويقضون حياتهم في حرمان وشعور بالحقارة والدناءة.

وكمثل على ذلك نذكر ما جرى لابن النديم بهذا الصدد. فقد كان اسحاق بن ابراهيم المعروف بابن النديم من العلماء الذين قلّ نظراؤهم في عصره ، وكان قد اجهد نفسه في علوم كثيرة كالكلام والفقه والنحو والتاريخ واللغة والشعر ، وبرع في جميع ذلك براعة تامة. وكان عملاقاً عظيماً في المناظرات العلمية ، وكثيراً ما كان يتغلب على فضلاء عصره. وله في مختلف العلوم ما يقرب من أربعين مجلداً ، وآثاره المهمة باقية حتى اليوم.

كان ابن النديم ذا صوت جميل ، ورغبة شديدة في الغناء. وكثيراً ما كان يشترك في مجالس طرب الخلفاء ورجال الدولة ، ويؤنس الحاضرين بغنائه المطرب ،

ص: 165


1- قاموس دهخدا الفارسي ص 2225.

ويجذب قلوبهم نحوه ... ولاستمراره في هذا العمل ضؤلت قيمة ثقافته العلمية شيئاً فشيئاً بالنسبة الى غنائه حتى عرف في المجتمع بهذه الصفة ولقبه الناس ب- ( المغنّي ) و( المطرب ).

لقد أوردت هذه الشهرة ضربة قاصمة على شخصيته ، ولم يتمكن فيما بعد أن يعدّ نفسه في المجمع كرجل عالم مطلع ، وأن يظهر كفاءته العلمية ... وبالرغم من قربه لدى الخلفاء والشخصيات فإنهم لم يعهدوا اليه بمهمة أو عمل خطير في الدولة ، وذلك حذراً من اضطراب الرأي العام ،.

وبهذا الصدد كان المأمون العباسي يقول : لو لم يكن يشتهر ابن النديم بالطرب والغناء لولّيته القضاء ، لأنه يفوق جميع قضاة الدولة الموجودين من حيث الفضل والعلم ، واكثرهم استحقاقاً لهذا المنصب (1).

نستنتج مما تقدم أن الاسم المستهجن ، أو اسم العائلة القبيح أو اللقب الشنيع ، أو الشهرة السيئة تسبب الشعور بالحقارة ، وتأزم عقدة الحقارة ، مما يؤدي الى تنغص الحياة على الانسان.

إن الشعور بالحقارة المنبعث من الاسم القبيح يلازم الطفل من أولى أدوار حياته. ومن الحقوق الدينية للأولاد على أوليائهم انتخاب الاسم واللقب الحسنين للطفل. على الآباء والأمهات المسلمين الإهتمام بهذا الواجب بأن يؤدوا حقوق الأولاد على أحسن ما يرام ، ويختاروا لأولادهم الأسماء والألقاب المناسبة الجميلة ، والا يكونوا سبباً - من غير ضرورة - لشعورهم بالحقارة والخسة والضعة طيلة ايام عمرهم.

* * *

ص: 166


1- قاموس دهخدا الفارسي ص 2225.

المحاضرة الثالثة والعشرون: الأفراط في المحبة

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الحكيم : (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (1).

من عوام نشوء عقدة الحقارة ، الافراط في إبداء مظاهر الحب والحنان بالنسبة الى الطفل. إن الأطفال الذين يبذل لهم من العناية والحب اكثر مما ينبغي ينشأون في النتيجة معجبين بأنفسهم ، فيلاقون طيلة أيام حياتهم ، وخاصة عند مواجة مشاكل الحياة ، والشعور بالحقارة والضعة بشدة ، فيقدمون على أعمال غير مرضية ... وقد يؤدي بهم الشقاء والضغط الروحي الى الجنون والانتحار.

لقد ذكرنا في محاضرة سابقة أن المحبة ضرورية لنمو روح الطفل كالغذاء الضروري لنمو جسمه. وإن اهمية التوازن الصحيح في كمّ المحبة وكيفها وأسلوب إظهارها لا تقل عن أهمية المحبة ذاتها. وكما أن لكل من التقليل من الغذاء ، والإكثار منه ، وتسمّمه ، أثراً في بدن الطفل ، كذلك لكل من التقليل من المحبة ، والإكثار منه ، والإكثار منها ، والمحبة فير موضعها والتي ينحرف بها الطفل آثاراً مشومة في روح الطفل وتسبب له مشاكل كثيرة.

الإعتدال في المحبة :

الهدف من التربية الصحيحة هو أن تقرن حياة الطفل بالسعادة ، وتكلّل جهوده بالنجاح. إذ الحياة على طولها تتضمن صراعاً مع المشاكل وهكذا يواجه الفرد كثيراً من المنخفضات والمرتفعات والمعطفات والمصائب في مختلف أدوار حياته.

ص: 167


1- سورة آل عمران ص 188.

والمربي القدير هو الذي يعمل على تنشئة جسم الطفل وروحه على أحسن الأساليب بحيث يعدّه للمقاومة والثبات أمام صعوبات الحياة.

وكما أن جسم الطفل يقوي نتيجة للمراقبة الصحية ، والتواز في أكله ونومه وحركته ورياضته ، ويستطيع من مقاومة البرد والحر ، والجوع والعطش ، والمرض على أحسن وجه ، فكذلك روحه فإنها تنمو قوية في ظل الصحة الرويحة والتعاليم الخلقية ، والتوازن بين أساليب العطف والحنان والشدة والخشونة ... وبذلك يتمكن من الصمود أمام المصائب والمشاكل والإندحارات الروحية.

وبالعكس فإن الأطفال الذين يواجهون المحبة والرأفة الزائدتين ، ويستسلم لهم آباؤهم وأمهاتهم بدون أي قيد أو شرط ، ويستجيبون لجميع مطاليبهم من صالح أو طالح ، وبالتالي ينشأون على الاستبدادب والاعجاب بالنفس ... فإنهم يحملون أرواحاً ضعيفة ونفوساً سريعة الانهزام من ساحة المعركة ، ويتأثرون من دور الطفولة حتى آخر لحظة من العمر من مواجهة أبسط الأشياء ، وأخف المصائب ، وينكسرون أمام مشاكل الحياة بسرعة.

إن الأفراد الذين نشأوا في ظل الحنان المفرط ، هم أتعس الأفراد ، لأنهم يعجزون عن حل مشاكل الحياة الاعتيادية ، فيلجأون في الشدائد الى الانتحار متضورين أن النهاية الحتمية لفشلهم يجب أن تبرّر بالإنهزام من معركة الحياة.

خطأة تربوية :

بالرغم من أن كل أسلوب أهوج يتّبعه الوالدان في تربية الأولاد يكون له الأثر السيء ، ويولد نوعاً من الانحراف ، فإن الإكثار الضار من المحبة للأطفال يعد من أعظم الأخطاء التربوية. إن العواقب السيئة التي يلاقيها الأطفال بهذه المناسبة مهمة وخطرة. ولقد اهتم جميع علماء النفس بهذا الموضوع في بحوثهم التربوية ، ولكل منهم حوله كلام فصل.

ولأنقل لكم - على سبيل الشاهد - بعض النصوص لعدد من علماء الغرب :

1 - يقول ( جلبرت روبين ) : « إن تعويد الطفل على الاعجاب بنفسه يورث الغضب الشديد فيه لأبسط الأشياء ، والإستبداد في الرأي.

ص: 168

وفي الغالب يدفعه إلى الرغبة في طلب الجاه ، وفي النتيجة يحصل الطفل على القدرة التي تساعده على التقدم ، ومع كونه ذا أعصاب هزيلة فإنه ينجح بواسطة الحيلة والشدة. إن جعل الأطفال معجبين بأنفسهم يكوّن منهم أفراداً تعساء ، ضعفاء ، عديمي الإرادة ».

« لقد كان أولئك الذين يقولون للأم العابثة بلحن مصحوب بالسخرية : ليس طفلك معجباً بنفسه ، بل هو غير صالح ... لم يكن كلامهم خالياً عن المبالغة فحسب ، بل كان تنبؤهم صحيحاً أيضاً. هناك حالات تتقزز النفوس من مشاهدتها لعدم الالتزام في التربية ، لأننا نشاهد في الحقيقة مقتولين أبرياء كان بالإمكان أنقاذهم » (1).

الاطفال المدللون :

2 - يقول ( مك برايد ) : « الشعور بالدل والغنج أمارة اخرى من أمارات عقدة الحقارة ، ويجب البحث عن أساسه في أسلوب التربية الخاطىء المتخذ في دور الطفولة. إن الطفل الذي كان يرى نفسه قرة عين والديه ، عندما يكبر ويصبح رجلاً كاملاً يجب أن يكون في جميع نواحي الحياة محبوباً من غير علة ومحترماً لدى الجميع. فعندما يرى أنه لم يُعتن به ، يفقد الهدوء والاستقرار ، ويختل ما صفا من فكره ، فإما أن يلتجىء إلى الانتحار ، وإما أن يبغض الآخرين. إن عقدة الحقارة التي تنشأ في الناس بهذه الظاهرة مصيبة عظيمة للمجتمع » (2).

3 - يقول ( ريموند بيج ) : « يجب أن ننبه على بعض الأخطاء في السنين الأولى من حياة الطفل. واكثرها شيوعاً هو الأسلوب الذي يؤدي إلى غرور الطفل وأنانيته إن المحبة بدون سبب في الأيام الأولى هي التي تسبب غرور الطفل وأنانيته ».

« إن الآباء والأمهات يأملون في الطفل النجاح والسعادة طبعاً ،

ص: 169


1- چه ميدانيم؟ تربيت اطفال دشوار ص 23.
2- عقده حقارت ص 27.

ولهذا فهم يرأفون به أشد الرأفة ، ويتملقون له ويبعدون كل عقبة أو مشكلة حتى لو كانت تافهة عن طريقه ... وكلما كبر الطفل حاولوا تهيئة وسائل اللعب المناسبة له. إن هذه الأعمال تستوجب الاستحسان في الظاهر. أما في الباطن فإن الخطر الكامن وراءها موحش جداً ».

« إن الفرد الناشيء في ظل الرأفة الزائدة لا يطيق المقاومة أمام تقلبات الحياة ، ولا يستطيع الصراع معها » (1).

4 - يستشهد ( الفرد آدلر ) العالم النفسي الشهير ، وزعيم المدرسة الفردية في علم النفس بإمرأة « انتحرت لسبب تافه هو أن جارها كان يُعلي صوت المذياع ، ولم يهتم باستنكارها المستمر. وأخيراً أقدمت على الإنتحار وتدل التحقيقات التي أجراها ( آدلر ) بهذا الصدد على أن هذه المرأة نشأت منذ طفولتها على الغرور والرضا بالنفس ، وكان يُحضر اليها في المنزل ما تشاء من دون قيد أو شرط. ولهذا السبب فإنها لم تطق العيش في دنيا تسمع الجواب السالب على ما تطلب فيه » (2).

الإفراط في المحبة :

لقد حذرت الشريعة الإسلامية الغراء أولياء الأطفال في أسلوب تربيتهم من الإفراط في المحبة. إن الذين يفرطون في الرأفة بأطفالهم ، ويدفعونهم بسلوكهم الأهوج هذا إلى الأعجاب بأنفسهم ، ملومون من قبل الأئمّة علیهم السلام . فعن الإمام الباقر علیه السلام انه قال : « شرّ الآباء من دَعاه البرّ الى الإفراط ، وشرّ الأبناء من دَعاة التقصيرُ إلى العُقوق » (3).

إن العواقب السيئة التي يلاقيها الأطفال نتيجة الإفراط في المحبة تجاههم مهمة

ص: 170


1- ما وفرزندان ما ص 39.
2- روح بشر ص 131.
3- تاريخ اليعقوبي ج3ص53.

جداً وخطرة. ولهذا السبب يعرّف الإمام علیه السلام الآباء الذين يفرطون في التظاهر بالحب والحنان لأطفالهم بأنهم شر الآباء.

إن الطفل مفطور على حب الحرية ... إنه يرغب في أن يعمل ما يريد ، ويمدّ يده الى ما يشاء ، ألا يمتنع أحد من تنفيذ ما يطلب ، ولكن ذلك غير صالح للطفل ، لأنه لا يميز الحسن من القبيح ، ولا يفهم الخير من الشر (1). إن المربي الصالح هو الذي يسير وفق مقتضيات العقل في الإستجابة لمطاليب الطفل ، فيعمل على تحقيق مصلحة الطفل مع العطف والحنان عليه ، ويمنعه متى كان طلبه يخالف صالحه ، بكل صرامة ، متبعاً في ذلك مختلف الوسائل ، من النظرة الشزراء ، والإهمال الموقت وما شاكل ذلك.

العواطف التافهة :

هناك بعض الآباء والامهات الجهلاء ليس لهم أدنى اهتمام بخير الطفل وصلاحه. هؤلاء الوالهون المفرطون في الحب والحنان ، الذين أعمى الحب عيونهم ، وأصمّ آذانهم ... هدفهم الوحيد هو إرضاء الطفل وتنفيذ رغباته ، فيعطون المجال له بدون حساب ، ويجعلون أنفسهم طائعين فعلاً وممتثلين لأوامر الطفل الصغير ، منقادين له تماماً.

كل يوم يزداد من عمر الطفل يزداد إعجابه نفسه ، وتتحكم في نفسه جذور الاستبداد والتعنّت بالرأي ، ويعود عالة على المجتمع.

هؤلاء الآباء والأمهات ، وإن تظاهر بمظهر الحب والحنان فإنهم في الواقع

ص: 171


1- وبصورة عامة يجب أن نفهم الطفل بأن الحرية المطلقة ليست إلاّ الهمجية ، والفوضى ، والحيوانية. ولا يتسنى ذلك في الأدوار الأولى التي لا يفهم فيها الطفل كثيراً من الفكر العلمية والآراء التي يجب أن يتبناها الفرد الصالح في حياته ... وعليه فيجب إفهامه بأن بأن هناك حواجز وموانع تقف في سبيل تنفيذ الفرد رغباته بصورة مطلقة ، وذلك بالوقوف أمام الأعمال العابثة والضارة التي تصدر منه. عندئذ يفهم الطفل جيداً أنه يجب أن يتقيّد بالأوامر والأعراف والتقاليد النافعة ,ان لا يتعداها. أما إذا فسح له المجال في أن يعمل ما يريد ، ويذهب أين شاء ، فلذلك يؤسس ركيزة الأيديولوجية الفردية الاستبدادية التي ترى أن الفرد يستطيع أن يحقق لنفسه ما يريد وإن أضرّ ذلك بمصالح الجماعة ، وأخلّ بالمثل التي يتبناها بنو جنسه.

يحملون معاول لهدم اساس سعادة أطفالهم ، ويقودونهم بعواطفهم التافهة ومحبّتهم غير المرضية الى طريق التعاسة ، والمستقبل المؤلم.

إن الأطفال الذين يتربون على هذا الأسلوب المذموم ، ينشأون معجبين بأنفسهم. وهذا الخلق السيىءش من الآفات الروحية الخطيرة ، بحيث يترك آثاراً وخيمة على الجسم والروح ، وتظهر نتائجه السيئة من خلال أقوال المصاب وأفعاله بكل وضوح.

وبهذا الصدد يقول الإمام علي علیه السلام : « شرُ الأمور الرضا عن النفس » (1).

الطفل المتعنت :

إن الطفل الذي كان يحكم لسنين طوال في محيط أسرته باستبداد ، وكان أبواه مطيعين له بلا قيد أو شرط ، ينشأ - بالطبع - معجباً بنفسه ، ويتوقع من جميع الرجال والنساء أن يطيعوه كما يطيعه أبواه ، وينفذوا أوامره بدون ترديد. وبديهي أن شخصاً كهذا يتنفر منه الناس ويبتعدون عنه. وينظرون إليه يعين السخط والاحتقار. وهذا من الآثار السيئة للرضا عن النفس.

1 - قال الإمام الهادي علیه السلام : « من رضي عن نفسه كثُر الساخطون عليه » (2).

2 - وعن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : إيّاك أن ترضى عن نفسك فيكثَر الساخطُ عليك » (3).

3 - وعنه علیه السلام أيضاً : « من رضي عن نفسه كثر الساخطُ عليه » (4).

العجب بالنفس :

إن صاحب العقل السليم والنظر الثاقب يعرف حدوده ولا يتجاوزها وإعجاب الرجل بنفسه دليل على عدم نضوج عقله. إنه لو كان يملك عقلا حراً لم يكن مصاباً

ص: 172


1- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 446.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج17ص215.
3- غرر الحكم ودرر الكلم ص 147.
4- نفس المصدر ص 424.

بهذا الداء ، وجاعلاً نفسه في منزلة أرقى مما هي عليه ، فعن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام أنه قال : « رضاءُ العبد عن نفسه بُرهان سخافة عقله » (1).

إن الإطفال الذين نشأوا راضين عن أنفسهم على أثر الإفراط في المحبة تجاههم لا يتمكنون من السير مع قوانين الحياة ، والتغلب على مشاكلها هؤلاء مصابون حتى نهاية عمرهم بهذا الداء ويتجرعون عوارضه الوبيلة.

« لا شك أن الطفل يحتاج حاجة ماسة الى المحبة ، ولكن لا تلك المحبة المفرطة التي تحرك رغباته ومشتهياته فإن هناك فوانين لا تقبل التغيير تؤثر دائماً - في كل عصر من العصور - في حياة المجتمعات. ومن تلك القوانين : أن يقرر كل فرد مستقبله بيده في ظل صبره وتحمله واستقامته. والطفل المعجب بنفسه والفاسد أعجز من أن يقوم بهذا الواجب. إنه يعيش في عالم خيالي غير متوافق ، ويظن أبداً أن الإبتسامة البسيطة أو الانكماشة الضئيلة ستحرك عواطف الجميع وشفقتهم ».

« وبناء على ما يقول الدكتور آدلر في كتابه ( تربية الأطفال ) فإن الأطفال الذين نشأوا هذه النشأة يريدون أن يحبّهم الجميع من طبيعتهم. ولو قلنا : ان هؤلاء الأطفال سيظلون مدى العمر مؤمنين بهذه الفكرة لم نقل جزافاً. والحقيقة أننا نجد أن هؤلاء الأطفال يبقون على إعجابهم بأنفسهم حتى عندما يبلغون سن الشيخوخة ... هؤلاء رجال قد يصلون بفضل مواهبهم وطاقاتهم إلى النجاح والموفقية ، وإذا بهم حينئذ يفقدون كل إنجازاتهم بسبب أفعالهم الركيكة ».

« ألا تصدّقون أن الإنسان قد يواجه مراراً نساء في الستين من أعمارهن لا يزلن يعتقدن بأن خير أسلوب للحصول على ما يرغبن إنما هو التظاهر بالاستياء ، والتزّمت ، والإعراض؟! » (2).

ص: 173


1- نهج البلاغة ، شرح الفيض الأصفهاني ص 1081.
2- ما وفرزندان ما ص 40.

لعل كثير من الأباء والأمهات لا يدركون بعد خطر الإفراط في المحبة بالنسبة الى الطفل إدراكاً تاماً ، ولا يفهمون أنهم كيف يرتكبون ظلماً كبيراً بأعمال ظاهرها الرأفة والحنان. إنهم يدفعون الطفل إلى الإعجاب بنفسه فينشأ تعساً في جميع أدوار حياته ومستقبله من جهة ، ومن جهة اخرى يجعلون أنفسهم في عداد ( شر الآباء ) على حد تعبير الإمام الباقر علیه السلام .

ولمزيد اتضاح هذا الموضوع التربوي الحساس للمستمعين الكرام ، ووقوف اولياء الأطفال على تكاليفهم الشرعية والعلمية ، فسنخصص بحثنا في هذه المحاضرة بهذا الموضوع ، وبيان النتائج الوخيمة للافراط في المحبة ، والأمل وطيد بأن يستمع السادة المحترومون الى هذه المحاضرة بدقة ، وأن يضعوها نصب اعينهم في التطبيق ، فيحفظوا الأطفال من التربية السيئة.

إن أول نقطة يجب أن نثيرها في بحثنا هذا هو الجواب على السؤال التالي : متى يجب أن يأخذ الوالدان بالحد الوسط من المحبة تجاه الطفل كيلا ينشأ معجباً بنفسه وأنانياً؟

الكل يعلم أن الغذاء المادي للطفل يبدأ من يوم ولادته. الطفل إنسان حي ، وكل موجود حي يحتاج إلى الغذاء للمحافظة على حياته. ولكن كثيراً من الآباء والامهات لا يعلمون متى يبدأ التطبع على العادات الحسنة أو القبيحة ، التي تؤدي الى السلوك المفضل أو المستهجن ، ومتى يؤثر الإفراط في المحبة الباعث الى نشأة الطفل أنانياً.

إقتباس العادات :

يتصور البعض أن المولود الجديد قطعة من اللحم الحي ، يحتاج الى الغذاء والنوم فقط. ويجب أن يمر عام كامل على حياته - على أقل تقدير - حتى تستيقظ المشاعر عنده تدريجياً ، وعند ذاك يتمكن الآباء والأمهات من الابتداء بتنمية العادات الحسنة في الطفل. وبعبارة أخرى : يظن هؤلاء أن الغذاء المادي للطفل يبدأ من يومه الأول ، أما حاجته الى الغذاء الروحي فإنها تبدأ بعدم عام من ولادته على الأقل.

إن هذا التصور خطأ فاحش. فإن الطفل يستجيب في الأسابيع الأولى من حياته

ص: 174

بفضل غرائزه واستعداداته للعادات والمؤثرات ، بحيث لو كانت سيئة فإنها تمنع من الإنطباع على العادات الحسنة.

« يملك الطفل المتولد حديثا غرائز وانطباعات ، ولكنه يفقد العادات. ان جميع العادات التي حصل عليها في الرحم لا أثر لها في أحواله بعد الولادة. ففي بعض الأحيان يجب تعليم المولود كيفية التنفس. إن الغريزة الوحيدة التي يحملها حينذاك ، والتي تكون قد نمت نمواً حسناً هي غريزة مص الثدي والارتضاع. وعندما يشتغل بالإرتضاع يأنس بالمحيط الجديد ، وتمرّ عليه سائر أوقات يقظته في حالة عدم شعور مبهم ، وإنما يتخلص من هذه الحالة في ساعات النوم التي تستغرق اكثر ساعات اليوم ... ثم تتغير جميع هذه الأوضاع من بعد أسبوعين ، فيحصل الطفل من تجاربه التي تتكرر عليه خلال هذه المدة بصورة منتظمة على انطباعات يتذكرها حينذاك. ولعل تذكره ذاك يكون أكمل وأكثر من كل الأزمنة اللاحقة ، ويتنفر من تغيير كل ما اعتاد عليه وأنس به ».

« ان السرعة التي يسير بها الطفل في اكتساب العادات عجيبة. وسيكون حصوله على كل عادة سيئة في أولى أدوار الطفولة سداً أمام اكتسابه العادات الحسنة. ولهذا يعتبر التعوّد على العادات في أوائل أيامه مهماً للغاية. إذ لو كانت العادات الأولية حسنة فسوف نتخلص في المستقبل من الترغيبات وبواعث التشجيع والإطراء التي لا تتناهى ، هذا مضافاً الى أنه يبقى في جميع أدوار حياته المقبلة متطبعاً على الغزائز المكتسبة في أوائلها وستظل مهيمنة عليه. ولا يمكن للعادات التي اكتسبها فيما بعد المنافية لها الوصول الى تلك الدرجة من الهيمنة والقوة. ولهذا يجب أن يُراعي موضوع العادات الأولية رعاية تامة. إن الأطفال الرضع محتالون اكثر مما يتصوره الأشخاص البالغون والكبار ، لأنهم عندما يرون أن نتائج البكاء أنفع لهم فإنهم بلا شك يستعملون هذه الطريقة ، وعندما يرون بعد ذلك أن البكاء والعبوس يسبب النفور والاستياء منهم بدلاً من

ص: 175

الحنان عليهم يتعجبون وتكون الدنيا في أنظارهم تافهة لا فائدة فيها ».

« إذن فالوقت المناسب والصحيح الذي يجب فيه البدء بالتربية إنما هو لحظة الولادة. لأنه هذا الوقت هو الذي يمكن البدء فيه من دون وجود إحتمال لليأس والفشل. أما لو شرع في التربية بعد هذا الحين فإننا سوف نضطر الى مقاومة العادات المنحرفة التي اكتسبها. وفي النتيجة فإن من يحاول القيام بالمهمة التربوية بعد هذه الفترة ، يقع مورداً للإنتقاد ويلاقيه الفشل حتماً » (1).

أساس السلوك :

إن العادات المرضية أو غير المرضية تمد جذورها في نفس الطفل منذ الأسابيع الأولى. فالصفات التي يعتاد عليها في دور الطفولة تنفذ الى اعماق روحه ويصعب تغييرها بعد ذلك.

وكما أن الآباء والأمهات الواعين يراقبون غذاء الطفل منذ الأسابيع الأولى. فالصفات التي يعتاد عليها في دور الطفولة تنفذ الى اعماق روحه ويصعب تغييرها بعد ذلك.

والآن أتصور أنه قد اتضح ما أردنا الإجابة عليه من السؤال الذي أثرناه في بداية البحث ، وثبت لزوم القيام بتحديد المحبة تجاه الطفل ، والمنع من نشأته أنانياً ومعجباً بنفسه منذ الأسابيع الأولى من حياته.

إن الطفل الذي مرّ عام كامل على حياته ، يكون قد ترك وراء ظهره مراحل تربوية عديدة. فإذا نشأ الطفل عامة ذاك نتيجة لمحبة والديه المفرطة وغير المناسبة ، ومعجباً بنفسه ، فإن اصلاحه صعب جداً.

« والخلاصة : ان الاسس والركائز الخلقية للطفل تصب في الأشهر المبكرة من عمره. وبعد مضي سنة واحدة - حسب كيفية تربية الوالدين - فإما أن يكونا قد أوجدا إنساناً له الكفاءة والاستعداد

ص: 176


1- در تربيت ص 57.

لتقبل النظام والإنضباط ، أو يكون فاقداً لهذا الإحساس بالمرة ».

« لا شك أنه سيأتي زمان لا نقدر فيه على القيام بأي عمل من شأنه إصلاح تربية الطفل وتعديل سلوكه لأننا نسينا واجبنا تجاه التربية الأولية للطفل ... التربية التي فكرّنا فيها أقل من تفكيرنا في سائر الأعمال الإعتيادية » (1).

كيف نوازن في المحبة؟

الموضوع الثاني الذي يلزم أن يتضح من هذا البحث هو كيفية التوازن والتعديل في المحبة والحنان ، ولا ريب أن الأطفال كما لهم الرغبة في الغذاء والهواء وسائر الحاجات الطبيعية كذلك لهم رغبة فطرية نحو الحنان والمحبة ، فيلزم الاستجابة لهذه الرغبة الطبيعية بدورها حسب أسلوب صحيح تشبع تلك الرغبة ، وترضي الطفل ، فيربّي حسب السنة الخلقية والفطرية.

إن الواجب الدقيق والثقيل على الأبوين في تحسين تربية الطفل هو أن يعلما متى معاملته بالحنان والمحبة ، ومعرفة المقدار الذي يجب القيام به حينئذاك ، لأن نشوء الطفل أنانياً ومعجباً بنفسه حصيلة أحد أمرين : المحبة حيث لا داعي لها ، أو الإكثار منها مع وجود المقتضي اليها.

ولبيان الأخطاء التربوية ، يمكن التمثيل بعشرات الأمثلة للعواطف التي يبرزها بعض الآباء والأمهات الجاهلين من غير داع لها ، نذكر ثلاثة نماذج منها عسى أن ينتبه المستمعون الكرام الى غيرها بفضل ذكائهم الفطري.

العناية بالطفل في مرضه :

1 - من الموارد التي يتحبب الآباء والأمهات الغافلون الى الأطفال بصورة مفرطة ، وربما يكون ذلك في غير محله ، إذ قد ينشأ الطفل نتيجة لذلك معجباً بنفسه ... هو عندما يتمرض الطفل ويكون مستلقياً على فراض الألم.

إن الوالدين العاقلين يستعدان في هذه المناسبة للعناية به وعلاجه ، فيأتيان

ص: 177


1- ما وفرزندان ما ص 39.

بالطبيب ويحضران له ما يناسبه من غذاء ودواء ، ويسجلان درجة حرارة الطفل في ساعات الليل والنهار. يكون الأب والأم أمام عيني الطفل الفاحصتين كممرضين يقومان بواجبهما ، ويوحيان الى الطفل ان حالتنا وحالتك طبيعية إلاّ أنه حدث أن تمرضت وحُرمت لذلك من الركض واللعب وأكل الطعام العادي. إننا ننفذ أوامر الطبيب تجاهك ، وبجب أن نطيعه في استعمال الدواء وزرق الابرة ، وستبرأ طبعاً بعد أيام قليلة. وعلى فرض أن الأبوين متأثران في الواقع لمرض الطفل ، فإنهما يظهران أمامه الوضع الإعتيادي ، ولا يسببان إحساس الطفل بتشوشهما واضطرابهما.

أما بعض الآباء والأمهات فإنهم يضطرون ويرتكبون ... ويظهرون إضطرابهم الشديد هذا للطفل ، ويجلسون عنده ناظرين إليه وآثار التألم بادية عليهم ، يبكون ، يمسحون بأيديهم على رأسه ويتكلمون معه بتوجع واضطراب ، وربما يقبّلون وجهه المحموم ، ويحنّون عليه قدر المستطاع ، ويعتبرون مرضه حادثاً جللاً ، ويفهمونه - عملياً - أنهم جميعاً فاقدون راحتهم واطمئنانهم ، فيترك الأب عمله ، وتنسى الأم كل شيء ، وتضطرب الأسرة كلها لمرضه.

هذه الأعمال الفارغة التافهة ليس لها أقل تأثير في معالجة المريض ، لكنها من الجانب الآخر تفسد أخلاق الطفل وتمنحه الكثير من الأنانية ، فيعتقد الطفل بذلك أن له قيمة كبيرة ويقول في نفسه : أنا صاحب هذه الأهمية والمكانة ، أنا الذي يسبب مرضي اضطراب العائلة وارتباكها ، ويجلب الأنظار نحوي.

إن مرض الطفل يزول ، ولكن تبقى هذه النظرة الخاطئة في أعماق فكره ، فيتوقع دائماً من أبويه وسائر الناس أن يحترموه لدرجة كبيرة ، ويعجبه حين أبتلي بصداع أن يضطرب له جميع الناس فضلاً عن أفراد اسرته.

تمارض الطفل :

وقد يتمارض كي يلتذ من حنان أبويه ويسكن الى محبتهما له. وحين يكبر هذا الطفل على هذا التصور الخاطىء ويرى عدم اعتناء الناس به ، وعدم اضطراب أحد لمرضه. فمن الواضح أنه يستصغر نفسه ويحس بالحقارة في ضميره الباطن.

وبهذا الصدد أنقل لكم نصاً من كتاب لعالم نفسي شهير هو ( ديل كارنيجي ) :

ص: 178

« ذكرت لي القصاصة الشهيرة ( ماري روبرتس راين هارت ) قصة سيدة شابة سليمة تمارضت حتى تجلب اهتمام العائلة نحوها ، وتثبت مكانتها ، وكلما ازداد عمرها علمت بضعف احتمال تزوجها ، فاظلمت الدنيا في عينيها ، ولم يكن لها ما يسعدها في الحياة ».

«كانت السيدة الكاتبة تقول : تمرضت هذه السيدة فكانت أمها العجوز تداريها طيلة عشرة أعوام ، وتحمل أواني طعامها كل يوم مراراً من السلام اليها. إلى أن توفيت أمها فأخذت المريضة بالنياحة مدة أسابيع ، وبما أنه لم يستجب لندائها أحد ، نهضت وارتدت ملابسها ، وجعلت تستمر في الحياة بصورة اعتيادية » (1).

إن الإعجاب بالنفس أحد العوامل المهمة للشقاء والشعور بالحقارة في جميع ادوار الحياة. والعطف الفارغ لأولياء الأطفال - الذي هو ظلم عظيم لهم - هو سبب نشوء هذه الصفة الذميمة.

أذكرّكم جميعاً - أيها المستمعون الكرام - أن تكفوا من المحبة الزائدة التي لا داعي لها نحو أطفالكم ، ولا تكونوا سبباً لشقائهم ، وتذكروا دائماً كلمة الإمام الباقر علیه السلام : « شرّ الآباء من دعاه البر الى الإفراط ».

اللحظات الحاسمة :

2 - طفل حديث عهد بالحركة ، يلعب بمحضر والديه في الغرفة ، وبيده كرة صغيرة ، يرميها كذلك ، ويكرر هذا العمل .. في إحدى المرات تصل الكرة الى جانب الجدار ويأتي الطفل منحنياً ليرفعها فترتطم جبهته بالجدار ... إن هذه الصدفة تعتبر للطفل جديدة ولا يعلم ما ينبغي أن يكون موقفه منها. هل يبكي أو يضحك أو يسكت؟! فهو متحير ... ينظر إلى أبويه كي يطلع على مدى تأثير هذه الصدفة فيهم ، وعند ذاك يظهر ردّ الفعل المناسب تجاهها. ليس للطفل رأي في الموضوع ، بل إنه

ص: 179


1- ائين دوست ي. وقد ترجم الكتاب الى العربية تحت عنوان : ( كيف نكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس ).

يفعل ما فعله والداه ، فإن ضحكا يضحك ، وإن تألما يبكي ، وإن سكتا يسكت ويستمر في لعبه.

إن هذه اللحظة ولحظات أخر مثلها شديدة التأثير في الطفل من الوجهة التربوية ، فإن سلوك الوالدين السيء تجاه مواقف كهذا يترك أثراً سيئاً في نفسية الطفل.

إن الآباء والأمهات الواعين لا ينظرون في هذه الأحيان الطفل أصلاً ، ولا يعتنون بتوقعه العطف والحنان منهما ، ولا يعتبرون هذه الصدفة شيئاً ، وبذلك كله يفهمون الطفل عملياً أن الارتطام بالجدار ، والسقوط على الأرض ، وما يشبه ذلك حوادث اعتيادية في حياة الإنسان.

أما الآباء والأمهات الواعين لا يظهرون أي رد فعل للحادثة ، ولكنهم يستفيدون من تلك الفرصة فينصحون الطفل قائلين له : عندما تقترب من الجدار أو العمود ، تأخر قليلاً حتى لا ترتطم جبهتك بالحائط عندما تنحني.

أما الأباء والأمهات الغافلون فإنهم يظهورن في مثل هذه الحوادث حناناً مفرطاً ، فيضمون الطفل الى صدورهم ويقبلونه ، ويمسحون بأيديهم على جبهته أو ما تألم من أعضائه ، ويظهرون التأثر والتألم لما حدث للطفل وربما يضربون الأرض أو الجدار ترضيه للطفل ، فيبدي رد الفعل أمام كثرة ما يلاقيه من حب وحنان ، ويرفع صوته بالبكاء والعويل ، ويسكب الدموع ، ويرى نفسه أهلاً للحنان بالنسبة لما حدث له ... وعندما تتكرر محبة الوالدين الفارغة في حوادث أخر مشابهة لهذه الحادثة ، تتولد جذور الصفة الرذيلة ( الإعجاب بالنفس ) في ضمير الطفل تدريجياً ، ويكبر الطفل على الدلّ ، ويتوقع الحنان والمحبة لكل حدث حقير يقابله.

ينشأ الطفل مع هذا التوقع الخاطىء ، ويترك مرحلة الطفولة منتفلاً الى المراحل الأخرى من حياته ، ويقابل في المجتمع آلاماً كبيرة فلا يتحبب اليه أحد خلافاً لما كن يتوقعه ... حينذاك يتألم ، ويحس في نفسه بالدناءة ويصاب يعقدة الحقارة ، فيقضي حياته كلها بالتعاسة والشقاء.

ص: 180

إن محبة الوالدين التافهة هي التي أدت الى هذا المصير ... فشرّ الآباء من دعاه البر الى الإفراط.

الميول المضرة :

3 - هناك تضاد طبيعي بين متطلبات نفس كل انسان من جهة ، ومصالحه الفردية والإجتماعية من جهة اخرى. ويجب كل فرد - بدافع من رغباته الفردية وأهوائه الشخصية - أن يتحرر من كل قيد ، وألاّ يقف مانع في طريق آماله ، فيقول ما يشاء ، ويأكل ما يرغب ، ويحاول إرضاء شهواته كيفما كان. ولكن مصلحته الخاصة ومصلحة المجتمع الذي سيعيش فيه تستوجب أن يتخلى كل فرد عن آماله الضارة وغير المشروعة وينصرف عن إرضائها ... وهذا أهم شرط في الحياة الإجتماعية لجميع شعوب العالم.

يتمكن المجتمع البشري الوصول الى هذا الهدف المقدس والحياة السعيدة باتباع أصلين مهمين : -

الأول : أن يتعرف كل فرد على حسنات الحياة وسيئاتها.

والثاني : أن يسيطر كل فرد على نفسه ويبعدها عن المساوىء.

وهذا هو هدف القادة الإلهيين والغرض المهم الذي يتبناه رجال التربية العظماء. فإن الآلام والجرائم تقل بنسبة تقدم التربية الصحيحة في المجتمع وحكومة الأدبب على الناس. وبالعكس من ذلك كلما أهمل الناس القيام بالتربية ازداد حجم المساوىء فيه.

وهذا هو هدف القادة الإلهيين والغرض المهم الذي يتبناه رجال التربية العظماء. فإن الآلام والجرائم تقل بنسبة تقدم التربية الصحيحة في المجتمع وحكومة الأدب على الناس. وبالعكس من ذلك كلما أهمل الناس القيام بالتربية ازداد حجم المساوىء فيه.

عن علي علیه السلام : « من كُلّف بالأدب قلت مساويه » (1).

وفي حديث آخر : « من قلّ أدبه كثرت مساويه » (2).

ص: 181


1- غرر الحكم ودرر الكلم للامدي ص 645.
2- المصدر السابق 635.

تقبل التربية :

وبالرغم من أن البشر في جميع أدوار حياته يتقبل التربية ، ولكن استعداده في دور الطفولة لذلك أكثر. إن جسم الطفل وروحه مستعدان لكل تربية صالحة أو فاسدة ، وكل ما يتعلمه في دور الطفولة ينفذ إلى أعماق روحه ، ومن السهولة بمكان ضمان استمرار ذلك مدى العمر :

« تتوقف قيمة الإنسان على قدرته على مواجهة المواقف المعاكسة بسرعة ومن غير بذل جهد. ويمكن بلوغ مثل هذه اليقظة بإنشاء اكثر ما يستطاع من أنواع الانعكاسات وردود الفعل الغريزية ..

وكلما كان الفرد صغيراً ، سهل توطيد الانعكاسات. ففي استطاعة الطفل أن يكدس كنوزاً ضخمة من المعلومات غير الواعية .. كما أنه أسهل تدريباً ، بل أنه لا يقارن في ذلك حتى بكلب الحراسة الذكي .. كما أنه أسهل تدريباً ، بل أنه لا يقارن في ذلك حتى بكلب الحراسة الذكي .. كما انه يستطيع أن يتعلم كيف يركض من غير أن يتعب ، وكيف يسقط كالقط ، وكيف يتسلق ويسبح ويقف ويمشي بانسجام ، ويلاحظ الأشياء بدقة ، ويستيقظ بسرعة ، ويتكلم عدة لغات ، ويطبع ويهاجم ويدافع عن نفسه ، ويستعمل يديه بتناسق في تأدية مختلف أنواع العمل .. الخ.

وتخلق العادات الأدبية فيه بطريقة مماثلة .. والكلاب نفسها تتعلم ألا تسرق .. فالأمانة والإخلاص والشجاعة تنمو بوساطة العمليات نفسها التي تستخدم في تكوين الإنعكسات ، أي بغير ما حاجة الى مناقشة أو شرح ... وصفوة القول : يحب أن يكيف الأطفال » (1).

إن المدرسة الأولى لتربية الطفل هي حجر الوالدين. فالوالدين مكلفان بتعليم الطفل حسب مقتضيات فهمه واستعداده بالمحاسن وترغيبه في العمل بها ، وإرشاده الى المساوىء ثم تحذيره من ارتكابها. وبلوغ هذا الهدف لا يتيسر مع المحبة

ص: 182


1- الإنسان ذلك المجهول ، تأليف : الكسيس كارل ، تعريب ، عادل شفيق ص 234.

المفرطة التافهة. إن الطفل الذي يجد نفسه حراً من جميع الجهات ، ويرتكب كل قبيح وحسن ، ثم لا يرى من أبويه في قبال سلوكه إلا المحبة والحنان ينشأ مدللاً معجبا بنفسه. إنه لا يكتفي بعدم الاجتناب عن القبيح ، بل يتوقع استحسان الناس وتقديرهم لأعماله السيئة ، وذلك لأن والديه عاملاه بهذه المعاملة.

بين الخوف والرجاء :

يجب أن يعامل الطفل في البيت بين الخوف والرجاء دائماً ، يرجو من أبويه المحبة ويخاف منهما الغضب والشدة. يجب أن يعتقد الطفل أنه ليس حراً في إرتكاب الأعمال القبيحة وسيؤاخذ عليها. يجب أن تتوفر في الأسرة : المحبة والشدة والتغافل والمحاسبة ، والترغيب والإهمال ... كل في محله ، وعلى الآباء والأمهات الاتصاف بهذه الصفات في كل مورد مناسب حتى ينشأ الطفل وفق تربية صحيحة .. في محيط كهذا يحس الطفل بالمسؤولية ولا ينشأ معجباً بنفسه أبداً.

« يلزم القيام بكل ما هو ضروري لصحة الطفل وحفظ سلامته. فحينما يشكو الطفل من الزكام فلا بد من مراقبة مزاجه وحفظه في مكان دافىء بعيداً عن البرد والرطوبة .. لكنه لو بكى بدون علة محسوسة يلزم تركه على حاله يصيح أنى يشاء. فلو عومل بغير ذلك نشأ بصورة حاكم مستبد ، اما عندما يكون الإهتمام به ضرورياً فلا بد أن يكون ذلك بدون إفراط ، بل يجب الاقتصار على قدر الضرورة. وهكذا لا يفرط في العطف تجاهه ، ولا يصح مطلقاً أن يؤخذ الطفل في مرحلة من مراحل حياته كآلة لهو ، بل لا بد أن ننظر إليه من أول أمره نظرة اهتمام وجدّ ، ونظرة داعية الى أن هذا الطفل سيبلغ في غد ويصبح عضواً بارزاً في المجتمع ».

« لا ريب أنه لا يمكن للطفل أن يستوعب جميع عادات الأفراد البالغين ولكن علينا الإبتعاد عما يقف حاجزاً في طريق اكتسابه هذه العادات ، وبصرف النظر عن ذلك يجب أن لا نوجد في الطفل الإحساس بأهمية نفسه ، الإحساس الذي ستؤلمه التجارب المستقبلة ، ولا يطابق الواقع في حال من الأحوال ... إن الطفل لو

ص: 183

لم يراقب بدقة فإنه سيشعر بذلك ويحكم بأهمية نفسه الى درجة إحساس أبويه بذلك ، وسوف لا ينظر إليه المجتمع في الحياة المقبلة نظرة الإستحسان والتقدير ، وستؤدي عاداته التي سببت أنانيته بحيث يرى نفسه ذا مكانة عظيمة في الأوساط إلى اليأس والحرمان » (1).

لقد أدت محبة الآباء والأمهات الجاهلين حيث لا داعي لها ، وتغافلهم حيث لا مبرر له إلى نشأة بعض الأطفال مضافاً الى كونهم عديمي الحياء ، مسيئين ، معجبين بأنفسهم ، أنانيين بحيث يبعث ذكر أعمالهم على التأثر الشديد والخجل. إننا نرى أطفالاً يبلغ بهم الإعجاب بالنفس وسوء التربية الى حدّ الفحش في القول وإيذاء خادم البيت ، وتمزيق ملابسه ، ورميه بالعصا والحجارة ، وقد يؤدي ذلك الى كسر الرأس والأضرار البدنية. إن الآباء والأمهات الغافلين يلتذون من الأفعال السيئة لأطفالهم ، ويضحكون في وجوهم بدلاً من مؤاخذاتهم وتوبيخهم ، ويضحكتهم الجنونية يشجعون أطفالهم على تلك الأعمال البذيئة ويسوقونهم نحو الشقاء.

قال الإمام الباقر علیه السلام : « شرّ الآباء من عداه البرّ الى الإفراط ».

توقع المدح :

إن الأطفال الذين نشأوا معجبين بأنفسهم نتيجة المحبة المفرطة تجاههم يتوقعون من والديهم وسائر الناس توقعات فارغة. إنهم يحبون أن تقع أفعالهم وأقوالهم دائماً موقع الاستحسان والاحترام في الأسرة والمجتمع لأنهم نشأوا على ذلك منذ الطفولة. إنهم يريدون أن يمجدهم الناس ويقدروهم لأعمال حسنة لم يفعلوها ، أو أفعال سيئة قاموا بها. ان المجتمع لا يعتني لهذه الأماني التي لا مبرر لها ، ولا يرى هذه التوقعات الجنونية قابلة للتنفيذ.

قال علي علیه السلام : « طلبُ الثناء لغير استحقاقٍ خُرقٌ » (2).

إن الانكسار الذي يصاب به المعجبون بأنفسهم عندما يجدون عدم اعتناء الناس

ص: 184


1- درر تربيت ص 56.
2- غرر الحكم ودررالكلم للآمدي ص 470.

ونظرتهم السيئة اليهم مرهق جداً ... إنه يؤدي بهم إلى الدناءة والإحساس بالحقارة ، ويتألمون في باطنهم من تحقير الناس بشدة ، وبالتالي إما أن يصابوا بداء روحي - والذي قد ينتهي الى الجنون - وإما أن يقدموا على الجرائم والأعمال الشنيعة.

لقد توعد القرآن الكريم هؤلاء المعجبين بأنفسهم بالعذاب بصراحة ، حيث قال : «لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» (1).

وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام بهذا الصدد : « رضاءُ العبدِ عن نفسه مقرون بسخطِ ربه » (2).

الحذر من العجب بالنفس :

لقد كان أولياء الإسلام علیهم السلام يجتنبون من كل عمل تشم منه رائحة الإعجاب بالنفس ، وينفرون من أولئك الأشخاص الذين كانوا يقومون بها. وبالمناسبة أذكر لكم حديثاً من سيرة الإمام السجاد علیه السلام .

« عن أبي عبداللّه علیه السلام قال : لما حضر محمد بن أسامة الموتُ دخلت عليه بنو هاشم فقال لهم : قد عرفتم قرابتي ومنزلتي منكم وعليّ دين فأحب أن تضمنوه عني. فقال علي ابن الحسين علیه السلام : أما واللّه ثُلث دَينك عليّ ، ثم سكت وسكتوا. فقال علي ابن الحسين علیه السلام عليّ دينك كله. ثم قال علي بن الحسين : أما إنه لم يمنعني أن أضمنه أولاً إلا كراهية أن يقولوا : سبقنا » (3).

وفي حديث آخر عن الإمام الباقر علیه السلام قال : « نظر أبي الى رجل ومعه

أبنه يمشي والإبن متكيء على ذراع الأب. قال : فما كلّمه أبي مقتا له حتى فارق الدنيا » (4).

ص: 185


1- سورة آل عمران ، الآية: 188.
2- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 424.
3- روضة الكافي لثقة الإسلام الكليني ص 332.
4- مجموعة ورام ج2ص208.

الأطفال المدللون :

تظهر سيرة الأطفال الذين نشأوا معجبين بأنفسهم في أوقات مختلفة وبأشكال متنوعة. هؤلاء الأطفال يؤذون آباءهم وأمهاتهم بأعمالهم الهوجاء ، ويخلقون لهم مشاكل كبيرة.

« في الأسرة التي بكون فيها طفل مدلل ، عندما يولد الطفل الثاني تتوجه ضربة قاصمة نحو الطفل الأول الذي كان مستأثراً بحنان والديه ، لأن أسلوب تربيته كان خاطئاً ، لأنهم كانوا قد عوّدوه حتى اليوم الماضي على أن يكون المتنفّذ الفعّال في البيت وقرة عين والديه ، وعلى أن يتحملوا غنجه ودلّه بكل رحابة صدر ، ولكنه بتولد الطفل الثاني يجد أمامه رقيباً خطراً ليس مزاحماً له في كل شيء فحسب ، بل انه يحاول عزله عن منصبه وتنحيته عن السلطة التي كان يمتاز بها طيلة الأعوام السابقة. ولذلك فإن الطفل الأول لا يملك أي ردّ فعل لهذه الحالة ، ولا يعرف ماذا ينبغي له أن يقوم به ... فنراه يبدأ بإظهار مشاعر الفوضى والشغب ، وقد يتعمد التبول في فراشه ليلاً بغية جلب أنظار والديه نحوه ، أو يأخذ بالصياح والعويل من دون سبب ، أو يتكلم بلكنةٍ وتمتمة ... وما شاكل ذلك من الأفعال المثيرة » (1).

« ينشأ الطفل الأكبر في بعض الأسر مدللاً ، تبعث حركاته وسكناته ، ابتسامته وكلماته ، السرور والارتياح في قلب والديه الشابين ويتلقيان كل ذلك على أنها وقائع غير مترقبة ، ذات تأثير خاص ، ويجب أن تعتبر نموذجاً وقدوة للأسرة. إن الطفل الذي يراقب هذه القضايا يعتقد تدريجياً بأن هذا الإهتمام كله يجب أن يختص به وحسب. فإذا ولد طفل ثان في الأسرة عند ذاك تبدأ المشكلة الكبيرة. لأن الطفل الأكبر يجب أن لا يوافق على توزيع الحب والحنان بينه وبين أخيه فقط ، بل يجب أن يوطن نفسه أيضاً لتطرق شيء من الإهمال والغفلة ونحوه ... وهذا بلا ريب امر

ص: 186


1- عقده حقارت ص 14.

لا يطاق بالنسبة له. إذا أصيب هؤلاء الأطفال المنكسرون بمرض فإنهم يحاولون أن يستأثروا بعناية الوالدين وعطفهما وحنانهما ، وقد يتذرعون لذلك برسم خطط وتدبير حيل من شأنها أن تؤدي الى المطلوب ... وبهذه الصورة نجد أن الطفل الذي كان عاقلاً واعتيادياً لذلك الحين ينقلب مشاغباً وفوضوياً بمجرد تولّد الطفل الثاني ، وتظهر منه آلاف الأعمال التي ظاهرها الحماقة والبلادة الى درجة أنها تبعث الوالدين على الاستغراب والحيرة » (1).

الإنهيار الخلقي :

تصل المآسي والمشاكل الإجتماعية التي يلاقيها الأطفال المدللون والمعجبون بأنفسهم قمتّها عندما يتركون دور الطفولة ويدخلون في المجتمع حقيقة ... إنهم يكشفون بأعمالهم البذيئة وسلوكهم الأهوج عن مستوى إنهيارهم الخلقي ، ويظهر عدم كفائتهم وجدارتهم لتحمل أعباء الحياة من خلال التجارب التي يمرّون بها.

إن الشخص الذي نشأ على الدلّ يواجه مشكلتين عظيمتين :

الأولى : إنه يتوقع من أفراد المجتمع رجالاً ونساءً أن يحترموه كما كان يفعل ذلك أبواه ، وينفذوا أوامره دون تردّد فعندما يجد أنهم لا يحترمونه بل يسخرون منه لتوقعاته الفارغة هذه يتأذى كثيراً ويحس بالحقارة والضعة في نفسه.

الثاني : إن حوادث الاخفاق والفشل التي يلاقيها - والتي كانت منشأ ظهور عقدة الحقارة فيه - جعلت منه فرداً عصابياً وسيء الأخلاق ، وأدت الى أن يفقد الصبر والثبات أمام أبسط مشكلة ، وينظر إلى الناس جميعاً نظرة ملؤها التشاؤم والاستياء ، فيبدأ بالتعرض لهم بالكلمات البذيئة والعبارات المشينة. ويظل يئن من هاتين المشكلتين طيلة عمره!

« إن الحياة في القرن العشرين تتطلب الشجاعة والصلابة قبل كل شيء ، وبغير ذلك لا يمكن مواجهة مشاكلها. إن الطفل الذي لم ينل حصة وافرة من التربية الصالحة فاقد لهاتين الصفتين ، بمعنى أن كان قد تُرك حرأً في طفولته ، وعُوّد على أن يُحضر له جميع ما يريد ،

ص: 187


1- ما وفرزندان ما ص 45.

وبصورة عامة كان ديكتاتوراً مطلقاً في عالم الطفولة ، وفي جو الأسرة بالخصوص ، وتكون النتيجة أن تكون الحواجز والموانع والصعوبات والمشاكل والغربة كلمات فاقدة للمعنى عند طفل كهذا ».

إن الطفل الذي أسيئت تربيته عندما يكبر ويرث ثروة ضخمة فإنه يضطر إلى الاتصال بالناس والإحتكاك بهم ، ولكنه إذ لا يرى أصحابه ومن حوله كأصحابه الذين كانوا يتساهلون معه ويحنون عليه في أيام الطفولة ، يضطر إلى أن يعتبر الجميع منحطين لا يستحقون الصداقة والمعاشرة ... وهكذا ينكد العيش على نفسه. أما اإذا لم يرث ثروة ما من أبويه واضطر إلى أن يذهب وراء عمل ليسدّ به رمقه ، عند ذاك تبدأ المأساة بالنسبة له ويحصر بين صخرتي اليأس والشقاء ، ويدرك بسرعة أنه لفقدانه الشعور بالشجاعة والإعتماد على النفس لا يستطيع الإستمرار في حياة يكون التنازع فيها على البقاء ، ولا يقدر على الوقوف على قدميه ... حينئذ ينخرط في سلك الافراد الذي ليسو عالة على المجتمعي فقط ، بل يشكلون خطراً كبيراً على الآخرين كالسرّاق والمشعوذين ، والمقامرين ، والخمارين ... الخ » (1).

إن صفة الإعجاب بالنفس أساس جميع العيوب والنقائص. فالمصابون بهذا الداء الخُلقي يتميزون بانحراف ظاهر في سلوكهم وأحاديثهم ، والذي يكشف عن ومخالفتهم ... هذا الإنحراف المتثل في الأثرة والانانية وتقديم الصالح الفردي على الصالح الجماعي. لكن هؤلاء يفضحون أنفسهم بسلوكهم ويكشفون عما خفي من عيوبهم.

وفي هذا يقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « بالرّضاء عن النفس تظهر السوءات والعيوب » (2).

ص: 188


1- عقده حقارت ص 14.
2- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 338.

وعنه علیه السلام أيضاً : « من رضيَ عن نفسه ظهرت عليه المعايب » (1).

ضعف النفس :

من الآثار الوخيمة للإعجاب بالنفس ضعف النفس. فالأطفال المدللون الذين يجدون الإنقياد الكامل لهم من قبل آبائهم وأمهاتهم ، وينالون ما يريدون دونب جهد أو تعب يتميزون بضعف كبير في نفوسهم. إنهم لا يملكون القدرة على المقاومة في قبال مشاكل الحياة ، والعقبات الكأداء التي تعترض سبيلهم ، إنهم يسخرون المعركة في الصراع القائم ، عندما يصطدمون بالحواجز والآلام ... عند ذاك يضطرون الى الإنسحاب وأمارات الفشل بادية عليهم. إن أولى مظاهر هذا الانسحاب تتمثل في التملق للآخرين ، والإنزواء ، والانتحار ، والرضوخ للذلة وأفعال تشابه ذلك.

وصمة المحكومية لا يوجد أي أثر للشجاعة والبطولة في « ما هو الدافع إلى الانتحار؟ وما هي العوامل التي تجعل الفرد يقدم على ذلك؟ إذا تجاوزنا الأشخاص المجانين ، والبلداء ، أو المدمنين على الخمرة فإن الأفراد الإعتياديين يقدمون على الانتحار على أثر الفشل والحرمان أو للخلاص من المشاكل ، والفرار من الانتحار ، بل يمكن اعتباره عملاً ناتجاً من العجز ، لأنه بواسطة هذا العمل يثبت الفرد أنه لا يستطيع مواجهة مشاكل الحياة ، ويعجز عن إيجاد مفرّ من الآلام التي تعتريه ، ولا يريد أن يتحمل عبء المسؤولية ... وهكذا نخلص إلى أن الانتحار كالاجرام مظهر من مظاهر الشعور بالانانية وعبادة الذات » (2).

درس الجلد والثبات :

يجب أن يلقن الطفل منذ اليوم الأول درس الجلد والثبات ويعوّد على كيفية مجابهة مشاكل الحياة برحابة صدر. يجب أن يتربى شجاعاً وصلباً ، وعلى الوالدين أن يهتما بذلك أيما إهتمام ، فإن الإعجاب بالنفس لا ينسجم وقوة الإرادة بحال من الأحوال.

ص: 189


1- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 685.
2- چه ميدانيم؟ جنايت ص 24.

إن غريزة حب الأولاد حجاب يُسدل على العقل فيمنعه عن مشاهدة الحقائق ، فإذا انضم إلى ذلك الجهل والإهمال من قبل الوالدين في تطبيق الأساليب التربوية الصالحة ، أدى ذلك الى انحرافهما عن الصراط المستقيم الذي يجب عليهما أن يسلكاه في التربية ، فتجدهما يهملان الجوانب الدينية والعلمية المهمة ، ويفرطان في معاملة الطفل بالحب والحنان ، الأمر الذي يتضمن بين طياته آلاف المشاكل والصعوبات. وفي الحقيقة فإن هذا الإفراط في المحبة لا يعدو أن يكون عداءً في مظهر الحب.

إن تربية كهذه لا يرضى بها الدين ولا يوافق عليها العلم. إن الآباء والأمهات الذين يظلمون اولادهم بالافراط في المحبة تجاههم يتسببون في نشأتهم على الإعجاب بالنفس ، ولذلك فهم مسؤولون أمام اللّه في تعريض أطفالهم الى الانحراف والشفاء.

تذكروا دائماً حديث الإمام الباقر علیه السلام ، يحث يقول : « شرّ الآباء من دعاه البر إلى الإفراط ».

* * *

ص: 190

المحاضرة الرابعة والعشرون: الاعتماد على النفس

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الحكيم : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (1).

يتضمن الإفراط في الحب من قبل الوالدين تجاه الطفل عوارض وخيمة له ، فإنه يؤدي الى شقائه وتعاسته طيلة أيام عمره. من هذه العوارض الوخيمة أن الطفل ينشأ معجباً بنفسه ومدللاً. وقد بحثنا عن مساوىء ذلك بالتفصيل في المحاضرة السابقة.

ومن عوارض الإفراط في المحبة تجاه الطفل أيضاً أنه ينشأ طفيلياً وعالة على غيره ، ولا يشعر بالاعتماد على النفس ، ولا ينزع الى الاستقلال. إن خطر هذه الصفة البذئية للأطفال إن لم يكن أكبر من خطر الإعجاب بالنفس ، فليس أقل منه.

الشعور بالمسؤولية :

إن الشعور بالمسؤولية والإعتماد على النفس أحد الأركان المهمة لسعادة الفرد والمجتمع. إن الإنتصارات العظيمة التي أحرزها الرجال الأفذاذ في العالم ، والترقيات العلمية والإجتماعية والاقتصادية التي حصلوا عليها ، مدينة الى وعي المسؤولية الفردية من قبلهم وما يستتبع ذلك من نشاط دائب وجهد متواصل.

إن الإنتصارات العلمية إنما تنال الأشخاص الذين يطمئنون الى أنفسهم بالمواصلة والسهر والجد والجهد. والطالب الذي لم يدرس جيداً ، ولم يجهد نفسه بالمقدار الكافي ، ثم يدخل قاعة الإمتحان معتمداً على الآخرين ، ومستنداً على مساعدة المصحّح ، وتسامح المراقب لا ينال المدارج العلمية الراقية.

ص: 191


1- سورة الطور ، الآية: 21.

وهكذا فالتقدم الإقتصادي يكون من حصة أولئك الذين يعتمدون على جهودهم فقط ، ولا يتوقعون المساعدة من أحد. إن من يفقد الإعتماد على النفس ويكون عالة على غيره ، ويرتزق من حصيلة غيره لا يستطيع أن ينال التقدم الإقتصادي مطلقاً.

« الاعتماد على النفس أساس كل تقدم وترقٍ. فإن اتصف اكثر أفراد الشعب بهذه الفضيلة كان ذلك الشعب قوياً وعظيماً ، وكان السرّ في إرتقائه وتقدمه وقدرته هو تلك الخصلة فقط. لأنّه في هذه الصورة يكون عزم الإنسان قوياً ، وفي صورة الإعتماد على الآخرين ضعيفاً. إن المساعدات التي تصل الفرد من الخارج تضعف فيه روح المثابرة والعمل غالباً ، لأن الإنسان في هذه الالة لا يرى داعياً للجد والعمل خصوصاً عندما تتجاوز المساعدات الخارجية عن الحد الضروري ... حينئذٍ تفقد الاعصاب قوتها ، وتموت روح العزيمة والمثابرة في نفسه. إن أحسن الشرائع والقوانين ، هي تلك التي تجعل الانسان مختاراً في حياته ، وتمنحه الحرية في الاعتماد على نفسه وإدارة حياته » (1).

الإعتماد على النفس :

إن المراد من الإعتماد على النفس ، الذي شاع في الآونة الآخيرة بين الناس ، ويلوح للعين في الكتب النفسية والتربوية دائماً ، هو أن يعتمد كل فرد في ضمان سعادته المادية والمعنوية على نفسه ، ويستند الى إرادته وعمله ، فيقطع الأمل عن الجار والصديق وجميع الناس ، ولا يلتجىء الى أحد في ذلك.

الإعتماد على النفس عبارة عن أن يرى كل فرد نفسه مسؤولاً عن أعماله ، فيقوم بواجباته خير قيام ، ويعلم أن مثابرته وجهده ، ومواصلته واستمراريته ... كل ذلك أساس نجاحه وتقدمه ، وعلى العكس فإن تسامحه وكسله ، ويأسه وتهاونه أساس شقائه وتعاسته.

ليس هذا الأمر بالجديد تماماً ، حتى يتصور البعض أن عالم الغرب هو الذي

ص: 192


1- اعتماد بنفس ص 14.

توصل إليه وأكد عليه أمام سكان العالم ... بل إن الشريعة الإسلامية الغراء علّمت معتنقيها هذه الحقيقة الناصعة التي هي أساس سعادة الفرد والمجتمع بكل صراحة ، وذلك قبل أربعة عشر قرناً ... وإن الإنتصارات الباهرة التي أحرزها المسلمون في ذلك العصر المظلم مدينة الى هذه الثروة العظيمة - وهي الإعتماد على النفس والشعور بالمسؤولية الفردية.

المسؤولية الفردية :

إن التعليم والتربية في الإسلام يرتكزان على المسؤولية الفردية ، وأداء الواجب ، والاعتماد على النفس. لكل مسلم تكاليف معينة في شؤونه الدينية والدنيوية ، ويجب عليه لضمان سعادته أن يعتمد على نفسه ، وعلى نيته ، ويقتصر على عمله في مراعاة تطبيق تلك الوظائف.

ترتبط سعادة كل فرد في الإسلام بعقائده وأعماله ، وإن المآسي التي يلاقيها الانسان تستند الى نواياه الفاسدة وأعماله المنحرفة ... كذلك المكافآت والعقوبات الدنيوية والأخروية التي يحصل عليها الأفراد تعود إلى الأعمال الصالحة أو الفاسدة التي ارتكبوها. هذا الموضوع من أوضح المسائل الدينية وأشدها بداهة ، وقد وردت في ذلك آيات وأحاديث كثيرة ، نذكر بعضها على سبيل الشاهد.

1 - قال تعالى : (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (1).

2 - وقال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(38)) (2).

3 - وقال تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) ، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ) (3).

من هذه الآيات الثلاث ندرك بوضوح المسؤولية الشخصية ، وقيمة أفعال كل شخص بالنسبة إليه. إن اللّه تعالى يصرح في هذه الآيات بأن تبعة الأفعال الصالحة

ص: 193


1- سورة البقرة : 286.
2- سورة المدثر : 38.
3- سورة النجم : 39.

أو الطالحة لكل فرد إنما تعود عليه نفسه ، وأن سعادة كل فرد رهينة بعمله ، وهو هو المعنى الكامل والجامع للإعتماد على النفس ، والشعور بالمسؤولية الفردية.

4 - يقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « قَدرُ الرجل على قد همته » (1).

أي أن قيمة شخصية كل فرد يجب أن يُبحث عنها في مستوى اعتماده على نفسه ، ودرجة علو همته ، وكلما كانت حصة الإنسان من هذه الفضيلة الخلقية اكبر كانت قيمته اكثر. وبهذا الصدد يقو الشاعر :

كن كالشمس في استنادك إلى نفسك *** فإن نور الشمس يشع من نفسه

يعتبر الإسلام كل فرد مسؤولاً عن سعادته وشقائه ... فهو الذي يستطيع أن يقوم بواجباته خير قيام في ظل جده وسعيه فيقود نفسه الى شاطىء السعادة والنجاح ، وهو الذي يستطيع أن يحطم شخصيته بالأعمال السيئة والنوايا الفاسدة وينتهي بنفسه الى الشقاء واستحقاق العذاب الإلهي.

النهي عن الإعتماد على الناس :

لم يكتف الإسلام في سبيل إيجاد الإعتماد على النفس ، ببيان المسؤولية الفردية وضرورة إحياء كل فرد شخصيته ، بل نهي كثيراً عن النقطة المقابلة لذلك وهي عبارة عن الإعتماد على الناس ، وحذر الجميع عن هذه الصفة الذميمة. وبهذا الصدد يقول الإمام علي بن الحسين علیه السلام : « رأيت الخير كلّه قد اجتمع في قطع الطمع عما في ايدي الناس » (2).

إن الاعتماد على النفس ، والإستناد الى الجهد الشخصي ، والسعي وراء تحقيق السعادة المادية والمعنوية اسس استقلال الشخصية ، والمحبوبية عند اللّه والناس. وعلى العكس فإن الإعتماد على الناس ، والطفيلية ، وانتظر العون والمساعدة من الآخرين أساس الحرمان المادي والمعنوي للشخص ، ويسبب الذل والهوان عند اللّه ، وفي أنظار الناس.

ص: 194


1- نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص 1100.
2- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2ص148.

عن أبي عبداللّه علیه السلام : « اليأس ممّا في أيدي الناس عز للمؤمن » (1).

القدرة على المقاومة :

إن الأفراد الحقراء والمتقاعسين لا يملكون القدرة على المقاومة في خضم الحياة وصراعها ... إنهم يندحرون بسرعة ، وينسحبون من المعركة بأتم الخذلان والفشل. أما ذوو الهمم العالية ، الذين يعتمدون على أنفسهم فإنهم يقاومون صاعب الحياة ومشاكلها ببسالة وبطولة ، يتحملون الآلام بكل جلد ، وينجحون في نهاية الجولة.

1 - عن علي علیه السلام : « الحلمُ والاناةُ توأمان ، ينتجهما عُلّو الهمّة » (2). أي أنه إذا كانت همة الإنسان عالية ظهرت عنده خصلتان الحلم والأناة.

2 - وعن الإمام الصادق علیه السلام : « ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثماني خصال : وقورا عند الهزاهز ، صبوراً عند البلاء ... » (3).

3 - قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « المؤمن الذي يُخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظمُ أجراً من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم » (4).

الفرار من المسؤولية :

إن الأفراد الذين يتميزون بضعف النفس ، والفاقدين للإعتماد على النفس ، المصابين بالحقارة يتهربون من المسؤولية بالإنزواء وبالتطرف ويعيشون حياة ملؤها الحرمان. أما الأفراد ذوو الشخصية ، والمعتدون على أنفسهم المتميزون بالبسالة والبطولة فإنهم بتحملهم المسؤولية وإلتزامهم الصبر والأناة في مواجة مصائب الحياة ، ينالون النجاح الباهر في ما يبغون من الأمور الدنيوية من جانب ، ويستحقون الأجر والثواب الكبير عند اللّه تعالى على حد تعبير الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله .

ص: 195


1- المصدر السابق.
2- نهج البلاغة شرح الفيض الاصفهاني ص 1287.
3- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج1ص47.
4- مجموعة ورام ج1ص9.

إن ركائز الاستقلال والاعتماد على النفس تصب منذ أولى أدوار الطفولة في روح الطفل ... وكذلك الطفيلية والإعتماد على الناس فإنهما ينبعان من التربية الخاطئة التي تعود إلى أيام الطفولة. على الآباء والأمهات الذين يرغبون في تحقيق السعادة الحقيقية لأولادهم أن يكونوا واعين في جميع تصرفاتهم ، ويحذروا من القيام بما من شأنه تعويدهم على الطفيلية وانعدام الشخصية.

الأولاد الصالحون :

لقد ورد التعبير في القرآن الكريم والأحاديث الإسلامية عن الطفل الذي أحسنت تربيته ب- ( الولد الصالح ). على الآباء والأمهات أن يربوا أولاداً صالحين. ومعنى الصلاح أن يكون واجداً لجميع الصفات الخيرة الجسمية والروحية.

إن الآباء والأمهات الذين يكونون صالحين من الناحية النظرية والعملية يستطيعون تربية أطفال صالحين ، لأن مجموعة اقوالهم وأفعالهم هي التي تعتبر قدوة للطفل بحيث تبني صفاته وعاداته وسلوكه. فإن كانت صالحة وطيبة نشأ صالحاً ، وإن كانت فاسدة وبذيئة نشأ - بموجبها - فاسداً.

عن أبي جعفر علیه السلام : « يُحفَظ الأطفال بصلاح آبائهم » (1).

وفي حديث آخر عن إسحاق بن عمار قال : « سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام يقول : إن اللّه ليُفلحُ ليفلح بفلاح الرجل المؤمن وُلَده وولُده » (2).

من صفات الأولاد الصالحين إحساسهم بالمسؤولية واعتمادهم على أنفسهم. إن الآباء والأمهات الذين يتميزون بشخصية رصينة يستطيعون أن يلقنوا اولادهم هذا الدرس التربوي القيم ، ويجعلوهم ينشأون على الإعتماد على النفس. نسأل اللّه عز اسمه أن تكونوا جميعاً واجدين لهذه السجية الخلقية الحميدة ، وأن توفقوا في ظل تعاليم الإسلام القيمة الى تربية أبنائكم تربية صحيحة.

ص: 196


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج15ص178.
2- نفس المصدر.

ضعف الطفل :

إن الطفل في رحم أمه ، موجود طفيلي وقائم بوجود أمه ، ولا يملك استقلالاً وإرادة من نفسه. إن حياته ترتبط بحياة أمه ، يتغذى من الغذاء الذي تناوله ، ويتبعها في القوة والضعف. أما بعد الولادة فإنه وان انفصل عن أمه وحصل على استقلال عضوي ، لكنه لا يزال ضعيفاً ، ولضعفه فهو مضطر إلى أن يعيش طفيلياً على أمه لمدة ، لا يدرك فيها الخير أو الشر ، ولا يستطيع دفع الضرر عن نفسه أو جلب النفع اليها .. إنه يحتاج أمه في غذاءه ، ونظافته ، وطرد العدو عنه ، وبصورة موجزة في جميع الحاجات الحياتية ، في حين يوجد في باطن الطفل استعداد للتكامل ونيل الاستقلال ، وبالتدريج يحصل على استقلاله.

هناك تضاد لا مفر منه في وجود الطفل ، فمن جهة يفقد الإطمئنان الى نفسه لما يشعر به من الضعف والذلة ، ولذلك فهو يحتاج دائماً الى من يملك القدرة على تحقيق ما يريد ، ويحب أن يكون في حمايته وكنفه ، وهذا الأمر يضطره الى التسليم لأوامر صاحب القدرة دائماً .. ومن جهة اخرى فإنه يميل بفطرته الى التفوّق والحصول على القدرة ، يجب أن يصبح مستقلاً ، وأن يعتمد على نفسه ، ويتخلص من الذلة والحقارة ، وهذا لا يتحقق إلا في ظل القوة والقدرة.

التكامل التدريجي :

إن التكامل الطبيعي للطفل ورشده يمنحانه القوة بصورة تدريجية. ذلك أن الميل نحو الإستقلال يدفع الطفل إلى استغلال القوى المكتسبة ، وبالتدريج يصبح الميل الفطري نحو الإستقلال والتفوق فعلياً فيخلص الطفل من كونه عالة على غيره وطفيلياً ، وينجو به بهذه الصورة من الشعور بالحقارة وكلما إزدادت قوة الطفل كان قد خطأ خطوة في طريق الاستقلال ، وفتّت قيداً من قيود الاعتماد على الغير.

لا توجد للطفل لذة أعلى من لذة الإحساس بالقوة والحصول على الإستقلال ، فكلما حصل على قوة ووجد أنه استطاع القيام بعمل ما لوحده كان ذلك مبعث سرور وارتياح في نفسه. عندما تتفتح أصابعه ويستطيع أن يمسك شيئاً بيده يفرح كثيراً ...

ص: 197

وعندما يحرك بيده الصغيرتين ( خرخاشته ) فينبعث الصوت منها يضحك من دون اختيار ، وتظهر أمارات الفرح والسرور على عينيه ووجهه :

يقول برتراند رسل : « عندما يستطيع الطفل أن يثبّت عينيه نحو الأشياء فإنه يلتذ كثيراً من مشاهدة الأشياء المتحركة ، والذرات المتقلبة عند هبوب الرياح. في هذه المرحلة بالذات يفرح الطفل للأصوات الرتيبة والجديدة ».

« تعتبر حركة الأصابع في بداية الأمر من الأفعال الإنعكاسية فقط. لكن الطفل يكتشف فيما بعد أنه يستطيع أن يحركها متى شاء. أنها يبعث الفرح والسرور في نفس الطفل بقدر ما يبعث استيلاء امبراطور مستعمر على دولة من الدول الإرتياح في نفسه. في هذه الحالة تخرج الأصابع عن حالتها المغتربة وتصبح جزء من الوجود. لقد لاحظت هذه الحالة في ولدي بصورة قطعية في السن الخامسة الأول مرة ، وذلك عندما استطاع بعد محاولات عديدة أن يرفع الجرس الذي كان ثقيلاً نوعاً ما من فوق المنضدة ويضعه على نحو ينبعث منه الصوت ... وإذ توصل الى هذه النتيجة السارة أخذ ينظر الى من حوله بابتسامة ذات مغزى » (1).

يعتبر كل من خروج الأسنان ، والقدرة على مضغ الطعام ، والتكلم والمشي ، والشروع في الجري.

يعتبر كل من خروج الأسنان ، والقدرة على مضغ الطعام ، والتكلم والمشي ، والشروع في الجري ، واللعب نجاحاً مستقلاً سحصل عليه الطفل بالتدريج ، ويبعث فيه السرور واللذة كلّ على حدة.

يجب على الآباء والأمهات الذين يرغبون في تنشئة أطفالهم على الاستقلال بالإعتماد بالنفس أن يستفيدوا من هذا القانون الفطري المودع في الطفل بالأمر الإلهي ، وأن يؤسسوا منهجهم التربوي على أساس الميل الفطري له ومن الضرروي أن يربياه على الاستقلال التربوي جنباً الى جنب مع الإستقلال الطبيعي ليقف ذلك أمام أي اضطراب أو فوضى.

ص: 198


1- در تربيت ص 63.

إحياء فطريات الطفل :

على الوالدين أن يمنحا الطفل شيئاً من الحرية مراعيين في ذلك درجة وعيه وتكامله ينبغي أن يسمحا له بإحياء حس الإبتكار والميل نحو الإستقلال الفطري في أثناء اللعب والجري ... وفي نفس الوقت ينبغي أن يراقباه مراقبة جدية ، بحيث لا تخرج الحرية عن الحد المسموح به ، ولا يسيء التصرف في ذلك.

إن الآباء والأمهات الواعين يتركون الطفل حراً في مثل هذه المناسبات حتى تخرج استعداداته الكامنة الى حيز الفعلية ، وتتفتح أكمام الشعور بالإبتكار في باطنه ، وينشأ إنساناً مستقلاً ومعتمداً على نفسه. أما الآباء والأمهات الجاهلون فإنهم بتشددهم أو إهمالهم يتسببون في شقاء الطفل وتعاسته ... إنهم يفسحون المجال له كثيراً أحياناً ، ويضيقون عليه كثيراً أحياناً أخرى ، وبذلك يوردون نقصاً كبيراً على استقلاله واعتماده بنفسه.

الإفراط في فسح المجال :

هناك بعض الآباء يفرطون في فسح المجال لأطفالهم فراراً من عبء المسؤولية أو رغبة في التظاهر بالحب الفارغ ، فيتركونهم وشأنهم في جميع أفعالهم وأقوالهم ... ولكن لا يمضي زمن طويل حتى يترعرع الطفل وهو جاهل لأبسط واجبات الحياة. عند ذاك يقوم الوالدان بتنبيهه على واجباته واحدة بعد الأخرى ، ومن دون أن يؤدي ذلك الى نتيجة مرضية ، لأن أوان التربية قد فات.

« هناك أطفال يجب تكرار كل موضوع عدة مرات معهم : قم ، انظر ، لا تقتل نفسك ، نظف أظفارك وأذنيك ، إعتن بنظافة أنفك ، سر مستقيماً ، لا تمزق كتبك ، لا توسخ دفاترك ، كن مؤدباً في حديثك مع الفرّاش ، لا تتلكم كثيراً .. وغير ذلك. هؤلاء - وحتى أولياؤهم - يتعبوننا ، إننا لا نعلم من هو الذي يستحق اللوم. لكنه لا ريب في ضرورة توجيه اللوم للوالدين لأنهما لم يبدءا في تربية طفلهما في الوقت المناسب ، ولم يعيرا أهمية تذكر لأفعاله. وبهذه الصورة فإن الأطفال الذين كان بالإمكان أن يصبحوا أعضاء نافعين في

ص: 199

المجتمع ، ويصبحون عالة على الغير ، ومما يؤسف له أنهم ليسوا قابلين للإصلاح » (1).

هؤلاء الأطفال لا يملكون اعتماداً على أنفسهم ، ويفقدون الشعور بالإستقلال ، بل هم يعيشون عالة على غيرهم في حياتهم دائماً على أثر سوء التربية التي اتخذها الوالدان بحقهم ... إنهم مصابون بعقدة الحقارة ، ويظلون يئنون من ويلات ذلك مدى العمر.

الوالدان المتزمتان :

في النقطة المقابلة للآباء الذين ذكرنا فسحهم المجال للطفل ، يوجد آباء وأمهات متزمتون لا يسمحون للطفل بالحرية بالمقدار الكافي ، ويسدّون طرق طرق الإبتكار والنشاط الفردي عليه ... يتدخلون في جميع شؤون الطفل - صغيرها وكبيرها - فيقتلون بذلك الشعور بالإستقلال والإعتماد على النفس عنده ... وهذا بدوره يؤدي الى أن يقف الطفل في مستوى محدود من التكامل ، وهو بلا شك عداء في لباس الحب. هؤلاء الآباء والأمهات يقودون أطفالهم نحو الحضيض بتزمتهم وسلوكهم ذاك.

وبالمناسبة يقول ( جلبرت روبين ) : « لا ريب في أن الطفل زينة حياتنا ، ولكن يجب أن لا ننظر إليه كنظرتنا الى فاكهة أو ورودة على الشجرة ، لأنه وإن كان يأخذ عصارته النباتية وغذاءه منا ، لكنه ليس جزء من شجرة ، لأنّه وإن كان يأخذ عصارته النباتية وغذاءه منا ، لكنه ليس جزء من شجرة وجدونا ، بل انه نبتة مستقلة ، يجب أن نقطع الجذور والأغصان الصغيرة التى تربطنا به حتى لا نقف أمام نموه ، ونمنع - بدورنا - من وصول العصارة النباتية إليه .

« إن الأم الشابة تقول بكل غرور : ( انه من دمي ولحمي ) ولكن ما يؤسف له أنه لا يمضي وقت طويل حتى تتحسر بآهة من أعماق قلبها لأن هذا الإرتباط قد قطع. إننا نسمع هذه الجملة غالباً : ( إني أحبه كثيراً لأني لا أملك في الدنيا أحداً غيره ) في حين أنه يجب

ص: 200


1- جه ميدانيم؟ تربيت اطفال دشوار ص 72.

إبعاد الطفل عن مثل هذه العواطف. يجب أن لا نكون أنانيين ولكن ينبغي أن نعلم بأن طفلنا يملك حياة مستقلة تماماً ... حتى أدركنا أنه ليس لنا ، بل هو متعلق بشخصه ، وله حياة مستقلة تدعوه الى نفسها. وبصورة موجزة فاإنه يجب أن يتربى لنفسه لا للآخرين ... هلموا إذن للتخلي عن اعتبار الطفل ملكاً لنا ، لمّا لم نكن أكثر من حلقة وصل في هذه الحياة » (1).

المساعدة المعقولة :

إن المساعدة المعقولة التي يبذلها الوالدان للتلميذ الذي لم يستوعب الدرس من معلمه في المدرسة هي أن يدرساه في البيت مرة ثانية ويحاولا إفهامه الدرس تماماً. أما عندما يعمد الأب أو الأم بقصد مساعدة الطفل الى حلّ التمارين الرياضية التي كلّف بحلها من قبل المعلم ، أو كتابة القطعة الإنشائية بدلاً منه وإعطاؤها له لينقلها في دفتره ، فإنه يستحيل أن يصبح هذا التلميذ في عداد العلماء فيما بعد ... ولا شك أن هذه المساعدة ظلم لا يُتدارك بالنسبة الى الطفل.

إن المساعدات غير المعقولة للوالدين تجاه الطفل تعود على الطفل بالضرر وتمنع من نمو شخصيته. فالحب التافه والمساعدة غير المتزنة يطفئان جذوة الإستقلال والإعتماد على النفس في ضمير الطفل ، وبالتالي ينشضأ إنساناً طفلياً وتافهاً.

« إحذروا من أن تحرموا الطفل من الفرص المناسبة التي يستطيع من خلالها أن يتعلم بعض التجارب بنفسه ، بمعنى أن لا تساعدوه في أداء كل عمل. هذه المساعدات التي تتجاوز الحد المقرر لها أحساناً تعوّده على مساعدة الآخرين دائماً ، ونشوئه عالة على الغير ، فيفقد قدرته الشخصية في النهاية ، ويعجز عن إنقاذ موقفه المتأزملوحده بسبب من هذا الضعف والتعوّد على مساعدة الآخرين له » (2).

ص: 201


1- چه ميدانيم؟ تربيت اطفال دشوار ص 61.
2- ما وفرزندان ما ص41.

إن أفضل الفرص لاحياء الشعور بالمسؤولية الفردية ، وإيجاد الاستقلال والاعتماد على النفس هو دور الطفولة. يجب على الوالدين أن يعلما أن طفلهما إنسان واقعي ومستقل ، وعليهما أن يعاملاه معاملة إنسان حقيقي ... ويؤسسا قواعد التربية على هذا المنهج المستقيم ، حتى ينشأ الطفل مستقلاً وشاعراً بالمسؤولية منذ البداية.

التشجيع والتوبيخ :

على الوالدين أن يقوما بنصيحة الطفل في الأعوام الأولى من عمره حسب رشده وإدراكه ويفهماه بأنه هو المسؤول عن أفعاله الصالحة أو الفاسدة ... عليهما أن يشجعاه على الأفعال الحسنة بالمقدار الذي يستحقه ، ويوبخاه على الأفعال السيئة بالمقدار المناسب ... كما عليهما أن يحذرا من الإفراط في المحبة ، والإكثار من الشدة. عليهما أن يكررا هذا الأسلوب التربوي بكل صراحة حتى يطمئن الطفل الى استقلاله ويقف على مسؤوليته. إن طفلاً يتلقى تربية كهذه ، عندما يبلغ العاشرة من عمره يصبح إنساناً معتمداً على نفسه ، ويدرك معنى الشخصية بصورة واضحة.

« إن المربي يعدّ الطفل للحياة ، إذن يجب ترجيح الطفل على تصوراته الخاصة. إن المربي سوف يصغي الى اوامر قلبه وعقله ، وسيسلك مع الطفل سلوكاً إنسانياً ، ذلك أنه يجب ألا نترك الجانب الإنساني مطلقاً ... يجب أن نسلك سلوكاً إنسانياً من دون أي إثرة أو أنانية ، يجب أن نكون إنسانيين ومحايدين في آن واحد » .

« إن الوالدين والمربي العادل هم القادرون على أن يهبوا الطفل نصائح محايدة ، وأن يجعلوا منه إنساناً كاملاً لا إتكالياً ، إنهم يحبون الأطفال لا حباً أعمى بل حباً معقولاً يقودهم نحو الطريق الصحيح في الحياة ».

« إن محبة كهذه لا تغفل عن أسس عملها أبداً ، بل تحافظ على الإعتدال دائماً ، ذلك أن العدل والإنصاف هما بمنزلة الملجأ للطفل ».

ص: 202

« إذا كان الأب عادلاً فإن جدّه وتشدّده لا يخلفان أثراً سيئاً في الحياة. إن طريق الطفل يمكن أن يكون مليئاً بالعقبات والعراقيل ، لكن لما كان أساسه التربوي متيناً فإنه لن يتضرر من ذلك » (1).

التأدب في الصغر :

لقد أكد الأئمة علیهم السلام ضمن بيان المناهج التربوية للأطفال على أهمية احياء المسؤولية الشخصية ، والتنشئة على الاستقلال ، وأوصوا أتباعهم بجميع التعاليم اللازمة في هذا الصدد.

يقول الإمام الصادق علیه السلام : « قال لقمان : يا بنيّ ، إن تأدبت صغيراً انتفعت به كبيراً. ومن عنى بالأدب اهتم به. ومن اهتم به. ومن اهتم به تكلّف علمه. ومن تكلف علمه اشتد له طلبه. ومن اشتدّ له طلبه أدرك به منفعة » (2).

ثم يستمر في نصائحه فيقول : « يا بُنّي ، ألزم نفسك التوءدة في أمورك. وصبّر على مؤنات الاخوان نفسك. فإن أردت أن تجمع عزّ الدنيا فاقطع طمعك مما في أيد الناس فإنما بلغ الأنبياء والصدّيقون ما بلغوا بقطع طمعهم » (3).

وفيما يتعلق بالقيام بالواجبات والحرص على أدائها يقول : « يا بُنيّ ، إنما أنت عبد مستأجر قد أمرت بعمل ، ووُعدت عليه اجراً. فأوف عملك واستوف أجرك » (4).

هذه الجمل القصار للإمام علیه السلام تتضمن بيان قيمة التربية في دور الطفولة ، والسعي في تلقي التربية ، وإسداء الأب النصائح للولد ، وإيجاد الشعور بالمسؤولية الشخصية ، وإحياء روح الاستقلال عند الطفل ، وتنمية الاعتماد على النفس والإنقطاع عن الناس ، والجدّ في أداء الواجبات ، وأجر القيام بالواجب ... وجميع الدقائق التربوية التي تتعلق بالشخصية والإعتماد على النفس.

ص: 203


1- جه ميدانيم؟ تربيت اطفال دشوار ص 60.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج5ص323.
3- نفس المصدر والصفحة.
4- المصدر نفسه ح5ص324.

ظهور الاستعدادات :

يعتبر الاستقلال في الإرادة والإعتماد على النفس منشأ لظهور الإستعدادات الداخلية. هذا الخلق الفاضل يجبّ صاحبه الى الناس ويمنحه جمالاً اجتماعياً خاصاً. وعلى العكس من ذلك فان الطفيلية تكبح المواهب والقابليات الباطنية ونسبب الكراهية للفرد من قبل الالاخرين. اإن الوالدين الواعيين مؤولان عن تربية طفلهما على الإستقلال والإرادة بحيث يستطيع من العيش بكل فخار وعز ... وهذه التربية إنما هي من الحقوق الدينية للأولاد على آبائهم.

قال الإمام السجاد علیه السلام : « ... فاعمل في أمره عمل المتزيّن بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا » (1) أي عليك أن تسلك مع الطفل سلوكاً يسبب الإفتخار والمباهاة له في المجتمع.

النشاط الفردي :

يستند ضمان السعادة الروحية والوصول الى الكمال المعنوي الى المسؤولية الفردية شأنه في ذلك شأنه في ذلك شأن السعادة الدنيوية. فكما أن النجاح المادي لكل انسان يرتبط بنشاطه الفردي ومقدار الجهد الذي يبذله ، كذلك نجاحه المعنوي وتكامله الروحي فإنه يرتبط بمستواه من الإيمان والجهد الذي يبذله في ذلك المجال.

والى هذا المعنى يشير القرآن الكريم : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)) (2).

كما أننا نلاحظ في الدنيا أخوين ، يحصل أحدهما على الدرجات العالية بفضل اعتماده على نفسه وبذله الجهود المتواصلة ويعيش في النهاية حياة ملؤها العز والفخار ، ويسقط الآخر عن أنظار الناس على أثر تسامحه وكسله فيعيش فقيراً محتقراً ... كذلك في الآخرة. فمن الممكن أن يصل أحدهما الى أعلى عليين في ظل الإيمان باللّه وأداء الواجب ، وينحط الالاخر الى أسفل سافلين نتيجة لانحرافه وتلوّثه بالاجرام والذنب.

ص: 204


1- تحف العقول عن آل الرسول ص 263.
2- سورة مريم 95.

إن الأب الذي قام بواجباته المادية معتمداً بنفسه ومستنداً الى شخصيته ، وحصل على أثر ذلك على سمعة طيبة ‘ ودرجة رفيعة ، ومنزلة سامية ... لو قام بتربية طفله على ما هو عليه من الاستقلال والإعتماد على النفس والجدّ في أداء الواجب ، فإن الطفل سيسعد في حياته أيضاً.

إن السعادة المعنوية للأب والابن والقيام وبالواجبات الروحية تتطابق مع السعادة المادية والقيام بالوجبات الدنيوية من حيث المسؤولية الفردية. فلو قام الوالدان المؤمنان بتربية أولادهما على الإيمان باللّه والاستقامة في العمل ، وقام الأولاد مع النظر الى مسؤوليتهم الشخصية بين يدي اللّه تعالى بأداء واجباتهم فلا شك في أنهم سيكونون كأبويهم مشمولين لرحمة اللّه عز وجل ، وعنايته التي تفوق كل عناية وهذا ما أكد عليه القرآن الكريم حيث قال :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (1).

ركيزة السعادة :

نستنتج مما تقدم أنه حسب المقاييس الدينية والعلمية فإن الشعور بالمسؤولية الشخصية ، والإعتماد على النفس ، الجد في أداء الواجب ... تشكل ركائز السعادة المادية والمعنوية للإنسان. إن كل فرد يحصل على نتيجة عمله ، وكل شخص رهين بأعماله ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشرّ. إن الوالدين اللذين يدركان هذا الأمر بنفسهما ويربّيان الطفل على الشعور بالمسؤولية الشخصية منذ الطفولة يكونان قد أدّيا خدمة جبارة له ، وأخذا بيده نحو طريق السعادة والتكامل والفلاح.

التفاخر بالآباء :

لقد كان الناس في الجاهلية (2) يتفاخرون بآبائهم وأجدادهم ، بدلاً من التفاخر بالعلم والفضل ، وكانوا يستندون إلى أمجادهم أسلافهم والانتصارات التي أحرزوها

ص: 205


1- سورة الطور، الآية : 21.
2- (1) هناك تفسيرات عديدة للجاهلية : -

بدلاً من التفاخر بالجهود والنشاطات الخاصة بكل منهم. وعندما جاء نبي الإسلام العظيم بتعاليمه القيمة كافح ضد هذه الفكرة الخاطئة التي كانت العامل الأكبر لانحطاط المجتمع حينذاك ، وبذلك الجهود المضنية في سبيل تحويل الأفكار العامة عن الاعتماد على الغير والتفاخر بالآباء الى الاعتماد على النفس. لقد أكد الإسلام للجميع بأن الكمال الإنساني والتفاخر بالشرف إنما يستند الى ما يبذله كل فرد من جهد في طريق التكامل والتعالي.

قال علي علیه السلام : « الشرف بالهمم العالية لا بالرمم البالية » (1).

الإتكال على الأمل :

من المناسب أن أنبّه المستمعين الكرام ، والشباب منهم بالخصوص إلى مسألة ضرورية ، وهي أن المراد من الاعتماد على النفس أن يستند كل فرد في طريق الوصول الى سعادته على علمه وأخلاقه الفاضلة وجهوده ، لا على آماله الفارغة ، وأمنياته غير الناضجة. وبعبارة أوضح فإن آمال كل شخص ناشئة من حالاته النفسية الخاصة به ، ولكن ليس المراد من الإعتماد على النفس ، الإتكال على هذه

ب - ويذهب البعض الآخر إلى أن المراد منها الجهل الذي هو في مقابل الحلم ، فيكون بمعنى السفه أيضاً.

ج - ويذهب آخرون إلى أنها اصطلاح خاص بالعرب قبل الإسلام.

ولكن هذه التفسيرات الثلاثة بعيدة عن الواقع والصحيح أن يعتبر مصطلح ( الجاهلية ) خاصاً خاصاً بكل ما يخالف الإسلام في نظرته الى الكون والنفس والوجود ، سواء كان ذلك متداولاً بين العرب أم غيرهم من الأقوام ، وسواء كان ذلك قبل ظهور الإسلام أم بعده. ويدل على ذلك قوله تعالى : « أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من اللّه حكما ». الآمال النفسية الواهية. إن الذين يعمرون قلوبهم بالآمال فقط ، ويتعهدون ضمائرهم بالأماني الطوال بدلاً من أن يعمروها بالعلم والفضائل ، ويتعهدوها بالجد والعمل ... افراد حقراء تافهون ، ويستحيل عليهم أن يحصلوا على السعادة والكمال.

عن علي علیه السلام : « إيّاك والإتكال على المنى ، فإنّها بضائع النوكى » (2).

وعنه علیه السلام أيضاً : « العاقل يعتمد على عمله ، والجاهل يعتمد على أمله » (3).

* * *

عندما نتصفح التاريخ الإسلامي نجد أن الأسر التي طبقت تعاليم الإسلام في أسلوب تربية الطفل ، والتزمت بأفضل النصائح الواردة من الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله في

ص: 206


1- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 87.
2- نهج البلاغة ، شرح الفيض الإصفهاني ص 922.
3- غرر الحكم ودرر الكلام للآمدي ص 43.

هذا الصدد ، توصلت الى نتائج لا معة حيث أثبت الأولاد من الجدارة ما يؤيد ذلك. وعلى سبيل المثال نستعرض قضيتين تاريخيتين لطيفتين : -

1 - الطفلة الجريئة :

غضب عبد الملك بن مروان على عباد بن أسلم البكري يوماً ، فكتب إلى واليه على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي بأن يقتله ويبعث برأسه الى الشام. فأرسل الحجاج الى عباد يطلب حضوره لتنفيذ أمر عبد الملك بشأنه. لقد تألم عبّاد من معرفة الخبر. واضطرب كثيراً وأقسم على الحجاج في أن يتخلى عن قتله لأنه يعيل أربعاً وعشرين امرأة وطفلاً ، وبقتله سوف تختل شؤونهم وتضطرب حياتهم. فرقّ الحجاج لكلامه وأمر باحضار عائلته الى دار الامارة. وعندما حضر أولئك الى دار الامارة واطلعوا على ما صمم عليه الحجاج ، وشاهدوا الحالة المزرية التي كان عليها وليهم ، بدأوا بالبكاء والعويل ... وفجأة قامت طفلة صغيرة من بينهم ، كانت في غاية الجمال وأرادت أن تتكلم ، فقال لها الحجاج : ما هي صلتك بعبّاد!؟

قالت : أنا أبنته.

ثم قالت له بكل صراحة : يا أمير ، اسمع ما أقول ... وأنشأت تقول :

أحجاج ، إما أن تمن بتركه *** علينا وإمّا أن تقتلن--ا مع--ا

أحجاج ، لا تفجع به إن قتلته *** ثماناً وعشراً واثنتين وأربع--ا

أحجاج ، لا تترك عليه بناته *** وخالاته يندبنه الدهر أجمع--ا

هذه الكلمات الصريحة والقوية من هذه الطفلة الجريئة أبكت حجاجاً القاسي ، وجعلته ينصرف عن قتل عبّاد ، ويكاتب عبد الملك بشأنه حتى حصل على عفو الخليفة عنه (1).

ص: 207


1- المستطرف في كل فن مستظرف للابشيهي ج1ص195.

2 - الصبي الخطيب :

لما آلت الخلافة الى عمر بن عبد العزيز ، أخذت الوفود تتقاطر عليه من أنحاء الدولة لتهنئته ... وكان من تلك الوفود وفد الحجاز. كان في ذلك الوفد صبي صغير ، قام في مجلس الخليفة ليتكلم ، فقال الخليفة : ليتكلم من هو اكبر منك سناً. فقال الطفل : أيها الخليفة ، إن كان المقياس للكفاءة كبر السن ففي مجلسك من هو أحق بالخلافة منك. فتعجب عمر بن عبد العزيز من هذا الكلام وأيده على ذلك ، ثم أذن له في التكلم. فقال:

لقد قصدناك من بلد بعيد. وليس مجيئاً لطمع فيك أو خوف منك ... لا نطمع فيك لأننا متنعمون بعدلك ومستقرون في بيوتنا بكل أمن واطمئنان ... ولا نخاف منك لأننا نجد أنفسنا في أمن من ظلمك ، وإن مجيئنا الى هنا إنما هو لغرض التقدير والشكر.

فقال له عمر بن عبد العزيز : عظني.

قال الصبي : لقد أصيب بعض بالغرور لحم اللّه عليهم ، اصيب آخرون بذلك لمدح الناس إياهم ، فاحذر من أن يبعث هذان الأمران الغرور فيك ، فتنحرف في تدبير شؤون الدولة.

لقد سُرّ عمر بن عبد العزيز لهذا الكلام كثيراً ، وسأل عن عمر الصبي فقيل له : هو ابن اثنتي عشر سنة (1).

الشعور بالاستقلال :

إن التربية العائلية الصحيحة هي التي تستطيع أن تربي الطفل على الاستقلال والإعتماد على النفس ، وتقوده نحو التكامل المادي والمعنوي. إن الأطفال الذين نشأوا طفيليين على أثر الأسلواب الفاسد للتربية المتخذ بحقهم ، والذين لا يشعرون بالإستقلال الاعتماد على النفس ، يرزحون تحت كابوس الحقارة والذلة مدى العمر ... إنهم لا يطمئنون الى أنفسهم ، ولذلك فهم ينتظرون العون والمساعدة من

ص: 208


1- المصدر السابق ج1ص46.

هذا وذاك دائماً ، وهذا يكشف لنا عن إصابتهم بعقدة الحقارة وتجرعهم نتائجها الوخيمة.

« إن المأساة العظمى هي أنه من بين جميع الأحياء فإن وليد الإنسان يتميز بطول فترة الطفولة. فوليد الحيوانات الأخرى يصل الى مرحلة البلوغ في خلال بضعة أسابيع أو اشهر ، أي أنه يستطيع أن يستغني عن مساعدة الأخرين فيعيش لوحده. فمثلاً على ذلك نجد صغار الكلب أو القط ما إن تمر بضعة أشهر على تولدها تبلغ ، ولا تعود محتاجة الى أبويها والآخرين في إعداد الطعام والمأوى والدفاع عن أنفسها ، وفي حين أن هذه المرحلة عند صغار الإنسان تستغرق عدة سنين ، وقد يبقى البعض منهم طفيلياً على غيره حتى آخر يوم من حياته ».

« يعتقد كثير من المفكرين أن النصف الأكثر من الأمراض العصرية يعود إلى أن البشر لم يبلغ حد الرشد ، ولا يملك القدرة على الاستقلال في العمل ، أي أنه لا يزال يشعر بالحاجة الى القيّم. إن السبب المباشر لوجود الديكتاتوريات في بعض نقاط العالم هو هذا الأمر. إن نتائج الرشد الناقص تظهر في أن صاحبه ينظر الى الحياة ومسائلها نظرة طفولية ، وينكر أية مسؤولية اجتماعية. هذا الاسلوب من التفكير الطفولي يمكن قراءته بوضوح من بين أسطر الجرائد وأخبارها. إن عبادة نجوم السينما والممثلين ، والحب الجنوني تجاه أبطال الرياضة ، وحوادث الطلاق المستمرة ... وما شاكل ذلك ، أمارات تدل على هذا التسيب الخلقي » (1)

التكامل الفردي والاجتماعي :

لقد توصلنا في بحثنا هذا الى أن من الشروط الأساسية للتكامل الفردي الاجتماعي ، الشعور بالمسؤولية الشخصية والاعتماد على النفس. على كل فرد أن

ص: 209


1- عقده حقارت ص 10.

يستند الى علمه وأخلاقه ، وجدّه وجهده ، ويسعى في طريق ضمان سعادته نظريا وتطبيقياً ، وأن يحذر من الاعتماد على الآخرين وكونه عالة على غيره. إن الوالدين مسؤولان عن تنمية هذه السجية الخلقية في أطفالهما منذ الصغر.

وكما سبق ، فإن هذا الموضوع من أهم المسائل الأساسية في الإسلام حسب ما تؤكد عليه الآيات والأحاديث من جانب ، ومن جانب آخر فإنه من المواضيع العلمية المهمة في نظر علماء النفس المعاصرين ، واساتذة التعليم والتربية.

إن قادة الإسلام العظماء علّموا المسلمين قبل أربعة عشر قرناً بأن كل فرد مسؤول عن أعماله ، وأنه مرهون بعمله ، وهو الذي يتحمل تبعة ما صدر منه من خير أو شر ، وأن الجزاء الذي نياله أو يصيبه إنما هو النتيجة الطبيعية لما أكتسبت يداه.

كذلك العلماء المعاصرون فإنهم فإنهم يعتقدون بأن النجاح الفردي والإجماعي مستند الى الاعتماد على النفس ، والى الجهود التي يبذلها الأفراد بهذا الصدد. وكلما كان الاستقلال الروحي والنشاط المبذول اكثر ، كانت دائرة النجاح والتقدم أوسع.

الإتكال على اللّه :

تمتاز المدرسة الإسلامية بميزة فريدة في هذا الصدد ، لا توجد في سائر المدارس الفلسفية والنفسية ... وتلك هي مسأله الإتكال على اللّه. لقد اكد القرآن الكريم والأحاديث المستفيضة على موضوع الإتكال على اللّه والاستمداد من قدرته اللامتناهية. إن الشجاعة الفائقة وصلابة النفس التي امتاز بها الأنبياء ، وكذلك الانتصارات المذهلة التي أحرزوها مدينة الى طاقة الإيمان العظيمة ، وقوة الإتكال على اللّه.

وهنا أجد من المناسب أن أتطرق في ختام البحث ، الى الإتكال على اللّه وأثر ذلك في السعادة المادية والمعنوية للبشر. عسى أن تتضح للمستمعين الكرام أهمية المدرسة الإسلامية في التربية ورجحانها على سائر المدارس العالمية.

الإتكال على الناس ، والإتكال على النفس ، والإتكال على اللّه ... ثلاث

ص: 210

مراحل مستقلة ومتتابعة في مضمار التقدم البشري ، ولكل منها نتائج وآثار نفسية وعملية خاصة.

الإتكال على الناس عبارة عن أن يستند الفرد الى الآخرين في سبيل تحقيق سعادته ، ويتخلى عن الواجبات المفروضة عليه اعتماداً على هذا وذاك. هذه الحالة النفسية تعتبر من الصفات المذمومة من وجهة نظر الدين والعلم ، وان الأفراد الإتكاليين هم أحقر الناس.

إن ضرورات الحياة توجب على كل فرد أن يحتك بالآخرين ويعاشرهم ، لكن الإحتكاك بالناس يختلف عن الاتكال عليهم. إن الإنسان العاقل يتصف بالأدب واللين في العلاقات الإجتماعية التي ينشئها مع الآخرين ، فهو يحترم شخصية الآخرين ، ويقابلهم بالبشر والحنان ، ويراعي حقوقه وحدوده تجاه غيره ... لكنه لا يرضى بالذلة ، ولا يستسلم للهوان ، ولا ينتظر من الآخرين أن يقوموا بالعمل الذي يجب عليه القيام به ...

« وكان أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه يقول : ليجتمع في قلبك الافتقار الى الناس والأستغناء عنهم. فيكون افتقارُك إليهم اليهم في لين كلامك وحُسن بشرك. ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزّك » (1).

الإتكال على النفس :

أما الإتكال على النفس فهو عبارة عن أن يستند كل فرد الى نفسه ، ويعتمد على عقله وعلمه ، وسلوكه وأخلاقه ، وعزمه وتصميمه ، وجدّه وجهده ، وأن يقف على قدميه في الحياة فيعلم أنه مسؤول بنفسه عن أفعاله الصالحة أو الفاسدة. لقد اعتبر هذا الموضوع في القرآن الكريم والاحاديث الاسلامية من أشد المسائل الدينية بداهة. وكذلك العلماء المعاصرون فإنهم يرون في الإعتماد على النفس أساساً لجميع النجاحات الفردية الإجتماعية ، ويؤكدون على أن سعادة كل فرد تبتني على استقلال شخصيته واعتماده على نفسه. إن الأفراد الذين يعتمد على أنفسهم يشعرون

ص: 211


1- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2ص149.

بالإستقرار والهدوء ، الأفراد الذين يعتمدون على أنفسهم رجال نشاط وعمل ، الأفراد الذين يعتمدون على أنفسهم يملكون شخصية رصينة واستقلالاً في الإرادة وطموحاً كبيراً يجعلهم يغضون النظر عما في أيدي الآخرين ، ولا يستسلمون للذل والهوان أبداً.

هناك توافق وانسجام في هاتين المرحلتين بين المناهج الإسلامية القيمة والأساليب العلمية المعاصرة. أي أن علماء التربية والنفس المعاصرين يؤكدون في كتبهم العلمية ما علّمه الإسلام قبل أربعة عشر قرناً لأتباعه في مناهجه التربوية ، والتي تتمثل في القرآن الكريم والأخبار المستفيضة.

لقد اعتبر قادة الإسلام الإعتماد على الناس أمراً مذموماً ، ورأوا الخير بالسعادة في قطع الطمع عما في أيدي الآخرين. وكذلك العلماء المعاصرين فإنهم يذمّون الاعتماد على الناس ، والطفيلية بشدة.

كما عمل قادة الإسلام على إحياء المسؤولية الشخصية ، والشعور بالإستقلال والإعتماد على النفس في الأفراد ، وأكدوا على أن كل فرد مسؤول عن أفعاله ، ورهين بما كسبت يداه. وكذلك فعل العلماء المعاصرون فإنهم اعتبروا الاعتماد على النفس من أهم أركان السعادة الفردية والإجتماعية.

الإتكال على اللّه :

الإتكال على اللّه عبارة عن أن يستند كل فرد مؤمن ، بالإضافة الى استغلال جميع طاقاته النفسية والجسمية والطبيعية ، الى القدرة اللامتناهية لله تعالى ، وان يستمد العون منه عز وجل في جميع المناسبات والظروف وبعبارة اوضح فإن الرجال المؤمنين يستغلون في سبيل الوصول الى السعادة المادية والمعنوية ، جميع طاقات العقل. والعلم ، والذكاء والأخلاق ، والقوى الجسمية ، والطاقات الطبيعية ويستخدمون جميع الوسائل التي خلقها اللّه تعالى لذلك ... ولكنهم لا يقصرون آمالهم على هذه الطاقات والقوى أبداً ، ولا يحصرون أرواحهم في سجنها الضيق ، بل يعتقدون بأن وراء جميع العل والعوامل الإعتيادية وفوق كل الطاقات الجسمية

ص: 212

والروحية ، قدرة لا تتناهى ، وطاقة لاتقبل التحديد هي قدرة اللّه تعالى ، المسيطرة على الكون كله ... إنهم يعتقدون بأن جميع العلل إنما اتصفت بالعلية بإرادته ومشيئته ، فهو علة العلل ... وإن جميع الأسباب إنما اتصفت بالسببية بقدرته وأمره ، فهو مسبّب الأسباب. إن أصحاب هذه العقيدة لا يخسرون المعركة أمام مشاكل الحياة أبداً ، ولا يعرف اليأس طريقاً الى ارواحهم. هؤلاء يملكون بالأستناد الى القدرة الإلهية العظيمة أرواحاً مطمئنة ، وعزماً ثابتاً ، وإرادة حديدية.

طاقة الإنسان المحدودة :

يهد علماء النفس المعاصرون الى أن ينشئوا أفراداً مستقلين ومعتمدين على أنفسهم ، ويمنعوا من نشوئهم طفيليين. لا شك في أن تربية كهذه قيّمة جداً ، وتستحق الاكبار والتقدير ، كما تظهر آثارها النيرة طيلة أيام الحياة بصورة تدريجية ، ولكن يجب أن لا ننسى أن الطاقة الجسدية والروحية للإنسان محدودة ، ولذلك فإن درجة اطمئنانه ونشاطه ستكون محدودة أيضاً.

إن من كان محروماً من الإيمان باللّه ، وكانت تربيته مطابقة للأساليب العلمية المحضة ، فنشأ معتمداً على نفسه ... فهو رجل العمل والنشاط ما لم يصل في حياته الى مأزق حرج ... أما عندما يصطدم بمشاكل تستعصي على الحل ، وتغلق جميع الأبواب والرق الطبيعية بوجهه ، يشعر باليأس والفشل ، ويشلّ نشاطه ، عندئذ يعجز الاعتماد على النفس من تهدئة خاطره والتخفيف من اضطرابه ، وبعث الأمل في نفسه.

أما المؤمنون بخالق الكون ، والذين يستندون الى قدرة العظيمة بالإضافة الى الاستقلال الروحي الذي يملكونه ، والإعتماد على النفس الذي يتميزون به ، فإنهم لا يصابون باليأس والقنوط أبداً ... إنهم يذكرون اللّه تعالى في الأحوال الاعتيادية ، ويستغلون جميع الوسائل والعوامل التي أوجدها خالق الكون في هذا العالم لتحقيق غاياتهم النبيلة وأهدافهم السامية. إنهم لا يتركون أبسط الفرص المؤدية الى السعادة تذهب عبثاً ، وعندما يقعون في مأزق حرج لا يفقدون الأمل والتطامن ، لأنهم لم يحصروا أروحهم في دائرة العلل الطبيعية فقط ، ولم يغفلوا عن القدرة الإلهية

ص: 213

العظيمة التي هي فوق جميع القوى والطاقات لحظة واحدة. إنهم يستمدون العون من عناية اللّه في أشد الظروف وأحرج المواقف ، ولا يطفأ له الأمل في أرواحهم أبداً ... إن أعظم عامل لاستقرار النفس وقوة الإرادة هو الإتكال على اللّه ... (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (1).

.... وهذه سمة فريدة يمتاز بها المنهج التربوي لرسل السماء. إن المناهج العلمية والتطبيقية تستطيع أن تربي الناس على الإعتماد بالنفس ... أما المنهج التربوي في الإسلام فإنه بالإضافة الى تأكيده على قيمة الاعتماد بالنفس ، يربى الأفراد على الإيمان باللّه والإتكال عليه ، وهذا هو من أعظم ميزات المدرسة الإسلامية في التربية.

التشاور والعزم والتوكل :

لا شك في أن الأنبياء كانا رجالا ذوي إرادة قوية ، ومعتمدين على أنفسهم ، ولكن أساس الطاقات المذهلة التي كانوا يملكونها هو الإتكال على اللّه. لقد كان يستحيل على موسى بن عمران أن يقارع فرعون بفضل اعتماده على نفسه فقط ، وأن يقوم بوحده بهدم تلك الحكومة الظالمة القوية لكن إتكاله على قدرة اللّه وعظمته هو الذي منحه القدرة على ذلك كله.

وكذلك نبينا محمد صلی اللّه علیه و آله فإنه كان ذا شخصية روحية صلبة ، واستقلال في الإرادة لا يضاهي ... ولكن الطاقة التي منحته القوة في ذلك الظرف الأهوج ، والدور العصيب ، وأعطته الأستقرار والهدوء في أشدّ المواقف ، ومكنته من خوض المعارك العقيدية والسياسية والإجتماعية بكل نجاح ... إنما هي الإيمان باللّه والإستناد الى عظمته.

لقد ذكر القرآن الكريم منهج الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله ، الذي سرّ نجاحه وتقدمه في عبارة موجزة حيث قال : «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» (2).

ص: 214


1- سورة الرعد ، الآية: 28.
2- سورة آل عمران ، الآية: 159.

لقد ذكرت هذه الآية الكريمة واجب النبي تجاه الناس ، وواجبه تجاه نفسه ، وواجبه تجاه اللّه تعالى :

أما واجبه تجاه الناس - فقد كان عبارة عن استشارتهم في الأمور الإجتماعية ، ورسم الخطط العسكرية ، وغير ذلك من الأمور التي لم يرد بشأنها نصّ ... وعن طريق التشاور وتبادل الآراء يعين للمسلمين طرق انتصارهم وتقدمهم. إن الإعتماد على الناس ، والفرار من عبء المسؤولية استناداً الى جهود الآخرين مذموم في الإسلام. أما احترام شخصية الأفراد ومعاشرتهم بالجميل ، واستشارة العقلاء وذوي الرأي منهم فهو محبذ ومرغوب فيه.

وأما واجبه تجاه نفسه فهو عبارة عن عزمه وتصميمه في الأمور وقيامه بأدائها بنفسه. يجب عليه أن يكون صلباً أمام الحوادث ، لا تزعزعه المشاكل المختلفة ، بل يقابلها بإرادة حديدية وثبات لا يغلب عليه.

وأما واجبه تجاه اللّه - فهو أن يتوكل عليه بعد استشارته المسلمين ، والوقوف على رأي قاطع ... يجب عليه أن يستمد العون منه عز وجل ، ويعزّز مكانته بالإستناد إلى قدرته اللامتناهية.

إن تبادل الآراء والتشاور مع الناس لتنظيم شؤون العمل ، وكذلك الإعتماد على النفس ، والعزم والتصميم في تنفيذ خطة العمل عاملان كبيران لنجاح البشرية وتقدمها ، وقد تكفل صدر الآية الكريمة ببيان ذلك وان العلم الحديث يهتم بهذين الأمرين اهتماماً بالغاً ايضاً. لكن الطاقة التي لا تقبل الاندحار ، والشعلة التي لا تنطفىء ، والثروة التي تنبع منها جميع الطاقات الروحية ويستند إليها الاستقرار والتطامن إنما هي النقطة التي تكفل ختام الآية ببيانها ، وهو الإتكال على اللّه ... إن الإتكال على اللّه اعظم من الاعتماد على النفس بكثير.

إن أعظم المراتب في المدارس التربوية العالمية هي تمنية الإعتماد على النفس وحسب. أما المدرسة الإسلامية في التربية فإنها ترقى إلى ما هو أهم من ذلك ، حيث تغذي النفوس من نمير الإيمان باللّه والاعتماد عليه ، وهذه هي سمة فريدة يمتاز بها المنهج القرآني ، دون غيره.

* * *

ص: 215

المحاضرة الخامسة والعشرون: الحياء المحبذ والحياء غير المحبذ

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه العظيم : (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) (1).

الخجل المفرط :

من الصفات الذميمة التي قد تصيب الإنسان منذ طفولته ، وتلازمه حتى نهاية عمره بصورة مرض مزمن يؤلم صاحبه ، الخجل المفرط والحياء في غير محله. هذه الحالة النفسية تنبع من الشعور بالخسة وعقدة الحقارة في الغالب.

ما أكثر التلاميذ الذين درسوا بكل جد وتتبع ، واستوعبوا المناهج الدراسية بإتقان ، ولكنهم أصيبوا في الإمتحان - وفي القسم الشفوي منه بالخصوص - بالخجل والحياء الشديدين بسبب من ضعف النفس ، فخسروا المعركة ... وكأنهم لم يقرأوا شيئاً ، أو نسوا ما قرأوه تماماً ، وبالتالي عجزوا عن الجواب وحصلوا على درجات واطئة ، وبالنتيجة حرموا من التقدم المعتاد في السنوات الدراسية.

وما أكثر الأطفال الذين لا يملكون الجرأة على الإتصال بالناس على أثر الخجل المفرط ، فيشعرون بالحقارة والدونية ، ويتخفون من المشاركة في المجالس العامة والإتصال بالأشخاص ، حتى أنهم يمتنعون أحياناً عن الذهاب على بيوت أقاربهم والتحدث معهم نظراً لما يحسون به من خجل وحياء. وقد يستأصل داء الخجل وضعف الشخصية في أعماق قلوب البعض الى درجة أنه يحطم شخصيتهم ، ويجعلهم مصابين به حتى بعد البلوغ ، فالشيخوخة.

ص: 216


1- سورة المائدة ، الآية: 54.

تألم الروح :

هناك عوامل عديدة تتسبب في ظهور صفة الحياء المفرط والخجل الشديد عند الأطفال ... ولكن الجامع بينها هو السلوك المصحوب بالتحقير والاهانة تجاة الطفل.

إن الطفل الذي يقع موقع السخرية والتحقير من الآخرين منذ الصغر وتألمت روحه على أثر الضربات المتتالية ، يرى نفسه حقيراً وتافهاً ويشعر بالضعفة والدونية. إن طفلاً كهذا يصاب بالانفعال والخجل ، ومن البديهي أن يتخوف من الاتصال بالناس.

« إن الخلود والفرار من المجتمع ، والمظاهر الاخرى والمشابهة لذلك كالخجل وحب الانزواء ... وليدة كون الشخص معرضاً للاهمال والتحقير في دور الطفولة أو البلوغ في الغالب. ولا يمكن أن نجد علة لذلك غير ما ذكر ، بمعنى أن الشخص عندما يتعرض للتحقير من قبل الآخرين ، ويبقى أثر ذلك في مخيلته ، فلا شك في أنه يشعر بالحقارة والتفاهة في نفسه تجاه المجتمع » (1).

الحياء المعقول وغير المعقول :

الحياء عبارة عن الشعور بالانفعال والانكسار النفسي نتيجة للخوف من اللوم والتوبيخ من الآخرين. هذا الحالة النفسية تكون صحيحة ومناسبة في بعض الحالات وتعتبر من الصفات الطيبة ، وتكون تافهة وغير مناسبة في حالات آخر وتعتبر من الصفات الذميمة.

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الحياء حياءان : حياء عقل وحياء حمق. فحياء العقل هو العلم ، وحياء الحمق هو الجهل » (2).

« عن الامام الصادق عن آبائه علیهم السلام ، قال قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : الحياء على

ص: 217


1- عقده حقارت ص 21.
2- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج 2ص106.

وجهين ، فمنه الضعف ومنه قوة واحلام وايمان » (1).

يجب على الوالدين في المنهج التربوي الذي يتخذانه تجاه طفلهما أن ينميا فيه الشعور بالحياء المعقول من جهة ، بحيث لا ينشأ مستهتراً وعابثاً وعليهما من جهة اخرى أن يراقبا عدم إصابته بضعف الشخصية والحياء غير المعقول لأن ذلك يبعث فيه الشعور بالخجل المفرط لأبسط حادثة.

ولكي يهتم المستمعون الكرام في أسلوب تربية أطفالهم بهذا الواجب الخطير ، فينشؤا أولادهم على الحياء ومراعاة القيم الاجتماعية ، بجانب حفظهم من الإصابة بالخجل المفرط وضعف الشخصية ، أرى من اللازم التطرق الى مسألة الحياء ، وفوائده الإجتماعية ، ثم التوصل الى الحياء المحبذ والحياء غير المحبذ.

هناك صفات نفسانية مشتركة بين الإنسان وسائر الحيوانات ، كحب الولد أو الخلود وما شاكل ذلك. أما الحياء فإنه من الحالات النفسية التي تختص بالإنسان فقط ، ولا يتمتع بها شيء من الحيوانات مطلقاً. لقد ذكر الإمام الصادق علیه السلام ذلك لتلميذه المفضل الجعفي في الحديث القيم الذي أملاه عليه حول التوحيد ، فقال :

« أنظر الآن يا مفضل إلى ما خص به الإنسان دون جميع الحيوان من هذا الخلق الجليل قدره ، العظيم غناؤه ، أعني الحياء » (2).

لقد صرح الإمام الصادق علیه السلام في هذا الحديث بأن الحياء إنما يختص بالإنسان وهو مفقود في الحيوانات. وكذلك العلماء المعاصرون فإنهم يعتبرون الحياء من الصفات الخاصة بالإنسان :

« يعتقد مارك توين أن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يستحي أو يشعر بأنه في حاجة الى الحياء. يقول الدكتور فلاسن أستاذ جامعة روجستر في تأييد هذه النظرية : إن الحياء علامة السلامة ، وهو

ص: 218


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج15ص197.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج2ص25.

متداول ومألوف عند جميع أفراد البشر حتى أولئك الحفاة العراة. ولذلك فإنه يعتقد بأن ما يبعث على تصاعد الدم في وجه الإنسان هو الشعور الناشيء من إخفاء حقيقة ما » (1).

الأثر الاجتماعي للحياء :

إن الفائدة الإجتماعية لخصلة الحياء عبارة عن منع الإنسان عن إرتكاب الجرائم ، وحفظه من التلوث بالذنوب والاعمال المنافية للآداب. إن كل فرد يرغب في أن يكون حراً في إشباع ميوله وأهوائه ، حتى يستطيع ممارستها مطلقاً من كل قيد أو شرط ... لكن هذه الحرية المطلقة لا تتلاءم مع مصلحته وسعادته. ولهذا فإن الأمور المضرة بالمصالح الفردية والاجتماعية ممنوعة على الفرد في التعاليم السماوية ، والقوانين الوضعية في العالم أيضاً ... وعلى الجميع أن يتجنبوها ، ويمتنعوا عن ممارستها.

لا بد من وجود قوة تحمي القانون حتى يستطيع من فرض إرادته على الأفراد فيضبطوا ميولهم غير المشروعة ، وتنفّذ الأساليب المحققة للمصالح المادية والمعنوية ... ولا بد من وجود سلطة تضمن إتباع الأفراد وانصياعهم لنصوص القانون وإن كانت مخالفة لمشتهيات أنفسهم ، فإن القانون يحتاج الى من يتعهد بتطبيقه وتنفيذه ، ولا يكفي تشريعه لإصلاحه المجتمع ... إذ ما لم توجد الضمانات التنفيذية له فلا سبيل الى التغلب على ميول الأفراد ورغباتهم ومنعهم من متابعة شهواتهم اللامشروعة.

يختلف الضمان التنفيذي للقانون باختلاف المستوى العلمي والتربوي لشعوب العالم ، لأنهم متفاوتون في درجة تكاملهم المعنوي ورشدهم الروحي بالنسبة الى بعضهم البعض.

إن أفضل الوسائل التنفيذية للأمم الوحشية أو شبه الوحشية ، التي لم تحصل على المقدار الكافي من التكامل الروحي والتعالي النفسي ، والتي لم تتلقّ تربية

ص: 219


1- جريدة ( اطلاعات ) الايرانية العدد ص 10366.

صحيحة ، وهو السجن ، والجلد ، الاعدام وسائر الوسائل الجزائية المشددة. في مثل هذه المجتمعات تستند الحكومة الى العنف والقسوة ، وتحمل الناس على اطاعة القوانين الموضوعة من قبلها بالتعذيب والضغط والتهديد ، الحديد والنار.

أما في الأمم المتمدنة والراقية .. في المجتمع الذي يكون الأفراد قد نالوا - قليلاً أو كثيراً - بعض الكمالات الروحية ، فإن التضامن لتنفيذ القوانين وحسن تطبيقها ليس المواد الجزائية والتعذيب فقط ، بل أن العوامل التربوية والذخائر الروحية للأفراد تساعد كثيراً على رعاية القوانين وتطبيقها وان لمعنويات الأفراد أثراً كبيراً في استيلاء النظام وسيادة القانون على ذلك المجتمع.

إن التربية الصحيحة منذ الطفولة ، وارتفاع مستوى العلم والمعرفة ، والاستفادة من قوة العقل والتفكير ، وإحياء الوجدان الأخلاقي ، واستخدام ذلك ... عوامل ساعدة في تطبيق القوانين ، ويلعب كل منها دوراً مستقلاً في حسن راعياتها.

القيام بالواجب :

إن الأفراد الذين تلقوا تربية صالحة منذ الصغر ، ونشأوا على الشعور بالمسؤولية ومعرفة الواجب الملقى على عاتق كل منهم ، يسلكون في الحياة باستقامة من دون تكلف ، ويلزمون رعاية الحق والعدل دائماً ... إنهم لا يحومون حول الذنب أصلاً ، ولا يفكرون في الخروج على القانون والاعتداء على حقوق الآخرين أبداً. من هنا نستنتج أن التربية الصالحة المتبعة في دور الطفولة من أهم العوامل المساعدة لتنفيذ القوانين وحسن رعايتها.

كذلك الأشخاص الذين حصلوا على ثقافة علمية ، ونالوا بعض مدارج الكمال فإنهم يدركون الخير والشر أفضل من غيرهم ، ويعرفون الأضرار الفردية والإجتماعية للاجرام قبل الآخرين هناك بعض الانحرافات والجرائم التي يرتكبها الأفراد المحرومون من العلم والثقافة ولا يحوم حولها الأفراد المثقفون والواعون. إن العلم والثقافة يمكن أن يمنع من الخروج على القانون بدوره ، ويكون أداة لحسن تطبيق الأنظمة والقوانين.

بالرغم من جميع الدول الحية والمتقدمة في العالم تملك أنظمة جزائية لمعاقبة

ص: 220

الأفراد الخارجين على القانون ، فإن الملجأ الأول لرعاية تطبيق القوانين في تلك الدول هو القوى الثقافية والخلقية والتربوية للأفراد وبعبارة أخرى فإن تأثير الشعور بالمسؤولية ، والمستوى التربوي في حسن تطبيق القوانين من قبل أفراد الشعب المتقدم والمثقف ، أقوى من تأثير الجزاءات المادية المفروضة في نصوص القانون.

الجزاء :

توجد في الشريعة الإسلامية المقدسة سلسلة من القوانين الجزائية لغرض المحافظة على أرواح الأفراد وأموالهم وأعراضهم ، وعلى المحاكم والقضاة التصدي للجرائم والمخالفات ضمن الحدود المقررة ، ومعاقبة كل مجرم بحسب ما ارتكبه.

لا شك في أن النظام الجزائي في الإسلام عامل فعال في حسن تطبيق القوانين ، وحاجز دون انتهاك الأفراد لحرمتها والخروج عليها. ولكن الضمان التنفيذي للقوانين في الإسلام لا يتمثل في النظام الجزائي فقط. لقد استخدم المشرع الإسلامي قبل أربعة عشر قرناً جميع ما يستفاد منه في تطبيق القوانين الدول المتمدنة اليوم.

يرى العلماء المعاصرون أن التربية الصحيحة للطفل ، وتنمية الشعور بالمسؤولية فيه ، وإحياء وجدانه الخلقي ، واستغلال الطاقات العلمية والعقلية المودعة عنده ... عوامل مساعدة لتطبيق القوانين وإحقاق الحق.

لقد أولى قائد الإسلام العظيم كل هذه الوسائل المعنوية عناية كاملة وكما ذكرنا في المحاضرات السابقة فإن التعاليم الإسلامية القيمة تهدف الى التكامل الروحي والتعالي النفسي والوصول إلى أعلى قمم الرقي الإنساني. إن قتل النفس البريئة جرم عظيم وعمل غير قانوني ، وجزاءه إعدام القاتل. هذا الجزاء هو الذي يضمن عدم انتشار حوادث القتل ... في حين أن الشخص الذي تربى على الفضيلة والطهارة منذ البداية ونشأ على الاستقامة والتزام المثل العليا ، لا يفكر في الاجرام أبداً ، ولا يحدث نفسه بالتجاوز على حياة الآخرين. إن شخصاً كهذا يحترم حق الآخرين في الحياة قبل أن يخاف الجزاء ، ولذلك فلا يقدم على قتل النفس المحرمة. وهكذا تجري اطاعة القانون والحذر من الاجرام على هذا المنوال. فالخوف من الجزاء يمنع

ص: 221

الفرد من الاعتداء على حقوق الآخرين حيناً ، والشعور بالمسؤولية والرغبة في التكامل الروحي هو الدافع لاحترام الفرد حقوق غيره حيناً آخر.

لا فخر للإنسان إن كان الدافع إلى إنقياده للقوانين العادلة واحترامه حقوق الآخرين هو الخوف من العقوبة ، لأن كثيراً من الحيوانات تنقاد لأصحابها خوفاً من حدة السوط. إن الانقياد المنبعث من أعماق وجود الإنسان الناشيء من حب الكمال ، هو الذي يعتبر محبذاً وقابلاً للتقدير والاستحسان وهو أمارة الإنسانية. والهدف من التعاليم الإسلامية القيمة هو تربية هؤلاء الأفراد.

الإيمان والإنقياد للقانون :

بالرغم من أن هناك عقوبات وقرارات جزائية في الإسلام بشأن رعاية تطبيق القوانين ، لكن الاساس الذي استند إليه مشروع الإسلام العظيم في تطبيق القوانين هو المبادىء المعنوية والتعاليم الروحية التي لقنها لأصحابه. وبعبارة أخرى فإن دور العقوبات في الإسلام بالنسبة الى تنفيذ القرارات العامة ضئيل جداً ... على العكس من الطاقات الإيمانية العظيمة المستقرة في باطن الرجال المؤمنين فإنها العامل الفعال في تنفيذ القوانين وحسن رعايتها.

إن جميع النصوص والأسس الإسلامية الواصلة إلينا حول التنظيم الجزائي لا تتجاوز البضع ماءة آية وحديث ... في حين أن هناك ألوف الآيات والأحاديث في الإيمان باللّه واليوم الآخر ، وفي بيان الفضائل والرذائل وحول الشعور بالمسؤولية والقيام بالواجب ، والحث على التقوى والتكامل الروحي ... وغير ذلك من المعنويات والقيم والمثل. وهذا يدلنا على أن أساس اهتمام قائد الإسلام العظيم في تنفيذ القوانين كان منصبا على استغلال القوى المعنوية والإيمانية. إن العقوبات أنما هي لغرض تأديب أفراد معدودين لم يستفيدوا شيئاً من ثروة الإيمان والفضائل.

وهذا سمة فريدة يمتاز بها النظام التربوي في الإسلام على سائر النظم التربوية والنفسية في العالم المتحضر .. وهي عبارة عن أن الإسلام يرسي قواعده على الايمان باللّه ، أما النظم الأخرى فإنها فاقدة لهذا الأثر الكبير. يستفيد العلماء المعاصرون في مناهجهم العلمية من قوة التربية والاخلاق ، ومستوى الثقافة

ص: 222

والوجدان ونحو ذلك ، فينشئون الأفراد على الشعور بالواجب والإسلام يستفيد من هذه الأسس أيضاً في أساليبه التربوية ، إلا أنه يتضمن منهجاً فريداً من نوعه في ضمان سعادة الإنسان وإحياء الشعور بالواجب في نفسه وهو الإيمان باللّه.

إن تأثير الإيمان في ضمان تنفيذ القوانين واداء الواجبات يفوق تأثير أي قدرة أخرى ولهو أنشط من أي عامل آخر. ذلك أن جميع الوسائل التي تضمن تطبيق القوانين يقل تأثيرها أو ينعدم في الظروف الصعبة وعند مواجهة العقبات ... أما القدرة التي تستطيع أن تقف حاجزاً أمام انحراف الأفراد في مختلف الظروف وشتى المواقع فهي الإيمان باللّه. إن المؤمنين الواقعين مستقيمون في سلوكهم دائماً ويقومون بواجباتهم خير قيام ... إنهم يسيرون في الصراط القويم في الفقر والغنى ، والصحة والمرض ، والأمن والفوضى ، والسلم والحرب ، وفي كل الحالات ، لا ينحرفون عنه قيده شعرة.

يعترف علماء النفس في كتبهم العلمية بقيمة الإيمان وتأثيره العميق في المناهج التربوية. ان الطفل الذي تربى في حجر الوالدين المؤمنين ، وتلقى درس الإيمان باللّه منذ الطفولة يمتاز على الطفل الفاقد للإيمان بميزات كثيرة. إنه يملك طيلة أيام الحياة روحاً أقوى ، واستقامة اكثر ، وأملاً أوطد ... فهو يرى اللّه في جميع حالاته مشرفاً عليه ، ولذلك فإنه لا يتخلى عن واجباته ولا يفر من مسؤولياته ولا يقدم على الاجرام والاعتداء.

الخوف من اللوم :

بعد هذه المقدمة الوافية عن الحياء وأثره الإجتماعي نتقل الى صلب البحث فنقول :

إن الحياء من العوامل النفسية المهمة التي تستطيع ضمان تنفيذ القوانين ومنع الناس من الإقدام على الإجرام والتجاوز. هناك أفراد مستهترون ومتسيبون في كل مجتمع ، مأسورون لأهوائهم وشهواتهم ولا يفهمون معنى للشعور بالمسؤولية واحترام القانون ورعاية الآداب ، ولذلك لا يتورعون عن ارتكاب مختلف الذنوب والجرائم ، لكن الحاجز الوحيد الذي يقف امام تنفيذ رغباتهم هو الحياء من الناس ،

ص: 223

ويخافون استياء الرأي العام واستنكاره فيمتنعون عن القيام بذلك. لأنهم يعلمون أنه اإذا أقدموا على تلك الجرائم تعرضوا لسخط الجميع واستنكارهم ، وعند ذاك تكون الحياة بالنسبة لهم جحيماً لا يطاق.

يقول الإمام الصادق علیه السلام في حديثه للمفضل الجعفي ، حول الحياء واثره النفسي : « فولاه لم يُقر ضيف ، ولم يوفَ بالعداة ، ولم تُقض الحوائج ، ولم ينحر الجميل ، ولم يتنكب القبيح في شيء من الأشياء. حتى أن كثيراً من الأمور المقترضة أيضاً إنما يفعل للحياء. فإن من الناس من لولا الحياء لم يرع حق والديه ، ولم يصل ذا رحم ، ولم يؤد امانة ، ولم يعفّ عن فاحشة » (1).

إن خشية استنكار الرأي العام ، وخوف اللوم من الناس من أعظم العوامل الباعثة على رعاية القوانين للعالم المتحضر. ما أكثر القادة المتنفذين والأثرياء الماديين ، والشبان والفتيات المستهترين ، الذين يرغبون في تنفيذ رغباتهم وأهوائهم اللامشروعة ، ولكنهم يخافون اعتراض الناس ، ويخشون استنكار الرأي العام يضطرون للتراجع عن تحقيق ميولهم ، وكبح أهوائهم والإنقياد ليكونوا بمنجى عن اللوم والتفريع.

وقع الاستنكار :

لا شك في أن وقع استنكار الرأي العام في بعض الأحيان يكون أشد من عفوية السجن والسوط بكثير. ومن البديهي أنه عندئذ يكون تأثير الحياء في ضمان تطبيق القوانين أقوى من تأثير القرارات الجزائية.

إن الرجل الذي سجن بسبب ارتكابه جريمة السرقة يتألم من محاكمته ولكن إذا افتضح أمره وعرف في المجتمع بالخيانة والسرقة فإن تألمه فاإن تألمه يكون اكثر. والمرأة التي ترتكب عملاً منافياً للعفة والشرف تتوطن لأن تسجن لمدة ستة أشهر ، ولا ترضى بأن تعرف بين الناس بالاستهتار والزنا ستة أيام. وطبيعي أنه كلما كان المستوى التربوي والثقافي للأمة عالياً كان نفورها واستياؤها من الأعمال المنكرة أشد.

ص: 224


1- بحار الانوار للعلامة المجلسي ج2/25.

هذا النوع من الحياء الذي يضمن تطبيق القوانين ، ويمنع الأفراد من الانحراف الاعتداء ، من الصفات المحبذة والفاضلة بلا شك. وهو ممدوح في الإسلام وقد ورت أحاديث كثيرة تؤكد عليه.

وها أقرأ عليكم نموذجاً منا : -

1 - قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا لم تستح فافعل ما شئت » (1) أي أن الأفراد الفاقدين للحياء لا يتورعون عن الاجرام والاعتداء على حقوق الآخرين.

2 - عن علي علیه السلام : « من قلّ حياؤه قلّ ورعه » (2).

3 - وعنه علیه السلام : الحياء يصد عن فعل القبيح » (3).

4 - عن الإمام الصادق علیه السلام : « لا إيمان لمن لا حياء له » (4)

5 - قال أبو محمد العسكري علیه السلام : « من لم يتق وجوه الناس لم يتق اللّه » (5).

6 - عن أمير المؤمنين علیه السلام : « من كساه الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه » (6).

إنحراف المجتمع :

لايخفى أن الحياء من الناس والخوف من استنكار الرأي العام بالنسبة إلى كل من الجرائم ، يكون عندما يعتبر المجتمع تلك الأعمال مذمومة ومستهجنة. أما المجتمع المصاب بالإنحراف والضلال ، الذي تفقد فيه بعض الجرائم والمعاصي قبحها ، ويعتبرها الجميع أموراً اعتيادية ، فإنه لا يقف الإنحراف في ذلك المجتمع عند فقدان الحياء من قبل المجرمين ، بل قد يتفاخرون باعمالهم الهدامة وجرائمهم الشنيعة.

ص: 225


1- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2ص86.
2- نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص 1239.
3- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 51.
4- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2ص106.
5- بحار الانوار للعلامة المجلسي ج17ص318.
6- وسائل الشيعة للحر العاملي ح3ص221.

هذه النصوص تهدف الى بيان أهمية الحياء من الناس في تطبيق القوانين والوقاية من الجرائم. ولكن يوجد في زوايا المجتمع أفراد لا يخافون من استنكار الرأي العام ومع ذلك لا يحومون حول الذنب ... بل إنهم لا يقدمون على المخالفة حتى في الخلوة ، لأنهم أفراد شرفاء يستحون من أنفسهم ، ويراعون شرف طباعهم وفضائلهم التي يمتازون بها ... هؤلاء هم أفضل طبقات المجتمع.

قال علي علیه السلام : « أحسن الحياء استحياؤك من نفسك » (1).

التظاهر بالذنب :

من العوامل التي تؤدي الى الخروج على القيم الإجتماعية ، وتبعث الجرأة والجسارة في نفوس الأفراد على الاجرام ، تظاهر المجرمين بخروجهم على القانون. ولهذا السبب فإن الإسلام يمنع من ارتكاب الذنوب والجرائم من جهة ، ويحذر الناس من التظاهر بالذنوب المؤدي الى فقدان الحياء من جهة اخرى.

« عن الصادق علیه السلام عن أبيه : قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إن المعصية إذا عمل بها العبد سراً لم تضرّ إلا عاملها ، وإذا عمل بها علانية ولم يعير عليه أضرّت بالعامة » (2).

إنحراف المجتمع :

لايخفى أن الحياء من الناس والخوف من استنكار الرأي العام بالنسبة إلى كل من الجرائم ، يكون عندما يعتبر المجتمع تلك الأعمال مذمومة ومستهجنة. أما المجتمع المصاب بالإنحراف والضلال ، الذي تفقد فيه بعض الجرائم والمعاصي قبحها ، ويعتبرها الجميع أموراً اعتيادية ، فإنه لا يقف الإنحراف في ذلك المجتمع عند فقدان الحياء من قبل المجرمين ، بل قد يتفاخرون باعمالهم الهدامة وجرائمهم الشنيعة.

المجتمع الذي في العفة والإمتناع عن العلاقات الجنسيه غير المشروعة خرافة

ص: 226


1- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 191.
2- قرب الإسناد ص 26.

وجموداً ، ويعتبر الحرية في العلاقات غير المشروعة مثالاً للتقدم والوعي!!!

المجتمع الذي يعتبر الأمانة والصدق علامة البلادة والحماقة ، ويرى في الإرتشاء والكذب والتزوير سنداً للكفاءة والنجاح!!!

المجتمع الذي لا يرى قبحاً في شرب الخمر والقمار!!!

في هذا المجتمع لا يوجد معنى للحياء ومراقبة الأفكار العامة ، ولا يجد المجرم نفسه خوفاً من اللوم والتقريع ولا خشية من الاستنكار والإستهجان.

إن كل ذنب في المجتمع ، يشبه داء خطيراً يتضمن بين طياته مشاكل كبيرة لأفراده. ولكن المصيبة العظمى تتمثل في عدم اعتبار المجتمع ذلك العمل قبيحاً ، وعدم اعتبار المرتكب له مستحقاً للعقوبة واللوم. فمن البديهي أنه في هذه الحالة يسير المجتمع نحو الهاوية ، ولا يمر زمن طويل حتى تظهر الأثار الوخيمة لتلك النظرة الخاطئة.

لقد اعتبر الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله هذه الظاهرة من أخطر المشاكل الإجتماعية حيث قال :

« كيف بكم إذا فسدت نساؤكم ، وفسق شبابكم ، ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر »؟!

فقيل له : ويكون ذلك يا رسول اللّه؟!

قال : نعم ، وشر من ذلك. كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً؟! » (1).

لقد شرح الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله مظاهر الإنحراف الإجتماعي في ثلاث مراحل : - الأولى إرتكاب الأفراد للذنوب والجرائم. والثانية دعوة بعضهم البعض إلى الفساد والإجرام والتناهي فيما بينهم عن عمل الخير والصلاح. والمرحلة الثالثة - وهي أخطر المراحل - أن يحصل تغيير أساسي في أفكار الناس فيروا الفساد والإنحراف خيراً ، وينظروا الى الصلاح والخير شراً.

ص: 227


1- قرب الإسناد : ص 26.

إن مما يؤسف له أن كثيراً من البلاد الإسلامية مصابة بهذه البلية العظمى ، فقد فقدت غالبية الذنوب والجرائم قبحها في أنظار المسلمين وتعتبر أفعالاً اعتيادية ومالوفة. هذه الصفة الذميمة مزقت حجب الحياء الإسلامي ، والخوف من استنكار الناس ، في أنظار المجرمين فيقدمون على الجرائم من دون خوف أو رادع ويصابون بالمآسي والمشاكل من جراء ذلك.

وفي الغرب فقدت بعض المسائل - وخصوصاً الأمور المرتبطة بالمسائل الجنسية - القبح الذي كان في أنظار الناس تجاهها .. وعلى أثر ذلك نجد الشباب والفتيات يقدمون على أعمال فاسدة دون أي شعور بالخوف أو الإستنكار ، وتكون النتيجة أن يتزلزل أساس طهارة النسل ، والعفة الحلقية في تلك البلدان ... وهذا ما تدل عليه الإحصاءات الجنائية في تلك الدولة وبعض الإحصاءات الإجتماعية الأخرى.

وعلى سبيل الشاهد نكتفي بمنوذج بسيط من ذلك : -

« يونايتد برس - لقد أعلن ( الدكتور رونالد جبسون ) قبل أيام في مؤتمر جمعية الأطباء البريطانية ، عند قراءة تقرير يتعلق بالقضايا الجنسية ، بأنه في أحدى المدارس الإنكليزية للبنات كانت الفتيات اللاتي تتراوح أعمارهن بين ال- 14 وال- 15 سنة يضعن شارات خاصة على صدورهن ، تشير الى أنهن قد فقدن بكارتهن! لقد أدى هذا التقرير إلى إضطراب شديد في الأوساط الدينية ومن قبل أولياء أمور الفتيات ».

« لقد صرح الدكتور جٍبسون في مؤتمر كانتربوري أن البرامج التلفزيونية تقتل الذوق السليم عند الشباب ، وتؤدي إلى إثارات فاسدة فيهم ... ولقد أدت التعاليم الجنسية - التي لا يقصد منها غير معرفة شؤون الحياة - الى نتائج مؤلمة جداً » .

« أكد الدكتور جبسون في مؤتمر جمعية الأطباء البريطانية أن إنعدام الضبط الخلقي يسيطر على جميع نقاط البلاد ، واعتبر الطب الروحي الجديد مقراً كل التقصير ».

« لقد أعلن ( الدكتور امبروس لينك ) - وهو من المعنيين الإختصاصيين

ص: 228

في الأمراض الجنسية - بعد أيام من ذلك بأنه منذ عام 1957 وحتى الآن فقد ظهر مرض جنسي جديد بين الشبان الأحداث. وقد شاع بين الفتيان الذي تتراوح أعمارهم بين ال- 15 وال- 19 عاماً بنسبة 3 , 67% ، أما بين الفتيات اللاتي في نفس السن فقد ازداد المرض بنسبة 4 , 65% » (1).

والخلاصة أن الحياء الذي يمنع الفرد من ارتكاب الذنوب ، ويلعب دوراً مهماً في ضمان رعاية القوانين وتطبيقها من الصفات الفاضلة عند الإنسان. وكما ذكر الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله فإن هذا النوع من الحياء يدل على قوة العقل ومتانة الشخصية ، وهو رمز الضمير الحر والإرادة الرصينة.

تنمية الحياء عند الطفل :

على الوالدين أن يعوّدا طفلهما على الحياء منذ الصغر ، وأن يفهماه قبح الذنب واستياء الناس من المذنب ، وبهذا يستطيعان أن يقفا أمام انحرافه وخروجه على القانون.

إن الحياء المذموم أي الخجل المفرط من الصفات الذميمة. وأساس هذا النوع من الحياء هو ضعف الشخصية وعقدة الحقارة. وقد عبر الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله عن ذلك بحياء الحمق والجهل.

إن عقدة الحقارة قد تنشأ من سوء التربية ، وقد تستند الى العيوب الطبيعية أو النقائض الإجتماعية. والخلاصة أن هناك عوامل وعللا كثيرة يمكن أن تؤدي الى نشوء عقدة الحقارة ، فتبعث الإنسان على الخجل المفرط والحياء التافه.

« إن جميع المظاهر الحقيقية أو المجازية للتحقير الذي يحسّ به الطفل في اتصاله بالبيئة التي يعيش فيها يمكن أن تؤدي إلى نشوء هذه العقدة النفسية. يقول الدكتور آلاندي في كتابه ( الطفل المجهول ) : إن قلة ذات اليد واشتمال الملابس الرثة ، ووجود العاهات العضوية ، والمرض ، أو الشعور بالنقص في الأسرة ...

ص: 229


1- جريدة ( اطلاعات ) الإيرانية - العدد ص 10561.

كل ذلك من الأمور التي تلعب دوراً كبيراً في نشوء هذه العقدة وعلى هذا فمن الضروري أن تعار أهمية بالغة الى جميع هذه العوامل حتى لا تنشأ الشخصية المنحرفة عند الأطفال ، لأن تغيير هذا الوضع الروحي في الفترات التالية يفتقر الى كفاح عنيف ، وجهد متواصل » (1).

إن الجانب الكبير من الأمراض النفسية والشعور بالحقارة ناشىء من سوء التربية في دور الطفولة ، فقد يترك السلوك الأهوج للوالدين في نفوس الأطفال أثراً سيئاً الى درجة أنه يصيبهم بالضعة والدونية ، ويظلون يتجرعون النتائج الوخيمة لذلك مدى العمر!

إن أفضل الأساليب المقترحة لوقاية نشوء هذا المرض هو التربية الصحيحة. على الوالدين أن يعدّا الأطفال منذ الأشهر الأولى لتربية سليمة ورعاية دقيقة حتى لا يصابوا بعقدة الحقارة أصلاً.

« بالرغم من أن جميع حركات الطفل إنعكاسه في بداية الأمر ... ( الضحك ، البكاء ، الأكل ، المشي ، التكلم ) فإنه يجب تنظيم هذه الإنعكاسات. إن كيفية رعاية الوالدين وتغذيتهما لأطفالهما توضح لنا هل أنهما مربيان أم لا. أما أنه هل يجب تطوير الحركات الإنعكاسية واخضاعها ٌ نعم ، ومنذ الأيام الأولى يجب أن تبدأ هذه التربية. ان البكاء والعويل والتزمت كل ذلك يتصل اتصالاً وثيقاً بالرقابات الأولية ، فإن كانت منحرفة أدت الى نشوء الطفل على الأخلاق الذميمة والصفات الشريرة »(2) .

المدح والثناء :

من الميول الفطرية عند الإنسان ، والتي تظهر منذ أولى أدوار الطفولة وتظل تلازمه مدى العمر ، الرغبة في المدح والثناء من قبل الآخرين. إن كل صغير وكبير

ص: 230


1- ما وفرزندان ما ص 58.
2- جه ميدانيم؟ تربيت اطفال دشوار ص 65.

يتوقع أن يلاقي استحساناً ومديحاً من قبل الأصدقاء والزملاء في الانتصارات التي احرزها في الحياة ، والتقدم الذي يناله في كل مرحلة.

إن الإستعدادت الباطنية للأفراد تصل إلى مرحلة الفعلية ، وتخرج إلى حيز الوجود في ظل التشجيع والإستحسان. وكأن الإستحسان والثناء يمنحان الأفراد طاقة جديدة ، ويفتحان لهم طريق التعالي والتكامل.

« يقول أحد علماء النفس العظماء المعاصرين ، وهو ( ماكدوكل ) : ان جميع الأطفال - دون استنثاء - في حاجة الى التشجيع وتحفيز الشعور بالاعتماد على النفس اكثر من حاجتهم الى الخشونة والعقوبة. ما أكثر الأطفال الذين ظلوا جاهلين بالطاقات والمواهب المودعة فيهم على اثر فقدان المحفزات والمشجعات لهم ، في حين أن تذكيراً بسيطاً أصبح قادراً على إظهارها. إن الجانب الأعظم من الإضطرابات الفكرية والعصبية للأطفال ناشيء من السلوك المصحوب بالشدة والغلظة تجاههم ، هذه الأمراض العصبية تظل ملازمة للإنسان مدى العمر » (1).

« إن الحاجة لاسترضاء خاطر الآخرين من ضرورات الحياة الإجتماعية. تذكروا اللذة التي حصلتم عليها عندما احرزتم نجاحاً لأول مرة ولا قيتم تشجيعاً وإستحساناً من والديكم ، أو عندما سمعتم مديحاً من المعلمين في المدرسة ».

« إن إستحسان الآخرين ومديحهم هو الأجر الذي يهوّن الصعوبات وينسي المتاعب. إننا - صغاراً وكباراً ، وفي أي سن ومقام كنا - إذا كان ما فعلناه قد قوبل بالإستحسان فقد توصلنا إلى الأجر الذي نستحقه ، ولا ريب في أن ذلك يبعث على اللذة والسرور ، ويحثنا على الاستمرار حتى نهاية الطريق. إن الترغيب والتشيجع ضروريان من أي شخص كانا ، وأينما حصلا .. خصوصاً إذا كانا صادرين من الاصدقاء والزملاء والأقارب.

ص: 231


1- عقده حقارت ص 17.

وطبيعي أن يكون اهتمام البعض بالتشجيع أكثر من الآخرين ، لكن من المستحيل أن يستغني أحد من تشجيع الآخرين تماماً » (1).

سلوك النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الثناء :

لقد كان قادة الإسلام وأئمته يهتمون بالأفعال الصالحة التي تصدر من الناس في أمورهم الدينية والدنيوية ، وكانوا يشجعونهم على المزيد منها وعلى سبيل المثال أذكر لكم نموذجين بهذا الصدد :

1 - لقد رأى النبي صلی اللّه علیه و آله أعرابياً يدعو في صلاته ، ويتزلف الى اللّه تعالى بعبارات عميقة ومضامين عالية. لقد أثرت كلماته المتينة وعباراته المشيرة الى الى وعي صاحبها والكاشفة عن درجة الإيمان والكمال التي هو عليها في النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) . فعين شخصاً لإنتظار الإعرابي حتى يفرغ من صلاته. فيأتي به إليه. وما إن فرغ الإعرابي حتى مثل بين يديه فأهداه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قطعة من الذهب. ثم سأله : من أين أنت؟

قال : من بني عامر بن صعصعة.

قال له النبي : هل عرفت لماذا أعطيتك الذهب؟!

قال : لما بيننا من القرابة والرحم.

فقال له النبي : « إن للرحم حقا ، ولكن وهبته لك لحسن ثنائك على اللّه عز وجل » (2).

لقد بعث استحسان النبي وتشجيعه الرغبة في عمل الخير في نفس الأعرابي اكثر من السابق ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فقد أدى الى أن يقتدي الآخرون به.

2 - يقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في العهد الذي بعثه إلى مالك الأشتر ، حول سلوكه تجاه ولاته : « وأوصل في حسن الثناء عليهم ، وتعديد ما أبلي ذوو البلاء

ص: 232


1- رشد شخصيت ص 42.
2- حياة الحيوان للدميري ج2ص63.

منهم فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهزّ الشجاع ، وتحرّض الناكل إن شاء اللّه تعالى » (1).

وكما أن التملق والمدح الذي في غير محله أمر مذموم من الناحية الخلقية وقد يتضمن مفاسد كثيرة ... كذلك الإمتناع عن التشجيع والإستحسان فإنه من الصفات الذميمة ، ويتضمن نتائج سيئة.

وفي هذا المعنى يقول أمير المومنين علیه السلام : « الثناءُ بأكثر من الإستحقاق ملق والتقصير عن الاستحقاق عي أو حسد » (2)

المديح بالإستحقاق :

قد يؤدي المديح الناشيء عن استحقاق ، إلى تغيير حياة إنسان تغييراً تاماً ، فيقوده نحو طريق السعادة والفلاح ، ويحيي شخصيته ، ويبعث نور الأمل في أعماق روحه ، ويمنحه الطمأنينة والهدوء ... فيسلك طريق التكامل من دون تردد أو حيرة شخص يستحق الثناء والتقدير الى قتل شخصيته وإصابته بالحقارة والدونية فيفقد الإعتماد على النفس ، ويستولي عليه اليأس والقنوط ، ويقول في نفسه : إنني غير ويحصل على نجاح باهر في النهاية. وعلى العكس فقد يؤدي الإمتناع عن مدح جدير بأي تقدير أو شكر حتى أن أصدقائي لا يهتمون بشأني عندما أقوم بعمل كبير يسترعي الإنتباه ، عند ذاك تبدأ تعاسته ، ويدبّ اليأس إلى روحه ، ويستأصل داء الحقارة في نفسه ويصاب بالعوارض الوخيمة.

ومن عوارض هذا الإنهيار الروحي ، الخجل المفرط والحياء الشديد فقد يصاب الإنسان بالحقارة الى درجة أنه لا يجرأ على الإحتكاك بالناس ومعاشرتهم ... وكأنه يرى نفسه أقل من أن يتكلم معه الآخرون ويعتبروه إنساناً واقعياً فيحترموا شخصيته.

« عندما يجد الفرد أنه لم يسترع انتباه الآخرين كما يتصور فإنه يفر من الناس مرة واحدة ، ويفضل الإنزواء على الإتصال بالناس خوفاً

ص: 233


1- نهج البلاغة شرح الفيض الاصفهاني ص 997.
2- نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص 1239.

من أن يُحتقر من قبلهم ، أو يختار زاوية من المجلس فيستقر فيها بكل اضطراب وقلق دون أن يتكلم بشيء » (1)

إن المدح المناسب المستند الى الإستحقاق والجدارة شرط ضروري لتربية الطفل. ذلك أن من وسائل وقاية ظهور مرض الخجل المفرط وشدة الحياء عند الأطفال ، الثناء عليهم وتوجيه الشكر والمدح على أفعالهم الطيبة إن الأطفال الذين نشأوا على يد أبوين شديدين أنانيين لا يحسّون طعم الإستحسان والمدح أبداً ، ولذلك فإنهم يملكون أرواحاً محطمة وقلقة ، ويعيشون في حقارة مستمرة.

وكما أن الوالدين مدعوّان الى توجيه اللوم لأطفالهما على أفعالهم السيئة وتعويدهم على الإستقامة والأدب عن هذا الطريق ، كذلك يجب أن يشجعاهم في الأفعال الصالحة التي يقومون بها كي يستمروا على ذلك ، ويعرفوا بأنهم يجب أن يلتزموا السلوك المفضل في حياتهم. ولكن يجب التنبه الى أن التشجيع والتوبيخ دواءان تربويان مؤثران ، ومن الضروري الإستفاده منهما في المواقع المناسبة حسب مقدار صحيح. إن التشيجع والتوبيخ التافهين اللذين لا يستندان الى استحقاق ، أو الإفراط فيهما قد يكون عديم الفائدة في تربية الطفل ، وقد يؤدي الى نتائج وخيمة.

عن علي علیه السلام : « أكبر الحمق : الأغراق في المدح والذم » (2).

« يتعلم الطفل في الأشهر الثلاثة الأولى من ولادته كيفية الإبتسام ، ويختلف انطباعه تجاه الأشخاص ، عن انطباعه تجاه الأشياء. في هذه السن يوجد الإرتباط بين الطفل وأمه ، ويستطيع الطفل وأمه ، ويستطيع الطفل حينئذ أن يظهر سروره وارتياحه بمشاهدة أمه ، وإن الإستجابات التي تصدر منه لا تتصف بالصورة الحيوانية البحتة ... بل يؤثر فيه الميل للمدح والتشجيع بسرعة. ومنذ هذه اللحظة يحصل المربي على سلاح جديد هو المدح والذم ».

ص: 234


1- رشد شخصيت ص 77.
2- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي 182.

« هذه الأسلحة تملك قدرة فعالة خلال دور الطفولة ، ولكن يجب استعمالها بحيطة وحذر شديدين. يجب أن لا يستعمل اللوم والتقريع في العام الأول ، وبعد ذلك يجب التريث في استعماله. أما المديح والثناء فإن ضررهما أقل ، ولكن يجب أن لا يُصرفا بسهولة كي يفقدا قيمتهما كذلك لا ينبغي اللجوء إليهما في التحفيز الزائد على المعتاد لطاقات الطفل. لا يوجد أب مهمل يرى طفله يمشي أو يتكلم لأول مرة ، ويستطيع أن يجري بعض الكلمات على لسانه بصورة صحيحة ، ومع ذلك يتمالك على نفسه من التشجيع والإستحسان. وبصورة عامة فإنه عندما يسيطر الطفل على أمر صعب بعد ثبات وجهد شديدين فاإن الإستحسان والثناء عليه أحسن مكافأة له. مضافاً إلى أنّ من الأفضل أن نجعل الطفل يشعر بموافقتنا لميله نحو التعلّم واكتشاف المجهولات » (1).

طريق التقدم :

يبذل الطفل نشاطاً بصورة طبيعية في طريق الوصول إلى الكمال المنشود ، يستغل طاقاته الطفولية في هذا السبيل. إن تشجيع الوالدين والأصدقاء يفسح المجال أمامه للتقدم اكثر ، ويمد سراج الأمل والتظامن في¨ نفسه بالوقود بإستمرار ... وفي النتيجة تتفتح مواهبه واحدة بعد الأخرى وعلى العكس من ذلك فإن إهمال الوالدين أو تزمتهما يضعف النشاط الفردي عند الطفل ويبعث فيه الفتور والملل في سلوك طريق الجد والعمل. اإن تكرار هذا السلوك المذموم يهدم روح الطفل ويتضمن نتائج وخيمة. ولأجل أن يتضح الأمر بصورة أجلي للمستمعين الكرام نستشهد بالمثال التالي :

صبي صغير السن لم يمض على دخوله المدرسة أكثر من عدة أشهر وقد تعلم بعض الدروس من كتاب الصف الأول. والآن قد كتب صفحة كاملة لأبول مرة ، وأظهر نتائج جهوده على صفحة من القرطاس. إن هذه الكتابة تعتبر الإنتصار العلمي

ص: 235


1- در تربيت ص 64.

العظيم لهذا الصبي ... فهي خلاصة الأتعاب التي بذلت معه طيلة عدة أشهر ، وهي - بعدُ - مرآة تعكس شخصيته يثبت عينيه نحو باب الدار ويعدّ الدقيقة بعد الأخرى لقدوم والده وإراءة هذا الأثر اللامع له ... إنه يأمل في التشجيع والإستحسان من أبيه ، وهذه الساعة هي أسعد ساعات حياته.

يدخل الأب الى البيت ، فيركض الصبي لكي يريه ما كتبه ثم يظل ينظر إلى أبيه بعينين نافذتين. إن الأب العاقل الأب العاقل الأب الواعي .. يقرأ كتابة الصبي بإمعان ، نافذتين. إن الأب العاقل الأب الواعي .. يقرأ كتابة الصبي بإمعان ، فيبتسم ... ثم يحمله بين ذراعيه ، ويعامله باللطف والمحبة ويكرر الإستحسان والثناء عليه وبهذا يكافئه بأحسن صورة. إن سلوك الأب يمنح الصبي روحا طرية ، فيزداد نشاطه وجدّه ، ويستمر في التقدم العلمي بكل شوق ورغبة.

أما الأب الجاهل ، الأب المهمل ... فإنه يفاجىء الصبي بعكس ما كان يتوقع. لا يقرأ كتابته ، وإذا قرأها فلا يستحسن ولا يثني عليه. وأشدّ من ذلك أن بعض الآباء يجبرون الاخفاق والفشل الذي يلاقونه خارج المنزل بالشدة والخشونة مع الزوجة والأطفال فيرزمون بالصبي الذي كله أمل ورجاء ، وبهذا يقتلون روح التقدم فيه ، ويحطمون شخصيته ، ويطفئون سراج أمله واطمئنانه.

يبتعد الطفل عن أبيه بروح منكسرة ، وقلب متحطم ، وينام ليلته مع خاطرة مرة. قد لا يتنبه الأب الى سلوكه الأهوج أبداً ، ولكن الطفل لا ينسى هذا الموقف المؤلم. إن القسم الأكبر من مآسي الأفراد وتعاستهم ينبع من خاطرة مرة ، أو نقطة طفيفة ... ثم تتسع حتى تعود عليه بالدمار والإنهيار.

إن الأطفال الذين لا يلاقون تشجيعاً واستحساناً على أفعالهم الطيبة التي يقومون بها ، بل يقابلون بالتحقير والاهانة من قبل الوالدين ، تندحر شصياتهم ويصابون بعقدة الحقارة ، ويقعون في شرك المشاكل والمآسي الكثيرة. ومن هذه العوارض الخجل المفرط في مواجهة الناس.

« إن الأشخاص الذين تلمسون الخجل وسرعة الإنفعال منهم ، أو تجدونهم مستهترين ومشاكسين ، أو يلاحظ عليهم الخمول والهدوء ، أو الثرثرة والفضول ، أو البرودة وضعف الإرادة ، أو التهور والسطحية ... هم رجال لا يملكون اطمئناناً بأنفسهم

ص: 236

ويفقدون الإعتماد على النفس أي أنهم يتصورن أن المجتمع لا يعترف بهم كما ينبغي ولا يحلّهم المحل الذي يستحقونه » (1).

إذن يجب على الوالدين ، ضمن القيام بواجباتهما التربوية ، الإنتباه إلى هذه النقطة المهمة ، فيستحسنا الأفعال الصالحة التي تصدر من أطفالهما ويفرّحاهم بالمدح والثناء ... وهذا هو أحسن الوسائل للوقاية من نشوء الخجل المفرط وضعف النفس فيهم.

لقد ورد عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنه قال : « إذا نظر الوالد الى ولده فسرّه ، كان للوالد عتق نسمة » (2).

ومن البديهي أن المدح والثناء عن استحقاق أفضل الوسائل بعث السرور في نفس الطفل ، وهذا يشتمل على أجر أخروي ومكافأة إلهية في نظر الإسلام ، بغض النظر عن فوائده التربوية. لقد اهتم الأئمة علیهم السلام بهذا الموضوع كثيراً ، وطبقوه في أسلوبهم التربوي الأمثل بالنسبة الى أطفالهم ... إذ كانا يشجعونهم على الأفعال المفيدة التي تصدر منهم ويرغبونهم في الإستزادة منها.

والقصة التالية نموذج طريف لما تقدم.

نموذج عن الإستحسان :

كان الإمام أمير المؤمنين علیه السلام جالساً يوماً في بيته ، وقد جلس على جانبيه طفلاه الصغيران : العباس ، وزينب.

« قال علي علیه السلام للعباس : - قل : واحد.

فقال : واحد.

فقال : - قل : اثنان.

قال : استحي أن أقول باللسان الذي قلت ، واحد : اثنان!

ص: 237


1- رشد شخصيت ص 79.
2- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2ص626.

فقبّل علي علیه السلام عينيه ... ثم التفت الى زينب - وكانت على يساره - فقالت : يا أبتا ، أتحبّنا؟

قال : نعم يا بنيتي ، أولادنا بأكبادنا!

فقالت : يا أبتاه ، حبّان لا يجتمعان في قلب المؤمن ، حبّ اللّه ، وحب الأولاد. وإن كان لا بدّ فالشفقة لنا والحب لله خالصاً.

قال : نعم يا بنيتي ، أولادنا أكبادنا!

فقالت : يا أبتاه ، حبّان لا يجتمعان في قلب المؤمن ، حبّ اللّه ، وحب الأولاد. وإن كان لا بدّ فالشفقة لنا والحب لله خالصاً.

فإزداد علي علیه السلام بهما حباً » (1).

إن تقبيل الإمام علیه السلام عيني طفله الصغير على صراحته واستقامته وإزدياد حبه له ولأخته الصغيرة مكافأة جميلة لهما على ما صدر منهما. وفي الواقع فإن بيت علي علیه السلام كان طافحاً بالتوحيد والإيمان ، مليئاً بالحب الإلهي والفناء في ذاته ... ولذلك فإن الأطفال قد تلقوا تربية سليمة وطفحت قلوبهم - كأبيهم - بحب اللّه وتوحيده.

عاملان لسرعة الإنفعال :

ليس منشأ الخجل المفرط سوء التربية فحسب. بل هناك طائفة من النقائص العضوية والعوامل الإجتماعية التي تؤدي الى ظهور هذا المرض. لقد استخدم الإسلام جميع الوسائل والطرق لمعالجة هذه الحالة النفسية وأوصى المسلمين بالتعليمات اللازمة.

وفي ختام بحثنا هذا نشير الى عاملين فقط لذلك : أحدهما الفقر ، والآخر الإنحطاط العائلي.

يعتبر الفقر من أعظم المصائب في حياة البشر. فالشخص الفقير مصاب الحرمان من جانب ، ومعرّض لتحقير الناس والسخرية منهم من جانب آخر.

« قال علي علیه السلام لإبنه محمد ابن الحنفية : يا بني إني أخاف عليك الفقر ، فاستعذ باللّه منه ، فإن الفقر منقصة للدين ، مدهشة للعقل ، داعية للمقت » (2).

ص: 238


1- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2ص635.
2- نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص 1228.

وقال لقمان لابنه : « أعلم أي بنيّ ، إني قد ذقت الصبر وأنواع المر ، فلم أر أمر من الفقر. فإن افتقرت يوماً فاجعل فقرك بينك وبين اللّه ، ولا تحدث الناس بفقرك فتهون عليهم » (1).

فالفقراء إذن ، يشعرون بالحقارة والضعف في انفسهم بسب الفقر والحاجة ، ولذلك فهم شديدو الخجل في علاقتهم مع الناس (2).

حماية الفقراء :

لقد شرع الإسلام قوانين خاصة لحماية الفقراء الذين يستحقون المساعدة حقيقة ، ولغرض مكافحة المرض النفسي الذي هم في أسره. وهكذا نجد أن الدولة الإسلامية تتكفل بضمان الحد الأدنى لحاجاتهم من الموارد العامة لبيت المال ، بحيث تسمح لهم بأن يعيشوا أعزاء ... ومن جهة أخرى نجد أنه يحترم شخصيتهم في مناهجه القانونية والخلقية ، ويراعي عواطفهم تماماً.

لا يحرم الفقير بسبب قلة ذات اليد من العزة الإجتماعية والإحترام القانوني. إذ لا يحق لمسلم أن ينظر إليه بعين التحقير والاهانة. إن الفقر الإيماني والخلقي هو منشأ الحقارة والتعاسة للإنسان في نظر المؤمنين الواقعيين وإنهم يرون في الثروات المعنوية والروحية سبباً لرفعة الشأن وسمو المنزلة ، لا الثرورة المادية.

إن المؤمنين الواقعيين قد يواجهون حرماناً من بعض الأشياء بسبب من فقرهم ، ولكنهم لا يشعرون بالحقارة والضعة في انفسهم. اإن الإيمان باللّه يمنحهم قوة وشخصية روحية متينة بحيث لا يستطيع الفقر أن يسيطر عليهم وبعدهم عن الحساب ... هؤلاء الأفراد كانوا موجودين في العصور الماضية ، ولا يزالون موجودين في عصرنا الحاضر.

ص: 239


1- سفينة البحار للقمي ص 379.
2- تتبادر الأذهان غالباً عند ذكر الفقراء الى الأشخاص الذين امتهنوا الكدية والاستعطاء ومن الواضح أن هؤلاء يبلغ بهم الجشع والحرص أعلى درجاته وهم فاقدون للحياء لبيعهم ماء وجوههم. لكننا نقصد من الفقير الرجل العفيف الذي لا يملك ما يكفي لمؤونته ومؤونة عياله فيضطر إلى القناعة بالبسيط والاكتفاء باليسير الذي يدفع به غائلة الموت.

التوصيات الخلقية :

لقد أكد الإسلام في تعاليمه القانونية والخلقية على أهمية رعاية عواطف أطفال الفقراء حتى لا يصابوا بعقدة الحقارة ، ولا يتجرعوا عوارضه الوخيمة فبغض النظر عن المساعدات المالية التي أوجبها القانون لصالحهم ، فضمن بذلك حياتهم ومعيشتهم ، أكد الإسلام على الوصايا الخلقية المهمة حول عدم جرح عواطف الأيتام بالخصوص والأطفال الفقراء على وجه العموم. وعلى سبيل الشاهد أذكر لكم رواية واحدة.

يقول الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله ، ضمن بيان واجبات الجيران وحقوقهم : « وإذا اشتريت فاكهة فأهدها له ، وإن لم تفعل فأدخلها ستراً ولا يخرج بها ولدك يغيظ بها ولده » (1).

الإنحطاط العائلي :

والإنحطاط العائلي عامل آخر من عوامل نشوء عقدة الحقارة والإصابة بالخجل المفرط في الاتصال بالناس. إن المصابين بهذه المشكلة يحسون بعدم الإرتياح في ضمائرهم ويخافون تعيير الناس لهم.

لقد حذر الإسلام أتباعه في تعاليمه الخلقية والإجتماعية من التنابز والسخرية. إن المجرم يجب أن يعاقب حسب التعاليم الإسلامية ، ولا يجوز تعييره على ذنبه.

« قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إذا زنَت خادم أحدكم فليجلدها الحدّ ولا يعيّرها » (2) فإذا كان المسلم لا يحق له أن يعير الزانية على عملها ، كيف يحق له أن يعير أحداً بذنب صدر من أبيه أو أمه؟

لقد أنقذ الإسلام كثيراً من المسلمين الذين كانوا ينتمون الى عوائل منحطة من ضغط الحقارة بمنعه من ذم بعضهم البعض ، وهكذا نجد أن هؤلاء يتصلوان بالناس

ص: 240


1- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج18ص212.
2- مجموعة ورام ج1ص57.

ويعاشرونهم دون شعور بالخجل والإنحطاط ، وإذا كان أحدب من المسلمين يوجه الذم نحوهم فإن الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يمنعه من ذلك بصراحة.

كلنا نعلم ما كان يقوم به أبو جهل في صدر الإسلام من معارضة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في نشر دعوته. وقد اشتهر بسبب من سوء ما أضمر ، وفظاعة الجرائم التي قام بها بالخيانة والدنس بين المسلمين. لقد حضر إبنه عكرمة بعد موت أبيه بين يدي النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واعتنق الإسلام ، فقبل النبي اسلامه ، واحتضنه وأثنى عليه. لكن لما كان عكرمة ينتمي الى أسرة أصرت على الكفر واشتهرت بسوء السمعة بين المسلمين فإن ذلك كان إلى دعاياً إحتقاره من قبل المسلمين. وفي رواية أن المسلمين كانوا يقولون : « هذا ابن عدو اللّه أبي جهل ، فكشى ذلك إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ، فمنعهم من ذلك. ثم استعمله على صدقات هوازن » (1).

* * *

نستنتج مما تقدم أن الإسلام يرى أن الحياء المعقول الذي يضمن تنفيذ القوانين ويمنع من إرتكاب الذنوب ، من الصفات الفاضلة. أما الحياء المفرط غير المعقول ، والخجل المفرط الناشيء من ضعف النفس والضعة فهو مذموم عنده.

لقد أوصى الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المسلمين بوصايا كثيرة منعاً من نشوء عقدة الحقارة فيهم. ورسم لهم الخطوط العريضة للحياة الصالحة السعيدة بفضل تعاليمه القانونية والخلقية. وفي ذلك كله وقاية عن ظهور هذا الداء الإجتماعي.

في نهاية المحاضرة أذكر لكم بعض الموارد التي لا يستحسن فيها الحياء حيث صرح الإسلام بالمنع منه فيها.

من ذلك قوله تعالى : (وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) (2) والرجال المؤمنون يتبعون أوامر اللّه عز وجل ويقولون الحق بكل صراحة وصرامة ويصرّون عليه دون حياء أو خوف.

ص: 241


1- سفينة البحار للقمي ، مادة ( عكرم ) ص 216.
2- سورة الأحزاب ، الآية: 53.

إن الرجال المؤمنين لا يخافون لومة لائم في طريق الحق والواقع ... ولذلك فقد وصفهم اللّه تعالى في كتابه المجيد حيث قال : «يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ» (1).

والرجال المؤمنون لا يستحون أن يتعلموا ويتزودوا بالمعرفة في أي سن كانوا ، ففي الحديث : « ولا يستحين أحد إذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه » (2).

والرجال المؤمنون لا يستحون أن يعترفوا بجهلهم إذا بجهلهم إذا سئلوا عن شيء وكان يجلهونه ، فقد قال أمير المؤمنين علیه السلام : « ولا يستحين أحد منكم إذا سئل عمّا لا يعلم ، أن يقول : لا أعلم » (3).

لقد حذر الأئمة علیهم السلام المسلمين من الخجل والحياء في كثير من الموارد ، حيث لا داعي لذلك.

وما أكثر الأشخاص المصابين بعقدة الحقارة بسبب من فقدان الإيمان أو الجهل ، أو ضعف الشخصية .. فيرتطمون في هوة الخجل المفرط في موارد لا تستحق ذلك. أما الأفراد المؤمنون فإنهم بمنجى عن هذه المشاكل بفضل اتباعهم التعاليم الإسلامية القيمة ، وإقتدائهم بسيرة أئمتهم علیهم السلام .

* * *

ص: 242


1- سورة المائدة ، الآية: 54.
2- نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص 113.
3- نفس المصدر.

المحاضرة السادسة والعشرون: تعديل الميل الجنسي

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه العظيم : ( ... وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ) (1).

العفة :

من الصفات الفاضلة والملكات الإنسانية القيمة : العفة. إنها تدعو الفرد إلى الإتزان في الإستجابة لميوله الجنسية ، وتحفظه من التلوث الإنحرافات المختلفة. على الوالدين أن بنميّا هذه الفضيلة الخلقية في الطفل ، يوهتما بنشوئه على ذلك في كل مرحلة من مراحل حياته.

في قبال ذلك نجد أن الغريزة الجنسية تعتبر من أقوى الغرائز عند الإنسان. إن المآسي والمشاكل التي تصيب الفرد من هذا الطريق والميول المكبوتة والرغبات التي تصيب الفرد من هذا الطريق والميول المكبوتة والرغبات التي لم تلاق استجابة صحيحة تستطيع أن تولد في النفس الإنسانية عقداً عظيمة ، وتؤدي الى مفاسد وانحرافات ، وجرائم وخيانات وحوادث قتل وغارت ... وفي بعض الأحيان تتسبب في ظهور مرض روحي أو تنتهي الى الجنون.

إن مسألة الإستجابة للغريزة الجنسية وكيفية إرضاء الميول المتعلقة بها من أهم المسائل العلمية والدينية. لقد أدلى علماء البشرية على مر القرون الطويلة ، نظريات مختلفة حول هذا الموضوع ، وقد ارتطم بعضهم بمشكلة الافراط أو التفريط في أفكاره. تتميز الأمم والشعوب في اعالم بأساليب خاصة في الاستجابة للغريزة الجنسية ، وتختص بعدات مختلفة في ذلك. أما في العصر الحديث فقد اتخذ الميل الجنسي لوناً جديداً ، وحصل على أهمية أكبر من السابق. إن الطبقة الواعية تعتبر هذه

ص: 243


1- سورة المؤمنون، الآية: 5.

المسألة من مسائل العلوم الحياتية ، والإجتماعية ، والنفسية ، والطب النفسي ، والتربية والتعليم وتجري البحوث العميقة حولها.

... وللإسلام نظرته الخاصة في هذه الغريزة القوية ، منهجه الفريد في الإستجابة لها ، وقد استوعب ذلك عشرات التعليمات والوصايا المهمة في كيفية الإتزان في إرضاء الميل الجنسي ، والوصول الى الأسلوب الأمثل الذي يجنب صاحبه الإنحراف.

إن البحث التفصيلي الكامل في هذا الموضوع يحتاج الى وقت طويل ويستغرق عدة محاضرات ، ولما كان يحتل مكانة سامية في تربية الطفل من الناحيتين : الدينية والعلمية ، فسنخصص محاضرتنا هذه بذلك ، متطرقين الى أمهات القضايا بصورة مضغوطة.

الغرائز والحرية المطلقة :

يعترف جميع العلماء من مختلف الأمم والشعوب بضرورة تعديل الميول والغرائز لضمان النظام الاجتماعي واستمراره على أسس من التعاون والإنسجام ويؤمنون بأن استجابة كل فرد لميوله ورغباته يجب أن تكون محدودة وتابعة لمقياس صحيح.

هناك تضاد حتمي بين الميول النفسانية والمصالح الإجتماعية في كثير من الأحيان ، ولا طريق لإستمرار المدنية وحفظ النظام الإجتماعي بغير التخلي عن الميول اللامشروعة. إن الإنسان مضطر الى التخلي عن فكرة الحرية المطلقة. تجاه رغباته وأهوائه في الحياة الإجتماعية ، ويرى نفسه مندفعاً بصورة تلقائية - الى جعل استجابته لغرائزه محدودة بإطار المصلحة العامة للأفراد الذين يعيشون معه في المجتمع.

« هناك كثير من الأفراد يعارضون التمدن بسبب من أن ذلك يؤدي الى تقييد حرياتهم في الإستجابة لغرائزهم يجب أن نتنبه في خصوص هذه المعارضة بأنها غير منطقية ابداً. إذ يمكن القول بضرورة تحديد الغرائز من الناحية الفنية في سبيل تحقيق التمدن لمقاصده واهدافه».

ص: 244

« إن الحصول على الأمن والهدوء الناشئين من المدنيّة ، من دون الإنصراف عن فكرة الحرية المطلقة ، نوع من الأنانية والاثرة فعلى الإنسان أن يتخلى عن حريته الطبيعية التي كان يمتاز بها قبل نشوء المدنية - من الناحية النظرية - حتى يستطيع الدخول في الحياة الإجتماعية ».

« إن هذه الرغبة في الحرية ناشئة في الحقيقة من أن كل فرد يريد إرضاء رغباته النفسية بطريق خفي ، من دون الاعتناء برغبات الآخرين ، على الرغم من أنه يستفيد من القوي والوسائل الإجتماعية في سبيل الوصول الى غاياته ».

« إن الرغبة في الرجوع الى الحالة الطبيعية للحصول على مقدرة إرضاء الغرائز بصورة حرة خطأ فاحش. ولكن الرغبة في العيش في المجتمع المتمدن الى جانب امتلاك الحرية الكاملة ، نفاق ممقوت ، وأنانية مذمومة ... لأنها تؤدي الى الإضرار بحريات الآخرين » (1).

تزكية النفس :

ترى المدينة الإسلامية أن الناس مقيدون في إرضاء غرائزهم والإستجٍابة لميولهم ، كما ترى المدنيات المادية ذلك ، مع فارق كبير هو أن المدنيات المادية تهدف الى ضمان الإستقرار المعيشي للإنسان ، ولذلك فإن ترك الحرية في الإستجابة للغرائز إنما يتحدد بإطار المصالح المادية ، والحفاظ على النظام الإجتماعي ... في حين أن المدينة الإسلامية تهدف الى امرين : أحدهما الحفاظ على النظام في الحياة المادية ، والآخر الوصول الى الكمالات الروحية وإحراز الصفات الإنسانية العليا.

إن إحراز المقام الشامخ في الإنسانية لا يتيسر بضبط النطام المادي في المجتمع. فمن يرغب في الوصول الى هذا الهدف العظيم عليه أن يهتم بتزكية نفسه وتطهيرها من الجرائم والآثام ، ويعمل على بلوغ الدرجة التي يستحق معها إعتباره إنساناً واقعياً في ظل الإيمان باللّه وإلتزام المثل العليا. وكما إن استقرار النظام

ص: 245


1- انديشه هاي فرويد ص 121.

الإجتماعي وضمان حقوق الآخرين يتطلب من الإنسان أن يقيد غرائزه ، كذلك الوصول الى الكمال الإنساني وبلوغ مرحلة القيم والفضائل فإنه لا يتيسر إلا بتقييد هوى النفس والتخلي عن الرغبات اللامشروعة.

الدين والمدنية :

إن التضاد الذي قد يلحظ أحياناً بين التعاليم الدينية والمدنية المعاصرة ناشيء من هذا الاختلاف في الهدف. فالتعاليم الدينية ترى أن كل عمل يخالف المصلحة الإجتماعية أو يتنافى والسعادة الفردية فهو محرّم ، وبعبارة أخرى لا يجوز لأي فرد أن يقوم بعمل من شأنه الإضرار بمصلحة المجتمع أو يتصادم مع سعادته الفردية. أما في المدنية المعاصرة فإن كل فرد يعتبر حراً في الأفعال التي لا تتصادم مع النظام الإجتماعي ولا تتضمن الإضرار بالآخرين والتجاوز على حقوقهم ، حتى لو كان ذلك العمل مضراً بسعادته كشرب الخمر ، والقمار ، والزنا ، والإنتحار. هذه الحرية هي التي سببت المآسي والمشاكل في عالم الغرب.

وبهذه المناسبة يقول الدكتور ( الكسيس كارل ) :

« يجري كل فرد في حياته حسب ذوقه الخاص. إن هذا الميل فطري في الإنسان ، ولكنه في الدول الديمقراطية قد بلغ أشد ما يمكن حتى أدى إلى نشوء أضرار كثيرة. إن فلاسفة عصر النور هم الذين وضعوا أساس هذه الحرية المطلقة في أوروبا وأمريكا ، وسخروا من المنطق وأصوله بإسم المنطق وأعتبروا كل إلزام أو تقييد أمر غير معقول. ومن هنا بدأت المرحلة الأخيرة من الحرب ضد القواعد والأسس التي كان يجري عليها أسلافنا في حياتهم ، والتي كان يلزم بها الأفراد جميعاً طيلة آلاف الأعوام حسبما توصلوا إليه من تجاربهم وعلى ضوء الأخلاق والآداب الدينية » (1).

« تلك الحرية التي يتمتع بها أكثر الأفراد ليست اقتصادية أو فكرية أو أخلاقية. إن الأشخاص الذين لا يوجد ما ينغص عليهم حياتهم هم

ص: 246


1- راه ورسم زندگي ص 2.

المتمتعون بهذه الحرية ولذلك نجدهم يتنقلوان من كوخ إلى آخر ، ومن محل كوّاز إلى محل كواز غيره ، ويقرأون الأكاذيب التي ملئت بها المجلات والصحف ، ويستمعون إلى الدعايات المنتناقضة التي تنقلها لهم الإذاعة » (1).

الحريات المضرة :

إن موضوع إرضاء الغريزة الجنسية من الموارد التي فسح للأفراد في دنيا الغرب الحرية المطلقة في ممارستها. وهكذا نجد أن كثيراً من الشبان والفتيات في تلك الدوله يصابون بالإفراط على أثر الحرية المطلقة الممنوحة لهم ، فينزلون الى هوة الإنحراف والفساد عند إشباعهم للغريزة الجنسية .. وهذا ما يتضمن بين طياته المفاسد الكثيرة للامة والدولة.

« يونايتد برس ص دلت الإحصاءات التي أجريت على حقائب طالبات المدارس المتوسطة في بريطانيا أن 80% منهم كن يحملن الأقراص المانعة من الحمل. لقد كتب أحد المحققين الإجتماعيين في الرسالة التي بعث بها الى صحيفة ( تايمز ) اللندنية أن الإحصاءات التي حصل عليها مضبوطة تماماً. إنه يقول : إن بعض الطالبات كن قد سألن مدرساتهن عن النوع المفضل لأقراص منع الحمل ».

« يقول هذا المحقق الإجتماعي في نهاية رسالته : ان هذه الحقيقة المرة والمأساة المخيفة ناتجة من الحرية المفرطة الممنوحة للفتيات الإنكليزيات » (2).

« آسوشيتدبرس ص يقول الدكتور مولنز : إن من بين كل خمس فتيات انكليزيات يذهبن لعقد الزواج فتاة واحدة حامل. يقول هذا الدكتور وهو يشتغل بالطب في المنطقة الجنوبية من مدينة لندن ، في مقال خاص بهذا الموضوع : يحدث في لندن كل عام خمسون الف حادثة

ص: 247


1- المصدر السابق ص 9.
2- جريدة ( اطلاعات ) الإيرانية - العدد ص 10623.

إجهاض جنائية. ويوجد من بين كل عشرين طفلاً متولداً ، طفل واحد غير شرعي ، وبالرغم من أن الظروف المعيشية تتحسن كل عام ، فإن عدد هؤلاء الأطفال يزداد باطراد. يعتقد الدكتور مولنز أن الأطفال غير الشرعيين غالباً ما يولدون في الأسر الموسرة وإن الفتيات اللاتي نشأن في الأسر الثرية يلدن أولاداً غير قانونيين اكثر من غيرهن » (1).

لا تقف أضرار الحرية المفرطة للناس في اتباع غرائزهم الجنسية عند حد انهيار اساس الأسرة ، وتلّوث النسل ، والإنحرافات الجنسية المختلفة والانتحارات الناشئة من الأخفاق في الحب والغرم ، واضطراب الأسس الخلقية ... بل إن هذا الأمر يتعارض مع الشرف الإنساني والميول البشرية العالية. إن الإنسان أعظم من أن يكون عبداً مطيعاً لشهواته ، وأسيرا منقاداً لغرائزه.

الأحرار :

لا شك أن الغريزة الجنسية تتطلب الإستجابة لها وإرضاءها كسائر الغرائز ، وعلى كل فرد أن يشبع هذه الغريزة وفقاً لقانون الخلقة. ولكن النقطة الجديرة بالإهتمام هي أن الشهوة يجب أن تكون مسخرة للإنسان ، لا أن يكون الإنسان مسخراً لشهوته.

إن الذي نقاد لرغباته وأهوائه ليس حراً ، بل هو عبد ذليل لشهوته. إن الأحرار هم الذين يستطيعون السيطرة على حب المال والجاه والشهوة بقوة الإيمان والعقل ، وفي ظل الأخلاق والفضائل.

وفي هذا يقول أمير المؤمنين علیه السلام : -

1 - « من ترك الشهوات كان حراً » (2).

2 - « عبد الشهوة أقل من عبد الرق » (3).

ص: 248


1- جريدة ( كيهان ) الإيرانية - العدد ص 5356.
2- تحف العقول عن آل الرسول ص 89.
3- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 498.

3 - « أعدى عدوّ للمرء غضبُه وشهوتُه. فمن ملكهما عظمت درجتُه وبلغ غايته » (1).

الميول الحيوانية والميول الإنسانية :

يحتوي الإنسان على طائفتين من الميول : - الطائفة الأولى عبارة عن ميول مشتركة بين الإنسان وسائر الحيوانات كحب الذات ، وحب الأولاد والشهوة والغصب والأكل والشرب وما شاكل ذلك. والطائفة الثانية عبارة عن الميول الخاصة بالإنسان ، كأداء الأهانة ، والوفاء بالعهد ، والتضحية والعفة ، والحياء وعزة النفس ... وما شابه ذلك.

أما الميول المشتركة بين الإنسان وسائر الحيوانات ، فهي وإن كانت ضرورية لإدامة الحياة ، وذات أهمية خاصة ، ولكنها لا تكون ملاكاً للشرف ومقياساً للفضيلة الإنسانية مطلقاً. إنها لا يمكن أن تكون أساساً لتقدم الإنسان وتكامله. ذلك أن الميول التي تشكل الأساس للتكامل البشري هي الميول التي تضع الحد الفاضل بين الإنسان والبهائم ، وفي ظلها يستطيع الفرد بلوغ قمة الإنسانية والكمال. وكلما كانت هذه الميول المعنوية التي هي أساس الفضائل قوية في أمة من الأمم كانت قيمة تلك الأمة في الحياة الإجتماعية أكثر ، وكانت إلى السعادة الحقيقية أقرب.

إن قسماً من الميول الخاصة بالإنسان يملك جذوراً فطرية في نفس الفرد. وعلى المربي القدير إحياء تلك الميول بالتنمية الصحيحة ، وإخراجها الى حيم الفعلية ، وذلك كالوفاء بالعهد وأداء الأمانة.

ولكن القسم الآخر من تلك الميول لا يملك جذوراً فطرية في نفس الفرد ... عندئذ يجب على المربي القدير استغلال جميع الوسائل العلمية والعملية في التربية لرسيخ اسس هذه الميول في نفوس الأطفال الذين عهدت اليه تربيتهم ... ومثال هذه الميول : العفة والحياء.

ص: 249


1- المصدر السابق ص 203.

إن الميول الإنسانية العليا هي مكارم الأخلاق التي بعث نبي الإسلام العظيم لإتمامها والتي شكلت جانبا مهماً من برنامج دعوته ، وقد وردت في ذلك مئات الآيات والأحاديث.

يظهر أثر الميول الإنسانية في حفظ الشرف والرفعة للفرد ، والرقابة على الميول الحيوانية. فعندما تحاول الميول الحيوانية الخروج من حدود المصلحة وتلويث شرف الإنسان ، تعمل الميول الإنسانية على التلطيف من حدتها ، والتخفيف من ضراوتها ، وبالتالي منعها عن الإنحراف.

وفي هذا يقول القرآن الكريم : (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) (1).

إن الميل الحيواني للإنسان الجائع عبارة عن الحصول على الغذاء وسدّ حاجة الجوع. وهو لا يكترث بأي عمل في سبيل الوصول الى ما يريد ، في حين أن الرجال الشرفاء وأصحاب الفضيلة الذين يتمتعون بالميول الإنسانية العليا لا يقدمون على أعمال مخلفة بالشرف في سبيل إرضاء غريزة الجوع ، ولا يستسلمون لذلّ السؤال والاستعطاء. إن عزّة النفس تسيطر على الميل الحيواني عندهم ، وتمنعهم من التجاوز عن الحد المعقول.

العفة الجنسية :

والعفة الجنسية من الميول الإنسانية العليا ، التي يتعهد المربي بتنميتها في نفس الإنسان حسب الأساليب التربوية الصحيحة. إن أثر هذه الفضيلة الحقيقية هو الرقابة على الغريزة الجنسية فعندما تطغى الشهوة وتحاول أن تدفع الفرد اإلى الإعتداء والإنحراف ، تقف العفة كسد محكم في قبالها وتمنعه عن الإنزلاق في المهواة السحيقة ، فينجو عن الإنهيار الحتمي والإنحراف الخلقي أما الأفراد المحرومون من هذه الفضيلة السامية فإنهم معرضون للسقوط والإنهيار في كل لحظة ، وإذا دفعتهم

ص: 250


1- سورة البقرة ص 273.

حوادث الدهر إلى شفا جرف من الفساد والضلال فقلما يستطيعون إنقاذ موافقهم ، وتدارك الأخطار المحتمة التي ستصيبهم.

إن أساس العفة يجب إن يصب - كسائر الميول الفطرية عند الإنسان - منذ دور الطفولة. على الوالدين أن يستفيدا من هذا الدور ، ويوجدا هذه الفضيلة في ضمير الطفل قبل أيام البلوغ.

إن السلوك الممتاز للوالدين العفيفين ، وكذلك العوامل المساعدة التي يقومان بتهيئتها في جو الأسرة للأطفال لغرض تنشئهم على العفة ، أحس السبل لترسيخ هذه الفضيلة في نفوسهم.

لقد اهتم الإسلام بهذه القاعدة الخلقية في منهاجه التربوي اهتماماً بالغاً. ولأجل أن ينشأ الأطفال المسلمون على العفة والطهارة أوصى الوالدين بتعليمات قيمة. وسنتعرض في هذه المحاضرة الى طائفة منها إن شاء اللّه ، ولكن من المناسب أن نوجه أذهان الستمعين الكرام إلى نموذج من البحوث العلمية للعلماء حول أص الميل الجنسي.

ينبوع الحب :

لا شك في أن الغريزة الجنسية من أقوى الغرائز البشرية. ليس المراد من الغزيزة الجنسية في الإصطلاح العلمي الحديث هو الميل للإتصال الجنسي بين الرجل والمرأة فقط ، بل المقصود من ذلك معنى أوسع لا يعتبر الميل للإتصال الجنسي إلا مظهراً من مظاهره.

يرى العلماء أن الغزيزة الجنسية بمنزلة ينبوع للحب والحرارة ، خُلق في باطن الإنسان منذ البداية. ففي أيام الطفولة والأعوام التي قبل البلوغ يجري هذا الينبوع في بعض المجاري الدقيقة ، ويبدي شيئاً من الحرارة الكامنة فيه. أما في أيام البلوغ فإنه يظهر باندفاع أشد ، وحرارة أقوى فتضطرم نيران الغريزة الجنسية في مزاج الشاب ، وتؤدي الى تحول عظيم في روحه وجسمه.

لقد اعترف جميع العلماء بأن بعض أفعال الطفل تنبع من الغريزة الجنسية في حين أن فرويد أصيب في هذه المسأله ككثير من المسائل بالإفراط والمبالغة ، وعشت

ص: 251

عيناه عن رؤية الحقيقة. لقد استند ( فرويد ) في نظرياته الى الغريزة الجنسية أكثر من الحد الواقعي ، إلى درجة أنه نسب حنان الأم وعطفها لطفلها الى هذه الغريزة ... ولسنا الآن في صدد ذلك. بل نقول : إن فرويد يعتقد بأن في الإنسان غريزتين أصليتين فقط : إحداهما حب الذابت والأخرى الغريزة الجنسية. ولكنه يعزو القسم الأكبر من اللذائذ البشرية منذ الطفولة حتى نهاية العمر إلى الغريزة الجنسية ... إن فرويد وأتباعه يرون أن إلتذاذ الطفل بامتصاص ثدي أمه ، أو مصّ إصبعه يعود إلى جذور جنسية!

« إن الميل الجنسي عند الأطفال يشترك مع الميل الجنسي عند البالغين ، وفي أن هناك طاقة محركة واحدة تغذي الميلين ، ويكفي مع اشتراك الطاقة المحركة هذا لأن نفسر بعض حركات الطفل وأفعاله بتفسير جنسي بحت ».

« يميز فرويد في التطور بين مراحل مختلفة ، بمعنى أن الميل الجنسي يظهر في البداية على الفم ويتمثل في الإمتصاص ثم ينتقل إلى الأسنان ويظهر في صورة المضغ » (1).

لقد تعرضت نظريات فرويد إلى نقد شديد من قبل العلماء والباحثين فقد اعتبروا قسماً من تلك النظريات بعيدة عن الواقع تماماً ، وكتبوا في الردّ عليها بحوثاً مطولة ، ولكنهم يؤمنون بأن شطراً من أفعال الأطفال يعود الى طبيعة جنسية.

« يقول موريس وبز أستاذ جامعة استراسبورغ : إذا حاولنا الإيمان بجميع النظريات التي أوردها فرويد حول القضايا الجنسية فقد ارتكبنا شططاً ما بعده شطط. إنها بحاجة الى تصفية ضرورية ، وقد بدىء بها في الآونة الأخيرة ، ولكن يشترط في صحتها أن لا نخلط بين المسائل الجنسية ومسائل التناسل , إن ما لا يقبل الإنكار هو أن الطفل - خصوصاً في المرحلة الثانية من حياته - أي ما بين 3 الى 6 سنوات يشتمل على بعض المبادىء الجنسية وليس هذا خاصاً

ص: 252


1- انديشه هاي فرويد ص 42.

بالإنسان ، فالجميع يعلمون أن القرد أيضاً يملك في الأعوام السابقة على بلوغه بعض التطلعات الجنسية » (1).

تنمية مواهب الطفل :

يتولد الطفل من أمه وهو يملك موهبة التكلم ، والتفكير. ولأجل التنمية الصحيحة لهاتين الموهبتين يجب إلتزام منهجين كاملين : أحدهما المنهج الطبيعي ، والآخر المنهج التربوي.

أما في النهج الطبيعي فلا بد من كون جميع عوامل نمو الطفل سالمة حتى يستطيع اللسان والمخ من مواصلة سيرهما التكاملي في ظل نشاطات تلك العوامل ، وبذلك تتفتح المواهب الكامنة وتخرج الى حيز الوجود. فإن توقف اللسان أو المخ عن النمو على أثر مرض أو علة أخرى فإن الطفل يبقى أبكم وغير قادر على التفكير.

كذلك الاستعداد للنشاط الجنسي موجود في الطفل منذ البداية. ولا بد من وجود عوامل طبيعية تنمي هذه الغريزة طبقاً لسنن الخلقة ، وتخرجها الى حيز الوجود بالتدريج. كما انه لا بد من عوامل تربوية تقود تلك الغريزة نحو الطريق الصحيح وتحفظها بمنجى عن الإنحراف والفساد.

إن الأبوين الفاقدين للعفة ، واللذين لا يتورعان عن التكلم بالعبارات البذيئة أمام طفلهما ، أو يرتكبان الأفعال المنافية للعفة أمامه بوقاحة ، يقودانه نحو الإنحراف والفساد ، ويعودانه على الاستهتار واللامبالاة منذ الصغر.

الإنسجام بين التربية والطبيعة :

إن القاعدة الأساسية في التربية الصحيحة عبارة عن الإنسجام التام بين المناهج التربوية والقوانين الطبيعية. على الآباء والأمهات أن يسيروا حسب قوانين الفطرة في تربية اطفالهم خطوة خطوة ، ويربّوا الطفل على الأسس الفطرية. فمثلاً يختلف الغذاء المناسب للطفل قبل ظهور الأسنان في فمه عنه بعد ظهورها. وعلى المربي أن يسير في أسلوب تغذية الطفل ونوع الطعام الذي يلائمه وفقاً لقانون الخلقة ، ويثبت منهاجه

ص: 253


1- چه ميدانيم؟ بلوغ ص 43.

الغذائي على الموازين الطبعية والتكامل التدريجي للطفل. إن الرغبة في اللعب من الأمور الفطرية عند الطفل. وعلى المربي أن يجعل منهاجه التربوي منسجماً وهذا الميل الفطري فيعوّده على الألعاب السليمة والبعيدة عن الأخطار.

والغريزة الجنسية من أهم الأمور الفطرية عند الطفل. هذه الغريزة تسلك طريق تكاملها ونموها في ظل سلسلة من القوانين والقواعد الطبيعية الدقيقة ، وتمر بمراحل عديدة وفقاً لمنهاج الفطرة حتى مرحلة البلوغ.

ولكيلا يصاب الأطفال بالإنحراف الجنسي ، بل ينشأوا على العفة والنزاهة ، يجب على الآباء والأمهات أن يخضعوا أطفالهم الى رقابة واعية بواسطة منهاج تربوي سليم يتماشى والمنهاج الفطري ... وبذلك يستطيعون أن يقودوهم نحو الطريق المستقيم المؤدي الى السعادة والفلاح.

« لقد بات من الأمور المتسالم عليها في الآونة الأخيرة أن النشاط الجنسي عند الأطفال يظل جامداً بين السادسة والثانية عشرة من أعمارهم ، وكما يقول علماء التحليل النفسي فإن هذه الفترة هي فترة ضمور. في هذه الفترة تحصل علاقات بين الأولاد والبنات أو بين الأطفال من جنس واحد ، قائمة على الحب ولكنها بعيدة كل البعد عن الشهوة. أما القوة الجنسية المحركة فإنها تستيقظ في مرحلة البلوغ بأقوى ما يمكن. وقيل هذه المرحلة فإن هذه النار بالرغم من وجودها ، مختفية تحت الرماد ، لكنها منذ هذه المرحلة تأخذ بالاندلاع وإبداء مظاهرها المختلفة » (1).

نلاحظ في هذه الفقرة المقتبسة ثلاث نقاط جديرة بالإنتباه : -

الأولى - أن الفترة الواقعة بين السادسة والثانية عشرة عند الأطفال فترة خاصة من الناحية الجنسية.

الثانية - أن الغريزة الجنسية في هذه الفترة كالنار المستورة بالرماد ، أما في دور البلوغ فإن الرماد يتنحى وتندلع ألسنه النار.

ص: 254


1- چه ميدانيم؟ بلوغ ص 43.

الثالثة - إن قانون الخلقة يقضي بأن يكون النشاط الجنسي جامداً ومضمراً في الأعوام الواقعة بين السادسة والثانية عشرة.

هذه النقاط الثلاث مما تعترف بها المدرسة الفرويدية ، ويذعن لها سائر العلماء والباحثين. وإذا عدنا الى ما ذكرناه آنفاً من ضرورة انسجام الأساليب التربوية مع القوانين الطبيعية ، فإن أفضل المناهج التربوية في كيفية توجيه الغريزة الجنسية في الفترة الواقعة ببين السادسة والثانية عشرة هو المنهج الذي ينسجم وضمور النشاط الجنسي ، حيث تكون علاقات الحب بين الأطفال منزهة من شائبة الميل الجنسي.

وبعبارة اوضح : فإن المنهج الطبيعي في الأعوام السابقة على البلوغ يقضي بإختفاء الميل الجنسي وجموده ... إذن يجب أن يكون المنهج التربوي منسجماً مع قانون الطبيعة ، ويساعد على هذا الجمود والضمور في سبيل تربية الطفل تربية صحيحة.

المنهج الإسلامي :

لقد أولى الإسلام في منهاجه التربوي عناية فائقة للفترة الواقعة بين السادسة والعاشرة من عمر الأطفال ، فقد أورد جميع التعاليم الضرورية في مراقبة الميل الجنسي واإيجاد ملكة العفة ، في خصوص هذه الفترة.

لقد راعى الإسلام في منهاجه التربوي الإنسجام الكامل بين قوانينه التشريعية والقوانين التكوينية ، وحقق بذلك الوسائل الممهدة لجمود الميل الجنسي عند الأطفال في الفترة المذكورة. فقد جنّبهم عن كل عمر مثير يؤدي الى نضج النشاط الجنسي قبل أوانه ، واوجب على الأباء والأمهات اهتمامهم بإيجاد الجو المناسب لبقاء هذا النشاط مجمداً حتى يحين موعد نضجه.

وفي هذا المعنى روايات كثيرة ، نكتفي بذكر نبذة منها : -

1 - قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الصبي والصبي ، والصبي والصبية ، يُفرّق بينهم في المضاجع لعشر سنين » (1).

ص: 255


1- وسائل الشيعة للحر العاملي ج5ص28.

2 - وعن الباقر علیه السلام : « يُفرق بين الصبيان في المضاجع لِستّ سنين » (1).

3 - عن ابن عمر ، قال : قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « فرّقوا بين أولادكم في المضائجع إذا بلغوا سبع سنين » (2).

4 - وفي حديث آخر : « روي أنه يفرّق بين الصبيان في المضاجع لست سنين » (3).

5 - وعن الإمام موسى بن جعفر قال : « قال علي علیه السلام : مرّوا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا أبناء سبع سنين ، وفرّقوا بينهم في المضاجع إذا كانوا أبناء عشر سنين » (4).

في هذه الأحاديث نجد أن الإسلام يساير قانون الفطرة والخلقة فيأمر بالتفريق بين مضاجع الأطفال الذين يتجاوزون الست سنوات حتى يمنع من اتصال أجسامهم بشكل مثير للغريزة الجنسية في حين أن قانون الخلقة يقضي بجمود هذه الغريزة في الفترة التي هم فيها.

6 - قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا بلغت الجاريةُ ستّ سنين فلا يقبّلها الغلام ، والغلام لا تقبّله المرأة إذا جاوز سبع سنين » (5).

7 - وعن أبي الحسن علیه السلام : « إذا أتت على الجارية ستّ سنين لم يجز أن يقبّلها رجل ليست هي بمحرم له ، ولا يضمّها إليه » (6).

8 - وعن الإمام الصادق علیه السلام : « إذا بلغت الجارية ستّ سنين فلا ينبغي لك أن تقبّلها » (7).

9 - وعنه علیه السلام ، سأله أحمد بن النعمان ، فقال : عندي جُويرية ليس بيني وبينها رحم ولها ست سنين. قال : « فلا تضعها في حجرك ولا تقبّلها » (8).

ص: 256


1- مكارم الاخلاق للطبرسي ص 115.
2- بجار الأنوار للعلامة المجلسي ج23ص114.
3- مكارم الأخلاق للطبرسي ص 116.
4- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2ص558.
5- مكارم الأخلاق للطبرسي ص 115.
6- وسائل الشيعة لحر العاملي ج5ص 28.
7- وسائل الشيعة للحر العاملي ج5ص28.
8- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج23ص114.

10 - قال علي علیه السلام : « مباشرةُ المرأة ابنتها إذا بلغت ست سنين شعبةٌ من الزنا » (1) والمقصود من المباشرة هنا مسّ عضوها الخاص.

إن التقبيل ، والمعانقة ، والتضاجع ، ومسّ العضو الخاص للطفل كل ذلك من الأمور المثيرة للميل الجنسي ، ولكي يبقى النشاط الجنسي عند الأطفال من السادسة فما فوق مجمداً ، أوصى الإسلام بالحذر عن القيام بتلك الأمور.

المناظرة المثيرة :

لقد اهتم الإسلام كثيراً بمنع الكبار من القيام بما من شأنه إثارة الميل الجنسي عند الأطفال وفي هذا يقول القرآن الكريم :

1 - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ) (2).

إن اللّه تعالى يأمر المسلمين في هذه الآية الكريمة بضرورة استئذان عبيدهم وأطفالهم غير البالغين عليهم قبل دخول الغرفة في ثلاث أوقات هي : قبل النهوض لصلاة الصبح ، وعند الظهر حيث يتخفف الإنسان من ملابسه ، وبعد صلاة العشاء حيث يستعد للنوم. فهذه الأوقات الثلاثة عورة للمسلمين ، ولا يجوز للاطفال الدخول على أبويهم فيها لأنهم في الغالب متخففون عن ملابسهم ، وقد يكونون عراة.

2 - قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « والذي نفسي بيده لو أن رجلاً غشي أمرأته وفي البيت صبي مستيقظ يراهما ويسمع كلامه ونفسهما ما فلح أبدا ، إن كان علاماً كان زانياً أو جاريةً كانت زانية » (3).

3 - وعن الإمام الصادق علیه السلام : « لا يجامع الرجل امرأته ولا جاريته وفي

ص: 257


1- مكارم الاخلاق للطبرسي ص 115.
2- سورة 24 : 58.
3- وسائل الشيعة للحر العاملي ج5ص16.

البيت صبي ، فإنه ذلك مما يورث الزنا » (1).

4 - وعن الإمام الباقر علیه السلام : « إيّاك والجماع حيث يراك صبي بان يحسن أن يصف حالك » (2).

لقد أوصى الإسلام في منهاجه التربوي الآباء والامهات بالامتناع عن إثارة الغريزة الجنسية عند الأطفال بالمناظر المهيجة والعبارات المشينة ، ويهدف من وراء ذلك كله الى مسايرة قانون الفطرة وضمور الميل الجنسي عند الأطفال حتى يحين وقت نصوجه. وقد عرفنا أن المنهج التربوي الصحيح هو الذي يساير الفطرة في قوانينها ، ويساعد على ابقاء الميل الجنسي عند الأطفال محمداً ومستوراً. وقد روعي هذا الأمر في الروايات المتقدمة مراعاة تامة. فقد أمر الأئمة علیهم السلام المسلمين ببذل مزيد من الدقة في مرقبة أوضاع أطفالهم ، وإيجاد العوامل المساعدة لبقاء الميل الجنسي مضمراً عندهم والحذر عما من شأنه إثارة الشهوة فيهم.

هذا الدور لا يستطيع القيام به إلا الآباء والأمهات العفيفون الذين يحذرون من القيام بالأعمال المنافيه للنزاهة في أقوالهم وأفعالهم ، في حضور الأطفال أو غيابهم.

جزاء التخلف :

إن جميع السنن الكونية والقوانين الطبيعية في العالم قائمة على أساس الحكمة والمصلحة ، وإن التخلّف عن كل منها والخروج عليها يتضمن نتائج وخيمة ، ويستتبع جزاءً معيناً.

وضمور الميل الجنسي عند الأطفال في الأعوام السابقة على البلوغ ، من القوانين الإلهية الحكيمة المودعة في نظام الخلقة. إن قوى الطفل تستغل الفرصة في أيام ضمور الميل الجنسي ، فتعمل على تنمية جميع الأنسجة والأعضاء بصورة جيدة ، وتبلغ بالطفل الى النمو المناسب ، والكمال اللائق له. وبذلك تعدّه لتقبل البلوغ. وعند تظهر الغريزة الجنسية من خلف الستار ، وتندلع نيران الشهوة من

ص: 258


1- وسائل الشيعة للحر العاملي ج5ص16.
2- وسائل الشيعة للحر العاملي ج5ص16.

تحت الرماد يكون جسد الطفل قد استكمل بناءه ، واستعد لتقبل هذا التحول مع توفر جميع الشروط المناسبة. عندئذ يطوي مرحلة الطفولة دون أي خطر ومع أسلم وضع طبيعي ، ويصل الى المرحلة الثانية من حياته وهي مرحلة البلوغ.

النضج الجنسي السابق لأوانه :

لو لم ينفذ قانون تجميد الميل الجنسي عند الأطفال بدقة ، ونشطت عوامل البلوغ - على أثر ذلك - قبل موعدها المقرر ، فأدت الى النضج الجنسي السابق لأوانه ، كان ذلك داعياً لنشوء العوارض الوخيمة والآثار السيئة على روح الطفل وجسمه.

إن البلوغ المبكر والعوارض الناشئة من ذلك من أولى الآثار السيئة لهذه الحالة. ولكي يتضح هذا الموضوع الى درجة ما ، ويحص المستمعون الكرام على معلومات أوسع في هذا الصدد استعرض لكم بعض الأمور المبسطة من كتب العلماء حول نمو الطفل واستعداد أنسجته وأعضائه للبلوغ.

إن الطفل المتولد حديثاً عبارة عن مجموعة من الأعضاء والجوارح المختلفة. وإن أعضاء الجسم المختلفة عبارة عن مجموعة من الانسجة المتميزة المتكونة من ذرات صغار. يتميز كل نسيج بصفات خاصة ، اجتمعت فيما بينها تحت ظروف معينة وكونت عضواً من الأعضاء. إذن فالطفل المتولد حديثاً أو أي موجود حي في العالم عبارة عن مجموعة من الأنسجة والذرات الحية. إن العلم الحديث يسمي تلك الذرات الصغار بإسم ( الخلايا ) ، وان نمو الجسم يعود الى تكاثر الخلايا.

« في كل لحظة من حياة الإنسان تتكون خلايا جديدة في جسمه وتندثر الخلايا المرهقة ، ولما كان هذان العملان يحدثان معاً فإن إزدياد الخلايا الجديدة على الخلايا المندثرة يعني نمو الجسم. ينمو الجسم منذ بداية حياته حتى بداية العقد الثالث بسبب من ازدياد الخلايا ، ولكن منذ العقد الثاني تبدأ الخلايا الحادثة بالتساوي مع الخلايا المندثرة ولهذا فإن النمو يتوقف تقريباً. أما عندما يبدأ دور الشيخوخة فإن عدد الخلايا الحادثة يأخذ بالهبوط ، في حين يبقى عدد الخلايا المندثرة ثابتاً ، ولذلك فإن الخلايا تأخذ بالتناقص في

ص: 259

أجسام الشيوخ أي أن أجسامهم تأخذ بالتقهقر والإنحطاط. إن الجسم يحتاج الى المواد الأولية في بناء الخلايا ، والمواد الأولية عبارة عن السكر ، والدسم ، والبروتين الذي يدخل الجسم بصورة غذاء ويصبح بعد تغييرات كثيرة بشكل ذرات صغيرة تُمتص وتقع في متناول الخلايا » (1).

النمو في الأعوام المختلفة :

إن من أدق آيات اللّه في بناء الإنسان ، النظام العجيب الذي ينطوي عليه صنع الخلايا. فمنذ دخول الغذاء الى المعدة وشروع الجهاز الهضمي في العمل الى حين تحول الى موجود حي باسم الخلية ، يطوي مراحل عديدة ، ويتدرج في تفاعلات متلاحقة حتى يأخذ الصورة النهائية.

« عندما تتوفر جميع الوسائل اللازمة ، فإن كل خلية تصنع المقدار الكافي من المواد الضرورية في داخلها ، وعندما تصبح هذه المواد كافية لإنعاش خليتين تنقسم الخلية الواحدة الى شطرين ، وبهذا تتولد خلية جديدة ».

« إن الجهاز الوحيد الذي يستثنى من هذا القانون ، هو الجهاز العصبي. ذلك لأن الطفل يتولد مع الجموعة الكاملة للخلايا العصبية ولا يصنع في جميع أدوار حياته حتى خلية عصبية أو مخية واحدة ... ولذلك فإن اندثار هذه الخلايا على أثر مرض أو صدمة لا يمكن أن يتدارك. بالرغم من ذلك كله فإن دماغ الطفل ينمو من دون إزدياد في عدد الخلايا ، وإن هذا العمل يحدث بسرعة فائقة جداً في الأعوام الثلاثة الأولى من حياته بحيث يمكن القول بأن 95/ من النمو الدماغي للانسان يحصل في السنة الثالثة من عمره » (2).

يختلف الرشد الطبيعي للأقسام المختلفة من بدن الطفل في الأعوام الأولى من

ص: 260


1- هورمونها ص 8.
2- هورمونها ص 11.

ولادته ، والأعوام السابقة على البلوغ ، والأعوام اللاحقة له .. وكذلك عدد دقات القلب وسرعة التنفس فإن ذلك كله يختلف بحسب عمر الفرد.

« ينمو الطفل في البداية بسرعة كبيرة. فإن طوله في الفترة بين ولادته وبلوغه الخمس سنين يزداد بمقدار الضعف. وبعد ذلك تأخذ سرعة النمو بالتناقص حسب الخطوط البيانية التي توضح ذلك حيث تبلغ الحد الأدنى في السنة العاشرة تقريباً. ثم يبدأ النمو من جديد حيث يبدأ الأولاد في السنة الثانية عشرة والبنات قبل ذلك بعام واحد. إن طول الشخص يزداد في مرحلة البلوغ من عشرين الى خمس وعشرين سنتمتراً ، وهذا المقدار ليس كثيراً بالنسبة الى مجموع نمو الإنسان ، لكنه لما كان يحدث بسرعة وربما كان ذلك فجأة فإنه يبعث على الإستغراب والتعجب » (1).

« إن الأعضاء الداخلية للجسم تنمو بهذه الصورة أيضاً ، ويبلغ اكثرها الحد الأعلى من الزيادة في الوزن في مرحلة البلوغ. إن حصة القلب من هذا النمو كبيرة نسبياً ، إذ أن حجمه يزداد بنسبة الضعف بين الثانية عشرة والسادسة عشرة ، هذا الازدياد في الحجم يتناسب طردياً ومرونة الأوردة والشرايين ».

« تتغير المظاهر المهمة الأخرى للحياة أيضاً ، ولكن التغير الحاصل فيها يكون أبطأ ، فمثلاً تكون دقات القلب في مرحلة الطفولة 135 في الدقيقة الواحدة ، وفي دور المراهقة تتناقض إلى 90 في الدقيقة ، ثم تتناقص إلى 75 عند الذكور و80 عند الإناث. ولهذا فإن تنفس البالغين أهدأ من تنفس الأطفال ، في حين أن حجم التنفس الذي يقاس بواسطة جهاز خاص لذلك والذي يعدّ من العلائم المهمة للنشاط الحيوي ، يزداد بنسبة كبيرة فيما بين الرابعة عشرة والسادسة عشرة » (2).

ص: 261


1- جه ميدانيم؟ بلوغ ص 23.
2- جه ميدانيم؟ بلوغ 25.

الغدد الداخلية والهورمونات :

تشكل الغدد الداخلية والهرمونات التي تفرز في الدم فصلاً مهماً من فصول علم الأحياء في نظر العلماء المعاصرين. ذلك أن نشاط الهورمونات معقد ومهم للغاية من الناحية العلمية. فهي تعلب دوراً كبيراً في أساس نمو جسم الطفل ، وفي موضوع البلوغ أيضاً.

« لقد أثبتت البحوث الجديدة لعلماء الأحياء أن الغدد الداخلية تلعب دولاً مهماً في نمو أعضاء الجسم بواسطة الهورومونات التي تفرزها ، وإن تأثيرها كبير الى درجة أن ( باند ) قد صنف الأشخاص في دور البلوغ حسب علم معرفة الغدد. وأهم هذه الغدد هي غدة الهيبوفير والثايروئيد والغدد التناسلية ، والغدد فوق الكلوية ».

« تؤثر بعض الهورمونات في نمو الجسم ، ويؤثر البعض الآخر في نمو الجهاد التناسلي. وإذا صح لنا تسمية المواد الكيمياوية المختلفة التي توجد في الجسم بمقادير ضئيلة بإسم التيار ، فيجب أن نقول أن هذه الهورمونات تعمل في تيارين مختلفين ولكنهما يلتقيان في النهاية ، خصوصاً بالنسبة اإلى مسألة إزدياد طول الجسم فإنها حصيل تأثير غدد الثايروئيد والهيبوفيز ، عند ذاك تأخذ عملية النمو في الجسم بالتباطؤ بالتدريج ، وتبدأ مرحلة البلوغ على أثر نشاط هورمون جديد يفرز الهيبوفيز ، ويفضل الهورمونات التناسلية من قبيل التستوسترون التي تفرز من الخصيتين ، والفوليكولين التي تفرز من المبيض » (1).

هورمونات البلوغ :

تؤدي هورمونات البلوغ الى تحول عظيم في هيكل الطفل ، فينمو بصورة طفرة وفي أشد السرعة ، ويخرج من الصورة الطفولية في فترة وجيزة فيكتسب جميع ميزات الإنسان الراشد. إن النقطة الجديدة بالإنتباه هي جسم الطفل يجب أن يكون قد تلقى قدراً كافياً

ص: 262


1- چه ميدانيم؟ بلوغ ص 31.

من النمو قبل ذلك حتى لا يحصل اضطراب على أثر إفراز هورمونات البلوغ.

« مهما كان عمل الهورمونات مهماً فإنها لا تستطيع أن توضح بوحدها جميع جوانب الطفرة البدنية ، فعندما تندثر الهورمونات أو تفرز اكثر من المقدار الإعتيادي يحصل اضطراب في عمل النمو. فوجودها إذن ضروري ولكن العمل المحرك لها يحتاج الى ظروف مساعدة ، وأهمها استكمال الأعضاء والأنسجة نحوها بالمقدار اللازم حتى تستطيع اعضاء الجسم مواصلة نموها بصورة مطردة وبعبارة اخرى فإنه لا بد من انسجام خاص بين عمل الهورمونات والظروف التي تستفيد فيها الأعضاء والأنسجة من تلك الهورمونات » (1).

أما البلوغ المبكر فإنه عبارة عن إفراز الغدد الجنسية هورموناتها في جسد الطفل قبل أن يستكمل نموه الطبيعي ويستعد لتقبيل البلوغ ... وهذا يؤدي الى النضج الجنسي قبل أوانه.

« يتقدم سن البلوغ في النضج الجنسي السابق لأوانه عن العمر الاعتيادي ( وهو الذي يتراوح بين 12 و17 سنة ) أي أن الغدد الجنسية تبدأ بالعمل قبل السنة العاشرة ، وبذلك يتقدم النمو الطولي ... هؤلاء المرضى يتقدمون على أقرانهم من حيث النمو لمدة وجيزة ، ولكن لما كانت الطبقة الغضروفية تزول بعد فترة النمو الطولي السريع مباشرة فإن فترة نمو هؤلاء المرضى قصيرة ، إذ لا يلبثون أن يتأخروا عن أقرانهم فيما بعد » (2).

اختلاف الظروف الطبيعية :

إن أفراد البشر - كسائر الموجودات الحية في العالم - خاضعون لتأثير الظروف الطبيعية المحيطة بهم. وبالنظر الى اختلاف المناخ ، وتغير درجة الحرارة وسائر

ص: 263


1- چه ميدانيم؟ بلوغ ص 33.
2- هورمونها ص 165.

العوامل الطبيعية في متلف نقطاط الكرة الأرضية ، يختلف النمو عند الأطفال أيضاً. ولهذا فاإن السن التي تظهر فيها بوادر البلوغ الجنسي عند الذكور والإناث تختلف باختلاف المناطق.

« تختلف سن اليأس عند النساء بحسب الظروف المختلفة. والدورة الشهرية تبدأ في المناطق الحارة أسرع منها في المناطق الباردة. فمثلاً نجد في ( لابوني ) أنها تبدأ في الثامنة عشرة ، في حين أنها تبدأ في ( الحبشة ) في التاسعة أوالعاشرة. لقد أثبتت التجارب الجديدة أنه كلما كان المناخ متغيراً كان هذا العمل أسرع وقوعاً » (1).

من هذا نجد أنه بينما تستطيع الفتاة الحبشية أن تلد طفلين أو اكثر ، فإن الفتاة للابونية في نفس السن لم تر الدورة الشهرية بعد. هذا الإختلاف بينهما يستند الى ظروف البيئة والمحيط ، فليس بلوغ الحبشيات مبكراً ، ولا بلوغ اللابونيات متخلفاً. إن المقصود بالبلوغ المبكر هو أن الولد أو البنت تبلغ قبل الموعد الطبيعي المقرر لهما ، وتبدأ الهورمونات الجنسية بالافراز قبل أن يحين الوقت الاعتيادي لذلك. وهذا نفسه نوع من أنواع المرض.

الاختلافات الهورمنية :

« بما أن البلوغ المبكر ناشيء من الأختلال الشديد في افراز الهورمونات ، فبالإمكان تقديم يد العون الى اكثر هؤلاء المرضى ، خصوصاً وأن قصر القامة ليس العارضة الوحيدة للبلوغ المبكر ، بل إن الأختلالات التي تؤدي الى النضج الجنسي السابق لأوانه خطيرة جداً » (2).

وقد يظهر الميل الجنسي عند الإنسان قبل موعده المقرر ولا يكون مستنداً الى مرض ، بل يعود الى الإثارات التافهة والمناظر المهيجة التي نفذت الى روح الطفل وسببت النضج الجنسي المبكر.

ص: 264


1- چه ميدانيم؟ بلوغ ص 30.
2- هورمونها ص 15.

« يقول موريس دبس : إن العوامل الروحية من قبيل مطالعة القضايا المثيرة أو مشاهدة المناظر المهيجة تبكر في ظهور بوادر اليأس عند النساء » (1).

هناك عوامل كثيرة قد تؤدي الى الإثارات الروحية عند المراهقين ، وتسبب النضج الجنسي المبكر عندهم. إن قراءة القصص المثيرة للشهوة ، ومشاهدة المناظر المهيجة ، والتعانق مع الآخرين وتقبيلهم ، والاضطجاع على فراش واحد بحيث يحصل الاحتكال والاتصال ... والأعمال المشابهة لذلك ، تؤدي الى الإثارات الجنسية والبلوغ المبكر.

إن الآباء والأمهات الذين يرغبون في أن يكون نمو أطفالهم مسايراً لقانون الفطرة والأشخاص الذين يريدون أن يطوي أولادهم مرحلة الطفولة بسلام ويبلغوا بصورة طبيعية ، عليهم أن ينفذوا تعاليم الإسلام بصدد إبقاء الميل الجنسي عند الأطفال مجمداً ، ويبعدوهم عن القضايا المثيرة للشهوة.

الإنحراف الجنسي :

الإنحراف الجنسي من الصفات الذميمة عند الإنسان ، والتي لا تنسجم والمقاييس الفطرية ، ولا تتلاءم مع الفضائل والآداب. إن الطريق الصحيح لاإضاء الميل الجنسي في قانون الطبيعة والشريعة عبارة عن اكتفاء الرجال البالغين ، واكتفاء البالغات بالبالغين ، ويشبع كل غريزته الجنسية بواسطة الطرف الآخر. قد ينحرف بعض الأفراد في طريق إشباع رغباتهم الجنسية عن صراط الفطرة المستقيم ، ويستجيبون لميولهم الجنسية بطرق غير طبيعية ... هؤلاء هم الذين سماهم القرآن الكريم بالعادين ( أي المتجاوزين ).

( ... وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) (2).

ص: 265


1- چه ميدانيم؟ بلوغ ص 30.
2- سورة المؤمنون ص 5 - 6 - 7.

المناظر المنافية للعفة :

من العوامل التي تؤدي الى انحراف الميل الجنسي عن الصراط المستقيم للفطرة ، الخواطر المستهجنة الحادثة في دور المراهقة ، ومشاهدة المناظر المنافية للعفة. إن الغريزة الجنسية للشاب غير البالغ مجمدة بصورة طبيعية. فإن انسجمت التربية العائلية التي يتلقاها وهذاب الجمود ، ولم يواجه الطفل المناظر المثيرة ، فما بصورة طبيعية بعيداً عن الاضطرابات الجنسية.

وعندما يبلغ ويظهر فيه الميل الجنسي فإنه يوجّه نحو الطريق الطبيعي المعدّ له ، أي أن الفتاة تتجه نحو الشاب ، والشاب يتجه نحو الفتاة ، ولا يبقى مجال للشذوذ الجنسي بعد ذلك.

« عندما تستيقظ غريزة الالتذاذ في مرحلة البلوغ بعد أن كانت راقدة ، وتتجه الى العالم الخارجي تجاول أن تتشبث بشيء حتى تجد به منفذاً لقدرتها الباطنية. في هذه اللحظة الحاسمة تعمل الإرادة الواعية الطبيعية على إرشاد هذه الغريزة الى طريق سليم هو التكاثر والتناسل. ومن علائم إرشاد الطبيعة أن الرجل والمرأة يشعران بتغير محسوس في أعظائهما التناسلية. إن الطبيعة تريد بهذه العلائم أن تفهم الطرفين بضرورة سلوك الطريق الفطري السليم الذي هو عبارة عن التناسل ».

« فإذا أدرك الشخص هذا القنون وانقاد إليه ، أي أن الرجل اقترب من المرأة ، والمرأة اتجهت نحو الرجل حتى يبادر الى عملهما الفطري والمنتج ، فإنه يمكن القول بأن النمو الشهواني قد سار في طريق مستقيم ومنظم ، وصرفت القدرة الغريزية في طريق طبيعي واعتيادي ، إن ملايين الاشخاص يسلكون هذا الخط المنظم والطبيعي ، والذي يسميه فرويد بالانسجام المزدوج » (1).

ص: 266


1- فرويد ص 66.

الرغبات والاستياءات :

إن الرغبات والإستياءات التي تؤثر في روح الطفل ، والكلمات الطيبة أو البذئية التي تطرق سمعه ، والمناظر القبيحة أو الجميلة التي يشاهدها ...

تؤثر في باطنه ، ثم تظهر نتائجها من خلال سلوكه وأقواله وأفعاله عندما يصبح عضواً بارزاً في المجتمع.

الأسر التي لا تلتزم بالعفة الجنسية ولا تتورع من القيام بالأعمال المنافية للاخلاق والآداب أمام الأطفال غير البالغين ...

الآباء والأمهات الذين لا ينقادون للقوانين الفطرية في تجميد الميل الجنسي عند الأطفال ، بل يثيرون الغريزة الكامنة في أولادهم بسلوكهم الاهوج ، ويحملونهم على التفتيش والبحث عن الأعمال والنشاطات الجنسية المختلفة ...

وبصورة موجزة : الأشخاص الذين يعدّون وسائل الإثارة الروحية في أطفالهم تجاه القضايا الجنسية ، ويوجدون في اذهانهم صوراً للخواطر القبيحة ...

هؤلاء جميعاً يتسببون في الانحراف الجنسي لأطفالهم عندما يكبرون ، فنراهم - بعد أن أصبحوا رجالاً يحتاج اليهم المجتمع في القاء قسط من عبء المسؤولية على عواتقهم - غير جديرين بذلك.

يرى علماء النفس أن منشأ الانحراف الجنسي نوع من أنواع الحقارة ، يوجد في نفس الشخص المنحرف ، وإن كان لا يعترف بهذه الحقارة في الظاهر.

« إن الإنحراف ، والفشل في الزواج الطبيعي بالنتيجة ، وليد نوع من أنواع الشعور بالحقارة. ومهما كان هؤلاء الأفراد ذوي افكار وروحيات عالية في الظاهر ، فإنهم يتألمون من الشعور بالحقارة. ولو كان الأمر غير هذا لكانوا يقومون باحتياجاتهم الطبيعية بأنفسهم ، ويجدّون بكل شجاعة وبسالة لبقاء النسل واستمرار التكاثر » (1).

ص: 267


1- عقده حقارت ص 36.

الميول المكبوتة :

والمظهر الآخر من عوارض الإثارة الجنسية عند الأطفال قبل بلوغهم ، العقد التي تنشأ عند الكبار بسبب من كبت الميول في أيام الطفولة.

إن الطفل حر في أقواله وأفعاله قبل البلوغ ، لا يحاسبه القانون ولا المجتمع على سلوكه. فإن كان أبواه عفيفين وكان المحيط التربوي طاهراً تربى على أحسن ما يرام ، وعبر مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ بإستقامة وسلام. أما إذا كان المحيط التربوي فاسداً وكان أبواه غير عفيفين فإنه يتعرض للأخطار والمشاكل العديدة.

إنه يتأثر بمشاهدة الأعمال الفاسدة والحركات المنافية للعفة الصادرة من أبويه ، فينشأ على الرذيلة والإنحراف ، وسيكون إصلاحه بعد البلوغ صعباً جداً ... عند ذاك يكون معرضا للتلوث بالذنوب والجرائم والسيئات الخلقية.

ثم إن الأعمال المثيرة الصادرة من أبويه ، وكذلك المحيط الفاسد الذي يعيش فيه تؤدي الى إثارة الميل الجنسي عنده وهو بعد لم يبلغ ... وطفل كهذا عندما يبلغ ويصبح عضواً مستقلاً في المجتمع يلاقي مشاكل وصعوبات كثيرة ، ويواجه عقداً نفسيه عديدة ...

فمن حيث أنه نشأ على التربية الفاسدة في طفولته يرغب في أن يكون حراً في الإستجابة لميوله وأهوائه ، لكن القيود الإجتماعية التي تلزمه بمراعاة المصالح العامة وإتباع المقررات العقلية تجبره على التخلي عن ميوله المنحرفة ، ولا شك أن هذا الفشل في تحقيق حريته يؤدي إلى نشوء عقدة جنسية في روحه.

ومن جهة أخرى فإن إنساناً كهذا يتألم من الأعمال القبيحة التي أرتكبها قبل بلوغه ، ولذلك يصاب بعقدة الحقارة ... إنه يشعر بالضعة والدونية عندما يتذكر ما جرى عليه ، ولذلك فهو يحاول التخلص من تلك الخواطر قدر المستطاع.

نستنتج من محاضراتنا هذه أن الميل الجنسي للأطفال في الاعوام السابقة على البلوغ تعيش في حالة من الجمود والضمور بصورة طبيعية. وعلى الوالدين أن ينقادا في منهجهما التربوي لقانون الفطرة ، ويوجدا الظروف الصالحة لتربية الطفل بصورة تساعد على إبقاء الغريزة الجنسية جامدة ومضمرة.

ص: 268

إن الأطفال الذين لاقوا إثارات فاسدة لغرائزهم الجنسية قبل دور البلوغ على أثر انحراف البيئة التي عاشوا فيها يصابون بالعقد النفسية ، والمشاكل الروحية ، والإنحرافات الخلقية العديدة بعد البلوغ.

* * *

ص: 269

المحاضرة السابعة والعشرون: تدارك الحقارة

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الحكيم : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (1).

إن التربية السليمة للطفل أولى وأهم أسس السعادة الفردية والإجتماعية وهذه المسؤولية الخطيرة تقع على عاتق الأبوين قبل كل شيء. تتحقق التربية السليمة في ظل قاعدتين مهمتين :

الأولى - أن يكون المربي بصيراً بالواجبات التربوية الدقيقة من الناحية النظرية.

الثانية - أن يطبق معلوماته بكل جدّ وإخلاص في تربية الطفل ، ويقوم بواجباته خير قيام.

إن الآباء والأمهات الجاهلين بالأساليب التربوية ، والبعدين عن خيرها وشرها ... أو العالمين بها لكنهم لا يطبقونها على أولادهم بصورة صحيحة ، يعجزون عن تربيتهم بصورة سليمة ، وجعلهم أفراداً صالحين.

التربية الفاسدة :

إن القواعد التي ذكرناه في محاضرتنا السابقة عن التربية الفاسدة للطفل تعود إلى أحدى هاتين الجهتين. فالإفراط في المحبة ، والتزمّت التافه والدّل والغنج ، والإهمال الذي لا يستند إلى مبرر ، والإفراط في التشجيع والإستحسان أو للوم والتقريع ... كل ذلك يعود إلى جهل المربي ، أو تغافله عن تطبيق واجبه بصورة

ص: 270


1- سورة فصلت، الآية: 26.

صحيحة بالرغم من علمه بوظائفه. والنتيجة هي نشوء الطفل على التربية الفاسدة.

« تعني التربية الفاسدة ترك الطفل لوحده دون تخطيط منهج لسلوكه وتقسيم لأوقاته. في هذه الحالة يستطيع من الطفل أن يصل إلى ما يريد دون جهد أو صعوبة ، خصوصاً إذا كان معتقداً بأنه لا يجازي على أفعاله. إن طفلاً كهذا تكون تربيته فاسدة إذا تلقى تشجيعاً زائداً على المعتاد ، أو قوبل بالدلال لغير سبب ، أو تربى في أسرة من دون وجود مشرف عليها ، أو كان المشرف متسامحاً على الأقل ، أو سمح له بإيذاء من حوله أو الإستهزاء من الآخرين من دون مبرر ، أو لا يطرق سمعه حديث عن النشاط والعمل ، أو ينشأ في أسرة خاملة وحقيرة ، أو تسير حياته على عدم الإيمان وحب الكمال ، أو يسير من دون هدف ومرشد » (1).

تترك التربية الفاسدة آثارا سيئة في جسم الطفل وروحه ، وقد تستمر تلك الآثار حتى نهاية العمر تؤلم صاحبها وتقضّ عليه مضجعه. وكما سبق شرحه في المحاضرات السابقة فإن من الآثار السيئة للتربية الفاسدة ظهور عقدة الحقارة. إن المصابين بهذه الحالة النفسية ، والذين يشعرون بنوع من الحقارة والضعة في أنفسهم قلقون ومضطربون دائماً ، وتلاقي ضمائرهم الأمرين من العذاب والتأنيب الداخلي.

« إن شخصية رجل كهذا مركبة من عدم الثبات ، وفقدان الإعتماد على النفس ، والحيرة والتردد ، ثم الفرار من الواقع والإلتجاء الى الأحلام والخيالات ، والمخدرات ».

« ومن جهة أخرى فإن هذا الفرد يصبح فوضوياً وعابثاً ولكي يستر الشعور بالحقارة في نفسه ، يمتهن قول الزور ويشعر بالإستعلاء ، ويتخذ المبالغة والإفراط في كل شيء قدوة له في سلوكه » (2).

قد يصاب الأطفال ، الشباب ، الشيوخ ، الرجال ، والنساء ... وبصورة موجزة

ص: 271


1- چه ميدانيم؟ تربيت اطفال دشوار ص22.
2- عقده حقارت ص 7.

كل الطبقات في الأعوام المختلفة من حياتهم بعقدة الحقارة من جهة أو عدة جهات. فإن لم تُحلّ تلك العقدة الروحية ، واستأصلت تلك الحالة النفسية في روح الفرد بصورة مرض مزمن ، أدى ذلك إلى عوارض وخيمة قد تنهي الى الجنون.

وكما أن الخجل يؤدي الى احمرار الوجه ، والخوف يبعث الصفرة في البشرة ، وبصورة عامة تؤثر الحالات الروحية في الجسم ، كذلك عقدة الحقارة فإنها ضغط روحي مؤلم ، وتتضمن ردود فعل مختلفة على جسم الإنسان.

رد فعل الحقارة :

إن كثيراً من مظاهر الضحك والبكاء ، والتواضع والتكبر ، والإنتقام والتسامح ، والإنزواء والتظاهر ، والإكرام والتحقير ، والتقدم والتقهقر ، والنصح والموعظة ينبع من عقدة الحقارة. وقد تصدر هذه الأفعال بصورة طبيعية تماماً بحيث لا يغفل الناس عن أساسها النفسي فقط ، بل لا يعلم صاحبها عن أساس سلوكه المستند الى عقدة الحقارة أيضاً!

ولما كان الإنتباه إلى الأفعال المؤدية إلى نشوء عقدة الحقارة مهماً جداً في تربية الطفل ، فيلزم على الآباء والأمهات معرفة هذا الأمر النفسي الدقيق ... هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن شرح هذا الموضوع يفيد في تهذيب الأخلاق العامة ، وتطهير أعمال الأفراد عن هوى النفس. فمن الضروري إذن أن نبحث هذا الموضوع بصورة مفصلة ، ونبين الأخلاق والأعمال السيئة للأطفال والكبار ، التي تنبع من عقدة الحقارة ... آملين أن يكون هذا البحث مفيداً من جوانب عديدة.

إن غريزة حب الذات من الميول الأساسية والفطرية للإنسان. فكل فرد يجب ذاته وجميع الكمالات المتعلقة به بصورة فطرية. والشعور بالحقارة يقع في النقطة المقابلة لحب الذات. تشبه عقدة الحقارة عدواً قوياً يقف بوجه حب الذات ويحاول تحطيم شخصية الفرد والتقليل من مكانته. إن المصاب بهذه العقيدة وإن كان يعاني صراعاً شديداً في باطنه إلا أنه يسعى في أن لا يفشي هذا السر المكنون بين الناس ، ويحاول أن لا تجرح غريزة حبه لذاته ... إنه يصرف قسماً من جهوده في سبيل إخفاء هذه الحالة النفسية ، ولذلك فإنه سرعان ما يفقد مقاومته.

ص: 272

الصراع الداخلي :

« عندما يشعر فرد سالم وقوي تماماً بالضعف والكسل في نفسه من دون سبب فمعنى ذلك أن روحه غير سليمة إنه يعاني صراعاً ورحياً في باطنه ، بحيث تثير أعصابه بصورة خطيرة وتتعبه كثيراً. إن أفضل مقال حي لإنسان كهذا أن نتصور سيارة ضغط السائق فيها على جهاز الإيقاف ( البريك ) ولكنه يحاول في نفس الوقت أن يدفعها للسير بأقصى سرعة ، إن العمل مضافاً الى انه يورد ضغطاً لا مبرر له على الاطارات ، يتسبب في فساد المحرك وعطبه بسرعة. فالسيارة التي كان بالإمكان أن تعمل لعدة سنوات بصورة طبيعية.

نجدها قد عطبت وسقطت عن الإستفادة في قترة وجيزة كذلك الدماغ الذي يلاقي إرهاقاً من أثر القلق الروحي فإنه يشبه كابوساً على روح الإنسان ومخه ، ويتلف الأعصاب قبل موعد تلفها » (1).

تدارك النقص :

إن الشخص المصاب بعقدة الحقارة ، أو الذي يشعر بالحقارة يحاول أن يسد نقصه الداخلي ، أو لأجل إقناع نفسه على الأقل ، يقدم على أفعال يتصورها صحيحة ومناسبة ، ولكنه يحرص أشد الحرص على أن لا ينتبه الأفراد الى العلة الواقعية لتلك الأفعال ، التي هي الشعور بالضعة والدونية. لهذا فإنه يحاول أن يبرر كل عمل من أعماله بأسلوب معقول صحيح حتى يقنع الناس بذلك بإستقامته وصحة أفعاله.

لتوضيح هذا الموضوع أذكر لكم نموذجين :

1 - لنتصور طالباً لم يتلقّ مقداراً كافياً من الثقافة والتعلم إما بسبب من قصوره وضعف إدراكه ، أو لتهاونه وكسله. إنه يحس بالحقارة في باطنه ، ويرى نفسه في مستوى أقل وأوطأ من مستوى بقية الطلاب ، إنه يعرف جيداً أنه لو اشترك في الإمتحانات فنتيجته الرسوب المحتم وإفتضاح أمره لدى زملائه. ولكي يخفي حقارته الباطنية يتمارض أو يترك الدراسة تماماً ويقول في تبرير عمله هذا : ما هي فائدة

ص: 273


1- عقده حقارت ص 31.

الدراسة؟! إن الثقافة في هذه البلاد تؤدي إلى الحرمان والتعاسة! ما أكثر الأشخاص المثقفين الذين بقوا عاطلين عاجزين عن تحصيل ما يسدّ رمقهم ... وبالمناسبة يذكر أسماء بعضهم. إنه يحاول بحديثه هذا أن يشرك الطلاب الآخرين معه في عقيدته ويحثهم على ترك الدراسة أيضاً.

2 - يقول شاختر :

« أتذكر فتاة دعيت إلى حلفة كبيرة ، فظلت تستعد لملابسها عدة أيام ، ولكنه تنبهت قبل ذهابها الى الحفلة بساعتين أو ثلاث إلى أن أمها مصابة بمرض ولذلك يجب عليها أن تتخلى عن الذهاب ».

« مهما أحلوا عليها وأصرّت الأم نفسها عليها بالذهاب لم يجد ذلك نفعاً وأخيراً أجهشت بالبكاء. كانت تقول كيف أستطيع أن أترك أمي على هذه الحالة وحيدة وأذهب للترفيه عن نفسي؟ في حين أن مرض أمها لم يكن جديداً ولم تكن هناك حاجة لبقائها. لقد ذكرت الأم فيما بعد أن هذه الفتاة كانت مضطربة منذ ليالٍ وكانت لا تنام بإستقرار ، ولقد أدركت جيداً أنها كانت تخشى من الذهاب الى تلك الحفلة كثيراً ، لأنها كانت تتصور أنها لا تستطيع مضاهاة الفتيات هناك بملابسها. ولكنها ما أن تذرعت بمرضي وشكرتها على حنانها هدأت واعتقدت أنها تملك مبرراً معقولاً لعدم الذهاب الى الحفلة. ولذلك فقد نامت تلك الليلة - على عكس الليالي السابقة - على أتم الراحة والإستقرار. ولكن كان يظهر من خلال كلماتها في الأيام للاحقة أنها كانت متألمة في باطنها من عدم الذهاب الى الحفلة » (1).

إن كلاً من الطالب والفتاة كان يحس بالحقارة في نفسه. الأول لجهله وقلة حظه من الثقافة ، والثانية لعدم أناقة ملابسها ، هذا الشعور دفع الطالب الى ترك المدرسة والفتاة على عدم الحضور في الحفلة. لقد برر الطالب عمله ذاك بحرمان الرجال

ص: 274


1- رشد شخصيت ص 81.

المثقفين وبطالتهم ، وبررت الفتاة عملها بمراقبة أمها في مرضها ، ولم يوافق أيّ منهما على التصريح بالحقارة التي يشكو منها والتي كانت الدافع الحقيقي لسلوكهما.

تختلف ردود الفعل التي يبديها الأفراد على أثر إصابتهم بعقدة الحقارة. لانه بغض النظر عن اختلاف الشعور بالحقارة عند الأفراد من حيث الشدة والضعف ، فإن الظروف البيئية والعوامل الإجتماعية المؤثرة في أفعال الفرد وأقواله تختلف أيضاً من فرد إلى آخر. إن البناء الروحي والتربية العائلية والخواص الفطرية والمكتسبة للأشخاص تختلف اختلافاً كبيراً ، وعندئذ فمن البديهي أن تكون أفعال الناس المتولدة من أفكارهم متنافرة ومتضادة أحياناً.

وهكذا فإن البعض يظهرون ردود الفعل لعقدة الحقارة بالسكوت والهدوء ، والبعض الآخر بالثرثرة والإطالة في الحديث ... قسم منهم يتذرع بالتملق ، والقسم الآخر يلتزم التكبر والإستعلاء. طائفة تتصف بالعطف والحنان ، وأخرى تتسم بالفحش والتسيب.

الإنتقام :

الرغبة في الإنتقام من أهم ردود الفعل العقدة الحقارة وأخطرها على الإطلاق. ذلك أن هذه الرغبة الموجودة عند بعض الأطفال والكبار تؤدي الى الطغيان والفوضى ، وبذلك تتضمن سلسلة من المشاكل والمآسي التي لا تجبر.

« إن العلة الأخرى لظهور عقدة الحقارة هي السلوك المتزمّت والشديد الذي يلاحظ تجاه بعض الأطفال ، أي الذين يُنظر إليهم نظرة السخرية والتحقير. وأشّد من ذلك موضوع العقوبات البدنية التي تؤلم جسد الطفل وروحه معاً. إن الأطفال الأبرياء الذين يواجهون هذا المشاكل يصبحون بلا شك أخطر أعداء المجتمع. وكما أن الحب والحنان أساس التنظيم الإجمتاعي ويؤدي إلى تجمع الأفراد وتمركزهم فإن الحقد والبغضاء عامل أساسي في التفرقة والتشتيت. وهكذا فالطفل الذي شعر بأن جو الأسرة وحجر الوالدين ليسا إلا مقراً للكراهية والحقد ، ولا يستطيع أن يتصور بأن

ص: 275

جميع الناس ينظرون إليه بغير نظرة الكراهية والإحتقار ... ولذلك فإنه يثأر ، وينتقم ، ولا يوجد في قلبه محل للحب واللين ، عند ذاك يصبح في عداد الناقمين على المجتمع ساخطين على جميع الأفراد. إن كل ما يصيب الفرد من شر أو انحراف في صغره يسبب رد فعل مشابه له من جانبه » (1).

إن الطفل الذي يتجرع الضغط والتحقير والسخرية من أبيه أو أمه أو زوجة أبيه أو مربيه ، يحمل حقداً خاصاً في قلبه ، ويحاول تدارك الفشل الذي لاقاه في حايته فيقدم على كل عمل خطير وحقير ولا يتورع من ارتكاب أي جريمة أو ذنب.

إن أبسط نموذج لطغيان الأطفال والشبان هو الفرار من أسرهم وترك والديهم ... وذلك ما نقرأه في الصحف كل يوم ، ونسمع استغاثة الآباء في سبيل العصور على أولادهم ، وقد تنتهي هذه الحوادث بقضايا مؤلمة ومشاكل لا تجبر كالإنحراف الجنسي ، السرقة ، أو الإنتحار. وأخيراً فإن كلاً من الولد أو الفتاة الهاربين ينتهي إلى مصير تعس ومؤلم ، ويكون بعمله هذا قد الولد أو الفتاة الهاربين ينتهي إلى مصير تعس ومؤلم ، ويكون بعمله هذا قد انتقم لكرامته من أبويه بتلويث سمعتهما والحط من منزلتهما في المجتمع.

وبهذا الصدد يقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « ولَدُ السوء يهدم الشرف ، ويشين السلف » (2).

نماذج للإنتقام :

تخطر ببالي عدة نماذج للإنتقام من قبل الأطفال والشبان والمحتقرين ، لا أرى من الصالح ذكرها في هذا الإجتماع العام ، لأن ذلك قد يؤدي إلى إثارة ثائرة الإنتقام في نفوس بعض الشبان الذين يلاقون الأمرين من التحقير والاهانة من قبل آبائهم ، وفي ذلك مفاسد كبيرة. لكني سأكتفي ببعض النماذج المقيدة في حسن تربية الأطفال ليطلع الآباء على واجباتهم في هذا الصدد.

ص: 276


1- عقده حقارت ص 16.
2- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 780.

الإفراط في المحبة :

من عوامل نشوء عقدة الحقارة عند الطفل ، الإفراط في الحب والحنان من قبل الوالدين تجاه طفلهما. إن الطفل الذي عومل بمقدار اعتيادي من الحب واللين لا يتألم لولادة الطفل الثاني في الأسرة لأن المقدار الذي كان يعامل به لا يزال موجوداً الآن. لكن الطفل الذي عومل بحب وحنان زائدين ونشأ على الدلّ والغنج يتألم كثيراً لولادة الطفل الثاني ، لأنه يرى أن قسماً من الحب الذي كان يستأثر به إلى ذلك الحين قد صار من حصة أخيه أو أخته ، ولذلك فإنه يحقد عليه ، ويتحين الفرص للانتقام منه. فيضربه ، أو يدخل إصبعه في عينه ، أو يقرصه. كذلك يحاول الإنتقام من أبويه فيسيء إليهما ، ويعاملهما بالقسوة والإهمال ، لا يعتني بكلامهما ، وقد يسمعهما لما لا يرضيان.

الأطفال المحرومون :

والعامل الآخر من عوامل ايجاد عقدة الحقارة عند الطفل ، الحرمان من اللباس المناسب والغذاء الطيب ووسائل اللعب أو أدوات المدرسة. إن الطفل الذي يلبس حذاءاً بالياً أو ثوباً رثاً بين الأطفال الأنيقين في ملابسهم أو الذي يرى مختلف وسائل اللعب بأيدي الأطفال الآخرين ويجد نفسه فاقداً لها ... أو الذي يذهب الى المدرسة وهو لا يملك حقيبة أو أدوات مدرسية ، يشعر بالحقارة في نفسه ، ويرى أنه في مستوى دون مستوى الآخرين.

إن الآباء الموسرين الذين يستطيعون الإستجابة لحاجات أطفالهم بصورة معتدلة ، ولكنهم يقترون عليهم بسبب من لؤمهم وبخلهم يرتكبون جرماً عظيماً. فقد قال رسول صلی اللّه علیه و آله : « ليس منا من وسع عليه ثم قتر على عياله » (1).

وعن علي بن الحسين علیه السلام قال : « أرضاكم عند اللّه أوسعكم على عياله » (2).

ص: 277


1- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ح2ص643.
2- وسائل الشيعة للحر العاملي ج5ص132.

وفي حديث عن ابن عباس ، قال : قال النبي صلی اللّه علیه و آله « من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها الى عياله كان كحامل صداقة إلى قوم محاويج ، وليبدأ بالاناث قبل الذكور. فإنه من فرّح ابنته فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل ، ومن أقرّ عين ابن فكأنما بكى من خشية اللّه ، ومن بكى من خشية اللّه أدخله جنّات النعيم » (1).

إن الأطفال الذين يصابون بعقدة الحقارة الحقارة في مثل هذه الظروف يحاولون تدارك حرمانهم بصور مختلفة من الإنتقام. وقد ينتهي ذلك بثمن حياة الأب المتزمت أو تمني موته على الأقل.

قال أبو الحسن الرضا علیه السلام : « ينبغي للرجل أن يوسع على عياله لئلا يتمنوا موته » (2).

هؤلاء ينتقمون بواسطة الحرق أو الكسر أو التهديم وبصورة موجزة تفتيت ثروة آبائهم وتدميرها ، وقد يقدمون على سرقة أموالهم ، وبذلك ينتقمون من سلوكهم الظالم تجاههم ، ويجبرون ما تجرعوه من التحقير والحرمان.

يقول الدكتور آلاندي : « يجب أن نمتنع عن كل ظلم تجاه الطفل حتى لا ينشأ على السرقة. إن كل طفل يصبح سارقاً لا بد وأنه قد غُبن حقه في يوم من الأيام وقوبل بالتجاوز والظلم. ليس من الضروري أن يكون هذا التجاوز حقيقياً ، بل من الممكن أيضاً أن يتخذ صورة مجازية وتصورية ... وقد يكون تصوراً طفولياً إلى درجة أن الكبار لا ينتبهون لذلك أبداً ، ولكن هذا كله لا يمنع من أن يترك آثاره العميقة والمؤلمة على روح الطفل ».

« إذا حاولنا أن نعمل على اقتلاع جذور السرقة ، فيجب أن نحيي في الطفل منذ البداية ذلك الشعور بالحقد والإنتقام الناشيء من حرمان سابق ، ثم نعمل على تدارك الحرمان وعلاجه ».

ص: 278


1- مكارم الاخلاق للطبرسي ص 114.
2- وسائل الشيعة للحر العاملي ج5ص132.

« هناك بعض الأطفال يصرفون النقود التي سرقوها على أصدقائهم بكل سخاء ، وهذا يدلنا على أنهم يرغبون في الإنتقام من التحقير الذي كانوا يقابلون به ، فيشعرون عند ذاك بأنهم ذوي مكنة مادية عالية ، يستطيعون جلب قلوب الناس نحوهم بها ».

« لقد وجدت بنفسي طفلاً في الثانية عشرة من عمره يسرق نقود الآخرين ولكنه يشتري لأطفالهم الذين كانوا أصغر منه سناً بعض اللُعب والدُمى. وتبين بعد ذلك أن أبوي هذا الطفل كان لا يشتريان له وسائل اللعب في الصغر ، وهو الآن يريد تدارك الحرمان الذي كان يلاقيه والظلم الذي كان يتجرعه بهذا الصورة » (1).

يجب على الموسرين أن يوسعوا على أطفالهم إتباعاً منهم لتعاليم الإسلام ، ويعملوا على تلبية رغباتهم وحاجاتهم الطبيعية فيحفظوا بذلك شخصيتهم من الإصابة بعقدة الحقارة ، ويجنبّوا أنفسهم من ويلات الإنتقام الناشيء من الشعور بالحرمان في الأمور المعيشية.

السخرية والإستهزاء :

ان الوسيلة الاخرى من وسائل الإنتقام والثأر لتدارك الانهيار الداخلي بالنسبة الى المصابين بعقدة الحقارة هو السخرية والإستهزاء والنقد اللاذع واللوم الشديد تجاه الآخرين.

« إن التلميذ المتخلف في دروسه بسبب من إهماله أو قلة ذكائه ، ينتقم من الآخرين بالإستهزاء منهم ورميهم بالنكات المشوبة بالسخرية. الكل يضحكون ويلتفون حوله ، وهو يزداد مهارة وشهرة في المزاح ويتلذذ بالانتقام اكثر ، فيتصور - خطأ - أن هذا اللذة التافهة تستطيع أن تحل محل أبسط نجاح ».

« من البديهي أن هذا الفرد لا يلتفت الى الدافع الى سلوكه هذا ، أي أنه لما كان يعجز عن إحراز النجاح في أي فرع أو مهنة فهو يسخر من زملائه من حيث لا يشعر ،

ص: 279


1- ما وفرزندان ما ص 72.

ويرضي ضميره بذلك ، ولكنه لا يحصل على نتيجة سوى تحقير نفسه والحط من منزلته في أنظار الآخرين. إن مما يؤسف له أن هذه النماذج ليست مقتصرة على الأطفال بل توجد في الأشخاص الكبار أيضاً » (1).

النفاق :

جاء الاسلام بمبادئه القيمة ، وتعاليمه القائمة على المنطق والإستدلال وأخذ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يؤثر بسلوكه الممتاز في الناس ويجلب قلوبهم نحو دين اللّه وهذا ما لا يروق للمعاندين ، فأدى التقدم السريع للإسلام واعتناقه من قبل العرب وغيرهم إلى شعورهم بالحقارة والضعة. إنهم كانوا لا يرغبون في الخضوع للنبي والإنقياد لحكمه من جهة ، ومن جهة أخرى فإنهم كانوا لا يتسطيعون الإستمرار على الحياة في قبال قدرة المسلمين المتعاظمة ... فاضطروا إلى اعتناق الإسلام في الظاهر ، لكنهم كانوا في الباطن يضمرون أشدّ الحقد والعداء له :

لقد عبر القرآن الكريم عن هؤلاء ب- ( المنافقين ). إن النفاق بصورة عامة دليل على الضعف والحقارة الموجودة في باطن الشخص.

قال علي علیه السلام : « نفاق المرء من ذلّ يجده في نفسه » (2).

إن المنافقين الذين كانوا يحترقون في نار الحقارة كان عليهم أن ينتقموا لتدارك الإنهيارات الباطنية. فعندما يئسوا من قتل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتحطيم قوة المسلمين لجأوا إلى الوسائل الأخرى. إن الإستهزاء والسخرية والطعن والإهانة أحد وسائل الإنتقام. فأخذ المنافقون بالإستهزاء من المسلمين بصورة علنية كلما قدروا على ذلك. أما عندما كانوا لا يجرأون على الإستهزاء علناً فإنهم كانوا يجتمعون فيما بينهم ويحاولون تبرير مواقفهم بأنهم يسخرون من المسلمين ... (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) (3).

ص: 280


1- رشد شخصيت ص 97.
2- غرر الحكم ودرر الكلم للأمدي ص 777.
3- سورة البقرة : 14.

تدارك الفشل :

يحاول الطفل الذي وقع موقع السخرية والإهمال أن يتدارك الفشل الذي لاقاه ، فيظهر شخصيته مستغلاً فرصة وجود الضيوف فيثأر لكرامته. عندما تكون الأم خائضة في حديث مع الضيوف دون اعتناء الى الطفل ، فإنه يشاغب ، يحطم الأبواب ، يكسر النوافذ ، يصبح ويبكي ، يتكلم بعبارات تافهة لا معنى لها ... كل ذلك لكي يحول دون سماع الضيوف لكلام أمه ، ويقطع حديثهم. إنه يريد جلب إنتباه الآخرين إلى نفسه بهه الأعمال ، إنه مسرور لقدرته على كشف شخصيته ، ويتلذذ كثيراً على نجاحه.

كذلك الكبار فإنهم يقدمون على هذه الأفعال الصبيانية في بعض الأحيان لغرض الإنتقام. كثيراً ما يصادف أن شاباً يتعلق قلبه بحب فتاة ويخطبها من أهلها ، لكن الفتاة لا تراه كفواً لها لجهات عديدة فتحتقره بردّ خطبته. يفكر الشاب الفاشل في تدارك الحقارة ، ويعمد الى الإنتقام والثأر لكرامته. قد يقوم بعضهم ليلة زفاف الفتاة بإحداث ضجيج وصخب ، أو يحطم المصابيح ويكسر النوافذ ، أو يقوم بأعمال تخريبية أخرى بغية تبرير فشله وإرضاء ضميره المندحر.

هذا السلوك يشابه تماماً سلوك الكفار المندحرين في صدر الإسلام ، إذ قاموا بأعمال صبيانية تافهة بغية الإنتقام من الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ليتداركوا بذلك حقارتهم الباطنية ، فكانوا يثيرون الشغب واللغط عند قراءة النبي القرآن الكريم.

( وقال الذين كفروا : لا تسمعوا لهذا القرآن ، والغوا فيه لعلكم تغلبون ) لقد كانت قراءه القرآن من أعطم الوسائل لنشر الدعوة الإسلامية. فندما كان ينتشر اللحن البديع للنبي صلی اللّه علیه و آله عند قراءة القرآن في الفضاء ، كان الناس يستمعون بكل رغبة وشوق إلى ذلك الصوت العذب ، وكانت تبهرهم ألفاظ ذلك الكتاب السماوي ومعانيه. أما الكفار الذين كان يتألمون من تقدم الإسلام وكان ذلك يبعث الحقارة والذلة في نفوسهم فإنهم كانوا يوصون أصحابهم بأحداث اللغط والصخب عند قراءة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للقرآن ، وكانوا يأمرونهم باللغو والشغب ... حتى تختلط اصواتهم بصوت النبي فيستطيعوا بذلك من الغلبة على دين اللّه.

ص: 281

النقد اللاذع :

إن توجيه النقد اللاذع الى الآخرين وسيلة اخرى من الوسائل التي يستخدمها المندحرون والمصابون بعقدة الحقارة لغرض الإنتقام وتدارك الحقارة التي هم عليها :

ولنعترف سلفاً بأن النقد » (1) يعتبر من أفضل وأهم وسائل التكامل الفردي والإجتماعي. أذ لا شك في أن الأمة التي يستطيع الأفراد فيها توجيه النقد المفيد الى الآخرين وتذكيرهم على نواقصهم وعيوبهم ، سالكة طريق التقدم والتكامل.

قال الإمام الصادق علیه السلام : « أحب إخواني إليّ من أهدى إليّ عيوبي »(2) .

وللإمام موسى بن جعفر علیه السلام حديث حول تقسيم ساعات الليل والنهار ، يقول فيه : « وساعة لمعاضرة الإخوان والثقات الذين يعرفونكم عيوبكم ويخلصون لكمن في الباطن »(3).

يعتبر موضوع النقد من المسائل الإجتماعية المهمة التي لسنا بصددها الآن. إلا أننا نريد القول بأن الأفراد يتخذون من هذا العامل الكبير المؤدي الى السعادة ، حربة للإنتقام وسلاحاً لحل عقدة الحقارة من ضمائرهم وهذا أمر شائع بين الأفراد ، أطفالاً وشباباً ، وشيوخاً ...

لنتصور طفلاً ضعيفاً يلعب مع عدة أطفال أقوياء ونشطين. إنه يفشل في اللعب بسبب من ضعفه أو نقصه العضوي أو تكاسله ، وبذلك يشعر بالحقارة في نفسه فينزوي عنهم ويترك اللعب. ولكن حين يسأله أبوه أو باقي أفراد الأسرة عن سبب

ص: 282


1- لا بد من الأشارة هنا الى أن النقد نوعان : بناء وهدّام. أ - النقد البنّاء : هو الذي يهدف الى تدارك النواقص الموجودة في سلوك الآخرين ، حتى تتآزر القوى الإجتماعية في بناء الشخصيات المتكاملة. وهذا هو الممدوح ، والمقصود من أنه أحد وسائل التكامل الفردي والإجتماعي. ب - النقد الهدام : وهو الذي يهدف الى تتبع نقائص الآخرين لغرض السخرية منهم ، أو التندر بأفعالهم. وهذا مذمون بلا شك وهو المقصود بكونه أحد وسائل الإنتقام لتدارك الحقارة.
2- تحف العقول عن ال الرسول ص 409.
3- تحف العقول عن آل الرسول ص 366.

تركه اللعب معهم فإنه يجيب بأنهم سيئو الأخلاق ... يتكلمون بكلمات بذئية ... يغمطون حقي ... وبصورة موجزة فإنه ينتقدهم ويجبر بذلك فشله وإنهياره.

كذلك التلميذ الذي لم يجهد نفسه في الدراسة ، والذي يعجز على أثر ذلك من الإجابة على الأسئلة التحريرية أو الشفوية للمعلم ، يحصل على درجة واطئة فيندحر أمام زملائه ويشعر بالحقارة والدونية ، يأتي الى البيت باكياً ويقول لأمه : سوف لن أذهب الى هذه المدرسة. وعندما يُسأل عن السبب يقول : أن المعلم يتصعب كثيراً ، ويتعمد إيذائي ... له عداء شخصي معي. إن التلميذ يستر فشله بهذه الكلمات المشوبة بالنقد اللاذع الباطل.

شاب متفرغ من الدراسة الإعدادية يقدم على الجامعة ، ويشترك في امتحان القبول ولكنه بالنظر الى انخفاض مستواه العلمي يجيب على بعض أمام زملائه وأصدقائه وأقاربه فيشعر بالحقارة ولكنه لا يرضى بالإعتراف بإنخفاض مستواه العلمي ، فيبدأ بالإنتقاد لتدارك الإنهيار النفسي. يقول : لا توجد مقاييس في بلادنا ، إن التقدم منوط بالوسائط ، والرشوة ... الخ وأنا لا أملك صديقا ولا واسطة فمن البديهي أن أرسب. وبهذه الكلمات التافهة يخفي حقارته وينتقم من الأشخاص الذين تسببوا في منعه من الدخول في الجامعة.

كذلك ألرجل الكاسب الذي كان توقيعه معتبراً في البنوك ، وكان يشتري البضائع والأجناس من المتاجر بأجل ، عندما تضطرب أحواله المادية وتسقط كمبيالاته عن الاعتبار يمتنع التجار من بيعه البضاعة الى أجل. وهذا يؤدي الى تحطيم شخصيته ، فيشعر بالحقارة ويحاول الإنتقام. فيبحث عن عيوب التاجر الذي سلب الثقة عنه. إنه يقول عنه : إنه متجاوز ، إنه يأكل الربا أضعافاً مضاعفة ، إن متجره مقر للمنحرفين والعاطلين وما شاكل ذلك من العبارات التي يحاول بها أن يتدارك الحقارة التي هو عليها.

الرقابة العامة :

النهي عن المنكر من الفرائض الإسلامية المهمة ...

النهي عن المنكر عبارة عن رقابة عامة على جميع شؤون المجتمع ...

ص: 283

النهي عن المنكر نقد بناء ونزيه يستطيع حفظ المجتمع من الإنهيار والسقوط. لكن من الشروط الأساسية للنهي عن المنكر : صفاء النفس والإستقامة عند الشخص الناهي.

لقد ورد بهذا المضمون عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال : « مَن لم يتسلّخ من هواجسه ولم يتخلص من آفات نفسه وشهواتها ، ولم يهزم الشيطان ولم يدخل كنف اللّه وتوحيده وأمان عصمته ... لا يصلح له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر » (1).

قد يتشبث بعض الأفراد الذين يظهر منهم الصلاح عندما يقعون في عقدة الحقارة بالنهي عن المنكر للإنتقام وتدارك الإنهيار الداخلي. إنهم يحاولون البحث عن عيوب الأشخاص الذين سببوا لهم هذا التحقير ، فيذكرون ذنوبهم ، وقد يوجهون اللوم والتقريع إليهم أمام ملأ من الناس ، ظانين أنهم يطيعون اللّه بعباراتهم المسمومة التي تنبع من الحقارة التي يئنون من ويلاتها ... غالفين عن أن أساس عملهم ذاك يستند الى الشعور بالحقارة ، وأن النهي عن المنكر ليس إلا درعاً لإخفاء الرغبة في الانتقام وراءه.

يقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « من أخطأ وجوهَ المطالب خذلته الحيلُ » (2).

إن تطهير القلب من تلويث الذنوب وتنزيه الضمير الباطن من السيئات الخلقية والنوايا الفاسدة ، وإتيان العمل بكل جد واخلاص لله تعالى إنما هو أعظم الذخائر للإنسان عندما يفد على خالقه ... في حين أن الوصول إلى هذا الأمر المقدس أمر صعب.

قال علي علیه السلام : « تصفيةُ العمل أشد من العمل » (3).

ص: 284


1- المحجة البيضاء في إحياء الاحياء للفيض الكاشاني ج4ص109.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج17ص138.
3- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 347.

رجال لا يندحرون :

إن الرجال العظماء ذوي الشخصية الرصينة لا يخسرون المعركة إذا وقعوا موقع السخرية والتحقير من قبل الآخرين ، ولا يؤدي ذلك إلى شعورهم بالحقارة والضعة ... إن قلوبهم كالمحيط العظيم الذي لا تستطيع الأوساخ والقذارات أن تؤثر فيه وتكدر صفو مائه. إنهم لا ينتقمون من المحتقرين لهم أبداً.

لقد كان أبو هريرة من المعارضين لحكومة الإمام علي علیه السلام . لقد كان في الأسابيع الأولى من خلافة الإمام يجلس على مقربة من أمير المؤمنين علیه السلام ، ويتكلم بكلمات مشوبة بالتحقير في حديثه مع أصحابه. وكان يصر على أن يتكلم بصوت عالٍ جداً بحيث يسمع الإمام تلك الكلمات. لقد تألم أصحاب الإمام الذين شهدوا المنظر. وفي اليوم الثاني جاء أبو هريرة طالباً بعض الحوائج من الإمام أمير المؤمنين علیه السلام فلبى جميع حوائجه.

عند ذاك عاتبه أصحابه على ذلك. فقال :

« إني لاستحيي أن يغلب جهلُه علمي ، وذنبُه عفوي ، ومسألته جودي » (1).

إن علياً (عليه السلام) اعظم من أن يتغلب عليه أمثال أبي هريرة بالكلمات المشوبة بالسخرية والتحقير ...

إنه أجلّ من أن تؤثر فيه أحاديث الحقراء والجبناء ، وتولد في نفسه الشعور بالحقارة والضعة حتى يفكر في الإنتقام.

إنه يغض النظر عن زّلة أبي هريرة ، ويقوم بقضاء حوائجه دون تردد. ولقد قال علیه السلام : « قلّة العفو أقبحُ العيوب. والتسرُع إلى الانتقام أعظم الذنوب » (2).

إن أسوأ رد فعل يظهره الفاشلون والمصابون بعقدة الحقارة هو الرغبة في الإنتقام ، إذ أن من الممكن أن يقوموا بذنوب عظيمة عن هذا الطريق نكتفي بما ذكرنا في توضيح هذا الموضوع ، لننتقل في ختام المحاضرة الى ردود الفعل الأخرى.

ص: 285


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي 9ص519.
2- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 537.

العجز حافز للتقدم :

يعتبر الشعور بالعجز والحاجة عاملاً فعلاً في الأمم النشيطة والواعية نحو التقدم والتكامل والإستمرار في النشاط. إذ لو لم ير الإنسان نفسه ضعيفاً أمام قوى الطبيعة لم يكن بمقدوره أن ينهض للكفاح ويتسبب في هذا التحول الهائل في حياة الإنسانية جمعاء!

إن عجز الإنسان تجاه الأمراض والآلام الشديدة هو الذي دفعه لاختراع علم الطب واكتشاف العقاقير المفيدة لأنواع الأمراض ، وبالتدريج وصل هذا العلم الى الدرجة التي يحتلها من الأهمية. وكذلك عجزه أمام أمواج البحر العاتية هو الذي دعاه الى صنع البواخر الضخمة القاطعة للمحيطات. إن عجزه في قبال شدة البرد أو الحر هو الذي حفز فيه عوامل الإهتمام ببناء القصور الضخمة المجهزة بوسائل التبريد أو التدفئة المركزية. كذلك اختراعه القوة الكهربائية واستخدام ذلك في الإضاعة وسائر الأغراض وليد الحاجة الملحّة التي كان يحسّ بها عند فقدان النور ليلاً ... وبصورة موجزة فإن شعور الإنسان بالضعف والعجز الحقارة والحاجة أدى إلى أعظم حركة ، وسبب اكبر التحولات العلمية والصناعية في العالم.

التغافل عن النقص :

هناك كثير من الأفراد الواعين يشعرون بالحقارة في أنفسهم بسبب من العيوب والعاهات العضوية التي تميزهم عن غيرهم ، لكن هذا الشعور لم يقدر على تحطيم شخصياتهم الحديدية ، ومنعهم عن النشاط والعمل ... فظلوا دائبين في سيرهم نحو الكمال حتى وردوا ما كانوا يقصدون إليه وتغافلوا عن النقص الذي هم فيه ، وبذلك كشفوا عن جدارتهم وكفاءتهم لأنهم أصبحوا أعضاء نافعين في المجتمع.

يقول أمير المؤمنين : « عظّموا أقداركم بالتغافُل عن الدني من الأمور » (1).

« إن النكتة الأخرى التي تعتبر مفيدة للجميع لمقاومة الشعور بالحقارة ، وإحراز النجاح في الإتصال بالنس هي أن ننسى أنفسنا

ص: 286


1- تحف العقول عن آل الرسول ص 224.

في احتكاكنا بالآخرين ، وأن نتغافل عما يعتقده الآخرون فينا والزاوية التي ينظرون منها إلينا ، فيجب أن لا نتوقع أن يجري الحديث عنا ، وعن صفاتنا وأذواقنا. بل يجب علينا أن نتحدث عن الآخرين وعما يرغبون فيه ».

« إذا تناسينا أنفسنا لحظة واحدة فقد استطعنا رفع حجاب معتم عن أعيننا ، ونرى الحياة بعد ذلك مضيئة مشرقة ، فنكتشف فضائل الآخرين ونبدأ بمدحهم عليها وتشجيعهم بالإستحسان والترغيب » (1).

إذا أصيب شاب بشعور الحقارة لعدم استواء هندامه ، فإن أفضل أسلوب لمقاومة ذلك أن يحاول الوالدان قدر المستطاع صرفه عن التفكير في ذلك النقص ، وحثّه على القيام بالأعمال المفيدة ، وحمايته بالتشجيع والتقدير. وبهذه الطريقة يمكن احتمال النجاح في هذه المهمة الى درجة كبيرة.

الإنزواء عن المجتمع :

إن بعض الأفراد الذين يقعون في هوة الشعور بالحقارة ويتجرعون المآسي والويلات من ذلك بإستمرار ، يخسرون أنفسهم ويفقدون شخصيتهم فيقرّون من المجتمع كيلا بقعوا موقع السخرية والإستهزاء ... يختارون الإنزواء ، ويتهربون من عبء المسؤوليات الإجتماعية ، وبهذا الأسلوب يتداركون فشلهم الروحي ، ويقللون من الضغط الداخلي.

« إذا أصيب شخص على أثر زّلة أو خاطرة مؤلمة بحالة مرعبة فإن نبذه حياته يمكن أن تلخص في أفكاره السلبية. وبعبارة أخرى فإن هذا بدلا من أن يتقدم نحو الكمال والإعتماد على النفس بواسطة الثبات والعزم يحاول الرجوع الى دور الفراغ والإهمال الطفولي. هذا الأسلوب يسمى في إصطلاح علماء النفس بالسير القهقرائي. لقد كان هذا الفرد في طفولته فاقداًَ لكل اختيار في القيام بأعماله ،

ص: 287


1- رشد شخصيت ص 120.

وفارغاً من كل مسؤولية تلقى على عاتقه ولذلك فإنه كان يعيش بفكر هادىء ، والآن حيث أصيب بالخوف والشعور بالضعة والدونية فإنه يرغب في الرجوع الى حالته الأولى ».

« هذا بعينه هو التفسير المعقول للسلوك الطفولي عند كثير من الكبار ، وهو السبب في عدم بلوغ الجيل الجديد. إن فرداً كهذا لا يرغب في الرجوع الى دور الطفولة فحسب ، بل يبقى قلقاً وحائراً في مواجهة صعوبات الحياة ومشاكلها » (1).

الطفيليون :

إن الأفراد الذين يظهر ردّ الفعل لعقدة الحقارة عندهم في الإنزواء والهروب من المجتمع ، يكونون تعساء وتافهين في الغالب ... إنهم طفيليون يعتمدون على غيرهم في تسيير شؤونهم المادية. في حين أن الإسلام ينقم أشد النقمة على هذه الطبقة.

ففي رواية عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ملعون معلون من ألقى كله على اناس » (2).

« يرغب كل فرد في الإتصال بالآخرين ، ويأمل في أن يكون محبوباً وناجحاً في المجتمع. أما عندما لا يتحقق هذا الأمل فإن الفرار من الناس يبدو أسهل من التوافق مع الناس ، في حين أن الحقيقة غير هذا. لأن الفرار من الناس والعجز عن الإنسجام معهم يهدىء الألم الموقت ، ولكنه لا يلبي الحاجة الغريزية والرغبة الفطرية المستقرة في أعماقنا » (3).

ألم الإنزواء :

قد يكون الألم الروحي الناشيء من الإنزواء والحرمان من معاشرة الناس أشد بكثير من ألم الشعور بالحقارة. لأن الشخص الذي ينزي عن الآخرين لجهله وضعف

ص: 288


1- عقدة حقارت ص 6.
2- وسائل الشيعة للحر العاملي ج5ص133.
3- رشد شخصيت ص 115.

نفسه يتصور أنه سيصون بذلك نفسه من التحقير ، في حين أنه وقع في سجن أضيق من سجن التحقير والسخرية.

قال الإمام الصادق علیه السلام : « الرجل يجزع من الذلّ الصغير فيدخله ذلك في الذّل الكبير » (1) أي أن شدة جزعه تنقلب ذلا كبيراً.

من ردود الفعل السيئة لعقدة الحقارة عند الأشخاص حب الإنزواء عن المجتمع ، إنهم يحرمون بهذا السلوك الأهوج من النشاطات المثمرة ، ويجعلون أنفسهم طفيليين في المجتمع.

ليس الهروب من الناس بسبب من خوف التحقير والسخرية مختصاً بالكبار. إن الأطفال المصابين بالشعور بالحقارة قد يفضلون الإنزواء نتيجة الخوف من التحقير والسخرية. حينئذ يجب على الآباء والأمهات بذل مزيد من العناية لهؤلاء الأطفال والعمل على مقاومة الضعف الروحي الذي هم عليه. لأن الطفل في البداية يشعر بالحقارة من جانب واحد ولكي لا يحتقر من ذلك الجانب يفضل الإنزواء. ولكن هذه الحالة النفسية تترك أثرها الفعال في سائر شؤون الطفل ، وينشأ على حب الإنزواء ويفرّ من الاختلاط بالناس ... وهذا بنفسه يتضمن نتائج وخيمة في مستقبلة.

يقول شاختر : « ولدّ من أقاربي كان يفضل الإنزواء دائماً ... كان يمشي وحده في فرص المدرسة ، ويجول في غيوم الخيال وسمائه. كان يبادر بالذهاب إلى البيت فور خروجه من المدرسة ، وكان يفر من اللعب مع زملائه ... لم يشترك في أية جميعة خيرية ، ولم يكن يدعو أحداً الى داره كما كان لا يذهب ضيقاً لأحد. كان يقول : أحب مكتبتي وغرفة عملي أكثر من أي شخص آخر. ولكن الحقيقة هي أن ذلك الشاب لم يكن ذا مزاج سليم ، ولكي يستر ضعفه ولا يقع موقع السخرية والتحقير كان يحذر من اللعب ... وبالتدريج فإن هذه العادة جعلت منه إنساناً منزواً في جميع المناسبات الأخرى ».

ص: 289


1- تحف العقول عن آل الرسول ص 366.

« لو كان ذلك الولد يفهم مرضه أو أنه كان يستشير الطبيب النفسي في ذلك كان يعلم أن من الممكن أن يقوي عضلاته النفسي في ذلك كان يعلم أن من الممكن أن يقوي عضلاته وجسمه ، ولو كان فاقداً للإستعداد في بعض الألعاب الجمسانية بصورة مطلقة فإنه لا بد وأن يكون على استعداد تام للنجاح في فرع آخر بفضل سعيه وإجتهاده » (1).

إشاعة عيوب الناس :

المظهر الآخر من ردود الفعل لعقدة الحقارة ، الرغبة في نشر عيوب الآخرين وإشاعتها. إن الأشخاص الذين يشعرون بالضعف والحقارة من جانب ويتألمون في باطنهم من هذا الشعور ، يبحثون عن عيوب الآخرين دائماً ويتحدثون عن نقائص غيرهم ، وإذا ذكر تلك العيوب غيرهم فإنهم يفرحون لذلك كثيراً.

قال علي علیه السلام : « ذوُوا العيوب إشاعة معايب الناس ، ليتسعَ لهم العذرُ في معايبهم » (2).

إن الطالب الذي رسب في الإمتحان على أثر التكاسل والتماهل في الدراسة لا يرضى بذكر أسماء الناجحين ، ومدحهم على نشاطهم العلمي. إنه يسعى للحصول على أسماء الراسبين ، ويحاول الإكثار من الحديث عنهم. حتى يخفف من شدة الشعور بالحقارة من جانب ، ويقلّل من سيل اللوم والعقاب المتوجه نحوه من والديه وأقاربه من جانب آخر.

كذلك التاجر الذي أصيب بعجز مالي ، ولم يستطع الوفاء بالتزاماته يشعر بالحقارة. ولكي يقلل من تأمله الروحي الى درجة ما ، يعمد الى إبعاد التهمة عن مجالها الضيق فيشرك أسماء التجار الآخرين الذين هم على شرف الإنهيار أيضاً ، ويرغب في أنتشار أخبارهم حتى لا ينحصر سيل النقد والعتاب عليه وحده.

ص: 290


1- رشد شخصيت ص 116.
2- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 407.

تخدير الأحاسيس :

هناك مظهر آخر لردّ الفعل تجاه عقدة الحقارة ، هو إقدام البعض على الخمرة والمواد المخدرة. ومن المؤسف أن كثيراً من سكان العالم المصابون بهذا الداء الوبيل.

إن الشخص الذي يشكو من أحد أعضائه ويتألم لذلك كثيراً ، يمكن إنقاذه من ذلك باحد طريقين : علاج المرض ، وتهدئة الألم بواسطة العقاقير المسكنة والمخدرة. إن المريض يرتاح في كلتا الصورتين مع فارق كبير هو أنه في الصورة الأولى يكون قد تخلص من المرض تماماً ، أما في الصورة الثانية فإن المرض لا يزال على حاله ، غاية ما هناك أن المريض لا يشعر به.

وعقدة الحقارة مرض روحي يؤلم صاحبه ويقض عليه مضجعه. وبالإمكان إنقاذ المصاب بذلك بأحد طريقين : -

أحدهما - حل العقدة النفسية.

والثانية - تخدير الأحاسيس.

إن المصاب بعقدة الحقارة يتخلص من الإضطراب والألم في كلتا الصورتين ، مع فارق عضيم هو أنه في الصورة الأولى يكون قد تخلص من هذه العقدة تماماً ، بينما لا تزال العقدة موجودة في الصورة الثانية لكن المصاب لا يشعر بها.

قد يلجأ العاجزون عن علاج عقدهم النفسية الى الخمرة والمواد المخدرة الأخرى لكي يستريحوا من عناء الألم لبضع ساعات ويتخلصوا من وطأة الإضطراب والقلق ... ولكن ما ان يزول أثر السكر يعود الألم والشعور بالحقارة الى صاحبه ، مخيماً ، ومضيقاً الخناق عليه.

« لما كان كل ألم معلولا لإدراك معين فيجب العمل على إزالة العلل الروحية والجسمية التي توجب ذلك الإدراك أو إضعافها. ولذلك فإن أولى الوسائل التي تستخدم في هذا السبيل عبارة عن المواد

ص: 291

الكحولية والعقاقير المخدرة ».

« يجب أن نعلم بأن الإستمرار في تناول المخدرات يقلل من تأثيرها بالتدريج ، بحيث لا تنتج الحساسية المطلوبة بعد ذلك ، بل قد تؤدي هي الى الآلام والاضطرابات المختلفة ، وتشرع من السير العادي نحود الفناء » (1).

« عندما نتعمق في هذه القضايا من وجهة نظر علم النفس نجد أن هؤلاء الأفراد فاقدون للإعتماد على النفس. ومن البديهي أن الشخص الذي عرف نفسه واطلع على الاستعدادات الباطنية المودعة عنده لا يرضى بأن يكون في عداد هؤلاء. إن هؤلاء التعساء اصطدموا بموانع في حياتهم الإجتماعية وأصيبوا باليأس. وبدلا من أن يلتمسوا الطريق الصحيح في حل المشاكل ومقاومتها نجدهم يلجأون الى المواد الكحولية والخدرة ، والقمار ونحو ذلك ... وهم يريدون أن ينسبوا عقدهم الروحية وبعبارة أخرى فإن هؤلاء غير مستعدين للكفاح في ساحة الحياة فيفرون بكل جبن » (2).

وهكذا نجد أن الإنتقام ، والنقد اللاذع ، والإنزواء ، والبحث عن عيوب الآخرين لاشاعتها ، وتناول الخمر ... والأعمال المشاهبة لذلك ، ردود فعل يظهرها المصابون بعقدة الحقارة بغية تدارك ما هم عليه من النقص والضعة وإقناع أنفسهم بتبرير فشلهم. ولكن شيئاً من ذلك لا يحل العقدة النفسية ، ولا يعالج الداء علاجاً قطعياً ، مضافاً إلى أنه يتضمن أضراراً مادية ومعنوية للإنسان.

أفضل طرق المقاومة :

إن أفضل الطرق لمعالجة الشعور بالحقارة أن لا يندحر الإنسان أمامه ولا يخسر شخصيته ، بل يحاول التغافل عنه قدر الإمكان وأن يفكر بهدوء ويجدّ لتنمية

ص: 292


1- انديشه هاي فرويد ص 108.
2- عقده حقارت ص 33.

مواهبه واستغلالها حتى يبرز في جانب معين مفيد للمجتمع ، ويعيش حياة ملؤها العز والفخار.

هناك أفراد ذوو عاهات عضوية كثيرون ، تناسوا النقص الذي فيهم وعملوا في سبيل تحقيق غاياتهم بكل جد وإخلاص ، وذلك في ظل العلم والثقافة ، والجهد والنشاط وتوصلوا الى منازل رفيعة ودرجات سامية.

قال علي علیه السلام : « بالتّعب الشديد تدرك الدرجات الرفيعة والراحة الدائمة » (1).

* * *

ص: 293


1- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 338.

المحاضرة الثامنة والعشرون: الأساس النفسي للتكبير

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الحكيم : (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (1).

التكبر :

مر ردود الفعل التي تظهر عند المصابين بعقدة الحقارة لغرض إخفاء الفشل والإخفاق : التكبر. هذه الصفة الذميمة في نظر العلم والدين تعتبر من السيئات الخلقية الكبيرة ، وتعدّ من الأمراض النفسية الخطيرة. إن الرجال المتكبرين محتقرون في أنظارالناس ، معذبون عند اللّه تعالى.

قال الإمام الصادق علیه السلام : « الكبر رداء اللّه. فمن نازع اللّه عز وجل رداءه لم يزده اللّه إلا سفالا » (2).

إن أساس هذه الصفة الذميمة هو نوع من الحقارة التي يشعر بها المتكبر في ضميره ، والذي يؤلمه ويقلقه دائماً. إنه يحاول أن يخفي حقارته الباطنية بالتظاهر بالكبر ، وبهذه الطريقة يقنع نفسه ، ويخفف من فشله.

عن الإمام الصادق علیه السلام : « ما من رجل تكبّر أو تجبّر إلا لذلةٍ وجدها في نفسه » (3).

وعنه علیه السلام : « ما من أحد يتيه إلا من ذلّة يجدها في نفسه » (4).

ص: 294


1- سورة لقمان، الآية: 18.
2- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2ص309.
3- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2ص312.
4- نفس المصدر.

قد يبدو لأول وهلة بأن أساس التكبر هو الشعور بالعظمة. أي أن الإنسان عندما يرى نفسه عظيماً ، ويحس بالكبر والعلو في نفسه يتكبر ويستعلي على غيره. لكن هاتين الروايتين تذكران عكس ذلك تماماً. فقد وجدنا أن الإمام علیه السلام يذكر الأساس الوحيد للتكبر - بهيئة الأستنئناف المتعقب للنفي - عبارة عن الشعور بالذلة في نفس الشخص. وكذلك يعترف العلماء المعاصرون بأن التكبر من الوجهة النفسية ناشيء من عقدة الحقارة. ولتوضيح معنى الحديثين ، وتحليل الحالة النفسية للمصابين بالتكبر لا بد من إلمامه مبسطة بذلك.

التوقعات المعقولة :

لكل فرد من أي طبقة كان وفي أي مقام حلّ قيمة معينة ومنزلة محدودة ، يعرفه المجتمع بذلك المقدار ولا يوافق على احترامه اكثر من استحقاقه. أما الأشخاص الذين عرفوا حدود أنفسهم وينتظرون الإحترام من المجتمع بمقدار كفاءتهم وجدارتهم فإن الناس يقيمون وزناً لتوقعهم ذاك بكل رحابة صدر ، ويقدّرونب شعورهم فيحترمونهم بذلك المقدار.

قال علي علیه السلام : « من وقف عند قدره اكرمه الناس » (1).

أما الأفراد المتواضعون ، الذين يحمّلون المجتمع أقل من القيمة الواقعية التي هم عليها فإن موقف الناس تجاه تواضعهم ذاك يكون بإحترامهم اكثر مما يستحقون.

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة. فتواضعوا رحمكم اللّه » (2).

التجاوز عن الحد :

أما الأفراد الذين يرغبون بدافع من الإثرة والأنانية أن يحمّلوا المجتمع أضعاف ما هن عليه من القيمة الحقيقية ، والذين لم يعرفوا حدودهم الواقعية فيدفعهم ذلك ا لى أن يروا أنفسهم فوق الجميع ، ويتوقعوا المزيد من الشكر والتقدير والإحترام من

ص: 295


1- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 668.
2- مجموعه ورام ج1ص201.

الناس ... فإنهم غافلون عن أن الناس ليسوا يهملون توقعاتهم الفارغة هذه فحسب ، بل يستهزؤن بهم ويحتقرونهم بسبب من نكيرهم وأنانيتهم.

قال علي علیه السلام : « من تعدّى حدّه أهانه الناس » (1).

إن الأناني الذي يرى المجتمع أن قيمته الحقيقية خمس درجات ، ويعتقد هو خطأ بأن قيمته خمسون درجة يستطيع للإستمرار في علاقاته مع الناس أن يسلك أحد طريقين : -

الأول - أن يعترف بقيمته الواقعية التي هي عبارة عن خمس درجات ، ويغض النظر عن توقعاته الفارغة ، وينصرف عنها تماماً.

الثاني - أن يستمر في غيّه ، ويصرّ على خطأه فيتصور أن قيمته الحقيقية عبارة عن خمسين درجة.

في الصورة الأولى سيتغير موقف الناس تجاهه ويصبح اعتيادياً تماماً ، وتعود العلاقات بينه وبين الآخرين على اساس الاحترام المتبادل ، لأن مرضه النفسي قد عولج ، وانصرف الأناني المتكبر عن غيه ، وأخذ يعترف بقيمته الواقعية فلا ينتظر من المجتمع توقعات فارغة. والناس أيضاً سيسلكون معه حسب الواجبات الإنسانية ، ويحترمونه بالمقدار الذي يستحقه.

أما الصورة الثانية فإنها تؤدي الى نشوء عقدة الحقارة ، وظهور صفة التكبر فيه. إن الأناني المخدوع ينتظر من الناس أن يستسلموا لأوهامه التافهة ويحترموه بمقدار خمسين درجة. أما الناس فإنهم لما كانوا يرون أن قيمته الحقيقية التسامح معه في هذا المجال. إن إهمال الأفراد تجاة توقعاته الفارغة يؤدي الى إهانته وتحقيره ، وعلى أثر ذلك فإنه يواجه أولى الضربات الروحية القاصمة. إنه يشعر بالإضطراب وعدم الإرتياح في نفسه من هذا التحقير ، ويظن أن الناس لم يعرفوا قدره وغمطوا حقوقه فيأخذ بالتصريح بتوقعاته ويطالب الناس بتنفيذها له ... في حين أنهم يضحكون لهذه الأماني والأوهام الفارغة ويسخرون منه فينال جزاء أنانيته وإثرته بذلك.

ص: 296


1- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 668.

إن الإهانات وسيل السخرية والإستهزاء التي تواجه هذا الفرد تشدّد من - تأمله ، فيتراكم فشله وإنهياره في ضميره ، ويصاب بعقدة الحقارة في النتيجة. إنه يسيء الظن بالمجتمع ويحمل في نفسه حقداً تجاه الأفراد ، ويصبح عدّواً لمحتقريه. ولكي يتلافى ذلك يقوم بأعمال مماثلة فيحتقر المجتمع ، ويقول في نفسه : هؤلاء الأشخاص الجهلاء ، الفاشلون ، الغافلون ، المغرضون ، لا يسوون شيئا ... هؤلاء الأفراد الحقراء ، الأراذل ، التافهون ليسوا بشيء ولا يستحقون احتراماً.

إحتقار الناس :

إنه يؤمن بهذه الكلمات الباطلة والخيالية على أثر تكرر الإيحاءات الداخلية ، وتتركز هذه القضايا في ضميره فيحتقر الناس دائماً. ثم يصبح إحتقاره هذا في عداد صفاته الذميمة الأخرى خُلقاً ثابتاً في نفسه ، فيكون جزءاً من شخصيته وكيانه ...

هذا الخلق المذموم يسمى ب- ( التكبر ) في علم النفس والأخلاق.

وقد ورد عن الإمام الصادق علیه السلام في تعريفه : « الكبرُ أن يغمص الناس ويسفه الحقّ » (1) أي أن التكبر عبارة عن غمط حقوق الناس باحتقارهم ، وترك الحق لتعارضه مع أهوائه وغايته الشخصية.

في هذا الحديث نجد أن الإمام الصادق علیه السلام يعرّف المتكبر بصفتين : إحدهما تحقير الناس ، والثانية عدم رؤية الحق والواقع وبالإمكان أن نقول إن عدم رؤية الحق والواقع هو الذي يدفع الشخص المتكبر الى تحقير الناس لأن الذي ينظر الى نفسه والآخرين بعين الحقيقة ويحترمها بالإنقياد لها ، ولا يتجاوز عن حده الواقعي ، لا يحتقر الناس على خلاف الحقيقة.

نستنتج مما تقدم أن التكبر ناشيء من الحقارة في نفس المتكبر. إن الشخص الذي لا يشعر بالحقارة والضعة لا يصاب بالتكبر. وبهذا يتضح معنى الحديثين اللذين بدأنا بهما البحث فقد قال الإمام علیه السلام أنه لا يصاب بداء التكبر أحد إلا إذا كان يشعر بالذلة والحقارة في باطنه.

ص: 297


1- معاني الأخبار ص 242.

التجبر :

لا يخفى أن الحديث الاول جعل ( التجبر ) مثل ( التكبر ) ناشئاً من الشعور بالحقارة. فقد قال علیه السلام : « ما من رجل تكبّر أو تجبّر ، إلا لذلّة وجدها في نفسه » وهذا من المسائل القطعية في علم النفس ويعترف به جميع العلماء في العالم. إن كل من يستند إلى الظلم ، والتجاوز واستغلال السلطة ، والجبروت ، والطغيان ، والإعتداد فلا بد وأنه يشعر في باطنه بالخوف أو الضعف أو القلق ... وبصورة موجزة لا بد وأن يكشو نوعاً من الحقارة.

« إن كل مظهر من مظاهر حب التغلب والتسلط على الآخرين أمارة على الشعور بعدم الإستقرار الروحي. إن رب العمل الذي بجور على عماله كثيرا فإن ذلك لا يفسر الا بخوف خفي من فقدان القدرة عليهم ، وخروجهم على أوامره. إنه يعلم جيداً أن الأثر السلبي لشخصيته وتزمته أكثر من الأثر الإيجابي ... هذا القانون ينطبق على الزوج الذي يجوز على زوجته ، والوالد الذي يعامل أولاده بخشونة أيضاً ».

« عندما يكون الإستبداد ، والظلم ، والتجاوز رائجاً فإنه أمارة الشعور بعدم الكفاءة وفقدان الإعتماد على النفس وبالإمكان اكتشاف جذور هذه المفاسد بمعونة عالم نفساني أو بواسطة التأمل الباطني والحياد في كشف زوايا اللاشعور » (1).

« كنت أعرف مهندساً قديراً ممتازاً في فنه. كان يعامل أصدقاءه وأفراد أسرته بالبشر واللين ، ولكنه كان يبذل المزيد من الخشونة والشدة تجاه العمال الذين يشتغلون تحت إشرافه ... كان يتناول الطعام لوحده ، ولا يشارك الآخرين في أحاديثهم ونزهاتهم ، كان لا يضحك أبداً ولم تظهر الإبتسامة على فمه ، وكان لا يسمح لأحد بالاعتراض والإنتقاد ، ولكننا كنا نعلم أنه يتألم كثيراً في بطانه من هذا السلوك ، ويتمنى أن يستطيع التكلم والضحك مع الجميع ، وأن

ص: 298


1- عقدة حقارت ص 82.

يشارك الآخرين في تناول الطعام. وعندما سأله المحلل النفسي عن ذلك وتحري جميع جوانب شخصيته ، تبين أنه يشك في انقياد العمال والموظفين الذين يعملون تحت إشرافه له من دون أن يشعر بذلك ... وأنه يتصور أنهم لا يرونه جديراً بالإشراف عليهم وإدارة شؤونهم وتوجيه الأوامر نحوهم ، لذلك كان يثبت شخصيته بالضغط والشدة والخشونة » (1).

في جميع الطبقات :

إن المقياس الأساسي والعلمي لنشوء ظاهرتي التكبر والتجبر ، هو الإحساس بنوع من الضعف والحقارة. ولذلك فإن من الممكن أن يظهر هذا الداء في جميع الطبقات والأمم ، فلا يختص بطبقة دون أخرى ... إنه يظهر في الأغنياء والفقراء ، في البيض والسود ، في القادة والمنقادين.

عن الإمام الصادق علیه السلام قال : « الكبر قد يكون في شرار الناس من كل جنس ، إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مر ، في بعض طرق المدينة ، وسوداء تلقط السرقين. فقيل لها : تنحي عن طريق رسول اللّه. فقالت إن الطريق لمعرض. فهم بها بعض القوم أن يتناولها. فقال رسول اللّه : دعوها فإنها جبّارة » (2).

إن السود كانوا يتعرضون للتحقير والإهانة من البيض دائماً ولذلك فإنهم كانوا يحترقون في نار الحقارة ، ويشعرون بالذلة والهوان ، وهذا ما كان يؤلمهم كثيراً ... فلا عجب إذن أن تصاب امرأة سوداء بسبب من الحقارة العنصرية بالتجبر وتكلم الناس بهذا الأسلوب من التكبر.

العرب قبل الإسلام :

لقد كان العرب قبل مجيء الإسلام يعيشون في أتعس الظروف المادية والمعنوية ، وكانوا مرتطمين في هوة من الفساد والإنحراف ، يقدمون على الجرائم

ص: 299


1- رشد شخصيت ص 117.
2- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2ص309.

المختلفة ... محرومين من كل رصيد علمي أو ثقافي ، بعيدين كل البعد عن القيم الاخلاقية والأسس الإيمانية ، منحطين من الناحية الإقتصادية ومع ذلك فقد كانوا مصابين بأشد درجات التكبر وأعلى مراتب الجبروت ، إنهم كانوا يحتقرون جميع الناس من الأمم الأخرى لتكبرهم ، والسبب في ذلك شعورهم بالحقارة والذلة في أنفسهم من جميع الجهات.

لقد شرح الإمام أمير المؤمنين علیه السلام حالة العرب قبل الإسلام بجمل قصيرة ، فقال :

« إن اللّه بعث محمداً صلی اللّه علیه و آله نذيراً للعالمين ، وأميناً على التنزيل. وأنتم - معشر العرب - على شر دين وفي شر دار منيخون بين حجارة خشن وحيات صم ، تشربون الكدر وتأكلون الجشب ، وتسفكون دماءكم ، وتقطعون أرحامكم. الأصنام فيكم منصوبة ، والآثام بكم معصوبة » (1).

نموذج للتكبر :

بالرغم من أن النبي صلی اللّه علیه و آله بذل جهداً كبيراً في سبيل إنقاذ تلك الأمة المتخلفة والمتكبرة ، واستطاع من حلّ كثير من العقد النفسية بفضل تعاليمه القيمة ، ولكن التكبر كان ضارياً بجذوره في قلوبهم طيلة قرون عديدة الى درجة أنه ظل بعض الأفراد مصابين بهذه الصفة الذميمة ، بحيث كانوا لا يقيمون وزناً لغيرهم أصلاً كانهم ليسوا بشراً ، ولا يجمعهم أب واحد.

وعلى سبيل الشاهد أذكر لكم نموذجاً تاريخياً طريفاً :

توجه علقمة بن وائل الى المدينة المنورة للقاء النبي صلی اللّه علیه و آله فتشرف بحضرته وعرض عليه حاجته. ثم قصد الذهاب الى دار أحد كبار الأنصار في المدينة ولكنه لم يكن يعرف الدار. كان معاوية بن أبي سفيان حاضراً في المجلس فأمره النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بإرشاد علقمة الى دار الانصاري. يقول معاوية :

خرجت بصحبة علقمة من عند النبي ، فركب ناقته وأخذت أسير على قدمي الحافيتين في شدة الحر.

فقلت له في أثناء الطريق : لقد احترقت قدماي من شدة الحر فأردني خلفك.

ص: 300


1- نهج البلاغة شرح الفيض الاصفهاني ص 83.

فقال علقمة : إنك لا تليق بأن تركب ردف السلاطين والعظماء.

فقال له معاوية : أنا ابن أبي سفيان.

فقال له معاوية : إذا كنت لا تسمح لي بالركوب خلفك ، فانزع خفّيك لألبسهما وأتقي وهج الأرض.

قال عقلمة : إن خفي أكبر من قدميك ... ولكن أسمح لك بالسير في ظل ناقتي ، وإن في هذا تسامحاً كبيراً مني تجاهك ، وهو في نفس الوقت مدعاة للفخر والإعتزاز لك ، أي أنك تستطيع أن تتباهى أمام الناس بأنك سرت في ظل ناقتي (1).

إن هؤلاء المتكبرين والأنانيين الذين لا يريدون الخضوع للواقع ، والذين يحلمون بالعظمة دائماً ، ويعيشون في عالم من الخيال والوهم ... يعملون على تعاسة أنفسهم وغيرهم ، وربما يدفعهم ذلك الى القيام بأعمال خطيرة ، وتحمل مصائب وخيمة.

الأحلام التي لا تتحقق :

« العلامة الأخرى من علامات عقدة الحقارة أن الفرد يعيش في عالم من الأحلام والخيال ، والذي يسمى في الإصطلاح العلمي ب- ( الفانتزي ). ويعني ذلك الفرار من الواقعيات ، والتهرب من المشاكل والمسؤوليات ، واللجوء إلى دنيا الأحلام والآمال التي لا تتحقق ».

« إن خطر هذه الحالة النفسية يكون عندما يصبح الشخص مأسوراً لها بحيث يفقد القدرة على العمل والنشاط في قبال حقائق الحياة. فعندما يستولي الشعور بالهرب من الحياة على شخص ما ، خصوصاً إذا كان متمتعاً بقدرة ومنزلة سامية ، فإن المآسي التي تنتج من ذلك عظيمة جداً الى درجة أن تصورها يبعث على الألم والاستيحاش ».

« إن الشعور بالحقارة الذي أصاب الألمان بعد إندحار عام 1918 ،

ص: 301


1- آداب النفس للعينائي ج1ص302.

أدى إلى أن يعيش هؤلاء في حالة من الفانتزي الروحية والإجتماعية فقد أخذوا منذ ذلك الحين يؤلفون الكتب ، وينظمون الأناشيد ( التي أشهرها نشيد المانيا فوق الجميع ) ، أملا في اليوم الذي يتغلبون فيه على الأمم الأخرى ويأخذون زمان الحكم في العالم ».

« هذه الحالة النفسية هي التي مثلت مأساة الحرب العالمية الثانية التي أدت إلى انكسار الألمان أيضا » (1).

مما تقدم نستطيع أن نخلص الى أن التكبر والإستعلاء ناتج من عقدة الحقارة. إن الأشخاص المأسورين للأنانية والإثرة وعبادة الذات عندما يشعرون بالحقارة فإنهم يلجأون الى التكبر لإرضاء أنانيتهم ، ويتداركون الحقارة بتحقير الآخرين ، أو ارتكاب الجرائم العظيمة إذا تمتعوا بقدرة على ذلك.

الأنانية :

هنا يثور سؤال :

لماذا يصاب البعض بمرض الأنانية؟ وكيف تتأصل هذه الصفة الذميمة في نفوسهم؟ إلى درجة انهم تعشى عيونهم عن رؤية الحق والواقع ويشعرون بالإستعلاء على الجميع ، ناسين انفسهم قيمة أعلى مما يستحقون؟

للإجابة على هذا السؤال نقول :

هناك علل وعوامل كثيرة تتسبب في إيجاد هذه الحالة النفسية ، وإصابة الفرد بمرض الانانية. ولما كان الموضوع الاساسي لبحثنا عبارة عن تربية الطفل ، فستحدث في هذه المحاضرة عن عاملين يتعلقان بدور الطفولة فقط ، مرجئين البحث عن العوامل المؤدية الى نشوء الأنانية عند الكبار الى مجالات خاصة بذلك.

إن العامل الأول لنشوء هذه الحالة النفسية عبارة عن الوضع الطبيعي للطفل. فكما أن بعض الأطفال يتولدون مع نقائص عضوية أحياناً ، بعضها قابل للإصلاح والبعض الآخر لا طريق لمعالجته ... كذلك البناء الروحي لبعض الأطفال فإنه قد

ص: 302


1- عقده حقارت ص 36.

يكون غير طبيعي منذ اليوم الأول من الولادة ، وهذا بدوره قد يكون قابلاً للتعديل ، وقد تعقم جميع الوسائل المستخدمة لعلاجه.

إن العلماء المعاصرين يسمون الأطفال غير الاعتياديين ب- ( الأطفال المعقدين ). وقد أجروا تجارب وتحقيقات كثيرة حولهم ، وصنفوهم إلى طبقات مختلفة.

الأنانية عند الأطفال المعقدين :

هناك طبقة من الأطفال المعقدين ، يعتبر الغرور والانانية جزءً من فطرتهم. هؤلاء كأنهم تولدوا متكبرين وأنانيين مع بنائهم الروحي الخاص ، وإنهم يمتازون بشذوذ روحي منذ البداية.

« إن الطفل المعقد يمتاز بسلوك خاص منذ اللحظة الأولى لولادته ، وذلك كالغرور الفطري الذي يؤدي الى سيطرة أنانيته على جميع ميوله الأخرى ».

« إن اللّهجة الناتجة من المنطق الخاطىء واضحة عند الطفل المعقد. وإن خطر هذه الحالة يكمن في أنه يستند الى هذا المنطق الخاطىء دائما ولا يرضى بالتنازل عنه ، ولذلك توجد في ذهنه صور مغلوطة تماماً عن الأشياء والموجودات ، كأنها قد نُظر إليها من خلال أشعة منكسرة.

« يتميز الطفل المعقد بتركيب خاص واضح. إن وجهه منقبض في الغالب ، ويكون في حالة عصبية دائماً ... شفتاه دقيقتان ونظرته ثابتة وباهتة ، وعندما يبهت لشيء فلا يمكن إخراجه عن هذه الحالة من الجمود الروحي خاصة به ، لأن وضعه الروحي يشبه عضلات وجه في الجمود الخمول. في هذه الحالة ينطوي الطفل على نفسه ، ثم يسلك سلوكاً يوهم كونه في حالة من الهجوم ، لأنه يهمل كل شيء وقد يؤدي ذلك إلى عدم إحترام الآخرين ».

« هذه هي علائم للشخصية التي قد تتحطم ولكنها لا تتغير ولا تبدي تغيراً من نفسها. إنه سريع في حركاته ، ويرغب في الإستقلال منذ الطفولة ويحاول أن يجد طريق حياته لوحده. أحياناً يعلن هؤلاء

ص: 303

الأطفال الحرب على المجتمعات التي لم ترض شعورهم بالأنانية والإثرة ، ولما كانوا أشخاصاً خطرين فإنهم يتسببون في إحداث مشاكل عظيمة » (1).

هؤلاء الأطفال الذين يعبدون ذواتهم ، وكأنهم جُبلوا على الغرور تكون حركاتهم وسكناتهم ، أقوالهم وأفعالهم ، تجاه الأطفال والكبار ، عند اللعب وفي الحالات الإعتيادية قينة بالتكبر والإستعلاء. إنهم إن وجود في ادوار الطفولة الظروف المساعدة لإرضاء غرروهم قرينة ورة حرة ولم يواجهوا مانعاً أو عقبة في محيطهم التربوي أو الحياتي ، فإنهم ينشأون على الأخلاق البذيئة ، ويعتادون على التكبر والجبروت.

هؤلاء يندحرون في حياتهم بسرعة. ويطردهم المجتمع الذي ينفر من الاحتكاك بهم والتعاون معهم ، وهذا يسبب الحرمان والفشل لهم مدى العمر.

تربية الأطفال المعقدين :

إن التربية الصحيحة لهؤلاء الأطفال الذين جُبلوا على التكبر والغرور تحتاج الى أسلوب خاص ، يختلف عن أسلوب تربية الأطفال الإعتياديين ، لا بد من وجود مربّ قدير يشرف عليهم ، ويعمل على قمع تلك الصفات الذميمة فيهم بالأساليب العلمية والتطبيقية ، ويزرع بذور الصفات الطيبة بدلاً منها.

يقول ( شاويني ) بالنسبة الى معالجة العناد والتناقضات في الأطفال المتكبرين : « إن العنصر الأصيل للتناقضات هو التكبر. إن مشاهدات الشخص المتكبر خاطئة غالباً ، ومن الخطورة بمككان أن نفاجئه بالحقيقة رأساً ومن دون مقدمات ، وربما كان ذلك سبباً لتركيز عاداته البذئية لأنه سوف لا يعترف بأنه يتحدث بالتناقضات ، ويسند كلامه بأدلة وتبريرات. لا تصرّوا على إثبات كلام آخر في قبال كلامه أبداً لأنكم بعملكم هذا تكونون قد ساعدتموه على الإستمرار في سلوكه لأنه سيزداد إصراراً على كلامه » .

ص: 304


1- جه ميدانيم؟ تربية اطفال دشوار ص 33.

« لا تناقشوا معه مطلقاً ، واحذروا عن كل شيء يؤدي إلى إثارته ، ولكن بالرغم من أنكم تعلمون أنه لا شيء وراء هذه المظاهر فمن المناسب أن تستشيروه في قضاياه وتسألوه عن رأيه فيها. ستعجبون - إذا لم تكونوا قد جربتم ذلك - عندما تجدون أن هذا الشخص المغرور والمتكبر ينقلب الى شخص حائر ومتردد لا يعلم ما يقول ، لأنه كان قد أعدّ نفسه لمعاندتكم فقط ... دعوه على هذه الحالة لفترة وإذا بكم تجدونه يطلب المعونة منكم بكل خضوع وسيقبل آراءكم جميعها! ».

« هذا الأسلوب الذي يمنع من معارضة الطفل ، من محاسنه أنه يمنع من نمو هذه الميول الروحية المتطرفة فيه ، مضافاً الى أنه يحفزه نحو الإبتكار والإبداع وهذا بنفسه يمكن أن يكون علاجاً قطعياً فيعتاد أخيراً على أن يعمل برأيه على نحو الاستقلال في كل قضية تواجهه » (1).

لو لم يتلقّ هؤلاء الأطفال غير الإعتياديين تربية سليمة ، ونشأوا تبعاً لذلك على الغرور وعبادة الذات أصبحوا أفراداً خطرين وفوضويين ، وقد يجرّون على انفسهم وعلى سائر الناس سلسلة من المشاكل والمآسي لأن تحقير الناس وإهمالهم مضافاً الى أنه يزيد في غرورهم ويبلغ بتكبرهم الى درجة الجنون ، يزرع في نفوسهم بذور الحقد والبغضاء تجاه المجتمع الذي لم يستجب لمطاليبهم ولم يرض شعورهم بالإثرة والأنانية ، ولذلك نجدهم يقدمون على مختلف الأعمال الخطيرة.

الغرور في صورة إجرام

يقول ( جلبرت روبين ) : « كمثال على هؤلاء الأطفال أذكر لكم قصة شاب جميل في الخامسة عشرة من عمره إنه كان يقضي جميع أوقاته في تحليل وقياس المواد المتفجرة التي كان يحوزها ، وففي إحدى الأيام تفجر شيء من المساحيق وسبّب حريقاً عظيماً. هل تستطيعون

ص: 305


1- چه ميدانيم؟ تربيت اطفال دشوار ص 80.

أن تعرفوا الدافع له الى ذلك العمل؟ أجل ، إنه كان يريد أن يحرق الدنيا بأسرها ، وهذه هي عبارته ، والهدف العظيم الذي كان يسير حثيثاً نحوٌ تحقيقه » (1).

نستنتج مما تقدم أن البناء الروحي لبعض الأطفال ليس اعتيادياً ، بل إنهم يملكون غروراً ذاتياً وشعوراً بالإنانية منذ البداية. وهذا هو العامل الأول الذي يؤدي الى نشوء صفة التكبر الذميمة عند بعض الأطفال وعن طريق الأساليب التربوية الدقيقة فقط يمكن هداية نفوسهم المريضة وطبائعهم المنحرفة الى الطريق المستقيم. ولحسن الحظ فإن عدد هؤلاء الأطفال المعقدين قليل جداً.

المدح من غير استحقاق :

والعامل الثاني الذي قد يؤدي الى نشوء الشعور بالأنانية وعبادة الذات عند الانسان ، ويوقع الإنسان في هوة التعاسة والشقاء هو الأساليب التربوية الفاسدة التي يتلقاها في طفولته. إن الأبوين الجاهلين اللذين يمدحان الطفل من غير استحقاق ، ويبذلان له من العطف والحنان ما يزيد على الحد المعقول يحطمان شخصيته بذلك ، ويزرعان بذور الأنانية في نفسه منذ البداية.

إن هؤلاء الآباء والأمهات يقومون بأعمال ظاهرها الحب ولكنها تحمل في أعماقها العداء. لأنهم يتسببون في انحراف الطفل الذي لا يعرف حدوده واقعية. إنهم يقولون له : أنت الروح ، أنت القلب ، أنت قرة العين ، أنت نور البيت ، أنت الدرة الفريدة ، أنت أغلى من جميع الأطفال والخلاصة أنهم يتحدثون معه بالأكاذيب والخدع الكثيرة ، ويفهمونه تدريجياً بأنه يتمتع بمنزلة سامية ودرجة رفيعة.

هذا المدح ، وهذا الحنان يثبت جذوره في روح الطفل ... وإذا بسلوكه في الكبر ينبع من تلك الأسس التي نشأ عليها والأفكار التي أعتنقها بصورة نهائية.

« إن دور الطفولة يستند إلى أسس قويمة بحيث يرتبط الإتساع في المشاعر في الفترات اللاحقة الى ذلك الدور وذخيرة الحب التي

ص: 306


1- چه ميدانيم؟ تربيت اطفال دشوار ص 34.

يحصل عليها الطفل تعتبر من هذه الأسس. إن الحب ، مضافاً الى جانب جلبه للذة الشخصية التي تؤدي الى نشوء عبادة الذات في الطفل ، يشتمل على مجموعة من المشاعر التي يحصل عليها في جو الأسرة ، والمدرسة ».

« تترك مظاهر الحب التي تلقاها الدور في الدور الأول من حياته ، أي قبل بلوغه الخمس أو الست سنين ، وكذلك التجارب الطيبة أو المرة الناتجة من ذلك ، آثارها في الجانب اللاشعوري من ضمير الطفل. هذه الآثار تكون النقاط البارزة من وضعه الروحي » (1).

إن الضمير الباطن للطفل المدلّل مليء بالإثرة والأنانية. هذا الطفل لا يجد في الحياة أحداً غيره ، لأن أبويه لم يعلمّاه غير هذا الأمر. إن الذخيرة الوحيدة التي تركزت في روحه منذ الصغر هي عبادة الذات. إنه يتذكر إنطباعته عن دور الطفولة ، فهو القلب ، وهو الروح ، وهو أغلى من الجميع. إنه يدخل المجتمع بتلك الروح ويتوقع من جميع النساء أن يدللنه كأمه ، وينتظر من جميع الرجال أن يحترموه كأبيه.

الفشل :

هذا الطفل عندما يشب ويترعرع لا يجد من الناس الإحترام الذي كان يتصوره ، لذلك يتألم من البرودة التي يعامله المجتمع بها ، الى أن يتولد عنده الشعور بالحقارة. إن تكرار الإهمال والبرودة يؤدي إلى إزديار التوتر النفسي ، والفشل المتواصل يؤلم ضميره حتى يتحول الشعور بالحقارة الى عقدة الحقارة وتحدث فوضى عظيمة في روحه.

« إن الشعور بالحقارة عبارة عن ألم شديد ناشيء من الانحراف الروحي الذي يسيطر على جميع جوانب شخصية الانسان. أما عقدة الحقارة فهي عبارة عن مجموعة من الخواطر الروحية المتراكمة التي لم تصبح جزء من شخصية جزء من شخصية الإنسان بعدُ ، ولا تستطيع أن تصبح جزء من شخصيته بواسطة إجراء تحوير شكلي أو ظاهري ... لأن

ص: 307


1- چه ميدانيم؟ بيماريهای روحی وعصبی ص 42.

العقد مؤلمة جداً ، والصراع دائب بينها وبين روح الفرد. هذه ا الخواطر الروحية المتراكمة قد تنشأ في الإنسان نتيجة لتجارب مختلفة ، فبدلاً من أن يطردها من دماغه أو ينسى شعوره الخاص نحوها يودعها في ضميره الباطن وفي زاوية اللاشعور ثم يتذكرها بالتدريج. في حين أن تجددها يبعث الألم والقلق في صاحبها » (1).

أمارة النقص :

إن الأنانية التي يتّسم بها الأفراد المغرورون والمتكبرون ، لهي أمارة على النقص المعنوي وانخفاض المستوى الأخلاقي عندهم. إن هؤلاء الأفراد يصابون بعقد الحقارة عندما يجدون أن المجتمع لا يعير اهتماماً لتوقعاتهم الفارغة ، وعندما يرون نتائج فشلهم صريحة في تحقير الأفراد إياهم.

لقد قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في ذلك : « كفى بالمرء منقصةً أن يعظم نفسه » (2).

وعنه علیه السلام : « كفى بالمرء غروراً أن يثق بكل ما تسول له نفسه » (3).

وعنه أيضاً : « من سأل فوق قدره ، استحق الحرمان » (4).

حل العقد النفسية :

إن مرض هذا الإنسان ناشىء من نفسه ، وعلاجه بيده. إنه لو استعان بالعقل والمنطق ، وتنبه الى فساد التربية التي درجع عليها ، وزكى نفسه وطهرها ، وترك الإستعلاء والتكبر ، ونسي عبادته لذاته ، وأعطى نفسه ما تستحق ... فإن الأستار المظلمة سترفع ، والغيوم الكثيفة ستنقشع ، وتنتهي المآسي.

أما لو ثبت على خطأه ، وأصرّ على عبادة ذاته ، وأغفل نداء عقله ، ولم يعرف

ص: 308


1- عقده حقارت ص 29.
2- غرر الحكم ودرر الكلم لللامدي ص 558.
3- نفس المصدر ص 558.
4- المصدر السابق ص 665.

قدر نفسه ، وظل يظن نفسه عزيزاً ومدللاً ، يتوقع الإحترام والتكريم من الجميع ... فإن الإنهيارات المتتالية ستحطم شخصيته ، وتضيق العقد المؤلمة الخناق عليه. فيبدأ بالتخطيط للإنتقام لتدارك حقارته ... يحتقر الآخرين ويتكبر عليهم ، ويقابل إهمال الناس وتحقيرهم بالإهمال والتحقير أيضاً.

عندئذ تتشدّد المصيبة ويتسع الخرق على الراقع لأن الإنحراف الخلقي يزداد في المجتمع. ذلك أنه عندما يبتلي المصابون بالغرور بداء التكبر ، وتستأصل فيهم النخوة المستندة الى الجهل فإنهم يواجهون مشاكل جديدة ويصطدمون بآلام شديدة.

إن الذي يصاب بالتكبر وينظر الى المجتمع بعين الحقارة والذلة ، يواجه بلا ريب رد فعل مشابه من الناس ، فيأخذ المجتمع باحتقاره وعدم الإعتناء اليه. وهذا هو أفضل جزاء للمتكبر.

قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « مَن تكبّر على الناس ذلّ » (1).

التكبر وظلمة العقل :

لا تقف آلام هذه الطائفة من المصابين بداء التكبر عند حد احتقار الناس إياهم ، بل إن عقدة الحقارة والآلام الروحية الناشئة منها تؤدي في بعض الأحيان الى أمراض روحية وعصبية شديدة.

« لقد أكد ( آدلر ) في التحقيقات التي أجراها بصدد الآلام الناشئة من عقدة الحقارة على دور الوضع الروحي للتعليم والتربية ، والاعتناء بالشخصية ، في نشوء كثير من الأمراض الروحية والعصبية » (2).

إن التكبر من أعظم الحجب الذي تُسدل على العقل فتؤدي إلى ظلمته وكلما كان نفوذ هذه الصفة الذميمة في روح الفرد أقوى كان حرمان العقل من إدراك الحقائق ورؤية الواقع أشدّ.

ص: 309


1- تحف العقول عن آل الرسول ص 88.
2- جه ميدانيم؟ بيماريهاى روحى وعصبى ص 42.

إن المتكبرين يقدمون في سلوكهم على أعمال غير عقلائية ، وربّما أدى الأمر الى الجنون. لقد صرّحت الأحاديث بذلك واعتبرت التكبر آفة عظيمة من آفات العقل ، تؤدي الى نقصه وضعفه.

فقد قال أمير المؤمنين علیه السلام : « شر آفات العقل الكبر » (1).

وعن الإمام الباقر علیه السلام : « ما دخل قلب امريء شيء من الكبر إلا نقص من عقله مثل ما دخله من ذلك ، قل أو كثر » (2).

في العلم الحديث :

يرى العلم الحديث أيضاً أن التكبر من الأمراض الروحية ، وأن المتكبرين مصابون بنوع من الجنون في نظر العلم ، حتى أن بعض العلماء يعدّونهم في عداد سائر المجانين.

« في بعض الموارد يأخذ الهذيان - أي أسلوب التفسير الباطل - طبيعة اخرى ، ويرتبط باختلال الاخلاق والإدراك. في هذه الحالة يصبح الشخص متكبراً ومحباً للشر ، فيسيىء الظن بمن حوله وبالتدريج يتأصل هذا الإتجاه في دماغه. عندما تقف الأمور عند هذا الحد فإننا نجابه إنساناً شديد الحساسية. أما إذا ظهرت بصورة ملموسة فقد تنتهي الى الهذيان الحقيقي وردود الفعل المعاكسة للمجتمع ».

« لقد بحث العالمان ( سريو ) و ( كاب گرا ) هذه الأمور بصورة مفصلة تحت عنوان ( الهذيان في التفسير ). هؤلاء المصابون لا يبدو عليهم الجنون لأول وهلة ، لأنهم لم يفقدوا قدرتهم على الاستدلال ، وإن الذي يتحدث معهم يتصور أنهم مفكرون ومتعمقون في القضايا ولهذا السبب بعينه فقد كانت هذه الحالات تسمى في السابق ب- ( الجنون المعقول ). إن إصلاح ( الجنون الجزئي ) يشير الى هذه المظاهر. إن الاختلال الأساسي الذي يوجه هذا الميل الروحي

ص: 310


1- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 448.
2- سفينة البحار للقمي ص 460 - مادة ( كبر ).

عبارة عن حالة نفسية ناشئة من التكبر ، بحيث تمنع المصاب من أن يكون حيادياً في تحكيمه ، فيتهم البعض بدون دليل ما بكونهم عقبة في سبيل تحقيق أهدافه هذا الاختلال الذي يختص بمميزات معينة يشاهد في الحياة الإعتيادية خصوصاً في الحياة السياسية ، الذي تجد فيها الأحقاد والأهواء والأغراض الشخصية الميدان الوسيع لنشاطها. يكون الميل للسيطرة والتكبر أوضح عند البعض ، لأن ضمائر هؤلاء تكون مصابة بنوع من التخدير والشلل ، ولذلك فإن كل ما يرغبون في تحقيقه يبدو لهم أنه عين الصواب ، ولكنهم ينتقدون سلوك الآخرين بشدة. كل من يخالفهم أو لا يخضع لأعمالهم الطائشة يعتبرونه عدواً يوتصورون أنه يؤلمهم كثيراً ، في حين أنهم هم الذي يؤلمون الآخرين » (1).

المجنون حق الجنون :

روي جابر بن عبداللّه الأنصاري أنه : « مرّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله برجل مصروع وقد اجتمع عليه الناس ينظرون إليه. فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : على ما اجتمع هؤلاء :

فقيل له : على مجنون يصرع.

فنظر إليه فقال : ما هذا بمجنون. ألا أخبركم بالمجنون حق الجنون؟!

قالوا : بلى يا رسول اللّه.

قال : إن المجنون حق الجنون : المُتبخترُ في مشيه ، الناظر في عطفيه ، المحرّك جنبيه بمنكبيه. فذاك المجنون وهذا المبتلى » (2).

التكبر وضعف العقل :

إن المصابين بداء التكبر يرون إلى جميع أعمالهم نظرة الإستحسان ويتوقعون

ص: 311


1- چه ميدانيم بيماريهاى روحى وعصبى ص 33.
2- معنى الأخبار ص 237.

من الجميع أن ينقادوا إليهم ويقتدوا بسلوكهم ، ويصدّقوا جميع أقوالهم. ومن يخالفهم في ذلك فهو مجنون في عرفهم ، حاقد لا يستطيع رؤية ما هم عليه من الفضيلة والكمال! وهذا بنفسه أعظم علائم ضعف العقل.

ففي الحديث : « العُجب درجات. منها أن يُزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسناً فيُعجبه ويجب أن يحسن صنعاً » (1).

وعن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : إعجاب المرء بنفسه يدلّ على ضعف عقله » (2).

فقر الإنسان وحاجته :

إن الكبرياء والعظمة لله فقط ، لأنه هو الغني بذاته ، لا طريق للفقر والاحتياج الى ذاته المقدسة فهو الكمال المطلق ... وجميع الموجودات محتاجة اليه.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (3)

الانسان الذي يفقد القدرة على المقاومة في قبال الجوع أو العطش ، أو الحرّ أو البرد ... الشخص الذي يهرب من وجه الوحوش المفترسه ، والحشرات المؤذية ...

الموجود الذي كله ضعف وعجز ... لا يمل : العظمة الحقيقية والكبرياء الواقعية حتى يدعوه ذلك : الى التجبر والتبختر.

فاذا عرف الانسان حدّه ، وأدرك : حقيقته ، ولم يتجاوزها ... فانه لا يصاب بداء التكبر والغرور أبداً ، ولا ينظر الى عباد اللّه نظرة الاستخفاف والاحتقار!

وعلى العكس فان الانسان الذي جهل حدّه ، لا يرى في الوجود أحداً غير نفسه. ولا يفكر في شيء غير ارضاء ميوله وتحقيق مصالحه الشخصية ... انه لا يقيم

ص: 312


1- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2ص313.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج17ص79.
3- سورة فاطر، الآية: 15.

وزناً لسعادة المجتمع. ولذل : فلا يتورع من الاقدام على الجرائم العظيمة.

« ان موضوع الميول الشخصية التي نعبّر عنها بالغرور والأنانية عبارة عن وجودنا بكلا شطريه : الجسمي والنفسي وإذا كانت الميول الإجتماعية تدعونا الى نشاطات لصالح المجتمع وتحقق الخير والنفع للجميع ، فإن الميول الفردية تهمل شأن المجتمع تماماً. إنها لا تنظر في نشاطاتها إلا إلى وجود الفرد ومنافع ( الأنا ) فقط ، فيتذكر حقوقه جيداً لكنه ينسى واجباته. عندئذ يظهر الإجرام بصورة مختلفة من الميول الفردية كالتكبر ، والإهتمام بالذات ، والرغبة في الحصول على الثروة ، وغير ذلك. إن المتيقن هو أن جميع هذه الميول تنبع من حب الذات وعبادة الشخصية ، وهي التي تدفع الفرد الى التضحية بالآخرين في سبيل نفسه » (1).

النصائح المناسبة :

من الخدمات العظيمة التي يقوم بها الرجال العظماء والساهرون على مصلحة المجتمع ، قيامهم باسداء النصائح اللازمة في الأوقات المناسبة الى المتكبرين والمغرورين ... حيث أنهم بنصائحهم الثمينة ينزلونهم من صهوة غرورهم ولو لبضع ساعات. وهناك شواهد تاريخية كثيرة على ما نقول.

لقد كان ( المنصور الدوانيقي ) من الخلفاء المتجبرين في السلسلة العباسية. لقد جعلت ذبابة يوماً وجهه مسرحاً لنشاطها وتنقلها ، فقد أخذت تطير من شفته الى عينيه ، ومن عينيه الى أنفه ، ومن أنفقه الى جبهته حتى ضاق بها ذرعاً وتألم كثيراً. فقال لخدمه : انظروا من ينتظرنا بالباب ، فقالوا له : مقاتل بن سلمان.

كان مقاتل - هذا - من كبار المحدثين والمفسرين في ذلك العصر فأمر المنصور بالسماح له في الدخول. وما أن دخل حتى وجه له المنصور السوال التالي :

« هل تعلم لماذا خلق اللّه الذباب؟!

ص: 313


1- جه ميدانيم؟ جنايت ص 17.

قال : نعم. ليذلّ الجبابرة!

... فسكت المنصور » (1) من هذا يظهر أن كلام مقاتل أثر فيه ، فقد وجده مطابقاً للحقيقة ، ومنسجماً مع الحالة السابقة التي كان عليها.

ونموذج كخر نجده في قصة المهلب بن أبي صفرة والي عبد الملك بن مروان على خرسان. فقد كان في بعض الأيام مرتدياً ثوباً من خز ، ويسير في الطرقات بكبرياء وتبختر ، فقابله رجل من عامة الناس وقال له : يا عبداللّه ، إن هذا المشية مبغوضة من قبل اللّه ورسوله.

فقال له المهلب : أما تعرفني؟

قال : بلى أعرفك ... أولك نطفة مذرة ، وآخرتك جيفة قذرة ، وانت بين ذلك تحمل عذرة.

فمضى المهلب وترك مسيته تلك ، دون أن يتعرض للرجل بسوء (2).

درجة من الإلحاد :

إن التكبر من أعظم الصفات الذميمة في الإسلام. وقد وردت في ذلك كيات وأحاديث كثيرة يحتاج نقلها جميعاً الى وقت طويل ، لكني سأكتفي بحديث واحد في نهاية المحاضرة فقد سأل الراوي الإمام الصادق علیه السلام عن أدنى الإلحاد ، فقال : « إن الكبر أدناه » (3).

في هذا الحديث نجد أن الإمام الصادق لم يعتبر التكبر صفة ذميمة فحسب ، بل اعتبره مرتبة من مراتب الكفر والإلحاد. وكأنه يريد أن يقول : أن المتكبر يكون قد خطأ الخطوة الأولى في طريق الإلحاد والمروق عن الدين.

ص: 314


1- حياة الحيوان للدميري ج1ص255.
2- مجموعة ورام ج1ص199.
3- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2ص309.

الخلاصة :

يجب على الوالدين أن يبذلا الدقة الكاملة في تربية أطفالهما ، ويراعيا الأعتدال في معاملتهم بالحب والحنان ، والتشجيع والمدح. لأن الإفراط في ذلك يؤدي الى نشوء الأطفال على الغرور والتكبر ، ولا يخفى ما في ذلك من مشاكل وآلام.

لقد نصح لقمان الحكيم ابنه قائلا له : «وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ» (1).

* * *

ص: 315


1- سورة 31ص18.

المحاضرة التاسعة والعشرون: الاعتدال في التواضع

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الحكيم : ( ... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (1).

الإفراط في التواضع ، والركون الى الذلة والتملق ، مظهر آخر من ردود الفعل التي تحصل عند المصابين بعقدة الحقارة. وهو مذموم ومستهجن في نظر العلم والدين ، وسنتحدث في هذه المحاضرة حول هذا الموضوع النفسي الاجتماعي المهم آملين أن يقع موقع الفائدة لدى الجميع.

التواضع :

وقبل أن ندخل الى صلب الموضوع نمهد له بذكر نكتة مهمة ، وهي التواضع من الصفات الحميدة والسجايا المفضلة في نظر الإسلام. يجب على كل مسلم في أسلوب معاشرته مع الآخرين أن لا يحذر من التكبر والإستعلاء بل عليه أن يكون متواضعاً بالنسبة الى غيره ويحترم شخصيات الاكخرين على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم.

لقد وردت أحاديث كثيرة في التواضع وبيانب القيمة الاخلاقية الاجتماعية له. لقد كان الأئمة علیهم السلام ملتزمين بهذه الخصلة الحميدة ذلك كانوا يؤكدون على المسلمين أيضا الإلتزام بها.

وعلى سبيل المثال نستعرض حديثين من ذلك : -

1 - « رُوي عن موسى بن جعفر علیه السلام أنّه مرّ برجل من أهل السواد دميم المنظر ، فسلّم عليه ونزل عنده وحادثه طويلاً ، ثم عرض عليه نفسه في القيام بحاجةٍ

ص: 316


1- سورة الجمعة، الآية: 8.

إن عرضت له. فقيل له : يا بن رسول اللّه أتنزل إلى هذا ثم تسأله عن حوائجه وهو اليك أحوج؟ فقال علیه السلام : عبد من عبيد اللّه ، وأخ في كتاب اللّه وجار في بلاد اللّه ، يجمعنا وإياه خير الآباء آدم ، وأفضلُ الأديان الإسلام » (1).

2 - « عن رجل من أهل بلخ ، قال : كنتُ مع الرضا علیه السلام في سفره الى خراسان ، فدعا يوما بمائدة له ، فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم : فقلت : جعلت فداك ، لو عزلت لهؤلاء مائدة!! فقال : مه إن الرب تبارك وتعالى واحد ، والأم واحدة ، والأب واحد ، والجزاء بالأعمال » (2).

وهناك أحاديث كثيرة مشابهة لهذين الحديثين تحكي عن تواضع الرسول الأعظم والأئمة الطاهرين عليهم الصلاة والسلام تجاه جميع الطبقات.

نكتان مهمتان :

يلاحظ في التواضع الممدوح نكتتان مهمتان :

الأولى - أن لا يزيد التواضع عن الحد المعقول ولا يبلغ حد الإفراط لأن ذلك يعني التملق والتزلف وهما من الصفات الذميمة.

الثانية - أن يكون الدافع للتواضع هو الشرف والفضيلة واحترام الآخرين لا ضعف النفس والذلة. وبعبارة أوضح فإن المتواضع هو الشخص الذي يطمئن الى شخصيته ، ولا يشعر في نفسه بحقارة أو ذلة. إنما يقوم بواجبه بدافع من الشعور الإنساني وعلو النفس.

يقول الإمام أمير المؤمنين في بيان صفات الرجال المؤمنين : « سهلُ الخليقة ، لين العريكة ، نفسه أصلب من الصّلد ، وهو أذلّ من العبد » (3).

إن المقصود من صلابة النفس هو بيان التطامن والإستقرار الذي يمتاز به هؤلاء ، وأن القيمة الخلقية للتواضع ترتبط بهذه الحالة الروحية.

ص: 317


1- تحف العقول ص 413.
2- سفينة البحار القمي - مادة ( وضع ) ص 667.
3- نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصبهاني ص 1234.

التواضع المذموم :

إن التواضع الذي يستند إلى الحقارة والذلة ، والذي ينبع من الخوف أو الطمع ، ليس أنه لا يؤدي إلى التكامل النفسي والصفاء الروحي فحسب بل إنه يتسبب في نشوئه على الحقارة والذلة وتعوّده على الخسّة والهون.

لقد اهتم الإسلام بالحفاظ على شرف المسلمين وعزتهم ، وجعل ذلك في سياق الحديث عن عزة اللّه ورسوله. وبذلك حذرهم من الإستسلام للذل والهوان حيث قال : ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) .

لقد وردت روايات كثيرة تؤكد على هذا الأمر ، نذكر قسما منها : -

1 - قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا يحل لمؤمن أن يُذلّ نفسه » (1).

2 - وعنه صلی اللّه علیه و آله : « لا يحلُ لمؤمن أن يُذل نفسه » (2).

3 - وعن الإمام الصادق علیه السلام : « إن اللّه فوض الى المؤمن كلّ شيء إلاّ إذلال نفسه » (3).

4 - وعن الإمام العسكري علیه السلام : « ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبة تذلّه » (4).

5 - وعن الإمام الصادق علیه السلام : « إن اللّه فوّض إلى المؤمن أموره كلّها ، ولم يفوّض إليه أن يُذل نفسه العزيزة (5).

أساس الحكومة الإسلامية :

تستند الحكومة الإسلامية على أساس العزة والشرف. ويتمتع جميع الأفراد في ظلها بالإحترام والتقدير ، فإن كل عمل يؤدي الى ابسط تحقير أو إهانة للمسلم

ص: 318


1- تاريخ اليعقوبي ص 67.
2- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2ص364.
3- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج5ص63.
4- تحف العقول عن آل الرسول ص 489.
5- المحجة البيضاء في إحياء الأحياء للفيض للكاشاني ج4ص108.

يعتبر ممنوعاً. لا مجال للتملق والذلة والحقارة في ظل الحكومة الإسلامية ، لأن الإسلام يهتم بتربية الأفراد الأحرار ... والحرية وعلو الهمة لا يستقيمان مع الذلة والهوان.

إن موضوع الحفاظ على الشرف والعزة مهم في نظر الشريعة إلى درجة أن الفقهاء اشترطوا ذلك في كثير من الأحكام. فمثلا يقول العلامة السيد اليزدي عند تعرضه للموارد التي يجوز فيها التيمم بإعتبار فقدان الماء : « لو وهبه غيره بلا منّة وذلّة وجب القبول » (1).

يتضح من هذه الفتوى أن الحصول على الماء لو كان متوقفاً على هبة الغير له ، وكان الواهب لا يمنحه الماء إلاّ بمنة أو ذلة فإن الإسلام لا يرضى بالوضوء حينذاك ، بل يتبدل التكليف الى التيمم.

لقد كان الأئمة علیهم السلام ، بالإضافة الى امتناعهم عن كل عمل يؤدي الى الذلة والهوان ، يمنعون المسلمين عن الاستسلام لذلك والإفراط في التواضع بصراحة. وهناك شواهد كثيرة على ذلك.

1 - « عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : أن رسول ا لله صلی اللّه علیه و آله خرج على نفر من أصحابه. فقالوا : مرحباً بسيّدنا ومولانا. فغضب رسول ا لله غضباً شديداً ، ثم قال : لا تقولوا هكذا ، ولكن قولوا : مرحباً بنبينا ورسول ربنا. قولوا السداد من القول ولا تغلُوا فيالقول فتمرقوا » (2).

2 - وفي حديث آخر نجد أن الامام أمير المؤمنين علیه السلام ينهى عن مشي البعض معه وهو راكب ... « ركب علي علیه السلام يوماً فمشى معه قوم ، فقال علیه السلام لهم : أما علمتم أن مشي الماشي مع الراكب مفسدة للراكب ومذلة للماشي؟! إنصرفوا » (3).

ص: 319


1- العروة الوثقى للسيد محمد كاظم اليزدي - مسوغات التيمم - المسألة ص17.
2- الجعفريات ص 184.
3- تحف العقول عن آل الرسول ص 109.

3 - مرّ أمير المؤمنين علیه السلام في طريقه الى الشام بمدينة ( الأنبار ). فاستقبله جمع غفير من الملاكين والشخصيات البارزة على مراكبهم ، وعندما اقترب الإمام منهم نزلوا عن مراكبهم وأخذوا يسيرون بصورة مجتمعة في ركابه. لقد بدا هذا الأمر منهم نزلوا عن مراكبهم وأخذوا يسيرون بصورة مجتمعة في ركابه. لقد بدا هذا الأمر غريباً في نظر الإمام علیه السلام فسألهم : لماذا نزلتم عن مراكيكم وتسابقتم في السير معي؟ قالوا : هذا دأبنا تجاه أمرائنا وزعمائنا. فأخذ الإمام علیه السلام ينصحهم بترك ذلك مبيناً لهم أنه لا يجدي نفعاً للأمراء والزعماء كما أنه يؤدي الى الاشعار بالذلة والحقارة لكم. ثم قال :

« ما أخسر المشقة وراءها العقاب ، وأربح الدّعة معها الأمان من النار » (1).

4 - قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « من كانت له إليّ حاجةٌ فليرفعها إليّ في كتاب لأصون وجهه عن المسألة » (2).

يستفاد من الأحاديث المتقدمة مدى اهتمام الإسلام بالحفاظ على شرف المسلمين وعزهم. إنه لا يسمح لأحد بإتباع السلوك الذي يؤدي إلى الإحتقار والذلة. على الشعب والحكومة معاً السعي للحفاظ على العزة الفردية والوطنية ، والحذر عن كل ما من شأنه الحط من كرامة الحكومة الإسلامية أو النيل من شخصية الأفراد فيها.

غريزة حب الذات :

سبق وأن ذكرنا في محاضرات سابقة أن حب الذات من الغرائز الطبيعية عند الإنسان. هذه الغريزة تدفعه إلى أن يسعى في سبيل الحفاظ على شخصيته ، وأن يصون روحه وجسمه من أي إعتداء أو تعذيب.

كل فرد يجب بفطرته أن يبقى حياً ، فعندما يعطش أو يجوع أو يتمرض ويرى حياته مهددة بالخطر ، فإن غريزة حبه لذاته تدفعه للسعي وراء الماء والخبز والطبيب والعلاج.

ص: 320


1- نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص 1094.
2- ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي ج2ص244.

كذلك يميل الإنسان بفطرته إلى العزّ والشرف ، ويسعى في سبيل الحفاظ على ذلك بشدة ، فعندما يجد شرفه معرّضاً للخطر ، فإنه يحاول بكل ما يملك من طاقة دفع كل ما يسيء إلى سمعته.

المشاعر المتناقضة :

لغريزة حب الذات مظاهر مختلفة من الناحيتين : الروحية والجسمية ، فعندما لا يوجد تعارض أو تزاحم بين تلك المظاهر فإن كلاً منها يتلقى استجابة ملائمة. ولكن الطامة الكبرى تقع عندما تظهر هذه الغريزة في مظاهر متعارضة فيما بينها ، وتجعل الإنسان تحت كابوس المشاعر المتناقضة. في مثل هذه الحالة ينحرف بعض الأفراد عن الطريق الصحيح والمعقول ويقدمون على أعمال إجرامية عظيمة.

إن كل فرد يرغب بدافع من حبه لذاته أن يكون كاملاً من جميع الجهات منزهاً عن كل نقص أو ضعف. إن الأشخاص الذين يشعرون بالحقارة والصغار من بعض هذه الجوانب يعيشون في قلق وإضطراب دائمين ، ويشكون من ضغط روحي استمرار. إن الطريق المعقول لهؤلاء في تدارك حقارتهم هو أن يوجهوا قابلياتهم في مجارٍ مناسبة ، ويبرهنوا على جدارتهم وكفاءتهم عن طريق اإظهار مواهبهم في المجالات التي يتقنونها وبذلك يستطيعون الحصول على شخصية مستقيمة في المجتمع ويتناسبون ضعفهم الداخلي. لكن بعض المصابين بالحقارة ينحرفون عن الطريق المعقول بسبب من اليأس أو الكسل وغير ذلك. ولإخفاء ما هم عليه من الضعف ، وبغية تدارك النقص يقدمون على الإنتحار المعنوي ، فيحطمون شخصياتهم ويتخلّون عن عزتهم واستقلاهم ... إنهم يستسلمون للذل والهوان بالحركات التزلّفية التي يغلب عليها طابع التصنع في التواضع ، وهذا ما يؤدي إلى إذكاء نار المشاعر المتناقضة في ضمائرهم.

عوامل التناقض :

توجد في المجتمع طوائف عديدة وقعت في ورطة المشاعر المتناقضة ، ودعاهم ذلك الى الإفراط في التواضع بحيث يصل إلى درجة التملق والتنازل عن شرف النفس والكرامة. وسنتحدث في هذه المحاضرة عن العوامل المؤدية الى ذلك.

ص: 321

1 - الشعور بالنقص :

من العوامل المهمة لإيجاد عقدة الحقارة في ضمير الإنسان ، مظاهر التزمت والشدة التي يستعملها بعض الآباء والأمهات تجاه أطفالهم. إن الطفل الذي ينمو في جو مشحون بالخوف والإضطراب ، والتوّتر والقلق ولا يحسب له الأبوان حساب الآدميين ، والذي لم يذق طعم الرأفة والحنان أبداً ... لا بد وأن ينشأ ضعيفاً ، حقيراً ، يشعر بالحرمان دئماً. إنه لا يجد نفسه كفؤاً لتحمل أعباء الحياة ، لأن التجارب أثبتت له ذلك.

هذا الطفل عندما يشب ويترعرع ويصبح عضواً بارزاً في المجتمع ، يظل يشعر بالنقص في قبال الآخرين ، لأنه مصاب بالقلق والإضطراب ، فاقد للاستقلال وقوة الشخصية.

« إن النشاطات الدالة على القلق والإضطراب تشير إلى أن الشخص يشكو من نقص عظيم ، ويتصور أنه لكي يتدارك ذلك النقص عليه أن يقوم بجهد أكبر مما يقوم به الآخرون.

إن جميع النشاطات اللاغرضية تشير الى هذه الحقارة ».

« هذا القلق ينشأ من خوف كامن. والسبب هو أن الشخص يتصور أنه سيندحر في عمله أو منزلته أو أموره المعاشية. ومهما كان السبب فإن ذلك يجعل صاحبه كالفأرة الواقعة في الفخ ، حيث تحاول الفرار فقط ».

« وليس من الضروري أن يكون هذا الخوف من حادث قريب ، بل يكون في الغالب وليد خاطرة سابقة نسيت من صفحة شعور الإنسان. لقد كان الخوف مصاحباً لهذه الخاطرة ولم يطرد من خزانة الفكر تماماً ، وفي النتيجة يظهر بصورة الخوف ، العصاب ، القلق ، والإضطراب » (1).

« بصورة عامة فإن كل حادثة مؤلمة تقع للطفل سواء في البيت ، أو

ص: 322


1- عقدة حقارت ص 20.

المدرسة ، أو المجتمع ، تسبب تحطيم شخصيته لأن عواطفه ومشاعره قد قمعت ، ولا تستطيع الطهور من دون جهد » (1).

إن هؤلاء الأفراد إذا استطاعوا أن يتناسوا خواطرهم المرة التي مرت عليهم في أيام الطفولة ، وتغافلوا عما لا قوة من التزمت والشدة من أبويهم استطاعوا العيش بعزة وكرامة. أما إذا ظلت تلك الخواطر المؤلمة عالقة بأذهانهم فإنهم لا يستطيعون الخلاص من ضغط الحقارة والذلة ولذلك نجدهم يقدمون على أعمال مختلفة ، منها الرضوخ للذل والإستسلام للهوان.

إن التواضع في هذه الصورة يفسّر بالخوف من معاملة الناس للفرد نفس المعاملة التي كان يعامله بها أبواه من التحقير والشدة والخشونة. ولكي يتدارك ذلك يتواضع لكل أحد ويتزلّف إلى كلّ من يتصور أنه قادر على الأخذ بيده في متاهات الحياة ، ومساعدته في حل مشاكله.

إذن ليس هذا النوع من التواضع فضيلة خلقية ، بل يستند إلى الخوف من التحقير. وهو مذمون بلا ريب.

2 - الحرمان المادي :

إن فقر الأبوين وضعف حالتهما المالية من العوامل التي تسبب الحقارة والخجل للطفل. إن الأفراد الذين نشأوا في ظروف مالية صعبة يشعرون بتخلّف عن ركب الكمال والرقي. هذه الخاطرة لا تمحي من أذهانهم بل تظل عالقة بها مدى العمر. أما الأفراد الذين بلغوا مدارج الكمال والرقي على أثر كفاءتهم وفي ظل الجهود التي بذلوها لذلك فإنهم يتناسون الماضي التعس ويعملون ليومهم ... في حين أن الأفراد الذين لم يسلكوا طريق العمل والجد ، ويعملون ليومهم ... في حين أن الأفراد الذين لم يسلكوا طريق العمل والجد ، لا يستطيعون نسيان تلك الخواطر المرة بل يظلون يئنون من عوارض الحقارة وضعف النفس. إنهم يحتقرون انفسهم في قبال الأثرياء وهذا يدفعهم إلى أن يخضعوا لهم ويفرطوا في التواضع نحوهم.

ص: 323


1- عقدة حقارت ص 17.

« هناك أطفال وُلدوا في أسر فقيرة ، وبالرغم من أن بالإمكان أن ينالهم عطف الوالدين وحنانهما وتربيتهما وتعليمهما الصحيحان ، فإنهم قد يصابون بالحقارة والخجل الشديد عندما يبلغون ويتذكرون الحالة التي كانوا عليها. هؤلاء يشعرون بالخسة والضعة في مواجهة الأفراد الذين هم فوق مستواهم » (1).

لقد نظر الإسلام نظرة سخط إلى الحقراء الذين يحترمون الأثرياء لثروتهم فقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لعن اللّه من اكرم الغني لغناه » (2).

الفقراء المتعففون :

لقد كان أكثر أصحاب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقراء في صدر الإسلام. لكن القرآن الكريم تعهد بتربيتهم على عزة النفس وقوة الشخصية ، بحيث لم يكونوا يخسرون أنفسهم في قبال التجارب المادية بالرغم مما كانوا عليه من الفقر.

وكشاهد صريح على ما أقول أذكر لكم القصة التالية : فقد روي أن رجلاً موسراً دخل على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ثم دخل رجل فقير وجلس إلى جنبه ، فجمع الموسر ملابسه ...

كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) منتبهاً إلى ذلك ، فسأل الموسر : أخشيت من اتصال فقره بك؟

فقال : كلا.

فقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أحسيت من انتقال شيء من ثروتك إليه؟

قال : كلا.

فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أخشيت من تلوّث ملابسك؟

قال : كلا.

قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : فلماذا جمعت ملابسك؟

قال : إن الثروة التي تلازمني في كل حين منعتني من رؤية الحق ، وحببت إلى

ص: 324


1- عقدت حقارت ص 18.
2- لئالى الأخبار ص 128.

عيوبي ، ولكي أتدارك هذا السلوك المستهجن ، فقد وهبت له نصف ما أملك.

فقال رسول اللّه للمعسر : أتقبل؟

قال : لا.

فقال له الرجل : ولَم؟

قال : أخاف أن يدخلني ما دخلك!! (1).

3 - التأخر العلمي :

إن الشخص الذي يريد أن يجعل نفسه في عداد العلماء ، لكنه معدم من الناحية العلمية يشعر بالحقارة. ولكي يخفى هذا النقص ويتدارك ما عليه من الحقارة يتوسل بطرق مختلفة ، فقد يستند إلى أقوال العلماء ، وينقل كلمات الآخرين ... وقد يتذرع بالتملق والتزلف فيخضع في قبال الآخرين إلى درجة يخجلون معها من التصريح بجهله وانخفاض مستواه العلمي.

إن الطامة الكبرى هي عندما يجلس إنسان جاهل كهذا على كرسي التدريس ويتصدى لتعليم غيره. فلكي يحافظ على شخصيته في قبال تلاميذه ولا يُحتقر من قبلهم ، فإنه إما أن يلتزم التكبر والشدة إلى درجة لا يجزأ معها التلاميذ على مصارحته بجهله ونقصه ، أو يتواضع الى درجة يتغافلون معها عن عدم جدارته وكفاءته.

إن هذا النوع من التواضع لا يمكن أن يعدّ من الفضائل. بل إنه نوع من الذلة منشأه حقارة الشخص وخوفه من انفضاح أمره .. إنه كان يحاول أن يظهر بمظهر العلماء مع فقدانه اللثروة العلمية ، وبالرغم من عدم كفاءته فقد أشغل كرسي التدريس ، لذلك فقد رضي بهذا الذل.

عن الإمام الصادق علیه السلام : « لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه. قلت : بما يُذلّ نفسه؟ قال : يدخل في ما يتعذّر منه » (2).

ص: 325


1- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2ص262.
2- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج5ص64.

وعنه علیه السلام : « لا ينبغي للمؤمن أن يذّل نفسه. قيل له : وكيف يُذلّ نفسه؟ قال : يتعرّض لما لا يطيق » (1).

وعن الإمام الباقر علیه السلام : « بئس العبدُ عبدٌ له رغبةٌ تذلّه » (2).

إن شخصاً كهذا لو يعرف قيمته الواقعية ويقف عندها ، لا يساوم عزته وشرفه ولا يستسلم للذل والهوان بالتملق والتواضع الشديد.

4 - الإجرام :

الإجرام عامل آخر من عوامل الحقارة والضعة. إن الشخص الخارج على القانون يشكو من ضغط الوجدان وتأنيب الضمير دوماً ويرى نفسه حقيراً. إنه يدفن جرائمه في ضميره المستتر ويتناسى الصور المخجلة لأعماله البشعة ، لكن الوجدان الاخلاقي لا يتركه لوحده بل يظل يكيل له اللوم والتأنيب بإستمرار ...

إن الحقارة التي تصيب الفرد على أثر الإجرام تفقده شخصيته ، ومهما كان قوياً في إرادته فإنه يضعف وينهار ... ثم يسعى لإخفاء ضعفه النفسي والتظاهر بالقوة والثبات ، في حين أن فشله وتأثره الباطني لا بد وأن يظهر من خلال اُفعاله وأقواله.

« إننا نخفي خواطرنا المؤلمة والمخجلة في ضمائرنا حتى نكون بمنجى عن تعذيبها ، ولكنها تملك نفوذاً تاما في أفكارنا وسلوكنا على الرغم من جميع محاولاتنا ، إننا نجهل ذلك وقد لا نعي شيئاً عن علل سلوكنا ، لذلك فإننا نتندم من عملنا ونتحير : لماذا صدر العمل الفلاني منا ، أو لماذا جرت الكلمة الكذائية على لساننا. إن الخواطر المدفونة لا تموت ولا تفقد قدرتها مطلقاً ، بل تقود سلوكنا نحو ما تريد » (3).

إن الذلة والحقارة عند بعض المجرمين واضحة تماماً من خلال تواضعهم الشديد. إنهم يبدون تواضعاً مفرطا تجاه الناس بغية إخفاء جرائمهم. كذلك الموظفون

ص: 326


1- المحجة البيضاء في إحياء الإحياء ج4ص108.
2- سفينة البحار للقمي ، مادة ( طمع ) ص 93.
3- رشد شخصيت ص 17.

الذين يرتشون ولا ينفذون المعاملات التي ترد عليهم إلا إذا كان صاحبها قد أسدى خدمة مهمة إليهم ، فهؤلاء يتميزون بالتواضع وحسن الأخلاق مع المراجعين فيحدثونهم بكلمات من قبيل : في خدمتكم ، طوع أوامركم ، كما تأمرون ، سمعاً وطاعة ... وما شاكل ذلك.

لا ريب في أن هذا النوع من التواضع الذي يستند إلى الإجرام والخوف من الفضيحة ليس فاقداً للقيمة فحسب ، بل إنه يدل على حقارة الشخص واستسلامه للذل والهوان.

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من أحبّ أن يكون أعزّ الناس فليتقّ اللّه عز وجل » (1).

وقال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « من سرّه الغنى بلا مال ، والعزّ بلا سلطان ، والكثرة بلا عشيرة ، فليخرج من ذل مصعية اللّه سبحانه إلى عزّ طاعته » (2).

وعن الإمام الصادق علیه السلام : « أوصيكم بتقوى اللّه ، ولا تحملوا الناس على أكتافكم فتذلّوا » (3).

5 - طلب الجاه بلا كفاءة :

يصل بعض الأشخاص الفاقدين للكفاءة والجدارة الى مناصب كبيرة ليسوا أهلاً لها. إن الأفراد الواعين يمتنعون عن إطاعة مثل هؤلاء والإنقياد لهم.

قال الإمام الصادق علیه السلام : « من طلب الرئاسة بغير حق ، حرم الطاعة له بحق » (4).

هؤلاء الحكام غير الجديرين بإشغال مناصبهم يسلكون سلوكاً استبدادياً عنيفاً مع جميع الناس بصورة عامة ، ومع المنقادين لهم بصورة خاصة ، وربما أساؤا في الحديث معهم ولجأوا الى أساليب العنف والإضطهاد لإسكات روح الإعتراض

ص: 327


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج17ص48.
2- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 692.
3- وسائل الشيعة للحر العاملي ج3ص202.
4- تحف العقول عن آل الرسول ص 321.

والإنتقاد فيهم. ولكنهم قد يتذرعون بالتواضع واللين تجاه من هو أرفع منزلة منهم وبذلك يحفظون أنفسهم عن الإعتراضات والتشكيكات. إن الذين يستسلمون للذل والهوان ، ويساومون بعزهم وشرفهم لقاء رئاسة لا يطول أمدها لهم أفراد حقراء خاسرون.

قال علي علیه السلام : « ساعة ذلّ لا تفي بعزّ الدهر » (1).

إن هؤلاء ليسوا يظلمون أنفسهم فقط بإهدار كرامتهم ، بل يظلمون الناس أيضاً ويسوقونهم نحو الشقاء والدمار : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا ساد القوم فاسقهم ، وكان زعيم القوم أذلهم ، واكرم الرجل الفاسق فليُنتظر البلاء » (2).

وفي حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « إذا ساد السفل خاب الأمل » (3).

وعنه علیه السلام : « زوال الدول باصطناع السُفل » (4).

الشرفاء والمناصب :

إن الرجال الشرفاء ذوي الشخصية الرصينة عندما يصلون الى منصب كبير بفضل جدارتهم وكفاءتهم ، يقومون بواجباتهم معتمدين على قوة الشخصية وشرف النفس ... ولذلك فلا طريق للتملق والتزلّف ، والحقارة والذلة الى أرواحهم الطاهرة ونفوسهم النزيهة.

قال علي علیه السلام : « ذو الشرف لا تُبطره منزلة نالها وإن عظمت ، كالجبل الذي لا تزعزعه الرياح » (5).

وكشاهد على ذلك أنقل لكم القصة الآتية : -

ص: 328


1- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 443.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج17ص41.
3- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 312.
4- نفس المصدر ص 427.
5- المصدر السابق ص 407.

لقد كان أبو منصور وزير السلطان طغرلبك رجلاً عالماً ، قوي الشخصية ، شديد الإيمان ، مستقيماً في سلوكه. لقد كان ملتزماً بأداء واجباته الدينية بحيث كان يجلس للدعاء بعد أداء فريضة الفجر من كل يوم حتى طلوع الشمس. عند ذاك كان يستعد للذهاب الى البلاط الملكي.

وفي بعض الأيام بعث السلطان وراءه قبل طلوع الشمس. فجاء الخدم الى داره ووجوده مشتغلاً بقراءه الأذعية فأبلغوه الإرادة الملكية ، ولكن الوزير لم يلتفت الى كلامهم بل استمر في قراءة الأعية. لقد تذرع الخدم بذلك وأخبروا الملك بأنه أهان أوامره ، فغضب غضباً شديداً ...

فرغ الوزير من عباداته ، فركب جواده وذهب الى البلاط. وما أن دخل حتى واجهه الملك بأشد الخشونة قائلاً له : لماذا تأخرت؟!

عند ذاك قال الوزير المنبعث من قلب صلب وإرادة رصينة في الملك إلى درجة أن عينيه اغروقتا بالدموع ، ثم استحسن من الوزير ذلك وأوصاه بالإستمرار على ذلك الأسلوب بتقديم واجب العبودية على واجب الخدمة كي ينتفع البلد بسداد آرائه (1).

إن متانة الشخصية تبرز من خلال المنطق الصريح والبيان القاطع للفرد. كما أن الحقارة والخسة تتضح من خلال أحاديث الفرد أيضاً.

قال علي علیه السلام : « بيانُ الرجل يُنبىء عن قوّة جنانه » (2).

الشرط الأساسي للتواضع :

لقد اعتبر الإسلام التواضع من الصفات الحميدة والسجايا الطيبة ، واحترام الشخص المتواضع أيما احترام ... لكنه يشدّد في النكير على الشخص الذي يستسلم للذل والهوان بصورة التواضع وبإسم التأدب.

إن الشرط الأساسي للتواضع هو الإطمئنان الروحي والإستقلال النفسي للفرد. وقد صرح الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في الحديث الذي بدأنا به المحاضرة

ص: 329


1- جوامع الحكايات ص 173.
2- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 343.

بذلك حيث قال في وصف المؤمن : « نفسه أصلب من الصلد ، وهو أذل من العبد » (1).

إن التواضع هو الذي يقوم بواجبه الإنساني دون خوف أو طمع .. وهو الذي يستند تواضعه إلى التعالي النفسي والتكامل الروحي. أما الأفراد الذين يتواضعون بسبب من الشعور بالحقارة ، أو الشعور بالنقص ، أو طلب الجاه ، أو الطمع فإنهم لا يكتسبون فضيلة بذلك ، بل يؤدي الإستمرار في هذه الحالة الى تأصل جذور الذل والحقارة في نفوسهم.

تجنب الذلة :

إن الحفاظ على العزة والشرف والفرار من الذلة والخسة من أهم الواجبات القطعية على المسلمين حسب الأحاديث التي قرأناها لكم في هذه المحاضرة ، وأحاديث أخرى كثيرة واردة في كتب الحديث. إذ لا يجوز لمسلم قط أن يستسلم للذل والهوان ، ويتنازل للتملّق والتزلف تحقيقاً لبعض الغايات.

إن أعظم مراتب العبودية والذلة يجب أن يلتزمها الفرد بين يدي اللّه تعالى الذي خلق الكون وزوّد كل شيء بالوسائل والأدوات الازمة لحياته ... إنه لا يليق الإنكسار والتواضع ، والخضوع إلا بين يديه عز وجل.

التواضع في التعلم :

لقد سمح الإسلام للفرد بالتواضع والخضوع في مورد آخر هو التعلم. على الجاهل أن يتواضع للعلماء حتى يستطيع استيعاب العلوم والمعارف منهم.

إن الأفراد الذين لم يتلقوا ثقافة ممتازة ويحاولون الإتصال بالعلماء ومعاشرتهم ، يشعرون بالحقارة والذلة ، ويرون أنفسهم دون مستوى الآخرين ويتألمون كثيراً من عجزهم عن المشاركة في الأحاديث العلمية.

هناك طائفة من الأفراد لا يرضون الإعتراف بجهلهم ، ويحاولون إخفاء النقص الذي فيهم قدر الإمكان. ولكي يتظاهروا بالعلم والإدراك يقدمون على أفعال طفولية

ص: 330


1- نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص 1234.

مخجلة. والعلاج القطعي لهذه الحالة هو التفرغ للدراسة والإجتهاد في التعلم. وهذا يحتاج إلى شجاعة وصراحة يجب على الفرد أن يعترف بنقصه ولا يجعل نفسه في عداد العلماء ... إنه يجب أن يعرف حدة الواقعي ولا يتجاوزه ... أن يتواضع لأستاذه ، ويحتمل ذلّ السؤال.

إن الإسلام يوافق على هذا التواضع ويرضى بهذا الذل ، لأنه يؤدي الى أن يكتسب الإنسان علماً ويحصل على مكانة سامية. وهذا السلوك ليس خالياً من الضرر فقط ، بل إنه يتضمن فوائد عظيمة.

1 - قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من لم يصبر على ذل التعلم ساعةً بقي في ذل الجهل أبداً » (1).

2 - وعن الإمام الرضا علیه السلام : « العلم خزائن ، ومفاتيحه السؤال » (2).

3 - وقال أمير المؤمنين علیه السلام : « ليس من أخلاق المؤمن الملق ولا الحسد إلا في طلب العلم » (3).

نستنتج من هذا مدى اهتمام الإسلام في تعاليمه القيمة بالحث على التعلم والتزّود بالثقافة والمعرفة إلى درجة بسمح للفرد بالتواضع والذل في طريق التعلم ، في حين أنه يشدّد النكير على التملق والإفراط في التواضع في غير ذلك من الحالات.

* * *

ص: 331


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج17ص46.
2- عيون أخبار الرضا - باب ص 30.
3- تحف العقول عن آل الرسول ص 207.

المحاضرة الثلاثون: علاج القلق والحقارة

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه العظيم : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) (1).

إن القلق والإضطراب الفكري من اعظم عوامل التعاسة والشقاء في حياة الإنسان.

وإن الشخص الذي يشكو قلقاً على أثر خوف ، أو حقارة ، أو فشل ، أو ضعف ، أو عجز ، أو جهل ويتألم لذلك ، لو لم يفكر في علاج نفسه فإن الحياة تصبح بالنسبة له جحيماً لا يطاق ، وبالتالي يصاب بعوارض مختلفة.

لقد تعرضنا في المحاضرات الأخيرة الى طائفة من العوامل المؤدبة لنشوء عقدة الحقارة وذكرنا ردود الفعل الناتجة من ذلك ، أما حديثنا في هذه المحاضرة فسيدور حول موضوعين : -

1 - الأعراض والمخاطر الناتجة من الشعور بالقلق.

2 - اسلوب معالجة ذلك من الناحيتين الدينية والعلمية.

إتحاد النفس والبدن :

أما فيما يخص الجانب الأول فلا بد من القول بأن الإرتباط والإتحاد بين النفس والبدن متين إلى درجة أن الآثار الطيبة أو السيئة لكل منهما تؤثر في الآخر. ولعمري فإن هذا من الأمور المتسالم عليها لدى العلماء السابقين والمعاصرين. إن

ص: 332


1- سورة 23ص96.

الجسد يخضع لتأثير الحالات الروحية ، وكذلك الروح تخضع لحالات الجسد. والشخص الذي يشكو من القلق والإضطراب ويحس بالألم وعدم الإستقرار في ضميره لا بدّ وأن يتأثر جسمه بتلك الحالة الروحية فتنحرف صحته.

لقد أثبتت البحوث العلمية للعلماء المعاصرين أن جانباً كبيراً من الأمراض المختلفة يرجع في نشأته الى الإضطرابات الروحية. ولا بد لعلاج هذه الأمراض من معرفة الأسس النفسية التي تعتمد عليها.

عوارض القلق :

يستشهد العالم النفسي الشهير ( ديل كارنيجي ) بنصوص لعلماء متخصصين حول طائفة من الأمراض الجسمية التي يمكن أن تنبع من القلق والإضطراب وها أنا أنقل لكم نموذجاً من ذلك : -

« لقد أمضيت إجازتي قبل بضعة أعوام في ولاية تكساس بصحبة الدكتور ( آ. كوبر ) رئيس مصحات السكك الحديدية في ( سانتافيا ). وفي يوم من الأيام كنا نتحدث عن القلق فقال صديقي : إن 70% من المرضى الذين يراجعون الأطباء لو استطاعوا أن ينقذوا أنفسهم من قبضة الخوف والقلق فإنهم يستطيعون معالجة أنفسهم بأنفسهم. فمثلاً على ذلك يمكن علاج بعض أنواع القرحة المعدية ، وعسر الهضم العصبي ، والإضطرابات القلبية ، والأرق ، وبعض أنواع الصداع بتهدئة الوضع الروحي للمريض ».

« يقول الدكتور ( جوزيف مونتاكو ) مؤلف كتاب ( الاختلالات العصبية للمعدة ) : ليس ما تأكلونه سبباً في ظهور قرحة المعدة ، بل إن ما يأكلكم - وهو القلق - هو الذي يؤدي إلى نشوء هذه القرحة ».

« يقول الدكتور ( د. ألفاريز ) : إن شدة أو ضعف القرحات المعدية تتصل اتصالاً مباشراً في الغالب بشدة أو ضعف الإضطرابات الداخلية. إن هذا الكلام يستند إلى تجربة أجريت على خمسة عشر ألف مريض راجعوا المستشفى الذي أشرف عليه فوجدت أن أربعة أخماس أولئك المرضى كانوا لا يملكون أساساً طبياً لعلاج معدهم

ص: 333

إن الخوف القلق والحسد والأنانية وعدم القدرة على الإنسجام مع البيئة عوامل مؤثرة في أمراض المعدة والقرحة فيها. إن قرحة المعدة تؤدي إلى الموت ، وكما ذكرت مجلة لايف فإنها تقع في الدرجة العاشرة بين الأمراض المهمة والخطيرة ».

« لقد ذكر المشرفون على ( مستشفى مايو ) الذائع الصيت في الولايات المتحدة أن النصف الأكبر من الأسرة في المستشقى يشغلها المصابون بالأمراض العصبية إنهم لا يشكون من فساد أو اختلال الجهاز العصبي ... بل يؤلمهم الحرمان ، والقلق ، والخوف ، والفشل ، واليأس ».

خسائر الأمراض الروحية :

« إن الخسائر الناشئة من الأمراض تتزايد يوماً بعد يوم إن التقارير الطبية تحكي عن أن كل عشرين مواطناً في أمريكاً يوجد بينهم مواطن واحد سيقضي شطراً كبيراً من عمره في مستشفيات الأمراض الروحية. وأن سدس الشبان الذين دُعوا الخدمة العلم في الحرب العالمية الثانية كانوا قد أعفوا من ذلك بسبب النقائض الفكرية والروحية.

« ما هي علة الجنون؟

« لا يوجد أحد يعرف ذلك تماماً. ولكن ما لا ريب فيه أن القلق والخوف عاملان كبيران في جنون صاحبهما ».

« ذكر الدكتور ( ويليام ماك كوليكل ) في مؤتمر أطباء الأسنان الامريكان : إن القلق يؤدي إلى تسوس الأسنان ... ثم يستمر فيقول : إن الإضطرابات التي تؤدي إلى القلق تسبب اختلال مقادير الكالسيوم في الجسم ، وهذا بدوره يعمل على تسوس الأسنان وفسادها ».

« لا أعلم هل رأيتم في حياتكم شخصاً أنتفخت غدته الدرقية أكثر من المعتاد ، لقد رأيت شخصاً كهذا ... إن المصاب بذلك يرتعد دائماً وكأنه ميت خارج من قبره. تتناسب شدة المرض وضعفه مع

ص: 334

كثرة الإفراز وقلته ، تزداد سرعة نبضه ، وربما انتهى به الأمر الى الموت ».

« لقد ذهبنا قبل أيام بصحبة صديق كان مصاباً بهذا المرض إلى ( فلادلفيا ) لإستشاره طبيب معروف بمعالجة هذه الأمراض. وما أن دخلنا عليه حتى وجه إلى المريض هذا السؤال : ما هو الإضطراب الفكري الذي تشكو منه ونبّه صديقي إلى ضرورة إبعاد القلق عن نفسه وإلا أصيب بأمراض خطرة أخرى كمرض السكّر ، والنوبة القلبية ، وقرحة المعدة » (1).

القلق ومرض الجسم :

إن النصوص والاحاديث الواردة بهذا الصدد توضح أن الأئمة علیهم السلام كانوا على علم تام بهذا الأمر. وقد كانوا يذكرون لأتباعهم أن الخوف ، والقلق ، والحسد ، والهم ... وبصورة موجزة : جميع الإضطرابات الداخلية والآلام الروحية تؤدي إلى إنحراف المزاج.

1 - قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « الهم يذيبُ الجسد » (2).

2 - وقال علیه السلام : « الهم نصف الهرم » (3).

3 - وقال علیه السلام : « الحسد يُفني ، والحقدُ يذري » (4).

4 - وعنه علیه السلام : « الخائف لا عيش له » (5).

5 - وقال علیه السلام : « الحزن يهدم الجسد » (6).

ص: 335


1- آئين زندگي ص 25.
2- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 35.
3- نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص 1143.
4- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص.
5- نفس المصدر ص 34.
6- المصدر السابق ص 23.

6 - وقال أيضاً : « المريب أبداً عليل » (1).

والخلاصة أن العقد والآلام والإضطرابات وسائر الأمراض الروحية تترك آثاراً سيئة في جسد الإنسان بالإضافة إلى تأثيرها في إضطراب الفكر.

هذا فيما يخص الجانب الأول من بحثنا في هذه المحاضرة.

مكافحة القلق :

أما فيما يتعلق بالجانب الثاني وهو أسلوب علاج القلق فنقول : أن العلاج الاساسي لهذه الأمراض لا يتيسر بالأساليب الطبية ولا يتم عن طريق الأدوية والعقاقير. ان المصاب بالحقد والحسد ، أو الذي يشكو من القلق والحقارة ، وأو الذي يئن من الهم والغم لا يمكن إنقاذه إلا باقتلاع جذور المرض ... هؤلاء يجب أن يطهروا قلوبهم من الإنحراف والأفكار الفاسدة وأن يتناسوا الخواطر المرة التي جابهتهم في حياتهم ، ويحاولوا أن يتحلوا بالفضائل والسجايا الحميدة حتى يستطيعوا إنقاذ أنفسهم من الدمار والهلاك.

إن التعاليم الإسلامية تؤكد على أهمية هذا الأمر.

1 - فقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « إن اللّه سبحانه يُحبّ أن تكون نيّة الإنسان للناس جميلة » (2).

2 - وعنه علیه السلام : « أبلغ ما تستدر به الرحمة أن تضمر لجميع الناس الرحمة » (3).

3 - قال أمير المؤمنين علیه السلام : « الكاظم من أمات أضغانه » (4).

ص: 336


1- المصدر السابق ص 29.
2- نفس المصدر ص 271.
3- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 212.
4- المصدر السابق ص 37.

4 - وعنه علیه السلام : « أطلق عن الناس عقدة كل حقد » (1).

المنهج العلمي والمنهج الإسلامي :

لقد وجدنا أن البرنامج الذي يقرره العلماء المعاصرون لحل العقد النفسية وإنقاذ الأفراد من الإضطراب والقلق يستند إلى تحليل الحالات الروحية للمريض. وبعبارة أوضح فإن العالم النفسي يستطيع لتهدئة الإنسان المضطرب والقلق أن يستند الى القواعد العلمية ويستفيد من طرق الطب النفسي فقط. فمثلاً يحلل عامل القلق ، أو يوقظ الإستعدادات والمواهب الكامنة ، أو يقوي الروح بالإيحاءات المفيدة ، أو يؤكد على مسألة الإعتماد بالنفس فيحيي شخصيته وينقذه من المشاكل والمآسي الكثيرة.

في حين أن المنهج الإسلامي الذي أكد عليه الأئمة علیهم السلام لعلاج الأمراض الروحية وحل العقد النفسية يستند الى قوتين : قوة العلم وقوة الإيمان وبعبارة أخرى فإن قادة الإسلام كانوا يستفيدون من الأسس العلمية والدقائق النفسية لمكافحة القلق من جانب ومن جانب آخر كانوا يستندون إلى قوة الإيمان في بعث الطمأنينة في القلوب. «أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (2).

لا ريب في ان تأثير الإيمان في صفاء النفس وبعث الطمأنينة في القلب أعظم من تأثير العلم وقوته. ففي الظروف الحرجة حيث يصل القلق الى القمة ، وتهبّ الأعاصير في نفس الفرد ، يعجز العلم عن تهدئة ذلك ... بينما يتدخل الإيمان بقوته الجبارة فيهدىء الأوضاع ويبعث الإستقرار والتطامن وفي نفس الإنسان. وهذه هي سمة فريدة يمتاز بها الإسلام على المذاهب التربوية الأخرى في العالم.

ولكي تتضح أهمية الإيمان في علاج الأمراض الروحية والإضطرابات الباطنية وبذلك يتبين المستمعون الكرام عظمة التعاليم الإسلامية ، أذكر لكم مثالاً عن موارد القلق.

ص: 337


1- نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص 988.
2- سورة 13ص28.

التفاؤل والتشاؤم :

هناك أشياء يشعر الأفراد في مختلف نقاط العالم بالتشاؤم نحوها ، كالتشاؤم من العدد (13) عند كثير من الشعوب ، ونعيق الغراب عند العرب وصوت البوم عند الإيرانيين. إن الأفراد الذين يعتقدون بالتشاؤم يضطربون كثيراً عندما يلاقون ما يتشاءمون منه ، وقد يبعث ذلك الألم والاستياء الشديدين فيهم الى درجة أنهم لا يستطيعون القيام بنشاط ما في سبيل إنقاذ موافقهم.

(13). فقد ولدت فيها طفلة في اليوم الثالث عشر من الشهر ، وعندما شبت الطفلة وترعرت وعلمت بأن ولادتها تصادف اليوم الثالث عشر بدأ الإضطراب يدبّ إلى نفسها. إنها كانت تتصور أن نحوسة يوم ولادتها تؤدي إلى تعاستها. لقد اضطر الوالدان لتهدئة الفتاة الى اخذها الى عيادة طبيب نفساني ، وبذل الطبيب كل جهده لإقتلاع جذور القلق من نفس الفتاة ، ولكنه باء بالفشل في كل محاولاته.

تزوجت هذه الفتاة بعد إنهاء دراستها الجامعية وولدت طفلاً ولكنها ما زالت تحترق في نار القلق والإضطراب. لقد كانت راكبة سيارتها بصحبة زوجها وطفلها حين صادفهم الطبيب النفساني في أثناء عبوره الشارع. فاستوقفهم واقترب من الشابة وقال لها : أرأيت كيف صدقت أقوالي فيك وأن اضطرابك كان تافهاً لا مبرر له؟! انظري كيف أنك سعيدة بجوار زوجك وطفلك.

اجهشت الشابة بالبكاء وقالت : سيدي الطبيب ، إني متيقنة من أن نحوسة العدد (13) ستؤدي إلى تعاستي ودماري!!

الإيحاءات المؤلمة :

يعتقد علماء النفس أن التشاؤم وليد جهل الإنسان وليس خطراً حقيقياً أو آفة واقعية ، إنهم يقولون : إنه عبارة عن إيحاء مؤلم يؤدي إلى إضعاف الروح ويسيطر على قلب المعتقد به وفكره.

كذلك الأئمة علیهم السلام فإنهم لم يعتبروا التشاؤم حقيقة ، ولكن اعتقد به شخص واهتم به فإنه يصاب بالقلق والاضطراب ومن البديهي أن القلق والإضطراب عبارة عن حقيقة نفسية قد تؤدي الى أمراض ومشاكل كثيرة.

ص: 338

قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « الطيرة ليست بحق » (1).

إن الحوادث المؤلمة التي تقع في بعض الأحيان تستند الى نظام معين في الكون ، ولا علاقة لها بالتطّير أبداً. كذلك فإن سلوك بعض الأفراد وفساد اخلاقهم هو السبب في ظهور العوارض والأمراض في حين أن الجهال ينسبونها الى التشاؤم والتطّير.

وكمثال على ذلك أذكر لكم قصة شاب كان قد خرج للنزهة في اليوم الثالث عشر من عيد نوروز ( الذي يعتقد البعض بنحوسته ولذلك فإنهم يخرجون من البلدة فيه إتقاء لشره )! ، وقد أفرط في شرب الخمر الى درجة أنه فقد وعيه ولم يعد قادراً على المشي. وعند الغروب كان يعبر من بعض الشوارع فعثره بصخرة وسقطة في حفرة للمجاري فتكسر فكه الأسفل وتهشمت أسنانه ، فاجتمع الناس وأخرجوه من الحفرة وهم يقولون : إن نحوسة اليوم لصقت بهذا الشاب وأوقعته في هذه الحفرة!

الحق أن العدد (13) لم يؤثر في وقوعه في هذه المشكلة ، بل إن المشكلة التي عرضت له ناشئة من إفراطه في تناول الخمر ...

لقد صرح القرآن الكريم بهذه النقطة النفسية المهمة عند التعرض لقصة موجزة ، فقد قام بعض الأفراد الإلهيين بالدعوة إلى الإصلاح في قرية من القرى. فعارضهم اهل القرية وكذّبوهم ، ثم ذكروا أنهم يتشاءمون من وجودهم بين ظهرانيهم : «قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ» (2). فأجابهم هؤلاء : «قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ» (3). أي لا تتشاء موامنا ، بل يجب عليكم أن تتشاءموا من وجودكم وسلوككم وعقائدكم الباطلة.

علاج التشاؤم :

بعد أن عرفنا موجزاً عن التشاؤم وآثاره الوخيمة ، نتعرض لطرق معالجة ذلك

ص: 339


1- نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص 1264.
2- سورة يس الآية: 18.
3- سورة يس الآية: 19.

في نظر علماء النفس ، وفي تعاليم الإسلام القيمة. وأظن أن المقارنة بين هذين المنهجين تبعث على إزدياد الإيمان بعظمة الإسلام وتعاليمه.

تتلخص كلمات عالم نفسي في علاج الشخص المصاب بالتشاؤم ، في أن العالم يسير حسب نظام ثابت ومتقن ، ولكل ظاهرة في الكون علة خاصة منظمة ، ولا يوجد موجود بدون استكمال علته الأساسية ، وليس التشاؤم من العل الكونية مطلقاً.

عندما كان الإنسان يعيش في جهل مطبق ولم يكن يقدر على الإحاطة بحوادث العالم فإنه كان يلجأ إلى الأوهام والخرافات. ومن تلك الخرافات التشاؤم. إن التشاؤم يستند الى جهل الإنسان في الماضي ، وقد تناقلته الأجيال على أثر الإيحاءات المتكررة ، واليوم لا يزال يعتقد البعض به.

إنه يقول للمريض : إن التشاؤم ليس حقيقة ، ولكن التأثر الروحي الحاصل فيك تجاه الإعتقادية أو عدم الإذعان له أمر واقعي. فأنت الذي تستطيع أن تعيش منعماً بالإستقلال والطمأنينة إن رفضت الإعتقاد به ، وأنت الذي تستطيع أن تعتبره أمراً واقعياً فتتجرع الويلات والمآسي من جراء ذلك.

لقد استند الأئمة علیهم السلام قبل أربعة عشر قرناً لعلاج القلق عند الناس الى هذا المنطق العلمي ، ولقد قاموا بتحليل الحالة الروحية للمصاب بالتشاؤم.

قال الإمام الصادق علیه السلام : « الطيرة على ما تجعلها ، إن هونتها تهونت ، وإن شددتها تشددت ، وإن لم تجعلها شيئا لم تكن شيئاً » (1).

نلاحظ من خلال هذا الحديث أن الإمام الصادق علیه السلام يتحدث عن الأساس العلمي فقط ، ويستند الى منطق التحليل النفسي. ففي هذا المورد نجد الدين والعلم يسيران جنباً الى جنب ويسلكان طريقاً واحداً. فإن الطريق الذي سلكه الإمام علیه السلام قبل قرون عديدة يستعمله علماء النفس المعاصرون في علاج القلق عند الأفراد.

ص: 340


1- روضة الكافي لثقة الإسلام الكليني ص 197.

مفترق الطرق :

وجدنا المنهج العلمي والمنهج الإسلامي يتطابقان في علاج القلق الى هذه المرحلة. لكن المرحلة التالية تعتبر مفترق طريقين بين الإسلام وعلم النفس. لأن الأخير يعتمد على الأصول العلمية فقط ولذلك نجده يقصر عن علاج بعض الحالات التي لا تنفع نصائح الطبيب النفسي مع المريض. في حين أن المنهج الإسلامي لا يستند في علاج القلق الى المنطق العلمي فقط بل يستغل قوة الإيمان أيضاً. إن أثر الإيمان في علاج الأمراض الروحية أقوى بكثير من أثر العلم.

فعندما يقع الفرد المؤمن في وبطة التشاؤم يسلك الأئمة علیهم السلام لعلاجه طريقين : أحدهما علمي وهو الذي سبق شرحه. والآخر إيماني وهو الذي يعتبر الإعتقاد بالتشاؤم مناقضا للإيمان باللّه

1 - قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الطيرة شرك » (1).

2 - قال صلی اللّه علیه و آله : « من رجعته الطيرة عن حاجته فقد أشرك » (2).

3 - روي عن أبي الحسن علیه السلام لمن أوجس في نفسه شيئاً : « إعتصمت بك يا ربّ من شرّ ما أجد في نفسي ، فاعصمني من ذلك » (3).

بهذا الأسلوب يوجه الإمام علیه السلام الفرد المسلم نحو الاستمداد من اللّه تعالى في دفع الشر عنه ، وذلك كفيل بعلاج ما هو عليه من القلق والاضطراب. فإن الإيمان باللّه أفضل الطرق لبعث الإستقرار والطمأنينة في القلب .. « ألا بذكر اللّه تطمئن القلوب » (4).

المؤمنون الأحرار :

إن الأحرار الحقيقيين هم الذين يؤمنون بخالق الكون ويستندون الى قدرته

ص: 341


1- حياة الحيوان للدميري ج2ص66.
2- نفس المصدر.
3- سفينة البحار اللشيخ عباس القمي - مادة ( طير ) ص 103.
4- سورة الرعد، الآية: 28.

وعظمته. إنهم يتمتعون بأرواح قوية ونفوس مطمئنة ... لا طريق للقلق والحقارة الى شخصياتهم ... ومهما قست الظروف فإنها لا تستطيع دحرهم وإخضاعهم لها.

« عن أبي بصير ، قال : سمعت أبا عبدا لله علیه السلام يقول : إنّ الحر حر على جميع أحواله. إن نابته نائبة صبر لها. وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره ، وإن اسر وقهر أو استبدل باليسر عسراً ، كما كان يوسف الصديق الأمين صلوات اللّه عليه لم يضرر حريته أن استعبد وقهر وأسر ، ولم يضرره ظلمة الجب ووحشته وما ناله أن من اللّه عليه فجعل الجبّار العاتي له عبداً بعد أذ كان له مالكاً » (1).

اسلوب العلاج :

لقد تبين لنا من المحاضرات السابقة أن منشأ ظهور عقدة الحقارة يختلف عند الأشخاص. فهناك بعض العقد النفسية والإضطرابات الروحية تنبع من فترة الطفولة ، وهناك طائفة من هذه العقد والإضطرابات تحدث عند الكبر.

إن أول علاج للقلق والعقد الروحية هو محاسبة النفس وتحليل الحالات الروحية للمريض لمعرفة العلل الواقعية للشعور بالحقارة فما لم نحصل على المنشأ الحقيقي للمرض لا يتيسر العلاج الأساسي له.

يقول علماء النفس : إن الشخص المصاب بالإضطرابات الروحية والذي يشكو من عقدة الحقارة يجب أن يصنع لنفسه إضبارة ويحاكم نفسه أمام محكمة العقل. يجب عليه أن يستجلي الخواطر المرة التي تفصح عن نفسها بصورة مجهولة ، وأن يزيل الغموض والإبهام عن الأفكار المؤلمة التي تهدده ... يجب أن يصنع لكل جانب من هذه الجوانب سؤالاً ثم يحاول أن يجيب على السؤال بمعونة العقل ، ثم يتخذ عزماً صحيحاً حول مصيره.

لقد أولى الأئمة علیهم السلام عناية بالغة إلى مسألة محاسبة النفس ، وإحصاء النقائص ، والسعي في إكمالها ، والتخلي عن العيوب التي تحطم شخصية الفرد.

1 - وبهذا الصدد يقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : « وعلى العاقل أن

ص: 342


1- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2ص89.

يُحصي على نفسه مساويها في الدين والرأي والأخلاق والأدب ، فيجمع ذلك في صدره أو في كتاب ويعمل في إزالتها » (1).

2 - وعنه علیه السلام : « من حاسب نفسه وقف على عيوبه وأحاط بذنوبه فاستقال الذنوب وأصلح العيوب » (2).

3 - وعنه علیه السلام : « من حاسب نفسه ربع ، ومن غفل عنها خسر » (3).

إن الفائدة من وراء محاسبة النفس هي التوصل الى جذور المرض الروحي ومعرفة علل الشعور بالحقارة. وهذا نفسه يحل كثيراً من العقد الروحية وينقذ الفرد من القلق المستمر ، ولكن ليس هذا كل ما في المنهج الإسلامي ، بل لا بد من محاسبة أخرى وهي التصميم لتدارك النقائص وإزالة العيوب.

هاتان المحاسبتان ضروريتان لعلاج جميع العقد الروحية والإضطرابات فعلى الإنسان أن يعرف نفسه ويدرك جذور المرض الذي يشكو من عوارضه أولاً ، ويبحث عن طريق اقتلاع الجذور على هدى العقل والمنطق ثانياً.

الإيحاءات المشجعة :

هناك بعض الأفراد مصابون بعاهات عضوية غير قابلة للعلاج ولذلك فإنهم يشكون من الحقارة. هذا النقص لا يمكن علاجه بالمحاسبة النفسية والمعالجة الطببية بل لا بد لذلك من القيام بالإيحاءات التي تبعث القوة والشجاعة في النفس .. هؤلاء يجب عليهم أن يتكيفوا للعاهة ويعملوا على إحياء الاستعدادات الباطنية والمواهب الكامنة حتى يداركوا النقص الذي هم عليه.

وفي هذا يقول القرآن الكريم : «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ».

لو يعمل الناس جميعاً على تطبيق هذا المنهج القيم في حياتهم ، ويدفعوا كل

ص: 343


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج17ص116.
2- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 696.
3- نهج البلاغة ، شرح الفيض الأصفهاني ص 1170.

سيئة بالحسنة ، فيدفعوا الظلم بالعدل ، والغضب بالحلم ، والنقص بالكمال والزلة بالعفو .. فإن المجتمع يبلغ الحد الأقصى للكمال والرقي.

نموذج تطبيقي :

لنفرض تاجراً محترماً تدهورت أحواله فاضطر الى غلق محله بسبب من خلّوه من البضائع التي يستطيع الإستمرار في التجارة بواسطتها. هذا الشخص يشعر بالحقارة في نفسه ، ويفقد الراحة والإستقرار ، ويصاب أُخيراً بالاختلالات الروحية والأمراض النفسية.

إن أساس العلاج في مثل هذه الحالة يستند إلى إجراء محاسبتين ، ويتطلب الإجابة على سؤالين :

الأول - من أين حصل القلق ونشأ الشعور بالحقارة؟

الثاني - ما الذي يجب إتباعه لعلاج القلق وحل عقدة الحقارة؟

لو لم تكن في ضمير التاجر علل خفية أخرى للقلق والشعور بالحقارة لكانت الإجابة على السؤال الأول واضحة جداً. إنه فقد ثروته وبما أنه كان تاجراً محترماً في يوم ما ، واليوم أصبح معدماً فإنه يتألم كثيراً.

أما الإجابة على السؤال الثاني فهي عبارة عن أن اليأس يجب تبديله إلى رجاء ، ويجب تقوية روحه المندحرة ... يجب دفعه للنشاط والعمل من جديد للحصول على الثروة ، حتى يسترجع عزه ومنزلته في أنظار الناس.

يبقى الموضوع الدقيق وهو كيفية السيطرة على روح المريض ، وتبديل اليأس في نفسه إلى رجاء.

إن علماء النفس يعمدون في هذه الموارد الى الأساليب العلمية البحت ويوحون الى التاجر المتدهور أن اليأس عامل كبير في جلب التعاسة لصاحبه. كن رجلاً ، شدد عزمك ، أبدأ العمل والنشاط من جديد ، حاول استرداد ثقة الناس بك .. ثم يذكرون له بعض القصص عن أشخاص تدهورت أوضاعهم ثم تداركوا ذلك وبدأوا العمل

ص: 344

ونجحوا نجاحاً منقطع النظير. ثم يقولون له : إنك تستطيع أن تقتدي بهؤلاء وتسير على ما ساروا عليه وتحصل على النجاح الباهر :

أما الأئمة علیهم السلام فإن لهم بالإضافة فإن لهم بالإضافة الى المنطق العلمي في معالجة هذه المشاكل ، أسلوباً آخر يعتمد على الإتكال على اللّه واستمداد العون منه.

لقد كان أبو طيار من تجار الكوفة. وتدهور وضعه المالي مرة. فذهب الى المدينة وتشرف بلقاء الإمام الصادق علیه السلام ، وذكر حالته وطلب من الإمام علاجاً لذلك. إن أول سؤال بدأ به الإمام علیه السلام هو أنه هل عندك حانوت في السوق؟

قال : نعم ولكني هجرته منذ مدة لأني لا أملك ما أبيع فيه.

فقال علیه السلام : أذا رجعت الى الكوفة فاقعد في حانوتك واكنسه.

لا يوجد طريق لتدارك التدهور الإقتصادي الذي أصاب تاجراً بغير استعادة العمل والنشاط. وهذا لا يحصل مع اليأس والتردد ، بل لا بد من العزم والإستقرار. ولذلك فإن الإمام علیه السلام قال له : « إذا أردت أن تخرج الى سوقك فصلّ ركعتين ثم قل في دُبر صلاتك : توجهت بلا حول مني ولا قوة ، ولكن بحولك يا ربّ وقوّتك ، فأنت حولي ومنك قوتي » (1).

لقد عمل أبو طيار بوصية الإمام علیه السلام . ففتح حانوته ولم تمض ساعة حتى جاء إليه بزاز وطلب منه أن يؤجره نصف حانوته فوافق على ذلك شريطة أن يدفع أجرة الحانوت كله. فجاء البزاز وبسط أمتعته في نصف الحانوت ، وهذا أدى إلى أن يصبح للحانوت وجه جديد.

كان البزاز يملك عدة عدول من القماش لم تفتح بعد ، فطلب أبو طيار منه أن يسمح له ببيع عدل منها على أن يأخذ الأجرة لنفسه ويعيد لجاره قيمة العدل. فوافق

ص: 345


1- بحار الأنوار للعالمة المجلسي ج11ص215.

على ذلك ، وسلّمه عدلا. فأخذ أبو طيار العدل وعرضه في النصف الآخر من الحانوت. وصادف أن الجو أصبح بارداً جداً في ذلك اليوم بحيث أقبل الناس على السوق يشترون الأقمشة لوقاية أجسامهم من البرد ، وما أن غربت الشمس حتى كانت الأقمشة كلها قد بيعت.

وفي هذا يقول أبو طيار : « فما زلت آخذ عدلا وأبيعه ، وأخذ فضله وأردّ عليه رأس المال ، حتى ركبت الدواب واشتريت الرقيق وبنيت الدور »(1).

وهكذا نجد أن الأئمة علیهم السلام استندوا في جميع الموارد الحلّ العقد النفسية الى قوتي العلم والإيمان ، وبذلك أكدوا على دور الإيمان في الأخذ بيد الإنسان نحو طريق السعادة والكمال.

* * *

ص: 346


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي 11 ص 215.

فهرس المحتويات

الصورة

ص: 347

الصورة

ص: 348

الصورة

ص: 349

الصورة

ص: 350

الصورة

ص: 351

الصورة

ص: 352

الصورة

ص: 353

الصورة

ص: 354

الصورة

ص: 355

الصورة

ص: 356

الصورة

ص: 357

الصورة

ص: 358

الصورة

ص: 359

الصورة

ص: 360

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.