الطفل بين الوراثة والتربية المجلد 1

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمد تقي فلسفي

المحقق: فاضل الحسيني الميلاني

الناشر: دار التعارف للمطبوعات

الطبعة: 3

الموضوع : علم النفس والتربية والاجتماع

تاريخ النشر : 1403 ه.ق

الصفحات: 410

نسخة غير مصححة

الطفل بين الورثة والتربية

تعريب: فاضل الحسيني الميلاني

محمد تقي الفلسفي

ص: 1

اشارة

الطفل بين الورثة والتربية

(1)

ص: 2

الطفل بين الورثة والتربية

محمد تقي الفلسفي

الجزء الأول

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كلمة المترجم

الطفل هو اللبنة الأولى في المجتمع ... إن أحسن وضعها بشكل سليم ، كان البناء العام مستقيماً مهما ارتفع وتعاظم ...

الطفل هو نواة الجيل الصاعد ، التي تتفرع منها أغصانه وفروعه ...

الطفل هو الرافد الذي يمد بركة المجتمع بالرصيد الاحتياطي دائماً.

وكما أن البناء يحتاج إلى هندسة وموازنة!

وكما أن النواة تفتقر إلى التربة والظروف المناسبة!

وكما أن الرافد يعوزه إصلاح وتنظيف مجارٍ!

كذلك الطفل فأنه يحتاج إلى هندسة وموازنة بين ميوله وطاقاته ، ويفتقر إلى تربة صالحة ينشأ فيها وتصقل مواهبه ، ويعوزه تنظيف لموارد الثقافة التي يتلقاها ، والحضارة التي يتطبع عليها ، والتربية التي ينشأ عليها!!!

إنه عالم قائم بنفسه ... يحمل كل سمات الحياة بصورة مصغرة ، في صخبها وأمنها ، في سعادتها وشقائها ، في ذكائها وبلادتها ، في صفائها وحقدها ، في تفوقها وتأخرها ، في إيمانها وجحودها ، في حربها وسلمها ...

* * *

وهذا ما أشغل العلماء والباحثين ، فراحوا يعدون البحوث ، ويلقون المحاضرات ، ويؤلفون الكتب ، ويوردون النظريات في مسألة ( تربية الطفل ).

ونشأ من بينهم عدة ترى أن سلوك الطفل مرتبط بالعوامل الوراثية التي يحملها بين جوانحه وفي ( كروموسوماته ) ...

ورأى عكس ذلك آخرون ، فأرجعوا كل أنماط السلوك الفردي والإجتماعي إلى

ص: 5

البيئة والمحيط ، والتربية والتنشئة. وأنكروا كل أثر إلى الوراثة ينسب ... حتى أدعى العالم النفساني الأمريكي ( واتسون ) دعواه التي لم يسندها بدليل حيث قال :

« أعطني إثني عشر طفلاً ، وهيىء لي الظروف المناسبة ، أجعل ممن أريد منهم طبيباً حاذقاً ، أو أستاذاً قديراً ، أو مهندساً بارعاً ، أو رساماً ... وحتى لو شئت لصاً أو شحاذاً ... »

وبلغ الخصام بين هاتين المدرستين في علم النفس والتربية إلى أنك ما تكاد تفتح كتاباً يتناول موضوع التربية إلا وجدته إلى إحدى المدرستين يميل ، وعن أحد الرأيين يدافع ، مفنداً الرأي الآخر.

ولعلك تسأل : أي الرأيين أصح؟ وأي العاملين في سلوك الطفل أهم : الوراثة أم التربية؟!

فبدلاً من أن أجيبك على سؤالك هذا ، أسأل بدوري أيضاً :

أيهما أهم للسيارة : المحرك ، أم الوقود؟!

* * *

تلك مسألة التربية ... والأصح ... مشكلة التربية!! فما هو رأي الإسلام فيها؟ وكم هي درجة خطورة الموقف في النظام الإسلامي الشامل؟!

* * *

الجواب عن ذلك تكفل به الكتاب الذي بين يديك ، وهو معرب عن الفارسية. ولقد حاولت في التعريب أن أفي بالمقصود أكثر من تقيدي بالتعبير ، ووجدت من الضروري أن أضيف إلى الأصل بعض التعليقات التي لا بد منها للكتاب في شكله العربي ، وربما جاءت التعليقة ممزوجة بالأصل حيث يبدو تكثير الهوامش أمراً غير مستحسن.

وفي نهاية المطاف أرجو أن يسد هذا الكتاب فراغاً كانت تشكوه المكتبة الإسلامية حول المنهج التربوي للإسلام منذ أمد ...

كما نبتهل إلى العلي القدير في أن يوفقنا لخدمة الأمة الإسلامية ، ويأخذ بأيدينا إلى ما فيه الخير والصلاح. إنه سميع مجيب.

النجف الأشرف في 1 / 12 / 1386

فاضل الحسيني الميلاني

ص: 6

المحاضرة الاولى: حول الذنب - حرية التعلم

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم : ( ... كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (1).

تمهيد : وسائل القرب المعنوي من اللّه :

اليوم هو أول يوم من شهر رمضان المبارك ... شهر الرحمة ، شهر الغفران ، شهر الألطاف الإلهية الخاصة ... يجتمع المؤمنون والمقبلون على التعاليم الإسلامية القيمة في المساجد بشوقٍ ورغبةٍ شديدين ، ويقفون بين يدي اللّه تعالى وهم يؤدون الفرائض والسنن الإسلامية ويزدانون بطاعة اللّه والإنقياد إليه ، وبذلك ليتقربوا إلى اللّه العظيم زلفى ، ويتنعموا في هذا الشهر برحمته الواسعة التي وسعت كل شيء.

ووسائل التقرب إلى اللّه عز وجل كثيرة ... كل عمل خيري يؤتى به لوجه اللّه يمكن أن يقربنا منه ، وكلما كانت قيمة ذلك العمل أغلى ، والإخلاص في نفس الشخص الذي يأتي به أكثر ، كانت دائرة التقرب إلى اللّه أوسع.

ربما يرغب الكثير منكم أن يعرف أي الأعمال أفضل في هذا الشهر العظيم كي يجد ساعياً في إتيانه والمواظبة عليه ، وبذلك ليحرز رضى اللّه وليتقرب منه زلفى.

إذا وجهنا هذا السؤال إلى الأفراد العاديين من المسلمين ، سمعنا أجوبةً مختلفةً عليه. فأحدهم يقول : أفضل الأعمال في هذا الشهر قراءة القرآن ، والآخر يقول : إنه

ص: 7


1- سورة البقرة 183.

إفطار الصائم ، ويرى آخرون : أفضل الأعمال هو صلة الرحم وعيادة المرضى ، ويظن طائفة : إنه تلاوة الأذكار والأدعية المأثورة ... والخلاصة أن كل شخص يتوسل بنوع من الأنواع الخيرة ويعتبره أفضل الأعمال في شهر رمضان.

ولننظر إلى ما يقوله الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) !!

التقوى :

في آخر جمعة من شعبان كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يخطب في المسلمين وبين لهم واجباتهم في شهر رمضان ...

« قال علي : فقمت وقلت : يا رسول اللّه ، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : الورع عن محارم اللّه » (1).

لقد رأينا أن أكثر الناس يبحثون عن أفضل الأعمال في جدول الأعمال الخيرة الإيجابية بينما نجد الرسول الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يلفت أنظار المسلمين إلى الجانب السلبي ويعرف أفضل الأعمال في شهر رمضان بالإجتناب عن المعاصي. ولا يخفى أن الملاك في التدين هو نظرة الشرع المقدس ، لا ما يظنه هذا ويراه ذاك. ولأجل أن نبين أهمية الإجتناب عن المعاصي في تحقيق السعادة البشرية ويتضح مغزى كلام النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالنسبة إلى أفضل الأعمال في شهر رمضان نخصص محاضرتنا هذه بالذنب وآثاره الوضعية والشرعية.

إن التعاليم الاسلامية القيمة بشأن السعادة الإنسانية وبيان الخير والشر يطابق تماماً المنهج الطبي بشأن صحة الناس وسلامتهم ، ولذا فان النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان في تحقيق التكامل المعنوي للبشر كالطبيب الحاذق الطاهر القلب على رأس المريض. وفي هذا الصدد يصفه الإمام علي (عليه السلام) بقوله : -

« طبيب دوار بطبه ، قد أحكم مراهمه وأحمى مواسمه ، يصنع ذلك حيث الحاجة

ص: 8


1- عيون أخبار الرضا ص 164 طبعة إيران.

إليه في قلوب عميٍ وآذان صم وألسنة بكم » (1) فيصف النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأنه كان طبيباً سياراً ، يحمل معه في حقيبته المعاجين اللازمة للتضميد والمعالجة ، فإذا وجد قلوباً عمياء ، أو أرواحاً صماء ، قام بمعالجتها وأنقذ الناس من الموت المعنوي والانهيار الخلقي.

معالجة الانحراف :

للأطباء منهجان في معالجة المرض : أحدهما إيجابي ، والآخر سلبي.

فيقولون للمريض في المنهج الإيجابي : إحتقن بهذه الابرة. إستعمل هذا الكبسول ، إشرب من هذا الشراب ملعقةً واحدةً كل ثلاث ساعات. أما في الجانب السلبي فيقولون للمريض : لا تأكل العنب ، لا تشرب الخل. لا تستعمل الأكلات الدسمة ، وهكذا.

والمنهج الديني يشابه المنهج الطبيٍ تماماً ، فيقول للمسلم من جهة : أقم الصلاة ، أد الزكاة ، ليكن كسبك حلالاً ، تزوج ... إلخ ويقول له من جهة أخرى : لا تكذب ، لا تفحش ، لا تغتب ... فالجانب الايجابي في الدين يسمى بالواجبات ، بينما يطلق إسم المحرمات على الجانب السلبي.

وإذا ألقينا نظرةً فاحصةً على المنهج الطبي ، لوجدنا موضوع الوقاية من العدوى ، وترك القيام ببعض الأمور ( الحمية ) مهماً إلى درجة أن المريض لو لم يواظب على التوصيات اللازمة فالمعالجات الايجابية لا تنفعه أصلاً. إن أحسن عملية جراحية يقوم بها طبيب حاذق يمكن أن تصطدم بمشكلات جمة - وقد تكون فاقدة للأثر - إذا تهاون المريض في العمل بتوصيات الطبيب ، فقام ببعض الحركات الزائدة أو لم يتحفظ على الجرح من التلوث بالميكروبات مثلاً.

وحتى في الأمراض التي تنشأ من انحراف المزاج ، نجد أن عدم اعتناء المريض بما يجب أن يجتنب عنه ، يذهب بأثر معالجات طبيب حاذق ، وأما في بعض الأحيان ، حيث لا يتمكن المريض من الوصول إلى الطبيب فانة إذا احتمى ولم يحمل مزاجه

ص: 9


1- نهج البلاغة شرح محمد عبده ج 1 206.

فوق طاقته ، نجد المناعة الذاتية قادرة على أن تنجي المريض من الانحراف وأن ترجعه إلى وضعه الاعتيادي. وهناك حالات ينحصر العلاج فيها بالحمية فقط.

يقول الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) : « الحمية رأس الدواء » (1).

نستنتج مما تقدم : أن السلامة منوطة بالمواظبة على توصيات الطبيب - الايجابية منها والسلبية - ولكن النظرة الثاقبة ترينا أن أثر الجانب السلبي في العلاج أقوى من أثر الجانب الايجابي.

هدف القرآن :

وعلى هذا المنوال تنسج التعاليم الاسلامية نسجها في تحقيق السعادة المعنوية. فالانسان السعيد هو الذي يطبق التعاليم الايجابية والسلبية ... يأتي بجميع الفرائض ويترك جميع المحرمات ، ومع ذلك فان كفة الابتعاد عن الذنوب ( الجانب السلبي ) ترجح في ميزان السعادة البشرية على كفة الاتيان بالواجبات ( الجانب الايجابي ).

ومن هنا نجد أن القرآن الكريم والروايات الواردة عن النبي وآل بيته عليهم الصلاة والسلام ، تعرف ( التقوى ) أعظم رصيد للسعادة ، وترى أن الغاية العظمى من القرآن وتعاليمه هي تربية الناس على التقوى ، فالتقوى بمعنى إجتناب المعاصي والابتعاد عنها ، و ( المتقي ) هو المجتنب عن المعاصي.

فليس صيام رمضان - وهو من أهم الفرائض الاسلامية - إلا مظهراً من مظاهر الاجتناب عن المفطرات بنية التقرب إلى اللّه تعالى ، ولقد أوجب اللّه الصيام على الأمم السالفة ، وعلى الأمة الاسلامية كي يتمرن الناس في هذا الشهر على الحصول على ملكة التقوى.

( ... كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وبهذا الصدد نورد بعض الروايات المروية عن أئمة أهل البيت علیهم السلام :

ص: 10


1- سفينة البحار ص 245 ، مادة ( حمى ).

1 - عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال : « فيما ناجى اللّه عز وجل به موسى ، ما تقرب إلي المتقربون بمثل الورع عن محارمي ... » (1) فلا يوجد عامل يقرب المتطهرين إلى اللّه مثل الاجتناب عن المعاصي.

2 - وعن علي (عليه السلام) : « إجتناب السيئات أولى من إكتساب الحسنات » (2).

3 - وعن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) : « من اجتنب ما حرم اللّه عليه ، فهو من أعبد الناس » (3).

4 - عن النبي صلی اللّه علیه و آله : « لرد المؤمن حراماً يعدل عند اللّه سبعين حجةً مبرورة » (4).

5 - عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) : « غض الطرف عن محارم اللّه أفضل عبادة » (5).

6 - ولقد سبق أن نقلنا جواب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على سؤال علي (عليه السلام) حين سأله عن أفضل الأعمال في شهر رمضان فقال : « الورع عن محارم اللّه ».

إنهيار المجتمع :

إن إغلب المآسي التي تصيب الفرد أو المجتمع ناشئة من التلوث بالذنب والمعصية. والأمم التي انهارت انهياراً تاماً ، ولم يبق منها في التاريخ إلا اسمها ، كان السبب في ذلك عدم مبالاتها بالنسبة إلى الذنوب وهذا ما يؤكد عليه القرآن غير مرة :

«كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ» (6).

«أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ» (7).

ص: 11


1- الكافي لثقة الاسلام الكليني ج 2 80.
2- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 57.
3- مستدرك الوسائل للنوري ج 2 302.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
6- سورة الأنفال 54.
7- سورة الدخان 37.

«فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ» (1).

إن المآسي المختلفة التي تعلق بأذيالنا - شيوخاً وشباباً - وليدة التلوث بأنواع الذنوب واللامبالاة في ارتكاب المعاصي والمحرمات. كما أن المريض الذي يخالف أوامر الطبيب ويترك الحمية يبتلى ويجازى بأنواع المصائب والمشاكل الدنيوية والأخروية.

1 - «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا» (2)

2 - «لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ» (3)

3 - «ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ» (4)

ما هو الذنب :

الذنب عبارة عن مخالفة القوانين الآلهية ، واتباع الأهواء والرغبات التي تلح عليها النفس ، من دون رادع أو مانع. وكقاعدة أولية وأصلٍ ثابت يجب أن نقول : إنه مع غض النظر عن التعاليم الدينية ، فليس بإمكاننا متابعة الشهوة والرغبات النفسانية ، وإطلاق العنان للارادة النفسية بحرية كاملة. فهناك الموانع العديدة والحواجز القوية التي لا يمكننا أن نخترقها. وعلى سبيل المثال نشير إلى بعض الموانع بنماذج واضحة وأمثلة ساذجة يصادفها كل الأفراد في حياتهم اليومية.

جزاء التخلف عن القوانين :

(1) حمامة جائمة على سطح عمارة ذات أربعة طوابق من شارع وأنت واقف على سطح تلك العمارة أيضاً ... الحمامة تحاول الطيران إلى الجانب الآخر من الشارع لتنزل على سطح عمارة مقابلة ، ففي لحظةٍ واحدةٍ تحرك الحمامة جناحيها

ص: 12


1- سورة النساء 6.
2- سورة الروم 41.
3- سورة البقرة 114.
4- سورة المائدة 33.

تطير ... وترغب أنت في ملاحقتها والطيران مثلها ، إلا أن رغبتك هذه تصطدم بمشكلة كبيرة ، هي أنك لا تملك وسائل الطيران ، ولا القدرة على مقاومة جاذبية الأرض ، فالقانون الطبيعي يمنعك من هذا التصميم. فإن لم تعتن إلى منع الطبيعة إياك عن الطيران وأردت أن تثور على قانون الطبيعة ، فبمجرد أن ترمي بنفسك من سطح هذه العمارة إلى جهة العمارة الأخرى - وقبل أن تبتعد من هذه العمارة بمقدار متر واحد - فإن جاذبية الأرض تسحبك إليها بأتم الخشونة والقوة وتريك جزاء تخلفك هذا ... وتطرحك على الأرض في الوقت الذي يتحطم فيه رأسك ويتلاشى مخك ، وتنهي بحياتك وهي تنطق بلسانٍ فصيح يعبر عن القانون الكوني العام : هذا جزاء المذنب والمتخلف عن السنن الكونية.

يتساوى جميع الناس في هذا الأمر : المؤمن والكافر ، الصائم والمفطر ، الشيوعي والرأسمالي. فالعقلاء لأجل أن لا يتخلفوا عن قوانين الطبيعة ينزلون ستين درجة من سلالم العمارة ، ثم يصعدون في سلالم العمارة المقابلة حتى يصلوا إلى سطحها ، فيثبتون - عملياً - إطاعتهم للقانون الكوني العام.

والطفل يرغب في القيام بالفعاليات والحركات الحرة بفطرته يحب أن يقبض بيده كل شيء ، يلمس كل شيء ، يعمل كما يريد ... لكنه سرعان ما يلتفت إلى أنه ليس حراً مطلقاً ، إنه يرغب كثيراً في ثدي أمه وهو مصدر غذائه ، لكنه عندما تتركه أمه أثناء ارتضاعه لتذهب وراء اعمالها يفهم الطفل أن الثدي ليس في اختياره دائماً ، يجب أن يصيح ، أن يبكي ... حتى تحن الأم إليه ويسترجع الثدي الضائع.

وعندما تتفتح أصابع الطفل فإنه يرغب بولع شديد أن يأخذ التفاحة ويأخذ الخبز ، ولكنه حيث لا يدرك الفواصل فقد يخرج يده من المهد ليأخذ المصباح من السقف أو القمر من السماء وقد يمد يده إلى النار ليأخذ جمراتها المتوقدة فيحترق ويبكي ... هنا يدرك الطفل أنه ليس حراً مطلقاً كما يظن ، فحريته محدودة.

ويتدرج الطفل في نموه. ويأخذ في المشي ويقترب من الحوض فيرى الأسماك تسبح في الماء ، وبحكم طبعه الطفولي الحر يرغب في أن يسبح مثل تلك الأسماك ، فيلقي بنفسه في الماء ... ينقطع نفسه ويشرف على الموت ، فتصل الأم وتخرج

ص: 13

طفلها المتقطع الأنفاس ... وحين يثوب إليه رشده ينظر نظرة إلى الماء ويفهم أنه ليس حراً ولا يتمكن من أن يسبح كالسمك.

وعلى أية حال فإن الإنسان يلاقي موانع الطبيعة منذ طفولته في كل خطوة يخطوها ، وفي كل يوم يحس بتقلص حريته أكثر من ذي قبل. ويدرك أن رغباته تصطدم بجدران حديديةٍ لا تخترق. ولا يتمكن أن يمارس إرادته بحريةٍ كاملةٍ.

(2) والحاجز الثاني الذي يقف أمام الميول والرغبات الفردية ، هو القوانين الصحية التي تظهر في الحمية ... فإن المريض يشاهد الفواكه والحلويات والأطعمة المختلف ، فيرغب في أن يأكل منها ولكنه مصاب بمرض السكر ، فإن حاول اتباع ميوله بالتناول من الفواكه والحلويات التي تكثر فيها مادة السكر فسوف يبتلى بأنواع الآلام.

أو أنه مصاب بمرض في الكبد فعليه أن يحتمي عن كثير من الأطعمة الشهية ، لأن الطبيب منعه عنها ... وقد يكون المرض شديداً إلى درجة يضطر المريض معها إلى أن يقنع بشيء قليل من الخضروات والفواكه المطبوخة فقط ، ولا مفر له من ذلك فأما أن يترك ميوله وشهواته فيحفظ سلامته وصحته ، أو ينقاد لها ويترك توصيات الطبيب فيلاقي جزاءه في النهاية باشتداد المرض ، أو الموت أحياناً.

(3) وتعد القوانين الوضعية من الحواجز المهمة التي تقف أمام الميول البشرية ، فإذا أرادت حكومة ما أن يظل قائمة وأن يكون لها مجتمع منظم ، فعليها أن تضع القوانين التي تحدد لكل فرد حقوقه وواجباته ، فتسمح ما هو ضمن القانون وتمنع ما سواه. وتعاقب المعتدي على حقوق الآخرين ... وليس هذا في واقعه إلا تحديداً لحرية الإنسان ، وعدم فسح المجال لممارسة أهوائه وشهواته كيفما يريد.

قد يستاء البعض لمحدودية حريته تجاه القانون ، فيطغى عليه ويحب أن يكون حراً ليفعل ما يريد ويقول ما يشاء ويذهب أنى يرغب ، لكن السلطة التنفيذية للقانون تجبره على الانقياد له.

يقول أحد الغربيين : القانون كاللجام الذي يوضع على فم الفرس الهائج فقد يطغى عليه ، مع فارق واحد هو أن اللجام الذي يوضع للفرس يضعه الإنسان. بينما القانون يضعه الإنسان على نفسه ، وقد يطغى عليه أيضاً.

ص: 14

لنتصور مستطرقاً جائعاً يرغب أشد الرغبة في أن يأكل من الحلويات والفواكه المنضدة في الحوانيت بحرية كاملة ليشبع بطنه ، أو شاباً متميعاً في أشد الميل لا شباع نهمه الجنسي مع امرأة تسير في الشارع ، لكن القانون يراقبه ويعاقبه بشدة على ميوله غير القانونية.

* * *

هذه الأشكال الثلاثة من الحواجز والموانع عن حرية الإنسان جارية في جميع نقاط العالم ، بغض النظر عن الدين والعنصر ، فالخروج عليها يعتبر ذنباً وإجراماً. ولقد اعتنى الإسلام بها جميعاً وأوجب على اتباعه إتباعها ومراعاتها ، فالجري وراء الميول النفسية التي تخالف القوانين الكونية والصحية والاجتماعية ممنوع في القانون الإسلامي. والجانب الأكبر من الذنوب في الإسلام عبارة عن تنفيذ هذه الرغبات اللامشروعة.

يعتبر الانتحار بجميع صوره ذنباً في الاسلام ، سواء كان برمي الانسان نفسه من شاهق ، أو الإلقاء في الماء ، أو شرب السم ، أو غير ذلك. وكذا الإضرار بالنفس والإلقاء باليد إلى التهلكة يعتبر ذنباً ، والصوم الواجب إن كان مضراً بصحة الإنسان فلا يسقط وجوبه فقط بل يعتبر محرماً. وهكذا الذنوب الاجتماعية والإخلال بالأمن والنظام والتجاوز على أموال الآخرين ونفوسهم وأعراضهم ... وبصورة موجزة فإن كل الميول المنافية لسعادة المجتمع ممنوعة ، وارتكابها يعد ذنباً وإجراماً.

إنحطاط البشرية :

وهنا لا بد من الانتباه إلى نكتة مهمة ، وهي أن الذنب - بغض النظر عن الأخطار الي يتضمنها في الإخلال بالنظام العام الإضرار بالمصالح الفردية والاجتماعية - هو أهم عوامل انحطاط البشرية وتقهقرها. فالمذنبون ليسوا متمتعين بالمزايا الانسانية الشريفة والكمالات المعنوية ، فإن ظلمة الذنب تصير حجاباً يخفي نورانية القلب وصفاء الباطن. والمجرم قبل أن يلحق الضرر بالمجتمع أو بنفسه ، يعمل على انهيار شخصيته ويكبت الروح الخيرة في أعماقه. فعلى من يرغب في الفضائل الانسانية ويحب الكمال والتعالي الروحي أن ينزه نفسه عن ظلمة الذنب والإجرام.

ص: 15

يقل الإمام علي (عليه السلام) : « من أحب المكارم إجتنب المحارم » (1).

وفي حديث آخر عنه (عليه السلام) : « من ترك الشهوات كان حراً » (2).

التفكير في الذنب :

إن الاسلام يخطو خطوة أوسع في هذا المجال ، ويقول بأن الانسان الواقعي هوالذي لا يكتفي بترك الذنوب فحسب ، بل لا يفسح مجالاً في ذهنه وفكره للتفكير في الذنب ، ولا يدع الفكرة المظلمة تمر بخاطره ... فإن التفكير في الذنب حتى ولو لم يصل إلى مرحلة التطبيق ، يوجد ظلمة روحية في القلب ويمحو الصفاء الروحي من الانسان.

يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : « صيام القلب عن الفكر في الآثام ، أفضل من صيام البطن عن الطعام » (3).

ويقول إمامنا الصادق (عليه السلام) راوياً عن عيسى بن مريم (عليه السلام) أنه كان يقول : « إن موسى أمركم أن لا تزنوا ، وأنا آمركم أن لا تحدثوا أنفسكم بالزنا ، فإن من حدث نفسه بالزنا كان كمن أوقد في بيت مزوق فأفسد التزاويق الدخان وإن لم يحترق البيت » (4) ... أي أن فكرة الذنب توجد ظلمة في القلب - شاء الفرد أم أبى - وتسلب صفاء النفس ، حتى ولو لم يرتكبه الإنسان.

إن النكات الدقيقة التي أوردها الإسلام في موضوع السعادة الانسانية في القرون السالفة وعلمها اتباعه ، تستجلب أنظار العلماء المعاصرين في العصر الحديث فنراهم يفطنون إلى تلك الحقائق في كتبهم ومؤلفاتهم :

« للأمل والإيمان والإرادة القوية أثر كبير على الجسم ، وهو يشبه أثر البخار على القاطرة. إن النشاطات الجسدية والروحية تتكامل بدافع الحب فتكسب الشخصية قوة ورصانة وكمالاً. وعلى العكس

ص: 16


1- الارشاد للشيخ المفيد ص 141.
2- بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 17 67.
3- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 203 طبعة دار الثقافة - النجف الأشرف.
4- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة للحر العاملي ج 5 37.

فإن الرذائل تحط من الشخصية وتسحقها. إن الكسل والتردد في الرأي مثلاً من أهم العوامل على جمود الفكر ، وكذلك العجب بالنفس والغرور والحسد فإنها من عوامل التفرقة والتباعد بين الناس ، وهي جميعاً تمنع النفس البشرية من التكامل » (1).

« إن المعاصي - كما نعلم - تقلل من قيمة الحياة المعنوية. وإن تحمل العيوب والنواقص خطأ فظيع. فليس كل شخص حراً في تصرفاته ، وعلى هذا فالذي ينحرف عن الطريق المستقيم في الحياة ويبدو متكاسلاً مفترياً على الناس ولا يبالي بارتكاب مختلف الذنوب يجب أن يعتبر مجرماً عاماً. ولكل ذنب آثاره الوخيمة حيث يؤدي إلى الانحرافات العضوية والنفسية والاجتماعية. فكما أن العض على أنامل الندم لا يتلافى العيوب الناشئة في جسد المدمن على الخمرة أو العيوب الوراثية في أطفالهم ... كذلك لا يمكن ترميم الانحرافات الناشئة عن الحسد والحقد والغيبة والأثرة والأنانية » (2).

إن كل ما هو ممنوع في الشريعة المطهرة. وكل ما يعتبره الإسلام ذنباً وإجراماً يتصل إما بضرر مباشر أو غير مباشر تجاه المصالح المادية أو المعنوية للانسانية حتماً. غاية الأمر أن البشر لم يطلعوا على جميع تلك الجوانب. ويرى البعض كثيراً من الذنوب كشرب الخمر والقمار والاتصالات اللامشروعة بين الجنسين رائجة في الدول الغربية فيظن أن الإسلام قد حرمها عبثاً ... وهو في توهمه هذا غافل عن أن ذلك كله حسب حساب دقيق ، فقد يأتي يوم يفطن فيه الغرب إلى أضرارها فيمنعها أيضاً!.

في رسالة من محمد بن سنان إلى الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) يسأله فيها عن صحة ما يدعيه بعض المسلمين من عدم وجود حكمة للحلال والحرام في الإسلام وأن المقصود من ذلك هو التعبد والانقياد إلى اللّه فقط. فكتب علیه السلام في جوابه :

« ... قد ضل من قال ذلك ضلالاً بعيداً » ثم يسترسل في ذكر تحريم المحرمات

ص: 17


1- راه ورسم زندكى ص 72. وهو ترجمة لكتاب ألفه بالفرنسية د. الكسيس كارل. وترجمه إلى الفارسية د. برويز دبيري.
2- راه ورسم زندكى ص 80.

فيقول : « ووجدنا المحرم من الأشياء ، لا حاجة للعباد إليه ووجدناه مفسداً داعياً إلى الفناء والهلاك » (1).

* * *

نتائج الذنوب :

وإذا تصفحنا أقوال أئمة الاسلام وقادتنا الكرام (عليه السلام) ، نجد أنهم يعللون جميع المآسي والمشاكل والنكبات الفردية والاجتماعية بالجرائم والذنوب التي يرتكبها الناس ، نتيجة تخلفهم عن القوانين الالهية ، فيلاقون جزاءهم على ذلك التخلف والخروج على أحكام اللّه.

فلكل من الذنوب أثر خاص في الاضرار بالانسان ، فالظلم والخيانة الكذب والتزوير ، هتك الأعراض والميوعة ، قول الزور والتجاوز على حقوق الآخرين ، الفتنة والنميمة ... كل هذه الذنوب تشبه الأمراض التي تصيب جسم الإنسان. وهنا يجدر بنا الاشارة إلى بعض النصوص الواردة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) التي تبين العواقب المادية والمعنوية للذنوب والجرائم :

1 - يقول الامام الباقر (عليه السلام) : « ما من نكبة تصيب العبد إلا بذنب » (2).

2 - وعن الامام الصادق (عليه السلام) : « تعوذوا باللّه من سطوات اللّه ، بالليل والنهار ، قال ( أي الراوي ) : قلت له : وما سطوات اللّه؟ قال : الأخذ على المعاصي » (3).

3 - وعن الامام الصادق (عليه السلام) أيضاً : « إن الذنب يحرم الرزق » (4).

4 - وعن الإمام الباقر (عليه السلام) : « إن اللّه قضى قضاء حتماً : ألا ينعم على العبد نعمة فيسلبها إياه حتى يحدث العبد ذنباً يستحق بذلك النقمة » (5).

ص: 18


1- (2) بحار الأنوار للمجلسي ج 3 118
2- الكافي للكليني ج 2 269.
3- نفس المصدر. وسطوة اللّه : غضبه وأخذه بالشدة ، كما في المصباح.
4- الكافي ج 2 271.
5- الكافي ج 2 273. وفيه تلميح إلى قوله عز وجل : « إن اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » الرعد 12.

5 - وعن الامام الرضا (عليه السلام) : « كلما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون ، أحدث اللّه لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون » (1).

6 - وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) : « وايم اللّه ما كان قوم قط في خفض عيش فزال عنهم ، إلا بذنوب اقترفوها ، لأن اللّه ليس بظلام للعبيد » (2).

الجزاء الآجل :

لا شك في أن كل ذنب يترك أثراً سيئاً في الفرد والمجتمع على السواء والمذنب يلاقي جزاءه حتماً ، غاية الأمر أن بعض الذنوب تظهر نتائجها بسرعة ويلاقي المجرم جزاءه عاجلاً ، بينما لا تنعكس آثار بعض الذنوب على الفرد والمجتمع إلا بعد مدة طويلة ... وعليه فالمجرم لا يلقى جزاءه إلا بعد مدة من الزمن أو بصورة تدريجية.

فالذين يحبون الفضيلة والكمال ويريدون بلوغ الأوج في الفضائل والمثل الانسانية يتحاشون ارتكاب كل أنواع الذنوب والجرائم ، سواء كان جزاؤها مؤجلاً أو معجلاً ... أما بعض قصار النظر الذين لا يتمالكون من اقتراف الذنوب ولا يراعون اللّه والقيم العليا والمثل الانسانية ، فإنهم يظنون أن الخلاص يكمن في ترك الذنوب ذات الجزاء العاجل ، وحيئنئذ فهم لا يرون مندوحة في أن يمارسوا شهواتهم وأهواءهم بالنسبة إلى الجرائم التي يكون الجزاء فيها آجلاً.

إن أوضح مثال على ذلك نجده في التعاليم الصحيحة. فالطبيب يقول للمريض المصاب بالاسهال : إمتنع عن تناول الأطعمة العسرة الهضم والفواكه النية ، والمريض يطيعه على ذلك. لأنه لو خالفه يصاب - بعد ساعة أو ساعتين مثلاً - بآلام شديدة ونزف معدي أو معوي وضعف عام في جسده ، بصورة موجزة : بما أن الجزاء سريع وعاجل فالمريض يضطر إلى إطاعة الطبيب.

أما إذا نصح هذا الطبيب شاباً بالاجتناب عن الخمرة والحذر عن الوقوع في

ص: 19


1- المصدر السابق ج 2 275.
2- المستطرف من كل فن مستظرف للابشيهي : ج 2 61. وخفض عيش : في سعة ولين من العيش.

أسرها ، وسأله الشاب : وماذا سيحدث إن شربتها؟ فيجيبه الطبيب : إنك ستجد بعد عشر سنين الآثار الوخيمة للخمرة في جسدك وروحك ... ستصاب بالعوارض القلبية والكلوية والكبدية ، وتقترن حياتك ببؤس وشقاء وانحلال ... وما أشبه ذلك.

ففي هذه الصورة نجد الشاب يتماهل في العمل بنصائح الطبيب ويعاقر الخمر ليل نهار ، والسبب في ذلك هو أن جزاءه آجل غير عاجل. وهكذا فكل قانون يكون عامل التنفيذ فيه قوياً وسريعاً فإنه يطبق بأحسن صورة وكلما فقد عامل التنفيذ أو كان الجزاء فيه آجلاً فإن تطبيقه لا يتم بصورة مرضية (1).

الجزاء العاجل :

إن القوانين الطبيعية تمتاز بأن مخالفتها تؤدي إلى أن يلاقي الفرد جزاءه عاجلاً ، ولذلك فإن الناس يخافون الخروج عليها ... النار تحرق فوراً ، الغاز يخنق رأساً ، ولذلك فإن هذه القوانين تقابل بالاطاعة التامة والانقياد الكامل ، ومعها يضطر المريض إلى إطاعة أوامر الطبيب حينما يصطدم بالآم شديدة وحمى قوية وضعف تام بعد مضي ساعة على مخالفتها.

وهكذا ، فالمجرمون الذين يخرجون على القوانين الاجتماعية إذا وجدوا أنفسهم أمام عقوبات صارمة كالسجن مع الأعمال الشاقة أو الإعدام مثلاً فإنهم يضطرون إلى إطاعة القانون واحترامه. ويحذرون من تجاوز حدودهم المقررة في إطار القانون.

إلا أنه توجد في القوانين السماوية ذنوباً وجرائم ، يكون الجزاء عليها في الدنيا بطيئاً وفي الآخرة أبطأ. ولهذا فإن كثيراً من الناس لا يرتدعون عن ارتكابها - أو لا يجدون في أنفسهم خوفاً من ارتكابها على الأقل - ظانين أنهم في حصن حصين عن الجزاء. ولقد رأينا كيف حدثنا التاريخ بالجريمة الكبرى التي ارتكبها عمر بن سعد في قتل الامام أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) حيث وقع أسير التفكير الخاطئ الذي وجد نفسه - معه - في أمن من العقاب لكونه بطيئاً غير معجل ، ولذلك فقد سمع يردد -

ص: 20


1- وهذا هو السر في الصرامة الشدة التي يفرضها الاسلام في عقوباته ، مما جعل الجهال يتحاملون عليه بأنه ليس ديناً صالحاً للتطبيق. والحال أن التجارب تثبت عكس ذلك.

« وهل عاقل باع الوجود بدين؟!! ». إذ أن إمارة ري كانت معجلة بينما جزاء يوم القيامة بعيد وآجل ... وعليه فلا يجب ترك العاجل بالآجل.

بينما نجد القرآن الكريم يفند هذه الفكرة ، وينبه الناس إلى ضرورة

توقي الجزاء الآجل ، كما لو كان عاجلاً بقوله تعالى : « إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً » (1).

يوم الجزاء :

إن يوم الجزاء بعيد جداً في نظر المذنبين والمجرمين ، لكن اللّه يرى ذلك اليوم قريباً جداً. إذ لا تمضي مدة طويلة حتى يلاقي هؤلاء المجرمون جزاء ما اقترفوه. وبالرغم من طول المدى فإنه لا بد من وجود يوم يعاقب فيه الخارجون على سنة اللّه وحكمه.

الآثار الوخيمة للذنوب :

إن جانباً من الأمراض الروحية والعصبية التي يصاب بها الناس ، ناتج من الانحرافات الخلقية وسوء القصد. فالحسد مثلاً يفعل في بدن الحسود وروحه ما يفعله السرطان في الجسم ، التكبر يولد في الانسان بعض الاختلالات الروحية وقد يؤدي إلى الجنون ، ولكنه قد لا تظهر هذه العوارض بسرعة بل تكون بطيئة وتدريجية.

وكثير من الشبان ينحطون إلى أسفل درك من الحضيض نتيجة الميوعة والتفسخ الخلقي ... وأخيراً يؤدي بهم ذلك إلى الانتحار. وكم من رجل أردى به الحرص والطمع وطلب الجاه والأنانية إلى هوة سحيقة وعيش أمض من الموت ومصير مؤلم فظيع! ..

فالعاقل هو الذي لا يلوث أذياله بأي ذنب ، ويظل متحفظاً من أي انحراف في سلوكه ، وهكذا فإن الرجال العظماء والذين كانوا ولا يزالون مفاخر الانسانية جمعاء في كل عصر ، لم يحصلوا على تلك المنزلة إلا لأنهم عاشوا عيشة طاهرة منزهة من

ص: 21


1- سورة المعارج 6 - 7.

الدنس. فالفضائل والكمالات لايمكن أن تتفق مع الذنوب ، ومن يريد الوصول إلى أوج الكمال والعظمة الروحية ، عليه أن يتخلى عن ميوله اللامشروعة وشهواته وأهوائه التي تقف في طريق تكامله.

يقول الامام علي (عليه السلام) : « إنك لن تدرك ما تحب إلا بالصبر عما تشتهي » (1).

قد يولد الاعجاب بالشهرة وطلب الجاه أثرا شديداً في نفس الفرد ، بحيث يضطره إلى أن يرخي عنان الصبر من يده ، ويرتكب كل جريمة في سبيل هدفه ... ومع ذلك فالمصيبة العظمى أنه لا يصل إلى ما يريد بالرغم من اتخاذه كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتحقيقه.

البؤس والحرمان :

وتأكيداً لما سبق نورد هنا حديثاً عن الامام الحسين (عليه السلام) نأمل أن يقع موقع الاهتمام والعناية من قبل المسلمين ، وخصوصاً : الشبان منهم ويضعوه نصب أعينهم في جميع مجالات نشاطهم مدى الحياة :

« من حاول أمراً بمعصية اللّه كان أفوت لما يرجو وأسرع لما يحذر » (2).

... إذا كانت في نفسك رغبة ملحة في جمع المال ، فاحرص على أن تجمعه من طريق مشروع وبأساليب صحيحة بعيدة عن الخيانة ... والسرقة ... وإن كنت ترغب في الحصول على شهرة قوية في المجتمع فلا تطلب ذلك من طريق الاجرام ، لأن النهاية هي البؤس والحرمان.

إن أصدق شاهد على كلمة الامام الحسين (عليه السلام) الآنفة الذكر ، نجده في تاريخ الطف بصورة جلية ، فإن عمر بن سعد بن أبي وقاص كان يميل بشدة للحصول على إمارة ( ري ) ، وكانت أوهام الرئاسة على تلك المدينة وقيادة زمامها قد عاشت في مخيلته ، حتى راح يضحي بكل شيء عنده للوصول إلى هدفه. وأخيراً لم يجد بداً من أن يسلك مسلكاً غير مشروع لتحقيق أمنيته هذه. فارتكب أشنع الجرائم وأبشعها في

ص: 22


1- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 149 ط النجف الأشرف.
2- بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 17 149.

تاريخ البشرية وهي قتل الحسين (عليه السلام) وأصحابه مع تلك الحالة المفجعة الممضة غير القابلة للوصف. كل ذلك أملاً في الحصول على إمارة ( ري ) ... وأخيراً - وبالرغم من ارتكابه تلك الجريمة العظمى - لم يصل إلى هدفه ، وخاب ظنه وخسر الدنيا بعد خسرانه الآخرة ... هذا غير الوخز المؤلم من الضمير له والايقاع به في شبكة من الأمراض الروحية والعصبية ، نتيجة لخيانته الكبرى تلك ... وكانت نهاية حياته أن وقع فريسة دسمة بأيدي الثوار الذين نهضوا يطالبون بدم الحسين بقيادة المختار الثقفي ، وتحققت فيه قولة الامام علیه السلام : « من حاول أمراً بمعصية اللّه ، كان أفوت لما يرجو وأسرع لما بحذر ».

هذه نبذة يسيرة عن الذنب وبعض نتائجه وآثاره ، تطرقنا إليها كتمهيد للبحث وذلك بمناسبة قول النبي صلی اللّه علیه و آله في جواب علي علیه السلام : « أفضل الأعمال في هذا الشهر ، الورع عن محارم اللّه ».

نسأل اللّه عز وجل أن يوفقنا في هذا الشهر ، وفي سائر أيام السنة للاجتناب عن السيئات والجرائم. وبذلك نجلب رضى اللّه تعالى بالحصول على السعادة في الدنيا ، والنعيم في الآخرة.

* * *

وفي نهاية المطاف أود أن أشير إلى أن بحثنا في المحاضرات القادمة سيدور حول أساس السعادة في تربية الطفل. وعليه فلا بد - كتمهيد لفهم الموضوع - من ذكر بعض المقدمات المرتبطة به ... فنبحث - أولاً - في أصل السعادة ، ودور الوالدين في تحقيق سعادة الطفل وشقائه ، والمقارنة بين التربية والوراثة. ثم ندخل إلى صلب الموضوع. ولا يخفى أننا في ضمن بحثنا عن التعاليم القيمة التي جاء بها القرآن الكريم والنصوص الواردة عن المعصومين علیهم السلام ، بشأن التربية وما يتعلق بها ، نستشهد بالبحوث العلمية الحديثة التي توصل إليها علماء الغرب. وغرضنا من ذلك أمران : -

أولهما : - إنه يجب الاعتراف بأن للعلماء الغربيين مطالعات دقيقة وبحوثاً قيمة في كثير من الموضوعات. وعلى كل عاقل حر أن يستفيد من أفكار العلماء وتجاربهم

ص: 23

الصحيحة المعقولة ليستخدمها في حياته العملية. والإسلام دين العقل والمنطق ، ولذلك فقد أوصى المسلمين بأن يجدوا في طلب العلوم والحكم ويأخذوها من أي شخص كان وأينما وجدوها ، وإن كان الملقي بها منحرفاً من ناحية العقيدة أو مأسوراً لعبادة الأوثان والشرك باللّه. وعلى سبيل المثال نذكر بعض النصوص الواردة بهذا الشأن : -

وراء طلب العلم :

1 - قال الامام علي (عليه السلام) : « خذ الحكمة ولو من المشركين » (1).

2 - وعنه علیه السلام أيضاً : « لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال » (2). ومعناها : أطلب الكلمة الحقة من أي شخص كان.

3 - وعنه (عليه السلام) : « خذ الحكمة ولو من أهل الضلال » (3).

4 - ويقول أيضاً : « الحكمة ضالة المؤمن ، فاطلبوها ولو من عند المشرك » (4).

5 - وعنه (عليه السلام) أيضاً : « أعلم الناس : من جمع علم الناس ». (5)

الإسلام دين العلم والمعرفة :

الإسلام دين التكامل والتحقيق دين العلم والمعرفة ، يراعي موضوع حرية التعلم مراعاة كاملة ويصرح بوجوب تعلم العلم والحكمة من أي إنسان ولو كان ضالاً أو مشركاً.

إلا أنه يجب أن نعلم بأن الاسلام يمنح الحرية لأصحابه في استيعاب الحقائق العلمية الصحيحة ، لا لكل تقليد أعمى وسلوك أهوج.

إن كثيراً من الناس في بلادنا بهرتهم المدنية الغربية وجمالها إلى درجة أنهم

ص: 24


1- إثبات الهداة للحر العاملي ج 1 49.
2- المصدر السابق ج 1 46.
3- المصدر نفسه ج 1 46.
4- المصدر نفسه ج 1 47.
5- المصدر نفسه ج 1 47.

أخذوا يحسون بالحقارة والتصاغر في نفوسهم تجاهها ، ويتنكرون لتراثهم الخالد وتعاليمهم الدينية القيمة ، حتى ظنوا أنه لم يكن للمسلمين وجود إنساني فيما مضى أصلاً ، ولا قيمة لماضيهم المجيد وتراثهم الخالد ... هؤلاء يظنون أن كل ما هو في أوروبا وأمريكا وكل ما يجري على الناس هناك حسن وصحيح وجدير بالتقليد ، ويبدو لهم أن الطريق الوحيد للسعادة منحصر في اتباعهم من دون تعقل أو روية ، غافلين تماماً عن أن هناك مساوئ كثيرة في تلك البلدان في قبال بعض المحاسن التي يرونها. فالعاقل - إذن - هو الذي يقلد محاسن الأمم المتقدمة ويجتنب عن مساوئها.

حسن الاقتباس :

وبهذا الصدد يقول القرآن الكريم : « الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ » (1)

وقد ورد في الحديث : « خذوا الحق من أهل الباطل ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق ، كونوا نقاد الكلام ، فكم من ضلالة زخرفت بآية من كتاب اللّه كما زخرف الدرهم من نحاس بالفضة المموهة ، النظر إلى ذلك سواء ، والبصراء به خبراء » (2).

فلو كان مجتمعنا الاسلامي قد تمسك بتعاليم القرآن الكريم واختار حسنات المدينة الحديثة وتجنب سيئاتها ، لكان قد حصل على نجاح باهر في مجالات مختلفة إلى هذا الحين ... ولكن المؤسف أن الأمر على عكس ما يريده لنا القرآن. فنجد تقليد المدنية الحديثة في علومها وتكاملها وفي مجالات البحث والاختراع أقل - بكثير - من تقليدها في مجالات الانقياد للشهوات وشرب الخمر والميوعة والتحلل والفساد. فبينما نجد الشرقيين يسبقون الغرب في الجانب الثاني ، نجدهم في ركب متأخر عنهم في الجانب الأول ومع ذلك كله ، فالأمل لا يزال يحدونا إلى استعادة استقامة سلوكنا والأخذ بمنهجنا القرآني الصحيح الكافل لسعادتنا ورقينا وازدهارنا ، والفرصة لا تزال سانحة للرجوع إلى اقتباس ما هو حسن وصالح من الغرب ، وترك ما هو مضر وفاسد فيه.

ص: 25


1- سورة الزمر 18.
2- إثبات الهداة ج 1 136.

... هذا فيما يخص الجهة الأولى من استشهادنا بأقوال العلماء الغربيين وبحوثهم في محاضراتنا هذه.

أما بالنسبة إلى الجهة الثانية ، فهي أن يتعرف المسلمون على حقيقة دينهم كثر فأكثر ، ذلك لأننا نحاول - في محاضراتنا هذه - أن نستقصي الآيات القرآنية والنصوص الواردة بشأن ( تربية الطفل ) وما يتعلق به ، ونبحث عن الجوانب العلمية والنفسية التي أتت عليها ، ثم نستشهد - بالمناسبة - بنص العبارات الواردة في بحوث علماء النفس والتربية الغربيين وكتبهم ، وبذلك نقارن بين ما ورد في تعاليم الاسلام وما ورد في بحوث أولئك العلماء ، فتتضح عظمة التعاليم الاسلامية للملأ ، ويعرف المسلمون أن البحوث والتحقيقات التي يجريها علماء الغرب والجهود التي يبذلونها للوصول إلى الحقائق العلمية ليست أمراً جديداً للبشرية ، بل جاء نبي الاسلام وأوصياؤه من بعده يشيرون إليها قبل أربعة عشر قرناً ، ويفيضون بها على الناس من منبع الالهام والوحي الآلهي.

وبديهي أنه كلما ظهرت القيمة العلمية للاسلام أكثر ، إزداد الناس - والطبقة المثقفة منهم بالخصوص - إذعاناً وإحتراماً لعظمة الاسلام والقرآن. وأي هدف أعظم من توجيه عقول البشرية إلى نور الاسلام وعظمته؟!.

إتباع العقل :

يسأل يعقوب بن السكيت من الامام الرضا (عليه السلام) أسئلة حول معاجز الأنبياء ، وبعد أن يجيبه عن تلك الأسئلة ، يسأله عن الحجة القاطعة والدليل الساطع على نبوة النبي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قائلاً : « فما الحجة على الخلق اليوم؟ فقال (عليه السلام) : العقل » (1).

يشير الامام الرضا علیه السلام بكلامه هذا ، إلى أن الأفراد يجب أن ينظروا في تعاليم القرآن بنظر العقل والدقة ، ويوجهوا أفكارهم إلى حقيقة ساطعة هي : أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قام في عالم مظلم ودور جاهلي أهوج ، في الحجاز ... حيث مظاهر البداوة والتفرقة والحزازات ، حيث لا مدرسة ولا مكتبة ، ولا حديث عن العلم

ص: 26


1- إثبات الهداة ج 1 80.

والعالم ، ولا أثر للمنطق والتفكير ... قام في مثل ذلك الدور العصيب - وهو أمي لم يدرس عند أحد - فأخذ يدعو الناس إلى الايمان ، بحماس وثبات شديدين ويهديهم إلى شاطىء الأمن والسعادة ، وأخذ يقول في كل شيء كلمته بمنطق صحيح ودليل قاطع ، ووضع القوانين لكل جانب من جوانب الحياة ، وأخذ بيد تلك الأمة المتأخرة إلى حيث العزة والكمال والعظمة ... ولا تزال تعاليمه الرصينة تهب الحياة للبشرية من دون أن تفقد قيمتها العلمية والاجتماعية ... في مثل هذه الظروف وعلى مثل هذه الأوضاع يحكم العقل - بلا تردد - بأن البشر العادي - سواء في أمسه أو يومه - يستحيل عليه أن يقوم بعمل جبار كهذا ويترك هذه الآثار العظيمة في الجوانب المختلفة من الحياة. فليس ذلك النبوغ وتلك العظمة وهذه الرصانة في التعاليم إلا نتيجة الاتصال الوثيق بخالق الكون عن طريق الوحي والالهام.

«إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ» (1).

وليس معنى الايمان بالنبي والنبوة إلا هذا الاعتقاد بالارتباط المعنوي بين النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واللّه تعالى وكونه سفيراً له على وجه الأرض ، لهداية البشر إلى الصراط المستقيم ، وهذا هو المائز الحقيقي الذي يفصل بين النبي وبين الفلاسفة والعلماء العاديين ، فالعلماء قد درسوا في فرع واحد أو عدة فروع من العلوم بصورة اعتيادية ، ومن طريق الكتاب والمدرسة والمعلم وما شاكل ذلك حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه ... بينما النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمي لم يدرس عند أحد ، لكنه تلقى الوحي والإلهام من اللّه تعالى ، فكان هو مدرسة الأجيال كلها ، وكتاب العلماء كلهم ، وأستاذ المعلمين كافة.

وفي الختام نرجو أن نعمل على هدى النبي وأهل بيته الكرام عليهم الصلاة والسلام. متخذين من العقل الصحيح أقوى دليل على الإيمان والثبات على العقيدة.

ص: 27


1- سورة الأحقاف 9.

المحاضرة الثانية: الآراء البشرية حول السعادة - الاسلام والسعادة

اشارة

قال اللّه العظيم في كتابه الحكيم : « فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة اللّه التي فطر الناس عليها. لا تبديل لخلق اللّه ... ذلك الدين القيم ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون » (1).

السعادة :

نشأ الانسان منذ نعومة أظفاره محباً للسعادة والهناء ، فاراً من البؤس والشقاء ... فكل الناس يحبون أن يكونوا سعداء مرفهين ، ويصرفون كل جهودهم في سبيل تحقيق ذلك الهدف المقدس النير ... السعادة.

ولكن المشكلة المهمة هي معرفة أساس السعادة وحقيقة الرفاه ، إذ لا يتسنى لمن لا يعرف حقيقة السعادة أن يطلبها ويسعى وراءها ، لأن السعي وراء أمر مجهول عبث وباطل.

وطوال القرون المتمادية والأعصار المنصرمة ، بحث العلماء عن السعادة البشرية وألفوا فيها وأوردوا نظريات مختلفة في هذا الموضوع. وكذلك الأمم والكتل البشرية اتخذت طرقاً معينة وأساليب خاصة للوصول إلى السعادة ، وإذا أردنا أن نستقصي جميع تلك النظريات والآراء والطرق والأساليب لاحتجنا إلى وقت أوسع من هذا ، إلا أننا سنكتفي بذكر أهم تلك الآراء والنظريات المعروفة الآن. ثم نشير إلى بعض الأحاديث الواردة بشأن السعادة. هذا ولا يخفى أن المدار في تلك النظريات والأقوال ومحل النزاع في البحث هو ما يعتبره كل طائفة أصلاً ثابتاً للوصل إلى السعادة وأساساً لتحقيقها.

ص: 28


1- سورة الروم 30.

المبدأ النفسي :

1 - ذهب بعض العلماء والفلاسفة اليونانيين الذين سبقوا ( أرسطو ) إلى أن سعادة البشرية تنحصر في الكمالات النفسية ، وهم يرون أن أساس السعادة الانسانية أربع صفات هي : الحكمة ، الشجاعة ، العفة ، العدالة. فمن كان واجداً لهذه الصفات كان سعيداً ، ومعها لا حاجة إلى الكمالات الجسدية وسلامة الجسم أو أمور خارجة عن البدن ، فهؤلاء يقولون : « إن الانسان إذا حصل تلك الفضائل لم يضره في سعادته أن يكون ناقص الأعضاء مبتلى بجميع أمراض البدن » (1)

فالأمراض البدنية عندهم لا تضر بالسعادة إلا إذا أوردت نقصاً على الجانب المعنوي منه ، وأدت به إلى الجنون أو الحمق. وكذلك الفقر والتردي الاجتماعي فإنهما لا يضران بسعادة الانسان إذا كان محرزاً للصفات النفسانية الأربع الآنفة الذكر.

2 - ويعتقد المرتاضون بالمبدأ النفسي في السعادة البشرية ، فهم يقولون : - إن السعادة والكمال يرتبطان بكمال النفس والتعالي في الجوانب الروحية فقط. ويجب تحقيق تكامل الروح وإظهاره في الخارج عن طريق الرياضة النفسية ومجاهدة الأهواء والشهوات. ويفرط المرتاضون في عدم اعتنائهم إلى الجانب البدني كثيراً حتى أنهم أشد تفريطاً من اليونانيين الذين سبقوا ( أرسطو) بالنسبة إلى أبدانهم. فبينما كان يرى حكماء اليونان أن السعادة تتعلق بكمال النفس ولا يضر معها نقصان البدن - وليس في منهجهم ما يوجب الإضرار بالبدن - نجد المرتاضين يعتقدون بأن كمال النفس يتناسب تناسباً طردياً مع حرمان البدن والأضرار به. فكلما كانت درجة الحرمان عن اللذائذ والطيبات عندهم أكثر ، كانت درجة التكامل الروحي أكثر. ولهذا فأن السالكين في هذا الطريق يسعون بجد واجتهاد لحرمان الجسد من ميوله وأهوائه ، ويعذبون أجسادهم بالنوم على المسامير أو التعليق من غصن شجرة وما شابه ذلك من أساليب التعذيب أملاً في الحصول على السعادة المعنوية الكاملة.

3 - وطائفة ثالثة تعتقد بالمبدأ النفسي في سعادة الانسان أيضاً ، ولكنها في نفس

ص: 29


1- طهارة الأعراق لابن مسكويه ص 78.

الوقت لا تغمط الجسد حقه. هؤلاء يقولون : إن السعادة الحقيقية تكمن في التكامل الروحي ويجب الاعتناء به كثيراً ، ولكن لا ينبغي التغافل عن إرضاء الميول الجنسية الخارجة عن حريم السعادة. ويؤكدون على نقطة مهمة هي أن كل ما كان مشتركاً بين الانسان والحيوان من الصفات والميول والشهوات فهو خارج عن نطاق السعادة الانسانية ، ولذلك يقول قائلهم : « إن ما كان منها عاماً للانسان والبهائم فليست سعادة لنا » (1).

إن نقطة الاشتراك بين هذه العقائد الثلاث التي كان لها أنصار في الأزمنة الغابرة بين الفلاسفة والحكماء اليونانيين وغيرهم من الناس طوال القرون المتمادية ، هي أن الجانب النفسي فقط هو الذي يراعى فيه ويفقد الجانب البدني الاعتناء والمراعاة اللازمة ، فالجسد عندهم يفقد قيمته الحقيقية وليس له أي دخل في تحقيق السعادة البشرية. والميول والرغبات المادية تلاقي حرماناً وكبتاً شديدين في نظرهم ، حتى أنها لتقع تحت مطرقة الرياضة النفسية الثقيلة والتعذيب الشديد ... ولا يخفى على من له مسكة من العقل أن هذا هو الشقاء والحرمان بعينه ، وليس موصلاً إلى السعادة - كما يظنون - أبداً.

السعادة في المدنية الحديثة :

وتعرف السعادة في العالم اليوم - وفي كنف المدنية الحديثة - بلون آخر ، وتفسر بتفسير مضاد لتفسير الأمم السالفة والعصور القديمة مضادة تامة. فبينما كان أولئك يرون أن الأصل في الوصول إلى السعادة هو الكمال النفسي والتكامل الروحي ، يذهب هؤلاء إلى التمسك بالجانب المادي واعتبار الأهواء والرغبات المادية ملاكاً في معرفة السعادة. وعليه فالكمالات النفسية والسجايا الخلقية والفضائل تفقد أثرها على مذهب هؤلاء المتمدنين.

وبصورة موجزة ، فإن الافراط الشديد في الجانب الروحي ، والتفريط الشديد في الجانب المادي ... اللذين كنا نشاهدهما عند فلاسفة العصور القديمة قد انقلبا إلى

ص: 30


1- ترتيب السعادات لابن مسكويه ص 259.

العكس تماماً في المدينة الغربية المعاصرة. فأخذت بالافراط الشديد في الجانب المادي والتفريط الشديد في الجانب الروحي ، كرد فعل للنظرة السابقة. وهنا لا بأس بأن نتطرق إلى بعض تلك المبادىء بصورة إجمالية :

المبدأ الاقتصادي :

يعتقد العالم المتمدن اليوم - وفي المعسكر الشرقي منه بالخصوص - بأن السعادة منحصرة في التقدم الاقتصادي ، وأن مصير السعادة الانسانية مرتبط بمصير الوضع الاقتصادي ، هؤلاء ينظرون إلى كل زوايا الحياة بمنظار الاقتصاد ، ويعللون جميع المسائل الاخلاقية والاجتماعية والدينية والاعتقادية بعلل اقتصادية ... فهم يقولون : -

« إن تغير الأساس الاقتصادي يزعزع كل البناء الفوقي والهائل عل صور مختلفة من السرعة أو البطء ... هذا الانقلاب الذي يشاهد بالضبط الخاص بعلوم الطبيعة وبين الأشكال الحقوقية والسياسية والدينية والفنية والفلسفية أو بكلمة مختصرة ، الأشكال الفكرية التي يتصور فيها الناس هذا النزاع ويكافحونه ... فينبغي تفسير هذا الوعي في المجتمع بالقوى المنتجة وعلاقات الانتاج ... » (1)

وكما وجدنا المرتاضين والمنخرطين في سلك المبدأ النفسي ينكرون كثيراً من الحقائق المادية والميول الجسدية ، نجد في الطرف المقابل أن المنخرطين في سلك المبدأ الاقتصادي ينكرون كثيراً من الحقائق الروحية والاعتقادية والاخلاقية ولم يعتبروا لها وجوداً أصلاً ...

نحن لا ننكر أن الكمالات النفسية والسجايا الخلقية تشكل الأركان المهمة للسعادة ، ولكن لا يصح القول بأن السعادة البشرية منحصرة في الأخلاق والمثل. كما أننا لا ننكر أن الاقتصاد من الأسس القويمة للسعادة البشرية ، إذ بدونه لا تحصل السعادة الكاملة ، كما ورد في الحديث : « من لا معاش له لا معاد له » إلا أنه لا يصح القول بأن السعادة البشرية منحصرة في الاقتصاد.

ص: 31


1- المادية الديالكتيكية والمادية التأريخية ، تأليف ستالين. ترجمة خالد بكداش ص 62.

وهنا لا بأس بأن نستشهد بكلام لأحد العلماء الغربيين المعاصرين بهذا الصدد : -

« نحن اليوم نسير في جادة الزمن مع التقدم التكنولوجي (1) من دون أن نعير أهمية إلى الاحتياجات الأصلية للجسد والروح. ومع أننا نتخبط في المادة نعتبر أنفسنا بمعزل عنها ولا نحاول أن نفهم بأنه يجب - لأجل الاستمرار في الحياة - السير بمقتضى طبيعة الأشياء وطبيعة أنفسنا لا على طبق الأهواء والرغبات. أن البشرية المتمدنة تتردى منذ قرون طويلة في هذه الهوة السحيقة. وإن تاريخ الانحطاط الخلقي والابتعاد عن الروح الدينية يتفق تماماً مع تاريخ الخروج على القوانين الأصلية للطبيعة. إنه لا يمكن حصر النشاطات البشرية كلها في الجوانب المادية فقط إلا بعد تحطيم شخصية الانسان لأن الانسان لم يخلق للأكل والتكاثر بل أقدم منذ نعومة أظفاره على ابتداء التكامل بحب الجمال ، والاحساس الديني والنشاط الفكري ، والشعور بالتضحية والحياة البطولية ... » (2).

« وإذا حددنا الانسان بنشاطه الاقتصادي فقط فكأننا فصلنا جزءاً كبيراً منه. وعليه فإن الليبرالية والماركسية تسحقان الرغبات الأصلية والنوازع الفطرية في النفس الانسانية » (3).

« إن الفضيلة من القيم الانسانية القديمة ، ويمكن العثور عليها في العالم المتمدن ، إلا أنه يندر العثور عليها في الجماعات التي ترزح تحت نير النظم المادية ، إن المجتمع الذي يقدس الاقتصاد لا يعرف شيئاً عن الفضيلة. لأن الذي يريد الفضيلة لا بد وأن يبتغي إطاعة القوانين الحياتية. أما إذا قيد الانسان نفسه بالنشاط الاقتصادي فقط فلا يطيع القوانين الكونية والاجتماعية أصلاً » (4).

ص: 32


1- التكنولوجيا : هو العلم الذي يعني بدراسة الفنون وأنواعها وتاريخها.
2- راه ورسم زندكى ص 34.
3- نفس المصدر.
4- نفس المصدر ص 77.

مبدأ اللذة :

وتذهب طائفة كبيرة من المتمدين اليوم إلى أن الأصل في السعادة الانسانية هو اللذة. وعليه فالسعادة عبارة عن تحقيق اللذائذ المادية ، والمثل الأعلى للانسان السعيد هو الذي يستفيد من لذائذ الحياة أكثر من غيره.

ويمكن اعتبار العالم النفسي ( سيجموند فرويد ) ومن لف لفه ، رافعي راية هذا المبدأ. وكما رأينا أصحاب المبدأ الاقتصادي ينظرون إلى كل شيء بمنظار الاقتصاد ، فإن فرويد يعلل جميع ظواهر الحياة بمنظار الميول والدوافع الجنسية ، ولذلك فهو يقول في موضوع حقيقة السعادة :

« إنه لا يفوتني الادراك بأن الحب هو مركز الحياة ، وعليه فإن الناس يعللون كل فرح ونجاح بالحب والمحبوبية وهذا الوضع النفسي موجود عند الجميع. إن من المظاهر التي يظهر فيها الحب هو الحب الجنسي الذي يكسبنا حالة من الانجذاب والشعور باللذة. وفي النتيجة فإن هذه اللذة تكون قدوة ودليلاً لميلنا نحو السعادة. فأي شيء إذن أقوم من أن نسلك الطريق إلى السعادة في نفس الطريق الذي صادفناه أول مرة » (1).

أرأيت كيف يعتبر فرويد ، اللذة والشهوة الجنسية مصدراً لكل شيء؟!. حتى أنه يقول : إن الشهوة الجنسية هي التي تظهر بمظهر الأخلاق نارة وفي صور العقائد والأديان تارة أخرى وهي نفسها التي تتشكل أحياناً بحنان الأم وعطف الأخ ، فهي الكل في الكل في هذه الحياة!!.

فمظاهر الحياة - عند فرويد - من أخلاقية وفنية ودينية وسياسية واقتصادية واجتماعية ، كلها وليدة الحب والجنس واللذة لا أكثر ، فالمظاهر وإن اختلفت إلا أنها متحدة في جوهرها ومآلها. واستمع إليه يقول :

« إن حنان الأم ، الحب الأبوي والأخوي ، الصداقة والصحبة مشتقة من الجنس عند فرويد. وجميع الروابط الاجتماعية بين الأشخاص

ص: 33


1- أنديشه هاى فرويد ص 112.

كالعلاقة بين المعلم والتلميذ ، والعلاقة بين الأم والطفل وما شاكل ذلك إما أن تمتاز بطابع جنسي من ذاتها أو ترجع إلى أصل جنسي في النتيجة » (1).

ومع أن فرويد يقسم الغرائز الأولى عند الانسان إلى قسمين : الغرائز التي تتعلق بصيانة الذات ، والغريزة الجنسية ، نجده في المقام يغرق في الشهوة الجنسية حتى أنها تنسيه غريزة حب الذات - التي اعترف بها في بادىء الأمر - وكشاهد على ما نقول ، إليك العبارة الآتية :

« إن فرويد يثبت - بمعونة بعض الأمثلة - كيف أن الغريزة الجنسية التي هي أقوى وأعمق القوى الروحية عند الانسان قد تكيفت بصورة مجهولة عبر الزمن ، وظهرت بمظاهر الميول المختلفة والأشكال المتباينة ، بحيث إذا واجه طبيب اختلالاً روحياً - مهما كان جزئياً - يتمكن من أن يحكم بصورة قطعية على أن حادثة غير طبيعية قد طرأت على الجهاز الجنسي والرغبات الجنسية للمريض وعليه فإنه يرجعه إلى حالته الأولى بصورة تدريجية حسب التعاليم النفسية الدقيقة ، ويقلص من إطار مسؤوليته شيئاً فشيئاً حتى يصل إلى نقطة الاختلال الباعثة على الانحراف في جهازه الجنسي ، هذه هي خلاصة نظرية ( فرويد ) في العلاج النفسي ... » (2)

هذا هو موجز الاكتشاف العظيم الذي راه فرويد والفرويديون منشأ التحول في العلاج النفسي الحديث. أما كيف استدل فرويد على أن أي اختلال روحي يستند إلى حدوث شيء في الغريزة الجنسية؟! أما كيف لا يكون التطور الحادث في الغريزة الجنسية هو المسبب عن حدوث الاختلال الروحي؟ ... فذلك ما لا يريد أن يفهمه فرويد واتباعه ، نعم! إن كان فرويد يدعي أن أكثر الاختلالات الروحية تستند إلى الغريزة الجنسية فلربما كان يلاقي كلامه هذا قبولاً من القارىء ، وكان يؤدي به إلى أن يفكر في نفسه أن فرويد كان باحثاً عميقاً وأنه استند إلى الاحصاءات الدقيقة

ص: 34


1- المصدر السابق 47.
2- كتاب فرويد ص 62.

للأمراض الروحية ووصل إلى هذه النتيجة ، أما حين يسمعه يقول :

« إذا واجه طبيب اختلالاً روحياً - مهما كان جزئياً - يمكن أن يحكم بصورة قطعية على أن حادثة غير طبيعية قد طرأت على الجهاز الجنسي والرغبات الجنسية للمريض ... »

هنا يقطع الانسان بأن القائل قد وقع تحت تأثير الغريزة الجنسية إلى درجة أنه لا يتمالك على نفسه من الهذيان والتطاول بالباطل.

لنفرض عاملاً فنياً قد قضى أربعين سنة في عمل ما ، أصيبت عينه في أثناء العمل فدخل المستشفى ، وصرف جميع ما يملك في هذا السبيل وفقد بصره في النهاية. إن التفكير في العمى والبطالة والفقر والبؤس يقض عليه مضجعه ، وأخيراً يؤدي به إلى الاختلال الروحي ، وحين يفحصه الطبيب النفساني يتوصل إلى أن العلة الأصلية في ذلك الاختلال هو فقدان البصر وفقره ...

وهكذا فإن إنساساً محترماً قد أشرف على الشيخوخة يتهم بالسرقة أو الارتشاء من قبل أناس مغرضين ، فيذهب ماء وجهه وذلك يؤدي به إلى الاختلالات الروحية ، فلا يمكن أن يوجد في العلاج النفساني أصل لهذا الاختلال غير الاتهام بالسرقة ... وهكذا فإن أمثال هذه القضايا كثيرة في المجتمع ، ولا ربط لها أصلاً بالأمور الجنسية كما يدعي فرويد.

ولولا أن فرويد نفسه قد اعتبر غريزة حب الذات مغايرة للغرائز الأخرى كحنان الأم وغيره من الميول الطبيعية المتفرعة عن الغريزة الجنسية لكان يصح كلامه هذا وكان قابلاً للتصديق ، أما وأنه ينسب جميع الاختلالات الروحية إلى حدوث تغيرات في الغريزة الجنسية فليس معنى ذلك إلا اعتبار غريزة حب الذات فرعاً من فروع الغريزة الجنسية وهذا ينافي تقسيمه للغرائز إلى قسمين : حب الذات ، والجنس. فإن كنت تعتبر غريزة حب الذات مستقلة عن غيرها من الغرائز الجنسية يا أستاذ فرويد!! فلماذا لا تنسب بعض تلك الاختلالات الروحية التي ذكرتها إليها؟

إنه لا ريب في أن الغريزة الجنسية تعتبر إحدى الغرائز القوية التي أودعها اللّه في النفس الانسانية إلا أن فرويد يفرط في هذا الموضوع ويغالي في حقها كثيراً.

ص: 35

ومن يطالع عقائد فرويد في الكتب المختلفة بدقة ، يصل إلى هذه النتيجة في نهاية المطاف ، وهي : إن الانسان مجموعة من اللحم الحي الذي يملك غريزتين إحداهما حب الذات والدفاع عنها ، والأخرى الشهوة الجنسية ، لكن جميع أوجه النشاط البشري في جميع المظاهر الحياتية ترتبط بالأخيرة وهي الغريزة الجنسية فقط.

إنه لم يوجد في تاريخ العلوم البشرية أحد قد تأثر بالغريزة الجنسية واهتم بها بقدر تأثر فرويد بها واهتمامه لها ، ولا يوجد أحد ينظر إلى الانسان هذه النظرة الطفيفة الخسيسة. والعلماء اليوم بالرغم من اعتمادهم على طريقة فرويد في معالجة الأمراض الروحية ، واتخاذهم أساليبه في التحليل النفسي ... يصرحون بأن هذه الطريقة وحدها ليست مجدية. ويجب ألا تنحصر معالجة الأمراض النفسية فيها ...

« إن كثيراً من العلاجات النفسية تكون ذات منظار ضيق ، وحتى التحليل النفساني الذي يؤدي إلى نتائج مرضية في كثير من الأحيان نجده يحصر بحثه على الغرائز فقط. هذه الطريقة توجه همها إلى أن ترضي الغرائز بصورة اتباع مبدأ اللذة. وهذا المبدأ لا يعنى بالجانب الأخلاقي ولا يتحدث عن الهدف الأصلي للشخصية وعلاقاتها الخيرة والشريرة عند تفاعلها بالتكافؤ الاجتماعي ولهذا السبب فلو غضضنا الطرف عن الفشل الذي يلاقيه التحليل النفساني بالنسبة إلى حرية بعض الرغبات والميول المتطرفة ، فإن العلاج النفسي الصحيح يجب أن يكون له هدف أسمى هو رفع شخصية الفرد - بعد ملاحظة أسس الشخصية - وتحقيق الرفاه للفرد والمجتمع على السواء ... » (1)

وبالرغم من أن نظرية فرويد لم تحصل على تأييد كثيرين من العلماء في العصر الحديث ، لافراطها بشأن الغريزة ... فإن الكثير من الغربيين يقرون ( مبدأ اللذة ) بالنسبة إلى تحقيق السعادة البشرية. إن أساس البحث حول تحقيق السعادة في الدول الأوروبية والأمريكية يدور على العمل لحياة أفضل وعيشة ترفل بالاستفادة من

ص: 36


1- جه ميدانيم؟ أمراض روحى وعصبى ص 72.

اللذائذ ... ولهذا فإن قسماً كبيراً من الجهود البشرية في العالم المتمدن قد خصص لجلب اللذائذ ، وإن الفضائل المعنوية والمثل العليا قد فقدت أهميتها بالنسبة إلى أكثر الناس حتى يذهب بعضهم إلى أنهم في غنى عنها :

« ومنذ حل الخلق النفعي مكان الخلق الديني والنفسي ، فإن الفضيلة لا تعتبر أمراً ضرورياً في نظر المتمدنين ، بحيث يرى ( رومن ) أنه لا داعي لنا أصلاً لأن نكون أتقياء ، وإن اختيار الفضيلة سينحصر في علاقتها بالنفع واللذة الفرديين فقط ... » (1).

هذا الأسلوب من التفكير يعد خطأ فظيعاً من المدينة الحديثة ، وهو أعدى أعداء الانسانية وقيمها ومثلها الرفيعة ... وعلى أثر اللامبالاة تجاه الإيمان والفضائل المعنوية ، فإن عالم الغرب تنتشر فيه الجرائم يوماً فيوماً والشبان ينجرفون إلى هوة سحيقة من التردي والتحلل والفساد وإن الاحصائيات السنوية في الدول الأوروبية والأمريكية لتدل على ازدياد السرقة والخيانة ، والاغتيال والانتحار إلى غير ذلك من أنواع الجرائم. وإن من المؤسف أن لا تكون بلادنا معدومة النصيب في هذه المشاكل والجرائم. وهنا يستطيع كل فرد أن يدرك أن المجتمع الذي يتمثل الهدف الأسمى من حياة أفراده في اللذائذ المادية ولا تزيد الفضائل فيه على أنها تعتبر في عداد الأوهام والخيالات ، فإن الفساد والتفسخ يسرعان كالسيل الجارف إلى غزو أولئك الأفراد ويهددان حياتهم المادية والمعنوية بالفناء والدمار.

مبدأ الواقع :

إن الاسلام يبني أساس لسعادة البشرية على مبدأ الواقع أو الفطرة ... إنه ينظر إلى الانسان نظرة السماء الدقيقة ويؤسس سعادته على فطرته الواقعية وجبلته التي جبل عليها ... إنه ينظر إلى الانسان من جميع جوانبه المادية والمعنوية ، الروحية والجسدية ، ويحسب لكل جانب حسابه الخاص.

ومن هنا يظهر أن الذين كانوا يبحثون عن السعادة البشرية في الكمالات

ص: 37


1- راه ورسم زندكى للدكتور الكسيس كارل ترجمة برويز دبيري ص 79.

الروحية ومحق الغرائز الجسدية وكبتها ، وقعوا في خطأ فادح فقد أهملوا حق نصف من وجود الانسان.

وكذلك الذين يرون اليوم انحصار سعادة البشر في تقويم الاقتصاد أو اللذة والشهوة وإهمال الجانب المعنوي فيه. فإنهم خاطئون جداً.

إن الانسان يتكون من جسد وروح ، وعليه فهناك نوعان من الرغبات في داخله : الرغبات المادية والميول المعنوية. فمن أخل برغبة من الرغبات الفطرية عند الانسان ، فإنه يخل بالسعادة الانسانية بنسبة ما أهمل من رغباته. إن السعادة البشرية شأنها شأن شجرة باسقة تحمل آلاف الأغصان فبعضها يرتبط بالجانب المعنوي والروحي من الانسان ، وبعضها يرتبط بالجانب المادي منه ، والسعادة الحقيقية إنما تكون لمن تظله هذه الشجرة الطيبة بجميع غصونها وفروعها ، وتحيا فيه جميع الرغبات الظاهرية والباطنية.

إن التعاليم الاسلامية تستند إلى الفطرة ... الفطرة المودعة من قبل اللّه في خلق كل فرد ، والتي لا تتغير ولا تتبدل أصلاً :

«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (1).

فالاسلام هو الدين القيم ... والمنهج الرصين الذي يماشي قانون الفطرة والخلقة. ولهذا فإن النجاح الأكيد سيكون للاسلام ، وإنه سينتصر على المذاهب والمبادىء الأخرى بحكم الجبرية التاريخية شاء أعداؤه أم أبوا :

«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (2).

حجر الأساس في السعادة :

ولكي نثبت نظرة الاسلام الشاملة إلى الميول الفطرية عند الانسان - ماديها

ص: 38


1- سورة الروم 30.
2- سورة التوبة 33.

ومعنويها - في ما يخص السعادة البشرية نلفت أذهانكم إلى النقاط التالية :

الإيمان والأخلاق :

إن الايمان باللّه ، وتزكية النفس وتطهيرها من الجرائم والآثام ، والمواظبة على التحلي بالفضائل الانسانية تشكل حجر الأساس في بناء سعادة البشر ، وتعد من المناهج المهمة التي يتخذها الاسلام في هذا المجال.

وقد وردت في ذلك مئات الآيات والأحاديث.

يقسم اللّه تعالى في سورة العصر. بأن جميع الناس من أي عنصر كانوا ، وفي أي زمان عاشوا مبتلون بالخسران والبؤس ، إلا الذين أحرزوا بعض الصفات ، أولها الإيمان باللّه :

«وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ... » (1) وفي سورة الشمس يقسم بالشمس والقمر ، والليل والنهار ، والسماء والذي بناها ، والأرض والذي بسطها ، والنفس الانسانية واللّه الذي وازن بين عناصرها. وألهمها الخير والشر ...

« ... قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) » (2).

قسماً بكل هذه الآيات الآلهية على أن السعادة والفلاح إنما يكونان لمن طهر نفسه من الآثام ونزه روحه عن الجرائم. وإن الشقاء والخيبة إنما تكونان لمن تلوث بالآثام والجرائم.

يقول الامام علي (عليه السلام) : « عنوان صحيفة المؤمن ، حسن خلقه » (3).

إن الآيات الكثيرة الواردة في القرآن حول السماء والأرض والأشجار والحيوانات ، والنطفة والجنين ... إلى غير ذلك من مختلف جوانب الوجود ، كلها تهدف إلى أن يوجه الانسان نظره إلى الخالق الكبير فيشتد إيمانه باللّه العظيم. وإن الآيات الواردة بشأن الملكات الفاضلة والمثل العليا أو التي تذكر الصفات الرذيلة وتفصل القول في ذمها ، إنما نزلت لدعوة الناس إلى اكتساب الفضائل واجتناب

ص: 39


1- سورة العصر 2.
2- سورة الشمس 9.
3- سفينة البحار ص 410 مادة ( خلق ).

الرذائل ، ولذلك فان الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يبين الواجب الذي بعث من أجله فيقول : « بعثت لأتمم مكارم الأخلاق » (1).

إن كل مسلم يعلم جيداً اهتمام الاسلام البالغ بالروح والكمال والأخلاق ، لكن من الواضح لكل مسلم أيضاً أن الروح والكمال والأخلاق ليست هي الكل في الكل بالنسبة إلى سعادة الانسان في الاسلام ، أن الاسلام لا يحصر اتباعه في حلقة من المعنويات فقط ، بل انه حين يدعوهم إلى تكميل الجانب الروحي يعني تمام العناية بالجانب المادي فيهم ولذائذهم الطبيعية. ولأجل أن نتبين موقف الاسلام الصريح في هذا الموضوع علينا أن نتحدث عن رأي القرآن والحديث في المبدأ الاقتصادي ومبدأ اللذة - وهما المبدءان المتداولان في العالم المتمدن اليوم -.

لا شك في أن النشاط الاقتصادي واستغلال الجهود البشرية للانتفاع من الذخائر الطبيعية ، لهو من أقوم الارشادات الدينية. وقد وردت بهذا الصدد نصوص كثيرة. ان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة (عليه السلام) يقدرون النشاط الاقتصادي كثيراً ، وهو يبلغ درجة قد يبدو الحث عليه فيها غريباً. ولأجل معرفة قيمة الاقتصاد في الاسلام نورد هنا بعض النصوص :

الجهد البشري :

1 - قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة » (2).

فالسعي وراء المال الحلال لضمان المعيشة واستمرار الحياة واجب على كل فرد من المسلمين.

2 - وقال أيضاً : « من أكل كد يده كان يوم القيامة في عداد الأنبياء ، ويأخذ ثواب الأنبياء » (3).

ص: 40


1- المصدر نفسه.
2- بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 23 6.
3- المصدر السابق.

وفي هذا الحديث يقارن بين من يكد ليحصل على قوت يومه ، والنبي الذي يكد لاحياء الناس.

3 - وفي الحديث : « الكاد على عياله ، كالمجاهد في سبيل اللّه » (1)

فهذا يجاهد لدفع الضرر المادي عن المسلمين ، وذاك يكافح لدفع الضرر المعنوي ، ودفع الضررين كليهما مطلوب.

4 - وسئل الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « أي كسب الرجل أطيب؟ فقال : عمل الرجل بيده » (2).

5 - كما ورد في الأسلوب الذي كان يعيشه الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) : « كان لما يفرغ من الجهاد يتفرغ لتعليم الناس والقضاء بينهم ، فإذا فرغ من ذلك اشتغل في حائط له يعمل فيه بيديه وهو مع ذلك ذاكر اللّه تعالى ... » (3).

6 - عن عبداللّه بن عباس : « كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا نظر إلى الرجل فأعجبه ، قال : هل له حرفة؟ فإن قالوا : لا ، قال : سقط من عيني » (4).

استغلال القوى الطبيعية :

وبعد أن أوردنا بعض الأحاديث حول الحث على الجهد البشري والانتفاع منه في شتى المجالات ، لنسرد بعض النصوص الواردة بشأن استغلال القوى الطبيعية والاستفادة منها :

1 - في الحديث : « إن قامت الساعة ، وفي يد أحدكم الفسيلة ، فإن استطاع أن لا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها » (5). فمن خلال هذا الحديث ندرك مدى اهتمام الاسلام بتشغيل القوى العاملة لاستغلال كنوز الأرض والاستفادة من خيراتها وعدم التماهل بشأنها ، حتى أنه ليحث الانسان على أن يبادر إلى غرس الفسيلة ( أو

ص: 41


1- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج 2 424.
2- المصدر السابق ج 2 417.
3- المصدر السابق ج 2 417. والحائط : البستان.
4- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 23 6.
5- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج 2 501.

أي جهد إنتاجي آخر ) وإن علم بأن القيامة ستقوم بعد لحظات.

2 - قال الامام علي (عليه السلام) : « نعم المال النخل ، من باعها فلم يخلف مكانها فإن ثمنها بمنزلة رماد على رأس شاهقة اشتدت به الريح في يوم عاصف ». ولا يخفى أن ذكر النخل ليس محصوراً فيه ، وإنما عبر به الامام لأن النخيل أكثر انتشاراً من غيرها من الأشجار في الجزيرة العربية ، فتراه ينهى عن بيع النخل من دون أن يكون قد زرع نخلاً في مكان آخر يستفيد منها في المستقبل.

3 - وفي حديث عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً ، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة ، إلا كانت له به صدقة ».

4 - يقول الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) : « من وجد ماءاً وتراباً ثم افتقر ، أبعده اللّه » (1).

فهنا نجده (عليه السلام) يندد بالذي يملك المواد الأولية للزراعة وهي الماء والتربة. وتتوفر له الظروف الصالحة فلا يستغلها ويبقى فقيراً ، فإنه يستحق غضب اللّه ولعنته.

وهكذا نجد الاسلام يهتم بأمر العمل والانتاج وتشغيل دولب الاقتصاد الوطني إلى درجة لا تسمح بالتكاسل والتواني حتى في أحرج الظروف وأتعس الأوقات. فنجد الامام الصادق علیه السلام يقول لهشام : « يا هشام إن رأيت الصفين قد التقيا ، فلا تدع طلب الرزق في ذلك اليوم » (2).

وبالرغم من هذا الحث الشديد وهذا الاهتمام البالغ بشأن الاقتصاد والتأكيد على العمل لتقويمه وتقويته في الاسلام ، فإنه لا يعتبر الكل في الكل بالنسبة إلى تحقيق السعادة الانسانية ، ولا يعطى أكثر مما يستحقه.

إن النشاط الاقتصادي وتشغيل القوى والجهود البشرية لاستغلال الذخائر الطبيعية ليس إلا فرعاً من فروع شجرة السعادة في الاسلام ... نعم لابد لنا أن

ص: 42


1- بحار الأنوار للمجلسي ج 23 19.
2- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ج 12 14.

نعترف بأنه فرع مهم وحيوي في تلك الشجرة. إلا أن الذين يعتبرون الاقتصاد هو الأساس في السعادة ، فإن اعتبارهم هذا يكشف عن عدم معرفتهم بحقيقة الانسان. ولذلك فهم ينزلونه - بنظرتهم هذه - عن مقامه الرفيع إلى مستوى آلة صماء أو حيوان فاقد الشعور.

الرهبانية :

كان يظن كثير من الناس والفلاسفة في الماضي - ولا يزال الكثير منهم يظن - بأن الطريق إلى السعادة البشرية ينحصر في كبت الغرائز الحيوانية ، وإطفاء الميول الجنسية. وكانت هذه العقيدة حتى زمن قريب شائعة جداً في أوروبا وأمريكا. فقد وجد في العالم المسيحي نساء ورجال كثيرون يترهبون باسم الدين ويتركون الدنيا وملاذها ، ويعرضون عن قانون الخلقة المتقن ومنهج الفطرة السليمة أي الزواج الصحيح. وكان وقع هذا الترهب حسناً جداً في نفوس المسيحين ... ظالين أنهم يتمكنون بهذا العمل أن يتخلصوا من قيود الحيوانية ويصلوا إلى الانسانية الحقيقية فيصبحوا كملائكة السماء في الطهارة والروحانية والتجرد :

« كان أكثر الفلاسفة وعلماء الأخلاق قبل فرويد ينبذون الغرائز ، أي أنهم كانوا يصرحون أحياناً ويلمحون أحياناً أخرى بأنها عوامل تجر الانسان إلى الخصائص الحيوانية وكانوا يؤكدون على أن التمدن الصحيح لا يمكن أن يتحقق في المجتمع إلا بالصراع العنيف مع تلك الغرائز التي كانوا يعتبرونها ( أرواحاً حيوانية ). وبعبارة أخرى فان هؤلاء المفكرين كانوا يقولون بأن هذه الغرائز تمنع البشرية من التكامل ، ولو كان يمكن أن تفقد من المجتمع بالمرة ، كان من السهل إيجاد حياة اجتماعية متكافئة ومتزنة ». (1)

إن الغرائز الحيوانية والميول الجنسية تلعب دوراً مهماً في كيان الانسان ووجوده. فإن اللّه خلق البشر ، مع هذه الغرائز. وكل ما أودعه اللّه الحكيم في خلق الانسان فلا بد وأن يكون لمصلحة معينة.

ص: 43


1- أنديشه هاى فرويد ص 50.

الاستجابة للغريزة الجنسية :

إن الاسلام العظيم الذي لم يغفل جانباً من جوانب الحياة ، ولم يغمط الحقائق الفطرية المؤثرة في سعادة البشر حقها ... ليوصي المسلمين بالاستجابة للغريزة الجنسية وممارسة ميولهم الغريزية حسب منهج سليم ، ولذلك فانه يعتبر الامتناع عن الزوج عملاً غير مرغوب فيه. ويرى أن العزاب يشكلون خطراً مهماً على سلامة المجتمع ، فالرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول : « شرار أمتي عزابها » (1).

ومن خلال سيرة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تجاه العازفين عن الزواج في المدينة ندرك مدى اهتمام الاسلام بهذه الناحية. فقد كان هناك رجل يسمى ( عكاف ) قد أعرض عن الزوج ، وقد حضر مجلس الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مرة فسأله النبي عن إمكانياته وظروفه المالية والبدنية ، فأجاب بالايجاب فقال له النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حينذاك بكل صراحة : « تزوج وإلا فأنت من المذنبين » (2).

إن الترهب والاعراض عن الدنيا يعتبر عملاً حسناً ومرغوباً فيه من الوجهة الدينية في عالم الغرب ، بينما القضية على عكس ذلك تماماً في الاسلام فالاعراض عن الزوج في نظره لا يعد سيئة فحسب ، بل يعتبر إعراضاً عن طريق الفطرة المستقيم وانحرافاً عن سنة الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهو يقول : « النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني ».

ومع أن الحث على الزواج والتأكيد على إرضاء النوازع الفطرية قد ورد بصورة كثيرة في القرآن الكريم والرويات العديدة ، فإن الشهوة لم تعرف أصلاً ثابتاً للسعادة ، بل يعتبرها السلام فرعاً من فروع شجرة السعادة لا غير.

السعي وراء اللذة :

يدعي ( فرويد ) أن الشهوة الجنسية تظهر في الانسان بصور مختلفة واللذة عبارة عن الاستجابة للميول الجنسية في مظاهرها المختلفة وصورها المتباينة. ويدعي

ص: 44


1- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج 2 531.
2- المصدر السابق.

آخرون : أن هناك ميولاً مستقلة ، وغرائز أخرى غير الغريزة الجنسية. وعليه فيجب الاستجابة لجميع تلك النوازع والغرائز ... وعلى أية حال فالأمر الذي لا خلاف فيه ، هو أن الانسان يشعر بارتياح شديد عندما يستجيب لميوله. وهذا الشعور بالارتياح هو الذي يعبر عنه باللذة ، والذي يبعث الحرارة والحيوية في المجتمعات البشرية ويهيج فيهم عواطفهم. ولذلك فإن المجتمعات الحديثة تعتبر جلب اللذة أسمى الأهداف التي تهضم في نفسها قسطاً كبيراً من نشاط العالم المتمدن حتى ظن البعض أنهم لم يخلقوا إلا لممارسة نشاطهم الجنسي وتحقيق اللذة.

ومن المؤسف أن الطبيعة قد ركبت بصورة نجد فيها امتزاجاً تاماً بين الآمال والآلام ، واللذة والألم. وهذا ما يوجب محدودية البشر في سلوكهم :

« إنه لا ينكر أن الاستجابة للميول الغريزية توجب الشعور باللذة عند الانسان ، ولكن في الغالب تصطدم هذه الاستجابة بآلام وليدة ظلم الطبيعة. إذن فالحياة حتى لو شابهت حياة الحيوانات في الحرية فإنها لا توجب السعادة ، ولهذا فإن الفلاسفة وعلماء الأخلاق يرجحون أن يصرفوا بحوثهم في إيجاد الأساليب التي تهدىء الآلام وترفع المصاعب عن طريق الحياة ، فنرهم قد وصلوا إلى هذه النتيجة ، وهي : أن كل ألم معلول لا دراك معين ، وعليه فيجب السعي لا زالة أو تخفيف العلل الروحية والبدنية التي تؤدي إلى ذلك الادراك ولذلك فإن أول علاج يجده الانسان في هذا السبيل هو استعمال المواد الكحولية والمخدرة الأخرى » (1)

وبالرغم من وجود المشاكل العديدة في طريق تحقيق اللذة ... فإن البشر لا يقتنع ولا يقف عند حد في السعي وراء رغباته الغريزية.

إن الاسلام لا يكتفي بالموافقة على الاستجابة للرغبات الفطرية فحسب ، بل يعتبر ذلك من شؤون تحصيل السعادة البشرية. إلا أنه يحسب حساباً دقيقاً لذلك. فإن إرضاء الغرائز والاستجابة لها مسموح في نظرة إلى حيث لا يؤدي إلى الشقاء

ص: 45


1- مذكرات فرويد. وقد ترجمت إلى الفارسية تحت عنوان ( أنديشه هاى فرويد ) ص 108.

والفساد ، ولا يهودي بالمجتمع إلى هوة سحيقة من الاجرام والدنس.

إن من المستحيل أن يحصل الفرد - في أي مجتمع كان - على حريته المطلقة في الاستجابة لميوله وغزائزه ... إذ بعد الفراغ من وجود الحواجز الطبيعية أمام ذلك ، فإن الاخلال بالنظام والأمن أو الحرية الاجتماعية عامل قوي في إيقافه عند حده. ومن هنا نجد الاسلام لا يكتفي بالمنع من بعض اللذات التي يمنع منها العالم المتحضر في القرن العشرين ، بل يستنكر أشد الاستنكار اللذات التي تهدم صرح الإيمان والتقوى ، وتخالف الأسس الاخلاقية والانسانية. أما اللذات التي لا تؤدي إلى ضرر مادي أو معنوي كالزوجة الجميلة ، والطعام اللذيذ ، والملابس الأنيقية ، والدار الواسعة ، والمركب الحسن ، والرفاه في المال والمناظر الطبيعية الخلابة ... وعشرات غيرها من الأمور التي تعد إرضاء للميول الغريزية بشكله المعقول فإن الاسلام يعتبر ذلك جزء من منهجه القويم في تحقيق السعادة البشرية.

إرضاء الميول الغريزية :

وعلى سبيل المثال نستعرض بعض الشواهد من النصوص على ما ذهبنا إليه :

1 - قوله تعالى : «يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» (1).

2 - قوله تعالى : «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ». (2)

3 - عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « أفضل نساء أمتي أصبحهن وجهاً وأقلهن مهراً » (3).

4 - عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً : « إن من سعادة المرء المسلم أن يشبهه ولده ، والمرأة الجملاء ذات دين ، والمركب الهني ، والمسكن الواسع » (4)

ص: 46


1- سورة الأعراف 31.
2- سورة الأعراف 32.
3- بحار الأنوار للمجلسي ج 23 55.
4- بحار الأنوار للمجلسي ج 23 51.

5 - وعنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أيضاً : « أربع من سعادة المرء : الخلفاء الصالحون ، والولد البار ، والمرأة المواتية ، وأن تكون معيشته في بلده » (1)

6 - عن الامام الصادق (عليه السلام) : « ثلاثة هي من السعادة : الزوجة المواتية ، والولد البار ، والرزق يرزق معيشة ، يغدو على صلاحها ويروح على عياله » (2)

7 - وفي الحديث الشريف : « من سعادة المرء دابة يركبها في حوائجه ويقضي عليها حوائج إخوانه » (3)

8 - وعن الامام الصادق (عليه السلام) : « من السعادة سعة المنزل » (4)

9 - عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « من سعادة المرء : المرأة الصالحة ، والمسكن الواسع ، والمركب البهي ، والولد الصالح » (5)

تجاوز حدود الفطرة :

وهكذا يتبين لنا أن الاسلام يعتبر إرضاء الميول الغريزية للبشر أمراً محبذاً ، ويهتم بذلك على أن من فروع السعادة البشرية ، أما أن يعتبرها أصلاً في ذلك فلا!. إذ أن الذي يغرق في الملاذ؟ ويحصر نفسه في سجن الشهوة والغرائز فقط يكون قد حاد عن الفطرة الانسانية السليمة التي تأبى هذا النوع من الحياة ... حياة البهائم ... حياة الميوعة.

من هنا تأتي الكلمة القاطعة الصريحة للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « من لم ير اللّه عز وجل عليه

ص: 47


1- بحار الأنوار للمجلسي ج 23 55. ومعنى ( أن تكون معيشته في بلده ) أن يكون في رفاه اقتصادي فلا يضطر للخروج إلى غير بلده للتكسب وطلب العيش.
2- بحار الأنوار ج 23 50. والمرأة المواتيه : المطيعة.
3- مكارم الأخلاق للطبرسي ص 138. والدابة إذا توسعنا في معناها وقسنا الظروف أمكن شمولها للسيارة مثلاً في عصرنا الحاضر.
4- مكارم الأخلاق ص 65.
5- مكارم الأخلاق ص 65. وفي هذا الحديث ( المركب البهي ) بينما كان في الحديث رقم ( المركب الهني ). والظاهر تقارب معنييهما. إذ الأول يدل على المركب الوقر اللائق بالراكب. والثاني يكتفي بذكر الارتياح به في ركوبه.

نعمةً إلا في مطعمٍ أو مشربٍ أو ملبسٍ ، فقد قصر عمله ودنى عذابه » (1).

فالسعادة الحقة للبشر - في نظر المشرع الأعظم - هي في اكتمال جميع الجوانب المادية والمعنوية وإرضاء كل الميول الانسانية المشروعة وهكذا فمن يتخلى عن ميوله المادية بحجة الالتفات إلى الجهات المعنوية فهو مخطىء في نظر الاسلام ، وكذلك من يتخلى عن كمالاته الروحية سعياً وراء إرواء ظمأ شهواته وغرائزه. يقول الامام الباقر (عليه السلام) : « ليس منا من ترك دنياه لآخرته ، ولا آخرته لدنياه » (2).

تعادل الروح والجسد :

إن حفظ التوازن بين الروح والجسد أهم عوامل النجاح والسعادة وإن أئمة الاسلام علیهم السلام كانوا إذا لا حظوا إفراطاً أو تفريطاً في سلوك أصحابهم في جانب مادي أو معنوي ، إهتموا بتعديل ذلك الانحراف وتسوية ذلك الخطأ.

كان في البصرة أخوان ، أحدهما : علاء بن زياد الحارثي ، والآخر عاصم. وكانا كلاهما من المخلصين لعلي (عليه السلام) ، وكانا مختلفين في السلوك ، فعلاء مفرط في حبه للدنيا وجمعه للمال ... أما عاصم فكان على العكس منه مدبراً ظهره للدنيا ، صارفاً جل وقته في العبادة وتحصيل الكمالات الروحية. وفي الواقع كانا كلاهما قد تجاوزا الطريق المستقيم ، وانحرفا عن الصراط السوي ...

وذات يوم مرض ( علاء ) فذهب علي (عليه السلام) لعيادته ، وما أن استقر به الجلوس حتى التفت الإمام إلى سعة عيشه وإفراطه في سعيه وراء المادة ، فخاطبه قائلاً : وماذا تصنع يا علاء بهذه السعة المفرطة من العيش؟ إنك إلى تحصيل وسائل سعادتك المعنوية أحوج ، فاسع في ذلك الجانب أيضا ... ثم قال (عليه السلام) : اللّهم الا أن تكون عملت ذلك كله لتمهيد طريق السعادة المعنوية ، لتتمكن من استقبال أكبر عدد ممكن من الضيوف في بيتك ، وتستطيع من صلة أرحامك وأداء حقوق إخوانك بأكمل وجه [ ملاحظة : لمعرفة نص الكلام يراجع نهج البلاغة ].

ص: 48


1- سفينة البحار مادة ( دنى ) ص 464.
2- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة للحر العاملي ج 4 106.

لقد أثر هذا الدرس البليغ - بأسلوبه الهادئ المتين - في ( علاء ) كثيراً ، وجاشت به العواطف للشكوى من تفريط أخبه فقال : « أشكو إليك عاصم أبن زياد قال : وما له؟ قال : لبس العباء وتخلى من الدنيا. قال : علي به! ».

وبعد أن أحضر عاصم بين يدي الامام وبخه قائلاً : « يا عدي نفسه (1) ، لقد استهام بك الخبيث ، أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى اللّه أحل لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على اللّه من ذلك ... ».

من خلال سرد هذه الحادثة التاريخية يتضح مدى استقامة المنهج الاسلامي الذي نطق به الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وهو يعبر عن نظرة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحكم اللّه عز وجل ... لكن بقيت في نفس عاصم بن زياد مشكلة لم يجد لها حلاً ، وهي كيفية التوفيق بين كلام الامام (عليه السلام) وعمله ، حيث قد زهد في الدنيا وترك الملاذ ، فجاشت عواطفه وما أسرع أن قال :

« ... يا أمير المؤمنين : هذا أنت في خشونة ملبسك ، وجشوبة مأكلك؟! قال : إني لست كأنت ... إن اللّه فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعة الناس ، كي لا يتبيغ بالفقير فقره ... » (2).

هذه هي خلاصة سريعة لعرض الآراء المختلفة - قديمها وحديثها - حول تحقيق سعادة الانسان وقياسها بتعاليم الاسلام العظيمة وحلوله الشافية ...

على أن من الضروري أن نعلم : أن الأسس الأولى لسعادة الانسان إنما تخطط في رحم الأم. وإن التحقيقات العلمية الدقيقة أثبتت : إن العالم الرحم دوراً مهماً في تقرير سعادة الانسان أو شقائه ، ولهذا فسنحاول أن نتكلم بشيء من التفصيل عن هذا الدور في المحاضرة القادمة إن شاء اللّه.

ص: 49


1- عُديّ : تصغير عدو.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 11 32 ، طبعة دار الاحياء. وقوله ( يتبيغ ) أي يهيج به. كما يقال : ( تبيغ الدم بصاحبه ) أي : هاج به.

المحاضرة الثالثة: السعادة والشقاء في رحم الأم

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه العظيم : « رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً »(1).

يتطلب هذا البحث دقة وتعمقاً من الجهتين : العلمية والدينية. وللتمهيد إلى صلب الموضوع لا بد من توضيح بعض الأمور التي تتعلق بالبحث. هذا ولا يغيب عن البال أن الاكتشافات العلمية الحديثة ساعدت على فهم بعض الآيات والروايات كثيراً. ومن تلك الموارد موضوعنا اليوم ، حيث نأمل أن نتمكن من الاستفادة من التجارب العلمية الحديثة للوصول إلى أسرار بعض الآيات ، ونكات بعض الروايات المتعلقة بالموضوع ، والآن لنبدأ بذكر المقدمات :

معنى السعادة والشقاء :

إن أول نقطة يجب فهمها من الروايات والأحاديث في موضوع السعادة والشقاء وعلاقتهما برحم الأم ، هو فهم معنى السعادة والشقاء.

السعادة : حسن الحظ. ويشمل كل ألوان الخير والراحة والرفاه والبركة ...

والشقاء : سوء الحظ. ويشمل جميع صنوف الشر والقلق والضيق والشدة ...

ومن هنا يظهر شمول كلتا الكلمتين واتساع دائرتيهما لكثير من المعاني ولكن كثيراً من الناس ينتقلون من لفظة ( الشقاء ) إلى معنى فقدان الإيمان والمعصية فقط. فالشقي عندهم هو المنغمس في الجرائم والمعاصي ، في حين أن الجريمة إحدى

ص: 50


1- سورة نوح 26.

مراتب الشقاء فقط. وهناك كثير من الأمور لا تعد ذنوباً أو معاصي في عرف الشرع لكنها - مع ذلك - توجب الشقاء للإنسان. كما تصرح بذلك بعض الروايات ، نكتفي بنقل واحدة منها :

قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « أربع من السعادة وأربع من الشقاوة. فالأربع التي من السعادة : المرأة الصالحة ، والمسكن الواسع ، والجار الصالح ، والمركب البهي. والأربع التي من الشقاوة : الجار السوء والمرأة السوء ، والمسكن الضيق ، والمركب السوء » (1).

وبالرغم من أن المسكن الضيق والمركب السوء ليسا من الأمور التي توجب للانسان معصية أو جريمة. فاننا نجد الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعدهما من أسباب شقاء الانسان. وإذا كان المركب السوء والمسكن الضيق من شقاوة الرجل فيمكن اعتبار العمى والجنون منها بطريق أولى ، فإذا خلق الطفل أعمى في بطن أمه ، أو ولد مجنوناً لجنون في أبيه أو حمق في امه ... فيمكن القول بأنه كان شقياً في رحم أمه.

قانون الوراثة :

أدرك الانسان منذ أمد بعيد ، أن الموجود الحي ينقل كثيراً من الصفات والخصائص إلى الأجيال التي تليه ، فالجيل اللاحق يكتسب صفات الجيل السابق. فبذرة الزهرة تحفظ في نفسها خصائص الساق والورقة والزهرة والألوان الطبيعية لها ، وبعد الانبات تأخذ بإظهار تلك الخصائص واحدة تلو الأخرى.

إن بذرة المشمش تشتمل على جميع الصفات المائزة للشجرة التي وجدت منها ، فعندما تزرع هذه البذرة ، وتنبت ، وتأخذ بالنمو تظهر تلك الصفات تدريجياً. وهكذا فالقطة الصغيرة تشبه أبويها في هيكلها وشعرها ومخالبها. وترث صفات أسلافها. وكذلك الطفل الافريقي فهو يشبه أبوبه في سواد البشرة وتجعد الشعر ، ووضع الأنف

ص: 51


1- مكارم الأخلاق ص 65.

ولون العيون في حين أن الطفل الأوروبي يرث المميزات التي يختص بها العنصر الذي ينتمي إليه أبواه في لون البشرة والعيون والشعر ووضع الأنف وما شاكل ذلك.

وبصورة موجزة نقول : إن قانون الوراثة من القوانين المهمة في حياة الموجودات الحية. وهذا القانون هو الذي يكفل للنبات والحيوان والانسان بقاء صورها النوعية الخاصة بها ... وعلى هذا الأساس يكتسب الأبناء صفات الآباء من دون حاجة إلى أي نشاط إرادي منهم.

عامل الوراثة :

حققت العلوم التجريبية انتصارات رائعة في مختلف مظاهر الطبيعة. وبذلك كشفت اللثام عن كثير من الحقائق التي كانت مجهولة لدى السابقين ولقد ساير ( علم الأجنة ) و ( البحث عن الخلية ) التقدم العلمي في الجالات الأخرى في تكامله وتوسعه يوماً بعد يوم.

لقد استطاع العلماء أن يفحصوا الموجودات الصغيرة بواسطة أجهزة قوية ومكرسكوبات ( مجاهر ) دقيقة ، توصلوا أخيراً إلى أن منشأ ظهور الموجود الحي هو وحدة صغيرة جداً تسمى ( الخلية ) ، وهذه تتكامل تحت شروط معينة ، وتظهر بصورة حشرة أو حيوان أو إنسان. إن اكتشاف هذا السر الدفين عقد قانون الوراثة أكثر ، وأدى إلى توسع البحوث فيه والتساؤل عن أسرار هذه الخلية وكيفية تأثير عوامل الوراثة فيها وأين تكمن؟.

« لقد صرف علماء الحياة وقتاً كثيراً خلف الميكرسكوبات في البحث عن أسرار الخلية. فإن المسألة كانت محاطة بمشاكل عديدة. فهم كانوا يواجهون الخلية من جهة وكيف أن هذا العضو المادي يحتفظ بخواصه الفيزياوية والكيمياوية ، ومن جهة أخرى كانوا يصطدمون بقوانين الوراثة التي أخذت تتضح حسب معادلات رياضية دقيقة تبعاً لقانون ( مندل ) ».

« فأين يكمن عامل الوراثة؟ وفي أي جزء من الخلية؟ وعلى أي الأعضاء يقع عبء هذه الظاهرة؟ أي جزء من ( البروتوبلازم ) وأي

ص: 52

جانب من ( النواة ) يجعل الطفل يرث شكل أنف أمه وعيني أبيه. والصفة الفلانية من أجدادة؟! » (1)

وبعد الجهود العظيمة والتتبع الدقيق توصل العلماء إلى أن في الخلية ( نواة ) بيضية الشكل ذات جدار مرن ، توجد في داخلها أجسام صغيرة تظهر عند انقسام الخلية ، ولقد أسموها ب- ( الكروموسومات ).

« ولقد توصل كثير من علماء الحياة إلى معرفة أعدادها وأثبتوا أن كل خلية من خلايا جسم الانسان تحوي 48 كروموسوماً ، وخلية الفأرة 40 ، والذبابة 12 ، والحمص 12 ، والطماطم 24 ، والنحلة 32 ... ألخ » (2)

ولقد خطا العلماء في تحقيقاتهم العلمية في هذا المضمار خطوة أخرى ، فتوصلوا إلى أن في ( الكروموسومات ) أجساماً صغيرة جداً أطلقوا عليها إسم ( الجينات ) ، وأثبتوا أن هذه الأجسام هي الناقلة للصفات الوراثية في الحقيقة. فالجينات هي التي تؤثر في انتقال صفات الشعر والبشرة ووضع الأنف والشفتين وغير ذلك من الصفات من الآباء والأمهات إلى الأولاد.

« ولقد أثبت علم الوراثة الحديث ، أن الصفات الوراثية تنتقل بواسطة الكروموسومات وتتوزع توزيعاً خاصاً في الخلايا التناسلية وعليه فإن لهذه الكروموسومات أجزاء صغيرة جداً يبلغ عددها العشرات والمئات تسمى ب- ( الجينات ) ، وهي تكون العوامل الوراثية. لقد توصلوا إلى وضع هذه الجينات في نوع من الذباب

ص: 53


1- تاريخ علوم ص 707 ، تأليف بي ييروسو ترجمة حسن صفاري وهو كتاب قيم طبع سنة 1954 م للمرة الخامسة والستين باللغة الفرنسية عدا الترجمات إلى اللغات الأخرى.
2- المصدر نفسه. وهنا يلاحظ أن عدد هذه الكروموسومات زوجي في كل خلية ، فكروموسومات خلية الانسان 24 زوجاً ، والفأرة 20 زوجاً ، والذبابة 6 أزواج ، وهكذا ... فهذه تنقسم عند تكوين الخلايا التناسلية في الأحياء إلى قسمين لكي لا يتعاظم عددها بل يبقى ثابتاً في كل نوز. لأن بقاءها على حالها يؤدي إلى تضاعف عددها لاجتماع الخلايا الذكرية والأنثية ، وهكذا تزداد في كل مرة إلا أن انقسامها يجعل عددها ثابتاً. وهذا الانقسام يسمى بالانقسام الخيطي.

اسمه ( دروزوفيل ) وعينوا مراكز تلك الجينات بالنسبة إلى الكروموسومات وعرفوا أبعادها ... » (1)

« إن الصفات الوراثية ترتبط بعوامل معينة تسمى ب- ( الجينات ) وإن عددها كثير جداً. هذا ولا تخلو الجينات من تأثير على بعضها البعض. فقد يرتبط تأثير واحد بعدة جينات بمعنى أن كلاً منها ينقل جزء معيناً من تلك الخواص والصفات ... » (2).

الوراثة قبل تطورها :

لم تكن البشرية تجهل قانون الوراثة تماماً فيما مضى ، بل كانوا يجهلون خصوصياتها ، إن علماء الماضي كانوا يعلمون أن في بذرة الزهرة ونواة الشجرة ونطفة الانسان والحيوان ذخائر تنقل صفات الأجيال السالفة للأجيال اللاحقة.

إن ما اكتشفه علماء الوراثة اليوم ، وتوصلوا إليه بأبحاثهم الدقيقة من وجود موجودات صغيرة داخل الكروموسومات تنقل الصفات الوراثية والتي أسموها ( الجينات ) ليس أمراً جديداً كل الجدة. فالرسول الأعظم والأئمة الطاهرون علیهم السلام ، الذين كانوا يكشفون الحقائق بنور الوحي والالهام لم يغفلوا أمر هذا القانون الدقيق. بل أشير إليه في بعض النصوص وأطلق على عامل الورائة فيها اسم ( العرق ) .

وبعبارة أوضح : فإن المعنى الذي يستفيده علماء الوراثة اليوم من كلمة ( الجينة ) هو نفس المعنى الذي استفادته الأخبار من كلمة ( العِرق ) وعلى سبيل المثال نذكر بعض تلك الروايات.

1 - عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « أنظر في أي شيء تضع ولذلك ، فإن العِرق دساس » (3). وحينما نراجع المعاجم اللغوية في معنى كلمة ( دساس ) نجد أن بعضها - كالمنجد - يعلق على ذلك بالعبارة التالية : « العرق دساس أي : أن أخلاق الآباء تنتقل إلى الأبناء » (4).

ص: 54


1- جه ميدانيم؟ بنياد أنواع ص 69.
2- جه ميدانيم؟ سرطان ص 42.
3- المستطرف من كل فن مستظرف ج 2 218.
4- المنجد ، مادة دس.

فهذا الحديث يتحدث عن قانون الوراثة بصراحة. ويعبر عن العامل فيها بالعِراق. فالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوصي أصحابه بألا يغفلوا عن قانون الوراثة بل يفحصوا عن التربة الصالحة التي يريدون أن يبذروا فيها ، لكي لا يرث الأولاد الصفات الذميمة.

2 - عن الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) : « حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق » (1). وهذا الحديث يثبت إمكان اكتشاف الطهارة العائلية للفرد من السجايا الفاضلة عنده.

3 - وهذا محمد بن الحنفية ابن الامام علي (عليه السلام) كان حامل اللواء في حرب الجمل ، فأمره علي بالهجوم ، فأجهز على العدو ، لكن ضربات الأسنة ورشقات السهام منعته من التقدم فتوقف قليلاً ... وسرعان ما وصل إليه الامام وقال له : « إحمل بين الأسنة » فتقدم قليلاً ثم توقف ثانية ، فتأثر الامام من ضعف ابنه بشدة فاقترب منه و « ... ضربه بقائم سيفه وقال : أدركك عرق من أمك » (2).

فهنا يثبت الامام (عليه السلام) أن الجبن الذي ظهر واضحاً في ابنه محمد ليس موروثاً منه (عليه السلام) لأنه لم يعرف للجبن معنى قط ، فلا بد وأن يكون من أمه ، لأنها لم تكن من الفضيلة بدرجة تكون معها بمنزلة الصديقة الزهراء (عليه السلام) .

الشذوذ عن قانون الوراثة :

وبالرغم من أن قانون الوراثة قانون وثابت وعام. وأن انتقال الصفات الوراثية من الآباء والأمهات إلى الأبناء أمر مسلم به عند علماء الوراثة فإن هناك ظواهر تثبت شذوذ الطبيعة عن هذا القانون ، ولقد أثبتت التحقيقات العلمية أنواعاً من هذا الشذوذ في كثير من الفطريات والأعشاب والأزهار والأشجار والحشرات والحيوانات البرية والمائية والطيور وحتى في البشر.

لقد أثبتت التجارب أن هذه الطفرة الحاصلة في بعض الصفات الوراثية قد تصبح وراثية فتنتقل إلى الأجيال اللاحقة ، بينما تبقى في بعض الحالات جامدة لا تتعدى الأجيال التي تأثرت بهذه الطفرة.

ص: 55


1- غرر الحكم ودرر الكلم للامدي ص 167 ط دار الثقافة في النجف الأشرف.
2- تتمة المنتهى ص 17.

إن هذه الطفرة أو الشذوذ عن قانون الوراثة يمكن أن يعزى إلى سببين رئيسين : أحدهما : التغيرات الحاصلة في وضع ( الجينات ) و( الكروموسومات ) الموجودة في الخلية الحية. وثانيهما : وراثة الصفات الموجودة في الأجداد والأسلاف البعيدين وظهور بعض الصفات التي كانت مضمرة في الآباء.

والآن لنستعرض هذين العاملين بشيء من الاختصار :

(1) التغيرات الحاصلة في وضع الجينات :

« يجب أن لا يغيب عن البال أنه قد تظهر بعض الخواص الوراثية تبعاً للبيئة ، وعلى العكس فقد تختفي بعض الصفات في أحد الأجيال وتقف نهائيا. وقد تستمر الصفات الحادثة في الانتقال من جيل إلى جيل. هذه العملية تسمى بالطفرة ، والتي لم يتوصل بعد إلى معرفة عللها الواقعية. وعليه فمن الخواص الأصلية للطفرة هي قبليتها للتوارث ، ويستنتج من هذا أنه عند حصول نقصان في بعض الجينات أو الكروموسومات في الخلايا التناسلية ، وتحصل تغيرات مهمة في الأجيال اللاحقة من حيث بناء الجسم. ولقد بقي العلماء مقتصرين على ملاحظة الطفرة التلقائية ( الذاتية ) لمدة. ولكن مولر استطاع في سنة 1927 أن يحدث هذه الطفرة تجريبياً بواسطة توجيه بعض الأشعة على الخلايا التناسلية ثم جاء راديوم فاستطاع أن يجري تجارب دقيقة على تلك الخلايا بتأثير الأشعة السينية » (1)

وكثيراً ما نشاهد طفلاً أشهب العينين ، أشقر الشعر ، أبيض البشرة ذا هيكل غربي تماماً في حين أن أبويه يملكان عيوناً سوداً ، وشعراً أسود ، وبشرة سمراء ، وهيكلاً شرقياً تماماً. إن هذه التغيرات التي تخالف السير الطبيعي لقانون الوراثة يمكن أن تستند إلى التغيرات الأولية والفجائية للجينات. وهذا التغير يوجد في النبات والحيوان والانسان على السواء. وكثيراً ما يقع هذا التغير حيث يؤدي إلى اختلاف العناصر ومنشأ هذا كله راجع إلى الطفرة. ولكن العلوم البشرية لم تتوصل

ص: 56


1- (1) جه ميدانيم؟ سرطان ص 42

بعد إلى العلل الواقعية لأمثال هذه الطفرات الحاصلة ، اللّهم إلا مجرد بعض النظريات والاحتمالات الفارغة.

« من المحتمل أن تكون الطفرات التلقائية التي تظهر من دون علة واضحة ناشئة من تأثير بعض الأشعة الطبيعية كاشعاعات الأرض المتصلة بالقوة الناقلة لأمواج الراديو في الترية ، أو إشعاعات الهواء الناشئة من الشمس أو إشعاعات ما وراء السدم والمجرات ... » (1)

(2) الوراثة عن الأجيال البعيدة :

كان الفرض الأول يتضمن ظهور علل في الطبيعة تبعث على التغيرات الابتدائية للجينات ، وظهور صفات جديدة من دون سابقة ما ، ولكن الفرض الثاني في الموضوع هو وجود الجينات الصانعة للصفات الجديدة في خلايا الأجيال السابقة بصورة مضمرة ، وظهور عند حصول الشروط المساعدة لها.

« إذا أخذنا فأرتين إحداهما بيضاء والأخرى رمادية وزاوجنا بينهما ، فالجيل الناشىء منها يكون رمادي اللون هجيني. وهذا يدلنا على أن لبعض الألوان خاصية الغلبة ، ولبعضها خاصية المغلوبية. فإذا لقحنا الفئران الناتحة من الجيل الأول فيما بينها كان الجيل الثاني على ثلاثة أنواع : - رمادي نقي ( غالب ) في ربع الحالات ورمادي هجيني في نصف الحالات ، وأبيض نقي ( مغلوب ) في ربع الحالات ، ومن هنا نستنتج أن اللون الأبيض الذي اختفى في الجيل الأول لم يندثر تماماً بل ظهر في الجيل الثاني بنسبة 1 3 عند تلقيح فأرتين رماديتين هجينيتين » (2)

« يمكن تمييز المجرم الذي نشأ على الاجرام من صغره عن غيره في

ص: 57


1- (2) نفس المصدر ص 102
2- جه ميدانيم؟ سرطان ص 42 ، وتمسى الصفة الغالبة في علم الوراثة بالعامل الغالب والصفة المغلوبة بالعامل المتنحي.

علم النفس بأنه يشبه الانسان القديم في اختلال تركيب الوجه أو الجمجة. واندفاع الجبهة إلى الأعلى وحدة الأذن وعدم التصاقها تماماً. إن ظهور هذه العلامات ناتج من الوراثة والأخذ من الأجداد ، ولذلك فمن السهل ملاحظة غرائز الانسان القديمه في هؤلاء الأفراد. كما يمكن مشاهدة صفات الحيوانات القديمة المندثرة في بعض الحيوانات الحاضرة بلا فرق » (1).

الصفات المختفية :

ومن السهولة بمكان نستنتج من هاتين الفقرتين : أن الحيوان أو الانسان قد يرث من أبويه أو أجداده البعيدين صفات كانت مختفية فيهم ولكن توفر بعض الشروط المناسبة والبيئة الخاصة أدى إلى ظهور تلك الصفات في الأجيال اللاحقة. إن العلماء اليوم يربطون بين الانسان الحالي وأجداده الماضين بالجينات الناقلة للصفات الوراثية ربطاً دقيقاً ومعقداً في نفس الوقت.

« يمتد الانسان في الزمن مثلها يمتد في الفراغ إلى وراء حدود جسمه ... وحدوده الزمنية ليست أكثر دقة ولا ثباتاً من حدوده الاتساعية. فهو مرتبط بالماضي والمستقبل ، على الرغم من أن ذاته لا تمتد خارج الحاضر ... وتأتي فرديتنا كما نعلم إلى الوجود حينما يدخل الحيمن في البويضة. ولكن عناصر الذات تكون موجودة قبل هذه اللحظة ، ومبعثرة في أنسجة أبوينا وأجدادنا وأسلافنا البعدين جداً. لأننا مصنوعون من مواد آبائنا وأمهاتنا الخلوية. وتتوقف في الماضي على حالة عضوية لا تتحلل ... وتحمل في داخل أنفسنا قطعاً ضئيلة لا عداد لها من أجسام أسلافنا ... وما صفاتنا ونقائصنا إلا إمتداد لنقائصهم

ص: 58


1- جه ميدانيم؟ جنايت ص 36. هذا هو رأي علماء القانون الذين ينتمون إلى ( المدرسة الوضعية ). إذ ترى هذه المدرسة في شخص المجرم والصفات الوراثية التي تلقاها من أسلافه العامل الحاسم في تقرير مصيره ، من هؤلاء ( لو مبروزو ) ، بينما تبرز ( النظرية الاجتماعية ) في هذه المدرسة أهمية الأسباب الاجتماعية المتصلة ببيئة الجرم. ومن دعاتها ( فيري ) و( جاروفالو ).

وصفاتهم ... » (1)

« إن أساس تكوين أنسجة الانسان مسألة يكتنفها الغموض ، إذ أننا لا نعرف كيف جمعت ( جينات ) أبويه وأجداده في البويضة التي نشأ هو منها ، كما نجهل إذا كانت ذرات نووية معينة من أحد الأسلاف البعيدين المنسيين غير موجودة فيه. أو إذا كانت تغييرات اختيارية في ( الجينات ) قد لا تتسبب في ظهور بعض الصفات غير المتوقعة. فقد يحدث أحياناً أن يبدي أحد الأطفال الذين عرفت ميول أسلافهم لعدة أجيال ، إتجاهات جديدة وغير متوقعة » (2)

الاعجاز العلمي للرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :

وبعد أن تطرقنا لذكر بعض الأسس الممهدة لقانون الوارثة وبالنظر إلى التحقيقات العلمية الدقيقة التي توصل إليها علماء الوراثة في العصر الحاضر ، يتضح جلياً مدى عمق بعض الأحاديث المروية عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نكتفي بذكر حديثين يتعلقان بمورد واحد أو موردين متشابهين. وهذان الحديثان يعتبران من المعاجز العلمية للنبي الكريم ، ولولا الاكتشافات الحديثة لما اتضح معناهما. لقد توصل علماء البشر طوال سنين عديدة وبعد جهود عظيمة صرفوها ليل نهار لادراك بعض الحقائق والوصول إلى أسرار دقيقة. لقد فتحت هذه التحقيقات العلمية باب فهم بعض الآيات والروايات الغامضة مما أدى إلى معرفة عظمة شخصية الرسول الأعظم الذي كان يتكلم بلسان الوحي ، ويرى بنور الالهام.

الحديث الأول :

« عن أبي جعفر علیه السلام ، قال : أتى رجل من الأنصار رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال : هذه ابنة عمي وإمرأتي ، لا أعلم منها إلا خيراً ، وقد أتتني بولد شديد السواد ، منتشر المنخرين جعد قطط ، أفطس الأنف ، لا أعرف شبهه في أخوالي ولا في أجدادي. فقال لامرأته : ما تقولين؟ قالت لا والذي بعثك بالحق نبياً ما أقعدت

ص: 59


1- الانسان ذلك المجهول ، للدكتور الكسيس كارل ص 203.
2- المصدر السابق 197.

مقعده مني - منذ ملكني - أحداً غيره قال : فنكس رسول اللّه رأسه ملياً ، ثم رفع بصره إلى السماء ثم أقبل على الرجل فقال : يا هذا إنه ليس من أحد إلا بينه وبين أدم تسعة وتسعون عرقاً كلها تضرب في النسب ، فإذا وقعت النطفة في الرحم اضطربت تلك العروق وتسأل اللّه الشبه لها. فهذا من تلك العروق التي لم تدركها أجدادك ولا أجداد أجدادك خذي إليك إبنك. فقالت المرأة : فرجت عني يا رسول اللّه » (1)

الحديث الثاني :

« عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي علیه السلام ، قال : أقبل رجل من الأنصار إلى رسول اللّه ، فقال : يا رسول اللّه هذه بنت عمي وأنا فلان إبن فلان ... حتى عد عشرة أباء وهي بنت فلان ... حتى عد عشرة آباء. ليس في حسبي ولا حسبها حبشي ، وإنها وضعت هذا الحبشي ، فأطرق رسول اللّه طويلاً ثم رفع رأسه ، فقال : إن لك تسعة وتسعين عرقاً ولها تسعة وتسعين عرقاً ، فإذا اشتملت إضطربت العروق وسأل اللّه عز وجل كل عرِق منها أن يذهب الشبه إليه ، قم فانه ولدك ولم يأتك إلا من عرق منك أو عرق منها ، قال : فقام الرجل وأخذ بيد إمرأته وإزداد بها وبولدها عجباً » (2).

إن خلاصة ما توصل إليه علماء الوراثة في العصر الحديث بالنسبة إلى انتقال صفات الأجيال السابقة للأجيال اللاحقة تنحصر في جملة أمور مذكورة كلها في هذين الحديثين.

1 - إن عوامل الوراثة ذرات صغيرة تسمى ( الجينات ). وهي توجد في الخلية التناسلية من الأبوين أو الأجداد السابقين.

ولقد سبق وأن أشرنا في المقدمة الرابعة من البحث أن الروايات تسمي عامل الوراثة ب- ( العرق ) الذي ورد التصريح به في الحديثين كليهما.

2 - يرى العلماء أن عدد الجينات في الخلية التناسلية كثيراً نوعاً ما ومن خلال

ص: 60


1- وسائل الشيعة ج 5 128 باب أن الولد يلحق بالزوج.
2- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج 2 631.

نقلنا لبعض النصوص ظهر أنها تبلغ العشرات والمئات ومع ذلك فانهم لم يتوصلوا إلى إثبات أعدادها بصورة قطعية.

بينما نجد الحديثين المنقولين يصرحان بأن عدد الأعراق هو 99 ، فقد يكون المراد منها هو الاعراق الصانعة للصفات العنصرية فقط كلون البشرة ، ولون الشعر وتجعده ، ولون العين وغير ذلك من الصفات. وقد يكون التعبير عن ال- 99 للدلالة على الكثرة من دون الالتفات إلى العدد نفسه ، كما ورد في القرآن الكريم بشأن عدم جدوى استغفار النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للمنافقين : « إستغفر لهم أو لا تستغفر لهم ، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر اللّه لهم » (1). فالمعنى : إن تستغفر لهم كثيراً ، لا عدد السبعين فقط كي يكون معناه أنك إذا استغفرت لهم إحدى وسبعين مرة فان اللّه يغفر لهم!. فالخلاصة أن العلم الحديث وافق الحديث النبوي الشريف في كثرة عدد الأعراق.

3 - لا يحصر علماء الوراثة اليوم قابلية الوراثة في الأبناء عن آبائهم القريبين فقط ، بل يرون أنه قد يرث الولد صفات أجداده البعيدين وحتى الانسان القديم.

وكذلك الحديث الذي نقلناه فانه كان يرى قابلية الوراثة في الانسان عن أجداده السابقين وحتى الانسان الأول ( أبو البشر آدم ) كما ورد التصريح به في رواية عن الامام الصادق علیه السلام :

« إن اللّه تبارك وتعالى إذا أراد أن يخلق خلقاً جمع كل صورة بينه وبين آدم. ثم خلقه على صورة إحداهن. فلا يقولن أحد لولده : هذا لا يشبهني ولا يشبه شيئاً من آبائي » (2).

إن جميع الصور والصفات القبلة للتوارث في الآباء والأجداد حتى أبي البشر أدم يمكن أن تدخل في بناء صورة الأنسان الذي ثبتت خليته التناسلية في الرحم. وبما أن البشر يجهلون المدى الواسع لقانون الوراثة وقد كان يصادف أن يخرج الولد على

ص: 61


1- سورة التوبة 80.
2- مكارم الأخلاق ص 114.

غير صورة أبويه فكان يؤدي ذلك إلى أن يشك الرجل في زوجته باحتمال أن الوالد من غيره ، نجد الامام الصادق علیه السلام يحذر بعض الرجال من أن يقولوا : إن الولد لا يشبهني ولا يشبه أبائي لأنه قد يكون آخذاً صفاته من أجداده البعيدين جداً.

4 - يرى علماء الوراثة أن الجينات الناقلة للصفات الوراثية توجد في نواة الخلية الذكرية والأنثية على السواء. وقد يستند التغير الفجائي في تلك الصفات إلى أحدهما. وكذلك حكم النبي صلی اللّه علیه و آله حيث قال للأنصاري : « ولم يأتك إلا من عرق منك أو عرق منها ».

إنه لم يمض على الاكتشافات العلمية الحديثة في عالم الوراثة واكتناه الأسرار الدقيقة والرموز المعضلة للجينات والكروموسومات أكثر من قرن واحد ، بينما نجد أن كلام النبي صلی اللّه علیه و آله في هذا الموضوع يطوي قرنه الرابع عشر. فنبي الاسلام العظيم أخبر عن تلك الحقائق بنور الوحي المبين.

وهنا لا بأس من الالتفات إلى نكتة لطيفة ، وهي أن الأنصاري حين سأل النبي صلی اللّه علیه و آله توقف النبي صلی اللّه علیه و آله في جواب قليلاً ولم يجب بسرعة ، فما السر في ذلك؟!.

هناك حديث آخر يوضح الأمر جلياً ، ويجيب على هذا السؤال : « إن يهودياً سأل النبي صلی اللّه علیه و آله مسألة فمكث النبي ساعة ثم أجاب عنها ، فقال يهودي : ولمن توقفت فيما علمت؟ فقال صلی اللّه علیه و آله : توقيراً للحكمة » (1). فكما أنه يجب توقير الحكماء والعلماء يجب توقير أقوالهم الحكمية أيضاً. وإن لأسلوب إلقاء الكلام دخلاً كبيراً في التأثير على نفس السامع ، فالكلام مهما كان عميقاً لو ألقي بسرعة وعجلة لا يؤثر التأثير المطلوب ، بعكس ما إذا ألقي بتأنٍ واتزان ، وكذلك فعل النبي صلی اللّه علیه و آله في الجواب على مشكلة الزوج والزوجة بالنسبة إلى ولدهما الذي لم يكن يشبههما إذ سكت قليلاً توقيراً لتلك الحكمة العظيمة.

5 - إن الصفات التي لها قابلية الانتقال من الآباء إلى الأبناء عديدة مثل :

ص: 62


1- سفينة البحار للقمي ص 439 مادة ( دبر ).

الجنون والحمق ، لون البشرة ، لون العين ، بناء الوجه والأنف ، لون الشعر ، والخصائص المرتبطة به وغير ذلك. ولكن العلم الحديث لم يتوصل بعد إلى تحديدها تماماً.

العوامل المساعدة :

« ... تتنقل أمراض معينة كالسرطان والسل ... ألخ من الآباء إلى الأبناء ولكن كاستعداد فقط ، وقد تعوق أحوال النمو ظهور هذه الأمراض أو تساعد على تحققها » (1).

وكذلك السجايا الخلقية والصفات الحميدة أو الصفات الرذيلة للاباء والأمهات تهيء استعداداً في الأولاد ، فالاباء والأمهات الذين يمتازون بصفات الشجاعة والكرم والتضحية والخدمة ، يخلفون أبناء ذوي فضيلة وإباء وكرم. وعلى العكس من ذلك ، فإن الأسر المعروفة بالبخل والجبن والأنانية والحمق لا يخلفون في الأغلب إلا أولاداً حقراء لا وزن لهم في المجتمع.

ولا تقتصر هذه القاعدة التي ذكرناها على الانسان ، بل تسري في الحيوانات أيضاً ، فهناك عناصر معينة من الخيول تمتاز على غيرها بصفات خاصة. وكذلك الحمام فهناك بعض الفصائل المعينة فيه لها قابلية التربية والاستعداد للقيام ببعض الأعمال والخدمات.

سأل المأمون العباسي بعض خواصه ومحارمه يوماً عن سبب ما يلاقيه من جفاء وخيانة وقلة إنصاف من بعض أصحابه وأقاربه الذين كان قد قلدهم مناصب عالية ورتب مهمة في الدولة ، في حين أن المفروض أن يقابلوا إحسانه بالإحسان لا الاساءة ، فقال له أحدهم : إن المعنيين بأمر الحمام الزاجل والمهتمين بتربيته يتحققون عن أصله وفصيله الذي ينتمي إليه وعندما يطمئنون إلى عراقة نسبه يهتمون بتربيته كثيراً ويجنون من ذلك فوائد كثيرة ... « وأنت يا أمير المؤمنين تأخذ أقواماً من غير أصول ولا تدريج ، فتبلغ بهم الغايات فلا يكون منهم ما تؤثره » (2).

ص: 63


1- الانسان ذلك المجهول ص 196.
2- مجموعة ورام ج 2 286.

فمن الطبيعي أن لا يكون الأفراد المختارون لاشغال المناصب من دون امتحان ولا نظر في أصولهم وأحسابهم وأنسابهم ، على حالة مرضية من حيث الاخلاص والأمانة والوفاء ...

إن الاسلام يرى أن في سلوك الأباء والأمهات تأثيراً كبيراً على سلوك أبنائهم الذين يرثون صفاتهم الصالحة أو الطالحة ، ولذلك نجد القرآن الكريم يحكي على لسان نوح هذه الحقيقة الناصعة حيث يقول بعد أن يئس من هداية قومه طيلة 900 عام :

«وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا» (1).

ولقد رأينا قبل صفحات كيف أن الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) يخاطب ابنه محمد بن الحنفية حينما جبن عن التقدم « أدركك عرق من أمك ».

الشرف الموروث :

يقول الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الفضائل العائلية : « إذا كرم أصل الرجل كرم مغيبه ومحضره » (2).

فمن كان ينتمي إلى نسب عريق في الفضائل كان ملازماً للصفات الخيرة في حضوره وغيابه وذهابه وإيابه.

وكذلك قال علیه السلام : « عليكم في قضاء جوائجكم بكرام الأنفس والأصول ، تنجح لكم عندهم من غير مطال ولا من » (3). ومن هنا يعلم أن الشرف العائلي في الأفراد يجعلهم يقضون حوائج الناس من دون آن يحملوهم مناً أو يتماهلوا في ادائها.

ص: 64


1- سورة نوح 26. هذا وتشير الآية إلى عاملي الوراثة والمحيط في التأثير على سلوك المجتمز. فإن الكافرين إما أن يفسدوا البيئة ، أو يخلفوا أولاداً طالحين.
2- غرر الحكم ودرر الكلم للامدي ص 144 طبعة النجف الأشراف.
3- المصدر السابق ص 214 طبعة النجف الأشرف.

وروي عنه علیه السلام أيضاً : « عليكم في طلب الحوائج بشراف النفوس ذوي الأصول الطيبة ، فإنها عندهم أقضى ، وهي لديهم أزكى » (1).

كما يقول في مورد آخر : « حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق » (2) فيستكشف عن حسن أخلاق الانسان شرافة طباع عائلته وكرم نفوسهم.

وكقاعدة عامة يمكن أن نقول : إنه يجب البحث عن الأفراد الشرفاء من بين العوائل الشريفة والعريقة ، فالأسر التي عرفت طوال سنين متمادية بالطهارة والتقوى ، والتي خرجت من جميع الامتحانات في الحياة بنجاح باهر ، لا بد وأن يبرز من بينها رجال شجعان يجاهدون في الصفوف الأولى دائماً (3) ، وكرام يمدون يد المعونة إلى الفقراء في أوقات الأزمة ، ويقدمون ثروتهم بكل خلوص وارتياح للمحتاجين ، فيسلون بذلك قلوب المصابين ويكونون آباء عطوفين لليتامى ، تملأ قلوبهم الرحمة والشفقة والخير والمحبة الناس.

الأسر المنحطة :

وعلى العكس من أولئك نجد الأسر المنحطة التي لا تفهم معنى للشجاعة ، ولا توجد كلمة الكرم والعفو في قواميسهم ، والذين لا يفكرون في شيء غير شهواتهم الدنيئة وأغراضهم الشخصية ، تملأ قلوبهم الأنانية والاثرة ، ولا يخلفون إلا أولاداً سافلين منحطين.

ولهذا نجد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يحذر المسلمين - في موضوع الزواج - من اختيار الزوجة التي تنتمي إلى أسر منحطة سافلة مهما كانت جميلة فيقول : « إياكم وخضراء الدمن.

ص: 65


1- المصدر السابق ص 214 طبعة النجف الأشرف.
2- المصدر السابق ص 167 طبعة النجف الأشرف.
3- يتضح هذا جلياً في اختيار الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) لفاطمة الكلابية ( أم البنين ) بعد وفاة ابنة عمه الصديقة الزهراء ، إذ قال (عليه السلام) لأخيه عقيل - وكان عارفاً بالأنساب - : « أخطب لي امرأة ولدتها الفحولة من العرب لأرزق منها ولداً يكون عوناً لولدي الحسين يوم عاشوراء ... الخ » فإن الإمام ينظر إلى شجاعة الأسرة التي يريد أن يخطب منها زوجته لتنجب له ولداً شجاعاً.

قيل : يا رسول اللّه وما خضراء الدمن؟ قال : المرآة الحسناء في منبت سوء » (1).

ومن خلال العهد الذي بعث به الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر النخعي ( رض ) حينما جعله والياً على مصر ، والذي يعتبر أحسن العهود من نوعه ... نجد فقرات عديدة تشعر الاهتمام بأصالة النسب ، كما في وصيته باختيار الأصحاب من العوائل الشريفة ، وذلك قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :

« ثم الصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة والسماحة ، فإنهم جماع من الكرم ، وشعب من العرف » (2)

إختيار الموظفين الأكفاء :

ولنستمع إليه (عليه السلام) يقرر لابن الأشتر كيفية إنتخاب الموظفين الأكفاء ، ومراعاة الشروط الدقيقة في توليتم المناصب والمهمات : « وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام المتقدمة ، فإنهم أكرم أخلاقاً ، وأصح أعراضاً ، وأقل في المطامع إشرافاً وأبلغ في عواقب الأمور نظراً ». (3)

فيشترط في الموظف الذي يقلد أمور الادارة أن يكون عفيفاً منتمياً إلى عشيرة شريفة وأسرة عريقة في الاسلام والتدين ، لما في ذلك من مصالح عظيمة ، ودرء لمخاطر كثيرة ، فهؤلاء يؤدون واجباتهم بإخلاص ، لا يرتشون ولا يستغلون مناصبهم لاطماعهم وغاياتهم الشخصية.

* * *

يستفاد من مجموع البحوث السابقة : أن الطفل في رحم أمه يكون خلاصة

ص: 66


1- بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 23 54. وخضراء الدمن عبارة عن الخضرة التي تنشأ من أنبات بعض الحشائش على قطعة من الأرض مليئة بالروث فيتراءى للناظر أنها أعشاب طيبة الرائحة ، لكن النظر إلى أصول هذه الحشائش يكشف للناظر وجود الروث تحتها. فالمرأة الحسناء التي تنتمي إلى أسرة منحطة شأنها شأن هذه الحشائش التي ظاهرها جميل وباطنها خبيث.
2- نهج البلاغة شرح محمد عبده ج 3 101 ، طبعة المكتبة التجارية.
3- نهج البلاغة شرح محمد عبده ج 3 105.

لمجموعة من الصفات الظاهرية والمعنوية لآبائه وأجداده القريبين والبعيدين ، وهناك عشرات العوامل المختلفة ( الوراثية والطفرة ) تؤثر فيهم آثاراً صغيرة أو كبيرة ، مفيدة أو مضرة. فإذا كانت هذه العوامل كلها صالحة محبذة وكانت نتائجها حسنة ومفيدة فذلك معنى سعادة الطفل في بطن أمه. أما إذا كانت العوامل - كلها أو بعضها - فاسدة وسيئة فيعتبر الطفل شقياً في بطن أمه بنفس النسبة من فساد العوامل.

قد يتأثر الطفل ببعض الصفات - وهو في بطن أمه - كالجنون والحمق والعمى والشلل والصرع والتصاق التوأمين برأس واحد أو بدن واحد ، وعشرات غيرها من الانحرافات الأخرى ، فمن البديهي حينئذ أن يكون الطفل شقياً وهو في بطن أمه.

1 - قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « الشقي من شقى في بطن أمه ، والسعيد من سعد في بطن أمه » (1).

2 - وفي حديث آخر : « الشقي شقي في بطن أمه ، والسعيد سعيد في بطن أمه » (2)

3 - وكذلك ورد عنه (عليه السلام) : « الشقي من شقى في بطن أمه » (3)

ولكي يمنع الاسلام من حدوث أولاد أشقياء وأجيال فاسدة وناقصة وضع تعاليم دقيقة وسلك أوضح السبل لالزام اتباعه بالعمل بها ، فوضع أصول التربية الاسلامية الدقيقة التي تعدل من سلوك الأفراد ، فيمنع ذلك من ظهور الصفات الرذيلة في أعقابهم. وكذلك نجد قوانين الأمم المتحضرة اليوم تهتم بهذا الموضوع فوضعت قوانين لم تتعد دائرة الوضع والتقنين ولم تصل إلى حيز التنفيذ. وعلى سبيل الاستطراد نستعرض بعض التعاليم الاسلامية بهذا الصدد باختصار :

ص: 67


1- بحار الأنوار للمجلسي ج 3 44.
2- المصدر السابق ج 3 43.
3- تفسير روح البيان ج 1 104. إلى هذه الأحاديث وأشبهها يستند القائلون بالجبر ، بحجة أن اللّه هو الذي يقدر السعادة والشقاء للانسان وهو في بطن أمه. ولكن اتضح الرد على هذه الشبهة من تفسيرنا السعادة والشقاء بمعناهما الشامل لكل وجوه الخير والصلاح والراحة ، أو جميع أصناف الشر والضيق والقلق لا خصوص الإيمان والكفر. ولقد أجبنا عن شبهة الجبر بالتفصيل في كتابنا ( دفاع عن العقيدة ).

الجنون :

الجنون من الصفات الخطرة التي تنتقل بالوراثة من الآباء إلى الأبناء. إن الأبوين المصابين بالجنون لا ينتجان إلا مجانين ، وهذا هو قانون طبيعي غير قابل للتبديل ، والمولود المجنون ليس شقياً لنفسه فحسب بل يسبب شقاوة المجتمع أيضاً.

ومن خلال النص التالي يتضح مدى اهتمام الاسلام بهذا الموضوع فعن الامام الباقر (عليه السلام) : أنه « سأله بعض أصحابنا عن الرجل المسلم تعجبه المرأة الحسناء ، أيصلح له أن يتزوجها وهي مجنونة؟ قال : لا ، ولكن إن كانت عنده أمة مجنونة فلا بأس بأن يطأها ولا يطلب ولدها » (1) يستنتج من هذا الحديث؟ اهتمام الاسلام بالسلامة العقلية للمجتمع ، فهو لا يرضى للمسلم بأن يتزوج مجنونة وإن كانت جميلة ، لأن ذلك يؤدي إلى إكثار المجانين في المجتمع.

لقد قرر الاسلام تسهيلات قانونية لفسخ الزواج في بعض الموارد ومن تلك الموارد : الجنون ، فإذا تزوجت المرأة من رجل ظناً منها بأنه فرد عاقل ثم انكشف لها جنونه فلها الحق في أن تفسخ عقد الزواج بنفسها من دون حاجة إلى القيود الموجودة في الطلاق ، وكذلك الرجل بالنسبة إلى زوجته المجنونة.

وهذا القانون مضافاً إلى أنه يحرر كلاً من الرجل والمرأة من القيود والأضرار الناشئة من جنون شريكته ( أو شريكها ) في الحياة ، يضع حداً فاصلاً دون إزدياد أفراد مصابين بالجنون في المجتمع.

الحمق والبلادة :

وكذلك الحمق والبلادة والبلادة والبله فأنها تنتقل من الآباء والأمهات إلى الأبناء ، الأمر الذي يسبب أقسى أنواع شقاء المجتمع ، فالفرد الأحمق يظل طوالي سني عمره

ص: 68


1- وسائل الشيعة للحر العاملي ج 5 10. ويظهر من التفريق الذي ورد في الحديث ، بين الزوجة والأمة : أن الإسلام يركز اهتمامه في منع التزوج من المجنونة إلى منع ظهور مجانين جدد ، ولذلك سمح للرجل بأن يشبع رغبته الجنسية مع جاريته ، لأن الجارية لا يراد منها الانجاب في الغالب بل يتخذ معها وسائل منع الحمل.

أسيراً للحرمان العقلي وعدم النضج الفكري مما يسبب للأمة مشاكل عديدة.

ولقد توصل العلم الحديث ، بعد التجارب العديدة والاحصائيات الدقيقة إلى خطر هذا النوع من الزواج ، ولذلك أخذ العلماء يحذرون الناس منه :

« يجب أن يعلم كل فرد أن التزوج من الأسر المصابة بالجنون أو الحمق أو البلادة ، أو الإدمان على الخمرة يؤدي إلى تحطيم كيان المجتمع وهدم قانون التكاثر والتناسل ، مما يجر معه سلسلة من المعايب والجرائم التي لا تحمد عقباها » (1)

لقد نظر منقذ البشرية العظيم بعين الوحي النافذة إلى الحقائق إلى هذا الموضوع ، وأدرك أخطاره فحذر المسلمين منه ولذا نرى الامام الصادق علیه السلام يروي عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « إياكم وتزوج الحمقاء ، فأن صحبتها بلاء وولدها ضياع » (2). وأحسن تعبير عن الأولاد الناتجين من آباء أو أمهات مصابين بالحمق هو الضياع.

« لقد لاحظ ( كدار ) في إحصائياته الدقيقة التي أجراها على الأسر التي كان آباؤها أو أمهاتها مصابين بضعف العقل وجود (470) طفلاً ضعيفي العقل منهم و (6) فقط سالمين وبديهي أن إيجاد جيل منحط ومجرم وأبله يعد خيانة كبيرة » (3) .

شرب الخمر :

لقد انتشر شرب الخمر في كثير من دول العالم ، وتكبلوا بهذا الداء الوبيل وأسراره. هذا السم الفاتك لا يكتفي بتوجيه ضربات قاسية إلى المدمنين عليه فقط ، بل يتعداهم إلى أطفالهم البريئين ويجعلهم يرزحون تحت كابوس الأمراض والعوارض المختلفة. تترك الخمرة آثاراً سيئة على أجسام المدمنين عليها ، ومن تأثيراتها فيهم إيجاد اختلالات في خلايا المخ والأعصاب مما تجعلهم أناساً غير اعتياديين ، ومما يبعث على الأسف أن هذا الاختلال ينتقل إلى أولادهم ، والنطف

ص: 69


1- راه ورسم زندكى ترجمة برويز دبيري ص 91.
2- الجعفريات ص 92.
3- راه ورسم زندكى ص 74.

الحادثة من أناس مأسورين للخمرة تنتج أطفالاً منحرفين وغير اعتياديين في سلوكهم وتفكيرهم. إن قسماً كبيراً من المجانين الذين يقضون حياتهم في ( مستشفيات المجانين ) يئنون من ويلات إنحراف آبائهم :

« إن قلة الذكاء وإختلال القوة العاقلة تنشأ من المشروبات الروحية والسلوك الافراطي في جميع جوانب الحياة ، إنه لا ريب في وجود رابطة قوية بين استعمال المشروبات الروحية والضعف العقلي في مجتمع ما. ومن بين الدول المتقدمة علمياً وصناعياً نجد فرنسا أكثرها استعمالاً للخمرة في حين أنها أقل تلك الدول حصولاً على جوائز نوبل »(1).

لقد عرف الاسلام جميع العوارض والويلات الناشئة من الخمرة ، ونظر نظرته الثاقبة إلى آثارها السيئة في المدمنين عليها وفي أولادهم ، فلم يكتف بتحريم عصرها والتعامل بها وتعاطيها على المسلمين من الجهة القانونية فقط ، بل منع من الاتصال الجنسي والتناكح مع شاربي الخمر بكل صراحة وهناك بعض الشواهد على ذلك :

1 - عن الامام الصادق (عليه السلام) : « من زوج كريمته من شارب خمر ، قد قطع رحمها » (2).

وبديهي أن يعتبر إنجاب أطفال مختلين ( بدنياً وعصبياً وروحياً ) قطعاً لرحم المرأة التي بامكانها أن تنجب أولاداً سالمين من غيره.

2 - وعن النبي الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « شارب الخمر لا يزوج إذا خطب » (3). وهناك العشرات من الروايات الواردة عن الأئمة المعصومين علیهم السلام في هذا الموضوع ، ولكن أشدها تحذيراً وأعظمها توبيخاً ما إذا حصل الاتصال الجنسي في حالة السكر ، كما يتضح ذلك من الحديث الآتي :

3 - عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال : « أيما امرأة أطاعت زوجها وهو شارب

ص: 70


1- المصدر السابق ص 12.
2- وسائل الشعية للحر العاملي ج 5 9.
3- المصدر نفسه.

الخمر ، كان لها من الخطايا بعدد نجوم السماء ، وكل مولود يلد منه فهو نجس ، ولا يقبل اللّه منها صرفاً ولا عدلاً حتى يموت زوجها ، أو تخلع عنه نفسها » (1)

وإليك نصاً لأحد علماء الغرب بهذا الصدد : -

« يقول الدكتور كاريل : إن سكر الزوج أو الزوجة حين الاتصال الجنسي بينهما يعتبر جريمة عظيمة ، لأن الأطفال الذين ينشأون في ظروف كهذه يشكون في الغالب من عوارض عصبية ونفسية غير قابلة للعلاج » (2)

تعقيم المجانين الخمريين :

رأينا فيما مضى كيف الاسلام العلاج الحاسم في منع التزوج بالأفراد المصابين بالجنون الخمرة. ولقد عمل العلماء اليوم في التأكيد على منع هذا النوع من الزواج كثيراً حتى إنه يوجد في بعض الولايات الأمريكية قانون خاص بشأن تطهير النسل. بموجب ذلك القانون تجري عمليات للأولاد والبنات الذين أصيبوا بالجنون نتيجة إفراطهم في شرب الخمر لاخصائهم وإحالتهم على العقم الدائمي لمنع إنجابهم.

هذا وليست العوامل الباعثة على النواقص البدنية والنفسية للطفل في رحم أمه مقتصرة على هذه الأمور المختصرة ، فهناك عوامل عديدة أخرى لا تزال مجهولة للعلماء لحد الآن في حين أن لها تأثيراً في وضع الطفل في رحم الأم ، وموجدة لعيوب ونواقص أو باعثة على ظهور حسنات وفضائل فيهم.

فكثيراً ما يتفق وجود أولاد ناقصين ومختلفين عصبياً وعقلياً في حين أن آبائهم وأمهاتهم لم يكونوا معتادين على المشروبات الروحية وغيرها ، وعلى العكس فقد يصادف ظهور أفراد عصاميين أذكياء من أسر حقيرة في المجتمع :

« ولكن نظراً لأن البشر ليسوا من أصل نفي فانه ليس في الامكان

ص: 71


1- لآلىء الأخبار ص 267.
2- راه زندكى تأليف الكسيس كارل ترجمة ب دبيري ص 91.

التكهن بحالة النسل الذي نيشأ من زواج معين. ومع ذلك ، فأنه من المعروف أن الأطفال الذين يولدون في أسرات مكونة من أفراد متفوقين يكونون في الغالب أكثر تفوقاً من الأطفال الذين يولدون في أسرت أدنى مرتبة ... ونظراً للمصادفات التي تحدث في اتحادات النويات فقد يشمل أحفاد الرجل العظيم على أفراد متوسطين ، كما قد يولد رجل عظيم لأسرة خاملة مغمورة » (1).

تأثير العوامل الجوية :

يستفاد من تحذير أئمة الاسلام (عليه السلام) في بعض الروايات عن قسم من الحوادث الجوية حين إنعقاد النطفة ، كالزلزال والطوفان ومقابلة قرص الشمس وما شاكل ذلك ، وكذلك منع الحمل من بعض الأطعمة ، أن لذلك كله تأثيراً في إيجاد آثار مرضية أو غير مرضية في الأطفال.

المصير :

وهنا نقطة مهمة يجب الالتفات إليها ، وهي أن السعادة والشقاء اللتان تصيبان الطفل في رحم الأم ، على نوعين : فقسم منها يكون قضاء حتمياً لا يقبل التبديل. فهذا النوع يلازم الطفل حتى نهاية حياته ، ومن هذا القسم : الجنون والعمى المتأصل. وقسم اخر يكون الرحم بالنسبة إليه كتربة مساعدة فقط وحينئذ يكون بقاء تلك السعادات أو الشقاوات دائراً مدار الظروف التي تساعد على نموها.

إن القاعدة العامة للوراثة تقتضي أن ينجب الآباء المؤمنون والأمهات العفيفات أولاداً طيبين ، فهؤلاء يمكن أن يحرزوا السعادة في أرحام أمهاتهم فلا توجد في سلوكهم عوامل الانحراف الموروثة. إلا أننا لا نستطيع الحكم على هؤلاء بأن ينموا وينشأوا ويعيشوا إلى الأبد كذلك إذا قد يصادفون بيئة فاسدة تعمل على انحرافهم وتغيير سلوكهم وسجاياهم الموروثة وقلبها رأساً على عقب ، وأخيراً نجد هذا الطفل الذي كان سعيداً في بطن أمه يعد في صفوف الأشقياء ويصير جرثومة للفساد والمجون والاستهتار.

ص: 72


1- الانسان ذلك المجهول ص 196.

وهكذا الطفل المولود من آباء وأمهات لا يعرفون عن الإيمان شيئأً فانه يعتبر شقياً في رحم أمه - تبعاً لقانون الوراثة - لكن قد يصادف بيئة صالحة وتربية جذرية تعمل على استئصال العوامل الشريرة من داخل نفسه وأخيراً يكون من الأتقياء المؤمنين والأفراد الصالحين في المجتمع.

ولهذا نجد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يصرح : « السعيد قد يشقى ، والشقي قد يسعد » (1).

وقد ورد عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال : « السعيد من وعظ بغيره والشقي من انخدع لهواه وغروره » (2).

وبصورة موجزة نقول : إن السعادة تحصل للانسان من مجموعة عوامل طبيعية ( وراثية ) وتربوية. وكذلك الشقاء ... ولقد أوضح الامام الصادق (عليه السلام) هذا المبدأ في عبارة مختصرة فقال : « إن حقيقة السعادة أن يختتم للمرء عمله بالسعادة. وإن حقيقة الشقاء أن يختتم للمرء عمله بالشقاء » (3).

إن هذه الرواية تدلنا على حقيقة واضحة ، هي أنه يجب الاحاطة بجيمع العوامل الوراثية والتربوية للفرد ، والنظر إلى نتيجة تفاعلاتها ثم الحكم عليه بالسعادة أو الشقاء.

هذا ، وسنبحث في المحاضرة القادمة ، العلة في اعتبار رحم الأم ملاكاً لسعادة الجنين دون صلب الأب في الروايات ، موضحين - إن شاء اللّه - دور الأم في بناء الطفل.

ص: 73


1- تفسير روح البيان ج 1 104.
2- نهج البلاغة ج 1 149.
3- معني الأخبار ص 345.

المحاضرة الرابعة: دور الأم في بناء الطفل - النمو الناقص في أثناء الحمل

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه العظيم : « ... والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ، ويوم ابعث حيا » (1).

كان بحثنا في المحاضرة الماضية يدور حول مصدر السعادة والشقاء ، والعوامل التي تؤدي إلى حصول الطفل عليها في رحم أمه. لقد أثبتنا - بالأدلة والشواهد - مدى تأثير الرحم في سلوك الفرد ، وقلنا : إن تلك التأثيرات الناتجة في السلوك يرجع شطر منها إلى دور الجنين في الرحم. والشطر الآخر إلى فن التربية والبيئة التي يعيش فيها الإنسان.

أما بحثنا في هذه المحاضرة فيدور حول نقطتين : -

(1) العلة في جعل الملاك في سعادة الأطفال وشقائهم في الروايات رحم الأم بالذات من دون يجري ذكر لصلب الأب.

(2) النواقص والعوارض التي تعتري الجنين في رحم الأم من دون سابقة.

أما بالنسبة إلى النقطة الأولى من البحث. فأننا نرى أن بذور الورد تبذر في جوف تربة الأصيص ، وبعد مرور مدة من الزمن تنبت البذرة بصورة سويق صغير يشق سطح التربة ، وينمو تدريجياً ويأخذ بالتفريع والإزهار. إن بذرة الورد تعتبر الخلية التناسلية الكاملة ، وتخزن في باطنها جميع الذخائر اللازمة لانبات نبتة جديدة. ولا يشكل الأصيص سوى المحيط الذي تنمو فيه النبتة والبيئة التي تعيش فيها.

ص: 74


1- سورة مريم 33.

الخلية التناسلية الكاملة :

صحيح أن رحم المرأة يكون بالنسبة إلى نطفة الرجل كالأصيص بالنسبة إلى البذرة. إلا أن الأمر يختلف تماماً في موضوع تكوين الخلية التناسلية ، إذ ليست نطفة الرجل هي الخلية التناسلية الكاملة - كما كانت البذرة - وكذلك الرحم الأم يتحمل في المرحلة الأولى نصف مسؤولية عملية التلقيح ، ثم ينفرد في أنه يتحمل مسؤولية الاحتفاظ بالنطفة لمدة تسعة أشهر كاملة في داخله حتى يصنع إنساناً كاملاً.

ولهذا ورد في القرآن الكريم : «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ» (1). أي أننا خلقناه من نطفة مركبة وممزوجة من الرجل والمرأة كليهما.

« إن خلايا الخصية تفرز من غير توقف ، وخلايا الحياة كلها ، حيوانات ميكروسكوبية وهبت لها حركات نشيطة للغاية ، هي الحيوانات المنوية. وهذه الحيوانات تسبح في المخاط الذي يغطي المهبل من الرحم ، وتقابل البويضة على سطح الغشاء المخاطي الرحمي ...

وتنتج البويضة من النضج البطيء لخلايا المبيض الجرثومية. ويوجد نحو 300000 بويضة في مبيض الفتاة وتبلغ نحو اربعمائة منها فقط درجة النضج ، وفي وقت الحيض ينفجر الكيس المشتمل على البويضة. ثم تبرز البويضة فوق غشاء ( بوق فالوب ) ، فتنقلها السيليا ( الأهداب ) المتحركة للغشاء إلى داخل الرحمن وتكون نواتها قد تعرضت في تلك الأثناء لتغير هام. ذلك أنها تكون قد قذفت بنصف مادتها ... وبعبارة أخرى بنصف كل ( كروموسوم ). وحينئذ يخترق الحيوان المنوي سطح البويضة وتتحد كروموسوماته التي تكون فقدت أيضا نصف مادتها ، بكروموسومات البويضة. وهكذا يولد مخلوق جديد » (2).

ص: 75


1- سورة الدهر 2.
2- الانسان ذلك المجهول تأليف الدكتور الكسيس كارل تعريف عادل شفيق ص 78.

منشأ ظهور الطفل :

يستفاد من هذه الفقر أمران : الأول - أن نطفة الرجل تتحد بنطفة المرأة ، ويحصل من اتحاد نصف خلية الرجل ونصف خلية المرأة ( الخلية التناسلية الكاملة ) التي هي العامل الأول في ظهور الطفل والثاني - أن بويضة المرأة عندما تقابل سيل الحيامن الذكرية ، إنما تتلقح بواحدة منها فقط ، أما البواقي فتندثر.

« حينما يقذف الرجل بالسائل المنوي إلى الخارج فإنه يكون حليبي اللون - وبحجم 3 سم 3 ، يوجد في كل سانتيمتر مكعب منه من 100 إلى 200 مليون حيمن ».

« إن الحيامن المنوية قادرة على الاحتفاظ بقابليتها على التلقيح لمدة 48 ساعة بعد الخروج من الرجل. وذلك في وسط قلوي ( قاعدي ) وتحت درجة حرارة 37 مئوية ... » (1)

لم يكن بإمكان البشر قبل أربعة عشر قرنا أن يتصوروا أن منشأ ظهور الانسان هو موجود صغير وضئيل يوجد منه في نطفة الرجل مئات الملايين في كل مرة. وهذه الذرة الصغير كافية في أن تلقح إمرأة. ومع ذلك فقد صرح القرآن الكريم بهذه القيقة منذ ذلك الحين حيث قال اللّه تعالى : «ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ» (2). أي أن اللّه جعل نسل الانسان من خلاصة ماء حقير وضعيف ، فليس العامل في إبقاء نسل الانسان هو هذا الماء الحقير الذي يخرج منه كله بل جزء منه ، وهو خلاصته ( سلالته ).

ويتضح تنبه الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى هذه الحقيقة من خلال الفقرة التالية:

« جاء رجل إلى علي علیه السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين كنت أعزل عن امرأتي ، وإنها جاءت بولد. فقال علي علیه السلام : - وأناشدك اللّه هل وطأتها ثم عاودتها قبل أن تبول؟ قلا : نعم. قال : فالولد لك ... » (3).

ص: 76


1- هرمونها ... ص 29.
2- سورة السجدة 7.
3- بحار الأنوار للمجلسي ج 23 107.

من هذه الجملة ، يعلم أن الرجل كان يعز ( يقذف السائل المنوي خارج مهبل زوجته ) لمنع الحمل ، ومع ذلك فقد حدث أن حملت المرأة فأدى الأمر إلى أن يشك الرجل في زوجته فجاء يسأل علياً (عليه السلام) وإلا فانه لم يكن يرضى بأن يفشي سره. فنجد الامام (عليه السلام) حين يسمع بالقصة يسأله هل اتفق له أن جامع زوجته مرتين من دون أن يبول في الأثناء ، فأجابه بوقوع ذلك ، فصرح الامام بأن الولد له.

والسر في ذلك واضح ، لأنه علیه السلام كان يعلم أن ذرة صغيرة من النطفة كافية لأن تلقح بويضة المرأة فتحمل ، فبما أن الرجل جامع زوجته في المرة الأولى ثم قذف السائل خارجاً وبقي مدة لم يبل فيها فبقيت الحيامن في المجرى ، وحين جامعها للمرة الثانية خرجت إحدى تلك الحيامن ولقحت المرأة من دون أن يشعر ، وبالرغم من أنه قذف السائل خارجاً في المرة الثانية إلا أن الحيامن المتبقية في المجرى كانت قادرة على الاحتفاظ بنشاطها لمدة 48 ساعة وكذلك فعلت.

* * *

وبالرغم من أن الأب والأم كليهما يشتركان في صنع الخلية الأولى للطفل ويتساوى دورهما فيه - ولهذا نجد أن الأطفال يكتسبون بعض صفاتهم من آبائهم وبعضها من أمهاتهم - لكن الرحم هو الذي يصنع الطفل ويخرج تلك الذرة الصغيرة بصورة إنسان كامل. وإن جميع الاستعدادات التي كانت كامنة في تلك الخلية الأولية تظهر إلى عالم الفعلية في رحم الأم. إذن فالمقدرات التفصيلية للطفل من الصلاح والفساد ، والجمال والقبح ، والمواقص والكمالات ، الظاهرية والباطنية كلها تخطط في الرحم.

المرحلة الأخيرة للتكوين :

هناك مئات التفاعلات والتأثيرات الاختيارية والاتفاقية تمر في طريق أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ، وتؤثر في الأطفال بصورة خفية حيث تظهر نتائجها جميعاً في الرحم. والرحم هو آخر مراحل التأثيرات المختلفة الطارئة على تكوين الطفل ، وعند عبوره هذه المرحلة يبدأ الحياة على الأرض. إذن فالسعادة والشقاء التكوينيين للانسان يجب البحث عنهما في آخر المراحل وهو رحم الأم. ولهذا نجد الرسول

ص: 77

الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (عليه السلام) بالرغم من عنايتهم الشديدة بالتأثير المشترك لأصلاب الآباء وأرحام الأمهات حول سعادة الطفل وشقائه يوجهون جل إهتمامهم إلى رحم الأم فيقولون : « السعيد سعيد في بطن أمه ، والشقي شقي في بطن أمه » (1)

أثر غذاء الأم في الجنين :

هذا هو جواب السؤال الذي بدأنا به الحديث ، وهو أنه لماذا اعتبرت الروايات رحم الأم هو الملاك في السعادة والشقاء ، وأغفلت ذكر صلب الأب؟.

إنه لا مندوحة لنا من القول بأن دور الأم في بناء الطفل يفوق دور الأب بكثير. نعم لو اكتفينا بملاحظة دور الأب والأم في تلقيح البويضة بواسطة الحيمن لايجاد الخلية الأولى للطفل لكانا متساويين في ذلك الدور ، إلا أن الواقع أن الأم تتحمل في دور الحمل مسؤولية كبيرة وبالخصوص فيما يتعلق بأسلوب تغذي الأم ونوعه.

إن دور الأباء في البناء الطبيعي للطفل ينتهي بعد انعقاد النطفة وحصول التلقيح ، لكن دور الأم يستمر طيلة أيام الحمل ، فالطفل يتغذي من الأم ، ويأخذ منها جميع ما يحتاجه في بنائه. ولهذا فإن لسلامة الأم ومرضها ، طهارتها ورذالتها ، سكرها وجنونها ... أثراً مباشراً في الجنين :

« إن الأب والأم يساهمان بقدر متساو في تكوين نواة البويضة التي تولد كل خلية من خلايا الجسم الجديد ولكن الأم تهب علاوة على نصف المادة النووية كل البروتويلازم المحيط بالنواة ، وهكذا تلعب دوراً أهم من دور الأب في تكوين الجنين » (2)

« إن دور الرجل في التناسل قصير الأمد. أما دور المرأة فيطول إلى تسعة أشهر. وفي خلال هذه الفترة يغذى الجنين بمواد كيمياوية ترشح من دم الأم من خلال أغشية الخلاص »(3)

ص: 78


1- مر تخريج الحديث بألفاظ متعددة وطرق مختلفة في الفصل السابق ( السعادة والشقاء في رحم الأم )
2- الانسان ذلك المجهول ص 79.
3- الانسان ذلك المجهول ص 79.

إن الطفل أشبه ما يكون بعضو من أعضاء الأم تماماً ، عندما يكون في بطنها. وجميع العوامل التي تؤثر في جسد الأم وروحها تؤثر في الطفل أيضاً. إذا ابتلي أب - بعد انعقاد النطفة - بشرب الخمرة أو العوارض الأخرى فانها لا تؤثر في الطفل ، لأن صلة الطفل بأبيه إنما تكون ثابتة إلى حين انعقاد النطفة فقط ، لكن صلة الأم تستمر لمدة تسعة أشهر ، وعليه فإذا أقدمت الأم - في أيام الحمل - على شرب الخمر فإن الجنين يسكر ويتسمم أيضاً.

إن أحد أسباب سلامة هيكل الطفل ورشاقة قوامه ، أو عدمها في أيام الحمل يتعلق بالغذاء الذي تتناوله الأم وهي حامل. وكذلك الغذاء الذي كان يتناوله الأب قبل انعقاد النطفة.

« إذا كانت نطفة الأب مسمومة حين الاتصال الجنسي فإن الجنين يوجد ناقصاً وعليلاً ، وهذا التسمم ينشأ من تناول الأطعمة الفاسدة ، أو معاقرة الخمرة. إذن يجب الاجتناب عن الاتصال الجنسي حين التسمم والسكر بالخصوص » (1)

«يجب أن يكون الطعام الذي يتناوله الانسان في الليلة التي يقصد فيها الاتصال الجنسي للتكاثر كاملاً حاوياً لفيتامين (A) بالخصوص» (2)

« لقد قام أحد الأطباء الحاذقين في أوربا بجمع إحصائيات دقيقة للنطف التي تنعقد في ليلة رأس السنة المسيحية فوجد أن 80% من الأطفال المتولدين من تلك النطف ناقصوا الخلقة وذلك لأن المسيحيين في هذه الليلة يقيمون أفراحاً عظيمة وينصرفون إلى العرش الرغيد والافراط في الأكل والشرب ويكثرون غالباً من تناول الخمرة إلى حد يجرهم إلى المرض. وبما أن المطاعم وحانات الخمور تستقبل أكبر كمية من الزبائن في هذه الليلة فإنه يتعذر على أصحابها أن يطعموهم الأطعمة السالمة تماماً ويتموا بشأنها كغيرها من ليالي السنة » (3) « يصاب بعض الأطفال في الأيام الأولى

ص: 79


1- إعجاز خوراكيها ، تأليف سيد غياث الدين الجزائري ص 153.
2- المصدر السابق ص 154.
3- المصدر السابق ص 154.

من أعمارهم بقروح وجروح تسمى ( أكزما الأطفال ) وهذه القروح لا تزول إلا بعد أن تعذب الوالدين لمدة طويلة ، وهي ناتجة من سوء تغذي الأمهات في أيام الحمل. فإن الأم لو اكثرت في أيام الحمل من أكل التوابل والأطعمة الحارة كالخردل والدارسين وما شاكل ذلك فالطفل يصاب بالأكزما » (1).

« إن الفواكه والخضروات التي تحتوي فيتامين ( B ) تعتبر العلاج القطعي للكنة اللسان. والأم التي تتناول من هذا الفيتامين أيام حملها ، فإن جنينها يأخذ بالتكلم مبكراً ولا يصاب باللكنة » (2).

« إن المشروبات الروحية تعتبر خطة جداً للحوامل لأنها بغض النظر عن التسمم الذي توجده ، تهدم الفيتامينات التي تحتاجها الأم والجنين أيام الحمل ، فينشأ الطفل ناقصاً ومشوهاً » (3).

« إن تناول الأطعمة الفاسدة واللحوم بالخصوص - حيث تؤدي إلى التسمم - يجعل لون الجنين داكناً مائلاً إلى الاصفرار » (4).

الغذاء والجمال :

يرى العلم الحديث أن للأطعمة تأثيراً خاصاً في صباحة وجه الأطفال ورشاقة قوامهم ولون شعرهم وعيونهم ، وفي كل مظاهرهم. وكذلك الرويات والأحاديث فأنها لم تغفل شأن الاشارة إلى أثر الأطعمة والفواكه والخضروات والبقول ، فورد في بعضها الارشاد إلى استعمال أنواع خاصة منها للحامل : « عن الصادق علیه السلام ، نظر إلى غلام جميل ، فقال : ينبغي أن يكون أبو هذا أكل سفرجلاً ليلة الجماع » (5).

وهناك حديث آخر بشأن السفرجل : « ... وأطعموه حبالاكم فإنه يحسن

ص: 80


1- المصدر نفسه ص 175.
2- إعجاز خوراكيها ص 176.
3- المصدر السابق ص 177.
4- المصدر السابق ص 168.
5- مكارم الأخلاق ص 88.

أولادكم (1) وعن النبي صلی اللّه علیه و آله أنه قال : « أطعموا المرأة في شهرها الذي تلد فيه التمر ، فإن ولدها يكون حليماً تقياً » (2).

الحوادث غير المتوقعة :

يخضع الطفل في أيام الحمل لتأثيرات أمه ، وإن جميع الحوادث التي تقع للأبوين تؤثر فيه ، ويصنع الطفل بموجبها. فقد يصادف أن تقع بعض العوامل في أيام الحمل فتؤدي إلى سعادة الطفل. وقد يكون العكس حيث تؤدي إلى شقائه أو سقوطه وانعدام حياته تماماً.

لنتصور مسافراً يركب سيارة ويقصد منطقة نائية جداً بحيث يطول سفره تسعة أشهر فهناك العديد من المخاطر في طريقه ، فمن المحتمل في كل لحظة أن يقع في هوة سحيقة ، أو واد عميق أو تصطدم سيارته بجبل ، أو لحظة أن يقع في هوة سحيثة ، أو واد عميق أو تصطدم سيارته بجبل ، أو يقذف إلى نهر ، أو تكسر يده ، أو يجرح بدنه ، وقد يصادف أن يطوي 99% من مجموع المسافة ، ويبقى له 1% فقط فتصادفه عقبة كأداء أو حادثة سيئة في ذلك الجزء الأخير ، فلا يمكن التأكد من وصول المسافر إلى مقصده بسلام إلا بعد أن يترك السيارة ويتجه إلى منزله الأخير.

وهكذا النطفة التي تنعقد في رحم الأم لأول لحظة ، فهي كالمسافر الذي استقل واسطة النقل ، وعليه أن يقطع المراحل الطبيعية طيلة تسعة أشهر. فهناك المئات من العراقيل والمخاطر تقع في طريقها. وفي كل لحظة يمكن أن تقع حادثة تؤدي إلى سقوط الجنين وموته ، أو تحدث فيه نقصاً وانحرافاً. وقد يصادف أن يقطع الجنين ثمانية أشهر من حياته بسلام ، وفي الشهر الأخير يصاب ببعض العوارض ، ولا يمكن القطع بسلامة الطفل وإجتيازه المراحل كلها ، وتولده سعيداً إلا بعد أن يتولد سالماً ، ويخرج إلى الدنيا الخارجية.

ولهذا فإن قسطاً كبيراً من النجاح الباهر الذي أحرزه بعض العظماء في العالم

ص: 81


1- مكارم الأخلاق ص 88.
2- المصدر السابق ص 86.

يرجع إلى ( طهارة المولد ) ، وكذلك الانتكاسات التي تحدث لبعض الأفراد فانها ترجع إلى انحرافات الدور الجنيني.

طهارة المولد :

إن القرآن الكريم يعبر عن رجلين من هؤلاء العظماء بطهارة المولد ( والسلام يوم الولادة ) وهما يحيى بن زكريا ، وعيسى بن مريم. يقول القرآن في حق يحيى : «وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ» (1). ويقول على لسان المسيح ابن مريم : «وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ» (2). والسلام بمعنى : عموم العافية. أي : الطهارة الكاملة للبدن والروح. وهذه الحقيقة أي طهارة المولد متساوية في حق جميع الرسل والأنبياء. والنكتة الأخرى التي يجب التنبه إليها هي : أن القرآن عبر عن السلامة في دور الرحم بسلامة يوم الولادة ، وذلك لأن السلامة في تمام ذلك الدور لا تعرف إلا بعد ولادة الطفل سالماً ، واجتيازه تلك المراحل كلها بنجاح حيث تنقطع صلته تماماً برحم أمه.

« كان علي بن الحسين علیه السلام إذا بشر بولد ، لم يسأل : أذكر هو أم أنثى؟ بل يقول : أسوي؟. فإذا كان سوياً قال : الحمد اللّه الذي لم يخلقه مشوهاً » (3).

ولا ريب فلسلامة المولد قيمتها ، إذ أنها هي السبب الأول في نشوه جيل مستو وخلق مجتمع فاضل تنتشر فيه روح السعادة والانسانية والصفاء.

مصدر السعادة والشقاء :

ينضح مما سبق مدى أهمية رحم الأم في سعادة الطفل وشقائه ، وكذلك اتضح السبب في عدم ذكر الروايات لأهمية أصلاب الآباء ، إذ أن الرحم هو مصدر السعادة والشقاء ، وفيه يتقرر مصير الإنسان وسلوكه بنسبة كبيرة. فبعض الأطفال يبتلى بقسم من العيوب والنواقص العضوية في ناحية أو أكثر من البدن ، ويولد مع تلك العيوب. وهناك بعض الأطفال نجدهم سالمين من حيث القوام البدني ، ولكنهم مصابون

ص: 82


1- سورة مريم 15.
2- سورة مريم 33.
3- مكارم الأخلاق ص 119 ط إيران.

ببعض الانحرافات والعوارض النفسية والروحية ، ولذلك فإن الشقاء قد لحق بهم وهم في بطون أمهاتهم.

إن الانحرافات البدنية والنفسية كثيرة. وهناك الكثير منها لا يزال مجهولاً لدى العلماء حتى اليوم. إلا أن قسمأً كبيراً من تلك العاهات يمكن الإتقاء منها إذا أحرزنا السلامة البدنية والنفسية للاباء والأمهات.

وإذ جر البحث إلى هذه العاهات التي تسبب ولادة الطفل شقياً ، لا بأس بذكر بعضها وتعداد أنواعها ، لمناسبتها للبحث من جهة ، ولفوائدها للمستمعين الكرام من جهة أخرى.

العاهات العضوية :

« 1 - بقاء الجدار الداخلي للبطن مفتوحاً ، وحينئذ يؤدي إلى خروج الأحشاء إلى الخارج ( خلف الجدار الخارجي ) وإيجاد إنتفاخ ظاهر ».

« 2 - الفتق السري الناشئ من عدم انسداد الحبل السري قبل الولادة ».

« 3 - عدم التحام جدار السرة وحصول شق في مقدم البطن إلى جهة الطحال ».

« 4 - عدم التحام القفص الصدري بعظم القص وفي هذه الصورة يكون القلب سطحياً وواقعاً خلف الجلد مباشرة. وفي بعض الأحيان نجد بقاء قسم من الرئتين خارج القفص الصدري » (1).

الوجه :

« 1 - شق الشفة ، وينشأ هذا العيب من عدم التصاق الأنسجة الرابطة بين أجزاء الفك أو الأنف. هذه العاهات قد تؤدي إلى ظهور أثر جرح ، أو كشق صغير على جانب واحد جانبين من الشفة ».

ص: 83


1- جنين شناسى ص 57.

« 2 - شق القحف : هذا الشق ينشأ من عدم اتصال الأنسجة بين عظام الجمجمة ».

« 3 - عدم إنسداد الفتحة الواصلة بين العين والأنف هذه الفتحة التي تبدأ من الجفن الأسفل للعين وتمتد إلى جهة الفم ، قد تبقى مفتوحة أحياناً ».

« 4 - إتساع فتحة الفم أكثر من المعتاد. وهو ناشئ من عدم إلتيام الأخدود الواصل بين أنسجة الفك الأعلى والأسفل ».

« 5 - وقد يؤدي توقف أنسجة الوجه عن النمو إلى ظهور العاهات وبعض الحفر في الوجه » (1).

الهندام :

« 1 - توقف بعض أجزاء الأطراف عن النمو ، وفي هذه الصورة قد نجد الأطراف ملتصقة بالجسد مباشرة من دون وجود الساعد أو الساق ».

« 2 - ظهور أطراف زائدة - كاملة أو ناقصة - وهذا التشويه ينشأ في الغالب من انقسام الأنسجة الأولية ».

« 3 - عدم التناسق في اتصال مفاصل الرجلين وفي هذه الصورة تكون الأصابع في خلف القدم والكعب في الجانب الأمامي » (2)

الجهاز الهضمي :

« 1 - إنسداد المريء ، وعلامته تقيؤ الطفل للحليب في اليوم الأول فور ارتضاعه ».

« 2 - ضيق فتحة المريء حيث يؤدي فيما بعد إلى مشاكل كثيرة في بلع الأطعمة الصلبة - غير السائلة - ».

ص: 84


1- جنين شناسى ص 71.
2- المصدر السابق ص 73.

« 3 - الضيق الناشئ قبل الولادة لفتحة فم المعدة ، والنمو غير الاعتيادي للعضلة التي تغلق هذه الفتحة ».

« 4 - إنسداد ثقب المخرج ، أو أدائه إلى غيره من الحفر كالمثانة ونحوها » (1).

هذه نماذج مختصرة للعاهات والنواقص التي تصيب جسم الطفل ، وهي كثيرة ، فجميع أجزاء البدن سواء الجهاز العظمي والجهاز التناسي والقلب والعروق الدموية والمخ والأعصاب خاضعة للتأثر بتلك العاهات ، وقد تكون خطرة جداً إلى درجة أنها تؤدي إلى نشوء رأسين على رقبة واحدة ، أو بدنين على ظهر واحد.

من قضاء الامام علي علیه السلام :

ولقد حدث مثل هذا الحادث في زمن الامام أمير المؤمنين علیه السلام إذ جاءته إمرأة ولدت من زوجها الشرعي طفلاً له بدنان ورأسان على حقو (2) واحد ، فتحيروا في حصته من الأرث ، هل يعطونه حصة واحدة أم حصتين ، فصاروا إلى أمير المؤمنين علیه السلام يسألونه عن ذلك ليعرفوا الحكم فيه ، فكان جواب الامام علیه السلام : « إعتبروا إذا نام ثم أنبهوا أحد البدنين والرأسين. فإن انتبها معاً في حالة واحدة فهما إنسان واحد. وإن استيقظ أحدهما والآخر نائم ، فهما إثنان وحقهما من الميراث حق إثنين » (3).

والسر في هذا القضاء العادل والحكم الدقيق واضح ، لأنه اعتبر ملاك الحكم هو المركز العصبي ، إذ عليه المعول في توجيه الانسان ، فإن كانت قيادة واحدة توجه البدنين والرأسين فهو شخص واحد. ولكن إذا كان يدير كل قسم جهاز عصبي

ص: 85


1- جنين شناسى ص 109 ، وكما ورد في كتب التواريخ فان الحجاج بن يوسف الثقفي كان مصاباً بهذه العاهة ، فقد كان فاقداً للدبر حين الولادة ، ثم ثقبوا له موضعه ( أنظر تتمة المنتهى ص 98 ).
2- ورد ( الحفو ) بمعنى سطح الجبل في بعض كتب اللغة ، والظاهر أنه يستعمل بمعنى ( الظهر ) أيضاً. كما تدل على ذلك القرينة في المقام.
3- بحار الأنوار للمجلسي ج 9 ص 485 الطبعة القديمة.

مستقل عن الآخر ، فهما بدنان ، وأحسن طريقة لمعرفة أن الجهاز العصبي الذي يدير الجسم في هذا الانسان واحد أو اثنين هو إيقاظه من النوم.

فكما أن الشخص الواحد تدار عيناه بواسطة جهاز واحد ، وهما يشبهان مصباحين مربوطين بزر واحد يشتعلان ويطفأ معاً ، فلا يمكن أن تكون إحدى العينين يقظة والأخرى نائمة ... كذلك الرأسان والعيون الأربعة ، فإن كانت تدار كلها بجهاز عصبي واحد ، فلا يمكن أن يكون أحد الرأسين بهدوء ، وبقي الثاني نائماً ، فيدل هذا على أن لهما دماغين مختلفين يصدران إرادتين متباينتين ، ويستجيبان لأثرين متضادين ، فكأنهما طفلان نائمان في فراش واحد متشابكان تماماً. ومع ذلك فيستيقظ أحدهما قبل الآخر.

وبالرغم من خفاء كثير من أسباب هذه الانحرافات على البشر ، فإن لنا أن نقطع بأن حدوث أي عيب في الخلية التناسلية الأولى يؤدي إلى أن يصير الطفل في وضع غير اعتيادي ، كما ثبت ذلك في بعض الحيوانات حين أجريت تجارب عديدة عليها.

« لقد استطاع شابري أن يوجد أجنة غير اعتيادية بإيجاد خدوش في الخلايا الأولية وقد نال هذا الابداع بالخصوص استحساناً بالغاً ، لأن إجراء الاختبارات على خلايا بيضة لا يتجاوز طولها 1% - 2% المليمتر ليس أمراً سهلاً » (1)

الانحرافات الكامنة :

لا تنحصر العيوب والعاهات التي تصيب الطفل في رحم الأم بالنوع البدني منها فقط. فكثيراً ما يتفق إصابة الطفل بعوارض وانحرافات روحية فهي ليست ظاهرة بل كامنة ، ولكن الأم هي التي أوجدت العوامل المساعدة لذلك الانحراف الكامن الذي لا يلبث - بعد الولادة - أن يظهر تدريجياً ، فيكشف الزمن عن أسرار عميقة كانت مكتومة في سلوك الفرد فجميع تلك الاستعدادات تأخذ بالظهور إلى عالم الفعلية واحدة تلو الأخرى.

ص: 86


1- تاريخ علوم ص 706.

يقول الامام أمير المؤمنين علیه السلام : « الأيام توضح السرائر الكامنة » (1)

وورد عن الامام جواد علیه السلام : « الأيام تهتك لك الأمر عن الأسرار الكامنة » (2).

وهكذا ، فكما أن الأم المصابة بالسل والسرطان تكون عاملاً مساعداً في إصابة طفلها بنفس المرض ، فالأم المأسورة للانحرافات الروحية والسيئات الخلقية والصفات الرذيلة تكون تربة مساعدة أيضاً لانحراف سلوك الطفل وتفكيره أيضاً. وتأخذ تلك الانحرافات الروحية بالظهور بالتدريج في الطفل.

« إن ولد السارق مصاص الدماء ، تكون قابليته على الارادة الصحيحة؟ من ولد المجنون. فإن الأفراد الذين يملكون إنحرافات وراثية موجودون في جميع طبقات المجتمع. ويمكن العثور عليهم بين الأغنياء والفقراء والمثقفين والعمال والفلاحين ... كثيرون هم الذين ينهزمون أمام المشاكل لأبسط حادثة ، والمتلونون الذين لا يستقرون على حال ، ولا يقفون على تصميم وضعفاء الارادة التائهون في خضم الحياة ، والكسالى الذين يشبهون الجماد في خمولهم وجمودهم ، والحساد الذين يكتفون من الحياة بتوجيه الانتقاد إلى الآخرين ، وضعفاء العقول المصابون بالشذوذ العاطفي ، والخلاصة أولئك الذين لا يتجاوز عمرهم العقلي أكثر من 10 سنين أو 12 سنة. ومما لا ريب فيه أن هذا النقص منشؤه وراثي إلى حد بغيد ، ولكن ليس بمقدورنا أن نعين نسبة العوامل الوراثية إلى العوامل التربوية ( البيئية ) في توليد هذه العاهات. ومع ذلك فإن النماذج الافراطية من ضعف العقل الاختلال الروحي والبكم والبلادة تدل بوضوح على وجود عيوب وراثية - بدنية وروحية - » (3).

ص: 87


1- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 28.
2- بحار الأنوار للمجلسي ج 17 214.
3- راه ورسم زندكى ص 156.

ومن هنا يتضح لنا السر في أن الدين الاسلامي الحنيف يعتبر الصفات الرذيلة والملكات الذميمة والتمادي في الاجرام في عداد الأمراض الخطرة. فالخلق السيء ليس سبباً للأمراض الروحية والعصبية فحسب ، بل يؤدي أحياناً إلى اختلالات بدنية عظيمة ، مما يؤدي إلى إصابة صاحب الأخلاق السيئة بأمراض جسدية ، وهكذا نجد الأمهات المصابات بالانحرافات الخلقية والأمراض المعنوية يلدن أطفالاً مصابين أيضاً.

وهنا نكتة مهمة : وهي أن الأمراض الجسدية يمكن أن تكشف بسرعة لظهور بوادرها كالحمى وما شاكلها ، ولكن المصابين الأمراض الروحية ومضاعفاتها ومخلفاتها ليس فيهم بوادر ومقدمات ، ولذلك فإن المصاب لا يلتفت إلى الخطر ، إلا عندما يتأصل فيه المرض ويستبد به الانحراف ... حيث يكون أحياناً غير قابل للتدارك أصلاً.

ومن المؤسف له أن أكثر الناس في العالم ( ومن ذلك بلادنا أيضاً ) يصرفون جل اهتمامهم إلى الجهات المادية فقط ، غافلين عن الجهات المعنوية ولهذا السبب بالذات فانهم يتلقون الفضائل الخلقية والمثل الانسانية والتقوى على أنها أمور حقيرة حتى أن البعض يفرضون أنفسهم في غنى منها.

الغفلة عن الانحرافات الروحية :

يرى الناس أن المرض منحصر بالنوع الجسماني منه ، فالسيئات الخلقية والملكات الرذيلة لا يعتبرونها أمراضاً. المصاب بالسل والسرطان يعتبر مريضاً ، أما الحسود والحقود فليس مريضاً عندهم ، إنهم يرون قرحة المعدة أو الاثني عشر مرضاً ، ولكن الافساد في الأرض والأنانية لا يرونهما كذلك.

وهكذا نجد الرجال حين الإقدام على الزواج يعطفون جل اهتمامهم على جمال الوجه والهندام وسلامة الجسد للمرأة ، من أن يسألوا عن صفاتها الخلقية وملكاتها المعنوية ، وكذلك نظرة النساء إلى الرجال. فقصر القامة أو الحول في العين يعتبر عيباً في الزواج. ولكن الأنانية وبذاءة الأخلاق لا تعد من العيوب عندهم. وعليه فمن البديهي أن السيئات الخلقية تنتشر بسرعة في ظرف كهذا ، ويزداد عدد المصابين بها يوماً بعد يوم.

ص: 88

وبما أن السجايا الخلقية من الأركان المهمة في موضوع تربية الطفل وهي في نفس الوقت مفيدة لجميع الطبقات ، نرى من الضروري أن نفصل القول فيها.

إتصال الجسد بالروح :

إن الانسان مركب من روح وجسد ، وكل منهما يؤثر في الآخر ، فكما أن الجهود الجسمانية تترك آثاراً عميقة في الروح الانسانية ، كذلك الأفكار والمعنويات فأنها تؤثر على بدنه ، وهذه القاعدة كانت من جملة المسلمات عند الفلاسفة والعلماء في القرون الماضية.

لنفرض إنساناً لا يملك أبسط المعلومات عو الخط أو الرسم ، ومع ذلك يأخذ القلم أو الفرشاة بيده ويتمرن أشهراً وسنين طوالاً وبالتدريج نجد أن روحه تقع تحت تأثير هذا التمرين الجسماني حتى يصير فن الخط أو الرسم في النهاية ملكة نفسانية له. وما هي إلا أيام حتى يكون في عداد خطاطي أو رسامي العالم. هذا تأثير الجسم في الروح.

ولنفترض إنساناً يخجل أو يخاف من شيء ما. وبالرغم من أن الخوف أو الخجل شعور نفساني ومن الأمور المتعلقة بالروح ، نجد أن هذه الحالة النفسية تؤثر في بدنه ، فالمصاب بالخوف يصفر لونه ، أما المصاب بالخجل فيحمر وجهه ، وهذا تأثير الروح في الجسم.

ولم يفت العلم الحديث التنبه إلى هذه النكتة ، وهي تأثير كل من الروح والجسد في بعضهما البعض ، بل أثبت العلماء ذلك ، وذكروا هذه القاعدة بأسلوب أوضح في كتبهم :

ولنستمع إلى ( الكسيس كارل ) يقول :

« من والواضح أن النشاط العقلي يتوقف على وجوه النشاط الفسيولوجي فقد لوحظ أن التعديلات العضوية تتصل بتعاقب حالات الشعور وعلى العكس من ذلك فإن تتصل بتعاقب حالات الشعور وعلى العكس من ذلك فإن حالات وظيفية معينة للأعضاء هي التي تقرر الظواهر السيكولوجية. وليدل الكل المكون

ص: 89

من الجسم والشعور بالعوامل العضوية والعقلية أيضاً ... فالعقل والجسم يشتركان معاً في الانسان » (1).

تأثير الجسم في الروح :

« وحقيقة الأمر ، أن المراكز المخية لا تتكون من المادة العصبية فحسب ، إذ أنها تشتمل أيضاً على سوائل غطست فيها الخلايا وينظم تأليفها بواسطة مصل الدم. ويحتوى مصل الدم على افرازات الغدة ، والنسيج التي تنتشر في الجسم كله ، ولما كان كل عضو موجوداً في النخاع الشوكي بوساطة الدم والليمفا ، فمن ثم فان حالاتنا الشعورية مرتبطة بالتركيب الكيميائي لأخلاط العقل مثل ارتباطها بالحالة التركيبية لخلاياه. وحينما يحرم الوسيط العضوي من إفرازات غدد ( السوبر ارينال ) فان المريض يسقط فريسة للانقباض الشديد ، ويشبه حيواناً شرساً ، وتؤدي الاضطرابات الوظيفية لغدة الثايارويد إما إلى الهياج العصبي والعقلي أو إلى البلادة وفقد الاحساس. وقد وجد معتوهون وضعاف عقول ومجرومون في أسر ، أصبح تغير تركيب هذه الغدة فيها بسبب إصابتها بجروح أو بأمراض ، مسألة وراثية » (2).

« ولضياع أرقى التجليات الروحية. يكفي حرمان بلازما الدم من بعض المواد. فحين تتوقف غدة الثايارويد عن إفراز الثايروكسين في الدم مثلاً يضيع الشعور بالأخلاق وتذوق الجمال والاحساس الديني. وكذا إزدياد أو نقصان نسبة الكالسيوم يؤدي إلى اختلالات روحية كثيرة. ولهذا فالشخصية الانسانية تاخذ طريقها إلى الاضمحلال في الانسان المدمن على الخمرة ».

« إن مما لا شك فيه أن الحالة النفسية ترتبط بالحالة الجسمانية تماماً ، وبصورة موجزة : فإن الجهود الفكرية والنشاط العاطفي ينشأ من

ص: 90


1- الانسان ذلك المجهول ص 114.
2- المصدر سابق ص 115.

العوامل الفيزياوية والكيمياوية والفسيولوجية المرتبطة بالبدن » (1)

من خلال هذه النصوص اتضح لنا تاثير الجسم والقوى البدنية في الأجهزة المعنوية والنفسية. والآن لنبحث عن كيفية تأثير الأفكار والعوامل النفسية في شؤون الانسان الجسدية.

تأثير الروح في الجسم :

« فالعواطف - كما هو معروف جيداً - هي التي تقرر تمدد أو تقلص الأوردة الصغيرة عن طريق الأعصاب المحركة ، فهي إذن تقترن بتغييرات في دورة الدم في الخلايا والأعضاء. فالفرح يجعل جلد الوجه يتوهج في حين يكسبه الغضب والخوف لوناً أبيض ... وقد تحدث الأنباء السيئة تقلصاً في الأوردة الجوفاء أو أنيميا القلب ، والموت المفاجئ في أشخاص معينين ، كما أن الحالات العاطفية تؤثر في الغدد كلها ، وذلك بزيادة دورتها أو نقصها ... أنها تنبه أو تقف الافرازات أو تحدث تعديلاً في تركيبها الكيميائي ... فالرغبة في الطعام تثير اللعاب حتى ولو لم يكن هناك أي طعام ... فكلاب بافلوف كان لعابها يسيل على أثر سماعها صوت جرس ، لأن جرساً دق قبل ذلك ، حينما كان الحيوانات تطعم. وقد تؤدي العاطفة إلى إثارة نشاط عمليات ميكانيكية معقدة. فبينما يثير الانسان عاطفة الخوف في القط ، كما فعل ( كانون ) في تجربته المشهورة ، فإن أوعية غدد ( السوبرارينال ) تتمدد ، وتفرز الغدد الادرينالين. ويزيد الادرينالين ضغط الدم وسرعة دورته ويهيء الجسم كله إما للهجوم أو للدفاع ... إن العواطف تحدث تعديلات كبيرة في الأنسجة والأخلاط. وبالأخص في الأشخاص الشديدي الحساية ... فقد ابيض شعر رأس امرأة بلجيكية كان الألمان قد حكموا عليها بالاعدام في الليلة السابقة لتنفيذ الحكم فيها ... وثمة

ص: 91


1- راه ورسم زندكى ص 26.

امرأة أخرى أصيبت بطفح جلدي في أثناؤ إحدى الغارات الجوية ، وكان هذا الطفح يزداد احمراراً وإتساعاً بعد انفجار كل قنبلة ومثل هذه الظواهر بعيدة عن أن تكون استثنائية أو شاذة. فقد برهن ( جولترين ) على أن الصدمة الأدبية قد تحدث تغييرات ملحوظة في الدم. إذ حدث أن تعرض أحد المرضى لخوف عظيم فهبط ضغط دمه فنقص عدد كريات دمه البيضاء وكذلك الفترة التي استغرقها تخثر بلازما الدم » (1)

« الاضطرابات الروحية التي توجب توقف المبيض عن العمل : أثبتت تجارب الحرب العالمية الأخيرة أن البقاء في المعسكرات الكبيرة لمدة طويلة يسبب انقطاع النزيف الشهري الذي يتسبب من تغيرات دورية تحصل في المبيض في حين أن هذا الاضطراب يرجع إلى حالته الأولى بمجرد الرجوع إلى الحياة الاعتيادية من دون حاجة إلى علاج أصلاً » (2)

« يقول في البحث عن العوارض البدنية الناتجة من مرض روحي خاص : إنه يسبب اختلال جميع العضلات والأعصاب ، يسبب زيادة التبول في بعض المراحل ، ونقصانه بشدة في مراحل أخرى ، يؤدي إلى الأرق أحياناً وإلى شدة النعاس أحياناً. وهكذا يضطرب النشاط الجنسي أيضاً فقد يشتد تارة وقد يقل ويخمد. وحتى البشرة لا تسلم من تغيرات هذا الاختلال. حيث تظهر على الجلد بعض الدمامل التي لا تعالج بأي دواء أصلاً ، في حين تزول من تلقاء نفسها في بعض مراحل المرض. هذه هي العوارض العديدة لهذا الداء الفتاك » (3).

ص: 92


1- الانسان ذلك المجهول. ترجمة عادل شفيق ص 116.
2- هورمونها ص 33.
3- جه ميدانيم؟ بيماريهاى روحى وعصبى ص 13.

الأمراض النفسية :

إن الاسلام يعتبر الانحرافات الخلقية والصفات الرذيلة أمراضاً. ولهذا وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تعبر عنها بالأمراض. إنه يعتبر المكر والخداع مرضاً فيقول في وصف المنافقين :

«يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ... فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» (1)

وكذلك عندما منع القرآن نساء النبي وحريمه من التكلم بالرقة واللين فإنه علل ذلك من ناحية الخوف من طمع المستهترين الذين لا يعرفون للعفة وزناً ولا يدركون للشرف معنى فنراه يقول : «فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ» (2).

وهكذا يصرح الامام علي (عليه السلام) بالنسبة إلى الحقد ، « الحقد داء دوي ومرض موبي » (3)

ويقول بالنسبة إلى متابعة هوى النفس : « الهوى داء دفين » (4).

وإليك نصاً عن أحد علماء الغرب بهذا الصدد :

« لا يقل خطر الحسد عن ميكروب الطاعون الرئوي لأنه يجعل صاحبه يعمل لاضرار الآخرين أكثرين أكثر من العمل لجلب المنفعة لنفسه. وهكذا الحقد والبغضاء وغيرهما من الصفات الرذيلة تعتبر معاول هدامة لا أكثر » (5).

مظاهر الأمراض النفسية :

إن الأمراض الروحية والانحرافات النفسية يظهر أثرها على روح المريض نفسه قبل كل شيء ولكل منها مظاهر وعوارض خاصة. فالاضطراب ، والحيرة ، والاستيحاش ، والجمود ، واليأس ، والجبن ، ونحوها تعد من الحالات المرضية ،

ص: 93


1- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 35 طبعة دار الثقافة النجف الأشرف.
2- المصدر السابق ص 17.
3- راه ورسم زندكى ص 114.
4- سورة البقرة 8 - 9.
5- سورة الأحزاب 32.

وقد يشتد أثر هذه الاضطرابات والانحرافات فيؤدي إلى الجنون.

« وهناك نوع من الجنون يظهر في الأشخاص السالمين والمعتدلين في سلوكهم. إن تحليل أدمغة هؤلاء بأقوى الميكروسكوبات يثبت سلامة أدمغتهم ، وعدم وجود أي نقص في أنسجة المخ عندهم. فلماذا يا ترى يفقد هؤلاء عقولهم؟ لقد ألقيت هذا السؤال على كبير الأطباء في إحدى المستشفيات العقلية عندنا. فأجاب ذلك العالم الذي كان له الكثير من التحقيقات الواسعة والتجارب الدقيقة في أحوال المجانين ، أجاب بصراحة بأنه لم يفهم بعد السبب في فقدان الناس عقولهم ولم يتوصل أحد إلى سر الموضوع بالضبط. ومع ذلك فهو كان يقول بأن كثيراً من هؤلاء المجانين الذين عالجتهم وجدت أن الجنون يرضي فيهم الشعور بالأنانية ، فكأنهم يجدون في عالم الخيال ما هم محرومون منه في حياتهم الاعتيادية. ثم نقل لي هذه القصة فقال : توجد هنا تحت العلاج سيدة أصيبت بحادث مزعج في حياتها الزوجية ، حيث كانت تأمل أن تحرز منزلة عالية في المجتمع بعد الزواج والحصول على الأولاد والعيش المرفه لكن حوادث الدهر هدمت قصر آمالها ، فهجرها زوجها إلى درجة أنه لم يرغب في أن يتناول الطعام معها ، فأجبرها على أن تسكن الغرفة الواقعة في الطابق السفلي من العمارة. هذا الحادث دفع بها إلى الجنون ، والآن ترى نفسها في عالم الخيال وكأنها تطلقت من زوجها السابق ، وتزوجت من مليونير إنكليزي ، وتصر على أن نسميها : الليدي سميث ، أضف إلى أنها تتصور في كل ليلة أنها ولدت طفلاً. فمتى ما تراني تقول لي : ( سيدي الدكتور لقد ولدت البارحة طفلاً ) » (1).

وهكذا ، فإن الذين يعمرون نفوسهم بآمال طوال ، ويبقون في أسر الميول

ص: 94


1- آئين دوست يابى ص 36.

المفرطة يجب أن يعلموا أنهم مصابون بمرض خلقي وانحراف روحي. وكما قال الامام علي (عليه السلام) : « الهوى داء دفين » هذا الداء يؤدي إلى الجنون أحيانا ، وقد يجر في بعض الأحيان إلى الموت الحتمي ، يقول الامام علي (عليه السلام) : « من جرى في عنان أمله عثر بأجله » (1).

وما أكثر الذين قتلوا حتف آمالهم الطويلة البعيدة ، وما أكثر الرجال والنساء المنتحرين لعدم تحقيق أمنياتهم وعدم وصولهم إلى آمالهم غير الناضجة!!.

تأثير السلوك في الجسم :

والأثر الثاني للأمراض الخلقية هو رد الفعل الحاصل منها في أجساد المصابين بها ، فالرجل السيء الخلق ليس مأسوراً للانحراف الروحي فقط ، بل إن ذلك الانحراف يؤثر في جسمه فيصاب بعوارض مختلفة.

إن العلم الحديث يعتبر هذه القضية من المسائل القطعية المسلمة ، وسنبحث عنها بالتفصيل إن شاء اللّه في المحاضرات القادمة عند حديثنا عن أسلوب التربية الصحيحة. وهنا نكتفي بنقل نص بسيط إلى القارئ الكريم :

« هناك بعض العادات التي تقلل من القدرة على الحياة ، كالأنانية والحسد والتعود على الانتقاد في كل شيء واحتقار الآخرين وعدم الاطمئنان بهم. لأن هذه العادات النفسية السلبية تؤثر على الجهاز السمبثاوي الكبير والغدد الداخلية. وبإمكانها أن تؤدي إلى اختلالات عملية وعضوية أيضاً » (2).

إن الروايات المنقولة عن أهل البيت علیهم السلام قد أكدت على هذه الناحية وصرحت بأن الأخلاق السيئة تجعل جسد صاحبها مريضاً وضعيفاً ، وعلى سبيل المثال نذكر بعض الروايات الواردة عن الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) حول الحسد وتاثيره السيء في أبدان الحساد :

ص: 95


1- سفينة البحار للقمي مادة « أمل » ص 30.
2- راه ورسم زندكى ص 87.

1 - « العجب لغفلة الحساد عن سلامة الأجساد » (1).

2 - « الحسد يذيب الجسد » (2).

3 - « الحسد يفني الجسد » (3).

4 - « الحسود دائم السقم » (4).

5 - « الحسود أبداً عليل » (5).

نستنتج مما سبق عدة أمور :

1 - إن الروح والجسد مرتبطان. ويؤثر كل منهما على الآخر.

2 - تعتبر الأخلاق الرذيلة والصفات المذمومة أمراضاً في عرف الدين والعلم.

3 - لهذه الأمراض - مضافاً إلى عوارضها الروحية - آثار على الجسد فتؤدي إلى انحراف صحة المصابين بها أيضاً.

والآن وبعد أن أخذنا جولة واسعة في موضوع الأمراض الروحية وكيفية إنتقالها بالوراثة ، نرجع إلى صلب الموضوع وهو دور الأم في تحقيق سعادة الطفل وشقائه.

تأثير حالات الأم على الجنين :

إن جميع الحالات الجسدية والنفسية للأم تؤثر على الطفل. لأن الطفل في رحم الأم يعتبر عضواً منها. فكما أن الحالات الجسمانية للأم والمواد التي تتعذى منها تؤثر على الطفل ، كذلك أخلاق الام فأنها تؤثر في روح الطفل وجسده كليهما. وقد يتأثر الطفل أكثر من أمه بتلك الأخلاق. فإذا أصيبت الأم في أيام الحمل بخوف شديد ، فالأثر الذي تتركه تلك الحالة النفسية على بدن الأم لا يزيد على اصفرار الوجه ، أما بالنسبة إلى الجنين فإنه يتعدى ذلك إلى صدمات عنيفة.

ص: 96


1- سفينة البحار مادة ( حسد ) ص 251 وغرر الحكم ص 42.
2- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 23.
3- المصدر السابق ص 22.
4- المصدر نفسه ص 85.
5- المصدر نفسه ص 20 طبعة دار الثقافة - النجف الأشرف.

« إذا حدث للمرأة في أيام الحمل حادث مخيف فإنه يتغير لونها ويقشعر بدنها لكن تظهر على جسم الجنين آثار امتقاع اللون تسمى بالخسوف » (1).

وهكذا فإن هموم الأم وغمومها ، غصب الأم واضطرابها ، تشاؤم الأم وحقدها ، حسد الأم وأنانيتها ، خيانة الأم وجنايتها ، وبصورة موجزة جميع الصفات الرذيلة للأم ... وكذلك إيمان الأم وتقواها ، طهارة قلب الأم وتفؤلها ، صفاء الأم وحنانها ، مروءة الأم وإنسانيتها إطمئنان الأم وراحة بالها ، شجاعة الأم وشهامتها ، وبصورة موجزة جميع الصفات الحميدة للأم ... جميع هذه الصفات خيرها وشرها تترك آثارها في الطفل ، وتبني أساس سعادة الجنين وشقائه. وهنا يتحقق قول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي استشهدنا به في المحاضرة الثالثة : « الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه ».

وإليك النص الآتي كشاهد من العلم الحديث :

« إن الاضطرابات العصبية للأم توجه ضربات قاسية إلى مواهب الجنين قبل تولده ، إلى درجة أنها تحوله إلى موجود عصبي لا أكثر. ومن هنا يجب أن نتوصل إلى مدى أهمية التفات الأم في دور الحمل إلى الابتعاد عن الأفكار المقلقة ، والهم والغم ، والاحتفاظ بجو الهدوء والاستقرار » (2)

إن الاسلام قام بجميع الاحتياطات اللازمة في موضوع الزواج للاهتمام بطهارة الأجيال الاسلامية ، وأمر بتعاليم دقيقة في الزيجات حول الجهات الروحية والجسدية للرجال والنساء. ولقد رأينا فيما مضى كيف أن الاسلام منع من التزوج من المصابين وبالحمق والجنون والمدمنين على الخمرة ولكنه لم يكتف في سبيل ضمان النشء الاسلامي بذلك الحد بل منع - في مقام الاستشارة - من تزويج الرجل سيء الخلق :

ص: 97


1- إعجاز خوراكيها ص 172.
2- ما وفرزندان ما ص 27.

« عن الحسين بن بشار الواسطي قال : كتبت إلى أبي الحسن الرضا علیه السلام ان لي قرابة قد خطب إلي وفي خلقه سوء ، قال : لا تزوجه إن كان سيء الخلق » (1).

الامراض الوراثية :

لسلوك الأم تأثير عميق في سعادة الأطفال وشقائهم. وعليه فرّجه الذي يأمل أن يحصل على ولد شريف وطاهر القلب لا بد له من أن يمتنع من التزوّج من النساء البذيّئات (2).

« لقد أثبت أطباء الأمراض النفسية أن من بين الأطفال المصابين بتلك الأمراض يوجد 26% منهم وروثوها من أمهاتهم. إذ لو كانت الأم ذات جهاز عصبي سالم ، فإن الطفل يكون سالماً أيضاً. فلو كانت تفكر الأم في صحة طفلها وسلامة جهازة العقلي فلا بد وأن تفكر في سلامة نفسها قبل تولده ».(3)

إن هناك سلسلة من القوانين المتقنة والقوية تحكم الكون ، وتلك القوانين هي التي أوجدت هذا النظام العظيم المحير للعقول في مختلف الكائنات والتي أخصعت جميع أجزاء العالم لحكمها. فكل موجود مضطر إلى الانقياد لها وإطاعتها.

السنن الآلهية :

وهكذا يعمل قانون ( الحياة ) بدقة عجيبة ، ونظام متقن تحت سلسة من الشروط الدقيقة على إكساء المادة الجامدة لباس الوجود. وفي قباله قانون ( الموت ) يعمل على سلب الوجود من تلك الموجودات تحت شروط معينة أيضاً. وكذلك قانون ( الوراثة ) فإنه يعمل بدقة وحكمة على نقل صفات الجسم الحي - من نبات أو حيوان أو إنسان - وخصائصه إلى الأجيال اللاحقة.

إن القرآن الكريم يعبر عن قوانين الكون ( التي تعتبر قانون الحياة وقانون الوراثة

ص: 98


1- وسائل الشيعة للحر العاملي ج 5 10.
2- والسر في ذلك واضح لأن الفلاح الذي يريد الحصول على ثمرة صالحة لا بد له من أن يبذر بذرته في تربة صالحة. وإلا ففساد التربة يؤثر في الثمرة ، لانها تحيط بها وهي مصدر غذائها.
3- صحيفة ( إطلاعات ) الايرانية العدد 10355.

من ضمنها ) بالسنن الآلهية ويرى فيها أنها ثابتة غير خاضعة للتغير والتبديل (1) : «فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا» (2)

ويعتبر الانسان جزءاً ضئيلاً جداً من هذا المنهاج العالمي العام ، وعليه أن يخضع - كسائر أجزاء الكون - للقوانين العامة والسنن الالهية.

الانقياد للقوانين والسنن :

والانسان يتأثر بتلك القوانين من اللحظة الأولى التي تنعقد نطفته في رحم أمه إلى يوم الولادة ، وهكذا من دور الرضاعة إلى المراهقة إلى الكهولة إلى الشيخوخة إلى الموت. فالسنن الالهية ترافقه خطوة خطوة ، وتصدر أوامرها غير القابلة للعصيان إليه. فإذا قرر أن يتخلف عن قانون الخلقة فانه يجد عقابه على قدر عصيانه.

فعلى العاقل أن يطيع قوانين الخلقة ولا يتخلف عنها ، بل يعمل على التوفيق بين ميوله ورغباته وبين السنن الالهية. فيجتنب عما يخالف الموازين والتعاليم الصحيحة كيما يضمن لنفسه حياة سعيدة هانئة.

أما الجاهل فعلى العكس من ذلك يغض النظر عن تلك السنن ويطلق العنان لميوله ورغباته ويأمل في أن يخضع العالم كله له في شهواته وأهوائه وبما أن هذه الرغبة ليست قابلة للتطبيق فلا يمر زمن طويل حتى يلاقي حتفه عندما يصطدم بقوانين الخلقة.

يقول الامام علي (عليه السلام) : « إن اللّه يجري الأمور على ما يقتضيه ، لا على ما نرتضيه » (3).

إن الخمر - السم المهلك - يترك آثاراً خطرة على أنسجة الجسم ، على المخ والأعصاب ، والكلية والكبد ... وغيرها من الأعضاء ، وهذا هو أحد قوانين الخلقة. فالرجل العاقل يجب أن يصون نفسه من التخلف عن هذا القانون فيجتنب

ص: 99


1- لايضاح الربط الدقيق بين الارادة الالهية والعلل المادية في تسيير هذه القوانين وإيجاد هذه السنن الكونية يرجع شبهة ( إما اللّه والسنن الطبيعية ) من كتاب ( دفاع عن العقيدة ) للمترجم.
2- سورة فاطر 43.
3- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 219.

عن الخمرة كي يبقى إلى آخر العمر في حصن منيع من عواقبها الوخيمة. ولكن الجاهل ظناً بالقدرة على المقاومة أو اعتماداً على تحقيق اللذة العاجلة يلوث نفسه بها فيتسمم تدريجياً ، ولا تمضي مدة طويلة حتى يقضي أعز أيام شبابه في زاوية المستشفى مع جسم نحيف وكبد ملتهب ومتورم ، وأعصاب مختلة ومرتعشة ، وبتلك الصورة يتجرع آخر لحظات حياته غصصاً وهموماً لقاء تخلفه عن القانون الكوني.

يقول النبي العظيم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « لا تعادوا الأيام فتعاديكم » (1).

وكذا ورد عن الامام علي (عليه السلام) أنه قال : « من كابر الزمان غلب » (2) فالذي يعاند الزمان يهلك.

وعن الامام الجواد (عليه السلام) راوياً عن جده (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « من عتب على الزمان طالت معتبته » (3). فالذي ينظر إلى الدنيا نظرة المتشائم المتنكر ويعاتب الدنيا سخطاً عليها ، فإن عتابه سيطول من دون جدوى.

ومن هنا يتحتم على الآباء والأمهات الذين يأملون أن ينشأ منهم أطفال عقلاء سالمون أن يراعوا جميع القوانين التكوينية من الجانبين الجسدي والروحي. فكل عيب أو انحراف يظهر في سلوك الأطفال - مهما كان حقيراً - فان العلة في ذلك هو التخلف عن بعض السنن الالهية في هذا الكون العظيم.

ومن خلال الحديث الذي أملاه الامام الصادق علیه السلام على تلميذه المفضل بن عمر الجعفي في موضوع التوحيد ، نقتطف الفقرة التالية فقد كان الامام يتحدث عن بلوغ الأولاد وإنبات الشعر في وجوههم فسأله المفضل قائلاً : « يا مولاي ، فقد رأيت من يبقى على حالته ولا ينبت الشعر في وجهه وإن بلغ حال الكبر. فقال : ذلك بما قدمت إيديهم وإن اللّه ليس بظلام للعبيد » (4) ومنه يتضح أن إنبات الشعر في

ص: 100


1- سفينة البحار مادة ( يوم ) ص 741. وواضح أن العداء مع الأيام لا يعني إلا التخلف عن قوانينها وعدم الانقياد للسنن الكونية الصارمة.
2- تحف العقول ص 85.
3- بحار الأنوار للمجلسي ج 17 101 الطبعة القديمة.
4- بحار الأنوار ج 2 20.

وجه الرجال بعد البلوغ لما كان قانوناً من قوانين الخلقة ، فإن تخلفه في مورد ما ، لا بد أن يكون معلولاً لعوامل بشرية.

الأطفال المنحرفون :

إنه بالرغم من وجود الوسائل العلمية والعملية التي يملكها الغربيون في أوربا وأمريكا نجد الأطفال المصابين بالعيوب والانحرافات يتولدون بنسبة هائلة. واليك الخبر الآتي : -

« يولد في الولايات المتحدة الأمريكية 4200000 طفل سنوياً. ولكن مئات الألوف منهم مصابون بنواقص وعيوب ناشئة قبل الولادة. وأكثرهم يشكون من الأمراض القلبية ، والشلل العصبي ، والصرع ، والعمى ، والصمم ، وغير ذلك. ومصافاً إلى ذلك فمن بين خمس نساء حوامل لا تفلح واحدة منهم في ولادة طفل حي والسبب في ذلك أمران : أحدهما الاجهاض. والآخر موت الطفل حين الولادة. هذه الحقائق ولدت مشاكل شخصية وطيبة كبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية وهي تحتل جانباً مهماً من اهتمام الأطباء » (1).

إن الدول الأوروبية والولايات السوفياتية لا تقل إصابة بهذه المشاكل والمصائب من أخواتها الولايات المتحدة الأمريكية. فلو كان أولئك يضعون إحصائياتهم تحت متناول من يشاء كما يفعل الأمريكان ، لعلمنا أنه ينشأ فيها سنوياً ما لا يقل عن مئات الألوف من المنحرفين والمصابين بالعيوب والنواقص.

والحق أن تولد مئات الألوف من الأطفال المنحرفين في السنة مصيبة عظيمة ومشكلة عويصة لدولة. ومما لا شك فيه أن جرائم الأبوين وعدم رعايتهما للقوانين الأخلاقية والكونية والالهية وتماديهم في تناول المسكرات وتلبية نداء الشهوة من دونما رادع ، ومقامراتهم واضطراباتهم العصبية هي العوامل الأساسية لهذا الشقاء العظيم.

ص: 101


1- مجلة ( أخبار هفته ) الايرانية الصادرة بتاريخ 28 2 1338 هجرية شمسية. وبعد مثل هذه الاحصائيات نرجو أن يحكم القارئ الكريم من هم التقدميون؟!!.

المحاضرة الخامسة: حول القضاء والقدر - الأطفال اللاشرعيون

اشارة

قال اللّه تعالى : «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا» (1).

ركنا السعادة :

سندخل من اليوم في بحث التربية والأدوار التي بعد الولادة. إن التربية أحد ركني السعادة ، فالسعادة البشرية ترتكز على ركنين مهمين هما : الوراثة والتربية. وفصلنا القول نوعاً ما في البحث عن الوراثة فيما مضى. ولكنا في هذه المحاضرة وما يليها من المحاضرات سنبحث عن أهمية العامل الثاني المؤثر في سلوك الفرد ، وهو التربية.

إن أهمية التربية قد تتجاوز أهمية الوراثة إلى درجة أن بامكانها أن توقف قانون الوراثة إلى حد ما. فتتغلب عليه وتضطره إلى الانسحاب من الميدان حسب درجة قوتها وإصالتها إلا في الموارد التي تكون الصفات الوراثية ذات طابع حتمي ( أي لا يمكن أن تتغير في الطفل مهما كانت العوامل الأخرى قوية )

ففي هذه الصور ، حيث تعتبر تلك الصفات الوراثية قضاء حتمياً وقدراً لازماً بالنسبة للطفل تقف التربية عن التأثير أيضاً.

ولأجل أن نلفت أذهان المستمعين الكرام إلى هذه الحقيقة بصورة أوضح لابد من البحث بصورة موجزة عن القضاء والقدر والمصير ، ثم ندخل إلى صلب

ص: 102


1- سورة الاسراء 24.

الموضوع. فهناك الكثيرون ممن يؤدي بهم الجحود أو الجهل إلى أن ينكروا تاثير القضاء والقدر إنكاراً تاماً زاعمين أنهما أمران وهميان لا أكثر. كما أن هناك طائفة أخرى في قبال هذه الطائفة تخضع جميع الوقائع والأحداث - جهلاً بحقائق الدين والعلم - إلى القضاء والقدر الحتميين ، ويرون أن البشر عاجز عن مقابلتها أو حفظ نفسه عنها. ولكن الواقع أن العالم كله يدور على أساس القضاء والقدر وعلى أساس مقاييس وقوانين دقيقة.

معنى القدر :

يقول اللّه تعالى في القرآن الحكيم : «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ» (1) فأصغر الذرات الأرضية وأكبر الأجرام السماوية قد خلقت كلها على أساس مقياس دقيق وتقدير صحيح ، كل قد انتظم في مكانه الخاص به ... وهذا هو معنى القدر. إن عالماً فلكياً يستفيد من هذا التقدير العظيم والحساب الدقيق فيتوصل بمحاسباته الرياضية إلى التنبؤ عن وقت خسوف القمر ومدة الخسوف ومقداره قبل أشهر عديدة. فإذا لم يكن وضع الشمس وحركة القمر على أساس نظام متين ثابت لا يتغير ، فانه يستحيل على الفلكي أن يصل إلى هذا التنبؤ. وبهذا الصدد يتحدث القران الكريم عن حركة الشمس والقمر فيقول «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ» (2).

وهكذا ، فإذا وجدنا الفضاء الفسيح بأجرامه العظيمة منظماً وثابتاً ، وإذا كانت قطعة من الحجر تنسحب من الفضاء إلى المركز بفعل جاذبية الأرض ، وإذا خرجت البذرة من تحت سطح الأرض بصورة نبتة ، وإذا وجدنا النطفة تنمو في رحم الحيوان أو الانسان فتتحول إلى موجود كامل ... فذلك كله يسير طبق القوانين والسنن الالهية وكلها مظاهر لقضاء اللّه وقدره. إذن فالعالم يسير بموجب القضاء والقدر وكل يجري إلى مصيره المعين له بحسب التقدير الالهي.

ص: 103


1- سورة القمر 49.
2- سورة الرحمن 5.

الجبر والتفويض :

وأحد الموجودات في هذا العالم هو الانسان ، ترتبط كل قواه وأفعاله ، وجميع حركاته وسكناته بالقضاء والقدر الالهيين. فدقات القلب ودوران الدم ، والاحساس في العصب ، والهضم في المعدة ، والتصفية في الكبد ، والإبصار بواسطة العين ، والسماع بواسطة الأذن ... كل أولئك يسير حسب قضاء اللّه وقدره ، ولكن النقطة المهمة في البحث هي أن القضاء والقدر ينقسم بالنسبة إلى الانسان إلى قسمين : -

فقسم منه يتسم بطابع الحتمية والجبرية حيث يجري من غير إرادة الانسان واختياره ، وقسم آخر جعله اللّه تعالى طوع إرادتنا وخاضعاً لاختيارنا.

ولنأخذ مثلاً على ذلك : اللسان ، فهو عضو من أعضائنا وجزء من بدننا وله مقدرات كثيرة. فأحد تلك المقدرات جريان الدم في عروقه. ومنها أيضاً تكلمه. أما جريان الدم في عروق اللسان فهو خارج عن إرادتنا وإختيارنا ، فالدم يجري في الأوعية الدموية الموجودة في اللسان سواء شئنا أم أبينا. وهنا ( في دوران الدم في اللسان ) قضاءان : الأول جريان الدم في عروق اللسان بالتقدير الالهي. والثاني جبرية هذا الدوران وحتمية في اللسان بالتقدير الالهي أيضاً حيث لا مجال لارادتنا واختيارنا فيه.

هذا هو أحد المقدرات بالنسبة إلى اللسان ، وقد عرفنا التقدير الالهي فيه.

وأما المقدر الآخر فهو صدور التكلم منه. ولكن الواضح أن التكلم نفسه خاضع لارادتنا ، فبامكاننا أن نتكلم ، وبإمكاننا أن نسكت. كما أننا نستطيع أن نصدق في كلامنا ، ونستطيع أن نكذب. فهنا أيضاً ( في تكلم اللسان ) قضاءان : الأول صدور التكلم من اللسان بالتقدير الالهي. والثاني اختيارية التكلم ، وإراديته أيضاً بالتقدير الالهي.

ومن هنا يتضح جلياً أن القضاء والقدر قد يجريان بصورة جبرية.

وأحياناً يقع القضاء الحتمي بواسطة قدر اختياري لنا. فمثلاً نجد أن الموت أمر مسلم وحتمي على جميع البشر بحكم القضاء الالهي ، وهو صريح قوله تعالى : «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ». ولكن هذا القضاء الحتمي قد يتم بنحو الموت الطبيعي وانقطاع النشاط

ص: 104

الحيوي. كما يمكن أن يتم بإرادة واختيار من قبل شاب يملك من القوة وسلامة البدن ما تجعل باستطاعته أن يعيش سنين طوالاً فيقدم على الانتحار.

وهكذا فالشيخ الذي عمر مائة سنة حتى مات حتف أنفه ، والشاب الذي لم يعش أكثر من عشرين سنة حتى انتحر بإرادته واختياره متساويان في أنهما ماتا بقضاء اللّه وقدره ، مع فارق واحد وهو أنه في الصورة الأولى كان القضاء والقدر حتميين غير اختياريين ، بينما في الصورة الثانية إستغل الشاب حرية الاختيار بالنسبة إلى القضاء والقدر وأنهى بذلك حياته.

وعلى هذا يجب أن لا نستغرب من قول الراوي عن الرضا (عليه السلام) حيث يقول : « سمعت الرضا علیه السلام يقول : كان علي بن الحسين (عليه السلام) إذا ناجى ربه قال : أللهم إني قويت على معاصيك بنعمك » (1) ومعنى هذه الرواية أن الذي يقدم على المعصية إنما يستغل نعمة الحرية والاختيار التي وهبها اللّه له بالقضاء والقدر استغلالاً سيئاً ، فيصاب بالانحراف.

إرادتنا واختيارنا :

النقطة التي تزل عليها الأقدام - غالباً - هي أن الناس متى سمعوا إسم القضاء والقدر ظنوا أنه حتمي وجبري. في حين أن الحق ليس كذلك ، فقد يتمثل القضاء والقدر الالهي في اختيار الناس وإرادتهم. وهناك حديث عن الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) يؤيد هذا الموضوع بوضوح :

« عن أمير المؤمنين أنه قال لرجل - سأله بعد انصرافه من الشام - فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلى الشام أكان بقضاء وقدر؟ قال عليه السلام : نعم يا شيخ ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم وادياً إلا بقضاء اللّه وقدره ... ».

« فقال الشيخ : عند اللّه احتسب عنائي يا أمير المؤمنين؟ » أي : فليس لأتعابنا التي تحملناها في سفرنا هذا من أجر عند اللّه ...؟

فيجيب الامام (عليه السلام) :

ص: 105


1- بحار الأنوار للمجلسي ج 3 ص3.

« مه يا شيخ ، فان اللّه قد عظم أجركم في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامكم وأنتم مقيمون ، وفي انصرافكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من أموركم مكرهين ولا إليه مضطرين ، لعلك ظننت أنه قضاء حتم وقدر لازم؟! لو كان ذلك لبطل الثواب والعقاب ، ولسقط الوعد والوعيد » (1).

فنجد الامام علیه السلام في هذا الحديث ينسب جميع الأفعال الارادية للبشر إلى القضاء والقدر الالهي. ولكنه مع ذلك يقول : إن هذا القضاء لم يكن حتمياً والقدر لم يكن لازماً. وبنفس المضمون ورد حديث آخر عن الامام الرضا علیه السلام يسأل فيه الراوي عن معنى الأمر بين الأمرين فيقول : « فما أمر بين أمرين؟ فقال : وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا وترك ما نهوا عنه » (2).

الأمر بين الأمرين

الأمر بين الأمرين (3) :

وهنا يسأل الراوي : « فقلت له : فهل لله عز وجل مشية وإرادة في ذلك؟ فقال :

ص: 106


1- تحف العقول ص468.
2- بحار الأنوار ج 3 5.
3- تنقسم المذاهب الاسلامية بالنسبة إلى موضوع ( حرية الارادة عند الانسان ) إلى ثلاث فرق : فطائفة ترى أن للانسان الحرية الكاملة في إتيان ما يريد وترك ما يشاء ، وهؤلاء هم ( المفوضة ) حيث يقولون بأن اللّه فوض إليهم الأمور. وطائفة ثانية ترى أن الانسان لا يملك أي حرية في أفعاله بل أفعاله في الحقيقة هي أفعال اللّه التي خلقها فيه ، وهؤلاء هم ( المجبرة ) حيث يقولون بأن اللّه أجبرهم على أفعالهم. والطائفة الثالثة تقف موقفاً وسطاً بين الافراط في حق الارادة الانسانية والتفريط فيها وهي التي ترى أن ( لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين ) وهؤلاء هم ( الامامية ). وأول من عبر عن هذا الاصطلاح عندهم إمامهم السادس جعفر بن محمد الصادق ( رئيس المذهب الجعفري ). ولقد كثر البحث والنقاش في الاستدلال على صحة أحد هذه المذاهب الثلاثة ، ولكن المثال الآتي يؤيد صحة استناد أفعالنا إلى إرادتنا وحريتنا ، في حين كونها مسيرة بإرادة اللّه أيضاً ويثبت حقانية مذهب الأمامية في الموضور. لنفرض إنساناً كانت يده شلاء لا يستطيع تحريكها بنفسه. وقد استطاع الطبيب بأن يوجد فيها حركة إرادية وقتية بواسطة قوة الكهرباء بحيث أصبح الرجل يستطيع تحريك يده بنفسه متى وصلها الطبيب بسلك الكهرباء وإذا انفصلت عن مصدر القوة لم يمكنه تحريكها أصلاً. فتحريك المريض يده والطبيب يمده بالقوة في كل آن يوضح الأمر بين الأمرين ، حيث لا تستند الحركة إلى الرجل مستقلاً لأنها موقوفة على إيصال القوة إلى يده ، وقد فرضنا أنها بفعل الطبيب. ولا تستند إلى الطبيب مستقلاً ، لأن التحريك قد أصدره الرجل بإرادته ، فالفاعل لم يجبر على فعله لأنه مريد ولم يفوض إليه الفعل لأن المدد من غيره ، وهكذا فالأفعال الصادرة منا بمشيئتنا ، ولكننا لا نشاء شيئاً إلا بمشيئة اللّه. ولتفصيل الموضوع يراجع كتب العقائد والكلام المفصلة. وكذلك تجد رد شبهة الجبر بالتفصيل في كتاب ( دفاع عن العقيدة ) ص1. 151 : للمترجم.

أما الطاعات فإرادة اللّه ومشيته فيها : الأمر بها ، والرضا لها ، والمعاونة عليها ، وإرادته ومشيته في المعاصي النهي عنها ، والسخط لها ، والخذلان عليها » فهذه الفقرة تبين إرادة اللّه في أعمال البشر وكيفية التأثير عليها ... « قلت : فلله عز وجل فيها القضاء؟! قال : نعم ، ما من فعل يفعله العبد من خير وشر إلا ولله فيه قضاء. قلت : فما معنى هذا القضاء؟! قال : الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة » (1).

فنجد أن الامام الرضا علیه السلام يسند جميع الأفعال الصالحة والطالحة للبشر إلى القضاء الالهي بكل صراحة فإن قضاء اللّه في أعمال البشر هو حريتهم ... تلك الحرية ، وذلك الاختيار اللذين يستحق بهما الثواب في الطاعة والعقاب في المعصية.

القضاء الالهي :

ولأجل أن يتضح الموضوع للمستمعين الكرام بصورة أحسن نضرب مثالاً على الانتحار. فلو أن شخصاً رمى بنفسه من فوق سطح العمارة إلى الأرض المبلطة بالرخام ، وقال في نفسه : لو كان المقدر لي أن أموت فاني ألاقي حتفي وإن لم أرم بنفسي من فوق السطح ، وإن كان المقدر أن أبقى حياً فاني سأستمر على الحياة وإن رميت نفسي من على السطح ... ففي ذلك خطأ فظيع. لأن لله تعالى عدة مقدرات جبرية بهذا الشأن ، ومقدر اختياري واحد. أما المقدرات الجبرية فهي عبارة عن :

1 - إن القضاء والقدر الالهيين قد جعلا الرخام الذي يغطي ساحة هذه القاعة صلباً وقوياً.

2 - خلقت جمجمة الانسان بموجب القضاء والقدر من عظم دقيق قابل للتهشم.

ص: 107


1- بحار الأنوار ج 3 5.

3 - القضاء والقدر أكسب الأرض قوة الجاذبية ، حيث تجذب الأجسام التي في الفضاء ، إليها.

4 - إن القضاء والقدر الالهيين يحكمان بأن كل من يرمي بنفسه من مكان شاهق إلى أرض صلبة تتكسر جمجمته ويتلاشي مخه.

5 - القضاء والقدر الالهيين يقضيان بموت الانسان عند تلاشي مخه. هذه هي الأقدار الالهية الحتمية والجبرية بالنسبة إلى حادثة الانتحار.

6 - القضاء والقدر الالهيان يحكمان بأن للانسان الارادة والاختيار الكاملين ، فله أن يرمي بنفسه من السطح ويموت أو يمتنع عن ذلك فينزل من السلم درجة درجة.

إذن ، يجب أن نقول لذلك الشخص الواقف على السطح لغرض إلقاء نفسه إلى الأرض : إن القضاء الالهي بالنسبة إلى موتك وحياتك يتبع إرادتك واختيارك. فإن اخترت الالقاء بالنفس من السطح فالمقدر أن تموت. وإن اخترت الهبوط على السلم فالمقدر لك أن تبقى حياً. وعلى كلتا الصورتين تجري القضية بموجب القضاء والقدر. ومن خلال الحديث الثاني ، نتبين حرية الارادة الانسانية ، بالرغم من جريان القضاء والقدر على جميع الأمور ، لأن للانسان تمام الاختيار في سلوك الطريق المؤدي إلى الخير أو الشر. فإن سلك أحدهما وصل إلى النتيجة بلا شك : -

« عن ابن نباتة قال : أن أمير المؤمنين عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر. فقيل له يا أمير المؤمنين تفر من قضاء اللّه؟ قال : أفر من قضاء اللّه إلى قدر اللّه عز وجل » (1).

حرية البشر :

إن أهم ما يمتاز به الانسان على غيره من الموجودات على وجه الأرض هو حريته التي وهبها اللّه تعالى إياه. فجميع الترقيات وأوجه التكامل التي حصل عليها البشر لحد الآن ترجع إلى هذه الميزة. تمر قرون مديدة على النحلة ولا تزال تبني

ص: 108


1- بحار الأنوار ج 3 33.

بيتها على شكل سداسي وستستمر تبني بيتها على هذا الشكل في القرون المقبلة ، لأنها مجبرة في هذا العمل ولا تملك عقلاً أو تفكيراً. تقودها غريزتها التي أودعها اللّه تعالى فيها. ولكن الانسان الحر لا يزال يتكيف لبيئته وظروف حياته ، فقد انتقل من سكنى الكهوف إلى تكوين الأكواخ ، ومنها إلى إنشاء القصور الضخمة التي نراها اليوم. ومن المؤمل أن نفصل القول حول الحرية البشرية والاختيار الفطري للانسان في محاضرة خاصة إن شاء اللّه.

للانسان أن يقرر مصيره :

إن جانباً من القضاء والقدر يرجع إلى إرادتنا واختيارنا. وان الرسالات السماوية تدور حول أفعالنا الارادية. ولهذا فان الثواب والعقاب من قبل اللّه نظير الجزاء والعقاب البشري في أنه يرجع إلى إرادة البشر واختيارهم. وهكذا فإن لكل منا أن يقرر مصيره بيده. وما أكثر أولئك الذين يدفعهم الكسل وحب الذات إلى التقصير في إداء الواجبات الاجتماعية اللازمة ، ثم ينسبون الشقاء الذي يلاقونه إلى القضاء والقدر ، في حين أنهم كانوا يملكون الحرية الكاملة ، ولم يستغلوا هذه الحرية استغلالاً حسناً بل أساؤا التصرف إليها وجلبوا الشقاء لأنفسهم!!.

إن اللّه تعالى يقرر في القرآن الكريم أن الذين يرثون الأرض ولهم الحق في أن يقودوا بزمامها هم الرجال الصالحون فقط :

«وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ» (1).

والعباد الصالحون هم الذين وصلوا إلى جميع مدارج الكمال المادي والمعنوي بفضل الايمان والعلم. وفي ظل الفضائل الخلقية والملكات الطاهرة ونتيجة الجهد والجد ... وبذلك صاروا يستحقون إسم الانسان الحقيقي.

إن القضاء الحتمي والذي لا يقبل التخلف في هؤلاء الرجال الصالحين هو أن يرثوا حكومة الأرض ولكن الوصول إلى مقام الصلاح واستحقاق تلك الدرجة ( قدر )

ص: 109


1- سورة الأنبياء 105.

إختياري يتعلق به ذلك القضاء الحتمي ... وهؤلاء هم الذين يتمكنون أن يتبعوا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بإرادتهم واختيارهم ويصلوا إلى المقام الذين يستحقون معه وراثة الأرض. وهم الذين إن استغلوا حريتهم التي وهبها اللّه إياهم استغلالاً سيئاً هووا إلى هوة سحيقة من الجهل والالحاد والفساد والكسل والأنانية.

نستنتج مما سبق أن العالم كله يدار بواسطة القضاء والقدر. أي أن السنن الآلهية هي التي تحكم في هذا الكون. وكذلك الأمور التي ترتبط بالإنسان. فانها خاضعة للقضاء والقدر ، غاية ما هناك أن جانباً من القضاء والقدر المتعلق بالبشر يكون مصيراً حتمياً لا أثر لاختيارنا وإرادتنا فيه كدقات القلب ودوران الدم ... وجانباً منه تابع لارادتنا واختيارنا ، ولنا أن نستغله إما استغلالاً حسناً أو سيئاً.

الوراثة والتربية :

وبعد أن تطرقنا بصورة موجزة إلى القضاء والقدر وبيان علاقته بالارادة البشرية ، ندخل إلى صلب الموضوع.

إن الطفل يرث في رحم الأم صفات الآباء والأمهات ، وهذا الأمر خاضع للقضاء والقدر. والصفات التي تنتقل بالوراثة تكون على نحوين : فقسم منها يكون على نحو القضاء والقدر الحتمي والمصير. القطعي الذي يبقى مدى الحياة ملازماً للطفل ، وفي هذه الصورة تكون ظروف الرحم ( علة تامة ) لتلك الصفات. والقسم الثاني ما يكون على نحو العوامل السماعدة في انتقالها إلى الأبناء ، فهي ليست مصيراً حتمياً وفي هذه الصورة تكون ظروف الرحم ( عاملاً مساعداً ) لها.

« يتحدد مصير أفراد معينين بشكل قاطع في حين يتوقف مصير آخرين - إن كثيراً أو قليلاً - على أحوال نموهم » (1).

« من المعروف أن ضعف العقل والجنون والاستعداد الوراثي للنزف الدمي والصمم والبكم نقائص وراثية ... كذلك تنتقل أمراض معينة كالسرطان والسل ... ألخ من الآباء إلى الأبناء ولكن

ص: 110


1- الانسان ذلك المجهول ص 197.

كاستعداد فقط ، وقد تعوق أحوال النمو ظهور هذه الأمراض أو تساعد على تحققها ... » (1).

وكما أن لون البشرة والعين أو قصر النظر في العين من الأمور الوارثية التي لا تقبل التغيير فإن الجنون الوراثي أيضاً من العيوب التي لا تقبل التغيير. فالطفل الذي يولد من أبوين مجنونين يظل مجنوناً مدى الحياة ، وهذا هو مصيره الحتمي.

المصير الحتمي :

هذا المصير الحتمي لا يمكن أن يتبدل بتعاليم الأنبياء الرصينة ، ولا بالوسائل الطبية والتربوية ، فهو مجبر على الجنون ، وهكذا الطفل الذي يولد في رحم الأم أحمقاً بليداً ، ويرث البله والبلادة من أبويه يستمر مدى العمر على ذلك الواضع ، ولن تؤثر الأساليب التربوية فيه.

« إن أحوال النمو لا تستطيع أن تحول الطفل الضعيف البليد الشعور ، المشتت العقل ، الجبان ، الخامل ، إلى رجل نشيط أو زعيم قوي شجاع.» (2)

وبهذا الصدد يقول الامام أمير المؤمنين علیه السلام : « الحمق داء لا يداوى ومرض لا يبرأ » (3).

وهكذا فالطفل الذي يولد من أم مصابة بالسل يملك تربة مساعدة لنشوء هذا المرض فيه وقد ورث هذه التربة المساعدة من أمه. ومع هذا فإن إصابته بالسل ليست قضاءاً حتمياً وقدراً جبرياً. فإن العوامل الصحية الظروف الحياتية الصالحة يمكن أن تضمن له سلامته من المرض. فإذا انفصل عن أمه بعد الولادة مباشرة وخضع لمراقبة دقيقة في بيئة صحية فبإمكانه أن يعيش سالماً مدى العمر. أما إذا تربى في حجر أمه المصابة بالسل وارتضع من لبنها الملوث ، فبالامكان أن يصاب بالسل بسهولة.

ص: 111


1- المصدر السابق ص 196.
2- المصدر السابق ص 197.
3- غرر الحكم ودرر الكلم ص 72 ط إيران.

وكما سبق فإن الحالات النفسية والملكات الصالحة والطالحة للآباء والأمهات تؤثر في الأطفال. وهكذا فالطهارة والرذالة ، والشجاعة والجبن والكرم والبخل ، وغيرها من الصفات المختلفة تكون تربة مساعدة للصلاح أو الفساد في سلوك الطفل ... ولكن هذه الصفات ليست قدراً حتمياً بل يمكن إصلاح الفاسد بالطرق التربوية الصالحة ... وعلى العكس تبديل التربة المساعدة للصلاح إلى الفساد بالطرق التربوية الفاسدة.

التربية والبيئة :

إن الطفل المتولد من أبوين صالحين يملك تربة مساعدة لنشوء الصفات الخيرة في نفسه ولكن إذا ترك في بيئة فاسدة منذ الصغر ، أو سلم إلى أفراد خبئاء بذيئي الأخلاق فإن النتيجة ستكشف عن فرد فاسد شرير ، لأن الصفات الموروثة والفضائل العائلية لا تستطيع المقاومة أمام قوة التربية (1).

وعلى العكس من ذلك فان الاطفال الذين يتولدون من أبوين فاسدين ويملكون التربة المساعدة لنشوء الآثار السيئة في سلوكهم ، لو تركوا في محيط مليء بالصلاح والخير وسلموا إلى مربين صالحين فمن الممكن أن تختفي تلك الآثار السيئة عنهم وينشأوا أفراداً يتسمون بالفضيلة والايمان.

« وتؤثر العوامل السيكولوجية تأثيراً أكبر على الفرد ، فهي التي تكسب حياتنا شكلها العقلي والأدبي. إذ أنها تولد النظام أو التفرق. وهي التي تدفعنا إلى إهمال أنفسنا أو السيطرة عليها ، كما أنها تغير شكل تكوين الجسم ووجوه نشاطه بوساطة الدورة الدموية والتغييرات الغددية ، فإن لنظام العقل والاستعداد الفسيولوجي تأثيراً

ص: 112


1- وأصدق شاهد على ذلك قصة ( إبن نوح ) حيث جالس الملحدين وخالط الفساد ، فاختفت معالم الفضائل التي ورثها عن أبيه في سلوكه وهكذا اتصف بصفات قرنائه ، وصار ملحداً مثلهم ، وحينما دعاه أبوه إلى أن يركب السفينة لينجو من السيل ولا يصيبه عذاب اللّه ، أجابه بما يحكي القرآن عنه « سآوي إلى جبل يعصمني من الماء » وبالرغم من أن نوحاً قال له : « إنه لا عاصم اليوم من أمر اللّه » لم يلتفت إلى كلامه ، وكانت نتيجته الغرق.

قاطعاً ليس على حالة الفرد السيكولوجية فقط بل أيضاً على تكوينه العضوي والاخلاطي ومع أننا لا نعلم إلى أي مدى تستطيع التأثيرات العقلية التي تنشأ من البيئة أن تحسن أو تقضي على الميول المستمدة من الأسلاف ، فانه لا شك في أنها تلعب دوراً رئيسياً في مصير الفرد ، فهي أحياناً تبدد أسمى الصفات العقيلة ، وتجعل أفراداً معينين ينمون بدرجة لم تكن متوقعة على الاطلاق ... وهي تساعد الضعيف وتجعل القوي أكثر قوة ».

« إنه مهما يكن من أمر ميول الأسلاف ، فإن كل فرد يدفع بتأثير أحوال النمو في طريق يقوده إما إلى العزلة في الجبال أو إلى جمال التلال أو إلى أوحال المستنقعات حيث يطيب للسواد الأعظم من الرجال المتحضرين أن يعيشوا » (1)

الصفات القابلة للتغيير :

إن الامام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) يعبر عن قابلية تغيير بعض الصفات الوراثية للطفل في رحم الأم بكلمة ( البداء ) ، في ضمن حديث طويل بهذا الصدد فيقول :

« ثم يوحي اللّه تعالى إلى الملكين : إكتبا عليه قضائي وقدري ، ونافذ أمري واشترطا لي البداء فيما تكتبان ... » فهذا يدل على أن القضاء والقدر في حق الطفل ليس أمراً قطعياً ، بل قابل للتغيير والتبديل حسب بداء اللّه تعالى ...

« ... فيقولان : يا رب ، ما نكتب؟ فيوحي اللّه عز وجل إليهما أن إرفعا رؤوسكما إلى رأس أمه ، فيرفعان ... فإذا اللوح يقرع جبهة أمه. فينظران فيجدان في اللوح : صورته ، ورؤيته ، وأجله وميثاقه ، شقياً أو سعيداً ، وجميع شأنه. فيكتبان جميع ما في اللوح ويشترطان البداء فيما يكتبان » (2).

ص: 113


1- الانسان ذلك المجهول ص 198.
2- الكافي ج 6 14. وللتحقيق في معنى البداء وكيفية نسبته إلى اللّه تعالى نقول : « البداء من الأوصاف التي ربما تتصف بها أفعالنا الاختيارية من حيث صدورها عنا بالعلم والاختيار ، فإنا لا نريد شيئاً من أفعالنا الاختيارية إلا بمصلحة داعية إلى ذلك ، تعلق بها علمنا ، وربما تعلق العلم بمصلحة فقصدنا الفعل ثم تعلق العلم بمصلحة أخرى توجب خلاف المصلحة الأولى ، فحينئذ نريد خلاف ما كنا نريده قبلاً ، وهو الذي نقول : بدا لنا أن نفعل كذا ( أي ظهر لنا بعدما كان خفياً عنا كذا ) والبداء : الظهور ، فالبداء ظهور ما كان خفياً من الفعل ( بظهور ما كان خفياً من العلم بالمصلحة ) ثم توسع في الاستعمال فأطلقنا البداء على ظهور كل فعل كان الظاهر خلافه. فقال : بدا له أن يفعل كذا ( أي ظهر من فعله ما كان الظاهر منه خلافه ). ثم إن وجود كل موجود من الموجودات الخارجية له نسبة إلى مجموع ( علته التامة ) التي يستحيل معها عدم الشيء وعند ذلك يجب وجوده بالضرورة وله نسبة إلى ( مقتضيه ) الذي يحتاج الشيء في صدوره منه إلى ( شرط وعدم مانع ) ، فإذا وجدت الشرائط وعدمت الموانع تمت ( العلة التامة ) ووجب وجود الشيء وإذا لم يوجد الشرط أو وجد مانع لم يؤثر ( المقتضي ) أثره ، وكان التأثير للمانز. .. وحينئذ يصدق البداء فإن هذا الحادث إذ نسب وجوده إلى مقتضيه الذي كان يظهر بوجوده خلاف هذا الحادث كان موجوداً ظهر من علته خلاف ما كان يظهر منها. ومن المعلوم أن علم اللّه تعالى بالموجودات والحوادث مطابق لما هو في الواقع من وجودها ، فله تعالى علم بالأشياء من جهة مقتضياتها وهذه خاضعة لوجود الشرائط وفقد الموانس. وفي هذا النوع يمكن أن يفقد شرط أو يوجد مانع في الأثناء فيظهر خلاف ما كان ظاهراً منه. ويحصل فيه ( البداء ). فلا يكون حينئذ قضاءاً حتمياً لا يتبدل ، بل هو قابل للتغيير ، ولهذا قال اللّه تعالى في القرآن الكريم : « يمحو اللّه ما يشاء ويثبت ... الآية ». راجع تعليقة العلامة الفيلسوف البارع السيد محمد حسين الطباطبائي على الكافي ج 1 146.

المصير اللامحتوم :

نجد في هذا الحديث نكتتين لطيفتين : الأولى : أن اللوح ليس في ساعد الأم ولا في صدرها بل في جبينها. إن الجبهة بالرغم من أنها من الناحية الجسمية لا تزيد على أنها أحد أعضاء البدن ، إلا أن بالامكان أن تكون كناية عن الجهاز المعنوي وعن أفكار الدماغ عند الأم ، وعلى هذا فإن مجموعة المقررات التكوينية لجسم الأم وفكرها تكون ممهدة لبناء الطفل.

والنكتة الثانية : ورود كلمة ( البداء ) بالنسبة إلى الأمر الالهي ، والملائكة أيضاً يثبتون اللوح بشرط البداء ، وفي هذا دلالة صريحة على أن جميع الصفات الوراثية في رحم الأم ليست مصيراً حتمياً ، فان هناك عوامل ( قد تكون البيئة والتربية منها ) تغير تلك الصفات.

إذا كانت جميع الصفات الوراثية حتمية غير قابلة للتغيير ، وإذا كانت جميع الصفات الرذيلة في الأبوين تنتقل إلى الأولاد تماماً شأنها شأن لون العيون أو

ص: 114

الجنون والحماقة ... لم يكن معنى لارسال الأنبياء من قبل اللّه تعالى ، وكانت الشرايع والتعاليم السماوية لغواً لا فائدة فيها ، كما أنه من العبث قيام المحاولات الاصلاحية والمذاهب التربوية في المجتمعات البشرية ، لأنها لاتستطيع أن تؤثر في السلوك الموروث.

« ويميل نمو الجسم في اتجاهات مختلفة استجابة للوسط فتصبح صفاته الفطرية حقيقية أو تظل خاملة. فمن المحقق أن ميولاً وراثية معينة تتعدل تعديلاً كبيراً بظروف تكويننا » (1).

تغلب التربية على الوراثة :

تبلغ العادات التربوية والتمارين الاصلاحية المتواصلة درجة من القوة في التأثير بحيث تتغلب على الصفات الوراثية وتحدث وضعاً جديداً في الأفراد ، يقول الامام علي (عليه السلام) بهذا الصدد : « العادة طبع ثانٍ » (2).

إن الرئتين في الانسان خلقتا لاستنشاق الهواء ، والذي يدخن السيجارة لأول مرة ، ويرسل دخانها إلى أعماق رئتيه يحس باضطراب عجيب ، إذ يحس بدوار في رأسه ، يبدأ بالسعال ، تنتابه حالة التقيؤ تملآ الدموع عينيه وهكذا ينقلب حاله أثر الدخان. وهذا بديهي لأن الرئة لم تصنع للدخان بل للهواء النقي.

ولكن بتكرار التدخين تعتاد الرئة على الدخان وتتخلى عن طبعها الأولي الذي كان ينفر من الدخان. وهكذا ينقلب ما كان يبعث على النفور والاضطراب إلى أداة للتسلية والترويح عن النفس وهنا نقول بأن الرئة قد تربت على استنشاق الدخان ، وعلى أثر التكرار حصلت على طبع ثانوي وتركت طبعها الاول. ولهذا السبب فانها ترتاح لعملها غير الطبيعي وتستمر عليه.

إن الأنبياء لم يأتوا لأن يحولوا المجانين الوراثيين إلى عقلاء ، أو يجعلوا من البلداء الفطريين نوابغ ، لأن هذا ما لا يمكن أن يحدث ... لأن الأنبياء يريدون أن

ص: 115


1- الانسان ذلك المجهول ص 197.
2- غرر الحكم ودرر الكلم ص 19. طبعة دار الثقافة - النجف الأشرف -

يخضعوا البشر إلى مراقبة إيمانية وعملية في خصوص الصفات القابلة للتغير على ضوء التربية الصحيحة ، لا يصالهم إلى السعادة والكمال الانساني.

أما بالنسبة إلى الذين ينتمون إلى أصول عائلية فينمون فيهم قابلياتهم ومواهبهم ويخرجون الفضائل الكامنة من مرحلة الاستعداد إلى مرحلة الفعلية لكيلا ينحرفوا عن الصراط المستقيم مسير حياتهم. ويحفظوا ثروتهم الوراثية العظيمة من الملكات والفضائل ، لكيلا يقعوا في هوة الفساد والجهل الطيش على أثر مصاحبة الفساد والجهل والطائثين.

وأما بالنسبة إلى الذين ورثوا الصفات البذيئة من أبويهم فيعمل الأنبياء على إطفاء الاستعدادات الكامنة نحو الفساد فيهم بالتربية الصحيحة التدريجية واتخاذ الأساليب الأخلاقية الدقيقة. وبذلك يخرجونهم من طبائعهم الأولى إلى طبائع جديدة حاصلة من إحياء قوى الخير والصلاح في نفوسهم وتكون النتيجة أن يحوز هؤلاء على درجة لا بأس بها من الكمال ... هذا العمل أمر ممكن في نظر العلم والدين. فما أكثر أولئك الذين كانوا متصفين بصفات رذيلة ثم زرع الاسلام في نفوسهم بذور الخير والصلاح واقتلع جذور الشر والفساد ، فوصوا بفضل التربية الاسلامية الرصينة إلى أوج السعادة.

« لوحدانية الانسان أصل مزدوج. فهي تأتي في وقت واحد من تركيب البويضة التي ينشأ منها وكذلك من تطوره ونموه ومن تاريخه ... إن الخصائص الوراثية في البويضة ليست إلا ميول أو إمكانيات وهذه الميول تصبح حقيقة أو تظل تقديرية تبعاً للظروف التي تواجهها النطفة ، فالطفل ، ثم المراهق ، إبان نموهم ... وهكذا يتوقف أصل الانسان على الوراثة أكثر أهمية من النمو، أو العكس بالعكس؟ ... إن الملاحظات والتجارب تعلمنا أن الدور الذي تلعبه الوراثة والنمو يختلف في كل فرد ، وإن قيمتها النسبية لا يمكن تحديدها عادة » (1) .

ص: 116


1- الانسان ذلك المجهول ص 194.

ظهور الاستعدادات الكامنة :

يرى العلماء أن التربية عامل قوي جداً حيث تقدر أحياناً على أن توقف عمل الخواص الوراثية السيئة وتعود بالأفراد إلى طريق السعادة والكمال وقد لاتعطي التربية نتيجة حتمية كاملة ... وهذا يتبع الخصوصيات الفطرية للأفراد حيث أنها متفاوتة.

ولكن الثابت أننا يجب أن ننظر إلى جميع الأفراد بعين القبلية ونحتمل أن تؤثر فيهم الأساليب التربوية الصالحة ، فإن كانت هناك استعدادت كامنة للخير والكمال فانها تظهر بفضل التربية الصالحة وتخرج من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل [ كما يقول المنطقيون ].

« ولما كنا لا نعلم طبيعة هذا الاستعداد بالدقة ، فيجب علينا أن نفترض أنه مناسب وأن نتصرف تبعاً لذلك. فمن المحتم أن يتلقى كل فرد تعليماً يؤدي إلى نمو صفاته المحتملة إلى أن يتبين بصفة قاطعة أن هذه الصفات غير موجودة » (1).

التربية للجميع :

إن الاسلام الذي لم تفته صغيرة ولا كبيرة من الوسائل المؤدية بالبشر إلى السعادة والكمال ، لم تفته هذه الناحية فركز تعاليمه الرصينة على أسس التربية الصالحة. إن الاسلام يدعو جميع الناس من أي طبقة كانوا إلى الإيمان والطهارة ، ولذلك فهو يرى كل فرد - مهما كانت خصائصه العائلية الوراثية واستعداداته الفطرية - قابلاً لتلقي الايمان والخلق والفاضل ... وهو لا يخيب أمل أي فرد ، بل يحاول البحث في أعماق فطرته للوصول إلى القيم الحية التي يمكن أن تنمي وتستخرج من بين زوايا النفس وتجلى فتبعث على الحياة من جديد.

ومن النماذج الحية لاعتناء الاسلام بتربية الأفراد الذين يرثون الصفات الرذيلة عن أبويهم سلوكه المفضل مع الأطفال اللاشرعيين. إن مما لا شك فيه أن ولد الزنا

ص: 117


1- الانسان ذلك المجهول ص 198.

يحمل في فطرته صفات شريرة - كما سنثبت ذلك إن شاء اللّه - ولكن الاسلام يعتبره قابلاً للتربية بدليل أنه يدعوه لتلقي التعاليم الايمانية والخلقية والسلوك الخير المؤدي إلى السعادة.

ومن الواضح أنه لو كان منقذ البشرية ورسول الاسلام العظيم يرى في الانحراف والشقاء مصيراً حتمياً لأولاد الزنا ويعاملهم معاملة المجانين الفطريين الذين لا يقبلون العلاج ... لما كان يدعوهم إلى دين اللّه (1).

لقد وضع الاسلام وجميع الأديان السماوية قواعد وقوانين خاصة للزواج. ولذلك فقد اعتبرت الشرايع السماوية الخروج عن تلك القوانين أمراً غير مشروع ، فالزنا يعتبر جريمة شنيعة. وكثير من الملل التي لا تملك شريعة سماوية قد وضعت قوانين خاصة لمنع الاختلاط غير المشروع ، وبصورة موجزة فان العلقة الزوجية الصحيحة في نظر العالم مقيدة بشروط وحدود خاصة.

والطفل الذي يولد ن طريق مشروع يكون ولداً قانونياً أما أولاد الزنا فهم يعرفون بالأطفال اللاشرعيين. وفي الاحصاءات الدولية للسكان يصرح بعدد الأطفال اللاشرعيين بعد انتهاء تعداد السكان ، وفي هذا دلالة على اختلاف أولاد الزنا والأولاد القانونيين في نظر العالم.

« في قرار صدر أخيراً عن دائرة التحقيقات الاجتماعية في الولايات المتحدة الامريكية يحكي أن عدد الاطفال اللاشرعيين في العالم الماضي كان 208700 شخصاً. وهذا الرقم يرينا نسبة عالية في الارتفاع عن السنوات العشر الماضية إذ يبلغ 47% من الزيادة. إن القرار الآنف الذكر يضيف بأن قسماً كبيراً من هؤلاء الأطفال اللاشرعيين نشأوا من الشبان الذين لم يتقدموا في السن كما أن 40%

ص: 118


1- لقد رفع الإسلام التكليف عن قسم من الناس. منهم المجانين. وهذا دليل على أنه لا يراهم قابلين لتقبل الدعوة الى اللّه حال كونهم مجانين. ولكنه لم يرفع التكليف عن ولد الزناحين يبلغ. ولو كان الشقاء الحاصل في نفوس أولاد الزنا متأصلا كالجنون لم يكن معنى لتكليفهم بالتكاليف الشرعية ، فتكلفهم يدل على إمكان اصلاحهم وتغيير سلوكهم.

من هؤلاء قد أولدتهم فتيات لا تزيد أعمارهن على العشرين سنة » (1). « لندن - رويتر - وكالة الأنباء الفرنسية ... ذكر الدكتور : ج. أ. أسكوت مدير صحة لندن في تقرير رفعه أنه كان من بين كل عشرة أطفال طفل واحج ناشئ من العلاقات اللامشروعة في لندن في العام الماضي ».

« لقد أكد الدكتور أسكوت أن نسبة الأطفال اللاشرعيين آخذة في الأزدياد. حيث كان عددهم في عام 1957 لا يتجاوز 33838 بينما ارتفع إلى 53433 في السنة التالية » (2).

الأطفال المنحرفون :

يرى أئمة الاسلام أن أولاد الزنا مصابون بالانحراف الروحي ، الأمر الذي يؤدي بهم إلى سوء الأخلاق ومخالفة القوانين والاستهانة بها. يقول الامام الصادق (عليه السلام) :

« إنه يحن إلى الحرام ، والاستخفاف بالدين ، وسوء المحضر » (3).

وهنا يمكن أن يخطر السؤال الآتي على أذهان البعض فيقولون : إن الأطفال يوجدون من نطفة الأبوين ، وإن الجهاز التناسلي في الرجل والمرأة يعمل عمله حسب نظام دقيق. وهذا العمل الطبيعي لا يختلف في العلاقة القانونية وغير القانونية. فأي أثر لإجراء صيغة الزواج أو صدور ورقة العقد في واقعية النطفة؟ ولماذا يجب أن يكون ولد الزنا مصاباً بالانحراف؟.

وبالرغم من أن الجواب على هذا السؤال قد اتضح من البحوث السابقة حيث ذكرنا فيها تأثير الحالات النفسية على البدن ، وتأثر الروح بالأعمال الجسمانية ... بالرغم من ذلك كله فاننا سنفصل القول في خصوص الاختلاط اللامشروع ذاكرين أسباب الانحراف في سلوك أولاد الزنا ...

ص: 119


1- يونايتدبرس جريدة إطلاعات الايرانية العدد 10523.
2- جريدة إطلاعات الإيرانية العدد 10523.
3- سفينة البحار مادة ( زنى ) ص 560.

الاختلاط اللامشروع :

سئل الامام الصادق علیه السلام : « لم حرم اللّه الزنا؟!

قال : - لما فيه من الفساد ، وذهاب المواريث ، وانقطاع الأنساب ... لا تعلم المرأة في الزنا : من أحبلها؟ ولا المولود يعلم : من أبوه؟. ولا أرحام موصولة ، ولا قرابة معروفة ... » (1)

هناك عشرات المسائل الأخلاقية والنفسية والاجتماعية والتربوية والعائلية والاقتصادية والعاطفية سببت تحريم المشرعين الالهيين ( أي الأنبياء ) للزنا واعتباره أمراً مخالفاً للقانون.

الأطفال اللاشرعيون :

وهناك نكتة لطيفة هي أن العالم المتمدن يعتبر الزنا مشكلة وظهور الأطفال اللاشرعيين مشكلة أخرى ، كما أن الاسلام يعتبر الاختلاط اللامشروع بين الرجل والمرأة معصية ، وحمل المرأة عن طريق الزنا معصية أخرى أفظع من الأولى. وإليك النصوص الآتية التي تثبت ذلك :

1 - قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « ما من ذنب أعظم عند اللّه تبارك وتعالى بعد الشرك من نطفة حرام وضعها امرء في رحم لا تحل له » (2).

2 - فقال الرضا (عليه السلام) : « إن الدفق في الرحم إثم والعزل أهون له » (3).

3 - عن الامام الصادق (عليه السلام) : « إن أشد الناس عذاباً يوم القيادمة رجل أقر نطفته في رحم يحرم عليه » (4).

إن الزاني والزانية إذا لم يولد منهما طفل ، فإن جريمتهما أنهما تجاوزا حريم

ص: 120


1- سفينة البحار للشيخ عباس القمي. مادة ( زنى ) ص 560.
2- مستدرك الوسائل للنوري ج 2 567.
3- المصدر السابق 2 567 ويظهر من الحديث أن الزنا مع العزل ( قذف النطفة خارج الرحم ) أهون للزاني من الزنا مع قذف النطفة داخل الرحم لأنه يمنع اختلاط الأنساب على الأقل.
4- وسائل الشيعة للحر العاملي ج 5 37.

القانون الجنسي ، أما إذا حملت المرأة من الزنا ، فإن الجريمة تتضاعف لأنه سيظهر في المجتمع ولد جبل على مخالفة القانون وارتكاب الجرائم. ومن الواضح أن خطر هذا أشد من الجريمة الأولى.

ولتوضيح وضع الأطفال اللاشرعيين ، وبيان الفرق بينهم وبين الأطفال القانونيين علينا أن نبحث عن الحالات النفسية للمرأة التي حملت بصورة غير مشروعة لنقيسها بالحالات النفسية للنساء الشرعيات ، ونحلل الفروق بينهما تماماً ... ولأجل أن يلتفت المستمع الكريم إلى الموضوع بجد نقصر بحثنا على الحالات النفسية للنساء المسلمات فقط.

هناك ملايين النساء والفتيات المسلمات يعشن في الدول الاسلامية ، وهن يختلفن بحسب درجات إيمانهن ... فالبعض منهم معتقدات بالاسلام حقيقة ويعتبرن مخالفة التعاليم الاسلامية ذنباً يستحقن العقاب عليه ... فإذا صادف وإن زلت امرأة من هذا النوع في سلوكها وارتكبت الزنا فهي تواجه حالتين من الاضطراب النفسي والضغط الروحي : -

إحداهما : الاحساس بالخوف الشديد من اللّه لارتكابها ذنباً.

والثانية : الاضطراب والخوف من انفضاح أمرها أمام أهلها ، والناس بصورة عامة ...

أما النساء اللاتي لا يملكن من الايمان والتدين ما كانت تملكه الطائفة الأولى ، فهؤلاء يمكن أن يرتكبن الزنا ويحسسن لذلك بخوف تجاه اللّه تعالى ولكنه ضعيف. ولكن إهتمامهن إلى الرأي العام أكبر. فهن يخشين تمام الخشية من نبذ الرأي العام ونفوره تجاههن ولا يرضين أبداً بأن يسميهن المجتمع ( زانيات ) أو ( فاحشات ). وحتى الرجال الذين لا يتورعون من الزنا لا يرضون بالاختلاط مع النساء المعروفات بالزنا ، والمشهورات بهذا العمل الشنيع.

وهناك طائفة ثالثة من النساء ابتليت بترك العفة وارتكاب الزنا ، إما إتباعاً للهوى أو للفقر والبؤس. هؤلاء النساء وإن كن يبدين الرضا بهذا العمل ، ولكن في ضمائرهن عقدة لا تقبل الانكار. ومتى ما وجدن من يحفظ سرهن إنطلق لسان

ص: 121

الضمير فيهن يتحدث له عن الشقاء والبؤس الذي يلاقينه ، وأظهران عدم رضاهن بهذا العمل الشنيع. ولهذا فإذا صادفن من لا يعرف عنهن الفحشاء والفساد ، ظهرن بمظهر العفيفة الطاهرة.

والخلاصة : إن التعاليم الدينية ، والعادات الاجتماعية ، والتقاليد العائلية قد أوجدت في نفوس جميع النساء والرجال المسلمين ، سواء كانوا عدولاً أو فساقاً ، متقين أو فاقدين للتقوى ... أوجدت في ضمائرهم وجداناً لا يقبل الانكار من أن الزنا عمل قبيح ، وأن الفاحشة تكون منفورة دائمة بين الناس.

الزواج القانوني :

بعد أن تحدثنا عن بعض الحالات النفسية للمرأة التي تقوم باتصال غير مشروع لنتحدث عن العلاقات المشروعة التي تقوم على أساس إطاعة القانون.

فعندما يقيم الشاب والشابة زواجاً قانونياً ، يراعيان فيه جميع القوانين والمقررات ، لا نجد إضطراباً بسيطاً في ضمير الرجل والمرأة ولا يشعران في باطنهما بوحشة أو خوف من اللّه أو الناس. يمارسان إتصالهما بفكر هادئ وروح مطمئنة. وفي مثل هذه الظروف تنعقد النطفة بصورة طبيعية مائة في المائة. هذا مضافاً إلى أن المرأة في أيام الحمل ليست غير مضطربة فحسب ، بل إنها فرحة في ضميرها ومستبشرة بالحمل. لأنها تعلم أن ذلك القران الخير قد أنتج ثماره ، وما هي إلا أيام قلائل حتى يزين حجرها مولود سعيد ، وعشرات أو مئات النساء والرجال سيأتون للتهنئة بولادته مستصحبين معهم باقات الزهور والهدايا الكثيرة!!

إرتياح البال :

لقد جلب ارتياح بال الأبوين وحالتهما الطبيعية من جهة التأثير في البناء البدني والروحي للطفل إنتباه العلماء في العصر الحديث. ولم يفت الأئمة علیهم السلام هذا الأمر. بل أكدوا على أثر الأطمينان النفسي وارتياح الضمير عند الأبوين في إيجاد الطفل. يقول الامام الحسن العسكري (عليه السلام) في موضوع الشبه بين الطفل وأبويه أو عدمه : « فإن الرجل إذا أتى أهله بقلب ساكن وعروق هادئة ، وبدن غير مضطرب ، استكنت

ص: 122

تلك النطفة في الرحم ، فخرج الرجل يشبه أباه وأمه » (1)

النطفة الطبيعية :

إذا كان قلب الأبوين حين انعقاد النطفة منتظماً ، وجريان الدم طبيعياً ، والبدن خالياً من الاضطراب ، فالطفل يكون شبيهاً لأبويه حسب القاعدة. إن أصح الحالات الطبيعية للطفل هو أن يشبه أبويه. وأصح الحالات الطبيعية للأبوين هو الكفيل بظهور ذلك الشبه الطبيعي.

والنتيجة التي نستنتجها من هذا البحث ، هي : أن الرجل والمرأة اللذين يقيمان علاقة زوجية طاهرة مع مراعاة القوانين الدينية لا يحسان باضطراب وهلع حين الاتصال الجنسي ، فالنطفة التي توجد منهما في تلك الحالة ، وفقدان الاضطراب إلى حين الولادة يضمن نشوء إنسان طبيعي خال من الانحراف الفطري والخلقي.

أما الشاب والشابة اللذان يتصلان بغير زواج قانوني ، فمها لا شك فيه أن حالتهما ليست هادئة وطبيعية مائة في المائة ، وإذا كانا يهتمان بالتعاليم الدينية ويخافان من إنفضاح الأمر أمام أبويهما فان الاضطراب سيتضاعف أما إذا لم يكونا مرتبطين بالتعاليم الدينية فإن الخوف من الفضيحة أمام المجتمع كاف في إيجاد حالة من الهلع والاضطراب في الطرفين.

وإذا لم تنعقد نطفة من هذا الاتصال اللامشروع ، ولم يستقر جنين في رحم المرأة ، فإن الطرفين قد ارتكبا بذلك ذنباً في السر. أما إذا حملت المرأة من ذلك الاتصال فإن إفشاء السر بين الناس وانفضاح أمرهما سيعمل على ازدياد إضطرابها.

الاضطراب أيام الحمل :

إن الفتاة التي تقدم على الزنا خفية عن أبويها ، بمجرد شعورها بالحمل تضطرب أشد الاضطراب ، وتنتابها رعشة تسري إلى فرائصها. ذلك لأن انتفاخ بطنها في أقرب وقت سيفضح سرها ، ولذلك فانها تقضي لياليها بالأرق وتعيش أيامها غارقة في التفكير ، والدموع السائلة والندم المتواصل ... وما أكثر أولئك اللاتي أدى بهن

ص: 123


1- بحار الأنوار ج 14 379.

الأمر إلى الانتحار والتخلص من هذه الحياة أو تحمل المشاق العظيمة في سبيل إجهاض الجنين اللاقانوني ... الأمر الذي يجر معه الأمراض والآلام الشديدة.

أما إذا لم تقدم هذه المرأة على الانتحار ، ولم تقم بإجهاض الجنين ، وبعد نقضاء أيام الحمل تولد الطفل ، هل تتصورون بأن هذا الطفل يمكن أن يكون سالماً وطبيعياً؟ فمضافاً إلى أن الاضطراب كان مستولياً على الأبوين حين انعقاد النطفة ، ولم تنشأ النطفة الأولى لهذا الطفل بصورة طبيعية ، فإن كابوس الاضطراب والقلق كان مسيطراً على المرأة طيلة تسعة أشهر ( أيام الحمل ) فهناك الغصص والآلام والهموم التي حولت تلك المرأة إلى مخلوقة ضعيفة عليلة ... ولا يخفى أن الطفل كان شريكاً مع أمه في تلك الآلام والمحن.

لقد ذكرنا في المحاضرة السابقة أن التجارب العلمية الدقيقة أثبتت نقطتين مهمتين : -

الأولى : أن المرأة إذا أصيبت في أيام الحمل بخوف شديد وانتابتها رعدة من جراء خوفها تظهر بقع على جسم الطفل.

والثانية : أن الاضطرابات العصبية للأم في أيام الحمل تؤدي إلى تولد الطفل عصبياً ... فإذا كانت حادثة مخيفة بسيطة أو حالة عصبية في وقت قصير تخلف أثراً سيئاً في الطفل ، فالقلق الذي يستمر تسعة أشهر لا بد وأن يكون أثره أعظم!!.

النقل القانوني والتهريب :

إن الفرق بين الاتصال المشروع واللامشروع بين الرجل والمرأة مثل الفرق بين النقل القانوني والتهريب ، وبين السفر إلى الخارج مع الجواز وبدونه ... فالمسافر عن كل من الطريقين يحتمل أن يعبر الحدود ويدخل الدولة الأخرى ، ولكن مع فارق ممهم هو أن حامل الجواز الذي يدخل الدولة الأجنبية بواسطة سمة الدخول يمتاز باطمئنان وارتياح بال ، يتنقل كيف يشاء ويتصل بمن يشاء ، من دون أن يحس في باطنه قلقاً أو اضطراباً. ولكن المسافر الذي لا يحمل جوازاً يرى نفسه معرضاً للخطر في كل لحظة ، فهو قلق مضطرب ، حركاته غير متزنة يصحبها إرتباك وتلفت إلى اليمين والشمال ، وحذر من مراقبة الأفراد له. إذا قابل فرداً ظن أنه يراقبه

ص: 124

وسيرفع تقريراً عنه إلى الحكومة وما أسرع أن يلقى القبض عليه ... وهكذا فهو يمتقع لونه مقابل سؤال بسيط ، وترتعد فرائصه ويفقد توازنه.

كل هذه الاضطرابات والحالات غير الاعتيادية التي تنتابه ، لأجل أن هذا المسافر قد دخل دولة أجنبية بدون جواز أو سمة دخول. إن العقد وإجراء الصيغة في الزواج بمثابة الجواز والسمة للسفر إلى الخارج.

الخروج على القانون :

وتوجد بين النساء الملوثات بالانحرافات الجنسية ، طائفة لا تملك الايمان كي يراقبن الخوف من اللّه ولا تملك مسعة حسنة في المجتمع كي يخفن من انفضاح الأمر ، ولذلك فيرتكبن الزنا من دون اكتراث ولا يرين فرقاً بين الاتصال القانوني وغير القانوني. فإذا حملت هذه المرأة من الزنا ، فبالرغم من أنها لم تصب بالاضطراب والقلق طلية أيام الحمل ، ولكن في ضميرها نقص مهم ، وفي فكرها إنحراف أهم ، وهو الخروج على القانون ... وهذه الصفة نفسها كسائر الصفات الرذيلة تخلق تربة مساعدة في الطفل للخروج على القانون. وفي كل مرة تحمل هذه المرأة من الزنا تؤثر حالتها النفسية في نفسية الطفل وتجر على المجتمع آثاراً سيئة.

يقول الامام الصادق (عليه السلام) : « لا تزوجوا المرأة المستعلنة بالزنا ، ولا تزوجوا الرجل المستعلن بالزنا ، إلا أن تعرفوا منهما التوبة » (1).

إن بعض النساء يتزوجن ولكن نفوسهن القذرة الدنيئة تميل إلى الرجال الأجانب ، ومن الممكن أن ترتكب الزنا بالرغم من أنها ذات زوج وتستفيد من ذلك لأنها يجعل الزوج حصناً منيعاً أمام التهم الاجتماعية. إن ما لا شك فيه أن هذه المرأة مصابة بالانحراف النفسي. وحتى إذا حملت من زوجها القانوني ، فإن الطفل بالرغم من كونه قانونياً حسب المقررات الشرعية ولكنه من جهة الانحراف الروحي والفساد النفسي لا يقل عن ولد الزنا ، إذ أن الطفل يرث الصفات الرذيلة من أمه فهو ينزع إلى الإجرام والخروج على القانون دائماً ، يقول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :

ص: 125


1- مكارم الأخلاق للطبرسي ص 104.

« واشتد غصب اللّه على إمرأة ذات بعل ملأت عينها من غير زوجها ، أو ذي محرم منها. وأنها إن فعلت ذلك أحبط اللّه كل عمل لها فإن أوطأت فراشها غيره ، كان حقاً على اللّه أن يحرقها بالنار بعد أن يعذبها في قبرها » (1).

كان الحجاج بن يوسف الثقفي فرداً غير طبيعي ، وخطراً في نفس الوقت ، والتاريخ أحصى له جرائم وجنايات عظيمة سودت وجه البشرية. إن مما لا شك فيه أن عوامل عديدة تدخلت في إنحراف سلوك هذا الانسان مما جعلته خطراً وشريراً إلى هذه الدرجة ، ومن الممكن أن قسطاً وافراً من ذلك يرجع إلى روح أمه المنحرفة.

إن أم الحجاج ( فارغة ) كانت زوجة ( المغيرة بن شعبة ) قبل أن تتزوج يوسف الثقفي وكان عمر بن الخطاب يسير في أزقة المدينة في بعض الليالي ... فسمع امرأة تغني في أحد البيوت وتنشد البيت الآتي : -

هل من سبيل إلى خمر فاشربها *** أم من سبيل إلى نصر بن حجاج؟

فتأثر عمر من هذا البيت ، وساءه أن تكون في عاصمة حكومته امرأة تترنم بغرام شاب أجنبي بالرغم من أنها متزوجة ، فأحضر النصر إبن الحجاج - وكان شاباً جميلاً - فحلق رأسه وسفره إلى البصرة » (2).

إن المرأة المحصنة التي تفكر في رجل أجنبي وتتمنى معاقرة الخمر والوصول بالنصر بن حجاج إذا حملت من زوجها القانوني نطفة ، فإن انحرافها سيؤثر في نفس طفلها. إن المرأة التي لا تفهم لاحترام القوانين الالهية التعاليم الدينية معنى ، لا يستغرب منها أن تلد طفلاً مثل الحجاج في فساده وانتهاكه حريم الناس وأرواحهم وأموالهم.

ص: 126


1- لئالي الأخبار ص 496.
2- يراجع عن تفاصيل القصة : الكامل لابن الأثير 1 344 ، وشرح إبن أبي الحديد ج 2 100 ط دار الكتب ، وعيون الأخبار ج 4 24.

الأمهات العفيفات :

إن من سعادة الرجل وحسن حظه أن تكون أمه عفيفة ، متصفة بالأخلاق الفاضلة. يقول الامام الصادق علیه السلام : « طوبى لمن كانت أمه عفيفة » (1)

نستنتج من البحوث السابقة : أن أولاد الزنا ليسوا طبيعيين مائة في المائة. ومما لا شك فيه أن الأشخاص المجرمين قد ورثوا العوامل المساعدة على الانحراف من آبائهم. ولكن من الجهة العلمية ليست تلك الانحرافات حتمية في نفوسهم ، ولم تسلبهم الارادة والاختيار ، وبعبارة أخرى فإن كون الطفل ابن زنا ليس علة تامة لشقائه وانحرافه ، فإن ظروف المحيط والعوامل التربوية يمكن أن تعطل العوامل الوراثية وتبدلها بالصفات الحسنة وتهدي صاحبها إلى طريق الخير والصلاح.

المراقبة التربوية :

والإسلام ينظر إلى أولاد الزنا من جهة القابلية التربوية بنفس هذه النظرة ويخضعهم للمراقبة التربوية والإيمانية شأنهم في ذلك شأن الأولاد القانونيين ولذلك فهو يدعوهم كغيرهم إلى التعاليم الخلقية والملكات الطاهرة والإيمان وعبادة اللّه ، ويقيدهم بالتكاليف الشرعية فيجازي ولد الزنا على أعماله كما يجازي غيره ويعاقب كما يعاقب ، سواء بسواء. يقول الامام الصادق علیه السلام : « إن ولد الزنا يستعمل ، إن عمل خيراً جزي به وإن عمل شراً جزي به » (2).

يرى البعض أن أولاد الزنا الزنا محرومون عن الفيض الالهي والرحمة الربانية بسبب كونهم ناشئين من زنا ، وأن عليهم أن يحيوا بشقاء ومصيرهم إلى جهنم بلا ريب ... لكن هذا ينافي العدل الالهي ، فاللّه تعالى لا يعذب شخصاً بما هو خارج عن اختياره. فإذا أسلم من ولد من الزنا بإخلاص وعمل بوظائفه الشرعية فانه يمارس الحقوق التي يحق لكل مسلم أن يتمتع بها في الدنيا ، ويشمله الفيض الالهي العظيم في الآخرة.

ص: 127


1- بحار الانوار ج 23 79.
2- سفينة البحار مادة ( زنى ) ص 560.

مراقبة أشد :

إن ولد الزنا يمكن أن يصل إلى درجات الكمال كغيره من أفراد المسلمين مع فارق واحد : هو أنه عليه أن يخضع لمراقبة أشد ، كي يتمكن بذلك من مواجهة آثار الانحراف الوراثي ويؤمن نفسه من أخطاره الجسيمة.

ونظراً لأن الأساليب التربوية والظروف البيئية تختلف ، وأن القوى الوراثية متفاوتة في الأفراد كما يقول الدكتور الكسيس في النص الذي نقلناه أنه يعامله معاملة غيره مع إضافة تشديد المراقبة عليه في تلقيه الدروس الإيمانية والأخلاقية ... فانه يبقى في حيطة من أمره ومن مزاجه القائم على الانحراف. ولذلك فلا يرضى بأن يسلم زمام الحكم ومقدرات الأمة بيده.

إن ولد الزنا لو كان أعلم علماء عصره فانه لا يحق له أن يتقلد منصب مرجعية التقليد العام للمسلمين ، وقيادة الأمة الاسلامية ، ومهما كان صاحب ذوق رفيع ونبوغ كامل في العلم ، فالاسلام لا يرضى له أن يتقلد منصب القضاء بين المسلمين ، لأن من الممكن أن تظهر صفته الوراثية الرذيلة فجأة ، وتلتهب نار الفساد الكامنة تحت الرماد ، وتقطع بذلك القيود الدينية والتربوية ، وتجر بذلك الويل والثبور للذين يتقلد زمامهم.

* * *

وملخص ما مر أن بعض الصفات الوراثية تتصف بصفة الحتمية وهي من مصاديق القضاء والقدر الذي لا يقبل التغيير. والبعض منها يسلك كعامل مساعد فقط في سلوك الطفل فهو ليس قضاء حتمياً وقدراً لازماً ...

وإن الأساليب التربوية وعوامل المحيط إن اتفقت مع تلك الصفات الوراثية ظهرت بسرعة. وإن خالفتها فإن التربية تتغلب على الوراثة ، والمحيط يكون أقوى من الصفات الموروثة.

ولهذا فإن الاسلام يهتم بتربية الأفراد الذين يملكون تربة مساعدة للفساد والانحراف ويأمل وطيداً باحتمال إصلاحهم وسلوكهم سبل السعادة.

وحجر الأم هو المحيط الأول لتربية الطفل. فطوبى للأطفال الذين يولدون من

ص: 128

آباء وأمهات طاهرين إهتموا بتربيتهم وتنشئتهم نشأه دينية صالحة ...

والاسلام يحترم هذا النوع من الآباء والأمهات ... ويوصي الأطفال بأن يخضعوا لهم يقوموا بواجب الاطاعة والاحترام تجاههم ، جزاء على جهودهم ، ويأمرهم بن يدعوا لهم بدعاء الخير.

«وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ... ».

* * *

ص: 129

المحاضرة السادسة: النظام الطبيعي في الأحياء التعليم والتربية في عالم الانسان

اشارة

«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» (1)

للوصول إلى السعادة ، وتحقيق الكمال اللائق بالانسان من الناحية التربوية ، يجب الالتفات إلى أصلين مهمين :

( الأول ) : إحياء الاستعدادات الفطرية المفيدة.

و( الثاني ) : إماتة الميول المنحرفة والاتجاهات الشريرة. ونعبارة أوضح فان المربي الممتاز هو الذي يستطيع من أن ينمي القابليات والمواهب الفطرية التي يملكها الطفل بالأساليب التربوية الصالحة من جانب. ومن جانب آخر يعمل على دحر الصفات الوراثية الشريرة والاتجاهات التي لا تلائم السلوك الصحيح. ولأجل أن يتضح مدى أثر التربية وأخميتها بالنسبة إلى الوصول إلى الكمال الانساني اللائق به نرى لزاماً أن نبحث في هذه الجهات بحثاً مفصلاً. والظاهر أن هذا البحث مضافاً لما سيوضحه من ضرورة التربية بالنسبة للانسان سير شدنا إلى إحدى آيات اللّه الدقيقة في هذا الكون ويدلنا على إرادته الحكيمة في تسييره.

إمتياز الانسان عن سائر الأحياء :

بالرغم من أن الانسان يعد أحد الموجودات الحية في العالم ، ويتركب وجوده من سائر العناصر المكونة للموجودات الأخرى ... لكنه يمتاز عنها بخصائص

ص: 130


1- سورة التين 4،5،6.

ومميزات تفصله عن سائر الأحياء. إن الانسان يختلف عن الأشجار والأزهار ، وعن الحشرات والحيوانات في جهات متعددة ، ومن جملة هذه الفروق : أن الحيوانات لا تحتاج في بلوغها الكمال المحدد لها إلى تعليم وتربية. إن الغرائز الفطرية التي أودعها اللّه تعالى فيها هي التي ترشدها بانتظام وفي جميع مراحل حياتها إلى مطاليبها ، وهي تسلك طريق تكاملها بصورة صحيحة ... لكن الانسان يحتاج إلى التعليم والتربية ، فإنه إن لم تكن تربيته مطابقة لأساليب علمية وعملية لا يصل إلى الكمال اللائق به ، ويستحيل أن تظهر استعداداته الفطرية ومواهبه إلى حيز الخارج.

إن القرآن يحكي لنا قصة موسى وهارون حين توجها بأمر من اللّه إلى فرعون وقومه ليدعواهم إلى توحيد اللّه وعبادته ، ومن خلال تلك القصة يسأل فرعون عن الخالق الذي يدعوان إليه قائلاً : « فمن ربكما يا موسى؟! » فيجيبه موسى (عليه السلام) : « ربنا الذي : أعطى كل شيء خلقه ثم هدى!!! »

الأعضاء اللازمة للحياة :

يتبين لنا من الآية السابقة أن اللّه تبارك وتعالى قد وهب لكل موجود ما يحتاجه ، وقرر له ما ينبغي له. ومن الواضح أن درجة احتياج كل موجود إلى شيء ما تختلف ... فالحيوانات مثلاً يختلف بناؤها الطبيعي ونوع الغذاء ، الذي تحتاجه ، وقد طورها اللّه على الشكل الملائم لها ، فأعطاها الأعضاء اللازمة لحياتها ، أعطى الأسد مخالب قوية لتمزيق اللحوم ، ومنح الشاة أسناناً حادة لقضم الأعشاب ... وهب البعض قوة الركض والجري السريع ، وأعطى للبعض الآخر القدرة على الطيران ، خلق في البعوضة الضعيفة خرطوماً للمص ، وجهز الطيور الداجنة بمنقار يختلف تماماً عن منقار الطيور القانصة.

إن أول دليل يقدمه موسى لفرعون على وجود اللّه تعالى هو أن : ربي هو الذي نظم بناء الخلق العظيم بعلم وحكمة ، وأعطى لكل موجود ما يستحقه ويحتاجه في بلوغ مقاصده ، ولذلك فإن آثار قدرته تعالى ظاهرة في كل موجود. يقول الشاعر :

فانظره في حجر وانظره في شجر *** وانظره في كل شيء ... إنه اللّه

ويقول الآخر :

ص: 131

وفي كل شيء له آي--ة *** تدل على أن--ه واحد

استخدام العضو :

إن الحصول على الأدوات والآلات أمر ... وكيفية استخدام تلك الآلات أمر آخر ، فمكبرة الصوت عبارة عن جهاز لتوزيع الصوت وإيصاله إلى ابعد ما يمكن ، ولكن استخدام هذا الجهاز والاستفادة منه يحتاج إلى علم وإطلاع بشؤونه ، فمن الممكن أن توجد قاعة ما أجهزة فخمة لتكبير الصوت ولكن لا يوجد عامل فني واحد يعرف كيفية استعمالها. وهكذا ، فوجود وسائل الفحص بالأشعة السينية وأدوات الجراحة في المستشفى يختلف عن كيفية استخدامها. فانه لا بد من طبيب ممارس كي يعرف كيفية التصوير بدقة ، وتشخيص حصى الكلية مثلاً ، ثم كيفية شق بطن المريض بالمباضع والسكاكين واستخراج الحصى ، وإعادة خياطة موضع الجرح بدقة ... وفي النهاية برء المريض وخلاصه من الآلام.

ولهذا نجد أن الدليل الثاني الذي يقدمه موسى لفرعون على وجود اللّه تعالى هو : أنه بعد الفراغ من تزويد اللّه تلك الموجودات بالوسائل والأدوات اللازمة ، علمها كيفية استخدام تلك الأعضاء وطريقة الاستفادة من تلك الآلات والأجهزة كلاً على حدة. إن بعوضة ضعيفة تعرف كيف وأين تدخل مضخة الدم أي خرطومها الذي هو بمثابة المحقنة الطبية لتمص الدم بذلك ، وتحفظ حياتها بالتغذي عليه.

هذا النظام الدقيق ، وهذه الأساليب المتقنة لا يمكن أن تصدر من ناحية الطبيعة العمياء ، وعلى نحو الصدفة التي لا تعي ولا تشعر. إن الذات التي تتمثل فيها القدرة الكاملة والعلم المحيط والارادة التامة التي أوجدت هذا الكون بحسب نظام دقيق منحصرة في اللّه تعالى.

التكامل البشري :

يتقدم الانسان دوماً نحو الرقي والتكامل ... كثير من الحقائق كان يجهلها الناس أمس الأول وكشف الحجاب عنها أمس ، وقسم من الحقائق كانت مجهولة أمس ، وإذا بالعلم يكشف عن أسرارها اليوم ... وهكذا فإن هناك كثيراً من الحقائق

ص: 132

يجهلها العالم اليوم ، ولكنها ستنكشف لعالم الغد. وعلى مر الأيام كلما انكشفت زاوية مجهولة في هذا الكون الفسيح ورفع النقاب عن سر مكنون ... إطلع العالم على النظام الحكيم الذي أودعه اللّه ، فيقف إجلالاً ويركع خضوعاً وخشوعاً حيال عظمته وحكمته.

وحين كان موسى يتكلم مع فرعون حول توحيد اللّه ... وحين نزل حديث موسى بن عمران بصورة آية من القرآن على نبينا العظيم ، كانت معلومات البشر عن نظام الخلقة ، وأسرارها العجيبة محدودة وضئيلة جداً ولم معلومات البشر عن نظام الخلقة ، وأسرارها العجية محدودة وضئيلة جداً ولم يكن الناس ليتوصلوا إلا إلى ما تراه عيونهم المجردة القاصرة غافلين كل الغفلة عن أن الحقائق التي لا تدرك بالعين المجردة ، والأمواج التي لا تسمع بالأذن العادية أكثر بكثير ن المبصرات والمسموعات العادية للبشر. لكن أئمة الاسلام الهداة ، والقادة المعصومين الذين كانوا ينظرون بنور الوحي والإلهام وبعين الحقيقة والواقع التي لا تحجبها الأستار المادية ، كانوا على علم بجميع تلك الحقائق.

يذكر الامام علي (عليه السلام) هذه الحقيقة في خطبة من خطبه ، ضمن حمد اللّه والثناء عليه قائلاً : « وما الذي نرى من خلقك ، ونعجب له من قدرتك ، ونصفه من عظيم سلطانك؟ وما يغيب عنا منه وقصرت أبصارنا عنه ، وانتهت عقولنا دونه ، وحالت سواتر الغيوب بيننا وبينه ... أعظم » (1).

الموجودات المجهرية :

لم يكن ليعرف الانسان قبل أربعة عشر قرناً شيئاً عن العالم المحير والعجيب للموجوادات المجهرية ، ولم يكن بالامكان للعلماء في عصر نزول القرآن أن يؤمنوا أن في القطرة الواحدة من نطفة الرجل تسبح ملايين الموجودات الحية ... ولكننا نجد في ذلك العصر حينما يسأل ( الفتح بن يزيد الجرجاني ) من الامام الرضا (عليه السلام) عن سبب تسمية اللّه باللطيف يقول الامام في جوابه : « للخلق اللطيف ، ولعلمه

ص: 133


1- شرح نهج البلاغة لملا فتح اللّه ص 276.

بالشيء اللطيف ... ومن الخلق اللطيف ، ومن الحيوان الصغار ومن البعوض والجرجس وما هو أصغر منها ، ما لا يكاد تستبينه العيون بل لا يكاد يستبان - لصغره - الذكر من الأنثى ، والحدث المولود من القديم » (1)

هذا الحديث يرينا أن الامام الرضا علیه السلام كان مطلعاً في ذلك الزمان على وجود الحيوانات المجهرية ، ولذلك فهو يذكر السبب في تسمية اللّه باللطيف ، خلقه تعالى للأشياء الدقيقة الصغيرة بنظم متقن وإبداع عجيب ، حيث أنها لصغرها لا يمكن أن ترى بالعين المجردة.

المستقبل الوضاء :

وفي تلك الأيام التي كانت معلومات علماء البشر محدودة وكانوا لا يعرفون الكثير من الحقائق المكتشفة اليوم لعدم حصولهم على الوسائل والآلات العليمة ... وفي تلك الأيام بالذات ظهر القرآن الكريم ببشارة سعيدة للبشرية ، وبعث في نفوس البشر الأمل الوطيد في وصولهم إلى حقائق خفية وأسرار مكنونة فقال : «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» (2).

فتنطلق هذه البشارة باعثة الأمل في نفوس الباحثين ليعلموا أن المستقبل سيظهر لهم الكثير من آيات اللّه في الآفاق الكونية ، وفي بناء البشر أنفسهم ... ليصوا إلى النتيجة المطلوبة وهي أن اللّه هو الحق والموجود.... وكأن اللّه تعالى يقول للبشر في عصر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : - بالرغم من أنني أظهرت كثيرا من الآيات والحقائق للبشر ، ولكن الحقائق التي يمكن اكتشافها لهم هي أكثر بكثير من الحقائق المكتشفة لحد الآن. وفي المستقبل القريب ، سأظهر لهم من الآيات الجديدة والحقائق الكثيرة ما يكفل لهم إتضاح الحق والقدرة الالهية أكثر.

وكأن الأئمة علیهم السلام كانوا يتنبأون بالتقدم العلمي للبشر ، والتعمق الذي سيبذلونه

ص: 134


1- الكافي للكليني ج 1 119.
2- سورة السجدة 53.

في بحوثهم في العصور التالية ، ولذلك فكانوا يذكرون ذلك في الأوقات المناسبة ...

« سئل علي بن الحسين (عليه السلام) عن التوحيد ، فقال : اللّه عز وجل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون ، فأنزل اللّه : «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)» والآيات من « سورة الحديد » ... » (1).

إن مما لا شك فيه هو أن البشر اليوم قد اكتشفوا - بفضل التقدم العلمي - كثيراً من الحقائق والأسرار في الآفاق الكونية والنفس الانسانية مما لم يكن يحدس به أصحاب القرون السابقة ، فمثلاً كان السابقون يستفيدون من قوله تعالى : « ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى » بمقدار ما كان يعرف البشر من أسرار العالم حينذاك ، فكانوا يعرفون مثلاً أن النحلة تملك الأدوات اللازمة لها في صنع غذائها وكذلك تعرف بفضل الهداية الفطرية كيفية استخدامها. أو أن الحمامة تعرف - بالهداية الفطرية - كيف وأن تضع عشها ، وكيف تحافظ على فروخها.

أما العلماء اليوم فإنهم عبروا المراحل التي تدرك بالعين المجردة. وشاهدوا الموجودات الحية التي ليست قابلة للرؤية ، بواسطة العين المسلحة ( بسلاح المجهر ) ، وتمكنوا أن يراقبوا نشاط الخلية التي تعتبر الوحدة الأولى لجميع الأحياء في العالم. إن ما لا شك فيه هو أن هذه الاكتشافات العلمية قد كشفت الستار عن كثير من آيات اللّه الخفية وأرتنا قدرة اللّه العظيم في الهداية الفطرية التي أودعها في هذه الموجودات لمزاولة نشاطها بصورة أوسع مما مضى.

عالم الخلية :

لقد قام الدكتور ( الكسيس كارل ) (2) بتجارب دقيقة حول حياة الخلايا خارج

ص: 135


1- تفسير البرهان ص 1228.
2- من العلماء المعروفين في علم الأجنة ، ومعرفة الأنسجة في العالم ، لقد كتب أحدهم عن شخصيته : « وأعظم هذه الاكتشافات هو معرفة الأجنة ( جمع جنين ) التي توصل إليها الكسيس كارل. لقد تمكن من أن يعتني بتربية الأنسجة بصورة دقيقة ، حتى توصل إلى الاحتفاظ بقطعة من قلب دجاجة لمدة ثلاثين سنة في معهد ( روكفلر ) بنيويورك »!!.

محيط البدن وتوصل إلى كشف رموز دقيقة في اختباراته العلمية ، ومن خلال قراءة بعض الفقرات من عباراته يتضح لنا أن الخلية الصغيرة الدقيقة لم تحرم أيضاً من فيض الهداية الفطرية التي أودعها اللّه تعالى في هذا الكون ، إنه يقول :

« ولقد عرف علماء التشريح والفسيولوجيا الصفات المميزة للأنسجة والأعضاء أي جمعيات الخلايا ، منذ أمد بعيد ولكنهم نجحوا حديثاً فقط في تحليل صفات الخلايا نفسها ولقد أمكن دراسة الخلايا الحية في قنينة بسهولة كما يمكن دراسة النمل في الخلية. وذلك بسبب الطرق الحديثة المستخدمة في توزيع الأنسجة. ولقد كشفت هذه الخلايا عن نفسها وعما وهبته من قوى لا يرقى اليها الشك ذات صفات مذهلة ... ومع أن هذه الصفات تقديرية في أحوال الحياة الطبيعية ، فانها تصبح حقيقة تحت تأثير المرض حينما يتعرض الوسط العضوي إلى تغييرات ( طبيعية - كيماوية ) معينة » (1).

« والخلايا ، كالحيوانات ، تنتمي إلى أجناس مختلفة ، وهذه الأجناس أو الأنواع تعين بصفات تكوينها ووظائفها المميزة لها » (2).

« وحينما تربى مختلف هذه الأنواع من الخلايا في قنينة فإن صفاتها المميزة تصبح من الوضوح مثل الصفات المميزة لمختلف الجراثيم. فلكل نوع صفاته الفطرية الملازمة له والتي تظل محدودة حتى بعد أن تنقضي بضعة أعوام على انفصاله من الجسم ... » (3)

« ويبدو أن الخلايا تتذكر وحدتها الأصلية حتى حينما تصبح عناصر مجهرة لا عدد لها .. أنها تعرف ، من تلقاء ذاتها ، الوظائف المطلوب منها تأديتها في الجسم كوحدة. فلو أننا زرعنا خلايا أبثيلية عدة أشهر ، وهي بعيدة عن الحيوان الذي تنتسب إليه ، فانها

ص: 136


1- الانسان ذلك المجهول ص 65.
2- المصدر نفسه ص 67.
3- الأنسان ذلك المجهول ص 68.

تنظم نفسها تنظيماً يشبه الفسيفساء كما لو كانت ستحمي سطحاً تاماً ومع ذلك فان هذا السطح يكون غير موجود ، كذلك فإن كرات الدم البيضاء التي تعيش في قنينة تبذل قصارى جهدها للفتك بالجراثيم والكرات الحمراء على الرغم من عدم وجود جسم تتولى حمايته من غزو هذه الأعداء. وذلك لأن إلمامها الفطري بالدور الذي يجب عليها أن تلعبه في الجسم إن هو إلا وسيلة للبقاء تلتزمها جميع عناصر الجسم ».

« وتختص الخلايا المعزولة بقوة إعادة إنشاء التكوين الذي يتميز به كل عضو من غير إرشاد أو من غير غرض معين ، فلو أن عدة كرات حمراء انسالت بفعل الجاذبية ، من قطرة من الدم وضعت في وسائل البلازما وكونت مجرى دقيقاً ، فانها سرعان ما تنشىء له شاطئين ولن يلبث هذان الشاطئان أن يغطيا نفسيهما بخويطات من الليفين ويصبح المجرى أنبوية تنسال فيها الكرات الحمراء مثلما تنسال في وعاء دموي ، وتحيط نفسها بغشائها المتماوج. وفي هذه الأثناء يتخذ مجرى الدم مظهر وعاء شعري مغلف بطبقة من الخلايا القابضة وهكذا فإن كرات الدم الحمراء والبيضاء المعزولة تستطيع أن تنشىء قطاعاً صغيراً من جهاز الدورة الدموية على الرغم من عدم وجود قلب أو دورة دموية أو أنسجة لترويها » (1).

القيام بالواجب في الخلية :

إن ما كان يعرفه علماء البشر بالأمس عن الهداية الفطرية للموجودات الحية كان مقتصراً مثلاً على أن القطة التي هي من الأحياء قد جهزت بالوسائل والأدوات اللازمة لإدامة الحياة ، وجهزت بجهاز خاص لتربية صغارها لغرض بقاء النسل ... أولاً ، وأنها تعرف كيف تستعمل تلك الأدوات والوسائل في حياتها والاستفادة منها ، وكيف تحمل وتضع وبأي صورة تربي صغارها ... ثانياً.

ص: 137


1- الانسان ذلك المجهول ص 90.

أما علماء اليوم فقد توصلوا إلى أن القطة تعني آلاف الملايين من الخلايا الحية التي تمتاز بخصائص معينة ، اجتمعت كل مجموعة منها لصنع عضو خاص والمهم أن كل واحدة من هذه الخلايا الحية التي لا ترى بالعين المجردة قد جهزت بلوازم إدامة الحياة وكل منها تعرف - بفضل الهداية الفطرية - الطريق إلى تكاملها والوصول إلى غايتها ، وكما شرح لنا العالم الاختصاصي بمعرفة الخلايا ، فان هذه الخلايا لا تنسى واجبها حتى في خارج بدن الموجود الحي ( أي في المختبرات العلمية ) بل تستمر في أداء وظيفتها بأحسن وجه قرره لها اللّه تعالى بقلم قضائه.

الجنين المختبري :

قبل سنتين نشرت الجرائد والصحف المحلية خبراً حول توصل البروفسور الايطالي ( دانيل بتروجي ) إلى إيجاد طفل في المختبر من نطفة الرجل والمرأة...

« باريس 14 كانون الثاني وكالة الأنباء الفرنسية ، لقد أعلن اليوم أن البروفسور دانيل أحد علماء - الأحياء - الايطاليين استطاع أن يلقح نطفة الرجل والمرأة في خارج رحم الأم وأن يوجد جنيناً يقوم بتربيته بصورة صناعية » (1).

« لقد أكد العالم الايطالي أن الفلم الذي صوره يوضح كيفية دخول ( الحيمن المنوي ) في ( البويضة ) داخل أنبوبة الاختبار. والنطفة التي انعقدت بهذه الصورة استمرت في النمو لمدة 29 يوماً » (2).

« إن المحافل الكاثوليكية ومجلس الفاتيكان يرون أن هذه الاختبارات تفسد روح البشرية وأخلاقها ويعتقدون بأن علماء العالم يجب أن يجتنبوا عن مثل هذه التجارب التي تؤدي إلى وجود موجود حي ثم قتله » (3).

ص: 138


1- جريدة ( إطلاعات ) الايرانية - العدد 10410.
2- جريدة ( إطلاعات ) الايرانية - العدد 10429.
3- المصدر نفسه - العدد 10411.

الهداية الالهية في عالم الخلية :

إننا لا نريد أن نبحث عن أساس هذا العمل وحكم قتل هكذا طفل من الوجهة الشرعية ، ولكننا نقول : إنه من الجانب العلمي نجد أن هذا العمل مقتبس من أحد القوانين الكونية ، وهذا هو دليل الهداية الفطرية الالهية في عالم الخلية. إن ( الحيمن المنوي ) هو أحد مصاديق ( كل شيء ) الذي تحدث عنه موسى بن عمران بقوله « الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ».

هذا الموجود المجهري مجهز بلوازم الحياة ، ومضافاً إلى ذلك فإن اللّه قد منحه جميع جميع الهدايات اللازمة له ، والتي منها : العشق إلى بويضة المرأة. إن الوضع الاعتيادي للبويضة هو في عنق الرحم ، والحيامن مأمورة - بحكم الهداية الالهية الفطرية - أن توصل أنفسها إلى البويضة ، وتظهر جميع النشاطات في سبيل الوصول إليها ... وتكون النتيجة أن أحد تلك الحيامن يلقح البويضة ويصير سبباً لظهور الانسان.

وكما أشرنا سابقاً فإن تجارب العلماء قد أثبتت أن الخلايا تستمر في عملها حتى خارج البدن ، ولا تنسى واجبها ، ولهذا فإذا استطاع البروفسور الايطالي من أن يضع بويضة المرأة في أنبوبة الاختبار بدلاً من عنق الرحم وهيأ الظروف اللازمة لذلك ، فإن الحيامن لا تقف عن أداء وظيفتها التي خلقت لأجلها ، بل نلقح البويضة هناك وتوجد طفلاً.

وهكذا فإن لكل مجموعة من الخلايا وظيفة معينة ، تؤديها في محيطها الاعتيادي ، ولا تكف عن إتيانها في الظروف غير الاعتيادية أيضاً ، وهذا السر العظيم للخلقة دقيق إلى درجة أن العلماء لم يتوصلوا بعد إلى كثير من رموزه.

« تتميز أنواع الخلايا بطريقتها في الحركة ، وفي اتحاد إحداها مع الأخرى وشكل مجموعاتها ، ودرجة نموها واستجابتها لمختلف الكيميائيات ، والمواد التي تفرزها والطعام الذي تحتاجه ، كما تتميز بشكلها وبنيانها ... إن قوانين تنظيم كل مجموعة خلايا - أي كل عضو - مستمدة من هذه الخصائص العنصرية. وإذا كانت خلايا النسيج تملك فقط الصفات التي ينسبها علم التشريح لها ، لما كان في استطاعتها أن تنشئ جسماً حياً ... انها تملك قوى أخرى ،

ص: 139

تكون مخبأة عادة ولكنها تصبح فعالة حينما تستجيب لتغييرات معينة في الوسيط ، وهكذا تتاح لها فرصة علاج الحوادث غير المتوقعة إبان الحياة العادية أو في أثناء المرض ... وتتحد الخلايا في جماهير كثيفة هي الأنسجة والأعضاء التي يتوقفها تنظيمها الهندسي على الاحتياجات التكوينية والوظيفية للجسم في مجموعة » (1).

« وجميع الخلايا الحية تعتمد كل الاعتماد وبصفة خاصة على الوسيط الذي غاصت فيه وهي تعدل هذا الوسيط من غير توقف ، وتتعدل هي به من غير توقف أيضاً. بل الحقيقة أنها غير قابلة للانفصال عنه مثلما لا ينفصل جسمها عن نواته. وبنيانها يتبعان الأحول المادية ( الطبيعية - الكيميائية ) والكيميائية للسائل المحيط بها ... » (2).

وتملك الخلايا نشاطات مختلفة في الحالات الاعتيادية وغير الاعتيادية وغير الاعتيادية وإن الظروف البيئية تؤثر فيها. وفي حالة المرض حيث يكون وضع البدن غير اعتيادي تقوم الخلايا بنشاطات خاصة دقيقة وغير واضحة تماماً لصالح البدن ولدفع المرض. وكذلك أيام الحمل تكون وضعاً لا اعتيادياً بالنسبة إلى المرأة. وبالرغم من أن الخلية التناسلية الأولى تنتج من تلقيح البويضة بالحمين ، - ولا يختلف محيط الرحم مع محيط المختبر من هذه الجهة - لكن ما لا شك فيه هو أن خلايا بدن الأم تقع تحت تأثير العوامل البيئية للحمل طيلة التسعة أشهر حيث يتم خلالها نمو الطفل في الرجم وتؤثر تلك التأثيرات في البناء الطبيعي للطفل بلا ريب ، ولهذا السبب فإن البروفسور الايطالي قد قطع التجربة في اليوم التاسع والعشرين بالنسبة إلى أيجاد الطفل في المختبر.

« إن الجنين أخذ شكله اللازم له طيلة ( 25 يوماً ) ، وتوقفت التجربة في اليوم (29) عمداً. لقد أعلن العالم لايطالي أنه أوقف التجربة عمداً ، لأنه كان من

ص: 140


1- (1) الانسان ذلك المجهول ص68
2- المصدر نفسه ص 65.

المحتمل أن ينشأ من نمو هذا الجنين عملاق ضخم ، ويكون النمو التالي للجنين غير طبيعي ».

« هذا الأمر يدلنا على أن العلماء لم يستطيعوا بعد ، من إيجاد الظروف اللازمة لتربية النطفة وتحويلها إلى طفل جديد خارج بدن الانسان. ويبدو أن هناك أسراراً دقيقة حول تغيير أشكال الأنسجة ، ونفوذ الهورمونات بين نطفتين إنسانيتين لم تكشف لحد الآن » (1)

إن بعض الجهال والمنحرفين الذين يستغلون الفرص المناسبة لاسداء الضربة القاضية إلى التعاليم الدينية. قد استغلوا هذه المناسبة فراحوا يقولون إن البشر استطاع أن يخلق بشراً مثله ، وبهذا لا داعي لموافقة المتألهين حول حصر نسبة الخالقية إلى اللّه. ولتوضيح الموضوع والرد على هذه الشبهة لا بد من تمهيد بعض المقدمات.

جهاز التفقيس :

إن الطريقة الطبيعية في تربية فروخ الدجاج هي أن يستقر البيض تحت جناحي الدجاجة وريشها ، ويفقس البيض بعد ثلاثة أسابيع ... ولقد فكر البعض فيما مضى في إيجاد حرارة مشابهة لحرارة جسد الدجاجة في الدرجة في جهاز خاص وذلك لغرض التفقيس بلا دجاجة. ولقد تم هذا العمل فعلاً ، واليوم يفقس عدد كثير من البيض عن كتاكيت بواسطة الحاضنات الاوتوماتيكية ... ولكن لم يظهر لحد الآن من يتمكن من صنع البيضة - التي هي بمنزلة خلية كبيرة لنطفة الكتكوت - وسوف لن يستطع من ذلك في المستقبل ، بل يجب عليه أن يحصل على البيض من نفس الطريق الذي قرره خالق الكون ، أي عن طريق الدجاجة. (2)

ص: 141


1- جردية إطلاعات الايرانية - العدد 10411 ، تاريخ 26 10 1339 هجرية شمسية.
2- وهنا نضيف إلى عبارة الاستاذ الفلسفي نكتة مهمة. وهي أنهم على فرض صنعهم للبيضة أيضاً بطريقة ميكانيكية ، فلا يسمى عملهم ذلك خلقاً ، بل هو اقتباس لخلق اللّه ... إذ لا يتم ذلك على فرض الامكان إلا بعد فحصهم لمكونات البيضة وعناصرها وتحليلها ومعرفة ظروف تركيبها من حرارة وضوء ورطوبة ... الخ ، كي يتمكنوا من صنع بيضة مثلها ، وحينذاك لايسمى عملهم هذا خلقاً بل هو تقليد لخلق اللّه.

واليوم نجد أن البروفسور الايطالي قد أخذ نطفة الرجل والمرأة - التي هي بمنزلة البيضة - من مجراها الطبيعي ، ولقحها في المختبر - الذي هو بمنزلة مكائن التفقيس - مع فارق واحد هو أن جهاز التفقيس يؤدي عملاً واحداً هو تنظيم درجة الحرارة وتقليب البيضات ظهراً لبطن يومياً لمنع الترسب ... بينما يجب على البروفسور الايطالي أن يقوم بمائة عمل أو مئات الأفعال لتهيئة الظروف المتنوعة من الحرارة والرطوبة والمحيط المساعد ، والمواد الغذائية الصالحة ، وتغذية الجنين ... وغيرها من العوامل. نعم! لا شك في أنه قام بعمل مهم من الناحية العلمية ، ولكنه لم يصنع الحيمن والبويضة ، بل إنه حصل على أساس الخلقة البشرية وخليته الأولى بواسطة الرجل والمرأة ، ومن بين أحضان الطبيعة والمجرى الطبيعي للقضاء والقدر الآلهيين ، ولكنه قام بتلقيحهما وتربيتهما وتغذيتهما في داخل المختبر. وإذا أمكن القول بأن جهاز التفقيس أو المتصدي لتنظيم درجة حرارة الجهاز أو واضع الزيت فيه هو خالق الكتكوت ( الفرخ ) الذي يخرج منه ، أمكن القول هنا أيضاً بأن البروفسور والمختبر قد خلقا الجنين!!!

سر الحياة المجهول :

إن العالم لم يتوصل بعد إلى كشف رمز الحياة ، وحل سر الوجود على وجه الكرة الأرضية. فكيف بقدرته على صنع خلية حية تكون منشأ ظهور البشر أو الحيوان. إن علماء الحياة بعد القايم بجهود عظيمة في هذا الميدان يبعثون الأمل في نفوس الناس بإمكان معرفة كيفية ظهور الموجود الحي بعد ألف سنة ...

« وبعد ألف سنة ، يتوصل الانسان إلى كشف سر الحياة ولكن لا يدل هذا على أن باستطاعة البشر أن يوجد ذبابة أو حشرة أخرى أو حتى خلية حية. لقد أعلن هذا الموضوع في مؤتمر انعقد باسم ( داروين ). وقد أعلن ( البروفسور هانز ) العالم الأمريكي أن العلماء سيبحثون عن سر الحياة خلال الألف سنة القادمة » (1)

أما بالنسبة إلى تلقيح البيضة بالحيمن في المختبر ، والتجربة الناقصة التي قام

ص: 142


1- جريدة إطلاعات الايرانية العدد 10160 ، التاريخ 19 12 1338 هجرية شمسية.

بها البروفسور الايطالي ، فلو فرض أن العلماء توصلوا إلى جميع الخصائص الخلوية المجهولة في بدن الأم ، وتفاعلاتها الكيميائية في أيام الحمل ، واستطاعوا من إيجادها في محيط المختبر ، وأوجدوا طفلاً كاملاً وسالماً ... فليس هذا العمل غير مناف لأساس التوحيد فحسب ، بل يبقى سنداً قوياً على النظام الدقيق الذي يسود الكون ، ودليلاً بارزاً على وجود الخالق الحكيم العالم الذي أوجد حتى الذرات غير المرئية في هذا العالم حسب نظام دقيق وتقدير مطابق. وهنا يتبين قوله تعالى : « إنا كل شيء خلقناه بقدر ». إذ أنه لا شك في أن الطبيعة الجاهلة والصدفة العمياء لا يمكن أن يصدر منها هذا النظام العجيب.

نستنتج مما سبق أن الحيوانات والحشرات وحى الخلايا تملك قسطاً وافراً من الهداية الفطرية الالهية ، ولا تحتاج في الوصول إلى كمالها اللائق بها إلى التعليم والتربية. إن النحل والعناكب تعرف منهجها التكاملي على نحو الغريزة الفطرية ، وكذلك الحيامن والكريات البيض تعرف وظائفها عن طريق الهداية الالهية.

إن بعض النشاطات التي تظهر من الحيوانات والحشرات بإرشاد من هدايتها الغريزية دقيقة ومهمة إلى درجة أنها تبعث الانسان على التعجب والحيرة!

حشرة الآموفيل :

« إن حشرة الآموفيل لا تأكل الديدان ، بل هي تتغذى على الأعشاب ، لكن صغارها تحتاج إلى الديدان في تغذيتها في أولى أدوار حياتها ، ولهذا فإن هذه الحشرة تلسع الديدان وتخدرها بالسم المخصوص الذي تفرزه ولكن لا تقتلها ... وذلك لكي تولد صغارها فتستطيع التغذي على هذه الديدان. إن حشرة الآموفيل تعلم أن الديدان لو قتلت قبل ولادة صغارها فانها تتعفن ولا تصلح غذاء لها. إن هذه الحشرة قد اكتشفت أنه لو لم تخدر الديدان بالدرجة الكافية فانها تستعيد نشاطها وتأخذ بالفرار ... فتموت صغارها جوعاً ، لذلك فانها تلسع الدودة بصورة غير قاتلة بل مخدرة فقط » (1).

ص: 143


1- آخرين تحول ص 74.

إن الحيوانات والحشرات تسير بأحسن ما يكون من الانتظام في طريق حياتهما وتكاملها - في كنف الهداية الفطرية - ولا تحتاج في ذلك إلى التربية والتعليم.

الخصائص المشتركة بين الانسان والحيوان :

أما البشر فإن جانباً من مناهجه الحياتية وقوانينه التكاملية تدار بواسطة لهداية الفطرية من قبل اللّه تعالى ، وفي ذلك يشبه الحيوانات والحشرات في أنه لا يحتاج إلى مرشد ومعلم. فالمعدة في هضمها للطعام ، والكبد في تصفية الغذاء وتحويله إلى دم ، يعرفان واجباتهما على أكمل وجه ولا يحتاجان في ذلك إلى من يرشدهما ويهديهما. وكذا مبيض المرأة فانه يعمل بصورة تلقائية على صنع بيضة واحدة في كل شهر. وكذلك الرحم في صنع الجنين ، وغدد الثديين في صنع الحليب للطفل. فكل هذه الاعضاء قد تلقت دروسها في مدرسة الخلقة والابداع.

والانسان لا يحتاج في إحساسه بالجوع والعطش والتعب والرغبة في النوم وإدراك البلوغ والرغبة الجنسية إلى دراسة ومدرسة ، إذ أنه يدرك هذه الحقائق بصورة فطرية. لكن الأطفال يحتاجون إلى المربي والمعلم في موردين : الأول في صفات مشتركة بين الانسان والحيوان. والثاني من خواص الانسان. وسنضرب لكل منهما بعض الأمثلة الموجزة.

أما الموارد التي يتشرك فيها الانسان مع سائر الحيوانات ، فهي أن الحيوانات تعرف أعداءها وتهرب منها بلا حاجة إلى دراسة وتلقين ، ولكن الانسان يعرف أعداءه عن طريق التعلم والتجربة. الحيوانات تعرف مقدار حاجتها إلى الطعام من ناحية الكم والكيف ، وتعرف كيفية تربية أطفالها وتغذيتهم أيضاً بلا حاجة إلى معلم ، ولكن الانسان عرف احتياجاته الغذائية ونسب المواد الغذائية التي يجب أن يتناولها بعد تجارب عديدة ومحاولات طويلة ، أما تغذية الأطفال بالصورة الصحيحة فيخضع لنظر الطبيب.

إن صغار القط تدرك الفواصل تماماً وتعرف مقدرتها أيضاً ، فلا تقفز إلى الأماكن التي تكون الفاصلة نحوها بعيدة ولا تستطيع القفز نحوها ولكن الأطفال لا يفهمون هذه الأمور فما أكثر ما رأيناهم يسقطون من السطوح العاليمة ويموتون.

ص: 144

وهكذا المهر فانه يفهم خطر الغرق في الماء ولا يرمي بنفسه في ولم يسمع لحد الآن أن مهرة قد اختنقت في نهر القرية أو بركتها جهلاً ، لكن أطفال البشر هم الذين يسقطون في أحواض البيوت والمسابح فيغرقون!

والحيوانات لا تحتاج في الأمور الصحية وحفظ سلامتها وسلامة صغارها إلى التعليم والتربية ، ولكن البشر نراه ماداً يد الحاجة دائماً إلى العم والعالم لحفظ سلامته وسلامة أطفاله على ضوء ارشاداته. هذه هي بعض الأمثلة البسيطة على المقارنة بين الصفات المشتركة بين الانسان وسائر الحيوانات.

خواص الانسان :

أما فيما يتعلق بالجانب الثاني. فإن في باطن الانسان قابليات ومواهب خاصة لا توجد في الحيوانات أصلاً. هذه المواهب والقابليات هي التي تبلغ بالانسان إلى أعلى درجات الكمال الانساني في المدارج الايمانية والمراحل الأخلاقية ، وبذلك تحفظه عن كل المدنسات والرذائل ... وهي التي تجعله مسيطراً على علام طبيعة في المجال العلمي وإدراك نواحي الخلقة ، وبذلك تخضع له جميع القوى والطاقات الأرضية ، ثم تفسح له المجال للسيطرة على الأجرام السماوية وتسخيرها أيضاً. لكن هذه الثروة العظيمة التي ينحصر بها الانسان تكمن في الباطن بصورة استعدادات وقابليات ولا تظهر لوحدها أصلاً ، وفي ظل التربية والتعليم فقط يمكن إخراج تلك الذخائر العظيمة من القوة إلى الفعل ، ومن الاستعداد إلى حيز التنفيذ والاستغلال.

إن أصوات الحيوانات التي تكون كل منها بمنزلة علامة خاصة ، لا تحتاج إلى تمرين وتربية ، ولكن التكلم الذي لا يعدو كونه أبسط الظواهر الانسانية لا يتم من دون مرشد ومرب ، إذ لو ترك الطفل من أول يوم ولادته وحيداً لا يتكلم معه ، فلا شك في أن قابلية على التكلم تموت ولا تصل إلى عالم الفعلية ، وهكذا سائر الاستعدادات الفطرية في الانسان فانها تظهر عن طريق التربية والتعليم فقط.

قيمة التربية :

لقد تبين - بما ذكر - ضرورة التربية وأهميتها في إظهار الكمالات الباطنية للبشر ، وإخراج الاستعدادات الفطرية إلى حيز الفعلية ، إن الانسان لا يصل إلى

ص: 145

الكمال اللائق به بدون التعليم والتربية ، ولا يتمكن أن يسير بدونهما في الطريق الذي ينبغي أن يسير فيه.

* * *

بعد أن اتضحت لدينا المقدمات السابقة ، لنرجع إلى بيان الأساسين اللذين ذكرناهما في مطلع الحديث ... لقد كان الأساس الأول هو أن يتنبه المربي القدير إلى جميع الاستعدادات الكامنة في الطفل ، ويعمل على تنميتها مع مراعاة الموازنة بين ميوله والتوفيق بينها ، وإخراجها إلى حيز الفعلية ... وهذا يتفرع على معرفة الانسان ومواهبه وملكاته الكامنة والبارزة. وبعبارة أوضح ، فإن التربية الصحيحة هي التي تكون مطابقة للفطرة الواقعية للانسان ، ولا يوفق المربي إلى ذلك إلا عندما يدرك جميع الميول والغرائز الطبيعية في الانسان أولاً والعمل على تنمية تلك الميول وإرضائها في مقام التربية ثانياً.

معرفة النفس :

إن الروايات الواردة عن أئمة الاسلام (عليه السلام) في لزوم معرفة النفس كثيرة ، وهي - وإن اختلفت في ألفاظها وأساليبها - ترمي إلى اعتبارها أساس السعادة الانسانية. وهنا لا بأس بسرد بعض تلك الروايات :

1 - يقول الامام علي (عليه السلام) : « أفضل المعرفة ، معرفة الانسان نفسه » (1).

2 - وكذلك يقول (عليه السلام) : « أعظم الجهل ، جهل الانسان أمر نفسه » (2).

3 - وقد ورد عنه (عليه السلام) : « أفضل العقل معرفة المرء نفسه. فمن عرف نفسه عقل. ومن جهلها ضل » (3).

4 - وكذلك يقول (عليه السلام) : « من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة وعلم (4)».

ص: 146


1- غرر الحكم ودرر الكلم ص 87 طبعة دار الثقافة - النجف الأشرف.
2- المصدر نفسه ص 88.
3- المصدر نفسه ص 94.
4- المصدر نفسه ص 293.

5 - وقد ورد عنه : « من لم يعرف نفسه ، بعد عن سبيل النجاة وخبط في الضلال والجهالات » (1).

وهكذا نرى في هذه الروايات أن أساس السعادة قائم على معرفة النفس. فمن لم يعرف نفسه ولم يدرك قيمتها الواقعية لا يصل إلى الكمال الانساني اللائق به ابداً ، والذين يجهلون كل شيء عن الثروات الفطرية المودعة في نفوسهم لا يتمكنون من العمل على إحيائها واستثمار المواهب الكامنة عندهم.

« روي عن كميل بن زياد ، قال : سألت مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قلت : يا أمير المؤمنين : أريد أن تعرفني نفسي ، فقال : يا كميل : أي النفس تريد أن أعرفك؟ قلت : يا مولاي هل هي إلا نفس واحدة؟ فقال : يا كميل إنما هي أربعة : النامية النباتية والحسية الحيوانية ، والناطقة القدسية ، والملكية الالهية ... » (2)

إحياء الميول المعنوية :

إن الانسان يملك غير الطبع النباتي ، والشهوة الحيوانية ، ثروة عقلية بشرية وروحاً ملكوتية إلهية ، فالسعيد من اعتنى بجميع ذخائره وثرواته المادية والمعنوية ، وحاول استغلالها والاستجابة لها حسب قياس صحيح. وهكذا فالانسان في الوقت الذي يهتم بجلب اللذائذ الجسمانية ويستجيب للميول الحيوانية يجب أن يهتم بصفاء باطنه. وإحياء الميول المعنوية التي تعد جزءاً من فطرته ، ويحاول استخدام مواهبه كلها في سبيل الوصول إلى التكامل ، منقاداً في ذلك للفطرة بإخلاص تام ، لكي لا يلقى عقابه على يد الطبيعة التي تخلف عن قوانينها.

الانحراف عن طريق الفطرة :

إن من المؤسف أن الحياة العصرية قد انحرفت بالبشر عن طريق الفطرة وقصرت اهتمامها على الجوانب المادية فقط. إن أكثر الأفراد اليوم يرون البشرية من

ص: 147


1- المصدر نفسه ص 296.
2- آداب النفس للسيد محمد العيثاني ج 1 11 ط. طهران. وللحديث تفصيل طويل مذكور في ( مجمع البحرين للطريحي ، مادة نفس ).

خلف منظار اللذائذ والشهوات ، فيتناسون أهمية الجوانب المعنوية. وعلى هذا الأسلوب من التفكير يربون أبناءهم أيضاً فيعطفون جل اهتمامهم على العيش الرغيد والالتذاذ أكثر ، في حين أن اهتمامهم بتربية الايمان الفطري والسجايا الخلقية والواجبات الروحية ... لا يبلغ الواحد في المائة من العناية بالجوانب المادية ، ولا شك في أن الانحراف عن طريق الفطرة لا يبقى بلا عقاب.

إن المدنية الحديثة تسيطر على العالم منذ مدة ، والعلماء يقفون كل يوم على حل رمز جديد من كتاب الكون ، ويخطون خطوة جديدة في طريق العلم ، ويحرزون انتصارات عظيمة في هذا السبيل. ولذلك فإن اسلوب المعيشة قد تغير والحياة ملئت جمالاً ، وخضع البر والبحر والجو لسيطرة البشر ، فالأكواخ المرطوبة المظلمة قد استبدلت بالقصور الضخمة الفاخرة المجهزة بجميع وسائل الراحة. وهكذا حلت النفاثات الجميلة القوية محل الفرس والجمل حيث توصل المسافر في أتم الراحة وأسرع الوقت إلى مقصده. ولا غرابة إذا رأينا أن المغازل اليدوية للعجائز وأدوات الحياكة اليدوية للشيوخ تخلي مكانها لمعامل الغزل والنسيج الاوتوماتيكية ، وهكذا خرجت الزراعة عن شكلها القديم ، وبدأ المزارعون العمل في الحقول بأحدث المكائن الزراعية وفقاً لأحدث النظريات العلمية ... وبصورة موجزة : نرى أن العلم قد أخذ طريقه إلى جميع مظاهر الحياة ، مضيئاً - كالشمس - كل مكان ، ومنظماً وسائل الراحة المادية والرفاه في العيش.

المدنية والأمراض الروحية :

... ولكن هذه الانتصارات التي أحرزها الانسان في مختلف الميادين لم تقدر على إيجاد التطامن الفكري والارتياح الروحي للبشر ، بل نجد الأمر على عكس ذلك ، فبنفس النسبة التي تتقدم فيها المدنية وتهيئ وسائل جلب اللذة والشهوات للبشر نجد أن اضطرابه وانزجاره ، شقاءه وبؤسه يزداد. إن الأمراض الروحية والعصبية والاختلالات العقلية والجنون أضحت مثل سحب سوداء وخطيرة قد سيطرت على أفق الدول المتمدنة بصورة فظيعة مخيفة.

« لقد كتبت الجرائد الرسمية الامريكية ، في مطلع هذا العام أن في

ص: 148

العام الماضي بلغ مصرف الأقراص المنومة والمهدئة للأعصاب ، والخاصة للأمراض الروحية المستعملة في أمريكا مائتي مليون دولار. هذا الرقم الهائل إنما هو للأدوية المستعملة في حالات ضعف الأعصاب والقلق الفكري ، أما الأقراص المسكنة للأوجاع أمثال الأسبرين فانها تشمل مبالغ طائلة أخرى من ميزانية الدولة » (1)

إن الدول العظمى في العالم تعمل على استئصال جذور الأمراض المختلفة بمختلف الوسائل العلمية والتطبيقية ، لتخلص شعوبها من شر التيفوئيد والهيضة والملاريا ونحوها ، ولكنها بدلاً عن ذلك قد ملأت المستشفيات بالمصابين بالأمراض الروحية والعقلية ، وتزيد من عددهم الهائل يوماً بعد يوم.

« ومن العجيب أن الأمراض العقلية أكثر عدداً من جميع الأمراض الأخرى مجتمعة. ولهذا فإن مستشفيات المجاذيب تعج بنزلائها وتعجز عن استقبال جميع الذين يجب حجزهم ... ويقول س. و. بيرسي : إن شخصاً من كل 22 شخصاً من سكان نيويورك يجب إدخاله أحد مستشفيات الأمراض العقلية بين حين وحين ، وفي الولايات المتحدة تبدي المستشفيات عنايتها لعدد من ضعاف العقول يعادل أكثر من ثمانية أمثال عدد المصدومين. ففي كل عام يدخل مصحات الأمراض العقلية وما يماثلها من المؤسسات نحو 86000 حالة جديدة ». « إن أمراض العقل خطر داهم. انها أكثر خطورة من السل والسرطان وأمراض القلب والكلى ، بل التيفوس والطاعون والكوليرا ... ولا شك في أن كثرة عدد مرضى الأعصاب والنفوس دليل حاسم على النقص الخطير الذي تعاني منه المدنية العصرية ، وعلى أن عادات الحياة الجديدة لم تؤد مطلقاً إلى تحسين صحتنا العقلية » (2).

هذه النصوص ترينا أن حالات الجنون والأمراض الروحية تأخذ بالازدياد

ص: 149


1- جريدة ( إطلاعات ) الايرانية العدد 10163.
2- الانسان ذلك المجهول ص 123.

بسرعة هائلة في الدول العظمى والمتمدنة ، فالدكتور كارل إنما يكتب هذه الفقرات عن الوضع الروحي في أمريكا قبل 30 سنة تقريباً ولكن النشرة الاحصائية الرسمية في أمريكا لعالم 1960 ميلادية ، تشير إلى أرقام أعلى من الأرقام السابقة. فمثلاً بينما نجد أن النشرة المذكورة تذكر عدد المصابين روحياً في المستشفيات العقلية الأمريكية 340000 سنة 1932 ميلادية ، نجد أن هذا الرقم يرتفع إلى الضعف سنة 1959.

إزدياد الجرائم والجنايات :

تلك النشرة نفسها تذكر في ( ص 311 ) أرقام الجرائم المختلفة التي تلقتها من محاضر محاكمات القضاة ، وتكتب أرقام ثلاث سنوات بهذه الصورة : -

عام 1955 ... 2،262،450 جريمة

عام 1956 ... 2،563،150 جريمة

عام 1957 ... 2،796،4400 جريمة...

وهكذا تلاحظون أن الجرائم أيضاً في طريقها إلى الازدياد يوماً بعد يوم. والأن لنذكر بعض الاحصائيات الطريفة حول الموضوع :

« الجناية في فرنسا ، إسم كتاب ألفه رجلان من علماء الاجتماع في فرنسا أحدهما هو ( بول شولو ) ، والآخر ( جان سوزنين ) ، بعد أن استفادا من الاحصائيات والملفات الجنائية بمعونة البوليس. لقد ورد في إحدى تلك الاحصائيات ما يلي : - تقع في فرنسا سرقة واحدة في كل دقيقتين ، وعملية اختطاف واحدة في كل عشر دقائق ، وسرقة سيارة في كل ثلاثين دقيقة ن واتصال جنسي غير مشروع في كل ثلاث ساعات ، وجناية واحدة في كل أربع ساعات ... » (1)

« لندن - أعلنت مؤسسة التحقيقات في الصحة النفسية : ان خمسة آلاف رجل وامرأة بريطانيين ينتحرون كل عام. وهذا العدد يساوي

ص: 150


1- جريدة ( إطلاعات ) الايرانية العدد 10223.

حالات الموت الناشئة من اصطدام السيارات في هذه البلاد. وفي مدينة لندن التي لا تزيد سكانها على التسع ملايين ، يكون معدل الانتحارات في كل يوم 3 انتحارات » (1).

إن ما لا شك فيه هو أن هذه المصائب هي وليدة التخلف عن قوانين الخلقة ، فالتمدن الحديث قد صرف كل جهوده في سبيل توسعة اللذائذ المادية وإيجاد الرفاه المعيشي للبشر ، وغفل - تمام الغفلة - عن الجوانب الروحية في النفس الانسانية.

الافراط في الشهوة :

والمدنية الحديثة قد سدت على الناس أبصارهم ومسامعهم وصورت لهم أن معنى ( الانسانية ) ليس إلا العمل على إيجاد حياة أفضل ، والانتفاع من اللذة أكثر وكأن ليس للانسان هدف غير ذلك. فالكل يفكرون في كيفية الحصول على مسكن أحسن ، ومركب أجمل ، ومقام أرفع ، ويجدون في أن يعرفوا أي السبل تدر عليهم ثروة أكثر كي يتمكنوا من ممارسة شهواتهم بصورة أوسع ...

وتسعى شركات الأفلام السينمائية دوماً في سبيل إخراج أفلام أكثر تهييجاً ، ورقصات أشد إثارة ، لتتمكن من إرضاء شهوات الناس إلى أبعد مدى ممكن وبذلك لتحصل على أرباح أكثر ...

واجتماعات المساجد والكنائس آخذة في الضعف والتأخر. أما حانات الخمور ودور السينما والمراقص والملاهي فأنها مليئة بالحاضرين ومكتضة بالشباب ...

الرجل الثري يحترم ويعتنى به عناية بالغة لثروته ، أما الفرد المؤمن التقي الذي يعتبر ثروته الايمان والفضيلة ، فلا يملك واحداً بالمائة من احترام ذلك الرجل.

إن نجمة سينمائية تمكنت - بخروجها بجسد نصف عريان وإتيانها حركات مهيجة - من إرضاء ميول المتفرجين ، وعندما دخلت بلدة أخذ الآلاف من الناس يتنافسون في الخروج لاستقبالها معتبرين النظر إليها فوزاً عظيماً وسعادة كبرى. ولكن إذا دخل عالم في الأخلاق والتربية أو رجل مؤمن ورع يكون كلامه وأفعاله

ص: 151


1- جريدة ( كيهان ) الايرانية العدد 5645.

قدوة للعفة والصلاح إلى تلك البلدة فلا يخرج لاستقباله سوى أفراد قليلين يعدون بالأصابع ....

ومحنة الكتب أشد ، فالكتب التربوية المفيدة والعلمية الصالحة لا تلقى إقبالاً من القراء ، بينما نجد أن القصص المهيجة والأشعار المغرية تنفد في فترة قصيرة ويعاد طبعها عدة مرات.

إختلال التوازن :

هذه الشواهد وعشرات من أمثالها ترينا أن التوازن بين الروح والبدن قد اختل في المدنية الحديثة. فالميول المادية والشهوانية تراعى ويدافع عنها ولذلك فقد اتسعت دائرتها ، وفي قبال ذل نجد أن العواطف الانسانية والميول الروحية مفقودة ولا يبحث عنها أصلاً. هذا العمل إنما هو حرب صريح مع الفطرة ، ومخالفة مباشرة لقانون خلقة البشر ... ومن البديهي أن الخروج على قوانين الكون لا يبقى خالياً من عقاب.

« إننا فقدنا جميع مقرراتنا الداخلية كما فقدنا تعاليمنا الدينية ، والأجيال الحاضرة تجهل حتى وجود مثل هذه القيم في الماضي. وهكذا فالعدالة ، الشرف ، الاستقامة ، المسؤولية ، الطهارة ، العطف على الناس ، الشهامة ... قد أضحت عبارات فارغة لا معنى لها ، وكلمات تقابل بالسخرية من قبل الشباب ، وإذا اتفق وأن رأينا منهم شوقاً نحو العقائد الدينية فذلك كاحترامهم للأشياء النادرة في المتاحف. إن الانسان الحديث لا يعرف لغير اللذة أساساً آخر لحياته وسلوكه » (1).

إن الانسان لا يستطيع الاستمرار في حياته من دون أن يؤمن وسائل الحياة المادية ، فهو محتاج إلى الطعام واللباس والمأوى ، وإضاء الميول الجسدية بحكم القضاء القطعي الالهي ، وعليه أن يسعى في سبيلها ... ولكن يجب أن لا ينسى أن المطاليب الفطرية للبشر ليست منحصرة في ميوله المادية فقط ، فإن ما يسبب الفضيلة

ص: 152


1- راه ورسم زندكى ص 6.

والكمال للانسان ويفصله عن سائر الحيوانات هو ثرواته المعنوية وفضائله الروحية فمن أهمل الذخائر الروحية المودعة لديه فهو ( حيوان ) في لباس ( إنسان ).

« لا يستطيع أحد أن ينكر أن البشرية تخضع لقوى منبثقة من الفكر والعقائد. وكانت نتائج بعض الفكر المجردة أن غيرة محيطنا وقلبته رأساً على عقب ( وهي العلوم التجريبية والميكانيكية ) ، وتركت أثراً كبيراً في حياتنا الفردية والاجتماعية. ولكن يجب البحث عن العواطف الباطنية والالهامات الفطرية في ضمن الفكر التي يمكن تسميتها ب- ( الفكر العتلية ) (1) كالعقائد الأولية للطموح وحب الكمال والعقائد الدينية. وكل نظرية تغفل النظر إلى هذه الفكر ، وتسعى في سبيل إيجاد الراحة المادية للبشر كما تفعل بقطيع من الأغنام فإن تلك النظرية تكون ناقصة ومنحرفة » (2).

حيوان في لباس إنسان :

ومن هنا يتضح أن المبادئ التي تبشر بها المدنية الحديثة لا ترمي إلا إلى خلق قطيع من الأغنام المتلبسة بلباس الآدميين.

والامام علي (عليه السلام) يشير إلى هذه النكتة في ضمن حديث له مع كميل بن زياد حول بعض الناس المنحرفين ، فيقول : « ... أو منهوماً باللذة سلس القياد للشهوة ، أو مغرماً بالجمع والادخار ... ليسا من رعاة الدين في شيء ، أقرب شيء شبهاً بهما : الانعام السائمة » (3).

ص: 153


1- هكذا ورد في تعبير المؤلف. ولعل ذلك يرجع إلى العتلة. والمراد بالعتلات في بحوث الميكانيك من علم الفيزياء ، هو الآلات التي تستعمل لرفع وتحريك أجسام عظيمة بصرف جهود بسيطة. كما لو رفعنا صخرة كبيرة بواسطة وضع قضيب حديدي تحت ركن من أركانها وأسندنا ذراع القضيب إلى صخرة صغيرة مثلاً. ويجري قانون العتلات في البكرات المتسلسلة التي تحفض ثقل الأجسام إلى النصف بعدد البكرات ، وكثيراً ما نشاهد أمثلة ذلك في الرافعات ( السلينكات )التي ترفع أجساماً ثقالاً بصرف جهود بسيطة. وعلى أي حال فالمراد من ( الفكر العتلية ) هنا هو الفكر التي يستعان بها في تيسير الحياة الهانئة السعيدة والصفاء الفكري بمجهود بسيط.
2- سرنوشت بشر ص 147.
3- شرح نهج البلاغة للملا فتح اللّه ص 550.

فنرى كيف يشبه الامام هاتين الطائفتين ( المطيعون للشهوات - والمفتونون بجمع المال ) بالحيوانات والبهائم حيث لا تظهر لهم عواطف دينية والتزامات عقيدية.

« إن الرقي الحقيقي للانسان الذي يوصل إلى الكمال ينحصر في العمل على تكميل النفس الانسانية وصقلها وتهذيبها ، لا في تطوير الوسائل والأدوات التي يستخدها في ضمان راحته المادية. هذا المذهب الأخير هو مذهب الماديين الذي يجلب الخزي والعار للانسانية ، لأنه يبعد عن نظره أشرف الصفات في الانسان. وهذه الصفات فقط بامكانها أن تضمن سعادته التي هو أرقى من سعادة الأبقار المجترة ... » (1)

إحياء الانسانية :

إن هدف الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من تعاليمه الدينية العالية هو إحياء الانسانية. إن الاسلام يريد أن يحرك المواهب الباطنية والميول الفطرية في البشر ، وفي الوقت الذي يضمن له اللذائذ الجسدية يرشده إلى الكمالات الروحية والايمانية. فالانسانية لا تكمن في رغد العيش وضمان اللذائذ الدنيوية ، والانسان الذي ينسى نفسه ، ويغفل عن امتيازاته المعنوية ، ويحاول أن يحصر نفسه بين جدران الشهوات الحيوانية ... لا شك في أنه آخذ طريقة نحو التسافل مهما كانت حياته رغيدة وعيشته مطمئنة والقرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة في ضمن الآية التي إفتتحنا بها البحث فيقول : «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ».

ديوان الفطرة :

إن الانسان خلق بحسب؟ الآية على أحسن صوره من الكمال الطبيعي ، فمن اتبع كتاب الخلقة وديوان الفطرة وعاش بثروة الايمان وطهارة العمل فعاقبته أنه يصل إلى أعلى درجات الانسانية ، ومن حاد عن طريق الفطره السليمة يتردى إلى أسفل

ص: 154


1- سرنوشت بشر ص 173.

سافلين. وما أكثر أولئك الذين لا يملكون من حطام الدنيا شيئاً ، يعيشون في بيوت حقيرة ، ومع ذلك فإن حب اللّه القدير يعمر قلوبهم وتحيا فيهم السجايا الخلقية ، ويعيشون مثل ملائكة الجنة في غاية الطمأنينة والرفاه والاستقرار الروحي ... هؤلاء هم البشر الواقعيون الذين لا يفكرون في شيء غير الطهارة والفضيلة.

وعلى العكس فما أكثر أولئك الذين يعيشون في القصور الضخمة لكن فقدانهم لعنصر الايمان وانشغالهم بارذائل يجعل قصورهم تلك جحيماً لا يطاق ، حيث نار الحسد والحقد والتشاؤم والأنانية تحرق أرواحهم ، والحرص والطمع والخيانة والجناية ترديهم إلى هوة سحيقة من الفساد والشقاء والبؤس.

ملجأ البشرية :

في مد الحياة وجزرها ، وفي اضطراباتها الروحية ... يعتبر الاتجاه إلى اللّه والايمان بالتعاليم الدينية أحسن ملجأ للبشرية. ومما يؤسف له أن المدنية الحديثة لا تقيم وزناً لهذه القيم والمثل ، وكثير من الشبان والشابات يلجأون إلى الخمرة في يوم اندحارهم ورسوبهم ، أو ينتحرون.

« عزلت المادة نهائياً عن الروح. وحينئذ اتخذت التركيبات العضوية والآليات الفسيولوجية حقيقة أكبر كثيراً من التفكير والسرور والحزن والجمال. ولقد دفعت هذه الغلطة الحضارة إلى سلوك طريق أدى إلى فوز العلم وانحلال الانسان ».

« فإذا كان على الحضارة العلمية أن تتخلى عن الطريق الذي سارت فيه منذ عصر النهضة وتعود إلى ملاحظة المادة الجامدة ببساطة فسوف تقع أحداث عجيبة على الفور ستفقد المادة سيادتها ، ويصبح النشاط العقلي مهماً كالنشاط الفسيولوجي ، وسيبدو أن لا مفر من دراسة الوظائف الأدبية والجمالية والدينية كدراسة الرياضيات والطبيعة والكيمياء. وسوف تبدو وسائل التعليم الراهنة سخيفة. وسيسأل علماء الصحة عن السبب الذي يحدوهم إلى الاهتمام فقط بمنع الأمراض العضوية دون الأمراض العقلية والاضطرابات العصبية ، كما سيسألون عما يجعلهم لا يبذلون إهتماماً بالصحة

ص: 155

الروحية. ولماذا يعزلون المرضى بالأمراض المعدية ، ولا يعزلون أولئك الذين ينشرون الأمراض العقلية والأدبية ، ولماذا يعتبرون العادات المتولدة عن الأمراض العضوية عادات ضارة دون العادات التي قد تؤدي إلى الفساد والاجرام والجنون؟! » (1)

جسد الطفل وروحه :

إن الانسان عبارة عن الجسد والروح ، والمادة والمعنى. فالتربية الصحيحة والتامة عبارة عن إحياء جميع الميول المادية والمعنوية ، والمربي القدير هو الذي يلاحظ التوازن بين مطاليب الجسد ومطاليب الروح. فكما يعتني بسلامة جسد الطفل ، يجب أن يعتني بسلامة نفسه أيضاً. فيحاول أن يبذر في نفسه بذور الفضيلة والايمان من أولى أدوار حياته ليتربى تربية طاهرة صحيحة.

فكثير من العوارض النفسية والمآسي التي تؤدي إلى الأمراض الروحية والعقلية ، وقد تجر إلى الجنون أو الانتحار أحياناً ... إنما هي معلومة للانحطاط الخلفي والانحراف عن السجايا الانسانية. ومن المؤمل أن نبحث - بتوفيق من اللّه - في قسم منها في المحاضرات القادمة.

قلنا : أن الأساس الثاني لبحثنا في هذه المحاضرة هو أن المربي القدير يجب أن يسعى لدحر الميول المنحرفة والصفات البذيئة التي ورثها الطفل من أبوية ( كتربة مساعدة ) ، فيعمل على قمعها وإخفاء آثارها. ويزرع مكانها البذور الصالحة للسلوك المفضل. فبعض الأطفال قد ورثوا الجبن ، البخل ، الكسل ، الخسة ونحوها من الصفات من أبويهم ، وهذه الصفات ليست من قبيل القضاء الحتمي والمصير القطعي الذي لا يقبل التغيير - كما سبق آنفاً - بل بإمكان التربية الناجحة والبيئة الصالحة ان تبعد الطفل عن المفاسد ، وترشده إلى طريق الفضيلة والطهارة.

كانت الجزيرة العربية قبل الاسلام مصابة بأنواع الانحرافات الروحية والخلقية طيلة قرون متمادية ، حيث الرذائل متأصلة في جذور ذلك المجتمع كالخيانة والسرقة ، والعصبية والافساد ، والجبن والحمق ، وما أشبه ذلك. ومن البديهي أن

ص: 156


1- الانسان ذلك المجهول ص 214 - 216.

أطفالهم يتولدون مع استعدادات للسلوك غير المرضي مضافاً إلى أن البيئة الفاسدة كانت تساعد على نمو تلك الصفات الرذيلة وظهور الاستعدادات الفاسدة إلى عالم التنفيذ.

أعظم مربي للبشر :

... ومع ذلك فان الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عمل بفضل أساليبه التربوية الصالحة وتعاليمه الدينية العظيمة على قمع الصفات الرذيلة في نفوس أولئك الذين خضعوا لتربية ، وزرع مكانها الصفات الحميدة والملكات الفاضلة.

يروي لنا التاريخ قصة الجيش البسيط الذي قدم به أبرهة من الحبشة إلى مكة لهدم بيت اللّه الحرام. ورأينا كيف أن أهالي مكة الجبناء خرجوا منها من فرط خوفهم ووحشتهم ولجأوا إلى سفوح الجبال ، ولم يجرأوا على المقاومة يوماً واحداً. ولكن الأساليب التربوية الدقيقة للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) غيرت أسلوب حياتهم تماماً ... فنفس أولئك الناس الذين كانوا ضعفاء قبل مجيء الاسلام ، أظهروا من الشجاعة والاقدام والشهامة في ظل إرشادات النبي وفي كنف مدرسته التربوية العظيمة حيث صمدوا لأقوى دول العالم آنذاك ، واستطاعوا من أن يخوضوا أعظم الحروب ويفتحوا البلدان العظيمة ويرجعوا إلى أوطانهم فاتحين غانمين ... وهكذا شأن جميع الصفات الرذيلة فقد اختفت من نفوسهم بفضل تعاليم الاسلام وحلت محلها الصفات الحميدة والسجايا الخلقية الفاضلة.

أجل! فالمربي القدير - يستطيع بفضل الأساليب الدقيقة - من قمع الصفات الشريرة وإحلال الصفات الخيرة محلها. ولا يخفى أن الطفل كالنبتة الصغيرة ، حيث يمكن تصحيح سلوكه حسب البرامج الصالحة ، ولكن الذين اعتادوا على السلوك الفاسد طيلة سنوات عديدة ، إصلاحهم صعب جداً ، ويجب أن يتحمل المربي في سبيل ذلك أساليب متقنة وجهوداً عظيمة.

يقول الامام الحسن العسكري (عليه السلام) : « رد المعتاد عن عادته كالمعجز » (1).

ص: 157


1- بحار الأنوار للمجلسي ج 17 ص 17. ط طهران.

فالذي اعتاد الكذب طيلة أربعين سنة مثلاً يكون إصلاحة أصعب بكثير من الطفل الذي لا يزيد عمره على ثلاث سنوات ... وإذ استطاع النبي الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من إصلاح كبار العرب وهدايتهم إلى الطريق الصحيح فإن مقدرته ( ومقدرة تعاليمه الرصينة ) على تربية الأطفال الذين يملكون عوامل مساعدة للفساد ، قد ورثوها من أبويهم تكون أسهل ، ونجاح تلك الأساليب أضمن.

* * *

ص: 158

المحاضرة السابعة: العقل والحرية - تنمية المشاعر

اشارة

قال اللّه تعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ» (1)

لقد تعرضنا في المحاضرة السابقة إلى بيان أن جميع الموجودات الحية في العالم تسير في طريقها المرسوم لها على أكمل وجه ، وذلك بفضل الهداية الفطرية الغريزية التي أودعها اللّه تعالى فيها ، حتى أن الخلية الصغيرة قد شملها هذا الفيض الالهي العظيم. والحيوانات لا تحتاج في وصولها إلى الكمال اللائق بها إلى معلم مرب ، فهي في غنى عن التعليم والتربية.

والانسان ، وإن كان شطر مهم من نشاطاته المختلفة ثابتاً على أساس الهداية الفطرية ويسلك طريقة في ظلها ... لكنه في شطر آخر منها محروم من هذه الهداية ، بل يجب عليه اكتساب المعرفة. فلو سئلنا عما يقوم مقام الهداية الغريزية بالنسبة إلى الشطر الثاني من نشاطات الانسان وجهوده ، فيجب أن نقول في الجواب : « العقل! ».

العقل بدل الغريزة :

فالانسان وإن كان أقل نصيباً من الحيوانات بالنسبة إلى الهداية الفطرية لكنه بدلاً عن ذلك يملك عقلاً يرشده إلى سبل السعادة ويوصله إلى الكمال اللائق به.

ص: 159


1- سورة الأنفال 24.

1 - يقول الامام علي (عليه السلام) : « كفاك من عقلك ما أضوح لك سبل غيك من رشدك » (1).

أي أنه يكفي في قيمة العقل وعظمته أنه يميز للانسان طريق الضلال والشقاء عن طريق النجاة والسعادة. فبينما نجد في عالم الحيوانات أن المرشد لها إلى طريق سعادتها وكمالها هو الغريزة ، يكون المرشد عند الانسان هو العقل.

2 - قيل له (عليه السلام) : « صف لنا العاقل » قال : « هو الذي يضع الشيء مواضعه » (2). إن الحيوانات تضع كل شيء يرتبط بحياتها في موضعه دون أن تخطىء. ولكنها تقوم بذلك بدافع الهاية الفطرية ، أما الانسان فيقوم بهذ العمل بهداية العقل.

3 - عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « لكل شيء مطية ، ومطية المرء : العقل » (3). والمراد من المطية هو المركب الذي يصل به الراكب إلى اهدافه. فالحيوانات تطوي طريق سعادته بمركب القدرة الغريزية وتصل إلى غايتها أي كمالها اللائق بها ، أما الانسان فانه يطوي طريق سعادته بواسطة مركب العقل.

4 - قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « قوام المرء عقله ». إن نظام حياة الانسان قائم على العقل. بينما نجد نظام الحيوانات قائما على الغرائز.

المقارنة بين العقل والغريزة :

يختلف العقل والغريزة من جهات عديدة. ولكننا سنقارن بين هاتين القوتين العظيمتين الالهيتين من جوانب أربعة فقط : (1) المناهج العملية والاساليب الغريزية في كل من الحيوانات تكون على نمط واحد ولا يوجد بينها اختلاف في ذلك. أما الانسان فانه يملك اساليب مختلفة ومناحي متعددة في أفكاره ونشاطاته. فمثلا نجد النحلة تعيش في مناطق عديدة من الكرة الارضية ، وتعتبر الخلية بمنزلة دولة مستقلة لها ، فيوجد في دولة منظمة من تنظيمات وقوانين. ولكنها متشابهة من حيث أن

ص: 160


1- نهج البلاغة ص 606.
2- المصدر السابق ص 565.
3- بحار الأنوار للمجلسي ج 1 32.

الأساس في تلك التنظيمات قائم على الهداية الفطرية والغرائز التي أودعها اللّه تعالى فيها. تتعين الملكة في جميع المناطق حسب شروط معينة متساوية والواجبات المقررة لكل طائفة من النحل معينة حسب قانون الغريزة ، وكذلك الغرف فانها تبنى في جميع الخلايا على شكل سداسي. أما الحكومات البشرية فانها تدار حسب أنظمة مختلفة ، ولها منظمة خاصة وقد وضعت كل حكومة قانونا معينا لها ، والسر في ذلك هو أن الانسان لا يستند إلى الغريزة في نشاطاته ، بل يعتمد على العقل والتفكير. ومعلوم أن لكل شخص أو أمة أسلوبها الخاص في التفكير.

الغريزة وإدراكها للواقع :

لما كانت الغريزة عبارة عن الهداية الفطرية التي أودعها اللّه العالم الحكيم في الأحياء فانها لا تخطىء أبداً ، بل تعمل بعين البصيرة النافذة. أما العقل فانه يجب أن يستعين بالمقدمات لاستخراج النتائج ، فقد يخطئ في المقدمات وقد يخطئ في كيفية الاستنتاج منها. وهناك العشرات من المؤثرات التي تترك أثارها على العقل ، مثل : الغضب والشهوة والعادات الاجتماعية التقاليد العائلية ... وهذه تنحرف بالعقل عن طريقه المستقيم فيحرم من إدراك الواقع والحقيقة في النهاية.

فما أكثر السيئات الحقيقية التي تضر بالسعادة الانسانية ومع ذلك فهي محبذة ومحبوبة لدى بعض الأمم. وعلى العكس فما أكثر الحسنات التي تعين الانسان في وصوله إلى السعادة والكمال ومع ذلك فهي مذمومة ومهجورة عند بعض الأمم. وإذا كان العقل وحده كافياً في معرفة الحقائق واراءة طريق السعادة والشقاء لما كانت هناك حاجة لارسال الأنبياء لهداية البشر وتكليف الناس بإطاعتهم (1). يقول الامام موسى بن جعفر (عليه السلام) لهشام بن الحكم ضمن حديث طويل : « يا هشام ، إن لله على الناس حجتين : حجة ظاهرة ، وحجة باطنة. فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة ، وأما الباطنة فالعقول ... » (2).

ص: 161


1- للتفصيل في هذا الموضوع يراجع فصل ( ما حاجتنا إلى الأنبياء مع وجود العقل؟! ) من كتاب ( دفاع عن العقيدة ) للمترجم.
2- الكافي لثقة الاسلام الكليني ج 1 16 ، ط طهران.

إختلاف البشر :

إن عدم نضح العقل البشري طوال القرون المتمادية هو الذي سبب اختلاف الناس في كيفية تعيين مناهج حياتهم ومعرفة طريق سعادتهم. وقد تؤدي هذه الاختلافات إلى مطاحنات ومشاحنات عظيمة ، ومفاسد لا تجبر.

والعالم المتحضر - بالرغم من النجاحات العلمية والعملية الباهرة التي أحرزها - لم يكن بعيداً عن هذا البؤس ، فهو لا يزال يحترق في نار الاختلافات العقيدية وبذلك يعرض السلام العالمي والأمن العام إلى أعظم الأخطار في كل آن. ومن أبسط الأمثلة على ذلك أننا نرى اليوم أن الشيوعية قد صارت سبباً في أعظم وأخطر الانشقاقات الفكرية ، فهناك الملايين من العقلاء والمثقفين والجامعيين يعتقدون بأن طريق السعادة الانسانية منحصر في تطبيق النظام الشيوعي ، وأنه إذا قدر لهذا النظام أن يسود العالم يوماً وتطبقه جميع الأمم والقوميات في العالم فان البشرية ستصل إلى أوج عظمتها ، وستضمن لها سعادتها وكمالها اللائق بها. وللوصول إلى هذا الهدف يجب السعي بكل جهد لازالة الموانع - الواحدة بعد الأخرى - وكذلك يجب العمل لبث الفكرة بمختلف وسائل الدعاية والاعلان ، فلربما يشمل هذا الفيض العظيم العالم كله ، وتكون النتيجة تطبيق السعادة على الناس كلهم في أرجاء المعمورة!!.

... وفي قبال هؤلاء يوجد ملايين العقلاء والعلماء والمثقفين والجامعيين يعتقدون بأن الشقاء والبؤس والانحطاط يتمثل في النظام الشيوعي ، والنسبة طردية بين انتشار هذا النظام في العالم وفقدان الراحة والسعادة من الانسانية ، فالشيوعية تعني دمار الانسانية كلها ، والنظام الشيوعي معناه خنق الحرية وكبتها ، والمذهب الشيوعي يعني قتل الأخلاق والفضيلة ... ويجب العمل بكل الجهود لاحباط مساعي الشيوعيين ولمحاربة هذا النظام الخبيث ، وقلع جذوره التي تعمل على هدم الانسانية وخنق الحرية وقتل الأخلاق. ويجب استخدام جميع أجهزة الدعاية والاعلان لمحو هذا المبدأ الهدام ، والداء الوبيل الذي يكمن الخطر فيه أكثر مما هو في الطاعون والهيضة ، وبذلك ينجو البشر من هذه الفكرة الفاسدة القذرة ... وفي ذلك اليوم فقط يمكن الاطمئنان إلى سعادة البشرية!!!.

ص: 162

قصور العقل :

لامجال للشك في وجود هذا الاختلاف الفكري بين عقلاء البشر كما واضح لأدنى متتبع ... ومرد ذلك كله إلى قصور العقل عن إدراك الواقع. فإذا كان العقل في الانسان ينفذ إلى الحقائق ويدرك الواقعيات كما هو الحال بالنسبة إلى الغريزة في الحيوانات ، كان يستحيل وقوع البشرية في أمثال هذه الاختلافات والمطاحنات ... وهذا هو السر في إرسال الأنبياء من قبل اللّه تعالى ، فإنهم جاؤوا لجبران قصور العقل ، ليقولوا الكلمة الحقة في موارد الاختلاف ، ويثبتوا الحقيقة الساطعة في المنازعات وبذلك ليخلصوا البشرية من ورطة الجهل وحيرة الضلال :

« كان الناس أمة واحدة فبعث اللّه النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ... » (1).

لقد رأينا كيف أن الحيوانات تدرك الواقعيات المرتبطة بها عن طريق الغرائز التي تمثل الهداية الفطرية لله تعالى إياها ، لكن الانسان لا يستطيع أن يدرك الواقعيات التي توصله إلى السعادة عن طريق العقل دائماً ، بل عليه أن يعتمد على الهداية التشريعية - التي تتمثل في تعاليم الأنبياء - ليتمكن من إدراك الطريق المستقيم والمنهج الحقيقي للسعادة ...

هذا هو أول أوجه الفرق بين العقل والغريزة!

حرية العقل :

2 - أما النقطة الثانية التي يختلف فيها العقل عن الغريزة فهي أن الغريزة تعمل بصورة جبرية ولا يملك صاحب الغريزة في الأفعال الغريزية أية إرادة أو اختيار. فالنحلة مجبرة على أن تبني بيتها بشكل سداسي ، مستخدمة في ذلك الشمع كمادة إنشائية. ولا يحق لها أن تحدث أي تغيير في هذا العمل كما نجد أن الانسان - بحكم غريزته - يبلغ في وقت معين وتبدو الرغبة الجنسية فيه من دون ارادته واختياره ... لكن الأحكام العلية تجري بإرادة الانسان واختياره ، وهو حر في تنفيذ

ص: 163


1- سورة البقرة 213.

أوامر العقل أو عصيانها. وهذه الحرية هي أعظم مائز للبشر بالنسبة إلى جميع الموجودات في عالم الأحياء.

إن القرآن الكريم يشير إلى حرية الانسان في مواضع عديدة ويعتبرها من الودائع الفطرية في بناء الانسان. وهنا لا بأس من الاستشهاد ببعض تلك الآيات في ضمن الفقرات التالية : -

الحرية الفطرية :

يقول تعالى : « إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ ... » (1).

أي أننا خلقنا الانسان من نطفة خليطة من الرحل والمرأة ، ثم نمتحنه ...

وإذا نظرنا إلى الحيوانات ، وجدنا أنها هي أيضاً تتكود من خليط من نطفة الذكر والأنثى. فالخلية الأولى للخروف أو الأرنب إنما هي خليطة ( أمشاج ) ، وبذلك تشبه الانسان ... إلا أنه ألحق كلمة ( نبتليه ) بعد كلمة ( أمشاج ) بالنسبة إلى الانسان ، وهذه عبارة عن فصل مميز بين الانسان وسائر الحيوانات ، وذلك لأن الاختبار إنما يصح عندما يكون الشخص المختبر مالكاً للحرية والاختيار ، فمثلاً لا يمكن أن يقال بالنسبة إلى الشخص المسجون في سجن لوحده والمراقبة مشددة عليه : أنه يمتحن ليرى هل يسرق أم لا؟. لأنه غير قادر على السرقة في محيط السجن فيجب أن يخرج من محيط السجن الضيق ويتجول بين المجتمع بحرية كي يعرف أنه سارق أم لا.

إن الخروف والأرنب وغيرهما من الحيوانات ، قد تكونوا من نطفة أمشاج أيضاً ، ولكن لا يوجد امتحان بالنسبة إليهم ، لأنهم مسجونون في سجن الغرائز ، ولا يملكون إختياراً من أنفسهم. والانسان هو الذي تخلق خليته الأولى ونطفته الأصلية منذ اللحظة الأولى على أساس هابليته للاختبار والحرية وأوجد مع ملاحظة إحتوائه على الارادة والختيار.

وبهذا الصدد يقول اللّه تعالى : « إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» (2).

ص: 164


1- سورة الدهر 2.
2- سورة الدهر 3.

فالانسان فقط هو الذي يستطيع أن يشكر نعمة الهداية الالهية بحرية ويؤدي واجبه على أحسن صورة أو يكفر بالنعمة وينحرف عن طريق الحق والاستقامة.

وبالرغم من أن الحيوانات تملك أيضاً نصيباً وافراً من نعمة الهداية الالهية ، فلم يرد في حقها «إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» ... وهي علامة الحرية وسمة الاختبار. فانها مجبرة على اتباع المنهج الفطري الالهي دون زيادة أو نقصان ، ولذلك يقول اللّه تعالى : «مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»(1).

الصراط المستقيم :

هذا الصراط المستقيم هو الذي شرعه اللّه في يكون ، وكل الدواب تسير على هذا الطريق السوي ... والطريق الذي شرعه نبي الاسلام العظيم هو صراط اللّه المستقيم أيضاً ، فلله هداية فطرية وهداية تشريعية ، وكلتاهما تمثلان الصراط المستقيم في هذا الكون ، مع فارق بسيط هو أن الحيوانات لا تملك اختياراً في سلوكها طريق الهداية الفطرية ، بينما البشر حر في اتباع الهداية الشريعية وعدم اتباعها : «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» (2)

إن القرآن يقوم بنصيحة بني الانسان الأحرار في سلوك طريق السعادة ويخاطبهم بقوله : إن هذا هو صراطي المستقيم فاسلكوه ولا تتفرقوا في السبل التي تبعدكم عن جادة الحق وطريق الفطرة فتقعون في التيه.

إن للانسان والحيوان كليهما صراطاً مستقيماً في طريق تكاملها. الصراط المستقيم الذي يسلكه الحيوان تكويني ، والصراط المستقيم الذي يسلكه الانسان تشريعي. وكلا الطريقين معينان من قبل اللّه تعالى.

والفرق بينهما أن الحيوان مجبر في سلوك طريقه التكويني ولكن الانسان مختار

ص: 165


1- سورة هود 56.
2- سورة الأنعام 153.

في ذلك : «وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ» (1) في هذه الآية نجد أن اللّه تعالى يعبر عن الهداية الغريزية للنحلة بالوحي. إن هذه الحشرة الصغيرة تلقت برنامج عملها عن طريق الوحي الالهي وفي مقام التنفيذ نجدها مجبرة على اتباع الالهام الالهي خطوة إثر خطوة دون أي تخلف.

إلهام الخير والشر :

والانسان يتنحم من فيض الالهام الالهي ، فقد ألهمه اللّه الخير والشر ... «فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» (2) ولكنه على العكس من النحلة حر في تنفيذ الالهام الالهي والجري على طبقه. فله الحرية الكاملة في أن يتبع قوانين اللّه وأحكامه فينال بذلك السعادة والكمال ، أو يتخلف عنها فيقع في روطة الشقاء والفساد : «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) ، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) » (3).

إن جميع الموجودات الأرضية والسماوية تقف - بحكم قانون الفطرة - وقفة الخضوع والعبودية أمام خالقها العظيم ، ولا يتخلف أحد منها عن هذا الواجب التكويني ، ولكن بعض أفراد البشر نجدهم يخرجون - بسوء اختيارهم وإساءة التصرف إلى حريتهم - عن هذا الواجب ... فالبعض يؤدون هذا الواجب وهو الخضوع أمام خالقهم العظيم بحرية ، وآخرون يخرجون عليه بحرية أيضاً. «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ» (4).

فنجد تعبير القرآن الكريم هنا حيث يتحدث عن الموجودات الأرضية والسماوية وجميع ما في الطبيعة من نبات وجماد وحيوان يقول بأنهم جميعاً يسجدون لله ، لكنه حين يصل إلى الانسان يقول ك إن كثيراً منهم يسجد وطائفة كثيرة أيضاً تستحق العذاب ...

ص: 166


1- سورة النحل 68.
2- سورة الشمس 8.
3- سورة الشمس 9.
4- سورة الحج 18.

حسن الاختيار :

للامام موسى بن جعفر (عليه السلام) حديث طويل حول العقل والعاقل مع هشام بن الحكم ، وأول فضيلة يذكرها للانسان العاقل ، عبارة عن حريته وحسن اختياره. وفهو يقول : « يا هشام : إن اللّه تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه قال : «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ» (1).

إن الحرية المطلقة والاختيار الكامل الذي لا يحده شرط أو قيد إنما يختصان بذات اللّه فقط : « كذلك اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ » (2).

لقد أراد اللّه للحيوانات عند خلقها أن تكون فاقدة للارادة والاختيار وأن تطبق مراسم الهداية التكوينية بدون أي اعتراض ، لكنه تعلقت إرادته في مورد خاص أن يخلق موجوداً مالكاً للارادة والاختيار ، ويمنحه شيئاً من الحرية والقدرة ... فخلق الانسان ووهبه العقل ، وأبصره بطريق السعادة والشقاء ، وأعطاه الحرية في مقام العمل ، حتى يستطيع الذهاب إلى أي اتجاه أراد باختياره.

وهب أن بنية الانسان تتكون من نفس العناصر الأولية لهذا العالم وبالرغم من أنه يشترك مع عالم النبات والحيوان في صفات طبيعية كثيرة ولكنه يمتاز عنها بمزية تجعله لائقاً لتحمل مسؤولية الحرية والاختيار. ففي الانسان توجد ثروة خاصة ، وكنز إلهي دفين ، وشعلة نيرة ، وروح سماوية تجعله يرتقي على جميع الموجودات في الطبيعة.

يتحدث اللّه تعالى في القرآن الكريم للملائكة عن إرادته لخلق الانسان فيقول : «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» (3).

ص: 167


1- الكافي ج 1 13.
2- سورة آل عمران 40.
3- سورة الحجر 29.

روح اللّه :

نعم هذه روح اللّه تعالى ... فمتى تمت تسوية بناء هيكل الانسان ونفخ اللّه تعالى فيه من روحه وجب على الملائكة أن يسجدوا له. إن تسوية الهيكل ليست مختصة بالانسان ، بل هي موجودة في جميع الموجودات. إن اللّه تعالى يقول في خلق السماء : «رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا» (1) وبالنسبة إلى نبات الأرض يقول : «وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ» (2).

إذن : فالشيء الذي يختص به الانسان ، ويسبب له العظمة والرقي والكمال هو الحقيقة المجهولة التي يعبر اللّه تعالى عنها بروحه.

« عن محمد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر عن قول اللّه عز وجل : « ونفخت فيه من روحي » قال : روح إختاره واصطفاه وخلقه وأضافه إلى نفسه ، وفضله على جميع الأوامر فأمر فنفخ منه في آدم » (3).

« عن أبي بصير عن أبي جعفر في قول اللّه عز وجل : « ونفخت فيه من روحي » قال : من قدرتي » (4). فنجد الامام الباقر علیه السلام يعبر عن روح اللّه في هذا الحديث بالقدرة الالهية.

قابلية الائتمار والانتهاء :

لقد منح اللّه الانسان شيئاً من قدرته ومشيته المطلقة ، وبعد خلق آدم ظهرت أولى مظاهر القدرة والاختيار والحرية في توجه الأمر والنهي إليه من قبل اللّه.

«وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ» (5).

الأمر والنهي ، كل ولا تأكل ، إفعل ولا تفعل ... كل ذلك يمكن تصوره في

ص: 168


1- سورة النازعات 28.
2- سورة الحجر 19.
3- تفسير البرهان ص 557.
4- تفسير البرهان ص 558.
5- سورة البقرة 35.

فرض الاختيار والارادة فقط. وإنما يقال للرجل ظالماً حيث يملك الحرية في العمل ويخرج على القانون بإرادته.

نستنتج من استعراض النماذج السابقة : إن الانسان يمتاز بمكانة خاصة من جهة الارادة والاختيار. فالحيوانات تنقاد للهداية التكوينية دون أي قيد أو شرط ، وتنفذ أوامر الغرائز الكامنة فيها بجبر ودون أي قدرة على الخروج عليها. لكن الانسان حر في تنفيذ أوامر العقل. وهنا يجب أن لا نغفل نقطة مهمة هي : أن جسد الانسان وروحه ، صورته ومعناه ، عقله وإرادته ، وبصورة موجزة : ذاته وجميع صفاته في قبضة القدرة الالهية. إنه مخلوق وجد بإرادة الخالق القاهرة ، إنه موجود تمتع بالوجود بفضل إرادة موجده ، وإن وجوده قائم به ، والحرية الحقيقية ، والاختيار الكامل إنما يكونان للخالق العظيم الذي تكون ذاته المقدسة وصفاته الكمالية قائمة بذاته الأزلية ، والذي لا يحتاج إلى أحد ، في حين أن الجميع يحتاجونه ، وعلى هذا فان الانسان ليس مجبراً ولا مكتوف التدين في أعماله لأن أفعاله مستندة إلى العقل والارادة وليس أسيراً للغرائز كسائر الحيوانات ، ومن جهة أخرى فليس الانسان مختاراً مطلقاً وحراً بلا قيد أو شرط لأنه هو وحياته وجميع صفاته قائمة بذات اللّه تعالى ، والمختار المطلق والقادر الحقيقي هو اللّه القائم بذاته ، والانسان واقع في مرحلة وسطى بين المختار المطلق والمجبر المطلق.

يقول الامام الصادق (عليه السلام) : « لا جبر ولا تفويض ، ولكن أمر بين أمرين » (1).

« ... عن أبي الحسن الرضا ، قال : قلت له : إن أصحابنا بعضهم يقول بالجبر وبعضهم يقول بالاستطاعة. فقال لي : أكتب ، قال اللّه تعالى : يا ابن آدم ، بمشيتي كنت أنت الذي تشاء ، وبقوتي أديت إلي فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي » (2).

يستفاد من كلام الامام الرضا (عليه السلام) أن الانسان ليس مجبراً ، لأنه يعمل باختياره ولكن اختياره يستند إلى الافاضة الالهية ، فهو يملك إرادة بإرادة اللّه ويملك قدرة

ص: 169


1- بحار الأنوار للمجلسي ج 3 6.
2- عيون أخبار الرضا ج 1 144.

بقدرة اللّه ، والعبارة الجامعة في هذا المقام هي الجملة التي يقولها أكثر المصلين في صلاتهم ... ( بحول اللّه وقوته أقوم وأقعد ).

إذن فالنقطة الثانية التي يختلف فيها العقل عن الغريزة هي أن أوامر الغريزة تنفذ بصورة جبرية. بينما نجد أن الانسان حر في الانقياد إلى أوامر العقل.

التكامل اللامحدود :

3 - هناك فرق كبير بين الغرائز والعقل ، وهو أن عدد الغرائز محدود وللتكامل الناشئ من الغرائز حد ثابت لا تتجاوزه ولكن الانسان يستطيع التدريج في مراتب الكمال - بفضل عقله وحريته - بدون أن يحد ترقيه حد معين ، وكلما يتقدم يجد مجال التقدم والتكامل أمامه مفتوحاً. ولهذا السبب فان المجتمع الانساني كان ولا يزال يخطو الخطوات الواسعة في مجال التقدم في ظل عقله وتفكيره ، مبتكراً في كل فن آلاف التحولات والتطورات في شؤون الحياة المختلفة. أما الحيوانات السجينة في قلعة الغرائز فانها باقية في نفس الحد الذي كانت عليه قبل عشرات القرون ولم ترفع خطوة واحدة في سبيل الترقي والتكامل الجديد.

وبالرغم من أن الحيوانات مصونة من التعرض للانحراف والخطأ بفضل غرائزها ، لكن الانسان معرض للخطأ والاشتباه مرة بعد أخرى ، وهب أن الغرائز توجد أشد التنظيم وأدقه في حياة الحيوانات ، ولكن الانسان لم يصل - لحد الآن - إلى تنظيم حياته الاجتماعية والعقلية بشكل مشابه لما هو موجود في غرائزه ... بالرغم من هذا كله فان قيمة العقل لا يمكن أن تقاس مع الغريزة. إن الآلة الحاسبة تجيب على العمليات المحدودة الخاصة بها ، وكذللك الغرائز الحيوانية فشأنها شأن الآلة الحاسبة في السرعة والمحدودية. إن ميزة العقل البشري على الغرائز الحيوانية هي بقدر ميزة عقل المهندس المخترع للآن الحاسبة على الآلة نفسها ، إن النتائج الحاصلة من الآلة الحسابة ليست ناشئة من الفكر والتدبر ، وكذلك الحيوانات فإن أفعالها ليست على أساس الروية والتفكير.

« إن الحيوانات بالرغم من جهلها بنفسها وبيئتها ، تجد طريق الوصول إلى مسالك الحقيقة بدقة عجيبة ، أما الانسان فليس

ص: 170

كذلك. وكأن الحياة اتخذت للتكامل في العالم طريقين مختلفين : أحدهما الغريزة والآخر الذكاء والارادة ». « إن جميع الموجودات ما عدا الانسان تملك شيئاً من العلم الفطري عن العالم وأنفسها. هذه الغرائز تقودها بشكل دقيق تماماً للوصول إلى الحقيقة. وعليه فلا تملك حرية خداعة. إن الموجودات التي تتميز بالعقل هي التي تخدع وتقبل التكامل في النتيجة. اما الحشرات فهي على عكس ذلك‘ تتميز بنظام جماعي ثابت لم يطرأ عليها التغيير منذ عشرات الالاف من السنين وحتى اليوم».

«إن أنثى الكلب - على العكس من أنثى الانسان - لا تخطىء في مراقبة صغارها أبدا، الطيور تعرف متى يجب أن تبني أعشاشها. والنحلة تعرف المواد الضرورية للملكة أو العمال أو الحرس. إن الحيوانات لا تملك حرية وذلك لأتوماتيكية الغريزة، ولذلك فهي لا تستطيع أن تعيش كما يعيش الانسان متمتعاً في أسلوب حياته بإرادته وحريته. إن الانسان لا يعرف بعد كيفية إدارة نفسه، ولم يوفق أبداً لبناء تمدّن الكمال التي يستطيع بها أن ينظم حياته الاجتماعية بنسبة الدقة الموجودة في تنظيم الغريزة لتجمع النحل. وعليه فإن جهودنا يجب أن تبذل بصورة رئيسية في دعم رصيدنا الروحي»(1).

أثر التربية في الحيوان :

هناك بعض الحيوانات مثل الخيل والكلاب والقردة تملك شيئاً من الذكاء ، ويمكن إخضاعها للتربية إلى درجة ما. والمربي يستطيع أن يعلمها قسطاً من الصفات. ولكن العقل الذي هو منشأ الترقي والتكامل العلمي ورصيد التفكير يختص بالانسان. ولهذا السبب فان التربية مؤثرة إلى درجة ما في الحيوانات الراقية. مما لا شك فيه أنه لا يمكن تربية الحصان بشكل يستطيع معه يوماً أن يشترك في المؤتمر

ص: 171


1- راه ورسم زندكي ص 28.

الاعلى للبحوث الذرية في الجامعة ويتحدث عن كيفية تحطيم النواة المركزية للذرة. والكلب مهما تربى بصورة فائقة فانه لا يستطيع أن يبحث عن سرطان الدم وأساليب علاجه. فالحيوان مهما كان راقياً وذكياً يحذو حذو غريزته في الحياة دائما ولا يملك أدنى قدرة على التخلف عن الهداية التكوينية له.

« بالرغم من كون الغريزة عند الحيوانات الراقية كالقرود والفيلة والكلاب محاطة بهالة من الذكاء فان الغريزة هي الحاكمة والمسيطرة في الأفعال الحيوية الرئيسية لها » (1).

يقول الامام الصادق (عليه السلام) في حديثه إلى المفضل : « تأمل خلق القرد وشبهه بالانسان في كثير من أعضائه أعني الرأس والوجه والمنكبين والصدر وكذلك أحشاؤه شبيهة أيضاً بأحشاء الانسان ، وخص مع ذلك بالذهن والفطنة التي بها يفهم عن سائسه ما يومئ إليه ... أن يكون عبرة للانسان في نفسه ، فيعلم أنه من طينة البهائم وسنخها ، إذ كان يقرب من خلقها هذا القرب. ولولا فضله اللّه بها في الذهن والعقل والمنطق كان كبعض البهائم. والفصل الفاصل بينه وبين الانسان بالصحة هو : النقص في العقل والذهن والنطق » (2).

نعود فنقول إن الفرق الثالث بين العقل والغريزة هو أن الانسان يواصل سيره التكاملي في ظل العقل والتفكير ، بينما الحيوان محصور في قلعة الغرائز ، أن الحيوانات التي تملك شيئاً من الذكاء والفطنة تقبل التربية إلى درجة ما. ومع ذلك فان حياتها قائمة على أساس الغرائز الفطرية.

تنمية الأفكار :

4 - والفرق الرابع بين العقل والغريزة هو : أن الغرائز تصل إلى مرحلة الفعلية مع النمو الطبيعي للحيوان. ولا تحتاج في ذلك إلى التربية والتعليم. أما العقل فانه ينمو على أثر التوجيهات الصحيحة في التعلم والتربية ويظهر كماله الباطني بصورة تدريجية ، وينتقل من القوة إلى الفعلية وبعبارة أخرى : فان العقل يصل إلى حياته

ص: 172


1- راه ورسم زندكى ص 28.
2- بحار الأنوار للمجلسي ج 2 301.

اللائقة به في ظل التوجيهات اللازمة وإذا فقد التنمية الصحيحة ولم يقع في طريق التفكير السليم فانه يموت ويفقد أثره. إن الهدف الأول للأنبياء - ونبينا محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالخصوص - هو إحياء العقل وتنمية أفكار الناس : « يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ».

فها هو القرآن يدعونا إلى تلبية أوامر اللّه والرسول وتطبيق تعاليمه. إن كل ما كان يحدث عند الجاهلية من شرك وعبادة للأصنام وارتكاب للجرائم ووأد البنات كان نتيجة قتل العقل وإطفاء نور التفكير.

يقول الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) : « إن للجسم ستة أحوال : الصحة والمرض والموت والحياة والنوم واليقظة. وكذلك الروح : فحياتها علمها وموتها جهلها ، ومرضها شكلها ، وصحتها يقينها ، ونومها غفلتها ، ويقظتها حفظها » (1).

فالسعادة تكون لمن كانت روحه حية بالعلم ، وسالمة باليقين ، ويقظة بالتنبه. إن الاسلام يعتبر التفكير واستخدام العقل والتدبر في عوالم الطبيعية أعظم العبادات. وقد وردت بهذا الصدد آيات وروايات كثيرة. كان الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) يوصي ولده الحسن (عليه السلام) فيقول : « لا عبادة كالتفكر في صنعة اللّه عز وجل » (2).

لكي يصل الانسان إلى الكمال الانساني ، عليه أن يفكر ، يحيي عقله ، يتدبر في آثار خلق اللّه ... ويصل عن هذا الطريق إلى أوج الرقي المقرر له.

* * *

نستنتج مما سبق : أن دليل الحيوان في حياته هو الغريزة ، ودليل الانسان هو العقل. الكمال الناشئ من الغريزة ثابت دائماً ويسير على وتيرة واحدة. أما العقل فانه يقود الإنسان إلى كمالات وترقيات جديدة. الغرائز لا تحتاج إلى التعهد والتربية وتظهر لوحدها ، أما العقل فيجب أن يصل إلى مرحلة الفعلية عن طريق التربية الصحيحة.

ص: 173


1- البحار ج 14 398.
2- سفينة البحار للقمي مادة ( فكر ) ص 382.

العواطف والمشاعر :

يجب علينا أن لا نغفل حقيقة مهمة : وهي أن سعادة الانسان ليست مرتبطة بتكامل عقله فقط ، فهناك ثروة أخرى في كمين الانسان بالاضافة إلى العقل ألا وهو العاطفة. إن ما لاشك فيه هو أن الشعور العاطفي يجب أن تراقب رعايته بالصورة الصحيحة شأنه في ذلك شأن العقل. فالعقل والعاطفة يجب أن يسيرا في طريق الكمال المنشود كتفاً لكتف. وفي ظل هاتين القوتين العظيمتين يستطيع الانسان أن ينال مقامه اللائق به.

ومع أننا سنتطرق بالتفصيل إلى البحث عن العواطف وقيمة المشاعر في المراحل التربوية وجميع شؤون الحياة في البحوث القادمة ، لكننا هنا نذيل بحثنا عن العقل ببعض الجمل عن العاطفة وأهميتها بصورة موجزة.

دور العقل والعاطفة :

يلعب العقل دور الدليل المرشد في ضمان سعادة الانسان ، ولكن الطاقة المحركة له هي العواطف والمشاعر. العقل في الحياة يشبه العدل في كونه ضرورياً للمجتمع. ولكن العقل والعدل كليهما أمران صارمان لا يملكان مرونة وحناناً. أما اللحام الذي يربط بين أجزاء المجتمع ويوجد الأخاء والحب بينها فهو العاطفة. لقد ورد ذكر العدل والاحسان معاً في القرآن الكريم ، فهو يأمر بهما معاً : «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ» (1).

والمجتمع يحتاج في تحديد حقوق الأفراد ، وتعيينها إلى العدل ، ولكن بالعاطفة والاحسان يروي ظمأ المجتمع من الحب والحنان. إن غذاء العقل هو العلم ، وغذاء العواطف هو الأخلاق والفضيلة ، ومما لاشك فيه أن العقل هو أساس السعادة الانسانية ، ولكن الانسان يبحث عن محبوب آخر يمنحه الطاقة الحرارية ويسبب له الحيوية والنشاط والرفاه ، ذلك هو العاطفة. إن جميع التضحيات ، ومظاهر الايثار ، الحب والحنان ، الشفقة والمساعدة ، الحب والوفاء ... كل ذلك ينبع من المشاعر العاطفية.

ص: 174


1- سورة النحل 90.

« لايوجد أحد يضحي بنفسه في سبيل الحقيقة العليمة تماماً. إن الجدران المرتفعة على أساس الجهل والتماهل والكسل لا تتحطم بالمنطق أبداً. إن ما يدفع الانسان إلى العمل هو العقيدة لا المنطق. إن العقل لايستطيع أن يمنحنا قوة الحياة طبقاً لطبيعة الأشياء ، إنه يرشدنا إلى الطريق فقط ولا يدفعنا إلى الأمام أبداً. نحن لا نقدر على التغلب على العوائق التي في طريقنا ما لم تنبعث من أعماقنا موجة من العواطف ، و؟ فقط هو الذي يستطيع تهديم الحواجز العالية الضخمة التي تخفي خلفها إثرتنا وأنانيتنا ، ويشعل فينا لهيب الشوق والعشق ويجرنا بأسارير مفتحة إلى طريق التضحية المؤلم. إن مطالعة كتاب في الحقوق لايبعث فينا الشوق والرغبة » (1).

تزكية النفس :

وكما يسعى الانسان في سبيل إحياء مواهبه الفكرية ، وإدراك الحقائق العلمية ويحرز تقدماً جديداً في كل يوم ... عليه أن يسعى في سبيل تزكية؟ وتطهيرها أيضاً. يحيي بذلك إنسانيته ، ويرضي عواطفه النبيلة بالفضائل الأخلاقية. إن المجتمع الذي يقوم على العلم فقط ويكون فاقداً للفضيلة والأخلاق لايطاق. لأنه لايوجد في ذلك المجتمع اطمئنان وارتياح بال والناس يكونون كراكبي سفينة في وسط بحر هائج يشعرون بخطر الغرق والسقوط في كل آن. وبغض النظر عن الجانب الديني فان الفضائل الخلقية والملكات الطاهرة من الضروريات الحيوية لمجتمع سعيد فاضل.

« عن علي (عليه السلام) أنه قال : لو كنا لانرجو جنة ولا نخشى ناراً ولا ثواباً ولا عقاباً لكان ينبغي لنا أن نطالب بمكارم الأخلاق ، فانها مما تدل على سبيل النجاح » (2).

إن شطراً مهماً من سعادة المجتمع مرتبط بالفضائل الخلقية ، كما أن شطراً مهماً من شقاء المجتمع وفساده له ارتباط وثيق بالانحطاط الخلقي والصفات البذيئة.

ص: 175


1- راه ورسم زندكى ص 113.
2- اداب النفس للسيد محمد العيناثي ج 1 26.

يقول الامام علي (عليه السلام) : « رب عزيز أذله خلقه ، وذليل أعزه خلقه » (1).

وعن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال : « حسن الخلق يزيد في الرزق » (2) وعن الامام علي (عليه السلام) : « في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق ».

وعنه أيضاً : « حسن الخلق خير رفيق ».

إن من أهم الخصائص الكبرى التي يمتاز بها لأنبياء ، والتي كانت السبب المباشر في تأثيرهم في المجتمع ونفوذهم الى عقول الأفراد وأفكارهم هي ملكاتهم الطاهرة وسجاياهم العظيمة : « إن اللّه خص الأنبياء علیهم السلام بمكارم الأخلاق » (3). وبهذا الصدد جاء الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ذاكرا الهدف الأسمى من بعثته وظهوره بين ظهراني المجتمع الجاهلي آنذاك قائلا : « بعثت الأتمم مكارم الاخلاق » (4).

« إن الخطأة الاجتماعية الكبيرة في عصرنا الحالي هي الاعراض عن اتباع قانون التكامل الروحي. وحصر الروح بصورة إستبدادية عنيفة بالقوى العقلانية ، وتربية القوى الفكرية فقط. ذلك أن الفكر يستطيع بمساعدة العلم أن يضمن السيطرة على جميع الأشياء لكنه تناسى النشاطات الروحية الأخرى. إن الانسان المعاصر لم يفهم بعد خطر الخروج على قانون التكامل الروحي ، ويظن أن التنمية الفكرية تعادل التربية الروحية ، ولم يعلم بعد أن إلى جانب العقل توجد النشاطات المعنوية اللازمة للسير الصحيح في الحياة. إن السيطرة التدريجية للفساد وقلة الأدب والانحراف والادمان على الخمرة والكسل والحسد والحقد والتزوير والكذب والخيانة تحصل عندما يسحق قانون التكامل الروحي » (5).

« إنه خطأ فظيع إرتكبه دعاة التمدن والتجدد في إهمالهم للتكامل

ص: 176


1- سفينة البحار للمحدث القمي مادة ( خلق ) ص 411.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر السابق ص 410.
4- المصدر السابق.
5- راه ورسم زندكى ص 67.

الروحي. إن العمر الروحي للأغلبية العظمى من الناس لا يتجاوز ال- 12 أو 13 عاماً » (1).

تنمية العقل والعاطفة :

يشكل العلم والأخلاق جناحين قويين الطيران الانسان إلى أوج الانسانية. إن المجتمع الذي يعمل على إحياء العقل والعاطفة معاً هو أسعد المجتمعات. فبالعلم يتقدم نحو الترقي والتكامل ، وبالعواطف والأخلاق توجد البيئة الصالحة ... البيئة التي يسودها جو من الحب والحنان والاخلاص حيث يعيش الجميع في غاية المودة والأخاء.

حيث توجد الأخلاق والعواطف ولا يوجد غلم فلا تكامل هناك ولا تقدم ، ينعدم الادراك لحقائق الحياة هناك ، الانسان يكون محروماً من الانتصارات العلمية الباهرة في تلك الصورة.

وحيث يوجد العلم ولا يوجد إيمان ولا فضائل ، وحيث يوجد العلم ولا يوجد شرف ولا تقوى ، وحيث يوجد العلم ولا يوجد أثر للفضائل الخلقية والانسانية ... هناك تظهر الأنانية والاثرة ، وهناك يسيطر الجشع والحرص على الناس ، هناك يقع الأفراد في شرك الفساد والخيانة ، هناك تجد الاعتداء والتجاوز على حقوق الآخرين ، يعكر جو الصفاء والأمن ...

إن المهندس الفني في صنع السيارة يراعي الموازنة بين قوة المحرك وقوة جهاز الإيقاف ( البريك ). فكلما يزداد المحرك إلى الجانب الايجابي أي الحركة ، يزيد على قدرة الايقاف وهو الجانب السلبي وذلك لكي يحمي السيارة ومسافريها في اللحظة الحرجة وعند الاشراف على السقوط ويسيطر عليها فيوقفها.

والتقدم العلمي في العالم المعاصر بمنزلة التكامل المتزايد لقوة المحرك الاجتماعي. أما الفضائل الخلقية فانها بمنزلة ( البريك ) الذي يحفظ الناس في ساعة الخطر من الموت والسقوط. والانسان يكون سعيداً عندما يرفع من المستوى

ص: 177


1- المصدر السابق 62.

الايماني والأخلاقي في الوقت الذي يلاحظ فيه الترقيات العلمية في العالم. وذلك ليستخدم العلم في الطريق المفيد فقط. ومن المؤسف أن البشرية سالكة في الاتجاه المخالف لهذا الطريق منذ مدة ... وكأنه كلما تتقدم العلوم ، يأخذ الايمان والتقوى في التناقص والتقلص.

إن العالم اليوم أصبح - بضعف الجانب اليماني والأخلاقي فيه - أشبه بسيارة بلا ( بريك ) تستمر في سيرها بصورة قلقة ، والناس يقضون حياة مليئة بالاضطراب والقلق وهم خائفون من أن تصل بهم الحياة إلى رأس منزلق يؤدي بهم إلى الهاوية ، فيأمر الرؤساء بإشغال النار وحينذاك يستغل التقدم العلمي للتخبط في النار والدم والقضاء على الكرة الأرضية في بضع ساعات.

« إذا بقي الذكاء حراً غير تابع للادراك المعقول أو الالهام بالقيم الأخلاقية فذلك أمر خطر جداً. فالذكاء ليس يجرنا إلى الماديات فحسب ، بل يجرنا إلى البهمية , هذه الأسطر كتبت قبل إطلاع العالم على اختراع القنبلة الذرية بفترة وجيزة ، وهذا الاختراع يظهر معاني هذه الكلمات بصورة واضحة. فقد انتبه الناس فجأة إلى أن انتصاراً عملياً عجيباً يهدد السلام العالمي بصورة فظيعة وفجأة رأت الدول التي نسميها بالمتمدنة أن اتحاداً أخلاقياً فقط هو القادر على حمايتهم تجاه هذا الخطر. الوقت ضيق إلى درجة أنه يمكن الحصول على النجاة المحتمل بواسطة المعاهدات المكتوبة فقط ، ولكن الكل يعلم أن الاعتماد والاطمئنان إلى هذه المعاهدات لا يتجاوز اعتبار الشخص الموقع عليها إذا لم يكن هذا الشخص أمينأً ومخلصاً. أو لم يكن ممثل أمة تكسب كلامه وشرفه رصيداً متيناً ، فلا يبقى معنى لتلك الاتفاقيات. أنه لأول مرة في التاريخ البشري نرى أن الصراع بين الذكاء والقيم الأخلاقية صار موضوعاً حيوياً يتوقف عليه الحياة أو الموت. نحن نأمل أن نستفيد من هذه العظمة ، ولكن المؤسف أننا نشك في ذلك ... » (1).

ص: 178


1- سرنوشت ص 180.

العلم في ظل الايمان :

لقد قامت الآيات الأولى التي نزلت لأول مرة على نبينا محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم بعثته على عمودي الايمان والعلم ، فلقد قال تعالى : « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) » (1) فلقد قدم بذلك الايمان بالخالق العظيم ، ثم عقب عليه بذكر العلم : « اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ » (2)

من هنا نستنتج أن العلم الذي يكون في ظل الايمان ، يكون مصوناً من كل خطر ، ويسبب سعادة البشرية. أما إذا انفصل العلم عن الايمان باللّه فمن الممكن أن يعود بالأضرار الباهضة في بعض الحالات.

التربية السليمة للطفل :

إن تعهد العقل والعاطفة بالتربية والتنمية ، والذي هو أساس سعادة الانسان يجب أن يبدأ من مرحلة الطفولة. فمرحلة الطفولة أحسن مراحل تعلم الأسلوب الصحيح في الحياة. فقدرة الاقتباس والتقليد وحاسة التقبل عند الطفل شديدة ، فباستطاعته أن يتلقى جميع حركات المربي وسكناته ، وأقواله وأفعاله بدقة عجيبة أشبه بعدسة تصوير. وفي الوقت الذي يتكامل جسد الطفل وينمو يجب أن تسلك روحه في طريق التعالي والتكامل أيضاً وكما يعتنى بسلامة جسد الطفل يجب أن يعتنى بسلامة مشاعره ومعنوياته. يجب تعويد الطفل على النظافة. الأدب ، الصدق ، المسؤولية ، العطف ، حب الخير ، وعشرات الصفات الفاضلة الأخرى فمن الصعوبة بمكان تغيير سلوك الأشخاص الذين لم يتعودوا في أيام طفولتهم على السلوك التربوي الصحيح. إن أسعد الناس هم أولئك الذين نشأوا على التربية السليمة والصفات العالية منذ حدائة السن حتى اصبحت جزء من كيانهم ، بحيث تظهر عليهم في الكبر دون أيمان تكلف أو تصنع.

وهكذا يلعب الآباء والأمهات دوراً مهماً في بناء سعادة الأطفال ويتحملون

ص: 179


1- سورة العلق 1 - 2.
2- سورة العلق 3 - 4 - 5.

مسؤولية كبيرة على عواتقهم ، وفي الواقع أن المدرسة الأولى للتربية هي حجر الأم.

« من الصعوبة لفرد بالغ أن يقلع من نفسه جذور التربية الروحية والخلقية والفكرية الفاسدة. فالعادات البذيئة لاتقلع جذورها. إن الذين تعودوا منذ الصغر على إطاعة قوانين الحياة هم وحدهم الذين يستطيعون أن يسلكوا طريقاً صحيحاً. هذا هو واجب الأبوين ، فعليهما القيام به خصوصاً في الأعوام الأولى من عمر الطفل. وإذا كانا يجهلان الأساليب الفنية التربوية - الجسدية منها والروحية - والتي تختلف بحسب العمر والجنس والبيئة ، فلا يستطيعان القيام بهذه المهمة. فالأم بصورة خاصة محتاجة إلى هذه المعلومات ولأجل أن يقع التعليم والتربية مفيدين يجب التبكير في ذلك ، أي أنه يجب الاهتمام بالجوانب الفسيولوجية للطفل فقط منذ الأسابيع الأولى للولادة ، وبعد مضي عام واحد يجب أن يبدأ بالمسائل الروحية. إن قيمة الزمن ليست واحدة للطفل ولأبويه. إن يوماً واحداً في السنة الأولى أطول بكثير من يوم واحد في السن الثلاثين. وربما تبلغ الستة أضعاف بالنسبة لأكثر الحوادث الفسيولوجية والروحية. وعليه فيجب أن لا يهمل الدور الطفولي الخصب بلا إنبات. فمن المحتمل أن تكون نتيجة تنفيذ مقررات الحياة أكثر حتمية طوال الأعوام الستة أولى من الحياة » (1).

قلب الطفل صفحة بيضاء :

يقول الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الحسن : « إنما قلب الحدث كالأرض الخالية. ما ألقي فيها من شيء قبلته فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك » (2).

إن قلب الطفل صفحة بيضاء ، لا يوجد فيها فكرة صحيحة أو خاطئة. والاباء

ص: 180


1- راه ورسم زندكى ص 118.
2- نهج البلاغة ص 442.

والأمهات الشاعرون بالمسؤولية هم الذين يستغلون ذلك أقصى الاستغلال ويجعلون قلوب أطفالهم تتزين بالملكات الفاضلة والأخلاق الحميدة.

إن عواطف الطفل ومشاعره تظهر قبل عقله ، ويمكن الاستفادة من أحاسيسه قبل ذخائره العقلية بكثير. إن الأطفال في جميع أنحاء العالم يرسلون إلى المدارس بعد السنة السادسة ، ومن ذلك الحين تتفتح المواهب الفكرية للطفل ، في حين أن أحاسيسه ومشاعره تبدأ بالنشاط قبل ذلك بزمن طويل.

وفي الوقت الذي لا يفهم الطفل المسائل العليمة ولا يدركها ، يدرك القضايا العاطفية وتؤثر فيه كالحدة والغلظة ، واللين والرفق ، العطف والحنان ، الاحترام وعدم الاعتناء وغير ذلك ، وبصورة موجزة فان موضوع تنمية المشاعر والأحاسيس يشغل قسطاً مهماً من المسائل التربوية. ويقع عبء المسؤولية في أداء هذا الواجب على الأبوين بالدرجة الأولى. فرياض الأطفال عاجزة عن أن تحل محل العائلة والأم في إحياء جميع مشاعر الطفل الخفية بصورة لائقة ، وهداية الطفل إلى السير الطبيعي الفطري.

لقد بحثنا في هذه المحاضرة عن العواطف بصورة موجزة ، في ذيل البحث عن العقل. ونأمل أن نفصل القول فيها في المحاضرات القادمة لنتبين أهمية تنمية المشاعر من الناحيتين العلمية والدينية.

* * *

ص: 181

المحاضرة الثامنة: تغذية الجسد والروح

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه : «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ» (1)

طول مرحلة الطفولة عند الانسان :

إن مرحلة الطفولة عند صغار الانسان أطول من جميع مراحل الطفولة عند اللبائن الأخرى. والمقصود من مرحلة الطفولة هو : الفترة التي لا يستغني فيها الطفل تماماً عن أبويه ، بل هو محتاج إليهما فيها.

هناك بعض الحيوانات التي لا تملك دوراً طفولياً أصلاً كأغلب الأسماك والحشرات. إن السمكة تضع البيض في أحضان الطبيعة ، فيتكامل البيض على أثر العوامل الطبيعية - وبقلم القضاء الآلهي - وفي اليوم الذي تخرج فيه صغار الأسماك من البيض تذهب نفسها وراء الحياة والطعام ولا تحتاج إلى رعاية الأبوين.

وهناك بعض الحيوانات التي تملك دوراً طفولياً كالسباع والطيور والدواب ، لأنها بعد الولادة حتى فترة من الزمن تحتاج في التغذية والرعاية إلى الأبوين. والبعض منها يحتاج إلى الأم فقط ، ولكنها بصورة عامة لا يتجاوز دور الطفولة عندها عن بضعة أسابيع أو أشهر فسرعان ما تنفصل عن الأبوين مستمرة في حياتها بصورة مستقلة. أما مرحلة الطفولة عند أطفال الانسان ( أي أيام إحتياجهم إلى الأبوين ) فهي تطول على مثيلاتها عند الحيوانات بكثير ، وتمتد إلى فترة بعيدة. إن البنيان الجسدي لصغار الحيوانات ينمو بسرعة ، وبعد فترة قصيرة تكون جاهزة للانتفاع منها في طريق الحياة ، أما النمو الجسمي لاطفال الانسان فهو يحتاج إلى

ص: 182


1- سورة عبس 24.

وقت طويل ... فيجب أن تنقضي أشهر عديدة حتى يستطيع الطفل أن يفتح أصابعه ويمسك بها شيئاً ، ويستغرق سنة واحدة حتى يكون قادراً على المشي بعد الانكباب والنهوض ، ويحتاج إلى عامين أو أكثر لكي يتفتح لسانه تدريجياً للتكلم ، وتمر بعد ذلك أعوام كثيرة حتى يستطيع أن يدرك شيئاً عن العالم الخارجي بالنسبة إلى نفسه وأهله ، وأعوام أطول ضرورية له لتكسبه نوعاً من الاستقلال والشخصية كي يستطيع بهما من العيش لوحده في المجتمع.

اللبائن ترضع صغارها لعدة أسابيع أو أشهر وتلتزم برعايتها ، ثم تتركها ، لأن الصغير قد جهز في هذه الفترة القصيرة بكل متطلبات الحياة ويقدر على إرادة نفسه بنفسه.

لكن المرأة ترضع طفلها عاملين كاملين تلتزم برعايته طوال هذه المدة وتعتني بصحته ونظافته وحمايته عن الحوادث فتحافظ عليه من البرد والحر والحريق ، والغرق ، والسقوط ، وما شاكل ذلك ... وعندما تفطمه ، فليس طفلها إنساناً كاملاً بل هو طفل عاجز ، يجب أن يخضع لرعاية الأبوين وتمر عليه السنين حتى يصبح إنساناً سوياً قادراً على الحياة المستقلة. على الرغم من أن سرعة النمو العضلي عند الحيوان وبطأه عند الانسان تعتبر من علل قصر أيام الطفولة عند الحيوان ، ولكن ما لا شك فيه أن أحد الاسباب المهمة لطول فترة الطفولة عند الانسان يرتبط بموضوع التربية والتعليم. إن صغار الحيوان تتلقى أسلوب العيش والمعلومات الحياتية عن طريق الغريزة التي هي من نعم اللّه عليها بصورة تلقائية ولا تحتاج في ذلك إلى تعلم أو تربية. فالحيوان يحتاج إلى أمه إياماً قليلة ليأخذ منها الغذاء المناسب وتشملها الرعاية اللازمة كي يخوض معركة الحياة بعد ذلك ... أما أطفال الانسان فانهم يجب أن يتلقوا من أمهاتهم بالاضافة إلى التغذية والصحة ، مناهج مفصلة عن الحياة. وفي الواقع أن الأطفال يتلقون من أمهاتهم غذاءين : الغذاء المادي والغذاء الروحي. إن حجر الأم مضافاً إلى قيامه بالتغذية الجسدية ، يعتبر مدرسة لتربية الطفل

ص: 183

وإن فترة هذه المدرسة طويلة. فما لم يتخرج الطفل من هذه المدرسة لا يزال طفلاً ، وهو يحتاج إلى الأم ، ولا يليق للانطلاق في الحياة.

التغذية السليمة :

كما أن جسم الطفل يحتاج إلى غذاء ، فإن روحه أيضاً تحتاج إلى غذاء. إن النمو الطبيعي والاعتيادي لجسم الطفل يكون نتيجة التغذية السليمة ، والنمو الكامل لروح الطفل يخضع أيضاً لأسلوب التغذية التربوية الصحيحة والتنمية النفسية السليمة. يقول القرآن الكريم : «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ».

بديهي أن الانسان يجب أن يهتم بطعامه وينظر إليه بعين القة والبصيرة والظاهر أن المراد من الطعام هنا هو المواد النباتية التي يتغذى منها الانسان بقرينة الآيات اللاحقة التي تتحدث حول نزول المطر ، وإخضرار الأعشاب ونمو الأشجار المثمرة. إن التفكر في المواد الغذائية والدقائق الموجودة في عالم النبات والحيوان يدفع الانسان إلى الإيمان باللّه والمعاد ، كما أنها تعتبر من زاوية العلوم الطبيعية مجالاً واسعاً للبحوث العلمية والاستنتاجات المفيدة منها. لكن الامام الباقر والامام الصادق علیهماالسلام يفسران الطعام في هذه الآية بالعلم :

1 - « عن أبي جعفر في قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) قال : علمه الذي يأخذه ، عمن يأخذه فلينظر الانسان إلى طعامه » (1).

2 - « عن أبي عبداللّه في قوله تعالى (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) قلت : ما طعامه؟ قال : علمه الذي يأخذه ، عمن يأخذه » (2).

غذاء الروح :

بالاضافة إلى الحديثين السابقين نجد الأئمة علیهم السلام يعبرون في موارد أخرى عن التعاليم الروحية ب- ( الغذاء ) أو ( الطعام ) ، ويعتبرون التعلم غذاء للروح. وسيكون

ص: 184


1- تفسير البرهان ص 1173.
2- نفس المصدر ص 1173.

بحثنا معتمداً على هذين الحديثين لننطلق منهما إلى التعليم والتربية على أساس هذه التعبير ، أي باعتباره غذاء روحياً.

وعلى الرغم من أنه يمكن عقد المقارنه بين غذاء الروح والجسد من عدة جوانب والاستفادة من هذا التشبيه لأغراض مختلفة ، لكن بحثنا هذا سيدور حول نقطتين : ( الأولى ) نظافة الغذاء وسلامته ( الثانية ) كون الغذاء جامعاً ، وكاملاً. وقبل الخوض في الحديث لا بأس بتقديم مقدمة في أهمية الغذاء للجسد والروح ، ومجاري تغذية كل منهما.

يحتاج الانسان كسائر الأحياء إلى الغذاء ، فبالغذاء يستطيع أن يستمر في حياته ، وإذا لم يتناول طعاماً فانه يموت. إن جميع الشهوات والميول الانسانية التي هي مصدر النشاطات المختلفة تستيقظ بعد تناول الطعام وتدفع الانسان إلى الحركة والعمل والسعي. وفي العصور المظلمة كان بعض الناس يتوهمون أن الأنبياء لا يحتاجون إلى الطعام لمنزلتهم السامية ، ولذلك فقد جاء القرآن الكريم مفنداً هذه النظرة بصراحة : «وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ» (1).

خطر الجوع :

الجوع من أخطر حالات الانسان وأدقها تأثيراً ، حتى كأن الجائع ينسى دينه وإيمانه ، ويغفل عن الحنان والعاطفة. ومن أجل أن يملأ بطنه ينقلب إلى حيوان مفترس.

لقد حدث في البصرة في القرن الثالث من الهجرة انقلاب عظيم. فقد قام ( صاحب الزنج ) في السنوات القليلة التي حكم فيها بأعمال إجرامية شديدة من إهراق الدماء البريئة وما شاكل ذلك حتى ذهب ضحية سيفه آلاف الرجال والنساء والأطفال. أما الذين قدر لهم أن ينجوا بأرواحهم من طغيانه فقد كانوا يقضون النهار مختفين ، ويخرجون ليلاً بقلوب مليئة بالرعب والخوف للحصول على بعض الطعام. وقد عطلت الأعمال وتركت المزارع واستولى على الناس قحط شديد ، فاضطر

ص: 185


1- سورة لقمان 8.

الناس إلى أكل لحوم الكلاب والقطط وحتى أجساد الأموات فيما بعد. وكان يؤدي بهم الجوع أحياناً إلى أن يقتلوا الأشخاص المشرفين على الموت وأكل لحومهم والتاريخ يروي لنا قصه غريبة عن ذلك العصر. فقد وجدت إمرأة ماسكة رأساً مذبوحاً وهي تبكي ، فسألوها عن سبب بكائها. فأجابت أن الجياع كانوا مجتمعين حول أختها لتموت فيأكلوا لحمها ، وقبل أن تموت تماماً قطعوها وتقاسموا لحمها ، ولكنهم ظلموني فلم يشركوني في لحمها بل أعطوني رأسها فقط لاطعم منه. إن هذه المرأة كانت لفرط الجوع قد نسيت عواطفها فلم تفكر في قتل أختها ولم تتأثر لذلك. بل كان بكاؤها لعدم إشراكها في لحمها (1).

وكذلك روح الانسان ، فهي حية بالغذاء الروحي ، فالانسان المحروم من التربية المعنوية والبعيد عن العلم لا يملك حياة انسانية أبداً. فهو في صورة انسان لكنه في الواقع أخطر وأوطأ من أي حيوان مفترس.

طريق تغذي الجسم :

إن جسم الانسان يشبه قلعة محكمة الأسوار ، يحيط به الجلد كجدار يقوم حولها ، والعروق التي تعتبر بمثابة الطرق الرئيسية والفرعية في هذه القلعة لا ترتبط بالمحيط الخارجي ، أما المواد التي يحتاجها فانها تدخل فيه بواسطة طريقين رئيسيين هما : الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي. إن البدن يتصل بالبيئة الخارجية عن هذين الطريقين فهو يتلقى بهما المواد الغذائية والعناصر الضرورية للحياة ويستمر في القيام بأعماله.

ومع أن الجسم يملك قوى دفاعية منظمة ، ويخضع الطريقان الآنفا الذكر لرقابة شديدة من جميع الجوانب ، فقد يصادف دخول المواد المضرة والخطرة من هذين الطريقين إلى الجسم ، فتؤدي إلى اضطراب الصحة وإحداث الأضرار العظيمة.

« تستمد المادة الغذائية التي يحملها الدم إلى الأنسجة من ثلاثة مصادر : من الهواء الخارجي عن طريق الرئتين ، ومن سطح

ص: 186


1- تتمة المنتهى ص 380.

الأمعاء ، وأخيراً من غدد الأندوكرين. وجميع المواد التي يستعملها الجسم ، فيما عدا الأوكسجين تأتي عن طريق الأمعاء سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ... ويكاد الجدار المعوي يحمي الجسم حماية تامة من غزو ذرات تخص أنسجة كائنات أخرى ، وذلك بمقاومة تسرب البروتينات الحيوانية أو النباتية إلى الدم. ومع ذلك فانه قد يسمح أحياناً لمثل هذه البروتينات بالدخول ... » (1).

طرق تغذي الروح :

إن الجهاز الروحي للانسان - بما فيه من الروح ، والنفس ، والمخ ، والعقل - ليس متصلاُ مع المحيط الخارجي بصورة مباشرة. فهناك طريقان رئيسيان تربطان من الجهة المعنوية بين البيئة الخارجية والجهاز الروحي للانسان ، هما : العين والأذن. فإن القسم الأكبر من الواردات الفكرية والتغذية المعنوية عند الانسان يحصل من هذين الطرقين. وكما وجدنا إمكان مرور المواد المضرة من حدود الأمعاء وحويصلات الرئتين أحياناُ بالرغم من وجود القوى الدفاعية التي تراقب الواردات الغذائية والتنفسية ، يشتد هذا الخطر بالنسبة إلى الواردات الفكرية والتربوية عن طريق العين والأذن بلا رقابة أو تمييز بين الصحيح والفاسد منها ، حيث تنفذ هذه الواردات بواسطة هذين الطريقين إلى النفس وتصل إلى أعماق الفكر وتؤثر آثارها الصالحة أو الفاسدة.

* * *

سلامة الطعام ونظافته :

بعد هذه المقدمة الوجيزة ننتقل إلى صلب الموضوع فنقول : إن النقطة الأولى التي يجب أن نبحث عنها هنا هي مسألة سلامة الطعام ونظافته. إن مما لا شك فيه أن بعض النباتات وكذلك لحوم بعض الحيوانات لا تلائم البناء الانساني ، وإذا تغذى شخص منها فانها تسبب مسموميته أو حدوث أمراض أخرى له. في العصور

ص: 187


1- الانسان ذلك المجهول ص 75 - 76.

المتمادية كان الانسان - لقلة الموارد الغذائية من جهة ، وجهله بالغذاء المفيد والمضر من جهة أخرى - يأكل كل حيوان يصطاده ، ويتغذى على لحم الكلب ، والقطة ، والحوت ، والفيل ، وغيرها من الحيوانات والحشرات وحتى من لحوم الانسان واللحوم العفنة والفاسدة. ومن جراء ذلك فقد لاقى ملايين الناس حتفهم لتسمم الطعام أو أنهم فقدوا الاعتدال والسلامة في مزاجهم على الأقل. واليوم أيضاً توجد طوائف وشعوب تقتفي أثر ذلك السلوك الخاطئ ويأكلون من لحوم الحيوانات المفترسة والسباع وحتى من لحوم البشر - إذا قدر لهم ذلك - ولا يزالون يصابون بنفس العوارض والآلام.

« أثبتت البحوث الجغرافية للتغذية أن الانسان الذي يعيش في أحضان الطبيعة شأنه شأن الشعوب المتمدنة في العالم في عدم الالتزام بعقيدة معينة ، وهو يأكل أي موجود حي ، كالحية ، والحشرات ، والديدان ، واللحوم المتعفنة ، ولحم الكلب والفار وما شاكل ذلك ... هذا عندما لا يجدون لحو أبناء جنسهم » (1).

إن إحدى الخدمات المهمة التي أسداها الأنبياء لهداية البشر هي الاهتمام بالمواد الغذائية. إن أولئك القادة الروحانيين قد قسموا الأطعمة منذ أمد بعيد إلى الخبيث والطيب ، واعتبروا بعض الحيوانات محللة الأكل وبعضها محرمة الأكل ، وأجازوا لأتباعهم أن يتغذوا مما يحل أكل لحمه ومنعوهم عن أكل ما لا يحل أكل لحمه منعاً باتاً.

الأطعمة المفيدة والمضرة :

لقد استطاع الانسان في عصرنا هذا أن يعرف - بفضل التقدم العلمي - الأطعمة المفيدة والمضرة ، إلى درجة ما. فالأمم المتمدنة تمتنع عن أكل اللحوم الفاسدة والحيوانات المريضة.

ولقد عرف العلماء المواد الغذائية والعناصر المعدنية وغير المعدنية الضرورية للانسان وتوصلوا إلى كمية المواد العضوية الموجودة في أنواع الخضراوات واللحوم

ص: 188


1- جه ميدانيم؟ تغذية انسان ص 11.

والزيوت الحيوانية والنباتية ، ولقد استطاعوا تعيين الكميات اللازمة من كل نوع لفرد واحد في الأعمار والحالات المختلفة في قوائم الاعاشة والتموين ، فتوصوا مثلاً إلى بيان نوعية الغذاء اللازم لطفل في السنة الثانية ، أو صبي في العشرة ، أو عامل يبذل جهداً عضلياً ، أو أستاذاً يصرف جهداً فكرياً ، أو شيخ عجوز يقضي وقته كله في الراحة.

إن معرفة الأطعمة المفيدة والمضرة من جهة ، وازدياد إنتاج المواد الغذائية من جهة أخرى ، عاملان رئيسيان في إنهاء الاضطراب الناجم من سوء التغذية في دول العالم المتمدن. فشعوب هذه الدول ليسوا مضطرين إلى أن يأكلوا من لحوم السباع والحيوانات المفترسة والميتة واللحوم المتعفنة أو أن يملأوا بطونهم من الأطعمة المسمومة والحيوانات المريضة والملوثة.

وعلى الرغم من الخطوات الواسعة التي قطعها علماء الغرب في هذا المضمار ، فإنهم لم يتوصلوا بعد إلى معرفة جميع الجوانب المفيدة والمضرة في الأطعمة ، فهناك جوانب كثيرة لم تصل إليها يد العلم.

« وبفضل التقدم العلمي في مجال صناعة الأدوية ومعرفة الأطعمة ، ظهرت فوائد وخصائص عديدة في المواد الغذائية وازدادت أهمية الغذاء يوماً بعد يوم. وفي القرن الأخير قامت بحوق عميقة في المواد الغذائية وحصل الباحثون على نتائج ومعلومات دقيقة وقيمة ، ولكنه يمكن القول بأنهم لم يتوصلوا بعد إلى معرفة فوائد جزء من الألف جزء بل جزء من المائة ألف جزء منها » (1).

لقد حظر الاسلام بعض الأطعمة ومنع من استعمالها قبل أربعة عشر قرناً. واليوم نجد العالم المتحضر في أوروبا وأمريكا لا يرى مانعاً من أكلها. ان الشعوب الغربية تتغذى على دم البقر والغنم ، أما في الاسلام فإن شرب الدم حرام. وكذلك يأكلون لحم الخنزير والأسماك المحرمة في الشريعة الاسلامية. والدول الأوروبية

ص: 189


1- إعجاز خوراكيها ص 15.

والأمريكية تتناول الخمر بكل حرية ، أما في الشريعة الاسلامية فان الخمرة محرمة ... إن ما لا شك فيه أن تداول هذه الأطعمة عندهم نتيجة قصور العلم في دنيا الغرب. ولو كان العلم الحديث متوصلاً إلى معرفة جميع جوانب الفائدة والضرر في الأطعمة لما كان يبيح تناول الدم أو شرب الخمرة أصلاً. وسوف لا تمضي مدة طويلة حتى يكشف العلم في تقدمه ، الحقائق العلمية المتينة التي جاءت بها التعاليم الاسلامية فيعترف حينذاك بعظمة الاسلام.

أثر الطعام في روح الانسان :

والطريف هنا أن أثر الطعام لا يقتصر على جسم الانسان منتجاً آثاره الصالحة أو الفاسدة ، بل أنه يترك من الجهة المعنوية آثاره الحسنة أو السيئة على روح الانسان ، وهذا الأمر متسالم عليه من قبل العلماء المعاصرين. وقد صرح الاسلام بذلك في تعاليمه القيمة .

إن المختبرات العلمية في العصر الحديث قادرة على فحص المواد الغذائية من حيث العناصر الطبيعية المكونة لها وخواصها الكيمياوية إلى حد ما ، أما الآثار المعنوية والأخلاقية للأطعمة فانها إما أن تكون غير قابلة للفحص المختبري أبداً ، أو أن الوسائل الحديثة لم توفق لهذا الموضوع لحد الآن على الأقل ، وعلى هذا فما أكثر الأطعمة التي تضر بسعادة الانسان من الجانب المعنوي والنفسي ، والعلم قاصر عن إدراك تلك الحقائق في العصر الحاضر.

« إن تأثير المخلوطات الكيميائية التي يحتوى عليها الطعام على النشاط الفسيولوجي والعقلي لم يعرف معرفة تامة حتى الآن ... فالرأي الطبي فيما يتعلق بهذه المسألة ليست له غير قيمة ضئيلة لأنه لم تجر تجارب ذات أمد كاف على البشر للتحقيق من تأثير طعام معين عليهم. وليس هناك شك في أن الشعور يتأثر بكمية الطعام وصفته » (1)

ص: 190


1- الانسان ذلك المجهول ص 232.

« نحن نعرف كيف نغذي أطفالنا كي يصبحوا رشيقي القامة وعلى جانب كبير من الجمال وتقل وفياتهم. وذلك بمعونة علم معرفة الغذاء الحديث. لكن هذا العلم لم يعلمنا كيف نوجد جهازاً عصبياً متيناً ، وفكراً معتدلاً وشجاعة ، وحسن خلق ، ومقدرة عقلية ، وكيف نحميهم من الانهيار النفسي » (1)

يقول الامام الرضا علیه السلام : « إن اللّه تبارك وتعالى لم يبح أكلاً ولا شرباً إلا لما فيه من المنفعة والصلاح ولم يحرم إلا لما فيه الضرر والتلف والفساد » (2). فتحريم الأشياء إذن أو إباحتها عن أساس المصالح والمفاسد لا أكثر.

شرب الدم والقساوة :

إن نظرة أئمة الاسلام إلى الأطعمة كانت تشمل جميع منافعها ومضارها الروحية والبدنية ، وقد صرحوا في بعض الموارد بالمفاسد الروحية والنفسية لها عند التعرض لذكر اضرارها البدنية. وها هو كلام الامام الرضا علیه السلام في علة حرمة شرب الدم بعد ذكر الأضرار البدنية لذلك : « ويسيء الخلق ، ويورث القسوة للقلب ، وقلة الرأفة والرحمة ، ولا يؤمن أن يقتل ولد ووالده » (3).

الخمر والاجرام :

والامام الباقر (عليه السلام) حين يتطرق لعلة حرمة الخمر يقول : « إن مدمن الخمر كعابد وثن ، ويورثه الارتعاش ، ويهدم مروءته ، ويحمله على التحبسر على المحارم من سفك الدماء ، وركوب الزنا » (4).

إن العوارض التي تصيب البدن من جراء شرب الدم يمكن قياسها أما قساوة القلب فلا يمكن فحصها في المختبرات. وكذلك أثر الكحول على الأعصاب

ص: 191


1- راه ورسم زندكى - المقدمة - ص (ب).
2- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج 3 71.
3- بحار الأنوار للمجلسي ج 14 772.
4- بحار الأنوار للمجلسي ج 14 771.

والابتلاء بالخرف فانه غير مخفي على العلماء ، ولكن لا يمكن مشاهدة المروءة والقيم الأخلاقية في المختبر.

إن التغذية تلعب دوراً أساسياً في المسائل الاجتماعية في العصر الحديث. فالمؤسسات المختصة بهذا الموضوع والمجهزة بالوسائل العلمية المختلفة تفحص جميع جوانب الغذاء ، بأن لا يكون فاسداً ، وأن يكون الباعة أو الطهارة سالمين ، وأن تكون المطاعم مطابقة للشروط الصحية من كل جانب ... وبصورة موجزة فانها تعمل جهدها مستعينة بالوسائل العلمية والقوى التنفيذية الصارمة لكي تقف أمام تلوث الغذاء وفساده. فقد يصادف سمم البعض من جزاء تناول ( الدوندرمة ) وحينئذ تعمل جميع المؤسسات ، والناس يعترضون ، والجرائد تتحدث حول الموضوع ، البائع يوقف ويتحقق معه : لماذا صنعت الدوندرمة من حليب فاسد وسببت تسمم مئات الأفراد!!.

وإذا لم تكن قيمة التغذية الروحية أعلى من قيمة التغذية المادية فهي ليست أقل منها. فمن الضروري أن يبذل الاهتمام للغذاء الروحي بنفس النسبة من الهتمام بالغذاء المادي ، والذي يرغب في أن يكون سعيداً يجب عليه أن يلتفت إلى سلامة غذائه الروحي كالتفاته إلى سلامة غذائه المادي. إن خطر التسمم الروحي أشد بكثير من خطر تسمم الجسم ، فإذا تسمم ألف شخص في مدينة من جراء تناول طعام فاسد ولم تنجح علاجات الأطباء معهم وماتوا جميعاً فقد مات من تلك المدينة ألف شخص فقط. أما إذا أصيب ألف فرد في تلك المدينة بالتسمم الفكري والروحي فمن المحتمل أن يتسبب هؤلاء في تسمم أهل المدينة كلهم ، وقد يؤدي وجود ألف فرد منحرف في دولة إلى انهيار تلك الدولة بأجمعها.

من السهل إعادة الصحة والسلامة لمن أصيب بالتسمم الناشىء من تناول طعام فاسد بالعناية الصحية الدقيقة ، أما الفكر المسموم والمشبع بالأفكار الخاطئة والمنحرفة فإعادة السلامة إليه من الأمور الصعبة جداً. إن خطر إناء من الدوندرمة الفاسدة في محل أقل بكثير من خطر فيلم مسموم وهدام. وحين يقدم أبو الأسرة على شراء طعام لأطفاله يحاول التأكد من سلامة ذلك الطعام ، أما حينيقدم على شراء كتاب أو مجلة ليضعها في متناول أيدي أطفاله فهو لا ينتبه إلى أن هذه المجلة

ص: 192

إنما هي غذاء أرواحهم فإن كان فاسداً أصيبت الأسرة بأجمعها بذلك التسمم الفكري.

« عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال : ما لي أرى الناس إذا قرب إليهم الطعام ليلاً تكلفوا إنارة المصابيح ليبصروا ما يدخلون بطونهم ، ولا يهتمون بغذاء النفس بأن ينيروا مصابيح ألبابهم بالعلم ، ليسلموا من لواحق الجهالة والذنوب في اعتقادهم وأعمالهم » (1).

« قال الحسن بن علي (عليه السلام) : عجبت لمن يتفكر في مأكوله ، كيف لا يتفكر في معقوله ، فيجنب بطنه ما يؤذيه ن ويردع صدره ما يرديه » (2).

إن الذي يهتم بصحته لا يتناول طعاماً من يد شخص مصاب بالسل أو الجدري لأنه لا يطمئن إلى سلامة الطعام ونظافته. هناك أفراد مصابون بالأمراض الروحية والخلقية ولذلك فإن أقوالهم وكتاباتهم التي تعبر بمثابة غذاء روحي للناس ليست مأمونة ، وذلك لأن من الممكن أن يلوث فساد الفكر ألسنتهم وأقلامهم أيضاً ويؤدي ذلك إلى انتشار الانحراف والفساد في المجتمع. إلى هذا يشير الامام الباقر والامام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية موضوع البحث : « فلينظر الانسان إلى طعامه ، قال : علمه الذي يأخذه عمن يأخذه » فعلى الانسان أن ينتبه إلى علمه الذي هو غذاء روحه عمن يأخذه. فإن كان المعلم منحرفاً وفاسداً فلا يمكن الاطمئنان إلى سلامة أقواله وتعاليمه.

أهمية التغذية في الطفل :

على الرغم من أن الاهتمام بسلامة الغذاء - بنوعيه - ضروري في جميع مراحل لحياة ويجب أن يخضع لرقابة شديدة دائماً ، لكن ما لا شك فيه أن سلامة التغذية الروحية والمادية بالنسبة إلى الطفل أهم منها بالنسبة إلى الشاب أو الشيخ ، لأن

ص: 193


1- سفينة البحار للقمي ص 84 - مادة طعم.
2- نفس المصدر ، والصفحة.

مرحلة الطفولة هي المتعهدة ببناء كيان الطفل روحياً وجسدياً ، وإن حطأة واحدة يمكن أن تؤدي إلى انحراف الطفل عن طريق السعادة وبقاء آثارها السيئة طوال أيام حياته ... ذلك أن اللبنة الأولى في بناء البيت إذا وضعت بصورة منحرفة إستمر البناء في انحرافه مهما علا في السماء.

« إن كثيراً من الأفراد بالرغم من أنهم يملكون أسساً وراثية جيدة يعجزون عن إدارة حياتهم يسبب العيوب المكتسبة التي لا يقل تأثيرها من العيوب الموروثة ».

« يحتمل أن يكون 25% من حالات البلاهة نتيجة الاختلالات الحادثة على نمو المخ طوال الحياة الجنينية أو عند الولادة ، أو في المرحلة الأولى من حياة الطفل. إن اتزان الجهاز العصبي وسلامة التفكير يرتبطان إلى حد بعيد بتركيب المواد الغذائية في مراحل تكون المخ والنتوءات العصبية. من البديهي أن الجهاز العصبي والبنيان العام وشعور الأطفال الذين تغذوا من القهوة والخبز الأبيض والسكريات ، والكحول أحياناً ... يكون مصاباً وغير سليم » (1)

« لقد علمنا علم التغذية الحديث : أن التغذية الفاسدة يمكن أن تؤثر في الطفل ، فتوجد فيه نقائص بدنية وروحية غير قابلة للعلاج » (2).

يمتاز المتقدمون في السن عن الأطفال في أنهم بفضل وجود العقل

يملكون قوة دفاعية ، فمن الممكن أن يقيسوا الأشياء التي يسمعونها أو يقرأونها في الكتب بعقولهم ، فإن لم تكن صحيحة رفضوها ... وبعبارة أخرى يستطيعون طرد الغذاء العقلي الفاسد من المخ ويمتنعون عن هضمه. أما الطفل فلضعف إدراكه لا يملك قوة دفاعية تجاه المستوردات الفكرية الفاسدة ، فهو يتقبل كل كلام فارغ ، وكل عقيدة باطلة ، وكل أسطورة مسمومة ، وكل قول هدام ... ويثبت ذلك في تفكيره وتستمر آثاره الفاسدة إلى مدى الحياة.

ص: 194


1- راه ورسم زندكى ص 158.
2- المصدر السابق ص 74.

الانحرافات الخلقية عند الطفل :

كثيراً ما تتأثر نفوس الأطفال بالايحاءات الجاهلة التي تصدر من الأبوين تجاه الطفل فينشأون ضعفاء جبناء ، أو كذابين خونة. إن للاعتقاد بنجوسة العدد (13) والتشاؤم من صوت البوم وما شاكل ذلك أصولاً ثابتة في أفكار بعض الناس ، وقد تظهر أحياناً بصورة عقدة نفسية تجعل الحياة جحيماً لا يطاق. أكثر هذه الأفكار الخاطئة يرجع إلى أيام الطفولة ومنشؤها التربية الفاسدة والتغذية الروحية المنحرفة.

يقول المسيح (عليه السلام) في هذا الصدد : « بحق أقول لكم : إنه كما ينظر المريض إلى طيب الطعام فلا يلتذه مع ما يجده من شدة الواجع كذلك صاحب الدنيا لا يلتذ بالعبارة ، ولا يجد حلاوتها مع ما يجد من حب المال » (1).

فالأطفال الناشئون على الأساليب التربوية الفاسدة لا يلتذون بحلاوة الفضلية التي هي الطعام اللذيذ لروح الانسان ، ذلك أن أرواحهم مريضة والمريض لا يلتذ بالطعام اللذيذ.

* * *

إلى هنا نكون قد انتهينا من النقطة الأولى في الموضوع ، وهي البحث عن سلامة الغذاء ونظافته بكلا نوعيه. والآن لننتقل إلى النقطة الثانية في البحث ، وهي : الغذاء الكامل. الغذاء الكامل .

الغذاء يجب أن يكون جامعاً وكاملاً ، فالبحوث العلمية الحديثة لفتت أنظار الناس إلى هذه النقطة وهي أن البدن يحتاج لاستمرار حياته إلى المواد الغذائية المتنوعة. فلا يكفي نوع واحد أو نوعان لحفظ حياة الانسان وسلامته. فاللحم وحده أو المواد الدهنية وحدها ، أو المواد السكرية فقط لا تشكل غذاء كاملاً. إن نقصان المواد الغذائية يؤدي إلى عوارض ومختلفة كان يجهلها الانسان فيما مضى ، فإن جانباً كبيراً من الأمراض والوفيات التي كانت تحدث في الماضي كان سببه نقصان المواد الغذائية الضرورية.

ص: 195


1- تحف العقول ص 507.

لقد ألف العلماء في موضوع الغذاء وتركيباته المختلفة كتباً عديدة وجرت بحوث دقيقة حوله في نقاط مختلفة من العالم. وهنا لا بأس من اقتباس بعض العبارات من تلك الكتب لزيادة الاطلاع.

« هناك ترابط وثيق بين النشاط الخلقي والفكري والغدي فان المواد التي تفرزها الغدد الواقعة فوق الكلية والتي تصنع ( الهيبوفيزوثايروكسيد ) هي التي أعدت دماغ باستور للاكتشافات التي تعتبر فاتحة للعصر الحديث في تاريخ البشرية. إن الذكاء وصلابة الايمان التي تجعل الانسان يتحمل المشاق العظيمة التي تعترض طريقه ، وفي نفس الوقت ناتجة من الغدد الداخلية ، وعدد الخلايا المخية ... إن أبسط تغيير في مقدار الحديد والكالسيوم والفلزات من الدم يؤدي إلى فقدان الاتزان العضوي والنفسي عند الانسان » (1).

« إن الاختلالات التي توجد طوال مرحلة الطفولة أو الشباب في بناء الغدد الداخلية والجهاز العصبي ، تنعكس على الشعور دائماً. فانعدام اليود في المناطق المسكونة من مرتفعات الألب وهمالايا يوقف نمو غدة الثايروكسيد ويصاب الأطفال بالبلادة الثايروكسيدية » (2).

« يلاحظ انتشار إنحناء العظام عند أطفال الفقراء خصوصاً في المدن الكبيرة ، ويظهر ذلك بتكلس عظام البدن وعدم انتظام ونزاكة الأسنان. وهذا المرض إنما هو نتيجة عدم كفاية الفيتامين D وعدم التوازن بين الكالسيوم والفسفور في البدن » (3)

« إن خروج العينين من الحدقة مرض يمكن أن يؤدي إلى العمى ،

ص: 196


1- راه ورسم زندكى ص 167.
2- راه ورسم زندكى ص 158.
3- جه ميدانيم؟ تغذيه انسان 24.

وسبب ذلك نقصان الفيتامين A في الطعام ( المادة الصفراء التي توجد في الجزر والخضروات تتحول في البدن إلى فيتامين A ) » (1).

« أحياناً يكون فقر الدم مرتبطاً بالغذاء ، إن عدم كفاية الحديد في الكريات يؤدي إلى نقصان المادة الملونة التنفسية في الدم أي الهيموغلوبين » (2).

« وربما كان بطء نمو الأطفال والمراهقين وانحراف مزاج البالغين ناشئاً من قلة الحوامض العضوية في البدن » (3).

التغذية السليمة :

تشكل الروايات المتعلقة بالأطعمة والأشربة وإرشاد الناس إلى التغذية السليمة ، جانباً واسعاً من التعاليم الاسلامية العظيمة ، فهناك نصوص كثيرة حول اللحوم المفيدة والمضرة والتوازن في استعمالها ، وكذلك الدهنيات والسكريات والفواكه والحبوب والخضروات.

إن الحقائق التي توصل إليها علماء البشر عن طريق التجارب العلمية في هذا المضمار ، سبقهم إلى كشفها أئمة الاسلام عن طريق الوحي والالهام ولقد طبقوها على أنفسهم وأرشدوا أتباعهم إلى العمل بها أيضاً وهنا نشير إلى زاويتين منها فقط على سبيل المثال.

أ - النخالة :

« تشكل نخالة الغلات كالقمح والشعير والرز وما شاكل ذلك مصدراً مهماً من مصادر الفيتامين B » (4).

« يظهر مرض الكساح مصحوباً بالاختلالات العصبية والمعدية

ص: 197


1- نفس المصدر ، والصفحة.
2- المصدر نفسه ص 25.
3- نفس المصدر ، والصفحة.
4- إعجاز خوراكيها ص 95.

والقلبية ، ويمكن أن يؤدي إلى الموت. لقد أثبت العالمان ( ايكمان ) و( كريتس ) أن هذا المرض يحدث من فقدان نوع من الفيتامين BI في الطعام. إن حبة الرز الكاملة ( مع القشرة ) واجدة للفيتامين B1. لكن الحبة المهبوشة لا تحتوي على هذا الفيتامين » (1).

والآن لننتقل إلى سيرة أئمتنا علیهم السلام في الأطعمة ، وبالنسبة إلى النخالة بالخصوص :

« يقول سويد بن غفلة : دخلت على الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يوماً وقد حان وقت تناول الغذاء فرأيته جالساً على جانب مائدة ، وفي ده رغيف أرى قشار الشعير في وجهه ، فذهبت إلى خادمته وقلت لها : يا فضة ألا تتقين اللّه في هذا الشيخ؟! ألا تنخلون له طعاماً مما أرى فيه من النخالة؟ فقالت : قد تقدم الينا أن لا ننخل له طعاماً ... فرجع سويد إلى الإمام ثانية وذكر قصته مع فضة ، فتبين أن الامام علیه السلام قد تعلم هذا الأسلوب من النبي الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... ثم تذكر عظمة النبي قائلاً : بأبي وأمي من لم ينخل له طعام » (2). وها هو الامام الصادق (عليه السلام) يتحدث عن طعام سليمان فيقول : « ويأكل هو الشعير غير منخول » (3).

ب - الخضروات :

« كان البحارة والمكتشفون والجنود المرابطون في الأماكن القاحلة يصابون - لعدم وجود الفيتامين C في طعامهم - بمرض خطير يمسى ب- ( رقة الدم ). إن حالة المصاب مؤلمة جداً ، فالدم يجري من لثته ، وأسنانه تسقط ، يجري الدم من مؤخره ، تلتهب رئتاه ، تتفكك عظامه ويصاب بالإغماء الشديد والإعياء المذهل ، ويموت بعد شهرين أو ثلاثة من معاناة الآلام الشديدة. إن الخضروات الطرية تعالج هذا المرض أو تمنع ظهوره. إن كيفية هذه المسألة قد

ص: 198


1- جه ميدانيم؟ تغذيه إنسان ص 23.
2- بحار الأنوار للمجلسي ج 9 501.
3- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج 3 103.

اتضحت بفضل الاكتشافات الجديدة نسبياً في موضوع الفيتامينات » (1).

وإذا ما تصفحنا سيرة أئمتنا علیهم السلام بهذا الصدد ، نجد التأكيد الشديد على استعمال الخضروات مع الطعام. « عن أحمد بن هارون ، قال : دخلت على الرضا (عليه السلام) فدعا بالمائدة ، فلم يكن عليها بقل ، فأمسك يده ثم قال : يا غلام أما علمت أني لا آكل على مائدة ليس عليها خضراء؟ فأت بها ، قال : فذهب وأتى بالبقل ، فمد يده فأكل وأكلت معه » (2).

فهنا نجد الامام الرضا (عليه السلام) يمتنع عن أن يمد يده إلى مائدة ليس فيها شيء من الخضروات حتى تخضر له.

« إن جميع الأمرض ترتبط بسوء التغذية إما بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، وإن علاج جميع الأمرض متوفر في المواد الغذائية. إن الغذاء الجيد لا يقتصر أثره على إشباع الانسان ووقايته من أشد الأمراض فقط ، بل يمنحه عمراً طويلاً ، ويجعله وسيماً ورشيقاً ، وينشط دماغه ويقوي مواهبه » (3).

العلاج بالغذاء :

تعالج بعض الأمراض في العصر الحديث بواسطة الغذاء ، وبذلك تعود للأفراد قوتهم وصحتهم ، وعن طريق الغذاء الكامل المناسب نجد أنهم يحولون الوجوه الشاحبة إلى وجوه نضرة ، والعيون الغائرة إلى براقة ، ولد راعى الاسلام في العصور الماضية هذه النكتة تماماً. فمن بين الروايات العديدة التي وردت في موضوع الأطعمة على اختلاف أنواعها نجد الرسول الأعظم والأئمة الكرام (عليه السلام) قد عالجوا المرضى والعجزة بالارشادات الغذائية ، وتجاوزوا ذلك إلى إرشادات حول تقوية

ص: 199


1- جه ميدانيم؟ تغذيه إنسان ص 22.
2- مكارم الأخلاق للطبرسي ص 90.
3- إعجاز خوراكيها لغياث الدين الجزائري ص 14.

الذكاء والحافظة عن طريق بعض الأطعمة. إن العسل من الأطعمة اللذيذة ، ولقد تحدث القرآن عنه : «فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ» (1).

إن العالم الحديث يمتنع - قدر المستطاع - عن استعمال الواء. ذلك أن الدواء في نفس الوقت الذي يقع مفيداً من جهة يكون مضراً من جهة أخرى ... يقول الامام الرضا (عليه السلام) بهذا الصدد : « ليس من دواء إلا ويهيج داء » (2). فأحسن طرق العلاج وآمنها ، هو الاستفادة من المواد الغذائية المختلفة التي أودعها الخالق العظيم بين أحضان الطبيعة لفائدة البشر.

« الكل يعلمون أن العامل الوحيد في انتشار الأمراض التي تنتقل بالعدوى موجودات صغيرة جداً تسمى ب- ( الميكروبات ). وبعد أن اكتشف باستور وجود هذه الميكروبات ، تصور الناس جميعاً أنهم يستطيعون اقتلاع جذور الأمراض بمقاومة انتشار الميكروبات ، ولذلك فقد انتشر في أنحاء أوروبا طريقة شرب الماء المغلي والأطعمة المطبوخة تماماً ».

« كان الجميع يتوقعون هبوط نسبة الوفيات والاصابات بالأمراض يوماً بعد يوم ، ولكن المؤسف أنه لم يتوقف فشل هذا التوقع عند عدم إنتاج هذه الطريقة في تقليل الاصابات ، بل إن أكثر من نصف سكان أوروبا - والأشخاص الواعون منهم بالخصوص ، الذين كانوا مراقبين أكثر من غيرهم وكانوا يخافون من الميكروبات ويطيعون أوامر الأطباء بصورة عمياء - قد أصيبوا بأمراض عديدة. وبديهي أن أمراض هؤلاء لم تكن من نوع الأمراض المعدية التي تنتقل بالجراثيم ، بل كانت نتيجة الفرار من الأطعمة النيئة ، وغلي الأطعمة التي تموت فيتاميناتها بالغليان » (3).

ص: 200


1- سورة النحل 69.
2- روضة الكافي ص 273.
3- إعجاز خوراكيها ص 25.

تعادل المواد الغذائية :

يستنتج مما مر : أن سلامة الانسان منوط بالتغذية الصحيحة والكاملة. إن الطعام يجب أن يكون حاوياً لجميع المواد اللازمة التي تحتاجها الأقسام المختلفة من الجسم. إن الاستفادة السليمة من النعم الالهية والانتفاع الجامع والمعتدل من الأطعمة المطبوخة والنية ، من اللحوم المحللة والمواد الدهنية والسكرية والفواكه والخضروات كفيل بجعل الانسان قوياً وسليماً طيلة عمره.

وكذلك سلامة الروح وسعادتها. فهي منوطة بالتغذية الروحية الكاملة والسليمة. فالذين يريدون أن يحصلوا على روح سليمة ونفس طاهرة وقوية يجب عليهم الاهتمام بجميع ميولهم الروحية وعواطفهم المعنوية وإشباعها عن طريق التغذية الكاملة.

إنه يجب البحث عن الغذاء الروحي الكامل في مجموعة الايمان والعلم والفكر والأخلاق والعواطف الانسانية وغير ذلك من المزايا الروحية.

إن من الأطعمة الضرورية والمفيدة للبدن ، اللحوم على اختلاف أنواعها ( من لحوم الطيور والأنعام والأسماك ). وتبعاً للتعاليم الدينية والعلمية يجب على الانسان أن يستفيد لحفظ حياته وسلامته من هذه المادة الحياتية المهمة ، ولكننا على يقيم من أن الحم وحده لا يكون غذاء كاملاً ، ولا يستطيع أن يحفظ للانسان حياته وصحته إلى الأبد.

والفروع العليمة المختلفة من طبيعية ورياضية وأدبية تشبه أنواع اللحوم الضرورية ، ولكن لا تشكل هذه العلوم وحدها غذاء روحياً كاملاً للانسان ولا تستطيع أن تحفظ للروح الانسانية حياتها وسلامتها إلى الأبد.

وما أكثر البحارة الذين كانوا يملكون في بواخرهم المقادير الكافية من اللحوم والمواد الدهنية والسكرية ، ولكن حيث أنهم كانوا فاقدين للخضروات ، فقد خلت أطعمتهم من الفيتامين C ، فأصيبوا بنزف اللثة والمخرج والتهاب الرئة ، وماتوا أخيراً بأفظع صورة وأشد الآلام ، وكذلك ما أكثر الأشخاص المطلعين على المقدار الكافي من مسائل العلوم الطبيعية والرياضية ، ولكنهم عند هجوم المصائب عليهم ، أصيبوا بالأمراض النفسية أو الروحية أو أقدموا على الانتحار لعدم وجود الرصيد الايماني والأخلاقي عندهم.

ص: 201

إن إصابة أولئك وموتهم كان لنقص المواد الغذائية البدنية ، وإصابة هؤلاء وانتحارهم لنقص المواد الغذائية الروحية ، ونتيجة كل منهما الشقاء والموت. فكما أن غذاء الجسد يتشكل من مجموعة من العناصر المختلفة : الدسم ، السكر ، الفسفور ، الكالسيوم ، الحديد ، اليود ، الفيتامين ، ونظائرها ، وأن فقدان أي عنصر منها يؤدي إلى عوارض خاصة كذلك غذاء الروح يتشكل من مجموعة من الثروات المختلفة : العلم ، الإيمان ، العفة ، الأمانة ، الشجاعة ، التقوى ، وأمثالها. وإن فقدان أي واحد منها يتضمن عواقب وخيمة.

« وبصورة كلية فإن نظام التغذية الفاسدة عبارة عن فقدان بعض العناصر وعدم تعادلها ، من دون أن تظهر علائم بعضها في مقابل البعض الآخر. فحينذاك يصبح الجسم ضعيفاً ومستعداً لتقبل الأمراض المختلفة. وكما تقول ( مدام راندوان ) فأنه يمكن الوصول إلى الأسباب الرئيسية لبعض الأمراض القاضية كالسل والسكر والسرطان في سلسلة من الأخطاء التي ترتكب بالنسبة إلى كيفية صنع الأطعمة طيلة أجيال عديدة. أن الجسم يستطيع أن يعيش مع وجود التغذية الناقصة وغير المتعادلة لفترة ما ، ولكن سرعان ما تظهر الاختلالات وحينذاك فالألم يكون شديداً جداً. وقد يؤدي ذلك إلى انهيار الصحة تماماً. إذا ظهر مرض سار فإنا نقاوم الجراثيم الناقلة لذلك المرض ونكافحها ، ولكننا لكشف العلة الأصلية في نشوء ألم ما نحتاج إلى دقة شديدة ، وعلى أي حال فإن تشخيص المرض أصعب من إزالته بكثير » (1).

الروح الضعيفة :

لقد وجدنا أن الجسم يستطيع أن يعيش مع التغذية الناقصة ، وينمو قليلاً. ولكن عندما يصاب بمرض سار فلا يستطيع مكافحته إذ يواجه اختلالات عديدة ، فالآلام الشديدة تقض عليه مضجعه وقد تؤدي به إلى الموت.

ص: 202


1- جه ميدانيم؟ تغذية انسان ص 25.

وكذلك الروح فانها تستطيع أن تستمر على الحياة مع التغذية الروحية الناقصة ، ويكون الفرد حينذاك فرداً اعتيادياً في المجتمع ظاهراً ولكن في المواقف الحرجة ، وأمام الحوادث المؤلمة ، لا يملك قدرة المقاومة وأخيراً يفشل في المعركة وينسحب بعد أن فقد شخصيته.

قد نجد شاباً مؤدباً ، وقراً ، يبدو اعتيادياً جداً ، ولا يشاهد منه أي انحراف ، يقضي الأيام في الذهاب إلى الثانوية ، وحين يحين موعد الامتحان يستعد لذلك ، ويجيب على الأسئلة ، ولكنه يرسب في ثلاثة دروس فيتألم لهذه الحادثة كثيراً ، ولا ينام ليله ، تسوء أخلاقه ويتشاءم من النظر إلى أي انسان في الحياة ... وبدلاً من أن يتصرف بتعقل ويصمم على أن يجتهد أكثر ويعد نفسه لامتحانات السنة القادمة ، يختلي بنفسه وينهي حياته بتناول شيء من السم ...

هذا الشاب لا بد وأن تكون تغذيته الروحية ناقصة ، فلم يعلم في طفولته على التحمل والصلابة والصبر ، فسقوطه أحدث اختلالات كبيرة في فكره وقضى عليه أخيراً.

وكما يعجز الجسم الذي نشأ على التغذية الناقصة من مكافحة الأمراض السارية ، تعجز الروح التي تربت على التغذية الروحية الناقصة عن مجابهة الحوادث المؤلمة في الحياة.

إن من يصل إلى منزلة اجتماعية لائقة ولا يقدر على أن يتمالك على نفسه من الظلم والتعدي ، ومن يخسر شخصيته في مقابل الرشوة ويحكم على خلاف الحق والانصاف ، ومن يسحق جميع مظاهر الشرف والأخلاق في سبيل إرضاء ميوله الجنسية ، ومن يؤدي به الغنى والثروة إلى التكبر والأنانية ... وبصورة موجزة : من ينحرف عن طريق الفضيلة والأخلاق في مقابل عامل روحي واحد ... فذلك لأن روحه قد نشأت على التغذية الناقصة ولم تتغذ من جميع المواد الغذائية الروحية بصورة كاملة وسليمة.

قابلية المقاومة :

قابلية مقاومة الجسم تظهر في هجوم الأمراض السارية ، وقابلية مقاومة الروح تظهر في الحوادث والمصائب التي تلاقي البشر في مختلف مراحل حياتهم. يقول

ص: 203

الامام علي (عليه السلام) : « في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال » (1).

وعلى سبيل الشاهد ، ننقل القصة التالية :

« ... بينما المنصور بن أبي عامر في بعض غزواته إذ وقف على نشز من الأرض مرتفع ، فرأى جيوش المسلمين من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله قد ملأوا السهل والجبل. فالتفت إلى مقدم العسكر وهو رجل يعرف بابن المضجعي ، فقال له : كيف ترى هذا العسكر أيها الوزير؟ قال : أرى جمعاً كثيراً وجيشاً واسعاً كبيراً ، فقال له المنصور : ترى هل يكون في هذا الجيش ألف مقاتل من أهل الشجاعة والنجدة والبسالة؟ فسكت إبن المضجعي فقال له المنصور : ما سكوتك أليس في هذا الجيش ألف مقاتل؟ قال : لا ، فتعجب المنصور. ثم قال : فهل فيهم خمسمائة مقاتل من الأبطال المعدودين؟ قال : لا. فحنق المنصور ثم قال : أفيهم مائة رجل من الأبطال؟ قال : لا ، قال : أفيهم خمسون رجلاً م الأبطال؟ قال : لا ، فسبه المنصور وأغلظ عليه وأمر به ، فأخرج على أسوأ حل. فلما توسطوا بلاد الروم اجتمعت الروم وتصادف الجمعان. فبرز علج من الروم بين الصفين شاكي السلاح وجعل يكر ويفر ويقول : هل من مبارز؟! فبرز إليه رجل من المسلمين فتجاولا ساعة ، فقتله العلج. ففرج المشركون وصالحوا واضطراب المسلمون لها. ثم جعل العلج يموج بين الصفين وينادي : هل من مبارز؟! إثنين لواحد. فبرز إليه رجل من المسلمين فتجاولا ساعة فقتله العلج ، وجعل يكر ويحمل وينادي ويقول : هل من مبارز؟! ثلاثة لواحد!!. فبرز إليه رجل من المسلمين فقتله العلج ، فصاح المشركون وذل المسلمون وكادت أن تكون كسرة فقيل للمنصور : ما لها إلا إبن المضجعي. فبعث إليه فحضر فقال له المنصور : ألا ترى ما صنع هذا العلج الكلب منذ هذا اليوم فقال : لقد رأيته فما الذي تريد؟ قال : أن تكفي المسلمين شره. قال : الآن يكفي المسلمون شره إن شاء اللّه تعالى. ثم قصد إلى رجال يعرفهم. فاستقبله رجل من أهل الثغور على فرس قد تهرت أوراكها هزالاً وهو حامل قربة ماء بين يديه على الفرس والرجل في حليته ونفسه غير متصنع فقال له إبن

ص: 204


1- نهج البلاغة ص 562.

المضجعي : ألا ترى ما يصنع هذا العلج منذ اليوم. قال : قد رأيته فما الذي تريد؟ ... أن تكفي المسلمين شره؟ قال : حباً وكرامة. ثم إنه وضع القربة بالأرض وبرز إليه غير مكترث به فتجاولا ساعة فلم يرى الناس إلا المسلم خارجاً إليهم يركض ولا يدرون ما هناك ، وإذا برأس العلج يلعب بها في يده. ثم ألقى الرأس بين يدي المنصور فقال له إبن المضجعي : عن هؤلاء الرجال أخبرتك ... ثم رد إلى ابن المضجعي منزلته وأكرمة ونصر اللّه جيوش المسلمين وعساكر الموحدين » (1) والخلاصة : إن كلا من الروح والجسد يحتاج في تأمين سعادته ووصوله إلى كماله اللائق به إلى الغذاء الكامل والجامع. وإن فقدان أي عنصر من الغذاء يهيىء تربة مساعدة للانحراف أو الضعف في الروح والجسد.

النمو السريع للطفل :

وبالرغم من ضرورة المراقبة الغذائية اللازمة في جميع مراحل الحياة ، لكن مرحلة الطفولة تحتاج إلى مراقبة أشد ، ذلك أن الطفل ينمو في الأعوام الأولى من حياته بصورة أسرع ، ويتكامل بناؤه الفكري أكثر سرعة.

« إن الجزء الوحيد من البدن الذي يستثنى من قانون التكاثر بالانشطار هو الجهاز العصبي أي المخ وشبكة الأعصاب ، ذلك أن الوليد يأتي إلى الحياة مع الخلايا العصبية الكاملة ، ولا يصنع الجهاز طيلة أيام حياته حتى خلية مخية أو عصبية واحدة. ولذلك فإن انعدام هذه الخلايا نتيجة لصدمة أو مرض لا يمكن أن يجبر. ومع هذا كله فإن المخ ينمو على الرغم من ثبات عدد خلاياه وهذا النمو يحصل في الأعوام الثلاثة الأولى بسرعة عجيبة بحيث يمكن إرجاع 95% من نمو الدماغ عند الانسان إلى تلك الأعوام الثلاثة » (2)

ص: 205


1- المستطرف من كل فن مستظرف للابشيهي ج 1 218.
2- هورمونها ص 11.

مسؤولية الوالدين :

إن عبء مسؤولية الوالدين في هذه المراحل ثقيل جداً. فان الغفلة عن سلامة الغذاء المادي والروحي للطفل وكمالها تؤدي إلى عوارض غير قابلة للتدارك. فالطفل يكتمل بناؤه في الأعوام الأولى من حياته ، ولا بد من الاعتناء بجميع جوانبه المادية والمعنوية. إن نقص التغذية الروحية أو الجسدية في هده الأيام تتضمن نتائج وخيمة ، إن خطأة صغيرة يمكن أن تؤدي إلى مشكلة عظيمة يستمر الطفل يئن منها إلى نهاية عمره.

« قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. فالأمير على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته ، والرجل راع عن أهل بيته وهو مسؤول عنهم ، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهى مسؤولة عنهم. ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته » (1)

فعلى الوالدين المسلمين أن يتنبها إلى المسؤولية الدينية العظيمة عليهما في تربية أطفالها. وليعلما أن الأطفال ودائع اللّه في أيديهما فالوالدان اللذان يؤديان واجبهما الديني في تربية الأولاد بصورة صحيحة يكونان قد أديا الأمانة أداء كاملاً ، ويستحقان الأجر والثواب عند اللّه على ذلك. أما الوالدان اللذان يتخلفان عن ذلك فهما خائنان ... لأنفسهما ولأطفالهما ، وللمجتمع الذي يعيشون فيه ، وهما يستحقان العقاب والحساب العسير أمام اللّه تعالى.

ليست المسؤولية العظمى للآباء في أن يجمعوا في حياتهم ثروة ضخمة ويورثوها إلى أولادهم. ذلك أن الولد إذا لم يحصل على تربية صحيحة فان الثروة تبعثه على الفساد والشقاء. إن مسؤولية الوالد تعني أن يربي ابنه على الملكات الفاضلة والقيم العليا والإيمان الصحيح وإعداده لخوض معركة الحياة بطهارة ونبل ... وولد كهذا يستطيع أن يحيا حياة عزيزة وسعيدة وفي نفس الوقت يستطيع أن يكتسب ثروة كبيرة عن عن طريق مشروع.

ص: 206


1- مجموعة ورام ج 1 6.

يقول الامام علي (عليه السلام) : « خير ما ورث الآباء الابناء الأدب » (1).

ونعمة كبيرة يمتاز بها الأولاد الذين تحدروا عن آباء مؤمنين قاموا بتربيتهم تربية صحيحة ومن نتائج تلك التربية أنهم يعيشون حياة مطمئنة محبوبون لدى الجميع ... إنهم يجب أن يشكروا اللّه تعالى على تلك النعمة ويترحموا على والديهم ، ويحافظوا على الملكات الفاضلة التي تربوا عليها ، فلا يفقدوها بمعاشرة الفساد ومجالسة الأشرار.

أما الأولاد الذين لم يتلقوا تربية صحيحة من آبائهم ، فان عليهم أن يبادروا إلى إصلاح أنفسهم ، ليكونوا واثقين من أنهم قادرون على تدارك تقصير والديهم بحقهم إذا تمسكوا بالأساليب العليمة والدينية الصحيحة ، وبذلك يستطيعون أن يسلكوا الطريق إلى السعادة والطهارة والعفة.

* * *

ص: 207


1- غرر الحكم ودرر الكلم ص 173 طبعة دار الثقافة.

المحاضرة التاسعة: دور الأسرة في التربية

اشارة

قال اللّه تعالى : « مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) ...» (1)

تكون الميول المودعة في باطن الانسان رصيد سعادته وأساس تقدمه ... فإن كل تلك الميول والمتطبات قد أوجدت حسب نظام دقيق ، وبمقادير صحيحة : «وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ» (2).

والسعيد هو الذي يتبع قوانين الخلقة المتقنة ، ويستجيب لجميع ميوله الروحية والجسدية باتزان وتعقل. فمن يفرط في الاستجابة لنداء أحد ميوله أكثر من الحد اللازم ، أو على العكس من ذلك يكبت في نفسه بعض ميوله الطبيعية ولا يفسح المجال لاروائها يكون خارجاً على المنهج الفطري ومصاباً بالانحراف والشقاء بنفس النسبة.

ميول الروح والجسد :

إن الميول والرغبات الموجودة عند الانسان تكون تارة : واضحة وظاهرة ويسعى جميع الناس في سبيل إرضائها ... فمثلاً ليست حاجة الانسان إلى الطعام والهواء والماء والنوم ، والميل الطبيعي للعب عند الأطفال والغريزة الجنسية عند الشبان والشابات أمراً خافياً على أحد. هذا النوع من الميول يدركها جميع الناس ... وبديهي أن مدى الاستجابة لهذه الميول يرتبط بالارشادات الدينية والعلمية ، ولكن توجد في الانسان ميول أخرى تكون مستترة وغير ظاهرة وحيث أنها كذلك فقلما يلتفت إليها. إن جميع الناس يعلمون أن الطفل يحتاج إلى الماء والغذاء ، ولكن

ص: 208


1- سورة نوح 13 - 14.
2- سورة الرعد 8.

القليل منهم يدرك ضرورة تنمية شخصية الطفل. إن الوالدين يدركان حاجة الطفل إلى اللعب والنوم ، ولكن قلما يدرك الوالدان حاجة الطفل إلى العطف والحنان إلى درجة ما أيضاً. إن أولياء الأطفال يتنبهون إلى سلامة القلب والكبد والكلية وسائر أعضاء جسد الطفل تنبهاً كاملاً ، ولكنهم لا يهتمون إلى السلامة الروحية والأخلاقية للأطفال بنفس الدرجة.

إن العناية بالميول الباطنية والرغبات النفسية للطفل وتوجيهها الوجهة الصحيحة تعد من المسائل الأساسية في التربية ، وإن رصيد القائمين على تربية الأطفال في هذا السبيل هو التعاليم الدينية والأساليب العلمية الصحيحة وإن اندحار وكبت أي واحد من هذه الميول الفطرية يؤدي إلى إيجاد عقدة في روح الطفل ، يظهر رد فعلها طيلة العمر في جميع مجالات الحياة ، ويسبب مئات الانحرافات والمآسي.

* * *

ونظراً لأهمية الميول الباطنية للطفل في موضوع التربية فسنحاول أن نفصل القول فيها في المحاضرات القادمة مع تضمين ذلك بذكر التعاليم الاسلامية العظيمة في هذا الصدد ، وبيان دور الوالدين في القيام بهذه المهمة.

أما بحثنا في هذه المحاضرة فينحصر في بيان أن الارضاء الكامل للميول الباطنية عند الطفل ، والاهتمام بجميع جوانب شخصيته لا يحصل إلا في محيط الأسرة ، فإن حجر الأم وحضن الأب فقط قادران على أداء هذا الدور الفعال في حياة الطفل.

إرضاء جميع الميول :

إن دار الحضانة عاجزة عن أن تحل محل الأسرة ، وإن مرشدة الأطفال لا تستطيع أن تقوم مقام الأم في إرضاء عواطف الطفل ومشاعره. إن حنان الأم قوي في الانسان والحيوان إلى درجة أنه لا يوجد بعد غريزة حب الذات عاطفة أخرى تعادل عاطفة الأمومة. إن قلب الأم يطفح بحب الطفل ، ولذلك فهي لا تتواني عن القيام بأكبر التضحية في سبيل رشده ونموه. وحين تبتسم الأم بوجه طفلها وحين تضمه إلى صدرها ، وحين تشمه وتقبله من فرط الحنان والعطف ... تسري موجة من

ص: 209

النشاط واللذة في أعماق روح الطفل وتبدو على ملامحه وعينيه آثار الفرح والرضا. وقد يبكي الطفل أحياناً من دون أن يشكو ألماً أو جوعاً لكن بكاءه لكي يناغي ، إنه جائع إلى الحنان والعطف ، يبكي لغذائه النفسي ، فبمجرد أن الأم تحتضنه وتضمه إلى صدرها ، أو تمرر يدها على رأسه فهو يهدأ ، إن ملاطفة الطفل ومناغاته غذاء نفسي للطفل ، ويجب أن يتغذى من هذا الغذاء النفسي بالمقدار اللازم.

دقات قلب الأم :

من القضايا المشاهدة لدى الجميع ارتياح الطفل وهدوءه عندما تضمه الأم إلى صدرها ، لقد أثبتت التجارب العلمية الحديثة : أن دقات قلب الأم أوقع في نفس الطفل وآنس له من أي لحن آخر ، ولذلك فان دور الحضانة تسجل صوت هذه الدقات على شريط ، وعندما يبكي الطفل يفتح الشريط بالقرب من أذنه ويهدأ بهذه الصورة.

فالفتاة التي قد تلقت قدراً كافياً من الحنان من محيط الأسرة في أيام طفولتها ، وتغذت روحها من عطف الوالدين ، لا تحتاج في دور المراهقة إلى الحنان ولا تلين بسماع بضع كلمات دافئة معسولة من هذا وذاك ، ولا تستجيب لتلك الانفعالات بسرعة.

وعلى العكس فان الفتاة التي لم تتلق قدراً كافياً من الحنان في طفولتها ولم تشبع غريزتها الباطنية بحب الوالدين ، تملك روحاً ضعيفة جداً ، وبإمكان شاب مراوغ لبق أن يحرفها عن الطريق بإهدائه إليها باقة من الزهور ، وببضع كلمات دافئة ... وبذلك يجني على عفتها وطهارتها وتسقط الفتاة إلى الأبد في هوة سحيقة من الفساد والانحراف ، أو تغسل العار بالانتحار.

نقص التربية في رياض الأطفال :

لقد انتشرت رياض الأطفال في المدن الأوروبية منذ عهد قريب ، وتقوم تلك المؤسسات برعاية الأطفال ، فالأمهات الموظفات وكذلك النساء اللاهيات اللاتي لا يردن أن يجدن مزاحمة من أطفالهن في مجالس الرقص والقمار والفساد ، يستغللن هذه الفرصة ، ويودعن أطفالهن في ( رياض الأطفال ).

ص: 210

إن حياة الطفل في روضة الأطفال جميلة جداً بحسب الظاهر ، فهو يلبس الملابس النظيفة والأنيقة ، ويمشط شعره ، وقوامه رشيق ، إن روضة الأطفال تجهز بالوسائل الصحية اللازمة فالغرف مبنية على الأساليب الفنية والأسرة مغطاة بالشراشف ، والطعام يحضر حسب المناهج الصحيحة ، والطفل يلعب بالمقدار الكافي ، وينام في الوقت المقرر ، وبصورة موجزة فان جانباً مهماً من ميول الطفل ورغباته الروحية والجسدية يكون مضموناً.

لكنه توجد في أعماق الطفل عواطف ومشاعر لا تشبع في المحيط الاجتماعي لروضة الأطفال ، فهناك فرق كبير بين علاقة إمرأة واحدة تشرف على مائة طفل - لغرض الانتفاع المادي فقط - بالطفل ، ولهيب الحب السماوي المودع في قلب الأم. فلا توجد المناغاة الحارة التي تبعث الطفل على الرضا والانشراح إلا في حجر الأم ، أما في روضة الأطفال فلا.

إن الطفل الذي يعيش بين مائة طفل حياة غير مستقلة ، لا يدرك معنى للشخصية والاستقلال الفردي ، وهما من أبرز الخصائص الانسانية (1) إن حركات الطفل وسكناته يمكن أن تراعى بدقة في الأسرة بينما تضيع أفعاله وسط أفعال مائة طفل كموجة بين مئات الأمواج في البحر حيث تصطدم بعضها ببعض ، وتزول كلها.

« يجب ألا يكون التعليم مانعاً من التوجيه الصائب ... مثل هذا التوجيه يعود إلى الوالدين ، فهما وحدهما وبصفة أخص الأم ، قد لاحظا منذ شبا الصفات الفسيولوجية والعقلية التي يهدف التعليم

ص: 211


1- ومن المناسب أن ندرج هنا ما أوردته مجلة ( العربي ) في فصل ( دردشة ) تحت عنوان : ( الأم هي المعلمة الأولى ) : « تستطيع الأم الفاضلة أن تؤدي مهمة مائة أستاذ من أساتذة المدارس. هذا ما قاله الشاعر الانجليزي جورج هربرت وهذا ما أثبته التاريخ. فجورج واشنطون أول رئيس للجمهورية في الولايات المتحدة الأمريكية ، كان قد فقد أباه وهو في الحادية عشرة من عمره ، وما كان ليشب على نحو ما شب عليه من رصانة الخلق وقوة الشخصية لو لم تكن أمه على جانب كبير من الحكمة والاقتدار. وقد تولت تربيته ، منفردة ، بعد وفاة أبيه. ويصدق ذلك كثيراً أو قليلاً على عدد من أعلام الأدب والعلم والشعر عبر التاريخ نذكر منهم على سبيل المثال : جوته ، وجري ، وشيللر ، وبيكون ، وأرسكني. فلولا تربية أمهاتهم لهم لما احتل هؤلاء مكانتهم بين الأعلام المبدعين ». عن مجلة العربي 95 ص: 59

إلى تنظيمها وتوجيهها ... لقد ارتكب المجتمع العصري غلطة جسيمة حينما استبدل المدرسة بتدريب الأسرة استبدالاً تاماً ... ولهذا تترك الأمهات أطفالهم لدور الحضانة حتى يستطعن الانصراف إلى أعمالهن ، أو مطامعهن الاجتماعية ، أو مباذلهن ، أو هوايتهن الأدبية أو الفنية أو للعب البريدج ، أو ارتياد دور السينما ، وهكذا يضيعن أوقاتهن في الكسل ... إنهن مسؤولات عن اختفاء وحدة الأسرة واجتماعاتها التي يتصل فيها الطفل بالكبار فيتعلم منهم أموراً كثيرة ... إن الكلاب الصغيرة التي تنشأ مع كلاب أخرى من عمرها نفسه في حظيرة واحدة لا تنمو نمواً مكتملاً كالكلاب الحرة التي تستطيع أن تمشي في أثر والديها ... والحال كذلك بالنسبة للأطفال الذين يعيشون وسط جمهرة من الأطفال الآخرين ، وأولئك الذين يعيشون بصحبة راشدين أذكياء لأن الطفل يشكل نشاطه الفسيولوجي والعقلي والعاطفي طبقاً للقوالب الموجودة في محيطه ... إذ أنه لا يتعلم إلا قليلاً من الأطفال الذين هم في مثل سنه. وحينما يكون وحده فقط في المدرسة فانه يظل غير متكمل ... ».

« إن إهمال مؤسساتنا الاجتماعية للفردية مسؤول أيضاً عن تقمص الراشدين ... كما أن الانسان وحيد وكأنما هو يضيع في المدن العصرية الضخمه ... إنه خلاصة اقتصادية ... وحدة في القطيع ، إنه يتخلى عن فرديته » (1)

تربية اليتيم :

وعلى أننا سنبحث عن أهمية الأسرة في مناغاة الطفل في محاضرة خاصة ونبين وجهة نظر الاسلام فيها ... سنعرض هنا لقضية تربية اليتيم وموقف التعاليم الاسلامية العظيمة منه ، لكي يتضح موضوعنا في هذا اليوم ، ثم ننتقل إلى دور الأسرة في تربية الطفل.

ص: 212


1- الانسان ذلك المجهول ص 208.

كثيراً ما يصادف أن يموت الآباء أو الأمهات في أيام الحروب أو في الحالات الاعتيادية ، ويخلفون أطفالاً صغاراً يجب أن يحافظ عليهم في المجتمع وليصيروا رجال الغد بفضل التربية الصحيحة ، وإن الدول وضعت للأيتام نظماً معينة تكفل لهم حقوقهم.

والأسلام أيضاً يتضمن التعاليم القانونية والخلقية الخاصة به في حل هذه المشكلة. فإذا كان الطفل اليتيم قد ورث من أبويه مالاً فإن القيم ( وهو الشخص يعين من قبل الحاكم الاسلامي العادل لادارة شؤون اليتيم ) يقوم بتهيئة ما يحتاج إليه من طعام ولباس ومسكن من ماله الخاص أما إذا لم يملك اليتيم مالاً ، فان بيت المال هو المسؤول عن مصارفه فحياة اليتيم إذن مؤمنة طبقاً للنظام المالي في الاسلام. ولكن النكتة الجديرة بالدقة هي : أن الاسلام لا يرى انحصار سعادة اليتيم في توفير وسائل الحياة المادية من الطعام واللباس والمسكن فقط.

اليتيم إنسان قبل كل شيء ، ويجب أن تحيى فيه جميع الجوانب المعنوية والفردية ، وله الحق في الاستفادة من الحنان والعطف والأدب والتوجيه ، وكل ما يستفيد منه الطفل في حجر أبويه. اليتيم ليس مثل شاة في القطيع يذهب صباحاً إلى المرعى معهم ويرجع في المساء. إنه إنسان ويجب الاهتمام بميوله الروحية وغذائه النفسي مضافاً إلى الرعاية الجسدية والغذاء البدني.

اليتيم في أحضان الأسرة :

إن الرويات الكثيرة تصر على معاملة اليتيم معاملة بقية الأطفال في الأسرة ، وأن يقوم الرجال والنساء مقام الوالدين في رعاية اليتيم. لقد كان بإمكان الحكومة الاسلامية في عصر الرسول الكريم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من الناحية المادية أن تنشئ في كل مدينة داراً لرعاية اليتيم وتصرف عليهم من بيت المال ، ولكن الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يفعل ذلك. لأن هذه المؤسسات والدور ناقصة من وجهة نظر التربية الكاملة من الناحيتين الروحية والمادية. فالأسرة فقط هي التي تستطيع أن تلبي نداء عواطف الطفل ، ولذلك فقد ظل يوصي الآباء والأمهات وأولياء الأسر بمنطق الدين والايمان بالمحافظة على اليتيم. وأخذه إلى بيوتهم وإجلاسه على موائدهم ، ومعاملته كأحد

ص: 213

أولادهم ، والسعي في تأديبه وإدخال السرور على قلبه بالعطف والحنان والمحبة.

لا شك أن تأسيس دور للأيتام وإكسائهم وإشباعهم ، عبادة إسلامية كبيرة ، ولكن مناغاة اليتيم والعطف عليه ، وتأديبه وتربيته عبادة أخرى وقد خص اللّه لذلك أجراً وثواباً خاصاً.

وها نحن نعرض النصوص الواردة في حق اليتيم :

1 - قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « خير بيوتكم بيت فيه يتيم يحسن إليه ، وشر بيوتكم بيت يساء إليه » (1).

2 - عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « من عال يتيماً حتى يستغني ، أوجب اللّه له بذلك الجنة » (2).

3 - وعنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « من كفل يتيماً من المسلمين ، فأدخله إلى طعامه وشرابه ، أدخله اللّه الجنة البتة ، الا أن يعمل ذنباً لا يغفر » (3).

4 - عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال : « من مسح رأس يتيم ، كانت له بكل شعرة مرت عليها يده حسنات » (4).

5 - « من أقعد اليتيم على خوانه ، ويمسح رأسه يلين قلبه » (5).

6 - قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « من أنكر منكم قساوة قلبه ، فليدن يتيماً فيلاطفه وليمسح رأسه يلين قلبه بإذن اللّه ، فإن لليتيم حقاً » (6)

7 - عن حبيب بن أبي ثابت أنه قال : « جيئ بمقدار من العسل إلى بيت المال ، فأمر الامام علي (عليه السلام) بإحضار الأيتام ، وفي الحين الذي كان يقسم العسل على المستحقين كان بنفسه يطعم الأيتام من العسل ، فقيل له يا أمير المؤمنين ما لهم

ص: 214


1- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج 1 148.
2- تحف العقول ص 198.
3- مستدرك الوسائل ج 1 148.
4- المصدر السابق ج 2 616.
5- سفينة البحار مادة ( يتم ) ص 731.
6- الوسائل ج 1 157.

يلعقونها؟ فقال : إن الامام أبو اليتامى وإنما ألعقتهم هذا برعاية الآباء » (1).

8 - قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : « أدب اليتيم مما تؤدب منه ولدك واضربه مما تضرب منه ولدك » (2).

9 - من وصية الامام أمير المؤمنين إلى أولاده : « اللّه اللّه في الايتام فلا تغبوا أفواههم ، ولا يضيعوا بحضرتكم » (3).

10 - عن فقه الرضا (عليه السلام) : « وإن كان المعزى يتيماً فامسح يديك على رأسه » (4).

11 - « لما أصيب جعفر بن أبي طالب ، أتى رسول اللّه أسماء فقال لها : أخرجي لي ولد جعفر فأخرجوا إليه فضمهم وشمهم. قال عبد اللّه بن جعفر : أحفظ حين دخل رسول اللّه على أمي ، فنعى لها أبي ونظرت إليه وهو يمسح على رأسي ، ورأس أخي » (5)

* * *

يستفاد من مجموع النصوص الاسلامية ضرورة تربية الأيتام كسائر الأطفال في المجتمع ، ولهم الحق في الاستفادة من جميع المزايا والعواطف الانسانية. إن الأيتام في الدولة الاسلامية يمتازون برعاية كاملة من حيث الطعام واللباس والحنان والأدب بحيث لا يحسون بأي فرق بينهم وبين سائر الأطفال. وطببيعي أن تربية كهذه تكون مصونة من الانحراف والخطأ. وإن طفلاً كهذا لا يصاب بعقدة الحقارة والذلة ، فينمو بصورة معتدلة وتشبع رغباته الباطنية جميعها بشكل صحيح ، ولكن القيام بمثل هذا الواجب المقدس والعبء الثقيل يتطلب إيماناً قوياً وعقيدة مستقيمة.

لقد اهتم الاسلام بتعليم أتباعه هذا الدرس المقدس والآن حيث يطوي هذا الدين السماوي قرنه الرابع عشر نجد في أطراف العالم الاسلامي الرجال والنساء

ص: 215


1- البحار ج 9 536.
2- الوسائل ج 5 125.
3- نهج البلاغة ص 470.
4- مستدرك الوسائل ج 1 147.
5- بحار الأنوار ج 18 212.

الكثيرين الذين يفتحون صدورهم - بكل رضى واعتزاز - للقيام بهذه المهمة ، ويتوروعون عن إتيان أصغر عمل سبب الأذى لليتيم وجرح عواطفه.

« وحين يحرم الموت المبكر طفلاً من ملجئه الطبيعي يشدد الآخرون في رعايتهم له والاستجابة لاحتياجاته. لكن هذا العمل لا بد وأنه منبثق من كنز عظيم يفيض بالحنان والعاطفة. وإن كنزاً كهذا لا يوجد إلا في باطن ثلة قليلة من البشر الممتازين » (1).

وإذا كان قائد الاسلام العظيم يوصي الأسرة الخيرة باحتضان الأطفال اليتامى لتربيتهم التربية الصحيحة ومعاملتهم كأطفالهم كي يحصلوا على المقدار الكافي من الحب والحنان ، ويتلقوا الأدب والسلوك المستقيم ، ويصبحوا أفراد كاملين ، فهل يمكن أن يرضى الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للأمهات أن يتركن أطفالهن لأعذار يعرفنها ويحرمنهم من التربية الصحيحة ، والفوائد المهمة التي يستطيعون أن يحصلوا عليها في محيط الأسرة فقط؟!.

« إن حرارة الأسرة تسبب تفتح جميع المشاعر والعواطف الراقية الكامنة في نفس الطفل بنفسها ، وبذلك يتطبع الطفل منذ حداثته على الصدق والأمانة والشهامة. إن الأسرة هي الميدان العملي لتطبيق تعاليم الشعور بالمسؤولية والوجدان ، وإظهار ذلك كله بصورة بارزة ظاهرة أمام عيني الطفل ». « إن الأسرة التي ينتشر فيها الوفاء والتضحية ، الصدق والشهامة في الأقوال والأفعال ، الأمانة والشجاعة في العمل ، الايثار والتواضع ... ترسم نموذجاً صالحاً للأطفال ».

« إن جميع هذه العوامل تتجلى لعيني الطفل بالتدريج خلال حياته ، وفي الحين الذي يتلقاها بصورة تلقائية يتطبع عليها بدوره » (2).

ص: 216


1- ما وفرزندان ما ص 3.
2- ما وفرزندان ما ص 4.

المدرسة الأولى :

إن محيط الأسرة مدرسة تستطيع أن تنمي المواهب الكامنة في نفس الطفل ، وتعلمه دروساً في العزة والشخصية ، الشهامة والنبل ، التسامح والسخاء ... وغير ذلك من القيم الانسانية العليا ، لا روضة الأطفال.

كان الامام علي (عليه السلام) - دون أية مبالغة - إنساناً كاملاً ، وشخصية مثالية في العالم كله ، فلقد ظهرت جميع الصفات الانسانية والملكات الفاضلة على أكمل وجه في هذا الرجل الالهي. إنه معلم مدرسة الانسانية ومثلها الأعلى. فلقد خضع له الصديق والعدو ، المسلم وغير المسلم ، وكل من اطلع على تاريخه المشرق النير.

هذه الشخصية الاليهة الكبيرة نجده يفخر بكل صراحة بالتربية التي تلقاها في أيام طفولته ويتحدث لنا عن الثروة المعنوية الضخمة التي حصل عليها في تلك المرحلة من حياته الشريفة ، ويتباهى بمربيه العظيم نبي الاسلام القدير فيقول : « وقد علمتم موضعي من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالقرابة القربية والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا وليد يضمني إلى صدره ويكنفني في فراشه ويمسني جسده ويشمني عرفه » (1).... ثم يستطرد فيقول : « يرفع لي في كل يوم علماً من أخلاقه ويأمرني بالاقتداء به » (2)

لقد تشبعت جميع الميول العقلية والعاطفية للامام علي (عليه السلام) في فترة الطفولة في حجر النبي الحنون ، فلقد أروى عواطفه بالمقدار الكافي من ينبوع محبته وعطفه من جهة ولقد أعطاه دروساً في الأخلاق وأمره باتباعها من جهة أخرى.

ومن كان في طفولته واجداً لأثمن الذخائر الروحية والمادية من الوجهة الوارثية ، ومن ناحية التربية قد تلقى المثل في أطهر أسرة وكان مربيه الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جدير بأن يكون في الكبر قائد السعادة البشرية وأمير جيش الإيمان والتقوى ...

إن الاساليب التربوية العميقة الحكيمة التي اتخذها الرسول الأعظم صلی اللّه

ص: 217


1- نهج البلاغة ص 406.
2- نهج البلاغة ص 406.

علیه و آله مع علي (عليه السلام) قد أحيت جميع مواهبه الكامنة وأوصلته في مدة قصيرة إلى أعلى مدارج الكمال ، فلقد تقبل الاسلام في العاشرة من عمره عن وعي وإدراك وعمل على نشر تعاليمه متبعاً في ذلك سيرة النبي ولم ينحرف عن الصراط المستقيم قدر شعرة إلى آخر حياته.

ونموذج آخر للتربية الصالحة نجده في التاريخ المشرق للامام الحسين بن علي(ع ) فهو غير خفي على أحد. فلقد خلدت القرون المتمادية شهامة الحسين وتضحيته، إيثاره وعظمته في إعلاء كلمة الحق والعدالة ، ولم يغب ذلك كله عن أذهان البشرية على مر الأجيال. ولقد تباهى ذلك الامام العظيم كوالده بطهارة أسرته العريقة في أحرج المواقف. وتحدث عن تربية عائلته له آنذاك قائلاً : « ألا وإن الدعي إبن الدعي قد ركز بين اثنتين : بين السلة والذلة ، وهيهات منا الذلة يأبى اللّه ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت » (1).

أجل! فلقد قال اللّه تعالى : «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» (2) والامام الحسين (عليه السلام) هو نفسه من المؤمنين وهو قائد المؤمنين وعليه يجب أن لا ينصاع لقوى الظلم والبغي. وأما دليله الثاني فهو أنه من أسرة أنفت الذل وأبت الضيم. وكأنه يقول : إني تربيت في حجر الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلي بن أبي طالب والصديقة الزهراء ، لقد نشأت على الشرف والاباء ... كان بيتنا الصغير منبع الفضيلة والشهامة ، ولم تجد الحقارة طريقاً لها إلى أسرتنا ... لقد تربيت في أحضان من عاشوا حياة ملؤها العز والحرية ، فكيف أرضى بالذلة والخضوع متناسياً ثروتي العائلية؟! هذا مستحيل ، فلن أبايع يزيد أبداً ولا أخضع لأوامره ...

هذه الشهامة والعزة ، وهذا الأباء والشرف ... نتيجة التربية الأصلية في الأسرة ، التربية النابعة من حنان الوالدين وحبهما ، ذلك الحب الممزوج بالإيمان ، التربية التي ملؤها الصفاء والخلاص والطهارة والواقعية.

... إن رياض الأطفال أعجز من أن تربي أولاداً كهؤلاء. فهي مؤسسة تجارية

ص: 218


1- نفس المهموم ص 149.
2- سورة المنافقين 8.

قبل أن تكون مركزاً ثقافياً وتربوياً ، فإن مؤسسي رياض الأطفال يهدفون في الدرجة الأولى إلى الحصول على مال من وراء الأجور الشهرية للأطفال ، ويهتمون بالتربية في الدرجة الثانية ، مع أن التربية أيضاً سطحية وبسيطة. إن الآباء والأمهات الذين لا يملكون هدفاً بغير التربية يجدون لذتهم في أن يربوا أولادهم تربية صحيحة ويجعلوهم أفراداً جديرين أكفاء في المجتمع ، وإن مركز هذا النشاط هو الأسرة فقط.

ثم إن الميزة الأخرى التي تضفي أهمية كبيرة على قيمة الأسرة هي إحياء الخصائص الفردية. فالأفراد ليسوا متفاوتين فيما بينهم من ناحية المنظر والبناء الخارجي فقط ، بل يختلفون من حيث معنوياتهم ونفسياتهم أيضاً. وهذا نفسه أحد مظاهر القدرة الآلهية ... « ما لكم لا ترجون لله وقاراً ، وقد خلقكم أطواراً ». قال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « الناس معادن ، كمعادن الذهب والفضة » (1).

الأطفال الممتازون :

وهكذا نجد أن بعض الأطفال يولدون مع صفات وخصائص معينة لا توجد عند الأطفال الاعتياديين. فربما يوجد العقل والادراك والذكاء والفطنة ، الحافظة وسرعة الانتقال ، الشهامة والسيطرة على النفس ، وقسم آخر من الصفات في بعض الأفراد بصورة أكثر من المعتاد. ويختلف العظماء والنوابغ في العالم من حيث البناء الطبيعي عن بقية الأفراد. وإن النجاح الذي أحرزه كل منهم في ميدانه في أثناء حياته يعزى إلى الدقة المعمولة في خلقهم وبنائهم. وعلى سبيل الشاهد ننقل قصة أبي زكريا التبريزي تلميذ أبي العلاء المعري وقد تلمذ على يده سنوات عديدة. ولما كان أبو العلاء مكفوف البصر فلقد كان لا يستطيع القراءة. وفي أحد الايام كان أبو زكريا يقرأ لأبي العلاء كتاباً له في مسجد المعرة وفي الأثناء حضر مسافر من تبريز إلى الجامع ليصلي ، فسر أبو زكريا لرؤيته كثيراً وتوقف عن قراءة الكتاب لعدة لحظات فسأله الاستاذ عن السبب ، فأخبره بمجيء صاحبه. فأمره أبو العلاء بأن يذهب إليه ويتحدث معه فقال له : أمهلني أكمل الصفحة ، فقال : لا ، وسأنتظرك حتى

ص: 219


1- البحار ج 14 405.

تنهي حديثك. فجلس أبو زكريا مع صاحبه على بعد خطوات من أبي العلاء وأخذ يتحدث معه باللغة المحلية ويسأله عن بعض القضايا فيجيبه. وعندما رجع إلى استاذه سأله : أي لغة هذه؟ قال : لغة آذربايجان! فقال : إني لم أفهم ما تداول بينكما من حديث ، ولكني حفظت ما قلتماه ، وأعاد جميع الألفاظ بلا زيادة أو نقصان. فتعجب صاحب أبي زكريا من حافظة أستاذه بشدة ، وكيف أنه حفظ تلك الألفاظ بسرعة دون أن يفهم معانيها (1).

نوابغ العالم :

لقد وجد على مر القرون المتصرمة نوابغ عظماء لا يقاسون مع سائر الأفراد من حيث إدراك الحقائق العلمية ، والذكاء الخارق. وإن الترقيات التي نالت البشر في الحياة المادية مدينة إلى مواهب هؤلاء الرجال البارزين فهم الذين أدركوا الحقائق العلمية بفضل مواهبهم الخاصة ، وقادوا ركب الانسانية إلى الأمام.

« إننا نختار من بين الملايين أفراداً معدودين في تلك الدولة حيث خدموا التقدم العام ، واستطاعوا بفضل مواهبهم أو داهائهم أن يجعلوا أنفسهم فوق مستوى الآخرين ، وأن يكونوا قائدي زمام التمدن ».

« إننا نلاحظ الانسانية على أنها مجموعة حية في حالة دائمة من التغير والذكاء ، ونعلم أن تطورات هذه المجموعة تبدأ بواسطة أناس نادرين ومتفردين في الغالب! »

« هذه الأدمغة البارزة هي مركز الأمواج التي تشبه الأمواج الحادثة عند سقوط قطعة من الحجر في الماء. هؤلاء يمكن أن يوجدوا في آسيا ، أو أمريكا ، أو أي طبقة أخرى من البشر. هؤلاء ليسوا صينيين ، أو أمريكان ، أو انكليز ، أو فرنسيين ، أو هنود ... إنهم بشر » (2).

ص: 220


1- ينقل القصة بكاملها صاحب ( قاموس دهخدا ) الفارسي عند ترجمة ( أبي العلاء المعري ) ص 636.
2- سرنوشت بشر ص 190.

رسل السماء :

إن تكامل الانسان في المدارج المعنوية ، وخلاصة من عبادة الأصنام والنار ، ونجاته من الأوهام والخرافات مدين لجهود الأنبياء والرسل. فلقد كانوا أناساً غير اعتياديين في بنائهم ومواهبهم الباطنية. وبالرغم من أن تعاليم الأنبياء والقوانين التي يسنها الرسل إنما هي من السماء وهو يقومون بإيصالها إلى البشر فقط ، يجب أن لا ننسى أن هذه المنزلة لا يستطيع إحرازها كل فرد ، وليس بإمكان كل فرد أن يصير نبياً. «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ» (1).

لم يكن نبوغ نبي الاسلام العظيم قبل نزول الوحي عليه ، وكمال عقله وذكائه الخارق أمراً مخفياً على الناس. فانه كان فريداً في بابه قبل أن يختاره اللّه لهذا المنصب العظيم. فالأفكار العالية والقريحة الفريدة التي كان يمتاز بها كانت قد رشحته لأن يكون أوحدياً ، وقدوة للبشرية أجمع ، ذلك الرجل العظيم ، والشخصية المثالية كان جديراً بمقام النبوة ، ولذلك فقد اختاره اللّه تعالى لهذه المهمة.

الخصائص الفردية :

الخلاصة : إنه يوجد في باطن بعض الأطفال من المواهب الخاصة ما ليست موجودة عند باقي الأفراد. وإن ظهور تلك الخصائص يسبب تقدم البشرية ورقيها ، فإنهم يجب أن يخضعوا منذ الصغر إلى رقابة تربوية صحيحة ، وتهيأ لهم ظروف وبيئة صالحة ، وإن البيئة الوحيدة التي تستطيع أن تنمي القابليات الخاصة وتستغل الطاقات الكامنة وتخرجها إلى حيز الوجود هي الأسرة.

« وبدلاً من أن يشبه الآلة التي تنتج في مجموعات ، يجب على الانسان - بعكس ذلك - أن يؤكد وحدانيته ولكي نعيد تكوين الشخصية يجب أن نحطم هيكل المدرسة والمصنع والمكتب ... إننا نعلم أنه من المستحيل أن ننشىء أفراداً بالجملة ، وأنه لا يمكن اعتبار المدرسة بديلاً من التعليم الفردي ... إن المدرسين غالباً ما يؤدون عملهم التهذيبي كما يجب ، ولكن النشاط العاطفي والجمالي

ص: 221


1- سورة الأنعام 124.

والديني يحتاج أيضاً إلى أن ينمى ، فيجب أن يدرك الوالدان بوضوح أن دورهما حيوي ويجب أن يعدا لتأديته ... ».

« حينما اعترف المجتمع العصري بالشخصية كان عليه أن يقبل عدم مساواتها ، فكل فرد يجب أن يستخدم تبعاً لصافته الخاصة ... وفي محاولتنا توطيد المساواة بين الناس ألغينا الصفات الفردية الخاصة التي كانت أكثر نفعاً ، إذ أن السعادة تتوقف على ملاءمة الفرد ملاءمة تامة لطبيعة العمل الذي يؤديه ... ولذلك يجب أن ينوع البشر بدلاً من أن يصبحوا جميعاً على نسق واحد ، كذلك يجب أن تستبدل هذه الاختلافات التي حفظتها وهولتها طريقة التعليم وعادات الحياة ... » (1).

ولقد تلقى الامام علي (عليه السلام) الاختلافات الطبيعية بين الأفراد باهتمام بالغ ، وربط مصير سعادة الناس وخيرهم بالمحافظة على تلك الاختلافات كما ربط شقاءهم وهلاكهم بإزالة تلك الفوارق الطبيعية.

« قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا فإذا استووا هلكوا » (2).

مسايرة التربية للفطرة :

من الضروري أن يستفاد من الاختلافات الطبيعية للبشر في موضوع التربية ، وتربية كل فرد حسب المواهب والقابليات المودعة في بنائه الفطري لكي يستفيد المجتمع أقصى الفائدة من جميع الذخائر الفطرية المودعة في باطن الأفراد.

وإذا أغفلنا هذه النقطة التي أقرها اللّه بحكمته البالغة ولم تنسجم تربية كل فرد مع غرائزه الفطرية فإن الفرد سيبقى محرماً من الكمال اللائق به ، ويكون مصاباً بالانحراف بنفس النسبة.

ص: 222


1- الانسان ذلك المجهول ص 239 - 240.
2- البحار للمجلسي ج 17 101.

يتولد بعض الأطفال مع خصائص غير مرغوب فيها ، قد ضربت جذورها فيهم كسوء الخلق أو التلذذ بإيذاء الآخرين.

« حيث يقع سلوك الانسان وخلقه تحت تأثير التحريكات الداخلية يمكن اعتبار الغضب خاصة أصيلة فيه. فالطفل لا يعلم ما يصنع ، أو أنه لا يدرك الموقف كما ينبغي أن يدركه ، إن هذا الغضب شديد وخطر ».

« نرى الطفل يتدحرج على الأرض ، يضرب رأسه بالجدار ، يقتلع شعر رأسه ، يضرب ، يعض من حوله ، يحطم الأثاث ، يكسر زجاج النوافذ ، وبما يرتكب جريمة قتل ... ».

« وبعد هذه الفورة من الغضب يهدأ الطفل ، وحين يستولي عليه التعب تماماً يحس من نفسه بحاجة شديدة إلى النوم » (1).

... لقد أثرت ظروف خاصة على بنية أطفال كهؤلاء ، فجعلتهم ينشأون على هذه الخصائص ، ويجب أن لا نلومهم على ذلك ، يقول الامام الصادق (عليه السلام) بهذا الصدد : « لو علم الناس كيف خلق اللّه تبارك وتعالى هذا الخلق ، لم يلم أحد أحداً » (2).

هؤلاء الأطفال يجب أن يوضعوا منذ البداية تحت رقابة تربوية صحيحة وأن يهتم المربي بجميع خصائصهم النفسية ويستخدم تلك الميول الفاسدة في المجاري الصحيحة ، وإرضائها بهذه الصورة.

« يستطيع الشخص المصاب بعقدة الايذاء إرضاء رغبته هذه في طريق آخر حسب مستواه الثقافي وظروف حياته أي أنه إذا كان مستواه العلمي واطئاً يختار مهنة القصابة ويصبح قصاباً وإذا كان حائزاً على درجة علمية راقية فيستطيع أن يشتغل جراحاً ، وبهذه الصورة تشبع رغبته في إيذاء الآخرين بطريقة تلقائية » (3).

ص: 223


1- جه ميدانيم؟ ( أطفال دشوار ) ص 48.
2- وسائل الشيعة للحر العاملي ج 4 71.
3- أنديشه هاى فرويد ص 258.

والنتيجة التي توصلنا إليها ضمن بحوثنا المتقدمة هي : أن الأسرة تستطيع أن تتعهد ثلاثة أمور مهمة مضافاً إلى المحافظة على الطفل وتربيته الاعتيادية. هذه الأمور هي :

1 - تهتم بجميع الميول الداخلية والمثل الانسانية للطفل وتعمل على إرضاء كل منها في مورده وبالمقدار المناسب له. وبذلك يكتسب الطفل شخصية كاملة متزنة.

2 - تهتم بالأطفال البارزين الذي يملكون قابليات ومواهب عالية بصورة خاصة وتهيئ الوسائل اللازمة لظهور تلك المواهب والقابليات وتقويتها لتعطي ثمارها بعد حين.

3 - إذا كان الطفل يملك بعض الخصائص السيئة فإن من الممكن أن يخضع في ظل الأسرة لرقابة صحيحة ، وبالتالي تعديل تلك التصرفات غير المرغوب فيها وهدايتها إلى الطريق الصحيح.

هذه هي الوظائف الرئيسية التي يمكن للأسرة أن تقوم بها بينما تعجز روضة الأطفال عن القيام بها.

الأسر الشريفة والأسر المنحطة :

وفي نهاية المطاف يجب أن نتنبه إلى نكتة مهمة ، وهي أنه ليس باستطاعة أي أسرة أن تقوم بالتربية الصحيحة وليس بإمكان حجر كل أب أو أم أن يصبح أحسن مدرسة للطفل. فالشرط الأساسي هو أن يكون جو الأسرة نزيهاً مبرءاً من الفساد والإجرام والخيانة وارتكاب الخطأ بل يشترط أن يكون الوالدان حائزين على صفات وملكات فاضلة. فالوالدان المنحرفان لا يستطيعان أن يربيا في أحضائهما أطفالاً صالحين فإن ( فاقد الشيء لا يعطيه ).

ولقد قال الشاعر :

يا أيها الرجل المعلم غيره *** هلا لنفسك كان ذا التعليم

إبدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

لقد أدى إسراف المدنية الحديثة في الجوانب المادية والشهواب الحيوانية إلى إضعاف الجوانب المعنوية والروحية. فإن كثيراً من الأسر فقدت معنوياتها على أثر

ص: 224

التلوث بأنواع الجرائم والذنوب ، وانتجوا في النهاية أولاداً مجرمين ومنحطين ، فاسدين ومنحرفين!!.

« في كثير من الأسر لا يواجه الطفل إلا أساليب فاسدة وبعيدة عن الأخلاق ، ولا يتجلى أمام ناظريه الثاقبين إلا أمثولة السلوك الأهوج والإهمال والكسل. من المؤسف أن هذه الحقيقة غير قابلة للإنكار ، وأن عدداً كبيراً من حوادث السقوط والانهيار في المجتمع ينبع من هذه النقطة. وإذا لم يقدر طفل أن يظهر بصورة إنسان كامل في أمثال هذه الأسر المنحطة ، وسببت إرادته المهملة التائهة نوعاً من الفوضى والاضطراب في المجتمع فيجب أن نقول : إن أسرة واحدة قد قصرت في أداء واجبها الطبيعي. لقد كتب الدكتور ( آدفرير ) بهذا الصدد : إن مسألة التربية في الأسرة تصطدم بهذه النقطة وهي أن الوالدين يجب أن يكونا غنيين بالعواطف الراقية والأفكار الممتازة ، حتى تشع هذه الصفات منهما إلى الخارج ، وتنير الطريق لطفلهما وتحثه على السير في الطريق الصحيح » (1).

« لقد أصبحت الأسرة جواً مخزياً للتربية بصورة عامة لأن الآباء والأمهات في العصر الحديث قد تجاوزوا الحد المقرر في السذاجة أو العصبية ، أو الضعف ، أو الشدة وربما يعلم أكثرهم بعض العيوب لأطفالهم. فما أكثر الأطفال الذين يجدون صوراً مختلفة عن سوء الأخلاق ، والفساد ، والمشاكسة ، والسكر في البيت والأسرة ، والكثيرون منهم إن لم يجدوا مثل هذه القضايا في البيت فلا بد وأنهم تعلموها من أصدقائهم. فيمكن القول بلا مبالغة أن كثيراً من الآباء والأمهات في العصر الحديث يجهلون تربية أطفالهم مهما كانت الطبقة التي ينحدرون عنها والمدارس أيضاً لا تستطيع بع أن تؤدي واجبها لأن الأساتذة لا يختلف سلوكهم عن سلوك الأبوين كثيراً ... ».

ص: 225


1- ما وفرزندان ما ص 5.

« والخلاصة أنه ليس بإمكان المدرسة ولا الأسرة أن تعلم الطفل أسلوب الحياة الأمثل. ولهذا السبب فاننا نجد في سحنات وجوه الشباب مرآة صافية قد انطبعت عليها صورة عدم كفاءة القائمين على تربيتهم » (1).

« إن التناسل في أكثر الشعوب تحضراً آخذ في التناقص كما أنه لا ينجب إلا نسلاً وضيعاً ... قد أتلفت النساء أنفسهن إختياراً بشرب الخمر والتدخين ، كما أنهن يعرضن أنفسهن لخطر ( الرجيم ) رغبة منهن في نحافة أجسامهن ، وعلاوة على ذلك فإنهن يرفضن الحمل ... ويعزى هذا النقص إلى تعليمهن وأنانيتهن ... » (2).

إنهيار الأسر الشريفة :

تستطيع أسرة شريفة أن تربي في حجرها أولاداً أبراراً متى كان الرجال والنساء في تلك الأسرة غير منحرفين أو منحطين ، بل كانوا محافظين على الرصيد المعنوي الذي ورثوه عائلياً ، ليسلموه إلى من يخلفهم جيلاً بعد جيل ، أما إذا وجد الاجرام والفساد والذنب طريقه إلى تلك الأسرة فستخلي الفضائل والمثل الحميدة مكانها للرذائل ، وتتبدل الأسرة الأصيلة التي اعتادت الشرف والمجد عدة مئات من السنين إلى أسرة منحطة خلال قرن أو نصف قرن.

ولقد اهتم علماء الغرب بهذا الموضوع ، وتحدثوا كثيراً عن عيوب الأسر وتلوث الآباء والأمهات في بلدانهم. وانتقدوا الأوضاع بشدة ، وهم يبدون قلقهم على مستقبل بلدانهم من تربية أولادهم الفاسدة وإيجاد الجيل المجرم المنحل. أما في بلادنا حيث المستوى الثقافي العام أوطأ منه في الغرب وحيث الانحطاط الخلقي ينتشر بسرعة أكثر في الأسر والعوائل وبين الشباب فإن الأمر يدعو إلى القلق أكثر.

فضعف الأسس الدينية والخلقية من جهة ، والإفراط الشديد في العلاقات غير الشرعية بين الشبان والفتيات من جهة أخرى ، قد أخذا ينخران في أجساد بعض

ص: 226


1- راه ورسم زندكى ص 164.
2- الانسان ذلك المجهول ص 228.

الأسر العريقة كداء السرطان ، ويعملان بأشد ما يمكن لاقتلاع جذور الفضائل واحدة بعد الأخرى.

بالأمس كان بعض الآباء يملكون أرواحاً قوية بفضل الرصيد الايماني والمعنوي ، ولم يكونوا ليقتربوا في سلوكهم من الدنس والاجرام ، وكانوا مستقيمين في معاملاتهم ، ويتغلبون على مشاكل الحياة بقوة الايمان والثبات ... واليوم نجد أبناءهم ذوي نفسيات ضعيفة جداً وذلك لا بتعادهم عن الإيمان والإهمال في الواجب ، ونجدهم مصابين بأنواع الجرائم ، ولا يستطيعون الوقوف أمام مصاعب الحياة أبداً ، بل ان الملجأ الأخير لهم هو الانتحار!!

بالأمس كان أولئك الآباء يجالسون الفضلاء والأشراف في المجالس العلمية ومجالس الترفيه والتسلية ... واليوم أصبح أبناؤهم يجالسون المنحرفين والنساء الباغيات اللاهيات في مراكز الفساد!!.

بالأمس كان أولئك الآباء يقضون ساعات فراغهم في جو الأسرة المليء بالدفء والحنان والسكينة ، مع أعصاب هادئة وروح مطمئنة ... أما اليوم فان أبناءهم يقضون أوقاتهم الثمينة في محلات القمار بأعصاب محطمة وأرواح مضطربة!!.

ما أكثر الأمهات العفيفات اللائي كن بالأمس ينظمن شؤون عوائلهن ويربين في أحضانهن أحسن الأولاد وأليقهم وأسعدهم ... واليوم نجد بناتهن اللاهيات قد تركن البيت والأسرة ، ورأين سعادتهن في الاجهاض وإقامة العلاقات اللامشروعة مع الشبان المنحرفين وعباد الشهوة في دور السينما ومراكز الفساد الأخرى!!. لقد اختفى الايمان والتوحيد ، الصلاة والعبادة ، صفاء القلب والمناجاة في السحر ، التقوى والورع ، مساعدة الضعفاء وخدمة الناس ، في بعض الأسر تماماً ، وأخذ الفتيان والفتيات لا يفكرون بغير الشهوة واللذة ولسوء الحظ لا يجدون لذتهم إلى في ذلك السم الزعاف ... الخمرة والحشيشة. لقد تحولت مواثد الاحسان والاطعام في بعض العوائل إلى موائد القمار ، وتبدلت مجالس الفضيلة والموعظة إلى مجالس اللّهو والطرب ... لم يبق للقيم الانسانية والمثل العليا إسم ولا رسم ، وقد تركت الشجاعة وعزة النفس مكانها إلى الذلة والانحطاط والحقارة ، وحل التملق محل

ص: 227

الشخصية وعلو الهمة ... ولقد ضرب الحقد والحسد ، الأنانية والاثرة ، التهمة والخيانة وعشرات العادات الرذيلة الأخرى - التي يعد كل منها داء خطير في نفسه - بجذورها في أعماق القلوب ، وتعمل على إحراق القلوب والأجساد باستمرار!.

والخلاصة : أن أخلاف بعض الأسر العريقة والشريفة نجدهم بصور رجال ونساء ضعيفي العقول ، عليلي الأمزجة ، منحرفين وسيئي الأخلاق ، قد عملت العادات الخطيرة في إضعاف أجسادهم ، وعملت الأفكار الهدامة والسيئات الخلقية على انحراف نفوسهم فهم يقدمون على كل رذيلة ، لا يتهيبون للكذب والتملق ، ولا يقيمون وزناً للسرقة والارتشاء ، الافساد وإيجاد الفتن ، الغيبة والتهمة ، بل إن ذلك كله أمور إعتيادية في نظرهم!.

إن الآباء والأمهات المصابين بهذه الانحرافات ، والساقطين في هوة الرذيلة لا يستطيعون أبداً أن يربوا في أحصانهم أولاداً شرفاء ، إن الأطفال الذين يتلقون تربيتهم في أمثال هذه الأسر المنحطة يكونون - بلا شك - عناصر خبيثة في المجتمع.

فبديهي - حينئذ - أن روضة أطفال منظمة نملك مشرفين مهذبين شاعرين بالمسؤولية ، تفوق هذه الأسر بكثير. ذلك أنها إن لم تستطع إحياء الخصائص الفردية للطفل ، فلا أقل من أنها لا تعلمه على الكذب والدجل والاجرام والسباب ، وإن لم تقدر على تلقينه دروساً في الشهامة والتضحية فلا أقل من أنها لا تمد أمامه موائد الخمر والقمار ، ولا تفتح عينيه على الرذائل والذنوب الكبيرة. ومن المؤسف أن هذه الانحرافات لم تقتصر على تلويث أذيال بعض الأسر المنحطة وإسداء ضربة قاصمة إلى الأمة وروح الوطنية فيها بذلك فقط بل أنها شملت حتى الأجواء الساذجة في الأرياف ... وانتشر الاجرام والانحطاط في كل مكان كداء الطاعون والهيضة ... لكن الذي يبعث على الأمل هو أن الفرصة لم تفت بعد ، ولم ينقض وقت الكفاح ، فلا يزال يوجد في هذه البلاد أسر شريفة كثيرة ورجال ونساء مؤمنون ومسلمون يتحصنون بالايمان ضد الانحراف ... يجب أن نستغل هذه الفرصة ونتخذ التدابير اللازمة لمكافحة المآسي في مجتمعنا.

* * *

ص: 228

المحاضرة العاشرة: المعرفة الفطرية

اشارة

قال اللّه تعالى : «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)» (1).

يوجد في باطن كل فرد ميول كامنة لكل منها دور مستقل في تحقيق سعادة الانسان. إن تنمية كل واحد من الميول الطبيعية بالصورة العادلة والصحيحة بمنزلة نمو فرع من فروع شجرة السعادة ، وإن خنق كل واحدة من الغرائز وكبتها معناه القيام بخطوة في سبيل الشقاء والانحراف فعلى القائمين بالتربية وترتيب المناهج التربوية منذ البداية على أساس الغرائز الطبيعية والادراكات الفطرية للأطفال ، فإن التربية التي تعتمد على أساس الفطرة تكون ثابتة ورصينة.

وسنحاول إن شاء اللّه أن نبحث من هذه المحاضرة فصاعداً في الادراكات الباطنية والغرائز الانسانية التي هي الأسس الثابتة السليمة والتي تسمى ب- ( الوجدان الفطري ).

الوجدان :

الوجدان عبارة عن القوة المدركة في النفس الانسانية ، والوجدانيات هي الحقائق التي يدركها الوجدان. ولا بد من الاستفادة من القوتين الفطريتين ( الوجدانين الطبيعيين ) في عمليات التربية الايمانية والخلاقية وهما : فطرة المعرفة. والأخرى : فطرة تمييز الخير من الشر ، وتسمى الأولى بالوجدان التوحيدي ، والثانية بالوجدان الأخلاقي. الوجدان التوحيدي : هو إدراك جميع الشعوب والأمم - من أي طبقة كانوا - بفطرتهم الطبيعية ووجدانهم الباطني أن هناك قوة لا محدودة وقدرة

ص: 229


1- سورة الشمس 7-8.

عظيمة غير خاضعة للتغيرات تسيطر على هذا الكون. تلك الحقيقة المجهولة التي يدركها كل انسان هي اللّه تعالى ، وتلك القوة المدركة الموجودة في باطن كل فرد ، والتي تدلنا على هذه الحقيقة هي الوجدان التوحيدي.

أما الوجدان الأخلاقي : فهو عبارة عن القوة المدركة المودعة في باطن كل فرد ، والتي تميز الخير من الشر. وبعبارة أخرى : يوجد في باطن جميع الأفراد من مختلف الشعوب والأقوام ( الآسيويين ، والأوربيين ، الافريقيين والامريكان ، البيض ، والسود ، الرجال والنساء ، المؤمنين والملحدين ) قوة مدركة مستترة يستطيعون بها إدراك كثير الأمور الصالحة والفاسدة من دون حاجة إلى معلم أو مرب ، أو كتاب أو مدرسة ... هذه القوة المدركة تسمى عند علماء النفس بالوجدان الأخلاقي.

محكمة الوجدان :

يمكن تمثيل الوجدان الأخلاقي بقاض حاذق وقوي يحاكم صاحبه عند ارتكابه جريمة ويحكمه ، ويجازيه على أعماله السيئة بالضربات المؤلمة التي يوجهها على روحه وأعصابه.

لا توجد في العالم محكمة تضاهي محكمة الوجدان في قوتها وحريتها فالمجرم مهما كان قوياً فأنه ضعيف وعاجز أمام قاضي الوجدان ، ولا يستطيع أن يهرب من عقوبات محكمة الوجدان بأي وسيلة أصلاً.

للجنون أو الأمراض النفسية والعصبية عوامل مختلفة ، وإن مما لا شك فيه أن من تلك العوامل الضربات الداخلية والضغط الشديد للوجدان. إن الوجدان الأخلاقي يسلب المجرم إستقراره وراحته ، ويقض عليه مضجعه ويجعل الحياة أمام عينيه سجناً لا يطاق ، فالاحساس بالخيانة والاجرام يلتهب في باطن المجرم كشعلة متوهجة تحرق روحه وجسمه. وقد يكون أثر العقوبات الوجدانية في إيجاد الاختلالات النفسية شديداً ومعقداً إلى درجة أنه لا يستطيع أي طبيب نفساني مهما كان حاذقاً أن يعالجه ويعيد للمريض حالته الاعتيادية السابقة. إن المحكومين أمام قاضي الوجدان والمصابين ببعض الأمراض النفسية ، أو الجنون من جراء الضغط الداخلي ، يكونون في حالة خطرة جداً فقد يقومون ببعض الجرائم الكبيرة ويقودون

ص: 230

المجتمع إلى مجموعة هائلة من المآسي والمشاكل.

« من الاختلافات الجوهرية بين الانسان والحيوان المفترس أن الحيوان المفترس يستولي على فريسته بهدوء ويأكلها ثم يرتاح لهذا العلمل ويتلذذ به ، في حين أن الانسان إذا قتل أحد أبناء جنسه يقع في خوف وألم شديدين. وحيث لا يستطيع أن يطرد هذا الخوف والألم من نفسه يتشبث لاثبات حقانيته بالتهم الكاذبة فيلصقها بضحيته ومن دون أن يحس أنه قد صار بصورة متهم يدافع عن نفسه باستمرار ، ويتحامل على الأفراد الآخرين الذين يحتمل أن يلوموه على أفعاله ، وبهذه الصورة فان الخطأة الأولى لا يقف أثرها على إيجاد الاختلالات العظيمة في مرتكبها ، بل أنها تجر وراءها سلسلة من الجرائم الجديدة والفظيعة التي ترتبط بتألم الوجدان الاخلاقي والإحساس بالحقارة ».

« ولأجل الوجدان الأخلاقي هذا ، الذي لا مفر من لومه وعذابه ، يكون الانسان أكثر توحشاً من الحيوان المفترس. هذه المخاوف ليست من آثار غريزة الهجوم بل انها دليل صادق على قوة الوجدان الأخلاقي عند الانسان ، تلك القوة التي لا تقبل الانكسار والغلبة » (1).

قد يمكن أن تطوى أسرار جريمة ما ، ولا تفتح إضبارة للمجرم في المحاكم القضائية ، أو يغفل المجرم القاضي ويمسخ القضية ، أو يتهم شخصاً بريئاً في مكانه ويحفظ نفسه عن العقاب ... ولكن لا يمكن إغفال قاضي الوجدان ولا يستطيع المجرم بأي حيلة أن يبرئ نفسه في محكمة الوجدان على خلاف الواقع.

إن الوجدان الأخلاقي يحاكم المجرم بأشد ما لديه من قوة ودقة ويتغلب عليه ، فهو في الغرفة التي يختلي فيها ، والفراش الذي يأوي إليه ، وفي المكان الذي لا يراقبه أحد يتلوى كالسليم ، ويجد عقابه على أعماله السيئة من هذا الطريق.

ص: 231


1- جه ميدانيم؟ بيماريهاى روحى وعصبى ص 65.

الدين والفطرة :

يكون الوجدان التوحيدي والوجدان الأخلاقي - من وجهة نظر الدين والعلم - دعامتين أساسيتين للتربية الانسانية السليمة ، فإن دعوات الأنبياء اعتمدت على هذين الأساسين القويين بمعونة العقل. فالدين يستند إلى الفطرة في باطن الانسان. وإن ( العرض ) الديني الذي كان يصدر من قبل الأنبياء كان في مقابل ( الطلب ) الطبيعي عند الناس. ولهذا السبب فإن الدين استقام وأرسى قواعده على الرغم من جميع الموانع والمشاكل التي لاقاها في طريقه.

تمر اليوم قرون طويلة على ظهور رسل السماء ، ولا تزال شعلة الإيمان متوهجة في قلوب الناس ، لأن المصدر الأصيل لهذه الشعلة المتوقدة هو : فطرة الانسان ، فما دام على وجه الأرض إنسان ، وما دامت هناك فطرة ، فإن هذا المشعل الوهاج لا ينطفئ بل هو مستمر في إشعاعه.

وهنا يجب أن نبين أن الوجدان التوحيدي والأخلاقي ... هذه الحقيقة التي نجدها في كمين كل انسان ، ليس ظاهرة متصنعة ، ولم يوجد على أثر الوراثة الاجتماعية طيلة قرون ، وبفضل التعاليم الدينية والتربوية بل إنه أمر غريزي ونداء فطري منبعث من باطن الانسان ، وجد مع وجود الانسان ، وسيبقى إلى الأبد معه.

قد يمكن للبعض أن يكافحوا بعض ميولهم الفطرية في ظروف خاصة ويكبتو تلك الغرائز في نفوسهم ، ولكن كفاحهم ذلك وكبتهم هذا لا يمكن أن يزيل الحقيقة الفطرية ، ويمحو الغريزة الانسانية التي جبل عليها جميع البشر.

فالغريزة الجنسية - مثلاً - أمر فطري غير قابل للانكار ، ولكن وجد على مر الأجيال ملايين الأفراد من تاركي الدنيا في أروبا والمرتاضين في القارة الهندية ، كافحوا هذه الغريزة وخنقوها في نفوسهم بالضغط والاكراه إلى درجة أن بعضهم أخذ لا يحس في نفسه أي ميل جنسي أصلاً ، أفيستطيع هؤلاء أن يسحقوا الحقيقة الفطرية للغريزة الجنسية بهذا العمل؟! هل يحق لهؤلاء أن ينكروا وجود الميل الجنسي في البشر؟!.

وكذلك أمر الذين يتجاهلون الفطرة الايمانية والأخلاقية في أنفسهن ويكافحون

ص: 232

غريزة التدين حياة طويلة ويعيشون ملحدين ، فانهم لا يستطيعون أن ينكروا وجود فطرة الايمان والأخلاق في الانسان ، فلا صلة بين انحرافهم عن صراط الفطرة المستقيم وبين حقيقة الوجدان الطبيعي والبناء الفطري القائم على الايمان والأخلاق.

إن الاسلام يعتبر الأسس الرصينة للايمان والأخلاق من الثروات الفطرية الانسانية ، ويرى أن التوصل إلى وجود اللّه ، ومعرفة الخير والشر إنما هو جزء من تكوين الانسان ...

إحياء الفطرة :

إن أهم واجبات الأنبياء هو إيقاظ الجوانب الفطرية عند الانسان واستغلال الثروات الالهامية فيه. يقول الامام علي (عليه السلام) في هذا الصدد : « فبعث اللّه فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسي نعمته ويجتمعوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول » (1).

الفرق بين التذكير والتعليم :

ربما تكون قد حفظت قصيدة قبل عشرين سنة ، ونسيتها على أثر الإهمال والغفلة ، وليست لديك أية التفاتة إلى شيء منها أصلاً ، ويصادف أن يقرأ شخص تلك القصيدة أمامك فبمجرد أنه يبدأ بقراءة البيت الأول تحس بأنس وقرب إلى تلك القصيدة فتعمل حافظتك وتجتهد لتذكر الأبيات التي نسيتها ... وفي الواقع فان الذي قرأ لك الأشعار ونبهك إلى حقيقة موجودة في ضميرك لكنها منسية هذا الشخص يمسى ب- ( المذكر ) ، ويسمى عمله ( تذكيراً ). أما إذا نظم شخص قصيدة حديثة وقرأها لك وعلمها إياك بيتاً بيتاً ، فيقال له ( المعلم ) ويسمى عمله ( تعليماً ).

من هنا ندرك السر في تسمية النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في القرآن الكريم باسم المذكر أحياناً ، وباسم المعلم أحياناً أخرى. إذ أنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في عمله الديني والتهذيبي يقوم بكلا

ص: 233


1- نهج البلاغة ص 37.

الدورين ، فعندما يوقظ الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الجوانب الفطرية في النفس الانسانية ، وينبه الناس إلى ضمائرهم الباطنة ، يعبر عنه القرآن الكريم بالمذكر : « ذكر ، إنما أنت مذكر » (1). وعندما يأتي بتعاليم جديدة ونظم غير موجودة في الفطرة الانسانية يسمى عمله تعليماً : «وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» (2).

الأساس الرصين للفطرة :

إن أولى الأمور الفطرية عند الانسان في نظر الاسلام هو معرفة اللّه فلقد جاء في القرآن الكريم والنصوص المتواترة عن المعصومين علیهم السلام اعتبار معرفة اللّه أوضح البديهيات في فطرة البشر.

وإن وجود المذاهب المختلفة والعقائد المتضاربة في جميع العصور بين جميع الشعوب والأقوام دليل واضح على وجود غريزة التدين في فطرة الانسان والكل يبحثون عن ضالتهم المنشودة :

«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» (3).

هذا هو الأساس الرصين للفطرة ، ويظهر في الميل الغريزي للتدين ومعرفة اللّه جل وعلا ، وعلى سبيل الاستشهاد نورد النصوص التالية :

1 - عن زرارة قال : « سألت أبا جعفر (عليه السلام) : ما الحنيفية؟ قال : هي الفطرة التي فطر الناس عليها ... فطرهم على معرفته » (4).

2 - عن الامام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى : (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) قال : « فطرهم على التوحيد » (5).

ص: 234


1- سورة الغاشية 20.
2- سورة البقرة 151.
3- سورة الروم 30.
4- البحار للمجلسي ج 2 87.
5- المصدر السابق ج 2 88.

3 - عن الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه » (1).

يستفاد من هذا الحديث أنه يوجد الأساس الأول لتقبل الدين في فطرة جميع الأطفال ، ويستغل الأبوان - وهما القائمان على تربية الطفل - هذه الثروة الفطرية ويريبان الطفل على الدين الذي يريدانه. فإن لم تكن غريزة التدين موجودة في فطرة الانسان لم يكن معنى لتأثير توجيه الوالدين في اعتناق الطفل لدين معين طيلة حياته.

4 - عن الامام الصادق (عليه السلام) : « ستة أشياء ليس للعباد فيها صنع : المعرفة ، والجهل ، والرضا ، والغضب ، والنوم ، واليقظة » (2).

فحين يولد الطفل تكون صفحة خاطره بيضاء صافية لا يوجد فيها أي معرفة: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا» (3) لكن اللّه تعالى قد جهز الطفل بالغرائز كالشهوة والغضب والنوم واليقظة لاستمرار حياته. ففي هذا الحديث يرى الامام الصادق علیه السلام أنه لما كان الطفل فارغاً من أي علم أو معرفة فإن فطرة المعرفة تعتبر من الافاضات الالهية في الطفل ، ولذلك قد ذكرها في عداد الغرائز الفطرية.

5 - عن محمد بن حكيم ، قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : « المعرفة من صنع من هي؟ قال : من صنع اللّه ، ليس للعباد فيها صنع » (4).

6 - عن أبي ربيحة ، قال : « سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) : بما عرفت ربك؟ قال : بما عرفني نفسه! » (5).

7 - عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنه « سئل عن المعرفةأمكتسبة هي؟

ص: 235


1- المصدر السابق ج 2 88.
2- إثبات الهداة بالبراهين والمعجزات للشيخ الحر العاملي ج 1 85.
3- سورة النحل 78.
4- الكافي لثقة الاسلام الكليني ج 1 163.
5- الكافي لثقة الاسلام الكليني ج 1 163.

قال : لا ، فقيل له : فمن صنع اللّه وعطائه هي؟ قال : نعم ، وليس للعباد فيها صنع » (1).

يستفاد من النصوص المتقدمة ، والروايات الأخرى الواردة في الباب أن الإسلام يعتبر - بكل صرا حة - معرفة اللّه أمراً فطرياً عند الانسان ، ويرى أنها من الثروات الطبيعية فيه ، شأنها في ذلك شأن بقية الغرائز.

مطالعة كتاب الخلقة :

يسلك الأنبياء بين الناس بالنسبة إلى المعرفة الالهية دور المذكر لا المعلم فانهم يقومون بإزاحة أستار الغفلة عن الضمير الباطن والفطرة الانسانية ، إنهم جاؤوا ليوصلوا المعرفة الفطرية الاجمالية إلى مرحلة الايمان الاستدلالي العقلي التفصيلي عن طريق الارشاد إلى التفكير والتدبر في الآيات ، وعن طريق مطالعة كتاب الخلقة ، حيث تتجلى مظاهر الدقة والاتقان في كل ذرة من موجودات هذا الكون الفسيح ، وبذلك ليؤمن الناس بعظمة خالقهم ويخضعوا له في مقام العبودية ويطيعوا أوامره.

إن المعرفة الفطرية قابلة للتوضيح بأسلوبين :

(1) إدراك القدرة اللامتناهية :

يدرك كل فرد من أفراد البشر من أي طبقة كان ، وإلى أي عنصر انتمى بوجود قدرة لا متناهية وقوة عظيمة مسيطرة على الكون كله ، وذلك بفضل وجدانه الفطري ... قدرة عظيمة لا توصف وقوة ثابتة لا تتغير ، قدرة فوق جميع القدرات ، وقوة يرجع إليها كل فرد عند اليأس من السنن الطبيعية والعادية للأشياء ، وفعندما تغلق بوجهه جميع أبواب الأمل والرجاء يجد باب تلك القدرة مفتوحاً ويستعين بتلك القدرة اللامتناهية ، يدرك بوجدانه أن تلك الذات المجهولة ، تلك الحقيقة المستترة ، تلك القدرة اللامتناهية إذا أرادت حلت المشكلة وفتحت جميع الأبواب. هذا الادراك ليس. ناشئاً من العقل والبرهان ، بل إنه ناشئ من الوجدان والفطرة وهو موجود في باطن كل فرد ، ويكون جزءاً أساسياً من كيانه ، هذا الادراك الفطري

ص: 236


1- المصدر السابق ج 1 85.

هو الأساس الأول للتدين ... ولقد عرف الأنبياء هذه الحقيقة المجهولة باسم ( اللّه ).

« قال رجل للصادق (عليه السلام) : - يابن رسول اللّه ، دلني على اللّه ما هو؟ فقد اكثر علي المجادلون وحيروني ... فقال له : يا عبداللّه هل ركبت سفينة قط؟

قال : نعم!

قال : وهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ، ولا سباحة تغنيك؟!

قال : نعم.

قال : فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ قال : نعم!

قال الصادق (عليه السلام) : فذلك الشيء هو ( اللّه ) القادر على الانجاء حيث لا منجي ، وعلى الاغاثة حيث لا مغيث » (1)

ولقد أشار علماء العصر الحديث إلى هذه الحقيقة بألفاظ وكلمات مختلفة :

يقول ( ماكس مولر ) : « إن الاحساس اللامتناهي يوجب نشوء العقيدة والدين » (2).

ويقول ( انيشتين ) : « إن عقيدتي هي عبارة عن الحمد المتواضع الضئيل لروح فائقة لا حدية » (3).

أما ( جان جاك روسو ) فيقول : « ليس طريق الايمان باللّه منحصراً في العقل وشكوكه وأوهامه ، بل إن الشعور الفطري هو أفضل طريق لا ثبات هذا الموضوع (4).

والذين لهم أدنى معرفة بأسلوب تفكير ( فرويد ) وأتباعه يعلمون أنهم كانوا مصرين على إنكار الفطريات الايمانية والأخلاقية ، وأنهم يعتبرون الدين والمذهب أمراً من صنع البشر. أما في مقام المعرفة الفطرية فقد وقعوا في مأزق حرج واضطروا إلى التراجع قليلاً والتحدث بأسلوب أهدأ وأقل إثارة...

ص: 237


1- معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 4.
2- إرتباط إنسان وجهان ج 1 69.
3- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
4- إرتباط إنسان وجهان ج 1 175.

« لا يمكن الانكار أنه يوجد بعض الأشخاص يقولون أنهم يحسون في أنفسهم إحساساً لا يستطيعون وصفه بصورة جيدة. هؤلاء يتحدثون عن إحساس يتصل بالأبدية ».

« هذا التصور الذهني ينعكس من إحساس أبدي معروف عند العرفاء الكبار ، وفي التفكير الديني الهندي. ويحتمل أن يكون أساس الشعور الديني الذي يظهر بصورة العقائد والمذاهب المختلفة ».

« إن فرويد يتردد في هذا الموضوع ، ويقر بأنه لم يستطع بتحليلاته النفسية أبداً أن يجد أثراً لمثل هذه الاحساسات في نفسه. ولكنه يضيف رأساً وبصراحة كاملة أن هذا لا يسمح له بإنكار هذا الاحساس بالنسبة إلى الآخرين » (1).

(2) ربط المعلول بالعلة :

يستطيع كل فرد أن يدرك بواسطة وجدانه الفطري ومن دون حاجة إلى معلم أو مرب ، أن كل معلول يحتاج إلى علة ، ولا يوجد أثر بلا مؤثر. المصنوع يحتاج إلى صانع ، والبناء يحتاج إلى بناء ، ان الوجدان الفطري الذي يربط بين الأثر والمؤثر طبيعي إلى درجة أن الطفل بمجرد أن يصبح قادراً على التكلم يسأل أمه باستمرار عن علل الحوادث المختلفة ، هذه الأسئلة ليست ذات صلة بالتفكير ولا ناجمة من المحاسبة العقلية ، لأنه لا يدرك المسائل العقلية بعد. وهكذا فان أكثر القبائل البشرية الوحشية تملك هذا الوجدان الفطري. يقول الشريف الرضي ( ره ) عند شرحه لبعض روايات الفطرة :

« وهذا يدلك على أن فطرة إبن آدم ملهمة معلمة من اللّه بأن الأثر دال دلالة بديهية على مؤثرة بغير ارتياب » (2).

ما أكثر الأفراد الذين استفادوا من كنز المعرفة الفطرية عندهم بفضل إيمانهم ووعيهم ، وتوصلوا إلى وجود اللّه الخالق الحكيم عن طريق التفكير والتدقيق في آية

ص: 238


1- أنديشه هاي فرويد ص 89.
2- إثبات الهداة ج 1 103.

أو عدة آيات الهية ، ووقفوا خاضعين له في مقام العبودية مطيعين أوامره ونواهيه ... وعلى العكس فما أكثر الأفراد الذين لم يلتفتوا لنداء الفطرة المنبعث من أعماقهم وتجاهلوا الحقيقة ، ولم يتوفقوا لعبودية اللّه والخضوع له حتى يوماً واحداً ، طيلة حياتهم. وكذلك ما أكثر الأفراد الذين حاولوا إحياء المعرفة الفطرية في نفوسهم ، ولكنهم ضلوا عن الطريق المستقيم ، وعبدوا الجماد والنبات والحيوان ، أو الشمس والقمر والنجوم بدلاً من خالق الكون.

ولأجل أن يتضح معنى المعرفة الفطرية للسامعين الكرام أكثر نعقد مقارنة بين صنع اللّه وصنع البشر من حيث الدلالة على وجود الصانع ونتوصل ضمن المقارنة إلى بعض النتائج المفيدة.

إن القرآن الكريم يرى في الكون والموجودات كلها أنها صنع اللّه وتنظيمه ... «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ» (1). إذن فاللّه تعالى هو صانع العالم وجميع الموجودات مصنوعة له. ولقد استعمل القرآن الكريم مادة ( الصنع ) بالنسبة إلى أعمال البشر أيضاً في عدة مواضع ، فقال في موضوع سفينة نوح : «وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ ... » (2). وفي قصور فرعون والفراعنة يقول : «وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ» (3). وفي الأشياء السحرية التي صنعها سحرة مصر لمعاندة موسى «وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا » (4). وفي صنع داود للدروع : «وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ» (5).

إذن فان جميع الطائرات والسيارات والمعامل والآلات والآدوات وجميع ما كونه البشر يكون من صنع الانسان كما أن جميع ما في العالم صنع اللّه ، مع فارق واحد هو : أن اللّه يخلق المادة والصورة معاً ، بينما الانسان يصنع المادة التي خلقها اللّه بالصورة التي يريدها.

ص: 239


1- سورة النمل 88.
2- سورة هود 38.
3- سورة الأعراف 137.
4- سورة طه 69.
5- سورة الأنبياء 80.

ومن هذه المقارنة بين صنع اللّه وصنع الانسان نصل إلى بعض النكات التي تتعلق بموضوع بحثنا وهي : -

1 - الأثر يدل على المؤثر :

يدرك الانسان بصورة فطرية أن لكل مصنوع صانعاً ، كما يدرك كل فرد - مثقفاً كان أو أمياً ، وحشياً أو متمدناً - أن للطائرة والسيارة صانعاً صنعهما ، وإن للعمارات الصغيرة والضخمة بانياً بناها ، ولقد كانت القبائل الوحشية تدرك هذا الموضوع أيضاً ، فعندما كان أحد يرى آثار أقدام إنسان أو حيوان في صحراء واسعة مغطاة بالثلوج ، كان يقطع بأن إنساناً أو حيواناً قد عبر من تلك المنطقة. وإذا صادف كوخاً صغيراً وسط صحراء قاحلة قائماً على بعض قطع الأخشاب والأشواك كان يحكم بوجود صانع لذلك الكوخ ، وبالنسبة إلى الكون الذي هو صنع اللّه تعالى يوجد في فطرة كل إنسان هذا النوع من الادراك. فعندما يشاهد شروق الشمس والقمر وغروبهما ، وعندما يرى الربيع واخضرار الأشجار أو الخريف واصفرار أوراقها ، وعندما يلتفت إلى الرعد والبرق والمطر يحس في وجدانه الباطني أن قوة عظيمة وثابتة هي التي أوجدت هذا النظام فيميل إلى البحث عن مصادر هذه القوة. هذا الادراك الطبيعي الموجود في باطن جميع الأفراد بقلم القضاء الالهي هو تلك المعرفة الفطرية التي يعبر عنها الامام (عليه السلام) بأنها ليست اكتسابية وأنها مخلوقة من قبل اللّه في باطن كل فرد.

2 - المعرفة الاجمالية والايمان التفصيلي :

إن كل فرد يدرك بفطرته أن للطائرة النفاثة صانعاً ، وكل فرد يدرك بصورة طبيعية أن للقاح الخناق الذي يخلص آلاف الأطفال من الموت الحتمي مخترعاً ، ولكن هذا لا يكفي في نظر جميع العقلاء والعلماء في الاشادة بفضل مهندس مخترع أو طبيب مكتشف. فلو أرادت دولة أو أمة أن تحترم جهود هؤلاء الذين خدموا البشرية يجب عليهم أن يتجاوزوا دور المعرفة الجزئية إلى مرحلة أرقى ، وهي ذكر أسماء المخترعين وهوياتهم وتشجيعهم عن طريق تقديم الهدايا والجوائز إليهم.

وهكذا يدرك كل فرد بفطرته أن لهذا العالم الفسيح خالقاً وأن لهذا الأثر العظيم

ص: 240

والعجيب مؤثراً ، ولكن لا يكفي هذا في مقام الشكر لله تعالى وتعظيمه. بل يجب أن يخطو الانسان خطوة أوسع ويطلع على آثار قدرة اللّه ويؤمن به ، ويشكره للنعم الكثيرة التي لا تحد ولا تحصر ، وإن الفطرة الأولى لا تحتاج إلى معلم ، والأنبياء جاءوا لهداية البشر في المرحلة الثانية.

3 - عدم تقدير الجهود :

وبالرغم من أن الناس يستفيدون من مصنوعات بني جنسهم بصور شتى لكن القليل منهم يقدر جهود العلماء والمهندسين الذين صنعوا تلك المصنوعات إن باستطاعة المريض المشرف على الهلاك أن يركب طائرة ويصل في ظرف بضع ساعات إلى أرقى المستشفيات في العالم وتجرى له عملية جراحية وينجو من الموت والألم. هذا المريض يعلم أنه لو لم تكن الطائرة ، ولو لم يكن العقار المخدر ، ولو لم تكن العقاقير المطهرة للجراثيم ... ولو لم تكن عشرات الاختراعات العلمية فانه يموت ... إن المريض يدرك بفطرته أن لكل من هذه المخترعات مخترعاً ، ولكنه في سبيل العلاج والتطبيب لا يفكر إلا في نفسه والمنافع التي يحصل عليها من تلك الاختراعات غافلاً عن المهندسين العظماء والمخترعين الكبار الذين أوجدوا تلك الصنائع ، ولا يتذكرهم في مقام تقدير جهودهم.

قد يقف الخطيب في قاعة ضخمة ويلقي محاضرة على عشرات الألوف من المستمعين موصلاً صوته إليهم بواسطة جهاز تكبير الصوت وهو يدرك بفطرته أن لهذا الجهاز صانعاً ولولاه لما استطاع أن يوصل صوته إلى هذا العدد الضخم من الناس. ولكنه غافل عن معرفته الفطرية ولا يتنبه إلى مخترع هذا الجهاز أصلاً ، بل يفكر في رغبته فقط ويتنبه إلى وصول صوته إلى أكبر عدد ممكن من الناس فحسب.

هذا وإن الجميع يعلمون أن هذه الغفلة وعدم تقدير جهود المخترعين والمنشئين لا يغيران من الواقع شيئاً : فلكل مصنوعٍ صانع ولكل أثرٍ مؤثر.

إن موقف البشر تجاه صنع اللّه تعالى وتجاه عظمته في تدبير شؤون الكون يشبه الموقف السابق. فجميع الناس يستفيدون من نعمه التي لا تعد ولا تحصى كل يوم ، وكلهم يدركون أن لهذا الخلق خالقاً ، ولكل مصنوع صانعاً فبعضهم يقدرون عظمة

ص: 241

الخالق ويشكرونه على نعمه ولكن البعض الآخر يتنكرون له ولا يعترفون له بالجميل والفضل والانعام ...

العالم الالهي والعالم المادي كلاهما يلاحظان النظام الدقيق في الكون وكلاهما يدركان أسرار الحكمة والعظمة في العالم ... مع فارق كبير بينهما هو أن العالم المادي يرى النظام فقط ، أما العالم الالهي فانه يرى النظام والمنظم معاً. وفي نفس الوقت الذي يهتم فيه بدقائق صنعه ، وشواهد عظمته يتجه إلى عظمة الخالق ويقف خاضعاً تجاه مقامه المنيع مقدماً مراسيم الشكر والثناء والاعتراف بالجميل.

4 - المهندس القدير والصدفة العمياء :

لنفرض أنه يوجد في مخزن ما مليونا طن من الأحجار والطابوق والاسمنت والحديد والجص والأخشاب والزجاج واللوالب والمقابض والأسلاك والأنابيب وغير ذلك من المواد الانشائية. وكان مليون طن من هذه المواد تحت اختيار مهندس معمار ، فانه يخرج تلك الكمية من المخزن وينشئ على أرض مسطحة عمارة ذات ثلاث طوابق ... وبعد مدة يأتي سيل جارف ويخرج المليون طن من المواد الانشائية الباقية في المخزن إلى الخارج ويكومها على بعد بضع كيلومترات مكوناً تلاً من ذلك الخليط. العمارة ذات الثلاث طوابق إنما هي إنتاج ذلك المهندس القدير ، والتل المتراكم عمل طبيعي للسيل.

إن العقلاء من كل أمة وفي أي عصر حينما يدخلون العمارة التي أنشأها المهندس يجدون أن كل شيء قد وضع في محله حسب نظام دقيق ومحاسبة أساسية : فالطابوق في داخل البناء والرخام فوقه والأعمدة الحديدية ذات القياسات الخاصة تحفظ السقف ، والأبواب مرتبة في أماكنها والأسلاك مربوطة بالأزرار والمصابيح الكهربائية ، وحنفيات الماء البارد والحار متصلة بالأنابيب ومعدة للعمل في الحمام والمغسلات ، والسلالم تربط طوابق العمارة ببعضها حسب هندسة دقيقة ... وبصورة موجزة فإن كل شيء في ذلك البناء موضوع في محله والنظام يسيطر على جميع أجزاء البيت.

ص: 242

أما حين يذهب العقلاء إلى التل الذي صنعه السيل ، فلا يجدون نظاماً هناك. فأحجار الرخام قد ركدت تحت الطين وأعمدة الحديد مبعثرة هنا وهناك ، والأسلاك متشابكة فيما بنهما وملتفة بصورة مشوشة حول الأعمدة والأحجار ، والأبواب مكسرة وشبه مكسرة ، البعض منها بصورة أفقية والآخر بصورة عمودية ، وبصورة موجزة : فإن الشيء الذي يفتقد في نتاج السيل هذا ، هو النظام والقياس الصحيح.

يتضح للناظر العاقل من مقارنة هذين النموذجين أن صانع العمارة كان عالماً ، وأن صانع التل كان فاقداً للعلم والشعور ، ولقد وضع المهندس كل شيء في محله حسب قياسات ومحاسبات دقيقة أما السيل فلم يكن نتاجه صادراً عن وعي وإرادة بل أن اندفاع الماء قد بعثر كل شيء في مكان ما من دون نظم أو ترتيب. إن بناء الكون الفسيح ونظامه العظيم مركب من آلاف الملايين من الأجرام الكونية الصغيرة والكبيرة ، وإن الكرة الأرضية التي نعيش على ظهرها إنما هي جزء صغير من تلك الأجرام التي لا تعد ولا تحصى ، وأن الأحياء على ظهر هذا الكواكب من نبات وحيوان وإنسان كل منها ذرة صغيرة جداً بالنسبة إلى الكرة الأرضية نفسها. إن فطرة كل فرد ترشده إلى أن لهذا الصنع العظيم صانعاً وأن لهذا البناء المحير وهذا الأثر العجيب مؤثراً. وإن الالهيين والماديين ويتفقون في هذا الأمر الفطري لكنهم يختلفون في معرفة هذا الصانع وتعيين هذا المؤثر.

يرى الماديون - أي المنكرون لله - أن الكون العظيم نتيجة الصدفة فقط فهناك ملايين الحوادث غير الاختيارية والعوامل غير الارادية طوال آلاف الملايين من السنين اجتمعت لتوجد هذا الأثر وتنشئ هذا البناء. وبعبارة أوضح : انهم يقولون ان العالم يشبه ذلك التل المبعثر والقائم على غير قياس ونظام ... الموجود نتيجة جرف السيل لتلك المواد الانشائية.

أما الآلهيون فانهم يرون أن مظاهر النظام والترتيب الدقيق تبدو في كل زوايا الوجود ، وأن الصدفة العمياء والطبيعة الفاقدة للارادة والوعي غير قادرة على أن توجد هذا الأثر الحكيم والمليء إدراكاً ووعياً. إن اللّه العالم القادر الحكيم هو الذي أقام نظام الكون على أساس المحاسبة الدقيقة والنظام المتقن ن وبعبارة أوضح : فإن هذا الكون أشبه بتلك العمارة المنظمة الجميلة التي أنشأها تفكير المهندس

ص: 243

القدير وعمله ، حيث نجد كل شيء مستقراً في محله حسب قياس صحيح.

لقد استدل العالم الشهير ( داروين ) على عقيدته بالنسبة إلى اللّه تعالى في رسالة له إلى عالم ألماني عام 1873 م بهذه الصورة :

« إن العقل الرشيد والفكر السليم لا يشك أبداً في أن من المستحيل أن يوجد هذا الكون الفسيح مع هذه الآيات الواضحة والشواهد المتقنة ، مع هذه النفوس الناطقة والعقول المفكرة نتيجة للصدفة العمياء الجاهلة. ذلك أن الصدفة العمياء لا تستطيع أن توجد نظاما دقيقاً وبناًء قويماً. وهذا في نظري أكبر شاهد على وجود اللّه. أنا لا أبحث عن بقية البراهين والأدلة التي تثبت وجود اللّه ، لأن باستطاعة هذا البرهان وحده أن يقنع كثيراً من الباحثين والمتتبعين » (1).

« يقول العالم الذائع الصيت ( انيشتين ) : يندر أن نجد شخصاً لا يملك بين أفكاره العلمية العميقة شعوراً دينياً. لكن ذلك الشعور الديني يختلف عن شعور البسطاء. إن شعوره الديني يكون في الغالب بصورة حيرة مجذوبة نحو الانسجام الدقيق المشاهد في الطبيعة هذا الانسجام يحكي عن عقل عظيم إذا قسنا التفكير البشري والنشاط الانساني معه كانا لا شيء تماماً »(2).

سئل ( باستور ) بعد اكتشاف أسرار عالم الميكروبات عن رأيه في أصول الديانة فقال : إن عقيدتي بالدين قد ترسخت أكثر من السابق » (3).

« ولكن في الاستطاعة أن نشير إلى شيء حدث منذ زمن بعيد ، عند بدء الحياة على الأرض ، وكان له شأن عظيم ، ذلك : أن خلية واحدة قد نمت عندها القدرة المدهشة على استخدام ضوء الشمس

ص: 244


1- (1) أصل الأنواع - مقدمة المترجم الفارسية - ص 26
2- إرتباط إنسان وجهان ج 1 69.
3- إرتباط إنسان وجهان ج 1 219.

في حل مركب كيمياوي ، واصطناع غذاء لها ولأخواتها من الخلايا. ولا بد وأن لدات أخريات لخلية أصلية أخرى قد عاشت على الغذاء الذي أنتجته الخلية الأولى ، وأصبحت حيواناً ، في حين صارت الخلية الأولى نباتاً والنباتات التي هي نسل هذه الخلية هي التي تغذي جميع الكائنات الحية الآن ، فهل يمكننا أن نعتقد أن كون خلية قد أصبحت حيواناً ، وأخرى قد أصبحت نباتاً إنما حدث بطريق المصادفة؟ » (1).

* * *

لقد اتضح من البحوث السابقة أن للمعرفة الالهية أساساً فطرياً في باطن كل فرد ، وأن هذه المعرفة الفطرية تتحول إلى إيمان تفصيلي بمعونة العقل والتدبر في الآيات الكونية ، وأن أساس الايمان والمذهب قائم على الفطرة والعقل. وبالرغم من أن القرآن الكريم يستند في المعرفة إلى الفطرة ويعبر عن ندائها ب- ( الدين القيم ) فانه يدعو الناس إلى التدبر في أسرار الخلق ويأمرهم بالتعقل والتفكير.

إن الذين اتبعوا الأنبياء واهتموا بتربية بذور الفطرة في تربة العقل آمنوا باللّه تعالى ، ووقفوا خاضعين أمام عظمته وقدرته. أما الذين لم يصغوا لنداء العقل ، ولم يوجهوا الفطرة بالتدبر والتعقل إلى الوجهة الصحيحة فانهم انحرفوا عن الطريق المستقيم وسار بعضهم في طريق المادية والاعتقاد بالصدفة بينما سار آخرون في طريق الوثنية وما شاكل ذلك.

الانحراف عن طريق الفطرة :

لقد وجه الشيوعيون - الذين يتبعون المبدأ الاقتصادي وينظرون كل شيء بمنظار الاقتصاد - حملات شعواء ضد الدين والعقيدة.

« يقول لينين : إن الدين أحد وسائل الضغط الروحي على الطبقة الكادحة التي تكد لغيرها دائماً ، وتعيش في الحرمان المستمر ...

ص: 245


1- العلم يدعو للإيمان تأليف إ كريسي موريسون. ترجمة : محمود صالح الفلكي

إن الماركسية تعتبر جميع المذاهب الحديثة ، والتنظيمات الدينية لعبة بيد الطبقة البرجوازية والهدف من ذلك كله هو استغلال الطبقة العاملة والحط من قدرها ... » (1).

هؤلاء يوجهون للتعاليم الدينية اتهامات في كتبهم لا يمكن أن تغفر. وكنموذج على محاولاتهم الهدامة والمخالفة للحقيقة نتعرض لموضوع الصبر في الاسلام وكيفية تفسير الشيوعيين له ، بالرغم من أن الموضوع خارج عن دائرة بحثنا :

التفسير الخاطئ للصبر في الاسلام :

كان رؤساء العشائر قبل ظهور الاسلام يحكمون بالظلم والقسوة جماعة من المساكين والضعفاء ، وكانوا يستولون على أموالهم ، ويذيقونهم شر العذاب. ولقد جاء الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بأمر اللّه ليقيم العدل وينهي ذلك الوضع المخزي وليحفظ للضعفاء حقوقهم ، ويضرب على أيدي الطغاة والظالمين.

ولقد ارتبك الجائرون من موقف النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقاموا لمناهضته واتفقوا للوقوف بوجهة ... وكان على المسلمين الضعفاء أن يقفوا صفاً واحداً أمام جبهة الظلم والجور ، وهذا عمل صعب يتطلب جهداً كبيراً. فأخذ القرآن الكريم في تشجيع معنويات المسلمين وحثهم على المقاومة ، وأمرهم بالصبر في قبال السيوف والرماح ، وطلب منهم مجابهة المصائب بصدر رحب مطمئناً لهم بأن الباطل سيندحر وأن النصر محتم لهم ....

1 - « فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» (2).

2 - «وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» (3).

ص: 246


1- المادية التاريخية ص 90.
2- سورة الأنفال 66.
3- سورة البقرة 177.

3 - «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ» (1)

4 - «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا» (2).

5 - «فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ» (3).

فنجد أن القرآن الكريم يحث المسلمين على الصبر والثبات في مواجهة صفوف الجائرين ودعاة الباطل ، ويدعوهم إلى عدم الرضوخ للباطل وعدم الاستكانة للظلم ، وحمل راية التوحيد والحق ، والعدل والحرية لطرد العدو.

أما الشيوعيون فانهم حين يصلون إلى هذه النقطة يقومون بخيانة كبيرة ويعملون - على خلاف الانصاف والانسانية على تشويه الحقيقة وتفسير أمر الاسلام بالصبر تفسيراً يخالف الواقع فيقولون :

« لقد جاء الدين يؤيد مصالح الطبقة الحاكمة ، ويحث العامل على الجد والتعب والتحمل ، وفي قبال ذلك يعده بالجنة ، ويقول ان اللّه يحب الذين يتحملون الآلام والمصائب (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) » (4).

يا للوقاحة! إنهم يعملون على نشر هذه التلفيقات والتحريفات ضد الدين لجرف شباب المسلمين الفارغي الأذهان ... وليحكم رجال العلم والفضيلة في حق هؤلاء!!.

فرويد والفطرة :

يمكن اعتبار فرويد وأتباعه ممن انصاعوا لكلماته دون وعي أو إدراك من جملة الماديين المنحرفين عن الفطرة ، ولكنهم يسدلون ستار التحليل النفسي والبحث العلمي على انحرافهم ذاك. وبما أن موضوعنا يدور حول الفطرة الايمانية والوجدان

ص: 247


1- سورة محمد 31.
2- سورة آل عمران 120.
3- سورة آل عمران 146.
4- المادية التاريخية ص 91.

الأخلاقي لا بد من توضيح بعض النقاط عن موقف فرويد من هذه المسألة :

1 - إنه لا شك في أن فرويد كان محللاً نفسياً حاذقاً. ولكن علم التحليل النفسي يختلف عن علم معرفة الانسان ، وكما أن الطبيب يعرف مزاج الانسان وليس هو مزاج الانسان ، فإن فرويد طبيب نفسي وليس تمام النفس الانسانية. وإذا حصر أحد البشرية كلها في علم النفس فقد ظلم الانسانية.

« ولن تكون رياسة السيكولوجيا أقل خطراً من الفسيولوجيا والطبيعة والكيمياء ... فقد أحدث ( فرويد ) أضراراً أكثر من التي أحدثها أكثر علماء الميكانيكا تطرفاً فإن من الكوارث أن نختزل الانسان إلى جانبه العقلي مثل اختزاله إلى آلياته الطبيعية الكيميائية » (1).

2 - لقد اعتنى فرويد في معرفة الانسان بالشهوة الجنسية قبل كل شيء. وبدلاً من أن يجعل بحثه يدور حول الانسان أخذ يبحث عن الجنس ونظر إلى الانسان من زاوية الميل الجنسي فقط. إن فرويد يرى أن الانسان السعيد هو الذي يروي ظمأه الجنسي باي طريق شاء. إنه لا يلتفت إلى السجايا الانسانية والملكات الفاضلة ، ولذلك فهو ينتقد الأوضاع والتعاليم الدينية وقوانين العالم المتمدن في عدم فسح المجال وعدم إعطاء الحرية الكاملة للناس في إرضاء ميولهم الجنسية ، ولم يرض بهذا الظلم بالنسبة إلى الغريزة الجنسية :

« إن انتخاب أي موضوع من قبل فرد مراهق ينحصر في الجنس المخالف ، وفي الغالب تمنع الميول الجنسية التي تحصل في الخارج من التوالد والتناسل وذلك بعلة الفساد والانحراف. إن هذا العمل يؤثر بنسبة كبيرة في جماعة من الناس ويبعث على تقليل لذتهم الشهوانية وبذلك يسبب إجحافاً شديداً ».

« إن الشيء الوحيد الذي بقي لحد الآن حراً ولم يمنع منه هو الميل نحو الجنس المخالف ضمن قيود خاصة أيضاً ، لأن العلاقة مع

ص: 248


1- الانسان ذلك المجهول ص 216.

الجنس المخالف يجب أن تكون مشروعة أولاً ، ويجب أن يكتفي كل فرد بفرد واحد من الجنس المخالف فقط » (1)

إن فرويد يدافع عن الشهوة الجنسية لسحقه للمثل الانسانية ، ويعمل من أجل فسح المجال التام أمام ممارستها! إن اتباع مذهب فرويد في إرضاء الميول الجنسية معناه الانحراف إلى طريق الدعارة والفحشاء والشقاء. والأسلوب الفكري الفرويدي يسدد ضربة قاصمة إلى أساس تكوين الأسرة والحنان العائلي وتربية الطفل. إن تحليل كلمات فرويد في الغريزة الجنسية يجر وراءه سلسلة من النتائج الوخيمة التي ننزه اللسان عنها.

3 - إن عقدة الحقارة في مدرسة التحليل النفسي الفرويدي مسألة قابلة للانتباه ، فإن المصابين بهذه العقدة والذين يحسون والحقارة في نفوسهم تظهر فيهم ردود الفعل المختلفة. فما أكثر سكون الناس وانزواءهم وتكبرهم وتواضعهم ، ونصائحهم ، واستدلالاتهم التي تنبع من عقدة الحقارة. لكن تظهر بالمظاهر الآنفة الذكر.

منشأ عقدة الحقارة عند فرويد :

لقد كان ( فرويد ) معرضا للاستهزاء والسخرية في أيام شبابه نظرا لاعتناقه اليهودية ، وإن جميع المترجمين له يصرحون بهذه النكتة :

« ولد سيجموند فرويد في 6 مايس 1856 في مدينة صغيرة ( فرايبرك ) واقعة في ولاية ( مراوي ) ، لقد كان أبواه وأقاربه ينحدرون من عائلة يهودية قديمة ، كانت على أثر الاضطهاد الذي كان يلاقيه اليهود في تلك العصور قد رحلت من ( بالاتينا ) الواقعة في ( باوير ) وسكنت في ( مراوي ). والنكتة التي يجدر ذكرها هي أن فرويد كان معرضاً لا ستهزاء وإزدراء زملائه دائماً بالنسبة لمذهبه وعنصره. وإن رد الفعل الذي أوجدته تلك السخرية في نفسه ، يظهر في ميله إلى التطرف والانزواء » (2)

ص: 249


1- انديشه هاى فرويد ص 129.
2- انديشه هاى فرويد ص 10.

لقد أدى اعتناق فرويد اليهودية أن يعرض للتحقير والاستهزاء منذ الصغر ، وبذلك سحقت شخصيته وعزة نفسه. هذا الأمر جعله ينظر نظرة تشاؤمية تجاه الدين الذي سبب له السخرية والزدراء. فقد كان التفكير في الدين يشوش عليه ويقض عليه مضجعه ، وكان يعجز منه.

« لقد لخص فرويد بحثه في الاتجاه الديني في هذه الجملة : إني أجد نفسي مضطرباً وقلقاً عند البحث في أمثال هذه المسائل التافهة ، واني أعترف بذلك دائماً » (1).

يرى فرويد : أن الميول المكبوتة في أيام الطفولة لا تنمحي ، بل تنتقل إلى الضمير الباطن وتنشئ ردودها المختلفة طيلة الحياة ، ومن المناسب أن نستفيد من هذه الجملة ونتحقق عن ضميرة الباطن لنجد المظاهر التي أدت إليها شخصية فرويد المندحرة وعقدة الحقارة التي كانت ناشئة في ضميره الباطن من جراء السخرية الدينية.

رد الفعل لعقدة الحقارة :

لم يقف رد الفعل الذي أدت إليه عقدة الحقارة في نفس فرويد عند حد الانزواء والابتعاد عن المؤثرات الدينية بل راح يثأر لكرامته وينتقم من الاستهزاءات التي حصل عليها تحت ظل اعتناقه اليهودية. ولقد استغل البحث النفسي لمناهضة الدين وأعمل جهده في إجتثاث أصول العقيدة وإذ كان هدفه على خلاف الحق والواقع ، فقد أتى بقضايا واهية وكلمات لا أساس لها من الصحة أصلاً.

إنكار الفطرة :

لما كان الايمان باللّه الأساس الأول للدين في علم الانسان ، ولما كان الالهيون والعلماء مستجيبين لنداء فطرتهم وتوجيه عقولهم إلى الايمان بخالق الكون الذي أودع فيه هذا النظام الدقيق وهذا الانسجام الكامل ، فقد بدأ فرويد في إنكار الفطرة التوحيدية وكانت الخطوة الثانية التي أعقبها في هذا المجال ، التغافل عن

ص: 250


1- انديشه هاى فرويد ص 92.

المنطق الاستدلالي والعقلي للعلماء وتعريف الدين بسلسلة من العوامل النفسية تحت ستار من التحليل النفسي.

إن نظرية فرويد بالنسبة إلى الأديان معروفة في جميع الكتب التي تعرضت لبيان نظرياته ، وللاستشهاد ننقل هنا بعض البعارات من كتابين بهذا الصدد :

« لا يتفق أي دين مع دليل تام ، فالدين توهم يتخذ قوته من نتيجة تلقي الميول الغريزية عندنا » (1)

« لا يقوم الدين بأصوله وتعاليمه بعمل من وجهة نظر البحث النفسي ، غير إيضاح القلق والاضطراب عند الأشخاص. وبعبارة أخرى فان فرويد يعتقد أن سبب ظهور الدين يرجع إلى ظاهرتين :

أ - القلق والاضطراب الانساني في قبال الميول الغريزية.

ب - خوف الانسان من الطاقات المتغلبة في الطبيعة ».

« وعلى هذا فان فرويد على خلاف ( روناك ) لا يرى دخلاً للعقل في تكوين المذهب ، ويعتبره أمراً نفسانياً فقط » (2).

« يرى مذهب التحليل النفسي أن الاستنتاج الديني من الموجودات يرجع الى حالتنا الطفولية ، إن الطفل يجد نفسه أمام عالم عظيم ، وعلى الأم أن تؤمن مخاوف الطفل تجاه العالم كله وحمايته من الاضطرابات. وبعد ذلك يلقى عبء هذه المهمة على الآباء ، فيجب عليهم القيام بدورهم طوال مدة الطفولة ».

« إن الخوف الناشئ في الطفولة يمتد حتى البلوغ أيضاً وان الفرد البالغ يستأنس بجميع الأخطار التي تهدد حياته إنه يحتاج - كالطفل - إلى حماية شبيهة للتي يحتاجها في الاعوام الاولى من حياته في قبال أخطار العالم ومشاكله ولذلك فهو يبدأ ينظر الى تلك القوة التي فوق البشر وتلك الألوهية كشيء ذي حقيقة »(3).

ص: 251


1- فرويد وفرويد يسم ص 150.
2- انديشه هاى فرويد ص 86.
3- فرويد وفرويديسم ص 148.

هل كان فرويد جاهلا في الواقع ، أو أنه تجاهل بسبب عقدة الحقارة التي يحس بها ضد الدين ، لأخذ الثار؟!.

هل إن الآف العلماء الآلهيين الذين آمنوا في الماضي والحاضر باللّه كان اعتقادهم مبنياً على أساس البحوث النفسية لفرويد؟!

أفهل كان السبب في اعتقاد حملة راية العلوم ، وقادة التقدم العلمي باللّه في العصر الحديث هو الخوف من قوى الطبيعة الظالمة - كما يقول فرويد؟!.

هل آمن ( انشتاين ) ذلك العالم الذائع الصيت لأجل القلق والاضطراب من الميول الغريزية أو الخوف من الزلازل؟.

هل إن اعتقاد ( داروين ) باللّه كان خوفاً من رعيد السماء وبرقها ليلقي نفسه - كالطفل - في أحضان السماء؟!.

هل كان منشأ إيمان ( بركسن ) و( باستور ) العالمين الفرنسيين هو الخوف من أمواج البحر ، أو المواد البركانية التي ألقت بها فوهة بركان؟!.

هل كان إيمان العلماء الالهيين في أوربا وأمريكا في العصر الحديث والذين نالوا جوائز ( نوبل ) ناشئاً عن الخوف من الحوادث الطبيعية ، وهل أن أساسهم النفسي هو الضعف في أيام الطفولة واللجوء إلى الأب السماوي الموهوم؟!.

بأي جرأة علمية يقول فرويد وأتباعه : « لا ينطبق الدين مع أي دليل »؟!.

كيف يدعي هؤلاء أن العقل لا يتدخل في البحث عن الدين؟!.

لماذا يعتبرون إيمان الألوف من العلماء كان خوفاً من القوى الطبيعية الضالمة ويستسهلون هذه التهمة تجاههم؟!.

لماذا هذه المغالطات تجاه الدين من رائد التحليل النفسي الذي يدعي الاستجابة لنداء الواقع دائماً؟!.

هذه أسئلة يجب أن يجيب عليها الأناس المثقفون الواعون.

وسنختم بذلك هذه المحاضرة على أن نبحث عن الوجدان الأخلاقي في المحاضرة القادمة.

* * *

ص: 252

المحاضرة الحادية عشرة: الوجدان الأخلاقي

اشارة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم : «لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)» (1).

فطرية الوجدان الأخلاقي :

وجدنا في المحاضرة السابقة كيف ينكر ( فرويد ) إستناد الوجدان الأخلاقي إلى الفطرة. فلقد صرح بأن الوجدان الأخلاقي عبارة عن مجموعة النواهي الاجتماعية والغرائز المكبوتة في مختلف مراحل الحياة تعارف المجتمع على تسميتها بالوجدان.

لكن طائفة كبيرة من العلماء في الماضي والحاضر ترى أن للوجدان الأخلاقي أساساً فطرياً ، وأنه داخل في بنيان الانسان وكيانه. ولما لم تكن عقول العلماء وأفكارهم مصونة من الخطأ والانحراف ، ولأجل الوصول إلى مقياس صحيح يمكن بواسطته معرفة صحة أقوال شخص عالم أو خطئها يجب أن نعرض نظرياته العلمية على آيات القرآن الكريم والنصوص الصحيحة الواردة عن المعصومين علیهم السلام . فإن كان فيها مخالفة صريحة لتلك الأسس الاسلامية الثابتة فيجب أن نقول - بلا ريب - أن ذلك العالم انحرف عن جادة الحق ، وأن تفكيره كان خاطئاً.

ولأجل أن يتضح موضوع الوجدان الأخلاقي للمستمعين الكرام لا بد من الابتداء بذكر الآيات الواردة في المقام ، ثم التعرض للنظريات الحديثة لمقايستها معها ، وذلك للوصول إلى معرفة صحتها أو سقمها.

ص: 253


1- سورة القيامة 1-2.

الاسلام والوجدان الأخلاقي :

يرى الاسلام أن الوجدان الأخلاقي ( أي القوة المدركة الباطنية التي تميز الخير من الشر ) جزء من البناء التام للانسان ، وفطرته. على أنه وإن لم يرد تسمية تلك القوة الفطرية باسم الوجدان الأخلاقي ، في القرآن والأحاديث لكن قد ورد التصريح بها بعبارات أخرى :

1 - قوله تعالى «لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)» وبصدد تفسير معنى النفس اللوامة ، ينقل صاحب تفسير البرهان هذا الحديث عن علي بن إبراهيم « ... نفس آدم التي عصت خالقها » (1).

فالانسان حين يرتكب ذنباً يسمع نداء اللوم والعتاب من باطنه ، ذلك النداء يقض مضجعه ، إن علماء النفس يسمون هذه القوة التي تلوم الانسان بالوجدان الأخلاقي (2). والقرآن يسميها بالنفس اللوامة. إن استعمال كلمة ( النفس ) هنا يشير إلى أن القوة اللائمة هي روح الانسان نفسه وجزء من هيكله. والحديث أيضاً يؤكد على أن هذه القوة النفسية كانت موجودة عند الانسان الأول ( آدم ) أيضاً.

2 - قوله تعالى : «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)» (3) ولقد ورد عن الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية قوله : « بين لها ما تأتي وما تترك » (4).

يستفاد من استعمال كلمة الالهام بالنسبة إلى خلق النفس الانسانية أن القوة المدركة للخير والشر هي من الافاضات الالهية وجزء من خلقة الانسان وهيكله.

3 - قوله تعالى : «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)» (5).

4 - « عن حمزة بن محمد عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال : سألته عن قول اللّه عز

ص: 254


1- تفسير البرهان ص 1160.
2- ( *) جرى علماء النفس على تسمية هذه القوة بالضمير الباطن ، والنفس العليا ... الخ.
3- سورة الشمس 7- 8.
4- الكافي لثقة الاسلام الكليني ج 1 163.
5- سورة البلد 10.

وجل : «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)» قال : نجد الخير والشر » (1). يستفاد من ذكر اللّه تعالى للهداية إلى الخير والشر عند بيان تكوين الانسان وبعد ذكر نعمة العين واللسان والشفة ، أن إدراك الخير والشر أمر فطري في الانسان ويكون جزءاً من بنائه. حيث يقول : «أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) ».

نستنتج من هذه النصوص ونصوص أخرى في الباب ، أن الاسلام يعتبر إدراك الخير والشر فطرياً عند الانسان ، لكن يجب أن نعلم أنه لا يتسنى للانسان إدراك جميع أوجه الخير والشر بصورة فطرية ، وإلا فأي ضرورة في إرسال الأنبياء؟ ذلك أن الجانب الفطري من هذه الادراكات منحصر في المسلمات الأولية للخير والشر أو الفضائل والرذائل ، ويبقى جانب من هذه الادراكات يحتاج فيها الانسان إلى التعليم والاقتباس.

وبعبارة أوضح نقول : هناك طائفة من الأفعال تكون ضرورية لسعادة الانسان وطائفة أخرى مضرة بسعادته وكماله فنسمي الطائفة الأولى ( خيراً ) والطائفة الثانية ( شراً ).

الوجدان الفطري والتربوي :

يستطيع الانسان أن يصل إلى معرفة الخير والشر من طريقين : الفطرة والتربية. فهناك طائفة من الأمور الخيرة والشريرة تدركها جميع الأمم والشعوب في العالم ، ولا تحتاج في فهمها إلى معلم ، بل إنها من الأمور الفطرية عندهم. ويمكن تسمية هذا القسم باسم ( الوجدان الأخلاقي الفطري ).

وهناك طائفة من الخيرات والشرور ، لا يدركها الانسان بفطرته بل إن الأنبياء - القائمين على تربية البشرية - هم الذين علمونا حسنها أو قبحها ، وقد أصبحت لها على مر العصور جذور عميقة في نفوس الناس ، هذه الطائفة غير فطرية ويمكن تسميتها باسم ( الوجدان الاخلاقي التربوي ).

ص: 255


1- الكافي لثقة الاسلام الكليني ج 1 163.

إن خيانة الأمانة والتزوج بالأم يشتركان في القبح في نظر الوجدان الأخلاقي للناس ، ولكن الفرق بينهما أن قبح الخيانة ناشئ من طريق الادراك الفطري ، أما قبح التزوج بالأم فانه ناشئ من تعليم وتربية الرجال العظماء في العالم. ولهذا فيجب أن نقول : إن الخيانة قبيحة بحكم الوجدان الأخلاقي الفطري ، وأن التزوج بالأم مذموم بحكم الوجدان الأخلاقي التربوي.

نظرية فرويد واتباعه :

« إن الطفل يرغب في الحركة والنشاط بحرية ، ولكن هذه الرغبة تصطدم منذ البداية بمقتضيات الحياة الاجتماعية إنه يرغب في أن يرفع احتياجاته الطبيعية كما يشاء ولكنه يلزم بمراعاة النظام والنظافة ، فلا يترك الطفل في أن يعتدي على رفيقه كما يشاء أو أن أن يعض أمه ، أو يحطم دماه ووسائل لعبه ، وأخيراً فانهم يقفون حجر عثرة أمام إرضاء ميوله الناشئة من الأنانية والاعجاب بالنفس ».

« لما كان كل ميلٍ يتعين بهدف خاص ، فعلى الطفل أخيراً أن ينصرف عن هدفه في هذه الموارد. إن ما يهم لبحوثنا وتحقيقاتنا هو أن نعلم ماذا سيؤدي إليه هذا ( الانصراف )؟ ».

« يجب أن نبحث عن أن جميع مظاهر الميول المكبوتة في الوجدان الباطني ، معلولة لعدم ملائمتها مع الظروف الاجتماعية ».

« توجد الرغبات المكبوتة في الشعور الباطني ، ولكن يجب أن نتذكر أن هذه الميول تحتل جزءاً من الشعور الباطن فقط. فالشعور الباطن يحتوي على عناصر أخرى منها بعض العوامل النفسية الموروثة عند الانسان. وما يتسرب إلى الشعور الباطن للطفل في مراحل تكامله من طاقات لم تجد لها مجالاً للاستغلال » (1).

« يرى فرويد أن الوجدان الأخلاقي ليس إلا رد فعل. وليس عملاً

ص: 256


1- انديشه هاى فرويد ص 33.

ذاتياً أو عميقاً يرتبط بالروح الانسانية بل إنه تأمل ساذج في المحرمات الاجتماعية » (1). « يرى فرويد أنه لا يوجد تصور للخير أو الشر لا في تاريخ البشرية ولا في تاريخ الفرد ، هذه التصورات تتفرع من المحيط الاجتماعي فقط » (2).

من هذه الجمل القصيرة نصل إلى أن ( فرويد ) لا يرى للوجدان الأخلاقي أساساً فطرياً أصلاً. بل يرى أنه كما يوضع اللجام في فم الحصان الشموس للسيطرة عليه ، كذلك يفعل الوجدان الأخلاقي - الذي هو حصيلة النواهي الاجتماعية - في تهدئة السلوك الاجتماعي والمحافظة على النظام فيه. بينما نجد أن طائفة كبيرة من العلماء في العصر الحديث يخطئون نظريات فرويد ويرون أن الوجدان الأخلاقي يستند إلى اساس فطري عميق في النفس الانسانية ، وله جذور ثابتة في طبيعة الانسان. وإن نداءه الطاهر والسماوي يسمع من الأعماق في جميع مراحل الحياة ، وفي الحالات المختلفة.

« يقل روسو في كتابه ( أميل ) بهذا الصدد : إن الوجدان هو الغريزة التي تتحدى الفناء بقوة السماء. وهو المرشد الباعث على الاطمئنان عند الأفراد البسطاء والمحدودين لكن الأذكياء والأحرار ، وهو الحكم المستقيم في سلوكه والمميز بين الخير والشر » (3).

« إن مشاهدة الأمراض الروحية من جانب ، والقوى الروحية الطبيعية من جانب آخر ترينا بعض القضايا التي تشهد على الأهمية العظمى للوجدان الأخلاقي في البحوث النفسية ، وفرق ذلك مع ( رد الفعل ) (4).

« ليس الوجدان الأخلاقي في طاقة مفتعلة بل انه أعمق العوامل في

ص: 257


1- بيماريهاى روحى وعصبى ص 64.
2- انديشه هاى فرويد ص 105.
3- جه ميدانيم؟ جنايت ص 15.
4- بيماريهاى روحى وعصبى ص 64.

الطبيعة الانسانية. ليس في وسع الأفراد إطفاء أو دحر هذا الوجدان بالتظاهر بالأمور المختلفة. ومضافاً إلى ذلك فإن ثبات الوجدان الأخلاقي العجيب حتى في أشد الحالات المرضية ، وفي حالة الجنون والانحطاط الروحي ، وبقاءه بعد خفوت شعاع العقل والذكاء يزيد على أهمية ذلك في الروح الانسانية. يتساءل بعض العلماء : أليس الوجدان الأخلاقي حصيلة التعليم والتربية والدين؟ ولكن يجب أن نتذكر أنهم قد حصلوا في الأدوار الأولى على آثار واضحة لهذا الوجدان. إن استغفار القبائل البدائية واستيحاشها يدل على قدم الوجدان منذ تلك العصور. وإن إنكار هذه الحقيقة بمثابة أن لا نفهم من الشخصية الانسانية أي شيء » (1).

عدم نضج كلمات فرويد :

ونظراً للتطرف الشديد الملحوظ في كلمات فرويد ، فقد صرح كثير من العلماء المعاصرين ببطلانها ، وأوردوا الأدلة المفصلة في ردها.

فقد استعمل فرويد أسلوب الأساطير بدل البحث العلمي البحث والتحليل الواقعي في موضوع الوجدان الأخلاقي والدين. إنه يبني أصول المذهب والوجدان على قبيلة خيالية إصطنعها في ذهنه ، واستمر بحثه ، ومتى اصطدم بالحواجز تخلى عن البحث. إن قسماً من علماء النفس الغربيين الذين سايروا نظريات فرويد تقريباً لم يستطيعوا السكوت على عدم نضح كلماته بصدد المذهب : -

« إن الذي يطالع آثار فرويد ويصل إلى هذه النتيجة وهي أنه لم يجب على استفسارات وأسئلة القراء في القضايا المذهبية وما شاكل ذلك. ولكن يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن فرويد لم يدع أبداً أنه قدم توضيحاً كافياً في المسائل الدينية » (2).

ونظراً لأن التحليل النفسي يعرض إلى الأسواق الفكرية في بلادنا كمتاع جديد ،

ص: 258


1- المصدر السابق ص 67.
2- أنديشه هاى فرويد ص 86.

ولا بد من اقتران اسم فرويد معه ، فمن الممكن أن يستغل البعض كلماته - عمداً أو جهلاً - لالقائها كقواعد مسلم بها وبحوث ثابتة في أذهان الشبان الساذجين والمؤمنين ، وبذلك يتسببون في انحرافهم العلمي والديني ، أو يروجون سوق الدعارة والتحلل والتفسخ ، ويجرون جيلنا الجديد إلى هوة سحيقة لا تحمد عقباها ... فنرى لزاماً أن نناقش بعض كلمات فرويد بصورة علمية ونضعها على طاولة التشريح ، عسى أن تقع مفيدة لشبابنا الأعزاء والمثقفين منهم بالخصوص.

إنكار الوجدان الفطري :

من المغالطات المهمة التي يذهب إليها فرويد ، إنكاره للوجدان الفطري. فالوجدان الفطري في نظره ليس إلا رد فعل. ولو كان فرويد يقسم الأمور الوجدانية عند الانسان إلى طائفتين : إحداهما فطرية ، والأخرى ناتجة من النواهي والمراقبات الاجتماعية فإنا كنا نوافقه على ذلك ولكنه يعتبر جميع الأمور الوجدانية وليدة الرقابات الاجتماعية والميول المكبوتة ويصرح بأنه لا يوجد في الانسان تصورات أولية للخير وللشر ، ويتطرق في كلماته إلى موضوع القتل ويجعل بحثه يحوم حوله.

ولأجل إتضاح الوجدان الأخلاقي الفطري ، وللتمهيد إلى الحديث عن كيفية الادراك الفطري لقتل النفس وطائفة من الصفات الخلقية الأخرى لا بد من ذكر مقدمة :

إن لفوهة البندقية حركتين : إحداهما ناشئة من احتراق المواد الداخلية للطلقة ، والثانية الحركة الطبيعية. ففي الصوره الأولى إذا حركنا زناد البندقية ووجهنا الفوهة إلى أي جانب فإن الطلقة تندفع إلى ذلك الجانب ، وفي الصورة الثانية إذا تركنا فوهة البندقية حرة في الفضاء ودون أي حركة ، فإن الطلقة تندفع إلى جانب واحد وهو جهة الجاذبية الطبيعية للأرض.

فإذا أردنا قياس الحركة الطبيعية للرصاصة فيجب أن نتركها حرة في الفضاء تماماً ، ولانخضعها لتأثير اي عامل مخالف.

إن الوجدان الأخلاقي والميول الباطنية للانسان تشبه الحركة الطبيعية

ص: 259

للرصاصة. فإذا أردنا أن نعرف الادراك الخلقي والوجدان الفطري للانسان يجب علينا أن نبحث على إنسان طبيعي مائة في المائة ... الانسان الذي لم يخضع لأي تاثير مخالف. فمثلاً إذا أردنا أن نعرف مدى قبح قتل النفس في الوجدان الفطري عند الانسان ، يجب أن نبحث على إنسان لم تلوث فطرته ولم يتغلب على إدراكه الباطني عارض من العوامل المختلفة. فإن من يرتكب جريمة قتل لوقوعه تحت تأثير الشهوة أو الغضب ، أو أن من يقتل الناس في ساحة الحرب على أساس التعصب وطلباً للشهرة ، أو أن يرتكب جريمة شنيعة حصولاً على المال أو وصولاً إلى الجاه ... هؤلاء لا يمكن أن يكونوا مجالاً مناسباً للبحث عن الادراك الفطري للوجدان الأخلاقي عند الانسان ، لأن حركة هؤلاء تشبه الرصاصة المندفعة تحت تأثير الاحتراق الداخلي للبارود ، إذاً ان حركتها غير طبيعية.

ولأجل أن يسلب فرويد قبح قتل النفس من إدراك الوجدان الأخلاقي وينسبه إلى ندامة القاتل من عواقب الجريمة الوخيمة ، يفترض قبيلة خيالية في فكره ، ثم يصنع من الشهوة الجنسية بطلاً للأسطورة حيث يقدم على قتل الأب الخيالي. ثم يستند إلى هذه القبيلة الافتراضية ويأتي بسلسلة من النظريات الباطلة التي لا أساس لها من الصحة أصلاً بالنسبة إلى اللّه والدين والأخلاق والوجدان!!.

« يرى فرويد أن الأب أو رئيس القبيلة كان يحتفظ لنفسه بالملكية الجنسية لجميع النساء ، أي أنه كان يتصرف في النساء والبنات ، وكان يسلك بشدة وخشونة تجاه أبنائه الذين كان يعتبرهم الرقباء الجنسيين والمزاحمين لقدرته ».

« كان هذا الأسلوب مستمراً مدة من الزمن حتى فقد الأب قوته بالتدريج إلى أن انهزم من الميدان تحت ضربات قاضية وجهها نحوه أحد أو جماعة من أولاده » (1).

« ولم يكن مقدوراً لأحد من الأولاد أن يحقق أمنيته ويستحل منزلة أبيه ، إذ أنه على ذلك كان يلاقي نفس مصير أبيه وكما نعلم فان

ص: 260


1- انديشه هاى فرويد ص 71.

ردود الفعل الروحية والمعنوية لليأس والفشل أعظم أثراً من ردود فعل الانتصار » (1).

« ولقد أدى قتل الأب في القبيلة الأولى وردوده الروحية الناتجة عنه إلى ظهور الأمر الصادر من النفس فيما بعد والقال : إنك سوف لا تقدم على القتل » (2).

« ربما لو لا لم تقع جريمة قتل الأب في تلك القبيلة ولم تظهر نتائجه الوخيمة المؤلمة فما بعد ، فإن أحفاد الانسان الأول كانوا يستمرون في قتل بعضهم البعض ذلك أن هذا القتل هو الذي سبب صدور الأمر النفسي بصورة : - إنك سوف لا تقدم على القتل - ثم انتقل إلى جميع أفراد البشر » (3).

لما كان فرويد قد آلى على نفسه أن ينظر إلى الانسان من زاوية الغريزة الجنسية فقط ، وإغفال بقية الجوانب فيه ، يرى في العامل الجنسي للآباء في هذه الأسطورة المزعومة سبباً لقتل الأب.

لقد قام فرويد بذكر مجموعة من المغالطات وسلسلة من الكلمات الباطلة على أساس هذه القبيلة الوهمية والقتل الخيالي ، ولا يهمنا التطرق إليها جميعاً في بحثنا هذا ، غير أن محل شاهدنا منها هو موضوع قتل النفس.

تلخص آراء فرويد في هذا الصدد : أنه لما كان ينكر وجود الجذور العميقة للوجدان الأخلاقي في روح الانسان ، ويتجاهل وجود التصور البدائي للخير والشر في أعماقه ، فإنه يفسر قضية قتل الأب بجهل الانسان بقبح قتل النفس فإن أبناء القبيلة كانوا واقعين تحت ضغط جنسي ، وكانوا يريدون الوصول إلى نساء القبيلة ، وكان وجود الأب مانعاً من ذلك. ولأجل تحقيق أغراضهم الجنسية أزاحوا المانع عن طريقهم وقتلوا الأب ثم انتبهوا إلى وجود موانع أخرى في طريقهم وعرفوا أنهم

ص: 261


1- المصدر السابق ص 80.
2- المصدر السابق ص 82.
3- المصدر السابق ص 88.

لا يستطيعون الوصول إلى أمانيهم. فندموا على فعلتهم وصدر الأمر الذي مضمونه : « إنك سوف لا تقدم على القتل » ... هذا الأمر انتقل إلى جميع أفراد البشر وتلقى الناس جميعاً موضوع القتل على أساس أنه فعل قبيح. فالحقيقة - في نظر فرويد - أن جذور قبح قتل النفس في عالم الانسان استمدت من إعلان الأبناء المولعين بالجنس ، الذين قتلوا أباهم ثم ندموا على ما فعلوا.

تحليل أسطورة قتل الأب :

ولنبدأ بتحليل أسطورة القبيلة وقتل الأب وأفعال الأبناء ، ليتضح صحة أقوال فرويد أو سقمها.

الفطرة وراء ستار الشهوة :

لقد أسلفنا في مقدمة البحث أنه لتشخيص الفطرة يجب أن نجعل بحثنا على إنسان حر طليق من جميع الجوانب ، ولم يكن واقعاً تحت ضغط الشهوة أو الغضب ، أو حب المال والجاه وما شاكل ذلك.

أما أبناء القبيلة الذين يحترقون في نار الشهوة ، ويقتلون أباهم بصورة جنونية لغرض الوصول إلى النساء فليسلوا أفراداً أحراراً وطبيعيين ، وأن حالتهم النفسية لا يمكن أن تكون مقياساً لتشخيص الفطرة الأخلاقية ، وكما أن النار تدفع البارود الموجود في الطلقة من فوهة البندقية وترميها بسرعة فائقة إلى اتجاه غير طبيعي ، فكذلك نار الشهوة - وهي أكثر دفعاً من البارود - حيث دفعت أبناء القبيلة إلى اتجاه مخالف للفطرة الانسانية وأدت بهم إلى قتل الأب. فإذا لم يحس الأبناء حين ارتكابهم للقتل بقبح ذلك ، فلأجل شدة نار الشهوة ، لا لفقدان الفطرة.

لا يقتصر الأمر على العصور القديمة أو القبائل المتوحشة ، وإنما القضية تسير على هذا المنوال حتى في عصرنا المتمدن هذا ، في عالمنا الذي يمر عليه - على حد قول فرويد - قرون عديدة على إيجاد إعلان الأبناء الذين قتلوا أباهم ، الاستهجان من تلك الجريمة في الضمير الباطن للأفراد. فما أكثر الشبان الذين يرتكبون القتل على أثر الشهوة الجنسية أو إثارة قوة الغضب والانتقام ، ولا يشعرون بأنفسهم ساعة الجريمة ولا يتذكرون إعلان الأبناء الذين قتلوا أباهم.

ص: 262

الندم على القتل :

يقول فرويد : إن ردود الفعل الناتجة من إقدام الأبناء على قتل أبيهم هي التي سببت الندم على جريمتهم. إنه يعترف بالندم بعد القتل ولكنه يرى أن السبب في ذلك هو ردود الفعل الروحية المرتبطة بالشهوة أو الحياء. لم لا يحتمل الأستاذ فرويد أن الندم حصل على أساس ردود الفطرة أي نداء الوجدان الأخلاقي ، الوجدان الذي كان موجوداً في الانسان وسيبقى موجوداً فيه؟!!.

في حين نجد أن بعض علماء النفس الأوربيين التابعين لمدرسة فرويد قد احتملوا هذا الوجه :

« وعلى أية حال ، فيجب الاعتراف إما بوجود إحساس ووجدان أخلاقيين مشابه لما هو موجود في الأمم المتمدنة أو على فرض فقدان هذا الوجدان ، فإن الروابط النفسية بين الأب والأولاد كانت شديدة لدرجة كافية لايجاد الضربات الروحية ، والندم المتوصل » (1).

لقد وجدنا أن نار البارود قد وجهت الطلقة في الفضاء إلى جانب غير طبيعي بشدة ، وبمجرد إنتهاء استمرارية الانطلاق تتحرر الطلقة من الضغط وتسلك جهتها الطبيعية وترجع إلى الأرض بسرعة وكذلك الشهوة أو الغضب فانهما يخرجان الانسان عن طوره الطبيعي ويوجهانه إلى حركة غير طبيعية فيرتكب قتلاً أو جناية. وبعد أن تطفئ ثائرة الشهوة أو الغضب ويتحلص الانسان من الضغط الذي كان يعانيه يثوب إلى رشده ويعود إلى طريقه الطبيعي ، فيقوم وجدانه بتوجيه اللوم إليه على اجرائم التي قام بها ويجعله تحت كابوس روحي شديد.

إن التفسير الطبيعي لسبب الندم في أبناء الأسطورة قتل الأب هو نداء الوجدان.

الحالات غير الطبيعية :

يجب أن نعترف سلفاً أن للقبائل البدائية حالات غير طبيعية كثيرة كالقبائل

ص: 263


1- أنديشه هاى فرويد ص 89.

المتحضرة ، وهي يجب أن تستبعد من البحث العلمي. فمثلاً لا يمكن الاستناد في البحث عن الوجدانيات إلى حالة أبناء القبيلة الذين صمموا على قتل أبيهم لثورتهم الجنسية العارمة ، وقتلوه. ولا إلى أفراد القبيلة التي يهاجم بعضهم بعضاً لسبب الجوع وعدم الوصول إلى صيد الحيوانات أو الأعشاب. أو إلى أسرة سرقت صيد أسرة أخرى وأكلته ووقع الخصام بين الأسرتين ، وهجم بعضهم على بعض لعامل الغضب والتأثر ... إلى غير ذلك من الحالات غير الطبيعية.

إننا يجب أن نبحث عن القبيلة الخيالية التي افترضها فرويد في حالة يكون رجالها ونساؤها ، شيبها وشبابها في حالة طبيعية تماماً ، ولم يكن أبسط عامل مهيج في سلوكهم ومزاجهم باعثاً على انحرافهم عن طريق الفطرة ولنفرض أنه اتفق خروج جميع أفراد القبيلة في جو لطيف إلى التنزه في قطعة أرض خضراء ، واجتمعوا على ضفاف نهر صغير وبالقرب من حقل واسع وانسجموا في أتم المحبة والوئام ... فالصغار أخذوا يلعبون هنا وهناك ، والشباب مولعون كل بعمله ، فقسم منهم يتأرجحون بين أغضان الأشجار ، والقسم الآخر يرمون بأنفسهم في النهر مفضلين السباحة ، وطائفة تقفز على الأرض وتلعب وبأيدي طائفة أخرى عصي خاصة يقفزون بواسطتها ... وفي هذه الأثناء إذا أهوى أحد الشبان بعصاه المدببة على رأس شاب آخر بلا سبب أصلاً وفي تمام الانتباه والارادة ، وقتله بتلك الضربة. ألا يوجد هذا العمل إستياء في نفوس أفراد القبيلة؟ ألا يعتبر هذا العمل في أنظارهم قبيحاً؟ هل إن شج رأس إنسان مع العلم والعمد مساو لكسر حجارة؟ ألا يلومونه على عمله؟ ألا يحس في نفسه بالاضطراب والقلق من فعله؟. وإذا كان شاب آخر جالساً على الأرض ويقلع الحصى منها بواسطة العصا المدببة التي في يده ، وفجأة اتجه إلى طفل صغير وطرحه أرضاً وأخرج عينيه من حدقتيه ألا يسأله أفراد القبيلة عن سبب اقتلاع عيني الطفل؟ ألا يعتبرون هذا العمل قبيحاً؟ ألا يعاقبون المرتكب لتلك الجريمة أو يلومونه على الأقل؟ هل أن اقتلاع عيني طفل بريء مساو في أنظار أفراد القبيلة مع اقتلاع الحصى من الأرض؟.

يدعي فرويد أنه يتساوى كسر الحجار وشج رأس الانسان وقتله في نظر أفراد القبيلة من حيث الحسن والقبح. وكذلك يتساوى عندهم إقتلاع الحصى من الأرض

ص: 264

واقتلاع العين من الحدقة ... ذلك أن الانسان لا يملك وجداناً أخلاقياً فطرياً ، ولا يدرك الخير والشر بذاته.

إن نظرية فرويد في موضوع نفي الوجدان الأخلاقي تافهة عند علماء النفس إلى درجة أن تلاميذه وأتباع مدرسته لم يستطيعوا السكوت عن سفسطاته.

« وطبيعي أننا يجب أن لا نتلقى جميع نظريات فرويد على أنها صحيحة ومنطبقة مع الواقع تماماً ، فمثلاً لا تخلو نظريته في الوجدان الباطن من عيوب ونواقص » (1).

تراجع فرويد عن عقيدته :

وألطف من ذلك أن فرويد نفسه قد غير عقيدته تجاه الوجدان الأخلاقي في أواخر أيام حياته ، واضطر إلى الاقرار بمحكمة الوجدان الباطن.

« يقول فرويد في أحد آثاره الأخيرة باسم ( المؤتمرات الحديثة في التحليل النفسي ) إننا مضطرون للاذعان بوجود محكمة قضائية خاصة في الحياة النفسية ، والتي تلعب دور الانتقاد والامتناع » (2).

يفسر فرويد عامل ارتكاب جريمة القتل في القبيلة الخيالية - شأنه في كل قضية - بالغريزة الجنسية للأبناء ، في حين وجود عوامل أخرى يمكن أن تكون منشأ للفعاليات والنشاطات المفيدة والمضرة التي تصدر من الانسان.

« إن فرويد لا يتحدث عن المؤسسات الاجتماعية المختلفة أو الظروف والأحوال الاقتصادية للمجتمعات المختلفة بحيث يكون أفق منظاره من الجانب الاجتماعي ضيقاً جداً ».

« إنه يظهر نظرية مبتورة عن الحياة الاجتماعية ، ويعتبر محيط الأسرة مستقلاً عن العوامل الاقتصادية والسياسية ومرتبطاً بعقدة أوديب بصورة منحصرة ».

ص: 265


1- انديشه هاى فرويد ص 66.
2- فرويد وفرويديسم ص 67.

« وبالنتيجة فان فرويد يغفل أهمية الصراع الطبقي في داخل المجتمع ، في حين أن الصراع الطبقي يقوم بدور مهم بآثاره الايجابية والسلبية التي تترتب عليه » (1).

حادثة القتل الأولى في تاريخ الانسان :

إن أول حادثة للقتل وقعت في تاريخ الانسان ، هي أن أخاً قتل أخاه ، ولم يكن الدافع إلى ذلك - حسب النصوص الاسلامية - هو الغريزة الجنسية ، بل خلافة الأب أو حب الرئاسة الممزوح بالغضب!.

يسأل سليمان بن خالد من الامام الصادق (عليه السلام) عن سبب أول حادثة للقتل في أسرة آدم ، فيجيبه الامام علیه السلام : « يا سليمان إن اللّه تبارك وتعالى أوحى إلى آدم : أن يدفع الوصية واسم اللّه الأعظم إلى هابيل وكان قابيل أكبر منه ، فبلغ ذلك قابيل فغضب ، فقال : أنا أولى بالكرامة والوصية » (2).

تقول المدرسة الاسلامية : إن أول حادثة للقتل في تاريخ البشرية قد وقعت بسبب حب الرئاسة وثورة القوة الغضبية. أما المدرسة الفرويدية فانها تصورت أن القتل في القبيلة البدائية الموهومة كان بسبب الغريزة الجنسية والقدر الجامع بين المدرستين أن القتل كان في ظرف غير عادي وحالة غير طبيعية.

إنطفاء الوجدان :

إن أنصار الوجدان الفطري يشرحون حالة الانسان النفسية بالصورة التالية : إن الانسان يدرك في الحالة الطبيعية قبح القتل بواسطة الوجدان الأخلاقي والالهام الالهي ، ولا يزاحم حرية الأفراد الآخرين. وعندما تثور إحدى الغرائز ويقع الانسان تحت تأثير عوامل الغضب ، والجنس والجوع ، والحسد ، وحب الذات والمال والجاه ، وما شاكل ذلك ، فإن شعلة الفطرة تنطفئ ، ولا يسمع الانسان نداء الوجدان وحينذاك يرتكب جريمة القتل بصورة جنونية.

ص: 266


1- أنديشه هاى فرويد 83.
2- تفسير البرهان ص 282.

هذا الوضع الثابت كان موجوداً في باطن الانسان منذ البداية ، ولا يزال يوجد في جميع نقاط العالم على نفس المنوال. ولقد اعترف المؤمنون بتعاليم الأنبياء وأكثر العلماء في العالم بهذا المنطق الطبيعي الذي يسمع من لسان الفطرة في كل زمان ومكان. أما فرويد وأتباع مدرسته فقد شرحوا قصة القتل من زاوية التحليل النفسي بالنحو الآتي : -

« ربما لو لم تقع جريمة قتل الأب في تلك القبيلة ، ولم تظهر نتائجها الوخيمة المؤلمة فيما بعد ، فإن أحفاد الانسان الأول كانوا يستمرون في قتلهم بعضهم البعض ذلك أن هذا القتل هو الذي سبب صدور الأمر النفسي بصورة : إنك سوف لا تقدم على القتل. ثم انتقل إلى جميع أفراد البشر » (1).

1 - لقد استعمل في البداية لفظة ( ربما ) ، وهذا يدل على أن اتباع مدرسة فرويد لا يؤمنون بهذه النظرية مائة في المائة ، بل أنهم يواجهونها على أساس الترديد والشك.

2 - يستفاد من هذه العبارة أن أبناء البشر كانوا يستمرون في قتل بعضهم البعض بلا رادع أو مانع ، وإن حادثة قتل الأب الوهمي والندم الناشئ من ذلك ، الذي أدى إلى صدور الاعلان الخيالي كانت السبب في إيقاف جرائم القتل.

إذا كان فرويد وأتباعه يرون أن توسع جرائم القتل قبل صدور الاعلان كان ناشئاً من ثورة غريزة من الغرائز كالذي حدث في قتل الأب ، فيجب أن نقول لهم ، إن الاعلان لم يترك أصغر الأثر في الانسانية لاستمرار جرائم القتل حتى بعد صدوره. ففي حالة السلم يقتل يومياً مئات الأفراد في العالم لسبب الجنس والغضب والحسد ، وأما في حالة الحرب فلا تعد الضحايا!! ..

فإن قالوا : إن أفراد البشر كانوا قبل صدرو ذلك الاعلان يقتل بعضهم بعضاً دون أي ثورة من الغرائز بل وفي الحالات الاعتيادية وجاء الاعلان ليمنع حدوث مثل تلك الجرائم ... فبديهي أنهم خالفوا الواقع في ذلك. ذلك أن الكلاب ،

ص: 267


1- أنديشه هاى فرويد ص 88.

الذئاب ، النمور وكذلك الطيور حين تصطرع فيما بينها فليس إلا بهيجان غريزة الجوع أو الجنس وما شاكل ذلك ، أما في الحالات الاعتيادية فلا يزاحم بعضها بعضاً. أللهم إلا أن تدعي المدرسة الفرويدية أن الانسان أحط من الكلاب وأشد توحشاً من الذئاب. ونتيجة ذلك إن الذئاب لا تتنافس ولا تتزاحم في الحالات الطبيعية ، أما أفراد الانسان فانهم يقتل بعضهم بعضاً في الحالات الطبيعية وفي مثل هذه العبارات السخيفة فليحكم النقاد والباحثون!.

قبح الخيانة :

لقد سبق أن قلنا : إن الوجدان الأخلاقي يدرك كثيراً من أمهات الفضائل والرذائل ، ولا ينحصر ذلك الادراك بقبح القتل ، الذي حللناه تحليلاً مفصلاً ، وتعرفنا فيه إلى عبارات فرويد ونظرياته وكنموذج آخر نستعرض قبح الخيانة في نظر الوجدان.

لنفرض طفلاً يملك تفاحة ، ويودع تفاحة ، ويودع تفاحته عند آخر ليذهب إلى غسل يديه ويرجع. إنه يتوقع - طبيعياً - وينتظر - فطرياً - أن يسترجع أمانته. فإذا جاء ووجد أن الطفل الآخر قد أكل التفاحة فانه يتألم ويلومه ويدينه بفعل قبيح. وأما الطفل الذي أكل التفاحة فانه هو الآخر يحس بالتألم ، ويضطرب ، يصفر وجهه ، يحاول الفرار والابتعاد عن ساحة الخطيئة. وكذلك الأطفال المتفرجون فانهم يعتبرون هذا الفعل خطأ ، ويدركون بأن الذي أكل التفاحة قد ارتكب فعلاً قبيحاً. هذا الاحساس أو الشعور لا يرتبط بالتعليم والتربية وإنما هو إدراك ينبع من أعماق الفطرة وموجود عند جميع الأطفال.

أما فرويد فانه ينكر القبح الفطري للخيانة ، شأنه في سائر الأمور الفطرية الوجدانية ، ويعتقد أن الانسان الأول كان لا يفهم شيئاً من الحسنات السيئات الخلقية. وهنا نجد من المناسب أن نرجع إلى القبيلة الوهمية التي تصورها فرويد لنجعل بحثنا يدور حولها.

إذا كان فرويد يدعي أن أفراد القبيلة كانوا كقطيع من الأغنام لا يدركون معنى الأمانة أصلاً. فمن البديهي أن البحث عن قبح الخيانة يكون لغواً مع هذه الدعوى. إذ يجب أن لا نتحدث عن قبح الخيانة مع الأغنام التي لا تدرك الأمانة كي تدرك

ص: 268

عكسها. ولكن المفروض أن فرويد لا يستطيع أن يدعي مثل ذلك ، لأنه قال عند التحدث عن أبناء القبيلة الذين قتلوا أباهم :

« ولم يكن مقدوراً لأحد الأولاد أن يحقق أمنيته ويستحل منزلة أبيه إذ أنه على ذلك كان يلاقي نفس مصير أبيه ».

يستفاد من هذه العبارة أن أفراد القبيلة الوهمية كانوا عقلاء مفكرين متعمقين إلى درجة أنهم كانوا يشاهدون الستار الذي يكمن وراء ستار الرياسة ، وكانوا يعلمون أنهم بقبولهم الرياسة سيلاقون نفس المصير المؤلم الذي لاقاه أبوهم من قبل ، وبديهي إن إدراكاً كهذا يكون نتيجة التعقل والتفكير ، ومن الواضح أن القبيلة الخيالية لم تكن تحت سيطرة حكومة الغرائز العمياء الصماء مثل الأغنام ، بل كانوا يدركون معنى الأمانة بكل وضوح.

لنفرض أن إحدى نساء القبيلة خرجت في الصباح إلى الغابة واستطاعت بعد عناء شديد أن تقطف بعض الفواكه لطعامها وطعام أطفالها ، وقد جرحت بالأشواك ... وفي أواخر النهار تحمل الفواكه إلى حيث تسكن القبيلة. وبما أن طفلها يضيع في أثناء الطريق ، فانها تودع الثمار عند أحد أفراد القبيلة الذي كان بالقرب من تلك المنطقة ، وتعود إلى الغابة للبحث عن طفلها. وعندما ترجع تجد أن الشخص الذي أودعت الثمار عنده قد وزعها بين أفراد أسرته وأكلوها جميعاً ... أليس هذا العمل مخالفاً لما كانت تتوقعه المرأة بفطرتها؟ ألا تحس المرأة أن عملاً قبيحاً قد وقع؟. ألا يحق لها أن تصيح وتولول وتضرب الخائن؟. وإذا اجتمع أفراد القبيلةواطلعوا على القضية ألا يسألون الخائن عن قبح فعله؟ ألا يسمحون لتلك المرأة أن تأخذ حقها من الخائن؟ ألا تدل هذه الردود الروحية على القبح الفطري للخيانة؟! إن جواب فرويد على هذه الأسئلة كلها بالنفي. إنه يقول : إن الخيانة ليست من الناحية الفطرية فعلاً حسنا أو قبيحاً. ذلك لأن الانسان الأول لم يكن يدرك الحسن والقبح.

أما أتباع الرسالات السماوية ، وكثير من العلماء في الماضي والحاضر فانهم يرون أن قبح الخيانة - كسائر الوجدانيات - أصيل في بناء الانسان. إن اللّه تعالى وهب الانسان ثروة فطرية عظيمة لهدايته إلى الحياة السعيدة ، وليصل عن هذا الطريق

ص: 269

إلى الكمال الانساني اللائق به ، ولكن الانسان الحر والطليق من تلويثات الغرائز فقط هو الذي يستطيع أن يسمع نداء الفطرة ، ويدرك الخير والشر.

يقول الامام (عليه السلام) بهذا الصدد : « إن اللّه إذا أراد بعبد خيراً طيب روحه فلا يسمع معروفاً إلا عرفه ، ولا منكراً إلا أنكره » (1).

الدعوة على أساس الفطرة :

لقد وجه الأنبياء اهتمامهم إلى الفضائل الأخلاقية التي لها جذور إلهامية وتكوينية في النفس الانسانية ، ولقد دعوا الناس في مناهجهم التشريعية إلى إحياء الفطرة الأخلاقية ، يقول الامام الصادق (عليه السلام) : « إن اللّه لم يبعث نبياً إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة » (2). وفي حديث آخر : « لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده ، فإن ذلك شيء قد اعتاده ، فلو تركه استوحش لذلك ، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته »(3).

هذا الحديث يرشدنا إلى البحث عن انسانية الرجل في حياة وجدانه الأخلاقي ، فإن من يطفئ جذوة الفطرة في باطنه وينحرف عن الصراط المستقيم يكون قد انسلخ عن الانسانية ، وإن بدا صلاحه وكان يطيل الركوع والسجود. إن الوجدان الأخلاقي إذا كان حراً ولم تعصف به عواصف الجبن والغضب يدرك الخير والشر بالالهام الالهي ، ويستطيع أن يكتشف طريق سعادته من شقائه : « ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ».

عدالة الوجدان :

إن الوجدان الأخلاقي يعتبر من أهم وأعظم العوامل التنفيذية للوقاية من الجرائم. فإنه الذي يوجه اللوم والتقريع إلى المجرم ، ويوجه نحوه بذلك أشد الضربات. إن الوجدان الأخلاقي أطهر وأقدس محكمة قضائية لمعالجة الجرائم

ص: 270


1- إثبات الهداة ج 1 87.
2- سفينة البحار ، مادة ( صدق ) - ص 18.
3- سفينة البحار ، مادة ( صدق ) - ص 18.

والجنايات. وإن عدالة محكمة الوجدان تضارع عدالة المحكمة الالهية في القيامة ... فكما أن اللّه تعالى يحكم بين الناس بالحق في ذلك اليوم ، كذلك الوجدان الأخلاقي ، فانه يحاسب المجرم ويجازيه ، ولهذه المناسبة بينهما فان اللّه تبارك وتعالى قد قرن النفس اللوامة بيوم القيامة في القرآن الكريم حين قال : «لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)».

« الأخلاق الصحيحة هي التي تستند على أساس احترام الوجدان. وإن الوجدان الأخلاقي يعمل دائماً للارتباط بالدين لأنه سر نشوء الاطمئنان والاعتماد. ولهذا فان الوجدان الأخلاقي يحكم في الأفعال بصورة عادلة وصحيحة بصورة كلية ، وذلك بخلاف العقيدة التي يمكن أن تؤثر فيها الدعايات بسهولة ».

« إن احترام الوجدان الاخلاقي ليس منشأ الحرية والرفاه الاجتماعي فحسب ، بل إنه منشأ الهدوء النفسي أيضاً. والآن حيث لا يمكن الخروج على إطاعة الوجدان الأخلاقي ، فالأجدر أن نتقبل أوامره بكل ارتياح وشوق ونخضع لحكمه وعدالته. هذه الطاعة النفسية توجد سلوكاً حميداً ومفضلاً » (1).

« لا بد من الاهتمام بالتعذيب الناشئ من عدم إرضاء الوجدان الأخلاقي. فالندم ، والغضب ، والتحمس للتبرئة ، والحقد ، هذه كلها من نتائج تعذيب الوجدان الأخلاقي. هذا التعذيب يمكن أن يوجد بعض الأمراض الروحية الخفيفة » (2).

الميثاق الفطري :

لقد ورد التعبير عن الوجدان الأخلاقي في بعض الرويات بالميثاق الالهي. فعندما خلق اللّه الانسان علمه والشر ، وكأنه عقد معه ميثاقاً واخذ منه عهداً تكوينياً في أن يلتزم بالتعاليم الفطرية ، ولا ينحرف عن صراط الفطرة المستقيم.

ص: 271


1- بيماريهاى روحى وعصبي ص 69.
2- المصدر نفسه ص 70.

فالذين يخرجون على الميثاق الفطري ويخالفون أوامر الالهام التكويني والوجدان الأخلاقي يعيشون في هذه الحياة بقلق واضطراب تماماً ويحسون بملامة دائماً ، وأما في القيامة فانهم يبتلون بعذاب اللّه.

وعلى العكس فإن الذين يوفون للميثاق الفطري حقه ويستمعون لنداء الالهام الالهي المتمثل في أوامر الوجدان الأخلاقي فانهم يعيشون حياة ملؤها الاطمئنان والهدوء ، وينصرفون من هذه الحياة إلى الحياة الأخرى مع نداء : «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)».

يتطرق الامام (عليه السلام) في ضمن حديث له إلى أوصاف المؤمن الكامل فيقول : « صدق بعهد اللّه ، وفي بشرطه ، وذلك قوله عز وجل : (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) فذلك الذي لا تصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الأخرة » (1).

وفي حديث آخر : « وفى اللّه بالشروط التي اشترطها عليه ، فذلك مع النبيين والصديقين والشهداء ولاصالحين وحسن أولئك رفيقاً ، وذلك ممن يشفع ولا يشفع له ، وذلك ممن لا يصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة » (2).

إطاعة الوجدان الأخلاقي :

إن نتيجة اتباع الميثاق الفطري الأخلاقي هو الهدوء النفسي والسكينة والاطمئنان. إن اتباع الوجدان الأخلاقي يورث الفضيلة والتجلي الروحي وإن الانحراف عن الفطرة يسبب الضلال والفساد. ولقد كان الأنبياء يبذلون الجهود العظيمة التي لا تعرف الملل ولا الكلل ليعرفوا الناس بفطرتهم ويزيحوا الأستار المظلمة للغرائز والشهوات عنها وليحيوا الفضائل الانسانية فيهم. «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ» (3).

إن أيام اللّه هي أيام الخلقة والفطرة ، أيام الايمان والفضيلة ، فكان على النبي موسى (عليه السلام) أن يذكر الناس بتلك الأيام ويعلمهم نعمة الهداية الالهية التي كانت

ص: 272


1- بحار الانوار 15 50.
2- المصدر نفسه ج 15 51.
3- سورى إبراهيم 5.

موجودة فيهم منذ اليوم الأول. فأنتم الذين تسعدون إن اتبعتم أوامر الالهام الالهي ، وتشقون وتعذبون إن خالفتم تلك الأوامر.

إن الوجدان الأخلاقي ثروة إنسانية كبيرة لتحقيق السعادة ، فبالامكان وقاية الناس من الجرائم والمخالفات بإحياء الوجدان الأخلاقي فيهم ، وبذلك يمكن هدايتهم إلى الطريق المستقيم.

ولأجل التأكيد على ما نقول ، نسوق الحادثة التاريخية التالية شاهداً على ذلك :

« قال : سمعت غلاماً بالمدينة وهو يقول : يا أحكم الحاكمين ، أحكم بيني وبين أمي. فقال له عمر بن الخطاب : يا غلام لم تدع على أمك؟ فقال : يا أمير المؤمنين أنها حملتني في بطنها تسعاً وأرضعتني حولين كاملين فلما ترعرعت وعرفت الخير من الشر ، ويميني من شمالي طردتني وانتفت مني وزعمت أنها لا تعرفني. فقال عمر : أين تكون الوالدة؟ قال : في سقيفة بني فلان. فقال عمر : علي بأم الغلام. فأتوا بها مع أربعة اخوة لها. وأربعين قسامة يشهدون لها أنها لا تعرف الصبي ، وإن هذا الغلام مدع ظلوم غشوم يريد أن يفضحها في عشيرتها ، وأن هذه جارية من قريش لم تتزوج قط ، لأنها بختام ربها ، فقال عمر : يا غلام ما تقول؟ فقال : يا أمير المؤمنين هذه واللّه أمي ، حملتني في بطنها تسعاً وأرضعتني حولين كاملين ، فلما ترعرعت وعرفت الخير والشر ، ويميني من شمالي طردتني وانتفت مني وزعمت أنها لا تعرفني ، فقال عمر : يا هذه ما يقول الغلام؟ فقالت : يا أمير المؤمنين والذي احتجب بالنور فلا عين تراه ، وحق محمد وما ولد ما أعرفه ولا أدري من أي الناس هو ، وإنه غلام يريد أن يفضحني في عشيرتي وأنا جارية من قريش ولم أتزوج قط واني بخاتم ربي. فقال عمر : ألك شهود؟ فقالت : نعم هؤلاء. فتقدم الأربعون قسامة وشهدوا عند عمر أن الغلام مدع يريد أن يفضحها في عشيرتها وأن هذه جارية من قريش لم تتزوج قط. وأنها بخاتم ربها. فقال عمر : خذوا بيد الغلام وانطلقوا به إلى السجن حتى نسأل عن الشهود ، فإن عدلت شهادتهم جلدته حد المفتري. فأخذوا بيد الغلام وانطلقوا به إلى السجن. فتلقاهم أمير المؤمنين علیه السلام في بعض الطريق فنادى الغلام : يا بن عم رسول اللّه ، إني غلام مظلوم. فأعاد عليه الكلام الذي تكلم به عمر ثم قال : وهذا عمر قد أمر بي إلى السجن. فقال

ص: 273

علي (عليه السلام) : ردوه إلى عمر ، فلما ردوه قال لهم عمر : أمرت به إلى السجن فرددتموه إلي؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين أمرنا علي بن ابي طالب أن نرده إليك وسمعناك وأنت تقول : أن لا تعصو لعلي أمراً. فبينا هم كذلك إذ أقبل علي (عليه السلام) فقال : علي بأم الغلام ، فأتوا بها فقال علي (عليه السلام) : يا غلام ما تقول؟ فأعاد الكلام على علي (عليه السلام) فقال علي لعمر : أتأذن لي أن أقضي بينهم؟ فقال عمر : سبحان اللّه وكيف لا وقد سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول : أعلمكم علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ثم قال للمرأة : يا هذه المرأة ألك شهود؟ قالت : نعم. فتقدم الأربعون قسامة فشهدوا بالشهادة الأولى ، فقال علي (عليه السلام) : لأقضين اليوم بينكم بقضية هي مرضاة الرب من فوق عرشه. علمينها حبيبي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فقال لها : ألك ولي؟ قالت : نعم! هؤلاء إخوتي. فقال لأخوتها : أمري فيكم وفي أختكم جائز؟ قالوا : نعم يا بن عم محمد ، أمرك فينا وفي أختنا جائز. فقال علي (عليه السلام) : أشهد اللّه وأشهد من حضر من المسلمين أني قد زوجت هذا الغلام من هذه الجارية بأربعمائة درهم والنقد من مالي. يا قنبر : علي بالدراهم. فأتاه قنبر. فصبها في يد الغلام فقال : خذها وصبها في حجر امرأتك ولا تأتنا إلا وبك أثر العرس - يعني فقال : خذها وصبها في حجر امرأتك ولا تأتنا إلا وبك أثر العرس - يعني الغسل - فقام الغلام فصب الدراهم في حجر المرأة. ثم تلببها ، وقال لها : قومي. فنادت المرأة : النار النار يا بن عم محمد أتريد أن تزوجني من ولدي؟ هذا واللّه ولدي ، زوجني إخوتي هجيناً فولدت منه هذا. فلما ترعرع وشب أمروني أن أنتفي منه وأطرده هذا واللّه ولدي ، وفؤادي يتغلى أسفاً على ولدي ، قال ... ثم أخذت بيد الغلام وانطلقت ، ونادى عمر : واعمراه لولا علي لهلك عمر » (1).

الاستفادة من الوجدان :

إن التزوج بالأم قبيح ومذموم في الضمير الباطن ، وفي الوجدان الأخلاقي التربوي للناس ، ولقد استفاد الامام علي (عليه السلام) في مقام القضاء ولكشف الواقع من قوة الوجدان ، واكتشف ضمير المرأة ، وحملها على الاعتراف بالواقع الذي حاولت إخفاءه ، وإذا كان الوجدان الأخلاقي التربوي مؤثراً لهذا الدرجة في الوقاية من

ص: 274


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 40 304 - 306.

الانحراف فمن البديهي أن تأثير الوجدان الأخلاقي الفطري الذي هو جزء من الفطرة الانسانية في إصلاح المجتمع أشد وأعمق.

فمن الضروري أن يستفيد القائم على تربية الطفل من الوجدان الفطري له منذ البداية ويحيي الميول الالهامية فيه ويقيم التربية على أساس الفطرة. وطبيعي أن تربية كهذه ستبقى ثابتة على أساس الفضيلة والطهارة.

* * *

ص: 275

المحاضرة الثانية عشرة: الاختبار النفسي

اشارة

قال اللّه تعالى :

«لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)» (1).

لقد تطرقنا في المحاضرة السابقة إلى قصة الأم التي أنكرت ولدها الحقيقي ، وقد إستند الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى قوة الوجدان الأخلاقي في مقام القضاء ، واكتشف الضمير الباطن للمرأة وجعلها تقر بأمومتها ولما للاختبار النفسي والوصول إلى الأسرار الباطنية من أهمية كبيرة في البحوث النفسية والتربوية فأننا نخصص بحثنا في هذه المحاضرة لذلك.

العقدة النفسية :

هناك بعض الأسرار التي توجد عقدة في باطن الاشخاص حيث لا يمكن اكتشافها من جهة ، وإن كتمانها يسبب القلق والاضطراب من جهة أخرى وهي تجعل الحياة أحياناً مرة وجحيماً لا يطاق ، وأحياناً تسبب أمراضاً نفسية. إن السبيل الوحيد للعلاج منحصر في اكتشاف ذلك السر المكتوم وحل تلك العقدة وهذه مهمة شاقة جداً.

الضمير الباطن والظاهر :

ولا يضاح معنى الضمير الباطن والضمير الظاهر من زاوية علم النفس نجد من الضروري أن نمثل لهما بمثال : تصوروا أسرة متوسطة مسلمة عاشت حياتها في طهارة وشرف ، فالزنا والاستهتار يعدان عملا شنيعاً في أنظار أفراد الأسرة. ولم يسبق لهم أن دنسوا أذيالهم بتلك الجريمة. تتعارف فتاة من هذه الأسرة مع شاب

ص: 276


1- سورة القيامة 1-2.

بصورة سرية ، وبعد عدة لقاءات عادية يتفقان على أن يقضيا نهاراً كاملاً معاً. تخرج الفتاة بحجة التذاكر في الدروس والذهاب إلى بيت إحدى زميلاتها وتذهب مع رفيقها للنزهة إلى ( سد كرج ) ، يتنزهان لساعتين أو ثلاث ، ويتلذذان بمشاهدة المناظر الطبيعية الجميلة ... وعند الظهر يذهبان إلى بيت ما للاستراحة وتناول طعام الغذاء. المحيط الهادئ وانعدام الرقيب عليهما يهيجان عواطف الشباب و - بصورة موجزة - ينال وطره من الفتاة. وبالرغم من أن الفتاة لم تكن تملك فكراً هادئاً من أول الصباح وكانت تحس بالقلق في باطنها ، لكن فقدان بكارتها سبب لها انهيار شديد ، ولكن الآوان قد فات ، وقد وقع ما كان واجباً أن لا يقع. وعند المغرب يرجعان إلى المدينة. كان غياب الفتاة هذا اليوم للمطالعة والتذاكر العلمي في الظاهر ، ولكن قد وقع في الباطن اتصال غير مشروع. إن الفتاة تحس باضطراب شديد من جراء عملها هذا ، وتشعر بأن شرفها مهدد بالخطر ، فإن أفشي سرها فإن ذلك سيجر لها فضيحة عظيمة. إنها تفكر ، وتخطط ، وتصمم في النهاية - خلاصاً من الفضيحة - أن لا تتزوج مدى العمر وتحتفظ بهذا السر ة تصحبه معها إلى القبر ، ولتنفيذ خطتها هذه تبدأ بالتمهيد للموضوع ، تتحدث عن مشاكل الزواج أحياناً. ثم لا يمضي بضعة أشهر حتى يجيء إليها من يطلب يدها. الفتاة تختفي عن الخاطبات ، وتخبر أبويها وأفراد أسرتها عن امتناعها عن الزواج وتتحدث عن تصميمات دائماً : لا أتزوج ، الرجال غير أوفياء ، لا يوجد رجل في مجتمعنا. لماذا أتزوج؟ لماذا أرمي بنفسي في دوامة المشاكل والآلام؟ وما أكثر الفتيات اللاتي تزوجن ورجعن بعد عدة أشهر إلى بيوت آبائهن ، حوامل ، وقضين حياة ملؤها الكدر والأسى. إني لا أرمي بنفسي في هوة الشقاء والتعاسة أبداً! وتكثر من الحديث عن أمثال هذه القضايا وتستشهد ضمناً بحياة بعض الفتيات ، ولكنه يوجد في باطن الفتاة ضمير مستتر آخر تكتمه عن كل أحد. ولكنها حين تختلي بنفسها أو تذهب إلى الفراش تتحدث إلى نفسها : ما أشأم ذلك اليوم! لماذا ألقيت بنفسي في هذه المخاطر؟ كيف أديت بنفسي إلى الشقاء والتهلكة كيف أعيش عمري وحيدة محرومة من لذة الحياة الزوجية؟ تتحدث مع نفسها عن الماضي دائماً وتظهر الندم والأسف باستمرار ، وقد تهمي الدموع لذلك!!! ..

ص: 277

يوجد في باطن هذه الفتاة ضميران : أحدهما ظاهر. والآخر ضمير باطن. لقد رتبت الأحاديث في ضميرها الظاهر وأينما جلست تتحدث قائلة : لا أتزوج ، الرجال غير أوفياء ، لا يوجد رجل في مجتمعنا أصلاً ، لا أسبب الشقاء لنفسي ، وما شاكل ذلك من الأحاديث ... أما في ضميرها الباطن فتوجد أشياء لا ترضى بأن تخبر عنها أحداً. وهي المطلعة عليها فحسب. لماذا خرجت للنزهة؟ لماذا عاشرت رفيق السوء؟ لماذا أشقيت نفسي مدى العمر؟ وما شاكل ذلك ...

رقابة الضمير الباطن :

ولأجل ألا يطلع شخص على أسرار ضميرها الباطن ، فان الفتاة تراقب حراكاتها وألفاظها تماماً ، وتتكلم بكل حيطة وحذر ، وتنفر من الكلمات التي ترتبط بسرها ، وتحاول أن لا تستعملها في أحاديثها أصلاً ومثلاً على ذلك فانها تتألم وتتنفر من كلمات ، السد ، كرج ، البحيرة ، المحركات ، الجسر ، البساتين ، وتتجنب ذكرها دائماً ، وعلى ما يقول علماء النفس فان ضميرها الظاهر يضع ضميرها الباطن تحت رقابة شديدة.

تمر سنة أو سنتان على هذا الوضع ، ولكن القضية تكسب لوناً جديداً بالتدريج. فمن جهة تصاب الفتاة - على أثر الضغط الروحي الدائم ، والألم الباطن ، والاضطراب والأرق - بالاضطراب الفكري ، والانزجار النفسي ، وتفقد طاقتها بالتدريج. ومن جهة أخرى فان والديها وأسرتها يرون هذا الوضع الشاذ نتيجة عدم الزواج ، ويلحون عليها في أن تتزوج وتنهي كلماتها الباطلة. وهكذا تؤدي هذه المجموعة من العوامل الداخلية والخارجية إلى أن تصاب الفتاة بمرض روحي وتصاب بالجنون في النهاية. يراجع أهلها الطبيب ، ولكن المرض يشتد يوماً فيوماً ، وإن الطريق الوحيد للعلاج هو اكتشاف السر الذي تعرفه الفتاة فقط ، وهي غير مستعدة لا فشاء ذلك السر بأي ثمن كان.

إن اكتشاف الضمير الباطن للفتاة ، والوصول إلى سرها الذي يقع تحت رقابة شديدة مهمة شاقة جداً ، ويجب الاستفادة من بعض الآثار والعلامات التي تنبع من أعماق روحها في حالات خاصة.

ص: 278

« يجب لهذا العمل التصدي لاكتشاف الشواهد والامارات وكما يمكن أن نتوصل إلى وجود حيوان عظيم يسبح تحت ماء المحيط المظلم المتراكم ، من بعض حركات الماء أو الارتفاع الموقت في سطح الماء ، فلا بد من ممارسة ودقة كثيرتين للاستفادة من بعض الظواهر الموقتة في كشف بعض الأسرار ، وأخيراً فبالامكان أن يترصدوا - بكل صبر وتحمل - اللحظة الخاطفة التي يفقد المصاب وعيه ويكشف عن السر عندما لا يحس بأي رقابة عليه » (1).

طرق اكتشاف السر الباطن :

يمكن الاستفادة من بعض الوسائل العديدة في الوصول إلى اكتشاف الأسرار الباطنية للأشخاص ، ما عدا التعذيب فانه عمل غير إنساني ، وإليك بعض المنماذج :

1 - لقد وجدنا - في المحاضرة السابقة - كيف استفاد الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوة الوجدان وقبح التزوج مع الابن ، في اكتشاف سر المرأة ، إذ أجبرها على أن تعترف بأمومتها بصراحة وتعلن الأساليب الشاذة التي ارتكبتها لانكار ذلك.

2 - القصة المعروفة التي جرت بين ( ابن سينا ) والمريض بمرض العشق : لقد حضر ابن سينا عند مريض كان يخفي في ضميره عشقاً شديداً لا يستطيع إظهاره ، أخذ نبضه في يده وطلب ممن كان يعرف أسماء محلات المدينة أن يذكرها واحدة بعد الأخرى ، وعندما وصل إلى إسم إحدى المحلات أخذ نبض المريض يدق بسرعة شديدة. فأمر ( إبن سينا ) أن يذكر أسماء أزفة تلك المحلة. ولقد أدى ذكر اسم أحد الأزقة إلى الاسراع في نبض المريض. وأخيراً طلب أن يذكر له أسماء البيوت التي في ذلك الزقاق. وأسماء الساكنين في تلك البيوت ، حتى جاء ذكر فتاة ، فاشتد نبض المريض بصورة فائقة .. وهناك توجه ( إبن سينا ) إلى الحاضرين وقال لهم : إن هذا المريض يعشق فتاة ذلك البيت وأغرم بها. لقد توصل ( إبن سينا ) إلى

ص: 279


1- فرويد ص 34.

اكتشاف سر المريض عن طريق دقات نبضه واكتشف عشقه وغرامه لتلك الفتاة (1).

3 - يمكن إخضاع المريض للتنويم الاصطناعي ، وإجباره على إفشاء أسراره الباطنية بعد سلب إرادته واختياره.

4 - تغير سحنات الوجه : فمن الممكن التوصل إلى الأسرار الباطنية عن طريق ملاحظة التغيرات الطارئة على سحنات الوجه والحركات غير الاعتيادية التي تصدر منهم في بعض الأحيان. فمثلاً يقرأ أحد أفراد الأسرة صحيفة بصوت عال والكل يصغون إليه ، ويصل في الأثناء إلى حادثة فتاة أغفلها شاب وفعل معها كذا وكذا. إن جميع أفراد الأسرة يتلقون الحادثة بصورة اعتيادية تماماً ويتعجبون منها أو يتأثرون بالمقدار العادي ، ولكن الفتاة الآنفة الذكر التي أغفلت وفقدت شرفها وعفافها تضطرب عند سماع القصة المشابهة لقصتها ، ويمتقع لونها ، وتصاب بالقلق والذهول ، لا ترغب في سماع القصة ، ولكيلا يطلع الآخرون على قلقها واضطرابها تظهر بمظهر الغافلة عن الحادثة ، وتشغل نفسها بشغل آخر في ذلك الوقت ، أو تنادي طفلة جيرانهم بصوت عال ، وبصورة موجزة فانها تحاول أن تتظاهر بأنها غير مصغية للصحيفة وتتشاغل بشغل آخر ، وهي غافلة عن أن هذه الأعمال إنما هي علائم وضعها الشاذ ، وهي تكشف بذلك قلقها الباطن.

الخلاصة : إن تغير سحنات الوجه والقيام بالحركات غير الطبيعية والمرتبكة ، من أهم وسائل اكتشاف أسرار الأشخاص وضمائرهم الباطنة.

أما فرويد :

لقد استند فرويد لاكتشاف أسرار الأشخاص ، إلى طريقين أكثر من غيرهما ، وهما : الكلمات أو الأفعال التي تصدر في غير محلها ، والتي تقع سهواً ومن دون إرادة ، والأحلام وتفسيرها.

لقد ظن بعض علماء الغرب أن فرويد أول من استند إلى فلتات اللسان ، وتفسير الأحلام في الوصول إلى الضمير الباطن وربما يقع بعض الباحثين في بلادنا أيضاً في

ص: 280


1- دائرة معارف دهخدا الفارسية - مادة ( أبو علي ) ص 644.

نفس الخطأ ، في حين أن الاسلام سبق فرويد إلى العمل بهما. وقد ذكرت تطبيقات عليهما في بعض الكتب الدينية. هذا مضافاً إلى أن نظرية فرويد حول تفسير الأحلام ناقصة وغير ناضجة. أما نحن فسنحاول أن نتكلم في هذه المحاضرة بشيء من الاسهاب والوضوح حول الموضوع.

فلتات اللسان :

ولأجل أن يتضح دور فلتة اللسان في فضح أسرار الانسان ، نستشهد بنفس قصة الفتاة. لما كانت الفتاة تحمل في داخلها خاطرة سوداء وذكريات مرة عن حادثة ( كرج ) وتخاف من انفضاح أمرها بشدة ، فهي تصمم على أن لاتتحدث عن ( كرج ) ولا عما شاهدته هناك. وتلاقي لذلك عنتاً شديداً وتراقب نفسها دائماً. ويصادف أن تذهب إلى زيارة عمها بصحبة أبويها ، وذلك بمناسبة عودته من زيارة الامام الرضا (عليه السلام) بخراسان. وتذهب العشيرة كلها بصورة تدريجية لزيارته ، الغرفة مكتظة بالزائرين ، والكل يباركون قدوم الزائر الجديد. وعلى الفتاة أن تتكلم بكلمة أو كلمتين وتحيي عمها بذلك ، وفي اللحظة المناسبة ، وعندما يلتفت عمها نحوها ترفع صوتها وتقول مع كمال الأدب : لقد شرفت يا عمي العزيز ، أهلاً وسهلاً بك ، قرت الأعين بك ، تقبل اللّه الزيارة أرجو أن تكون قد استأنست كثيراً بزيارة ( كرج ). العم يبتسم ، ثم يتشكر منها ولكنه يقول : أنا لم أذهب إلى كرج بل كنت ذاهباً إلى مشهد ، وهنا تضطرب الفتاة وتحس بارتباك شديد وتعتذر من خطأتها. إن الاتيان بكلمة ( كرج ) بدلاً من ( مشهد ) يمكن أن يعد أمراً اعتيادياً جداً في أنظار الناس ، وربما يحمل الأمر عندهم على خطأة لفظية ، ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى عالم نفساني. فإن لكلمة ( كرج ) التي فلتت من لسان الفتاة جذوراً في نفسها. فيجب البحث عن منشأ هذه الكلمة ، خصوصاً وأن الفتاة قد تغير لونها وارتبكت بعد أن عرفت أنها أخطأت فإن عينيها المضطربتين ووضعها المرتبك يكشفان عن بركان ثائر في باطنها.

قد تنبعث من النار المستورة بالرماد شرارة ترشدنا إلى أن في قلب الرماد ناراً ، وإن فلتان اللسان والحركات غير الارادية تشبه الشرارة المنبعثة من باطن الرماد والتي يمكن الاستناد اليها في الوصول إلى الضمير الباطن.

ص: 281

« من المتاهات التي أخضعها فرويد لبحوثه في بدء اختراعاته هي الأفعال الساهية ، إن المراد من الأفعال الساهية في اصطلاح النفسيين ، هو الأفعال التي تصدر من الانسان وهي فاقدة للأهمية في بداية الأمر. كالاشتباه في استعمال الألفاظ أو العبارات. إن علم النفس القديم كان يعزو - عبثاً - هذه الاشتباهات وهذا النوع من السهو في الكلام إلى الصدفة والتعب الفكري ، والذهول وعدم الدقة. أما فرويد فلم يكتف بهذه الايضاحات وأخذ يبحث بدقة أكثر ، لماذا ينفضح الذهول؟ وما معنى الذهول أصلاً؟ أليس سوى ظهور الأفكار والتوجيهات التي لا يراد لها الظهور في وقت ما؟ لماذا لا يقع عمل إرادي ، ويقع بدلاً منه عمل من دون أن يريده شخص؟ نحن نفكر ، نريد أن نتكلم وفجأة نعبر بعبارة أخرى غير التي كنا قد أعددنا لها في أذهاننا لماذا؟ لا بد من ميكانيكية تجعلنا نتقوه بكلمة بعيدة عن ذهننا تماماً بدل الكلمة التي نريد استعمالها كقطعة النقد الزائفة. لا بد من وجود ميكانيكية خاصة توجد انحرافاً في خواطرنا في نفس اللحظة التي نريد أداء الكلمة المقصودة ».

« إن العمل العابث ليس كما تظن الغالبية عملاً ناشئاً من الذهول والارتباك في التفكير ، بل إنه أحد الموارد التي تظهر فيها الفكرة المكبوتة من أعماق عالم اللاشعور. هذه الأخطاء إنما هي نماذج مما تحاول الارادة الشعورية إخفاءه بصورة دائمة ».

« من هنا يستنتج : أن العمل العابث والساهي يفضح أمر صاحبه دائماً تقريباً » (1)

إن الفتاة كانت تريد أن تقول ( مشهد ) ولكن فلتت على لسانها كلمة ( كرج ). ومع الانتباه إلى سوابق الفتاة وأنها تعيش حياتها في اضطراب وتشويش بال لفترة غير قصيرة ، وأنها مصابة بمرض نفسي وتبتعد عن الزواج وعن ذكره فان الاتيان بتلك الكلمة أمر يسترعي الانتباه فباستطاعة الوالدين أن يكتشفا ضميرها الباطن ويطلعان

ص: 282


1- فرويد ص 35.

على سرها المكتوم. ولقد ظن البعض أن فرويد هو أول من التفت إلى هذه النكتة مستعيناً بفلتات اللسان في الوصول إلى كشف الأسرار. يقول ( فليسين شاله ) في موضوع السهو ، ولاشتباه ، ما يلي :

« إن فرويد ينسب إلى جميع هذه الأفعال التي تعتبر لأول وهلة محرد مصادفة واعتيادية ، طابعاً لم يتوصل إليه فكر أحد ، ويكتشف في وراء تلك الأفعال عن قضايا مخبوءة أو استياء ، أو ميل نحو أمر مضاد » (1).

لقد صرح الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذه الحقيقة النفسية في كمال الوضوح حين قال : « ما أضمر أحد شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه » (2).

يمثل فرويد للكلام الساهي العابث بمثال ننقطه نصاً :

« يقف معلم في حصة الانشاء بالنسبة إلى موضوع إنشائي أعده أحد تلاميذه. على سبيل التمجيد به ، ويقول خطأ : ( لا أعلم كيف اذم! ) إن المعلم بحسب فحواه الارادية وأفكاره الشعورية لما كان في مقام التمجيد فلا بد أنه كان يريد أن يقول : ( أمدح ). ولكنه لما كان عالماً بتفاهة الموضوع الانشائي الذي كتبه التلميذ فكان مقصوده متوجهاً نحو ( المذمة ) نفسها. وعلى هذا فان فلتة المعلم في كلامه كشفت عن نيته الأصلية والباطنية تلك النية التي كان يريد أن يسترها بإرادته الشعورية لمبررات خاصة ويظهرها في صورة المدح والتمجيد. وفي الحقيقة فانه في حين ارتكاب تلك الخطأة قد عبر عن عقيدته التي كان يبطنها ، ولكنه كان يتفادى ظهورها » (3).

وإذا حاول أحد أن يختصر هذه العبارة ، ويوجز هذا النص فلن يستطيع أن يأتي بأجمع وأشمل من كلام الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) . فسلام على روح طاهرة من إمام

ص: 283


1- فرويد وفرويديسم ص 48.
2- نهج البلاغة ص 518.
3- فرويد ص 37.

كشف كثيراً من الحقائق العلمية قبل أربعة عشر قرناً في عبارات قصيرة وجمل مفيدة.

لقد أخطأ ( فليسين شاله ) حين ادعى أن هذا الموضوع لم يخطر ببال أحد حتى زمان فرويد ، وإن حديثه لا يستند إلى بحث علمي متين فليس ( فرويد ) أول من تنبه إلى فلتات اللسان. لقد سبقه إليها قائد الاسلام العظيم في عبارة قصيرة جداً بكل صراحة ، وأوضح دورها في كشف الأسرار المخبوءة.

هناك أحاديث أخرى في الكتب الدينية في هذا الموضوع. وبالرغم من أنه لم يصرح فيها بالكلمات الساهية وفلتات اللسان ، إلا أنه يمكن استفادة هذا الموضوع منها ، يقول الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) : « إن أحببت سلامة نفسك وستر معايبك ، فأقلل كلامك ، وأكثر صمتك » (1) إن الانسان لا يكشف عن عيوبه الباطنية مع إرادته واختياره أبداً ، ولكنه حين يثرثر فقد تفلت من بين كلامه - ودون اختيار أو قصد - بعض أسراره وعيوبه ، وكذلك ورد عنه (عليه السلام) : « قلة الكلام تستر العوار ، وتؤمن العثار » (2). ويقول الامام الجواد (عليه السلام) راوياً عن جده : « المرء مخبوء تحت لسانه » (3) أي أن اللسان يستطيع أن يكشف سر الانسان إما عمداً أو سهواً.

وعن الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) : « إياك وفضول الكلام فإنه يظهر من عيوبك ما بطن ، ويحرك عليك من أعدائك ما سكن » (4).

الأحلام وتفسيرها :

إن الطريقة الثانية التي اعتمد عليها فرويد كثيراً في اكتشاف الضمير الباطن هي تفسير الأحلام , ولقد كانت توجد - ولا تزال - عقائد مختلفة في الماضي والحاضر حول الأحلام. ولقد تطرق فرويد نفسه في كتابه ( تفسير الأحلام ) ، وكذلك كل من كتب عن نظريات فرويد ، إلى بيان آراء العلماء الآخرين ونظرياتهم في هذا الموضوع

ص: 284


1- غرر الحكم ودرر الكلم طبعة دار الثقافة. النجف الأشرف ص 274.
2- المصدر السابق ص 537 .
3- بحار الأنوار ج 17 101.
4- غرر الحكم ودرر الكلم ص 155.

بإسهاب. ولأجل أن يتض الموضوع للمستمعين الكرام ، نرى لزاماً أن ننقل بعض العبارات من تلك النظريات المختلفة هنا :

« كان المعروف فيما مضى أن الأحلام تلهم إلى النفوس بواسطة قوة فوق طاقة الانسان. كانوا يعترون منشأ الالهام وجوداً غير أرضي ، وخارجاً عن طاقة الانسان ، وحيث كانوا يعتبرون المظهر لكل إرادة خارجة عن قدرة الانسان الخارجة عن الأرض متمثلاً في الآلهة ، اضطروا لاعتبار الأحلام نوعاً من الظهور الجسماني لارادتهم ، حيث كانوا يبشرون الأفراد بالخير والأمل أو يتنبأون لهم بوقوع المآسي والحوادث المؤلمة. وبالتدريج فقد برز الكهنة في تأويل إشارات الحلم الغامضة ، وتفسير أسراره الدقيقة ، ومن هنا صار علم تفسير الأحلام من العلوم البدائية في المجتمع الانساني ، علماً له أهمية في الحياة اليومية الناس : لأن الكهنة على خلاف علماء النفس المعاصرين الذين يسعون في تفسير الأحلام إلى البحث عن حياة الانسان الماضية ، كانوا يعملون في تفسير الأحلام على اصطناع أخبار عن المستقبل على لسان الآلهة ونشرها » (1). إن بعض الفلاسفة لم يبتعدوا كثيراً عن طريق الكهنة في تفسير الحلم على ضوء عالم ما وراء الطبعية ، ويقولون بأن منشأ الحلم هو نشاط خاص للروح التي تصعد إلى العالم الأعلى كما يقول ( شوبر ) : إن النوم عبارة عن انطلاق الخاطر عن قيد العالم الخارجي وخلاص الروح من أسر المادة » (2).

« أما الأطباء الذين يكتبون حول الأحلام فانهم - بخلاف الفلاسفة - لا يعتبرون الحلم عملاً روحياً. بل يرون أن صور الأحلام هي نتاج حركات الجسم والحواس التي تصل من العالم أو من اختلاج الأعضاء الباطنية إلى النائم وعلى هذا يجب اعتبار الحلم أمراً تافهاً

ص: 285


1- فرويد ص 38.
2- تفسير الأحلام تأليف فرويد ص 4.

شبيهاً بلحن يخرجه انسان لا يجيد الضرب على الالة الموسيقية ، كما يقول ( بينز ) : إن الحلم عمل جسماني ، تافه دائماً ، وناشىء من المرض في الغالب. يقولون : إن العوالم الخاصة بالأحلام هي نتاج النشاط المشوش للأفكار اليقظة في دماغ الشخص النائم. والمتحركة على أثر الحركات الجسمانية » (1).

« يرى فرويد أن الحلم برزخ بين حياتنا المخفية وحياتنا المعقولة والمنطقية. ولهذا فاننا إذا دققنا البحث ونظرنا إلى الموضوع من قريب أمكننا أن نصل إلى نتائج مهمة ».

« ويرى فرويد أنه لا يمكن اعتبار أي حلم عبثاً وباطلاً وبغير معنى ، بل وعلى العكس من ذلك لما كان نتيجة عمل روحي فلا بد أن يكون له معنى ومفهوم خاص. وفي النهاية فليس الحلم مظهراً من إرادة فوق طاقة البشر بل إنه نموذج عن الارادة المخفية للانسان » (2).

الاسلام والأحلام :

إن الروايات الاسلامية لا تنظر إلى جميع الأحلام نظرة واحدة ، بل إنها تقسم الأحلام إلى ثلاثة أقسام : قسم منها عبارة عن الأفكار العادية أو الأسرار المخفية للانسان ، التي تظهر بنفسها أحياناً. أو تظهر بصورة أخرى أحياناً لعلل خاصة. هذا النوع من الأحلام فقط هي التي لها قيمة علمية عظيمة في نظر التحليل النفسي وعلماء النفس ، وبواسطتها يمكن الوصول إلى الضمير الباطن للأشخاص ، وتعيين الجذور الأصلية للأمراض الروحية.

والقسم الثاني من الأحلام ، عبارة عن الأفكار المشتتة والمضطربة التي تتطرق إلى ذهن الانسان في اليقظة أحياناً ، وخصوصاً في حالات المرض ولا قيمة علمية ونفسية لها ، وقد عبر عنها ب- « أضغاث أحلام » أو الأفكار الشيطانية.

ص: 286


1- المصدر السابق ص 5.
2- فرويد ص 39.

والقسم الثالث هو الأحلام التي لها جانب الهامي ، والتي ينكشف بواسطتها بعض الحقائق المجهولة من كل جهة.

يقول الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « الرؤيا ثلاثة : بشرى من اللّه ، وتحزين من الشيطان ، والذي يحدث به الانسان نفسه فيراه في منامه » (1).

التحليل النفسي قبل فرويد :

ليس مقصودنا من هذا البحث ، الحديث عن الرؤيا وتفسيرها ، بل إن مرادنا هو بيان أن قسماً من الأحلام هي التي تكشف أسرار الانسان وتفضح الضمير الباطن للأفراد ، ولنثبت أن هذا الموضوع ليس من اختراعات فرويد ، بل إن أولياء الاسلام وبعض علماء المسلمين قد سبقوه إلى ذلك :

ولأجل أن يتنبه المستمعون الكرام في بداية الحديث إلى هدف البحث نستشهد بمثال من قصة الفتاة المخدوعة :

لقد أوردت الحادثة المزعجة والمكتومة ضربة قاضية نحو شرف الفتاة وعفتها ، فقد أغفلها شاب في ( كرج ) وأزال بكارتها والفتاة لم تذكر هذا السر لأحد بل احتفظت به في ضميرها الباطن. وفي عالم الرؤيا يريد ذلك السر أن ينكشف ولكن الفتاة لم تكن في حال اليقظة مستعدة لأن تكشف ذلك السر لأحد ، وكان ضميرها الظاهر مخضعاً ضميرها الباطن للرقابة الشديدة ، فهي في حالة النوم كأنها تدرك تلك الفضيحة ، لكن قوة مجهولة لا تسمح بأن تنكشف المخزاة بلا ستار لذلك فان صورة الحقيقة المرة تتبدل ، وتظهر بمظهر غير مخز تماماً.

« إن حلم الشخص البالغ مخفي خلف آلاف الأستار من الكذب والتزوير والأخلاق والقوانين والأنظمة الاجتماعية وإن هناك نوعاً من ( فوق الأنا ) تراقب أفعال الشخص ولو في عالم الرؤيا. لهذا فان الانسان يرتكب جريمته في الحلم خلف ستار من ( فوق الأنا ) فيخفي نفسه عن نفسه ، وفي عالم كهذا حيث يتم كل شيء بالنكاية والاستعارة وإخفاء الحقائق وراء أقنعة عديدة فان التعبير الصحيح

ص: 287


1- بحار الأنوار ج 14 441.

والبسيط والمجرد عن الأقنعة لا يمكن أن يظهر أصلاً في الضمير الانساني ».

« في أحلام الشخص البالغ تريد بعض الأحاسيس أن تخرج إلى الوجود ، ولكنها لا تملك الجرأة على الخروج بذلك المظهر بصورة صريحة حرة ، بل إنها تراقب ( فوق الأنا ) الأخلاقية والاجتماعية ، وتضطر إلى أن ترسل التنبؤات المختلفة والصور الخداعة والمتباينة إلى ضميرنا » (1).

ولهذا فإن منتزه ( كرج ) وغرفة الدار ، وصورة الشاب الذي خدعها والعمل المنافي للشرف والعفة ، وبصورة موجزة فان القصة الحقيقية للجريمة لا تأتي إلى خاطر الفتاة في الحلم. وعلى فرض أنها رأت حلماً كذلك فانها لا تخبر أحداً به ، ولكنها ترى في الحلم أنها في بستان كبير متعلقة بغصن شجرة ، وتحت قدميها هوة سحيقة ومظلمة مليئة بالوحل والطين ، وهي مضطربة لأجل ذلك وتخاف من أن يفلت الغصن من يدها وتسقط في الهوة ولكنها تقع في ما كانت تحذر منه ويفلت الغصن من يدها فجأة وتسقط في تلك الحفرة المظلمة وتتحطم وسط الأوحال!.

تحرير الضمير الباطن :

هذا الحلم هو مظهر الضمير الباطن ، وانعكاس لتلك القصة الواقعية التي كانت تخشى الفتاة من إظهارها ، مع فارق بسيط هو أن القصة نفسها لما كانت مخزية وقبيحة فإن لباسها يتغير ، وتتبدل صورة الاتصال الجنسي بشاب أجنبي إلى شكل التعلق بغصن شجرة ، ويبدو التردي الاجتماعي الناشىء من ذلك الاتصال فى إطار السقوط في الوحل.

« هناك رابطة العلية والمعلولية بين ظلمة صور الأحلام وحالة الكبت النفسي. والنتيجة أنه إذا كان الحلم مظلماً فذلك لأن طائفة من الأفكار الباطنة والمكبوتة قد منع الوجدان من ظهورها » (2).

ص: 288


1- فرويد ص 43.
2- تفسير الأحلام ، تأليف فرويد ص 71.

هذا الحلم يبدو - في نظر الأفراد العاديين - تافهاً لا قيمة له ، ولكن الذي يستطيع تفسير الأحلام وتحليلها يرى في هذا الحلم مفتاحاً لمخزن أسرار الفتاة ، وبذلك يتمكن من اكتشاف الضمير الباطن لها.

لقد أعطى فرويد أهمية كبيرة للحلم وتفسيره من حيث الوصول إلى الضمير الباطن ، وإن قسماً كبيراً من مدرسته في التحليل النفسي أشغله هذا الفصل. وقد قوبل هذا لموضوع بأهمية بالغة في أنظار طائفة من الغربيين وكتبوا حوله البحوث المطولة ، ظانين أن ( فرويد ) هو أول من تنبه إلى هذا الأمر. واليكم بعض النماذج :

« إن تفسير الأحلام هو الطريق الصحيح للوصول إلى الضمير الباطن في الحياة النفسانية ، ويمكن ملاحظة هذه المعادلة الغامضة في أول أثر لفرويد حول الحلم. إنه ربط ظهور الأحلام في إحدى كتاباته التي انتشرت في الشطر الثاني من حياته بالتحليل النفسي. هذا العلم الحديث لم يوجد قاعدة أساسية أو أدق قابلية للقياس مع أصول الأحلام. إنه أرض مجهولة تنشأ من العقائد العمومية والتصرف » (1).

« إن الحلم عبارة عن نوع من الاعتراف ، لكنه اعتراف مصحوب بلحن مناسب ، وعلى هذا يجب تصحيحه. هذه الأفكار المختفية تسلط - فور اكتشافها - أضواء ساطعة على جميع أجزاء الحلم. وتكمل النقائص الموجودة بين تلك الأجزاء وتجعل المجموعة الاعتيادية منها قابلة للفهم. هذا هو الأسلوب الذي يتبعه فرويد في تفسير الأحلام » (2)

« أما الموضوع الأساسي فهو : أنه كيف نستطيع أن نرسو في هذا البحر الخضم المتلاطم؟ كيف نبسط شيئاً لا يرى بصورة واضحة تماماً؟ كيف يستطيع البصيص الضعيف الذي يظهر على صفحة الحلم المظلمة لبضع لحظات أن يكشف عن حقيقة خفية وغامضة

ص: 289


1- فرويد وفرويديسم ص 58.
2- المصدر السابق ص 61.

تماماً؟ إن اكتشاف هذه الرموز والوصول إلى هذه الأسرار الخفية والمبهمة تحتاج إلى فراسة وذكاء من شخص ساحر ماهر ، أو مخبر عن الغيب ، فريد في نوعه ».

« أما فرويد فبدون أن يتشبث بالسحر أو يعرف نفسه كمطلع على الغيوب ، يوجد في أعماله رمز لا يقف في سبيله رادع أو مانع. إن سر نجاح فرويد يكمن في أنه يبدأ في حل أغمض الأسرار من أبسط المقدمات » (1).

يستفاد من هذه العبارات مدى اهتمام الغربيين بفرويد وأساليبه في تفسير الأحلام ... ومدى تأثرهم بوجهات نظره.

التحليل النفسي في الاسلام :

لقد وجد في الاسلام بالضافة إلى التفسيرات التي أدلى بها الأئمة علیهم السلام عن بعض الأحلام أحياناً ، أفراد عاديون كانوا يستطيعون اكتشاف الضمير الباطن للأشخاص ، والوصول إلى أسرارهم عن طريق تفسير أحلامهم. هؤلاء لم يكونوا ساحرين ، ولا مدعين للعلم بالغيب ، بل انهم كانوا أشخاصاً عاديين تماماً ، ولكن أذكياء في نفس الوقت. وأن بعض نماذج تفسيرهم للأحلام مهمة وراقية إلى درجة أنه قلما نجد لها مثيلاً في جميع كتب علم النفس في العصر الحديث.

من الأشخاص الذين اشتهروا في تفسير أحلامهم ( إبن سيرين ) لقد بدأ التحليل النفسي عن طريق الحلم قبل ثلاثة عشر قرناً ، وأوضح الحقائق الغامضة الكثيرة عن هذا الطريق « إسمه محمد ، وكان معاصراً للحسن البصري. وكان أبوه ( سيرين ) صفاراً » (2).

وقبل أن نعرض لبعض النماذج عن تفسير الأحلام في الاسلام من وجهة التجليل النفسي ، لا بد من أن نتطرق إلى نكتتين :

ص: 290


1- فرويد ص 41.
2- قاموس دهخدا الفارسي ص 321 - إبن سيرين.

أ - ربط الحلم بالعواطف :

إن العواطف الدينية والثقافة العامة تختلف في كل أمة عن غيرها من الأمم ، فهناك فرق شائع بين مشاعر فرد مسلم متعرف على تعاليم القرآن الكريم ، وبين ياباني بوذي ... وطبيعي أن تكون أحلام المسلم ممتزجة بالعواطف الاسلامية والمشاعر القومية له ، وأن تظهر أحلام الياباني البوذي في صور متناسبة مع اعتقاداته القومية والدينية.

والشخص المفسر للأحلام يستطيع أن يقوم بمهمته بصورة جيدة ، متى ما كان عارفاً بالعواطف الدينية والثقافة القومية للشخص الحالم. ولهذا فان المفسرين الاسلاميين للأحلام ، يستندون إلى الآيات القرآنية والأحاديث الدينية التي تستند إليها عواطف الناس ومشاعرهم.

« يعتقد فرويد أن الذين يكونون على مستوى واحد من الثقافة يستعملون إشارات وعلائم متشابهة في معالم الوجدان الباطن لهم ، ويجب اكتشاف هذه الاشارات والرموز من خلال أحلامهم » (1).

ب - الرموز والكنايات في الحلم :

غالباً ما لا يسمح الادراك الوجداني للقبح ، والنفور الاجتماعي ، أو الأخلاق والآداب العامة في ظهور محتويات الضمير الباطن بالصورة الحقيقية في الحلم ، لذلك فان الأفكار المخفية تظهر في صورة المظاهر المختلفة وعلى شكل رموز أو كتابات. فعلى المفسر أن يكون على جانب كبير من الفراسة والذكاء لكي يستطيع أن يكتشف من الصورة الظاهرية للحلم والتي ملئت رموزاً وكنايات ، الحقيقة التي تكمن وراءها ، ويفسر الحلم بذلك تفسيراً كاملاً.

« إن أسلوب الحديث في هذا العالم اللاشعوري لا بد وأن يختلف عن أسلوب الحديث في الحياة الظاهرية التي تعودناها اختلافاً بيناً. واننا لا نستطيع في بادئ الأمر أن ندرك المقصود من تلك الأحاديث فيجب في الوهلة الأولى أن نسعى لتفسير وتوجيه

ص: 291


1- انديشه هاى فرويد ص 38.

مظاهرها بحسب الالفباء المصطلحةعندنا. لأن لغة الأحلام تشبه اللغات البدائية كالمصرية ، والكلدانية ، والمكسيكية ، في أنها مكونة من رموز وعلائم ، ولا بد من تفسير هذه الرموز في كل مرة حسب الاصطلاح الجاري والمعمول به عندنا » (1).

وقد جاء في الحديث : « للرؤيا كنى وأسماء ، فكنوها واعتبروها بأسمائها » (2).

« إن تبدل الشكل الباطن إلى الصورة الظاهرة نسميه بالحلم. والعمل المعاكس له أي تبديل الصورة الظاهرة بالباطن نسميه بالتحليل » (3).

والآن نعرض لبعض نماذج من الأحلام المعبرة من حيث التحليل النفسي في الاسلام :

1 - « قال رجل لعلي بن الحسين (عليه السلام) : رأيت كأني أبول في يدي. قال : تحتك محرم. فنظروا فإذا بينه وبين امرأته رضاع » (4). في هذا الحلم نجد أن اليد - وهي عضو من أعضاء البدن - كناية عن الأخت - وهي عضو الأسرة - والبول رمز للمني. والامام علیه السلام فسر البول في اليد بنكاح المحرم. فإن كان الرجل يعرف أن زوجته هي أخته في الحقيقة ، فان تفسير الحلم يعتبر اختباراً نفسياً واكتشافاً للضمير الباطن للرجل. وإن لم يكن يعرف ذلك ، فهو الالهام.

2 - « أتى إلى أبي عبداللّه (عليه السلام) رجل فقال : يابن رسول اللّه رأيت في منامي كأني خارج عن مدينة الكوفة في موضع أعرفه ، وكأن شيخاً من خشب أو رجلاً منحوتاً من خشب على فرس من خشب يلوح بسيفه ، وأنا أشاهده فزعاً مرعوباً. فقال له (عليه السلام) : أنت رجل تريد اغتيال رجل في معيشته. فاتق اللّه الذي خلقك ثم يميتك. فقال الرجل : أشهد أنك قد أوتيت علماً واستنبطته من معدنه. أخبرك يابن رسول اللّه عما قد فسرت لي. إن رجلاً من جيراني جاءني وعرض علي ضيعة ، فهممت أن

ص: 292


1- فرويد ص 39.
2- بحار الأنوار 14 436.
3- تفسير الأحلام ص 18.
4- المستطرف من كل فن مستظرف ج 2 89.

أملكها بوكس كثير لما عرفت أنه ليس لها طالب غيري » (1).

3 - « جاءت امرأة إلى ابن سيرين فقالت له : رأيت كأني أضع البيض تحت الخشب فتخرج فراريج. فقال إبن سيرين : ويلك اتقي اللّه فانك امرأة توفقين بين الرجال والنساء فيما لا يحبه اللّه عز وجل ، فقيل له من أين أخذت ذلك؟ قال : من قوله تعالى في النساء : «كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)» وشبه المنافقين بالخشب : « كأنهم خشب مسندة ». فالبيض النساء. والخشب : هم المفسدون ، والفراريج : هم أولاد الزنا » (2).

وكان الأمر كما ذكره إبن سيرين ، وانكشف سر المرأة بتلك الرؤيا.

4 - « روي عن إبن سيرين أنه أتاه رجل فقال : رأيت كأني أقشر بيضة وأرمي صفارها وآكل بياضها. فقال إبن سيرين : هذا رجل نباش للقبور ، فقيل له : من أين أخذت هذا؟ فقال : البيضة : القبر. والصفار : الجسد. والبياض : الكفن. فيلقي الميت ويأكل ثمن الكفن وهو البياض » (3).

لقد ظهرت الخيانة الخفية للرجل الذي كان يشق القبور ليلاً ويسرق الأكفان بصورة حلم ، مع تغيير شكل الضمير الباطن. ولقد استطاع ( إبن سيرين ) العالم الحاذق ، أن يفسر تلك الرؤيا ويكتشف ذلك السر.

5 - جاء رجل إلى ( إبن سيرين ) ومعه جراب ، فقال له : رأيت في النوم ، كأني أسد الزقاق سداً وثيقاً شديداً فقال له : أنت رأيت هذا قال : نعم ، فقال لمن حضره : ينبغي أن يكون هذا الرجل يخنق الصبيان وربما يكون في جرابه آلة الخنق ، فوثبوا عليه، وفتشوا الجراب ، فوجدوا فيه أوتاراً وحلقاً فسلموه إلى السلطان » (4).

6 - جاء رجل إلى ( إبن سيرين ) قائلاً : رأيت فيما يرى النائم أني أجامع فأرة ، ويخرج من شرجها تمرة. فقال له إبن سيرين : هكذا أفهم أنك متزوج بامرأة زانية. قال : نعم. قال له : إنها حامل. وأبشرك بأنها تلد لك ولداً طاهراً شريفاً » (5).

ص: 293


1- روضة الكافي ص 293. والاغتيال هنا بمعنى : الخديعة.
2- حياة الحيوان للدميري ج 1 234 - دجاج.
3- حياة الحيوان للدميري ج 1 234 - دجاج.
4- المستطرف ج 2 88 مطبعة الاستقامة القاهرة 1383 هجرية.
5- نامه دانشوران ج 2 176.

7 - وجاءه رجل فقال له : رأيت كأني أسقي شجرة زيتون زيتاً ، فاستوى جالساً ، فقال : ما التي تحتك؟ قال : علجة إشتريتها. وفي رواية جارية وأنا أطؤها ، فقال : أخاف أن تكون أمك ، فكشف عنها فوجدها أمه » (1).

يتضح من استعراضنا لهذه النماذج القليلة من تفسير الأحلام أن الاختبار النفسي والوصول إلى الضمائر الخفية للأفراد عن طريق تفسير أحلامهم ليس أمراً جديداً حتى يتصور أن فرويد أول من ابتكرها وتختص بمدرسته ... وأن في الاسلام أفراداً أذكياء ونوابغ طرقوا هذا الباب قبله. ومنهم مفسر الأحلام الشرقي ( إبن سيرين ) حيث بدأ تجاربه وأعماله الرائعة قبل 13 قرناً.

نصيحة في نقل الحلم :

للرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) نصيحة دقيقة في الرؤيا. إنه يقول : « لا تقصها إلا على وادٍ ، أو ذي رأي » (2). أما بالنسبة إلى الواد ( الصديق ) فانه إن لم يكن يعرف طريقة تفسير الحلم ، فلا أقل من أنه لا يعجل للانسان بفكرة مشؤومة ، وخاطرة سيئة ، « وإن لم يكن عالماً بالعبارة ، لم يعجل بما يغمك » ... ثم يتطرق (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى بيان فوائد ذكر الحلم لمن يجيد تفسيره فيقول : « ولعله أن يكون في تفسيرها موعظة يردعك عن قبيح ما أنت عليه ».

فرويد ونظريته البتراء :

إن الموضوع الجدير بالانتباه هو أن نظرية فرويد حول الأحلام بتراء وغير ناضجة. لقد نظر فرويد كغيره من الماديين إلى جميع الأمور نظرة مادية فقط. وكما انحرف عن الطريق السوي في موضوع الخالق والدين ، فقد انحرف - لاتجاهه المادي البحت - في موضوع الأحلام أيضاً ، ولم يستطع أن يدرك الواقع من جميع جهاته. إنه يرى الأحلام مظهراً للأفكار الباطنة فقط.

ص: 294


1- المستطرف ج 2 88.
2- البحار ج 14 437.

« يمكن وصف الحلم بأنه تحوير الأفكار المخفية إلى الشكل الظاهر. والخلاصة أن الحلم ليس موجداً ، لا يخلق شيئاً من نفسه ولا يحكم أو يستنتج ».

« إن عمل الحلم عبارة عن التلخيص أو الايجاز ، التبديل أو التحوير ، تغيير الصورة أو التمثيل ... ومن ثم فهو التنظيم والطلي بالشكل الذي انتهينا من شرحه قبل قليل ».

« والذي يبدو لي أن قسماً من محتويات الحلم يكون نتيجة للنشاط الذهني في النوم ، ولكن الذي يتضح من تحليل الحلم أن هذه التعقلات كانت موجودة في الأفكار الباطنة للشخص الحالم. وظهرت بعينها في النوم ».

« كل قصة منطقية واستنتاجية تشاهد في الحلم هي نفسها التي كانت موجودة في الأفكار الباطنة » (1).

وكما أن الكهنة كانوا يفسرون الأحلام بالتنبؤات عن الوقائع المستقبلة وكان تفسيرهم خاطئاً ...

وكما أن طائفة من علماء القرن السادس عشر والسابع عشر كانوا يرونها معلولة لسلسلة من الأعمال العضوية ونشاطات بعض الأنسجة العصبية ، وكانت نظرتهم هذه خاطئة ...

كذلك نظرية فرويد في حصر جميع الأحلام بخصيصة نفسية واحدة وهي أنها مظهر للوجدان الباطن ... فانها غير صحيحة ، إن ما لا شك فيه أن طائفة من الأحلام عبارة عن تجليات الضمير الباطن وهذا القسم منها يعتبر سليماً يربط وادي النفس الخفية بوادي النفس الظاهرة. وهذا ما قال عنه الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « والذي يحدث به الانسان نفسه ، فيراه في منامه ».

وهذه الطائفة هي التي قام بتفسيرها على أحسن وجه ( إبن سيرين ) في عدة

ص: 295


1- تفسير الأحلام. تأليف فرويد ص 62.

موارد. لقد توهم فرويد أن جميع الأحلام يجب أن تفسر وتعبر بنفس اللغة ، وإن منشأ خطأه هو حصره هذا.

الحقائق المجهولة :

ما أكثر الأشخاص الذين توصلوا إلى اكتشاف حقائق مجهولة في الماضي والحاضر عن طريق الأحلام ، ولطالما كان الحلم مخبراً بصورة صريحة أو مع شيء من التحوير - وبمساعدة التفسير - عن بعض الحقائق التي لم تكن تخطر على بال الحالم أو ضميره الباطن! وإن هذه الطائفة من الأحلام من الكثرة بمقدار أنها لا تقبل الانكار والتكذيب. وهناك في الأسر الشرقية والغربية أفراد عديدون تقع لهم أمثال هذه الأحلام.

لقد توفيت زوجة أحد العلماء القديرين المعاصرين ، وكانت تطلب في أيام حياتها مبلغاً مهماً من المال من شخص ما ، ويوجد عندها سند يثبت الدين ، والمدين طالبهم بالسند الرسمي ، ولقد قامت ابنة المتوفاة بالبحث عن السند في البيت كله ، وفي أي مكان تحتمل وجوده فيه من دون أن تصل إلى نتيجة. ولم يكن المدين مستعداً لدفع دينه دون أن يقبض السند الرسمي. فيئس الورثة من استحصال الدين. وفجأة رأت الخادم في الحلم أنها رأت سيدتها المتوفاة تأمرها بأن تخبر ابنتها بأن السند في جيب الثوب الفلاني. فذهبت البنت إلى مكان ذلك الثوب ووجدت السند فيه كما أخبرت به الخادم. هذه الرؤيا لا يمكن تفسيرها حسب أصول التحليل النفسي لفرويد. فليست ظهوراً لمكنونات الضمير الباطن للخادم. فإن الخادم لم تكن تعرف عن موضوع الدين والسند أي شيء أصلاً ، حتى تعرف محله!.

لهذا النوع من الأحلام حساب خاص ، أوضحه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقوله : « ... بشرى من اللّه » كمامر ، وهي نوع من الالهام الإلهي ، وهي كثيرة إلى درجة أنها لو جمعت من كل عصر لأصبحت بصورة كتاب كبير. لم يتحدث فرويد عن هذا النوع من الأحلام أصلاً ، ولا يستطيع أن يقول شيئاً عنها ، ذلك ان فرويد رجل مادي ، وإن الاعتراف بهذا النوع من الأحلام والاذعان لها ( وهي تكشف عن حقائق مجهولة تماماً ) لازمة اعتراف بالمبادئ الروحية ، والتصديق بعالم ما فوق المادة ، والاعراض

ص: 296

عن المذهب المادي ، وفرويد غير مستعد للاعتراف بهذا الأمر. هب أن امتناعه عن الاعتراف بالحقيقة ، لا يغير من الواقع شيئاً ، ولا تستطيع أفكاره الهوجاء إخفاء حقيقة مسلمة تملك آلاف الشواهد الحية عند شعوب العالم المتحضر.

* * *

وإتماماً للفائدة ، نعرض لبعض النماذج من هذا النوع من الأحلام أيضاً :

1 - حلم ملك مصر : لقد رأى ملك مصر - كما يحدثنا القرآن - سبع بقرات ضعاف تأكل سبع بقرات سمان. وسمع سنابل يابسة ومعها سبع سنابل خضراء ... «وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ» (1).

فعرض رؤياه على رجال بلاطه وعلماء بلاده ، فعجزوا عن تعبيرها ، وسموها بأضغاث أحلام ...

أما يوسف الصديق ، فقد كان حاذقاً في تعبير الرؤيا ، وفسر الحلم الذي رآه الملك بالشكل التالي : جدوا في أمر الزراعة لسبع سنين ، وادخروا في كل عام ما يفضل من قمحكم ، واخزنوا الزائد عن الاستعمال في سنابله فبعد هذه الأعوام السبع يجتاح البلاد قحط عظيم ويستمر هذا القحط لسبع سنوات ، ويقع الناس في حرج وشدة. وفي هذه الفترة يجب الاستفادة من القمح المخزون. ولقد تحقق كلام يوسف تماماً واستفادوا في أعوام القحط من ذخائر السنوات السابقة ونجت البلاد في ظل دراية بوسف من السقوط الحتمي والموت المحتم. وعلى أثر هذا التفسير العلمي الدقيق والخدمة العظيمة التي أسداها يوسف إلى الشعب المصري فقد صار محبوباً من قبل الناس ، وأدى ذلك إلى أن يصل يوسف - بمساندة الرأي العالم - إلى زمام الحكم لسنوات طوال.

لم يكن حلم ملك مصر تلخيصاً لمكنونات الضمير الباطن ، ولم يكن التفسير العجيب الذي أدلى به يوسف مستنداً إلى الختبار النفسي ، والتوصل إلى الوجدان

ص: 297


1- سورة يوسف 43.

المكنون للملك. فقد كشف هذا الحلم عن مستقبل مجهول تمامأً ، وأعلن عن حادثة خفية.

2 - رأى عبد الملك بن مروان في المنام : أنه يبول في محراب مسجد الرسول الأعظم أربع مرات. فسأل إبن سيرين عن تفسير رؤياه. فقال له ابن سيرين : أربعة من أولادك يصلون إلى مقام الخلافة ، ويقفون للامامة في محراب الرسول الأعظم ، ويتعهدون قيادة شؤون المسلمين ، وكان كما قال. فقد تنزى كل من وليد بن عبدالملك وسليمان بن عبد الملك وهشام بن عبدالملك ويزيد بن عبدالملك فترات قصيرة واحداً تلو الآخر على منصب الخلافة. لقد كشف هذا الحلم عن مستقبل مجهول لم يكن ليعرفه أحد أصلاً (1).

3 - ينقل عن المهدي العباسي ، أنه رأى في المنام أن وجهه قد أسود ، فسأل المعبرين عن تعبير ذلك فعجزوا إلا إبراهيم الكرماني ، فانه قال : توجد لك بنت. قالوا : من أين علمت ذلك؟ قال : لقوله تعالى : «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا» فأعطاه المهدي ألف درهم ولما حصل له بنت زاد عليه ألف درهم آخر (2).

هذه الرؤيا كشفت عن مستقبل مجهول لم يكن أمره بيد أحد : فالخليفة يحلم بشيء ، ثم يتحقق حلمه بعد أشهر عندما تلد زوجته بنتاً له.

4 - جاء رجل إلى ( إبن سيرين ) وقال له : رأيت في المنام أن ديكاً قد دخل إلى منزلي وقطف بضع حبات شعير. فقال له إبن سيرين إذا سرق من بيتك شيء فراجعني. وجاء بعد أيام. وقال : لقد سرق سجاد من بيتي. فقال له إبن سيرين : لقد سرقه المؤذن فذهب الرجل إلى المؤذن وطالبه بسجاده ، وتنازع معه حتى استرد ماله » (3).

وهكذا نجد أن هذا الحلم أخبر عن أمريين خفيين : وقوع السرقة وتعيين السارق.

ص: 298


1- تتمة المنتهى ص 80.
2- الكنى والألقاب 1 314.
3- نامه دانشوران ج 2 176.

وعلى أية حال فإن طائفة من الاحلام لا يمكن أن تفسر حسب أصول التحليل النفسي والمدرسة المادية ، وهي قابلة للتفسير على مبنى الالهيين والمعتقدين بما وراء الطبيعة والمادة.

إن الجانب المعنوي والالهام الروحاني لبعض الأحلام مهم إلى درجة أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول عنها : « إن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزء من النبوة » (1).

* * *

ص: 299


1- بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 14 435.

المحاضرة الثالثة عشرة: تعديل الميول - الفرار من تعذيب الضمير

اشارة

قال اللّه تعالى : «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا» (1).

إتضح لنا مما ذكرناه في المحاضرات السابقة أن في الضمير الانساني قوة تسمى بالوجدان الأخلاقي. وفي الموارد التي يرتكب الانسان جريمة يقع فريسة اللوم والتقريع من تلك القوة الباطنية. إن الوجدان الأخلاقي من القوة والقدرة بحيث أنه لا يترك المجرم ونفسه حتى في عالم النوم. يستعرض أمام عينه جرائمه بصورة الرؤيا ، وبذلك يلومه عليها ...

إن قوة الوجدان الأخلاقي وإدراك قبح الاجرام هو الذي يحور صورة الحلم ولا يسمح بأن يظهر المجرم على صورته الواقعية من جهة ويجعل المجرم من جهة أخرى يشاهد جرائمه في الرؤيا برعب وقلق وأن الانقياد لأوامر الوجدان الأخلاقي وإطاعة مقرراته وظيفة حتمية لكل انسان ... فإن مخالفته تتضمن مصائب ومآسي لا تجبر. وسيدور بحثنا في هذه المحاضرة حول الاستفادة من الوجدان الأخلاقي ، وتنفيذ قوانينه والنتائج الوخيمة التي تترتب على مخالفته والخروج عليه.

قوتان باطنيتان :

هناك قوتان في طريق إرضاء الميول أو ضبطها وعدم الاستجابة لها في باطن كل انسان : احداهما ايجابية ، والأخرى سلبية. أما القوة الايجابية فهدفها جلب اللذائذ وإرضاء الغرائز فقط ، وتميل إلى إشباع جميع الميول الطبيعية بدون قيد وشرط وأن تحقق جميع الرغبات. هذه القوة لا تفهم الخير والشر ، أو الصالح

ص: 300


1- سورة الفرقان 43.

والفاسد ، إنها تنادي باللذة فقط وليس لها هدف غير ذلك. ولقد عبر القرآن الكريم عن هذه القوة الباطنية ب- ( النفس الامارة ) ... حيث يقول عز من قائل : «إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ» (1).

وأما القوة السلبية في باطن الانسان ، فهي تتمثل في القوة التي تمنع الانسان في جلب اللذائذ عن ارتكاب الجرائم والوقوع في الدنس ، وتلطف من حدة الميول ، وتلجم النفس الأمارة الشموس ، إنها تسمح بإرضاء العرائز والاستجابة للميول بالمقدار الذي لا يتصادم مع المقررات العقلية والعرفية والشرعية ، أما ما عدا ذلك فانها لا تسمح به. ولقد عبر القرآن الكريم عن هذه القوة المعدلة للميول ب- ( النفس اللوامة ) ... حيث يقول تعالى : «لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)» (2).

قيادة الغرائز :

مما لا شك فيه أن الحياة البشرية مدينة إلى الميول والغرائز التي أودعها اللّه تعالى في مزاج الانسان ، ذلك أن الغرائز والرغبات النفسانية هي القوة المحركة العظمى التي تدبر دولب الحياة الانسانية ، و لا توجد أي قوة في الانسان تبعثه على النشاط والحيوية كالغرائز. ولكن النفطة الجديرة بالملاحظة والانتباه أن هذه الغرائز إذا نفذت واستجيب لها بالصورة الصحيحة وبالشكل المعقول فانها تبعث على الخير والسعادة ، أما إذا لم يلتزم العقل قيادتها وكان إرواؤها على غير نظام أو ترتيب ، فلا شك في أنها تتضمن مئات المآسي وتؤدي بالانسان إلى عاقبة سيئة.

عشرات الأرياف يمكن أن توجد على ضفاف نهر ، ومئات الأسر تستطيع أن تعيش فيها على أتم الرفاه والراحة ... إن جميع المزارع والحقول والمراعي وبصورة موجزة جميع مظاهر العمران هناك وجدت من ماء ذلك النهر. وإذا لم يكن ذلك النهر موجوداً ، لم يكن أثر للعمران ولم تكن توجد الأرياف ، ولكن قد يصادف

ص: 301


1- سورة يونس 53.
2- سورة القيامة 1-2.

أن ينحدر السيل من الجبال ويؤدي فيضان النهر إلى أن يتجاوز النهر مجراه ، ويهجم على المزارع والمساكن بصورة جنونية ، ويؤدي إلى خسائر عظيمة في الأرواح والأموال وتنسف الأتعاب والجهود التي بذلها الريفيون المساكين طيلة سنوات عديدة!!.

إنه لا يمكن الاستغناء عن النهر ، لأن النهر يعتبر الشريان الرئيسي لحياة هؤلاء الناس في الأرياف ، وإن مظاهر العمران ظهرت بفضل وجود النهر - ولأجل أن نستفيد من فوائد النهر ، ولا ترد علينا خسارة أو ضرر من جراء الفيضان ، علينا أن نبني سداً محكماً عليه ، ونمنع من طغيانه ومن الواضح أن بناء السد يجعلنا ننتفع من فوائد النهر باستمرار ، ونكون في مأمن من أضراره وخسائره.

طغيان الغرائز :

إن الغرائز والميول البشرية تشبه النهر الذي تقوم عليه الحياة الفردية والاجتماعية. فإن كانت الاستجابة لها بصورة معقولة وحسب مقاييس ثابتة فانها تمنح الحياة نشاطاً وحيوية ، أما إذا أرضيت بالصورة الفوضوية العارمة ومن دون نظام أو ترتيب فلا شك في أنها تؤدي إلى الشقاء والانهيار. وبعبارة أخرى : فكما أن النهر كان مسخراً لصالح الناس تارة وكان الناس مسخرين لتأثير النهر تارة أخرى ، كذلك الغرائز فانها قد تخضع لقيادة العقل ، وقد يخضع العقل لقيادة الغرائز. إن السعادة تتحقق متى خضعت الميول جميعها لسيطرة العقل ، وكانت منقادة لأوامره ومقرراته.

هذا الكلام مقبول لدى جميع الماديين والمتألهين في العالم ، فقد أقر العقلاء والعلماء جميعهم بأن الانقياد للغرائز وإرضاءها بلا قيد أو شرط يتنافى مع التمدن والسعادة البشرية.

« تقضي الحياة ، وخصوصاً الحياة الاجتماعية للانسان ، أن تهدى الغرائز الأولى منذ البداية ، وتوجه نحو الأهداف الاجتماعية ، وبصورة أوضح نقول : كما أنه يجب إقامة سد أمام مجرى الماء لادارة محرك من المحركات المعتمدة على قوة الماء فإن التمدن

ص: 302

يجب أن يخضع الغرائز لسيطرة دقيقة ، وذلك ليبلغ بالانسان إلى الرقي والتكامل » (1).

إن أول نكتة يجب أن تسترعي انتباهنا في هذا المقام ، هي أن إرضاء جميع الميول النفسانية بصورة حرة وبلا قيد أو شرط أمر مستحيل. ذلك لأن تحقيق بعض الرغبات يتنافى مع إتيان الرغبات الأخرى ، وفي الواقع يوجد تناقض واضح بين كثير من ميول الانسان. لقد أوضح الامام علي علیه السلام التناقض القائم بين بعض الميول والرغبات بعبارة قصيرة وحكيمه ، إنه يقول :

« ما أعجب أمر الانسان ، إن سنح له الرجاء أذله الطمع ، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص ، وإن ملكه اليأس قتله الأسف ، وإن سعد نسي التحفظ ، وإن ناله خوف حيره الحذر ، وإن اتسع له الأمن أسلمته الغيرة ، وإن جددت له النعمة أخذته الغزة ، وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع ، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى ، وإن عضته فاقة شمله البلاء ، وإن جهده الجوع قعد به الضعف ، وإن أفرط في الشبع كظته البطنة ، فكل تقصير به مضر ، وكل إفراط به مفسد ، وكل خير معه شر ، وكل شيء له آفة » (2).

فما أكثر الرغبات النفسية التي تدفع الانسان إلى الافراط في الاستجابة للغريزة الجنسية ، أو الطعام في حين أنه يتنافى مع الرغبة في الصحة ، وما أكثر اللذائذ التي يتطلبها الانسان من قبيل الخمرة والحشيشة ، في حين أنها تتضمن عوارض مختلفة ونتائج وخيمة تهدد حياة الانسان.

الوجدان والغرائز :

هناك نكتة أخرى يجب أن نتنبه لها ، وهي أن الحرية المطلقة للغرائز بلا قيد أو شرط تتنافى والوجدان الأخلاقي للبشر. فإن الذي يريد إرضاء جميع الميول بكل حرية ، ويحاول الاستجابة لرغباته وتحقيقها ، لا بد أن يكون منقاداً لغرائزه ، معرضاً بوجهه عن النداء السماوي والمقررات القيمة الصادرة من الوجدان الأخلاقي الذي هو وديعة إلهية عند الانسان ، مستهتراً بالكرامة والشرف والنبل!!.

ص: 303


1- أنديشه هاى فرويد ص 51.
2- اداب النفس للعينائي ج 2 111 ، نقلاً عن إرشاد المفيد ص 142.

« لا بد للانسان أن يختار من بين أمرين أحدهما : الأمر الأول أجنبي وأعمى وطاغية حيث لا يراقب إلا التنفيذ دون النظر إلى القصد والنية. أما الأمر الثاني فانه أليف ومحبوب. صحيح أنه متعب ولا يرتضي بسرعة لكنه يعرف آمالكم الخفية ويطلع على كيفية شخصيتكم. إنه يجب التوفيق بين الغرائز والوجدان الأخلاقي. وإيجاد هذا التوافق أمر ممكن ، ذلك أن الوجدان الأخلاقي الواقعي لا يريد كبت الغرائز مرة واحدة ، بل يحاول أن يخضعها للنظام والسيطرة ، ويوجهها نحو هدف أعلى وأليق. وهذا العمل أحسن وأهم للغريزة من إطلاق عنانها أيضاً ، كما يرى فرويد ، لأن هذه الحرية تتضمن فساداً وانهياراً في النهاية » (1).

إن مخالفة أوامر الوجدان الأخلاقي قد نؤدي إلى بعض الأمراض النفسية والجنون. والاستجابة المعقولة للميول والغرائز أساس الحياة وركن السعادة الانسانية ، وهذا الأمر ضروري ومحبوب شرعاً وعقلاً ... لكن المذموم والقبيح من وجهة النظر الدينية والعلمية هو إطلاق العنان لجميع الميول والرغبات.

لقد عبر القرآن عن هذه الحقيقة أحسن تعبير حيث يقول : «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا».

عبادة الهوى :

إن الذي يقع في أسر عبادة هوى النفس ، ويكون عبداً مطيعاً لغرائزه وميوله ... يصاب بأخطر الأمراض النفسية ، ويكون معرضاً للانهيار والشقاء في كل لحظة ...

1 - يقول الامام علي (عليه السلام) : « إن أخوف ما أخاف عليكم إثنان : إتباع الهوى وطول الأمل » (2).

2 - ويقول الامام الصادق (عليه السلام) : « إحذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم ،

ص: 304


1- جه ميدانيم؟ بيماريهاي روحى وعصبى ص 70.
2- نهج البلاغة ص 105.

فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم ، وحصائد ألسنتهم » (1).

3 - وعنه (عليه السلام) أيضاً : « لاتدع النفس وهواها ، فإن هواها رداها » (2).

4 - وعن الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) : « أشجع الناس من غلب هواه » (3).

5 - وعن الامام الجواد (عليه السلام) : « من أطاع هواه ، أعطى عدوه مناه » (4).

6 - يقول الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) : « إن أطعت هواك أصمك وأعماك » (5).

7 - ويقول في مورد آخر : « فاز من غلب هواه ، وملك دواعي نفسه » (6).

8 - وورد عنه أيضاً : « قاتل هواك بعقلك » (7).

إن عبادة الأهواء والانقياد التام للميول النفسانية لهو أقصى درجات الشقاء والهلاك للانسان ، فإذا وقع شخص في أسره فسرعان ما ينجرف إلى هوة الانهيار والسقوط.

« الانسان مختار مطلق ، لكنه مع ذلك لا يستطيع أن ينتفع من حريته خارج المناطق المحددة له بلا مخاطرة أو مغامرة. إن الحرية تشبه الديناميت في أنها وسيلة مهمة وخطرة في نفس الوقت ، فلا بد من الإلمام بكيفية استعمالها ، لحسن الحظ فان الذي يستطيع أن يستعملها بصورة صحيحة هو الذي يكون ذا عقل وإرادة ».

« إن التضارب الموجود بين الحرية الانسانية والقوانين الطبيعية الملزمة يوجب التدريب على تزكية النفس. ولأجل أن نحافظ على

ص: 305


1- الكافي لثقة الاسلام الكليني ج 2 335.
2- الكافي ج 2 336.
3- سفينة البحار للقمي ص 728 مادة هوى.
4- المصدر السابق ص 728.
5- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 287 ط إيران.
6- المصدر نفسه ص 227 ط النجف الأشرف.
7- المصدر نفسه ص 234 - ط النجف.

أنفسنا من أخطار الحوادث يجب علينا أن نقاوم كثيراً من الميول والرغبات ».

« في كل مرة استطاع الانسان أن ينتفع من كامل حريته يكون قد سحق القوانين الطبيعية ، ولا بد أن يلاقي جزاءه. إن الموفقية في الحياة تستلزم التضحية ، وبواسطة التخلي عن قسم من الحرية يستطيع الانسان أن يعيش على طبق نظام الأشياء » (1).

الوجدان وتعديل الهوى :

يستطيع الراغبون في السعادة والساعون من أجلها ، أن يستفيدوا من عوامل عديدة لتعديل ميولهم. من تلك العوامل. العقل ، والوجدان ، والتعاليم الدينية. وحيث كنا نتحدث عن الوجدان الأخلاقي ، فيدور بحثنا هنا حول طرق الاستفادة منه في تعديل الغرائز والرغبات النفسانية.

إن الوجدان الأخلاقي هو الدليل الظاهر والنافذ إلى الواقع المودع في باطن الانسان. وهو قوة قاهرة ، يدلك - بالفطرة - جميع أوجه الخير والشر ، ويهدي إلى الصراط المستقيم ، ويوصلهم إلى دار السعادة والسلام.

قال الامام الصادق علیه السلام لرجل : « إنك قد جعلت طبيب نفسك ، وبين لك الداء وعرفت آية الصحة ودللت على الدواء. فانظر كيف قيامك على نفسك؟ » (2).

فبواسطة الوجدان الأخلاقي والفطرة الانسانية يهتدي الانسان إلى معرفة أمراض نفسه وعلاجها كالطبيب ، ويستطيع الوصول إلى سلامة روحه.

وفي غريزتي الشهوة والغضب القويتين ، وميل الانسان إلى المال والجاه تكمن نقطة انزلاق البشرية نحو الهاوية ، إن هوى النفس يدفع الانسان بأشد ما يمكن من القوة لتنفيذ رغباته ومتطلباته الغريزية ، وألا يجتنب في سبيل الوصول إلى هدفه من كل نشاط هدام ، في حين أن الوصول إلى الهدف يتطلب في بعض الأحيان الاتيان ببعض الأعمال اللاإنسانية وارتكاب الجرائم والجنايات. إن من القوى التي تستطيع

ص: 306


1- راه ورسم زندكى تأليف ألكسيس كارل ص 39.
2- الكافي للكليني ج 2 454.

التعديل من الغرائز ، وتقدر على وقاية الانسان من الانحراف والانزلاق في الهاوية وحفظ أذيال الفرد من التلوث بالجرائم : قوة الوجدان الأخلاقي. فمن حافظ على هذه الوديعة الالهية في باطنه وأبقى سراج السعادة مضيئاً ، يستطيع الانتفاع من هداية الوجدان ويقي نفسه من كثير من الخيانات والجرائم.

لقد أعار الاسلام أهمية عظيمة إلى هذه القاعدة الأساسية ، واستفاد من الوجدان الأخلاقي في مجال الاصلاح الاجتماعي كثيراً.

التعامل على أساس الوجدان :

لقد ورد عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه كان يقول : لقد أوصى اللّه تعالى موسى بن عمران بأربعة أشياء :

« ... وأما التي بينك وبين الناس ، فترضى للناس ما ترضى لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك » (1).

وهناك موقف آخر للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد كان واضعاً رجله في رحل جواده قاصداً إحدى الغزوات ، فاستوقفه رجل وطلب منه أن يعلمه عملاً فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « ما أحببت أن يأتيه الناس إليك ، فأته إليهم ، وما كرهت أن يأتيه الناس إليك فلا تأته إليهم » (2).

... وهكذا يتضح جلياً موقف الاسلام من التعالم مع الناس وأصول المعاشرة فيما بينهم ، وهذه وصية الامام أمير المؤمنين علیه السلام إلى ولده الحسن : « واجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك ، واكره له ما تكره لنفسك ، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم ، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك ، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك » (3).

وقد ورد عن الامام الصادق (عليه السلام) : « أحبوا للناس ما تحبون لأنفسكم ، أما يستحي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه ولا يعرف حق جاره » (4). وعن الامام الباقر

ص: 307


1- المحجة البيضاء في إحياء الأحياء للفيض الكاشاني ج 3 371.
2- المحجة البيضاء 3 371.
3- تحف العقول ص 74.
4- وسائل الشيعة للحر العاملي ج 3 202.

علیه السلام في قول اللّه عز وجل : «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا» قال : « قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم » (1).

سعادة المجتمع :

لقد وجدنا في الأحاديث المتقدمة أن الفطرة الأخلاقية والادراك الباطني عند الناس قد اعتبرتا مقياساً للروابط الاجتماعية. فإن ما لا شك فيه أنه لو كانت الروابط الاجتماعية في بلد ما قائمة على أساس الوجدان الأخلاقي وكان كل عضو في المجتمع يراعي الحسنات والسيئات الفطرية بالنسبة إلى باقي الأعضاء ... لكان يغمر ذلك البلد بالسعادة والهناء ولم يكن للغرائز والميول النفسية أية سلطة أو تجاوز على الآخرين.

إن القادرين على اتباع نداء الوجدان هم الذين يملكون زمام غرائزهم وميولهم. أما الأشخاص المستعبدون لشهواتهم والذين ينقادون لأهوائهم فلا ينالون هذه المفخرة أبداً.

جزاء مخالفة الوجدان :

إن من النتائج الوخيمة لمخالفة الوجدان ، الاضطرابات الروحية والاختلالات النفسية. فإن من يمتنع عن سماع نداء الوجدان الأخلاقي ويقدم على الجرائم إرضاء لرغباته النفسية مخالفاً في ذلك فطرته الانسانية لا بد وأن يلاقي جزاءه الشديد من قبل الوجدان ، بغض النظر عن العقاب الدنيوي والأخروي. وإن تعذيب الضمير وتقريع الوجدان من القوة في أعماق الروح الانسانية بحيث تسلب المجرم راحته وتتركه في دوامة من الاختلالات والأمراض الروحية أو الجنون.

« لقد أسند فرويد منظومته الفلسفية إلى الغرائز ، ومن الواضح أنه أوضح بعضاً من نشاطاتها ولكنه أهمل البحث عن الوجدان أو الضمير واعتبره منفذاً اجتماعياً فحسب. أما الواقع فيرشدنا إلى أن قضاء الخير والشر عمل أساسي يغلب على الشخصية ويبلورها

ص: 308


1- أمالي الصدوق ص 153.

وينسقها ويلائم بينها وبين الحياة الاجتماعية ... من الممكن أن يبتلي الوجدان بآفات معينة فيسبب حدوث بعض الأمراض الروحية الحقيقية. فمثلاً نجد فيسبب حدوث بعض الأمراض الروحية الحقيقية. فمثلاً نجد الأمر كذلك في الهستيريا المصحوبة بيقظة الضمير والتي تظهر على صورة الندم القاتل واتهام النفس ، والاحساس بالاجرام ، لقد أشرنا إلى بعض الآثار المباشرة وغير المباشرة للاحساس بالاجرام في سلسلة من التحقيقات. هذه الآثار عبارة عن التعذيب الأليم والتقريع الشديد » (1).

بإمكان المجرم أن يهرب من وجه العدالة وحكم القانون في المحاكم القضائية العالمية بطرق مختلفة ، وينجو من العقاب في النهاية. وباستطاعته إغفال بعض الحكام عن طريق التهديد أو التطميع ، أو عن طريق اليمين الكاذبة وشهود الزور ... أما حاكم محكمة الوجدان البصير الحاذق فلا يغفل.

قد يتخلص المجرم من العقاب بواسطة الفرار من قاعة المحكمة ، أو الفرار من أرض الوطن ، أما محكمة الوجدان فانها تخضع المجرم لسيطرتها دائماً ، فأينما يذهب تصحبه وتلاحقه ... ذلك أن محكمة الوجدان عبارة عن ضميره الباطن ولا ينفصل عنه ضميره أبداً.

في بعض الأحيان تكون مظاهر تعذيب الضمير ، وملاحقة محكمة الوجدان للمجرم ، والضغط الروحي الشديد الذي يلاقيه منها واللوم القارع الذي يراه في أحكامها ... مؤلمة إلى درجة أنها تبعث كل من يشاهده عن القلق والاضطراب. وعلى سبيل المثال نذكر قصة حياة الشاب الضابط الذي دمر ( هيروشيما ) بالقنبلة الذرية في الحرب العالمية الماضية.

جنون ضابط شاب :

إن الوضع المؤلم لهذا الشاب الضابط الذي سبب الفناء والدمار لعشرات

ص: 309


1- جه ميدانيم؟ بيماريهاى روحى وعصبى ص 92.

الآلاف من الرجال والنساء ، والشيوخ الشباب والأطفال الرضع في لحظات قليلة أصدق شاهد على ما ذهبنا إليه قبل قليل. وإليك بعض الأخبار عن أيامه الأخيرة مقتطفة من الصحف الايرانية نقلاً عن وكالات الأنباء العاليمة.

« وكالة الأنباء الفرنسية. لقد أعلن اليوم اختفاء الضابط الأمريكي الطيار ( كلود إيترلي ) الذي دمر مدينتي هيروشيما وناغازاكي عام 1945 بأول قنبلة ذرية ، منذ اليوم الثالث والعشرين من شهر تشرين الأول. لقد كان هذا الضابط الطيار مصاباً ببعض الاختلالات العصبية منذ مدة وكان خاضعاً للمعالجة في مستشفى ( فالوا ). لقد وجد ( كلود ) نفسه بعد انتهاء الحرب أمام الضربات الروحية القاصمة وذلك بعد اطلاعه على الخسائر التي تسبب فيها بقنبلته ، إنه كان يجد نفسه المسؤول الأول عن قتل أهالي مدينة ( هيروشيما ). إن معالجة الأطباء كانت عقيمة له ، وأخيراً اضطر إلى أن يعيش في مستشفى الأمراض العقيلة » (1).

« لقد نشرت الصحف الأمريكية الصادرة صباح اليوم في صفحاتها الأواى صورة ومشخصات ( كلود إيترلي ) ولقد طلب البوليس من الملايين من أبناء الشعب الأمريكي في التعاون معه للقبض على كلود إيترلي. والآن يقضي عشرات الملايين من الأمريكان أوقاتهم في البحث عنه حيث أنه أصيب بالجنون تماماً. إن أكثر العوائل الأمريكية لا تهنأ بالنوم طوال الليل خوفاً من كلود إيترلي لأن أصحاب العيادات النفسية قد أعلنوا عن : أن كلود إيترلي لأن أصحاب العيادات النفسية قد أعلنوا عن : أن كلود إيترلي يرى نفسه السبب في مقتل عشرات الآلاف من أبناء الشعب الياباني ولذلك فهو يحاول أن يقوم بعمل خطير كعقاب لنفسه. أعظم وسام حربي : - لقد فاز كلو إيترلي بعد تدميره لمدينتي هيروشيما وناغازاكي بنيل أعظم وسام حربي في أمريكا. وإن كلود إيترلي الذي انتخب من بين آلاف الطيارين يوماً ما لمهارته في قيادة الطائرة ، ولأعصابه

ص: 310


1- جريدة إطلاعات الايرانية العدد 10377.

الفولاذية ، والذي عهد إليه بإلقاء أول قنبلة ذرية ... قد أصيب الآن بالجنون ».

« إن عمر كلود إيترلي اليوم 40 عاماً. لقد قام في غضون السنوات الأخيرة بأعمال السرقة ومخالفة القانون عدة مرات ، لكنه كان يعفى في كل مرة ، نظراً لكونه في عداد أبطال القوة الجوية الأمريكية في يوم ما » (1).

« لقد استعانت سلطات البوليس الأمريكي بأبناء الشعب في إجراء التحقيق مع كلود إيترلي ، ذلك أن أطباء الأمراض النفسية كانوا قد أعلنوا : أنه لما كان الطيار الأمريكي السابق مصاباً بمرض روحي شديد ، فمن الممكن أن يقوم بأعمال خطيرة تهدد الأمن العام ، إن الطيار الذي دمر عام 1945 مدينتين يابانيتين كان يردد هذه الجملة منذ مدة : أنا قاتل ال- 150 ألف من الناس ولا أغفر لنفسي خطيئتي الكبيرة هذه. لقد مات في التدمير الذري من المدن اليابانية 150 ألف شخص على الأقل وكلود إيترلي يرى نفسه مسؤولاً عن قتل هؤلاء جميعاً. لقد عثر أحد رجال البوليس على كلود إيترلي في مدينة دالاس من ولاية تكساس عندما كانت سيارته واقفة عند أحد فروع شوارع تلك المدينة ، وذلك لاشارة المرور الحمراء على الطريق ... » (2).

لقد كان الضابط الأمريكي الشاب ذا أعصاب فولاذية عند القيام بإلقاء القنبلة الذرية. وكان سليماً من حيث المقدرة البدنية ، لقد فاز الضابط الشاب بنيل أعظم وسام حربي في أمريكا بعد التفجير الذري ، وإن من المحتم أنه لاقى النجاح في مهمته تشجيعاً وتقديراً فائقين من حكومة الولايات لمتحدة الأمريكية ... ولكن هذه العوامل كلها لم تستطع أن تنقذه من السقوط ، وأخيراً أصيب بالجنون ، إن إفناء 150 ألف شخص بين رجل وامرأة ، وطفل وشاب ... مخالفة صريحة للوجدان. إن الأعصاب الفولاذية ، والطاقات الحيوية ، وأعظم وسام حربي ، وتشجيع واستحسان حكومة الولايات المتحدة وشعبها ... كلها لم تستطع الوقوف أمام قوة الوجدان ،

ص: 311


1- جريدة اطلاعات الايرانية العدد 10382.
2- جريدة اطلاعات الايرانية العدد 10392.

فقد انتصر الأخير عليها جميعاً ، وأصيب الشاب المسكين بالجنون وظهر بصورة موجود مفترس وخطير.

لقد كان البركان الثائر في نفس الشاب من جراء ردود الفعل الناشئة من وجدانه قوياً إلى درجة أن جميع المتخصصين بالعلاجات الروحية عجزوا عن معالجته ، فلقد أخذ الضغط الشديد من قبل الضمير يقض عليه مضجعه يقظة ونوماً ، وليس من البعيد أن يؤدي إلى موته.

الرشيد وغادر :

وهناك نموذج آخر لمخالفة الوجدان يظهر في قصة هارون الرشيد مع جارية أخيه الهادي ، ننقلها هنا لما فيها من فائدة : -

« ... يحكى أن هارون الرشيد حج ماشياً ، وإن سبب ذلك أن أخاه موسى الهادي كانت له جارية تسمى ( غادر ) وكانت أحظى الناس عنده ، وكانت من أحسن النساء وجهاً وغناء ، فغنت يوماً وهو مع جلسائه على الشراب ، إذ عرض له سهو وفكر وتغير لونه وقطع الشراب ، فقال الجلساء : ما شأنك يا أمير المؤمنين؟.

قال : لقد وقع في قلبي أن جاريتي ( غادر ) يتزوجها أخي هارون بعدي.

فقالوا : يطيل اللّه بقاء أمير المؤمنين ، وكلنا فداؤه.

فقال : ما يزيل هذا ما في نفسي ...

وأمر بإحضار هارون وعرفه ما خطر بباله ، فاستعطفه وتكلم بما ينبغي أن يتكلم به في تطييب نفسه ، فلم يقنع بذلك وقال : لا بد ان تحلف لي!

قال : لأفعل ، وحلف له بكل يمين يحلف بها الناس من طلاق وعتاق وحج وصدقة وأشياء مؤكدة فسكن. ثم قام ، فدخل على الجارية فأحلفها بمثل ذلك ، ولم يلبث شهراً ثم مات.

فلما أفضت الخلافة إلى هارون ، أرسل إلى الجارية يخطبها ...

فقالت : يا سيدي كيف بايمانك وايماني؟!!

فقال : أحلف بكل شيء حلفت به من الصدقة والعتق وغيرهما إلا تزوجتك ،

ص: 312

فتزوجها وحج ماشياً ليمينه ، وشغف بها أكثر من أخيه حتى كانت تنام فيضجع رأسها في حجره ولا يتحرك حتى تتنبه ، فبينما هي ذات ليلة إذ انتبهت فزعة ...

فقال لها : ما لك؟!

فقالت : رأيت أخاك في المنام الساعة وهو يقول :

أخلفت وعدك بعدم--ا *** جاورت سكان المقاب--ر

ونسيتني ، وحنث-ت في *** وغدوت في الحور الغرائر

فظللت في أهل الب--لاد *** ايمانك الكذب الفواجر الصبا

ونكحت غادرة أخي! *** صدق الذي سماك غ--ادر

لا يهنك الإلف الجديد *** ولا تدر عنك الدوائ--ر

ولحقت بي قبل الصب--اح *** وصرت حيث غدوت صائر

... واللّه يا أمير المؤمنين ، فكانها مكتوبة في قلبي ، ما نسيت منها كلمة.

فقال الرشيد : هذه أضغاث أحلام.

فقالت : كلا واللّه ما أملك نفسي ... وما زالت ترتعد حتى ماتت بعد ساعة » (1).

هذه الجارية كانت قد أخلفت وعدها مع الهادي ، وبسبب مخالفتها لنداء الفطرة والوجدان كانت تحس بالاضطراب والقلق دائماً. إن تعذيب الضمير لم يتركها لوحدها ، بل كان يوجه الضربات القاسية نحوها ليلاً ونهاراً ، في اليقظة والحلم. إلى أن لقيت حتفها على أفظع شكل.

إن الانسان معرض في كل مرحلة ومنزلة إلى الخطر من ناحية ميوله وأهوائه. وإن الغفلة عن نداء الضمير ، والانقياد التام للرغبات النفسية يمكن أن يؤدي في اللحظة الحاسمة إلى قلب حياة الانسان رأساً على عقب ويبعث على الانهيار والسقوط الذي لايمكن أن يعالج بأية قوة.

ص: 313


1- ثمرات الأوراق لابن الحموي ج 2 106. هامش المستطرف المطبعة الميمنية القاهرة 1314 ه.

وبهذا الصدد يقول الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) : « كما من شهوة ساعة ، أورثت حزناً طويلاً » (1).

على مفترق الطرق :

قد يحتدم النزاع في باطن الانسان بين الميول النفسانية والوجدان الأخلاقي ، فان الشهوات والغرائز تهيج الانسان من جانب ، وتحثه على تحقيق رغباته اللامشروعة. بينما يقف الوجدان - من الجانب الآخر - في أتم القوة والفعالية مكافحاً ومعلناً معارضته الصريحة لارتكاب الجريمة.

أما عباد الشهوة والأفراد الحقراء الذين لا يهتمون بارتكاب الجرائم ، فانهم يصممون بسرعة ، ويحققون رغباتهم اللامشروعة مهملين نداء الوجدان.

وأما المؤمنون والعقلاء فانهم يسعون للتخفيف من ضراوة الميول اللامشروعة. ومن دون أي تردد يختارون الطريق الصحيح منزهين أذيالهم من التوث بالجريمة والفساد ، ملبين نداء الوجدان.

ويقف على مفترق الطريقين طائفة تهتم بشؤونها الدينية والوجدانية بمقدار ما ، ولكن رصيدها الايماني ليس بالمقدار الكافي لمواجهة الميول اللامشروعة. فهؤلاء يقفون مترددين تتملكهم الحيرة ، فلا يستطيعون أن يغضوا الطرف عن الميول المتطرفة ويتخلوا عن اللذائذ المنافية للدين والوجدان شانهم في ذلك شأن المؤمنين ، كما لا يستطيعون أن يصمموا بصورة حتمية على ارتكاب الجريمة شأنهم في ذلك شأن المنحرفين.

هؤلاء يتذرعون ببعض المببرات ، وبعض الأدلة الواهية لإسكات ضمائرهم ، وهم يأملون أن يحققوا رغباتهم النفسانية من دون أي اضطراب داخلي أو قلق باطني ... ولكنهم غافلون عن يقظة الوجدان ، وأنه من الذكاء والفطنة بحيث لا تنطلي عليه التلفيقات ولا تغيير مظهر الذنب بمظهر آخر ، ولا يكف عن واجبه المقدس ، وهو توجيه اللوم إلى المجرم.

ص: 314


1- الكافي 2 451.

« إذا كنا نقضي من هذه الظواهر بانطفاء جذوة الوجدان فقد وقعنا في خطأ كبير. إن الوجدان لا يزال حياً حتى في حالات الموت الروحي ، ويستمر في القيام بعمله بكل هدوء ويستطيع أن يكشف عن وجوده فجأة باشراقة خلابة وغير متوقعة. فهناك إلى جانب الوجدان الذي يقوم بإظهار ميوله وعقائده وأفكاره ، يوجد وجدان مستتر يحكي عن حالة روحية غير مرئية. إنه يمكن الاستعانة ببعض التعابير التي يستعملها. المريض والتي تعد فاقدة للمعنى وجنونية في الظاهر ، كدليل على وجود هذا الثبات. هذه التعابير ترينا أن الوجدان يستطيع أن يبقى حياً تحت خرائب الذكاء والعقل ».

« إن الوجدان يؤثر حتى في حياة الأنسجة وفي وضعية الأعمال الجسدية التي تملك شخصية حية بنفسها أيضاً » (1).

وفي قضية عمر بن سعد ، وقيامه بتلك المعركة الدامية على صعيد كربلاء أملا في الحصول على حكومة الري ، أجلى شاهد على ما ذهبنا إليه. فمن جهة نجد أن قتل الحسين بن علي (عليه السلام) وثلة من أصحابه الأبرار والأبرياء عمل مخالف للوجدان والدين والعقل. ومن جهة أخرى كان يرغب في الحصول على حكومة الري وفي ذلك لذة الرياسة ، والرغبة النفسية التي تلح عليها نفسه الأمارة. فعندما اقترح عبيد اللّه بن زياد حكومة الري عليه بشرط قتل الامام الحسين (عليه السلام) اضطرب عمر لذلك وتحير في أمره. فلو كان فرداً مؤمناً ومتديناً لكان يرد ذلك الاقتراح بسرعة ولم يكن يقوم بتلك الجريمة الشنيعة لقاء حكومة لا تدوم أياماً. وإذا كان إنساناً منحرفاً وبعيداً عن الدين بتمام معنى الكلمة لا يقيم وزناً للوجدان والايمان والعقل والرأي العام ، فانه كان يوافق على الاقتراح بدون ترديد ولا يقول شيئاً أبداً. ولكن الذي يظهر من وضعه أنه كان يحس بالاضطراب وعدم الارتياح لعمله هذا في ضميره الباطن ولكن لم يكن إحساسه هذا بالدرجة التي تجعله يغض الطرف عن لذة الرئاسة والجاه. فاستمهل عبيداللّه ليأتيه بالجواب النهائي. وحين أقبل عليه المساء تنحى زاوية خلية ، وجسد أمام ناظريه معسكرين متعارضين يقف في أحدهما اللّه والرسول ، والعقل

ص: 315


1- جه ميدانيم؟ بيماريهاى روحى وعصبى ص 63.

والشرف ، والوجدان والانسانية ... أما في المعسكر الآخر ، فيقف حب الجاه والرئاسة ، اللذة والشهوة ، الحكومة وعبادة الذات , فبقي متحيراً بين ذينك المعسكرين فعندما كان ينظر إلى اللّه والوجدان والعقل كان يقول : يجب ألا أرتكب هذه الجريمة الشنيعة ، أن لا أشترك في دم الحسين (عليه السلام) أما حين كان يلتفت نحو الشهوة والرئاسة كان يقول : يجب ألا أترك الفرصة تفوتني ، فإن مقاماً مع هذه العظمة لا يتيسر دائماً ... وأخيراً تذرع ببعض المغالطات الباطلة لاقناع الوجدان الذي يوجد في باطن كل انسان متدين وملحد. وأخيراً حلل القضايا من الوجهة الدينية ، وكان أن قال :

يقولون أن اللّه خالق جن--ة *** ونار ، وتعذيب ، وغل يدي--ن

فإن صدقوا فيما يقولون ، إنني *** أتوب إلى الرحمان من سنتين

وإن كذبوا فزنا بدنيا عظيمة *** وملك عقيم دائ--م الحجلي--ن

فأوجد هذه المسرحية الخيالية في ذهنه وجعلها ملجأ لجنايته ، وتبريراً لخيانته ، ظاناً أنه يستطيع إقناع وجدانه بهذا العمل ، وأنه يستطيع أن يخفيه خلف أستار المغالطات الموهومة ، ويحفظ نفسه من تعذيب الضمير إلى الأبد غافلاً عن أن الوجدان الأخلاقي الفطري ينظر بنور الواقع ، وأنه لا يسكت بالتبريرات الباطلة ، فالوجدان مشعل وضاء موجود في باطن الانسان. بأمر من اللّه ، ولا يمكن إطفاؤه بهذه الكلمات. إن الوجدان الأخلاقي لا ينسى واجبه السماوي ، ولا يدع المجرم لوحده ، ولا يفسح المجال له ليتخلص من تعذيبه ولومه وتقريعه.

ولقد صمم إبن سعد على ألا يستمع لنداء الوجدان ، ويتجاهل وجوده تماماً ، ولكن تجاهل الحقيقة لا يقدر على إزالة الحقيقة.

« إن ما لا شك فيه أن هذه الحالات ناتجة عن أن الانسان يمتنع عن سماع نداء الوجدان ، هذا الامتناع هوالذي يولد هذا التصور الخادع القائل بأنه لا يوجد وجدان. في حين أن الوجدان اليقظ قد لاذ بالوجدان المغفول » (1).

ص: 316


1- جه ميدانيم؟ بيماريهاى روحى وعصبى ص 66.

وأخيراً فقد صمم على ارتكاب الجريمة ، وأقدم على أعظم الذنوب أملاً في الحصول على حكومة الري ... ولكن أسفرت النتيجة عن حرمانه من تلك الأمنية ، وهنا تناوشته الضربات القاضية من قبل الوجدان من جهة وحز في نفسه انهياره السياسي وفشله الاجتماعلي من جهة أخرى ... فوقع في أسر الأمراض الروحية والاضطراب النفسية وسلبت من راحته فأمر أن يمد فراشه طوال الليل والنهار ، فكان يستلقي في الفراش تارة ، ويتمشى في البيت أخرى ويتخطى في الأزقة بلا إرادة ثالثة ... وكانت عاقبته أن لاقى حتفه على يد أحد الضباط الثوار في ذلك الفراش ، وأنهى حياته المشؤومة بهذا الوضع المزري.

* * *

الهدوء النفسي :

إن أسعد الناس هو الذي يملك نفسه ويسيطر على رغباته ، لا يحوم حول الذنب ، يستمع إلى النداء الواقعي للوجدان باذن الذكاء ، يعيش حياة ملؤها الهدوء والارتياح ، ويغادر الحياة بروح مطمئنة ونفس هادئة ... ولكن المؤسف أن هؤلاء الأفراد هم الأقلية في كل مجتمع وأمة ... فإن الأكثرية يقعون تحت أسر الأهواء والميول النفسانية ، ونجد أن الغرائز والشهوات تسيطر بقوتها القاهرة ، على أكثر طبقات المجتمع وتبعثهم على الاجرام والدنس!.

لقد فتح الأنبياء علیهم السلام أبواب الاستغفار والتوبة والكفارات على هؤلاء لإنقاذ المجرمين من الانهيار التام ، ولارجاعهم مرة أخرى إلى طريق السعادة والفضيلة وتخليصهم من تعذيب الضمير ... ولذلك نجد أن رسل السماء كانوا يبشرون الناس على مر العصور بالعفو والمغفرة والرحمة من اللّه العظيم ، ولهذا الارشاد السماوي العظيم أهمية كبيرة في أنظار علماء النفس المعاصرين ، حيث يعتبرونه من المسائل الأساسية في علاج الأمراض الروحية.

« إن تعذيب الضمير مؤلم جداً ، فقد يظهر بمظهر الندم الذي لا يمكن تهدئته إلا بتدارك الخطأ أو الدية ، ولهذا فان لغفران الذنوب

ص: 317

دوراً كبيراً وأهمية عظيمة في الأديان السماوية » (1).

إن على المجرمين إما أن يستمروا في انحرافهم ويتمادوا في طغيانهم يعمهون ، ويزجوا بأنفسهم والمجتمع في النتائج الخطيرة والوخيمة ، والنفسية لها والاجتماعي ، أو يرجعوا عن الطريق المنحرف ويتوبوا إلى اللّه تعالى أملاً في العفو والمغفرة. ويكفوا عن الذنوب فيصبحوا أناساً طيبين طاهرين تماماً.

في الصورة الأولى نجد عوارض وأخطاراً تنتاب الفرد وتعم غيره من جراء الاستمرار في إجرامه نستعرض على سبيل المثال بعضاً منها :

1 - خطر اليأس :

إن المجرم الذي يستلذ طعم الاجرام ، ويرى أن القيام به متأصل في نفسه وغير قابل للزوال ، ولا يملك أي أمل في تطهير نفسه ومغفرة اللّه له يستمر في ارتكاب الجرائم بجسارة وجرأة كبيرتين لا يتورع من القيام بأي عمل مخالف، وبديهي أن اإنساناً كهذا يصبح فرداً خطراً في المجتمع بدلاً من أن يكون عضواً نافعاً فيه ، ذلك لفقدانه الأمل في المغفرة، واليأس من العودة إلى الصواب، ولجرأته في الذنوب ... وهكذا يكون خطراً شديداً على مجتمعه.

2 - إتهام الأبرياء :

إن المجرم يحاول - لتبرئة نفسه، وبسبب ا لآلام الوجدانيه التي يلاقيها - أن يتهم الأبرياء ، وينسب جرئمه إليهم ... وهذا العمل بنفسه يعدّ جريمة أكبر من ارتكاب الجريمة ذاتها ، إذ من الممكن أن يؤدي في بعض الحالات إلى نشوء الاختلالات الاجتماعية ، والمفاسد التي لا تدرأ ، أو أن يعرّض أرواح الناس ,اموالهم إلى أخطار شديدة.

« إن الجرائم تضمن أخطاراً كبيرة لمجتمع ، والاحساس بالاجرام يمكن أن يؤدي إلى ظهور بعض الأعراض النفسيه التي منشؤها حب البراءة والتي تنتهي إلى تحطيم الكيان الاجتماعي ، وإذا دققنا في

ص: 318


1- جه ميدانيم؟ بيماريهاى روحى وعصبى ص 66.

الموضوع وجدنا أن هذه الأعراض الناشة من حب البراءة، تقود الانسان إلى اتهام الآخرين، وأن الأبرياء الذين يرمون بالتهم الكاذبة يقفون بدورهم موقفاً دفاعياً ضد تلك الاتهامات وهكذا تولد موجة من التهم والمواقف الدفاعية التي لاحظنا بعض النماذج الحية منها ... وأخيراً تنتهي هذه الحالات بهدم العنصر الأخلاقي والقيم المثلى في المجتمع الذي تحدث فيه »(1).

3 - غفران الذنوب :

عندما تكون نوعية الذنب مهمة جداً، ولا يملك المذنب أملاً في المغفرة والعفو الالهي فإن الضغط الشديد الذي يلاقيه من الوجدان الأخلاقي يؤدي به إلى الجنون ويبعث به إلى ارتكاب الجرائم الخطيرة ، ويفقد مجتمع بأسره راحته وهدوءه من جراء جرائمه التي لا تعد ولا تحصر. أما في الصورة الثانية عندما يندم المذنب على ما ارتكبه بفضل إرشادات الأنبياء ، ويطمئن إلى المغفرة والعفو ، ويظهر ندمه وتوبته بلسان لاعتذار إلى المقام الالهي ... حينذاك تحل عقدته الباطنية ، ويهدأ وجدانه ، ويتخلص من اللوم الباطني ويستمر في حياته بروح مطمئنة هادئة وبهذه الصورة يمكن الوقوف أمام سقوط عضو من أعضاء المجتمع.

« عندما تمد الأيدي إلى أحضان الوجدان ، وعندما يقر المجرم بذنبه ، ويستعد لاصلاح نفسه ... فان الأمل في الرحمة والمغفرة يطفئ الاحساس بالجريمة ، ويولد فيه الهدوء والسكينة حيث يستطيع بهما أن يخرج رأسه بفخار من كابوس الاجرام الفضيع ، وينسى بذلك ماضية » (2).

* * *

على أن التوبة الحقيقية والمغفرة للذنوب والفرار من الضغط الوجداني تستلزم

ص: 319


1- جه ميدانيم؟ بيماريهاي روحي وعصبى ص 66.
2- بيمهاريهاى روحى وعصبى ص 67.

بعض القواعد والأسس المعنوية والنفسية ، وبدونها لا يمكن الحصول على الاطمئنان النفسي ، والفرار من دنس الجريمة وهي :

1 - الاقرار بالذنب :

على المذنب أن يقر ويعترف بذنبه تجاه المقام الالهي بصراحة ، ويطلب منه العفو والمغفرة. إن الاقرار بالذنب يستطيع أن يزيل درن الذنب ، ويجلب رحمة اللّه الواسعة ، ويقنع الوجدان الأخلاقي الناظر بعين الواقع ، ويحل العقدة الباطنية ، ويخلص الانسان من الضغط المتواصل للنفس اللوامة.

أما الذين يرتكبون الذنوب ، ولا يعترفون بإجرامهم بسبب الأنانية والكبرياء لا يتوفقون للتوبة الحقيقية ، ويكونون مشمولين للعذاب الالهي ومصابين بمضايقة الوجدان ، واللوم والتقريع المستمرين منه.

« عن أبي جعفر علیه السلام : واللّه ما ينجو من الذنب إلا من أقر به » (1) وقد ورد عنه ( أي الامام الباقر - ع - ) أيضاً : « ما أراد اللّه تعالى من الناس إلا خصلتين : أن يقروا له بالنعم فيزيدهم ، وبالذنوب فيغفرها لهم » (2)

يقول الامام أمير المؤمنين علیه السلام : « حسن الاعتراف يهدم الاقتراف » (3).

2 - رجاء المغفرة :

يجب على المذنب أن يكون مطمئناً إلى رحمة اللّه الواسعة وراجياً لعفوه ومغفرته ، لأنه لو لم تكن فيه هذه الحالة النفسية والاعتقاد الواقعي لا يستطيع أن يزيل وصمة الاجرام بالتوبة والاعتذار ، ولا يتسنى له التخلص من تأنيب الضمير.

لقد وضع الاسلام الناس في مركز وسط بين الخوف والرجاء فحث المستقيمين في سلوكهم على عدم الاعتداد والعجب بالنفس ، وان لا يروا أنفسهم بأمن من

ص: 320


1- الكافي 2 426.
2- الكافي 2 426.
3- الارشاد للمفيد ص 142.

عذاب اللّه لحظة واحدة ، وأوصى المذنبين أيضاً بأن لا ييأسوا ، بل يعمروا قلوبهم بالرحمة من اللّه دائماً.

يقول الامام الصادق (عليه السلام) بهذا الصدد : « إن من الكبائر عقوق الوالدين ، واليأس من روح اللّه ، والأمن لمكر اللّه » (1).

إن ميدان الخوف والرجاء في الروايات الاسلامية واسع جداً ، فمهما كان المذنبون غارقين في المعاصي يجب عليهم أن لا ييأسوا من رحمة اللّه. يقول الامام أمير المؤمنين لولده (عليه السلام) مذكراً إياه برحمة اللّه التي لا تتناهى ومغفرته التي لا تقف عند حد ... « وارج اللّه رجاءً أنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك » (2).

فليس للمسلم المذنب أن ييأس من فيض رحمة اللّه ، مهما عظمت ذنوبه ... «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» (3).

* * *

3 - الندم وطلب المغفرة :

إن على المذنب بعد الاقرار بالذنب ، ورجاء المغفرة ، أن يطلب العفو والغفران في كمال الصدق مظهراً ندمه الواقعي على أفعاله السيئة ، وطبيعي أن يغفر اللّه الذنب مهما كان عظيماً في ظروف مثل تلك ، وهذا هو معنى التوبة الحقيقية. فإذا أظهر شخص الاستغفار بلسانه ولم يكن نادماً في قلبه على اعماله البذئية ، فانه لم يتب توبة حقيقية ولا تطهر نفسه.

يقول الامام الرضا (عليه السلام) بهذا الصدد : « من استغفر اللّه بلسانه ولم يندم بقلبه ، فقد استهزأ بنفسه » (4).

ص: 321


1- الكافي للكليني ج 2 277.
2- مجموعة ورام ج 1 50.
3- سورة الزمر 53.
4- مجموعة ورام ج 2 110.

إن المذنبين الذين يتوفقون للتوبة الحقيقية ويخلصون أنفسهم بذلك - وفي ظل العنايات الالهية - من دنس الذنوب ، يحوزون على ضمائر هادئة وأرواح مطمئنة ، فلا يحسون بالحقارة والضعة في نفوسهم بعد ذلك ولا يسمعون تأنيباً من الضمير ، ويبلغ بهم التنزه عن الذنوب إلى درجة أنهم يصبحون كأن لم يقترفوا ذنباً أصلاً ، يقول الامام الصادق (عليه السلام) « التائب من الذنب كمن لا ذنب له » (1).

* * *

الايمان وتدارك الخطأ :

لا بد من التنبيه إلى هذه النقطة ، وهي أن الشرط الأول للتوبة الحقيقية وغفران الذنب هو الايمان باللّه. إن الذي لا يملك رصيداً قوياً من الايمان أو أنه مادي ومنكر لله أساساً ، لا يوفق لتطهير نفسه عن طريق التوبة وغفران الذنوب ، فهو يلاقي الجزاء الصارم من تأنيب الضمير وكابوس الوجدان حتى آخر عمره ، إن السبب في الاختلالات الروحية أو الجنون الذي يحصل للبعض من جراء تعذيب الضمير إنما هو فقدان عنصر الايمان عندهم ، وعدم إحساسهم بوجود ملجأ معنوي. ولذلك فهم لا يستطيعون حل العقدة النفسية المتفاقمة في نفوسهم عن طريق التوبة والاستغفار. ولقد شاهدنا كثيراً من هؤلاء في عصرنا الحاضر ، كما أنهم كانوا موجودين في العصور السابقة أيضاً.

كيف يستطيع عمر بن سعد ( وهو الذي يظهر تزلزل العقيدة في كلماته ، ويبدو وتردده في الأصول الاسلامية المسلم بها ) أن يطهر نفسه عن طريق التوبة الحقيقية؟!.

وعلى العكس من ذلك ، فإن الذين تتألق في نفوسهم جذوة من الايمان والاعتقاد باللّه ، إذا ارتكبوا ذنوباً كبيرة فإن أدنى التفاتة نحو اللّه والاستغفار منه كاف في تخليصهم من ورطة المعصية ، وإذا كان يأسهم من رحمة اللّه على أثر الغفلة أو

ص: 322


1- سفينة البحار للقمي مادة غفر ص 322.

الجهل فبمجرد أن يطلعهم على ذلك مرشد ديني عظيم نجدهم يرفعون أكف التضرع نحو اللّه تائبين نادمين ، واللّه يتقبل توبتهم ويغفر لهم ذنوبهم.

إن في القصة الآتية أجلى شاهد على ذلك : -

« كان علي بن الحسين علیه السلام في الطواف ، فنظر في ناحية المسجد إلى جماعة ، فقال : ما هذه الجماعة؟ قالوا : هذا محمد بن شهاب الزهري ، اختلط عقله فليس يتكلم فأخرجه أهله لعله إذا رأى الناس أن يتكلم فلما قضى علیه السلام طوافه خرج حتى دنا منه ، فلما رآه محمد بن شهاب عرفه ، فقال له علي بن الحسين علیه السلام : ما لك؟ قال : وليت ولاية فأصبت دماً فدخلني ما ترى. فقال له علي بن الحسين : لأنا عليك من يأسك من رحمة اللّه أشد خوفاً مني عليك مما أتيت. ثم قال له : أعطهم الدية. فقال : فعلت فأبوا. قال : إجعلها صرراً ، ثم انظر مواقيت الصلاة فألقها في دارهم » (1).

فنجد أن الامام علیه السلام يحل مشكلة اليأس عند ذلك الوالي الذي قتل شخصاً بغير حق فأصيب بالجنون. بعلاج نفسي بسيط ... ولذا نجد أن الغربيين يهتمون بهذه العلاجات. وفي ذلك يقول الأستاذ ( هنري باروك ) فيما مضى من حديث :

« إن تعذيب الضمير مؤلم جداً ، فقد يظهر يظهر بمظهر الندم الذي لا يمكن تهدئته إلا بتدارك الخطأ أو الدية. ولهذا فإن لغفران الذنوب دوراً كبيراً وأهمية عظمية في الأديان السماوية ».

* * *

ص: 323


1- مجموعة ورام ج 2 4.

المحاضرة الرابعة عشرة: التربية على أساس الايمان

اشارة

قال اللّه تعالى : «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (1).

لقد تعرضنا في محاضرة سابقة إلى ضرورة استناد تربية الطفل إلى الأدراكات الطبيعية والميول الفطرية للانسان ، فأساليب التربية التي تبنى على هذا الأساس تكون هي الصحيحة ، وهي الطريق الواقعي للسعادة الانسانية. وجرنا هذا الحديث إلى البحث في الوجدان الفطري بصنفية : العقيدي والأخلاقي بإسهاب ضمن ثلاث محاضرات. ولهذا فسيدور بحثنا من اليوم فصاعداً حول كيفية الاستفادة من الفطريات في تربية الطفل.

الأساس الأول للتربية :

إن الأساس الأول الذي يجب تعليمه للطفل في سبيل التربية الصحيحة إشعاره بوجود اللّه والايمان به بلسان ساذج متسير الفهم. لقد سبق أن بينا في المحاضرة العاشرة أن الحاجة للايمان باللّه موجودة في باطن كل انسان بفطرته الطبيعية. فعندما يبدأ جهاز الادراك عند الطفل بالنشاط والعمل ، ويستيقظ حس التتبع فيه ، ويأخذ في السؤال عن علل الأشياء ومنشأ كل منها ، فان نفسه الطاهرة وغير المشوبة تكون مستعدة تماماً لتلقي الايمان بخالق العالم ، وهذه الحالة هي أشد الحالات طبيعية في بناء الطفل.

وعلى القائم بالتربية أن يستفيد من هذه الثروة الفطرية ، ويفهمه أن الذي خلقنا ،

ص: 324


1- سورة البقرة 256.

والذي يرزقنا ، والذي خلق جميع النباتات والحيوانات والجمادات ، والذي خلق العالم ، وأوجد الليل والنهار ، هو اللّه تعالى ... إنه يراقب أعمالنا في جميع اللحظات فيثيبنا على الحسنات ويعاقبنا على السيئات.

هذا الحديث سهل جداً وقابل للاذعان بالنسبة إلى الطفل ونفسه فنراه يؤمن بوجود اللّه في مدة قصيرة ويعتقد به. بهذا الأسلوب نستطيع أن نخلق في نفس الطفل حب النظام والالتزام ونحثه على الاستقامة في السلوك وتعلم الفضائل الخلقية والملكات العليا بالتدريج.

إن للايمان باللّه - وهو إحياء لأعظم قوة وجدانية عند الانسان - آثاراً ونتائج مهمة في إحياء سائر الفطريات الخلقية والمثل العليا ، وبإمكانه أن يخرج تلك الفطريات جميعها من مرحلة القوة إلى الفعلية بأحسن صورة وبعبارة أوضح نقول إن للايمان باللّه أثرين مهمين : ( الأول ) أنه يعمل على إحياء أعظم واقعية روحانية أي الفطرة العقيدية ، ويصب ركائز السعادة الواقعية للانسان. ( والثاني ) : إن جميع الفطريات الروحية والفضائل الخلقية تستيقظ في ظل القوة التنفيذية للايمان ، وتتحقق في الخارج.

ومهما بلغت قيمة الوجدان الأخلاقي ، ومهما خطر دوره في تحقق سعادة الانسان ، لكنه إذا لم يكن مستنداً إلى الايمان فلا يقوى على حفظ البشرية من التردي والسقوط. وكذلك سائر الصفات الصالحة إن لم يكن لها سند إيماني فانها تندحر أمام الغرائز والميول اللامشروعة في الصراع بينها.

القوانين الطبيعية من سنن اللّه :

لا شك في أن العالم ثابت على أساس من العلم والنظام الدقيق ، والحكمة المتناهية ، فكل جزء من أجزاء الكون قد استقر في الموضع المخصص له حسب نظام دقيق وقياس كامل. وهذه الظاهرة بنفسها تعتبر في نظر العلماء سنداً ثابتاً ودليلاً متقناً على وجود المبدأ القادر للعالم. إن الصدفة ( التي يستند إليها الماديون في نظريتهم ) لا علم لها ، ولا قدرة ، ولا حافظة ، ولا وجدان ... وهي تعجز عن أن توجد هذا النظام العجيب والمحير للعقول.

ص: 325

يشرح الامام الصادق (عليه السلام) بعض آثار عظمة اللّه وقدرته في عالم المخلوقات لتلميذه المفضل الجعفي ، ويستدل بها على وجود اللّه تعالى ، وفي الأثناء يسأل المفضل من الامام (عليه السلام) قائلاً : « يا مولاي ، إن قوماً يزعمون أن هذا من فعل الطبيعة. فقال : سلهم عن هذه الطبيعة ، أهي شيء له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال أم ليست كذلك؟ فإن أوجبوا لها العلم والقدرة فما يمنعهم من إثبات الخالق؟ فإن هذه صنعته. وإن زعموا أنها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمد ، وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة فاعلم أن هذا الفعل للخالق الحكيم ، وأن الذي سموه طبيعة هو سنة في خلقه الجارية على ما أجراها عليه » (1).

إن النظام الدقيق والانسجام الشامل لأرجاء الكون ، هو معلول القوانين والسنن المتينة للكون. وهذه النواميس والسنن الكونية تحكم جميع الموجودات ، فهناك القوانين الفلكية التي تنظم آلاف الملايين من الأجرام السماوية ، وتجعل كلا منها في المدار الخاص به ، أما قوانين الحياة فهي تنظم عالم النباتات والحيوانات والبشر بالدقة المتناهية. لكن هذه القوانين لا تملك أقل إطلاع عن الأعمال العظيمة والمحيرة التي تقوم بها. إن مثل القوانين الطبيعية في النظام والتربتي والجهل بالنشاط الصادر منها مثل الآلة الحاسبة : ففي نفس الوقت الذي تؤدي الآلة الحاسبة عملها مجيبة على المسائل الرياضية لا تعرف شيئاً عن عملها ، إن الآلة الحاسبة لا تعرف أنها تشتغل في المصرف ، إنها لا تعالم بمدى ضخامة الأعداد التي تجيب عليها بسرعة. إن الآلة الحاسبة تؤدي عملها هذا تبعاً لقاعدة الجبر ، ولا تملك أي إرادة أو اختيار في ذلك. لكن تركيبها الدقيق والنظم يعد أكبر سند متقن وصريح على وجود مهندس عالم كون تلك الآلة بعلمه وقدرته ، وسيرها لأداء هذه المهمة.

كذلك القوانين الطبيعية في العالم التي لا تملك علماً أو اختياراً. وهي تكون دليلاً واضحاً وشاهداً على وجود الخالق الحكيم الذي أوجدها وعين لكل منها واجباً خاصاً.

ص: 326


1- بحار الأنوار ج 2 12.

ولقد رأينا كيف أن الامام الصادق (عليه السلام) استدل عن طريق القوانين الطبيعية على وجود اللّه تعالى واعتبر ذلك سنداً محكماً على إثباته.

العالم في نظر الالهيين والماديين :

إن الأثر الأول الذي يظهر من إحياء المعرفة الفطرية والايمان باللّه والذي يقسم الناس إلى صنفين : مؤلهين وماديين ، هو نظرتهم إلى الكون فالالهيون يرون أن هذا الكون عبارة عن هيكل عظيم وضخم أسس بعلم اللّه تعالى وإرادته على أساس المصلحة والحكمة ، أما الماديون فيرون أن الكون عبارة عن مجموعة أوجدتها الصدفة العمياء الصماء ، بلا علم أو اختيار.

الالهيون يرون أن الانسان موجود ممتاز خلقه اللّه مع قابلية التعالي والتكامل الذي لا يقف عند حد وسوى له طريق التقدم في ظل العقل. أما الماديون فيرون أن الانسان وجد على أثر طائفة من العوامل الاتفاقية وحصل على العقل عن طريق الصدفة ، وصار بهذه الصورة الحاضرة.

الالهيون يرون أن الوجدان الخلقي ثروة ثمينة أودعها اللّه تعالى في باطن الانسان لضمان سعادته ، وأن الخالق الحكيم الذي هيأ لكل موجود ما يساعده في التكيف لظروف الحياة هو الذي منح للانسان هذه الطاقة الجبارة ( الوجدان ) ليميز في ظلها بين الخير والشر ، ويسير في طريق التعالي النفسي ، والتكامل الروحي. أما الماديون فانهم يرون أن الوجدان الانساني يشبه الانسان نفسه في كونه وليداً للصدفة ، وواقعاً على سبيل الإتفاق.

الالهيون يرون أن الانقياد إلى أوامر الوجدان إنما هو انقياد للهداية التكوينية التي أوجدها اللّه الذي يجب الخير والسعادة للانسان ، وهم يرون أن الوجدان الأخلاقي قوة مقدسة ، ومشعل وضاء ، أشعله الخالق العظيم في باطن كل إنسان. ولذلك فانهم ينظرون إلى هذه الثروة العظمية التي هي منحة اللّه تعالى بعين التكريم والاحترام. ويرون طريق الساعدة والفلاح منحصراً في تنفيذ أوامرها. أما الماديون فيرون أن الوجدان - وهو معلول للصدفة العمياء الصماء - لا يتصور له أي احترام أو تقديس ولا ضرورة في تنفيذ أوامره أصلاً ، لأنه لم يوجد تبعاً للعلم والمصلحة.

ص: 327

الايمان وإحياء الفطريات :

إن ما لا شك فيه أن إحياء المعرفة الفطرية وسيلة لحسن تنفيذ سائر الفطريات. فالذين يؤمنون باللّه إيماناً واقعياً ويعملون على إيقاظ الفطرة التوحيدية في باطنهم ، يصغون إلى نداء الوجدان الأخلاقي بدقة وينفذون أوامره ، لأنهم يرون فيه إلهاماً إليهاً ، وهداية نحو السعادة.

« إن افراد البشر في أي سن كانوا ، يستجيبون للاحساس في نشاطهم أكثر من استجابتهم للمنطق ، وبذلك يطيعون قوانين الحياة الصامرمة إذا وجدوها مظهراً لارادة اللّه تعالى لا قوة عمياء ... برغبة أكثر. ولقد ثبت بالتجربة أن الانقياد إلى شخص واحد يكون أفضل بكثير من الانقياد إلى قاعدة. إن القوانين الطبيعية التي تخص حفظ الحياة ودوام التكاثر ، والتعالي النفسي تلقى سنداً ونفوذاً أكثر إذا استندت إلى المشيئة الإلهية » (1).

لقد شرحنا في محاضرات سابقة أن الغرائز والهدايات التكوينية في عالم الحيوانات هي التي تخطط لها طريق تكاملها وتقدمها ، وهي مجبرة علىالانقياد لها ولا توجد هناك رقابة لتنفيذ تلك الخطط من قبل الحيوانات ، أما الانسان العاقل والحر في إطاعة الإلهام الإلهي ومخالفته ، يستطيع أن ينقاد لتلك الهداية ويسعد بها أو يخالف فيشقى. إن الايمان وإحياء المعرفة الفطرية هو الرقيب الصارم لتنفيذ الهدايات التكوينية والفطريات الخلقية. إن القوة الايمانية تستطيع أن تحفظ الانسان في مزالق الغرائز. وتحثه على إطاعة أوامر الوجدان الأخلاقي والالهام الالهي.

تعارض الوجدان والغرائز :

إن جميع الناس يملكون وجداناً فطرياً ... كلهم يعلمون أن الظلم قبيح ويدركون أن الخيانة سيئة ... الكل يرتاحون للصدق ، ويميلون فطرياً إلى الأمانة والوفاء بالوعد ، كل الناس يستاءون من الخيانة والكذب وبصورة موجزة : فان الناس جميعاً يدركون حسن وقبح أصول الفضائل والرذائل بوحي من فطرتهم. ولكنهم في مقام العمل قلما يلتفتون إلى نداء الفطرة ، ذلك أن الانسان حر في إطاعة أوامر

ص: 328


1- راه ورسم زندكي ص 169.

الوجدان أو الخروج عليها فعندما لا يوجد تعارض أو تصادم بين الوجدان والميول النفسانية فان الانقياد للوجدان أمر هين. ولكن عندما تستلزم إطاعة الوجدان الأخلاقي التخلي عن بعض الميول الغريزية فهناك تشتد العقدة ،وفي الغاب تنتصر الغريزة ويندحر الوجدان ، إلا إذا كان الوجدان مستنداً إلى الايمان وكان الاعتقاد الحقيقي بخالق الكون يدعم الصفات الانسانية.

لقد تعرض الصديق يوسف في ريعان شبابه وأحرج مراحل نضجه الجنسي ، إلى أخطر مشكلة منافية للعفة والشرف : فقد وقعت امرأة متزوجة في غرامه ، وعرضت عليه الاتصال الجنسي به. كانا - كلاهما - بشرين ولكل منها رصيد ضخم من الميول الجنسية ... ولكن قوة الغريزة غلبت على عفة المرأة وجعلتها تطاوع رجلاً غريباً في نفسها فاستسلمت إلى ميولها بينما نجد أن للقوة الايمانية والبرهان الالهي الأثر الفعال في الدفاع عن عفة يوسف وصد تيار الغريزة الجارف. وبذلك حفظ شرفه ، واحتفظ على نقاوة ذيله من دنس الانحراف «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ» (1).

طغيان الغرائز واندحار الوجدان :

كان ( عبد الملك بن مروان ) يعيش حياة هادئة في شبابه ، وكان إنساناً رحيماً وشفوقاً ، يعطف على الناس ، ولا يحاول إيذاءهم ولا يتحدث عن أحد بشر ، كانت رغباته النفسية وميوله الغريزية مخفية ، وذلك لعدم وجود ميدان لظهورها ... ولم يكن يتصور أنه سيمسك بزمام الحكم في الدولة الاسلامية الواسعة ويتصرف في مقدرات ملايين الناس في يوم من الأيام.

ومرت الأيام بالتدريح ، حتى ظهرت الأوضاع والتحولات المفاجئة التي أدارت سير الزمن لصالحه. فقد تربع أبوه ( الذي كان والياً في يوم ما على المدينة ثم عزل من ولايته عليها ) على دست الخلافة ، على أثر التطورات السياسية المعروفة ، ونصب ( عبد الملك ) ذلك الشاب العطوف ولياً للعهد...

ص: 329


1- سورة يوسف 24.

ولم تمض أشهر قليلة حتى دس السم إلى مروان ومات ... فجلس عبد الملك على كرسي الخلافة بعده ... وهنا استيقظت ميوله وشهواته ووجدت لها مجالا واسا للمبارزة والكفاح.

لقد كان الوجدان يحكم إلى الأمس القريب في سلوك عبد الملك دون معارض أو معاند ، ولذلك كان يجتنب من الظلم والأفعال الاانسانية أما اليوم فقد استيقظت غرائزه ، وتعالت ألسنة نيرانها ، حتى اضطر وجدانه إلى الانسحاب والاندحار أمام تلك الأوضاع ، وكأن لم يكن في باطن عبد الملك وارتكبوا الجرائم الفظيعة التي لا حد لها ولا حصر.

يذكر لنا المؤرخون أنه لما أرسل ( يزيد ) جيشاً إلى مكة لقتل ( عبداللّه بن الزبير ) كان عبدالملك يقول : العياذ باللّه أفهل يجهز أحد جيشاً لمحاربة بيت اللّه الحرام؟! أما عندما تولى الخلافة بنفسه فقد أرسل جيشاً أعظم بقيادة الحجاج بن يوسف ( المجرم المعروف ) إلى مكة ، وقتل في سبيل ذلك كثيراً من الناس في حرم اللّه ليقبض على عبداللّه بن الزبير وأخيراً فقد حز رأسه وأرسله إلى عبدالملك في الشام وعلق جثته على عود المشنقة!.

حينئذ يقول عبد الملك : إني كنت أتمانع من قتل نملة ضعيفة أما الآن فعندما يخبرني الحجاج عن قتل الناس لا أجد أي قلق أو تأثر في نفسي! لقد قال أحد العلماء واسمه ( الزهري ) يوماً لعبد الملك : سمعت أنك تشرب الخمر! فأجابه نعم واللّه ، أشرب الخمر ، وأشرب دماء الناس أيضاً (1).

ما أكثر الناس من أمثال عبدالملك على مر التاريخ ، وحتى في عصرنا الحاضر! إن الغالبية العظمى من الناس يتبعون ضمائرهم في الحالات الاعتيادية ولكنهم عندما تثور غريزة من غرائزهم يسحقون الوجدان بأقدامهم ، ويطلقون العنان لميولهم النفسية ، إلا إذا استكانوا بالايمان وتسلحوا به ضد طغيان الغرائز! ... «إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي» (2).

ص: 330


1- تتمة المنتهى ص 84.
2- سورة يوسف 53.

العقل والغرائز :

والعقل هو الآخر عامل مهم في التلطيف من حدة الغرائز ، وتعديل الميول النفسانية ، فعندما يكون طغيان الغرائز خفيفاً يستطيع العقل إلى حد ما من تخفيف حدتها. أما عندما يشتد هيجانها ، وتظهر الغرائز بصورة سيل عارم يقتلع كل ما يجد في طريقه فان سد العقل يتحطم وبذلك يفقد العقل الانساني قدرته على المقاومة ، وتندفع نيران الرغبات النفسية كمخزن مشتعل من البارود ، وحينذاك يكون زمام الأمور بيد الشهوة ، تسيطر على الانسان وتوجهه كيف تشاء.

وعن أمثال هؤلاء الأفراد يتحدث الامام علي (عليه السلام) فيقول : « قد أحرقت الشهوات عقله ، وأماتت قبله ، وأولهت عليها نفسه » (1).

العلم والغرائز :

يتصور البعض ان ارتفاع المستوى الثقافي ، والتقدم في المدنية قادر على التخفيف من حدة الغرائز الثائرة ، والأخذ بيد الانسان إلى الفضيلة والكمال ... غافلين عن أن قوة التمدن المادية ( أي العلم الفاقد للايمان ) عاجزة عن الوقوف أمام تيار الغرائز ، شأنها في ذلك شأن العقل والوجدان ذلك أن الغرائز والشهوات من القوة في سلوك الانسان بحيث أنها عندما تثور ، ويشتد ضرامها وتندفع كسيل منحدر من قمة جبل ، تدع العقل والعلم والوجدان كقطع الخشب والأحجار التي تنقلع لأول صدمة ، ثم تتقلب وسط الأوحال إلى أعماق الوادي.

غلبة الغريزة على العلم :

ما أكثر المثقفين والعلماء الذين لا يملكون قوة الوقوف أمام تيار الميول الغريزية والرغبات اللاإنسانية ، ولا يستطيعون ضبط نفوسهم في تلك المواقف!.

ما أكثر المثقفين الذين يستطيعون تأليف كتاب حول قبح الارتشاء وأكل أموال الناس بالباطل ، وإثبات فساد ذلك من الناحية الاجتماعية والقضائية والاقتصادية

ص: 331


1- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 532 ط إيران.

والسياسية والوطنية وغير ذلك من النواحي ، ولكنهم في مقام العمل وفي مرحلة التطبيق ، لا يتورعون من أخذ الرشوة ، ولا ينصرفون عن الدرهم الواحد!.

ما أكثر المتمدنين الذي يعرفون أضرار الخمرة عن طريق العلم ويعرفون عوارضها المختلفة على الكبد والكلية والأعصاب والجهاز الهضمي ولكنهم لا يستطيعون الامتناع عن شربها حتى ليلة واحدة!.

ولهذا فقد وردت أحاديث كثيرة في ذم العلماء لا يطبقون علمهم وينقادون لأهوائهم ... منها :

1 - قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « العلماء عالمان : عالم عمل بعلمه فهو ناج ، وعالم تارك لعلمه فقد هلك » (1).

2 - وقد ورد أيضاً : « أوحى اللّه إلى داود : لا تسألني عن عالم قد أسكره حب الدنيا ، فأولئك قطاع الطريق على عبادي » (2).

3 - قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : يا أباذر ، إن شر الناس عند اللّه يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه » (3).

4 - وفي حديث آخر : « أشد الناس عذاباً في القيامة ، عالم لم يعمل بعلمه ، ولم ينفعه علمه » (4).

إن نسبة الجرائم والجنايات تزداد يومأً بعد يوم في الأمم المتمدنة في العالم بالرغم من الرقابات البوليسية الشديدة والعقوبات القانونية ... وهذا هو أجلى شاهد على أن التمدن والرقي وارتفاع مستوى الثقافة عاجز بوحده من مقاومة طغيان الغرائز ودفع الانسان إلى التمسك بالفضائل والمثل الانسانية ولحسن الحظ فإن علماء الغرب أنفسهم يعترفون بهذا!.

ص: 332


1- لئالي الأخبار ص 192.
2- لئالي الأخبار ص 192.
3- لئالي الأخبار.
4- مجموعات ورام ج 1 220.

« إن الأعمال التخريبية التي يرتكبها كثير من الناس بمجرد اضمحلال بعض القيود والموانع الاجتماعية تثبت أنه وإن كان الأفراد يعيشون في المجتمع ويوجدون المدنيات المختلفة ، لكنهم ليسوا متمدنين ».

« هذه الأكثرية بهذا المعنى ليست متمدنة ، حيث تحترم مظاهر المدنية تحت ضغط الرقابة الاجتماعية فقط » (1).

الهمجية في لباس التمدن :

لقد كان العالم المتمدن يرفع عقائر السلام والرخاء والانسانية قبل الحرب العالمية. ولكنه عندما اندلعت نيران الحرب انفجرت القنابل واضطرمت نيران المعارك الدموية وتحطمت الهياكل الجوفاء للمدنية وفقدت زينتها الظاهرة ... وحينذاك ظهر العالم المتمدن في ثوب الهمجية والفوضوية - أي لباسه الواقعي فقد استولت سحب الاجرام وسفك الدماء على سماء العالم وحل الحقد والانتقام محل الضحكات المصطنعة في وجوه الجماهير المتمدنة!.

« التبعيد ، والقتل العام للمدنيين ، ومعسكرات العمل الاجباري ( التي لم يكن ينتشر فيها الجوع والأمراض السارية فحسب ، بل كانت تستعمل فيها مختلف وسائل التعذيب والقمع والارهاب ) والتدمير الشامل اللامعقول بالقنابل ... كل هذه الوسائل كانت تستعمل كأساليب طبيعية واعتيادية في الحرب. ولذلك فقد كان الخوف والاضطراب مستولياً على العالم أجمع في الحرب العالمية الثانية ، وهكذا اختفت مظاهر احترام الحياة والمثل الانسانية ، والقيم الأخلاقية في كل مكان » (2).

لقد كان فرويد ( وهو الذي يبدي مخالفته الصريحة للتعاليم الدينية والعقائد الإلهية ) قبل الحرب يأمل انتشار التعاليم والقوانين التربوية وأصول المدنية الحديثة

ص: 333


1- إنديشه هاي فرويد ص 116.
2- انديشه هاى فرويد ص 117.

حتى تستطيع أن تحل محل الدين في أفكار العامة وبذلك يوصل البشرية إلى الكمال المنشود لها ... إنه يقول :

« إن ما لا شك فيه أن الدين قد قدم خدمات مهمة إلى الانسانية والمدنية نظراً للدور الكبير الذي لعبه في تهدئة الغرائز غير الاجتماعية ، ولكنه لم يستطع أن يتقدم في هذا المجال بالمقدار الكافي » (1).

إن فرويد يوصي بما يلي :

« من المستحسن أن نختبر منهاجاً تربوياً غير ديني ، فيعود الناس على غض النظر عن هذه التسلية ، ولأجل أن يثبتوا أمام الأخطار والصدمات معتمدين على أنفسهم فقط ، عليهم أن يهجروا هذا الملجأ ».

إنه يعتقد بأن :

« الفرد يستطيع في هذه الصورة فقط أن يكون إنسانأً راشداً ، وسيبدأ الكفاح مع القوى الشريرة في الطبيعة » (2).

أوهام فرويدية :

كان فرويد يعتقد قبل بدء الحرب العالمية بارتفاع المستوى الأخلاقي للأمة في ظل المدنية ، إنه كان يتصور أن الانسان يستطيع في ظل المدنية الحديثة وأصول التربية المادية أن يصل إلى طريق الفضيلة القيم العليا ، لكن اندلاع نيران الحرب والجرائم التي وقعت فيه هزت أفكار فرويد ، وقلبت تفكيره رأساً على عقب ، فاعترف بأوهامه السابقة وتفكيره الخاطئ ... وراح يقول :

« ولقد أدت مشاهدة الأعمال التي نتصورها غير مطابقة للمدنية ، وما نتج من هذه الأعمال الوحشية من نظرتنا إلى البشر على أنهم

ص: 334


1- انديشه هاى فرويد ص 96.
2- انديشه هاى فرويد ص 97.

مجرمون إلى أن نغرق في الألم والتأثر واليأس. ولكن هذا لايأس والألم ليسا وجيهين في الحقيقة ، وذلك أنا نعتبر سكان العالم لهذه الجهة منحطين وقد كنا مخطئين في نظرتنا إليهم قبل الحرب على أنهم في مستوى أخلاقي ومعنوي أعلى مما هم عليه » (1).

« بعد سرد هذا البيان الموجز الذي يوضح فرويد فيه ضرورة وقوف المدنية أمام الاعتداءات البشرية يستنتج أن الجهود والمحاولات المبذولة في هذا السبيل لحد الآن لم تكن مثمرة كما ينبغي ، ولا تزال الاعتداءات موجودة حلف أستار المجتمع ».

« هناك كثير من المتمدنين الذين يستاؤون من تصور ارتكاب القتل أو الاتصال الجنسي مع المحارم ولكن هؤلاء أنفسهم لا يعرضون عن إرضاء جشعهم وحرصهم واعتدائهم وأطماعهم الجنسية ».

« إنهم إذا استطاعوا الفرار من العقاب ، فسيلحقون الأذى بالأفراد الآخرين عن طريق الكذب ، والخداع ، والفتراء ، وما شاكل ذلك ... » (2)

« إن الحكومة تعتبر جميع الأمور المخالفة للعدالة والاعتداءات الأخرى التي لا يسمح بها في الأوقات الاعتيادية مباحة في حال الحرب. ولذلك فان الحكومة لا تكتفي بالاستعانة بالمكر والحيلة المواجهة العدو فقط ، بل لا تتمانع من الكذب العمد. ولقد لوحظ أن الكذب والتزوير كانا رائجين في الحرب العالمية بصورة غير مألوفة قبلاً » (3).

التمدن الفاقد للايمان :

إن المدينة المادية وأساليب التعليم والتربية التي لا تستند إلى الايمان تعجز عن أن تقاوم الغرائز عند طغيانها وتحمي البشرية من السقوط والانهيار.

ص: 335


1- انديشه هاى فرويد ص 117.
2- انديشه هاى فرويد ص 123.
3- انديشه هاى فرويد ص 125.

إن الحرب العالمية كشفت اللثام عن الوجه الحقيقي للمدنية بجرائمها التي تضمنتها والاعتداءات التي ارتكبت في أثنائها وأثبتت أن وراء ستار المدنية الزائفة هيكل موحش سفاك تهتز الانسانية من تصوره ، وتخجل أشد أمم العالم وحشية من سماعه.

إن أقوى وأسلم قوة تستطيع صد هجمات الغرائز والسيطرة عليها ، وتتمكن من تلطيف حدة المشاعر ... هي قوة الايمان باللّه. فالايمان قادر على أن يقاوم كل الميول والرغبات اللامشروعة وينتصر عليها ... القوة الايمانية تحفظ الانسان في أخطر لحظات الانحراف والانزلاق في الحياة وتمنع من سقوطه الايمان باللّه قوة لا تغلب ولا تدحر ، وملجأ لا يتحطم « فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن باللّه ، فقد استمسك بالعروة الوثقى ، لا انفصال لها ».

إن أهم طابع يميز مدرسة التربية الاسلامية عن غيرها من الأساليب التربوية البشرية هو ( الايمان باللّه ). يشترك الاسلام وعلماء الأخلاق في دعوة الناس إلى الصلاح والاستقامة لكن الفارق بينهما هو أن العلماء والقائمين على شؤون التربية يهتمون قبل كل شيء بالسلوك الظاهري للأفراد ، ويحاولون أن يربوا أفراداً مطيعين للقانون ، ولا شأن لهم أو دخل في أسلوب تفكيرهم. أما الهدف من التربية في الاسلام فهو أن يتربى الأفراد ، مضافاً إلى استقامة سلوكهم على التفكير السليم ، وأن لا يحاولوا إلا الصلاح والخير.

النوايا الصالحة :

تهتم الدول المتمدنة والمدارس التربوية في العالم بالسلوك الصحيح للانسان فقط. أما المذهب التربوي للاسلام فهو يهتم بالنوايا الصالحة والطاهرة للأفراد أكثر من أفعالهم الصالحة.

يقول الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « نية المؤمن خير من عمله » (1).

ص: 336


1- الكافي لثقة الاسلام الكليني ج 2 84.

وعن الامام الصادق (عليه السلام) ضمن حديث طويل : « والنية أفضل من العمل , ألا وإن النية هو العمل ، ثم تلا قوله عز وجل : «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ» يعني : على نيته » (1)

إن الفرد المنقاد للقانون والمطبق للتعاليم الأخلاقية يعد في الدول المتمدنة فرداً صالحاً ومواطناً شاعراً بمسؤوليته ولو كان شعوره الباطن منحرفاً وسيئاً ، أما المذهب الاسلامي فيرى أن المسلم الواقعي والشاعر بمسؤوليته هو الذي يعتقد بأساس الاسلام وتعاليمه القانونية والأخلاقية بالدرجة الأولى ، ويعتبر ذلك كله دستوراً إلهياً ، ومنهجاً قويماً لسعادته ونجاته ، ثم يطبق تلك التعاليم وينفذ تلك الأوامر بالدرجة الثانية.

يتحدث المدعي العام للمحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية - الذي يعد من الشخصيات العلمية البارزة هناك - عن هذا الموضوع فيقول :

« للقانون الأمريكي صلة محدودة بتطبيع الواجبات الأخلاقية. ففي الحقيقة يمكن أن يكون المواطن الأمريكي إنساناً منحطاً وفاسداً من الناحية الخلقية. في نفس الوقت يمكن أن يكون فرداً مطيعاً للقانون. ولكن الحال على عكس ذلك في القوانين الاسلامية التي تنبع من إرادة اللّه ، الارادة التي كشفت لرسوله محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، هذا القانون وهذه الارادة الإلهية يعتبران جميع المؤمنين مجتمعاً واحداً حتى لو كانوا من قبائل وعشائر مختلفة وموجودين في بلدان متباعدة ومتفرقة. إن المؤمن ينظر إلى هذا العالم على أنه ممر يوصله إلى عالم أرقى وأفضل وأن القرآن قد نظم القواعد والقوانين وأساليب سلوك الأفراد بالنسبة إلى بعضهم البعض وبالنسبة إلى المجتمع بصورة عامة كي يضمن ذلك التحول السليم من هذا العالم إلى العالم الآخر » (2).

ص: 337


1- وسائل الشيعة للحر العاملي ج 1 6.
2- مقدمة كتاب ( حقوق دار إسلام ) ص ج.

العمل المستند إلى الايمان :

يستند أساس السعادة الانسانية في الاسلام إلى دعامتين ، الأولى : الأيمان ، والإخرى : العمل الصالح. ولقد ورد التصريح بهذا الموضوع في القرآن الكريم في موارد عديدة بصورة : «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ» ونظائرها. والنكتة التي تجلب الانتباه هنا هي أن الايمان مقدم على العمل الصالح دائماً ، ذلك أن الاسلام يرى أن الأعمال الصالحة يجب أن تستند إلى الاعتقاد الحقيقي ، وتنبع من منبع الايمان وهذا بنفسه هو أجلى صورة للمذهب الاسلامي بهذا الصدد فيما ذكرناه.

إن الأعمال الصالحة التي يكون لها منشأ روحاني وأساس إيماني ثابت في أعماق قلب صاحبها تشبه الشجرة النضرة التي تمتد جذورها في أعماق التربة ، وتستمد حيويتها وطراوتها من الغذاء الذي تتناوله عن طريقها.

الرياء والتظاهر :

أما الأعمال الصالحة التي لا تملك أساساً إيماناً ثابتاً ، بل يكون منشؤها هو الرياء والتظاهر أمام الناس ، أو العادة الاجتماعية ... لا تبقى ثابتة أبداً ، بل هي معرضة للزوال أمام أبسط عامل مخالف.

إن الاحسان إلى الناس وإعانة الضعفاء من الأعمال الصالحة فمن يقوم بهذا العم المقدس امتثالاً لأمر اللّه واحتراماً للايمان ، يعمل في كل مكان وبلا أي منة بل يكون رائده الاخلاص وجلب رضى اللّه دون النظر إلى مدح الناس وإطرائهم أما الذي لا ينبع له إحسانه من رصيد إيماني بل يكون دافعه إلى ذلك ظروف المحيط ، والتظاهر أمام الناس ، وانتشار أمره في الصحف والمجلات ، فبمجرد أن تنتفي ظواهر الاطراء والمدح وتنقطع المجلات عن الحديث عنه ، أو يجهل الناس إحسانه نجد أنه يتقاعس عن الاحسان ، أو يتخلى عنه تماماً :

« يقول بعض الملحدين الذين يتميزون بصبغة أخلاقية : لما كانت المشكلة

ص: 338

الأساسية هي إطاعة القوانين الأخلاقية فاننا لو استطعنا تنفيذ هذه القوانين لأصبحنا في غنى عن الدين. هذا التفكير إنما هو علامة الجهل السيكولوجي. ذلك أن الانسان يشكك دائماً في قيمة القواعد التي لا يعرف منشأها ، مضافاً إلى أن سلوكاً كهذا دليل على عدم فهم المشكلة نفسها. لأن المقصود أن يتكامل الانسان في باطنه أولاً كي يستطيع التفكير بصورة أخلاقية ، ليس الهدف أن نحث الانسان على أن يؤدي حركات أخلاقية. فما لم يكن سلوك كل فرد مرآة تعكس تكامله العميق الداخلي ، فإن عملياته تعد سلسلة من التحديدات المتصنعة والموقتة التي تزول بأبسط مبرر. إن القواعد الأخلاقية إذا فرضت على الانسان فرضاً فمهما كانت قيمتها العملية عالة ، لكنها لا تستطيع أن تكافح الميول الحيوانية بصورة موفقة » (1).

« يرى بعض الكتاب أنهم أجل من أن يحتاجوا إلى المقررات والأنظمة الدينية والأخلاقية ، ولا يعتقدون بقيمتها المطلقة. إن سيطرة هؤلاء الأشخاص وانتشار آثارهم يمكن أن تكون هدامة. ولكن الغالبية منهم يغفلون عن هذه الحقيقة. إنهم يسندون أفكارهم إلى كلمات بعض الفلاسفة الكبار التي قرأوها بصورة سطحية أو لم يقرأوها أصلاً ، فيرون أن ( فولتير ) و( داروين ) كانا ملحدين والحال أن هذا مخالف للحقيقة. ولا ثبات هذا الادعاء ننقل نصاً لفولتير في موسوعته الفلسفية ... ».

« ما الذي نستنتجه مما مر؟ إن الانسان ، الملحد وحش كاسر! ».

« إن بعض المهندسين الجاهلين للفلسفة ينكرون العلل الغائية ، ولكن الفلاسفة الحقيقيين يذعنون لها. وكما يقول كاتب معروف : إن كتاب الدعاء هو الذي يعرف اللّه للأطفال ، بينما يثبت ( نيوتن ) وجود اللّه للمثقفين ».

« إن الإلحاد هو العيب المهم في عدة قليلة من الأذكياء والخرافة عيب الحمقى » (2).

ص: 339


1- سرنوشت بشر ص 216.
2- سرنوشت بشر ص 156.

الايمان والقيام بالواجب :

إن المؤمنين باللّه العظيم ، والذين يعمر قلوبهم العشق الإلهي ، يسعون في القيام بواجباتهم ، والأعمال الصالحة بشوق ونشاط لا يتطرق الملل والكلل إليهما ... ولا يتسرب إلى نفوسهم الرياء ... إنهم يعملون لله وحده ولا ينتظرون الجزاء إلا من عظمته.

« عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في قول اللّه عز وجل : «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا». قال : ليس يعني أكثر عملا ، ولكن أصوبكم عملا ، وإنما الاصابة خشية اللّه ، والنية الصادقة والحسنة، ثم قال الإبقاء علی العمل حتی يخلص أشد من العمل. والعمل الخالص: الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا اللّه عزوجل»(1).

الايمان وتعديل الغرائز :

إن من أهم نتائج الايمان الواقعي باللّه ، السيطرة على زمام الغرائز الثائرة ، وضبط الرغبات اللامشروعة ، فعندما يتحطم سد العقل والعلم والوجدان ، ويفق مقاومته أمام الضربات القاصمة للغرائز ، يثبت الايمان باللّه في قوته رصيناً وطيد الأركان ... ويمنع من إسراف الغرائز ، ويحفظ صاحبه من السقوط الحتمي ، وقد اعتبر ذلك من علائم المؤمن في الروايات الاسلامية.

« عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : إنما المؤمن ، الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولاباطل ، وإذا سخط لم سخطه من قول الحق ، والذي إذا قدر لم يخرجه قدرته إلى التعدي إلى ما ليس له بحق » (2).

لقد أشار هذا الحديث إلى ثلاثة ميول غريزية يعد كل منها مهواة سحيقة للانسان. فما أكثر الناس الذين يرتكبون جنايات عظيمة استجابة لإحدى الرغبات النفسية. أما الرجال المؤمنون فانهم يستطيعون في المواقع الحساية بمساندة القوى المعنوية أن يحفظوا أنفسهم من التلوث والدنس.

ص: 340


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 15 94.
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 15 94.

يقول الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) ضمن حديث طويل في بيان علائم المؤمن : « لا يحيف في حكمه ولا يجور في عمله ، نفسه أصلب من الصلد ، حياؤه يعلو شهوته ، وودة يعلو حسده ، وعفو يعلو حقده » (1)

الايمان والعزم :

يشير الامام علي (عليه السلام) في هذه الجمل بعد الاشارة إلى الروح الصلبة والعزم الحديدي للمؤمنين إلى أن غريزة الشهوة والحسد والانتقام مكبوتة في نفوس الأشخاص المؤمنين وأن القوة الايمانية تمنع من إسراف الرغبات المضطربة وهيجانها أكثر من الحد المقرر.

« عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال : ثلاثة هم أقرب الخلق إلى اللّه يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب : رجل لم تدعه قدرة في حال غضبه أن يحيف على من تحت يده ، ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الآخر بشعيرة. ورجل قال بالحق في ما له وعليه » (2)

في هذا الحديث يبين الامام الصادق علیه السلام غلبة الايمان على الميول النفسانية في ثلاثة أفراد.

وللرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بيان آخر يتضمن بعض صفات المؤمن فيقول : « ... مشمولاً بحفظ اللّه ، مؤيداً بتوفيق اللّه ، لا يحيف على من يبغض ، ولا بأثم في من يحب ، لا يجوز ولا يعتدي ، لا يقبل الباطل من صديقة ، ولا يرد الحق على عدوه » (3)

إن المؤمنين بخالق الكون هم الرجال الأحرار في العالم وليس للميول النفسانية والحقد والبغضاء طريق إلى نفوسهم ، أو مكنة في الانحراف بهم عن السلوك الصحيح والطريق المستقيم.

ص: 341


1- المصدر السابق ج 15 97.
2- وسائل الشيعة للحر العاملي ج 4 38.
3- بحار الانوار للعلامة المجلسي ج 15 82.

الايمان والهدوء النفسي :

إن الأثر الثاني للايماني باللّه يظهر في الهدوء النفسي. إن المؤمنين الحقيقيين مضافاً إلى قدرتهم على تعديل غرائزهم وشهواتهم بفضل الايمان يقدرون على الاحتفاظ بشخصيتهم أمام هجوم الحوادث ، وقبال الضربات الشديدة التي توردها المصائب وآلام الحياة عليهم فلا يصابون بأي إضطراب أو قلق تجاهها.

لقد حاصرت الحوادث والمفاجئات الطبيعية في العالم مثل الموت والمرض والزلزال والفيضان ، وما شاكل ذلك ، البشر من جهة ، والاخفاقات وحالات الفشل والانهيار في الحياة من جهة أخرى ... بحيث تلاقي جميع الطبقات الاجتماعية الأمرين من تلك المصائب والويلات.

وكما تخطو البشرية في مجالات المدنية ، وتزداد مباهج الحياة يوماً بعد يوم وتفتح العلوم الطبيعية أبواباً جديدة للذة على العالم كلما تتعقد المشاكل الاجتماعية وتتحرك حوافز الحرص والجشع وتثور دوافع حب المال والجاه ويطول الأمل ، ويشتد السعي وراء اللذة ، وتكثر الرغبات النفسانية. ومن الطبيعي في حاله كهذه أن تزداد الاخفاقات والانهيارات الروحية ويسود القلق والاضطراب على العام :

مرض القلق :

لقد أدى القلق والضطراب النفسي إلى تحويل ثلة كبيرة من المتمدنين المعاصرين في العالم إلى مرضى ، وهذا المرض الؤلم قد سلب راحة المصابين به من الرجال والنساء.

فنجد البعض منهم يستعينون للحصول على نوم بضع ساعات والاستراحة بأقراص مخدرة ومنومة ، أما في اليقظة فصراع دائب مع الآلام الباطنية والقلق المستمر!.

والبعض الآخر يلجأون لنسيان أنفسهم لبعض الوقت ، والتخلص من شر القلق الداخلي إلى استعمال المشروبات الروحية والحشيشة ، وبعملهم هذا يهدمون صرح سعادتهم وسلامتهم.

أما القسم الآخر فانهم قد فقدوا القدرة على المقاومة بالتدريج على أثر الضغط

ص: 342

الروحي المتواصل والقلق المستمر إلى حيث الاصابة بالأمراض النفسية أو الجنون ، وقضاء ما تبقى من العمر في مستشفيات المجانين بأسوأ حال وأشنع صورة!.

وهناك طائفة تأزمت حالتها تجاه المضايقات الروحية المستمرة إلى درجة أنها أفلتت عنان الاختيار من يدها ، وأقدمت على الانتحار هرباً من القلق والألم ، وبهذا الوضع المزري ينهون تلك السلسلة من الاضطرابات.

لقد اهتم قسم كبير من علماء النفس في الآونة الأخيرة بمعالجة مرض القلق الهدام ، وألفوا في ذلك انكتب المختلفة ، وتوصلوا إلى معالجة المصابين به عن طريق الايحاء ، والتحليل النفسي ، وحل العقد النفسية ... إن ما لا شك فيه أنهم تحملوا جهوداً كبيرة في هذا السبيل وتوصولا إلى نتائج مفيدة ... ولكن تلك النتائج ضئيلة ، ولا يزال يتضاعف عدد المصابين بالأمراض النفسية يوماً بعد يوم.

إن الغارق في بحر القلق والاضطراب الشديد لا يجد من نفسه حافزاً لقراءة الكتب العلمية النفسية ، ولا يملك القدرة على فهم تلك القواعد المجردة ، كي يستطيع تنفيذ تلك الوصايا ، وتخليص نفسه من القلق والاضطراب.

الايمان وعلاج القلق :

هنا يظهر دور الايمان الكبير في علاج مرض القلق. فإن المؤمنين يستدون إلى اللّه تعالى في مد الحياة وجزرها ، ويستعينون بألطافه وعناياته باستمرار ، ولذلك فهم يملكون أرواحاً قوية ، ونفوساً تتحدى التحطيم ، ولا يفشلون أمام تقلبات الحياة.

«... إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» (1). إن المؤمن لا يشعر بالصغار والذلة أبداً لأنه يجد أنه يستند إلى أعظم قوة في الوجود ، ذلك هو اللّه تعالى «أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (2).

وقد ورد عن الامام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى : «فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى» قوله (عليه السلام) : « هي الايمان باللّه وحده لا شريك له » (3).

ص: 343


1- سورة الأحقاف 13.
2- سورة الرعد 28.
3- الكافي ج 2 14.

كما أن حديثاً آخر يستند هذا الموضوع ، ذلك أن الراوي يقول : « سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن قوله عز وجل : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) قال : هو الإيمان. قال : قلت (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)؟ قال : هو الإيمان. وعن قوله : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى)؟ قال : هو الإيمان»(1).

لقد ورد التعبير عن الهدوء النفسي ، والارتياح الباطني عند المؤمنين في القرآن الكريم بعبارات مختلفة ، ولقد قام النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة (عليه السلام) بتفسير ذلك كله بالايمان ... فالايمان هو القوة الرصينة والقدرة التي لا تزلزل والتي إذا حلت في كل قلب ، لم يصب ذلك القلب بقلق أصلاً ، بل يستطيع أن يثبت في أحرج المواقف.

« يقول ويليام جيمس أبو علم النفس الحديث وأستاذ الفلسفة في جامعة ( هارفرد ) : إن أشد العقاقير تأثيرا في رفع القلق هو الايمان باللّه والاعتقاد الديني » (2)

« إن الايمان هو أحد القوى البشرية التي يحيا الانسان بمددها ، وإن فقدانها الكامل يعني سقوط الانسانية » (3)

تشكل القيمة المعنوية للايمان ، وآثاره العجيبة في قلوب المؤمنين ، فصلا مستقلا من فصول علم النفس الحديث في العالم ، ذلك أن كثيرا من الأطباء النفسانيين يستفيدون من قوة الايمان في حل أعقد العقد النفسية عند المصابين!.

الالحاد والقلق :

يعترف العلماء المعاصرون بأن قسماً مهماً من الاضطرابات الباطنية والأمراض النفسية والانتحارات منشؤها فقدان الايمان.

« في الولايات المتحدة الأمريكية يبلغ معدل الانتحار عملية انتحار واحدة كل (35) دقيقة ، ويصاب في كل دقيقتين شخص بالجنون ،

ص: 344


1- الكافي ج 2 15.
2- دع القلق وابدأ الحياة ص 159.
3- نفس المصدر 155.

وإذا كان لهؤلاء نصيب من الهدوء والاطمئنان اللذين يبعثهما الدين والعبادة للانسان كان من الممكن أن يمنع ذلك من حدوث أكثر هذه الانتحارات والاصابات بالجنون ».

« يقول الدكتو ( كارل جونك ) أشهر الأطباء النفسانيين في أحد كتبه : لقد راجعني في طي الثلاثين عاماً الأخيرة أناس من جميع الدول المتمدنة في العالم. وقد عالجت مئات المرضى ، ولم يوجد بين جميع هؤلاء المرضى الذين كانوا يقضون النصف الثاني من حياتهم أي الذين تزيد أعمارهم على الخمس والثلاثين سنة ، لم يوجد ينهم واحد لم ترتبط مشكلته بوجدان عقيدة دينية في الحياة في نهاية الأمر. ولذا أستطيع القول بكل تاكيد أن كلاً منهم كان قد تمرض لفقدانه ما تهبه الأديان الحية في كل عصر لاتباعها. وإن الذين لم يسترجعوا عقائدهم الدينية لم يوفقوا للعلاج أصلاً » (1).

إيمان الأنبياء :

إن أجلى مثال للايمان وآثاره العجيبة يمكن مشاهدته في تاريخ الأنبياء إنهم قاموا في ظروف شديدة ومعقدة جداً ، مليئة بالأخطار والمشاكل ، وكانوا يتعرضون للموت في كل لحظة ، ولكنهم استمروا على بث دعوتهم بلا أي اضطراب أو قلق ، ذلك أنهم كانوا مؤمنين باللّه وكانوا يرون أنفسهم في حماه وتحت كنفه.

ولقد تعلم اتباع الأنبياء دروس الهدوء النفسي من قادتهم فراحوا في ظل إيمانهم باللّه أقوياء إلى درجة أنهم لم يتزعزعوا أمام الحوادث والمصائب التي يلاقونها ، فلا يقعون فريسة القلق والاضطراب ... كان نظرهم متجهاً في الحرب والسلم ، في الفقر والغنى ، في الموت والمرض ... وفي كل الحالات إلى اللّه تعالى ، متطلعين إلى رحمته وكرمه. وعلى سبيل المثال نذكر قصة هذه الامرأة المسلمة : -

« خرجت مع صديق لي بالبادية فأضللنا الطريق ، فإذا رأينا في يمين الطريق

ص: 345


1- دع القلق وابدأ الحياة ص 154.

خيمة فقصدناها فسلمنا ، فإذا امرأة ردت علينا السلام ، فقالت : من أنتم؟ قلنا : ضالين قصدناكم لنأنس بكم. فقالت : أديروا وجوهكم حتى أعمل من محقكم شيئاً ففعلنا ، فقالت : أجلسوا حتى يجيء إبني وكانت ترفع طرف الخيمة وتنظر فرفعتها مرة ، فقالت : أسأل اللّه بركة المقبل. وقالت : أما الناقة فناقة ابني ، وأما الراكب فليس هو. فلما ورد الراكب عليها قال : يا أم عقيل عظم اللّه أجرك بسبب عقيل قالت : ويحك مات عقيل؟ قال : نعم. قالت : بما مات؟ قال : أزدحمته الناقة وألقته في البئر. فقالت له : أنزل وخذ زمام القوم. فقربت إليه كبشاً فذبحه وصنعت لنا طعاماً ، فشرعنا في أكل الطعام ونتعجب من صبرها فلما فرغنا خرجت إلينا وقالت : أيها القوم أفيكم من يحسن في كتاب اللّه شيئاً؟ قلت : بلى! قالت : إقرأ علي آيات أتسلى بها من موت الولد. قلت : اللّه عز وجل يقول : « وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) «الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ ... الْمُهْتَدُونَ» قالت : اللّه هذه الآية في كتاب اللّه هكذا؟ قلت : أي واللّه إن هذه الآية في كتاب اللّه هكذا فقالت : السلام عليكم فقامت وصلت ركعات ثم قالت : أللهم اني فعلت ما أمرتني به ، فانجز لي ما وعدتني به » (1).

أي قوة غير الايمان باللّه قادرة على تهدئة خاطر امرأة ثكلى بهذه السرعة والسلامة؟!.

أي قدرة غير الاعتقاد الديني تستطيع إطفاء لهب الحزن والويل من روح أم أصيبت بموت ولدها الشاب ، بهذه الفورية؟!!

إحياء الفطرة الأولى :

نعود فنلخص ما ذكرناه فيما سبق ، وهو أن الايمان باللّه إحياء لأولى القوى الفطرية عند الانسان ... إن الايمان باللّه كفيل بتنفيذ أوامر الوجدان الأخلاقي ... وهو أعظم ملجأ للانسان ، وأكبر عامل للهدوء النفسي واطمئنان الخاطر ... وبصورة موجزة ، فهو أهم أسس السعادة البشرية وأولى المواضيع التي اهتم بها الأنبياء في دعوتهم.

ص: 346


1- لئالي الأخبار ص 305 الطبعة الحديثة.

إن المربي الكفء والقدير هو الذي يلفت نظر الطفل منذ الصغر نحو اللّه تعالى ، ويلقنه درس الايمان به بلسان ساذج بسيط. إن على المربي القدير أن يتحدث إلى الطفل عن رحمة اللّه الواسعة اتباعاً لمنهج القرآن الكريم ويبذر في نفسه بذور الأمل ، ويفهمه أن اليأس من روح اللّه ذنب عظيم.

يجب أن يعرف الطفل منذ الصغر أن لا ييأس أمام حوادث الزمان ، فاللّه قادر على حل مشاكله وتيسير أموره ، فإن رفعنا يد الحاجة نحوه ساعدنا على مهمتنا.

على المربي أن يفهم الطفل أن أعظم الواجبات الانسانية هو جلب رضى اللّه ، وإن رضى اللّه يكمن في إطاعة أوامره التي بعثها إلينا ، عن طريق نبيه العظيم ، إن الصدق والأمانة يسببان رضى اللّه ، والخيانة تسبب غضبه.

يجب على المربي أن يوقظ الاحساس بالمسؤولية أما اللّه في الطفل منذ الطفوله ويحثه على الشعور بواجبه ، وإشعاره بالأسلوب البسيط أن اللّه يراقبك في كل حال ويطلع على أفعالك الصالحة والطالحة ، ولا يخفى شيء على اللّه ... إنه يجازيك على حسناتك ويعاقبك على سيئاتك.

إن الآباء والأمهات الذين يحيون الفطرة الايمانية عند الطفل ، ويربونه مؤمناً منذ الصغر ، فانهم يصبون ركائز سعادته بذلك من جهة ، ويكونون قد قاموا بأول واجباتهم في التربية من جهة أخرى.

* * *

ص: 347

المحاضرة الخامسة عشرة: التربية في ظل العدل والحرية

اشارة

قال اللّه تعالى : « فبما رحمة من اللّه لنت لهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك » (1).

حب الكمال :

من الأمور الفطرية عند الانسان ، والتي يمكن أن تكون أساساً ثابتاً لتربية الطفل : غريزة التفوق ، وحب الكمال. إن الرغبة في الترقي والتعالي تعتبر من فروع حب الذات المودع في فطرة كل انسان. وعلى المربي القدير أن يستغل هذه الثروة النفسية ، ويقيم شطراً من الأساليب التربوية الصحيحة على هذا الأساس ، فيسوق الطفل إلى طريق الترقي والتعالي.

لقد ورد بهذا الصدد حديث عن الامام الحسن (عليه السلام) : ... « أنه دعا بنيه وبني أخيه ، فقال : إنكم صغار قوم ، ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين ، فتعلموا العلم ... فمن لم يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته » (2).

وفي هذا الحديث نجد أن الامام الحسن علیه السلام ، لأجل أن يحث أبناءه وأبناء أخيه على اكتساب العلوم ويشجعهم على ذلك يستفيد من حب الذات والترقي عندهم - وهو أمر فطري - من دون أن يتوسل إلى الزجر والأساليب المخيفة ، ويفهمهم أن تحصيل العلم في اليوم ، سبيل الوصول إلى العزة والعظمة في الغد. إن الأسلوب المستعمل في هذا الحديث يعد من أعظم الأساليب في مجال التعليم

ص: 348


1- سورة آل عمران 157.
2- بحار الأنوار ج 1 110.

والتربية في العصر الحديث ، فكل أسرة تستطيع أن تشجع أبناءها على تحصيل العلوم بهذا الأسلوب ، وتدفعهم منذ البداية إلى التعالي والترقي فان الأطفال يسعون وراء العلم بدافع ذاتي فيما بعد ، ولا يحتاجون إلى التهديد والتعقيب.

التكامل في ظل الحرية :

والنكتة الجديرة بالملاحظة هي أن الارضاء الصحيح لغريزة حب التفوق والوصول إلى الكمال الحقيقي يمكن أن يتحقق في ظل الحرية والعوامل المساعدة فقط ، وبدونها لا يكون نيل الكمال الواقعي ميسراً وبعبارة أوضح : إن الانسان يستطيع السعي وراء الكمال وإرضاء الميول الباطنية بالنسبة إلى بلوغ طريق التعالي في الصورة التي يكون طريق التقدم مفتوحاً أمامه ، ولا تعتاقه العوارض والموانع ، فما أكثر الثروات النفسية التي ظلت عاطلة وفاقدة للأثر ، لعدم حصولها على العوامل المساعدة ، وما أكثر الأشخاص الذين يصطدمون في طريق إحياء استعداداتهم الفطرية بالموانع الطبيعية أو الشخصية أو الاجتماعية أو السياسية ويقفون عندها محرومين من السير في مدارج الكمال والرقي!.

إن زهرة صغيرة إذا لاقت عوامل مساعدة ، وجواً طليقاً وغذاء كافياً تتفتح أكمامها ويفوح عطرها ... وكذلك تكون الاستعدادات الداخلية عند الانسان فانها تزدهر وتنمو في الظروف المساعدة ، وتعود عليه بالفوائد العديدة.

إن من أهم شروط التعالي والتكامل للأطفال والكبار هو كون الجو الذي يعيشون فيه حراً ، ذلك أنه عندما يكفهر وجه المجتمع بالظلم والتجاوز ويسود الاستبداد والضغط الشديد ... وحين يحل اليأس محل الأمل ، والظلم محل العدل ، والاستهتار والفوضى بدل القانون ، والخوف بدل الهدوء ... فمن المحتم أن ينقطع السبيل إلى التكامل في ذلك المجتمع.

والذين يعيشون في أمثال هذه المجتمعات لا يقدرون على إخراج استعداداتهم الخفية وذخائرهم المعنوية من مرحلة القوة إلى حيز الوجود والفعلية بالشكل المناسب. ولا ينالون الترقي والتكامل الذين يصبون إليهما.

الأسرة هي مهد تربية الأطفال ، والوطن الواسع هو البيئة التربوية للكبار. وإن

ص: 349

ما لا شك فيه هو أن الشرط الأول للتربية الصحيحة وإحياء الاستعدادات المختلفة هو الجو المناسب والعوامل المساعدة. فلا تستطيع كل أسرة من تطبيق المنهج التربوي الذي خطه لنا الامام الحسن عليه بالنسبة إلى أولاده. ولا يقدر كل الآباء على أن يتحدثوا مع الأطفال بنفس الحديث الذي تحدث به الامام (عليه السلام) ، ذلك الأسلوب من الحديث إنما يختص بالأسرة التي يقوم أساسها على الفضيلة والحرية.

ولأجل أن يتضح معنى سلامة جو الأسرة وفساده بصورة جيدة ولكي يتبين أهمية الحرية في مجال التربية والتعليم نخصص بحثنا في هذه المحاضرة بهذا الموضوع.

المقارنة بين الأسرة والدولة :

الدولة تشبه أسرة كبيرة واسعة ، وأن جميع أفراد تلك الدولة من رجال ونساء وأطفال ، إنما هم أعضاء في تلك الأسرة الكبيرة ... كما أن كل أسرة تشبه دولة صغيرة قليلة الأفراد. وأن أعضاء الأسرة إنما هم أفراد تلك الدولة ... والأبوان في هذه الدولة الصغيرة يسلكان دور الهيئة الحاكمة فيها.

قد يتسلط على زمام الحكم في الدالوة مستبد ، وتدار أموره حسب نظرياته اللامنطقية لمحض إرادته ، ويساس الشعب بالخوف والاضطهاد ، ويحمل على إطاعة الأنظمة والقوانين بالحديد والنار ... وأحياناً يكون العكس حيث القوانين العادلة القائمة على أساس الحق والفضيلة والحرية والمحبة.

كذلك في الأسرة ، فقد يحكمها أب حاد المزاج فاقد الايمان ، وأم متهاونة سيئة الأخلاق ... ويفرض كل منها إرادته على أعضاء الأسرة عن طريق الشدة والخشونة التي لا تطاق. ويحملون على القيام بواجباتهم بالتهديد والتخويف ... وقد يكون الأمر على العكس ، ذلك إذ تتعاضد الفضيلة الأخلاقية والايمان للأب مع الحب والحنان العقلائيين للأم في إيجاد جو مقدس وسعيد للأسرة ، مما يحتفظ لأعضاء الأسرة بطراوتهم وحيويتهم ويؤدي كل منهم واجبه برغبة نفسية ووازع ذاتي.

ص: 350

الاستبداد والتعنت :

لقد اعتبر الاسلام قبل أربعة عشر قرناً ، والعلماء المحققون في العصر الحاضر إدارة الدولة عن طريق الاستبداد والتعنت والركون إلى وسائل القمع والارهاب ، أسلوباً فاشلاً تماماً وحكموا بأن الحياة في ظل نظام كهذا تصبح جحيماً لا يطاق.

وكذلك إدارة الأسرة عن طريق الظلم والتعدي وبواسطة الخشونة والشدة في الأخلاق تعتبر فاشلة وعاجزة عن أن تصبح أساساً للسعادة مهداً لتربية الأطفال الشرفاء.

إن لأسلوب حكومة الهيئة الحاكمة دخلاً كبيراً في الشؤون الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية ( وجميع الجهات المادية والمعنوية بعبارة موجزة ) بصورة مباشرة ... بحيث يمكن معرفة الأوضاع الظاهرية والمعنوية لأمة عن طريق سلوك الهيئة الحاكمة وفي هذا يقول الامام علي علیه السلام : « الناس بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم » (1).

يخضع أفراد كل دولة إلى عاملين أساسيين ، ويقعون تحت تأثير قوتين منفصلتين : 1 - محيط الأسرة وقدرة الآباء على تربية أبنائهم. 2 - محيط الدولة وسلوك الهيئة الحاكمة. ولكن الامام أمير المؤمنين علیه السلام يرى أن تأثير الهيئة الحاكم في بناء المجتمع أبلغ من تأثير الهيئة الحاكمة في بناء المجتمع أبلغ من تأثير الأسرة والقدرة التربوية عند الأباء.

الفرق بين الحرية والاستبداد :

تختلف الدولة التي تدار على أساس العدل والقانون وفي ظلل الحرية والمحبة عن الدولة التي يحكمها الاستبداد والتعنت ويسودها الارهاب والقمع اختلافاً كبيراً. وسنحاول في هذه المحاضرة أن نتعرض لذكر بعض موارد الاختلاف ونتائجها بين هذين النوعين من الدول ، ثم نقارن ذلك بكيفية إدارة الأسرة. ومن هذه المقارنة نستطيع أن نسلط الأضواء إلى حد بعيد على مقياس سلامة جو الأسرة أو فساده ومن

ص: 351


1- بحار الأنوار ج 17 129.

المؤمل أن يدرك الآباء - وهم أبناء الأسرة الكبيرة ( الدولة ) - أسس هذه المقارنة كي يتفهموا مسؤوليتهم تجاه أبنائهم بصورة أوضح ، ويقيموا إدارة الأسرة على أساس أقوى ، ويراعوا واجباتهم الثقيلة في تربية أطفالهم سائرين على منهج الشرع الحنيف.

1 - الحرية والهدوء النفسي :

يعد الهدوء النفسي والأمن من الخوف ، الشرط الأول لسعادة الانسان. ففي المجتمع الذي لا يأمن أفراده على آرائهم وتكون حياتهم مقترنة بالاضطراب والقلق ، لا مجال للسعادة الحقيقية والكمال الواقعي إليه ، فالعدالة الاجتماعية هي القوة الوحيدة التي تستطيع أن تبعث الاطمئنان والهدوء إلى النفوس وتهب الأشخاص الأمن والسكينة.

البيئة الصحيحة للانسانية تكون في الدولة التي يسوسها القانون والعدالة ، الدولة رسمت حدود اختصاصات المسؤولين والشعب فيها بموجب القوانين العادلة ، في الدولة التي يكون المسؤولين أنفسهم مطيعين للقانون ، ويسلكون سبيل العدالة في أحكامهم ولا يسمحون لأنفسهم بأقل انحراف أو تجاوز على حقوق الآخرين ... هناك يحس جميع الأفراد في داخل أنفسهم بالهدوء والأمان ، فلا وحشة ولا قلق ، ولا ظلم يصيب المواطنين من المسؤولين والمسيطرين على زمام الحكم. في دولة كهذه يكون طريق التكامل والتعالي مفتوحاً أمام جميع الناس ، وباستطاعة كل فرد أن يعمل لسعادته بارتياح واطمئنان ، ويستفيد من نتائجها المهمة.

أما الدولة التي يسيطر عليها الاستبداد والتعنت ، ولا يحترم فيها القانون والعدالة أصلاً ويفقد الحق والانصاف معناهما فيها ... فلا حرية هناك. بل يسود سماء الأمة قلق واضطراب ويفقد الأفراد هدوءهم ، يقضون ليلهم ونهارهم في الخوف أو يكونون عبيداً لا إرادة لهم قبال أسيادهم ، وفي كل لحظة يمكن أن يسيئ الحاكم إلى شخص أو أشخاص من أفراده ويحمل كالحيوان المفترس عليهم ويهجم على كرامتهم ووجودهم بلا قيد أو شرط ... فينهي بذلك حياتهم.

الحياة في دولة كهذه لا تعني إلا الشفاء والحرمان ، وهناك يستحيل على الأفراد الوصول إلى الكمال اللائق بهم بهم كبشر ، وينغلق الطريق أمامهم نحو السعادة ... في

ص: 352

مثل هذه الدولة يحترم الأفراد حاكميهم بدافع من الخوف والأمن من الضرر ، ويطيعون أوامرهم صوناً لدمائهم ... ولكنهم في الواقع يصبون سيل اللعنات عليهم.

الانقياد بسبب الخوف :

إن نظرة الاسلام إلى هؤلاء الحكام الظالمين ... إلى هؤلاء الثلة الحقيرة التي تحكم الناس بقوة الحديد والنار ... نظرة ملؤها الريبة والاحتقار ويعرفهم بأنهم أحقر الناس وشرهم في مقام الحكم الإلهي.

عن جابر بن عبداللّه قال : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « شر الناس يوم القيامة : الذين يكرمون إتقاء شرهم » (1)

كما ورد عنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حديث آخر : « ويل لمن تزكيه الناس مخافة شره ، ويل لمن أطيع مخافة جوره ، ويل لمن أكرم مخافة شره » (2).

وفي حديث ثالث : « الا أن شرار أمتي : الذين يكرمون مخافة شرهم ، الا ومن أكرمه الناس اتقاء شره فليس مني » (3).

الانقياد في ظل الحرية :

في ظل الحرية والعدالة ، تكون إطاعة الناس للقوانين والأنظمة ناشئة من الشعور بالواجب ، والميل للحصول على السعادة ، اما في الحكومة الاستبداية والتي تساس بالعنف والقسوة ، فإن منشأ إطاعة الناس للأنظمة هو غريزة حفظ الذات ، لأنهم يعلمون أنهم عند ارتكابهم أبسط مخالفة فسيكون عقابهم عليها شديداً جداً :

« يكون أفراد الشعب عبيداً للحاكم في الحكومات الاستبداية ، ولا يكون لأحد امتياز على الآخرين ، إن الحاكم المستبد لا يلتزم بأية قاعدة أو قانون فارادته وتشهياته فوق القانون والأنظمة ، إنه يحاول أن يمحو الآخرين من صفحة الوجود » (4).

ص: 353


1- الكافي ج 2 327.
2- مجموعة ورام ج 2 115.
3- سفينة البحار ص 695.
4- روح القوانين لمونتسيكو ص 32.

« تتطلب طبيعة الحكومة في النظام الاستبدادي نوعاً من الاطاعة اللامحدودة. ولا يوجد في هذه الحكومات ما يتعرض للأوامر الصادرة من تغيير ، أو إمهال ، أو موعد أو بدلية ، أو مفاوضات ، أو انتقادات ، أو وساطة ».

« في هذه الحكومات يعد الانسان مخلوقاً خاضعاً لارادة مخلوق آخر. ويجب أن لا يحتمل إظهار القلق أو الاضطراب من وقوع بعض الحوادث الفجائية ».

« يعيش الانسان في ظل الحكومة الاستبدادية كالحيوانات لا نصيب له بغير الغريزة الطبيعية ولاطاعة والعقاب » (1).

« تستند الحكومة الاستبدادية على قاعدة الخوف ، وفي الأمم الجبانة والجاهلة والمندحرة لا ضرورة للقوانين الكثيرة فكل شيء هناك يقوم على فكر شخصين أو ثلاثة. وعليه فلا حاجة للأفكار الجديدة ، ذلك أنكم عندما تقومون بتربية حيوان تلاحظون فقط أن لا يأخذ الحيوان منكم أحد ، وأن يعرف صاحبه ولا يغير سلوكه ».

« عندما كان شارل الثاني عشر في مدينة ( بندر ) لا حظ أن خلافاً نشب تجاهه في مجلس الشيوخ السويدي ، فكتب إلى المجلس : إنه سيرسل إحدى جزمتيه لتحكم عليهم » (2).

إن أوطأ الأمم وأشقى الناس ، هم المحرومون من نعمة العدالة والقانون والحرية والفضيلة ... إن الحياة في جو الاضطهاد والضطراب والتعنت والقسوة ، أوطأ وأحط من حياة حيوان بكثير ، بلا شك ...

العدالة في الأسرة :

يحكم الآباء في الدولة الصغيرة للأسرة أفراد أسرهم بأساليب مختلفة ، فبعض الآباء العقلاء والمؤمنين يطيعون الأوامر الإلهية والأسس العقلية يديرون شؤون

ص: 354


1- روح القوانين ص 33.
2- روح القوانين ص 47.

الأسرة حسب العدالة والانصاف والاحترام للحق والفضيلة فأعضاء هذه الأسرة حسب العدالة والانصاف والاحترام للحق والفضيلة فأعضاء هذه الأسرة يعيشون في ظل الأمن والهدوء الفكري ، وكل منهم يؤدي واجباته بكل سرور وارتياح أملاً في الحصول على السعادة في غد ، وتشع أشعة الحنان والحب في جميع زوايا ذلك البيت وتلك الأسرة.

وعلى العكس من ذلك : فهناك من الآباء الجاهلين والمنحرفين من لا يتقيد بالواجبات الدينية ولا يطيع الأنظمة العلمية والعقلية ، ولأجل أن يكون الحاكم المطلق في جو الأسرة وتنفذ أوامره بلا استفسار أو إنتقاد ، يتوسل بالاستبداد والتعنت ويثبت قدرته ويفرض إرادته بالفحش والعربدة والكلمات الركيكة ، ويعامل زوجته وأطفاله معاملة أشد من معاملة الحيوانات فيذيقهم الأمرين من السوط والعصا والتعذيب والضرب والتجويع ، محولاً جو الأسرة إلى سجن رهيب لا يطاق!.

... حين ينعكس صوته الغليظ في محيط البيت يفر الأطفال الأبرياء بوجوه شاحبة إلى هنا وهناك ، وترتعد فرائصهم كنعاج هجم عليها الذئب ثم يلجأون إلى الفراش بأرواح ملؤها العقد والتأزمات ، وحين يستيقظون في الصباح ويتذكرون أباهم المجنون وتصرفاته البذيئة يسيطر عليهم الجزع والانكماش حتى كأنهم لا حراك بهم.

نتيجة الاستبداد :

في أسرة كهذه تنعدم السعادة ، ولا يوجد الهدوء الفكري واطمئنان الخاطر ، حيث يسيطر الخوف والقلق على جميع أنحاء البيت ، ويرى أعضاء الأسرة أنفسهم معرضين في كل لحظة لخطر التعذيب والقسوة ... في هذه الأسر لا تقف آثار الاستبداد السيئة عند حد إيقاف الرشد المعنوي للأطفال فقط ، بل تمنع أبدانهم عن الرشد الطبيعي من جراء الاضطراب والقسوة .

هؤلاء الآباء يجرون على أنفسهم وعوائلهم والمجتمع الذي يربى الأطفال له نتائج وخيمة لا تنجبر ... هؤلاء مسؤولون - طبق الموازين الاسلامية - أمام كل ضربة أو كلمة بذيئة صادرة منهم تجاه عوائلهم ... وإذا كانت طاعة الزوجة والأولاد

ص: 355

معلولة للخوف من الشدة والقسوة والظلم ، فإن هؤلاء الآباء مشمولون للأحاديث السابقة التي ترى أن من يطاع خشية شره لهو شر الناس.

على هؤلاء الآباء أن يحكموا وجدانهم ، وأن يكرهوا لغيرهم ما يكرهونه لأنفسهم ، فكما أنهم - أنفسهم - ينفرون من الحياة في ظل الاستبداد والتعنتت ، والظلم والقسوة عليهم أن لا يرضوا ذلك لعوائلهم ، ولا يعاملوا أزواجهم وأطفالهم معاملة الأسرى المحكوم عليهم بالاعدام!.

2 - الخوف من العقاب :

لا شك في ضرورة الأنظمة والقوانين لكل دولة لايجاد النظام والضبط والمنع من الفوضى والمخالفات ... ولا بد من معاقبة الخارجين على تلك الأنظمة لضمان حسن تنفيذها ، فالخوف من العقاب هو الذي يحث الناس على الاطاعة. والنكتة الجديرة بالملاحظة أنه لا حساب ولا مقياس للعقاب في الحكومة الاستبدادية ، فمن الممكن أن يؤدي استياء بسيط للحاكم إلى إعدام مئات الناس الأبرياء. هناك ليس العقاب على أساس الاجرام أو الاحكام القضائية ، بل الموضوع يقوم على طبق هوى النفس والميل الشخصي للحاكم. أما في حكومة العدالة والقانون ، حيث تحدد صلاحيات الحكام وأبناء الشعب حسب الأنظمة العادلة ، فلا مجال للأهواء والميول الشخصية للحكام في الأحكام الصادرة ... هناك لا يخاف أحد من شخص معين ، غاية ما هناك أن الشخص الذي يرتكب جرماً يعاقب على أسس قضائية صحيحة وعادلة متناسبة مع جريمته.

وبعبارة أخرى : إن منشأ الخوف عند الناس في الحكومة الاستبداية هو الظلم والتعسف والاضطهاد ، أما في حكومة العدالة والقانون فإن منشأ الخوف هو الجرم الذي ارتكبه الانسان واستحق العقاب عليه.

الاسلام والأمن :

إن أحسن وأرقى الحكومات العالمية المعاصرة هي الحكومة التي تسيطر القوانين العادلة على جميع شؤونها ، ويعيش جميع أفراد تلك الدولة - من أي طبقة

ص: 356

أو منزلة كانوا - آمنين في ظل العدالة والقانون بأرواح ملؤها الرفاه والسعادة والهدوء.

ولقد عمل قائد الاسلام العظيم ، قبل أربعة عشر قرناً ، على إرساء قواعد النظام الاجتماعي في حكومته على هذا الأساس ، فقد منح العدل والأمن الروحي والهدوء النفسي لجميع الناس ، وزال الخوف والاضطراب اللذين كانا يحكمان العصر الجاهلي من جراء استبداد الحكام واضطهاداتهم فاصبح الفرد المسلم يخاف من ذنبه فقط. ولأجل أن يتجل هذا الدور الذي يسلكه الاسلام في ضمان الأمن والهدوء للمجتمع نبسط بعض الشيء مسألة الخوف.

هناك حافزان للخوف في تطبيق الواجبات الدينية من قبل كل فرد مسلم : ( الأول ) : الخوف من اللّه والجزاء الآخروي. ( والآخر ) الخوف من الحكومة والعقاب الدنيوي ... وفي كلا الموردين يكون منشأ الخوف هو الذنب الذي ارتكبه الانسان نفسه.

أ - الخوف من اللّه :

على كل فرد مسلم أن يطمئن إلى رحمة اللّه الواسعة ، خائفاً من عقابه. ولكن الخوف من الخالق الرحيم والعادل لا يكون كالخوف من حاكم مستبد ظالم. إن الحاكم المستبد يستند في قدرته إلى التعسف وأما في الحريم الآلهي المقدس فلا يتصور الظلم والجور.إن اللّه يعاقب المذنب على أساس الحق والعدل ، والخوف من اللّه نعني الخوف من العقاب على الذنب لا أكثر. ولهذا فقد ورد التعبير في القرآن الكريم عن خوف الناس بنسبته إلى المقام الالهي ، فقال تعالى «وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)» (1) وقال أيضاً : «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)(2) ... ». إن ( مقام اللّه ) هو علمه بإجرام المجرمين ، وقدرته على مجازاة المذنب وحماية المظلوم بالانتقام له من الظالم ... وبصورة موجزة فإن ( مقام اللّه ) هو إقامة الحق والعدل ، فالذي يخاف من مقام اللّه لا يحوم حول الذنب.

ص: 357


1- سورة الرحمن 46.
2- سورة النازعات 40.

« عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في قول اللّه عز وجل : «وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) » قال: من علم أن اللّه يراه ، ويسمع ما يقول ، ويعلم ما يعلمه من خير وشر ، فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال ، فذلك الذي خاف مقام ربه ، ونهى النفس عن الهوى » (1).

إن مقام المدعي العام في الحكومات القانونية هو مقام عقاب الجاني ومجازاة القاتل ... المدعي العام هو الذي يجر المجرم إلى المحكمة ويلزمه بالادانة. إن مقام المدعي العام هو إقامة العدالة والقانون ، فمن يهرق دماً باطلاً يخاف من مقام الادعاء العام ولكن هذا الخوف ناشىء من جنايته هو ...

« إن علياً (عليه السلام) قال لرجل - وهو يوصيه - : خذ مني خمساً : لا يرجون أحدكم إلا ربه ، ولا يخاف إلا ذنبه ... » (2).

ب - الخوف من الحكومة :

الخوف من الحكومة في الاسلام يعني : الخوف من العقاب القانوني فقط. إن فرداً مسلماً لا يخاف من رئيس الدولة أو الهيئة الحاكمة أصلاً ، ولا ينبغي أن يخاف منه ، ذلك أنه ليس للحاكم الحق في اضطهاد أحد أو أخذه بالباطل ، فالهيئة الحاكمة في الاسلام لا تمتاز على باقي أفراد الأمة في شيء غير ثقل عبء المسؤولية أمام اللّه تعالى. فعلى المسؤولين مضافاً إلى تطبيق الحق والعدالة أن يعاملوا الناس بالعطف والمحبة ، واحترام الأسس الأخلاقية. وفي هذا يكتب الامام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر في العهد الشهير :

« فاملك هواك ، وشح بنفسك عما لا يحل لك ، فإن الشيخ بالنفس : الإنصاف منها فيما أحبت وكرهت. وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم » (3).

إن الحكام المستبدين والمتزمتين هم عبيد أهوائهم ورغباتهم اللامشروعة أما

ص: 358


1- تفسير البرهان 107.
2- بحار الأنوار 17 105.
3- نهج البلاغة ص 475.

الحكام العدول فهم مخالفون لأهوائهم ويتبعون الانصاف والفضيلة ويحبون الخير والصلاح للرعية.

النبي العطوف :

كان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) جاداً تماماً في مقام تنفيذ القوانين وعقاب المجرمين ولهذا فقد كان الناس يخافون من ارتكاب الجرائم. ولكنه في المعاشرات الاجتماعية كان أباً عطوفاً ، لا يخافه أحد وإذا صادف أن أحداً كانت تأخذه الهيبة من محادثته ، فإنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يحطم ذلك الشعور في نفس المخاطب. « ابن مسعود ، قال : أتى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رجل يكلمه فأرعد. فقال : هون عليك فلست بملك » (1).

لقد كانت صلات النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع المسلمين لينة هادئة إلى درجة أن بعض الأشخاص كانوا يتمازحون معه بالمزاح الذي يصعب قبوله من قبل الأفراد العاديين. « نهى علیه السلام أبا هريرة عن مزاح العرب فسرق نعل النبي ورهنه بالتمر ، وجلس بحذائه يأكل ... فقال (عليه السلام) يا أبا هريرة ما تأكل؟ فقال : نعل رسول اللّه (2).

أي حاكم يجرأ على ممازحته فرد عادي ، فيرهن حذاءه عند بقال لقاء شيء من التمر؟! لقد عد اللّه هذه الفضيلة الخلقية للرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من مراتب رحته وعنايته : « فبما رحمة من اللّه لنت لهم ... ».

لقد كان شديد التأكيد على صفاء قلبه بالنسبة إلى أصحابه إلى درجة أنه قال : « لا يبلغني أحد منكم عن أصحابي شيئاً. فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر » (3).

الحكومة الحرة للامام علي (عليه السلام) :

أما الامام علي بن أبي طالب علیه السلام فهو أعظم تلميذ من تلامذة الاسلام ، تعلم درس الحرية والانسانية من الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله ولذلك فقد

ص: 359


1- بحار الأنوار 6 152.
2- بحار الأنوار ج 6 166.
3- بحار الأنوار ج 6 152.

كانت علاقاته مع الناس متصفة بالعطف والرحمة ، أما في مقام إقامة العدالة فكان صريحاً وجدياً. ومن هنا وصفه عدي بن حاتم في مجلس معاوية ضمن أحاديثه عنه (عليه السلام) فقال : « وكان فينا كأحدنا ، يجيبنا إذا سألناه ، ويدنينا إذا أتيناه ، ونحن مع تقريبه لنا وقربه منا ، لا نكلمه لهيبته ، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته ، فإن تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم ... يعظم أهل الدين ويتحبب إلى المساكين ... لا يخاف القوي ظلمه ، ولا ييأس الضعيف من عدله » (1)

خوف الطفل من الذنب :

في الدولة الصغيرة للأسرة يكون خوف أفراد الأسرة على قسمين : فبعضهم يخاف من الذنب ، والبعض الآخر يخاف من الأب. عندما يكون الخوف من الذنب موجوداً فإن المخاوف الباطلة الواهية تنعدم ، وهنا يكون المهد الصحيح للتربية. وتتفتح أزهار الشعور بالمسؤولية في نفوس الأطفال واحدة بعد الأخرى ، ويتعود الصغار على الاستقامة منذ البداية. إن أعضاء هذه الأسرة يطمئنون إلى أنهم إذا لم يتجاوزوا على حقوق الآخرين ولم يتلوثوا بالذنب والانحراف ، فال ينالهم شيء بل يكونون مقربين عند الأبوين تماماً.

في مثل هذه الظروف يكون الأب في محيط الأسرة حائزاً على الشخصية والعطف معاً ، والأطفال يخافون من مؤاخذته الصحيحة والمنصفة فلا يمارسون الذنوب ولا ينحرفون.

« ويجب على الذي يقوم بإجراء العقوبة أن يعتقد ببعض القواعد ويستمع إلى نداء الوجدان ، ولا يحكم بدافع التعصب. وعليه - في نفس الوقت - أن يكون حميداً في سلوكه وعطوفاً ، لا بأن يظهر ضعفه وحقارته ، بل يكون ذا شفقة عامة وإنسانية تظهر في حدود القوانين المحدودة والقابلة للاحترام الاجتماعي والدولي » (2).

ص: 360


1- سفينة البحار مادة ( عدا ) ص 170.
2- جه ميدانيم؟ تربيت أطفال دشوار ص 93.

« إن المربي سيتظاهر بأنه سوف لا يعاقب ، بل أنه يجري قوانين العدالة كموظف مختص مجبر على ذلك ، وسيفهم الطفل هذه النكتة بصورة حسنة. ولما كان التوبيخ ذا جانب عاطفي تماماً هنا فيجب أن لا يخرج عن حدود الانسانية ، وبهذا تكون عقوبة كهذه غير انحيازية » (1).

خوف الطفل من الأب :

عندما يكون الخوف من الأب ، الأب السيء الخلق والقاسي ، الأب الذي يتحجج ويتعنت ، الأب الذي يفحش في القول ويضرب أبناءه بلا سبب فيجازي أبسط الزلات بأكبر العقوبات ، الأب الذي يثأر لأتعابه الخارجية فينتقم من أطفاله الأبرياء ، والذي يحل عقدة الفشل التجاري أو الإداري أو الاجتماعي عنده بإيذائهم ... ففي الأسرة التي يحكمها مثل هذا الأب لا تحترم الأمانة والاستقامة ، ولا تعرف الفضيلة والأخلاق ، إنما المهم في نظر الأطفال إرضاء أبيهم المستبد ، واتقاء شره!.

إن العصر الحديث يخطئ من الناحية العلمية والتربوية ، طريقة ضرب الأطفال وإيذائهم بغية التأديب ، ويكاد يمنع الضرب في جميع الدول الحية فيحذر الآباء والأمهات في البيت ، والمعلمون في المدرسة ، عن ضرب الأطفال بصورة أكيدة.

قد يتصور البعض أن هذه النظرية مبتكرة في عصرنا الحاضر ، وأن الانتباه إلى أهمية هذا الموضوع حصل في الحديث فقط. بينما نرى من الضروري أن نرفع هذا الوهم عن أذهان أولئك ونقول بصراحة : إن الاسلام سبقهم إلى ذلك ... فعلاوة على الروايات في المنع من ضرب الأطفال ، أفتى الفقهاء المسلمون في القرون الماضية بحرمة ذلك في رسائلهم العملية التي تعد المناهج اليومية لعمل المسلمين.

« قال بعضهم : شكوت إلى أبي الحسن (عليه السلام) إبناً لي ، فقال : لا تضربه واهجره ... ولا تطل » (2).

ص: 361


1- المصدر السابق ص 95.
2- بحار الأنوار للمجلسي ج 23 114. ومعنى الهجر : إظهار عدم الرضا بأعماله وعدم الاعتناء إليه.

ففي هذا الحديث نجد أن الإمام يمنع من ضرب الطفل بصراحة ، مستفيداً من العقوبة العاطفية بدلاً من العقوبة البدنية. فالأب هو الملجأ الوحيد للطفل ومعقد آماله ، وإن هجره للولد أكبر عوقبة روحية ومعنوية إنه (عليه السلام) يطلب من الوالد أن يهجر الولد ولكنه سرعان ما يوصيه بعدم طول مدة الهجر ، ذلك أنه إذا كان لهجر الوالد أثر عميق في روح الطفل فإن طول مدته يبعث على تحطيم روحيته وإذا كان أثر هذا الهجر ضعيفاً فإن شخصيته الوالد ستصغر في نظر الطفل لطول مدة الهجر وسوف لا يكون لتألم الوالد أثر أصلا.

« إن للعقوبات التي ترجع فيها الوسائل العاطفية والأخلاقية على الوسائل المادية تأثيراً كبيراً ، ففي مثل هذه العقوبات بدلاً من أن يحرم الطفل من الماديات يجب السعي للتأثير في قلبه ونفسه ووجدانه وعزته وغروره ، فإن لم ترتبط المحروميات المادية مع مشاعره وعواطفه فانها تفقد طابع العقوبة » (1).

وفي هذا الصدد يقول الامام علي (عليه السلام) : « إن العاقل يتعظ بالأدب والبهائم لا تتعظ إلا بالضرب » (2).

دية اللطم والعقوبة البدنية :

وهنا لا بأس بذكر الفتوى المتعلقة بالبحث من الرسالة العلمية ( توضيح المسائل ) لآية اللّه الفقيد السيد حسن الطباطبائي البروجردي التي هي في متناول يد الجميع :

« مسائل 2816 - إذا لطم على وجه أحد باليد أو بشيء آخر فاحمر وجهه ، فديته مثقال ونصف من الذهب ( كل مثقال 18 حبة ) وإن اخضر لونه فثلاثة مثاقيل وإن اسود لونه فستة مثاقيل ، ولئن تغير لون سائر البدن على الضرب ، فاحمر أو اخضر أو اسود ، فديته نصف ما ذكر ».

ص: 362


1- جه ميدانيم؟ تربيت أطفال دشوار ص 94.
2- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 108 طبعة النجف الأشرف.

« مسألة 2820 - إذا ارتكب الصبي إحدى المعاصي الكبيرة جاز للولي أو المعلم ضربه بمقدار التأديب ما لم يصل حد الدية ».

« مسألة 2821 - إذا ضرب صبياً إلى حد وجوب الدية كانت الدية للصبي ، فلو مات الصبي فعلى الضارب أن يدفع ديته إلى ورثته ولو ضرب الوالد ولده حتى مات كانت ديته لسائر الورثة ، وليس له شيء من الدية ».

يستفاد من هذه الأحكام الدينية الثلاثة أنه لا يجوز ضرب الطفل فإذا ضرب أحد الوالدين أو المعلم طفلاً على وجهه وسبب تغير لونه فعليه أن يدفع ديته ، وعند ارتكاب الطفل إحدى المعاصي يجوز ضربه بحيث لا يصل حد وجوب الدية.

إن الأباء والأمهات الذين يضربون أبناءهم إلى حد وجوب الدية مدينون إليهم بقيمة الدية. فاما عليهم أن يرضوهم أو يحصلوا على العفو منهم وكذلك حكم المعلمين الذين يضربون تلامذتهم.

جزاء الوالد السيء الخلق :

على الآباء المسلمين الذين لا يفحشون في المنزل ، ولا يصدر منهم أذىً ، ولا يضربون أزواجهم وأطفالهم ... ولكنهم يسيئون الخلق معهم أن يدققوا في هذا الحديث :

كان ( سعد بن معاذ ) أحد صحابة الرسول الأعظم المحترمين. وعند وفاته مشى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بنفسه في جنازته ، حتى أنه حملها على كتفه عدة مرات ، وحفر القبر بنفسه وشق له اللحد ودفنه فيه ... فلما وجدت أم سعد ذلك غبطته على تلك المنزلة فقالت :

يا سعد هنيئاً لك الجنة. فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يا أم سعد ، مه ، لا تجزمي على ربك ، فإن سعداً قد أصابته ضمة ... (1).

وعندما سئل عن سبب ذلك ، قال : إنه كان في خلقه مع أهله سوء.

ص: 363


1- الضمة : الضغط والعصر ، ويقصد عصرة القبر فقد ورد في الرويات أن سوء الخلق مع العيال يوجب الضيق في القبر.

3 - الدوام في ظل العدل :

إن بقاء عمارة مؤسسة من مئات الأطنان من الحديد والجص والصخر مرتبط بالتوازن والتعادل الكائن بين ركائزها ، وعدم خروج أعمدتها وجدرانها عن حدود الهندسة التي أنشئت على أساسها.

فإذا كانت العمارة منشأة منذ البداية على أساس غير موزون وبلا مقياس صحيح ، أو أن العوامل المختلفة أدت إلى اختلال توازنها فلا تكون قابلة للبقاء والاستمرار ، وسيؤول أمرها إلى التهدم والخراب ... فما أكثر العمارات التي لا زالت تحتفظ بمتنانتها وقوتها بالرغم من مرور السنين الطوال على إنشائها ، وذلك لمحافظتها على التعادل الهندسي المنشأة على أساسه ، ولكن ما أسرع أن تتهدم العمارة عندما لا تؤسس على الوازن صحيح او تفقد توازنها فيما بعد.

إن كل دولة تشبه عمارة ضخمة ، متكونة من ملايين الأفراد ويجب أن تقوم على أساس التوازن والتعادل.

فالدول التي تدار بالقانون والعدالة ، وتكون الحدود كلها مرسومة بين الطبقات المختلفة على أساس الحق والانصاف ، يعيش أفرادها في هدوء فكري واطمئنان تام ، فلا يستغل الحكام سلطانهم لاضطهاد الناس ... هذه الدول تستمر ثابتة وقوية محتفظة بحياتها الوطنية على الرغم من مر القرون وفي هذا يقول الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « العدل جنة واقية ، وجنة باقية » (1).

الحكام الجائرون :

أما في الحكومة الجائرة التي يحرم فيها الأفراد من نعمة القانون والعدالة والحق والفضيلة ... فالحكام يفرضون إرادتهم بإراقة الدماء والتجاوز على حقوق الآخرين ، واضطهاد الشعب وإيذائهم. ولذلك فالمواطنون يسكتون خوفاً ، ولا ينطقون بحديث عن السلطة الحاكمة ولكنهم لا يملكون هدوءاً روحياً ، فالقلوب

ص: 364


1- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 17 47.

تمتلىء بالغيظ والحقد ، وينتظرون الفرصة المناسبة التي يثورون فيها وينتقمون من حكامهم.

والحكام أنفسهم قلقون دائماً ، خائفون على مناصبهم.

في مثل هذه الدولة يتمادى الحكام في الظلم والقسوة ، وكل ظلم يصدر منهم يولد إثارة جديد في الرأي العام. فإن اعتراض المواطنون على حكامهم لقيامهم باعتداء ، جنحوا لاسكاتهم إلى اعتداء جديد ، وهكذا كلما يتقدمون خطوة يضطهدون أكثر ، حفظاً على مقامهم وشوكتهم وكلما يزداد الاضطهاد نشتد العداوة والفجوة بينهم وبين أبناء الشعب وتتراكم الأحقاد إلى أن يحين اليوم الذي تنفجر العقد وتلتهب نتائجها الوخيمة عن نار لا تبقي للظالمين ولا تذر. وفي ذلك يقول الامام الصادق (عليه السلام) « من زرع العداوة حصد ما بذر » (1).

بنو أمية واعتداءاتهم :

ان تأريخ بني أمية وجرائمهم أصدق شاهد على ما ذكر. فقد قام يزيد لتثبيت قدرته وتحكيم أساس حكومته بقتل الامام الحسين (عليه السلام) ، وإحداث فاجعة كربلاء بذلك الوضع المزري الذي بعث على الاشمئزاز في جميع أرجاء الدولة الاسلامية ، وقام الناس في المدينة طالبين عزل ( يزيد ) عن الخلافة بكل صراحة. فكان رد الفعل منه أن أقدم على جريمة جديدة فولغ في دماء أهل المدينة وأعراضهم بواسطة الجيش الجرار الذي بعث به من الشام ففعلوا ما فعلوا مما يندى له جبين الانسانية.

يذكر لنا المؤرخون أن أحد الجنود الشاميين دخل إلى بيت امرأة قريبة عهد بوضع حملها حيث كانت ترقد في فراش الاستراحة ، فطلب منها مالاً ، فأقسمت المرأة التي كانت قد فقدت كل وجودها في غارة أهل الشام على المدينة بأنها لا تملك شيئاً ، ثم خاطبت وليدها قائلة واللّه لو كنت أملك من حطام الدنيا شيئاً لافتديت به عنك ، وحقنت به دمك ، وهنا وجم الجندي القاسي البعيد عن الايمان إذ

ص: 365


1- الكافي لثقة الاسلام الكليني ج 2 302.

يئس من الحصول على المال ثم اختطف الطفل من أمه وهي ترضعه ، ورمى به إلى الجدار بشدة حيث تحطم مخه ... (1).

وانقشعت الغيوم عن انفجار المسلمين ضد بني أمية وحكمهم ، وأثمرت بذور الحقد والعداوة التي زرعوها في قلوب الناس ، فثاروا ينتقمون منهم. وحينئذ لم يرحموا امرأة أو رجلاً ، شيخاً أو شاباً ، حتى أنهم بعد قتلهم لهم كانوا لا يدفنون جثث القتلى بل يتركونها في الخرائب طعمة للكلاب السائبة والطيور الجارحة.

بقاء الأسرة في ظل العدل :

عندما يحكم الآباء والأمهات في الدولة الصغيرة للأسرة بقوة الجق والفضيلة ، وعلى أساس العقل والعدالة فإن تلك الأسرة تبقى قوية ونشيطة على مدى الأجيال. ولا تستطيع القرون المتمادية أن تحطم تلك العائلة وتهدم بناءها ، ذلك أن الفضائل الخلقية والعدل والانصاف تضمن دوام تلك الأسرة.

وعلى العكس من ذلك فان الآباء الذين يديرون الأسرة بالضغط والاضطهاد والتهديد ، وبدلاً من قيامهم بالتربية الصحيحة والعقلائية يعذبونهم ، فانهم يبذرون بذور العداوة في قلوبهم ، ويسقون أشجار البغض والحقد بأعمالهم الفاسدة ، فيهيئون بذلك وسائل الشقاء لأنفسهم ولأطفالهم فعندما يتحطم سد التهديد في يوم ما بموت الأب أو سفره أو عجزه ، تنفجر العقدة النفسية للأطفال وتؤدي إلى سيل من الانتقام والثأر الذي يمكن أن يتضمن نتائج وخيمة.

« هناك أباء وأمهات مستبدون لا يتمالكون على أنفسهم من الاساءة والضرب. وفي هذه الصورة لا تكون بعض العقوبات البدنية مضرة بمقدار ضرر بعض التشديدات بالنسبة إلى القلب. إن الحبس في غرفة ، أو النظر إلى الجدار من دون أن يجرأ على القيام بحركة صغيرة تحطم القابلية على التحمل عند الطفل ».

« هناك بعض الأولياء يصبون طعام الطفل في إناء يشبه إناء طعام

ص: 366


1- تتمة المنتهى للشيخ عباس القمي ص 61.

الحيوانات : وحتى في بعض الأحيان يقوم هذا الأب أو الأم غير العاديين بتقديم الطعام إلى الطفل في وعاء القاذورات ، أو يبصق الأب في وجه الطفل او يعريه في الشارع وأمثال ذلك مشاهدة بكثرة!».

« هؤلاء الأطفال تتحطم أعصابهم ، وتصبح أفعالهم خالية من التروي والتفكير ، وغالباً يؤدي بهم النفور نحو الانحراف وظهور ذلك في مظهر الجريمة ، ذلك أن هؤلاء الأطفال يريدون أن ينتقموا ممن يعذبهم بواسطة نوع من الانتحار الخلقي ، ولذلك فانهم لا يهتمون كثيراً بالترحم الذي يمكن أن يصيبهم ، كما أنهم لا يتأثرون بكل عقوبة » (1).

فمن الضروري أن تكون إدارة الأسرة قائمة على العقل والدراية والانصاف والعدالة ، وفي هذا يقول الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « ما من بيت ليس فيه شيء من الحكمة ، إلا كان خراباً » (2).

4 - تقسيم العمل والكفاءة :

يشبه المجتمع جسد الانسان إلى حج كبير ، فكما أن أعضاء الجسد الواحد تنقاسم الوظائف فيما بينها ، كذلك المجتمع ، إذ يجب أن تقسم فيه الواجبات بين الأفراد ، ويختص كل فرد بقسم معين منها.

إذا دققنا النظر وجدنا أن في بناء البدن تتناسب لياقة كل عضو مع الوظيفة المعهودة بها إليه ، فقد خلق اللّه تعالى أعضاء بدن الانسان حسب الوظائف التي يجب أن تقوم بها ، فمثلاً يقوم القلب بالعمل طيلة العمر وهولا أنشط عضلات البدن من حيث الفعالية ، وقد خلقه اللّه تعالى قوياً متيناً يتناسب ذلك مع ثقل العمل المفروض عليه. كذلك المجتمع فإنه يجب أن يفوض كل عمل فيه إلى من توجد

ص: 367


1- جه ميدانيم؟ تربيت أطفال دشوار ص 30.
2- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي ج 1 382.

عنده الكفاءة والقابلية على القيام بواجبه ... وهذا هو أهم المسائل الاجتماعية في كل دولة وسر ترقي الناس وسعادتهم.

العمل في الدولة الاستبدادية :

إن الأعمال لا تقسم بين الناس في الدول الاستبدادية حسب الكفاءات والقابليات ، وليس الوصول إلى المراكز الحساسة في تلك الدول منوطاً بالصلاحية والقابلية ... فلا قيمة للخبرة والعلم هناك ، بل العامل الوحيد للتقدم هو إرضاء الحاكم والتقرب منه فحسب!. إنه يستطيع تفويض أخطر الوظائف الحساسة في الدولة إلى اقل الأفراد كفاءة في ذلك المجال ، وهو الذي يقدر على حرمان أعظم الأفراد كفاءة من أبسط الأعمال الاجتماعية ، وجرهم إلى أحط المنازل والمراتب.

على الناس في مثل هذه الدول أن يتعلموا درس التملق والمراء بدل اكتساب العلم والمعرفة ... فمن كان أمهر في مدح الحكام والتزلف اليهم وكان أشد إخلاصاً لتنفيذ أوامرهم من غيره فهو الذي ينال الوظيفة المهمة والمقامات العظيمة.

وبديهي أن اسلوباً كهذا يجر وراءه سلسلة من الفساد والاجرام والانحطاط والتأخر. ففي مجتمع كهذا تعطل كفاءات ثلة من العماء والمحققين والخبراء من جهة ، ويعجز المتربعون على زمام الحكم من الفاقدين للأهلية والقابلية عن إدارة شؤون الدولة بالشكل اللائق ... وتكون النتيجة أن يخطو المجتمع في كل يوم خطوة إلى الوراء!!.

العمل في الحكومة القانونية :

أما في ظل العدل والانصاف ، وتحت سماء الحرية والقانون ... في الدولة التي تقسم فيها الأعمال حسب الكفاءات فيكون الجو الكامل للعلم والعمل ، والمحيط الصالح لتنمية الاستعدادات الانسانية ، يملأ نور الأمل قلوب الكل ، ويكون طريق التقدم والترقي مفتوحاً أمام الجميع. هناك يكون الأفراد أحراراً في الحصول على الكفاءات ، فمن يكون نتاجه أفضل ينال صلاحيات أوسع. هذه الدولة تكون من النظرة المادية والمعنوية مهداً للفضيلة ، ومنشأ للسعادة والراحة.

ص: 368

الأسرة والحرية :

تخضع نفسيات الأفراد في الأسرة إلى وضع حكومة الآباء. فالأب الذي يتحدث إلى أبنائه بلسان التهديد والعقاب فقط وتكون إطاعته له قائمة على أساس الخوف منه ، ينعدم حب التعالي والترقي من نفوس الأطفال ، ولا تظهر استعداداتهم الخفية ولا يفكرون في تحصيل الكفاءات لأنفسهم. وبصورة أساسية فإن الأطفال في أمثال هذه الأسر لا يدركون أنفسهم ، ولا يلتفتون إلى وجودهم بين ظهراني المجتمع ، لأنهم لم يسمعوا كلاماً من رب الأسرة حول إظهار شخصياتهم ، إنه كان يتحدث معهم بلغة السوط والعصا فقط!.

أما في الأسر التي تقوم على أساس التعالي النفسي وحب الكمان ، الاسر التي تهدف التربية فيها إلى إيجاد الكفاءة والفضيلة والصلاحية في نفوس الأفراد ، تنعدم لغة التهديد والعقوبة ، بل يستند المربي حينئذ إلى شخصية الأطفال ويستفيد من غريزة جبهم للكمال في تشجيعهم على العمل المثمر الحر.

إن الحديث الذي بدأنا به المحاضرة يستند إلى هذا الأساس. فالامام الحسن علیه السلام لم يتحدث عن نفسه مع أطفاله ولم يهددهم بقوته ، بل أشعرهم بأنهم صغار اليوم ، وربما كانوا كبار الغد ، وإن العظمة وذيوع الصيت في المجتمع يستلزم الكفاءة ، فأخذ يحثهم على التعلم وتحصيل المعرفة.

* * *

تجانس الدولة والأسرة :

من هذه النقاط التي تقدمت ندرك مدى التشابه بين جو الأسرة ومحيط الدولة. نتوصل إلى أن الحكومة الاسلامية والنظام الاجتماعي فيها يقوم على الحرية والعدالة.

« إن القوانين التربوية هي أولى القوانين التي تحكم فينا ، ولما كانت هذه القوانين تعدنا لنكون مواطنين صالحين فعلى كل أسرة أن تدار وفق المنهج العام الذي يدار به المجتمع. ولذلك فإن قوانين التربية

ص: 369

تختلف بالنسبة إلى أقسام الحكومات » (1).

« تكون كل أسرة حكومة مستقلة في النظم الاستبدادية وإن التربية ( والغرض الأصلي منها الحياة مع الآخرين ) تكون محدودة في ظل هذه النظم. فالتربية في الحكومة الاستبدادية عبارة عن تمكين الخوف في القلوب ».

« إذن فالتربية في هذه الدول بمنزلة الصفر واللاشيء. لأنه إن لم تزل تربية الأفراد تماماً فلا توجد الحكومة الاستبدادية. والأفضل أن أقول : إنه لا بد من وجود رعية منحطة حتى تكون عبداً جيداً ... » (2).

إن التربية في ظل النظام الاسلامي تقوم على العدل والحرية ، وتنمية حب التعالي والتكامل في نفوس الأطفال.

يقول الامام علي (عليه السلام) لولده الحسن : « ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حراً » (3). بهذه الجملة القصيرة يزرع الأب العظيم أعظم ثروة للشخصية في نفس ولده ، ويعوده على الحرية الفكرية.

وبالنسبة إلى تعلم الأطفال قال (عليه السلام) : « من لم يتعلم في الصغر ، لم يتقدم في الكبر » (4).

إن المربي القدير هو الذي يستفيد من غريزة حب الكمال والتعالي عند الطفل ويقيم قسماً كبيراً من أساليبه التربوية على هذا الأساس.

* * *

ص: 370


1- روح القوانين لمونتسكيو ص 38.
2- المصدر السابق ص 42.
3- نهج البلاغة ص 450.
4- غرر الحكم ودرر الكلم ص 697.

فهرس المحتويات

الصورة

ص: 371

الصورة

ص: 372

الصورة

ص: 373

الصورة

ص: 374

الصورة

ص: 375

الصورة

ص: 376

الصورة

ص: 377

الصورة

ص: 378

الصورة

ص: 379

الصورة

ص: 380

الصورة

ص: 381

الصورة

ص: 382

الصورة

ص: 383

الصورة

ص: 384

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.