الهادي في تفسير القرآن الكريم المجلد 4

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: مهری، سیدمرتضی، 1324 -

عنوان المؤلف واسمه: الهادي في تفسير القرآن الكريم [کتاب]/ العلّامة سيّد مرتضى المهري.

مشخصات نشر : قم : موسسة المعارف الاسلامیة، 1437ق.= 1395 -

مواصفات المظهر: ج.

فروست : موسسة المعارف الاسلامیة؛ 209، 219، 227.

شابک : دوره 978-600-146-015-9 : ؛ ج.1 978-600-146-016-6 : ؛ ج.3 978-600-146-019-7 : ؛ ج.4 978-600-146-030-2 : ؛ ج.5 978-600-146-031-9 : ؛ ج.6 978-600-146-039-5: ؛ ج.7 978-600-146-057-9 :

حالة الاستماع: فاپا

لسان: العربية.

ملحوظة : ج.3 (چاپ اول: 1394) .

ملحوظة : ج.4 (چاپ اول: 1395) .

ملحوظة : ج.5 (چاپ اول: 1397) (فیپا).

ملحوظة : ج.6 (چاپ اول: 1399).

ملحوظة : ج.7 (چاپ اول: 1401) (فیپا) .

مندرجات : .- ج.3. تفسیر سورة الشوری.- ج.4. تفسیر سورة الاحقاف.- ج.5. تفسیر سورة الذاریات.- ج.6. تفسیر سورة حدید.- تفسیر سورة التحریم

مشكلة : تفسيرات الشيعة -- قرن 14

معرف المضافة: موسسة المعارف الاسلامیة

تصنيف الكونجرس: BP98/م866ھ2 1395

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3483061

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

الهادي في تفسير القرآن الكريم

المجلد الرابع

تأليف

العلامة سيّد مرتضى المهري

ص: 3

سرشناسه : مهری سید مرتضی 1324 -

عنوان و نام پدیدآور : الهادى فى تفسير قرآن کریم/ سید مرتضی مهری

مشخصات نشر :: قم : بنیاد معارف اسلامی ، 1393) - (219 - 209 - 207 - 206)

مشخصات ظاهری : ج.

ISBN : دوره ای: 015-9-146-600-978

ج 1 6-016-146-600-978 ج ) 3-017-146-600-978 0919-7 - 978-600-146 ج 4 2-030 146 م (4) 2-030- 146-600-978

وضعیت فهرست نویسی : فیبا

یادداشت :عربي.

یاد داشت : ج. 3 چاپ اول (1395) (فیا).

یاد داشت : ج4 چاپ اول: (1395) (فیپا).

مندرجات : ج 4: تفسیر سوره احقاف

موضوع : تفاسیر شیعه - قرن 14

شناسه افزوده : بنیاد معارف اسلامی

رده بندی کنگره : 1393 2 ه- 866م / 98 BP

رده بندی دیویی: 297/179 :

شماره کتابشناسی ملی: 3483061 :

هوية الكتاب:

اسم الكتاب :... الهادي في تفسير القرآن الكريم ج 4

المؤلف : .... العلامة السيد مرتضى المُهري

الناشر : ..... مؤسسة المعارف الإسلامية

الطبعة :....... الأولى 1438 ه- - ق

المطبعة :......... عترت

العدد ......... 1000 ن

رقم الايداع الدولي للدورة : .......978-600-146-015-9

رقم الايداع الدولي / ج 4 :....... 978-600-146-030-2

حقوق الطبع محفوظة لمؤسسة المعارف الإسلامية

قم المقدسة - تلفون : 09127488298 - 37732009 - فاكس 37743701 ص ب 168 / 37185 37185/768

www.maarefislami.com

E-mail : info@maarefislami.com

جمعیه خیریه رقمیه: مرکز خدمه مدرسه اصفهان

المحرر الدیجیتالی :سیدعبدالله رضوی مالستانی

ص: 4

تفسير سورة الأحقاف

اشارة

ص: 5

ص: 6

سورة الأحقاف (1-6)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حمَ(1) تَنزِيلُ الْكِتَبِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(2) مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ قُلْ أَرَعَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَبٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَرَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُوا مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَابِهِمْ غَيفِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَفِرِينَ )

سورة الأحقاف مكّية تشتمل على إثبات الوحدانية والربوبية المطلقة للكون، وإثبات المعاد والرسالة، وأنّ القرآن هو الكتاب المنزل من عند الله تعالى والإشارة إلى بعض ما جرى على الأمم السالفة، وورد في نهايتها قصّة إيمان الجنّ بالقرآن وبالرسالة.

(حم)، مرّ الكلام حول الحروف المقطعة في تفسير سورة يس.

ص: 7

«تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ»؛ مرّ تفسيرها في بداية سورة الجاثية.

«مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ»، الآية تستدلّ على لزوم حشرالناس يوم القيامة. والظاهر أن المراد بالسماوات هنا ، الأجرام الفلكية التي نراها فوقنا، و بالأرض الكرة الأرضية؛ وإضافة مَا بَيْنَهُما لكي يشمل التعبير كل الكون المشهود، أي عالم الطبيعة ، وقد ذكرنا مراراً أن السماوات قد يراد بها - في القرآن - العوالم العلوية التي ترتبط بها الملائكة الكرام إلا أن قوله تعالى: (وَأَجَلٍ مُسَمًّى يقتضي أن لا يراد بالسماوات عالم الملائكة هنا، وإن احتمل أن يكون للسماوات بمعنى ماوراء الطبيعة أجل أيضاً، كما ربما يفهم من قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللهُ»(1) إِلّا أَنه لا علاقة له بهذا الاستدلال، فإنه يبتني على فناء الحياة الدنيا وزوال النظام الكوني في عالم الطبيعة كما سيتبيّن إن شاء الله تعالى.

والباء في قوله تعالى: (بالحَقّ) للملابسة، أي ما خلقنا الكون إلا خلقاً على أساس الحق، وهو كونه لغاية وهدف، وهذا الأمر مع توصيفه تعالى في الآي-ة السابقة بالعزيز الحكيم يقتضي لزوم تعقب هذه الحياة بحياة أخرى ينال فيها الإنسان جزاء أعماله الصالحة والفاسدة، ويوضع موضعه اللائق به، فإن هذا هو مقتضى العدل والحكمة، والنظام الكوني يدلّ على أن الكون مبتن عليهما، وأن خالقه عزيز حكيم لا يعمل إلا بمقتضى الحكمة، وهو العزيز والغالب المطلق الذي لا يمنعه شيء من تحقق ما يريد.

وإذا لاحظنا الكون، نجد أنّ كلّ شيء في موضعه الذي ينبغي أن يكون إلّا

ص: 8


1- الزمر (39): 68

هذا الإنسان فإنّا نجد أنّ كثيراً من البشر يستحقّون أشدّ العذاب، ومع ذالک فهم يعيشون في رفاهية ونعمة وسعة من العيش، ونجد كثيراً ممّن يستحقّون التبجيل والاحترام، لا يُعرف قدرهم ولا يُكرمون، بل يقضون حياتهم في بؤس وعناء، بل نجد المجتمع البشري يقلّب الموازين طيلة القرون، ويكرّم ويعظم الظلمة والأشرار أكثر من إكرام الأنبياء والمصلحين، فضلاً عما لا قوة في حياتهم من ظلم وتشريد ،وقتل، فلا بد لتحقق الحكمة من خلق الإنسان الذي سخّر الله له هذا الكون، أن يعود إلى عالم آخر يوضع فيه كلّ إنسان موضعه، ويرى كل أحد نتيجة أعماله.

«وَأَجَلٍ مُسَمًّى» عطف على الحقّ، أي ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما

إلا بأجل مسمى، أي ملابساً للأجل.

والمسمّى، أي المعيّن. والأجل المدّة المضروبة، والغاية المحدّدة للشيء ولعلّه بتقدير كلمة «بتقدير» ونحوه؛ لأن الذي يلابس الخلق ليس هو الأجل نفسه، بل تقديره وتحديده. وكون الخلق ملابساً لتقدير الأجل، بمعنى أنه من بدو الخلق كان مؤجّلاً ومحدوداً لحدّ معيّن من الزمان، والمراد به الأجل الطبيعي لهذا النظام الكوني.

ولعلّ القصد من ذكر الأجل المسمّى الإشارة إلى أنّ هذا النظام وهذه الحياة فانیان لا محالة، وهو مقدّر من بدو الخلق، بمعنى أنّ خلق هذا النظام يلازم الفناء، فلم يخلق الله الطبيعة بحيث تبقى إلى الأبد، فلا يمكن أن تتحقق الحكمة والعدالة في هذه الحياة وفي هذه المرحلة من الكون، وهنا يستنتج أنه لا بد من حياة أخرى وعالم آخر ومرحلة أخرى من التكوين، لتتحقق فيها العدالة التي تقتضيه الحكمة الإلهيّة.

ص: 9

وقيل: إنّ المراد بالأجل المسمّى يوم القيامة، ونسب إلى ابن عباس وتبع-ه المفسّرون فإن أريد به يوم النفخة الأولى أو فناء الكون، فهو صحيح إلا أن التعبير عنه بيومه القيامة غير دقيق ويوهم أن المراد يوم النفخة الثانية وإحياء الناس، وقيام نظام جديد وهو غير مراد في الآية قطعاً، كما يلاحظ من التعبير ب-«الأجل الذي هو نهاية مدة بقاء هذا النظام، ولأن الآية بصدد الاستدلال على لزوم تحقق يوم القيامة، فكيف يكون هو بنفسه جزءاً من الاستدلال؟!

وقيل: إنّ المراد به آجال البشر، فلكلّ أحد أجله المسمّى، وهو أقرب إلى الحقيقة من التعبير بيوم القيامة، بمعنى أن موت الإنسان يمكن أن يكون جزءاً من الاستدلال، فإنّه لو كان مخلّداً في هذه الحياة، أمكن أن يأتي الله تعالى بيوم ينال كلّ إنسان جزاءه في الدنيا، ولكن حيث إنه يموت من دون أن ينال جزاء أعماله خيراً أو شرّاً - فلا بدّ من حياة أخرى وعالم آخر.

«وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أَنْذِرُوا مُعْرِضُونَ» ، أي بالرغم من أنّ الكتاب منزل من عند الله العزيز الحكيم، ومنذر لما يأتي بعد أجل السماوات والأرض، وبالرغم من أن الكون مليء بالآيات الدالة على أنه مخلوق بالحقّ وأجل مسمّى، مع ذلك كلّه تجد الذين كفروا - بوجه عامّ أو خصوص مشركي مكّة والجزيرة العربيّة؛ لأنّ الخطاب موجّه إليهم - معرضين عن ما أنذروا به، وهو الخطر المحدق بهم، والمراد به يوم القيامة، فتكون (مَا) موصولة.

ويمكن أن تكون مصدرية، أي تجدهم معرضين عن نفس الإنذار والآيات

المتضمنة له والسياق يفيد التعجيب من حالهم.

والإعراض بمعنى صرف الوجه، فالمراد أنهم يصرفون وجوههم حتّى لا يواجهوا الحقيقة؛ فإنّهم لا يريدون أن يسمعوا ما لا يعجبهم وإن كان حقاً.

ص: 10

وهكذا الإنسان في جميع شؤونه؛ فإنه إذا حُذِر عن عاقبة فعله --- ح-تّ-ى ل-و ك-ان التحذير لأمر دنيوي محسوس، وحتّى لو كان الأمر خطيراً يتعلّق بالموت والحياة، ولكنّه لا يوافق ميوله - فهو لا يحبّ أن يسمع، فضلاً عن التدبّر والتفكّر، وفضلاً عن الانتهاء عن فعله، كما نجده من المدمنين للتدخين أو استعمال المخدرات أو الكحول أو نحو ذلك ممّا يتعاطاه أهل الأهواء والشهوات.

«قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله ». المعروف بين المفسرين أن قوله: «أرأيتُمْ» بمعنى أروني وأخبروني، وأن قوله: «أرُونِي » بعد ذلك تأكيد له. ولكن الظاهر، أن قوله تعالى: «أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ»، أي انظروا إلى ما تدعون من دون الله، أي الأصنام وغيرها، فهو توطئة للجملة التالية.

والمراد بقوله: «مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله،» ما يعتقد بعض البشر أنّهم يؤثَرون في الكون تأثيراً فاعلياً غيبياً بالاستقلال، فيدعونهم بدلاً عن الله، كما كان المشركون المخاطبون يعتقدون ذلك في الملائكة أو في الأصنام، لأنّها تمثّل الملائكة وكما يعتقد ذلك في بعض الأنبياء والأولياء. «وتَدْعُونَ» بمعنى أنكم تطلبون منهم حاجاتكم، وتظنّون أنهم يغنون عنكم من الله شيئاً. ودعاؤهم من دون الله، بمعنى أنّهم لا يدعون الله، ويدعون هذه الأصنام وغيرها بدلاً منه.

وعليه فكلّ من يعتقد أنّ لشيء ما تأثيراً فاعلياً غيبي-اً ف-ي الك-ون بدلاً عن الله تعالى، بمعنى أنّه لا يستند في فعله وتأثيره إلى إرادته تعالى، فهو يدعو أحداً من دونه تعالى، وهو مخاطب بهذا الخطاب.

«أرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرض»، هذه الجملة تفنّد ربوبية غيره تعالى، فإنّ الربوبيّة لا تنفك عن الخلق؛ لأنّ التأمّل في نظام الكون يقضي بأنّ الربّ المدبّر

ص: 11

هو الخالق الذي وضع كلّ شيء موضعه، وهيّأ لكلّ شيء ما يحتاج إليه في ذاته وفي ما حوله، وهو الذي أنشأ هذا النظام المتناسق والمتكامل، بحيث يكمل كلّ جزء منه سائر الأجزاء.

فالسؤال أن ما تعتبرونهم أرباباً، هل خلقوا من الأرض شيئاً ليكونوا ربه وما الذي خلقوه؟ ومن الطبيعي أنّ الجواب هو النفى فهذا مجرّد تنبيه لما غفلوا عنه، حيث اعتبروا من لا دور له في الخلق ربّاً مؤثراً في الكون، توهّماً منهم أن الربّ ليس هو الخالق، وأن هناك من يؤثر في الكون تأثيراً مباشراً ومستقلاً، غير الخالق الحكيم جل شأنه.

«أمْ هُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ،» «أمْ» منقطعة، ففيها معنى الإضراب عن السؤال الأوّل وهو الخلق في الأرض، واستفهام أمر آخر وهو اشتراكهم في شيء من السماء. ومن الواضح أنّ الأصنام وغيرها، لا تؤثر شيئاً في السماوات ولم يكن المشركون يعتقدون ذلك؛ فالاستفهام للتقرير، أي أخذ الإقرار منهم ولكي ينتبهوا إلى أنّ الكون واحد متناسق فخالق السماوات ومدبّرها هو خالق الأرض ومدبّرها أيضاً؛ إذ لا يمكن أن تنفصل إدارة الأرض عن إدارة السماء، فإذا أقررتم بأنّ الأرباب المزعومين لا دخل لهم ولا تأثير في السماوات، فهو ملازم لنفي تأثيرهم في الأرض أيضاً. وإنّما أتى بضمير ذوي العقول مع أنّ المراد ب-ه الأصنام؛ لأنّ إسناد التدبير والربوبية إليها يستلزم ذلك، فهو نوع من التهكّم. «ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أو أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ»، لعلّ الغرض أنّكم حيث لا يمكنكم الإتيان بشواهد خارجية تدلّ على تأثير الأصنام في الكون، فأتوني بدليل نقلي من كتب السماء، يدلّ على ربوبية الأصنام أو غيرها، وهذا

ص: 12

على غرار ما مرّ من الاستدلال على ربوبية الله تعالى بالكتاب المنزل من عنده وبآيات التكوين التي ملأت الكون والإشارة في قوله: «مِنْ قَبْلِ هَذَا » إلى القرآن الكريم. والأثارة والأثر، ما يبقى من الشيء؛ فالمراد ما بقي لديكم من علوم الأولين وهو عطف على الكتاب، أي ائتوني بمستند سماوي أو علم بشري يدلّ على ربوبية غير الله تعالى.

وقوله:« إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ» شرط جزاؤه محذوف يدلّ عليه الطلب السابق، أي إن كنتم صادقين في دعواكم، فائتوني بكتاب أو أثارة.

«وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»،استفهام إنكاري، أي ليس هناك أضل من هؤلاء الذين يدعون غير الله بدلاً عن الله، بمعنى أنهم يعتبرونهم آلهة وأرباباً يؤثرون في الكون استقلالاً، مع أن الأصنام التي يدعونها لا يستجيبون لهم ولا يردّون عليهم، بل لا يسمعون دعاءهم، كما قال تعالى: «إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ».(1)

وقوله: «إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» يمكن أن يكون كناية عن التأبيد، كقوله تعالى: «خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأرْض».(2) ويمكن أن يكون بمعناه الظاهر ولكن ليس له مفهوم، فليس معناه أنّهم يستجيبون لهم يوم القيامة، بل معناه أنّ حالهم مع هؤلاء يوم القيامة، يختلف عن حالهم في الدنيا، وذلك لأنّهم يوم القيامة يكونون لهم أعداء ويكفرون بعبادتهم وشركهم، كما مرّ في الآية

ص: 13


1- فاطر(35) 14 .
2- هود (11) 107 و 108 .

المذكورة، وسيأتي في الآية التالية.

«وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ» هذا بمعنى قوله تعالى: «لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ»، ولكنّه عبّر هنا بالغفلة، مع أنّ الأصنام جماد لا توصف بالغفلة؛ فهو إما من جهة أنّهم يسندون إليها ما لا يسند إلّا إلى عاقل، ففيه نوع من التهكّم والاستهزاء، وإمّا باعتبار أن الجمادات أيضاً لها نوع من الشعور عند الله تعالى، وفي ذل-ك ش-واهد كثيرة في الكتاب العزيز، كقوله تعالى: «قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»،(1) فإسناد الغفلة إلى الأصنام من جهة أنّها لا تشعر بأن هذا الدعاء موجّه إليها؛ لأنّها تعلم أنّه-ا غي-ر قادرة على شيء فلا تصدّق ذلك.

«وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا هُمْ أعْدَاء». الضمير في قوله: «هم» لا يرجع إلى الناس بل إلى المشركين خاصّة، أي أنّ الأصنام التي يتّخذونها آلهة تعاديهم يوم يحشر الناس جميعاً. والأعداء جمع عدوّ وهو مشتقّ من العدوّ أي التجاوز. وكلّ من يتجاوز الحد الطبيعي في المنافرة فهو عدوّ ، وقد لا يكون عداؤه عن قصد، كما قال تعالى: «یَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ»، (2)فإنّه تعالى لا يحذر ممّن يعادي علناً من الأزواج والأولاد، بل المراد من لا يظه-ر من-ه عداوة ولا يقصدها أيضاً، بل ربما يقصد الخير ولكنّه يجر الإنسان إلى ما لا يرضى الله تعالى به، والإنسان ينجر وراءه حبّاً لولده وزوجته ويقع في المفسدة والبلاء من حيث لا يدري. ومن هذا القبيل عداوة الأصنام للمشركين وهي تعاديهم في هذه الدنيا أيضاً؛ لأنّها كسائر المخلوقات مؤتمرة بأوامر الله تعالى

ص: 14


1- فصلت (41): 11.
2- التغابن (64): 14.

مطيعة له، بخلاف المشركين المتآمرين على ربّهم، ولكن هذا العداء لا يظهر إلا يوم القيامة، حيث تبرز الحقائق الكامنة علانية.

«وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ». الكفر بمعنى الإنكار، فالمراد أنّ الأصنام تنكر عبادة المشركين لها واقعاً، كما قال تعالى: «وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ»،(1) وليس ذلك كذباً منها؛ لأنّ المشركين يعلمون حين عبادتهم أنّ الأصنام لا تسمع شيئاً ولا تعمل عملاً، فهم لا يدعونها ولا يعبدونها بجدّ، وإنّما يدعونها تثبيتاً لما يجمعهم وتجتمع عليه أحزابهم من العقيدة الفاسدة التي تبنّوها كذباً وزوراً، كما قال تعالى في حكاية قول سيدنا إبراهيم علیه السلام : «وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانَا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا » ؛(2) أي من أجل إبقاء المودّة وترسيخها بين الأتباع، وهكذا كل دعاة الباطل وأتباع المذاهب الفاسدة الواضحة الفساد. وهذه الآية تحاول أن تنبههم إلى ما يغفلون أو يتغافلون عنه.

ص: 15


1- فاطر (35): 14 .
2- العنكبوت (29) 25.

سورة الأحقاف (7-10)

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ وَايَتُنَا بَيْنَت قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَنَهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ، فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) قُلْ مَا كُنتُ بِدْعَا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَى وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ب قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَاوِيلَ عَلَى مِثْلِهِ، فَقَامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ.

«وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ مَا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ»، المراد ،بالآيات القرآن الكريم، و «بَيِّنَاتٍ» حال لها أي تتلى عليهم الآيات حال كونها، بينة واضحة، بمعنى أنهم يعلمون أنها آيات نزلت من عند الله تعالى وأنها ليست من إنشاء الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ولا يمكن أن يكون هو المنشئ لها، فهم يعلمون ذلك بمقتضى خبرتهم ومعرفتهم بخصائص الرسول صلی الله علیه و آله وسلم و سوابقه وصدقه وبع-ده ع-ن الشعر والكلام المسجّع، وكونه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وأن مثل هذا البيان لا يمكن أن يصدر منه ولا من غيره من البشر، ولذلك لم يذكر بعد ذلك ضميراً يعود إلى الآيات، بل أبدله بكلمة «الحق» للإشارة إلى أنهم علموا أنّه الحقّ، ومع ذلك قالوا فيه إنّه سحر واضح، وهم بذلك يعترفون بتأثيره العجيب وإخضاعه لمن يسمعه، ولكنّهم يأبون من الاعتراف بأنه حق بالرغم من إحساسهم بذلك؛ فيعلّلون تأثيره بالسحر.

ومثله التعبير بالذين كفروا، بدلاً عن الضمير للتأكيد على كفرهم وعنادهم. وقوله :« لمَّا جَاءَهُمْ» لعلّه للتأكيد على أنّهم بمجرّد سماعه حكموا عليه بذلك، م-ن

ص: 16

دون تردّد وتروّ مكابرةً منهم وعناداً. واللام في «لِلْحَقِّ» ليس لتعدية القول؛ إذ ليس هذا خطاباً للحق، بل للتعليل، أي من أجل الحق باعتبار أن-ه ك-لام ح-ول-ه وتعبير عنه وتوصيف في شأنه.

«أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاه» «أمْ» منقطعة، ففيها معنى الإضراب والاستفهام، والإضراب

الذي تتضمّنه بمعنى أنهم لم يكتفوا بالقول بأنّه سحر، بل اتهموا الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأنّه ،افتراه والاستفهام للإنكار.

«قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً »، المتداول في التفاسير أن المراد بهذا الجواب أنه لو كان مفترياً لعاقبه الله تعالى ومنعه وهو قادر على كل شيء. فجزاء الشرط - في الواقع - ليس هو الجملة الواردة في الآية، بل هذه تتمة الجزاء، والجزاء المقدّر: «فهو قادر على أن يمنعني ولا تتمكنون من منعه، لأنكم لا تملكون لي من الله شيئاً، والملك في الأصل يدلّ على قوة في الشيء وصحة على ما في «معجم المقاييس»(1)، والمراد به هنا القدرة أي لا تقدرون على منعه تعالى من أي ضرر يريد إيقاعه علي.

وفيما ذكروه ملاحظتان :

الأولى: أنه ليس للمخاطبين خصوصية في الدفاع عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، إذا أراد الله به شراً؛ فلماذا يخاطبهم بقوله: «فَلا تَمْلِكُونَ لي » ؟ بل لا يتوقّع منهم أن يدفعوا عنه حتى لو تمكّنوا من فعل شيء.

وقد انتبه المفسّرون لورود هذا الإشكال عليهم؛ فقال بعضهم في الشرح: «لا تقدرون أنتم ولا غيركم، ومرد ذلك إلى أن توجيه الخطاب إليهم من باب أنهم

ص: 17


1- معجم مقاييس اللغة 5: 351

من الخلق وكلّ الخلق ليست لهم القدرة. ولكن من الواضح أن هذا التوجيه لا يحل الإشكال ولا يبرّر مخاطبتهم بذلك مما تظهر منه الخصوصية.

وقال أكثرهم في الشرح : «والمراد كيف أفترى على الله من أجلكم وأنتم لا

تقدرون على دفع عقابه عنّي إن افتريت عليه ؟!» كما في «مجمع البيان» وغيره؛(1) فأضافوا قولهم من أجلكم ليكون مبرراً لتوجيه الخطاب إلى المشركين، كأنه صلی الله علیه و آله وسلم يقول لهم: «إنّي لو افتريت فقد افتريته من أجلكم مع أنكم لا تقدرون على مساعدتي إن عاقبني الله على افترائي، وهو لا شك يعاقب على ذلك فلا موجب لهذا الافتراء». ومن الواضح أنه أبعد من الصواب من الوجه الأول؛ إذ لا وجه لكون الافتراء من أجلهم، إلا أنه لمصلحتهم في الآخرة، والمفروض أنه افتراء فأيّ مصلحة لهم فيه ؟! بل ليس لهم فيه حسب دعواهم إلا الضرر.

الملاحظة الثانية: أنّ هذا الجواب يشبه قول المشركين كما قال تعالى «سَيَقُولُ الَّذِينَ أشركوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرِكنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْء»،(2) وقال أيضاً: «وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا هُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا تَخْرُصُونَ»، (3)" وغير ذلك.

وحاصله أن الله تعالى قادر على منعهم من الشرك ونحوه، وحيث لم يمنعهم یكشف ذلك عن رضاه بعملهم، وقد ردّ عليهم القرآن - كما في الآية الثانية - بأنهم ليس لهم علم برضاه تعالى، وعدم التعجيل في المؤاخذة لا يدل على الرضا. ونفس هذا الجواب يأتي هنا أيضاً.

ص: 18


1- راجع مجمع البيان في تفسير القرآن 10 - 9: 126؛ جامع البيان في تفسير القرآن: 122
2- الأنعام (6): 148 .
3- الزخرف (43): 20

وتمسك بعضهم في تفسير هذه الآية بقوله تعالى: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثمّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ»،(1) حيث استظهروا من الآيات أنها أيضاً بصدد الاستدلال على كون القرآن حقاً، بأنّه تعالى يعاقبه أشدّ العقاب لو تقول على الله بشيء.

وهذا الكلام غير صحيح؛ فما أكثر من ادعى النبوّة كذباً وافتراءاً، وما أكثر

من نسبوا إلى الله تعالى ما لم يقله من دعاة الدين والملوك والفراعنة وغيرهم وفى القرآن الكريم نسب الافتراء إلى المشركين وأهل الكتاب، مع أنّه تعالى لم ينزّل عليهم عذاباً من السماء ولا منعهم من الافتراء عليه تكويناً. وستأتي تتمّة الكلام في تفسيرها إن شاء الله تعالى.

والظاهر أنّ المراد من الآية المباركة ليس هو الجواب عن اتهامهم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بالافتراء، بل هو إعلام لمقاطعتهم؛ لأنّهم لا يكذّبونه جهلاً بمقامه بل هم يعلمون بوضوح أنّه صادق في دعواه، وأنّه لم يقل كذباً طيلة حياته، وقد لبث فيهم عمراً من قبله، وإنّما يتّهمونه بالكذب والافتراء عناداً ومكابرةً، فه-م لا يستحقّون الجواب، ومعنى هذه الجملة أنّه إذا افترى على الله تعالى - وحاشاه --- فإنَّ الله هو الذي يجازيه في الآخرة، وليس لهم دور في الموضوع ولا عليهم مسؤولية، ومثله قوله تعالى: «أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجرِمُونَ»،(2) وقوله تعالى: «وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِى عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيتُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ». (3)ويشهد لهذا التفسير الجملات التالية؛ وأم-ا عل-ى م-ا ذك-ره

ص: 19


1- الحاقة (69): 44 - 47.
2- هود (11) 35
3- يونس (10): 41

المفسّرون، فلا علاقة لهذه الجملة بما يليها.

«هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ»، الإفاضة في الحديث هو الخوض والاندفاع في-ه والاشتغال به عن غيره. وحديث مستفاض، أي ذائع ومنتشر بكثرة، استعير من إفاضة الماء، أي أسالته بكثرة. ويتبيّن منه أن القوم كانوا يصرّون على نشر اتهامه صلی الله علیه و آله وسلم بالكذب والافتراء، وهكذا شأن الطغاة إذا واجهوا الحق، فإنّهم يسعون بمبالغة في التكذيب والتنقيص، حتّى لا يبقى له أيّ تأثير في المجتمع.

وفي هذا الخطاب تهديد لهم بأن الله تعالى هو محاسبهم على ذلك. ويتبيّن بوضوح أنّها لا تناسب التفسير المعروف، وإنّما تناسب ما ذكرناه من أنّ الجملة تدلّ على المقاطعة وإيكال أمرهم إلى الله تعالى.

«كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ »، الشهيد بمعنى الشاهد أي كفى به شاهداً على ما يقع بيني وبينكم من الخصومة والاحتجاج، حيث إنّه أعلم بما يقولون وأعلم بنيّاتهم وبدوافعهم وهو القادر على مجازاتهم وهو الحكم العدل، فتكفيني شهادته. وهذه الجملة أيضاً تهديد وتحذير.

«وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ». لعلّ هذه الجملة لإكمال التهديد بما قبلها، حيث إنّ-ه ربما يتوهّم المشركون أنّه حيث هو الأعلم بما نخوض فيه وهو الشهيد بيننا وبينك، فَلِمَ لا يعذّبنا بذنوبنا، فأكمله بقوله: «وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»، أي لا يغرنّكم تأخير العقوبة لعنادكم وكفركم، فإنّ-ه تعالى غفور رحيم يمهلكم لعلّكم

ترجعون، ويمكن أن تكون لدفع اليأس عنهم وترغيبهم على التوبة والرجوع.

«قُل مَا كُنتُ بدعاً مِّنَ الرُّسُلِ»، البدع صفة مشبّهة من الإبداع، أي إيجاد الشيء من غير مثال. والبدع يطلق على الفاعل والمفعول، وهنا يحتمل المعنيين، فعلى اسم الفاعل معناه أنّي لست مبدعاً ولم آت بطريقة جديدة في الرسالة؛ فأنا كباقي

ص: 20

الرسل، من حيث إنّي أبلغ ما أُرسلت به وعلى المفعول، أي مبدّعاً معناه : أنّ الله تعالى لم يرسلني بكيفية مبدّعة، أي جديدة، بل كما أرسل سائر الرسل. والحاصل أنّ الله تعالى سنّة في إرسال الرسل وبعثهم، حيث يبعث معهم الآيات ويأمرهم بالإبلاغ، وأنا أيضاً كما سبقني من الرسل أحذو حذوهم، وليس معناه أنه لم يأت بشريعة جديدة وأنه يتبع الشرائع السابقة، بل المراد أنّ سبيله في الإبلاغ سبيل الرسل السابقين.

والظاهر أنّ الآية في سياق الردّ عليهم باتّهامه بالسحر أو الافتراء، باعتبار أنّه لم يأت بأمر غريب، وإنّما هو رسول كسائر الرسل، ويمكن أن يكون ردّاً لبعض طلباتهم، حيث كانوا يطلبون منه صلی الله علیه و آله وسلم أن يأتي بمعجزات خاصّة، كما ورد في سورة الإسراء: «وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً * أو تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أو تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أو تَأْتِيَ بِالله وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أو يَكُونَ لَكَ بَيْتُ مِنْ زُخْرُفٍ أو تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيكَ حتى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَراً رَسُولاً » . (1)

«وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ»، قوله تعالى: (وَلا بِكُمْ)، أي ولا أدري ما يفعل بكم، فحذف بعض الكلام لدلالة الجملة السابقة عليه. والجملة تؤكّد المضمون السابق وهو أنه صلی الله علیه و آله وسلم ليس إلا رسولاً كسائر الرسل، وأنّه لا يدّعي أمراً وراء ذلك ليكون مستغرباً. ونظير ذلك قوله تعالى: «قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ الله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أقُولُ لَكُمْ إنّي مَلَكُ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَى» (2)، وقوله تعالى: «قُلْ لا أَمْلِكُ

ص: 21


1- الإسراء (17) 90-93
2- الأنعام (6) : 50 .

لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إلا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»،(1) وقوله تعالى: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشر مِثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ » (2)، وفي حكاية كلام نوح علیه السلام : «وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أقُولُ إِنِّي مَلَكٌ » (3). " وغير ذلك ممّا يدلّ على أنّ الأنبياء كانوا ينفون عن أنفسهم أنهم فوق البشر؛ لئلا يتوقّع الناس منهم معاجز غير ما أعطاهم الله تعالى.

وهناك إشكال يخطر في الأذهان في الآية الكريمة من جهة نفي علمه صلی الله علیه و آله وسلم بما يؤول إليه أمره ، مع أنّه لا شكّ في أنّه شافع مشفّع يوم القيامة. ويمكن أن يجاب عنه بأنّ المراد نفي علمه بالغيب في مستقبل الحياة الدنيوية، وفي نفس الوقت إظهار للعجز أمام إرادة الله تعالى، وأنّ التقدير بيده يفع-ل ب-ي وب-ك-م م-ا يشاء. أمّا في الآخرة، فهو يعلم أنّ الله تعالى يدخله الجنّة. نعم يمكن أن ينفي العلم بتفاصيل ما يحدث وإن كان بعيداً أيضاً، للروايات المتواترة إجمالاً، التي تشتمل على تفاصيل ما يحدث في مختلف مواقف يوم القيامة.

وفي روايات العامّة ما يدلّ على نفي علمه صلی الله علیه و آله وسلم بما يؤول إليه أمره في الآخرة؛ ففي «صحيح البخاري» بسنده عن خارجة بن زيد: «أَنَّ أُمَّ العلاء - امْرَأَةٌ مِنْ الأنصار، بَايَعَتْ النَّبي صلی الله علیه و آله وسلم- أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتِيمَ الْمُهَاجِرُون قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَان بْن مَظْعُونِ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ؛ فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسل وَكُفَّنَ فِي أَثْوَابِهِ، دَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فَقُلْتُ: رَحْمَةُ الله عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ

ص: 22


1- الأعراف (7) (188 .
2- الكهف (18) 110 .2.
3- هود (11) 31

فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلی الله علیه و آله وسلم:« وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّ اللهَ قَدْ أَكْرَمَهُ». فَقُلْتُ: بأبي أنتَ يَا رَسُولَ الله فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللهُ. فَقَالَ: «أمّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَالله إنِّي لأرْجُو لَهُ الخَيْرَ وَاللهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللهِ مَا يُفْعَلُ بِي». قَالَتْ فَوَاللَّهُ لَا أَزَكِّي أَحَداً بَعْدَهُ أبداً».(1) ورواه في «الدرّ المنثور» (2)عن أحمد والنسائي وابن مردويه أيضاً، ورواه بوجوه أخر عن غيرهم.

و نسب بعضهم إلى ابن عباس القول بأن الآية منسوخة بقوله تعالى: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ» ،(3) ولكن لا معنى للنسخ هنا، فهذا ليس حكماً شرعياً، وإنّما هو إخبار عن حقيقة قائمة لا تتبدّل إلا إذا أُريد بالنسخ أن-ه صلی الله علیه و آله وسلم م-ا ك-ان يعلم أنّ الله تعالى غفر له ذنبه وأنّه يدخله الجنّة إلا بعد نزول سورة الفتح، وهي من أواخر السور وهذا بعيد جداً، ومخالف للروايات المتواترة التي مرّت الإشارة إليها، خصوصاً على روايات القوم، حيث رووا بشارة العشرة بالجنّة واعتمدوها.

فالصحيح أنّ المراد عدم العلم بما يحدث في المستقبل من حوادث الدنيا. ويمكن أن يقال: إنّها أيضاً كانت معلومة له صلی الله علیه و آله وسلم بالوحي؛ فهو كان عالماً بأنه سينتصر على المشركين مثلاً؛ بل أخبر بحوادث كثيرة تحدث بعده، وقد جمعت الأحاديث الغيبية في كتاب بهذا الاسم، وقد وقع كثير مما ورد فيها. ولكن لا يبعد القول هنا بعدم العلم بالتفاصيل أيضاً، كما قال تعالى: «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا

ص: 23


1- صحيح البخاري 4 464 ، باب الدخول على الميت.
2- الدر المنثور 6 38
3- الفتح (48): 2

نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ،» (1)فممّا لا شك فيه بمقتضى الآيات، أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم م-ا كان يعلم الغيب بذاته، وإذا أخبر بالغيب فإنّما هو وح-ي أنزل عليه أو أخب-ر ب-ه بوجه آخر لا نعلمه.

والله تعالى لا يخبره عن كلّ الغيب، فإنّ ذلك ليس من صالحه ولا من صالح الأمة. قال تعالى: «وَمَنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ»،(2) وقال أيضاً: «وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ». (3)وهناك فرق بين المعرفة بالسيماء والهيئة والمعرفة بلحن القول. ويتبيّن من الآيتين وغيرهما ، أنّه ما كان يعرف كلّ المنافقين والأعداء، أو أنه يعرف بعضهم بلحن القول مما لا يوجب علماً قطعياً.

والحاصل أن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وكذلك الأئمة علیهم السلام إنما يعلمون بعض الغيب بإذنه تعالى، كما هو الحال في سائر الأنبياء ، فهناك آيات تدل على إخبارهم بالغيب كقول عيسى علیه السلام «وأنبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ»،(4) وهناك آيات تنفي علم الغيب عنهم، كقوله تعالى نقلاً عن سيدنا نوح علیه السلام: «وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ الله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ».(5) فالجمع بين الآيات يقتضي أنّهم علیهم السلام ما كانوا يعلمون الغيب بأنفسهم، وإنما كانوا يعلمون بالوحي من الله تعالى، كما أن قدرة الأنبياء على الإعجاز أيضاً ليست منهم، وإنّما هو بإذنه تعالى، كما قال خطاباً لعيسى علیه السلام:

ص: 24


1- الأعراف (7): 188
2- التوبة (9) 101
3- محمد (47) 30
4- آل عمران (3) 49
5- هود (11) 31

«وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي». (1)والأمر لا يختص بعلم الغيب ولا بالمعجزات؛ فكلّ ما يحدث في الكون لا يتم إلا بإذنه تعالى، وإنما يقال ذلك بالنسبة لعلم الغيب والإعجاز، لدفع توهم أنهم الله لهم قدرة ذاتية على معرفة الغيب وفعل المعجزات.

وبذلك يندفع الإشكال على الأنبياء والأئمة علیهم السلام أنهم كيف كانوا يعملون م-ا يتضرّرون به لو كانوا يعلمون الغيب كشرب الإمام السمّ وتعرض بعضهم للقتل أو المرض؟! ومن الغريب ما قال بعضهم - تأييداً لما ورد من الحديث: «ما منا إلا مسموم أو مقتول»،(2) - إنّ النبى والإمام لا يمكن أن يموت بمرض، لأنه يعلم بكل شيء يضرّه، فلا يرتكبه ، فلم يبق طريق لموتهم علیهم السلام إلا القتل. وهذا باطل قطعاً، لأنهم كثيراً ما كانوا يمرضون ويتعالجون، وربما يطول بهم المرض وهذا وارد في روايات كثيرة.

وورد في بعض الأحاديث إشارة إلى ما ذكرناه من الوجه؛ فقد روى الكليني بسنده عن الحسن بن الجهم، قال: «قلت للرضا علیه السلام :إنّ أمي--رالمؤمنين علیه السلام قد عرف قاتله والليلة التي يقتل فيها والموضع الذي يقتل فيه، وقوله لما سمع صياح الإوز في الدار صوائح تتبعه-ا ن-وائ-ح، وقول أم كلثوم: ل-و صلّيت الليلة داخل الدار وأمرت غيرك يصلي بالناس، فأبى عليها وكثر دخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح وقد عرف علیهم السلام أنّ ابن ملجم لعنه الله قاتله بالسيف،

ص: 25


1- المائدة (5): 110 .
2- بحار الأنوار 27: 217؛ و 44 139 :

كان هذا مما لم يجز تعرّضه، فقال: «ذلك كان ولكنّه خيّر في تلك الليلة لتمضي مقادير الله عز وجل. (1)

وقوله علیه السلام «خيّر في تلك الليلة» قرئ بالحاء المهملة، فيكون المعنى أنّه أبهم عليه الوقت في تلك الليلة، فكان يعلم علیه السلام أنّ استشهاده في تلك الليلة، ولكن لا يعلم الوقت بدقة، وهذا هو ما ذكرناه. وأمّا بناءاً على نسخة الخاء، فمعناه أنّه خيّر بين لقاء الله والشهادة؛ فاختار الشهادة ولكن هذا الأمر يدفع عنه علیه السلام إشكال ع-دم التعرّض لقاتله، بمعنى أنّه لم يجب عليه شرعاً التعرّض له لحفظ نفسه، ولكن يبقى الإشكال في أنّه بناءاً عليه يكون هو علیه السلام قد شارك في قتل نفسه ولكن لم يكن محرّماً عليه وهو بعيد جدّاً، خصوصاً في مثل شرب الإمام الحسن علیه السلام للسمّ الذي دفعته إليه زوجته فيكون قد أقدم على قتل نفسه ، ولكنه كان مخيّراً شرعاً، فلا يبقى وجه لكلّ ما يقال من كونه مظلوماً ومسموماً.

هذا مضافاً إلى أن الوارد في الحديث، تعليل التخيير بمضي مقادير الله عزّ وجلّ، وهذا التعليل لا يناسب التخيير، إذ كان بإمكانه الاختيار البقاء، وإنما يناسب إبهام الوقت عليه لئلا يدافع عن نفسه؛ فتقضي مقادير الله تعالى. وبذلك

يتبيّن أن الصحيح هو القراءة بالحاء المهملة. ومهما كان، فسند الرواية ضعيف.

وللعلامة الطباطبائي من بحث فلسفي في تفسير الميزان حول هذا الأمر، و حاصله أن العلم الغيبي في هذه الموارد يتعلّق بالحادث بعلله المستوجبة لتحققه في الخارج بالضرورة، فلا يمكن أن لا يتحقق وليس كالعلم المتعلّق بالسبب فقط، المؤثر في الإرادة، بحيث يتمكن العالم من ترك الفعل؛ فهذا العلم هو جزء

ص: 26


1- الكافي :1 4/259 ، باب أنّ الأئمّة يعلمون متى يموتون.

العلّة التامة للحادث، فالإمام علیه السلام كان يعلم أنّ ابن ملجم رافع سيفه وأنّه

سيضربه وأنّه سيُقتل بهذه الضربة؛ فالعلم متعلّق بالمجموع وليس كالعلم المتعلّق بنفس رفع السيف فقط، فيؤثّر في إرادته ويمكنه المنع، ليجب عليه الدفاع عن نفسه. ولا يمكن أن يقع هذا العلم في سلسلة العلل؛ لأنّ المفروض تحقّق العلّة التامّة والعلم الغيبي متعلّق بمجموع السلسلة.(1)

ثمّ قال: «فمثله كمثل أهل الجحود والعناد من الكفار، يستيقنون بأنّ مصيرهم مع الجحود، إلى النار، ومع ذلك يصرّون على جحودهم لحكم هواهم بوجوب الجحود وهذا منهم هو العلم العادي بوجوب الفعل. قال تعالى في قصة آل فرعون: (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَتَتْها أَنْفُسُهُمْ).(2) وبهذا يندفع ما يمكن أن يقال: لا يتصوّر علم يقيني بالخلاف، مع عدم تأثيره في الإرادة، فليكشف عدم تأثيره في الإرادة عن عدم تحقّق علم على هذا الوصف، وجه الاندفاع: أنّ مجرّد تحقّق العلم بالخلاف، لا يستوجب تحقّق الإرادة مستندة إليه وإنّما هو العلم الذي يتعلّق بوجوب الفعل مع التزام النفس به كما مرّ في جحود أهل الجحود وإنكارهم الحقّ، مع يقينهم به. ومثله الفعل بالعناية؛ فإنّ سقوط الواقف على جذع عال منه على الأرض، بمجرّد تصوّر السقوط لا يمنع عنه ،علمه بأنّ في السقوط هلاكه القطعي». (3)

ومعنى ذلك أنّ الإمام علیه السلام كان يعلم أنّ ابن ملجم خلفه وهو رافع سيفه، ولكن علمه لا يتعلّق به فحسب، فليس كعلم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأنّ اللحم مسموم مثلاً

ص: 27


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 192 - 193
2- النمل (27): 14
3- الميزان في تفسير القرآن 18: 193

حيث تركه ولم يأكله، بل الإمام كان يعلم أنّه سيقتله بهذه الضربة ولا يمكنه الدفاع، لأنّ هذا العلم الغيبي لا يمكن أن يؤثّر في إرادته ليقوم بالدفاع عن نفسهه. يقول العلامة: لأنّ العلم الذي يحقّق الإرادة هو ما يتعلّق بوجوب الفعل، مع التزام النفس به، وهنا لا يتحقّق الالتزام، كما لم يتحقّق في الذين جحدوا بالرسالة، مع تيقّنهم بأنّها حقّ وأنّ الجحود موجب لهلاكهم.

ولكن يبقى السؤال في ما هو الموجب لعدم التزام النفس، فإنّ عدم التزام الجاحدين بمقتضى علمهم، إنّما كان متابعة الهوى، فما هو الموجب هنا؟ هل هو التخيير من الله تعالى، كما ورد في رواية «الكافي» السابقة على إحدى النسخ، فيكون الإمام علیه السلام قد آثر لقاء الله تعالى على البقاء، والمفروض جواز تعرّضه للموت بوجه خاص؟ فإن كان هذا هو السبب، فيكون ذلك انتحاراً جائزاً شرعاً وهو أمر مستغرب جدّاً.

ولا يقاس ذلك بالتخيير الذي ورد في مقتل الحسين علیه السلام، فقد روى الكليني بسنده عن عبدالملك بن أعين، عن أبي جعفر علیه السلام قال: «أنزل الله تعالى النصر على الحسين علیه السلام حتّى كان [ما] بين السماء والأرض، ثمّ خيّر: النصر أو لقاء الله، فاختار لقاء الله تعالى».(1) فإنّه علیه السلام كان يجاهد القوم وإنّما خيّر بالنصر بالملائكة على فرض صحّة الحديث، وليس كالتخيير بين الدفاع عن النفس والتسليم للقتل. وأوضح منه، شرب السمّ كما في قضيّة الإمام الحسن علیه السلام.

ومن جهة أخرى، هذا التخيير لا يوجب عدم إمكان تأثيره في الإرادة، كما

ذكره العلامة أوّلاً وإنّما يوجب اختياره. قال رحمه الله: «فلو فرض حصول علم بحقائق

ص: 28


1- الكافي :1: 8/260 باب أنّ الأئمّة يعلمون متى يموتون.

الحوادث على ما هي عليها في متن الواقع لم يوثّر ذلك في إخراج حادث منها وإن كان اختيارياً عن ساحة الوجوب إلى حدّ الإمكان.(1) فالمفروض أن يبقى تحقق القتل ضرورياً ولا يتبدّل إلى الإمكان، بالرغم من علم الإمام علیه السلام بوقوعه ولا يكون ذلك إلا مع عدم تمكّنه من الدفاع فالسؤال أنّه ما هو الموجب لعدم التمكّن؟ مع أنّ غاية ما ذكره في آخر كلامه عدم اللزوم، كما هو مقتضى التعبير بعدم التزام النفس ومقتضى التمثيل بجحود الكافر، مع تيقّنه؛ إذ لا ريب في تمكّنه من عدم الجحود.

وأمّا ما ذكره رحمه الله من التشبيه بجحود الكافر، مع علمه بأنّه موجب للهلاك، فليس من قبيل عدم التأثّر بالعلم أو عدم تأثيره في الإرادة. فإنّ الكافر وغيره يرجّح المعصية على الطاعة، إمّا لعدم علمه بعظم العقاب وإن علم بأصله، أو لمخادعته نفسه، بأنّه سيتوب في آخر الأمر، أو لأنّه يستبعد المؤاخذة أو شدّتها، أو لا يهتمّ بها لتأخّر موعدها، ويرجّح الفائدة أو اللذة المستعجلة، كما هو الحال في كثير من البشر، حتّى بالنسبة للتبعات القطعية في الدنيا، كمن يستعمل التدخين أو المخدّرات مع علمه بالضرر البليغ، أو لغير ذلك، ومهما كان فالإنسان على كلّ حال، يراجع نفسه ويلاحظ معلوماته ويرجّح الفعل أو الترك على ضوئها.

وأمّا ما أشار إليه في آخر كلامه رحمه الله من التشبيه بالفاعل بالعناية، فهو - عل-ى م-ا ذكروه في الفلسفة - كالواقف على شاهق؛ فإنّه إذا نظر إلى الأرض وتصوّر السقوط، فإنّه يسقط وهو فعل اختياري، ينشأ من نفس التصوّر وإلا فإنّه لو راجع

ص: 29


1- الميزان في تفسير القرآن 18: 193

نفسه ولاحظ أنّ مكانه أكثر أمناً من السقوط، لم يبادر إليه. قالوا: ومثله الحيوان إذا رأى سبعاً فجأة، فإنّه يحدث أنّه يذهب إليه بدلاً من الفرار، وعبّروا عنه

،بالاستسباع، قالوا: وهذا يفعله الحيوان بالإرادة، ولكن من دون ملاحظة تجاربه

ومعلوماته السابقة وترجيح الفعل على الترك.

ولكنه رحمه الله ردّ ذلك في «نهاية الحكمة» واعتبره من الفعل بالقصد، وعللّه «بأنّ تصوّر السقوط ممّن قام على جذع عال، مثلاً علم واحد موجود في الخائف الذي أدهشه تصوّر السقوط فيسقط، وفيمن اعتاد القيام عليه بتكرار العمل فلا يخاف ولا يسقط كالبنّاء مثلاً فوق الأبنية والجدران العالية جدّاً. فالصاعد فوق جدار عالٍ القائم عليه يعلم أنّ من الممكن أن يثبت في مكانه، فيسلم أو يسقط منه فيهلك، غير أنّه إن استغرقه الخوف والدهشة الشديدة وجذبت نفسه إلى الاقتصار على تصوّر السقوط، سقط بخلاف المعتاد بذلك، فإنّ الصورتين موجودتان عنده من دون خوف ودهشة، فيختار الثبات في مكانه فلا يسقط. وفقدان هذا الفعل العنائي للغاية الصالحة العقلائية، لا يوجب خلوّه من مطلق ،الداعي، فالداعي أعمّ من ذلك».(1)

وهذا على افتراض أن يكون هذا الفعل إرادياً، ومن الواضح أنّه لا يمكن معرفة ذلك، ومن الممكن أن يكون ذلك أمراً غير اختياري، فيكون سقوطه غير اختياري لا أنّه يُسقط نفسه.

(إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ)، (إن) نافية، أي أنّه صلی الله علیه و آله وسلم يخطّط لمستقبله، المرتبط بمستقبل الأمّة والرسالة، وإنّما يتبع ما يوحى إليه من ربّه؛ وه-ذا ه-و ال-م-ائ-ز ب-ي-ن

ص: 30


1- نهاية الحكمة: 9

الرسل وغيرهم، وهو أمر عظيم جدّاً، وربما يستصغره بعض الناس جهلاً، نظراً إلى قوله تعالى: (قُلْ إِنما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ)،(1) فيتوهم أنّ الرسول وفقاً لهذه الآية، لا يختلف عن سائر البشر، ولكن هذه غفلة عن الفرق الكبير والهوة السحيقة، التي بين الوحي وعدمه، فهو بشر له كلّ خصائص البشرية، إلا أنّه بلغ من الكمال حدّاً يرتبط بالسماء مباشرة وينزل عليه الوحي من الله تعالى، وأي-ن هذا ممّن هو عاجز من أن يرتبط بالسماء من جانب واحد، فيعبد الله تعالى كأنّه

حاضر أمامه، يشعر بعطفه ورضاه. فكيف بتلقي الأوامر والإرشادات مباشرة؟! إنّ الفاصل كبير بين الرسول وغيره من البشر ، والواقع أنّ ما نجده من الفروق والمميّزات كلّها نتيجة هذا الفارق الذي يعبّر عنه في القرآن بجملة قصيرة، (يُوحَى إِلَيَّ ) ؛ فهو بذلك يأتي بالمعجزات ويمتلك العصمة الإلهية، ويخبر عن الغيب ويعلم ما لا يعلمه بشر ويشفع المذنبين يوم القيامة ويصعد مدارج الكمال، فيبلغ مقاماً لا تبلغه الملائكة المقرّبون.

(وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ)، النفي والاستثناء يدلان معاً على الحصر، فهو تحدي-د لدور الرسول في مرحلة التبليغ، وهو الإنذار، مع أنّه لا يختصّ به واقعاً، فإنّه مضافاً إلى ذلك، يبشر بالجنّة، بل يأتي بالشريعة والأحكام، بل يطبّقها وينفّذها؛ فالتركيز على الإنذار وحده، يتضمّن تهديداً وليس في مقام الحصر الحقيقي، ب-ل الغرض بيان أنّ أهمّ ما يحمله الرسول للبشرية، هو الإنذار بما هو آتٍ لا محالة وهم غافلون عنه، فهو حصر إضافي. وتوصيفه بالمبين باعتبار أنّه لا ينذر بإجمال، بل يفصّل القول في ما ينذر به ويفصّل القول في ما يترتّب على المخالفة، وفي ما

ص: 31


1- الكهف (18): 110 .

يمكن به تفادي العقوبة وتجنبّها وغير ذلك من الشؤون.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ). قوله: (أَرَأَيْتُمْ)، أي أخبروني والضمائر في (كَانَ) و (به) و (مِثْلِهِ)، تعود إلى القرآن الكريم، وقوله: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ)، عطف على الجملة الشرطية، والوجه في عطف هذه الجملة، الإشارة إلى إتمام الحجّة عليهم بوجود شاهد على مثله. والشرط هنا ليس على حقيقته؛ لأنّ مضمون الشرط أمر واقع وليس مقدّراً، وإنّما المراد التنازل عن الإصرار على كونه أمراً واقعاً إلى افتراض أنّه قد يكون واقعاً؛ فإنّه أمر ممكن على أقلّ تقدير.

وجواب الشرط مقدّر ، تدلّ عليه الجملة التالية أي فإن كان ذلك واقعاً - وهو

واقع فعلاً- ماذا أنتم فاعلون بعد ما يتبيّن الحقّ وينكشف الغطاء والحال أنّكم قد كفرتم به مع وجود شاهد حجّة، وقد آمن هو به، أو يقدر الجزاء: «فمن أضلّ منكم» ونحو ذلك.

والهدف من الآية بعث الشكّ والريب في قلوب المشركين. وهذه مرحلة من الدعوة، تخصّ المعاندين المستكبرين الذين يكذّبون الرسالة، دون أيّ بحث وتمحيص، أو حتّى توقّفٍ وإمعانٍ، كما كان دأب العرب الجاهلي، ويبدو أنّ طبيعة الصحراء أيضاً مؤثّرة في هذه النفسية العنيدة؛ ففي مثل هذا الحال ينبغي أن يثار في قلوبهم الشكّ، وأنّ نزول القرآن من عند الله، أمر محتمل على الأقلّ ليتأمّلوا ويتريّثوا ولا يبادروا بالتكذيب والعناد؛ فإنّ الإنسان بطبعه يوازن بين أهميّة المحتمل وقوّة الاحتمال ، وإذا كان المحتمل أمراً خطيراً جدّاً، فإنّه يهتمّ بأقلّ احتمال منطقي، ولا خطر أعظم من الشقاء الأبدي.

ص: 32

وقد وقع الكلام في المراد من هذا الشاهد، ففي «تفسير القمي» - لو صحّت

نسبة الكتاب إليه - أنّ المراد به أمير المؤمنين علیه السلام واستشهد بقوله تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ)(1) حيث ورد في روايات كثيرة أنّ المراد بالشاهد أمير المؤمنين علیه السلام(2) ولكن هذا الاحتمال مردود قطعاً لتصريح الآية بأنّه من بني إسرائيل.

وقال بعض المفسّرين إن المراد به موسى علیه السلام، وإنّ المراد بمثله المشهود عليه هو التوراة؛ (3) وهذا أيضاً غير صحيح، لوجوه عديدة؛ منها أنّه لا يصحّ أن يعتبر موسی علیه السلام شاهداً للمشركين وهم لم يشهدوه ولم يعلموا به إلا في ما يرويه أتباعه.

وقال جمع كثير منهم: إنّ المراد به عبد الله بن سلام ورووا في ذلك روايات عديدة من طرق أهل السنّة، كما أنّهم رووا في فضله كثيراً واعتبروه مورداً لنزول آيات أخرى أيضاً، ولكن شيئاً من ذلك لم يصحّ عن طرقنا، والتأريخ يشهد بأنّه من دعائم الحكم الأموي وممّن حاول الوضّاعون من أتباعهم رفع شأنه، والظاهر أنّه من الإسرائيليين الذين مكروا بالإسلام وأهله. ومهما كان، فتفسير الآية به غير ممكن، لأنّ السورة مكّية وهو ممّن أسلم في المدينة. ولكن مفسّري العامّة أصرّوا على ذلك وتبعهم بعض المحقّقين من الشيعة غفلةً عن حقيقة الرجل، وقالوا بأنّ كون الآية المدنيّة ضمن سورة مكّية ليس بعزيز. ولكن كيف يمكن أن تكون الآية مدنيّة وهي تخاطب المشركين وفي سياق مخاطبات مكّة، كما هو واضح ؟!

ص: 33


1- هود (11): 17
2- راجع: تفسير القمي2: 297
3- راجع: أطيب البيان في تفسير القرآن 12: 140؛ الميزان في تفسير القرآن 18 :194

وقيل: إنّها مكّية، ولكنّها تستشهد بالمستقبل، لأنّه محقّق الوقوع؛ ولكنّه أيضاً غير صحيح؛ فإنّ الخطاب لمشركي مكّة، فكيف يخاطبون بما سيحدث في المدينة ويستشهد به، وهو لم يتحقّق بعد؟!

ولذلك قال بعضهم: إنّ المراد به بعض أهل الكتاب الذين آمنوا في مكّة. ورُدّ هذا القول بأنّ هذا الرجل غير معروف، ولو كان فهو من عامّة الناس، وليس من أكابرهم وأحبارهم، ليصحّ أن يقال: إنّه شاهد على رسالة الرسول صلى الله عليه و اله و سلم وعلى كون القرآن منزلاً من عند الله تعالى.

ولكن يبدو من آيات أخرى أنّ من اليهود ومن علمائهم، من آمن وشهد برسالة الرسول صلى الله عليه و اله و سلم قبل الهجرة ، فمنها قوله تعالى في سورة الشعراء وهي مكّية أيضاً: (أوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةٌ أنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ)،(1) وسياق الآيات يأبى أن تعتبر الآية مدنيّة، وتدلّ على أنّ الذين شهدوا بمعرفة القرآن، مجموعة من علماء اليهود وليس شاهداً واحداً.

وعلى هذا، فيمكن أن يقال في هذا الموضع: إن المراد بالشاهد جنسه، بمعنى أن هناك من يشهد منهم ويؤمن به ولا يحدّده بالعدد، بل ورد في التأريخ أن كثيراً من علماء أهل الكتاب كانوا يبشرون به صلی الله علیه و آله وسلم قبل البعثة، وفي القرآن أيضاً ما يدلّ على ذلك، كقوله تعالى: (وَلا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ الله مُصَدِّقٌ مَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ)،(2) فقوله تعالى: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ) إشارة إلى أنّ اليهود كانوا قبل البعثة إذا

ص: 34


1- الشعراء .(26): 197
2- البقرة (2): 89

قاتلهم المشركون أو آذوهم يهدّدونهم بأنّ الله تعالى سيبعث رسولاً في هذه المنطقة، فينتصرون ،به ولكنّهم على ما يبدو كانوا يرجون أن يكون الرسول منهم، لتصوّرهم أنّ النبوة لا تكون إلا فيهم وهذا هو السرّ في هجرتهم إلى يثرب. فإنّ كلّ قبيلة منهم كانت تأمل أن يكون النبيّ الموعود منها، فلمّا رأوا أنّه من أولاد إسماعيل علیه السلام ورأوا فيه صلی الله علیه و آله وسلم العلامات النبيّ الموعود والصفات التي رأوها في كتبهم واعترفوا بها قبل ذلك، كفروا به بغياً منهم.

والحاصل أنّ اعتبار الآية مدنيّة لا يناسب السياق ولا الخطاب، فهو غير

صحيح؛ فإن أمكن حمله على علماء اليهود الذين شهدوا بصدق الرسالة قبل

الهجرة، بل الذين بشّروا بها قبل البعثة فهو وإلا فلا وجه لحمله-ا عل-ى يهود المدينة خاصّة أو على فرد واحد منهم. وذلك لأنّ الآية لا تخبر عن وجود شاهد بالفعل، وإنّما تفرضه فرضاً كما تفرض كونه من عند الله فرضاً أيضاً؛ ليرتّب عليه كونهم في غاية الضلال على هذا الفرض فيمكن أن لا يكون إشارة إلى فرد خاصّ، بل إلى مجمل شهادة القوم به وهي معروفة منهم.

وفي الآية الكريمة سؤال آخر ، وهو أنّه لم يقل: «شهد عليه»، ب-ل ش-ه-د عل-ى مثله، فما هو المراد بالمثل وكيف يكون ذلك، شهادة على صحّة الرسالة؟

والجواب: أنّ العالم منهم لا يمكنه أن يشهد مباشرة بصحّة الرسالة، إلا بمعنى ما يشهد به غيره ممّن لا خبرة له بالكتب السابقة، وإنّما يشهد بمقتضى إيمانه بالمعجز، فما يختصّ به العالم بالكتب السابقة، هو أنّه يتمكّن من الشهادة على مثله، بمعنى أنّه يشهد بأنّ مضمون هذه الآيات وارد في الكتب السابقة، ليكون دليلاً على صدق كونه نازلاً من عند الله سبحانه. وفي قوله تعالى: ﴿فَآمَنَ

ص: 35

وَاسْتَكْبَرْتُمْ ) إشارة إلى أنّ عدم إيمانهم بالرسالة ليس لعدم اقتناعهم به-ا وع-دم ثبوت الإعجاز في القرآن بل ليس إلا لاستكبارهم وعنادهم.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). هذه الجملة - كم-ا م-رّ --- ت-دلّ على الجملة الجزائية المحذوفة وتعلّل مضمونها، فالتقدير: فمن أضلّ منكم» أو ما يفيد معناه. وهذه الجملة تعلّل ضلالهم بأنّ الله لا يهديهم، ومن لا يهديه الله فما له من هادٍ، وإنّما لا يهديهم الله تعالى لظلمهم وعدوانهم، وقلنا - مراراً - : إنّ الظلم لا يحتاج لصدقه إلى وجود مظلوم؛ فكلّ عمل مخالف للحقّ ظلم وعدوان والظلم وضع الشيء في غير موضعه، والذي لا ينصاع للحقّ مع وضوحه ،ظالم، فلا حاجة إلى القول بأنّه ظالم لنفسه أو لمجتمعه.

ص: 36

سورة الأحقاف (11-14)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ(11) وَمِن قَبْلِهِ، كِتَبُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَبٌ مُصَدِّقُ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ(12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(13) أُوْلَئكَ أَصْحَبُ الجَنَّةِ خَلِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(14)

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)، اللام في قوله: (لِلَّذِينَ آمَنُوا)، للتعليل، ومعناه أنّهم قالوا ذلك في شأنهم، وليس الخطاب لهم، كما هو واضح. وقد مرّ مثله في قوله تعالى: (قالَ الَّذينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ مَا جَاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبين)، أي قالوا ذلك في شأن الحقّ والضمير في قولهم: (كَانَ خَيْراً)، يعود إلى الإيمان والمعنى أنّ الإيمان لو كان خيراً لكنّا سبّاقين له، كما نحن سبّاقون في كلّ خير.

والمراد بالذين كفروا كفّار مكّة، كما هو مصطلح القرآن في هذا التعبير؛ فالقول بأنّ المراد كفّار أهل الكتاب غير صحيح، وإنّما قاله من توهّم أنّ المراد بالذین آمنوا عبدالله بن سلام ومن آمن معه من اليهود، وهو في حدّ ذاته مردود لما مرّ من أنّ الآية مكّية، مضافاً إلى أنّ عبد الله كان عظيماً في قومه، فلا يناسبه ما ورد في هذه الآية من تحقير.

فالصحيح أنّ الآية تشير إلى قول كفّار مكّة حول الذين آمنوا بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم، حيث إنّ أكثرهم كانوا من الفقراء والضعفاء والعبيد؛ فاعتبر المستكبرون إيمانهم بهذا الدين دليلاً على ضعفه، وأنّه ليس شيئاً يعتمد عليه ، وهذا شأن المستكبرين في كلّ عهد، كما قال الكفّار من قوم نوح علیه السلام: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلا الَّذِينَ هُمْ أرَاذِلنا

ص: 37

بَادِيَ الرَّأيِ)،(1) فأجابهم نوح علیه السلام في ما أجابهم: (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إني إذاً لمنَ الظَّالِمينَ).(2)

وهذا في الواقع غلوّ في الإعجاب بالنفس لدى المستكبرين وأصحاب الجاه والثراء، فيزعمون أنّهم هم أصحاب الرأي الثاقب، وأنّ الفقراء ليس لهم إدراك قويّ، مع أنّ الذكاء والغباء لا يرتبط بالجاه والمال، بل ربما يكون الغالب في أصحاب الثراء وخصوصاً في الجيل المتأخر، الذي حصل على الثراء بالإرث، هو الغباء والحمق، بسبب توغّلهم في الرفاه والراحة ممّا يوجب فقدان النشاط الفكري لديهم، كما هو مشهود بوضوح.

وأغرب من ذلك أنّا نجد عامّة الناس يهتمّون بآراء أصحاب الجاه والمال

أكثر من غيرهم، وكأنّ المقياس في حصافة الرأي هو المال والجاه ، و کلّما تنزّلت الثقافة العامّة في المجتمع رأيت هذا الداء فيهم أعمّ وأدوم، حتّى أنّهم

ينتخبون لمجالسهم النيابيّة أصحاب الثراء، دون إلتفات إلى مدى ثقافتهم.

(وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ). (إِذْ ) للتعليل، أي حيث إنّهم لم يهتدوا به لاستكبار في نفوسهم، بحثوا عن ذريعة لعنادهم، فسيقولون هذا إفك قديم، ليكون حجّة لهم في عدم التسليم للدين، كما قالوا في موضع آخر: (أسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)، وهم بذلك يعلنون كفرهم بجميع الديانات السماويّة، وإن

كانوا يظهرون أنّهم إنما يكذّبون الرسول صلى الله عليه و اله و سلم في رسالته ولا يكفرون بالله تعالى، ولكنّهم يكذبون في ذلك، كما قال تعالى فى: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ

ص: 38


1- هود (11): 27
2- هود (11): 31

فإنّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُون).(1) كما أنّ قولهم: (إِفْكٌ قَدِيمٌ) يدلّ على أنّهم يعتبرونه امتداداً للرسالات السابقة ويعتبرونها بأجمعها إفك-اً، ومثله قولهم: (أسَاطِيرُ الأوَّلِينَ)؛ بل حكي عنهم في القرآن كفرهم بالتوراة صريحاً، قال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلِّ كَافِرُونَ).(2)

(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةٌ.) لعلّ الجملة في معنى الحال، أي أنّهم يقولون في القرآن ذلك، مع أنّ الذي قبله - وهو المشار إليه بقولهم إفك قديم - کتاب موسی علیه السلام، أي التوراة، ولعلّ التعبير عنه بكتاب موسى للتنبيه على دور الرسول في إتيان الكتاب، كما أتى لهم الرسول صلی الله علیه وآله وسلم بالقرآن، وقوله: (إمَاماً وَرَحْمَةٌ)، حالان من الكتاب.

والإمام هو القدوة. والتعبير عن الكتاب السماوي بالإمام، باعتبار أنّه يخطّط للمؤمن سبل حياته، بحيث يكون عمله مرضياً عند الله تعالى، والإم-ام ه-و المقتدى، ولذلك يعبّرون عن شاقول البنّاء بالإمام، وقال تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)،(3) في إشارة إلى صحيفة عمل الإنسان، التي بموجبها يتحدّد مساره وطريقه ويتعيّن مقامه ومنزلته.

والكتاب السماوي رحمة أيضاً في نفس الوقت لما يشتمل عليه من الآيات التي تبعث في الإنسان الإيمان والطمأنينة، وتنير له الطريق وتبيّن له خيره وشرّه

ص: 39


1- الأنعام (6): 33
2- القصص (28) : 48
3- يس (36): 12

في الدنيا والآخرة، وتشفيه من الأمراض النفسية، كالجهل والكبر والحسد

ونحو ذلك.

(وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً). تكرّر هذا المضمون في القرآن الكريم، للتأكيد على أنّ هذه الرسالة امتداد للرسالات السابقة، وأنّ هذا الكتاب على نفس الصراط والطريق، الذي رسمته الكتب السماويّة القديمة، فالقرآن يصدّق ما نزل في التوراة والإنجيل، كما أنّ الإنجيل مصدّق للتوراة. ولا اختلاف بين أصول الشرائع أساساً، كما مرّ في تفسير سورة الشورى. وفي التنوي-ه عل-ى ك-ون-ه عربياً، إمتنان على القوم وإتمام للحجّة عليهم بأنّ الكتاب نزل بلغتكم، ف-لا ع-ذر لكم. وقوله: (لِسَاناً عَرَبِيّاً)، حال من الكتاب.

(لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ)، بيان للهدف من إرسال الكتاب

والرسالة، وهو إنذار الظالمين بعذاب ينتظرهم وبشرى للمحسنين و (وبُشْرَى).

مفعول لأجله، معطوف على محل (ليُنْذِرَ). وقد مرّ الكلام حول الظلم، وأنّه لا

يتوقّف في صدقه على وجود مظلوم؛ بل هو وضع الشيء في غير موضعه، فمن لم يتبع الحقّ وعانده، فهو ظالم وإن لم يتعدّ على حقّ أحد، ولذلك قوبل بالمحسنين والإحسان: الإتيان بالأعمال الحسنة. ولا يخرج من المجموعتين إلا من لم تتمّ عليه الحجة مطلقاً وهو قليل.

(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). هذه الآية تشير إلى مصداق واضح للمحسنين وهم الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا، ففي قولهم: (رَبُّنَا الله) حصر للربوبيّة فيه تعالى، حيث لا يعترفون بأيّ ربّ غيره، ولا يدينون لاحد إلا له تعالى، واستقاموا على هذه العقيدة في مرحلة العمل، وهذه هي

ص: 40

المرحلة الصعبة في الإيمان، فهناك من الناس من يعلن كلمة التوحيد ويتشدّق بها، ويعلن دفاعه عنها، بل ربما يدافع بلسانه ويأتي بالأدلة والحجج الدامغة لإثباتها، ولكنّه في مرحلة العمل وفقاً لها ضعيف الإيمان، فلا يتحمّل في سبيل الله المشاقّ، بل ربما لا يتحمّل في سبيل إطاعته التنازل عن شيء من المال، كما نجده في كثير من الناس، وأصعب منه بذل النفس في سبيله وفي سبيل أحياء دينه، فقلّما تجد مؤمناً يستقيم في هذه المرحلة، بل يحاول الأكثر - ل-و ل-م ن-ق-ل الجميع - اختلاق المعاذير للتهرّب من المسؤولية، بل الغالب ذلك، حتّى لو لم يتوقّف الأمر على بذل النفس، فيتهرّب الإنسان عن أدنى مشقّة وتعب في سبيل العقيدة. وكثير من الناس ينكر الحكم الشرعي أو يستنكره، حتّى لو كان صريح القرآن في ما إذا عارض مصالحه.

فالاستقامة والثبات على الدين في مرحلة العمل هو الشرط الأساس للفوز، ولذلك عطف على أصل الاعتقاد، واعتبر شرطاً في صفة المؤمن الذي لا يخاف ولا يحزن، أي لا يخاف من سوء العاقبة؛ فإنّ عاقبته مضمونة بما وعده ربّه من الحسنى، ولا يحزن على ما فاته من متاع الدنيا؛ فإنّه يعلم أنّه لا قيمة له في قبال ما يحصل عليه من فضل ربّه وأهمّه رضوان الله تعالى.

والعطف ب- «ثمّ» لإفادة التراخي، فإنّ المراد بالاستقامة، الثبات في مقام العمل - كما قلنا - وهو متأخّر عن الاعتقاد، وهو المراد بقولهم: (رَبُّنَا الله) ، إذ لا يراد به التلفّظ فحسب، فإنّ المنافق أيضاً يقوله، ولكنّه لا يفيده، فالمعتبر الاعتقاد الراسخ بربوبيّته ووحدانيّته تعالى بحيث يستوجب الثبات في مرحلة العمل، وهذا التوحيد يستلزم نفي ما عدا رضاه تعالى من الدواعي في العمل والاستقامة التامّة

ص: 41

لا تتحقّق إلا من المعصوم. وقد تقدّم بعض الكلام في نظيرة هذه الآية في تفسير سورة فصّلت، الآية 30.

(أُولَئِكَ أصحاب الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، تأكيد على أنّ الإنسان مجزي بعمله، فالمقرّبون أيضاً لم يقرّبهم إلى الله شيء إلا أعمالهم. والعبرة ليست بحجم العمل، فربما يعيش المؤمن قرناً أو أكثر وهو صالح ويعمل الصالحات، ولكن لا يقاس عمله بعمل أحد المقرّبين الذي يترك الدار الدنيا - وهي دار العمل - في عنفوان شبابه، كما اتّفق لجمع من الأنبياء والأئمّة علیهم السلام ولسيّدتنا الزهراء - سلام الله عليها ، فالعبرة بالنيّة والخلوص والاستقامة، وهنا يصعب الاختبار ويشتدّ البلاء، بحيث يؤثّر أحدنا أو كلّنا حرمانه من تلك المنازل والمراتب على الابتلاء بما يوصله إليها.

ص: 42

سورة الأحقاف (15 - 16)

وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَنًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَلُهُ ثَلَثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَلِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَلِحًا تَرْضَهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي يَّتي إني تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُوْلَبِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَب الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا

يُوعَدُونَ (16)

(وَوَصَّيْنَا الإنسانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً). لعلّ المناسبة بين هذه الآية وما سبقها، أنّه بعد أن بيّن أنّ القرآن ينذر الذين ظلموا ويبشّر المحسنين، ثمّ بيّن صفة الموحدين الذين استقاموا على التوحيد في كلّ أعمالهم، بيّن هنا صفة أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ولكنّه جعله في أطار الوصيّة بالوالدين، للإشارة إلى أنّ العامل الأساس في نشأة المجتمع الصالح هو التربية الصالحة تحت ظلّ الوالدين الصالِحَين. ولكنّ الآية تنبّه على أنّ التربية الصالحة وصلوح الوالدين لا يكفيان لنشأة الجيل الصالح، فيذكر هنا نموذجين من البشر، تربّى كل منهما في بيئة مؤمنة صالحة، ولكن أحدهما تبع طريق الوالدين والآخر خالفهما.

والوصية بمعنى العهد، والأصل فيها الوصل، كأنّ من يوصي بشيء يوصل الكلام إلى الموصى إليه، والمراد بما أوصاه الله تعالى ما فرضه على البشر. وقوله: (إحْسَاناً) لا يبعد أن يكون بتقدير: «أن يحسن إليهما إحساناً». وقد مرّ الكلام حول الوصيّة بالوالدين في سورتي العنكبوت ولقمان، وقلنا: إنّ الآية الكريمة تخبر أنّ الله تعالى قد أوصى الإنسان - بصورة عامّة - بالإحسان إلى الوالدين

ص: 43

والاهتمام بشأنهما ، ولم يقل:« نوصيه»، فيكون إنشاءاً، فالظاهر أنّه إخبار عن وصيّة سابقة وقد خوطب بها جنس الإنسان لا قوم خاصّ، ولا صنف خاصّ؛ فلعلّ المراد بهذه الوصيّة هو ما أودع في الإنسان من نداء الفطرة، أو المراد أنّه

تعالى أوصى بذلك في جميع شرائع السماء.

وهنا يبدو سؤال واستغراب من جهة أنّ الله تعالى أكّد على حقّ الأبوين على الأولاد، ولم ينبّه على ما للأولاد من حقّ عليهما، مع أنّه أيضاً مذكور في الشرع، ووردت الإشارة إلى بعضه في القرآن، ولكن لم يرد هذا التأكيد عليه؛ ويلاحظ أن هناك من الأبوين من الأبوين من لا يراعي حقوق أولاده، بل يظلمهم ويتجنّى عليهم، بل منهم من يستحقّ الإعدام لجرائمه بالنسبة إلى أولاده ولكن هذا نادر جداً. والحالة العامّة هو أنّ الآباء والأمّهات يعطفون ويحنّون على أولادهم بدافع ذاتي وهوحنّان أودعه الله تعالى في فطرة الإنسان والحيوان عامّة، مضافاً إلى بعض الدوافع الماديّة، التي يتوقّعها الإنسان من أولاده في المستقبل وإن كان ذلك في الغالب مغفولاً عنه، ولكنّه ربما يكون من الدواعي الارتكازية في اللاشعور.

وأمّا احترام الأولاد للأبوين وحبّهما والعطف عليهما، فيختلف ذاتياً حسب

مراحل حياة الإنسان ويمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: مرحلة حاجته إليهما في أيّام صغره وضعفه، فحبّه وحنانه إليهما في هذه المرحلة أمر طبيعي، حيث إنّه لا يجد مأوى أدفأ من حضنهما،

بدون منّة عليه وتوقّع أمر يثقل على كاهله، فلا شكّ أنّه يحترمهما ويحبّهما.

والمرحلة الثانية: مرحلة استغنائه عنهما مع عدم احتياجهما إليه، وتبادل الحبّ والحنان في هذه المرحلة أمر طبيعي أيضاً ويؤكّده حاجات الطرفين وشعور كلّ

ص: 44

منهما بالراحة والاطمئنان باللجوء إلى الآخر.

والمرحلة الثالثة: مرحلة حرجة جدّاً، وهي مرحلة احتياجهما إليه بعد بلوغهما الكبر ، وعدم تمكّنهما من تأمين الحوائج إلا بمساعدة من يحنّ عليهما، فهما بحاجة إلى قوّة الشباب، بل ربما إلى المال أيضاً وأحوج ما يحتاجان إليه الحبّ والحنان والكلمة الطيّبة ،والشكر لما أسدياه من جميل للأولاد طيلة الحياة وهنا تبدأ المشكلة، فالولد ليس له في الغالب دافع ذاتي للإحسان إليهما وتحمّل المتاعب في سبيل إسعادهما، خصوصاً أنّ الإنسان في الكبر بحاجة إلى عناية مركّزة ومساعدة في جميع الحالات، وهو أكثر حاجة من الطفل وأضعف، والعناية به أشقّ على الإنسان وأصعب، والدوافع الذاتية بالنسبة إليه تكاد تكون

معدومة، ومن هنا فإنّ الوضع بحاجة إلى حثّ وتحريض شديد من الله سبحانه،

لإيجاد دافع عرضي، يعتمد على وعد من الله تعالى بالجزاء في الدنيا والآخرة. ومن هنا أوصى الله الإنسان بأبويه وأكّد على احترامهما في زمان الكبر والحاجة، حتّى منع من التضجّر منهما وقال: (فَلا تَقُلْ هُمَا أُفٍّ)،(1) ولم يرد مثل هذا التأكيد في التوصية بالأولاد وإن كان لهم أيضاً حقوق على الأبوين، كحقّ النفقة والحضانة والتربية وغير ذلك، ولكن ليست بهذه المثابة من الأهميّة. (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً)، خصّ الأمّ بالذكر بعد الإيصاء بهما معاً، وفيه إشارة إلى أنّ حقّها أكبر وشأنها أعظم، وإن كانت الولاية في الصغر للأب وليس للاُمّ ولكنّ الإحسان إليها وإرضاءها أهمّ، وإذا تعارض رضاهما فرضا الأمّ مقدّم على رضا الأب، كما دلّت عليه الروايات الواردة في كتب الفريقين، منها

ص: 45


1- الإسراء (17): 23

صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه و اله وسلم فقال: يا رسول الله من أبّر؟ قال: أمّك، قال: ثمّ من؟ قال: أمّك، قال: ثمّ من؟ قال: أمّك، قال: ثمّ من؟ قال: أباك».(1)

والمراد بحمله كرهاً، ليس الكره حين العلوق بالطبع، بل أثناء الحمل، والمراد بكونه كرهاً تحقّق أمور تكرهها وإن كانت راضية، بل فرحة مسرورة بأصل

الحمل، فهي طيلة هذه المدّة تلقى مصاعب كثيرة؛ فإنّ الجنين لا ينمو في بطن أمّه إلا باستنزاف قواها، وذلك بالطبع يؤدي إلى تضرّرها وتدهور صحّتها وضعفها، كما قال تعالى في سورة لقمان: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنا عَلَى وَهْنٍ).(2) والوهن هو الضعف، والمراد أنّها تزداد ضعفاً على ضعف كلّما تكامل الولد وتطوّر في مراحله الجنينية، وهذا أمر طبيعي وتضعه أيضاً على كره، لأنّها تتحمّل ألماً شديداً، وتخاطر بنفسها حين الوضع، وكم من والدة لم تر ولدها بعد الوضع أو لم تشبع من رؤيته.

(وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً). وهكذا تستمرّ الأمّ في إسداء الخدمة لولدها، فترضعه إلى الفصال، وهو القطع، والمراد بيان مدّة الحمل والرضاع، وإنّما عبّر بالفصال لأنّه آخر الرضاع، والغالب فيه هو الإكمال عامّين، ويستحسن أن تفطمه حينئذٍ ويجوز قبل ذلك. قال تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لَنْ أَرَادَ أنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)،(3) ويظهر من الآية أنّه لا تنبغي الزيادة عليهما. قيل: وفي ذلك إشارة إلى أنّ مجموع الحمل والرضاع ينبغي أن لا يزيد على

ص: 46


1- الكافي 2: 9/159، باب برّ الوالدين
2- لقمان (31): 14
3- البقرة :(2): 233

ثلاثين شهراً، وأنّه إذا كان الحمل تسعة أشهر، فالرضاع التامّ واحد وعشرون شهراً. وهذا بعيد جدّاً، بل غير صحيح؛ لأنّه يستلزم أن يحمل قوله تعالى:(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) على خصوص ما إذا كان الحمل ستّة أشهر وهو فرض نادر.

والآية وردت في مورد الطلاق مع وجود الولد وحاجته إلى الرضاع؛ فتدلّ على أنّ الأمر في مدّة الرضاع بيد الوالد وهو المراد بقوله: (مَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) وأنّه إذا أراد الإتمام، فمدته الكاملة حولان وإذا طرحنا الحولين من ثلاثين شهراً بقيت ستّة أشهر، ولذلك ورد في أحاديثنا أنّ أقلّ الحمل ستّة أشهر، وهو المفتى به في الفقه ويظهر الأثر الشرعي في ما إذا ولدت المرأة بعد ستّة أشهر من أوّل لقاء مع زوجها، فإنّ الولد يلحق به شرعاً ولا يلحق به إذا كانت المدّة أقلّ من ذلك.

ولكنّ الداعي إلى التنبيه على هذا الأمر هنا ليس هو الحكم الشرعي، بل الإشارة إلى المدّة الطويلة التي تسهر فيها الأمّ، وتضحّي بعصارة جسمها لكي

يبقى هذا الطفل الوليد وينمو، فتمدّه بما يحتاج إليه من العناصر، لتكوّن الجسم أيّام الحمل عن طريق الدمّ مباشرة، وبعد الولادة عن طريق اللبن. هذا مع سائر ما تستلزمه الرعاية والحضانة من تنظيف وتداوٍ وتدفئة وتعليم وتربية وغير ذلك، فأقلّ ما تستلزمه هذه العناية من زمان ثلاثون شهراً وإن كان الغالب أكثر من ذلك، لأنّ مدّة الحمل غالباً تسعة أشهر وربما يزيد وأمّا ما يقال من أنّ أكثره أربع سنين، بل أكثر منه - كما في كتب العامّة - فهو كلام باطل ومضحك، وإنّما قصد بذلك تنزيه ساحة بعض من ولدوا بعد آبائهم بهذه المدّة من الاتهام بعدم شرعيّة النسب.

ص: 47

ننقل هنا كلام أحدهم وهو الشيخ ابن عثيمين، قال في شرح زاد المستقنع»: «وقوله: «أو دون أربع سنين» بناءاً على المشهور من المذهب أنّ أكثر مدّة الحمل أربع سنين، وسيأتينا - إن شاء الله - في كتاب العدد، ولا دليل على أكثر الحمل، لكن قالوا: لأنّ هذا أكثر ما وجد، فنقول: تقييد الحكم بالوجود يحتاج إلى دليل؛ لأنّه قد تأتي حالات نادرة غير ما حكمنا به، وهذا هو الواقع، فقد وجد من لم يولد إلا بعد سبع سنين! ولد وقد نبتت أسنانه، ووجد أكثر من هذا إلى عشر سنين، وهو في بطن أمّه حيّاً، لكنّ الله - عزّ وجلّ - منع نموّه، فالصحيح أنّه لا حَدَّ لأكثره وأنّه خاضع للواقع، فما دمنا علمنا أنّ الولد الذي في بطنها من زوجها وما جامعها أحد غيره، وبقي في بطنها أربع سنين، أو خمس سنين أو عشر سنين فه-و لزوجها».(1)

ورووا في ذلك روايات فمن ذلك ما رواه البيهقى بسنده عن داود بن رشيد: «قال سمعت الوليد بن مسلم يقول: قلت لمالك بن أنس إنّي حدّثت عن عائشة - رضي الله عنها - أنّها قالت: لا تزيد المرأة على حملها على سنتين قدر ظ-لّ المغزل. فقال: سبحان الله من يقول هذا ؟! هذه جارتنا امرأة محمّد بن عجلان، امرأة صدق وزوجها رجل صدق حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كلّ بطن أربع سنين».(2) وروى في نفس الصفحة، عن محمّد بن عمر بن واقد، في ذكر مالك بن أنس أنّ أمّه حملت به في البطن ثلاث سنين !!!

(حَتَّى إذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةٌ)، أي استمرّ في النموّ والرشد جسماً وروحاً

ص: 48


1- الشرح الممتع 13: 311
2- السنن الكبرى 443:7

إلى أن بلغ الأشدّ. واختلفوا في معنى الأشدّ، بل اختلفوا في كونه جمعاً مفرده الشدّة أو أنّه جمع لا مفرد له أو مفرد لا جمع له. وقال بعضهم: إنّ المراد به بلوغ ثمانية عشر سنة، وبعض آخر اعتبره بلوغ الثلاثين. وقيل: إنّ بلوغ الأربعين في الآية عطف تفسيري، وقيل غير ذلك.

ويظهر بمراجعة الاستعمالات القرآنيّة، أنّ معناه يختلف حسب الموارد، فقد ورد هذا التعبير كشرط في دفع أموال اليتيم إليه، كما في سورة الأنعام والإسراء وهما مكيتان: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ).(1) وقد فسرّ ذلك في سورة النساء وهي مدنية بقوله تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حتى إذا بَلَغُوا النكاح فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَاهُمْ)،(2) فيتبيّن من بلوغ النكاح في هذه الآية، أنّ المراد ببلوغ الأشدّ في تلك الآيتين البلوغ الجنسي، مضافاً إلى الرشدّ في الأمور المالية. وإنّما أخرّ التفسير إلى السورة المدنيّة، لعدم الحاجة بالفعل إلى هذه الأحكام في مكّة قبل الهجرة، فاكتفي بالإشارة المبهمة الإجمالية. والظاهر أنّ المراد بالبلوغ الجنسي هو سنّ التكليف الشرعي.

وورد التعبير ببلوغ الأشدّ أيضاً في مورد بعث الرسل أو إيتائهم الحكم والعلم، قال تعالى في شأن سيّدنا يوسف علیه السلام: ﴿وَما بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً)؛(3) وفي شأن سيّدنا موسى علیه السلام: ﴿وَلمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً)،(4) ولعلّ المراد به هنا، تكامل قواه العقلية والجسمية، ولعلّ هناك أموراً أخ-رى دخيل-ة ف-ي هذا

ص: 49


1- الأنعام :(6): 152؛ الإسراء (17): 34.
2- النساء (4): 6.
3- يوسف (12): 22
4- القصص (28): 14

الشأن ومهما كان، فلا شكّ أنّ العبارة هنا لا يمكن حمله على ما أريد في المورد السابق.

وعلى ضوء ما مرّ، وهو اختلاف المعنى حسب الموارد، يمكن أن يقال: إنّ المراد به هنا هو الكمال العقلي، فإنّه هو الشرط لمعرفته بالحقائق التي يبتني عليها صدور الكلام التالي منه. وإنّما اشترط ذلك لعدم كفاية بلوغ الأربعين؛ إذ لعلّه يكون فاقد العقل والبصيرة، فإذا كمل عقله وبلغ أربعين سنة، حيث تكمل ق-واه الجسمية، ويكتسب في هذه السنين خبرة وتجربة، ويحصل على رصيد وافر من العلوم والمعارف المختلفة من هنا وهناك، لو لم يكن طالب علم، ومن جهة أخرى تدعوه فطرته إلى التوحيد والتوجّه إلى الربّ، مضافاً إلى تربيته في بيئة صالحة، فحينئذٍ ينتبه إلى ربّه ويدعوه: (قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ). قيل: إنّ معنى أوزعني ألهمني، وقيل: أولعني والغالب في استعمال الوزع هو الكفّ والمنع، وله استعمالات أخرى؛ منها التوزيع بمعنى التقسيم، ويمكن أن يكون ذلك أيضاً من هذا الباب باعتبار منع إعتداء ك-لّ م-ن الموزّع عليهم على نصيب الآخر. ومنها الجمع، كما في قوله تعالى: (وَحُشر لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ)،(1) أي يجمعون على أحد الاحتمالين، ولعله باعتبار منعهم من التفرّق. وأما هنا، فلعلّه من جهة أنّ الإلهام أو الحثّ من الله تعالى، يمنع الإنسان من ترك الشكر ومهما كان، فالمعنى هنا - كما في أكثر التفاسير - ألهمني أن أشكر نعمتك أو أبعثني وأولعني على ذلك، فالمراد الاستعانة بالله تعالى على شكره.

ص: 50


1- النمل (27): 17

والشكر ليس بمعنى التحدّث بالنعم وحمده تعالى على ما أنعم، وإن كان

ذلك نوعاً من الشكر، ولكن ما وصفه الله تعالى بقوله: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)،(1) هو العمل بمقتضى ما أمر الله تعالى به بالنسبة إلى كلّ من هذه النعم، فلا يستخدم العين واليد وغيرهما من الأعضاء إلا في ما أمر به ويعمل بهداياته ووصاياه، التي أنزلها في كتبه وعلى لسان رسله؛ فإنّها أيضاً من نعمه تعالى وإرسال الأنبياء ونصب أئمّة الهدى - عليهم جميعاً سلام الله تعالى - من أكبر نعمه وألطافه. وشكره على ذلك بمتابعتهم وإظهار الحبّ والولاء لهم، وعدم تقديم غيرهم عليهم.

ثمّ إنّه كما يهتمّ بما أنعم الله عليه ويشكره عليها، يهتمّ أيضاً بما أنعم على والديه ويشكره عليها، إمّا لأنّ تلك النعم تسري بوجه من الوجوه إليه خصوصاً، إذا لاحظنا أنّ الاهتمام منصبّ على نعمة الدين والإيمان بالله وكتبه ورسله، ولا شكّ أنّ إيمان الأبوين يؤثّر تأثيراً عميقاً في إيمان الأولاد. وإمّا لأنّه يريد أن يتحمّل شطراً من مسؤولية الوالدين تجاه النعم الإلهية؛ فالإنسان مهما عمل وأخلص العبادة، فإنّه لا يبلغ شكر جزء يسير من النعم الإلهية المعلومة لدينا، وما خفي أعظم. وينبغي للمؤمن البارّ بوالديه، إن يشركهما في عباداته وطاعاته، ويطلب من الله تعالى أن يبعث ثواب عباداته إليهما، خصوصاً بعد وفاتهما، فهما أحوج إلى البرّ والإحسان حينئذٍ.

والحاصل أنّ الآية لا يبعد أن تكون إشارة إلى إشراك الأبوين في ثواب

العبادات والطاعات، نظراً إلى أنّ الشكر لا يقصد به الشكر اللفظي فحسب.

ص: 51


1- سبأ (34): 13.

(وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ). قوله: (صَالِحاً) صفة للمفعول المقدر، أي أعمل عملاً صالحاً ، و (تَرْضَاهُ) جملة وصفية للعمل أيضاً. وهذه حاجة أخرى يطلبها من ربّه وهي أن يبعثه على أن يعمل عملاً صالحاً يرضاه الله تعالى، فرض-اه ه-و غ-اي-ة المقصود والصلوح - كما قلنا مراراً - يختلف باختلاف الموارد، وقوله: (تَرْضَاهُ) يحدّد الصلوح هنا، فالمراد العمل الذي يصلح لكسب مرضاته تعالى. (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي)، أي واجعل الصلاح في ذريّتي. يطلب بذلك استمرار الصلاح في ذريّته، ليتّصل الإيمان والصلاح جيلاً بعد جيل، والتعبير بكون صلاح الذريّة له، يدلّ على مدى تأثّر الآباء بصلاح أولادهم، وهذا النموذج الصالح، كما عمل الصالحات لأبويه يطلب من الله تعالى أن يستمرّ ذريّته على العمل الصالح بعده، ليثاب هو عليه؛ فإنّ التربية الصالحة هي التي تؤثّر في متابعة الأولاد لآبائهم في سلوك طريق الحقّ ومنهج الصلاح، وهذا خير عمل للآباء، وهذا كما ورد في الحديث: من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء».(1)

(إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ) سياق الآية يفيد أنّ هذه الجملة تعليل لما سبق، فالذنوب هي العوائق من انتشار الصلاح في المجتمع وانتقاله إلى الأجيال التالية، وهذا النموذج الصالح يتخلّى ويتبرأ من ذنوبه ويتوب إلى الله تعالى، ليصلح أن يكون همزة وصل بين الجيل الصالح السابق «الوالدين» والجيل التالي المرجوّ صلاحه والإنسان غير المعصوم لا يخلو من ذنوب، فلا بدّ من التوبة باستمرار.

ص: 52


1- الكافي 5: 9 ، باب وجوه الجهاد.

ثمّ إنّه يعلن أنّه من المسلمين، ولا شكّ أنّه لا يريد به الإسلام الظاهري الذي يتحقّق بالشهادتين ويتفرّع عليه أحكام الإسلام؛ فإنّ المنافق أيضاً مسلم بهذا المعنى، بل يريد بهذا القول أنّه أسلم أمره إلى الله تعالى، فحقّ له أن يتوقّع من ربّه أن يصلح له في ذريّته ويوفّقهم لهذا الإسلام والتسليم لأمر الله تعالى. ولم يقل: «إنّي مسلم»، بل اعتبر نفسه جزءاً من مجموعة المسلمين، لئلا يعجب بنفسه، كأنّ له ميزة على الناس وهذا نظير قوله تعالى: (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ).(1)

وهذا يذكّرنا بوصية إبراهيم ويعقوب علیهما السلام، قال تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبراهيم إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبراهيم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُمْ مُسْلِمُونَ).(2) فقوله تعالى: (وَوَصَّى بها)، يعود الضمير فيه إلى إسلامه الذي أعلنه لربّه وهو الإسلام الواقعي، أي التسليم المطلق لما يريده الله تعالى والرضا به. وهذا هو الدين الحقّ الذي اصطفاه الله تعالى لأنبيائه، وهو الذي نطلبه من الله تعالى في الأدعية المأثورة، كما في دعاء كميل: «وتجعلني بقسمك راضياً قانعاً»(3)

ويتبيّن من سياق الآيات وما تليها أنّ الغرض -- كما أشرنا إلي-ه ---- ب-ي-ان نموذجين من البشر صالح وطالح، مع أنّهما معاً تربّي-ا ف-ي بيئة مؤمنة، وليست الآيات واردة في مورد خاصّ بعينه، ولكن جهاز وضع الأحاديث راقٍ له أن يصنع حديثاً في أنّ هذه الآيات نزلت في أبي بكر بدليل أنّه لم يكن في الصحابة

ص: 53


1- التحريم (66): 12
2- البقرة (2): 130 - 132
3- مصباح المتهجد 2: 845

غيره من أسلم هو وأبواه وأولاده جميعاً. وهذا - مع أنّه كذب محض وهناك كثير من الصحابة بهذا الوصف - لا يدلّ على هذا الاختصاص، مضافاً إلى أنّ أبا قحافة إنّما أسلم يوم الفتح والآيات نزلت بمكّة.

(أولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أحْسَنَ مَا عَمِلُوا). (أُولَئِكَ) إشارة إلى الإنسان المذكور في أوّل الآية السابقة، والإشارة باسم الجمع باعتبار أنّ المراد به جنس الإنسان مع هذه الصفات قيل: إنّ التقبّل يدلّ على قبول مع جزاء. وقيل: إنّه أبلغ من القبول. ولكنّ الظاهر عدم الفرق، لقوله تعالى: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُول حَسَنٍ».(1) و«عن» هنا بمعنى «من» وليست للمجاوزة، بدليل قوله تعالى: (فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمٌ)(2) وغيرها، فلا وجه لما حاول بعضهم فيها من التأويل. ولعلّ الإتيان باسم الموصول يفيد الحصر ، ولكن ليس معناه أنّ هذا الجزاء خاصّ بمن يقول هذه الكلمات، بل المراد من يكون من الإيمان بهذه المنزلة.

ويقع السؤال في وجه اختصاص القبول في هذه الآية ونظائرها بأحسن الأعمال، دون كلّ ما هو حسن من الأعمال وأجيب بأنّ المراد بأحسن ما عملوا، أعمالهم الواجبة ،والمستحبّة، وأمّا الأعمال المباحة فهي قد تكون حسنة، ولكنّها لا تتقبّل لعدم كونها مقرّبة إلى الله تعالى؛ فمفاد الآية أنّ المؤمن قد تنقسم أعماله إلى ثلاثة أنحاء، عمل سيّئ فيتجاوز الله تعالى عنه، وعمل حسن في مقابل السيّئ،ولكنّه ليس من الواجبات والمستحبّات، بل هو مباح، فلا معنى لقبوله من الله تعالى وعمل أحسن وهو الواجب والمستحبّ وهو ما يتقبله الله.

ص: 54


1- آل عمران (3): 37
2- ال عمران (3): 35

وهذا الجواب وإن تلقّوه بالقبول، إلا أنّه خلاف الظاهر؛ فإنّ الأحسن من الأعمال ظاهر في كونه أحسن من جميعها، حتّى الواجبات والمستحبّات، مضافاً إلى أنّ مناط الحسن عند الله تعالى ليس إلا قصد التقرّب إليه، فالأحسن من الأعمال ما يكون القصد فيه أقرب إلى الإخلاص الكامل، والمباحات ليس لها شيء من الحسن، إذ لا تشتمل على التقرّب.

وقد مرّ مثل هذا السؤال في سورة الزمر في تفسير قوله تعالى: ﴿وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)،(1) وقلنا: إنّهم ذكروا وجوهاً في ذلك؛ منها: أنّ الله تعالى يجزي كلّ أعمالهم بجزاء أحسنها، فيجعل ذلك مقياساً لثواب كلّ عمل. ومنها: أن يكون من باب الإضافة إلى غير الجنس، أي بجزاء أحسن ممّا كانوا يعملون، كما قال تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا)(2) ولكنّ الوجهين لا يأتيان هنا، لأنّ المذكور هنا قبول العمل لا الجزاء.

وذكرنا هناك أنّه يمكن أن يكون الجزاء مبيّناً لدرجة قربهم وهو الجزاء الأوفى، أي أنّه تعالى يجعل درجة قربهم لديه على أساس أحسن ما كانوا يعملون، فهو مقياس تعيين درجة كلّ واحد منهم وإن كانوا يجزون على كلّ أعمالهم، وهذا يمكن القول به في هذا المقام أيضاً، بل هذه الآية أولى بهذا الوجه، لأنّ المذكور هنا هو القبول وهو أمر آخر غير الجزاء، فلا مانع من أن يجزى الإنسان بكلّ عمل أتى به بقصد القربة، ولكنّ القبول يختصّ ببعضه، ويؤيد ذلك ما ورد في الحديث من أنّ الله تعالى لا يقبل من الصلاة إلا

ص: 55


1- الزمر (39): 35
2- النمل (27): 89

ما كان العبد مقبلاً فيه على ربّه.

روى الكليني رحمه الله بسند صحيح عن محمّد بن مسلم قال: «قلت لأبي عبد الله علیه السلام: إنّ عمّار الساباطي روى عنك رواية قال: وما هي؟ قلت: روى أنّ السنّة فريضة، فقال: «أين يذهب؟! أين يذهب ؟! ليس هكذا حدّثته، إنّما قلت له: من صلّى فأقبل على صلاته، لم يحدّث نفسه فيها ، أو لم يسه فيها، أقبل الله عليه ما أقبل عليها، فربّما رُفع نصفها أو ربعها أو ثلثها أو خمسها، وإنّما اُمرنا بالسنّة ليكمل بها ما ذهب من المكتوبة».(1) ولعلّ المراد بالتقبّل في الآية المباركة هو ما عبّر عنه بالإقبال في هذه الصحيحة.

(وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ)، التجاوز عن الذنب تركه وعدم المؤاخذة به، والسيّئات كلّ ما لا ينبغي فعله وتشمل المعاصي الصغيرة والكبيرة إلا أنّ قوله تعالى: (إن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)،(2) يقتضي أن يكون هؤلاء ممَن يجتنب الكبائر، وأنّ السيّئات التي تجاوز عنها الله تعالى هي الصغائر فحسب. (في أصحاب الجنَّةِ) حال من الضمير في قوله: (نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ)، أي حال كونهم

في أصحاب الجنّة، والظرفية مجازية، أي يدخلون في سلكهم.

(وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)، الظاهر أنّه منصوب بفعل مقدّر، أي نوفّي لهم وعد الصدق الذي كانوا يوعدون به عن طريق الرسل والكتب السماويّة. والصدق مصدر بمعنى اسم الفاعل والإضافة من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة، أي الوعد الصادق وهو الوعد الذي يتحقّق في الخارج، فيصدق وينطبق.

ص: 56


1- الكافي 3: 363
2- النساء (4): 31.

سورة الأحقاف (17 - 20)

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا

يَسْتَعِينَا اللَّهَ وَيْلَكَ وَا مِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَطِيرُ الْأَوَّلِينَ(17) أَوْلَئكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَسِرِينَ(18) وَلِكُلِّ دَرَجَتْ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَلَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْهُم بِمَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

(وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) الظاهر أنّه مبتدأ خبره: (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِم)، والإشارة للجمع بلحاظ تعدّد المصداق. وهذا هو النموذج الثاني من البشر يضرب الله به المثل والمفروض أنّ النموذجين تربّيا في بيئة إسلامية، وبين أبوين مؤمنين صالحين واختلفا في العقيدة والعمل. والآية تصوّر وقاحة هذا الإنسان قبل شركه ،و كفره، فهو يتضجّر من دعوة أبويه إياه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وبكلّ وقاحة يعلن تضجّره وسأمه منهما بقوله: (أُفٍّ لَكُمَا) . و (أفٌ) كلمة تقال عند التبرّم والتضجّر ، وفيه نوع من التحقير والإزدراء بهما، بل قيل: إنّها في الأصل بمعنى الأوساخ، ويقال تعبيراً عن كراهة الشيء، وربما يكون في الأصل اسم صوت للتعبير عن التبرّم بالشيء، كما هو المتعارف، ثمّ أطلق بالمناسبة على كلّ ما يتنفّر منه الإنسان كالأوساخ.

(اتَعِدَانِنِي أنْ أُخْرَجَ)، أي أتخوّفانني من الخروج من القبر، والحال أنّ قروناً من البشر ماتوا قبلي ودفنوا ولم يسمع بأحدهم خرج من القبر، يريد بذلك أن ينفي

ص: 57

احتمال قيام القيامة وحياة الإنسان بعد موته، مع أنّ المدّعى ليس هو الحياة في الدنيا، بل في مرحلة من التكوين متكاملة، غير هذه المرحلة وهذه الحياة وهذا العالم. هكذا ذكره المفسّرون في شرح مراده من قوله: (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي).

ويمكن أن يراد به استبعاد إحياء ملايين الملايين من البشر، الذين ماتوا من

قبل وأصبحوا تراباً ولم يبق لهم عين ولا أثر ، ولا يمكن معرفة أجزائهم المنتشرة والمتناثرة في الأرض والمتبدّلة إلى عناصر أخرى، وقد مرّت على الكرة الأرضية وحياة الإنسان عليها من القرون ما لا يعلم حدّه وحصره أحد من البشر. أو استبعاد كون الإنسان محاسباً بما عمل في هذه الدنيا، ولا يمكن محاسبة أعمال الملايين الذين ماتوا ولا يعلم عن أعمالهم أحد.

وعلى هذه الاحتمالات، يمكن حمل قول فرعون على ما في سورة طه: (قَالَ

فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى)،(1) ولذلك ردّ عليه موسى علیه السلام: (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى)(2)، فإنّ الخطأ الكبير الذي يرتكبه الإنسان في هذا المجال هو قیاس صفات الله تعالى ،بصفاته، وعلمه تعالى بعلمه.

(وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ)، الوالدان لا يتحمّلان سماع هذا الكفر والعناد من ولدهما من جهتين، فمن جهة يستعظمان صدور ذلك من أيّ إنسان كان، حيث يشتمل على الكفر ، ومن جهة اُخرى يشفقان على ولدهما م-ن عذاب يوم القيامة فيستغيثان الله، أي يطلبان منه تعالى أن يغيثهما، أي ينصرهما

ص: 58


1- طه (20): 51
2- طه (20): 52

ويعينهما في مهمتهما، وهي هداية الولد والغوث هو النصر، ويقولان للولد: (وَيْلَكَ آمِنُ) وكلمة ويل اسم فعل بمعنى قبحاً لك، فهما يستقبحان منه هذا الكفر والعناد والوقاحة، وفي نفس الوقت يطلبان منه بإصرار أن يؤمن بالله واليوم الآخر.

والسياق والتعبير يصوّران حالة الأبوين وتضرّعهما، وهما يطلبان منه الإيمان بالله تعالى شفقة منهما عليه ويستدلان على قيام القيامة ومحاسبة الإنسان بأعماله على الوعد الذي تكرّر بواسطة الرسل والكتب السماوية: (إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ)، فلا يمكن ردّ هذا البيان بأيّ استبعاد، فإنّ الله تعالى إذا وعد شيئاً فهو كائن لا محالة، ولا شيء يتأبى على قدرته غير المتناهية ولا يمكن أن يخلف الله وعده؛ إذ لا يخلف الوعد إلا ضعيف أو جاهل.

(فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ)، ولا يكون من هذا الإنسان المعاند الذي نجد من أمثاله الكثير الكثير إلا الاستمرار في العناد والجهل، فيستنكف من قبول الحقّ، ويصف الآيات النازلة من السماء على رسل الله تعالى بأنّها أساطير الأوّلين، وأنّ ما قيل في هذا الباب لا يدعمه دليل علمي ولم يكتشفه البشر بمجاهره ومناظيره. والأسطورة ما سُجِّل وسُطِّر. وأساطير الأوّلين يطلق على

الخرافات القديمة التي لا يقبلها عقل البشر المتحضر.

(أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الحِنِّ وَالإِنْس)، الموضوع في الآية السابقة وإن كان مفرداً إلا أنّه عن-وان ينطبق على مصاديق كثيرة وكثيرة جدّاً؛ فأتى باسم الإشارة الخاصّة بالجمع، فالموضوع عامّ لا يختصّ بفرد، وإنّما ذكره بصورة مثال فردي ليكون أكثر تأثيراً. وقوله تعالى: (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ)، أي ثبت وانطبق عليهم ، والمراد ب- «القول» ما وعده الله تعالى من العذاب

ص: 59

يوم القيامة لكفرهم وعنادهم واتّباعهم لإبليس وجنوده في الدعوة إلى الكفر والضلال. وقوله تعالى: (في أُمَمٍ) حال، أي حال كونهم دخلوا بذلك في أمم كثيرة من البشر، الكافرة طيلة القرون. وقوله: (مِنَ الجِنِّ) يدلّ على أنّ الجنّ أيضاً يموتون وأنّهم أيضاً محاسبون كالإنس وأنّهم مختلفون، فمنهم مؤمن ومنهم کافر، كما ورد في آيات أخرى.

(إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) وهذه هي الخسارة الكبرى، ولذلك ورد في الحديث: «المؤمن كَيْسٌ فَطِنٌ حَذِرٌ».(1) فإنّه يقدّم خير الآخرة على الدنيا، والجاهل المغفل يحسبه إنساناً بسيطاً لا يعرف خيره من شرّه، لأنّه يشتغل بالعبادة ولا يهتمّ بجمع الأموال وتشييد العمارات.

(وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا). المعروف والمتداول بين المفسّرين تفسير الآية بأنّ لكلِّ إنسان من الفريقين درجته الخاصّة به، فالنتيجة أنّ أهل الجنّة وأهل النار ليسوا في مرتبة واحدة، بل يوضع كلّ إنسان موضعه اللائق به، ومنشأ اختلاف الدرجات هو الأعمال و«مِن» في قوله: (يما عَمِلُوا) لبيان المنشأ. وقالوا: إنّ الدرجات وإن كانت خاصّة بأهل الجنّة ويقال في مراتب أهل النار دركات، إلا أنّ الإطلاق هنا من باب التغليب.

ولا شك في صحّة أصل المعنى، وهو اختلاف منازل أهل الجنّة والنار؛ إذ لا يمكن أن يكون الصالحون من عامّة المؤمنين في درجة الأنبياء والأئمّة المعصومين - عليهم جميعاً سلام الله - كما لا يمكن أن يكون المذنب الخاطئ أو الكافر من عامّة الناس في نفس الموضع الذي يليق بالمعاندين والطغاة الظلمة في النار.

ص: 60


1- بحار الأنوار 64: 307.

ولكن سياق الآية يأبى ذلك، بل ظاهرها الاختصاص بالأمم الخاسرة من الجنّ والإنس، حيث جاءت عقيب التعرّض لحالهم، مع أنّ الآية لو شملت أهل الجنّة لدلّت على أنّ المؤثّر في اختلاف درجاتهم هو العمل فقط دون النوايا، والصحيح أنّ درجات الصالحين في الجنّة تختلف باختلاف النوايا أيضاً وليست كمراتب أهل النار ، لأنّهم ليس لهم منازل في القرب لدى الله تعالى، وإنّما تختلف درجات عقابهم.

والدليل على ذلك قوله تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أو تُخْفُوهُ يُحَاسِبُكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ)،(1) فإنّ الآية تدلّ بوضوح على أنّ الإنسان محاسب بما يخفيه في نفسه، فإذا ضمّمنا هذه الآية إلى ما دلّ من الروايات على أنّ الله تعالى لا يؤاخذ الإنسان بما نوى إن لم يتلبّس بالعمل، تحصّل أنّ ما ينويه الإنسان ويركّز عليه - لا مجرّد الخطور الخارج عن الاختيار - يؤثّر في منزلته ودرجته عند الله تعالى، فإنّ ذلك مقتضى الجمع بين محاسبته على ما يخفيه في نفسه وعدم معاقبته عليه؛ إذ لا يبقى له أثر إلا أن يكون دخيلاً في تحديد منزلته ورتبته عند الله تعالى.

ولا ينافي ذلك قوله تعالى: (فَيَغْفِرُ مَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ)، إذ يمكن أن يختصّ ذلك بما أبداه، وأمّا ما أخفاه فإنّه يغفر له. هذا مع أنّه يمكن أن يكون من النوايا ما لا يغفر كالعجب والرياء، إنّما الكلام في التعميم المستفاد من الآية

الكريمة.

وممّا يؤيّد هذا الاستنتاج أنّ النوايا والأهداف - حتّى لو لم تصل إلى مرحلة

ص: 61


1- البقرة :(2): 284

العمل - تؤثّر في نفسيّة الإنسان وتكوين شخصيته، ولنضرب مثلاً حيّاً، وهو أنّ الحسد وهو غيظ الإنسان وحقده على غيره، لتفوّقه في جهة من الجهات، سواء كانت ماديّة أو معنويّة، ربما يصل بالإنسان إلى مرحلة العمل على وفقه فيضرّ بالمحسود إمّا بيده أو بلسانه، ويحاول إسقاطه من أعين الناس. وهذا إثم يعاقب عليه وربما لا يصل إلى هذا الحدّ، ولكن باطنه يغلي حقداً وحسداً، ويبغض ذلك الإنسان أشدّ البغض، ولكنّه خوفاً من الله أو من الناس لا يبدي شيئاً، فلا يكون معاقباً في الآخرة إلا أنّ هذه الحالة تؤثّر في تكوين شخصيته، وبالتالي تؤثّر أيضاً في منزلته عند الله تعالى.

بل يمكن أن تكون الخواطر أيضاً مؤثّرة، لأنّها وإن كانت غير اختيارية إلا أنّ مبادئها اختيارية، فالإنسان الصالح الذي لا يسرح باختياره في الأهواء الشيطانية والنوايا الفاسدة، قلّما يقع فريسة للخواطر الشيطانية، التي تهجم على الإنسان من دون اختيار، وبعكسه الإنسان الذي يسرح دائماً وفي الخلوات وعند الفراغ الفكري في الأفكار الشهوانية والشيطانية، ويصنع لنفسه من الأوهام والأحلام قصوراً وأموالاً هائلة، فإنّ الشيطان يتمكّن من نفسه ويسيطر على أفكاره وأمنياته،ولذلك تجد المؤمن الصالح لا يتمنّى إلا الخير والصلاح والتقرّب إلى الله تعالى، وكلّ أفكاره تحوم حول هذا المحور، وأمّا غيره حتّى لو لم يكن فاسداً في مرحلة العمل، فإنّ أمنياته تحوم حول محور المال والجاه وسائر الشهوات الدنيئة.

ونستنتج ممّا مرّ أنّ درجات أهل الجنّة تتحدّد، لا بخصوص الأعمال، بل بكلّ ما يكوّن شخصيّة الإنسان، وأمّا درجات أهل النار فلا يحدّدها إلا أعمالهم، لأنّ درجاتهم ليست بمعنى منازل القرب أو البعد بل ليس لهم درجات بهذا المعنى،

ص: 62

وإنّما درجاتهم بمعنى نوعية عقابهم، والله تعالى لا يجازيهم إلا بأعمالهم، فإنّه تعالى وعد أن يجزى المحسنين بأضعاف ما عملوا ، وأمّا السيّئة فلا تجازي إلا بمثلها، كما ورد في آيات عديدة، قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أصْحَابَ الْيَمِينِ)،(1) فالإنسان بوجه عامُ رهين بعمله إلا أصحاب اليمين، فإنّ جزاءهم ليس مرهوناً بأعمالهم، بل إنّ الله تعالى يضاعف لهم الجزاء بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، فتقييد الدرجة بالعمل خاصّ بأهل النار، وأمّا المتّقون فمن جهة تحديد الدرجة والمنزلة عند الله تعالى لا يختصّ التحديد بالعمل، بل يحاسب عليه كلّ ما في نفسه، حتّى لو أخفاه، بل لا يبعد أنّ الذنوب التي تاب منها تؤثّر أيضاً في ذلك، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له في الثواب والعقاب، لا في منزلته وقربه لدى الله تعالى، ومن المستحيل أن تتساوى منزلة المعصومين والمذنبين ،التائبين، وأمّا من جهة الجزاء فالمتّقون لا يتحدّد جزاؤهم بأعمالهم، بل يضاعفه الله تعالى أضعافاً مضاعفة، بخلاف مرتكبي السيّئات.

وأما قولهم: إنّ الدرجات خاصّة بأهل الجنّة والدركات بأهل النار، فغير واضح من حيث المدلول اللغوي، فإنّ الدرجة في الأصل مأخوذة من الدرج، بمعنى المضي في الشيء ولا اختصاص له بالصعود، بل يشمل مراتب الحركة ويفهم الصعود أو النزول من القرائن ولا دليل على اختصاصها بالصعود، بل الدليل على خلافه، وهو القرينة السابقة وما بعدها في الآية الكريمة، ومثلها قوله تعالى: (يَا مَعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا

ص: 63


1- المدّثر (74): 38 - 39

كَافِرِينَ * ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ * وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ لِما عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)،(1) والدرجات هنا أيضاً خاصة بأهل النار عل-ى م-ا ه-و واضح من السياق، وإن ذهب المفسّرون إلى التعميم أيضاً.

(وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَاهُمْ)، وهذه قرينة أخرى على الاختصاص بأهل النار. فإنّ المتّقين لا يجازون بأعمالهم فحسب كما مرّ والتوفية إيصال الشيء بكامله دون نقص، واللام للتعليل، والظاهر أنّه علّة لجعل كلّ أحد في درجته ومنزلته الخاصّة، والعطف بالواو يدلّ على أنّ هناك عدّة أهداف تترتّب على ذلك؛ منها توفية الأعمال، ومنها بالطبع مجازاة المسيء، ومنها الانتقام للمظلومين وشفاء صدورهم، ونحو ذلك ممّا يترتّب على عقاب الطغاة والكفرة.

والآية تدلّ على تجسّم الأعمال، وأنّ الإنسان يجازي بنفس عمله إلا أنّه بصورته الكاملة، فنحن الآن لا نرى مدى تأثير أعمالنا، فلكلّ عمل صداه وتأثيره في المجتمع وفي الكون، ولكنّ الإنسان غافل عنه، فهناك آثار طبيعية نغفل عنها، فكيف بالآثار الغيبية، وكم من كلمة أورثت حروباً طاحنة، والمتكلّم لا يعلم بأثرها، وكم من عمل يستتبع تقليد الآخرين ممّا يستوجب فساد أُمّة، بل ربما يستمرّ الفساد قروناً متتالية، وها نحن الآن نشهد تمزّق الأمّة الإسلامية وضعف

كيانها لجملة واحدة قالها رجل حينما طلب الرسول صلى الله عليه و اله وسلم دواة وكتفاً ليوصي الأمّة بما يحفظ وحدتها وعزّتها وكرامتها واستمرار سيرها على النهج القويم.

ومن الكلام ما يؤثّر في الكون ونحن لا نشعر به، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شيئاً إذاً * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُ الأَرض وَتَخِرُ الْجِبَالُ هَذَا أَنْ

ص: 64


1- الأنعام (6): 130 - 132.

دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً)،(1) هذا حال الكلام فكيف بسائر الأعمال؟!

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)، تأكيد على أنّ عقابهم ودرجتهم ليس إلا نفس أعمالهم يتلقّونها كاملة، مع كلّ ما يترتّب عليها من آثار سيّئة، وليس الجزاء وضعيّاً حتّى يقال: إنّ الجزاء لا يناسب العمل، بل هو أعظم منه بكثير، فالجزاء الوضعي هو الذي يمكن أن يقال فيه ذلك. وأمّا إذا كان العمل بنفسه جزاءاً، فلا يمكن أن يكون ظلماً إلا أنّ العمل في الدنيا لا يتجلّى بصورته الحقيقية، فلا يشعر الإنسان إلا بما يتلذّذ به. ولو كان الإنسان يشعر بحقيقة ما يعمل، لتعذّب به في الحياة الدنيا، فكان ذلك حافزاً على تركه، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً).(2) وقد نبّه الله سبحانه وتعالى على كيفية تعذّب الإنسان بعمله في الدنيا، مع أنّه لا يتجلّى بصورته الكاملة، حيث شبّه يوم القيامة بالضمير الإنساني، قال تعالى: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ).(3)

ثمّ إنّ قوله تعالى: (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) يدلّ أيضاً على أنّه لو لم يجعل الله تعالى لكلّ إنسان درجة، وكان يخلط الظلمة والفساق كما ربما يتوهّم، كان ذلك ظلماً لكثير منهم.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ)، الظرف يتعلّق بفعل مقدّر، أي واذك-ر ي--وم يعرض قيل: بل الفعل المقدّر هو القول للجملة التالية، أي يوم يعرض يقال لهم أذهبتم. وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

ص: 65


1- مریم (19) 88-91
2- النساء (4): 10.
3- القامة (75): 1-2.

والعرض في الأصل ما يقابل الطول، والمراد بهذا التعبير إراءة عرض الشيء لأحد، كما يقال عرض الجند على الأمير. ومن هنا وقع الكلام في معنى العرض في الآية من جهة أنّ المعروض عليه ليس من ذوي العقول. ففي «الكشاّف» أنّ المراد به نفس التعذيب بالنار من قبيل ما يقال: عرض بنو فلان على السيف، حيث تضرب أعناقهم، فالمراد يوم يدخلون النار يقال لهم كذا.(1) ولكن هذا لا يناسب - كما في تفسير «الميزان»(2) - قوله تعالى في آخر السورة: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ)، حيث فرع الأمر بتذوق العذاب، على العرض، وما يجري هناك من الحديث ممّا يدلّ على أنّ العرض أمر يحدث قبل الدخول في النار.

وقال بعضهم: إنّ العرض هنا مقلوب، فإنّ المعروض واقعاً هو النار، تعرض على الذين كفروا كما في قوله تعالى: (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً)،(3) فإنّ الأشياء تعرض على الإنسان ولا يعرض الإنسان على الأشياء. وقال آخرون:إنّ جهنم لا تعتبر من غير ذوي العقول لقوله تعالى: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَاتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزيد).(4)

ولكنّ الظاهر أنّ هذا وأمثاله كقوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ

والأرض وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا)،(5) تعبير أدبي لا يتوقّف على كون

ص: 66


1- راجع: الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 313:4.
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 205
3- الكهف (18): 100
4- ق (50): 30
5- الأحزاب (33): 72

المعروض عليه عاقلاً واقعاً، بل يفترض كونه عاقلاً ولو في الإدعاء، فلا موجب لدعوى القلب.

والحاصل أنّ الظاهر من الآية إراء تهم إيَّاها مقدّمة لتعييرهم أو تكميل محاسبتهم ببيان سبب العذاب والحرمان عن الطيّبات، وهو في حدّ ذاته لا يخلو من تعذيب نفسي. وينبغي أن يعلم أنّ المراد بالتعذيب في الآخرة ليس هو الانتقام، فالله تعالى غني عن عذاب الخلق ومنزّه عن التشفّي، بل هو بمعنى ظهور الحقائق التي توجب عذاب الإنسان.

(أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا)، المعروف أنّ هذه الجملة خطاب من الله تعالى لهم وأنّ التقدير: «يقال لهم حين العرض: أذهبتم طيباتكم....،» ولكن لا يبعد أن يكون المراد تفسير العرض بهذه الجملة بمعنى أنّ هذا العرض يفهم منه هذا الخطاب، وكثيراً مّا يدلّ الفعل على معنى مقصود بأصرح من اللفظ وأبلغ.

وظاهر قوله: (اذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ) إفناؤها بإنفاقها والانتفاع بها. ولكنّ السؤال الوارد هنا:ما المراد بالطيّبات التي تنفق ويستمتع بها في الدنيا، بحيث يكون سبباً للحرمان في الآخرة؟

قيل: إنّ المراد بها النعم الإلهية التي يمكن استخدامها في الحلال والحرام، كالمال والشباب والقوّة والعقل والحواس، فاستخدامها في الحرام هو الموجب

للحرمان يوم القيامة.

وإنّما قيل بذلك، لأنّ التمتّع بالطيّبات ليس محرّماً وممنوعاً بذاته، ولكنّ الظاهر أنّ المراد بها كلّ تمتّع بالنعم حتّى لو لم يكن في حدّ ذاته محرّماً، إلا أنّ

ص: 67

استنفادها في التمتّع بنعم الدنيا وعدم ادّخار شيء للآخرة هو الموجب لذلك، فالمال إذا صرف بعضه على نفسه وأنفق بعضه في سبيل الله تعالى بقي له شيء في الآخرة، وهكذا سائر ما أوتي الإنسان من نعم، فالمبالغة في الاستمتاع يوجب الحرمان. والكافر لا يدّخر شيئاً نهائياً، لأنّه لو أنفق لا ينفق في سبيل الله تعالى، بل ينفق لشأن من شؤون الدنيا حسب معتقده

ومن هنا يتبيّن أنّ الإنسان كلّما ترك الاستمتاع بنعمة طلباً لمرضاة الله تعالى، فهو موجب لتنعّمه في الآخرة، وكلّما تنعّم بنعمة زائدة على حاجته، فقد خسر م-ا يعادل الإنفاق به في الآخرة، وهكذا يتبيّن وجه ما ورد في الحديث من تزهّد النبي صلی الله علیه و آله وسلم والأئمّة المعصومين عليهم السلام عن الأطعمة اللذيذة ونحوها من متاع الدنيا، فكلّ ما تأكله وتنفقه على نفسك فقد خسرته، وكلّ ما أنفقته في سبيل الله فقد ربحته.

قال أمير المؤمنين - سلام الله عليه - في كلام طويل في زهد النبيّ صلی الله علیه و آله وسلم وسائر الأنبياء علیهم السلام: «وَلَقَدْ كَانَ يَأْكُلُ عَلَى الأرض ، وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، وَيَحْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ، وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِي وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ، وَيَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ ، فَيَقُولُ: يَا فُلانَةُ - لإحْدَى أَزْوَاجِهِ - غَيْبِيبِهِ عَنِّي فَإِنِّي إذا نَظَرْتُ إِليه ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وَزَخَارِفَهَا». وقال علیهم السلام نفسه: «وَالله لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِهِ حَتَّى اسْتَحْيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا، وَلَقَدْ قَالَ لي قَائِل : ألا تَنْبِدُهَا عَنْكَ؟ فَقُلْتُ: اغْرُبْ عَنِّي، فَعِنْدَ الصَّبَاحَ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى».(1) والسرى أي السير ليلاً، فالذي يسير طول الليل يتعب، ولكنّه إذا أصبح ووجد نفسه قد بلغ المقصد يثني على ما فعل، وهكذا من يتحمّل الشدائد في

ص: 68


1- نهج البلاغة (للصبحي صالح): 228 - 229 / الخطبة 160.

هذه الحياة الزائلة تقرّباً إلى الله تعالى، فإنّه سيجد نتيجة عمله يوم القيامة ويفرح

بما تحمّل.

وفي حديث: «اُتي - أي النبيّ صلی الله علیه و آله وسلم- بخبيص، فأبى أن يأكله» فقيل: أتحرّمه؟ فقال: «لا ولكنّي أكره أن تتوق إليه نفسي»، ثمّ تلا الآية: (اذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا).(1) والخبيص نوع من الحلواء. والخبص هو الخلط.

وفي مجمع «البيان» في ذيل الآية الكريمة: «قد روي في الحديث أنّ عمر بن الخطاب قال: استأذنت على رسول الله صلى الله عليه و اله و سلم فدخلت عليه في مشربة أم إبراهيم، وأنّه لمضطجع على خصفة وأنّ بعضه على التراب، وتحت رأسه وسادة محشوة ليفاً، فسلمت عليه، ثمّ جلست فقلت: يا رسول الله أنت نبيّ الله وصفوته وخيرت-ه خلقه و كسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «أولئك قوم عُجِّلت طيباتهم وهي وشيكة الانقطاع، وإنّما اُخرت لنا طيّباتنا».(2) والخصفة: جُلّة التمر التي تنسج من خوص النخل.

وفي حديث عائشة: «أنّهم ذبحوا شاة، فقال النبي صلی الله علیه و آله وسلم: «ما بقي منها؟»، قالت: ما بقي منها إلا كتفها قال: «بقي كلّها غير كتفها».(3)

والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً.

(فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرض بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ)، أي حيث استنفدتم كلّ طيّباتكم للتمتّع في الدنيا ولم تدّخروا شيئاً للآخرة، فاليوم تجزون العذاب والهون المذلّة والخفّة. ولا شكّ أنّ نتيجة الاستكبار في

ص: 69


1- محاسن البرقي 2: 409
2- مجمع البيان في تفسير القرآن 10 - 133:9
3- سنن الترمذي 4 : 58

الأرض هو الهوان والذلّ يوم القيامة، حيث تتجسّم الأعمال وتبرز الحقائق. والفسق هو الخروج، والمراد الخروج عن طاعة الله تعالى. وقوله تعالى: (كُنتُمْ تَفْسُقُونَ) يدلّ على الاستمرار والإصرار.

وقيل: إنّ قوله تعالى: (بِغَيْرِالحَقَّ) توضيح وليس تقييداً؛ فإنّ الاستكبار لا يكون بحقّ، ولكن يمكن أن يكون تقييداً أيضاً؛ لأنّ الاستكبار هو طلب الرفعة

والعلوّ، وهو في حدّ ذاته غير مذموم بل هو غريزة بشرية يترتّب عليه-ا تق-دّم الحضارة الإنسانية. وإنّما المذموم أن يطلب الإنسان رفع-ة وع-ل-واً ع-ل-ى الآخرين بغير حقّ، كمن يطلب السلطة على رقاب الناس من دون أن تكون له ولاية من قبل الله تعالى، فلو كان يطلب الرفعة بعلم أو بفنّ أو بقوّة جسمية وكمال يكتسبه، لم يكن استكباراً بغير الحقّ، وأمّا من يطلب الرفعة على الناس من دون أن تكون له مؤهلات خاصّة، فهو استكبار بغير حقّ، لا أقول: إنّ من له العلم والقوّة يحقّ له أن يستعلي على الناس ويتوقّع من غيره الخضوع له، بل أقول: إنّ طلب العلم والقوّة ونحو ذلك في حدّ ذاته طلب للرفعة والعلوّ حقيقة وهو مطلوب وليس مذموماً.

والعلامة الطباطبائي رحمه الله اعتبر الاستكبار في الآية إشارة إلى الذنب المتعلّق بالاعتقاد، وقوله تعالى: ﴿وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ)، إشارة إلى الذنب المتعلّق بالعمل.(1)وهذا يتمّ في ما إذا كان المراد الاستكبار أمام الله تعالى، لا في قبال الخلق، وهناك كثير من البشر يستكبر في مقابل الله تعالى، فمنهم من يصرّح به وهم الفراعنة الطغاة، ومنهم من لا يصرّح إلا أنّه يأبى من التسليم لحكم الله تعالى

ص: 70


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18 : 206

وشرعه ويستنكف من الخضوع والطاعة لأمره ونهيه.

ولكنّ الشأن في انطباق الآية، فإنّ ظاهر قوله تعالى: (تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ)، أي في المجتمع البشري وفي مقابل الخلق، كقوله تعالى: (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ)،(1) ومثله الكبرياء في الأرض، كقوله تعالى حكاية عن فرعون: (قَالُوا أَجِبْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ)،(2) والعلوّ في الأرض، كقوله تعالى: (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالِ فِي الأَرْضِ)،(3) ويشهد لذلك قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أو نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُنُوا كَبِيراً)،(4) فعبّر عن استكبارهم أمام الله تعالى باستكبارهم في أنفسهم.

ص: 71


1- القصص (28): 39
2- یونس (10): 78
3- یونس (10): 83
4- الفرقان (25): 21

سورة الأحقاف (21 - 25)

* وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(21) قَالُوا أَجِبْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ ءَاهِتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللهِ وَأَبْلُغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ، وَلَكِنِّي أَرَنكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَتِهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَكُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)

(وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ). أمر الله رسوله أن يذكر قوم عاد وما جرى عليهم بعد الإنذار والتكذيب، ليتذكّر قومه ويتنبّهوا ويعلموا عاقبة تكذيب الرسل، وفي ذلك أيضاً تسلية للرسول صلی الله علیه و آله وسلم وللمؤمنين لئلا ينزعجوا من تكذيب القوم واستهزائهم . و (عَادٍ) قوم كانوا يسكنون الجزيرة العربية وكانت آثارهم باقية في عهد الرسالة، قال تعالى: ﴿وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ)،(1) بل هي باقية إلى الآن وإنّما غمرتها الرمال وقد اختلف في موضعهم، وورد في القرآن الكريم أنّهم هم الذين بنوا مدينة إرم وأنّها كانت ذات أعمدة كثيرة لم يخلق مثلها في البلاد، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ)،(2) وقد اكتشفت آثار مدينة قديمة بهذا الوصف في صحراء اليمن وهناك شواهد لعلّها تدلّ على أنّها هي التي سمّيت بإرم في القرآن الكريم؛

ص: 72


1- العنكبوت (29): 38
2- الفجر :(89): 6-8

ولكن كثيراً من المفسّرين قالوا: إنّ إرم اسم جدّهم، وسيأتي الكلام فيه إن شاء

الله تعالى.

وربما يستغرب أن يكون موضعهم في هذه الصحراء القاحلة لقوله تعالى في شأنهم: (أمَدَّكُمْ بِأَنْعَامِ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)،(1) ممّا يدلّ على أنّ بلدهم كان في منطقة مليئة بالأشجار والأنهار، وأين هذا من الربع الخالي؟! ولذلك قال بعضهم: إنّ الأحقاف اسم جبل بالشام، وهذا ليس له مستند. ولكنّ الغريب أنّ الاكتشافات الحديثة تؤيّد وجود أنهار في المنطقة عفيت آثارها بالرمال، فما هو وجه التعبير عنها بالأحقاف؟! وهي جمع حقف - بكسر الحاء - أي الكثيب الرملي المرتفع الذي فيه انحناء وتعاريج.

هذا مع أنّه من المستبعد جدّاً أن تكون هذه المدينة العظيمة والحضارة التي لم يكن لها مثيل في ذلك العصر، في قلب الصحراء الرملية والظاهر أنّ التعبير عنه بالأحقاف إنّما كان بلحاظ زمان نزول الآية، وظاهر التعبير أنّها علم للمنطقة

وهو مقتضى لام التعريف، فلا ينافي كونها منطقة خضراء في عصور سابقة. والتعبير بالأخ عن الرسول ورد في عدّة موارد من الكتاب العزيز، وربما يقال

بأنّ الوجه فيه هو كونه من نفس القوم، ولكنّه لا ينطبق على لوط علیه السلام على ما في الروايات وربما يقال: إنّه إشارة إلى عطفه وحنانه عليهم، ولكن هذا الوجه لا يصحّح التعبير عن القوم بالإخوان، كما ورد في قوم لوط أيضاً: ﴿وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ).(2) والصحيح أنّه تعبير عن كلّ نوع من المشاركة والمصاحبة، كقوله

ص: 73


1- الشعراء (26): 133 - 134.
2- ق (50): 13

تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا)،(1) وقوله تعالى: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ اُخْتِهَا).(2) والتعبير العربي مشحون بذلك، كأخي الجهد في شعر امرئ القيس:

عشيّة جاوزنا حماة وسيرنا ***أخو الجهد لا يلوي على من تعذّرا(3)

ويقصد به السير بجهد وكذلك تعبيرهم بأخي الخير وأخي الشرّ ونحو ذلك. (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ). خلت أي مضت، فيقتضي أن يكون المراد بالجملة، بيان أنّ إنذاره لم يكن شيئاً جديداً مستغرباً، فقد سبقه النذر وه-و جمع نذير أو جمع إنذار ، ولكن وقع الكلام في المراد بقوله تعالى: (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ)، فقال بعضهم: إنّ المراد بهم من كانوا قبله ومن جاءوا بعده، وقال بعضهم بالعكس، وحاولوا تأويل المعنى بحيث يلائم المضي المفهوم من قوله:

(خَلَت)، والصحيح أنّ المراد بهم جميعاً من كانوا قبله إلا أنّ بعضهم كان في

الماضي القريب، فعبّر عنهم بمن بين يديه وبعضهم كان في الماضي البعيد.

(ألا تَعْبُدُوا إِلا الله)، مهما كان النذر ، فالمنذر به شيء واحد وهو حصر المعبودية في الله تعالى، وهذا روح الرسالات وجوهرها وهو الهدف الأسمى من الخلق والتكوين، وهذا يشتمل على جزء سلبي وجزء إيجابي أن لا يعبد الإنسان غير الله تعالى وهذا هو الحرّية الحقيقيّة، وغير الله لا يختصّ بالأصنام ولا بالبشر المتسلّط كالطغاة الفراعنة، بل يشمل الأهواء والآمال وكلّ قوى الشرّ والفساد في داخل الإنسان وخارجه، فالمطلوب من الإنسان أن يكون حرّاً طليقاً لا

ص: 74


1- الأعراف (7): 38
2- الزخرف (43): 48
3- لسان العرب 14 :23

يتحكّم في إرادته إلا أمر الله تعالى ونهيه وهذا التحكّم هو الجزء الإيجابي من التوحيد؛ فإنّ الإنسان لا بدّ له من أن يتبع شيئاً، فهل الصحيح أن يتبع هواه أم عقله أم غير هما ؟ الصحيح أن لا يتبع شيئاً إلا ما أمر الله تعالى به.

وروّاد الحضارة والتقدّم العلمي اليوم وإن دعوا إلى الحرّية حسب الظاهر إلا أنّ الدعوة في الواقع وعند التأمّل الدقيق تشتمل على أسوأ أنواع العبودية وهي عبودية الهوى والميول؛ فالإنسان المتحضّر في هذا العصر ليس حرّاً كما زعموا وأعلنوا في وسائل الأعلام، بل هو عبد ذليل يقوده هواه إلى الردى والهلاك، وإنّما هو أسوأ، لأنّه يتصوّر نفسه حرّاً طليقاً فلا يقاوم، بل لا يتألم من سياط

الاستعباد.

(إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ، الظاهر أنّ المراد به عذاب الاستئصال في الدنيا لا عذاب يوم القيامة، بقرينة الآيات التالية وما جرى بينهم وبين-ه م-ن الحديث. وتوصيف اليوم بالعظمة باعتبار كون العذاب فيه مهوّلاً أو كونه يوماً مصيرياً يحسم فيه أمرهم، كما عبّر عنه في سورة الحاقة بقوله تعالى: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسوماً).(1)

(قَالُوا أَجِبْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلهِتِنَا)، هذا ردّ منهم على دعوته إلى ترك عبادة غير الله تعالى والاستفهام للاستنكار، فكأنّه ارتكب جريمة ألهذا جئت؟ والإفك هو الصرف والتحويل أي أجئتنا لتصرفنا عن عبادة الأصنام التي تعوّدنا عليها؟! والإنسان الجاهل متمسّك بما دأب عليه واعتاد لا تختلف في ذلك العصور والحضارات والتغيير في العادات الاجتماعية من أصعب الأمور، ولذلك نجد أنّ

ص: 75


1- الحاقة (69): 7

التحوّل في العقائد والمذاهب لا يحصل في المجتمعات البشرية إلا بتطوّر بطيء جدّاً. نعم ربما تحصل الطفرة نحو الانحلال الخلقي في كثير من المجتمعات، وذلك لموافقته مع الأهواء والميول الحيوانية، ثمّ يستتبع ذلك الابتعاد عن القائد والإيمان بالغيب. وأمّا العقائد الخرافية التي دأب عليها الناس وورثوه-ا م-ن أسلافهم، فلا يزالون متمسّكين بها مهما تحضّروا واختلفت أنماط حياتهم المادّية ودرجوا في مدارج العلم، ولذلك تجد في أتباع المذاهب الخرافية كثيراً من العلماء والمخترعين والأطبّاء وأمثالهم!!!

(فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، جواب منهم على تهديده علیه السلام بعذاب ي-وم عظيم. ومعنى كلامهم أنّنا مستمرّون في عبادتنا للأصنام، فإن كنت صادقاً في تهديدك بالعذاب، فأنزله علينا من دون تأخير. وهذا جهل آخر منهم يدلّ على توغّلهم في الحمق والسفاهة، فإنّ احتمال ترتّب العذاب العظيم الذي يستأصل المجتمع، يكفي للتريّث والتأمّل، فكيف به إذا حذّرهم منه إنسان صالح من قومهم لم يعرفوا منه إلا الصدق والأمانة، ولم يروا منه إلا النصح والإرشاد، وهو مع ذلك يخبر به من عند ربّهم العزيز الجبار المقتدر ؟ وإنّما استعجلوا به تكذيباً للرسول أو استخفافاً بعذاب الله تعالى أو بوعيده، كما هو شأن كثير من البشر، حيث لا يعتبرون بمن قبلهم وما نزّل عليهم ويغفلهم ما يشعرون به من الإمهال، ولا يتفطّنون إلى كونه استدراجاً لهم. ولذلك نجد أنّ هذا الكلام أو ما يشابهه ممّا تداولته الأقوام طيلة التأريخ باختلاف لغاتهم وحضاراتهم، فكأنّهم تواصوا بذلك، كما قال تعالى: (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ

طَاغُونَ).(1)

ص: 76


1- الذاريات (51): 53

(قَالَ إِنّما العلمُ عِنْدَ الله وَأبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ)، جوابه علیه السلام على استعجالهم للعذاب أنّي لا أعلم موعد استحقاقكم، بل ولا أصل نزول العذاب، فإنّ ذلك ليس بيدي ولست موكَلاً بالتعذيب، وإنّما أنا رسول أبلّغكم ما أرسلت به وأنذركم أنّ هذا النهج يوجب استحقاق العذاب. وأمّا تنفيذه وموعده، فلا علم لي به، وإنّما العل-م عند الله، أي العلم بذلك خاصّ به تعالى قد استأثر به ولم يُعلِمه أحداً. وهو علیه السلام لم يعلن ورود العذاب بصورة حتمية وإنّما أبدى تخوّفه من ذلك، إمّا لأنّه لم يُبلغ إلا أصل الاستحقاق أو لأنّه لم يبلّغ بالعذاب أصلاً، وإنّما تخوّف منه بملاحظة حال الأقوام السابقة وما آل إليه أمرهم وهو كاف في التخوّف.

(وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ)، أي أنا أعمل بواجبي وهو التبليغ، ولكنّي أراكم قوماً تجهلون ولا تتأثّرون بهذا الإنذار، و لعلّ المراد بالجهل ما يقابل العقل والحكمة لا العلم، فهم أناس سفهاء، لا تهمّهم المصالح والمفاسد، وإنّما يتّبعون الأهواء والتقاليد والخرافات. ويمكن أن يراد به ما يقابل العلم باعتبار أنّهم يجهلون دور الرسل، وأنّه ليس إلا التبليغ والإنذار باستحقاق العذاب، ولم يوكّل إليه الإخبار بالحتمية، ولا تعيين الوقت أو النوع. وإقحام كلمة القوم للتنبيه على أنّ هذا ميزة مجتمعهم الفاسد ولا يختصّ ببعض دون بعض.

(فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)، الظاهر أنّ الضمير في (رَأَوْهُ) مبهم، يفسّره عارضاً وهذا أفصح وأعرب - كما قال الزمخشري(1) -- م-ن القول بأنّه يرجع إلى بِمَا (تَعِدُنَا)، وهو واضح لمن ألمّ بالعربية وطرق البيان فيها. والعارض: السحاب الذي يعرض في الأفق. والحاصل أنّهم ابتهجوا لمّا رأوا

ص: 77


1- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 4 :307

سحاباً تبدو عليه أمارات الإمطار، ولعلّ منها كونه عارضاً على الأفق وابتهج-وا أيضاً، لمّا رأوه يستقبل أوديتهم ممّا يشعر بنزول المطر على مزارعهم ومراتعهم، ولعلّهم - كما قيل - أصيبوا بالجفاف والجدب مدّة طويلة، ولعلّهم أيضاً خرجوا من بيوتهم يستقبلون المطر مسرورين فرحين وهم يقولون: هذا عارض ممطرن-ا أو هو لسان الحال، كما أنّ الجواب كذلك وإن قيل: إنّه من كلام هود علیه السلام .

(بَل هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)، أي السحاب الذي رأيتموه ليس إلا العذاب الذي استعجلتم به حيث قلتم فأتنا بما تعدنا. وقوله: (رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ ألِيمٌ) بدل عنه. ووصَفَ الريح بأنّ فيها عذاباً اليماً، كأنّ الريح تحمل معها العذاب فهي ظرف له. وفي هذا الكلام تقريع لهم، حيث استعجلوا بالعذاب إن كان كلاماً لهود علیه السلام ولا يبعد أن يكون بياناً للواقع وتعقيباً من الله تعالى على توهّمهم أنّه سحاب ممطر.

وفائدة هذا التعقيب تنبيه الآخرين بأمرين: الأوّل: أنّ هناك من أمور الدنيا ما يواجههم بصورة مستحسنة، وظاهر أنيق بديع وهو يحمل في طياته عذاباً أليماً، ليكونوا على حذر ولا ينخدعوا بظواهر الأمور. والثاني: أنّ هذه عاقبة استعجال

العذاب والاستخفاف به.

(تُدَمِّرُ كُلّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبَّهَا)، الريح العاصفة الشديدة بطبيعتها تقلع الأشجار وتدمّر كثيراً من المباني، ولكنّها لا تدمّر كلّ شيء، وهناك كثير من البشر يحتمّون بما يتمكّنون منه ويسلمون من البلاء والحيوانات غالباً ما تعلم بالعاصفة قبل حدوثها وتغادر مكان النكبة، ولكن هذه الريح تختلف عن مثيلاتها بأنّها مأمورة بتدمير كلّ شيء باستثناء آثار المساكن - على ما يبدو - كما في الآية، فلا يبقى إنسان

ص: 78

ولا حيوان ولا شجر ولا زرع ولا مبنى ولا مصنع. ومع ذلك، فهناك أشياء لم تتدمّر كالجبال والحجارة ووجه الأرض، فما هو مغزى التعبير بكلّ شيء؟ الجواب: أنّ هذا التعبير يستخدم لبيان أنّ كلّ ما من شأنه أن يُدمّر بالعاصفة،

فقد دُمّر ولم يبق مجال لفرار الإنسان والحيوان، ولم تبق المباني على حالها، ونظير ذلك قوله تعالى: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)(1) في حكاية كلام الهدهد بشأن ملكة سبأ، فإنّ المراد أنّها أوتيت كلّ مستلزمات الملوك وليس المراد كلّ شيء

بالطبع.

والحاصل أنّ العاصفة المذكورة لم تبق شيئاً على وجه الأرض إلا آثار مساكنهم للعبرة. وأمّا هودعلیه السلام ومن آمن معه فقد نجّاهم الله تعالى قبل نزول العذاب،كما قال: (فَانْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ).(2) وهكذا سنّته تعالى في سائر الأقوام، حيث لا ينزل عذاب الاستئصال إلا بعد إخراج الرسل ومن آمن معهم.

وقد ورد تفصيل عذابهم في قوله تعالى: (وَأَمَّا عَادٌ فَأَهْلِكُوا بِرِيحِ صَرْ صَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى هُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ).(3) والصرصر: الريح شديدة الهبوب، والأصل في-ه شدّة الصوت وتكرّره والعاتية شديدة العصف. والحسوم، أي الأيّام التي حسم فيها أمرهم ومصيرهم.

وهكذا العذاب الإلهي عذاب الاستئصال، يقلع المجتمع وكلّ ما أسّسه م-ن

ص: 79


1- النمل (27): 23 .
2- الأعراف (7): (72
3- الحاقة (69): 6 - 8

الحضارة من جذورها ولا يبقي لهم إلا آثاراً يستدلّ به-ا عل-ى وج-وده-م وسبق كينونتهم على الأرض، لتكون عبرة للأجيال الآتية.

(فَاصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ)، المراد بالإصباح الصيرورة؛ إذ لم ينزل العذاب ليلاً، بل نهاراً، فإنّهم رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم، بل بقي العذاب سبع ليال وثمانية أيّام، والظاهر أنّ المقصود من المساكن آثارها لا أصلها.

(كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ). الظاهر أنّ هذا التعقيب تهديد للمخاطبين وهم كفّار مكّة ومن حولها، وتنبيه لهم بأنّ سنة الله تعالى لا تختصّ بهم، فالعذاب يستحقّه المجرمون أينما كانوا وفي أيّ زمان، ولذلك أتى بالفعل المضارع. وإقحام كلمة القوم للإشارة إلى أنّ هذا عذاب المجتمع الفاسد لا كلّ مجرم والإجرام لا يصدق على كلّ معصية ولا على كلّ جريمة اجتماعية؛ فإنّه في الأصل بمعنى القطع ، فإذا أطلق على عمل يخالف قانون المجتمع فلا بدّ من أن يكون موجباً لقطع الصلة بينه وبين المجتمع، ولا يطلق على كلّ ما يخالف القانون، وإذا أطلق في الشرع، فالمراد به ما يوجب قطع العلاقة بين العبد وربّه.

ص: 80

سورة الأحقاف (26 - 28)

وَلَقَدْ مَكَّنهُمْ فِيمَا إِن مُكُنكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَرًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَرُهُمْ وَلَا أَفْئِدَهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا تَجْحَدُونَ بِشَايَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ(26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا

الاَيَتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا ءاهِةٌ

بَل ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ). «ما» موصولة و(إنّ) نافية، والتمكين جعل الشيء مستقرّاً في مكان وهو كناية عن جعل أحد قادراً على أمر أو مسلطاً على شيء، فالمعنى أنّا بسطنا لقوم عاد القدرة على أمور وسلّطناهم على موارد في الطبيعة لم تجعل لكم مثلها. والخطاب لأهل مكّة وهو واضح، فإنّ أهل مكّة ما كانوا يملكون من مستلزمات الحضارة السائدة آنذاك شيئاً، فلم يكن لديهم أنهار ولا غابات ولا صناعة ولا زراعة، بينما كان قوم عاد في عهدهم أصحاب حضارة قويّة ومتينة وآثارهم الباقية في عهد الرسالة تدلّ على ذلك. وهذه الآية تكمل التهديد الذي انطوت عليه الجملة السابقة: (كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ).

وقال بعضهم: إنّ المعنى مكّناهم في مثل ما مكّناكم فيه، وهو غير صحيح. والقرآن يؤكّد مراراً أنّ الأقوام السابقة كانوا أكثر من أهل مكّة قوّة وآثاراً في الأرض وهو واضح.

(وَجَعَلْنَا هُمْ سَمْعاً وَأبْصَاراً وَأَفْئِدَةً)، هذا متمّم للمعنى السابق، فلو مكّن الله تعالى قوماً من الموارد الطبيعية ولكن لم يجعل لهم قوّة جسمية يتمكّنون بها من التصرف في الموارد الطبيعية، لم يحصلوا على شيء، فالمراد أنّهم تمكّنوا من

ص: 81

استخدام الموارد الطبيعية لبناء حضارتهم ، ولكن كلّ ذلك لم يمنعهم من الله تعالى فكيف بكم وأنتم محرومون من تلك الموارد وتلك الحضارة والقوّة؟! والسمع مصدر يراد به آلة السمع، ولذلك يستوي فيه الجمع والمفرد، فلا فرق بين السمع والأسماع والأفئدة بمعنى القلوب ويراد بها آلة التعقّل والإدراك وليس بمعنى مضخة الدم.

(فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ). (مِنْ) زائدة وتفيد التأكيد، أي لم تغن عنهم شيئاً، بل جزءاً من شيء. والإغناء: الكفاية، أي ل-م تنفعهم هذه الحواس شيئاً في دفع العذاب عن أنفسهم. وهذا تنبيه وعبرة للمخاطبين، فإنّ هؤلاء لم ينقصهم إدراك ولا حواس، فماذا كان السبب في عدم إغناء ذلك عنهم شيئاً؟ ولماذا لم يتمكّنوا بقوّتهم وعقولهم أن يمنعوا أنفسهم ويحفظوها من البلاء الذي ألمّ بهم وداهمهم؟ الجواب في الجملة التالية.

(إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ). (إِذْ) ظرفية تفيد معنى التعليل، فالمعنى أنّهم لم ينتفعوا بسمعهم وأبصارهم وبما مكّنّاهم فيه، لأنّهم كانوا يجحدون بآيات الله تعالى وينكرونها. والجحود ضد الإقرار -- كم-ا ف-ي «العين»(1) - فهو إنكار مع علم وفعل (كَانُوا) يدلّ على الاستمرار، ومعنى ذلك أنّ الجحود أصبح عادتهم، وهذا ليس إلا عناداً مع الحقّ ومكابرة، فلذلك غضب الله عليهم وأنزل عليهم العذاب وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فلم تنفعهم أسماعهم وأبصارهم وعقولهم وعلومهم وحضارتهم؛ إذ لم يكن م-ا ن-زّل م-ن البلاء أمراً طبيعيّاً، بل كان عذاباً من الله تعالى.

ص: 82


1- راجع: کتاب العین 3: 72

و(حَاقَ)، أي نزل به عاقبة فعله أو مكره، قال تعالى: (وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئ إلا بِأهْلِهِ).(1) ولا يبعد أن يكون أصله حقّ، فقلب إلى حاق نحو زلّ وزال، كما في «المفردات».(2) وقيل: إنّه بمعنى أحاط به وعليه فلعلّه مأخوذ من الحوق وهو

بمعنى الإحاطة، فقلب ياءاً. والمراد بقوله: (كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) العذاب الإلهي، حيث قالوا لرسولهم باستهزاء: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا)، وهذه الجملة معطوفة على قوله: (كَانُوا يَجْحَدُونَ)، وجزء من العلّة والظرف أي أنّ عدم إغناء السمع والأبصار تحقّق بسبب جحودهم المستمر المستتبع للعذاب الإلهي، فمجموع السبب والمسبّب علّة عدم الإغناء، ولو لم يستتبع العذاب لم يصدق عدم الإغناء.

وفي «الميزان» أنّ المعنى: «لم تغن عنهم ولم تنفعهم هذه المشاعر والأفئدة شيئاً عند ما جحدوا آيات الله، فما الذي يؤمنكم من عذاب الله وأنتم جاحدون لآيات الله».(3) وحاصله أنّ قوله : (إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ) بمعنى الظرفية لا التعليل، أي أنّ السمع والأبصار لم تنفعهم يوم جحدوا بآيات الله، ونزل عل-ي-ه-م الع-ذاب بسبب ذلك، بمعنى أنّهم لم يتمكّنوا من تخليص أنفسهم من العذاب في ذلك اليوم. ولكنّه لا يناسب الإتيان بفعل (كَانُوا) ، الدالّ على استمرار الجحود، وإنّما يصحّ ما ذكره لو كان الجحود يوم نزول العذاب.

وفي «المجمع» وغيره أنّ المراد بالآية، أنّا جعلنا لهم السمع ليسمعوا كلام الله ورسالاته، والأبصار ليبصروا آياته وعبر الماضين، والأفئدة ليدركوا عظمة الخالق

ص: 83


1- فاطر (35): 43
2- مفردات ألفاظ القرآن: 266
3- الميزان في تفسير القرآن 18: 213

من خلال التأمّل في الآيات، ولكنّهم حيث جحدوا بآيات ربّهم فما أغنت عنهم سمعهم ولا أبصارهم، بمعنى أنّهم لم يستخدموها في المجال المخصّص له.(1) ولكنّه لا يناسب عطف الحيق عليه.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى)، الظاهر أنّ في قوله: (حَوْلَكُمْ)، تقديراً، أي

حول قريتكم. وهذا خطاب آخر لأهل مكّة ينبّههم أنّ القرى والمدن التي كانت حول قريتكم في قديم الزمان وكانت مسكناً لأقوام من البشر، أهلكناهم بعذاب الاستئصال ولم يموتوا حتف أنوفهم ولا بعوامل طبيعيّة، بل بمؤثّرات طبيعية عليها أمارات العذاب الإلهي، كما أسلفنا بيانه؛ أليس في هذا عبرة لكم. ولعلّ المراد بالقرى - مضافاً إلى مدينة عاد المعبّر عنها بإرم ذات العماد - مدينة سدوم التي كان يسكنها قوم لوط علیه السلام والحجر الذي سكنها ثمود، قوم صالح علیه السلام، ومدين مسكن قوم شعيب علیه السلام، فكلّ هذه المدن كانت في المنطقة العربيّة يعلم بها وبتأريخها أهل مكّة. والقرى جمع قرية، بمعنى المكان الذي يجتمع فيه الناس، وبمعنى الناس المجتمعين أيضاً من قرى الشيء، أي جمعه.

(وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لعلّهمْ يَرْجِعُونَ)، التصريف هو التغيير، أي لم نكتف بآي-ة واحدة، بل أتتهم آيات كثيرة مختلفة في الأداء وفي المدلول؛ فمنها ما تدلّ على عظمة الله تعالى وقدرته ومنها ما تدلّ على رسالة الرسول وأنّ الله تعالى يريد من البشر متابعته، وغير ذلك، لعلّهم يرجعون عن كفرهم وعنادهم. وهذا أيضاً تنبيه لأهل مكّة بأنّكم إنّما تتّبعون سننهم، حيث تواجهون الآيات بعناد أشدّ، فانتظروا مصيراً كمصيرهم.

ص: 84


1- راجع: مجمع البيان في تفسير القرآن 10- 9 : 138

(فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله قُرْبَاناً آلةٌ)، «لولا للتوبيخ ، أي أنّ آلهتهم حسب معتقدكم يجب أن ينصروهم، فلماذا لم يفعلوا؟! وقوله: (قُرْبَاناً) إما حال، أي اتخذوهم آلهة متقرّبين بهم إلى الله تعالى أو مفعول لأجله، أي للتقرّب إليه. وقربان مصدر يحتمل الأمرين، و (آلِهَة) مفعول ثانٍ، والأوّل هو الضمير العائد إلى الموصول، أي الذين اتخذوهم آلهة، ولا يمكن أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً، إذ لا يستقيم المعنى؛ فإنّهم لم يتّخذوهم قرباناً من دون الله، أي بدلاً عنه، ب-ل اتخذوهم آلهة من دونه.

والحاصل أنّ الأقوام المذكورين كانوا مثلكم يعتمّدون على آلهتهم، ويظنّون أنّهم سينصرونهم إذا أراد الله بهم سوءاً، وأنّهم يمنعونهم من الحوادث والبلايا، وكانوا يتّخذونهم آلهة كما أنتم عليه، ويرونهم شفعاء لهم عند الله ويعبدونهم بزعم أنّهم يقرّبونهم إلى الله تعالى كما قال عن لسانهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلى الله زُلْفَى).(1) ومن الغريب أنّهم أعرضوا عن عبادة الله تعالى وهي لا تليق إلا به، وتقرّبوا بعبادة غيره إليه، من دون أن يكون قد أمرهم به أو أجازه لهم أو أنزل به وحجّة. والآية هنا تؤنّبهم بأنّ الآلهة الشفعاء لم تنصرهم ولم تشفع لهم، أليس في ذلك حجّة عليكم وأنتم تتّبعون نفس النهج وتتّخذون نفس الآلهة قرباناً

إلى الله تعالى؟!

(بَل ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ). الضلال بمعنى الضياع وعدم الاهتداء للطريق. و (بَلْ) للإضراب، أي أنّهم لم ينصروهم كما توقّعوا، بل فوق ذلك ضلّوا عنهم، كما هو مقتضى طبيعة كونهم جمادات لا عقل لها. والتعبير

ص: 85


1- الزمر (39): 3

بالضلال عنهم، كناية عن عدم انتباههم لهم. وفي التعبير تهكّم فإنّ الأصنام لیست مورداً للضلال والهداية، ولكن دعوى كونها آلهة تستلزم كونها ذوات عقل وتدبير، فعبّر بذلك تهكّماً واستهزاءاً من دعوى الألوهية والشفاعة لما لا يعقل شيئاً. وهذا هو الوجه أيضاً في التعبير عن الأصنام بالاسم الموصول الخاصّ بذوي العقول وهكذا الضمائر. وقوله: (ذَلِكَ) إشارة إلى دعوى كونهم آلهة ينصرونهم، فهذا إفكهم وكذبهم وافتراؤهم الذي يتبيّن لهم فساده ذلك اليوم. والإفك في الأصل بمعنى الصرف والتحويل، ومنه قوله تعالى: (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ).(1) ويعبّر به عن الكذب، لأنّه صرف للكلام عن موافقة الواقع وهو الأصل فيه. والافتراء - كما في «العين»(2) - بمعنى اختلاق الكذب، لا النطق به مطلقاً.

ص: 86


1- الزخرف (43): 87
2- كتاب العين 280:8

سورة الأحقاف (29 - 32)

وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَنقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَبًا أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقِ مُسْتَقِيمٍ(30) يَنقَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللَّهِ وَءَامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُحِرَكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)

وَمَن لَّا تُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزِ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُوْلَبِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ(32)

(وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ). قيل: إنّ هذه الآيات لتنبيه الكفّار بأنّ هذا القرآن أثّر في نفوس الجنّ - فضلاً عن البشر - تأثيراً عميقاً، فانظروا كم أنتم بعيدون عن الحقّ ومعاندون له؟! ولكنّه بعيد، فإنّ التأثير في الجنّ وإيمانهم به ليس أمراً محسوساً حتّى يحتجّ به عليهم، فالأرجح أن يكون بياناً لحقيق-ة ت-ف-ي-د المؤمنين. ولعلّ تلك الحقيقة التنديد بالبشر المشرك والكافر في معاندتهم للحقّ مع أن الجنّ آمنوا به، بل أخذوا يدعون إليه.

و(إِذْ) متعلّق بمقدّر، أي: «واذكر إذ صرفنا...». والصرف ---- كم-ا ف--ي«المفردات»(1)- ردّ الشيء من حالة إلى حالة فالمعنى أنّهم أتوا إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بتأثير غيبي من الله تعالى، حيث أوجد في نفوسهم الداعي إلى ذلك، ولا ينافيه أنّهم أتوه بداعٍ طبيعي؛ فقد ورد في الحديث أنّهم كانوا يبحثون عن سبب منعهم السماء أو أيّ داعٍ آخر، كما هو الحال في سائر الموارد، فالله تعالى ينسب هجوم الملك الآشوري نبوخذ نصر - وهو كافر - على بني إسرائيل وسحقهم

ص: 87


1- راجع: مفردات ألفاظ القرآن: 482.

وهم مؤمنون - إلى نفسه، قال تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)،(1) مع أنّه إنّما قام بذلك بداعي الطغيان والعدوان؛ فالقلوب كسائر الأشياء كلّها بيده تعالى يقلّبها كيفما شاء.

والنفر يطلق على مجموعة من الناس، وإطلاقه على الجنّ من التوسّع، ولا یختصّ بما بین الثلاثة والعشرة كما قيل والجنّ - على ما يبدو من الآيات - موجود ذو شعور وإدراك، غائب عن الأبصار ، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ).(2) ومن هنا سمّوا بالجنّ وهو بمعنى الشيء المستور عن الحواس. وقد ورد ذكر بعض خصائص الجنّ في القرآن وفي الروايات ومرّ بعض الكلام حوله في تفسير سورة سبأ، وسيأتي بعضه في تفسير سورة الجنّ إن شاء الله تعالى والروايات مليئة بأمور خرافية، هي من صنع الوضّاعين.

وقوله: (يَسْتَمِعُونَ) حال من النفر أو صفة لهم وفي المعنى تعليل، أي صرفناهم ليستمعوا. والآية هنا تذكر حادثة ورود جمع منهم إلى مكان، حيث كانوا يسمعون الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وهو يقرأ القرآن. ومنه يعلم أنّهم كانوا يفهمون الكلام ويدركون معانيه؛ فلعلّهم كانوا يفهمون لغة العرب لقربهم منهم.

(فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا)، أي حضروا الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وهو يقرأ القرآن أو حضروا القرآن أي قراءته. ويتبيّن من هذه الجملة تأثّرهم العميق بالتلاوة الكريمة وبمفاهيم الآيات ولحنها وصوت الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، فقال بعضهم لبعض: (انْصِتُوا)، والإنصات - كما في «العين»(3)- السكوت لاستماع شيء.

ص: 88


1- الإسراء (17): 5
2- الأعراف (7): 27
3- راجع: كتاب العين 7: 106.

(فَلَمَّ قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ). (قُضِيَ)، أي انتهى، والضمير يعود إلى القرآن، بالمعنى المصدري كما مرّ و (وَلَّوْا) أي أدبروا ورجعوا إلى قومهم. والقوم الجماعة من الرجال، وإنّما أطلق على الجنّ توسعاً، كم-ا م-رّ في التعبير

بالنفر. و(مُنْذِرِينَ) حال.

ويبدو من هذه الجملة، أنّهم بمجرّد سماع الآيات ودرك المفاهيم آمنوا بالرسالة وعلموا أنّ ما سمعوه إنّما هو من آيات الله سبحانه، فلم ينتظروا لحظة بعد انتهاء الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من التلاوة، بل ولّوا مسرعين إلى قومهم لينذروهم بعذاب الله إن لم يؤمنوا بالرسالة الجديدة.

(قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى) بهذه الكلمات أو ما يفيد معناها بدأوا بإنذار قومهم. ويتبيّن من بيانهم أنّهم كانوا يؤمنون بالرسالات السابقة، فلم يكن خبر الدين الجديد غريباً عليهم، ولكن حيث أخذ الله ميثاق النبييّن أن يؤمن أتباعهم بكلّ رسالة متأخّرة، علموا أنّ من واجبهم الإيمان بالكتاب الجديد، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ مَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).(1)

وربما يستغرب من ذكرهم موسى علیه السلام مع أنّ الإنجيل نزل بعد التوراة، فيمكن أن لا يكونوا عالمين بذلك أو أنّهم لم يذكروه، لأنّ الإنجيل لا يشتمل على شريعة جديدة، بل يأمر بمتابعة التوراة، وإنّما نزل بتغييرات طفيفة وكان الغالب فيها هو رفع العقوبات عن بني إسرائيل، حيث إنّهم لكفرهم وبغيهم وعنادهم

ص: 89


1- آل عمران (3): 81

المستمرّ ابتلاهم الله تعالى بأحكام شاقّة جزاءاً لهم، فلما بعث عيسى علیه السلام رفع عنهم العذاب. قال تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)(1)، وقال: (وَعَلَى الذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرِ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أوِ الْحَوَايَا أو مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)،(2) وقال أيضاً: (وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِنتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).(3)

(مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾. (مُصَدِّقاً) حال للكتاب. وما «بين يديه»، أي ما تقدّمه

الكتب السماويّة. وهذه ميزة تدلّ على كون الكتاب من عند الله تعالى ومعنى كونه مصدقاً أنّه بخطوطه العريضة يدعو إلى نفس المنهج ونفس الدعوة وأصل الدين في جميع الشرائع أمر واحد قال تعالى: (شرعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).(4)

(يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ). يبدو أنّهم كانوا أه-ل عل-م ومعرفة بالدين الحقّ وبالطريق المستقيم، حيث وجدوا في مضامين هذا الكتاب أنّه يهدي إليهما. والحقّ هو الأمر الثابت ويقابله الباطل. والطريق المستقيم، أي الطريق الذي يهدي إلى الكمال المطلوب الذي أراد الله تعالى لخليفته في الأرض أن يحاول الوصول إليه، وتقابله الطرق المنحرفة التي لا توصل، بل كلّما ازددت

ص: 90


1- النساء (4): 160 .
2- الأنعام (6): 146 .
3- آل عمران (3): 50 .
4- الشورى (42): 13.

فيها ،توغّلاً ازددت بعداً عن الكمال المطلوب

ولا يصحّ ما قيل من أنّ سائر الطرق أيضاً توصل إلى نفس الهدف ولكنّها

ملتوية وتسير بخطوط منحنية، فيطول الطريق ويبعد الهدف ويتعب الإنسان قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ).(1) ! ولو كانت كلّها تنتهي إلى نفس الهدف، لكانت تصل في النهاية إلى سبيله. وتوغّل في الضلال من قال: إنّ كلّ الطرق مستقيمة. وقد مرّ بعض الكلام حول هذا الموضوع في تفسير الآية 52 من سورة الشورى.

(يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُحِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ). الظاهر أنّ المراد بالداعي، هو الرسول صلی الله علیه و آله وسلم واُضيف إلى الله تعالى، لأنّه يدعو إليه أو لأنّ الله تعالى هو الذي بعثه ليدعو الناس. ومن ذلك يعلم أنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم مبعوث للإنس والجنّ، وأنّه يجب على الجميع أن يؤمنوا به وبرسالته، ولا يكفي إيمانهم بالله وبالرسالات السابقة، ولذلك لم يكتفوا بالأمر بإجابة الداعي بم-ا أنّه داع إلى الله تعالى، بل يجب الإيمان به كرسول تجب إطاعته ومتابعته. وهذا بناءاً على عود الضمير في (وَآمِنُوا بِهِ) إلى الداعي لبعد احتمال رجوعه إلى الله، لأنّ الظاهر أنّهم كانوا مؤمنين بالله تعالى وبرسالة موسی علیه السلام ولا منافاة بين عود هذا الضمير إلى الداعي وعود ضمير الفاعل في قوله: (يَغْفِرْ لَكُمْ)، إلى الله تعالى. ومعنى ذلك أنّه يترتّب على إجابة الدعوة والإيمان بالداعي أنّ الله تعالى يغف-ر ذنوبكم ويجيركم من عذاب أليم، والمراد ب-ه ع-ذاب يوم القيامة؛ والإجارة الإعاذة مأخوذة من الجوار، أي يجعلكم في جواره، فإنّ الجار يحتمي بجاره.

ص: 91


1- الأنعام (6): 153

وهل أنّ (مِنْ) زائدة، فيغفر الله تعالى كلّ ذنوبهم إذا آمنوا - كما هو مقتضى أنّ الإسلام يجبّ ما قبله - أم هي تبعيضية - كما هو ظ-اه-ر اللفظ - فيغ-ف-ر بع-ض ذنوبهم؟

فيه كلام في التفاسير، ولكن لو فرضت تبعيضية فليس معناها أنّه لا يغفر بعض الذنوب، إذ ليس له مفهوم فيصدق مع غفران الكلّ أيضاً؛ فيمكن أن يكون التعبير بلحاظ احتمال عدم الغفران في ما إذا تعلّق بحقوق الآخرين أو لأيّ جهة أخرى، فإنّ غفران الذنوب ليس أمراً حتميّاً، والعبد يجب أن يكون بين الخوف والرجاء. وسيأتي تفصيل الكلام فيه إن شاء الله تعالى في تفسير سورة نوح في قوله تعالى: (يَغْفِرُ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ).(1)

(وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزِ فِي الأَرْضِ) ، أي أنّه لا يعجز الله تعالى م-ن محاسبته ومعاقبته في الدنيا والآخرة. وقوله: (في الأرْضِ)، تأكيد على عدم وجود المهرب ، أي أنّ الأرض على رحبها ليس فيها مهرب له، فأين ما ذهب فهو تحت السيطرة، وليس معناه التحديد بالكرة الأرضية، بل لا مهرب له في الكون كلّه، وإنّما هو تعبير عن ضيق الخناق عليه أين ما كان.

(وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ)، أي لا يمكنه الفرار بنفسه وليس هناك من ينصره من دون الله والولي هنا بمعنى الناصر ، ومعنى الجملة أنّه لا ناصر له إلا الله وهو لا ينصره، فإن معنى (مِنْ دُونِهِ) أي غيره وبدلاً عنه، فلو كان له ناصر فهو الله تعالى وهو لا ينصره، وذلك لأنّ النصرة في مواجهة عقاب الله تعالى وإرادته غير ممكن لأيّ شيء؛ إذ كلّ ما في الوجود مخلوق له وتحت إرادته وسلطانه، فلا ي-ق-اوم

ص: 92


1- نوح (71): 4.

إرادته شيء ولا يمكن لأيّ شيء ولأيّ أحد أن يسير في اتّجاه غير ما أراده الله تعالى وأذن به إذناً تكوينيّاً.

(أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ، المراد بالمشار إليه من لا يجيب داعي الله تعالى من الجنّ والإنس وهو يتوهّم أنّ هناك في الكون مفرّاً ومهرباً من عذاب الله تعالى ومحاسبته. والإتيان باسم الإشارة للجمع باعتبار المصاديق وإن كان التعبير مفرداً قبل ذلك. وإنّما كانوا في ضلال واضح، لأنّهم يتوهمون أنّ بإمكانهم مقاومة إرادة الله تعالى ولم يعلموا أنّ كلّ ما يفعلونه من خطأ وصواب ليس إلا تحت السيطرة ولا يمكنهم فعل شيء إلا بإذنه.

ويبدو من البيان أنّ من الجنّ أيضاً من هو بهذه الدرجة من الغباء ويخفى عليه هذا الأمر الواضح، فمن الخطأ الفادح ما يتوهمه بعض المغفلين من أنّ الجنّ لا يخفى عليهم شيء، ويحسبون أنّ لهم قدرة خارقة في معرفة الأشياء والتصرّف فيها، ولذلك عمدوا إلى التوسّل بهم لحلّ مشاكلهم. قال تعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً)،(1) وقال أيضاً: (فَلَا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن أن لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ المُهِين).(2)

ص: 93


1- الجنّ (72): 6
2- سبأ (34): 14

سورة الأحقاف (33 - 35)

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَدِرٍ عَلَى أَن تَحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(33)وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ(34)فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل هُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا

موج يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَلعْ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَسِقُونَ (35)

(أوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الموْتَى) الضمير في (يَرَوْا) يعود إلى كفّار مكّة، والسياق يعود إل-ى م-ا إبتدأ ب-ه السورة من خطاب المشركين المنكرين للمعاد، بدعوى عدم إمكان الإحياء بعد الموت. والمراد بالرؤية العلم، إذ ليس هذا الأمر من المبصرات، بل يدرك بالتأمل والمقايسة إلا أنّ المعلوم إن كان واضحاً جدّاً يعبر عن العل-م ب-ه بالرؤية، كأنّه من شدّة وضوحه محسوس ومبصر. والأمر هنا كذلك، فإنّ القادر على إيجاد الأشياء من العدم وإبداعها من غير مثال يحتذى، قادر على إعادة الحياة إلى الأموات بطريق أولى والسماوات والأرض - كما قلنا مراراً -- تعبي-ر ع-ن الكون كلّه، ولا شكّ في أنّه أوجد بعد إن لم يكن موجوداً. والله تعالى خلق الكون من دون أن يؤثّر فيه ذلك شيئاً، فهو لا يعجز ولا يتعب ولا يتحيّر، وبكلّ ذلك فسّر العيّ.

(بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (بَلَى) يؤتى بها جواباً للنفي وتفيد نفي النفي، كقوله :تعالى: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)،(1) أي أنت ربّنا والنفي هنا وإن ورد على الرؤية،

ص: 94


1- الأعراف (7): 172

ولكنّ المعنى: أليس الله بقادر؛ ولذا أتي بالباء على الخبر، والباء زائدة يؤتى بها للتأكيد على خبر النفي نحو وما هو بميت».

والنتيجة التي تحصّل من ملاحظة خلق الكون من دون أيّ تأثّر هو عموم القدرة على كلّ شيء، والمراد بالشيء هنا كلّ ما يمكن أن يوجد في حدّ ذاته. والاعتراف بوجود الله تعالى ملازم للاعتراف بعموم القدرة، لأنّ قولنا هذا الشيء يمكن أن يوجد مساوق للقول بأنّ الله تعالى قادر على إيجاده؛ إذ لا وجود إلا منه، فإمكان وجوده مساوٍ لقدرة الله عليه.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ اليْسَ هَذَا بِالحَقِّ) أي واذكر يوم يعرض. وقد مرّ الكلام في معنى العرض في تفسير الآية 20 من نفس السورة، وأنّ المراد إراءة النار لهم لا الدخول فيها، والإتيان بالجملة التالية: (أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ ) من دون أن يذكر قبلها «قيل» مثلاً، لبيان أنّ العرض كان لذلك، فلا بدّ من تقدير القول.

والاستفهام هنا للتقرير، وأخذ الإقرار منهم بعد أن كانوا ينكرونها ويصرّون على الإنكار مستكبرين، وفي هذا تحقير وتهكّم وتعذيب، وقد مرّ أنّ المراد بالتعذيب ظهور الحقائق جليّة ممّا يتعذّب منها الإنسان بالطبع، ومنها ظه-ور العذاب ،ومصدره أي جهنّم ، فهم يتعذّبون من نفس ظهور الحقيقة التي أنكروها. والغرض من بيان ذلك منع الإنسان من التسرّع إلى إنكار ما لا يمكنه دركه، فإنّه يتعذّب بظهوره يوم القيامة أو قبلها، كمن ينكر ظهور الإمام المهدي - سلام الله عليه - لا لشيء إلا لأنّه يستحيل عنده بقاء الإنسان حيّاً طيلة هذه المدّة، أو أنّه يستغرب وجود إنسان لا يعلم بمكانه أو بشخصيته أحد، أو أنّه أنّ ذلك ينافي الحكمة!!! وكلّ هذا من جهل الإنسان بمقام ربّه، وهذا الإنكار ليس إلا

ص: 95

كإنكار يوم القيامة لاستبعاد إحياء كلّ هذا البشر الذي مربت على موتهم وفنائهم القرون.

(قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا)، لماذا الحلف وهو واضح بالعيان؟ قيل: كأنّهم يحلفون طمعاً في النجاة، وهو بعيد، ويمكن أن لا يكون هناك استفهام ولا جواب ولكنّ العرض بنفسه يقتضي السؤال والجواب وكذلك يقتضي الحلف، فإنّه في الواقع يشتمل على أمرين؛ التأكيد على الأمر الواقع وأنّهم قد أدركوه ولا يسعهم إنكاره، والثاني: الإقرار بالربوبية، وكلّ هذا يظهر منهم بوضوح، حتّى لو لم ينطقوا به، فليس كلّ ما يعبّر عنه ب- «القول» يوم القيامة نطق وقول، كما هو المعهود، بل هو بروز الحقّ من الشيء كأنّه يقوله، بل هو أبرز وأقوى دلالة من القول. ومنه ما ينسب من القول إلى جهنّم وإلى الأصنام مثلاً، ومن ذلك أيضاً ما ينسب من القول إلى الكفّار ، فهم يعترفون بكلّ وجودهم - لا باللسان فحسب - بأنّ الله تعالى ربّهم، وهم يجدون ويشعرون بكلّ وجودهم أيضاً أنّ ما حصل لهم ليس إلا مقتضى ربوببية ربّهم، وأنّ ما يعذّبون به هو النتيجة الطبيعية لعملهم.

(قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ)، الضمير في (قال) يعود إلى الربّ جلّ وعلا. وهذا أيضاً من قبيل ما سبق ذكره، فإنّ هذه الجملة قد لا تكون خطاباً في الحقيقة من الله تعالى في ذلك اليوم، وإنّما هي كناية عن بروز هذه الحقيقة، أي تذوّقهم للعذاب بسبب كفرهم، فإنّ ظهور الحقائق لمن كان يكفر بها موجب لتذوّق العذاب وهو أمر طبيعي، ونحن لا نشعر في هذه الحياة مدى تأثير هذه الأمور في تعذيب الإنسان، وإنّما يتبيّن هذا في ذلك اليوم الذي تظهر فيه الحقائق بصورتها الواقعية.

ص: 96

(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)، أي حيث إنّ الحقائق ستظهر في ذلك اليوم، فاصبر على كفرهم وعنادهم وتكذيبهم، كما صبر الرسل من قبلك. وفي هذه الجملة تسلية للرسول صلی الله علیه و آله وسلم و تطمين لخاطره الشريف، وفي نفس الوقت تأكيد على أنّ الدعوة إلى الله تعالى طريق شائك، لا بدّ فيه من الصبر والمقاومة، وقد أدّب الله تعالى رسوله وملأ قلبه صبراً وقوّة، فكان يصبر على إيذاء الجهّال والفسّاق من قومه صبراً عظيماً حتّى بلغ غايته، وتمكّن من نشر دعوته بالرغم من قساوة أعدائه وشقائهم.

والسؤال هنا: من هم أولوا العزم من الرسل؟ وما هو المراد بالعزم؟

قيل : هم أصحاب الشرائع، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبيّنا - سلام عليهم - وقد ورد التصريح به في عدّة من الروايات وعلى ذلك يكون المراد بالعزم الشريعة - باعتبار شمولها - على ما يجب العمل به قطعاً والعزم في اللغة القطع ، ويقابل العزيمة الرخصة. وقد ورد ذكر هذه المجموعة من الرسل بما يلوح منه أنّهم هم أصحاب الشرائع في سورة الشورى، قال تعالى: (شرعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).(1) وورد ذكرهم بالخصوص بعد ذكر النبيّين عامّة في سورة الأحزاب: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً).(2)

هذا، ولكن لم يرد في القرآن توصيفهم بأولي العزم. وأمّا الروايات التي أشرنا

ص: 97


1- الشورى (42): 13
2- الأحزاب (33): 7

إليها، فلا يصح شيء منها سنداً، والأنسب بالمعنى اللغوي للعزم وهو القطع أن يكون المراد بالعزم في الآية الكريمة العزيمة والجدّ. وقد ورد العزم بعد ذكر الصبر في قوله تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(1)، ومثلها قوله تعالى: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ).(2) وقوله: (وَلَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ).(3) وهنا أيضاً ورد بعد الأمر بالصبر - ممّا يدلّ بوضوح - على أنّ المراد بالعزم ما يناسب الصبر، فلا يختصّ بأصحاب الشرائع من الرسل، ب-ل كلّ من كان منهم صابراً على ما أوذي في سبيل الله تعالى، ولذلك قال بعضهم: إنّ (مِنْ) بيانية وليست تبعيضية، وذكر المفسّرون في تحديد أولي العزم وجوهاً من دون مستند

و مع ذلك، فلا مانع من توصيف من ذكر من الرس-ل ب-أولي العزم، بمعنى

أصحاب الشرائع لما ذكرناه. إنّما الكلام في حمل الآية على هذا المعنى، والأنسب بالأمر بالصبر هو أن يكون المراد بالعزم الجدّ وتحمّل المشاكل. وهذا الأمر مشهود في سيرة كثير من الرسل، بل كلّهم، ولا يختصّ بأصحاب الشرائع، بل لعلّه ظهر من بعض الرسل من غيرهم أكثر ممّا ظهر من بعض أصحاب

الشرائع. (وَلا تَسْتَعْجِلُ هُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ). خطاب للرسول صلی الله علیه و آله وسلم مترتّب على الأمر بالصبر والعزم، أي لا تستعجل لمجازاتهم، فإنّ يوم القيامة ليس بعيداً كما يتوهّمون، وقد قال الله تعالى: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ

ص: 98


1- آل عمران (3): 186
2- لقمان (31): 17
3- الشورى (42): 43.

قَرِيباً).(1) والآية تصوّر حالة الإنسان يوم القيامة - وهو اليوم الذي يرون فيه ما يوعدون، أي نتائج أعمالهم في الدنيا، فهم في ذلك اليوم يشعرون أنّهم لم يلبثوا

إلا ساعة من نهار.

والساعة تطلق على أيّ جزء من الزمان، قليلاً كان أو كثيراً. وتقييد الساعة بكونها من نهار، لعله للتنبيه على كونهم إيقاظاً منتبهين لما يدور حولهم، فليس عدم إحساسهم بطول الزمان ناشئاً من نومهم طيلة هذه المدّة، كما حصل لأصحاب الكهف. ومثلها قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشرهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةٌ مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ).(2)

والكلام هنا في أنّه ما هو المراد من اللبث هل المراد بقاء الإنسان في الحياة

الدنيا أم بقاؤه في عالم البرزخ بعد الموت إلى قيام الساعة؟

يمكن أن يقال بالأوّل باعتبار أنّ الذي يلاحظ الأبدية عند قيامه يوم القيامة لا يعتبر أمد الحياة الدنيا بأسرها زماناً طويلاً مهما طالت المدة، أو باعتبار أنّ كلّ

إنسان يلاحظ مدّة بقائه شخصيّاً، وهو زمان قصير جدّاً، ولا يلاحظ مع-ه زم-ان بقائه في البرزخ، لأنّ قيامة كلّ إنسان تتحقّق بموته.

ولكنّ الظاهر أنّ المراد بالآية تقليل الفاصلة بين الدنيا والآخرة، أي عالم البرزخ لا اعتبار زمان الدنيا قليلاً بالنسبة إلى الآخرة. فإنّ الإنسان يتوهّم أنّ الأمد بعيد إلى يوم القيامة، حيث مرّت القرون على القرون السابقة ولم تقم القيامة، وسيمرّ علينا أيضاً قرون، وغريب أمر هذا الإنسان الظلوم الجهول أنّ طول الأمد

ص: 99


1- المعارج (70): 6- 7
2- يونس (10): 45

يغريه ويغويه، مع أنّه لو عقل الأمر لم يكن يهتمّ به؛ فإذا كان المفروض أنّ الحساب واقع لا محالة وأنّ الإنسان باق إلى الأبد، فلا فرق بين كونه بعيداً وقريباً. ولكن هكذا يمنّي الإنسان نفسه، والله تعالى يبّين له في هذه الآية وغيرها أنّ الأمد ليس بعيداً ، وأنّ هذه القرون تعبر على الإنسان من دون أن يشعر بها،

فإذا قامت القيامة ورأى ما وعده ربّه يجد أنّه لم يمكث طويلاً بعد موته.

وهذا المعنى ورد في آيات أخرى أيضاً منها آية سورة يونس التي مرّت آنفاً، ومنها قوله تعالى: (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلاً)،(1) وقوله تعالى: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْراً * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْماً)،(2) وقوله تعالى: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرض عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَو بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ لم إلا قليلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)،(3) وقوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العلم والإيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابٍ الله إلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ)،(4) وقوله تعالى: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةٌ أو ضُحَاهَا).(5) ومرّ الكلام حولها في تفسير سورة الروم، وحاصل ما ذكرنا أنّ الآيات - على الظاهر - تشير كلّها إلى حقيقة واحدة وهي أنّ الإنسان يتوهّم في هذه الحياة أنّ القيامة بعيدة وأنّ الآلاف من السنين، بل لعلّ

ص: 100


1- الإسراء (17): 52
2- طه (20): 102 - 0104
3- المؤمنون (23): 112 - 114.
4- الروم (30): 55-56
5- النازعات (79): 46

الملايين منها تمرّ علينا قبل أن تقوم القيامة. ولكنّه يصطدم يوم الحشر بأمر

غريب، وهو انّه يجد ويشعر أنّه لم يمض عليه إلا زمان ،قصير عبّر عنه في القرآن في موضع بأنّه يوم، وفي موضع أنّه عشيّة أو ضحاها، وفي موضع أنّه

ساعة من النهار.

ويبدو من بعض الآيات أنّ ذلك مجرّد توهم وليس على وجه الحقيقة، كما هو ظاهر الظنّ في قوله تعالى: (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلاً)،(1) وأيضاً آية سورة الروم؛ فإنّ المعنى على الظاهر أنّ أهل العلم والإيمان، وهم الأنبياء والأئمّة المعصومون علیهم السلام ينبهون الناس أنّهم بقوا في تقدير الله تعالى ما شاء الله إل-ى ي--وم البعث، ولا يعلم أمده إلا هو، والناس على ما ورد في الآيات والروايات مختلفون؛ فبعضهم عند ربّهم يرزقون، وبعضهم يعرضون على النار بكرةً وعشيّاً، وأكثر الناس يمرّ عليهم الزمان وهم في غفلة، ولذلك يظنّون أنّهم ما لبثوا غير ساعة أو يوماً أو عشراً، وبذلك يتبيّن وجه التشبيه في قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ) وأنّ ذلك بلحاظ توهّمهم، وليس أمراً واقعياً، ومهما كان فالزمان يمرّ عليهم وهم لا يشعرون.

وقد ورد في «الكافي» عدّة أحاديث متقاربة المعنى وبعضها معتبرة سنداً؛ منها رواية أبي بكر الحضرمي قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «لا يُسْأَلُ فِي الْقَبْرِ إِلا مَنْ تَحَضَ الإيمان مَحْضاً أو مَحَضَ الْكُفْرَ مَحْضاً، والآخَرُونَ يُلْهَى عَنْهُمْ».(2)

والمفسّرون غالباً يفرّقون بين الآيات فيفسّرون بعضها على أنّ المراد مقدار

ص: 101


1- الإسراء (17): 52
2- الكافي 3: 235.

الحياة في الأرض ، وبعضها على أنّ المراد عالم البرزخ أو مجموع المرحلتين، ولكن حمل الآيات على الحياة الأرضية لا يصح، لأنّهم يعلمون مقدار الحياة الدنيا إلا إذا كان المراد أنّهم يقارنون بين زماني الحياتين الدنيا والآخرة، ويجدون أنّ الحياة الدنيا كأنّها ساعة بالنسبة إلى الحياة الأبدية هناك. ولكن هذا المعنى لا يناسب ما يظهر من الآيات من أنّهم يظنّون ذلك ويشعرون به، وكذلك ما يظهر منها من أنّ هذا التقدير يبرزونه بمجرّد الحشر والحضور في تلك النشأة،مع أنّ المقارنة لا تتمّ إلا بعد الشعور بالأبدية وطول المدّة.

مضافاً إلى أنّه لم يظهر للتنبيه عليه هنا وجه. وأمّا ما ذكرناه، فإنّ وجهه - كما

ذكرنا - تسلية الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، بعدم استعجال العذاب لهم، فإنّ العقاب ال- الأخروي ليس بعيداً عنهم كما يظنّون، فإنّهم لا يشعرون بمرور القرون، بل يرونها يوماً واحداً وأمّا أنّ حياتهم في الدنيا مهما طالت فإنّها قصيرة بالقياس إلى الأبدية، فإنّه لا يناسب عدم الاستعجال.

(بلاغ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ)، (بلاغ) خبر لمبتدأ محذوف، أي هذا بلاغ، وهو إمّا مصدر من بلغ يبلغ بلوغاً وبلاغاً، ومعناه الكفاية، والمعنى أنّه أيّ القرآن أو هذا البيان غاية في الوعظ ، فلا يمكن الوعظ بأبلغ منه، فهو كافٍ لم-ن كان له قلب واعٍ، وأطلق المصدر للمبالغة، وإمّا اسم مصدر من الإبلاغ والتبليغ، فالمعنى أنّه إبلاغ وتبليغ للجميع والاستفهام بعده للإنكار، أي لا يهلك إلا القوم الفاسقون.

والهلاك في الأصل - على ما يبدو - بمعنى السقوط، كما في «معجم

ص: 102

المقاييس»،(1) فيطلق على الموت، كقوله تعالى: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ)،(2) ويطلق على الزوال والانعدام أيضاً، كقوله تعالى: (هَلَكَ عَنِّي سلطانية)،(3) ويطلق على سوء العاقبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً، كقوله تعالى: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ).(4) والإهلاك هنا بهذا المعنى وفاعله هو الله تعالى. والفسق من مصطلحات القرآن ولم يرد في كلام العرب وصفاً للإنسان وإنّما قالوا: «فسقت الرطبة»، إذا خرجت عن قشرتها، ولعلّ المصطلح القرآني ناظر إلى خروج الفاسق عن طاعة ربّه، فلا يختصّ بالكافر والمشرك كما قيل.

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على نبيّنا محمّد وآله الطاهرين.

ص: 103


1- معجم مقاييس اللغة 6: 63
2- النساء (4): 176
3- الحاقة (69): 29
4- الأنعام (6): 26.

ص: 104

تفسیر سورة محمد صلی الله عله وآله وسلم

اشارة

ص: 105

ص: 106

سوره محمّد(1-3)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَلَهُمْ (1) وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ وَءَامَنُوا بِمَا نُزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن بّهِمْ كَفَرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَاهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَتَّبَعُوا الْبَنطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّبَعُوا الحَقِّ مِن نَهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثَلَهُمْ (3)

هذه السورة مدنيّة كما هو واضح من سياق آياتها، وسميت سورة محمّد صلی الله علیه و آله وسلم لذكر اسمه الشريف في بدء السورة، وتسمّى سورة القتال أيضاً، لما ورد فيها من الأمر بالقتال، بل هو الطابع العامّ لها، وفيها أيضاً تعرّض لحال المنافقين وصفاتهم وموقفهم من الحرب، ولها صبغة خاصّة حيث تكرّر التعرّض للفرق بين الإيمان والكفر، والمؤمنين والكافرين وصفاتهم وجزائهم يوم القيامة، وكذلك المؤمنين والمنافقين، ولذلك ورد في الحديث عن أهل البيت علیهم السلام أنّها نزلت آية فينا وآية في عدوّنا،(1) وروى بعض العامة عن أمير المؤمنين علیه السلام لأنّها نزلت آية فينا وآية في

ص: 107


1- راجع: تفسير القمي 2: 301

بني أمية،(1) ولعلّ المقصود انطباق آياتها بوضوح في الموردين وإن كانت عامّة شاملة.

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبيل الله أضَلَّ أعْمَاهُمْ). تبدأ السورة بمقارنة بين مشركي مكّة والمؤمنين الصالحين والعنوان في كلّ من الفريقين يشير إلى الاختلاف الجوهري بينهما، فالمشركون ميّزتهم الكفر والصد عن سبيل الله

تعالى والمؤمنون ميّزتهم الإيمان والعمل الصالح والإيمان بالرسالة وبالحقّ. وتشير الآيات إلى ما يترتّب على هذا الفرق، فالقسم الأوّل عملهم باطل هباء، حتّى لو كان في حدّ ذاته خيراً، والقسم الثاني تظهر أعمالهم الصالحة وتُمحى سيّئاتهم كأنّهم لم يرتكبوها، فشتّان ما بين الفريقين.

ويتّضح من السياق أنّ السرّ في البدء بهذه المقارنة مع التصريح بتأييد المؤمنين وتفنيد كيد الكافرين، هو التمهيد للأمر بالقتال وتحريض المؤمنين وتقوية شوكتهم وصلابتهم وعزيمتهم لمواجهة جنود الشيطان، الذين لا يرتدعون ولا يبغون في الأرض إلا الفساد.

ويبدو من موارد إطلاق هذا العنوان: (الَّذِينَ كَفَرُوا) في الكتاب العزيز، أنّ المراد بهم مشركو مكّة، الذين ناصبوا العداء والحرب للإسلام، ولم يتركوا الرسول صلی الله علیه و آله وسلم يستمرّ في دعوته ويمارس واجبه الإلهي حتّى بعد أن تركهم والتجأ إلى يثرب.

والصدّ يستعمل في معنيين: الإعراض والمنع وكلاهما ينطبق-ان عليهم، فهم أعرضوا عن سبيل الله تعالى واتّبعوا سبيل الهوى والفساد في الأرض، وهم أيضاً

ص: 108


1- راجع: الدر المنثور 6: 46

كانوا يمنعون الناس من التوجه إلى الرسول صلى الله عليه و اله و سلم والاستماع لكلامه والإيمان به. وكانوا يبذلون غاية جهدهم ولا يتوانون عن أيّ عمل في سبيل منع الناس من الالتفاف حوله صلی الله علیه و آله وسلم، سواء قبل الهجرة وبعدها، وكانوا يمنعون القبائل من التوجّه إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ويقطعون الطرق ويصرفون الأموال في سبيل ذلك.

وظاهر الآية هو الشمول لكلّ من يصدّ عن سبيل الله على اختلاف طرقهم ومشاربهم، وقيل: إنّها نزلت في أشخاص بعينهم؛ لأنّهم نحروا الإبل في تأليب الناس لحرب بدر وتسابقوا في ذلك وتفاخروا.

والمراد بسبيل الله السبيل الذي عيّنه الله تعالى للناس، ليسلكوه في شؤون

حياتهم، أي الشريعة أو السبيل الذي يوصل إلى رضاه والزلفى لديه تعالى. وإضلال الأعمال، بمعنى جعلها تضلّ طريقها ولا تصل إلى الهدف المقصود

بها، فكأنّها قافلة ضلّت الطريق في الصحراء.

وأمّا الأعمال، فيحتمل أن يكون المراد بها كلّ ما يعتبرونه عملاً صالحاً ومفيداً يأملون أن ينالوا به الخير في الدنيا، بل حتّى في الآخرة على تقدير وجودها وإن كانوا لا يؤمنون بها. وإضلالها يتمّ في الدنيا بعدم نيلهم الخير الذي يتوقّعون؛ وفي الآخرة بإحباطها، فكأنّها لم تقع من أصلها، كما ورد في آيات عديدة، كقوله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنثُوراً).(1)

ويحتمل أن يكون المراد بها جهودهم التي كانوا يبذلونها لإخماد ن-ور الإسلام والإطاحة بقدرة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وإضلالها يتمّ بعدم بلوغها أهدافها، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَاهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ

ص: 109


1- الفرقان (25): 23

عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشرونَ).(1) وهذا المعنى أقرب وأنسب لآيات القتال وحالة الحرب المعلنة.

ولكن ربما يقال: إنّ المعنى الأوّل أنسب بالمقابلة، لتكفير السيّئات للمؤمنين، وذلك على أساس أنّ إضلال أعمال الكفّار، بمعنى أنّ أعمالهم الحسنة تضلّ

وتُمحى وتبطل في ظلمات كفرهم وسيّئاتهم بخلاف المؤمنين، فإنّ سيّئاتهم تنمحي في ظلّ إيمانهم وأعمالهم الصالحة.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَاهُمْ).

تبيّن من السياق أنّ السورة إنّما نزلت لتحريض المؤمنين على القتال ذلك ومع

فالقرآن لا يترك الدور التربوي، الذي هو الهدف الأسمى من الرسالة، فلا يعبّر عن فريق المؤمنين بالذين آمنوا فقط، حيث يشمل كلّ من آمن ظاهراً وبايع الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، بل يقيّد الإيمان بالعمل الصالح لإخراج المنافقين والذين في قلوبهم مرض، بل حتّى ضعفاء الإيمان، حيث لا يظهر أثر الإيمان بارزاً في عملهم.

ثمّ إن التقييد بالإيمان بما نزّل على محمبد صلی الله علیه و آله وسلم، مع أنّه جزء من الإيمان المذكور قبله على الظاهر؛ لعلّه للتأكيد على أنّ الإيمان بالله تعالى لا يكفي في سلوك سبيل الله تعالى والانخراط في الصفّ المقابل للصفّ الكافر، بل لابدّ من الإيمان بالرسول والرسالة معاً، كما يشير إليه توصيف الرسالة والكتاب بأنّه نُزِّل على محمّد صلی الله علیه و آله وسلم.

ص: 110


1- الأنفال (8): 36

ومن هنا يتبيّن الوجه في التصريح بالاسم الكريم دون التعبير برسول الله والنبيّ ونحو ذلك، كما هو الحال في سائر المواضع. ويبدو من هذا الأمر أنّ النفاق في ذلك العهد كان مشابهاً لما في هذا العهد، حيث يحاول بعض المنافقين الاستهانة بدور الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، بل النيل من شخصيته الكريمة، وأنّه لم يكن إلا وسيطاً في الإبلاغ، وأنّ من يسمع كلام الله تعالى عن طريقه، قد يكون أدقّ فهماً لمغزى الكتاب من الرسول الذي جاء به!!! فكما نجد اليوم أشخاصاً من هذا القبيل كذلك كان في عهد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.

والجملة المعترضة: (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) لتعليل إيمانهم بذلك، فهم لإيمانهم بربّهم يؤمنون بكلّ ما ينزل من قِبلَه والألف واللام في قوله: ﴿وَهُوَ الْحَقُّ) لإفادة

الحصر، والمراد به الحصر الإضافي، فالثقافات الدينيّة الموجودة في ذلك العهد، كلّها باطلة إلا ما نزّل على الرسول صلى الله عليه و اله و سلم ولا ينافي كون الشرائع السابقة حقّاً نازلاً من عند الله تعالى.

هذا، والعلامة الطباطبائي رحمه الله(1) اعتبر التقييد بالإيمان الثاني تقييداً احترازياً بدعوى أنّ الإيمان الأوّل إيمان بالله تعالى، فلا يختصّ بالمؤمنين بالرسالة ولكنّه بعيد؛ لأنّ المراد بالذين كفروا في مصطلح القرآن مشركو مكّة، كما صرّح به العلامة نفسه في عدّة موارد، ويقابلهم المؤمنون بالرسالة، لا كلّ من آمن بالله تعالى، كما صرّح أيضاً بأنّ المراد بالذين آمنوا في مصطلح القرآن كلّ من آمن بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم.(2)

ص: 111


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18 :223 .
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن 9 :141

نعم، لو لم يقيّد بالعمل الصالح، أمكن القول بأنّ التقييد بالإيمان الثاني لإخراج المنافقين ونحوهم، حيث إنّهم لم يؤمنوا بكلّ ما نزل على الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وإن أسلموا ظاهراً، ولكن يكفي في إخراجهم التقييد بالعمل الصالح.

وتكفير السيّئات بمعنى سترها، وقد ورد تكفيرها في مواضع متعدّدة من الكتاب العزيز، والمراد أنّ الله تعالى بسبب بعض الأعمال يستر السيّئات عن المؤمنين، مضافاً إلى تجنيبهم العقوبة يوم القيامة، حتّى لا يصيبهم الخجل ولا يفتضحون بسبب أعمالهم السيّئة.

وليس المراد بالسيّئات كلّ عمل محرّم وكلّ جريمة وجناية، بقرينة مقابلتها

بالكبائر في قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ).(1) ويحتمل أن يكون المراد به هنا - بمناسبة أنّ الهدف من السورة المباركة الحثّ على الجهاد - ستر الأعمال غير الصالحة التي تنافي الاستعداد للمواجهة، ويتمّ التكفير بمنعها من البروز والتأثير في نفوس المجاهدين.

واختلف في معنى «البال»، فقيل: إنّه بمعنى الحال الذي يكترث به ويهتمّ. وعليه فيمكن أن يراد بإصلاحه، جعله صالحاً لبلوغ المقصد والغاية. وهذا يشمل كلّ الجوانب التي يحتاج المجتمع الرسالي إلى إصلاحها قبل دخوله الصراع، مع المناوئين للرسالة التي تحمّل أعباء ،تبليغها، سواء كان من الجانب المادّي أو المعنوي، ولذلك فإنّ كلّ مستلزمات الانتصار على الأعداء كانت مهيّأة للمجتمع ،الإسلامي، آنذاك بفضل الله ورحمته.

ويمكن أن يراد ما هو أعمّ من ذلك، أي لا يختصّ بشؤون مواجهة الأعداء،

ص: 112


1- النساء (4): 31

فيكون إصلاح ب-ال المؤمنين بمعنى إصلاح أحوال الأشخاص من الجهات النفسية والمعنوية؛ فإنّ المؤمن لإيمانه بالله تعالى وركونه إلى القدرة اللامتناهية ووثوقه بها لا يهزّ كيانه شيء ولا تزعزع إيمانه الأباطيل ولا ينتابه اليأس والقنوط. وأمّا الشؤون المادية، فتتّبع معرفة الإنسان بالعوامل الطبيعيّة والأسباب التي جعلها الله تعالى، وتتّبع أيضاً همّته وإرادته.

وقيل : معنى البال، رخاء العيش ومعنى إصلاحه واضح، إلا أنّه لا يناسب

آيات القتال.

وقيل معناه الشأن وهو معنى عامّ وهو المراد حين يقال: م-ا بال-ك؟ كما قال تعالى: (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ (الأولى).(1) وإصلاحه يشمل م-ا م-رّ في تفسيره بالحال المكترث به ولعلّ التفسيرين يرجعان إلى معنى واحد.

وفي «معجم المقاييس: «البال بال النفس، يقال ما خطر ببالي، أي ما اُلقي في رُوعي. ومن هذا الباب تفسيره بالخاطر ونحوه»؛(2) وعليه فالمراد بإصلاحه إلهامهم الطمأنينة والاستقرار وثبات القلب وهو أنسب بآيات القتال.

والظاهر أنّ كلّ ما قيل في تفسيرها صحيح، فهي كلمة لها معان متعدّدة حسب موارد الاستعمال.

(ذلِكَ بأنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتْبَعُوا الْبَاطِلَ وَانَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ)، تعليل للتفصيل المتقدم و (ذَلِكَ) مبتدأ وما بعده خبره. قيل : هذا التعليل توضيح لتعليل مفهوم من نفس الكلام السابق وهو ما يسمّيه علماء البيان تفسيراً، وذلك لأنّ قوله تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله أَضَلَّ أَعْمَاهُمْ)، يشعر بأنّ العلّة في الإضلال،

ص: 113


1- طه (20): 51
2- معجم مقاييس اللغة 1: 321

هو الكفر والصدّ، كما أنّ الجملة التالية تشعر بأنّ العلّة في التكفير وإصلاح البال، هو الإيمان والعمل الصالح؛ فهذه الجملة التعليلية تبيّن ما انطوت عليه الآيتان من التعليل وتفسّره.

وهذا غير صحيح وينافي ما ورد بعد الجملة التعليلية، من أنّ هذا ضرب للأمثال وبيان للقاعدة الأساسية للناس حتّى يطبّقوها على أنفسهم، ويعلم بذلك أنّ الحكم لا يختصّ بذلك العصر وبالكافرين والمؤمنين، فالسبب الحقيقي لإضلال أعمال الكافر وإصلاح بال المؤمن، هو أنّ الكافر يتّبع الباطل والباطل ذاهب وزاهق لا أساس له ولا جذور. وربما يكون له ظاهر أنيق ولكن باطنه فاسد؛ والمؤمن يتّبع الحقّ الذي يأتيه من ربّه، والحقّ هو الأمر الثابت الذي يعتمد على ما أنزله الله تعالى من البيّنات؛ فلذلك ضلّت أعمال الكافر وصلح بال المؤمن وسترت سيّئاته. وعلّة الحكم تعمّم وتخصّص؛ فإنّ المناط ليس هو الكفر ،والإيمان بل متابعة الحقّ والباطل.

بيان ذلك، أنّ الذي يتّبع الحقّ يستهدف بعمله هدفاً صحيحاً واقعياً ويسلك طريقاً صحيحاً موصلاً؛ فلا شك أنّه يصل إلى هدفه وهو الحقّ؛ والذي يتّبع الباطل يرى سراباً وخيالاً وأمراً موهوماً. ولو فرض أنّه رأى هدفاً واقعياً صحيحاً، إلا أنّه يسلك طريقاً معوجّاً منحرفاً، يبعّده عن الهدف كلّما توغل فيه. وفي الواقع من لا يؤمن بالله ليس له هدف طويل الأمد، فهو لا يرى الآخرة، وإنّما يستهدف بأعماله الغايات الدنيئة الزائلة في الحياة الدنيا، وهي ليست في الواقع هدفاً يناسب الإنسان وكرامته وعقله ومواهبه وإنّما تناسب الحيوانات، فالإنسان يوم القيامة حينما تنكشف له الحقائق، يعلم أنّه إنّما كان يركض وراء خيال وسراب، قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَاهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيئاً

ص: 114

وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ).(1)

وهناك من يؤمن بالله تعالى وباليوم الآخر فهدفه حقّ، ولكنّه يسلك طريقاً خاطئاً، فلا يتّبع الرسول ولا يأتمر بأوامره ولا ينتهي عن نواهيه أو يدّعي متابعته، ولكنّه يأخذ الشريعة عن غير الطريق الذي عيّنه الرسول من بعده؛ فإنّ كلّ هذه الطوائف يتّبعون الباطل، ونحن نعلم أنّ رسولنا الكريم صلی الله علیه و آله وسلم قال وقد تواتر عنه: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».(2) فمن سلك غير طريق العترة الطاهرة عليها السلام فإنّه يتّبع الباطل وإن آمن بالله ورسوله واليوم الآخر. والحكم في الآية وإن كان معلقاً على الكفر ، إلا أنّ الجملة التالية تعمّمه.

(كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْنَاهُمْ)، الضمير يعود إلى الناس واسم الإشارة إلى ما مرّ من بيان حال الكفّار والمؤمنين، والأساس الذي ابتنى عليه حالهم؛ فالكافر يضلّ عمله، لأنّه يتّبع الباطل، والمؤمن يصلح باله وتستر سيّئاته، لأنّه يتّبع الحقّ من ربّه، فهذا هو الأساس والقاعدة؛ وعليه فالحكم لا يختصّ بالمجموعتين: کفّار مكّة والجزيرة العربيّة من جهة، والذين آمنوا بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم من جهة أخرى، بل يشمل كلّ من يتّبع الحقّ أو يتّبع الباطل، سواء كان ضمن المجموعتين أو خارجهما، وهذه الجملة لتعميم الحكم.

والأمثال جمع مَثَل بفتحتين، ما ينصب علامة لأمر مّا. والأصل فيه المثول والقيام، والمراد هنا أنّ ذكر الكافرين والمؤمنين في هذا الموضع من باب التمثيل لأمر عامّ يشمل جميع الناس.

ص: 115


1- النور (24): 39
2- بحار الانوار :2: 100

سوره محمّد(4-6)

فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرّقَابِ حَتَّى إِذَا أَنتُمُوهُم فَشُدُوا الوَثَاقَ فَإما منا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَا نَتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن ليَبْلُوا بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَلَكُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَاهُمْ(5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)

(فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ). من هنا يبدأ ببيان الحكم في القتال وهو المقصود بالذات في السورة والفاء للتفريع، فالحكم بالقتال في مواجهة الكفّار والشدّة في التعامل معهم في الحرب ، متفرّع على أنّ الله تعالى وعد المؤمنين بأنّه يصلح بالهم، وأنّه يُضل أعمال الكافرين ويُفنّد كيدهم.

واللقاء يراد به المواجهة في الحرب، وهذا تعبير عربي متعارف يعبّرون عن يوم الحرب بيوم اللقاء، ومن الغريب ما ينسب إلى بعض المعادين للإسلام، استناداً إلى هذه الآية أنّ الإسلام يأمر بقتل الكافر، بمجرّد اللقاء به.

وضرب الرقاب، مصدر سدّ مسدّ الفعل، فهو مفعول مطلق بتقدير «اضربوا»، أي اضربوا رقابهم وهو كناية عن القتل، وليس المراد خصوص هذا النوع من القتل وإنّما عبّر به تشنيعاً لهم وتأكيداً على عدم الإبقاء؛ فإنّ ضرب العنق يؤول إلى الموت لا محالة، ففي الآية تأكيد على عدم الإمهال وعدم المداهنة معهم.

ثمّ إنّ الآية لا تحثّ على الحرب ابتداءاً، وإنّما يأمر بالقتل والإبادة إذا

حصلت المواجهة. والمراد بالذين كفروا - كما مرّ - هم مشركو مكّة الذين

استمرّوا في منع الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من نشر رسالته حتّى بعد الهجرة.

(حَتَّى إذا أَنْخَبْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ). الإثخان: الإثقال والثقل كناية عن عدم

ص: 116

التمكّن من الحركة يقال أثخنته الجرّاح، أي منعته من النهوض والحركة، والمراد أنّه إذا قتلتم منهم مقتلة عظيمة، بحيث لا يستطيعون بعده النهوض للصدّ عن سبيل الدعوة؛ فشدّوا الوثاق وهو كناية عن الأسر. والوثاق ما يوثق ب-ه م-ن حبل ونحوه والمراد بالجملة، أنّه لا يؤسر أحد قبل الإثخان والقتل العظيم الذي

يوجب منعهم من الحركة.

والسبب في هذا التشدّد معهم والإصرار على إبادتهم على ما يبدو، هو أنّ الحجّة قد تمّت عليهم، بحيث لا يحتمل بعد ذلك إيمانهم واقعاً بالرسالة؛ فلو آمنوا فإنّما يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ويزيدون عدد المنافقين لا المؤمنين؛ فالغرض الأصلي يجب أن يكون منعهم من التحرّك ضدّ الدعوة، فلا يجوز الاستعجال في الأسر، بل لا بدّ من إفناء أكبر عدد ممكن، ولا يُلجأ إلى الأسر إلا بعد الوثوق من عدم وجود خطر من بقائهم.

وهذا ليس حكماً خاصّاً بغزوة بدر، كما يقال، بل ولا بالوضع القائم في الجزيرة العربية آنذاك، بل هو حكم الرسل والأنبياء جميعاً، قال تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حتى يُنْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(1) أي لا يليق بالأنبياء أن يأسروا أحداً في الحرب قبل استئصال الفساد والسرّ فيه أنّ الملوك والجبابرة ومن يحذو حذوهم، كانوا يقاتلون من أجل الأسر والاستعباد وكان لهم في ذلك غرض اقتصادي، فالعبيد كانوا يشكلون قوّة رخيصة للعمل وهذا ليس شأن الأنبياء؛ فهم لا يأسرون للاستعباد ولا يحقّ لهم أن يريدوا عرض الحياة الدنيا، كما ورد في الآية؛ فلا يأسر النبيّ

ص: 117


1- الأنفال (8): 67

إلا بعد أن أثخن في الأرض، بمعنى أنّه قطع دابر الكافرين وأمن شرّهم، فالأسر هنا له دوافع أخرى.

والتعبير بالإثخان في الأرض، يوحي بأنّه لا يتوقّف الحكم بالإثخان في الحرب الواقعة حالياً، بل يجب أن يستمرّ القتل إلى أن يؤمن من شرّهم في الأرض. وليس معنى ذلك إبادتهم جميعاً، بل كسر شوكتهم بحيث لا يتمكّنون

من الصدّ عن سبيل الله.

وتبيّن بذلك ضعف ما قيل من أنّ الآية بصدد بيان حكم عسكري للمسلمين وهو انّه لا يجوز الاشتغال الأسرى والغفلة عن القتال مع الأعداء إلا بعد إثخانهم.

(فَإِمَّا مَناً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً). مَناً و فِدَاء مصدران، سدّا مسد الفعل، كما مرّ في ضرب الرقاب ، أي إمّا أن تمنّوا عليهم مناً بعد الأسر ، فتطلقون سراحهم، وإمّا أن يفدوا أنفسهم فداءاً، إمّا بالمال وإمّا بالمبادلة مع أسرى من المسلمين. والملفت في هذه الجملة أنّه لم يذكر من الخيارات الاسترقاق ولا القتل. ولكنّ العلامة الطباطبائي رحمه الله اعتبر الاسترقاق أحد وجوه المنّ عليهم؛(1) ولعلّ الوجه ذلك أنّه يستحقّ القتل بمحاربته للإسلام؛ فإذا أبقي عليه ولو بالاستعباد، فهو أيضاً نوع من المنّة عليه. وهذا لا بأس به في حدّ ذاته إلا أنّه بعيد عن الآية، بلحاظ مقابلة المنّ بالفداء. فلو أريد به مجرّد الإبقاء لم تصحّ المقابلة، إذ الفداء

أيضاً وجه للإبقاء عليه؛ فلا بدّ من حمل المنّ على إطلاق السراح بلا مقابل. وأمّا ما ورد في السيرة والروايات من أنّ الرسول صلی الله علیه و آله وسلم قتل بعض الأسرى، فلا

ص: 118


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 225

ینافی الایه، وذالک لوجهین:

الأوّل: أنّه كان قبل الإثخان في الأرض، فلم يتحقّق موضوع الآية.

والثاني: أنّ الذين قتلوا كانوا محكومين بالقتل قبل الأسر، لأعمال إجرامية أخرى. ومشاركتُهم في القتال الذي انجرّ إلى الأسر ، لا توجب مزيّة لهم ليُعفوا من القتل قطعاً.

وأمّا الاسترقاق، فلم نجد في السيرة مورداً أمر فيه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم باستعباد الرجال من أسرى الحرب، وإنّما ورد في الذراري والنساء وهو خارج ع-ن م-ورد الآية الكريمة ولعلّه كان لمصلحة خاصّة.

(حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) الوزر هو الثقل. وأثقال الحرب، إمّا معدّاته أو

الجرائم التي لا ينفكّ عنها والمصائب والمصاعب التي يستتبعها، ومهما كان، فهو كناية عن انتهاء الحرب. والظاهر أنّه غاية لكلّ ما سبق من الحكم، فالمعنى أنّه يجب أن تضرب الرقاب حتّى تنتهي الحرب. ويعمّ السلام ليتمكّن الدعاة من نشر الدعوة إلى الله تعالى، وعليه فهذه الآية مساوقة لقوله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ الله فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ).(1)

(ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضِ). (ذَلِكَ)، إشارة إلى ما مرّ من حكم القتال مع الكفّار وهو متعلّق بمحذوف، أي خذ ذلك أو الحكم ذلك أو افعلوا ذلك ونحو ذلك. وفسّر الانتصار هنا بالانتقام، ولذلك عدي ب- «من». ومهما كان فالمراد بالانتصار هنا ليس الانتصار بغيره تعالی بل بسطوته وقهره، فيفيد معنى الانتقام.

ص: 119


1- البقرة (2): 193

وحيث كانت الجملة السابقة تفيد - كما ذكرنا - أنّ القتال يجب أن يكون

مستمرّاً إلى أن يضعف الكافرون ولا يتمكّنوا من صدّ الدعوة إلى الله تعالى، وكان ذلك موهماً أنّ الله تعالى بحاجة إلى قتال المؤمنين لصدّ الكافرين، استدرك الأمر بهذه الجملة، ليبيّن أنّه تعالى غني عن كلّ شيء، ولو أراد لأهلكهم بعذاب من عنده، كما أهلك من قبلهم وإنّما يأمر بالقتال لامتحان

الناس.

والبلاء هو لامتحان و الاختیار و کلّ ما فی هذه الحیاه من خیر و شرّ امتحان للإنسان، وليس معنى الاختبار أنّه تعالى يريد بذلك معرفة الناس وجواهره هم وأحوالهم وإيمانهم؛ فإنّه لا يعزب عن علمه شيء، وإنبما يعني ذل-ك ب-روز خبايا الناس ودفائن نفوسهم وحدود إيمانهم وقابلياتهم؛ فإنّ الأثر المقصود من تربية الإنسان، لا يترتّب على نفس القابلية الدفينة، بل على بروزه وظهوره.

والثواب والعقاب أيضاً لا يترتّبان على طيب النفس وخبثه، بل على العمل السيئ والصالح.

والمراد بابتلاء بعض الناس هنا ببعض ،آخر ابتلاء الكافرين بالمؤمنين

وبالعكس؛ فالكافر يتبيّن خبث طينته وسوء سريرته بالتعامل السيّئ مع المؤمنين ومخالفته لأمر ربّه والمؤمن تتبيّن قوّة إيمانه وعزيمته بامتثاله لأوامر ربّه

ومقاومته للأعداء.

ولا تقتصر نتيجة الابتلاء بالأعداء والأمراض والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية وسائر مشاكل هذه الحياة في بروز الحقائق الدفينة ومعرفة جواهر الرجال، بل هذه المصاعب والمصائب هي التي تكوّن شخصية الإنسان وتنمّي

ص: 120

النفس الإنسانية وتربّيها وتمنحها قوّة المقاومة، كما أنّ ابتلاء الجسم بالجراثيم الموجبة للأمراض، ومن ثَمّ مقاومة الجسم لها هو العامل الضروري لنموّ الجسم وتكامله على ما يقال.

وهذا الأمر لا يختصّ بالفرد أيضاً، بل هو كذلك على الصعيد الاجتماعي؛

فالمجتمع الذي ينعم بالرفاه والراحة وأكل المال بدون تعب، مجتمع متخلّف

ضعيف لا يمكنه أن يستقلّ علمياً ولا اقتصادياً ولا سياسياً ولا عسكرياً. وإذا

ابتلي بالحروب والفقر وحاول إنقاذ نفسه من المشاكل بنفسه، فسيكون مجتمعاً

قويّاً مستقلاً متكاملاً، وينتصر على أعدائه حتّى لو قلّت أفراده في مقابل العدوّ.

(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَاهُمْ فِي سَبِيلِ الله)، ليس قيداً لقتلهم، فإنّه فعل القاتل وهو لم يقتلهم في سبيل الله، وليس قيد المقتولية؛ لأنّه ليس فعل الشهيد أيضاً، وإنّما هو شيء أوقع عليه وقد لا يكون قاصداً إيّاه؛ وإنّم-ا ه-و ق-ي-د لخروجه إلى الجهاد ومقاتلته ممّا أدّى إلى مقتله، وهذا لا يختصّ بالمحارب، بل يشمل كلّ من يعمل عملاً في سبيل الله ممّا يثير غضب أعدائه تعالى فيقتلونه، ولذلك قال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ الله ثمّ قُتِلُوا أو مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).(1) وهذا هو نفس الرزق الذي ذكر في قوله تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبيل الله أمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).(2)

وقد مرّ الكلام في إضلال العمل، وأنّه بمعنى جعله تائهاً لا يوصل إلى المطلوب، سواء في الدنيا أم في الآخرة؛ فالمراد هنا أوّلاً: أعمالهم الفردية التي

ص: 121


1- الحج (22): 58
2- آل عمران (3): 169

أتوا بها للتقرّب إلى الله تعالى كالعبادات. ولعلّ المراد بعدم إضلالها، أنّ الله تعالى يكفّر كلّ سيّئة من شأنها أن تحبط الأعمال، فيبقى العمل الصالح سليماً مؤثّراً في تحديد مر ا في تحديد مرتبته ومقامه عند ربّه.

وثانياً: نفس هذا العمل الذي قاموا به في مقابلة الأعداء، حيث جاهدوهم وقاتلوهم حتّى قُتلوا؛ فالله تعالى يعدهم أنّ هذه المجاهدات لن تذهب سدىّ ولن تضلّ فى الدنيا أيضاً، كما لا تضلّ في الآخرة؛ فستنتج النتيجة المطلوبة وهي غلبة الحقّ على الباطل وإقامة دين الله في الأرض ولو بعد حين.

(سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَاهُمْ). ربما يتوهّم أنّ الهداية تختصّ بهذه الحياة، فالإنسان بعد انتقاله منها ليس في مسير وتكامل، حتّى يهتدي إلى طريق الحقّ ويتجنّب الباطل، بل تنكشف الحقائق بعد الموت، فلا تحيّر ولا ضلال ولا هداية، ولعلّه لذلك قرأ بعضهم الكلمة في الآية السابقة بالألف، أي «قاتلوا»، ولكنّ الصحيح أنّ الإنسان كغيره من الموجودات لا يستغني من هداية الله تعالى في أيّ عالم من العوالم ولكنّ الهداية هنا ليست بمعنى إراءة الطريق، بل الإيصال إلى المطلوب.

وقد مرّ معنى إصلاح البال إلا أنّ المراد في المورد السابق إصلاحه في الدنيا، وفي هذه الآية إصلاحه في الآخرة أو في عالم البرزخ، حيث دلّت الآية الآنفة الذكر على أنّهم أحياء بعد الموت عند ربّهم يرزقون.

والعلامة الطباطبائي رحمه الله اعتبر إصلاح البال عطفاً تفسيرياً على الهداية، وقال: «إنّ المراد به إحياؤهم حياة يصلحون بها للحضور عند ربّهم بانكشاف الغطاء».(1)

واستفاد ذلك من ضمّ هذه الآية بالآية المذكورة آنفاً. ولعلّ مراده أنّه حيث

ص: 122


1- الميزان في تفسير القرآن 18: 226

اعتبرهم في تلك الآية أحياء وأنّهم عند ربّهم، فاستنتج أنّ الإحضار لهذا المعنى هو المراد بالهداية وإصلاح البال في هذه الآية ولكن لا يبعد شمول إصلاح البال لما ذكره ولغيره، ومنها الرزق المذكور في الآية ولا يعلم حقيقته إلا الله

.تعالى

(وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) قوله : (عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾، جملة استئنافية. وقيل: حالية

بتقدير«وقد». ولعلّ المراد بالتعريف توصيفها في الكتاب والسنّة.

ويمكن أن يخصّهم الله تعالى بتعريف آخر خاصّ بجنّتهم الخاصّة؛ وقد ورد في بعض الروايات أنّ المؤمن يرى موضعه من الجنّة، منها: ما رواه الصدوق مرسلاً عن الإمام الصادق لیه السلام أنّه قال: «ما يخرج مؤمن من الدنيا إلا برضاً منه وذلك أنّ الله تعالى يكشف له الغطاء حتّى ينظر إلى مكانه من الجنّة».(1)

وقيل: المراد بالتعريف التحديد وأنّ لكلّ أحد جنّة تخصّه. وقيل: التعريف

من العرف - بضمّ العين - أي الرائحة الطيّبة.

ص: 123


1- من لا يحضره الفقيه 1: 134.

سوره محمّد(7-11)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرُكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَلَهُمْ (8)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَلَهُمْ (9) * أَفَلَمْ يَسمُرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَرَ الله عَلَيْهِمْ وَلِلْكَفِرِينَ أَمْثَلُهَا (10)ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَأَنَّ الْكَفِرِينَ لَا

مَوْلَى لَهُم (11)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ). المراد بنصرة المؤمنين الله تعالى نصرة دينه وهو واضح والمراد بنصرة الله تعالى للمؤمنين، هو تهيئة الوسائل في الجهات الخارجة عن اختيارهم، ليتمكّنوا من الظفر على أعدائهم. وذلك لأنّ الإنسان مهما كان قويّاً وشديد العزم والإرادة وأعد للحرب عدّته، فإنّ هناك من الأسباب ما هو خارج عن اختيار البشر، وبذلك ربما تتغيّر المعادلة وينهزم الجيش الأقوى.

هذا مضافاً إلى أن الثبات وقوّة الإرادة والعزيمة أيضاً إلهام من الله تعالى، ومضافاً إلى أنّ كلّ نصر من الله تعالى والهزيمة أيضاً منه وكلّ شيء منه. قال تعالى: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).(1)

وهذه الآية وعد صريح بأنّه تعالى ينصر المؤمنين إذا قاتلوا في سبيله، فإذا وجدنا من ينصر الله ظاهراً ولم ينصره الله تعالى، فلعلّ السبب فيه أنّه لم ينصر الله حقّاً، فهذا يتبع قصده؛ وكثير من المقاتلين في صفّ المؤمنين يقصدون الوصول إلى أهداف ماديّة شخصية أو اجتماعية، وكثير من الحروب التي تقام باسم

ص: 124


1- آل عمران (3): 126

الدين لا يراد بها إلا المزيد من الفتوحات وتوسعة رقعة الحكم والسلطة. والتأريخ يسجلها بأحرف بارزة ويعتبرها فتوحات إسلامية ولم يكن الهدف منها إقامة دين الله تعالى، حيث إنّ زعماء الحرب وأصحاب الراية لم يكونوا بأنفسهم ملتزمين بأحكام الله تعالى، ناهيك عن الحروب التي تقام باسم الوطن أو القومية

العربية ونحوهما.

وثبات الأقدام في الحرب كناية عن الصبر والمقاومة حتّى النهاية؛ فالحرب لا بدّ فيها من التضحية، ومَن توقّع أن يقلّ القتلى في جانبه حتّى يكون هو المنتصر، فقد أخطأ؛ وإنّما المنتصر هو الجيش الصابر حتّى النهاية مهما اشتدّ

الموقف عليه وكثر فيه القتلى.

وذكر تثبيت الأقدام بعد النصر ، لعلّه من ذكر الخاصّ بعد العام؛ فإنّ التثبيت من عوامل الانتصار. ومن هنا يعلم أنّ الهزيمة في بعض الحروب - كما حدث في أحُد - لا ينافي النصر الإلهي في النهاية. وأمّا ما حدث لبعض الأنبياء والأئمّة عليهم السلام من القتل فهو كالقتل الذي أصاب بعض المجاهدين في غزوات الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ولا ينافي أنّ النصر النهائي كان لهم ولكلمتهم وهدفهم.

ويمكن أن يشمل تثبيت الأقدام ما بعد الانتصار، فيكون المراد التثبيت على

العقيدة والإيمان وعدم البطر والإفراط في الفرح بالنصر وبالغنائم والأموال التی يحصل عليها الجيش المنتصر. وهكذا كانت تدور الدوائر على الحضارات المستحدثة، سواء الدينية وغيرها. والمسلمون أيضاً لم يشذّوا من هذه القاعدة، فالانتصارات والفتوحات والأموال الطائلة التي حصلوا عليها بالاستيلاء على البلدان كانت هي منشأ الداء العضال الذي انتشر في المجتمع الإسلامي وهو

ص: 125

الرفاهية والانحياز إلى الراحة، والبطر، حتّى جُرّ البساط من تحت أرجلهم وهم

لا يشعرون.

فلعلّ الآية الكريمة تشير إلى أنّ تثبيت الأقدام على النصر الواقع، يرتبط أيضاً

ببقاء المجتمع على تعهّده بالاستمرار في نصر الله تعالى ونصر دينه وشريعته وأحكامه.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَمْساً هُمْ وَاضَلَّ أَعْمَاهُمْ). قال في «العين»: «التعس ألا ينتعش من صرعته وعثرته وأن يُنكَّس في السفال»،(1) أي ينحدر مقلوباً. وهذا إما دعاء عليهم، كقوله تعالى: (قَاتَلَهُمُ الله)،(2) أو بتقدير قضى الله لهم تعساً ونكساً. والدعاء من الله تعالى هو القضاء أيضاً، لأنّه تعالى لا يطلب ذلك من غيره وإنّما يقضي عليهم التعاسة تكويناً.

ومهما كان، فهذا أيضاً جزء من نصره تعالى للمؤمنين، حيث إنّه يتعس

الكافرين في مواجهتهم ويقضي له-م ص-رعة وعثرة على وجوههم لا يقومون

منها. ويذكر تعاسة الكافرين في مقابل تثبيت أقدام المؤمنين في الآية السابقة. وقد مرّ الكلام في إضلال الأعمال، ولعلّ المراد بأعمالهم في مقام نصر المؤمنين، هو ما يكيدونه ضدّهم في الحرب والإضلال هو الإبطال وهو يتحقّق في هذا المقام بعدم السماح لأعمالهم الكيدية بالتأثير والإيصال إلى المطلوب، فتفنّد بذلك حيلهم وينتصر المؤمنون.

(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ). هذا التعليل هو القاصم للظهر؛ فالمؤمنون أيضاً

ص: 126


1- كتاب العين 1: 325
2- التوبة (9): 30؛ المنافقون (63) : 4.

يجب أن ينتبهوا بأنّ الله تعالى لا يعادي قوماً من البشر إلا لمواقفهم وأعمالهم، فالسبب في القضاء عليهم بالتعاسة والنكس هو أنّهم كرهوا ما أنزل الله تعالى من الرسالات وهذا الامتحان والابتلاء هو أساس الحكمة في التشريع، فإنّ الله تعالى لا يحتاج إلى عبادة منّا ولا إلى شروط فيها، ولكنّه يبتلي بذلك عباده؛ وليس كلّ حكم شرعي مناسباً لأذواقنا وأهوائنا بالطبع، فإن كرهنا حكماً من أحكام الله تعالى وشرائعه فإنّ مصيرنا هو نفس المصير التعس الذي قضاه الله للكافرين ولا ينفعنا ما ندعيه من الإيمان.

والجدير بالذكر أنّه تعالى لم يعلّق الحكم على مرحلة العمل، بل على مرحلة الحبّ والكراهة؛ فمجرّد كراهة حكم الله تعالى توجب هذا الانحطاط والتعاسة،

حتّى لو عملت به على مضض.

(فَأَحْبَطَ أَعْمَاهُمْ). الحبط في الأصل داء يصيب الدابة ويوجب انتفاخها بالأكل فتموت. ولعلّ التعبير بحبط الأعمال الوارد في القرآن الكريم، لتشبيه العمل الباطل الذي لا يفيد صاحبه شيئاً بالانتفاخ في الدابّة الموهم للسمن، وهو في الواقع لا يفيد، بل يضرّ. ومنه عمل المرائي مثلاً، فقد يكون حجم العمل كبيراً وظاهره جميلاً ولكنّه في الواقع يوجب الهلاك في المعايير الإلهية. والكافر أيضاً ربما تكون له أعمال حسنة، وإذا كان معتقداً بالله تعالى، فلعلّه يعمل بعض الأعمال لوجهه تعالى، وكان المشركون يستغفرون الله، كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبْهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).(1) والآية لم ترد في المؤمنين، كما ربما يتوهّم، بل موردها كفّار مكّة، كما هو واضح من السياق.

ص: 127


1- الأنفال (8): 33

وهذه الأعمال لا تنفعهم في الدنيا ولا في الآخرة لشركهم ولكراهتهم ما أنزل الله تعالى من الرسالات، سواء في العقيدة أو الأحكام، ولا ينافي ذلك ما ورد في الآية المذكورة من عدم العذاب لاستغفارهم؛ فإنّ عذاب الاستئصال له حكم خاصّ، فلا ينزل على القوم والرسول بينهم حتّى لو كانوا يؤذونه، ولا ينزل عليهم ما داموا يستغفرون الله تعالى.

وبذلك يتبيّن أنّ المراد بالأعمال المُحبَطة في هذه الآية غير الأعمال المذكورة في الآية السابقة التي أضلّها الله تعالى فإنّ المراد بها في الآية السابقة، كلّ ما يعملونه للوصول إلى هدف دنيوي، والإضلال يمنعها من الوصول. والمراد في آية الحبط أنّ أعمالهم التي يمكن أن تكون مفيدة لهم في الحياة الدنيا على الأقل تُحيط بمجرّد كراهتهم لما أنزل الله تعالى ممّا لا يناسب أهواءهم، فيحبط الله كلّ ما عملوه من خير واستغفار وتوجه إلى الله ،تعالى، فلا يبقى لهم ما يشفع لهم، فيقضي الله عليهم بالتعاسة والهلاك في مواجهة المؤمنين.

وإذا لاحظنا قوله تعالى في ما سبق من السورة: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أمْنَاهُمْ)، بدا واضحاً أنّ الحكم لا يخصّ الكفّار؛ فعلى المؤمنين أن يلاحظوا أنفسهم ويراقبوها ويحاكموها ويتساءلوا فيما بينهم: هل هم أيضاً يكرهون ما أنزل الله تعالى ويضيقون به ذرعاً إن لم يناسبهم؟ فإن كانوا كذلك، فلا يحقّ لهم أن ينتظروا نصراً من الله تعالى، بل نكساً وتعاسة.

وليعلم أنّ هناك ممّن آمن بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم ظاهراً من أعلن عدم موافقته مع بعض الأحكام الشرعية أمام الرسول صلی الله علیه و آله وسلم كمتعة الحجّ، حيث قال الرجل: يا

ص: 128

رسول الله نخرج حجاجاً ورؤوسنا تقطر ؟! فقال له الرسول صلی الله علیه و آله وسلم: «إنّك لن تؤمن بهذا أبداً».(1)

ومنهم من استنكف من نصب علي علیه السلام ولياً وإماماً بعد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، حتّى نزلت فيه الآية: (سَألَ سائِلُ بِعَذاب واقِع)،(2) حسب بعض الروايات،(3) وإن استبعدنا ذلك بمقتضى سياق الآيات ولأنّ السورة مكّية.

ومنهم من رفضه ولم يستسلم له بعد وفاته صلی الله علیه و آله وسلم بحجّة أنّ العرب لا تسلّم أمرها إلى شابّ أو أنّهم يكرهون أن يجمعوا الرسالة والملك في اُسرة واحدة، وأمثال ذلك من المعاذير. وكلّ هذا يدخل تحت عنوان كراهة ما أنزل الله تعالى. ولذلك ورد في بعض الروايات عن الإمام الباقر علیه السلام أنّ المراد بقوله تعالى: (مَا أَنْزَلَ اللهُ) ما أنزله في علي علیه السلام.(4) وهذا من باب الجري والتطبيق، وليس من شأن النزول.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرض فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) استفهام ،تقريري، أي أنّهم قد ساروا في الأرض. والذين ساروا في الأرض بعض القوم طبعاً إلا أنّه يكفي لاطلاع الجميع على الآثار الباقية من الأمم الأمم السالفة، وهم كانوا يخرجون في تجارتهم إلى الشام ويمرّون على مدن أصابها العذاب الإلهي، كمدينة سدوم وهي مسكن قوم لوط علیه السلام والأيكة وهي مسكن قوم شعيب علیه السلام أو بعضهم. وقد قال تعالى بعد ذكر ما جرى عليهما: (وَإِنَّها لَبِإِمَامٍ مُبِين)،(5) والإمام

ص: 129


1- الكافي 4: 249/ 6 ، والحديث صحيح.
2- المعارج (70): 1.
3- راجع: الميزان في تفسير القرآن 6 : 55
4- راجع: تفسير القرآن الكريم : 305؛ تأويل الآيات الظاهره 2: 6/583
5- الحجر (15) : 79

الطريق؛ فالمدينتان الخربتان كانتا على طريق المارّة بين الشام والحجاز، وهم يشاهدون الآثار، فكان عليهم الاعتبار. وهو في نفس الوقت حثّ للسير في الأرض وملاحظة عاقبة الكافرين قبلهم - كما ورد في موارد عديدة - لتنبيههم على نماذج من عقاب الاستئصال.

والعاقبة من كلّ شيء آخره مأخوذ من العقب، أي مؤخّرة القدم. وفي التعبير بها تنبيه للبشر أن لا يغترّوا بما أنعم عليهم الله تعالى في وضعهم الحالي من رغد العيش وسعة الرزق؛ فقد لا تكون عاقبة أمرهم خيراً، كما كانت كذلك في الأمم السالفة.

وقوله تعالى: (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ)، جملة استينافية، تبيّن عاقبة السابقين. والدمار: الهلاك، دمَرَ القومُ أي هلكوا ودمّر أي أهلك ، والمفعول محذوف، أي دمّر عليهم مساكنهم، فلم يكن مجرّد هلاك بمرض أو حرب، بل دمّرت بيوتهم واستؤصلوا استئصالاً، ولم يبق منهم ومن أولادهم وحضارتهم شيء إلا بعض

الآثار للعبرة.

(وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَاها)؛ الضمير يعود إلى العقوبة أو العاقبة. والمراد بالكافرين كفّار مكّة والجزيرة العربيّة، أي ثبت للكفّار أمثال تلك العقوبة التي نزلت بالسابقين أو أمثال تلك العاقبة؛ فيكون تطبيقاً لما نبّه عليه من الاعتبار بآثار السابقين وتحذيراً للقوم بأنّهم يستحقّون أن ينزل عليهم أمثال تلك العقوبات. ولعلّ جمع المثل باعتبار أنّهم يستحقّون وجوهاً من عذاب الاستئصال وإن كان المتحقّق وجه واحد لا محالة.

(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى هُمْ). لعلّ اسم الإشارة يعود

ص: 130

إلى الفرق بين المؤمنين والكافرين في العاقبة، حيث يتبيّن بما تقدّم أنّ الله تعالى ينزّل عذاب الاستئصال على الكافرين دون المؤمنين، حتّى في الأقوام السابقة، وقد ورد في موارد أخرى أنّ الله تعالى ينجّي الرسل والذين آمنوا معه، ثمّ ينزّل العذاب؛ والسبب في ذلك أنّه تعالى مولى المؤمنين، وأمّا الكافرون فلا مولى لهم ينصرهم وينجّيهم من عذاب الله؛ إذ لا يمكن لأيّ مخلوق أن ينصر أحداً إذا راد الله به سوءاً.

والمراد بالمولى الذي يتولّى اُمورهم ويسدّد خطاهم ويهديهم ويصلح بالهم، فلا ينافي قوله تعالى: (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إلى الله مَوْلاهُمُ الحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)؛(1) فإن المراد بالمولى هناك، الربّ والمتصرّف في شؤونهم.

ص: 131


1- يونس (10): 30

سوره محمّد(12-15)

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ جَنَّتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَبْرُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَمُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ(12) وَكَأَين من

قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ(13) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيْنَةٍ مِّن رَّبِّهِ، كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم(14) مَّثَلُ الْجَنَّةِ التي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَهْرٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ اسِنٍ وَأَهْرٌ مِّن لَّبَنِ لَّمْ يَتَغَيَّر طَعْمُهُ، وَأَنْهَرٌ مِن خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّرِينَ وَأَنهَرٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن بِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَلِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءٌ حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ). في هذا المقطع، يبيّن الله تعالى الفارق الكبير في النتيجة بين الفريقين ليتبيّن أنّ الفرق ليس في ما ينزّل في هذه الدنيا من عذاب الاستئصال، ب-ل الف-ارق الأكبر في القيامة، والله يريد الآخرة وإن كان الإنسان لضيق نظره ينظر إلى

العاجل ويهتمّ به أكثر ، حتّى أنّ كثيراً من المؤمنين يستغربون من حسن ح-ال الكفّار في الدنيا وتمتّعهم، ويحسبون أنّ ذلك إكرام من الله تعالى، فهذه الآي-ة تدفع هذا الاستغراب وتبيّن أنّ العاقبة للمؤمنين. ولكنّه هنا يفرق بين الناس، لا

على أساس الفريقين المؤمنين والكافرين - كما مرّ في الآية السابقة وما قبله-ا -- بل على أساس الإيمان الواقعي الذي يستتبع العمل الصالح؛ فيتبيّن منه أنّ هناك فِرَقاً من المؤمنين في الظاهر يدخلون في فريق الكفّار يوم القيامة وإن شملتهم الرحمة الخاصّة بالمؤمنين في الدنيا.

ومن الملفت أنّ التعبير هنا لم يركّز على دخول الجنّة، كما في كثير من

ص: 132

الآيات، بل عبّر عن ذلك بأنّ الله تعالى هو الذي يدخلهم، ولذلك قدّم اسم الجلالة لإظهار أنّ الاهتمام من هذه الجهة، وهذا التعبير يوحي بأنّ هذا إكرام لهم من عنده تعالى، وهذه هي النعمة الكبرى التي يسعد بها الإنسان، غاية السعادة إذا شعر به، سواء كان في الدنيا أم في الآخرة.

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ). وفي المقابل ليس للكافرين إلا الأكل والتمتّع في الدنيا، كأكل الحيوان وتمتّعه. وفيه إش-ارة إلى أنّ أكل المؤمن وتمتّعه ليس كأكل الكافر؛ فهو يتحرّى في أكله أن لا يكون حراماً، بل ربما يكون هادفاً، فلا يأكل إلا بمقدار الحاجة ويتصدّق بالفضل، كما قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ).(1)

والكافر حيث لا يعتقد بالله ولا بالحياة الآخرة، فلا يهمّه إلا بطنه وتمتّعاته

وشهواته. ولا فرق بينه وبين الأنعام والبهائم.

وتشبيه أكلهم بأكل الأنعام ليس من حيث الكثرة، فليسوا كلّهم كذلك، بل من حيث إنّه هو الهدف، حتّى لو لم يعترفوا به، بل أظهروا خلافه، فإنّ أعمالهم وطريقتهم في الحياة تظهر بوضوح أنّ الأكل - والمراد مطلق التمتّع بالدنيا وحبّ المال والجاه - هو الغاية لكلّ نشاط لهم ، ومن هنا يتبيّن أنّ كثيراً من المؤمنين في الظاهر يدخلون تحت هذا العنوان.

ثمّ وبعد ذلك عاقبتهم النار؛ فهم شرّ مكاناً من الأنعام، كما قال تعالى: (أُولَئِكَ

كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ).(2) والمثوى مكان الإقامة.

ص: 133


1- البقرة (2): 219
2- الأعراف (7): 179

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةٌ مِنْ قَرْيَنِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ). اسم استفهام، بمعنى كم ويفيد التكثير وهو هنا مبتدأ خبره (أهلكنَاهُم)، والغرض تسلية الرسول صلی الله علیه و آله وسلم والمؤمنين، وتهديد كفّار مكّة وإنذارهم بعذاب ينزّل عليهم من السماء أو بأيدي المؤمنين؛ وذلك بالاستشهاد بالمجتمعات الكافرة طيلة التأريخ، حيث أفسدوا في الأرض وقتلوا النبيّين أو أخرجوهم وقتلوا المؤمنين؛ فأنزل الله عليهم عذاب الاستئصال وأفناهم عن آخرهم ولم يكن لهم من ينصرهم من بأس الله وهم كانوا أشدّ قوّة من أهل مكّة كما يشهد به بقايا حضاراتهم، ممّا كان أهل مكّة يشاهدونها في أسفارهم إلى الشام وغيرها.

قيل : والمراد بالقرية أهلها بقرينة قوله (أهْلَكْنَاهُمْ)، ولكنّ الظاهر أنّه يصحّ إطلاقها على الناس وعلى الموضع، بل لعلّ إطلاقها على الناس أولى، لأنّها في الأصل - كما في معجم مقاييس اللغة»(1) - مأخوذة م-ن ق-رى، بمعنى جمع، والاجتماع صفة للناس في الحقيقة، وإنّما يطلق على الموضع؛ لأنّه مكان اجتماعهم.

وأمّا الإتيان بالضمير المفرد المؤنث، أي قوله: (هِيَ) وقوله: (أَخْرَجَتْكَ) بلحاظ لفظ القرية. وتوصيفهم بأنّهم أخرجوا الرسول صلی الله علیه و آله وسلم باعتبار أنّهم ضيّقوا عليه وعلى المؤمنين حتّى اضطرّوا إلى الخروج.

وفي إضافة القرية إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وتوصيفها بأنّها أخرجته، مع أنّها قريته أي وطنه، تعريض بالمشركين بأنّهم لم يراعوا حقّ المواطنة والقرابة، وهو في نفس الوقت إشارة إلى الظلم الذي وقع عليه صلی الله علیه و آله وسلم. ويبدو منه أنّه كان يشعر بالضيم

ص: 134


1- معجم مقاييس اللغة 5: 78

والضيق لهذا السبب، وإن كان في مدينته المنوّرة في غاية العزّة والمنعة

والكرامة.

والتذييل بقوله: (فَلا نَاصِرَ لَهُمْ) تفريع على إهلاكه تعالى لهم؛ فإنّ المشركين كانوا يعوّلون على أنّ العرب من حولهم يمنعونهم من كلّ اعتداء وينصرونهم في الحروب إكراماً للبيت العتيق وسدنته. والآية الكريمة تنبّههم بأنّ الإهلاك إن كان من الله تعالى فلا ناصر لهم، والإتيان بلا النافية للجنس يؤكّد أنّه لا يوجد

ناصر لهم بتاتاً.

(أفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ). عود إلى بيان الفرق بين الفريقين؛ ففريق يعتمد الأدلّة الواضحة البيّنة المبيّنة النازلة من ربِّهم التي تنير لهم الدرب؛ فهو يسير بخطى واثقة مطمئنة، يعرف طريقه ويعرف مصيره لا يشوبه أدنى شكّ ولا ريب، وفريق يعمل السيّئات ويتّبع هواه، وهو نفسه مثقّفاً عالماً، وأنّه اختار الطريق الأصلح في الحياة، فلا يجد الطريق الصحيح ولا يهتدي بهدى الله تعالى ولا يظنّ بنفسه الضلال، ليبحث عن الحقّ، لأنّه يرى عمله السيّئ حسناً وليس معذوراً في جهله هذا، لأنّه أصيب به بسوء اختياره.

والاستفهام للإنكار ، أي ليس الفريقان متماثلين والفاء للاستئناف، وأتى بالضمير المفرد في قوله : (زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) بلحاظ لفظ الموصول، فإنّه مفرد، وأتى بالجمع في قوله: (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) باعتبار المصاديق. وهذا الاختلاف حسب الاعتبارين إنّما يأتي لغرض ما ، ولعلّه هنا رعاية التناسب في آخر الآيات؛ فإنّ روعة التعبير مقصودة في القرآن

ص: 135

والبيّنة: الحجّة الواضحة والموضّحة. والاستعلاء مجازي، كأنّه على طريق واضح يسير فيه، فهو لا يشكّ في صحة طريقه، وذلك لأنّه من ربّه، وليس كلّ وثوق بالطريق حجّة ، فلا يغرنّ الإنسان مجرّد كونه واثقاً مطمئناً؛ فإنّه ربما يثق بمن لا معرفة له بسبل الخير، كما نجد كثيراً ممّن يتخبّطون في شؤون الحياة، وهم واثقون من صحة طريقهم إلى أقصى الحدود، بحيث تهوّن عليهم أنفسهم في سبيل غايتهم، مع أنّها ممّا لا يقبله العقل السليم كمن ينتحر وه-و م-سل-م م-ن أجل إبادة المسلمين حتّى الأطفال والنساء والمرضى والشيوخ، فمثل هذا الوضوح لا يفيد الإنسان وليس حجّة له؛ لأنّه ليس من ربّه.

وتزيين الأعمال ورد هنا مبنيّاً للمجهول، وفاعله الشيطان، كما قال تعالى: (وَزَيَّنَ هُمُ الشَّيْطَانُ أعْمَاهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ).(1) وسيأتي في هذه السورة أيضاً: ( الشَّيْطَانُ سَوَّلَ هُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ)(2) وينسب إلى الإنسان نفسه أيضاً، كقوله تعالى: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً).(3) وقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)،(4) والتسويل: التزيين.

وبالطبع فإنّه كسائر الحوادث ينسب إلى الله تعالى خالق الكون، كقوله تعالى:

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا هُمْ أَعْمَاهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ).(5)

قيل : إنّ قوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) لبيان النتيجة وأنّ التزيين سبب لمتابعة

ص: 136


1- النمل (27): (24 العنكبوت (29): 38
2- محمد (47): 25
3- يوسف (12): 18 و 83
4- طه (20): 96
5- النمل (27): (4

الهوى، ولكنّ الظاهر أنّ العكس هو الصحيح ومتابعة الهوى سبب لتزيّن العمل السيّئ، فإنّه في حدّ ذاته أمر غريب وغير طبيعي، حيث إنّ الله تعالى زوّد الإنسان بجهاز الإدراك ليدرك الأمور على واقعها، فكيف ينقلب الأمر ويتراءى له العمل السيّئ جميلاً مزيّناً ؟!

السبب أنّ جهاز الإدراك يتأثّر بالعادات السيّئة، فإن اعتاد الإنسان متابعة هواه فإنّه تدريجاً يفقد إدراكه للحسن و القبح، وذلك لأنّه في أوّل مرّة يدرك قبح الفعل، ولكنّه لشدّة تعلّقه بهواه لا يكبح جماح نفسه فيفعله مدركاً قبحه، وبالطبع فإنّه مقدّمة لإتيانه، لا بدّ له من أن يبرّر عمله بعذر يضفي على العم-ل ن-وع-اً م-ن الحسن ولو من جهة الضرورة أو الحرج أو عدم القدرة على المقاومة ونحو ذلك من الأعذار الواهية، وإذا تكرّر الأمر يضعف عنده إدراك القبح، وهكذا بالتدريج تتبدّل لديه المقاييس، حتّى يتصوّر الشيء القبيح حسناً، بل يرى الشيء الحسن قبيحاً. وللأعلام المنحرف عن الحقّ أيضاً دور كبير في ذلك.

وهذا الأمر مشهود ومحسوس لدينا جميعاً في جميع شؤون الحياة، فك-م م-ن أمر كنّا نعتبره قبيحاً لا نطيق رؤيته وأصبحنا اليوم نمرّ عليه مرّ الكرام لا يثير فينا أقلّ درجة من الاستياء ولا ننهى عنه، بل ربما نتحدّث إلى صاحبه بكلّ حفاوة وارتياح، ولم يحصل هذا التحوّل فجأة، وإنّما حصل بالتدريج بسبب التعوّد على هذا الوضع المزري، وهذا أمر خطير جدّاً ينبغي التنبّه له، ولا يمكن حلّه إلا بالابتعاد عن المجتمعات الفاسدة أو عدم الانخراط معهم لو اضطررنا للبقاء فيهم.

(مَثَلُ الجنَّةِ الَّتي وُعِدَ المَتَّقُونَ فِيهَا الهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِن وَأَنْهَارُ مِنْ لَبَن لَم يَتَغَيَّرُ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّى).

ص: 137

(مَثَلُ الْجَنَّةِ) مبتدأ خبره (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّار)، وفي الجملة تقدير الاستفهام الإنكاري، أي: أمَثَل الجنّة كمن هو خالد في النار ؟ ولا بدّ من تقدير آخر ليتكافاً طرفا المقارنة، فإمّا أن يقدّر أمثل ساكن الجنّة كمن هو خالد... أو يقدّر أمثل الجنّة كجزاء من هو خالد.. وعلى كلّ تقدير فجملة: (فِيهَا أنْهَارُ) جملة وصفية.

وفي حذف همزة الاستفهام دلالة أخرى مضافاً إلى إنكار المماثلة، فهناك فرق بين أن تقول لأحد في مقام الإنكار: «هل يستوي لديك العالم والجاهل؟ وأن تقول مستنكراً ومتعجباً:«يستوي لديك العالم والجاهل؟» بتقدير الهمزة؛ فإنّك في الجملة الثانية توهم أنّك تثبت عليه ما تستنكره. وكذلك الآية الكريمة فإنّ حذف الهمزة يوهم أنّ المخاطبين وهم الغالب من البشر يساوون ب-ي-ن المصيرين الخلود في الجنّة والخلود في النار؛ لأنّ هذا هو الذي يتبيّن من عملهم وسيرتهم وإن لم يعترفوا به لساناً.

والمشهور في تفسير الآية - كنظائرها في القرآن - أنّه توصيف حقيقي لما في الجنّة من ملذّات ومناظر حتّى أنّ بعضهم فسّر كلمة مثل بالصفة، فالمعنى أنّ صفة الجنّة أنّ فيها أنهاراً من ماء غير آسن و...

والآسن: الماء الذي تغيّرت رائحته فلا يشربه أحد من نتنه، وأمّا إذا لم يبلغ

هذا الحدّ يقال له آجن.

قالوا: وإنّما ذكر هذه الأمور الأربعة لأنّها التي يحتاج إليها الإنسان في حياته الدنيا؛ فأوّل شيء يبحث عنه هو الماء العذب النقي، ثمّ الغذاء المناسب، ثمّ ما يتذوّقه للتلذّذ ورفع الهموم، ثمّ ما يتداوى ويتقوّى به؛ فالتعبير يوحي بأنّ كلّ

ذلك مهيّأ له في الجنّة بوفور وبكيفية خيالية لا يمكن مثلها في الدنيا إلا في

ص: 138

التصوّرات والأحلام والأماني، فهناك أنهار من ماء لا تتغيّر رائحته ولا طعمه وليس كالماء في الدنيا حيث تتغيّر رائحته وطعمه بأدنى مماسة للموادّ الخارجية، ويصبح آسناً يضرّ ولا يفيد.

واللبن غذاء صحّي طبيعي، ولكنّ الإنسان يحتاج لتحصيله إلى حلب البقرة ،ونحوها، ثمّ يحتاج إلى حفظه من التغيّر ، ومع ذلك فهو قليل يحتفظ به في علب؛ وأمّا هناك فاللبن يأتيه من دون حلب وفي أنهار ولا يتغيّر طعمه أبداً؛ ولعلّ تعدّد النهر باعتبار الأفراد، فلكلّ في جنّته نهر من لبن أو باعتبار تعدّد الأنواع، وكذلك في العسل والخمر، بل وحتّى الماء.

والخمر يشربه الإنسان أو يحبّ أن يشربه ليتلذّذ وينسى هموم الدنيا وهو هناك ليست له هموم ولكنّه يحبّ التلذذ ، ولعلّه كان معتاداً بالخمر فتركه لنهيه تعالى. والعرب قبل الإسلام كانوا مهتمّين بها جدّاً، بل بعده أيضاً.

وقد حكي أنّ الأعشى جاء مادحاً الرسول صلى الله عليه واله وسلم قاصداً الإسلام فانتبه شياطين قريش أنّه سيمثل دعاية قوية لخصمهم فاعترضوا طريقه وقالوا له: أين أردت يا أبا بصير؟ قال: أردت صاحبكم هذا الأسلم، قالوا: إنّه ينهاك عن خلال ويحرمها عليك وعدّوا له أموراً فاستهان بها، فقالوا الخمر. قال: أوّه! أرجع إلى صبابةٍ قد بقيت لي في المهراس فأشربها. وانطلق إلى بلده، فلمّا كان بقاع منفوحة رمى به بعيره فمات.(1)

هكذا كانت الخمر عندهم، ولذلك تدرّج الدين في النهي عنه كما هو معروف. واللذة في قوله تعالى: (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) إمّا صفة مشبّهة مؤنث الل-ذّ

ص: 139


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 6 : 134؛ بحار الأنوار 131:89.

كالصعب، أو مصدر وصفت به الخمر من باب المبالغة.

والعسل الذي هو شفاء وغذاء أيضاً يأتيه في أنهار ، فلا حاجة له إلى تعقّب

النحل ليتناول منه العسل بعد انتظار طويل، حيث تذهب إسراب النحل إلى الأزهار لتناول الشهد منها، ثمّ تعود ليخرج من كلّ واحدة قط-رة م-ن ع-س-ل ويصبر الإنسان ليجتمع منه ما يملأ به إناءاً أو أكثر، بل يأتيه هناك بكلّ أنواعه في أنهار ولا يحتاج أيضاً إلى تصفية ، بل هو مصفّىُ من الشوائب ومن الشمع.

هذا هو التفسير المشهور، ولكنّ هنا احتمالاً آخر في معنى المثل، وهو أنّ هذه الأوصاف تمثّل وتقرّب إلى الأذهان ما يوجد في تلك الحياة من اللذائذ المادية والمعنوية، وقد لا يكون المراد نفس هذه المواد بذاتها، بل المراد توصيف الجنّة وما فيها بذكر ما يماثل أوصافها تقريباً ولو في بعض الجهات من الصفات المعروفة للإنسان والحاضرة لديه في هذه الحياة لتقريب مفهوم جنّة الخلد التي وعد المتّقون إلى الأذهان؛ فإنّه مفهوم غير مأنوس للبشر، وعن-وان الجنّة لا يكفي لتصوّرها حتّى إجمالاً، فهي ليست كسائر الجنان التي نشاهدها، ولذلك قيّدها بالتي وعد المتّقون.

والسرّ في التقريب أنّ الجنّة أعلى وأرفع مكاناً من أن يحيط بها اللفظ، فالألفاظ موضوعة لهذه المواد الدنيوية ولا يمكنها أن تعبّر عن تلك الشؤون ولا طريق إلى بيانها وتوصيفها إلا التقريب، ولذلك قال تعالى عنها: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أخْفِي هُم مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).(1)

ولعلّ ذكر الخمر في الجنّة من هذا الباب أيضاً، فالتعبير يلاحظ فيه ما يهتمّ به

ص: 140


1- السجدة (32): 17

المخاطبون، وإلا فليس ما يعبّر عنه بالخمر في الجنّة كالخمر هنا كما هو واضح، فهي خمر لا تضرّ كما قال تعالى:(لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ)(1) والغول: الهلاك التدريجي بحيث لا يشعر به الإنسان، ومنه القتل غيلة. وقال تعالى: (لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ﴾،(2) بل هي لا توجب سكراً أيضاً. كما أنّ سائر ما ذكر ليس كما هو موجود في الدنيا، وكيف يمكن أن يجري اللبن في النهر ولا يتغيّر ؟!

والحاصل أنّه بناءاً على هذا الاحتمال لا يراد بهذه التعابير إلا الإفصاح عن حقيقة غريبة عن أذهان المخاطبين وتصوراتهم، ولا شكّ أنّ الإنسان تتغيّر نفسياته وتوقعاته وملذّاته باختلاف مراحل العمر وباختلاف مراحل التكامل المعنوي، فالإنسان في طفولته يتلذّذ بأمور تناسب روحه وجسمه وهو لا يهواها ولا يتلذذ بها في الكبر، بل كلّما تقادم به العمر تغيرت أهواؤه وملذاته. وهكذا التحوّل في الكمال المعنوي، فإذا تدرّج الإنسان في مدارج العلم، سواء كان مادياً أو معنوياً، فإنّه يتلذّذ بالوصول إلى أيّ معلومة يكتشفها أكثر من أيّ لذّة

مادية، وإذا وصل الإنسان إلى معرفة الله تعالى، وتدرّج في مدارجه، فإنّه يشعر بلذّة ما مثلها لذّة ولا يمكن توصيفها ولا تقريبها إلى الذهن، وخصوصاً إذا شعر

الإنسان بلطف من الله تعالى يغمره، بل حتّى لو أحسّ الإنسان بضربة موجعة منه تعالى لتأديبه ومنعه ممّا لا يناسب شأنه، فإنّ في ذلك لطفاً وعناية خاصّة وإشعاراً بالاهتمام به، والله تعالى لا يؤدّب من لا حاجة له فيه، كما ورد في الحديث.

ص: 141


1- الصافات (37): 47 .
2- الواقعة (56): 19

روى الكليني رحمه الله بسنده عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: لا حاجة لله فيمن ليس له في ماله وبدنه نصيب»؛(1) أي من لا تصيبه مصيبة ف-ي مال-ه ولا بدنه، وإنّما اعتبر ذلك نصيباً الله تعالى، لأنّه يبتلي الإنسان بما يصيبه في بدنه وماله فتكون زكاة له.

ويوم القيامة ينكشف الغطاء للإنسان ويدرك حقائق ما كان يمكنه إدراكها

في هذه الحياة حتّى يتلذّذ بها، فهو يحظى هناك بلقاء الله تعالى، وأيّ سعادة أعظم منه ؟! ولقاؤه تعالى يحصل للإنسان في مراحل ودرجات، فأوّل مرحلة منه يحصل لكلّ إنسان، وذلك حين ،الموت، فإنّ الموت أوّل مراحل تخلّص الإنسان من سجن الطبيعة ومن سجن الجسم ومن قيود المادّة والزمان والمكان ومن الغريب أنّ الإنسان يكره الموت أشدّ كراهة حتّى مع إيمانه بالحياة الأبدية بعده، مع أنّه بالموت يخرج إلى عالم فسيح وهو فيه حرّ طليق، وأعظم ما فيه أنّه يحظى بلقاء ربّه، قال تعالى: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ الله فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ)،(2)

ومثل الإنسان في هذه الدنيا كطفل يولد في السجن ولم يشعر بما في خارجه من المناظر البهيجة، فإذا أخبر أنّه سيخرج من بين من أنس بهم طيلة حياته فإنّه

ينزعج، ومهما يُحدّث عن زينة الدنيا فإنّه لا تنقطع علاقته بما حوله.

وفي مرحلة أخرى، إذا فاز الإنسان بدخول الجنّة فإنّه يحظى برضوان من الله تعالى، وهو أعظم ما في الجنّة من ثواب بل ليس في الجنّة ما يقاس به، والمؤمنون في ذلك درجات وبذلك تتحدّد درجات الجنّة ومراتبها ويبعد جدّاً

ص: 142


1- الكافي :2 21/214 ، باب شدّة ابتلاء المؤمن.
2- العنكبوت (29): 5.

أن يكون هناك اختلاف في اللذائذ المادية، فالله تعالى أكرم من أن يمنع أولياءه هذه اللذائذ، وقد قال تعالى: (هُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)،(1) فلا يبعد أن يكون اختلاف الدرجات في اختلاف القرب والحظوة لديه تعالى، ونحن لا نشعر ولا ندرك هنا وفي هذا السجن الرهيب مدى أهمية هذه الدرجات، ولذلك نزهد فيها ونقنع بأن ندخل الجنّة إن كنّا أهلاً لها وإن كان ذلك في أدنى مراتبها. ولا يبعد أن يكون في الاختلاف المشار إليه في الفاكهة والعيون ونحو ذلك أيضاً إشارة إلى هذا الاختلاف، كما ورد في سورة الرحمن والواقعة والإنسان والمطففين وغيرها ببيان لطيف جدّاً لا يشبع الإنسان من تكراره.

قال تعالى في سورة المطففين: (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَختُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمِ * عَيْناً يَشرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ)؛(2) والرحيق هو الخمر، وقيل: هو أحسنه، والظاهر أنّ كونه مختوماً إشارة إلى نفاسته والاهتمام به، كم-ا ه-و الشأن في خمور الدنيا وغيرها، ولكن الختام هناك ليس من الطين أو غيره من الموادّ التافهة، بل من المسك ؛ ويمكن أن يكون بمعنى أنّ ما يختتم به الشرب رائحة لطيفة كالمسك، بخلاف خمور الدنيا. ولكنّ المهمّ في ذلك أنّه مع نفاسته أنّ الله تعالى يدعو إلى التنافس في تحصيله إلا أنّه يمزج بما هو أعلى منه وأنفس، وهو ما يؤتى به من عين في الجنّة سمّاه الله هنا تسنيماً، وهو مأخوذ من السنام بمعنى الرفعة وهي عين يشرب بها المقرّبون، وهنا يتبيّن الفرق بين

ص: 143


1- ق (50): 35
2- المطففين (83): 22 - 28

الفريقين الأبرار والمقرّبين. ويبعد جدّاً أن يكون الفرق في لذائذ مادية، وأنّه تعالى يبخل على الأبرار بتلك العين.

ويشهد لذلك أنّ نفس هذا الفرق بين الفريقين عبّر عنه في سورة الإنسان بوجه آخر وباسم ، آخر ، قال تعالى: (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشرِبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً . عَيْناً يَشربُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ)؛(1) فالعين الخاصّة بعباد الله تعالى هنا هي الكافور، ويمزج بها ما يشرب به الأبرار ، وأضاف إلى ذلك أنّ عباد هم الذين يفجّرون العين تفجيراً، فهم صنّاع العين في الجنّة، والظاهر أنّه حكاية حالهم في الدنيا بقرينة قوله تعالى: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ)؛ وسيأتي إن شاء الله تتمة الكلام في تفسيرها.

ويمكن أن يكون التدرّج في ذكر هذه النعم أيضاً للإشارة إلى مراتب الاختلاف في القرب لدى الله تعالى؛ فالماء غير الآسن مرحلة نازلة، ثمّ يصل إلى مرحلة اللبن الذي لم يتغيّر طعمه، وهناك فرق كبير بين ماء لم تتغيّر رائحته ولم ينتن وبين لبن لم يتغيّر طعمه، ثمّ يأتي بعد ذلك الخمر الذي يتلذّذ به الشارب، ثمّ إلى العسل المصفّى.

ويحتمل أن يتكامل الإنسان في تلك المرحلة من التكوين أيضاً، وإن لم يمكن ذلك بلحاظ عمله فقد انتهى وقت العمل إلا أنّ رحمة الله تعالى قد ترفع بالإنسان إلى مدارج الكمال من دون عمل هناك، ولذلك صحّ من المؤمنين الدعاء، قال تعالى: (يَقُولُونَ رَبَّنَا اثْمُ لَنَا نُورَنَا)،(2) فيحتمل أن يكون العسل المصفّى

ص: 144


1- الإنسان (76): 5-
2- التحريم (66): 8

آخر مرحلة للكمال البشري يحصل عليه بعد أن هام في حبّ ربّه وشرب من الخمر الطهور، كما قال تعالى: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شراباً طَهُوراً)،(1) وزالت عنه كلّ العلائق حتّى ما يتعلّق بنعيم الجنّة، فله بعد ذلك أن يتلذّذ بالعسل المصفّى ويصل إلى معدن العظمة ويتعلّق روحه بعزّ قدسه، كما في المناجاة الشعبانية. (وَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)؛ أي الفواكه والتعبير عن طعام أهل الجنّة بالفواكه، لأنّها لا تؤكل لسدّ الجوع، بل للتلذّذ. والجنّة ليس بها جوع. والجملة تدلّ على أنّ المتّقين بأجمعهم لا يُمنعون من أيّ نوع من الثمرات، وهو مقتضى قوله تعالى: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا) كما مرّ. مع أنّه تعالى في سورة الرحمن خصّص الجنّتين الأوليين الخاصّتين بالمقرّبين بأنّهما تشتملان على كلّ فاكهة، قال تعالى: (فِيهِمَا مِنْ كُلَّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ)،(2) وأمّا اللتين من دونهما فقال عنهما: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ)؛(3) والجمع بين الموردين يقتضي ما لم نستبعده آنفاً من أنّ المراد بما ورد في سورة الرحمن بيان الاختلاف في درجات القرب لدى الله تعالى فلا منافاة بين قوله تعالى هنا أنّ لهم جميعاً من كلّ الثمرات وبين التفصيل المذكور في سورة الرحمن.

(وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ)، يظهر من ذكر المغفرة في هذا السياق أنّها من النعم المستمرّة التي يتنعم بها أهل الجنّة. وممّا لا شكّ فيه أنّ المغفرة لا بدّ منها مقدّماً على دخول الجنّة؛ إذ لا يدخلها الإنسان إذا لم تغفر له ذنوبه، فم-ا ه-و ال-م-راد بالمغفرة التي تضفى عليهم باستمرار في الجنّة مع أنّهم في دار القدس ليس فيها

ص: 145


1- الإنسان (76): 21
2- الرحمن (55): 52
3- الرحمن (55): 68

ذنب ولا قبيح. الظاهر أنّ المراد ستره تعالى على عيوبهم التي كانوا عليها في الدنيا حتّى لا يتذكّرها أحد منهم؛ لا بالنسبة إلى نفسه فيتأذى من وخز الضمير

ويتنغص عيشه، كما هو الحال في الدنيا، ولا بالنسبة إلى غيره فينتقص م-ن ق-در أحدهم في عيون إخوانه.

(كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيباً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ)، أي أَمَثَلُ ساكن الجنّة كمن هو خالد في النار سجين فيها أبداً لا يفارقها ؟! على م-ا م-رّ بيانه. وبدلاً م-ن تلك الأنهار التي مضى وصفها وصف حال هذا البائس بأنّه يسقى من ماء حمیم، أي حارّ شديد الحرارة يقطّع أمعاءهم، وهم بحاجة إلى الماء بسبب النار. وك-لّ ذلك أيضاً لا يبعد أن يكون توصيفاً لحالة من العذاب الشديد لا يمكن توصيفه فی هذه الدنيا وحسب مفاهيمها ولغتها إلا بهذا التعبير، فالنار هناك ليست كالنار هنا وقد وصفها الله تعالى بأنّها تطّلع على الأفئدة، قال تعالى: (نَارُ الله الموقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ)،(1) والمراد بها الأرواح فهي تُحرقها قبل الأجسام والروح لا يحترق بنار الدنيا. وهكذا سائر ما ورد في وصفها ووصف الماء الذي يسقون والطعام الذي يؤتون، كقوله تعالى: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الحَمِيمِ)،(2) وقد مرّ بعض الكلام حوله في تفسير سورة الصافات الآية 62 وسورة الدخان الآيات الآنفة الذكر.

ص: 146


1- الهمزة (104): 6- 7 .
2- الدخان (44): 43 - 46.

سورة محمّد (16 - 19)

وَمِنْهُم مِّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفًا أَوْلَتَبِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ(16)وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَنهُمْ تَقوَهُمْ (17) فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِهم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطهَا فَأَنّى لَهُمْ إِذَا جَاءَهُمْ ذِكْرَهُمْ(18) فَأَعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَبَكُمْ وَمَثْوَنكُمْ(19)

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا العلمَ مَاذَا قَالَ آنفاً). يظهر بوضوح من سياق الآيات أنّ المراد بهذا القوم المنافقون، فهم الذين كانوا يخالطون المسلمين ويحضرون مجلس الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، ولكنّهم لم يكونوا مؤمنين في الواقع إنّما الكلام في مرجع الضمير، فإنّه لم يسبق لهم ذكر وإنّما سبق ذكر الكفّار والمسلمين. فقيل : إنّ الضمير يمكن إرجاعه إلى الكافرين باعتبار أنّ المنافقين منهم واقعاً، ويمكن إرجاعه إلى المسلمين باعتبارهم منهم ظاهراً، فيكون الغرض من الآية التنبيه على أنّ الذين آمنوا ظاهراً ليسوا كلّه-م على وتيرة واحدة وإن كانوا جميعاً يعتبرون من صحابة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، ويحضرون صلاته ومجالسه ويستمعون كلامه ويقاتلون في صفوف المؤمنين. ولكنّ الظاهر أنّه لا حاجة إلى إرجاع الضمير إلى الكفّار أو المؤمنين، بل يعود الضمير إلى الناس أو إلى من هم حول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، فالغرض التنبيه على وجود المنافقين في صفوف من يحضرون عنده.

والقرآن مشحون بالتنديد بالمنافقين وتحذير المؤمنين من مكائدهم، لأنّهم شرّ من الكفّار وخطرهم أكبر من خطرهم، ولذلك قال تعالى: (إِنَّ المُنافِقِينَ فِي

ص: 147

الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)،(1) وبالفعل فإنّ الإسلام تمكّن من السيطرة على الكافرين وردّ كيدهم إلى نحورهم، ولكنّهم دخلوا في ملابس النفاق وتمكّنوا من تشتيت المسلمين وتفريق كلمتهم، بل تطاولوا على أعظم كلمة في الدين بعد التوحيد والرسالة، وهي الكلمة التي على أساسها كمل الدين وتمّت النعمة ويئس الذين كفروا من الإسلام ومن النيل منه، فحاولوا حذف هذه الكلمة وهي كلمة الولاية من قاموس الإسلام ولم يتمكّنوا ولكنّهم تمكّنوا من منع تأثيرها في السواد الأعظم، ولولا التضحيات التي قدمها أهل البيت علیهم السلام وشيعتهم لتمكّنوا من طمس آثار النبوّة وتحريف أساس الدين، كما كانت هي المكيدة التي أرادوها، فقد صرّح بعضهم بلزوم دفن اسم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم حتّى لا يذكر على المنائر والمنابر، ولكنّ الله تعالى أهلكه ولم يبلغه مراده.

ومن التنديد الوارد بالمنافقين ما أشير إليه في هذه الآية وهو العمى والصمم

الذي أصابهم نتيجة لمتابعة الهوى، فكانوا بالرغم من القرب إلى الرسول والحضور لديه وهو منبع النور كأنهم لا يرونه، وكانوا يستمعون إليه وكأنهم لا يسمعون كلامه كما قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأَنَا جَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجن والإنس هم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)،(2) والتعبير الوارد في الآية يدلّ على أنّهم يظهرون أنفسهم حين الحضور بمظهر الاهتمام لكلامه صلی الله علیه و آله وسلم، فإنّ ذلك هو المفهوم من الاستماع، و مع ذلك كانوا إذا خرجوا من عنده سألوا أهل العلم من الصحابة ماذا قال آنفاً؟

ص: 148


1- النساء (4) : 145 .
2- الأعراف (7): 179

و آنفاً ظرف؛ أي في الوقت السابق القريب منّا وأنف كلّ شيء طرفه وأوّله، ومنه العضو المعروف في الوجه.

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال وهو أنّه ما السبب في التنديد بهم إذا جهلوا معنى كلام الرسول صلی الله علیه و آله وسلم فسألوا أهل العلم عن ذلك؟! ومن هنا ذهب بعضهم إلى أنّ السؤال لم يكن على وجه الاستعلام حقيقة، وإنّما كان تحقيراً أو استهزاءاً بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم، وبكلامه، كأنّهم يريدون بذلك أن يظهروا عجبهم من اهتمام الصحابة بكلامه المقدسي صلی الله علیه و آله وسلم. مع أنّه لا يحتوي على أمر مفهوم. ولكن يمكن الاعتراض على هذا الوجه بأنّه لو كان كذلك فلا وجه لتخصيص السؤال بالذين أوتوا العلم من الصحابة، بل المناسب حينئذٍ أن يوجّه السؤال إلى أهل الهوى والذين في قلوبهم مرض أو المغفّلين والبسطاء من الناس ليتمكّنوا من زرع بذور

الشك في نفوسهم.

والحاصل أنّ السؤال من أهل العلم يقتضي أن يكون على وجه الاستعلام حقيقة وهو ليس عيباً. ولكنّ الظاهر أنّ السؤال ليس عن الغرض أو مغزى الكلام أو تفسيره، وإنّما كانوا يسألون عن نفس القول، فالمراد أنّهم حاضرون ويستمعون، ولكن لا يسمعون القول من جهة عدم اهتمامهم بما يقوله الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.

(أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ). في هذه الجملة يبيّن الله

سبحانه السرّ في عدم فهمهم ووعيهم، وهو الطبع على قلوبهم والمراد بالقلب ليس هو العضو الذي يضخّ الدم في الجسم، بل هو النفس الإنسانية التي تدرك الحقائق، والتعبير يشبه النفس بوعاء يحتوي المعارف والعلوم والطبع إنّما يكون

ص: 149

بعد الإغلاق، فقلوبهم ونفوسهم مغلقة لا يدخلها شيء من المعلومات بل هی مطبوعة عليها، فلا يمكن فتح أغلاقها. والطبع من الله تعالى، وما أغلقه الله وطبع عليه فمن ذا الذي يفتحه ؟! والتعبير بالختم على القلوب والطبع عليها وارد في موارد كثيرة من الكتاب العزيز.

وهذا بدوره يثير سؤالاً، وهو أنّه لماذا يطبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون؟ وأنّه لو كان ذلك من الله تعالى، فما ذنبهم إذا لم يفقهوا كلام الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وهم هذه الجهة بحكم المجانين حيث لا تكليف عليهم؟ والجواب يأتي في الجملة التالية: (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) نظير ما مرّ في قوله تعالى: ﴿كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أهْوَاءَهُمْ)،(1) وهما من باب واحد، فالسبب في الطبع على القلوب أيضاً منهم وهو متابعة الأهواء، ويأتي فيه التوضيح الذي ذكرناه هناك؛ وذلك لأنّ الطبع ليس بمعنى أنّه لا يفهم أيّ شيء، بل ربما يكون من أذكى الناس ويكون خبيراً في مجال واسع ودقيق من العلوم البشرية، ولكنّه لا يفهم شيئاً ممّا يتعلّق بما وراء الطبيعة والغيب، وإنّما يؤمن بما يراه ،بعينه مع أنّه بإمكانه أن يفهم تلك الحقائق، فإذا رفض الانصياع للكلام المشتمل على هذه الأمور مع إدراكه أنّه حقّ وأنّه من الله تعالى، وإنّما رفض لأنّه لا يناسب ما يهواه، فإنّه يطبع على قلبه، فلا يدرك الحقائق بعد ذلك أبداً، بل ولا يسمع الكلام، وربما لا يرى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، كما قال تعالى: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِليه وَفِي آذَانِنَا وَقَرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ )،(2)ويظهر من القرآن الكريم أنّ هذا الطبع يحصل في أوّل مرّة يمتنع الإنسان من

ص: 150


1- محمد (47): 14
2- فصلت (41): 5

الإيمان بالغيب مع إدراكه للحقّ، ولا يحتاج إلى التكرار كما اسلفنا في تزيين العمل، وذلك لقوله تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).(1) ويختصّ ذلك بالطبع بمن يكون جحوده عناداً فهو لا يرجع عن عناده، وإذا شوهد من بعضهم التظاهر بالإيمان فهو نفاق.

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ). المقابلة بين هذه الآية والتي قبلها تبيّن بوضوح أنّ الله تعالى لا يهدي ولا يضلّ إلا بعد أن يبدأ الإنسان بمحاولة الاهتداء إلى الحقّ أو يبدأ بمعاندة الحقّ، فالمهتدون هم الذين يتقبّلون الحقّ إذا بدا لهم واضحاً ولا يعاندونه إذا خالف هواهم، وهؤلاء يزيد الله تعالى في هدايتهم كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)،(2) ويفتح الله تعالى عليهم أبواباً من العلم ومن الناحية العملية يبعث في قلوبهم التقوى وه-و ف-ي الواقع حصيلة الإيمان والمعرفة، فكلّما زاد الإنسان معرفة بمقام ربّه زاد منه قرباً وزاد في قلبه الخشوع والتقوى، بل يزيد حبّاً الله تعالى فيتّقيه حبّاً لا خوفاً وهو المقام الأرفع. وذهب بعضهم إلى أنّ المراد بإيتاء التقوى إيتاء ثوابه، كأنّه استعظم أن يكون التقوى من الله تعالى وهو خطأ عظيم، فكلّ شيء من الله تعالى، والتقوى كما قلنا يحصل في القلب نتيجة للإيمان بالله وعرفان مقامه، وك-لّ م-ا يحصل كنتيجة طبيعية فهو من الله تعالى.

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أشراطهَا). الفاء لتفريع هذا الأمر المستغرب على الإنذار الذي اشتملت عليه الآيات السابقة بمحاسبة الأعمال يوم

ص: 151


1- الأنعام (6): 110.
2- العنكبوت (29): 69

القيامة. وقوله: (يَنْظُرُونَ)، أي ينتظرون ، والضمير يعود إلى البشر عامة والاستفهام إنكاري ، أي لا ينتظرون إلا الساعة وهم بالطبع لا ينتظرون الساعة، بل ربما لا يعتقدون بها فضلاً عن انحصار انتظارهم فيها، فالمراد بيان حالتهم الواقعية التي هم غافلون عنها وهو المستقبل الأكيد، فكأنّهم لا يترقّبون أمراً إلا قيام الساعة؛ والمراد بالساعة يوم فناء العالم بقرينة حدوثه بغتة، أي مفاجأة، لا يوم قيام القيامة حيث يقوم الناس. ويحتمل أن يكون المراد ساعة الموت.

وقوله: (أنْ تَأْتِيَهُمْ) بدل من الساعة، أي ينتظرون مجيء الساعة. وقوله: (بَغْتَةً) حال من مجيء الساعة وليس قيداً للانتظار، كما هو واضح، والمراد تحذيرهم من عاقبة الأمر، فإنّ الساعة تأتي بغتة ولا فائدة للتذكّر بعد مجيئها، فعليه أن يتنبّه للخطر الداهم قبل وقوعه.

وغريب أمر هذا الإنسان، فهو يحسب لكلّ خطر محتمل على حياته في الدنيا حسابه ويأخذ حذره، مع أنّه أمر محتمل وليس قطعياً وليس بتلك الأهمية، فهو ميت في النهاية لا محالة ولا يحسب للخطر الداهم الدائم وهو آتٍ لا محالة، مع أنّه يكفي الاحتمال!!! حتّى أنّ المؤمنين الذين يحسبون له الحساب ويهتمّون ب-ه ويتّقون ربّهم، فإنّهم أيضاً لا يهتمّون به كاهتمامهم بسلامتهم في الدنيا، فتجد الكثير، بل الأكثر ترتعد فرائصه ويصفرّ لونه، بل ربما يموت فجأة إذا أخبر بأنّ الورم الذي في جسمه - مثلاً - ورم سرطاني، مع أنّه من المحتمل معالجته، ولا تجده يهتمّ ذلك الاهتمام البليغ إذا احتمل كون ما يعمله والمسير الذي انتخبه مورداً لسخط الله تعالى. وهكذا الأمر بالنسبة لمن يحبّه، فإذا أخبر بأنّ ابنه نقل إلى المستشفى لحادث خطير تجد الارتباك والاضطراب باديين عليه، وأمّا إذا

ص: 152

أخبر أنّه ارتكب محرّماً فلا أثر يبدو على وجهه.

والأشراط جمع شرط بفتحتين بمعنى العلامة أي أنّهم لم يتذكّروا ويتنبهوا برؤية أشراط الساعة وعلاماتها، فلم يبق إلا أن ينتبهوا عند مجيئها وذلك لا ينفعهم، فالفاء في قوله: (فَقَدْ جَاءَ) لتعليل عدم انتباههم للساعة إلا عند حدوثها، وهذا هو المفهوم من انتظارهم للساعة، فالمعنى أنّ العلامات تحقّقت فلم ينتبهوا لها فيبدو أنّهم لا ينتبهون إلى أن تأتيهم بغتة ولا ينفعهم الانتباه آنذاك.

والكلام هنا في ما هو المراد بعلامات الساعة، فيحتمل أن يكون المراد علامات قرب وقوعها وهو الظاهر من استغراب عدم تنبّه الإنسان لها، مع أنّه ل-م يبق إلا وقوعها، فمعنى ذلك أنّها قد قربت.

وهناك آيات من القرآن تدلّ على قرب الساعة، كقوله تعالى: (أَزِفَتِ

الآزِفَةُ)،(1) وقوله: (إقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)،(2) وقوله: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً)،(3) ولكن ما هي العلامات التي جاءت لتدلّ على قربها؟ ظاهر آية القمر أنّ

شقّ القمر من علامات قربها. وقد ورد في حديث مشهور: (يا معشر المسلمين إنّي إنّما بعثت أنا والساعة كهاتين»، قال: ثمّ ضمّ السباحتين»،(4) وفي نقل آخر: «وجمع بين سبّابتيه»،(5) وفي بعض الروايات بين السبابة والوسطى»،(6) ومعنى ذلك أنّ رسالة

ص: 153


1- النجم (53): 57
2- القمر (54): 1.
3- المعارج (70): 6- 07
4- أمالى المفيد: 188
5- بحار الأنوار 16: 256
6- بحار الأنوار :6: 315؛ الجعفريات: 212

السماء النهائية بنفسها من علامات قرب الساعة، وذكر من أشراط الساعة نزول القرآن باعتبار أنّه آخر الكتب السماوية، وذكرت أمور أخرى لم تثبت كونها

علامات ولا أنّها وقعت.

ولكن السؤال لا ينتهي بناءاً على هذا الاحتمال، فإنّ المراد بالقرب أيضاً غير واضح، لأنّ القرب والبعد أمران إضافيان والواقع أنّ القرب لا يمكن أن يلاحظ بالنسبة إلى عمر المخاطبين بأن يكون المقصود أن وقوعها قريب منهم بحيث تقوم الساعة عليهم، فإنّها لم تقم وقد مضت القرون عليهم، فربما يكون المراد قربها بلحاظ عمر الطبيعة بمعنى أنّ ما بقي من عمر الطبيعة أقلّ بكثير ممّا مضى، كما ورد في بعض أحاديث العامّة، ولكن هذا الأمر لا أثر له بالنسبة للمخاطبين، والأولى أن يقال في توجيه القرب بأحد وجهين:

الأوّل: أنّ الموت هو أوّل مراحل الساعة بالنسبة لكلّ إنسان، فإنّه بموته ينقطع الدنيا ويكون رهيناً بعمله، وقد انتهت فرصته للعمل وللتوبة، ولذلك ورد أنّ

من مات فقد قامت قيامته.(1)

الثاني: أنّهم بعد الموت لا يشعرون بمضي زمان طويل، فتقوم الساعة عليهم

وهم يظنّون أنّهم ما لبثوا إلا عشية أو ضحاها؛ كما ورد في عدة من الآيات. ويحتمل أن يكون المراد بالساعة ساعة الموت، فإنّها أيضاً كثيراً ما تأتي بغتة وعلاماتها تختلف حسب الأشخاص ولا أقلّ من مشاهدة موت الآخرين؛ ويحتمل أن يكون المراد بالأشراط علامات أصل ثبوت الساعة وهي الأدلة التي تقتضي ذلك، ويؤيده أنها هي التي ينبغي أن تكون منبهة للإنسان، فلا حاجة إلى

ص: 154


1- راجع :شرح الكافي للمولى صالحي المازندراني 4: 274

عدّ ما يتحقّق قبيل الساعة وإثبات أنّها من علاماتها، مع أنّ الساعة لا يعلم موعدها إلا الله تعالى ولا دخل للعلامات القريبة، فإنّ الإنسان ينبغي أن يتذكّر بمجرّد ما يثبت له هذا الواقع العظيم ولا يختلف طول الزمان وقربه، وممّا يدلّ على ثبوته الآيات البيّنات التي نزلت في الكتب السماوية، ومنها ملاحظة عدل الله تعالى وعلمه وحكمته وقدرته ، فإنّ العقل يحكم بأنّه لا بدّ من مرحلة من التكوين بعد هذه الحياة ينال كلّ أحد جزاءه من خير وشرّ، فإنّ المشهود في هذه المرحلة هو عدم نيل الجزاء وعدم وضع كلّ أحد موضعه، وهذا ينافي حكمة الله تعالى وعدله وعلمه وقدرته.

(فَأَنَّى هُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ)، الفاء للتفريع والاستنتاج بعدم الجدوى لتذكّرهم ذلك اليوم . و (أَنَّى) أداة استفهام بمعنى أين وكيف وهي خبر مقدّم، وذكراهم مبتدأ. وجملة: (إِذَا جَاءَتْهُمْ) معترضة، أي كيف يذكرون بعد أن جاءتهم. والمراد أنّه لا ينفع التذكّر حينه، كما قال تعالى: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ الخِيَانِي)،(1) فلا يبقى لديه إلا التمنّي، بل لا يفيد التذكّر قبله، فالإنسان إذا جاءه الموت لا تنفعه التوبة لقوله تعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ)،(2)كما لا ينفع حين نزول العذاب الإلهي ، ولذلك لم يقبل من فرعون توبته وإيمانه، كما قال تعالى: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).(3)

ص: 155


1- الفجر (89): 23 - 24.
2- النساء (4): 18.
3- يونس (10): 90 - 91

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله)، الظاهر أنّه تفريع على ما يعلم إجمالاً من مجموع ما سبق من أنّ الأمر بيد الله تعالى، فهو الناصر وهو الخاذل وهو الذي يطبع على قلوب المنافقين ويزيد في هداية المهتدين ويؤتيهم تقواهم، فعلى الإنسان أن ذلك في نفسه ويطمئنّ بربّه، ويعلم أنّه لا ملاذ إلا إليه، فالأمر كلّه بيده، يعبد غيره ولا يطيع غيره ولا يقصد غيره لحاجته، بل لا يطلب غيره، فإنّه غاية

مراد المريدين.

وأوّل سؤال يتبادر إلى الذهن من هذه الجملة أنّه كيف يؤمر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأنّ يعلم ذلك وقد علمه وعلّمه الآخرين؟

والجواب أوّلاً: أنّ الخطاب قد لا يكون متوجّهاً للرسول صلی الله علیه و آله وسلم الخاصة ، بل لكلّ من يسمع أو يقرأ.

وثانياً: أنّ المقصود الثبات والاستمرار على الإيمان بالتوحيد وتعميمه وتعميقه، فالتوحيد، بكلّ معنى الكلمة لا بدّ من تكريره والتأكيد عليه ليستقرّ في القلب ويدخل في عامّة شؤون الحياة، حتّى لا يطلب الإنسان حاجته إلا من الله تعالى، بل لا يتوجّه في أيّ عمل من أعماله إلا إليه تعالى، بل لا يطلب في مسيره إلا الله تعالى، فيكون هو منتهى أمله وغاية مناه؛ فإنّ الإله لا يختصّ بالعبادة بالمعنى الأخصّ وهي طقوس خاصّة تتبنّاها كلّ فرقة حسب دينه ومذهبه، ب-ل الإله هو الصمد الذي يصمد إليه الناس في حاجاتهم، بل هو الذي يجب أن يقصده الإنسان في كلّ شؤونه ويقصد رضاه ويتوجّه نحوه بل هو المطلوب الذي يبحث الإنسان عنه في كلّ حياته جاداً كادحاً.

ويدلّ على ذلك قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى

ص: 156

عِلمٍ)،(1) وهذا يصدق على أكثر الناس، ولكنّهم لا يعبدون الهوى بمعنى أنّهم يسجدون له، وإنّما يعتبرون من عبّاد الهوى، لأنّه هو المطلوب الأساس لهم، فالإله هو المطلوب والمحبوب، وهذا المعنى منحصر عند أهل المعرفة في الله تعالى، والتوحيد الكامل هو الانقطاع إليه، ولذلك ورد بعده أمر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بالاستغفار لذنبه، وسيأتي إن شاء الله تعالى أنّ ذنبه ليس إلا في هذا المجال.

هذا وما كان يعلّمه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من الحقائق إنّما علمها بتعليم من الله تعالى وبنزول الآيات القرآنية، وهذا أيضاً قد حصل قبل هذه الآية، ولكنّه أمر هامّ لا بدّ من التنبيه والتأكيد عليه في كلّ مناسبة، ولهذا قلنا إنّه لا بدّ فيه من التعميم والتعميق، فالتعميم بحيث يشمل كلّ جوانب الحياة والتعميق بالتكرار حتّى لا يغفل عنه الإنسان.

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)، يتفرّع أيضاً على معرفة مقام الربّ لزوم الاستغفار من الذنوب والرسول صلی الله علیه و آله وسلم معصوم من الذنب بالمعنى المعروف إلا أنّ الذنب بالمعنى اللغوي له معنى وسيع وهو تبعة العمل، سواء كانت في الدنيا أو في الآخرة، وسواء كانت تبعة مجعولة كالعقوبة والجزاء أو تبعة طبيعية أو عرفية، وبذلك نفسّر قوله تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)،(2) ويشهد له قوله تعالى في حكاية قول موسى علیه السلام: (وَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)(3) وما فعله علیه السلام لم يكن ذنباً، بل كان واجباً شرعياً ولذلك اعتبره علیه السلام ذنباً لهم عليه، وبعد أن غف-ر

ص: 157


1- الفرقان (25): 43
2- الفتح (48): 2.
3- الشعراء (26): 14

الله تعالى له: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ)،(1) أي أنّه يستمرّ في مواجهته للكفّار، فالتعبير عنه بالذنب بمعنى أنّه تبعة لعمله حسب قانونهم ونظامهم ومعتقدهم، ولذلك أيضاً قلنا: إنّ المغفرة في هذا المورد وفي سورة الفتح بمعنى حفظه والستر عليه من التبعات الدنيوية وما يقصد به الأعداء من السوء.

والحاصل أنّ الذنب بهذا المعنى يتعلّق بأفعال المعصومين علیهم السلام، ب-ل ه-م عادۀ في معرضه لأنّهم يواجهون الأعداء في مسيرتهم. ول-ه بالنسبة لهم معنى آخر وهو معروف أيضاً وهو ما يعبّر عنه بأنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين.

ولتوضيحه نقول: إنّ كثيراً من عباداتنا، بل أكثرها لو لم يكن كلّها خالية عن التوجّه الكامل والخلوص الكامل، فمن جهة التوجّه لا نتمكّن من التركيز على ما بدأنا به من النية ونغفل عن أنّنا متوجّهون إلى الله تعالى وأنّنا بحضرته، وكثيراً ما نفقد الخشوع والخضوع، وإنّما نأتي بالعمل صحيحاً للاعتياد، ومن الجهة الثانية لو لم يتدخّل في نيّتنا قصد الرياء والعجب، فلا أقلّ من أنّنا نقصد بلوغ المآرب الدنيوية بصلاتنا وسائر عباداتنا بل هي المقصد الأسمى لأكثرنا والأولياء المخلصون لا يقصدون بعملهم حتّى النعم الأخروية، كم-ا م-رّ الكلام حوله. وحينئذٍ فإذا تمّت لنا صلاة مع الخشوع والتوجّه والخلوص بدرجة متدنية، فإنّه-ا تعدّ من أحسن حسناتنا، وهي بالنسبة للرسل والأئمة المعصومين علیهم السلام تعتبر سيئة، لأنّهم لا يتوقّع منهم أن يفقدوا التوجّه الكامل حتّى لحظة واحدة، ولا يتوقّع منهم أن يقصدوا بعملهم حتّى المنافع الأخروية وإن لم يكن ذلك ذنباً وقبيحاً، فإذا برز

ص: 158


1- القصص (28): 17

منهم ذلك فإنّهم يستغفرون ربّهم منه، وحقّ لهم الاستغفار والتوبة، ولذلك فإنّ

الله تعالى يمتدح رسله بأنّهم أوّابون، أي يكثر منهم الرجوع إلى الله تعالى. وليعلم أنّ المعصومين إنّما عصموا من الذنوب التي يبتلى بها عامة الناس وليسوا معصومين من الذنب بهذا المعنى، وهم مع ذلك مختلفون في درجات القرب، فيختلفون في درجات التوقّع، والله تعالى يطالب كلّ أحد حسبما أنعم عليه، فكما أنّه لا يتوقّع ممّن تربّى في بيئة كافرة كما يتوقّع ممّن أبواه مؤمنان لاختلاف ما أنعم الله عليهما، كذلك لا يتوقّع من كلّ واحد من الرسل كما يتوقّع من سيّد المرسلين صلی الله علیه و آله وسلم، ولذلك كان كثير العبادة والخشوع والبكاء، فإذا سئل عن السرّ في ذلك مع أنّه قد غفر ذنبه ما تقدّم وما تأخّر، قال: «ألا أكون عبداً شكوراً».(1)

هذا، وفي الأمر بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات إشارة إلى حاجتنا إلى

استغفاره صلی الله علیه و آله وسلم و لنا كما قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ هُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)(2) وهذا يدخل في باب الشفاعة، ويتبيّن منه أنّه لا يكفي المؤمنين أن يستغفروا لأنفسهم، بل عليهم أن يلوذوا بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم ويطلبوا منه الاستغفار. والمغفرة أهمّ الحاجات، فإذا جاز ذلك جاز طلب سائر الحاجات بواسطته بأن نطلب منه أن يطلب من ربّه حاجاتنا، وهو معنى التوسل والاستشفاع والرسول حيّ يرزق من دون ريب، لأنّ الله تعالى :يقول: (وَلا تَقُولُوا لَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيل الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ)،(3) فإذا كان

ص: 159


1- الكافي 2: 95
2- النساء (4): 64.
3- البقرة (2): 154

المقتول في سبيل الله حيّاً فالرسول صلى الله عليه و اله سلم أولى بذلك.

(وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ)، تذكير للمؤمنين مرّة أخرى بهذه الحقيقة

المغفول عنها، وهي أنّ الله تعالى محيط بهم وشاهد لكلّ أعمالهم فليتّقوا ربّهم وليحذروه. وقد اختلف المفسّرون في معنى المتقلّب والمثوى، فقيل: إنّ-ه التصرّف في الدنيا والاستقرار في الآخرة، وقيل: التقلّب من الأصلاب إلى الأرحام والسكون في الأرض، وقيل: التصرّف في اليقظة والسكون في المنام، وقيل: التصرّف في المعايش والأعمال والاستقرار في المنازل.

وقال العلامة الطباطبائي رحمه الله: المتقلب بمعنى الانتقال من حال إلى حال، والمثوى بمعنى الاستقرار والسكون، فالمراد أنّه يعلم كلّ أحوالكم من الأحوال المتغيّرة والثابتة. وقال: إنّ هذا المعنى أظهر وأعمّ ممّا ذكروه.(1)

وهذا صحيح، ولكن مناسبة الحال تقتضي أن يراد هنا معنى خاصّ وهو تقلّب الإنسان في عقيدته وإيمانه وعاقبة أمره، فالإنسان يتحوّل كثيراً طيلة حياته، فيوماً مؤمن قوي الإيمان شديد الخشوع، ويوماً متردّد وشاكّ، ويوماً فاسق فاجر، وربما يبلغ الكفر، وهكذا يتحوّل من حال إلى حال، ولكنّه يستقرّ في عاقبة أم-ره عل-ى حالة، فلعلّ المراد بالمثوى عاقبة الإنسان من حيث العقيدة والعمل.

ولعلّ السرّ في التذكير به الخطر المحدق بالإنسان في عاقبة أمره، فكم كان من الناس من جاهد في سبيل الله تعالى وتحمّل المشاقّ وانتهى الأمر به إلى الارتداد أو النفاق، والسبب في ذلك هو متابعة الهوى والتوغّل في المعاصي، ولذلك لا بدّ من الاستغفار والتوسّل بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم وأهل بيته الطاهرين علیهم السلام

ص: 160


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 238

لضمان المستقبل و العاقبۀ الحمیدۀ.

واللطيف في الآية الكريمة أنّها تجمع بين التوحيد من جهة، والتوسّل والاستشفاع من جهة أخرى، ليعلم الإنسان أنّه لا تنافي بين التوحيد وحبّ أوليائه تعالى، لأنّنا لا نحبّهم ولا نتوّلاهم إلا لأنّهم أولياؤه تعالى والمقرّبون لديه، فحبّهم من حبّ الله وولايتهم من ولايته تعالى كما أنّ التوحيد واعتقاد أنّ الله تعالى ه-و القادر وهو الشافي والرازق والقاضي للحوائج، وأنّه لا مؤثّر في الوجود غيره تعالى لا ينافي التوسّل بأوليائه والتمسّك بهم للتوسط في قضاء الحوائج، بل لا ينافي طلب الحاجة منهم بما أنّهم عباد الله المخلصين الذين آتاهم الله القدرة على قضاء الحوائج بإذنه تعالى كما منح عيسى علیه السلام القدرة على إحياء الموتى وشفاء المرضى بإذنه.

ص: 161

سوره محمّد(20-28)

وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لَوْلَا تُزَلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِي عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ(20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ

(21)فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِعُوا أَرْحَامَكُمْ(22) أَوَلَئِكَ

الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَرَهُمْ(23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى

قُلُوبِ أَقْفَالُهَا(24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَرِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَنُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ(25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَتطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ(26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَئكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَرَهُمْ(27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ, فَأَحْبَطَ أَعْمَلَهُمْ (28)

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ)، ورد هذا المقطع أيضاً في سياق التنديد بالمنافقين والتحذير من خطرهم، والخطر هنا يكمن في تثبيطهم المؤمنين عن القتال وتأثيرهم السلبي في هذا المجال، وهو موضوع البحث في هذه السورة كما مر . والظاهر أنّ المراد بالذين آمنوا في أوّل الآية عامّة المسلمين لا خصوص المؤمنين المخلصين في مقابل المنافقين كما قيل؛ إذ لو كان كذلك لم يكن وجه لاستغراب تخوّف الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون كما سيأتي، فإنّ الاستغراب إنّما هو من اقتراحهم نزول سورة تأمر بالقتال، ثمّ إظهار التخوّف منه، فلا بدّ من اعتبار المنافقين ضمن المقترحين.

والمراد بالسورة التي يطالبون بها خصوص ما يذكر فيها القتال، وإنّما لم

ص: 162

توصف بذلك اكتفاءاً بالجملة التالية لئلا يتكرّر الوصف، فالمراد بتقديم هذه الجملة التنبيه على أنّ تقاعس المنافقين عن الحرب بعد الأمر به من قبل الله سبحانه لم يكن بعد أمر ابتدائي ليشقّ تحمله، بل جاء الأمر بالحرب في ظروف خاصّة استوجبت مطالبة المجتمع الإسلامي بذلك، حيث طلبوا من ربّهم أن ينزّل عليهم سورة يأمرهم فيها بالقتال مع الأعداء. وقد وقع مثل ذلك لبني إسرائيل، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لنبى هُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقَاتِلُ فِي سَبيل الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ألا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا ألا تُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أَخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَاتِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوا إلا قليلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)،(1) فالآية الكريمة هنا تنبّه على وقوع مثل ذلك في هذه الأمّة أيضاً.

(فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمُغْشِيٌّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ)، المحكم من الحكمة بمعنى المنع، وهو ما لا يدخله الشكّ فهو واضح وصريح، كأنّه منع من ورود الشكّ والشبهة، ويقابله المجمل والمتشابه، فالغرض من هذا التوصيف التنبيه على أنّ الأمر بالقتال ورد صريحاً واضحاً غير قابل للتأويل.

والظاهر أنّ المراد بالذين في قلوبهم مرض المنافقون، ولكن بوصف كونهم ممّن في قلوبهم مرض، ولعلّ اختيار هذا التعبير للإشارة إلى أنّ حالة الهلع والخوف الذي تبدو على وجوههم ليست طبيعية، وإنّما يبدو عليهم ذلك لمرض في قلوبهم وهدف فاسد يقصدونه وهو تثبيط عزائم المؤمنين الخالصين. والدليل

ص: 163


1- البقرة :(2): 246

على الاختصاص بالمنافقين قوله تعالى في الآية :29: (أمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ)، فالأضغان أي الأحقاد - كما سيأتي إن شاء الله - يدلّ على أنّ المراد بهم المنافقون، حيث كانوا يبطنون العداء للإسلام والمسلمين، وأمّا ضعفاء الإيمان فما كانوا يحملون حقداً للمؤمنين. والآيات التالية صريحة في أنّ المراد بهذه المجموعة من الآيات من هم من أشدّ المنافقين حقداً وبغضاً للرسول صلی الله علیه و آله وسلم وللمسلمين.

ولكن في تفسير «الميزان» أنّ المراد بهم ضعفاء الإيمان دون المنافقين،(1) وهذا لا دليل عليه في الآية ولا وجه له، وحمل الآية على ذلك يوجب خروجه-ا ع-ن سياق الآيات التي تتعرّض لموقف المنافقين من الجهاد، وإنّما اختاره العلامة رحمه الله لما يظهر من بعض الآيات في غير هذا المقام من جعل المنافقين مقابلاً للذين في قلوبهم مرض، فالمقابلة بين الفريقين تدلّ على اختلافهما. ولكنّ الظاهر في هذه الموارد أنّه من قبيل ذكر العام مع الخاص، فالذين في قلوبهم مرض عنوان عام يشمل المنافقين وغيرهم، فإنّ النفاق أيضاً مرض من الأمراض التي تصيب القلب، أي النفس والروح البشرية.

والمراد بالمغشيّ عليه من الموت المحتضر في أواخر حالاته، حيث يغشى عليه وتبقى عيناه مسمرتين كأنه ينظر بهما إلى نقطة خاصّة لا يتجاوزها، وهذه الحالة تحصل لبعض الناس في الخوف الشديد الذي يسيطر على مشاعر الإنسان وأحاسيسه، فتجده واجماً لا يتحرك ولا يستطيع القيام بأيّ ردّ فعل في مقابل الخطر الداهم، والتعبير يصوّر الجماعة كأنّهم بلغ بهم الذعر إلى هذه الحالة

ص: 164


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 239

التعيسة، ولا يمكن تصوير الخوف والهلع أكثر ممّا يصوّره هذا التعبير. ولكن هل كان ذلك واقعياً أم كانوا يتظاهرون به للتأثير في نفوس المؤمنين؟ التعبير يحتمل الأمرين ولكنّ السياق أوفق بالثاني.

(فَأَوْلَى هُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ). اختلفوا أيضاً في تفسير هذه القطعة؛ فمنهم من اعتبرها جملة واحدة، والمعنى واضح على ذلك، أي أنّ الأولى لهم أن يطيعوا وإن يقولوا قولاً معروفاً، والمعروف في مقابل المنكر بمعنى القول المناسب للمقام عرفاً .

ولكنّ الأكثر على أنهما جملتان، فالجملة الأولى قوله تعالى: (فَأَوْلَى لَهُمْ) ومثله قوله : (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)،(1) وجملة (أوْلَى لَكَ) جملة معروفة بين العرب وردت في أشعار الجاهلية، و(أوّلى) مأخوذ من «ولي» بمعنى قرب، فمعناها أقرب لك وهو خبر لمبتدأ محذوف، وحكي عن الأصمعي أنّه ق-ال معناها «قاربك ما يهلكك»، فقيل: إنّه يفيد التهديد والوعيد، وقيل: إنّه دعاء على المخاطب ولا يبعد أن يكون المعنى مختلفاً حسب الموارد، ولكنّ الغالب فيه التهديد، كما يشاهد ذلك في اللهجة العامية؛ وفي لغات أخرى حيث يستعمل كتهديد مبطن لكلّ من يواجه الإنسان بصلابة وعناد، فيهدّده بإبهام لأسباب مختلفة. وبناءاً على هذا فقوله: (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) جملة مستقلة أيضاً، والتقدير أمرهم وشأنهم طاعة معروفة وقول ،معروف، أو طاعتهم طاعة معروفة وقولهم قول معروف. وهذا كناية عن أنّهم معروفون بعدم الطاعة وبالقول الفاسد، وإنّ من الواضح لدى الجميع كونهم مخادعين.

ص: 165


1- القيامة (75): 34 - 35

والذي يشبه هذه الآية في القرآن قوله تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُفْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)،(1) وهذه الآية قرينة على المراد من هذه الجملة هنا، فإن الصحيح في تفسير تلك الآية أن قوله: (طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ) تعريض بهم ، ومعناه أنّ طاعتهم طاعة معروفة بمعنى أنّ من المعروف لدى الجميع أنّهم لا يطيعون أوامر الله ورسوله صلی الله علیه و آله وسلم، فالأقرب في معنى الآية هنا أيضاً أنّهما جملتان وأنّ الأولى تهديد أو دعاء عليهم، والثانية تنديد بهم من جهة خداعهم ومكرهم ونفاقهم، فهم يدّعون الطاعة ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فتقدير الجملة طاعتهم طاعة معروفة وقولهم قول معروف والمراد أنّ نفاقهم أمر واضح ومعروف لا حاجة إلى التنبيه عليه. وأمّا القول بأنّهما جملة واحدة فينافي التشدّد والاستنكار الذي تحفل به الآية، إذ التعبير بأنّ الأولى لهم أن يطيعوا وأن يقولوا قولاً معروفاً لا يناسبه وإن كان ذلك ربما يناسب الجملة التالية.

(فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ)، العزم هو الجدّ أي إذا جدّ الأمر ولزم القتال فخير لهم إن يكونوا صادقين في إيمانهم بالله تعالى ولزوم إطاعته. ومن الواضح أنّ الخير هنا ليس بمعنى كونه أفضل وأولى، بل بمعنى أنّ الخير في ذلك فحسب. والمراد بالصدق الوفاء بالعهد، فإنّ الإيمان بالله عهد من العبد بالإطاعة، وهذا العهد مأخوذ من كلّ إنسان بالفطرة، كما تدلّ عليه قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا

ص: 166


1- النور (24): 53

بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)(1) ومأخوذ أيضاً من كلّ مؤمن بتشهّده الشهادتين، ومأخوذ أيضاً ممّن آمن بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم في ذلك العهد بالبيعة، فالعهد على تلك الجماعة مأخوذ ثلاث مرّات فيجب أن يكونوا صادقين في عهدهم أوفياء به.

وعليه فقوله: (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) جواب الشرط في قوله: (فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ). وقيل: إنّ جوابه محذوف، أي فإذا عزم الأمر كرهوا الحرب أو تهاونوا ونحو ذلك، والجملة التالية مستأنفة تدلّ على المحذوف. وهذا التفسير لا يناسب السياق بناءاً على ما ذكرناه في تفسير قوله تعالى: (فَأَوْلَى هُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)، وإنّما يناسب تفسيره بأنّ المراد أنّ الأولى لهم أن يطيعوا ويقولوا قولاً معروفاً، فإذا عزم الأمر فالأولى لهم أن يثبتوا. ولكن كلّ ذلك لا يناسب السياق الذي يظهر منه التشديد عليهم والاستنكار.

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ)، الاستفهام للاستنكار ، و(عَسَيْتُمْ) لبيان المقاربة والتوقّع، أي هل المتوقّع منكم إن أعرضتم عن الدين وارتددتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، كما كنتم في الجاهلية، ومعنى ذلك أنّه هو المتوقّع وهو مستنكر وليس معنى (هَلْ) التحقيق كما يقال، بل هو الاستنكار ولكن لا يستنكر إلا ما هو واقع، إلا أنّ (عَسَى) يخفّف الأمر فلا يواجههم في الخطاب بشدّة بأن يحكم عليهم بالفساد قطعاً، ولكنّه المتوقّع ، لأنّه طبيعة القوم؛ وإنّما منعهم من الاستمرار فيه تظاهرهم بالدين. وقد مرّ مراراً أنّ التعبير ب- «عسى» ولعلّ في القرآن الكريم، بل في كلّ تعبير

ص: 167


1- الأعراف (7): 172

ليس بمعنى الترجّي أو الاحتمال حتّى يستغرب صدوره من علام الغيوب، ويأوّل بأنّه من الله يدلّ على الثبوت والوجوب كما قيل بل هو بمعنى أنّ هذا هو المتوقّع منكم، وأنّ الجاهلية تحقّق الأرضية المستعدّة للفساد في الأرض وقطع الأرحام.

والكلام مستمرّ حول المنافقين الذين حاولوا التأثير على عزيمة المؤمنين في الجهاد، وهنا يعود السياق إلى مخاطبتهم بعد أن كان الحديث عنهم غيابياً ليكون أبلغ في التأثير وألصق بهم. ويبدو من الآية أنّ بعضهم كانوا يشيعون في الناس أنّه لا ينبغي محاربة مشركي مكّة، لأنّه من الفساد في الأرض وقطع الأرحام، ويبدو منه أنّهم كانوا ممّن لهم قرابة فيهم فلعلّهم من بعض المهاجرين، ولا يستغرب وجود منافقين فيهم وسيأتي في تفسير قوله تعالى: (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ)(1) أنّ النفاق كان في مكّة ومن أوائل الإسلام.

وتبيّن بما ذكرناه أنّ المراد بالتولّي هو الإعراض عن الدين والرجوع إلى الجاهلية، وهو الأنسب بالسياق وبما سيأتي من توصيفهم بالارتداد الذي ه-و الأمر المناقض لقوله: (فَلَوْ صَدَقُوا الله) في الآية السابقة، فالمعنى أنّكم إن أعرضتم ولم تصدقوا الله تعالى وعُدتم إلى جاهليتكم الأولى فالمتوقّع منكم أن تعودوا إلى صفاتكم وعاداتكم في الجاهلية من الفساد في الأرض بالقتل والغصب وقطيعة الرحم وغيرها من الجرائم والكبائر.

وقيل: إنّ المراد بالتولّي الأخذ بزمام الحكم، وورد في بعض الأحاديث أنّه خطاب لبني أُميّة، ولعلّ ذلك من باب الجري والتطبيق، فإنّهم تول-وا الأم-ور

ص: 168


1- الحاقة (69): 49

وأفسدوا في الأرض أيّما فساد، وقتلوا المؤمنين الصالحين وقطّعوا الأرحام، لأنّ بي هاشم من أرحامهم فقتلوهم وشرّدوهم. ولكن حمل الآية على هذا المعنى بعيد جدّاً ولا يناسب سياق الآيات.

والرحم موضع الجنين في بطن المرأة، والمراد بالأرحام من يشارك الإنسان في رحم مع كونه في نفس الوقت يعدّ من الأقارب عرفاً، فيشمل الوالدين والإخوة والأعمام والأخوال وأولادهم وغير ذلك، والمراد بقطع الرحم ترك المواصلة معهم بالإحسان إليهم حين الحاجّة والتفقّد عنهم وزيارتهم إن اقتضته

المناسبة، وعيادة مرضاهم وحضور جنائزهم وقضاء حوائجهم، فترك المواصلة قطع للرحم فضلاً عن الإساءة إليهم وقتلهم والتنكيل بهم، كما فعل-ت ب-ن-و ام-ي-ة وبنو العباس.

(أولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)، الإشارة إلى الذين تولّوا

وأعرضوا عن إطاعة الله ورسوله، واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى، وهذا إنّما يتمّ في من لا مجال لهدايته، ولذلك فرّع عليه إصمام آذانهم وإعماء أبصارهم، فهم لا يسمعون آيات الله تعالى فيعونها ولا يبصرونها فيؤمنوا بها، وهذا الجزاء إنّما يلحق بمن عاند الحق ولم يؤمن به بالرغم من إتمام الحجّة

عليه. ولعلّ السبب في لعنهم وإعمائهم هو الارتداد، ويشهد له قوله تعالى بعد ذلك: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أدْبَارِهِمْ)، فالظاهر أنّ المراد بهم نفس المذكورين سابقاً. والارتداد شرّ من عدم الإيمان من البداية. ولم يكن السبب في ارتدادهم الشكّ المستند إلى عدم الاقتناع، بل السبب هو متابعة الأهواء وحبّ الدنيا بعد أن رأوا الآيات وعلموا أنّها الحقّ، ولذلك حقّت عليهم العماية والصمم واللعن،

ص: 169

ويشهد لذلك أنّ الارتداد من عوامل الطبع على القلوب، كما هو الظاهر من قوله تعالى في المنافقين: (ذَلِكَ بِالَهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطَبعَ عَلَى قُلُوبهمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ).(1)

هذا ما يقتضيه التأمّل، ولكنّ المفسّرين ذكروا أنّ الإشارة إلى المفسدين وقاطعي الأرحام، وحيث إنّ هذا الأمر بمجرّده لا يوجب الطبع والختم على الأبصار والأسماع حاولوا توجيه ذلك بحيث يكون المصداق من يستحقّ هذا الجزاء وتبيّن بما ذكرناه أنّه لا حاجة إلى التأويل.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبِ أَقْفَالُهَا)، التدبّر هو النظر في دُبُر الشيء أي آخره وما يترتّب عليه، والمراد التعمّق في مقاصد القرآن وعدم الاكتفاء بما يبدو من ظاهره، ويمكن أن يكون المراد هنا التعمّق فيه من جهة خاصّة وهي كونه معجزة تهدي الإنسان إلى الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ليكون مناسباً للإعراض والارتداد الذي يتعرّضون له، ومثله قوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)،(2) فإنّ قوله: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله) يرشد الإنسان إلى ما يقتضي كون القرآن كتاباً منزلاً من عند الله تعالى.

والاستفهام للاستنكار، فالحاصل أنّ الآية الكريمة تستنكر منهم عدم التدبّر في حقيقة القرآن لينتهوا بذلك إلى الإيمان بالله تعالى وبالرسالة، ثمّ قابل ذلك بعدم تمكنهم من التدبّر ، لأنّ قلوبهم مغلقة وعليها أقفال وعليه ف-- (أم) هنا متّصلة، والسؤال الذي يقصد به الاستنكار أنّهم هل تركوا التدبّر مع تمكّنهم أم أنّهم تركوه للأقفال وهم على كلا التقديرين محكوم عليهم باللعن والطرد؛ أمّا

ص: 170


1- المنافقون (63): 3
2- النساء (4): 82

على الأوّل فواضح، وأمّا على الثاني، فلأن القلوب إنّما أغلقت وأقفل عليها، لأنّهم اتبعوا أهواءهم وعاندوا الحقّ بعد مواجهتهم للآيات البيّنة الواضحة، كما

مرّبيان ذلك.

وهنا سؤالان: الأوّل عن الوجه في تنكير القلوب حيث يتوهّم أنّ الأولى أن

يقال: أم على قلوبهم أقفال ؟ والثاني عن إضافة الأقفال إلى القلوب.

والجواب عن الأوّل أنّه يحتمل فيه الإبهام لئلا يعمّ جميعهم، ونظير ذلك ما يرد في كثير من الموارد في القرآن الكريم من نسبة الجهل والعناد إلى الأكثر دون التعميم، وهذا من أدب القرآن ومن الدقّة في التعبير. وعلى هذا الأساس يمكن أن يشمل غيرهم أيضاً ممّن يكون فيه نفس المناط، فهذا التنكير يفي-د التخصيص والتعميم. ويحتمل - كما قيل - أن يكون التنكير للتفخيم، أي على قلوب قاسية أيّما قساوة. وأمّا إضافة الأقفال إلى القلوب فللتنبيه على أنّها أقفال خاصّة بها تنشأ من معاندتها للحقّ.

وفي الآية دلالة - كما في مجمع البيان(1) - على بطلان القول بعدم جواز تفسير شيء من القرآن إلا بخبر وسمع. وأوضح منه في حثّ الجميع على التفكّر في الآيات والتعمّق فيها قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أولُو الألْبَابِ).(2)

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ). الارتداد هو الرجوع. والأدبار جمع دُبُر، ودَبر بمعنى الخلف، أي رجعوا القهقرى، وهذا التعبير ربما يراد به الارتداد عن الدين

ص: 171


1- راجع: مجمع البيان في تفسير القرآن 10 - 9: 158
2- ص (38): 29

وربما يعبّر به عن الفرار في الحرب أو مخالفة البيعة والعهد وغير ذلك، ولكنّ

المراد هنا هو الارتداد عن الدين بقرينة قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ هُمُ الْهُدَى).

وقد اختلفوا في أنّ المراد هل هم المنافقون أو اليهود أو غيرهم؟ ففي «الكشّاف»(1) أنّ المراد بهم اليهود، لأنّهم تبيّن لهم الهدى حيث رأوا علامات النبوّة الواردة في التوراة مجتمعة في الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وهو بعيد جدّاً، لأنّهم مع تبيّن الهدى لم يؤمنوا، لا أنّهم آمنوا ثمّ ارتدوا. وقيل: إنّه لا ينطبق على المنافقين أيضاً، لأنّهم لم يبدّلوا دينهم ولم يرتدّوا، وإنّما آمنوا ظاهراً وهم كفّار باطناً، ف-لا ينطبق عليهم الارتداد، وإنّما المراد قوم من ضعاف الإيمان دخلوا الدين ثمّ ارتدّوا وخرجوا منه جهارا.

ولكنّ الظاهر أنّ المراد بهم المنافقون الذين سبق ذكرهم، والسياق مستمرّ في والتحذير من خطرهم، والمرتدّون لم يعبأ بشأنهم ولم يكونوا ذوي خطر وشأن مضافاً إلى أنّ الآيات التالية أيضاً لا تنطبق إلا على المنافقين فهم الذين قالوا لليهود أو المشركين: (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ). وأما أنّهم لم يرتدّوا فيردّه قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثم كَفَرُوا فَطُبعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ)،(2) وقوله تعالى في سورة النساء: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُن الله لِيَغْفِرَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً * بَشِّرِ المُنافِقِينَ بِأَنَّ هُمْ عَذَاباً اليما).(3)

ويظهر من هذه الآية أنّهم قد تكرّر منهم الارتداد، فليس المراد به إعلان

ص: 172


1- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 4: 326
2- المنافقون (63): 3.
3- النساء (4): 137 - 138

الكفر والخروج عن ربقة الإسلام جهاراً، بل المراد أنّهم كانوا يظهرون ما يخفونه من الكفر في كلامهم وفي أفعالهم مع أنّهم كانوا في نفس الوقت يظهرون الإسلام كقول عبد الله بن أبي: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ)،(1) وقول بعضهم للنبي صلی الله علیه و آله وسلم (هُوَ أُذُنٌ)(2) وغير ذلك من الأفعال والأقوال ممّا ورد في الكتاب العزيز وفي التاريخ وكتب السيرة وهي كثيرة جدّاً، يظهر منها بوضوح كفرهم في الباطن، فكلّ ما يبدو منهم شيء من ذلك يعتبر ارتداداً،ثمّ إذا دخلوا في صفوف المسلمين وصلّوا معهم وأظهروا الإيمان اعتبروا مسلمين وهكذا.

(مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ هُمُ الْهُدَى)، وهذا بيت القصيد ومناط الشقاء والتعاسة، فإنّ

ارتدادهم إنّما كان بعد تبيّن الهدى، فلم يكن كفرهم عن جهل وعدم اقتناع أو من تأثير الإعلام المضاد، بل إنّما ارتدّوا عن الإيمان ومستلزماته، لأنّه كان مناقضاً لأهوائهم ، وأمنياتهم، ومنهم من تمكّن من الإخفاء أكثر من المنافقين الذين أعلنوا عداءهم مراراً حتّى سنحت لهم الفرص، فغيّروا دين الله وحرّفوا معاني الكتاب وغيّروا سنن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وأخذوا ثأرهم منه بقتل ذرّيته، كما صرّح به سفهاؤهم وأخفاه حلماؤهم، وهؤلاء أجدر بأن يوصفوا بالنفاق، حيث إنّ الذين عرفوا به سقط قناعهم وأصبحوا - حسب النصّ القرآني - فرقة في قبال المؤمنين؛ وأمّا هؤلاء فقد اندسّوا في صفوف المؤمنين، وربما اعتبروا م-ن كبرائهم جهلاً بحالهم ولم يرد على الإسلام والمسلمين أدهى ممّا كادوهم ب-ه،

ص: 173


1- المنافقون (63): 8
2- التوبة (9): 61

حيث فرّقوا صفوفهم وقتلوا سادتهم وخيارهم وبدّلوا دينهم ودسّوا في أحاديثهم واستأجروا الوضّاعين ولو أمهلهم الله تعالى لحرّفوا كتابهم.

(الشَّيْطَانُ سَوَّلَ هُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ)، الجملة خبر ل- (إنَّ)، والتسويل هو تزيين الفعل القبيح، وأصله - كما في بعض كتب اللغة (1)- قد يكون من السؤل أي الأمنية، فخفّف إلى الواو، والمعنى أنّه جعل الفعل القبيح سؤلاً وأمنية لهم. ولكن في «الكشّاف»: «سوّل لهّم: سهّل لهم ركوب العظائم من السول وهو الاسترخاء، وقد اشتقّه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعاً»؛(2) وم-ا ذك-ره أيضاً وجيه ولكن لا وجه للتشنيع على القول الأوّل. ويختلف المعنى قليلاً على القولين، فعلى كونه من التسهيل يكون الشيء بذاته سؤلاً وأمنية للفاعل، ولكنّه يستعظمه فيتجنّبه، والشيطان أو غيره يغويه بسهولة الأمر؛ وعلى ك-ون-ه م-ن السؤل قد لا يكون الفعل أمنية للفاعل ذاتاً لا أنّه يتمنّاه ويستعظم نتائجه، فالشيطان يزيّن له الفعل ليتمنّاه، وهذا المعنى أنسب من جهة كثرة التعبير بالتزيين في القرآن الكريم.

والإملاء مأخوذ من الملاوة وهي امتداد الزمان قال تعالى في حكاية ق-ول إبراهيم علیه السلام الأبيه: (وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً)،(3) أي زماناً طويلاً، وقال تعالى: (وَأُمْلي همْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ )،(4) أي أمهلهم زماناً طويلاً، وعليه فالمراد هنا أنّ الشيطان يلقي في قلوبهم أنّ أمامهم متّسعاً من الوقت يمكنهم فيه التوبة والرجوع، فلا بأس

ص: 174


1- راجع: مفردات ألفاظ القرآن: 437
2- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 4 : 326.
3- مريم (19): 46
4- الأعراف (7): 183؛ القلم (68): 45.

بالاستعجال حالياً بما يهوونه. ولكن في بعض التفاسير أنّ المراد أنّه يمنيهم

بالآمال الطويلة والأماني البعيدة، وهو غير مناسب لمعنى الإملاء ولا للارتداد. (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ)، يمكن أن يكون (ذَلِكَ)) إشارة إلى الارتداد ويكون الغرض من الآية بيان وجه ارتدادهم وأنّه في أيّ مجال ظهر منهم ذلك فبيّن أنّهم ارتدّوا حينما قالوا كذا؛ ويمكن أن يكون إشارة إلى التسويل والإملاء، والمعنى أنّ السبب في تسلّط الشيطان عليهم وتسويلهم هذا القول منهم، لأنّهم بذلك خانوا الله ورسوله، فتمكّن الشيطان من النفوذ في عقولهم وقلوبهم وتسويل النفاق لهم حتّى ارتدّوا عن دينهم.

والظاهر أنّ المراد بالذين كرهوا ما نزّل الله اليهود والمشركون، حيث ينطبق العنوان عليهم جميعاً؛ أمّا المشركون فلأنّ القرآن أبطل اعتقادهم وأهان آلهتهم فكرهوه، وقد وصفوا بذلك في الآية 4 من هذه السورة، حيث قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ)؛ وأمّا اليهود فلأنّهم كانوا ينتظرون الرسالة المبشّر بها في كتبهم، وكانوا يعلمون أنّها ستكون في هذه المنطقة، ولكنّهم توهّموا أنّ الرسالة لا تكون إلا فيهم، فكلّ قبيلة منهم توقّعت أن يكون الرسول منها، ولهذا تركوا الأراضي المقدّسة وهاجروا إلى هذه المنطقة التي لا يرغب فيها أحد لزعمهم أنّهم شعب الله المختار وأنّ الرسالة لا تكون إلا فيهم، فلما رأوا الآيات مجتمعة في الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم كرهوا ما أنزل الله عليه وأنكروا رسالته حسداً وحقداً.

وقول المنافقين لأعداء الرسالة: (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ) إِنّما أرادوا بذلك أنّهم يتستّرون بظاهر الإسلام فلا يتّبعون الشرك والكفر ظاهراً، ولكنّهم يعملون لهم ولصالحهم في الباطن، وهم فعلاً أطاعوهم في ما أرادوا ووصلوا بذلك إلى

ص: 175

بعض أهدافهم وهو عرقلة مسيرة الرسالة وإن لم يتمكّنوا من إطفاء نورها، بل أتمّه الله تعالى ليستنير به البشر الطالب للهداية طيلة القرون المتمادية. وقد ورد مثل ذلك في سورة الحشر ، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا تُطِيعُ فِيكُمْ أحَداً أبداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَتَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).(1)

(وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) تهديد وتوبيخ فالمشكلة لديهم تكمن في عدم إيمانهم بالله تعالى وعدم معرفتهم بأنّه علام الغيوب، ومن الغريب أنّ الإنسان يحاول أن يتغلّب على إرادة الله تعالى، فالذين آمنوا به أيضاً تنقصهم المعرفة، قال تعالى في حكاية حال اليهود: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا اتحدثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ * أولا يَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ)،(2) ومثلهم إخوانهم المنافقون، حيث كانوا يظنّون أنّ بإمكانهم التخفّي عن الله تعالى والمكيدة به وبدينه ولا يعلمون أنّه تعالى يعل-م إسرارهم. والإسرار مصدر بمعنى الإخفاء.

(فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ المُلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ)، أي فكيف حالهم يوم تتوفّاهم الملائكة وتقبض أرواحهم، حيث يضربون وجوههم وأدبارهم. وضرب الوجوه والأدبار كناية عن التعذيب والهتك والتحقير، حيث إنّ الأجسام تفقد الإحساس بعد الموت، وربما يفقد الإنسان معالم جسمه حين الموت، فليس هناك وجوه وأدبار. والتوفّي عبارة عن أخذ الشيء كاملاً، وفيه إشارة إلى أنّ

ص: 176


1- الحشر (59): 11
2- البقرة :(2): 76-77

حقيقة الإنسان متقوّمة بروحه وهي نفسه الناطقة، والملائكة وكلّها الله تعالى لقبض الأرواح البشرية حين الموت تشريفاً للروح الإنسانية، ولكنّ الإنسان بسوء عمله يوجب لنفسه الهتك والمذّلة. وقد ورد نظير هذه الآية في عاقبة الكفّار في قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ).(1)

(ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَاهُمْ)، (ذَلِكَ) إشارة إلى ضرب الوجوه والأدبار حين التوفّي، ويلاحظ أنّ آية الأنفال الآنفة الذكر الواردة في الكفّار ذكر فيها تعليل هذا الأمر بأعمالهم وما قدمت أيديهم، فالظاهر أنّ المنافقين حيث أظهروا الإيمان وشاركوا المؤمنين في بعض الأعمال، فربما يتوهّم أنّ أعمالهم توجب فرقاً بينهم وبين الكفّار من حيث العاقبة، فالآية هنا تبين أن الله تعالى أحبط أعمالهم، لأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه، فكانت عاقبتهم كعاقبة الكفّار.

وفسرت متابعة ما أسخط الله تعالى بمتابعة الأهواء - كما في الميزان(2) - ولكنّ الظاهر أنّ متابعة الهوى بنفسها لا تستلزم دائماً سخط الله سبحانه وإن كانت مذمومة، بل هي أمّ الفساد، ولكن ليست كلّ متابعة للهوى بهذه المنزلة حتّى توجب حبط الأعمال وإلا لم يبق للمؤمنين عمل، فإنّ الفائز بترك متابعة اله-وى مطلقاً من أخصّ الخواصّ، فالظاهر أنّ المراد بها في هذا المقام متابعة أعداء الدين والمشاركة في المكائد التي كانت تحاك من قبل المشركين واليهود ضد

ص: 177


1- الأنفال (8): 50 - 51
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 242

الرسالة المجيدة، وإن كانت متابعة ما أسخط الله التي توجب حبط الأعمال أعمّ من ذلك.

ولذلك عطف عليه أنّهم كرهوا ،رضوانه، فهناك فرق بين عدم الاهتمام بتحصيل رضاه تعالى، لأنّه يتنافى مع المشتهيات والملذّات، وبين كراهة رضوانه؛ ولا مبرّر للقول بأنّ المراد كراهة ما يوجب رضوانه من الطاعات والأعمال، كما في التفاسير، فإنّهم بناءاً على ذلك لا يكرهون الطاعات بما هي طاعة، بل بما أنّها تنافي أهواءهم، ومردّ ذلك إلى أنّ الكراهة ليست متعلّقة بالرضوان أساساً، وهو خلاف الظاهر من العبارة، فإنّ الظاهر منها أنّهم كرهوا نفس الرضوان واستحبّوا سخطه فهم أعداء الله تعالى باطناً وإن أظهروا الإيمان.

و غريب أمر هذا الإنسان كيف يهوي إلى هذا المهوى السحيق، فيعادي ربّه ويبغضه ويطلب غضبه، ونحن نجد في زماننا هذا من هذا القبيل أناساً يدّعون العلم ويتسلّمون كراسي التدريس في الجامعات وتشمئزّ نفوسهم من ذكر اسم

الله تعالى ويبذلون قصارى جهدهم في إنساء ذكره تعالى، وهناك من الناس من تأثّروا بالإلحاد الحديث يظهر عداؤهم الله تعالى على ألسنتهم وأعمالهم مع أنّهم يحملون أسامي إسلامية ويعتبرون مسلمين في الهوية الشخصية، فتجد الاهتمام البليغ في أقوالهم وأفكارهم لنشر الإلحاد والكفر في المجتمع

الإسلامي، وإضعاف روح الإيمان في الجيل الناشئ والشباب المسلم. والحاصل أنّ ظاهر الآية الكريمة أنّ المنافقين أعداء الله تعالى، وإن كان هذا العداء يحصل من جهة أنّ الإيمان به تعالى يتنافى مع الأهواء والأماني، إلا أنّ الأمر وصل بهم إلى حدّ المعاداة لفكرة التوحيد، كما نشاهده في الملحدين

ص: 178

الجدد، وهناك فرق بين عدم الإيمان أو ضعفه وبين معاداة الفكرة والسعي ضدّها وبذل الجهد والمال في سبيل إطفاء نورها، وهذا هو ما نلاحظه في بعض الملحدين الجدد لا كلّهم؛ وفي بعض المنافقين الجدد والقدماء. وهذا العداء هذه الآية تحبط الأعمال، فلو كان لهم عمل صالح واقعاً أو ظاهراً، فإنّ الله تعالى يحبطه لمعاداتهم له تعالى. وقد مرّ بيان حبط الأعمال في تفسير الآية 9 من نفس السورة، ونتيجة لهذا الحبط يلقون تلك العاقبة المشيئة والمهينة حين موافاة الأجل.

ثمّ إنّ إسناد الرضا والسخط إلى الله تعالى يختلف عن إسنادهما إلى غيره، فهو ليس محلاً للعوارض ، وقد ورد في الحديث أنّ رضاه وغضبه ثوابه وعقابه، و معنى ذلك أنّ هذه الصفات التي تدلّ على تبدّل الحالة في الإنسان ونحوه إذا أسندت إلى الله تعالى فإنّما يراد به حدوث الفعل منه، إذ لا تطرأ عليه حالة؛ والسبب واضح، وهو أنّ عروض الحالات وتبدّلها ينشأ من الجهل بالمستقبل، فحيث يجد الإنسان من غيره ما لا يناسب طبعه يغضب منه، كما أنّه إذا وجد منه ما يناسبه يرضى منه والله تعالى عالم الغيب والشهادة لا تختلف عنده الأزمنة، فالماضي والحال والاستقبال كلّها حاضرة لديه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا يصحّ إسناد الرضا والغضب إليه تعالى بالمعنى المتعارف وهو تناسب الشيء للطبع وعدم تناسبه، وإنّما يرضى الله تعالى بما هو خير وحسن ويكره الشرّ وفعل القبيح لا لأنّ شيئاً يناسبه وشيئاً لا يناسبه، بل لأنّ الأشياء تختلف بذاتها من جهة كونها واقعة في موقعها المناسب في الكون وعدمه. وأمّا تفسير الرضا والغضب بفعل الثواب والعقاب، بمعنى نفي أصل الرضا

ص: 179

والغضب والحبّ والكراهة ونحو ذلك فهو مخالف لصريح القرآن الكريم الذي ورد فيه إسناد هذه الصفات إليه تعالى في موارد كثيرة، فهناك أناس مقرّبون رضي الله عنهم ورضوا عنه ويحبّهم ويحبّونه، وهناك أعمال يرضى بها وأمور لا يرضى بها، قال تعالى: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)،(1) وهناك أناس ملعونون مطرودون لا يكلّمهم الله القيامة ولا ينظر إليهم، فالقرب والبعد لديه تعالى موضع تأكيد من الآيات المباركة، ولا شك أنّ القرب والبعد يتبع صفات الإنسان وسجاياه وأعماله. نعم لا يحدث من الله تعالى شيء إلا الثواب والعقاب بالمعنى الأعمّ الشامل للقرب والبعد، ولا

تطرأ عليه حالة الرضا والغضب ولا أيّ حالة أخرى.

ص: 180


1- الزمر (39): 7

سوره محمّد(29-31)

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن تُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَتَهُمْ(29) وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْتَكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَلَكُمْ(30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّبِرِينَ وَنَبْلُواْ أَخْبَارَكُمْ (31)

(أمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَاتَهُمْ)، (أم) منقطعة، ففيها معنى الإضراب والاستفهام، ولعلّه إضراب عن قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ)،حيث يدلّ على أنّهم توهّموا أنّه تعالى لا يعلم ما يدور بينهم وبين الأعداء المجاهرين بالعداء من اليهود والمشركين، فهنا أضرب عن ذلك وقال: أم أنّهم لا يتوهّمون ذلك، ولكن يظنّون أنّه تعالى لا يخرج أضغانهم وأحقادهم أبداً، حيث رأوا أنّ ما يدور بينهم من إظهار العداء للرسول صلی الله علیه و آله وسلم والمؤمنين لم يظهر لهم، فتوهّموا أنّ الله تعالى يستر عليهم إلى الأبد، فهذه الآية تنبّههم أنّه ليس كذلك. وهناك ظروف تستدعي أن يفضحهم الله تعالى ويخرج أحقادهم، بل ربما يريهم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ويعرفه بهم كما ورد في الآية التالية.

ويتبيّن بذلك أنّ الاستفهام الذي تدلّ عليه (أم) إنكاري لتخطئة هذا الحسبان، كما يتبيّن وجه الإتيان ب- (لَن) الدالة على نفي الأبد. والمراد ب- «الذين» في قلوبهم مرض» المنافقون، فإنّهم هم الذين كانوا يحملون حق-داً دفين-اً على الرسول صلی الله علیه و آله وسلم والمؤمنين ، ولا وجه لحمل-ه عل-ى ضعاف الإيمان كما في «الميزان»؛(1) إذ لا موجب لحقدهم. ولعلّ العلامة الطباطبائي رحمه الله إنّما فسرّه بذلك لئلا يختصّ بالمنافقين الذين عرفوا بالنفاق، نظراً إلى أنّ عنوان المنافقين خاصّ

ص: 181


1- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 242

بهم حسب المصطلح القرآني.

وكيف كان، فالظاهر أن المراد بهم المنافقون بالمعنى العامَ، لا خصوص من

عرفوا به، بل يشمل غير المعروفين بطريق أولى، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ويمكن أن يكون المراد بأنّ الله تعالى يخرج أضغانهم، أنّها تظهر للناس بصورة طبيعية إذا استمرّوا عليه كما هو الغالب، أو أنّها تظه-ر ب-وح-ي م-ن الله تعالى والضغن، الحقد الدفين الذي يحاول صاحبه اخفاءه، قال في «معجم المقاييس»: إنّه يدلّ على تغطية شيء في ميل واعوجاج.(1) ولكن في «مفردات الراغب»: أنّه خصوص الحقد الشديد(2) ولم أجده لغيره.

(وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ)، السيما مأخوذ من الوسم، أي العلامة، وهذا من تبديل مواضع الحروف، كما يقال: ما أطيبه وما ايطبه. والمراد أنّ الله تعالى لو شاء الأعلم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بعلامات محدّدة يميز بها المنافقين عن غيرهم، وظاهر الآية أنّ الله تعالى لم يشأ ذلك فلم يعرفهم بهذا الوجه، وذلك لمكان (لَوْ). وهذه الجملة قرينة واضحة على أنّ المراد بهم ليس خصوص من عرفوا بالنفاق الذين سقط عنهم القناع، بل الأولى أن يراد بهم خصوص من لم يعرفوا به، ولكنّ الظاهر من الروايات أنّ الرسول صلى الله عليه و اله و سلم كان يعرف القسم الثاني أيضاً بأشخاصهم، بل عرّفهم لبعض أصحابه، فلعلّ المراد بالمنفي هنا تعريفهم لعامّ-ة الناس وإن كان الخطاب له صلی الله علیه و آله وسلم ومثله كثير.

(وَلَتَعْرِ فَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) اللام للقسم المحذوف، فالمعنى محقّق بكلّ تأكيد

ص: 182


1- معجم مقاييس اللغة 3: 364
2- مفردات ألفاظ القرآن: 509

وهو أنّ الرسول صلى الله عليه و اله وسلم بل وعامّة المؤمنين يعرفونهم في لحن القول، وهذا هو الطريق الطبيعي لبروز الأضغان كما أشرنا إليه، وفي «نهج البلاغة» عن أمير المؤمنين علیه السلام : «ما أضمر أحد شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه».(1)

واللحن - كما في المفردات (2) - صرف الكلام عن سننه الجاري عليه، والمراد به هنا صرفه عن الصراحة إلى التعريض والكناية، وفي هذا المجال تتبيّن الأهداف والأحقاد، فالعدوّ يتحيّن الفرص ليلقي كلاماً ظاهره معسول وهو يكني به عن ما يسيء إلى المخاطب ويثير عليه.

(وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ)، ظاهره مخاطبة المؤمنين، ولكنّه تحذير للمؤمنين والمنافقين جميعاً بأنّ الله تعالى يعلم حقائق الأعمال، وكثيراً ما يعمل الإنسان عملاً ظاهره الخير وهو يقصد به البلوغ إلى مقاصد شريرة، وعامّة الناس لا يعلمون ذلك فيمتدحونه، وكثيراً ما لا تظهر المقاصد من الأعمال ولا في لحن القول، فالآية تنبّه الجميع أنّه لو فرض عدم التبيّن من لحن القول، فإنّ الله تعالى يعلم بالنيات ولا يمكن إخفاء شيء عنه فاحذروه وفي الآية إشارة إلى أنّ النفاق ربما يكون أمراً سارياً في أعمال بعض المؤمنين أيضاً، فلا يكفي مجرّد كون الشخص ممّن لم يبرز نفاقه للعامّة في خروجه عن معسكر النفاق، بل ربما يكون بعض من يعتبر من المؤمنين من أشدّ المنافقين ضغناً وحقداً - كما قلن-ا --- ولكنّ الناس يجهلون موضعه الحقيقي فيرفعون من شأنه، ولكنّ الله تعالى يعلم عمله وقصده وخبثه فليحذر ربِّه.

ص: 183


1- نهج البلاغة (للصبحي صالح): 26/472 .
2- مفردات ألفاظ القرآن: 738

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ)، أي نبتليكم بالحروب

وبالمشاكل الاجتماعية والاقتصادية ليتبيّن المؤمنون عن المنافقين، وهذا الابتلاء ربما يظهر به حقائق الناس للعامة أيضاً، فإنّ المنافق الذي يظهر الإيمان ويبرئ من النفاق يظهر ضعفه في ميادين القتال والمؤمن بالله واليوم الآخر حقّاً وصدقاً لا يخاف الموت ويلقي بنفسه في أتون الحرب، ولا يحذر من قتل الكفّار أعداء الدين والرسالة، ولا يهمّه أن تحمل العرب عليه الأحقاد ، كما كان أمير المؤمنين علیه السلام ولكنّ المنافق وإن أظهر براءته من المنافقين والمشركين إلا أنّك تجده لا يضرب في الحرب سيفاً ولا يخوض المعركة خوفاً من الموت وحذراً من أن يبتلى بقتل أحد من الكفّار فيحقدوا عليه، هذا إذا لم يكن محبّاً لهم ومتورعاً عن قتلهم. ولعمري إنّ ميادين الحرب في تلك الحقبة خير مضمار ليتبيّن لطالب الحقّ من يخلص الله تعالى وللرسول صلی الله علیه و آله وسلم ومن يحمل الأحقاد للإسلام والمسلمين ويتربّص بهم الدوائر. والمراد بحصول العلم الله تعالى هو ظهور حقيقة الأمر، كما بيّنا ذلك مراراً، فالله تعالى لا يحدث له العلم ولا غيره من العوارض ولا يختلف عنده ما حدث وما سيحدث، ولكنّ الأثر من الثواب والقرب عند الله تعالى لا يترتّب على إمكان الجهاد والصبر أو استعداد الإنسان للتضحية والجهاد، بل إنّما يترتّب عليهما بالفعل، فلا بدّ من تحقيق الأرضية التي تتبيّن بها حقائق الضمائر وجواهر الرجال.

(وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)، الأخبار الأقوال التي تحكي عن الحوادث ونحوها، وفي التفاسير أنّ المراد بها الأعمال، لأنّها ممّا يخبر بها، فالاختبار يتعلّق تارة بذات

ص: 184

الإنسان وأنّه مجاهد وصابر أم لا، وتارة بأعماله.

ويلاحظ على هذا التفسير أوّلاً: أنّ الاختبار الأوّل أيضاً يتعلّق بالعمل، فيكون

تكراراً وتأكيداً وهو خلاف الظاهر.

وثانياً: أن (نَبْلُوَ) عطف على (نَعْلَمَ)، فيكون الاختبار الثاني نتيجة للاختبار

الأوّل وليس اختباراً في عرضه.

ولعلّ المراد بالأخبار هنا الدعاوي التي يتبجّح بها الإنسان فيدّعي أنه مؤمن وأنّه سيكون صابراً فى الضرّاء والسراء أو يقول لغيره يجب أن تكون كذا وكذا، فهذه الدعاوي تكون منشأ للاختبار ليتبين الصادق في دعواه عن المراوغ المنافق. والأرضية الصالحة لهذا الاختبار هي ميادين الجهاد، ولذلك اعتب-ر ه-ذا الاختبار نتيجة لاختبار الإنسان في خوض المعارك حيث عطف (نَبْلُوَ) على (نَعْلَمَ). فالمعنى أنّنا نبلوكم بالحروب ليتبيّن المجاهدون الصابرون ولنميز من هو صادق في دعواه عن الكاذب.

ص: 185

سوره محمّد(32-35)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ أَهْدَى لَن يَضُرُواْ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَلَهُمْ (32) يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَلَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَلَكُمْ الله(35)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ هُمُ اهْدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أعمَالَهُم)، يعود السياق إلى م-ا ب-دأ ب-ه ال-س-ورة وه-و ح-ثّ المؤمنين على مواصلة الجهاد ضدّ الكافرين الذين يصدّون عن سبيل الله ويمنعون من انتشار الدعوة ، فالظاهر أنّ المراد بالذين كفروا مشركو مكّة، كما هو مصطلح القرآن الكريم، ويمكن أن يشمل اليهود وغيرهم ممّن اجتمعت فيهم الصفات، ولكن لا وجه لتخصيصه باليهود كما قيل، والظاهر أنّ المناط في لزوم الجهاد والمحاربة هو الصدّ عن سبيل الله والمنع من انتشار الدعوة، وأمّا مجرّد الكفر فلا يستوجب الحثّ على المواجهة. والصدّ: المنع.

والمشاقّة مأخوذ من الشقَّ، أي القطعة، وهي كناية عن العداء، والمواجهة على أساس أنّ المشاقَة بمعنى كون كلّ منهما في شق غير شق الآخر. وقي-ل ف-ي وجهه غير ذلك. ومهما كان فالشقاق بمعنى العداء والمخالفة وأساس التنديد هنا أنّ الشقاق والخلاف إنّما هو في مقابلة رسول ربّ العالمين بعد تبيّن الهدى بمشاهدة المعاجز والآيات البيّنات، وإن أريد بهم اليهود، فالمراد من تبيّن الهدى مشاهدة علائم النبوّة الموجودة في ما لديهم من الكتب في الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.

ص: 186

ومهما كان فهؤلاء وأولئك لن يضرّوا الله شيئاً وسيحبط أعمالهم؛ أمّا عدم الإضرار فراضح ، لأنّ الله تعالى هو القاهر فوق عباده ولا يتأبى على إرادته شيء، فلو أراد لأهلك من في الأرض جميعاً، بل لا يضرّون دينه أيضاً ولا يمكنهم منع الدعوة من أن تسير سيرها الطبيعي، والغرض أنّ مشاقتهم للرسول صلی الله علیه و آله وسلم وصدّهم عن سبيل الله تعالى محاولة منهم لمواجهة ربّهم، فهم في الواقع أعداء الله ولكنّهم لا يضرّون بذلك إلا أنفسهم، والله تعالى لا يتضرّر بشيء حتّى لو كفر الناس جميعاً. والظاهر بقرينة السياق أنّ المراد بحبط الأعمال هنا حبط مكائدهم و محاولاتهم لمنع انتشار الدعوة. وقيل: إنّ المراد حبط أعمالهم الصالحة، فلا يترتّب عليها ثواب، وهو بعيد عن السياق، مع أنّه لا يختصّ بهؤلاء، بل يشمل كلّ كافر حتّى لو كان معاهداً.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ)، في هذه الجملة أيضاً عود إلى السياق السابق وهو حثّ المؤمنين على الطاعة في مجاهدة الأعداء وإن كان وجوب الإطاعة عامّاً، ولكنّ التأكيد هنا على الإطاعة في مجال الدفاع عن الدين والعقيدة. ووجوب إطاعة الله ممّا يحكم به العقل، فالأمر به ليس إلا إرشاداً وتنبيهاً لحكم العقل، وليكون مقدمة للحكم بإطاعة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، ووجوبها حكم شرعي. والفرق أنّ وجوب إطاعة الله تعالى لا يمكن أن يستند إلى أمره تعالى للزوم الدور الباطل، وإنّما يستند إلى حكم العقل بلزوم اتقاء الضرر الحاصل من معصية الله تعالى حيث تتضمّن أوامره المولوية حكماً جزائياً بالعقوبة - على مبنى سيّدنا الأستاذ السيستاني حفظه الله - أو يستند إلى حكم العقل بوجوب التذلل والخضوع الله تعالى، حيث إنّ الإنسان إذا عرف ربّه مهما

ص: 187

كانت المعرفة فإنّه يشعر بلزوم التذلّل والإطاعة حبّاً له أو تعظيماً لمقامه، قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الجنَّةَ هِى المأوى).(1) ولعلّه للفرق بين الإطاعتين كرّر الأمر.

(وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)، تحذير للمؤمنين العاملين المطيعين لله ورسوله، فإنّ المرحلة الخطيرة بعد العمل هي المحافظة عليه، فربما يعمل الإنسان أعمالاً صالحة وبنيّة خالصة طيلة عمره، ثمّ يبطلها بأعمال سيّئة، وهناك مجموعة من الأمور ورد ذكرها في القرآن واعتبرت محبطة للأعمال؛ منها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)،(2) ومنها ما يبطل بعض الأعمال كالمنّة المبطلة للصدقة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمُنَّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ)،(3) ومنها العجب والرياء حتّى لو كان بعد العمل، فإنّ الكلام ليس في البطلان الموجب للقضاء، حيث ذكر الفقهاء عدم بطلان العمل بالرياء بعده، وإنّما الكلام في عدم ترتّب الأثر المطلوب عليه؛ ففي الحديث عن الإمام الباقر علیه السلام «يصل الرجل بصلة وينفق نفقة الله وحده لا شريك له، فتكتب له سرّاً، ثمّ يذكرها فتمحى فتكتب له علانية ، ثمّ يذكرها فتمحى وتكتب له رياءاً»(4) والنهي عن إبطال العمل كما تبيّن - لا علاقة له ببطلان العمل فقهياً، فلا وجه لما ورد في بعض الكتب الفقهية من دلالة الآية على عدم جواز إبطال الفريضة.

ص: 188


1- النازعات (79): 40 - 41.
2- الحجرات (49): 2
3- البقرة (2): 264
4- الكافي 2 296 / 16.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيل الله ثمّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ هُمْ)، هذه الآية تبيّن مصير الكفّار المعاندين يوم القيامة وتبعث فيهم الأمل من جهة أخرى، كما دأب القرآن الكريم وهو مقتضى الرحمة الإلهية، فبعد كلّ هذا التهديد والتنديد علّق عدم المغفرة بموتهم حال الكفر ، فباب التوبة مفتوح حتّى لهؤلاء المعاندين الصادّين عن سبيل الله.

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ)، الفاء فصيحة تنبئ عن شرط مقدّر، أي إذا تبيّن أنّ الله تعالى موهن كيد الكافرين وأنّهم لن يضرّوا الله شيئاً فلا تهنوا والوهن هو الضعف والمنهي هنا هو إظهار الضعف والمذلّة، وقوله: ﴿وَتَدْعُوا) عط-ف عل-ى تهنوا فيشمله النهي، ويبدو من السياق أنّ المنهي هو الدعوة إلى السلم وهو الصلح إذا كان منشؤها الضعف أمام طغيان المعاندين وظلمهم، فمن الواضح أنّ الحرب لم يبدأها المسلمون ولم يطلبوها، وإنّما كان همّهم نشر الدعوة ليهلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة ولم يكن بينهم وبين الطغاة الظالمين ثأر، وإنّما كان المشركون يحاربون الدعوة إلى الله كفراً منهم وعنادا فلم يجز الصلح معهم.

(وَانْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)، جملات حالية، أي لا تدعوا إلى السلم في هذا الحال وأنتم الأعلون، وذلك لأنّ الحرب آنذاك إنّما كان بالقوّة البشرية والشجاعة والصبر والإيمان، وكلّ هذه العوامل كانت مجتمعة في معسكر المسلمين، فهم أعلى وأكثر قوّة من الكفّار وإن كثر عددهم، وأهمّ ما لديهم هو الشعور بأنّ الله معهم، أي ينصرهم، كم-ا وع-د ب-ه ف-ي ه-ذه الآيات

وغيرها والله لا يخلف وعده.

ص: 189

وقوله: (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)، أي لن ينقص من أعمالكم شيئاً وهو من الوتر، أي الفرد، يقال: وَتَر الرجلَ في أهله وماله إذا قتل قريبه من ولد أو أخ أو نحوهما نهب ماله كأنّه أفرده عنهم، و(أعْمَالَكُمْ) منصوب بنزع الخافض، أي يتركم في أعمالكم أو من أعمالكم. ومهما كان، فالغرض حثّ المؤمنين على مواصلة الجهاد، لأنّهم هم الأعلون وأنّ الله معهم، ولأنّ كلّ ما يبذلونه في هذا السبيل لن يذهب سدى فلا تجزعوا من الموت أو نقص العضو أو الخسارة المادية، فكلّ ما تبذلونه في هذا السبيل يوف إليكم يوم القيامة أضعافاً مضاعفة ولن ينقص الله من أعمالكم شيئاً.

ص: 190

سورة محمد (36 - 38)

إنَّمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْتَلَكُمْ أَمْوَلَكُمْ(36)إِن يَسْتَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَتُخْرِجْ أَضْغَنكُمْ(37) هَتَأَنتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مِّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلَ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمثلكم(38)

(إنَّما الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهوٌ)، تأتي هذه الجملة أيضاً في سياق الترغيب في بذل المال والنفس في سبيل الله، فالذي يمنع الإنسان من التقدّم في هذا المضمار هو حبّ الدنيا والإخلاد إليها، وهذه الآية تنبّهه على عدم الركون إليها، فإنّها ليست إلا لعباً ولهواً، وكلّ ما نعمله من الأعمال الخاصّة بهذه الحياة يدخل في هذين العنوانين، وهذا هو مقتضى الحصر المستفاد من (إنَّمَا)، فإنّها تفيد الحصر إذا اقتضته القرينة أو مطلقاً، والسياق هنا قرينة عليه ولا يراد به حصر كلّ ما يحدث في هذه الحياة في اللهو واللعب، إذ من الواضح أنّ الأعمال الصالحة التي يأتي بها الصالحون من البشر ويقصد بها وجه الله تعالى ليس منهما، فالمراد حصر كلّ ما يطلب به شؤون هذه الحياة من دون ارتباط بالآخرة فيهما.

واللعب هو الاشتغال بما لا يترتّب عليه مصلحة، وإنّما الداعي إليه الوهم كألعاب الأطفال ويقابله الجدّ. واللهو كلّ ما يشغل الإنسان عن أمر أهمّ، وحيث إنّ المهمّ هو الحياة الأبدية والسعادة فيها، فالاشتغال بأيّ أمر آخر لا يفي-د ف-ي الآخرة يعتبر لهواً ، أي اشتغالاً بأمر سخيف عن الأمر المهمّ. وإذا قيست الأعمال التي يقصد بها الدنيا إلى أعمال الآخرة نجد أنّها في الواقع لا تترتّب عليها

ص: 191

مصلحة ، بل توجب تفويت المصلحة الواقعية، والاشتغال بها ليس إلا لهواً وابتعاداً عن الأمر المهمّ، فالذي يأخذ الحياة بمأخذ الجدّ هو الذي يعمل لآخرته فحسب، حتّى ما يعمله من أعمال الدنيا أيضاً يقصد بها الآخرة وإلا فهو

لهو ولعب.

وهذا يشمل حتّى الأعمال المفيدة للمجتمع البشري كالتطوّر العلمي والخدمات الطبية إذا لم يقصد بها التقرّب إلى الله تعالى، فإنّ غاية ما تفي-ده ه-ذه الأعمال هو إطالة عمر إنسان أو عمر الإنسان بصورة عامّة وتأمين متطلّباته في الحياة الدنيا ورفع مستواه المعيشي ونحو ذلك ممّا يهتمّ به البشر في هذه الدنيا، وكلّ ذلك ليس أمراً مهمّاً إذا قارناها بالعمل من أجل الآخرة، والسرّ في ذلك أنّ الحياة هي تلك الحياة وهذه الحياة ليست إلا ممرّاً ومعبراً، والإنسان فيها كمسافر تمنح له فرصة يسيرة ليتمكّن فيها من جمع أكثر ما يمكن جمعه من الزاد لتلك الحياة، كما قال تعالى: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا هَوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ هِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)،(1) وقال تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ حَيَاتِي).(2)

ومن هنا فإنّ كلّ ما يعمله الإنسان في سبيل تطوير العيش في الحياة الدنيا يعدّ في نظر من يلاحظ الحياتين لعباً ،ولهواً، أي لا هدف له أصلاً أو الهدف منه الاشتغال والالتهاء بأمر تافّه عن الأمر المهمّ، كمن يترك شأناً هامّاً من شؤون الحياة الدنيا كالدفاع عن النفس والأهل والوطن، ويشتغل بالخمر والميسر

ص: 192


1- العنكبوت (29): 64.
2- الفجر(89): 23-24.

ونحوهما، فإنّ هذا لا يقبل له عذر عند العقلاء.

(وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلُكُمْ أَمْوَالَكُمْ)؛ استدراك عن دور هذه الحياة في سعادة الإنسان، فالنشاط فيها وإن كان كلّه لعباً ولهواً إلا أنّ الإنسان إذا آمن بربّه واتقى فإنّه يحصل على أجر عمله في الحياة الأبدية، فلا يكون ما عمله في هذا السبيل لعباً ولا لهواً. ولا يطلب الله تعالى من الناس أن يبذلوا أموالهم في هذا السبيل حتّى يشقّ عليهم، فالله أعلم بحالهم ويعلم أنّ بذل المال شاقّ عليهم ولا يكلّف الله نفساً إلا وسعها. ولكن يقع السؤال عن أنّ بذل المال واجب شرعاً في الزكاة والخمس والنفقات الواجبة والكفّارات والهدي وما يستوجبه حفظ الثغور وغير ذلك، فكيف التوفيق؟ ويلاحظ أنّ الآية الأخيرة تصرّح بالدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله تعالى فهذه قرينة واضحة على أنّ المراد هنا معنى لا ينافي وجوب بذل المال في هذه الموارد.

وقد اختلف المفسّرون في تأويل الآية ورجّح الأكثر أنّ المراد أنّه تعالى لا يسألكم جميع أموالكم وقالوا إنّه هو الظاهر من إضافة الجمع إلى ضمير الخطاب في قوله: (أمْوَالَكُمْ)، ولكنّ الظاهر أنّ الإضافة لا تدلّ على الاستغراق، فيصدق (أمْوَالَكُمْ) على بعضها أيضاً.

وربما يقال: إنّ قوله تعالى في الآية التالية: (فَيُحْفِكُمْ) يدلّ على ذلك، لأنّ الإحفاء بمعنى المبالغة في الطلب، فكما يصدق مع الإلحاح في السؤال حتّى لوكان المطلوب قليلاً يصدق مع المبالغة من جهة كثرة المطلوب.

ولكنّه لا يقتضي أن يكون المطلوب جميع الأموال، إذ تصدق المبالغة حتّى

مع كونه كثيراً شاقّاً على المكلّف.

ص: 193

ويبقى على هذا الوجه الإشكال من جهة أنّ مفهوم الآية بناءاً على هذا التأويل هو أنّه تعالى يسأل مع عدم الإيمان أو التقوى، فإنّ الجملة الشرطية لها مفهوم. والتزم بهذا المفهوم بعضهم وقال: إنّ الكافر يؤخذ منه أمواله، ولعلّ المراد به عدم حرمة ماله على المسلم. ويردّه أنّ هذا ليس هو المفهوم من الآية، بل مفهومها أنّ الله تعالى يطلب منه جميع هذا و غیر صحیح.

هذا مع أنّ المفهوم يشمل المؤمن غير المتّقي، لأنّ مفهوم الآية بناءاً على هذا التأويل هو: «وإن لم تؤمنوا وتتقوا يسألكم جميع أموالكم»، فيشمل الحكم من آمن ول--م يتّق الله. ولكن يمكن دفع الإشكال بأنّ المفهوم انتفاء مجموع الأمرين في الجزاء إيتاء الأجر وعدم السؤال فيكفي في صدقه أنّ الكافر وغير المتّقي لا يعطى أجراً.

هذا مع أنّ المطالبة بجميع الأموال أمر مستغرب جدّاً وغير محتمل، فيبعد جدّاً

أن يمنّ الله تعالى على المؤمنين المتّقين بنفيها.

وقال بعضهم: إنّ المراد ليس هو الجميع، بل المبلغ الكثير الذي يكون دفعه شاقاً عليهم. ولكنّه بعيد، إذ يقتضي أن يكون المراد من أموالكم بعضها من دون نصب قرينة في نفس الجملة على تحديد البعض، والمفروض عدم إمكان إرادة البعض بقول مطلق، فيشمل أقلّ شيء ممكن لكونه خلاف الواقع.

والأقرب في معنى الآية ما ذكره بعضهم من أنّه تعالى لا يسألكم شيئاً من أموالكم كأجر للرسالة، بل هو الذي يؤتيكم الأجر على أعمالكم دون أن يسألكم مالاً، وإنّما تدعون لتنفقوا في سبيل الله تعالى لمصلحتكم ولحفظ ثغوركم، ومع ذلك فإنّ الله تعالى يؤتيكم الأجر على ذلك لكون القصد أن يكون في سبيله تعالى،

ص: 194

فيكون نفي المطالبة بمال كأجر للرسالة مقدمة للمطالبة بالمال لمصلحتهم.

(إِنْ يَسْأَلُكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ). الضمير يعود للأموال. والإحفاء هو المبالغة في الطلب كما مرّ، والظاهر أنّ المراد به هنا الإيجاب، والله تعالى أعلم بحال خلقه، فهو يعلم أنّه إذا أوجب مالاً عليهم يدفع للرسول صلى الله عليه و اله وسلم ليصرفه على نفسه وفي مصالحه الخاصّة يبخل غالب الناس عن دفعه ويشقّ عليهم ذلك الأضغان والأحقاد، كما نجده في موارد مشابهة. ويظه-ر م-ن التعبير التنديد بهم من جهة البخل أوّلاً، ثمّ من جهة ضعف إيمانهم بحيث يحقدون على ربّهم أو على رسوله صلی الله علیه و آله وسلم إذا طولبوا بالمال، وهذا شأن أبناء الدنيا، والمطلوب من المؤمن أن لا يتعلّق قلبه بزخارفها فضلاً عن أن يقدمها على حبّه الله وللرسول صلی الله علیه و آله وسلم

(هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ الله)، (هَا) للتنبيه وكرّرت للتأكيد، و (أَنْتُمْ) مبتدأ خبره (تَدْعَوْنَ) و(هَؤُلاءِ) بدلّ عن المبتدأ، ولعلّ الإبدال لدفع توهّم شمول الخطاب لسيّد المخاطبين صلی الله علیه و آله وسلم أو للتأكيد. وقيل: (أَنْتُمْ) مبتدأ و (هَؤُلاءِ) خبره والإشارة إلى من ذكر وصفه في الآية السابقة، والجملة التالية مستأنفة. ولعلّه أتى بفعل: (تَدْعَوْنَ) مبنياً للمجهول تعظيماً للداعي أو للإشارة إلى أنّ المناط هو المدعوّ إليه وهو الإنفاق في سبيل الله ولا يهمّ دور الداعي. والجملة في مقام الاستشهاد لما ورد في الآية السابقة من أنّهم لو أمروا بالإنفاق للرسول صلی الله علیه و آله وسلم البخلوا وخرجت أضغانهم، فيقولها أنتم تدعون للإنفاق في سبيل الله وللمصلحة العامّة، فمنكم من يبخل، فكيف لو دعيتم إلى الإنفاق كأجر للرسالة؟! وقيل: إنّه استشهاد لبخلهم في إنفاق الجميع.

(فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلُ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ). من حسن أدب القرآن أنّه لم

ص: 195

ينسب البخل هنا إلى أكثرهم أو إليهم على سبيل الإجمال، بل نسبه إلى بعضهم تحقيراً لشأنه وإعلاماً بأنّ الغالب ليسوا كذلك. وحيث كان الهدف من إنزال الكتب وإرسال الرسل هو تربية الإنسان والرفع من شأنه، فالدين يحاول أن يأخذ بيد هذه الفرقة القليلة أيضاً ويزيل عنهم داء البخل، فإنّ شحّ النفس مانع من الكمال، قال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)،(1) ولولا ذلك لأمكن أن يؤخذ المال من الناس قهراً، كما تفعله الأنظمة الحكومية البشرية، ولكن نظام الرسالة تحاول هداية الإنسان إلى الطريق الصحيح، فيبيّن له أنّ الإنفاق في هذا المجال إنّما هو لمصلحتك الشخصية، فكما تنفق على نفسك في المأكل والمشرب، فعليك أن تنفق لحفظ دينك وبلدك وعرضك. ولذلك فإنّ من يبخل عن الإنفاق في هذا السبيل إنّما يبخل عن نفسه ويضرّ نفسه، والإنفاق في هذا الوجه أهمّ من الإنفاق في سبيل المأكل والملبس ونحوهما. هذا مضافاً إلى أنّه يضرّ نفسه ضرراً بليغاً حيث يخسر السعادة الأبدية في الدار الآخرة ويمنع نفسه من تحصيل رضوان الله تعالى وثوابه الجزيل.

(وَاللهُ الْغَنِيُّ وَانْتُمُ الْفُقَرَاءُ)، هذا تأكيد على أنّ الهدف من هذا الحثّ والترغيب هو تربية الإنسان ليبلغ الكمال المنشود، والله تعالى هو الغني بقول مطلق، أي لا يمكن فيه أيّ حاجة وفقر وغناه لا حدّ له وله ملك السماوات والأرض، والخلق كلّهم فقراء والفقر ميزتهم، فكلّ مخلوق محتاج إلى غيره، فالإنسان مثلاً لا يمكنه أن يعيش بنفسه، فهو محتاج إلى طعام وماء وغيرهما، كما هو محتاج إلى غيره من الناس، بل كلّ ممكن الوجود فقير في وجوده إلى علل وجوده، وكلّ

ص: 196


1- الحشر :(59): (9 التغابن (64): 16

الموجودات مفتقرة إلى الله تعالى في كيانها وبقائها.

(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)، قيل: إنّه معطوف على ما سبق من قوله تعالى: (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا) وأنّ التولّي بمعنى الإعراض عن الإيمان، وعلى هذا فيكون المراد به الارتداد عن الدين ومثله قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).(1)

ولكن يمكن أن يكون عطفاً على قوله : (تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا)، وتعبيراً آخر عن البخل في الإنفاق في سبيل الله تعالى أي وإن تعرضوا عن الإطاعة في الدعوة إلى الإنفاق، فالله تعالى يستبدل قوماً غيركم، أي يهلككم ويأتي بقوم آخرين يؤمنون به وليسوا أولئك من قبيلكم، بل يطيعون ربّهم ويقومون بواجبهم في حفظ ثغور المسلمين والاستبدال على هذا يمكن أن يكون إشارة إلى نتيجة طبيعية للإمساك عن الإنفاق في سبيل الله تعالى، لأنّهم إذا أمسكوا عن ذلك فهم عن بذل النفس أبخل، والنتيجة ستكون غلبة الكفّار عليهم في شتّى المجالات، فإمّا أن يهلكوا في الحرب معهم أو يبقوا فاقدين لهويتهم الدينية مغلوبين على أمرهم، فيبعث الله قوماً آخرين يرفعون راية الإسلام ويدافعون عن حريمه ويقومون بوظيفة الإبقاء على الرسالة الخالدة وإيصالها سالمة إلى الأجيال المتأخّرة.

ويبقى السؤال في أنّه هل تحقّق هذا الشرط فحرموا من هذا المقام وح-از ب-ه آخرون أم أنّه مجرّد إنذار وترهيب، وأنّهم قاموا بالمسؤولية بأحسن وجه وإن

ص: 197


1- المائدة .(5): 54

أتى الله بعدهم بقوم لهم تلك الصفات المذكورة في سورة المائدة؟

وقد ورد حديث في كتب العامّة - وصفوه بأنّه صحيح - أنّ المراد بهذا القوم

الفرس ونحن ننقله عن «روح المعاني» قال: والمراد بهؤلاء القوم أهل فارس، فقد أخرج عبد الرزّاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في «الأوسط» والبيهقي في «الدلائل» والترمذي وهو حديث صحيح على شرط مسلم أبي هريرة، قال: تلا رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - هذه الآية (وَإِن تَتَوَلَّوْا) الخ فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولّينا استبدلوا بنا، ثمّ لا يكونون أمثالنا ؟ فضرب رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - على منكب سلمان، ثمّ قال:«هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريّا لتناوله رجال من (فارس».(1)

وفي تفسير «مجمع البيان» عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه قال: «قد والله أبدل بهم خيراً الموالي»(2) وهذا يدلّ على أنّهم تولّوا ولم يقوموا بالواجب فأبدل الله بالفعل خيراً منهم وهم وهم الموالي، أي غير العرب والمراد بهم الفرس، كما يظهر من روايات عديدة منها ما ورد في تفسير قوله تعالى: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ مَا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).(3)

ولعلّ المراد إعراضهم عن أداء الواجب بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم حيث تركوا نصرة الإمام الذي عيّنه خليفة عليهم بعد أن بايعوه في حياته بل تركوا نصرة أهل بيته في مقابل أعدائه القدامى حتّى قتلوا واستبيحت أموالهم وكرامتهم.

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

ص: 198


1- روح المعاني 13: 236.
2- مجمع البيان في تفسير القرآن 10 - 9: 164؛ راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 250
3- الجمعة (62): 3

تفسیر سوره الفتح

اشارة

ص: 199

ص: 200

سوره فتح (1- 3 )

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمْ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيرًا (3)

سورة الفتح سورة مدنيّة كما هو واضح من مضامينها بمعنى أنها نزلت بعد الهجرة وإن ورد في الروايات أنّها نزلت في طريق عودة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم من الحديبية وتتناول السورة قصّة صلح الحديبية وأنّه الفتح المبين، وتتعرّض لما حدث للمسلمين قبله وبعده ولمبايعتهم الرسول صلى الله عليه و آله سلم تحت الشجرة وهي بيعة الرضوان، وتتعرض أيضاً للمخلّفين من الأعراب وحكمهم، وتنتهي السورة بمدح بليغ للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم والذين معه.

«إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مبيناً»، الخطاب للرسول الكريم صلّی الله علیه و آله و سلّم والتعبير بالفتح يدلّ على أنّ هناك انغلاقاً قبل ذلك، ولا شكّ أنّ التعبير بالفتح كنائي في مثل فتح البلدان بمعنى السيطرة عليها، ولعلّ الأصل فيه أنّ البلد كان له في القديم بوابات، والعسكر المهاجم إنّما يسيطر على البلد إذا تمكن من فتح البوابة، فاعتبر كلّ

ص: 201

سيطرة على البلد فتحاً، ثمّ كلّ غلبة في الحرب فتحاً. وفي مورد نزول الآية أيضاً لا بدّ من أن يكون هناك انغلاق على الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم والمؤمنين ففتح الله تعالى لهم. واللام للتعليل، أي فتحنا من أجلك. و «فَتْحًا» مفعول مطلق. ووصفه بأنّه فتح مبين بمعنى أنّ كونه فتحاً أمر واضح بيّن لكثرة فوائده وغنائمه.

والسؤال أنّه ما هو هذا الفتح المبين؟

ليس هناك اختلاف في أنّ السورة نزلت بعد صلح الحديبية وبشأنه، وفي آياتها شواهد على ذلك، والروايات بهذا الصدد كثيرة أيضاً، وإنّما الاختلاف في المراد بالفتح في هذه الآية؛ فإنّ المعروف أنّ المراد به صلح الحديبية وتدلّ عليه روايات، ولكن بعضهم كالزمخشري قال: «إنّ المراد به فتح مكّة، وقيل: فتح خيبر، وقيل: الفتح العام والغلبة النهائية، وقيل: الغلبة المعنوية». (1) والسرّ في كلّ ذلك واحد وهو استبعاد أن يعبّر عن الصلح بالفتح.

ومن الغريب أنّ هذا الاستبعاد بدا من بعض الصحابة في ذلك الوقت، ولعلّه كان بعد تعبير الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم عنه بأنّه فتح. فقد روى في «الدرّ المنثور» عن البيهقي، قال: أقبل رسول الله - صلى الله عليه و آله سلم - من الحديبية راجعاً، فقال رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه و آله و سلم: - والله ما هذا بفتح لقد صُدِدنا عن البيت وصُدَّ هدينا، وعكف رسول الله - صلّى الله عليه و آله و سلّم - بالحديبية وردّ رجلين من المسلمين خرجا، فبلغ رسول الله - صلّى الله عليه و آله و سلّم - قول رجال من أصحابه: إنّ هذا ليس بفتح، فقال رسول الله - صلّى الله عليه و آله و سلّم - : «بئس الكلام، هذا أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح [جمع

ص: 202


1- راجع: الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 4: 331 - 333.

راحة أي الأكفّ] عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم في الإياب، وقد كرهوا منكم ما كرهوا. وقد أظفركم الله عليهم، وردّكم سالمين غانمين مأجورين، فهذا أعظم الفتح. أنسيتم يوم اُحد: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ»،(1) وأنا اُدعوكم في أخراكم، أنسيتم يوم الأحزاب: «إِذْ جَاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا»؟ (2)» قال :المسلمون صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح، والله يا نبي الله ما فكّرنا فيما فكّرت فيه ولأنت أعلم بالله وبالأمور منّا. فأنزل الله سورة الفتح.(3)

ويظهر من الحديث أنّ ذلك كان رأي جمع كثير منهم، ويظهر من الروايات أنّ الجوّ العامّ كان جوّ استياء مما حدث وشعور بالهزيمة والضيم والمذلّة. ويلاحظ أنّ الأصحاب رجعوا عن رأيهم بعد بيان الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وخصوصاً بعد نزول الآية، ولكن بعض المفسّرين بقوا على نفس الفكرة واستبعدوا أن يراد بالفتح الصلح، خصوصاً بعد شعورهم بأنّ الصلح فرض على الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ولم يكن راغباً فيه، مع أنّ هذا خطأ كبير، والصلح كان هو الهدف الأساس للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ولكلّ رسول في كلّ زمان، فإنّ الرسول لا يقصد السيطرة على الناس وليست الحكومة هدفاً لأصحاب الرسالات، بل هدفهم نشر هدايات الله تعالى بين الناس وهذا الأمر لا يتمّ إلا في ظلّ الهدوء والسلام والأمن. والرسل لا يطلبون حرباً ابتداءاً أبداً، وإنّما تفرض عليهم فرضاً فما حصل عليه الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم

ص: 203


1- آل عمران (3) 153.
2- الأحزاب (33) 10.
3- الدرّ المنثور 6: 68.

كان أعظم من كلّ ما اغتنمه في سائر الحروب، بل لا يقاس ذلك بالغنائم والفتوح المتعارفة أبداً، فأحسن تعبير عنه هو التعبير الإلهي: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فتحاً مبيناً».(1)

ولذلك ورد في حديث عنه صلّی الله علیه و آله و سلّم «لقد أنزلت عليّ الليلة سورة أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» (2) وفي «الدرّ المنثور»: «وأخرج البيهقي عن المسور ومروان في قصّة الحديبية قالا: ثمّ انصرف رسول الله - صلّى الله عليه و آله و سلّم - راجعاً فلمّا كان بين مكّة والمدينة نزلت سورة الفتح من أوّلها إلى آخرها، فلمّا أمن الناس وتفاوضوا لم يكلّم أحداً بالإسلام إلا دخل فيه، فلقد دخل في تلك السنين في الإسلام أكثر ممّا كان فيه قبل ذلك، فكان صلح الحديبية، فتحاً عظيماً».(3) وفي «جوامع الجامع» عن الزهري: «لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أنّ المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكّن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير كثر بهم سواد الإسلام». (4)

وفي صلح الحديبية روايات كثيرة ننقل إحداها عن «مجمع البيان» قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم من المدينة في بضع عشرة مائة من أصحابه حتّى إذا كانوا بذي الحليف قلّد رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة وبعث بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش وسار رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم حتّى إذا كان بغدير الأشطاط

ص: 204


1- الفتح (48): 1.
2- راجع: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل :409:16؛ بحار الأنوار 30: 565.
3- الدرّ المنثور :6 68 - 69.
4- جوامع الجامع 4: 132.

قريباً من عسفان أتاه عينه الخزاعي، فقال: إنّي تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش وجمعوا جموعاً وهم قاتلوك أومقاتلوك وصادّوك عن البيت، فقال : صلّی الله علیه و آله و سلّم: «روحوا»، فراحوا حتّى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم: «إنّ خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين». فسار حتّى إذا كان بالثنية بركت راحلته فقال صلّی الله علیه و آله و سلّم: «ما خلأت القصواء - خلأت: بركت من دون علّة والقصواء اسمها - ولكن حبسها حابس الفيل». ثمّ قال: والله لا يسألوني خطّة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إيّاها، ثمّ زجرها فوثبت به».

قال: فعدل حتّى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء إنّما يتبرّضه الناس تبرّضاً - أي يأخذونه قليلاً قليلاً - فشكوا إليه العطش فانتزع سهماً من كنانته، ثمّ أمرهم أن يجعلوه في الماء، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتّى صدروا عنه. فبينا هم كذلك إذ جاءهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم من أهل تهامة، فقال: إنّي تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي ومعهم العوذ المطافيل - أي النساء والصبيان، العوذ جمع عائذ: المرأة أو كلّ اُنثى ولدت لسبعة أيّام، سميت بذلك لأنّ ولدها يعوذ بها، والمطافيل جمع مُطفل: المراة التي معها طفلها - وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت، فقال رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم : «إنّا لم نجئ لقتال أحد، وإنّا جئنا معتمرين وإنّ قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدّة ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جَمُّوا - بفتح الجيم وتشديد الميم المضمومة، أي استراحوا - وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لاُقاتلنّهم على أمري هذا حتّى تنفرد سالفتي - يكنى به عن الموت والسالفة أعلى العنق - أو لينفذنّ الله تعالى أمره»، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول.

ص: 205

فانطلق حتّى أتى قريشاً، فقال: إنّا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وإنّه يقول: كذا وكذا. فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال: إنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها ودعوني آته، فقالوا: ائته، فأتاه فجعل يكلّم النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم فقال له رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و نحواً من قوله البديل - إلى أن قال - ثمّ إنّ عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم إذا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدروا أمره، وإذا توضأ ثاروا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر تعظيماً له.

قال: فرجع عروة إلى أصحابه وقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت - أي ما رأيت - ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد، إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر تعظيماً له، وإنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها.

فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلمّا أشرف عليهم قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: «هذا فلان وهو من قوم يعظّمون البدن فابعثوها»، فبعثت له واستقبله القوم يلبّون فلمّا رأى ذلك، قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدّوا عن البيت.

فقام رجل يقال له مكرز بن حفص، فقال: دعوني ،آته فقالوا: ائته، فلمّا أشرف عليهم، قال النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم : «هذا مكرز وهو رجل فاجر»، فجعل يكلّم النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم فبينما هو يكلّمه إذ جاء سهيل بن عمرو، فقال صلّى الله عليه و آله و سلّم: «قد سهل عليكم أمركم» فقال: اكتب بيننا وبينك كتاباً. فدعا رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم علي بن أبي طالب، فقال له رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» فقال سهيل: أمّا الرحمن فوالله ما أدري ما هو؟ ولكن اكتب باسمك اللهمّ، فقال المسلمون: والله لا نكتب إلا بسم الله

ص: 206

الرحمن الرحيم ، فقال النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم : «اكتب باسمك اللهمّ، هذا ما قاضى عليه محمّد رسول الله» فقال سهيل: لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمّد بن عبد الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم : «إنّي لرسول الله وإن كذّبتموني»، ثمّ قال لعليّ: «امح رسول الله»، فقال: «يا رسول الله إنّ يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوّة»، فأخذه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم فمحاه.

ثمّ قال: «اكتب هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبد الله وسهيل بن عمرو واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهنّ الناس ويكفّ بعضهم عن بعض، وعلى أنّه من قدم مكّة من أصحاب محمّد حاجّاً أو معتمراً أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله، ومن قدم المدينة من قريش مجتازاً إلى مصر أو إلى الشام فهو آمن على دمه وماله، وإنّ بيننا عيبة

مكفوفة - لعلّه كناية عن عدم الغدر، فالعيبة الوعاء، ومكفوفة أي معقودة - وأنّه لا إسلال ولا إغلال - أي لا سرقة ولا خيانة -، وأنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه». فتواثبت خزاعة، :فقالوا: نحن في عقد محمّد وعهده، وتواثبت بنو بكر، فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: «على أن تخلّوا بيننا وبين البيت فنطوف»، فقال سهیل: والله ما تتحدّث العرب أنّا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب.

فقال سهيل على أنّه لا يأتيك منّا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، ومن جاءنا ممّن معك لم نرده عليك، فقال المسلمون: سبحان الله كيف يُردّ إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم «من جاءهم منّا فأبعده الله، ومن جاءنا منهم رددناه إليهم، فلو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجاً».

ص: 207

فقال سهيل: وعلى أنّك ترجع عنّا عامك هذا فلا تدخل علينا مكّة، فإذا كان عام قابل خرجنا عنها لك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثاً ولا تدخلها بالسلاح إلا السيوف في القراب وسلاح الراكب، وعلى أنّ هذا الهدي حيث ما حبسناه محلّه لا تقدّمه علينا، فقال: نحن نسوق وأنتم تردون. فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتّى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمّد أوّل ما اُقاضيك عليه أن تردّه، فقال النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم «إنّا لم نقض بالكتاب بعد»، قال: والله إذاً لا اُصالحك على شيء أبداً، فقال النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم «فأجره لي»، فقال: ما أنا بمجيره لك، قال: «بلى فافعل»، قال : ما أنا بفاعل؛ قال مكرز: بلى قد أجرناه؛ قال أبو جندل بن سهيل: معاشر المسلمين أاُردّ إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما قد لقيت وكان قد عُذّب عذاباً شديداً. فقال عمر بن الخطاب: والله ما شككت مذ أسلمت إلا يومئذٍ فأتيت النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم فقلت : ألست نبي الله ؟ فقال: «بلی»، قلت: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال: «بلی»، قلت: فلِمَ نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: «إنّي رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري» قلت: أولست كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت ونطوف حقّاً؟ قال: «بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟» قلت: لا، قال: «فإنّك تأتيه وتطوف به»، فنحر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بُدنَه فدعا بحالقه فحلق شعره. الحديث.(1)

«لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ»؛ اللام للتعليل كما هو ظاهر اللفظ. وظاهر العبارة أنّ الفتح سبب لأربعة اُمور: الغفران وإتمام النعمة والهداية والنصر. وحيث استغرب بعض المفسّرين أن يكون الفتح سبباً للغفران، حاولوا تأويل

ص: 208


1- مجمع البيان في تفسير القرآن 10 - 9: 177 - 180.

الآية بوجوه ركيكة لا حاجة إلى ذكرها ؛ وقد استقصاها العلامة الطباطبائي رحمه الله في تفسير «الميزان» وردّها.(1) والسبب في هذا الاستغراب هو توهّم أنّ الذنب هنا بمعناها المتبادر، أي المعصية، وأنّ الغفران بمعنى العفو، فالاستغراب على هذا في محلّه، فإنّ إسناد المعصية إلى الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم منافٍ للعصمة فحاولوا تأويله.

ولكنّ الصحيح أنّ الذنب ليس بمعنى المعصية وإن ورد كذلك في كثير من كتب اللغة، ولكنّ الوجه في التعبير به عن المعصية أو الجريمة هو ما يستتبعه من الذمّ أو الجزاء، قال العسكري في «الفروق»: «الذنب ما يتبعه الذمّ أو ما يتتبّع عليه العبد من قبيح فعله، وذلك أنّ أصل الكلمة الاتباع»،(2) وقال الراغب في «المفردات»: «الذنب في الأصل الأخذ بذنب الشيء، يقال: ذنبته، أي أصبت ذنبه، ويستعمل في كلّ فعل يستوخم عقباه اعتباراً بذنب الشيء، ولهذا يسمّى الذنب تبعة اعتباراً لما يحصل من عاقبته».(3) فالمراد به هنا تبعة الأعمال في الدنيا، وقد يكون العمل واجباً شرعياً إلا أنّه يستوجب تبعات غير محمودة للإنسان في المجتمع، ومعنى الغفران ستر هذه التبعات بمعنى المنع من تأثيرها الأثر غير المحمود.

ومثله ما حصل لموسى علیه السّلام فإنّه أدّى واجباً عليه وهو نصرة المؤمن على الكافر، وحيث أدّى إلى قتله - ولعلّه لم يقصد القتل - فاعتبر ذلك ذنباً لمّا يستتبع من مشاكل في المجتمع، فاستغفر ربّه فغفر له، وليس معنى الاستغفار الندم على ما حصل، ولذلك لمّا غفر له ، قال علیه السّلام: «رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ

ص: 209


1- راجع الميزان في تفسير القرآن 18: 253 - 256.
2- الفروق في اللغة: 228.
3- مفردات ألفاظ القرآن 331.

ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ»؛(1) ومعناه أنّه سيستمرّ في الدفاع عن المؤمنين حيث إنّ الله تعالى في عونه ويدافع عنه ويحفظه من كيد الأعداء. ولذلك أيضاً اعتبره ذنباً لهم عليه كما قال: «وَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ»،(2) فهو ذنب في نظرهم.

والمراد هنا أيضاً ما صدر من الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم بالنسبة لقريش في مكّة بعد ذلك في المدينة من تسفيه آرائهم وتحقير آلهتهم والاستخفاف بكبرائهم وتقاليدهم، ودعوتهم إلى التوحيد وإلى الاعتراف بنبوّته، فالمراد بما تقدّم هو ما تقدّم على الهجرة، حيث كان الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم تحت ضغط المشركين في مكّة، ذلك لم يأل جهداً في التنديد بأعمالهم وتسفيه كبرائهم، وبما تأخّر ما صدر منه صلّی الله علیه و آله و سلّم في المدينة من محاربتهم وكسر شوكتهم في المنطقة العربية.

والمراد بالمغفرة ستر هذه التبعات الاجتماعية بالفتح والنصر والغلبة، فإنّ عامّة الناس - كما هو المشهود - تبهرهم القوّة والغلبة، فإذا قام أحد بثورة لتغيير المعايير الاجتماعية ولم ينجح، بل استؤصلت ثورته وصار سبباً لقتل جماعة وسجن آخرين وغير ذلك من المشاكل الاجتماعية التي تحصل في الثورات، فإنّ عامّة الناس، بل حتّى الخاصّة منهم غالباً يعيّرونه ويعتبرون ما قام به جريمة اجتماعية لا تغفر حتّى لو كانت دعوته حقّة، وأمّا إذا تمكّن من قلب النظام والسيطرة على الوضع وتغيير المعايير، فإنّهم يعتبرونه بطلاً قومياً وإماماً متّبعاً. وهكذا كان الوضع العامّ لدى قريش والجزيرة العربية بالنسبة للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم.

وبذلك يرتفع الإشكال من جهة إسناد الذنب إلى المعصوم ومن جهة تعليل

ص: 210


1- القصص :(28) 17.
2- الشعراء (26): 14.

الفتح بالمغفرة، وذلك لأنّ الفتح والغلبة يبرّر ما قام به صاحب الثورة من تغيير للسنن الاجتماعية ومخالفة للتقاليد الموروثة، كما نجده في جميع المجتمعات والعصور، وهذا ما صرّح به الإمام الرضا علیه السّلام في جواب المأمون حيث قال للإمام علیه السّلام: فأخبرني عن قول الله عزّ وجلّ: «ليَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَاخَرَ» قال الرضا علیه السّلام : لم يكن أحد عند مشركي مكّة أعظم ذنباً من رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم لأنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستّين صنماً، فلمّا جاءهم صلّی الله علیه و آله و سلّم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا: «أجَعَل الألمة إلهاً واحداً إن هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ المَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آهِتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ * ما سَمِعْنا بهذا في المِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هذا إلا اختلاق»،(1) فلمّا فتح الله عزّ وجلّ على نبيّه مكّة، قال له: يا محمّد إنّا فتحنا لك مكّة فتحاً مُبِيناً ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر عند مشركي أهل مكّة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدّم وما تأخّر؛ لأنّ مشركي مكّة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكّة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم» فقال المأمون: الله درك يا أبا الحسن.(2)

وظاهر الحديث أنّ المراد بالفتح فتح مكّة وهو خلاف ظاهر الآية كما مرّ، ولعلّه سهو من الراوي، ويمكن أن يعتبر صلح الحديبية فتحاً لمكة أيضاً؛ لأنّه من مقدماته. ولذلك قال جابر بن عبدالله الأنصاري - رضوان الله عليه - على ما روي: «ما كنّا نعدّ فتح مكّة إلا يوم الحديبية».(3)

ص: 211


1- ص (38): 5-7.
2- عيون أخبار الرضا علیه السّلام 2: 180.
3- جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 26.

وفي الآية التفات حيث أسند الفتح إلى ضمير المتكلم مع الغير: «إِنَّا فَتَحْنَا»، ثمّ أسند الغفران وما بعده إلى الله تعالى: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ» وكان مقتضى السياق أن يقال: «لنغفر لك»، ولعلّ الوجه فيه أنّ الغفران وما بعده أغراض ومصالح مترتّبة ومقصودة الله تعالى بالذات، فكان الأنسب أن يسند إلى الذات المتعالية، وأمّا الفتح فهو متوقّف على عوامل طبيعية عديدة وأرضية صالحة وإن كان مراداً للهتعالى أيضاً، ولكنّه لا يتحقّق إلا بأسبابه العادية المؤثّرة بإرادته تعالى، والظاهر أنّ القرآن الكريم ينسب ما كان كذلك إلى ضمير المتكلّم مع الغير، إيذاناً بأنّه أمر طبيعي حدث في موعده المحدّد بأسبابه العادية والعوامل المؤثّرة بإرادته تعالى.

«وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ»، لا يبدو من الآية الاختصاص بنوع من النعم، فيمكن أن يكون المراد النعمة بالمعنى العامّ، الشامل لكلّ النعم المادية والمعنوية إلا أنّ مقتضى التعليل أن يكون المراد بالنعمة ما يترتّب على الفتح والغلبة، فلعلّ المراد خصوص ما يتعلّق بانتشار الدعوة واستسلام المشركين في الجزيرة العربية لحكم الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم.

ولكن إذا لاحظنا أنّ الله تعالى اعتبر نصب أمير المؤمنين علیه السّلام يوم الغدير وليّاً وإماماً للمسلمين إكمالاً للدين وإتماماً للنعمة بقوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلام دِيناً»(1) فلا يبعد أن يكون المراد بإتمام النعمة هنا أيضاً هذا المعنى، وهذه النعمة وإن كانت عامّة لجميع المسلمين والله تعالى منّ عليهم جميعاً بها، حيث قال: «وأتمْتُ عَلَيْكُمْ» إلا أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله و سّلم حظي بها أكثر من غيره، كما هو واضح.

ص: 212


1- المائدة (5): 3.

والغرض من الآية - بناءاً على ذلك - أنّ هذا الفتح هيّأ الأرضية الاجتماعية الصالحة لهذا النصب الخطير، حيث كان الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم يحذر الفتنة وعدم تقبّل المجتمع لذلك، حتّى أنزل الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِن لَم تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»،(1) وكما كان الفتح علّة للغفران الاجتماعي كذلك هو سبب لتقبّل المجتمع مثل هذا النصب الإلهي المثير للأحقاد الجاهلية. وقد جاء إعلان هذا النصب المبارك بعد صلح الحديبية وفي حجّة الوداع.

«وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً» الصراط هو الطريق، وأصله السراط اُبدل صاداً لتناسب الطاء وهو من سرط الطعام إذا ابتلعه، كأنّ الطريق يبتلع السائر فيه ويغيبه الأنظار. والاستقامة بمعنى عدم الانحراف عن الحقّ، وليس بمعنى كونه خطّاً مستقيماً في مقابل الخطوط المنحنية، وهذا تعبير متعارف عن الطريق الصحيح الذي لا ينحرف عن الحقّ إلى جهة اُخرى.

وقد اختلفوا في المراد بهدايته صلّی الله علیه و آله و سلّم إلى صراط مستقيم، حيث إنّه كان مهدياً إليه منذ أن بعث، فقيل: إنّ المراد الزيادة في هدايته بتشريع أحكام أخرى؛ وقيل: المراد تثبيته على الصراط؛ والصحيح أنّ الإنسان مهما بلغ علماً وكمالاً، فإنّه لا يستغني عن هداية الله تعالى إلى الصراط المستقيم في جميع شؤونه باستمرار، ومن هنا فإنّ الواجب على كلّ مسلم أن يكرّر يومياً عدّة مرّات ضمن صلاته «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» والرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم أحوج ما يكون إلى هذه الهداية، فإنّ أقلّ خطأ منه في سبيل الدعوة يسبّب كارثة في الدين، فاحتياجه إلى هداية الله تعالى

ص: 213


1- المائدة (5): 67.

في كلّ حركة وسكون في هذا المضمار أكثر وأكبر. هذا ولكن مقتضى التعليل أن يكون المراد ما هو مناسب للفتح والغلبة، فالظاهر أنّه الصراط المستقيم الموصل إلى المقصود في نشر الدعوة، وهو التمكّن من إيصال الرسالة إلى شتّى أقطار العالم لتتمّ الحجّة على الناس وإن كانت الحاجة إلى الهداية أوسع من ذلك.

«وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً». العزيز من العزّة وهي القوّة والشدّة والصلابة، يقال: أرض عزاز إذا لم تؤثر فيها المعاول، ويعبّر به عن الغالب الذي لا يمنع من تحقّق ما يريده شيء، وعلى الشيء النادر الذي لا يوجد مثله أو قلّما يوجد، والظاهر أنّ توصيف النصر به هنا بهذا المعنى، لأنّه نصر لا مثيل له أو يندر أن يحصل لأحد، ولعلّ المراد الانتصار الذي تحقّق للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم في فتح مكة، فإنّ صلح الحديبية مقدّمة له، ولعلّ العزّة فيه من جهة أنّ الله تعالى أذلّ له الرقاب دون حرب وقتال.

ص: 214

سوره فتح ( 4-7)

هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَنًا مِّعَ إِيمَنِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُتَنفِقِينَ وَالْمُنَفِقَتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَتِ الظَّائِينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَابِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا» (7)

«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ». السكينة من السكون وهو الاطمئنان والاستقرار. والإنزال من الله تعالى إيجاد للشيء، قال تعالى: «وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجِ»،(1) ومثله قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ»،(2) وكلّ خلق من الله تعالى إنزال من سماء الأمر والملكوت إلى أرض الخلق.

وكان المؤمنون في سفر العمرة الذي انتهى إلى صلح الحديبية بأمسّ الحاجة إلى هذه السكينة بعد ما أقلقهم الوضع غير المتوقّع، حيث إنّهم خرجوا لأجل العمرة وحُرموا منها، وكانوا يتوقّعون وفقاً للرؤيا التي رآها النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم - كما ورد في آخر السورة - أن يوفّقوا للعمرة في تلك السنة، ورأوا ما لم يتوقّعوه فمُنعوا من الاعتمار، وصالح النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم المشركين وتنازل لمندوبهم في كلّ ما أراد في وثيقة الصلح، فمسح البسملة، ومسح وصف رسول الله عن اسمه الكريم، ورضي

ص: 215


1- الزمر (39): 6.
2- الحديد (57): 25.

أن يردّ إلى المشركين من أسلم منهم، واستجار بالمسلمين، فرأى كثير منهم أنّ في هذا الصلح مذلّة، وشكّ بعضهم في الدين وتزلزلت عقائدهم، فأنزل الله السكينة والاطمئنان عليهم ليزول عنهم الشكّ والاضطراب ويزدادوا إيماناً.

«لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ»، اللام للتعليل ويظهر منه أنّ الغرض من إنزال السكينة لم يكن إزالة الشكّ العارض فحسب، بل الغرض أن يزداد إيمانهم. وقد وقع البحث والكلام لدى المفسّرين والمتكلّمين في أنّ الإيمان هل هو ممّا يقبل الزيادة والنقصان أم لا؟ والأكثر يقولون بقبوله الزيادة كما هو واضح، ولكن ذهب جماعة - منهم على ما يقال أبو حنيفة - إلى عدم قبوله للازدياد، وقد عرّفوا الإيمان بالتصديق البالغ حدّ الجزم، وقالوا: إنّ الأمر فيه يدور بين السلب والإيجاب ولا معنى لزيادة التصديق، وأوّلوا الآية وأمثالها بوجهين:

الأول: أنّ المراد بالازدياد عدم وجود فترات ينعدم فيها الإيمان، فالذي يقلّ إيمانه معناه أنّه يكفر بالله تعالى في بعض الفترات.

وهذا التأويل لا وجه له، لأنّه يستلزم كثرة الارتداد في المؤمنين ممّا لا ينبغي نسبته إليهم، بل يستلزم لوازم فقهية مترتّبة على ارتدادهم لا يمكن الالتزام بها. وربما يستشهد لذلك بقوله تعالى: «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلا وَهُمْ مُشركونَ»،(1) ولكنّه يدلّ على شركهم حين الإيمان، لأنّ الجملة: «وَهُمْ مُشْرِكُونَ» حالية ومقتضاه عدم خلوص الإيمان في أكثرهم ممّا يدلّ على اختلاف المؤمنين في زيادة الإيمان ونقصه. ويدلّ على ما ذكرنا أنّه لو كان المراد بالزيادة ما ذكر لم يصحّ التعبير بأنّه زيادة إيمان إلى إيمانهم، بل هو حدوث إيمان بعد زواله.

ص: 216


1- يوسف (12): 106 .

الثاني: أنّ المراد زيادة ما يؤمنون به، فكلّ حكم وكلّ خبر ينزل بالوحي ويؤمنون به يزدادون إيماناً، بمعنى زيادة مورد الإيمان. ومن الواضح أنّ هذا لا يترتّب على إنزال السكينة، بل على إنزال الحكم والحقائق الغيبية، والآية صريحة في أنّ الإيمان يزداد بإنزال السكينة في قلوبهم ممّا يدلّ بوضوح على أنّ الإيمان الذي يزداد من جنس السكينة والاطمئنان.

ولكن يبقى الكلام في أنّه ما هو حقيقة الإيمان، هل هو العلم اليقيني أو هو، التصديق بالشيء أو هو العلم مع الالتزام وعقد القلب؟ والبحث أشبه ما يكون ببحث لفظي، حيث إنّه يدور على معنى الكلمة، وحيث إنّ الإيمان موضوع لكثير من الأحكام الشرعية، فلا بدّ من القول فيه بأنّه وبمقتضى ظاهر القرآن، بل صريحه أمر يقبل الزيادة والنقصان، فلا يصحّ تأويله بمعنى لا يقبل ذلك.

والصحيح أنّه ليس مجرّد العلم بالشيء، بل هو - كما قال العلامة الطباطبائي رحمه الله - العلم مع الالتزام وعقد القلب به، بحيث يترتّب عليه لوازمه من العمل، وليس هو نفس العمل، بل العمل من لوازمه، حيث إنّه يصدر من المنافق أيضاً، فما ورد من تفسيره بالعمل تفسير باللازم، ويقصد به أنّ الإيمان لا يصدق إلا إذا كان مؤثّراً في مرحلة العمل. والمراد بالعلم الذي هو أحد جزءي الإيمان العلم العرفي لا اليقين القاطع، بحيث لا يكون هناك احتمال للخلاف، فالعرف يطلق العلم على الاحتمال القوي الذي لا يعتنى باحتمال الخلاف فيه، وهذا بنفسه ممّا يقبل الزيادة والنقصان. ونحن نجد من أنفسنا في ما نعلمه من الأمور الخارجية أنّ الاطمئنان يزيد لدينا كلّما زادت الشواهد حتّى نصل إلى الاطمئنان الكامل بالمشاهدة ونحوها.

ص: 217

وممّا يدلّ على ذلك أيضاً قوله تعالى: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمُوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي»،(1) فالآية صريحة في أنّ الإيمان يزداد برؤية الشواهد التي تدلّ على الأمر الغيبي وإن كان إبراهيم علیه السّلام مؤمناً بقدرة ربّه بدرجة عالية جدّاً من الإيمان إلا أنّه مع ذلك قابل للازدياد، فالإيمان هو الاطمئنان وسكون النفس وهو ذو مراتب، وكلمّا زادت الشواهد زاد الاطمئنان.

هذا بالنسبة إلى جزء من الإيمان وهو العلم وانكشاف الواقع، وفيه جزء آخر وهو عقد القلب وهو أمر اختياري، فالإنسان ربما يحصل له العلم بالشيء ولكنّه لا يؤمن به، كما كان ذلك دأب المعاندين من الكفّار، قال تعالى في شأن قوم فرعون: «فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ»(2) ومن الواضح أنّ المراد ليس هو الإنكار باللفظ والاعتقاد بالقلب، فإنّ المؤمن أيضاً قد يضطرّ إلى ذلك، بل المراد أنّهم أنكروا آيات الله مع تيقّنهم وعلمهم وانكشاف الأمر لهم، بحيث لم يحتمل الخلاف أو كان احتماله ضعيفاً جدّاً لا يعتنى به، ولذلك وصف الآيات بأنّها مبصرة، فهناك أمر اختياري قلبي في الإیمان.

ونظير ذلك الحبّ والبغض فإنّهما يحصلان عادة من دون اختيار، وهذا المعنى لا يمكن أن يتعلّق به أمر أو نهي مع أنّ الشرع يأمر بحبّ أولياء الله تعالى وبغض أعدائه، وليس المراد خصوص الإبراز والعمل، بل عقد القلب فالإنسان يمكنه أن يعقد قلبه على حبّ شيء أو بغضه، وكذلك يمكنه أن يعقد القلب

ص: 218


1- البقرة (2): 260.
2- النمل (27): 13 - 14.

على قبول شيء أو رفضه. وهذا الأمر أيضاً قابل للشدّة والضعف.

«وَاللهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ والأرْض وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً». الظاهر أنّ المراد بالجنود العلل والعوامل الطبيعية وغير الطبيعية المؤثرّة في الكون، فلعلّ المراد بجنود السماوات الملائكة وهي الوسائط بين الله تعالى وخلقه، وبجنود الأرض العوامل الطبيعية، وكونها الله تعالى واضح، لأنّها متقوّمة به وبإرادته، ولا كيان لها مستقلّة عن إرادته تعالى، وكلّها تسير وتؤثّر بأمره. وتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر وهو واضح.

إنّما الكلام في الغرض من التنبيه على هذه الحقيقة في هذا الموضع، ولا يبعد أن يكون المراد التنبيه على الحقيقة التي توجب السكينة للمؤمنين، فكان عليهم أن ينتبهوا أنّ الله تعالى على كلّ شيء قدير وكلّ شيء يؤثّر بأمره، فلو أراد لأهلك أعداء الرسالة في لحظة، ولكنّه عليم حكيم يعلم عواقب الاُمور ولا يعمل إلا ما تقتضيه الحكمة. ولو انتبهوا إلى هذه الحقيقة لم يحدث فيهم أيّ اضطراب وقلق، بل سكنت قلوبهم واطمأنت نفوسهم أنّ الأمر بيد العليم الحكيم القادر على كلّ شيء. ولعلّ التعبير بالجنود للتناسب مع الغلبة على الأعداء.

ومن الطريف تكرار الجملة بعد بيان عاقبة أمر الفريقين وأنّ فريقاً منهما في الجنّة وفريقاً في النار، ليتبيّن وجه الحكمة في تأخير الغلبة الظاهرية للمؤمنين عليهم، وأنّ الهدف الأسمى عند الله تعالى ليس هو الغلبة في الدنيا؛ بل هو استحقاق الثواب والعقاب في الآخرة، كما قال تعالى: «تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ».(1) والتعبير بلفظ الماضي «وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً» مع أنّه حقيقة أزلية

ص: 219


1- الأنفال (8): 67.

أبدية لعلّه للتنبيه على أنّ كلّ ما حدث في ما مضى ممّا أثار فيكم الشكّ كان الله تعالى ونابعاً عن علمه وحكمته، وليس هناك أيّ تغيير وتبديل، مضافاً إلى أنّ «كَانَ» في مثل هذه المواضع قد تكون منسلخة عن الزمان.

«لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا». يحتمل أن تكون هذه الجملة تعليلاً لإنزال السكينة باعتباره سبباً لزيادة الإيمان وهو السبب في دخول الجنّة. وأضاف المؤمنات إلى المؤمنين مع أنّ السكينة هنا نزلت على الرجال الحاضرين في تلك الواقعة لدفع توهّم اختصاص الجنّة والثواب بالرجال. ويصحّ أن نقول: إنّ نزول السكينة على الحاضرين سبب لزيادة إيمان الغائبين رجالاً ونساءاً بعد اطّلاعهم على ما حدث لكونه آية من آيات الله تعالى. ويحتمل أيضاً أنّ السكينة نزلت على الجميع الحاضرين والغائبين بعد اشتراكهم في الاستياء ممّا حدث، فيكون ذكر المؤمنين من باب التغليب. ويحتمل أيضاً وجود مجموعة من المؤمنات مع الرجال.

ولكنّ الأولى أن تكون الجملة تعليلاً لمضمون الجملة السابقة «ولله جُنُودُ السَّمَوَاتِ» حيث إنّ المراد بها التنبيه على أنّه تعالى ربّ الكون كلّه وأنّ العوامل المؤثّرة في السماوات والأرض إنّما تؤثّر بإرادته تعالى، فهذا التعليل يدلّ على أنّ خلقه تعالى لهذا الكون وتدبير أموره إنّما هو من أجل حياة اُخرى وعالم آخر يعقب هذا الكون يجازى فيه الإنسان بأعماله، فهو نظير قوله تعالى: «وَالله مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرض لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى»(1) على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في تفسير الآية المباركة. وبناءاً على هذا،

ص: 220


1- النجم (53): 31.

فالجملة تبيّن العلّة الغائية لخلق السماوات والأرض وما فيهما من جنود، وليست تعليلاً لنفس السلطة والملكية الإلهية.

ويؤيّد هذا الاحتمال عطف تعذيب المنافقين على إدخال المؤمنين الجنّة، فإنّه لا يمكن أن يكون نتيجة لإنزال السكينة على المؤمنين إلا أن يقال: إنّه تعليل للتخصيص بالمؤمنين ، فيكون المعنى أنزل السكينة على المؤمنين دون المنافقين ليدخل المؤمنون الجنّة ويعذّب المنافقون وهو بعيد.

ومن الغريب أنّ العلامة الطباطبائي قدّس سرّه رفض هذا التفسير هنا، مع أنّه قال في تفسير الآية المذكورة في سورة النجم: «وقوله: «وَالله ما فِي السَّمواتِ وَما فِي الأَرْضِ» إشارة إلى ملكه تعالى للكلّ، ومعناه قيام الأشياء به تعالى لكونه خالقهم الموجد لهم، فالملك ناشئ من الخلق وهو مع ذلك منشأ للتدبير، فالجملة دالّة على الخلق والتدبير، كأنّه قيل: ولله الخلق والتدبير. وبهذا المعنى يتعلّق قوله: «ليَجْزِيَ» إلخ واللام للغاية، والمعنى: له الخلق والتدبير وغاية ذلك والغرض منه أن يجزي الذين أساءوا إلخ».(1) وهذا هو نفس ما مرّ في تفسير هذه الآية وهما من باب واحد، بل مثلهما أيضاً قوله تعالى: «إِنَّهُ يَبْدَا الخَلْقَ ثم يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ»،(2) فإِنّ الجزاء ورد في الآية علّة لبدء الخلق وإعادته لا للإعادة فقط.

«وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ». التكفير هو الستر. وإنّما سمّي الكافر كافراً لأنّه يستر الحقّ وينكره. والعطف لا يدلّ على الترتيب، فلا ينافي كون التكفير قبل دخول

ص: 221


1- الميزان في تفسير القرآن 42:19.
2- يونس (10) 4.

الجنّة، مضافاً إلى ما مرّ في تفسير قوله تعالى، «وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ»(1) من ستر سيّئات أهل الجنّة بعضهم عن بعض حتّى لا يحتقر بعضهم بعضاً ولو في نفسه، فهو نظير إزالة الضغائن، كما قال تعالى: «وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلْ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ».(2)

«وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ الله فَوْزاً عَظِيماً»، «ذَلِكَ» إشارة إلى دخول الجنّة. والفوز هو النجاة والاختصاص بالشيء، فالفائز هو الغالب في المسابقة حيث يختصّ بالجائزة، ولا شكّ أنّ الفوز العظيم هو الفوز بالجنّة، بل هو الفوز فحسب، كما قال تعالى: «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ»(3) حيث يظهر منه الحصر. وإنّما قيّد ذلك بكونه عند الله تعالى، لأنّ الناس حتّى المؤمنين منهم يهتمّون بالظفر والغلبة في الدنيا أيضاً اهتماماً بالغاً لا يقلّ عن اهتمامهم بالجنّة، ولذلك قال تعالى: «وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ»(4) ولكنّ الله تعالى لا يعير اهتماماً به إلا كسبب لدخول الجنّة، كما قال عزّ من قائل: «تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ».(5)

«وَيُعَذِّبَ المُنافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمشركينَ وَالمشركاتِ» عطف على «يدخل» كما هو واضح، وقد مرّ أنّ الأولى أن تكون الجملتان تعليلاً لقوله تعالى: «وَلله جُنُودُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ» وقدّم ذكر المنافقين، لأنّ ضررهم أشدّ على الإسلام وأهله

ص: 222


1- محمّد (47): 15.
2- الحجر (15): 47.
3- آل عمران (3): 185.
4- الصف (61): 13.
5- الأنفال (8) 67.

لكونهم بين ظهرانيهم، ولذلك كان عذابهم أيضاً أشدّد، قال تعالى: «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)».(1)

«الضَّانِّينَ بِالله ظَنَّ السَّوْءِ». المراد بالظنّ الاعتقاد الذي قد لا يستند إلى دليل وشاهد، ومن خصائص المؤمن المتّقي حسن الظنّ بالله تعالى، وورد في حديث معتبر عن الإمام الرضا علیه السّلام أنّه قال: «أحسن الظنّ بالله، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول أنا عند ظنّ عبدي المؤمن بي إن خيراً فخيراً و إن شرّاً فشرّاً».(2) والمتّقون إنّما يحسنون الظنّ به تعالى لأنّهم يعلمون أنّه لا يريد بهم إلا الخير حتّى لو أصابهم أشدّ المصائب، فإنّهم يعلمون أن الله تعالى يريد أن يجزيهم جزاءاً عظيماً لا يستحقّونه إلا بالصبر على هذه المصائب، فهم دائماً في راحة بال وسكينة واطمئنان. وأما الكافر والمنافق بل حتّى ضعفاء الإيمان فإنّهم حتّى لو كانوا في بُلَهِنية من العيش فإنّهم يتوقّعون الشرّ دائماً، فهم أبداً في قلق واضطراب، لعدم ركونهم في الحياة إلى ركن وثيق، والحال أنّ الحياة في هذه الدنيا مليئة بالأخطار.

والمراد بظنّ السوء هنا ما سيأتي في الآية 12: «بَلْ ظَنَنْتُمْ أنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ والمؤمِنُونَ إلى أهْلِيهِمْ أبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً»، فإنّهم إنّما ظنّوا ذلك لاعتقادهم أنّ الله تعالى لا ينصر رسوله، فيعود هذا الظنّ، إلى سوء الظنّ به تعالى. وربما يقال بأنّ اعتبار هذا الأمر من ظنّ السوء بالله يستلزم إيمانهم به تعالى، وبأنّ كلّ ما يحدث فهو منه، وأنّه هو المؤثّر في كلّ شيء، حيث يتوقّع منه أن ينصر نبيّه فلم يفعل.

ص: 223


1- النساء (4): 145.
2- الكافي 2: 3/72، باب حسن الظنّ بالله.

والجواب أنّه لا يستلزم ذلك، لأنّ ظنّهم بعدم نصرة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم يمكن أن يكون من جهة ظنّهم أنّه تعالى غير قادر على ذلك، أو من جهة ظنّهم أنّه تعالى لا يؤثّر شيئاً في الكون، فهذا أيضاً من سوء الظنّ به تعالى وعدم المعرفة بشأنه، كما قال تعالى: «مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ»(1) و «السوء» بالفتح مصدر وبالضمّ اسم للمصدر.

«عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ». الدائرة ما يصيب الإنسان من مكروه، كأنّه يدور حوله ويحيط به، قال تعالى: «فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ»،(2) وقال أيضاً: «وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ»،(3) وإضافة الدائرة إلى السوء بيانية. والجملة هنا دعاء عليهم أو قضاء وحكم من الله تعالى أو إخبار عن مستقبلهم. وعطف قوله: «وَأَعَدَّهُمْ جَهَنَّمَ» يؤيّد كونه قضاءاً أو إخباراً. وإذا كان دعاءاً فالدعاء من الله تعالى ليس على حقيقته، فإنّه المدعوّ في كلّ دعاء، فالقصد منه لو كان دعاءاً هو الحكم عليهم أيضاً أو التنديد بهم وإظهار الغضب منهم.

«وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ هُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً». مرّ الكلام مراراً حول إسناد الغضب والرضا إلى الله تعالى. واللعن هو الطرد وهو غاية الغضب الإلهي. والباقي واضح.

«وَلله جُنُودُ السَّمَوَاتِ والأرض وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً». مرّ الكلام في نظيره

ص: 224


1- الحج (22): 74.
2- المائدة (5): 52.
3- التوبة (9): 98.

والتكرار من جهة اختلاف المورد، فهناك يبيّن للمؤمنين أنّه تعالى قادر على إنزال السكينة عليهم أو قادر على نصرهم وإهلاك عدوهم، وهنا ينّبه المنافقين والمشركين أنّه قادر على إنجاز ما يوعدهم به، ولذلك اختلف التعبير في صفاته تعالى، فالتنبيه على العزّة لبيان أنّه غالب على أمره ولا يمنع من تحقّق مراده شيء، ولكنه لحكمته يؤخر العقوبة والانتقام.

ص: 225

سوره فتح (8-10)

إِنَّا أَرْسَلْتَكَ شَهدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُتُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)

«إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشراً وَنَذِيراً» الظاهر أن الآيات بصدد ربط المؤمنين المجاهدين بالله تعالى مباشرة، ليستشعروا عظمة الموقف وضخامة المسؤولية الملقاة على عواتقهم، ولا يظنّوا أنّهم يواجهون مسؤولية بشرية أمام الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم كالمسؤولية أمام أيّ زعيم اجتماعي، فالموقف هنا خطير جدّاً والبيعة التي بايعوها إنّما بايعوا فيها الله تعالى مباشرة، ودور الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم في هذه البيعة دور الوسيط بالرغم من عظمة مقامه كوسيط بين الله تعالى وخلقه.

وفي المقابل توهّم بعض المفسّرين أنّ السياق هنا بصدد تضخيم دور الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وبيان عظمته وعلوّ مقامه ليشعر المؤمنون خطورة الموقف من هذه الجهة، وليعلم المعترضون على الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم فداحة خطأهم في التعامل معه. وهذا الاختلاف يؤثّر في فهم معنى الآية كما سيأتي.

وقد وصف الله تعالى رسوله الكريم هنا بثلاثة أوصاف: الشهادة والبشارة والإنذار. والمراد بالبشارة والإنذار واضح، فالرسالة الإلهية دائماً تحوم حول هذين الركنين والأهمّ منهما هو الإنذار ، حيث إنّ البشرية كالقطيع الغافل لما حوله من أخطار لا يرى إلا زينة هذه الحياة وآلامها، وواجب الرسل في الأساس هو تنبيههم على أخطار الحياة الآخرة وعواقب اُمورهم ونتائج أعمالهم.

إنّما الكلام في المراد بالشهادة وقد مرّ بعض الكلام في تفسير قوله تعالى:

ص: 226

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً» (1) وقلنا: إنّ الاحتمالات في معنى الشهادة ثلاثة:

1 - شهادة القائد السياسي والإمام لأعمال الناس الظاهرة ممّا تنبئ عن خبايا أسرارهم واتجاهاتهم وإيمانهم به وبرسالته أو كفرهم أو نفاقهم. وعلى هذا الاحتمال فالرسول كغيره من زعماء المجتمع يلاحظ من أعمال كلّ أحد وجهة تأثيره الاجتماعي. و ربما يحمل قوله تعالى: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ»(2) على ذلك بقرينة أنّ رؤية المؤمنين ليست إلا على هذا الوجه.

2 - أنّ الملائكة تعرض أعمال العباد على الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وكذلك على الأئمة من بعده علیهم السّلام فهم شهود على خبايا أعمالهم لا على ظواهرها وتأثيراتها الاجتماعية فحسب. وبهذا المعنى وردت روايات تدلّ بعضها على أنّ الأعمال تعرض على الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم حتّى بعد وفاته، وبعضها على أنّها تعرض بعده على الإمام، وأنّ المراد بالمؤمنين في الآية المذكورة هو أمير المؤمنين علیه السّلام أو الأئمّة كلّهم علیهم السّلام،(3) ونحن لا نعلم حقيقة هذا العرض ولا كيفيته وحدوده.

3- الشهادة بمعنى كونه مثلاً يحتذى به ومقياساً للصلاح والعبودية، فالرسول أو الإمام بعمله وسيرته شاهد في الدنيا يقتدى بهم، وفي الآخرة تقاس بهم الأعمال، ومنه ما ورد في الزيارة الجامعة: «أنتم الصراط الأقوم وشهداء دار الفناء وشفعاء دار البقاء».(4) ويدلّ على كون الإمام شاهداً بمعنى كون عمله مقياساً يوم

ص: 227


1- الأحزاب (33): 45.
2- التوبة (9): 105.
3- راجع: الكافي :1: 219، باب عرض الأعمال على النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم وبصائر الدرجات: 447 ، باب عرض الأعمال على الأئمّة علیهم السّلام.
4- من لا يحضره الفقيه 2: 613.

القيامة قوله تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسِ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً»(1) ويفهم من فاء التفريع أنّ دعوة الإمام يوم القيامة لتمييز من تبعه واقتدى به لیؤتی کتابه بيمينه، ومنه يظهر أنّ المراد بالإمام في الآية الإمام الحقّ والله العالم.

ويستفاد من بعض الآيات أنّ شهادة الرسل تختصّ بحال حياتهم، كقوله تعالى في حكاية كلام عيسى علیه السّلام يوم القيامة : «وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»،(2) ولعلّه يستفاد أيضاً من قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيداً».(3) وأوضح منه قوله تعالى: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً»،(4) وقوله تعالى: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ»(5) بلحاظ أنّ الإشارة لا تكون إلا إلى الموجودين، فالمراد بقوله:

«هَؤُلاءِ» المؤمنون بالرسالة في عصرها.

وفي مقابل ذلك ما ربما يدلّ على شهادتهم بعد الموت أيضاً - كما دلّت عليه بعض الروايات(6) - كقوله تعالى بشأن عيسى علیه السّلام: «وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ

ص: 228


1- الإسراء (17): 71.
2- المائدة (5): 117.
3- البقرة (2): 143.
4- النساء (4): 41.
5- النحل (16): 89.
6- منها رواية سماعة عن أبي عبدالله علیه السّلام قال سمعته يقول: «ما لكم تسوءون رسول الله صلّی الل علیه و آله و سلّم فقال رجل: كيف نسوءه؟ فقال: «أما تعلمون أنّ أعمالكم تعرض عليه، فإذا رأى فيها معصية ساءه ذلك، فلا تسوءوا رسول الله وسرّوه». الكافي (1): 219

قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً» (1) بناءاً على أنّ الضمير في «موته» يعود إلى «أحد»، فإنّ التقدير: وإن أحد من أهل الكتاب، وبناءاً على أنّ هذه الآية تشمل أهل الكتاب الباقين بعد وفاته علیه السّلام السواء قلنا بأنّه الآن حيّ أو ميّت، فإنّه سيموت لا محالة. ولعلّ وجه الجمع بين المجموعتين من الآيات اختلاف معنى الشهادة، فالرسول ما دام حيّاً يعتبر مسؤولاً عن قومه إن لم يتمّ تبليغ الرسالة، وبهذا المعنى يسأل الله المرسلين يوم القيامة كما قال تعالى: «فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ»(2) ولا يكون مسؤولاً عمّا يحدث بعده من ارتداد أو تحريف، ولكنّه یعتبر شاهداً على الجميع بالمعنى الثالث فهو الأسوة والمثل، وأعماله وسيرته شاهد وإمام ومقياس. فالجمع بين الآيات أنّ الرسول ليس شاهداً على الأمّة بعد وفاته بالمعنى الأوّل ولكنّه شاهد بالمعنى الثالث.

ويشهد لذلك ما ورد في مسألة عیسی علیه السّلام یوم القيامة وجوابه قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ الهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لي بِحَقِّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ هُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»(3) ومعناه أنّه ليس مسؤولاً عن ارتدادهم بعده.

ويستفاد أيضاً من بعض الآيات أنّ الشهادة لا تختصّ بالرسل، كما هو صريح

ص: 229


1- النساء (4): 159.
2- الأعراف (7): 6.
3- المائدة (5): 116 - 117.

الآية المذكورة آنفاً: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» ومثلها قوله تعالى: «وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبراهيم هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَوةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ»،(1) وقد ورد في بعض الروايات(2) أنّ المراد بهؤلاء الشهداء الأئمّة علیهم السّلام، ولو فرض عدم الاختصاص فيمكن أن يكون المراد بالآية حثّ المخاطبين على الجهاد في سبيل الله حقّ جهاده وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله ليكونوا اُسوة لمن بعدهم ولسائر الاُمم في أصل الالتزام بأحكام الشرع، وليس معناه أنّه تعالى جعلهم شهداء على الناس كالمعصومين ليكون عملهم أو قولهم حجّة.

وليس معناها أيضاً أنّ الشهادة صفة لكلّ من كان في عهد الرسالة وإن لم يجاهد في سبيل الله، بل حتّى لو غيّر وبدّل لتكون دليلاً على عدالة جمیعهم - كما يتوهم - فإنّه يستلزم التناقض وجواز التأسّي بالمجاهدين والقاعدين على حدّ سواء، وهذا غير صحيح قطعاً. وصريح قوله تعالى: «وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمينَ»(3) أنّ ذلك شأن بعضهم حيث يتّخذ منهم شهداء وهو في حدّ ذاته أمر واضح، إذ منهم المنافقون ومنهم ضعفاء الإيمان ومنهم الذين آذوا الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ونزلت فيهم آيات الارتداد والنفاق، فكيف يمكن أن يكونوا اُسوة؟!

ص: 230


1- الحج (22): 78.
2- راجع الكافي 1: 4/191، باب «أنّ الأئمة شهداء الله على خلقه» والسند صحيح.
3- آل عمران (3): 140.

وربما يتوهّم التنافي بين الشهادة يوم القيامة وبين قول الرسل: «لا عِلْمَ لَنَا»، كما ورد في قوله تعالى: «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ»،(1) والجواب أنه لعل المراد عدم علمهم في مقابل علمه تعالى فهم لا يعلمون إلا ظاهراً منهم، وأمّا البواطن فلا علم لهم بها إلا بالمقدار الذي أعلمهم الله تعالى بالوحي، وهذا لا ينافي الشهادة بمقتضى علمهم وإلا لم يكن وجه للسؤال، كما يدلّ على ذلك قوله تعالى: «وَقَالَ الرَّسُولُ يَا ربّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً»(2) بناءاً على عدم اختصاص القوم بالموجودين في ذلك الزمان. وبناءاً على أنّ هذا القول يحكي عن شكواه صلّی الله علیه و آله و سلّم يوم القيامة عن أمّته. هذا وأمّا الشهادة بمعنى كونه مقياساً يوم القيامة، فلا علاقة لها بجواب الرسل في سورة المائدة كما لا يخفى.

«لِتُؤْمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً» أي أنّ الغرض من إرسال الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّما شاهداً ومبشراً ونذيراً هو إيمان الناس بالله وبالرسول. ومن هذا التعبير واعتبار الإيمان بالرسول جزءاً من هدف الرسالة تتبيّن عظمة مقام الرسول وسخافة قول من يقلّل من شأنه ويقول: إنّه مجرّد واسطة ومخبر، ومن يقول بكفاية كتاب الله تعالى، فالإيمان بالرسالة ليس من باب أنّه طريق للإيمان بالله تعالى - كما يتوهّم البعض - بل هو هدف وغرض أساسي، فالله تعالى يريد من الناس أن يعبدوه عن طريق متابعة الرسول وليس الإيمان به تعالى كافياً حتّى لو كان طرق أخرى كالإيمان عن طريق العلم والفلسفة. وهناك من الحكماء

ص: 231


1- المائدة (5): 109.
2- الفرقان (25): 30.

والفلاسفة والعرفاء من يحكى عنهم القول بعدم احتياجهم إلى الرسالات وأنّهم يصلون إلى الله عن طريق العلم أو تزكية النفس من دون حاجة إلى متابعة رسول وكتاب سماوي. وهذا - مع أنّه باطل في نفسه - إيمان غير مقبول عند الله تعالى كما هو صريح آيات الكتاب العزيز.

ولعلّه إنّما أتى بضمير الخطاب لأنّ الإيمان بالرسالة مطلوب من الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم أيضاً، ولذلك كان يشهد بذلك في مواضعه كتشهد الصلاة على ما روي. ولعلّ من قرأ بالضمير الغائب «ليؤمنوا» استبعد وجوب الإيمان بالرسالة على الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم والمشهور المتّبع القراءة بالخطاب.

والتعزير، قيل: هو التفخيم والتوقير ، وقيل : هو النصر بتوقير وتعظيم، قال تعالى: «وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَيْنْ اقمْتُمُ الصَّلوةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكوةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُكُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ»(1) ويكثر استعمال التعزير في الضرب دون الحدّ، وفي «معجم مقاييس اللغة» (2) أنّه أصل له معنيان. ولكن لا يبعد أن يكون التعزير في الأصل بمعنى المنع والردّ كما في «تهذيب اللغة»،(3) فيشمل التأديب، لأنّه يمنعه بذلك من ارتكاب الجرم، ويشمل النصر، لأنّه يمنع عنه الأعداء ويردّهم. وتفسير التعزير بالنصر أولى من التوقير بنفسه لئلا يلزم التكرار مع قوله «وَتُوَقِّرُوهُ».

والتوقير بمعنى التفخيم والتعظيم، قال تعالى: «مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ الله وَقَاراً»،(4) أي

ص: 232


1- المائدة (5): 12.
2- راجع: معجم مقاييس اللغة 311:4.
3- راجع تهذيب اللغة: 221.
4- نوح (71): « 13 ).

تطلبون له عظمة واحتراماً في أعين الناس أو في قلوبكم. وأصل الوقر الثقل قال تعالى: «وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقَرٌ».(1) والوقار السكون والحلم.

والتسبيح في اللغة التنزيه والتبرئة، وفي «معجم المقاييس»(2) أنّه في الأصل الصلاة النافلة، ثمّ اُطلق على تنزيهه تعالى عمّا لا ينبغي له من الأوصاف. ولم يقل بذلك غيره من أهل اللغة. وقال الأزهري في «تهذيب اللغة»: «ومعنى تنزيه الله من السوء تبعيده منه من قولك: سبحت في الأرض إذا أبعدت فيها». (3) والظاهر أنّه لا يستعمل إلا في تنزيه الله تعالى عن كلّ ما لا يليق به، ولا يستعمل في تنزيه غيره. وقيل: إنّه عام في أصل اللغة وروى ابن دريد في «الجمهرة»،(4) في ذلك بعض الأشعار وقال: إنّ بعض ما ورد بمعنى البراءة كقول الأعشى: «سبحان من علقمة الفاخر»، ومعناه أنّه يتبرأ من فخره؛ وبعضه بمعنى التعجّب كقول الشاعر: «سبحان من فعلك يا قطام». ولعلّه يقصد أنّ التقدير «سبحان الله»، فإنّه يستعمل للتعجب. وفي «الصحاح»(5) أنّ ما ورد في شعر الأعشى للتعجّب، ولا يبعد وعليه فلا دليل على ورود استعمال التسبيح في تبرئة غيره تعالى في اللغة، كما قال آخرون أيضاً.

والبُكرة: الغداة أي أوّل النهار، والأصل في معناه أوّل الشيء وبدؤه، ومنه البكر أوّل ما يولد للرجل. والأصيل: العشيّ ويطلق على آخر النهار وأوّل الليل

ص: 233


1- فصلت (41): 44.
2- معجم مقاييس اللغة 3: 125.
3- تهذيب اللغة: 196.
4- جمهرة اللغة 1: 278.
5- الصحاح: 372.

على ما يبدو من كتب اللغة.(1) والمراد بالتسبيح في هذين الزمانين الاستمرار على التسبيح ليلاً ونهاراً.

ولا شكّ أنّ التسبيح هنا خاصّ بالله تعالى حتّى لو كان في أصل اللغة عامّاً، ولكن حيث كان التوقير والتعزير أنسب بالرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ذهب جمع من المفسّرين إلى اختلاف مرجع الضمائر ، واستند بعضهم في ذلك إلى أنّ الغرض من الآية التنبيه على عظمة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم كما مرّ، والظاهر أنّ بعضهم لم يجد من المناسب الأمر بتعزير الله تعالى، أي الدفاع عنه؛ لأنّه لا يحتاج إلى دفاع، وأنّه لم يرد في الكتاب العزيز التعبير به في مورده تعالى، وبذلك رجّحوا اختلاف الضمائر مع أنّه بعيد في نفسه. وقد تبيّن بما ذكرناه آنفاً أنّ الغرض من الآيتين وما بعدهما التنبيه على أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وسيط في العلاقة بينكم وبين ربّكم، وأنّ التعامل إنّما هو مع الله سبحانه، فلا مانع من إرجاع الضمائر كلّها إليه تعالى. والتعزير وإن كان في الأصل بمعنى المنع إلا أنّ المراد به النصر، وقد اتضح أنّ نصر الرسول ونصر الدين نصر الله تعالى.

«إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ». يأتي هذا التعبير أيضاً في سياق التنبيه على خطورة الموقف، فالبيعة مع الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ليست كالبيعة مع غيره من زعماء البشر كما يظنّ بعض الناس، ولعلّ بعض المسلمين حدّثته نفسه بالخذلان، فالآية الكريمة تنّبههم على أنّ البيعة ليست في الواقع مع الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وإنّما هي بيعة مع الله تعالى. والتعبير بالفعل المضارع من جهة أنّ الحكم لا يختصّ بالبيعة في الحديبية وإن كان هو محطّ النظر إلا أنّ الحكم عامّ.

ص: 234


1- راجع كتاب العين 2: 188؛ معجم مقاييس اللغة 4: 322.

والبيعة كانت في ذلك العهد تعني الالتزام بالطاعة للزعيم والدفاع عنه وعن مبادئه، وعبّر عنه بالبيعة كأنّه باع نفسه للزعيم، وكانت تتحقّق البيعة عندهم بالمصافحة باليد، كما أنّ البيع كان كذلك. والمروي أنّ رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم كان إذا بايع وضع يده على يد المبايع، فالمبايع هو الذي يمدّ يده أوّلاً، ثمّ يضع الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم يده على يده، ولذلك جاءت الآية بهذه العبارة: «يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»، أي أنّ اليد التي تبايعهم بها حال كونها، على أيديهم ليست هي يدك، بل يد الله تعالى. وهذا نوع من الاعتبار، نظير ما ورد من أنّ الحجر الأسود يمين الله في

الأرض، ولذلك يستحبّ أن يستلم ويقبّل وتمسح به اليد أو يشار إليه بها.

وقد عبّر الله تعالى عن هذا البيع بقوله: «إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَاهُمْ بِأنَّ هُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حقاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبشروا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»،(1) ولعلّ التصريح بالاشتراء والبيع في هذه الآية إنّما هو بالنظر إلى الاعتبار الذي ورد في سورة الفتح من كون يد الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم يده تعالى،(2) فالذي بايعهم في الواقع هو الله ، فالاشتراء وقع منه تعالى حقيقة.

«فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ». النكث نقض العهد والبيعة والفاء للتفريع يعني حيث كانت البيعة مع الله تعالى وهو غني عن عباده فلا يضرّه نكث من نكث البيعة وإنّما يضرّ الناكث نفسه.

«وَمَنْ أوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أجْراً عَظِيماً» وعد جميل من ربّ الكون

ص: 235


1- التوبة (9): 111.
2- راجع: الفتح (48): 10.

والملفت فيه أنّه لم يحدّد الأجر ولم يذكر أنّه جنّات تجري من تحتها الأنهار، وإنّما وصفه بالعظمة ويكفيه عظمة أن يصفه ربِّ الكون بالعظمة، فلا يعلم قدره إلا الله تعالى. وقرأ حفص الهاء في «عَلَيْهُ» بالضم وهي القراءة المشهورة وهو مخالف للمشهور في التلفظ العربي، وقد حاول بعضهم توجيهه بأنّه يسبّب قراءة اسم الجلالة بالتفخيم فيناسب المعاهدة، وهو وجه ضعيف جدّاً، ولم أجد له وجهاً آخر، ولكنّه على كلّ حال صحيح، لأنّه القراءة المشهورة بين الناس وقد أمرنا الأئمّة علیهم السّلام باتباعها.

ص: 236

سوره فتح (11-14)

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ . بِكُمْ ضَرًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنتُم أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيّننَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَن لَّمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَفِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا.(14)

«سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِالْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ». المخلَّف هو الذي تُرك خلف القوم. والأعراب على ما يبدو جمع لا مفرد له، وليس جمع العرب، لأنّه اسم جنس، وإنّما ينسب إليه المفرد فيقال: «أعرابي» ويطلق على أهل البداوة من العرب الذين لم يتحضّروا ويسكنوا المدن، وفي «التهذيب»: أنّه يطلق على غير العرب أيضاً من الموالي إذا كانوا أهل بداوة.(1) وقولهم : «شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا»، أي شغلتنا عن النفير معك، والظاهر أنّ المراد بالأموال الإبل والماشية، فإنّها تحتاج إلى حفظ ورعاية أو مطلق الأموال خوفاً من إغارة الأعداء. والأهلون جمع أهل على غير قياس، والإتيان بالجمع باعتبار أنّ كلّ واحد منهم له أهل.

والمراد بهم جمع من القبائل الساكنة في أطراف المدينة ممّن أسلموا ظاهراً ولم يتمكّن الإيمان من قلوبهم، فكانوا يتحينون الفرص للمشاركة في

ص: 237


1- تهذيب اللغة 2: 218.

الغنائم دون الحروب، بل تدلّ الآية على أنّهم كانوا منافقين، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فهذا تصريح بنفاقهم وعدم إيمانهم واقعاً بالرسالة وبلزوم الإطاعة وبأنّ قلوبهم لا تعترف بلزوم الاعتذار ولا الاستغفار، وستأتي شواهد أخرى على نفاقهم في الآيات التالية، ولكن بعض المفسّرين يحاول توجيه كلامهم بأنّه لا يدلّ إلا على ضعف الإيمان دون النفاق.

ولمّا خرج الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وأصحابه إلى مكّة عام الحديبية مع إعلام أنّه يريد العمرة استنفرهم ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدّوه عن البيت، وأحرم الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وساق معه الهدي ليعلم أنّه لا يريد حرباً ورأى أولئك الأعراب - على ما في التفاسير وكتب السيرة والتاريخ - أنّه صلّی الله علیه و آله و سلّم سيواجه عدداً كبيراً من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكّة والأحابيش، فلم يخرجوا معه وقالوا: نذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم؟! وقالوا: لن يرجع محمّد ولا أصحابه من هذه السفرة.

ولمّا كان الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم في طريق العودة أخبره الله تعالى بهذه الآيات - وهو من الأخبار الغيبية - أنّ الاعراب المذكورين سيعتذرون إليه عن تخلّفهم بهذه المعاذير وهو الاشتغال بالأهل والمال بمعنى أنّهم كانوا يخافون على أهلهم وأموالهم من الأعداء، وأنّه لم يكن عندهم من يحافظ عليهم، وأنّهم يطلبون منه صلّی الله علیه و آله و سلّم أن يستغفر لهم عن تخلّفهم، وفي ذلك إظهار للندم على ما بدر منهم، ولكنّهم يكذبون في ذلك فما كان لهم من عذر أوّلاً، وهم لا يطلبون الاستغفار بصدق ثانياً، بمعنى أنّهم يكذبون في طلب الاستغفار، وإنّما يطلبون ذلك ليظهروا الندامة ويحافظوا على مكانتهم بين المسلمين م غير نادمين واقعاً. وطلبهم

ص: 238

الاستغفار يدلّ على اعترافهم بأنّ العذر ليس موجّهاً وهو واضح، فالمحافظة على الأهل والأولاد لا يبرّر التقاعس عن الخروج لنصرة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ولو فرض كونه عذراً لكان الواجب أن يعرضوا حالهم عليه قبل الخروج.

«قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ الله شيئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَراً أو أرَادَ بِكُمْ نَفْعاً» ردّ عليهم وعلى كلّ من يظنّ نفس الظنّ في المواقف المشابهة، فالإنسان يحاول دفع الضرر عن نفسه ويتشبّث بكلّ وسيلة حتّى لو كانت غير مبرّرة وهو غافل عن أنّ النفع والضرر بيد الله تعالى، فهناك من الناس من أو كلوا أمرهم إلى الله تعالى وخرجوا لطاعته فدفع الله عنهم الشرّ بعنايته، وكثير منهم عصوا ربّهم وحاولوا الابتعاد عن الشرّ فوقعوا فيه من حيث لم يتوقّعوا، وقد وجدنا لذلك أمثلة كثيرة في حياتنا. وقد حكى لي أحد المجاهدين في الحرب التي أشعلها صدّام ضد إيران الإسلامية أنّ جماعة منهم خرجوا لأداء مهمّة في الحرب ولمّا اقتربوا من مواضع إلقاء القذائف وسمعوا الأصوات المخيفة والقذائف تقترب منهم خاف أحدهم والتجأ إلى غار هناك ولم يتقدّم مع أصحابه ولم يفد في إقناعه كلّ حديث وذهب الجمع وأدّوا مهمّتهم ورجعوا بأجمعهم سالمين غانمين ووصلوا إلى الغار وإذا بصاحبهم قتلته قذيفة وهو في ملجئه.

وليس معنى ذلك أنّ الإنسان لا يجب عليه أن يحافظ على نفسه، وإنّما الكلام في أنّه لا يصحّ أن يبرّر ترك الواجب لذلك، بل لابدّ من المحاسبة، فإن كان الواجب أهمّ فلا يجوز تركه لحفظ الأهل والمال، وإلا فلا شكّ أنّ الواجب هو المحافظة عليهم.

و«مَنْ» للاستفهام الإنكاري، أي لا يملك أحد من الله شيئاً. والملك في الأصل

ص: 239

يدلّ على قوّة في الشيء وصحّة على ما في «معجم المقاييس»(1) والمراد به هنا القدرة، أي لا يقدر أحد أن يفعل شيئاً يمنعه تعالى من أيّ ضرر يريد إيقاعه عليكم. وقوله: «لَكُمْ» أي لنفعكم ومصلحتكم، ومنه يظهر أنّ الاستفهام الإنكاري يتعلّق بإرادة الضرّ واستغني عن ذكر مماثله في إرادة النفع. والتقدير: ومن يمنعه إن أراد بكم نفعاً؟! ومثله قوله تعالى: «قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أرَادَ بِكُمْ سُوءاً أو أرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً»؛(2) فإنّ العصمة إنّما هي من السوء. فالتقدير: ومن يمنعه إن أراد بكم رحمة.

«بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً». التعبير يحمل تهديداً مبطّناً، فالله تعالى كان عالماً بما تضمرون في أنفسكم من الشرّ وهو القادر على أن يجازيكم عليه. وإنّما أتى بفعل «كان» لأنّ مورده ممّا مضى، فالمعنى أنّكم اضمر تم شيئاً ظنّاً منكم أنّ أحداً لا يعلم به وكان الله تعالى خبيراً به، كما هو خبير بكلّ شيء. والخبير هو العليم بالشيء على حقيقته، قال العسكري في «الفروق»: «الخبر هو العلم بكنه المعلومات على حقائقها، ففيه معنى زائد على العلم» ثمّ قال: «هو من قولك خبرت الشيء إذا عرفت حقيقة خبره».(3)

ويبدو من الآية أنّهم لم يكتفوا بترك الخروج مع الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، بل عملوا في الخفاء ما يدلّ على خيانتهم، وهذا ما تقتضيه الظروف أيضاً.

ويبعد جدّاً ما ذكره بعضهم من أنّ المراد بعملهم ظنّهم أن لن ينقلب الرسول؛ كما في الآية التالية لعدم صدق العمل عليه. وما ذكرناه يحتمل أن يكون هو

ص: 240


1- راجع: معجم مقاييس اللغة 5: 351 - 352.
2- الأحزاب (33): 17.
3- الفروق فى اللغة: 86.

الوجه في الإتيان ب- «بل»؛ لأنّها للإضراب، ومعناها بناءاً على ذلك أنّ الذي صدر منكم لم يكن مجرّد تخلّف عن نصرة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ، بل صدر منكم من العمل ما يعلمه الله ويجازيكم عليه.

«بَلْ ظَنَنتُمْ أنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أبَداً» ؛ أي لم يكن السبب في قعودكم وتخلّفكم ما أظهر تموه، بل هو هذا الظنّ وهذا هو ما جاء في الخبر عنهم حيث قالوا: «لن يرجع محمّد وأصحابه من هذه السفرة»، والانقلاب الرجوع إلى المأوى. والأهلون جمع أهل كما مرّ، و«لن» تفيد نفي الأبد وأكدّه :بقوله : «أبداً»، ويفهم منه أنّهم كانوا جازمين بهذه العقيدة، وهذه قرينة اُخرى على نفاقهم وعدم إيمانهم بأصل الرسالة وبأنّ الله تعالى هو الذي أرسل الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وأنّه سيحميه وينصره.

«وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ»؛ أي زيّن ذلك الظنّ في قلوبكم بمعنى أنّه تمكن من قلوبهم فاعتمدوا عليه واعتبروه أمراً مسلّماً لا ريب فيه، أو زيّن ذلك المظنون في قلوبكم بمعنى أنّ عدم رجوع الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وأصحابه إلى المدينة أصبح اُمنية لهم، فاخذوا يعدّون العدّة لحياة جديدة يعودون فيها إلى الجاهلية الأولى.

«وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً». قيل: إنّه تكرار للظنّ السابق، وفي تفسير «الميزان» أنّ المراد به ظنّهم بأن الله تعالى لا ينصر رسوله، فظنّ السوء هنا من ظنّهم بالله تعالى، إمّا من جهة أنّهم لا يعتقدون أنّه تعالى يؤثّر في الكونِ أو أنّهم لا يعتقدون أنّه ينصر رسوله أو يقدر على ذلك. والسوء بالفتح مصدر كما مرّ.

ويمكن أن يكون المراد كلّ ما رتّبوه في أمانيهم على عدم رجوع الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم فكلّ منهم ربما كانت له أهداف وآمال لا يمكنه أن يصل إليها في

ص: 241

ظلّ السلطة القائمة، فكانوا يتوقّعون أن تعود المياه إلى مجاريها السابقة فيعودون إلى أغراضهم الدنيئة.

والبور مصدر بمعنى الفساد أو الهلاك اُطلق على الفاسدين مبالغة، أو هو جمع بائر بمعنى الفاسد أو الهالك، فالمراد أنّهم فسدوا أو اهلكوا أنفسهم بالكفر والنفاق. ولعلّ في التعبير بالماضي: «وَكُنتُمْ» إشارة إلى إمكان أن تتحوّلوا وتكونوا صالحين لئلا يشعروا بانسداد باب الصلاح عليهم، ويمكن أن يكون بمعنى صار، أي صرتم بذلك هلكى أو فاسدين، ويمكن - كما قيل - أن يكون بمعنى كونهم قبل ذلك فاسدين أو هلكى.

«وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً» بيان لنتيجة عملهم وموقفهم الذي يدلّ على كفرهم بالله ورسوله لينتبهوا ويعودوا إلى رشدهم، وفيه إشارة إلى أنّ موقفهم من الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ينبع من عدم إيمانهم بالله تعالى. ولعلّه لم يقل: أعتدنا لهم، بل قال: «لِلْكَافِرِينَ» لأمرين: لتوصيفهم بالكفر، وهم يأبون عنه كغيرهم من المنافقين، وللتنبيه على السبب، وهو الكفر، فربما يتوهّم أنّ الكفر بنفسه ليس سبباً للعذاب. وأنّ الإنسان إنّما يؤاخذ بظلمه للناس وليس الأمر كذلك؛ فإنّ الكفر أكبر ظلم وأقبحه. والسعيرة النار الملتهبة ولعلّ التنكير للتهويل، كأنّه يقول: إنّه سعير أيّما سعير.

«وَالله مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأرض» «السماوات والأرض» تعبير عن الكون كلّه، فكلّ الوجود ملكه تعالى، والملكية هنا حقيقية بمعنى أنّ الكون كلّه متقوّم في كيانه وذاته بإرادته تعالى، وحيث حذّر المخلّفين في الآية السابقة أنّهم يدخلون ضمن الكفّار إلى السعير ، فلعلّه يوجب استغراباً ويستبعد أنّ الله تعالى يدخلهم النار لتخلّفهم عن نصرة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ويتوهّم أنّ العقاب غير متناسب مع الذنب،

ص: 242

وهذا التوهّم يحصل لكثير من الناس في كثير من الموارد، ويصرّح بعض الناس باستبعاده أن يدخل الله أحداً النار لمجردّ أنّه ترك الصلاة أو أفطر في شهر رمضان من غير عذر أو ترك الحجّ أو أتى بكلّ الأعمال فاقداً للولاية ونحو ذلك، وكأنّ الإنسان يتصوّر أنّ الله تعالى يحكم بمقاييس الناس وأنّه يتبع القوانين الوضعية، فهذه الآية تنبّه الجميع أنّه تعالى لا يتبع إرادة أحد ولا يعمل وفقاً لمنطق الناس وإدراكهم، فالكون كلّه له يفعل فيه ما يشاء، فلو أراد أن يغفر لكلّ المجرمين العتاة المردة لم يكن لأحد الحقّ في الاعتراض، ولا يمكن الاعتراض ولا أثر له، وكذلك لو أراد أن يدخل الناس كلّهم في النار، ولكنّه لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة.

«يَغْفِرُ مَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِياً» وهذه نتيجة حتمية للجملة السابقة، فالمغفرة والعذاب وكلّ ما يحدث في الكون يرتبط بمشيئته تعالى ولا يتوقّف على أمر آخر، إلا أنّ المشيئة على أساس الحكمة والتدبير، فهو لا يشاء أبداً أن يغفر للمشركين إن لم يتوبوا، كما قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشرك بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ مَنْ يَشَاءُ»؛(1) كما أنّه لا يعذّب أحداً إلا بسوء عمله، بل إنّ مغفرته ورحمته سبقت غضبه، والمشاهد في الكون أنّ الغالب هو آثار رحمة الله تعالى، وقلّ ما نجد في الكون آثاراً لغضبه، ولعلّه لذلك قدّم الغفران على العذاب، ثمّ أکّد على كونه غفوراً رحيماً، فلا يؤاخذ العباد بكلّ ما اقترفوا، كما قال تعالى: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ».(2)

ص: 243


1- النساء (4): 48 و 116 .
2- النحل (16): 61.

سوره فتح (15-17)

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا أَنطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعُكُمْ يُريدُونَ أن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَل تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً (15) قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، يُدْخِلْهُ جَنَّتِ تجرى مِن تَحْتِهَا الأَخبَرُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أليماً(17)

«سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذا انْطَلَقْتُمْ إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا تَتَّبِعْكُمْ» هذا خبر غيبي آخر، والمراد بالمخلّفين هنا من سبق ذكرهم، والمعروف أنّ المراد بالمغانم ما حصل للمسلمين من مغانم خيبر، ولم يرد فيه خبر، وربما يشهد له استخدام حرف السين في قوله تعالى: «سَيَقُولُ» ممّا يدلّ على المستقبل القريب وأنّ غزوة خیبر كانت أقرب المغانم بعد الحديبية. ويبدو من الآية حيث لم يقل: «إذا انطلقتم إلى حرب أو إلى عدوّ»، بل قال «إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا» أن غزوة خيبر كان الأمر فيها محسوماً من قبل، والنتيجة واضحة والغلبة قطعية، فالسفر لم يكن لصدّ العدوّ، بل لأخذ غنائمه كما هو مذكور في كتب التاريخ أيضاً. و«مغانم» جمع مغنم وهو مصدر ميمي، أي الغنيمة، ويطلق على ما يغنم. ويظهر من قولهم المنقول «ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ» أنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم سيمنعهم من اللحوق بالمؤمنين؛ لأنّ هذه المغانم ممّا وعد الله تعالى من شارك في الحديبية

ص: 244

خاصّة بهم، كما يظهر من الجملة التالية أيضاً.

«يُرِيدُونَ أنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ الله» يظهر منه - كما مرّ - أنّ الله تعالى كان قد أخبر أنّه يعوّض المؤمنين عن ما أصابهم من الأسف والأذى - لعدم تمكّنهم من الاعتمار وغير ذلك ممّا أصابهم في قضية الصلح - بغنائم يأخذونها ولعلّها غنائم خيبر، فالوحي النازل بذلك كان أمراً من جهة وإخباراً من جهة اُخرى، فأمر الله تعالى أن لا يشاركهم فيها أحد، وأخبر أنّه لا يشاركهم فعلاً وأنّها تخصّهم، ويبدو أنّ المخلّفين كانوا قد سمعوا بذلك فأرادوا مشاركتهم لوجهين: الحصول على الغنائم الكثيرة السهلة الميسورة، وتبديل كلام الله تعالى بأن يعملوا على خلاف ما أخبر به الله تعالى ليكون بذلك شاهداً على نفي الرسالة. وبهذا يتبيّن أنّهم كانوا منافقين ويعادون الرسالة، فقوله تعالى: «يُرِيدُونَ أنْ يُبَدِّلُوا» يدلّ على أنّهم كان لهم في ذلك غرض منشود. وبذلك يظهر أيضاً أنّ ما ورد في السيرة من تخصيص الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم تلك الغنائم بمن كان معه في الحديبية لم يكن لاختياره ذلك، بل بأمر من الله تعالى.

«قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ». قيل: إنّ المراد بالنفي المؤبّد التأكيد على النهي وهو أمر متعارف؛ فإنّ النهي إذا اُتي به بصيغة النفي أفاد التأكيد بذاته، فهناك فرق بين أن تقول: «لا تفعل» وأن تقول: «إنّك لا تفعله» وأنت تريد نهيه عن ذلك، فإنّ النفي هنا يدلّ على أنّك لا تصدق أنّه يفعل ذلك، فإذا أتيت بالنفي المؤبّد كان ذلك آكد، فالمعنى نهيهم نهياً باتاً، وعليه فمعنى الجملة التالية أنّ الله تعالى نهى عن ذلك مؤكّداً. ولكن إذا لاحظنا ما مرّ في تفسير قوله تعالى: «يُرِيدُونَ أنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ» من أنّه تعالى أخبر بأنّهم لن يتمكّنوا من اللحوق بهم،

ص: 245

تبيّن أنّ النفي هنا ليس بمعنى النهي، بل بمعناه الحقيقي، أي أنّكم لا تستطيعون أن تفعلوا ذلك أبداً؛ لأنّ الله تعالى أخبر بذلك فلا يمكن أن يحدث لا محالة.

«فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا»، أي أنّ المخلّفين لجشعهم ونفاقهم معاً سيكذّبون الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ويردّون عليه بأنّ الله تعالى لم يقل ذلك، وإنّما تمنعوننا منها لحسدكم ورفض نفوسكم أن نشارككم في الغنائم.

«بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلاً» وهذا ردّ عليهم بأنّهم لا يفقهون إلا قليلاً من اُمور الدنيا، وذلك لأنّهم لا يهمّهم إلا المال والغنائم كقوله تعالى: «يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ»،(1) وهكذا أبناء الدنيا حيث يفسّرون كلّ ما يواجهونه من حقائق بتفسير مادي، حتّى الرسالات وأعمال الرسل وكراماتهم، ولا يشعرون أيّ فرق بينهم وبين غيرهم ممّن هو على شاكلة أنفسهم من عشّاق المال.

«قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أو يُسْلِمُونَ»، تكرار التعبير عنهم بالمخلّفين وعدم الاكتفاء بالضمير للتركيز على التنديد بهذه الصفة التي تشتمل على القدح والتحقير، حيث إنّ المخلّف هو الذي تُرك مع أنّهم كانوا متخلّفين ولم يُتركوا لعدم الاعتناء بهم إلا أنّهم حيث تركوا الواجب وأخلدوا إلى الأرض وقدّموا الدنيا على الآخرة استحقّوا هذا التحقير، فاعتبروا كأنّهم تُركوا لعدم الاهتمام بشأنهم. وأيضاً التأكيد على كونهم من الأعراب فيه نوع تحقير لهم وانتقاص من ثقافتهم.

والآية الكريمة تفتح لهم مجالاً للعودة والتوبة، ولكن لا يمكن ذلك. ، مع

ص: 246


1- الروم (30): 7.

الخلود إلى الراحة وانتهاز الفرص للسيطرة على الغنائم، وإنّما تقبل منهم التوبة إذا فازوا في امتحان أصعب ممّا مضى حيث يُدعون لمقاتلة قوم أولي بأس شديد، فليسوا كاليهود متستّرين بالحصون للمحافظة على أموالهم، ومن جهة اُخرى لا يكفي في القتال أن يستسلم القوم أو يهربوا أو يدفعوا الجزية، بل عليهم أن يقاتلوهم إلى أن يسلموا فهو امتحان صعب. وهكذا يبتلي الله تعالى عبده بمحنة، فإن تهرّب عنها وقع في محنة أصعب ليتبيّن صفاء روحه وقوة إيمانه ومدى تسليمه لأمر الله تعالى.

وقد وقع الخلاف في المراد بهذا القوم، فقيل: هم هوازن في غزوة حنين، وقيل: ثقيف في غزوة الطائف، وقيل: مشركو مكّة في فتح مكّة وقيل: الروم في غزوة مؤتة، وقيل: المراد دعوتهم إلى حروب المسلمين بعد الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم كالمرتدّين مع مسيلمة أو الفُرس، وكلّ منهم أشدّاء ذوو بأس شديد إلا أنّه يبعد إرادة الروم؛ لأنّهم كانوا أهل كتاب والحرب معهم لا يستمرّ إلى الإسلام، بل تقبل منهم الجزية، فقوله تعالى: «تُقَاتِلُونَهُمْ أو يُسْلِمُونَ» يدلّ على أنّهم مشركون. وكذلك لا يصحّ إرادة الفرس؛ لأنّهم كانوا مجوساً وحكمهم في الحرب كأهل الكتاب، ويبعد إرادة أهل مكّة؛ لأنّ ظاهر الآية أنّهم قوم غير من دعوا إلى محاربتهم في هذه القضية، وإلا لقال: ستدعون إلى قتال هؤلاء مرّة أخرى، وظاهر قوله: «سَتُدْعَوْنَ» أنّه يتمّ في المستقبل القريب، فيبعد أيضاً حمله على ما بعد الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، فالصحيح أنّ المراد بهم هوازن أو ثقيف أو كلاهما.

«فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيماً» الغرض من هذا البيان أنّ الامتحان لا يتمّ إلا بالابتعاد عن الجشع والمطامع

ص: 247

المادية وإلا فأنتم باقون على النفسية السابقة، فإن وطّنتم أنفسكم على قتال عدوّ شديد البأس لا تتركونهم حتّى يسلموا من دون أن يكون لكم مطمع في مال، بل يكون هدفكم بلوغ رضوان الله تعالى ونيل ثوابه و اجتناب عذابه يوم القيامة، فقد فزتم وإلا فإنّ الله تعالى يعذّبكم عذاباً أليماً، ولعلّه لذلك لم يفصل ذكر الأجر أيضاً، بل أبهمه ليكون قصد التقرّب إليه وامتثال أمره هو الهدف الأساس.

ومن الغريب أنّ بعض من يصرّ على أنّ هؤلاء قوم مؤمنون، فسّر هذه الآية بأنّها نزلت للتخفيف عنهم بأنّكم ستنالون غنائم في حروب آتية، وإنّما كان المنع في غنائم خيبر لمصلحة خاصّة مع أنّ الآية لا تدلّ على ذلك، وإنّما وعدوا بالأجر الحسن. والأجر الحسن لم يكن في الدنيا، بل في الآخرة.

وقوله تعالى: «كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ»، أي في الحديبية، وفيه تهديد لهم بأنّ ذلك التولّي يستلزم العذاب الأليم، ولكنّ الله تعالى يعفو عنهم إذا أطاعوا في غزوة أخرى. والتولّي عن الشيء الإدبار والإعراض عنه، فلا بدّ من تقدير، أي تتولّوا

عن الإطاعة، ولذلك يعبّر به عن العصيان.

«لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً». يبدو أنّ المعوّقين كالأعمى والأعرج وكذلك المرضى ممّن تخلّفوا، وربما شاركوا الأصحاء في ظنّ السوء وبثّ الدعايات ضدّ الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم لمّا رأوا أنّ التوبة والرجوع اُنيط بالدعوة إلى القتال أصابهم الهلع والخوف من أنّهم لا يقدرون على ذلك، فكيف يضمنون قبول التوبة، فنزلت الآية الكريمة تعفيهم عن القتال، ولكنّها في نفس الوقت تطالبهم بإطاعة الله ورسوله، فمجال الإطاعة واسع ومن

ص: 248

لا يستطيع القتال، يمكنه بذل النصح للرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم وللاُمّة، ولذلك عقّبه بقوله :تعالى: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» وعبّر عن العاصي بنفس التعبير الوارد في من ترك القتال وَمَنْ يَتَوَلَّ» للتنبيه على أنّ دور العاجز خلف جبهات القتال لا يقصر عن دور المقاتل.

ص: 249

سوره فتح (18-23)

* لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَبَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)وَمَغَائِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزيزا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَائِمَ كَثِيرَةٌ تَأْخُذُونَهَا فَعَجَلَ لَكُمْ هَندَه، وَكَفَّ أَيْدِى النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(20) وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوْا الأَدْبَرَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (23)

«لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ». الآية تشير إلى بيعة المؤمنين مع الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم يوم الحديبية وتسمى بيعة الشجرة، لوقوعها تحت شجرة سمرة هناك، ويقال: إنّ المؤمنين كانوا يتبرّكون بها مدّة من الزمان إلى أن قطعت بأمر عمر على ما روى السيوطي في «الدر المنثور» قال: «أخرج ابن أبى شيبة في المصنّف عن نافع، قال: بلغ عمر بن الخطاب أنّ ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها فأمر بها فقطعت».(1)

وتسمّى هذه البيعة بيعة الرضوان أيضاً لمكان هذه الآية الكريمة، والقصّة مشهورة في كتب السيرة والتاريخ، ففي «مجمع البيان»: «إنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم لمّا نزل بالحديبية دعا عمر بن الخطاب ليرسله إلى أهل مكّة ليأذنوا له بأن يدخل مكّة ويحلّ من عمرته وينحر هديه، فقال: يا رسول الله ما لي بها حميم وإنّي أخاف قريشاً لشدّة عداوتي إيَّاها، ولكن أدلّك على رجل هو أعزّ بها منّي عثمان

ص: 250


1- الدرّ المنثور 6: 73.

بن عفان، فقال: صدقت، فدعا رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم عثمان، فأرسله إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب، وإنّما جاء زائراً لهذا البيت معظّماً لحرمته، فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم والمسلمين أنّ عثمان قد قتل، فقال صلّی الله علیه و آله و سلّم: لا نبرح حتّى نناجز القوم ودعا الناس إلى البيعة، فقام رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى الشجرة فاستند إليها وبايع الناس على أن يقاتلوا المشركين ولا يفرّوا».(1)

ولكن هناك تساؤلات حول هذه القصّة تمنع من قبولها، مع أنّها مشهورة، فمنها أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم كان مؤيّداً من عند الله تعالى يخبره بما يحدث، فكيف خُدع بما بلغه من مقتل عثمان؟! ولا يمكن القول بأنّه صلّی الله علیه و آله و سلّم تظاهر بالانخداع ليأخذ من الناس البيعة، ومن غريب ما في القصّة ما ذكره جمع من المفسّرين ومنهم الآلوسي في «روح المعاني»، حيث قال: «وصحّ أنّه - صلّى الله عليه و آله و سلّم - ضرب بيده اليمنى على يده الاُخرى وقال: هذه بيعة عثمان»،(2) فكيف يبايع الرسول عنه وهو مقتول؟!

ويؤيّد هذا التشكيك ما رواه البلاذري في «أنساب الأشراف» قال: «وقدم ابن مسعود المدينة وعثمان يخطب على منبر رسول الله - صلّى الله عليه و آله و سلّم - فلمّا رآه قال: إلا أنّه قدمت عليكم دويبة سوء من تمش على طعامه يقيء ويسلح فقال ابن مسعود: لست كذلك، ولكنّي صاحب رسول الله - صلى الله عليه و آله و سلّم - يوم بدر، ويوم بيعة الرضوان، ونادت عائشة، أي عثمان، أتقول هذا لصاحب

ص: 251


1- مجمع البيان في تفسير القرآن 10 - 9: 177.
2- روح المعاني 13: 260.

رسول الله - صلى الله عليه وسلّم ؟!».(1)

وكان - كما قيل - يعرض بعثمان، حيث تغيب في هذين اليومين، ولو كانت بيعة الرضوان من أجل ما ذكر من خبر مقتله لم يكن وجه للتعريض به، بل كان فخراً له، فالغالب في الظنّ أنّه غاب عن هذه البيعة لسبب ما، فاختلقت أجهزة وضع الحديث الأموية وحاكت كلّ هذه القصة لتبرير موقفه ولجعله منقبة له.

وقد مرّ الكلام حول إسناد الرضا والغضب إلى الله تعالى، وقلنا: إنّه لا يمكن بظاهره؛ إذ لا يمكن عروض الحالات عليه تعالى مضافاً إلى أنّ المعنى الظاهري للرضا هو الملاءمة مع الطبع ولا معنى لإسناد ذلك إليه سبحانه، ولذلك ورد في رواياتنا أنّ رضا الله ثوابه وغضبه عقابه، بمعنى أنّ الذي يحدث هو فعل الله تعالى وهو الثواب والعقاب، والظاهر أنّ الثواب والعقاب هنا يشمل القرب والبعد، فالمراد بهذا التفسير على ما يبدو هو أنّ ما يحدث إنّما هو في الإنسان وهو دخوله في مقام القرب لدى الله تعالى أو في حضيض البعد عن رحمته.

وقوله تعالى: «إِذ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» ظرف يفيد التعليل، ومعناه أنّ ما أوجب كون المؤمنين مرضيين لديه تعالى هو مبايعتهم تحت الشجرة للظروف الخاصّة المحيطة بهم، ولِما وطّنوا عليه أنفسهم من الوفاء للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وقصدوا بذلك الزلفى لديه تعالى، فالرضا وإن تعلّق بذات الإنسان إلا أنّه ليس مطلقاً وليس معناه أنّ هذا الإنسان معصوم أو مؤيّد من عند الله تعالى، وإنّما يدلّ على أنّ هذا العمل ممّا يرضى به الله تعالى، فمن عمله فهو داخل في مرضاة الله، وقد مرّ أنّ رضا الله إنّما يتعلّق بالسجايا والأعمال، فالذي يحدث بعمل الإنسان هو

ص: 252


1- أنساب الأشراف 2: 269 (على ما في المكتبة الشاملة).

وروده في دائرة الرضا المتعلّق بعمله، ولا ينافي ذلك مغضوباً علیه بارتداد أو قتل مؤمن ونحو ذلك. ونظيره ما ورد مستفيضاً في أحاديث الفريقين من أنّه تعالى يغفر للواقفين بعرفة بأجمعهم، فإنّه لا يعني أنّه يغفر له ما يأتي من ذنوبه مستقبلاً، فربما يذنب متعمّداً في نفس الموقف بعد استغفاره وقبول التوبة منه.

ثمّ إنّ الرضا المتعلّق بالجماعة ليس معناه الرضا عن كلّ فرد فرد، ومن الغريب إصرار المتشبّثين بالحشائش بمثل هذا التعبير، لإثبات أنّ كلّ فرد منهم مخاطب بذلك يقول بعضهم: «يا الله ! كيف تلقوا - اُولئك السعداء - تلك اللحظة القدسية وذلك التبليغ الإلهي؟ التبليغ الذي يشير إلى كلّ أحد في ذات نفسه ويقول له: أنت أنت بذاتك. يبلّغك الله لقد رضي عنك وأنت تبايع تحت الشجرة وعلم ما في نفسك فأنزل السكينة عليك إنّ الواحد منّا ليقرأ أو يسمع: «اللهُ وَليُّ الَّذِينَ آمَنُوا»(1) ... فيسعد يقول في نفسه : ألست أطمع أن أكون داخلاً في هذا العموم؟ ويقرأ أو يسمع: «إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»(2) فيطمئن يقول في نفسه: ألست أرجو أن أكون من هؤلاء الصابرين؟ وأولئك الرجال يسمعون ويبلّغون واحداً واحداً أنّ الله يقصده بعينه وبذاته ويبلغه: لقد رضي عنه وعلم ما في نفسه ورضي عمّا في نفسه..».(3)

ولا يكاد ينقضي العجب من هذا الكلام!! ما هو الفرق بين التعبير بالصابرين والذين آمنوا حيث إنّهما يدلان على العموم ويشملان الفرد بعموم اللفظ، وبين

ص: 253


1- البقرة (2): 257.
2- البقرة (2): 153؛ الأنفال (8): 46.
3- في ظلال القرآن 6: 3326.

التعبير بالمؤمنين الوارد في الآية الكريمة ؟!!! أليس هذه أيضاً كلمة تدلّ بعمومها على الأفراد؟! فالصحيح أنّ اللفظ عامّ يشمل الجميع، ولكن قوله تعالى: «فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِمْ» عنوان يختلف فيه الناس اختلافاً فاحشاً، وليس كلّ أولئك بمنزلة واحدة في النّية والخلوص، بل لا شكّ أنّ فيهم ضعاف الإيمان والمنافقون، وفيهم المخلصون غاية الإخلاص، وفيهم المتوسّطون؛ ويقال إنّهم بأجمعهم بايعوا إلا جدّ بن قيس كان منافقاً فتستّر ولم يبايع. وأكثر منه نفاقاً من تستّر ببيعته. ويدلّ على ما ذكرناه من الاختصاص قوله تعالى في نفس هذه البيعة: «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُتُ عَلَى نَفْسِهِ» ولو لم يكن هناك من يقصد النكث لم يذكر الله تعالى ذلك، وقد روى في «الدرّ المنثور» عن ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: تعالى: «فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ» قال: «إنّما أنزلت السكينة على من علم منه الوفاء».(1)

«فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَانْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً». الظاهر أنّ الجملة معطوفة على قوله : «يُبَايِعُونَكَ»، أي علم ما انطوت عليه ضمائرهم من حسن النيّة والعزم على الوفاء للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم فأنزل السكينة والاطمئنان في قلوبهم ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم. ومنه يظهر أنّ السكينة لا تنزل لمجرّد الاضطراب والقلق كما يتصوّر ، بل لابدّ من عمل وخلوص ليستحقّوا نزولها. ونسب إلى «مقاتل» أنّ المراد بما في قلوبهم كراهة البيعة والحرب،(2) ولعلّه إنّما فسّره بذلك ليناسب نزول السكينة، كأنّه تصوّر أنّ الإنسان لا يحتاج إليها إلا إذا كان مضطرباً وهو خطأ

ص: 254


1- الدرّ المنثور 6: 74.
2- مجمع البيان في تفسير القرآن 10-9: 176.

واضح، وقد أنزل الله تعالى سكينته على رسوله كما سيأتي في هذه السورة، وقد ورد أيضاً في قوله تعالى: «فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا».(1)

والإثابة بمعنى إعطاء الثواب، أي الجزاء وأصله من الثوب، أي الرجوع، يقال: ثاب إلى الله وتاب وأناب كلّها بمعنى واحد، وهذا التعبير بلحاظ أنّ ثواب الإنسان وجزاءه كأنّه نفس عمله اُرجع إليه. والظاهر أنّ المراد بالفتح القريب فتح خيبر، لأنّه كان بعد الحديبية مباشرة.

«وَمَغَائِمَ كَثِيرَةٌ يَأخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِياً» عطف على الفتح القريب فهي جزء من الثواب، والمراد غنائم خيبر وهي كانت كثيرة فعلاً؛ لأنّ اليهود كانت تجمع الأموال كما هو شأنهم وديدنهم دائماً؛ وتوصيفها بأنّهم يأخذونها لعلّه للتأكيد على أنّها مغانم مادية وأموال لئلا يتوهّم أنّ المراد مغانم معنوية، فتصغر في نفوس من يسترخصها، وقيل: إنّ التوصيف بذلك للإشارة إلى أنّ كلّ الحاضرين في البيعة المخاطبين بهذا الخطاب يأخذونها فلا يهلك منهم أحد قبله. وهو بعيد عن اللفظ؛ إذ الخطاب العامّ في مثل ذلك لا يستلزم الانحلال إلى خطابات بحسب الأفراد، مضافاً إلى أنّه لا ينطبق على نفس هذا الوصف حيث ذكر في الآیة التالیة و یقصد بالخطاب فیه کلّ المسلمین علی ما یبدو.

و «كَانَ» منسلخة عن الدلالة على الزمان وتدلّ على مطلق الثبوت. والعزّة والحكمة واضحتان ممّا حدث، فالله تعالى عزيز وغالب على أمره، فإذا أراد أن يجازي قوماً محسنين جزاءاً عاجلاً وفيراً فالأمر كلّه بيده يقرب البعيد ويبعد القريب، وإنّما يتأخّر الجزاء في أكثر الموارد لحكمته تعالى، فإنّ الدار دار

ص: 255


1- التوبة (9): 40.

امتحان وابتلاء ولو كان كلّ مؤمن يلقى جزاء إحسانه في العاجل وبصورة واضحة تميّزه عن غيره لكان ذلك من أشدّ المغريات تأثيراً واستجلاباً للناس ولدخلوا في الدين طواعية بالملايين من دون أن يُمَحَّصوا وتخلّص جواهر نفوسهم وتزكّوا أرواحهم، وهذا خلاف المصلحة والحكمة من هبوط الإنسان إلى الأرض.

«وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةٌ تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّفَ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ» الظاهر أنّ المراد بالمغانم مطلق المغانم التي وعد بها المسلمون بصورة عامة على لسان الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم وإن قوله «هذه» إشارة إلى غنائم خيبر. وقيل: إنها إشارة إلى صلح الحديبية، فهو مغنم معنوي، وربّما يؤيّده قوله: «وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ» بناءاً على أنّ الناس كفّار مكّة، ولكن ما ذكرناه من وجه التوصيف بالأخذ ينافيه، فإنّه يقتضي أن تكون الغنيمة مادية.

وأمّا المراد بالناس فقد قيل: إنّهم يهود خيبر أو بنو أسد وغطفان من حلفائهم، حيث أرادوا النزول إلى المعركة لحماية اليهود، فأنزل الله في قلوبهم الرعب وردّهم. ولكنّ الأظهر أنّ المراد بهم مشركو مكّة، حيث كان من المتوقّع أن يقاتلوا المسلمين لمنعهم من دخول مكّة مع كلّ ما بينهم من العداء، بل الثأر المطلوب فكفّ الله أيديهم، ولذلك ورد في عبارة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم عن فتح الحديبية - كما أسلفنا - : «هذا أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم»(1) ويؤيده أيضاً الآيات التالية.

«وَلِتَكُونَ آيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً». الضمير في «لِتَكُونَ» يعود إلى

ص: 256


1- مكاتيب الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم 3: 96.

الغنيمة المشار إليها بقوله «هَذِهِ» والواو للعطف، فالجملة معطوفة على مقدّر ولعلّ التقدير: «التغنموا» أو «ليحقق الله وعده»، ولتكون الغنيمة آية للمؤمنين، فبناءاً على كون المراد بها صلح الحديبية - كما قيل - فهو آية عظيمة فتح الله به

للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم طريق النفوذ في القبائل العربية ونشر الدعوة، ثمّ لمّا لم تتحمّل قريش نتائج ما آلت إليه المصالحة من دخول الناس في دين الله أفواجاً نقضت العهد، ففتح الباب للهجوم الكاسح بآلاف من المسلمين، ففتح الله مكّة لرسوله بدون قتال. ولكنّ الصحيح - كما مرّ - هو أنّ المراد بها غنائم خيبر، فكونها آية من جهة تحقّق ما أخبر الله به على لسان نبيّه صلّی الله علیه و آله و سلّم فيقوى بذلك إيمانهم بالله ورسوله. والظاهر أنّ الهداية إلى الصراط المستقيم تترتّب على كون الغنيمة آية، حيث يزدادون إيماناً وتمسكاً بعقيدتهم فيهتدون إلى الصراط المستقيم الذي دعاهم الله تعالى إليه.

«وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً». «أُخْرَى» صفة لمقدّر، والمقدّر معطوف على قوله: «هَذِهِ» في الآية السابقة، أي وعجّل لكم غنيمة أخرى. وجملة «لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا» وصفية، وقوله: «لَمْ تَقْدِرُوا» يدلّ على نفي القدرة فيما مضى، فالمعنى أنّهم حاولوا الوصول إليها ولم يقدروا، فالأقرب أن يكون المراد دخول مكّة وفتحها، حيث تمّت المحاولة في قضية الحديبية وحصلوا على هذه الغنيمة في فتح مكة.

وقوله تعالى: «قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا» جملة وصفية أيضاً، والإحاطة بالشيء بمعنى الإحداق والإطافة به من كلّ جهة، فقد يراد بها العلم بكلّ جوانبها، وقد يراد بها القدرة الكاملة عليها بحيث لا يمنعه مانع وهما في الحقيقة مختصّان به تعالى،

ص: 257

كما قال: «ألا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطُ»(1) والمراد بالإحاطة هنا إحاطة قدرة، أي أنّ هذا الأمر وإن لم يكن مقدوراً لكم إلا أنّه كغيره تحت إحاطته تعالى وقدرته، فهو قدير على كلّ شيء و «كَانَ» - كما مرّ - منسلخة عن الزمان وتدلّ على أصل - الثبوت ولو أريد بها ما يدلّ على الماضي صحّ أيضاً، وتفيد التنبيه على أنّه تعالى كان قادراً عليها حين عجزكم وإنّما أخّرها لمصلحة وحكمة.

«وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً». المراد بالذين كفروا مشركو مكّة، ويبدو أنّ بعض الناس كانوا يظنّون أنّ الخطر كان محدقاً بالنبي صلّی الله علیه و آله و سلّم وأصحابه من جهة المشركين، وأنّه كان من الخطأ النزول في عقر دارهم لقلّة عددهم وعدم استعدادهم للقتال، وقد وصلوا إلى مشارف مكّة، فإنّ الحديبية قريبة جدّاً منها وهي من حدود الحرم. فهذه الآية ترد على هذه الظنّون بأنّ المسلمين كانوا هم الغالبين لو كان يحدث بينهم قتال وأنّ المشركين كانوا ينهزمون في الحرب ويولّون ،أدبارهم وأمّا الاتكال على الأعراب والأحابيش فلا أثر له، فإنّ الله تعالى إذا شاء يقذف في قلوبهم الرعب، كما ألقى في قلوب اليهود وحلفائهم، فلو قاتلوكم ما كانوا يجدون ولياً يتولّى أمورهم ويدافع عنهم، بل ولا نصيراً يؤازرهم.

وأتى بحرف «لَوْ» للدلالة على أنّهم يهابّون المسلمين ولا يقاتلونهم أساساً؛ لأنّ «لَوْ» تدلّ على الامتناع. وتولية الدبر بمعنى الفرار، و«ولّى» أي أتبع الشيئ بالشيء، فإن قيل: ولاه وجهه، أي أقبل إليه، كما قال تعالى: «فَوَلٌ وَجْهَكَ شَطْرَ

ص: 258


1- فصّلت (41): 54.

الَمسجِدِ الحَرَامِ»(1) وإن قيل: ولاه دبره، أي خلفه، فيكون بمعنى الإعراض أو الفرار.

«سُنَّةَ الله الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا». «سُنَّةَ الله» مفعول مطلق لفعل مقدّر، أي سنّ الله سنّته التي... و «خَلَتْ» بمعنى مضت، أي ليس هذا بدعاً من الأمر، بل هو سنّة الله تعالى في نصرة أنبيائه السابقين، كما قال تعالى: «كَتَبَ الله لأغْلبَنَّ أنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ»،(2) فهذا أمر مكتوب وقضاء حتم، والجملة الأخيرة المبدؤة بنفي الأبد للتأكيد على أنّ هذه السنّة باقية لم تتغيّر ولن تتغيّر.

وليس المقصود أنّ الأنبياء لا يهزمون في قتال أو لا يظلمون، فقد ورد في القرآن التنديد بمن قتلوا النبيين علیهم السّلام. والهزيمة قد وقعت في صفوف المسلمين أيضاً كما حدث في اُحد، ولكنّ المقصود أنّهم هم الغالبون في النهاية. مضافاً إلى أنّ المستفاد من الآيات الكريمة أنّه تعالى يؤيّد المؤمنين وينصرهم إذا أطاعوا الله ورسوله ونصروا دين الله، كما قال تعالى: «إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ»،(3) وهذه سنّته في كلّ ما كان من غزوات وحروب، ولم يهزم المسلمون إلا في المواقف التي خالفوا فيها أمر الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وإنّما كان الحكم هنا هو الانتصار الحتمي، لأنّهم أخلصوا النّية وبايعوا الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم حتّى الموت أو على عدم الفرار، وعلم الله منهم الصدق والوفاء، فأنزل السكينة عليهم وكان النصر لهم حتماً حتّى لو وقع القتال بينهم وبين المشركين.

ص: 259


1- البقرة (2): 144.
2- المجادلة (58): 21.
3- محمد (47): 7.

سوره فتح(24-26)

وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَأَهْدَى مَعَكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَعُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ، مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذِّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقِّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَة مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِم.)

الآية مرتبطة بصلح الحديبية ولا وجه لتخصيصها من بين آيات السورة بفتح مكة. وتقديم الضمير المسند إليه للتركيز على الفاعل، أي أنّ الله تعالى هو الذي فعل ذلك ولم يكن الأمر من تدبيركم، وهو الذي تولى أموركم ليتمّ الفتح المبين لرسوله صلّی الله علیه و آله و سلّم والكفّ هو المنع، فالله تعالى بتصرّفه في القلوب - وهو يحول بين المرء وقلبه - منع كلاً من الفريقين أن يهاجم الآخر، مع أنّ الوضع بصورة اعتيادية كان يستلزم المواجهة، فالثأر والعداء بينهما راسخان والمسلمون قلة لم يستعدوا للحرب، وهاهم بلغوا مشارف مكّة، والتعبير بأنّهم في بطن مكّة إما للمبالغة أو باعتبار إطلاق الاسم على المدينة المقدّسة وما حولها من الضواحي، كما هو المتعارف. والحديبية أوّل الحرم الشريف. والبطن، يطلق على داخل الشيء بخلاف الظهر، ومثلهما الباطن والظاهر. ومع كلّ ذلك لم تحصل

ص: 260

أيّ مواجهة ولم يمنع منها إلا قدرة الله تعالى، حيث منع كلاً منهما أن يقصد الآخر ليبلغ الغاية المتوخّاة، وهو فتح مكّة بدون قتال، ليبقى حرم الله تعالى مصوناً من سفك الدماء فيه، والله بالغ أمره.

وأما قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ أنْ أظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ» فالظاهر أنّ المراد به الظفر على المشركين عامّة من جهة أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم تمكّن من دخول مشارف مكّة قليل، ومن دون أن يحملوا عتاد الحرب وأن يرغمهم على قبول الصلح، وكان هذا بنفسه فوزاً عظيماً، ولذلك عدّه الله سبحانه فتحاً مبيناً. ولكن كثيراً من المفسّرين رووا روايات تدلّ على أنّ الآية نزلت في شأن قوم خاصّ من المشركين أرادوا الفتك بالمسلمين، فأمكن الله منهم وقبضوا عليهم وأطلقهم الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، والروايات متخالفة ولا اعتبار بإسنادها، وبعضها واضح الكذب لاشتمالها على أنّ خالد بن الوليد هو الذي أسرهم بأمر النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم مع أنّه لم يكن مسلماً ذلك اليوم، فكأنّ الواضع خانته ذاكرته.

«وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً». لا شكّ أنّه تعالى بصير بكلّ شيء، وإنّما القصد هنا التنبيه على أنّ الأمور كانت تحت عنايته الخاصّة، كما قال تعالى خطاباً لموسى علیه السّلام: «وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْني»،(1) فالمراد أنّ الأمور ما كانت تسير سيرها الطبيعي المتوقّع، بل كانت عناية الله سبحانه وتأييده ولطفه تسير الأمور على الوجه الخاصّ، بحيث ينتهي الأمر إلى ما يريده تعالى وهو الصلح المستتبع لفتح مكّة من دون قتال والله غالب على أمره.

«هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ يَحِلَّهُ». هذه

ص: 261


1- طه (20): 39.

الآية تثبت استحقاق المشركين لأن يعذبهم الله تعالى بأيدي المؤمنين، بل يبيدهم عن آخرهم، وتبيّن السبب في تأخير ذلك. أما وجه استحقاقهم للعذاب فأمور ثلاثة الكفر، وهو بنفسه يكفي مبرراً للعقاب إذا تمّت الحجّة عليهم وقد تمّت بالفعل؛ والثاني أنّهم منعوا المسلمين من دخول المسجد الحرام، والثالث منعهم الهدي من أن تبلغ محلّها وتذبح أو تنحر؛ فقوله تعالى: «وَالهَدْيَ» عطف على الضمير المنصوب في «صَدُّوكُمْ»، أي وصدّوا الهدي. والصدّ: المنع. والمعكوف، أي المحبوس ومنه الاعتكاف، حيث يحبس الإنسان نفسه في المسجد. والهدي ما يهدى إلى الكعبة من النعم قربة إلى الله تعالى. والمحلّ، أي الموضع الذي يحلّ فيه ذبحه أو نحره وهو مكّة في العمرة المفردة، حيث يستحبّ فيها الهدي. وكان منع الهدي من بلوغ مكّة يعتبر جريمة في عرف العرب الجاهلي، بل كانوا يُشعرون الهدي أو يقلّدونه فلا يتعرّض له أحد بأذىً إلى أن يبلغ مكّة للذبح أو النحر.

«وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَتُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بغَيْرِ عِلْمٍ». وهذا بيان للسبب في تأخير العقوبة وهو - على ما هو المعروف في تفسير الآية - وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات في مكّة لا يعرفهم المسلمون بأشخاصهم، فينالهم سوء بسبب الحرب وينتهي الأمر بما يوجب حرجاً على المسلمين. وقوله : «لَمْ تَعْلَمُوهُمْ» جملة وصفية للرجال والنساء، أي لم تعرفوهم و «أنْ تَطَنُّوهُمْ» بدل عن رجال ونساء، أي لولا أن تطئوا هؤلاء. والوطء هو الدوس بالأرجل، وهو كناية عن الإهلاك كما قيل. والمعرّة، المكروه وما يصيب الإنسان من الإثم، كما في «العين»(1) وأصله العرّ بمعنى الجرب واللطخ بالقذارة

ص: 262


1- راجع کتاب العین 1: 85.

والعيب. والمراد به - على هذا التفسير - أنّكم إذا قتلتم مؤمناً خطأ فإنّكم تصابون بالأسف، كما أنّه يستلزم عاراً ،ومسبّة، فيقال: إنّ أتباع دينهم أيضاً لم يسلموا منهم. وقوله: «وَلَوْلا» شرط جوابه محذوف، أي لولا ذلك لسلّطكم الله عليهم. وهناك اختلاف في متعلّق قوله: «بِغَيْرِ عِلْمٍ»، فقال في «الكشّاف»: إنّه متعلّق ب- «أنْ تَطَئُوهُمْ»، يعني أن تطئوهم غير عالمين بهم.(1) ولكنّه يكون تكراراً لقوله: «لَمْ تَعْلَمُوهُمْ».

وقيل: إنّ المراد بهذا العلم، العلم بلحاق المعرّة، فيختلف عن العلم في «لَمْ تَعْلَمُوهُمْ» المتعلّق بإيمانهم. ولكنّه قيد لا فائدة فيه، فإنّ إصابة المعرّة محذور، سواء علم بها أم لم يعلم، مضافاً إلى أنّ المعرّة إنّما تصيبهم بعد تبيّن إيمانهم وهم حينئذٍ يعلمون بالإصابة فلا تصيبهم من غير علم.

وقيل: إنّ المراد بالعلم الأوّل العلم بالوطأة، أي تقتلونهم من دون شعور بهم، والعلم الثاني متعلّق بإيمانهم، وكلاهما غير صحيح؛ فإنّ العلم الأوّل تعلّق بهم، لقوله: «لَمْ تَعْلَمُوهُمْ» فلا يمكن أن يتعلّق بالوطأة، والثاني لا علاقة له باعتبار الإيمان.

وقيل: إنّ المراد بالثاني عدم علم من يعترّض عليكم بأنّكم معذورون في قتلهم، لعدم العلم بهم وهو أبعد من الجميع. ومن الواضح ارتباك التفاسير في توجيه هذه الكلمة وأكثرهم مرّ عليها مرور الكرام.

والسّر في ذلك هو أنّهم لم يتعرّضوا لسؤال واضح هنا أو لم يتأمّلوا في ما هو الجواب الصحيح وإن أشار إليه بعضهم. والسؤال البارز هنا أنّه من هم هؤلاء

ص: 263


1- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 343:4.

الرجال والنساء، وكيف لم يعرفهم المؤمنون وفيهم كثير من أهل مكّة؟ ولم يرد في تفاسير القوم شيء مأثور إلا ما ورد في «الدرّ المنثور» قال: «أخرج الحسن بن سفيان وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن قانع والباوردي والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم بسند جيد عن أبي جمعة حنيبذ بن سُبيع، قال: قاتلت النبي - صلّى الله عليه و آله و سلّم - أوّل النهار كافراً وقاتلت معه آخر النهار مسلماً، فينا نزلت: «وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِناتٌ» وكنّا تسعة نفر، سبعة رجال وامرأتين».(1) وعلى ضوء هذه الرواية ورد في بعض تفاسيرهم أنّهم هم المراد بالآية. وهو بعيد جداً، أوّلاً من جهة أنّ ظاهر الآية أن تكون النساء أكثر من اثنتين وثانياً لأنّ الرواية تشتمل على ما هو خلاف الواقع من حدوث حرب بين المسلمين والمشركين، وثالثاً أنّه وفقاً لهذه الرواية لم يكن الراوي قبل الحرب من المسلمين فلا تشمله الآية. وعدّ بعضهم من هؤلاء جمعاً من الذين أسلموا ولم يهاجروا كأبي جندل بن سهيل بن عمرو. ولكن هؤلاء قوم معروفون!! ولذلك اكتفى أكثر المفسّرين بالإشارة إلى احتمال وجود مؤمنين غير معروفين بين المشركين.

ويبدو أنّ الآية كانت مثار هذا السؤال في تلك الأعصار أيضاً، كما نجده في عدّة من رواياتنا، وورد فيها أنّ المراد بهم من هم في أصلاب الرجال، فقد روى الصدوق رحمه الله بسنده عن ابن أبي عمير، عمّن ذكره، عن أبي عبد الله علیه السّلام، قال: قلت له: ما بال أمير المؤمنين علیه السّلام يقاتل مخالفيه في الأوّل؟ قال: «لآية في كتاب الله تعالى «لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً»(2)». قال: قلت: وما يعني بتزايلهم؟

ص: 264


1- الدرّ المنثور 6: 79.
2- الفتح (48): 25.

قال: ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين وكذلك القائم علیه السّلام لن يظهر أبداً حتّى تخرج ودائع الله عزّ وجلّ، فإذا خرجت ظهر على من ظهر من أعداء الله عزّ وجلّ فقتلهم».(1) وروى مثله أيضاً عن طريق آخر ، وروى أيضاً في نفس الباب عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله علیه السّلام القتل في قول الله عزّ وجلّ: «لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَلَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أليِماً»، «لو أخرج الله عزّ وجلّ ما في أصلاب المؤمنين من الكافرين وما في أصلاب الكافرين من المؤمنين لعذَّب الذين كفروا». علل الشرائع 1: 148؛ بحار الأنوار 29: 437.

ويمكن الاعتراض على هذه الروايات بما يلي:

الاعتراض الأوّل: أنّ إسنادها ضعيفة.

والجواب: أنّ رواية ابن أبي عمير لا إشكال في سندها إلا في من يروي عنه الصدوق مباشرة وهو جعفر بن محمّد بن مسرور ولم يذكر بمدح أو ذمّ، ولكنّ الصدوق رحمه الله ترحّم عليه وذكره بخير، وهذا وإن لم يدلّ على التوثيق إلا أنّه يعتبر ممدوحاً ويكفي ذلك في التفسير، وأمّا إرسال ابن أبي عمير فلا يضرّ عند كثير العلماء حتّى في الفقه. وأمّا رواية منصور بن حازم فكلّ رواة سنده من الأجلاء إلا من يروي عنه الصدوق وهو أيضاً ممدوح عنده. والحاصل أنّ الروايات المذكورة ممّا يمكن الاعتماد عليها في التفسير مع سلامة المتن.

الاعتراض الثاني: أنّ ظاهر الآية المباركة أنّهم رجال ونساء موجودون بالفعل ومؤمنون، كما أنّ قوله تعالى: «لَوْ تَزَيَّلُوا». يدلّ أيضاً على أنهم مختلطون لأنّ التزيّل التفرّق.

ص: 265


1- علل الشرائع 1: 147؛ كمال الدين وتمام النعمة: 641.

والجواب: أنّه ليس في مجرّد التوصيف دلالة على أنّهم موجودون بالفعل، فهو كقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ اذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»(1) وأمّا التزيّل فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله.

الاعتراض الثالث: أنّه لا يصحّ التعبير بالوطء والإهلاك لمن في الأصلاب، فلا يقال إنّ من قتل أحداً فقد قتل كلّ من كان بالإمكان أن يولد منه، فمن الواضح أنّ المراد بالآية وجود اناس بالفعل بين المشركين لا يعرفهم المسلمون بأعيانهم فيقتلونهم جهلاً.

والجواب: أنّه لم يعبّر بالقتل والإهلاك، وإنّما فسّر الوطء بذلك، ولعلّ اختيار هذا التعبير قرينة على أنّ المراد بهم من ليس موجوداً بالفعل، فالوطء أي الدوس بالأرجل باعتبار أنّ قتل الآباء لا يبقي مجالاً لوجودهم.

الاعتراض الرابع: أنّ هذا النوع من القتل لو صحّ التعبير لا توجب إصابة معرّة، فلا يلام أحد إذا قتل أحداً مستحقّاً للقتل بأنّك منعت نسله من الوجود، مع احتمال أن يكونوا مؤمنين! خصوصاً أنّه أمر غير معلوم، ولا أثر للاحتمال.

والجواب: أنّ هذا الإشكال إنّما ينشأ من تفسير إصابة المعرّة بما ذكر، ولكنّ الصحيح بناءاً على هذا التفسير أنّ إصابة المعرّة بمعنى النقص الوارد على المسلمين حيث ينقص عددهم، والمعرّة تصدق على كلّ مكروه وعيب، ولعلّه لهذا السبب اختير هذا التعبير غير الواضح.

الاعتراض الخامس: أنّه لو أريد بالآية مثل ذلك لزم المنع من قتل كثير من

ص: 266


1- المائدة (5): 54.

الكفّار في كثير من الحروب؛ إذ لو كان الكافر يبقى لكان من المحتمل أن يولد من نسله مسلم، كما هو الغالب في المجتمع الإسلامي.

والجواب: أنّ الآية لم تمنع القتل في الحرب وإنّما ذكرت السرّ في أنّ الله تعالى منع تكويناً تحقّق الحرب في خصوص هذا المورد؛ لأنّه كان يستوجب قتل كثير من الناس، ولعلّه كان يفعل مثل ذلك فى موارد اُخرى أيضاً مشابهة من دون أن يشعر به أحد.

ومن هنا يتبّين أنّه ليس المراد بالآية الكريمة حسب هذا التفسير وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات في الأصلاب بقضاء حتمي من الله تعالى، بل المراد قابلية الآباء لإيلادهم، وقابلية الأولاد المفترضين للاندماج في المجتمع الإسلامي، كما هو الغالب حيث إنّهم لو ولدوا في هذا المجتمع وهذه الظروف فسيكونون مسلمين قطعاً، وأيضاً قابليتهم للوصول إلى مرحلة الإيمان الكامل وهذا أمر لا يختصّ بهؤلاء، بل هو سار في كلّ من كانوا في ذلك العصر وتلك المنطقة، فالغرض من هذه الآية - حسب تفسير هذه الروايات - أنّ الله تعالى أراد أن يبقي على هذا النسل ويمنع من هلاك جمع كثير من الناس، لأنّهم هم الذين يشكّلون في المستقبل السواد الأعظم للمؤمنين رجالاً ونساءاً.

«لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ» أي أخّر الله في عذاب المشركين ومنع من نشوب الحرب بينهم ليفسح المجال أمام من يريد الهداية منهم ومن الأجيال الآتية ليؤمن ويدخل في رحمته تعالى. والتعليق على المشية يراد به من اقتضت حكمته تعالى أن يدخله في رحمته، إذ هو لا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة، والمراد صلاحيته للهداية. وهذا التعليل أنسب بما ورد في الروايات من أنّ المراد بهم من في الأصلاب.

ص: 267

«لَوْ تَزيلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِياً» التزيّل التفرّق، كما قال تعالى: «ثُمَّ تقُولُ لِلَّذِينَ أشركوا مَكَانَكُمْ أنْتُمْ وَشركاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ»؛(1) أي فرّقنا بينهم. والتفسير المعروف لهذه الجملة أنّهم لو انفصل بعضهم عن بعض وأمكن عذاب الكافرين منهم من دون أن يصيب المؤمنين لعذّبناهم عذاباً أليماً، ولم يبيّن أنّه بأيدي المؤمنين أو بغيرها، فيشملهما معاً، وهذا يدلّ على أنّ الله تعالى يدفع العذاب العامّ عمّن يستحقّه إذا كان في البلد من لا يستحقّه، ويدلّ عليه أيضاً ما جاء في الآيات من أنّه تعالى كان ينجي الأنبياء والمؤمنين قبل نزول العذاب، كقوله تعالى: «وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ» (2) وقوله تعالى: «فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ المُؤْمِنِينَ» (3) وقوله تعالى: «وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» (4) وغيرها من الآيات الكريمة.

ولكنّ الروايات المذكورة تدلّ على أنّ المراد بالتفرّق تفرّق المؤمنين من الجيل المتأخّر عن آبائهم الكافرين، وهو أمر لا يحدث إلا بالتدرّج، فالواقع أنّ هذا التزيّل وما يترتّب عليه من عذاب الكافرين ممّا لا يحدث أبداً، وإنّما المراد بیان استحقاق الجيل الحاضر وقت نزول الآية لعذاب الله تعالى، ولعلّ المراد به عذاب الاستئصال، كما هو ظاهر اللفظ عند الإطلاق، فلا وجه لما قيل من أنّ المراد عذابهم بأيدي المؤمنين، فالمعنى حسب هذا التفسير أنّ الله تعالى لا ينزل العذاب على هذا القوم - مع استحقاقهم - بسبب وجود جيل مؤمن في ذريتهم.

ص: 268


1- يونس (10): 28.
2- النمل (27): 53.
3- الذاريات (51): 35.
4- الأنفال (8): 33.

ويؤيّد هذا المعنى ما ورد في دعاء سيّدنا نوح علیه السّلام: «وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِراً كَفَّاراً»(1) ممّا يدلّ على أنّهم لو كان في عليهم، ولعله ال علم أصلابهم مؤمن لم يدع الله علیهم و لعلّه علیه السّلام علم بذلك من هذا الوحي حيث قال تعالى: «وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَنِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ»؛ (2) إذ لو كان في ذرّيتهم مؤمن لكان من قومه أيضاً. ومن هنا فإنّ هذا التفسير هو الصحيح من بين كلّ ما قيل في تفسير الآية الكريمة، فإنّ الكافرين في مكّة وقت نزول الآية لم يكن بينهم مؤمنون إلا من كانوا معروفين بأشخاصهم وكان بإمكانهم الهجرة، خصوصاً بعد توسّع الإسلام وسيطرته على الجزيرة العربية.

وبهذا التفسير يتبيّن الجواب عن عدّة أسئلة في الآية الكريمة:

السؤال الأوّل: وجه التعبير بقوله تعالى: «لَمْ تَعْلَمُوهُمْ» بدلاً من «لا تعرفونهم» الذي هو المناسب لو كان هنالك أشخاص مؤمنون لا يعرفون بسيماهم، فالتعبير بعدم العلم بهم من جهة أنّ أصل وجودهم غير معلوم.

السؤال الثاني: التعبير بالوطء بدلاً عن القتل؛ إذ لو كان هنالك أشخاص لكان التعبير بالقتل هو الأولى.

السؤال الثالث: التعبير بإصابة المعرّة وهو تعبير غامض ينطبق على أمور كثيرة ولو كان المراد قتل الأشخاص لكان يعبّر عمّا يوجب الأسف الشديد.

السؤال الرابع: التعبير بالتزيّل ولو كانوا أشخاصاً لقال: «لو هاجروا» أو «لو خرجوا».

ص: 269


1- نوح (71): 26 - 27.
2- هود (11): 36.

وهكذا نجد أنّ تفسير الآيات المشكلة لا نجده إلا في روايات أئمّة أهل البيت علیهم السّلام ولو كانت أبوابهم مفتوحة للناس لما وقعوا في متاهات الجهل.

«إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَميَّةَ الجَاهِلِيَّةِ». يحتمل أن تكون «إذ» تعليلية وتكون لبيان علّة استحقاق العذاب في الآية السابقة، ويمكن أن تكون ظرفاً لقوله: «صَدُّوكُمْ» ولا حاجة إلى تقدير اذكر ونحوه كما قيل. والحميّة من

الحَمْي وهو شدّة الحرّ، والمراد ثوران الغضب، فإنّ الإنسان يشعر بحرارة شديدة إذا اشتدّ غضبه، ثمّ فسّر الحميّة بحميّة الجاهلية، والجاهلية صفة لمقدّر، أي حميّة الملّة الجاهلية أو أنّها اُضيفت إلى صفته، فالحمية التي جعلوها في قلوبهم هي التي ورثوها من الجاهلية. والجاهلية تطلق على عادات العرب قبل الإسلام وما يدعى بزمان الفترة.

ولعلّك تسأل: لماذا ذكر الحميّة أوّلاً، ثمّ أبدلها أو بيّنها بحميّة الجاهلية ولم يقتصر على حميّة الجاهلية فقط وهي أخصر؟ والجواب: أنّ هذا التعبير يفيد استقباح عملهم من جهتين: الأولى: أنّه ليس بدافع العقل والمنطق، بل الحميّة؛ والثانية: أنّ هذه الحميّة من تركة الجاهلية.

والموصول فاعل «جَعَلَ» كما هو واضح فهم بأنفسهم جعلوا في قلوبهم الحميّة، ولا وجه لما قيل من أنّ فاعله هو الله تعالى، ولا تستقيم معه العبارة وإنّما قيل ذلك استبعاداً لاحتمال جعلهم ذلك بأنفسهم، وإنّما لم يقل: «جعل الله» ليدلّ الكلام على أنّهم اختاروا هذه الحميّة، وهذا النهج الفاسد بسوء الفاسد بسوء اختيارهم. فلم تكن هذه الحميّة مودعة في قلوبهم رغماً عليهم، بل هم بأنفسهم جعلوا ذلك في قلوبهم وأرسخوها وبنوا عليها نهجهم، وما يتّخذونه من موقف تجاه الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم

ص: 270

وأصحابه، وعلى هذا الأساس الفاسد منعوهم من الطواف بالبيت ومن نحر الهدي في محلّه، مع أنّه مخالف لسننهم، حتّى أنّ صاحب الثأر كان يجد قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرّض له، ولكنّهم استسلموا لعصبيتهم الجاهلية ورأوا أنّ دخول القوم في مكّة لعلّه يعتبر عند بعض العرب ارغاماً لآنافهم فمنعوهم، وكان ذلك السبب في أنّ الله تعالى أرغم آنافهم في مدّة قصيرة، وفتح مكّة لرسوله صلّی الله علیه و آله و سلّم وللمؤمنين فتحاً باهراً.

«فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ». هذه السكينة في مقابل تلك الحميّة ولذلك صدّر الجملة بفاء التفريع، فالحميّة من صنعهم ومن جعلهم، والسكينة من الله تعالى. والحميّة ثورة لا تستند إلى منطق وعقل وثقافة والسكينة اطمئنان في القلب وحلم في السيرة. ومن هنا اتخذوا ذلك الموقف الهادئ بعد أن بايعوا الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم حتّى الموت وقبلوا كلّ ما أبدى الجاهليون من أعذار واهية لتغيير مضمون الصلح، وهم واثقون من أنّ ذلك لا ينتج إلا الخير لهم، وأنّ العاقبة للمتقين. وإنّما كرّر لفظة «عَلَى» لاختلاف السكينة النازلة عليه صلّی الله علیه و آله و سلّم عمّا نزل في قلوب المؤمنين، كما أنّ ما نزل في كلّ قلب من قلوبهم أيضاً من السكينة تختلف عن غيره، فكلّ أحد حاز منها ما هو المناسب لوعائه، ولعلّ منهم من لم يشعر بأيّ سكينة كالمنافقين.

«وَالْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى» قيل : المراد بكلمة التقوى «لا إله إلا الله»، وقيل غيرها من الكلمات، فكأنّه يجب أن يكون كلاماً، ولكنّ الظاهر أنّ المراد بها روح الإيمان، كما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله(1) إنّه الذي يبعث بالتقوى في قلب

ص: 271


1- راجع الميزان في تفسير القرآن 18: 290.

الإنسان والكلمة كلّ ما له تأثير، قال تعالى: «قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً»،(1) ويؤيد هذا التفسير قوله تعالى: «أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ»،(2) فالإيمان كلمة كتبها الله في قلوب المؤمنين. والإلزام جعل الشيء لازماً لشيء، فالمراد أنّه تعالى جعل كلمة التقوى ملازمة لهم لا ينفكّون عنها، فإنّ رعاية التقوى في بعض الحالات دون بعض لیست ميزة يمتازون بها.

«وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا»، أي كانوا أجدر بها من غيرهم حيث إنّهم أبلوا بلاءاً حسناً واتقوا ربّهم وأطاعوه فاستحقّوا أن يكتب الإيمان في قلوبهم، وأمّا قوله: «وَأهْلَهَا» فالمراد أنّهم لم يكونوا أحقّ من غيرهم فحسب، بل لم يستحقّها أحد ذلك الزمان غيرهم حيث إن قوله: «أحَقَّ» ربما يوهم أنّ من الآخرين أيضاً من يستحقّها ولو بدرجة خفيفة، فبهذا التعبير بيّن أنّهم لا يستحقّونها أبداً، بل المؤمنون هم أهلها فحسب.

«وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً»، فهو يعلم ما تخفيه الضمائر وما يجعله الإنسان في قلبه من حبّ أو بغض وما يستحقه من حميّة أو سكينة.

ص: 272


1- الكهف (18): 109.
2- المجادلة (58): 22.

سوره الفتح (27-29)

لقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّمْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ وَامِنِينَ مُحلِقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا(28)مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَنْهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَنَةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْلَهُ فَكَازَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ مِنْهُم مِّغْفِرَةً وَأَجْرًا

عَظِيمًا (29)

«لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ». اللام لام القسم المقدّر، أي والله لقد صدق؛ و «صَدَقَ» يتعدّى إلى مفعولين، كما قال تعالى: «وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إذ تَحْشُونَهُمْ بِإِذْنِهِ»(1) أو تقدر «في» أي صدق رسوله في الرؤيا وفي وعده. وقوله: «بالحقِّ» متعلّق بمحذوف، أي متلبّساً بالحقّ وهو حال للرؤيا، أي أنّها رؤيا حقّة وليست من أضغاث الأحلام، ويمكن أن يكون متعلّقاً بقوله: «صَدَقَ» وعلى الفرضين تأكيداً للصدق. والمعنى أنّ الله تعالى أراه صلّی الله علیه و آله و سلّم رؤيا صادقة، وذلك حيث رأى الرسول صلى الله عليه و آله و سلّم في منامه أنّه دخل المسجد الحرام مع أصحابه وطافوا بالبيت فأخبرهم بذلك ففرحوا واستبشروا ، ولمّا خرجوا إلى مكّة ووصلوا الحديبية ومنعهم المشركون من دخول الحرم شكّ بعضهم ، فقيل: إنّ المنافقين منهم بثّوا

ص: 273


1- آل عمران (3): 152.

الدعايات وسخروا من وعد الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وكذّبوه في الرؤيا التي أخبرهم بها، قال الآلوسي في «روح المعاني»: «قال على طريق الاعتراض عبد الله بن اُبي وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحرث: والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت. وقد روي عن عمر - رضي الله تعالى عنه - أنّه قال نحوه على طريق الاستكشاف ليزداد يقينه ..»(1) !!! فلما سألوا الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم عن ذلك، قال لهم ما معناه: ما أخبرتكم أنّه يقع هذا العام.

«لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ» جواب لقسم مقدّر أيضاً، أي والله لتدخلنّ المسجد الحرام تصديقاً للرؤيا التي رآها النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم وهذا قسم بعد قسم. وهذا من الأخبار الغيبية التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه و آله و سلّم عن الله تعالى، ووقع فعلاً في العام التالي. وهناك سرّ في هذا التأخير وفي الإعلام عنه قبل عام، وفي خروج الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم في عام الحديبية، وهو أن يتبيّن المنافقون والذين في قلوبهم مرض

والشاكّون في دينهم، ولكن عامّة الناس لم ينتبهوا إلى الحكمة في ذلك.

والتعليق على المشيئة قيل: إنّه لتعليم الناس أن يعلّقوا كلّ ما يخبرون بوقوعه بذلك، فإنّ الاُمور كلّها معلّقة على المشيئة والصحيح أنّه ليس للتعليم، بل حتّى ما وعده الله تعالى معلّق عليها مع أنّه واقع لا محالة، فليس معنى التعليق على المشيئة التردّد في تحقّق الشيء كما يتوهّم، بل المعنى هو تعليق كلّ الوقائع عليها واقعاً، فإنّ الله تعالى ليس ملزماً بشيء، وليس هناك أيّ قانون يلزم الله تعالى بأن يفعل شيئاً أو لا يفعله، فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولذلك علّق الله تعالى الخلود في الجنّة والنار أيضاً بذلك، قال تعالى في سورة هود: «فَأَمَّا الَّذِينَ

ص: 274


1- روح المعاني 13: 273.

شَقُوا فَفِي النَّارِ هُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَات والأرض إلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّال لما يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ والأرض إلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءٌ غَيْرَ مَجُذُوذٍ»(1) ويلاحظ أنّ استثناء المشيئة اتبع بما يدلّ على أنّ الخلود ثابت لا محالة، فقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ فَعَالٌ لِمَا يُرِيدُ» في أهل النار یراد به - على الظاهر - رفع الاستبعاد عن الخلود في النار، وقوله تعالى: «عَطَاءٌ غَيْرَ مَجُذُوذٍ» في أهل الجنّة واضح في الدلالة على أنّه غير منقطع بمشيئة الله تعالى وعطائه.

«آمِنِينَ مُخَلقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ» وعد بأنّهم يدخلونها آمنين لا يخافون اغتيال المشركين ، وقوله : «لا تَخَافُونَ» مؤكّد للأمن. وكان كما وعد الله تعالى، حيث إنّه ألقى في قلوبهم أن يخرجوا من مكّة لئلا يروا الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وكان ذلك موجباً لأمان أكثر للمسلمين وما أظنّهم تفطّنوا لذلك، وإنّما خرجوا حقداً وحنقاً ولكنّ الله تعالى بالغ أمره. والآية تدلّ على الخيار في الحلق والتقصير في العمرة المفردة، ولعلّ ذكرهما من بين الأعمال للتأكيد على إكمال أعمالهم وخروجهم عن الإحرام وهم باقون في مكّة، فليسوا مستعجلين للخروج منها، وورد في الحديث أنّ المشركين أرسلوا رسولاً إلى الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم بل انتهاء المدّة يذكرونه بما وعد ويطالبون عدم التأخير.

«فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً»، أي أنّ الرؤيا كانت صادقة، ولعلّه كان من المناسب أن يقع ما وعده الله تعالى في نفس السنة خصوصاً مع خروج الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم للاعتمار ، ولكنّه تعالى علم أنّ المصلحة تقتضي تأخیر

ص: 275


1- هود (11): 106 - 108.

العمرة لوجوه كثيرة منها تبيّن المنافق عن المؤمن وتبيّن درجات المؤمنين ولكنّه أبدلكم من ذلك بفتح قريب هو فتح الحديبية وهو أعظم بكثير من الاعتمار كما تبيّنت نتائجه. فقوله: «مِنْ دُونِ ذَلِكَ» أي بدلاً عنه.

«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِالله شَهِيداً»، أي لا غرابة في أنّه تعالى يظهر رسوله على المشركين فيدخل مكّة رغماً على اُنوفهم، ويعتمر هو وأصحابه آمنين مطمئنين، فإنّ الغاية المتوخاة أكبر من ذلك، فإنّه تعالى لم يرسل رسوله ليغلب قوماً ضعيفاً كمشركي مكّة، بل أرسله ليغلب دينه كلّ ما على الكرة الأرضية من دين، فما تجدونه من تقدّم وغلبة ليس إلا مقدّمة للفتح الأعظم وهو الغلبة العامّة. يلاحظ أنّ هذا الكلام يلقى على الناس في عهد لم تتجاوز سيطرة الإسلام أطراف المدينة وهو بعد لم يتمكّن من فتح مكّة، ولكنّ الله تعالى يشهد لهم بأنّ هذا سيكون وكفى بالله شهيداً.

والباء في الآية للمصاحبة، أي أرسله الله تعالى مصاحباً للهدى ودين الحقّ، والمراد بالهدى يمكن أن يكون القرآن الكريم أو هداية الله تعالى له صلّی الله علیه و آله و سلّم في جميع اُموره بأن يوفّقه لما هو الأصلح له ولدينه ولأمّته أو ما تضمّنه الكتاب وسيرة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم من الآيات والمعاجز التي توجب هداية الناس ومعرفتهم بربّهم. والمراد بالدين الشريعة والقوانين والأحكام الإلهية في العبادات والمعاملات. وقوله: «دِينِ الْحَقِّ» من باب الإضافة إلى الصفة، أي الدين الذي هو الحقّ.

واللام في قوله : «لِيُظْهِرَهُ» لام العاقبة لتبيّن ما سيؤول إليه أمر الرسالة وليس بياناً لسبب ،الإرسال فإنّ السبب ليس إلا هداية الإنسان إلى ما يوجب سعادته

ص: 276

الأبدية بتحصيل رضا الله تعالى. والظهور: الغلبة. والضمير يعود إلى دين الحقّ، أي ليظهر دينه على الدين كلّه. وقيل يعود إلى الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وهو بعيد. والباء في قوله: «وَكَفَى بِاللهِ» زائدة، أي كفاه الله سبحانه شهيداً، فلا حاجة إلى استدلال بشيء ولا حاجة إلى ذكر شواهد ولا إلى شهادة شهود، فالله تعالى شاهد يخبر

به وخبره الحقّ.

والمذكور في التفاسير أنّ المراد بالظهور الغلبة من حيث الدليل والبرهان، ولكنّ الظاهر من اللفظ هو الغلبة الخارجية وهي تتحقّق إمّا بأن يكون هذا الدين هو دين أغلب الناس أو بأن تكون السلطة السياسية لأتباع هذا الدين ولا يقتضي بالطبع زوال سائر الأديان، بل ظاهر العبارة بقاء الأديان على مغلوبيتها، وهذه الغلبة لم تحصل حتّى الآن إلا إذا أريد به الغلبة في الجزيرة العربية، وهو بعيد عن السياق، فالظاهر أنّه إشارة إلى ما وعده الله سبحانه على لسان رسوله صلّی الله علیه و آله و سلّم من قيام الإمام المهدي - عليه أفضل الصلاة والسلام وعجّل الله تعالى فرجه - حيث يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ورد في الحديث النبوي المتواتر،(1) فتكون له السلطة التامّة على كلّ البلاد، وبذلك يتحقّق الوعد الإلهي لا خصوص ما ورد في هذه الآية فحسب، بل ما ورد في كلّ الرسالات، فإنّ الله تعالى قال: «كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي»،(2) وقال تعالى: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ هُمُ المَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا هُمُ الْغَالِبُونَ».(3)

ص: 277


1- راجع: الأمالي (للصدوق): 26؛ كمال الدين و تمام النعمة 1: 256؛ بحار الأنوار 12: 195.
2- المجادلة (58): 21.
3- الصافات (37): 171 - 173.

«مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله»، الظاهر أنّ قوله: «مُحَمَّدٌ» مبتدأ خبره رسول الله. وقيل: إنّه خبر لمبتدأ محذوف وهو ضمير يعود إلى قوله: «أَرْسَلَ رَسُولَهُ»، أي هو محمّد رسول الله. قالوا: لأنّ المراد ليس إخبار أنّه رسول الله، بل إخبار أنّ الرسول المذكور سابقاً الذي صدقه الله الرؤيا وأرسله ليظهر دينه هو محمّد صلّی الله علیه و آله و سلّم. ولكن هذا يستلزم تكرار التوصيف بالرسالة مع أنّه معلوم لا حاجة إلى ذكره، فالرسول في هذا السياق لا يحتمل غيره صلّی الله علیه و اله و سلّم. وقيل : إنّ «رَسُولُ الله» صفة «وَالَّذِينَ مَعَهُ» معطوف عليه وقوله : «أشِدَّاءُ» خبر. وكأنّ هذا المتكلّف استبعد أن لا يشمل التوصيف بهذه الأوصاف الكريمة الرسول الأكرم صلّی الله علیه و آله و سلّم وغفل عن أن توصيفه

بالرسالة يغني عن كلّ وصف فيكفيه كمالاً وجمالاً وجلالاً أن يرسله الله تعالى مبعوثاً إلى الناس ووسيطاً بينه وبين خلقه.

«وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ». لا شكّ أنّ المراد بالذين معه ليس كلّ المعاصرين وفيهم ألدّ أعدائه صلّی الله علیه و آله و سلّم، ولا كلّ من كانوا تحت سلطته أو الذين بايعوا معه وأظهروا الإسلام وفيهم المنافقون الذين هم أشدّ عداءاً له من المشركين، بل المراد الذين كانوا معه صلّی الله علیه و آله و سلّم في هدفه وفي عقيدته وفي مواقفه. ومن الملاحظ أيضاً أنّ هذه الصفات ما كانت متوفّرة في كلّهم بالفعل، وإنّما كانت في بعضهم وهم أيضاً كانوا مختلفين في ذلك شدّة وضعفاً. نعم كانت الصبغة العامّة للمجتمع الصحابي هي ما تذكره الآيات، فكانوا على وجه العموم أشدّاء على الكفّار لا يظهرون ليناً تجاههم ولذلك صعب عليهم تحمّل ما اقترحه المشركون في الصلح ، كما أنّهم كانوا رحماء بينهم فلم تكن شدّتهم مع الكفّار لخشونة في طباعهم، بل لتشدّدهم في ذات الله . ولكن لم يكن كلّهم كذلك، بل

ص: 278

كان فيهم من كان يهادن المشركين ويتعاطف معهم، بل يراسلهم وفيهم من لم يصدر منه ضربة موجهة إلى أحدهم لا في الحرب ولا بعد الأسر.

«تَرَاهُمْ رُكَعاً سُجَّداً». قيل: إنّ المراد بذلك الصلاة لاشتمالها على الركوع والسجود، ولأنّهما ركنان من أركانها، ولكن ظاهر قوله «تَرَاهُمْ» استمرارهم على ذلك كأنّهم دائماً في حال ركوع وسجود، فلا يبعد أن يكون المراد بهما خشوعهم لله تعالى حيث إنّه باد على وجوه الصالحين بصورة مستمرّة وفي كلّ الأحوال، والسجود ليس اسماً للحالة الخاصّة، بل هو عبارة عن الخشوع التامّ وبهذا المعنى ورد في قوله تعالى: «وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً»؛(1) إذ لا يمكن دخول الباب في حالة السجود بالمعنى الأخصّ. ويمكن أن يكون المراد كثرة الصلاة منهم.

«يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَاناً». إذا كانت الجملة تعليلاً للذي قبلها فالمعنى أنهم يصلّون يبتغون بذلك فضله ورضوانه، وإذا كانت توصيفاً مستقلاً فظاهر الجملة أنّهم لا يقصدون بأعمالهم إلا الفضل من الله ورضوانه، وهذا غاية المدح ونهاية الكمال، فهم لا يبتغون في كلّ أعمالهم ونشاطاتهم إلا فضل الله ورضوانه، فإذا بذلوا الجهد لكسب مال أو صحّة وعافية أو أيّ أمر آخر ممّا يعود إلى المصالح الدنيوية فإنّهم لا ينتظرون إلا فضلاً من الله تعالى في أن يرزقهم ويعافيهم و... وهذا يعود إلى اعتقادهم بأنّ كلّ ما يكسبونه من مال أو يحصلون عليه من جاه أو يضفى عليهم من صحّة وعافية كلّ ذلك فضل من الله تعالى وليس نتاج عملهم وجهدهم، وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن فلا يجد نعمة إلا

ص: 279


1- البقرة (2): 58 والاعراف (7): 161 وفي سورة النساء (4): 154: «وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً».

ويحمد الله تعالى عليها ولا يعتبر لجهده تأثيراً في ذلك، بخلاف الكافر فإنّه يقول كما قال قارون: «إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي»(1) وكذلك من كان مثله وإن ادّعى الإسلام، فإنّه وإن لم يقلها باللفظ إلا أنّه هو ما انطوت عليه سريرته، ويبرز من كلّ أعماله وسيرته، فلو كان يعتقد أنّه من الله لدفع ما أوجبه عليه من حقّ ومن جهة أخرى فإنّهم لا يطلبون بعملهم إلا رضوانه تعالى بمعنى أنهم لا يطلبون من الدنيا إلا ما هو مقدمة للآخرة. وإذا عملوا للآخرة فلا يجدون أنفسهم مستحقّين لأجر وجزاء من الله تعالى، بل يعلمون أنّ كلّ ما يثابون عليه فإنّما هو فضل من الله تعالى، ثمّ إنّهم لا يهتمّون بدخول الجنّة بقدر ما يهتمّون بتحصيل رضوان الله تعالى، فالغرض الأسمى لهم وغاية الغايات هو تحصيل رضوان الله تعالى وهذا غاية في المعرفة والكمال.

«سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ». السيما: العلامة وهو مقلوب من الوسم، والمعنى أنّ أثر السجود بيّن عليهم؛ إمّا بمعنى أنّ أثر الخشوع الله تعالى واضح من وجوههم ومن أعمالهم وسيرتهم وتواضعهم، فيكون التعبير بكونه في وجوههم بمعنى أنّه بيّن عليهم، وهذا أمر مشهود من المؤمن الصالح، فإنّ الخشوع الله يمنع من الكبر والخيلاء، فإذا رأيت الإنسان مختالاً فخوراً يتبختر في مشيه وفي ثيابه وفي مركبه وغير ذلك، فاعلم أنّه لا يخشع لله تعالى، وإمّا بمعنى تأثير السجدة على جباههم، فإنّهم - رضوان الله عليهم - ما كانوا يسجدون على الثياب أو الفرش وإنّما يسجدون على التراب أو الحصر والبواري فتؤثر السجدات الطويلة على جباههم، ومن الناس من أنكر أن يكون هذا أمراً مطلوباً بدعوى أنّه رياء،

ص: 280


1- القصص (28): 78.

و هو خطأ فاحش، فالرياء أمر قلبي وليس كلّ ما يتظاهر به الإنسان من إطاعة أو خشوع رياءاً، بل المطلوب شرعاً من المؤمن أن يحسن ظاهره وأن يشترك في صفوف الجماعة في الصلاة وفي سائر الاجتماعات ليتبيّن للمجتمع صلاحه

ويقتدي به غيره.

«ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ». الظاهر أن «ذَلِكَ» إشارة إلى ما مرّ ذكره من الصفات. والمثل كلام أو غيره يمثّل حقيقة بصورة اُخرى، فهذه الصفات المذكورة في التوراة تمثّل شخصية أصحاب الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم.

«وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ» تشبيه لهم بحقيقة عينية واردة في الإنجيل على ما هو الظاهر من كونه جملة مستأنفة. وقال جمع من المفسّرين : إنّه عطف على «مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ» وقوله: «كَزَرْع» مستأنف. (1) وهو بعيد؛ إذ لا وجه لتكرار «مَثَلُهُمْ».

والشطأ، فرخ النبات يخرج من جذوره ثمّ يقطع ويزرع، والمراد هنا أنّ هذا الفرخ يستعين بالشجرة الاُمّ، والاُمّ تؤازره، أي تعاونه في النمو إلى أن يستغلظ ويقوى ويستوي على سوقه وهو جمع الساق، ويدلّ التعبير على وجود مجموعة من الفروخ كلّ منها يستوي على ساقه، وهذا النمو والاستغلاظ يحدث في هذه الفروخ بسرعة غير معتادة بحيث يعجب الزرّاع. والمراد بالتشبيه أنّ المؤمنين الذين هم حول الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ينمو عددهم نمواً هائلاً، فكلّ واحد منهم يهدي أحداً أو جمعاً من الناس ويربّيه حتّى يستكمل دينه فيستقلّ عن أصله وربما يزيد عليه، وأنّ هذا التنامي يعجب المجتمع البشري وهم المراد بالزرّاع. وقيل: إنّ

ص: 281


1- راجع: روح المعاني 13: 278؛ التفسير الوسيط للقرآن الكريم 13: 289.

الشجرة الأمّ هو الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم والشطأ هم الصحابة، وهو بعيد عن السياق. ولعلّ في التنبيه على هذه الجملة بعد صلح الحديبية أثراً عميقاً في خروج جمع من الصحابة لنشر الدعوة في القبائل العربية.

«لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ». الظاهر أنّه تعليل لهذا الجعل التكويني، أي أنّ الله تعالى جعلهم كذلك كما وصفهم في الإنجيل، ليغيظ بتكاثرهم وتناميهم الكفّار. وقيل: إنّه تعليل لهذا التشبيه، وهو بعيد إذ لا يعلم به أكثرهم، بل كلّهم إن اُريد بهم مشركو مكّة والجزيرة العربية. ولعلّ ما بأيدينا اليوم من الكتابين لا يوجد فيهما هذان المثلان، إذ لم يحصل الباحثون على تصريح بهما، وما ذكره بعضهم ليس كما ورد في القرآن.

ونسب إلى بعض فقهاء العامّة الاستدلال بالآية الكريمة على كفر الشيعة، لأنّهم يغتاظون من الصحابة ومن كثرتهم، ولئن صحّت النسبة فهو دليل على عدم فقهه. وليس من الشيعة من يبغض أحداً من الصحابة الذين آزروا النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم واتبعوه في ساعة العسرة وبايعوه حتّى الموت وتفانوا في حبّه والدفاع عنه. وفي ما نزور به سيّدنا حمزة علیه السّلام وشهداء اُحد - رضوان الله عليهم - دليل واضح على عدم فقه الرجل لو صحّت النسبة وهي بعيدة. وليس من الصحابة من نبغضه إلا عدداً يسيراً جدّاً أظهروا بغضهم وعداءهم لأهل بيت النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم ونحن واثقون من أنّهم كانوا يبغضون الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ولم يتمكّنوا من إظهاره في حياته، بل أنّ بعضهم أظهره في مواقف لا تخفى على من راجع التاريخ بإنصاف، ومنهم الذين آذوا رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم في حياته وبعد مماته. وهل تشمل هذه الآية المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار ؟ وهل المنافقون اسم لجماعة بأعيانهم أو

ص: 282

المقياس هو صفة النفاق؟! وأخطر المنافقين من لا يعرفهم الناس وقد قال تعالى: «أمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ»(1) وقال أيضاً: «وَمَنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النَّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ».(2)

«وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً». المعنى واضح ومن العجيب ما حاوله أغلب المفسّرين من العامّة من اعتبار «من» بيانية، فيكون الوعد شاملاً لجميع من كان مع النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم. ولو صح ذلك لم تكن حاجة إلى ذكر هذه الجملة مع هذا البيان، فإنّ كونهم مؤمنين ويعملون الصالحات مفروغ عنه، بل هذه الأوصاف صعد بهم إلى أعلى مراتب الكمال، فلا وجه لبيان هذا العنوان العامّ الذي يشمل كثيراً ممّن هو دونهم، فالصحيح الذي لا مناص منه هو أنّ «من» تبعيضية، فتكون في الآية إشارة إلى أنّ هذه الصفات هي الصبغة العامّة ومنهم من ليس كذلك، وهذا ممّا لا ريب فيه ولا شكّ يعتريه.

والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الطاهرين.

ص: 283


1- محمّد (47): 29 - 30.
2- التوبة (9): 101.

ص: 284

تفسیر سورة الحجرات

اشارة

ص: 285

ص: 286

سورة الحجرات (1- 5)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَأَيها الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أن تَحْبَطَ أَعْمَلُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَبِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخَرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا هُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)

سورة الحجرات مدنية كما تشهد به مواضيعها، وتشتمل على آداب في التعامل مع الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ومع المجتمع الإسلامي ومع سائر الناس، وتنتهي ببيان الفرق بين الإسلام والإيمان.

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ»، تصدير الآية بهذا الخطاب ينبئ عن أن الالتزام بما يأتي من الحكم هو مقتضى الإيمان، فكأنّه يقول: إن كنتم

ص: 287

مؤمنين فلا تقدّموا، وقد قرئت الآية بوجهين؛ فالقراءة المشهورة: «لا تُقَدِّمُوا» بضم التاء وكسر الدال من التقديم، وقرئت بفتح التاء والدال من التقدّم، أي لا تتقدّموا فحذف أحد التاءين، والمعنى على القراءة الثانية واضح، فإنّ التقدّم بمعنى السبق، فيكون المراد: لا تسبقوا حكم الله تعالى والرسول صلى الله عليه و آله و سلّم في أيّ شيء؛ وأمّا بناءاً على القراءة المشهورة، فيحتمل أن يكون بنفس المعنى، ففي «تهذيب اللغة» للأزهري: «ويقال قَدَّم فلان يقدّم ، وتقدّم يتقدّم، وأقدم يقدم، واستقدم يستقدم بمعنى واحد، قال الله جلّ وعزّ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ». (1) ويحتمل أن يكون بمعنى جعل شيء قبل شيء، كما قال تعالى: «إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةٌ» (2) وهو تفعيل من قَدَم يقدُم إذا كان أمام القوم، قال تعالى: «يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ»،(3) فإذا أتى من باب التفعيل كان معناه جعل شيء قُدّام شيء.

و «بين اليدين» كناية عن الإمام باعتبار أنّ الإمام بالنسبة للإنسان يقع بين يديه، والأصل في التقديم أن يكون له مفعول، فيمكن أن يكون حذفه هنا لإفادة التعميم، أي لا تقدّموا أيّ عمل على حكم الله ورسوله، ويمكن أن يكون النهي عن فعل التقديم، كقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ»(4) من دون ذكر المتعلّق، أي يفعل الحياة والموت كما في «الكشّاف».(5)

ص: 288


1- تهذيب اللغة 9: 58.
2- المجادلة (58): 12.
3- هود (11): 98.
4- المؤمنون (23): 80.
5- راجع: الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 4: 349.

ومهما كان، فالمراد النهي عن التقدّم عليهما فيما يخصّ أمر الدين أو الشؤون الاجتماعية، أي لا تأمروا بأمر في هذا الباب ولا تعملوا عملاً إلا بعد ورود الأمر الله تعالى أو من رسوله صلّی الله علیه و آله و سلّم. ولا يراد قطعاً النهي عن أيّ عمل شخصي لم يرد فيه نهي من الشارع، فيكون مخالفاً لإجراء أصالة الإباحة، وإنمّا يراد النهي عن إصدار حكم شرعي قبل ورود الأمر أو النهي أو التحليل من الله تعالى، وذلك فيما هو من شؤون الدين، وكذلك النهي عن أيّ عمل في مجال السياسة وإدارة المجتمع في ذلك العهد قبل أمر الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم أو نهيه، فإنّه هو الحاكم المفترض الطاعة.

ويشمل هذا النهي كلّ اقتراح يتقدّم به أحد في مجال الحكم الشرعي، وكذلك في شؤون إدارة المجتمع في ذلك العهد إلا ممّن يستشيره الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، وما كان يستشير استفهاماً فهو كان غنياً عنهم بفضل ربّه، ولكنّه كان يستشيرهم عطفاً ورحمة، كما قال تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ هُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه».(1)

ومن الغريب بعد ذلك ومع هذا النهي الصريح أن يعتبر بعض ما كان يتقدّم به بعض الصحابة من حكم شرعي قبل نزول الوحي فضيلة له، ويُدّعى أنّ الله تعالى تبعه في إصدار الحكم، وورد أحاديث في صحاح القوم بهذا الشأن في موارد عديدة على لسان الرجل نفسه متباهياً بذلك وعلى لسان غيره!! وكأنّه تعالى كان غافلاً عن أنّ الوقت قد حان لإصدار هذا الحكم فنبهه عليه بشر ممّن خلق، وهذا غاية العجب والغلو.

ص: 289


1- آل عمران (3): 159.

وممّا ذكرنا يتبيّن أنّ ذكر الله تعالى مع الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم من جهة أنّ بعض الأمور لا يجوز التقدّم فيها على الله تعالى، لأنّه مجال الحكم الشرعي، وبعضها يتوقّف على أمر أو نهي من الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، وذلك في مجال إدارة شؤون المجتمع في عهد ولايته العامّة، وليس السبب في ذكره تعالى هو تشريف الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وتعظيمه كما قيل.

والحكم والتشريع خاصّ بالله تعالى، كما قال: «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ»(1) ولكن بمقتضى الروايات قد أذن الله لرسوله صلّی الله علیه و آله و سلّم في ذلك بالنسبة للتشريعات الأساسية؛ مثل ما ورد في تشريع الصلاة أنّ الله تعالى فرضها ركعتين،(2) ثمّ سنّ الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ركعة وأضافها إلى المغرب، وأضاف إلى الظهرين والعشاء ركعتين. وما ورد في تشريع الزكاة من أنّه تعالى فرضها والرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وضعها في تسعة أشياء وعفا عمّا سواهن(3) وغير ذلك. والوارد في روايات الباب أنّ الله تعالى فوّض ذلك إلى الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ومع ذلك فقد أجاز الله تعالى حكمه ونفّذه.

ومن هنا انقسمت الأحكام أو التقديرات الشرعية إلى فرائض الله وسنن رسوله صلّی الله علیه و آله و سلّم ويقصد بها السنن الواجبة لا المستحبّة. كما أنّه صلّی الله علیه و آله و سلّم يحقّ له التشريع في مجال إدارة نظام الحكم وهو المراد بقوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله»(4) وغيره من الآيات؛ وكذلك لولاة الأمر المعصومين علیهم السّلام بعده.

والحاصل أنّ المقصود بالآية النهي عن التقدّم على تشريع الله وتشريع

ص: 290


1- الأنعام (6): 57؛ يوسف (12): 40 و 67.
2- راجع الكافي 1: 266، باب التفويض إلى رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم.
3- راجع الكافي 3: 509، باب ما وضع رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم الزكاة عليه.
4- النساء (4): 64.

الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم أو حكمه الولائي بأن يشرع الإنسان حكماً تشريعياً من جانبه أو أو يعمل عملاً في المجال التشريعي أو الولائي من دون ترخيص وإذن من الولي الشرعي وهو الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم في عهده. والمراد بالتشريع أن يعتقد الإنسان أو يحكم بأنّ شيئاً حرام أو حلال وقد تكرّرت الآيات الكريمة في التنديد به، وأكثر هذه الآيات وإن وردت في مخاطبة المشركين إلا أنّ الحكم لا يختصّ بهم، قال تعالى: «وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ الْسِتْكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهُ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ».(1)

وليس معنى ذلك أن لا يعتبر الإنسان شيئاً مباحاً حتّى ينزل فيه الحكم الشرعي؛ إذ قد يكون ما نستحلّه أمر مستحدث لم يرد فيه حكم، ولكنّ الحلّ الذي هو حكم شرعي غير الإباحة الأصلية التي تبتني على عدم وصول منع من الشريعة، فالحلّ في الأصل حلّ العقدة كما قال تعالى: «وَاحْلُلْ عُقْدَةٌ مِنْ لِسَانِي» (2) وفي الشرع عبارة عن حلّ عقدة الحظر، كما أفاده سيّدنا الأستاذ دام علاه،(3) فإن كان الشيء محرّماً قبل ذلك، إمّا في هذا الشرع أو في شرع سابق أو في العرف الخاطئ الذي يحرّم من عند نفسه أو في القوانين الوضعية التي تحرم بغير حقّ أو كان مورداً لتوهّم الحظر، ثمّ أحله الله تعالى فقد انحلّت عقدته، نظير قوله تعالى: «أحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلى نِسَائِكُمْ»،(4) وقوله تعالى: «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ

ص: 291


1- النحل (16): 116.
2- طه (20): 27.
3- أي مرجع الأمة وملاذها السيّد السيستاني حفظه الله تعالى.
4- البقرة (2): 187.

مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ»،(1) وقوله تعالى: «وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً».(2)

وهناك من الناس من يحرّم ما لم يحرمه الله تعالى بدعوى أنّه محدث وكلّ محدث بدعة وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النار!! وهو الذي يدخل النار بقوله هذا، لأنّه يحرّم ما لم يحرّمه الله تعالى، فهو المبتدع والمعتدي على التشريع الإلهي وأمّا من يرتكبه من دون أن يحكم بأنّه ممّا أحلّه الله تعالى وإنّما يستحلّه؛ لأنّه تعالى لم يحرّمه وأنّه على إباحته الأصلية، فهو متّبع لشرع الله وليس مبتدعاً. وهذا باب واسع يدخل فيه كثير ممّا يتسرّع فيه الجهلة المتلبّسون لباس الفقهاء بالحكم بالابتداع والضلالة.

نعم، لا يجوز أن يدخل في الدين ما ليس فيه، فيحكم بأنّ هذا واجب أو حرام أو حلال شرعاً والشرع لم يحكم فيه بشيء. والطريف أنّ أكثر موارد التنديد في القرآن الكريم هو التحريم الجاهلي لا التحليل، فكانوا يحرّمون على أنفسهم أنواعاً من الإبل كالوصيلة والحامي والبحيرة والسائبة، فأنزل الله تعالى: «مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ».(3)

والآيات التي تندّد بالتحريم الجاهلي كثيرة، وربما يتعجّب الملاحظ من هذا الاهتمام والتأكيد، وربما يتصوّر أنّه ليس بتلك المثابة من الأهمية، ولكنّ الواقع

ص: 292


1- المائدة (5): 96.
2- النساء (4): 24.
3- المائدة (5): 103.

أننا كثيراً ما نستخفّ بأمر وهو عند الله عظيم، كما قال تعالى: «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ الله عَظِيمٌ» (1) والتشريع شأن إلهي لا يحقّ لأحد أن يتلبّس به.

«وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». الأمر بالتقوى بعد الأمر السابق يوحي إلى المخاطب أنّ الأمر بالغ الأهمية، فلا يتوهّم أنّه ليس عليه رقيب وأنّ بإمكانه أن يقول ما يقول ويفعل ما يفعل إذا كان وحده، فالله تعالى معه ورقيب عليه يسمع أقواله ويعلم أفعاله. وإنّما لم يقل بصير، لأنّ الفعل هنا ربما يكون قلبياً فإنّ اتصاف الفعل بكونه تشريعاً محرماً أمر قلبي، وذلك لأنّ اتصافه بذلك يتبع نيّته بأنّ هذا وارد في الشرع أو مع نسبة التحريم أو الإيجاب إلى الله تعالى، وإن كان ذات الفعل أمراً مشهوداً إلا أنّ اتصافه بكونه تشريعاً محرّماً يتبع نيّته.

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ» ؛ إعادة النداء تفيد الاهتمام بما بعده وتفيد التنبيه على أنّه حكم خاصّ، وليس من فروع الحكم السابق. وهذا حكم شرعي في باب مراعاة الأدب عند النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم، ويبدو أنّ بعض من كان يحضر عنده صلّی الله علیه و آله و سلّم، من عرب البادية، بل غيرهم أيضاً ممّن فيه جفوة الأعراب ما كانوا يراعون احترام النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم فيرفعون أصواتهم عنده، وكان هذا قلّة أدب ومخالفاً للتوقير، ولعلّه كان أيضاً يؤذي النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم فنهى الله عنه، وكان النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم كثير الحياء تتأبّى نفسه الزكية من مصارحتهم باحترامه وتوقيره وتنبيههم على ما هو مقتضى الأدب، ولكنّ الله تعالى لا يستحيي من الحقّ. وقوله: «فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ» يبيّن حدّ الرفع الممنوع، فالمعنى أنّهم حينما يتكلّمون في محضره صلّی الله علیه و آله و سلّم سواء كان صامتاً أو يكلّمهم أو يكلّم غيرهم أو يخطب، فالواجب أن يكون

ص: 293


1- النور (24): 15.

صوتهم دون صوته لتكون له العلوّ والرفعة في الظاهر، كما هو في الواقع، وهذا واضح فيما لو كان الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم يتكلّم ، أمّا إذا كان صامتاً فيجب أن يكون الصوت خافتاً جدّاً لا يسمعه إلا المخاطب.

«وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ» الفرق بينه وبين الحكم السابق أنّ الأوّل ليس في مقام المحادثة معه صلّی الله علیه و آله و سلّم كما تبيّن ، ولذلك استند إليه بعضهم في عدم جواز رفع الصوت عند قبره صلّی الله علیه و آله و سلّم أيضاً ، وهذا الحكم خاصّ بمقام المحادثة لقوله تعالى: «لَهُ»، ففي المقام الأوّل يجب أن يكون الصوت أخفض من صوت النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم إذا كان يتكلّم، سواء كان يخطب أو يتكلّم معه أو مع غيره، ويجب أن يكون خافتاً إذا كان النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم ساكتاّ، كما يفعله الناس بمحضر العظماء، وليس في البشر أعظم من رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم ولكنّه حيث كان يعيش بينهم كأحدهم، بل كأحد فقرائهم فما كان الجهلة يعرفون قدره، وفي المقام الثاني وهو مقام المحادثة، يجب الإخفات فلا يجهر بالقول كما يجهر مع غيره إجلالاً له وتعظيماً، والجهر ربما يصدق على الصوت الذي لا يعتبر رفيعاً، فهناك فرق آخر بينهما؛ فإنّ الجهر يقابله الإخفات ورفع الصوت يقابله خفضه وإن كان جهراً والجهر بمعنى الإعلان. ويظهر من قوله: «كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ» أنّ الجهر المتعارف المعتاد بين المتخاطبين ممنوع صلّی الله علیه و آله و سلّم.

«أنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ». مرّ الكلام في حبط الأعمال في سورة محمّد صلّی اللهعلیه و آله و سلّم(1) وقلنا في تفسير قوله تعالى: «وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ»(2) إِنّ هناك من

ص: 294


1- في تفسير الآيات 9 و 28 و 33.
2- محمد (47): 33.

المعاصي ما يحبط بعض الأعمال ومنها ما يحبط كلّها. وذهب بعض المفسّرين إلى أنّه لا يحبط العمل إلا الكفر ، وهذا من موارد نزاع الأشاعرة والمعتزلة ومن أصحابنا أيضاً من قال به.

قال في «مجمع البيان»: «قال أصحابنا أنّ المعنى في قوله: «أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ» أَنّه ينحبط ثواب ذلك العمل لأنّهم لو أوقعوه على وجه تعظيم النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم وتوقيره لاستحقّوا الثواب، فلمّا فعلوه على خلاف ذلك الوجه استحقّوا العقاب وفاتهم ذلك الثواب فانحبط عملهم، فلا تعلّق لأهل الوعيد بهذه الآية، ولأنّه تعالى علّق الإحباط في هذه الآية بنفس العمل، وهم يعلّقونه بالمستحقّ على العمل وذلك خلاف الظاهر».(1)

ويقصد بقوله: «أهل الوعيد» المعتزلة. ومن الواضح أنّ ما قاله ونسبه إلى الأصحاب هو خلاف الظاهر، فإنّ إضافة الأعمال إلى الضمير تدلّ على العموم ومعناه حبط جميع الأعمال، مع أنّ هذا العمل لا ثواب فيه حتّى لو لم يكن برفع الصوت والجهر بالقول، فقد يكون القول في محضر الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم لأمر دنيوي يعود نفعه إلى المتكلّم، بل قد يكون بذاته محرّماً أيضاً فضلاً أن يكون عملاً صالحاً يثاب عليه كالغيبة والنميمة والبهتان وغيرها.

وقوله: «وَأنتُم لا تَشْعُرُونَ» بمعنى أنّهم ما كانوا يشعرون أنّ هذا العمل محبط للأعمال، بل كانوا ما يتوقّعون ذلك. والسرّ في كونه محبطاً أنّه هتك لمقام الرسالة، والظاهر أنّ من كانوا يرفعون أصواتهم يستهينون بمقامه صلّی الله علیه و آله و سلّم وإن لم يصرّحوا بذلك، وقد وضعت أحاديث لإثبات أنّ بعض الصحابة تغيّر موقفهم

ص: 295


1- مجمع البيان في تفسير القرآن 10 -9: 196.

وعملهم في هذا المقام بعد نزول الآية، وهذا بنفسه يدلّ على سلبية مواضعهم قبلها، ولكنّ الواقع أنّ بعض الناس لم يغيّروا موضعهم أساساً حتّى آخر أيّام حياته صلّی الله علیه و آله و سلّم ولم يراعوا مرضه فضلاً عن مقام الرسالة واتهموه بالهجر والهذيان فما أكذب هذه الأحاديث؟!

«إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ الله أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى هُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» تأكيد على أهمية الحكم وإشارة إلى أنّه كما أنّ رفع الصوت عند النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم موجب للحبط، كذلك خفضه عنده موجب للمغفرة، بل موجب لأجر عظيم ويكفيه عظمة أنّ الله تعالى يعدّه عظيماً، والتنكير أيضاً يفيد التعظيم.

وغضّ الصوت: خفضه. والامتحان: الاختبار. ومنه قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِينَ».(1) وهناك محاولات في التفاسير وكتب اللغة لتأويل الامتحان هنا أو البحث عن معان اُخرى في الاستعمالات اللغوية، لأنّ الاختبار لا يدلّ بذاته على الفوز ولا يختص بمن حصل على مرتبة عالية، فكلّ الناس معرّضون للامتحان للتقوى. فقيل: إنّ معنى الآية أخلص الله قلوبهم للتقوى. وقيل: بمعنى صفّاها. وقيل: وسّعها. وقيل: وضع الامتحان موضع المعرفة، لأنّه سببها، فكأنّه قال عرف أنّها لائقة للتقوى. وقيل غير ذلك.

ويمكن أن يكون المراد بهم من كانوا يغضّون الصوت عنده صلّی الله علیه و آله و سلّم قبل أن تنزل الآية، أي أنّ الوعد بالمغفرة والأجر العظيم هنا لا يشمل من ائتمر بهذا الأمر بعد نزوله فغضّ صوته أمام الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، بل خاصّ بمن كانوا يغضّون الصوت

ص: 296


1- الممتحنة (60): 10.

عنده تلقائياً ممّا يدلّ على أنّهم كانوا يعرفون مقام الرسالة وقدرها عند الله، فهم بطبيعتهم كانوا يخضعون للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ويتواضعون ويتهيّبون جلالة قدره، فيغضّون أصواتهم من دون أن يكون هناك أمر وطلب وتنبيه، فأراد الله تعالى أن يبيّن السبب في تنبّه هؤلاء قبل نزول الأمر وهو أنّهم ممّن تكرّر امتحان قلوبهم للتقوى في مجالات كثيرة، فتدرّبت نفوسهم عليه وتذلّلت. وعليه فلا حاجة إلى تأويل.

وفي تغيير التعبير من النبي في الآية السابقة إلى رسول الله إشارة إلى أن تعظيمه وإكرامه إنّما هو من أجل كونه رسول الله، وتوقيره وتعظيمه توقير وتعظيم له تعالى: كما أنّ هتكه وقلّة الأدب لديه يعدّ قلّة أدب لدى الله تعالى شأنه.

«إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» قيل: إن شأن نزول الآية أنّ قوماً من العرب أتوا إلى المدينة فأخذوا حسب عادتهم في تعاملهم مع الآخرين ينادون الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم من وراء الجدار: يا محمّد اخرج إلينا. والحجرات جمع حجرة من الحَجْر ، أي المنع يطلق على المكان المحجور ببناء أو نحوه، ويقال : إنّ حجراته صلّی الله علیه و آله و سلّم كانت من جريد النخل عليها من الخارج مسوح من الشعر الأسود: وكانت حجراته تسع بعدد نسائه وبقيت إلى عهد بني اُمية، فادخلوها في المسجد وليس القصد توسعة المسجد، بل إبادة آثار الرسالة لئلا يقيس الناس بينها وبين قصور من يدّعون خلافته.

وقيل في قوله تعالى: «اكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» إنّه بمعنى كلّهم، ولعلّهم إنّما أوّلوا ذلك لأنّهم كلّهم لا يعقلون. ولكن من المحتمل أن يكون التعبير بلحاظ أنّ

ص: 297

بعضهم كان يتعمّد ذلك هتكاً أو إيذاءاً فلم يكن ذلك لغبائه أو جفائه، ويحتمل أن يكون ذلك من أدب القرآن الكريم لاحتمال كون بعضهم مكرهين أو غافلين. ولا تظنّنّ أنّ كلّهم ترك هذه العادة السيّئة وإن وضع القوم في ذلك الأحاديث حتّى قيل: إنّ بعضهم كان إذا تكلّم بعد ذلك في محضر رسول صلّی الله علیه و آله و سلّم لم یسمع كلامه فيستفهم، وقيل: إنّ قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ» نزلت في الشیخین.

ولمعرفة ما آل إليه الوضع بعد ذلك ننقل الحديث التالي عن صحيح مسلم حرفياً والقصّة وقعت في آخر أيّام حياة الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: «وحَدَّتِنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْد أَخْبَرَنَا وقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ الله بْن عَبْدِ الله بن عُتْبَةَ، عَنْ ابْن عَبَّاس لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتاباً لا تَضِلُّونَ بَعْدَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمْ الْقُرْآنُ، حَسْنَا كِتَابُ الله، فَاخْتَلَفَ أهْلُ الْبَيْتِ فَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَرَّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كِتَاباً لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ؛ فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالاخْتِلافِ عِنْدَ رَسُولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُومُوا». قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسِ يَقُولُ: إِنَّ الرزيَّةَ كلّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ أَن يَكتب لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنْ اخْتِلافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ».(1)

ص: 298


1- صحيح مسلم 5: 75، كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء یوصي فيه.

قوله: «لمّا حُضِر»، أي حضرته الوفاة صلّی الله علیه و آله و سلّم. واللغط: صوت وضجّة لا يفهم معناه. ويظهر من الحديث بوضوح أنّ هؤلاء عِلْيَة الأصحاب وبطانة رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم ولم يكن لغطهم وصياحهم واختلافهم عن عادة سيّئة فحسب، بل أنّ بعضهم قصد بذلك إيذاء الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وقد بلغ من تأذّيه - وهو على فراش الموت - أن أخرجهم من بيته ولم يكن ذلك من خلقه الكريم.

«وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً هُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ليس المراد بقوله: «خَيْراً» التفضيل، بل المراد أنّه هو الخير فحسب، إذ أنّ ما فعلوه لم يكن فيه شيء من الخير، بل هو شرّ كلّه. والتعقيب بالمغفرة والرحمة من غاية لطفه

تعالى وعنايته بعباده المقصّرين في حقّه وحقّ رسوله صلّی الله علیه و آله و سلّم.

ص: 299

سوره الحجرات (6- 8)

«یَأیُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَندِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمّي لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَنَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أَوْلَتَبِكَ هُمُ الرَّشِدُونَ (7) فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَةٍ فَتَبَيَّنُوا»، الآية على ما ذكره المفسّرون ووردت به روايات الخاصّة والعامّة نزلت في شأن الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان لأمّه وكان من حديثه - على ما قالوا - أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم بعثه إلى قوم لأخذ الزكاة منهم، فرجع إليه وادعى أنّهم منعوه الزكاة وأرادوا قتله واختلفوا في سرد القضية بما لا يؤثّر في أصلها، قالوا: فأراد الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم غزوهم وأنّه بعث إليهم خالد بن الوليد فتبيّن كذب الوليد فنزلت الآية. كذا في بعض الروايات وهي كثيرة ومختلفة.

وفي بعضها أنّ الحارث بن ضرار الخزاعي آمن على يد الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم فجعل له موعداً يبعث إليه رسولاً لأخذ الزكاة منه ومن قومه، فبعث إليه الوليد فرجع مع اتهامه لهم من دون أن يصل إليهم أو وصل إليهم وخافهم على نفسه أو لغرض، في قلبه، فلمّا رأى الحارث تأخّر المبعوث ظنّ أنّه لسخط من الله ورسوله صلّی الله علیه و آله و سلّم، فأتى مع كبراء قومه إلى المدينة ليستعلم الحال، فسأله الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم عمّا أخبر به الوليد، فأنكر ذلك وبيّن حقيقة الحال، فنزلت الآية، ويبدو أنّ هذا هو الصحيح فلم يبعث الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم أحداً لغزوهم وليس من شأنه أن يستعجل في مثل ذلك،

ص: 300

ويشهد له أنّ الآية إنّما نزلت لتنبيه المؤمنين على عدم جواز الاعتماد على خبر الفاسق وليس فيه خطاب للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وإلا لقال: «يا أيها النبي...»، إذ هو المناسب لو كان هو الذي قصد الغزو، وفي الآية التالية شاهد واضح على ذلك.

وفي الآية تصريح بفسق الوليد، ومع ذلك فإنّ عثمان ولاه الكوفة بعد عزل سعد بن أبي وقاص، فصلّى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعاً، ثمّ قال: هل أزيدكم؟ فعزله عثمان عنهم بعد هذه الفضيحة، ولم يجر عليه الحدّ إلى أن ثار الناس وشكوا أمره إلى عائشة واعترضت عليه اعتراضاً شديداً، وكذا بعض الصحابة. ويبدو من الروايات أنّه شهد عليه رجلان أحدهما شهد على شربه والآخر على تقيئه، ولمّا كثر الاعتراض اضطرّ عثمان إلى تحكيم أمير المؤمنين علیه السّلام ولعلّه توقّع أن يردأ عنه الحدّ لاختلاف الشهادة. فقبل علیه السّلام الشهادة وقال: لم يتقيأه إلا وقد شربه وأجرى عليه الحدّ، ولذلك كان يسبّ أمير المؤمنين علیه السّلام طول حياته حيث كان قاتل أبيه أيضاً.

وفي الآية أيضاً ردّ واضح على من ادعى عدالة جميع الصحابة، حيث صرّح بفسق الوليد وهو منهم، مع أنّه لا يحتاج إلى دليل بعد ثبوت جرائم بعضهم التي يصغر عندها شرب الخمر، كالخروج على الإمام وقتل النفس المحترمة. والفسق في الأصل بمعنى الخروج عن الشيء، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها، واُطلق في القرآن على من خرج عن طاعة ربّه، وقيل: إنّه لم يسبق في كلام العرب إطلاق الفاسق على إنسان.

والنبأ: الخبر. وقيل: خصوص الخبر المهمّ الذي له شأن.

ويعلم من تنكير الفاسق والنبأ عموم الحكم لكلّ فاسق وكلّ نبأ، أو لكلّ نبأ

ص: 301

وإن لم يكن المخبر فاسقاً بناءاً على ما سيأتي من عدم دخالة الفسق في الحكم لئلا يتوهّم اختصاص الحكم بمورد النزول أو بمشابهاتها.

والتبيّن، من البين بمعنى الفصل والفراق، ويستعمل في الوضوح والإيضاح، لأنّه بذلك ينفصل الحقّ عن الباطل ويستعمل لازماً ومتعدياً، فإذا قلت تبيّن الأمر أي اتّضح، وإذا قلت تبيّنتُ الأمر، أي بحثت عن الحقّ فيه حتّى اتضح لي، ومورد الاستعمال هنا هو الثاني، فالمعنى: إن جاءكم فاسق خارج عن الدين أو عن طاعة ربّه بخبر هامّ فتريّثوا ولا تستعجلوا في قبوله، بل تبيّنوا الأمر حتّى يتبيّن لكم الحقّ من الباطل.

واستدلّ بالآية على قبول خبر العادل وحجّيته، وفي ذلك بحث طويل في كتب الاُصول، والصحيح عدم الدلالة، وأنّ الظاهر من الآية عدم العناية بكونه فاسقاً، بل مصبّ الاهتمام فيها هو لزوم التثبّت وعدم الاستعجال في قبول الخبر المهمّ وترتيب الآثار عليه، خصوصاً مثل هذا الأثر وهو الغزو والقتال حتّى لو كان المخبر عادلاً، بل عادلين ، فليست الآية في مقام بيان ما هو الحجّة من الأخبار ، بل في مقام المنع من الاستعجال في الحكم. ووصف «الفاسق» على ما يبدو ليس له دخل في الحكم، وإنّما أتى به للتنديد بالمخبر الذي لا يهمّه ما يترتّب على خبره من المفاسد، بل يتبع في ذلك هواه على ما ذكروه من وجود عداوة بينه وبين القوم.

والصحيح في باب حجّية الخبر هو حجّية ما يوجب الوثوق الشخصي فلا يجوز لأحد الاعتماد في ترتيب الآثار الشرعية وقبول الأحكام على خبر لا يثق بصدقه وإن رواه العدول، فضلاً عن الثقاة، نعم يعمل بشهادة العدلين في

ص: 302

تشخيص بعض الموضوعات وهذا أمر آخر.

وأمّا ما قيل من أنّ بناء العقلاء على حجّية خبر الثقة وهو من يوثق بنقله عادة فضلاً عن العادل، وأنّ اُمور الناس في حياتهم الاجتماعية لا تدور إلا على ذلك فمردود بأنّه دعوى لا يدعمها الاستقراء، والناس عادة في اُمورهم المهمّة لا يعتمدون على خبر الثقة ولا العادل إلا إذا اقترن بما يؤكّد صدقه.

نعم ربما يعتمدون على خبر الفاسق وغير الثقة أيضاً في مقام الاحتياط والتأكد، فإذا جاء لأحدهم خبر عن خيانة وكيله مثلاً حتّى لو لم يكن مؤكّداً وموجباً للوثوق، بل حتّى لو كان من فاسق، فإنّه ربما يهتمّ به فيعزله إن لم يترتّب على عزله ضرر، وليس هذا معنى حجّية الخبر، بل هذا للاحتياط في الاُمور المهمّة وهو مورد تأكيد الآية، ولذلك استدلّ بعضهم بها على أنّ الفاسق أهل للشهادة وإلا لم يكن وجه للأمر بالتبيّن، بل كان المفروض أن يرفض من أساسه، فالآية تدلّ على لزوم الاهتمام بخبر الفاسق إن كان مورده خبراً مهمّاً ولكن لا يعتمد عليه.

واستدلّ بعضهم على حجّية خبر الثقة بأنّ الاعتماد على ذلك أساس التاريخ وأنّه لو حذفنا خبر الثقة لبطل كثير من التراث العلمي والمعارف المتعلّقة بالمجتمعات القديمة، بل المعاصرة أيضاً بل تتوقّف عجلة الحياة!!!

أمّا التراث العلمي فهو كلام العلماء بأنفسهم وآراؤهم التي ذكروها في كتبهم وليس خبراً عنهم. نعم، يمكن أن يعتبر الكتاب كلّه خبراً عن مؤلفه إلا أنّه إذا لم تتوفّر القرائن المفيدة للعلم أو الوثوق باستناد الكتاب إلى مؤلفه، فإنّ القول لا يمكن اسناده إليه، ولكنّه لا يوجب حذف القول عن قائمة التراث العلمي فهو قول عالم مجهول الهوية.

ص: 303

وإن أريد بالتراث العلمي التاريخ، فما أكذبه وما أظلمه قديماً وحديثاً وها نحن نجد في عصرنا مع توفّر وسائل الإعلام وسرعة نقل المعلومات كثرة الأكاذيب والتفاسير الخاطئة المترتّبة عليها، فكيف بالتاريخ القديم؟! ونحن لا نعتمد على ما يرويه المؤرّخون إلا ما توفّرت فيه قرائن الصدق أو كان ممّا يحتجّ به على الخصماء لكونه مأخوذاً من منابعهم. ومن هنا فإنّ التاريخ بحاجة إلى تحديث وإلى تمحيص. ومن المؤسّف أن المؤرّخين الجدد خصوصاً في الكتب الدراسية التي تملأ بها أوعية الجيل الناشئ يتعمدون الكذب وتحريف التاريخ، فيا حبّذا لو كانوا يكتفون بما كذب أسلافهم.

«أنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ»؛ أي مخافة أو كراهة أن تصيبوا قوماً وهو مفعول لأجله، أي يجب التبيّن حتّى لا تقعوا في هذا المحذور وهو غزو المؤمنين.

والجهالة بمعنى السفاهة والطيش والعمل من دون روية وحكمة. وليس المراد الجهل بمعنى عدم العلم؛ إذ ليس كلّ تعامل مع الآخرين من دون علم موجباً للندامة، كما لو كان العمل موافقاً للاحتياط والحكمة.

والباء تفيد الحال، أي تصيبوهم حال كونكم جاهلين، أو للسببية، أي بسبب جهالتكم وسفهكم. وتصبحوا بمعنى تصيروا. والندم هو الغمّ، على ما فعله الإنسان غمّاً شديداً مستمراً. والمعنى واضح.

واستدلّ بهذا التعليل على عدم حجّية الخبر مطلقاً ما لم يوجب العلم أو الوثوق؛ لأنّ التعليل يعمّم ويخصّص فصدر الآية وإن كان خاصّاً بالفاسق إلا أنّ التعليل يقتضي التعميم، فالنتيجة أنّه لا يجوز الاعتماد على الخبر مطلقاً حتّى لو كان المخبر عادلاً. والصحيح أنّها لو دلّت على ذلك فإنّما تدلّ على عدم الحجّية

ص: 304

في خصوص ما يترتّب عليه مثل هذا الأثر، ويحتمل فيه تعقّب الندامة، ولكنّ الكلام في أصل حجيّة الخبر، إذ لا موجب للحكم بحجّيته ما لم يوجب وثوقاً وعلماً.

«وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله» تعبير ينبئ عن لزوم الحذر والحيطة والقوم كانوا يعلمون أنه صلّی الله علیه و آله و سلّم رسول الله ويشهدون به، ومع ذلك فقد يغفل الإنسان عن بعض الحقائق التي تحيط به وهو يشعر بها ليلاً ونهاراً. ولذلك لم يقل: «واعلموا أنّه رسول الله» بل قال: «أنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ»، فالحقيقة التي يغفل الإنسان عنها هي هذه النعمة الجليلة التي لا تقدّر بثمن وهي أعظم النعم على الإطلاق، خصّ الله تعالى ذلك القوم بها وهي أنّ رسول الله بين أظهرهم، فيا لها من سعادة!!

والحاصل أنّ الآية تنبّه المؤمنين على عظمة النعمة التي أنعم الله عليهم بها من جهة، وعلى خطر المسؤولية تجاه هذه النعمة من جهة أخرى.

ولعلّ كلّ ما تقدّم من لزوم عدم التقدّم على الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم في الحكم والعمل في مجال التشريع الأساسي أو الحكومي، ولزوم المتابعة والتعبّد المحض بأوامره صلّی الله علیه و آله و سلّم، كما هو الحال في أوامر الله تعالى، وما تقدّم من لزوم رعاية الأدب عند الحضور لديها صلّی الله علیه و آله و سلّم بالسكوت وخفض الصوت، كلّ ذلك كان مقدمة للتنبيه على هذا الأمر المهمّ، فيثير فيهم بهذه الآية تنّبهاً وحيطة أكثر، فإنّ الذي بين أظهرهم ليس بشراً كسائر الناس ولا زعيماً سياسياً ولا قائداً عسكرياً، بل هو رسول الله، وهذا مقام لا يصل إليه بشر إلا بعناية خاصّة. وقد مرّ في تفسير قوله تعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ»(1) أنّ جمعاً من المفسّرين اعتبر الصفات

ص: 305


1- الفتح (48): 29.

المذكورة صفات للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم والذين معه جميعاً، حيث شقّ عليهم أن يعتبروها خاصّة بمن معه ونسوا أنّ توصيفه بالرسالة يغنيه عن كلّ توصيف.

كما أنّ قوله تعالى: «قُلْ إنّما أنا بشر مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ»(1) ليس في مقام تنزيل مقام الرسالة إلى مستوى البشر العادي كما يتوهّم، بل هو بيان للفارق الكبير بين الرسول وبين الناس فارق فاصل كالذي بين السماء والأرض وهو الوحي، فإنّ غاية ما يمكن أن يصل إليه الإنسان هو أن يكلّمه الله تعالى أو يوحي إليه فهو فوق الغاية التي من أجلها خلق البشر وهو ارتباط العبد بالله تعالى أي العبادة. وهناك فاصل كبير بين أن يرتبط العبد بربّه وبين أن يرتبط الله تعالى بعبده. وأين هذا من ذاك مهما خلصت العبادة وجلّ محتواها ؟!

ولذلك نحن نعتقد أن خلافة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ليست كخلافة الملوك وما يسمّى ولاية العهد، وأنّ الذي ينتقل إلى خليفة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ليس الحكومة كما يتوهّم، بل هو مقام ربّاني ومنصب إلهي لا يكون إلا للمعصوم، فتفترض طاعته من الله تعالى، كما فرضت طاعة الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم ولذلك أيضاً نقول: إنّ أولي الأمر في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأولي الأمر مِنكُمْ»(2) ليس بمعنى كلّ من تولّى أمور الناس بأيِّ سبب كان كما يقولون، بل حتّى لو كان باختيار أهل الحلّ والعقد أو اختيار كلّ المسلمين بل المراد بهم من جعلهم الله تعالى أولياء لأمور المسلمين. ونعتقد أنّ الآية الكريمة تدلّ على أن أولي الأمر يجب أن يكونوا معصومين وإلا لم يصحّ الأمر المطلق بالإطاعة، وأنّ المراد بهم

ص: 306


1- الكهف (18): 110.
2- النساء (4): 59.

خصوص الأئمة الطاهرين الإثني عشر الذين أخبر بهم الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم في روايات كثيرة بعضها متّفق عليها بين الفريقين وهي التي تذكر العدد فقط.

وعلى كلّ حال، فمن الخطأ الفادح الذي ابتليت به الأمّة أن يعتبر الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم مجرّد حاكم نصبه الله تعالى للحكومة فيخلفه كلّ حاكم، إنّما الفرق أنّ الحاكم بعده يختاره الناس، بل ذهب بعض الكّتاب الجدد وعشّاق

الديموقراطية إلى أنّ شرعية حكومة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم كانت ببيعة الناس أيضاً!!!

«لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمر لَعَنِتُمْ» هذا تفريع على الجملة السابقة ويبدو من الآية أنّ جمعاً من المؤمنين كانوا يطالبون الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم بترتيب الأثر على نبأ الفاسق ومعاقبة بني المصطلق، فنهاهم الله تعالى أوّلاً عن متابعة خبر الفاسق من دون تثبّت عن الأمر، ثمّ بيّن لهم أنّه لا يجوز لهم أن يتوقّعوا من الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم أن يطيعهم في كلّ ما يطلبون، فإنّه لو أطاعهم في كثير منها لوقعوا في مشقّة وضيق.

والعنت المشقّة. والإتيان بالفعل المضارع للدلالة على الاستمرار، أي لا تتوقّعوا ذلك في المستقبل أبداً. والتعبير بالإطاعة للإشارة إلى قبح ما يتوقّعون فإنّ المفروض أنّه هو القائد المطاع فلا ينبغي أن يكون مطيعاً وهو المؤيّد من عند الله تعالى ولا يحتاج إلى اقتراحكم ورأيكم ومشورتكم، والغرض تنبيههم على أنّ توقّعكم يعود إلى توقّع الإطاعة منه.

وإنّما قيّده بالكثرة، لأنّ بعض ما يطالبون به صحيح وفي موضعه، وهذا من أدب القرآن كما قلنا مراراً. والآية تدلّ على ما مرّ في تفسير الآية السابقة من أنّ الخطاب إنّما هو للمؤمنين وليس للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم.

ويبدو من الآية الكريمة أنّ التوقّع العامّ فيهم كان هو تقبّل الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم منهم

ص: 307

ما يرونه مناسباً، ولعلّ السبب في هذا التوقّع والانتظار هو اللين واللطف في خلقه الكريم صلّی الله علیه و آله و سلّم، كما قال تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ هُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله»؛(1) مضافاً إلى ما ورد من الأمر بالمشاورة معهم في الآية إلا أنّه لم يكن مأموراً بالقبول، ولذلك عقّب الأمر بالمشاورة بقوله تعالى: «فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله».

وربما استدلّ بعض الناس بالآية الكريمة على اعتبار رأي العامّة للأمر بالتشاور معهم، ولكنّ الصحيح أنّ المشاورة لم يؤمر بها الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم كمنهج عملي، بل لخفض الجناح للمؤمنين واحترامهم وتطييب نفوسهم، ولذلك ورد الأمر بالمشاورة بعد الأمر بالعفو والاستغفار لهم.

والحاصل أنّ الرسول الأكرم صلّی الله علیه و آله و سلّم الخلقه العظيم ولأمر من الله تعالى كان يشاور المؤمنين، فلعلّه تسبّب في خلق جوّ من التوقّع الباطل وهو لزوم العمل وفقاً لآرائهم، فنبّههم الله تعالى بهذه الآية على خطئهم.

«وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَره إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ». الكلام هنا في وجه هذا الاستدراك وأنّه استدراك من أيّ مضمون ممّا سبق؛ والغالب في التفاسير أنّ المخاطب في هذه الجملة مجموعة اُخرى من المؤمنين، فالمعنى أنّه ليس توقّع الإطاعة صفة الكلّ، بل إنّ منكم من حبّب الله إليه الإيمان وهو بعيد عن سياق الآية، بل ظاهرها أنّ الخطاب في الموردين للجماعة وليس معناه بالطبع توجيهه لكلّ فرد بل الخطاب موجّه إلى المجموعة،

ص: 308


1- آل عمران (3): 159.

ففي المورد الأوّل، أي قوله تعالى: «لَوْ يُطِيعُكُمْ» كان التوقّع المذكور حالة عامّة في المجتمع المسلم؛ وأمّا في المورد الثاني أي التحبيب والتكريه فالظاهر أنّهما أيضاً من الشؤون العامّة فيهم على اختلاف مراتبهم في الإيمان.

والذي يخطر بالبال أنّه استدراك عن التنديد بتوقّعهم إطاعة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم لهم ومعنى هذه الجملة: ولكنّكم لا تتوقعون ذلك، لأنّه ينافي الإيمان، بل يناسب الكفر والفسوق والعصيان، وحيث حبّب الله تعالى إليكم الإيمان، فأنتم لا تتوقّعون ذلك، مع أنّهم كانوا يتوقّعون، فهو نظير الجملة الخبرية التي يراد بها الطلب فتقول - مثلاً - : «تفعل كذا» تريد أن تقول: «افعل كذا»، ولكنّك تخبر أنّه سيفعله قطعاً تأكيداً على وجوبه، كأنّك واثق منه أنّه لا يتركه، فالآية أيضاً تريد أن تنهاهم عن هذا التوقع المشين فتنّبههم بهذه الطريقة اللطيفة.

وفي الآية الكريمة إشارة إلى التوفيق الإلهي ولطفه الموجب لانجذاب المجتمع نحو الإيمان. والواقع أنّ الذي حصل من الانجذاب في ذلك المجتمع البدوي الجاهل والغارق في الفساد الأخلاقي والاجتماعي كان في حدّ ذاته معجزة، والآية تنبّه على سرّ هذا الإعجاز وهو أنّ الله تعالى حبّب إليهم الإيمان بالله تعالى وبرسوله صلّی الله علیه و آله و سلّم وزيّنه في قلوبهم، والإنسان منجذب بالفطرة نحو الزينة والجمال، بل كرّه إليهم ما كان مستقرّاً في قلوبهم وورثوه من آبائهم من الكفر والفسوق والعصيان.

والكفر، هو تغطية النعم بالجحود. والفسوق: الخروج عن الطاعة. والعصيان: التأبي، يقال عِرقٌ ،عاصٍ، أي يأبى التوقّف من نزف الدم. والظاهر أنّ المراد بالفسوق والعصيان أمر واحد يعبّر عنه تارة بالفسوق؛ لأنّه خروج عن طاعة الربّ،

ص: 309

وتارة بالعصيان؛ لأنّه امتناع عن الطاعة والانقياد، ويمكن أن يكون الفسوق أشدّ، فيختصّ بالمعاصي الكبيرة والإصرار على المعصية والبعد فيها، والعصيان يشمل كلّ مخالفة.

والآية تدلّ على أنّ الله تعالى لا يجبر الإنسان على الإيمان أو الكفر، وإنّما يحبّب إليه الإيمان ويكرّه إليه الكفر والفسوق فهو يتبع ما تميل إليه نفسه. والتحبيب والتكريه قد يكونان بتأثير غيبي من دون استناد إلى العوامل الطبيعية، بحيث يلقي الله تعالى في قلب العبد حبّ الإيمان والتقوى وكراهة الكفر والنفاق، وقد يتحقّقان بإيجاد الدواعي النفسية بصورة طبيعية من دون أن يكون هناك تأثير غيبي مباشر، فمثلاً إذا أراد الله تعالى بعبد خيراً لسبب أوجب استحقاقه، فربما يوفّقه بلطف وبطريقة خفية للعيش في مجتمع يحبّب إليه الإيمان ويبعدّه عن الكفر، كما يمكن أن يضلّه لاستحقاقه بالعناد، فيمهّد له الطريق ليعيش في مجتمع يجرّه إلى الكفر والفسوق والعصيان. ونحن نجد كثيراً من الناس اهتدوا إلى الطريق الصحيح بعد أن كانوا ضالّين، لأسباب طارئة خارجة عن اختيارهم ألزمتهم البقاء في ظروف جرّتهم إلى الهداية من حيث لا یشعرون، فكأنّهم كانوا على موعد ولم يكونوا كذلك، كما نجد بالعكس اُناساً كانوا على الصراط السوي فتغيّرت وجهة معايشهم واضطرّوا إلى السكنى في مجتمع سلبهم الإيمان أو جرّهم إلى الفساد والانحلال، وكأنّهم أيضاً كانوا على موعد ، والله لطيف لما يشاء.

ويوضّح ذلك قوله تعالى: «فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشرِحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا

ص: 310

يُؤْمِنُونَ»(1) وذيل هذه الآية يدفع إشكالاً يختلج في الأذهان وهو أنّه تعالى لماذا يفرق بين عباده فيهدي بعضاً ولو بالتوفيق لا الإجبار، ويضلّ بعضاً ولو بسلب التوفيق لا الإجبار أيضاً؟! أليسوا كلّهم عباده؟! وخصوصاً في مورد الإضلال، إذ الهداية وشرح الصدر نعمة يخصّ الله بها بعض عباده لحكمة، ولكنّ الإضلال وجعل الصدر ضيّقاً حرجاً ربما يعتبر ظلماً ينزه الله تعالى عنه.

والجواب أنّه تعالى لا يجعل الرجس إلا على الذين لا يؤمنون، والمراد به أنّه تتمّ لهم رؤية الحقّ ومعرفته، فلا يؤمنون به فيسلبون التوفيق كما قال تعالى «وَنُقَلِّبُ أفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ»(2) والسبب في ذلك أنّهم لا يمنعهم شيء من الإيمان إلا معاندة الحقّ. والعناد ينشأ إمّا من الكبر والغرور والعصبية الجاهلية، وإمّا من الحسد، كما كان في كثير من صناديد قريش بالنسبة إلى الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم.

«أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ»؛ الرشد خلاف الغي بمعنى الاهتداء وإصابة الطريق الصحيح، والإشارة إلى الذين حبّب الله تعالى إليهم الإيمان وكرّه إليهم الكفر والفسوق، فهم الذين اهتدوا إلى الحقّ وإلى الطريق المستقيم. ولعلّ تغيير التعبير عن الخطاب إلى الغيبة للتنبيه على أنّ الأمر لا يخصّ المخاطبين، فكلّ من حبّب الله إليه الإيمان فاختاره فهو راشد، كما أنّه لا يعمّ جميع المخاطبين، بل يخصّ من حبّب الله إليه الإيمان بالفعل ومن المخاطبين من لم يكن كذلك، كالمنافقين والذين في قلوبهم مرض.

ص: 311


1- الأنعام (6): 125.
2- الأنعام (6): 110.

«فَضْلاً مِنَ الله وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»، كلّ من «فَضْلاً» و «نِعْمَةً» مفعول لأجله والعامل فيهما «حَبَّبَ» و «كَرَّة»، أي أنّ هذا التحبيب والتكريه كان لفضل منه تعالى عليكم وللإنعام عليكم، وهما شيء واحد يعبّر عنه بالفضل؛ لأنّ كلّ ما أنعم الله تعالى به فهو فضل منه تعالى، وليس في مقابل حقّ لأحد عليه ولا لتوقّع شيء من أحد، ولا هو واجب عليه تعالى بموجب عقد وإنّما يؤتيه الله تعالى فضلاً، والفضل هو الزيادة، ويعبّر عنه أيضاً بالنعمة؛ لأنّ الهداية أعظم نعمة من الله تعالى، والنعمة كلّ ما ينعم به الإنسان، أي يعيش معه في نعومة ورخاء، وقد قال تعالى: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً» والله عليم بمن يستحقّ الإفضال والإنعام، وحكيم لا ينعم بالهداية إلا على من يستحقّها.

ص: 312

سوره حجرات (9- 10)

وَإِن طَابِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَتْهُمَا عَلَى الأخرى فَقَتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)

«وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما»؛ حكم عامّ يحدّد وظيفة المجتمع الإسلامي فيما إذا وقع اختلاف بين بعض الطوائف من المسلمين ممّا يمكن أن تؤدّي إلى الاقتتال، ولا يختصّ بزمان ومكان. والاقتتال والتقاتل بمعنى واحد وهو ظاهر في الحرب ومحاولة كلّ طائفة قتل الاُخرى، وقيل بتعميم الحكم لكلّ اختلاف، وهو بعيد عن لفظ الآية، نعم يمكن أن يقال بأنّ المراد إرادة الاقتتال أو كونهما في معرضه، فيشمل كلّ اختلاف شديد يحتمل فيه الانجرار إلى المقاتلة.

والإتيان بضمير الجمع بدلاً عن التثنية بلحاظ أنّ المرجع جمع من جهة المعنى، فإنّ الطائفتين مجموعتان من الناس، ولعلّ اعتبارهم جمعاً حين القتال من جهة أنّه لا يكون إلا مع الاجتماع.

والمراد بالإصلاح إصلاح الشأن بينهما، فإن كان النزاع لسوء تفاهم فالإصلاح يتمّ بتبيين الحقّ، وإن كان لمجرّد تبادل كلام مشين بينهما فالإصلاح يتمّ بالعفو والإغماض، وإن كان لإعتداء من بعضهم على حقّ من حقوق الجانب الآخر فالاصلاح لا يتمّ إلا بإعادة الحقّ إلى صاحبه. وليس المراد بالآية إلزام المظلوم بقبول الظلم وتنازله عن حقّه مطلقاً، لأنّه ظلم وليس إصلاحاً بالعدل،

ص: 313

كما ورد في الآية. ولكنّ الظاهر أنّ الفرض الأخير خارج عن هذه الجملة و داخل في الجملة التالية.

«فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله»؛ البغي في الأصل مطلق الطلب ويستعمل كثيراً في طلب الإنسان ما ليس له. والفيء هو الرجوع. والمراد بأمر الله حكمه في القضية. وقيل: المراد بالبغي رفض الصلح، والمراد بأمر الله الصلح. ولا يصحّ ذلك على إطلاقه، فإنّه يقتضي أن يكون المطلوب من المتقاتلين قبول الصلح مهما كان، فإن طالب أحدهما بحقّه ورفض الصلح من دونه فهو باغ. وهذا ظلم لا يمكن أن يكون هو المقصود، كما تبيّن آنفاً. فالمراد بالبغي هنا طلب ما ليس له ظلماً وعدواناً، سواء كان هو الأمر الذي تسبّب للنزاع أو غيره، ولذلك أتى بالفعل المضارع الدالّ على الاستمرار.

والوارد في التفاسير أنّ مورد هذه الجملة هو نفس المورد الأوّل بمعنى أنّ الطائفتين إذا اقتتلا ورفض أحدهما الصلح أو بغى على الأخرى بعد الصلح، فهي التي تقاتَل إلى أن يقبل بالصلح، ولكنّ الظاهر أنّ مورد هذه الجملة غير الاُولى، فمورد الإصلاح ما لم يكن هناك بغي واعتداء، كما إذا كان الاختلاف لسوء تفاهم أو خطأ من بعضهم، وأمّا إذا كانت إحدى الطائفتين معتدية على الاُخرى فالواجب أوّلاً هو رفع الظلم وإعادة الحقّ إلى أهله، فالأمر بالقتال ليس على إطلاقه، بل يجب القتال إلى أن يتحقّق الرجوع إلى أمر الله، أي التسليم لحكم الشرع فالمطلوب أوّلاً هو الانصياع لحكم الله تعالى، فإن رفضت الفئة الباغية تحارَب إلى أن تنصاع وتطيع ، ثمّ يكون الإصلاح بعد ذلك.

وهناك فرق آخر بين الموردين، وهو أنّ الأمر بالإصلاح متوجّه إلى الجميع

ص: 314

على نحو الكفاية، فيجب أن يقوم به كلّ من يعلم بالأمر ويستطيع الإصلاح والظاهر أنّ هذا الحكم لا يختص بنزاع الطائفتين، بل يشمل كلّ اختلاف و نزاع خطير ولو بين فردين، وإذا قام بالواجب أحد أو مجموعة سقط التكليف عن الآخرين، كما هو الشأن في كلّ واجب كفائي. وأمّا الأمر بالقتال في هذا الأمر فلا يمكن أن يوجّه إلى عامّة المؤمنين، فإنّه يستلزم الفوضى واتساع رقعة الفساد، بل المأمور به هو الإمام كالأمر بإجراء الحدود.

«فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ»، وهذه الجملة تبيّن بوضوح أنّ المراد بالإصلاح ليس على إطلاقه، بل المراد الإصلاح على أساس العدل وتطبيق الحقّ وإرجاع حق كلّ أحد إليه.

والقسط - بالكسر - هو السهم والنصيب و - بالفتح - هو الجور، والقاسط الذي يأخذ نصيب الآخرين ويجور، قال تعالى: «وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لجَهَنَّمَ حَطَبَاً»(1) والمُقسط: العادل كأنّ باب الإفعال يفيد رفع القَسط، أي الجور. والجملة الأخيرة تبيّن أنّ الهدف في هذه العملية يجب أن يكون هو التقرّب إلى الله تعالى بالعمل بما يحبّه وهو يحبّ المقسطين الذين يجهدون لإيصال الحقّ إلى أهله.

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ»؛ الآية في مقام التعليل للحكم السابق والحثّ عليه فتُبيّن أنّ العلاقة بين المؤمنين من أوثق العلاقات وهي علاقة الأخوة وهذه اُخوة اعتبارية، كما قال العلامة في «الميزان»: وليس تشبيهاً وتمثيلاً، كما ذكره بعضهم، فهناك اُخوة حقيقية تنشأ من الاشتراك في النسب وهناك اُخوة

ص: 315


1- الجنّ (72): 15.

اعتبارية يعتبرها المشرّع ، ليرتّب عليها أحكاماً خاصّة، وليس معنى ذلك ترتّب كلّ أحكام الاُخوة الحقيقية التي منها الميراث وصلة الرحم، بل المراد لزوم المحافظة على أواصر الودّ والسلام بوجه عامّ.(1)

وقد وردت في الروايات حقوق للاُخوة في الإيمان بعضها واجب وبعضها مستحب، فمن الحقوق الواجبة ردّ السلام وعدم الاغتياب، بل ربما يقال بوجوب الدفاع عنه إذا اغتيب والنصيحة إذا استنصحه، بل مطلقاً، وعدم الانتقاص والنيل منه، واحترامه وعدم الاستهانة به، وتجهيزه إذا مات فهو واجب كفائي، وهذا لا يجب للكافر. ومن الحقوق المستحبّة أن يسلم عليه ويغفر زلّته ويعوده في مرضه ويشهد ميّته ويجيب دعوته ويقبل هديّته ويقضي حاجته، وغير ذلك ممّا ورد في

الروايات.

واللطيف في تعبير الآية أنّه يحثّ المؤمنين على إصلاح ذات البين باعتبار أنّ كليهما أخ لكم، ومن الطبيعي أنّ الإنسان حريص على الإصلاح بين أخويه، لأنّ كلّ ضرر يمسّهما يعدّ ضرراً له.

«وَاتَّقُوا اللهَ لعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»، لعلّ الأمر بالتقوى في هذا الموضع للتأكيد على أنّ الإصلاح يجب أن يكون مع مراعاة أحكام الله تعالى والمحافظة على حقوق المتنازعين، ولعلّه إشارة إلى أنّ محاولة الإصلاح بينهما بنفسه من شؤون التقوى.

وهنا أيضاً يؤكّد على أنّ الهدف الأسمى يجب أن يكون هو التقرّب إلى الله تعالى ونيل رحمته لا تحقيق أهداف دنيوية فحسب. والتقوى سبب لنزول

ص: 316


1- راجع الميزان في تفسير القرآن 18: 315 - 316.

الرحمة لولا المانع، فيمكنكم أن تتوقّعوا الرحمة إذا اتقيتم، وقلنا مراراً أنّ «لعلّ» و«عسى» ونحوهما تدلّ على أنّ الأمر متوقّع. ويمكن أن يكون المراد ترتّب رحمة الله تعالى على التقوى في امتثال هذا الأمر خاصّة، فإنّ صيانة المجتمع من التفكّك والتباغض سبب لنزول رحمة الله تعالى عليهم، وهو أمر طبيعي كما لا يخفى.

ص: 317

سوره حجرات (11- 13)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نسَاءٍ عَسَى أَن يَكُن خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَنِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَتِبِكَ هُمُ الظَّلِمُونَ (11) یَأَیُّها الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنَ إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَعْضُكُم بَعْضًا أَتُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12) يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْتَكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْتَنكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَلَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ»؛ القوم : هم الرجال يعبّر به عنهم، لأنّهم يقومون بالاُمور الهامّة في المجتمع أو لأنّهم قوّامون على العائلة. والسُخر: الاستهزاء والاحتقار. قال القرطبي: «السخرية الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يضحك منه، وقد تكون بالمحاكاة بالفعل أو القول أو الإشارة أو الإيماء أو الضحك على كلام المسخور منه إذا تخبط فيه أو غلط أو على صنعته أو قبح صورته».(1) والتنكير لإفادة الشمول، أيّ لا يسخر أيّ قوم من أيّ قوم، فهناك تعميم في جهة الساخرين وفي جهة المسخور منهم.

وهنا سؤال يثار غالباً، وهو أنّه لماذا لم يوجه النهي إلى الأفراد ليشمل سخرية الفرد، إذ كثيراً ما لا يسخر القوم من القوم وإنّما يسخر الفرد من الفرد؟ وذكر الزمخشري في الجواب وجهاً حسناً تبعه غيره، وهو أنّ في ذلك إشعاراً بأنّ الفرد غالباً لا يسخر إلا في جمع من الناس وسائر القوم يضحكون معه ولا ينهونه، بل

ص: 318


1- راجع: الجامع لأحكام القرآن 16: 324 - 325؛ روح المعاني 13: 303.

ربما يكرّرون مقاله، فتعود سخرية الفرد عملاً جماعياً، والآية تريد استفظاع ما كانوا عليه من الحال. ولكن يبقى السؤال عن الجمع في المسخور منه، فهذا الوجه لا يفيد جواباً عنه وهو أمر غفل عنه المفسّرون.

والظاهر أنّ هذه الآية كسابقتها تحاول تصحيح الوضع الاجتماعي، فكما أنّ الآية السابقة لم تتعرّض للنزاع الفردي، وإنّما تعرّض لتنازع الفِرَق والطوائف كذلك هذه الآية منعت من سخرية كلّ طائفة من طائفة أخرى واحتقارها، وهذا يختلف قبحاً وتأثيراً عن سخرية الفرد من الفرد أو الجماعة من الفرد، ومنه يتبيّن أنّ موضع الاهتمام في الآية منع الطائفية والتعصّب العرقي والقومي والقبلي، ولعلّ أكثر ما كان شائعاً آنذاك هو التعصّب القومي والقبلي، وهذا أمر خطير يوجب تفكّك المجتمع المجتمع المسلم، وهو في بدء تكوّنه بحاجة ماسّة إلى التعاضد والتكاتف، بل المجتمع بحاجة إلى ذلك دائماً، سواء كان أساس الوحدة فيه الدين أو الوطن، كما يحاول اليوم أن يكون هو الأساس في المجتمعات، ولكن دين الله تعالى يعتبر الإسلام والاعتصام بحبل الله تعالى أساس الوحدة والتماسك، ويقبح جدّاً أن يتفرّق المجتمع الإسلامي لاختلاف الفرق والطوائف والقبائل.

«عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ» جملة مستقلّة وهي جواب عن سؤال مقدّر حول سبب النهي، وهو أنّ كلّ قوم يجب أن لا يفترضوا أنّهم هم القوم المختار عند الله تعالى كما ظنّ اليهود، فليس هناك قوم يختارهم الله تعالى لقوميتهم، كما ورد في الحديث عن رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم : «إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط، لا فضل للعربي على العجمي، ولا للأحمر على الأسود إلا بالتقوى».(1)

ص: 319


1- مستدرك الوسائل 12: 89، باب كراهة الافتخار.

وظاهر الآية أنّه يمكن أن يكون قوم خيراً من قوم. وكلمة «عسى» على ما قلنا مراراً ليست للترجّي، كما ورد في بعض التفاسير، بل لبيان أنّه أمر متوقّع، فيجب على كلّ قوم وطائفة أن يتوقّعوا كون الطائفة الأخرى خيراً منهم. فيعود السؤال عن وجه الخيرية، إذ لا يكون الفضل إلا بالتقوى وهي صفة فردية، والآية هنا تمنع كلّ قوم من احتقار قوم عسى أن يكون القوم الآخر خيراً منهم، فما هو الموجب لكون قوم خيراً من قوم؟

والجواب أنّ الآية الكريمة لم تقل إنّ القوم الآخر أكرم عند الله تعالى، وإنّما أشارت إلى احتمال أن يكون القوم الآخر من جهة المقوّمات التي تعتبر عند الناس مناطاً للفضيلة كالذكاء والجود ونحو ذلك خيراً منهم، فلا بدّ لكلّ قوم يحتقر قوماً أن يحتمل ذلك، فإنّ الغالب أنّ كلّ قوم لهم ممّيزات حسنة، وربما كانت لهم صفات عامّة سيّئة أيضاً، ولكنّ الأفضلية لا تناط بصفة خاصّة، فربما كانوا بملاحظة مجموع القيم خيراً من القوم الساخر، وليس الأمر كما ورد في التفاسير من أنّ النهي من جهة احتمال الفضل والكرامة عند الله تعالى وأنّ مناط الفضل عنده هو التقوى ولا يعلم به أحد. وذلك لأنّ التفاضل هنا بين الأقوام لا الأفراد.

«وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ» يتبيّن بما مرّ معنى هذه الآية، ولكن يبقى هنا سؤال، وهو أنّ الآية لا تشمل سخرية الرجال من النساء وكذا العكس. ولعلّ الوجه أنّ الغالب هو سخرية الرجال من الرجال والنساء من خصوصاً في ذلك المجتمع حيث كانت مجالس النساء ومجامعهنّ خاصّة بهنّ كما ينبغي، بل يجب أن يكون كذلك دائماً.

ص: 320

وفيه وجه آخر، وهو أنّ منع الرجال يكفي عن منع نع الرجال يكفي عن منع النساء، كما أنّ أكثر الأحكام يذكر فيها الرجل ولا يعني ذلك الاختصاص، وإنّما ذكر حكم النساء هنا مستقلاً، لأنّ نوعية السخرية بين النساء تختلف عن نوعيتها في الرجال، فكلّ من الجنسين يحتقر الأفراد والأقوام بمناط خاصّ هو موضع الاهتمام عندهم، فالرجال مثلاً يعيبون غيرهم من الرجال غالباً بالجبن والبخل وضعف التعبير ونحو ذلك، والنساء يعبن غيرهنّ من النساء غالباً بالنقص في ما يتميّز في نظرهنّ من الجمال والتجمّل والتبعّل وحضانة الأولاد ونحو ذلك.

«وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ»؛ اللمز والهمز والغمز في الأصل بمعنى الدفع والضغط الخفيف، واستعير للطعن والانتقاص، كما أنّ الطعن أيضاً كذلك، وقيل: إنّ اللمز في المواجهة والهمز في الغياب، وقيل غير ذلك. والغرض من الآية النهي عن الانتقاص من سائر المؤمنين، وإنّما عبّر بالانتقاص من النفس بلحاظ أنّ المؤمنين مجموعة واحدة متّحدة كأنّهم شخص واحد، فتعيير أحدهم تعيير للكلّ، فإذا صدر هذا التعيير من أحدهم فكأنّه عيّر نفسه وعابها. وهذا الإسناد حقيقي وليس مجازياً، فإنّ العيب في كلّ مؤمن يعتبر عيباً للجميع في تلك الظروف الخاصّة، حيث كان المجتمع العربي يبحث بدقّة ويضع كلّ حركة من الجماعة المؤمنة تحت المجهر، كما هو الحال في نظائرهم، فإنّا نجد في مجتمعنا مثلاً أنّه إذا صدر ما لا ينبغي من رجل دين معمّم فإنّه يصيب الجميع، وليس كذلك سائر الطوائف، والسبب هو ما أشرنا إليه من أنّ الأعداء يضعون كلّ صغيرة منهم تحت المجهر ويكبّرونه أضعافاً ويعمّمونه على الجميع.

«وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ»؛ النبز: التلقيب، أي وضع اللقب للآخرين ولكنّه يستعمل

ص: 321

في ألقاب السوء ويتداول في كثير من المجتمعات المتخلفة وضع الألقاب السيّئة للناس احتقاراً لهم وإيذاءاً، وهكذا كان المجتمع العربي آنذاك والإسلام منعهم ذلك، فالآية بل السورة بكاملها من أهمّ الآيات والسور في مجال تربية المجتمع الإسلامي وتكوين اُسسه.

«بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمان»؛ الاسم، هو العلامة ويطلق على اللقب والكنية أيضاً، وحيث كانوا يطلقون على من سبق منه معصية لقباً يدلّ على ذلك، منعهم من التلقيب بما يدلّ على الفسوق، فإنّ السمة الواضحة للإنسان المؤمن هو إيمانه حتّى لو صدر منه ما لا ينبغي، فلا يجوز أن يسمّى بما ينافي الإيمان. وقيل: إنّ المراد بالاسم الذكر، كما يقال: خلد اسمه أو رفع اسمه، أي ذكره، فالمعنى بئس الذكر أن يذكر المؤمن بفسقه.

«وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»؛ تبشير وإنذار معاً، فالجملة تدعو إلى التوبة و تبشر بأنّ ما مرّ منكم من الأخطاء والذنوب تغفر لكم بالتوبة، وإنذار لمن لم يترك السنن الجاهلية ولم يتب إلى الله تعالى، فإنّه سيكون من الظالمين، بل التعبير يدلّ على الحصر. فالظالم هو الذي لا يتوب ويصرّ على العادة السّيئة ليس غيره، فإنّ التائب لا يكون ظالماً بعد ذلك وإن كان ما صدر منه ظلماً بحقّ أخيه.

«يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ»، الآية الكريمة تمنع بعض ما يهدّد كيان المجتمع ووحدته وتماسكه، وهي اُمور مهمّة جدّاً في ترسيخ النظام الاجتماعي وتأمين الحياة السعيدة للإنسان وحفظ حقوقه الشخصية وكرامته. فأوّل تلك الأمور التي يوصي بها الله سبحانه من آمن به وبرسوله وبدينه تجنّب الظن السيّء بالآخرين. وجعل المخاطب في ذلك: «الَّذِينَ آمَنُوا» إيذاناً بأنّ

ص: 322

الالتزام بذلك مقتضى الإيمان بالله ورسوله.

والاجتناب بمعنى الابتعاد مأخوذ من الجانب، أي كن على جانب من ذلك فلا تقربّه. وقد اختلف اللغويون في تحقيق معنى الظنّ وهو - على ما يبدو من موارد استعماله - الاعتقاد الذي لا يستند إلى دليل، سواء كان قطعياً أو فيه نوع تردّد، فالمراد هنا تجنّب الاعتماد في تقييم الأشخاص على التهمة والاعتقاد الذي لا يستند إلى دليل قاطع أو حجّة شرعية.

وليس المراد بالطبع الاجتناب عن نفس الظنّ فإنّه أمر غير اختياري، فالإنسان إذا واجه اُموراً تدلّ ولو بوجه ظنّي ضعيف على حالة أو عمل، فإنّه يحصل له الظنّ بذلك والناس مختلفون في التأثّر بهذه العوامل، فهناك من يحصل له اليقين بأدنى أمارة وعلامة، وهناك من يحصل له الظنّ، وهناك من يتردّد إلى غير ذلك، وإنّما المنهيّ عنه هو ترتيب الأثر على الظنّة والتهمة ومؤاخذة الناس به فعلاً أو قولاً.

وليس المراد أيضاً حسن الظنّ بالناس والاعتماد على كلّ أحد بمجرّد كلام معسول وعدم اتخاذ الحيطة على النفس أو المال أو نحو ذلك، حتى لو ظنّ بأحد شرّاً، فإنّ ذلك من السذاجة ويؤدي إلى أضرار كثيرة. ومن الواضح أنّه ليس من الإساءة بالظنّ أن يحتاط الإنسان إذا ظنّ بأحد شرّاً، إذ المنهيّ عنه هو ترتيب الأثر على سوء الظنّ وليس معناه العمل بحسن الظنّ، بل ربما تتغيّر المقاييس بتغيّر الزمان ويكون الأولى بوجه عامّ هو الاحتياط وعدم الاعتماد على الناس، كما عن أمير المؤمنين علیه السّلام: «إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله، ثمّ أساء رجل الظنّ برجل لم يظهر منه حوبة فقد ظلم، وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله، ثمّ

ص: 323

أحسن رجل الظن برجل فقد غرر».(1)

ومن هنا يتبّين الوجه في أنّه تعالى لم يأمر باجتناب الظن مطلقاً، بل الكثير منه، فإنّ الغالب من موارد الظنّ بالسوء ما يتلقّفه الناس لينشروه فيما بينهم ويجعلونه حديث المجالس للانتقاص من الآخرين، وقليل من موارده يستلزم الاحتياط في مقام العمل، وهذه الموارد واضحة للجميع والناس بطبيعتهم يحتاطون في موارد لزوم الاحتياط بسبب سوء الظنّ بالشخص، كما نلاحظه في رجال الأمن مثلاً، فإنّهم يبحثون عن المجرمين بأدنى مظنّة للسوء وهو ما ينبغي أن يفعل إذا كان القصد المحافظة على أمن المجتمع.

وقيل في تفسير الآية: إنّ التقييد بالكثير من جهة أنّ ما يقابله هو الظنّ بالخير وهو قليل، وإنّما الغالب الظنّ بالسوء ؛ وقال بعضهم: إنّ ظنّ السوء كثير في نفسه ولا يراد أنّه الأكثر. ولكنّ الصحيح الواضح من السياق أنّ المراد بالظنّ هو ظنّ السوء خاصّة، فالكثرة باعتبار أنّ بعض الظنّ بالسوء يجوز العمل على طبقه في مورده، بل لا يجوز الاجتناب عنه وهو موارد لزوم الاحتياط كما قلنا، لكن ليس معناه أن نتّهم أحداً ونجازيه بمجرّد الظنّ إنّما الواجب هو الاهتمام به وأخذ الحيطة. وبذلك يتبيّن أيضاً المراد بقوله تعالى: «إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ».

والأصل في الإثم - على ما قال العسكري في فروق اللغة - التقصير.(2) وقال «الكشّاف»: «هو الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب»،(3) وفي «المفردات»

ص: 324


1- نهج البلاغة (للصبحي صالح): 489 / الحكمة: 114.
2- الفروق في اللغة: 227.
3- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 4: 372.

و «مقاييس اللغة»: «أنّ أصله التباطؤ وهو يناسب التقصير»،(1) والمراد هنا التباطؤ عن الخير ومنه سمّي الذنب إثماً.

ومهما كان فالآية تمنع هنا من إساءة الظنّ بالناس، ولم يخصّص الحكم بالمؤمنين أو المتّقين والصالحين، فالظاهر أنّ الهدف هو بناء مجتمع يبتني على أساس حسن الظنّ بالناس، كما نجده اليوم في المجتمعات المتحضّرة وهذا الأمر يوجب رخاءاً اجتماعياً وهناءاً في العيش وراحة للضمير وتأدّباً عامّاً، ويحثّ عامّة الناس على عدم الإضرار بالآخرين، ومتابعة النظام والقانون والابتعاد عن الشرّ والفوضى. والناس بصورة عامّة تواقّون للخير والاستثناء شاذّ، فلا بدّ من حسن الظنّ بهم حتّى لا يظنّوا بأنفسهم الشرّ، ولا يهون الشرّ في أعينهم فتميل إليه نفوسهم، ولكن ليس معنى ذلك عدم أخذ الحيطة، بل القرآن يؤكّد على أن يكتب كلّ دين ولا يكتفى بحسن الظنّ، قال تعالى: «وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أو كَبِيراً إلى أجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأدْنَى الا تَرْتَابُوا»،(2) بل رغّب في أخذ الرهان إن لم يمكن الكتابة.

«وَلا تَجَسَّسُوا» وهذا هو الأمر الثاني ممّا أوصى به الله تعالى لتنظيم المجتمع الصالح. والتجسّس من الجسّ، وهو كما قال ابن فارس في «معجم المقاييس»: «تعرّف الشيء بمسّ لطيف، يقال جسست العِرق وغيره جسّاً، والجاسوس فاعول من هذا، لأنّه يتخبّر ما يريده بخفاء ولطف».(3) والنهي عنه بعد المنع من إساءة

ص: 325


1- راجع مفردات ألفاظ القرآن: 63؛ معجم مقاييس اللغة 1: 60.
2- البقرة (2): 282.
3- معجم مقاييس اللغة 1: 464.

الظنّ يدلّ على أنّه إذا أسأت الظنّ، فلا تتحقّق ولا تبحث عن ما يستره المظنون، كما ورد في الحديث النبوي الشريف: «ثلاث لازمات لاُمّتي الطيرة والحسد وسوء الظنّ» فقال رجل ما يذهبهنّ يا رسول الله ممّن هنّ فيه ؟ قال : «إذا حسدت فاستغفر الله، وإذا ظننت فلا تحقّق وإذا تطيّرت فامض».(1)

والمراد بالتجسّس الممنوع البحث عن الشؤون الشخصية للناس، كما إذا رأيت أحداً يحمل قارورة يشبه قوارير الخمر فإنّه لا يجوز لك أن تتحقّق وتسأل، بل يجب أن يحمل على الصحّة ما دام له محمل، كما ورد عن أمير المؤمنين علیه السّلام: «ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك ما يقلبك منه، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوء وأنت تجد لها في الخير محملاً»،(2) وغير ذلك من الأحاديث وهي كثيرة جدّاً وموردها جميعاً الاُمور الشخصية. ومنها ما روي عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: قال رسول الله صلّی الله علیه و آله و سلّم: «لا تطلبوا عثرات المؤمنين، فإنّ من تتّبع عثرات أخيه تتّبع الله عثراته، ومن تتّبع الله عثراته يفضحه ولو في جوف بيته»(3)، وربما يستفاد من الآية عدم اختصاصه بالمؤمنين لإطلاق النهي. نعم ربما تضطرّ الحكومات إلى التجسّس لمعرفة الأعداء إذا أرادوا إيقاع الشرّ أو إثارة الحرب، وكان للنبي صلّی الله علیه و آله و سلّم عيون، أي جواسيس يخبرونه عمّا يدور حوله من حوادث، فقد كان محاطاً بكثير من الأعداء، بل ربما يتوقّف الأمر على التجسّس على بعض الناس في بيوتهم أو التنصت إلى مكالماتهم ولا يجوز ذلك في الظروف المعتادة، وإنّما يجوز في الحالات الطارئة وبالنسبة لمن يظنّ به أنّه

ص: 326


1- بحار الأنوار 55: 320.
2- الكافي 2: 362، باب التهمة وسوء الظنّ.
3- الكافي 2: 354 ، باب من طلب عثرات المؤمنين.

يقصد إيقاع الشرّ بالمجتمع، خصوصاً في زماننا هذا حيث يمكن لأيّ واحد من الناس أن يفجّر مجتمعاً سكنياً أو تجارياً برمّته ويهلك عدداً هائلاً من الأبرياء، فلا يجوز في مثل ذلك التمسّك بالمنع عن التجسّس أو لزوم رعاية الحرّيات الشخصية أو الكرامة الإنسانية.

«وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ» وهذا هو الأمر الثالث من هذه الوصايا. والاغتياب والغيبة - بالكسر - مأخوذ من الغيبة - بالفتح - وهي الغياب عن البصر، والمراد به الوقيعة في الناس في غيابهم، وقد اختلف في تعريف الغيبة التي حرّمها الله تعالى، فقيل : هو ذكرك أخاك بما يكرهه. وعرّفه كثير من الفقهاء بأنّه ذكر المؤمن بعيب في غيبته، سواء أكان بقصد الانتقاص أم لم يكن ، وسواء أكان العيب في بدنه أم في نسبه أم في خلقه أم في فعله أم في قوله أم في دينه أم في دنياه أم في غير ذلك ممّا يكون عيباً مستوراً عن الناس.

ويظهر من الآية الكريمة أنّ حرمته خاصّة بالمؤمنين، حيث قال: «لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» ولذلك قلنا بأنّ النهي في الموردين السابقين لا يختصّ بالمؤمنين، فالقرينة على ذلك هو تخصيص هذا الحكم بالمؤمنين.

وقد شنّع الله تعالى ذلك أشدّ تشنيع، حيث شبّهه بأكل لحم الأخ ميتاً، ومن بدائع القرآن أنّه لا يكتفي في مثل هذه الموارد بالنهي والمنع، بل يحاول تنفير النفوس من الأمر؛ ومن الواضح والضروري أنّ النفس تشمئزّ غاية الاشمئزاز من رؤية هذا المشهد، فضلاً عن القيام به: أخ يأكل لحم أخيه بعد موته!! وإنّما شبّهه تعالى بذلك، لأنّ المؤمنين إخوة - كما سبق ذكره في هذه السورة - وغيابه يشبه

ص: 327

موته، لأنّه لا يستطيع الدفاع عن نفسه كالميت، والوقيعة في عرض الأخ يشبه أكل لحمه إن لم يكن أشدّ منه، ولذلك ورد في بعض الروايات أنّ حرمة عرض المؤمن كحرمة دمه وماله، كالحديث النبوي المشهور: «المؤمن حرام كلّه عرضه

وماله ودمه».(1)

وفي الآيات تأكيد من جهات اُخرى أيضاً، كذكره ضمن استفهام إنكاري، والتعبير بقوله: «أيُحِبُّ أحَدُكُمْ» النافي لأن يكون أيّ أحد منهم محبّاً لذلك، وقوله تعالى: «فَكَرِهْتُمُوهُ» وهو بتقدير جملة، أي عرض عليكم هذا فكرهتموه. فكراهة هذا الأمر وجداني طبيعي، فلتكن كراهة الغيبة أيضاً كذلك.

والمنع من الغيبة يزيد المجتمع تماسكاً، بل يمنحه نوعاً من الشعور بالمسؤولية تجاه غيره من المؤمنين بصورة واقعية، فإنّ ذلك - يعني أنّ المودّة والمحبّة بين أفراد المجتمع - يجب أن لا تكون من المجاملات التي تتعارف في المجتمعات البشرية، بل الشعور بالاُخوة يجب أن يكون واقعياً ينبع من إيمان كلّ فرد بربّه وبدينه حتّى في غياب أخيه المؤمن، وهذا من خصائص المجتمع الديني، ولذلك اختصّ النهي عنها بالمؤمنين في ما بينهم. وقد تأكّد النهي عن الغيبة في الروايات الكثيرة من الفريقين بحيث أصبح تحريمه والتنديد به من الأمور الواضحة في الدين لا يكاد يخفى على أحد.

واستثنى الفقهاء من حرمة الغيبة بعض الموارد حيث تقتضي الحكمة تجويزها، بل إيجابها ، فمنها: مورد التظلّم لقوله تعالى: «لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ».(2)

ص: 328


1- المؤمن (للحسين بن سعيد) 199/72.
2- النساء (4): 148.

ومنها: مقام النصيحة للمؤمن في ما إذا استشار بل مطلقاً، وهذا باب و فقد واسع يستشير المؤمن للزواج أو للمشاركة أو الاستيجار أو أيّ نوع من التعامل مع الآخرين وهو لا يعرف صاحبه، فعلى أخيه المؤمن إذا عرف أنّه لا يصلح له أن ينصحه ويمنعه من الوقوع في المشاكل.

ذلك ومن مورد انتخاب أحد لتصدّي رئاسة الجمهورية أو أيّ مقام آخر يتوقّف على الانتخاب، كالمجلس التشريعي فإنّ المصلحة العامة تقتضي أن لا يخفي الإنسان ما يعلمه من المرشّحين، ومن هو الأصلح للناس، ولا يجوز أن يخفي شيئاً من ذلك تذرّعاً بحرمة الغيبة، ولكن لا يجوز أيضاً أن يتذرّع بالمصلحة وينشر بين الناس كلّ ما لا ينبغي أن يقال من الأسرار، وإنّما عليه أوّلاً أن لا يقول إلا ما يعلمه بوجه قطعي؛ وثانياً أن يقتصر على المقدار الذي يكفي لامتناع الناس من التصويت له، وهكذا في سائر موارد الاستشارة أو النصيحة بوجه عامّ.

ومنها: ما لو كانت الغيبة لمصلحة المغتاب مصلحة أهمّ من فضح سرّه وذكر عيوبه، كما لو كان يترتّب على ذلك حفظه من الوقوع في ضرر متوقّع من الظالمين ونحوهم، أو كان يترتّب على ذلك منعه من الاستمرار في المنكر إذا لم يمكن ردعه عنه بوجه آخر.

وذكروا موارد اُخرى، منها: التجاهر بالفسق والظاهر أنّه خارج عن الغيبة، لأنّه ليس عيباً مستوراً، أمّا لو كان الشخص متجاهراً أمام مجموعة من الناس فقط، فلا يجوز فضحه أمام غيرهم، كما أنّه لا يجوز اغتيابه في عيب من عيوبه أو فسق آخر ممّا لا يتجاهر به.

ص: 329

ومنها: غيبة من يخاف على الدين أو المجتمع الإسلامي منه لكونه مبتدعاً أو منحرفاً أو جاهلاً يظهر نفسه بمظهر العلماء ونحو ذلك، وهذا يدخل في باب النصيحة. ويمكن أن يدخل في ذلك أيضاً ما ذكروا من جرح الشهود والقدح في المقالات الباطلة، والردّ على العلماء ونفي الاجتهاد أو الأعلمية أو سائر شروط المرجعية عن مدعيها ونحو ذلك.

وقد وقع الخلاف بين الفقهاء في أنّ التوبة عن الغيبة هل يكفي مطلقاً، أو في خصوص ما إذا لم يمكن الاعتذار من المغتاب أو لا يكفي مطلقاً، بل لابدّ من الاعتذار أو الاستغفار له؟ بل ربما قيل: إنّه لا يغفر له إن لم يغفر له المغتاب، سواء تمكّن من الاعتذار أم لا، بل روي ذلك في بعض الروايات وعلّل به أنّ الغيبة أشدّ من بعض الكبائر، لأنّه يكفي فيها التوبة والغيبة لا تغفر. حتى يغفر له المغتاب.

ولكن جمعاً من الفقهاء المحقّقين ومنهم سيّدنا الأستاذ حفظه الله(1) يقولون بكفاية التوبة في كلّ الموارد، وأنّ حرمة المؤمن حقّ الله تعالى، ولذلك لا يجوز للمؤمن نفسه أيضاً أن يذلّ نفسه ولا أثر لإعلانه مسبقاً بأنّه راضٍ عن اغتيابه، فالحرمة باقية حتّى مع هذا الإعلان، ولا يجب الاعتذار، بل ربما لا يجوز إذا كان موجباً لإيذائه وكثيراً ما يوجب ذلك تنافراً ومزيداً من التصدّع في المجتمع، فالأولى للإنسان أن يكتفي بالكفّ عن أعراض الناس والاستغفار وليست الغيبة بأشدّ من سائر الكبائر.

وهل يجب الدفاع عن المغتاب والانتصار له؟ ورد ذلك في بعض الروايات

ص: 330


1- سماحة السيّد السيستاني دام ظله.

وأفتى به بعض الفقهاء، وورد أنّه إذا لم يرده ولم ينصره خذله الله تعالى في الدنيا والآخرة، وأنّ عليه كوزر المغتاب. ولكن ذلك غير ثابت والروايات ضعيفة، خصوصاً أنّ السامع ربما لا يعرف المغتاب وأنّه هل يستحقّ الغيبة أم لا؛ نعم يجب النهي عن المنكر مع اجتماع شرائطه، ومنها العلم بكونه منكراً وأنّه خارج عن موارد الاستثناء وأنّ القائل منتبه لكونه غيبة، إذ لا يعتبر منكراً في غير هذا الحال، وتختلف الموارد في ذلك، فربما يذكر القائل أحد العلماء أو الأولياء الصالحين ممّن لا يحتمل فيهم جواز الغيبة ولا يحتمل الغفلة، بل يقطع بكون القائل يقصد بذلك الطعن في الدين وفي رجاله، وهنا يجب قطعاً التصدّي له والدفاع عن الدين ورجاله.

«وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحيمٌ»، تأكيد على لزوم اجتناب الغيبة وأنّه ينافي التقوى، وتحذير من غضبه تعالى. وربما يستغرب التعليل، حيث يتوهّم أنّ المناسب في تعليل التقوى هو التأكيد على كونه منتقماً وذا عقاب شديد لا كونه توّاباً رحيماً، ولكنّ الظاهر أنّ التعليل بلحاظ أنّ الغيبة كثيراً ما يتداولها الناس، بل يستسيغونها، وحيث شدّد النكير عليه فربما يتصور الإنسان أنّه غير قابل للمغفرة بالتوبة كما مرّ ذكره فعلّل تعالى الأمر بالتقوى و اجتناب الغيبة في المستقبل بأنّه تعالى توّاب رحيم، فلا تستبعدوا أن يقبل توبتكم إذا رجعتم إليه وتركتم الذنب.

وهذه الجملة تدلّ على كفاية التوبة إلى الله تعالى، ولا يتوقّف قبولها على الاسترضاء والاعتذار.

والتواب مبالغة في التوبة، أي الرجوع. والتوبة من العبد هي الرجوع إلى الله تعالى باجتناب نواهيه والائتمار بأوامره واستغفار ما مضى منه. والتوبة من الله

ص: 331

تعالى توبتان توبة قبل توبة العبد حيث يوفّقه للتوبة، كما قال تعالى: «ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»؛(1) وتوبة بعدها وهو قبول توبته وإدخاله في رحمته.

روى الآلوسى الآلوسي «في روح المعاني»: أنّ سلمان الفارسي - رضي الله تعالى عنه - کان مع رجلين في سفر يخدمهما وينال من طعامهما وأنّه نام يوماً فطلبه صاحباه فلم يجداه فضربا الخباء وقالا: ما يريد سلمان شيئاً غير هذا أن يجيء إلى طعام معدود وخباء مضروب، فلمّا جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله - صلّى الله عليه و آله و سلّم- يطلب لهما إداماً فانطلق فأتاه فقال: يا رسول الله بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك، قال: «ما يصنع أصحابك بالإدام؟ لقد ائتدموا»، فرجع - رضي الله تعالى عنه - فأخبرهما فانطلقا فأتيا رسول الله - صلّى الله عليه و آله و سلّم- فقالا: والذي بعثك بالحقّ ما أصبنا طعاماً منذ نزلنا قال: «إنّكما قد ائتدمتها بسلمان»، فنزلت.(2)

وروى أيضاً عن أنس قال: كانت العرب تخدم بعضها بعضاً في الأسفار وكان مع أبي بكر وعمر رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهيء لهما طعاماً، فقالا: إنّ هذا لنؤوم فأيقظاه، فقالا: ائت رسول الله - صلّى الله عليه و آله وسلّم- فقل له: إنّ أبا بكر وعمر يقرءانك السلام ويستأدمانك، فقال: «إنّها ائتدما»، فجاءا فقالا: يا رسول الله بأيِّ شيء ائتدمنا؟ قال: «بلحم أخيكما والذي نفسي بيده إنّي لأرى لحمه بين ثناياكما»، فقالا: استغفر لنا يا رسول الله، قال: «مراه فليستغفر لكما».(3)

ص: 332


1- التوبة (9): 118.
2- روح المعاني 13: 310.
3- روح المعاني 13: 310.

والظاهر أنّ مورد الروايتين قصّة واحدة، والرواية الاُولى تدلّ على أنّ الآية نزلت في هذا الشأن، ويظهر من الثانية أن الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم لم يستغفر لهما، وإنّما أمرهما أن يطلبا من سلمان أن يغفر لهما ممّا يدلّ على أنّ الله تعالى لا يغفر للمغتاب إلى أن يغفر له من اغتابه، وقد مرّ الكلام فيه.

ويظهر من القصّتين أنّ بعض المحدّثين أو المؤلّفين كانوا يحذفون بعض الأسامي ويستبدلونها بتعابير عامّة كالرجل أو الرجلين لأهداف سياسية أو غيرها، و من ذلك حديث الدواة والكتف.

«يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا»؛ كان الخطاب في الآيات السابقة موجّهاً إلى الذين آمنوا ولكنّ الخطاب في هذه الآية ورد بعنوان الناس، فربما يقال: إنّ الخطاب فيه موجّه واقعاً إلى البشر جميعاً، نظراً إلى أنّ نبذ التمييز العنصري والتعصّب القبلي أمر حضاري لا بدّ من ترسيخه في البشرية لتنظيم الحياة الاجتماعية على الأرض، ولكنّه بعيد عن سياق الآية وعن أهداف القرآن الكريم؛ لأنّ الآية لا تنفي التفاضل بين البشر، كما هو الهدف من نبذ التمييز، بل تحدّد للتمييز مقياساً لا يعرفه المجتمع البشري وهو التقوى، فليست الآية في مقام نفي التمييز ، بل لتحديد مقياس التفاضل عند الله تعالى.

ومن جهة اُخرى فإنّ الدين الإلهي لا ينظر إلى الحياة الدنيا وشؤونها إلا كمقدمة لنيل السعادة في الآخرة، قال تعالى: «تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ»،(1) فلا يهمّ الدين ما يخصّ الشأن الدنيوي والحضارة البشرية.

والخطابات في القرآن بعضها يخصّ المؤمنين لبيان أحكام الشريعة أو غيرها،

ص: 333


1- الأنفال (8): 67.

فإنّ الدين يهمّه شأنهم حتّى لو كان لتنظيم الحياة الاجتماعية، ولكن من جهة الحكم الشرعي فقط كأحكام النكاح والطلاق والإرث والبيع والإجارة وغيرها، ولا يتعرّض الدين للشأن الاقتصادي ولا لغيره من شؤون الحياة، بل يبيّن الحكم الشرعي فحسب، وهو يمنع بعض ما نراه مفيداً لنا اقتصادياً، لا أنّه يقترح علينا طرقاً مفيدة.

وبعض خطابات القرآن موجهة لعامّة البشر ، ولكن بهدف هدايتهم وسوقهم إلى الإيمان بالله تعالى لا تنظيم حياة الناس الاجتماعية، ويختلط الأمر كثيراً على الباحثين فيحسبون أنّ الدين يشمل علم الاقتصاد والسياسة والاجتماع، وليس

كذلك، وإلا لكان يغني المؤمنين في الطبّ والتكنولوجيا وغيرهما أيضاً.

وعليه فلا يبعد أن يكون المخاطب في هذه الآية أيضاً هم الذين آمنوا إلا أنّه خاطبهم باعتبار أنّهم بشر، ولعلّ السرّ في انتخاب هذا التعبير في الخطاب حثّ المؤمنين على عدم التفاخر والتفاضل على غيرهم من البشر بالعنصر والقبيلة ونحوهما، كما لا يجوز أن يفتخروا في ما بينهم بها، وليعلموا أنّ التميز إنّما هو بالتقوى.

وفيه وجه آخر وهو أنّ هذا الأمر، أي كون اختلاف الشعوب بهدف التعارف فحسب لا يختصّ بالمؤمنين، فخوطبوا بما أنّهم مؤمنون. ويحتمل أن يكون الخطاب للبشر جميعاً ويكون تنبيهاً لهم على سخافة ما يعتبرونه في أعرافهم مناطاً للأفضلية، وأنّ الفضيلة ليست إلا بالتقوى.

ويذكر المفسّرون أنّ المراد بالذكر والاُنثى آدم وحواء، فالمعنى أنّ البشر كلّهم ينتمون في النهاية إلى أصل واحد، فالأجدر بهم أن لا يفتخر بعضهم على

ص: 334

بعض بأصله ومَحْتِده ، ولكن هذا المعنى بعيد في نفسه وبعيد ترتيبه على ما ذكر؛ أمّا في نفسه، فلأنّه لاشكّ في تأثير العوامل الوراثية في سعادة الإنسان وفي أمّا في اختياره لمنهج الحياة وفي اعتناقه للدين والمذهب وفي كثير ممّا يبرّر الافتخار والتباهي، فلا شكّ في أنّ الانتماء إلى الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم شرف للإنسان، ونجد في الآثار مباهاة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم بجدّه عبد المطلب، وكذلك مباهاة الأئمة علیهم السّلام بجدهم الكريم، بل بسائر من ينتمي إلى هذه الشجرة الطيبة كحمزة وجعفر علیهما السّلام، بل حتّى بمن يأتي بعدهم كالإمام المهدي علیه السّلام.

وأمّا عدم ترتّبه على ما ذكر، فمن الواضح أنّ مجرّد كوننا جميعاً من نسل آدم وحواء لا ينافي التباهي والتفاخر بالآباء الأقربين، بل حتّى لو كانوا مشاركين في الجدّ القريب، ونحن نجد الفرق الواضح بين بني هاشم الأطيبين وبني اُمية

الذين هم أولاد عبد شمس، وهما أخوان، فالفريقان يشتركان في عبد مناف.

وقيل: إنّ المراد بهما الرجل والمرأة، والمعنى أنّ كلّ واحد منكم مخلوق من أب وأمّ، فلا فخر لأحد على أحد إلا بمميّزاته الذاتية؛ ولكنّه غير صحيح، إذ أنّه كالقول بأنّ الإنسان خلق من نطفة، فالأصل في الجميع واحد وإن اختلفت النطف، وإنّما يمتاز الإنسان بصفاته الخاصّة به لا بأصله ومحتده، ولا بأيّ جهة من الجهات الأخرى التي ربما يتفاخر بها، ومن الواضح أنّ مجرّد وجود وجه مشترك بين الجميع لا ينفي التفاضل، كما أنّ هناك وجوهاً مشتركة بين الإنسان والحيوان ولا تنافي هذه الوجوه فضل البشر وكرامته.

ويحتمل أن تكون «مِن» بيانية وإن لم يذكر في التفاسير، فالمعنى: «أنّا خلقناكم رجالاً ونساءاً وجعلناكم شعوباً»، ولعلّ القصد من التعميم إلى الذكر

ص: 335

والأنثى لدفع توهّم أنّ الذكورة ممّا يوجب الفخر والتباهي، فكما أنّ الاختلاف في الشعوب والقبائل للتعارف ولا يبرّر التفاخر كذلك الاختلاف في الذكورة والاُنوثة، فالتقوى هو مناط التفضيل عند الله حتّى بين الرجل والمرأة، ولا فضيلة للرجل على المرأة إلا بالتقوى وهذا الأمر ممّا أكّد عليه القرآن الكريم في مواضع عديدة، كقوله تعالى: «فَاسْتَجَابَهُمْ رَبُّهُمْ أني لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أو أُنثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض»،(1) وقوله تعالى: «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أو أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً»(2) ونحوهما.

وهكذا ينبّه القرآن على أمر غريب في ذلك المجتمع، بل في كثير من المجتمعات المتخلّفة المعاصرة حتّى الذين يدّعون الإسلام، حيث نجد أكبر الظلم على المرأة. وأمّا رسالة السماء منذ البدو فلم تفرّق بين الرجل والمرأة في كسب المنزلة والثواب لدى الله تعالى.

وحاصل معنى الآية أن هذه الاختلافات إنّما هي ممّيزات شخصية لتعيين الأشخاص ورسم هوياتهم، حتّى يكون لكلّ أحد عنوانه الخاصّ به، وهو أمر هامّ يتقوّم به كثير من الشؤون الاجتماعية، وهذا معنى قوله تعالى: «لِتَعَارَفُوا»، أي ليعرف بعضكم بعضاً، ولا يوجب ذلك كرامة عند الله، إنّما الكرامة عنده بالتقوى وكلّ من كان أتقى فهو أكرم عند الله تعالى، ولا ينافي ذلك وجود تفاضل في المجتمع بأسباب اُخرى، كالعلم والفنّ والشجاعة وسائر الامتيازات التي تستلزمها الحاجات الاجتماعية، كما لا ينافي شرفاً وافتخاراً بالانتساب إلى الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم،

ص: 336


1- آل عمران (3): 195.
2- النساء (4): 124؛ وراجع أيضاً: النحل (16): 97 و غافر (40): 40.

نعم لا شرف لمن ينتمي إلى هذا النسب الشريف إن لم يكن مؤمناً؛ لأنّه خالف سنّة جده وسيرته.

والحاصل أنّ الآية لا تمنع التفاضل والتفاخر، ولا تنفي شرف الانتساب بوجه عامّ وإنّما تحدّد الكرامة عند الله تعالى وإنّ المناط فيها هو التقوى، فمن لم يكن متّقياً لا كرامة له عند الله تعالى حتّى لو كان ابن نبي، وكلّ ما زادت التقوى زادت الكرامة ولا ينافي ذلك شرف الانتساب ولزوم الاحترام لذلك في الدنيا إذا كان مؤمناً متّقياً، بل إنّ ذلك ينفع المؤمن يوم القيامة أيضاً، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ»،(1) وقوله تعالى: «رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ»،(2) وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانِ الْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا الَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ».(3)

وقد بيّنا في التفسير أنّ هذه الآيات تدلّ على أنّ الله تعالى يدخل الجنّة من الآباء والأزواج والذريّة من يكون صالحاً بشفاعة المؤمن المقرّب، وذلك لأنّه لو كان المراد بهم من يستحقّ الجنّة بنفسه استحقاقاً كاملاً لم يكن وجه للإلحاق؛ لأنّه داخل في القسم الأوّل فلا معنى للالحاق ولا لتوهّم التنقيص من العمل، كما في سورة الطور، فقوله تعالى: «وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْء» يراد به دفع توهّم أنّ الإلحاق إنّما يكون بالتنقيص من عمل الأوّلين وتسجيله في صحيفة عمل الملحقين. والتقييد بالصلوح يدلّ على أنّ الشفاعة لا تشمل الكافر والمنافق وربما

ص: 337


1- الرعد (13): 23.
2- غافر (40): 8.
3- الطور (52): 21.

بعض المؤمنين أيضاً، ولعلّ المراد به صلاحية الدخول في الجنّة وإن بعض الموانع لبعض أعماله السيّئة.

واختلف كلام اللغويين والمفسّرين في أنّ الشعب - بفتح الشين - حي من القبيلة أو أنّه يجمع القبائل ولا طائل تحت هذا الاختلاف، إذ يصدق الشعب لغة على كلّ مجموعة من الناس، والغرض أنّ الانتماءات القبلية - سواء القريبة ام البعيدة - إنّما تفيد في التعارف وليس مناطاً بذاتها للتقرّب إلى الله تعالى.

والسبب في إثارة هذا الأمر هو أنّ كثيراً من العرب كانوا يعتبرون هذه العناوين والانتماءات مناطاً للشرف واقعاً، بل حتّى في مناطات الأحكام الدينية وكانوا ينتقصون الموالي ومن ليس لهم أصل في العرب، والرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم كان يحارب هذه الظاهرة بشدّة ويأمر الأشراف بأن يزوّجوا بناتهم من الموالي، وقد تكرّر ذلك في عدّة موارد حتّى أنّه أمر أن يزوّج زيد بن الحارثة زينب بنت جحش وهي بنت عمّته صلّی الله علیه و آله و سلّم، ومن الغريب أنّ هذه الظاهرة بقيت في القوم مع كلّ هذه المحاولات حتّى أنّ بعض الخلفاء فرّقوا بين العرب وغيرهم في العطاء من بيت المال، بل فرّقوا بين الأشراف وغيرهم، بل بين أقاربهم وغيرهم إلى أن جاء أمير المؤمنين علیه السّلام فمنع كلّ ذلك.

وأغرب من ذلك أنّ بعضهم فسّر هذه الآية أيضاً بما ينافي الهدف الواضح منها؛ روى السيوطي في «الدر المنثور» عن عمر بن الخطاب أنّه قال: «هذه الآية خاصّة بالعرب والموالي أي قبيلة لهم وأي شعاب؟!»(1) فمغزى هذا الكلام أنّ الآية إنّما تمنع وجود تفاضل واقعي عند الله بين العرب لا بين العرب وغيرهم

ص: 338


1- الدرّ المنثور 6: 98.

بقرينة أنّه تعالى اعتبر الشعوب والقبائل للتعارف، والشعوب والقبائل خاصّة بالعرب، والموالي لا ينتمون إلى شعب وقبيلة!! وهذا من غرائب الكلام، فإنّ كلّ البشر لهم شعوب وقبائل، ولكنّهم حيث كانوا لا يجدون الأعجمي المؤمن في المدينة منتمياً إلى قبيلة من العرب كانوا يتصوّرون أنّه ليس له قبيلة في بلده أيضاً!!!

«إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله اتقاكُمْ». الكرامة هي مناط التقييم، فيطلق الكريم على كلّ شيء شريف قيّم، ويقال للأحجار النفيسة الأحجار الكريمة، ويقال للعينين الكريمتان ولابنة الرجل كريمته، كما في الأحاديث، فالأكرم عند الله تعالى أي الأشرف والأنفس. والتقوى مصدر من الوقاية وهي التحفّظ. وتقوى الله تعالى أي التحفّظ ممّا يسخطه ويكرهه، فكلّما كان الإنسان أبعد من معاصي الله تعالى كان أتقى وأحفظ لنفسه من التعرّض لغضبه وعذابه.

«إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ». الظاهر أنّ الجملة في مقام التعليل لكون الكرامة والشرف عند الله تعالى بالتقوى، ولعلّ التوصيف بالعلم لأنّ معرفة المناط الحقيقي للكرامة تتوقّف على العلم بحقائق الأمور، والله تعالى لعلمه بها هو الذي يحدد مناط الكرامة لا البشر الجاهل بها.

والخبير من الخبرة وهي معرفة دقائق الأمور التي لا يعرفها عامّة الناس. ولعلّ توصیفه تعالى بالخبرة من جهة اعتبار مناط الكرامة درجة التقوى لمكان أفعل التفضيل في قوله تعالى: «أَتْقَاكُمْ» ومعرفة ذلك صعبة للغاية، بل مستحيلة لعامّة الناس؛ لأنّ تمييز من هو أتقى من غيره يتوقّف على معرفة ضمائر البشر ودخائل نفوسهم وهي أمر غير متاح للبشر بوجه عامّ وإنّما يعرفها علام الغيوب جلّ وعلا.

ص: 339

سوره حجرات (14- 18)

قَالَتِ الْأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، لَا يَلِيكُم مِّنْ أَعْمَلِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَبِكَ هُمُ الصَّدِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَى إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَنَكُمْ لِلْإِيمَنِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

«قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا». الآيات تشير إلى حالة كثير من الناس قديماً وحديثاً، ومورد الآية جمع من الأعراب أسلموا ومنّوا على الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم بذلك ، كما يمنّ به حتّى الآن كثير من الناس على الله ورسوله ومن يلقونه من رجال الدين. وبالطبع فإنّه ليس موقف الأعراب كلّهم لقوله تعالى: «وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ الله وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ». (1) وقد مرّ الكلام حول معنى الأعراب في تفسير سورة الفتح، وقلنا: إنّه جمع لا مفرد له وليس جمع العرب، لأنّه اسم جنس، وإنّما ينسب إليه المفرد، فيقال: «أعرابي» ويطلق على أهل البداوة من العرب الذين لم يتحضروا ويسكنوا المدن، وقيل: إنّه يطلق على غير العرب أيضاً إذا كانوا أهل بداوة.

وقيل: إنّ قوماً من بني أسد أسلموا، ثمّ قالوا للرسول صلّى الله عليه و آله وسلّم آمنّا بك ولم نقاتلك

ص: 340


1- التوبة (9): 99.

كما قاتلك بنو فلان، فنزلت الآية. وقيل غير ذلك. ولا يهمّنا شأن النزول، فللآية شأن مستمرّ كسائر آيات الكتاب العزيز. والذي تركّز عليه هذه الآية هو الفرق بين الإسلام والإيمان. والمطلوب من الناس هو الإيمان بالله تعالى ورسوله، وأمّا الإسلام باللسان والتسليم لسلطة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم والانخراط في صفوف المسلمين بالشهادتين فلا يوجب إلا حكماً ظاهرياً بحقن الدماء وصحّة المناكح والمواريث، وليس هو الهدف الأسمى من إرسال الرسل وإنزال الكتب والشرائع. وليس معنى ذلك أنّه يحقّ للإنسان أن يمنّ على الله ورسوله بإيمانه، بل الله يمنّ عليه بالهداية، كما سيأتي.

ثمّ، إن الإسلام ربما يطلق ويراد به معنى أخصّ من الإيمان بالقلب وهو التسليم لأمر الله تعالى، وهو لا يحصل إلا للمخلصين في إيمانهم والعارفين الله تعالى، ومثل هؤلاء لا يمنّون على النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم بإسلامهم، ولكنّ المراد به هنا - كما ذكرنا - هو إظهار الإيمان والنطق بالشهادتين الذي يجتمع مع النفاق وإبطان الكفر ، وكان هناك ممّن أسلم ظاهراً من لا يقصد بذلك إلا الشؤون المادية، فبعضهم أسلم لِما رأى من قوّة المسلمين وشوكتهم، وبعضهم أسلم لِما سمعه من أحبار اليهود والنصارى وغيرهم من أنّ لهذا الدين شأن، ولعلّ بعض من أسلم في مكّة أيضاً لم يقصد بإسلامه إلا بلوغ المآرب الدنيوية، وبعضهم علم أنّه حقّ ولكنّه مع ذلك لم يؤمن بقلبه؛ وقد ذكرنا في مواضع من هذا التفسير أنّ العلم لا يستلزم الإيمان، وكان كثير من المشركين يعلمون أنّه حقّ ولم يؤمنوا، به كما قال موسی علیه السّلام الفرعون حسبما ورد في قوله تعالى: «قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ

ص: 341

هَؤُلاءِ إلا ربّ السَّمَوَاتِ والأرض بَصَائِرَ وَإِني لأظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثبُوراً»،(1) وهذه الآية تدلّ بوضوح أنّ هناك ممّن أسلم في عهد الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ورآه وعاصره من لم يؤمن به قلباً، فلا بدّ من تجديد النظر في تعريف الصحابة إن قلنا بكونهم جميعاً مؤمنين، فضلاً عن القول بعدالة الجميع الذي لا يستند إلى أيّ دليل.

فقوله تعالى: «قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا» تكذيب لهم حيث ادعوا الإيمان وهو لا يكون إلا في القلب ويظهر في العمل كما سيأتي، فتكذيبهم إخبار عن الغيب وعمّا يختلج في نفوسهم. ولم يقل: «قل لا تقولوا آمنّا»، لأنّه يتراءى منه النهي عن أمر مطلوب وهو الإيمان، فاكتفى بإخبارهم عمّا في قلوبهم، وهو أبلغ من التكذيب الصريح، ثمّ عرض بهم في آية اُخرى بقوله تعالى: «أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» ممّا يفيد الحصر، أي أمّا أنتم فكاذبون في دعواكم . ولم يقل لهم أيضاً: «ولكن أسلمتم»، وإنّما عبّر ذلك بالأمر بالقول: «قُولُوا أَسْلَمْنَا» لئلا يتوهّم منه الاعتداد بإسلامهم على أساس أنّه مرحلة ممّا هو المطلوب؛ إذ ليس كذلك واقعاً وإنّما ينتفعون بإسلامهم في الحياة الدنيا وظاهر الأمر.

«وَمَا يَدْخُلِ الإيمان في قُلُوبِكُمْ» لا يتوهّم أنّ هذا تكرار لنفي الإيمان الذي سبق، فإنّ المعنى يختلف، فالنفي الأوّل أفاد نفي تحقّقه سابقاً ممّا يدلّ على كذبهم، وهذه الجملة تنفيه حتّى هذه اللحظة، ولكن مع إفادة التوقّع في المستقبل، فمعناها أنّه لم يتحقّق حتّى الآن ولكن ينبغي أن يتحقّق، والهدف التربوي منه واضح.

«وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلتُكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شيئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». قال بعض

ص: 342


1- الإسراء (17): 102.

المفسّرين : إنّ المراد بهذا الشرط الإيمان بالقلب والعمل جرياً عليه وترك النفاق، ولكنّ الظاهر أنّ مورد هذه الجملة هو نفس الحالة المذكورة سابقاً، أي إظهار الإسلام مع عدم الإيمان الواقعي، فالغرض بيان أنّ الله تعالى لا ينقص من عملهم شيئاً وإن لم يؤمنوا بقلوبهم، وعليه فالمراد بإطاعة الله العمل بفرائضه انصياعاً لأمره تعالى، وبإطاعة الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم الاول العمل بسنّنه الواجبة وبأوامره الحكومية من باب إطاعة ولي الأمر وإن لم يكن مؤمناً بقلبه إيماناً كاملاً، كما سياتي بيانه في الآية التالية، والناس بطبيعة الحال يختلفون في درجات الإيمان، ويؤثّر ذلك في قبول العمل ودرجته، ولكنّ الله تعالى لا يظلم أحداً ويحسب لكلّ إنسان عمله حسب طاقته.

و «يَلتُكُمْ» مأخوذ من لات يليت ليتاً، أي نقصه، أو من ألت يألت بنفس المعنى أيضاً، وكذلك قوله تعالى: «وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ»،(1) فهو إمّا فعل ماضٍ من ألت مجرّداً، أو من لات من باب الإفعال. وقوله: «إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» تعليل لما وعده من عدم النقص من أعمالهم بسبب عدم إيمانهم واقعاً.

ولولا غفرانه تعالى ورحمته بالناس لما تقبل من أعمالهم إلا القليل، فإنّه قلّما يكون العمل خالصاً من الشوائب.

«إِنَّمَا المؤمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ» تعليل لما مرّ من عدم إيمانهم واقعاً بحصر الإيمان في من يجتمع فيه عدّة شروط، وهي لم تكن محقّقة فيهم، فلا يشملهم عنوان المؤمن، كما لا يشمل كثيراً ممّن أسلموا وإن أظهروا الإيمان وخدعوا البسطاء من الناس للوصول إلى مآربهم الخاصّة. و «إِنَّمَا» هنا تفيد الحصر حتّى لو

ص: 343


1- الطور (52): 21.

قلنا: إنّها لا تفيده بحسب الوضع اللغوي، وذلك للقرينة على أن السياق يريد منع كونهم مؤمنين.

وقد ذكر من الشروط أوّلاً الإيمان بالله ورسوله، ثمّ عدم الارتياب، ثمّ الجهاد بالنفس والمال. والتقييد بالإيمان بالرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم يخرج كثيراً من الناس، حيث كانت تبدر منهم في مناسبات خاصّة ما يدلّ على عدم إيمانهم به إيماناً كاملاً، فهناك من المسلمين من شكّك في عدله صلّی الله علیه و آله و سلّم، (1) وهناك من رفض الانصياع لبعض الأحكام كالذي امتنع من قبول متعة الحجّ، بل هناك من النساء من قالت له: «ما أرى ربّك إلا يسارع في هواك» (2) وفي هذا الكلام تعريض به صلّی الله علیه و آله و سلّم وبما نزل عليه خصائصه، بل في التعبير عن الله تعالى بأنّه ربّه ما لا يخفى، وهناك من اتّهمه بالهجر والهذيان ممّا يسقط اعتبار كلامه صلّی الله علیه و آله و سلّم و حجّيته ، وذلك في آخر عهدهم به وغيرهم وغيرهم. والقرآن يؤكّد على أنّ الإيمان بالله تعالى غير كافٍ ما لم يؤمن العبد بالرسالة وينصاع لأوامر الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، قال تعالى: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتّى يُحكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً». (3)

«ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيل الله»، «ثُمّ» للتراخي، والوجه في

ص: 344


1- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، وَفِي ثَوْبِ بلالٍ فِضَّةٌ وَرَسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْبِضُ مِنْهَا وَيُعْطِي النَّاسِ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ قَالَ: وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، لَقَدْ حَبْتَ وَخَسِرْتَ إِن لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله دَعْنِي أَقْتَلُ هَذَا الْمُنَافِقِ، قَالَ: «مَعَاذَ الله أن يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أقْتُلُ أصْحَابِي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآن لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهُمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ». «سنن النسائي (7: 286)
2- الدرّ المنثور 5: 211؛ روح المعاني 11: 237 .
3- النساء (4): 65.

الإتيان بها أنّه لا يكفي عدم الترديد حين الإيمان، بل يجب أن يستمرّ ذلك طيلة الحياة. والارتياب بمعنى الشكّ، فالمؤمن واقعاً لا يشكّ في إيمانه ولا تزلّ قدمه في هذا الصراط، لأنّه لم يَبْن إيمانه على شعار أو تأثّر سريع بالمشاهد المثيرة للاندفاع أو طلب لما يهواه أو خوف ممّا يضرّه، بل بناه على تأمّل في الكون وتعمّق في آيات الله تعالى. ولا بدّ لهذا الإيمان من الثبات في كلّ موقف، فالله تعالى يبتلي عباده بالخير والشرّ. والمؤمن الحقيقي لا يرتاب في إيمانه في كلّ تلك المواقف. أمّا الذي أسلم ظاهراً ولم يؤمن واقعاً فإنّ زلات لسانه تفضحه وهي تدلّ بوضوح على تزعزع إيمانه أو عدم إيمانه أساساً.

ولا يكفي الإيمان بالقلب إن لم يصدقه في مرحلة العمل، ولم يذكر من العمل هنا الصلاة والعبادة والذكر والتسبيح، فإنّ المتظاهر أيضاً لا يمتنع منها وضعفاء الإيمان أيضاً لا يمتنعون من العبادة والصلاة، بل والزكاة أيضاً، ولكنّ الابتلاء الأقوى الذي يظهر به مدى إيمان العبد هو الجهاد بالأموال والأنفس، والجهاد بالأموال لا يكتفى فيه بدفع الزكاة الواجبة وإن شق ذلك أيضاً على كثير من المسلمين، فالجهاد هو بذل غاية الطاقة وتحمّل المشاقّ والمصاعب، كما نجده في الجهاد بالنفس في مقابلة العدوّ، والجهاد بهذا المعنى إذا تعلّق بالمال يراد إلا التخلّي عن كلّ ما يملك أو أكثره لو اقتضته الضرورة، كما يحدث في بعض الحروب.

ولا يكفي ذلك أيضاً، بل لا بدّ من الجهاد بالنفس وبذل الروح وركوب الأهوال في سبيل إقامة الدين إذا أمر به الرسول أو الإمام أو اقتضته ضرورة الدفاع عن الإسلام، وهنا تظهر المروءات، ويظهر الصدق والكذب، ويتبيّن

ص: 345

المؤمن الحقيقي عن الذين كانوا ينادون بأعلى أصواتهم بالإيمان ولم تظهر منهم طيلة أيّام الجهاد الصعبة التي استشهد فيها جمع كثير من الصحابة الأخيار ضربة واحدة بالسيف أو طعنة واحدة بالرمح أو رمية واحدة بالنبل أو حتّى بحجر، اللهمّ إلا التبجح بضرب أعناق الأسرى، حيث يعلمون أنّ الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم لا يسمح بذلك، ولو احتملوا إذنه لم يظهروا ذلك أيضاً خوفاً من معاداة أقوام الأسرى من المشركين، فهم ما كانوا يضحّون في سبيل الدين حتّى بمودّة المشركين. وبهذا المقياس للإيمان يُغَربَل المدّعون ولا يبقى من المسلمين إلا القليل في جميع العصور.

«أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» الجملة واضحة في حصر الصادقين في من مرّ ذكره، وهو تعريض بأنّ غيرهم يكذب في دعوى الإيمان ولا يحقّ له ذلك، وإنّما هو مسلم بالمعنى العامّ وبمعنى أنّه أسلم نفسه للمجتمع المسلم ولولي الأمر ليحفظ بذلك دمه وماله وعرضه، ويدخل فيما دخل فيه المسلمون من المصالح العامّة والحماية والأمن، وليشمله توزيع الغنائم والزكوات ونحو ذلك.

وربما يقال: إنّ الحصر هنا إضافي، فمعنى قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ» وكذلك قوله: «أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» نفي الإيمان عن أولئك الأعراب، ولا يقصد به نفي الإيمان عن كلّ من لم تكن فيه هذه الصفات؛ لأنّ المجاهدة في سبيل الله تعالى قد لا تتهيّأ للمؤمن أو قد يكون معذوراً، فلا يمكن نفي الإيمان بمجرّد ذلك.

وهذا كلام باطل وهو مخالف لصريح الآية الكريمة أو ما هو كالصريح، والحصر حقيقي، ولكنّ المراد بالمجاهدة أن يكون المؤمن مستعدّاً للتضحية في سبيله تعالى إذا اقتضى الأمر، ومن لم يكن مستعدّاً لذلك فهو ليس بمؤمن إلا

ص: 346

باللفظ ولم يؤمن بقلبه. هذا مضافاً إلى أنّ المجاهدة في سبيل الله تعالى لها صور كثيرة ربما تتحقّق بعضها لكثير من الناس حتّى في أيّام السلم، فالذي يتحمّل المشاقّ لتبليغ دين الله تعالى في أيّام السلم ولا يهتمّ بالأخطار المحيطة به مجاهد في سبيله تعالى، وربما لا يكون الخطر يهدّد حياته، ولكنّه يهدّد شؤونه الاجتماعية ويحطّ من كرامته عند الناس، فلا يعتني بها في سبيل امتثال أوامر الله تعالى.

«قُلْ أَتُعَلَّمُونَ اللهَ بدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض»؛ الاستفهام للإنكار، والمراد بالتعليم الإعلام، ولذلك تعدّى بالباء. قيل: إنّ جمعاً منهم بعد نزول الآيات السابقة أتوا النبي صلّی الله علیه و آله و سلّم وحلفوا أنّهم صادقون في إيمانهم وكأنّهم أرادوا بذلك الردّ على ما ورد من الوحي فيهم، فأتاهم الجواب صاعقاً وساخراً منهم ومن دعواهم. فمن المضحك أن يحاول الإنسان أن يُعلم الله بأمر وهو عالم الغيب ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات ولا في الأرض. والإنسان لا يعلم ما في نفسه وكثيراً ما ينخدع بجهله هذا، وكثيراً ما يتصوّر الإنسان أنّه مخلص في عمله ويتبيّن له يوم القيامة ما فيه من شوائب، ويمكنه معرفة ذلك هنا إذا راجع ضميره.

وقيل: إنّ هذه الرواية لا أساس لها، وإنّ المراد بإعلامهم دينهم هو نفس دعواهم الإيمان؛ ولكنّ الذي يبدو من الآية أنّها ردّ على أمر آخر غير دعواهم السابقة، فإنّهم في تلك الدعوى لم يحاولوا إعلام ربّهم بدينهم، وإنّما ادعوا ذلك فحسب، فسواء صحّ الخبر أم لم يصحّ لا بدّ من تقدير أمر آخر غير الدعوى الأولى ليكون هذا ردّاً عليه، وما ورد من الخبر يناسب مضمون الآية. وتؤيّده

ص: 347

إعادة الأمر بقوله «قُلْ» ممّا يدلّ على أنّه محادثة اُخرى غير ما سبق.

«وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ». العليم صفة مشبّهة تدلّ على الثبات والدوام، فالعالم يمكن أن يكون علمه حادثاً ويمكن أن يزول، والله تعالى علمه بكلّ شيء أزلي وأبدي لم يحدث ولن يزول، فلا معنى لمحاولة إعلامه بشيء.

«يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لا تَمدُّوا عَلَى إِسْلامَكُمْ». المنّ بمعنيين: القطع والإنعام. ويقال لمن يعدّ نعمه على المنعم عليه إيذاءاً له: إنّه من عليه؛ إمّا بمعنى أنّه قطع نعمته بذلك، أو بمعنى أنّه اعتبر ما أسداه إليه نعمة، مع أنّه لا ينبغي أن يعتبره نعمة منه، فالمنعم في الحقيقة هو الله تعالى. والمراد بالمنّ هنا هو هذا المعنى، أي أنّهم اعتبروا إسلامهم نعمة منهم عليك، والإتيان بفعل المضارع يدلّ على استمرارهم على ذلك أو أنّه ثابت في سريرتهم لا يزول، وهكذا كثير من الناس، فإنّهم يمنّون على الله تعالى وعلى رجال الدين بأنّهم مؤمنون مسلمون؛ وكأنّ ذلك نعمة يقدّمونها إلى الله تعالى وإلى الدين ورجاله، والآية تعالج هذه المشكلة النفسية التي تمنع من نفوذ الإيمان في القلوب.

والظاهر أنّ المراد به نفس ما ذكر أوّلاً من قولهم: «آمنّا» ولكنّه بدلّ التعبير عنه بالإسلام، فلم يعتبره إيماناً، لما مرّ من نفي الإيمان عنهم. ثمّ نهاهم عن المنّ عليه بالإسلام لأمرين:

أحدهما: أنّ الإسلام والإيمان ليس ممّا يمنّ به على أحد، بل هو نعمة أنعمها الله عليكم.

والثاني: أنّه صلّی الله علیه و آله و سلّم رسول من الله تعالى ووسيط، فلو كانت لهم نعمة ومنّة لكان ذلك على الله تعالى وهو لا يُمنّ ولا يُنعم عليه، بل هو الذي يمنّ على من سواه

ص: 348

وكلّ شيء منه، فقوله: «لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ» يشير إلى الأمرين.

«بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ». في هذه الجملة أيضاً إشارتان، فمن جهة منع أن يكون إسلام الناس أو إيمانهم نعمة منهم على أحد، بل هو نعمة من الله تعالى على الناس؛ ومن جهة اُخرى أبدل الإسلام بالإيمان، لأنّ الإسلام الظاهري ليس هو المقصود بالذات، فهو لا يفيد في الآخرة شيئاً والله تعالى يريد الآخرة، وإنّما الذي يعتبر نعمة من الله تعالى وليس منكم هو هدايته لكم إلى الإيمان إن كنتم صادقين في قولكم الأوّل: «آمَنَّا»، وقد بيّن سابقاً أنّهم كاذبون، فهذه الجملة مبنيّة على مجرّد افتراض الصدق. ولا شك أنّ الإيمان من أجلّ نعم الله تعالى، بل هو أجلهّا على الإطلاق؛ لأنّ النجاة لا تكون إلا به، وهو الهدف الأساس من الخلق.

«إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ والأرْضِ» الغيب هو ما يغيب عن الأبصار، فلا يمكن أن يشاهد، وهو تارة نسبي، وتارة غيب على الإطلاق، فالنسبي ما يكون غيباً لبعض دون بعض، فكلّ من غاب عن الحادث اعتبر ذلك غيباً له لا يمكن له العلم به إلا بواسطة، والغيب المطلق ما لم يوجد بعد، فلا تمكن مشاهدته للجميع. والغيب بالمعنى الأوّل لا معنى له بالنسبة إلى الله تعالى؛ فإنّه محيط بالكون والكلّ حاضر لديه لا يغيب عنه شيء، وهو عالم بالغيب المطلق، أي ما لم يوجد بعد بل بعبارة أدقّ لا يغيب عنه المستقبل أيضاً. وعلى هذا المعنى فالمراد بالغيب ما يكون غيباً لغيره.

«وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ». الظاهر أنّه تكميل للاستدلال، فالله عالم بالغيب، فكيف بما هو مبصر وحاضر وهو أعمالكم، ومنها الإسلام والإيمان. وقد قلنا

ص: 349

مراراً، إنّ كونه تعالى بصيراً ليس بمعنى كونه عالماً بالمبصرات، بل بمعنى كونها حاضرة عنده، فهو يبصرها ولا يغيب عنه شيء في السماوات والأرض. والحاصل أنّ الآية استدلال بوجه آخر لسفاهتهم، حيث يحاولون إعلامه تعالى بدينهم.

والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الطيّبين الطاهرين.

ص: 350

تفسیر سورة ق

اشارة

ص: 351

ص: 352

سوره ق (1- 5)

ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءَهُم مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكَفِرُونَ هَذَا مى عجيبُ (2) أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَبُ حَفِيظٌ (4) بَل كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ (5)

سورة ق مكّية بشهادة آياتها، حيث تتناول التنديد بكفر المشركين وإنكارهم للقيامة، مع الإشارة إلى أدلّتها والتحذير من عواقب الكفر وما لحق بالاُمم السالفة، ثمّ ذكر بعض حقائق تلك المرحلة من الكون ممّا هو غريب عن ذهن الإنسان، والتأكيد على قدرة الله تعالى في خلق الكون وإعادة الحياة للإنسان.

«ق» من الحروف المقطّعة، وقد مضى بعض الكلام حولها في تفسير سورة يس.

«وَالْقُرْآنِ المُجِيدِ» قسم بالكتاب العزيز. والله تعالى يقسم في مواضع كثيرة بكتابه وبكثير ممّا خلق. والقسم إنشاء علاقة اعتبارية بين ما يراد بيانه أو الالتزام به، وبين عزّة ما يقسم به وكرامته كما هو واضح من الأقسام العرفية، حيث

ص: 353

يقسم الإنسان بحياة ابنه أو أبيه ونحو ذلك، وقسم الله تعالى أيضاً لا يشذّ عن هذا الأمر، و وكرامة ما يقسم به الله تعالى من جهة استناده إليه وتعلّقه به، وهو يختار من بين ما يقسم به ما يناسب الأمر المقسم عليه، وهنا يقسم بالقرآن للتأكيد على الرسالة والردّ على اعتراض المشركين وإن لم يصرّح.

والمجد، بلوغ الغاية في الكرم والشرف والعظمة، فالمجيد المطلق هو تعالى، وقيل: إنّ توصيف القرآن به لأنّه كلام المجيد وهو بعيد، بل هو بنفسه أيضاً مجيد؛ لكونه بلغ النهاية في العظمة من بين أنحاء الكلام وفي الكرم، كما وصفه تعالى به حيث قال: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ»،(1) والكرم بمعنى كون الشيء قيّماً، ولذلك توصف به الأحجار الكريمة، والقرآن فوق كلّ كريم، ولا يمكن لأحد أن يحدّد له قيمة. وبلغ النهاية في الشرف، لأنّه كلام الله تعالى.

ومهما كان فهو قسم حذف جوابه، ونظيره ما وقع في أوّل سورة ص، ويمكن أن يقدّر جوابه بأحد الوجوه التالية أو غيرها:

1- أن تكون الجملة المقدّرة: «لا أقول إلا الحقّ» أو ما يفيد معناها، وهذه هي الجملة التي يطلب من الشاهد أن يقولها أمام القاضي، فلا يبعد أن تكون الأقسام التي وردت في القرآن الكريم من دون ذكر المقسم عليه كلّها من هذا القبيل، فحذفت الجملة اعتماداً على وضوحها.

2- أن تكون الجملة: «إنّك لمن المنذِرين» أو ما يفيد معناها، مثل ما ورد في أوّل سورة يس: «وَالْقُرْآنِ الحكيم * إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ»،(2) وذلك بقرينة أنّ الكافرين

ص: 354


1- الواقعة (56): 77.
2- یس (36): 2-3.

أظهروا عجبهم من كون المنذر منهم، بناءاً على أنّ الجملة التالية تدلّ على العجب من جهتين ولكنّه بعيد.

3- أن تكون الجملة ما يدلّ على حشر الناس يوم القيامة بقرينة استغرابهم ذلك، كما هو مفاد الجملة التالية.

«بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ» إضراب عن الجملة المقدّرة جواباً للقسم، فإن قدّرنا الجملة الاُولى فمعنى الإضراب أنّهم لا يشكّون في أنّ ما يقوله الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم هو الحقّ، ولكنّهم استغربوا الإنذار، ولكنّه ليس عجيباً كما سياتي.

وإن قدّرنا الجملة الثانية، فمعناه أنّهم لم يكذّبوه في رسالته وإنّما عجبوا من هذا الإنذار.

وإن قدّرنا الجملة الثالثة، فمعناه أنّهم لا يمكنهم إنكار القيامة بدليل إذ لا سبيل إلى هذا الإنكار ، وإنّما هم يستغربون تحقّقها لخطأ منهم، كما سياتي بيانه في الآيات التالية.

والضميران في «عَجِبُوا» و «مِنْهُمْ» يعودان إلى كفّار مكّة وإن لم يذكروا سابقاً إلا أنّ السياق يدلّ عليهم وهم مذكورون في الجملة التالية.

والإنذار: الإعلام بما يُحذر منه، والمراد إنذارهم بالحشر يوم القيامة وهو التعجّب كما صرّح به في الجملة التالية.

وقوله: «مِنْهُمْ» يمكن أن يكون بمعنى من جنسهم، فيكون منشأ آخر للتعجّب، لأنّهم كانوا يستغربون كون الرسول بشراً مثلهم، ويظنّون أنّه يجب أن يكون من جنس الملك، كما يرويه القرآن الكريم من الأقوام السابقة، ولكنّ الأقرب أن يكون المراد من قوله: «مِنْهُمْ»، أي من قومهم، فلا يكون مورداً

ص: 355

للتعجّب، بل يكون التنبيه عليه لمزيد من التنديد بهم، حيث كان المفروض أن يهتمّوا بإنذاره، لأنّه لا يريد بهم إلا الخير، خصوصاً بملاحظة أنّهم عرفوا منه الصدق والأمانة.

«فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ»، الفاء للعطف، أي قالوا ذلك نتيجة لاستغرابهم. وأتى بالاسم الظاهر أي «الْكَافِرُونَ» بدلاً عن الضمير ليدلّ على الضمير، وللتنبيه على أنّ السبب في إنكارهم وإبدائهم للاستغراب هو الكفر ، أي ستر الحقّ، فهم يدركون أنّه الحقّ من ربّهم ولكنّهم يكفرون به تعنّتاً حيث إنّهم عرفوه أميناً صادقاً، ولم يسمعوا منه كلاماً يدلّ على نبوغ في العلم أو الأدب طيلة أربعين سنة، فلا يبقى مجال للشكّ في أنّ ما يأتي به إنّما هو من الله تعالى. وقولهم: «هَذَا» إشارة إلى الإنذار المذكور في قوله: «مُنْذِرٌ».

«أئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعَ بَعِيدٌ». هذا بيان لوجه استغرابهم أو ما يظهرونه وجهاً لذلك تمويهاً على السذّج من الناس. والرجع: الرجوع. والمراد بالبعد الاستبعاد العقلي، والمعنى واضح ومتكرّر منهم وممّن قبلهم وبعدهم ، والرجوع في الواقع غريب على الإنسان الذي لا يؤمن بالله، وأمّا الذي يعتقد بأنّ الله تعالى هو خالق الكون لا ينبغي أن يستبعد ذلك، والوثنيون كانوا يعترفون بذلك، فالذي خلق الكون من البدو ولم يكن شيئاً، وإنّما أبدعه بإرادته لا يستبعد منه أن يعيد خلقه بعد الفناء. وقد حذفت جملة الجواب، أي: «أنذا متنا وكنّا تراباً نرجع»، ولعلّ الوجه في حذفه التنويه على أنّه لغرابته لا يمكن التصريح به.

«قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ» جواب عن الاستغراب

ص: 356

المذكور، وهو أنّ الله تعالى لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في السماوات ولا في الأرض، فهو يعلم بما تأخذ الأرض من أجزائهم ويحوّلها تراباً ويعلم أين هي. والكتاب أي المجموعة، وكتب بمعنى جمع، فلا يجب أن يكون مكتوباً بالمعنى المتعارف. والحفيظ مبالغة في الحفظ، فالمراد أنّ كلّ الأجزاء المنتشرة، بل وصورة الإنسان الشخصية معلومة ومحفوظة لديه تعالى، ويمكنه الإتيان بها وإعادة صنعها وبثّ الحياة فيها متى شاء. ولعلّه أتى بفعل الماضي: «قَدْ عَلِمْنَا» ولم يقل: نعلم مع أنّهم لم يتحوّلوا تراباً آنذاك للتنبيه على أنّ علمه تعالى أزلي.

وفي الآيات هنا أربعة وجوه من الاستدلال على إمكان المعاد، هذا أوّلها وهو استدلال بالعلم الإلهي ردّاً على استبعاد المعاد من جهة تشتّت الأجزاء وتفرّقها.

والوجه الثاني: ما يستفاد من قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلى السَّمَاءِ» وما بعده من أنّ خالق الكون قادر على خلق مثله.

والوجه الثالث: يفيده قوله تعالى: «كَذَلِكَ الْخُرُوجُ»، فإنّ إحياء الموتى لا يختلف عن إحياء الأرض بعد موتها وهو متكرّر طيلة القرون.

والوجه الرابع: يفهم من قوله تعالى: «أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ»، حيث يفيد أنّ بدء الخلق وإبداعه لم يعجز الله تعالى، فكيف يعجزه إعادته؟!

«بَلْ كَذَّبُوا بِالحَقِّ لَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أمْرٍ مَرِيجٍ»، أي ليس استغرابهم وإنكارهم مستنداً إلى شكّ واقعي أو بحث علمي، بل هم أدركوا أنّ الذي جاءهم هو الحقّ من ربّهم ولكنّهم كذبوا بالحقّ لغرض في نفوسهم وحقد وحسد، وإذا قاوم الإنسان الحقّ الصريح الواضح اختلطت عليه الاُمور، فهو يتخبّط في موقفه لا يستقرّ على فكرة واحدة وطريق واحد، وهذا هو المراد بالمريج؛ فإنّ المرج هو

ص: 357

الخلط. وكان الخلط والتناقض واضحاً في مواقفهم تجاه الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، فتارة يقولون إنّه ساحر أو كاهن، وتارة يرمونه بالجنون، وتارة يتّهمونه بالكذب والافتراء مع اعترافهم بأنّه الصادق الأمين طيلة حياته بينهم، وتارة يقولون إنّ القرآن شعر، وتارة يقولون إنّه كلام عادي ولو شئنا لقلنا مثل هذا، وتارة يعترفون بأنّه لا يشبه كلام الشعراء وإنّما هو سحر مفترى يسحر الناس بتأثيره، وغير ذلك من أنحاء التخبّط.

ص: 358

سوره ق (6- 15)

أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَهَا وَزَيَّنَهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ، جَنَّتِ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَت مَا طَلْعُ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مِّيْتًا كَذَلِكَ الخرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَبُ الرِّسِ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَبُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبع كُلِّ كَذَّبَ الرُّسُلَ لَحَقِّ وَعِيدِ (14) أَفَعَمِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْس مِنْ خَلْقٍ جَدِيدِ (15)

«أفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَا مِنْ فُرُوجٍ». مجموعة من الآيات تدعو الناس إلى تدبّر الأمور الكونية للوصول إلى جواب آخر عن السؤال المذكور، وهو الاستدلال بقدرته تعالى - وهو خالق الكون العظيم - على الإحياء بعد الموت، فتدعوهم أوّلا إلى النظر إلى السماء فوقهم، والمراد به النظر بالعين فلا حاجة إلى دقّة علمية وبحث فلسفي. والفاء في قوله «أَفَلَمْ يَنْظُرُوا» للتفريع، يعني إذا استغربوا المعاد فلماذا لا ينظرون إلى الكون ليتبيّن لهم أنّ الخالق الذي أبدع هذا الكون العظيم الجميل البديع قادر على إنهائه وإبداع خلق جديد وعلى إعادة الحياة للإنسان بعد موته؟! ومثله قوله تعالى: «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرض بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ العَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذا أَرَادَ شيئاً أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».(1)

وقوله تعالى: «كَيْفَ بَنَيْنَاهَا» لا يراد به دفعهم إلى معرفة كيفية الخلق والصنع،

ص: 359


1- يس (36): 81-82.

فهو أمر لا شأن للقرآن به مع أنّه ممّا لا يمكن للبشر معرفته خصوصاً في ذلك العهد، ولم يكن الإنسان يتطلّع إلى ذلك، وإنّما المراد - والله العالم - التأمّل قليلاً في خلق الكون وفي دقّته و حسن نظامه الظاهر لكلّ متأمل في شروق الشمس وغروبها وحركة القمر والنجوم، حيث لم يختلف هذا النظام قيد أنملة طيلة القرون المتمادية. والتعبير بالبناء ربما يدلّ على نوع من التدرّج، حيث إنّه لا يتمّ إلا بضمّ جزء إلى جزء.

ولا شكّ أنّ الإنسان كثيراً ما ينظر إلى السماء وتبهره بزينتها وعظمتها، ولكنّ المهمّ هو النظر إليها بما أنّها مخلوقة الله تعالى، لتدلّ على عظمة الخالق وسعة قدرته، وإلا فالنظر فيها مهما كان طويلاً ودقيقاً لا يفيد الهدف المنظور إن لم يتجاوزها.

ومن الملفت التنبيه إلى زينة السماء ممّا يدلّ على أنّ جمال الطبيعة في كلّ جوانبها أمر مقصود وهو ممّا يدلّ على أنّها لم توجد بمجرّد صدفة، كما يظنّ الأغبياء، بل هناك يد صانعة زيّنت الطبيعة لهدف عظيم، وهو الدلالة على الخالق، فكما أن الاستحكام والدقّة يدلان على الصانع الحكيم، كذلك الزينة والجمال.

والفروج ، جمع فرج وهو الشقّ بين شيئين، ولكن ما هو المراد بالسماء؟ ربما يقال: إنّها هي المجموعة الفلكية التي نراها فوقنا فهي مبنية باستحكام، وهي زينة لمن في الأرض، ولكن ما المراد بأنّها ليس لها فروج وشقوق وتصدّعات؟ قيل: إنّ المراد به أنّها متماسكة وتسير بانتظام لا يتخلّل نظامها شيء. ولكنّه بعيد من مع أنّ الآية تقول: «زَيَّنَّاهَا» ولم تقل: «جعلناها زينة لمن في الأرض»

ص: 360

وهناك فرق بينهما، فتزيين السماء بمعنى خلقها جميلة جذّابة بذاتها، وهذا هو المذكور في الآية، وأمّا إذا قلنا بأنّها زيّنة لمن في الأرض، فيصدق إذا كان كذلك في أعيننا، وإن لم تكن في الواقع جميلة، وهذا التأويل لا يستلزم كونها جميلة، كما هو ظاهر الآية.

والظاهر أنّ المراد بها هي السماء الزرقاء التي نراها وهي الغلاف الجوي وكلّ ما نراه فوقنا فهو سماء. والسماء جهة العلوّ. والقرآن ليس كتاب علوم طبيعية ولا يهتمّ ببيان حقائق الكون، فهو شأن بشري، حيث يحاول حل ألغاز الكون، وليس شأن الدين أن يفتح له الأبواب في هذا المسار، وإنّما شأنه أن يهدي الإنسان إلى خالق الكون وهو يخاطب بهذه الآيات كلّ البشر، سواء تقدّموا في العلم أم تأخّروا، بل المخاطبون مباشرة هم من لا سبيل لهم لمعرفة حقائق الكون، والقرآن يخاطبهم بما يفهمونه، ويطلب منهم النظر إلى هذه السماء التي فوقهم وهي مبنية باستحكام لا تتغيّر معالمها على مرّ الدهور والقرون، وهي مزينة بما وراءها من أجرام فلكية، وبسبب الغازات المكوّنة للغلاف، وليس لها فروج وتصدعات، ولا شأن للقرآن في بيان حقيقة هذا الجرم وأنّه غلاف جوي يحفظ الأرض أم أنّه شيء آخر، كما أنّه لا شأن له ببيان أنّ السماء بهذا المعنى لو كان لها فروج وشقوق لتسرّبت منها الأشعة الضارّة بالحياة، كما يذكره بعض المفسّرين، فهذا أمر لا يعرفه المخاطبون، بل المهمّ هو أن يعترف الإنسان بعظمة خالق الكون من خلال نظره إلى الطبيعة بما فيها من بناء وزينة حسب إدراكه وفهمه وتطوّره في العلم والمعرفة.

«وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَالْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ». ونظرة أخرى إلى الأرض وأنّ الله تعالى

ص: 361

مدّها وبسطها ليتمكّن الإنسان من استخدامها في مآربه. وهنا أيضاً لا ينظر القرآن إلى الجانب العلمي وأنّ الأرض كروية أم مسطّحة، كما كان يظنّ الأقدمون، وإنّما ينظر إلى ما نشعر به من تسطّح الأرض نسبياً، حيث تتيح لنا التمكّن من استخدامها لحاجاتنا.

والجملة معطوفة على الجملة السابقة، و «الأرْضَ» مفعول لفعل مقدّر يفسّره قوله: «مَدَدْنَاهَا»، أي ومددنا الأرض، ويمكن أن يكون منصوباً بنزع الخافض و معطوفاً على السماء، أي أولم ينظروا إلى الأرض...، وهذا أولى ليشملها الأمر بالنظر.

والرواسي، هي الجبال من رسا الشيء إذا ثبت. والإلقاء، إفعال من اللقاء بمعنی إیجاد الملاقاة بين شيئين، وليس دائماً بمعنى النبذ والطرح كما يتوهّم، فالذي يدلّ عليه اللفظ هنا هو أنّ الجبال لم تكن موجودة ابتداءاً على سطح الأرض فأوجدها الله تعالى على سطحها لغرض، فتحقّقت الملاقاة بينهما وهو معنى الإلقاء. وقد تكرّر في القرآن الكريم التنبيه على أنّ الجبال تؤثّر في ثبات الأرض وعدم ميدانها وانحرافها، ولعلّ المراد انحرافها عن مسارها حول الشمس أو حول نفسها. ولم تثبت علمياً علاقة بين وجود الجبال على سطح الأرض وعدم انحرافها عن مدارها، ولكنّها محتملة، وليس هناك ما يمنع هذا الاحتمال ولعلّه يظهر فيما بعد. ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى منعها من حدوث بعض الاضطرابات والزلازل وحركة سطح الأرض، فإنّا نجد أنّ هذه القشرة التي نسكنها ونعتمد عليها تتغيّر وتتحرّك، ولعلّ الثبات النسبي الموجود الذي نحتاج إليه في حياتنا على هذا الكوكب يستند إلى وجود الجبال الرواسي، وقال بعض

ص: 362

المفسّرين: إنّ هناك من النظريات العلمية ما يؤيّد ذلك.

«وَانْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج»، الزوج المثلان المتقارنان، يقال لهما: زوج وزوجان، سواء في البشر أو الحيوان أو غيرهما، ويطلق أيضاً ويراد به الصنف، كما قيل، ولم أجد في القرآن ما لا يمكن حمله على المعنى الأوّل الذي هو الظاهر منه، ولعلّهم اضطرّوا إلى فرض المعنى الثاني لعدم تعقلّهم الزوجية في النبات إلا في بعض أنواعه كالنخل، وقد تكرّر في القرآن الكريم الإشارة إلى ذلك، والعلم يثبت أنّ كلّ نبات فيه زوجان بل ربما يظهر من قوله تعالى: «وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»(1) أنّ الزوجية في كلّ شيء، وهذا أيضاً اربك المفسرّين، بل زاد من التعقيد، إذ لا يمكن حمله على الصنف؛ لأنّ الأشياء أصناف وليست صنفين، وسيأتي الكلام حوله في تفسير سورة الذاريات إن شاء الله تعالى.

ومرّة اُخرى يذّكرنا الله تعالى بالزينة المبهرة للعيون على الأرض بقوله: «زَوْجِ بَهِيجٍ». والبهجة في اللغة قد تطلق على الحسن والنضارة، وقد تطلق على السرور، قال ابن دريد في «الجمهرة»: «للبهجة موضعان؛ فمنهما أن تقول هذا شيء ليس عليه بهجة، أي ليس عليه طلاوة، ومنهما قولهم: أبهجني هذا الأمر وبهجني إذا سرّك»(2) ويظهر من بعضهم أنّه الحسن الموجب للسرور، ومهما كان فلا شكّ في استعمال البهجة في نفس السرور حتّى لو لم يكن من التأثر بالحسن، وتستعمل أيضاً في الحسن الناضر من النبات، كما قال تعالى: «حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ»،(3) فلعلّ

ص: 363


1- الذاريات (51): 49.
2- جمهرة اللغة 1: 272.
3- النمل (27): 60.

المراد بالبهيج هنا النبات النضر الحسن الذي يوجب السرور والابتهاج.

«تَبْصِرَةٌ وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ» مفعول لأجله، أي بنينا وزيّنّا وأنبتنا ليكون كلّ ذلك تبصرة وذكرى. والتبصرة من باب التفعيل، أي إيجاداً للبصيرة في القلوب والنفوس. والإنسان يرى كلّ ما في الطبيعة ويتنعّم بها، ولكن قلّ من تجده يتبصرّ بها ما وراءها، وقلّ من يبصر من خلالها آيات الله سبحانه وإن كان يتوغّل في النظر إليها ويدقّق في أعماقها، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين علیه السّلام بقوله في وصف الدنيا: «مَنْ أَبْصَرَ بِهَا بَصَّرَتْهُ وَمَنْ أَبْصَرَ إليها أعْمَتُهُ»،(1) أي من تأمّل في جوانب الحياة الدنيا وما فيها من حقائق ليعرف الخالق الحكيم ، فإنّ دقائق الكون تبصّره، أي تجعله بصيراً عارفاً بربّه، وأمّا من نظر إليها وتعمّق فيها من دون أن يتجاوزها ويحاول معرفة خالقها فإنّ الدنيا تعميه فلا يرى ربّه ولا يجد من خلال حقائق الكون اليد الخالقة القادرة.

والذكرى اسم مصدر للتذكير - كما في «العين»(2) - والتذكير يقتضي أن يكون الإنسان عالماً بالأمر، وإنّما طرأت عليه الغفلة، فهو إمّا باعتبار أنّ الإنسان المؤمن بربّه يغفل عنه إذا اشتغل بالدنيا وهمومها ومشاكلها أو زينتها وزخارفها، وإمّا باعتبار أنّ الإنسان يعرف ربّه بفطرته، وإنّما ينساه ويغفل عنه نتيجة الخوض في الدنيا فيحتاج إلى تذكير فقط، والقرآن يؤكّد على هذه الحقيقة وأنّ القرآن وكلّ كتب السماء ذكرٌ للإنسان وأنّ هذه الحياة سبقتها معرفة له بحقائق الكون، بل اعتراف بها، كما قال تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ

ص: 364


1- نهج البلاغة (للصبحي صالح): 106 / الخطبة 82.
2- كتاب العين 5: 346.

وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ السْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين»،(1) ومهما كان فكلّ ما في الكون من آيات الله تعالى تذكر الإنسان بتلك الحقيقة التي يغفل عنها نظراً إلى اشتغاله بالدنيا وبعده عن ربّه.

والإنابة الرجوع ومثلها التوبة. والمراد أنّ هذه الآيات تبصّر وتذكّر كّل عبد من عباده تعالى يريد أن يرجع إليه بعد اشتغاله بالدنيا وبعده عن ربّه. ومعنى ذلك أنّ التبصّر والتذكّر لا يتمّان إلا إذا كان في العبد رغبة في الإنابة والرجوع.

«وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ»؛ ومن النعم الجسيمة التي لا تستغني عنها الحياة على هذا الكوكب نزول المطر، والله تعالى يعبّر عنه بأنّه ماء مبارك، والبركة هي الخير الكثير المستقرّ، ومن خصائص المطر أنّه يستقرّ خيره في الأرض وليست نعمة عابرة، فيستقرّ نفس الماء في الجبال والأراضي المرتفعة ويخرج من العيون والقنوات والآبار، كما يستقرّ خيره بإنبات الأرض وإخصابها ومنع تصاعد الغبار وتصفية الجوّ وتغيير المناخ وغير ذلك ممّا يعلمه البشر أو لا يعلمه. والمراد بالسماء هنا جهة العلوّ، حيث يكون السحاب. وتعلّق الإنبات بالجنات فيه نوع من الإسناد المجازي، فإنّ الإنبات يتعلّق بالزرع والشجر.

والجنّة: الأرض ذات الشجر الكثير بحيث يسترها. ويمكن أن يكون التجوّز في اللفظ، فيراد بالجنّات نفس الشجر وهو أنسب بعطف الحَبّ عليه.

والحصيد فعيل بمعنى المفعول، أي المحصود وهو الزرع، فإضافة الحبّ إليه على حقيقتها؛ فإنّ الزرع يشتمل عليه. والمراد به الحنطة والشعير والأرز ونحوها،

ص: 365


1- الأعراف (7): 172.

ويمكن أن يكون الحصيد صفة للحبّ، فتكون من قبيل إضافة الموصوف إلى الوصف.

«وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعُ نَضِيدٌ» عطف على حبّ الحصيد أو على الجنّات إذا اُريد بها الشجر، فيكون من عطف الخاصّ على العامّ. وباسقات حال من النخل. والبسوق: الطول. وصف النخل به لأنّ جمالها بطولها، وهنا أيضاً تطرّق لزينة الخلق، وكذلك في وصف الطلع بالنضيد.

والطلع: ما يطلع من النخلة من النور، ثمّ يصير تمراً إن كانت اُنثى، وإن كانت ذكراً لم يصر تمراً، بل يؤكل طريّاً أو يترك على النخلة أيّاماً معلومة حتّى تتكوّن فيه مادة بيضاء مثل الدقيق، ولها رائحة زكيّة فيلقح به الاُنثى.

والنور - بالفتح - الزهر الذي يكون مبدأً للثمرة.

والنضيد، أي المنضود حيث إنّ الطلع المذكور منظم بترتيب واتّساقٍ بعضه على بعض. والنضد: ضمّ شيء إلى شيء أو عليه باتّساق ونظم.

«رِزْقاً لِلْعِبَادِ». الرزق هو العطاء المحدّد لوقت خاصّ، ثمّ اُطلق على غير المحدود أيضاً، وهو هنا مفعول لأجله، أي نزّلنا المطر وأنبتنا ما أنبتنا رزقاً للعباد، وقد قلنا غير مرّة إنّ المراد بالرزق في الحياة الدنيا هو تدبير الطبيعة بحيث يتمكّن كلّ حيّ من الوصول إلى ما يحتاجه لاستمرار حياته بصورة طبيعية، وهذه الآية صريحة في أنّ هذا هو المراد بالرزق، وليس إيصال الرزق لكلّ فرد من الحيوان والإنسان وإن لم يحاول الوصول إلى مطعمه ومشربه بالوسائل المتاحة له في الطبيعة كما يتوهّم.

«وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً». وهذا بيان لفائدة اُخرى للمطر وهو حياة الأرض الميتة،

ص: 366

ويعبّر بموتان الأرض عن عدم استعدادها للإنبات بسبب الجفاف، فالمطر يهيّج الأرض ويبثّ فيها الحركة للإنبات وهو المراد بحياتها، وبذلك يتبيّن أنّه ليس تكراراً لما مرّ من الإنبات.

والبلدة تطلق على كلّ موضع مستحيَز من الأرض عامر أو غير عامر، خالٍ أو مسكون كما في «العين».(1) والميت مخفف الميّت. وأتى بالوصف مذكّراً بتأويل المكان أو البلد.

«كَذَلِكَ الْخُرُوجُ» خبر مقدّم ومبتدأ مؤخّر. والمراد بالخروج خروج البشر من القبور يوم القيامة، ويشير بقوله: «ذَلِكَ» إلى إحياء الأرض بعد موتها، أي إعادة البشر ليس إلا كإحياء الأرض.

وقد أجاب عن استغراب المشركين أمر المعاد بوجهين فيما مضى من الآيات: علم الله تعالى بكلّ أجزاء الموتى المقصود بقوله تعالى: «قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ» وقدرته المطلقة حيث قال: «أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ»، وهنا يشير إلى الدليل الثالث على إمكان المعاد ردّاً عليهم، وذلك لأنّ الإحياء أمر متكرّر، فالأرض الموات تحيا بالمطر وتموت بالجدب ثانية وتحيا بعدها فلا وجه لاستبعاد إعادة الحياة للإنسان، بل هناك من الأراضي الموات ما تبقى مواتاً سنين متمادية لا عشب فيها لتوالي الجدب، ثمّ تحيا بالمطر بأحسن وجه.

«كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسُ وَثَمُودُ * وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ» تهديد لمكذبي المعاد والرسالة، وتسلية لخاطر الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وللاُمة المسلمة بأنّ هؤلاء ليسوا وحدهم من يكذّبون، ولكنّ الله تعالى لهم جميعاً بالمرصاد. والقرآن يؤكّد

ص: 367


1- كتاب العين 8: 42.

في أكثر من موضع على أن الأمم تتّبع بعضها بعضاً ويكرّر كلّ قوم متأخّر أقوال من تقدّمهم، والعجيب أنّ البشر في العصر الحاضر وبعد ما حقّقه من التقدّم العلمي وكشف حقائق الكون يكرّر أيضاً سفاهات المتقدّمين. وقوم نوح علیه السّلام من

أقدم الأقوام البشرية أو هم الأقدم مطلقاً أو أنّهم أقدم من بعث إليهم رسول.

والرسّ، قيل: اسم لواد معروف، وقد ورد ذكره في شعر زهير بن أبي سلمى: فهنّ ووادي الرسّ كاليد في الفم. (1)

وقال الخليل: «بئر البقية من قوم ثمود». (2) وقيل: بمعنى البئر التي لم تُطوَ، أي لم تُبْنَ بالحجارة، وأنّ هؤلاء كذّبوا نبيّهم فانخسفت بهم البئر. وقيل: رسّوه في البئر، أي دفنوه. وكثر الكلام حول ذلك بما لا دليل عليه. وعن أمير المؤمنين علیه السّلام: «أينَ الْعَالِقَةُ وَابْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ أيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَأَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ أَينَ أصحاب مَدَائِنِ الرَّسُ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ وَأطْفَئُوا سُنَنَ المُرْسَلِينَ وَأَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ»(3) ممّا يدلّ على أنّهم كانت لهم مدائن. وأمّا الأوصاف التالية في كلامه علیه السّلام فيمكن أن تكون لكلّ من سبق، فلا تدلّ على أنّهم ممّن جاءهم جمع من الأنبياء.

وعاد وثمود قومان من الأمم القديمة، ويبدو من بعض الآيات أنّ آثارهم كانت باقية ومعروفة في عهد الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، ولذلك اهتمّ بذكرهم القرآن الكريم، ونبّه الناس على الاعتبار بهم وبعاقبة أمرهم، وقوم عاد ونبيّهم هود علیه السّلام كانوا يعيشون في الأحقاف، وهي منطقة - على ما يقال - في حضرموت اليمن، وقد مرّ بعض الكلام حولهم في تفسير سورة الأحقاف.

ص: 368


1- لسان العرب :6: 98؛ فتح القدير 4: 76.
2- كتاب العين 7: 190.
3- نهج البلاغة (للصبحي صالح): 263 / الخطبة 182.

وأمّا ثمود فنبيّهم صالح علیه السّلام وكانوا يعيشون في منطقة بین المدینة و الشام علی ما يقال. وربما تكون هي ما سمي بالحِجر في قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ المُرْسَلِينَ»؛(1) ويحتمل بعض المؤرّخين وعلماء الآثار أن تكون جزءاً من منطقة وادي القرى وما يعرف اليوم باسم مدائن صالح على الطريق من خيبر إلى تبوك والله العالم.

ومهما كان فقصّتهم وعقرهم للناقة معروفة ومذكورة في موارد عديدة في الكتاب العزيز. والغالب في موارد ذكرهم في القرآن أن يذكر قوم عاد قبل ثمود لكونهم أسبق، كما قال تعالى نقلاً عن صالح علیه السّلام، «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ»،(2) ويبدو أنّ السبب في التغيير هنا رعاية القوافي.

والمراد بفرعون هو وقومه، والمراد بإخوان لوط علیه السّلام قومه الذين اُرسل إليهم، والتعبير بالأخ لا يقتضي القرابة ولا كونه من نفس القوم، فإنّ القرآن كثيراً ما يعبّر عن رسول القوم بأخيهم، وقد مرّ بعض الكلام حوله في تفسير قوله تعالى: «وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ»(3) وقلنا: إنّه تعبير عن كلّ نوع من المشاركة والمصاحبة، كقوله تعالى: «كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا»(4) وقوله تعالى: «وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا»،(5) والتعبير العربي مشحون بذلك كأخي الجهد في شعر امرئ القيس:

ص: 369


1- الحجر (15): 80.
2- الأعراف (7): 74.
3- الأحقاف (46): 21.
4- الأعراف (7): 38.
5- الزخرف (43): 48.

عشيّة جاوزنا حماة وسيرنا *** أخو الجهد لا يلوي على من تعذّرا(1)

ويقصد به السير بجهد. وكذلك تعبيرهم بأخي الخير وأخي الشرّ ونحو ذلك.

«وَأصْحابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّع». الأيكة: الشجر الكثير المُلْتَفّ أو الأجمَة التي فيها السدر والأراك من ناعم الشجر. والمراد بهم قوم شعیب علیه السّلام لقوله تعالى: «كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ هُمْ شُعَيْبٌ ألا تَتَّقُونَ».(2)

و «تُبَّع» من ملوك اليمن ويسمّون التبابعة، والظاهر أنّ المراد به هنا أحدهم وهو من ذكر في التاريخ باسم أسعد أو سعد أبو كرب. وقد ورد ذكره في الروايات وأنّه ممّن بشّر أهل يثرب في عصره بظهور الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في هذا البلد، وأنّه أمرهم وأمر أولاده بمتابعته ونصرته.

روی الصدوق بسند معتبر عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «إنّ تبعاً قال للأوس والخزرج كونوا ها هنا حتّى يخرج هذا النبي أمّا أنا فلو أدركته لخدمته ولخرجت معه».(3)

وروِي أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم نهى عن سبّه ، لأنّه أسلم وأنّه أوّل من كسا الكعبة المعظمة.(4) والمراد بإسلامه إيمانه بالله تعالى وبالرسالات. ولعلّه لذلك لم يرد في الآية تُبّع، بل قوم تُبّع وورد مثله أيضاً عند ذكرهم في سورة ص.

«كُلِّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقِّ وَعِيدِ»، أي كلّ منهم كذّب الرسل إمّا بمعنى أنّ كلّ قوم كذّبوا رسولهم، فالمراد بالرسل آحاد الرسل في كلّ قوم، أو بمعنى أنّ

ص: 370


1- دیوان امرئ القيس: 46؛ الدرّ المصون 2: 234.
2- الشعراء (26): 176 - 177.
3- كمال الدين وتمام النعمة: 171.
4- راجع: مجمع البيان في تفسير القرآن 10 - 9: 100 - 101؛ الميزان في تفسير القرآن 18: 152.

تكذيبهم لرسولهم تكذيب لكلّ الرسل، فإنّهم كانوا يُكذّبون الرسالات. والوعيد مضاف إلى ياء المتكلّم ، أي فحقّ عليهم وعيدي. وتدلّ الجملة على أنّ هناك وعيد عامّ منه تعالى لكلّ من كذّب الرسل، فحقّ على هؤلاء ذلك الوعيد السابق أي ثبت. والمراد - بالطبع - القوم الذين اُرسل إليهم رسول فكذّبوه، ولا يشمل تكذيب من لم يروا بينهم رسولاً .

«أفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ» يعود السياق للاستدلال على المعاد بوجه رابع، وهو أنّه تعالى لم يعجز عن الخلق الأوّل وهو أغرب وأبعد عن العقول فكيف بإعادة. الخلق، وهذا الأمر أيضاً ممّا تكرّر التنبيه عليه، كقوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثمّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أهْوَنُ عَلَيْهِ».(1)

والعيّ - بكسر العين - بمعنى العجز، وقيل: إنّه بمعنى التعب، ولكنّ الظاهر من موارد الاستعمال - كما قال بعض اللغويين(2) - أنّ الإعياء بمعنى التعب، والعِيّ بمعنى العجز. ووجه الاستدلال واضح، فإنّ بدء الخلق لم يكن هناك شيء فأوجد الله الكون من لا شيء وبمحض الإرادة فالقادر على ذلك قادر بطريق أولى على إعادة الخلق بعد إفنائه، فإن الخلق الثاني له اُصول وله نماذج وصور في علم الله تعالى.

«بَلْ هُمْ في لَبْس مِنْ خَلْقٍ جَديدٍ». الإضراب باعتبار أنّهم لا ينكرون قدرة الله تعالى على الخلق الأوّل، فهم يعترفون به، بل هم في شكّ واختلاط ولبس من خلق جديد للكون أو للإنسان، وهذا استغراب من إنكارهم وكفرهم، حيث إنّهم

ص: 371


1- الروم (30): 27.
2- راجع: المغرب 2: 96.

يعترفون بما هو أهمّ وأصعب وأبعد عن العقل، ويلتبس عليهم الأمر في إمكان الخلق الجديد، مع كونه أسهل وأقرب إلى الإمكان حسب عقول البشر؛ وأمّا بالنسبة إلى إرادة الله تعالى وقدرته فليس هناك سهل وأسهل ولا صعب وأصعب، بل نسبة كلّ الأمور إليه تعالى نسبة واحدة.

ص: 372

سوره ق (16- 29)

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَابِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِيتُهُ، هَذَا مَا لَدَى عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَمٌ كُلِّ كَفَّارِ عَنيد (24) منَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدِ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَيْهَا وَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشِّدِيدِ (26) قَالَ قَرِيتُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ، وَلَئِكن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَى وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدِّلُ الْقَوْلُ لَدَى وَمَا أنا بِظُلْمٍ لِلْعَبِيدِ (29)

مجموعة آيات تبيّن مسيرة الإنسان في الحياة من بدء خلقه، ثمّ تقلّبه في شؤون الدنيا تحت هيمنة علم الله تعالى عليه، والرقابة المشدّدة وتسجيل كلّ ما يقول إلى أن يحين موته وما يعرض عليه حين الموت، ثمّ إحياؤه من جديد ليحضر أمام خالقه ومرّبيه.

«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ». الآية تذكّر الإنسان ببدء خلقه لينّبهه على إمكان خلقه من جديد وإحيائه للحساب، وأنّ كلّ أعماله وحتّى خطرات قلبه محفوظة مسجلة عليه؛ وتقديم ذكر الخلق مؤكّداً باللام و «قد» مقدمة للتنبيه على نفوذ علمه تعالى، فإنّ الذي خلق الإنسان أعلم بما فيه وبما ينطوي عليه ضميره، فإنّ خلق الله تعالى ليس كما يصنع البشر حيث يركّب مواداً

ص: 373

ويصنع هيئة لآلة أو دواء أو معجون أو أيّ هيئة تركيبية اُخرى لبلوغ مقاصده وهو يجهل كثيراً من حقائق هذا المركّب. يجهل حقائق موادّه ويجهل كثيراً من خصائص التركيب، وكثيراً ما يتبيّن له بعد عدّة تجارب أنّ ما صنعه من دواء - مثلاً - له منافع اُخرى أو له مضارّ لم يتفطّن لها، وأمّا الخالق الذي يبدع الشيء ويصنع مادّته وتركيبه من غير مثال محتذى ومع سبق العدم المطلق، فإنّه يعلم بكلّ خصائصه؛ لأنّه أعطاه الوجود ولم يكن شيئاً مذكوراً.

والوَسوسة والوسواس - بكسر الواو - مصدر ، والوسواس - بالفتح - اسم لمن يوسوس في صدور الناس، قال تعالى: «مِنْ شرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ»؛(1) والأصل في مثل هذه الكلمات هو تكرّر الشيء، فالذبذبة تكرّر الذبّ وهو الدفع فيفيد معنى الاضطراب وتكرّر الحركة، ومثله زلزل ودبدب وكبكب وغيرها. والوسوسة تكرّر الوسّ وهو الصوت الخفي كصوت حُلِيّ المرأة وصوت من يريد الصيد. ومن الوسوسة ما يلقي الشيطان في النفوس وكذلك شياطين الإنس، ومنها أيضاً هواجس النفس وخواطرها، مع أنّها ليست أصواتاً في الغالب إلا أنّها تُشبّه بها من جهة كونها إلقاءات خفيّة في النفس. وفي الآية ضمير مقدّر والتقدير ما توسوسه به نفسه.

والإنسان يحدّث نفسه كما تحدّثه نفسه، وهما أمران مختلفان وليس مجرّد اختلاف في التعبير، كما ذكر في اللغة وبعض التفاسير، فالمراد بتحديثه لنفسه ما ينشئه الإنسان من أفكار وتخيّلات وأوهام ونحوها ويلقّيها على نفسه، كأنّه يلقّي محاضرة وكأنّ هناك من يسمعه ويتلّقى منه؛ وهذه الأمور منها خير ومنها شرّ،

ص: 374


1- الناس (114) : 4 - 5.

والمراد بتحديث النفس له الهواجس والخواطر التي تخطر بالبال من خير وشرّ، أيضاً، وهي في الغالب ترد النفس من دون اختيار، وربما تهيمن عليها وتستعبده و تسيطر عليه وتجرّه إلى ما لا يحمد عقباه إذا لم يكن الإنسان مذلِّلاً نفسه مروِّضاً إيّاها بالرياضات النفسية دينية كانت أو غيرها.

والمراد بالوسوسة في الآية الكريمة هذه الخواطر النفسية التي ربما لا يشعر بها الإنسان، وإنّما ينقاد لها ويتحرّك وفقاً لإلقاءاتها، فالله تعالى عليم بكلّ هذه الخواطر التي تخطر بالبال حتى لو غاب عن شعور الإنسان نفسه.

والغرض واضح من الآية الكريمة، وهو تنبيه الإنسان على شدّة الرقابة عليه ومحاسبة كلّ شيء يتعلّق به حتّى ما كان من قبيل الخواطر التي لا يشعر بها.

ولعلّك تقول : ما شأن الإنسان بهذه الخواطر، فهي ليست من صنعه، بل ربما يتألّم من هجومها عليه وهو لا حول له ولا قوة في قبالها؟

والجواب: أنّ المراد ليس محاسبة الإنسان على هذه الخواطر، بل تنبيهه على غاية إحكام الرقابة عليه بحيث لا يغيب عن الرقيب وهو الله تعالى حتّى هذه الخواطر السريعة. هذا مضافاً إلى أنّها وإن لم تكن بذاتها تحت سيطرة الإنسان إلا أنّه بإمكانه أن يهيّئ المناخ المناسب للخواطر الحسنة، ويطرد عن نفسه الخواطر السيّئة التي ربما تجرّه إلى المعاصي والمهالك، ويذلّل نفسه للابتعاد عنها، فعروض الخواطر السيّئة وإن لم يكن اختيارياً بذاته إلا أنّ مقدماته في الغالب اختيارية.

ومضافاً إلى أنّ المحاسبة لا تعني المعاقبة والإنسان يحاسَب على اُمور كثيرة لا يعاقَب عليها؛ كما قال تعالى: «وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ

ص: 375

لَمِنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»،(1) والله تعالى لا يعاقب على النوايا، كما ورد في عدّة روايات؛ منها رواية أبي بصير عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «إنّ المؤمن ليهمّ بالحسنة ولا يعمل بها، فتكتب له حسنة، وإن هو عملها كتبت له عشر حسنات؛ وإنّ المؤمن ليهمّ بالسّيئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه».(2)

ولكن ذلك لا ينافي المحاسبة، وربما تؤثّر في درجة الإنسان وقربه لدى الله تعالى. بل ربما يظهر من الآية المذكورة أنّه یستحقّ العقاب على النوايا أيضاً، ولكن الله تعالى يغفر له إن شاء، كما يغفر ما ينسى ويخطئ، والمغفرة فيهما ليس

ضرورياً بالعقل، قال تعالى: «رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أخطأنا»؛(3) إذ لو كان ضرورياً لم يكن وجه للدعاء.

«وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِليه مِنْ حَبْلِ الْوَريدِ»؛ الوريد عرق في الجسم سمّي به لأنّ الدم يرد فيه؛ قالوا: ويرد فيه الروح أيضاً، وذلك لما رأوه من الموت السريع بقطعه فتوهّموا أنّ الروح يخرج منه، واختلف أهل اللغة في تحديد المراد بهذا العرق والأكثر على أنّه عرقان على صفحتي العنق وهما الودجان اللذان يقطعان من الحيوان في التذكية، وقيل إنّه العرق المتّصل بالقلب والكبد، وقيل: إنّه المنتشر في الجسم.

ومهما كان فالمراد به العرق الذي بقطعه يموت الإنسان والحيوان، وإضافة الحبل إليه بيانية، وعبّر عنه بالحبل كأنّه سبب اتصال الإنسان بروحه، وبقطعه ينفصل الروح عن الجسم حيث يموت، والغرض بيان أن الله تعالى أقرب إلى

ص: 376


1- البقرة (2): 284.
2- الكافي 2: 2/428 ، باب من يهمّ بالحسنة أو السيّئة.
3- البقرة (2): 286.

الإنسان من روحه؛ أقرب إليه علماً وقدرة، فهو أعلم بما في نفسه من أقدر على تغيير نفسياته منه. والإنسان ربما يخدع نفسه فيتصور أنّه يعمل العمل لوجه الله تعالى مثلاً ولا ينتبه إلى الدوافع الأخرى التي تدفعه، والله تعالى يعلم بها ويُعلِمُه بها يوم القيامة. كما أنّه يُقلّب نفس الإنسان ويغيّر أحواله وهو لا يتمكّن من السيطرة على نفسه إلا جزئياً، وذلك أيضاً بإلهام من الله تعالى وإقدار منه.

ومثله قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ»،(1) فالله تعالى أقرب إلى الإنسان من قلبه، أي نفسه وروحه، كما أنّه أقرب إلى قلبه منه فيقلبه كيفما يشاء ويتحكّم، في إرادته ويصرفه عمّا يشاء. والغرض من هذا التعبير تنبيه الإنسان على إمكان هذه السيطرة التي يصعب عليه تصوّرها، فهو يعلم أنّ بالإمكان رقابة الإنسان حسب ظاهر حاله، وعلى أساس ذلك يتوهم أنّ الرقابة الإلهية أيضاً لا تتعدّى ظواهر أعماله وأحواله كرقابة الدوائر الأمنية في الدنيا.

«إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ»؛ التلقّي مطاوعة اللقاء أو الإلقاء، ولذلك يأتي بمعنى الاستقبال إذا أراد أحد لقاءه، وبمعنى الأخذ إذا ألقى إليه أحد شيئاً أو كلاماً؛ والمراد به هنا تلقّي ما يفعله الإنسان، وحذف مفعول التلقّي لدلالة الآية التالية عليه. و «إذ» ظرف متعلّق بمقدّر، أي اذكر، والظاهر أنّ الخطاب للإنسان بوجه عامّ، فالمراد تنبيهه أنّ هناك ملكين يتلقّيان كلّ ما يفعله من خير وشرّ ويسجّلان عليه، ولعلّ اليمين والشمال رمز للخير والشرّ كما رمز بهما في التعبير بأصحاب اليمين وأصحاب الشمال، فالملكان يسجّلان عليه ما يفعله من خير وشرّ ولا نعلم كيف يتلقّيان؟ وكيف يسجّلان؟ وما معنى

ص: 377


1- الأنفال (8): 24.

التسجيل؟ وقد أخبرنا الله سبحانه أنّ الإنسان يجد ما عمله حاضراً يوم القيامة.

والقعيد بمعنى الجليس كما في «العين»،(1) فهو تعبير عن ملازمتهما ودوام حضورهما مع الإنسان، فليسا عابرين، بل هما لا يفارقانه في حلّه وترحاله وليله ونهاره.

وقد ذكر المفسّرون ورووا روايات غريبة في كيفية جلوسهما على اليمين والشمال وكيفية كتابتهما وتسجيلهما ونوع مدادهما، وبعض ذلك تخرّص على الغيب وأكثرها ممّا يحتاج إلى تأويل ولم تثبت صحّة شيء من تلك الروايات.

وقيل: إن «إذ» ظرف لقوله تعالى: «أَقْرَبُ» في الآية السابقة، والمعنى أنّه تعالى حين تلقّي الملكين أقرب إليه من حبل الوريد تنبيهاً على أنّه ليس بحاجة إليهما، وإنّما خلقهما ووكّلهما به لمصلحة اُخرى كالتسجيل عليه بنحو من أنحاء التسجيل، أو ليكون في تنبيهه بذلك توجّس أكثر من جهة الشعور بوجود رقيب عليه؛ ومهما كان فالمراد بناءاً على هذا الوجه بيان أنّ الله تعالى لا يحتاج إلى رقابة الملائكة، كما لا يحتاج إلى وساطتهم في سائر الشؤون، فهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.

ولكن هذا الوجه مع لطفه بعيد عن العبارة - كما في «الميزان»(2) - فإنّ الظاهر أنّها تنبّه على رقابة الملكين وتنظر إليها نظرة مستقلّة، ومقتضى هذا الوجه أنّ ذكر تلقّي الملكين إنّما هو لبيان عدم الحاجة إليهما في الرقابة الإلهية فحسب وهو بعيد.

ص: 378


1- كتاب العين 1: 143.
2- راجع: الميزان في تفسير القرآن 18: 348.

ويبدو من الآية أنّ الملكين جليسان للإنسان وأنّهما خارجان عن روحه ولا يتغلغلان في ذاته، ولعلّه لذلك لا يعلمان بما تنطوي عليه سريرته، كما ورد في دعاء كميل رحمه الله: «وكنت أنت الرقيب عليَّ من ورائهم والشاهد لما خفي عنهم»(1) وهذا من فضله تعالى على البشر حيث لم يجعل للملائكة سبيلاً للدخول في أعماق روحه. وقد ورد التصريح بذلك في رواية رواها الكليني رحمه الله بسند صحيح عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد الله علیه السّلام قال: «إن المؤمنَيِن إذا اعتنقا غمرتهما الرحمة، فإذا التزما لا يريدان بذلك إلا وجه الله ولا يريدان غرضاً من أغراض الدنيا، قيل لهما: مغفور لكما فاستانفا، فإذا أقبلا على المسالة قالت الملائكة بعضها البعض تنحّوا عنهما، فإنّ لهما سرّاً وقد ستر الله عليهما». قال إسحاق فقلت: جعلت فداك فلا يكتب عليهما لفظهما وقد قال الله عزّ وجلّ «ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»،(2) قال فتنفس أبو عبد الله الصعداء، ثمّ بكى حتّى أخضلت دموعه لحيته وقال: «يا إسحاق إنّ الله تبارك وتعالى إنّما أمر الملائكة أن تعتزل عن المؤمنَين إذا التقيا إجلالاً لهما، وإنّه وإن كانت الملائكة لا تكتب لفظهما ولا تعرف كلامهما، فإنّه يعرفه ويحفظه عليهما عالم السرّ وأخفى».(3)

وهناك رواية ربما يستفاد منها أنّ المراد بالقعيدين ملك وشيطان، فقد ورد في صحيحة حماد، عن أبي عبد الله علیه السّلام: «ما من قلب إلا وله اُذنان على إحداهما ملك مرشد وعلى الاُخرى شيطان مفتن، هذا يأمره وهذا يزجره، الشيطان يأمره بالمعاصي والملك يزجره عنها، وهو قول الله عز وجل: «عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشَّمالِ

ص: 379


1- مصباح المتهجد و سلاح المتعبّد 2: 849.
2- ق (50): 18.
3- الكافي 2: 184 / 2 ، باب المعانقة.

فَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ».(1)

والمراد بالقلب روح الإنسان. ولكن يمكن أن يكون استشهاد الإمام علیه السّلام بالآية الثانية وأنّ المراد بالرقيب العتيد الملك الذي يمنعه من ارتكاب المعصية، فلا ينافي كون القعيدين ملكين، كما لا ينافي أن يكون الرقيب العتيد يجمع بين الوظيفتين الزجر عن المعاصي وتسجيلها عليه.

«ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ». الرقيب صفة مشبّهة بمعنى اسم الفاعل من الرقابة، أي الذي يراقب ويرصد أقواله. والعتيد أي الحاضر والمهيّأ لأمر مّا. والصفتان صفة للملك الذي يسجّل السّيئات، وأمّا الآخر الذي يسجّل الحسنات فلا علاقة له بالموضوع، وهذا الملك يسجّل كلّ أعماله السّيئة لا خصوص الأقوال، ولكن حيث إنّ القول عميق التأثير وخفيف المؤونة فيغفل عنه الإنسان ولا يهتمّ به أكّد القرآن عليه بالخصوص، ليكون الإنسان على حذر ممّا يتلفّظ به، وكم من كلام غيّر مجرى التاريخ، وكم من كلام تسبّب في سفك الدماء واندلاع الحروب، وكم من كلمة سدّ الطريق على الأنبياء علیهم السّلام ومنعهم من بلوغ مقاصدهم الإلهية وتسبّب في ابتعاد الناس عنهم، كالقول الذي منع من کتابه الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وصيته التي لو كان يكتبها لم يختلف بعده من الأمّة اثنان.

«وَجاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ». الجملة عطف على ما قبلها، خلق الله الإنسان وسار على منهجه الطبيعي وهو غافل عن الرقابة المشدّدة عليه، وأنّ كلّ ما يقوله مسجّل عليه فضلاً عن ما يفعله، بل إنّ كلّ ما توسوس به نفسه محفوظ لدى علام الغيوب، ثمّ جاءته سكرة الموت أي غشيته والإغماء الحاصل حين الموت،

ص: 380


1- الكافي 2: 266 / 1 ، باب إنّ للقلب اُذنين.

والسُكر يقابل الصحو. والظاهر أنّ الباء للملابسة، أي جاءت سكرة الموت، لأنّه حقّ ثابت لا مناص منه. وقيل: إنّها للمصاحبة، أي أتت بالحقّ إلى الإنسان حيث إنّه مع الموت يجد الحقّ، أي يصل إلى حقائق الاُمور وينكشف عنه الغطاء.

«ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ»، «مَا» موصولة. والحَيد: الميل والانحراف، أي أنّ الموت هو الأمر الذي كنت تحاول أيّها الإنسان أنّ تميل عنه وتعدل كناية عن الفرار. والإنسان ككلّ موجود حيّ لا يفرّ من شيء كفراره من الموت وهو أمر طبيعي، فالحيّ يحبّ الحياة، لأنّه يشعر أنّ بها كينونته وبقاءه، فإذا عرف الحقّ وعلم أنّه لا يفنى بالموت، بل يدخل عالماً أوسع من هذه الحياة الضيّقة بكثير لم يخش الموت، وقلّ من يبلغ ذلك، قال الإمام أمير المؤمنين علیه السّلام: «وَاللِه لابنُ أبِي طَالِبٍ آنس بِالُمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ اُمِّهِ».(1)

«وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ»، انتهى عالم البرزخ وقامت القيامة ليبرز الإنسان بصحيفة أعماله إلى ربّه. والنفخ هنا يراد به النفخة الثانية التي بها تقوم القيامة، لا النفخة الأولى التي بها يصعق من في الكون. والصور قرن الثور كانوا ينفخون فيه قديماً لإعلان الحرب ونحوه، وهو كناية عن سرعة الحدوث والمفاجأة وعدم التدرّج، كما قال تعالى: «ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ»،(2) أي بمجرّد النفخ يقومون فجأة. والإشارة في قوله تعالى: «ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ» إلى وقت نفخ الصور. والوعيد بحذف المضاف، أي يوم تحقّق الوعيد، وأمّا ظرف الوعيد فهو الحياة الدنيا والمراد كلّ ما توعد الله تعالى به العصاة والكفّار، لأنّه

ص: 381


1- نهج البلاغة (للصبحي صالح): 52 / الخطبة 5.
2- الزمر (39): 68.

وإن كان من الوعد وهو عامّ يشمل الخير والشرّ إلا أنّ الوعيد لا يستعمل إلا في الشرّ، كما في «معجم المقاييس»(1) وغيره. والإتيان بالفعل الماضي هنا وفي العبارات التالية من جهة حتمية الوقوع.

«وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سَائِقٌ وَشَهِيدٌ»، التعبير يصوّر حضور الإنسان يوم القيامة، وأنّه لا يحضر من تلقاء نفسه، بل يساق سوقاً ليحاكم على ما فعل. والسوق حثّ الدابة على السير من ورائها، بخلاف القيادة فإنّها من الأمام. وظاهر الآية أنّ الأمر عامّ يشمل جميع الناس لقوله: «كُلُّ نَفْسٍ» ولكن لا شكّ أنّ العموم بلحاظ أنّه حكم الغالب وإلا فالأبرار المتّقون لا يساقون ولا يخاطبون بالخطابات التالية. والتعبير بالسوق في قوله تعالى: «وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً»(2) من باب المشاكلة مع سوق الذين كفروا مضافاً إلى أنّ هذا السوق إلى الجنّة وليس إلى الحساب. والظاهر أنّ السائق غير الشهيد، فملك يسوقه وملك يشهد عليه، ولعلّ الشهيد تعبير عن كلّ ما يشهد عليه من الملائكة وأعضاء جسمه والأرض وغيرها.

«لَقَدْ كُنْتَ في غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ»، هذا خطاب يخاطب به الإنسان المذكور في الآية السابقة، وهم يشكّلون أكثر البشر. والخطاب لا يجب أن يكون صوتاً مسموعاً، بل يكفي أن يكون إعلاماً له بوجه من وجوه الإعلام، ومنها أنّه يدرك هذه الحقيقة كسائر الحقائق بكلّ وجوده، فكأنّه يلمسها. والإشارة في قوله تعالى: «مِنْ هَذَا» إلى الحضور أمام الله

ص: 382


1- معجم مقاييس اللغة 6: 125.
2- الزمر (39): 73.

للمحاسبة والغفلة تقتضي أن يكون ذلك أمراً معلوماً للإنسان في الحياة الدنيا، ولكنّه لتلهّي الإنسان بملذّات الدنيا وزينتها غفل عن هذه الحقيقة وبالفعل، فإنّ هذه الحقيقة معلومة للإنسان بإبلاغ الأنبياء علیه السّلام.

ولعلّ المراد بالغطاء ما يستلزمه الكون على هذا الكوكب من القيود والحدود التي تمنع الروح الإنسانية من الاتصال بسائر الموجودات إلا في الأطر الخاصّة التي تفرضها قوانين الطبيعة كالإدراك بالحواسّ الخمس. وينكشف الغطاء بالموت والتحرّر من هذه القيود والحدود، فتسبح الروح في عالم الواقع العريض والعميق حرّاً طليقاً، وترتبط بكلّ الموجودات ارتباطاً مباشراً، فتدرك حقائق الاُمور على ما هي عليها وتصل إلى أعماق الحقيقة بدون حجاب، وهذا هو معنى كون بصره حديداً، فليس البصر بمعنى العين الجارحة. والإنسان يمكنه أن يصل إلى كثير من الحقائق المبصَرة عن غير طريق البصر بنحو أشدّ وآكد، بل بنحو لا يمكن فيه الشكّ بينما يمكن التشكيك في كثير من المبصَرات، بل نعلم أنّ كثيراً منها من خداع العين. وأقوى إدراك للإنسان في هذه الحياة المعتمة هو إدراكه لنفسه، فهو يشعر بنفسه شعوراً مباشراً حضورياً لا يشوبه أدنى شكّ، وارتياب، ولا يتوقّف ذلك على الإبصار ولا على اللمس، وهذا الإدراك على الظاهر هو الذي يحصل عليه الإنسان بعد موته وتحرّره من ظلمات الجسم والمادّة بالنسبة إلى كلّ الأشياء وكلّ الحقائق، سواء كانت جسمية أم ممّا وراء الطبيعة. وقريب من ذلك ربما يحصل للإنسان في الرؤيا الصادقة حيث يتحرّر الروح جزئياً من قيود المادّة.

«وَقالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ». القرين هو المقرون بالشيء لا يفارقه إلا نادراً،

ص: 383

والضمير يعود للإنسان المذكور، والعتيد بمعنى الحاضر المهيّأ كما مرّ. وقد اختلف المفسّرون في أنّه من المراد بهذا القرین؟ فقال جمع: إنّه الشیطان الذي يغويه والذي ورد ذكره في قوله تعالى: «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضُ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرين»،(1) وقوله: «وَقَيَّضْنا هُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم»،(2) والشاهد على ذلك قوله تعالى بعد ثلاث آيات: «قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أطْغَيْتُهُ»،(3) ولا شكّ أنّ المراد به الشيطان كما سيأتي. قالوا: إنّ الإشارة - بناءاً على هذا الاحتمال - إلى الإنسان، والمعنى أنّ هذا هو الذي عندي وفي ملكتي مهيّأ لجهنّم بإغوائي. هكذا ورد في «الكشّاف» و «روح المعاني»،(4) ولعلّ المراد من قوله: «في ملكتي»، أي تحت سلطاني.

وقال آخرون ولعلّهم الأكثر: إنّ المراد به الملك الذي يسوقه أو الشهيد، وقد مرّ ذكر الملكين السائق والشهيد، فهما قرينان له هناك، فإن كان المراد به الملك السائق فالظاهر أنّ «هَذَا» إشارة إلى الإنسان المسوق، ومعنى الجملة إعلام أنّه مهيّأ للحكم عليه بما يستحقّه، وإن كان المراد به الملك الذي يشهد عليه، فيمكن أن تكون الإشارة إليه أيضاً، ويمكن أن تكون إلى صحيفة أعماله التي يعرضها أمام ربّه.

وهذا الاحتمال هو الأقرب، كما أنّ الأقرب فيه أن يكون المراد به هو السائق، لأنّ الشهيد يأتي دوره حينما يطلب للشهادة، والجملة هنا إعلام لحضور المتّهم،

ص: 384


1- الزخرف (43): 36.
2- فصلت (41): 25.
3- ق (50): 27.
4- راجع الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 4: 386؛ روح المعاني 13: 335 - 336.

وهذا دور السائق الذي يسوق المتهم إلى المحكمة.

والاحتمال الأوّل بعيد جدّاً من جهة أنّ الشيطان المضلّ لا دور له في ذلك المشهد ليعلن عن شيء، خصوصاً مع التعبير الوارد في «الكشّاف» و«روح المعاني»، فإّن التعبير بما يدلّ على السلطة هناك لا يحقّ لأحد فضلاً عن الشيطان. والمُلك ذلك اليوم لله الواحد القهار ، بل الشياطين في ذلك اليوم من المحضرين والمسوقين، فأنّى لهم هذا البيان؟! نعم ربما يتكلّم الشيطان لمخاصمة الإنسان والدفاع عن نفسه، كما في الآية الآتية وكما يتخاصم المستكبرون والمستضعفون من أهل النار.

«الْقِيا في جَهَنَّمَ كُلُّ كَفَّارٍ عَنيدٍ» الخطاب على الظاهر للملكين السائق والشهيد. أمّا توجيه الخطاب إلى السائق فواضح، وأمّا الشهيد فلأنّه سبب دخوله جهنّم واستحقاقه العذاب، لأنّه الذي يشهد على أعماله. والتعبير عنه بالإلقاء يصوّر زوال كرامة هذا الإنسان، فهو يلقى في جهنم وكأنّه من القمامة. والكَفّار مبالغة في الكفر وهو الستر يوصف به الكافر، لأنّه ينكر ربّه ونعمة ربّه، والمبالغة إمّا من جهة تشدّده في الإنكار أو لعظمة ما ينكره. وتوصيفه بالعنيد يخرج من كان إنكاره لضعف إدراكه وعدم فهمه. والعناد: العتوّ والطغيان والعدول عن طريق الاستقامة. وقيل: العنود المعجب بما عنده وهو أساس الطغيان. والمبالغة في الكفر يستلزم العناد، فإنّ الذي يصرّ على كفره وإنكاره لأوضح الحقائق خصوصاً مع إدراكه لحقيقة الأمر يتحوّل إلى عنيد لا يمكنه درك الحقائق، كما قال تعالى: «وَنُقَلِّبُ أفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ».(1)

ص: 385


1- الأنعام (6): 110.

«مَنَّا لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ». المنّاع مبالغة في المنع، ويصدق على من لا يعمل الخير وعلى من يمنع الآخرين من عمل الخير. ويبعد أن يكون المراد به خصوص المنع عن المال، كما في «الكشّاف»،(1) بل يشمل من يمنع من اهتداء الناس إلى الدين وهو خير الخير مطلقاً فهو أولى به. والاعتداء هو تجاوز الإنسان حقّه إلى حقّ غيره، والإنسان إذا لم يكن لديه وازع من الدين قلّما يتقيّد بضميره، فلا يعتدي على غيره، وهذا في خصوص الحقوق الاجتماعية، وأمّا حقّ الله تعالى وسائر ما جعله الله من حقوق على الإنسان فالكافر لا يلتزم بها بالطبع، واعتداؤه عليها ينبع من عدم إيمانه بها. والريب هو الشكّ. والإرابة بمعنى أنّه يبعث بالشكّ في قلوب الآخرين وهو بمعنيين؛ فتارة أمره مريب؛ أي يبعث بالشكّ في نواياه بالنسبة للمجتمع بمعنى أنّه لا يؤمن من شرّه، وهذا واضح إذا قيس المؤمن بالكافر؛ وتارة يبعث بالشكّ في قلوب الآخرين بالنسبة لحقائق الكون، فهو لا يكتفي بكفره تجاه ربّه، بل يحاول أن يضلّ غيره أيضاً عن طريق التشكيك في المعتقدات، وهذا ما نجده بوضوح من وسائل الإعلام الكافرة في عصرنا.

«الَّذي جَعَلَ مَعَ الله إلهاً آخَرَ فَالْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّديدِ» وهذا هو الوصف الأخير له وهو أقبح أوصافه حيث يجعل الله ندّاً وشريكاً في العبادة. والفاء تفريع على الإلقاء الأوّل للتأكيد، نظير قوله تعالى: «لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا آتَوُا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ».(2)

ص: 386


1- راجع الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 4: 387.
2- آل عمران (3): 188.

ويحتمل أن تكون هذه جملة مستقلّة والموصول يتضمّن معنى الشرط والفاء للجزاء، ولعلّ هذا التخصيص بالذكر للإشارة إلى أنّ الشرك هو أسوأ الشرور والصفات الرذيلة، ولذلك وصف عذابه بالشديد. ولو لاحظ الإنسان الصفات الرذيلة بنظرة اجتماعية تتبع المصالح البشرية، فلعلّه لا يصل إلى هذه النتيجة، كما أنّه لا يصل إلى أهمية العبادة ومعرفة الله تعالى، ولكن خالق الكون حيث أعلن أنّه إنّما خلق الإنس والجنّ ليعبدوه، فإنّه يعتبر الشرك أعظم جريمة، ولذلك قال تعالى: «إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشرك بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لَنْ يَشاء»؛(1) والسبب واضح، لأنه يسير في اتجاه معاكس لما وضعه خالق الكون طريقاً له إلى كماله. وربما يتوهّم أنّ هناك ما هو أفظع من الشرك وهو إنكار وجود الخالق، ولكنّ الصحيح أنّ الشرك أعظم منه، لأنّ المشرك يعبد ربّاً غير الله تعالى، فهو يستخفّ بربّه وينزّل من شأنه ويجعل له مناوئاً وشبيهاً من خلقه وهو أعظم من إنكار وجوده رأساً.

«قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ». الطغيان تجاوز الحدّ في العصيان. ويبدو من هذه الجملة أنّ الإنسان المجرم بعد صدور الحكم بحقّه يحاول أن يدافع عن نفسه؛ فيلقي اللوم على الشيطان أو الإنسان الذي أضلّه، كما يظهر ذلك أيضاً من قوله تعالى: «لا تَخْتَصِمُوا» حيث يدلّ على أنّ كليهما يتحدّثان هناك، ولكنّ السياق لا يتعرّض لكلامه للاستغناء عنه بذكر جواب القرين، والظاهر أنّ المراد به هنا من كان قريناً له في الدنيا، والقرين في الآية السابقة هو من جاء قريناً له في المشهد جاء قريناً له في المشهد يوم القيامة وهو الملك السائق له كما مرّ،

ص: 387


1- النساء (4): 48.

والقرين هنا لعلّه الشيطان الذي قيضه الله له في الدنيا بعد أن غفل عن ذكر ربّه، كما قال تعالى: «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضُ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ»،(1) ويمكن أن يكون إنساناً مضلاً فإنّه أيضاً قرين له غالباً، كما قال تعالى في حكاية كلام المؤمن في الجنّة: «قَالَ قَاتِلُ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ اإِنَّكَ لَنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ».(2)

ومهما كان فإنّ هذا القرين يرعبه الخطاب الإلهي بالإلقاء في العذاب، فيحاول تبرئة نفسه ممّا آل إليه أمر قرينه فيعتذر قائلاً: «رَبَّنَا مَا أطْغَيْتُهُ» أي لست مسؤولاً عن طغيانه على ربّه فلست من جعله طاغياً، ولكنّه كان بنفسه في ضلال بعيد، والتعبير بالبعيد يعني أنّه كان بعيداً عن طريق الحقّ لا تؤمل فيه الهداية، فهناك إنسان ضالّ عن الطريق إلا أنّه قريب منه فيؤمل منه الاهتداء، وأمّا إذا بُعد في التوغّل في الضلال فإنّه لا يؤمل منه العود. والشيطان أو الإنسان المضلّ لا ينفي بالطبع، إغواءه ووسوسته، وإنّما ينفي إجباره على ذلك، كما حكى الله تعالى عن الشيطان قوله يوم القيامة : «وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ».(3)

«قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ». الاختصام والمخاصمة أي المنازعة ومطالبة كلّ من الطرفين حقّه. والاختصام ليس ممنوعاً أمام الله تعالى يوم القيامة، بل هو يوم تخاصم الناس ومطالبة المظلومين حقوقهم من الظالمين،

ص: 388


1- الزخرف (43): 36.
2- الصافات (37): 51-53.
3- إبراهيم (14): 22.

وقد قال تعالى: «ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ»(1) وهو خطاب للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم ومناوئيه. وإنّما النهي هنا عن اختصام الضالّين والمضلّين، فإنّ الله تعالى قد أنذر وحذّر وعهد إلى الإنسان أنّ الشيطان له عدوّ ، كما قال تعالى: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ»،(2) كما حذّر الشيطان بقوله تعالى: «لأمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ»،(3) وجملة «وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ» حالية، أي مع هذا التقديم والإنذار لا معنى للتخاصم، ومعنى ذلك أنّه لا يعذر الشيطان، سواء كان من الإنس أو الجنّ، لأنّه بإغوائه كان يؤثّر في ضلال الناس، فهو مشارك في آثامهم، ولا يعذر الإنسان المخدوع، لأنّ الإغواء والإغراء مهما كان فليس بحيث يوجب عنه سلب القدرة على التفكير أو الاختيار. فالنهي عن الاختصام هنا بمعنى أنّه لا ينتهي إلى حلّ، فالحكم بالعقاب عامّ شامل للطرفين ولا عذر لأحدهما.

ومعنى قدّم له وقدّم إليه: سبق القول منه قبل مداهمة الأمر. فالمراد أنّ الوعيد بالعذاب جاءهم من الله تعالى قبل نزول العذاب يوم القيامة يوم كان الخيار بیدهم.

«مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ». في هذه الجملة احتمالان:

الأوّل: أنّه تعالى لا يبدّل، قوله فلا معنى للاعتذار والمخاصمة حيث إنّ الحكم صادر من قبل في حقّ الضالّين والمضلّين، والله تعالى لا يبدّل حكمه.

وربما يقال: إنّ هذا ينافي المغفرة، فالله تعالى قد أوعد المذنبين بالعذاب مع

ص: 389


1- الزمر (39): 31.
2- يس (36): 60.
3- ص (38): 85.

أنّه ربما يغفر لهم، أليس هذا من تبديل القول؟ والجواب: أنّه أيضاً على أساس قول آخر وهو وعده بغفران الذنوب في ظروف خاصّة، وهذا الوعد لا يشمل المشرك وهو المخاطب هنا لقوله تعالى: «إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشرك بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لَمَنْ يَشَاءُ».(1)

والاحتمال الثاني: أن المراد بالقول قول المتخاصمين، أي لا ينفعكم تبديل القول لديّ وإنّما كان ينفعكم التبديل القول لدیّ و إنّما کان ینفعکم التبدیل والتغيير في الحياة الدنيا، وحيث فارقتموها مشرکین و كافرين، فلا ينفعكم الإيمان والتوحيد هنا، وهذا واضح ولكنّ الاحتمال الأوّل أوفق بالسياق.

«وَما أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبيدِ» سبحانه وتعالى أن يظلم أحداً، فما يفعله هو العدل المطلق؛ إذ لا حاجة له إلى ظلم أحد ولئن استوجب اختيار الإنسان في هذه الحياة أن لا يوضع كلّ أحد موضعه الحقيقي لظلم الناس بعضهم بعضاً فلا مجال هناك حتّى لهذا الظلم، وكلّ إنسان ينال حقّه ويوضع موضعه ولا يجزى إلا بعمله.

والسؤال في هذه الآية في التعبير بالظلام وهي صيغة المبالغة، فلعله يوهم أنّه لا يبالغ في الظلم، وأمّا الظلم الطفيف فيمكن أن يحصل مع أنّه مستحيل في حقّه تعالى.

والجواب أنّ المراد أنّه لو كان يظلم أحداً في تلك الحياة لكان الظلم فظيعاً وكبيراً ولكان الله سبحانه ظلاماً وليس به، فلا يظلم أحداً ولا مثقال ذرّة. أو المراد أنّه لو كان يظلم الناس حقّهم لكان ظلاماً باعتبار كثرة موارد الظلم. ويمكن أن يكون «ظلام» بمعنى ظالم كما قيل.

ص: 390


1- النساء (4): 48 و 116.

سوره ق (30- 35)

يَوْمَ تَقُولُ لِجَهَهُ هَلِ امْتَلَاتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ (30) وَأَزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِیدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٌ (32) مِّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) الهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)

«يَوْمَ نَقُولُ جَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَاتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزيدٍ». هذه الآية مثار لعدّة أسئلة:

السؤال الأوّل: ما هو متعلّق الظرف: «يَوْمَ نَقُولُ»؟ وأجيب أنّه متعلّق بظلام في الآية السابقة، والمعنى أنّه تعالى ليس ظلاماً للعبيد حين يملأ منهم جهنّم. وهو بعيد؛ لأنّه تعالى لا يظلم أحداً مطلقاً وفي أيّ ظرف لا في خصوص هذا اليوم إلا أن يحمل الكلام على أنّ المراد نفي كون هذا الأمر، أي ملء جهنّم من الجنّة والناس أجمعين ظلماً، ولكنّه لا يناسب صيغة المبالغة ولا يأتي فيه ما مرّ من التوجيه، فلا بدّ أن يقال: إنّ هذا ليس ظلماً لأحد.

والصحيح في الجواب أنّه متعلّق بمحذوف، أي اذكر يوم نقول، وذلك لأنّ هذه الآية تنبّه الإنسان في هذه الحياة إلى أمر آخر من حقائق الكون لا يرتبط بالآية السابقة، وهو أنّ الله تعالى لم يخلق شيئاً لأمر إلا وهو قائم بما اُريد من بكماله وتمامه، وذلك لدفع توهّم بعض البسطاء من الناس أنّ جهنّم مهما كانت واسعة فإنّها لا تسع كلّ هذه الخلائق الكافرة وهم أكثر الخلق، فيمنّي الإنسان الجاهل نفسه بإمكان التخلّص من العذاب فالله تعالى ينبّهه أنّ العذاب يوم القيامة كسائر حقائقها لا يقاس بما نجده في هذه الحياة، وجهنّم كافية للجميع مهما بلغ عددهم.

ص: 391

السؤال الثاني: كيف تخاطب جهنّم وكيف تجيب وهي جماد؟ واُجيب تارة بأنّ الخطاب للخزنة والجواب منهم وهو تأويل بعيد. واُخرى بأنّ الله تعالى يخلق للجمادات يوم القيامة عقولاً فتتكلّم الجنّة والنار، وتشهد الألسنة والأيدي والأرجل والجلود، أو بأنّ الجمادات لها نوع من الشعور والإدراك لا نشعر بها، ولذلك يخاطب الله تعالى السماء والأرض ويردّان الجواب، ويوحي إلى النحل و نحو ذلك.

ولا يبعد القول بأنّ لكلّ الأشياء أمام ربّها نوعاً من الإدراك والشعور، حتّى لو أمكن تأويل ما ورد من توجيه الخطاب إليها، وذلك لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ»،(1) وقوله تعالى: «لَمْ تَرَ أنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ والأرض وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلِّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ»؛(2) ولكنّ الظاهر أنّ هذه الخطابات المحكية عن يوم القيامة ليست من قبيل القول بالمعنى المتعارف، بل هي إشارات وكنايات تدلّ على حقائق، وقد قلنا مراراً إن التعبير بالقول يوم القيامة قد لا يحكي عن كلام، بل عن أمر آخر؛ فقول الملائكة: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ»(3) ربما يكون المراد به إثبات حقيقة السلامة لهم تكويناً، و كذلك اللعن، فلا يبعد أن يكون ما ورد من الخطاب لجهنّم وجوابها بياناً رمزياً لحقيقة عينية، وسيأتي ذكرها.

السؤال الثالث: أنّ ظاهر هذا السؤال والجواب أنّ جهنّم لم تمتلئ بمن فيها من أهلها وهو ينافي التعبير بملء جهنّم في أكثر من مورد، منها قوله تعالى: «وَتَمَّتْ

ص: 392


1- الإسراء (17): 44.
2- النور (24): 41.
3- الزمر (39): 73.

كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»؟(1)

واُجيب بوجوه أحدها: أنّ المراد بالسؤال المذكور في جواب جهنّم: «هَلْ مِنْ مَزِيدٍ» الاستفهام الإنكاري، أي ليس فيها من مزيد. وعليه فيكون المراد بالمزيد مزيداً من الحيّز والمكان وهو بعيد عن اللفظ بعداً شاسعاً، ويصحّ أن يقال إنّ من الواضح أنّ المراد مزيد من المستحقّين للعذاب. ويدلّ على ذلك أيضاً أنّ الغرض هذا السؤال والجواب واضح بناءاً على أنّ المراد طلب المزيد، وهو بيان أنّ جهنّم كافية للمجرمين مهما كثر عددهم دفعاً لتوهّم بعضهم أنّ الكافرين والمشركين والمجرمين هم أكثر أهل الأرض وطيلة القرون المتمادية لا يحصون عدداً، فكيف يحصرون في جهنّم؟! فالآية تردّ عليهم بأنّ جهنّم لا تمتلئ بكلّ هؤلاء، بل تطلب المزيد، فقوله: «هَلْ مِنْ مَزِيدٍ» لبيان الطلب كناية عن كفايتها، بل زيادتها ردّاً على هذا التوهّم، وأمّا بناءاً على كونه إنكاراً للمزيد، فلا يتبيّن منه غرض صحيح.

وقيل: إنّ المراد بالامتلاء أنّه لا يخلو طبقة منها من السكنة ولا ينافي وجود فراغات فيها وهو كلام سخيف يبتني على تصوّر أنّ جهنم بلدة فيها مبان وطبقات.

وقيل: إنّ عدم الامتلاء قبل أن يلقى فيها باقي أهلها والامتلاء بعد ذلك؛ وهو أيضاً سخيف، إذ لا يبقى معنى لعرض هذا الخطاب والجواب، فما هو الغرض من السؤال هل امتلأت؟ وكأنّ هذا القائل تصوّر أنّ الله تعالى يستفسر جهنّم أو خزنتها واقعاً. هل هناك مجال ليلقي فيها مجموعة اُخرى من المجرمين أم لا؟ ولا

ص: 393


1- هود (11): 119.

أدري على هذا التصوّر لو لم يكن فيها مجال، هل كان يبنى لهم سجن آخر أم ماذا ؟!

والصحيح في الجواب أنّ المراد بقوله تعالى: «الأملانُ جَهَنَّمَ مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّاسِ أجْمَعِينَ» ليس هو سدّ الخلل والفرج في جهنّم من الجنّة والناس، إذ لا يناسب المقام التركيز على ذلك، بل المناسب في مقام تهديد العصاة والمردة أنّه تعالى لا يأبه لإدخال الجنّة والناس أجمعين في جهنّم، فمصبّ الاهتمام إنّما هو كلمة «أجْمَعِينَ» دفعاً لما يستغرب - وإلى يومنا هذا - من إلقائه تعالى كلّ كافر ومنافق وعاصٍ في جهنّم وهم كلّ البشر على ما نرى وكلّ الجنّ أيضاً على ما يبدو، ولا يبقى للجنّة إلا النادر، وهذا الاستغراب أبداه الشيطان من أوّل يوم، فردّ الله تعالى عليه بأنّ ذلك لا يهمّه وأنّ جهنّم مهيّأة لكلّ من يتبعه، ولو كفر كلّ من في الأرض لألقاهم جميعاً في جهنّم ولا يبالي.

والحاصل أنّ المراد ليس هو الملء بمعنى عدم وجود الفراغ، بل بمعنى عدم استثناء من يستحقّ العذاب وأنّه تعالى لا يهمّه كثرة العدد. والقصد من ذلك الردّ على فكرة خاطئة لدى الإنسان وهي متابعة الأكثرية، فالإنسان يلاحظ في هذه الحياة أنّ الغلبة دائماً للأكثرية الساحقة وأنّ الحكام لا يسعهم مواجهة العدد الهائل من المعارضين، ومن هنا يتصوّر كثير من الناس أنّ الفلاح والنجاح دائماً السواد الأعظم، فالله تعالى ينبّه البشر على أنّ الأكثرية الساحقة مصيرهم جهنّم بحيث لا يبقى إلا القليل، فيصحّ التعبير بأنّه تعالى ملأ جهنم من الجنّة والناس أجمعين.

ومن الطريف ما ورد في هذا الباب من الروايات في صحاح العامّة ممّا

ص: 394

اضطرّهم إلى تأويلها لاستلزامها القول بالتجسيم وغيره من الاعتقاد الباطل والسخيف. ففي «روح المعاني»: أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن إنس قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه و آله و سلّم -: «لا تزال جهنّم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتّى يضع ربّ العزّة فيها قدمه فيزوي بعضها إلى بعض وتقول قطّ قطّ وعزّتك وكرمك، ولا يزال في الجنّة فضل حتّى ينشئ الله لها خلقاً آخر، فيسكنهم في فضول الجنّة».(1)

وقال: أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه و آله وسلّم -: «تحاجّت الجنّة والنار، فقالت النار: أو ثرت بالمتكبّرين والمتجبّرين؛ وقالت الجنّة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، فقال الله تعالى للجنّة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنّما أنت عذابي اُعذّب بك من أشاء من عبادي، ولكلّ واحدة منكما ملؤها، فأمّا النار فلا تمتلئ حتّى يضع رجله، فتقول قطّ قطّ، فهناك تمتلىء ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحداً، وأمّا الجنّة فإنّ الله تعالى ينشيء لها خلقاً».(2)

«وَازْلِفَتِ الجنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعيدٍ». شروع في بيان حال المتّقين بعد بيان تعاسة حال الكافرين والعاصين و «أزلِفَتْ»، أي قربّت. قالوا: إنّ الأمر ينبغي أن يكون بالعكس حيث إنّ المتّقين يقرّبون إلى الجنّة إلا أنّ ذلك تشريف من الله لهم حيث تقرّب الجنّة إليهم؛ وقالوا: إنّ ذلك ليس بعيداً من قدرته تعالى. وقال بعضهم: إنّ التعبير إنّما هو للتشريف والتكريم، والواقع أنّهم هم الذين يقرَبون إلى الجنّة. ويرد القول الأوّل التصريح بالعكس في قوله تعالى: «وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا

ص: 395


1- روح المعاني 13: 338.
2- نفس المصدر.

رَبَّهُم إلى الجَنَّةِ زُمَراً حتّى إذا جاؤُهَا وَفُتِحَتْ أبوابها وَقالَ هُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ».(1)

ولا يبعد ان يكون المراد بالإزلاف التقريب المعنوي بمعنى التسامح معهم في الحساب ليدخلوا الجنّة، كما قال تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحَابُ الْيَمِينِ»،(2) وقال أيضاً: «إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُم»(3) بخلاف غيرهم الذين يحاسبون سوء الحساب ويؤخذ عليهم كل صغيرة وكبيرة، كما قال تعالى: «وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ هُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ هُمْ سُوءُ الحِسابِ».(4)

وقوله تعالى: «غَيْرَ بَعِيدٍ» حال من الجنّة، وقيل: إنّه تأكيد للقرب، نظير قولهم: عزيز غير ذليل. ولعلّ الوجه في مثل هذا التأكيد دفع توهّم التجوز في التوصيف بالعزّة أو القرب. ويمكن أن يكون تأسيساً باعتبار أنّ التقريب لا يستلزم القرب؛ لأنّه أمر إضافي فيمكن أن يقرب الشيء إلى الشيء بمعنى تقليل المسافة، ولكنّه يبقى بعيداً أيضاً في حدّ ذاته وإن صار أقرب من ذي قبل، فالتوصيف بأنّها غير بعيد يدلّ على أنّها قربت بحيث أصبحت قريباً من متناول يدهم.

ووقع الكلام في وجه الإتيان بالحال مذكّراً، وقد مرّ البحث عنه في تفسير قوله تعالى: «وَمَا يُدْرِيكَ لعل السَّاعَةَ قَرِيبٌ»،(5) وقلنا: إنّ أفضل ما قيل في هذا الباب ما حكي عن الفراء من أنّ القرب والبعد إن أتي بهما لبيان القرابة النسبية

ص: 396


1- الزمر (39): 73.
2- المدثر (74): 38 - 39.
3- النساء (4): 31.
4- الرعد (13): 18.
5- الشورى (42): 17.

وانتفائها، لوحظ فيهما التذكير والتأنيث، وإن اُتي بهما لبيان القرب والبعد المكاني أو الزماني ولو تجوّزاً لم يلاحظ التذكير والتأنيث، للفرق بين المعنيين ولأنّ الصفة في الواقع صفة للمكان أو الزمان، وليس معناه تقدير كلمة مكان ليختل النظم والتركيب، بل بمعنى أنّ تذكير الصفة بلحاظ أنّها في الواقع للمكان ولو تجوّزاً، ومثله قوله تعالى: «إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ».(1)

«هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابِ حَفِيظٌ» إشارة إلى الجنّة بذاتها لا إلى لفظ الجنّة، فلا ينافي تذكير الضمير، وهذه جملة قيل: إنّها تقال لهم حين يسار بهم إلى الجنّة أو تُقرّب الجنّة إليهم، وبناءاً على ما مرّ من الاحتمال يمكن أن لا يكون هناك قول وخطاب، بل هذا لسان الحال. ثمّ إنّه لو كان هناك قول وقائل في ذلك اليوم، فلا بدّ من تقدير في الجملة، أي ما كنتم توعدون في الحياة الدنيا. ويمكن أن يكون انشاءاً في هذه الحياة لا خطاباً هناك. أي يقال في القرآن المنزل خطاباً للمتقين: «هَذَا مَا تُوعَدُونَ».

وقوله: «لِكُلِّ أَوَّابٍ» بدل عن «لِلْمُتَّقِينَ»، وجملة: «هَذَا مَا تُوعَدُونَ» معترضة بين البدل والمبدل منه. والأوّاب مبالغة في الأوب وهو الرجوع، كالتّواب، وقد وصف الله بهما عباده المخلَصين كالأنبياء والمرسلين. والرجوع يقتضي ذهاباً ولا يستلزم ذنباً، فليس كلّ تائب أو توّاب مذنب، بل يكفي اشتغاله بغيره تعالى، فإنّ العارف بمقام ربّه يعتبر كلّ اشتغال بغيره مخالفاً لما تقتضيه العبودية في محضر الربّ تعالى، فلا بدّ له من توبة وأوبة ورجوع. وعلى هذا فالأوب والرجوع هنا يختلف باختلاف الموارد. وكثرة الرجوع ليس بمعنى كثرة موارد الاشتغال

ص: 397


1- الأعراف (7): 56.

بغيره، بل هو في حين الاشتغال أيضاً يرجع ويرجع، فلا يتوغّل في الذهاب بعيداً عن خدمة ربّه. والحفيظ بمعنى أنّه يحفظ عهد ربّه وميثاقه ويحفظ نفسه من الزلات قدر المستطاع ويحفظ دينه وتقواه.

«مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ». الخشية: الخوف. ولخشية الله تعالى بالغيب معنيان: الأوّل: أنهم يتّقون الله ويخشونه في مواضع الخلوة حيث لا يراهم أحد إلا الله تعالى.

والثاني: أنّهم يخشونه وهم لا يرونه، وعلى هذا المعنى فقوله: «بِالْغَيْبِ» ليس تقييداً؛ إذ ليس هناك من يخشاه وهو يشاهده تعالى، فكلّ من يخشاه يخشاه بالغيب، وإنّما اُتي به للدلالة على أنّ مناط استحقاق الجنّة هو الإيمان بالغيب، كما قال تعالى: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»،(1) وهذا هو سرّ الكمال، فالإنسان متشبّث بعالم المادّة وزخارفها ومعجب بها، وكلّما توغّل في هذا الأمر سقط إلى الحضيض، وبعد عن سماء الكمال البشري والقرب لدى الله سبحانه وكلّما انقطع عن هذه الظواهر وارتبط بالغيب وتعلق به ازداد كمالاً وتوسعت نفسه وروحه، فكمال الإنسان كامن في إيمانه بالغيب، أي بما لا يُرى ولا يُحسّ. ولذلك فإنّ الإيمان لا ينفع إذا اتضح الأمر كلّ الوضوح فلم يعدّ غيباً، بل كان شهوداً، كما قال تعالى: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أو يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ».(2)

ص: 398


1- البقرة (2): 3.
2- الأنعام (6): 158.

وفي اختيار اسم الرحمن هنا - مع أنّه ربما يتوهّم أنّ الأنسب أن يعبّر عنه بما يدلّ على انتقامه وغضبه - إشارة لطيفة إلى أنّ خشيتهم ليست من عذابه وعقابه، بل إنّهم مع استشعار رحمته الواسعة المدلول عليها بصيغة المبالغة، أي: «الرَّحْمَن» يخشونه، فهم يخافون مقام ربّهم، كما قال تعالى: «وَمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ»، (1) وقال تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ المَأوَى»،(2) فالخشية من الرحمن ليست خشية من عقابه، بل هي إكرام وإعظام للربّ؛ سواء كان المراد بالغيب خشيته تعالى في الخفاء، فإنّهم يتّقونه تعالى إعظاماً له، أم كان المراد الخشية مع عدم الرؤية، فهم بقلوبهم يشعرون عظمة الخالق. وهذا هو السرّ الآخر في الكمال البشري، فإنّ الخوف من العقاب أمر طبيعي لا يدلّ على عظمة في النفس وتكامل في الروح، وإنّما الكمال لمن يتّقي الله تعالى إجلالاً له ومعرفة بمقامه الرفيع.

وقد وصف الله تعالى ملائكته بالخشية وهم معصومون لا يعصون الله ما أمرهم وهم بأمره يعملون، فلماذا الخشية ولماذا الخوف؟ قال تعالى في توصيف الملائكة: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا مَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُون»،(3) وقال أيضاً: «وَالله يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض مِنْ دَابَّةٍ وَالمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ»،(4) فهم لا يخشون عذاباً

ص: 399


1- الرحمن (55): 46.
2- النازعات (79): 40 - 41 .
3- الأنبياء (21): 26 - 28.
4- النحل (16): 49 - 50.

وإنّما يخافون مقام ربّهم بمعنى أنّهم يخافون من التقصير في حقّه تعالى وأن لا يكون عملهم على ما ينبغي من إجلاله تعالى وإعظامه. وهذا هو الذي أشار إليه سيّد الموحدين وأمير المؤمنين - عليه أفضل الصلاة والسلام - على ما نسب إليه: «ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكنّي وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(1) وإن لم أجد له مستنداً في كتب الحديث.

«وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنيبٍ»، أي جاء إلى ربّه بقلب منيب، وفيه إشارة إلى بقائه على خشوعه وخشيته وإنابته الله تعالى إلى يوم لقائه، فكثيراً ما يقضي الإنسان عمره في الطاعة والعبادة، ثمّ يتحوّل إلى إنسان عاص لربّه، فالمهمّ هو أن يبقى على هدايته إلى آخر الطريق. والإنابة هو الرجوع وقد مرّ الكلام حوله. ولعلّ في توصيف القلب بالإنابة إشارة إلى أنّه قد يبقى الإنسان على عادته من العبادة الصورية؛ لأنّها شيء تعوده فيشقّ عليه تركه ولكن قلبه يصاب بالمرض نتيجة حبّ الدنيا الذي هو رأس كلّ خطيئة.

«ادْخُلُوها بِسَلامِ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ». قالوا: إنّه خطاب من الله تعالى أو الملائكة بأمره تعالى موجه للمتقين، وقد قلنا مراراً: إنّ الأقوال هناك لعلّها تعبير عن الأفعال، فهذا الأمر بيان لما يحدث تكويناً في تلك الحياة من الإذن لهم في الدخول. والسلام، أي السلامة من كلّ عيب ونقص، ومن كلّ ما يكدر صفو الحياة، فليس هناك مرض ولا فقر ولا جهل ولا أيّ أمر يحزن الإنسان أو يحذر منه ويخافه، فليس هناك خوف من أمر في المستقبل ولا حزن على ما مضى.

ويوم الخلود أي مرحلة الخلود، وليس المراد باليوم معناه المتعارف، فإنّه

ص: 400


1- بحار الأنوار 67: 186؛ عوالي اللئالي 2: 11 / 18.

زمان محدود فيتنافى ذلك مع الخلود؛ وأوّله بعضهم بأنّ المراد يوم ابتداء الخلود أو يوم إعلامه، وما ذكرناه أوضح. والخلود بمعنى الدوام والبقاء. والآيات الدالّة بوضوح على خلود أهل الجنّة في الجنّة كثيرة جدّاً، وكذلك في خلود أهل النار في النار وإن ناقش بعض المفسّرين والباحثين في ذلك، وقالوا إنّهم يفنون في النهاية بفناء النار.

«لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فيها وَلَدَيْنا مَزيدٌ». الجملة الاُولى غير محدودة وغير مقيدة، فلأهل الجنّة فيها كلّ ما يشاؤون والتقييد ليس إلا بالمشيئة، فلابدّ من أن يكون المراد بالمزيد ما لا يشاءونه، ولا شكّ أنّهم يشاءون كلّ ما تصبو إليه النفس من النعم، وليس لمشيئة الإنسان حدّ إلا التعقّل بمعنى أنّه لا يشاء ما لا يعقله، فتكون النتيجة أنّ المزيد الذي ينعم الله به عليهم ممّا لا يتعقّلونه وإلا لشاءوه ولم يكن مزيداً. والظاهر أنّه ممّا لا يعلمه إلا الله تعالى، ويبعد أن يكون المراد رضوان الله تعالى، فإنّه قد صرّح به في القرآن الكريم فهو ممّا يعلمه كثير منهم؛ نعم يمكن أن يكون من اللذات المعنوية التي لا تخطر ببال أحد.

ص: 401

سوره ق (36- 40)

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَتَقْبُوا فِي الْبِلَادِ هَل مِن مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبُ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ الَّيْلِ فَسَيْحْهُ وَأَدْبَرَ السُّجُودِ (40)

«وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحيصِ» القرن مأخوذ من قرن الشيء بالشيء، أي جمعهما، فالمعنى كلّ مجموعة من البشر أو الزمان، فيقال القرن المجموعة من السنين كمائة سنة وكلّ مجموعة من البشر وهو المراد هنا، والضمير في قوله: «قَبْلَهُمْ» يعود إلى مشركي مكّة، والغرض التهديد والتحذير لمنكري الرسالات. وقد ورد نظيره في موارد عديدة من الكتاب العزيز وكان كثير من الأقوام السابقة أشدّ بطشاً وقوة وحضارة من مشركي مكّة، كما تدلّ عليه آثارهم الباقية، وقد اُبيدوا بالعذاب الإلهي لتكذيبهم الرسل. والبطش قيل: هو أخذ الشيء بقوّة وقهر وغلبة، ولا يبعد أن يكون بمعنى إعمال القهر والغلبة، سواء صدق الأخذ أم لم يصدق. والتنقيب: الحفر، فهو والتنقير بمعنى واحد، والتنقيب في البلاد بمعنى السير فيها، إمّا من جهة أنّه يستلزم غالباً الكشف عن اُمور جديدة، فكأنّه حفر ووصل إلى مخابئ وإمّا من جهة أنّ السير كان قديماً بالإبل ونحوه وهي تحفر الأرض بإخفافها، والغرض هنا أنّهم لم يكتفوا بمواطنهم، بل نقبّوا في البلاد لبسط سيطرتهم أو طلباً للمزيد من المال وأسس الحضارة.

ص: 402

والظاهر أنّ قوله: «هَلْ مِنْ مَحِيصٍ» خطاب منه تعالى المشركي مكّة، أي هل لكم من محيص من أمره تعالى، فلو كان هناك مهرب من العذاب لكان لتلك الامم ولما هلكوا ولا بادوا وبادت حضارتهم. والمحيص: المحيد والمهرب، أي لا مهرب لكم من عذاب الله تعالى، كما لم يكن لهم. وقيل: إنّه تكميل للجملة السابقة، أي بحثوا في البلاد هل لهم مهرب من عذاب الله تعالى، وهذا يبتني على إمهالهم بعد نزول العذاب وهو بعيد.

«إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى مِنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ»؛ الذكرى اسم مصدر من التذكير كما في «العين».(1) أي في ما مرّ من الآيات أو في ملاحظة أحوال الاُمم السالفة تذكير للإنسان، فتدلّ الآية على أنّ ما يحصل عليه الإنسان من ملاحظة الآيات والعبر تذكّراً، وليس تعلّماً جديداً في إشارة إلى أنّ الإنسان بطبعه وفطرته يعترف بربوبية الله سبحانه، وهو أساس الرسالات، وإنّما يغفل عنها بتوغّله في شؤون الحياة الدنيا وفي شهواته ولذّاته. وهذا ممّا أكّد عليه القرآن الكريم في أكثر من مورد، ومن الآيات التي تدلّ على كون الإنسان مؤمناً بفطرته قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَاشْهَدَهُمْ عَلَى انْفُسِهِمْ السْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ».(2)

ثمّ إنّ التذكير يختصّ بمن كان له قلب أو سمِعَ ما يوجب التذكّر من غيره، والمراد بالقلب القوّة العاقلة للإنسان لا العضو الذي يضخّ الدم، فإنّه ليس له دور في الفهم والتعقّل، وقد كثر استعمال القلب في هذا المعنى في القرآن الكريم.

ص: 403


1- كتاب العين 5: 346.
2- الأعراف (7): 172.

ولا يقابله من لا عقل له، أي المجنون والسفيه، فإنّه خارج عن مورد الكلام، بل يقابله من لا يدرك الاُمور المعنوية، ويلاحظ أنّ أكثر الناس شديد التعقّل والإدراك في مرحلة الفهم وشديد الاهتمام أيضاً في مقام العمل وأخذ الحيطة إلى حدّ الوسوسة لما يخصّ حياته في الدنيا وسعادته وصحّته، بل تمكّنه من جمع قدر أكبر من المال ونحو ذلك من الشؤون الدنيوية، ولكنّه ضعيف الإدراك بل فاقده في الأمور المعنوية وما يتعلّق بالغيب وبالآخرة، ونجد كثيراً ممّن يسمّون بالعلماء لهم نبوغ وفطنة خارقة للعادة في درك ما يخصّ شؤون الدنيا، ولكنّهم لا يتجاوزون عنها ولا يتفطّنون لوجود الخالق الحكيم المدبّر للكون، فيا لهم من أغبياء نوابغ؟! فمثل هذا وإن كان له قلب بمعنى ما يتعقّل به، ولكنّه لا يتعقّل ما وراء الحسّ فكأنّه لا عقل له.

وفي محل الكلام، أي الاعتبار بالعبر الباقية من الأمم السالفة نجد المجتمع البشري اليوم يهتمّ أشدّ الاهتمام بالاحتفاظ بآثارهم ويصرف الأموال الطائلة لصيانتها والحثّ على زيارتها، ولكن ليس في ذلك أيّ اعتبار بما جرى عليهم، بل ربما يهتمّ بشأن آثارهم باعتبار أنّها تدلّ على حضارة قديمة وتمدن بائد ومفاخر للآباء السالفين وأمجاد للملوك القدماء، ولكنّ القرآن يحرّض على السير في الأرض لملاحظة آثار الاُمم السابقة، والاعتبار بما جرى عليهم من عذاب الله تعالى.

ومن لا يدرك الاُمور المعنوية بنفسه يمكن أيضاً أن يتأثّر ويعتبر إذا ألقى السمع وهو شهيد. والمراد بإلقاء السمع هو الإصغاء بدقّة، فكأنّه ألقى سمعه تحت اختيار القائل، ويشترط في ذلك أن يكون شهيداً، أي شاهداً وحاضراً، فربما

ص: 404

يستمع الإنسان ويسمع القول ولكن قلبه مشغول بغيره، فلا يؤثّر فيه ما يتلى عليه.

والترديد بين الصنفين بلحاظ أنّ المعتبر بالعبر قد يكون عالماً بنفسه متفطّنا لما يستخلّص من الآثار من عبر، وقد يكون متعلّماً يستمع إلى العلماء بدقّة وتنّبه، وأمّا إذا لم يعقل بنفسه ولم يسمع لتنبيه العلماء المخلصين فمصيره الهلاك، كما قال تعالى: «وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أو تَعْقِلُ مَا كُنَّا في أصحاب السَّعِيرِ»،(1) وقال أمير المؤمنين : «النَّاسُ ثَلاثَةٌ فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَنْبَاعُ كُلَّ نَاعِقِ يَمِيلُونَ مَعَ كلّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِينُوا بِنُورِ العلمِ وَلَمْ يَلْجَأوا إلى رُكْنٍ وَثِيق.(2)

«وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ والأرْضَ وَمَا بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ». مرّ الكلام حول هذه الحقيقة في تفسير سورة «فصّلت» وقلنا: إنّ المراد بالأيام مراحل تكوين العالم كما هو واضح. واللغوب: التعب.

والآية تردّ على المشركين حيث ينكرون المعاد استبعاداً له، فالله تعالى يقول: إنّ خلق الكون من العدم في ستّة مراحل من التكوين أعظم بكثير ولم يمسّه تعالى من هذا الخلق تعب ولا نصب، لأنّ القدرة الإلهية لا حدّ لها، فلا يمكن أن يكون شيء أهون عنده من شيء. ويرد أيضاً على اليهود حيث قالوا: إنّ الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام واستراح يوم السبت واستلقى على عرشه، فأوّلوا الأيّام بأيام الاُسبوع ونسبوا إليه تعالى التعب. وهو كلام مضحك، لأنّ اليوم بهذا المعنى لا يمكن أن يتحقّق قبل خلق السماوات والأرض، وهذا من علائم التحريف في التوراة؛ فإنّ الذين جمعوها بعد دهر من ضياعها لم

ص: 405


1- الملك (67): 10.
2- نهج البلاغة (للصبحي صالح): 147/495.

يكونوا يحفظون منها إلا اُموراً مبهمة، فيضيفون إليها ما يفسّرها حسب نظرهم.

وقال بعض المفسّرين: إنّ هذه الآية مدنية بقرينة الردّ على اليهود،(1) وهذا لا وجه له حتّى لو فرض كونها ردّاً عليهم بالخصوص، فهناك آيات كثيرة نزلت في مكّة بشأن أهل الكتاب، كقوله تعالى: «فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابِ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ»،(2) على ما مرّ الكلام في تفسيرها. وكان أهل مكّة أيضاً يعلمون أخبارهم وعقائدهم وكانوا يختلفون إليهم ويتحاكمون لديهم.

«فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ» تفريع على بطلان عقائد المشركين واستبعادهم للمعاد، وتطييب لخاطر الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم وتهديد للمشركين، فإنّ الأمر بالصبر هنا إيكال أمرهم إلى الله تعالى، فهو لهم بالمرصاد، ولذلك عقّبه بالأمر بالتسبيح والحمد. ونظيره قوله تعالى: «فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوع الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى».(3)

ويبدو أنّ الغرض التنبيه على أنّ العنصر الأساس لتحقيق المقاومة أمام ضغوط النفاق والكفر هو الالتجاء إلى ذكر الله تعالى وتسبيحه وعبادته، وقد تكرّر ذلك في الكتاب العزيز، منها قوله تعالى: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ

ص: 406


1- راجع: بيان المعاني 1: 266 - 267.
2- الشورى (42): 15.
3- طه (20): 130.

بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ».(1) وهذا الأمر لا يختصّ بالرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، بل يشمل كلّ الدعاة والمصلحين، وكلّ من يواجه ضغوط الكفر والنفاق في نشاطه الديني.

والباء في قوله «بِحَمْدِ رَبِّكَ» للمصاحبة، أي سبّحه مع الحمد؛ فالتسبيح أي تنزيهه تعالى من كلّ ما لا يليق بشأنه الكريم من العجز الذي اعتقده المشركون والتعب الذي توهّمه اليهود ومن غير ذلك، وليكن ذلك مصاحباً لحمده والثناء عليه بما يليق بذاته المتقدّسة.

والظاهر أنّ ذكر الأزمنة المختلفة إشارة إلى استمرار الذكر والتنزيه والثناء، :وقيل: إنّه إشارة إلى أوقات الصلاة، فقبل الطلوع وقت صلاة الصبح، وقبل الغروب وقت الظهرين، وقوله: «مِنَ اللَّيْلِ» إشارة إلى العشاءين، وأدبار السجود، أي أدبار الفرائض والمراد بها النوافل.

ولكنّه تأويل بعيد، فالتعبير عن وقت الظهر، بل العصر أيضاً بما قبل الغروب بعيد؛ فإنّ وقتهما وإن امتدّ إلى الغروب إلا أنّ مبدأه الظهر، ولا يقال له قبل الغروب، بل التعبير بما قبل الطلوع عن صلاة الصبح بعيد أيضاً، والنوافل ليست كلّها بعد الفرائض، ويقوى الإشكال في سورة طه حيث أضاف إلى آناء الليل أطراف النهار، فالأقرب ما ذكرناه.

وورد في رواية أنّ المراد به الذكر قبل الطلوع والغروب، روى الصدوق رحمه الله في «الخصال» بسند مجهول عن إسماعيل بن الفضل، قال: سالت أبا عبد الله علیه السّلام عن قول الله عزّ وجلّ: «وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها»،(2) فقال:

ص: 407


1- الحجر (15): 97 - 99.
2- طه (20): 130.

فريضة على كلّ مسلم أن يقول قبل طلوع الشمس عشر مرات وقبل غروبها عشر مرّات: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير». الحديث.(1) وهو وإن كان وارداً في آية سورة طه إلا أنّ العبارة إلى هنا فيهما واحدة، ولكنّ السند ضعيف كما قلنا، نعم هناك روايات اُخرى أيضاً حول الذكر في هذين الوقتين من دون ذكر الآية؛ ولم أجد ما يصحّ سنده ولم يظهر من الرواية أنّها بصدد تفسير الآية.

و«مِن» في قوله: «وَمِنَ اللَّيْلِ» للتبعيض، أي وسبّحه شطراً من الليل، ولعلّ المراد غير حال النوم، ومثله قوله تعالى: «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ»(2) حيث يؤمّر الرسول بالتسبيح و الحمد طول أوقات قیامه، أي غير حال النوم. وشطراً من الليل، أي قبل أن ينام وبعد قيامه، فالمراد الاستمرار طول الوقت بذكره تعالى، وهكذا كان الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، فقد كان ذاكراً لله تعالى مع كلّ قول وفعل وفي كلّ حال من حالاته.

و «أدْبَارَ» جمع دبر بضمتين أو بضمة فسكون بمعنى آخر الشيء، ولا يبعد أن يكون المراد بالسجود الصلاة كما يعبّر عنها بالركوع أيضاً، وكما يعبّر عن جزء منها بالركعة، كلّ ذلك من باب تسمية الشيء باسم جزئه المهمّ، وهذا أمر بالتسبيح بعد الصلاة وينطبق ذلك على التعقيب بعدها، وقد ورد التأكيد عليه في الروايات الشريفة. وقرئ «إدبار» بكسر الهمزة بمعنى الانتهاء، فيكون واقعاً موقع الظرف أي وقت الانتهاء من الصلاة.

ص: 408


1- الخصال: 452.
2- الطور (52): 48 - 49.

ولكن ورد في بعض الروايات تطبيق الآية على نافلة المغرب، منها ما رواه الكليني بسند صحيح، عن أبي جعفر علیه السّلام حديثاً وفي ذيله: قلت: «وَأَدْبَارَ السُّجُودِ»؟ قال: «ركعتان بعد المغرب».(1)

ص: 409


1- الكافي 3: 444، باب صلاة النوافل.

سوره ق (41- 45)

وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الخروج (42) إِنَّا نَحْنُ في وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرُ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن تَخَافُ وَعِيدِ (45)

«وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ المَنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ». يحتمل في قوله تعالى: «وَاسْتَمِعْ» أن يكون للتنبيه، فليس له مفعول، والخطاب للإنسان أو لكلّ من يسمع أو يقرأ أو للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم، وعلى هذا الاحتمال فالجملة التالية مستأنفة ومضمونها الأمر الذي يجب التنبه له بقوله: «وَاسْتَمِعْ»، وعليه فالظرف: «يَوْمَ يُنَادِ» متعلّق بما يدلّ عليه قوله: «ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ»، أي يخرجون يوم ينادي المنادي. والمجموع جواب للمشركين المنكرين للمعاد والذين يسألون عن موعده.

ويحتمل أن يكون التقدير: واستمع للنداء، فيكون الظرف متعلّقاً بالاستماع، والمعنى: كن متأهباً لسماع النداء يوم ينادي المنادي، وذلك لأنّ الاستماع إنّما يؤمر به حين يقرب النداء، والغرض بيان أنّ النداء قريب زماناً وأنّ توهّمه الإنسان بعيداً، وعليه فقوله: «ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ» جملة مستقلّة. ويحتمل بعيداً - وإن اختاره العلامة الطباطبائي رحمه الله (1) - أن يكون الاستماع مضمناً معنى الانتظار، فيكون اليوم مفعولاً ، أي انتظر يوم النداء مستمعاً له.

واختلف في المنادي أنّه جبرئيل أو إسرافيل أو ملك آخر أو هو الله سبحانه، ولا طائل تحت هذا الاختلاف، فالمهمّ هو أنّ هذا النداء قريب زماناً ومكاناً،

ص: 410


1- الميزان في تفسير القرآن 18: 360 - 361.

والمراد به نفخة الصور الثانية التي تحيا بها الخلائق، كما قال تعالى: «ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فإِذا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ»؛(1) أمّا أنّه قريب زماناً - كما يفهم من هذه الآية ومن قوله تعالى: «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً»(2) - فلأنّ الإنسان إذا مات فقد قامت قيامته، لأنّ الزمان مطوي في تلك النشأة، وإذا قام الناس فإنّ أمثلهم طريقة من يقول: «إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْماً»،(3) وليس هذا وهماً وخطاً، بل هو حقيقة وإن كنّا نستغرب طي الزمان ولكنّا نشعر به في هذه الحياة أيضاً في عالم الرؤيا، فالإنسان لا يحفظ من رؤياه إلا ما يجده في اللحظة الأخيرة التي يكون فيها بين اليقظة والمنام، وربما تكون ثانية أو أقلّ منها وهو يرى مشهداً طويلاً ربما يستمرّ ساعات، وقد لا يكون وهماً وخيالاً، بل رؤيا حقيقية تحكي عن أمر واقع مغيب عنه في نفس الوقت أو في المستقبل.

وأمّا أنّه قريب مكاناً فهو ما صرّح به في هذه الآية، ومعنى ذلك أنّ الصوت يسمعه كلّ أحد قريباً منه، وليس ذلك لعلوّ الصوت، بل منشأ الصوت قريب من كلّ أحد، كما هو صريح الآية، فالمكان أيضاً مطوي والفواصل قليلة أو منعدمة. والنداء يوجّه إلى الأرواح التي هي نفس النفوس البشرية حقيقة، لأنّه النداء الثاني الذي يعقّب النداء الأوّل، وهو الموجب لصعوق من في السماوات والأرض، كما قال تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرض إِلا مَنْ شَاءَ اللهُ ثمّ نُفِخَ فِيهِ أُخرى فإذا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ»،(4) فلم تبق إلا الأرواح.

ص: 411


1- الزمر (39): 68.
2- المعارج (70): 6- 7.
3- قال تعالى: «إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَريقَةً إِن لِبثْتُمْ إِلا يَوْماً». (طه (20): 104)
4- الزمر (39): 68.

«يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ» وهذا بدل عن «يَوْمَ يُنَادِ» وقوله: «بِالْحَقِّ» بمعنى أنّهم يسمعونه واقعاً وليس خيالاً ووهماً، ولعلّ الصيحة صيحة انفجار يتعقّبه نشوء الكون الجديد، كما أنّ الصيحة الأولى يحتمل أن تكون صيحة انفجار يهدم النظام الكوني القائم. والآية تنبه على أنّ البشر يسمعون الصيحة، فهم موجودون وأحياء لهم أسماع، وإن لم يكن لهم آذان وأجسام ولكنهم في عالم آخر وبحياة اُخرى نجهل كيفيتها ومقوّماتها.

«ذلِكَ يَوْمُ الخروجِ»؛ أي يوم الخروج من القبور، وربما يكون هذا تعبيراً يراد به عود الأرواح إلى الأجسام والبدء بحياة اُخرى. والغرض الردّ على السؤال عن التوقيت، كما ورد في القرآن مكرّراً أنّهم يقولون: «مَتَى هَذَا الْوَعْدُ».(1)

«إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ». هذه الجملة ترفع الاستغراب عن الإحياء بعد الموت، فإنّ الإحياء والإماتة أمران مستمرّان وهذا ما يدلّ عليه فعل المضارع. وتعاقب الإحياء والإماتة لم يتوقّف لحظة في الكون، فالأرض تموت وتحيا، وما عليها من نبات تموت وتحيا، وكذلك الإنسان والحيوان، بل كلّ خلية. والحياة لا تختلف في الخلية الواحدة عنها في مجموعة الخلايا المكونة لجسم نبات أو حيوان أو إنسان، ونحن نعاصر دائماً موت الملايين من خلايا أجسامنا، وتكوّن خلايا حية بدلاً عنها، وكلّ ذلك من الله تعالى كما أكّد عليه بالضمير المنفصل: «إِنَّا نَحْنُ»، بل كلّ شيء وكلّ حركة وسكون منه تعالى إلا أنّ التأكيد على ذلك في الإحياء والإماتة لغرابتهما وعدم وصول الإنسان إلى مبادئهما الطبيعية.

«وَإِلَيْنَا المصيرُ». المصير هو المرجع والمآل أي أنّ مرجع الإنسان إلى الله

ص: 412


1- يس (36): 48؛ الملك (67): 25.

تعالى، فالكلّ راجع إليه قهراً ليحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون، وليبين لهم الحقِّ من الباطل ويرفع عنهم الغشاوة، وليجزي كلاً بعمله ويضع كلّ أحد موضعه اللائق به. والإنسان كغيره من الخلق لم يخرج عن سلطانه تعالى، ولم يستغن عن رحمته لحظة واحدة، فالرجوع ليس بمعنى أنّه يرجع إلى سلطانه، بل بمعنى أنّه يصل إلى مرحلة من الكون لا تحكم فيها القوانين الطبيعية ويسلب فيها الإنسان اختياره ويكشف عنه الغطاء، فيلقى ربّه ويدرك حقائق الكون إدراكاً واقعياً مباشراً لا بتخلّل الحواس والصور، وهناك يتحقّق قوله تعالى: «مَن الملك الْيَوْمَ اللهُ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ».(1)

«يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً». يمكن أن تكون «يَوْمَ» ظرفاً للجملة السابقة «وَالَيْنَا المَصِيرُ» ويمكن أن تكون بدلاً عن: «يَوْمَ يَسْمَعُونَ»، فتكون بدلاً بعد بدل وقوله: «تَشَقَّقُ» مضارع أصله : تتشقّق حذفت إحدى التاءين. وقرئت أيضاً بتشديد الشين، وذلك لقلب التاء شيناً وإدغامها فيها. والمراد بتشقّق الأرض عنهم خروج الناس منها، وهو تعبير كنائي عن إحياء الموتى؛ إذ ليسوا كلّهم في قبور، فملايين الملايين من البشر لم يبق لهم أثر إلا أنّ هذه الأجزاء موجودة على الأرض أو في باطنها، والله تعالى هو العالم بكيفية الإحياء.

و «سِرَاعاً» حال من ضمير عنهم، أي مسرعين، والظاهر أنّه جمع سريع. وقيل: مصدر بمعنى اسم الفاعل، ولم نجده في كتب اللغة. وقد ورد هذا التعبير أيضاً في قوله تعالى: «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصْبِ يُوفِضُونَ»،(2) ومثله

ص: 413


1- غافر (40): 16.
2- المعارج (70): 43.

التعبير بالمهطعين، قال تعالى: «مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ»،(1) وقال أيضاً: «مُهْطِعِينَ إِلى الدَّاعِ»(2) والإهطاع الإسراع في ذلّ وانقياد، وكذلك قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ»(3) أي يسرعون. والسؤال إنّما هو عن المراد بالإسراع هل هم يركضون؟ ولماذا الركض؟ يحتمل أن يكون المراد سرعة الإجابة وأنّهم لا يلوون على شيء ولا يتريثون ولا ينظرون يميناً أو شمالاً، بل يسرعون نحو الداعي، كما قال تعالى: «يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ»،(4) وكذلك قوله تعالى: «إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ» وقوله: «مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ» وقوله: «مُقْنِعِي رُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ».(5)

والحاصل أنّهم مسيّرون لا خيار لهم يساقون قهراً نحو الداعي وهو ربّهم، كما قال: «إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ»،(6) وهم أذلاء لا يرتدّ إليهم طرفهم.

«ذلِكَ حَسْرٌ عَلَيْنا يَسيرٌ». الحشر : الجمع بسوق وازعاج. واليسير: السهل. وهذا الحشر يوم القيامة أمر غريب القيامة أمر غريب حقّاً. عدد هائل من البشر تواتروا على هذا الكوكب في قرون متمادية لا يعلمها إلا الله تعالى يجمعهم في ذلك اليوم، ولكنّه أمر سهل عليه تعالى لأنه على كلّ شيء قدير، وليس شيء أسهل عليه من غيره، فنسبة الأشياء والأمور إليه واحدة. وتقديم الجارّ والمجرور يفيد الحصر، فهو يسير على الله تعالى وليس أمراً هيّناً بذاته.

ص: 414


1- إبراهيم (14): 43.
2- القمر (54): 8.
3- يس (36): 51.
4- طه (20): 108.
5- إبراهيم (14): 43.
6- يس (36): 51.

«نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ» تهديد للكافرين وتسلية للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم والمراد بما يقولون إنكارهم للبعث وتكرارهم للسؤال: «مَتَى هَذَا الْوَعْدُ»(1)؟ يقولونه استهزاءاً واستعجالاً. ولعلّ المراد بالآية أنّه تعالى أعلم بنواياهم حينما يسألون. «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ»؛ «الجبّار» مبالغة في الجبر، أي قهر الآخرين وإجبارهم على ما يريد. الخطاب للرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم حيث كان يتألّم من عدم قبول الناس للهداية وهو أمر طبيعي، فهو يرى أيّ مستقبل أسود ينتظرهم فيحزن ويتأسّف حتّى نزل فيه قوله تعالى: «فَلعَلّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً»؛(2) بخع نفسه أي قتلها غيظاً. وهكذا سائر الأنبياء علیهم السّلام وقد تكرّر في القرآن تسلية الرسول صلّی الله علیه و آله و سلّم بأنّك لا تستطيع إجبارهم على الهدى، ولكنّه أمر ممكن والله قادر على ذلك، ولو شاء لآمن من في الأرض جميعاً ولكنّه لا يجبرهم على ذلك، والسبب واضح، فإنّ الله تعالى أسكن الإنسان على هذا الكوكب ليمتحنه ولا يكون ذلك إلا أن يختار طريقه بكامل حرّيته، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة.

«فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ»، الفاء للتفريع حيث إنّك لا تستطيع الإجبار، فعليك أداء الدور المطلوب منك في هذا الامتحان وهو التذكير وهو من الذكر، أي استحضار ما في حفظ الإنسان من معلوماته السابقة، والتذكير أن يجعل غيره يذكر ما نسيه وينبّهه عليه. وأمره أن يذكّرهم بواسطة القرآن، ففيه كلّ ما يحتاجه الإنسان في هذا السبيل ممّا كانت مستودعة في فطرته، فنسيه بسبب توغّله في

ص: 415


1- يس (36): 48.
2- الكهف (18): 6.

شؤون الدنيا. والوعيد مصدر كالوعد ولكنّه اختصّ في الاستعمال بالشرّ والتهديد، وكذلك الإيعاد يقال: أوعده، أي هدّده.

وهذا التذكير وإن حصل للجميع إلا أنّه في الواقع ليس إلا لمن يخاف وعيدي، والكسرة على الدال بدل عن ياء المتكلّم. وهذا العنوان لا يختصّ بالمؤمن، فالعرب وهم المخاطبون بالقرآن كانوا يعترفون بالله ويعتقدون بأنّه الخالق الرازق ويخافون بطشه، وقد رأوا ما صنع بأصحاب الفيل وغيرهم، فهم يخافون وعيد الله تعالى، ولكنّهم لا يعترفون بالقيامة، فيجب تنبيههم على أنّ الخطر الأعظم هو ما يحدث في ذلك العالم، وهذه الغفلة تصيب المؤمن أيضاً فنرى كثيراً منهم يخاف عذاب الله تعالى في الدنيا ولا يخاف الآخرة حتّى أنّ بعضهم يعبد الله من أجل الدنيا ولو لم يعترف به، فالإنسان يغفل عن دواعيه الواقعية، ولذلك نجد أكثر الناس يهتمّون بالفطرة دون زكاة المال، لأنّهم سمعوا من الوعاظ أنّ الفطرة تحفظهم إلى فطر آخر، مع أنّه غير صحيح وهم يشاهدون أنّه لا يوافق الواقع ومع ذلك يهتمّون بها رجاء تأثيرها في حفظهم إلى فطر آخر، ويهتمّون بالصدقة دون الخمس لكثرة ما ورد من أنّها تدفع البلاء، وهكذا دأبهم في سائر الأمور، فهؤلاء يخافون الله تعالى ولا يخافون عذابه يوم القيامة.

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

ص: 416

فهرس المطالب

تفسیر سورة الأحقاف

سورة الأحقاف (1 - 6) ... 7

سورة الأحقاف (7- 10) ... 16

سورة الاحقاف (11 - 14) ... 37

سورة الأحقاف (15 - 16) ... 43

سورة الأحقاف (17 - 20) ... 57

سورة الأحقاف (21 - 25) ... 72

سورة الأحقاف (26 - 28) ... 81

سورة الأحقاف (29 - 32) ... 87

سورة الأحقاف (33 - 35) ... 94

تفسیر سورة محمّد

سورة محمد (1 - 3) ... 107

سورة محمد (4 - 6) ... 116

سورة محمد (7 - 11) ... 124

سورة محمد (12 - 15) ... 132

سورة محمّد (16 - 19) ... 147

سورة محمد ( 20 - 28) ... 162

سورة محمد (29 - 31) ... 181

سورة محمد (32 - 35) ... 186

ص: 417

سورة محمّد (36 - 38) ... 191

تفسیر سورة الفتح

سورة الفتح (1 - 3) ... 201

سورة الفتح (4 - 7) ... 215

سورة الفتح (8 - 10) ... 226

سورة الفتح (11 - 14) ... 237

سورة الفتح (15 - 17) ... 224

سورة الفتح (18 - 23) ... 250

سورة الفتح (24 - 26) ... 260

سورة الفتح (27 - 29) ... 273

تفسير سورة الحجرات

سورة الحجرات (1 - 5) ... 287

سورة الحجرات (6 - 8) ... 300

سورة الحجرات (9 - 10) ... 313

سورة الحجرات (11 - 13) ... 318

سورة الحجرات (14 - 18) ... 340

تفسير سورة ق

سورة ق (1 - 5) ... 353

سورة ق (6 - 15) ... 359

سورة ق (16 - 29) ... 373

سورة ق (30 - 35) ... 391

سورة ق (36 - 40) ... 402

سورة ق (41 - 45) ... 410

ص: 418

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.